الكتاب: دروس للشيخ سلمان العودة المؤلف: سلمان بن فهد بن عبد الله العودة مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 279 درسا] ---------- دروس للشيخ سلمان العودة سلمان العودة الكتاب: دروس للشيخ سلمان العودة المؤلف: سلمان بن فهد بن عبد الله العودة مصدر الكتاب: دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية   http://www.islamweb.net   [ الكتاب مرقم آليا، ورقم الجزء هو رقم الدرس - 279 درسا] صناعة السعادة للسعادة معنى كبير وثمن غال جداً. إنها معنى لا يرى بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحويه الخزائن. إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير. هي بسمة طفل طهور، ولهج لسان صادق، وعفو قلب متسامح، وهدية بلا منٍّ ولا أذى لا يأتي بها المال وكثرته، بل القناعة. ولا يأتي بها الحرص، بل الرضا. ولا يأتي بها الغضب والبطش، بل العفو والحلم لكن! لها معوقات قد تعيق وجودها أو استمرارها؛ فينبغي التعرف على هذه المعوقات والسعي إلى إخراجها من القلوب، وإقصائها من واقع المسلمين حتى يحيوا حياة سعيدة هنيئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 حقيقة السعادة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يكفره. ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين, وسلم تسليماً كثيراً. أيها الأحبة! صناعة السعادة معنىً كبير، ولا أكتمكم أني جمعت فيه الكثير الكثير حتى تحيرت فيما أختار لكم، فوجدتني بعد تلخيص التلخيص مقتصراً على ثلاثين فقرة أو ثلاثين عنواناً، وإذا كان الوقت المخصص لها ساعةً فحسب، فمعنى ذلك: أن كل عنوان يجب ألا يتجاوز دقيقتين فقط، فأسأل الله لي ولكم العون والفهم والسداد. السعادة لا يمكن الوصول إليها بكنوز الفضة والذهب؛ لأنها أغلى من كنوز الدنيا كلها. السعادة كاللؤلؤ في أعماق البحار, بحاجة إلى غواصٍ ماهر يتقن صنعة الاكتشاف. السعادة هي مواقفك، وكلماتك، وتطلعاتك، ونظراتك إلى الحياة بواقعية وأمل وتفاؤل وإشراق ابحث في داخلك، ففي أعماقك كنز ثمين حين تكتشفه تعرف معنى الحياة: دواؤك منك ولا تبصر وداؤك فيك وما تشعر وتزعم أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر بسمة طفل طهور لهج لسان صادق عفو قلب متسامح هدية بلا منٍّ ولا أذى خفقة حب حنون هدف نبيل كرب ينكشف نعمة تتحقق ساعة جهد وعمل وعرق تعقبها راحة ونجاح وسرور. إنها معنىً لا يعرف بالعين، ولا يقاس بالكم، ولا تحتويه الخزائن، ولا يشترى بالدولار أو بالدينار أو بالجنيه أو بالروبل. إنها صفاء نفس، وطمأنينة قلب، وانشراح صدر، وراحة ضمير، من الداخل تأتي وليست تستورد من الخارج لفظ حلو يبعث على الروح والهمة والنشاط، كلمة سحرية لها رنين رقيق ضمير نقي نفس هادئة قلب شريف ميراث رضواني قد يجدها الفقير ويحرم منها الغني حقيقة من الحقائق لا يتوصل إليها عن طريق الخيال. لكن يا ترى ماذا تعني السعادة في نظرهم؟! في استفتاء أجري على حوالي ستة عشر ألف إنسان، سئلوا فيه: ما هي السعادة؟ كانت إجاباتهم كالتالي: أولاً: السعادة هي الحب (35%) تقريباً. ثانياً: السعادة هي الرضا (28%) . ثالثاً: السعادة هي الصحة (17%) . رابعاً: السعادة هي الزواج (7%) . خامساً: السعادة هي المال (5. 5%) . سادساً: السعادة هي الأطفال، حوالي (4%) . ولقد ذكر الأستاذ العقَّاد قصة لزميل له رسام حاول أن يتخيل السعادة أي شيء تكون، فتصورها في صورة فتاة مراهقة تركض ذات اليمين وذات الشمال، في قوة ودعة واندفاع، وشعرها يتطاير يمنة ويسرة. يقول: فاستدركت عليه وقلت له: إنني أتخيل السعادة وهي تجاوزت هذا العمر، فهي ليست في فترة الغرارة والجهالة والصبا والاندفاع، وإنما هي في فترة التجربة والقوة والخبرة، وأيضاً ليست السعادة شيئاً كهذا، إن هذا يمكن أن يعبر عنه بالفرح أو بالقوة أو بالاندفاع أو بالمراهقة، أما السعادة فإنها شيء فيه معنى الرضا والاكتفاء، فلا بد أن تكون ملامحها راضية هادئة حزينة مؤمنة، ولا بد من ألم تلطفه الذكرى، ولذة يطهرها الحنو، ونشاط يلوح عليه التعب والإعياء. السعادة -أيها الحبيب- ذوق ووجد وإحساس، ليست معنىً علمياً نظرياً، ولا شيئاً يرسم بالحدود والتعريفات كما ترسم المسائل العلمية. قد تطرق السعادة باب الإنسان فيعرض عنها وهو أحوج ما يكون إليها، ومن ذلك مثلاً: سعادة الطفولة والصبا، فإن الكثيرين يستمتعون بالسعادة ولا يعرفون اسمها. إن كانت السعادة بالمال مثلاً فالجبال والمناجم أقوى وأكثر منا سعادة. وإن كانت بالجمال والزينة والنُضرة فالورود والشقائق أجمل وأتم زينة. وإن كانت بالبطش والقوة والطغيان وجهارة الصوت، أو قوة الشباب والجنس، أو كثرة الأكل أو فورة الغضب فالوحوش أقوى وأتم سعادة منا. أما إن كانت السعادة في الأخلاق العالية، والروح المهذبة، والقول الرشيد، والصنعة الرفيعة، فإن الإنسان هو الأجدر بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 السعادة والعبادة ثانياً: السعادة والعبادة. - أولاً: الفرائض. (وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه) {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] . - ثانياً: النوافل. (وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه) . - ثالثاً: الذكر. ذِكْرُ الله عز وجل: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] ، يقول ابن القيم رحمه الله: حضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة، فصلى الفجر ثم جلس يذكر الله إلى قريب من منتصف النهار، ثم التفت إليَّ وقال لي: (هذه غدوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي) . - رابعاً: قراءة القرآن. {وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَاراً} [الإسراء:82] . - خامساً: البر بأنواعه. {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار:13] ، يقول ابن تيمية رحمه الله ما محصلُّه: أن هذه الآية عامة في الدنيا والآخرة، فللأبرار نعيم في الآخرة يذوقون أوله ومباديه في الدنيا، وللفجار عذاب وجحيم في الآخرة يذوقون مباديه في الدنيا. - سادساً: الصلاة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!) ويقول عليه الصلاة والسلام: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) فإذا أقبل على صلاته فلا شيء يشغله من أمر الدنيا. - سابعاً: معرفة الله عز وجل. حتى قال ابن تيمية رحمه الله: (إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فإنهم لفي عيش طيب) . إن الإنسان لم يكتب له في هذه الدنيا أن يرى ربه، ولكنه يرى آثار صنعته فيؤمن به؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) ، إلهي رأيتك، إلهي سمعت تعاليت لم يبد شيء لعيني تباركت لم يمض صوت بأذني ولكنّ طيفاً بقلبي يطل ومن طيفه كل نور يهل (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً) . أمريكي كان مديراً لشركة كبيرة، وقد تحصَّل له المال والجاه، ومع ذلك كله كان لا ينام الليل من الهم والقلق والحزن والتوتر، وكان عنده من العاملين شاب عربي مسلم، موظف بسيط عادي في نفس هذه الشركة، وكلما رآه المدير تعجب، فإن السعادة تفيض من جوانحه وأطرافه وقسمات وجهه، فهو دائماً وأبداً ضحوك بسَّام متهلل مهما ادلهمت عليه الخطوب، فسأله وقال له: ما الذي يجعلك هكذا؟ قال: لأنني مؤمن مسلم أقرأ كتاب الله عز وجل، وأعمل بأمره، فإن حييت فأنا في طاعته، وإن مت فإلى رحمته وجنته ورضوانه بحوله وقوته. فقال له: خذ بيدي إلى الطريق. وذهب به إلى مركز إسلامي، فأمروه أن ينطق الشهادتين، ولقنَّوه إياها، وبعدما عرفوه مبادئ الإسلام، وآمن بها، انطلق في نوبةٍ عارمةٍ من البكاء فسألوه عن السبب، قال: لقد أحسست اليوم بسعادة تغمر قلبي، وتتسلل إلى فؤادي، لم أشعر بها من قبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 السعادة والإيمان ثالثاً: السعادة والإيمان. لقد سجَّل الله عز وجل أن: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فالسعادة الحقيقية في القلوب، ولا يملأ القلوب ويجمع شعثها إلا محبة الله عز وجل، والإيمان به، ولهذا قال سبحانه: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] فالهداية سعادة في القلب في الدنيا ورضاً في الآخرة. هذا الأستاذ بودلي يحكي تجربته العجيبة: عاش بين الأعراب في الصحراء الغربية في بلاد المغرب العربي، وارتدى زيَّهم، وأكل طعامهم، وأخذ عاداتهم، وامتلك مثلهم قطيعاً من الغنم، وكتب كتاباً بعنوان: الرسول، يبدي فيه إعجابه الشديد بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام، يقول: تعلمت من عرب الصحراء كيف أتغلب على القلق، وهم يؤمنون بالقضاء والقدر، فيعيشون في أمان، لكنهم لا يقفون مكتوفي الأيدي أمام الكارثة، يقول: هبت ذات يوم عاصفة رملية شديدة؛ شتتت هؤلاء الناس، وقتلت من مواشيهم ما قتلت، وما هدأت هذه العاصفة إلا وبعضهم يضحك إلى بعض، وهم يعددون الإيجابيات ويقولون: الحمد لله لقد بقي من غنمنا أكثر من (40%) . يقول مرة أخرى: كنا نقطع الصحراء على سيارةٍ فانفجر الإطار، وأصابتني نوبة من الغضب، وقلت للسائق: كيف تفعل هذا -وقد نسيت الإطار الاحتياطي- وتتركنا في هذه الصحراء؟ قال: فالتفتوا إليَّ وقالوا لي: إن الغضب لا يصنع شيئاً، عليك بالهدوء. ومشت السيارة على ثلاث إطارات، وبعد قليل توقفت لنكتشف أن البنزين قد انتهى أيضاً، يقول: فانطلقوا يمشون بهدوء وراحة على أقدامهم في هذه الصحراء دون غضب ولا انفعال، لقد أقنعتني الأعوام السبعة التي قضيتها في الصحراء أن المتفائلين ومرضى النفوس والسكيرين ما هم إلا ضحايا المدنية التي تتخذ السرعة والعجلة أساساً لها. إن الحياة إذا خلت من الإيمان بالله عز وجل فهي صحراء قاتلة، وانتحار عاجل: إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يبك دينا ومن رضي الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء لها قرينا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 السعادة والرضا رابعاً: السعادة والرضا. أعلى درجات الصبر هو الرضا، ولا يبلغه إلا من آتاه الله إيماناً وصبراً جميلاً، فتراه راضياً بما حلَّ به؛ سواء كان الذي حلَّ به فقراً، أو مصيبةً، أو علةً، أو غير ذلك، فهو يدري أن ذلك بقضاء الله عز وجل: أيُّ يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر يحدثنا التاريخ مثلاً: [أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كفَّ بصره، وكان مجاب الدعوة، فربما جاءه الناس فدعا لهم فاستجاب الله دعاءه، فقال له قائل: لم لا تدعو لنفسك يا سعد؟! قال: يا بني! قضاء الله عندي أحسن من بصري] إن الساخطين والشاكين لا يذوقون للسرور طعماً، فحياتهم كلها ظلام وسواد، أما المؤمن الحق فهو راضٍ عن نفسه، راضٍ عن ربه، موقنٌ أن تدبير الله عز وجل أفضل من تدبيره نفسه، ينادي ربه ويقول: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 السعادة والعمل خامساً: السعادة والعمل. اسعد في عملك بتحقيق المراقبة الذاتية، فالعمل فرصة لذلك العمل فرصة لأن تكسب علاقات طيبة مع الآخرين، وتبني جسور الأخوَّة مع إخوانك المؤمنين، وتتواصل معهم من خلال التعامل اليومي اقتنع بالعمل، وتفهم تفاصيله، واندمج فيه، وحقق النتائج والنجاح حتى تشعر بذاتك وسعادتك. انظر إلى الحياة نظرةً متفائلة وإيجابية، وإياك وكثرة الشكوى والتبرم والقلق. استثمر النجاح ولو كان نجاحاً قليلاً، واستفد منه في طلب المزيد. من الجيد أن تحتفظ بالحماس، حتى لو كانت الأمور تسير على غير ما يرام. لا تدع الملل والسأم يفسدان حياتك، وأعط نفسك إجازة استرخاء بين الفينة والأخرى: جدد نشاطك يومياً مع زملائك واخلق معهم جواً من الود والتفاؤل والمرح والعمل الجاد. الكثيرون منا يطفئون عود الثقاب قبل أن يتأكدوا من اشتعال الشمعة، فلا هو أشعل الشمعة، ولا هو استفاد من عود الثقاب مع أنه قد بذل جهداً. أراد رجلٌ أن يغير العالم، فمكث عشرين سنة وهو يحلم بهذا التغيير، ولكنه لم يأت، فقال: إذاً فلأغير دولتي، فمكث عشر سنوات ولكن الوضع كما هو إن لم يكن أسوأ، فقال: إذاً فلأغير المدينة وخصصَّ له خمس سنوات ولكن دون جدوى، ففكر أن يغير الحي وخصص له عاماً كاملاً ولم يتغير شيء، وأخيراً قال: الدائرة الأضيق أغير بيتي وخلال ستة أشهر لم يتغير من البيت شيء، فقال: الآن وجدتها، فلأبدأ بتغيير نفسي. نعم! قد تكون المشكلة في المرآة وقد تكون المشكلة في الصورة، فعلينا أن نبدأ بتغيير أنفسنا حتى تكون أحكامنا على الأشياء صحيحة، وحتى نكون قادرين على إدارة عملية التغيير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 السعادة والتعامل سادساً: السعادة والتعامل. الإحسان إلى الناس من أعظم أبواب السعادة: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ وفي الأثر: [إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم] ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجالساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويُؤلفون) . وقد روي عن بعض السلف أنه كان يقول: (إنه لتكون بيني وبين الرجل الخصومة، فيلقاني فيلقي عليَّ السلام فيلين له قلبي) . (وقد كانت الجارية تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتأخذ بيده، وتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت) . إن الانشغال بعمل مفيد، أو عمل نافع، أو محاولة الإبداع فيما يحسن الإنسان وفيما ينفع به الناس من أبواب السعادة. إن تخفيف النكبات على الآخرين - (الساعي على الأرملة والمسكين أنا وهو في الجنة كهاتين) - وطلاقة البشر -الوجه- والعفوية، والتماس الأعذار، وعدم البحث عن سلبيات الآخرين، أو اتهام النفس قبل الغير - {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199]-. أعط من حرمك، واعف عمن ظلمك، وابذل نداك، وكف أذاك، وتعاهد من وصلته بمعروفٍ جديد، تجد السعادة في عالمك. من هو أسعد البشر؟! إنه ذلك الذي يقدر مواهب الآخرين، ويشاركهم في غبطتهم كما لو كانت غبطته هو، يقول الأستاذ مصطفى أمين: أشعر بسعادة غامرة عندما أستطيع أن أرسم ابتسامة على شفاهٍ حزينة، أو أمسح دمعة من عين باكية، أو أن أمد يدي إلى إنسان سيئ الحظ وقع على الأرض فأساعده على الوقوف. إن السعادة الكبرى هي في العطاء وليست في الأخذ: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت آخذه أولئك الذين يكرهون الآخرين ويحزنون لنجاحهم هم في الحقيقة يطردون السعادة من قلوبهم بإرادتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 السعادة والقناعة سابعاً: السعادة والقناعة. الإنسان مطبوع على حب الدنيا وما فيها السعيد ليس من ينال كل ما يرغب، وإنما السعيد من يقنع بما أعطاه الله عز وجل، قال سعد بن أبي وقاص لولده: [يا بني! إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة، فإن لم تكن قناعة فإنه ليس يغنيك مال مهما كثر] . وفي الترمذي يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا) . حاتم الأصم ترك أولاده وبناته دون نفقة وذهب، فسقوا رجلاً، وتبين بالصدفة أنه أمير، فأعطاهم وأغناهم، فقالت البنت لأمها وهي تبكي: انظري يا أماه! هذا مخلوق نظر إلينا فاستغنينا فكيف لو نظر الخالق جلَّ وعزَّ إلينا؟!! عمر بن عبد العزيز رحمه الله قبل الخلافة أمر أن يشترى له مطرف خزّ -حرير- فاشتري له بألف دينار، ووضع يده عليه وقال: ما أخشنه. فلما ولي الخلافة أمر أن يشترى له ثوب بثمانية دراهم، فلما جيء به إليه وضع يده عليه وقال: ما أرقه! ما ألينه! ما أنعمه! رب صاحب قصر يتمنى السعادة، وربَّ فقير يعيش في كوخ وهو يتظلل ويظلل أهله بالسعادة. من أراد السعادة فلا يسأل عنها المال، ولا الذهب والفضة، ولا القصور والبساتين أو الرياحين، بل عليه أن يسأل عنها نفسه التي بين جنبيه؛ فإن القناعة هي ينبوع السعادة وهناءته: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 السعادة والصحة ثامناً: السعادة والصحة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) ويقول المثل: (الصحة تاج على رءوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى) يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] . استخدم صحتك البدنية فيما يسعدك ويسعد الآخرين، تعاوناً على البر والتقوى، وتآمراً بالمعروف، وتناهياً عن المنكر، فـ (إن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير) (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب) . حافظ على صحتك باعتدال، ولا تكن أسير الأوهام والمخاوف. من الصحة أن تعتني بنظافة بدنك؛ كنظافة الوجه والفم والشعر والجسم ظاهراً وباطناً، والعناية بطيب الرائحة؛ فإنه لم يكن أحدٌ أطيب رائحة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كأنه أخرج من جؤنة عطَّارٍ. وكذلك جمال الثياب: (فإن الله تعالى جميل يحب الجمال) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك العناية بطيب المطعم والمشرب وجودة الطعام، وأن يكون من حلال، وتناوله بهدوء وراحة وسعة بال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 السعادة والعادة تاسعاً: العادة والسعادة. هناك عادات عشر لا بد أن يتعلمها الإنسان: العادة الأولى: أن يسعى للتميز والتفوق والنجاح. {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء:90] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة:10] (أقربكم مني مجالساً يوم القيامة) . العادة الثانية: تحديد الأهداف. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] . العادة الثالثة: ترتيب الأولويات. {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] ، وفي وصية أبي بكر رضي الله عنه يقول: [إن لله عملاً بالليل لا يقبله بالنهار، ولله عمل بالنهار لا يقبله بالليل] . العادة الرابعة: التخطيط وبُعد النظر. {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] . العادة الخامسة: التركيز. {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] (إن العبد لينصرف من صلاته وما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، عشرها) . السادسة: إدارة الوقت. {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] [يا بن آدم! إنما أنت سويعات فإذا ذهب بعضك ذهب كلك] . السابعة: جهاد النفس. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الناجح: هو من يكون راعياً بإرادته وليس كلباً منساقاً لها. الثامنة: براعة الاتصال. {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] . التاسعة: التفكير الإيجابي. {وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] (إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة واستطاع أن يغرسها فليغرسها فله بذلك أجر) . العاشرة: التوازن. {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] (إن لبدنك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فآتي كل ذي حق حقه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 السعادة والزواج عاشراً: السعادة والزواج. المرأة التي لم تدغدغ أنامل الحب عواطفها هي تربة لم يشقها المحراث، إن لم ينبت فيها الزرع والثمر رعت فيها الحشرات والهوام. إن الزواج من هدي الأنبياء والمرسلين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . الزواج استجابة لنداء الخالق عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور:32] ، وقوله عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج) ، ولذلك يقول عمر رضي الله عنه: [من دعاك إلى غير الزواج فقد دعاك إلى غير الإسلام] ويقول: [لا يترك الزواج إلا عاجز، أو فاجر] . الزواج هو الطريق الشرعي لقضاء الوطر: {إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] . الزواج من أعظم نعم الله تعالى على العباد؛ فهو طريق العفة، وسبيل السعادة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] . إنه طريق سهل ميسر لاكتساب الأجر والمثوبة: (وفي بضع أحدكم صدقة) (أفضل الدينار هو الدينار الذي أنفقته على أهلك) (وإنك لا تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله عز وجل إلا أجرت عليها، حتى اللقمة تضعها في فيَّ امرأتك) . الزواج السعيد هو القائم على أسس شرعية. الزواج قوة للأمة، وتجديد لشبابها، وتكثير لها: (تزوجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) . وصايا للزوج: اتق الله كن حسن الخلق كن صبوراً كن غيوراًَ أنفق على زوجتك، لا تفشِ سراً فقه نفسك وزوجتك (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر) . وقد أسفرت دراسة أجراها أحد الأطباء النفسانيين عن أن النساء أقدر من الرجال على استيعاب السعادة، وعلى استيعاب النحاسة والشقاوة والتعاسة في الوقت ذاته، فإذا توفر للمرأة -مثلاً- قدر مناسب من مقومات الحياة: بيت طيب يؤويها، وزوج صالح، وأطفال، وأيضاً لم تكن المرأة أصيبت بالسمنة، فإنها حينئذٍ تكون أسعد من الرجل، بينما على النقيض من ذلك إذا حرمت المرأة من هذه التطلعات فإنها تتجشم من البؤس والشقاوة أضعاف ما يتجشمه الرجل وهي أعجز منه عن المقاومة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 السعادة والحب حادي عشر: السعادة والحب. القلب هو مصدر السعادة وليس البنك أو المعدة، فكوخ تضحك فيه المرأة خير من قصر تبكي فيه: لبيت تضحك الأرياح فيه أحب إليَّ من قصر منيف ولبس عباءة وتقرَّ عيني أحب إليَّ من لبس الشفوف إن المرأة السعيدة هي من تجد رجلاً تحبه ويحبها، وخير ما يقتني الرجل بعد تقوى الله عز وجل المرأة الجميلة، الوفية، المصونة، العاشقة، وتستطيع المرأة أن تنقل لزوجها وأبنائها السعادة التي تقل في الجنس الخشن من خلال صفة الرحمة التي تملك المرأة منها ما لا يملكه الرجال. يقول أحد الشعراء: أيها السائح الذي طوَّف بالآفاق، وشهدت عيناه أخصب أرض تفيض فيها الأزهار، وأبصر المروج تتفتح فيها الورود، قل لي بالله عليك: أي بلاد رأيتها أجمل البلاد؟ أيتها الحسناء الجميلة أتريدين أن أدلك على البلد الذي يفوق بحسنه كل حسن، ويمحو بمنظره كل منظر؟ ذلك يا حسناء! حيث يقيم الأحبة، أخصب أرض هي تلك التي وطأتها أقدام الحبيب. إذاً السعادة مرتبطة بالمحبة حين تكون المحبة مظللة بالقاعدة الشرعية، قائمة على الكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 السعادة والمال ثاني عشر: السعادة والمال. لهذه الكلمة رنين سحري، والبعض يظنون -خصوصاً ممن لا يملكون المال- أن مفاتيح السعادة في المال، والواقع أن الذين يسعدون بالمال هم أولئك الذين يملكونه، أما الذين يملكهم المال فإنه يحولهم إلى أشقياء تعساء، ويدعو عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار) . إن المال يوفر لك الطعام وليس الشهية، ويوفر لك الدواء وليس الصحة، ويوفر لك الخدم وليس الأصدقاء الأوفياء، يوفر لك المعارف وليس الأصدقاء، ويوفر لك المشتريات لكن لا يحقق لك السعادة. المال يمنحك الفرصة الجيدة والحبوة عند الناس، فدائماً نكتة الغني جميلة وممتازة ويضحك الآخرون منها، ولهذا يقول الشاعر العربي لزوجته: دعيني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير وأبعدهم وأهونهم عليهم وإن أمسى له نسب وخِير ويقصيه الندي وتزدريه حليلته وينهره الصغير ويرثى ذو الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير قليل ذنبه والذنب جمٌ ولكن للغني رب غفور يسعد المال أمثال أبي بكر وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله؛ الذين ركبوا المال كما يركبون الدواب، أو قعدوا عليه كما يقعدون على الفرش، فجعلوه ذريعة إلى رضوان الله عز وجل، والإحسان إلى خلقه، والمسابقة إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض. والكثيرون يرون القناعة خيراً من التوسع في المال، يمثلهم أبو الشمقمق الذي يقول: برزت من المنازل والقباب فلم يعسر على أحدٍ حجابي فمنزلي الفضاء وسقف بيتي سماء الله أو قطع السحاب فأنت إذا أردت دخول بيتي دخلت مسلِّماً من غير باب لأني لم أجد مصراع بابٍ يكون من التراب إلى السحاب ولا خفت الإباق على عبيدي ولا خفت الهلاك على دوابي ولا حاسبت يوماً قهرماناً محاسبةً فأغلط في حسابي وفي ذا راحة وفراغ بالٍ فدأب الدهر ذا أبداً ودابي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 السعادة والبرمجة السلبية ثالث عشر: السعادة والبرمجة السلبية. الكثيرون تمت برمجتهم سابقاً على بعض الأشياء السلبية منذ الطفولة، على سبيل المثال: أولاً: الأسرة:- فربما للأسرة دور كبير في تشكيل حقل الإنسان، فمعظم العادات السلبية أو الإيجابية التي تلقيتها اكتسبتها من الوالدين والمنزل والمحيطين بك في الطفولة، فقد يكتسب الطفل مثلاً الخوف أو القلق أو التشاؤم من والديه أو أحدهما وفي الحديث: (وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) . ثانياً: المدرسة:- أيضاً لو رجعت بذاكرتك إلى أيام الدراسة فإنك تتذكر مدرساً كان يلومك مثلاً ويقول لك: أنت مشاكس، أنت غبي، أنت ساذج، وهكذا على الجانب الآخر ربما تجد معلماً كان يرفع معنويتك ويأخذ بيدك، ويعطيك جرعات من التشجيع والثقة بالنفس إلى غير ذلك. ثالثاً: الأصدقاء:- فلهم دور كبير في تشكيل وبرمجة الإنسان برمجة إيجابية أو سلبية، فالإنسان يتأثر بهم كما يؤثر فيهم، ويروى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل) . الرابع: وسائل الإعلام:- ولا يخفى أثر هذه الوسائل سواء كانت صحفاً، أو مجلاتٍ، أو قنوات فضائية، أو مواقع إلكترونية، فقد أصبح الناس يتأثرون بها ويقضون من الوقت أمامها أكثر مما يقضونه في المدرسة, أو مع الوالدين, أو مع أي وسيلة أخرى، ولعلَّ ما نراه اليوم من عادات دخيلة على مجتمعاتنا عند الأولاد والبنات من الألفاظ والكلمات، أو الملابس، أو العلاقات، أو غيرها، إنما هي من أثر البرمجة السلبية التي تلقوها عن طريق وسائل الإعلام، خصوصاً في فترة الطفولة. الخامس والمصدر الأخير للبرمجة السلبية أو الإيجابية: هو أنت نفسك:- فأنت ربما برمجت نفسك برمجة ذاتية نابعة منك بوعيٍ أو بغير وعي على عادات معينة، فمن الممكن أن تجعل منك إنساناً سعيداً تغمره المشاعر والتفاؤل والأمل والحماس، ويحقق آماله وأمانيه وأحلامه، أو تجعل منك إنساناً تعيساً سلبياً يائساً من الحياة، وفي ذلك يقول أحد المختصين: إن ما تضعه في ذهنك سواء كان إيجابياً أو سلبياً فهو الذي سوف تجنيه وتكسبه في النهاية. لذلك تذكر دائماً وأبداً هذه النصيحة: راقب أفكارك؛ لأنها سوف تصبح أفعالاً راقب أفعالك؛ لأنها سوف تصبح عادات، وراقب عاداتك؛ لأنها سوف تصبح طبعاً راقب طباعك؛ لأنها سوف تحدد مصيرك. يقول أحدهم: إنه كان يذهب إلى عمله مع شخصين: أحدهما إذا أقبل على المدينة بدأ يتأوه ويقول: كيف لي أن أجد موقفاً لسيارتي؟ إن هذه المدينة مزدحمة بالناس وبالسيارات، وإن الحصول على موقف للسيارة يعتبر أمراً شبه مستحيل. يقول: فكنت إذا دخلت معه أضعنا أربعين دقيقة نبحث عن موقع للسيارة دون جدوى. يقول: وأدخل مع شخصٍ آخر فكان دائماً يتعجب ويقول: على رغم سعة المدينة وكثرة سكانها وسياراتها، إلا أنني لا أجد صعوبة أبداً في الحصول على موقع. يقول: وما هي إلا أن يصل إلى ما يريد حتى يجد سيارة تغادر المكان ليجعل سيارته مكانها. حين تتحدث عن نفسك فاختر العبارة المناسبة، مثلاً: بدلاً من أن تقول: هذا عمل صعب. قل: هذه مهمة ليست سهلة، ولكنني أستطيع أن أفعل ذلك، أو أحاوله. بدلاً من أن تقول لأحد: لا تغضب. قل له: هدئ أعصابك. بدلاً من أن تقول: كم كان هذا اليوم صعباً وشاقاً. قل: كم كان هذا اليوم مفعماً بالنشاط والعمل. بدلاً من أن تقول: لا أستطيع. قل: سأحاول. بدلاً من أن تقول: لا أظن أن هذا الشيء سيتحقق. قل: آمل أن يتحقق. بدلاً من أن تقول: أشعر بكسل. قل: أحتاج إلى شيء من الحركة والنشاط. بدلاً من أن تقول لأحدٍ: أنت ضعيف. قل له: أنت تحتاج إلى مزيد من الجهد والتمرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 السعادة والنجاح رابع عشر: السعادة والنجاح. كل إنسان له إمكانية النجاح، ولكن نجاحه يعتمد على قدرته على تفجير المواهب التي وضعها الله تعالى فيه، فمخطئ من يتصور أن النجاح يأتيه على طبق من ذهب، ومخطئ أيضاً من يعتقد أنه لا يملك آلية وأهلية النجاح. لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتَّال أولاً: لا بد من الثقة بالنفس، فهي من المقومات الرئيسية للنجاح. ثانياً: لا بد من الإرادة القوية، فالإنسان يعيش صراعاً، ولن ينتصر في هذا الصراع إلا إذا تسلح بإرادة قوية. ثالثاً: لا بد من الطموح الدائم، حيث إن الطموح يزرع في الإنسان الجد والمثابرة. رابعاً: لا بد من النشاط المتواصل، وهو عبارة عن الجهد المستمر الذي يبذله الشخص لإنجاز أعماله وتحقيق أهدافه في الحياة، وقبل ذلك وبعده لا بد من التوكل على الله عز وجل، فإنه من توكل على الله كفاه. قواعد النجاح سبع نقاط: 1- تحديد الهدف في الحياة. 2- تعرف الإنسان على شخصيته. 3- عدم التفريط في الوقت. 4- الاستفادة من تجارب الآخرين. 5- البعد عن الإسراف. 6- مقاومة التعب. 7- التأكيد على أن يكون الإنسان متفائلاً حتى في أحلك الظروف. - لماذا أنا هكذا؟ - تتبادر إلى الذهن أحياناً أسئلة كثيرة: - لماذا أنا هكذا في حياتي؟ - لماذا لم أنجح في الاختبار؟ - لماذا أشعر بالملل من حياتي؟ - لماذا يكرهني الأصدقاء؟ - لماذا تخلى عني شريك حياتي؟ - لماذا ملَّني والدي وأساء معاملتي؟ قد تكون هناك إجابات، وقد لا تكون، ربما تكون مثل هذه الأسئلة في الغالب هي نوع من البرمجة السلبية التي تعود الإنسان عليها، وأصبح يعتقد هذا الأمر خلاف ما هو عليه في الواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 السعادة والصحة النفسية خامس عشر: السعادة والصحة النفسية. إن الصحة النفسية من الأشياء التي ينشدها الناس كلهم في مشارق الأرض ومغاربها؛ لأهميتها في حياة الفرد والجماعة التي لا تستغني عنها بحال من الأحوال، ولذلك نلاحظ تزايد عدد المؤسسات والعيادات النفسية التي تقوم على علاج الاضطرابات النفسية -مثلاً- يوماً بعد يوم، وخاصة في المجتمعات الغربية التي من أهم مظاهرها زيادة حالات الانتحار الفردي والجماعي، والتي تتناسب تناسباً طردياً مع الرفاهية ومستوى دخل الفرد، هذه الظاهرة تدل على اليأس من الحياة، وعدم القدرة على الوصول للصحة النفسية. إن تحقيق السعادة والصحة النفسية يكبر في اتباع منهج خالٍ من التناقضات، يركز على الجانب الإيماني الذي به يكسب الإنسان حقيقته، فأنت بالروح لا بالجسم إنسان، ولا منهج إلا منهج الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] ، منهج الكتاب والسنة وما كان عليه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فلا بد أن يأخذ الإنسان بسيرتهم ويقتدي بهم، فإن له بهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 السعادة والتوقع سادس عشر: السعادة والتوقع. إن ما يتوقعه الإنسان يصبح سبباً نحو التحقق، فإذا توقع المرء توقعاً معيناً فسوف يكون ناجحاً، فإن التوقع يسهم كثيراً في نجاحه؛ لأنه يحدث نفسه بهذا النجاح، إنه من الممكن أن نتوقع أحسن الأشياء لأنفسنا رغم الظروف السيئة، ولكن الواقع المدهش هو أننا حين نتوقع شيئاً جيداً فإننا غالباً ما نجده، والأشخاص التعساء يركزون غالباً على الفشل وعلى نقاط الضعف فيهم، أما السعداء فهم يركزون على نقاط القوة وقدرتهم على الابتكار، فمهما كانت التوقعات فإن الإنسان سوف يصل إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 السعادة والاسترخاء سابع عشر: السعادة والاسترخاء. - إن الحماسة والقوة والرغبة في العمل لا تتعارض أبداً مع الأعصاب الباردة. - إن العمل المستمر دون انقطاع هو عبارة عن انتحار بطيء، فامنح نفسك قسطاً من المتعة وهدوء البال، والحيوية والاسترخاء، لا سيما في أوقات خلوتك بنفسك، وفكر دوماً بالأمور الإيجابية في حياتك، والأشياء التي تملكها وليست موجودة عند غيرك. - لا توتر نفسك -مثلاً- بمشكلات الدراسة أو مشكلات العمل، واعتبرها جزءاً من الحياة، ولا تلتفت أبداً إلى الطعنات التي تأتيك من الخلف، وإلى مضايقات الآخرين، وتقبَّل الأمور على ما هي؛ لأن شيئاً لن يتغير فأنت لا تستطيع أن تربي الآخرين أو تغير سلوكهم، لكنك تستطيع أن تربي نفسك وأن تغير سلوكك. - إذا كان جدول أعمالك مزدحماً فلا تقلق نفسك، ولا تتوتر، ففي النهاية أنت لم تنجز إلا ما يتسع له الوقت، ومن الأفضل أن تنفذ هذه الأشياء بنفسية جيدة لتتمتع بقدر من السعادة والرضا. - كن متفائلاً، وتعلم كيف تسلم ببعض الأشياء التي جبلت عليها، وليس هناك أسلوب حياة أو عمل أو أسرة يخلو من المشكلات. لا تنظر إلى تجاربك الفاشلة الماضية بحزن أو تشاؤم، واجعل الفشل الذي عانيته بالأمس ذريعة ودافعاً لاستمرار الوصول إلى الفلاح. إن الأشخاص الذين يأسرون أنفسهم في تجاربهم الفاشلة الماضية لا يمكن أن يكونوا سعداء أبداً، وتذكر الحكمة التي تقول: إن القرار السليم يأتي دائماً بعد الخبرة التي حصلت عليها من القرار السيئ. - عندما تقابل شخصاً أو صديقاً مقرباً، قل له نكتة، أو اطلب منه أن يقول هو ذلك، فالابتسامة والضحك المعتدل يولِّد بداخلنا نوعاً من البهجة والسعادة، ولا تجعل المستقبل مصدر قلقٍ لك، فإن هذا القلق سوف يسلبك السعادة. - كن جريئاً في قراراتك دون تهور أو اندفاع، وكما تقول الحكمة: الحياة هي المغامرة ذات المخاطر، أو هي لا شيء على الإطلاق. - لا تلتفت لصغائر الأمور اليومية، فهي لا تحتل الجزء الأكبر من تفكيرك، ولا تدعك تستمع بمباهج الحياة. - اجعل أحد مصادر سعادتك مساعدة الآخرين، شخص محتاج، أو البسمة في وجه طفل، أو أسعد والديك. أخيراً: قِوِ صلتك بالله عز وجل، وليكن إيمانك بالقَدِرَ باعثاً لك على راحتك النفسية، واعلم أن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: (أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك) - ساعة واحدة من الاسترخاء تعني نصف ساعة من النوم، وأعطِ نفسك قدراً جيداً من النوم من سبع إلى تسع ساعات يومياً -وإن كان هذا يختلف بحسب السن- إن الحرمان من النوم يجعل الجسم مغلوباً على أمره، وعلامة أخذ الإنسان أو الجسد نصيبه أن يستيقظ نشيطاً متجدد القوى. كيف تستطيع أن تحسن نومك؟ حدد وقت الذهاب إلى الفراش، واجعل الفراش مريحاً ومخصصاً للنوم. تأكد أن غرفة النوم هادئة ومعتمة. تحرك جيداً في النهار، وكُلْ بشكل صحيح ومعتدل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] . إذا لم يأت النوم فلا تستعجله، وقم ومارس أي عمل مناسب واستفد من وقتك. هناك تجربة شخصية: إذا لم يأتك النوم وطال بك السهاد فانهمك في ذكر الله عز وجل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ لأنك حينئذٍ سوف تجعل الشيطان بين أمرين أحلاهما مر: إما أن يدهدهك ويهدئك حتى تنام؛ ليحرمك من الذكر، أو أن تصحو وتظل ذاكراً لله عز وجل فيزداد رصيدك من الحسنات والأعمال الصالحة. إنها تجربة عرفها الكثيرون منه وخبروها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 السعادة والهدف ثامن عشر: السعادة والهدف. لا بد للحياة من هدف، فما هذا الهدف؟ طرفة بن العبد شاعر جاهلي يقول: ألا أيها الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي فإن كنت لا تستطع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي ولولا ثلاثٌ هنَّ من عيشة الفتى وجدك لم أحفل متى قام عُوّدي فمنهنَّ سبقي العاذلات بشربةٍ كُميتٍ متى تغل بالماء تزبد وما زال تشرابي الخمور ولذتي وبذلي وإنفاقي طريفي وتالدي إلى أن تحامتني العشيرة كلها وأفردت إفراد البعير المعبَّدِ وكرِّي إذا نادى المضافُ مجنِّباً كسْيِدِ الغضا نبهته المتورِّدِ وتقصير يوم الدجن والدجن معجِبُ ببهكنةٍ تحت الخباء المعمَّدِ إذاً هو يلخص هدفه بثلاثة أشياء: الخمر، والكرَّ، واللقاء والوصال الجنسي مع من يحب. عمر بن عبد العزيز رحمه الله سمع هذه الأبيات فقال: [وأنا والله لولا ثلاثٌ لم أحفل متى قام عودي: -وهنا انظر إلى الفرق- لولا أن أعدل في الرعية، وأقسم بالسوية، وأسير في السرية] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: [مثل هذا وقع الحافر على الحافر] . قيل لعاشق: ما السرور؟ قال: لقاءٌ يشفي من الفرقة، واعتناقٌ يداوي من الحرقة. وقيل لعالم: ما السرور؟ قال: إدراك الحقيقة، واستنباط المعاني الدقيقة. وقيل لفتاة: ما السرور؟ قالت: زوجٌ يملأ قلبي جلالاً، ويملأ عيني جمالاً. كثير من الناس يكبتون غرائزهم وعواطفهم وفطرهم التي يعتقدون أنها لا تساعدهم على تحقيق الأهداف، فلا يبلغ الواحد منهم الهدف الذي يسعى إليه: منصباً كان، أو تجارةً، أو جاهاً، إلا وقد دفع الثمن غالياً. على سبيل المثال: الذي يريد أن يكون غنياً، يضحي من أجل المال بصحته، وبعلاقاته الشخصية مع أقاربه مع زملائه مع أصدقائه، فإذا وصل إلى ما يريد وحقق الهدف وجد نفسه قد فقد لذة الحياة، وشعر بالبؤس، وصارت متعته الوحيدة هو أن يتكلم عن عبقريته الماضية في جمع المال، وعن تاريخه، وإنجازه. وهكذا الذي يسعى أن يظهر باحترام الناس، ولا يتعرض لنقدهم، كثيراً ما يعيش شقياً بائساً، والسعي وراء الظهور والشهرة ربما يكون من أكبر العقبات في سبيل السعادة إذا تعارضت مع الغرائز الفطرية، أن تعيش سعيداً مع زوجتك، وأطفالك، وجيرانك، بل ومع نفسك، فإن هذا هو العمل العظيم. قال عبد الملك بن مروان يوماً لأعرابي: ماذا تتمنى؟ قال: العافية والخمول -وهو يعني بالخمول عدم الشهرة- فإني -يقول الأعرابي- رأيت الشر أسرع شيء إلى ذوي النباهة. فقال له عبد الملك بن مروان: والله ليتني كنت سمعت هذه الحكمة قبل أن أصل إلى الخلافة. ونحن لا ندري هل كان عبد الملك بن مروان صادقاً جاداً في ذلك، بمعنى: أنه وصل إلى مبتغاه فهان عليه، وأدرك أنه لا يستحق المخاطرة، أم أنها كلمة قالها لتوقيف المجلس. إن الجميع يعرفون -على سبيل المثال- قصة مارلين مونرو وانتحارها ووصيتها لبنات جنسها: احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء، إني أشهر امرأة في الوجود، ومع ذلك فأنا أتعس امرأة في الوجود إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 السعادة والأطفال تاسع عشر: السعادة والأطفال. دع أطفالك يسعدون، وامنحهم حرية الاختيار في القرارات التي تهمهم، وعودهم على احترام وتقدير آرائهم. نمِّ في أطفالك العلاقات الطيبة مع الآخرين، ودربهم على بنائها وعلى المحافظة عليها. قوِّم دوافعك إلى التدليل ليتعود الأطفال أن السعادة لا تأتي من خلال إمطارهم بالأعطيات والهبات والأموال واللعب، وأعطهم بقدر، فلقد تبين من خلال دراسة عملية ميدانية أن أسعد الأطفال هم من يحصلون على قدر معتدل من الحاجات الضرورية، أما أولئك المدللون فهم بعيدون عن السعادة؛ لأنهم تربوا على الحصول عليها بسهولة، ولأنهم ظنوا أن السعادة تتحقق من خلال هذه الأشياء. خرج أبو بكر وعلي رضي الله عنهما فرأيا الحسن يلعب مع الصبيان فحمله أبو بكر على عاتقه وهو يقول: [بأبي شبيهٌ بالنبي ليس شبيهاً بعلي، وعلي رضي الله عنه يضحك] كما في صحيح البخاري. علِّم أولادك الاهتمامات المتنوعة؛ لئلا يقتصر على أمرٍ واحد، فلو أخفق فيه تحطم مستقبله، وعلِّمهم مهارة التكيف مع الظروف المختلفة. وفِّر لأولادك بيتاً سعيداً وراحةً وأنساً، وكونوا سعداء من أجل أطفالكم. إن الأطفال هم زينة الحياة الدنيا، والبيت الذي يقهقه فيه الطفل فإن السعادة تعتريه من كل جانب، ولهذا ماذا تقول الأم وهي تشعر لأول مرة أن صبياً أو فتاةً في بطنها ترجفها بقدميها: إذا ما تكورت في داخلي وأثقلت جسماً خفيفاً خلي وصرت تُلملمِ روح الحياة ولم يبق شيء سوى الآه لي عرفت بأني نديم السهاد وليلي طويل ولن ينجلي وبت أقلب فكر التمني سأحضى بليلى ترى أم علي ولما توالت شهوري الطوال وقاربت هولاً به مأملي ذبلت ذبول غصون الخريف ومن تك مثلي ولم تذبل وقد راودتني شتى الظنون بعاق سأرزق أم بولي إلهي أثبني بنجلٍ كريم وأكرمني في بكري الأول وحين تزمجر ريح المخاض تلاطم أمواجها مركبي شعرت بنوباتٍ شبه الجنون وموجات قهرٍ تغلغن بي وطافت ملائك ربٍ غفور ورددن قولك لي: جربي نظرت إليه كمن راقه هلال يشكل وجه الصبي وأيقظني من سبات عميق ملاك يغرد في جانبي فكن لي معيناً إذا ما الصروف رمتني بسهم على منكبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 السعادة والسجن عشرون: السعادة والسجن. يظن الكثيرون أن السجناء لا يجدون طعم السعادة؛ لأنهم مقيدون، بينما الواقع أن السجناء في كثيرٍ من الأحيان هم أكثر حرية من الآخرين؛ لأنهم أحرار في وقتهم، لا أحد يدخل عليهم إلا بإذنهم وإرادتهم، وهم يتصرفون بأربع وعشرين ساعة يومياً كما يحلو لهم، وكما يريدون. وهذه قمة السعادة. يقول ابن القيم رحمه الله في الوابل الصيب: سمعت ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة, ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان محبوساً في القلعة ويقول: لو بذلتم ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه النعمة. وقال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي من الخير. وكان يقول وهو في سجوده في الحبس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك، وحسن عبادتك. وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه. ولما دخل سجن القلعة وكان بداخله ونظر إلى السور قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] . يقول ابن القيم رحمه الله: وعلم الله ما رأيت أطيب عيشاً منه مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية، وضد النعيم، وما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاب، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاًَ، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسرهم نفساً، تلوح نضرة النعيم من وجهه، وكنا إذا اشتد بنا الخوف ذهبنا إليه، وإذا ساءت بنا الظنون، وضاقت بنا الأرض بما رحبت، أتينا إليه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه، فيذهب عنا ذلك كله وينقلب إلى انفساح وانشراح وسرور وقرة عين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 السعادة والقلق واحد وعشرون: السعادة والقلق. القلق جزءٌ أساسيٌ في حياتنا، وقدر من القلق ضروري للحاضر والمستقبل، لكن بحدود، بحيث لا ينتهي الأمر إلى أن تحس بالتعاسة. بعض الناس يهرب من القلق عن طريق عدم مواجهة الحقيقة، والنتيجة أنه هرب إلى الحقيقة وأصبح أقرب وأقرب من القلق. الآن وأنت في بداية عطلة يجب أن تحاول التخلص من القلق بطريقة عملية: أولاً: لا تطلب من نفسك أشياء فوق قدرتها، ولهذا يقال: قيل لأعرابي كان عنده أمة: يا أعرابي هل تتمنى أن تذهب عنك هذه الأمة، وأن تلي الخلافة؟ قال: لا والله. قالوا له: ولم؟ قال: لأني أخشى أن تضيع الأَمة وأن تضيع الأُمة. فرحم الله امرأً عرف قدر نفسه. ثانياً: انظر إلى نفسك بعين الرضا، مع محاولة الإصلاح والتدارك. ثالثاً: تذكر أن صحتك أحسن من صحة الآخرين. رابعاً: استمتع بالنجاح. خامساً: لا تحقد على أحدٍ على خيرٍ ناله من الله عز وجل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] . لا تحزن الفتاة من زميلتها التي تزوجت، ولا تحزن الزوجة من زوجة أخرى تعيش مع غني أو وجيه، ولا تبكي المطلقة كلما قابلت زوجة سعيدة. تنفس واملأ رئتيك بالهواء وقل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [الأعراف:43] إني في حالة جيدة، وأقنع نفسك أن اليوم أحسن من الأمس، وأن الغد أفضل من اليوم. بودادي عليك هوِّن عليك الـ أمر لا بد من زوال المصاب سوف يصفو لك الزمان وتـ أتيك ضعون الأحبة الغُيَّاب وليالي الأحزان ترحل فالـ أحزان مثل المسافر الجوَّاب وإذا كان القلق يتعلق بما قد يصعب عليك تحقيق مصدره أو تحديد جهته، فهناك هموم المستقبل ومخاوفه وهي كثيرة. إن من السعادة التخلص من المخاوف والهموم، وقد ذكر ابن حزم رحمه الله أنه نظر إلى الخلق كلهم، مسلمهم وكافرهم، غنيِّهم وفقيرهم، على اختلاف مللهم ومذاهبهم، قال: فوجدتهم جميعاً متفقين على مطلب واحد وهو طرد الهموم عنهم، ثم نظرت فوجدت أنه لا يطرد الهموم شيء كالإيمان بالله عز وجل، والتوكل عليه، والسجود له، والوقوع في الإخبات والانكسار بين يديه. إن المخاوف كثيرة، والأمان هو في التوكل على الله عز وجل، والرضا بقدره، والخوف من وقوع الكارثة هو بحد ذاته كارثة، والخوف من الشيء أحياناً يكون أشد من وقوعه، وكما يقول المتنبي: كل ما لم يكن من الصعب في الـ أنفس سهل فيها إذا هو كانا فلا تخف ولا تحزن، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] لا تخافوا مما أمامكم، ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم: دع المقادير تجري في أعِنَّتِها ولا تبيتن إلا خالي البال ما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغير الله من حالٍ إلى حال قد لا تستطيع طيور الهم أن تحلِّق فوق رأسك، لكن امنعها أن تعشش في داخله: قد عشت في الدهر أطواراً على طرقٍ شتى وجربت منها اللين والفظعا كلاً بلوت فلا النعماء تبطرني ولا تخشعت من لأوائها جزعا لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا يقول ابن الجوزي رحمه الله: ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً، وهماً دائماً، وقد أخذت أبالغ في الفكر للخلاص من هذا الأمر بكل حيلةٍ وبكل وجه، فما رأيت طريقاً للخلاص فعرضت لي هذه الآية: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل همٍ وغم، قال: فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى، فوجدت المخرج. فلا ينبغي لمخلوق أن يتوكل أو يتسبب أو يتفكر إلا في طاعة الله عز وجل وامتثال أمره، وليعلم أن الله كافيه فلا يعلق قلبه بالأسباب، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 السعادة والإدمان اثنان وعشرون: السعادة والإدمان. الإدمان: هو ابتهاج مؤقت، ونوع من التخيل والوهن، أو محاولة نسيان الواقع ومشكلاته، إنه خطر يهدد جمال المرأة وعفتها، ويهدد قوة الرجل وشهامته وشيمته وغيرته، لم يعد هناك فرق بين الذكر والأنثى، فالإدمان أصبح داءً يهدد الجميع. يبدأ أحياناً بصورةٍ مألوفة: كالإدمان على مشاهدة التلفاز، أو الأفلام، أو لعب الورق، أو غيرها، أو مشاهدة المواقع الإلكترونية، أو بعض الألعاب عبر الكمبيوتر، ولكن ثمة صور أخرى: كإدمان التدخين مثلاً، أو الخمور والمخدرات، أو العقاقير المهدئة، أو عقاقير الهلوسة، أو غيرها، وكان في الماضي يظن أن هذا خاص بالرجال، وأنه مرض ذكوري حتى تمَّ اكتشاف أن مثل هذا الأمر يلعب بالجنسين معاً، ولا يفرق بين غني وفقير، أو مثقف وجاهل، أو مراهق وكبير، أو ذكر وأنثى. عند البنات -مثلاً- في كثير من المدن موضوع إدمان الشيشة في بعض الطبقات، وفي أماكن سياحية كالفنادق و (الكفتيريات) ، وأصبح هذا الأمر كأنه تعبير عن نوع من التحرر على الرغم من شدة ضررها على الصحة كما هو معروف ومقرر. الإدمان على الحشيش مثلاً فخلال تقرير أو إحصائية استطلاع أجريت في مصر على خمسمائة متعاطي، تبين أن (77%) من الذين يتعاطون الحشيش هو بسبب مجاراة الأصحاب وتقليد الأصدقاء، والحصول على ما يسمى بالفرفشة، بينما (25%) يتعاطونه لأسباب ودوافع جنسية، ظناً منهم أنه يقوي الدافع والممارسة الجنسية. طالبة في الجامعة ذات جمال فتان، أفسدها الإدمان، ثم تزوجت واحتالت حتى أوقعت زوجها في الإدمان، وشكلا شبكة لتوزيع المخدرات على طلاب الجامعة، قبل أن يتم القبض عليهما وإيداعهما السجن ثم المصحة النفسية. أخرى كانت عاملةً في الطيران ذات جمال وثقافة، تجيد أربع لغات، وقعت في الإدمان وتدهورت حالتها، وطلقت من زوجها لتتدرج وتصبح عضواً بل مديراً لشبكة بغاء قبل أن تقع في أيدي أجهزة الأمن. طالبة عمرها سبعة عشر عاماً يغمى عليها، فتذهب للمستشفى خوفاً من أن يكون ثمة جلطة، مع أن احتمال الجلطة ضعيف في مثل هذا السن، ويتبين أنها تناولت جرعة كبيرة من الهروين. سبب الإدمان: أولاً: التفكك الأسري بسبب غياب الأب مثلاً، أو الطلاق، أو الانشغال، أو ما أشبه ذلك. ثانياً: التقليد لأصدقاء السوء (الشلة) الذي يحاول الفتى أو الفتاة تقليدهم والسير على منوالهم. ثالثاً: الإحباط واليأس الناتج عن شعور الفتاة -مثلاً- بأنه غير مرغوب فيها إما لشكلها، أو لوضعها الاجتماعي، أو التعليمي، أو شعور الفتى بأنه كمٌ مهمل وليس له قيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الذكاء والسعادة ثلاث وعشرون: الذكاء والسعادة. أسفرت دراسة علمية على أن الأذكياء أقل سعادة من غيرهم؛ وربما ذلك لأنهم أرهف إحساساً، وأقلُّ رضاً وقناعة، وأبطأ شفاءً من غيرهم، ويذكر الدكتور ديل كرنيجي صاحب كتاب دع القلق وابدأ الحياة عن أحد كبار الأطباء أن مريضة تحول زواجها إلى مأساة، كانت تنشد الحب، والارتواء الجنسي، والأطفال، والمركز الاجتماعي، لكن زوجها لم يحبها، ولم تنجب أطفالاً فأصيبت بالجنون، وأصبحت تتصور باستمرار أنها طلقت من زوجها، وتزوجت من أحد النبلاء، وتتخيل في كل ليلة أنها تنجب مولوداً جديداً، وفي كل مرة يزورها الدكتور كانت تقول: يا دكتور! هل علمت أني البارحة قد أنجبت مولوداً جديداً. يقول كرنيجي: إن في وسع الواحد منهم -يعني: المجانين- أن يمنحك شيكاً بمليار دولار، أو يعطيك خطاب توصية لـ جنكيز خان. أحياناً ربما يضر الإنسان عقله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 السعادة والسكينة النفسية أربع وعشرون: السعادة والسكينة النفسية. إن السكينة النفسية ينبوع السعادة، وهي روح من الله، ونور يسكن إليه الخائف، ويطمئن عنده القلق، ويتسلى به الحزين، وغير المؤمن تتوزعه في الدنيا هموم كثيرة، وغايات شتى، وهو حائر بين إرضاء غرائزه وبين إرضاء مجتمعه الذي يحرص عليه ويسعى فيه، ولذلك قال الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه:124] . إن من أهم عوامل القلق: التحسر على الماضي، والسخط على الحاضر، والخوف من المستقبل، ولهذا ينصح الأطباء بأن ينسى الإنسان آلام أمسه، وأن يعيش واقع يومه، فإن الماضي لا يعود. وقد صوَّر هذا أحد المحاضرين بالجامعة الأمريكية تصويراً بديعاً حين سأل طلابه وقال لهم: كم منكم مارس نشر الخشب؟ فرفع كثير من الطلبة أصابعهم وقالوا: كلنا مارسنا نشر الخشب. فقال لهم سؤال آخر: كم منكم مارس نشر نشارة الخشب؟ فلم يرفع أحد منهم يده. قال: نعم لأن نشارة الخشب منشورة فهي لا تنشر مرة أخرى، وهكذا الشيء الذي مضى من أراد أن يستعيده فإنه يمارس نشر نشارة الخشب. هناك الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي والتي قد يكون الله تعالى سامحك عنها، ولكن نفسك وضميرك العصبي وجهازك لا يزال يعدها ويحصيها عليك، فهذه الأخطاء هي سوس السعادة الذي يجعل الروح تتألم كما يتألم الضرس. ولهذا يجب أن يلجأ المرء دائماً وأبداً إلى الاستغفار، والثقة بعفو الله عز وجل، وأن يعوض بالأعمال الصالحة التي تهدئ من ثورة الضمير ومن توتر الجهاز العصبي. كثير من الشباب والفتيات -مثلاً- يعانون من العادة السرية، فيلجئون إليها تحت ضغط الشهوة والحاجة، ثم بعد ذلك تنتابهم حالات من الهم والندم والحزن، ربما تأثر فيهم وتبعدهم عن الطريق المستقيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 السعادة والسفر خمس وعشرون: السعادة والسفر. السفر له فوائد كثيرة، كما يقول الشافعي: تغرب عن الأوطان في طلب العلى وسافر ففي الأسفار خمس فوائد تفريج همٍ، واكتساب معيشةٍ وعلم، وآداب، وصحبة ماجد فـ الشافعي رحمه الله عدَّ هذه الفوائد الخمس، وهناك غيرها كثير حتى ذكر الثعالبي مثلاً: أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار ما يزيده علماً بقدرة الله عز وجل، وغير ذلك من الآثار المعروفة المشهودة. وإذا كانت هذه بعض المزايا فإن ثمة في السفر عيوباً وأضراراً؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (السفر قطعة من العذاب) من ذلك مثلاً: أولاً: الحرمان أحياناً من لذة الطعام والشراب والنوم والأهل والأحباب والانقطاع عنهم؛ مما يهيج الشوق والحنين إليهم، فلا يقر للمسافر قرار ولا يجد في قلبه الراحة أحياناً. ثانياً: أنه قد يظهر مساوئ الأخلاق لبعض الناس، ولهذا قيل: إن السفر يسفر عن أخلاق الرجال. ثالثاً: أن الأمور تختلط على المسافر؛ فقد يظن الصديق عدواً، أو العدو صديقاً. رابعاً: كثرة النفقات والتكاليف التي تشق على الإنسان وترهقه مادياً كالإنفاق على وسائل المواصلات والسكن والفنادق، والأكل والشرب، والبضائع وغير ذلك. خامساً: الذل في الغربة، فإن المغترب ربما لجأ إلى الذل وصار ذليلاً. إضافة إلى مخاطر السفر، سواء كانت في الجو، أو البر، أو البحر، والحوادث التي يتعرض لها الناس يموت بسببها من الناس من لا يموتون في المعارك والحروب من حيث العدد. ومع ذلك فإن في السفر تجديداً للحياة والخلايا والأنسجة، وإزالة لبعض الملل والسأم الذي يعتري الإنسان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 السعادة والجمال ست وعشرون: السعادة والجمال. اتضح لبعض الباحثين أن خصال الوسامة والجمال أوفر حظاً في الإنسان، وأكثر تكيفاً وسعادةً، خصوصاً في مجال المرأة، فأولئك النسوة اللاتي يشعرن بالجمال والوسامة هن أقرب إلى تحقيق السعادة. إن الجمال الطبيعي هو التمتع بجاذبية غامضة فاتنة ليس لها تفسير أو تحديد تظهر في كامل مظهرنا، أو تصرفاتنا، أو أحاسيسنا. إن الجمال الطبيعي ليس هو فقط بوضع أحمر الشفاه الجميل على الشفتين؛ لجعلها جذابة ومثيرة، ولا بوضع ما يسمى (بالمسكرة) الداكنة على أهدابنا؛ لتبدو العيون بهيةً ومغرية، ولا بإظهار البشرة الناعمة المصبوغة من تأثير الشمس والتي يرغب فيها الجميع إلى أقصى الحدود، إن امتلاك الجمال الطبيعي يعني -ببساطة- أن تكون إنساناً على كافة المستويات، أعني أنه عندما نقول: هذا الإنسان يمتلك الجمال الطبيعي أو أنه جميل، فإنه يمتلك تلك الموهبة الخاصة بكونه جميلاً من الداخل، جميلاً من الروح، ينعكس الجمال على مظهره الخارجي، وعلى رغم أن عدداً قليلاً فقط من البشر يولدون مع هذه الهبة الإلهية، إلا أن كثيراً من الناس يستطيعون أن يتدربوا على اكتساب معاني الجمال الداخلي والتمتع بهذه النعمة. إن الجمال الطبيعي هو الشعور الرائع الذي يشع من داخلنا، وينعكس على مظهرنا الخارجي، أي: أن الوجه والشعر والعينين واليدين والجسم والحركات، وردَّات الفعل الخارجية، وردَّات الحواس هي انعكاس لذلك الجمال الطبيعي، وهو الشعور بأنك على أحسن حال، وعلى مستوىً أعمق بكثير من سطح البشرة، إنه يضم جميع المشاعر الطيبة والرائعة الناتجة عن امتلاك ذهن صافٍ، والشعور بسلام داخلي، والإحساس بغاية سامية، ما هي إذاً الحلول والإيجابات الخاصة بالبحث عن هذا الجمال، وكيف الحصول عليه؟ إن الإجابة الوحيدة الأكثر فعالية هي الوصول إلى عمق المشكلة والبدء من هناك، وهذا يعني الاعتناء جيداً بصحة الفرد الإيمانية النفسية الداخلية قبل محاولة الاعتناء بالبشرة على المستوى السطحي. إن المحافظة على صحة الأعضاء الداخلية؛ القلوب والنفوس والعقول يصبح أفضل ضمان للبشر لتعكس حالة التوازن والإشعاع والنضارة والنعومة والإشراق والجمال والشباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 السعادة والصداقة سبع وعشرون: السعادة والصداقة. من الصعوبة أن تعطي تعريفاً للصداقة، ولكن الصداقة تعني في كثير من الأحيان أن الإنسان يبقى في جسدين بروح واحدة، تعني: الاتحاد الكامل بين القلوب، وهي اللقاء بين أشخاص منجذبين الواحد تجاه الآخر، وهذه الصداقة تكبر بالثقة والتعامل يوماً بعد يوم، وهم أشخاص أحرار في أن ينفصلوا ولكنهم يؤثرون أن يبقوا أصدقاء تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه. وهنا يمكن أن نجدد القول ونقول: إن الصداقة والعلاقة الحميمة التي تربط بين شخصين متماسكين يسعيان سوياً إلى عيش المحبة والثقة، هذه الصداقة، وهذه الكلمة الجذابة التي ينشدها كل إنسان، هي ما يحقق لك السعادة، إنها ترتكز على أساس الحب والحرية، لا يقدر أحد أن يفرض عليَّ صديقاً لا أريده، ولكن أختار الصداقة بمحض إرادتي وحريتي واختياري وفق الشروط الشرعية، فالصديق الذي ينفعني وأنفعه، بهذا يتولد الشعور بالإنسانية. الصداقة تتطلب المساواة في التعامل، بحيث يتعدى ويتجاوز الوضع المادي أو الطبقة الاجتماعية، وهي تعني: الاحترام والثقة المتبادلة، وتعني: الحوار والتفاهم الدائم بين الأصدقاء، وتعني الانفتاح بمعنى أنه لا أمتلك صديقي وأمنعه من أن يتصل بالآخرين، أو يمتلكني ويمنعني من أن أتصل بالآخرين، وتبنى على التفاني وبذل الذات من أجل صديق. الصداقة ليست ابتهاجاً عادياً مؤقتاً، وإنما هي تكامل دائم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 السعادة والرياضة ثامن وعشرون: السعادة والرياضة. لقد أثبتت وأسفرت البحوث المستفيضة عن أن ممارسة التمارين الرياضية بانتظام تزيد من شعور المرء بالسعادة، وتساعد على مكافحة التوترات العصبية والمضايقات، فهي تعتبر من الأساسيات المهمة في حياتنا، ولكن الكثيرين يغفلون فائدتها؛ إما بحجة أنه ليس لديهم وقت لممارسة الرياضة -مثلاً- أو لأن تأثير الرياضة وفائدتها للجسم لا يتأتى في وقتٍ قصير، وإنما يحتاج إلى فترة معينة، ربما أسبوع على الأقل لتبدأ النتائج، وشهور حتى يحصل على نتائج أفضل، وبكل حال فإنها مهمة لكل فئات المجتمع؛ للشباب والفتيات، والحوامل والمرضعات، والشيوخ والكهول، بل والمعوقين وغيرهم، ولها فوائد كثيرة: فهي تساعد على الحفاظ على الوزن، وتكون -بإذن الله- سبباً في الامتناع عن كثير من الأمراض؛ كأمراض ضغط الدم والقلب، وتقوي عضلات الجسم، وتخفف من مشاكل أمراض المفاصل، إضافة إلى أنها تخفف كثيراً من المشاكل النفسية، فأي الرياضة يمكن أن نمارس؟ ليس هناك أجهزة خاصة للرياضة بالضرورة، أو أماكن مخصصة لممارستها، يمكن ممارسة الرياضة بالبيت مثلاً دون الحاجة إلى أجهزة، فطلوع السلَّم عدة مرات تعتبر رياضة، والجري في المكان رياضة، وممارسة الأعمال البيتية رياضة، لذلك السباحة، أو نط الحبل، والمشي بسرعة، وركوب الدراجة، إلى غير ذلك. وعند ممارسة الرياضة يجب أن تعرف أنه لا يوجد نوع خاص نقول: إنه أفضل من غيره، بل بحسب ما يتاح لك يمكن أن تمارس من الرياضة. عليك أن تجعل لك ما بين عشرين إلى ثلاثين دقيقة يومياً مخصصة للرياضة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 السعادة والملل تاسع وعشرون: السعادة والملل. لماذا يفضي الملل إلى زوال السعادة ويقضي على جذورها؟ ما هي الأساليب التي يمكن من خلالها التغلب على الملل؟! إن الملل يسيطر على حياتنا فيولد الكآبة؛ نتيجة أسلوب حياتنا الروتيني المُمل، ونتيجة نظرنا إلى ما حولنا بتكرار وبطريقة معتادة تماماً، فالله تعالى حين خلق الحياة خلق فيها تنويعاً: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} [النحل:69] {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} [الرعد:4] {مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام:99] {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] {وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} [الروم:22] . إذاً: نحن نلاحظ في خلق الله عز وجل في الكون وفي الحياة والناس من حولنا كثيراً من التنوع الذي ينبغي أن نأخذ منه أن على الإنسان حتى يقضي على الملل أن يسعى في التنويع: التنويع مثلاً في القراءة التنويع في العلاقة بين الزوجين التنويع في الملبس التنويع في السفر التنويع في كل الأشياء التي من شأنها أن تضفي قدراً جديداً من البهجة على حياتنا. أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلاً إن شر الجناة في الأرض نفس تتوخى قبل الرحيل الرحيلا وترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقه الندى إكليلا والذي نفسه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلاً لا بد أن نجدد حياتنا؛ حياتنا الزوجية، وحياتنا في الصداقة، وحياتنا الدعوية، وأن ندخل عليها باستمرار ألواناً وأنماطاً جديدة كفيلة بطرد الملل، وأن تشدنا إلى هذه الأشياء من جديد. اسأل نفسك مجموعة من الأسئلة: ألا تشعر بمتعة لتناول الطعام في رمضان أكثر من غيره في الأيام العادية؟ ألا تستمتع برؤية الصديق إذا أبطأت عنه أكثر مما تستمتع لو كنت تراه يومياً في العمل مثلاً؟ ألا تستمتع بطعم الحياة العادية إذا حرمت منها بسبب توقف أو سجن لبضعة أيام أو غير ذلك؟ ألا تشعر بالمتعة والسعادة إذا عاد التيار الكهربائي إليك بعد انقطاع؟ من خلال هذه الأمثلة تستنتج أننا نشعر بفرحة ومتعة وسعادة إذا أعادت إلينا الظروف شيئاً حرمناه، وهذا السر من أسرار الحرمان الذي جعله الله تعالى في هذه الحياة، لكن إذا لم يأت هذا فبإمكان الإنسان أحياناً أن يحرم نفسه من بعض الأمور حتى يجد معناها ويجد طعمها وقيمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 السعادة والقراءة ثلاثون: السعادة والقراءة: عندما أقرأ كتاباً للمرة الأولى فكأنما كسبت صديقاً جديداً، لكن عندما أقرأ كتاباً سبق أن قرأته فكأنما لقيت صديقاً حميماً أحببته وعرفته منذ زمن قديم. إن القراءة هي متعة الإبحار في عقول الناس وتجاربهم دون تحمل رعوناتهم أو قسوة أخلاقهم، والقراءة سعة في تفتح العبقريات، وتشييد عالم الثقافة والمعرفة، وقد تنتج قرَّاءً كتبيين، وقد تنتج بغبغائيين، وقد تصنع العلماء بالمعنى المبسط للكلمة، ولكنها تعجز عن توليد تلك الحالة التي إذا لم تتوافر لدى القارئ الطاقة الروحية فلا فائدة من ذلك. إن القراءة من أعظم وسائل تحصيل العلم، وهي من أسباب زيادة الإيمان، وخصوصاً قراءة القرآن الكريم، وحديث النبي عليه الصلاة والسلام، وسيرته وسير الصالحين والعلماء والمواقف الإيمانية. المتعة أيضاً في القراءة تعكس النقطة السابقة من الملل، فإن الإنسان إذا قرأ فإنما يشعر بمتعة وهو بإمكانه أن يقرأ كتاباً في التاريخ ثم ينتقل إلى كتاباً في التفسير، ويقرأ قصة أو ديواناً من الشعر، أو كتاباً في الألغاز أو غير ذلك مما يكون سبباً في طرد الملل والسآمة، وفي نفس الوقت يشعر الإنسان أنه يكبر وينمو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 معوقات السعادة أخيراً: ما هي معوقات السعادة؟ أولاً: الحسد. فإن الحاسد عيونه في جنة وقلبه في نار: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54] ، إذا رأيت أحداً أعطاه الله تعالى أو منَّ عليه فافرح كما لو كانت هذه النعمة حلت بك؛ لتكون شريكاً في هذه النعمة وفي هذه السعادة. ثانياً: الطمع. فإن الإنسان إذا طمع أصبح عبداً لمطامعه، ولا يقنع بشيء مهما أوتي من الأموال، وكما قال صلى الله عليه وسلم: (لو أن لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب) . ثالثاً: السأم والملل، كما أشرت. رابعاً: الشعور بالإثم، أخطاؤنا وكيف نتغلب عليها ونتجاوزها. خامساً: الشعور بالاضطهاد. فالكثيرون لديهم أسباب السعادة، ولكنهم يحسون بأن المجتمع من حولهم لم يعطهم مواهبهم، ولم يقدر نفوسهم حق قدرها، وأنهم يلاقون من الآخرين الجحود والنكران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 نصائح عامة أولاً: يا أخي! ثق أن أي عمل ممتاز سوف يجد في النهاية طريقه إلى النجاح طال الزمن أم قصر. ثانياً: لا تبالغ في تقدير أهدافك الإصلاحية العامة، أو ما تعتقد أنت أنه نوع من المثالية، فإن هذه المثالية عندك لها جانب آخر يعتبر جانباً نفعياً أو جانباً شخصياً تماماً، أدركته أو لم تدركه. ثالثاً: لا تتوقع أن يهتم الناس بك مثل اهتمامك بنفسك، وانظر إلى نفسك فإنك لن تهتم بالآخرين كما يهتمون هم بأنفسهم. رابعاً: لا تفسر الأمور دائماً وأبداً بأن ثمة مؤامرة تدار عليك. سل الآخرين ماذا يسعدهم، سل المتخصصين والمستشارين، واقرأ كتباً حول السعادة، فالحكماء والعلماء كتبوا عن السعادة منذ مئات السنين ضمن علم الأخلاق، أو النفس، أو الأدب، أو الفلسفة، وأرشح لك في الأخير كتاب (تجاربهم مع السعادة) للأستاذ عبد الله الجعيثن في ثلاثة أجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الأسئلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أداء أوامر الله واجتناب نواهيه عبادة وامتثال قبل كل شيء السؤال كلما أردت أن أحس بالسعادة لا تأتي لا في صلاة ولا في قراءة ولا في تحفيظ، فماذا أفعل جزاك الله خيراً؟ الجواب على كل حال أنت تصلي وتقرأ القرآن وتعبد ربك وأنت تدري أن هذا أجره في الآخرة, وثوابه في الدار الآخرة، وأما في الدنيا فالله تعالى يعطيك من ذلك ذواقة وعينة حتى يطمئن قلبك، ولا شك أن الإنسان لو ترك هذه الأشياء لشعر بما فقد، فهو ربما يصلي ويقول: لم أجد للصلاة طعماً أو سعادة، لكن فكر لو أنك تركت الصلاة كم سوف تجد من تأنيب الضمير، والشعور بالقلق والتوتر والضيق، وأن الإنسان ربما يكون ارتكب جرماً عظيماً، فعلى الأقل أن هذه الصلاة حفظك الله تعالى بها من هذه المشاعر الرديئة، وكلما زاد إيمان الإنسان وإقباله على صلاته وصدقه وسلامة قلبه، واستمر على ذلك زاد يقينه وزاد أثر العبادة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 لا بد من التناصح وتذكير الإخوان السؤال إذا كان لديك أخ وكان لديكما معاصٍ ترتكبونها الاثنين معاً، فالتزمتما وتركتكما تلك المعاصي، وأحببته في الله ثم عاد إلى تلك المعاصي فهل تتركه؟ الجواب لا يا أخي! لمن تتركه؟ أتتركه للشيطان ولقرناء السوء، بل عليك أن تأخذ بيده، وتسعى في إنهاضه، وتربطه بمجموعة من الصالحين حتى لا تنساق معه أيضاً، فإذا أيست منه فيمكن أن توصي به غيرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بعض أسباب الخشوع في الصلاة السؤال لدي مشكلة في الخشوع في الصلاة، فإن صلاتي غير خاشعة؛ فما العمل؟ الجواب بإمكانك أولاً أن تبادر إلى الصلاة: توضأ لكل صلاة اذهب مع الأذان صلِّ ركعتين اقرأ شيئاً من القرآن أقبل على صلاتك حتى لو أخذك الشيطان في الصلاة فلم تنتبه إلا وأنت في التشهد فحاول أن تستدرك ما بقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الصحابة رضي الله عنهم والسعادة السؤال كيف نَصِفُ عدم سؤال الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم عن السعادة؟ الجواب الصحابة رضي الله عنهم وجدوا السعادة في قلوبهم، وأحسوها ولمسوها وتذوقوها، وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن كثير من معانيها، فأجابهم وأفادهم كما أشرنا إلى طرف من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 مجاهدة النفس في دفع الأخلاق والعادات السيئة السؤال أغضب إذا اعتدى عليَّ أحد ولو بكلمة، ولكني عندما يعتذر إليَّ الشخص أرضى بسرعة؟ الجواب الناس أربعة أنواع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: هناك من هو سريع الغضب سريع الرضا، فهذه بتلك، وهناك من هو بطيء الغضب بطيء الرضا، فهذه بتلك، وهناك من هو سريع الغضب بطيء الرضا، فهذا شر المنازل، وهناك من هو بطيء الغضب سريع الرضا، وهذا أحسنهم، فاحرص على ألا تغضب، ولا بد أن تجاهد نفسك، أقول: ليس فقط في خلال فترة معينة، لا لأربعين أو خمسين أو ستين سنة أنت محتاج إلى أن تجاهد نفسك على بعض العادات والأمور التي تحتاج إلى مقاومتها، وفي كل مرة تقع فيها تذكر أن هذا خطأ يجب إصلاحه، وعليك ألا تيئس أبداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 نصائح لطلاب التحفيظ السؤال بماذا تنصح طلاب التحفيظ؟ الجواب أنصحهم بالتحفيظ، وأن يكون لهم مع حفظ القرآن شيء من معرفة معانيه وتفسيره، ولو أن يقرءوا مختصراً كتفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي. ولا بأس أن نذكر الإخوة فيما يتعلق بدروس عملتها في الدورة الصيفية في الإجازة في تفسير قصار المفصل وهي حوالي ستة عشر درساً في قصار المفصل، أتمنى أن يسمعها بعض الإخوة لما فيها من التوجيهات التربوية والاجتماعية والعلمية وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 شكر النعمة يزيدها ويبقيها السؤال كنت أعيش في ضنك شديد وقلق واضطرابات نفسية بسب المعاصي التي ارتكبتها، والآن بعد أن عدت إلى الله أجد نفسي في سعادة لا يعلمها إلا الله، فأقول: إن كان أهل الجنة فيما أنا فيه لكفى. أرجو منك يا شيخ الدعاء لي بالثبات على هذا الدين؟ الجواب والله هذه نعمة كبيرة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوزعك شكرها، وأن يثبتك عليها، فإن النعم إذا شكرت قرت وإذا كفرت فرت: إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 دور المرأة تجاه زوجها السؤال زوجي إنسان مستقيم، ولكنه لا يحب أن يستمر في أي وظيفة، وجميع وقته في فعل الخير وحياته مليئة بالديون، فهل من نصيحة؟ الجواب والله هذا مهم، ربما يكون مبتلى بالملل أحياناً، فإذا قام في عمل ملَّ منه وتركه، فعليكِ أن تكوني عوناً له على مثل هذه الأشياء، وتساعديه على الاستمرار، وتهيئي له الأسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ضرورة الدعوة إلى الله في كل حال السؤال الحمد لله أنا ملتزم بديني، ومكثر من الطاعات والعبادات، ولديَّ من الأعمال الصالحة والنوافل الكثيرة ولله الحمد نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، لكن مشكلتي أني أجيد التحدث بأكثر من لغة أوربية وأشعر بسعادة عندما أتكلم مع الأوربيين غير المسلمين بكثرة معرفتهم؟ الجواب هذا جميل يا أخي! استثمر هذا في تعريفهم بالإسلام، وبيان محاسن هذا الدين، وعظمة القرآن، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعني أن تستخدمها في طاعة الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 من أسباب السعادة السؤال هل من أسباب السعادة أن يكون للإنسان خليل يشاركه الهم والفرح؟ الجواب نعم. هذا من أسباب السعادة: لا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع فالصداقة من أسباب السعادة، والإنسان يحتاج إلى طرف آخر يكمله، قد تكون الزوجة أحياناً، ولهذا جاء في الحديث: (من تزوج فقد استكمل شطر دينه) ، لكن أحياناً ربما لا يجد الإنسان في زوجه ذكراً أو أنثى مثل هذا، لكن قد يجد في صديقه معنىً آخر، فلا بأس في ذلك، بل لا بد منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 لا يشترط للسعادة الراحة السؤال من أسباب السعادة طرد التعب، فكيف يكون ذلك لمن يعمل ساعات طويلة في الدوام؟ الجواب ليست المشكلة في التعب، فقد يكون الإنسان يعمل وقتاً طويلاً لكنه سعيد وهو يعمل، كما كان الصحابة رضي الله عنهم يعملون في بناء المسجد، ويقولون: لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعداً ومن يرى عن الغبار حائداً فهم يعملون ويجدون في عملهم وتعبهم راحة وأنساً، فليس التعب من أسباب الشقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 كتب في السعادة السؤال هل ترى كتاباً في صناعة السعادة؟ الجواب نعم ذكرت كتاب تجاربهم مع السعادة، وهناك كتب كثيرة جداً منها كتاب للدكتور ناصر العمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الانطباعات الخاطئة والبرمجة السلبية قد تكونان سبباً من أسباب فقدان السعادة السؤال أبي وأمي وكل الناس يكرهونني، وحاولت مراراً الانتحار، فبماذا تنصحني؟ الجواب لا. ليس الأمر كذلك حبيبي، لا ليس كل الناس يكرهونك، فهذا شعور وهمي عندك ربما بسبب موقف: إما من أبيك، أو من شيخك، أو من مدرسك، أو بسبب ظروف مرت لك في الطفولة، ولدت عندك الشعور بأن الناس يكرهونك، وأصبحت تتعامل معهم على أساس أنهم يكرهونك. عليك أن تحاول تغيير هذا الانطباع، أو هذه البرمجة الخاطئة السلبية في نفسك، وأن تعتقد باستمرار أن الناس يحبونك، وقل بلسانك أيضاً: الناس يحبونني الناس يحبونني، وتخيل هذا، وسوف تجد بعد فترة أن الأمور اختلفت عليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 ضرورة مجاهدة النفس السؤال أرجو نصحي: فأنا شاب ظاهره الصلاح، لكن أجد في نفسي شكوكاً وهموماً ونفاقاً؟ الجواب الأمر كما قال الحسن البصري: [ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن] فأن تكون خائفاً من النفاق هذا دليل على وجود الإيمان في قلبك، ولكن لا يمنع أن يكون في القلب أيضاً شيء من النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً والحديث الآخر: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) وفي حديث: (وإذا خاصم فجر) فهذه هي الأربع. المهم أن الإنسان عليه أن يكمل نفسه، وأن يحرص على أن يطرد خصال النفاق بخصال الإيمان؛ فإن القلب الذي استقر فيه الإيمان تطرد منه معاني النفاق، فهو مثل الوعاء إذا ملأته بالعسل نفى غيره، وإذا ملأته بالتراب فإنه لا يتقبل شيئاً آخر. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 حسن الظن والتماس الأعذار من أخلاق المسلم السؤال نحتاج إلى مجالسة المشايخ، لكننا لا نجدهم، حتى بالاتصال بكثير من المشايخ إما يقفل (الجوال) أو لا يرد، نعم لهم حق، لكن لنا حق أيضاً؟ الجواب جزاك الله خيراً، والله الذي تقوله صواب، لكن الإنسان أحياناً يكون في محاضرة، فمن الضروري أن يغلق الجوال؛ لأنه لا يستطيع أن يلقي محاضرة، ويرد على الجوال في الوقت ذاته، والذي يحضر المحاضرة أو حتى يزورك لو رديت على (الجوال) وهو عندك يقول: يا أخي! الحق لي أنا، فقد أتيت من مسافة، فهذا يتصل في وقت آخر. إذاً ينبغي علينا أن ندرك أن الإمكانيات دائماً تظل محدودة، وينبغي دائماً التماس العذر. هنا تقع قصص كثيرة جداً لا يتسع المجال أن أذكر لكم شيئاً منها، لكنها تنم عن أنه كثيراً من الناس ربما يغلبون جانب سوء الظن ببعض طلبة العلم، أنه لم يرد عليه، أو أغلق الجوال في وجهه، أو ما أشبه ذلك، بينما تكون القضية أنه قد يكون مر بمنطقة ليس فيها إرسال مثلاً، أو حصلت مشكلة في الجهاز، أو ما أشبه ذلك، فينبغي أن يكون عندنا نوع من سعة العذر للآخرين، كما أشرنا إلى طرف من ذلك، حتى نعيش نحن في سعادة، ونحفظ علاقاتنا مع إخواننا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 حكم من يستعين بالسحرة السؤال فتاة لها والد دائم اللجوء إلى السحرة والاستعانة بهم في معرفة كل ما يدور حوله من خير وشر، فهو يستعين بهم ويستشيرهم ويمشي حسب توجيهاتهم، قالوا: إنه عمل، وأنا لا أتوهم كل ذلك بل هو عين الحقيقة، فهل هذا الأب كافر؟ وهل له ولاية على بناته في مسائل الزواج؟ الجواب لا. القول بكفره كما قلنا: صعب، هذا لا يقع عليه الكفر إلا إذا حكم القاضي عليه بأنه كافر، ونزع ولايته، وإلا فالأصل بقاؤه على الإسلام وبقاء ولايته، لكن ينصح ويسلط عليه من أئمة المساجد أو جلسائه أو أقاربه أو جيرانه من يحاول أن يبين له أن مثل هذه الأشياء تذهب بدينه وعقله وماله، وربما لا يستفيد منها شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 التكفير حكم شرعي لا ينبغي الحكم به إلا عن علم السؤال كثير من شبابنا اليوم سلكوا طريق التكفير، حتى إن بعضهم مبتدئ في الالتزام، حتى صرنا فرقاً وأحزاباً؟ الجواب هذه مشكلة صعبة وعويصة، إنه كما أشار الأخ في سؤاله: ربما شاب حديث عهد بالتزام -نصيبه من حفظ القرآن وحفظ السنة الاطلاع- يكفر ويفسق. والتكفير مهمة أهل العلم؛ لأنه مزلق خطر، ومعرفة الأشياء التي يكفر بها والتي لا يكفر بها أمر صعب، فربما يكفِّر الإنسان بشيء هو ذنب وليس كفراً، قد يكون كفراً أصغر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً-: (من أبق من مواليه فهو كفر) هذا ليس كفراً مخرجاً من الملة، وقد يكفر الإنسان بشيء هو معصية وليس كفراً، وقد يكفر بشيء هو محل اجتهاد، بل قد يكفر الإنسان بشيء هو صواب، كما نجد أن هناك من يكفر بعض العلماء وأهل السنة بأقوال قالوها هي الصواب، ومع ذلك وقع نوع من البغي والعدوان في مثل هذه الأمور. فالإنسان الحريص على نفسه ومستقبله يحفظ لسانه، فإن عفة اللسان مثل عفة اليد وعفة الفرج، بل هو من أعظم المطالب التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان، ولا شك أن رمي الإنسان بالكفر مثل قتله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن المؤمن كقتله) وقال: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) . إن على الإنسان أن يتدرب كيف يحفظ لسانه: احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان محمد صلى الله عليه وسلم مات ولم يقل عن أحد ممن ادَّعى الإسلام أنه كافر، وفي عهده كان المنافقون، ووجد من قال: اعدل يا محمد. ومن قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله. وهكذا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، اللهم إلا المرتدون الذين أصروا على الخروج عن طاعة الدولة المسلمة فقاتلهم الصحابة رضي الله عنهم على ما هو معروف تفصيله. أما الحكم على الأشخاص وعلى الأعيان فهذا له أسباب وله موانع وله عوارض, ينبغي على الإنسان ألا يدخل فيها من غير بصيرة ولا فهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ضرورة التكيف والمرونة مع أي عمل ينقذ من البطالة السؤال إذا علمت زيادة البطالة في هذه الأيام والفراغ الممل فكيف تُطلب السعادة في مثل هذه الظروف؟ وما نصيحتكم للشباب العاطل؟ الجواب والله لا شك أن البطالة مشكلة، وأن المجتمع بمؤسساته الحكومية وغير الحكومية مطالبة بأن تسعى إلى توفير العمل للشباب، في السعودية نسبة الشباب دون سن العشرين تزيد على (70%) من الشعب السعودي، وهذه نسبة عالية جداً، ومذهلة ومخيفة، إذا تخيلت ضيق حجم الفرص؛ سواء كانت فرصاً في العمل، أو الوظيفة، أو غيرها، هذه قضية على المستوى العام في المجتمع يجب أن تعالج بشكل جاد وصادق؛ لأنها قنبلة قابلة للانفجار في أي وقت. لكن أيضاً على الإنسان الشاب ألا يقف في انتظار أن يكون هناك حل جذري، عليه أن يسعى في الحل الذي يتعلق به هو بقدر ما يستطيع، كثير من الشباب -مثلاً- ربما يكون قادراً على أن يعمل مع والده، ولكنه يقول: لا أريد أن أعمل مع والدي باعتبار أو لآخر، أو يكون هذا الشاب يريد أن يكون ثمة عمل مفصل على مقاسه وقدره سواء بسواء، هذا أيضاً صعب، ينبغي أن يكون عند الشاب مرونة وقدرة على التكيف والبحث عن العمل المناسب، وإدراك أن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، ويمكن أن تحصل على النجاح إذا بدأت. أما فكرة أنك لا تريد إلا أن تصل إلى عمل ممتاز براتب راقي، ربما يطول بك الانتظار!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ضرورة مساعدة الأب المستطيع ابنه عند الزواج السؤال كيف تطالب يا شيخ بالزواج في ظل الظروف الصعبة؟ وهل هو واجب على الأب المستطيع؟ الجواب نعم واجب على الأب المستطيع أن يزوج بنيه ولا شك في هذا، وأيضاً واجب على الشباب ألا ينتظروا مجرد أعطية من آبائهم؛ لأن الأب ولو زوجك ربما لا يكون قادراً على أن يوفر لك المسكن والنفقة الدائمة، على الشاب أن يكون عصامياً: نفس عصام سودت عصاما وعلمته الكر والإقداما وجعلته فارساً هماما عليه أن يفكر كيف يستطيع أن يبني مستقبله، عندك مثلاً في المساء بضع ساعات؛ فكر وخطط جيداً كيف تستطيع أن توظف هذه الساعات في عمل تستفيد منه خبرة ومعرفة وشخصية ودربة وعلاقة مع الناس، وفي نفس الوقت ربما يكون لك فيه مردود مادي تستفيد منه لنفسك ولزوجك، إضافة إلى الاستفادة -وإن كان هذا أمر لا أفضله، إنما ربما عند الضرورة- من الجمعيات والمؤسسات الخيرية المتخصصة في هذا المجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 دواء العشق المحرم السؤال أنا شخصياً في سن المراهقة وأريد أن أتوب، ولكني مبتلى بالحب في غير الله فكيف أتخلص من ذلك حتى أجد السعادة الحقيقية؟ الجواب هذا الحب يا أخي ليس حباً حقيقياً، هو وهم تخيل لك وسميته حباً، وإنما هو نوع من التعلق العاطفي المؤقت، فعليك أولاً: ألا تطلق عينيك: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] ، وألا تخلو بمن تظن أن الشيطان يكون رسولاً بينك وبينه، بل أن تبتعد عنه، وأن تحرص على ملء وقتك وفراغك وقلبك بالنافع المفيد من الأعمال كحفظ القرآن الكريم، والمشاركة في الأنشطة الخيرية؛ في المكتبات، وفي المراكز الصيفية، وفي مثل هذه المخيمات، وفي المسابقات وغيرها، وأن تبتعد عن الأشياء التي تجرك إلى هذا المصير السيئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 السعادة في القناعة والرضا بالقليل السؤال أنا شاب من جدة قضيت عمري في البحث عن السعادة في الدنيا ولكني والله ما وجدتها إلا عندما أخرجت الدنيا من قلبي، وأعتقد أن هذه مشكلة الشباب حب الدنيا والمتع، فأرجو أن تحدثنا عن هذه النقطة؟ الجواب لعله مر حديث عابر أن الدنيا إنما تزيد قلب الإنسان شعثاً وتفرقاً، فإذا رضي منها بالقليل وقنع أصبح عزيزاً سعيداً بهذا القليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 دور الشباب في تغيير الواقع المهين السؤال ما هو دور الشباب في ضوء هذه الفتن وهوان أمتنا؟ وكيف نرتقي بأمتنا؟ الجواب لا شك أن دور الشباب دور كبير، وربما كان جديراً أن نقول: السعادة والشباب لكن الوقت ضاق عن ذلك، فإن الشباب هم سر الحاضر وعماد المستقبل، وعليهم أن يستشعروا هذه المسئولية، ويقوموا بالدور المنشود منهم، وأول المراحل كقصة ذلك الرجل الذي أراد أن يغير العالم، نريد من الشاب أن يغير نفسه بشكل صحيح، فالكثيرون قد يطرحون مثل هذا السؤال، لكنهم لا يملكون برنامجاً أو مشروعاً واضحاً في الإصلاح، ولذلك ربما يكون لديهم طموح شامل في تغيير واقع الأمة دون أن يملكوا الخطوة الأولى، وهذا يصنع أزمة واقعة ربما الكثير من الشباب يتجاوزون المراحل ويحرقونها، ويبتعدون عن التخطيط والنظر؛ بسبب أنهم يضعون لأنفسهم أهدافاً عظيمة جداً وهم لم يحددوا الخطوة الأولى. فأوصي الشباب جميعاً: بأن يهتموا بالواقع، وأن يشعروا أنهم جزء من هذه الأمة، وأن يبدءوا الخطوة الأولى في سبيل الإصلاح وهو أن يكون الشاب على المستوى المنشود علماً وخلقاً وثقافةً وديناً والتزاماً، ولو أن كل شاب أصلح نفسه لوجدنا أنفسنا أمام مستو راقٍ رائع لهؤلاء الشباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 كلمة في جمع الكلمة اجتماع الكلمة ولمّ الشمل من أهم مقومات هذا الدين، ومن الدعائم الأساسية لهذا المجتمع، ولا يتأتى هذا إلا بنبذ الفرقة والتنازع، فعلينا أن نسعى بجد واجتهاد من أجل زرع المحبة، وتوطيد الأواصر الأخوية فيما بيننا، وأن نجتنب الأسباب المؤدية إلى التشتت والتشرذم، فلن يتأتى النصر على الأعداء إلا بعد أن نتوحد على منهج الكتاب والسنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 1 أهمية جمع الكلمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى أزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة الحضور السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنني أحبكم في الله تعالى أحبكم حُب الشحيح ماله قد ذاق طعم الفقر ثم ناله إذا أراد بذله بدا له أحبكم حباً لا تفسير له إلا هذه الرابطة التي جعلها الله تعالى في قلوب المؤمنين، يحِنُّ بعضهم إلى بعض وإن تناءت بهم الديار، وتباعدت الأقطار، إلا أن رابطة الحب في الله تعالى تجمعهم أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر فإذا ألمت بك ملمة، أو نزلت بك نازلة، أو أغلقت دونك الأبواب، أو تعسَّرت الأسباب؛ فتذكر أن قلوباً صافية تأسى لأساك، وتحزن لحزنك، وتفرح لفرحك، وتتابعك وإن كنت لا تعرفها وكانت لا تعرفك، فإن رأتك على خيرٍ بكت فرحاً، وإن رأتك على سوء بكت ألماً. ولعل هذه الكلمة -كلمة الحب- تصلح لجمع الكلمة، فمع الحب تذوب المشكلات بين الزوجين بين الشركاء بين الأصحاب في العمل بين المتخالطين بين الجيران بين المختلفين، لكن إذا تنافرت القلوب فلا ينفع حينئذٍ وئام ولا اتفاق. لدينا في هذه الليلة المباركة (كلمة في جمع الكلمة) ومجموعة من المسائل التي نحب أن نتدارسها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 2 التفرق والاختلاف والفرق بينهما أولاً: عنوان هذه الكلمة يوحي بأهمية الاجتماع والأمر به، والنهي عن التفرق في الدين، ويجب أن ندرك -أيها الأحبة- أن ثمة فرقاً بين التفرق وبين الاختلاف؛ فالله سبحانه وتعالى في تنزيله نهى عن التفرق مطلقاً، ولهذا نقول: كل تفرق فهو مذموم، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينهى أصحابه عن التفرق بالأجساد، ويقول لهم: (إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية إنما هو من الشيطان) فكانوا إذا نزلوا وادياً اجتمعوا حتى لو وضع عليهم بساط لوسعهم. فالتفرق مذموم في الأحوال، والأقوال، والمذاهب، والمواقف، والأبدان أيضاً إذا كان تفرقاً مبنياً على غير سبب، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران:105] . أما الاختلاف فليس مذموماً بالإطلاق، بل منه ما هو مذموم ومنه ما هو محمود، ولهذا قال في الآية بعدها: {وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] . إذاً فالاختلاف المذموم، والاختلاف في الكتاب أو الاختلاف على الكتاب هو اتباع الهوى؛ أن يختلفوا من بعد ما جاءهم البينات، وإلا فقد يكون اختلافاً محموداً، ومن أمثلته: اختلاف التنوع؛ أن يكون إنسان يعمل خيراً وآخر يعمل خيراً غيره، أو هذا يرى رأياً باجتهاده، وهذا يرى رأياً مختلفاً، كما وقع، وسنتبين جوانب من هذا الموضوع. إذاً: التفرق مذموم بالإطلاق، وأما الاختلاف فمنه المذموم ومنه المحمود، والتنوع هو سنة ربانية قامت الحياة كلها على أساسه، فالله تعالى خلق من كل شيء زوجين، وجعل تنوعاً في أشكال الناس ومظاهرهم وألوانهم، وفي مخلوقات الله تبارك وتعالى، وفيما يراه الإنسان من حوله، فهذا التنوع هو جزء من ثراء الحياة الإنسانية، وجزء من التجدد والطرافة فيها، ولذلك يقول المتنبي: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم إلا على شجبٍ والخلق في الشجب فقيل تخرج نفس المرء سالمة وقيل تشرك جسم المرء في العطب يعني: أن الناس اختلفوا في كل شيء إلا في الروح، وحتى الروح اختلفوا فيها، فقيل: إنها تفنى مع الجسد. وقيل: تسلم. ولا شك أن هذا من كلام الشعراء: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمْ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] والمقصود الذي نقره من هذه الأبيات هو: أن الاختلاف شيء عميق في الحياة البشرية. التفرق المذموم -أيها الأحبة- هو اتباع لسنة أهل الكتاب الذين: {تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ولهذا نهى الله سبحانه وتعالى عن اتباع هديهم وسنتهم، والتفرق المذموم مخالفة لمقتضى المصلحة والعقل والرشد والبصيرة، ولهذا قال الله تعالى عن اليهود: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] فاختلافهم بسبب نقص عقولهم. وكذلك التفرق هو نقض لأساسٍ من أسس الشريعة، فإن الشريعة جاءت بوحدة المسلمين، ولهذا كان الخطاب في القرآن الكريم جماعياً، وما لا يحصى من الآيات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] ومعظم أحكام الشريعة لا يمكن تنفيذها إلا من خلال وحدة واجتماع. كيف تستطيع أن تطبق الأخلاق الإسلامية, وتعرف إن كنت صبوراً، أو كنت حليماً، أو كنت كريماً، أو كنت شجاعاً؟ إلا من خلال الاختلاط بالناس كيف تستطيع أن تؤدي شعائرك؛ فتصلي، وتصوم، أو تحج أو تعتمر؟ إلا من خلال الاختلاط بالناس. إذاً: التفرق اتباع لسنة أهل الكتاب، ومخالفة لما تقتضيه العقول السليمة والبصائر المستقيمة، وهو نقض لأساس من أسس الشريعة. ونحن -أيها الأحبة- لا نتحدث فقط عن الدعاة والاختلافات التي تقع بينهم، أو العلماء واختلافهم في الفتوى، أو ما يسمى بالإسلاميين وتنوع مشاربهم ومذاهبهم فحسب؛ وإنما نتكلم عن الاختلاف بين المسلمين، الاختلاف الذي يضرب هذه الأمة، وإذا كنا نشهد في التاريخ الإسلامي ألواناً من الاختلافات التي لم يكن لها سبب ولا مسوغ ولا مبرر، والتي قضت على وحدة المسلمين وأكلت جهودهم وطاقاتهم، ومكَّنت أعداءهم منهم في غير مرحلة، فإننا نشهد في واقع المسلمين اليوم ألواناً وألواناً من هذا الاختلاف، جديرة بمبضع الجراح الذي يقوم بعلاجها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الأخوة الإسلامية لكل مسلم وبحسب إسلامه الله تبارك وتعالى يقرر لنا أن المؤمنين إخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] ويقول سبحانه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون:52] ويقول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (المسلم أخو المسلم) . إذاً الأخوة ليست في العروبة، وليست في الأرض، فالأرض لا تقدس أحداً، وإنما يقدس الإنسان عمله. وليست في المصلحة المشتركة، وليست في التاريخ المشترك، وإنما الأخوة الحقيقية هي التي تظلل الناس في ظل هذا الدين إن يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد أو يفترق ماء الوصال فماؤنا عذب تحدَّر من غمام واحد حتى حينما يقع عليك عدوان أو ظلم من أخيك، فهذا لا يعني أن أخوته زالت، تأمل قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] بين طائفتين وصل الأمر بينهما إلى حدِّ الاقتتال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} [الحجرات:9] ومع ذلك سماهم إخوة وقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وكذلك قول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] يعني: في شأن القاتل الذي قتل أخاه المسلم، ومع ذلك سمَّاه الله تعالى أخاً، فالقاتل أخ للمقتول، والمقتول أخ للقاتل، إذاً هذه الأخوة التي عقدها الله تبارك وتعالى، لا يجوز أبداً لعوامل الفرقة والاختلاف، وحتى العداوة التي تقع بين المسلم وأخيه -لا يجوز أن تقضي على أساس هذه الأخوة أو تزيلها. نعم، قد تجد من الناس من يقع منه تقصير في دينه -مثلاً- أن يكون عنده انحراف، أو معصية، أو تقصير، لكن ما دام يصح له وصف الإسلام فله أصل الحقوق، وإذا تم له كمال الإيمان كملت له الحقوق، وهذه نقطة مهمة جداً، نقول: كل من صح أن يوصف بأنه مسلم فله حقوق المسلم (حق المسلم على المسلم ست: رد السلام، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصر المظلوم، وعيادة المريض) وغير ذلك من الحقوق التي لم تذكر في هذا الحديث, فكل من صح له وصف الإسلام ولو كان في الدرجة الدنيا منه فله قدر من هذه الحقوق، لكن كلما عظم قدره في الإسلام كلما عظمت حقوقه؛ ولهذا كان أعظم الحقوق على المسلمين بعد حق الله تعالى حق النبي عليه الصلاة والسلام، ثم حق الصحابة رضي الله عنهم، ثم حق أهل العلم، وأيضاً حقوق الوالدين. فالمقصود أن الحق باقٍ لكل من صح أن يوصف بأنه من المسلمين، وإن كان عليه نقص أو زلل أو تفريط، أو عنده شيء من الخطأ. ولذلك قد يقول البعض: هذه أخوة عامة وأخوة خاصة، وأنا أفضل عدم استعمال هذا المصطلح؛ لأن الأخوة العامة والخاصة أجراها النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين والأنصار، فآخى بين فلان وفلان، هذا مهاجري وهذا أنصاري، وكان بينهم نوع من الاندماج، حتى في أموالهم وفي سكنهم وفي أمورهم، حتى قال سعد بن الربيع لـ عبد الرحمن بن عوف: [انظر شطر مالي فهو لك، وانظر أجمل زوجتيَّ فأطلقها حتى تعتدَّ ثم تتزوجها من بعدي] وهذا الحديث في صحيح البخاري، فهذه أخوة خاصة كانت بين عبد الرحمن وسعد مثلاً. لكن المقصود: أن الأخوة بين المسلمين قائمة، ولا مانع أن يعلم الجميع أن هذه الأخوة تتفاوت درجاتها، فليس حق شيخك العالم الجليل، صافي المشرب والمذهب، صادق السريرة، صالح القول والعمل المؤثر عليك؛ كحق إنسان بعيد من الناس، أو كحق شخص مضيع أو مفرِّط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 معايير الالتزام وحقيقته وكثير من الناس أحياناً، ربما في معظم أو كل المجتمعات الإسلامية تسمعون بالتقسيم، أن في المجتمع ناساً نسميهم بالملتزمين، وهناك أناس نقول عنهم: غير ملتزمين، وهذه القسمة شاعت وذاعت، حتى أصبحنا نجد كثيراً من الشباب قد يتصل بك أو يقابلك فيقول: كان الشخص غير ملتزم، ولكنه يحب الخير، ومحافظ على الصلوات أنت تتعجب! أولاً: ما هو معيار الالتزام؟ هل نقصد بالالتزام أن يكون مظهر الإنسان فقط متفقاً ومنسجماً مع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وهديه، أو نقصد بالالتزام التمسك بالدين؟ فهذا الإنسان الذي قد يكون مفرطاً في مظهره وعنده معصية ظاهرة، ربما يكون من جهة أخرى ملتزماً؛ فهو مبكر إلى الصلوات، حريص على الجماعات، بار بوالديه، كثير الإنفاق في سبيل الله، عنده جوانب من الخير عظيمة، فهو ملتزم بهذا الاعتبار وإن كان عنده تفريط، كما أن ذاك الأخ الآخر الذي ربما عنده التزام ظاهر في ملابسه في شكله في شعره في هيئته في هديه وسمته الظاهر، لا يمنع هذا أن يكون عنده نقائص وعيوب خفية؛ فقد يكون مفرطاً -مثلاً- في صلاة الفجر مع الجماعة، وقد يكون عنده نوع من التقصير في حق الوالدين، أو ما أشبه ذلك من الأخطاء. إذاً: ينبغي أن نضبط المعيار حينما نقول: ملتزم، أو غير ملتزم هذا أولاً. ثانياً: من الخطأ أن نعتبر أن هذه القسمة أو هذه التسمية تقتضي نوعاً من الانفصال بين الناس بعضهم بعضاً، فإذا كنت أنا غير ملتزم -مثلاً- بهذا الاعتبار الذي ذكرناه قبل قليل، فأنا محتاج إلى أولئك الملتزمين لأستفيد منهم ومن علمهم ومن أخلاقهم، وأقتبس منهم، والآخر أيضاً الملتزم هو محتاج إلى أن يسوِّق بضاعته ودعوته عند من يسميهم أحياناً بغير الملتزمين. إذاً: هي مجموعات داخل هذا المسمى يحتاج بعضها إلى بعض، وعلينا ألا نسرف في استخدام هذه الكلمة، وأن نضع لها الضوابط، وأيضاً ألا نسمح بأن توجد نوعاً من الانفصال. إن كثيراً من شبابنا اليوم -مثلاً- في الأرصفة، أو في الاستراحات، أو في المنتديات، أو حتى في المدارس، ربما أصبحت القنوات الفضائية، أو مواقع الإنترنت، أو المجلات، أو السفريات، أو العلاقات الخاصة والمجموعات؛ ربما أصبحت تؤثر في صياغة سلوكهم أكثر مما يؤثر المجتمع المحيط بهم ربما الأب عاجز؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ربما الأم أيضاً لا تستطيع أن تسيطر أو تضبط أولادها، لكن زملاؤهم وأساتذتهم ومن في سنهم، ربما لو جدُّوا واجتهدوا لاستطاعوا أن يؤثروا فيهم تأثيراً بعيداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 ألوان التفريق لقد تحدثت عن تفرقٍ داخل الأمة الإسلامية في حاضرها وفي ماضيها وتاريخها، ولا بأس أن أضرب بسرعة ألواناً ونماذج من هذا التفرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 التعصب للشيخ أو للمتبوع كذلك التعصب للشيخ، أو التعصب للمتبوع أو المربي أو الأستاذ. فإنه ينبغي أن يعتدل الإنسان، وأن يحفظ له قدره دون أن يتعصب له، أو يبالغ في ذلك، أو يتبع أقواله بمفرداتها؛ فإن الاتباع للمنهج لا للأقوال المفردة، فلهذا نقول نحن -مثلاً- عندما نكون أمام قول لـ أحمد، أو الشافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، نقول: العبرة بالدليل، والعبرة بالإجماع، فإذا كان قد خالفه من خالفه، أو وجد الدليل فيما يظهر لنا على خلافه، لم نجد حرجاً في رده، فهكذا من عايشناهم وعاشرناهم واقتبسنا منهم، ينبغي أن نطبق معهم هذا. أيضاً: الانتساب لمذهب من المذاهب الفكرية أو الدعوية -كما أشرنا إليه قبل قليل- فلا ينبغي أن يمتحن الناس في الأسماء والألقاب، وإنما ينبغي أن تكون العبرة بما يقوله الإنسان وما يعمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 الانتساب لمنطقة أو إقليم أو غيرها المثال الرابع: الانتساب لمنطقة أو إقليم، أو شعب من الشعوب، أو جزئية من الجزئيات. فهذا نجدي، وهذا حجازي، وهذا غربي، وهذا شرقي، وهذا خليجي، وهذا شامي، وهذا مصري، وهذا عراقي، وهذا كذا هذه الانتسابات إذا كانت مجرد تعريف فلا تضر، وقد كان الصحابة ومن بعدهم يتعرفون بمثل هذه الأشياء، ولا يضير أن يقول الإنسان أنه من بلد كذا، لكن إذا تحولت -كما هو الواقع عند كثير من الناس- إلى نوع من العصبية, ونوع من الولاء على هذه النسبة؛ فإن هذا خطأ كبير، وقد تجد أن الكثيرين -مثلاً- إذا التقوا فيما بينهم أصبحوا يتبادلون النكت والطرائف المضحكة الدالة على تنقص الفئة الأخرى، فإذا اجتمعنا وكلنا من قبيلة معينة أو منطقة معينة، أو من جنسية معينة، لم نجد حرجاً أن نستطرد في إصدار الأحكام التعميمية أن أهل الإقليم الفلاني فيهم كذا وكذا، وأن القبيلة الفلانية فيها كذا وكذا، وأن الشعب الفلاني فيه كذا وكذا، ثم هذا يأتي بقصة، وهذا يأتي بنكتة، وهذا يأتي بتجربة مر بها وهكذا، حتى تشبعت نفوس الكثيرين منا بأنواع وألوان من الانفصال؛ قضت أو أضعفت من الأخوة الدينية القائمة بين المؤمنين. ربما يستغل الأعداء هذا الكلام في كثير من الأحيان، كما نلاحظ -على سبيل المثال- أن القوى الغربية، وبالذات القوة الأمريكية المتغطرسة اليوم، التي إذا أردنا أن نسمي الأمور بأسمائها لقلنا إنها تسعى إلى إعادة استعمار العالم بشكل جديد، وإنها تضرب برأي الناس عرض الحائط، وتصر على مقاصدها وعلى اتجاهاتها وعلى نياتها، وإنها لا تبالي أن يموت الناس أو يحيوا، المهم أن تنفذ مآربها وأهدافها نلاحظ أنها كثيراً ما تعتمد على إثارة هذه الاختلافات وعلى توظيفها؛ من أجل تحقيق أهدافها ومآربها، وهذا يؤكد علينا أهمية أن نكون يقظين، وأن نحوّل هذا الكلام إلى واقع عملي في تجنب كل الأشياء التي تخدش من صفاء الأخوة الإيمانية. ما بيننا عربٌ ولا عجمٌ مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا وطني كبيرٌ لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا بأندونسيا فوق إيران في الهند في روسيا وتركيَّا آسيا ستصهل فوقها خيلي وأحطِّم القيد الحديديا ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطان مجنحةٌ تسمو بروحي فوق العالم الفاني وما بريدة مهما لجَّ بي دمها أدنى إلى القلب من فاس وتطوان دنياً بناها لنا الهادي فأحكمها أعظم بأحمد من هادٍ ومن باني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 التعصب للقبيلة المثال الثالث: التعصب للقبيلة. وهذا أمر عريق عند العرب، كان العربي الأول يقول: أمرتهم وأمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم أو أني غير مهتدي وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ (وأربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن) فنحن نجد اليوم التعصب القبلي يضرب بجرانه في كثير من البلاد والمجتمعات الإسلامية. ليس هناك مشكلة أبداً أن يعرِّف الإنسان نفسه بأنه من قبيلة كذا وكذا، لكن المشكلة أن يتحول هذا إلى ولاء؛ بحيث تجد أن فزعة هذا الإنسان، وأن قيامه، وأن ولاءه ومحبته وجهده ينصرف إلى من يوافقه في هذا الانتساب، لكن لو جاء شخص من قبيلة أخرى، وربما يحتفظ بذكريات تاريخية أو قصص من الآباء والأجداد، فإنه يتجافى عنه وقد لا يساعده أو يعينه بل لو استطاع لضره، فهنا تحول الانتساب القبلي إلى نوع من الانفصال والانشقاق داخل المجتمعات الإسلامية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الانتساب للمذاهب الفقهية أولاً: الانتساب للمذاهب الفقهية. حنفي ومالكي وشافعي وحنبلي وأوزاعي وظاهري إلى غير ذلك، فهذا الانتساب هو نوع -أحياناً- من التفرق إذا ترتب عليه تعصب؛ لأنه في الأصل من الاختلاف المحمود، اختلاف الشافعي ومالك وأحمد ليس اختلافاً على القرآن والسنة وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم لكنهم اختلفوا بهذا الاعتبار، لكن إذا تحول الأمر إلى نوع من العصبية والتمسك، وتقديم قول الشيخ على قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يتحول هنا إلى لون من التفرق المذموم؛ لأنه بني على تعصب، وأحياناً يكون هو معقد الولاء والبراء، فتجد هؤلاء يوالون بعضهم بعضاً؛ لأنهم من المذهب الفقهي الفلاني، وقد يجافون من لا يوافقهم في المذهب أو في المشرب، وهذا يقع فيه كثير، تجد مثلاً حنبلياً يقول: أنا حنبلي ما حييت وإن أمت فوصيتي للناس أن يتحنبلوا نقول: هذا ليس بصواب، الناس مطلوب منهم أن يتبعوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الأئمة، وهو الوحيد من الناس الذي يجب على الناس اتباعه مطلقاً، وأما الأئمة فما منهم إلا راد ومردود عليه، وما منهم إلا ويؤخذ من قوله ويترك، فاعتبار أن هذا الإمام أياً كان هو معقد الولاء والبراء، وأن الحق محصور في هذا القول أو المذهب؛ فهذا خطأ، وقد حفل التاريخ والواقع بأشياء من هذا القبيل، مثلاً: الرجل الذي كان يقول: عذيري من قومٍ، وهو مالكي، والمالكية ليسوا شديدي التعصب، لكن هذا النموذج الذي أذكره وأحفظه: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن قلت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن قلت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله، ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك صلى الله على محمد، أي: أن مالكاً رحمه الله أول هذا الحديث أو وجهه وجهةً معينة، وهكذا تجد أن من أصحاب المذاهب من كان يقول: كل ما خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول. إذاً هذه المذاهب الفقهية هي تصنع أحياناً اختلافاً بين المسلمين، وأحياناً أخرى تصنع لوناً من التفرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الانتساب للجماعات والحركات ثانياً: الانتساب لجماعة أو مجموعة أو حزب، أو حركة من حركات الدعوة في العالم الإسلامي. فكثيراً ما نسمع من يقول مثلاً: هذا من الإخوان، وهذا من السلفيين، وهذا من التبليغ، وهذا من هذه الفئة، وهذا من تلك، وأحياناً يكون هناك ولع وانهماك واندماج في التصنيف بشكل عجيب، حتى أصبح هذا فناً يدرس ويلقى! نعم. التعاون على البر والتقوى مطلوب: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] والتواصي بالحق والتواصي بالصبر من دين الله عز وجل، وأن يجتمع الإنسان مع إخوانه، ويتشاور معهم، وينسق المواقف، ويستفيد منهم؛ كل ذلك طيب ولا حرج فيه، وهذه الأشياء كلها تعني مزيد الصلة بين المؤمنين، ومزيد التلاحم والترابط، لكن لا تعني مجافاة من قد يكون له اجتهاد آخر، أو يكون في بلد آخر، أو يكون في واجب أو فرض كفائي آخر يقوم به أيضاً، فإن هذه الأشياء ينبغي ألا تتحول إلى حواجز بين المؤمنين، وألا نحاكم الناس أو نحاسبهم على أساس القائمة، بمعنى: ما دام أن فلاناً من المجموعة الفلانية فهو فاضل، وما دام أنه من تلك المجموعة الأخرى فهو خاطئٌ أو منحرف أو ضال ليس هذا بلازم، الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] هل قال: كلهم سوف يأتون جماعات ويحصرون في قوائم؟! لا. قد يكون الشخص مع مجموعة عليها نوع من التقصير وهو فاضل، وقد يكون مع مجموعة فاضلة وهو مقصر، وكثرة الاشتغال بمحاسبة الناس ومحاكمتهم والقيل والقال، هذه ليست من الأشياء المحمودة، فإن أكمل الناس وأفضلهم هو أعفهم لساناً، حتى حينما يريد أن يصحح أو يعدل؛ لأننا لا نزعم أن التجمعات أو العناوين الإسلامية أنها مجموعات للكملة والفضلاء، أو أن هذه هي الإسلام، إنما قصاراها أن تكون مثل المذاهب الفقهية، مالك والشافعي وأحمد وأبي حنيفة وغيرها، اجتهادات معينة يستند أصحابها في الأصل على الشريعة وعلى الكتاب والسنة، ولكنهم يخطئون ويصيبون، والتعصب مردود، كأن تقبل خطأه وصوابه؛ لأنك تحبه، أو أن ترد كل ما عنده؛ لأنك لا تحبه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 استيعاب العدو للخلاف وتوظيفه لمصالحه وإزاء هذا الاختلاف الكبير الذي نتفق جميعاً على أنه عاصف بالمجتمعات الإسلامية اليوم، وإنني لا أتحدث الآن عن مجموعة ضخمة وهائلة من الدول العربية والإسلامية، ولا أتحدث عن داخل الدولة الواحدة مثلاً، بل ولا عن داخل الإقليم أو داخل القبيلة، بل الواقع أنك كلما دخلت إلى دائرة أضيق وجدت مجموعة من الخلافات، حتى تصل إلى مدينة أو ربما قرية، فتجد في هذه القرية عدداً من التقاطعات هناك تقاطعات بين الأحياء هذا الحي وذاك الحي هناك تقاطعات بين الانتسابات، بين من ينتسبون إلى هذه القبيلة أو تلك، أو بين من ينتسبون إلى قبيلة ومن لا ينتسبون إلى قبيلة أصلاً، إضافة إلى الاختلاف بسبب المصالح الدنيوية. إذاً: العالم الإسلامي اليوم يضج بألوان من الاختلافات التي تحتاج إلى نوع من العلاج، فإزاء هذا الاختلاف الكبير، نجد أن من الصدق مع النفس القول بأن هذا الاختلاف يستنزف المجهودات الإسلامية، بينما عدونا استطاع أن يستوعب الخلاف، فأحزاب اليمين واليسار التي نجدها الآن فيما يسمى بدولة إسرائيل، كيف استطاعوا أن يستفيدوا حتى ممن يعتبرون متطرفين بمعاييرهم الأحزاب الليكودية والأحزاب اليمينية المتطرفة، كيف دخلت إلى عالمهم وإلى موضع القرار والمشاركة، وأصبح لها دور كبير، ولها جهود ولها شعبية، إضافة إلى اليساريين، إضافة إلى ألوانهم وأصنافهم: السفرديم، والأشكلاز، اليهود العرب، واليهود الأوربيون وغيرهم، كلهم يشاركون في صناعة وصياغة وبناء هذا المجتمع اليهودي؛ لأنهم يشعرون بالخطر، وأنهم جزيرة في بحر عربي إسلامي، يرفضها ويلفظها ولا يتقبلها، ولا يتواكب أو يتطبع معها. إذاً: عدونا استطاع أن يستوعب الخلاف، وهذا نموذج، وكذلك نجد مثل هذا في الدول الغربية أوروبا -مثلاً- استطاعت أن تصنع أو تؤسس لوحدتها، مع أن كل دولة منها ربما كانت تعد قارة بأكملها، أو إمبراطورية كفرنسا مثلاً أو ألمانيا أو بريطانيا، ومع ذلك فهم يسعون في تحقيق ما يسمى بالوحدة الأوروبية، ونجحوا فيما يتعلق بالحدود، وفيما يتعلق بالجمارك، وفيما يتعلق بالعملة، ولديهم خطط قوية جداً في هذا. أيضاً: عندما تنظر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هي عبارة عن خمسين دولة، خمسين ولاية انضم بعضها إلى بعض فتكون هذا الكيان الهائل القوي الضخم، هذه الإمبراطورية أصبحت تمارس نوعاً من التسلط والبغي والنفوذ كما هو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 المنهج النبوي الشرعي في التعامل مع الخلاف إذاً: عدونا استطاع أن يوظف هذا الاختلاف، وأن يحيط نفسه كلما هم بشيء بمجموعة من الأحلاف، فيضع معه في اتجاهه من يستطيع أن يضعهم من الأسماء المعروفة وغير المعروفة، فلم يبق أمامنا نحن المسلمين، ونحن نعيش في هذا العالم المضطرب، ونواجه هذه التحديات الصعبة، التي أصبحت تستهدف ديننا وإيماننا وعقائدنا، ووحدتنا وإخاءنا، وخيراتنا وثرواتنا، وحاضرنا ومستقبلنا، وأجيالنا الحاضرة وأجيالنا القادمة -لم يبق لنا إلا أن نلتزم ضرورة بالمنهج الشرعي النبوي في التعامل مع الخلاف، وهذه هي النقطة الثالثة. الشرع الذي أقرَّ الخلاف واعترف به كجزء من الطبيعة البشرية، إلا أنه وضع مفردات في منهج التعامل مع هذا الخلاف، أعرض شيئاً منها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 الإنصاف من النفس ومن صور الالتزام بالمنهج الشرعي: هي قضية الإنصاف من نفسك. أن تنصف الآخرين من نفسك، حينما نحاول نحن أن نزن حسنات الآخرين وسيئاتهم تجدنا في الغالب لا بد أن نضع إصبعنا على طرف الكفة لترجح، أو هناك بحسب ميلنا أو هوانا، فهنا حينما يكون لك علاقة بهذا الطرف، أو تحشر نفسك معهم؛ فإنك تميل إليهم، وقد قال عمار رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [ثلاث من جمعهن فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الإقتار] ومعنى الإنصاف من نفسك: أن تضع نفسك في موضع الطرف الآخر، فتعامله كما لو كنت في مكانه، وهذه قضية أقول أحبتي بالتجربة والمعايشة للناس: ربما أتحدى أن يكون باستطاعتك أن تظفر بإنسان يوصف بأنه منصف من نفسه، لكن بعض الناس مسرف، وبعض الناس متوسط أو معتدل، وكما قيل: أتمنى على الزمان محالا أن ترى مقلتاي طلعة حر حر أي: حر من قيد النفس ومن قيد الهوى، يستطيع أن يلاحظ ما للآخرين وما على نفسه: ولم تزل قلة الإنصاف مانعة بين الرجال ولو كانوا ذوي رحم وكثيراً ما تجد من إذا غضب على شخص أطاح به, ونسي جميع حسناته وجميع فضائله، وإذا تكلم عنه، حتى وإن كانوا إخوة لأم ولأب أشقاء، واختلفوا على قطعة أرض -مثلاً- أو في تجارة أو في عمل؛ لوجدت هذا يتكلم عن أخيه بما لا يتكلم به أشد الناس عداوة، ثم تأتي للآخر وتجده يتكلم بمثل ذلك، فمتى يمكن أن تزول وتذوب هذه الفواصل بينهم؟ إذا تمسك كل واحد بما عنده وقال: نحن بما عندنا وأنت بما عندك راضٍ والرأي مختلف النقطة الخامسة من المنهج الشرعي: قضية الالتزام بنظام الخلق الإسلامي؛ من حسن الأدب، وحسن الحديث مع الآخرين، وحسن الاستماع، وحسن الظن بهم، والتماس المعاذير، والرفق، والصبر، والصفح. وهنا لدينا مستويات: المستوى الأول: ألا يبدأ الإنسان أخاه بشيء من الشر، فإن البادئ أظلم، فكونك تبدؤه بذلك تكون قد استثرته. والمستوى الثاني: أنه إذا بدئ بشيء من ذلك فعليه ألا يرد، وهذا مستوى راقٍ: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] وقد تجادلت امرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أكثرت الأولى على الأخرى قامت وردت عليها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (كان هناك ملك موكل يذبُّ عنكِ فلما تكلمت ذهب وترككِ) . إن الرد والمخاصمة أيها الأحبة! في كثير من الأحيان لا يزيد النار إلا اشتعالاً وخصومة، والقيل والقال ليس سبباً في إزالة الإشكال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي ثانياً: التفريق بين الشأن الشخصي والموضوع العلمي: فحينما تبحث مسألة علمية؛ قد تكون فقهية، أو دعوية، أو ما أشبه ذلك، عليك ألا تدخل فيها القضية الشخصية مع هذا الشخص الذي تتحدث معه أو تحاوره، ومما يذكر من الطريف في هذا: أن داود الظاهري ناظر رجلاً وجادله، فقال له ذلك الرجل بعد قليل: أنت يا أبا بكر! قلت كذا وكذا وكذا فقد كفرت والحمد لله. فقال له داود الظاهري: سبحان الله! متى عهد أن مسلماً يفرح ويستبشر بكفر أخيه المسلم. يعني: لو قلت: فقد كفرت ولا حول ولا قوة إلا بالله! وإنا لله وإنا إليه راجعون! معقول! أما أن تقول: كفرت والحمد لله، كأنك كنت مغتبطاً بأنه وقع في الكفر من حيث لا يدري ولا يريد، وربما لا يكون كفراً ولكن هكذا فسر الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 عدم الدخول في القضايا التي لا يحسنها الإنسان كذلك النقطة الثالثة وهي: عدم الدخول في قضية أو مسألة لا يد للإنسان فيها، ولا يدرك الإنسان أبعادها، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36] فإن كثيراً كثيراً من الناس ربما يتكلمون في قضايا ويتحدثون عنها, كما لو كان الواحد منهم ابن بجدتها ويقول: أنا عذيقها المرَّجب، وجذيلها المحكك ويتكلم في هذه القضية كأنه يدركها تماماً، بينما لو أخذت وأعطيت ربما تجده لم يفقه أصل المسألة؛ فضلاً عن تفاصيلها وأقوال الناس فيها وأدلتهم والراجح والمرجوح. ولهذا فإن من الحكمة والذكاء أن يكفَّ الإنسان عن كثير من الأسئلة وكثير من المناقشات والمجادلات التي لا يملك الإنسان دليلها ولا حسن النظر فيها. في بعض الأحيان يصبح الحوار؛ سواء كان حواراً في القنوات الفضائية، أو في المجالس، أو في (الإنترنت) -يصبح كأنه نوع من التصفيق، وكأننا في حلبة مصارعة أو ملاكمة، هؤلاء يصفقون لهذا وهؤلاء يصفقون لهذا، وربما لو أمسكت بأحدهم وسألته: ما الموضوع؟ أو ما الخطب؟ لم تجد عنده معلومة دقيقة سوى أنه يحب هذا ولهذا يصفق له، أو يكره هذا ولهذا يحاول تحطيمه، وهذا ليس من العقل ولا من الرشد في شيء. ولا زلت أذكر أستاذاً كان يدرسنا في الجامعة، فجرى نقاش بينه وبين أحد الطلاب يوماً من الأيام، وكان نقاشاً علمياً هادئاً، لكن في آخر الفصل كان هناك طالب عنده نوع من قلة الأدب وقلة الحياء، وأحب أن يستفز المدرس، فكان كلما حصل توقف في النقاش صرخ هذا الطالب الآبق بأعلى صوته وقال: واحد صفر. يعني: لصالح الطالب، باستمرار، ومع ذلك كان المدرس لبقاً وذكياً؛ ولذلك عامل الموضوع بهدوء حتى انتهى النقاش. أيضاً من آداب المجادلة بالتي هي أحسن : الحرص على التي هي أحسن، كما ذكر ربنا: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وهنا لاحظ التعبير بالأحسن، فالله سبحانه وتعالى حتى فيما أنزل هناك حسن وأحسن: {يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18] وهناك حسن وأحسن، وعلى الإنسان أن يختار الأفضل والأحسن بقدر المستطاع؛ لأن الشيطان ينزغ بينهم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53] . الإمام الشافعي رحمه الله كان يقول للربيع، والربيع أحد تلاميذه، كان يقول له: يا ربيع! اكسُ ألفاظك. يعني: ألبسها كسوة، لا تخرج اللفظ عارياً، أو بعيداً، أو غليظاً، وإنما حاول أن تصنع عليه لباساً جيداً. وجاءه مرة من المرات الربيع وهو مريض، فقال له: يا إمام! قوَّى الله ضعفك. فقال له الشافعي: يا ربيع! أصبت المعنى وأخطأت اللفظ، لو قوَّى الله ضعفي لزاد ضعفي فمرضت ومت، وإنما قصدك أن يزيل الله ضعفي، أو يضعف ضعفي فتقوى قوتي. ولا شك أن اختيار الألفاظ الجيدة هو من الأدب الذي ينبغي أن يأخذ النشء به أنفسهم. إذاً النقطة الأولى: المجادلة والمحاورة والمحاجة بالتي هي أحسن، بمعني: بدون صخب ولا ارتفاع أصوات ولا استخدام ألفاظ سيئة، ودعوني أضرب أمثلة سريعة: الزوجان عندما يختلفان في مسألة من المسائل، تلاحظ في بعض الحالات أن الزوج ربما يأتي بما تقدم وما حدث، يقول لهذه المرأة مثلاً: تذكرين من يوم تزوجنا وأنا في نكد وتعب وعناء، وقلة راحة، ومن هذا القبيل ويبدأ يسرد لها تاريخاً طويلاً، بينما كانت القضية محدودة، لسنا بحاجة إلى استدعاء تاريخ قديم يضاف إلى الواقع الحالي، فتصعب المعالجة، وإنما على الإنسان أن يعالج الموقف الموجود دون أن يستدعي إليه ما يضيف. وكذلك المرأة ربما غضبت على زوجها فقالت -كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم-: (ما رأيت منك خيراً قط) وحاولت أن تطيح بكل ماضيه وكل عمله. فعلى الإنسان حينئذٍ أن يحرص على أن يضبط نفسه، وهذه هي قيمة الإنسان: أقبل على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان قيمة الإنسان أن عنده قدرة على ضبط نفسه، وضبط مشاعره، فلا تسع لتأتي بالعبارات القوية التي تظن أن بها الانتصار على الطرف الآخر، ولا أقول خصماً؛ فليست زوجتك خصماً، كذلك الولد، أو الزميل، أو المجادل لك في مسألة علمية، أو في مسألة دعوية، أو المختلف معك أيضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 المجادلة بالتي هي أحسن أولاً: المجادلة بين المتخالفين بالتي هي أحسن, كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فإذا كان القرآن الكريم يرشدنا إلى مجادلة اليهود والنصارى بالتي هي أحسن، أي: لم يقل بالحسنة، وإنما بالتي هي أحسن، أي: بأفضل ما يمكن من الألفاظ والعبارات والطرائق والأساليب والحجج، فكيف بمجادلة من يتفقون معك في أصل الدين وأصل الانتماء، ولكن قد يختلفون معك في اجتهاد أو رأي أو موقف، أو حتى مصلحة دنيوية أو موقف دنيوي؟! فهنا تأتي قضية المجادلة بالتي هي أحسن، تبدأ من علاقة الإنسان مع زوجته مثلاً مع طفله في المنزل مع شريكه في العمل مع رئيسه مع مرءوسه، وتنتهي بالحوار العام بين جميع فئات الأمة وطوائفها. ومن المجادلة بالتي هي أحسن: استخدام لغة راقية بعيدة عن الشتم والسَّب والاتهام، وقدرة الإنسان على أن يسيطر على عواطفه، وألا يسمح للاستفزاز أن يتحكم فيه، ولهذا قال أهل العلم كـ ابن تيمية وابن القيم والغزالي والشاطبي وغيرهم، قالوا: لو كان الغلب في المجادلة والمناظرة بالسّب والشتم لكان أكثر الغالبين من الجهَّال، وإنما الغلبة بالحجة وقوتها وإن كان الصوت منخفضاً. ولهذا ليس رفع الصوت ولا الصخب والضجيج من عوامل النجاح في الخصومة والمجادلة، وليس استخدام العبارات القاسية بالتهجم على صاحبك، وتشبيهه -مثلاً- بالحيوانات أحياناً، أو بالرخم والطيور أحياناً أخرى، أو اتهامه، أو تجريحه، أو ما أشبه ذلك؛ هذه أيضاً لا مدخل لها في الحوار أصلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 الأسباب المعينة على ضبط الأنفس عند الاختلاف هناك ثمانية أسباب ينتج عنها أو عن واحد منها ضبط النفس، أعدها لك باختصار، الأسباب المعينة على ضبط النفس: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم السبب الخامس: قطع السباب وإنهاؤه مع من يصدر منهم: وهذا لا شك أنه من الحزم، حكي أن رجلاً قال لـ ضرار بن القعقاع: والله لو قلت واحدة لسمعت مني عشراً، فقال له ضرار: والله لو قلت عشراً لم تسمع مني واحدة. إنني أقول لك بالتأكيد وبالخبرة والمشاهدة: إن الجهد الذي تبذله في الرد على من قد يسبك أو يشتمك أو ينتقصك؛ إن هذا الجهد لن يعطي نتيجة مثل النتيجة التي جاء بها الصمت، ولكنك بالصمت حفظت لسانك ووقتك وقلبك، ولهذا قال الله تعالى لمريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيْنَ مِنْ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم:26] أحياناً الكلام والأخذ والعطاء والرد والمجادلة تنعكس على قلبك وتضر أكثر مما تنفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 رعاية المصلحة السبب السادس: رعاية المصلحة ولهذا أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على الحسن بقوله: (إن ابني هذا سيد، ولعلَّ الله أن يصلح به بين طائفتين من المسلمين) فأولاً ذكر أنهم من المسلمين، وأثنى على الحسن بهذه المنزلة، وكان هو سيد شباب أهل الجنة مع أخيه الحسين، فدلَّ هذا على أن رعاية المصلحة أحياناً تحمل الإنسان على الحرص على الاستماع وتجنب المخالفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 حفظ الإنسان لمعروف سابق السبب السابع: حفظ الإنسان لمعروف سابقٍ أو سالف. ولهذا كان الشافعي رحمه الله يقول: الحرُّ من راعى ودادَ لحظةٍ، أو تمسك بمن أفاده لفظة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حسن العهد من الإيمان) وأمثلة ذلك كثيرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 سكوت الإنسان مكراً ودهاءً وانتظاراً للفرص السبب الثامن: أن يسكت الإنسان مكراً ودهاءً وانتظاراً للفرص. وهذا في نظري أنه لا بأس به؛ لأنه ربما إذا سكت الإنسان وانتظر زالت حرارة الغضب من نفسه، فإنه يكون قادراً على السيطرة عليها فيما بعد ذلك، ولهذا كانت العرب تقول: من أظهر غضبه قلَّ كيده. بعض الناس غضبه في لسانه، فإذا غضب زمجر وأرغى وأزبد وصرخ وتوعد وهدد، ثم بعد يوم تأتيه وكأن شيئاً لم يكن، بينما بعض الناس ربما يسكت ولكن يظل محتفظاً بالبغضاء، ولا شك أن الأول خير، ولكن خير منهما من لا يظهر الغضب عليه، لا في حاضره ولا في مستقبله، تقول العرب أيضاً: تعاقب أيدينا ويحلم رأينا ونشتم بالأفعال لا بالتكلم وأيضاً من مشهور الأمثال العالمية أنهم يقولون: الذي يريد أن يفعل فإنه في الغالب لا يهدد. هذا من التشريع الذي فيه حفظ لحقوق الأخوة، فدعونا أيها الأحبة نتعلم مثل هذه الأشياء ونربي أنفسنا على هذه المعاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 الرحمة بالمخطئ أولاً: الرحمة بالمخطئ، والشفقة عليه، واللين والرفق. وهنا نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] نأخذ من هذه الآية فائدة وعبرة عظيمة وهي: أن الناس يجتمعون على الرفق واللين، ولا يجتمعون على الشدة والعنف، هذا مقتضى الآية؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وهؤلاء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، والسابقين الأولين، فكيف بمن بعدهم؟! وكيف بمن ليس له مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس، سواء كان من العلماء أو من الدعاة، أو ممن لهم رياسة أو وجاهة أو مكانة أو تجارة، أو ما أشبه ذلك؟!! إذاً: فالرحمة والرفق بالناس أمر ضروري وأساسي، ولا يمكن أن يجتمع الناس إلا على أساس الرحمة والرفق، ولهذا يقول أبو الدرداء لرجل سبه وشتمه وأغلظ له: [يا هذا! لا تغرقن في سبنا وشتمنا، ودع للصلح موضعاً، فإننا لا نكافئ من عصى الله تعالى فينا بأفضل من أن نطيع الله تعالى فيه] . وشتم رجل الشعبي فقال له: [إن كنت كما قلت فغفر الله لي، وإن كنت لست كما قلت فغفر الله لك] . وشتم رجل معاوية شتيمة في نفسه، فدعا له وأمر له بجائزة. إذاً القدرة على تعويد النفس على الرضا، والصبر واللين والمسامحة، هي قضية أساسية، والإنسان يتحلَّم حتى يصبح حليماً، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإسناده لا بأس به: (إنما العلم بالتعلُّم، وإنما الحلم بالتحلُّم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه) . وعليك ألا تؤاخذ الآخرين، وعليك أن تتذكر أن تحية الإسلام هي: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقولها لأهلنا إذا دخلنا، بل قال الله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61] وأن نقولها للصغار والكبار، ومن نعرف ومن لا نعرف، كما ورد في الحديث: (السلام لمن تعرف ومن لا تعرف) [بذل السلام للعالم] . هذه التحية فيها معنى السلام، أي: أنت تسلم مني؛ من لساني، ومن قلبي، ومن يدي، فلا أعتدي عليك بقول، ولا بفعل، وفيها الدعاء له بالسلامة أيضاً، وفيها الدعاء له بالرحمة، وفيها الدعاء بالبركة، هذه المعاني الراقية التي نقولها بألسنتنا علينا أن نحولها إلى منهج في حياتنا وعلاقتنا مع الآخرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 سعة الصدر وحسن الثقة ثانياً من الأسباب التي تدفع أو تهدئ الغضب: سعة الصدر، وحسن الثقة مما يحمل الإنسان على العفو، ولهذا قال بعض الحكماء: أحسن المكارم عفو المقتدر وجود المفتقر. فإذا قدر الإنسان على أن ينتقم من خصمه غفر له وسامحه: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43] (ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء) : هداني هادٍ غير نفسي ودلني على الله من طرَّدتُّه كل مطردِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 شرف النفس وعلو الهمة ثالثاً: شرف النفس وعلو الهمة بحيث يترفع الإنسان عن السِّباب، ويرى أنه لا يجعل نفسه في هذا المقام لن يبلغ المجد أقوام وإن عظموا حتى يذلِّوا وإن عزوا بأقوام ويشتموا فترى الألوان مسفرةً لا صفح ذلٍّ ولكن صفح أحلام يعني: لا بد أن تعود نفسك على أن تسمع الشتيمة فيسفر وجهك، وتقابلها بابتسامة وضحكة عريضة، ليس على سبيل التمثيل، ولا تقل: لا أريد لخصمي أن يقطف زهرة الانتصار علي، وإنما تدرب نفسك تدريباً عملياً على كيفية كظم الغيظ وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا عود نفسك على هذه المقامات السامقة الراقية العظيمة نعم، إنها جرعة غيظ تتجرعها في ذات الله تعالى، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه معاذ بن أنس الجهني عند أهل السنن وهو صحيح: (من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء) . اسمحوا لي يا إخوة! فالكلام سهل وطيب، وأعتقد أن أي واحد منا يمكن أن يلقي محاضرة خاصة في هذا الموضوع، لكن بمجرد ما يواجه أول موقف يتغير عنده (الترمومتر) ! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ السبب الرابع: استحياء الإنسان أن يضع نفسه في مقابلة المخطئ وقد قال بعض الحكماء: احتمال السفيه خير من التحلي بصورته، والإغضاء عن الجاهل خير من مشاكلته. وهكذا قال لقيط بن زرارة وهو من حكماء وشعراء العرب، قال: وقل لبني سعد فمالي ومالكم ترقون مني ما استطعتم وأعتق لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف وقد ردوه شر رد، حتى إنه لم يفق إلا وهو بقرن الثعالب، فجاءه ملك الجبال وقال: (مرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، قال: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبده ولا يشرك به شيئاً) . أيها الأخ الحبيب! إن هذه العضلة التي في صدرك وهي القلب، هذه العضلة مهمة جداً، وقابلة للتدريب والتمرين، فمرِّن عضلة القلب على كثرة التسامح، والتنازل عن الحقوق، وعدم الإمساك بحظ النفس، وجرِّب قلبك أن تملأه بالمحبة، فلو استطعت أن تحب المسلمين جميعاً فلن تشعر أن قلبك ضاق بهم، بل سوف تشعر بأنه يتسع كلما وفد عليه ضيف جديد، وأن يسع الناس كلهم لو استحقوا هذه المحبة، فمرِّن عضلات قلبك على التسامح، وفي كل ليلة -وهذه نصيحتي لإخوتي- قبل أن تخلد إلى النوم وتسلم عينيك لنومة هادئةٍ لذيذةٍ؛ سامح كل الذين أخطئوا عليك، وكل الذين ظلموك، وكل الذين حاربوك، وكل الذين قصروا في حقك، وكل الذين نسوا جميلك، بل وأكثر من ذلك؛ انهمك في دعاء صادق لله سبحانه وتعالى أن يغفر لهم، وأن يصلح شأنهم، وأن يوفقهم، ستجد أنك أنت الرابح الأكبر من مثل هذا، وجرِّب أيضاً أنه كما تغسل وجهك ويدك بالماء في اليوم الواحد بضع مرات، أو أكثر من عشر مرات؛ لأنك ستواجه به الناس، فإن هذا القلب هو محل نظر الرب تبارك وتعالى: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم) وفي لفظ: (وأعمالكم) هذا القلب الذي ينظر إليه الرب تبارك وتعالى من فوق سبع سماوات، احرص على ألا يرى فيه ربك تبارك وتعالى إلا الأشياء الطيبة، وكل ما يكره الله تعالى في هذا القلب تقوم بكنسه كنساً وترمي به -مع شديد الاحترام- في أقرب زبالة. صحِّح هذا القلب اغسل هذا القلب تعاهده بشكل يومي؛ لئلا تتراكم فيه الأحقاد والكراهية والبغضاء، والذكريات المريرة التي تكون أغلالاً وقيوداً تمنعك من الانطلاق، ومن المسير ومن العمل، ومن أن تستمتع بنومك وشربك وأكلك ويقظتك ومعايشتك لأهلك ومعاشرتك لهم، وجلوسك مع أطفالك، وقيامك بعملك تخلَّص من هذه الأشياء التي لا فائدة منها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 اختلاف الاجتهاد بين العلماء والدعاة وهذا الاختلاف أولاً أمر طبيعي لا حيلة فيه، بل من المصلحة بقاؤه، والله تعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فهذا جزء من خلقة الإنسان، الناس مختلفون في البصمة: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4] مختلفون في حدقة العين، مختلفون في نبرة الصوت هناك أيضاً كل إنسان له نبرة وبصمة وحدقة مختلفة في عقله وتفكيره، ونظرة في الأمور يختلف عن الآخر تماماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أسباب الاختلاف بين العلماء إذاً: السبب الأول من أسباب الاختلاف هو: الاختلاف في التكوين الفطري والنفسي والجبلِّي، وفي المزاج الذي ركِّب منه هذا الإنسان، فـ أبو بكر يختلف عن عمر وعن عثمان وعن علي، فكل واحد له تكوين خاص يختلف عن الآخر. السبب الثاني هو: الاختلاف في التحصيل, أي: قدر ما حصَّله هذا الإنسان من المعرفة والعلم، ومن الفهم والإدراك. السبب الثالث هو: الاختلاف في الظرف الذي يعيشه هذا الإنسان؛ فإنه قد يعيش شخص ظرفاً معيناً يختلف عن الآخر بحسب تغير الأحوال والظروف، والمجتمعات، والسن، والحرب والسلم، والقوة والضعف، والصحة والمرض، وغير ذلك. ثم هناك سبب رابع وهو: الهوى الخفي. والهوى الخفي قلًَّ من يسلم منه، حتى ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أنه وقع فيه كثير من الأكابر من أهل الفضل والعلم، ومن السابقين من الأئمة والعلماء. إذاً: يوجد عند الإنسان أحياناً من الهوى الخفي الذي لا يشعر به صاحبه ولا يلام عليه؛ لأن فضل الله تعالى واسع وعظيم، وإن كان على الإنسان أن يراقب نفسه بشكل جيد، لكن يقع للإنسان أحياناً نوع من الهوى الخفي الذي لا يدركه، وقد يحمله على بعض المواقف. الاختلاف إذاً طبيعي، وهو جزء من الشخصية البشرية، ومن الحياة البشرية، ومن الحكمة الربانية اختلاف التنوع الهائل الضخم الذي بموجبه تعمر هذه الدنيا. لقد اختلف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهم أنبياء الله ورسله اختلف موسى وهارون: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} [الأعراف:150] . واختلف موسى والخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِي} [الكهف:66] {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] {لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] . واختلف موسى وآدم فقال موسى: (يا آدم! أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة بأكلك من الشجرة، فقال له آدم: ألست تجد يا موسى! وأنت الذي كلمك الله واصطفاك برسالته وكلامه أن الله تعالى كتب هذا عليَّ قبل أن يخلقني بكذا وكذا، فحجَّ آدم موسى، فحجَّ آدم موسى) . والنبي صلى الله عليه وسلم لما أسري به أيضاً ومرَّ على موسى قال له: (إني جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك -ومرة وثانية وثالثة وعاشرة- حتى قال: قد راجعت ربي حتى استحييت) . إذاً هذا الاختلاف وقع حتى بين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أيضاً: اختلف الصحابة رضي الله عنهم في أسرى بدر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ترون؟ قال عمر رضي الله عنه) وهو الرجل الذي في جبلَّته وطبيعته وتكوينه الفطري أو النفسي الخلقي نوع من القوة والشجاعة والجرأة، حتى كان الشيطان يخاف منه، قال: (والله يا رسول الله! إني أرى أن تمكنني من فلان، وتمكن علي بن أبي طالب من عقيل، وتمكن الباقين من أقاربهم حتى يقتلوهم؛ فإن هذا أول يوم أعزَّ الله فيه الإسلام، فشرِّد بهم من خلفهم، وسأل أبا بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! أهلك وعشيرتك، وأرى أن تستأني بهم لعلَّ الله تعالى أن يهديهم إلى الإسلام -فهوى النبي صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قاله عمر، وقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: إن مثلك كمثل إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم:36] ومثلك يا عمر كمثل نوح: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح:26] أو كمثل موسى: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ} [يونس:88] ) المهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعاد القضية إلى نوع من التركيب الذي هو موجود حتى عند الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أيضاً تجد الخلاف عند الأئمة، كأئمة الفقه -مثلاً- والتفسير، والحديث، في الأحكام، وفي الحكم على الأحاديث وفي تخريجها، وما أشبه ذلك من ألوان العلوم، فإن هذه الأشياء كلها موجودة وقائمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 ثلاثة أسئلة تطرحها على نفسك إذا اختلفت مع غيرك وإذا اختلفت مع أخيك في مسألة دينية أو علمية أو شرعية، فإني أقترح عليك أن تطرح على نفسك ثلاثة أسئلة: السؤال الأول: هل أقول عن نفسي: أنا أعلم من فلان بالدين والشرع؛ ولذلك اختلفت معه؟ أو أعتقد أنه يكون له من العلم مثل الذي عندي أو أفضل؟ السؤال الثاني: هل أعتقد أنني أعقل منه، وأنني قد أوتيت من الغريزة العقلية الفطرية المركبة في أصل تكويني، ومن قوة الإدراك وحدة الذهن ما لم يؤت؛ فأنا أعقل وأذكى منه، فلذلك أدركت ما لم يدركه؟ السؤال الثالث: هل أعتقد أن عندي من الصدق مع الله سبحانه وتعالى، والإخلاص وسلامة النية والغيرة شيئاً ليس عنده ولذلك اختلفت معه؟ كل هذه الأشياء الإنسان لا يزكي فيها نفسه، وإنما يقول: لعل أخي أعلم مني، ولعله أعقل مني، ولعله أصدق وأخلص وأغير مني، فهذا لا يعني أن أتابعه، ولكن يعني أن أعذره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 نقاط مهمة في توظيف الخلاف لجمع الكلمة وفي هذا السبيل في مجال الاختلاف في الانتسابات الدعوية وفي الاجتهادات العلمية بين الدعاة وبين العلماء وغيرهم، هنا عدة نقاط: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 التفريق بين الثوابت والمتغيرات النقطة السادسة: قضية التفريق بين الثوابت والمسلمات القطعية المعروفة من الدين بالضرورة، وبين الاجتهادات والمتغيرات والأشياء القابلة للأخذ والرد فبالنسبة للثوابت والمسلمات هي محكمات في دين الله عز وجل، لا مجال للاختلاف حولها؛ من نصوص الكتاب والسنة، وإجماعات السلف الصالح رضي الله عنهم الصادقة القطعية، وهذه الأشياء هي معقد الولاء والبراء بين المؤمنين، وهي أصل الدين، ولهذا يسميها ابن تيمية رحمه الله: الدين الجامع؛ لأنه لا خلاف حولها، وهناك الأمور التي يقع فيها اختلاف، بعضهم يحدث عنده خلل، فربما يشكك في المحكمات، كما نجد في بعض المدارس الفكرية المعاصرة، في كثير من المؤلفات والمصنفات والكتب، فقد أصبحت تشكك في بعض محكمات الدين وقطعياته وضرورياته، وتحاول إعادة فهم القرآن الكريم، وهذا لا شك أنه انحراف خطير يفضي بأصحابه إلى خارج الدائرة الإسلامية. لكن ثمة خلل آخر يقع أيضاً، وهو أن يقوم البعض بما أسميه التخريج على الثوابت، وأعني به أن يخرج الإنسان بثوابت الدين وقطعياته ما ليس منها، ليعزز اختصاصه بشيء أو تميزه بشيء، أو ليخرج غيره ممن يختلفون معه، ولهذا أقول: إن حكاية (المنهج) وربما الكثيرون يطلقون كلمة المنهج المنهج المنهج علينا أن ندرك أن كلمة (المنهج) لا تعني إلا الكتاب والسنة والدين الصحيح، عندما يقول الإنسان: نتمسك بالمنهج وما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، يجب ألا يعتمد فيه على الرأي المجرد، أو الاجتهاد الخاص، وإنما على النقل المحقق، وحتى القول لواحد من أئمة السلف، كأن يكون قولاً لـ أحمد أو الشافعي أو مالك أو الأوزاعي أو سفيان أو الزهري، فإنه لا يتحول إلى منهج بمجرد كونه قولاً قاله، وإنما المنهج هو ما أجمعوا وأطبقوا عليه وانطلقوا منه. الخلاف إذاً لا يكون في الثوابت والمسلَّمات وإنما يكون فيما وراء ذلك يكون في الفقهيات والفروع وهي كثيرة جداً، وأمور عملية؛ كالخلاف في بعض مسائل الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج، وكان الصحابة رضي الله عنهم يختلفون فيها. أيضاً: يكون الاختلاف في الوسائل وليس في الغايات، الغاية واحدة لكن اختلفنا في وسيلة معينة هل نستخدم هذه الوسيلة أم تلك؟ البعض -مثلاً- قد يتحدثون عن الاختلاف في استخدام التقنيات الحديثة في الدعوة إلى الله عز وجل، أو استخدام طريقة معينة في دعوة الشباب، يكون الاختلاف في الأساليب لا في الأهداف، فالأهداف واحدة لكن أسلوب الدعوة أن يكون بشدة أو بلين، أو بطريقة أو بأخرى، أو بصورة فردية أو جماعية، هذا أيضاً أسلوب لا يؤثر الاختلاف فيه. مثال ذلك أيضاً: الاختلاف في نوازل الأمة التي تلاقيها، فإن الخلاف في هذه النوازل والأمور الواقعة الحادثة الجديدة التي لا سابق لها، يحتاج إلى نظر وإلى تأمل وإلى استنباط: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 الخطوط المتوازية النقطة الخامسة: قضية الخطوط المتوازية: فلا يلزم أن نتقاطع دائماً إذا اختلفنا، أو يدمر بعضنا جهود بعض، حتى لو لم يكن لديك قناعة بما يفعله الآخرون دع الأمر للوقت، ربما يتبين مع الأيام أن ما كان يفعله صواباً أو خطأ، أو أن فيه بعض الصواب وبعض الخطأ. أحياناً فرط إحساسنا -أيها الإخوة- بالمسئولية، كأننا مسئولون عن الأمة، وعن الناس، وعن الدعوة، وعن العلم، فرط الإحساس يحملنا على توزيع البطاقات الحمر ذات اليمين وذات الشمال مع كل من نختلف معهم في الرأي أو في الاجتهاد, أو في القول، أو في الانتساب, أو حتى في المزاج في بعض الأحيان. وربما نقوم بمراقبة الآخرين ونفتح ملفات لأخطائهم، فعندنا قائمة بماذا أخطأ فلان وماذا أخطأ علان وهذا في الواقع هو إلى الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان من أقوال عيسى عليه السلام: لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، بل انظروا فيها كأنكم عبيد. ولذلك يقال: إن رجلاً اغتاب بعض الصالحين عند ابن المبارك، فقال له: غزوت الروم؟ قال: لا السند؟ قال: لا الديلم؟ قال: لا الترك؟ قال: لا، قال: سلم منك الروم والهند والسند والديلم والترك؛ ولم يسلم منك أخوك المسلم!! ولذلك تجد أن كثيراً منا ربما لا يستخدم الأسلوب نفسه مع أعداء الإسلام، ولو قيل له في ذلك لم يعر اهتماماً لهذا، وقد لا يعتني بمتابعة الأحوال والأوضاع والمتغيرات التي لها أثر عقيم وعظيم في واقع الأمة، وفي سلوكها، وفي حاضرها ومستقبلها، ورجالها ونسائها، ولها تأثير في غاية الأهمية، ربما يرى أن الاشتغال بمثل هذه الأشياء نوع من الفضول، ويعتني ببعض الخلافات التي تقع مع إخوانه المسلمين. أذكر الإخوة في هذا المجال بقضية التعاون، وقضية أن الاختلاف لا يفسد للود قضية، الشافعي رحمه الله كان يقول: قالوا يزورك أحمد وتزوره قلت الفضائل لا تغادر منزله إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله فالفضل في الحالين له وأحمد رحمه الله كان يقول: الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للبدن، فهل ترى لهذين من عوض، أو عنهما من خلف؟!! وكان يقول أيضاً: كنا على خلافٍ مع أهل الرأي -من أصحاب أبي حنيفة من أهل الكوفة - حتى جاء الشافعي فأصلح بيننا. وكثيراً ما كان يقول: إنه قلَّ ما أصلي إلا ودعوت الله تبارك وتعالى له. ومالك هو أحد شيوخ الإمام الشافعي. وهكذا تجد أن هؤلاء الأئمة كانوا كلهم كأنهم عائلة واحدة وأسرة واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 التخصص والتناوب في الأعمال النقطة الرابعة قضية التخصص والتناوب في الأعمال بحيث يكون اختلافنا من اختلاف التنوع كما يقال، أو كما يطلق بعضهم: كلانا على خير، هذا مشغول بدعوة، وهذا مشغول بإغاثة، وهذا بتعليم، وهذا بعلم، وهذا بإصلاح، وفي كلٍ خير، ولا أحد يستطيع أن يستوعب الخير كله. هذا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان قائداً للجيوش، ولما انتهت مهمته في الحرب كان يصلي بالناس فيقرأ بقصار المفصل، ويقول: [شغلني الجهاد عن القرآن] بينما أبو هريرة رضي الله عنه لم يقد جيشاً ولا معركة، وإنما كان معروفاً بنقل العلم وروايته وحفظه. ينبغي أن ندرك -أيها الأحبة- أن شمولية الإسلام لا تقتضي شمولية المسلم، نعم الإسلام دين شامل للحياة كلها، لكن المسلم ليس هو تعبيراً كاملاً عن الإسلام ولا شمولية له، ولهذا قد يتخصص في شيء أو ينشغل بشيء، أو يعتني بأمر دون غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 العناية بجوانب الاتفاق أكثر من جوانب الاختلاف النقطة الثالثة: قضية العناية بجوانب الاتفاق أكثر من جوانب الاختلاف: لأن هذه الجوانب التي نختلف حولها قليلة، ولكنها تكبر بالتركيز عليها، وأضرب لذلك مثلاً صغيراً أكرره أحياناً لبعض الإخوة: عندما تصلي مع الجماعة، ويصلي إلى جوارك أخوك المسلم؛ تجد أنك تراقبه كيف يهوي في سجوده؟ أين يضع يديه؟ كيف يحرك إصبعه السبابة في التشهد؟ فهذه الأشياء التي تعودنا أن نراقبها حتى نحكم عليها، وبعد الصلاة ربما أمسكه وأقول: أنت تفعل كذا لماذا؟ بينما نسيت أنك تتفق معه في أصول الدين وأركان الإيمان، في أركان الإسلام، وصلاة الجماعة، وأركان الصلاة، وشروط الصلاة، وواجبات الصلاة، بل في معظم سنن الصلاة، في (90 أو 80%) منها، والخلاف هو في (10%) من السنن فقط، ومع ذلك ربما كبرها الشيطان، وقد ذكر أبو بكر بن العربي أن شيخه أبا بكر الطرطوشي ذهب إلى بلاد الأندلس، وصلى عند حاكم هناك، فكان يرفع يديه عند التكبير وعند الركوع وعند الرفع منه، قال: فأمر هذا الحاكم بأن يقتل الشيخ. قال أبو بكر بن العربي: فأصابني ما قرب وما بعد، وأتيت إليه وقلت: غفر الله للأمير، أصلح الله الأمير، هذا شيخ الأمة، هذا فقيه الوقت، كيف يقتل بمثل هذا؟ قال: لماذا يرفع يديه؟ قال: فما زلت به حتى بينت له أن هذه هي السنة، وأن هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقول لكثير من أهل العلم، قال: فسكن، وإلا كاد أن يقتله. وهدد أحدهم أخاه وقد رآه يحرك إصبعه بطريقة معينة، هدده بأنه سوف يقطع إصبعه. ودعوني أذكر لكم هذه الحادثة التي وقعت لي شخصياً، ونحن نتكلم الآن عن تجنب الخلاف وعدم التركيز على عوامل الفرقة، هذا الكلام قلته كثيراً قبل أسبوع صليت بجوار أحد الشباب، فلما كنا في التشهد جاءني وتسلل إليَّ الشيطان وقال: انظر هذا الشاب كيف يحرك إصبعه؟ فنظرت فوجدته يحرك إصبعه محنية ويحركها باستمرار، فبدأ الشيطان يهمس لي وقال: ألا تلاحظ أنه يعتمد على حديث ضعيف وهو: (أنه حناها شيئاً ما) هذا الحديث لا يثبت عند أهل العلم، والشيطان أحياناً يصدق وهو كذوب، وقد ينقل الإنسان من المفضول إلى الفاضل بدلاً من أن تقبل على صلاتك أو تحقق أخوتك، يحاول أن يشغلك بذكريات من الأمور العلمية التي هي موجودة ومستقرة، لم يضف شيئاً جديداً لكنه بعثها وأشغلك بها. ثم قال أيضاً: ألا تلاحظ أن كثرة حركته للإصبع لا تتناسب مع خشوع الصلاة وسكونها وهدوئها. فصرت في حديث وحوار في هذا الموضوع، واستيقظت على سلام الإمام. فلاحظ هنا أننا بحاجة كبيرة جداً إلى أن نتدرب مرة وعشراً ومائةً وألفاً على قضية التركيز على عوامل الاجتماع وجوانب الوحدة بيننا، وهي كثيرة وعظيمة جداً، وعزل جوانب الاختلاف، وألا نلغيها ولكن لا نضخمها أولا نبالغ فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 عدم نسبة الإنسان رأيه واجتهاده النقطة الأولى: قضية عدم نسبة الإنسان رأيه واجتهاده إلى الدين: فإن بعض الإخوة إذا اختلف ربما نسب قوله إلى شريعة الله، وحكم على من يخالفونه بأنهم كأنهم يردون على الله والرسول، فيقول مثلاً من قال كذا وكذا فكأنه يقول: لا سمع ولا طاعة لك يا رسول الله، مع أنه لا يوجد أحد من المسلمين يقول هذا، وإنما هم ينازعونك في القول الذي تقوله، هل يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم أم لا يقوله؟ فينبغي على الإنسان أن يتعود على احتمال وجهات نظر الآخرين فيما يحتمل مثل هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 التعاون بين المختلفين والتنسيق بين الدعاة وترك الترفع النقطة الثانية: قضية التعاون على البر والتقوى بين المختلفين، والتنسيق بين الدعاة من غير أنفة ولا ترفع ولا استعلاء. فإن الميادين اليوم مكشوفة، والحاجة إلى الدعوة وإلى جهود الدعاة ضخمة جداً، فينبغي أن يكون ثمة تعاون، وأن نضع أيدينا في أيدي بعض، فالبعض من الإخوة قد يمتنعون من التعاون بدافع تنظيمي كما يقال، أي: أنه يرى أنه ليس من المصلحة ذلك؛ ولذلك لا يقوم به، والبعض قد يمتنع بدافع تنظيري، أي: أنه يرى أنه لا يجوز أو لا يشرع له أن يتعاون مع إخوانه في الله تبارك وتعالى. وفي نظري أن من الحكمة والحزم الاستفادة ممن دونك مهما كانوا، الاستفادة من الآخرين أن تنتفع بتجاربهم أو تتعاون معهم، والله تعالى أمر بذلك في محكم التنزيل، فأصبح هذا الأمر من الواجبات: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] فدعونا نعزز روابط التعاون والأخوة والتنسيق بين المؤمنين، ونتجنب عوامل الفرقة والاختلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 أهمية إعطاء الأزمات والمحن حقها فإننا اليوم نعيش في أزمة ومحنة لا يعملها إلا الله عز وجل، ولو قلت: إنه منذ بعث محمد صلى الله عليه وسلم إلى اليوم لم يطرق ناموس هذا العالم مثل هذه المصائب الضخمة الهائلة التي تحيط بالمسلمين من كل مكان إن مثل هذه المعاناة التي نجدها اليوم توجب علينا -أيها الإخوة- وإن لم يكن المقام مقام الحديث عن هذه الأزمة، فلها حديث مفصل ومطول، وربما بعض المقالات والكتابات التي كتبت حول قضية التوظيف الإيجابي للأحداث، أو حول واجب الوقت، فيها بعض الإشارات إلى ما يجب علينا أن نعمله: أن نوحد صفوفنا، وأن نتقارب فيما بيننا، وأن نهدئ من عوامل الفرقة والانشقاق في وجودنا وفي أشخاصنا وفي حياتنا، إن الله تعالى يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] . إن من السخرية أن تهيمن على الحياة الإسلامية نظم غربية، وأن تبدأ القوى الإمبراطورية باحتواء المسلمين سياسياً واقتصادياً وعسكرياً؛ بينما نجد أن كثيراً من المسلمين يلتقطون كسرة خبز، ويتصارعون حولها في زاوية صغيرة، وكأنهم لم يشعروا بصخب الحياة وضجيجها من حولهم. أيها الإخوة: لا أزيد على ما تعرفونه من معاناة المسلمين في أرض فلسطين من الصلف اليهودي، والعدوان الغادر، وقتل الرجال والنساء والصبيان والأطفال، وهدم المنازل، واستهداف الرجال بكافة وسائل القتل والاغتيال وسفك الدماء، لا تقتصر على أن يكون همك نفسك، اجعل همك واسعاً؛ همّ الأمة كلها، أشركهم في دعائك وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع أشركهم في دموعك أعطهم دموعاً تغرف من قلبك حينما ترى هذه المصائب التي تنزل بهم أشركهم في إمكانياتك وقدراتك، إن كان عندك شيء من مال، كما ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة) . أيضاً: اصنع الحياة، ولا تقتصر على مجرد معالجة الأزمة أو الوقوف معها اصنع الحياة ابن نفسك بناءً أخلاقياً علمياً تربوياً دعوياً اكتسب المهارات والمواهب والقدرات رب إخوانك وأولادك ومن حولك دعونا نصنع الحياة الإسلامية المستقرة، فإن هذه الأشياء المطلوبة من الأمر بالمعروف لا ينبغي أن تتوقف بسبب أزمة عابرة مرت بنا. إنني أؤكد لك والله تعالى أعلم بالغيب: أنه ربما تكون الأيام المقبلة لا تختلف اختلافاً كبيراً جداً عن الأوضاع التي يعيشها الناس اليوم نعم، تتفاوت أشياء سوف تسوء وأشياء سوف تتحسن، سوف تأتي أمور صعبة، وأمور ربما تتحول إلى فرص، لن يكون كبير شيء في المستقبل إلا ما يصنعه الناس بجهودهم وصبرهم ومعاناتهم، وعليك ألا تفقد صبرك واتزانك وتفكيرك عليك أن تخطط، فإن عدوك إنما غلبك بالتخطيط وبُعد النظر، وألا تقبل الاستفزاز، بل وعليك ألا تسمح لهذه الأزمات أن تقلق راحتك أو تزيل سكينتك، أو تنقلك من هدوئك. أقترح عليك أن تسعد وأنت نائم، وأنت صاح، وفي مأكلك ومشربك، ومع زوجتك ومع صبيانك، احضنهم وداعبهم واضحك معهم وعلمهم وتعلم منهم، ولا تظن أن هذا يتنافى مع صدق الإحساس بالمصيبة التي تنزل بالأمة، بل ربما هذا هو المناسب، ولهذا امتن الله تعالى على نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] في ظروف ومحن صعبة كان يواجهها صلى الله عليه وسلم، وكان الدين يواجه خطر الاستئصال أيضاً، ومع ذلك فإن انشراح الصدر وهدوء النفس وقرة العين والسكون هو أهم شيء من شأنه أن يجعل الإنسان يتصرف ويعمل بشكل صحيح. أنتهي من هذه الكلمة المختصرة أيها الإخوة! وفي النفس حاجات إليكم كما هي، ولكن الوقت لا يسمح بأكثر من ذلك، فلعلَّ الله سبحانه وتعالى بمنه وفضله أن يأذن بلقاءات أخرى. وأشكركم أنتم أيها الإخوة! يا من حضرتم وتجشمتم العناء، واقتطعتم هذا الجزء من وقتكم، وإذ فعلتم ذلك فأدعو الله تعالى لكم جميعاً: اللهم أنزل على إخواننا من فضلك ورحمتك يا حي يا قيوم ما تلم به شعثهم، وتهدي به قلوبهم، وتصلح به شئونهم، وتهديهم به إلى ما تحب وترضى، اللهم أصلح نياتهم وذرياتهم، وارزقهم العلم النافع والعمل الصالح، واجمع قلوبهم على البر والتقوى، واجعلهم من ورثة جنة النعيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الأسئلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 التكفير عند أهل السنة والجماعة السؤال ما هو معتقد السلف في قضية التكفير؟ وهل من أعمدة أهل السنة والجماعة؟ الجواب صحيح أن هذا موضوع التكفير يحتاج لا أقول محاضرةً بل يمكن دورة أحياناً، لكني أريد أن أقول: أولاً: التذكير بقول النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح من حديث ابن عمر وغيره: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما) والحديث الآخر: (فإن كان كذلك وإلا حار عليه) وقوله صلى الله عليه وسلم هذا يؤكد على أن المسلم ينبغي أن يتوقى الحكم بالتكفير، حتى لو كان الشخص يحتمل أن يكون كذلك؛ لأنه لو لم يكن كذلك رجع التكفير عليك، لكن دعونا نتذكر هذه النقطة المهمة جداً ونعتبرها قضية منهجية، فعندما ننظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم هل نجد أنه كفَّر أحداً ممن ادعى الإسلام؟!! لا. المنافقون مثلاً قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:101] فهو سبحانه يعلمهم، ومع ذلك لم يعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم، كان يعاملهم معاملة المسلمين. الرجل الذي قال: (اعدل يا محمد) وفي مرة قال: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) ومع ذلك قال بعض الصحابة عمر أو غيره: (دعني أضرب عنقه يا رسول الله! قال: لعلَّه أن يكون يصلي) وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن) وهذا الحديث عظيم، ذكر فيه ابن تيمية رحمه الله أن كل من توضأ بنية وصلَّى فهو مسلم، إلا أن يكون منافقاً؛ عادة المنافق ألا ينوي، لكن من توضأ بنية وصلَّى بنية فالأصل أنه مسلم، حتى لو وقع في أخطاء، ويقول رحمه الله: كائناً ما كان خطؤه. فمسألة التكفير ليست بالمسألة الهينة، قد يقع الإنسان أحياناً في كفر ولكن لا يوصف بأنه كافر؛ لأنه يقع فيه بسبب التأويل، أو بسبب الجهل، أو الإكراه، فيوجد نوع من العوارض الأهلية التي تمنع من إصدار الحكم عليه. كذلك الصحابة رضي الله عنهم والخلفاء الراشدون، هل تجد أنهم كانوا يصدرون أحكاماً بالتكفير على أحد؟!! ربما تقرأ سيرتهم فيعييك أن تجد أنهم حكموا على شخص واحد ممن يدعي الإسلام بالتكفير. ثم انظر للسلف كالأئمة الأربعة مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم، كم عدد الأحكام التي أصدروها على الناس؟ وهل كان يوجد هناك كفار؟ هل كان هناك منافقون؟ هل كان يوجد مذاهب ونحل باطلة؟ بلى؛ كانت توجد، ولكنهم كانوا يعالجون هذه النحل، ويردون عليها، ويبينون الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، دون أن يقحموا أنفسهم في الحكم على الشخص المعين، فالأصل أن من ادعى الإسلام يسلم له بهذه الدعوى، وحتى لو وقع في نوع من الكفر؛ فإنه قد يكون ذلك بتأويل أو بجهل أو بإكراه، فلا يحكم عليه إلا بعد توفر الشروط وزوال الموانع، كما نص عليه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى. ولأن يخطئ الإنسان في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة، فمسألة كون كثير من الإخوة أحياناً ربما يحملهم فرط الغيرة أوالخلاف مع شخص، أو كأن سمع كلمة بشعة أو فظيعة استعجل في التكفير، وربما لو سألته: هل أنت متأكد أن فلاناً قال هذه الكلمة؟ قال: والله ما أدري، وإنما سمعت فلاناً يقول. إذاً عليك بالآتي: أولاً: تأكد أن كون هذا الإنسان قال هذه الكلمة. ثانياً: تأكد أن هذه الكلمة لا تحتمل تأويلاً آخر إلا الكفر، أي: ليس لها إلا وجهاً واحداً، أنا رأيت من قد يتعجل بتكفير الناس بأقوال أقول: إنها ليست خطأ أصلاً، فضلاًَ عن أن تكون قولاً مرجوحاً. فأحياناً ربما قصر فهم الإنسان أو عدم إدراكه يجعله يتسرع في الحكم على الآخرين بالتكفير ولا فائدة، ثم ماذا إذا كفرته؟ هل أنت قاضٍ؟ هل أنت حاكم؟ إنما مثلك مثل غيرك أنك من المسلمين بشر ممن خلق: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] والأولى ألا يتسرع ويتجرأ الناس على إطلاق أحكام التكفير، احكم على الفعل، أحياناً تستخدم لغة القرآن والسنة فإنها تكفيك، فالله سبحانه وتعالى عندما يقول مثلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] لم يقل: فإنهم من الكافرين، أو فهو كافر، قال: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة:1] إلى قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة:1] فأحياناً لغة القرآن والسنة تغني عن الدخول في مضايق أو متاهات ربما تصبح أسلوباً أو منهجاً قد يتسامح فيه ويتسرع فيه بعض الناس حتى لمن لا يستحق. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، والطف بإخواننا المسلمين في كل مكان. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، واسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! يا واحد يا أحد يا صمد! يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد! يا منان! يا بديع السموات والأرض! اللهم احفظ إخواننا المسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم احفظهم في كل مكان، اللهم احفظهم يا خير الحافظين، اللهم سدد سهامهم ورأيهم ورميهم واجمعهم على الحق والهدى، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم اخذل أعداء الإسلام والمسلمين، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم يوماً أسوداً كيوم فرعون وقومه، اللهم إنهم قد طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد فهيئ لهم يداً حاصدة لا تبقي ولا تذر. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 حقيقة التقريب بين الطوائف والفرق السؤال هناك دعوات للتقريب بين المذاهب ونبذ الخلاف، أعني: إلى التقريب بين أهل السنة والرافضة، فما رأيكم فيمن يتكلمون في ذلك؟ الجواب إن الكلام الذي قلناه واضح من حيث التأصيل والحديث، إن الكلام يتعلق بمن هم على أصل اتباع ما كان عليه سلف هذه الأمة من القرآن والسنة والإجماع أياً كانت الأسماء. أما ما يتعلق بقضية الموقف من المخالفين في أصل من الأصول كالخوارج مثلاً، أو الشيعة أو غيرهم، فهذا موضوع آخر وله حديث، ربما كنت ذكرت جوانب منه؛ لكن الوقت لم يسمح لي بعرضها، وهناك جوانب منها: أولاً: ما يتعلق بضرورة العدل في الحكم. فالخوارج مثلاً هم شر فرق أهل الإسلام، حتى إنه صح الحديث فيهم عن النبي صلى الله عليه وسلم من نحو عشرة أوجه كما قاله الإمام أحمد، ولم يرد في السنة شيء يصح في أهل البدع إلا ما ورد في الخوارج، ومع ذلك كان القول الراجح الصحيح الذي عليه الصحابة والتابعون وأكابر أهل العلم, وفصله ابن تيمية تفصيلاً: أنهم لا يكفرون، ولهذا لما سئل عنهم علي رضي الله عنه: [أكفار هم؟ قال: من الكفر فروا، قيل: فهم منافقون؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً وهؤلاء يذكرون الله بكرة وعشياً، قالوا: فما نقول؟ قال: إخواننا بغوا علينا] إذاً لابد من العدل، فلم نتكلم فيما يتعلق بموضوع الشيعة مثلاً، وليس هذا المجال مناسباً للحديث، لكن خلاصة كلام أهل العلم، خلاصة ما ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى في منهاج السنة أو في الصارم المسلول أو في غيره، التفصيل في شأنهم: القسم الأول: هناك أقوال لا شك أنها كفر، فمن ادعى -مثلاً- أن جبريل خان الرسالة، أو أن عائشة الصديقة رضي الله عنها -وقد برأها الله- وقعت في الفاحشة، أو ادعى أن القرآن محرف، أو ادعى كفر الصحابة؛ فهذه الأقوال لا شك أنها كفر. القسم الثاني: أن يوجد هذا القول عند الإنسان ولكنه لا يجهر به ولا يقوله، بل ينفيه وينكره ويدعي خلافه، فهذا أمره إلى الله تعالى، وظاهره أنه مسلم ويعامل معاملة المسلمين، وحاله مثل المنافق الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، والمنافق يعامل معاملة المسلم. القسم الثالث: من لا يعتقد هذه الأشياء ولا يقول بها، ولا يدين بها ظاهراً ولا باطناً، ولكنه يقع في نوع من المخالفة والبدعة، كالمفضلة -مثلاً- الذين يفضلون علياً رضي الله عنه على الشيخين، أو يقعون في بعض البدع العملية، فهذا مسلم ولكنه واقع في شيء من البدعة. الأمر الثاني: ينبغي أن أؤكد أن هذه الأمم الموجودة داخل الأمة الإسلامية هي بأمس الحاجة إلى الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنك لا تصنع شيئاً بمجرد الكلام ومجرد إصدار الأحكام، ولكنك تستطيع أن تصنع الكثير من خلال الدعوة بالتي هي أحسن، والخلق الطيب، ولا يمكن أن تدعو إنساناً وأنت تقسو عليه، كما قال الإمام أحمد: قلَّ ما أغضبت أحداً فقبل منك. فلا بد أن يكون هناك خلق طيب، وسلوك مستقيم، ومعاملة بالحسنى، ويكون ذلك سبباً إلى دعوة هؤلاء الناس بالأسلوب الأمثل المناسب إلى الله تعالى وإلى السنة النبوية. الأمر الثالث وهو أيضاً نقطة مهمة: أننا نلاحظ أن خصوم الإسلام يحاولون أن يوظفوا جميع التناقضات الموجودة داخل المجتمع الإسلامي، فعلوا هذا في أفغانستان، وأعتقد أنهم سيفعلونه في العراق، فهم سيحاولون توظيف العرب ضد الأكراد والأكراد ضد العرب، والشيعة ضد السنة والسنة ضد الشيعة، والقبائل ضد بعضها، وهكذا سيحاولون أن يلعبوا على هذه التناقضات إذاً: من السياسة الشرعية ومن الحكمة أن يكون هناك نوع من التعقل في دراسة هذه الأمور وتناولها وتعاطيها, بحيث يستطيع الإنسان أن يجمع بين بيان الحق بأدلته الشرعية وإقامة الحجة على الناس، وإظهار الصواب والقرآن والسنة وأقوال أهل العلم دون أن يفضي الأمر إلى نوع من إثارة خلاف أو صراع في ظرفٍ ربما لا يكون هو الأفضل والأنسب. أؤكد أن الموضوع هذا يتطلب وقتاً مطولاً؛ ولذلك الكلام ربما يكون فيه نقص، لكن لعله يكون له فرصة أخرى إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 ماذا بعد العراق الوداع يا بغداد! صرخة انطلقت من عمق آهات الأمة، وهي ترى سقوط عاصمة الرشيد، التي طالما كانت مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى. وفي ظل هذه الظروف من الخطأ الكبير أن نقتصر على مجرد مشاهدة الحدث، أو التعاطف القلبي والوجداني ونترك قضية العمل والمشاركة الفعالة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 وداعاً بغداد إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم -أيها الأحبة الأبرار- ورحمة الله وبركاته. نحن الآن في ليلة الجمعة الثامن من شهر صفر لسنة (1424) هـ. لقد جئتم إلى هذا المكان المبارك -أيها الأحبة- على وقع الدمار الهائل الذي حل بالعراق وعاصمة الرشيد، جئتم والأسى يعصر قلوبكم، واليأس يجتاح النفوس، لكن لا يأس فالدهر دول، {لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] . اليأس حرامٌ حرامٌ على قومٍ آمنوا بالله تعالى، وأن الله حق، وله الحكمة البالغة، والرحمة السابغة، وبيده تصريف الأمور، وإذا كان عمر الولايات المتحدة الأمريكية نحو مائتي سنة، فلنذكر أنها خاضت مع نفسها حرباً ضروساً حصدت أكثر من ستمائة وخمسين ألف قتيلٍ فحسب، فدعونا نهدئ أنفسنا وندغدغ عواطفنا بهذا الخبر الجميل. قوات غازية تجتاح عدة ولايات أمريكية بما فيها واشنطن، وتقتحم البيت الأبيض، واختفاء الرئيس الأمريكي ونوابه ومساعديه وسط حالةٍ من الفزع والهول والذهول. الثوار الغاضبون المحتجون على السياسة الأمريكية يحتلون الشوارع ويهتفون ضد الإدارة ويتهمونها بممارسة جرائم حربٍ وإبادة وبتضليل الشعب وبانتهاك القوانين ومصادرة الحقوق. مجموعة من السجناء تقتحم السجن وتنضم إلى الثوار. مدمنو مخدرات يرفعون لافتاتٍ تقول: كفى ترويعاً للشعب، كفى ترويعاً للآمنين. محتجون يدمرون تمثال الحرية ويضعون عليه خرقة مكتوبٌ عليها: انتهى وقت الخداع، اكشفوا الأقنعة عن وجوهكم البشعة يا تجار النفط، الشعب يرفضكم ولن يختاركم بعد اليوم. هل أنت في حلمٍ لذيذ؟ هذا الحلم اللذيذ المنبعث من عمق الخيال، هو انعكاسٌ لما يجري في عاصمة الرشيد اليوم، ولعله صورة من صور المستقبل. لقد هجم عليَّ البارحة موجةٌ عارمة من الحزن والكآبة، ولا أظن أحداً من المسلمين بقي بمعزلٍ عنها، وهو يرى ويسمع سقوط مدينة الخلافة بأيدي علوج الروم. يا دجلة الخير ما يغليك من حنقٍ يغلي فؤادي وما يشجيك يشجيني ما أن تزال سياط البغي ناقعةً في مائك الطهر بين الحين والحين ووالغاتٌ خيول البغي مصبحةً على القرى آمنةً والدهاقين أدري بأنكِ في حزنٍ وفي لغبٍ والناس حولك عدوا بالملايين يرون سود الرزايا في حقيقتها ويفزعون إلى حدسٍ وتخمين الوداع يا بغداد! يا بلد المنصور والرشيد والنعمان وأحمد والكرخي والجنيد وإسحاق ومطيع وحماد! يا منزل القادة والخلفاء، والمحدثين والفقهاء، والزهاد والأتقياء، والشعراء والظرفاء! يا مثابة العلم والتقى، وموئل المجد والغنى، يا دنياً فيها من كل شيءٍ شيء!! الوداع يا دار السلام! ويا موئل العربية! ويا قبة الإسلام! ويا منارة التاريخ! ويا منبر الحضارة! منذ أوائل الألف الخامس قبل الميلاد، تاريخٌ موغلٌ في القدم شهد هذا السهل - سهل الرافدين - قفزةً هامةً في التاريخ بالانتقال من القرى الزراعية إلى حياة المدن، ومر على هذا السهل زمنٌ كانت فيه شبكات القنوات معجزةً من معجزات الري في العالم، مرت عليه قرون وأجيال وأمم لا يحصيها إلا الله تبارك وتعالى: السومريون وهم من أقدم بناة الحضارة في التاريخ كله، ومن العراق انطلقت أول إمبراطورية معروفة في التاريخ، ثم جاء البابليون والآشوريون والكلدانيون وكان الفتح الإسلامي درة عقدٍ في هذا البلد الطيب، فحفظ للإسلام وده ووفاءه وبقاءه، وظلت العراق منطلقاً وعاصمةً للخلافة مئات السنين. بنيت بغداد في عصر أبي جعفر المنصور؛ لتكون عاصمة الخلافة، وبلغت أوجها في عصر الرشيد، ولذلك كانت تسمى عاصمة الرشيد، كما تسمى دار السلام، والمدورة، والزوراء، وبغداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 التاريخ يعيد نفسه ففي عام (1258) م انطفأت تلك الشعلة الوهاجة عندما أقبل التتر بقيادة هولاكو حفيد جنكيز خان واستباحوا بغداد، واصطبغت دجلة بلون الدم من كثرة ما ألقي فيها من الجثث كما اصطبغت بلون الحبر من كثرة ما ألقي فيها من الكتب، فكانت نهايةً لمجدٍ وحضارة، واشتعلت الحرائق حتى اعتكر دخانها غيماً أسود عظيماً في سماء بغداد، واغتيلت حضارةٌ من أغنى الحضارات الإنسانية، إنها حضارة الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 توجيهات قرآنية يقول الله عز وجل: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] قد يكون هذا الأجل الذي ضربه الله تعالى للأمم -كما يضرب للأفراد آجالاً- انقراضاً وزوالاً واستئصالاً بالكلية، وقد يكون انكماشاً وضعفاً وتراجعاً يحيط بأمةٍ من الأمم أو شعبٍ من الشعوب، والله تعالى كما يقول نبيه عليه الصلاة والسلام: (وكل شيءٍ عنده بأجلٍ مسمى) فللأمم آجال، كما للأفراد، ولها نهوض، ولها هبوط، ولها شباب، ولها هرم، ولكن هذه الأمة المحمدية تتميز عن الأمم الأخرى بأن أجلها لا ينتهي إلا بقيام الساعة، فهي أمةٌ تمرض ولكنها لا تموت. ثانياً: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141] . أيام الدنيا دول لا يدوم فيها حزن ولا سرور، ولا عز ولا ذل، ولا غنى ولا فقر، وإنما الدهر بالإنسان دوار، وكما يقول بعض الشعراء من أولاد الخلفاء: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبةً أو رهبة عظماؤها فلما انقضت أيامنا عصفت بنا شدائد أيامٍ قليل رخاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه الرقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها يقول الأمريكيون: إن هذه نهاية التاريخ كما سطر فوكوياما في كتابه المشهور ونظريته الذائعة، ولعلنا نقول: بل هو تاريخ النهاية. والله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله عن الظالمين المجرمين أهل الغدر والفجر والكفر: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم:44] كنت أقرأ هذه الآية كثيراً وأتعجب! وأقول: سبحان الله منزل القرآن! كل البشر يعرفون أن لهم نهاية، وأن لهم أجلاً يموتون فيه، فمن هؤلاء الذين أقسموا ما لهم من زوال؟ حتى رأينا بأعيننا هؤلاء القوم الذين غرتهم قوتهم، وغرتهم غطرستهم، وغرهم أمرهم من ربهم تبارك وتعالى، فصاروا يتكلمون عن أن حضارتهم هي نهاية التاريخ، وأن بقاءهم سوف يكون أبدياً أزلياً سرمدياً، فأقسموا ما لهم من زوال، وسكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم. هذه المداولة المذكورة في كتاب الله عز وجل: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هي نتيجة الاستفادة من السنن الربانية، فهؤلاء تذرعوا بالسنن، واكتشفوا واخترعوا وتعلموا وجربوا واتحدوا وتعاونوا حتى وصلوا إلى هذا المستوى من القوة الاقتصادية والتقنية والعسكرية التي بها استطاعوا أن يستفردوا في هذه الفترة بحكم العالم تقريباً، فصار العالم أحادي القطب تديره أمريكا وفق مزاجها ونظرها. انتصارهم -أيها الأخ الكريم! - ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، نعم. أنا مثلك تماماً حينما أرى خوذة هذا الجندي المتغطرس الأجنبي الغريب في هيئته وسحنته وبزته وقيمه وأخلاقه عن بلادنا وعن تاريخنا وعن أرضنا أرض المجد وأرض التاريخ يأتي من بلدٍ غريب منبت الجذور، ثم يظهر قوته ويضع علمه -أنا مثلك أشعر بالغيظ وأشعر بالمقت، لكنني أدري أن هذا النصر الذي يقتطفه الآن إنما هو نتاج مجموعةٍ من التفوقات التي حصلت عليها إدارته في غيبةٍ وغفلة من الأطراف الأخرى، فهم استفادوا من هذه السنن الربانية، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه، فانتصارهم ليس انتصاراً عسكرياً فحسب، بل هو انتصارٌ حياتيٌ، علمي، تقنيٌ، اقتصاديٌ، إداريٌ، سياسي، وهو جزء من سنة الابتلاء التي تقابل بالصبر وتقابل بالمدافعة. ولهذا؛ الآية الثالثة قوله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] فإن ما يصنعه الله سبحانه وتعالى في أرضه وفي عباده من القضاء والقدر لا يمكن أن يكون شراً محضاً، ولا بد أن يكون فيه جوانب من الخير ومن الحكمة، وإن كانت هذه الجوانب قد تخفى على العباد، خصوصاً في أوقات الأزمات، وحينما يستحر الحزن والقلق والكآبة والتوتر في قلوب الناس، لكن المؤمن يظل راضياً مدركاً أن وراء الأمر من حكمة الله تعالى وحسن تدبيره ما يحمد الناس له العواقب. رابعاً: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] نريد أن نلوم أمريكا، وكم يسرنا ونطرب حينما نسمع من المحللين والكتبة والإعلاميين والخطباء وغيرهم من يتكلم في هذه الدولة الظالمة، وأعتقد أن كل ما يقال عنها فهو جزء قليلٌ مما تستحق، ولكن علينا ألا نغفل أيضاً عن أن هذه الإدارة المتغطرسة الظالمة التي لا يمكن أن يخفي قبحها شيء لم تكن لتبلغ فينا ما بلغت لولا أننا أتينا من قبل أنفسنا. وهاهو ربنا تبارك وتعالى يقول للمبشرين بالجنة وللسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] . فينبغي علينا أن نقول هذا لأنفسنا الآن والجراح ساخنة، والدماء نازفة، والآلام حية، قل هو من عند أنفسنا. علينا أن نعتبر هذه فرصة لنصحح فيها أوضاعنا، ونصلح فيها أحوالنا، ونستدرك ونعود إلى ربنا تبارك وتعالى عودةً صادقة، توبةً على مستوى الفرد والجماعة والأسرة والمجتمع والدولة والأمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 ما بعد الحرب لقد ذهبت هذه الحرب بالكثير الكثير، ذهبت أولاً بالشعارات الجوفاء التي طالما تحدث عنها هؤلاء الناس، فتكلموا عن الحريات، وعن القوانين الدولية، وعن حقوق الإنسان، وعن العدالة، وعن القيم الأخلاقية، فإذا بهذه الحرب تكشف عن الوجه الأسود الكالح الذي لا يمكن أن يستر ولا يخفى. أين الشعارات أين المالئون بها الدنيا لَكَم زوّروا التاريخ والكتبا فلا خيول بني حمدان راكضةٌ لهواً ولا المتنبي مالئٌ حلبا وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رُبَّ حيًّ رخام القبر مسكنه ورُبَّ ميت على أقدامه انتصبا يا بن الوليد ألا سيفٌ تؤجره فإن أسيافنا قد أصبحت خشبا لقد انكشف الزور، وبانت هذه الشعارات التي طالما ضللت كثيراً من شباب الأمة وشباب العالم، فظنوا أن هذه الحضارة استثناءٌ، وأنها لونٌ ونمطٌ من الحرية للبشر كلهم، وأنها تجردت عن كل المعاني الرديئة، فإذا بها تبين في أكلح وأقبح صورها عدواناً على الآمنين استهدافاً للأبرياء تحدياً للقوانين محاولةً لمصادرة الحقيقة والقضاء عليها، وهكذا انكشف أن الحرية الإعلامية المدعاة، أو الحرية السياسية ليست إلا نوعاً من التسلط، ولكنه ربما يكون أحياناً بألوان من القفَّازات الناعمة، والمظاهر الجميلة، والعبارات المعسولة، وتخفي وراءها ما تخفي. الكل يعاني نوعاً من التسلط، ربما في كثيرٍ من دول العالم الإسلامي تواجه الشعوب نوعاً من التسلط الواضح المكشوف المباشر، سواءً من خلال الإعلام، أو من خلال مصادرة الرأي والحرية، لكن العالم الغربي وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية بان من خلال هذه الحرب أن شعبها ربما يعاني نوعاً آخر من التسلط، يكون هذا النوع بقدرٍ كبيرٍ جداً من محاولة غسيل عقول الناس، والتأثير على إرادتهم بحيث يتقبلون هذه الأشياء بقناعة، فأنت تعمل ما تريد ما دمت تعمل ما نريد. ذهبت هذه الحرب بالقوانين الدولية، والمنظمات التي كان الحديث يتم حولها، وتبين أن ما يتحدثون عنه من استقلال الدول أنه ليس إلا هراءً. فهذه دولٌ مستقلة يتم العدوان عليها لأغراضٍ مختلفة، ويتم غزوها، ويعتبر الذين يدافعون أو يقاومون خارجين على القانون الدولي، مخالفين للأنظمة، يتم اعتقالهم، وأسرهم، وقتلهم، ومحاكمتهم، وضربهم، وتعذيبهم. أيضاً قوانين الحرب التي تقتضي عدم العدوان على الأبرياء، وعدم العدوان على المؤسسات الإعلامية، نجد أنها ذهبت في دوامة هذه الحرب العمياء الظالمة. أدعياء الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية يهاجمون الإسلام، ويهاجمون نبيه عليه الصلاة والسلام، ويتهمونه بالدموية، وبالعنف، وبالإرهاب، بينما نحن نتحدى أن عدد القتلى في حياة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المسلمين وغيرهم لا يمكن أن يقاوم عدد القتلى في يومٍ واحد في هذه الحرب الظالمة فضلاً عما قبلها من الحروب وما قد يكون بعدها. ذهبت هذه الحرب بالحياد والاستقلال: الاستقلال السياسي، والثقافي، والعسكري، فإننا نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية كما سوف يتبين بعد قليل تحاول أن تفرض نفسها كسلطةٍ عالمية بلا منازع ولا مقاوم. ذهبت هذه الحرب بالنظام العربي الذي تبين من خلالها أنه نظام مكشوفٌ عاجز، غير قادرٍ على المقاومة ولا على الاستقلال بالقرار والموقف. ذهبت الحرب ربما بالإدارة الأمريكية التي انغمست في رمالٍ متحركة لا تعرف إلى أين تؤدي بها، ولعل الانتخابات القادمة بعد سنة ونصف أو سنتين تصدق هذا الظن أو تكذبه. فهل جاءت هذه الحرب لهم بشيء؟ نعم. لا شك أنها جاءت بمناطق نفوذ ونفط وقوة كبيرة وهيبة في أماكن شتى من العالم. فيما يتعلق بالنفط مثلاً: فإن الشركات الأمريكية سوف تظفر بحصة الأسد من خلال علاقاتها مع القوى العراقية، ومن خلال دورها الأساسي في الحرب، وسيكون لذلك فائدة إضافية مهمة وهي تدمير ما يسمى بمنظمة أوبك أو تحجيمها عن أن تقوم بأي موقفٍ فيه إضرار بالمصالح الأمريكية. يقول المستشار الاقتصادي للرئيس الأمريكي: إن نجاح الحملة العسكرية على العراق سوف يصب في صالح الأعمال والشركات الأمريكية، ويقول: إن معنى تغيير النظام في العراق هو ضخ ما بين ثلاثة إلى خمسة ملايين برميل نفط يومياً بشكل إضافي إلى سوق النفط، وربما بعد خمس سنوات سيضخ عشرة ملايين برميل يومياً من النفط العراقي إلى أسواق العالم، وسوف تكون حصة الأسد من ذلك للشركات الأمريكية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 أثر الحرب على وحدة العراق ماذا سوف تفعل الحرب بوحدة العراق؟ قد يتخوف الكثيرون أن تتحول العراق إلى دول: كدولةٍ للأكراد، ودولة للشيعة، ودولة للسنة، وهذا لا يبعد أن يكون احتمالاً ولو لم يكن في نظري بالاحتمال القوي. إن العراق كدولة لا تتعلق بالرئيس مثلاً، ولا بالحزب، فالرئيس العراقي ليس هو تيتو يوغسلافيا الذي جمع رقعاً متفرقة حتى تثور المخاوف من بعده حول وجود العراق من عدمه، وخلال عددٍ من الحالات لم تظهر نزعاتٌ انفصالية جدية إلا عند الأكراد الذي يشكلون حوالي (15-20%) من الشعب العراقي، ومع ذلك فإن الأكراد يفضلون نوعاً من العلاقة مع حكومةٍ مركزية. نعم. قد تعم الفوضى في المرحلة الانتقالية كما يسمونها، خصوصاً مع تعارض مصالح الدول المجاورة التي لكل واحدة منها أجندة خاصة فيما يتعلق بالعراق أو بالجزء المتاخم لها، يتضح هذا جلياً مثلاً في إيران وتركيا وغيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 هل سوف تأتي الحرب بالديمقراطية؟ تستطيع أمريكا أن تلون غزوها كما تشاء، لكن هذا التلوين لا يعدو أن يكون ورقة التوت ليس أكثر، الديمقراطية المزعومة هي ضربٌ من الخيال، ليس لأن العراقيين ألفوا الاستبداد مثلاً، فهم قادرون على تجاوز هذا، لكن لما قد يحدث من الفوضى أولاً، وهذا متوقع بل نحن نراه اليوم في بغداد وفي الموصل وفي البصرة وفي غيرها من مدن العراق، ولأن أمريكا جاءت لتبقى، وليس مهماً عندها شكل الحكام أو نوع الحكم بقدر أهمية ضمان ولاء المقيمين في بغداد لها ولمصالحها. العراقيون وإن كانوا غير متعاطفين مع النظام السابق، إلا أنهم يكنون كرهاً أكبر لأمريكا، خصوصاً منذ فرضت عليهم الحصار على مدى أكثر من ثلاث عشرة سنة، وقتلت من أطفالهم ما يزيد على مليوني طفل بسبب الأمراض التي لا تجد لها شفاءً، إضافة إلى شعورهم الوطني المعروف، فهم من أول من ثار على الاستعمار البريطاني. تفيد التقارير الأمريكية أنه سوف يكون على أمريكا نشر ما يزيد على خمسة وسبعين ألف جندي للحفاظ على الاستقرار في العراق على مدى سنة كاملة على أقل تقدير، إضافة إلى الحاجة الماسة إلى وجود أكثر من خمسة آلاف جندي على مدى خمس سنوات في العراق. إذاً: الديمقراطية نموذج هش، يمكن أن يوجد منها في العراق ما هو مفصلٌ على وفق المصالح الأمريكية، ما يحقق للناس الحرية الشخصية، وما يحقق لهم المتعة العاجلة، وقدرٌ من المشاركة يضمن استقرار البلد ليس أكثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 ماذا بعد العراق؟ الأهداف المعلنة للحملة الأمريكية على العراق كانت تقول: تدمير الأسلحة والذخائر الكيماوية والبيولوجية، وإسقاط نظام البعث القائم، الذي يرونه تهديداً لجيرانه -لإسرائيل- ولمصالحهم الحيوية، وبالتالي قد يطرحون ما يسمى بالتحول الديمقراطي في العراق على النمط الغربي العلماني كمثلٍ يحتذى لدول الجوار. وفي تقديري فإن أهم أهداف استراتيجية الأمن القومي الأمريكي في المدى القريب والمتوسط ما بين خمس عشرة إلى عشرين سنة هو إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط السياسية، المنطقة الغنية بثرواتها، بالبترول، بالماء، بالزراعة، بالخيرات، والذي ينفرد بأفضل وأخطر مركز بين الأقاليم في العالم، والذي تمثل بعض دوله في تقدير واشنطن بيئةً مناسبةً لنمو التطرف الديني والإرهاب كما يزعمون ويقولون. والهدف الثاني لهم في ذلك هو: تغيير نظم الحكم في عددٍ من الدول العربية المحورية؛ لإقامة حكوماتٍ حليفة للغرب، وفي نفس الوقت تتمتع بنوعٍ من القوة والنفوذ، وقدرٍ مناسب من التأييد الشعبي، بما يتيح لهم في بضع سنوات مقبلة محاولة تجاوز الأشكال الديمقراطية بدرجةٍ أو بأخرى، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تعتزم الانفراد بحكمٍ عسكريٍ أو مدني مباشر في العراق لفترة معينة، باعتباره دولة بترولية ونفطية، وبما يحمي المصالح الحيوية والأمنية للولايات المتحدة في المنطقة العربية بأسرها، وبما يحقق اتخاذ العراق قاعدة انطلاق لعمليات عسكرية مرجحة في المستقبل المنظور ضد إيران -مثلاً- وضد سوريا، أو ضد بعض الدول المجاورة بما يخدم أمن إسرائيل والتخطيط الأمريكي، لمزيدٍ من السيطرة على الثروات الطبيعية في الخليج، وفي بحر قزوين، وفي آسيا الوسطى الإسلامية، إضافةً إلى تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في أراضي العراق وفي بحارها وفي أجوائها، وحرمان القوى الكبرى المنافسة من بناء وتنمية مصالحها في الشرق الأوسط. الإدارة الأمريكية ترى أنه يمكن الوصول إلى السعودية -مثلاً- أو إلى مصر، أو سوريا، أو لبنان، أو إيران، عبر العراق بسهولةٍ أكثر وكلفةٍ أقل، ويبدو أن هذا من الأهداف الأساسية للحرب؛ فالهجوم على العراق واحتلاله يجعله مركزاً لتخويف إيران وسوريا، ويمكن من خلاله التحرك باتجاه السعودية ودول الخليج؛ لإحداث تغييراتٍ تتوافق مع السياسة الأمريكية. كما أنه يمكن من خلاله التحرك باتجاه سوريا ولبنان. السيطرة التامة على كل فلسطين، والقيام بعملية تهجير واسعة ضد الفلسطينيين، وخصوصاً أن قادة اليهود باتوا مقتنعين أن تغييرات جذرية قد حصلت بعد انتفاضة الأقصى، وأدت إلى إسقاط اتفاقية أوسلو، ومن ثم فإنهم يعتقدون أن الظروف بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تغيرت، وأن اتفاقية أوسلو وملحقاتها لم تعد مقبولة. وبطلبٍ من الإدارة الأمريكية أعد الدكتور ماكس زنقر المختص في تحليل السياسات -وهو مؤسس معهد مشهور، معهد هيدسون للدراسات الاستراتيجية والأمريكية- وثيقة ترسم سيناريوهات محتملة للعالم خلال العقدين المقبلين وأهمها هو: أولاً: أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تقوم بهجماتٍ عدة ضد دول، وربما يؤدي ذلك إلى سقوط حكوماتٍ إسلامية، وستمتلك العراق ومصر وإيران والسعودية في تقديره أسلحةً نووية -طبعاً دعك من العراق الآن- وأن دولاً أخرى ستمتلك أسلحةً بيولوجية تستخدمها في النزاعات فيما بينها، وأن إسرائيل ستظل موجودة إلى ما بعد عشرات السنين، إلا أنها سوف تواجه خطراً كبيراً على وجودها، وقد تتعرض للإبادة بواسطة سلاحٍ إسلامي غير تقليدي يتوافر بكثرة في الشرق الأوسط. ثانياً: كما يتحدث التقرير أيضاً بتفصيلٍ عن هذا السيناريو، ويقسم الدول الإسلامية إلى قسمين: الدول المؤيدة لما سماه بالإسلام الكفاحي، أو الإسلام المقاوم، والدول المعارضة له. أما الإسلام الكفاحي الجهادي المقاوم فسوف يسيطر حسب تقديره على الدول العربية، وهي تسعمائة مليون نسمة، وكذلك طبعاً الجاليات الإسلامية في أوروبا وفي أفريقيا، وأما تركيا ووسط آسيا التي تشكل أربعمائة مليون نسمة من العالم الإسلامي، فإنها سوف ترفض هذا اللون من الإسلام كما يتحدث. تتضمن الوثيقة أيضاً: خطة لمكافحة الإسلام يقسمها إلى عشر مراحل: منها: حل الصراع العربي الصهيوني، وذلك بحل مشكلة اللاجئين من خلال إعادة توطينهم، وهنا نطرح سؤالاً أين؟ الله أعلم! وحظر استخدام الإرهاب، ما هو الإرهاب؟ هذا سؤال أيضاً! دولة فلسطينية ملتزمة بأمن إسرائيل ضمن خارطة الطريق أو غيرها، ويفترض أنه من الممكن العمل على إخضاع الفلسطينيين حتى يخضعوا للحل الذي تريده إسرائيل، ومن هنا فإن المنطقة متجهة إلى مرحلةٍ شديدة السواد وفق هذه السيناريوهات التي ترسمها الإدارة الأمريكية، وتحاول فرضها ليس على العالم الإسلامي فحسب بل على العالم كله، لكن تبقى إرادة الممانعة، والرفض، والإصرار على التغيير، وفرض الوجود قادرةً على إفشال هذه المخططات وعلى البقاء على ساحة الحياة، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 أسس التقرير الاستراتيجي الأمريكي ما هي أسس التقرير الاستراتيجي الأمريكي؟ هناك تقرير استراتيجي أمريكي يخرج بين بضع سنوات، وهذا هو التقرير الأخير الذي صدر بعد أحداث أيلول بسنة تقريباً بعنوان: استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، وقد خرج في عشرين أيلول سبتمبر (2002م) . هذا التقرير الذي يرسم السياسة الأمريكية ماذا ينطوي عليه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 محاربة الإرهاب الأمر الرابع: محاربة الإرهاب دون أن يحددوا ما المقصود بالإرهاب بالضبط. فإنهم يمارسون نوعاً من الإرهاب البشري البشع بآلاتهم العسكرية الضخمة، كما نرى ذلك في حق المدنيين وغير المدنيين سواءً في العراق، أو في أفغانستان، أو ما يمارسه اليهود في فلسطين من عمليات إرهابية قاسية ظالمة، لكن هذا كله عندهم له عبارة، وله غطاء من الدفاع عن النفس، ومن المحافظة على الحياة، ومن المحافظة على الحقوق، ومن المحافظة على الحرية، أما ما يقوم به الإسلاميون، وما يقوم به المسلمون فهو الإرهاب بعينه، ولقد قبضوا على يهوديٍ في الولايات المتحدة الأمريكية يسعى ويهم لتفجير مواقع ومؤسسات ومراكز إسلامية، فلم يقيدوا هذه الجريمة على أنها نوعٌ من الإرهاب، وإنما اعتبروها اعتداءً على ممتلكاتٍ خاصة، فهم يتحكمون في تعريف الإرهاب، ويضعونه كما يشاءون، ويرفعونه عمن يشاءون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 التدخل في الشئون الداخلية للدول النقطة الأخيرة: هي التدخل في الشئون الداخلية للدول، وهذا أمرٌ واضح، فربما لربع قرنٍ أو أقل أو أكثر والله تعالى أعلم ستواجه كثيرٌ من الدول الإسلامية ألواناً من التدخل المؤذي في شئونها الخاصة: التدخل في إعلامها التدخل في مناهج التعليم التدخل في المناهج الشرعية والكليات الشرعية التدخل في قضايا المرأة التدخل في قضايا الأقليات كما يسمونها التدخل في الحريات الدينية، حرية العبادة إلى غير ذلك من العبارات التي كثيراً ما تتردد في التقارير التي تصدر مثلاً عن وزارة الخارجية، أو عن منظمات الحقوق، أو عن وزارة الدفاع، أو عن غيرها، وباسم الحرية وباسم السلام يتم هذا التدخل. بطبيعة الحال لا شك أن الدول الإسلامية كلما أبدت نوعاً من طأطأة الرأس، ومن الاستسلام، ومن القبول بهذا التدخل أغرت هؤلاء بمزيدٍ منه، وكلما استطاعت أن تراهن على شعوبها، وأن توحد صفها، وأن تقاوم وأن تفرض نوعاً من سيادتها على هؤلاء فإنهم يمكن أن يبتعدوا أو يتأخروا. هناك ما يسمى بمبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية والتي أعلنتها وزارة الخارجية الأمريكية قبل بضعة أشهر، ورصدت لها (29) مليون دولار، وربما هذه فقط نفقات الدعاية للمشروع، أما المشروع نفسه فلا شك أنه سوف يستغرق مبالغ ضخمة، ولكن السؤال من هو الذي سوف يدفع فاتورة هذه المبالغ؟ الهدف الأساسي مما يسمى بالشراكة الأمريكية الشرق أوسطية هو إلحاق النظم العربية كلها بالمنظومة الأمريكية، بواسطة إرادة مفروضةٍ بقوة السلاح وقوة التهديد، وقاعدتهم تقول: تكلم بلطف واحمل عصا غليظة، وذلك في ظل اختلالٍ واضح للقوى بين العالم الإسلامي ودولة إسرائيل بمفردها. إن الإدارة الأمريكية بتوجهها النازي المؤيد للتيار الصهيوني المسيحي المتطرف مصرةٌ على التدخل في خصوصيات المسلمين، وعلى ممارسة لونٍ من التغيير في داخل المجتمع الإسلامي على المستوى الثقافي والعلمي والتعليمي والسياسي وغيره، وهذا هو أيضاً نفس مبادرة باول للشرق الأوسط كما أشرت إليها، وفيها عدد من النقاط خلاصتها هو ما سبق ذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 ضرورة التركيز على الجانب الاقتصادي يتحدث التقرير بشكلٍ متعاظم عن أهمية الجانب الاقتصادي، وكأنه يقول: إن العالم عبارة عن شركة اقتصادية، وإن الولايات المتحدة الأمريكية هي رئيس هذه الشركة، نعم، إنهم يدركون أن الاتحاد السوفيتي مع أنه كان دولة تملك قوةً عسكرية ضاربة إلا أن الذي هزمه هم والاقتصاد، ولذلك تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى أن تكون ضمن تحالفاتٍ دولية مع قوى اقتصادية وشراكة اقتصادية تضمن لها تفوقاً دائماً. ثم يخلص إلى أهمية وجود قوات أمريكية في مناطق مختلفة من العالم، ومنها منطقة الخليج لحماية حلفائها وأصدقائها من أي خطرٍ محتمل. إن آلية العلاقة بين العالم الإسلامي ودوله وبين الولايات المتحدة قد اختلفت اليوم اختلافاً كبيراً في ظل هذا التحول الاستراتيجي الجديد، وهذا يفرض على دول العالم الإسلامي جميعاً -وهو طرفٌ أساس في هذه العلاقة- أن يراجع هو مفاهيمه، وهو بين خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: أن يرسم لنفسه رؤيةً خاصة صادقة، تقوم على قيمه ومبادئه أولاً، وتقوم على مصالحه ثانياً، وتتكيف مع هذا الواقع المتغير، فإن لم يفعل، فإنه سيظل مكتفياً بالمراقبة والانتظار والتساؤل، ومن الواجب على أي دولةٍ من دول العالم أن يكون لها رؤيتها الخاصة المعبرة عن تطلعاتها ورغبات شعوبها، وعن قيمها ومبادئها، وعن مصالحها وحاضرها ومستقبلها. فيما يخص العالم الإسلامي فهناك أولاً حماية إسرائيل والتأكيد على تفوقها، وعلى التحالف الاستراتيجي الأمريكي معها. إن أمريكا ملتزمةٌ بالتحالف مع إسرائيل، وملتزمةٌ أيضاً بضمان التفوق العسكري وغير العسكري لهذه الدولة المسخ دولة إسرائيل، ليس فقط في مواجهة دولةٍ إسلامية؛ بل في مواجهة العالم الإسلامي كله مجتمعاً. كذلك: إن التقرير يوجه لهجةً رادعة صارمة إلى الدول الإسلامية التي تعارض السياسة الأمريكية بشكلٍ كلي أو جزئي كإيران -مثلاً- أو سوريا، أو السعودية أو غيرها، ويتهم هذه الدول بدعمها للإرهاب، وأن هذا الدعم إذا لم يتراجع فسوف يعرضها لضرباتٍ موجعة. إن دعم الشعب الفلسطيني يعتبر دعماً للإرهاب إن دعم المقاومة الباسلة هو دعمٌ للإرهاب إن دعم الجمعيات الخيرية هو دعمٌ للإرهاب، بل لست أبالغ إذا قلت: إن إقامة المدارس، والمؤسسات، والمساجد، والأربطة، وجوانب النشاط الإسلامي الخيري كل ذلك هو دعمٌ للإرهاب، والحسابات الأمريكية تقوم بمتابعته ومراقبته ومحاسبة القائمين عليه حساباً دقيقاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 الأخذ بزمام المبادرة بالهجوم: الضربات الاستباقية يؤكد هذا التقرير أن الرؤيا الجديدة للإدارة الأمريكية لا تقوم على رد الاعتداء، وإنما تأخذ زمام المبادرة بالهجوم على أي طرف يحتمل أن يكون عدواً في المستقبل، حتى ولو من دون دليل، أو من دون أسبابٍ تؤكد نية الاعتداء، وهذا ما يسميه التقرير بالضربات الاستباقية. إذاً هم يقولون: إنه لا ينبغي لنا أن ننتظر حتى تأتي الضربة أو يأتي العدوان لندفعه، وإنما أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فعلينا أن نقوم بضربات استباقية، ولعل مما يؤكد صدقية هذا التقرير بدايتهم بالعراق، وهم يقولون في التقرير نفسه: إننا نسعى إلى أعمالنا ومشاريعنا ضمن إطارٍ عالميٍ من التحالف، ولكننا مستعدون أيضاً أن نمضي قدماً بمفردنا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك. وهكذا فعلوا هنا، فهم قد تجاوزوا المنظمات الدولية، وتجاوزوا حلفاء الأمس الذين اجتمعوا معهم على ما يسمى بالحرب على الإرهاب، وانطلقوا بمفردهم مع حلفائهم البريطانيين في حربٍ منعزلةٍ مفردةٍ حرب استباقية، ليس المقصود بها حماية أمريكا من عدوان العراق، ولكن المقصود منها حماية أمريكا وحلفاء أمريكا والمقصود بهم بالدرجة الأولى اليهود. إذاً: تقوم أمريكا على أساس نظرة استراتيجية تمارس ضربات استباقية لكل ما يمكن أن يشكل خطراً مستقبلياً، وبناءً على ذلك فهم سوف يقومون بحرمان جميع دول العالم التي لا تنطوي ضمن سياستهم وأهدافهم من الحق في التقدم والتصنيع والتسليح؛ لأنهم سوف يشكلون خطراً عليهم، وهو ما يسمونه عادةً بالدول المارقة كما يتحدثون -مثلاً- عن كوريا الشمالية، أو عن إيران، وقد يتحدثون عن سوريا أو غيرها. تقدم أمريكا نفسها على أنها شرطي العالم، تراقب، وتحاسب، وتكافئ، وتعاقب، وتمنع من الحصول على التقنية، وتنشر ثقافتها ورؤيتها الخاصة المتعلقة بالحرية المتعلقة بالحرب والسلام المتعلقة بالحقوق والتعليم المتعلقة بالإرهاب المتعلقة بتمويل الجمعيات الخيرية وغيرها، وتفرضها على الحكومات وعلى الشعوب. يقول هذا التقرير في هذه الاستراتيجية: سنحول المحنة إلى فرصةٍ سانحة. يعني: إن الأزمة التي مرت بهم بعد (11) سبتمبر سوف يحولونها إلى فرصة؛ ليقوموا باستدراك كثيرٍ من الخلل والنقص والعيب الذي ينتظم سياستهم، وهم يسمون من لا ينطوي تحت لوائهم بأنه مارق أو خارج على القانون، وكيف لا؟! فهم الذين يصنعون القانون، وهم الذين يكتبونه، وهم الذين ينفذونه. ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي أولاً: السياسة الأمريكية بشكل عام تستهدف تحقيق الحلم الأمريكي بإقامة دولة لها الريادة في المجتمع العالمي، وفي نفس الوقت يتمتع أفرادها بمستوى عالٍ من الأمن والمعيشة، ولذلك يقول أحد الرؤساء الأمريكان - ريجان في تجديد انتخابه-: أيها الأمريكيون! تعالوا لنقيم الجنة على هذه الأرض. فهذا هو الحلم الذي يسعون إليه، رفاهية في الداخل، وأمن قومي مستتب، إضافةً إلى السيطرة على العالم. وقد تطورت الأسس التي قامت عليها عبر الأوضاع المحلية والمتغيرات الدولية، ففي البداية -مثلاً- كانت استراتيجيتهم تقوم على العزلة التي عبر عنها الرئيس مونرو حينما رسم خريطة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حولها أسلاكاً شائكة، ووضع أمامها شعاراً يقول: نحن نرحب بالزائر إذا لم يكن معه بندقية. معناه: أنهم منعزلون على أنفسهم، ولكنهم يرحبون بالزوار، ومن هنا كانت أمريكا مكاناً لاستقبال المهاجرين من أنحاء العالم. ثم انتقلت بعد ذلك إلى المرحلة الثانية وهي: المشاركة في صياغة النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وملء الفراغ الذي نجم عن تراجع الدور الأوروبي في العالم الإسلامي وغيره. ثم جاءت المرحلة الثالثة وهي الحرب الباردة، واستراتيجيات الأحلاف العسكرية حتى سقوط الاتحاد السوفيتي. ونستطيع أن نقول: إن المرحلة الرابعة التي نعيشها هي هذه المرحلة التي يتكلم عنها هذا التقرير الذي أعدته لجان عمل وأوصلته إلى البيت الأبيض، ووزع في ثلاث وعشرين صفحة بالعنوان السابق، وتزامن إعلانه مع مرور عام على أحداث سبتمبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 إمكانية بروز محور عالمي جديد يواجه القوة الأمريكية ها هنا سؤال: هل يمكن بروز محور عالمي جديد يواجه هذه القوة المستفردة المتغطرسة؟ هذا سؤال يطرحه الكثيرون، وفي تقديري أن هذا هو المتفق مع السنن الإلهية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] فسنة المدافعة قائمةٌ في الغالب، والآن نحن نقول: هناك استفراد أمريكي وإن كنا ندرك أن ثمة قوى لا توافق الإدارة الأمريكية على منطلقاتها، ولكنها لم تصل بعد إلى أن تبلور نفسها وموقفها في قوةٍ واضحة تستطيع أن تواجه طغيان أمريكا وعدوانها. لماذا لم يبرز حتى الآن محورٌ جديد معارض سواءً في أوروبا، أو في الصين، أو في نمور آسيا، أو في غيرها؟ كثيرٌ من الدول قد تطرح هذا، كما تطرحه روسيا مثلاً، تطرحه من أجل الضغط فقط على الولايات المتحدة الأمريكية، لكن ليس بشكل جدي وعملي لعدة أسباب: السبب الأول: الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإن معظم دول العالم بما فيها الصين -مثلاً- أو أوروبا، أو روسيا أو غيرها مرتبطة مع الولايات المتحدة الأمريكية بشراكة استراتيجية اقتصادية وسياسية يصعب عليها التخلي عنها. ثانياً: التفوق الأمريكي الساحق في مجال القوة العسكرية، ويكفي أن تعرف -مثلاً- أن ميزانية الدفاع الأمريكية عام (2002م) م -يعني لسنة واحدة- هذه الميزانية تعادل ثلاثمائة وسبعين مليار دولار، بما يعادل الميزانية العسكرية للدول الست الكبرى مجتمعة، وهذا التفوق الهائل في مجال القوة العسكرية فضلاً عن التفوقات في مجال التقنية والاختراع والتسليح يجعل كثيراً من الدول تحجم عن مثل هذا الموقف. إن دول أوروبا تشعر بأن الهوة بدأت تتسع مع أمريكا، وأن حلف الأطلسي بدأ يتحجم دوره، بل بدأ يفقد دوره، وفي مؤتمر السياسة الأمنية الذي عقد في ميونخ في ألمانيا بدأت بوادر الخلاف بين أمريكا وبين دول أوروبا، مع أن هذا أحد المحاور -أعني به مؤتمر السياسة الأمنية في ميونخ - التي ترسم السياسة العالمية تقريباً، ومع ذلك برز فيه نوعٌ من الخلاف، ولكن السؤال متى يتحول هذا الخلاف إلى نوعٍ من المواجهة مع الاستفراد ومع الغطرسة الأمريكية؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 ضروريات المرحلة الجديدة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 ضرورة إيجاد المؤسسات والتجمعات والمبادرات العامة والخاصة رابعاً: من المهم وجود المؤسسات والتجمعات والمبادرات العامة والخاصة في المجتمعات الإسلامية. إن البناء -أيها الأخ الكريم! - هو خير تعبيرٍ عن الدفاع، نحن الآن في موقع حرب، وفي أزمة، وفي نازلة، بل قل: في هزيمة، إن البناء هو خير تعبيرٍ عن هذا الدفاع، والحدث أحياناً يصنع لدينا عقلية الدفاع أكثر مما يصنع لدينا عقلية البناء، والواجب أن ندرك أن المطلوب أن نسعى وننهمك في مشاريع إصلاحية بنائية في الدعوة في التعليم في الاقتصاد في الأخلاق في العلم في العمل في كل مجالات الحياة التي نحتاجها. إن الهزيمة التي منينا بها ليست عسكرية فحسب، وهكذا الإصلاح ينبغي أن يكون إصلاحاً شمولياً في مجالات الحياة كلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 ضرورة إحياء روح الأممية في العالم الإسلامي خامساً: إن من المهم إحياء روح الأممية في العالم الإسلامي، ما زلت أتذكر عام (1981) م حينما ضربت إسرائيل المفاعل النووي العراقي، وأن كثيراً من الناس من الإسلاميين ومن غير الإسلاميين ربما شعروا بنوعٍ من الراحة والبهجة والاغتباط، وقالوا: هذا السلاح ربما كان خطراً على هذا البلد الإسلامي أو ذاك، وليس خطراً على إسرائيل، ولهذا كان هناك اغتباطٌ بتدميره وسقوطه. وهانحن نشهد اليوم أن تلك الضربة ربما كانت تمهيداً لما نراه الآن من القضاء على أصل النظام في العراق، ولا أعني النظام الحاكم، لكن النظام الذي يضبط حياة الناس ويمنعهم من الفوضى، ويحفظ لهم حقوقهم ومصالحهم. إن ذلك الاغتباط الذي عشناه يوماً من الأيام، أو عاشه البعض بضرب المفاعل النووي العراقي، أو الذي عاشه آخرون بهزيمة الجيوش العربية -مثلاً- أمام دولة إسرائيل؛ لأنهم يقولون: هذه جيوشٌ لدول لو انتصرت لظلت على ما هي عليه، إن هذا ربما يعبر عن قدرٍ من عدم الشعور بالأخوة الأممية الإيمانية بين العالم الإسلامي، والتي توجب أن يحزن المسلم لكل ما يصيب أخاه المسلم، حتى لو وجد خلاف بينك وبينه، أو كان له أجندة خاصة، أو نظام خاص؛ فإن روح الإسلام ينبغي أن تكون أقوى من الفواصل بين المسلمين الفواصل بين الدول بين الشعوب بين الجماعات بين الأحزاب ما دام الإسلام هو المرجع الأساسي لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 ضرورة السعي الجاد في الإعداد بكل صوره وألوانه سادساً: لدينا إمكانية القوة في العالم الإسلامي، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] . إن الواجب على العالم الإسلامي اليوم هو السعي الصادق الجاد في الإعداد بكل صوره وألوانه وأشكاله. (مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) كل القوى مطلوبٌ أن نعدها، نعم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي) هذا لونٌ من القوة العسكرية يتعلق بالرمي، ولا شك أننا نرى اليوم أن رمي الصواريخ، ورمي القنابل، ورمي المدافع يشكل أثراً كبيراً في المعركة، وهو الذي يتحكم غالباً في نهاياتها ونتائجها كما رأيناه وشاهدناه في أفغانستان، وكما رأيناه في العراق، وكما رأيناه قبل أيضاً في يوغسلافيا وغيرها. فالرمي هو أساس القوة العسكرية، لكن علينا أن ندرك أن القوة العسكرية تحتاج إلى قوى كثيرة جداً تكون معها وقبلها وبعدها، القوة العسكرية هي الحماية، وهي الإطار الذي يحفظ العالم الإسلامي، ويحفظ مكاسب المسلمين، وإنجازات المسلمين، لكننا نحتاج إلى قوة علمية نحتاج إلى قوة في الإدارة نحتاج إلى قوة في الاقتصاد نحتاج إلى قوة في التصنيع نحتاج إلى قوة في وحدتنا، فإن الوحدة قوة، والاتحاد قوة، وإن الاختلاف فرقةٌ وعذاب. ونحن نجد أن عدونا اليوم يتترَّس بقوةٍ هائلة، من خلال أكثر من مائتين وخمسة وثمانين مليون إنسان يشكلون ما يسمى بالولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلال القدرة على توظيف كل القوى والطاقات والأحزاب بمختلف الاتجاهات لدعم وخدمة هذا الكيان المتسلط على العالم اليوم. خمسون ولاية هي عبارة عن خمسين دولة تقاوم، ولذلك صارت لها هذه القوة، بينما في العالم الإسلامي قد قتل المسلمين أفراداً وجماعاتٍ وشعوباً، ومدناً ودولاً - داء التفرق وداء الاختلاف وداء التطاحن فيما بينهم، وأصبحت ترى أن العدو كما في أفغانستان، وكما في العراق يسهل عليه أن يوظف هذه التناقضات ما بين عرب إلى أكراد، إلى قبائل مختلفة، إلى طوائف أيضاً مختلفة انتماءاتها المذهبية والحزبية والطوائفية، يوظفها في تدمير بعض المسلمين بعضاً، والقضاء على قواتهم وإمكانياتهم، وتوفير قدراته الذاتية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 ضرورة استشعار المسئولية الفردية سابعاً وأخيراً: لا بد من استشعار المسئولية الفردية: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] . إن علينا مسئولية كبيرةً -أيها الإخوة! - في أفرادنا تجاه بناء الفرد ذاته: نجاحك في مدرستك نجاحك في تعليمك في وظيفتك في أسرتك في بيتك في تفكيرك وعقلك في تعاملك مع الحدث نجاح الأسرة نجاح المؤسسة التجارية الدعوية العلمية الإعلامية. إن هذه الأشياء كلها من الأمور التي ينبغي أن ندرك أنها ذات أثرٍ كبير. ينبغي علينا في مثل هذه الظروف -أيها الإخوة! - أن نحيي روحاً من روح الاجتماع في مسئوليتنا الفردية، أن نعقد اجتماعات ومجالس: اجتماعاً في الحي اجتماعاً في المسجد اجتماعاً في المدرسة اجتماعاً على مستوى الأسرة اجتماعاً على مستوى البلد إذا أمكن اجتماعاً على مستوى الجامعة أو المؤسسة، وأن نتدارس قضايانا، وأن نتدارس المخاطر المحدقة بنا، وأن نقرأ، وأن نستمع، وأن نتناقش، وأن نتدرب على روح الحوار والاستماع للآخرين، وتقديم الرأي وتصحيح الرأي، إننا بحاجة إلى أن نصحح أوضاعنا على الصعيد الفردي والجماعي قبل أن تنزل بنا النازلة أو تحل علينا الكارثة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الحذر من التشاؤم واليأس من الإصلاح ثالثاً: علينا أن نحذر من التشاؤم واليأس من الإصلاح في ظل الظروف التي نعيشها الآن، لنعطي أنفسنا فرصةً بأن نفرح بفضل الله تعالى وبرحمته وبمستقبلٍ منشود وبألوانٍ من الخير، وإن أصابنا همٌ وغمٌ وكآبة من جراء ما نرى ونشهد من التفوق العدواني والتسلط على البلاد الإسلامية. إن الإمكانية في الإصلاح قائمةٌ الآن، وهي موجودة في أيدينا ووفق رؤيتنا، وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم أن التقرير الاستراتيجي الأمريكي يقول: إن هذه الأزمة التي حصلت هي فرصة سانحة لنا للتغيير واستدراك ألوانٍ من الخلل الموجود لدينا، فعلينا نحن أن نطلق الشعار ذاته، فإنه شعارٌ قرآني: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] يسر من عند الله عز وجل، لا شأن للبشر فيه، لكن ثمة يسرٌ آخر يصنعه الناس، يستخدم فيه الناس قدراتهم وإمكانياتهم وطاقاتهم وما أعطاهم الله عز وجل، لتحويل هذا العسر إلى يسرٍ، ولهذا قال الله عز وجل: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7-8] ، ارغب في العبادة ارغب في السؤال ارغب في الاستعانة بقوته عز وجل ارغب في استخدام ما أقدرك الله عليه. العالم الإسلامي اليوم يملك قواتٍ لا يستهان بها في العديد البشري في الموقع الجغرافي في الثروات الهائلة الموجودة فيه في موقعه أيضاً فيما يتعلق بالجو في إمكانيات كثيرة وكبيرة يمكن أن يراهن عليها متى ما وجدت إرادة التغيير في العالم الإسلامي. إذاً: بإمكاننا أن نصنع الإصلاح وفق رؤيتنا الإسلامية الخاصة متى ما وجدت الإرادة لدينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 ألا ننسى بعد هدوء الأحداث أننا فعلاً دخلنا في مرحلة جديدة أيها الإخوة: نحن أمام مرحلةٍ جديدة، مرحلةٍ صعبة وطويلة، والمهم ألا ننسى بعد هدوء الأحداث أننا فعلاً دخلنا في مرحلةٍ جديدة، وأن لهذه المرحلة تبعاتها ومقتضياتها الواجبة علينا أفراداً ومجموعات وشعوباً وحكومات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 أن نعلم أنه ليست جميع الخيوط بأيدي العدو ثانياً: من الخطأ أن نفترض أن جميع الخيوط هي بأيدي هؤلاء القوم أو أولئك، فإن نهاية الضعف تبدأ منه القوة، وقد رأينا -مثلاً- كيف أن الشعب الفلسطيني بضعفه وتمزقه، وقلة إمكانياته وذات يده استطاع من خلال طفل ومن خلال مقلاع ومن خلال الصخرة أو الحصاة التي يرمي أو الحجر الذي يرمي به عدوه أن يقلب كثيراً من القوى، وكثيراً من الموازين، علينا ألا نظن أن جميع الخيوط بأيديهم، بل بأيدينا خيوط كثيرة، وأعظم خيطٍ في أيدينا هو أن نستمسك بحبل الله عز وجل: فإنه الركن إن خانتك أركان والله تعالى يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] فإن الاستمساك بحبل الله عز وجل، والصدق مع الله تبارك وتعالى، وإرادة التغيير في نفوسنا، جديرةٌ -بإذن الله عز وجل- أن تصنع لنا شيئاً كثيراً في هذه المرحلة الحرجة والخطيرة من تاريخنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 حزب البعث قبل حرب الخليج وبعدها السؤال هل البعثيون مسلمون أو لا؟ وكم نسبتهم في العراق؟ الجواب لا أدري عن نسبتهم في العراق، طبعاً حزب البعث هو الحزب المسيطر في العراق على مدى أربع وعشرين سنة مضت، وحزب البعث في الأصل حزب علماني، يدور في الفلك الشرقي فلك روسيا، الاتحاد السوفيتي السابق. بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانكشاف الاتجاه البعثي والاتجاه الاشتراكي مال كثير من البعثيين إلى البحث في التراث الإسلامي والتاريخ الإسلامي عما يعزز ويقوي وجودهم وحضورهم، ولذلك بدءوا يتجهون إلى لونٍ من الطرح العروبي أو الطرح الإسلامي، ومنهم من تأثر، فقد عرفنا في العراق خلال السنوات التي مضت توجهاً قوياً إلى الإسلام وإلى إقامة دورة علمية وفقهية وتاريخية ولحفظ القرآن الكريم، وكان هناك بوادر طيبة وإيجابية، وربما بعد هذه الأحداث التي صارت كل من سيذهب إلى العراق سوف يلاحظ الآثار الجيدة لما ذكرناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 هل أذهب إلى العراق؟ السؤال هل أذهب إلى العراق؟ الجواب الذهاب إلى العراق قد ذكرناه، وقد كتبنا فيه كتابة خاصة -يا أخي الكريم! - يمكنك أن تقرأها: هل أذهب إلى العراق؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 معنى كون المسلمين جسداً واحداً السؤال في حال عدم خروج الشباب من الدول المجاورة إلى العراق وبقائهم في دولهم، فأين معنى الجسد الواحد؟ الجواب معنى الجسد الواحد أنت تستطيع أن تساعد إخوانك في أشياء كثيرة جداً: ممكن أن تدعو لهم ممكن أن تنصرهم بقولك ممكن أن تنصرهم بالمال ممكن أن تغيثهم تساعدهم تحسن إليهم، لكن ليس معنى الجسد الواحد أنه إذا قتل منا شخص نقتل جميعاً، وتخلو بلاد الإسلام وتنكشف للأعداء المتربصين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 أهمية المسارعة بالانطلاق للدعوة والإغاثة في العراق السؤال أنا شاب متدين، وكنت أفكر بالجهاد في العراق، لكن لم يكتب الله لي ذلك، فهل تنصحونني بالذهاب للدعوة والإغاثة؟ الجواب نعم. وهذه أيضاً مناسبة جميلة أن ننصح فيها الإخوة بأنه ربما تأتينا فرص في الأيام القريبة القادمة للذهاب إلى العراق: جمعياتنا مؤسساتنا أفرادنا مجموعاتنا للإغاثة للعمل الإنساني للدعوة للتواصل مع هؤلاء الإخوة لرفع المعاناة عنهم، ربما تكون هذه من الفرص السانحة والجميلة والقوية التي نستطيع فيها؛ لأن السبق في هذه الأمور يعطي نتيجته، السبق له أثر كبير نستطيع من خلال ذلك أن نعبر لإخواننا عن تضامننا معهم، ووقوفنا إلى جانبهم، وأن نبني علاقات، ونبدأ في صناعة مستقبل الإسلام، ومستقبل الدعوة من جديد في هذا البلد الطيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 الاهتمام بالمتابعة الفعالة للأحداث والابتعاد عن المشاعر المثبطة السؤال ألحظ على الكثير من الزملاء قدراً من الاكتئاب والحزن والقلق مع تتابع أخبار الحرب، مما جعلهم مسمرين إلى الصحف والإذاعات والشاشات في ساعاتٍ طويلة في اليوم والليلة، وقد أفقدهم ذلك القدرة والرغبة في العمل كما جعلهم متقاعسين عن الأعمال المناطة بهم، وأفسد أمزجتهم، فهل من كلمةٍ لهؤلاء؟ الجواب هذا صحيح، كثير من الناس ربما يقتصر على مجرد مشاهدة الحدث أو التعاطف معه قلبياً ووجدانياً بفرحٍ حيناً، وبألمٍ أحياناً أخرى، بينما قضية العمل، وقضية المشاركة، وقضية المشروع الذي ينبغي على الإنسان أن يقوم عليه مهم جداً، كما أن اعتدال مزاج الإنسان أيضاً مهم، بأن يكون عند الإنسان من الرضا والإيمان بالقدر والقضاء، والنظر إلى جوانب المستقبل لهذا الدين، والنظر إلى الجوانب الإيجابية في كل حدثٍ يقع، يعني: مما يوصى به أحياناً الإنسان أنه حينما يقع لك أنت حادث معين مثلاً، قد يكون حادث سيارة حادث فراق الزوجة فشلاً في أمر تريده أو مشروع، فكر جيداً في سلبيات هذا الأمر الذي فقدته، وفكر في المقابل في إيجابيات الأمر الآخر الذي يمكن أن تعوض به، ومن خلال ذلك يستطيع الإنسان أن يحافظ على هدوئه وعلى استقراره في كل الظروف، وأن يتحول إلى كائن منتج عملي مثمر بنَّاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 وجود مراكز إسلامية تهتم بدراسة الأمريكان وخططهم السؤال هل يوجد مراكز إسلامية أو عربية تهتم بدراسة الأمريكان وخططهم وأطروحاتهم ومؤسساتهم، كما يعملون هم تجاهنا؟ الجواب أعتقد أن هذا موجود، ولكنه قليل، فيوجد في مصر -مثلاً- على سبيل الخصوص، كما في العالم الغربي بعض مراكز الدراسات، كمركز الأهرام وغيره، لها جهود في دراسة الغرب، وفي معرفة القوى المؤثرة في الغرب، واتجاهات السياسة هناك إلخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 ضرورة الإعداد في جميع الجوانب السؤال بعد هذا الذي عشناه في دائرة الحدث ألا من صرخة يوجهها العلماء والدعاة والشعوب لتأمين الجبهة، وإعداد الشباب ونبذ الخلاف والتحام الداخل قبل أن نلتحم في الخارج، ففتح مراكز التجنيد أمرٌ مهم ولا بد منه؟ الجواب نعم. هذا من الأمور التي طالما دعونا إليها وطالبنا بها، إنه ينبغي أن تفتح مراكز التجنيد للشباب في العالم الإسلامي، وأن يتدرب الشباب على حمل السلاح وعلى الأعمال الاجتماعية والأعمال الإغاثية، والأعمال الخيرية، والأعمال الإصلاحية بشكل عام، وعلى الأخلاق الفاضلة، وعلى الروح الجماعية، وعلى الحوار فيما بينهم، هذه مهمة ومسئولية يجب أن يتم السعي إليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 أهمية وعي الحكومات والشعوب بالخطر المحدق السؤال هل من المتوقع أن تعدل وتصلح الحكومات من طريقة إدارتها للأمور وتعاملها مع الشعوب، وكبتها للحريات، وتلاعبها في قضاياه المصيرية، أو المتوقع مزيداً من الخنوع لأمريكا، والسير مع مخططات اللوبي الصهيوني، ومزيداً من القمع للشعوب والتفريط في المكتسبات إن كانت ثمة مكتسبات؟ الجواب هذا يعتمد على مدى الوعي؛ لأن الخطر المحدق اليوم بالعالم الإسلامي حقيقةً ليس خطراً على أحد دون أحد، ليس خطراً على الشعوب دون الحكومات، ولا على الحكومات دون الشعوب، وقبل صلاة المغرب رأيت تقريراً من مسئول كبير في الدفاع الأمريكي يتكلم عن قضية أن من مهماتنا في المرحلة القادمة تغيير عدد من الحكومات العربية والإسلامية، وقد سموا بعض هذه الحكومات بالنص، وقالوا: إنها حكومات مهترئة وإنها حكومات بائدة ويجب أن تزول. إذاً: الخطر المحدق بالعالم الإسلامي خطرٌ عام، ولذلك على العالم الإسلامي كافةً أن يدرك هذا الخطر، وأن يتعامل معه بقدرٍ كبير من المسئولية والإحساس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 علاقة الرئيس العراقي بأمريكا السؤال ألا تعتقد أن الرئيس العراقي هو عميل لأمريكا، وأن هذه لعبة؟ الجواب طبعاً البعض قد يطرحون مثل هذا الكلام، ولكن على الأقل وجهة نظري الخاصة أن هذا الأمر بعيد، وهذا ربما يكون نوعاً من التفسير بالمؤامرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ضرورة تفعيل دور الإنسان العادي السؤال ألا ترى أن عرض هذه الأهداف الغربية المخيفة على مستوى العامة قد يسبب ردود فعل عكسية تشعر الكسالى بالإحباط، مما يؤدي بهم إلى تثبيط الناس بدعوى أن الأحداث لا حول لنا ولا قوة بها، إلى آخر ما ذكر؟ الجواب لا. أنا لا أعتقد هذا، بل أنا أعتقد شيئاً آخر، وهو أن المرحلة القادمة عندنا تتطلب تفعيل دور الإنسان العادي، يعني نحاول أن نقبل من الناس أن يسمعوا وهم يسمعون ويتابعون ويقرءون، لكن بدلاً من أن يكونوا سذجاً في تعاملهم أو تعاطيهم مع الأحداث أن يكون عندهم نوعٌ من الوعي، ومجرد صناعة الوعي عند الناس وفهمهم لما يقع وما يجري سوف يولد عندهم بالتالي قدراً من الإحساس بالمسئولية تجاه أنفسهم، تجاه أولادهم وأسرهم ومجتمعاتهم ودينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 مدى إمكانية ضرب أمريكا لكوريا الشمالية السؤال هل تتوقع أن تضرب أمريكا كوريا الشمالية قبل إنهاء مرحلة الشرق الأوسط؟ الجواب الله تعالى أعلم، هذه أمور من الصعب أن الإنسان يقول فيها شيئاً، لكن أعتقد أنهم سوف يعطون المحاولات الدبلوماسية نَفَسَاً كبيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 ضرورة مقاطعة المنتجات الأمريكية السؤال الناس يتداولون رسالة بالجوالات يقولون فيها: إن أمريكا خسرت ستة بليون دولار؛ لأننا لم نشترِ من منتجاتها. الجواب هذا نموذج يذكرنا بنقطة مهمة جداً في مسألة دورنا وواجبنا، وهي قضية المقاطعة الأمريكية، يعني: توعية الأطفال والعجائز والشباب على مقاطعة البضائع الأمريكية، وعلى كراهية أمريكا، وعلى رفض كل ما هو أمريكي، وعلى التعبير عن ذلك بالقول وبالفعل من خلال الاتصالات التي تبث بالإذاعات أو القنوات الفضائية من خلال مواقع الإنترنت من خلال المقالات من خلال الجلسات من خلال مقاطعة كل ما هو أمريكي، أعتقد أن هذا لونٌ من المقاومة، ولونٌ من الجهاد، ينبغي علينا أن نشيعه وأن نربي الناس عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 لم تنته الحرب في العراق السؤال هل انتهت الحرب في العراق؟ الجواب لا. لم تنتهِ بعد، ومن السابق لأوانه أن نقول: إن الحرب انتهت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 حكم الظن بأن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة السؤال {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] قال ابن القيم رحمه الله فيما معناه: إن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستمرة يضمحل معها الحق، من ظن ذلك فقد ظن بالله ظن السوء، وهو ظن الجاهلية. الجواب نعم هذا صحيح، وكما ذكرنا {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 مدى تواجد تمثيل لأهل السنة في العراق السؤال بعد سقوط بغداد وانفتاح باب المجهول على العراق الحبيب، وفي ضوء تنافس الشيعة والأكراد والأحزاب العربية والعلمانية يكثر السؤال حول أهل السنة ومن سوف يمثلهم، وهل لهم قيادات فكرية وسياسية كما للشيعة؟ الجواب نعم. للسنة قيادات فكرية وسياسية، ولكن غالبها خارج العراق، وأعتقد أنه في المرحلة القادمة ربما لا يكون للسنة نفوذ كبير كما سوف يبدو، لعدم وجود تمثيل حقيقي لهم سواءً في الداخل أو في المعارضة أو غيرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 ضرورة التوسط في المشاعر السؤال أتينا لنزرع البسمة على شفاهنا ونغرس الأمل في نفوسنا، وإذا بك تزيد الجرح ألماً، مستشهداً بأقوالٍ غربية كثيراً ما أخطأت أهدافها!! الجواب الحقيقة من الصعب أن تزرع البسمة في مثل هذه الظروف، البسمة لها وقتها ولها مكانها، والإنسان عليه أن يكون معتدلاً، فلا يبالغ في اليأس والقنوط، لكن من الخطأ أيضاً أن نتحول إلى كائنات أسطورية بعيدة عن الواقع ترى المصاب وترى الألم ثم تشعر بأنها غير مقصودة وغير مستهدفة. وأما ما ذكرته من أن هناك كثيراً من التقارير الغربية أخطأت أهدافها، فأنا أقول لك الآن: إنني لا أتحدث عن تقارير ولا عن تحليلات، إن ما قلته لك وذكرته هو كلام مقروء من التقرير الاستراتيجي الذي هو منطلق الإدارة والسياسة الأمريكية، فليس مجرد ظن أو تخمين أو احتمال، وإنما هو أساس يحكم على الأقل في هذه المرحلة أهداف الإدارة الأمريكية ومبادئها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 مدى تأثير الدوافع الدينية على السياسة الأمريكية السؤال ماذا عن نظرية: الطريق إلى القدس يمر ببغداد، وأن احتلال العراق هو مقدمة لإقامة هيكل سليمان؟ الجواب لقد كتب الكثيرون عن الدوافع الدينية للسياسة الأمريكية، ولم أشأ أن أخوض في هذا الموضوع؛ لأن الناس فيه بين طرفين ووسط كما يقال. فهناك من يبالغون في تفسير السياسة الأمريكية بدوافع وأبعاد دينية، ونحن نعتقد أن الأمريكيين غير جادين في تدينهم ولا صادقين، وبالتالي فإن الدين هو غطاء أو ديباجة أو خلفية لدوافعهم. نعم. هو ليس بعيداً عن دوافعهم وأعمالهم وجزءٌ منها، لكن ليست دوافعهم دينية محضة، وإنما الدين هو أحد المحددات أو المؤثرات في دوافعهم لما يقولون وما يعملون. فمن يبالغ في تقدير أن دوافعهم دينية محضة وبحتة، ويربط ذلك ببعض النبوءات المذكورة، فهذا في نظري نوع من التطرف. وهناك طرفٌ آخر يعتبر أن القضية قضية علمانية بحتة، وأنه لا أثر للدين فيها بحال من الأحوال. وفي ظني أن الوسط هو أن هناك دوافع دينية سواءً كانت بإرادة ووعي وشعور، أو بغير إرادة ولا وعي ولا شعور تؤثر في السياسة الأمريكية. وعلى سبيل المثال ذكرت للإخوة يوماً مثالاً وهو ما يتعلق بضرب أفغانستان، لو أن المتهمين بأحداث سبتمبر كانوا في إسرائيل مثلاً، باعتبارها دولة ذات علاقة وثيقة ورابط ديني مع الإدارة الأمريكية مثلاً، فهل كان من الممكن أن يتم التعامل بتلك الطريقة: أن هناك اتهاماً مباشراً بغير دليل، ثم هناك تهديدات، ثم هناك فرصة معينة، مهلة يوماً أو يومين أو ثلاثة، ثم تشن الحرب بهذه الطريقة، الكل يقطع بأنه لم يكن الأمر ليكون هكذا لو كان المتهمون في إسرائيل، فهذا يؤكد لك ويبين أن ثمة دوافع دينية تؤثر في الإدارة الأمريكية، لكن ليس الدين هو فقط المؤثر فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 سبب سقوط بغداد السريع السؤال ما تفسيركم لسقوط بغداد بهذه السهولة؟ الجواب نعم. لقد فاجأت العراق العالم بمصابرتها وصمودها، كما فاجأت العالم بسقوطها السريع، والقضية لا بد أن فيها سراً معيناً، هل ثمة صفقة تدار في الخفاء، أو ثمة شيءٌ آخر؟ هذا يترك للأيام تكشف عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 انسحاب أمريكا من الخليج السؤال بعد زوال الحكم في العراق، وزوال الخطر عن منطقة الخليج وخصوصاً عن حلفاء الغرب، ألم يحن الوقت للقوات الأمريكية أن تخرج من جزيرة العرب، ومن الخليج؟ الجواب أعتقد أنه ليس الأمر بالضرورة هكذا، بل ربما هذه الحرب سوف تضمن لأمريكا موقعاً جديداً في أرض العراق نفسها، وقد ذكرت أنه ربما يجلس أكثر من خمسة وسبعين ألف جندي أمريكي في منطقة العراق، وهذا لسنة على الأقل، إضافة إلى أنه إذا قامت حكومة في العراق موالية لأمريكا وهذا هو الوضع الطبيعي فسوف تعقد مع أمريكا وتبرم صفقات كثيرة، ومن ضمنها اتفاقيات الدفاع المشترك، وقواعد أمريكية، فالعراق ليس بالبلد السهل، ولذلك لا أعتقد أن الرحيل عنه سيتم بسهولة، كما أن هذه القوة الهائلة التي دخلت لا أعتقد أنها جاءت لتنصرف بسهولة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 الواجب على الشعوب الإسلامية السؤال ما هو التوجه الذي تنصح به الشعوب خاصة الإسلامية؟ الجواب هذا سؤال جيد؛ لأنه يعدل الكفة مع السؤال الآخر، يعني من الخطأ أن نعتبر أن المسئولية في مثل هذه الأزمة هي مسئولية خاصة بحاكم مثلاً، أو خاصة بعالم، أو خاصة بدولة من الدول، هذه مسئوليتنا جميعاً، ومن ذلك مسئولية الشعوب، فالشعوب مجموعة أفراد، ولنفترض أن هؤلاء الإخوة الموجودين الآن يشكلون جزءاً من شعبٍ عربي إسلامي سعودي أو غير سعودي، ومن هنا تأتي المسئولية الفردية التي أشرنا إليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 سبب اهتمام أمريكا بإسرائيل السؤال نجد كثيراً من المحللين يجمعون على أن الغرض من هذه الحرب هو أمن إسرائيل، فلماذا كل هذه المحبة لإسرائيل؟ الجواب إسرائيل تعتبر حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر هي ممثل المشروع الغربي في المنطقة العربية والإسلامية، ولذلك فهي استثناء، إسرائيل لا تحاسب أو تعاقب على عدوانها على المدنيين، ولا يمكن أن يكون هناك تفتيش لأسلحتها، ولا تساؤل عن وجود أكثر من مائتي رأس نووي عندها، وأسلحة غير تقليدية، بل ربما أسلحة بيولوجية وكيماوية، إنها جزءٌ من الولايات المتحدة الأمريكية، والبعض أحياناً قد يقول العكس، فيقول: إن الولايات المتحدة الأمريكية هي الواقعة في قبضة إسرائيل، ولا شك أن اليهود الصهاينة متنفذون متغلغلون في مفاصل الإدارة الأمريكية الحاضرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 الواجب على الحكومات السؤال يا شيخ! ما واجب الحكومات؟ الجواب لعلي أشرت إلى طرفٍ من ذلك، ولعلي أيضاً أؤكد على جانب آخر، وهو أن من أوجب ما يجب على الحكومات العربية اليوم بعدما شاهدت هذه التجربة، ورأتها بأم عينيها أن تحرص وأن تراهن على شعوبها، وليس على مددٍ أو دعمٍ من عدوها. لقد بينت من خلال هذا الكلام أن الاستراتيجية الأمريكية قد تغيرت، فبالأمس كانت تقوم ربما على نوعٍ من المصالح المشتركة، لكن اليوم أصبحت الإدارة الأمريكية تقوم على الاستفراد بالسلطة، وعلى ضرب أي وضع لا يخدم مصالحها ضربات استباقية، فهي من الممكن أن تضرب دولة؛ لأنها تملك سلاحاً يهددها، أو لأن من المحتمل أن تملك سلاحاً يهددها، ولعلك تعرف فيما بعد ماذا سوف يصنعون بالعلماء العراقيين المتخصصين في الأسلحة ذات الدمار الشامل، إضافة إلى أنها قد تضرب دولةً من الدول، أو شعباً من الشعوب؛ لأنه يمكن أن يشكل لها تهديداً في المستقبل، فلن يبقى إلا المراهنة أولاً على الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، والتوبة الصادقة إليه بمعناها الكامل، ومن ذلك بطبيعة الحال العودة إلى الشعوب برفع الظلم عنهم وبإعادة الحقوق إليهم، وبتشجيعهم على الفهم الصحيح، وعلى العلم الصحيح، وعلى الحوار الصحيح، وعلى التعبير الراشد عن الرأي ووجهة النظر، إضافة إلى استجماع القوة كما ذكرنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 حكم الذهاب إلى العراق السؤال هل يجوز لي أن أذهب إلى العراق؟ الجواب أين تذهب إلى العراق حفظك الله؟ هذا سؤالٌ متأخر بعد فوات الأوان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 إيحاءات العام الجديد بداية كل عام جديد يستقبل الناس سنة جديدة من حياتهم، ويخلفون وراءهم أخرى، وفي هذه الوقفة على إطلالة عام جديد، ينبغي لكل شخص أن يقف مع نفسه وقفة محاسبة ليستفيد من هذا الدرس عبراً وفوائد تعينه على المرور في سنته الجديدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1 سبب اختيار موضوع إيحاءات العام الجديد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. إخوتي وأحبتي: حيَّا الله هذه الوجوه بالسلام، ومساها الله تعالى بالخير، والحمد لله على اجتماعنا بعد التفرق، فإننا الآن نستأنف هذه الدروس، دروس الأحد العلمية العامة، بعد انقطاع بمناسبة الامتحانات ثم بمناسبة موسم الحج، ولعل من توفيق الله تعالى أن نعيش في هذه الليلة أول ليالي العام الجديد، فإنك حين تقرأ التاريخ في هذه الليلة تجد أنه الأول من الشهر الأول من عام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة. وفيها ينعقد هذا الدرس وهو الدرس الثالث عشر من الدروس العلمية، وقد فرض عليَّ هذا التاريخ موضوعاً بعينه لن يسعني أن أتجاوزه بحال من الأحوال. ولا أكتمكم أنني بعد أن جمعت كتبي ومراجعي وأوراقي وبدأت في الإعداد لموضوعٍ سبق أن وعدت به، وجدت أنه من غير المستساغ أن أتجاهل هذه المناسبة الكبيرة ونحن نعقد هذا المجلس في أول ليلة من ليالي هذا العام، بل في أول ليلة في بداية عقد جديد من تاريخ المسلمين. فقد خلع المسلمون -أفراداً وشعوباً وأمماً- عشر سنوات من أعمارهم وتاريخهم في هذا القرن، وبدءوا يستأنفون عشر سنوات أخرى والله تعالى أعلم ما يكون فيها، ولذلك كان لا بد أن يكون موضوع هذا المجلس هو: إيحاءات العام الجديد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 2 نشأة التاريخ الهجري وأول إيحاءٍ دعاني إلى التأمل والتفكر فيه هو: قضية التاريخ الهجري وكيف كان. لقد كان العرب خاصة في زمن الجاهلية ثم المسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ليس لهم تاريخ معين يرجعون إليه، وإنما كانوا ينسبون الأشياء إلى الأحداث القريبة منها، فيقولون -مثلاً-: فلان توفي قبل بدر بسنة، وفلان توفي بعد أحد أو بعد الأحزاب بسنة، وفلان أسلم عام فتح مكة، وفلان قبل ذلك، وفلان ولد قبله أو بعده؛ فكانوا يؤرخون حسب الأحداث الكبيرة التي جرت لهم، ولم يكن لهم تاريخ معين يرجعون إليه، وهكذا كان الحال في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وردحاً من خلافة عمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 محاولات استبدال التاريخ الهجري وحكمه ومع الأسف أقول: قد بدأ الماء الآسن يتسرب إلى المنبع الصافي، فبدأنا نجد من يحاول أن يفرض التاريخ الميلادي، وإذ كان من الصعب على المسلمين في هذه البلاد أن يتقبلوا التاريخ الميلادي هكذا مكشوفاً عارياً، فإننا قد وجدنا من يحاول أن يبدأ عن طريق ما يسمى بالتاريخ الهجري الشمسي؛ وذلك لأن من ميزة التاريخ الهجري الشمسي أنه يوافق التاريخ الميلادي، بمعنى: أنه منضبط معه، فإذا وضع -مثلاً- بداية معينة كبداية الدراسة، وحددت بتاريخٍ معين على مدار السنين، فهي لا تختلف في التاريخ الميلادي ولا تختلف في التاريخ الهجري الشمسي؛ لكنها في التاريخ الهجري القمري تختلف من سنة لأخرى. ولذلك كان هذا الاتفاق والتواطؤ بين التاريخ الهجري الشمسي والتاريخ الميلادي، ذريعة عند بعض الضعفاء لجلب التاريخ الميلادي إلى هذه البلاد، ومحاولة نشره وترويجه بين المسلمين، والذي لا أشك فيه: أنه يحرم على المسلمين أن يوقتوا بالتاريخ الميلادي استقلالاً، بحيث يبدءون يعتبرونه دون غيره، ويلغون التاريخ الهجري ولا يعتمدونه ولا يعتبرونه، وذلك لأسباب: أولاً: لأنه خلاف الإجماع كما أسلفت، وهو إجماع رائع ربما يكون من أقوى الإجماعات، فإن العلماء الآن يقول الواحد منهم: أجمع العلماء على كذا، ويذكر لك مسألة قد يكون فيها خلاف يسير، وليس هناك دليل قاطع على الإجماع، لكن في موضوع التاريخ الهجري نتحدى أي إنسان أن يذكر لنا منذ عهد عمر -من يوم اتفق الصحابة على ذلك- إلى عصر الناس هذا خلافاً للمسلمين في اعتبار هذا التاريخ واعتماده والعمل به، ولا يوجد من ذلك شيء إلا بعض التساهل الذي ينتشر عند بعض المسلمين بسبب مجاورتهم لليهود أو للنصارى أو للفرس أو لغيرهم، أما أن يكون تاريخاً معتمداً لدى الأمة الإسلامية فلا، وقد أجمع الصحابة على ذلك فمخالفة إجماعهم لا تجوز. ثانياً: إن نقل الأمة من التاريخ الهجري القمري، إلى التاريخ الهجري الشمسي أو الميلادي، فيه عزل للأمة عن تاريخها، وعن كتبها، فإذا نسي الناس التاريخ الهجري القمري واعتمدوا التاريخ الشمسي أو التاريخ الميلادي فكيف سيقرءون كتبهم؟ ومعنى ذلك أن الإنسان يحتاج إلى مترجم إذا قرأ كتاب البداية والنهاية لـ ابن كثير أو الكامل لـ ابن الأثير أو تاريخ الطبري أو غيره، ويحتاج أيضاً إذا قرأ كتاباً من كتب الرجال والتراجم وكتب الحديث إلى مترجم يذكر له هذه السنة وما يقابلها، وهذا فيه عزل للأمة عن ماضيها وعن تاريخها، وحيلولة بين الشباب وبين تراثهم وثقافتهم، فهو مثل من يريد أن يشيع اللغة العامية لتكون بديلاً عن اللغة العربية، ويريد أن يجعل في الناس عجمة وجهالة فلا يستطيعون أن يقرءوا كتبهم، ولا يفهموا ما قال علماؤهم، ولا يفهموا كتاب ربهم ولا سنة نبيهم صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن هذا فيه تشبه بالأمم الكافرة، من الرومان الوثنيين المتلبسين بالنصرانية، والفرس واليهود وغيرهم، وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من تشبه بقوم فهو منهم} ولا شك أن التواريخ يرتبط بها أعياد ومناسبات، ويرتبط بها حوادث وعزل وولاية وأشياء كثيرة جداً، فالتواريخ من أعظم الشعارات التي تفاخر بها الأمم وتتعرف بها، ويلتقي بها الحاضر بالغابر. فالتشبه بهم في التاريخ من أعظم ألوان التشبه وأخطره، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} . رابعاً: إن التاريخ الهجري القمري هو الذي رُتبت عليه المواقيت الشرعية؛ من دخول الأهلة كدخول رمضان وخروجه، وعشر ذي الحجة، ويوم عاشوراء وغيرها من المناسبات، فإنها مبنية على أساس رؤية الهلال وعلى أساس التاريخ الهجري القمري لا غيره. فلذلك لا يجوز بحالٍ من الأحوال استبداله بغيره، ونقول لمن يريد عنه بديلاً: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] . وهذه الوقفة أعتبر أنها وقفة مهمة جداً؛ لأن كثيراً من الناس تنطلي عليهم مثل هذه الأشياء، وقد لا يدركون هذه المحاولة الخطرة التي يحاولها البعض، وإن كان مما يجب أن يقال في هذه المناسبة يشكر للجهات المختصة أنها أصدرت أمراً باعتماد التاريخ الهجري القمري في جميع المناسبات، وهذا فيه قضاء على هذه المحاولات اليائسة من بعض المضللين. ومن أراد المزيد من الدراسة في موضوع التاريخ وبداية التاريخ وما يتعلق به، وهي بحوث نفيسة مهمة كنت كتبت فيها بحيثاً صغيراً، لكنني بحثت عنه خلال إعدادي لهذا الدرس فلم يقع في يدي، فبإمكانه الرجوع إلى عدد من الكتب أذكر منها كتاب: المختصر في علم التاريخ؛ وهو كتيب مختصر صغير مفيد للكافيدي، وكتاب: الإعلام بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للإمام السخاوي، وكتاب: مفتاح السعادة للشيخ طاش كبرى زاده من شيوخ العثمانيين، وكذلك كتاب: كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي مادة أرخ، وكتاب: الخطط المقريزية للمقريزي، وغيرها من الكتب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 سبب تحديد بداية التاريخ بالهجرة النبوية وذلك لأسباب: أولاً: لأن الهجرة لم يُختلف في تاريخها، بخلاف المبعث والمولد فقد اختلف فيها العلماء، فإن مولد النبي صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد لا يومه ولا شهره بل ولا سنته، وهذا أكبر رد يوجه للذين يحتفلون بالمولد النبوي، وهو أن نقول: حددوا لنا أولاً متى المولد قبل أن تحتفلوا به، فالمهم أن مولد الرسول صلى الله عليه وسلم غير معروف على التحديد، لا يومه ولا شهره بل ولا سنته. وكذلك مبعثه صلى الله عليه وسلم فيه اختلاف، أما هجرته عليه الصلاة والسلام فلا يكاد يختلف الناس في أنها كانت في ربيع الأول، ويحددونها باليوم الثامن أو قريباً من ذلك، فرأوا أن التحديد بالهجرة أنسب لأنه متفق عليه. وهنا يأتي السؤال لماذا لم يحددوا التاريخ من وفاته عليه الصلاة والسلام؟ مع أن وفاته عليه الصلاة والسلام كانت معروفة مضبوطة؛ لأنها كانت بحضور أصحابه، وكلهم يعرفون أي يوم بل أي ساعة لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الطاهرة، فالسؤال لماذا لم يبدأ التاريخ منذ وفاته عليه الصلاة والسلام؟ لم يحددوا بالوفاة لأنه لم يكن من اللائق ولا من المناسب أن يبدأ التاريخ بحدث كهذا؛ لأنه من الأحداث الأليمة التي تحزن لها النفوس وتنقبض لها القلوب، ويكره الناس أمرها وتذكرها، فكرهوا أن يبدأ التاريخ بها، ولهذا فإن السبب الثاني في أنهم حددوا بداية التاريخ بالهجرة: أن الهجرة كانت بداية خير ونصر للمسلمين، حيث انتقلوا فيها من الذل إلى العز، ومن القلة إلى الكثرة، ومن الضعف إلى القوة، وبدءوا حركة الفتوح والجهاد والمغازي، فكانت الهجرة حدثاً عظيماً في تاريخ المسلمين، وكان من المناسب أن يبدأ التاريخ الهجري بهذا الحدث العظيم. لقد حدثت الهجرة في ربيع الأول، ولذلك قال المسلمون: نبدأ السنة من أولها من شهر المحرم، لأنه أول السنة، فقالوا: نعتبر السنة الأولى من الهجرة، ولا نبدأ من ربيع الأول وإنما من المحرم، وعلى هذا جرى أكثر العلماء والمؤرخين، ومنهم من يبدأ السنة بربيع الأول، ولعل الحافظ ابن كثير رحمه الله جرى على هذا، لكن أكثر العلماء والمؤرخين جروا على اعتبار بداية السنة من محرم. وكان أول يوم في السنة هو يوم الخميس أو يوم الجمعة، كما ذكره الكافيدي في كتابه المختصر في علم التاريخ وغيره. وكان بداية اعتماد المسلمين للتاريخ في السنة السابعة عشرة للهجرة، في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فمنذ ذلك الحين بدءوا اعتبار التاريخ، كما يقولون بلغة العصر الحاضر: بأثر رجعي، فقالوا: أول سنة نزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة نعتبرها السنة الأولى، ثم السنة الثانية فالثالثة وهكذا، فبدءوا يحسبون منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. وكانت السنوات التي يحسبون بها سنوات قمرية وليست شمسية، والسنة القمرية تعتمد على بزوغ الهلال، فيكون الشهر فيها تسعة وعشرين أو ثلاثين يوماً، وهي بلا شك أقصر من السنوات الشمسية، فاعتمد المسلمون على السنوات القمرية، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا} إلى غير ذلك من النصوص التي دلت المسلمين على أنه ينبغي أن يعتبروا رؤية الهلال في خروج الشهر ودخوله. ولذلك أقول -أيها الأحبة-: لقد أجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والأمة كلها من ورائهم على مدى أربعة عشر قرناً من الزمان على اعتبار التاريخ الهجري لا الميلادي؛ لا ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ميلاد عيسى، ولا ميلاد غيرهم من الأنبياء، ولا على غير ذلك من الحوادث، بل على اعتبار التاريخ الهجري، فكان ذلك إجماعاً رائعاً صحيحاً ثابتاً مستقراً، ومن المحال أن يأتي إنسان بما ينقض هذا الإجماع بأي صورة وبأي شكل. وكذلك أجمعوا إجماعاً آخر لا شك فيه على اعتبار الشهور والسنوات القمرية لا الشمسية؛ أما السنوات الشمسية فكان الرومان هم الذين يؤرخون بها ويستخدمونها -وهي كما قلت- أطول. ولذلك قد تجد السنة ألفاً وأربعمائة وعشرة للهجرة، بالتاريخ الهجري القمري، لكنك لو نظرت إليها في التاريخ الشمسي لو جدت وهذا غير مقصود به التاريخ الهجري الشمسي أنها ألف وثلاثمائة وحوالي السبعين أو زيادة على السبعين أو قريباً من ذلك. المهم أن التاريخ الهجري القمري هو المعتمد في الإسلام، ولذلك نعلم أنه لا يجوز لأحدٍ أن يؤرخ بالتاريخ الميلادي على سبيل الاستقلال، ومع الأسف أن هذا هو الموجود في جميع البلاد الإسلامية باستثناء هذه البلاد، ففيما أعلم أن جميع البلاد الإسلامية تؤرخ بالتاريخ الميلادي، إما استقلالاً أو تذكر معه التاريخ الهجري تبعاً، ففي بعض الأمصار لا يعرفون إلا التاريخ بالميلاد؛ والميلاد المقصود به ميلاد المسيح عليه السلام، فهذا أيضاً غير معروف ولا محدد، ولا يمكن القطع به ولا الجزم به، وهو تاريخ وثني غير إسلامي؛ بل هو تاريخ نصراني أُثر عن الأمم الكافرة غير المؤمنة، التي اتخذت من عيسى عليه السلام إلهاً من دون الله عز وجل. وفي بعض البلاد الأخرى يؤرخون بالتاريخ الميلادي ويذكرون بعده التاريخ الهجري، فيقولون مثلاً: هذا العام (1990م) الموافق (1410هـ) ، فيبدءون بالتاريخ الميلادي ويعتبرونه أصلاً، ثم يذكرون ما يوافقه من التاريخ الهجري، وهذا لا شك فيه مضاهاة للأمم الكافرة المشركة بالله عز وجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 سبب نشأته ثم حدثت حادثة في عهد عمر رضي الله عنه؛ استدعت أن يفكر المسلمون في قضية التاريخ من جديد، وهذه الحادثة اختلف الرواة في صياغتها، فمنهم من يقول: إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه كتب إلى عمر أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: [[إنه يأتينا من أمير المؤمنين صكوك وكتابات، فيها أن هذا محله في شعبان، فلا ندري أي الشعبان؛ أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟!]] وفي بعض الروايات على العكس من ذلك، وهو أن أبا موسى الأشعري وغيره من العمال والأمراء كانوا يكتبون إلى عمر رضي الله عنه بالكتب، ويؤرخونها بالشهور، فربما تأخر وصولها في البريد؛ لأنه لم يكن الناس كما هو عهدهم اليوم، من البريد بالطائرات وغيرها، فلم يكن يعرف المسلمون البريد إلا على الخيل والإبل، فربما مكث الكتاب في البريد شهراً أو أسبوعاً، وربما مكث أطول من ذلك. فجاء كتابٌ إلى عمر من أبي موسى رضي الله عنه، فكان عمر يقلبه ويقول: شعبان أي شعبان؟! أشعبان الماضي أم شعبان الآتي؟! ومن حينئذٍ بدأ عمر يفكر ويستشير المسلمين في قضية التاريخ، فأشار عليه الهرمزان الفارسي بالتاريخ الفارسي، وقال: إن الفرس لهم تاريخ يؤرخون به، فلو أخذتم به، فكرهه المسلمون، فأشار بعض من حضر من مسلمي اليهود بالتاريخ اليهودي، وكانوا ينسبونه إلى الإسكندر أو غيره، فقالوا: لو أخذت بالتاريخ اليهودي فكره ذلك المسلمون، ثم تشاوروا بم يأخذون؟ فاتفقوا وأجمعوا إجماعاً لا تردد فيه ولا خلاف على أن يبدأ التاريخ منذ هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 نظرة وداع إلى العقد الماضي ننتقل بعد ذلك إلى إيحاء آخر من إيحاءات هذه الليلة المباركة وهذا العام الجديد، وهذا العقد الجديد من القرن الخامس عشر، وهي نظرة وداعٍ إلى السنة الماضية بل إلى العقد الماضي. فمن نظر إلى سنة قد طواها وتعداها وتركها وراء ظهره، بل إلى عقدٍ بأكمله قد تخطاه وأصبح مجرد ذكرى تمر في خاطره فإنه يكثر من ذلك عجباً، أعطوني -بالله عليكم- ماذا بقي لنا وماذا بقي بأيدينا، لا أقول من سنة مضت أو من عقد مضى، بل من عُمُرٍ مضى، من عاش منا معاشاً ينظر ماذا بقي في يده من عمره الماضي كله، إنه ينظر فلا يرى شيئاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 أعظم نتيجة إيجابية تحققت خلال العقد الماضي وهنا -أيضاً- وقفة لا أريد أن أتجاوزها: وهي إذا كان الكلام الذي ذكرته فيما يتعلق بالأفراد، فلننظر فيما يتعلق بالأمة الإسلامية على مدى عشر سنوات مضت فقط، ماذا حققت الأمة الإسلامية وماذا تحقق لها؟ وأريد أن أشير إلى نتائج إيجابية، فأعظم نتيجة إيجابية تحققت للأمة خلال عشر سنوات مضت هي قضية الصحوة الإسلامية، التي أصبحت واقعاً وحقيقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد، وقد رأينا أحوال المسلمين في بلاد شتى، فلا تجد بلداً إلا وتجد الصحوة فيه، كالإنسان الذي قعد سنيناً طويلة مريضاً، ثم كتب الله تعالى له العافية فبرئ وقام، وأصبح يحاول أن يغير كثيراً. وقد مررنا في بعض البلاد غير الإسلامية، بحي من الأحياء التي للمسلمين، فأصبحنا نتلفت فنجد مكتبة السلام، مكتبة النور، دار المعرفة، دار العلم، مكتبات بلا عدد، ثم تجد محلات التسجيل الإسلامية؛ فتجد التسجيلات والأشرطة، ثم تنظر فتجد المطاعم الإسلامية؛ فتجد اللحم الحلال والذبح على الطريقة الشرعية، فتساءلنا وقلنا سبحان الله! هذا شيء طيب. فقال لنا بعض الإخوة: لو أتيتم قبل خمس سنوات لما رأيتم من ذلك شيئاً، فلم يكن في هذا المكان إلا أماكن للدعارة والبغاء وبارات الخمور وأماكن الفساد واللهو الحرام، ولا تكاد تجد مكتبة ولا مطعماً إسلامياً ولا محلاً لتسجيل الأشرطة الإسلامية، لكن هذا نورٌ أفاضه الله تبارك وتعالى على عباده، فأشرق عليهم بعد ظلام. فهذه الصحوة -الآن- أصبحت صحوة عارمة عامة طامة في كل مكان ولله الحمد، وهذا نصر تحقق خلال عشر سنوات، لكن يجب أن نقول بعد ذلك: على مدى عشر سنوات قادمة يا ترى ما الذي يجب أن نفعله؟ بل ما الذي يجب أن تحققه هذه الصحوة الإسلامية؟ ومن البشائر -أيضاً- والنتائج الإيجابية: أن الإسلام أصبح شيئاً عظيماً لا يهم حتى أعداء الدين بالنيل منه، فالذين كانوا بالأمس من الشيوعيين وأعداء الدين يسبون -أحياناً- الإسلام، وقد يسبون الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد يسبون رب العزة جل وعلا، غيروا لهجتهم وأصبحوا لا يستطيعون -الآن- أن يقولوا هذا، بل قد يسبون العلماء أو الدعاة، أو ينالون من المصلحين، ولا يستطيعون أن يتجرءوا على النيل من الدين، بل ينالون من أهل الدين، وهذا دليل على أن الدين أصبح له عزة وقوة. شيء آخر: بعض اليساريين وأعداء الدين، الذين كانوا بالأمس -وإن تمسحوا بالإسلام، أو كتبوا عن الدين للتجديد وقد قرأت لبعض هؤلاء- كانوا بالأمس يقولون: إن الإسلام لا يصلح أن يحكم في الواقع؛ لأن الدنيا تغيرت والأمور اختلفت. والآن تغيرت اللهجة وأصبحوا مقتنعين بأنه لا بد أن يحكم الإسلام بلاد الإسلام. فأوجدنا -بحمد الله- على مدى عشر سنين وأكثر، قناعة عند الناس بأن الإسلام دين هذه الأمة، وهو الذي يجب أن يحكمها في جليل الأمور وحقيرها وصغيرها وكبيرها، وقد اعترف بذلك حتى الذين كانوا بالأمس يرفعون شعار العلمانية، أو الماركسية، أو القومية، أو البعثية، أو الناصرية، أو غيرها من الشعارات الدخيلة على هذه الأمة، فأصبحوا يعترفون الآن -إن صدقاً وإما على سبيل أنهم يركبون الموجة- بأنه لا بد من الإسلام، وهذا مكسب عظيم. إذن لا بد أن ننتقل الآن إلى مسألة أنه لا بد أن يستقر الإسلام في واقع الأمة الإسلامية في كل صعيد؛ فيجب أن يستقر الإسلام في مجال الاقتصاد ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الصحة والطب ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في العلوم الاجتماعية ويتخصص لذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال التعليم ويتخصص في ذلك أهله، ويجب أن يستقر الإسلام في مجال الإعلام ويتخصص لذلك أهله، ثم يكون هناك التعليم الشرعي الصحيح الذي يخرج لنا العلماء والفقهاء الذين يرعون المسيرة ويضبطونها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 أصناف الأعمال الماضية وأعمالنا التي عملناها في الماضي لا تتعدى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: أمور عصينا الله تبارك وتعالى فيها، واستجبنا لداعي الشهوة والهوى، وهذه الأشياء ذهبت لذاتها وفرحتها وسرورها وبقي ألمها وعذابها، يقول الشاعر لولده: إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فاللذة ذهبت، لكن بقي الإثم ينتظره الإنسان يوم يلقى ربه، موفوراً في كتابٍ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وبقيت -أيضاً- آلام المعصية يقاسيها الإنسان في الدنيا، وآلام المعصية كثيرة، منها: ألم في القلب على مخالفة أمر الرب جل وعلا. ومنها: ألم قد يجده الإنسان في الواقع؛ فإن المعصية يتبعها ذل وفضيحة وعقاب؛ إما بالضرب في السجن والتوبيخ، أو بالقتل أو بغير ذلك من العقوبات، فبقيت آلام المعصية وعقوباتها الدنيوية والأخروية وذهبت لذتها حتى كأن لم تكن. الصنف الثاني: طاعات أطعنا الله تعالى فيها، وعصينا فيها الشيطان وداعي الهوى والشهوة، فهذه الطاعات، من صلاة وقيام ليل وصيام وظمأ الهواجر ونفقة وغير ذلك؛ ذهب ألمها وتعبها وإجهادها، وبقي سرورها وحبورها ونورها في قلوب من فعلوها، وبقي برها وذخرها وأجرها عند الله تبارك وتعالى يلقاه يوم يلقاه قال الله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه} [الزلزلة:7-8] ويكفي من سرور الطاعة ما يحس به الإنسان من الانتصار على الهوى والشهوة وطاعة الله عز وجل، فيورث الله في قلبه من السرور مالا يعرفه إلا من جربه وذاقه وقارن بين ذل المعصية وعز الطاعة. يقول بعض الصالحين: إنَّا لفي عيش لو علم به الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: والله إنه لتمر ساعات يرقص القلب فيها طرباً من طاعة الله عز وجل، حتى إنني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه فإنهم في عيش طيب. ويقول رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وهو يعني بذلك: السرور بمناجاة الله تعالى والقرب منه ودعائه وذكره واستغفاره، فيكفي هذا من ثمرة الطاعة. الصنف الثالث من أعمالنا التي عملناها فيما مضى: أعمال الدنيا التي نقاسيها، من طلب الرزق والتجارة والزراعة وغير ذلك من الأعمال الدنيوية، وهذه الأعمال منها ما لا بد للإنسان منه؛ فهذا لا يلام عليه وإن أحسن قصده فيه كان له به أجرٌ، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة إلى قوله: وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا: يا رسول الله، أياتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} رواه مسلم. ومن هذه الأعمال الدنيوية مالا حاجة للإنسان به، فوا عجباً من إنسان يكدح ليله ونهاره في جمع أموالٍ، يعلم أنه لو أكل بكل ما يستطيع وأنفق بكل ما يستطيع لم يكد يأتي على آخرها! فهل كل هذا الجهد الذي يبذله الإنسان حباً في أولاده من بعده، حتى أصبح حب أولاده وورثته من بعده أشد وأعظم من حبه لنفسه؟! كلا! والله ليس الأمر كذلك، بل إننا نجد ممن يجهدون في جمع الأموال من يكون الواحد منهم عقيماً لا وارث له. ومن الغرائب والعجائب التي نسمعها من أخبار الأمم الكافرة: أن امرأة غنية ثرية ماتت في أمريكا أو غيرها، وخلفت وراءها أموالاً طائلة هائلة، فلما فتحوا وصيتها وجدوا أنها قد أوصت بهذه الأموال الطائلة إلى قطتها الأثيرة الحبيبة لديها، ووالله إنك تنظر في حال كثير من كبار الأثرياء والأغنياء الذين وسع الله عليهم بالمال، فلا تجد لهم فضلاً إلا فضل الشهادة؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فالعقول متقاربة، فإن هذا الإنسان الذي يجمع الأموال الطائلة ويبخل بها حتى على نفسه لا عقل له، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] . فواعجباً ممن يتعب في جمع هذه الأموال، ويقضي فيها ليله ونهاره، مع أنه يرى أن هذه الأيام والليالي كل يوم تنقله مرحلة إلى القبر وتقربه منه، وتبعده عن العمل الصالح وتحول بينه وبينه، ثم واعجباً من ذلك!! هذا فضلاً عما يفعله كثيرٌ من أولئك من ارتكاب الحرام في جمع الأموال وجمع الحطام؛ من أكل الربا وأكل أموال اليتامى، ومن الغش والخيانة والزور والكذب إلى غير ذلك من الوسائل، وليس الكلام فقط عن أصحاب الأموال، بل أنت تجد مثل ذلك في أصحاب الوظائف الذين يتوسلون إلى الوصول إلى المناصب بكافة الوسائل المحرمة، وفي أصحاب الدنيا بأصنافهم وألوانهم. فلا بد -أيها الإخوة- من وقفة تأمل عند نهاية هذا العام، يتذكر فيها الإنسان أن الله عز وجل حينما قسم الدنيا إلى قرون، وقسم القرن إلى سنين، وقسم السنين إلى شهور، والشهر إلى أسابيع، والأسبوع إلى أيام، واليوم إلى ساعات، والساعة إلى دقائق، والدقيقة إلى ثوان ولحظات، أن يتذكر الإنسان أن الله عز وجل جعل لكل مناسبة وظائف، فيأتي الإنسان مناسبة شهر رمضان ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة أيام الحج والعشر، ثم إذا خرج منها جاءته مناسبة بداية العام وشهر المحرم، ثم إذا خرج جاءته مناسبة وهكذا، حتى يتذكر الإنسان ويستدرك ويأخذ من يومه لأمسه، كما قال الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] أي: إذا فات الإنسان عمل الليل استدركه بالنهار، وإذا فات الإنسان عمل النهار استدركه بالليل، ولذلك كان من عمل النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه إذا غلبه عن صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة} صلاها في الضحى، فيستدرك ما فاته بالليل في النهار. وفي الحديث الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من نام عن حزبه بالليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل} قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:62] ، ويقول الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} [الإسراء:12] وهي القمر {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَة} [الإسراء:12] وهي الشمس: {لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] . فإن من الحكمة في تقسيم السنين والشهور والأيام: معرفة الحوادث وعدد السنين والحساب، وابتغاء الفضل من الله عز وجل، وتذكر ما مضى، وأن يعي العاقل فيستدرك، ويأخذ مما بقي لما مضى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 مشكلة إلقاء اللوم على الدهر إيحاء ثالث في مطلع هذا العام الجديد وهذا العقد الجديد، ألا وهو: ماذا يقول الناس في مثل هذه المناسبات؟ أكثر ما يتحدث الناس به أنهم يلوون ويقلبون رؤوسهم ويقولون: سبحان الله! ما أسرع الأيام والليالي! ثم بعد ذلك تجد طائفة كبيرة منهم ينحون باللائمة والسب على الدهر. يقول الإمام ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، وهو كتاب مفيد نفيس، ينبغي لطالب العلم أن يقرأه ويتأمله ويحذر ما فيه من السقطات، فإن الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في هذا الكتاب نَقدَ في ثلاثة مواضع أو أكثر من يسميهم بالمشبهة، وكأني به يقصد بذلك أهل السنة والجماعة، فغفر الله تبارك وتعالى لنا وله وتجاوز عنا وعنه، لكن الكتاب في الجملة كتاب مفيد، وفيه عبر وعظات، يقول في هذا الكتاب: ما رأت عيني مصيبة نزلت في الخلق أعظم من سبهم للزمان وعيبهم للدهر، وقد كان هذا في الجاهلية، ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وفي الحديث الآخر -الحديث القدسي- يقول الله عز وجل: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر} يقول ابن الجوزي: ومعناه: أنتم تسبون من فرق شملكم وأمات أهليكم وتنسبونه إلى الدهر، والله تعالى هو الفاعل لذلك كله، حتى رأيت الحريري أبا القاسم يقول: ولما تعامى الدهر وهو أبو الردى عن الرشد في أنحائه ومقاصده تعاميت حتى قيل عني أخو عمى ولا غرو أن يحذو الفتى حذو والده فانظر كيف أخطأ الحريري فنسب الدهر إلى العمى، ونسب إليه الأحداث والأعمال، وإن الله تعالى هو الذي يقلب الليل والنهار، وهو الذي يفعل ما يشاء ويختار. يقول الإمام الشافعي رحمه الله: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجوا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا أما هذه الشمس التي تطلع علينا فوالله الذي لا إله غيره إنها هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، بل هي الشمس التي طلعت على آدم وموسى وعيسى وهارون وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا الليل الذي يظلنا هو الليل الذي أظلهم وأظلم علينا، وهذا النهار هو نهارهم. أما الديار فإنها كديارهم وأرى نساء الحي غير نسائها الذي اختلف هو الإنسان فنحن الذين تغيرنا، ولهذا عاد اللوم علينا كما قال الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا نحن المعيبون والملومون، والزمان لا ذنب له في ذلك، فالناس هم الذين يفعلون الأحداث، حتى العادات التي تنتشر في عصر أو بيئة إنما يصنعها الناس، وأحياناً تجد الإنسان يفعل شيئاً ويقول: هذه عادة لا أستطيع أن أتركها. وهذه العادة من الذي أوجدها؟ ومن الذي جعلها عادة؟ فما الذي أوجدها أنا وأنت وفلان وفلان فالعادة هي ما اعتاده الناس، وأخذوا عليه، فالناس هم الذين يصنعون عاداتهم وتقاليدهم وينشرونها فيما بينهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 حقيقة سير الإنسان في هذه الدنيا الإيحاء الرابع الذي يتذكره الإنسان في مثل هذه المناسبة: هو أنه يتنبه إلى أن الذي أخذ من عمره ما أخذ، إنه يباعده عن العمل ويقربه من الأجل. فإن هذه الأيام والليالي مراحل لا تزال بالإنسان حتى تورده القبر، قال الحسن البصري رحمه الله: ما من يوم ينشق فجره إلا وهو يقول: يا ابن آدم، أنا يوم جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة. هذا هو حقيقة ما تقوله الأيام والليالي. ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها فإن الإنسان يتذكر في هذه المناسبة وجوب الاستعداد للموت، وتذكر القبر والبلاء وألا يغفل الإنسان: كأنك لم تسمع بأخبار من مضى ولم تر في الباقين ما يصنع الدهر فإن كنت لا تدري فتلك ديارهم محاها مجال الريح بعدك والقبر فإن من مضى، أخبارهم في الكتب والدواوين وعلى أفواه الرجال، أما من تراهم وتعاينهم فهم بين عينيك، يوماً بعد يوم يفقد الناس راحلاً إلى القبر، قد انقضت أيامه وتصرمت ساعاته وأعوامه، وانقضى أجله وارتهن بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. وهذا يذكر بقضية طول الأمل، يقول الله عز وجل: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: {لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: حب الدنيا، وطول الأمل} وهذا من العجب فإن الإنسان يكبر ويكبر معه أمله، وإنك لتعجب -أحياناً- أن تجد شيخاً بلغ التسعين فتجد أنه قد عقد آمالاً عراضاً! مع أنك قد لا تعجب من شاب في سن العشرين، وإن كان هذا عجباً في الواقع، لأن هذا الشاب في سن العشرين ليس معه صك أنه سيعيش كذا وكذا من السنين، وهو يرى من زملائه وإخوانه من تخرمته المنايا وانتهى في سن الشاب، وكما ذكر أبو الحسن التهامي حين كان يرثي ولده: شيئان ينقشعان أول وهلة ذل الشباب وصحبة الأشرار يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذا تكون كواكب الأسحار جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار حتى ابن العشرين ما يدري لعل هذه ليلة لا يدركه صباحها، أو يوم لا يدركه مساؤه! بل رب ساعة لا يدركها! ورب نفس يخرج ولا يدخل، أو يدخل ولا يخرج! فهذا هو كل ما في الأمر. لكن قد تقول: الشباب يغتر بشبابه، واسوداد شعره وحيويته وقوته ونشاطه وإقبال الدنيا عليه، لكن تعجب من شيخ بلغ الستين أو السبعين أو الثمانين وربما التسعين، ومع ذلك يعقد الآمال العراض، فهو يشتغل في المزرعة ويبني العمارة ويجمع الأموال والدور ويبني القصور: يؤمل آمالاً ويرجو نتاجها وأرى وعلَّ الردى مما يرجيه أقربا يقول أبو الدرداء رضي الله عنه، وقد صعد على درج مسجد دمشق فقال: [[يا أهل دمشق! ألا تسمعون من أخ لكم محب ناصح مشفق؟! إن من كان قبلكم كانوا يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويؤملون بعيداً، فأصبح جمعهم بوراً وبنيانهم قبوراً، وأملهم غروراً. هذه عاد التي ملئت البلاد، وأكثرت فيها الفساد، أهلاً ومالاً وخيلاً ورجالاً، ثم صاروا إلى ما صاروا إليه، فمن يشتري مني تركتهم بدرهمين؟]] فلا والله ما قام أحد يشتري من أبي الدرداء رضي الله عنه تركة هؤلاء القوم ولا بدر منهم واحد. تمر بنا الأيام تترى وإنما نساق إلى الآجال والعين تنظر فلا عائدٌ ذاك الشباب الذي مضى ولا زائل هذا المشيب المكدر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 خطر التسويف فرحم الله امرءاً تنبه لنفسه، وتذكر أنه يمر عليه اليوم بعد اليوم، والعام بعد العام، حتى يقال: فلان مات، ولو نظرنا -أيها الأحبة- في عدد الحضور الآن، وقدرناهم بثلاثمائة أو أربعمائة إنسان أو أقل أو أكثر، وهؤلاء الأربعمائة لو قدر للإنسان أن يطلع على ما كتب لهم في مقاديرهم وآجالهم؛ لربما وجدنا من بيننا من كتب أنه سيموت هذا الأسبوع، ومنا من كتب أنه سيموت هذا الشهر، ومنا من كتب أنه سيموت هذه السنة، ومنا من كتب أنه سيموت في هذا العقد، ولا شك في هذا مطلقاً ولا بد منه، لكن من يدري: {فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس:20] لكن على العاقل أن يفترض أن الأمر سيقع به هو: فحذار حذار من التفريط والتسويف والإهمال والتعلق بالآمال، فإنها لا تغني عن العبد شيئاً. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بمنكبه وقال له: كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل} والغريب: هو إنسان أتى إلى بلد يريد أن يقيم فيها أسبوعاً أو أسبوعين ثم يرتحل، فهل عهدتم أن الغريب يشتري بيتاً فخماً وسيارة فخمة، ويتوظف ويعمل ويشتغل ويبني ويمد الحبال الطويلة؟ كلا! بل الغريب يقتصر على الأشياء اليسيرة، ولو أتيت إلى إنسان في رمضان -مثلاً- أو في الحج فتقول له: يا أخي استأجر بيتاً وأثث هذا البيت وافرشه وضع فيه مكيفات وثلاجات وغسالات. فسوف يضحك عليك ويقول: يا سبحان الله! كأنني سوف أجلس سنة أو سنتين، كل مقامي في مكة شهر أو أسبوع أو أسبوعان ثم أغادر. ثم أضربَ عن ذلك عليه السلام وقال: {أو عابر سبيل} وعابر السبيل ربما كان أشد من الغريب؛ لأن الغريب قد يجلس فترة، لكن عابر السبيل لا يجلس إلا يوماً أو أقل من ذلك، ثم يستمر في طريقه وسفره، وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لسقمك ومن حياتك لموتك]] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 أهمية معرفة الأمور على حقيقتها أحبتي الكرام: اعلموا -بارك الله في وفيكم- أنه لا بد للواحد منا إذا نزل به المرض أن يقول: الآن يا ليت، يقول ابن الجوزي رحمه الله: إن الإنسان -أحياناً- إذا أصابه أمر يعتقد أنه الموت الحق، فينكشف له عند ذلك أمور كثيرة، ويريد أن يعمل ويشتغل ويُكَفِّر ويستدرك، لكن إذا عافاه الله تعالى وشفاه ومد له في هذه الدنيا نسي ما كان يقول من قبل. ويقول بعض المعلقين على هذا الكتاب: حصل لي ذلك مرتين؛ مرة كنت في نهر فكدت أن أغرق، فتغيرت الأمور في عيني، سبحان الله! وقلت: إن أعطيت عمراً فسأفعل كذا وأفعل كذا، ومرة أخرى وقع له نظير ذلك. يقول: ولو استمررت على ما كنت عليه لكنت من الصالحين، أما الآن فيقول: لا أكاد أن أستنشق ذلك الأنس ولا مجرد استنشاق. لا يكاد يتذكر ذلك. فإن العبد -حتى الكافر- إذا نزل به الأجل عرف الأمور على حقيقتها، ولذلك من دعاء بعض الصالحين أنه كان يقول: اللهم إني أسألك أن تريني الأمور على ما هي عليه. يقول بعض الواعظين: وهذا الدعاء يدل على عظيم فقهه، ولو عرفتم الأمور على ما هي عليه، لتغيرت أشياء كثيرة في حياتنا، فمثلاً: هذه الدنيا التي أخذت جزءاً كبيراً من جهدنا ووقتنا وتفكيرنا وعرقنا، هل عرفناها على ما هي عليه؟ كلا! متى نعرفها على ما هي عليه؟ نعرفها على ما هي عليه إذا وقعنا في المصيدة وفي الفخ، فهنا عاد تقييم الإنسان من جديد، وبدأ ينظر في هذه الدنيا، ويغضب ويمقت نفسه حتى لو استطاع أن يقتلها قبل أجلها لفعل من شدة مقته لها، لكن ليس هناك فائدة، فقد فات الأوان. إذن فليحرص الإنسان على أن يعرف الأمور على ما هي عليه، فمثلاً: الشهرة؛ فكثير من الناس يركض وراء الشهرة ويسعى إليها ويحرص عليها ويفرح بها، حتى من الصالحين، ولو عرف الأمور على ما هي عليه لأدرك أن هذا لا يغني عنه من الله شيئاً، وحينما يكون في حال الاحتضار، فوالله إن الناس كلهم عنده أمثال النمل لا يأبه بهم ولا يكترث، فلا يفرح بمدح المادحين ولا يحزن لقدح القادحين، ولا يفرق بين عدو ولا صديق، ولا يكترث لقريبٍ ولا بعيد، قد شغله ما هو فيه عن أمر الناس. فإنا نقول: اللهم إنا نسألك أن ترينا الأمور على ما هي عليه. واجعل هذا من دعائك الذي تدعوا به في المناسبات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 قصر الأمل والاستعداد للموت أحبتي الكرام: وفيما يتعلق بقصر الأمل وتذكر الأجل والاستعداد للموت، أذكركم بأربعة أمور: أولاً: وجوب الإسراع بالتوبة؛ فإن العبد لا يدري متى يحال بينه وبينها. ثانياً: وجوب رد المظالم إلى أهلها؛ فإن العبد إذا مات حيل بينه وبين ذلك، ويلقى الله عز وجل بحقوق الناس. ثالثاً: الحزم بالأعمال الصالحة؛ فلا تؤجل وتؤخر وتقول: غداً أعمل وبعد غد أعمل، يقول بعض السلف: [[أنذرتكم سوف]] فالأعمال الآن التي تستطيع أن تعملها فاعلمها الآن، أما المستقبل فدعه ولا تنتظر شيئاً في المستقبل. رابعاً: كتابة الوصية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى وجوبها؛ وهو أن يكتب الإنسان وصية، ولا شك أن من كان عليه حقوق للناس يجب عليه أن يوصي بها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به يبيت ليلة إلا ووصيته عنده مكتوبة} . فيا أخي الحبيب! إذا انصرفت من مجلسك هذا فأحضر ورقة وقلماً واكتب وصيتك، كما كتب الصالحون وصاياهم، واكتب مالك وما عليك، وأوص أهلك وزوجتك وأولادك بتقوى الله عز وجل، واذكر ما عليك من الحقوق، وما تريد أن توصي به، واحذر من التسويف؛ فكم من إنسان كان يريد أن يوصي لكنه حيل بينه وبين الوصية، كان يريد أن يوصي بثلث ماله لكن لم يوص، فحيل بينه وبين ذلك وأصبح ماله كله للورثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 تسويف التوبة إيحاء خامس من إيحاءات هذه المناسبة المباركة الكريمة، وهو: أن كثيراً من الناس يقول: أمرنا أمرٌ عجب نحن عقلاء لكن أفعالنا -أحياناً- تشبه أفعال المجانين، كيف ذلك؟! ذلك أن الإنسان قد يسمع الموعظة وينفعل لها ويتأثر بها، بل قد يفكر في نفسه وفي أمره وفي دنياه وما هو مقبل عليه، وهو مؤمن يعرف الموت ويعرف البعث والجزاء والحساب والجنة والنار، ويعرف هذه الأمور كلها، ولو كان كافراً أو جاهلاً لقلنا: هو منطقي مع نفسه يعمل للدنيا؛ لأن الدنيا غاية ما يريد. لكن هذا مؤمن بالبعث بعد الموت، وبلقاء الله ويعرف ذلك كله، ثم مع هذا العلم والمعرفة تجد الإنسان يسوف ويماطل ويؤجل في التوبة والندم وعمل الصالحات، فيا ترى ما هو السبب في ذلك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 أسباب التسويف وتأجيل التوبة لذلك أسباب أرى أن من أهمها ما يلي: أولاً: رؤية الهوى العاجل. فإن ذلك يشغل عن العواقب، ويوقع في المعصية، فإذا رأى الإنسان هوىً لاح له ربما استغرق في هذا الهوى حتى يغفل عن عواقبه. مثاله: إنسان يدري أن الزنا حرام، وأن عواقبه في الدنيا وخيمة، من سواد الوجه والفقر والذل والوقوع في المحرمات وأنواع العقوبات، ثم العقوبة في الآخرة وهي عظيمة، ومع معرفة ذلك كله، فإنه ربما رأى امرأة جميلة فتعلق بها، فدعاه داعي الشهوة الحاضرة وغلب عليه، حتى غطى على العلم الذي في قلبه، فالسبب الأول: هو اتباع الهوى. وقل مثل ذلك في المال، فالإنسان يعرف أن الربا حرام، لكن جاءته صفقة بالملايين فرأى أنه لا يستطيع أن يفرط بها، وهو يعرف أنها حرام، لكن داعي الهوى والشهوة والتعلق بذلك أغفله عن العمل بالعلم الذي يعرفه. ثانياً: الغفلة. وأكثر الناس غافلون، فتجد السلطان غافلاً في الأمر والنهي، لا يكاد يسمع موعظة أو نصيحة إنما يسمع المديح والثناء، فتحجب عنه عيوبه وذنوبه ومساويه، وترفع له حسناته، بل يختلق من غير الواقع له حسنات وفضائل لم تكن له، فتلصق به وتدعى له، ويسمعها بأذنه صباح مساء، فلا يزال في غفلة وغرور وهو ينتقل في شهواته ومطامعه في ذلك، فهو غافل عما خلق له. وتأتي -مثلاً- إلى طبقة أخرى وهي التجار؛ فالتاجر مشغول بأمواله وصفقاته، حتى إنه ربما أوى إلى فراشه فتقلب ساعات وهو يدير أموره وأمواله وحساباته، وربما أذن الفجر وهو لم ينم، وربما لم يستمتع حتى بدنياه، فزوجته إلى جواره قد لا يستمتع بها، والطعام يوضع بين يديه فلا يأكله، لماذا؟ لأنه مشغول غافل مستغرق في الدنيا وفي هذا المال الذي يركض وراءه. وتأتي إلى صاحب الوظيفة وصاحب المنصب الذي أعطي منصباً ونسي المسكين أن الكرسي دوار! فصار يتطلع إلى كرسي أكبر، ويعد العدة ويخطط الخطط والوسائل. وأستار غيب الله دون العواقب ويتذرع بوسيلة بعد وسيلة يتطلب منصباً أعلى، حتى سقط على رأسه وذهب تشيعه اللعنات مأزوراً غير مأجور، كما قال صلى الله عليه وسلم: {شرار أئمتكم الذين تلعنونهم ويلعنونكم، وخيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم} فيغفل في طلب وظيفته وكرسيه حتى يأتيه ما يبعده عنها، فإن بقي فيها فالموت له بالمرصاد. تأتي إلى طبقة الفلاحين فتجدهم مشغولين. وتأتي إلى طبقة النساء فتجدهن مشغولات. وتأتي إلى الطلاب فتجدهم مشغولين. وكل طبقة مشغولة غافلة لاهية مستغرقة بعمل معين، لا تفكر في الأمر الذي خلق له كل هؤلاء. ثالثاً: من أسباب تأجيل التوبة رجاء الرحمة. فيقول العاصي: ربي غفورٌ رحيم، خلِّ بيني وبين ربي، ونقول: هذا صحيح، ولكنه شديد العقاب! وكيف تأمن من هذا الغفور الرحيم الذي شرع في هذه الدنيا أن تقطع اليد في مالٍ يسير؟ فالنصاب الذي تقطع فيه اليد هو ثلاثة دراهم، إذا توفرت الشروط، فكيف تأمن مع ذلك أن يعاقبك ويأخذك بذنبك؟ وكيف تأمن أن يرد توبتك؟ ورب إنسان يدخل النار في ذنب واحد! ألم تعلم أن آدم أخرج من الجنة بذنب واحد؟! تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحد! والواحد منا يفعل في اليوم الواحد من الذنوب ما لا يعلم به إلا الله، فرجاء الرحمة -أحياناً- يغفل الإنسان. وإن هذه مناسبة للتوبة، فإننا الآن في شهر الله المحرم، وفي بداية العام، وقد تاب الله في هذا الشهر على قوم؛ فقد تاب على بني إسرائيل كما ورد في حديث وإن كان فيه ضعف: {إن الله تاب فيه على قومٍ ويتوب فيه على آخرين} فاجعل نفسك ممن تاب الله عليهم في هذا الشهر، خاصة وأنك تتذكر أنك انتقلت من مرحلة إلى أخرى، وتذكر وأنك إن لم تتب فإن الله تعالى قد يأخذك بذنبك: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] . قد يؤخذ الفرد بذنبه، وقد تؤخذ الأمة بذنبها أيضاً، فإنه لا أحد يعلم الموازين عند الله جل وعلا، فقد تفعل ذنباً مستهيناً به فيسخط به الله تبارك وتعالى عليك، ويقول: لا أغفر لك بعدها. وقد يأخذك الله به في هذه الدنيا ويعجل لك به العقوبة، فيأخذك أخذ عزيز مقتدر، وحتى لو أبطأت وأجلت في التوبة، فما هو الذي يؤمنك إذا أخرت التوبة، ألا يبقى أثر الذنب عندك؟! ألم تعلم أن آدم عليه السلام لما أتاه أهل الموقف ليشفع لهم اعتذر بذنبه، وموسى اعتذر بذنبه، وإبراهيم اعتذر بذنبه، مع أنهم قد تابوا منها لكن منعتهم من الشفاعة. فما الذي يؤمنك إن ظللت مقيماً على ذنوبك أن يسود بها وجهك، ويتغير قلبك، ويفسد بها طبعك، ويضيق بها رزقك، ويتكدر بها عيشك؟ فسارع إلى التوبة قبل أن يكتب عليك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 علو الهمة الإيحاء السادس: علو الهمة. كل شيء كبير خطير، يطول طريقه ويكثر التعب في تحصيله. ألم تر كيف أن الإنسان إذا توجه إلى طلب العلم احتاج إلى سهر الليل وتعب النهار، والسهر بالأسحار والظمأ والتعب وتفويت المصالح والانكباب، وربما أصابه جهد في بدنه أو ضعف في بصره، أو فاته كثير من مصالحه حتى يحصل على شيء من العلم الشرعي. حتى قال أحد الفقهاء: والله لقد بقيت سنة أشتهي الهريسة ولم أحصل عليها، وذلك لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس، والهريسة طعام من الحلوى اللذيذة، ويمكن أن نعبر عنها بلغتنا الحاضرة بما يسمونها بالجميدة، مع أن الهريسة شيء آخر لكن هذا مثال، فطالب العلم يريد أن يروح عن نفسه فيأكل بعض الأطعمة التي يستحليها الناس ويستحسنونها، والجميدة هي ما يشتهر على ألسنة العامة بالآيسكريم، وقد اقترح بعضهم أن تسمى بالجميدة، وهذا اسم لا بأس به، فيكون تعويضاً عن اسم أجنبي لأن الآيسكريم اسم غير عربي. المهم أنه يقول: بقيت سنة أشتهي الهريسة ما أكلتها؛ لأن وقت بيعها كان وقت سماع الدرس. ففاته هذا من أجل ألا يفرط في خمس دقائق في حضور درس العلم. وقل مثل ذلك بالنسبة لتحصيل المال، كيف ترى التاجر يبذل من الوقت والجهد في تحصيله؟ كذلك الشرف، فإذا أراد الإنسان أن يحصل على شرف بالكرم والجود ويوصف بأنه جواد كريم، تجده يجمع الأموال الطائلة ثم يفرقها بمناسبة أو وليمة أو عزيمة أو غيرها، وعلى الفقراء والمساكين والمحتاجين، فكم يتعب في تحصيل المال، ثم يجاهد نفسه لأن المال محبوب عند الجميع، ومن قال إنه لا يحب الدنيا فكأنه يكذب في ذلك. وهكذا كل أمر عظيم جليل لا بد فيه من علو الهمة، فما بالك بإنسان يريد أن يحصل ذلك كله! وما بالك بأقوام ما رضوا من الفضائل إلا بتحصيل جميعها! فهم يريدون أن يحصلوا على العلم وعلى العمل بأكمله، فلا بد أن يكون عندهم همة عالية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 أهل الدين هم أسعد الناس فما بال الإنسان في الدنيا قد مدَّ حبالاً عراضاً، وصاحب همة عالية، وتجده في الدين على النقيض من ذلك، والواجب أن يكون الإنسان بضد هذا؛ لأن من كانت همته الدين فلا يعني هذا أنه قد فقد الدنيا، فوالله الذي لا إله غيره إن المتدين تديناً حقيقياً هو أكثر الناس استمتاعاً حتى بهذه الدنيا، فاستمتاعه بالمال أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالطعام والشراب أعظم من استمتاع غيره، واستمتاعه بالزوجات أعظم من استمتاع غيره، وذلك لأسباب: منها: أنه مرتاح البال، يحس بأنه فعل ما يرضي الله، ولم يرتكب معصية أو محرماً، ويعلم أن هذا من حلال. ومنها: أنه قد منع نفسه من الحرام فتجمعت قوته لذلك، فقد منع نفسه من كثرة النظر وارتكاب الفواحش وغيرها، فتجمعت قوته في مصب واحد، فكان أكثر متعة من غيره. ومنها: أنه منع نفسه من التشتت في أنواع التجارب، مثلاً -عافانا الله وإياكم- من يبتلون بالوقوع في الزنا، تجد الواحد منهم ذواقاً لا يكاد يقف عند حد ولا ينتهي إلى غاية، بل كلما وقع في المعصية دعته إلى معصية أخرى وجرته إلى شر منها، فهو مثل الذي يوقد النار ويضع عليها الحطب فلا يزال في سعير. أما المطيع الذي اقتصر على الحلال، فإن الله عز وجل يورثه ويعوضه في الدنيا من الأنس بذلك واللذة ما لا يجده الذواقون وأصحاب الشهوات، وشتان بينهما. ومن أسباب تلذذ المؤمنين واستمتاعهم بهذه الدنيا: أن الواحد منهم يستشعر أن في هذا طاعة لله عز وجل وقربة إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: {وفي بضع أحدكم صدقة} حتى وهو يأكل أو يشرب أو يأتي أهله أو ينام؛ يحس أن هذا يكتب له به أجر وله به صدقة، وهو في ميزان حسناته، فيفرح بذلك ويسر له، فحتى الدنيا والله فاز الصالحون بخيرها، فالخيرون والطيبون والمتدينون ذهبوا بخيري الدنيا والآخرة. أحبتي الكرام: لنتأمل أي خير في أموال طائلة لا يجني منها صاحبها إلا الهم والحزن؟! وأي خير في لذات عاجلة ذهبت وبقي الإثم؟! وأي خير في منصب لا يجني الإنسان من ورائه إلا السب والشتم واللعن والدعاء من الصالحين؟! فأي خيرٍ في مثل هذه الأعمال؟ لا خير فيها -والله- أبداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 تفاوت همم الناس وهمم الناس تتفاوت، وكل إنسان له همة، ولذلك ورد في الحديث الذي رواه أصحاب السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} لماذا همام؟ لأن ما من إنسان إلا وعنده همَّة، فيَهُم وينوي شيئاً مهما كان، فكل حيء عنده همة، لكن من الناس من همته في الدنيا، وهمته في تحصيل الزوجات، كلما حصل على امرأة طلب غيرها، ولا يزال هكذا لأنه يجد عيباً يعيب في المرأة القريبة منه، وأما البعيدة الغريبة فإنه لا يعرف عيوبها، فيستحسنها ويستمدحها ويطلبها بالحلال أو بالحرام، فالناس في ذلك أصناف، وهذا لا شك أنه ضيع همته في غير طائل، ولا ينتهي إلى نهاية. يقول الشاعر: والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر أي: ما دام أن الإنسان له عين يقلبها في النساء، وينظر إلى هذه وإلى هذه، فمعناه أنه لن ينتهي إلى نهاية، وهو كالذي يشرب من البحر، ولذلك يقول ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر فيما معناه: من عرف النساء رضي بزوجته. وياليت النساء يسمعن حتى نحصل على الجوائز الثمينة!! لأن الإنسان بطبيعته يضع عيوب زوجته أمام ناظريه، أما النساء البعيدات فلا يضع منهن إلا الحسن، حتى إن من الناس في هذا البلد من كان له زوجة حسناء ومع ذلك كان مبتلى بالنظر؛ فإذا رأى امرأة غريبة نظر إليها حتى تغيب عنه، وإن كان لا يفعل أكثر من هذا، فيوم من الأيام عرفت زوجته عنه هذا فتنكرت بلباسٍ، ثم مرت من عنده فوجدته ينظر إليها حتى تجاوزته، ثم ذهبت السوق الآخر ودخلت البيت فجاء الرجل ورأته مهموماً ضيق الصدر، فقالت له: مالك يا أبا فلان؟ فأبى أن يخبرها، فما زالت به حتى قال: رأيت امرأة فأعجبتني وتمنيت أن تكون لي، فقالت: هي والله أنا، وإنما عرفت ذلك من أمرك فأحببت ألا تغتر بكيد الشيطان. فكان لا ينظر بعد ذلك إلى النساء. وهذا أمر مشاهد بالعيان. فمن الناس من يكون هذا شأنه، يقول ابن الجوزي: كنت أسمع فلاناً -وسماه- الواعظ على المنبر يقول: والله لقد بكيت البارحة من يد نفسي. قال ابن الجوزي: فبقيت أتفكر. وأقول: أي شيء قد فعلت نفس هذا حتى يبكي؟ فهو رجل متنعم، له الجواري التركيات، وقد بلغني أنه تزوج في السر بجملة من النساء، ولا يطعم إلا الغاية من الدجاج والحلوى، والدجاج في ذلك الوقت يعتبر أفخر أنواع اللحوم، وله الدخل الكثير والمال الوافر والجاه العريض، والإفضال على الناس، وقد حصل طرفاً من العلم واستعبد كثيراً من العلماء بمعروفه، وراحته دائمة -وهذا الكلام لـ ابن الجوزي وكأني أحس أن الإمام ابن الجوزي رحمه الله غير راضٍ عن هذا الشخص- يقول: فما الذي يبكيه؟ فتفكرت في هذا فعلمت أن النفس لا تقف على حد، بل تروم من اللذات ما لا منتهى له، وكلما حصل لها غرض برد عندها وطلبت سواه، فيفنى العمر ويضعف البدن، ويقع النقص ويرق الجاه، ولا يحصل المراد؛ وليس في الدنيا أبلد -أي: أكثر بلادة- ممن يطلب النهاية في لذات الدنيا، وليست في الدنيا على الحقيقة لذة. فالسعيد من إذا حصلت له امرأة أو جارية فمال إليها ومالت إليه وعلم سترها ودينها؛ أن يعقد الخنصر على صحبتها، وأكثر أسباب دوام محبتها ألا يطلق بصره، فمتى أطلق بصره وأطمع نفسه في غيرها، فإن الطمع في الجديد ينغص الخلق، وينقص المخالطة، ويستر عيوب الخارج، فتميل النفس إلى المشاهد الغريب، ويتكدر العيش مع الحاضر القريب. والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين العِين موقوف على الخطر فمن الناس من هذا غاية همه ونهاية همته؛ فيطمع في الزوجة بعد الزوجة، والمرأة بعد المرأة، ومثل ذلك همم الدنيا وهي كثيرة؛ الأموال والمناصب والشهرة إلى غيره ذلك. لكن العاقل من يجعل همته في الآخرة، فإذا وصل إلى مستوى طمع إلى ما هو فوقه، فينظر إلى الصالحين والزهاد والعباد، ولذلك تجد كثيراً من الناس اليوم لو سألته: من تحب أن تكون مثله في الدنيا؟ لبحث عن أكثر الأثرياء والأغنياء، وقال: مثل فلان. لكن لو سألته في الدين والآخرة هل يقول: مثل فلان الزاهد، أو فلان المجاهد، أو فلان العابد، أو فلان العالم؟! قلَّ من يقول ذلك! بل تجده يقول: يكفيني أن أصلي الفروض الخمسة في المسجد، وعسى الله أن يعيننا عليها، وعسى أن نقوي أنفسنا عليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 زيادة العمر للمؤمن خير الإيحاء السابع: زيادة العمر للمؤمن خير. روى الترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه: {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من خير الناس؟ قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فمن شر الناس؟ قال: من طال عمره وساء عمله} قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وللحديث شواهد عن عبد الله بن بسر وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم أجمعين. فطول العمر للمؤمن خير، ويعجبني أن أنقل لكم كلمتين لإمامين في مسألة طول العمر. الكلمة الأولى: لـ ابن الجوزي رحمه الله يقول في كتاب صيد الخاطر (ص114) يقول: دعوت يوماً فقلت: اللهم بلغني آمالي من العلم والعمل، وأطل عمري لأبلغ ما أحب. قال فعارضني وسواس من إبليس، فقال: ثم ماذا؟ أليس الموت؟ فما الذي ينفع طول الحياة؟ فقلت له: يا أبله - ابن الجوزي يحاور إبليس وهو يعاتبه ويخاطبه ويوبخه- لو فهمت ما تحت دعائي وسؤالي لعلمت أنه ليس بعبث، أليس في كل يومٍ يزيد علمي ومعرفتي، فتكثر ثمار غرسي يوم حصادي؟ أفيسرني أنني مت منذ عشرين سنة؟ لا والله، لأني ما كنت أعرف الله تعالى معرفتي به اليوم، وكل ذلك ثمرة الحياة التي فيها اجتنيت أدلة الوحدانية، وارتقيت عن حضيض التقليد إلى يفاع البصيرة، واطلعت على علوم زاد بها فيها قدري، وتجوهرت بها نفسي، ثم زاد غرسي لآخرتي، وقويت تجارتي في انقاذ المباضعين من المتعلمين -أي: في الدعوة إلى الله، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور- فياليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه حاصل نفع ورفع. ما أجمل هذا الكلام! فإن بعض الناس من التزهد والتوعظ قد يقول لك: يا ليتني أموت الآن، فقد كثرت المعاصي وكذا وكذا، وهذا بسبب أنه لا يعلم خيراً، ولا ينفع الناس، لكن ابن الجوزي رحمه الله لأنه كان واعظاً، وربما تاب في مجلسه الواحد مائة وخمسون من العصاة، وأسلم على يديه مئات من أهل الذمة، وله أثر عظيم ملموس، لذلك كان يقول وينادي: يا ليتني قدرت على عمر نوح، فإن العلم كثير، وكلما حصل منه شيء نفع ورفع. أما الكلمة الأخرى فإنها كلمة لأحد الدعاة المهتدين المعاصرين، وهو الشيخ الأستاذ سيد قطب رحمه الله يقول في كتابه أفراح الروح؛ وهو كتاب لذيذ مفيد لو حفظ لم يكن هذا كثيراً عليه، يقول في (29) : لم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد أخذت من الحياة كثيراً -أعني: لقد أعطيت- ولقد عملت بقدر ما كنت مستطيعاً أن أعمل، وهناك أشياء كثيرة كنت أود أن أعملها، لو مدَّ لي في الحياة، لكن الحسرة لن تأكل قلبي إذا لم أستطع، إن الآخرين سوف يقومون بها، إنها لن تموت إذا كانت صالحة للبقاء، فأنا مطمئن إلى أن العناية التي تلحظ هذا الوجود لن تدع فطرة صالحة تموت -أي: الأفعال التي يريد أن يعملها ولم يستطع أن يعملها يقول: سوف يوفق الله من يعملها من بعدي- فلم أعد أفزع من الموت حتى لو جاء اللحظة، لقد حاولت أن أكون خيراً بقدر ما أستطيع، أما أخطائي وغلطاتي فأنا نادم عليها، وإني أكل أمرها إلى الله، وأرجو رحمته وعفوه. ثم يقول: -وأريد من الإخوة أن يبينوا لي ما رأيهم في هذه الكلمة-: أما عقابه فلست قلقاً من أجله، فأنا مطمئن إلى أنه عقاب حق وجزاء عدل، وقد تعودت أن أتحمل تبعة أعمالي خيراً كانت أو شراً، فليس يسوءني أن القى جزاء ما أخطأت حين يقوم الحساب. أما نحن فنقول: رحمه الله وغفر لنا وله. وأنا في رأيي أن هذه الكلمة -وإن كانت ولا شك صادرة عن شعور معين عند الرجل- لكن فيما يظهر من حقيقة معناها أنها ليست سليمة؛ لأن الواقع أن العبد ينبغي أن يخاف من ذنوبه، فكما أنه يرجو الله تعالى لأعماله الصالحة، كذلك يخاف من ذنوبه، وهذا هو منهج الأنبياء والمرسلين، قال الله عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . لكن الإنسان -أحياناً- قد يغيب عنه أحد هذه المعاني، فيدعو الله رغباً فحسب، أو رهباً فحسب، أو حباً فحسب، وهذا -لا شك- يعتبر نقصاً، والكمال ما كان عليه الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، فإنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعون الله تعالى رغباً ورهباً، أي: رغبةً فيما عنده. وخوفاً من عقابه، فينبغي للعاقل أن يخاف من ذنوبه، لأن الله تعالى لو عاقب الإنسان بذنوبه لأدخله ناره وحرمه من رحمته، لكن يستغفر الله ويسأله عز وجل من فضله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 فضل شهر الله المحرم أخيراً أيها الأحبة: هذا شهر الله المحرم، وهذه أول ليلة منه، وشهر الله المحرم هو أول السنة، وهو من الأشهر الحرم قال الله: {إِنّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36] . والأشهر الحرم الأربعة هي: محرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ولذلك تقول العرب: الأشهر الحرم أربعة، منها ثلاثة سرد وواحد فرد، أما الثلاثة السرد فهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وهي ثلاثة أشهر متوالية، وأما الفرد فهو: رجب، ولذلك يسمى رجب الفرد أحياناً؛ لأنه منفرد عن بقية الأشهر الحرم. ومن حكمة الله تعالى أن بدأ السنة الهجرية بشهر حرام، وهو محرم، وختمها بشهر حرام وهو ذو الحجة. والمحرم قال بعض العلماء: إنه أفضل الأشهر الحرم، قال الحسن البصري رحمه الله: [[إن الله افتتح السنة بشهر حرام، وهو المحرم، واختتمها بشهر حرم وهو: ذو الحجة، وإن أعظم شهر في السنة عند الله بعد رمضان شهر الله المحرم. وقد جاء اسمه هكذا في السنة شهر الله كما في صحيح مسلم وسنن النسائي: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه شهر الله الذي تدعونه المحرم} وإنما نُسب إلى الله تعالى تعظيماً له، كما يقال: بيت الله وناقة الله وما أشبه ذلك، فإنما نسبته إلى الله تعالى نسبة تشريف وتعظيم، فهو من أشرف الشهور وأفضلها وأعظمها عند الله تعالى. وكان يسمى الأصم، بل ورد هذا في حديث مرفوع لكنه مرسل عن الحسن البصري، وذلك لشدة تحريمه عند الله تعالى. وقد جاء في سنن النسائي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أي الليل خير؟ وأي الأشهر أفضل؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خيرُ الليل جوفه، وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم} فهذه من فضائل شهر المحرم]] . ومن فضائله: أنه يستحب فيه الصيام، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم} وليس المقصود أنه أفضل الصيام على الإطلاق، لكن صوم النفل على قسمين: القسم الأول: صوم نفل مقيد: مثل الست من شوال، وأيام البيض، وما أشبه ذلك، فهذا يكون أفضل من المحرم. القسم الثاني: نفل مطلق غير محدد، فهذا أفضله المحرم. مثل الصلوات، فهناك نوافل مقيدة، مثل الرواتب قبل الصلاة وبعدها، فهذه أفضل حتى من قيام الليل، وهناك نوافل مطلقة، كأن: تصلي بعد الظهر ما شاء الله لك، أو بعد المغرب تصلي ما شاء الله لك، فهذا قيام الليل أفضل منه، وهكذا الشأن في موضوع صيام شهر الله المحرم. ومما يستحب صيامه في محرم يوم عاشوراء: وهو اليوم العاشر؛ لأنه يومٌ نجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فرعون وقومه، والكلام في يوم عاشوراء يطول، لكن يوم عاشوراء كان يُصام في الجاهلية، وكان يوماً تكسى فيه الكعبة، وكانت اليهود أيضاً تصومه، ولما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، حتى جاء في الصحيحين من حديث الربيَّع وغيرها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً ينادي في القرى القريبة من المدينة: من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن كان صام فليصم فكانوا يُصَوِّمون صبيانهم، فإذا بكى أحدهم أعطوه اللعبة من العهن حتى يكون عند الإفطار} أي: يعطونه اللعبة يلعب بها ليصوم حتى الغروب. فأمر الناس بالصيام في ذلك اليوم، ولهذا ذهب جماعة من الفقهاء كـ أبي حنيفة وغيره إلى أن صيام يوم عاشوراء كان واجباً، فلما فرض رمضان أصبح سنة. ولا يزال جمهور العلماء يرون أن صيام يوم عاشوراء مستحب، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عاشوراء، فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله} . فيستحب للإنسان أن يصوم عاشوراء، وفي صحيح مسلم أيضاً: أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} فمات صلى الله عليه وسلم، فيستحب أن يصوم اليوم التاسع معه، ويكره بالصيام؛ لأن في ذلك مشابهة لليهود، بل يستحب أن يصوم الإنسان يوماً قبله، وإن صام يوماً قبله ويوماً بعده إفراده كما ذهب إلى هذا ابن القيم واعتبر أن هذا هو الأكمل كما في زاد المعاد، فلا حرج عليه، لكن هذا لم يرد فيه نص، وإنما يستحب أن تصوم التاسع والعاشر. وفي بعض الكتب يقولون: إن الحيوانات تصوم، ويذكرون أن واحداً فتَّ للنمل فما أكلت في يوم عاشوراء، وذكروا قصصاً، وهذه كلها تهاويل لا حقيقة لها، وهو باطل؛ لأن هذه الحيوانات لو كانت تصوم لكان أفضل لها أن تصوم رمضان، فرمضان أفضل من عاشوراء، ولعل هذا من اختلاق بعض أهل الكتاب، وتلقاه عنهم بعض المسلمين وذكروه في كتبهم، وهو مما ينبغي الإعراض عنه. كذلك من الأشياء التي ينبغي أن نتفطن لها في موضوع عاشوراء: أن فيه بدعاً يقع فيها بعض الناس؛ فبعض الناس يخصصون يوم عاشوراء بخصائص، فمنهم من يغتسل في يوم عاشرواء، ومنهم من يكتحل أو يتزين أو يختضب، وكل هذه الأشياء بدع ولا تنبغي، بل في هذا مضاهاة لليهود؛ لأنهم يعتبرون يوم عاشوراء يوم عيد، ولهذا نحن حين نصومه ونصوم يوماً قبله حققنا أمرين: أولاً: أنه ليس يوم عيد؛ لأن أيام العيد لا تصيام عندنا نحن المسلمين. ثانياً: أننا كذلك صمنا يوماً قبله لئلا نوافق اليهود في صيامهم. وكذلك من البدع العظيمة ما تفعله الرافضة في هذا اليوم، فإنهم في بلادهم كلها وفي الأماكن التي يوجدون فيها، يخرجون جماعات في الأسواق، ويعملون التمثيليات ويركبون الخيول والإبل، وينوحون ويصيحون، ثم يخلعون ملابسهم ويأتون بالسلاسل والسكاكين، فيضربون بها وجوههم وجنوبهم وظهورهم وتسيل الدماء ويسقط الجرحى والقتلى، ويعتبرون القتلى شهداء في هذا اليوم، حتى صنف بعض خبثائهم ومشعوذيهم كتاباً في شهداء يوم عاشوراء. وهذه من الألاعيب التي يلعب بها الشيطان على أتباعه ومريديه؛ حتى إنهم يصبحون أضحوكة للأطفال والصبيان والسفهاء، ومع الأسف الشديد أصبحوا في هذا العصر أضحوكة حتى للكفار، فقد بلغني في عام مضى أنه في التلفزيون البريطاني، عرضوا مشهداً مطولاً عما تفعله الشيعة في يوم عاشوراء، وأتوا بالدماء تسيل والجراح والسكاكين وهؤلاء يتساقطون، والذي يضرب بيده، والذي يضرب بنعله، والذي يضرب بسلسلة، والذي يضرب بأشياء تشمئز منها النفوس، ومع الأسف لا يقولون إن هؤلاء هم الرافضة أو الشيعة، بل يقولون: هؤلاء هم المسلمون، فيعطون صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله. اللهم اجعل هذا العام هالاً علينا بالأمن، وهذا الشهر هالاً علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام، والتوفيق فيما تحبه وترضاه، إنك على كل شيء قدير. اللهم اجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما نستدبر، ووفقنا ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى. اللهم اجعل هذا العقد عقد خيرٍ ونصر للإسلام والمسلمين، اللهم ارفع به كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، وارفع به التوحيد وأهله وأذل به الشرك وأهله، اللهم انصر به المجاهدين في كل مكان، وأقر أعيننا بنصر الإسلام والإيمان يا حي يا قيوم يا ديان إنك على كل شيء قدير. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 أنصفوا العمال أيضا ً تحدث الشيخ -حفظه الله تعالى- في هذا الدرس عن ظاهرة ظلم العمال المتفشية في دول الخليج وغيرها من الدول التي تكثر فيها العمالة من خارج البلدة، وقدم بأسباب الحديث عن هذا الموضوع، ثم ذكر الطرق الشرعية للتعامل والتوجيهات حول نفس الموضوع، ثم بين طائفة من مظاهر الظلم للعمال في المجتمع الخليجي، وفي نهاية الدرس سرد مشاركات أدبية (نثراً وشعراً) لبعض الأشخاص حول الموضوع، واستعرض بعض مواد نظام العمل والعمال السعودي، ثم أجاب على الأسئلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1 لكي نكون منصفين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا المجلس (78) في سلسلة الدروس العلمية العامة في ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر جمادى الأولى من سنة 1413 للهجرة، وأول عنوان أطرحه بين أيديكم (لكي نكون منصفين) . لقد قلت لكم بالأمس: (أنصفوا المرأة) وأنا اليوم أقول لكم: و (أنصفوا العمال) أيضاًًًًًً، وهذا هو عنوان حديثنا في هذه الليلة، وكما حاولت أمس أن أهدئ مشاعر الرجال بوعد مفتوح بدرس يكون عنوانه: أنصفوا الرجل؛ فإنني أحاول اليوم أيضاً أن أهدئ مشاعر أرباب العمل والكفلاء بأمرين: أولهما: أن أقول: إن ما سوف أذكره اليوم من مظالم حاقت بهؤلاء النفر الضعاف من العمال الذين لا يملكون حولاً ولا طولاً، وكثرت وانتشرت وذاعت وشاعت، إنها وإن كانت أمراً مشتهراً كثيراً إلا أنه ليس قاعدة مطردة، فنحن نعرف بين أرباب العمل والكفلاء من يتميزون بالصدق والإنصاف والإخلاص والعدل حتى إن أحدهم يعامل عماله ومن تحت يده كما يعامل أولاده. إذاً ما نقوله ليس قاعدة عامة، وليس اتهاماً لكل صاحب عمل، ولا لكل مالك مؤسسة، ولا لكل قائم على شركة، فإننا نعلم بين هؤلاء من يقوم بالحق والعدل والقسط، ولهؤلاء منا الدعاء ولهم من الله عز وجل الأجر والثواب بإذنه سبحانه، ولكنَّ حديثنا عن فئة خاصة، وطائفة معينة -وليست بالقليلة- من أولئك الذين يسومون عُمَّالهم سوء العذاب. وثانيهما: أن كلاً من الطرفين: العمال وأرباب العمل، يتحمل جزءاً من المسئولية، وكما أن للعامل حقوقاً يجب أن يأخذها، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وقد اعتبر الرسول صلى الله عليه وسلم العامل راعياً ومسئولاً عن رعيته وكما في الحديث الصحيح {ما من والٍ يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة} فالمحافظة على مواعيد العمل بإتقان ودقةٍ وانتظام هو من الواجبات على العامل، وقد يتأخر الكثير من العمال بعذرٍ أو بغير عذرٍ عن أداء عمله في الوقت المحدد وعلى الوجه المطلوب. والمحافظة على مال الغير كفيلاً كان أو رب عمل أو غيرهما هو ضرورة أيضاً وواجب وهو جزء من الأمانة في عنق العامل، قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك} والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه أبو داود وغيرهما عن أبي هريرة وهو حديث صحيح، وفي الباب عن أنس وأبي أمامة وأبي بن كعب وغيرهم، فلا يجوز أن تأخذ مال الغير ظلماً أو سرقةً أو اختلاساً أو غصباً، ولا حتى يجوز عند طائفة من أهل العلم أن تأخذ ماله وأنت تقول: إنه ظلمني وأنا آخذ بعض حقي منه وقد ظفرت به؛ فإن من أهل العلم من لا يجيز ذلك قط، ومنهم من يحمل الحديث على الاستحباب ألا تأخذ مال الكفيل، ولو كان ظالماً لك معتدياً على حقك. وقد يحافظ العامل أحياناً على الوقت المحدد للعمل، ولكنه لا يقوم بالواجب المنوط به ولا يؤديه على الكفاية وهو يعلم في قرارة نفسه أنه يستطيع أن يقوم بالعمل بصورة أفضل، وأن ينجزه بطريقة أحسن مما فعل لو أنه استشغر المسئولية وستحضر الإخلاص لله تعالى، وقد روى البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} إنه ليس من الإتقان، ولا من المسؤولية في شيء أن يقدم الإنسان نفسه للآخرين على أنه يحسن كل عمل، ويجيد كل فن ولا يعتذر عن شيء، ولكنه لا يحسن شيئاً قط. كما إنه ليس من القيام بالمسؤولية أن يحضر العامل في الوقت المحدد، ويورَّي بالقليل من الأعمال، فإذا جاء الكفيل تظاهر بأنه منهمك في العمل، مخلص فيه، فإذا أعرض عنه عاد إلى الدعة والراحة والسكون، فإن خصمه حينئذٍ هو الله عز وجل وليس خصمه الكفيل الذي يحضر ويغيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2 دافع الحديث عن العمال قد يقول قائلٌ: هل انتهت قضايا المسلمين ومشاكلهم وأحداثهم على المستوى العالمي والإسلامي والعربي والمحلي حتى لم يبق إلا قضية العمال لتتحدث عنها! فأقول: إن عذري وشفيعي في حديثي في هذا الموضوع عدة أسباب لعلك أن تسمعها فتقتنع بها: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 ضعف العامل السبب الرابع: أن العامل في موضع الضعف بطبيعته وحكم موقعه، وهذا يجعله عرضةً للظلم والاضطهاد من الكثيرين الذين لا يحترمون إلا منطق القوة، فالكفيل قد يظلمه، والمدير قد يبخس حقه، وصاحب العمل قد يحتقره ويوبخه ويعاتبه، والمواطن العادي لا يلتفت إليه، وينسى هؤلاء جميعاً أن هذا الرجل قد يكون مسلماًٍ صالحاً له عند الله تعالى منزلةٌ عظيمة. وليست العبرة عند الله تعالى بحسن البزة، ولا برفعة المنصب، بل بحال المضغة التي إذا أصلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله تعالى لأبره} . إن الضعفاء هم أتباع الأنبياء، قالوا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27] وفي صحيح البخاري من حديث ابن عباس {أن أبا سفيان سأله هرقل: فأشراف الناس يتبعونه -يعني يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم- أم ضعفاء الناس هم قال بل ضعفاؤهم، قال: وكذلك الأنبياء يتبعهم ضعفاء الناس} . بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقال له الأكابر أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة والملأ المستكبرون قالوا له: كذبت إن هذا لشيء يراد، وقاله له الفقراء والضعفاء والشباب وغيرهم صدقت وآمنوا به وصدقوه واتبعوا النور الذي أنزل معه. فإن كنت رجلاً مؤمناً فلا تحتقرن أحداً، ولو كان بأسمال بالية، ولو كان على وجهه ويده أثر العمل، ولو كان لا ينطق ولا يبين، وتواضع لرب العالمين. ولأن هذا العامل ضعيف لا يملك القدرة على رفع الظلم عن نفسه، ولا يجد من يدافع عنه إلا احتساباً، كان واجباً علينا جميعاً أن ننتدب للمدافعة عن المظلومين. وما إن أعلنت هذا الدرس حتى انهالت عليَّ الأوراق والشكاوى والوثائق تدل على أن عدداً كبيراً من هؤلاء يسامون سوء العذاب، ولا يجدون الجهة التي يشتكون إليها، لأن صاحب العمل قد أتقن اللعبة، وحبك المؤامرة، ونظَّم الخيوط كما سوف يبين لك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 إمكانية دعوتهم للخير السبب الثالث: أن وجود هذا العدد الضخم كان من الممكن توظيفه بصورة سليمة لو أننا أفلحنا ونجحنا، فكان من الممكن إعطاء هؤلاء القادمين صورة واقعية جميلة عن المجتمع المسلم العادل النظيف، لكن المؤسف أن معظم هؤلاء يرجعون بانطباعٍ سيء عن هذه البلاد وأهلها، بل إن أي بلدٍ يلقون فيه الإهانة والإذلال سوف يرجعون عنه بالانطباع ذاته، وكيف تظن بعامل كلف بما لا يطيق، وعومل بصورة شرسة لا إنسانية، وعُدِّل العقد معه بعدما وصل إلى هذه البلاد، وأسكن في زرايب لا تصلح لسكنة، الدجاج فضلاً عن الحيوانات، وأخر راتبه شهوراً بل سنوات، ثم سُفِّر على حسابه الخاص، فرجع يجر أذيال الخيبة. ثم هذا الإنسان لم يواجه من الكثير فحسب، بل واجه من المجتمع كله النظرة المحتقرة، وعدم الاحترام، وعدم التجاوب، وعدم الاهتمام به، وكأننا نتصور أحياناً أن هؤلاء العمال ليسوا داخلين في البشر الذين يشرع الإحسان إليهم، ولو بلقمة العيش، أو بأن تحمله على سيارتك، فإن لم تطق فلو بكلمة طيبة. أم ماذا تقول عن خادمة سيمت سوء العذاب من ربة المنزل، واقتطع جزء من راتبها، وأهينت في المطار ذاهبة وآيبة، ثم أعيدت إلى أهلها قبل تمام مدة العقد وفي بطنها جنين يتحرك من غير الحلال. نعم لقد قرأت هذا في صحف طبعت في إندونيسيا، وفي الفلبين وفي تايلند، وهي تشير بأصابع الاتهام والسب والشتم إلى بلاد طهرها الله تعالى وقدسها وباركها، وفضلها وأغناها، وجعلها قبلة المسلمين ومنطلق الرسالة والوحي، تشير بالحق لا بالباطل، وبالوثائق لا بالاتهامات المبهمة. وكيف تتوقع لو أننا استفدنا من هذا القادم المسلم، فربيناه تربية إسلامية، وثقفناه ثقافة شرعية، وغرسنا في قلبه عقيدة التوحيد، وغرسنا في شخصيته أخلاق الإسلام، وعلمناه أحكام الشرع في العبادات والمعاملات وسائر شئون الحياة. إذاً لعاد هذا العامل إلى بلده يحمل المنهج السليم، ويبلغه لمن وراءه وكان داعية خير وعدلٍ وصلاح، وكان من الممكن أيضاً أن يستفاد من ذلك العامل الكافر مادمنا قد بلينا به، ومادمنا خالفنا فيه أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي نهى عن استعمالهم واستقدامهم وإسكانهم هنا، لكن مادام الأمر قد وقع؛ فكان من الممكن دعوتهم إلى الإسلام بالقول وبالفعل وتهيئة الأسباب لذلك من الأشرطة المسموعة بلغتهم، والمرئية بلغتهم أيضاً، والكتب، والنشرات، والمطويات، والندوات، والدروس، والجمعيات، والمراكز، والمكاتب التي تهتم بأمر هؤلاء من غير المسلمين؛ ولاشك أن شيئاً من ذلك يحدث، ولكن ليس هذا موضع دراسة مدى نجاح هذه التجربة أو فشلها، إنما لا نشك أن ما يقع هو أقل من المطلوب بكثير. إننا نعلم أن المسلمين ينصرون، وقبل أيام قرأت خبراً أن أربعة آلاف مسلم عراقي تنصروا على يد منظمات الإغاثة التي تحمل الإنجيل بيد وتحمل الغذاء والدواء والكساء باليد الأخرى، أتدري في أي دولة تنصروا؟ إنني لا أقول لك: في فرنسا ولا في أمريكا ولا في إيطاليا؛ وإنما في بلاد الشام في سوريا، تنصر أربعة آلاف عراقي على يد جمعيات الإغاثة النصرانية، فهذا العدد الكثير موجودين في بلادنا، وقد ذكرت في إحصائية سابقة أن عددهم يزيد على ثلاثمائة وخمسين ألفاً!!! أين المكاتب التي تسعى إلى دعوتهم إلى الإسلام؟ أين الجهود؟ فعلى الأقل إن لم نفلح في دعوتهم إلى الإسلام نشككهم في دينهم أو على أقل تقدير ليضعف حماسهم لعقيدتهم، وربما يشك اليوم ويسلم غداً أو بعد غد، المهم السهم الذي لا يقتل فإنه يصيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 كثرة العمال السبب الثاني: أن العمال اليوم في بلاد الإسلام كلها عددٌ غير قليل وفي بلاد الخليج بصفة خاصة يصدق على حالها قول المتنبي عن شعب بواد: ملاعب جلة لو سار فيها سليمان لسار بترجمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان وهنا في هذه البلاد يقول الكتاب الثانوي الإحصائي لوزارة المالية والاقتصاد الوطني لعام (1410هـ) يقول ما يلي: إن عدد الإقامات الممنوحة من الجوازات في جميع المناطق عام (1406هـ) هو (563. 747) خمسمائة وثلاث وستون ألف وسبعمائة وسبع وأربعون، أي أكثر من (560) ألف إقامة (خمسمائة وستون ألف) إقامة. أما في عام (1410هـ) وبعد أربع سنوات فقد قفز العدد على رغم الظروف قفز إلى (705. 679) إقامة أفلا تعتقد أن سبعمائة وخمس آلاف أو جزءً كبيراً من هذا العدد أنهم جديرين بأن يتحدث الإنسان عنهم، إن من بين هؤلاء خمسمائة وست وأربعون أو ست وسبعون ألف رجل، أما البقية فمن النساء. فمثل هذا العدد الضخم الذي يقارب المليون -هذا قبل ثلاث سنوات- وربما وصل الآن إلى أكثر من ذلك، إن مثل هذا العدد يشكل جزءاً كبيراً في المجتمع، ويؤثر فيه تأثيراً بليغاً في أداء المجتمع وأخلاقه وأعماله ومستوياته ولابد أن يحظى بحديثٍ عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 نصرة المظلوم أولها: إنها من أعظم القضايا على كافة الأصعدة على المستوى الدولي والإسلامي والمحلي، وواجبنا جميعاً أن نقف في صف المظلوم لإنصافه ممن ظلمه بكل وسيلة نستطيعها، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] على أحد الأوجه في تفسير الآية فإذا لم نستطع أن نقاتل في سبيل الله لحماية المستضعفين، فلا أقل من كلمة حق وعدلٍ يقولها الإنسان ينصف بها مظلوماً. فواجبنا جميعاً أهل الإسلام أن نتمثل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعيننا وهو حديث رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضى الله عنه قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع: بعيادة المريض، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصرة المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام} . الأمة يجب أن تقدم نفسها نصيراً للمظلومين ومدافعاً عن حقوقهم حتى ولو كانوا في أرضٍ غير أرضها، وفي بلادٍ غير بلادها، ولو كان الذي يمارس الظلم معهم من جنس آخر، أو دين آخر، أو نحلة أخرى، فكيف وقد أصبح الظلم اليوم قائماً في الأمة نفسها، تمارسه وترضى به وتقره، وربما سمعنا -مع الأسف الشديد- اليوم أصواتاً منكرة غريبة غربية وشرقية تنتقد انتهاكات حقوق العمال في هذه البلاد، وفي بلاد أخرى, وتعلن أنها المدافع عن حقوقهم وتناديهم باسم النصرانية ليرفضوا هذا الظلم الذي يقع عليهم من المسلمين. إنها المرتبة التي فرطنا فيها وتخلينا عنها يوم رضينا أن ننشغل بأمورنا الخاصة، وتركنا للكافر أن يتظاهر بالعدل، وأن يقدم نفسه مدافعاً عن حقوق المستضعفين، فهذا سبب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 الطريقة الشرعية للتعامل مع العمال ثالثاً: المنهج الشرعي، خرج موسى عليه الصلاة والسلام خائفاً يترقب قال: {عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ} [القصص:22-23] بعيدتان؛ لأنهما عفيفتان طيبتان من بيت نبوة وخير وصلاح، فلا تختلطان بالرجال ولا تقتربان منهم، فتعجب موسى وهو الفتى القوي، فسألهما عن حالهما: {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23] إذاً ما جئنا هنا إلا للضرورة لأن أبانا لا يستطيع أن يقوم بالسقي ولا بالرعي، ولذلك نقوم بهذا العمل في جو من الحشمة والبعد عن الرجال {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] وأخيراً تذهب الفتاتان إلى أبيهما، فتقولان: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] . فها هنا الصفات المطلوبة في العامل: القوة لئلا يعجز عما وكل إليه، والأمانة لئلا يخون أو يغش، فضلاً عن الشهامة والرجولة والمروءة التي بدت على سيما موسى عليه السلام وخلقه ورفقة بالضعيف والمسكين والمحتاج، وعفافه وبعده عن النظر إلى ما لا يحل له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 الفوائد المستقاة من توجيهاته عليه الصلاة والسلام إنه نظام شامل وإنها أحاديث أبلغ من أي تعبير، وأقوى من كل كلام، فبأي حديث بعد كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنون أو يتعظون. لقد بينت هذه الآيات وتلك الأحاديث كل شيء: أولاً: بينت الحقوق للعامل سواء كانت حقوقاً شخصية تتعلق بلباسه، وطعامه، وشرابه، ومسكنه، وغذائه، وعلاجه، أو كانت حقوقاً معنوية تتعلق باحترامه وتكريمه وتقديره وعدم سبه أو شتمه أو السخرية منه. ثانياً: بينت أصول العمل، في قيام العامل بما يستطيع وعدم تكليفه بما لا يطيق أو ما لا يستطيع. ثالثاً: حددت العقوبات، ومتى تستخدم، وفي حق من، ومن هو الذي يستخدم العقوبة ويقرها. رابعاً: بينت التعويضات التي تكون للعامل على أي تقصير يبدر في حقه، وكل ذلك مربوط محفوف بالخوف من الله عز وجل ومراقبته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي مسعود: {اعلم أن الله أقدر عليك منك عليه} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 توجيه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حول تعاملهم مع العمال وفي المجتمع الإسلامي الأول في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك أرباب المزارع والأعمال، وكان هناك من يأجرون على أمور محددة لقاء أجر معلوم، فضلاً عن العبيد والأرقاء الذين قلما يخلو منهم بيت أو منزل، فكيف ترى الحال في ذلك المجتمع؟ وبدون أن أسترسل سوف أقرأ عليك مجرد نماذج من ذلك الحديث، في باب صحبة المماليك من كتاب الإيمان والنذور في صحيح مسلم تقرأ الأحاديث التالية: 1- عن ابن عمر رضى الله عنه وقد أعتق مملوكاً، فأخذ من الأرض عوداً أو شيئاً فقال ما فيه من الأجر ما يساوي هذا، إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من لطم مملوكاً أو ضربه فكفارته أن يعتقه} 2- وعن ابن عمر أيضاً: [[أنه دعا بغلام له؛ فرأى بظهره أثراً- أي أن ابن عمر ضربه رضى الله عنه فرأى بظهر الغلام أثراً -فقال له أوجعتك قال: لا، قال: فأنت عتيق]] . 3- عن معاوية بن سويد قال: لطمت مولى لي فهربت، ثم جئت قبيل الظهر فصليت مع أبي فدعاه ودعاني -محكمة- ثم قال امتثل منه، قال: فعفى -خذ حقك، قال سامحتك، ثم قال له أبوه له يعلمه، قال: كنا بني مقرنٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة ليس لنا إلا خادمة واحدة فلطمها أحدنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {أعتقوها، قالوا: يا رسول الله! ليس لهم مملوك ولا خادم غيرها، قال: فليستخدموها، فإذا استغنوا عنها فليخلوا سبيلها} . 4- عن أبي مسعود رضى الله عنه قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً من خلفي: اعلم أبا مسعود، اعلم أبا مسعود، قال: فلم أفهم الصوت من شدة الغضب، قال: فلما دنى مني إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود اعلم أبا مسعود، فألقيت السوط من يدي، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم قال: فسقط السوط من يدي من هيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام، قال: فقلت: والله لا أضرب مملوكاً بعده أبداً، وفي رواية أخرى في صحيح مسلم قلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله -قال عليه السلام: أما إنك لو لم تفعل للفحتك النار أو لمستك النار} . 5- عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قذف مملوكه بالزنا؛ يقام عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال} إذاً كل حق لا يؤخذ منك في هذه الدنيا يستوفى منك في الآخرة. 6- عن المعرور بن سويد قال: {مررت بـ أبي ذر بالربذة وعليه بردٌ وعلى غلامه مثله، فقلت: يا أبا ذر لو جمعت بينهما فكانت حلة عليك -لو لبستهما معاً لكانت حلة، إزار ورداء- فقال أبو ذر رضي الله عنه: إنه كان بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيَّرتُه بأمه، فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أبا ذر! إنك امرؤ فيك جاهلية، قلت: يا رسول الله! من سب الرجال سبوا أباه وسبوا أمه، قال: إنك امرؤ فيك جاهلية، هم إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم فأطعموهم مما تأكلون، وألبسوهم مما تلبسون، ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم} . 7- عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا صنع لأحدكم خادمه طعامه ثم جاءه به، وقد ولي حره ودخانه فليقعده معه فليأكل، فإن كان الطعام مشفوهاً -أي قليلاً- فليضع في يده منه أكلة أو أكلتين} يعني: لقمة أو لقمتين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 عمل موسى عليه السلام في مدين هذا الرجل صاحب العمل يخاطب موسى وقد جاءه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] . فأولاً حدد له قيمة الأجرة قبل أن يطلب منه العمل، الأجرة ما هي؟ إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين، أما العمل فهو أن تأجرني ثماني حجج -ثماني سنوات- فإن أتممت عشراً فمن عندك. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] هذا هو العقد الكامل، العمل بالرعي والسقي معروف واضح، والأجرة هي الزواج من إحدى هاتين الفتاتين، المدة ثمان سنوات إلزامية، وسنتان اختيارية ليس فيهما إلزام. أما رب العمل فهذه صفاته: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] لا يشق على العامل، ولا يحمل عليه ما لا يطيق ولا يعنته ولا يكلفه يكلفه، فليس في العمل أعباء يعجز عن حملها ولا مسؤوليات يضعف عنها، ثم: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] في أخلاقه، في معاملته، في رفقه، في حلمه، في تعليمه له، إن صحبة الصالحين سبب للصلاح والفلاح، وافق موسى عليه السلام وأعلن ذلك، قال: {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] . وهاهنا يظهر التراضي التام بين الطرفين والاتفاق على شروط العمل، ثم قال موسى عليه السلام: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص:28] إنها كلمة عظيمة الدلالة تؤكد أن الحقوق لا تضمن أبداً من خلال منظمات حقوق الإنسان، ولا من خلال مكاتب العمل، ولا حتى من خلال المحاكم، حقوقية كانت أم شرعية فحسب، وإنما تضمن الحقوق أولاً من خلال الضمير الحي الذي يراقب الله عز وجل، ويعلم أنه موقوف بين يديه، قال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص:29] . سبحان الله! أرأيت كم بين العقد وبين انتهائه من المسافة، إنها بضع آيات ذلك بيني وبينك فلما قضى موسى الأجل، بل آية واحدة، عشر سنوات قضاها موسى، فقد قضى أطول الأجلين، لأنه رجل كريم جواد معطاء فقد رضي أن يشتغل عشر سنوات، انتهت بهذه السرعة بدون مشكلات ولا صعوبات ولا تأخير في العمل، ولا مماطلة في الأجرة، كل ذلك لم يكن بل قضى الأجل وسار بأهله، زوجته التي كانت هي التي وقع عليها الاختيار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 من ألوان ظلم العمال خامساً: ألوان من الظلم: إن الظلم الذي يحيق بالعمال اليوم ضخم عظيم، ولو أنني ذكرت لكم قصة واحدة من قصص العمال لتعجبتم من ذلك، فكيف إذا تصورنا هذا العدد الكبير الذي يزيد على نصف مليون إنسان، وكثيرٌ منهم يواجهون في مقر عملهم أو إقامتهم ألواناً من الظلم لا يرضى الله تعالى عنها أبداً، من ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 منع العامل من جلب زوجه ومن صور الظلم منعهم من جلب زوجاتهم، فإنهم بشر مثلنا يحتاجون إلى هذه الأشياء، وقد يأتي الرجل منهم دون زوجته، أو تأتي المرأة دون زوجها، وأحياناً في جوٍ من الإثارة، فهو بائع في دكان -مثلاً- تتردد عليه النساء كاسيات عاريات في أحيان كثيرة، وقد يُغرى بما لا يحل، أو قد يكون هذا الرجل سائقاً، وربما يكون صاحب العمل متساهلاً مفرطاً يجعل أهل البيت نساءه وبناته يركبن مع هذا السائق هنا وهناك، وقد يكون العامل امرأةً في المنزل ترى في البيت أشياء كثيرة تثيرها وتحركها، وهؤلاء وأولئك لا يجدون الدافع الإيماني القوي الذي يحميهم ويردعهم، ولا يجدون التربية، ولا يجدون المراقبة -أيضاً- فيقع من جراء ذلك اتصالات كثيرة بين العمال وبين النساء العاملات في البيوت، ويقع من جراء ذلك معاصي ومفاسد ومنكرات وفواحش، يتقع بسبب ذلك أمور لا تحمد عقباها. ولو أن هؤلاء رشد استخدامهم أصلاً بحيث لا يستخدم أحد إلا وفق شروط ومعايير قوية وواضحة؛ واقتصرنا على الأقل على نصف هذا العدد، ثم أذنا لهم أن يستقدموا نساءهم لعملوا في جو آمن مريح هادئ، وضمنا بإذن الله تعالى تقلص نسب الفساد، شريطة أن تكون القادمة معه زوجته فعلاً، وليست -مثلاً- خدعة كما يرتكب في أحيان كثيرة، أنه قد يأتي بامرأة على أنها زوجته ويتبين بعد ذلك أنه لا علاقة له بها ألبتة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 زيادة العمل على العامل الصورة الثامنة: من صور الظلم هي مضاعفة العمل عليه، سواءً كان ذلك من نوع العمل، فقد يكون جاء معلماً، ولكن ظروف العمل جعلته يتحول بقدرة قادر إلى سباك أو كهربائي أو حمال أثقال أو أي شيء آخر دون اعتبار لكرامته ولا لشهادته ولا للعقد المتفق معه، ولا لشيء من ذلك، أو بما يتعلق بساعات العمل فقد جاء وقيل له: إن مدة العمل ثماني ساعات يومياً، وثمان وأربعون ساعة أسبوعياً، فلما جاء وجد أنه أحياناً يضطر حتى يبقى تحت وطأة التهديد بالتسفير والتهديد بتأخير الراتب، وغير ذلك أن يعمل أحياناً من طلوع الشمس إلى غروبها بل يعمل أحياناً إلى ساعات متأخرة من الليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 استغلال جهل العمال الصورة التاسعة: استغلال جهل العمال: حتى إن بعض هؤلاء يوقعون على أوراق بيضاء؛ فإذا أراد الكفيل شيئاً كتب في هذه الأوراق ما يشاء، وأول ما يأتي العامل يجعله يوقع على أوراق بيضاء، ثم يكتب فيها أحياناً نعم أنا قد استلمت من كفيلي مبلغاً وقدره كذا وكذا وهو راتب ثلاثة شهور أو عشرة شهور وأحياناً يقول: نعم أنا استلمت من كفيلي مبلغ عشرة آلاف ريال يستلمها مني ويأخذها من مرتبي، وفي حالة ثالثة يجعله يعترف ببعض الجرائم من أجل أن يقاضيه بها أمام الجهات والدوائر الرسمية سواء مكتب العمل أو المحاكم أو غيرها، وتلك الجهات الرسمية أحياناً تتعامل مع هذه الأوراق ولا تملك إزائها إلا أن تعتبرها؛ لأنها أوراق ثابتة مؤكدة موقع عليها، بل بعضهم يجعل عامله يوقع على استلام مبالغ كسلفة أو حقوق أو غير ذلك بالقوة، وإذا رفض فإنه يهدده بالتسفير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 تولية الكفار على المسلمين ومن صور الظلم أيضاً تولية غير المسلمين على المسلمين سواءً في شركات الصيانة والتشغيل والنظافة أو التطبيب أو غيرها، فإنهم يجعلون القائم والمسئول والمشرف في أحيان كثيرة غير مسلم فيسوم المسلم سوء العذاب ولا يراعي ظروفهم ولا يراعي وقت الصلاة، ولا يراعي أنهم صائمون في رمضان، بل يهينهم ويسيء إليهم ويُقدِّم عنهم تقاريراً سيئة، فيقدم على المسلم تقرير أنه غير ناجح في العمل، وأنه مشاغب، وأنه كسول، أما ذلك النصراني فيحظى منه بتلك التقادير الرفيعة والممتازة حتى ويرفع في العمل ويزداد راتبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 إحضار العمال بدون عمل الصورة السابعة من صور الظلم هي: إحضار العمال بدون عمل؛ فيحضر الواحد عشرة أو عشرين أو حتى عدداً بالمئات أو بالألوف -أحياناً بالنسبة للكبار- من العمال ويتركونهم بدون عمل وليبحثوا لأنفسهم عن عمل، ويسلموهم مقابل ذلك مبلغاً شهرياً، أما الكفيل فلا يدري في أي بلدٍ يقيمون، وأي عمل يزاولون وقد ترتب على ذلك مفاسد عظيمة جداً، منها: أولاً: تكدس أعداد كبيرة من العمال أكثر من الحاجة المطلوبة دون أن يكون هناك عمل يقومون به، وهذا لاشك له أضرار كبيرة جداً من الناحية الاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، في البلاد لو أن هناك من يلاحظ ذلك ويراقبه. ثانياً: عجز وفشل في الشركات والمؤسسات الكثيرة التي أصبحت تتاجر بجهد العمال وعرقهم ثم تشهر إفلاسها وتعلن عنه بعد ذلك. ثالثاً: هي الجرائم العظيمة والخطيرة لمثل هؤلاء، إن الكثيرين ممن يحضرون العمال ويفرضون عليهم نسبة معينة لا يراقبونهم، ولا يدرون أين يذهبون، ولا بماذا يتاجرون، فربما تحول العامل في كثير من الأحيان إلى تاجر مخدرات، لأن هذا أقرب طريق، ولأنه يضمن من ورائه أرباحاً طائلة، وتحوَّل آخرون إلى متاجرين بالرذيلة والفاحشة والفساد، وتحولت فئة ثالثة إلى قوم يتعاطون ويبيعون الأفلام المحرمة من أفلام السكس وغيرها؛ لأن هذه الأشياء أمور يستطيعون أن يقومون بها ويجدون من ورائها أرباحاً طائلة؛ وهم قومٌ مغفول عنهم لا يسألون أين راحو، ولا أين أتوا، ولا مما كسبوا، ثم إن من جراء ذلك: الحوادث والجرائم الضخمة العظيمة، وعلى سبيل المثال: في عام (1410هـ) ذكر الكتاب الإحصائي لوزارة الداخلية -وهو كتاب رسمي موثق- يتكلم عن الجرائم والحوادث المسجلة رسمياً، دعك من الأمور التي انتهت، ودعك من الذي لم يكشف، دعك من هذا كله اقتصر فقط على المعلن رسمياً من كتاب الإحصاء لوزارة الداخلية عام (1410هـ) يقول لك: إن الحوادث الجنائية (22952) حادثاً لهؤلاء الذين -اتهموا طبعاً بهذه الحوادث- من خارج البلاد تسعة الآلاف وستمائة إنسان (9600) هذا خلال عام واحد، وفي خلال حوادث معينة فقط وهي الحوادث الجنائية أيضاً، فما بالك بكل الجرائم، وما بالك بما لم يصل إلى المستوى الرسمي، وما بالك بما كان بعد ذلك في السنوات التالية. أما حوادث الانتقام والقتل فهي كثيرة، فكثيراً ما يعتدي العامل أو الخادمة أو المربية على أهل المنزل فيبيتهم ليلاً ويقتل منهم بسبب من الأسباب. وكذلك أيضاً حوادث السحر والشعوذة والكهانة وغير ذلك وقد انتشرت في البيوت وكثرت كثرةّ غريبة ملفتة للأنظار، وأدعو طلبة العلم والمهتمين بالأحوال الاجتماعية والخطباء إلى الانتباه والاهتمام لهذا الخطر الراهن، فقد علمت من خلال الأسئلة الكثيرة التي تصل إليَّ أن كثيراً من البيوت أصبح فيها مخاوف من السحر والشعوذة والكهانة وغير ذلك، وأصبح كثير من النساء تستخدم بعض العاملات الأجنبيات في مثل هذا العمل، وكثير من العمال أيضاً الذين لا يجدون عملاً يتاجرون بمثل هذه الأشياء. ومثله أيضاً الأعمال غير الأخلاقية التي يتورطون بها رجالاً أو نساء، وقد فتحت الصحافة المصرية بعد حرب الخليج ملفاً خطيراً للعمال المصريين في منطقة الخليج سمته: الرق المؤقت، وهذه الكلمة لها دلالتها على بعض الظلم الذي يقع فعلاً على العمال، والذي قد نظن أنه ينسى؛ ولكن الواقع أنه مكتوب محسوب لا أقصد في الدار الآخرة فهذا أمر معروف، ولكن حتى في هذه الدنيا فإن روائحه أصبحت تتكلم عنها الصحف العربية وغير العربية. إن الإنسان المسلم الذي جاء ثم لم يجد عملاً سوف يأخذ انطباعاً سيئاً عن هذه البلاد وأهلها، وسوف يرجع بصورة غير الصورة التي جاء بها. لقد جاء يتصور أنه قادم على أولاد الصحابة، وعلى الفضلاء النبلاء الأخيار الأتقياء الأبرار، فوجد أن الأمر بخلاف ذلك فرجع بغير الوجه الذي ذهب به، رجع يحمل انطباعاً سيئاً عن هذه البلاد وأهلها من خلال رب العمل والكفيل!! بل من خلال المجتمع الذي يعتبر في نظره متواطئاً على تلك الجريمة، أما غير المسلم فقد أكدَّت له تلك التصرفات والأعمال المعلومات التي كانت تقال له من قبل عن الإسلام والمسلمين، لقد عُثِّئ قبل أن يأتي عن صورة الإسلام وصورة المسلمين واضطهادهم وظلمهم وعدم إنسانيتهم وغير ذلك، فلما جاء رأى بعينه ما كان يقال له من قبل، فأصبح بالنسبة له عين اليقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 بيع التأشيرات الصورة الرابعة من صور الظلم: بل هي من المظالم الكبيرة، بيع التأشيرات والفيز، فقد أصبحت سلعة رابحة رائجة، وبعض أصحاب النفوذ، وبعض الذين يملكون الوساطات والشفاعات، أو الجاه، أو المسئولية، يستخرج الواحد منهم المئات بل الألوف من هذه التأشيرات ويبيعها بأثمان باهظة، خاصة إن كان هناك صعوبة بالنسبة لبعض البلاد، وقد رأينا في تلك البلاد أن بعض التأشيرات تباع بمئات الألوف. لقد أصبحت عملة ذات قيمة؛ يتم تداولها بين الأطراف المستفيدة، والذي لا شأن له ولا قيمة هو العامل، وهو الذي يدفع الثمن غالياً، يدفع الثمن من عرقه ومن دمه ومن دمعه، بل ويدفع الثمن أحياناً -والله- من دينه ومن شرفه، وفي معظم البلاد التي يتم فيها الاستخدام والاستقدام منها بكثرة، يوجد شركات يسمونها شركات، وقد رأينا هاهنا ووقفنا عليها، لها بيوت وأحواش واسعة تحشر فيها النساء اللاتي يراد استقدامهن، والرجال لزمن طويل في أوضاع مأساوية، ومهمة تلك الشركات امتصاص دماء الكادحين، تبيع التأشيرة بثمن باهظ لا يستطيع العامل أن يوفره إلا بعد أن ينسى بلده لسنوات وسنوات يجمع المبلغ، وربما باع العامل مزرعته وأرضه وعقاره ومتاعه وما يملك. المهم عند ذلك العامل المسكين أن يأتي، إلى الجنة الموعودة التي صُوِّرت له هنا، وليس في الدار الآخرة، ولا يحتاج هذا العامل المسكين ليكتشف الخدعة الكبيرة، والكذبة العظيمة؛ إلا إلى بضع ساعات يقضيها في الطائرة، وما أن تقع قدمه هنا حتى يفاجئ بالأمر العظيم الخطير. إن مسألة بيع التأشيرات من أخطر الأمور وقد علمت من خلال أسئلةٍ كثيرة، ومن خلال الأخبار وبعض القصص أن مثل هذه الأشياء أصبحت تباع بشكل كبير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 الاحتقار خامساً: الاحتقار والإهانة والسب والشتم وعدم مراعاة الحقوق المعنوية للعامل، فإن صاحب العامل؛ بل ومن يعملون عنده؛ بل وعامة الناس في كثيرٍ من الأحيان لا يرعوي أحدهم بأن يحتقر العامل، أو يسفهه، أو يسبه، أو يشتمه، أو يضربه، أو يهينه بألوان الإهانة، أو يستخدم معه أساليب اللف والدوران سواءً بالكلام أو بالقول أو بالفعل، باعتبار أن هذا العامل في نظرهم مخلوق من الدرجة الثانية أو الثالثة لأنه لا يملك مكتباً ضخماً -كما تملك أنت يا صاحب العمل- ولا سيارة فارهة، وليس له هنا أسرة ولا أولاد، حتى ردُّ السلام أحياناً نعتقد أنه ليس ممن يدخل فيه، أو ترد عليه السلام، وربما لو رأينا رجلاً يُسلم على هذا العامل -أحياناً- لدارينا ابتسامة في شفاهنا، يسلم على هذا العامل؟! أما المصافحة والبشاشة في وجوههم، وإدخال السرور على قلوبهم، والحديث معهم؛ فأعتقد أن الكثيرين منا يعتقدون أن هذا مما لا يليق أن يفعله الإنسان مع العامل. إذاً يعتقدُ الكثيرون أن النصوص الشرعية يُستثنى منها العمال، ولا أدري من أين جاء هذا الاستثناء الذي أصبح قاعدة مستقرة في قلوب وعقول الكثيرين، إن هذا ليس خاصاً برب العمل؛ بل هو عامٌ في المجتمع كله، وكلمة هندي -مثلاً- في دول الخليج كلها لها معنى خاص، ولها تداعيات معروفة، بل الذي يكره زوجته يناديها، ويقول لها: تعالي يا هندية، روحي يا هندية، يا أخي! الإسلام ليس فيه عربي وعجمي وهندي، وغير هندي، إنما فيه مسلم وكافر! {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره يحذره بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . مجتمع الإسلام الأول كان فيه محمد صلى الله عليه وسلم العربي، وأبو بكر العربي، وفيه بلال الحبشي، وفيه صهيب الرومي، وفيه سلمان الفارسي، وبناة الإسلام من القواد والفاتحين والعظماء والعلماء والدعاة كان فيهم من كل بلاد الدنيا دون استثناء، فلماذا التعيير بالجنسية، أو باللون، أو بطبيعة العمل، أو بأي شيء آخر؟! ولماذا تتخذ من ضعفه مجالاً لأن تمارس عليه ألوان التسلط والإذلال؟ يا أخي! يقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم: {اعلم يا فلان لله تعالى أقدر عليك من قدرتك أنت على هذا الغلام أو على هذا العامل} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 عدم توفير ضروريات الحياة سادساً: عدم توفير ضروريات الحياة، كيف يسكن هذا العامل؟ نعم! أنا أخبرك الخبر اليقين، يسكن أكثر من ستة وعشرين عاملاً في غرفة واحدة مساحتها (4×5) الأسرة عبارة عن طبقات بعضها فوق بعض؛ كأنها أدراج يضع العامل فيها نفسه ويصعد على السلم من أجل أن ينام في السرير الأعلى. أما التهوية فلا تهوية، أما الإنارة فهي عبارة عن أسلاك من الكهرباء في غاية الخطورة، وإذا جاءت الأمطار صارت عرضة للإصابات وغيرها، أما التدفئة أو التكييف في الشتاء والصيف، فهذا أمر قد انتهى منه والله المستعان، وصاحب العمل يقول: مسكين أنت تريد أيها العامل تدفئة تريد تهوية! أنا في بيتي لا يوجد مكيف، فكيف أستطيع أن أحضر لك ذلك. أما المرافق من دورات المياه فلا توجد أو توجد بصورة سيئة ورديئة. ثم ننتقل بعد ذلك إلى توفير الماء للشرب لا يوجد، الملابس قلما توجد، الطعام لا يوجد، العلاج لا يوجد. بل إن أحد الإخوة كتب إليّ ورقة يقول فيها: يجب ألَّا يمرض إلا إذا كان كفيله موجوداً وأذن له بذلك! هل سمعتم بهذا؟ نعم لأن المستوصفات لا تقبله في حالة مرضه إلا بشروط، الأول: وجود إقامة سارية المفعول وهذا لا غبار عليه، الثاني: وجود ورقة مختومة من الكفيل بالنسبة لمستوصفات الأحياء، أما المستشفيات فلا تستقبل أصلاً مراجعة من تسميهم بالأجانب، وأعتقد أن الأجانب ليسوا هم إخواننا المسلمون حتى لو كانوا من أي جنسية أو بلد، إنما الأجانب هم الكفار الذين في أحيان كثيرة يملكون من توفير ضروريات الحياة أكثر مما يملكه المسلم، ولعلي ذكرت لكم نماذج من هذا فيما مضى. ألم تعرف أن الأطباء أنفسهم في الغالب ينتمون إلى جنسيات شتى من غير هذه البلاد، فكيف ترى يحدث في مثل ذلك من الحزازات والأحقاد والبغضاء حينما يرى الطبيب مثل هذه المعاملة والتمييز والتفرقة، ويرى العامل أيضاً مثل ذلك!! إنها ضروريات الحياة التي لم نفلح في توفيرها لهؤلاء العمال الكادحين؛ بل لعلك تعجب أنه حتى الموت أحياناً تكتنفه بعض الصعوبات، نعم! العامل المسلم إذا مات قد يصعب دفنه بعد موته، أما قبل موته فربما يكون من الممكن أحياناً أن يدفن بركام المظالم التي يثقل بها كاهله، ربما جلس العامل المسلم الميت في الثلاجة ثلاثة أشهر أو أربعة اشهر، والكفيل متهاون بهذا الأمر، خاصة وأن الميت لا يمكن أن يؤدي أي خدمات، والقضية عندنا قضية مصالح دنيوية، والمستشفى لا يصرح بدفنه إلا بعد استكمال الإجراءات. لقد وقفت -أيها الإخوة- على الصورة المرسومة للسكن الذي يجب أن يعيش فيه العامل حسبما هو موجود في نظام العمل والعمال السعودي، فوجدت أمراً عجيباً. إن نظام العمل يقدم صورة للسكن لما قرأتها أقول لكم بصراحة: تمنيت أن يتاح لي سكنٌ تتوفر فيه تلك الشروط، (مساكن واسعة، ملاعب رياضية، مستوصفات، مدارس، أماكن ترفيه، أماكن علاج، تكييف، تهوية، تدفئة، مياه نقية، دورات مياه) إنها صورة تشبه الصورة التي رسمها أفلاطون لجمهوريته، لكن هذا هو المكتوب على الورق، أما المعروف على الطبيعة فإنه لا يحتاج الى بيان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 تغيير العقود الصورة الثالثة من صور الظلم: تغيير العقود بعد وصول العمال إلى مكان العمل، وكثيرٌ من العمال يوقعون على عقود وهناك أو تعرض عليهم أو يعرفونها، فإذا وصلوا إلى مكان العمل، غُيَّرت العقود بما يخدم صاحب العمل ويضر بالعامل، ووضع العامل بين أمرين أحلاهما مر، إما أن توافق على هذا العقد الجديد بما فيه من ظلم ونقص للراتب ومضاعفة لساعات العمل وتكاليف جديدة، وإما التسفير والعودة إلى بلدك، وبالتأكيد فإنه سيقبل وسيوافق مضطراً على هذا العقد الجديد. أيها الأحبة إن العامل يأتي إلى بلاد الثروة والنفط في بلاد الخليج خاصة؛ وفي تصوره أنه سوف يرفن فقره وفقر أبويه وأولاده في سنوات قليلة يقضيها هنا، وأنها كفيلة بأن تجعله يعيش في رغدٍ من العيش ما بقي، حتى إن بعضهم يدفع مئات الألوف من أجل تأشيرة يشتريها هناك، ويظن أنه سوف يسددها خلال فترة وجيزة، فإذا جاء فوجئ بالأمور على غير ما تصور وأن العقد المبرم الذي جاء بموجبه لابد أن يُغيَّر لصالح رب العمل، أيها الأخ، الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] وهذا عقد أبرمته مع إنسان. يا أخي! والله لو كان كافراً فربما يجوز ذلك هذا، فكيف وهو مسلم، (أوفوا بالعقود) والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم، أحدهم: رجل أعطى بي ثم غدر} لقد قطع هذا المسكين آلاف الكيلومترات بناءً على عقد معين، فلما جاء فوجئ بأمرٍ آخر لم يكن في حسابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 عدم دعوة العامل أولاً: ترك العامل جاهلاً لا يعرف دينه، وأي ظلم أظلم من أن تحرمه من سعادة الدنيا التي تكون بطاعة الله عز وجل، وأن تحرمه سعادة الآخرة بجنة الله تعالى التي ينالها بتقواه واتباع دينه وشرعه، إنه ليس من الشهامة أبداً أن تُعيِّر العامل بأن بلاده بلاد الشرك؛ ثم لا تعلمه أنت التوحيد، ولا أن تُعيِّره بأن في بلاده التبرج والسفور وتردي الأخلاق والانحلال وشيوع المنكرات، ثم تتركه دون رعاية أو عناية أو تربية أو مراقبة. لماذا لا تسأل عاملك عن الصلاة وأدائها كما شرع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وتعطيه فرصة القيام بها؟ لماذا لم تهيئ له فرصة العبادة كالصيام، والحج المفروض الذي تتحرق نفسه إليه، وإلى قراءة القرآن، وإلى غير ذلك من الأعمال الصالحة؛ مع أن هذا لن ينقص من عمله، بل سوف يزيده، وسيشعر بأن العلاقة بينك وبينه علاقة ود ومحبة وإخاء وحياء وسيضاعف من جهده ونشاطه؟! لماذا تترك العامل لعاداته الموروثة التي تلقاها في بيئته وأسرته أو تدعه لزملائه -زملاء العمل أو زملاء السكن- الذين هم مثله أو أقل أمنه، أو تتركه لأشرطة الفيديو يقتل بها وقت الفراغ وكل ما عملته أنك سهلت له مهمة الحصول على جهاز التلفاز وجهاز الفيديو، وشراء هذه الأشرطة أو حتى استقدامها عن طريق البريد الذي يسمح بألوان من الأشرطة للعمال وغيرهم حتى ولو كان فيها العري الكامل أحياناً وحتى لو كانت مما لا يسمح به في قوانين وزارة الإعلام؟!! أين المجهود الدعوي الذي تؤديه أنت مع عمالك؟ إنني أسألك سؤالاً: ألست تريد الدنيا، وتحب المال؟ لاشك أنك كذلك. سؤال آخر: ألست تثق بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً ويقيناً؟ قطعاً ويقيناً أنت تثق بأنك مسلم موحد، إذاً فاسمع يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان في قصة علي رضى الله عنه قال: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} حتى ولو كان عاملاً؟ نعم، حتى ولو كان جاهلاً؟ المهم أنه إنسان، خيرٌ لك من حمر النعم، خيرٌ لك من الذهب والفضة والدرهم والدينار والإبل التي كانت من أنفس وأعظم مقتنيات العرب وأموالهم، فأين أنت من هذا الخير الكثير. ومثل ذلك أيضاً تلك الخادمة أو الممرضة أو غيرها، لماذا لم نأمرها بالحجاب الشرعي؟ ونسترها ونصونها ونربيها على العفاف والبعد عن الرجال ومجانبتهم، والتحرز من الاحتكاك بهم أو مقابلتهم أو القيام على خدمتهم بأي وسيلة، هذا من أعظم الأمور والمسئوليات. وإنني بمناسبة الحديث عن موضوع دعوة العمال إلى الله عز وجل، وتربيتهم على الخير، وتعليمهم أمور الإسلام، أذكر ذلك التعميم القضائي الذي وزع على جميع المحاكم في (21/10/1411هـ) والذي يقول بما يتعلق بهذه الفقرة يقول التعميم: على كافة أصحاب الأعمال من شركات ومؤسسات وأفراد الذين تحت كفالتهم أيدٍ عاملة غير مسلمة؛ بوجوب العمل بكل الوسائل الممكنة لترغيبهم في الإسلام، وتمكين من يسلم منهم بإقامة شعائر الدين أسوة بإخوانهم المسلمين؛ وعدم التضييق عليهم، ومن يخالف ذلك من أصحاب الأعمال أو تابعيهم يحال إلى القضاء الشرعي لتقرير الجزاء الرادع في حقه، ويشار في التعميم إلى أن مراكز الدعوة والإرشاد هي الجهة المختصة لمتابعة ورعاية أحوال المسلمين الجدد، كما يشار فيه إلى حث أصحاب الأعمال على أن يكون مراقبو العمال والمسئولون المباشرون عنهم من المسلمين. نأمل اتخاذ الترتيب لإنفاذ ما يخص هذه الوزارة بما يتعلق بالتعميم المشار إليه، وللإحاطة واعتماد موجبه فيما يخصكم جرى تعميمه والله يحفظكم، التوقيع وكيل وزارة العدل: -سابقاً الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد حفظه الله تعالى. إن هذه فرصة أن يمكن العمال من الدعوة إلى الله تعالى، ويمكنون من القيام بشعائر الدين، بل وأن يكون القائمون عليهم من المسلمين؛ وأن من يعارض أحكام هذا التعميم يحال إلى القضاء الشرعي، ولدى المحاكم أوامر باستقبال كل قضية من هذا النوع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 انتقاص أجرة العامل الصورة الثانية: عدم إعطاء العامل أجرته أو راتبه الشهري أحياناً يتأخر إلى شهر أو شهرين، بل إلى ستة أشهر بل أحياناً يتأخر لسنوات، وقد حصل من شركات عدة، من بشركات الصيانة والنظافة والتشغيل وغيرها أن يوجد عندها مئات العمال يقيمون ربما ظلوا لسنوات معدودة لم يقبضوا قرشاً واحداً، مماطلة وتسويف وتلاعب وفي غفلة الرقيب، مع أن الكفيل في كثيرٍ من الأحيان يملك من أساليب الكيد ما يجعلهم لا يشتكون، فهو يهددهم بالتسفير إن اشتكوا، وقد يجعل بعضهم يوقعون أحياناً على استلام بعض المرتبات وهم لم يستلموها، ويوقعون لأنهم جهلة لا يعرفون، أو لأنهم جاءوا حديثاً ولا يدرون ما الخطب، أو لأنهم يخافون، ويقول: وقع وسوف يأتيك الراتب غداً، فيوقع العامل لأنه لا يريد أن يثير مشكلة مع كفيله من أول وهلة ويظن أن الأمر سوف يمضي بسلام. يا أخي! بئس الدرهم والدينار الذي يدخل جيبك من عرق هذا المسكين، واسمع هذا التهديد النبوي المخيف الذي رواه مسلم في صحيحه عن إياس بن ثعلبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من اقتطع حق امرئٍ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم الله عليه الجنة، وإن كان شيئاً يسيراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن كان قضيباً من أراك} ما يساوي ريالاً واحد، أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، إن عجز هذا العامل عن استيفاء حقه لا يُسَوِّغُ لك أبداً الاعتداء عليه، ولا تقول: هذا ضعيف لا يستطيع أن يطالب بحقه، ولا أن يصل إلى المحاكم، ولا إلى مكتب العمل، ولا إلى أين يذهب، لا تقل هذا لأنه ليس هو خصمك، بل أن خصمك هو الله، من يقل هذا؟ يقوله الرسول الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، يقول في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره} أي استوفى منه العمل ولم يعطه مقابله، فالله تعالى خصمك يوم القيامة. لقد استوفيت منه العمل أو بعض العمل، فلماذا لم يستوف منك الأجرة كلها أو جلها؟ ألم تعلم أن من أسباب البركة في مالك، والسعة في رزقك، ألَّا يدخله قرش ولا ريال من كد هذا العامل، ألا تعرف قصة الرجل الإسرائيلي {الذي عمل عنده عامل أحد الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار عمل عنده عامل، فذهب وترك أجرته، فنماها له، فأتاه بعد سنين، فقال: اتق الله وأعطني حقي، فقال: كل ما ترى من حقك فأخذ وادياً من الإبل ووادياً من البقر ووادياً من الغنم، حتى كان يقول: أتسخر بي! قال: إني لا أسخر بك، فاستاقه كله وما ترك منه شيئاً} . إنه عزل حقه ونصيبه ونماه له حتى أصبح هذا العدد الكبير من الشاة والبقر والإبل ثم أعطاه إياه، ولذلك بارك الله تعالى له في رزقه ووسع له في دنياه، ولذلك كشف الله تعالى عنه الشدائد فلما انطبقت عليهم الصخرة فسأل الله تعالى بهذا العمل الصالح زالت عنهم وخرجوا يمشون، فإذا كنت تريد أن يكون الله لك في شدائدك وكربك وأزماتك المالية وأزماتك الاقتصادية، بل ومصائبك في نفسك، وفي أهلك، وفي مالك، وفي ولدك، وأنت قادم على مصائب أعظمها مصيبة الموت، فإياك إياك أن يدخل جيبك قرش أو ريال بغير حق. وبعض أصحاب العمل يفرض على العامل نسبة معينة ثقيلة، فهو قد جاء به أنه سوف يعمل بشروط معينة لقاء راتب معين، ألف ريال مثلاً أو أقل أو أكثر، فإذا جاء قال له: لا، نغير العقد، المطلوب منك مثلاً أن تعطيني شهرياً مبلغ ألف ريال أو ألفين ريال أو ثمانمائة ريال، فما زاد فهو لك، فهذه النسبة أحياناً تكون نسبة ثقيلة لا يستطيع العامل أن يقوم بها، ولا أن يحققها، وما يسر له الكفيل شيئا، لا سكنناً، ولا سيارة، ولا عقود عمل، ولا مراقبة، ولا شيئاً، وإنما تركه يسيح في الأرض يبحث عن عمل، المهم أن يأتي بخراج شهري تأتي به إليه وهو ذلك المبلغ المعلوم، وبئس هذا المال أيضاً الذي جاء نتيجة كد هذا العامل وسرقة جهده، فماذا عملت أصلاً مقابل هذه النسبة التي تأخذها؟ ماذا وفرت له؟ نعم، أنا أعترف أن منهم من يحسن فيوفر للعامل سكناً ويوفر له سيارة وقد يوفر له عقود عمل أحياناً ويراقبه أيضاً، ويرفق به، وتكون النسبة المتفق عليها نسبة معقولة مرضية للعامل ومرضيه لصاحب العمل وليس فيها ظلم، ومثل هذا لا إشكال فيه، الإشكال هو في تلك النسب الباهظة العظيمة؛ مع الإهمال الكامل للعامل. وآخرون يقتطعون من راتب العامل شهرياً مبلغاً معيناً بعدما يستلمه أو يوقع على استلام المبلغ كله ويأخذون جزءاً منه، ويحتفظون بهذا؛ فإذا أرادوا أن يسفروه -مثلاً- سفروه على حسابه هو، مع أنهم ملتزمون أن يكون السفر على حسابهم. وبعضهم يبخسون العمال مرتباتهم؛ فيعطونهم راتباً لا يكفي لشيء، حتى إن بعض العمال يشتغل بثلاثمائة ريال شهرياً، وعنده هو أعمال يريد أن يقوم بها وهو يريد أن يجمع للزواج، ويريد أن يرسل لأبويه، وقد ترك وراءه أقارب كثيرين هناك بل ربما يكون متزوجاً وله أطفال، وربما كان هذا الرجل قد تحمَّل مبالغ ضخمة -كما سوف يأتي- من أجل أن يجيء إلى هذه البلاد؛ وأخيراً يكون مرتبه ثلاثمائة ريال أو أربعمائة ريال. بل أشد من ذلك أن بعض الناس قد يكون موظفاً في عمل، فيتفق مع عامل آخر على أن يقوم بالعمل بالنيابة عنه، ويكون الرجل الأصلي الذي العمل باسمه يستلم ألفي ريال مثلاً، يعطي للعامل منها الذي يقوم بالعمل فعلاً ويتعب ثلاثمائة ريال، ويضع في جيبه ألفاً وسبعمائة ريال مقابل أنه يوقع على الكشف في نهاية الشهر، ولاشك أن هذا المال حرام حرام حرام! شاء أم أبى واستفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك، ألف وسبعمائة ريال تأخذها من عرق وجهد هذا المسكين مقابل ماذا؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 مشاركات هناك نقطتان: النقطة الأولى: هذه مشاركة من أحد الإخوة بعنوان سباحة أو سياحة فكرية في عقل عامل نظافة، يقول: عندما ترى عامل النظافة في الأربعين عاماً ربما انزعجت من صوت عربته، وارتطام عجلاتها بحفر الأرض، وربما التفت إليه ناهراً، وربما يراه أحد الأطفال وهو ينظف الأرض وقصاصات الأوراق وقطع الخشب؛ فدفعته غريزة العناد إلى أن يمزق أوراقاً أو مناديل كانت مستقرة في جيبه، ليقوم هذا الذي يسميه: رفيق، بجمعها وهو ينظر بتلذذ، وربما كان عمر هذا الطفل ثمانية عشرة عاماً، نعم هو طفل ولكنه كبير، وربما لفت نظرك عناية هذا العامل بشعره؛ فهو يقوم عليه بالدهن والمشط والتصفيف يومياً، ألم يخطر ببالك أنه ربما كان هذا الفعل هو العمل الوحيد الذي يستشعر به بقاء ذاته ويبقي على كبرياء نفسه؟ عندما يرى في طريقه طفلاً صغيراً ربما انفلتت من عينه دمعه، إنه تذكَّر أبناءه الصغار الذين خلفهم في بلاده البعيدة منذ زمن طويل لا يراهم إلا في الأحلام، ولا يعرف من أخبارهم إلا ما تجود به الأيام من رسائل على مدد متباعدة طويلة، وعندما يرى جمعاً من الناس في مناسبة ما يجمح به الخيال بعيداً حيث أبواه وإخوانه وأقربائه وخلانه وهو يلتقي بهم ويتحدث إليهم، وربما لم يرده من شروده إلا صوت المراقب ينهره ويأمره بمواصلة العمل. عندما يدفع عربته التي باتت أقرب الناس إليه بين الشوارع، ويرى البيوت الشامخة المكللة بالمصابيح المختلفة ذات الأشكال الهندسية البديعة يستحضر في ذهنه كوخه المتهدم الذي يقطنه أولاده وزوجته وأبواه وإخوته. وعندما يبصر صاحب البيت وهو يوقف السيارة ليفرغ حمولتها من كل لون وجنس من المطعوم والمشروب يتلمظ ويسيل لعابه وهو يتذكر واقعه الذي فر منه، وكيف كان يجهد وراء لقمة العيش ويجلب الماء من النهر، وربما أدركت صاحبة البيت الرقة فنفحته ببرتقاله أو تفاحة أو جمعت بينهما فرفع يديه بالشكر والدعاء وأجهد مكنسته وهي كل ما يملك حول هذا البيت المنعم، وعندما يهب إلى مسكنه وهي الغرفة التي يشاركه فيها أربعة من زملائه يحس بالإرهاق بعد تعب النهار، فلا يجد ما يُسلِّيه إلا صوت المذياع وربما لم يعرف اللغة التي يتكلم بها المذيع، وربما أحس بمرض، أو أصيب بحادث، ووقتها شعر بوحشة الوحدة، ولسع الغربة، ولا أحد يخفف عنه، ولا أحد يؤنسه حتى ثقلت عليه الساعات وأظلمت في وجهه الأيام، وربما مات وحيداً غريباً، وبينما كان أولاده ينتظرونه ليزغردوا في وجه، وكانت زوجته تترقب وصوله لتطمئن على سلامته، وكان أبواه ينتظرانه ليساعدهما بماله الذي جمعه على علاج مرضهما؛ ففوجئ الجميع بجثمانه يصقع أبصارهم، فماتت البسمات على شفاههم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق37] وآخر شارك بقصيدة تُعبِّر وتحمل بعض هموم صاحب العمل، ولعلها موعظة لرب العمل قبل أن تكون حكاية لواقع، شارك أحد الإخوة بهذه القصيدة: اعلم هداك الله أن حياتنا لا تستديم لنا ولا تتخلد وأنا وأنت وكل حي نابغ تحت التراب مصيره سيمدد وهناك لا تحكي سوى أعمالنا كل صحيفته شراع مفرد فارجع وعدل ما استطعت فإننا ما بين غمضٍ ثم رمش نورد فالظلم ظلمات إذا بعث الورى وجوارح عند الإله ستشهد واحذر لمظلومٍ دعاءً صادقاً يدعو عليك وقلبه يتوقد ما بين دعوته وبين إلهه حجب تظلل أو صواعق ترعد حق الأجير معلق برقابكم ما ظل عرق لم يجف ويجحد فعلام تؤذينا بهظم حقوقنا ولكم بذلك واجبات تحمد سبع قضيناها بكل أمانةٍ ما زاد فيها الراتب المتجمد وتضاعفت أعباؤنا فحملتها ثقلاً على كتفي وما فترت يدي لكنني ما نلت أي مقابل معنى يكون لنا وشيء ينقد فظللت أستجدي لآخذ أجرتي حقاً تذللني به لا أبعد وتؤخر المصروف عن ميعاده ومعاشنا فيه ومنه المرقد ولأنني أنا قد طلبت إجازتي تقسو عليَّ وبالخروج تهددُ أتظن إن عدنا إلى أوطاننا سنموت جوعاً أو سيطفأ موقد الرزق عند الله وهو كفيلنا ما ظل نبض قلوبنا يتجدد ما لي أراك عدلت عن خلق الألى وخصال قومك أنت عنها تبعد فأبوك نجم في المروءة ساطع هش اللسان وفي المكارم فرقد نعم، هكذا كان أبوه، أما الولد فكما قيل: أرى ناراً قد انقلبت رمادا. جم التواضع لا يحقر غيره شهمٌ وعند الحق لا يتردد ملك القلوب بنيله ووفائه عدل وما لقضائه أبداً غدر ما غره مال ولا متقلب أفضاله في البر لا تتعدد فالله أسأله بحق صفاته صبراً على الدنيا به أتجلد ويرد مظلمتي غداً يا ذ ذاك يوم تقول ما فعل الغدُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 وقفة مع نظام العمل والعمال السعودي أما النقطة الأخيرة فهي وقفة مع نظام للعمل والعمال وهو نظام موجود ومطبوع، وهو المفروض نظاماً أن يكون العمل به، وقد قرأت عن هذا النظام وسجلت عليه بعض الملاحظات التالية، أقولها باختصار لأني أريد أن أقسم بعض الوقت أيضاً: أولاً: يبدو أن هذا النظام مستل في معظم مواده من قانون العمل المصري، وقانون العمل المصري مأخوذ بطبيعة الحال من القوانين الإنجليزية والفرنسية والأجنبية بشكل عام. ثانياً: يتكلم القانون الذي سُمي (تلطيفاً بنظام) يتكلم عن مسألة الأجانب، ولا أدري من المقصود بالأجانب. إن الأجانب في حصن المسلم هم الكفار، أما المسلم فهو أخونا، له ما لنا وعليه ما علينا بغض النظر عن بلده، أو لونه أو جنسيته أو دولته، إن هذا التعريف للأجنبي تعريف غريب؛ فالسعودي -مثلاً- هو المواطن أياً كان، لا يلتفت إلى أي شيء آخر، أما الأجنبي فهو غير السعودي أياً كان لونه أو دينه أو بلده أو عمله. ملاحظة أخرى يقول النظام: لا يجوز اتهام العامل في مخالفة مضى على كشفها أكثر من خمسة عشر يوماً كما أن في المادة رقم (126) وفي الشرح يقول: إن إيقاع الجزاء على العامل مقابل عقوبة أو خطأ وقع فيه لا يجوز بعد ثبوت المخالفة بأكثر من ثلاثين يوماً، إذا كان العامل يتقاضى راتباً شهرياً لشهر، أو خمسة عشر يوماً لغير هؤلاء، وهذه فيها نظر؛ لأن الحق لا يسقط لمضي خمس عشر يوماً، بل يؤخذ من صاحبه ولو مضى على ذلك ما مضى. في المادة (129) كلام جميل من الناحية النظرية: حالة صحية نظيفة لسكن العمال، حالة صحية نظيفة خالية من الروائح، تهوية للغرف، الوقاية من الغبار والدخان، الإنارة لابد أن تكون كافية، دورات المياه، المياة صالحة للشرب، مياه الغسيل … إلخ، لكن في الواقع العملي كما أسلفت، ما يدل على أننا بحاجة إلى رقابة جيدة على إسكانات العمال. أولئك الذين يملك الواحد منهم خمسين عاملاً أو أكثر نصت المادة (137) على ما يلي: لابد مع ما سبق من وجود: أولاً: حوانيت لبيع الحاجيات التي يحتاجون إليها. ثانياً: متنزهات وملاعب رياضية. ثالثاً: ترتيبات طبية مناسبة. رابعاً: مدارس لتعليم أولاد العمال. خامساً: برامج لمحو الأمية. سادساً: نظام للتعيينات والترقيات مناسب. وأقول: كلام جميل، إضافة إلى ذلك فهناك الإجازات المتنوعة للأعياد السنوية فضلاً عن النفقات والمصاريف وغيرها، إجازات -كما قلت- أعياد: عيد الأضحى، عيد الفطر العيد الوطني هذا فيه إجازة أيضاً، إجازة مرضية، إجازة الوضع بالنسبة للنساء ومدتها في اعتقادي حوالي سبعين يوماً، إضافة إلى ذلك كله النظام أعطى للعامل باليد الملىء من كل الجوانب، لكن هذه من الناحية النظرية لكن من الناحية العملية، فالأمر كما أشرت إليه. هناك قضية خطيرة تتعلق بتسوية الخلافات فيما يتعلق بالخلافات بين العمال أو بينهم وبين أرباب العمل، فهناك لجان، النوع الأول من اللجان تسمى: لجان ابتدائية، هذه في القضايا الصغيرة أو الجزئية أو المؤقتة، واختصاص هذه اللجان بعض الخصومات يرأسها حاكم شرعي ولابد أن يشارك فيها رجل حقوقي أو قانوني كما نصت المادة (173) . النوع الثاني: وهو الخطير: اللجنة العليا التي تعتبر مجالاً للاستئناف، وتسوي الخلافات الكبيرة، وتعتبر قضاياها نهائية، هذه اللجنة تؤلف من خمسة أعضاء، ثلاثة يمثلون وزارة العمل، والرابع وزارة التجارة، والخامس يمثل وزارة البترول، ويجب أن يكون رئيس اللجنة وأعضاءها من المتصفين بالحيدة والخبرة في الشئون الحقوقية. قال الشارح: الشئون القانونية كما نصت المادة (175) ولم يرد ذكر للشرع قط في هذه المادة. مهمة هذه اللجان العليا: أولاً: الاستئناف كما ذكرت. ثانياً: عقوبة من يخالف أحكام نظام العمل والعمال، أما إذا خالف الشريعة فلا عقوبة. ثالثاً: قرارات هذه اللجان قرارات نهائية واجبة التنفيذ فوراً. رابعاً: صلح هذه اللجان ملزم، فإذا صالحت بين طرفين فصلحها ملزم ولا يحق لأحد أن يعترض على ذلك. المادة (185) تقول: لا يجوز لأي لجنة من اللجان المنصوص عليها أن تمتنع عن إصدار قرارها بحجة عدم وجود نص في هذا النظام يمكن تطبيقه، يعني: لا ترفض النظر في قضية، وتقول: لا يوجد في نظام العمل السعودي نص يصلح لهذه الحالة، وعلى اللجان في هذه الحالة -يعني: في حالة عدم وجود نص في قانون العمل والعمال- عليها في هذه الحالة أن تستعين بماذا؟ مبادئ الشريعة الإسلامية والقواعد المحلية، وما استقرت عليه الثوابت القضائية، ومباديء الحق والعدل، وقواعد العدالة، وهذه كلها أشياء معروفة في القانون الدولي. في الفصل الثاني عشر هناك شيء اسمه العقوبات الجزائية، وهو يؤكد أن معظم أو كل العقوبات هي عبارة عن غرامات مالية، ثم كل التجريم الذي ينزل بالعامل يتعلق بمخالفته لنصوص نظام العمل والعمال. للمراجعة: راجع كتاب شرح نصوص نظام العمل والعمال، في المملكة العربية السعودية للمستشار يوسف عبد العزيز محمد عبد المجيد، طباعة الدار السعودية للنشر، الطبعة الأولى عام (1407هـ) . هناك أشياء لم تبرز في هذا النظام وقد سبق أن أصدر فضيلة الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله تعالى رسالة قيمة سماها " نقد نظام العمل والعمال " وتكلم فيها عن مخالفة هذا النظام للشريعة في التسوية بين المسلمين والكفار، بل في تفضيل الكفار على المسلمين في أشياء كثيرة في أمور الدية والأعمال والمرتبات وغيرها وإن كان هناك تعديلات فإنها لم تمس جوهر هذا النظام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 الأسئلة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 ذكر بعض المظالم السؤال يقول السائل: 1- لقد رغبت في نقل كفالة عامل ووافقت الجهات المختصة، ثم طلبت مني تنازلاً من الكفيل فوافق على التنازل بشرط أن يتنازل العامل عن جميع الرواتب الباقية وعددها ثمانية أشهر فرفض العامل ذلك ومن حقه أن يرفض. إن في هذا أكلاً لحقوق العمال وأجرتهم متأخرة لها. هذا نموذج قد ذكرناه قبل قليل. 2- عدم الاهتمام بسكن العمال حيث أني قد رأيت عاملاً أجبره الكفيل على أن يضع سريراً له عند الأغنام من أجل الحراسة. 3- وضع بعض الكفلاء العمال في مسكن واحد وقد يكونون على ديانات مختلفة. هذا أيضاً من الأخطاء. 4- عدم توفير متطلبات العمال الضرورية مثل الأكل والتكييف والسخانة والملابس وغيرها. الجواب نعم وقد ذكر لي وأرسل لي عدد من الإخوة قصصاً طويلة تمنيت أن أذكرها لولا ضيق الوقت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 عدم اهتمام العمال بالصلاة السؤال بعض العمال لا يهتمون بالصلاة المفروضة فضلاً عن غيرها، وإذا سألته قال: ذكر أنه يتساهل ويقول: أنا أعمل إلى أكثر من ذلك؟ الجواب هذه أولاً مسئوليته لأنه بشر مكلف. ثانياً: مسئولية صاحب العمل أن عليه أن يعلمه ويرشده بالخير والمعروف وينهاه عن المنكر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 من أنواع ظلم العمال السؤال كنت في أحد المدارس وكان عندنا أحد العمال من بنجلاديش وهو مسلم، وفي يوم وجدناه يبكي بكاء مراً تكسرت له قلوبنا وبعد سؤالي عن السبب قال: إن صاحب المؤسسات لما طلبت منه مرتباتي أو مبلغاً من المال لآكل منه أو أتعيش لأنني في بلدة صحراوية تبعد عن الإسفلت خمسة عشر كيلو متراً، قال لي: كل من التراب. فما رأيكم بهذه المعاملة من صاحب المؤسسة المسلم. الجواب هذا يلقى جزاءه عند الله تعالى بل يلقى جزاءه في الدنيا والله لا يوفق مثل هذا أبداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 أمر العامل بحلق اللحية السؤال ما رأيك فيمن يقول لعامله احلق لحيتك؟ الجواب هذا من باب الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ولا يقوله إنسان يخاف الله تعالى، بل عليه أن يأمره بالمعروف ويربيه على مكارم الأخلاق في ظاهره وباطنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 حكم الرجوع لنظام العمل والعمال السؤال يقول هل العودة إلى نظام العمل والعمال مرجعاً ملزماً في حالات الخلاف، حتى إن كان ذلك بين الإخوة الملتزمين الذين لا تخفى عليهم مواد هذا النظام المستقاة من الأنظمة الخارجية والأجنبية، كأن يكون صاحب العمل بين قانون العمل مع ما به من إجحاف لحقوق العمال أو إجحاف بحقوق غيرهم؟ الجواب ينبغي أن يعمل هؤلاء -إذا كانوا من الأخيار والطيبين- على التراضي فيما بينهم وأن تحل القضية صلحاً أو يجعلوا بينهم رجلاً صالحاً ولا داعي لأن يرجعوا إلى مثل هذه القوانين في المواد والأنظمة التي تخالف الشريعة. أسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يرزقنا العدل في أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير، وأسأله أن يعز الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين ويعلي كلمة الحق والعدل إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآهل وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 عشرون كلمة عتاب للرجل والمرأة مشكلة المرأة أنها كثيراً ما تُظلَم في أغلب المجتمعات، ولذلك كانت من وصايا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم في حجة الوداع الوصية بالنساء والاستيصاء بهن. ومع هذا يقع عليها الظلم في المجتمعات الإسلامية، وكثير من الناس من يلصق الظلم بالإسلام أو بالرجولة وجاء أعداء الإسلام فاستغلوا هذه الثغرة ونتيجة لرد الفعل انبرى من يرد عليهم منشغلاً بذلك عن الاهتمام بالمرأة، بتعليمها وتثقيفها وتربيتها تربية إسلامية ورفع الجور عنها ولكن هذا الدرس يسد هذه الثغرة ففيه معالجة لما ينقص المرأة، ولما تشتكي منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 1 مقدمة في الدفاع عن المرأة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. عنوان هذه الكلمة المختصرة "عشرون كلمة عتاب للمرأة" وحديثي موجهٌ إلى الأخت المسلمة بالذات. أيها الأحبة أيها الأخوات الكريمات! إننا جميعاً يجب أن نكون أول المدافعين عن قضايا المرأة من منطلق الإسلام والرسالة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم فجاءت لإقامة العدل والقسط بين الناس وليس في مجتمع الإسلام فصام بين الرجل والمرأة، فإرضاء الرجل لا يعني إسخاط المرأة، وإرضاء المرأة لا يعني إسخاط الرجل، ولا يجوز أن نجعل منهما طرفين متناقضين، بل هما يسيران جنباً إلى جنب على سنن الوفاق والوئام والانسجام. وثمة رسائل كثيرة واتصالات متعددة تأتيني من بعض الإخوة من الرجال، ويزعمون ويقولون: إنني قد أعطيت المرأة حقها، ولكنني بخست الرجال، ولم أتحدث عن حقوقهم! نعم! يقول لي أحد الإخوة: لقد تكلمت في محاضرة طويلة بعنوان أنصفوا المرأة، وبينت ما للمرأة من حقوق؛ زوجة كانت أو أماً أو أختاً أو بنتاً أو غير ذلك، ثم طيبت خواطرنا في آخر المحاضرة بوعد مفتوحٍ أن تتكلم عن حقوق الرجل، ووجوب إنصاف الرجل، والقيام بواجباته ولكنك لم تفعل، وعلى أي حال فإنني أقول: إن الرجل والمرأة هما كما ذكر الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فمن هو الذي يستطيع أن يتصور الحياة بدون امرأة؟! فالأم كانت قبل وجودك، والزوجة كانت بعد وجودك، والبنت فرعٌ عنك؛ ولهذا فالإنسان يعتبر أن إنصاف المرأة إنصاف له هو، فهو إنصاف لأمه وأخته وابنته وزوجه؛ ولكن مع ذلك فإن هذا لا يمنع أبداً عن الحديث عن شئون الرجال وشجونهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 2 نصائح وعتاب للمرأة أقول للأخوات الكريمات: إن الحديث الذي سوف أسوقه الآن هو حديث يجري على ألسنة الرجال، وما أنا فيه إلا ناقلٌ ومعبر عما يقولون ويتحدثون، وقد يكونون مصيبين أو مخطئين، والحديثُ إذا كان نصحاً للمرأة فهو إنصاف لها أيضاً قبل أن يكون إنصافاً للرجل، ولنا مع الرجال أيضاً حديث خاص فسيكون حديثي في الليلة القادمة إن شاء الله تعالى هو مع الإخوة الرجال، أما اليوم، فهذه عشرون كلمة عتاب تحدث بها إليَّ جمعٍ من الإخوة، ولا أكتم سراً إذا قلت لكم: إنني أنظر بعيني فأرى عدداً منهم بين يدي الآن حاضرين ينتظرون هذا الحديث، هم يوجهون أسئلة وانتقادات لبعض أهليهم، وما أنا إلا ناقل ومعبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 إعانة الرجل في أمور دينه الحادي والعشرون: وهو الأخير، يتحدث عن شكوى لعلها هي الأهم، ولعل تأخيرها حتى تبقى في الذهن وترتسم في الشعور، إنه يقول: إن زوجتي امرأة كريمة، تحسن إلي وتكرمني، وهي لي كما أحب، في ملابسها، وزينتها، واستقبالها، وإعدادها للطعام والمنزل، والعناية بالأطفال، وحفظ سري، وحفظي في نفسها، ومالي، ,عدم إفشاء الأمور، ولكنني أقول: إنها كثيراً ما تشكو مني أنني لا أعينها على أمور دينها، وأنا أيضاً أشتكي منها هذا الأمر بعينه، فأنا أيضاً أحتاج إلى من يعينني على أمور ديني، أحتاج إلى من يوقظني لقيام الليل، وأحتاج على أقل تقديرٍ إلى من يوقظني إلى صلاة الفجر، وأحتاج إلى من يذكرني إذا نسيت، ويأمرني بالمعروف، وينهاني عن المنكر، ويكون خير معوانٍ على طريق الدعوة إلى الله، أحتاج إلى المرأة التي إذا رأتني على صواب شجعتني عليه وأعانتني، وإذا رأتني على خطأ نهتني عنه وذكرتني بالله عز وجل، وأحتاج إلى تلك المرأة التي إذا أيقظتني ولم أستيقظ رشت على وجهي قليلاً من الماء، وحاولت بكل وسيلة أن توقظني للصلاة ولو أن أركع ركعتين في ظلام الليل. اغتنم ركعتين زلفى إلى الله إذا كنت فارغاً مستريحاً وإذا ما هممت القول بالبا طل فاجعل مكانه تسبيحا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 الاهتمام بمواعيد الرجل أما التاسع عشر: فهو يقول وهي شكوى غريبة: إنني أشكو من إهمال مواعيدي، وعدم مراعاتها من قبل أهلي، سواء كانت هذه المواعيد كان إهمالها نتيجة الاستغراق في النوم، فطالما نمت ففاتتني الطائرة، أو فاتني موعد العمل، أو فاتني موعدٌ مهم، أو فاتتني الصلاة، وهي أهم وأعظم من ذلك كله أو عدم مراعاة ظروفي في تجهيز الطعام، وتهيئته في الوقت المناسب أو غير ذلك مما يترتب عليه إحراجات كثيرة لي مع الآخرين، أنا أتحمل وزرها ومسئوليتها وإحراجها، ولا أستطيع أن أبوح بسببها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 الاهتمام بملابس الرجل وإعداد حقيبة سفره أما العشرون: فيتحدث عن عدم العناية بملابسه تنظيماً للملابس، وتنظيفاً لها وغسيلاً وكياً، وتكميلاً وطلباً لما يحتاج إلى تكميله أو إعداده منها، وهكذا الحال فيما يتعلق بالسفر؛ فإن إعداد الحقيبة "حقيبة السفر" وتجهيزها يقول أقوم بها بنفسي في أحيانٍ كثيرة! ولا تفكر زوجته في إعداد هذه الملابس وتهيئتها، ولا مانع من الزيادة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 تقليل المعاذير ومراعاة مشاكل الرجل أما الثامن عشر: فيقول: إن زوجتي تطالبني دائماً وأبداً بأن أراعي ظروفها، فهي اليوم مريضة، وبعد أسبوع هي حامل، وبعد شهر تعاني مما يسمى بالوحم الذي قد يغير نفسيتها وطبيعتها، وتطلب مني أن أراعي ذلك كله، وهذا حقٌ، ولكنني أيضاً أطلب منها مقابل ذلك أن تراعي ظروفي، فأنا اليوم قد واجهت مشكلة في عملي، أو اشتبكت مع طالب، وغداً حصل لي حادث في السيارة، وبعد غد اعتدى علي إنسان، وفي اليوم الرابع حصلت لي مشكلة مالية وهكذا، فآوي إلى المنزل وأنا في حالة نفسية صعبة، أحتاج إلى من يراعي ظروفي، كما يطلب مني أن أراعي ظروفه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 كتمان الأسرار العائلية السابع عشر: يقول: إنني أشكو من أن أية قضية تقع في المنزل سرعان ما ينتشر خبرها في المجتمع! لماذا؟ لأن زوجتي تثرثر فتتصل بأمها وتخبرها بما جرى، وبأختها، وبصديقتها، ولذلك أجد أن مشاكلنا وأسرارنا الزوجية وعلاقتنا تنتقل بين الناس، وربما وصلتني من بعض الأصدقاء أو من بعض الجيران، أو عاتبني أبوها، أو أخوها، أو قريبها، على بعض المشاكل والقضايا التي تقع في المنزل بشكل خاص. إن المنزل يتسع لهذه المشكلات، وكان بالإمكان أن نتدارسها فيما بيننا، وتظل سراً يموت معنا لا يعلم به أحدٌ غيرنا، وهي أيضاً لا ترضى أن أحدث الآخرين بمثل هذه القضايا، فهو يشكو من تسرب مثل هذه الأمور إلى خارج المنزل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 الوفاء وذكر المحاسن السادس عشر: يقول: لقد نسيت زوجتي أشياءي السابقة الزوجية أكثر من عشرين سنة، لقد عملت الكثير وبذلت الكثير، وفي فترة الشباب كنت لها نعم الزوج، وأنقذتها من مشكلاتٍ كثيرة كانت تعانيها في بيتها، وكانت تعترف بذلك كله، أما الآن فربما حصل مني خطأ أو تقصير، لكنني أجد أن أي خطأ، يجعل زوجتي تنسى كل أعمالي حتى كأني لم أعمل خيراً قط، وأتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وتكفرن العشير} تقول: لقد أمضيت زهرة شبابي معه، وقضيت عمري معه، ويقول: كأنني أنا ما عملت معها شيئاً، وكأنها هي وحدها التي بذلت وضحَّت وصبرت وصابرت! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 تقليل الخروج من المنزل الرابع عشر: يشكو من كثرة الخروج من المنزل، نعم هو مشغول بعض الشيء، ولكن يقول: زوجتي الأخرى أصبحت تكثر الخروج، فيوماً تقول: اذهب بي إلى أهلي، وبعد ذلك إلى أختي، واليوم الثالث إلى عمتي أو خالتي واليوم الرابع إلى جدتي أو جدي، واليوم الخامس للسوق، واليوم السادس لتغيير بعض الملابس التي اشتريناها ولم تكن مناسبة، ثم للجيران، ثم للمناسبات، والعزائم، والولائم وغيرها، حتى يقول أحد الإخوة: إنني أحصيت بعض الزيارات، فوجدتها تزيد على ست زيارات طويلة خلال أقل من عشرة أيام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 إسماع الرجل كلمات الشكر والثناء الخامس عشر: يقول: لقد فعلت ما في وسعي، فاشتريت وأكرمت، وبالغت، وبذلت ما أستطيع، ولكن قلما أسمع من زوجتي كلمة شكرٍ أو ثناء أو دعاء. إنني أنتظر "جزاك الله خيراً"، أو أنتظر: "شكر الله لك"، أو أنتظر: "خلف الله عليك"، أو "كثر الله خيرك"، أو ما أشبه ذلك من العبارات أو الكلمات الطيبة أنتظرها كثيراً فلا تأتي، ثم قلت لذلك الأخ: لماذا لا تعلمها قال: إنني أشعر أنه لا قيمة لكلمة أنا أمليها عليها، وأنا ألقيها على لسانها أو في فمها، أريدها أن تخرج منها، من قلبها، من شعورها، وألاَّ تكون من عندي أنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 عدم ذكر عيوب الزوج وترك معايرته بزملائه حدثني أخٌ وهو الثاني عشر: أنكِ كثيراً ما تعيرينه بزملائه، أي أنك تقارنين بين أفعاله وأفعالهم، فتقولين له بلسان الحال أو المقال: أنت لم تفعل شيئاً، وصديقك فعل كذا، وصديقك الآخر فعل كذا، وهذا تعريضٌ به إذ لم يفعل مثل فعلهم مع أنك تنسين -كما يدعي زوجك والعهدة عليه- أن له هو فضائل ومحاسن وأعمال ما قاموا بها هم، وقد يكون لهم هم عيوب ومثالب ومآخذ لا تعرفينها أنت، ولكن زوجاتهم سترن عليهم ولا يخبرنك إلا بالحسن، أما أنت فيدعي زوجك -إن كان صادقاً- أنك تخبرين صديقاتك بالحسن والقبيح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 الاهتمام به وبعودته الزوج الثالث عشر: إذا جاء إلى البيت يدعي أنه يجدك في الغالب نائمة، ويقول: إن هذا تعبيرٌ عن عدم الاهتمام، يقول: نعم! قد أتأخر أحياناً لظروف، وقد أقصر وأنا أعدكم -وقد عاتبناه- أعدكم أن أعود مبكراً إلى المنزل، وأن أعطي أهلي حقوقهم، لكن يؤسفني أن أتأخر وأنتظر زوجتي، وبدلاً من أجدها تنتظرني وقد تزينت لي وتطيبت وتعطرت، فإنني أجدها نائمة تغط في نومها، ثم أجد أنه ليس عليها أي مظهرٍ للاهتمام، أو الاستعداد، فربما لو وجدتها مستعدة لي، لقلت: غلبها النوم وعاتبت نفسي على التقصير، ولكني وجدت أنها نامت في ثياب مهنتها، في الثياب التي كانت عليها وهي تشتغل بالمنزل، أو تتحرك في مطبخها، ثم يقول: إن مثل هذا الأمر دعاني إلى مزيدٍ من التأخير، فأصبحت أتأخر؛ لأن النوم بحد ذاته ليس مطلباً لي، إنما حاولت أن أبكر بعض الوقت؛ لأني توقعت أن هناك قلباً ينتظرني، ونفساً تتطلع إلي، ورفيقة دربٍ تترقبني، أما إذا كانت القضية قضية نوم، فإن النوم أجده في كل مكان، ولا شك نحن لا نوافق هذا الأخ على ما يقول، ولكني أنقل لكن أيها الأخوات ما يقول حتى تكون المرأة على بينة من الأمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 احترام أهله وعشيرته الأخ العاشر: يشتكي أن زوجته لا تقوم بحقوقه وحقوق أهله، فيقول: أمي مهجورة منذ زمن طويل، ما رأتها زوجتي ولا زارتها، ولا دعتها إلى منزلها، بل ولا اتصلت عليها بالهاتف، ولا اتصلت حتى تطمئن على صحتها، وقد أصابتها وعكة، بل يقول: أحياناً أسمع السب والشتم والتنقص لأهلي، انتقاصهم في أخلاقهم وأعمالهم، في مسكنهم، وملابسهم، وكلماتهم، في أسلوبهم في الحياة، وسلوكهم، إلى غير ذلك. ويقول: يوم من الأيام قُدِّر لي أن أرفع سماعة الهاتف، فوجدتها تتحدث مع صديقة لها أو مع قريبة لها، وهي تتحدث عن أهلي، وعن أخلاقياتهم، وعن معاملاتهم، وعن مشكلاتهم، وتنسب إليهم أشياء كثيرة ليست صحيحة، وبعضها حتى لو كان صحيحاً؛ فليس يكن معقولاً أن يكون مجالاً للحديث بين زوجتي وبين امرأة أخرى أجنبية، يقول ذلك الأخ: أين إعانتي على بري بأبوي وعلى صلتي بأقاربي وذوي رحمي؟ إن هذا ما كنت أرجوه من زوجتي، وأنا أريد أن تنجب لي بإذن الله تعالى أولاداً صالحين يكونون بارين بأمهاتهم، واصلين بأرحامهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 تقليل العتاب الحادي عشر: يشكو من كثرة العتاب عند الباب يستقبل بدلاً من "أهلاً ومرحباً وحياك الله ونورت المنزل" لماذا تأخرت؟ أنا منذ وقت أنتظرك، لماذا اشتريت كذا، ولماذا لم تشتر كذا؟ ولماذا قلت كذا؟ ولماذا فعلت كذا؟ وهكذا يظل يلاحق بلماذا لماذا؟ والله تعالى أرشدنا جميعاً بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] . خذ الميسور العفو الذي يأتي بلا تكلف بلا حرج، بلا مشقة، والشاعر يقول: خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب ولا تضربيني ضربك الدف مرة فيجفوك قلبي والقلوب تقلب فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 ترك التحايل في تحقيق الطلبات ويشكو أخٌ تاسع: من أن مطالب زوجته لا بد أن يتم بأي وسيلة، فإن تم بطيبٍ ورضى، وإلا فثمة وسائل كثيرة، منها أحياناً الحديث المستمر المتصل، فعند الغداء والفطور والعشاء، والصباح والمساء، وعند النوم، وبعد الاستيقاظ، هيه يا فلان لا بد من كذا، لابد من كذا، جزاك الله خيراً أرجوك حاول، وهكذا حتى يشعر في النهاية أنه لابد أن يفعل على الأقل، حتى يرتاح من هذا الكلام الطويل العريض. وإذا لم يُجد هذا كله؛ تحول الأمر إلى بكاء ودموع وهموم وأحزان، فإذا لم يستجب فإن الحياة حينئذٍ تتحول إلى روتين بارد، لا حديث أو ابتسامات أو تبادل مشاعر أو ود، إنما هي حياة روتينية: عشاء، غداء، نوم، استيقاظ، دخول، خروج، والسبب هو أنك لم تُلبِّ هذا المطلب. قد يكون الأخ مبالغاً فيما قال، ولكني أحدث الأخوات، وأقول لهن: أنا حين أنقل لكن هذا الحديث، لا أنقله ليسمعه الرجال، كلا! ولكني أنقله وقد تحدث فيه الرجال، حتى تسمعه الأخوات ويعرفن كيف يمكن معاملة الزوج، وكيف يمكن القضاء على مشكلاته، وكيف يمكن التسلل إلى قلبه وإسعاده والحصول على ما يمكن الحصول عليه منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 مشاركة الرجل في همومه واهتمامته ثامنٌ يقول: إن لي هموماً في عملي ووظيفتي، حيث إنني مدرس في إحدى المدارس الثانوية أو المتوسطة، وهموماً في تجارتي التي أحاول أن أشتغل بها، فأنجح يوماً، وأفشل يوماً آخر، وهموماً في دعوتي إلى الله تعالى حيث لي جهودٌ في الدعوة إلى الله والمشاركة في بعض المخيمات، والنشاطات الدعوية، والأعمال الخيرية، وأجد أن زوجتي إذا قدمت المنزل ليس لها همٌ في ذلك كله، ولا تسعى إلى سؤالي عن مثل هذه الأشياء، ولا تبادلني الحديث, وإنما أجدها تنقلني إلى عالمٍ آخر، ففلانة تزوجت، وفلانة أنجبت، وفلانة طلقت، وفلان انتقل عن بيته، والآخر نزل … وهكذا، فتنقلني إلى هموم أخرى لست منها في قليل ولا كثير ولا قبيل ولا بعيد، وإذا لم أتجاوب معها فإنها تعرض عني. إن من المطلوب جداً أن يكون هناك قدرٌ من المشاركة بين الزوجين في الهموم والمشاكل المشتركة، فعلى المرأة أن تحرص على أن تتحدث مع الرجل -أيضاً- في همومه، كما أن على الرجل أن يعمل على مشاركة المرأة في همومها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 تقليل الطلبات أما الرسالة السابعة: فهي تتبرم من كثرة الطلبات والحاجيات وتنوعها مع عدم مراعاة الظروف، فالمرأة قد تطلب أشياء كثيرة على حد تعبير بعضهم من أواني المنزل، ومن تغيير الأثاث، ومن الملابس، ومن الحاجيات لها ولأطفالها ولأهلها ولصديقاتها ولجيرانها، وهدايا إذا قدمت من السفر، وهدايا للعيد، وهدايا لرمضان، وأشياء وأشياء، وتطلب من ذلك شيئاً كثيراً مع أنني موظف صغير، راتبه لا يتجاوز ثلاثة آلاف وهي نفسها تعلم أني مدين، وعليَّ أشياء ترهقني، وعليَّ التزامات وطلبات كثيرة، وهي لا تراعيني في شيء من ذلك، فكأن هذا المبلغ كله يجب أن يصرف في مثل هذه الأشياء، فأين المرأة التي تكون مع زوجها في السراء والضراء، وفي العسر واليسر، والمنشط والمكره، والغنى والفقر؟! إنني حين أعتذر عن بعض حاجتها، أو آتي يوماً من الأيام دون أن أحضر لها هدية، أو أعتذر عن بعض الطلبات، إنني أشعر أن الحياة قد تحولت إلى قلقٍ لا يستقر، وتوترٍ لا يهدأ، فالنفس قد أعرضت عني، ووجهها شاحب، وكلماتها مقتضبة، وأحاديثها مختصرة، حتى حاجاتي المنزلية أجد فيها أحياناً نوعاً من التقصير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 الزوج الموظف أخ سادس: كتب إلي يقول: تصور أن مهمتي الآن كأنها تحولت إلى مجرد السعي لترفيه المرأة وإسعادها وإزالة همومها وغمومها، كأنه لا هم لي إلا ذلك، أما أنا فكأن المرأة ليست معنية بأمري، فقد آتيها أحياناً وأنا بحاجة إلى من يزيل همي، أو غمي، أو يسعدني، أو يشاركني، فلا أجد منها ذلك، إنما أجدها تتربص وتنتظر، تريد زوجاً يزيل همومها وغمومها، فهو يقول: أشعر بأنني زوجٌ موظف، مهمتي هي السعي في الترفيه والإسعاد، مع أنني أنتظر إذا شقيت خارج المنزل أن آوي إلى البيت، فأجد سعادتي وأجد راحتي وطمأنينتي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 الهاتف ومشاكله وخامس يقول: إنني أعاني من الهاتف ما أعاني، فقد أصبح الهاتف هماً يقلقني، فالزوجة دائماً وأبداً جالسة بقرب الهاتف، تتصل بالقريب والبعيد، وتحدث الناس أهلها وأقاربها وغيرهم، وتجلس مع صديقاتها، وليست المشكلة محصورة في فاتورة الهاتف، فإن معظم هذه الاتصالات هي اتصالات داخلية ليس عليها حسابٌ أصلاً، ولا تظهر في الفاتورة، ولكن المشكلة أن هذه الأحاديث يأتي من جرائها شرٌ كثير، فمنها غيبة، وكلام في فلانة وفلانة، ومنها نميمة، ومنها -وهو من أشدها وشرها على الزوج- تلك الأحاديث التي تدور بين النساء فتجعل المرأة تسمع من زميلاتها أن زوجها أعطاها كذا، وفعل لها كذا، وسافر بها إلى المكان الفلاني، وخرج بها من البيت، فتظل المرأة تسمع من زميلاتها ما فعل الأزواج، ثم تنتظر من زوجها أن يكون كأولئك الأزواج، مع أنه ربما يكون كثيرٌ مما تسمعه المرأة مبالغة وتشبعٌ بما لم تعط، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {المتشبع لم يُعط كلابس ثوبي زور} . وما يدري المرأة أن تكون أولئك النساء قد كذبن عليها، وبالغن من باب التظاهر والمجاملة وادعاء أنهن سعيدات في حياتهن الزوجية، كما فعلت هي حينما حازت هذه النبرة، وقالت لهن هي الأخرى: وأنا زوجي ما قصر معي، جزاه الله خيراً! أعطاني كذا، وأتاني بكذا، ومنحني كذا، وذهب بي إلى كذا، ووعدني بكذا، وهذا كله كذب تقوله لهن، فإذا جاء الزوج انفجرت في وجهه، وقالت له: بنات الناس حصل لهن كيت وكيت، وأنت ما رأيت منك خيراً قط. فيقول هذا الأخ: لقد أزعجني هذا الهاتف، وضايقني وسبب لي حرجاً شديداً. ثم يقول: أحياناً أدخل البيت، وزوجتي تمسك بالسماعة، وجلستها تدل على أنها سوف تطيل المكالمة، فإذا رأتني اختزلت الكلام وغمغمت وأتت بعبارات مجملة، ثم وضعت سماعة الهاتف، وهذا جعلني أشك في الأمر ربما تكون مكالماتٍ أو اتصالات تعلم الزوجة أنها لا ترضيني أو أنها أشياء مذمومة؛ ولذلك وجدت أنها شعرت بالإحراج حينما اكتشفتها وهي تتكلم في الهاتف. وهذا يؤكد على المرأة أن تقتصد في مكالماتها وتبتعد عما حرم الله عز وجل، وإذا دخل زوجها وهي في مكالمة، فعليها أن تكون طبيعية لئلا يظن الزوج أن تلك المكالمة قد تكون معاكسة مثلاً، أو اتصالاً برجلٍ آخر أو خيانة له، وما سبب هذا الظن والوسواس من الشيطان إلا أنها أنهت المكالمة بطريقة غير طبيعية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 الاهتمام بزينتها وملابسها أما أخي الرابع: فإنه يقول: إنني أدخل على زوجتي فأجدها هي هي، الملابس قد حفظتها، وحفظت أشكالها وتقاسيمها وألوانها وخطوطها، ليس هناك تغيير لهذه الملابس، ولا عناية بها بحالٍ من الأحوال، بل إنني أجد أن الملابس الكثيرة التي اشتريتها بأغلى الأثمان لا أراها إلا إذا كان الأمر استعداداً لزواج، أو حضور مناسبة، أو ذهاب إلى أهل، فإنه يقول: إن هذه الملابس لا أراها إلا في تلك المناسبات، وأنا أعتقد -ولا يزال الحديث له- أنني أحق الناس بالتمتع بهذه الملابس ورؤيتها على زوجتي، والعبد المؤمن العفيف يُحب أن يرى هذه الأشياء؛ ليستعف بها عما حرم الله، فإنه يرى كثراً من النساء في الأسواق والمناسبات، بل وربما في المساجد أحياناً! وقد لبسن أبهى ملابسهن وزينتهن، وربما كانت روائح العطور تفوح، فيقول: يؤسفني جداً أن أدخل إلى بيتي فلا أجد ذلك كله ولا شيئاً منه، مع أنني ما قصرت، اشتريت الملابس، والعطور، والأطياب وغيَّرت، وذهبت بزوجتي وجعلتها تختار على عينها، وبذلت لذلك أموالاً كثيرة ثم وجدت أن الملابس التي أراها على زوجتي، هي في الغالب ملابس غير ملفتة للنظر، بل إنني أشعر بكثيرٍ من الحرقة والإحباط واليأس إذا رأيتها، إنها قد تكون ملابس استعارتها من جدتها، أما الملابس الجميلة فلا أراها إلا إذا كنا على موعد للذهاب إلى صديق، أو حضور مناسبة، أو ما أشبه ذلك. قد يكون هذا الأخ مبالغاً أو مسرفاً أو مفرطاً، ولكنني أنقل ما يقوله هذا الأخ لتسمعه النساء حتى يعرفن ما هي الثغرات التي يأتي منها الرجال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 الاهتمام بالمنزل أولاً: يقول أحدهم: لماذا البيت غير منظم؟ والملابس ملقاة فيه كيفما اتفق؟ والمناديل موزعة على أرجاء المنزل؟ وصناديق القمامة ممتلئة؟ والأواني المنزلية متفرقة؟ وملابس الأطفال أجدها هنا وهناك؟ يقول: أين دور المرأة في تصفيف هذه الأشياء وتنظيمها، والعناية بالمنزل ونظافته؛ حتى إذا دخل إليهم إنسان انشرح صدره؟ إن هذا المنظر التي تقع عليه عيني يعطي انطباعاً بالإهمال، وعدم العناية بالمنزل، وعدم ترتيب الأثاث، أو تنظيف المداخل والأفنية والصالات وغيرها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 الاهتمام بالطعام ثانياً: وآخر يقول في كلمة أخرى: لماذا الطعام يُقدَّم لي مرة وهو بارد، ومرة أخرى أجلس ساعة أو أكثر وأنا في انتظار نضجه؟ ولماذا يكون الطعام نوعاً واحداً لا يتغير ليس فيه تغييرٌ ولا تجديد، مع أن البيت ممتلئ -بحمد الله- بألوان الأطعمة والمأكولات والأشربة والخيرات التي امتن الله تعالى بها علينا؟ إن الإنسان بطبيعته يحب التغيير والتنويع والتجديد، حتى ولو في طريقة تقديم الطعام، أو في الأواني التي يقدم فيها، أو في أي شئ أخر يضاف إليه أو يغير، أو يبدل؛ فيشعر الزوج بأن ثمة تجديداً فيما يقدم له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 الاهتمام بالطفل ثالثٌ يقول: الأطفال وما أدراك ما الأطفال! لماذا أفاجأ دائماً بأن ملابس الأطفال غير نظيفة، ووجوههم متسخة، وشعورهم شعثة، وليس هناك روائح طيبة تنبعث منهم؟ إنني أحب أن أرى أطفالي وكأنهم زهرات تنضح بالروائح الطيبة، فإذا رآهم أبوهم سر لذلك، وإذا قدمهم للآخرين قدمهم بكل فخرٍ واعتزاز. إنني أخجل حينما يرى أصدقائي أطفالي، فيرون فيهم تلك المظاهر التي لا يسرني أن أراها في أطفال الآخرين، وإذا كان ذلك كذلك بالنسبة لملابس الطفل أو شعره أو حذائه أو جسده، فكيف ما يتعلق بتربية الطفل، الكلمات التي يطلقها في لسانه؟! إن طفلي لا يجيد قراءة القرآن الكريم، ولا حتى قصار السور لا يستطيع أن يقولها، ولا يحفظ شيئاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف بعض القصائد والأبيات والأناشيد الإسلامية، ولا يحسن كيف يرد على من يتحدثون معه رداً حسناً جميلاً، لا يعرف كلمة جزاك الله خيراً، ولا يعرف كلمة أحسنت، ولا يعرف كلمة شَكَرَ الله لك، ولا يعرف الرد وإذا سئل كيف أنت؟ كيف حالك؟ عساك بخير؟ كيف أهلك؟ ما اسمك؟ ما اسم عائلتك؟ أين تدرس؟ ماذا تعمل؟ إنه لا يجيد راداً على ذلك كله، وإنما يردد كلماتٍ سوقية وألفاظٍ مبتذلة حفظها من أولاد الجيران، أو من أولاد الشارع. وإذا كان هذا طفلي وهو في هذا السن، فإذا كبر فمن سوف يعلمه؟ من سوف يحل واجباته؟ من سوف يربيه؟ من سوف يؤدبه؟ من سوف يحمله على الصلاة، وعلى الصيام، وعلى طاعة الله، وينهاه عن معصية الله تعالى؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 صبر المرأة على زوجها نعم أيتها الأخوات الكريمات! هذا ما يقوله الرجال، ولا يعني كوني ذكرته أن ذلك واقعٌ بالنسبة لكل النساء أو لكثير من النساء، بل هي شكوى من عددٍ منهم، ولا شك أن النساء كما الرجال فيهم وفيهم: والناس ألفٌ منهم كواحد وواحد كالألف إن أمرٌ عنى ولا شك أيضاً: يشكوها الرجل في زوجه أو بيته أو أهله، فهو يتحمل جزءاً من مسئوليتها، وإذا كان هذا ما يقوله الرجال، وأنا أرجو أن أكون ناقلاً أميناً لما قالوا متبرئاً من عهدتم، فلا تقل النساء: نحن كنا نرجو أن تنصفنا، وأن تتحدث عن الرجال، وأن تأمرهم بالإحسان إلينا، أنا مجرد ناقلٍ لهذا الحديث، وقصدي من ذلك أن أحدث الأخوات المؤمنات بضرورة العناية بهذه القضايا، والاجتهاد فيها بقدر الوسع، وأن تحرص الأخت -إذا رزقها الله زوجاً صالحاً- على أن تمسك به بكلتا يديها، وأن تتحمل بعض سلبياته وأخطاءه وعيوبه، ولتعلم الأخت المؤمنة أنه لا قوام للحياة إلا بالصبر، ولا لذة للعيش إلا به، كما قال عمر رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]] . ولي مع الرجال حديث آخر، فسوف أتحدث بوضوح وصراحة عن بعض الأخطاء والعيوب والملاحظات التي يفعلها الرجال، سواء كانوا من المتدينين الملتزمين أو من غيرهم في تقصيرهم بحقوق النساء، أو إخلالهم بما يجب لهن، وسيكون هذا الحديث إن شاء الله تعالى في الليلة المقبلة. نسأل الله أن يجمع شمل المسلمين على ما يحب ويرضاه، ونسأل الله أن يوفق الأزواج ذكوراً وإناثاً إلى مرضاته، وأن يجمع قلوبهم على محبتهم وطاعته، وأن يرزقهم الذرية الصالحة، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تنبيه: بقيت كلمة: بعد صلاة الوتر إن شاء الله تعالى سوف نقوم هذه الليلة بجمع التبرعات وسوف تكون التبرعات هذه الليلة مخصصة لمشاريع الدعوة وبالذات للدخول الثابتة، أي أنها سوف توظف في أعمال خيرة تريع وتدر على الدعوة، وتكون إن شاء الله أشياء ثابتة يستفيد منها الإنسان باعتبارها صدقة جارية يظل أجرها وذخرها له إن شاء الله تعالى حتى بعد وفاته، وهذا جانبٌ مهمٌ جداً فلا يجوز أن تظل الدعوة والعلم والجهاد وقفاً على التسول من الناس يوماً بعد آخر، فهو ميدان عظيم ومجال كبير، وأنا أدعو الإخوة إلى أن يقدروا هذا الأمر، ويسارعوا إلى الإنفاق. الكثيرون ربما بعد وفاتهم يوصون بالثلث أو الربع، وقد يكون هذا الثلث أو الربع سبباً في مشكلات بين الأولاد تبدأ ولا تنتهي، والكثير منه يضيع ولا يوجد من يقوم عليه، فلماذا لا تتصدق وأنت صحيح شحيح بمال تعتبره كالوقف باقٍ في أصله ومنفعته للمسلمين؟ وأرجو من الشباب أن يقوموا بهذا العمل. الكثيرون يسألون عن مجموعة التبرعات في الأيام الماضية، قلت لكم أول مرة: إن التبرعات للبوسنة والهرسك بلغت مائتا ألف، أما الآن فقد زادت هذه التبرعات إلى ثلاثمائة ألف ريال، فجزى الله المحسنين خير الجزاء، أما التبرعات للصومال فإنها تقارب مائتي ألف ريال، جزاكم الله تعالى خير الجزاء، وبارك الله فيكم، وخلف الله تعالى عليكم ما أنفقتم؛ إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 عشرون كلمة عتاب للرجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. في هذه الليلة عشرون كلمة لشريك الحياة لقد تحدثت أمس بعشرين كلمة موجهة إلى المرأة، وقد كان تجاوب الأخوات فيما وصلني من اتصالات يدل على تفهمٍ جيد لهذا الموضوع، ويبشر باستعداد كبير للتغيير نحو الأفضل، وهذا بحمد الله يدل على أن إمكانية العلاج لمشكلات مجتمعاتنا قائمة فعلاً، وأن الناس بخيرٍ ما تواصلوا وتناصحوا، وأن أكثر ما يدمر الحياة الزوجية هي تلك النصائح المغرضة التي تأتي أحياناً عبر الشاشة، وعبر صوت المُذيعة، وأحياناً كثيرة تأتي مكتوبة على ورق يسمى جريدة أو مجلة، أو حتى كتاباً يعالج مشكلات الأسر والأولاد والبنات، وها نحن اليوم مع عشرين كلمة أخرى نستعير فيها ضمير المؤنثة المتكلمة المتحدثة إلى زوجها. زوجي العزيز! لقد وضعت فيك كل آمالي بعد الله عز وجل، ولم أعد أعبأ بما ألاقي من أهلي أو إخواني أو من سائر الناس، فبحسبي أن تكون أنت لي كما أحب، فأنت كل آمالي في هذه الدنيا بعد الله عز وجل. نعم لقد كانت أيامنا الأولى مليئة بالسعادة، ولكنها سعادة لم تطل، شأنها في ذلك شأن الحياة الدنيا إذ هي زهرة تُقطف ثم تُرمى، ولحظة تعاش ثم تنسى، واسمح لي أن أهمس في أذنك بعشرين ملاحظة على غرار الملاحظات التي قدمتها لي أنت بالأمس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 الخجل من المشي مع الزوجة التاسع عشر: أحسست -ولعلي أكون مخطئة- أنك تشعر بالخجل والإحراج، كلما ذهبت بي ولو لضرورة أو لحاجة أو لمصلحة حتى قد تكون شرعية، تشعر بالإحراج والخجل، إذا رآك أحدٌ من أصدقائك. ألست زوجتك بكتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم يخرج بأزواجه في الغزو فيقرع بينهن، فأيتهن خرج سهمها خرج بها؟ أليس خرج من معتكفه ليقلب صفية إلى منزلها؟! ولما رآه بعض الأنصار قال لهم: {على رسلكم! إنها صفية} ألم يسابق أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؟! فلماذا تستحي أنت من أمرٍ لا حياء فيه في دين الله تعالى؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 الحرص على تربية الأولاد العشرون: وبها أختم عتابي إليك، لقد أدخلت جهاز التلفاز إلى منزلنا، وأنا كنت له كارهة -كما تعبر عدد من الأخوات- وقلت لي: في وقت الفراغ وللأطفال، ثم وجدنا أن التلفاز فرصة لإلهاء الأطفال عنا وعن مضايقتنا وإيذائنا، فكلما شغلونا قلنا لهم اذهبوا إلى ما يسمى بأفلام الكرتون أو الصور المتحركة، وأرى أن هؤلاء الأطفال قد بدأت بصمات التلفاز تظهر على عقولهم، وعلى أخلاقهم، وسلوكهم وكلماتهم. إنني أطمع أن يكون أولادنا علماء عاملين، أو أن يكونوا مجاهدين في سبيل الله، أو أن يكونوا خطباء في المساجد، أو أن يكونوا أئمة يتقدمون المصلين بين يدي الله عز وجل، ولست أريد أن يكونوا ممثلين أو مغنيين أو من أهل هذه الدنيا الفانية، فلماذا لا نخرج هذا الجهاز من منزلنا؟ ولماذا لا تتظافر جهودنا في تربية أطفالنا؟ إنني أقترح عليك أن تأتي لهم بمكتبة صوتية، هي عبارة عن مجموعة من الأشرطة المتعلقة بقصص الأطفال والأناشيد المناسبة لمستواهم، ومكتبة مقروءة هي عبارة عن مجموعة من الكتب الصغيرة والكتيبات والقصص والأناشيد، وأن تجعل لهم أنت من أسبوعك ساعة واحدة فقط، وتترك الباقي لي، فإنني سوف أستعين بالله عز وجل وأعمل على تربيتهم، فلعلهم أن يقر الله بهم عيوننا في هذه الدنيا، ولعل الله تعالى أن يُقر بهم عيون المسلمين في كل مكان، وأي فخرٍ وشرف أكبر وأعظم من أن يكون فلان بن فلان مجاهداً مرموقاً، أو داعية شهيراً، أو عالماً مقصوداً يكون في الدنيا عزاً لنا، ويكون في الآخرة رفعة في درجاتنا، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 الاستشارة الثامن عشر: أنت لا تستشيرني في شيء لا أقول في أمورك الخاصة، وإن كنت أتمنى ذلك ولا ألزمك به، بل لا تستشيرني حتى في الأمور التي تهمني، فأمور المنزل، والأثاث، والفرش، وقضايا الولائم، ومسائل الأولاد والأطفال حتى -ولعلك تتذكر- أسماء الأولاد لا تجعل لي فيها رأياً ولا استشارة، أغرك الحديث الذي يتناقله الناس عن النساء: شاوروهن واعصوهن! ألم تسمع أن أهل العلم حكموا أن هذا حديث موضوع لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 توفير المتطلبات الأساسية السادس عشر: أراك تماطل في متطلباتي مع أنك سريع إلى قضاء حوائج الناس، فأغراض المنزل تجلس في جيبك أياماً طويلة، والزيارات أعرضها عليك مرات ومرات حتى أستحي، أما الذهاب إلى المستشفى وهو أمرٌ مكروه مبغوضٌ بالنسبة لي أكثر مما هو مبغوض بالنسبة لك، فإني أعلم ما في المستشفيات من المنكرات والاختلاط والتعرض للرجال وغير ذلك مما يكرهه الله عز وجل، ومما هو مخالف لفطرة المرأة وأنوثتها وطبيعتها، ولكن: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها وأنت تسوف بذلك وتماطل مرة بعد أخرى، ولست -تعبر إحداهن- ممن تسرع إلى المستشفى بأقل سبب وتكثر الشكوى على غير حق، بل كثيرٌ من الأشياء تمر، ثم يزيلها الله تعالى دون حاجة إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 احترام أهل المرأة السابع عشر: لست أنكر أن في أهلي عيوباً كثيرة، وأنني أنتقدها، وأن أخي قد سبب لك مشكلة، وأن والدي كبير السن وربما تنقصه بعض الخبرات وبعض الأمور، ولكنهم في النهاية أهلي، ولا شك تعلم أن ما يؤذيني يؤذيهم، ويحرجني النيل منهم، ويجرح قلبي تعييرهم؛ فلماذا لا تجامل مشاعري في هذا؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 مراعاة جانب المرأة مقابل حق الأم والأهل الخامس عشر: أمك أمي وعلى عيني ورأسي، وأخواتك أخواتي، ولكن لا تنس أن الحياة الزوجية في بيت مستقل كانت هي الأولى والأفضل حتى من الناحية الشرعية بعيداً عن الإخوة الذين عجزت -تقول عدد من الأخوات- عن التحفظ منهم، فلا بد أن يروا رجلي أو كفي أو شيئاً من شعري أو على حين غرة، أما ذهابي وإيابي من بين يديهم فهو كثير كثير وضرورة لا بد منها. ثم من الناحية الاجتماعية والعائلية والأسرية والزوجية فإن الانفراد في الأصل، أدعى إلى تحقيق معاني السعادة الزوجية، ولكنني أُقدِّر الظروف التي تمر بها، وأدرك أن الخروج من أهلك في مثل هذه الظروف يعتبر نوعاً من التقصير في حقهم، فكيف تترك أبويك شيخين كبيرين هما بحاجة إليك؟! بل إنني أقدر كثيراً روح المودة والبر والإحسان التي تحملها لأبويك، وأرجو الله عز وجل أن يرزقني -تقول إحدى الأخوات- منك أولاداً يكونون كأبيهم في البر والصلة والإحسان، فأنا فرحة مسرورة بما أرى من برك بأبويك وعنايتك بأخواتك، ولكنني أحيانا أشعر أن بعض أهلك -واسمح لي عن التفصيل- يغارون مني كثيراً، نعم! أنا أصبر وأصابر وأقابل الإساءة بالإحسان، ولكن على أقل تقدير أريد منك أن تدرك طبيعة موقفي، لا تعتبرني مخطئة دائماً وغيري مصيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 الابتعاد عن الحلف بالطلاق الرابع عشر: وأظن أنك ما نسيت أنك حلفت علي مرات بالطلاق، وهذا لا يجوز، بل هو من معصية الله تعالى، بل هو من اتخاذ آيات الله هزواً، قال الله عز وجل: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} [البقرة:231] . وتقول الأخت: وهددتني بالطلاق أكثر من مرة وهو بغيض إلى الله كما سمعنا في الحديث: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق} وهو حديث مرسل، وصححه جمعٌ من أهل العلم، بل هو من عمل الشيطان الذي يأمر به، فإنه ينصب عرشه على الماء ويبعث سراياه، فيأتيه أحدهم، فيقول له: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين زوجه فيدنيه ويقربه، ويقول له: أنت أنت. إنك تهدد به أو تضرب لسانك بالطلاق بغير ترو منك في وقوع المكروه، إن الله تعالى حين جعل العصمة والطلاق بيدك إنما كان ذلك؛ لأنك رجل منضبط التصرفات، منضبط الشخصية متأن، مترو، حليم، عاقل، فلماذا تهدد به في كل حين؟! ولماذا توقعه أحياناً على حين غضبٍ منك وانفعال؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 مراعاة مشاعر المرأة وأحاسيسها الثالث عشر: تعدد الزوجات شريعة ربانية لا اعتراض لأحد عليها: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] . فلماذا تثير أعصابي باستمرار بقضية الضرة الجديدة؟! إنني أقول لك: إذا عزمت فتوكل على الله، تقول إحدى الأخوات: دعني أذوق المرارة مرة واحدة فقط، ولا تجرعني العلقم كل يوم بتهديدي بالزميلة المنتظرة؛ إنه ليس من مكارم الأخلاق أن تهددني بالزوجة الجديدة صباح مساء في هزلك وفي جدك، وإذا قبلته منك مرة فإنني لا أقبله منك كل مرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 مراعاة ظروف المرأة الثاني عشر: إنني متحيرة فالبيت كله عليَّ، وأنت لا ترضى بالخادمة، وأنا أشكرك على ذلك؛ إذ ما حاجتنا إلى أن نستخدم امرأة أجنبية تأتي في كثير من الأحيان بدون محرم، فتكون سبباً في معصية الله عز وجل، وتؤذينا في منزلنا، وقد تؤثر في تربية أطفالنا، وقد يترتب على مقدمها مفاسد كثيرة دينية وأخلاقية بل ودنيوية، فإن الخادمة في البيت تعتبر مراقباً على سلوك الزوجين، وحاجزاً كبيراً بين تمتعهم بحياتهم كما يحبون، فأنا أوافق على ذلك. ولكنني أقول: أنت وأنا لا نرضى بالخادمة، أما المدرسة فأنت ترفض أن أتركها بحجة الحاجة إلى المعلمات الصالحات، وأن البنات في المدارس يفتقرن إلى الإرشاد والتوجيه، وأنا معك أيضاً على هذا، فإنني -إن شاء الله- وأنا في المدرسة محتسبة عند الله تعالى، والأولاد لا ترضى بأن يتأخر الحمل ولو شيئاً يسيراً، فالواحد منهم بعد الآخر، ليس بين الواحد والآخر حتى ولا سنة واحدة، وأنا أيضاً قد أوفقك على ذلك، ولكن أنت لا ترضى بأي تقصير آخر، فتريد كل شيء على ما يرام، وفي الوقت الذي تشاء، أنت أيضاً لا تشارك في تربية الأطفال، ولا تقوم بإعانتي عليهم ولو بأقل القليل، ولا ترضى أن تشاركني في عمل المنزل بشيء. لقد كان الرسول الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله كما في صحيح البخاري، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة، وأنت لم تبلغ شيئاً يذكر بالقياس إليه عليه الصلاة والسلام في كثرة مشاغله، وقيامه بأمر الأمة، وعلمه، وعمله، وصبره، وجهاده، واختلاطه بالناس كلهم، ومع ذلك وجد من وقته وقتاًَ يشارك حتى زوجه في عمل بيتها، أنا لا أطالبك بذلك، لكنني أرجو أن تُقِّدر ظروفي، فلماذا تعتذر أحياناً إذا وُجِد مناسبة أن يشاركنا فيها الطباخ الذي يقوم بالطبخ حيث صادفت تلك المناسبة ظروفاً خاصة أنت تعرفها. إنني لست من تلك النساء -كما تعبر إحدى الأخوات- اللاتي يأمرن الزوج بالذهاب إلى المطبخ في كل يوم، أو أن يأتي بالطعام من المطعم باستمرار، كلا! بل أنا والحمد لله ربة بيت متعلمة -كما تقول الأخت ولعلها صادقة إن شاء الله- وأقوم بهذه الأشياء بكل سرورٍ وبهجة نفس، وأشعر بأنني أمارس شخصيتي، وأنا أقوم بهذه الأعمال، ولكن الظروف أحياناً تضطر إلى مثل ذلك؛ فلماذا لا تكون مرناً في بعض الأحيان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 الادخار والتخطيط للمستقبل الحادي عشر: إني أراك لا تخطط لمستقبلك، والمستقبل بيد الله عز وجل {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34] ولكن فعل الأسباب مطلوب، فأنت الآن أبٌ وزوج تحتاج إلى بيت وإلى دخل، وكما قال الصادق المصدوق لـ سعد بن أبي وقاص: {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} فأنت تحتاج إلى دخل ثابت، ومصاريف مستمرة، وأرضٍ وبيت لك ثم لأولادك من بعدك، ومرتبك كثير، ولكنك لا تفكر في المال قط، وهذا يعجبني من جهة فأنت لست عبداً للدرهم والدينار، وأنت كريم جواد، ولكن أطرح عليك سؤالاً: لماذا تعتبرني بخيلة ومحبة للمال والدنيا، إذا طلبت منك أن تدخر ثلث مرتبك كما فعل صاحب الحديقة الذي جاء الثناء عليه في الحديث ثلث مرتبك على الأقل لشراء أرضٍ لك ولأولادك والبناء عليها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 عدم تعيير الزوجة وتوبيخها عاشراً: وإذا لم يكن حسناً أن أذكرك بكلماتٍ مضت، فإنني أجد نفسي مضطرة إلى أن أبوح لك بكلمات عَجِزت أن أنساها، لقد سمعتها منك وهي محفورة في ذاكرتي، فأنت مرة كنت تناديني، وتقول: يا فلبينية! أي أنك تعتبرني خادمة في المنزل فحسب، وتعيرني بهذه الكلمة الصعبة، وأخرى ناديتني، فقلت لك: سَم، فسمعتك تقول: سُم، ألم تسمع أن الله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] . ألم تعلم أن الكلمة الطيبة صدقة كما قال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إن الصدقات ليست فقط أموالاً توزع، والهدايا ليست ثياباً أو أثاثاً أو ذهباً يُعطى فحسب، بل إن الكلمة الطيبة أحياناً تكون هدية ثمينة نفيسة، وتغني عن غيرها، ولا يغني عنها غيرها، وكما أنت فأنا أيضاً أنتظر منك ثناء على طبخٍ قدمته لك، أو تنظيفٍ للبيت اجتهدت فيه، أو ملابس تزينت بها لك، أو عملٍ حاولت أن أكسب فيه رضاك بعد رضا ربي عز وجل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 احترام العلاقة الزوجية تاسعاً: أشعر وأنا أتمنى أن أكون مخطئة أن العلاقة بيننا لا تتجاوز الجنس، ثم ينتهي كل شيء! إن أعظم الروابط التي تربطني بك إنما تكون في غرفة النوم فحسب، والذي أعتقده أن العلاقة الزوجية رباط رباني أكبر من ذلك وأوسع، إن العلاقة بين الذكر والأنثى تبدأ منذ بداية الحياة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] . إن حواء خلقت من ضلع آدم، وإنها تدوم حتى في الدار الآخرة {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير:7] . فهي علاقة بين قلبين وروحين وجسدين ورفقة درب طويل ينبغي أن تشمل كل أمورنا، ولا تكون مقصورة على لحظة في الحياة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 الإهداء إلى الزوجة ثامناً: إنني أنتظر منك التعويض على أقل تقدير، فإذا غبت عني في سفر، فطيب نفسي بهدية رمزية ولو كانت قيمتها يسيرة، وإذا تأخرت عني في الليل؛ فأعطني كلمة حلوة تمسح بها آلامي، لا تجعلني أشعر دائماً أنني على هامش حياتك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 تعليم الزوجة سابعاً: أعلم أن لك دوراً جيداً في تعليم الناس، فأنت مدرسٌ أو معلم أو أستاذ، ولك جهودٌ في حلقات العلم ولك نشاط طيب، ولكني وأنا زوجتك -تقول الأخت- لم أتعلم منك الكثير. إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ابدأ بنفسك ثم بمن تعول} إن زوجتك صورة لك أمام الآخرين، فأين تعليمها، وتربيتها؟! وأين تفقيهها في دينها؟! وأين بيان الأحكام التي تخصها؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 الثقة في زوجتك سادساً: أحياناً يخيل إلي أن الشكوك تنتابك في جميع تصرفاتي، فأنت تشك في كلماتي، وترتاب في اتصالاتي، وتنظر نظرة تردد في علاقاتي، وتحاول أحياناً أن تثير تاريخي السابق، كأنك تبحث فيه عن شيء ما، تظن أنه كان لي عبث المراهقات، أو اتصال بعض الفتيات العابثات، حتى نظراتي وأنا معك في السيارة تداخلك فيها الريبة، فأنت تظن أني أحياناً أنظر إلى الآخرين نظرة لها معنى، ألست أنت برجل؟ ألم تملأ أنت حياتي؟ ألم تشغل أنت قلبي؟ ألم تعد أنت كل آمالي الدنيوية في هذه الدار؟ فلماذا تظن بي هذه الظنون؟! إنني أقولها لك بصراحة -والحديث للأخت- إنني فتاة صالحة -بحمد الله- وبنت حمولة طيبة كما يقال، حتى مراهقة البنات وحماقتهن قد عصمني الله تعالى منها، فلا تفسدني -بارك الله فيك- بكثرة الشكوك، وكما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاوية بن أبي سفيان: {لا تتبع عورات الناس؛ فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 التكلم بكلمات الحب والغزل ثالثاً: لم أعد أسمع منك تلك الكلمات المعبرة التي تدهن عجلة الحياة، إنني كثيراً ما أحتاج إلى كلمة مكونة من أربعة حروف: أحبك! أو أي تعبيرٍ آخر عن المشاعر، فالحياة بدون المشاعر خواء، وأراك الآن أصبحت تستحي ربما أن تقولها لي اللهم إلا في حالات خاصة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 عدم بقاء الزوجة في بيت أهلها والتقليل من الأسفار رابعاً: وأنت في سفراتك تلقي بي وبأطفالي في بيت أهلي، وعند أمي، وحيث إخوتي وزوجات إخوتي وأولادهم، فتجد أطفالك يأكلون معهم، ويضايقون أطفالهم ويتشاجرون معهم، وربما ثارت العجوز لأحد أولاد أولادها، وقالت: لماذا هذا الرجل المتدين أو الملتزم أو المتطوع -كما تعبر- يلقي كل يومٍ بأبنائه علينا؟ ألا تدري أن أولادك هم أولاد الناس بالنسبة لأهلي؟! بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فلماذا لا تقدر ظرفي وإحراجي في مثل هذا الموقف؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 الاعتراف بالخطأ خامساً: رأيتك عنيداً ناشف الرأس، لا تكاد تعترف بخطئك مهما كان واضحاً بل تُصِّرُ عليه، وربما تعتقد أو تظن أن اعترافك بالخطأ ينقص القوامة، وأن رجولتك تقتضي ألاَّ تعلن تراجعك مهما اكتشفت أنك قد أخطأت يوماً ما. إن الشجاعة الحقيقية هي في إعلانك الخطأ إذا تبين لك، والناس على دين ملوكهم، فلتعلم أنني أنا وأن أولادك من بعدك سيكونون صورة طبق الأصل لك، كما أنك أنت قد تكون صورة طبق الأصل لمن هم فوقك ممن يسمون بالكبار. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 الكلام والمزاح مع المرأة ثانياً: أرى وكلماتك في بيتك معدودة، ومزاحك قليلاً، وضحكاتك نادرة، فأنت لا تداعبني، ولا تمازحني، ولا تتحدث إلي، ولا تتحدث إلى الأطفال، ولا تأنس بهم، ويجب أن تعلم أنني أنا الأخرى طفلٌ يرمي برأسه عليك؛ لتحتمل من همومه وتزيل عنه وحشته، فإن المرأة ضعيفة، وهي تحتاج إلى من يقويها ويشدها. أنت إن جلست في البيت، فأنت أحياناً قارئ يدفن وجهه ورأسه في كتاب أو جريدة، أو متصلٌ عبر الهاتف، أو مستقبلٌ للضيوف، أو منهمك في عملٍ ما، إنني لا أكاد أجد الأوقات التي أتحدث فيها معك بما يجيش في صدري. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 التواجد في المنزل وإعطاء الأهل بعض الوقت أولها: ساعاتك في المنزل قليلة، وبقاؤك محدود، فأنت حيناً في مخيم للشباب، وحيناً آخر في مخيم للأقارب، خاصة في تلك الإجازات التي ننتظرها بفارغ الصبر، ثم أنت في العشر الأواخر من رمضان في رحلة عمرة تستغرق العشر الأواخر كلها، فإذا جاء موسم الحج فأنت ذاهب للحج مع زملائك وأصدقائك، فإذا جاءت إجازة الربيع فأنت في سفرٍ يطول أو يقصر، وربما كان هذا سفراً إلى الخارج أحياناً مشاركة في دعوة، أو مشاركة في إغاثة إسلامية، أو مشاركة أحياناً في رحلة عادية مع مجموعة من الزملاء والأصدقاء، أنا لا أعرف بالضبط ماذا تعملون فيها، لكن الذي أتأكد منه أن زوجتك وأطفالك وأهلك يفقدونك وهم أحوج ما يكونون إليك. إنني لا أعترض على أي مشروع خيري، أو دعوة إلى الله، أو مشاركة في إصلاح، أو نفع للناس قريبهم أو بعيدهم، فكل ذلك مما يجب أن أساعدك عليه، وأكون عضداً لك فيه، ولكنني أرجو منك شيئاً واحداً فقط هو أن تضيف إلى برنامجك خانة جديدة اسمها: نصيب الزوجة، وخانة أخرى: اسمها نصيب الأولاد والأطفال، وأن تجعل لهم من إجازتك إجازة، ومن فرصتك فرصة، فتسافر بهم ولو أياماً معدودات، وتذهب بهم ولو في رحلة إلى البر يغيرون فيها روتين الحياة الممل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 قوام الحياة الزوجية أيها الزوجات والأزواج! باختصار شديد!! إن الحياة الزوجية شراكة بين طرفين، ومن المحال أن تستمر الحياة هنيئة إلا بقدر من التنازل للطرف الآخر وغض الطرف عن كثير من الأمور: ليس الغبي بسيدٍ في قومه لكن سيد قومه المتغابي ومن المحال -أيضاً- أن تستمر الحياة إلا بقدر من الصبر، فلا بد من الصبر، وأقول: الصبر أولاً، والصبر ثانياً، والصبر أخيراً، اصبر على زوجتك، واصبر على تعنتها، واصبر على خطئها! هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى أليس غريباً ضعفها واقتدارها يقول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {إن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه} وبعض الناس يظنون هذا تنقصاً للمرأة هذا والله العظيم -هو غاية الحفاوة بالمرأة؛ لأن معنى الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: أيها الرجل! ارفق بالمرأة، وتحمل ضعف المرأة، وتحمَّل خطأ المرأة وتحمل ما قد يصدر من المرأة؛ لأن المرأة هكذا خلقت، فإذا أردتها أن تكون لك دائماً وأبداً كما تحب فلا تطمع في ذلك، إنَّ هذا لا يكون في نساء الدنيا، إنما يكون في نساء الجنة فاعمل صالحاً لتكسب الحور العين. وكذلك أقول للأخوات المؤمنات: لا بد من الصبر فإني وجدت أسعد النساء في حياتهن الزوجية، والله تشتكي من أحوال ومن أحيان، وأقرأ بعض الرسائل من الأخوات فتكتب صفحتين كاملتين تصف فيها حياتها الزوجية مع زوجها، فتذكر أن الله تعالى رزقها بزوج صالح خلوق كريم يكرمها ويحبها ويقدرها ويحشمها، وأخيراً تقول: ولكن! ثم تذكر أشياء وعيوباً لا بد منها، إنها بهار للحياة، لا يمكن أن تخلو منه؛ لأن الله تعالى خلق الحياة الدنيا أصلاً مليئة بالأكدار. جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقدار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار فعليكم جميعاً رجالاً ونساء بالواقعية والاعتدال والمرونة، وأن تدركوا أن هذه طبيعة الحياة الدنيا، وإليكم نصيحة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضاه، قال: [[وجدناخير عيشنا بالصبر]] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 الأسئلة . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 أجهزة البث المباشر السؤال يقول: هناك أجهزة الدش موجودة في عدد من الأماكن، وذكر الأخ السائل بعض البيوت التي توجد فيها هذه الأجهزة. الجواب هي أجهزة في غاية الخطورة، وعلى الجيران وأهل المسجد وأخي السائل أيضاً أن يقوم بنصح أصحاب هذه الأجهزة وتذكيرهم بالله تعالى وتخويفهم بمغبتها وما تجره من الضرر عليهم وعلى أزوجهم وأولادهم. اللهم اهدنا واهد لنا واهد بنا، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى. ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا، فأنت الله الذي لا إله إلا هو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الحي القيوم الذي هو على كل شيء قدير، وهو بكل شيء عليم، إنا آمنا بك وبرسلك، وتوكلنا عليك وفوضنا أمورنا كلها إليك، اللهم إنا نسألك أن تنزل علينا في هذه اللحظة -رجالنا ونساءنا- من بركاتك يا حي يا قيوم ما تلم به شعثنا، وتقوي به ضعفنا، وترحمنا به في الدنيا والآخرة. اللهم تب علينا، وارحمنا بترك المعاصي أبداً ما أحييتنا، الله تب علينا يا حي يا قيوم، اللهم تب على التائبين، اللهم وفقنا للتوبة، اللهم وفقنا للإقلاع عن الذنوب، اللهم استعملنا فيما يرضيك، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين ولا مبدلين ولا مغيرين. اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 توبة السارق السؤال يقول: عندما كنت في السنة الخامسة عشرة كنت أنا وزميلان لي نسرق من مستودع قريب من منزلنا، وأعرف الآن صاحب المستودع، فما هو الحل؟ الجواب الحل هو إعادة هذا المال إليه؛ فما دمت تعرف صاحبه، فواجب أن ترجع إليه المال الذي أخذته منه، أما لو كان الإنسان لا يعرف صاحبه، أو كان انتقل إلى مكان آخر، فإن عليه أن يتصدق بهذا المبلغ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 الأوقات المنهي عن الصلاة فيها السؤال ما هي الأوقات المنهية عن الصلاة فيها في اليوم والليلة؟ الجواب أوقات النهي خمسة؛ أولها: بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، والثاني: من طلوع الشمس إلى أن ترتفع قدر رمح، وهذا يتم خلال عشر دقائق إلى ربع ساعة، وهذان الوقتان متصلان فنستطيع أن نقول: إنهما وقتٌ واحد من صلاة الفجر إلى أن ترتفع الشمس قدر رمح، أي إلى بعد طلوع الشمس بربع ساعة، الوقت الثالث: هو وقت الزوال وقت زوال الشمس لحظة الزوال، وهي قليلة أيضاً، تعادل نحو خمس إلى عشر دقائق، الوقت الرابع: من صلاة العصر إلى حين غروب الشمس، الوقت الخامس من حين غروب الشمس إلى أن تغيب في الأفق ويدخل المغرب وهذا الوقتان متصلان أيضاً وبعض الفقهاء يقسمونهما إلى قسمين النهي المخفف وهو ما بعد الفجر وما بعد العصر والنهي المغلظ وهو لحظة ارتفاع الشمس ولحظة الزوال ولحظة الغروب، وينبغي أن يعلم أن أوقات النهي هذه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ فيها بنافلة بتطوعٍ مطلق، لكن لو صلى لسبب كتحية المسجد مثلاً أو ما أشبه ذلك، فلا حرج عليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 الإجازة والعمل عند النصراني السؤال أنا أشتغل وأعمل في مؤسسة توزع مكسرات وصاحبها نصراني هل يجوز لي العمل معه، وأنا أحب صلاة التراويح والتهجد وأحب حضور الدروس والمحاضرات؟ الجواب لا بأس، يجوز العمل بمثل هذة المؤسسة، وذلك لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد عمل عند يهودي على تمرات كما هو معروف، لكن عليك أن تدعوه إلى الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 كفارة اليمين السؤال يقول: علي حلف يمين، وأنا غريب في البلد، هل أطعم في بلدي أم هنا؟ الجواب تطعم في أي مكان عشرة مساكين من أوسط ما تطعم أهلك أو تكسوهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 جواز الوتر بخمس ركعات متصلة السؤال وهاهنا أيضاً بعض الأسئلة تسأل عن جواز أن يوتر الإنسان بخمس ركعات موصولة بتسليمٍ واحد، وهل هذا يجوز؟ الجواب إن هذا جائز، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {من أحب أن يوتر بخمسٍ فليفعل} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 نصائح لبائعي الأغاني السؤال يقول كما هو معلوم أنه في هذا المسجد المبارك أكثر من خمسة آلاف مسلمٍ مصلٍّ، ونحن في شهر مبارك، فأهل المعاصي يكون عندهم التقبل أكثر إلى اقتراح كل واحدٍ منا إلى محلات تسجيلات الأغاني ويطلبون منهم أشرطة إسلامية، مثل القرآن أو خطب أو محاضرات، وسوف يجيبون بعدم وجود تلك الأشرطة، وأنهم لا يبيعون إلا أغاني، ثم بعد ذلك يتم نصحهم في بيان مضرة هذا العمل وهكذا، ويطلب الأخ أن أقرأ السؤال. الجواب هؤلاء نحن قرأنا هذا السؤال، ولا حرج بل ينبغي على الإخوة بهذا أو مثله، مثل أن ينصحوا نصيحة مباشرة، فإن أصحاب محلات الأغاني قد خصصوا عملهم بذلك، ومثلهم أصحاب الفيديو، ومثلهم العاملون في بنوك الربا، ومثلهم الذين يتعاطون الحرام بأية صورة، فلماذا لا نكون ناصحين آمرين بالمعروف ناهيين عن المنكر في كل مكان وفي كل وقت وخاصة في هذا الشهر الكريم؟! الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 العمل في البنوك السؤال إن لي ابناً يعمل في أحد البنوك، يعطيني كلما زارني قدراً يسيراً من المال كل شهرٍ أو شهرين؛ فهل يجوز قبول هذا المال رغم أني لا أصرفه على نفسي بل أصرفه فيما يحتاجه منزلي؟ الجواب إذا كان هذا الولد له مصارف أو مصادر متعددة للمال مثل ورث بعض المال وله تجارات، فلا حرج في قبول هبته ومساعدته وصدقته وأعطيته، أما إن كان دخله الوحيد من الربا، فلا يجوز قبول شيء من ذلك، ونوصي جميع الإخوة الذين يعملون في البنوك أن يتقوا الله تعالى ويتركوا ذلك ولا يقل الإنسان منهم: لا أجد عملاً، فإنه لو اضطر إلى أن يتسول فهذا خير له من أن يعمل في البنوك الربوية، فإن سؤال الناس إذا احتاج إليه حلال، ولكن العمل في البنوك الربوية حرام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 نشر الجهود الدعوية في كتاب السؤال يقول: إن تلك الجهود الدعوية والخيرة الموجودة في هذه المنطقة من جهودٍ تقوم بها جماعة تحفيظ القرآن وجمعية البر، ويقوم بها الكثير من المشايخ وطلبة العلم وغير ذلك من الجهود الدعوية والخيرية أمر يفرح ويسر، والاقتراح لماذا لا يتم الحديث عن هذه الجهود في كتاب يتم طبعه وتوزيعه، لكي تحتذي ذلك المناطق الأخرى؟ الجواب على كل حال الحمد لله تعالى، هذه المنطقة فيها خيرٌ كثير، والمناطق الأخرى فيها خير أيضاً، وما يقع هنا يسمع به الإخوة في مناطق أخرى ويقتدون به، وقد يكونون من السابقين في بعض الأعمال؛ ولو أمكن أن يقوم بعض المحتسبين برصد هذه الأعمال ودراستها وإبرازها بطريقة إعلامية جيدة، لكان هذا حسناً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 ارتداء النقاب للمرأة في البيت الحرام السؤال كثير من الفتيات يرتدين النقاب في البيت الحرام؛ فما حكم ذلك؟ الجواب أما إذا كانت محرمة بحجٍ أو عمرة، فلا يجوز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تنتقب المحرمة} وهكذا بعض ألوان النقاب التي انتشرت بين الفتيات تزين عيونها بألوان الكحل ثم تضع نقاباً واسعاً يبين عن عينيها وحواجبها وجزء من خدها، وربما يكون أداة للزينة والإغراء، فإن الملابس الشرعية والحجاب كله إنما شرع لكف الفتنة لا لإثارتها، أما إذا كان النقاب بقدر ما يبرز العين فحسب ولمشاهدة الطريق، فلا حرج في ذلك كما هو ظاهر حديث ابن عمر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 حكم جلوس الحائض في حوش المسجد السؤال هل يجوز للمرأة أن تجلس في حوش المسجد، وهي حائض؟ الجواب أما دخول المرأة الحائض إلى المسجد فالراجح أنه لا يجوز، أما إذا كانت تجلس خارج المسجد في الساحة المحيطة بالمسجد او القريبة منه، ولو كانت تستخدم للصلاة أحياناً إذا ضاق المكان، فلا حرج في ذلك إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 أفضلية الصفوف الأولى للنساء إذا كن مفصولات عن الرجال السؤال سمعنا أن خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها، فما رأيكم إذا كان المكان محجوزاً بين الرجال والنساء؛ فأين تكون الأفضلية؟ الجواب إذا كان المكان محجوزاً والرجال لا يرون النساء ولا يقربون منهن، فالظاهر أن الأفضلية للصفوف الأولى الأقرب إلى الإمام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 بقاء أهل الخير في وظائفهم السؤال تقول: أنا معلمة في إحدى المدارس، والمشكلة هي خوفي من الظلم، سواء بعدم اتقاني للمادة العلمية أو الظلم في الدرجات، حيث إنني بعض الأيام أفكر في ترك هذه المهنة، مع العلم أني أبذل جهدي بالابتعاد عن ذلك؟ الجواب بل يجب عليها أن تظل في هذا العمل ما دامت مخلصة باذلة لجهدها، وتسعى إلى الاعتدال في الدرجات وبذل ما تستطيع في التعليم، ولا يصل هذا الأمر بها إلى درجة الوسوسة والشك؛ فإن هذا الأمر مما قد يدخل به الشيطان إلى الإنسان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 التفرقة العنصرية السؤال وجهت أكثر من مرة ولأكثر من شيخ، ولكنه في كل مرة يذهب إلى دائرة المحفوظات، والسؤال هو لماذا لا يتطرق المشايخ والعلماء إلى موضوع هام، أرى أنه من أساسيات في بناء أي مجتمع، ألا وهو موضوع التفرقة العنصرية، فيا ليت لو تحدثت عن هذا الموضوع بمحاضرة خاصة! خاصة أن المجتمع يعاني من هذه الآفة. الجواب هذا موضوع طويل ومتشعب، وقد وعدت أكثر من مرة بأنني سوف أتحدث عنه إن شاء الله تعالى، نعم سبق أن تحدثت عنه مراراً لكن دون تفصيل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 من أحوال الموسوسين السؤال سمعنا فتوى مضمونها أن الإنسان إذا كرر قراءة الفاتحة فصلاته باطلة؛ لأنه كالذي يأتي بركن زائف خصوصاً إذا كان متعمداً؛ فهل هذه الفتوى صحيحة خصوصاً أن بعض الناس يكررها من باب الوسواس؟ الجواب مشكلة الموسوس أنه يقع في الوسواس في العمل، فإذا أفتيته وسوس في الفتوى، فهو يوسوس في قراءة الفاتحة فيعيدها، فإذا سمع هذه الفتوى قال: يمكن تكون صلاتي باطلة؛ لأني كررت الفاتحة، ونقول له: لا عليك قراءتك الفاتحة مرة واحدة تكفي، وينبغي ألا تتجاوز ما أمرك الله به، لكن لو أنك كررتها شاكاً في ذلك، فلا شيء عليك، وليست صلاتك بباطلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 استعمال الكفار في أعمال يكون لهم بها تسلط على المسلمين السؤال ما رأيكم في تشغيل النصارى والوثنيين والهندوس والبوذيين في إداراتهم أعمال المسلمين داخل بلادهم ومحبتهم وتعظيمهم؟ وما توجيهكم تجاه هذا الأمر؟ الجواب هذا أمرٌ عجيب! أن كثيراً من المسلمين -سواء في الإدارات الحكومية أو المؤسسات أو الشركات الأهلية- أنهم يستخدمون بعض النصارى، بل كثيراً من النصارى والبوذيين ويولونهم، وقد يكون هؤلاء أحياناً مسئولين عن أعمال، وتحت ولايتهم بعض المسلمين، فيذلونهم ويهينونهم، ويكتبون عنهم التقارير السيئة، ويسعون في إبعادهم بكل وسيلة، وقد يحولون بينهم وبين العبادة كالصلاة والصيام، وهذا في الواقع خيانة لأخوة الإسلام؛ كيف تأتمنونهم وقد خونهم الله؟! وتستعملونهم وقد أبعدهم الله تعالى؟! كيف يكون هذا؟! كيف تكرمونهم وقد أذلهم الله؟! ألا اتخذت حنيفاً مسلماً؟! هل ضاقت الأرض بالمسلمين؟! يقول البعض: المسلمون ليس عندهم خبرة! نعم وسيظلون بدون خبرة إذا كنا نذهب فنأتي بالممرضات وبالأطباء وبالعاملين وبالخبراء وبألوانٍ من الاختصاصات من غير المسلمين، فيكسبون الخبرة والمال من بلادنا، ثم يعودون إلى بلادهم شوكة في حلوق المسلمين، لا! يجب أن نأتي بالمسلمين ونعلمهم ليكسبوا الخبرة والمال، ويتعلموا في هذه البلاد، ويرجعوا بالدين الصحيح، بالعقيدة السليمة، بالمال، بالخبرة حتى نساهم في رفع مستوى المسلمين في كل البلاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 بشائر النصر السؤال قد يئس من انتصار المسلمين، وقد أحاط الكفر ببلاد المسلمين، أرجو بيان سنن الله تعالى في ذلك حتى لا ييئس المرء من انتصار الدين؟ الجواب أعجب ممن ييئس من انتصار الدين في هذا الوقت، فهذا الوقت حتى اليائسون عادت إليهم الآمال، فالإسلام قد أصبح يكسب أنصاراً جدداً، لا أقول: من المسلمين فقط، بل حتى من الكفار من الوثنيين والنصارى، أصبحوا يدخلون في دين الله أفواجاً على رغم ضعف الإمكانيات وضعف الوسائل، والإسلام أصبح اليوم يكسب مواقع جديدة في كل وقت، وأعداء الإسلام أصبحوا يتراجعون، والدول الكبرى التي كانت تحارب الإسلام أصبحت تتهاوى، فبعد سقوط الشيوعية العدو الأكبر للإسلام وللتوحيد، ها نحن نرى بأعيينا بوادر سقوط الرأسمالية في العالم الغربي، وعلينا أن ندرك أنه خلال سنوات ليست بالطويلة سوف ينتصر الإسلام، وتقوم تعلن تحكيم الشريعة، وتعلن حماية المسلمين في كل مكان، وعلينا نحن أن نكون من أنصار الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 من أحوال المسلمين في البوسنة السؤال هل هناك تحسن في البوسنة كما في الصومال؟ الجواب أما من حيث التوجه إلى الله تعالى والاستقامة فنعم، انتشر الحجاب الشرعي، ومدارس تحفيظ القرآن، وحفظ القرآن الكريم، والمترددون على المساجد، وارتفعت معنويات المسلمين، وشعروا بالعداء للكفار، والمحافظة على الصلوات، وتحسنت عقائدهم، والكثير الحمد لله تعالى قد أقبلوا على الله تعالى رجالاً ونساء إقبالاً عظيماً محموداً، حتى إن العبد يقول: رُبَّ ضَارةٍ نافعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 معنى المباشرة التي كان يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم السؤال يقول: ما معنى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم؟ وما معنى المباشرة؟ الجواب المباشرة هي أن تلمس البشرة البشرة مثل التقبيل أو لمس المرأة يعتبر مباشرة، ولكن لا تعني المباشرة الجماع في حال من الأحوال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 مسابقة الإمام السؤال مسابقة الإمام بالصلاة أو موافقته أرجو إلقاء نصيحة بهذا الموضوع؟ الجواب هذا حرام، بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالاقتداء بالإمام، وقال كما في الصحيح: {إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد} . وفي صحيح البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: {أنهم كانوا وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا سجد النبي صلى الله عليه وسلم لم يخر أحد منهم ساجداً حتى تقع جبهة النبي صلى الله عليه وسلم على الأرض، ثم يسجدون بعد ذلك} فمسابقة الإمام لا تجوز، وموافقته يقول الفقهاء: مكروهة، وقد تؤدي إلى المسابقة ويتعود الإنسان عليها، وينبغي للمأموم ألاَّ ينتقل إلى الركن إلا بعد أن يتم انتقال الإمام إليه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 التواكل السؤال يقول: بعض المسلمين يقولون: ما دمنا نعلم أن المستقبل لهذا الدين؛ فلماذا نتعب أنفسنا بالعمل والله سينصر دينه ويحميه كما حمى الكعبة من أبرهة الحبشي؟ الجواب على النقيض والله يا أخي، الكلام عن مستقبل الإسلام يرفع المعنويات، ويزيد من همم الناس؛ لأن دين الله تعالى منصور، ولكن الله تعالى سينصر دينه على يد جنوده المخلصين، فنرجو أن نكون من هؤلاء، ولكن إذا شعر الإنسان بأن العدو كبير والخطر عظيم، فإنه ربما يداخله شيء من اليأس، فإذا قيل له: إن المستقبل لهذا الدين ارتفعت معنويته وتقدم ليقوم بمشاركة في هذا المجال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 النصيحة من المدرس للتلاميذ السؤال يقول: أعمل مدرساً ومن ضمن المواد التي أدرسها مواد شرعية، وأستغل في الوقت المتبقي من الحصة في نصح الطلاب عن الصلاة وترك الأغاني ومشاهدة التلفاز وما أشبه ذلك؛ مع أني أقوم بتوزيع الأشرطة، وأقوم بفعل بعض الأشياء التي أنصح بتركها، فهل يجوز لي هذا؟ الجواب نعم عليك أن تنصح الناس بالمعروف ولو كنت تاركاً له، وتنصحهم عن ترك المنكر ولو كنت فاعلاً له، وهذا لا يضر، إنما الذي يضر تركك للمعروف وفعلك للمنكر، فهذا هو الذي تأثم به، أما النصيحة فهي واجبة حتى من المقصرين وحتى من المفرطين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 سفر النساء بلا محرم السؤال هذا سؤال طويل خلاصته أن إحدى الجهات المعروفة وذات العلاقة بالجمهور قد قامت بإرسال حافلة أو حافلات من مراكز متعددة يوم الثلاثاء الماضي من أجل العمرة، ومجموعة من النساء ليس معهن محارم، وقد تركن أعمالهن من ذلك الوقت حتى هذه الليلة ولم يعدن، وسافرن بدون محرم، وهو مخالف لتعاليم الإسلام، وكذلك مخالف للأنظمة الصادرة من هذه البلاد، وعلماؤنا يحذرون من السفر بالعوائل إلى مكة إذا كان الرجال لا يستطيعون مراقبة أولادهم ونسائهم؛ فما بالك بنساء عازبات ليس معهن محارم؟ الجواب هذه أحد الأخطاء، وأنا سوف أحتفظ بهذه الورقة، وسنخاطب أهل الاختصاص فيها، ونبذل ما يستطاع في مثل هذا، ونسأل الله أن يعين الجميع على فعل المعروف والأمر به وترك المنكر والنهي عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 من صور الميسر السؤال بعض الشباب خاصة في رمضان يكونون فرقاً ومباريات في الشهر، ويلزمون كل لاعب أن يدفع خمسمائة ريال حتى يشتروا للفريق الفائز جوائز فما الحكم؟ الجواب هذا لا يجوز؛ لأنه نوع من الميسر الذي نهى الله عنه؛ فإن هذه المبالغ قد يأخذ من دفعها أضعاف أضعافها، فضلاً عن أن استغلال وقت رمضان في مثل هذه الألعاب وتضييع الليل كله في ذلك أنه من باب استبدال الأدنى بالذي هو خير ومما نهى الله تعالى عنه بني إسرائيل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] . فكيف تترك قراءة القرآن والذكر التسبيح ومجالس العلم أو حتى الأعمال المباحة في مثل هذه الأشياء التي هي بلا شك محرمة، أعني جمع المبالغ وأن يأخذها الفريق الفائز، وهو قد شارك في جمعها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 النوم عن الصلاة السؤال ما رأيكم في أناس يأتون من المدرسة الساعة الثانية ظهراً، وينامون ولا يصلون العصر حتى قبيل أذان المغرب؛ فهل يجوز هذا الفعل؟ الجواب كلا! {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] وتأخير الصلاة عن وقتها من كبائر الذنوب، ومن تركوا صلاة العصر إلى أن كادت أن تغرب واصفرت، فقد أخروا الصلاة عن وقت الاختيار، وأثموا بذلك فضلاً عن إثمهم بترك صلاة الجماعة؛ فهم آثمون بالوجهين: أولاً: بتأخير صلاة العصر إلى اصفرار الشمس وقرب الغروب، وهذا الوقت لا يجوز تأخير الصلاة فيه إلا لضرورة. ثانياً: أنهم آثمون بترك صلاة الجماعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 حزب الاتحاد الإسلامي الصومالي السؤال ما رأيكم في حزب الاتحاد الإسلامي الصومالي؟ وهل تؤيدون مناصرته؟ الجواب نعم! هو حزب إسلامي، سلفي المعتقد، موثوق المنهج، وله جهودٌ طيبة في الدعوة والتعليم والجهاد وغير ذلك، وهو من الأحزاب التي ينبغي مناصرتها وتأييدها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 جمع التبرعات السؤال هذا أخٌ يقول نرجو منكم الدعاء لمن يقومون بجمع التبرعات؟ الجواب في الواقع أن الإخوة تجاوبوا تجاوباً مشكوراً جزاهم الله خيراً، وهناك العديد من الشباب وغيرهم جمعوا من زملائهم مبالغ طيبة ووافوني بها، وهذا رفع المبلغ الذي جمعناه للبوسنة ما يقارب مائة ألف ريال، وكذلك الحال بالنسبة للصومال، وندعوهم إلى المواصلة، وندعو الله أن يجزيهم خيراً على ما بذلوا، وأن يقر أعينهم بصلاح قلوبهم وأولادهم وزوجاتهم، إنه على كل شيء قدير، وليعلموا أن كل مبلغٍ قلَّ أو كثر يقومون بجمعه، فهم شركاء في الأجر فيه إن شاء الله تعالى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 صلاح الظاهر والباطن يرى الشيخ أن الخطاب الدعوي حالياً يركز على إصلاح الظاهر ولا يهتم بإصلاح الباطن وأن الناس عامتهم وخاصتهم يخدعون بالمظاهر ويقَيِّمون الناس على أساسها، وأن التوبة اقتصرت على إصلاح الظاهر، وأن المربين لا يعالجون أمراض القلوب بقدر ما يهتمون بالظاهر كما أن بعض الناس يحتج عليك إذا نهيته عن منكر هو عليه بأن التقوى في القلب وفي هذا الدرس ذكر العوامل التي يصلح بها الباطن، كالعلم، والعمل الصالح، والاهتمام بالأعمال القلبية، كالحب، والخوف، والرجاء، وغير ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الإنسان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اقترح علي بعض الإخوة أن تكون هذه المحاضرة حلقة ضمن دروس السلسلة العلمية العامة، ورأيت هذا الاقتراح وجيهاً، وذلك نظراً لأهمية موضوعها وحاجة الكثير من الناس إليه هنا وهناك، ولذلك فإن رقم هذا الدرس هو الحادي والخمسون، وهذه ليلة الخميس الثالث عشر من جمادى الآخرة لسنة (1412هـ) وينعقد هذا الدرس استثناءً في هذا المكان في جامع حي سلطانة، وعنوان هذا الدرس: صلاح الظاهر وصلاح الباطن. الإنسان مظهر ومخبر، وصورة وحقيقة، وهذا أمر معروف تفَّطن له الناس قديماً وحديثاً، ولذلك قال الأول -الشاعر الجاهلي- وهو زهير بن أبي سلمى: وكائن ترى من صامت لك معجبٍ زيادته أو نقصه في التكلم لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم تبق إلا صورة اللحم والدم أي أن الإنسان وهو ساكت قد يعجبك، لكنه إذا تكلم زاد أو نقص بحسب جودة كلامه وقوته وسيلانه أو عكس ذلك، فإذا كان لسان الفتى نصفاً، وكان عقله وقلبه وفؤاده نصفاً آخر، لم يبق منه إلا صورة اللحم والدم، وهو بذلك يلفت النظر إلى أهمية تثقيف الإنسان، وبتقوية عقله، وتعزيز ذهنه، وتحريك قريحته، وكذلك تدريبه على جودة المنطق وصفاء الكلام، قبل أن يكون الاهتمام بمظهره وشكله الذي هو صورة من اللحم والدم، يستوي فيها الإنسان مع غيره من الحيوانات، وهكذا لم يكن المقياس عند الناس -حتى في الجاهلية الأولى- في الإنسان مقياساً ظاهرياً محضاً في شكله وهيئته ومظهره، بل كانوا يقيسون الإنسان بباطنه وحقيقته، قبل أن يقيسوه بمظهره، ولعلنا جميعاً نحفظ تلك القصيدة الطويلة الجميلة، التي قالها العباس بن مرداس السلمي وهو يخاطب بعض بني قومه معاتباً: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير كم من إنسان يعجبك بمظهره، لكنك إذا ابتليته وقسته ومسسته، لم تجده أهلاًَ لهذا الإعجاب. ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات نزور أي: أن هذه البغاث من الطيور الصغيرة كثيرة الفراخ، لكن الصقور قليلة نزرة، تلد بين الفينة والأخرى، وشيئاً يسيراً واحداً، ومع ذلك فإنه ثمين نفيس عظيم، لا يقاس ببغاث الطير؛ ولهذا قيل: "إن البغاث بأرضنا يستنسر" أي يتشبه بالنسور وهو لا يقاس ولا يقرن بها. صغار الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير وتضربه الوليدة بالهراوي فلا غير لديه ولا نكير يُصرفه الصغير بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير أي: أنه يجر بالحبل، وهو ضخم كبير فلا يُغيَّر ولا يتحرك، ثم قال: فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 2 علاج المظاهر المخالفة للشرع أقصد من هذا الكلام أن أقول: إنه بالنسبة للأشياء المتعلقة بمظهر الإنسان، إذا كان معتاداً على فعلها أو على تركها، وغيَّر فربما يجد صعوبة أول الأمر، ثم بعد ذلك يصبح الأمر طبيعياً، لتعوَّد الناس على أن فلاناً يعفي لحيته، وانتهت المشكلة خلال أسبوع. لكن أمور المخبر، قلبية ليست بهذه البساطة أبداً، فهي أمور صعبة، وقد يجاهد الإنسان نفسه زماناً طويلاً على علاج مرض من أمراض القلب كالرياء، ويفشل ويخفق في ذلك، حتى أن منهم من يقول: والله إني أعالج نفسي من آفات الرياء مئات المرات، حتى إذا ظننت أني قد نجوت منه وجدت أني قد بليت به من جديد، فعدت أجاهد نفسي بعد ذلك مرات ومرات، وقل مثل ذلك في أمراض القلوب، وهي كثيرة جداً. إذاً: علاج أمراض القلب ليس كعلاج الأمراض الظاهرة، فالأمراض الظاهرة علاجها أيسر، وقد يتركها الإنسان بسهولة، وقد يتركها تصنعاً، وقد يتركها لسبب أو لآخر، لكن أمراض القلوب لا يتركها العبد إلا لله؛ لأن المطلع على القلب هو الله سبحانه، وكذلك إزالتها ليست بالأمر الهين، بل هي أمر صعب يحتاج إلى مجاهدة. ولعلكم من خلال هذا أدركتم جانباً من أهمية علاج مثل هذه الأمور، سواء على مستوى الخاصة أو على مستوى العامة على مستوى طلبة العلم والدعاة والعباد والزهاد أو غيرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 اهتمام الإنسان بالمظاهر أيها الإخوة: واقع الناس في كل زمان ومكان أنهم قد يهتمون ويكترثون بالمظاهر أكثر مما يهتمون بالحقائق والمخابر، فأنت حين تنظر إلى العامة، تجد أن عنايتهم بالمظهر أكثر من عنايتهم بالمخبر، سواء في ذلك تربيتهم لأبنائهم، فيُعْنَى الواحد منهم بإعداد ولده، يُعْنَى بثيابه، ومظهره، ويُعْنَى بصحته، وجماله، لكن هل يعنى بعقله، وخلقه، وبدينه، وفصاحته؟ هذا قليل! أما عنايتهم -مثلاً- بمناسباتهم: فقد يعنون بالمناسبات، فيظهرون هذه العناية على شكل حفلات، أو أكل يقدم، أو طعام، أو شراب، لكن العناية بهذه المناسبات في معرفة السبب في وجودها، كأن تكون عيداً من الأعياد الشرعية، وربط الناس بهذا المعنى هو قليل، بل أقل من القليل. بل تجد عنايتهم حتى بأمور معاشهم، من طعامهم وشرابهم ولباسهم، وغير ذلك، فقد يعنى الواحد منهم بمظهر معين، من لبس أو أكل أو شرب أو غير ذلك، لكن هل يعنى بكونه من حلال أو من حرام؟ قد يعنى بالمظهر الدنيوي من كون هذا الطعام حلواً أو لذيذاً، لكن هل يعنى بكونه نافعاً للبدن؟ هذا قليل! فضلاً عن أن يعنى بكون هذا الطعام مباحاً شرعاً، وليس فيه حرام، أو لم يأت من حرام ولا غير ذلك. بل حينما تنظر إلى عباداتهم، تجد أن هذه العبادات أصابها ما أصاب الأمور الدنيوية، فأصبح الناس يهتمون في العبادة بالمظهر أكثر مما يهتمون بالمخبر، فقد يُقبِلَ الواحد منهم على صلاته، ويحافظ عليها، وهذا محمود بكل حال، ولكن هل يخشع في صلاته ويُقبل على ربه؟ وهل يبكي وتدمع عينه؟ هذا قليل!! قد يسمعون القارئ يقرأ القرآن، فتجد أن أكثر الناس يخرجون ويقولون: قد أجاد! بارك الله فيه! ما أحسن صوته! ما أحسن قراءته! ما أضبطه! لكن أن تكون هذه القراءة وصلت إلى قلوبهم، أو تبللت عيونهم على الأقل ببعض الدموع، هذا قليل! وهكذا تجد حالهم في صيامهم، وحجهم، وعمرتهم، وفي سائر أعمالهم. قد يذهب الإنسان للحج أو العمرة، فتجد أنه كلما جاء رمضان، ذهب يعتمر، هو وأولاده، وكلما جاء موسم ذهب يحج، لكن أصبحت الجلسات هناك جلسات أنس وحديث وزائر ومزور وضحك وسواليف وما أشبه ذلك، أكثر مما هي أسفار بقصد العبادة والتقرب إلى الله تعالى. فسيطر الظاهر على دنيا الناس، بل حتى على كثير من أمورهم الدينية. أما إذا انتقلت إلى الخاصة، فإنك تجد الأمر نفسه موجوداً من طلبة العلم والدعاة والعلماء وغيرهم. فتجد -مثلاً فيما يتعلق بطلب العلم- الإنسان قد يهتم بالكم: كثرة ما يقرأ، وكثرة ما يحفظ وما يحصل، وكثرة جلوسه إلى مجالس العلماء، وما أشبه ذلك، لكن أن ينظر في أثر هذا في قلبه، والتأثير في نفسه، ومدى عمله بما علم، وهل هذا من العلم النافع أو غير النافع؟ هذا قد لا يلتفت إليه كثيراً. ومثله إذا انتقلت إلى موضوع العبادة، قد تجد الناس يكثرون من الكلام في العبادات، وقد يتنافس بعضهم مع بعضهم في كثرة العبادة، لماذا؟ لأنهم يسمعون الكلام عن أن فلاناً كان يصلي في الليلة ألف ركعة، وفلاناً كان يختم القرآن في ليلة، وفلاناً كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وفلاناً كان كذا وكذا وهذه كلها أشياء بعضها وارد، وصحيح، وبعضها قد يكون فيه مبالغة، لكن هل يهتمون بالكيف مثلما يهتمون بالكم؟ فيقبل الإنسان منهم على صلاته، وصيامه، وقراءته، وعبادته، بحيث يكون هذا من العلم، من الذكر النافع المقرب إلى الله تعالى، وتكون صلاته وصومه، وحجه، وعبادته زلفى إلى ربه!! هذا فيه نظر. كذلك إذا انتقلت إلى مجال الدعوة إلى الله تعالى، تجد الذين ينطلقون إلى الدعوة كثيرين، لكن ربما صبوا جل اهتمامهم على تكثير سواد الناس كما يقال، فكثر المقبلون على الدعوة، وكثر الأخيار، والملتزمون، لكن كم مِن هؤلاء مَن يكون في قلبه إشراق ونور؟ وكم من هؤلاء من دخلت حقيقة الإيمان ولامست قلبه أو تغيَّر باطنه؟ قليل! أما الأكثرون فقد تغيَّر ظاهرهم فقط، أصبح مظهرهم ملتزماً -كما يقال- أصبح مقصراً لثوبه، وفيه خير في مظهره، لكن القلب لم يتغير، هل عالجنا القلوب؟ هذا السؤال يطرح نفسه. وفي كثير من الأحيان، نعتقد نحن الدعاة أن مهمتنا مع الناس تنتهي بمجرد أن يلتزموا ظاهرياً، فإذا رأينا فلاناً الذي كان بالأمس مدمناً للمخدرات، أو تاركاً للصلوات، أو واقعاً في الجرائم والموبقات، أو عاقاً لوالديه، أو مرتكباً للآثام، فيخرج من سجن ليدخل في سجن آخر، أو كل يوم يمسك في قضية، فمجرد أن نجد هذا الإنسان أظهر الاستقامة، وأعفى لحيته، وأزال ما كان في ثوبه من الطول المخالف للسنة، اعتقدنا أن مهمتنا انتهت عند هذا الحد، وأصبحنا نتحدث عنه في المجالس، ونطريه، فنثني عليه ونعتبره نموذجاً، ونتكلم عنه، وننسى أنا لم نعالج بعدُ أخطر منطقة في نفسه، ألا وهي القلب. وقد يكون عند هذا الإنسان أمراض وعيوب ما عولجت، فقد يكون في الماضي عنده كذب، أو غرور، أو مصائب، وعلل، وأمراض في قلبه ما عالجناها، بل ربما ما عرفناها أصلاً، لماذا؟ لأن قضيتنا مظهرية انتهت عند حدود الالتزام الظاهري، فبمجرد أن التزم هذا الإنسان ظاهرياً، اعتقدنا أنه جاوز القنطرة وانتهى دورنا عند هذا الحد، وهذا خطأ كبير؛ لأنه سوف يجعل الإنسان عرضة للنكسات مرة بعد أخرى، وبقدر ما فرحنا به اليوم قد نحزن له بالغد، وكم من إنسان فرحنا به وطبَّلنا حوله ودندنا له؛ لأنه فلان الذي كان وكان، كان رياضياً أو فناناً أو كان مشهوراً أو أياً كان اهتدي وأصبحنا نقدمه للناس على أنه رمز لانتصار الإسلام، وعلى أنه رمز للهداية، والتقوى، وبعد حين نفاجأ بهذا الإنسان أنه قد انتكس وتراجع، وبقدر ما فرحنا لهدايته وتوبته، حزنّا لرجوعه وانتكاسه، وبقدر ما بيَّض وجوهنا بالأمس، سوّد وجهنا اليوم والعيب منا نحن الدعاة، والمصلحين؛ لأننا اعتبرنا أن مجرد هداية الإنسان في ظاهره، ونسينا أن نعالج أخطر شيء في نفسه وهو القلب، وظننا أن أمراض البدن هي أمراض الظاهر فقط، فلذلك انتكس هذا الإنسان. أمر آخر: أن هذا الإنسان قد لا ينتكس ظاهراً؛ لأنه قد أصبح من الأخيار، فهو محسوب عليهم، ويذكر من ضمنهم، ويحس في نفسه أنه قد وقع في عداد الأخيار، ومن الصعب جداً أن يستل نفسه منهم، أو يخرج من بينهم لكن هنا تقع مصيبة أعظم وأهول وأطول وهي: أن مصائب هذا الإنسان بدأت تظهر، فقد يكون كذاباً كل يوم له قصة طويلة عريضة، ليس لها زمام ولا خطام، يخلق ما يقول: من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة لي حيلة فيمن ينمُّ وليس في الكذاب حيلة ولأن مظهره كمظهر الأخيار أصبح الناس يحسبونه على الأخيار، وهذا الإنسان يفتري ويكذب، ويكذب، ويكذب، وعندما يكتشف كذبه يقال: هؤلاء الطيبون، يكذبون. وقد يكون لصاً، فيسرق فيكتشف أنه لص والعياذ بالله، فيقال: هذا من الطيبين، فينسب إلى الأخيار؛ لأن مظهره منهم، ولأننا أفلحنا في تغيير شكله الظاهر، ولم نعالج -لا أقول: لم نفلح- ولم نجاهد في تغيير قلبه وباطنه وحقيقته، فبقي بمظهره محسوباً علينا، وبحقيقته بعيداً منا، لكن تصرفاته بكل حال محسوبة على الأخيار، فإذا كذب، وسرق، وغش، وافترى، أو ظهر بأي مظهر غير لائق، قال الأعداء: هؤلاء الخيرون، وهؤلاء الطيبون يظهرون لنا شيئاً، ويبطنون لنا خلافه. والحقيقة أن هذا الإنسان لو كانت مقاييسنا حقيقية، ما كان محسوباً على الأخيار، ولا كان منهم، لأن الخير ليس مظهراً فقط، بل هو مظهر ومخبر، وهذا الإنسان أخذ أسهل الأشياء، وترك أعمقه. خذ -مثلاً- اللحية: اللحية من سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، إعفاؤها واجب وحلقها حرام، وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بإعفاء اللحية، فهي سنة، أي: أنها مأثورة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكنها واجبة الإعفاء وحلقها لا يجوز، بل يأثم الإنسان على حلقها أجمع على هذا أهل العلم. والإنسان الذي تعود على حلق لحيته، بكل تأكيد سيجد صعوبة أنه يعفيها أول مرة، لأن الناس الأقارب والأباعد، والزملاء في العمل، وزملاء المهنة، وأهل الحي، وأبناء العم، والجيران، كلهم تعودوا أن فلاناً حليق، فلو رأوه لأول مرة، وقد أعفى لحيته تعجبوا وصار الكثير منهم -وخاصة الأشرار- يعلقون عليه. مثلاً يقولون: ما شاء الله يا فلان تدينت! ما شاء الله يا فلان تغيرت الأمور!! وبعضهم يقولون: كلمات معينة غير لائقة، يقصدون لدغ هذا الإنسان، وبعضهم يقول: بدري عليك! فهذا الإنسان قد يسمع مثل هذه التعليقات لأول مرة، لكن يوم ثلاثة أسبوع بعد ذلك أصبحت شخصيته معروفة أنه ملتحي، فسكتت هذه التعليقات، ولا أحد يعيبه بها، أو يعلق عليه، بل العكس لو أنه حلق لحيته، لوجد من يعيره بذلك، ولوجد الأخيار -أولاً- يعيبونه ويعاتبونه. ومثلاً يقولون: يا فلان نعوذ بالله من الحور بعد الكور! أمس تلتزم بالسنة وتعمل بها، واليوم تحلقها! نسأل الله العفو والعافية! الناس يزيدون وأنت تنقص! اتق الله! فوجد من الأخيار والطيبين والدعاة وطلبة العلم الإنكار والدعوة والتغيير، ومنهم من يعيب عليه ويعتب حتى ولو لم يكن خيّراً، فيقول: يا فلان مالك متناقض ما عرفنا لك طريقة، كل يوم لك حال، وكل يوم لك شخصية، ووضع، فصار يعاب بحلق اللحية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 التغيير الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم لكي تدركوا خطورة الموضوع وأهميته؛ أطرح عليكم سؤالاً: عندما جاء الإسلام، وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام، ما هو الذي حدث بالضبط؟ وما هو أعظم تأثير أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في حياة الأفراد والأمم والشعوب والجماعات؟ خذ مثالاً ملابس العرب في الجاهلية: كيف كانوا يلبسون؟ أما كان العرب في الجاهلية يلبسون الإزار والرداء؟ بلى! كانوا يلبسون الإزار والرداء. أما كان العرب يلبسون العمامة أحياناً؟ بلى! كان من ملابس العرب في الجاهلية، عمامة بذؤابة أيضاً، وكانوا يلبسون النعال، والخفاف، فهل غير الإسلام هذه الأشياء وقال حرام أن تلبس الإزار والرداء؟ وحرام أن تلبس العمامة؟ أو نلبس الخف أو النعل؟ لا! كل ما فعله الإسلام أنه وضع ضوابط وأسساً بالنسبة للباس، أن يكون مباحاً في نفسه، ألاَّ يكون حريراً للرجال، أن يكون ساتراً، ألاَّ يكون مسبلاً تحت الكعبين، ألا يكون ضيقاً، ألا يكون لباس شهرة. إذاً وَضَعَ الإسلام صفات وضوابط للباس، وأما ما كان معتاداً عندهم في الجاهلية، من ألوان الملابس، فإن الإسلام لم يتدخل في تغييرها، إنما دخل في التعديل بما يتلاءم مع الضوابط والشروط الإسلامية الشرعية. سؤال ثانٍ: جاء الإسلام، وأسماء العرب: طلحة، وسفيان، وأرقط، وعبد الله، ومحمد، وغَير ذلك من الأسماء، فهل الإسلام -عندما جاء- غيَّر هذه الأسماء كلها، وألزم كل مسلم جديد أن يغير اسمه، ويستحدث لنفسه اسماً جديداً غير الاسم السابق؟ الجواب لا! ونحن نعرف أن كثيراً من أسماء الجاهلية ظلت في الإسلام، صحيح هناك أناس غيّر الرسول عليه الصلاة والسلام أسماءهم لأنها أسماء لا تنطبق مع الشروط والمواصفات الشرعية، مثل: ألاَّ يكون هناك تعبيد لغير الله، فإذا كان اسمه عبد المطلب أو عبد العزى غير النبي عليه والصلاة والسلام اسمه، وسماه عبد الله مثلاً. وكذلك إذا كان اسمه فيه تشاؤم، قد يغير اسمه مثلما طلب من حزن تغيير اسمه إلى سهل، ومثله إذا كان الاسم مذموماً شرعاً غيره النبي عليه الصلاة والسلام: فالذين كان اسم الواحد منهم العاصي، مثل العاص بن وائل وغيره، غير النبي صلى الله وعليه وسلم أسماء من أسلم منهم، ومنهم مطيع والد عبد الله بن مطيع، كان اسمه العاصي فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً، وآخر سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله، ومثله أبو جندل، كان اسمه العاص كما ذكر أهل السير، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم لأنها أسماء مكروهة، لأن المعصية ممنوعة في الشريعة ومذمومة، فيغيره. إذاً: غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء التي لا تنطبق مع المواصفات والشروط الإسلامية، لكن هل كان كل من أسلم يعطيه اسماً جديداً، أو يقول له: غير اسمك، ما كان هذا شرطاً، متى كان الاسم لائقاً بقي اسمه كما كان من قبل. ونعرف أنه كان في العرب مجموعة ممن تسموا محمداً حتى قبل الإسلام، وخاصة من كانوا على علم بدين أهل الكتاب، وكانوا يتوقعون أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت كان ينتظر أن تكون النبوة له، ولذلك سمى نفسه محمداً، وجماعة سموا أولادهم محمداً رجاء أن يكون أحدهم هو النبي عليه الصلاة والسلام. هل التفت الإسلام عندما جاء إلى أشكال العرب أو المدعوين؛ إلى كون الواحد منهم قصيراً أو طويلاً أو أبيض أو أسود، عربياً أو عجمياً؟ كلا! بل كانت هذه الأشياء غير ذات اعتبار. لما دعا الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، وبدأ بدعوته، هل كانت بداية الدعوة هي فقط دعوة إلى تغيير عادات اجتماعية؟ طريقتهم في العلاقة فيما بينهم، وطريقة استقبال الضيوف، وطريقة طبخ الطعام، وطريقة اللقاء، وطريقة الوداع، وطريقة السفر إلى آخر العوائد مما يسمى بعوائد العرب، هل كانت بداية دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام لما صدع بين أظهرهم: يا معشر العرب! أنتم على عادات قبيحة، وعلى تصرفات غير لائقة، وأنا بعثت لأغير هذه العادات والتقاليد، لا! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 شمولية التغيير إذاً: دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم دعوة عظيمة غيَّرت قلب الإنسان وعقله ومظهره، غيرت الفرد، وغيرت الجماعة، والدولة، والأمة، كل هذا أحدثه الرسول عليه الصلاة والسلام. هذا التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم هو عبارة عن دين كامل مهيمن نظّّم كل شيء، الفرد والمجتمع، المظهر والمخبر، لهذا نقول: حتى بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام فإن كل مسألة تمر بالإنسان سواء كانت قضية شخصية أو زوجية أو عائلية أو اجتماعية أو اقتصادية، تتعلق بالرجل أو بالمرأة، بالفرد أو بالمجتمع، -وكل من ألفاظ العموم- كل قضية فلله وللرسول صلى الله عليه وسلم فيها حكم، إما إيجاب أو تحريم، أو إكراه، أو استحباب، أو إباحة، فلا يوجد شيء في الدنيا تقول فيه: دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فهذا غلط، وهذا عمل الجاهلية الأولى. أما الإسلام فليس هناك شيء لقيصر، كل شيء لله، فقيصر وما ملكت يداه لله، ولهذا كان من تلبية المسلمين: لبيك لا شريك لك، وأهل الجاهلية كانوا يقولون: إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، أعطوه بعض الحقوق. أما في الإسلام، فليس لله شريك والعلمانية تقول: الدنيا لقيصر، والمسجد لله، وهذا كفر بالله وردة عن الإسلام: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] والذي يقول: هذا حلال وهذا حرام، عليه إما أن ينسب ذلك إلى الله والرسول، وإلا فسوف يكون مفترياً على الله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل:116] . إذاً: لا يوجد شيء في الدنيا إلا ولربنا جل وعلا ولرسولنا صلى الله عليه وسلم فيه حكم يجب على المسلم التعرف عليه واتباعه والتزامه. وأنا أقول هذا؛ حتى تعرف أنه ليس في الإسلام تهوين في شيء، فلا تهون في المظهر، وتقول: لا يهم! من الذي قال لك: لا يهم؟! لا يتصور أبداً إنسان عنده صلاح في باطنه إلا وعنده صلاح في ظاهره، ولا يتصور صلاح الأفراد إلا بصلاح المجتمع، ولا يتصور صلاح الرعية إلا ويصلح الحاكم، فكل هذه الأشياء مترابطة، والإسلام جاء بإصلاح الجميع. وكما أن الإسلام ضبط لك المظهر، وأمر المسلم بالعناية بشكله الظاهر، فحرم عليه حلق لحيته مثلاً، وكذلك جاء بتعليم معين في قص الشارب أو تقصيره والأخذ منه, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لم يأخذ من شاربه فليس منا} ؛ ولهذا إذا أراد بعض الناس أن يمدحوا بعضهم، قال: والله الرجال طوال الشوارب! الإسلام لا يمدح بطول الشوارب، ولو كان طول الشوارب مما يمدح به لكان غير الإنسان أولى بهذا، فمن الحيوان المذموم من يكون طويل الشوارب، إنما يأخذ المسلم من شاربه ويقصه. كذلك جاء الإسلام إلى الثياب، ووضع إطاراً عاماً لها، فوضع صفات وشروطاً لا بد من التزامها. وكذلك جاء الإسلام فيما يتعلق بالشعر للرجل والمرأة، بتعليمات لا ندخل في تفاصيلها، سواء في حلق الشعر أو تركه. كذلك جاء الإسلام بسنن الفطرة، كالسواك والاستحداد الذي هو إزالة الشعر الداخل كالإبطين والعانة وغير ذلك من الأشياء التي ينظم فيها مظهر الإنسان، هذا جانب. وبالمقابل جاء بالأشياء الأخرى التي فيها تغيير لعقلية الإنسان، وتغيير لقلبه، فعلَّم الإنسان كيف يعرف ربه، بصفاته وأسمائه وأفعاله جل وعلا وبين من هم الأنبياء والمرسلون، وما هي حقوقهم، وماذا يجب على المسلم بالنسبة لهم من الإيمان بهم، ومحبتهم وأتباعهم، وطاعتهم إلى آخر ذلك. جاء بالنسبة للدنيا والآخرة، فبيَّن الدار الآخرة: البرزخ والموت وما بعده، والصراط، والميزان، والجنة، والنار، والجزاء والحساب، وغير ذلك، وجاء بالإيمان بالقضاء والقدر. وأتى بقضايا كثيرة تُنظِّم فهم الإنسان -إن صح التعبير- أو تصحح فهمه وتصوراته عن كل شيء، كما جاء بالنظام الاجتماعي، من تنظيم أمور الزواج والعلاقات وغير ذلك، وجاء بالنظام السياسي الذي يحكم حياة الناس دقيقها وجليلها، ويبين حق الراعي وحق الرعية والعلاقة بينهما، ومراقبة الحاكم ونقده وتصحيحه، وعدم المتابعة على الخطأ، وتعزيز الصواب إلى غير ذلك، فجاء بنظام سياسي كامل، كما أنه نظم علاقة الناس بعضهم ببعض، أفراداً، وجماعات، ودولاً، ونظم علاقاتهم بالكفار سواء كانوا محاربين أو ذميين أو مستأمنين إلى غير ذلك. وكل ذلك مرتبط بالعقيدة الداخلية الموجودة في ضمير الإنسان والتي ينبثق منها التعليم، وهي الرقيب -أيضاً- على أعمال الإنسان، بمعنى لو كانت القضية مجرد قرار صدر بتغيير شيء، فما دام أن عند الإنسان عقيدة فيمكن أن يخالفه في الخفاء وفي السر، وكم من القرارات التي تصدر في طول العالم وعرضه، تصدر علانية وتخالف سراً! وربما يكون من أول من يخالفها هو من أصدرها! لماذا؟ لأن هذا القرار ما صدر عن عقيدة تكون هي الرقيب على أعمال الإنسان وتصرفاته، حتى وهو منفرد، فإنه يراقب الله تعالى الذي لا تخفى عليه خافية، بل هي أشياء مظهرية شكلية غير مرتبطة بعقيدة؛ ولهذا أخطر شيء على حياة الناس هو أمر العقيدة. خذ مثالاً صغيراً، قضية المخدرات، الآن هناك حرب عالمية على المخدرات، ونحن نشارك ضمن هذه الحرب في أجهزة الإعلام، ونضع أوراقاً في الشوارع، ونضع خرقاً، ونضع دعايات في كل مكان، المخدرات سم قاتل، عدو فاحذروه، وعبارات، وتعاون بين الجهات والوزارات وغير ذلك. نحن هنا نعالج في الغالب الأمر الظاهر، لأنني أنا مسئول في جهة معينة -مثلاً- أو في إدارة، أو مدرسة، وجاء أسبوع مكافحة المخدرات، يهمني أن يوجد اسمي أو اسم المدرسة أو اسم المؤسسة أو اسم الجهة، بأنها شاركت في شيء من النشاط، وأن أقدم تقريراً في هذا الأمر! لماذا؟ لأن القضية قضية تعامل بالشكليات، لكن إذا تحول الأمر إلى علاج حقيقي بالقلب، فمعناه أننا نعالج الناس بالتربية الوجدانية، بالإيمان، وبالخوف من الله، فأصبح المؤمن حتى لو كانت المخدرات عنده -مثلاً- أو الخمر في متناول يده، حتى ولو كان في بلاد الكفر والإباحة، فإنه يكف عنها، ليس عجزاً ولا خوفاً من السلطة -أيضاً- إنما خوفاً من الله تعالى، قبل أن يكون خوفاً من المرض أو من الآثار أو من الأضرار؛ فهو يراقب الله الذي يعلم السر وأخفى، والمطلع عليه في جميع الأحوال، وفي جميع التصرفات، فيمتنع ويكف خوفاً من الله تعالى، حتى ولو كانت هذه الأمور تحبها نفسه أحياناً، مثل المشروبات، أو النساء أو غير ذلك، لو كانت في متناول يده كف يده عنها، وتذَّكر قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:41] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 عظمة التغيير وبعد النقلة أيها الأحبة: حتى تعرفوا التغيير العظيم الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، تصوروا تغيير قناعة الإنسان في أمر من الأمور، لو أن إنساناً مقتنعاً برأي شخص معين يقول لك: هذه الحارة مناسبة جداً، وأحسن حارة نسكن فيها، فإنك تجلس معه حتى تقنعه بأن الحارة غير مناسبة وتحتاج إلى ساعة أحياناً، وبعد الساعة يمكن أن يقتنع، ويقول: والله أنت فعلاً قدمت لي معلومات جديدة تشكر عليها، وأنا غيَّرت رأيي، وأحياناً يمكن يقول: لك رأيك، ولي رأيي. إذا كان تغيير قناعة الإنسان بأمر زهيد يتطلب وقتاً طويلاً، فما بالك بتغيير عقيدة الإنسان في كل شيء؟! وليست القضية دنيوية، تترتب عليها خسارة أو ربح؛ لأن الدين يقول لك: إن الذي لا يدين بهذا الدين كافر، والكافر مخلد في النار فالقضية خطيرة. إذاً: تصور إمكانية تغيير عقلية الإنسان وعقيدته في كل شيء؛ بحيث إن هذا الإنسان سيدخل في الدين الجديد مثلاً، من الجاهلية إلى الإسلام، وبناءً عليه سوف يحكم بأن كل ماضيه فاسد، وكل جهوده السابقة ضائعة سدى، وأن آباءه وأجداده كانوا كفاراً، وأنهم من أهل النار. هذه عقيدة المسلم لما دخل في الدين؛ ولهذا كان من أكثر الأشياء التي أكثر المشركون من الحديث حولها، أنهم يقولون: سفّه أحلامنا، وعاب آلهتنا، وضلل آباءنا وأجدادنا، هذه القضية صعبة أنهم يعتقدون هذا الأمر في آبائهم وأجدادهم، بل وفي حياتهم السابقة، وأن يضلوا ويفسقوا ويكفروا من كانوا قبلهم ممن ينظرون إليهم نظرة إعجاب وإكبار وإعظام. وبذلك تعرف خطورة انتقال الإنسان من دين إلى دين خطيرة جداً، فما بالك إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير واحداً فقط، ينقله من الجاهلية إلى الإسلام؟ لا! بل غيّر أمة بأكملها، وغيّر مجتمعاً، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] أي لما جاءه الأجل، وكان الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ومكة خضعت للإسلام، وجاءت الوفود تبايع النبي صلى الله عليه وسلم من كل أنحاء الجزيرة العربية؛ ولذلك العام التاسع يسمى عام الوفود في السيرة، لأن الناس بايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام. إذاً: أحدث الرسول عليه الصلاة والسلام تغييراً جوهرياً وجذرياً وعميقاً وداخلياً، وتغييراً في الباطن والظاهر أيضاً. من السهل تغيير الظاهر فقط، مثلاً: لو أن دولة أرادت تغيير التاريخ من الهجري إلى الميلادي، وهي دولة لا تراعي حرمات الله مثلاً، ولا تعتبر أن هذا العمل حرام، فماذا تفعل؟ تصدر قراراً، ونحن نعرف بأن هذا القرار غَيّر التاريخ في بلاد الإسلام كلها، إلا هذا البلد فلا يزال، وهناك محاولات كثيرة وجادة من أطراف عديدة لتغيير التاريخ من هجري إلى ميلادي، وهذا الأمر معروف، والمحاولات أصبحت مكشوفة من قبل عدد من الأطراف والشركات وغيرها. المقصود كيف غُيّر التاريخ الهجري؟ بقرار اعتباراً من تاريخ كذا وكذا يعمل بالتاريخ الميلادي، أمر خطير، لكنه غُيّر بقرار؛ لأنه أمر ظاهري عمل الناس به. قضية أخرى، تغيير الزي مثلاً، كمال أتاتورك لما أراد أن يغير أثر الإسلام في تركيا، مثلاً عندما أراد أن يغير اللبس الإسلامي بلبس القبعة الأوروبية، أصدر قراراً بهذا، واضطر الناس إليه ولبسوه، كذلك هو أفلح في تغيير عقول الناس أيضاً، ولكن المقصود أن تغيير المظهر أسهل، وهكذا لو أن حاكماً أو دولة أو مصلحاً أراد أن يغير مظهر الناس في ملبسهم، وفي عاداتهم وتقاليدهم، فإنه يغيرَّه بقرار قد يعارض أول الأمر، ولكن بعد ذلك يستسلم الناس له، وتنتهي المشكلة. لكن القضية التي أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام أخطر وأكبر من ذلك، ما كان تغيير النبي عليه الصلاة والسلام عبارة عن تحويل قيادة إلى قيادة، فبدلاً من انقيادهم لـ أبي جهل وأبي لهب صاروا يتبعون أبا بكر وعمر، كلا! وما غير النبي صلى الله عليه وسلم أموراً مظهرية فقط، بل غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عقولهم وقلوبهم بحيث أصبحت تدين لله تعالى، ولا تُعظّم إلا الله، ولا تتعبد بالحب والخوف والرجاء والتعظيم والذل إلا لله سبحانه وتعالى، فلما تغيرت قلوبهم تغيرت كل أحوالهم، فتغير سلوك الشخص، ومظهره، ولباسه، وشكله، وتغيرت المرأة، والرجل، والمجتمع، وتغيرت العادات، والتقاليد، وأمور السياسية، والاقتصاد، وتغيرت كل الأمور، لكن هذا التغيير أهميته كانت في أنه تغيير قلبي قبل أن يكون تغييراً مظهرياً. لم يكن التغيير إذاً الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الهين اليسير، بل لعله -كما عبر عنه أحد الباحثين- هو أكبر وأعظم تغيير في التاريخ كله، وهذا أقل ما يقال عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم لم يفعلوا كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله من أكثر الأنبياء أتباعاً حتى من موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ونحن نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الذي رواه ابن عباس وهو في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الأمم، فرأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، ورفع له سواد عظيم، فظنه أنه أمته فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فإذا سواد قد سد الأفق! فقيل: هذه أمتك!} إذاً: التغيير الذي فعله موسى لا يقاس بالتغيير الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من حيث العدد، ومن حيث كثرة الأتباع، وكذلك من حيث نوعية التغيير وقوته، فنحن نجد -مثلاً- أن أتباع موسى عليه الصلاة والسلام آذوه، ولهذا قال الله للمؤمنين من هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] صبر عليهم صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، كل مرة وهم يقترحون عليه شيئاً: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] ألا تستحيون من أنفسكم؟! بعد فترة: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} [البقرة:61] وبعد فترة {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] كأنهم يقولون: ما عملت لنا شيئاً من قبل ومن بعد، المسألة هي هي، آخر ما فعلوا: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ * يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:21-22] والآية التي بعدها: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] . انظر إلى الأمر العجيب! يقول: ادخلوا الأرض المقدسة، فيقولون: لا! حتى يخرج أهل الأرض، ويقولون: تفضلوا وادخلوا، وهذا لا يمكن أن يكون. ولهذا صبر عليهم موسى عليه الصلاة والسلام، ولهذا في حادثة الإسراء والمعراج، لما فرض الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة، مرّ على موسى، فقال قال له موسى عليه السلام وهو قد جرب أمة من شر الأمم، كل يوم وهم يقترحون، إني قد جربت الأمم قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتك لا تطيق، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، ويرجع حتى صارت خمس صلوات، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، فاذهب إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: قد استحييت من ربي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هي خمس في العدد وخمسون في الأجر والثواب والمكانة وهذا فضل الله تعالى. المقصود أن موسى عليه الصلاة والسلام لاقى من بني إسرائيل ما لاقى، حتى آذوه في شخصيته عليه الصلاة والسلام، فمرة كما في الصحيح قالوا: إن موسى آدر -أي: عظيم الخصية أعضاؤه التناسلية ليست متناسقة- عيَّروه بهذا وهم كاذبون، لكنهم قوم بهت، حتى أن الله تعالى بَّرأه مما قالوا، ففي يوم من الأيام كان يغتسل عرياناً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراةً، فخلع ثيابه، ونزل يغتسل، ووضع ثيابه على حجر. فالله تعالى أمر هذا الحجر أن يهرب بثيابه، فذهب الحجر بثيابه، فرآه موسى وقد طارت ثيابه، فخرج من البركة وهو يركض وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يصرخ ويصيح بالحجر: تعال أعطني ثوبي! حتى وقف الحجر ونظر الناس من بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وإذا هو أكمل وأجمل خلق الله! ليس فيه عيب ولا آفة، فبرأه الله مما قالوا، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، فبدأ موسى يضرب الحجر، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {إنه لندب في الحجر من أثر ضرب موسى عليه الصلاة والسلام له} . المقصود أن حجم التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة لا يقاس به تغيير قط، حتى من الأنبياء مع أنهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام قاموا بالمهمة الجلية العظيمة خير قيام، ولكن كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253] إلى آخر الآيات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 البدء بالعقيدة كان ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معشر العرب! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، وتدخلون بها الجنة، فلما قال هذا حاربوه ونابذوه، وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] . فبدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى علاج القلوب من أمراضها وأوبئتها؛ ولذلك أستطيع أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث -كما يقولون بلغة العصر الحاضر إن صح التعبير- ثورة كبيرة وشاملة في معتقدات العرب، وحياتهم وتصوراتهم العقلية والقلبية، وترتب على هذا أن انسلخ العرب والمسلمون عموماً -الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم- انسلخوا في قلوبهم بالكلية من عبادة غير الله تعالى، ووجهوا قلوبهم وأفئدتهم وأرواحهم وحياتهم إلى الله تعالى، فكان أحدهم يقول: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فما عاد الواحد منهم ينظر إلى الصنم الذي كان يعبده بالأمس نظرته إليه التي كان ينظرها إليه بالأمس أو بالبارحة، كلا! بل كان يقول: هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور فانقلبوا من مشركين وثنيين كانت الأصنام تتحكم فيهم كل شيء، حتى إذا أراد الواحد منهم -مثلاً- أن يتزوج، ذهب يستشير الصنم، وإذا أراد أن يسافر ذهب يستشير الصنم ويستقسم بالأزلام، وإذا أراد أن يبرم أمراً، أو يعقد صلحاً، أو يثير حرباً، فإنه يذهب إلى هذا الصنم، ويستشيره عن طريق الاستقسام بالأزلام، لكن لما جاء الإسلام انسلخت قلوبهم من هذه العبودية لهذه للأصنام، وتوجهوا بأفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم إلى الله تعالى، فتحولوا من مشركين وثنيين إلى عباد موحدين صادقين في عبادتهم وأعمالهم وأقوالهم، بل صار الواحد منهم يوجس خيفة حتى من أي أمر كان عليه في الجاهلية، حتى الأمور العادية في الجاهلية صاروا يتوجسون منها خيفة، فيحتاج إلى أن ينزل قرآناً يقول: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:235] كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] . لأن هذه كانت من عادات الجاهلية، وهم عندما أسلموا انسلخوا عن كل ما يمت إلى الجاهلية بنسب أو صلة أو سبب، فيحتاجون إلى أن يقول: لا مانع في هذا وإن كنتم عليه في الجاهلية. إذاً: القضية التي حصلت والتغيير الذي جرى والثورة التي أحدثها الإسلام في معتقدهم، هو أن غيَّر معتقدهم بشكل كلي ونهائي، وتبعاً لتغير المعتقد تغيَّرت حياتهم كلها، فتغيّرت قناعاتهم، وتصرفاتهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، لكن هذا كله كان تبعاً للتغيير الداخلي الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 حرص الإسلام على بناء الإنسان ظاهراً وباطناً إذاً: بناءُ الإنسان بناءً جديداً هو قبل عملية الفتوح، وقبل الحركة العلمية التي أحدثها الإسلام، وقبل الإبداع الحضاري، وقبل النجاح السياسي، قبل هذا كله، نجح الإسلام في بناء الإنسان، وهذا الإنسان بدوره هو الذي فتح الفتوح بإذن الله، وهو الذي أحدث الحركة العلمية، وهو الذي أبدع في الحضارة، وهو الذي تقدَّم في السياسة، كان هذا النجاح كله أثراً للنجاح في بناء الإنسان، والإنسان كما قال: لسان الفتى نصف ونصفٌ فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم فالإنسان ليس بالشكل، وليست تربيته تربية العجول لا يا أخي وليست مسألة رياضة تجتمع فيها الآلاف المؤلفة على المدرجات، تهتف وتصيح وتلوح بالأعلام والشعارات، فتتكدس أجسامهم وتضيع ويصبح لا قيمة لهم، إن بناء الإنسان بناء العقل، والقلب، والروح، والتقوى، والخلق، بحيث تكون أمام إنسان واعٍ عالم عاقل مدرك خلوق فاضل حريص غيور، ومع ذلك لا مانع من الاهتمام بصحته والاهتمام بقوته، وحفظه مما يضره فهذا مطلوب، بل واجب على من ولاه الله أمر المسلمين أن يحرص على وقاية الناس، من كل ما يضر بصحتهم أو بأبدانهم؛ وبطبيعة الحال، من باب أولى أن يحرص على وقايتهم مما يضر بأديانهم أو عقولهم أو أخلاقهم، وهذا باب آخر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 وسائل إصلاح الظاهر أما إصلاح الظاهر، فكما قلت: أهم وسيلة لإصلاح الظاهر هي الشجاعة، فإذا كان الإنسان عنده معصية ظاهرة، فأعظم وسيلة لإصلاحها هو أن يكون عنده شجاعة على مواجهة الناس بشيء لم يتعودوه، كإنسان مقصر، عنده معصية، وهي أنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ولا ينشر علمه، وإذا كان قادراً على ذلك يقول: أستحي! حسناً فما الحل؟ الحل هو أن تعود نفسك على هذا الأمر، وستجد في أوله إحراجاً وصعوبةً، ولكن بعد ذلك سيكون الأمر عادياً. زمن تعود عليه الناس أنه بشكل معين، لو رأوه على غيره أنكروا وتعجبوا، فعليه أن يسعى إلى إصلاح ظاهره، وسيفاجأ أول الأمر، ثم بعد ذلك يألفون ولا يستنكفون ولا يستنكرون أو يستغربون. ومع التوكل على الله تعالى والاعتماد عليه، والاحتساب فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 عدم التركيز على العدد والكم كذلك من الأشياء التي عني الإسلام بها ودلت على العناية بالمخبر، أن النبي صلى الله عليه وسلم لفت أنظار الناس إلى ألاً ينظروا إلى العمل من حيث عدده، أو مقداره فقط بل يلتفتوا إلى الأمور الأخرى: الزمان والمكان والنية والقصد والظروف. على سبيل المثال: في الحديث الذي رواه النسائي عن أبي ذر وعن أبي هريرة رضي الله عنهما -وهو حديث حسن- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبق درهم مائة ألف درهم} أي: درهم واحد تصدق به الإنسان سبق مائة ألف درهم، فجعل الناس يتعجبون، ويقولون: سبحان الله! تصدق بدرهم وآخر دفع مائة ألف، والذي دفع درهماً أفضل عند الله بهذا الدرهم! فالقضية ليست قضية أعداد فقط -صاحب هذا الدرهم ليس عنده إلا درهمان فقط- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- تصدق بأحدهما، والآخر لنفسه وعياله، فبذل كل ما يستطيع، والذي عنده مائة ألف درهم عنده أموال هائلة طائلة، فأخذ من عرضها مائة ألف درهم، ولم يعلم بها أي لم تؤثر فيه، ففرق بين هذا وذاك. إذا كان هناك إنسان عنده ذكاء وقوة وبلاغة وجودة، وصار يتكلم ويتحدث ويدعو ويأمر وينهى ويعظ، فلا ينبغي له أن يقول: أنا أحسن من ذلك القاعد! فربما يكون القاعد أحسن منه؛ لأن القاعد كان يستطيع أن يفعل أكثر مما فعل العامل لأن الله أعطاه مواهب وإمكانيات، يجب أن تستغل هذه المواهب وهذه الإمكانيات بشكل صحيح، لكن ذلك الإنسان قد يكون عيياً، ليس عنده فصاحة، وبلاغة وقدرة، يمكن أن يكون مثل الإنسان الذي قام مرة يخطب في المسجد، فلما رأى كثرة الناس أرتج عليه، وقال: يا أيها الناس اتقوا الله! إن الله تعالى يعاقب العبد إذا عصى، هؤلاء قوم صالح قد عاقبهم الله بناقة لا تساوي درهمين، فخرج الناس يضحكون من المسجد، وسموه مقوم ناقة الله! من قال لك: إنها تساوي درهمين، أو أقل أو أكثر هل أنت أعلنت عنها بالمزاد؟! لأنه أرتج عليه، ولم يجد إلا هذا الكلام. وقد ذكر الجاحظ من طرائف الذين فيهم عي في الكلام، شيئاً عظيماً غريباً، بعضه مما لا يناسب المقام. المقصود إذا كان لديك قدرة لا توجد عند غيرك، فأنت مسئول أكثر من غيرك، مثلما أن التاجر يطالب بالإنفاق أكثر من غيره، كذلك الذكي يطالب باستخدام عقله للإسلام أكثر من غيره، والبليغ يطالب باستخدام بلاغته للإسلام أكثر من غيره، والقادر الذي أعطاه الله تعالى همة على العبادة وقيام الليل وصيام النهار والدعوة يطالب بذلك أكثر من غيره، والله تعالى يحاسبك بحسب ما أعطاك {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . فلم تكن دعوة المسلمين في يوم من الأيام -أيها الأحبة- مجرد دعوة إلى تغيير المظهر فقط، كما قنع كثير منا اليوم، حتى صاروا يعتقدون أنهم بمجرد إصلاح ظاهر الإنسان يكونون قد جاوزوا القنطرة؛ مما ترتب على ذلك وجود عدد كبير ممن ينسبون ويحسبون على الدعوة وعلى الإسلام والالتزام وعلى أهل الخير والدعوة والصلاح في مظاهرهم، ولكن قلوبهم خاوية، وأمراضهم وعللهم القلبية باقية. ولم تكن دعوة الإسلام والمسلمين -ولا يمكن أن تكون- دعوة لإصلاح الباطن فحسب؛ إذ أن الظاهر -كما ذكرت- هو تبع للباطن، وبصلاح الباطن يصلح الظاهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 الاهتمام بالنية أمر آخر يتعلق بحقيقة العمل والعناية به قبل العناية بمظهره: هو إخلاص النية: وهناك نصوص كثيرة في موضوع النية، ويكفيك حديث عمر رضي الله عنه الشهير: {إنما الأعمال بالنيات} الحديث، إنما الأعمال بالنيات، فلا تقل: العمل ليس ضرورياً ولا شرطاً، بل العمل شرط، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {إنما الأعمال بالنيات} . إذاً: عندنا أعمال، وعندنا نيات، العمل لا يصلح إلا بالنية، لكن نية بدون عمل أمر غير معقول، بل لا يتصور وجود نية بدون عمل إلا للعاجز الذي لا يستطيع أن يعمل فنوى، فيبلغه الله تعالى ما نوى؛ ولهذا أيضاً قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس المتفق عليه: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية} أي: أن الهجرة من مكة انقطعت لأن مكة فتحت، لكن بقي الجهاد، وبقيت النية الصالحة يتعبد الله بها إلى يوم القيامة. فلا بد من النية التي تصحح الأعمال؛ ينوي بها وجه الله تعالى، وينوي بها عملاً معيناً. مثلاً: ينوي صلاة معينة، أو صوماً معيناً إن كان فرضاً معيناً أو كان نفلاً معيناً. كذلك قضية لإقبال على العمل نفسه مثل الصلاة؛ فمن أهم الأشياء في الصلاة: الإقبال على صلاتك؛ ولهذا -مع الأسف- الناس دائماً يتربون على الكم لا على الكيف، وعلى المظهر لا على المخبر والحقيقة. فكثيراً ما نقول للناس مثلاً: إن فلاناً -كما ذكرت- يصلي من الليل كذا، ويصوم كذا، ويحج كذا، وقد نُعلِّمهم بعض الأشياء، ولكننا قلما ننبه الناس إلى قضية إصلاح النية، وإصلاح العمل، والإقبال على العبادة. وأعطيك مثالاً: عمار رضي الله عنه كما في سنن النسائي والحاكم وصححه الحاكم وسنده صحيح وهو كما قال: {صلى صلاة -هو صحابي فاضل عالم- فأوجز فيها وخفف، فانتقده من حوله وعابوه، وقالوا له: لقد أوجزت في هذه الصلاة، -اختصرت- قال: أما إني لم أخل بشيء من قيامها ولا ركوعها ولا سجودها، وإني مع ذلك قد دعوت بدعوات سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها ثم قام. فلحقه أحدهم وقال: يرحمك الله! ما هذا الدعاء الذي دعوت به؟ قال: إني قلت: اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كان كانت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين} . الله أكبر! لو تأملت هذا الدعاء فهو من جوامع الدعاء فيه معاني عظيمة: الخشية، والخوف، والشوق، كل هذه المعاني القلبية دعا بها عمار. إذاً قال لهم عمار بلسان حاله: ليست العبرة بطول الصلاة، إنما العبرة بالإقبال على الصلاة، والعبرة بالنية والصدق مع الله تعالى في الصلاة، وبأثر الصلاة؛ ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله تعالى إلا بعداً]] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 الفقه الكامل لمسألة خطأ الداعية يعجبني بعض الناس، عندما يكون عنده فتاة يريد أن يزوجها، يقول لبعض الناس: ابحث لي عن إنسان طيب صالح، لكن ليس كل طيب يصلح لي؛ لأن بعض الناس قد يكون مظهره صالحاً، لكن حقيقته بخلاف ذلك، فهو سيئ الخلق، سيئ الملكة، والمعاملة، بذيء اللسان، عاق، قاطع لرحمه، عنده قسوة، بل أحياناً عنده -عافانا الله- أشياء وأشياء. ولهذا نقل عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه كتب إلى بعض عماله، أن ولِّ الفقهاء، أي: استعمل الفقهاء، فكتب إلى عمر، وقال: يا أمير المؤمنين! قد وليناهم فوجدناهم خونة فقال له عمر: ويحك! ولِّهم فإن كانوا خونة فغيرهم أخون. ونحن لا نوافق هذا العامل على ما قاله لـ عمر أنهم خونة؛ لأن هذا غير صحيح، والفقهاء هم الذين زكاهم الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، وقد جاء في الحديث: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله} وهذا صححه الإمام أحمد والعراقي وغيرهما فزكى النبي صلى الله عليه وسلم الذين يحملون العلم، بل قال في الحديث الآخر الصحيح: {نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها} فدعا له بالنضرة ودعا له بالخير؛ ولذلك فحملة العلم وأوعيته والفقهاء هم أفضل طبقات المجتمع إجمالاً بلا شك، لكن لا يعني هذا أنهم ملائكة أو أنهم معصومون بل لا يعني هذا أنهم لا يندس فيهم من ليس منهم. مجتمع الرسول عليه الصلاة والسلام وُجِدَ فيه المنافقون الذين يتظاهرون بأنهم من الصحابة، وهم في الحقيقة كفار، وما ضر هذا أن زكى الله تعالى أصحاب محمد عليهم الصلاة والسلام كلهم ومدحهم وأثنى عليهم، والأمة قالت: إن أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم عدول ثقات، المعروف منهم وغير المعروف. فلا يضر أن يوجد في الأخيار من يندس فيهم وليس منهم، ويتظاهر بالخير وليس من أهله، وقد يتصرف تصرفات رعناء، ولكن كثيراً من الناس لا يميزون، فينسبون هذه التصرفات إلى الطيبين والخيرين والملتزمين ويعتبرونه منهم. وقد يوجد من بعض الملتزمين من يكون عنده أخطاء وعنده سوء في المعاملة، وهذا أمر موجود؛ لأنهم ليسوا معصومين، وليس لهم قداسة -أيضاً- ألاّ ينتقدوا، بل العكس ينتقدون مثلما ينتقد غيرهم. مثلما نتكلم الآن على الطبيب، فننتقده في خطئه ونمدحه على صوابه، ومثلما نتكلم على المدرس، فنثني على خيره ونشجعه عليه، وننتقده فيما أخطأ فيه، ومثلما نتكلم على الشباب، فنمدحهم في جوانب، ونذمهم في جوانب، ومثلما نتكلم على المرأة، فنمدحها في جوانب، وتنبه على أخطأ في جانب آخر. كذلك جنس كل من الأخيار، والملتزمين، والدعاة، وطلبة العلم، والمحتسبين، ليسوا معصومين من الخطأ ولا هم منزهين عنه، وليسوا أيضاً مقدسين عن أن ينتقدوا مثل غيرهم. ولذلك نحن دائماً وأبداً نقول للناس: جزاكم الله خيراً! انتقدونا لكن بالتي هي أحسن، ليس بالشتيمة ولا بالسب ولا بالتعيير ولا بالافتراء والكذب والتزوير ولا باتهام النيات. فما تعلم أنه خطأ قد وقع فيه أخوك المسلم -كبيراً أو صغيراً- طالب علم أو داعية أو إنسان من العامة، فعليك أن تصحح له الخطأ، إن كان الأمر يستدعي أن يكون ذلك بينك وبينه فحسن، وإلا فلا مانع -إذا كان الأمر عاماً، أو ظاهرة عامة- أنك تعالجها في مجالات عامة، لكن هناك فرق بين النقد البناء الذي يستهدف الإصلاح وبين النقد الذي يستهدف التشهير والتجريح وتشويه السمعة والحط من المكانة, وإفقاد الناس الثقة بهذه النوعية من الناس الأخيار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 العبرة بحقيقة العمل لا بمظهره فقط كذلك من عناية الإسلام بقضية الباطن، أن العبرة في الإسلام أن العمل بحقيقته قبل أن يكون بمظهره، وأضرب على ذلك بعض الأمثلة: الإيمان شرط في كل الأعمال، ولا يقبل الله تعالى العمل حتى يؤمن صاحبه؛ ولهذا قال الله تعالى عن الكفار: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] والإيمان في القلب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الإسلام علانية والإيمان في القلب} . فالإيمان شرط لكل الأعمال، وهو سابق لها؛ ولهذا جاء ذم المنافقين في القرآن الكريم كثيراً في سورة التوبة وفي غيرها، بل هناك سورة خاصة بهم؛ مع أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحجون معه، وقد يجاهدون، حتى أن بعضهم يقتل في المعركة أيضاً ومع ذلك جاء ذمهم وأنهم في الدرك الأسفل من النار، تحت الكفار، لأنهم فقدوا الشرط الأصلي الذي هو شرط الإيمان، ومثله أيضاً جاء ذم الخوارج على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام -مع أن أعمالهم طيبة في ظاهرها- قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث: {يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم يقرءون القرآن -رطباً طرياً- لكن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} . إذاً: القضية ليست قضية مظهر فقط! فلا بد من ظاهر وباطن، والإيمان شرط في كل الأعمال، ولأن الخوارج فقدوا الإيمان، ذمهم الرسول عليه الصلاة والسلام، بل جاء ذمهم في القرآن كما ذكر بعض أهل العلم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:2-4] حملها بعضهم على الخوارج. ومثلهم جاء ذم المنافقين في الكتاب والسنة كثيراً؛ لأن أعمالهم الظاهرة طيبة، ولكن أعمالهم الخفية فاسدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 ظاهر الإنسان صورة لباطنه إن الإسلام -يا أخي- حرص على الظاهر والباطن، والظاهر أثر للباطن، ولم يهمل الظاهر بحجة التقوى هاهنا أي في القلب كما يفعل بعض الناس عندما تجد عليه منكراً، وتقول له: يا أخي! جزاك الله خيراً الرسول عليه السلام كان من سنته كذا وأمر بكذا قال: يا أخي! التقوى هاهنا، وأشار إلى قلبه وصدره، ونسي أن التقوى في كل مكان، فالتقوى إذا كانت في القلب فاضت على الجوارح، ولا يتصور أبداً لا في الإسلام ولا في غير الإسلام أن عند الإنسان عقيدة حقيقية في قلبه ليس لها تأثير في حياته العملية أبداً، هذا محال، كل عقيدة في القلب لا بد أن تترك أثرها في الجوارح؛ فالإسلام لم يهمل الظاهر بحجة أن التقوى في القلب، وكما أنه اعتنى بالظاهر، وجعله دليلاً على الباطن في الغالب، فهو أيضاً لم يهمل الباطن ويتركه بحجة العناية بالظاهر والإقبال عليه ومصانعة الناس ومجاملاتهم وتحسين صورة الإنسان المسلم أمام الآخرين. أحياناً يقول الإنسان: والله أنا عندي هذا الشيء وتركته ليس خوفاً من الله، لكن لأني لا أريد أن أشوه صورة الطيبين، هذا دليل على خلل في قلبه؛ لأنه أصبح يستخفي أو يستحي من الناس، ولا يستحي من الله، فيجامل الناس في ترك أمر، ولا يخاف من الله تعالى في تركه، ولهذا قال ربنا جل وعلا: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] . انظر! فالإثم له ظاهر وباطن، ما هو ظاهر الإثم؟ المعاصي التي يراها الإنسان منك، سواء في هيئتك، أو معاملتك، أو في أخذك، وعطائك، فمثلاً: الفحش، والبذاءة، والشتم واللعن، وارتكاب المعاصي الظاهرة، كل هذا من ظاهر الإثم، أما الباطن فهو في القلب؛ كالحقد، والغش، والحسد، والبغضاء، وعدم الإنصاف، والظلم، والعجب، والغرور، والكبرياء، والغطرسة، واحتقار الناس، كل هذه الأشياء أصلها في الباطن، لكنها تفيض على الظاهر، فيظهر تصرف هذا الإنسان في معاملته للآخرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 إصلاح القلب ومنزلته بالنسبة للجسد الإسلام دعا إلى إصلاح القلب، واعتبر هذا سبباً للنجاة، حتى قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فلا ينجو أحد يوم القيامة إلا أصحاب القلوب السليمة، وما قال: ببدن سليم أو بمظهر سليم! بل قال: بقلب سليم. إذاً المعاملة معاملة قلوب أولاً، ومعاملة أعمال ثانياً، ليست قلوباً فقط، بل قلوب وأعمال، الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث المتفق عليه، حديث النعمان: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} . إذاً: كل الجسد يدور حول الملك -القلب- إذا صلح الملك صلحت الرعية، وإذا فسد الملك فسدت الرعية، فالأعضاء جنود، اليد، والرجل، والرأس، واللسان، إذا صلح الملك وهو القلب، صلحت هذه الجنود وهي الأعضاء، فصارت تسعى في طاعة القلب، فيملي عليها تعليمات صحيحة، يقول القلب الصالح للسان: تكلم بذكر الله، مر بالمعروف وانه عن المنكر، وادع إلى سبيل ربك، فيمتثل، ويقول لليد: أنفقي، فتمتثل، مري بالمعروف فتفعل، ويقول للرجل: امش إلى الطاعة فتفعل، ويقول للعين: انظري إلى ما يستحب النظر إليه فتفعل، ويقول للأذن: اسمعي ما يحب الله أن يسمع، فتفعل وهكذا، تصبح الجنود كلها خدماً تسعى في طاعة هذا الآمر المتنفذ المتوج وهو القلب {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 مقياس التقويم هو القلب أسألكم بالله أيها الإخوة! وأسأل نفسي: هل نحن الآن نعنى بإصلاح القلوب -سواء قلوبنا أو قلوب الناس الذين نعمل معهم وندعوهم ونعاشرهم- هل نحن نعنى بإصلاح القلوب أكثر من عنايتنا بإصلاح الظواهر؟ أم أن عنايتنا منصبة غالباً بإصلاح المظهر بحيث قد نفلح كما أسلفت في إصلاح المظهر، ويبقى القلب يتخبط في أمراضه وآفاته ومصائبه؟! هذه كارثة لا يعلمها إلا الله. إذاً: الإسلام دعا إلى إصلاح القلب. بل أمرٌ آخر، جعله الإسلام مقياس التقويم والحكم على الآخرين يتعلق بحقيقة ما في قلوبهم قبل أن يتعلق بمظهرهم، حتى إنه جاء في الصحيح عن سعد رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالساً ومعه مجموعة من أصحابه، فمر رجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل عنده جالس -وقد جاء في بعض الروايات أنه أبو ذر -قال: ما رأيك بهذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من خيار الناس، هذا حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال: أن يسمع لقوله -أي هذا رجل له مكانة- فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم مر رجل آخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأيك في هذا؟ قال: يا رسول الله! هذا رجل من ضعفاء الناس، هذا حرّّي إن قال ألاَّ يسمع لقوله، وإن شفع ألاَّ يشفع، وإن خطب ألا ينكح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا -الثاني- خير من ملء الأرض من مثل هذا} . يعني من الأول، فالمظهر ليس العبرة، والصحابي أجاب على حسب المظهر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب على حسب المخبر. ومثله تماماً ما في الصحيحين عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من تكلموا في المهد ذكر أن صبياً تكلم في المهد والقصة هي: كانت امرأة من بني إسرائيل ترضع ولدها، فمر رجل، فلما مر كان ذا شارة حسنة أمير أو وزير، حوله هيلمان وصولجان، وجنود وحشم وخدم وأعوان، فالمرأة قالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، انظر المقاييس الدنيوية، تريد ابنها أن يكون ذا جاه؛ مثل أي واحد الآن يقول: أتمنى أن يكون ولدي مشيراً أو وزيراً أو طياراً إلى آخره، هذه قالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا، وكان الصبي يرضع، فترك الصبي الثدي، وقال: اللهم لا تجعلني مثله، ثم أقبل على الثدي يمصه، بعد ذلك مرت امرأة أمة، يلحقها الناس ويعيرونها، فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه، فترك الثدي، وقال: اللهم اجعلني مثلها، فتعجبت الأم وكان الأول جباراً من الجبابرة وهذه يقولون: سرقت ولم تسرق، وزنت، ولم تزن، وهي تقول: حسبي الله ونعم الوكيل! فالمسألة ليست مسألة مظاهر وأبهات وصولجان وفخفخات وتطبيل ونفخ! هذه كلها تضيع في الميزان، الميزان عند الله إنما توزن به الأعمال، وربك عزوجل يعلم السر وأخفى ويعلم كل شيء، فمقياس الناس هو بحقائقهم. كان الرسول عليه الصلاة والسلام يوماً من الأيام جالساً يدعو كبار المشركين، فجاء رجل أعمى، وقال: يا رسول الله! علمني مما علمك الله -وهو عبد الله بن أم مكتوم - وكان الرسول مشغولاً بهؤلاء، فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام عبس في وجهه، فعاتبه ربنا من فوق سبع سماوات، ونزل قرآن يتلى إلى يوم القيامة: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:1-4] إلى آخر الآيات، عتاباً للرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك. ومع هذا لا يعني هذا أنك إذا أردت أن تحكم على الناس أن تتدخل في أسرارهم وخصوصياتهم وفيما لا يعنيك، لا! فنحن ليس لنا إلا الظاهر، لكن المشكلة أحياناً أننا نغفل حتى عن الظاهر! مثلاً: من منا يقيس الناس بصبرهم وبورعهم عن الحرام وببلائهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ تجد أننا نطري فلاناً، ونعطيه من الألقاب والهالات والتبجيل الشيء العظيم، وإذا جاءت القضية ليس لشيء سوى أن عنده بعض الصفات الخيرة الظاهرة، لكن باطنه لا ندري عنه، بل أقول: ربما يكون واعظاً في مسجد أو يلقي درساً! نسأل الله أن يعفو عنا ويتوب علينا ولا يؤاخذنا بذنوبنا، لكن المهم ليس هذا فقط، بل المهم بلاء الإنسان وجهاده في الإسلام وصبره وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وعفته عن محارم الله، وتقواه وزهده، وصدقه مع الله تعالى، فتقيس الإنسان بقدر ما تعلم من ظاهره، أما الباطن فلا تتدخل في نيات الناس هذا ليس إليك. كذلك فإن دعوتنا هي إلى إصلاح القلب، أما مسألة تقويم الناس والحكم عليهم -أيضاً- فيراعى فيها التزكية الخفية التي لا يستطيع الناس إدراكها، فقضية اعتبار الناس واحترامهم وتقديرهم هو الآن بحسب مظاهرهم؛ ولهذا مثلاً الناس قد يحترمون فلاناً لأنه ثري، أو وجيه، أو ذو سلطان، فيقدرونه، ويبجلونه، ويثنون عليه، مع أن واقعه لا يجعله مستحقاً لذلك. هذا عائذ بن عمرو رضي الله عنه، روى كما في الصحيح {أن أبا سفيان -وأبو سفيان تعرفون أنه أسلم في عام الفتح أي تأخر إسلامه- مر على جماعة من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، منهم: سلمان وصهيب، وبلال، وهؤلاء كانوا كلهم عبيداً -فلما مر أبو سفيان ورأوه- وكان أبو سفيان مشركاً، فقال بعضهم لبعض: والله ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها -معنى هذا أنه حي- فمر أبو بكر، فقال: تقولون هذا لسيد قريش وزعيمها أبي سفيان، ثم انصرف أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قال وما قالوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لعلك أسخطتهم يا أبا بكر، والله لئن كنت أسخطتهم لقد أسخطت ربك} . عجيب والله! هؤلاء: بلال وصهيب وعمار وسلمان في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه: {والله لئن كنت أسخطتهم لقد أسخطت ربك!} صار رضا الله مرهوناً برضاهم، وسخطه مرهوناً بسخطهم، لماذا؟ لأن القضية قضية إيمان، وهؤلاء الناس أهل إيمان وتقوى، مثلما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} وكذلك قال علي بن أبي طالب، في صحيح مسلم: {إنه لعهد عهده إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحبني إلا مؤمن، ولا يبغضني إلا منافق} لأن القضية قضية إيمان؛ من تحقق في هذا الإيمان أصبح أهلاً لأن يحب بحب الله تعالى، ومن انسلخ من الإيمان يبغض لوجه الله تعالى، حتى ولو كان كبيراً وعظيماً وغنياً، بل حتى لو كنت محتاجاً إليه أنت، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في السنن، وهو حديث صحيح، قال: {إذا جاءكم من ترضون دِيَنه وخُلُقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} . فما قال: من ترضون شكله، أو وظيفته، أو صفاته الخلقية، قال: دينه وخلقه وأمانته، فربط القضية بالدين، والدين مظهر ومخبر وباطن ولا بد من رعاية ذلك كله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 وسائل إصلاح الباطن هناك وسائل كثيرة نذكر منها ما يلي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 الوسيلة السابعة: الموالاة. الموالاة: من أعمال القلب التي تتبعها أعمال في الجوارح، تحب ما يحب الله، وتبغض ما يبغض، وقد ذكرنا حديث عائذ بن عمرو قبل قليل لما قال الرسول لـ أبي بكر {لئن كنت أسخطتهم، لقد أسخطت ربك} هذا هو الولاء والبراء. يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} والحديث متفق عليه، لأن الأنصار صاروا رمزاً من رموز الولاء لهذا الدين والجهاد في سبيله والصبر على تضحياته وتكاليفه، فلا يبغضهم إلا منافق، ولا يحبهم إلا مؤمن، ومثلما سبق لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ ولهذا قال تعالى في الحديث القدسي: {ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} . فلا بد من الإقبال على أعمال القلوب ومحاولة إصلاحها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 الوسيلة السادسة: التواضع كذلك من الأعمال القلبية: التواضع، وضد التواضع الكبر، والله تعالى لا يحب المستكبرين، بل إن ذنب إبليس الأعظم هو الاستكبار {إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة:34] {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:75] ؛ ولذلك لا يجتمع الكبر والاستسلام لله تعالى في قلب أبداً، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال حبة من خردل من كبر} والحديث في صحيح مسلم لا يدخل الجنة؛ لأن الكبر يتنافى مع حقيقة العبودية لله تعالى. ولهذا قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] فأمر بالعبادة وتوعد المستكبرين عنها، وكانت هذه معصية إبليس، ويجب أن تفهم من التواضع في القلب؛ فبعض الناس يريد أن يظهر التواضع، فيجلس مع الصبيان الصغار ويأتي ويسلم عليهم ويقبلهم، وقد يزور المرضى وقد يختلط بالناس وما أشبه ذلك، وليس هو متواضعاً فعلاً، لكن يريد أن يقول للناس: انظروا أنا متواضع، فيريد أن يمدحوه بأنه كبير وعاقل وذكي وحكيم وكذا وكذا ومتواضع، والدليل على أنه متواضع حاله مع الناس والصغار والكبار والضعفاء والمرضى والجميع، هذا هو التواضع، فيكون من الاستكبار أحياناً إظهار التواضع، لأن التواضع الحقيقي ينطلق من القلب، فمعرفتك بنفسك، وقدرها، وحاجتك، وفقرك تواضع، وكان ابن تيمية كثيراً ما يقول: أنا المكدي وابن المكدي وهكذا كان أبي وجدي ويقول: أنا الفقير إلى رب السماوات أنا المسيكين في مجموع حالاتي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 الوسيلة الخامسة: العناية بأعمال القلوب من وسائل إصلاح القلوب: العناية بأعمال القلوب وتوابعها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه أحمد وغيره عن معاوية وهو حديث صحيح- قال: {الأعمال كالوعاء، إذا طاب أسفله طاب أعلاه، وإذا فسد أسفله فسد أعلاه} فأنت يجب أن تعتني بأعمال القلوب الخفية أشد مما تعتني بالأعمال الظاهرة. ومن أعمال القلوب: محبة الله تعالى، وهي كما قال ابن تيمية: من أعظم موجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الدين، فإن كل حركة من الإنسان إنما تصدر عن محبة، إما محبة محمودة أو محبة مذمومة، فمحبة الله تعالى هي أعظم واجبات الإيمان وأكبر أصوله وأجل قواعده، فينبغي للإنسان أن يحب الله تعالى ويمرن قلبه ذلك، ويستدعي محبة الله بالتفكر في آلاء الله وقراءة أسمائه وصفاته والتعرف إلى الله تعالى بكل وسيلة، وعبادته وطاعته، وقد وعد الله تعالى وعداً لا يخلفه، قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: {من تقرب إلي شبراً، تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً، تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} . ثانياً: الجهاد، وهو من لوازم محبة الله تعالى، بل هو دليل على كمال المحبة؛ ولهذا قال ربنا جل وعلا: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] فالجهاد من لوازم محبة الله وإيثار الله تعالى على الدنيا، وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فربط بين محبة الله تعالى وبين الجهاد في سبيله جل وعلا، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فمن أحب الله تعالى جاهد في سبيله، ولم يبال بما يصيبه في ذات الله، فصار يقول: رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب بل يستعذب ما يلقى في سبيل الله تعالى ويفرح به؛ لأنه أثر من آثار المحبوب؛ ولذلك فإن الإنسان إذا أحب في الدنيا، وعشق فكل ألم أو تعب في سبيل المعشوق يفرح به ويفتخر؛ لأنه تحمل من أجل فلان، والشعراء شغلونا بالقصائد التي تكلموا فيها عن الذين يلومونهم ويعذلونهم ويعاتبونهم على محبتهم لمخلوق لامرأة، حتى أن بعضهم مثلاً، يتكلمون عن المحبوب وما لا قوا في سبيله، وما أوذوا، وما قيل لهم. وأشعار قيس وعروة وغيرهم من العشاق كثيرة في هذا الباب، يقول أحدهم: يلومونني في حب ليلى عواذلي على أنني من حبها لعميدُ يقول: لوموا أو لا تلوموا، فأنا قد وقعت في حبها وهويت ذلك، ولا يجد ألماً لذلك، بل يدعو الله تعالى ألاَّ يفارقه حبها أبداً، حتى يقول المجنون: يا رب لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا إذاً: في سبيل حب دنيوي وهو حب مخلوق، ويقول آخر: يلومونني في حب عفراء صحبتي وبيعي عليها القلب بيع سماح وما كان هذا منك يوماً سجية ولا هو لربات الهوى بمتاح فقلت دعوني والهوى ما على الهوى إذا ما تغشى القلب بعض جناح تعلق عفراء الفؤاد فملؤه من العشق أنات وطول صياح فما بالك إذا كان حباً لله، إذا أوذي في سبيل الله، أو استهزئ به، أو عُذّب، أو طرد، أو حرم من دنياً، أو مالاً، أو جاه، أو وظيفةً، أو منصبً، أو سلطانً، أو مكان إنه يستعذب ذلك ولا يضيق به ذرعاً؛ لأنه أثر من آثار الحب، كل هذا من الجهاد، سواء كان الجهاد بالقول أو بالفعل وعدم الخوف من أحد في سبيل الله، يقول الله تعالى: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] بل يفرح الإنسان بالموت في سبيل الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 الوسيلة الرابعة: تعاهد القلب من الآفات القلب له أمراض مثلما للبدن أمراض؛ فكما أنك تتعاهد آفات البدن بالعلاج فكذلك تعاهد آفات القلب. مثلاً: العجب، يقول سعيد بن جبير رحمه الله كما نقل شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب التحفة العراقية وهو كتاب مفيد في هذا الباب، يقول سعيد بن جبير: [[إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، ويعمل السيئة فيدخل بها الجنة]] قال ابن تيمية رحمه الله: ذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه، ويعجب بها، كلما ذكر شيئاً قال: أنا فعلت. ويُحكى أن أعرابياً صلى إلى جانب الأصمعي فأحسن صلاته، وأقبل عليها، وخشع وركع، وسجد، وأطال ثم سلم، فتعجب الأصمعي وقال: بارك الله فيك! لقد صليت صلاة رغبةٍ ورهبةٍ، قال: نعم فكيف لو عرفت أني مع ذلك صائم؟! وبعض الناس يعجبون بعملهم والعياذ بالله، فيكثرون من ذكره، والثناء عليه، والتمدح به في المجالس، فكلما جلس أحدهم في مجلس، قال: أنا فعلت كذا، أنا قلت كذا، أنا أنفقت كذا، وبعضهم قد يعلن في الصحف أحياناً والجرائد: المحسن الكبير تصدق بكذا، وفعل كذا، وربما يُدلُ بها على بعض الناس، وإذا كان داعية مثلاً ربما تكلم عن عمله، وأنه جمع من الناس في محاضرة كذا وكذا، وأنه قال كذا، وأنه فعل كذا، وأنه أوذي وصبر، وبعضهم كثيراً ما يقول: أنا سجنت، وتعرضت للبلاء، وأنا مكثت في السجن عدد ما لبث يوسف، وفعل بي كذا، وليست القضية أننا نمنع من هذا الكلام، لا يا أخي، لا تفهمني خطأً، جزاك الله خيراً! لكن أقول: إذا كنت تقول هذا الكلام لغرض صحيح، وقلته مرة أو لمناسبة واتضح أنه في مصلحة فلا حرج، أما إذا كنت تشعر أنك تقوله إعجاباً بهذا العمل، وإدلالاً به وشعوراً بأن هذا العمل هو مهر الجنة، وأنك تستحق به رضوان الله وأنك وأنك!! فحينئذٍ نحن نرفق بك وننصحك، ونقول: لعلك تراجع نفسك في هذا الأمر، وتتقي الله تعالى أن يذهب هذا العمل الذي تعبته هباءاً منثوراً، تجملت به أمام الناس، ومدحت به في الدنيا، نخشى أن يقال يوم القيامة: {اذهبوا للذين كنتم تراءونهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم الجزاء} ولذلك يا أخي! راع قلبك. الأصل أن الحسنة هي سبب لرضوان الله ورحمته الذي به يدخل العبد الجنة، وكذلك السيئة هي سبب لسخط الله الذي يدخل به العبد الناس، وهذا معروف، لكن أحياناً يحصل العكس، أن العبد يعمل الحسنة فيعجب بها، والإعجاب ذنب لا تنفع معه الحسنات والعياذ بالله، إلا أن يتوب العبد منه، خاصّة الحسنات التي تتعلق به، والتي أعجب بها الإنسان. ولهذا أنتم تلاحظون ظاهرة الانتكاس -والعياذ بالله- الردة وسوء الخاتمة، هل تظن أن عبداً مخلصاً صادقاً طيعاً، قلبه من الله، قريب، وهو من الله تعالى خاشع باكٍ دامع، ثم يقلبه الله تعالى إلى فاجر كافر عنيد ويرتد ويموت على الكفر؟! من صفات الله تعالى العدل والرحمة، والله تعالى أحياناً يتوب على الفاسق عند الموت ويختم له بخير، فالمؤمن الصادق صحيح القلب إلى خير إن شاء الله، والله تعالى يختم له بالخير قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] وقال الرسول عليه الصلاة والسلام: {احفظ الله يحفظك} فإذا حفظت الله في حال الحياة، حفظك الله حال الموت، يحفظك من الشيطان، ومن الردة، ومن الانتكاسة، وسوء الخاتمة، لكن العيب أنه قد يكون مظهر الإنسان -فيما يظن الناس- صالحاً، لكن إذا أتاه الأجل وافتضح على فراش الموت: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبانت البينات، وظهرت الحقائق المخفيات في ذلك الموقف الذي ليس فيه مجال للتمثيل والمجاملة والجيلة؛ لأن المجال واضح مكشوف، انكشف الإنسان -والعياذ بالله- وافتضح. والذين يحملون عللاً قلبية ولا يعالجونها، ولا يدعون الله بالنجاة منها، يفضحهم ربك ويكشفهم ولو بعد حين، ولو ظهروا بمظهر الناصحين الصالحين الصادقين الملتزمين لكن يكتشفون! ولهذا تجد ظاهرة الردة كما ذكرت وكما أسلفت، ولذا لا يوجد إنسان يرتد إلا وتجد عنده جرثومة من قبل، ولعلكم جميعاً تعرفون قصة " القصيمي " الذي كان يجلس مع طلبة العلم ويحفظ، وطالما رآه بعض العلماء وفي إبطه صحيح البخاري، وهو يتردد على مجالس العلماء في هذا البلد، ثم بعد ذلك ارتد وألحد والعياذ بالله، وألف عشرات الكتب التي تنكر وجود الله أصلاً، وتَنَكَّر للدين أيما تنكر، بل تنكر لكل ما يمت إلى الدين بسبب أو صلة والعياذ بالله، وكان على أسوأ حال، نسأل الله العفو والعافية. لا تقل: سبحان الله يا أخي! القلوب بيد الله جل وعلا! نعم القلوب بيد الله، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك} لكن لا تنس أبداً أن القضية هي أن قلب هذا الذي انتكس وانحرف، كان فيه جرثومة العجب، وجرثومة الغرور، ولهذا قالوا عن هذا الرجل قالوا: إنه كان مغروراً معجباً بنفسه، حتى أنه كان يقول كما قرأت في بعض الكتب: ولو أن ما عندي من العلم والفضل يوزع في الآفاق أغنى عن الرسل إذاً: كان الرجل مستكبراً، لم يكن يعبد الله، إنما كان يعبد ذاته، لأن الإنسان أحياناً يرى أن هناك مجالاً لإظهار الخير، وأن هناك مكانة له، فيظهر الخير ليكسب من حوله؛ لأن البيئة طيبة وصالحة مثلاً، لكن حقيقته والعياذ بالله فاسدة، وهذا ينكشف ولو بعد حين، ويفتضح في الدنيا، وإن لم يفتضح في الدنيا افتضح عند الموت. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 الوسيلة الثالثة: الصدق {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود: {إن الصدق يهدي إلى البر} وفي رواية: {عليكم بالصدق، فإنه يهدي إلى البر} . وقال بعض السلف وبعض الشيوخ: قل لمن لا يصدق: لا يتبعنا، وقال بعضهم: الصدق سيف الله في الأرض، ما وضع على شيء إلا قطعه، وقال يوسف بن أسباط وهو من العباد الكبار: ما صدق الله تعالى عبد إلا صنع له، أي: إذا كان صادقاً مع الله، فإن الله سبحانه وتعالى يسخر له خلقه؛ ولذلك كان الفرق بين المؤمن والمنافق، أن المؤمن صادق والمنافق كذاب. ولذلك ليس الصدق أن تكون صادقاً في قولك فحسب، بل الصدق أشمل من الصدق في القول، وأن الواحد لا يكذب ولا يذكر خلاف الواقع، هذا صدق، ومن الصدق أن يفي الإنسان بما وعد أيضاً، وألا يقول: والله إن حصل كذا لأفعلن كذا، ثم يفعل: {لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:75-76] . ومن الصدق: الصدق في الأعمال وذلك؛ أن تقصد بها وجه الله تعالى، لا تقصد بها شيئاً آخر، لا رياء ولا سمعة. وما أعظم وأدق وألطف مداخل الشيطان على نفس الإنسان! فلا بد للإنسان أن يضع كشافات على قلبه وعلى مشاعره وعلى نياته، يكتشف بها كيف يتسلل الشيطان. ولذلك ألف ابن الجوزي رحمه الله كتاباً اسمه تلبيس إبليس؛ لأنه يلبس على الكبار، على العباد والزهاد وطلبة العلم والعلماء والشيوخ، فكيف بالعوام؟! وسائر الناس هم أقرب تأثراً وانخداعاً بتلبيس الشيطان. كذلك الصدق في النيات ومجاهدة الإنسان نفسه على إخفاء العمل بقدر ما يستطيع إذا كان إخفاؤه لا يضر ولا يؤثر حتى يكون أخلص لله تعالى وأبعد عن إرادة وجه الناس في هذا العمل؛ ولهذا مدح الله تعالى وأثنى في القرآن كثيراً على الذين يريدون وجه الله: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20] {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ} [الإسراء:57] {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} [الرعد:22] . فأثنى الله تعالى على الصادقين الذين صدقوا في نياتهم ومقاصدهم، وصدقوا في أقوالهم، وأعمالهم، بحيث انعكس الصدق على وجوههم، حتى كان الواحد منهم إذا رآهم، عرف أنهم صادقون، ليست وجوههم بوجوه الكذابين، لا يتعاملون بالحيل والمكر والقيل والقال، والتلبيس فهم مكشوفون واضحون صرحاء، شخصياتهم غير قابلة لأن تلبس غير ثوبها أبداً، لأنهم تعاملوا بالصدق مع الله ومع الخلق. من الصدق أيضاً: البعد عن التكلف والتصنع للناس ومجاملتهم، وأن يتعامل الإنسان تعاملاً حسناً مع الله ويعمل لله، كما كان أبو بكر رضي الله عنه يقول: [[إنما أريد ما عند الله تعالى]] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 الوسيلة الأولى: العلم من أهم وسائل إصلاح الباطن العلم؛ فالعلم نور للظاهر والباطن؛ وهو العلم بالله، وبالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والعلم بأيام الله وسننه، وباليوم الآخر، وبالشرع عقيدة وشريعة، وحلال وحرام، قال الله قال رسول الله، هذا مما يلين القلوب، ويقرب العبد من الله تعالى. ومما ينور داخل الإنسان أن يكثر من العلم بالله وبشرع الله تعالى. والعلم علمان كما قال الحسن البصري: [[علم في اللسان: فذلك هو حجة الله تعالى على ابن آدم، وعلم في القلب: فذلك هو العلم النافع]] . فأنت احرص على أن يكون علمك العلم النافع، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح:28] قال العلماء: هو العلم النافع والعمل الصالح، العلم النافع هو: الذي يقربك إلى الله، ليس الأصل أنك تتكثر به في المجالس، ولا تمدح به فيقال: فلان! ولا يشار إليك بالبنان، إنما قصدك القربى إلى الرب جل وعلا، والفوز بجنة النعيم، تعلمت لهذا، وتحرص أن تصلح نيتك؛ فهذا من العلم الذي يصلح الباطن. ومن أعظم العلم القرآن الكريم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وذلك لأن القرآن أساس العلم ولبه، وفيه تعظيم الله تعالى، والثناء عليه، وذكر أسمائه، وصفاته، وأفعاله وغير ذلك، وفيه ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام، والإيمان بهم، وذكر اليوم الآخر، وأخبار الأمم السابقة، وعبر، وأشياء أخرى بحيث أن الإنسان إذا أدمن وأكثر من قراءة القرآن نَوَّرَ الله تعالى قلبه بآياته وذكره، كما أن فيه التهوين من شأن الدنيا التي تكبر في أعين الناس؛ لأن من أهم الأسباب التي تجعلنا نهتم بالظاهر التصنع للناس. يا أخي! فكّر في نفسك إذا رجعت -ودعونا من الكلام الذي لا ينفع- إذا رجعت فاسأل نفسك: من أجل من تعمل؟ ستجد أشياء كثيرة فتقول: "من أجل فلان وعلان"، "ومن أجل الناس"، "وأخشى أن يقال! " صار الواحد، كأنه ينفذ ما يريده الناس، لا ما يقتنع هو أنه صحيح، أو ما يقربه إلى الله تعالى، فالإنسان إذا قرأ القرآن، عرف قدر الناس وقدر الدنيا، وبالمقابل عرف عظمة الله تعالى، فخافه وراقبه، ويفعل ما يرضي الله وإن أسخط الناس، ويترك ما يسخط الله وإن رضي الناس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 الوسيلة الثانية: العمل الصالح ولهذا مدح الله في القرآن العلم الذي يتبعه ويصاحبه عمل في آيات كثيرة، منها: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] اهتدوا بالعلم والعمل، ومنها: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66-68] . ولهذا قال بعض السلف: من عمل بما علم، ورّثه الله علم ما لم يعلم، انظر الآية: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66-68] ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28] . فإذا اتقى العبد ربه وعلم وعمل، فإن الله تعالى يجعل له نوراً، وفي الآية الأخرى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] ويقول الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:257] ويقول الله سبحانه وتعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ} [المائدة:16] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 الأسئلة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 بعض الكتب التي تعالج فساد القلوب السؤال ماهي الأمور التي يصلح بها القلب، وتصلح بها قلوب الآخرين؟ الجواب هذا الباب يطول وقد ذكرت بعضه، وأنصح بالرجوع إلى بعض الكتب التي تعالج ذلك، تعالج الإثم الظاهر والباطن: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] اجعل هذه الآية نصب عينك: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] وأشرت سالفاً، إلىكتاب التحفة العراقية ل ابن تيمية، اقرأه مرة ومرة، وكذلك الداء والدواء، لـ ابن القيم رحمه الله، والجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، وهذا كتاب نفيس، وكتب ابن القيم عموماً تعالج هذا الجانب ففيها علاج القلوب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 حكم العادة السرية السؤال أنا شاب ملتزم، ولكن في الخفاء أعمل العادة السرية؟ الجواب هذه يشتكون منها دائماً، يشتكي منها الكثير، والعادة السرية من أعظم أثارها السلبية أنها تسبب لمن يفعلها انتكاساً في قلبه، وتسبب له انزعاجاً في نفسه، وتسبب له قلقاً وإعراضاً عن الأعمال الصالحة، وأشياء عجيبة. وجمهور العلماء على أن العادة السرية محرمة؛ لأن الله تعالى يقول: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فعليك أن تتقي الله وتترك العادة السرية، وتحرص على أن تحصن نفسك بالزواج والصيام وصحبة الأخيار ولا تخلو بنفسك، ولا تأوي إلى الفراش وأنت حاقن مثلاً أكثر من ذكر الله تعالى، وصلِّّّ واسأل الله تعالى أن يعافيك، ومع ذلك إذا وقعت في العادة السرية فتب إلى الله تعالى، فإن الله يقبل التوبة من القاتل والزاني ومن اللوطي، فيقبل التوبة منك، إذا وقعت في العادة وتبت منها، وإذا تبت -أو حتى إذا كنت مصراً عليها- فإياك إياك أن يمنعك وقوعك في هذا الذنب عن تعليم العلم، وعن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتدريس القرآن، وإمامة الناس، والخطابة، والوعظ وعن أعمال البر وأعمال الخير التي ربما تُكّفر ذنوبك وتكفر الأخطاء والنقائص التي وقعت منك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 أعمال من لا يهتم بأعمال القلوب السؤال اهتمام كثير من الناس بالظاهر وترك العلم بالباطن، كالنية وغيرها؛ هل تقبل أعمالهم؟ الجواب إذا كانت نية الإنسان صالحة في الأصل، فإنها تقبل إن شاء الله تعالى، أما إذا كان قصده الناس، فالله تعالى يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ويقول يوم القيامة {اذهبوا إلى الذين كنتم تراءونهم في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم من جزاء} !! أسأل الله تعالى أن يكون هذا المجلس في ميزان حسناتنا وأن يتقبله منا، ويعفو عنا ويسامحنا ويغفر لنا، ويثبتنا بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. والحمد الله رب العالمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 شكر من يقوم بالخير السؤال ما رأيك في برقيات الشكر لمن يعملون أعمالاً خيرة؟ الجواب إن كانت هذه الأعمال خيرة تستحق أن يشكروا عليها، فلا حرج في ذلك ولا بأس به إلا أن يخشى أن يؤدي هذا إلى توقف بعض الأعمال أو الشعور بأنه ليس هناك داع لمزيد من الإصلاح، فإذا دعا الإنسان أو شكر أحداً على أمر فعله، فينبغي أن يشفع ذلك بأن يطالبه بالمزيد من الإصلاح، وأن الناس لا يزالون يترقبون وينتظرون أكثر وأكثر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 الخوف من الرياء السؤال بعض الناس إذا قيل له: صل بنا واقرأ، قال: أنا أخشى من الرياء؟ الجواب لا ينبغي أن تعمل العمل رياءً، كذلك لا ينبغي أن تترك العمل خوف الرياء، بل اعمل واحرص على إصلاح النية، وقل كما أرشد النبي أبا بكر: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 التخلف عن صلاة الجماعة السؤال نحن جماعة في هذا المسجد وغيره نرى تخلف الكثير عن الصلاة وخاصة صلاة الفجر، فنرجو أن توجه نصيحة لهم؛ عسى الله أن يهديهم. الجواب نسأل الله بمنه وكرمه أن يهدينا وإياهم سواء السبيل ويعيننا وإياهم على أنفسنا، وعليهم أن يحرصوا على صلاة الفجر مع الجماعة، فإنها من علامات الإيمان، أما ترك صلاة الفجر والمداومة على ذلك فقد ورد فيما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين، صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} . وحاشاك أيها الأخ المسلم أن ترضى أن تتشبه بالمنافقين في هذه الخصلة الذميمة!! التأخر عن صلاة الجماعة خاصة الفجر لأن المواظبة عليها من علامات الصدق، وإيثار الله تعالى والدار الآخرة على عاجل الدنيا وزخرفها ولذاتها وراحتها، واحرص أن تنام مبكراً، وأن يكون لك ساعة للإيقاظ، وأن تجعل جيرانك يوقظونك أو أهل بيتك وما شابه ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 الصحف الواجب مقاطعتها السؤال ما هي أهم الصحف الذي يجب علينا أن نقاطعها؟ الجواب أهم الصحف التي تكلمت عنها هي صوت الكويت والسياسة، هذه التي نطالب المسلمين بمقاطعتها بكل وسائل المقاطعة، ونريد أن تنجح هذه المقاطعة في فرض حصار على هذه الصحف، حتى تكسد في البقالات، وترجع إلى أصحابها، ويعرفون أي جرم ارتكبوا، وأي ذنب فعلوا، وأي إهانة وجهوا إلينا نحن المسلمين، ونحن -بحمد لله- نعتقد أننا نستطيع لو أخلصنا النية وتواصينا بذلك أن نصنع أشياء كثيرة، فغالب من يشتري هذا هم نحن، فلو كل واحد منا فعل ووصى وتكلم وكلم صاحب البقالة وجاره وزميله في العمل، ونشرنا هذا الأمر مع الخطباء، والدعاة، وطلبة العلم، أعتقد أننا سوف نصنع شيئاً كثيراً. وبعد ذلك تأتي أيضاً مثل جريدة الصباحية، وجريدة الرياضية؛ فإن هذه الجريدة أساءت إلى المسلمين أيما إساءة، وغيرها كثير، لكن إذا قلنا دعنا نبدأ الآن ولو ببعض الصحف، ودع الناس يتسامعون يُعرفون أن هذه الصحف قد كسدت، وأرجعت، ولم تشتر، وانخفضت مبيعاتها في هذا البلاد، حتى يعرفوا أي كلام يجب أن ينشروه وقولوه، هذا فضلاً عما ينشرونه من الصور الخليعة البذيئة، يا أخي! العجب كل العجب من أن يباع هذا في أسواقنا، ونشتريه بأموالنا ونضعه في بيوتنا لبناتنا وزوجاتنا! لا حول ولا قوة إلا بالله! الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 أخطاء الملتزمين السؤال المجتمع يتحدث عن بعض الأعمال غير اللآئقة لبعض الملتزمين، مثل الغش والكذب نأمل أن توجه نصيحة لمثل هذا؟ الجواب هذا -مثلما ذكرت يا أخي- يحتاج إلى علاج، ويحتاج إلى كلام، نسأل الله أن يعين هؤلاء على أن يقوموا بالواجب الذي ينتظره الناس منهم؛ لأن الإنسان المتدين مثل الثوب الأبيض إذا وقع فيه أدنى دنس، فإنه يبين فيه ويظهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 جماعة التبليغ السؤال هذا يسأل عن جماعة الدعوة والتبليغ يقول: ما رأيكم فيها بكل صراحة ما دام في ذلك مصلحة للدين، وبماذا تنصح هؤلاء الإخوة؟ أخي العزيز فأنا -ولله الحمد- أثق بك وبكلماتك؛ فالرجاء الرد على هذا السؤال! لماذا لا تكون كل الجماعات جماعة واحدة ممثلة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي أمة الإسلام؟ الجواب أولاً: أنا أوافقك أنه يكفينا اسم الإسلام الذي سمانا به الله جل وعلا على لسان إبراهيم، فقال: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] ولا داعي إلى أن نفرق المسلمين أشياعاً وأحزاباً. وبما أنك سألتني عن جماعة التبليغ، فأقول: الجماعة فيهم خير إن شاء الله، وفيهم اجتهاد، ودعوة إلى الله تعالى، وفيهم خلق حسن وفاضل، وفيهم تعبد، ويعينون الناس على تعلم الأخلاق الفاضلة، وحسن العبادة، والإقبال على الله، وهدى الله على أيديهم كثيراً من الكفار إلى الإسلام كما هدى الله على أيديهم كثيراً من الضالين والفاسقين والمنحرفين إلى جادة الاستقامة والعبادة، لكن عندهم أخطاء، وأيضاً عندهم جهل، لأنهم لا يتعاطون العلم في مجالسهم، وكذلك لا يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كثير من البلاد، وربما يصلون في مساجد توجد فيها قبور، وتوجد فيها معاص، وبعض البدع، فلا ينكرون، بل ربما لا يوافقون أحداً على أن ينكر. وأنا لا أقول هذا الكلام عن نقل، هذا واقع أعرفه، ومع ذلك أنا أحب كثيراً منهم، وخاصة أهل هذه البلاد؛ لأنهم إن شاء الله نرجو أنهم من أسلم الناس أو من أسلم أفراد الجماعة اعتقاداً؛ لأنهم تربوا على عقيدة صحيحة، والبلد -والحمد لله- بلد علم، ولذلك يستفيدون علمياً، وكثير منهم يحضرون مجالس العلم هنا، ويجيئون إلى العلماء ويسمعون منهم، ولا أرى في الواقع أن نشن حملة ضارية على هؤلاء أو نشهر بهم أو نشتمهم في الوقت الذي نسكت فيه عن اليهود والنصارى والمنافقين والعلمانيين وغيرهم! أقول: هؤلاء فيهم خير كثير، وفيهم أخطاء ويمكن تصحيح الأخطاء بها، وما أمكن وطالب العلم لا يلزم أن يخرج معهم، لكن إن رأى أحداً فاسداً يمكن أن يخرج فيصلح، فلا حرج في ذلك، وإذا صلح فإنه يزوده بالعلم الذي يقيه -بإذن الله- من وجود بعض الثغرات والأخطاء والبدع التي قد يلقاها، سواء مع الجماعة أو إذا خرج إلى بلد من البلدان الأخرى التي توجد فيها مثل هذه الأمور، والكلام في هذا يطول، لكن هذا كلام على سبيل الاختصار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 الحكم على الشخص بالظاهر السؤال هل من المفروض أن نحكم على الشخص من أول نظرة أنه طيب؟ الجواب هذه مصيبة يا أخي، إن مصيبة الناس أنهم مظهريون، تربوا حتى في أمور دنياهم -كما قلت- على المظاهر، حتى الطعام! لا تجد الواحد إذا جاء بطعام ينظر ماذا فيه من البروتينيات والدهنيات إلى غير ذلك مما يحتاجه الجسم، بل ينظر هل هذا الطعام حلو فقط، فالقضية مظهرية حتى في الأمور الدنيوية، وهذه تربية درجنا عليها. وأعتبر المحاضرة هذه -وقد أكون قصّرت في أدائها وتقديمها إليكم لأسباب عديدة- لكن أعتبر أنها لبنة في هذا الموضوع يجب أن تتبعها لبنات منكم، ومن بقية الدعاة، وطلبة العلم والعلماء للفت نظر الناس إلى قضية المخبر، حتى في الحكم على الآخرين فلا تحكم على الإنسان بمجرد أن تراه من أول مرة، فيمكن أن يكون الإنسان يتظاهر بالخير لغرض، ولا تحكم بالسيئة أيضاً، فأنتم غير مطالبين أصلاً وغير ملزمين بالحكم، فإذا عرفت منه شيئاً تحكم بمقتضاه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 محمد عبده وترك الغناء السؤال ما صحة ما سمعنا عن محمد عبده هل التزم أو ترك الغناء فقط؟ الجواب رأيت الرجل في رمضان، وأرجو أن يكون مقبلاً على خير، وقد سمعت من قبل أن الرجل محافظ على الصلوات، وفيه طاعة لله، وعنده معاصٍ، منها الغناء، وقد ترك الغناء، ثم بعد ذلك يبدو أنه وفعت عليه بعض الضغوط وبعض التأثيرات، فعاد إلى بعض ألوان الغناء، وهناك مقابلة معه متعددة، بعضها يشجع، وبعضها قد أوجد عند بعض الناس نوعاً من التساؤل أو نوعاً من علامات الاستفهام، لكن -إن شاء الله- أرجو للرجل خيراً كثيراً، وأسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يثبتنا وإياه بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، وأن يهدينا وإياه وسائر المسلمين إلى سواء السبيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 الحماس للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال ما رأيك في الذين يلتزمون ظاهراً ونحسن فيهم النية، لكن لا نجد منهم حماساً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تتمعر وجوههم عند رؤية المنكر، هل يمكن أن مثل هؤلاء يحمل هم الإسلام؟ الجواب يمكن أن يتم ذلك على مراحل: المرحلة الأولى: أن يلتزم بنفسه. المرحلة الثانية: أن يكون عنده رغبة في الخير وإقبال وحرص وغيرة على الدين وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فأنت لا تعجل عليه، لكن إذا رأيت الرجل لا يتمعر وجهه، ولا يتأثر قلبه، فهذا يدل على مرض في القلب ولا شك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 حكم من تقع منه التوبة والعودة إلى الذنب من جديد السؤال شاب يدرس في الحلقة ويحفظ القرآن، ويتوب من بعض المعاصي الصغيرة التي هو مقيم عليها، حاول عدة مرات لكن يعود بعد ذلك إليها؟ الجواب إذا عاد فعليه أن يتوب مرة أخرى، وباب ربك لا يغلق سبحانه والله تعالى إذا سامحك عن ذنب مضى فإنه لا يرجع في المسامحة هذه، وإذا وقعت في الذنب مرة أخرى فلا يحسب عليك الذي مضى، لكن يحسب عليك الذنب الجديد، تب من هذا الذنب، وإذا أذنبت إلى المرة المائة تب، وإلى المرة الألف تب، لا تمل يمكن أن يختم الله لك على توبة، وكذلك انظر في الأسباب التي تدعوك إلى الوقوع في الذنب فتخلص منها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 الدين لب كله السؤال أرى شباب الصحوة لا يزالون يرددون أنظار أمثال الطعن في بعض الشخصيات والغيبة في مقابل أننا نطالب أن يرقوا بأنفسهم إلى ما هو أعظم من ذلك، مثل التفكير في إيجاد أمة تتعامل بالاقتصاد الإسلامي، وفي هذا أطلب منكم كلمة لتوجيه الشباب من عدم الاستهانة بصغائر الأمور التي هي بأنظارنا صغيرة؟ الجواب في الدين ليس هناك صغير! فـ مالك رحمه الله، لما سئل عن مسألة قال: لا أعلم، قالوا: هذا صغير، قال: الدين ليس فيه صغير، يقول الله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] . كل الدين ثقيل وكبير، ليس في الدين شيء تحقره وتصغره، لا! الدين كله دين، ولا تستصغر شيئاً، لكن لا شك أن الدين له أركان وشرائط وواجبات ومستحبات وسنن، وهناك سنن مقطوع بثبوتها، وسنن الراجح أنها سنن، وسنن مختلف فيها، وسنن الراجح أنها لا تثبت، فالمسألة مراحل ودرجات، وينبغي أن يلتفت الشباب إلى الأمور الكبار، ويعملوا بها ويعطوها قدرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 علاج النظر إلى ما حرم الله السؤال مظهري يوحي بأنني شاب ملتزم، لكن العكس صحيح، حيث أنني قد بليت بالنظر إلى ما حرم الله، فما هو السبيل للعلاج؟ الجواب أنت إن شاء الله فيك خير، ما دمت -أنك كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- قد إن سرتك حسنتك وساءتك سيئتك فأنت إن شاء الله مؤمن، وعلى سبيل الهداية والنجاة، لكن لا تقنع بما أنت فيه، عالج نفسك، وعالج قلبك، فقلبك ممتحن بالنظر إلى الصور الجميلة، فأملأ قلبك بحب الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 عقبات في طريق الالتزام السؤال نرى شباباً يظهر فيهم الصلاح، ولكن بمجرد امتحان بسيط ينقضون بعض آرائهم، ويتخلون عنها، بمجرد أن يحقق لهم ما أرادوا، فأولئك يشوهون صورة الالتزام، وكثير يتلقفون الأخطاء، ويمثلون صورة أراها لا تتكلم فهي خرساء؟ الجواب نعم بدأنا، ولكني لا أريد أن نعطي أنفسنا نحن الطيبين والخيرين، حجماً كبيراً، ونعطي أنفسنا هالة وقداسة يجب أن نقول بدأنا بحمد الله. بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه الصنم بدأنا في طريق الخير ولكن لا أننا انتهينا، فلا زلنا في بداية الطريق. بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم وفينا الكرامة مهجورة كمحصنة لوثتها التهم وفينا قبور طواها الأنين عليها الردى ليله مدلهم وفينا النفاق عطور تساق وفي زهرها فاتكات النقم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 اهتمام الإنسان بنفسه السؤال الرجاء يا شيخ أن تبين أن المخاطب في جميع هذا الحديث هم نحن، وليس غيرنا؛ حتى يتم التطبيق؟ الجواب مَن المقصود؟! مشكلة إذا كان الكلام يزل يمنة ويسرة، ويكون المقصود غيرنا، فمعنى ذلك أننا لم نستفد شيئاً نقول للناس: أصلحوا بواطنكم! وبواطننا نحن فاسدة وخربة، نسأل الله العفو والعافية، كالسراج يضيء للناس ويحرق نفسه، لا! ابدءوا بأنفسكم، يا أخي! ابدأ بنفسك فانهها عن غيها، قبل غيرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 الداعية بين الظواهر والبواطن السؤال هل الداعية مسئول عن بواطن الأمور أم عن ظواهرها؟ الجواب البواطن الله يتولاها، نحن لا نقول: إنك تدخل قلوب الناس وتتعرف على خطراتهم، لا! لكن نقول: عالج القلوب، وسبحان الله! ما من شيء في القلب إلا وله رصيد في الواقع، فأنت تجد الإنسان المغرور واضحاً؛ لأنه دائماً يتكلم عن نفسه، ويقول: أنا وأنا، ويعرض عن الآخرين ويزدري ما عندهم؛ فكل شيء في القلب يظهر أثره في الجوارح، فأنت لا تكتفي بأن تجعل الإنسان ملتزماً ظاهرياً، وهذه الآفات والعلل تلعب في قلبه، وأنت تعرض عنها، لا! لا بد أن تعالجها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 ضياع الأوقات وقلة الجلسات المفيدة السؤال الجلسات المفيدة والإيمانية لدى شباب الصحوة قليلة ونادر، بل يستكثر بعضهم أن تكون الزيارات الأخوية ذات فائدة أو طابع إيماني؛ فما توجيهكم، وهذا عيب ما زلنا نعيشه؟ الجواب ينبغي أن تحيا جلسات الإيمان والذكر، كما في حديث ابن رواحة ومعاذ [[اجلس بنا نؤمن ساعة]] وأنتم اجلسوا آمنوا بالله تعالى، واذكروه، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، تآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ينبغي ذلك حتى لو لم تكن جلسة طويلة أو بعد العشاء ساعة أو ساعة ونصف، فيمكن أن تجلس ثلث ساعة؛ لأن بعض الناس يعرف أنه إذا جلس يصعب أن يقوم، يا أخي الوقت ثمين، ويصعب أن تأخذ وقتك ووقت الآخرين، اجلسوا عشر دقائق أو ربع ساعة، وتكلموا في أمور مفيدة ثم انصرفوا، حتى تكون الجلسة خفيفة على النفوس. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 واجبنا تجاه من يعصي الله ويتظاهر بالصلاح السؤال شخص ملتزم ظاهرياً، وبعد الاكتشاف ظهر أنه يعمل أعمالاً تنافي الشخصية الإسلامية التي التزم بها، هل نصفه بالنفاق؟ وما واجبنا نحوه؟ الجواب لا! لا تصفه بالنفاق، النفاق أمره إلى الله تعالى، لكن الواجب عليكم أن تعملوا على علاج باطنه، وعلاج قلبه؛ فإن ظهر هذا وأثرت فيه وإلا فإنه يبين ما يضر الناس منه؛ إذا كان إنساناً كذاباً ويتكلم بالكذبات التي تبلغ الآفاق، فإنه يُخبر الناس أنه كذاب فلا تقبلوا حديثه، وطالما تكلم علماء الجرح والتعديل في بعض العباد والزهاد وقالوا: كذابون لا نأخذ عنهم ولا نقبل حديثهم، وكذلك إذا كان لصاً، يبين هذا حتى يحذره الناس، وإذا كان أحد اغتر به أحد لمظهره فعامله أو ما أشبه هذا، فينبغي أن ينصح الإنسان للمسلمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 حكم لبس الملابس الضيقة عند النساء السؤال بعض النساء الملتزمات يلبسن بعض الملابس الضيقة في المناسبات وأصبح هذا عند النساء، معتاداً، وملابس بعض الأطفال كذلك وتجد أهلهم ملتزمين؟ الجواب ينبغي أن يعالج هذا، المرأة قدوة خاصة الملتزمة، فينبغي أن تحرص على العناية بمظهرها، كما تعتني بمخبرها، يكون مظهرها في ثيابها، وفي معاملاتها، وأقوالها، وأعمالها قدوة حسنة للأخريات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 معالجة الباطن مع خفائه السؤال كيف تتم معالجة الباطن وهي خفية لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى؟ الجواب نحن ليس لنا إلا الظاهر، لسنا نطلب منك أن تحاسب الناس، أما الحساب فاتركه إلى يوم القيامة، نحن نطلب منك الآن أن تعالج أمراض قلبك أنت، ثم ابدأ بمن حولك ممن تعول، ومن قرابتك، ومعارفك، وزملائك، ومن ولاك الله أمرهم من الطلاب والتلاميذ والمدعوين وغير ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 المدح لا يقدح في الإخلاص السؤال أنا إن شاء الله مستقيم، فإذا فعلت خيراً ورأى الناس ذلك فإنهم يمدحونني، فما رأيك بذلك؟ الجواب إذا كان فعلك من أجل الله، ولا تحرص أن يعرف الناس، لكن إذا عرفوا فمدحوك، فهذا لا عليك إن شاء الله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 واجبنا تجاه إخواننا الكبار السؤال لي أخ أكبر مني بسنة، وهو دائماً يهتم بمظهره ومنظره، ولا يهتم بباطنه؛ حيث إنه شاب ملتزم، فما واجبي تجاهه؟ الجواب واجبك أن تعالجه قدر المستطاع، ولا بأس أن توصل إليه مثل هذا الدرس وما شابهه مما فيه علاج للقلب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 المعاصي والتوبة السؤال أنا شاب وفقني الله للالتزام، لكن إذا خلوت بنفسي ارتكبت بعض المحرمات وبعض الأفعال الظاهرة، فهل أنا مثل صاحب الرحى؟ الجواب صاحب الرحى هو: الذي يدور بأمعائه في النار كما يدور الحمار برحاه، إن شاء الله لا تكون مثله نسأل الله أن ينجينا وإياك من النار، لكن عليك بكثرة التوبة وكثرة الاستغفار، وأكثر من قول: لا إله إلا الله، فإنها أعلى شعب الإيمان، واستغفر الله، واحرص على ألا تخلو بنفسك، وحصِّن نفسك بكثرة الصيام وبالزواج وبالأعمال التي تشغل بها وقتك عما لا يحل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 احتجاج أصحاب المعاصي بصلاح بواطنهم السؤال ما رأيك في من يقول: التقوى هاهنا ويشير إلى القلب؛ علماً بأنه في الظاهر مرتكب لعدد من المعاصي والمحرمات؟ الجواب هذا كما ذكرنا، فالواقع أنه إذا فسد الظاهر، نكتشف أن الباطن فاسد، ولا يمكن أن يوجد باطن صالح وظاهر فاسد، هذا لا يوجد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 من يضمر الشر للملتزمين السؤال هناك بعض الأفراد يظهرون الالتزام، وتنطوي نفسه على خبث عظيم، ويتستر بمظهره والتزامه بالفرائض والسنن، ومع أنه يعمل الجرائم العظيمة، ليس هذا فحسب، بل يسعى في إفساد الشباب، ويصد هم بل يعلمهم كيف يتخفون بمثل لباسه، والسؤال كيف يتصرف مع أمثال هؤلاء؟ هل يتستر عليه ويحرص على الدعاء له ودعوته؟ الجواب لا، لا بد أن تبين حال هذا الرجل! لغرض، بأنه مندس في صفوف الأخيار أو في حلقات المساجد أو غيرها لغرض خبيث، مثل أن يكون فاسد القصد، خبيث الخلق، يصطاد الشباب ويوقعهم في شَرَكِه، أو أن يكون قصده التجسس على الأخيار والكذب عليهم ورفع ذلك، فمثل هذا ينبغي الحذر منه والتشهير به، حتى يحذره الناس ويبتعدوا عنه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 حكم مشاركة الكفار في أعيادهم السؤال هل يجوز إعانة الكفار في أعيادهم؟ الجواب في الأيام القريبة هناك أعياد كثيرة، ومع الأسف الشديد يقيمونها في هذه البلاد، وقد اطلعت واطلع غيري على الكثير من منشوراتهم وأوراقهم التي يدعون فيها المسلمين إلى مساعدتهم بالسيارات وبتمثيل بعض الأدوار وبتوفير بعض البيوت وما أشبه ذلك. وأقول: هذه الأعمال لا يجوز أبداً إقرارها ولا الرضا بها؛ ولا تهنئتهم ولا إعانتهم ولا مساعدتهم بشيء قط، بل ينبغي التبليغ عنهم ومحاربتهم والتضييق عليهم، على كل من استطاع على ممن كان له ولاية أو سلطة أو كان من عامة الناس. وبكل أسف نقول: إنه يوجد من يساعدهم، ويوجد من بعض الرؤساء ومن بعض المسئولين من يتستر عليهم، ومن يرسل لهم بطاقات التهنئة، ومن يسهل لهم في إدارته أو مستشفاه أو غير ذلك، وهذا والعياذ بالله جرم عظيم؛ لأن هذه الأعياد أعياد فاسدة، وأعياد من أعياد اليهود والنصارى كما يسمونه الكريسمس في رأس السنة، فلا يجوز تهنئتهم بذلك ولا إعانتهم بذلك. وقد صدر بذلك فتاوى عن جماعة من أهل العلم، منهم سماحة الشيخ محمد بن العثيمين، ولذلك أنصح بنشر هذه الفتوى وتوزيعها على الناس، في المستشفيات وفي الدوائر الحكومية، وفي البلاد والأماكن الذي يوجد فيها النصارى، نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 الصراع بين الحق والباطل الصراع بين الحق والباطل حقيقة ماثلة للعيان عبر العصور، وفي عصرنا الحاضر شاعت مقولة بأن عصر الأديان قد ولى، وأن الصراعات القائمة ستكون على الماديات والمصالح لكن الدلائل تشير إلى غير ذلك خصوصاً بعد سقوط الشيوعية حول هذه الدلائل وحول ما ينتظر الامة الإسلامية من العداء وواجبها تجاه ذلك يدور هذا الدرس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 1 لا وسطية بين الحق والباطل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم. أما بعد: أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: فكل ما في الدنيا من أقوال وأعمال وآراء وسلوك؛ فهو متردد بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخطأ والصواب، لا يمكن أن يخرج شيء في الدنيا عن هذه الأمور، إما أن يكون حقاً أو أن يكون باطلاً، أو هدى أو ضلالاً أو خطأ أو صواباً؛ ولا يمكن أن تخلو الدنيا -أيضاً- من هذا أو ذاك؛ فإننا نعلم أن قوام حياة الناس مبني على مواقف وتصرفات وسلوك وأقوال ومذاهب، وأنه لا بد للبشرية أفراداً وجماعات من مذاهب يعتنقوها، وأشياء يتدينون بها، وأموراً يلتزمونها، وهذه الأشياء منها ما يكون حقاً ومنها ما يكون باطلاً، ولذلك يقول الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:5-6] . إذاً إما هذا وإما ذاك، إما قوام حياة الناس مبني على مواقف وتصرفات وسلوك وأقوال ومذاهب وأنه لا بد للبشرية أفراداً وجماعات من عبادة الله، وإما عبادة الشيطان، ويستحيل أن يوجد وسط بين ذلك، فكل إنسان يرفض عبادة الله لا بد أن يعبد الشيطان؛ لأن مجرد رفض عبادة الله جل وعلا هو ذات عبادة للشيطان، فلا يمكن أن تخلو الدنيا من أحد هذين الأمرين، ولا يمكن أن يخلو شخص من أحدهما؛ لذلك نعلم أنه لا يمكن أن يوجد إنسان وسط. كما قال الشاعر: لا يصلح إنسان وسط ما بين الجنة والنار وبالتالي لا يصلح إنسان في هذه الدنيا وسط بين الهدى والضلال والحق والباطل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 2 أطراف الصراع في هذه الأمة وبعد بعثة النبي الخاتم عليه صلاة الله وسلامه انحصرت الخصومة بين أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وبين أعدائه، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان له أعداء كثيرون في الحياة، من المجرمين، من الأكابر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [الأنعام:123] وما أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة وغيرهم إلا أمثلة ونماذج لأعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم الذين يحاربون دعوته صلى الله عليه وسلم عبر العصور، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وبالمقابل بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أصبح أولياؤه هم العلماء الذين ورثوا هديه وتراثه؛ ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {إن العلماء ورثة الأنبياء} وكلذلك بيّن الله سبحانه تعالى قبل ذلك أن هذه الأمة سيوجد فيها من يحمل الرسالة، فلا تعني وفاته الرسول صلى الله عليه وسلم سقوط الراية، الراية كلما جاء جيل، قيض الله تبارك وتعالى بين هذا الجيل من يحمل الراية، ويقيم الحجة على هذا العصر، ولهذا يقول الله جلّ وعلا في محكم التنزيل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] . وبصورة أخص: تحدّث الرسول عليه الصلاة والسلام عن اسم خاص لحملة الهدي النبوي الذين يخلفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ليس في الإسلام فقط، وليس في الالتزام بالسنة فقط؛ بل بالدعوة إليها والقيام عليها والصبر، ودعوة الناس إلى ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان الاسم الخاص الذي ميزهم الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء به هو أنه ميزهم بالطائفة المنصورة، وهذا اسم جليل عظيم تهتز له القلوب، وتستبشر له النفوس. وفي حديث متواتر يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين منصورين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وهؤلاء يقابلهم أعداء الرسل ويحاربونهم ويضعون في طريقهم الأذى والشوك؛ فلا يضرونهم إلا بالتعب والجهد واللأواء، وهذه خصومة طبيعية؛ لكن الطريق ماض، والقافلة مستمرة لا يمكن أن يؤثر هؤلاء فيها توقفاً، قال الله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُون} [آل عمران:111] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 قدم الصراع بين الحق والباطل هذا الحق والباطل بينهما صراع منذ أن خلق الله الإنسان على ظهر الأرض، فيوم أن كان آدم وحواء في الجنة كان الله عز وجل قد خلقهما للابتلاء والاختبار، ولذلك قال الله عز وجل: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} [طه:117] ومنذ تلك اللحظة ابتلي الإنسان بكيد الشيطان وخصومته وصراعه معه، وما زال الشيطان يكيد لآدم وحواء حتى أهبطا إلى هذه الدنيا، وبعد إهباطهما وإهباط الشيطان يقول الله جل وعلا: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُو} [البقرة:36] وهنا انتقل ميدان الصراع إلى هذه الأرض، وبدأت الخصومة. ولذلك بعد هبوط آدم وحواء إلى الأرض ظلت أجيال من الناس على الهدى قروناً طويلة يتوارثون الهدى والخير والإيمان عن أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه عند الحاكم والطبري وغيرهما في تفسير قول الله جل وعلا في سورة البقرة: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِين} [البقرة:213] قال ابن عباس: كان بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. وهكذا جاء في قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب ((كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين)) هذا أحد الأوجه في تفسير الآية، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إن الأجيال التالية لآدم ظلت وفيةً للحق، وفيه للتوحيد الذي تلقته عن آدم عليه الصلاة والسلام، حتى أثّر فيهم كيد الشيطان، فانحرفوا عن التوحيد، واندرست معالمه، فاحتاج الأمر إلى بعثة نبيٍ يجدد الإسلام والدين والتوحيد: {فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة:213] . وبعد بعثة هؤلاء الرسل عليهم الصلاة والسلام صارت الخصومة بين الرسل وأتباعهم وبين أعداء الرسل من أتباع الشيطان، ولذلك يقول جلا وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِين} [الفرقان:31] فما من نبي بعث إلا ويصدى له أعداء من المجرمين يضعون العراقيل في طريقه، ويعترضون عليه بمختلف الوسائل، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 وجود حق وباطل في أمر لا يعني الوسطية مسألة الحياد في أمر الحق والباطل غير وارده، وحين يقول إنسان: أنا محايد بين الحق وبين الباطل، فإنه يصنف في دين الله وشرعه في قائمة أهل الباطل؛ ولذلك يقول الله جل وعلا: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُون} [يونس:32] فليس هناك إمكانية الحياد في مسألة الحق والباطل، والهدى والضلال، والخطأ والصواب، وهذا لا يمنع -بطبيعة الحال- أن يوجد أمور يكون فيها حق وباطل وخطأ وصواب؛ لكن لا يعني هذا أن الخطأ صار صواباً أو أن الصواب صار خطأً، بمعنى أنك تجد الإنسان يقول بقول في مسألة من المسائل لا تستطيع أن تقول: إن هذا القول باطل محض، ولا أن تقول: إن هذا القول حق محض؛ لكن تستطيع أن تقول: إن هذا القول التبس فيه الحق والباطل، أي: أنه توجد نسبة من الحق وهي كذا وكذا، وتوجد نسبة من الباطل وهي كذا وكذا، ويبقى الحق حقاً والباطل باطلاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 ملاحظات ينبغي التنبه لها وفي الآيات والأحاديث التي وردت في شأن الخصومة بين الحق والباطل -وهي كثيرة- نلاحظ عدة ملاحظات مهمة جداً للمسلم في هذا العصر، وهو يلاحظ حركة الصراع بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، وأريد أن ألقي الضوء على بعض الأمور المهمة التي يحتاج إليها المؤمن في هذا العصر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 وجوب البذل لتحقيق النصر وكما أن أهل الباطل يجهدون ويجاهدون ويتعبون، فكذلك أهل الخير، يقول الله جل وعلا: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104] إذاً الجهد الذي يبذله أهل الباطل يجب أن يبذل أهل الخير لا أقول مثله، لكن أقول: يجب أن يبذل أهل الخير ما يستطيعون في مواجهته {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فلا يظن الإنسان أن الطريق معبده، وأنها مفروشة بالورود والرياحين، ويكفيه أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لاقوا في سبيل هذا الطريق ما لاقوا، منهم من أوذي، ومنهم من أخرج، ومنهم من طورد حتى قال ورقة بن نوفل -كما في صحيح البخاري- للنبي صلى الله عليه وسلم أو ل ما بُعِثَ {ليتني أكون حياً حين يخرج قومك، قال: أومخرجي هم؟ قال: نعم! لم يأتِ أحد بمثل الذي جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً} . وهذا الذي حدث فعلاً حيث أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم، وقصة إخراجه من مكة فيها عبرة، وفيها ما يثير نفوس المؤمنين، وكأني أنظر إليه صلى الله عليه وسلم وقد طارده المشركون وضايقوه وأحكموا عليه الخناق حتى اضطروه إلى الخروج من مكة البلد الأمين الذي يحبه صلى الله عليه وسلم، فخرج حزيناً على ذلك، فلما وصل إلى الحزورة، وهو مكان يقع إلى الشرق من الكعبة، وهو اليوم أسواق التفت إلى الكعبة وهو بقلب حزين ودمعت عيناه صلى الله عليه وسلم وقال يخاطب مكة: {والله إنك لأحب البلاد وأفضل البلاد إلى الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} ولما ذهب إلى المدينة صلى الله عليه وسلم وأصابته الحمى، وكان في المدينة محمومة في ذلك الوقت، وأصابت الحمى أصحابه، فكانوا يقعون تحت طائلة هذه الحمى، حتى إن بعضهم كان يقول من شدة الحمى ولا يعي ما يقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليلُ وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل يتطلعون إلى معالم ومواضع وأماكن وجبال في مكة عاشوها وما حولها، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {اللهم العن شيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة كما أخرجونا من ديارنا إلى ديار الوباء} ثم دعا صلى الله عليه وسلم للمدينة أن ينقل حماها إلى الجحفة، وأن يصححها للمؤمنين. على المسلم البذل ومن الله التأييد: المهم أن الطريق طويل وشاق، ويحتاج إلى جهاد دائم من حملة رسالة الإسلام؛ لكن هذا الجهاد يؤيده الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ((وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)) [النساء:104] ويبارك فيه ولو كان قليلاً، المهم أن يبذل الإنسان ما يستطيع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 النصر لابد فيه من الجهد والبذل الملاحظة الرابعة: أن هذا النصر الموعود ليس أمراً يأتي بقضاء الله وقدره بدون جهد البشر، والله قادر على ذلك يقول الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] فالله تبارك وتعالى خلق في السماء ملائكة {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] وفي حديث أبي ذر في صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط -والأطيط: وهو صوت الراحل إذا ثقل عليها الراكب أو غيره صار له صوت أطيط وأزيز- ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك راكع أو ساجد} فهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فالله تبارك وتعالى قادر على أن يخلق البشر كذلك لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؛ لكن خلقهم جلَّ وعلا بهذه الصفة، وجعل الإنسان في ميدان الخصومة بين الحق والباطل للابتلاء والامتحان، ولذلك قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود:118-119] فالله تبارك وتعالى شاء أن يخلق بشراً يمكن أن يهتدي، ويمكن أن يضل؛ ليتحقق بذلك الابتلاء والاختبار لحكمة يعلمها، وهو جلّ وعلا أحكم الحاكمين، فهذا النصر ليس غنيمة باردة يقبضه الإنسان بدون ثمن، بل لا بد من الصبر والجهاد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 ثبات الحق ورسوخه وطيشان الباطل وزواله الملاحظة الثالثة التي نستفيدها من الآيات والأحاديث في موضوع الصراع أو الخصومة بين الحق والباطل: هي ثبات الحق وانتصاره ورسوخه وطيشان الباطل وزواله، وهذا ظاهر من خلال الآيات السابقة، فمثلاً يقول الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] فهذه الخاتمة إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى ينصر المهتدين ويؤيدهم ويحفظهم وعقب ما ذكر الآية الأخرى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] قال بعد ذلك: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام:115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام، وفي الآية الثالثة من سورة إبراهيم: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] ولما ذكر الكلمة الخبيثة، قال: {اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] ثم قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] . الطائفة التي تحمل الحق سماها الرسول صلى الله عليه وسلم الطائفة المنصورة إشارة إلى أن النصر هو حليفهم في النهاية طال الزمن أم قصر، ولما قال الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} [النساء:76] وهذا نموذج من الخصومة بين الحق والباطل، لأن الخصومة قد تكون خصومة فكرية، وقد تكون خصومة في ميدان القتال، عقّب بقوله: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لو نقطع بأنه إذا وجد معركة حقيقة بين الحق والباطل ووجد للحق حماته الذين يدافعون عنه -وهم موجودون لا محالة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم- فإن العاقبة لهؤلاء المتقين، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين} [الأعراف:128] وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 التلبيس الذي يحدثه أعداء الرسل والملاحظة الثانية: هي قضية التلبيس التي يحدثها أعداء الرسل، لاحظ قول الله عز وجل: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] إذاً هناك مؤامرة عالمية ليست جديدة كما نتصور، صحيح أنها قد تطورت الآن وأخذت شكلاً جديداً، وأسلوباً جديداً، وبعد جديداً، لكنها قديمة، وهي الحرب الإعلامية ضد الإسلام، وحملة الإسلام، وحملة السنة، والتي تشوه الحق وتلبسه لبوس الباطل، وتلبس الباطل لبوس الحق بتزين الألفاظ وزخرفة العبارات {زُخْرُفَ الْقَوْلِ} [الأنعام:112] ولذلك يقول القائل: في زخرف القول تزيين لباطله والحق قد يعتريه سوء تعبير تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذاقيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير. فالمعنى الواحد قد يعبر عنه الإنسان بلفظ واحد، أو لفظين، أو عبارتين بينهما بون شاسع. وأذكر طرفة -في هذا المجال- وهي لا تخلو من فائدة، يقولون: إن أحد الخلفاء رأى في منامه أن أسنانه سقطت، فقال: عليَّ بمن يعبرون الرؤيا، حتى يعبروها لي! فجيء بمعبر، فقال له: إني رأيت في المنام أن أسناني سقطت، فقال: يموت أولادك كلهم وأنت حي، فغضب عليه الخليفة وأمر بجلده مائة جلدة! وقال: عليَّ بمعبر آخر! فجيء له بمعبر آخر حكيم فقص عليه رؤياه! فقال له هذا المعبر: يا أمير المؤمنين أنت أطول أهلك عمراً، فأمر له بجائزة ضخمة والنتيجة واحدة، فما دام أنه أطول أهله عمراً فمعنى ذلك أنهم سيموتون قبله لكن الأسلوب الذي قدم له به في الحقيقة يختلف، فالحق -أحياناً- قد يعتريه سوء تعبير، قد يُعبر الإنسان عن الحق بعبارة لا تخدم الحق، بل ربما يصور بعض المغرضين الحق بصورة الباطل، من ذلك: أنك قد تجد -مثلاً- أن إنساناً يعمل بسنة من السنن، وهذه السنة متفق على أنها من السنن؛ فلو قال للناس: إن فلاناً يعمل بهذه السنة لقال له الناس: وماذا؟ هذا إنسان متبع مجتهد ويجب أن يشكر على عملة؛ لكنه لا يقول هذا بل يقول: إن فلاناً متنطع فيه كذا وكذا، وأنه يعتبر هذه السنة واجب، وقد يكفر من لا يعمل بها، وقد يعدها ركناً من أركان الإسلام، وبذلك ألبس الحق لبوس الباطل ولبَّس به على الناس. الآية توضح الحملة، أو توضح الجهد الإعلامي الذي يبذله أهل الباطل في تزيين باطلهم، أو في تشويه الحق {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . ولذلك نجد الحملة الإعلامية العالمية اليوم ضد الإسلام، وكثيراً ما نسمع في الأخبار تسمية المسلمين -مثلاً- بالأصوليين، أو بالمتشددتين، أو بالمتطرفين، أو غير ذلك من العبارات التي تبثها وكالات الأنباء العالمية، وتتناقلها أحياناً الإذاعات الإسلامية والصحافة في البلاد الإسلامية على أنها عبارات دارجة، ويصبح يقولون: هؤلاء أصوليون، وهؤلاء متشددون ومتطرفين إلى غير تلك العبارات التي يلبسون بها على الناس الحق بالباطل. إنه في كثير من البلاد التي تتشدق بالديمقراطية مثل أوروبا وغيرها أصبح هناك ما يسمى بالدكتاتورية المقنعة، ففي روسيا وغيرها كان الناس يحكمون بالحديد والنار، والصوت المخالف يخنق بالقوة؛ لكن في أمريكا وأوروبا والدول التي تتشدق بالديمقراطية يستطيعون أن يقضوا على الصوت المخالف بكل سهولة، فهم يسخرون أجهزة الإعلام لصياغة عقول الناس، بحيث إذا أرادوا أمراً من الأمور جندوا كافة الأجهزة الإعلامية لإقناع الشعوب بأن الأمر بهذه الصورة، ولذا تجد أن الناس عن طواعية واختيار يتجهون نحو الأمر الذي يراد لهم، وهذه دكتاتورية أخطر، لأن دكتاتورية الحديد والنار يمكن أن يتمرد الناس عليها كما تلاحظون أو تسمعون الأخبار في روسيا وبعض المناطق الإسلامية التي أصبح فيها هيجان وتمرد؛ لكن تلك الديكتاتورية الإعلامية في تلك الدول التي تتسمى بالديمقراطية كثير من الناس يشعرون أنه لا أحد يفرض عليهم شيئاً، في الوقت التي تفرض عليهم أشياء كثيرة في الواقع بمحض اختيارهم من خلال أجهزة الإعلام المختلفة. مثل آخر: قضية الأدب والشعر وغير ذلك من الوسائل المهمة. في كثير من البلاد الإسلامية أصبحت وسائل للهدم والتخريب كان يكتب كاتب في أي بلد إسلامي قصة ينشر منها مئات الآلاف من النسخ في المكتبات المختلفة خلال فترة وجيزة، لأنها قصة تتحدث عن قضايا الغريزة والجنس والإثارة، فيَقبل عليها الشباب والفتيات إقبالاً كبيراً، والروايات والقصص التي كتبها أمثال نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس وغيرهم من الروائيين والقُصّاص والكتّاب، إضافة إلى ألوان كثيرة من الأفلام والمسلسلات والمسرحيات، إضافة إلى أعداد هائلة من الدواوين الشعرية التي تسير في هذا الاتجاه، زخرفت الباطل وزينته بالحق كم من ديوان صدر لمثل لـ نزار قباني وتلقفته الأيدي في كل مكان، وترى الكتاب يباع بأغلى الأسعار، ولا تخلو منه مكتبة، ومئات الآلاف من النسخ تطبع منه، فيروج بشكل رهيب، لماذا؟ زخرف القول تزيين الباطل! فهذا نموذج يؤكد لك أن الكلمة من أخطر ميادين الصراع بين الأنبياء وأعدائهم. كلمة الحق لها وقع كبير، وبالمقابل كلمة الباطل لها تأثير كبير، وأهل الباطل يعملون على زخرفة باطلهم بالعبارات الرنانة، والكلمات المعسولة. والذين ينخدعون بهذه الأشياء من هم؟ يقول الله تعالى فيهم: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون بِالْآخِرَة} [الأنعام:113] إذاً: لا تروج هذه الأشياء إلا حين يكون هناك خواء وفراغ روحي وعقلي، فتصبح الشعوب مستعدة لتلقي هذا الزخرف من القول، فلو كان عند الناس وعي لما تأثروا بهذا الباطل! لكن المؤسف أنه في غياب الوعي، وفي غياب الإيمان بالآخرة، وفي غياب المفاهيم الصحيحة يكون هناك فراغ يمكن أن يملأ بهذه الأشياء، وهذه القضية أيضاً تؤكد على حملة رسالة الإسلام أنهم لا بد أن يستفيدوا من أجهزة الإعلام مسموعة أو مقروءة أو مرئية في الدعوة إلى الحق وحمايته ونشره، وبناء الفضيلة والأخلاق، وأنه لا بد أن يستفيدوا من الوسائل الأدبية: من القصة، ومن المقالة، ومن القصيدة، في الوصول إلى كافة الطبقات من الناس وإيصال الحق إليهم، فليست -مثلاً- المحاضرة، أو الدرس العلمي، أو الخطبة، أو الموعظة هي الوسيلة الوحيدة، نعم هذه لا شك هي وسائل لها تأثير ولها جمهور ولكن هناك جمهور، آخر لا بد له من وسائل أخرى؛ لأن الحق لا يجب أن يصل إلى كل أذن بقدر ما يستطاع: وقد بين ذلك الله سبحانه وتعالى الصراع في هذه الناحية بقوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:24-26] فالكلمة الطيبة تقارع الكلمة الخبيثة، ولا بد أن تقال في كل ميدان وفي كل وسيلة حتى تفعل هذه الكلمة الطيبة فعلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 مقالة (يجب أن نتعاون فيما اتفقنا عليه) وبهذه المناسبة أُذّكر بكلمة يقولها البعض وهي تحتاج إلى شيء من الإيضاح. بعض الدعاة يقولون: يجب أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه ونتعاون فيما اتفقنا عليه. وأقول: هذه الكلمة تحتاج إلى إيضاح، فلا يجب قبولها أو ردها دون أن تحدد، ففي الأشياء التي يختلف فيها المسلمون إن كانت من قضايا العقيدة أو من قضايا الأحكام التي الأدلة فيها واضحة، وقال فيها إنسان رأياً بدون اجتهاد فلا يعذر في ذلك، فإذا أخطأ شخص في قضية عقدية لا نعذره في هذا الخطأ، أو إنسان أخطأ في قضية ولو من غير قضايا العقيدة؛ لكنه أخطأ بناءً على أنه تكلم في أمور بدون اجتهاد في أمور هو ليس أهلاً لها؛ هذا الإنسان أيضاً لا يعذر في هذا الخطأ، لكن إذا اجتهد وهو أهلّ للاجتهاد في هذه المسالة فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد. وكذلك التعاون فيما اتفق عليه، هذه القاعدة صحيحة داخل إطار أهل السنة والجماعة، أما مع الطوائف الضالة والطوائف المنحرفة التي غيّرت وبدلت، فإنّ المسلم يعرف أنه لا بد من وضوح الراية وتميز المنهج، وليس من المعقول أن نقول: يجب أن نتفق أو نتعاون -مثلاً- مع الرافضة فيما اتفقنا معهم فيه، كحرب الشيوعية، هذا غير صحيح لأنه يمكن أن يأتي إنسان ويقول: لماذا لا تتعاون مع النصارى في حرب الشيوعية أيضا؟ هذا غير صحيح، فلا بد من وضوح الراية، ومن المهم جداً أن يكون الناس عندهم تمييز بين الحق والباطل بحيث أنه لا يوجد التباس عندهم بين راية الحق وراية الباطل، فداخل إطار أهل السنة والجماعة يمكن أن يتعاون الجميع فيما اتفقوا عليه، فالقضية الأولى هي قضية الولاية التي يتناصر بها أعداء الرسل وهي توجب للمؤمنين أن يتناصروا فيما بينهم بحبل الله ودين الله الذي يربط بعضهم ببعض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 ضرورة اتحاد أهل السنة والجماعة إن الحاجة ماسة إلى أن يجتمع أهل السنة والجماعة تحت الراية الواحدة التي تجمعهم مهما اختلفت المسائل الفرعية التي تجمعهم عليها أصول متحدة، ومهما اختلفت اجتهاداتهم في الأمور العملية، ومهما اختلفت اجتهاداتهم في وسائل الدعوة إلى الله جل وعلا، ومهما اختلفت بلادهم وآراؤهم؛ فهذه القضايا ليست مدعاة إلى أن يتفرق أهل السنة والجماعة أما إذا كان الخلاف خلافاً عقدياً مبنياً على الأصول، فهنا الأمر لا شك أنه يستدعي توضيح الأمر، وألا يلتبس الحق بالباطل على الناس، أما أن نتخذ من هذه الخلافات الجزئية والفرعية التي لا تؤثر سبباً للتفرق والخصومة والتناحر، وأن ينشغل بعضنا ببعض، فهذا ليس من الحكمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها، هل من الحكمة أن ينشغل المؤمنون والدعاة والصالحون -مثلاً- بالخلاف حول سنه من السنن أو حول مسألة فقهية ويتركوا أمراً هم مجمعون على أنه خطأ حرام وباطل وضلال؟ هذا ليس من الحكمة. لو سألت مؤمناً عن رأيه -مثلاً- من الفساد الأخلاقي الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية؟ لمَّ رأسه، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولو سألته عن هذه المعاملات الربوية التي لوثت جيوب الناس وحياتهم؟ لما كان يخالفك على ذلك أي مسلم. هناك أشياء كثيرة يتفق المؤمنون من أهل السنة والجماعة على أنها منكرات وأخطاء وضلالات، بل إن منها ما يتفقون على أنه كفر بالله العظيم، فلماذا لا يكون هناك تعاون في محاربة هذه الأشياء التي يتفق الجميع على أنها كفر أو باطل أو حرام؟ وهذا -أيضاً بطبيعة الحال- لا يعني أننا نحرم أو نمنع الكلام في الأمور الفرعية كما يفعله البعض، كلا! لا مانع أن يتحدث الإنسان في قضية فرعية أو جزئية، أو في سنة من السنن أو في مسألة خلافية ويبين الراجح ويبين المرجوح، بالأدلة، كل هذا لا مانع منه، لكن الشيء الذي أقصده ألا يتحول هذا الأمر إلى سبب يوجد عدم التعاون بين المؤمنين في أمور يتفق الجميع على أنها يجب أن تقاوم وتحارب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 الفرق بين ولاية المؤمنين والكافرين وهناك فرق أساسي بين ولاية المؤمنين وولاية الكافرين، فولاية الكافرين مبناها على التعصب والهوى واللجاج، ولذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] وكلمة (مِن) يقابلها في الآية الأخرى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وبادي الرأي قد يخيل للإنسان أن كلمة (من) هنا أبلغ؛ فكيف عبر الله عز وجل عن علاقة المنافقين بأن بعضهم من بعض، أما علاقة المؤمنين فقال: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] هل معنى ذلك أن علاقة المنافقين بعضهم ببعض أقوى من علاقة المؤمنين؟ كلا. وإنما السر -والله تعالى أعلم- أن علاقة المنافقين ليست مبنية على منهج وطريق صحيح يتوالون فيه، بل القضية مبنية على الهوى والتوافق على الباطل، أما أهل الحق فولايتهم مبنية على الحق؛ فهم أولياء لبعض في الحق، ولذلك لو تخلّى أحد منهم عن الحق تخلوا عن ولايته، وكذلك لو أخطأ إنسان لما كانت ولايتهم له موجبة لموافقته في الخطأ، ولذلك قال: {بَعْضُهُمْ أولياء بَعْضٍ} [المائدة:51] فهي ولاية نبوية بصيرة، وليست ولاية عمياء على مجرد الهوى. وإنه لا بد- أيها الإخوة- في كل عصر وفي هذا العصر بالذات، وقد رأينا جميعاً كيف يتوالى أعداء الإسلام على حربه لا بد من التعاون بين المسلمين على البر والتقوى، -كما أمر جل وعلا- قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] هل تجد أبلغ من هذا الوصف والتشبيه؟ {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] والبنيان المرصوص لا يمكن أن يجد فيه ثغرة ينفذ منها أو يتسلل منها، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى الأشعري: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} ونحن الآن لو وجد الواحد منا قطعة في الشارع لكان من السهل أن يحملها أو يكسرها؛ لكن حين يأتي إلى جدار مكون من مجموعة من اللبنات، فلو حاول أن يدفعه لما استطاع؛ لأن هنا انضمت اللبنة المفردة إلى أختها فاكتسبت قوة جديدة، وأصبح من غير الممكن للإنسان أن يدفعها، وهذا سر من أسرار التعاون الذي أمر الله تبارك وتعالى به المؤمنين، فلا بد أن يتقي المؤمنون الله جل وعلا بألا ينشغل بعضهم ببعض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 قوة الروابط بين الأعداء في هذا العصر فالملاحظة الأولى: هي الرابطة الوثيقة التي يتناصر بها أعداء الرسل، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام:112] كل هؤلاء مصنفون في عداد أعداء الأنبياء، ثم قال تعالى: {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] ويقول الله جل وعلا: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [المائدة:51] . اتحاد أهل الكفر في مواجهة الإسلام: فأعداء الرسل أعداء الإسلام يتناصرون بمقتضى بالعداوة، وقد يكونون بينهم من البور والخلاف الشيء الكثير، لكنهم حين يواجهون الإسلام يكونون صفاً واحداً، فليس من الضروري أن تكون ولايتهم مطلقة، بل ولاية بعضهم لبعض قد تكون مطلقة وقد تكون أمام الإسلام فقط، فمثلاً اليهود والنصارى بينهم عبر التاريخ خصومات طويلة، ومجازر رهيبة، وخاصة اليهود طالما تسلطوا على النصارى وآذوهم، وسفكوا دماءهم وأحرقوهم بالنيران، والعكس كذلك؛ ومع ذلك الله عز وجل يقول: بعضهم أولياء بعض، أي: في حرب الإسلام ومواجهته يقول القائل: وليس غريباً ما نرى من تصارعٍٍٍ هو البغي لكن للأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحدا فحين يكون العدو والخصم هو الإسلام ينسون خصوماتهم الداخلية والفرعية ويوحدون الوجهة ضد الإسلام وأهله فهذا أمر ملحوظ في ولاية أعداء الرسل بعضهم لبعض، وهذه الولاية توجب على حملة الإسلام أنه لا بد أن يكون بعضهم لبعض أولياء أيضا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 ميدان الصراع بين الحق والباطل المسألة الثانية والأخيرة في هذا الموضوع، وهي مسألة ميدان الصراع: ميدان الصراع بين الحق والباطل وله ميدانان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 الصراع بين الهدوء والاحتدام الصراع قد يهدأ حيناً وقد يحتدم حيناً آخر، فهو مثل المعارك الحربية، فالمعركة الحربية -كما هو معروف- فيها حرب وفيها هدوء حذر -كما يقولون- ومنها سلم، وهكذا الصراع بين الحق الباطل قد يحتدم أحياناً وقد يهدأ أحياناً أخرى، وهذا يبرز كثيراً في مجتمعاتنا الإسلامية اليوم. في وقت مضى كان الصراع يمر بمرحله يمكن أن نسميها بمرحلة فتور أو هدوء، ولذلك كان غالبية الناس في المجتمعات الإسلامية هنا وفي كثير من البلاد كانت غالبيتهم في مرحلة وسط هم بالصالحين صلاحاً يذكر ويتحدث عنه، ولا هم بالمنحرفين انحرافاً مشهوراً ومعروفاً، بل هم وسط فيهم خير وفيهم تقصير غالبية الناس كانوا كذلك؛ لأن المرحلة مرحلة الفتور والصراع بين الحق والباطل. الآن أرى أن الموضوع بدأ يتجه نحو الاحتدام وظهور هذا الصراع بشكل أكثر وضوحاً، ولذلك تجد أن مرحلة الوسط التي كان الناس فيها بالأمس؛ هذه المرحلة بدأت تتآكل وبدأ الناس الذين في الوسط يقلون، وصار غالبية الناس إما أن يتجه نحو الخير وإما أن يتجه نحو الشر، والذين في الوسط يقلون ويرجعون تدريجياً، ولذلك تجد أن الإنسان عندما يتحدث عن الخير والصلاح، والمحاضرة، والكتب العلمية، والصحوة الإسلامية يجد ميداناً خصباً للحديث، لأن كثيراً من الناس أقبلت على الخير، لكن هذا لا ينبغي أن ينسيك أن جزءاً من هؤلاء كانوا في الوسط واليوم صاروا طيبين، بالمقابل هناك أناس آخرون استهلكتهم التيارات المنحرفة، والمذاهب الضالة، والبدع، والخرافات، والمعاصي، والفسوق، وألوان الانحرافات الموجودة، فبدأ الأمر يتميز، وبدأت المجتمعات تتميز كما ورد في بعض الآثار: {إلى فسطاط إيمان لا نفاق فيه وفسطاط نفاق لا إيمان فيه} وهذا الاحتدام في الصراع بين الحق والباطل، والذي من نتيجته اليوم في المجتمعات أنه بدأت اليوم الأمور تتميز وتتضح أكثر، يبدو لي أنه مؤشر إلى أن الصراع بدأ يكون علنياً وليس خفياً، بدأ يتجه نحو العلنية، ولذا تجد الآن أن الصراع بدأ يتجه نحو الميدان العام، وهذا يؤكد على حملة رسالة الإسلام، أو يؤكد على الناس عموماً أولاً: ضرورة تحديد الموقف -كما أسلفت في البداية- الحياد لا مكان له هنا، لأن الوسط لا يكاد يوجد في أحد. فلا بد للإنسان أن يحدد موقفه إما مع الإسلام أو مع خصوم الإسلام. النقطة الثانية: أنه يؤكد على حملة رسالة الإسلام -بالذات- أنه لا بد أن يبذلوا جهودهم بالسبق إلى الميادين العامة التي تؤثر في المجتمع، السبق إلى أجهزة الإعلام، الجامعات، المؤسسات، الجمعيات، الوسائل، المراكز القيادية التي تؤثر في المجتمع بحيث يمكن توجيه الناس ليس من خلال المسجد فقط، بل من خلال كل وسيلة ممكنة يمكن أن يسمع صوت الحق، لأن هناك سباق وصراع على هذه الميادين، وإذا ما استطاع أهل الإسلام أن يسعوا إلى هذه المجالات فلنثق أن هناك من يتربص بهذه الأمور ويسعى إلى السبق فيها؛ بل لسبق فيها، والواجب على المسلمين وأهل الإسلام أن يستدركوا ما حدث من تقصير فيما مضى، هذا ما أريد أن أقوله، وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم في هذه الكلمات. وأسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم من حملة الحق والدعاة إليه، المجاهدين في سبيله بأموالهم وأنفسهم بما يستطيعون، وأن يكتب النصر لجنده وأوليائه، كما وعد الله جل وعلا: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 تغير المفاهيم والسكوت على المنكر أنت عندما تجد كثيراً ممن حولك يتعاطون هذا المنكر تجد أنه لا فائدة من حربه، وهذا لا يسوغ للإنسان ترك المنكر أو السكوت عنه، وهذا يبين جانباً من جوانب الصراع بين الحق والباطل، وهذا يمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى بالنسبة للناس الذين قصروا عليهم: أن الإنسان يسكت عن إنكار المنكر فيقول أحد المهزومين المخذلين يقول لك: أنت تنفخ في رماد، وتصيح في وادٍ، لا فائدة! التيار أقوى منك، اترك هذه الأشياء، هذه مرحلة، فبذلك يترك الإنسان النهي عن المنكر، وينتقل إلى مرحلة أخرى بعد فترة يقع هو نفسه في المنكر فتجد هذا الإنسان الذي يقول أمس: أنه فعلاً منكر ولكني لا أنكره على الناس، انتقل إلى أنه هو يقع في المنكر، ليس هذا فحسب؛ بل ينتقل إلى مرحلة ثالثة، أنك تجد أن هذا الإنسان أصبح يسوغ المنكر، ويحاول أن يلبسه لبوس الحق، مثال ذلك: الغناء كل النفوس السليمة تعرف أن الغناء حرام، بغض النظر عن كون المرء عالماً أو جاهلاً، أو فاسقاً، أو تقياً، كل النفوس المستقيمة والنفوس السوية تعرف أن الغناء حرام، وإذا قلت: الغناء فلا يأتي شخص ويقول: الحداء، أو غناء العمال وهم يرتجزون وما أشبه ذلك، الغناء مصطلح له معن واضح يعرفه الجميع، إذا قيل: الغناء انصرفت الأذهان إلى الغناء الذي يبث عبر وسائل الإعلام بالموسيقى، وهو في امرأة تحن إلى رجل أو رجل يحن إلى امرأة للوصال والكلام الفارغ المعروف. كل الناس تعرف أن الغناء حرام من حيث أصل الفطرة، ولذلك حين تسمعون أن فلاناً تاب من الغناء، وهو ليس عالماً شرعياً ولا طالب علم، وهو مغنيٍ طول حياته، لكنه عارف في قراراته أنه أمر لا يرضي الله، ولذلك تجد أنه يعلن توبته، فالنفوس تعرف ذلك، لكن الإنسان لما يرى أن الغناء أصبح قضية موجودة في كل مكان كما ذكر بعضهم في بعض مقالات ومقابلات نشرت؛ فإنه يرى، ويقول: ما معنى أن هذا حرام والناس مبتلون به جميعاً؟ فيرى أن يسكت عن هذا الأمر، لا يلزم بالضرورة أنه يخلف هذا الأمر، قد يسكت عنه أولاً باعتبار أنه أمر قد انتشر، نحن ننشغل بما هو أهم منه، وعندما ينتشر هذا الأمر تأتي بعد ذلك مرحلة أخرى أن هذا الإنسان الذي سكت عن هذا المنكر أصبح يشارك فيه، ولو لم يرضه أو يقره؛ لأن هذا المنكر نفسه عليه، بعد ذلك تأتى مرحلة ثالثة وهي أن هذا الإنسان لا يكتفي بأن وقع في المنكر؛ بل صار يبحث عن قول فقهي أو تأويلاً ضعيفاً أو رأياً شاذاً ليقول: إن هذا الأمر مباح وحلال ولا شيء فيه، فهذا يبين لك خطورة مسألة تلويث المجتمع والبيئة العامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 الأمر بالمعروف يصلح المجتمع وقد حرص الإسلام على تحصين المجتمعات من عوامل الفساد؛ حتى لو وُجد فساد على مستوى فردي فالإسلام حريص على ألا ينتشر ليلوث البيئة، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، ثم يصبح، ويقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه وأصبح يكشف ستر الله عليه} لماذا الرسول صلى الله عليه وسلم توعد المجاهرين بهذا الوعيد؟ لأن المجاهر انتقلت المعصية من كونها معصية فردية تضر صاحبها إلى كونها معصية عامة تلوث البيئة، كلها فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على حماية المجتمع، ولذلك كان السلف يقولون: كما يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه: [[إن المعصية إذا سترت لن تضر إلا صاحبها، فإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة]] ولذلك جاء في شريعة الإسلام شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القضاء النهائي على المنكرات، لأن القضاء النهائي على المنكرات بحيث يكون المجتمع سليماً من المنكر بنسبة (100%) بعيد وغير ممكن، فحتى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان هناك بعض من المنكرات لكنها قليلة مستخفية. المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إنما المقصود من شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقاية البيئة العامة من التلويث، لأن البيئة العامة إذا تلوثت أصبح من الصعب على الإنسان أن يستقم؛ لأنه -كما يقال- يسبح ضد التيار، انظر في شرائع الإسلام! لماذا شُرِع الإسلام، صلاة، الجمع، العيدين، الصيام؟ إن ذلك من أجل إيجاد مظهر عام وبيئة صالحة يتربى فيها الناس. وأضرب لكم مثلاً ملموساً مشاهداً: نحن أدينا فريضة صيام شهر رمضان، وكان الناس خلال الشهر -كما هو معروف- لا يجدون مشقة كبيرة خلال تأدية الفريضة، فلا أحد يتعب من صوم الفريضة حتى الإنسان الذي لا يصوم طيلة السنة إلا الفرض تجد أنه خلال الشهر لا يتعب كثيراً، ويخرج يقول: والله ولله الحمد كنا متخوفين من الصيام هذه الأيام، فوجدنا أن الأمر يسير وسهل، والإنسان إذا عزم وجدّ يسر الله سبحانه وتعالى له وهذا صحيح. لكن إذا أراد الإنسان أن يصوم الست من شوال، أو يصوم أيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر يجد صعوبة كبيرة في ذلك أصعب مما يجده في صوم الفرض، بل إنني أجد أن بعض الإخوة إذا صاموا الفرض لا يحسون بأي شيء، لكن إذا صاموا النفل يحس كثير منهم بالصداع، بل وبعض أعراض تتعبه حتى في جسمه، وهذا له أسرار كثيرة لا أستطيع أن أذكرها؛ لكني سأذكر منها سراً واحداً يتعلق بما نحن فيه وهو تأثير المجتمع، وذلك أن المجتمع في رمضان كله صائم، ولذلك أنت عندما تذهب إلى السوق لتجد حاجياتك، تجد أن الناس كلهم صائمون، في الشارع الناس صائمون، الطلاب والموظفون الكل صائم، في البيت الكل صائم، ولذلك لا يشعر الإنسان بشيء؛ لأن المجتمع كله يسير في نفس الاتجاه، ولكن فيما عدا ذلك الإنسان صائم لوحده أو مع أفراد قلائل، والمجتمع غير صائم، ولهذا يجد صعوبة، ولهذا نجد أن الطلاب الذين يسافرون إلى بلاد الغرب، ويصومون رمضان هناك، يجدون صعوبة في الصيام، وبعض الشباب يعودون إلى بلادهم لصيام شهر رمضان هنا من ضغط المجتمع، لأن المجتمع هناك مفطر فيضغط عليهم نفسياً ويضغط عليهم بوسائل أخرى بحيث إن الإنسان يجد مشقه في الصيام؛ لأنه يخالف المجتمع الذي حوله، وهذا يؤكد لك أهمية صلاح المجتمع في صلاح أفراده، وفي هذا الإطار -أيضاً- تأتي عناية الإسلام بالمظهر الخارجي بتقصير الثياب -مثلاً- بإعفاء اللحى، عدم التشبه بالمشركين إلى غير ذلك. علاقة المظهر الخارجي بالصراع في المجتمع: بعض الناس الذين عندهم قصر نظر يقولون: ما هذا القصور الذي شغلونا به؟ لا يا أخي هذه القضية لها بعد كبير جداً؛ لأن هذه القضية من شأنها أن تحقق للمجتمع المسلم التميز والاستقلالية، وتحفظ المجتمع من الانهيار والمشي وراء ركاب الأمم الأخرى، أو التشبه بأمم أخرى بحيث يفقد المجتمع المسلم تميزه وصلاحه، وأصلاً المجتمع لا يلجأ إلى أخذ ما عند الآخرين إلا إذا شعر بالهزيمة والضعف، ولذلك عقد ابن خلدون في المقدمة فصلاً في اقتداء المغلوب بالغالب، الآن لا تجد أن الأعداء هم الذين يقلدوننا بل نحن الذين نقلدهم، لأننا في حالة هزيمة -كما يقولون- هزيمة حضارية، سبقونا في مجال العلم والتقدم الصناعي فأصبحنا ننظر لهم نظرة معينة ونقتبس منهم الكثير من الأشياء، فالإسلام حرص على تميز المسلم حتى في مظهره حماية ووقاية لهذا المجتمع. اليوم نجد أن هناك حرباً على المجتمعات الإسلامية لتلويثها، فمثلاً عصابات المخدرات المنتشرة في العالم، عصابات المافيا وغيرها التي جندت نفسها لترويج المخدرات بالذات في البلاد الإسلامية، وبعض البلاد الإسلامية أصبحت مركزاً سواءً لتصنيع أو تهريب أو ترويج المخدرات بأنواعها، هذا نموذج من محاولة الأعداء تلويث المجتمع بحيث أنك تجد بعض الشباب في بعض البيئات أصبحت المخدرات قضية لا يجد فيها حرجاً، بل ربما يشعر بالنقص إذا لم يتعاط هذه الأشياء، فهو أحياناً يتعاطاها ليعبر أنه شخصية مستقلة، وأنه إنسان عنده كمال في شخصيته، وهذا أمر موجود عند بعض الشباب نتيجة الشعور بالهزيمة. قضية الأجهزة والوسائل الإعلامية واستخدام الإعلام للتأثير على الناس، وقد ذكرت لكم أثره في تغيير الناس وسلوكهم، ولكن خذ على سبيل المثال: حينما ننظر في قضية من القضايا الاجتماعية نجد كيف استطاع الإعلام أن يغير سلوك الناس ويضغط عليهم، مثلاً قضية تعدد الزوجات نجد أنه لا يكاد يعرض مسلسل من المسلسلات في كثير من أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية يتعلق بموضوع تعدد الزوجات إلا ويكون الهدف من ورائه الحديث عن فشل موضوع التعدد، وأنه ينتهي بالرجل إلى الهروب من البيت وتحطيم الأسرة ترك الأولاد، مشكلات طويلة عريضة، وأن المرأة تذهب ضحية هذا التعدد، وما زال الضرب على هذا الوتر حتى أصبح مستقراً في نفوس الناس أن تعدد الزوجات أمراً خطيراً إلى آخره. وبطبيعة الحال الحديث عن تعدد الزوجات ليس هذا ميدانه، فسلبياته وإيجابياته وحكمه يحتاج إلى حديث لا أريد أن أتحدث به الآن؛ لكن فقط أريد أن أضرب المثل حتى استقر عند الناس هذا الأمر، لكن وقوع الإنسان في الزنا والعياذ بالله قد لا يحمل نفس الخطورة، أو لا تحرص تلك الأجهزة على الحديث عن خطورته، ولذلك قد تقبل بعض النساء أحياناً أن تعلم أن زوجها قد يرتكب الفاحشة مع الخادمة، لكنها تقلب الدنيا رأساً على عقب - إن استطاعت- لو علمت أن زوجها يفكر مجرد تفكير في الزواج من امرأة أخرى، وهذا جزء أو جانب من تأثير أجهزة الإعلام. وإذا كنا نسمع أن العالم اليوم يحضر لغزو البلاد الإسلامية بواسطة ما يسمى بالبث المباشر، فهذا جزء من تلك الحملة التي يهدف العالم فيها إلى تنصير المسلمين، لا مانع أن يكون هذا من أهم أهدافه من خلال برامج تنصيرية تعمل على زعزعة العقائد الإسلامية، وتحويل المسلمين إلى مرتدين على أقل تقدير إذا لم ينصروهم، محاولة نشر الأخلاق المنحلة والرذيلة بين المسلمين وهذا يتم الآن من خلال أجهزة الفيديو، ومن خلال الأفلام الهائلة. فهناك مدن بأكملها مخصصه لنشر الفساد للإنتاج الفني -كما يسمونه- الذي تغزى به البلاد الإسلامية. ولذلك عمل الأعداء على تكييف المنكرات بحيث لا تنكر، يصل المنكر ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حد مستقر، ما عاد المنكر ضيفاً يرحل اليوم أو يرحل غداً، أصبح المنكر صاحب محل مستقر ولا يفكر أحد بإزالته، وربما يضحك الناس من إنسان لو فكّر في تغيير المنكرات، من هو الذي يفكر مثلاً بحرب الربا في البلاد الإسلامية؟ لا أحد يفكر، مجرد خواطر في نفوس الطيبين والصالحين، أما هذه المنكرات فقد استقرت وضربت بجرانها فأصبح الناس لا يفكرون بها، مثلاً أجهزة التلفاز يوماً من الأيام كان الناس أو بعضهم لهم موقف من هذه الأجهزة؛ لكن جاءت مرحلة أصبح كثيراً من الناس يرى أن الجهاز من الأثاث المكمل للبيت، وهذه قضيه لا تحتمل عنده جدلاً، ليس هذا فقط بل حتى ترك هذا المجال للنساء والرجال والكبار والأطفال والصغار ثم جاءت قضية الفيديو قطعت على هذا وهكذا تجد كثيراً من الناس تتطبع نفوسهم على المنكرات، ويصبح المنكر مستقراً لا يفكر أحد بحربه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 الصراع مع المجتمع الميدان الثاني من ميادين الصراع: وهو أثر من الميدان الأول وهو الصراع مع المجتمع، فالناس الذين معهم انحسم الصراع نسبياً لا أقول -مثلاً- انتهى الصراع أو الجهاد كما هو التعبير القرآني: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الجهاد في ميدان النفس لا أقول: إنه ينتهي، لكن الذين يجاهدون أنفسهم منهم من ينجح في هذا الجهاد، فيكون من أهل الخير ومن دعاة الإسلام، ومنهم من يفشل في هذا الجهاد أو لا يجاهد أصلاً فيكون من أهل الشر الذين عرفوا الحق ورفضوه أو لم يعرفوه أصلاً، وهنا يوجد الصراع بين هؤلاء وهؤلاء في الميدان الكبير ميدان المجتمع، وهذا هو الميدان الآخر في الصراع بين الحق والباطل، وبين الشيطان وبين الرسل وأتباعهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 النفس البشرية الميدان الأول هو ميدان النفس البشرية: فالإنسان -كما أسلفت- قابل للخير والشر والهدى والضلال قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الشمس:7-9] . فالإنسان عنده قابلية للخير والشر، وكذلك الإنسان حين يكون خيراً لا يعني أن عناصر وعوامل الشر زالت منه بالكلية، بل النفس الأمارة بالسوء موجودة، وكيد الشيطان موجود، ولذلك قد يحدث من الإنسان المستقيم أن يخطئ، أو يضل، أو ينحرف عن هذا الطريق، أو يتركه حيناً ثم يعود إليه، وبالمقابل؛ الإنسان المنحرف والضال لا يعني أنه أصبح شيطاناً رجيماً متمحضاً للشر، بل قد يحدث منه أحياناً أن يستقيم ويهتدي إلى الخير، بل وحتى حين يكون مصراً على الشر الذي هو فيه لا تظن أبداً أنه لا تثور في نفسه نوازع الخير. لقد حدثني أناس قضوا زماناً طويلاً في ميادين الشر والفساد والانحراف أن قلوبهم كانت تغلي أحياناً بمراجل الهم والندم والحزن والرغبة في الإقلاع ولا تغتر بمظاهر أو بعبارات أو بعض اندفاعات أو أشياء يحاول الإنسان بها أن يظهر أنه طبيعي وأنه لا يحس، لا أعتقد أبداً أن إنساناً مسلماً يفعل المعصية ويظل فرحاً مسروراً بها أبداً، المؤمن قد يعصي ولكنه لا يمكن أن يفرح ويطمئن بها؛ بل لا بد أن يوجد في قلبه ندم على هذه المعصية، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى في صفة المؤمنين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وفي الحديث عند الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن القلب فيه لمة للملك، ولمة للشيطان؛ فلمة الملك إيعاد إلى الخير وحث عليه، ولمة الشيطان إيعاد إلى الشر وتكذيب بالحق} . فالإنسان الطيب لا يخلو من وجود شيء من الشر يحتاج إلى مدافعة وإزالة ومقاومة، ولذلك لا بد من جهاد النفس، ولا يمكن أن نقول: إن هذا الإنسان وصل كما تقول الصوفية بأن عندهم الإنسان قد يصل إلى مرحلة يسمونها مرحلة سقوط التكاليف، وقد قيل لـ أبي علي الروذباري وهو من أئمة أهل السنة والجماعة: إن فلاناً يزعم أنه وصل، قال: صدق، ولكن إلى سقر. فليس هناك مرحلة يصل فيها الإنسان وتسقط عنه التكاليف، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أي: حتى يأتيك الموت، فاليقين هاهنا المقصود به الموت. وبالمقابل الإنسان الشرير لا يوجد ما يدعو إلى اليأس منه، واعتقاد أن هذا الإنسان لا خير فيه، رب كلمة توافق قلباً فتدخل فيه وتغيره رأساً على عقب، وقد تكون كلمة عادية، قد تكون كلمة هادئة، اسأل الذين اهتدوا: فبعضهم سمع برنامجاً في الإذاعة، أو سمع كلمة طيبة من أحد فتأثر بها، وربما يكون الذي قال هذه الكلمة لم يحسب لها حساباً لكنها صادفت قبولاً في هذا الإنسان، فغيرت معالمه ظاهراً وباطناً، وهذا يوجب للإنسان الصالح ألا يغتر بنفسه؛ لأنه قد يتغلب عنصر الشر يوماً من الأيام فيتحول والعياذ بالله ويجب ألا ييأس الإنسان من نفسه ولا من غيره. فأما اليأس من الناس فإني رأيت أن من مداخل الشيطان العظيمة على النفوس أنه - أحياناً - قد يأتي لإنسان فيه خير وصلاح، مثلاً: رجل صالح مع قوم صالحين، أو إنسان يؤم الناس في الصلاة أو يعلمهم العلم أو يقرئهم القرآن، أو يدعوهم إلى الله تعالى، وقد يكون عنده معصية خفيه لا يعلمها الناس، فيأتيه الشيطان في الخلوة فيقول: أنت منافق! أمام الناس تتظاهر بشيء، وفي واقعك عندك معاصي وعندك كذا وعندك كذا، فلا يزال به حتى -لا أقول- يقنعه بترك المعصية، فهذا ليس من شأن الشيطان؛ لكن لا يزال به حتى يقنعه بترك الطاعة التي هو فيها ويقول: كن منطقياً مع نفسك لا داعي أن تقف أمام الناس تدعوهم إلى الخير، وأنت تعرف أن عندك معصية في السر. وقد علمت أيضاً أن هناك من الصالحين من انحرف لهذا السبب، ونقول: العلاج ليس أن الإنسان يترك العوامل الطيبة في نفسه استجابةً لطاعة الشيطان، بل نقول: ضاعف الأمور الخيرية في نفسك، وقاوم المعصية بقدر ما تستطيع النجاة منها، وحتى ولو لم تستطع لها اليوم أو غداً فليس الحل أن تترك أعمال الخير، كلا! وهذا ليس بنفاق، خطأ أن تتوقع أن هذا من النفاق، لأن عدم الرغبة في نفسك، وكره المعصية، والحرص على التخلص منها يدل على خير، وليس المطلوب أن تجاهر بمعصيتك أو تعلنها للناس حتى تكون منطقياً مع نفسك، وليس مطلوباً منك أن تترك أعمال الخير حتى تتمحض لهذه المعصية ويتفرد بك الشيطان، فهذا مزلق خطير ينتبه له الإنسان فلا ييأس الإنسان من نفسه، ولا ييأس من غيره أيضاً، يمكن أن تأمر الإنسان مرة أو مرتين أو عشر مرات، تقول: فلان والله أعذرت معه، نعم، نحن لا نقل: أعذرت بل عليك واجب شرعي فأنت قمت بالواجب عليك وانتهت مهمتك؛ لكن إن كنت داعية فلا تيأس إن كنت أمرته عشرين مرة فربما يستجيب لك بعد المرة العشرين فجرب! الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 مواجهة الباطل السؤال ماذا نفعل لمواجهة الباطل؟ الجواب أنا ذكرت ذلك في نهاية المحاضرة وإن كان ذكراً باختصار؛ لأنني شعرت بشدة الحر ووطأته عليّ وعليك فأوجزت الحديث في مسألة أعتبر أنها مهمة جداً في الموضوع، وذكرت لكم في آخر المحاضرة أن الصراع بين الحق الباطل بدأ يتجه إلى أن يكون صراعاً علنياً، وقوياً نظراً للتميز الذي نلاحظه في المجتمعات الإسلامية، وأن من واجب أهل الإسلام أن يحرصوا على السبق إلى الميادين التي تؤثر في المجتمعات، فهي ميادين الصراع مثل الأجهزة الإعلامية والمدارس والجامعات، والجمعيات والمؤسسات والمراكز القيادية والوظائف الكبيرة وغيرها من الأشياء التي تؤثر في حياة الناس أفراداً وجماعات، وينظر الناس إلى أصحابها نظر التقدير، وعندهم الاستعداد إلى القبول منهم، الصراع يبدو لي أنه يبدأ يتجه إلى هذه الأمور ولذلك فإن الذي يريد أن يقاوم الباطل ويواجهه عليه أن يصل إلى هذه المراكز ومن خلالها يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويدعو إلى الله جل وعلا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 استئذان الأم في الذهاب إلى الحج السؤال يريد أن يذهب إلى الحج مع المركز الصيفي، ووالدته تقول له: لا تحج هذه السنة لأن هناك ظروفاً تعيق هذه الرحلة، فهل يجوز أن أذهب إلى الحج وإلا أرجع إلى قول والدتي؟ الجواب إن كان الحج لك فريضة فتذهب ولو لم ترض والدتك؛ لكن عليك أن تتلطف معها وأن ترضيها ما استطعت، ومهما قدرت على أن تحج وهي راضية فهذا هو أجدر بك، أما إن كان الحج نافلة فلا تذهب ما لم ترض والدتك بذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 مواجهة من يلبس الحق بالباطل السؤال يقول: أخي في البيت يلبس الحق بالباطل ويلبس الباطل بالحق في بعض الأوقات، فماذا تنصحني بأن أقول له كي يترك هذا العمل؟ الجواب مسألة التلبيس هذه مسألة نسبية، فكل قضية وقع فيها في تلبيس الحق بالباطل عليك أن تجادله بالتي هي أحسن، وما دمت تميز الحق من الباطل فبين له ما وقع فيه من الباطل وتبين -أيضاً- الصواب الذي في كلامه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 التعصب لعالم في مسألة اجتهادية السؤال من يتعصب لمسألة قال بها أحد العلماء يسوغ فيها الاجتهاد لأهل العلم فيرى أنه على الحق وغيره على الباطل وقد يبدع أو يفسق، فهل من نصيحة لمثل هؤلاء الإخوة؟ الجواب التعصب للعالم لا يجوز، لا يجوز التعصب إلا للحق ونحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال والتعصب داء ممقوت في الماضي والحاضر، ثم إن المسائل الفقهية التي يسوغ فيها الاجتهاد لا ينبغي أن يكون فيها تضليل أو تبديع أو تفسيق غاية ما في الأمر أن يكون فيها راجح ومرجوح، ولذلك تجد العالم الذي عنده فهم ويقضة ووعي يقول: الراجح كذا، وقد تكون الأدلة مثل الشمس، لكن الإنسان الذي أخذ حظاً يسيراً من العلم يسمع ظاهر حديث يأخذ به، وقد يقول لك: هذا هو القول الصحيح ومن قال بخلافه فقد خالف الكتاب والسنة، فيحتاج الإنسان إلى تريث وصبر وطول بال، والعلم لا يؤخذ بيوم وليلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 الزواج بفتاة جامعية تهدده بشهادتها السؤال أنا متزوج بفتاه جامعية وتعمل بالتدريس تهددني بهذه الشهادة حيث أنني لم أحصل إلا على الشهادة الثانوية ولم تسمح لي الظروف بإكمال الدراسة، فماذا أفعل جزاكم الله خيراً؟ الجواب أولاً: الإنسان حينما يبحث عن الزوجة عليه أن يراعي أن قضية القوامة تستدعي أن يكون موقف الرجل أقوى من موقف المرأة، ولذلك فإن زواج الإنسان بامرأة تفوقه ذكاءً أو علماً أو مستوى لا ينبغي أن يكون أمراً دارجاً إلا في حالات يقتنع الإنسان أنه لا حرج في مثل هذا الأمر، أما في مثل هذه الحال فإن هذا الأمر يمكن أن يزول مع الوقت باعتبار أنك مثلاً أنت القيم على البيت، وأنت الذي تقوم بشئونه، ولذلك فإن المرأة ليس لها إلا اعتبار أن الرجل قائم عليها، ولا أرى أن مثل هذا الأمر يوجب الخصام والفراق، كما أن على المرأة ألا تدلي بهذه الشهادة، فماذا يستفيد الزوج من شهادة تحملها زوجته، أو وظيفة تعمل بها، وربما يكون الزوج محتاجاً؛ لأن تترك زوجته العمل -أحياناً- للتفرغ لشئون البيت والأطفال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 البذاءة في الوعظ السؤال هل يجوز للواعظ أن يذكر الكلام البذيء في الموعظة وفي المسجد إلى غير ذلك؟ الجواب لا ينبغي ذكر الكلام البذيء في الموعظة، وإذا رأى الواعظ أن هناك رجلاً عنده معصية فليس عليه أن يوبخه بالكلام الشديد ولو كان الكلام حقاً في نفسه، قد يكون الكلام حقاً في نفسه ولكنه غير مناسب، فما كل حق يقال في كل مجال، فمن الحكمة والبلاغة أن يقول الإنسان الكلام المناسب في الوقت المناسب، وأن يتكلم إذا كان الكلام حسناً، وأن يسكت إذا كان السكوت حسناً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 التفريق بين الحق والباطل السؤال كيف يمكن التفريق بين الحق والباطل؟ الجواب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال:29] . فأولاً: التقوى والخشية من الله تجعل الإنسان يفرق بين الحق والباطل. وثانياً: العلم، فالعلم نور يفرق به الإنسان بين الحق والباطل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 حكم الصور في البيت السؤال يوجد لدي بعض الصور في البيت للأهل والبعض للأصدقاء، فهل وجود هذه الصور يسبب لي ذنباً، وهل يمنع دخول الملائكة إلى البيت؟ الجواب ما دامت هذه الصور ليس لها حاجة في البيت فلا داعي من اقتنائها، بل يجب أن تتخلص منها بإتلافها وإحراقها، وأعتقد أن البيت الذي فيه صور لا حاجة لها لا تدخله الملائكة، مثلاً غرفة توجد بها صور لا تدخلها الملائكة ما دامت هذه الصور ليس لها حاجة؛ بل صورت لذات الصورة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 حكم السترة في المكان الخالي من الناس السؤال عندما أصلى لوحدي في البيت هل من الضروري وضع سترة أمامي؟ الجواب السترة سنة عند جماهير العلماء بما في ذلك الأئمة الأربعة مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد وهذا هو الصحيح -إن شاء الله- الذي عليه جمهور العلماء خلفاً عن سلف، والأدلة على سنيتها كثيرة، وهناك قول ظهر أخيراً أن السترة واجبة, ولعل الإمام الشوكاني من أشهر من قال بهذا القول، وذهب إليه من المعاصرين الشيخ الألباني، ولا أعتقد أن هذا القول صحيح بل فيه بعد، وهناك من الأدلة ما يدل على أن الأمر لا يعدو السنية، ولذلك فعليك أن تضع السترة أمامك حيث صليت إلا أن تكون مأموماً، فالمأموم سترته الإمام، أما إذا صليت بمفردك أو إماماً فعليك أن تضع السترة أمامك لأن هذه السترة سنة عند جماهير أهل العلم وواجبة عند قليل منهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 قسوة الأب على أولاده السؤال هذه أم لأطفال، زوجها عصبي جداً جداً، وعصبيته تكون على حساب أطفالي إذا غضب يضربهم ضرب الحمير والمجرمين، وأكبرهم لم يتجاوز الخامسة من عمره مما تكون حياتي مستحيلة معه فيما بعد، انصحه جزاك الله خيراً؟ الجواب الحقيقة أقدم النصيحة للطرفين النصيحة الأولى: بالنسبة للزوج العصبي: نحن نعرف بأن الإنسان قد يولد هكذا أحياناً، قد يكتسب الناحية العصبية ميراثاً، وقد يتلقاها في البيئة بسبب ظروف مرت به؛ لكن الذي أنصح هذا الأخ العصبي أن يكثر من مراجعة نفسه ومواقفه؛ لأنه لا يوجد شيء يمكن أن يؤثر فيه مثل أن يراجع ما سبق، لأنه سوف يندم عليه، وهذا الندم سوف يجعله بأن يتخذ موقفاً سليماً في المرات القادمة ولا يندفع مع هيجانه وعصبيته إذا انفعل. الأمر الثاني: أن على هذا الإنسان العصبي أن يحرص بقدر ما يستطيع على تجنب المواقف التي يمكن أن تثير أعصابه بحيث يفقدها، وقد يتصرف تصرفاً غير سليم. الأمر الثالث: أن هذا الإنسان عندما يشعر بأنه بدأ ينفعل أو بدأ يتأثر عليه أن يحاول تغيير الموقف؛ مثل أن يكون موجوداً في البيت ويحصل أمر يثيره عليه أن يخرج من البيت وأن يتوضأ وينشغل بأمر من الأمور، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أمر الإنسان إذا غضب كما ورد في حديث حسنه بعضهم أن يتوضأ، وإن كان قائماً أن يقعد، وإذا كان قاعداً أن يضطجع وهذا من شأنه أن يطرد الشيطان عن الإنسان، لأن الغضب غليان في قلب ابن آدم وهو من الشيطان لا شك، فيزيله الإنسان بهذه الأشياء، فدعاء الله وذكره، والصلاة والوضوء يخفف الغضب، وكذلك تغيير الحالة التي عليها الإنسان من شأنه أن يجعل الإنسان لا يتصرف تصرفاً بمقتضى هذا الغضب الذي حدث منه. النصيحة الثانية: ثم على الأخت السائلة أن تدرك أن عليها مسئوليه كبيرة تجاه زوجها وأطفالها وهي أن تحرص؛ لأنها عرفت أن هذه طبيعة الرجل، وحقيقة الطبائع يمكن أن تهذب؛ لكن من الصعب أن تزول، ولذلك لا ييأس أحد ممكن أن يهذب الإنسان العصبي أخلاقه وطبائعه بنسبة كبيرة جداً، ولو لم يتحول من إنسان عصبي إلى إنسان بارد بطبيعة الحال، ولكن على الزوجة أن تدرك أن تحوّل زوجها من إنسان عصبي إلى إنسان آخر في النقيض أمر غير ممكن، وإن كان التهذيب ممكناً -كما ذكرت- وبالتالي عليها أن تعينه على نفسه. محاولةً إبعاد الأشياء التي تثيره، وأن تتحمل بقدر ما تستطيع من نفسها ومن إعداد أولادها ما لا يثير غضب الزوج، بعض النساء يكون عندها حكمة وقدرة على التغلب على تلك المواقف، وبعض النساء على النقيض من ذلك قد تزيد الطين بلة!! وهناك قضية أخرى: أن المرأة قد تتدخل بين الزوج وبين الأطفال، وهذا قد يؤدي إلى وجود خصام بين الزوج وزوجته وقد يؤدي إلى الطلاق، فمثلاً كون الزوج ضرب أحد الأطفال ضربة لا تضره، لا يؤدي إلى أن المرأة تتدخل والزوج في حالة غليان، وتقول له: أنت فعلت وسويت، وحولت حياتنا إلى جحيم، وربما ينفعل الزوج ويقول: أنت طالق، لا؛ عليها ألا تسلك هذا الأسلوب، عليها أن تأخذ الابن إلى مكان بعيد، ويمكن أن تلاطف الزوج إذا ما استطاعت، أو تتجنب الموضوع بالكلية وهذا يحتاج إلى شيء من الحكمة، وبالحكمة يمكن أن تقتنع الزوجة أن الحياة غير مستحلية بل ممكنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 توجيهات حول القرآن وحفظه السؤال ما هي أفضل الأوقات لحفظ كتاب الله، وما نصيحتكم للشباب في تعاهد حفظ كتاب الله وتدبر آياته والعمل به والدعوة إليه؟ الجواب أفضل الأوقات للحفظ الأسحار، وللكتابة وسط النهار، فعلى الإنسان أن يحرص على حفظ كتاب الله إما في السحر أو بعد صلاة الفجر؛ بحيث يجلس في المسجد بعد صلاة الفجر إلى وقت طلوع الشمس يذكر الله جل وعلا ويقرأ القرآن، فإن كان ثمة حلقات للقرآن الكريم فيستطيع أن يحفظ كتاب الله تعالى معهم، وعليه أن يرتب لنفسه ولو جزءاً يسيراً يحفظه من القرآن الكريم حتى يختم القرآن الكريم مع مراجعة ما سبق حفظه، والحافظ لكتاب الله جل وعلا يجب أن يظهر أثر هذا الحفظ في سلوكه، وعمله، وهديه، وسمته ووقاره وجهده وأخلاقه وغير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 تحصين المرأة من مسلسلات التلفزيون السؤال ما هي نصيحتك للمرأة التي ابتليت بمشاهدة المسلسلات التلفزيونية المحتوية على الاختلاط المحرم والتبرج والسفور، وما هي الوسيلة التي تحصن المسلمات والمسلمين من هذا؟ الجواب المسلسلات داء انتشرت في البيوت، فتك بكثير من الأسر والعوائل، وأصبحت المرأة المسلمة والرجل والشاب يقضون معظم أوقاتهم أمام الشاشة، سواء في مشاهدة التلفاز أو أفلام الفيديو، وهذه مشكلة خطيرة جداً لأنها أولاً تدل على الفراغ، فالأجيال السابقة من عهد الرسول إلى عهد قريب ما كانوا يحسون بفراغ يدعوهم إلى التفكير في كيف يقضون وقتهم، الآن أصبح معظم الوقت أمام التلفزيون، ربما من وقت صلاة العصر إلى المغرب ومن المغرب إلى ساعة متأخرة من الليل، وهذه ظاهرة خطيرة، ثم ماذا يقدم في هذه الأشياء؟ يشترون ما يضرهم ولا ينفعهم، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم، معظم ما يقدم هو السيئة. والواجب يتركز في عدة أمور: فمن جهة المفروض هو إيجاد بدائل جيدة وحسنة في البيوت أشرطة إسلامية، أو محاضرات، أو دروس أو كتب، أو قصص، ومجلات طيبة، دروس يعقدها القيم على البيت لأهل البيت ويربيهم بها، يمكن أن يستفيد من بعض الوسائل المباحة أيضاً مثل برامج الكمبيوتر وغيرها، توفير أمور يمكن أن تملأ فراغ أهل البيت في ذلك، كما أن من الواجب أن يقوم الصالحون والمصلحون بواجبهم في إنكار منكرات الإعلام من المسلسلات وغيرها، والإنكار يأخذ صوراً عديدة منها: إيجاد البدائل الصالحة أيضاً، ومنها: مخاطبة المسؤولين في هذا الجهاز وغيره في أنه صار كذا وصار كذا وكذا إلى غير ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 المجلات الهدامة السؤال المجلات التي تهدم أخلاق المسلمات هل يجوز اقتناؤها؟ وما ردكم على السفور التي تنادي بها مجلة سيدتي؟ الجواب المجلات التي تهدم أخلاق المسلمات تربو على العد والحصر، وأحياناً يذهب الإنسان إلى إحدى المكتبات لغرض، فربما وجدت أن في بعض المكتبات جناح ضخم جداً وتجد زواياه مليء بألوان المجلات من ثمرات جميع بلاد الدنيا، بكافه اللغات والأحجام والألوان، وفي مختلف الموضوعات، ومؤسف بأموالنا تشترى وتكون تخريب لجيوبنا، وقبل ذلك وبعده وأخطر منه تخريباً لعقولنا وأدياننا وأخلاقنا -وهي كثيرة جداً- وهي أيضاً يجب أن يحتسب عليها، يكتب عنها، يحذّر منها، يُنكر على ما يوجد فيها، وينهى الناس عن اقتناء هذه الأشياء التي تضرهم ولا تنفعهم. أما دعوى السفور، فإن هناك كتباً خاصة في مسألة السفور تحدثت عن وجوب الحجاب، والتزام المسلمة بتغطية بدنها ووجهها أمام الرجال الأجانب، وهي لجماعة من أهل العلم منها كتاب لشيخ الإسلام ابن تيمية وكتاب سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين ومنها كتاب الشيخ أبو الأعلى المودودي له كتاب الحجاب، ومنها كتاب السندي عن الحجاب أيضاً إلى غير ذلك، وكلها ذكرت ما يربو على خمسة عشر دليلاً من كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجوب تغطية المرأة بدنها، ولا يتسع المجال لعرض هذه الأدلة، وقد سقتها جميعاً في كتاب حوار مع الغزالي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 الدعوة وطلب العلم السؤال عندما ينظر الداعية المبتدئ إلى المجتمع الذي يحيط به لا يراه متمسكاً بتعاليم الإسلام إنما أداء الشعائر من غير علم فكيف يتعامل معه حتى يرده إلى لدين الحق مع العلم بأن كثيراً من الشباب المستقيم لا يطلب العلم؟ فكيف يبدأ مع الناس؟ الجواب كأن الأخ يشير إلى أن المجتمع الذي من حوله فيه آثار الإسلام من أداء بعض الشعائر؛ لكن ليس فيه حقيقة الالتزام بالإسلام، وهنا تأتي أهمية الدعوة إلى الله عز وجل، لأنك حين تدعو إنساناً غير مسلم -الأمر واضح أماه- أنت تدعوه إلى شيء ليس هو عليه مثلاً: يهودي، أو نصراني، أو ملحد، أو مرتد حين تدعوه إلى الإسلام القضية واضحة أمامه، تدعوه إلى شيء غير الذي هو عليه؛ لكن حين تدعو إنساناً مسلماً إلى الالتزام يخيل إليه بأنك تدعوه إلى أمر هو عليه، وربما ظن أنه هو أفضل منك في هذا الأمر وأعلم ملك، وهذه لا شك أنها معضلة تحتاج إلى شيء من التلطف في دعوة الناس، واختيار الأسلوب المناسب، وكون الداعية لديه علم بحيث يستطيع أن يقيم الحجة على مقابله، وخاصة أن كثيراً من الذين يكونون في مواجهتك، ربما يكونون أكبر منك سناً، إما في السن أو القدر أو المجتمع، أو في الوظيفة وهذا يحتاج إلى مراعاة الأسلوب الأمثل مع هؤلاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 منع الأم من سماع الغناء السؤال والدتي تريد أن تسمع الغناء وأنا أمنعها وهي تغضب مني وتتركني وتدعو عليَّ، فهل دعاؤها مقبول؟ وهل ما أفعله صحيح؟ الجواب دعائها غير مقبول، وما تفعله أنت صحيح، ويجب عليك أن تمتعها من ذلك وتسمعيها كلام الله وكلام رسوله وكلام أهل العلم في تحريم الغناء، وتعطيها البدائل المناسبة، والمؤمن يستغني بكتاب الله بسماعه وحفظه وقراءته ومدارسته عن هذه الأشياء المحرمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 وسوسة الشيطان للملتزم السؤال أنا راغب في الالتزام لكن الشيطان يوسوس لي وأحس بضعف أمامه!؟ الجواب وسوسة الشيطان هذه هي مهمته التي أخذ على عاتقه أن يقوم بها {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ولكن القضية إحساسك بشيء من الضعف أمامه إنما هو لوجود شيء من الضعف في إيمانك، فعليك أولاً أن تستعين بالله جل وعلا وتلجأ إليه، ثم عليك أن تجاهد لأن الله سبحانه وتعالى وعدك بأنك إذا جاهدت فعلاً أن ينصرك، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ثم عليك أن تبحث عمن يعينك على هذا الطريق من الجلساء الصالحين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 نصيحة للمشغولين بالخلاف السؤال هناك مسائل فرعية -كما ذكرت- أو خلاف بين العلماء، لكن بعض الإخوة يفرض عليها اتباعها، وأيضاً يكثر -أحياناً- الحديث هل هذا حديث ضعيف وهل هذا صحيح، وينكر على البعض؛ خاصة لمن ليس لديه القدرة على التمييز بأن هذا حديث صحيح أم ضعيف ما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟ الجواب المشكلة ليست فيما يطرحه الإنسان، ولكن المشكلة في الطريقة التي يطرح بها ما لديه، على سبيل المثال: مسألة السنة، يمكن أي إنسان أن يتحدث عن أية سنة؛ لكن ما هي الطريقة التي يتحدث بها عن هذه السنة؟ هنا تأتي المشكلة، فحين يتحدث عنها تأتي مناسبة لها، ويتحدث بأسلوب هادئ، ويذكر أدلتها، ويذكر أقوال أهل العلم، ولا يتحمس ويفرط لهذه السنة حتى كأنها واجب يلام من خالفه أو حتى أنكره إذا كانت المسألة فيها خلاف، لا أحد ينحرف من ذلك، لكن حين يطرح الإنسان قضية السنة بطريقة شديدة، ويرد على مخالفيها ويتحمس لها وربما صارت هي همّه الأكبر، وهي التي تملأ مجلسه، هنا يشعر الناس أنه حوَّل السنة إلى واجب، بل من الناس من يحول السنة -فعلاً- إلى واجب، فهذا لا يصلح. مثال آخر: قضية الخلاف الذي يقع أحياناً، الخلاف ليس مشكلة؛ لكن يمكن أن أختلف أنا وإياك في سنة من السنن وتقول أنت بها، وأقول أنا: والله ما ثبت أنها سنة، ويبقى الأمر هيناً ولا إشكال، الصحابة اختلفوا في هذا، وهنا تأتي المصيبة حين يتحول الخلاف بيني وبينك إلى مشادة ومشاحنة ومواقف هنا تأتي الخطورة، أو تردّ علي حتى كأنني مرتكب كبيرة أو واقع في غلط عظيم هنا أيضاً تأتي المشكلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 إشكال في قتل ابن آدم وعيشه على الحق السؤال يقول: أنزل الله القرآن الكريم وفيه قصة آدم عليه السلام، وهي أن أحد أبنائه قتل أخاه وهذا عمل باطل، وأنت قلت في بداية المحاضرة أن الأمة بعد آدم عليه السلام عاشوا على الحق، ماذا في تفسير ذلك جزاكم الله خيراً؟ الجواب نعم الذي قلته هو كما ذكرت أحد الأوجه في تفسير الآية: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [البقرة:213] وقد صح ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، والذي أفهمه أنا من الموضوع ليس المقصود أن العشرة القرون الأولى كلهم لا يخطئون، بل آدم عليه السلام وقع في الخطأ ثم تاب الله عليه وهدى، ولكن المقصود أن الحق كان ظاهراً ثم بدأ الحق يندرس ويخفى شيئاً فشيئاً حتى احتاج الأمر إلى بعثة الأنبياء يجددون ما اندرس وخفي من أمر الدين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 زيارة الدعاة للعصاة السؤال من للعصاة الذين في بيوتهم؟ من يذكرهم بالله عزوجل ويدعوهم إليه؟ وهل تنصح الإخوة الملتزمين بأن يزوروا هؤلاء العصاة وينصحونهم؟ وهل ذلك من سنه نبينا صلى الله عليه وسلم؟ الجواب نعم، ذلك من سنته عليه الصلاة والسلام كان يغشى ليس العصاة فقط بل الكفار واليهود وغيرهم في أماكنهم ومنازلهم وأسواقهم وبلادهم يدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، فالإنسان يجب أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ حتى لو رأى صاحب معصية على معصيته وعلم أنه مقيم عليها الآن، فقد يكون من المصلحة أن يذهب إليه أثناء فعل المعصية وينهاه عما يصنع، وهذه أمور قد يقدر فيها الإنسان المصلحة المناسبة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 محمد الغزالي السؤال سمعنا من مقدم المحاضرة أن لكم كتاب" حوار مع محمد الغزالي"، هل لنا معرفة هذا الحوار باختصار، وما رأيكم عن كتاب السنة النبوية بين الفقه والحديث للشيخ الغزالي؟ الجواب الكتاب هذا عبارة عن مجموعة من الفصول، الفصل الأول منه: في تحديد المدرسة العقلية التي يتأثر بها الغزالي في أطروحاته الفكرية، والفصل الثاني: عن موقف الغزالي من أحاديث الآحاد، والفصل الثالث: عن موقف الغزالي من قضية القضاء والقدر، والفصل الرابع: عن موقف الغزالي من قضية الشيعة، والخامس: عن موقف الغزالي من قضية المرأة، الفصل السادس: هو عن أدب العلم عند الغزالي بين النظرية والتطبيق، وهو عن موقف الغزالي من العلماء المخالفين له في المنهج وأسلوبه معهم، والفصل الأخير هو بعنوان نظرات في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث وهو فصل طويل، فيمكن للسائل مراجعته إن شاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 دعوة أهل الباطل السؤال ما هو السبيل إلى الحق بين أهل الباطل خصوصاً وأن أهل الحق رغم كثرتهم قلة بين أهل الباطل، ولا يملكون الإمكانية الكافية في الدعوة إلى الله جل وعلا؟ الجواب كثيراً ما نغفل عن قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وهذه الغفلة جعلت عند بعضنا نوعاً من التعجل الذي قد يفّوت الخير الكثير؛ بسبب أن الإنسان يريد أن يتعجل في الوصول إلى النتائج، ويخيل إليه - أحياناً- أنه لا بد أن يصل إلى ما يريد، ليس ضرورياً أن تصل أنت يمكن أن يصل غيرك وإذا لم يصل فسيصل الجيل الذي بعدي، وقضية التعجل -أيضاً- أشرت إليها في محاضرة البارحة. أما طريقة الدعوة: فادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. إخوتي الشباب، إخوتي المستمعين: أقول: إن أهم أمر أتمنى أن يوفق الله سبحانه وتعالى الدعاة إليه هو أن يدعو الناس بحسن الخلق، بالتلطف، دخل رجل على أحد الخلفاء العباسيين فأغلظ له بالقول واشتد عليه، وكان هذا الخليفة فقيهاً عالماً، فقال له: قد بعث الله تعالى من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ما أنت خير من موسى ولا أنا شر من فرعون حتى تخاطبني بهذا الأسلوب. أحياناً بعض الدعاة قد يغلظ على أخ له يوافقه في معظم المسائل؛ لأنه اختلف معه في مسألة من المسائل أو في جزئية من الجزيئات أحدهم يقول: سنة والآخر يقول: لا ليس سنة، مثل جلسة الاستراحة، أو وضع اليدين على الصدر بعد القيام من الركوع، أو رفع اليدين في تكبيرة الجنازة، أو رص الكعب على الكعب في الصلاة، الأول قال سنة والآخر قال ما ثبتت سنيتها، تجد أنه يمكن أن يصل الأمر بينهم الخصومة والمهاجرات إلى حد غير محمود، وكيف ترتكب محرماً لأجل سنة؟! أليس الذي علمك هذه السنة علمك أيضاً أنه لا يجوز أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث؟ أليس الذي علمك هذه السنة علمك أيضاً أنه: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} حسن الخلق، حسن التلطف، التبسم في وجوه الناس هو أهم ركيزة توجد في الداعية وتضمن له -بإذن الله- النجاح، ولذلك قال عليه الصلاة السلام في الحديث الذي رواه مالك وابن سعد وغيرهما وهو حديث صحيح: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق} وفي لفظ: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وقال الله تعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] كان خلقه القرآن، وكثير من الدعاة اليوم يحتاجون إلى جرعة من حسن الخلق، اللطف، عدم القابلية للاستفزاز. فلا داعي إلى أن تكون أعصاب الداعية قابلة للاستفزاز في أية لحظة، حتى عندما يستفزك الإنسان بكلمة أو عبارة حاول أن تضبط أعصابك وتتحدث معه بالطريقة المناسبة، لأنه -كما أشار السائل- أن إمكانيات صاحب الحق قليلة بالقياس إلى إمكانيات صاحب الباطل، والإنسان يقدر الموقف الذي هو فيه، والطريقة التي يستطيع أن يصل فيها إلى ما يريد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 التركيز على التوحيد في هذه الغفلة السؤال ألا ترى أن الناس الآن وهم مصابون بالغفلة والمادية واتباع الشهوات وكثرة الفتن بأن تركز أمور العقيدة والتوحيد والتعمق في ذلك ليكمل بذلك إيمانهم؟ الجواب الناس أنواع، وكل نوع يحتاج إلى خطاب، عندنا طلاب علم يحتاجون إلى من يعلمهم تفاصيل العلم الشرعي والأصول والفروع وغيرها، وعندنا دعاة يحتاجون إلى من يبصرهم بالدعوة وطرقها وأساليبها ومخاطرها، وعندنا جماهير من الناس تحتاج إلى من يدعوهم إلى الإسلام الصحيح قولاً وعملاً وسلوكاً، وينبههم إلى الأخطاء والمنكرات الموجودة عندهم، وكل هذه الأشياء تحتاج إلى الحديث عنها وتحتاج إلى من يذكر الناس بها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 زيارات قبور الأولياء السؤال يقول: بعض الفئات توجد في مكتباتهم كتب فيها دعوة إلى المزارات، زيارة قبور الأولياء، والدعوة إلى عدم التفرقة بين المسلمين سواء كان رافضياً أو سنياً، وجعلوا هذه الكتب من مناهجهم الأساسية؛ لأن أصحابها ممن يؤيدونهم ومن شيوخهم، أفيدونا؟ الجواب مسألة زيارة قبور الأولياء مسألة هذه مشكلة بلي المسلمون بها منذ قرون، حيث أقيمت قبور في أماكن عديدة لمن يزعمون أنهم أولياء وصالحون، لا أقول: إنهم أولياء وصالحون بل أصبحت القضية ضحكة? حتى جحا له مزار في تركيا يزار، وتعقد عنده الجلسات، وتقام حوله العبادات، ويعقدون حوله عقود الزواج تبركاً بها إلى غير ذلك. القضية ليست مقصورة على الأولياء وإن كان الأولياء ممن لا يجوز بناء المعابد على قبورهم، ولا دعاؤهم بل دعاؤهم شرك بالله جل وعلا، ولا يجوز قصد قبورهم للدعاء عندها باعتقاد أن الدعاء عندها مقبول، ولا للصلاة عندها، ولا لغير ذلك، وكذلك مسألة التمييز بين الطوائف المسلمة والطوائف الضالة ضرورة، وفي الحديث الصحيح المتواتر يقول صلى الله عليه وسلم: {وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة} والحديث كما أشرت حديث متواتر، ولا بد أن يبين للناس الحق من الباطل والهدى من الضلال حتى من هذه الطوائف، وكون الإنسان يقرأ كتاباً فيه مثل الأشياء إن كان متعلماً وفقيهاً فينبغي عليه أن يحذر من هذه الأشياء، وإن كان مبتدئاً في العلم فعليه أن يحذر من هذه الأشياء؛ لأنه قد قد لا يستطيع أن يميز الحق فيها من الباطل، ووجود مثل هذه الكتب في مكتبتك في رأيي غير حميد؛ لأنه قد يقرؤها غيرك، وقد تموت أنت فيرثها غيرك، فتبوء بإثم من ضل بسبب هذه الكتب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 مناقشة المبتدئ بالهداية السؤال ذكرتم أنه لا مانع من المناقشة في سنة جزئية، فهل من المستحسن لمن هو في أول طريق الهدى مناقشة فروع الأمور الجزئية أم البداية بغير ذلك؟ الجواب المقصود أن يحقق الإنسان ما المدعو لحاجة الله، فلا يمكن أن تعالج الجرح والرأس مقطوع -كما يقول أحد العلماء- من غير المعقول أن تأتي بإنسان ملحد وتحدثه في سنة من السنن أو تأتي بإنسان واقع في ضلال ولا يصلى مطلقاً وتتحدث معه عن مسألة اللحية? لا ابدأ معه بهذه الأشياء المهمة التي هي ضرورة لاعتباره مسلماً، ثم تدرج معه لكن لامانع حين تجد إنساناً مسلماً مصلياً يتردد إلى المسجد ويحب الخير أن تحدثه عن بعض السنن لا على سبيل أنها واجبات يلزم أن يعملها، وينظر إليه بازدراء وانتقاص إذا لم يعملها، كلا! فهذا منهج غير سليم? ولا معنى لعدها سنة حينئذٍ، كأنها صارت واجباً في نفس المعلم? لكن لا مانع أن تحدثه على أن هذه سنة، وإذا كان يطبق أن يعملها فلا مانع من ذلك، وبعد ذلك إذا عملها فهو حسن وإذا لم يعملها فلا حرج عليه، لأن هذا شأن السنة أنه لا يجوز الإنكار على من تركها، ولكن التعليم لا بأس به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 اجتماع الخير والشر في الإنسان السؤال على أي شيء يكون الإنسان الذي أطاع الله بتوحيده، وأقام الأركان وما يطلبه الإسلام، ولكنه أطاع الشيطان في بعض الأمور، من جهة هوى النفس وشهواتها؟ الجواب هذا فيه إيمان وفيه نفاق فيه خير وفيه شر، قد ذكرت لكم أنه يمكن أن يوجد حق أو باطل، ويمكن أن يوجد أمر التبس فيه الحق بالباطل، فهذا الإنسان فيه خير وشر، ولا مانع أن يجتمع في الإنسان شعبه في شعب الإيمان أو بعض شعب الإيمان وبعض شعب النفاق فيكون موحداً، فيكون أخذ أعلى شعبه وهي لا إله إلا الله، وفي نفس الوقت يكون -مثلاً- كذاباً فيكون أخذ بشعبة من شعب النفاق، فهذا نقول: مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، أو نقول: مؤمن ناقص الإيمان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 مشاكل في الرفقة والعادة السرية السؤال يقول: إني أحبك في الله، ومشكلتي أني لا أجد الصحبة الصالحة وإذا استغنيت عنها وتبت إلى الله وسرت في الطريق الصحيح لم يمض علي شهر حتى أعود إلى ضلالي وهكذا، وإني في سن الرشد، أفيدوني ماذا أفعل، وكذلك إني استعمل العادة السرية وما حكم هذه العادة -وكأنه يقول- لا أستطيع التخلص منها، أو كيف أستطيع التخلص منها؟ وجزاكم الله خيراً؟ الجواب من البعيد أن الإنسان لا يجد الرفقة الصالحة، لأنني تحدثت من خلال المحاضرة عن الطائفة المنصورة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم من خلال الواقع أنه في كل بلد -لا أقول البلاد الإسلامية- بل حتى في البلاد الكافرة لا تكاد تدخل مدينة إلا وتجد فيها مركزاً ومسجداً وجالية إسلامية، وقوماً صالحين، فيجد الشاب بالبحث رفقه صالحة في المسجد أو في المدرسة ويستطيع أن ينضم إليهم ولا بد من ذلك، لأن الإنسان لا قوام له إلا بهؤلاء القوم الذين يعينونه على الخير، ويذكرونه ويحثونه عليه، وينهونه عن الشر؛ فإنه إذا انفرد تخلى وتخلى عنهم انفرد به الشيطان، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: {إنما يأكل الذئب القاصية من الغنم} . أما سبب ضلال هذا الإنسان ورجوعه إلى الحور بعد الكور -أي: الضلال بعد الهدى- فإن السبب يرجع -والله تعالى أعلم- إلى أحد عوامل: فإما أن يكون هذا الإنسان له أصدقاء يزينون له الباطل، ولذلك قد يتوب ثم يغرونه بالباطل فيعود إليه مرة أخرى، أو أن يكون هذا الإنسان مقيماً على أسباب تحثه على الرذيلة مثل أن يشاهد التلفاز وما فيه من مسلسلات رديئة، أو فيديو، أو صور النساء في المجلات، أو يسمع الغناء أو يخرج إلى الأسواق وغيرها من المجالات التي تثير في الإنسان دوافع الغريزة والشهوة، فعليه: أن يمنع نفسه عن هذه المجالات وكما قيل: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ فأول خطوات الوقوع في الرذيلة هو النظر إلى هذه الأشياء أو استماعها، وبالتالي تبدأ سلسة الخطوات حتى يصل الإنسان إلى الوقوع في الحرام، وعلى الإنسان أن يقي نفسه من الذهاب إلى هذه المواطن، أو مشاهده الأشياء السيئة، ويختار لنفسه الرفقة الصالحة، ويكثر من دعاء الله جل وعلا. أما مسألة العادة السرية: فلاشك في تحريمها، والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فما عدا ذلك فهو محرم يلام الإنسان على الوقوع فيه. كيفيه التخلص منها هناك أسباب كثيرة: منها ما ذكرت قبل قليل، ومنها إشغال النفس بالقراءة، واليوم للقراءة أهمية أساسية، واليوم الشباب لديه عزوف عن القراءة، القراءة الشرعية، القراءة العلمية المفيدة، القراءة الأدبية المفيدة، القراءة التاريخية، يشغل نفسه بالقراءة، يشغل نفسه وجسمه بالأمور المفيدة من عمل، أو حركة، أو رياضة مباحة، أو ما أشبه ذلك، كما أن من الوسائل ألا يكثر الإنسان من التفكير في هذه القضايا، وألا يأوي إلى فراشه إلا عندما يشعر بالحاجة إلى النوم، وإذا أوى إلى الفراش فإنه يعمل بالسُنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم من النوم على الجانب الأيمن، وقراءة الأدعية الواردة، وذكر الله حتى تغلبه عينه، ويحرص على ألا يكون بمفرده، وإذا شعر أن الشيطان بدأ يتسلل إليه فعليه أن يخرج ويختلط بالناس وخاصة الطيبين الصالحين، أو يشتغل بأي عمل. وأؤكد مرة أخرى ما قلته قبل قليل: حين يستزلك الشيطان فتقع في المعصية، تب إلى الله، فإذا استزلك مرة أخرى فتقع تب إلى الله، يستزلك للمرة المائة فتقع تب إلى الله، لا تقل أنا والله تسعة وتسعين مرة وقعت، التوبة تجب ما قبلها، وهذا لا يعني التلاعب؛ لكن تب توبة صحيحة، توبة ندم وإقلاع وعزيمة على ألا تعود، فيمكن أن يقبض الله روحك وأنت على هذه الحالة الطيبة، ولو فرض أنك وقعت أيضاً تب إلى الله، وإياك أن يأتيك الشيطان، فيقول: أنت إنسان لا خير فيك، وربما تستسلم لهذا الأمر فهذا من أخطر المداخل للشيطان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 اختلاف الجماعات وعدم التنبيه على الأخطاء السؤال يقول: بعض إخواننا في الله ينفرونا من بعض إخوانهم؛ لأنهم ليسوا ينهجون مسارهم مع العلم أنه يوجد عليهم بعض الأمور التي تخالف الكتاب والسنة ولا يريدون من يذكرها لهم؟ الجواب أولاً: تحدثت البارحة في محاضرة (الصحوة الإسلامية بشائر ومحاذير) عن قضية الاختلاف، ولا أريد أن أعيد ما قلته، فبإمكان الأخ السائل أن يسمع ما ذكرته من ملاحظات حول هذه النقطة؛ لكنني أشير الآن إلى مسألة من يوجد عندهم أخطاء لا يريدون من يذكرها لهم، لماذا؟ لا شك أن الشيطان مسلطاً على ابن آدم، لكن هناك سبب قد يوجد، وهو أن بعض المصلحين الذين يحاولون التنبيه على بعض الأخطاء قد يستفزون الإنسان، ويستثيرون عناده وغضبة وعناده بالطريقة التي يأمرونه بها، فمثلاً أنا عندما أرى عليك خطأ، وآتيك وأقول لك: يا أخي! الله يهديك أنت وأصحابك فيكم كذا وفيكم كذا وفيكم كذا، يا أخي: لماذا وأنتم دعاة وتدعون أنكم صالحون؟! هنا كأنني أقول لك: إياك أن تسمع مني، إياك أن تتقبل مني ما أريد، كأني استثير عوامل التحدي والخصومة والعناد لي، وهذا ليس أسلوباً، حين تريد أن تنبه إنسان على خطأ موجود لديه تسلل إلى قلبه بطريقة هادئة، ابحث عن حيلة توصل هذا الخير بقدر ما تستطيع، لأنه ليس قصدك أن تتسلط على الناس أو يظهر أن الحق معك والباطل معهم، أو أن عندك وليس ما عندهم، هذه الأمور كلها مستبعدة، أنت قصدك أن يهتدي الناس إلى الطريق المستقيم، وأن يزول الخطأ فبأي طريقة زال الخطأ، فالحمد لله فهذه مسألة مهمة جداً. وبالمقابل الإنسان الذي يوجد عنده خطأ عليه أن يخاف الله جل وعلا، يا إخواني! الواجب علينا أن نراجع أنفسنا، يا إخواني! والله إن المسألة أمانة ومسؤولية، الدين أمانة، والدعوة إلى الله عز وجل أمانة، ومن غير المعقول أن أصر على أموري، أو على آرائي، كل واحدٍ منا يخطئ، ومراجعة الإنسان لنفسه من الكمال وليست من العيب، كون الإنسان يراجع الأمور التي هو عليها، الآراء، السلوكيات، بعض الأخطاء، ويكتشف أنه فعلاً تصرف تصرفاً غير مناسب، وقلت كلمة غير مناسبة، وتبنيت أنا غير مناسب والله إن هذا من الكمال، ولهذا تجد الرجال الذين عندهم ثقة بأنفسهم لا يستحي الواحد منهم أن يقول: أنا أخطأت في المسألة الفلانية، وأرجع عنها، بل بعضهم كانوا يرسلون الناس يصوتون في الأسواق، أن العالم الفلاني رجع عن هذا القول، لكن إنسان عنده ضعف وعدم ثقة بنفسه يعتبر أن اعترافه بالخطأ أو رجوعه عنه يعني تنقصه، فينبغي للمؤمن أن يكون هنياً بأيدي إخوانه، فحين ينهى إلى خطأ لا يستحضر في ذهنه أن الطرف الآخر يتحدث وأنت تعد العدة حتى تستغل سكوته لترد عليه، انظر! ليس بالضرورة أن يكون معه الصواب (100%) يمكن أن يكون معه (10%) أو أقل أو أكثر، خذ هذه (10%) وتقبلها، فإذا تقبلت (10%) لا مانع أنك ترد (90%) حينئذ، لأنه يمكن أن يتقبلها، لكن حين ترد كل ما قال قد يقول: هذا الإنسان إنسان معاند ومصر وعنده أشياء ما عنده استعداد التخلي عنها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 مراعاة المصالح والمفاسد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال لقد سبق أن سمعنا لك دروساً خاصة بموضوع إنكار المنكر، ولنا بعض الاستفسارات، كما لا يخفى على أحد أن المجتمعات النسائية في عصرنا الحاضر مليئة بالمنكرات واللغو، وما إلى ذلك من الأمور المضيعة للوقت، والتي لا تتناسب مع ديننا الحنيف، وبالتالي فالدعوة في هذه المجتمعات تحتاج إلى جهد وعلم كبير، والسؤال هو: هل ينبغي للمرأة المسلمة التي تدعو في تلك المجتمعات أن تخالط نساء هذا المجتمع لكسب قلوبهن، وبالتالي يمكن أن يتقبلن منها أية دعوة، هذه مصلحة للدعوة ولكن يترتب عليها مفسدة؛ وهي أنها ستضطر أن تسكت أمام بعض المنكرات التي تراها في سبيل التدرج في الدعوة، فأرشدونا -جزاكم الله خيراً- إلى الطريق الصحيح للدعوة في تلك المجتمعات؟ الجواب نعم، كما ذكرت الأخت السائلة أو الأخ السائل، سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع أكثر من مرة، وعلى كل حال فمراعاة تحقيق المصلحة في موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوبة، ومن ذلك أنك لو رأيت إنساناً عنده مجموعة من المنكرات قد لا يكون من المناسب أن تبينها له دفعه واحدة، لأن معنى ذلك أن الإنسان لن يتقبل منك، وسيقول لك: معنى ذلك أنني تحولت إلى مجموعة من الأخطاء والرذائل، فقد يكون هذا مدعاة إلى ألا يقبل منك شيئاً، ولذا فالتدرج مطلوب، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقه تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} . فعلم بذلك أن التدرج في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مطلوب، فلو رأيت عند إنسان مجموعة من العيوب فعليك أن تتدرج معه في الأمر، وتبدأ بالأهم منها على ألا تهمل الآخر، بل تنتظر الفرصة المناسبة لنهيه عن هذا المنكر أو لأمره بذلك المعروف الذي قصر فيه، كما أنه لا بد من التلطف في أمره. فمثلاً: لو كنت تستطيع أن تقيم علاقة مع هذا الإنسان بحيث توجد هناك مودة بينك وبينه ثم تبدأ معه كان هذا أفضل؛ لكن قد تجد إنساناً فتقول: والله قد لا ألقاه يوماً من الأيام وليس لي به هذه العلاقة، وترى أنه من المناسبة أنك تبلغه فتتحدث معه في أهم شيء تراه عليه، ولو تركت ما سوى ذلك مراعاة للمصلحة، والله سبحانه وتعالى أعلم بما في قلبك من أنك منكر له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 المنهج القويم لطلب العلم السؤال لا شك أن طلب العلم ضرورة شرعية يحتاجه كل مسلم ومسلمة فالرجاء أن يوضح الشيخ المنهج القويم الذي يجب أن تسلكه المرأة المسلمة في طلب العلم في بيتها ومع أخواتها؟ الجواب نعم. {طلب العلم فريضة على كل مسلم} كما ورد في الحديث الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم، والمقصود على كل مسلم ومسلمة فكلمه "مسلم" تشمل الرجل والمرأة، فالعلم منه ما هو فرض عين ومنه ما هو فرض كفاية، ففرض العين مثل العقيدة الصحيحة فيما يتعلق بتوحيد الروبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات وأركان الإيمان؛ لا بد من معرفة العقيدة الصحيحة على كل مسلم، ومن فروض العين معرفة الأحكام المتعلقة بالإنسان مثل أحكام الطهارة، والوضوء، والغسل، والصلاة، وما يتعلق بها إلى غير ذلك مما يحتاجه الإنسان في أموره الخاصة، وفروض الكفاية ما يحتاج الإنسان أن يعلمه إلى غيرما تحتاجه الأمة على سبيل الإجماع، فالمرآة المسلمة مطالبة بأن تتعلم فروض العين بلا شك وبلا استثناء، أما فروض الكفايات فينبغي للمرأة أن تحرص على تعلمها لتفقه غيرها من النساء، وفي مجال التعلم هناك وسائل كثيرة لكني أقتصر الإشارة إلى أسلوب واحد أعتبر أنه من المهم التنبيه عليه وهو: أنه من الخطأ أن يتفقه الإنسان ذكراً كان أو أنثى بمفرده، وقد تحدث بذلك أهل العلم وأطالوا، وقيل: (من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه) فالإنسان الذي يتفقه على الكتاب فقط غالباً ما يقع في أخطاء، لأنه قد لا يفقه حقيقة ما يقال، وقد يفهم الكلمة على فهم وحقيقتها على أمر آخر. وكم رأينا في كتب بعض الناس من تعبيرات وأقوال وتفسيرات ليست صحيحه، وما قال بها أحد غيرهم، وإنما فهموها من كلام بعض أهل العلم نظراً لأنهم اعتمدوا على أنفسهم في الفهم، ولم يضموا هذا الكلام إلى غيره من الأقوال الأخرى فوقعوا في الخطأ، ولذلك فيجب على الإنسان ألا ينفرد بنفسه في التعلم بل يتعلم مع غيره، فإن أمكن أن يوجد -مثلاً- مع الأخت المسلمة مجموعة من الأخوات تلتقي معهن في تعلم الكتاب والسنة كان هذا حسناً، ومع ذلك فهذا لا يكفي؛ بل ينبغي أن يكون مرجع هؤلاء الأخوات في التعلم إلى العلماء المعتبرين الذين يشار إليهم بالبنان من علماء أهل السنة والجماعة بحيث تراجعهم تلك الأخوات فيما يشكل عليهن، وإذا كتبت إحداهن -مثلاً- بحثاً في مسألة ترسله إلى أحد العلماء والمشايخ ليراجعه ويصححه ويبين ما فيه من أخطاء حتى يكون التعلم مضبوطاً ويسلم من الشذوذ الذي يمكن أن يقع. في كثير من البلاد نظراً لغياب العلماء وكون الشباب ذكوراً وإناثاً يتتلمذون على أنفسهم وعلى الكتب فحسب، يوجد أخطاء كبيرة جداً، أخطاء حتى في العقيدة، وأخطاء في الأحكام، وآراء شاذة، وترجيح أشياء مرجوحة، السبب هو الفوضى العلمية الموجودة، وعدم وجود قيادات علمية يلتف حولها الناس، هذه البلاد -ولله الحمد- قيّض الله لها، علماء كباراً وبصورة لا أعتقد أنه يوجد مثلها في أي مكان آخر، فمن واجبنا حين نتعلم أو نتفقه في قضايا الدين ألا نتعلم ونتفقه بمعزل عن هؤلاء العلماء، هناك أشرطه للعلماء مفيدة جداً للتفقه؛ لأن المرأة حينما تستمع لهذه الأشرطة فكأنما تسمع للشيخ مباشرة، وتستطيع أن تستفسر عن طريق الهاتف عما أشكل عليها ليستبين لها الطريق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 ولكن كونوا ربانيين لا قيمة للعالم -فضلاً عن طالب العلم أو الداعية- إلا بمقدار ما يؤثر ذلك العلم على عبادته وسلوكه وتصرفاته، فكم من عالم باع دينه لغرض من الدنيا، وكم من عالم قدم صورة مشوهة للعلم وللدين بتذلله للحكام والأمراء وأصحاب الأموال، وكم من عالم زلت به قدمه إذ لم يكن مخلصاً، وكم من عالم حرم الناس من علمه باعتزالهم والإعراض عن تعليمهم ودعوتهم والعالم المتخلص من كل تلك الصفات هو العالم الرباني الذي حقق مقصود الشارع من إيجاد العلماء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 1 من هم الربانيون الحمد الله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، فله الحمد بالإسلام، وله الحمد بالإيمان، وله الحمد بالقرآن، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، وأصلي وأسلم صلاة وتسليماً دائمين إلى يوم الدين على نبيه ومصطفاه من خلقه نبينا محمد، النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، حمل الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل الله حق جهاده، فصلى الله عليه وسلم. ما ترك خيراً يدل إلى الجنة ويباعد من النار إلا بينه وأمرنا به، ولا شراً إلا بينه وحذَّرنا منه، حتى تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعده إلا هالك، فجزاه الله عنا خير ما جزي نبياً عن أمته، فقد أبلى فينا البلاء الحسن، وسهر ليله، وتعب نهاره، وشاب شعره، وأنهك جسمه، ولقي الأمرين من أجل أن يصلنا الدين نقياً مصفى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] . أما بعد: فأشكر لكم جميعاً يا أهل الأسياح بكل مدنها وقراها، أشكر لكم عظيم حرصكم على حضوري، حيث كان أعداد منكم من الشباب وغيرهم يتوافدون إلى مسجدي يوماً بعد يوم، وأسبوعاً بعد أسبوع، يلحون في الحضور، وكنت أشعر بإحراج شديد لتأخري في تلبية هذه الدعوة، إذ أعلم أنه ما دفعهم لذلك إلا حسن الظن بي، وإن كنت أعلم يقيناً أيضاً أنه حسن ظن في غير مكانه، لكن لا أريد أن تضيع الأوقات في مثل هذا، ولذلك أستغفر الله مما قاله أخي المقدم فقد أسرف فيما ذكر، وأسأل الله أن يعفو عنه وعني وعنكم أجمعين ما زلت به ألسنتنا، إنه على كل شئ قدير. وهذه الليلة هي ليلة الثلاثاء، السادس من شهر صفر، من سنة 1413 للهجرة، وعنوان هذه الجلسة جزء من آية من كتاب الله عز وجل من سورة آل عمران: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباًأَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُون} [آل عمران:79-80] . من مصائب الأمة أيها الأحبة: الجهل: وطالما تمرغت الأمة في ظلمات الجهل بعيدة عن هدى ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولكن لا يقل عن الجهل مصيبة العلم المؤسس على غير هدى ولا كتاب منير، فنحن لابد أن نحارب الجهل، ولكن -أيضاً- لابد أن يكون العلم الذي ندعو إليه مؤسساً على الأصول الشرعية الصحيحة، علماً مقرباً إلى الله عز وجل. وطالما رأت الأمة شباباً، كما وصفهم أحد الإخوة لي في رسالة بعث بها، يقول: إن بعض الشباب في بلاد إسلامية؛ كان أحدهم إذا استيقظ في آخر الليل يدير مؤشر الراديو قبل أن يفتح الصنبور ليتوضأ لصلاة الفجر، فلا شك أن مراجعة المسيرة، وتصحيح الخطأ، والدعوة إلى التوازن من أهم المقاصد التي يحرص عليها الصالحون والمصلحون. إننا نعلم أن الجاهل قد يقبل التعليم، فإذا كان جاهلاً جهلاً بسيطاً لا يعرف متى وقعت -مثلاً- معركة بدر، فقلت له: وقعت معركة بدر -مثلاً- سنة اثنين من الهجرة حفظها، لكن لو كان سمع طفولته أن معركة بدر وقعت سنة ست من الهجرة، كان من الصعب تعديل هذا العلم الخاطئ الموجود، لأن الموجود لديه جهل مركب. إذاً فالجاهل قد يتعلم، لكن الذي يرى نفسه عالماً قد يكون من الصعب أن يقبل من غيره. هذه الآية الكريمة فيها الحديث عن صنف من العلماء وصفهم الله عز وجل بأنهم (ربانيون) ومعنى الآية: أن الله تعالى نفى أن يكون لبشر من البشر -النبي أو الرسول- أن الله تعالى يمنحه الكتاب والحكم والنبوة، ثم يقوم هذا النبي ليقول للناس: كونوا عبيداً لي، فالنبي لا يدعو الناس إلى عبادته هو، وإنما يدعوهم إلى الله، فيقول للناس: كونوا ربانيين، لا يأمرهم بغير ذلك، فلا يأمرهم بعبادة نفسه، ولا يأمرهم أيضاً بأن يتخذوا الملائكة والنبيين الآخرين أرباباً من دون الله عز وجل، وكيف يأمرهم بالكفر وهو إنما جاء وبعث بالإسلام؟ ربانيون: منسوبون إلى الرب، وقد ذكر ابن الأنباري هذا عن النحويين، وهو على كل حال نسبة على غير قياس، كما يقال: شعراني. ربانيون: وصلوا إلى الدرجة العليا والمقام الأعلى في العلم والتربية، إذاً فالربانية لا تطلق على الإنسان المبتدئ في العلم الذي حضر لتوه مجالس الذكر والتعليم، لا، وإن كانت البوادر قد تظهر عليه منذ صغره: في تقواه، وورعه، وتحريه عن الحرام، وحرصه على العمل؛ لكن إنما يوصف بالربانية العالم الراسخ في علمه كالأئمة الأربعة -مثلاً- والمجددين عبر العصور فإنهم يطلق عليهم أنهم ربانيون. ربانيون: أي حكماء، علماء، حلماء كما ذكره ابن كثير وغيره عن ابن عباس رضي الله عنه. ربانيون: أي فقهاء كما ذكره ابن كثير وغيره أيضاً عن الحسن البصري وغير واحد من السلف. ربانيون: أي أهل عبادة وتقوى؛ كما هو قول الحسن أيضاً. وهؤلاء توفرت فيهم صفات: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 2 من صفات الربانيين العلم الصفة الأولى: العلم: (تَعَلَمُونَ) هكذا قرأها جمهور القراء (تَعَلَمُونَ) . إذاً هم علماء وهذه من أخص صفاتهم: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] إذاً هم أساتذة، وشيوخ، وفقهاء، ومفتون أقبلوا على علم الشريعة، علم الكتاب والسنة فرفعهم الله تعالى به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 منزلة أهل العلم قال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فقرن أولي العلم مع ملائكته وأشهدهم على ذلك مع ذاته المقدسة فدل على رفعة قدرهم. وقال عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فبدأ بالعلم قبل القول وقبل العمل (فاعلم) هم علماء والعلم حياة، ولهذا قال الشاعر: أخو العلم حيٌ خالد بعد موته وأوصاله تحت التراب رميم وذو الجهل ميت وهو ماشٍ على الثرى يظن من الأحياء وهو عديم وقال آخر: وفي الجهل قبل الموت موت لأهله وأجسامهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور فهم أموت غير أحياء بجهلهم، ولو كانت أسمائهم على كل لسان، فأنت اليوم -مثلاً- لو سألناك عن أعظم عالم في القرن السابع وأوائل الثامن، لقلت: شيخ الإسلام ابن تيمية؛ فأصبح يعرفه الكبير والصغير، لكن لو سألناك -مثلاً- من هم تجار ذلك القرن؟ هل تعرفهم؟ لا تعرفهم ومن هم حتى قواد الجيش في هذا القرن؟ قد لا تعرفهم، ومن هم أصحاب السلطة والجاه في هذا القرن بأسمائهم؟ قد لا تعرفهم. لكن ابن تيمية من الذي لا يعرفه؟! كلما تقدم الزمن زادت شهرته ومكانته؟ حتى إن مكانته اليوم -وأجزم بهذا- عند المسلمين أعظم بكثير من مكانته يوم كان حياً يتحرك بينهم، ففي ذلك الوقت خصومه كثير، ضايقوه، وحاربوه، وأحرقوا كتبه، وكادوا له حتى وقع في غياهب السجون، ومنعت فتاواه زماناً، بل حاولوا أن يضربوه في بعض المناسبات، لكن اليوم أبى الله عز وجل إلا أن يظهر حقه على باطلهم فماتوا وبقي ابن تيمية حياً: يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 الجهل وخطره على الإنسان ملايين من الناس اليوم في الوظائف، والأسماء، والتجارات، والأعمال لا يعرفهم أحد، ولا يحزن عليهم إن ماتوا أحد، والغريب أن العلم الشرعي بالذات على رغم هذه المكانة لا يختاره إلا القليل؛ لأن أمام طلبه عقبات وعقبات تنقصم لها الظهور، وتنكسر لها الأعناق، والعجيب -أيضاً- أن العالم يكون موضع عتب من الناس فيما قد ينسبونه إليه من تقصير أو يظنونه فيه من قول أو فعل، فهم يلومونه، يقولون: العالم الفلاني -غفر الله له- عنده أرض في المكان الفلاني، والعالم الفلاني سمع المنكر ولا غيَّره، ومرة من المرات فعل كذا، أغلظ في القول لرجل عنده. فيعدون عليه أخطاءً فعلها، يظنونها أخطاءً وهي قد لا تكون خطأً، وقد تكون من خطأ البشر، فنقول لهم: نوافقكم على ذلك، هبوا أن ما تقولونه على هذا العالم -الذي هو فعلاً عالم- هبوا أنه صحيح، وأنه أخطأ: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه هذا العالم عددتم له أخطاءً خمسة أو عشرة، لكن أنا وأنت وفلان وعلان من يحصي أخطاءنا. وقف رجل يوماً على المنبر فتكلم، فقام له أحد الحضور وسأله سؤالاً، فقال: لا أدري، قال: تصعد المنبر وأنت لا تدري، قال: إنما علوت بقدر علمي، أنا علوت ثلاث درجات على المنبر أو درجتين بقدر علمي. ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء. أقول: يعتبون على العالم في خمسة أخطاء أو عشرة يظنونها أخطاءً وقع فيها هذا العالم، ولكن ينسون هم -وأنا وأنتم- ننسى أننا ملومون على مسألة أكبر، وهي لماذا كان هذا عالماً، ولم نكن نحن علماءً؟ لماذا تركنا نحن التعلم والتعليم؟ نعم بعضنا معذور قد يكون إنساناً لم يعطه الله تعالى الآلة من الذكاء، والفهم، والفطنة، وقد يكون بعضنا لم يتيسر له أسباب تحصيل العلم، وقد يكون بعضنا في بلاد بعيدة ونائية لم يستطع أن يتعلم، دعك من هؤلاء كلهم، لكن كثيرون تمكنوا وعندهم عقل، وذكاء، وفطنة، وحفظ، والأسباب أمامهم ميسورة مبسوطة، ومع ذلك لم يتعلموا. أحياناً يخطر في ذهني السؤال العلماء المشاهير، أين زملاؤهم؟ ابن باز -مثلاً- أين زملاؤه الذين كانوا على مقاعد الدراسة أو في مجالس طلب العلم؟ الشيخ ناصر الدين الألباني، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن عثيمين، أين زملاؤه؟ الشيخ ابن جبرين أين زملاؤه؟ ومثلهم علماء في البلاد الإسلامية كلها بطولها وعرضها. هذا العالم كان في يوم من الأيام طالباً في حلقة على الأقل له عشرون زميلاً في الحلقة، أين هم؟ أكثرهم تأخروا عن الركب وبقي هو وحيداً في الساحة لأنه أصر على طلب العلم، وأصر على المواصلة، أما هم فكثير منهم قد يكونون يشغلون وظائف عادية كغيرهم من الناس لا يتميزون بشيء، إلا أن الواحد منهم ربما تمدَّح في المجلس، وقال: أنا من زملاء فلان، حسناً إذا كنت من زملائه لماذا لم تكن مثله؟! ولم تعمل عمله؟! هو تلَّقى من العلم مثلما تلقيت، فلماذا ظهر هو وخفيت أنت؟ ونفع هو ولم تنفع أنت. ذكر ابن القيم -رحمه الله- عن الشافعي أنه إذا رأى رجلاً سأل عنه، فإن كان صاحب علم وعمل تركه، وإلا عاتبه الشافعي عتاباً مراً، وقال له: لا جزاك الله خيراً، والشافعي رجل مؤدب، ولكنه يحترق قلبه فيغلظ في العتاب، والعتاب يزيل الوحشة بين الأحباب، لا جزاك الله خيراً، لا عن نفسك، ولا عن الإسلام، ضيعت نفسك، وضيعت الإسلام هكذا يقول الشافعي. كان من الممكن أن تصبح عالماً يشار اليه بالبنان، ويرفع الله به الجهل عن أمة من الناس، ولكن لم يكن هذا بتقصير، والغريب في الأمر أنك لم تكتف بالتقصير؛ بل زدت على ذلك أن توجه سهام اللوم والعتب إلى من قطعوا هذا المشوار الذي عجزت أنت عن قطعه. إذاً لابد من الدعوة إلى العلم، فالعلم خير كله، حتى الكلاب المعلمة فضلها الله عز وجل: {مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فالكلب المعلم يتميز في الصيد عن الكلب غير المعلم، فكيف بالإنسان الذي فضله الله تعالى واختاره واصطفاه؟! قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] . إذاً الميزة الأولى للعالم الحق الرباني أو للإنسان الرباني: العلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 من صفات الربانيين الاتباع الميزة الثانية: هي الاتباع فليس هذا العلم الذي يتعلمه هو قال: فلان، وقال: علان، لا، وإنما هو علم الكتاب؛ ولهذا قال في الآية: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] الكتاب المنزل من الله تعالى على رسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 ترك نصوص الكتاب والسنة والانشغال بالآراء إن الفقه حقاً هو القرآن والسنة وفهم معانيهما، وأما أقوال الرجال، قال فلان، وقال علان، فلا تعدو أن تكون تفسيراً للقرآن أو تفسيراً للحديث، ولا ينبغي أن يشتغل الإنسان بها إلا بقدر ما تكون بياناً لهذا أو لذاك، ولهذا لما تشاغل الناس بأقوال الرجال ظهر مصطلح أهل الفقه وأهل الحديث وتميزا، والواقع أن الفقه والحديث شيء واحد، ما الفقه إلا علم القرآن والسنة حفظاً، وفهماً، وعلماً، وعملاً. ولذلك أنكر الأئمة كـ ابن الجوزي والخطابي وغيرهما التفريق بين أهل الفقه وأهل الحديث، بل الفقه والحديث شيء واحد، ولهذا -أيضاً- لم يعتبر العلماء أن المقلد تقليداً محضاً أنه عالم، الذي يقلد فلاناً وفلاناً هذا ليس بعالم، حتى قال ابن عبد البر: أجمعوا على أن المقلد لا يعد من العلماء، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: العلم هو المعرفة الحاصلة من الدليل، والدليل: آية أو حديث أو إجماع، فهذا هو العلم، أما كونك سمعت فلاناً يفتي بكذا، وسمعت فلاناً يقول كذا، فهذا لا يعد علماً، وإنما هو تقليد قد يُعذر به الجاهل الذي لا يستطيع إلا التقليد فقط، أما طالب العلم فلا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 معنى الاتباع إذاً فالمقصود بالعلم هو: العلم الشرعي المنبثق من الوحي، (من الوحيين الكتاب والسنة) {ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه} يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند صحيح، (القرآن والسنة) فالعلم إما آية محكمة، أو حديث صحيح، أو إجماع قائم قال الشاعر: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين رأي فقيه وقال غيره: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولوا العرفان يقول الإمام ابن رجب -رحمة الله تعالى عليه-: العلم النافع من هذه العلوم كلها -لأن العلوم اليوم كثيرة عند الناس فيحتار الإنسان- ماذا أتعلم؟ وبماذا أبدأ؟ نقول: عليك بعلم الكتاب وعلم السنة، يقول ابن رجب: العلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور. كلام قصير يغني عن كثير، ضبط نصوص الكتاب والسنة، وفهم معانيها، والتقيد في ذلك بالمأثور، لا تأتِ لنا بمعنى لم تسبق إليه، لا تقل في مسألة ليس لك فيها إمام كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وحين نقول: الكتاب والسنة فهما يشهد بعضهما البعض، والرسول صلى الله عليه وسلم كان شارحاً ومفسراً للقرآن بقوله وفعله، فأما بقوله؛ فإن السنة تبين القرآن، وتُفصِّل مجمله، وتوضح معانيه. وأما بقوله: فقد سئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقالت للسائل: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} فأفعاله صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن، ولهذا وصفه بعضهم بأنه كان قرآناً يدب على وجه الأرض، وهذه الكلمة وإن كان فيها تسامح ومجاز إلا أنها تعبير دقيق وجيد عن أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله عليه الصلاة والسلام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 من صفات الربانيين الإخلاص الصفة الثالثة لهؤلاء الربانيين: الإخلاص والنية، يقول صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات} ويقول أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه عن ابن عباس وغيره: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} ؛ فيعبد الله تعالى بالنية الصالحة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15]-بنيته وقصده- {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ} [هود:15-16] . {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً} [الإسراء:18] يقول الزهري وهو من خيار التابعين: [[ما عُبِدَ الله بشيء أفضل من العلم]] . إذاً وأنت تتناول العلم حفظاً، أو دراسةً، أو تأليفاً، أو تعليماً فأنت تعبد الله بهذا، ويقول سفيان الثوري: [[لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم؛ لأن العالم هو وريث النبي، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم]] . جاء أبو هريرة رضي الله عنه إلى أهل السوق وهم يتبايعون ويتشاورون، فقال: [[أنتم ها هنا وميراث النبي صلى الله عليه وسلم يقسم في المسجد، فتركوا بضائعهم، وذهبوا يركضون إلى المسجد فدخلوا فما وجدوا إلا حلقة هنا تعلم التفسير، وحلقة تعلم الحديث، وحلقة هنا وحلقة هناك، فرجعوا، وقالوا: يا أبا هريرة -غفر الله لك- ما رأينا شيئاً، قال: ذهبتم؟ قالوا: نعم، قال: فماذا رأيتم؟ قالوا: رأينا قوماً يعلمون القرآن، وقوماً يعلمون التفسير، وقوماً يعلمون الحديث، قال: وهل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هذا؟]] . ويقول ابن وهب وهو من تلاميذ الإمام مالك قال: كنت عند مالك وقد نشر كتبه يقرأ، ويعلم، ويبين، قال: فأذن المؤذن فذهبت أجمع هذه الكتب من أجل أن يذهب بها، فقال الإمام مالك على رسلك -ترفق- ليس الذي تقوم إليه -من التنفل قبل الفريضة- بأفضل من الذي تقوم عنه من العلم إذا صحت النية. إذاً فالعلم عبادة، ولابد لطالب العلم وهو يتناول العلم من أن يشعر أنه يتعبد الله تعالى ويتقرب إليه بالتعرف على حكمه في المسائل، والتعرف إليه جل وعلا بأسمائه وصفاته وأفعاله، والتعرف إلى أنبيائه بمعرفتهم ومعرفة حقوقهم، وما أشبه ذلك من ألوان العلم وصنوفه. وهذا الوصف، وصف الإخلاص والنية هو من أخص معاني الربانية: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] أي: إرادة وجه الرب تبارك وتعالى فيما يأخذ الإنسان ويدع، وبها يبارك الله تعالى في العلم، وبها يُثمر العلم وينفع، فأنت تجد أن الذين نفع الله تعالى بعلمهم ليسوا بالضرورة هم أذكى الناس، لا، ولا أكبر الناس عقولاً، ولا أكثر الناس علماً أيضاً، ولكن بارك الله في علمهم، ونفع الله به؛ لأنه كان فيه الإخلاص، فكان يخلط مع علمه شيئاً من الإخلاص، وهناك علم غزير ولكن بلا روح، ولا إيمان، ولا إخلاص، ولذلك لم يبارك الله تعالى فيه فقل المنتفعون به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 من صفات الربانيين السمت والوقار الصفة الرابعة: خلق العلم وأدبه: بالسمت والوقار غير المتكلف، والقدوة في ذلك بالرسول صلى الله عليه وسلم حيث كان أعظم العلماء على الإطلاق، ومع ذلك إذا وجدت هديه، وأدبه، ومعاملته للناس تجد أمراً يعجز عنه الآخرون، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام التي ميزه الله بها، ففي مجال العلم هو البحر لا يدرك ساحله، لكن -أيضاً- تأتي إليه عليه الصلاة والسلام فتجده متواضعاً مع أصحابه، يمازحهم، ويضاحكهم، ويأخذ معهم حتى ربما تكلموا في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم عليه الصلاة والسلام. إنما كان له من الهيبة والوقار في نفوسهم شيء عظيم، حتى إنه سها يوماً من الأيام في صلاة، كما في الصحيحين وسلم في صلاة الظهر أو العصر من ركعتين فلم يجرؤوا على أن يقولوا له: سهوت يا رسول الله، حتى أبو بكر وعمر أخص أصحابه هابا أن يكلماه، حتى قام رجل اسمه الخرباق، يقال له ذو اليدين فقال: {يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ فقال: لا، ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وصلى ركعتين وسلم، ثم سجد للسهو ثم سلم عليه الصلاة والسلام} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 من صفات الربانيين مخالطة الناس من الأخلاق التي ينبغي أن يتحلى بها الربانيون مخالطة الناس بالحسنى، والتخلق معهم بالخلق الفاضل، لقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] تعلمون من؟ تعلمون الناس، وكيف تعلمونهم وأنتم في أبراجكم العاجية؟! وكيف تعلمونهم وأنتم في مكتباتكم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم تغلقون أبوابكم في وجوههم؟! وكيف تعلمونهم وأنتم معتزلون منعزلون عنهم؟ هذا لا يكون. إذاً لابد من مخالطة الناس، وفي حديث وهو صحيح عند أصحاب السنن عن ابن عمر أو غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} . إذاً: لابد من مخالطة الناس، مخالطة فيه الاقتصاد، يعطيهم قدراً من وقته، نحن لا نقول للعالم: دع أعمالك، وعلمك، ومشاغلك، وأمورك، وتفرغ للناس، هذا لا يكون ولا يطالب به أحد! بل هو مما لا يستطاع، لكن لابد أن يخصص للناس أوقاتاً يعطيهم فيها مما أعطاه الله تعالى، ويتفرغ فيها لأمورهم وهمومهم وشئونهم. ومن عجيب وبديع ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله؛ أنه قسم الناس في المخالطة إلى أربعة أصناف، قال: من الناس من مخالطته كالغذاء، مثل الطعام الذي تحتاج إليه بين وقت وآخر كالغذاء، وهذا هو العالم الرباني الذي تخالطه لا لتضيع عليه وقته ولكن لتستفيد وتمتح من علمه. الثاني: من مخالطته كالدواء، إنما تتعاطاه عند الحاجة إليه، وهذا هو الإنسان الذي تستفيد منه في أمر معاشك في مشاورة أو أمر أو ما أشبه ذلك، أو تريده في أمر من أمور الدنيا فهذا كالدواء، ومن الناس من مخالطته كالداء مثل المرض، والمرض كما تعلم أنواع: من الأمراض مرض عضال لا يشفى منه الإنسان، ومن الأمراض مرض مثل وجع الضرس، وهذا بمجرد ما تقلع هذا الضرس يزول المرض، وهذا مثل الإنسان الذي مخالطته تؤذيك بسيئ القول، فإذا غادرته زال الألم؛ فالضرس كذلك إذا قلعته زال الألم. ومن الأمراض، أمراض الحمى التي لا تكاد تفارق الإنسان، ومن ذلك -مثل ما ذكر- مخالطة الإنسان الثقيل الذي لا هو بالذي يتكلم فتستفيد، ولا هو بالذي يسكت فيستفيد هو، فلا يستفيد ولا يفيد. ومن الناس من مخالطته هي الموت بعينه، وهو الإنسان الذي يضرك في دينك، إما بضلالة، أو ببدعة، فتبين بذلك أن مخالطة الناس أربعة أصناف: منهم من هو كالغذاء، ومنهم من هو كالدواء، ومنهم من هو كالداء، ومنهم من هو الموت، فعليك أن تختار لنفسك وتعلم أن فضول المخالطة لا خير فيها، يكثر فيها القيل والقال، والغيبة، والمجاملة، والتصنع، وربما كان طول المخالطة سبباً في المباعدة، والمفارقة، واكتشاف العيوب، فيتحول ذلك إلى نوع من العداوة، ولهذا جاء في حديث روي مرفوعاً عند الترمذي وغيره، وروي موقوفاً على علي رضي الله عنه وهو أشبه، أنه قال: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما} اقتصد في الحب، والبغض، والمخالطة، والعزل. إذاً العالم الرباني ليست مهمته التعامل مع الكتب -مثلاً- فقط فهذه وظيفةٌ سهلة، ولكن مهمته قيادة الناس إلى ربهم عز وجل وتوجيههم، ومشاركتهم في آلامهم، ومشاكلهم، وأفراحهم، وأتراحهم، وأن يكون قريباً من نفوسهم وقلوبهم، ولا يجوز أن تخلو الساحة من العلماء العاملين، العالمين، المخلصين؛ لأن خلوها أتاح الفرصة للأشرار، الأشرار الذين رفعوا يوماً من الأيام لواء الدفاع عن المرأة أو ما يسمونه بتحرير المرأة، فأفسدوا نساء المسلمين باسم الدفاع عن المرأة، ولماذا لا يتولى أمر الدفاع عن المرأة العلماء العاملون المخلصون؟ فيدافعون عن المرأة ضد كل ظلم أو ضيم يقع عليها، دفاع بالشرع لا بالهوى، ويكسبون المرأة إلى صف الإسلام والمسلمين. الأشرار الذين تبنوا قضايا الأطفال والنشء، وأعدوا لهم البرامج والكتب وغير ذلك، فربوهم على غير هدي الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا لا يتولى أمر الدفاع عن قضايا الطفل العلماء العاملون المخلصون، أو من يلوذ بهم ويسمع كلمتهم؟ حتى يربوا الأطفال على المنهج الصحيح، منهج الكتاب والسنة. الأشرار: الذين ادعوا أنهم ينادون بتصحيح أوضاع العمال، والدفاع عنهم: يا عمال العالم اتحدوا، ورفعوا هذه الراية فضلوا وأضلوا، ولا شك أن العمال لن يجدوا من يدافع عنهم أصدق لهجة، وأصح منهجاً من حملة الكتاب والسنة لو تصدوا لهذا واهتموا به، ودافعوا عن حقوق العمال بالحق لا بالباطل. الأشرار: الذين طالبوا بتحسين الأوضاع المعيشية للناس، فتبعهم بذلك الفقراء {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} [النور:39] ولماذا لا يكون العلماء الربانيون هم المدافعون المتولون لشئون الناس من الفقراء والعمال والمظلومين وغيرهم؟ ولماذا يذهب الأشرار بمجتمعات المسلمين، ويبقى العالم منعزلاً في بيته أو في مكتبته لا يدري ما الناس عليه من خير أو شر، ولا يدري الناس أيضاً هذه العلوم التي يتعاطها وأي شيء تكون؟ بل بلغ الأمر أنه في وقت من الأوقات في مجتمعات المسلمين كانت بعض وسائل الإعلام تتناول العالم بالسخرية، فتظهر السخرية به في التلفاز، أو تظهر السخرية به في كاريكاتير ينشر في جريدة، أو تظهر السخرية به في مقرر مدرسي؛ فلا يجد العالم من يغضب له، لماذا؟ لأنه ترك مجال المجتمعات للأشرار، وإلا فالناس في كل بلاد الإسلام عندهم عاطفة دينية، ولو أن أحداً تناول الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً لوجدت الغضب، لماذا؟ لأنهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام، فدل على أن أصل العاطفة الدينية عندهم موجود، ولكنها تحتاج إلى بعث، وإلى إثارة، وإلى تحريك، والذي يستطيع ذلك هو العالم الذي يتكلم فيسمع الناس؛ متى أقام الجسور بينه وبينهم. إذاً لابد من المخالطة على منهاج النبوة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 من صفات الربانيين العزة بهذا العلم من الصفات التي لابد أن يتحلى بها العالم وهي من أخلاقيات الربانيين: العزة بهذا العلم، والترفع عن الأغراض الدنيوية، ولهذا الله عز وجل قال في الآية نفسها: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران:79] فالذي أوتي الكتاب، وأوتي الحكم، ماذا ينظر إلى الدنيا؟ خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً حبيبا فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا فالعالم الذي أوتي الكتاب والحكم يرى أن أهل الدنيا في وادٍ وهو في وادٍ آخر، مثل ما كان يقول ابن تيمية رحمه الله: ماذا يصنع بي الأعداء؟! إن سجني خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة، فأنا في وادٍ وهم في واد، والعز بن عبد السلام لما قيل له: تعال قبل رأس السلطان من أجل أن يسامحك ويعفو عنك تبسم وقال: مساكين! أنتم في واد وأنا في واد، أنا ما أرضى أن السلطان يأتي ويقبل يدي، فكيف أنا أقبل يده؟! وسيد قطب رحمه الله لما قيل له: اكتب كلمة اعتذار ونسمح عنك عن الإعدام، قال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله لا يمكن أن تكتب كلمة واحدة تقر بها حكم طاغية. فالذي أوتي الكتاب، وأوتي العلم، وأوتي الحكم -أي: الحكمة والفهم عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم- يترفع عن أعراض الدنيا وسفاسفها. ثم أن الله تعالى قال: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] منسوبون إلى الرب، والربانيون من أهل الآخرة، الدنيا قد يملكونها بمال أو غير ذلك، ولكنها عندهم مثل الفراش الذي يقعد عليه، ومثل الحمار الذي يركبه، يستخدمه ولا يخدمه، يستخدمون الدنيا ولا يخدمونها فهم ليسوا عبيداً لها، ولهذا ازدروا الدنيا ورأوا أنها ليست أهلاً لأن يريقوا شرفهم من أجلها، هذا الشافعي رحمه الله يقول: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: {دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال: ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس} ، فتكسب محبة الله تعالى ومحبة خلقه بأن تجعل الدنيا تحت قدميك، ومع ذلك سوف تكون من أحسن الناس دنياً، أي قيمة لأموال طائلة موجودة في الرصيد لإنسان يُقِّتر على نفسه وولده. إذاً لماذا تجمع الدنيا، هذه العزة والترفع تكسب الإنسان الهيبة عند العامة والخاصة؛ لأنهم يعرفون علو همة هذا الإنسان، وأنه ينظر إليهم فيرثي لحالهم، ويعرفون -أيضاً- أن هذا الإنسان من الصعب أن يصطاد. ولهذا وضع بعض الخلفاء للعلماء طعماً من الدنيا، أعطى هذا أرضاً، وأعطى هذا مالاً، وأعطى هذا ولاية، فقبلوا كلهم إلا واحداً من العلماء -مع الأسف كان من علماء البدعة معتزلياً اسمه عمرو بن عبيد - رفض وما أخذ شيئاً نفض يده، فقال الخليفة يخاطب العلماء: كلكم يمشي رويدا كلكم يطلب صيدا غير عمرو بن عبيد عمرو بن عبيد هو الوحيد الذي ثبت أنه لا يريد الدنيا أبداً، الدنيا تحت نعله لا يمكن أن يجامل من أجلها، فلذلك يكسب العالم بعزته يكسب هيبة الخاصة والعامة من أهل الدنيا وأهل الرياسة, وأهل المال، وأهل الجاه، وغيرهم. ولهذا من القصائد المشهورة المعروفة التي تساق في هذا المجال كلمة وقصيدة للإمام القاضي الجرجاني التي يقول فيها وهي قصيدة طويلة: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقضِ حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما ما هذا حق العلم أن تجعله سلماً إلى لمطامع الدنيوية. أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت أقلب كفي إثره متندما إذا قيل هذا منهلٌ قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما ولم أبتذل في خدمه العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما يقول: أنا عزيز لا أذل العلم. ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان، هان وهانوا معه. العالم الذي يجلس عند رجل في مجلسه، فإذا قام قام معه وإذا قعد قعد معه، أي قيمة لعلمه، العالم الذي يدخل على قوم لديهم يسمعون ما يسوء ولا يجوز، فلما رأوه قاموا احتراماً وتقديراً له، فأغلقوا مصدر الصوت، فبدلاً من أن يفرح بذلك اتجه إليهم يوبخهم ويعاتبهم، ويقول لمن أغلق مصدر الصوت: لماذا تفعل؟ إذا كنت أنت لا تريده فغيرك يريده دعه وما كان عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 من صفات الربانيين الحكمة من صفات وأخلاق الرباني: الحكمة: ولهذا قال ابن عباس فيما رواه البخاري في صحيحه تعليقاً في كتاب العلم في تفسير قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} [آل عمران:79] قال ابن عباس: [[حكماء فقهاء]] وقال البخاري: ويقال: الرباني الذي يربي بصغار العلم قبل كباره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 الحكمة في مخاطبة الناس ومن الحكمة أيضا ألا تصدم الناس بما هو أكبر من عقولهم فيكون هذا سبباً في ردهم وتكذيبهم، وفي الأثر: [[خاطبوا الناس بما يعرفون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]] قاله على بن أبي طالب رضي الله عنه، يقول الغزالي في إحياء علوم الدين: كِل لكل عبد بمعيار عقله -بقدر عقله- وزن له بميزان فهمه حتى تسلم منه من قوله أو إنكاره، حتى تسلم منه وينتفع بك، وإلا وقع الإنكار لتفاوت المعيار، وكم من إنسان خُطِّئ وبدع، وربما ضلل وهو على حق؟ لكن لأنه تكلم بهذا الكلام في وسط قوم لاتسع عقولهم ما قال، أو أن هذا الكلام بُلِّغ إليهم من غير طريقه، فخطئوه وهم المخطئون، وضللوه وهم الضالون. ومن الحكمة أن يبدأ بالأهم قبل المهم، فيشتغل بالعلوم الضرورية قبل العلوم الحاجية، وبالعلوم الحاجية قبل العلوم التحسينية، فالعلم الذي يضطر إليه اليوم ويفوت كوقت الصلاة -مثلاً- فيتعلمه الآن؟ ويقدمه على علم يحتاجه فيما بعد، والعلم الذي يحتاجه يقدمه على بعض الأشياء التي هي من باب الكمال ولكنه قد لا يحتاج إليها. وكذلك لابد أن يكون حكيماً في عمله، فمثلاً: ليس مناسباً أن يعمل أمام الناس عملاً هو يعرف أنه مباح، لكن الناس يستنكرونه ويستكثرونه منه، فيُسِرُّ بهذا العمل ما دام أنه يعرف أنه ليس فيه شيء من الشرع، يُسِرُّ به لئلا يراه الناس فيستغربونه ويستنكرونه. ولهذا من عجيب ما يقال: أن عالماً سجنه أحد الطغاة في السجن، وقال له: لابد أن تأكل لحم الخنزير، تجلس على مائدتي، وتأكل معي لحم الخنزير لابد من ذلك، فأبى، فأتاه بعض الطباخين المخلصين من خدم الملك، وقالوا له: نحن سوف نضع لك لحم ضأن، لكن كل من أجل تفتدي نفسك وتخرج من السجن، فقال: لا آكل، قالوا: لماذا؟ قال: من يبين لهؤلاء العوام بأن ما آكله هو لحم ضأن؟ سيظنون أن ما أكلته لحم خنزير فيستحلون بذلك، أو على أقل تقدير يرون أنني أكلت حراماً، وأنا عالم يُقتدى بي في فعلي كما يقتدى بي في قولي، فلا أفعل، وأصر على موقفه، هذا من الحكمة. ومن الحكمة أن يكون حكيماً في تعليمه، يُعطي كل أحد ما يستحق، يخص بعض الناس بالعلم الذي يناسبهم، يبدأ بصغار العلم قبل كباره، ويبدأ بالأهم قبل المهم، ويتدرج إلى غير ذلك مما سوف يأتي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 الحكمة في العلم إذاً: فالعالم الرباني حكيم في علمه، يضع العلم في موضعه، ولا يصرف العلم لمن ليس له بأهل، فمن الحكمة أن يكون حكيماً في علمه يضعه في موضعه، ولا يضعه أو يقدمه لمن لا يناسبه، فمثلاً عامة الناس يحتاجون إلى حكمة في إيصال العلم الذي يجب أن يتعلموه، فتيسر وتسهل لهم العلم الشرعي حتى يمكن أن يصل إلى العوام من النساء والرجال والكبار والصغار وغير المتخصصين، تيسيره باللفظ والقول، والفعل، وتسهيله من خلال دروس للعامة، من خلال كتيبات، من خلال أشرطة بحيث يكون العلم الشرعي متاحاً لكل إنسان يريد أن يتعلم بالتسهيل والتيسير، هذا لابد منه، تأتي بعبارة لبقة بحيث أن هذا العلم يكون للناس كلهم، هذا صحيح. لكن -أيضاً- ليس من الحكمة أن تأتي إلى هؤلاء العوام، فتدخلهم في أمور ليسوا بحاجة إليها، تحشدهم مثلاً من أجل الرد على خطأ العالم الفلاني، فتجمع العامة ثم تقول لهم: فلان أخطأ في كذا، وأخطأ في كذا، وتأتي ترد عليه بالآيات والأحاديث وأقوال من أهل العلم ونحو ذلك، حتى لو كان أخطأ فعلاً في اجتهادلم يحالفه فيه الصواب، لماذا؟ لأنك إن حشدت ضمائر العوام على هذا العالم فانتظر منهم كل شيء، انتظر أن منهم من سوف يكون معك، فينزل على ذلك الذي خطأته بكل قول سيء، وربما وصل إلى تفسيقه، أو تضلليه، أو تبديعه، وربما تكفيره، وربما شتموه، وانتقصوه، ووقعوا في عرضه وأنت السبب في ذلك كله. وماذا يهم العوام من شأن فلان وفلان؟ يهمهم هم العلم الموصل إلى الجنة، ودعهم وما هم فيه، لا يحتاجون إلى مثل هذا، ولا ينتفعون به، وإن حشدتهم إليه فتوقع منهم كل شيء، وربما كان بعضهم ضدك، ولم يقتنع بما قلت؛ فأصبح في المجالس يتحدث عنك، ويخطئك، وينتصر لذلك العالم فأحدث ذلك شرخاً عظيماً يصعب سده وردمه، وأصبح العوام أحياناً حكاماً بين العلماء، أصبح العامي حكماً فلان أخطأ وفلان أصاب، لماذا؟ أنت جررته إلى هذا الميدان الذي هو ليس ميدانه، فهذا من الحكمة أن تضع العلم في موضعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 من صفات الربانيين التواضع ومن أخلاقيات العالم الرباني التواضع أو معرفة قدر النفس وهضم الذات، فلا ينتصر لنفسه، ولا يؤذي غيره بقول أو فعل، ولا يرد الحق إذا عرفه، ولا يشتغل بالناس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 قبول الحق والتزود من العلم فمن التواضع أن يعرف الإنسان قدر نفسه، ومن التواضع -أيضاً- أن يقبل الإنسان الحق ويتزود من العلم، ولهذا قال الله تعالى: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] عالم يدرس: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] وقد سبق أن ذكرت أن الآية فيها قراءتان: الأولى (بِمَا كُنْتُمْ تَعَلَمُونَ الْكِتَابَ) وهذه قراءة الجمهور. والقراءة الثانية: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] يعني تعلمونه غيركم وهذه قراءة حمزة، وعاصم، وابن عامر، والكسائي، وخلف وهي قراءة سبعية كما هو معروف، وهي المثبتة في المصحف رواية حفص عن عاصم {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ} [آل عمران:79] . إذاً تعلمون وأيضاً تدرسون، فأنت تجد الرجل شيخاً في حلقة وتلميذاً في حلقة أخرى، الإمام أحمد كان يركض ونعلاه في يديه -يمكن ما عنده وقت يلبس النعال- في أحد شوارع بغداد فقال له أحد تلامذته: يا أبا عبد الله إلى متى تركض؟! قال: إلى الموت، وفي قصة أخرى قيل له: فقال: مع المحبرة إلى المقبرة، لا يترك العلم أبداً. إذاً فهم يتعلمون ويُعلِّمون حتى الموت، ولا يرون أنهم قد وصلوا، لإن الله تعالى يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] . وقد سبق أن بينا أن العلم عبادة، بل هو من أعظم العبادات، إذاً من معاني الآية، واطلب العلم -طاعة لله- حتى يأتيك اليقين، لكن العلم النافع الموصل إلى الدار الآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 من التواضع عدم الاشتغال بالناس يقول ابن دقيق العيد لرجل وقد رآه يطلب العلم فأعجبه، قال له: أنت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته بموته؛ فلا تهجوا أحداً. لا تهجو أحداً: لا تجعل لسانك يصول ويجول في أعراض الناس لأنك طالب علم، فتفتخر عليهم، وتقول كل شيء يخالف الشرع، وتأتي لفلان وعلان، وتضربهم بسياطك بحجة أنك أنت الناطق الرسمي باسم الشرع، لا، هذا ما يصلح، قال: فما تكلمت في أحد قط. ليس من صفات العالم الرباني الخصومة واللجاج في كل شيء ولسبب ولغير سبب، ولهذا الله عز وجل نفى في هذه الآية عن الأنبياء وعن الربانيين أنهم يدعون الناس إلى أنفسهم، لا يدعون لأنفسهم فتضمن ذلك أنهم لا يغضبون لحظوظهم الدنيوية، ولا يسعون إلى رفعة أنفسهم على حساب الآخرين -مثلاً- ولا يغضبون لأن فلاناً ما التفت إليهم، أو ما اتجه إليهم، أو ما أشبه ذلك، إنما غضبهم للحق وحتى غضبهم للحق، هو غضب يتبعه حرص على التصحيح. فهذا الإنسان الذي رأيت أنه أخطأ أعامله بالحسنى رجاء أن يعود إلى الحق، فمن غضبي للحق ألاَّ أظهر غضبي، بل أظهر له اللين تأليفاً لقلبه، فإن رأيت أن عنده إمكانية القبول والأخذ والرد معي فلا أغضب عليه، فإن وجدت أنه مبتدع -مثلاً- وأنه مصر، وأنه مجاهر، وأنه معاند للحق حينئذٍ لكل مقام مقال. يقول الجاحظ: "وأنا أحذرك من اللجاج، فإنه لا يكون إلا من خلل القوة، ومن نقصان قد دخل على التمكين، واللجوج في معنى المغلوب"، نعم! هذا كلام علمي رصين، اللجوج: هو الذي تجده يرفع الصوت ويصرخ يبهرج الكلام هذا مغلوب، أما الإنسان الواثق الغالب فتجده قوياً بالحجة، ولو كان صوته هادئاً، ولو كانت نبرته هادئة، لكنه قوي بالحجة، قوي بالبرهان، ومع ذلك لا يلتفت إلى هذه الأعاصير وهذه العواصف التي تثار هنا وهناك. فهو لا يختار الرد -مثلاً- من أجل أن يريح نفسه، أو يشبع غروره، أو يظهر الغلبة على خصمه، هذا ليس من شيمة العالم الرباني. يقول الإمام ابن قتيبة ناصحاً طالب العلم في كتابه عيون الأخبار يقول: أحب أن تجري على عادة السلف الصالحين في إرسال النفس على السجية، والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت وثلبوا وتورعت. يعني لا تحس بإنك أنت كامل وهم ناقصون، وأنت ورع وهم مخلطون، وأنت متنزه وهم قد اقترفوا بعض المعاصي، لا تحس بهذا، إياك والاستعلاء! إياك والكبر! {بطر الحق وغمط الناس} كما عرفه النبي صلى الله عليه وسلم. تواضع تكن كالنجم لاح لناظر على صفحات الماء وهو رفيع ولاتك كالدخان يعلو مكانه على طبقات الجو وهو وضيع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 من صفات الربانيين العمل من صفات الربانيين بعد الكلام عن أخلاقيات العالم الرباني: من صفاتهم العمل والعمل هو الثمرة، حتى إن السلف رحمهم الله ما كانوا يسمون الفقه إلا العلم والعمل، كما قرر ذلك وحرره الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، والإمام ابن القيم وغيرهما من أهل العلم وساق فيه الدارمي وغيره روايات كثيرة عن السلف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 تشاغل الكفار بما ينفعهم دنياً أدى إلى تقدمهم ويؤسفني أن أقول: أمم الكفر من اليهود والنصارى اليوم في بلاد الغرب تشاغلوا بالأمور الدنيوية، فسخر الله تعالى لهم من هذا الكون المادة، فاستفادوا منها وانتفعوا أيما انتفاع، فغاصوا في أعماق البحار، وصعدوا إلى أجواء الفضاء، وتقدموا في ألوان العلوم، واستطاعوا أن يستفيدوا من ذلك في التسهيلات الحضارية التي انتفعوا بها هم كثيراً، وانتفع بها غيرهم، واستطاعوا أن يحفظوا مكانتهم، ويحققوا لأديانهم وعقائدهم وأفكارهم انتصارات عسكرية بسبب ما ابتكروه واخترعوه. وذلك لأنهم تركوا التشاغل بغيرهم، وقد أصابوا من جانب وأخطئوا من جانب، أصابوا من جانب الاشتغال بهذه العلوم الدنيوية المفيدة، وكان يجب على المسلمين وما زال يجب أن يشتغلوا بها، ويحققوا أكثر مما حقق هؤلاء، ولكنهم أخطئوا من جانب آخر، وهو أنهم تشاغلوا عن العلوم الأخروية الموصلة إلى رضوان الله تعالى، فصدق عليهم قول الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] . فهم لا نصيب لهم في الدار الآخرة، إنما نصيبهم في هذه الدنيا، أما الأمم المسلمة فأخشى أن تكون في بعض مظاهرها خسرت هذا وذاك، فهي لم تفلح في إعزاز دينها ولم تفلح في تطوير دنياها مع الأسف الشديد. إذاً العلم قرينة العمل وهو ثمرته، والعلم والعمل اسمهما الفقه، وفي الصحيحين من حديث معاوية: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} وأنت في صلاتك تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وما الصراط المستقيم إلا العلم والعمل بالهدى ودين الحق، ولهذا قال تعالى: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً} [آل عمران:80] . نزلت هذه الآية في أهل نجران عندما قالوا: يا محمد! -وهم نصارى- هل تريد أن نعبدك؟ والنصارى عبدوا عيسى، وقيل: نزلت في من يقول: يا رسول الله! ألا نسجد لك كما يسجد النصارى لزعمائهم؟ فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقال: {لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها} فاليهود والنصارى ضلوا بترك العلم كما فعل النصارى، أو بترك العمل كما فعل اليهود فأنت تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يعني: صراط العلم والعمل {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة:7] ممن تركوا العمل وهم اليهود {وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] الذين تركوا العلم وهم النصارى، فإن حصلت العلم والعمل فأبشر بالخير الكثير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 عدم التشاغل بما لا يفيد من العلم كذلك تجد أن هذا العالم الرباني -لأن همه العمل بالعلم- تجد أنه يعتني بصلب العلم قبل طرائف العلم وفروعه وملحه وطرائفه البعيدة، التي قد تخفى على بعض كبار أهل العلم، مثلاً مصنفات جديدة، تتبع كل جديد من الكتب، هذا ليس لازماً لأن فيه من إضاعة الوقت الشيء الكثير، وبالمقابل قد لا يكون فيه أكثر من الطرفة والملحة والجمع، وقد يفتن الإنسان بجمع الكتب كما يفتن الآخر بجمع المال، ولا يستفيد منها علماً ولا عملاً، وإن كان الجمع المعتدل مطلوباً، والتخصص -أيضاً- في ذلك مطلوب. ومثل ذلك الأغلوطات التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها، وهي صعاب المسائل، فالتشاغل بها مهلكة، وأقول: بعض شباب الدعوة في بلاد إسلامية كثيرة أصغي إلى أسئلتهم أحياناً لساعات فأتعجب، وتأتيني أسئلة في البريد أحياناً، أو يسلمونني أوراقاً قد يكون فيها خمسين، أو ستين، أو سبعين سؤالاً أتعجب من بعض هذه الأسئلة وما فيها من التمحل، والتكلف، والتدقيق، والتنقية، فمعظم هذه المسائل من الأغلوطات التي نهى الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم عنها. وتتعجب من هذه العلوم، وهذه الأسئلة لم يقع عليها السلف الصالح، ولا أجابوا عنها، أو ما فهموها، أو لم تتهيأ لهم حتى انبرى لها هؤلاء، فكشفوها وسألوا عنها: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وقد تجد هذا الإنسان جاهلاً ببعض الأصول الكبار، وغير متعمق في علوم كان يجب أن يتعمق بها وأن يفهمها. ولهذا يقول الإمام ابن الجوزي رحمه الله في تلبيس إبليس يقول: لو اتسع العمر لم أمنع من الإيغال في العلم -لو كان العمر متسعاً للوصول إلى منتهى العلوم- غير أن العمر قصير، والعلم كثير، فهذه ضعها في اعتبارك، كم ستقضي في طلب العلم؟ فالتشاغل بغير ما صح يمنع من التشاغل بما هو أهم منه. ولما تشاغل يحيى بن معين فاته من الفقه الكثير يقول ابن الجوزي: ومن أقبح الأشياء أن تجري حادثة يسأل عنها شيخ أمضى ستين سنة في طلب الحديث فلا يعرف عنها شيئاً، وأقول: قد يكون ما تشاغل به يحيى بن معين مما ينفع الناس، ولكن غيره كثير تشاغلوا بما لا ينفع من الغرائب، والعجائب، والطرائف التي لا يحتاج إليها والتي تموت بموتهم. ولهذا قيل في عيوب بعضهم -مثلاً-: أنهم أبحث الناس عن صغير وأتركهم لكبير، يبحث عن الصغائر، لكن قد تجده واقعاً في الكبائر، أعرف شخصاً ينقر في المسائل ويوالي ويعادي، ولكنه عاق لوالديه لا يبرهما، أي خير في هذه؟! وقيل في عيوب بعضهم: أعلم الناس بما لم يكن، وأجهلهم بما كان، فليس المقصود بالعلم المفاخرة، والمباهاة بالكلام، والتصنيف، والشهرة، والقيل والقال، بل المقصود العمل ديناً ودنيا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 أنواع العمل المحمود إذاً: اسمع يا أخي كلمةً ينفعك الله بها، هما علمان لا يضرك ما فاتك غيرهما: العلم الأول: علم ينفعك في الدار الآخرة، ويوصلك للجنة، ويباعدك من النار فهذا تشبث به وتمسك به. العلم الثاني: علم ينفعك في الدنيا، إما زراعة، وإما صناعة، وإما طب، وإما هندسة، وإما غير ذلك مما تنتفع به أو تنفع به غيرك في الدنيا، أيضاً عليك بهذا العلم بقدر ما تحتاج أنت وبقدر ما يحتاج الناس، وإن أخلصت النية فأنت على خير عظيم وهذا جواب على سؤال. أما ما سوى هذا وذاك فلا تشتغل به، فلان وعلان هذا طلع وهذا نزل، وهذا أصاب وهذا أخطأ ماذا ينفعك؟ قد تدخل الجنة وأنت لا تدري بكثير من هذه الأمور، بل قد تبلغ الدرجات العلا منها، وأنت لا تدري بهذه المشاكل، والقيل والقال، والأخذ والعطاء، والغادي والرائح، فأمسك، واترك كثيراً من الفضول التي يتشاغل بها الناس، وقد رأيت أن أكثر الناس يحبون التشاغل بالفضول. المجريات، الأحداث التي حصلت، المشاكل، القضايا التي لا ينتفعون بها في دين ولا ينتفعون بها في دنيا، لو أنها تنفعهم في دنياهم قلنا: نعم، لكن لا تنفعهم في دنياهم، إنما هي إزجاء للفراغ، ونوع أحياناً مما يسمونه الترف الفكري، كثير من الشباب يأتونني ويسألونني، فأتأمل هذا السؤال الذي سألني عنه هذا الشاب، هل ينفعه؟ فأجده لا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة. إذاً لماذا يسأل عنه؟ اشتغل يا أخي بعلم ينفعك في دينك، عبادة، دعوة، على الأقل علم ينفعك في دنياك: تجارة زراعة، أما هذه الأقاويل والأغاليط، والمسائل، والأمور، تقول: مثل ماذا؟ أقول: لا داعي للتمثيل، انظر أي سؤال تريد أن تطرحه هل هو ينفع في الآخرة؟ إذا كان لا، إذاً اتركه، ينفع في الدنيا، لا، أما إذا كان ينفعك في أُخراك أو في دنياك، فلا أحد يلومك على ذلك. ولهذا تجد العالم الرباني يعتني بالعلم الذي له ثمرة، فيسأل عن ثمرة هذا العلم قبل أن يتشاغل بهذا العلم، مثلاً: لا يطرح مثل تلك الفرضيات التي ربما لا تقع إلى يوم الساعة، لا يتشاغل بالجدل -مثلاً- في مسائل محفوظة، وقد تكون مذكورة في بعض الكتب، لكن لا يحتاج إليها الآن بحال من الأحوال، مع أننا نجد أن هناك مسائل موجودة الآن لم يسأل عنها، ولم يتشاغل بها، ولم يبحثها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 العمل عند السلف والخلف السلف ما كانوا يعرفون الفقه الذي هو قراءة الكتب، لا، بل يعرفون أن الفقه إنسان يعلم فيعمل، ويطبق، وينفذ، ولا فاصل عندهم بين هذا وذاك، ولهذا سئل أيوب السختياني وهو من التابعين -رحمه الله- سئل أيهما أكثر العلم اليوم أو في الماضي؟ فقال: الكلام اليوم أكثر ولكن العلم فيما تقدم أكثر، وهذا الكلام يصلح أن يطبق على واقعنا. فالكلام اليوم أكثر، شقق الناس الكلام، والقيل والقال وفرعوا وغير ذلك، ولكن العلم الذي وصل إلى القلب، وأثمر العمل والصدق هذا قليل، وقيل للإمام أحمد في مجلس ذكر فيه معروف الكرخي وهو من الزهاد العباد الأتقياء وله في هذا أخبار معروفة ذكرها الذهبي وابن الجوزي وغيرهما، تراجع في مظنتها، لكن المهم ذكر في مجلس الإمام أحمد فقال أحد الحضور: معروف قصير العلم، ما عنده علم، قال له الإمام أحمد: أمسك -عافاك الله- كف عن عرض هذا، وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروف؟ يقول: ماذا نريد بالعلم إلا النتيجة التي وصل إليها معروف، معروف حصل النتيجة وهي العمل. وفي حادثة أخرى عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل سئل والده وقال له: يا أبت! هل كان معروف معه شيء من العلم؟ قال له: يا بني! معه رأس العلم، خشية الله تعالى. وفي حديث أبي موسى وهو في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير} فهذا العالم العامل المعلم كالأرض الطيبة التي نزل عليها المطر فـ {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] . فأثمر العلم عنده العمل، والعبادة، والدعوة، والصبر، {وكان منها أجادب -أرض صلبة- أمسكت الماء، فنفع الله تعالى به الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا فهذا مثل إنسان عنده معرفة بالنصوص ولكن لا يعمل؛ مثل الأرض ما استفادت من الماء لكن استفاد الناس منها واغترفوا منها، {وكان منها أو أصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماءاً ولا تنبت كلأ} فهذا لا عنده معرفة ولا عنده عمل ولا عبادة {فذلك مثل من فقه في دين الله فعمل وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به} وقال بعضهم في وصف بعض الطلاب: زوامل للأسفار لا علم عندهم بجيدها إلا كعلم الأباعر لعمرك ما يدري البعير إذا غدا بأسفاره أو راح ما في الغرائر وقد وصف الله تعالى أهل الكتاب بقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 من صفات الربانيين التعليم أخيراً من صفات الربانيين التعليم، والتعليم مهمة الأنبياء يعلمون الناس، والله وملائكته يصلون على معلم الناس الخير، وينبغي أن تعلم أن العلم كالمال لا يكنز، لابد أن تؤدي زكاته، ويختلف العلم عن المال في أن العلم ليس له نصاب حتى لو لم يكن عندك من العلم إلا آية واحدة أو حديث وجب أن تبلغها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} آية واحدة، وفي الحديث الآخر وكلاهما في الصحيح: {نضر الله امرأً سمع منا حديثاً واحداً فبلغه} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 سبل التعليم سبل التعليم للربانيين لابد أن يراعى فيها أن يكونوا ربانيين، أي يربون الناس بالعلم، يراعون في ذلك التدرج في العلم فلا ينقلون الإنسان طفرات تجعله غير منضبط في علمه وفي تعليمه. ثانياً: يراعون التربية فليس العلم هو مجرد حقن الذهن بالمعلومات، فقد تجد إنساناً هو كالبحر في معلوماته لكن شخصيته، لم تصغ صياغة سليمة، لم يكن فيها الانضباط، لم يكن فيها التوازن، لم يكن فيها العمل، لم يكن فيها الأدب، ولم يكن فيها التعقل، ولم يكن فيها الجهاد، فيكون علمه حجة عليه؛ لأنه يغتر بهذا العلم، ويغتر الناس بهذا العلم لأنه إذا تكلم في المسائل أجاد وأفاد، لكن ينسون أن هذا العلم لم يصحبه عقل كبير، ونور وبصيرة، وتربية ومراعاة للأحوال. ثالثاً: بذل العلم للعامة بسهولة العبارة ووضوحها؛ لأن المقصود ليس التقعر بالقول، وليس إظهار القدرة على الناس، وإنما المقصود تبليغ السامع؛ ولذلك ربنا عز وجل قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] المقصود أن يصل العلم إليه، وليس المقصود شيئاً آخر، ولهذا الإمام الشاطبي -رحمه الله- يقول: وبهذا كان السلف الصالح يعملون في تبليغ الشريعة للمؤالف والمخالف، ومن نظر في استدلالهم على إثبات الأحكام التكليفية، علم أنهم قصدوا أقصر الطرق وأقربها إلى عقول المخاطبين والطالبين من غير ترتيب متكلف ولا نظم مؤلف؛ بل كانوا يرمون بالكلام على عواهله ولا يبالون كيف وقع الكلام في ترتيبه إذا كان سهل المأخذ قريب الملتمس. فتراعي إذاً التبسيط والتيسير والتسهيل، وليس بالضروري أن ترتب، على شكل ونقاط، ومسائل، وقيل وقال، المهم أن يصل الحق إلى الناس ولو بأقرب طريق، ولا يمنع أن الإنسان يخص أقواماً بمزيد من العناية والترتيب والتبويب لأنهم مثلاً طلبة علم، أو مختصون أو ما أشبه ذلك، ولذلك يختص الخطيب بضرورة تسهيل العلم للناس، ومثله من يخاطب الجماهير. قال ابن قتيبة رحمه الله: "ينبغي أن يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، يتخير اللفظ، ولا يدقق في المعاني كل التدقيق، ولا ينقح الألفاظ كل التنقيح"، يكون في كلامه إجمال وعموم يتناسب مع عقول المستمعين. هذا وقد أطلت عليكم فأعتذر إليكم، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس في ميزان أعمالنا وحسناتنا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 صناعة الحياة تحدث الشيخ عن عنوان المحاضرة ومعناه وما سبق من محاولات وعناوين في هذا الموضوع، وعقب ذلك بالدواعي والأسباب التي تدعو إلى طرق هذا الموضوع موضحاً أن الدعاة ملزمون بالقيام بحقوق الآخرين الخاصة والعامة، وبحسن الخلق مع جميع الناس وتجنب روح التسلط، ثم ختم بذكر وجوب الإحسان إلى الناس والدفاع عنهم خصوصاً النساء والعمال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 1 أهمية شمول الخطاب الدعوي لكل البلدان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيرا. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. هذا يوم الأحد ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول لعام 1412 للهجرة، أما رقم الدرس فهو التاسع والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه كما قرأتم وسمعتم هو: (صناعة الحياة) . أيها الأحبة أقدم بين يدي هذا الدرس بحمد الله تعالى وشكره والثناء عليه بما هو أهله؛ حيث هيأ لنا عودة هذه الدروس واستئنافها بعد انقطاع لم يطل بحمد الله تعالى، وإني لعلى يقين من أن كل ما يكتبه الله سبحانه وتعالى وبقدره فهو خير لنا، مهما كان ظننا بخلاف ذلك، فإن الله تعالى يختار لنا، واختياره عز وجل لنا خير من اختيارنا لأنفسنا: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] . وفي الصحيح عن صهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن} فكل ما يصيب المؤمن فهو خير له في دنياه وآخرته، مهما ذهبت به الظنون بخلاف ذلك. كما أنني أود أن أقدم بين يدي هذا الدرس بتنبيه أرى أنه على جانب كبير من الأهمية لمن يستمعون إلى هذه الدروس، ألا وهو أنه جاءتني رسائل كثيرة من أحبة كرام في بلاد الإسلام في مناطق شتى وبلاد مختلفة، وهم يقولون: إنكم يا معشر الدعاة في هذه البلاد تخاطبون فئة معينة من الناس، مع أن الذين يتلهفون إلى سماع الحق وإلى متابعة الدروس هم موجودون في كل مكان، وليسوا محصورين في إقليم أو بلد. وأقول: إنه يجب أن يكون هذا المنبر موجهاً لمخاطبة من يستمعون إلى هذه الكلمة في أي مكان وفي أي بلد وفي أي إقليم، فليست الأمثلة التي أذكرها، أو الحديث الذي أتحدث فيه، أو الأخطاء التي أتكلم عنها مقصورة على مجتمع بعينه أو أفراد بذواتهم، وإنما أستحضر في ذهني صورة المسلمين في أي مكان وقد أنتزع مثالاً من واقع المسلمين في بلد بعيد، أو أنتزع خطأً من واقع المسلمين في بلد آخر لأتكلم عنه، أو أذكر قضية في شرق البلاد أو غربها، فهموم المسلمين واحدة شرّقوا أم غرّبوا وفي كل مكان، وهذه الحدود والسدود والحواجز الجغرافية والسياسية لا يجوز أبداً أن تحول بين المسلمين بعضهم وبعض. بل ينبغي أن تكون كلمة الحق للجميع، وأن يتنادى المسلمون إلى توحيد كلمتهم، ولمَّ صفهم، وتقريب وجهات نظرهم، وأن يكون همُّ الداعية إلى الله تعالى هو إصلاح أحوال المسلمين في كل مكان، فهذه الأمةُ أمةٌ واحدة كما وصفها الله تعالى في مواضع من كتابه: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون:52] . تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبعُ وإن بردى أنَّتْ لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمعُ فهي كلها بلاد الإسلام كما قال القائل:- بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحةٌ تسمو بروحي فوق العالم الفاني فإن طرسوس مهما لج بي دمها أسمى إلى القلب من فاس وتطوان دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها أَعْظِمْ بأحمد من هادٍ ومن بان صلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 2 معنى: صناعة الحياة أما بعد: فربما كان هذا العنوان: "صناعة الحياة" غريباً بعض الشيء بالنسبة لكثير من الإخوة الذين قرءوا هذا العنوان، ولعل هذه الغرابة أن تزول وتنقشع حينما يستمعون إلى ثنايا هذا الموضوع وتضاعيفه. وعلى كل حال وبكلمة موجزة مختصرة لا أسبق فيها الموضوع إلا أنني أقول: إن المقصود بهذا الموضوع -صناعة الحياة- هو بيان كيف يتمكن الداعية إلى الله عز وجل من التأثير في المجتمع الذي يعيش فيه، وكيف يتمكن من صياغة المجتمع الذي يحيط به صياغة إسلامية، وإن شئت فقل صناعته على وفق ما يحبه الله ويرضاه. فالصناعة ليست هي فقط صناعة باليد أو حرفة، وإنما كل ما يمارسه الإنسان يمكن أن يعد صنعة أو عملاً يحتاج الإنسان إلى تعلمه والتدرب عليه وإتقانه؛ حتى يستطيع أن يحصل على ما يريد وأن يصل إلى ما يتمنى. فالدعوة إلى الله تعالى صناعة، وهي ليست صناعة محصورة، إذا كان الصانع أو النجار يهتم بصناعة شيء معين من الأواني أو الفرش أو الستائر أو الكراسي أو غيرها، فإن الداعية إلى الله يحاول أن يصنع الحياة كلها على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه، إذ إن الحياة كلها ينبغي أن تكون خاضعة لحكم الله ورسوله. فالإسلام جاء مهيمناً على الحياة، مسيطراً عليها من ألفها إلى يائها، وليس ثمة شيء يمكن أن نقول: هذا ليس له علاقة بالدين أولا علاقة للدين به، بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء بشريعة كاملة شاملة، ما فرط الله تبارك وتعالى فيها من شيء، وأنزل القرآن تبياناً لكل شيء وتفصيلاً لكل شيء، وما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه -أو يقلب جناحيه في الهواء- إلا وبين لنا منه علماً. وهذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم تتوارثه الأجيال لا يضيع منه شيء. وقد كنا في صبيحة هذا اليوم نقرأ من صحيح البخاري: باب صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقرأ مثلاً حديث أنس رضي الله عنه أو حديث أبي جحيفة أو غيرهم من الصحابة، وكيف كانوا يصفون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعدون الشعرات البيض في رأسه ولحيته، وأنها لا تتجاوز العشرين شعرة، أو لاتصل إلى عشرين شعرة. فالذين حفظوا كم شعرة بيضاء في رأسه ولحيته عليه الصلاة والسلام، حفظوا لنا كل هديه في كل شئون الحياة، حتى وهو مع زوجه في الفراش، حتى وهو في الخلاء، حتى كيف يغتسل، وكيف يقضي حاجته، علمهم صلى الله عليه وسلم كل شيء، فكان نعم المعلم وكانوا نعم المتعلمين. هذه صناعة الحياة التي أتقنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتقنها أصحابه من بعده، وحق على الدعاة في كل مكان أن يتقنوا هذه الصناعة، وأن يعرفوا كيف ينتقلوا بالإسلام إلى واقع الحياة، وكيف يطوعوا كل أمور الدنيا لهذا الدين فلا يند شيء عن شريعة ربنا عز وجل. وهذا الأمر الذي هو صناعة الحياة بالدعوة إلى الله تعالى، وبصياغتها على وفق ما يحب ويرضى، أمر لاشك أن فيه من الصعوبة ما فيه، وأنه يحتاج إلى طول نفس وإلى صبر ويحتاج إلى أناة، ولكنه هو الطريق الوحيد الذي لا طريق غيره، كما قيل: يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمصائب جنة لكنما هو ليس عنه بديل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 المحاولات السابقة لعرض موضوع صناعة الحياة وسأتحدث في هذا الموضوع بشيء من الاختصار، فأول نقطة أتناولها هي الحديث عن محاولات سابقة لعرض هذا الموضوع، ولعل من الطريف أن أذكر لكم أن هذا الموضوع الواسع جداً حيرني كثيراً حينما أحببت أن أتكلم عنه خاصة وأنا أحرص ألا يتعدى هذا الموضوع ليلة واحدة؛ حتى يتسنى للإخوة سماعه وتداوله بيسر وسهولة. وإن كنت سبق أن عرضت جوانب أخرى من هذا الموضوع -قد لا أحتاج إلى تكرارها- في محاضرات أو دروس سابقة. فمثلاً هناك محاضرة بعنوان: (الداعية والمجتمع) وأخرى بعنوان: (أنتم شهود الله في أرضه) وثالثة بعنوان: (دعاة في البيوت) سبق فيها الحديث عن جوانب من هذا الموضوع. وأظن بل أجزم أن غيري من الدعاة أو طلبة العلم قد تكلموا عن هذا الموضوع في مناسبات شتى، وإن كانت الذاكرة لا تسعفني بذكر أشرطتهم أو دروسهم أو كتبهم التي تناولوا فيها هذا الموضوع، وإلا لذكرتها أيضاً حتى يتسنى لمن يرغب في استكمال هذا الموضوع أن يحصل على هذه المراجع من كتب وأشرطة ويستفيد منها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 تأليف القلوب أما العنوان الآخر الذي أسلفته فهو فن تأليف القلوب، فقد كان أستاذ تأليف القلوب هو محمد صلى الله عليه وسلم، وكان يعتبر تأليف القلوب جزءاً من الحق الذي بعث به وجاء به عليه الصلاة والسلام. من هو الرجل الذي يدّعي أنه أكثر أعباءً وتبعات وتكاليف ومسئوليات من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أي إنسان في الدنيا -وكانت هموم الدنيا كلها على كتفه- وأي: إنسان يعتقد أنه أشد غيرةً وحرصاً وحماساً على دينه وعلى دعوته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أبداً! وعلى رغم كثرة أعبائه وتبعاته عليه الصلاة والسلام، وعلى رغم شدة حماسه لدعوته وتفانيه واستغراقه فيها؛ فإنه لم يغفل لحظةً واحدةً عن الحرص على جمع القلوب على هذه الدعوة، وإزالة نفور الناس منها وشموصهم عنها لعلمه صلى الله عليه وسلم أن القلب هو أساس الصلاح والإصلاح، وأن الإنسان -مهما كان- لا يستطيع أن يفرض الحق على الناس بقوة الحديد والنار، ما لم تكن القلوب حول هذا الحق سياجاً يحوطه ويحميه. ولذلك كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان {جاءه يوم من الأيام مخرمة بن نوفل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يداري من مخرمة حدة وشدة، وكان فيه غلظة، فسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أقبية على الناس -كما جاء في الصحيحين- فقال لابنه المسور: يا بني!! هلم بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطرق الباب فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوته عرف لماذا جاء؛ فأخرج قباءً وأمسك به بيديه، وجاء إلى مخرمة يسلم عليه ويقول: يا مخرمة! خبأت هذا لك خبأت هذا لك} لا تغضب، هذا قد أعددته لك، وخبأته لك واحتجزته لك، فطاب خاطره وأخذه وانصرف. وفي يوم من الأيام وزع النبي صلى الله عليه وسلم أموالاً، وكان سعد بن أبي وقاص حاضراً، فقال: {يا رسول الله! أعطيت فلاناً وفلاناً وتركت فلاناً، والله إني لأراه مؤمناً، فقال: أو مسلماً؟ قال: والله إني لأراه مؤمناً، وفي الأخير قال النبي صلى الله عليه وسلم: أقتال يا سعد؟ -هل المسألة قتال وإلحاح- والله إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه كراهية أن يكبه الله على وجهه في النار} . إذاً المسألة ليست مسألة أن هذا أولى وهذا أحق وهذا أفضل، أنا أعطي إنساناً مفضولاً، ترقيقاً لقلبه، وتقريباً لنفسه للإسلام وتأليفاً له على هذا الدين خشية أن يكبه الله على وجهه في النار. ولو أن هذا الإنسان كبه الله على وجهه في النار فماذا يطول رسول الله صلى الله عليه وسلم منه؟! فهو صلى الله عليه وسلم في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. بل هو في الفردوس الأعلى، وهي منزلة في الجنة لا تنبغي أن تكون إلا لعبد من عباد الله ويرجو صلى الله عليه وسلم أن يكون هو صاحبها، فاسألوا الله له الوسيلة. ومع ذلك يهمه صلى الله عليه وسلم هذا الإنسان ألا يدخل النار، ولا يكبه الله تعالى على وجهه في النار، فيتألف قلبه على الحق والخير والإسلام بشيء من لعاعة هذه الدنيا. بل أعجب من ذلك وأغرب وأهول وأطول أنه في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم يوماً من الأيام مالاً على مجموعة من الناس، بعث إليه علي بن أبي طالب من اليمن بذهيبة في أديم فوزعها على أربعة رجال -أعطاها أربعة من المؤلفة قلوبهم- فوجد الناس في قلوبهم، حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله! اتق الله!! -سبحان الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى رجل من أطراف الناس يقول له: اتق الله!! ويقولها على سبيل الإنكار لهذا القسم!! - فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وقد سمع من الناس وشوشة وكلاما-: ألا تأتمنوني وأنا أمين من في السماء، ينزل علي الوحي صباحاً ومساء؟! ولما سمع ذلك الرجل الذي يقول: يا رسول الله اتق الله! قال: ويحك! أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! لأضربن عنقه -دعني أقتله- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، لعله أن يكون يصلي} . وما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالتحقيق مع هذا الرجل ولا بسؤاله، ولا بالتحري حوله، ولم يسلط عليه أحداً، وإنما تركه، وأجاب على قوله: ألا تتقي الله؟ بقول صلى الله عليه وسلم: {أولستُ أحقَّ أهل الأرض بأن يتقي الله} أي: أنا الذي آمركم بتقوى الله عز وجل، فتوزيعي لهذا المال هو من تقوى الله عز وجل؛ لأنني ما أعطيته لأقاربي ولا احتجزته لنفسي، وإنما أعطيته أقواماً أتألفهم على الإسلام، وهذا من حق الإمام أن يتصرف فيه على وفق ما يرى المصلحة في ذلك. {فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله! وإن كان هذا الرجل يصلي، كم من إنسان يصلي وفي قلبه ما فيه! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم} . إذاً كان النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الموقف يحرص على تأليف قلوب الناس، ويتحمل منهم أخطاءهم وزلاتهم حرصاً على وحدة الكلمة وتقريب الناس من هذا الدين ومن العقيدة. وفي حديث أنس رضي الله عنه وهو في مسلم أيضاً قال: {كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي وهو يمشي في الشارع، فجبذه - جر برد النبي صلى الله عليه وسلم بردائه - جبذة شديدة، حتى يقول أنس رضي الله عنه يقول: نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثرت فيها حاشية الرداء -ظهر الاحمرار في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثر هذه الجذبة أو الجبذة- وقال الأعرابي بكل جفاء وغلظة: يا محمد! مُر لي من مال الله -ما قال من مالك أو مما عندك قال: من مال الله أي: كأنه يقول: ليس لك منه في هذا، فهو يقول: مر لي من مال الله الذي عندك فماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ - التفت إليه وتبسم وأمر له بعطاء} . وكانت الجارية تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، وتكلمه فيما تريد، لا يستنكف أو يستكبر صلى الله عليه وسلم، بل يتحمل منهم. ولك أن تتصور ماذا تقول هذه الجارية، أو ماذا يقول إنسان يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه مشكلة ويبدأ يعطيه من التفاصيل والكلام، وقال وقلت وحصل وكذا وكذا وتفاصيل لا يحتاج النبي صلى الله عليه وسلم إلى سماعها، وليس عنده في الحقيقة وقت لسماعها، لكنه تعود الحلم والصبر وسعة البال، فكان يعطي أذنه لمحدثه حتى ينصرف عنه. ويعطي يده لمن يصافحه، فلا يقبض صلى الله عليه وسلم يده حتى يكون ذاك الآخر هو الذي يقبض يده. : {وفقد يوماً من الأيام بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم رجلاً أو امرأة -كما في حديث أبي هريرة - كان أو كانت تقم المسجد، فقال: أين هو؟ قالوا: مات يا رسول الله، قال: هلَّا كنتم آذنتموني! قالوا: إنه مات في الليل، فكرهنا أن نوقظك؛ فقال: دلوني على قبره -أو قال على قبرها- فذهب إلى القبر فصلى وكبر عليها أربعاً، وأمرهم إذا مات أحد من أصحابه أن يوقظوه بليل أو نهار ليصلي عليه} . فلم يغفل أو ينسى أو يتجاهل صلى الله عليه وسلم هذه الأمة السوداء التي كانت تقم المسجد. ربما كثير من الناس يمرون بها ليس لها شأن، وليس لها قيمة، وليس لها اعتبار عندهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الكبير لم يغفل عنها، فلما فقدها أياماً سأل: أين هي؟ ولما علم أنها ماتت انتقدهم على عدم إخباره بذلك، وأمر أن يدلوه على قبرها فكبر عليه أربعاً صلى الله عليه وسلم. عنايته بالأطفال الصغار في يوم من الأيام -كما في الصحيحين- جيء بثوب جميل، فقالوا من يعطي هذا الثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عن أم خالد بنت خالد بن أبي العاص فجيء بها تُحمل -فتاة صغيرة السن- فأخذها وألبسها هذا الثوب بيده الكريمة صلى الله عليه وسلم. ولك أن تتصور أنك قد تعطي إنساناً ثوباً، ولكنك تضرب به في وجهه ضرباً، فلا يكون له وقع، لكن حينما تأتي بالصبي الصغير، فتلبسه هذا الثوب بيديك، ثم تمسح عليه، وتقول: ما شاء الله! تبارك الله! ما أجمل هذا الثوب! ما أحسنه! فيكون وقع هذه الكلمات وهذا التصرف في نفس الصبي عظيماً كبيراً. وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، جيء بهذه الفتاة الصغيرة فألبسها الثوب بيده الكريمة، ثم قال: {ستى يا أم خالد} أي: هذا ثوب جميل حسن بلغة الحبشة وكناها النبي صلى الله عليه وسلم وفي التكنية لها -وقد يكون هذا اسمها أيضاً والظاهر أنه كنية فكناها لما في ذلك- من التحبب إليها. كل هذه الأشياء -وغيرها كثير مما يطول الكلام به- مما يدخل في باب حرص النبي صلى الله عليه وسلم، على تأليف القلوب وسعة خلقه صلى الله عليه وسلم، وقدرته على صناعة الحياة على وفق ما يحبه الله تعالى ويرضاه من خلال الوصول إلى قلوب الناس. فكانت قلوبهم وأرواحهم تفديه قبل أيديهم، كانوا في المعارك يموتون دونه عليه الصلاة والسلام، ويقول قائلهم: كذبتم وبيت الله نبزى محمداً ولما نُطَاعِنْ دونه ونناضلِ ونسلمَه حتى نُصرَّعَ حوله ونُذْهَلَ عن أبنائنا والحلائلِ يموتون دونه صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم يعرفون أنه به أنقذهم الله من ظلمات الشرك والجهل إلى نور الإيمان والتوحيد، وأنقذهم به من النار إلى الجنة، ومع ذلك أيضاً: لِمَا يعرفونه من حسن خلقه وطلاقة وجهه وهشاشته وبشاشته. وإلا فإن الله عز وجل يقول في محكم التنزيل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: حتى هؤلاء الذين عرفوا عظيم نعمة الله عليهم ببعثته، يقول الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] . أم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 تصحيح المسار فيا أحبتي! أين الداعية الذي يكون في قلبه هذا الهم والحرص على هداية الناس؟! أين الداعية الذي يحتاج دائماً وأبداً إلى التثبيت والتصبر والتهدئة: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] إلى غير ذلك مما صبَّر الله به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. فلذلك أقول: كان لا بد من تصحيح مسار بعض الإخوة المجتهدين من الدعاة الذين يتجاهلون الآخرين، خاصة في هذا العصر الذي ضعف فيه رصيد الإيمان في نفوس الناس، وكثر فيه أعداء الدعوة ومناوئوها والمتربصون بها، الذين يبحثون عن أدنى زلة أو سقطة من داعية حتى يعتبروها مجالاً للطعن في الجميع. بل لا يبحثون عن زلة أو ينتظرون سقطة، بل إنهم يأتون إلى أفعال الدعاة والمخلصين التي هي صواب لا خطأ فيها، فيحاولون أن يلبسوها ثوب الخطأ، وأن يعطوها غير ما هي له؛ حتى يشوهوا صورتهم وسمعتهم في نفوس الناس. أيها الأحبة ألا تعتقدون أنه من المحزن حقاً أن هذه الأمة التي يقول أكثر المنتسبين إليها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ويحبون الله بقلوبهم، ويحبون الرسول صلى الله عليه وسلم بقلوبهم؛ ومع ذلك حيل بين هذه الأمة وبين دعاتها الصادقين في كثير من البلاد، فصارت الأمة تسيء الظن بدعاتها في بلاد كثيرة، وتنظر إليهم شزراً، وتعتقد أنهم من الغلاة، أو أنهم من المتطرفين، أو أنهم من المخربين المفسدين على وفق ما أراد لها العلمانيون، وعلى وفق ما خططوا لها. فحالوا بين الأمة وبين دعاتها الصادقين، حالوا بين الأمة وبين رجالات الإسلام المخلصين، وحينئذٍ صار المثل كما قيل: خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقّري ما شئت أن تنقري فخلا الجو للمنافقين من العلمانيين وأعداء الإسلام، وعبثوا بهذه الأمة بعد ما حالوا بينها وبين الدعاة إلى الله عز وجل. ولذلك كان العنوان السابق لهذه المحاضرة -كما ذكرت- وجوب تصحيح المسار. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 من سيرة الرسول في إقامة المعروف وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم -وهو الأسوة والقدوة لكل مسلم وخاصة للدعاة إلى الله تعالى- كان يعتقد أن هدم الكعبة وإعادة بنائها على قواعد إبراهيم عليه السلام حق، ولكنه لم يفعل هذا الحق، فما الأمر الذي حال بينه وبين فعل هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق عليه الصلاة والسلام؟ إنه رأى أن في تنفيذ هذا الحق مفسدة أكبر، فتركها خشية أن يحدث على الناس شراً، وأن يفهمه الناس ويفسرونه تفسيراً خاطئاً يضر بهم. فقال لـ عائشة كما في الصحيحين: {لولا أن قومك حديث عهدهم بجاهلية، فأخشى أن تنكر قلوبهم، لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باب يدخل الناس منه، وباب يخرجون منه} . فترك عليه الصلاة والسلام إقامة هذا الأمر الذي يعتقد أنه حق مراعاة لمصلحة الدعوة إلى الله، وتأليف قلوب الناس على الخير، وعدم إيجاد أشياء أو أعمال يفسرونها تفسيراً خاطئاً، ويؤولونها تأويلاً ضالاً فتودي بهم، وربما كان سبباً في انحرافهم أو سوء ظنهم برسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم هم حدثاء عهد بجاهلية، فقلوبهم قريبة من الجاهلية؛ فما بالك بغيره من الدعاة الذين وجود الخطأ منهم متصور أصلاً؟! وسوء الظن وارد فيهم أصلاً! لا شك أنهم أولى برعاية هذا الأمر. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعه من قتل المنافقين المندسين في الصف، والذين كانوا يقومون بأسوء الأدوار في صفوف المسلمين، وقد ظهر نفاقهم: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} [التوبة:74] ولم يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتلهم إلا أمر واحد بينه هو كما في صحيح البخاري وغيره من حديث جابر فقال: {كيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} . فترك قتل هؤلاء، ليس لأن دماءهم حرام، ولا لأنه لا يجوز قتلهم، لا؛ ولا لأن وجودهم ليس ضاراً بالمسلمين، وإنما ترك قتلهم خشية من وجود فتنة وضرر، وسوء تفسير من الناس، واستغلال الأعداء لهذا العمل، فقال: {لئلا يتحدث الناس} وفي رواية: {فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} . كما أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك قتل اليهودي الخبيث لبيد بن الأعصم، وقد سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، ووضعها في بئر في المدينة يقال له: بئر ذروان أو بئر ذي أروان، فوضع فيها السحر، فعقد عقداً، ونفث فيها، وعمل ما عمل، وسحر النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهولا يفعله. فجاءه الملكان وقرأا عليه سورتا المعوذتين، وأنقذه الله من شر هذا السحر، ولما قيل له في شأن هذا اليهودي وقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: {أما أنا فشفاني الله، وكرهت أن أثير على الناس شراً} وكذلك لم يأمر بإخراج هذا السحر، بل دفن تلك البئر، ولم يصبه أذى من شر هذا السحر. فالذي منع الرسول صلى الله عليه وسلم من قتل هذا اليهودي، مع أنه يعتبر ناقضاً للعهد بسحره رسول الله صلى الله عليه وسلم هو قوله: {وكرهت أن أثير على الناس شراً} مراعاة لمصالح قد أعرفها أنا وأنت أو لا نعرفها. لكنه صلى الله عليه وسلم بما وهبه الله تعالى من بعد النظر والتجرد وسعة العقل وما ألهمه وما أعطاه وما لقنه وما فهمه، رأى في ذلك شراً وضرراً، ورأى تركه أولى من فعله، فدفن هذه البئر، ولم يفعل بهذا اليهودي شيئاً. فكان عليه الصلاة والسلام إذاً يعتبر من الحق مراعاة المصالح العامة، والنظر في أحوال الناس، وما يمكن أن يفسروا عليه الأقوال أو الأعمال أو التصرفات، ويراعي ذلك في سائر أموره صلى الله عليه وسلم. لم يكن خائفاً من كلامهم صلى الله عليه وسلم، فقد قالوا فيه كل شيء، قال فيه المشركون والمنافقون كل ما يستطيعون أن يقولوا، فقالوا: ساحر، شاعر، كذاب، كاهن، وما تركوا كلمة في قاموس السب والهجاء إلا وألصقوها به صلى الله عليه وسلم، وهو أطهر من السحابة في السماء، ما جرّبوا عليه كذباً قط. وكان صلى الله عليه وسلم في أقواله وأعماله نموذجاً للخلق الفاضل الكريم، ومع ذلك قالوا فيه ما قالوا، وما بالى بهم، بل كان يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟! يشتمون مُذَّمماً وأنا محمد} فهم من شدة بغضهم له عليه الصلاة والسلام ما كانوا يقولون: محمد فعل كذا وكذا؛ بل يقولون: مذمم؛ لأنهم يقولون: ليس هو محمداً؛ لأن محمداً من الحمد، والمشركون يقولون عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه غير محمود بل هو مذموم، فيسمونه مذمماً فيقولون: جاء مذمم، ذهب مذمم، قال مذمم فعل مذمم! فيقول صلى الله عليه وسلم معلقاً على تعييرهم له بهذا اللقب: {ألا تعجبون كيف يصرف الله تعالى عني سب قريش وشتمهم؟!} فهم يشتمون رجلاً اسمه مذمم، وأنا اسمي محمدُ فيصرف الله عني شتمهم لا ينالني ولا يصيبني. فلم يكن يبالي صلى الله عليه وسلم ماذا يقولون، وماذا يفعلون في حقه، ولكنه كان يبالي ماذا يصيب الدعوة، وماذا يصيب أصحابه صلى الله عليه وسلم، وكان يحرص أشد الحرص على تليين قلوب الناس لدعوته، وتقريبهم إليها، وفتح أفئدتهم لها، فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ بحجزهم عن النار، وهم يتساقطون فيها: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 عناوين أخرى وكنت أحس منذ فترة طويلة بأهمية طرق مثل هذا الموضوع خاصة للدعاة إلى الله تعالى من الرجال والنساء، ولهذا سبق أن أعلنت عن محاضرة في جدة ثم في بريدة ثم في المنطقة الشرقية، وكان العنوان الذي اخترته آنذاك: (وجوب تصحيح المسار) ولكن شاء الله تعالى ألا تقوم المحاضرة في هذه المرات الثلاث، ثم أعلن عنه قبل شهر أو نحو شهر في مكة المكرمة بعنوان آخر وهو: (فن تأليف القلوب) ويشاء الله تعالى ألا تقوم تلك المحاضرة، فتأجلت كما تأجلت أخوات لها من قبل. فهذه إذن هي المرة الخامسة التي حاولت فيها أن أعرض هذا الموضوع أو أطرح جوانب منه، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يسددني ويلهمني لأقول ما يحب ويرضى وما ينفع عباده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 أهمية العناية بأساليب الخطاب الدعوي أما فيما يتعلق بالعنوان وقد أشرت إلى معناه فإنني أود أن أقول: إن الكثيرين من أهل الخير ومحبي الخير قد يتجاهلون الآخرين من الناس، وينظرون إلى ما يعتقدون هم أنه حق، دون أن ينظروا إلى أساليب أو طرائق إيصال هذا الحق إلى الناس. فيقول قائلهم: إذا كان هذا الأمر حقاً فلا يهمني رضي الناس أم سخطوا، أحبوا أم كرهوا، فالأمر عندي يتعلق بكوني أعرف أن هذه المسألة حق، فإذا عرفت أنها حق فلا أبالي بالناس في أي وادٍ هلكوا، وفي أي مكان كانوا!! بل إن البعض يقولون: إذا كان هذا الأمر الذي أقوله حقاً، فإنه لا يهمني قبله الناس أم ردوه، المهم أن أقوم بالحجة، وأؤدي الواجب المفروض علي، ولا يعنيني بعد ذلك أمر الناس. وفي الواقع أن هذه إذا تأملتها أيها الداعية الكريم، وجدت أنها نوع من الأنانية لا يقبلها الشرع والعقل، ولا تقبلها الفطرة السليمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 واجبات ومطالب على عاتق الدعاة فالدعاة إلى الله تعالى مطالبون بأمور: أولاً: أن يكون كل واحد منهم ملتزماً بإسلامه وحريصاً على دعوته متفانياً في سبيلها، وهذا شرط لا بد منه؛ وإلا فما معنى بأن توصف بأنك داعية فضلاً عن أن توصف بأنك مسلم. والحسن البصري رحمه الله يقول: [[ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال]] وبعضهم يروي هذا حديثاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح هذا، بل هو من قول الحسن البصري رحمه الله تعالى، أحد أئمة التابعين. الأمر الثاني: أن يكون الداعية متقناً لتخصصه أياً كان تخصصه، فقيهاً أو عالماً أو مهندساً أو طبيباً أو إدارياً أو عسكرياً أو خبيراً أو غير ذلك، ينبغي أن يكون الداعية نموذجاً في إتقان تخصصه الذي وجه همته إليه، وأن يحرص في هذا الإتقان على أن يكون في ذلك حصول مرضاة الله تعالى، وأن يعطي المثل الطيب للناس في الداعية الذي يحرص على أن يقدم لهم ما يستطيع من الخدمة في دنياهم وقصده إصلاح دينهم. الأمر الثالث: الذي يطالب به الداعية هو أن يكون قادراً على إقامة الجسور مع المجتمع، ليحظى بمحبة الناس وتقديرهم، فالفتح الحقيقي هو فتح القلوب وليس فتح البلاد، ولم يكن نبوغ الجيل الأول ولم تكن عظمتهم لأنهم فتحوا بلاد كسرى وقيصر فحسب؛ بل أعظم من ذلك بكثير أن الله تعالى أخضع لهم تلك البلاد، حين انفتحت قلوب الناس لهم فأحبوهم من قلوبهم؛ لما يعرفون من صدقهم وإخلاصهم، ولما يعرفون من حرصهم على مصلحة الناس، ولما يعرفون من زهدهم في الدنيا وتخليهم عن زينتها وأبهتها ولما يعرفون من أنهم نموذجاً حياً للصدق والإخلاص في أقوالهم وأعمالهم فأحبهم الناس حتى قال الكفار: قال أحد المؤرخين البريطانيين الكفار: ما عرف التاريخ من فاتح أرحم وأعدل من العرب. وهو يعني المسلمين بطبيعة الحال، لكنه يسميهم العرب، ما عرف التاريخ من فاتح أعدل ولا أرحم من العرب. وكان النصارى يفضّلون أن يحكمهم المسلمون على أن يحكمهم بنو جنسهم من النصارى؛ لأنهم جرّبوا من بني جنسهم فرض الضرائب، والإتاوات، والظلم، والطبقية، والمفاضلة بين الناس، والتسلط، والعنجهية، والعدوان، والقسوة، وجربوا من المسلمين العدل والإنصاف والصدق والتواضع وإعطاء الحق وأخذ الحق، فكان النصارى يفضلون أن يحكمهم المسلمون على أن يحكمهم بنو جنسهم من النصارى، وكذلك غيرهم. فالفتح الحقيقي الذي استطاع المسلمون أن يحققوه هو فتح القلوب، وقد ترتب عليه فتح البلاد. وقبل أن يوجد الإسلام في أي بلد، وقبل أن يحكم الإسلام في أي بلد، لا بد أن توجد القلوب التي تحبه، ولابد أن توجد القلوب التي تتطلع إلى عزته ونصره وتمكينه. أيها الأحبة لا أفشي لكم سراً إذا قلت لكم: إن هذا العنوان: "صناعة الحياة" هو عنوان مستعار، إنما كان دوري فيه إلا الاقتباس، فهو عنوان كتاب لأحد الفضلاء وهو الأستاذ محمد أحمد الراشد، فقد ألف كتاباً صغير الحجم كبير الفائدة سماه: صناعة الحياة، وهو يتكلم فيه عن نظرية في الدعوة إلى الله عز وجل، فيها من الشمولية ما فيها وأنا أثني على هذا الكتاب وأطريه، وإن كان هذا الثناء وهذا الإطراء لا يعني بالضرورة الموافقة على كل ما في هذا الكتاب، فلكل إنسان رأيه واجتهاده، ولكن المقصود أن الكتاب بصفة عامة كتاب مفيد نافع لمن يقرؤه. أما وجود اختلاف في مسائل أو اجتهادات مختلفة فيها، فهذا أمر لا غرابة فيه، ولا يحتاج إلى تأكيد، ولكنني أقول ذلك؛ لأن بعض الناس قد يفهموا من الثناء أو الإطراء شيئاً ما. على كل حال فهذا الموضوع لعله أصبح ظاهره إقامة الجسور والعلاقات مع المجتمع؛ بحيث يحسن ظن الناس بالدعاة إلى الله تعالى، وتتعاظم ثقتهم بهم، ويعرفون أن الدعاة إلى الله تعالى هم الناصحون لهم، الحريصون على دينهم ودنياهم، وأنهم أصدق حديثاً من غيرهم، وأقوم قيلاً، وأنهم أكفأ في إدارة شئون الدين والدنيا، وما كان في الدعاة إلى الله من نقص، فإن هذا النقص موجود في غيرهم بصورة أعظم، وما كان في غير الدعاة إلى الله تعالى من كمال فإنه يجب أن يكون موجوداً في الدعاة إلى الله أيضاً بصورة أعظم. والموضوع على كل حال -كما أسلفت- موضوع شامل وواسع سأتحدث فيه إن شاء الله تعالى في دروس ومحاضرات متفرقة، وأرجو أن يأذن الله تعالى بخروجه ضمن كتاب مستقل يكون أحد سلسلة رسائل ترشيد الصحوة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 الدواعي إلى طرق موضوع "صناعة الحياة" والذي دعاني في حقيقة الأمر إلى طرق هذا الموضوع والحديث عنه أمور: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 الفهم الجزئي للجهاد النقطة الرابعة: مما يدعو لتناول هذا الموضوع أن طائفة من الدعاة نسيت كل هذه المعاني، وكل هذه الألوان من المجاهدات المشروعة والواجبة، وظنت أن الأمر يبدأ وينتهي في ميدان المعركة بالسلاح، وأن الحكم للسيف في كافة الظروف والأحوال، وهذا ليس بصحيح، وربما استشهد قائلهم بقول الشاعر: حينما تبدأ القنابل بالعزف تموت القصائد العصماء وقول الآخر: السيف أصدق إنباء من الكتب في حده الحدُّ بين الجد واللعب بيض الصفائح لاسود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب ونحو نقول: نَعَمْ! السيوف ينجلي بها الحق من الباطل في ميدان المعركة؛ لكن ميدان المعركة ليس هو ميدان القتال فقط، بل نحن في منازلة مع أعداء الله تعالى في كل الميادين. ففي ميدان الاقتصاد منازلة بين دعاة الحق وبين دعاة الربا والكسب الحرام، وفي ميدان الأمور الاجتماعية منازلة بين دعاة الطهر والعفاف والفضيلة ودعاة الرذيلة والانحراف، وفي ميدان العلم منازلة بين دعاة الحق ودعاة الباطل، وفي ميدان الطب منازلة، وفي ميدان الإعلام منازلة، وفي كل ميدان من ميادين الحياة منازلة ومعركة ضارية حامية الوطيس، هي في حقيقتها -والله الذي لا إله غيره- أعظم وأشد وأكثر فتكاً من المعارك العسكرية. ولكن أكثر الناس لا يدركونها؛ لأن الناس كثيراً ما يتكلمون عن حصول معركة في المكان الفلاني، والداوعي تتوفر على نقلها، لكن أقل الناس من يتكلمون عن الصراع بين الحق والباطل في هذه الميادين؛ لأنه صراع قد يكون مستتراً مستخفياً في كثير من الأحيان، لا يدركه إلا العاقلون العالمون المتابعون. إن الجهاد -أيها الأحبة- بالسيف شريعة قائمة، ولا عز للإسلام إلا بالجهاد، ولكن هذا الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام له ألوان أخرى. فالدعوة إلى الله تعالى شريعة أخرى قائمة، وحسن الخلق شريعة أخرى قائمة، وتأليف القلوب شريعة قائمة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شريعة قائمة، والإحسان إلى الخلق شريعة قائمة، وسياسة الناس بالحسنى شريعة قائمة، فلماذا هذه النظرة الجزئية المختزلة؟! جوانب القضية -كما أسلفت لكم- كثيرة، وقد تحيرت كثيراً كيف أقدمها لكم، ثم اخترت أن أقدمها بشيء من الإيجاز والاختصار على أن تنتهي إن شاء الله في هذه الليلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 تصحيح نظرة الناس إلى المتدينين الأمر الثالث: إن المجتمع أيها الأحبة -وهذه قضية تشغلني كثيراً -وحين أقول المجتمع: أعني مجتمع الأمة الإسلامية في كل بلد، ليس في هذا البلد فقط، وإنما في كل بلاد العالم الإسلامي- المجتمع يستمع إلى أقوال متناقضة عن المتدينين، فهو يسمع من خصوم المتدينين -وبلفظ آخر يسمع من خصومنا حتى يُفهم أننا من ضمن المقصودين أيضاً- يسمع: أن المتدينين قوم جفاة غلاط جهلة، تفكيرهم مغلق، ثقافتهم ضحلة، أهل عقوق وبخس للحقوق، وأنهم أصحاب مطامع دنيوية، وأصحاب طموحات مادية، وأنهم لا يستطيعون تفهم أمور الحياة الدنيا، ولا يستطيعون التعايش مع الناس، وأنهم ضيقو الأفق غير مقدرين للمصالح والمفاسد، وأنهم وأنهم فيسمع هجاءً كثيراً، ويسمع كلاماً غزيراً في نقد الدعاة وسبهم وعيبهم بالحق وبالباطل؛ وليس هذا بغريب، فخصمك لا يمكن أن يقول فيك إلا هذا ومثله. وبالمقابل يسمع الناس في المجتمعات الإسلامية من الشيوخ والدعاة ومحبي الشباب الملتزمين: أن الشباب الملتزمين وأن الدعاة إلى الله تعالى أهل تقوى وصلاح وخلق فاضل كريم، وأهل قلوب تقية نقية، وأهل نفوس سمحة، وأنهم أهل همم عالية، وعقول كبيرة، وتنازل عن حقوقهم، وإعراض عن متاع الحياة الدنيا وزينتها، ونجاح في سائر تخصصاتهم. فمنهم الطبيب الماهر، ومنهم المهندس الحاذق، ومنهم الفقيه النبيل، ومنهم العالم الجليل، ومنهم المربي الفاضل، ومنهم الخطيب المفوه، ومنهم ومنهم وهكذا أيضاً قصيدة طويلة في الثناء على شباب الصحوة وعلى الدعاة إلى الله تعالى. وأقول بملء فمي: إنهم يستحقون هذا وأكثر منه، وأنا ممن يتغزل -إن صح التعبير- بالثناء عليهم في مواضع كثيرة، وأعتبر هذه قربة أتقرب بها إلى الله تعالى وأحمد الله تعالى عليها. فقد رزقني الله تعالى حب هؤلاء -علم الله- ولو لم أعرف أسماءهم ولم أعرف وجهاتهم، إلا أنني أقرأ في وجوههم محبة الله ورسوله، وحب الخير للناس، والغيرة على دين الله عز وجل. فيجد الإنسان في نفسه محبتهم والحرص على مصلحتهم، لا حرصاً في عاجل الدنيا، ولكنه أمر وضعه الله تعالى في قلوبنا لا حيلة لنا في تحصيله كما لا حيلة لنا في دفعه. ولكن أريد بعد ذلك أن أقول: إن من طبيعة الناس عموماً أنهم يحكمون على المجموع من خلال واحد، من خلال رؤيتهم لفعل شخص واحد قد يحكمون على المجموع، فيعممون الحكم من خلال حوادث فردية، فإذا ابُتلي -مثلاً- بعض الناس بداعية يكون بذيء اللسان أو رديء الخلق، فإن الناس لا يقولون: فلان رديء الخلق ولكن بقية الدعاة صالحون، بل يقولون: هؤلاء الدعاة فيهم وفيهم وفيهم، ثم يستشهدون بقول فلان والعكس بالعكس، فقد يكون هناك داعية صالح فتجد أن المجتمع المحيط به والبيئة القريبة منه تثني على الدعاة كلهم وتستشهد بفعل فلان. وهذا أمر سمعته كثيراً فقد سمعت من يثني على الشباب الصالحين، فإذا قلت له: ماذا رأيت منهم؟ قال: ولدي فلان ولد صالح وهو يفعل كذا وكذا وكذا، ثم أثنى عليه خيراً. وسمعت والله من ينال من الشباب الخيرين، ومن الدعاة إلى الله تعالى، ويصفهم بأبشع الأوصاف والألقاب، ويشتمهم، ويقول: إن الأشرار خير منهم، وما رأينا منهم خيراً، فإذا سألته وقلت له: لماذا؟ قال: فلان فذكر ولده أو جاره أو قريبه، وأنه فعل وفعل، وفعل ثم ذكر أشياء قد يكون بعضها حقاً، وقد يكون بعضها باطلاً، ولكن الواقع يشهد أن بعض هذا الكلام يكون حقاً في كثير من الأحيان. إذاً أنت أيها الداعية! عبارة عن عينة للبقية من الدعاة، فإن أحسنت في تصرفاتك وأقوالك وأفعالك ومعاملتك للناس، ووصلت وتسللت بحسن تلطف إلى قلوبهم؛ فنعم الممثل أنت لنا! ونعم المعبر عنا! ونعم الناطق بلساننا! فأنت الرائد الذي لا يكذب أهله، وإن كانت الأخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله! وهذا لا يعني أننا نطالب الدعاة ألا يدعوا إلى الله تعالى، وألا يقوموا بهذا الواجب إلا إذا كانوا مثالاً للأخلاق الفاضلة والكمالات لا! لكن يعني أن الإنسان ينبغي أن يحرص أشد الحرص على ذلك، ويبحث عن تحقيق وسائل هذه الدعوة بكل ما يستطيع. وإذا علم أن هدف الدعوة إلى الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو إزالة المنكرات القائمة وإحلال المعروف بدلاً عنها، علم أن البحث عن دواعي القبول واجب وكما قيل: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ولهذا تكلم العلماء في هناك حالات يحرم فيها إنكار المنكر لماذا؟ لأنه لن يزول بالإنكار بل سيزيد، وتكلموا عن حالات يحرم فيها الأمر بالمعروف لماذا؟ لأنه لن يتحقق إذا أمرت به، بل سوف يزول معروف آخر كان موجوداً أو يتحقق منكر آخر، والمقصود هو زوال المنكر وحصول المعروف. وكذلك المقصود في الدعوة هو تحقيق الخير ونشره، وإزالة الشر والنهي عنه، والرسل عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها، وتقليل المفاسد وتعطيلها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 أخطاء الدعاة أولها: التجاوزات الكثيرة في تصرفات فئة من الدعاة ليست بالكثيرة، أما التجاوزات فهي كثيرة. هذه الفئة لا تعترف بالناس ولا تقيم لهم وزناً، وتظن أن هذا من باب القوة في الحق ومن باب الصرامة، فيتلقى الناس هذه التجاوزات ويعظمونها ويتحدثون حولها، ويلصقونها بالدعاة إلى الله كلهم جملة وتفصيلاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 تركيز بعض الدعاة على الأخطاء الأمر الثاني: طريقة بعض الإخوة في التركيز على أخطاء الآخرين والبحث عنها والعناية بها مما ينعكس سلبياً على ظن الناس بأن الدعاة إلى الله همهم البحث عن نقائص الآخرين، وأنهم يعتقدون في أنفسهم الكمال المطلق، ويعتقدون في غيرهم النقص المطلق. والواقع أننا يجب أن ننتبه إلى محاسن الآخرين إلى جوار ذكر مساوئهم، فلا يسوغ أبداً أن يكون همنا دائماً وأبداً التنبيه على أخطاء بعض الناس؛ لأن الناس حينئذٍ يتصورون بأنهم مجموعة من الأخطاء! لا ينبغي هذا، بل ينبغي أن يكون ذكر الأخطاء مسبوقاً بذكر الحسنات؛ حتى يعلم الناس أنك إنسان منصف ومعتدل؛ فأنت تمدح فلاناً بأنه مقيم للصلوات الخمس، وتمدح الآخر بأنه بار بوالديه، وتمدح الآخر بأنه صادق النية صافي القلب، ليس في قلبه غل أو حقد على مسلم، وتمدح الرابع بأنه لا يأكل المال الحرام، وتمدح الخامس بأنه قائم بأعماله الموكلة والمسندة إليه، وهذا وهذا، وما من إنسان -وخاصة المسلمين- إلا وفيه بعض فضائل يمكن أن تمدحه وتثني عليه فيها. وقد كان من عجيب صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يعرض نفسه على القبائل أنه ربما ذكر للقبيلة ولو شيئاً مما فيها؛ حتى إنه جاء لقوم يقال لهم: بنو عبد الله من قبائل العرب، فقال لهم: يا بني عبد الله! إن الله تعالى قد أحسن اسمكم، ثم دعاهم إلى الله عز وجل. فكل جسر حاول أن تقيمه مع الناس حاول أن يكون وسيلة للعبور إليهم، والوصول إلى قلوبهم، كلمة طيبة، أنا لا أقول: امدح الناس بالباطل، ولا أقول: اجعل لسانك مداحاً تمدح هذا وذاك، بحق وبغير حق، وبغرض ولغير غرض لا! لكن إذا تكلمت مع إنسان أو مع جماعة من الناس أو مع طوائف منهم، فاحرص على أن تمهد بين يدي ما تريد من أخطاء ببعض ما تعلم من الحق والصواب الذي هم فيه. وهذا المنهج قديم، ومن قرأ في سير الدعاة عرف هذا. اقرأ مثلاً رسائل الشيخ ابن تيمية للعلماء ورسائله حتى للصوفية، ورسائله لبعض الشيوخ الذين عليهم مآخذ وانحرافات، تجده رحمه الله يمهد لذلك بذكر بعض ما لهم من الفضل وما لهم من الخير، وما لهم من الإحسان، ومن هدى الله على أيديهم، ثم ينتقل بعد ذلك إلى تقويم ما عندهم من الخطأ والاعوجاج. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 القيام بحقوق الآخرين الخاصة والعامة فالجانب الأول الذي أطالب نفسي وأطالب إخواني من الدعاة إلى الله تعالى والمنتسبين إلى العلم الشرعي بالقيام به هو: القيام بحقوق الآخرين من الخاصة والعامة. فأما الخاصة فكالوالدين والأزواج والأبناء والإخوة والجيران والزملاء، ولكل من هؤلاء حقوق على وجه الخصوص، وفي هذه الحقوق آيات ونصوص، وليس المجال مجال بسطها وعرضها، وأوسع من ذلك كله حق المسلم على المسلم، فالسلام ورد السلام، وتشميت العاطس، ونصر المظلوم، وكف الأذى، وإبرار المقسم، وعيادة المريض، واتباع الجنائز كل هذه حقوق بينها النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث البراء وغيره، وهي حقوق ثابتة راسخة يجب على المسلم أن يؤديها لأخيه المسلم، فكيف بالداعية وأخيه الداعية؟! أو إلى أخيه المسلم الذي يحتاج أن يكون مدعواً إلى الله تعالى؟! الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 من أسباب القسوة على الأهل عند بعض الدعاة وأيضاً ينبغي أن يراعى أن بعض الدعاة يشحنون الشباب والتلاميذ بقصص المواجهة مع الأهل. فتجد مثلاً الداعية يذكر كثيراً لطلابه وتلاميذه قصة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وكيف قتل أباه، وكيف أن عمر قتل قريبه، وأبا بكر وفلان وعلان، فيذكر قصص المؤمنين الأولين، فينشأ الشاب الصغير أحياناً، وفي قلبه روح المواجهة والتحدي والإصرار، فهو مستعد للمقاومة في البيت، حتى ولو كان آباؤه متدينين وصالحين، فتجده عند أقل خطأ -بل حتى عند أشياء ليست خطأً أحياناً- يثور في وجوههم ويقاومهم ويتكلم في حقهم، وربما خرج من المنزل وتركه لمثل هذه الأسباب. وقد ذكروا قصة أبي عبيدة كما قلت لكم- مع أن قصة أبي عبيدة في قتله لوالده غير صحيحة - وقد نبه الإمام النووي في كتابه المجموع وغيره من أهل العلم إلى أن قصة قتل أبي عبيدة لوالده غير صحيحة، وأن والد أبي عبيدة قد مات في الجاهلية أو قتل. لكن ينسى هؤلاء أن يذكروا قصة سعد بن أبي وقاص، وأصلها في صحيح مسلم، وقد رواها الإمام أحمد في مسنده كاملة، قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: نزل فيَّ أربع آيات من القرآن، وذكر قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] وذكر قول الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1] وذكر الآية الثالثة، وذكر الآية الرابعة، وهي قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] كيف نزلت؟ لما أسلم سعد قالت أمه: أليس صاحبهم يأمرهم ببر الوالدين وصلة الرحم؟! والله لا آكل طعاماً حتى يكفر، فكانوا إذا احتاجوا إلى أن يعطوها الطعام، شجروا فمها بعود أو عصاً، ووضعوا فيه الطعام بالقوة، فأنزل الله تعالى قوله: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] أي: أنه كان على سعد أن يلطف بأمه، وربما جاء في بعض الروايات أنه قال: والله لو كان لها مائة نفس فماتت نفساً نفساً، ما رجعت عن ديني، وهو لن يرجع عن دينه بطبيعة الحال، لكن كان يستطيع أن يطلب منها أن تأكل وأن يهادئها بغير ذلك، فأمره الله تعالى بالإحسان إلى والدايه حتى ولو كانا مشركين: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} [العنكبوت:8] . إذن ينبغي أن يتنبه الداعية إلى الأثر السلبي لمثل هذه الأساليب التربوية في معاملة الشباب لوالديهم ومجتمعهم، وإلى أن يوجد الموازنة بين مثل هذه القصص والأخبار مع تلك الآيات والأحاديث والقصص والأخبار التي فيها بيان حقوق الوالدين، وحقوق الأهل، والأقارب، والجيران، وحقوق المسلمين إلى غير ذلك، حتى ينشأ نشأة سليمة معتدلة متوازنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 آثار ترك حقوق الآخرين وربما وجدنا في مقابل ذلك أباً يقول: لا ندري ما هؤلاء المطاوعة؟ وما منا أحد إلا سمع هذا الكلام من بعض الآباء خاصة يكونون بعيدين عن العلم والخير ومجالس الذكر، لا ندري من هؤلاء المطاوعة كما يسميهم. صحيح أن منهم من يكون ذا لحية أو ذا ثوب قصير، ولكن ما إن تتكلم مع الواحد منهم حتى يزجرك وينهرك ويغلظ عليك في القول، فهولا يعرف للكبير حقاً، ولا يعرف للصغير رحمة، وينسى جميع عيوبه، ولا يعرف إلا عيوب الآخرين. وربما تسمع أباً ثالثاً يقول: ولدي قتل في معركة في ميدان من ميادين الجهاد، وأنا لم أكن علمت أنه قد سافر أصلاً، وربما سمعنا هذا من آباء فضلاء غيورين. وربما سمعت أماً، تقول: وقد غضبت بنتها الملتزمة من وجود خادمة بالبيت، فقالت البنت الملتزمة: لا يمكن أسكن مع هذه المرأة أما أنا أو هي! لا تريد وجود خادمة في المنزل، وقد تكون الخادمة غير مسلمة، وفي وجودها أضرار كثيرة، وليست هذه محاضرة للكلام عن ضرر الخادمة، لكن الكلام حتى تستطيع أن تخرج الخادمة من المنزل، قالت لأمها: لا يمكن وجود هذه الخادمة في المنزل إما أنا أو هي، إذا ما خرجَتْ فأنا سوف أذهب إلى أخوالي أو إلى جدي أو إلى جدتي. فقالت لها أمها: والله هذه الخادمة خيرٌ لنا منك -لنفترض هذه الفتاة ملتزمة- وأنفع، فأنتِ إما أن تكوني في المدرسة أو تكوني في غرفتك تقرئين أو تنامين أو تكلمين زميلاتك في الهاتف، ومالك عمل في البيت إلا النقد والاعتراض، وهذا خطأ، وهذا لا يصلح، وهذا لا يكون، وهذا لا يصير! أما أن تقومي بدورك، وتقومي بواجبك، وتخدمي أباك وأمك، فهذا ما لا تفعلينه. أنا أقول: هذا مثال لواحدة فقط، وإلا فإنني أقول: إن كثيراً جداً من الشباب وكثيراً جداً من الفتيات المؤمنات المتدينات هم أكثر من غيرهم قياماً بالحقوق، لكنني أعالج تلك الظاهرة السلبية الموجودة في بعض هؤلاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 آثار القيام بحقوق الناس كم سمعنا من أب يقول: يا ولدي بارك الله فيك! وكثر الله من أمثالك! فأنت بار بوالدك، وصول لرحمك، محسن إلى جيرانك، لم أسمع منك طيلة عمري كلمة سخط، تمر علي كل صباح، فتقبل رأسي وتقول: يا أبت! صبحك الله بالخير! وفي المساء تمسيني وتقول: مسَّاك الله بالخير! وربما أغلظت لك في القول، وهجرت لك في العبارة، فتتبسم في وجهي وتقول: عفا الله عنك يا أبتاه، وفي المقابل ينطلق هذا الأب ليمدح شباب الإسلام، ويمدح الدعاة إلى الله تعالى، ويمدح طلبة العلم كلهم لهذا السبب. وكم سمعنا من أسرة تثني على الشباب المتدينين، وتقول في المجالس العامة والخاصة: لا تزوجوا إلا المتدينين، فإذا قيل لهم: لماذا؟ قالت الأم: بنتي أخذها واحد متدين، فأحسن إليها، وأكرم جوارها، وقام بحقوقها، ورباها على الخير، وحفظها وقام بحقها، فرأينا أن المتدينين خير للناس، وهكذا تجد أن حسن المعاملة من أخ أو ابن أو أب أو زوج أو قريب تنطلق إلى الجميع، فتكون خيراً وبراً لهم، وربما تعدت أيضا إلى الدعاء للعلماء والدعاة وطلبة العلم الذين كانوا سبباً في هداية هؤلاء واستقامتهم على الطريق نظراً لعنايتهم بالنشء تلك العناية وترتيبهم لهم تلك التربية. وكثير من الناس يثني على الشباب المتدينين لماذا؟ قال: لأنهم يرعون الكبير، أو يرحمون الصغير، أو يدلون الأعمى، أو يحترمون غيرهم، أو يتلطفون في حديثهم، أو يقومون بالخدمات المناسبة سواء في الأزمات أوفي غير الأزمات، أو لأنهم كما يقال يفزعون عند النوائب وعند الحاجة وهذه الأشياء وغيرها كثير كلها رصيد في نفوس الناس للمتدينين يظهر عند الحاجة إليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 حسن الخلق ننتقل بعدها إلى نقطة أخرى أيضاً وهي قضية حسن الخلق، وحسن الخلق لا حاجة لي أن أتكلم الآن عن أهميته في الدين، وأن الله تعالى وصف نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وأن النبي صلى الله عليه وسلم لخص مهمة رسالته بقوله: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} وفي رواية: {مكارم الأخلاق} . فالكلام عن هذا يطول، وإنما أتكلم عن أن الداعية ينبغي أن يتحلى بقدر طيب من ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 تجنب التسلط وإلقاء الأوامر ومما يجب أن يراعى أيضاً ألا يكون في أسلوب الداعية في إنكاره للمنكر نوعاً من التسلط أو ممارسة -كما يقولون- الأستاذية على الآخرين، وإشعارهم بأنهم لا بد أن ينفذوا منذ البداية. بل إن أمكن أن ينفذ الناس ويغيروا من قبل أنفسهم وبواسطة قناعاتهم الذاتية؛ فهذا هو الأفضل والأمثل، فأحياناً تجد على إنسان خطأً فلا تأت من منطلق أنك أستاذ أو أنك فوقه أو أن لك سلطة، فتقول له: غيِّر وتأمره منذ البداية بالقوة، ربما تأخذه العزة بالإثم فيرفض، لكن لو أتيته -كذا لو كان لك سلطة- في البداية تأتيه بالأسلوب الحسن وبالكلمة الطيبة وبالمحاولة، وكأنك لا تملك أية وسيلة إلا الكلمة، فحينئذٍ ربما يقتنع ويغير من ذات نفسه، ويكون هو نفسه أكثر حماساً منك -ربما- لتغيير هذا الأمر، والحكمة يحصل الإنسان بها على أشياء لا يمكن أن يحصل عليها بالقوة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 تربية النفس على حسن الخلق ونحن لا نطالب الداعية أن تتكامل فيه جميع الصفات في يوم وليلة، لكن يجب أن يسعى إلى تكميل نفسه بكل ما أوتي من قوة. فأنت -مثلاً- أيها المسلم، تتعلم الحلم من خلال حياتك العملية، حين تكون في السيارة، ويكون أمامك شخص بطيء الحركة أو ضعيف في فن قيادة السيارة، تتعلم الحلم من خلال مشيك وراءه، فلا تزعجه بالمنبه أو تسعى إلى الخروج بطريقة غير معقولة مثلاً، تعتبر هذه فرصة؛ لأن تمارس الحلم وتعرف ما مقدار قدرتك على ضبط أعصابك، أو تستمع إلى شخص بطيء الكلام مولع أحياناً بذكر التفاصيل التي لا حاجة إليها، فتتعلم الحلم من خلال الصبر عليه، فتضع أذنك لشخص يذكر لك قصة، أو يسألك سؤالاً، فيعطيك ثلاث صفحات في كلام لا جدوى منه ولا طائل من ورائه، ويذكر لك تفاصيل، وجزئيات، وأسماء، وأحداثاً، وأخباراً، وأرقاماً، وفي النهاية تجد السؤال جزئياً وصغيراً وقصيراً، فبعض الناس يقوم في وجه هذا الإنسان، وربما نفض يده وربما عاتبه وربما وبخه. لكن عود نفسك قدر المستطاع وتعلم وجرب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الخطيب البغدادي وغيره وسنده جيد أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إنما الحلم بالتحلم} وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن يتصبر يصبره الله} يتعلم الصبر، يتعلم الحلم، يتعلم حسن الخلق، الحياة مدرسة تتعلم فيها. أحياناً تتعامل مع شخص فظ غليظ صخاب يرفع الصوت بذيء العبارة! عود نفسك أن تقابله بالهشاشة والبشاشة والابتسامة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعرابي كما مر قبل قليل. أحياناً تجد جفاءً من بعض من تواجههم، جفاء بالقول وجفاء بالفعل، فجرب نفسك كيف تكون أعصابك حينئذٍ؟ وعلى الشاب والمسلم بشكل عام أن يتجنب الانتصار للنفس، وأقول بملء فمي: نحن كثيراً ما ننتصر لأنفسنا أكثر من انتصارنا للحق الذي نتحمس له. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 من آثار الغضب فقد ترى شخصاً على منكر، فتنكر عليه بلطف وبكلمة طيبة، فيجادلك فتجادله بالتي هي أحسن، فإذا سبك هذا الإنسان أو نال منك أو سب قبيلتك فنجد أنك بسرعة غضبت وثارت أعصابك، وتكلمت عليه بما لا يحسن وما لم يحدث منك حين رأيت المنكر! وهكذا تكتشف يا أخي الحبيب أنك غضبت لنفسك، أو أنني أنا إن كنت صاحب الموقف غضبت لنفسي أكثر مما غضبت للحق الذي رأيته مهدراً أومن المنكر الذي رأيته قائماً أومن المعروف الذي رأيته متروكاً. والداعية بشر على كل حال، ونحن لا نطالب بأخلاق الملائكة، وإنما نطالبه أن يحاول أن يقتدي بأخلاق الأنبياء، فمسئوليته كبيرة ومكانته ليست كغيره: قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وفي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} والله ما أجمل أن أجلس على هذا الكرسي وعلى هذه الماسة، وأتكلم معكم بالكلام الطيب والأخلاق الفاضلة، ونسرد فيها القصص، لكن ربما من أقل موقف يذهب كل هذا أدراج الرياح، وتعود حليمة إلى عادتها القديمة! ما صنعنا شيئاً إذا كان الأمر كذلك. ينبغي -أيها الإخوة- أن يتحول هذا الكلام إلى منهج عملي لنا في أشخاصنا، وفي ذوات نفوسنا، وإلا فلا فائدة في الكلام حينئذ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 الإحسان إلى الناس والدفاع عن مصالحهم الأمر الثالث أو الجانب الثالث من جوانب الموضوع: هو الإحسان إلى الناس والدفاع عن مصالحهم، وخاصة الضعفاء والفقراء والمعوزون. لا شك أن من الدين الحديث عن هموم الناس المعيشية وما يعانونه وما يواجهونه من مشاكل أو مصاعب أو مصاعد أو أزمات والسعي للتخفيف عنهم بكل وسيلة ممكنة، فهذا من الدين، وإنه لشرف كبير جداً للعالم أو الداعية أن يقصده الناس في كل ما ينوبهم وينزل بهم من أمر الدين أو أمر الدنيا. فأنا أعتبر أنه شرف للعالم أن الفقير يأتي يطلب عنده المساعدة، وأن المظلوم يأتي يطلب عنده النصرة، وأن الذي عنده مشكلة في البيت يأتي يطلب منه حلها، وأن الذي يبحث عن عمل من حقه أن يحصل عليه يأتي للداعية أو العالم ليشفع له أو يحرص على إيصاله إلى حقه. لا شك أن هذا شرف كبير للداعية ودليل على أنه يتقن صناعة الحياة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 الرسول ومعالجة مشاكل الناس ولما فتح على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وجاءت الدنيا في يده كان عليه الصلاة والسلام يقول: {أنا أولى بكل مسلم، أيما مسلم ترك ديناً أو ضياعاً فإليَّ وعليَّ، وأيما مسلم ترك مالاً فليرثه ورثته من كانوا} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 العلماء ودفع ظلم الحكام عن الناس ولقد كان العلماء عبر العصور وعبر التاريخ يقاومون الحكام الجائرين النهابين وما يطرحونه على الناس ويفرضونه من العشور والضرائب والإتاوات وغيرها، ويجاهدون لتنفيذ شريعة العدل بين المسلمين، ويعتبرون هذا جزءاً من واجب المجاهدة التي ألقاها الله تعالى على عواتقهم، وهذا مع أنه جزء من الدين -فإن الدين جاء بتحقيق بالعدل- إلا أنه مع ذلك سبب لقبول الناس للحق ومحبتهم للعلماء. فإذا رأى الناس أن العلماء قد أفلحوا في تخفيف الرسوم والتكاليف التي أثقلت ظهورهم، وأنهم دافعوا عن حقوقهم، وأنهم وقفوا في وجوه ظالميهم؛ عرفوا أنهم لا يريدون بالناس إلا الخير، ولا يريدون إلا المصلحة العامة للآخرين. حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول -كما في صحيح البخاري- يقول: {أبغوني ضعفاءكم؛ فهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم، بدعائهم واستغفارهم} فلا تزدر أو تحتقر عملاً تقدمه لضعيف أو فقير أو مسكين أو مظلوم، أو حتى لإنسان ضعيف العقل أو إنسان ضعيف البنية أو لشخص لا يوجد من يدافع عنه؛ فإن الله تعالى يحب العبد الذي ينصر أخاه المسلم بالحق لا بالباطل. والضعفاء والفقراء عادة أصفى فطرة وأسلم قلباً وأبعد عن الأبهة والخيلاء التي عادة ما تكون في الكبراء والمترفين والأثرياء. ولهذا وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم لشدة حرصه على مصالح الناس الدينية والدنيوية بقوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . فالأمر الذي يشق على الناس يشق على النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم حتى في أمور دنياهم، وهكذا ورثة النبي صلى الله عليه وسلم من العلماء والدعاة، وما مواقف شيخ الإسلام ابن تيمية أو سلطان العلماء العز بن عبد السلام -في الدفاع عن مصالح الناس وحقوقهم- منا ببعيد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 الدفاع عن حقوق العمال وكما أن من الدين الحديث عن حقوق المستضعفين والفقراء المظلومين والمهضومين والدفاع عن مصالحهم الدنيوية، فكذلك من الدين الحديث عن حقوق العمال ومآسيهم ومعاناتهم، فهم طبقة في المجتمع لا يكاد يشعر بها أحد، ولا يكاد يدافع عنها أحد. ولست أقصد فقط العمال الذين أتوا من الخارج وخاصة حين يكونون مسلمين؛ بل حتى حين يكون الإنسان عاملاً في أي بلد، سواء كان في بلده، أوفي غير بلده، ولستُ أتحدث عن بلد بعينه، وإنما أتكلم عن بلاد المسلمين من مشرقها إلى مغربها، وفي كل بلد طبقات من العمال سواء من أهل البلد الأصليين أومن الطارئين عليهم من غيرهم. فهذه الطبقة من العمال تعاني ما تعاني من أرباب العمل في أحيان كثيرة، تعاني من الجور والظلم، وتعاني من منع الرواتب، وتسكن أحياناً في زرائب لا تسكنها حتى الحيوانات، ولا تجد في كثير من الأحيان القوت الذي تأكله، بل لا تجد في أحيان كثيرة التذكرة التي تستطيع أن تسافر بها، وربما حُمّلوا من العمل ما لا يطيقون إلى غير ذلك من ألوان الظلم التي قد تكون سبباً في عقوبة من الله عز وجل تنزل بالمجتمع الذي يظلم هؤلاء الضعفاء والمساكين ولا يؤدي حقوقهم. مع أن هذا الظلم هو أخطر قنبلة يمكن أن تنفجر في أي مجتمع، وقد استغلت الشيوعية هذا الخطر -خطر العمال والمظلومين- زماناً طويلاً، ومنتهم الأماني بأنها سوف تعيد إليهم حقوقهم المهضومة، وتدافع عن مصالحهم، وترفع الظلم عنهم، فاستغلتهم أبشع استغلال، ورفعت شعار: يا عمال العالم اتحدوا، وادعت أنها سوف تحكم باسم طبقة العمال أو البيروليتاريا كما يسمونها، وباسم العمال سرقوا العمال أيضاً!! وهذا ليس بغريب فهم -أعني الشيوعيين- أتباع الشيطان، والله تعالى يقول: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [الإسراء:64] فجنود الشيطان يعدون الناس بالوعود الكاذبة ولا يوفون. أما جنود الله تعالى وأتباع رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهم ينبغي أن يعدوا الناس الوعود الصحيحة، بل ينبغي أن يقدموا للناس عربون الوفاء والصدق فيما يقولون، وأن يكون واحدهم صاحب وعد حق كما قال يوسف عليه الصلاة والسلام: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] . ولما جعله على خزائن الأرض وعده فوفى ووجده حفيظاً عليماً كما وصف نفسه عليه صلاة الله وسلامه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 الدفاع عن المرأة وحقوقها ومن الدين أيضاً الحديث عن المرأة والدفاع عن حقوق المرأة، ومن المؤسف جداً أن يتولى الدفاع عما يسمى بحقوق المرأة العلمانيون وأعداء المرأة، فيتظاهرون بأنهم مدافعون عن حقوقها، وأنهم يريدون رفع الظلم عنها، وقد يستغلون بعض الظلم الذي يوجد حقيقة على المرأة في بعض البيئات وبعض المجتمعات. ومرة أخرى أقول: أنا لا أتكلم عن بلد بعينه، بل أتكلم عن مجتمع المسلمين في كل مكان، وسيكون هذا المجتمع هو ميدان حديثي في المستقبل بإذن الله تعالى بشكل عام دون حاجة إلى التذكير الدائم بهذا الأمر. فالمرأة تعاني أحياناً من منع الميراث، وأحيانا تمنع حتى من العبادة المشروعة، وأحياناً يتصرف فيها أبوها، وكأنها سلعة للبيع والشراء، ولا يأخذ رأيها حتى في بضعها وفي من ينكحها ومن يزوجها! في الرجل الذي يكون شريك حياتها. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة بسند جيد- يقول صلى الله عليه وسلم: {إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة} ولا يكفي الكلام حينما نتكلم عن المرأة أن نتكلم عما يجب على المرأة، يجب أن تفعل، ويجب أن تفعل! بل يجب أن نتكلم أيضاً عما يجب للمرأة عن حقوق المرأة، وهذه أعظم ضمانة نستطيع أن نقطع بها الطريق على دعاة تغريب المرأة وتخريبها المسمين بدعاة تحرير المرأة. فلن تنصت لدعاوى المستغربين والعلمانيين الذين يستغلون الظلم الواقع عليها، ويطالبون بحقوقها، لن تنصت لدعواهم إذا استطعنا نحن المسلمين وطلبة العلم والدعاة إلى الله أن ندافع عن حقوق المرأة، ونبين الظلم الذي وقع عليها، وأنه يجب رفعه ممن وقع منه في، أي: بيئة كان وفي أي بيت كان وفي أي مجتمع كان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 بذل النصيحة والمشورة ومن الإحسان أيضاً إلى الناس: بذل المستطاع من جاه أو مال أو مشورة أو نصيحة في دين أو دنيا، فيكون الداعية إلى الله تعالى أو طالب العلم أو الشاب المتدين أول المسارعين إلى البذل والعطاء والكرم والجود بكل ما يملك من مال أو جاه أو شيء يستطيعه أو رأي؛ حتى يعلم الناس أن الدنيا ليست من مطامعه ولا من مطامحه، ولسان حاله يقول: قلبي خليٌّ عن الدنيا ومُطَّلبَي ربي فليس سراب العيش من أربي وأقل درجات الإحسان على كل حال؛ هو كف الأذى عن الناس بالقول أو الفعل أو المزاح. فمثلاً تراعي ألا تخدش مشاعر الناس بقسوة العبارة، وأنت تستطيع ليونة العبارة، وتراعي أن تبتسم في وجوه الناس، فتبسمك في وجه أخيك صدقة، وتراعي ألا توقف سيارتك بحيث تؤذيهم، وقد اشتكى إلى بعض الإخوة من بعض الإخوة الذين يأتون إلى هذا الدرس أنهم قد يوقفون سيارتهم بطريقة تمنع الآخرين الذين جاءوا للتسوق من الانصراف، وتحملهم بعض الأذى أو تشق عليهم، وتسمح للناس بالتجاوز في الطريق سواء كانوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً على سيارتهم، ولا تعتبر أن من الشجاعة أو الشطارة أن تسرع بسيارتك بألا يتجاوز أحد أمامك، لا ترمِ القمامة في مكان غير ملائم يكون مؤذياً لك أو لغيرك، لا توقف سيارتك أمام باب الجيران أو غيرهم من الناس. وهكذا مئات من الأمثلة بل ألوف من أمثلة السلوكيات التي لو تفطن لها الإنسان لأدرك عظيم خطرها لموقف الناس من الدعاة، وأدرك أنه في كل خطوة أو تصرف -حتى لو كان في نظرنا تافهاً- فإنه يستطيع أن ينفع أو يضر من خلال هذا التصرف. قد يقول قائل: كون الواحد يشرب البيبسى ثم يلقى به من نافذة السيارة ماذا يضر؟ وهل يستحق هذا أن تتكلم عنه في محاضرة؟ فأقول: إن مثل هذا التصرف هو عبارة عن نقطة من سيل! إذا كثرت مثل هذه التصرفات مع نوعية معينة من الناس أحدثت عند الآخرين تصوراً، مع أن القضية ليست هذه القضية الجزئية البسيطة، لكنها قضية آلاف الأمثلة التي هي في مجموعها تشكل الحياة، ونحن نتكلم عن صناعة الحياة. فكن يا أخي الحبيب من صناع الحياة الذين يتقنون الوصول إلى قلوب الناس بكافة الوسائل! بل بالأمور البسيطة اليسيرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 القرآن وهموم الناس ونحن نجد في القرآن الكريم لوماً وتقريعاً للذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين لا يهتمون بالفقراء والمساكين والمعدمين في آيات كثيرة جداً، حتى في مكة حين كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً من الدنيا، ومع ذلك كان القرآن ينزل: بسم الله الرحمن الرحيم {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6] الذين {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون:1-2] . ويقول عز وجل: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً * وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:27-20] ويقول سبحانه: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:11-16] إلى آخر الآيات. إذاً عُني القرآن -حتى في مكة- بالحديث عن هموم الناس المعيشية الدنيوية، في الدفاع عن حقوق المستضعفين، في رفع الظلم عن المظلومين، في المطالبة بحقوقهم وحمايتهم، وأقل ما يمكن هو وعيد الذين يقومون بظلم الناس وبخسهم والاعتداء على حقوقهم، وعيدهم بالنار هذا أقل ما تملك، ولكنك قد تملك أحياناً أكثر من ذلك، فيجب عليك أن تفعله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 شبهة وجوابها سيتساءل البعض -وربما يكون هناك أسئلة قرأت بعضها من هذا القبيل- يقول: كأننا جعلنا عملنا إذاً بحسب رضا الناس؟! فأقول: أولاً: رضا الناس في مثل تلك الأشياء والأحوال التي تكلمت عنها هو من رضا الله عز وجل لأمور منها: أنه ليس في هذه الأشياء معصية لله تعالى، بل هذه الأمور إما أن تكون طاعة لله عز وجل أوهي على أقل الأحوال أمور مباحة لا حرج فيها؛ فرضا الناس من رضا الله. ثانياً: أن الهدف -في كسب رضا الناس حينئذٍ- ليس لأن ننال مديحهم وثناءهم، ولا أن نسلم من شرهم، ولكن أن نحقق استجابتهم للدعوة إلى الله تعالى، إنك ستواجه الناس أيها الداعية بأشياء كثيرة خلاف ما يألفون وخلاف ما يحبون مما اعتادوا هم عليه وهو منكر، فتريد أن يتركوه وأن تفطمهم عنه. وهناك أشياء مدعاة للكراهية ومدعاة للامتعاض منهم، فلا بد أن تعوضهم عن ذلك بتوفير بعض ما يحبونه بحيث تدفع كما يقولون: هذا يبرِّد هذا! فيكافئ أحدهما الآخر، ولا يجوز أن يكون دورك أيها الداعية مقتصراً على كلمة لا، أو كلمة حرام فحسب، بل يجب أن تقول: حرام لما هو حرام، وتقول: لا فيما يجب أن يقال فيه: لا، وأن يتعدى دورك مع هذا إلى الدور الإيجابي المؤثر في الحياة. مثال: إذا كان عند أسرتك زواج، فأنت تعرف أنه سيقع في الزواج منكر، فلا يجوز أن يكون دورك فقط أن تقول لا تفعلوا، لا تفعلوا، لا تفعلوا؛ لأنهم لن يطيعوك حينئذٍ. بل ينبغي أن تحجز مكاناً لقبول رأيك، فتحاول أن تخدمهم؛ فتوزع بطاقات الدعوة للزواج، تيسر الأمور، تستقبل الضيوف، تقوم بالخدمات، توفر الإمكانيات، تأتي بالبسط، والمعدات الكهربائية، والمصابيح التي يحتاج إليها، والعقود الكهربائية إلى غير ذلك بحيث تكون فعالاً ومؤثراً في عملية تيسير موضوع الزواج. فإذا جاءت قضية الأمور التي لا تجوز قلت: لا! هنا قفوا! لا نريد أن نرتكب ما حرّم الله عز وجل، لا نريد أن نأتي بالغناء المحرم فيسمعه الناس، لا نريد أن يسمع الرجال أصوات النساء، لا نريد اختلاط الرجال بالنساء. وهكذا يكون كلامك مؤثراً لماذا؟ لأنك أصبحت صاحب قرار، أصبحت فعلاً قد حجزت مكاناً لرأيك قبل أن تقول الرأي أو تقدمه نفسه. أيها الأحبة لقد حيل بين المسلمين وبين معرفة حقيقة الدعاة -كما ذكرت قبل قليل- بحوائل كثيرة، فجعلوا قبول الدعوة، في كثير من الأحيان أمراً فيه صعوبة، بل قد صوّرهم الإعلام بكافة الصور، ونحن ينبغي أن نسعى دائماً وأبداً إلى إزالة هذه الصورة، وأن يعلم الناس حقيقة ما في قلوب الدعاة لهم. وأترك ما بقى من الكلام، وهولا شك كلام مهم، ولكن أريد أن أترك بعض الوقت للأسئلة، وهذه بعض الأسئلة . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 الأسئلة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 مسئولية الدعوة إلى الله السؤال ما رأيك في الاعتقاد السائد عند بعض الناس أن الدعوة إلى الله تعالى ملقاة على عاتق طلاب الشريعة والدراسات الدينية، وينفي المسئولية عن طلاب التخصصات الأخرى؟ الجواب لا أبداً! الحياة مدرسة، فيها صناع من كل الألوان والأنواع، وكل الدعاة إلى الله تعالى من صناع الحياة الذين يجب أن يقوموا بدعوتهم من خلال تخصصاتهم، فالفقيه يتكلم فيصدقه الطبيب ويصدقه الاقتصاد. وربما قال الفقيه مثلاً: إن الربا يمحق المال، فلم يصدقه الناس -أو كثير من الناس- لضعف يقينهم، فقام عالم الاقتصاد وقال: صدق الفقيه! الربا يمحق الاقتصاد وهذه هي الأدلة، فقال الناس: آمنا وصدقنا. وربما قال الفقيه: الزنا سبب للانهيار، والزنا سبب لكثير من الأمراض، والزنا سبب لتفكك الروابط؛ فشك الناس في أمره، فقام الطبيب وقال: صدق الفقيه! وهذه هي الإحصائيات، وهذه هي الأدلة وهذه هي الأرقام، فصدقه الناس، فنحن نحتاج إلى كوادر من كافة التخصصات تقوم بالدعوة إلى الله تعالى. وهذا الموضوع أيضاً في كثير من المحاضرات والدروس ألفت النظر إليها منها محاضرة للشيخ سعيد بن زعير، بعنوان: الدعوة إلى الله مسئولية من، ومنها محاضرة للشيخ عبد الوهاب الناصر بعنوان: العمل للدين مسئولية الجميع. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 إثم من ترك الحكمة في دعوته إلى الله السؤال بعض الدعاة بل كثير منهم إذا أراد النصح والإرشاد همه أن يبرئ ذمته في هذا الأمر، بغض النظر عما يؤول إليه فتجده يأمر وينهى باختصار فيرمي الكلام ويذهب، وكثيراً ما سمعته يقول: أنا بَرَّأْتُ ذمتي، أما النتيجة فيتحملها هو!! مع أنها نصيحة جافة جداً؛ فما رأيك؟ الجواب أشرت إلى هذا الأمر، لا ينبغي أبداً أن يكون الداعية أنانياً بهذه الصورة؛ بل إن براءة الذمة قد لا تتحقق بهذا، ما رأيك في إنسان دعا بجفاف -كما قال: بكلمة جافة- ولم يمهد لها، فكانت النتيجة أن تضاعف المنكر؟! أعتقد أنه آثم! اللهم إلا أن يكون اجتهد وسعه حينئذ، فالمجتهد غير آثم، لكن إن كان غير مجتهد فحينئذ يكون آثماً، فلا تبرأ ذمته بل يتحمل وزراً جديداً، وينبغي أن يعرف الداعية أنه كما عليه أن يعرف الحق الذي يدعو إليه عليه أن يعرف الطريق في الدعوة إلى هذا الحق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 التلطف والمزاح مع الزملاء السؤال لي زملاء منهم رئيسي ومنهم من هو دون ذلك؛ فهل أمازحهم في سبيل الدعوة وقلبي كاره لهم؟ وما رأيك في دائرة خدمات فيها مهندس مجوسي يرأس نحو150 مسلم هل من نصيحة للمسئولين الذين ولوا هذا المجوسي؟ الجواب هذه كارثة أن يكون في بلاد الإسلام مجوسي يتولى على المسلمين، سواء كان ذلك في دوائر حكومية، أوفي شركات أهلية، وهي مصيبة موجودة، وأحياناً هذا الكافر يؤذي أولئك المسلمين في مناسبات الصلاة أو الصيام أو الحج أو غير ذلك. وأما التلطف والممازحة لزملائك في العمل بقصد دعوتهم إلى الله تعالى فلا حرج عليك في ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 وسائل لكسب الإخوة الصغار السؤال ما هي الطرق والوسائل التي أستطيع بها أن أكسب قلوب إخواني الصغار ولكي أَبني أنا ما يهدمه والدي في التعنيف والضرب؟ الجواب كسب قلوب الصغار سهل، فالصغار أصحاب قلوب طيبة وأصحاب فطرة سليمة، فتكسب قلبهم من خلال الكلام الطيب، من خلال اللطف معهم، من خلال القصص التي تقدمها لهم، من خلال الحلوى التي تهديها لهم، أو اللعبة الطيبة، أو تركبهم معك في السيارة إن كنت صاحب سيارة، وتحاول أن تساعدهم على حل واجباتهم، ولا تقسو عليهم، وإذا أخطئوا تصحح لهم الخطأ بالأسلوب المناسب، وتستمر على ذلك، وقد ترى أحياناً أن من الواجب أن تغضب عليهم أو تعاقبهم، لا مانع من ذلك، لكن لا يكون ذلك منك هو القاعدة أبداً، بل يكون هذا عند الحاجة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 التوفيق بين تأليف القلوب وإنكار المنكر السؤال كيف نوفق بين تأليف القلوب وإنكار المنكر؟ حيث إن هذا الشخص لا تعرفه من قبل حتى تعامله بما يصلح له؟ الجواب أصلاً تأليف القلب ليس له حد محدود، الابتسامة مثلاً: ابذل الابتسامة لكل أحد، فإذا وجدت هذا الإنسان عليه منكر، وتريد أن تنبهه عليه، فاجعل رسولك إليه الابتسامة الطيبة الصادقة التي تعبر عن قلب لا يحمل له إلا الحب. ثم صافحه بحرارة وتكلم معه، واسأله عن أحواله، حتى إذا وجدت في قلبه ميلاً إليك، وهدأت نفسه، وزال ما يجب، فتسلل إليه بالأسلوب الذي تعتقد أنه مناسب، وتحدث معه فيما تريد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 فقه أولويات الدعوة السؤال هل إذا ظننت أن إنكاري للمنكر قد يجلب منكراً آخر، أو يقضي على معروف، هل الظن يخولني ترك إنكار المنكر؟ الجواب المسألة مسألة اجتهاد، فالإنسان الذي يريد إنكار المنكر إن استطاع وكان الأمر يتسع إلى أن يستشير غيره ممن يكون أعلم منه، فليستشر غيره في ذلك. لكن إن كان الأمر لا يسعف ولا يمكن إلا أن يقوم هو بذلك، فعليه أن يجتهد وسعه في هذا الأمر ولا يألو، ويعمل بما يغلب على ظنه؛ لأن هذه الأمور ليس فيها يقين بطبيعة الحال، إنما فيها غلبة ظن، فإن غلب على ظنه أن المنكر يزول أنكر، وإن غلب على ظنه أنه قد لا يزول، ولكن لن يترتب مفسدة فإنه ينكر أيضاً. لكن إن غلب على ظنه أنه لن يزول المنكر، بل سيوجد منكر آخر أعظم منه، أو يزول معروف أعظم، فحينئذ لا ينكر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 مراعاة شعور الناس لا يستلزم ترك الحق السؤال من يقول: إني إذا راعيت شعور الناس في أعمالي فإني لن أعمل كثيراً من الحق؟ فماذا نقول له؟ الجواب أقول: إن مراعاة الناس في هذه الأمور بالأسلوب الذي تكلمت عنه تفصيلاً هو من الحق كما حرصت على إظهار ذلك منذ البداية، من الحق الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم وعمله ودعا إليه واتخذه مبدأً في كثير من أعماله وأقواله وأحواله عليه الصلاة والسلام. ثم إن الواقع يدل على أنك إذا راعيت شعور الناس حصلت على كثير مما تريد، وقد قال عبد الله بن المبارك: [[حسن الخلق شيء هين! وجه طلق وكلام لين]] الناس ليس في التعامل معهم صعوبة بل هو سهل، وبمجرد أن يكون وجهك طلقاً وكلامك ليناً، تحصل منهم على شيء كثير، وهذا أمر مجرب. فليس المطلوب منك -الآن- أن تترك الدعوة أو تترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تترك الإصلاح، لا! المطلوب أن تقوم بذلك كله، لكن أن تجعل الوسيط بينك وبين الناس جسوراً قائمة. سمعتك بين الناس حسنة، تقوم بمصالح الناس الدنيوية، تحرص على ما ينفعهم، تتلطف إليهم بالخلق الفاضل، لا تترك سبيلاً إلى الوصول إلى قلوبهم والتسلل إليها إلا سلكته، ثم مع ذلك وقبله وبعده تدعوهم إلى الله تعالى، وستجد أن النتائج أكبر بكثير مما تتصور، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله} الحديث. فإذا ملكت قلب هذا الإنسان فكأنك استعبدته، فأصبحَ طوعَ بنانك، فنحن لا نريد استعباد الناس لأنفسنا، إنما نريد تعبيدهم لرب العالمين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 جلسة على الرصيف إن الحديث إلى أولئك الشباب الذين يملئون الأرصفة والطرقات في مجالسهم وأماكنهم أمر مهم جداً، وهو باب من أبواب الدعوة إلى الله تعالى، فلابد من إخراجهم مما هم فيه من الضياع وعدم الالتزام بالدين إلى نور الإيمان والطاعة، وهذه هي مسئولية الشباب الملتزم المستقيم على دين الله. لذلك فقد تكلم الشيخ -حفظه الله- إلى الشباب بكل وضوح وصراحة، وبيَّن خطر الغفلة والضياع ثم ذكر قِصَر الدنيا وأنها لا تساوي شيئاً، وتكلم عن بعض أوصاف الجنة والنار، ثم حض على التوبة النصوح والاستعداد ليوم المعاد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 1 الحديث مع شباب الأرصفة حقيقة لا خيال إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: موعدكم هذه الليلة مع الدرس الثلاثين وفي يوم السبت ليلة الأحد (8 /جمادى الأول/ 1411هـ) وعنوانه: (جلسة على الرصيف) . صحيح أن الجلسة على الرصيف مما لا يسوغ ولا يليق بطلبة العلم كما تحدث عن ذلك أحد الإخوة الذين كتبوا إليَّ رسالة في هذا الموضوع، لكن الحديث معروف، وعنوان هذا الدرس ملائم لموضوعه إن شاء الله تعالى. أخي الشاب أخي الحبيب!! السلام عليك ورحمة الله وبركاته حقيقة أقول لك: إني سعيد أنني أتحدث إليك الآن، لقد مر علينا زمن كنا نرى فيه فلذات أكبادنا، في مجالسهم وأماكن سمرهم وسهرهم، فيخيل إلينا أن الحديث إلى أولئك الشباب قد يكون ضرباً من الخيال والمحال، فإذا به الآن يصبح واقعاً فالحمد لله على كل حال. أخي الحبيب، هل نطمع أن يكون هذا اللقاء الميمون في هذه الجلسة، وفي هذه المحاضرة، سبباً في الاتصال الدائم بيننا، نستمع إليك وتستمع إلينا، ونتدارس المشكلات بروح الأخوة والمحبة، أرجو أن يكون هذا اللقاء فاتحة خير وبركة لنا ولإخواننا من الشباب، بل أقول: هل نطمع أن يتسع صدرك لرؤية إخوانك الطيبين، حين يزورونك عشر دقائق أو خمس دقائق، ليتناولوا معك فنجاناً من الشاي، أو كوباً من الماء، ويرسلوا إليك خبراً يهمك، أو يحدثوك بقصة أو يستشيروك في مشكلة، أو يقدموا لك هديةً؟! أرجو أن يتسع صدرك -أيها الشاب- لمثل أولئك الإخوة! حين يقدمون إليك بما ذكرت. نحن واثقون -أيها الأخ الكريم- أن كرمك الفطري، لن يعتذر عما نطلبه منك. أخي، هل رأيت المآذن دوماً تشق الفضاء؟ أخي، هل سمعت النداء يردد: الله أكبر؟ أخي، هل غسلت فؤادك يوماً بنور السماء؟ تعال معي يا حبيبي إلى روضة من ضياء. تعال إلى حيث يدعو المنادي صباح مساء: يردد الله أكبر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 2 شباب الأرصفة والشباب المستقيم أيها الشباب! إن الفرق كبير وكبير بين صنفين من الشباب، فرق بينهما في الاهتمامات المستقبلية، فرق بين من طموحه أن يمتلك سيارة فارهة فخمة يجوس بها خلال الديار، ويحدث بصرير عجلاتها الإزعاج للناس، أو يحمل عليها صديقاً أو زميلاً، وبين من يتعدى طموحه ذلك إلى أن يطمح في تحقيق نصر وعزة للإسلام، أو يطمح أن يكون ممن يكتب الله عز وجل على يديه انتصار هذا الدين، أو يطمح أن يكون عالماً يشار إليه بالبنان، أو داعية أو خطيباً يهز أعواد المنابر، أو مجاهداً يخضب الأرض بدمه. وفرق كبير بين من غايته ومناه أن يمتلك بيتاً واسعاً، وزوجة حسناء جميلة، وبين من يطمح أن يكون من المتقين، الذين هم: {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] . فرق بين من يسهر الليل يتقلب على فراشه في أسف، حزناً لواقع الأمة الإسلامية، التي أصبحت تئن تحت المطارق والضربات ليلاً ونهاراً، وبين من يبيت يتقلب، لأن صديقه الذي امتلأ قلبه بحبه قد تركه إلى غيره، أو أن فريقه الذي يشجعه قد مُني بهزيمة منكرة، في مباريات رياضية. أيها الإخوة! فرق كبير بين من يعد العدة ويتربص، ويعد الأيام والليالي ينتظر الإجازات؛ ليسافر إلى أماكن الفساد والرذيلة، في بانكوك أو كازابلانكا أو فرنسا وغيرها، وبين من يعد العدة ويترقب الأيام والليالي، ليسافر ليحيي شعيرة من شعائر الله، الجهاد في سبيل الله على أرض أفغانستان، أو على غيرها من بلاد الله، التي ترفع فيها أعلام الجهاد في سبيل الله عز وجل. فرق أي فرق -أيها الإخوة- بين من يسافر؛ ليتعاطى الخمور والمخدرات، ويبيت في أحضان المومسات والبغايا؛ ليعود إلى بلده وقد فقد الحياء، والرجولة وفقد الدين، وفقد المال والصحة والسعادة، وبين من يذهب يدعو إلى الله عز وجل، ويبلغ الناس رسالات الله عز وجل، ومن يذهب إلى المسلمين يتفقد أحوالهم ويعايشهم، ويحاول أن يخفف عنهم من همومهم وآلامهم. فرق كبير بين إنسان من الشباب، إذا سمعته المجالس فرحت وارتفعت الرءوس، واشرأبت الأعناق، وطاب الحديث؛ لأنه فلان بن فلان الرجل الطيب المطيب، صاحب الحديث اللذيذ، والمجلس المبارك، والصدقات، والابتسامات وتحفيظ القرآن والعلم والتعليم والمسجد والعبادة، وبين إنسان آخر إذا ذكر فإنما يذكر بالسب والشتم والدعاء؛ لأنه إما مدمن خمر، أو متعاطي مخدرات، أو آكل ربا، أو واقع في فاحشة، أو صاحب أسفار، أو زميل لشلة من شلل الفساد والريب، أو رجل لا يعرف إلا في أماكن السوء والانحلال. أيها الإخوة! هناك فرق بين من يتمتع بما أحل الله عز وجل له، فتجد أن صحته سليمة، وحياته مستقيمة وراحته تامة ونومه هنيء؛ لأنه قد أرضى الله عز وجل فأرضاه الله تعالى، وبين إنسان يتقلب على فراش المعصية، قد امتلأ جسمه بالأمراض والأوبئة، بسبب معصية الله عز وجل، وفقد الهدوء والأمن والاطمئنان، فهو يتقلب على مثل شوك السعدان يأوي إلى الفراش يريد النوم فيطير من عينيه؛ لأن الأحزان والمصائب التي ملأت قلبه، لم تدع للنوم إلى عينه سبيلاً. فرق بين من أرضى الله عز وجل، وبين من أسخط الله عز وجل. الله تعالى بيده ملكوت السماوات والأرض، من رضي الله عنه فالدنيا في عينه واسعة، حتى ولو تقلب على جمر الغضى، وحتى لو كان يعيش على سرير المرض، فإن الله عز وجل إذا رضي عن عبد فإنه لا خوف عليه. وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمان وبين إنسان آخر سخط الله عز وجل عليه، فجعل كل ما عنده سبباً في شقاوته فيتعبه ويقلقه، فالصحة كانت سبباً في وقوعه في الرذائل والمعاصي، والولد كان وبالاً عليه، والشهادة كانت سبباً في شقائه، فكل ما أعطاه الله تعالى من عطايا هذه الدار، أصبحت سبباً في شقائه؛ لأن الله تعالى سخط عليه فجعل كل ما في هذه الدنيا وبالاً عليه. أيها الإخوة! وكذلك فرق بين من يتمتع برضاء أمه وأبيه، فإذا خرج من البيت، قالت له أمه: يا ولدي! حفظك الله في حلك وترحالك! فقبل رأسها ودعا لها، وخرج وملء قلبه الرضا والسرور وبين إنسان آخر يدخل على والديه، فلا يلتفت إليهما، ولا يلتفتان إليه، هم يدعون الله تعالى عليه بكرةً وعشياً أن يهديه أو أن يهلكه، حتى يرتاحا من شره. أيها الإخوة! هؤلاء شباب هذه الأمة، منهم ومنهم، منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، ومنهم الصالحون ومنهم القاسطون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 مبشرات في نتائج الاستبيان أخي الشاب! "أنت مع من أحببت" ولعلي لا آتي بجديد إذا قلت: إن كل امرئ محاسب عن نفسه، حتى الأب لا يجزي عن ولده، والزوج لا يجزي عن زوجه والولد لا يغني عن والده شيئاً، مع كل هذا فإني أضع بين يديك هذا السؤال لماذا يحرص الشباب الملتزمون على هداية الناس؟ لماذا يحرصون على ذلك؟ ولماذا يتكدر هؤلاء إذا سمعوا الأخبار السيئة عن انحراف بعض الناس؟ بل لماذا يشتدون أحياناً ويغضبون إذا سمعوا أو رأوا ما يسخط الله عز وجل؟ هل تعتقد -أخي الحبيب- أن هناك سبباً آخر غير محبتهم الخير لك؟ كلا، إنهم لا يضيرهم أبداً أن ينحرف من ينحرف، ويضل من ضل، ويهلك من هلك: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] . إذاً: لا يضرهم أن يهتدي الناس أو يضلوا، يستقيموا أو ينحرفوا يصلحوا، أو يفسدوا, لكن الله عز وجل جعل في قلوبهم رحمة، فإذا رأوا الفاسق والعاصي حزنوا لذلك وابتأسوا حتى كأنهم سوف يعذبون بمعصيته وإثمه فيحرصون من ثَمَّ على هدايته وجلب الخير له. إنها محبتهم للخير للأمة، وحرصهم على هداية الناس، وكراهيتهم أن يروك وأنت تعذب في النار. أحبابنا كم كان سرورنا بالغاً- ولعله يشاطرني السرور كل من علموا بهذه النتيجة- أنه خلال استفتاء أشرت إليه سابقاً وأجري مع مجموعة تربو على مائتين من شباب الأرصفة، من الشباب الذين يقيمون في الأرصفة، أو يجلسون في جنبات الطريق بارك الله فيهم وهدانا الله تعالى وإياهم إلى سواء السبيل، ونفع الأمة بنا وبهم، كم كان السرور بالغاًُ حين نعلم جميعاً أن (70%) من هؤلاء الشباب أعلنوها صراحة أنهم يحبون الشباب المتدينين، جملةً وتفصيلاً، وأن (10%) يحبون بعض الشباب المتدينين، وأن (10%) هم الذين لا يحبون المتدينين، لسبب أو لآخر. إذاً: (80%) يحبون الشباب المتدينين، وحين سئل كثير من هؤلاء الشباب: هل تحب أن تكون شاباً متديناً؟ قد تتعجبون إذا علمتم أن أكثر من (99%) منهم قالوا: نعم، نحب أن نكون شباباً متدينين، (99. 5%) يرغبون أن يكونوا شباباً متدينين، وهذه إحصائية دقيقة، وليست كإحصائيات الانتخابات في بعض البلاد التي تخرج بنسبة (99. 999%) بالموافقة. هذه إحصائية مكتوبة على الورق أن (99. 5%) من الشباب، يتمنون أن يصبحوا شباباً متدينين، لماذا؟ لأنهم يريدون رضوان الله والجنة، وبعضهم قال: ويريد الراحة في الدنيا. عن أنس رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله ما أعددت لها كثير صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت} رواه البخاري وغيره. وأيضاً عن ابن مسعود وأبي موسى: {أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم -كما في البخاري -: الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم -يعني: يحبهم، ولكنه لم يعمل مثل عملهم- فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب} وقائل: هل عملٌ صالح أعددته ينفع عند الكرب فقلت حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب أيها الإخوة: إنك حين ترى كثيراً من هؤلاء الشباب، تعلم أنهم يحبون الطيبين من خلال عيونهم ونظراتهم ووجوههم، فإن الوجه يعبر عما وراءه: والنفس تعرف في عيني محدثها إن كان من حزبها أو من أعاديها عيناك قد دلتا عينيَّ منك على أشياء لولاهما ما كنت أدريها وأحياناً لغة العيون تدل على ما في الضمائر والقلوب. فيا أخي الشاب الحبيب، أولاً: أبشر بالخير الآجل والعاجل، فإن قدمك قد وضعت في الطريق الصحيح حيث جعلت ولاءك لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، وأعلنت إعلاناً صريحاً أنك تحب الشباب الملتزمين المتدينين، ولا تعدل بهم أحداً، لا فناناً ولا مطرباًُ ولا لاعباً ولا تاجراً ولا أميراً ولا وزيراً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 فضل الحب في الله أخي الكريم! هذا حب في الله عز وجل، فهل ذقت طعم المحبة في الله تعالى، إنها محبة في الله ليست محبةً في الفريق، فلم تحب فلاناً لأنه يشجع النادي الذي تشجعه، وليست محبة من أجل المال، فلست تحبه لأنك تستفيد منه مالاً، وليست محبة في الشكل، تحب فلاناً لحسن شكله وحسن هيئته وجمال خلقته، لا. وليست محبة الهوى التي يتبعها الذل، فإن محبة الهوى ذل في الوجه، وذل في الحياة، وذل بعد الممات. مساكين أهل الحب حتى قبورهم عليها غبار الذل بين المقابر إن المحبة في الله طعم آخر غير ذلك كله، إنها طعم لا يمكن وصفه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} . أخي، هل اقتربت من الطيبين؟ هل نظرت في وجوههم المشرقة بنور الإيمان؟ هل سمعت لذيذ كلامهم وحلاوة حديثهم وبرد أنفاسهم؟ عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه قال: {دخلت مسجد دمشق فإذا فيها فتىً براق الثنايا، وإذا الناس حوله، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه فيه، قال: فوقع حبه في قلبي، فسألت عنه فقيل لي: هذا معاذ بن جبل، هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما كان من الغد بكرت فوجدته قد سبقني في التبكير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى إذا قضى صلاته أتيته من قبل وجهه، فجلست بين يديه، وقلت له: والله إني لأحبك في الله. فنظر إليّّ، وقال: آلله -تحلف بالله- قلت: آلله. قال: آلله قلت: آلله. قال: فأخذ بحبوتي فجذبني إليه -جرني إليه- فقال لي: أبشر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: {وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيَّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، ووجبت محبتي للمتباذلين فيَّ} . أخي الحبيب أخي المسلم هل تريد في دنياك شيئاً أعظم من أن الله تعالى يحبك؟ من أحبه الله تعالى، فماذا يضره أن يبغضه الناس كلهم لو أبغضوه؟ مع أنه تعالى إذا أحب شخصاً كتب له الحب بين الناس، إذا أحب شخصاً نادى في السماء إني أحب فلاناً فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض، ينادي جبريل في السماء إن الله يحب فلاناً فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض فيحبه الناس المؤمنون كلهم أجمعون. هل تريد شيئاً أكثر من أن يحبك الله عز وجل فيجعل كل طرائقك وكل مسالك خطاك مآلها إلى النجاح؟ إن هذا غاية ما يتمناه كل إنسان، وطريقه سهل يسير، هو: أن يخفق قلبك بمحبة المؤمنين. فهل جربت هذا؟ هل تحرك قلبك بحب أصحاب الوجوه النيرة؟ هل خفق قلبك بحب أصحاب النوافل؟ هل خفق قلبك بحب أهل الصيام والقيام؟ هل خفق قلبك بحب أهل العلم والدعوة والجهاد؟ هل خفق قلبك بحب أهل الصدقة والبذل والإنفاق في سبيل الله؟ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن من الناس أناساً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم النبيون والشهداء بمكانهم من الله عز وجل، قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: هم قوم تحابوا في ذات الله، على غير أرحام بينهم، ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [يونس:62-64] } . هذه المحبة الإيمانية الأخوية، هي أدوم شيء في هذه الدنيا، فإن المتحابين في الله لا يتفرقون أبداً، لقد خفقت قلوب المؤمنين بحب بعضهم بعضاً منذ عشرات السنين، وما زال هذا الحب لا تزيده الأيام والليالي إلا ثباتاً ورسوخاً ومضاءً، وأحلف لكم بالله -أيها الأحبة- إنني أرى بعض الشباب الطيبين منذ سنين طويلة، وبينهم من الألفة والود والتراحم والتحاب والصداقة، أشد مما بين الأخ الشقيق مع أخيه، فكنت أقول في نفسي: ربما تكون هذه عاطفة مؤقتة وتزول، ولكني وجدت الأيام لا تزيدها إلا ثباتاً ورسوخاً وعمقاً، فهم منذ سنين طويلة على غاية من الحب فيما بينهم والتواصل والتراحم لم يجد الشيطان سبيلاً إلى فصم عرى هذه المحبة، فهي محبة باقية، بخلاف المحبة في غير الله، كالمحبة في الفريق -مثلاً- أو المحبة في المال، أو المحبة على معصية، فما أسرع ما تزول، يقال: من أحبك على شيء أبغضك على فقده، فكم من تاجر افتقر تفرق عنه أصحابه وأحبابه، وكم من رئيس أو مسئول لما أُعفي من منصبه، أو ابتعد عنه أو تقاعد؛ تركه الناس وأعرضوا عنه، وكم من إنسان كان يتمتع بشيء فلما زال وذهب عنه هذا الشيء؛ أعرض عنه الناس؟! حتى ربما يرونه في الشارع فلا يسلمون عليه! فهل تريد يا أخي الحبيب شيئاً أدوم وأثقل وأثبت من المحبة في الله تعالى؟ ما كان لله دام واتصل، بل إن هذه المحبة تدوم حتى بعد الموت، ألم تر إلى الطيبين، إذا ذُكر بعض أحبابهم الذين ذهبوا إلى قبورهم، دمعت أعينهم، وقالوا: رحمة الله على فلان، ووالله إننا نتلذذ بأن نردد أسماء بعض أحبابنا وأصحابنا الذين لقيناهم يوماً من الدهر، ثم سبقونا إلى الدار الآخرة، فكلما ذكرناهم ترحمنا عليهم، قلنا رحمة الله عليهم، وكلما عرف الطيبون والصالحون أن صديقهم فلاناً له أولاد بعد وفاته، أو زوجة أو أم أو قريب، أو عليه دين؛ سارعوا في سداد دينه، أو إعانة ورثته أو ما أشبه ذلك. فالمحبة باقية بعد الموت، بل وباقية في الدار الآخرة، قال الله عز وجل: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] أما غير المتقين فالمودة بينهم في الحياة الدنيا فقط، أما يوم القيامة فكما قال الله عز وجل: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت:25] . فاختر يا أخي الحبيب، لنفسك أي الطريقين شئت! وأنا واثق كل الثقة أنك لن تختار لنفسك طريقاً تدري أن فيها العطب في الدنيا والآخرة، فإن العاقل لا يختار لنفسه إلا أسلم الطرق وأحسنها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 الالتزام واللباس يا أخي الحبيب ما الذي يمنعك من الالتزام الكامل بدين الله عز وجل وشرعه؟!! أنت -مثلاً- تريد أن تكون جميل الثياب، جميل السيارة جميل المظهر نظيفاً، فهل تعتقد أن التزامك بالإسلام يمنعك من ذلك؟ كلا! فالله جميل يحب الجمال! كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم يحب أن يكون ثوبه حسناً نظيفاً ويحب أن يكون نعله حسنةً جميلة، وقد سألوا رسول لله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فوافقهم عليه وأقرهم، وفي سنن أبي داود وغيره، عن جابر رضي الله عنه قال: {أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى رجلاً أشعث، قد تفرق شعره -شعره فيه تفرق وشعث- لم يسرح شعره منذ أيام وما أصابه دهن منذ أيام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما كان هذا يجد ما يسكن به شعره؟! أي: ما كان يجد دهناً أو غيره يسرح به شعره؟ قال: ورأى رجلاً آخر، عليه ثوب وسخة، فقال صلى الله عليه وسلم: أما كان هذا يجد ماءً يغسل به ثوبه؟} . والنظافة لا تحتاج إلى كبير جهد، غسل الثوب، وتسريح الشعر، وإصلاح النعل، ونظافة السيارة، هذه لا تحتاج إلى كبير جهد، وليس معنى هذا أن الإنسان يصرف أربع ساعات أو خمس ساعات في اليوم والليلة على تسريح الشعر أمام المرآة، وعلى تصفيفه أو تسريحات غربية في أماكن الحلاقة وغيرها كلا؛ وليس مطلوب من الإنسان أن يشتغل طول وقته بثيابه، وكيها وغسلها وتلوينها وتنويعها، كلا؛ وإنما المطلوب قدر معتدل من النظافة، يكون به الإنسان حسناً جميلاً بين الناس، دون أن يفضي به ذلك إلى إسراف أو غلو أو إهدار وقت فيما لا فائدة فيه. عن أبي الأحوص رضي الله عنه، قال: {أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في ثوب غير جميل -ثوب متسخ أو قديم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألك مال؟ قال: نعم، قال: من أي المال؟ قلت: من كل المال آتاني الله عز وجل! من الإبل، والغنم، والخيل، والرقيق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك. وفي لفظ: إن الله تعالى يحب إن يرى أثر نعمته على عبده} . ولذلك ابن عباس رضي الله عنه لما ذهب إلى مخاصمة الخوارج ومناظرتهم ومجادلتهم قال: [[لبست أحسن ما يكون من حلل اليمن -كان عنده ثوباً ثميناً غالي الثمن، من حلل اليمن فلبسه رضي الله عنه وأرضاه- وكان ضخماً جهوري الصوت، فجاء إليهم، فقالوا له: مرحباً بك يا ابن عباس، ما هذه الحلة؟ قال: ما تعيبون عليّ، لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل]] فنحن لا نعترض عليك -أخي الحبيب- في لباسك، ولا في حذائك ولا في سيارتك، ولا في مظهرك، مادام في حدود المباح، هل لبست ثوباً من حرير؟ لا. لم تلبس من حرير، وكيف تلبسه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} ويقول عليه الصلاة والسلام، وقد خرج ومعه قطعة من حرير، وقطعة من ذهب: {هذان حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها} هل لبست ثياباً شفافة لا تستر؟ وليس تحتها ما يستر؟ كلا لم تفعل ذلك، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {احفظ عورتك إلا من نفسك أو ما ملكت يمينك} والله تعالى يقول: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] هل لبست ثوباً صنع لغيرك؟ كلا؛ وأنى لمثلك -ممن من الله عليهم بالرجولة- أنى لمثلك أن يلبس ثوباً صنع لغيره، سواء صنع لكافرٍٍ أو صنع لجنس آخر هل خرجت إلى حد البذخ والإسراف في لباسك؟ كلا. إذاً فكل والبس واركب وتصدق، في غير إسراف ولا مخيلة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 الالتزام والرياضة أخي الكريم! أنت تحب الرياضة وتلعب الكرة، وقد تحضر بعض المباريات الرياضية، وتقضي جزءاً غير قليل من الوقت مع الفريق أو النادي الذي تشجع، فهل ترى أن تبخل على نفسك بدقائق تقضيها في المسجد أو في المحاضرة أو مع بعض الرفقة الصالحين؟ هل يمنعك ذلك من أن تأخذ ولو ساعة أو نصف ساعة أو ربع ساعة تسمع فيها كلمة قد ينفعك الله تبارك وتعالى بها؟ فربما أن الكلمة التي كتب الله سعادتك بها لم تسمعها حتى الآن، فإذا سمعت متحدثاً فاستمع إليه ربما يصل كلامه إلى قلبك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 شبهة من يقول: إن جلوسي في مجالس اللهو ثم في مجالس الصالحين من النفاق بعض الإخوة من الشباب يقولون: نحن لا نريد أن نكون منافقين وهذا صحيح، ونحن نوافقهم ونؤيدهم على أن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، وأن المنافق أكفر من الكافر وأكفر من اليهودي أو النصراني، لكن كيف يكونون من المنافقين؟ بعضهم يقول: ليس صحيحاً أن أجلس اليوم على مدرجات الكرة، ومعي الطبل في حجري، وأستمع الغناء وأفعل الحرام، ثم غداً تجدني أصلي في المسجد، أو أجلس في حلقة، أو أقف مع شباب طيبين، هذا نوع من النفاق. هكذا يتصور بعض الشباب، وهذا خطأ كبير، بل هي ضحكة من إبليس على أولئك الإخوة، فإن العكس هو الصحيح. الله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وكان الأولى بك أن تدعو نفسك إلى ترك المعصية حتى تكون مستقيماً منسجماً، وتكون حياتك كلها براً وصلاحاً واستقامة وصحبة للأخيار وحضوراً للمساجد، لكن إذا عجزت عن ذلك، فإنه يجب عليك أن تصر على فعل الخير، رجاء أن يوفقك الله إلى التوبة. فإذا ترك الإنسان الطاعة، ترك الصلاة -مثلاً- وترك صحبة الأخيار، وترك حلقة العلم وحضور المحاضرة ودرس القرآن، بحجة أنه يقول: أنا مقيم على معاصي، لو علم بها هؤلاء الشباب الذين إلى جواري؛ لتركوني وبصقوا في وجهي، وأعرضوا عني وركلوني بأقدامهم، فإن الإنسان حينئذٍ يكون قد اختار لنفسه والعياذ بالله -طريق النار، ما هو طريق النار؟ هو ترك الطاعة والإقبال على المعصية، هذا هو طريق النار فالمعاصي الصغيرة قد تجتمع على الرجل العظيم حتى ترديه نار جهنم. إن مجرد صحبتك للأخيار، وجلوسك معهم وحبك لهم، قد تكون سبباً في شمول الرحمة، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {اجتمع قوم في مجلس يذكرون الله عز وجل، فصعدت بعض الملائكة إلى الله عز وجل، فقال: كيف تركتم عبادي؟ قالوا: تركناهم يذكرونك ويسبحونك ويحمدونك ويسألونك فقال الله عز وجل، ماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة ويستعيذون بك من النار، فقال الله عز وجل: أشهدكم أني قد غفرت لهم، قالوا: يا رب إن فيهم فلاناً ليس منهم وإنما جاء لحاجة -رجل في الواقع ليس منهم، ولا من عادته أن يحضر معهم، لكن أدركته حاجته، كان يريد شخصاً فجلس ينتظر قيامه حتى يخرج معه- فقال الله عز وجل: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} . وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله. فجلوسك مع الطيبين سبب في نزول الرحمة، وتشملك الرحمة وعند حلقات ذكر الطيبين، تنزل الرحمة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 المجاهرة بالذنوب والمعاصي أخي الحبيب! هل تريد أن تكون مجاهراً بمعصيتك، حين تركت صحبة الطيبين، وقلت: لا أريد أن أكون من المنافقين؟ هل تريد أن تعلن معصيتك وتجاهر بها، حتى يتكلم الناس عنك: فلان بن فلان عنده من المعاصي كذا وكذا؟ هذا لا يصلح أخي الحبيب، كون أن عندك معصية تستتر بها بينك وبين رب العالمين، فهي سر تسأل الله: يا رب سرٌّ بيني وبينك، أسألك لا تفضحني في الأرض ولا يوم العرض هذا شيء، وكونك تعلن المعصية على الملأ وتتبجح بها، هذا شيء آخر. ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} أي: المعلنون للمعاصي. من هم المجاهرون؟ كونك -مثلاً- تشغل المسجل على صوت أغنية يسمعها الناس من مسافة مائة متر أو أكثر، وتمر وتمشي بسيارتك بهدوء، تستعرض وكأنك تريد أن تلفت إليك الأنظار، هذه مجاهرة؛ لأنك تقول للناس اسمعوا، أنا الآن أستمع إلى أغنية وإن كان الله تعالى قد حرمها؛ فهذا من المجاهرين. ومن المجاهرة أن الإنسان يفتخر بالمعصية أمام زملائه أحياناً، فإذا اجتمع بعض الشباب يبدأ بعضهم ممن ليس عنده دين، يجاهر بأنه فعل كذا، وفعل كذا، ويذكر مغامرات وجرائم وذنوب فعلها، وكيف أنه أوقع امرأة في الحرام، وكيف شرب وسافر وسكر، ويبدأ يسرد قائمة من المعاصي، هذا لا يغفر له إلا أن يتوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم عليه أنه لا يعافى؛ لأن هذا الإنسان لو كان يعلم أن هذا الأمر يسخط الله عز وجل ويدري أن الله عز وجل يسمعه الآن، ما أقدم على ما أقدم عليه، ولجعل الأمر سراً بينه وبين الله عز وجل. وأخبث وأعظم من ذلك، أن بعضهم إذا سمع زملاءه يقولون هكذا، فإنه ربما افتعل واختلق شيئاًلم يحدث وبدأ يجاريهم فيما يقولون، فقال: إن لي علاقات محرمة، وأنا لي صديقات وأنا فعلت، وبدأ يسرد قصصاً مكذوبة عن بعض المعاصي التي لم تقع، وهذا والعياذ بالله لاشك أنه ليس أعظم إثماً ممن فعلها وجاهر بها، لكن إثمه أيضاً عظيم، وبعضهم يتعدى به المجاهرة إلى أن يسجل المعصية على شريط، كما فعل بعض المغنين ولا كرامة لهم؛ لأنهم مرتدون بفعلهم هذا، فعندما يسجل أغنية، كيف أنه غرر بفتاة وجرها إلى المنزل، وارتكب معها الفاحشة، ويذكر تفاصيل كثيرة، ويجعل هذا في شريط يسمع عند بعض السفهاء، وبعض الفساق، فإن هذه ردة عن الإسلام، وهذا مخلد والعياذ بالله في نار جهنم إلا أن يتوب، لماذا؟ لأنه لا يؤمن بقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 الفرق بين العاصي المؤمن والعاصي الفاجر إخوتي الأحبة! يجب أن نفرق بين العاصي المؤمن، وبين العاصي الفاجر، المؤمن يحزن لمعصيته، ويتحرق قلبه ويتقطع ويتحسر ويندم، وينزل دموعاً لا عداد لها على ذنوب بارز الله بها، وعلى لحظات غفل بها عن ربه، فوقع في معصية أو زلة أو خطيئة، أو نظرة أو حركة أو خطوة، أما الفاجر فإنه يمضي قدماً لا يلوي على شيء، وإنما يقول: زدني زدني؛ لأن هذه المعاصي أصبح يتلذذ بها ولا يحزن عليها، هذا هو الفاجر، والعياذ بالله. المؤمن يستغفر ويرجو التوبة، وكلما عصى الله عز وجل وضع جبهته في التراب، وقال: يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، أما الفاجر فإنه لا يستغفر الله من ذنبه ولا من معصيته؛ بل إنه معرض عن الله تعالى، وربما بلغت به الوقاحة إلى أن يغفل عن ربه، أو يهزأ بأوليائه وحزبه. والمؤمن يتستر في معصيته، فإذا عصى الله عز وجل حاول أن لا يعلم ذلك أحد؛ ليكون الأمر سراً بينه وبين الله، أما الفاجر فإنه يعلن معصيته، ويفخر بها بين الناس، هاأنا قد عصيت ربي، كأنه يتحدى الله تعالى، والله تعالى بالمرصاد لكل من يبارزه بالمعاصي، يفضحه في الدنيا، ويفضحه على رءوس الخلائق يوم القيامة. المؤمن وإن عصى فإنه يحب الطائعين ويواليهم، ويتمنى أن يكون مثلهم، ويبغض العاصين وإن كانت بضاعتهم واحدة. أما الفاجر فإنك تجد ولاءه وحبه وقلبه مع أهل المعصية والفساد، فإذا رأى رجلاً عليه علامة الإيمان والصلاح أعرض وأشاح عنه بوجهه، وربما أغمض عينيه، وربما طأطأ رأسه، وربما أطلق بعض الكلمات التي تنم عن كراهيته وتذمره لرؤيته ولمشاهدته، المؤمن لا يتبجح بمعصيته، ولا يعتبر المؤمن أن من المروءة أن يكون ارتكب ما يسخط الله عز وجل. إن المؤمن لا يسخر بالمطيعين ولا يسخر بالذين يتركون الربا؛ لأنهم لا يعرفون البيع والشراء في زعمه، ولا يسخر من الذين يتركون الزنا؛ لأنه يحسب أنهم ما جربوه، أو أنه ليس في قلوبهم شهوات، كلا. كلا؛ إنهم في نفوسهم من الشهوات للمال ولغيره، مثل ما في نفسه أو أعظم، لكنهم ألجموا أنفسهم بلجام الخوف من الله عز وجل، فنهوا النفس عن الهوى قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:37-41] . هل تحسب يا أخي أن المؤمن لا يوجد في نفسه هوى؟ وهل تظن هذا؟ ومن قال لك هذا؟ بل في نفسه مثل ما في نفسك، بل يمكن أشد، ولكنه مع ذلك نهى النفس عن الهوى؛ لأن عنده شيئاً اسمه: الآخرة، يستعدون له ويضعونه في الحسبان، فإن الجنة هي المأوى. هل يمنعك -يا أخي الكريم- زملاؤك الذين تصحبهم من الخير والاستقامة؟ إن كان زملاؤك كذلك فلا خير فيهم، فإن كل شيء حال بينك وبين الله عز وجل فهو شر يجب أن تبتعد عنه. فإن كانوا لا يحولون بينك وبين الطاعة، فحبذا وحيَّهلا، وعليك أن تعمل على جرهم إلى أماكن الخير والطاعة وإلى مناسبات الاستقامة بقدر ما تستطيع، عسى الله أن يكتب لك أجر استقامتهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 حال المؤمن مع المعاصي بالله عليكم! الذي يعرف أن الزنا حرام وفاحشة ويسخط الله عز وجل، هل يفتخر أمام الناس وأمام الملايين أو مئات الألوف من الناس، بأنه غرر بفتاة وزنى بها. لا يفعل هذا مؤمن، المؤمن لو فُرض أنه وقع في زلة أو جرته قدمه إلى معصية، يكون حاله كحالة ماعز الأسلمي، ظل بعد ما زنا أياماً لا يذوق لذيذ الفراش، ولا طعم النوم، ولا يهنأ بعيش، ولا أكل ولا شرب، حتى يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، زنيت فطهرني، ثم يقام عليه الحد، فيصبح في أنهار الجنة ينغمس فيها، المؤمن الذي يعلم أن الزنا فاحشة يعمل كما عملت الغامدية -لو جره الشيطان إلى معصية- ما زالت حتى أقام الرسول صلى الله عليه وسلم عليها حد الزنا، بعد سنتين وتسعة أشهر من وقوع الجريمة، وهي مع ذلك تطالب بإقامة الحد عليها. المؤمن يحرقه الندم على معصيته، أما الذي يقف أمام الناس، ويقول: فعلت وذهبت وجئت وارتكبت، ويفتخر بجرائمه ومغامراته المحرمة، فهذا لا يؤمن بقول الله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وقل مثل ذلك بالنسبة للمخدرات والسرقات واللواط ولأي معصية يعصى الله تعالى بها، ولعل أبشع وأقبح من ذلك، أن بعض الذين طمس الله على أعينهم ومسخ أفئدتهم، وكتب عليهم الدمار والبوار -إلا أن يعودوا إليه ويرجعوا إلى دينهم- يتعدى الأمر بهم إلى أن يصوروا هذا على أشرطة مصورة، وغرضهم من ذلك أمور، من أهمها: توريط الأطراف الأخرى حتى يضمنوا أن لا يتوبوا، وكثير من الشباب يريدون أن يتوبوا، ولكن يحاول أصدقاؤهم السيئون أن يحولوا بينهم وبين التوبة بتهديدهم ببعض الصور الموجودة عندهم. أو يبيعون هذه الأشياء ليتكسبوا من ورائها، وهؤلاء والعياذ بالله بلغ بهم الانحطاط والوقاحة والضلال مبلغه، حتى إنني لا أجد وصفاً إلا أنهم قد تشبهوا بأعداء الله من الكافرين الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، والذين عُجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، فغاية ما يطمح أحدهم أن يتمتع بشهوة عابرة، ولا يهمه أن يكون مصيره إلى النار وبئس القرار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 الشباب والشهوة أخي الكريم! لعل أكثر ما يزعج الشباب ويقلقهم، ويدعوهم إلى الوقوع في بعض المعاصي: قضية الشهوة، الشهوة التي تدعو إلى النظر، النظر في الوجوه، سواء في وجوه المردان أو وجوه النساء، أو الصور في المجلات أو في الأفلام أو المسلسلات أو غيرها، وهذا مدعاة إلى العشق؛ حيث يتعلق القلب بهذه الصور حتى تصبح هذا الصور كل همه وغاية قصده، فيشتغل بذلك عن الله عز وجل، وبذلك يكون الإنسان قد مشى إلى الشرك بالله تعالى قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] كحب الله، حتى يقول أحدهم عن معشوقته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي فاعتبر عبوديته لهذه المرأة هي أشرف الأسماء التي يدعى بها، وقال آخر يخاطب امرأةً أو شاباً أحبه: وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل انظر والعياذ بالله كيف استبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، إن هذا الإنسان الذي قال هذا البيت، أتدرون أين هو الآن؟ إنه في قبره، قد وسد وتحول جسده إلى تراب، وبلي ولعبت به الديدان، حتى لو رآه أحد، بل لا يراه أحد؛ لأنه أصبح كومة من تراب، وأصبح مرتهناً بعمله، لكن لازالت الأجيال تحفظ هذا الكفر البواح الصراح: وصلك أشهى إلى فؤادي من رحمة الخالق الجليل ولو لم يكن من مضار العشق والتعلق بالصور، والانصياع إليها والاشتغال بها، وامتلاء القلوب بحبها، إلا أنها تحول بينك وبين الله عز وجل، لكفى بهذا عيباً وداءً؛ ولذلك يعذب الله تعالى الإنسان بهذا المحبوب الذي أحبه، كما قيل: من أحب غير الله عُذِّب به، كم من إنسان أحب إنساناً وتعلق به، فكان سبباً في شقائه في الدنيا والآخرة، تركه وأعرض عنه في الدنيا، فعاش حياته كسيفاً حسيراً كسيراً؛ لأن محبوبه قد تركه وأبغضه، أو حتى مات، وفي الآخرة مرتهن بما عمل، حيث ملأ قلبه بغير حب الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] هذا حب العبادة، شرك المحبة في القلب. ألم تر إلى المرض والسقم في وجوه من ابتلوا بمثل هذا الداء الدوي، حتى إذا رأيت وجوههم وجدت عليها صفرة، ووجدت عليها كدر، ووجدت فيها ظلاماً كظلام الليل والعياذ بالله كأنها ما أشرقت بلا إله إلا الله، وما ذاقت طعم القرآن وكأنها ما خشعت لله عز وجل، وكأنها ما بكت من خشيته، وكأنها ما عفَّرت جباهها في التراب، ذلاً بين يدي الله تعالى، فضربهم الله تعالى بظلم في وجوههم: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً} [يونس:27] وهذا الظلام في الدنيا هو آية الظلام في الآخرة، كما قال عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس:38-40] {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:27] . هذا فضلاً عن السقم في البدن، فإن العشق يؤدي بالإنسان إلى المرض، بل ربما آل به إلى الموت، وكثير منهم يموتون بسبب هذا المرض الذي ابتلوا به، وهم لاشك ماتوا في غير سبيل الله، وقد كتب جماعة من العلماء في مصارع العشاق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 آثار العادة السرية ومن الأسباب: عدم الخبرة وعدم المعرفة بأضرارها، بعض الشباب لا يعرف ما هي الأشياء المترتبة على العادة السرية، فهناك آثار على الوجه، تجد الإنسان الذي يمارس العادة السرية، يبدو على وجهه أثر ذلك -أحياناً- احمرار -وأحياناً- اصفرار، وأحياناً آثار ظاهرة على وجهه، يعرفها الناس منه إذا داوم عليها، وأيضاً أثرها على الأعصاب: تجد الشاب الذي يمارس العادة السرية، في أعصابه شيء من عدم الانضباط، واهتزاز واضطراب وعدم قدرة على التحمل وأيضاً أثرها على النفس: تجد الإنسان كثير القلق والخوف والتفكير، سارح شارد، عنده خجل وعدم قدرة على مواجهة الناس، وعدم قدرة على الحديث، وعنده ضعف. وأيضاً أثرها على ترك الطاعة؛ لأنها تجر إلى معصية أكبر منها، فالذي وقع في العادة السرية، قد يجره الشيطان إلى الوقوع في الزنا، ثم يجره الشيطان إلى الوقوع في اللواط، ثم يجره للوقوع في معاصي أخرى، ثم يجره إلى ترك الصلاة، ثم يجره إلى الكفر والعياذ بالله وهي سلسلة يجر بعضها بعضاً. كذلك هذه العادة من الآثار السيئة لها أنها تكون سبباً في سلب القوة، وأنها تقوض الأجهزة الجنسية للإنسان، حتى أن كثيراً من الأطباء، أثبتوا أن الذي يقع في ممارسة العادة السرية يكون عنده ضعف في أجهزته، فبعد الزواج قد يصاب بما يسمى بالعنة وهو العجز عن المعاشرة الزوجية. كما أنها تضر الذاكرة ضرراً كبيراً وتكون سبباً في التأخر الدراسي، حيث تظل هذه الأفكار والصور التي في ذهن الإنسان يفكر بها بشكل دائم، فتؤثر على حفظه وذاكرته. أخي الكريم أخي الحبيب أخي الشاب!!! ألم تقارن مقارنة سريعة بين شؤم المعصية وبركة الطاعة؟ ألم تر المعصية سبباً في حرمانك من العلم؟! شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي فتجد أن الشاب المنحرف متأخر في دراسته، وربما يؤول الأمر بكثير منهم إلى ترك الدراسة، فإذا ترك الدراسة قد يلتحق ببعض المعاهد المهنية أو غيرها، ثم لا يواصل فيها، وترك الدراسة يجر له مشاكل أخرى بسبب الفراغ، فيضيع مع زملاء يقضي معهم كل وقته، ولا يصبح له مستقبل يهمه ويفكر فيه، بخلاف الشاب الطيب الصالح المستقيم فإنك تجده مبرزاً في دراسته، تجده من الأوائل في فصله وفي مدرسته، محبوب لدى مدرسيه، وقلما تجد شاباً طيباً يفكر بترك الدراسة، مجرد خواطر تمر بفكره ثم يتركها؛ لأنه يدري أن هذا فيه خير، وفيه مصلحة وخير للأمة، أما ذلك الشاب المنحرف، فإنه يستثقل هذا الأمر ويتركه؛ لأنه قد عصى الله عز وجل فحرم بركة العلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 من آثار المعاصي ِومن آثار المعصية: الوحشة بينك وبين الله، الوحشة في قلبك، فإنك إذا عصيت الله استوحشت منه، كيف تدعوه وقد عصيته؟ كيف تسأله وقد عصيته؟ وهذا يجرك إلى معاصي أخرى، في الإعراض عن الله عز وجل، بخلاف المؤمن فإنه قريب من الله تعالى، دائم الابتهال إليه دام الدعاء، إذا دخل قال: بسم الله، وإذا خرج قال: بسم الله، وإذا أخطأ قال: أستغفر الله، وإذا سمع منادياً ينادي قال: سمعنا وأطعنا. ومثله الوحشة بينك وبين الناس، فإنك تجد العاصي -سبحان الله- كأن بينه وبين الناس حجاب، لا يحبونه ولا يطمئنون إليه، بخلاف العبد المطيع، فإن الناس يألفونه ويرتاحون إليه ويسرون لرؤيته، ويثقون به، ليس بينه وبينهم وحشة؛ لأن الله عز وجل جعل في قلوبهم محبته. ومن ذلك: تعسير الأمور أيضاً، فإنك تجد العاصي كلما ذهب إلى أمر يغلق عليه الباب، إذا أراد أن يقبل في مدرسة لم يقبل، أو في وظيفة لم يقبل، وإن اشتغل في تجارة فشلت التجارة، أو في مؤسسة انهارت، أو اشترى سيارة، بعد فترة صار عليه حادث وتلفت عليه السيارة وهكذا. تجده حيث ما يمم تغلق الأبواب أمامه، للسبب الذي ذكرته أولاً، وهو أن الله إذا أحب العبد يسر له الأسباب، وإذا أبغض العبد منعه، وقد يكون هذا خير، وقد تكون هذه منبهات، ضع في ذهنك أن هذا العمل يقول لك: انتبه انتبه!! غير الطريق، اختر لك طريقاً آخر، هذا الطريق الذي تسلكه لا يرضي الله عز وجل، ولا يصلح لك في دنيا ولا في آخرة، والعكس من ذلك الإنسان الطيب أينما وجه وفق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 خطر الدوام على المعصية أخي الكريم أخي الحبيب!! إنك إذا داومت على فعل المعصية، بعد حين لا تستقبحها وتصبح عادة؛ بل وتستحسنها، فتكون ممن قال الله تعالى فيهم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] وإن ذلك سبب في هوانك وسقوطك من عين الله عز وجل، وأخيراً فربما كان سبباً في أن يطبع على قلبك، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] فإذا طبع على الإنسان كان من الغافلين، فأصبح لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، حتى ربما ارتكب أبشع وأفضع الجرائم، وهو يضحك ولا يبالي، حتى كأنه حيوان أو بهيمة، حتى أنني قرأت في بعض الكتب قصة في غاية العجب، وهي تمزق القلب تمزيقاً، ولا يكاد الإنسان يصدق بها، لولا أننا في عصر العجائب. ذكر مؤلف ذلك الكتاب، أن فتاة في العشرين من عمرها، ذهبت إلى إحدى المستشفيات، وكانت حاملاً لتضع مولوداً، وفعلاً وضعت مولوداً، كان بأتم صحته وأتم حاله، وليس فيه ما يعيب، لكن هذه الفتاة كان يسيطر عليها خوف شديد، وارتباك ظاهر، وكانت مسودة الوجه، كثيرة البكاء، فلما أرادوا منها أن تخرج، وطلبوا أن تبعث إلى وليها ليحضر، ارتبكت وبكت بكاءً مراً، واستمرت حتى كاد يغمى عليها من شدة البكاء، فانفردوا بها في غرفة، وسألوها عن الأمر. وبعد جهد جهيد، قالت لهم بصوت متقطع" إن والد هذا الطفل هو أبوها نفسه، أي أن الوقاحة بلغت به لشدة جراءته على الله وعلى معاصيه، أنه كان يتعاطى المخدرات، ثم يقع على من بحضرته، سواءً كان أجنبياً، أم ذات محرم أم غير ذلك، وربما جاءها وهي نائمة، فارتكب معها هذه المعصية، ولو أخبرنا أن هذا الأمر وقع في الأمم السابقة من بني إسرائيل، للمَّ الواحد رأسه وقال: إننا لله وإنا إليه راجعون، ولو أخبرنا أن هذا وقع في بلاد الكفر والإباحية؛ لاستعظمنا ذلك، فكيف وصل الحال أن يحدث مثل هذا من قوم ربما نطقوا بالشهادتين بأفواههم، وربما سمعوا آيات الله عز وجل تتلى، ثم انسلخت قلوبهم ومسخت إلى هذا الحد، وأصبح الواحد منهم لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً. يا أخي الحبيب! لا تستعظم مثل ذلك، وتقول: كل ذلك بعيد عني. لا، ربما كانت بداية هذا الوحش الكاسر ربما كانت بدايته شربة من خمر، وربما كانت بدايته نظرة من حرام، وربما كانت بدايته أغنية سمعها، وربما كانت بدايته تمثيلية شاهدها جرته شيئاً فشيئاً، حتى وصل إلى الحضيض، إلى القرار، إلى الوادي السحيق الذي لا مخرج منه إلا إن يشاء الله عز وجل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 أخطار جريمة اللواط أيها الإخوة! من المشاكل الكبيرة التي يشتكي منها أو يقع فيها كثير من الشباب هي: قضية الوقوع في اللواط والعياذ بالله، واللواط من الكبائر بإجماع العلماء، قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيما ً} [النساء:31] . فاللواط من كبائر الذنوب التي تحتاج إلى توبة، ولو لقي صاحبها بها ربه عز وجل فقد يعذبه يوم القيامة، وقد عاقب الله عز وجل قوم لوط بالعقوبة المعروفة، حيث رفع قراهم -قرى سدوم- حتى سمعت الملائكة أصوات حيواناتهم وصياحهم، ثم قلبها عليهم، ثم أمطر عليهم بعد ذلك حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد، فكل من فعل مثل فعلهم فإن الله تعالى يمسخه، يمسخ قلبه إذا ما أسرع بالتوبة، وقد يحال بينه وبين التوبة كما أشار إلى ذلك الإمام ابن القيم في الجواب الكافي: أن المبتلى باللواط ربما يصعب عليه التوبة، ولو تاب منه يبقى في قلبه آثار كثيرة؛ إلا من رحم الله وقليل ما هم، ما لم يتدارك نفسه عاجلاً غير آجل وإلا فيمسخ قلبه، وكذلك تمسخ مشاعره وعواطفه، فإن هذا اللوطي منتكس الفطرة، لا يتلذذ بما أباح الله تعالى له، لا يتلذذ إلا بالحرام، وحتى هذا الحرام بعدما يبتلى به ويتورط فيه، يصبح وبالاً عليه ويصبح هماً وغماً يجثم على صدره وقلبه، فلا يهدأ له عيش، فيكون حاله كما قال الأول الذي يشرب الخمر: وكأسٍ شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها فهو يفر من المعصية إلى المعصية، ومن الإثم إلى الإثم، ومن الذل إلى الذل، وهذا الذنب العظيم هو سبب في مقت الإنسان وهوانه على الله عز وجل، فإن الله تعالى إذا نظر إلى عبده وهو يواقع هذه المعصية المقيتة الخبيثة العظيمة الكبيرة عند الله تعالى، فإن الله تعالى يمقت هذا العبد ويبغضه، ويسقط من عين الله تعالى. وقد توعد الله تعالى أقواماً، بأن الله تعالى لا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، فما يؤمنك أن تكون من هؤلاء على لذة عابرة أو شهوة عابرة، كان الإنسان يستطيع أن يقاومها بأن يبتهل إلى الله عز وجل، وما عودنا الله تعالى أنه يرد مبتهلاً قط، وما من عبد انكسر بين يديه وبكى بقلب صادق إلا رفعه الله ونفعه، وأجاره مما يخاف وأمنه منه. وهذا الإنسان الذي ابتلي باللواط، قد يبتلى في نفسه أو أهله، أو ولده أو ماله بعقوبة دنيوية عاجلة، ولعل من البلاء ما تسمعونه اليوم من الأمراض الجنسية التي أصبحت مخصصة بالشاذين، فبعضها لا يصيب إلا أصحاب الشذوذ الجنسي مثل الرجل مع الرجل، أو المرأة مع المرأة، فسلط الله عليهم الأمراض الجنسية الفتاكة، التي أعلن الطب عجزه بالكلية عن علاجها، كالهربس والإيدز والكلامديا وغيرها من الأمراض القديمة كالزهري والسيلان وغيرها، هذه الأمراض مخصصة بمن يرتكبون الحرام وخاصة بالشاذين الذين يرتكبون ما يسمى بالشذوذ الجنسي، كاللواط أو السحاق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 أسباب العادة السرية كثير من الشباب يقعون في ما يسمى بالعادة السرية، وهي الاستمناء باليد وللوقوع في العادة السرية أسباب منها: ضعف الوازع الديني، فإن المؤمن عنده الصبر والعفة، وعنده الخوف من الله عز وجل، فينهى النفس عن الهوى، أما ضعيف الإيمان فإنه كلما تحركت في نفسه شهوة أسرع إليها. ومن الأسباب: عدم الزواج المبكر، فتأخير الزواج بسبب عقبات كثيرة قد تواجه الشاب في بيته أو مجتمعه، ومنها الشبق والإثارة الجنسية، حيث إن الإنسان إذا شاهد المشاهد المثيرة، سواء امرأة أو صورة أو منظراً يثيره، فإن هناك ما يسمى بالهرمونات التي تزيد الإفراز؛ حينئذٍ يوجد عند الإنسان شيء من الشبق والإثارة. ومن أسبابها: العادة فإن الإنسان الذي يفعل العادة السرية مرة أو مرتين أو ثلاث، ثم بعد ذلك تصبح العادة عادة كما سميت، وأصبح يفعلها وإن لم يكن هناك دافع لها كبير، لكن بمقتضى العادة التي هيمنت على بعضهم، حتى أن البعض يتزوج ويغنيه الله تعالى بالحلال، لكن لا يجد لذة إلا في ممارسة هذه العادة التي كان يفعلها من قبل. ومن أسبابها: أنه بعد ذلك تحول الأمر من قضاء للشهوة إلى رغبة في تحصيل اللذة، أول مرة يفعل الشاب العادة السرية؛ لأنه يريد أن يتخلص من هذه الشهوة، التي تفور في جسده كالنار، لكن بعد ما يعتاد فإنه يبدأ يفعل العادة لتحصيل اللذة، وإن لم يكن هناك شهوة تتأجج في نفسه. ومن أسباب العادة السرية الخلوة والانفراد، خاصة للذين يكثرون مشاهدة الصور المحرمة، فإن الواحد منهم إذا خلى أو انفرد بدأت الصور التي سبق أن رآها تتراقص في عينيه وبدأ يتذكرها، ثم يدعوه ذلك إلى فعل العادة السرية وهو يتصور هذه الصور. ومن أسباب الوقوع فيها: الجهل، فإن كثيراً ممن يفعلونها، قد لا يكونون يعلمون أنها حرام، وأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:29-30] . ولا يعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطيع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء} ولو علموا أنها حرام وأنها اعتداء، لربما أقلعوا عنها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 حقيقة الحياة الدنيا أخي الكريم أخي الحبيب!! هل تذكر أن هذه الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، وأن لنا ولك موعداً لن نخلفه أبداً؟ ألم يخطر في بالك يوماً من الأيام، أن تذهب في زيارة قصيرة إلى تلك الدور التي هي في ازدياد؟: أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقر؟ وأين المذل بسلطانه وأين العظيم إذا ما فتخر؟ تنادوا جميعاً فلا مخبرٍ وماتوا جميعاً وأضحوا عبر ألم تروا القبور؟ {زوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة} كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. قف بالمقابر وانظر وتأمل، كم من الأجيال والقرون الغابرة، دفنت وأفنيت وانتهت، وأنت على الأثر؟! كنت أقول لبعض الشباب يوماً من الأيام وأنا أعظهم -وكانوا تقريباً أربعين- أيها الإخوة! تذكروا أنتم الآن أربعون، والزملاء الذين بجواركم في الفصل الآخر والرابع والخامس، فلو نظرنا إلى هذه الأعداد الكبيرة، هل ترون أنه لم يكتب أن يموت منا في هذه السنة أحد؟ فسبحان الله! كان من بين الطلاب الذين أحدثهم، شاب ما مر عليه نحو أسبوع، إلا وذهب يسبح مع بعض زملائه، وغرق ومات في تلك البركة. فسبحان من يحيي ويفني وتخلف الدهور دهور والأنام أنام وقال آخر: وكائن ترى من دار حيٍّ قد اقفرت ودار لميت بالفناء جديد هم جيرة الأحياء أما محلهم فدانٍ وأما الملتقى فبعيد يقول مجاهد رحمه الله: [[ما من ميت يموت، إلا مُثِّل له جلساؤه]] يعني عند الموت، كأن جلساءك وأصدقاءك الذين تجلس معهم في الحياة يجلسون بين يديك، إن كانوا طيبين فطيبين، وإن كانوا سيئين فسيئين. ولذلك يتكلم أهل العلم عن سوء الخاتمة وحسن الخاتمة، بأمور يشيب لها رأس الصالحين، وأهل الخير والقيام والصيام، فكيف بنا نحن المقصرين المسرفين على أنفسنا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 قصة معاصرة في حسن الخاتمة أذكر -أيها الإخوة- قصة لشاب معاصر من الدعاة إلى الله عز وجل قضى عمره في الدعوة، وكان معتمراً في أحد السنين فأصابه مرض ذهب على إثره إلى المستشفى، ثم جاءت اللحظات الأخيرة من حياته، فيحدثني بعض من كانوا قريبين منه: أنه في أحد الليالي طلب المصحف فأخذه، ثم تلا منه ما تيسر، ثم وضعه على صدره وأغمض عينيه ثم قضى وقد كنت ممن صلى عليه في تلك الليلة، فرحمة الله عليه، كيف كتب الله له بخاتمة خير إن شاء الله. شاب آخر، ذو سمعة حسنة، وكان في الحي معروف بصلاحه واستقامته، فغضب زملاؤه منه، وحاولوا جره إلى المخدرات ففشلوا، فجاءوا يوماً من الأيام، وكان يشرب شيئاً من الشاي، فوضعوا في الشاي مخدراً دون أن يعلم، وبعد ذلك أصبح مدمناً للمخدرات، ثم مُسك في قضية المخدرات وسجن فيها فترة، وبعد ذلك خرج، فحاول أهله أن يقنعوه بالإقلاع عن المخدرات وما زالوا به حتى أقنعوه، وأقنعوه أنه سوف يتزوج، فأعلن توبته إلى الله عز وجل، وترك قرناءه السيئين، وأتلف ما عنده من المخدرات وأقبل على الصلاة، وبدأ يستعد ليوم الزواج، وكان زواجه في يوم السبت، ولما كان في ليلة الخميس، نام وكانت تلك الليلة هي ليلته الأخيرة، فقد قبضه الله تبارك وتعالى. أيها الإخوة أيها الشباب!! ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيِّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيءِّ ما هي المشاهد التي ينتظرها الإنسان في موقف القيامة: عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو تعلمون ما أعلم؛ لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل} وكما في الحديث القدسي: {أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال أبو هريرة: [[اقرءوا إن شئتم قوله تعالى: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]] ] } . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 من قصص السلف في حسن الخاتمة فقارن هذا مع من كتب الله تعالى لهم حسن الخاتمة مجاهد بن جبر رضي الله عنه مات وهو ساجد. ولما احتضر حذيفة رضي الله عنه قال: [[اللهم إني أعوذ بك من صباح إلى النار، لا أفلح من ندم، مرحباً بالموت حبيب جاء على فاقة]] وكذلك بلال رضي الله عنه، لما احتضر كان يقول: [[غداً نلقى الأحبة، محمداً وحزبه؛ فلما بكت زوجته وقالت: وابلالاه! واحزناه! قال لها: وفرحاه! وسروراه]] . خيثمة بن عبد الرحمن، دخلت عليه امرأته وهي تبكي، فقال لها: [[ما يبكيكِ؟! الموت لابد منه. فقالت: الرجال بعدك عليَّ حرام، فقال: ما كل هذا أريد منك -ما كنت أريد منك كل هذا الشيء- إنما كنت أخاف رجلاً واحداً، وهو أخي فلان- حيث كان له أخ، يقول: أخشى أن يتزوجك بعدي، وكان رجلاً فاسداً يتناول الخمر- فكرهت أن يشرب في بيتي الشراب، بعد إذ كان يتلى فيه القرآن]] فهو يقول: بعد أن كنت أختم القرآن في كل ثلاثة أيام مرة، يشرب أخي الخمر في بيتي: هذا الذي كنت أخشاه. انظر كيف ختم الله له بهذه الخاتمة الحسنة. مالك بن دينار لما حضره الموت قال: [[لولا أنني أكره أن أصنع شيئاً لم يصنعه أحد من قبلي من الأنبياء والصالحين؛ لأوصيت أهلي إذا مت أن يقيدوني ويجمعوا يديّ إلى عنقي، فينطلقوا بي على تلك الحال، فإني عبد آبق من مولاه]] يقول: لا أريد أن ابتدع في الدين وإلا أنا أتمنى أن تربط يدي إلى عنقي ويفعلون بي فعلهم بالأسير العبد الذي هرب من مواليه فأمسكوا به؛ لعل الله عز وجل أن يراني على تلك الحالة فيرحمني. عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال: [[اخرجوا فلا يبقى عندي أحد، فخرج من كان عنده وجلسوا عند الباب يستمعون، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جن، ثم قال: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] ثم مات رحمه الله]] آدم بن أبي إياس ختم القرآن وهو مسجى على سريره ثم قال: " يا رب، بحبي لك إلا رفقت بي في هذا المصرع، كنت أؤملك لهذا اليوم، ثم قال: لا إله إلا الله ثم لفظ روحه ". الإمام أحمد قال لولده عبد الله: " جئني بالحديث عن طاوس، أنه كان يكره الأنين -هات الحديث- فجاء ابنه وقرأ عليه الحديث عن طاوس: أنه كان يكره الأنين -يكره أن المريض يئن- فقرأه عليه فلم يئن الإمام أحمد إلا في الليلة التي توفي فيها. يقول ابنه عبد الله: كان يغمى عليه ثم يفيق، فإذا أغمي عليه فتح عينيه، ثم قال بيديه هكذا: لا بعدُ بعدُ، قال: ففي المرة الثالثة قلت: يا أبه ما هذا، إنني أراك تحرك يدك وتقول: لا بعدُ بعدُ، قد لهجت بهذا الكلام ولا أدري له معنىً، فقال الإمام أحمد: إبليس -لعنه الله- قائم بحذائي عاض على أنامله، يقول: يا أحمد فتني يا أحمد، فتَّني، فتَّ علي فأقول له: لا بعدُ بعدُ حتى أموت " يعني ما دام الروح في الجسد، فلا زال هناك خوف من كيد الشيطان. ولما احتضر أبو الوقت السجزي رحمه الله، أسنده بعض تلاميذه إلى صدره، فقال: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27] ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة قال: " يادنيا ما أطيبك، إن طويلك لقصير، وإن كثيركِ لحقير، وإن كنا منك لفي غرور" ثم أنشأ يقول: إن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب صفوح عن مسيء ذنوبه كالتراب محمد بن واسع رحمه الله، كان عنده قوم جلوس وقوم قيام، فقال: ما يغني عني هؤلاء إذا أخذ بناصيتي وقدمي وألقيت في النار، ثم تلا قول الله عز وجل: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن:41] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 سوء الخاتمة ذكر الإمام ابن الجوزي رحمه الله: في كتاب الثبات عند الممات، أن رجلاً احتضر، فقيل له: قل لا إله إلا الله، فقال: هو كافر بها، نعوذ بالله، وقيل لآخر: قل لا إله إلا الله، قال: حيل بيني وبينها، حيل بيني وبينها، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} [سبأ:54] وقال ابن الجوزي: إنه يعرف رجلاً اشتد به الألم، وزادت عليه المصائب، فافتتن -أصابته فتنة- فكان يقول وهو في مرض الموت: لقد قلّبني -يعني ربه- في أنواع من البلاء، فلو أعطاني الفردوس لما وفّى بما يجري علي -يعني وما الفائدة من هذا الابتلاء- لو كان الموت وأنا صحيح فنعم، لكن هذا الابتلاء ما هي الفائدة منه؟ هكذا يخاطب ربه وهو في مرض الموت، بلغ به الجزع والفزع وعدم الصبر وسوء الخاتمة إلى ذلك. قال ابن الجوزي: وسمعت آخر وهو في مرض الموت يقول: ربي يظلمني. وأذكر أيها الإخوة شاباً سافر إلى إحدى دول جنوب شرق آسيا، وقد كان في العشرين من عمره، وكان يتعاطى مخدراً اسمه: الهيروين، جرعة فجرعة، ويزيد شيئاً فشيئاً، وذلك لوفرته في تلك البلاد وغناه، حيث كان شاباً غنيًا ثرياً مترفاً، واستمر هناك ما يزيد على سنة ونصف، بعد ذلك أحضر بالقوة قسراً، وأدخل في مستشفى الأمل في إحدى المدن، بعد ذلك وجد الراحة من العلاج واستمر فترة طويلة، ثم علم زملاؤه الأشرار بحاله، فاتصلوا به وطلبوا منه الخروج، وأغروه بذلك، فخرج ولما خرج صحبوه معهم، وفي أول جلسة معهم أعطوه جرعة ضخمة من المخدر، فشربها أو تعاطاها ومات في ساعته. وآخر سمعت قصته بنفسي، حين زرت بعض تلك البلاد، وحدثني بعض العاملين في تلك البلاد، يقول: كان هناك رجل من هذه البلاد من دول الخليج -وكان يزيد على الستين من عمره، فجاء إلى بلاد الإباحية والرذيلة والفساد، قال: واستأجر غرفة في أحد الفنادق، فبدأ يعب الخمور عباً، ففي اليوم الأول شرب ست قارورات من الخمر والعياذ بالله ثم أتبعها بثلاث، ثم أتبعها باثنتين، فشعر بالامتلاء وشعر بوضع غير طبيعي، فذهب ليتقيأ في دورة المياه، فسقط وبعد ما طال الأمر به ولم يخرج، طرقوا عليه الباب ثم فتحوا الباب، فوجدوه ميتاً في أخس وأحط مكان، رأسه في دورة المياه. فانظر كيف يجر الشيطان الإنسان إلى أمور مما يعاب عليه فيها في الدنيا والآخرة، ومن الأشياء التي إذا رآها الناس، ظهر عليهم الامتعاض والانزعاج والتأثر والحزن، فسبحان الله! ما أعظم الفرق بين من يموت هكذا، وبين من يموت شهيداً في سبيل الله عز وجل: تتلقاه الملائكة، وتتلقاه الحور العين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له عند أول قطرة من دمه، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع في سبعين من أهل بيته، ويأمن من عذاب القبر، ويلبس تاجاً، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها} يا سبحان الله! الفرق بين الثرى والثريا، إنه بون شاسع، وكلهم من أولاد آدم، وكلهم مكلفون، ومطالبون، ولكن: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] . وحدثني ثقة أنه يذكر أن صديقاً له كان له أخ يعتقد العقائد الخبيثة الكفرية، من عقائد العلمانيين والشيوعيين وغيرهم، فكان يناصحه ويكلمه، وهو لا يستجيب له، وعمل ما يستطيع، قال: فمرض أخي مرضاً شديداً، أصيب بالسرطان، فكنت آتيه وأتحدث معه، وأرجو هدايته لعل الله يختم له بخير، فلما كان في أحد الأيام قال لي: ائتني بالمصحف هات المصحف -قال: فقمت فرحاً مسروراً خفيفاً، لعل الله أن يكتب لأخي خاتمة سعادة، قال: فلما رأى المصحف، قال: هذا المصحف! قلت: نعم، قال: هو كافر بهذا الكتاب -والعياذ بالله تعالى- ثم قُضي ومات في لحظته تلك. ما من ميت يموت إلا مثل له جلساؤه الذين كان يجلس معهم، فيتكلمون في سب الله ورسوله، وشتم الدين والسخرية من أهله، تمثلوا له في مجلسه ذلك، فأغروه بأن يصر على ما هو عليه من الكفر والإلحاد. وكذلك الذي يتعاطى المخدرات -مثلاً- مع قوم، إذا كان في ساعة الموت مثلوا له بين يديه، والذي يرتكب المعصية معهم إذا جاءته ساعة الموت مثلوا له بين يديه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 الجنة ونعيمها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 المبادرة بالتوبة قبل الموت أيها الإخوة {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] . يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي موسى الأشعري: {إن الله يبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يديه بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} رواه مسلم. وفي حديث صفوان بن عسال أيضاً: أنه ذكر باباً للتوبة، مسيرة سبعين عاماً، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها. وعن عبد الله بن عمر {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرر} إذاً عجل يا أخي الحبيب، عجل ما دام الباب مفتوحاً، قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وما يدريك متى تطلع الشمس من مغربها، ربما نكون في أشراط الساعة الكبرى، ونحن لا ندري ولا تقل: هذا بعيد، فنقول لك: عجل قبل أن تغرغر، قبل أن تكون الروح تتردد في حلقك، وحينئذٍ لا تقبل منك التوبة لأنك رأيت الملائكة الذين جاءوا لقبض روحك فحين، فحينئذٍ لا ينفعك الإيمان. وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فيا أخي الحبيب والله إني لك محب وعليك مشفق ولك ناصح، حاول أن تكون من التوابين، كلنا خطائين فمن منا التوابين؟ التائبون -أيها الإخوة، كثير ولعلي أختم هذا المجلس -وهذا الموضوع الميمون في التوبة، لعلي أختمه بهذه القصة الطريفة، التي ذكرها أحد الإخوة، وهو صاحب كتاب: العائدون إلى الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 قصة تائب ذكر أن هناك شاباً، توفي والده، فكان له أم تسهر على رعايته وتربيته، وتشتغل بالخدمة في بيوت الجيران، حتى تجمع له ولإخوانه المال، فلما كبر هذا الشاب ذهب إلى الخارج للدراسة، وأتى بشهادة عالية، ولكن بعد ما غُسل مخه وانحرف فكره! وتغيرت أخلاقه! ونسي فضل الأم، فلما أراد الزواج عرضت عليه أمه فتاة طيبة، صالحة، فكره ذلك ولم يتزوج بها، وذهب يبحث، كما يقول هو: عن فتاة تكون من بيئة أرستقراطية، يعني يريد الترف، يريد النعيم، يريد أناساً من بيئة معينة، فتزوج هذه الفتاة وجلست عند أمه في البيت، يقول: بعد ستة أشهر من الزواج، دخل فإذا زوجته تبكي، فقال مالكِ؟ قالت: أما أنا أو أمك! لا أستطيع أن أجلس مع أمك في هذا البيت، ولا أستطيع أن أصبر أكثر من ذلك. يقول هذا الشاب في قصته: بعد ذلك غضبت وفي ساعة غضب نسيت فيها الواجب، طردت أمي من البيت، فخرجت أمي التي طالما سهرت على رعايتي وتربيتي وغادرت البيت وهي تلتفت إليَّ وتبكي، وتقول: يا ولدي أسعدك الله! يقول: بعد ذلك ذهب الغضب وذهبت السكرة، ورجعت الفطرة فذهبت أبحث عن أمي، فلم أجدها في ذلك الوقت، ورجعت إلى البيت، فاستطاعت هذه الزوجة بذكائها وجمالها أن تنسيني أمي الغالية، فانقطعت أخبارها عني، فأصبت بعد ذلك بمرض خبيث ودخلت المستشفى، وعلمت أمي بالخبر، فجاءت تزورني، يقول: وكانت زوجتي عندي، فقابلتها عند الباب، فقالت لها: ارجعي ابنك ليس هنا، ماذا تريدين منا؟ نحن لا نريدك، يقول: فرجعت أمي من المستشفى، وبعد ذلك خرجت أنا، ثم عدت مرة أخرى، وانتكست حالتي الصحية وفقدت الوظيفة التي كنت فيها، وتراكمت عليَّ الديون، وتخلى عني أصدقائي وأصحابي، وهرب الناس من حولي. يقول: في آخر ذلك كله جاءتني زوجتي يوماً من الأيام، وقالت لي: أنا لا أريدك طلقني! ما دام ليس لك وظيفة ولا مكانة في المجتمع، فأنا لا أريدك فطلقني! قال: فكانت تلك صفعة شديدة على وجهي، لكني بالفعل كنت أستحقها واستيقظت من السبات الذي أنا فيه، وخرجت أهيم على وجهي، أبحث عن أمي وفي النهاية وجدتها، ولكن أين؟ في أحد الأربطة تعيش على صدقات المحسنين، وقد أثر فيها البكاء فبدت شاحبة ضعيفة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها، وبكيت بكاءً مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني بالبكاء، واختلطت الأصوات وظللنا على هذا المشهد ساعة أو أكثر، بعد هذا أخذتها معي في السيارة إلى البيت، وآليت على نفسي طاعتها ما حييت. يقول هذا الشاب: وأنا الآن أعيش أحلى وأسعد وأجمل أيامي مع حبيبة العمر، أمي حفظها الله تعالى، فقد تركت النساء بعد تلك المرأة. أيها الإخوة كان الموضوع طويلاً، وكان هناك أشياء وأشياء، لكنني شعرت بأن الموضوع أكثر مما أريد، وأعتذر إليكم عن التقصير، وأسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يتقبل منا أعمالنا كلها، وأن يوفقنا للتوبة النصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح، وأن يجعل ما نقول ونسمع حجة لنا لا حجة علينا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 النار وحال أهلها فيها عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {منهم من تأخذه النار إلى كعبيه، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه إلى حجزته -يعني إلى وسطه إلى أسفل بطنه- ومنهم من تأخذه إلى عنقه، ومنهم من تأخذه النار إلى ترقوته} رواه مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنه قال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] عن النبي صلى الله عليه وسلم {لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم} فكيف بمن تكون طعامه؟ والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن صحيح. ما بالكم -أيها الأحبة- ونحن نتكلم الآن عن الغازات السامة، والقنابل الجرثومية، وننسى قطرة الزقوم، تصور قدرة الله عز وجل، الغازات السامة والقنابل الجرثومية فعل البشر، ومهما كان فهو ضعيف ومحدود، لكن قطرة من الزقوم قال تعالى: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الْأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43-46] لو أن قطرةً واحدة قطرت في الدنيا؛ لأفسدت على أهل الأرض كلها معايشهم، فكيف بمن يكون هذا طعامه. قال الله عز وجل: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} [الحج:19] ليست كثياب الدنيا، ليست كالثياب التي نتجمل ونباهي بها، إنها ثياب من نار، {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ * كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج:19-22] . هذا كلام الله تعالى، ليس بحديث فتقول: هذا حديث ضعيف، هذا كلام الله تعالى، من ينكره كافر مرتد، والمؤمن عجب له كل العجب، كيف يعصي الله تعالى ويبارزه بالمعاصي وهو يؤمن بهذا؟ نحن لا نلوم الكافر الذي لا يؤمن بيوم الحساب حين يعصي أو يقع في الإثم والزور؛ لأن هذا ينسجم مع العقيدة التي اعتقدها بالكفر بيوم الحساب، يريد أن يأخذ من الدنيا قبل أن تفوت، لكن المؤمن الذي يدين بهذا ويؤمن بهذا، ويوقن بهذا كيف يعصي ربه؟! عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {سمع وجبة -أي صوتاً شديداً- فقال لأصحابه: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا حجر رمي في النار منذ سبعين خريفاً، فالآن انتهى إلى قعرها} هذه الصخرة تتدهده في النار على مدى سبعين سنة وصلت إلى قعر نار جهنم والحديث رواه مسلم. وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن أهون أهل النار عذاباً رجل له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه، وإنه ليرى أنه ليس في النار أشد عذاباً منه} ما بالك بمن يقاسي نار جهنم ويصلى بها؟ ما بالك بمن يأكل الزقوم؟ ويشرب الغسلين؟ ما بالك بمن يضرب بالمطارق والمقامع من حديد، كلما أراد أن يخرج أعيد فيها؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 الشباب طموح ومعاناة بدأ الدرس بتقديم فضيلة الشيخ عائض القرني، وقصيدة للشيخ/ سلمان العودة، رحب فيها بالشيخ عائض القرني ثم بدأ الشيخ عائض محاضرته بمقدمة شعرية، ذكر بعدها عناصر المحاضرة ثم بدأ في تفصيل المحاضرة فتكلم حول الشباب والفطرة ثم بين أن المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، وتكلم بعد ذلك عن صور المعاناة عند الشباب لمصادرة الحريات وتحجيم دور الشباب في الحياة، وعن حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي وغيرها من صور المعاناة، معرجاً بعد ذلك على ذكر بعض صور الطموحات عند الشباب المسلم. ثم ختم المحاضرة بذكر بعض الاقتراحات العاجلة، وقام بعد ذلك الشيخ سلمان العودة بالتعليق على المحاضرة بكلام قيم نفيس وختم كلامه بالدعاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 1 كلمة ترحيبية الحمد لله على نعمة الإسلام, وكفى بها نعمة, والحمد لله عند كل نعمة، والحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضاه, والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل نبي وأشرفه وأزكاه. ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة طيبة. أيها الإخوة الأحباب! باسمكم جميعاً نحيي شيخنا وضيفنا وحبيبنا أبا عبد الله الشيخ: عائض بن عبد الله القرني أيها الأحباب: من كل قلب يمتلئ بالحب، وكل عينين تشعان بالصدق, وكل لسان ينطق بالحق, نقول: أهلاً بـ أبي عبد الله ترحب به عرانين نجد وبطاحها، يوم جاء من ذرا عسير وقممها, أهلاً بـ أبي عبد الله من كل الشباب الذين امتلأت قلوبهم حبّا لك, كما امتلأ قلبك نصحاً لهم وحباً. يا أبا عبد الله! تحييك نجد والقصيم كلها, من كل الشباب الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، وبالإسلام ديناً, تحييك نجد كلما هبت صباها, وفاح شذاها, وتقلب صباحها ومساها, أهلا بك يا أبا عبد الله كلما نبست شفة أو رفت عين، أو خفق قلب بحب. يا أبا عبد الله إن جموع الشباب التي يغص بها هذا المجمع المبارك, جاءت لتعلن بلسان حالها ومقالها، أنها جموع محمد صلى الله عليه وسلم, وإنهم أهل الحق الذي تصدع أنت بكلمته, وإنهم أتباع محمد الذي تشدو أنت بدعوته, وأن الطريق والصراط المستقيم قد اتسع لشباب علت هممهم، وسمت اهتماماتهم, وأصبح الذي يستهويهم صوت الكلمة الصادقة, والدعوة الناصحة, والرأي السديد. أيها الإخوة أدعكم مع سبح شعري، معانيه في قلوبكم جميعاً, ولكن الذي رسم كلماته هو شيخنا الشيخ سلمان بن فهد العودة , رسم هذه الكلمات معبراً عما في قلوبنا كلنا من حب, وشرفني يوم أن أمرني بإلقائها: احملوني إلى الحبيب وروحوا واطرحوني ببابه واستريحوا أنا من هيج الغرام شجاه وبراه الهيام والتبريح يا أبا عبد الله كم من محب ناله في هواك ضر جريح فسلام عليك من حيث تغدو وسلام عليك حيث تروح وسلام عليك في كل صمت وسلام عليك حين تبوح وسلام أنى حللت يباريك كما الظل في مداه الفسيح ذلك الحزن في الوجوه بكاء من مآسٍ تغدو بنا وتروح ففلسطين طعنة وأنين وقتيل ونازف وجريح وقلوب قد أنهكتها الرزايا فعليها من الرزايا صروح وبلاد الأفغان أنّات حزن وثكالى على ثكالى تنوح ويهز الدنيا نداء صريخ تحت أقدام قاتليه طريح وعلى كل بقعة ذكر اسم الله فيها مصائبٌ وقروح يا أبا عبد الله ما حشر الأشباح إلا روح أبيٌّ سبوح هزه الشوق للمجالس نشوى بعبير من الجنان يفوح وبلحن من الكلام ندي فيه سر من السماء وروح فلأنت الشباب يهتز عطراً ومعاناته وأنت الطموح رافضاً زخرف الحياة جمالاً باهتاً لم ينده التسبيح أما الآن فأدعو أسماعكم لتتعطر بهتافات أبي عبد الله وكلماته، فليتفضل مشكوراً مأجوراً … الجزء: 12 ¦ الصفحة: 2 قصيدة شعرية للشيخ عائض القرني بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم صلّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي, وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي, صاحب الغرة والتحجيل, المؤيد بجبريل, المعلم الجليل، المذكور في التوراة والإنجيل, صلى الله عليه وسلم كلما تضوع مسك وفاح, وكلما ترنم حمام وصاح, وكلما شدا بلبل وناح. هذا جراحي وهذا كله وصبي وهذه دمعتي سالت على تعبِ يكفيك يا قلب أنا في القصيم غدت قلوبنا تنسج الأفراح في طربِ يا ماسح الدمع عن عيني ذكرتكم والهم ينتابني والهول يعصف بي فيا فمي اليوم قبِّل كل ناصية شماء واقصد بها الرحمن واحتسب بريدة الحق ما زالت محجبة وصانها الله من باغٍ ومغتصبِ أمطر عنيزة دمع الحب يحمله روادها من صميم السادة العرب في الرس ترسو المعالي وهي راسخة وفي البكيرية الغراء كل أبي يا بن البدائع أبدع ما أردت على نهج الرسول ونهج الثلة النجب يا مذنب الأوفياء الله يحفظكم من زاركم مذنباً في دينه يتب هل أخبروك عن الخبرى وما فعلت أجيالها حاملو الأقلام والقضب؟ قصدي عيون الجوى يا عين فاغتنمي يا صاحب العين لا تأس على الحجب شمس الشماسية البيضاء معتقة بالبر والخير لم تكسف ولم تغب أرض الأشاوس ما دانت لمضطهد جوراً وما صافحت كفاً لمنتهب ولا استناخت لجبار على رغم لو كان من يزن نسلاً ومن كرب أنوف أبطالها مرفوعة أبداً إذا أنوف خصوم الحق في الترب صلى على أرضها روح الفدا وسقا ترابها معصرات المزن في السحب وذاد عنها دعاة الخير ما برحت تُرمى الشياطين عنها الدهر بالشهب يا أهل القصيم إن الذي يأتي ليحدثكم كالذي يروض الأسود, أو كالذي يسحب الحبل على شفرات السيوف. يا أهل القصيم! يوم أن أتيت إليكم قال لي قلبي: إنك تأتي قوم أهل كتاب وسنة, فليكن أول ما تخبرهم عنه أنك تحبهم في الله, فأشهد الله في هذه الليلة, وأشهد ملائكته وحملة العرش, وأشهد المسلمين, أني أحبكم في الله, ولسان الحال يقول: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] . كان لي نية قبل فترة أن أتشرف بزيارة هذا المعلم, وهذا المكان لأشارككم فرحة عودة دروس الشيخ الفاضل العالم المسدد سلمان بن فهد العودة , ونعيش هذه الأمنية الغالية، ولكني جئت الليلة معتذراً وشاكراً ومعانقاً ومسلِّماً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 موجز المحاضرة عنوان المحاضرة (الشباب معاناة وطموح) ولها عناصر: الشباب والفطرة ، المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، معاناة الخيرين أبد الدهر، رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإيذاء والإغراء. من صور المعاناة عند الشباب: 1- مصادرة الحريات في حياة الجيل وفصله عن ماضيه المجيد. 2- تحجيم دوره في الحياة ومكانته في التأثير. 3- حيرته أمام ركام هائل من الغثاء الفكري والعقدي والسلوكي. 4- إدانته باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة. 5- قلة المربين والعلماء الربانيين. أما من صور الطموحات: 1- فتطلعه أن يكون العالم الرباني، الذي يعيد للعلم مكانته. 2- سعيه إلى أن يكون المجاهد الذي ينصر الله به دينه. 3- حرصه على إعادة الأمة إلى صدارتها وإمامتها. 4- هدايته الناس إلى الله تبارك وتعالى. 5- تطهيره الأرض من الدخيل الكافر, وإعادة الكمال الإنساني إلى أمة الخلافة. تلكم عناصرها، وفي الحقيقة إنني كتبت المحاضرة لجلالة الموقف, وكنت أرتجل في غالب الأوقات، لكن لما علمت أني سوف أفد إلى مدينة العلم والدعوة، والقضاة والمشيخة, آثرت أن أكتب: كالبحر يمطره السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه شباب محمد صلى الله عليه وسلم أخاطبهم هذه الليلة, شباب المساجد، شباب القداسة, شباب المبادئ، شباب التوحيد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 الشباب والفطرة قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] على ماذا فُطِرَ هذا الإنسان؟ على لا إله إلا الله محمد رسول الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فنطقوا، قال الرازي والغزالي شهادة حال, وقال الجمهور: شهادة مقال. ولد المولود وفي قلبه مكتوب لا إله إلا الله، وفي دمه تجري لا إله إلا الله، وفي عروقه تسبح لا إله إلا الله. يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لكل مسلم ميلادان اثنان: الميلاد الأول: يوم ولدته أمه. والميلاد الثاني: يوم اهتدى وتابع الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن لا يلد الميلاد الثاني فلا ينفعه الميلاد الأول، لأن الميلاد الأول من جنس ميلاد الحيوانات والعجماوات والبهائم والطيور والزواحف, وقال كذلك شيخ الإسلام في مختصر الفتاوى: ولكل مسلم أبوان الأب الأول أبوه الجثماني، والأب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم أبوه الروحاني، قال: وفي قراءة أُبي: ((وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم)) فالرسول صلى الله عليه وسلم أبٌ للشبيبة المهتدية السالكة إلى الله. وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} سقط رأسه على التوحيد, وانبعث على التوحيد, ولكن التربية والغزو الفكري والأيادي العميلة, ومرتزقة الفكر، أرادوا أن يلحد، أو ينحرف، أو يفسق في دين الله, وجزاء الذين يغيرون فطرة الله أن يُغير الله أفئدتهم وأبصارهم؛ ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] قالوا: أول مرة يوم الميلاد, وقيل: يوم الدعوة, وهذه الآية تتحقق في أسمى كمالها، في انهيار الشيوعية اليوم، تنسحق ويخرج العراة الجائعون من بيوتهم يدوسون بجزماتهم صور لينين واستالين. لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب لقد قلَّب الله فطرهم, ولقد قلَّب الله أنظمتهم, ولقد دسَّ الله أنوفهم بالوحل, فرئيسٌ يأتي ليسحب صورة رئيس ويلعنها ويدوسها, {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38] . ولكني لا أفيض، وقد أردت أن أفيض, ولكني سوف أترك هذه الإفاضة لفضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري غداً مع محاضرة: موسكو تحطم أصنامها. {وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان} {وأن يبيع حاضر لباد} وأن تُلقى السلع قبل أن يهبط بها إلى الأسواق, فأعطي القوس باريها، والكلمة خطيبها، منتظراً منه بحثاً في هذه الجزئية، التي نعيشها بدمائنا وضمائرنا وقلوبنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 المعاناة في حياة الجيل سبيلٌ وسنة المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة , والله خلق الإنسان في كبد: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الانسان:2] قالوا: بالدعوة, وقيل: بالتكليف, بل هو مبتلى حتى في طعامه وشرابه, والفاسق مبتلى في معصيته, وشارب الخمر مبتلى بكأسه, وضارب العود مبتلى بعوده, والفنان مبتلى بفنه, والزنديق مبتلى بزندقته, والمؤمن مبتلى برسالته ومبادئه التي يحملها للناس: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فهو في مشقة وفي ورطة, لا يخرجه من هذه الورطة إلا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] ولا يكون المخرج إلا محمد عليه الصلاة والسلام، لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور, ولأنه ربان سفينة النجاح، من ركب فيها نجا, ومن تخلف عنها هلك. {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فهو عامل، المغني كادح, ومدير القرار كادح, ومنتج الجرم كادح, ومقترف الفاحشة كادح, ومرسل الكلمة البناءة كادح, ولكنه يعود إلى الله, وكما قال البوشنجي وهو يتكلم عن الدنيا، وهو أحد العلماء المحدثين: أتينا كارهين لها فلما عشقناها خرجنا كارهينا وما بالعيش سلوتنا ولكن أمرّ العيش فرقة من لقينا يقول: أتينا نكره الدنيا، غاضبين على الدنيا, لا نريد الدنيا؛ فلما تعلقنا بها أتينا إلى الموت تعلقنا بالدنيا, وهو كما قال الأول: ولدتك أمك يا بن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سروراً فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً وهذه هي المعاناة الكبرى, وهي العامة لكل البشر؛ لمؤمنهم ولكافرهم، ولمهتديهم وضالهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 معاناة الخيرين أما معاناة الخيرين فهي معاناة خاصة, وهي أجر ومثوبة, وهو تكليف وواجب, ولقد عانى في الطريق كل صالح وكل خير, طريق شاق ومتعب, وطريق مضنٍ، بل العجيب! أن رواد الحق، ودعاة الباطل، حتى في طريقهم إلى مبادئهم يضحون, هذا يضحي وذاك يضحي، سجن ابن تيمية وسجن لينين , كل من أجل مبدئه، وقتل أبو جهل وقتل حمزة كل من أجل مبدئه, وجلد أحمد وجلد كارل ماركس في بلجيكا, كل من أجل مبدأه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] طريق ناح فيه نوح، وذبح فيه الذبيح, واغتيل زكريا, وضُرِّج عمر بدمه في المحراب, وذبح عثمان , وفصل رأس علي , وجلدت ظهور الأئمة؛ ولكن: جزى الله الطريق إليك خيرا ولو أنا تعبنا في الطريق فكم بتنا على الأجهاد يوماً نراعي النجم من أجل الصديق إنها طريقة ولكنها أجر ومثوبة, نوح يصارع الطوفان, وإبراهيم -عليه السلام- يحارب بالنار, وموسى يفتن فتونا, ورسولنا عليه الصلاة والسلام يتلقى الكربات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 الرسول صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء، وهما حربان يتعرض لها الدعاة دائماً, فأيهما غلبته سقط وهزم وسحق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح نجاحاً باهراً، وانتصر انتصاراً مبيناً في كل الحربين. اسمع إلى حرب الإغراء، وأول ما يمارس الطغاة والظلمة حرب الإغراء, إنهم يقدمون الدينار، ويقدمون الجائزة ويقدمون الفلة، والسيارة الفخمة, إنهم يشترون الضمائر ليبتاعوا بها المبادئ, تعرض صلى الله عليه وسلم لهذا أول ما تعرض له، الفتاة الجميلة تعرض على محمد صلى الله عليه وسلم يقول له الوليد: إن كنت تريد زوجة زوجناك أجمل فتاة في مكة, وكانت الزوجة الجميلة طموحاً وهدفاً للعرب في الجاهلية, ولذلك يقول قائلهم عن الفتاة: أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها ويقول جميل: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد ومجنون ليلى وهو يدعو الله عند مقام إبراهيم, ينسي دعواته ويلتفت إلى تلك الفتاة الجميلة التي سلبت عقله: أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب هذه عروبة أبي جهل وأبي لهب المنفصلة عن لا إله إلا الله، محمد رسول الله, لكن ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، طموحاته أعظم. عرض عليه الملك، ليتولى ملكاً على العرب العرباء, وليقود الجزيرة العربية, ولكن الملك مجرداً من الدين منية البسطاء, ومبلغ علم الوضعاء, ولذلك جعلته العروبة قبل الإسلام من أقصى أمانيها يقول امرؤ القيس: بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا إما ملك أو موت. وقال -المهلوس الآخر- المتنبي: ولا تحسبن المجد زقا وقينة فما المجد إلا السيف والفتكة البكر وتضريب أعناق الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر هذه هي أمانيهم, وهذه طموحاتهم, وعرضت له الدنيا عليه الصلاة والسلام، وقال الوليد: وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً لتكون أغنى أهل مكة, ولكن ماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ قال فيما يروى عنه: {والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر لا أتركه أو أهلك دونه} لله درك، لله در مبادئك وطموحاتك وهمتك وعزيمتك. البدر والشمس في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار يا فاضح الظلم فارت هاهنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري ومحمد صلى الله عليه وسلم ينتصر، فلما انتصر على الإغراء, عرضوا له الإيذاء، وهي المدرسة الأخرى، وهو الأسلوب الآخر, السب والشتم "ساحر، وكاهن، وشاعر، ومجنون، وكاذب" يصلي عند المقام، عليه الصلاة والسلام فيضعون السلا على رأسه، فيقوم يحتحت السلا، ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يذهب إلى الطائف جائعاً ظامئاً متعباً ساهراً, فيُرَد من الطائف بالتكذيب، ويرمى بالحجارة فتسيل أقدامه, ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يتعرض للإيذاء في عرضه، في عائشة الطاهرة, فيصبر ويتحمل, تباع أملاكه في مكة, تصادر كرامته, يؤذى، يشهر به في القبائل, ولسان حاله ومقاله: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} . يأتيه ملك الجبال فيقول: ائذن لي أن أطبق على أهل مكة الأخشبين, قال: {لا إني أرجو الله أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً} وبالفعل أخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة , ومن صلب الوليد خالداً , فنشروا الدين في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية. ويتعرض عليه الصلاة والسلام لمحاولة الاغتيال, ولكن يتصل بالله، وينتصر به ويستعز، فينصره الله نصراً مؤكداً يرتجف في الغار, حوله خمسون شاباً تقطر دماؤهم دماً وحقداً وموتاً, يرتعد ويرتجف أبو بكر ويخاف أبو بكر , ويقول: {يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا} , فيتبسم صلى الله عليه وسلم, من الذي يتبسم في وهج العاصفة؟! هو وحده. وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما} لا تحزن إن الله معنا وانتصر وحقق أعظم طموحات التي ما حققها مصلح على تاريخ مسيرة الإنسان، وعبر القرون والأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 من صور المعاناة عند الشباب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 الاستهزاء والسخرية تمر المعاناة بهذا الجيل الذي يريد أن يرث رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يبلغها للناس، فإذا هو الجيل الذي يمر به الاستهزاء والسخرية في أول درس له، مدرسة الاستهزاء والسخرية, وهذه قديمة تعرَّض لها صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يذهب بهم إلى تبوك, ليرفع لا إله إلا الله، وليطرد الغازي عن شمال الجزيرة, ومعه في الجيش مستهزئون منافقون, قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن أفئدة عند اللقاء, من هو الجبان؟! ومن الذي يتخلف عن الصف؟ أمحمد صلى الله عليه وسلم جبان؟! أمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يخوض المعارك بنفسه, والذي يضرب الكتائب بسيفه, والذي يقول عنه: علي وهو من أشجع الناس: {كنا إذا اشتد الهول، واحمرت الحدق، وحمي الوطيس, اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون أقربنا إلى القوم} . أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أبدبت في هول الردى أبطالها وإذا وعدت صدقت فيما قلته لا من يكذب قولها أفعالها هذا محمد صلى الله عليه وسلم! يستدعيهم في الصباح ليحاكمهم، هؤلاء أعداء الرسالة والصحوة والمنهج, ما لكم؟ نخوض ونلعب في أعراض الصالحين, فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] وهذه المدرسة تُجرِّب حظها اليوم في مسيرة الصحوة, فتستهزئ باللحية, والثوب القصير والسواك, واتباع الرسالة, وصلاة الجماعة, والأذان, والقرآن. أحدهم يذكر في جريدة الحياة عن شباب الصحوة أنهم يعتقدون أن من قرأ آية الكرسي على الطائرة فوق خمسة عشرة سقطت, وهذا لا يقوله أحد, والكرامات نقرها, لكن حنانيك!! أبشباب الصحوة تستهزئ, أبا للشباب الذين لو ذهبت أنت إلى بورتلاند تتزلج على الثلج, ذهبوا إلى أفغانستان يتزلجون تحت الدبابات, أبشباب الصحوة تستهزئ، الذين إذا ذهبت إلى الخمارات ذهبوا إلى المساجد لإقامة الصلوات!! أبشباب الصحوة الذين إذا تلوت أنت المجلة الخليعة تتملاها, تلوا كتاب الله وآياته يقرءونها ويفسرونها. وإذا تكون ملمة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] إذا قيل التزموا كما التزم الشباب الخيرون, قالوا: كيف نلتزم كما التزم المتطرفون الأصوليون الفضوليون, قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:13-14] أما في مجالس أهل العلم والفضل فيتظاهرون بالدين ورعاية الملة وحماية الشريعة, وأما في مجالسهم فيهدمون الإسلام بالمعاول {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ * يَعْمَهُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15-16] وهي مدرسة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:30] وهي مدرسة {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] . ويراني كالشجر في حلقه عسراً منزعه ما ينتزع فاجراً يخطر ما لم يرني فإذا أسمعته صوتاً قمع قد كفاني الله ما في نفسه وإذا يكفيك شيئاً لم يُضع غاظه أني حنيف مسلم وهو في اللذات واللهو تبع أتريدون سقوطي بعدما لمع الشيب برأسي وسطع لكن لمع نور محمد عليه الصلاة والسلام, وسطع ضياؤه في قلوب الموحدين, وليسوا بضارين كيداً، والله معنا يوم نعتمد عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 مصادرة الحريات من صور المعاناة: مصادرة حرية الجيل وفصله عن ماضية المجيد, فصوت الداعية مبحوح, ورأي الرشيد مذبوح, ومرتزق الفكر يغدو ويروح. من صور المصادرة: أن يتهم الناصح في نيته, ويشكك في مقاصد أهل الخير وأهل الفضل, وإلا فمبدأ المؤمن النصح, لا يريد الغش لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين. أتى أبو سفيان إلى علي في الليل يطرق عليه بابه, قال: يا علي أتريد الخلافة من أبى بكر , لأملأن عليك المدينة فتيانا مرداً وخيلاً جرداً لتأخذ الخلافة من بنى تيم إليك, وهذا منطق الجاهلية، قال علي: [[يا أبا سفيان إن المؤمنين نصحة, وإن المنافقين غششة]] فالناصحون لا يتهمون، وإنما يريدون أن يحفظ الله بنصيحتهم البلاد والعباد, وأن يحجب غير الملتزم والمستقيم عن ميادين الإبداع, وعن مجال التأثير, وأن يعد طارئاً على المألوف, وارداً على السائد المتعارف عليه، حادثاً بأفكاره، وأن يترك الميدان لغيره، والكلمة لسواه. إذا عيَّر الطائي بالبخل مادر ٌ وعير قساً بالفهاهة باقل وقال الدجى للشمس أنتِ كسيفة وقال السهى للبدر وجهك حائل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل يريد المشاركة هؤلاء الأخيار، فيجدونها في أضيق نطاق، بينما يجد أهل الهوايات الأبواب المفتوحة، والصدور المشروحة, وأهل الهوايات أصبحوا نجوماً، وباعة المبادئ أعلاماً، وأشباه السائمة رموزاً, فشياطين الإنس يجولون في صدور أولئك, ويحولون بين الشباب هؤلاء وبين ما يريدون من الخير, ويدغدغون الغرائز، أما هؤلاء الثلة الممتازة، التي تريد رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, يسخرون بدينه وبنبيه, ويتلاعبون بمصادر عزته, فأصواتهم ومجلاتهم وإشاراتهم ولافتاتهم وأغانيهم وكتبهم وجرائدهم وأشرطتهم في كل بيت, في المعمل، والعيادة، والدكان، والجامعة، والسوق, ثم يقال له: احذر أن تسيء الأدب, أو أن تجرح المشاعر, أو أن تغضب الآخرين, أو أن تنكر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 تحجيم دور الشباب في الحياة ومكانه في التأثير وأما تحجيم دوره في الحياة, ومكانه في التأثير, فهو ينظر إلى إسلامه وهو يزوى ويركن عن الحياة, هذا الدين الذي أنزله الله عز وجل منقذاً للبشرية؛ ورحمة للكون, وينظر الشاب إلى قرآنه فإذا هو معزول عن حياة الناس, في جماعة تحفيظ القرآن, في القراءة على الموتى، في رقية المصروع, في افتتاح الندوات فحسب, لكن أن يصدر القرآن ويورد هذه الأمة وأن يقودها إلى معالم الخير, وأن يرشدها في الحياة فلا, القرآن الذي أنزله الله وقال فيه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1] إليك يا محمد, إليك يا حامل المبادئ, إليك يا منقذ الإنسان بإذن الله, إليك يا صاحب النور, لماذا؟ ألتقرأه في المسجد, أترقي به الصرعى فحسب, أتفتح به الندوات أم {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] ويقول الله في كتابه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] قال مجاهد: [[شرف لك ولقومك]] , إي والله إنه الشرف العظيم, أين دستوري ودستورك قبل الرسالة؟ أين تاريخي وتاريخك؟ أين شريعتي وشريعتك؟ إنه القرآن والسنة. هذا الشاب يمتعظ ويغضب، ويثور ويفور دمه, يوم يرى هذا القرآن يُنَحَّى عن حياة الناس, والله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هذا الشاب في نظرهم لا يصلح أن يكون من أساطين الأدب لأنه ملتحٍ, ولا من رواد الفكر لأنه قصير الثوب, ولا من أهل القرار لأنه يحافظ على صلاة الجماعة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي ثم يحتار هذا الشاب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي والفكري والسلوكي. والأصل في توجه المسلم تجريد المنهج الرباني من الدخن، وتصفيته من الشوائب, ذهب عمر إلى مدراس لليهود، فوجد صحيفة هناك من التوارة ملقاة فاستبشر بها, وظن أنه سوف يضيف لثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم ثقافة جديدة, ولشريعته منهجاً آخر, وأتى بالصحيفة يحملها ويبشر بها رسولنا عليه الصلاة والسلام, فَتَمَعَّر وجهه عليه الصلاة والسلام، وغضب, وقال فيما رواه هذا النسائي بسند صحيح: {أمتهوكون فيها يا بن الخطاب! والذي نفسي بيده لقد أتيت بها بيضاء، والذي نفسه بيده لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي} موسى صاحب تلك الرسالة، وصاحب تلك التوارة, لو كان لكان تلميذاً من تلاميذي، وطالباً من طلابي؛ ومع ذلك تذهب لتأتينا بثقافة جديدة. شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات وينزل الصحابة، ويرون شجرة ذات أنواط, تشبه شجرة المشركين ذات أنواط, يعلقون عليها الأسلحة, بل يطلبون الرسول عليه الصلاة والسلام شجرة ذات أنواط, تشابه تلك, فقال صلى الله عليه وسلم: {الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} فأنكر عليهم صلى الله عليه وسلم حتى المشابهة في هذا الشكل الخارجي, لما يؤدي إليه من المشابهة في المضامين والمقاصد, لا. المسلم يتميز حتى في ثيابه, وفي لباسه, وفي منهجه, وفي فكره, وفي أدبه. ذكر ابن إسحاق في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان يصالح المشركين يوم الحديبية فلما رأى المشركون عثمان قصير الثياب إلى منتصف الساق، علمه شيخه وأستاذه أن السنة تقصير الثوب, والمشركون كانوا يجرون الإزار ويسحبون الثياب, النابغة يمدحهم: رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب على كل حال قالوا: قد صبأ عثمان , قد صبأ عثمان , قالوا: صبأ لأنهم رأوا ثيابه قصيرة، لأن شيخه أتى بثياب قصيرة, فقلده واتبعه، واستن بسنته رضي الله عنه وأرضاه, وصلى الله على المعلم وسلم. يدخل عمر المسجد وهذا في التاريخ أيضاً, فيجد قاصاً يقص على الناس, لكن من القرآن؟ لا, من السنة؟ لا وعندنا القصص وعندنا الأدب, وعندنا الإبداع, وعندنا الروعة, وعندنا المنهج المتكامل, قال عمر: من هذا؟ قالوا: قاص, قال: يقص ماذا؟ قالوا: يقص علينا من كتاب " دانيال " - دانيال ضائع من ضيعة التاريخ عاصي جدته لم يعرف منهجه إلى الله عز وجل- وعمر عنده عصا نسيها في البيت, فعاد فأخذها وأتى إلى الرجل فشق الصفوف إليه وضربه على رأسه, وقال: يا عدو الله! يقول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف:3] وتقص علينا من كتاب " دانيال ", مثل من يذهب الآن ويترك صحيح البخاري وصحيح مسلم ليخبرنا عن قصة بياعة الخبز, ووردة المهترية, وخلف الكواليس، ومحمود عنقاوي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 إدانة الشباب باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة هل سمعتم عن أحدٍ يخجل أن يحمل ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته؟ لقد أحوج المنافقون شباب الإلتزام إلى أن يخجل بعضهم من اتباع سنة الرسول عليه الصلاة والسلام, حتى يقول الأول: إذا ما محاسني اللائي أدل بها كانت ذنوباً فقل لي كيف أعتذر إذا كان اتباعنا لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام, وسجودنا لله عز وجل, وانتهاجنا نهجه, إدانة واتهام فكيف نعتذر للناس؟ ولذلك يقول منطق الجاهلية: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، أبناء الفقراء يسبقوننا إلى المساجد والهداية وإلى الالتزام والسنة, عرفنا الإسلام قبلهم, ونحن أهل الإسلام الأصيل, ولكن هو منطق واحد: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] لماذا اصطفاهم الله؟ لقد أُحْرِج صراحة كثير من الشباب بسبب اتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ووجدوا من التعليقات المريرة المرة, ما لم يجده العصاة, وهاهم العصاة يتبجحون ويسرحون ويمرحون, لا يعلق على الحالق بحلق لحيته, ولا على المسبل بإسبال ثوبه، ولا على شارب الخمر بشرب خمره, ولا على حامل العود بضرب عوده, ولا على هاوي المجلة الخليعة بمجلته, وإنما يعلق على أولياء الله، لأنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنها معاناة جعلت بعض ضعيفي الإيمان من شباب الصحوة يتنازل عن الكثير من السنة, بل ويجد الحرج في أن يحمل أحدهم السنة، وربك يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] كيف يجدون طعم الإيمان وهم يخجلون من اتباعك؟! وقد صرح بعضهم في تصريحات رسمية أنه لولا أسرته لربَّى لحيته, ولولا أن أباه يضغط عليه لترك الغناء, ولولا أن أمه تحاربه لحضر دروس العلم والمحاضرات, فسبحان الذي يغير ولا يتغير, ويبدل ولا يتبدل! الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 قلة المربين والربانيين قلة المربين والعلماء الربانيين، فقد أصبحوا أندر من الذهب الأحمر, وأعز من الكبريت. وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل وأصبح الآن يذكر في المدن عالمٌ واحد, ممن يحمل الشريعة، ويؤتمن على الميثاق، وعلى الكلمة الحقة, وأصبح كما قال بعض الفضلاء: لو جمعنا الدعاة في البلاد في منطقة واحدة أو في مدينة, ما غطوا حاجتها, وهذا هو الصحيح, وأصبحت بعض المدن لا يأتيها المحاضر, لا تقام فيها المحاضرة في السنة إلا مرة أو مرتين, وأصبح هناك فقر مدقع في الدروس العلمية, بينما تمطر الأمة بوابل من الغثاء صباح مساء, فالصحف والمجلات والوسائل كلها ترغي وتزبد بما لا ينفع, ولكن مع قله المربين والدعاة، والله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ولو أنها تصرف الأموال, ولو أنها تهيأ الوسائل, وتدرس البرامج, ولكن لا يهمك {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ويبقى الحق منتصراً مع قلة وسائلة وقلة ما يلمع أو يعطى أو يوجه. أصبح كثير من العلماء يشتغل بالنفل الزائد من نوافل المستحبات والزهد والورع, ورع بارد لا ينفعه؛ ورع والأمة تغرق؟! ورع والأمة تصادر كرامتها وحريتها؟! ورع والأمة تفصل من لا إله إلا الله؟! ورع والأمة تحول عن القبلة؟! ورع والأمة توصل بحبال إلى الغازي المستعمر؟! أي ورع هذا؟! وصنف آخر يتشاغل بفضول العلم، وتوليد المسائل، وتفريع الفرعيات, على حساب الأولويات والمهمات, فلا ينزل للجيل، ولا يقود المسيرة, ولا يوجه الطاقات, ولا يعظ, ولا يأمر, ولا ينهى, فأي علم وأي فائدة؟! المكتبات تغرق بوابل من التأليفات في الجزئيات حتى أَلَّفَ في مسألة المسبحة ما يقارب خمسة كتب مجلدات. ولكن من يسبح بهذه الأمة إلى شاطئ الأمان, إنهم رواد محمد صلى الله عليه وسلم الذين يُعلِّمون الناس: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره, وقيل: هو الذي يكون إماما في الخير ويُعلِّم ويربى بفعله وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة:24] هل قال في بيوتهم أو زوايا مساجدهم؟ لا {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يقول عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} . إن القلة القليلة التي تتبوأ مكان الصدارة, تحتاج إلى من يرفدها ويعينها من القاعدين الآخرين، الذين رضوا بالجلوس في بيوتهم، وأفتاهم الشيطان ببعض الفتاوى التي لا تصلح في هذا الزمن, بل هو زمن الصراع العالمي والجهاد وأن تبدو ببضاعتك، وأن تنشر بزك, وأن تكون مرفوع الرأس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 صورٌ من الطموح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 طموح إلى الربانية ويتطلع الشباب كل واحد منهم -وهذا طموح- إلى أن يكون العالم الرباني، وسوف يحصل متى ما كان هناك استعداد وتوفيق ونية ليتعلم العلم الشرعي، ورغبة في التحصيل, وصبر على صعوبة الطريق, وفراغ القلب والوقت من الشواغل, مع ذكاء وفطنة. إن الإسلام يعترف بالعلماء ليصدر عن رأيهم، لكن يوم يكون العالم وارثاً لمحمد عليه الصلاة والسلام, يوم يكون العالم يقول كلمة الحق ولا يكتم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] إن الذي يشتري بدعوته منصباً, أو سيارة فخمة, أو فيلةً بديعة, أو وظيفة مغرية, ثم يترك هذا المبدأ ولا يبينه للناس, لهو الخاسر في آخر الطريق, وهو المنكوب صراحة, وهو المفلس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 طموحٌ إلى الجهاد ويتطلع الشباب إلى أن يكون الواحد منهم مجاهداً في سبيل الله, وليس الجهاد فحسب في أفغانستان, بل في كل مكان, جهاد الكلمة والموعظة, والخطبة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وتربية البيت, والتحصيل العلمي, وتربية النفس على طاعة الله عز وجل, وكلٌ منا في قلبه أفغانستان, وكل في قريته أو مدينته أفغانستان, وهي من الجهاد أيضاً، ولكن نعطيها حجمها من الاهتمام, لئلا نترك الثغرات الأخرى، التى فتحت علينا وتولى أصحابها, وكانوا على المسلحة بالسيوف في الأنقاب, يطردون كل مسيح دجال يريد أن يدخل من هذا النقب. سقطت راية الجهاد -كما قالوا- بعد " صلاح الدين " وتخلفت الأمة الإسلامية لتعيش في آخر الركب, وصارت تستورد ولا ُتصدِّر, وتُوجَه ولا تُوجِه, وتُقَاد ولا تقُود. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 طموحٌ إلى قيادة البشرية والشاب الآن يطمح لأمته التي يقرأ عنها في التاريخ أن تقود البشرية، أصبح الآن حجتنا أن نغسل عنا العار على وجوهنا, أن نقدم لهم كل جمعة عمر بن الخطاب: لو أسمعوا عمر الفاروق نسبتهم وأخبرو الرزايا أنكر النسبا أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا إذا أردنا أن نعتذر قلنا: منا صلاح الدين , وعمر بن عبد العزيز. إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئس ما ولدوا فلماذا لا يكون كل منا عمر بن الخطاب ولو مصغر, وصلاح الدين ولو نبذة منه, أو نسخة مكررة, وما ذلك على الله بعزيز. وينتظر الشاب إلى أن يكون الداعية إلى منهج الله عز وجل ضد دعاة الباطل, وحملة الرذيلة، والمطالبة منا أن نراغمهم في الميدان، وأن نلاحقهم في كل معترك. فالداعية الشاب الملتزم يجرع أعداء الله غصصاً لا تنتهى، فخطيب الدعاة مع خطيب أولئك, وصحفينا مع صحفيهم, وأديبنا مع أديبهم, وكاتبنا مع كاتبهم, ومفكرنا مع مفكرهم. {حَتَّى إذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] وعندنا ولله الحمد في شباب الصحوة من التخصصات والمواهب والاستعدادات, ما يغطي كل جانب, ولكنها ما استثيرت وما وجهت وما وضعت في أماكنها, عندنا مئات الشعراء والحمد لله: إن بني عمك أكفهم رماح ومئات الخطباء ومئات الدعاة, ومئات الوعاظ, ومئات الشعراء, كلهم عندنا: أتركبون فإن الركب شيمتنا أو تنزلون فإنا معشرٌ نزُلُ إن شئتم فسيوف الهند ضاحكة أو شئتم الطعن فالأرماح ترتجل ويريد الشاب الملتزم من طموحاته أن يكون الآمر الناهي, الذي يتمعر وجهه كل يوم مرات عديدة, إذا رأى الإسلام يُمَرَّغ في التراب, يمرغ على الأرصفة, ويمرغ في الحوانيت, ويمرغ في الجامعات, ويمرغ في المنتديات, ويمرغ في النوادي, فيلتهب هذا الشاب، ويفور دمه، لأن دينه ومبدأه يمرغ في التراب, ويُزْبِد ويُرْعِد إذا رأى المنكر أمامه يهدد منهج الله، ويضايق أوليائه. إن هذا الجيل -إن شاء الله- لا يريد أن يكرر مأساة بنى إسرائيل اليهودية القذرة, التي تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقال الله عنهم {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78-79] يقول الحبيب لحبيبه:: {قل الحق ولو كان مراً} يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {قل الحق ولو كان مراً} رواه ابن حبان والحق مر يذهب بالرءوس, والحق مر يأخذ النفوس, والحق مر يسيل الدماء, لكن قل الحق ولو كان مراً, ما هي ميزتنا أمام الأمم؟ أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله, فإن تخلينا عن هذه الميزة سقطنا من عين الله ثم من عيون الأمم. والشعوب الإسلامية الآن ترك كثير منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفعل الاستعمار, بل أصبح الأمر والنهي دخيل على الأمة، وأصبح مستغرباً, وأُذِيْبَ وأُنْهِيَ حتى أصبح الآن متلاشياً قليلاً ضعيفاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 طموح إلى دخول الجنة أيها الإخوة الفضلاء! ومن طموحات هؤلاء دخول الجنة، نسأل الله لنا ولكم الجنة، وهى أعظم ما بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، خلافاً لأهل التصوف الكذبة, الذين يرون أن هناك مطلباً أعلى من دخول الجنة, ويرون أنهم لا يعملون للجنة, وأن العامل لا يعمل من أجل الجنة, يقولون: أجير السوء إذا أعطاه سيده أجرة أخذها, وإلا ما عمل، ويقول أحدهم: والله ما عبدت الله طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره, ولكن ليرضى عني, وقال أحدهم وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] والله يخاطب أهل أحد, من يريد الدنيا؟ أهل الغنائم, ومنكم من يريد الآخرة الشهداء الذين تركوا الغنائم, قال: فصفق بيديه هذا الصوفي، وقال: الله أكبر فأين الذين يريدون الله، يعني أن ما من الصحابة أحد يريدون الله، وهو فقط في صومعته وفي جهله وفي تخلفه يريد الله. الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة منَّى الصحابة بالجنة {قال له الأنصار: يا رسول الله على ماذا تبايعنا؟ قال على أن تمنعوني مما تمنعوا منه نسائكم, وأطفالكم, وأموالكم, قال ابن رواحة: يا رسول الله فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة, فقام من مجلسه ابن رواحة وقال: ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل} قال ابن القيم معلقاً: والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإذا تفرقا وجب البيع. طولب ابن رواحة بالبينة ما هي بينتك؟ وأنت ذهبت من مجلس العقد, وقد سمعت الصك يتلى عليك من رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه} [التوبة:111] فطولب بالبينة، فتقدم في غزوة مؤتة, وأخذ الصحابة يقولون: رويدك يا ابن رواحة , فيقول: لا أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلن أو لتكرهنه >إن أقبل الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة هل أنت إلا نطفة في شنه ثم باعها من الله, والله اشترى، وذهبت روحه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-29] وذكر ابن هشام في السيرة وغيره، وابن كثير أن شاباً من شباب محمد صلى الله عليه وسلم وقف النبي صلى الله عليه وسلم يعلن الحرب يوم الجمعة على أبي سفيان لأنه هدد أمن المدينة, واجتاح أطرافها، وأراد دخولها قبل المعركة بيوم أو يومين, فقال للناس: ماذا ترون أين نقاتلهم؟. قال كبار الصحابة: في المدينة، يقول اللواء الركن/ محمود شيت خطاب: وهو الرأي السديد فإن حرب المدن دائماً في صالح المدافع على المهاجم؛ وأقر صلى الله عليه وسلم ذلك وخرج ثلة من أصحابه، من الشباب من آخر المسجد، خرجوا يكبرون وينشدون: نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا ويقول عمرو بن سالم: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى أحد, لا تمنعني دخول الجنة, والله لأدخلن الجنة, فيقول صلى الله عليه وسلم: بم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله, ولا أفر يوم الزحف, قال: إن تصدق الله يصدقك} وخرج بهم صلى الله عليه وسلم، فقدموا من التضحيات الهائلة، التي لم يحيها تاريخ، ولم تحفظ في كتاب, إلا في كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تروَ في قصة، ولم يسمع بها دهر, ووالله تضحيات تقيم شعر الرأس، وتجعل الدم مواراً في الجسم, تضحيات لا تنسى أبداً، يمد سيفه صلى الله عليه وسلم قبل المعركة قال: {من يأخذ هذا السيف، فرفعوا أياديهم قال: بحقه، فنزلت الأيادي إلا يد أبي دجانة , قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} اسمع الشرط، اسمع شبابه عليه الصلاة والسلام: {أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} . إن على كل رئيس حقاً أن يخضب القناة أو تندقا قال: {أنا آخذه يا رسول الله, فأخذه وأخرج عصابة الموت الحمراء, وهي تترجم (خطر ممنوع الاقتراب) وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت, فحان الموت, وأخذ أبو دجانة يقول: أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل ألا أقوم الدار في الكيول أضرب بسيف الله والرسول ففلق به المشركين, وتقدم قتادة بن النعمان ليعلن من نفسه الصدق مع الله عز وجل, فضربت عينه ونزلت حتى تعلقت بعرق في خده -قالها ابن القيم في زاد المعاد، وغيره من أهل العلم- وأتى بعينه يعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم, بالله هل بعد هذه تضحيات؟ فيردها صلى الله عليه وسلم إلى مكانها فتخرج أجمل من الأولى, ويفتخر ابنه ويقول عند عمر بن عبد العزيز: أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد فصارت على خير لأول حالها فيا حسنما كف ويا حسنما خد ويتقدم حنظلة، ويقتل وهو جنب، ويغسل بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن. أملاك ربى بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة فانزاحت السجف سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 طموح إلى رضا الله ومن طموحات هذا الجيل أن يرضى ربه عنه, ورضا الله غاية الغايات, وأهم المقاصد، وهى أكبر ما يطمح إليه العبد المؤمن في الحياة, -فنسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرضى عنا وعنكم- والمسلم، دائماً في كل صباح يقول: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً " صلى الله عليه وسلم, ولابد أن يحقق هذا في عمله وعبادته وسلوكه وأخلاقه, ولابد أن يجعل هذا الميثاق نصب عينيه، في كل دقيقة ولحظة من لحظات اليوم, ولا يُقدِّم على رضا الله رضا أحد من البشر مهما كان, ولا يقدم على الخوف من غضب الله غضب أحد من البشر مهما كان, أبداً، فإنه قد ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فيما يروى عنه، أنه قال: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عليه الناس} فالواجب على المسلم وعلى هذا الجيل أن يحرص على رضا الله عز وجل, وأن يردد دائماً بمعانيه وبعمله: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذى بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 اقتراحات عاجلة وهذه غاية الغايات كما قلت، وقبل أن أختتم كلامي هذه اقتراحات عاجلة, من أخ إلى إخوانه، ومن زميل إلى زملائه، ومن صديق إلى أصدقائه, منها: أن يصنف الفضلاء حسب مواهبهم واستعداداتهم للذود عن الملة, وحراسة حياض الشريعة, وحماية دار الإسلام, ما بين عالم وداعية، وواعظ، وآمر، وكاتب، وأديب، وصحفي, ثم يقف كل منا على ثغرة فلا يغادرها حتى يقضي نحبه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] . الثاني: أن ينتقل كل منا من مرحلة تواكل المسئولية، والتبرؤ من التبعات, إلى التأثير والمشاركة, وإلى ميادين العطاء, وإلى نشر ميثاق محمد صلى الله عليه وسلم, بكل ما أوتي الداعية من قوة. الثالث: أن يهيأ في كل حي درس في الشريعة لأحد المؤهلين، يجيد مخاطبة العامة وتربية الناس, وهذا يقترح أن يكون مثل صاحب إحياء علوم الدين, وهو من أحسن ما يكون. الرابع: أن ننطلق جميعا مُشَرِّقين ومُغَرِّبين, نرفع الجهل عن الناس، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر, فندخل البوادي والقرى والأرياف, داعين إلى منهج الله. وقال غيري من الفضلاء، وأقول: يعلم الله أنه يوجد من أهل المبادئ الظالمة، والأنظمة الظالمة، من يضحي لمبدئه أعظم مما يضحي الموحد لتوحيده, والمسلم لإسلامه. الخامس: أن نتخلى من عقدة الخوف, أتدرون ما هي عقدة الخوف؟ إنها العقدة التى تصل إلى حد أن يخرج الإنسان من الملة وهو لا يشعر, وقد جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نواقض لا إله إلا الله شرك الخوف, ونعرف أنه ليس في الحضور، ولا في غيرهم من شباب الصحوة، وأهل الإسلام، من يعبد نجماً أو شجراً أو حجراً, ولكن منهم من يشرك شرك الخوف حتى يخرج من الملة, يخاف من البشر أكثر من خوفه من رب البشر, ويخاف من الناس أكثر من خوفه من رب الناس, والله يقول: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ويقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] . قرأت لأحد شعراء النبط ومعذرة في هذا, ولكني عجبت من قوته وجلده, وهو يعلن مبدأه في بيتين من الشعر وهو يخاطب بها بعض الظلمة, يقول: أنا يا كرى مثلك يحب العلا شجعان يراهم بروحه ما يخاف الشمالية أنا بعت روحي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النية وما دام وصلنا إلى النبط، فمعذرة فأنا سوف أختم كلامي ببعض الأبيات من شعر نبطي من طلق أهل الجنوب. يا جميل الوصف بالله ما زرت القصيم ديرة فيها البطولات رمز أبطالها العقيدة والمروات والدين العظيم زلزلت منهم ديار الوفا زلزالها من جنوب المملكة جيت والمنصىكريم عند ما تحيا الجزيرة بذا نبلى لها وأكرر شكري لكم ودعائي, وأسأل الله أن يحشرنا وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وأن يجمعنا بالصالحين من عباده. وأشكر أهل الفضل الذين شرفونى بالحضور، وتواضعوا للسماع مني، كالشيخ رئيس المحاكم عبد الرحمن العجلان، والمشايخ عموماً كالشيخ/ حمود العقلا , وغيره من الدعاة والخطباء وأهل الفضل, فشكر الله لهم ذلك، وما بقي من وقت فأتركه لفضيلة الشيخ الداعية المسدد سلمان بن فهد العودة ومع الشيخ ليقدمه لكم ثم يدلف إليكم. تعليق الشيخ عبد الوهاب الناصر: إنا والله يا أبا عبد الله أعجز أن نكافئك أو نجازيك، يوم أسعدت بمقدمك, وآنست بطلعتك, وبعثت في القلوب بكلمتك من المعاني العظيمة، ما أنعشها وأحياها وأذكاها وأزكاها, فقد لامست بحديثك عن المعاناة جروحاً والله في القلوب راعفة, وحركت بحديثك عن الطموح همماً إلى المعالي سامية, لا نملك أن نكافئك ولا أن نجازيك، ولكن نملك أن ندعو لك ونسأل الله أن يجيب, نسأل الله أن يكتب لك ما احتسبت, نسأل الله جل جلاله أن يبارك في عمرك، وينسأ في أجلك, ويجزيك عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خير ما جزى داعياً عن دعوته, نسأل الله جل جلاله أن يسعد قلبك, ويقر عينك بعز الإسلام وظهور المسلمين. أما الآن أيها الأحباب فادع قلوبكم لأشواقها, مع كلمة شيخنا، الموعودين نحن بها، فليتفضل شيخنا أبا معاذ ليعقب بما تيسر والله يحفظه ويرعاه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 استهداف شباب هذه الأمة الشيخ: سلمان العودة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وآله وأصحابه أجمعين. أحبتي الكرام! كم هو محرج لي أن أجلس في هذا المجلس بين يدي مشايخي، كالشيخ عبد الرحمن والشيخ حمود والشيخ محمد بن صالح المنصور , وبقية المشايخ الذين حضروا إلى هذا المجلس المبارك، وهم كانوا أحق بهذا المجلس مني وأولى بالحديث مني. أيها الأحبة الكرام! ليس لي حديث بعد هذا الكلام الطيب العذب, الذي تفضل به لنا الشيخ عائض بن عبد الله القرني، جزاه الله تعالى عنا خيراً, وبارك الله تعالى في أوقاته وفي جهوده. أحبتي الكرام! شباب هذه الأمة اليوم كما هو ظاهر مستهدفون بحملة شرسة، تعمل على مسخ اهتماماتهم, وتوجيه تطلعاتهم إلى قضايا ثانوية, وإلى قضايا دونية, أصبح طموح الشاب، وأصبحت البطولات التي تتراقص في ذهنه, وأصبحت المثل التي يتمناها ويتطلع إليها, هي ليست البطولات التي تحفظ لهذه الأمة تاريخها, ولا ترفع هذه الأمة إلى مكانتها، وإنما تعلقت قلوب كثير من الشباب باهتمامات دنيوية, وطموحات عادية؛ بل أصبحت تطلعات كثير منهم لا أقول: دنيوية وعادية فحسب، بل ربما تكون ضد ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين, أي فائدة تجنيها هذه الأمة المنكوبة المكلومة من سفور المرأة وتبرجها وتعريها؟! وأي مصلحة تجتنيها وتكسبها من انشغالها بإعداد عجول آدمية لا يملكون إلا القوة في أيديهم وسواعدهم وأقدامهم فحسب, ولكنهم لا يملكون قلوباً قوية, ولا يملكون نفوساً أبية؟! وأي فائدة تكسبها الأمة من الأصوات الصداحة التى لا تتغنى بالقرآن, وإنما تتغنى بحب فلانه وفلان؟! إن الأمة اليوم ليس ما ينقصها هو المغني أو اللاعب, وإنما الذي ينقصها الشاب الذى يحمل قلباً يتنزى من جراح المسلمين في كل مكان, والشاب الذى يحمل روحاً تتطلع إلى نصرة الإسلام على يديه, والشاب الذي يملك نفساً تحترق لهموم المسلمين, والفتاة التي يهمها أن تكون قعيدة بيتها لتربي لنا أبطالاً، ليعيدوا لنا أمجاد السابقين. كما تحدث فضيلة الشيخ عائض , أصبحنا اليوم نتكئ على تاريخنا كثيراً، فخطيبنا ومتحدثنا ومحاضرنا وفي مجالسنا لا نملك إلا أن نعدد مآثر سابقينا, فنقول: فلان فعل وفلان فعل. وقد قيل: كن ابن من شئت واكتسب أدباًً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبى هذه الأمة أصبحت تجتر تاريخها, لأنها عقمت في حاضرها, فلم تجد من البطولات، ولم تجد من ألوان العظمة, ولم تجد من الجد والاجتهاد, ما تتحدث به في واقعها, ولهذا انكفأت على تاريخها تقلب صفحاته, كما ينكفئ التاجر إذا أفلس على أوراقه القديمة، ويقلب دقاتره السابقة لعله يجد ديوناً هنا أو ديوناً هناك. أصبحنا نتحدث عن ماضينا، ولا نتحدث عن حاضرنا, لا أقول نتحدث عن ماضينا أكثر مما نتحدث حاضرنا, بل نتحدث عن ماضينا ولا نتحدث عن حاضرنا. وأفلح عدونا فعلاً في إغراقنا بألوان من الهموم والمشاغل، من خلال غزو مُرَكَّز قامت به أجهزة الزور العالمية التي دخلت كل بيت وكل عقل وكل قلب وكل روح, فغيرت من نفسية الإنسان المسلم. أصبح المسلم يعاني مسخاً منذ أن يستيقظ إلى أن ينام, ومنذ أن يولد ويكتب في دفتر التابعية إلى أن يدفن ويكتب في دفتر الوفيات, يعاني مسخاً وتشويهاً وتغييراً لعقليته, ولروحه ولإيمانه، لا يكاد يصمد لها إلا الأقلون. ولعلنا نعرف كم يصدر يومياً من المجلات والجرائد، ومن الكتب ومن الدواوين، ومن القصائد ومن القصص ومن المسلسلات!! وكم يوجَّه إلى عقل الشاب المسلم اليوم من ألوان التسلط التي تمسخ عقله وتغير فكره. وكم تواجه الفتاة حتى وهي في عقر دارها, حتى وهي في مدرستها, حتى وهي معزولة عن عالم الرجال, كم تواجه من ألوان التغيير والتضليل، التي جعلت كثيراً من الناس -كما تحدث الشيخ عائض - حفظه الله- تنقطع صلتهم بماضيهم, وتنبتر صلتهم بتاريخهم, وتقل رابطتهم بإيمانهم, حتى أنك لا تجد منهم من يهتم لهمِّ هذه الأمة, ولا من يعيش مشاعرها، وربما أصبح كثير منهم يعرفون من تاريخ أبطال الغرب, وفنانينه ومخترعيه وصُنَّاعه, ما لا يعرفون عن أبطالهم ولا عن تاريخهم، وربما استطاع كثير من هؤلاء -وقد رأيت هذا بعيني- أن يقرأ أغنية من أولها إلى آخرها, لكن ربما لو طلبت منه أن يقرأ سورة من كتاب الله عز وجل لعجز، ولو قرأ منها آيات لقرأ آيات مكسرة مهشمة، يخطئ فيها في السطر الواحد مرات , أي مسخ أكثر من هذا؟! والواقع أيها الأحبة أن الكثير لا يدركون ذلك, لماذا لا ندركه؟ لأن الكثيرين منا بحمد الله يعيشون في أجواء طيبة، وبين أوساط قوم صالحين, هذا يحفظ القرآن, وهذا يتلو كتاب الله, وهذا يتعلم السنة, وهذا يحضر مجالس الذكر, لكن هناك قسماً آخر كبيراً جداً من المجتمع، لا علاقة لنا به, ولا ندري ماذا يدور فيه, ولا عما يتحدثون, ولا ما هى اهتماماتهم، ولا ما طموحاتهم, ولا ما هي معاناتهم, وكثير من هؤلاء قد مُسِّخت عقولهم, وغُيِّرت أفئدتهم, حتى أصبحت صلتهم بدينهم وواقعهم أبعد ما تكون, وأصبحت قلوبهم مع عدوهم، وإن كانت أثوابهم أثوابنا, ولغتهم لغتنا, وربما كانت أسماؤهم اسماءنا, وهم من عوائلنا وأسرنا، لكن كثيرون منهم قد ذهب بهم الغرب كل مذهب, وغير عقولهم وأفئدتهم, وقلبهم فيما يحب ويشتهي, حتى أن الواحد منهم لا يحس بأدنى حسرة على هذا الواقع المرير الذى تعيشه أمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, ولا يحس بأدنى غبن، وهو يرى أمم الغرب والشرق تبلغ قمة المجد في دنياها وفي تقدمها، وفي صناعتها، وفي علومها التى كان يجب أن تكون في أيدي المسلمين, فلا يعنيهم من أمر ذلك شيء. بل إن الغرب نفسه أصبح يُصدِّر إلينا التعاسة، والفساد، والتوافه من الأمور، ويحتفظ لنفسه وأبنائه ولفتياته بالتقدم والعلم, ففي الوقت الذي يشغل الغرب فيه شبابه ذكوراً وإناثاً بالأمور النافعة, وبالأمور المفيدة على الأقل في دنياهم، أصبح الغرب يصدر إلينا من توافه البضائع، من المجلة الهابطة, ومن الأغنية المنحطة, ومن الأفلام الفاسدة, ومن البرامج الرديئة, أشياء وأشياء, وإن كان من أولادهم من يتشغل بها إلا أن منهم أيضا من يشتغل بجلائل الأمور ومعاليها. ونحن نعلم أنه حتى في مجال المرأة أصبحت جيوش كثير من أمم الكفر تجند النساء, لماذا تجند النساء؟ لخدمة عقائدهم ومبادئهم, نحن نربأ بأزواجنا وأخواتنا وبناتنا وأمهاتنا وقريباتنا، من نعتبرهن درراً مصونة، تحفظ في بيوتها ويقول الله تعالى لهن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] نحن نربأ ببناتنا, بنسائنا, بأخواتنا المؤمنات, عن مثل هذه المواقع. لكننا نقول: إنها لعبة واضحة مكشوفة ينبغي ألا تنطوي علينا أن الغرب في الوقت الذي يجند حتى صاحبات السواعد الرخوة يجندهن للدفاع عن مصالحه في أنحاء العالم, فإنه يصدر إلى شبابنا -وليس إلى فتياتنا فقط- ألوان الفساد والتعاسة, وألوان الانحراف والانحطاط, وها هو البث المباشر أصبحوا يهددوننا به صباحاً ومساءً, حتى يخترقوا بيوتنا وأخلاقنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا, ويجعلوا شبابنا يعيشون في حالٍ لا يعلمها إلا الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 الأمة الإسلامية بحاجة إلى صحوة أيها الأحبة الأمة الإسلامية بحاجة إلى صحوة, وينبغي أن ندرك أنه إذا كان يجتمع في مسجد مثل هذا الجمع الطيب بالألوف, فإنه يوجد أعداد كبيرة من الشباب هم بأمس الحاجة إلى اليد الحانية، التي تأخذ بأيديهم إلى المسجد, وتربطهم بالله عز وجل, وتدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وتتطلف معهم حتى تجرهم وتسوقهم سوقاً رفيقاً غير عنيف إلى مجالات الخير, ومجالات البر ومجالات الإحسان. وإننا نعتبر أن مثل هذه المجالس، كما نعتبر مجالس العلم التي يحييها علماؤنا في كل مكان, كما نعتبر دروس تحفيظ القرآن, كما نعتبر الدور التي تقام والمجالات الخيرية، نعتبر أنها نوع من المقاومة والكفاح، لا يقل أبداً عن ذلك الذي يحمل سيفه ويواجه العدو في ميدان المعركة, بل نحن نواجه عدواً أشرس وأعظم، لأن الذي يواجه العدو في ميدان المعركة قد حدد عدوه، وعرفه على وجه التحديد, وعرف جهته, وقد وجد في الواقع ما يثير حماسه ويلهبه, حتى أن كثيراً ممن يكون فيهم خوف وجبن إذا ذهبوا إلى ميادين القتال، وسمعوا أزيز الطائرات، وسمعوا طلقات المدافع، زال عنهم الخوف, وأصبحوا شجعاناً ينطلق الواحد منهم لا يلوي على شيء، وهو يتمنَّى أن يموت في سبيل الله, وهذا أمر مشاهد مجرب, لكن الذي يواجه عدواً مستتراً عدواً منافقاً، عدواً يتظاهر بالود, يتظاهر بالخير, يتظاهر بمحبة الطيبين والخيرين، وأنه يريد الخير لهؤلاء الناس, ثم يدس لهم في اليد الأخرى السم الناقع، ذلك من أصعب الأمور مواجهة أمثال هؤلاء، لأن الكثيرين تفتر حماستهم، وتقل اندفاعاتهم نحو هذه المجاهدة, التي هي من أوجب الواجبات في هذا الوقت, وما هذه الكلمات النيرات التي تقدم بها أخي الشيخ عائض حفظه الله وسدده ووفقه وجزاه عنا خيراً, إلا نبراس في هذا الطريق، فنحن أصبحنا اليوم أيها الإخوة مطالبين، حتى من كان منا عنده معصية، أو عنده بعض التقصير، مطالبين بأن ننقذ أنفسنا وننقذ بيوتنا، من هو الذي يرضى أن يكون بيته مقتحما؟ من هو الذي يرضى أن يكون عدوه في قعر بيته؟ يصل إلى أخته وإلى أخيه وإلى قريبته بل إلى زوجته في بعض الأحيان, والله إننا نعرف من أوضاع البيوت من أوضاع الشباب ومن أوضاع الفتيات ما يندى له الجبين, وندرك أن الشاعر كان على حق حين صاح منذ سنوات طوال وهو يقول: مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماًَ من تراب هذا الشاب الذى تلتهب القوة الجسمانية في بدنه, ثم يرى على مرأى منه ومسمع صور الرذيلة، التي تصدر لنا من الشرق والغرب, وصور المرأة الجميلة، والأغنية الهابطة, ما هو الذي يعصمه من كل هذا؟! صحيح أن الإيمان يعصم قدراً من الناس، لكن كثيرين تضعف قوتهم, ويتأخرون ويستجيبون لمثل هذه النوازع الشهوانية, ويظل الشيطان يجرهم جراً من منحدر إلى منحدر, ومن درك إلى درك, حتى لا يصحو الواحد منهم إلا وهو في الحضيض، وقد أصبح مدمناً للمشاهدة, مدمناً للسماع, مدمناً للمخدرات, مدمناً لأي لون من ألوان الفساد, ويصعب عليه أن يتخلص من ذلك, إلا بجهد جهيد. فيا أيها الإخوة! ينبغى أن يعلن كل فرد منا، إن صح التعبير، حالة الطوارئ على نفسه, وفي بيته, ويكون يقظاً صاحياً مدركاً للمسئولية التى ألقيت على عاتقه، وأن يؤدي دوره في منزله, وفي زملائه، وفي حيه، وفي كل مجال يكون فيه على أحسن ما يكون أداء الدور. وإذا لم تنفع اليوم، أيها الأخ! دينك وأمتك فمتى تنفعها؟ نحن على ثقة، وعلى يقين من وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الدين منصور, والله الذي لا إله غيره أقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً, إن هذا الدين منصور ولكن بسواعدنا، فإن الله يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] فنصر هذا الدين إنما يكون بسواعد المؤمنين, وبجهادهم وبصبرهم وببلائهم وبدعوتهم إلى الله تعالى, لو شاء الله تعالى لأنزل ملائكة في الأرض يخلفون، وعن دين الله تعالى يذبون ويكافحون، ولكنه أراد أن يبلوا بعضنا ببعض، ويختبرنا ببعضنا ببعض, فلنكن من المجاهدين في سبيل الله, ولو بالكلمة الطيبة, ولو بالنصيحة الهادئة, ولو ببذل جهد بسيط في هذا السبيل. فنحن نحتاج منك إلى أقل القليل من الجهد، وأقل القليل إذا أضيف إلى غيره فإن الله تعالى يبارك فيه, خاصة إذا توافرت مع ذلك النية الصادقة, والخلق الحسن، والبسمة تكسو وجهك, وحب الخير للناس, لا تريد علواً في الأرض ولا فساداً, ولا تريد أن تمارس على الناس هيمنة، أو تسلطاً أو أمراً أو نهياً, وإنما قصدك أن يهتدي الناس إلى دين الله وإن لم تعرف وإن لم تذكر، وإن لم يستجب لك الناس في شخصك, لكن يهمك أن يستجيبوا لدينك ولدعوتك حتى ولو كنت تحت أطباق الثرى. خاتمة: وأختم هذه الجلسة المباركة بالدعاء، أن يوفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه, ويجعلنا جميعاً هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين, وأن ينفع بنا دينه وينصر كلمته، ويعلي بنا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا, إنه على كل شيء قدير وأدعو الله للشيخ عائض بن عبد الله القرني أن يوفقه الله لما يحبه ويرضاه, وأن يملأ الله قلبه إيماناً وسعادة, إنه على كل شيء قدير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 حكم لفظة: (سقط من عين الله) السؤال قد سمعتك تكرر لفظة (سقط من عين الله) فهل هذه العبارة تليق بالله جل وعلا أم لا؟ وهل فيها تشبيه أم تمثيل أم لا؟ هذا للتنبيه وأَعَلَمُ أنك قلتها بدون قصد. الجواب في الحقيقة لا أدري من المقصود، أنا أم الشيخ عائض؟ ولكن سأجيبك بعد أن أستسمح الشيخ في ذلك. أنا أعتقد أن العبارة هذه ليس فيها شيء, وقد وردت في بعض الآثار على كل حال, والمقصود بها أن الإنسان إذا فعل معصية أو قصر في واجب, فكما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى يعرض عنه, أو ما أشبه ذلك ولا يكون له عند الله المنزلة, ولا شك أن منزلة العبد عند ربه تكون بقدر إخلاصه وعمله وتقواه, فهذا هو المقصود, وهو مقصود صحيح، واللفظ ليس فيه شيء في حدود علمي, وإن كان فيها شيء، فحبذا أن ينبهنا مشايخنا إلى ذلك. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك والحمد لله رب العالمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 يا لجراحات المسلمين تحدث الشيخ حديثاً مهماً عن قضايا المسلمين وجراحاتهم وما يدور في الساحة الإسلامية من مآسٍ لا يعلم حقيقتها إلا الله، وتناول في حديثه ما يجري في البوسنة والهرسك والصومال وأفغانستان وإريتريا وما سواها من الدول الإسلامية، ثم تناول حديثاً عن واقع المسلمين في البلاد العربية، وما فيه من المضحكات المبكيات، وتطرق إلى الأسباب في هذه المآسي وما هو الدور المطلوب من الحكومات والأفراد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 1 اعتذار وشكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه المحاضرة (يا لجراحات المسلمين) تُلقى في هذا المسجد الجامع الكبير، بمدينة المجمعة، في ليلة الجمعة آخر يوم من شهر صفر من سنة (1413هـ) . أيها الأحبة من الحضور، وأيها الأحبة من أهل المجمعة، إني لا أشكركم لأنكم دعوتموني إلى المحاضرة فحسب؛ ولكنني أشكركم لأمورٍ، منها: إلحاحكم الدائم الذي أحرجني وأشعرني بالتقصير في حقكم، وبُعد العهد معكم، فقلما يمر أسبوع أو أقل من ذلك، إلا وألتقي بوجوه أحبة كرام من هذا البلد الكريم يطلبون إليَّ فيها الشخوص إليهم، والحديث معهم، وزيارة مدينتهم المباركة الطيبة. وأشكرهم أيضاً للزيارة المستمرة التي يشمرونني بها شيباً وشباباً للسلام، والمحادثة، والجلوس، والزيارة في الله عز وجل. وأشكرهم أيضاً للبذل الكريم السخي، الذي لمسته منهم كما لمسه غيري في قضايا المسلمين وحاجاتهم، وهذا مما يدل على عُمق الرابطة الأخوية بيننا وبين إخواننا المسلمين في كل مكان. كما أشكرهم أخيراً لنشاطهم العلمي والدعوي الذي نحمد الله تبارك وتعالى عليه. وربما كُنت ذكرت لكم يوماً من الدهر، أنني أتيت قبل سنين طويلة إلى هذا البلد، فلم أجد فيه ما نجده اليوم من هذا الإقبال الكبير على الخير، وهذا الاندفاع المبهج نحو الأعمال الصالحة، وهذا الحضور الحاشد لمثل تلك المجالس والمحاضرات والدروس، فالحمد لله الذي بدّل الأحوال بما هو خير وأفضل، وأرانا في هذه البلاد كلها ما يسر كل غيورٍ على دينه، حريصٍ على أمته، ثم شكراً لكم شكراً على كل ما قدمتم وبذلتم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 2 الحديث عن مصائب الأمة هذه المحاضرة -أيها الأحبة- ليست نشرة أخبار، تتكلم عن أحوال المسلمين في هذا البلد أو ذاك، وليست تحليلاً أو تقريراً يصف الأوضاع وُيشخّصها ويربط الأمور بعضها ببعض، وأنَّى لنشرة إخبارية، أو تحليلٍ، أو تقريرٍ، أن يُلم بمصائب أمة تسكن فطاع عريضة من الأرض، أو يتحدث عن كارثة نزلت بما يقارب ألف مليون إنسان. إننا نستطيع أن نُشخِّص مصيبة فرد واحد، أو كارثة أسرة بعينها، ونتكلم عن ذلك بما يبكي العيون، ويحرِّك جامد القلوب، ويهز الضمير والوجدان. وأنت تسمع أحياناً قصيدة عربية، أو نبطية، يتكلم فيها الشاعر عن مصابه الشخصي، وهو سجين، أو مريض، أو طريد، أو شريد، أو فقير، أو مات أهله وأقرباؤه وذووه، فلا تملك الدمعة من عينه، ومن هو الذي يستطيع -مثلاً- أن يسمع قصيدة أبي ذؤيب الهذلي حين مات بنوه السبعة بالطاعون في عام واحد، فأنشأ قصيدة طويلة معروفة: أمن المنون وريبها تتوجعُ؟ ولدهر ليس بمعتبٍ من يجزعُ أودى بنيَّ فأعقبوني حسرةً بعد الرقادِ وعبرةً ما تقلعُ ولقد حِرصتُ بِأن أُدافعَ عنهُمُ وإذا المنيةُ أقبلت لا تُدفعُ وإذا المنية أنشبت أظفَارَها ألفيتُ كُل تَميمةٍ لا تنَفعُ فالعين بعدهم َكأنَّ حداقها كحِلتْ بِشوكٍ فهي عُورُُ تَدمعُ وتجلُدي للشامتينَ أُرِيهُمُ أني لِريبَ الدهرُ لا أتزعزعُ من هو الذي يستطيع أن يسمع هذه القصيدة، فلا يتأثر قلبه أو يهتز أو يملك عينه من الدمع؟ أو يسمع قصيدة ذلك الشاعر الآخر، الذي شُرِّد وطُرد من بلده، وأُبعد عن أهله وأحبابه وجيرانه، فكتب قصيدةً بدمع العيون بل بدم القلوب، يصف فيها حاله: طال اغترابي وما بيني بمُقتضب والدهرُ قد جدَّ في حربي وفي طلبي والشوقُ في أضلعي نارٌ تذوبني ما أفتكَ الشوقَ في أضلاعِ مُغتربِ كم ذا أحنُّ إلى أهلي إلى ولدي إلى صِحابي وعهد الجَد واللعِبِ إلى المنازل من دينٍ ومن خُلقٍ إلى المناهلِ من علمٍ ومن أدبِ إلى المساجدِ قد هامَ الفُؤادُ بها إلى الآذان كلحن الخُلد في صببِ الله أكبر هَل أحيا لِأسمعها إن كان ذلكَ يا فوزي ويا طربي إني غريبُُ غريبُ الروح منفردُُ إني غريبُُ غريبُ الدارِ والنسبِ ألقى الشدائدَ ليلي كُلهُ سهرُُ وما نِهاري سِوى ليلي بِلا شُهُبِ أكابد السقم في جسمي وفي ولدي ,في رفيقةَ دربٍ هدها خببِ من يستطيع أن يسمع تلك القصيدة الطويلة، فلا يحزن ويأسى ويشارك الشاعر في مُصابه، أو من ذا الذي يستطيع أن يسمع قصائد كثيرة من هذا القبيل، أو كلماتٍ منثورة، تحكي مصيبة فردٍ، أو أسرة إلا ويتأثر بها؟ فما بالك إذا كان الحديث عن مصاب أمةٍ بأكملها، ثم هذا المصاب الطويل العريض، ماذا تأخذ منه وماذا تذر؟ أتتحدث عن مصاب الأمة، وهى تتحطم تحت سنابك خيول العدو؟ أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة وهى تموت جوعاً، وعرياً، وفقراً، ومسغبةً على حين أنها أغنى الأمم وأثراها وأكثرها أموالاً وأولاداً؟! أم تتحدث عن مصاب هذه الأمة حين يقتل بعضها بعضاً، ويسفك بعضها دم بعض؟! أم تتحدث عن مصيبة هذه الأمة حين تفارق دينها وتجهل حدود ما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم؟! أم تتحدث عن هذا أم عن ذاك أم عن غيرهم؟ إن الذي يريد أن يتكلم عن مصائب هذه الأمة في دقائق أو ساعات، أو حتى في كتاب، يحاول أمراً مُحالاً، ولكنني في هذه الكلمة والجلسة أريد أن نتذاكر معكم نماذج من هذا وذاك، ليس لمجرد التلذذ بنكء الجراح، وتهييج القلوب على المصائب، فإن هذا لا يقدم ولا يؤخر؛ وبالتأكيد فهذا الحزن الذي يملئ قلوبنا لا يمكن أن يشبع جائعاً، ولا يروي ظمئاناً، ولا يؤمن خائفاً، ولا يسلّح أعزلاً، ولا يعلِّم جاهلاً، وإنما نريد أن نتحدث لنضع أيدينا على الداء والعلة، ونحاول أن نتعرف على الدواء والعلاج، ثم لنعرف موقعنا نحن من هذه الخريطة الحمراء بالدم، السوداء بالقحط والجفاف، البيضاء بأكفان الموتى، لندرك أن ما أصاب أخاك اليوم قد يصيبك غداً، وإنما أُكُلت يوم أكلُ الثور الأبيض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 جراحات المسلمين متعددة في الغرب والبلاد الإسلامية أيها الأحبة لسنا ممن يتلذذ بمضغ آلام المسلمين وهمومهم، بل علمَ الله أن الإنسان أحياناً، وهو يقرأ في الأخبار، أو يسمع بعض المصائب، لو أراد أن يتحدث عنها ما أسعفته العبارة!! ولعجز عن الحديث، فإن الواقع أحياناً أكبر من الكلمات، كما سوف يبدو لك، وخذ هذه النماذج السريعة، التي لا أزعم أنني سوف أستوفي ولا جانباً واحداً منها، وإنما هي مجرد عرض سريع، حتى تستطيع أن تُكِّون تصوراً عاماً عن بعض هذه المصائب: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 أحوال المسلمين في البوسنة والهرسك لعل أول ما يخطر في البال هو ما يلاقيه المسلمون في جمهورية البوسنة والهرسك، فعدد الهاربين اللآجئين إلى دول العالم من هذه الجمهورية المسلمة يزيد على مليوني إنسان!! وعدد الشباب الذين حُشدوا وحُشِروا في معسكرات الاعتقال الصربية، أكثر من مائة ألف إنسان!! حشروا فيما يزيد على أربعين معسكراً، في أوضاع وظروف مأساوية لا يمكن تصورها، والكثيرون منهم، هم عبارة عن هياكل عظمية ليس فيها إلا هذه الأنفاس التي تتردد، أما بقيةٌ من حياة وإلا فالموت منهم قاب قوسين أو أدني! هذا الحصار على البقية الباقية من أرض المسلمين هناك وإلاَّ فإن أعداء الإسلام قد سيطروا على نحو (70%) من الأرض الإسلامية، أمَّا (30%) فهي المنطقة التي تدور فيها حرب الشوارع، ويقتل فيها المسلمون في بيوتهم، أما الحديث عن الاعتداء على أعراض المسلمات بالقوة والاغتصاب من قبل جنود الصرب، فهو حديثُُ بشعُُ فظيعُُ فوق مستوى ما يتصوره إنسان. أما الحديث عن الآلاف من الأطفال الذين منهم من قتل بصورة بهيمية بشعة، والكثيرون منهم وصلوا إلى البلاد الأوروبية، حيث يُنّصرون هناك، ويكفي أن تعلم أن ألمانيا فقط استقبلت ما يزيد على مائتي ألف إنسان مسلم من تلك البلاد!! وحدّث ولا حرج عن البلاد الأخرى وهى كثيرة في أمريكا وبريطانيا، وفرنسا، وكرواتيا، وصربيا، وفي بلاد أخري كثيرة. لم يكتف العدو بالحصار، ولم يكتف بحرب الشوارع، بل أصبحت الطائرات تقصف المدن الإسلامية بقسوة وضراوة، وأصبحت تستخدم حتى القنابل المحرمة دولياً كقنابل النابال، والقنابل والأسلحة الكيماوية، والجرثومية، والعنقودية وغيرها، والعالم كله يتفرج وٌيطّمئن الصرب! لأنه لا يمكن أن يتدخل ولا يفكر في التدخل، لأن البوسنة والهرسك ليست الكويت، وأوروبا قالتها صريحة: نحن لا نريد دولة إسلامية أصولية في أوروبا، والرئيس بوش حذر رئيس البوسنة والهرسك: علي عزت من العرب والأصوليين، وقال: هذه خطوط حمراء يجب أن تقفوا دونها فماذا يملك المسلمون؟! حتى الإغاثة تتم تحت سيطرة الأمم المتحدة، وهناك معلومات مؤكدة، حتى في الصحف غير الإسلامية، تؤكد أن مندوبي الأمم المتحدة سواءً من العسكريين، أو القائمين على أعمال الإغاثة، أنهم ينحازون دائماً إلى جانب الصرب، وهاهنا تقارير عدة في مجلة المجتمع، وفي مجلة روز اليوسف المصرية، وفي تقارير غربية كثيرة، تؤكد انحياز موظفي الأمم المتحدة إلى جانب الصرب، لأنهم في الغالب من النصارى، حتى في موضوع الإغاثات والمساعدات الإنسانية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 أحوال المسلمين في الصومال تنتقل إلى جرحٍ آخر نازف في الصومال، فتجد أن هذا البلد الإسلامي الذي لا يوجد فيه نصراني واحد في الأصل، بل هو مسلم (100%) أن النصارى والغرب استماتوا في تقسيم وتمزيق هذا البلد، حتى إنهم قسموه إلى خمسة أجزاء في عهد الاستعمار -ما بين الصومال البريطاني، والفرنسي، والإيطالي، والكثير إلى غير ذلك- ثم سلطوا عليه حاكماً فاسداً فاجراً: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] حتى أشاع النعرات القبلية، واضطهد هذا البلد، وحارب الإسلام، وجعله في وضع مآساوي مريع، وقتل العلماء، وعلقهم على أعواد المشانق، ثم لما وصل البلد إلى هذا المستوى الفظيع، أنسحب هذا الحاكم، وفرَّ بنفسه وأعوانه وأمواله وجنوده، وترك هذا البلد يتصارع بعضه مع بعض، والغرب يتفرج على هذا الصراع، ويُغذي الجانب الأضعف، حتى يتمكن من المقاومة، وظل الغرب زماناً طويلاً، وهو ينظر إلى أبشع مأساة إنسانية في هذا القرن، حيث يُتعرض أكثر من ثلاثة ملايين مسلم، إلى الموت جوعاً بسبب المجاعة، والفقر، والمرض، والعطش، بسبب الأوضاع الصحية السيئة المتردية إلى أبعد الحدود. ولذلك صرحوا بأننا تأخرنا في قضية إغاثة الصومال، أكثر مما يجب، وهذه الأعداد التي تُعاني من الفقر والمجاعة، هي هاربة من جحيم الحرب، هذه الحرب التي أوجدها الغرب بين عملائه من العلمانيين الذين يحملون شتى الأسماء والشعارات واللافتات، وهم على كل حال مدافعون عن مصالح الغرب، وهي الفرصة الذهبية للمنظمات التنصيرية، حيث أصبحت تستقبل أعداداً كبيرة من الهاربين من جحيم الحرب، والفقر، والمجاعة، وقد تكلم أحد التقارير المتأخرة التي وصلتني قبل يومين، عن بعض المشاهدات. فعلى سبيل المثال: أعداداً غفيرة من الناس، تقف طوابير عند إحدى المنظمات، لماذا؟ لأجل أن تسجل أولادها وأطفالها في قوائم الراغبين في السفر إلى أوروبا، وأمريكا، حتى يجدوا الحياة المطمئنة هناك وهم أطفال، وقطعاً سوف يتخرج هؤلاء قُسساً ورهباناً، ومنصرين، ثم يعودون إلى الصومال بأسماء نصرانية، ويحملون الصليب بيد، والإعانة بيدٍ أخرى، وربما عادوا حكاماً للصومال في وقت من الأوقات كما يطمح الغرب، وإحدى المنظمات النصرانية الأخرى، تمد العون للمسلمين، ثم يقول أحد المسئولين فيها بصوت جهوري، يقول: ها نحن نقدم لكم الكساء والغذاء، فأين المسلمون؟! فماذا تتصور إزاء مثل هذا الوضع، ثم تجد أن جميع الدول الإسلامية، لم تُبدِ واحدة منها استعداداً لاستقبال اللاجئين المسلمين، بل لقد مكث اللاجئون في البحر أياماً طويلة على حدود اليمن قبل أن يؤذن لهم، حتى مات منهم في الباخرة أكثر من مائتي إنسان!! وماذا يشكل موت مائتي إنسان مسلم على الباخرة؟ إنه أمرٌ عادي غير ذي بال. إنك تأسف حين تعلم أن أكثر اللاجئين المسلمين الصوماليين ذهبوا إلى أوروبا وأمريكا، فنصف اللاجئين تقريباً في أوروبا وأمريكا، أما النصف الآخر فهم موجودون في كينيا وغيرها من الدول المجاورة. وتحزن أكثر حينما تعلم أن منظمة الصليب الأحمر الدولي، قد خصصت أكثر من (20%) هذا العام من ميزانيتها لإنقاذ الوضع في الصومال، وأي شيء هي منظمة الصليب الأحمر الدولي؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 أفغانستان والجرح النازف ننتقل -مثلاً- إلى أفغانستان فتجد أن هذا الجرح بعد ما كاد يلتئم، عاد من جديد جرحاً نازفاً، وبدأت المعارك الطاحنة في كابول، ثم تفرعت إلى الولايات الأخرى، ويكفي أن تعلم أن تقرير الأمم المتحدة، يتحدث عن أكثر من ألفي قتيل، خلال خمسة عشر يوماً فقط. فما بالك بالقتلى قبل ذلك وبعده، أو القتلى في الولايات الأخرى، أو القتلى الذين لم تأتِ عليهم تلك الإحصائيات فضلاً عن انقطاع المؤن، والأغذية، والإمدادات، والكهرباء، والاتصالات، وغير ذلك. فضلاً عن أن هناك حلماً كبيراً كان المسلمون جميعاً يُعلقون عليه آمالاً عريضة، بدأ المسلمون يراجعون نظرتهم، والكثير منهم بدأت تساوره الشكوك تجاه جدية وجود دولة إسلامية صادقة في أفغانستان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 إريتريا جرحٌ قديم تنتقل بعد ذلك إلى إريتريا، وهو جرح قديم، لكن ربما أن كثرة المصائب والمشاكل أشغلت المسلمين عنه، وقد يفاجأ البعض حينما أقول لهم: إن في السودان وحدها أكثر من مليون ونصف لاجئ إريتيري، منهم سبعمائة ألف في المعسكرات، في أوضاع في منتهى الفقر، لا يجد الواحد منهم إلا ما يسد رمقه، أو يستر سوأته وعورته فحسب، وفي داخل إريتريا أيضاً يواجهون من الصعوبات في ظل الجبهة الشعبية الحاكمة الشيء الكثير، وهي جبهة شعبية علمانية نصرانية، ويوجد فيها بعض المسلمين الذين يتسمون غالباً بالطابع العلماني. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 إفريقيا والنظرة الغربية تنتقل إلى مناطق أخرى، في إفريقيا فتجد أن الغرب فعلاً يؤكد على ضرورة أن تتحول إفريقيا كلها إلى قارة نصرانية، وكل التقارير المسيحية تؤكد على ضرورة أن تتحول إفريقيا إلى قارة نصرانية! خلال عام ألفين، وهناك جهود جبارة لمجلس الكنائس العالمي في هذا الصدد، وقد تكلمت عن جانبٍ منها، في ضمن الدروس التي خصصتها عن موضوع التنصير. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 أحوال المسلمين في العالم العربي تنتقل بعد ذلك إلى بعض الدول العربية القريبة فماذا تجد!! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 أحوال المسلمين في مصر لو نظرت -مثلاً- إلى مصر، لوجدت أن الأمر كما تقول وكالة الأنباء الفرنسية، أشبه ما يكون بحرب أهلية مصغرة في أسيوط وفي الصعيد كلها، وهى حرب بين أجهزة الأمن التي جندت ما يزيد على خمسين ألف عنصر، حرباً لا أقول ضد ما يسمونه: بالتطرف، ولا ضد الجماعات الإسلامية بل ضد سكان تلك المناطق والمدن والقرى الذين هم في الغالب متدينون، ومسلمون، ومتعاطفون مع الإسلام، ومع طلبة العلم، والمشايخ ومع الجماعات الإسلامية، وقد أخذت أجهزة الأمن في مصر، إذناً بأن تطلق النار على كل من تشتبه فيه، فأصبحت تقتل الشباب في الشوارع. وطالما دميت قلوبنا ونحن نسمع في وكالات الأنباء الغربية، أن أجهزة الأمن تطلق عيارات نارية على شباب في سن السادسة عشرة، والسابعة عشرة في الشوارع، فترديهم قتلى، وما أسهل أن تقول أجهزة الأمن: إن هؤلاء الناس منتسبون إلى جماعات إسلامية، أو متطرفون، أو أنهم قاموا بأعمال تخريبية، والعجيب في الأمر أن هذه الأجهزة لا حسيب عليها، ولا رقيب! تتساءل: ماذا صنع المسلمون؟ أين الاحتجاجات من الجمعيات الإسلامية؟! أين الاحتجاجات من العلماء في هذا البلد أو في غيره؟! أين الاحتجاجات من الدعاة؟! نعم صدرت -مع الأسف- من منظمة أمريكية غربية نصرانية اسمها: منظمة ميدل إيست، وهي إحدى المنظمات المعنية بحقوق الإنسان ومقرها في نيويورك، حيث أصدرت بياناً تندد فيه بالأوضاع المأساوية التي آلت إليها حقوق الإنسان في مصر، وتقول: إن أجهزة الأمن المصرية تزج بكل المعارضين في السجون، دون محاسبة ولا محاكمة، ولا تحقيق، ولا تحري، وأن الأوضاع في داخل السجون أوضاع صعبة، وأن مصر تنكر ذلك، ولهذا تشعر بأنها غير مطالبه بأي تغيير، وطالبت تلك المنظمة، الدول الغربية أمريكا وغيرها بأن لا تعطي مصر أي مساعدة إنسانية، إلا وتكون مساعدة مشروطة بتحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، فإلى الله المشتكى! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 أحوال المسلمين في تونس تنتقل بعد ذلك -مثلاً- إلى بلد آخر كتونس -مثلاً- تجد أن النظام زج بما يزيد على ثلاثين ألف مسلم في السجون، من الرجال والنساء، ومارس معهم ألوان التعذيب، الوحشي، والقمع، وأمتلك من الوثائق، والحقائق، بل والصور ما يتعجب منه الإنسان، حتى إن منظمة حقوق الإنسان هي الأخرى احتجت على الأوضاع السيئة للسجناء في تونس، وتكلمت عن إهدار كرامة الرجل والمرأة، حتى إنهم في كثير من الأحيان يحضرون المرأة ويهددونها في عفتها، وطهارتها، بل ويعتدون عليها جسدياً، وقد أصيب عدد من الأخوات المسجونات هناك بالانهيارات العصبية، وأكثر من هذا أنهم يختلقون الأكاذيب، على عدد من العلماء والدعاة، ويصورون أفلاماً عبارة عن خدع تصويرية -أفلاماً مدبلجة- مغيرة ثم يقدمونها للناس، يتهموا فيها فلاناً بأنه إنسان عنده انحرافات سلوكية وأخلاقية، وتتكلم الصحف هناك، ولا يستطيع المسلم أن يدافع عن نفسه، ولا حتى أن يقول: كذبتم، بل هناك حرب على الإسلام بما يسمى بتجفيف منابع التدين، في تغيير الإعلام إلى إعلام فاسد، وتغيير التعليم، وإبعاد كل ما يربي الروح الإسلامية في نفوس الناس رجالاً ونساءً طلاباً أو عامة. وفي الوقت الذي نجد أن منظمات حقوق الإنسان تعترض وتحتج، حتى منظمة حقوق الإنسان في تونس نفسها، حلت نفسها، واعترضت على الأوضاع السيئة للسجناء، لكننا في الوقت نفسه لم نسمع من هؤلاء الألف مليون إنسان الذين يملئون هذه الساحة الإسلامية الطويلة العريضة، لم نسمع منهم صوت احتجاج في الخارج، تقول: أين العلماء؟ أين الجمعيات الإسلامية؟ أين الدعاة إلى الله تعالى؟ أين المجلات الإسلامية؟ أين الأصوات الإسلامية؟ إنها أصوات تضيع في الزحام!! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 أحوال المسلمين في الجزائر ثم تنتقل بعد ذلك إلى الجزائر، فتجد الوضع نفسه، عشرات الآلاف من السجناء بما يسمى: بالمحتشدات في الصحراء، في ظل درجة حرارة مرتفعة؛ بل في ظل ظروف صعبة، بل إنه يقال: إن الأرض الذي سجنوا فيها آثار نووية وكيماوية قديمة، من أيام الاستعمار الفرنسي، وهي تهدد بعض هؤلاء السجناء بتأثيرات خطيرة على أجسادهم وأوضاعهم النفسية أيضاً، بل أقدمت الحكومة هناك على هدم مسجد من أكبر المساجد في العاصمة؛ لأنها تعتبر أنه مجتمع للدعاة والمصلحين، ومكان للمناقشات السياسية كما تقول. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 أحوال المسلمين في فلسطين ثم تنتقل بعد ذلك إلى فلسطين، فتجد ألوان الاضطهاد الذي يلقاه المسلمون على يد اليهود، الذين هم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] . فهم يأخذون الإنسان ويسجنونه عشرات السنين دون أن يقال لهم: لماذا؟ وأوضاع الإنسان وحقوق الإنسان أيضاً في إسرائيل حقوق صعبة عسيرة، وإن كانت إسرائيل تحسن المماطلة والخداع والتضليل للعالم، بحيث يبدو كما لو كانت تحافظ على حقوق الإنسان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 أحوال المسلمين في العراق ثم تنتقل إلى العراق، فتجد أن شعباً بأكمله يحتضر:- شعبُُ برمته في العري يحتضرُ كانوا بأوطانهم كالناس وانتبهوا فما هم من وجود الناس إن ذكروا مشردون بلا تيهٍ فلو طلبوا تجدد التيه في الآفاق ما قدروا يلقى الشريد فجاج الأرض واسعةً لكنهم بمدى أنفاسهم حشروا لا طعام، لا شراب، لا علم، لا عمل، حتى الأنفاس! وهناك حصار غريب، الحصار الدولي الذي يمنع عنهم الطعام، والشراب، والإغاثات الإنسانية وكل شيء، وإضافةً إلى ذلك، الحصار الداخلي من حكومتهم العلمانية الكافرة، التي تحسب عليهم الأنفاس، وتُصادر حرياتهم، وأديانهم! بل استطاعت تحويل العراق إلى حظيرةٍ لا يستطيع أحدُُ أن يفعل فيها إلا ما تريده السلطة، وأصبح الكثيرون، يتاجرون بكل شيء، بحثاً عن الحياة. ثم لو نظرت إلى ما لم أذكر من هذا الجسد الإسلامي المضخم بالجراح، لوجدت أن في كل بلدٍ مصيبة، وفي كل منطقة كارثة، وفي كل ناحية نكبة، فالأمر أعظم من أن يتحدث عنه الإنسان لكن هذه نماذج، ولو نظرت -مثلاً- إلى الجمهوريات الإسلامية في الاتحاد السوفيتي، التي خرجت لتوها من جحيم الشيوعية، لوجدت أنه في الوقت الذي تمتعت فيه، الجمهوريات الأخرى بحريتها، وقطعت مراحل طويلة في تحسين أوضاعها الإعلامية، والاقتصادية، والسياسية؛ أما الجمهوريات الإسلامية بالذات فلا زال الغرب والشرق يتحالفان على خنق أنفاسها وكتمها، والدول التي بقيت فيها الشيوعية قوية، هي الجمهوريات الإسلامية فقط. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 المضحكات المبكيات أنتقل بعدها إلى النقطة الثالثة من هذه التعليقات هي موضوع المضحكات المبكيات، فضمن هذا العرض تجد ما يضحك ويبكي فعلاً في ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 أغلى إنسان وأرخص إنسان الأمر الرابع: من المضحكات المبكيات، أن أغلى إنسان بالمقياس والمعيار الشرعي وهو المسلم، أصبح هو أرخص إنسانٍ على وجه الأرض، أما إنه أغلى إنسان فإنه يحمل لا إله إلا الله، وأنا أتكلم حينئذٍ عمن هم مسلمون فعلاً، لا عمن ينتسبون للإسلام بمجرد الهوية، أو بمجرد الميلاد، أو بمجرد الأرض التي نشئوا عليها، فالمسلم هو أغلى إنسان عند الله عز وجل، وهو أغلى إنسان في الحقيقة، لأنه يحمل كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنه في هذا الواقع أصبح أرخص إنسان عند الغرب. فالغرب -مثلاً- يغضب لأن العراق حكم بالسجن سبع سنوات على بريطاني قبض عليه متهماً بالتجسس، لكن الغرب لا يحرك ساكناً على مليوني إنسان، غادروا أرض البوسنة والهرسك إلى مكان لا يعلمونه، ولا يغضب على مئات الألوف ممن هم في معسكرات الاعتقال، ولا يغضب لعشرات الألوف الذين سحقتهم الدبابات وقتلوا في حرب الشوارع، ولا يغضب أيضاً لتلك الأعداد الغفيرة ممن ماتوا في المجاعات، لماذا؟! لأنهم مسلمون، فالإنسان الغربي -الرجل الأبيض- له ميزانٌُ خاص، وكذلك الإنسان المسلم هو رخيص أيضاً عند المسلمين، حكاماً ومحكومين، فنحن نعلم أن من الدول الإسلامية من دفعت إعانات، ومساعدات، لبعض حدائق الحيوانات في لندن، بل لذلك نستطيع أن نقول: ربما الكلب الأوروبي، أغلى أحياناً من الإنسان العربي أو المسلم، فنحن نجد الإعانات حتى للكلاب، والقطط الأوروبية، لماذا؟! لأنها قططُُ يملكها الرجال البيض، فقد نزلت عليها أو شملتها الكرامة التي أضفوها على أنفسهم، فأصبح لها منزلة ومكانه عند حلفائهم في كل مكان، فوجدنا المساعدة لهؤلاء، ووجدنا الغضب لغضب الغربيين، أما الإنسان المسلم فلم نجد شيئاً من ذلك، اللهم إلا السب والشتيمة في أجهزة الإعلام العربية كلها دون استثناء، فالموت والقتل بالنسبة للمسلم لا شيء. أمرُُ آخر يظهر لكم جلياً هذا الأمر: قضية الجنسية، ماذا يستفيد الإنسان إذا منح جنسية لإحدى الدول الإسلامية وماذا سيجد؟ هل سيجد الحرية التي سينشدها؟ كلا هل سيجد الغناء والثراء؟ كلا هل سيجد أن يعبد الله تعالى كما أمره الله تعالى دون أن يُضيِّق عليه أحد؟ كلا بل سيجد المضايقة، والسجن، والتشديد عليه، والمطاردة، وقد يُهدد بهذه الجنسية عند كل مناسبة، ومع ذلك هذه الجنسية في أي دولةٍ عربية أو إسلامية، ربما يكون الحصول عليها أحياناً ضرباً من المستحيل؛ لكن الدول الغربية تعلن في الصحف أن تعالوا!! ولم نكن نستغرب أن تمنح الدول الغربية الجنسية للأطباء المسلمين وهذا أمرُُ معروف، وليس سراً أن كثيرا من المستشفيات في الغرب القائمون عليها أو على عدد منها، هم من العرب ومن المسلمين، بل وأحياناً من الصالحين، ولكنهم وجدوا هناك البيئة المناسبة التي لم يجدوها في بلدانهم، فهاجروا إلى هناك حيث التكريم للإنسان من حيث هو إنسان، وحيث الإعانة، وحيث المساعدة، وحيث الرواتب، وحيث مراكز العلم التي تمكنه من المواصلة في الطلب والتحصيل في علمه الدنيوي الذي يتجه إليه. لقد هان المسلم على نفسه، فأصبح لا يرى نفسه شيئاً، ولا يري نفسه أهلاً لشيء، لا يعمل، ولا يتكلم، ولا يشارك، ولا يناقش، ولا يُفكِّر، ولا يسمع، ولا يبصر، ويرى أنه قد كفي، وأنت اليوم تجد المسلم العادي -ودعونا من البعيدين- دعونا نتكلم في محيط الحضور في هذا المسجد، ربما تجد أفكار البعض يقول: لماذا أسمع الأخبار؟ أنا لست حاكماً كي أتصرف، فدع الناس وما هم فيه، لماذا أسمع وأزعج نفسي؟! إذاً هو أقنع نفسه أنه لا يسمع، وأيضاً لا يبصر، يقول: لماذا أشاهد الأحوال والأحداث والأوضاع والأمور وأنا لا أستطيع أن أقدم ولا أؤخر؟! فأقنع نفسه أنه لا داعي لأن يبصر، وهو لا يفكر أيضاً، لأنه يرى أنه لا يوجد فائدة، وأن الأمور كلها كما يعبر البعض: خربانة، ولا فائدة للتفكير، إذاً لا داعي لأن أفكر، ولا يعمل شيئاً لأنه يقول: ليس بيدي حيلة والشكوى إلى الله. وهكذا هان الإنسان على نفسه، الإنسان الذي كرّمه رب العالمين من فوق سبع سماوات، وأنزل في كتابه آيات بينات: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] . هان الإنسان المسلم على نفسه، حتى أصبح يرى نفسه ليس أهلاً، لشيء وليس عليه أن يفعل أي شيء، فلمّا هان على نفسه، هان على غيره، هان على الحكومات، فأصبحت أي حكومة لا ترى حرجاً في أن تسوم شعوبها سوء العذاب، وتضطهد من شاءت، وتسجن من شاءت، وتعذب من شاءت، وتقتل من شاءت، لأنها دجنت هؤلاء، وزرعت الذل في قلوبهم، وصدورهم، فأصبح الواحد منهم يمشي خطوة إلى الأمام، ويلتفت إلى الوراء، يبحث عن الرقيب، يخاف من كل شيء، يخاف من ظله، يخاف من الكلمة، يخاف من زوجته أحياناً، لماذا؟! الذل باض وفرّخ في صدورنا، الجبن الهلع، أصبح الواحد يخشى من كل شيء، يخشى من الوهم: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] . أصبحنا نخشى من رجل المباحث، ونخشى من الدول العظمى، ونخشى من خصومنا وأعدائنا، ونخشى من اليهود، ونخشى من النصارى، ونخشى من كل أحد، وأصبح الواحد ربما إذا خلى بنفسه تكلم، أو بخاصته وأصدقائه من الناس، فهو ربما يملك فكراً سليماً، وربما يتكلم، ولكنه بعد ذلك يغلق فمه، ويرى أن من أغلق عليه فمه فهو آمن، ولذلك عاملتنا الأمم الغربية بالمنطق نفسه، فرأت أن هذه الشعوب التي قبلت الذل، والخضوع، والخنوع، ودجنت، وهجنت، وتربت على أساليب الخصم، أنها جديرة بألوان الاضطهاد، ولعل أقرب مثال أسوقه لكم العراق، شعب مكون من ثمانية عشر مليون إنسان، من أقوى الناس عبر التاريخ، وأشد الناس برأسه، وأكثرهم عناداً، ومع ذلك تمكن هذا الطاغوت، أكثر من عشرين سنه من رقابهم، لم يترك أسلوباً من أساليب الاستدلال، والقتل، والسجن، والتعذيب، والتشريد، والاغتيال، إلا مارسه. ومع ذلك لا يزال الرجل -تتكلم التقارير الغربية، بل حتى التقارير العربية، بل حتى شهود العيان الذين جاءوا من هناك، أن الرجل- تتدعم وتتقوى مكانته يوماً بعد يوم في أرض العراق، ولذلك الغرب أصبح يتحرك في منطقة العراق، كما لو كان في منطقة يملكها هو، فاليوم يجعل منطقة في بلاد الأكراد محمية، لا يستطيع الطيران العراقي أن يحلق فيها، وغداً بل اعتباراً من الليلة سوف تكون منطقة الشيعة أيضاً منطقة محمية، من الذي يحميها؟ تحميها أمريكا وفرنسا وبريطانيا، ونحن نقول: نعم، حاكم العراق استغل قومه، واستخفهم فأطاعوه، ولكن الغرب أيضاً رأى أن الأبواب مشرعة أمامه، لأن هذه الشعوب التي لا تقدم ولا تؤخر، جديرة بأن يمارس الجميع ألوان الخسف والاستدلال، وكل هذه من المضحكات المبكيات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 الهداية مرتعاً خصباً للثقافات الغربية الأمر الثالث: من المضحكات المبكيات أن هذه الأمة التي أنعم الله تعالى عليها بالهداية، ونعمة الإسلام، أصبحت سوقاً لنشر ثقافات الغرب، ونظريات الغرب، ومبادئ الغرب الصليبي، واهتمامات الغرب الصليبي. فمثلاً: التنصير على قدم وساق في هذه الأمة، وأعظم وأكبر هدف للتنصير في العالم اليوم، هو منطقة الشرق الأوسط، وقد عقد مجلس الكنائس العالمي، اجتماعاً في استراليا، وقرر أن منطقة الشرق الأوسط، هي أخطر وأهم منطقة يجب التركيز عليها. وخص من ذلك أيضاً منطقة الخليج العربي، والجزيرة العربية، ولذلك عين البابا شنودة مندوباً له في الشرق، إشعاراً بالاهتمام، وأعطاه صلاحيات لم تمنح لغيره من المندوبين في أنحاء العالم، ونجح التنصير فعلاً باستقطاب أعداد من المسلمين، سواءً ممن تنصروا ودخلوا في النصرانية، أو ممن خلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم، وأصبحوا عملاء للنصارى، أو من العلمانيين الذين عقدوا حلفاً مع النصرانية، لأن النصارى يرونهم بديلاً مناسباً عن الإسلام، والعلمانيون يرون النصارى أفضل لهم من المسلمين، وهذا مقتضى دينهم الذي يدينون به، ولذلك وجدت أن التنصير يسير في بلاد المسلمين على قدمٍ وساق. ثم تجد أن العلمانية نفسها قد أصبحت ديناً يدين به قطاع عريض، ولعل المتقاتلين في الصومال نموذج لذلك، وهم يتقاتلون على الدنيا، وكلها لافتات علمانية، ومثل ذلك الرايات المرفوعة في طول العالم الإسلامي وعرضه، إنما هي رايات علمانية، تُنادي بفصل الدين عن الدولة؟ لا؛ بل تنادي بفصل الدين عن الحياة، في الوقت الذي تجد فيه أن زعيماً للعالم متوجاً هو: جورج بوش يضرب على وتر المشاعر الدينية. وهذا خبر قبل خمس أيام في جريدة الخليج، يقول: اتهم الرئيس جورج بوش بطريقة غير مباشرة، الديمقراطيين المنافسين له في الانتخابات، بأنهم تخلوا عن الله والدين، ويقول: هذا الهجوم شديد العنف، حتى بالمعايير القاسية أصلاً لهجمات انتخاب الرئاسة. وقال بوش في خطاب أمام زعماء المنظمات الدينية: إذا كان لي أن أُدلي بتعليقٍ سياسيٍ واحد، فلقد أذهلني في الواقع أن الحزب الآخر اختار كلمات مبلورة لبرنامجه، ولكنه ترك ثلاثة أحرف بسيطة، وهنا نطق الرئيس بلفظ الجلالة المكون من ثلاثة أحرف باللغة الإنجليزية، فهو ينتقد الحزب الآخر المنافس، لأنه أبعد كلمة (الله) عن برنامجه الانتخابي، ثم يقول بوش: إن برنامج حزبي وهو الحزب الجمهوري مختلف ونحن فخورون بتمجيد تراث بلدنا اليهودي، المسيحي، المنقطع النظير في العالم، وقد صفق الحضور وهتفوا لقوله هذا، إلى آخر الكلمة الطويلة التي تتكلم عن المشاعر الدينية. وقبل ذلك سبق أن قلتُ لكم أن الرئيس نفسه يتكلم عن الشعب الأمريكي المتدين، ويقول: إن (99%) من الشعب الأمريكي يحافظون على أداء الصلوات باستمرار. ومثل ذلك: أن من لم يقع في فخ النصرانية، ولا في فخ العلمانية، فإن الكثيرين منهم وقعوا في شرك الإباحية الغربية، فأصبح معبودهم هو اللذة، أو الشهوة، أو المادة، ولا شيء آخر غير ذلك، فأين المبادئ والمثل والقيم التي نستطيع أن نقدمها للغرب الذي يشعر بالجوع الروحي؟ إن الغرب نفسه يتكلم الآن عن جوعٍ في البلاد الإسلامية، فيقول: إن العالم الإسلامي كما هو بحاجة إلى الإغاثة في مجال المساعدات المادية، فهو أيضاً بحاجة إلى الإغاثة والمساعدة فيما يتعلق بنقل تعاليم المسيح إليهم، وقد انتكست الآية مع الأسف الشديد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 أغنى مناطق العالم هي أفقر مناطق العالم الأمر الأول: تلاحظ أن أغنى مناطق العالم، هي أفقر مناطق العالم، فليس سراً أن أغنى مناطق العالم هي بلاد المسلمين، أغنى مناطق العالم بالثروات: البترول وغيره، أغنى مناطق العالم بوجود المنافذ المهمة والمواقع الحساسة: الجوية، والبرية، والبحرية، والمضايق التي يحتاج إليها العالم، أغنى مناطق العالم بالكثافة العددية والبشرية، ومع ذلك فهي أفقر مناطق العالم، فلا يوجد مستوى لدخل الفرد أقل مما يوجد في البلاد الإسلامية، وأفقر بلد في العالم اليوم هو الصومال -مثلاً- بلد إسلامي عربي، وعضو في الجامعة العربية، وأفقر بلد في العالم بنجلادش، وهو بلد إسلامي، وهكذا تجد الدول الإسلامية الأخرى، هي أفقر بلاد العالم، وأقل مستوى لدخل الفرد هو في تلك البلاد الإسلامية. ولعل من الطريف أن تعلم أن الغرب يوزع خيرات المسلمين على المسلمين، فهذه الإغاثات التي تنقلها الأمم المتحدة -مثلاً- إلى الصومال، من أين هي؟ هل هي من كد جبينهم، ومما عملت أيديهم، كلا. إنها بعض ثروات المسلمين، وبعض خيرات المسلمين، التي استطاع الغرب بخبرته، وسبقه، وذكائه، وسياسته، استطاع أن يمتصها؛ فهو يمتصها في بنوكه، ويمتصها في مصانعه، ويمتصها في ميزانياته، ويمتصها في وزارات دفاعه واقتصاده، وغيرها من البلاد الإسلامية، ثم يجعل جزءاً يسيراً منها إلى البلاد الإسلامية المنكوبة، وهذا الجزء اليسير، إنما يستخدمه الغرب لتنصير المسلمين، ولعلك تعجب أكثر حينما تعلم أن هناك أموالاً جمعها المسلمون في مساجدهم، وبلادهم، ومجتمعاتهم، قامت منظمات صليبية بتوزيعها على المسلمين أيام الفيضانات، أو أيام المجاعات، سواءً في بنجلادش أو في كشمير أو في البوسنة والهرسك وغيرها، وأحياناً منظمات ألمانية نصرانية، تقوم بتوزيع بعض أموال المسلمين التي جمعت هنا على المسلمين في البوسنة والهرسك أو غيرها من البلاد. وأعجب من ذلك -أيضاً- أن الغرب يتكلم عن -صندوق التنمية- صندوق دولي للتنمية يقوم بمساعدة الدول الفقيرة، أو الدول النامية، أو دول العالم الثالث كما يسميها، وهذا الصندوق أمواله من البلاد الإسلامية، وبالذات من دول الخليج العربي، والذي يقوم بإدارته، هي أمريكا، وتوزعه على المناطق الفقيرة، وهذا يذكرني بنكته يتناقلها العوام، يقولون: "إن رجلاً مغفلاً، جاء إلى أحد الأغنياء الأذكياء، فقال الغني له يا فلان: إنني سمعت أن هناك منطقة في الصحراء المحيطة بنا، يوجد فيها الكمأ، فأريدك أن تذهب لتلتقط الكمأ لي، مناصفةً بيني وبينك، فهزَّ الفقير رأسه وذهب موافقاً وركب حماره، وفي أول يوم ذهب إلى تلك المنطقة، فأصبح يبحث في الأرض، ويلتقط الكما، ثم وصل إلى هذا التاجر فقسمه بينه وبينه مناصفة، أعطاه نصفه وأخذ النصف، وفي اليوم الثاني ذهب الفقير إلى المنطقة نفسها، وبدأ يلتقط أيضاً من الأرض، فلما كان في عرض الطريق أصابته صحوة فهز رأسه، وقال: الحمار حماري، وأنا أنا، والأرض لله، والمطر من الله، وأنا أعطي هذا التاجر نصف ما أجمع، هذا لا يصح!! فألقى بها في الأرض، ورجع بلا شيء! لماذا؟ لأنه يريد أن يحرم هذا التاجر من هذا الكمأ، فانظر كيف عالج هذه المشكلة، فهذه النكتة، هي فعلاً ما يقع الآن. بنك أو صندوق للتنمية العالمية يُنفقُ عليه المسلمون، وتديره الدول الغربية، إذاً هو سوف يخدم مصالح الغرب في بلاد المسلمين، وبناءً عليه سوف يستطيع المسلمون، أن يحققوا ويضمنوا مصالح الدول الغربية في بلادهم بأموالهم، والأمر لله من قبل ومن بعد، وقد ذكر الله عز وجل عن بعض المعاندين والمكابرين من أهل الكتاب أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وهذا اليوم مع الأسف أصبح تشبهاً من المسلمين بأعدائهم، فهم يخربون بيوتهم بأيديهم، وأيدي الكافرين، هذه إحدى المضحكات المبكيات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 ألوانٌ من المآسي يتبنى الدفاع عنها الكفار الأمر الثاني: من المضحكات المبكيات، أنه في الوقت الذي يشهد المسلمون -فيه فقط- من بين جميع شعوب العالم ألوان المآسي ولا تستطيع أن تجد أي شعب في العالم يعاني ما يعانيه المسلمون، واسأل نفسك سؤالاً: أين توجد المجاعة في غير الصومال والمناطق الإسلامية؟ وأين توجد عملية التصفية العرقية والقضاء على شعب وعنصر بأكمله في غير البلاد الإسلامية كالبوسنة والهرسك؟ وأين يوجد الحصار الاقتصادي في أي مكان في العالم؟ إلاَّ في البلاد الإسلامية كالعراق وليبيا!! حتى الحصار المزعوم على صربيا كذبُُ في كذب، وهي تتمتع بمنطقة بحرية، ولها صلات اقتصادية، وسياسية منوعة مع جميع دول العالم، فما يسمى بالحصار على صربيا ليس سوى حبرٍ على ورق، وأين يوجد الفقر في أي دولة من دول العالم؟ إلا في دول غالبها إن لم يكن كلها دولٌ إسلامية!! فالوقت الذي فيه للمسلمين نصيب الأسد من هذه المآسي، فإن مما يزعجك ويحزنك كثيراً أن الذين يظهرون تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم، هم النصارى والكفار، وأي خيرٍ في أمة يتولى عدوها الدفاع عنها، يُصاب المسلمون في أي بلد فلا يعلن الدفاع عنهم إلا منظمات حقوق الإنسان، ومنظمات العدل، والمنظمات الدولية الإنسانية في أوروبا وأمريكا وغيرها، التي هي في غالبها إن لم تكن كلها منظمات نصرانية، ليس للمسلمين أي وجود فيها. هذا مثال أين الأمة التي جُعلت شاهداً على العالم، الأصل ما هو؟ الأصل: أن المسلمين كان يجب أن يدافعوا عن المستضعفين في كل بلد، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] . فالأصل أن المسلمين هم الشهود على العالم: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] . هم حُماة الفقراء، والضعفاء، والمأسورين والمقهورين، حتى لو كانوا من غير المسلمين!! أما اليوم فقد انعكست الآية، وأصبح من المضحك المبكي، أننا ننتظر منظمات حقوق الإنسان، حتى تُدافع عن المسلمين، أو تتكلم عن مُصاب المسلمين في تونس، أو مصر، أو في أي دولة من دول العالم. نعم! لقد أصيب المسلمون بالجبن، والهلع، والخوف، والتمزق، فأصبح المسلم أولاً لا يشعر بمصاب أخيه، ولو شعر به فإنه لم يملك الشجاعة والجرأة أن يتكلم ويضع النقاط على الحروف، ويرفع عقيرته منادياً بإنصاف أخيه المسلم، في سجن الطاغية فلان، أو في بلد فلان. إضافةً إلى أن المنظمات النصرانية الغربية، لم تكتف فقط بإصدار البيانات، والقرارات، والتقارير، وعقد المؤتمرات الصحفية، وفضح الأنظمة التي تضطهد المسلمين، وتتسلط على الشعوب الإسلامية، بل تعدت ذلك إلى خطوات عملية، فقامت بأعمال إغاثية ضخمة، ومساعدات قوية، في مصر -مثلاً- عقدت المنظمة التي ذكرتها -منظمة ميدل إيست- وهي منظمة من منظمات حقوق الإنسان في نيويورك، عقدت في مصر نفسها مؤتمراً صحفياً، وأعلنت في القاهرة نفسها أن حكومة مصر تضطهد المسجونين، وتضيق على المعارضين، وتزج بهم في السجون دون تحقيق ولا محاكمة، وتقتلهم بمجرد الظن، ورفعت صوتها، ونشرت الصحف خبرها، لكن أعطوني شريطاً مسجلاً واحداً، نتناقله عن أوضاع إخواننا المسلمين في مصر، وقُل مثل ذلك في تونس أو بلاد المغرب كلها، أو بلاد المشرق، أو سوريا، أو فلسطين، أو غيرها من بلاد الله. أيضاً الصليب الأحمر تعدى مرحلة الكلام إلى مرحلة إيجاد أكثر من ثلاثين منظمة إغاثية في الصومال، ليست كلها تابعة للصليب، لكن كلها صليبية، وخصصت منظمة الصليب كما أسلفت، أكثر من (20%) من موازنتها لمساعدة المسلمين في الصومال، على حين أنك تجد أن المسلمين لم يفعلوا شيئاً يُذكر في هذا الصدد، بل أعجب من ذلك أنه في الأمس الذي ليس بعده إلا اليوم أني قرأت في جريدة الشرق الأوسط وغيرها، إعلاناً من كندا. يقول الإعلان: أي إنسان يريد أن يحصل على الجنسية، والمميزات، ما عليه إلا أن يملأ هذه الورقة ويرسلها إلى السفارة صندوق بريد ورقم فقط، بغض النظر عن دينه، وجنسيته، ومن أي بلد، وما هي الأسباب وما هي الدوافع، وعليه أن يستفيد فوراً من النظام، لأن النظام هذا قد يتغير فيما بعد، فعليه أن يستفيد من هذه الفرصة السانحة التي قد لا تتكرر. وقد حدثني شهود عيان، جاءوني بالأمس أيضاً، أنه يوجد في كندا وغيرها آلاف مؤلفة من الشباب الصوماليين -ذكوراً، وإناثاً، وكباراً، وصغاراً- يقيمون هناك، في إسكانات حكومية بالمجان، وتعطيهم الحكومة نفسها ما يسمى ببدل بطالة -مرتب تصرفه لهم باستمرار- ويعيشون في بحبوحة من العيش، وإذا حصل أي مشكلة اجتماعية بالمسلمين فإنها تحال إلى المراكز الإسلامية والجمعيات الإسلامية هناك، ويعاملون معاملة تليق بهم، باعتبارهم بشراً من البشر، لكن حدثوني أي بلدٍ إسلامي يفعل بعض هذا، ثم حدثوني -بارك الله فيكم- ما هو موقف المسلم البسيط المغفل، ضعيف الإيمان، قليل العلم، إذا وجد هذه التيسيرات والخدمات والمساعدات، ووجد أن النصارى قد هبوا معه بكل قواهم، وناصروه وأيدوه في محنته؟! ثم وجد أن أبواب المسلمين موصدةُُ في وجهه، وأن المسلمين لا يملكون له إلا التنقص والشتيمة والتهمة، وأن أبواب الدول الإسلامية وحدودها مغلقة، وأن السفينة ترسوا على شاطئ بحر لإحدى الدول، فتُمنع من النزول أياماً حتى يموت فيها أكثر من مائتين! ثم يؤذن لها بعد ذلك، نتيجة وساطات دولية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 ماذا نشتكي؟ أنتقل إلى السؤال ماذا نشتكي؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 الجهل بالدين والدنيا نشتكي أموراً وإلى الله المشتكي. أولها: الجهل بالدين، والجهل بالدنيا، فأما الجهل بالدين، فإن المسلمين يعانون أزمة علماء في كل بلد، والقدر الضروري من العلم الذي لابد لكل مسلم أن يعلمه وما يسمى من المعلوم بالدين من الضرورة، أو العلم الضروري، حتى العلم العملي، والاعتقادي أكثر المسلمين لا يعرفونه، ولا أتحدث عن الجمهوريات السوفيتية، لأنها كانت تحت الشيوعية أكثر من سبعين سنة، ولا عن المسلمين -مثلاً- في البوسنة والهرسك، لأنهم أيضاً كانوا تحت الشيوعية، أو ألبانيا لأنها كانت شيوعية، بل أتكلم عن البلاد الإسلامية التي تحررت من الاستعمار منذ زمن بعيد، لا يعرفون حتى فرض العين الذي يجب عل كل مسلمٍ أن يعلمه. أمرٌ آخر: أستطيع أن أقول وأنا متأكد مما أقول، لو جمعنا علماء المسلمين كلهم، ودعاة المسلمين كلهم، لو حشرناهم في بلد إسلامي واحد متوسط العدد، لم يستطيعوا أن يغطوا حاجة الناس إلى العلم الشرعي في هذا البلد، أي: لو حشدنا علماء المسلمين الصادقين من العالم كله، ووزعناهم على بلدٍ واحد، مثل تونس، أو الجزائر، أو مصر -من بابٍ أولى- لم يستطع هؤلاء العلماء أن يغطوا حاجة الناس إلى العلم الشرعي، فما بالك إذا فرقوا على مساحة شاسعة واسعة من العالم الإسلامي. أصبح العالم عزيزاً نادراً، وقد زرت بلداً إسلامياً هو إندونيسيا الذي بلغت إحصائيته اليوم أكثر من مائة وثمانين مليون مسلم، فلم أجد في العاصمة جاكرتا إلا أربعة علماء، وأقول: علماء تجوزاً؛ لأن بعضهم مثقفين ومفكرين وليسوا علماء شرعيين، والعالم الشرعي الوحيد الذي أعتبره فعلاً عالم، وله كتاب مصنف في التفسير، وكتب أخرى، كان كبير السن، جاءوا به إلينا يحملونه على نقالة -عربة- لأنه رجل مقعد وقد جاوز الثمانين من عمره. أما الجهل بالدنيا فالأمر أوضح من أن يتكلم عنه إنسان، وعلى الرغم أن لدينا علماء وخبراء وعقول، إلا أن التربة هنا والمجتمع والبيئة والظروف السياسية، والعلمية، غير قابلة لنشوء علم صحيح، فجو القهر والحرمان والخوف، يحطم كل الطاقات وكل الإمكانيات، ولذلك تهاجر العقول العربية والإسلامية إلى المراكز العلمية بالغرب فيستفيد الغرب من هذا التزيف للعقول البشرية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 ظاهرة الفقر ثانياً: ظاهرة الفقر: -كما أسلفت- وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، وكان يستعيذ منه كل يوم، والعلماء يقولون: (كاد الفقر أن يكون كفراً) وإذا ذهب الفقر إلى بلد قال للكفر: تعال معي، وأنت تجد أن الرذيلة والفساد أكثر ما تكون في البيئات شديدة الفقر، بل مع جو التنصير الذي نشهده اليوم، فإن الفقر يدعو إلى النصرانية والذين تنصروا في جميع البلاد إنما تنصروا نتيجة الظروف الاقتصادية السيئة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 ظاهرة المرض ثالثاً: ظاهرة المرض: وأكثر نسبة على سبيل المثال للوفيات في مجال الأطفال في العالم هي في العالم الإسلامي، مع قله الخبراء، وقله المستشفيات، والمستوصفات، خاصة في مناطق الكوارث والبلاد الإسلامية تعاني قله بل ندرة في هذا المجال، والمستشفيات، والمستوصفات الموجودة في الغالب هي غير إسلامية، مع أن الأطباء -كما قلت- موجودون في بعض المناطق الغربية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 ظاهرة التفرق رابعاً: ظاهرة التفرق: قضية التفرق والاختلاف التي تضرب بجرانها على المسلمين، فعلى رغم هذه الضربات الموجعة، وعلى رغم التخلف في كل المجالات، وعلى رغم أن العدو يتنادى للقضاء على المسلمين، وعلى رغم أن الوضع وصل -أحياناً- إلى مسألة التصفية الجسدية للمسلمين، والقضاء عليهم من حيث هم، على رغم ذلك كله فإن الكثير من المسلمين لا يزالون يدندنون حول الاختلاف، فإن وجدوا سبباً للاختلاف اختلفوا، وأقول صراحة وأدين الله تعالى بما قلت: وإن لم يجدوا سبباً للاختلاف فإن الكثير منهم يبحثون ويفتعلون أسباباً وهمية، لمزيد من الخلافات فيما بينهم، ويتعللون بالخلاف مع فلان وفلان وفلان، لئلا يقوموا معه بالتعاون على عمل صالح رشيد، يجتمع عليه أمر المسلمين. الاختلافات بين الشعوب، بالأمس كانت الاختلافات مع الحكومات، أما اليوم فأصبحت الاختلافات بين الشعوب، فلا تجد مسلماً ينتمي إلى شعب إلا ويشتم الشعب الآخر، ويعتبر أنه شعب فاسد، وفيه من المصائب والمعائب كذا وكذا، فإذا وقع هذا الشعب في مصيبة، قال: نعم! هم يستحقون هذا بما كسبت أيديهم، هذا الشعب فعل كذا وفعل كذا، وهو أمر خطير. الخلاف بين الجماعات الإسلامية، وإذا صح أن نعتبر أن الجماعات الإسلامية على ما فيها من عيوب أيضاً، لكنها تعتبر صفوة المجتمعات الإسلامية في الجملة، فإن هذا الخلاف على أشده، وتجد أن بعض هذه الجماعات الإسلامية تتنافس في كسب الشعوب لصالحها ضد الطرف الآخر، ومع الأسف الشديد أنك قد تجد بلداً إسلامياً منكوباًَ مصاباًَ، وتجد هذه الجماعات تتناحر فيما بينها، وتتهارش، وتتحارب، ولا ترضى بأن تتفق ولو على عمل إغاثي، على رغم أن العدو يسعى للقضاء عليها، بل على المسلمين جميعاً، وتحويل هذا الشعب إلى شعبٍ كافر، أو القضاء عليه وإبادته بالكلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله!!. الخلاف بين القبائل؛ القبائل في الصومال تتقاتل, والقبائل في أفغانستان تتقاتل، وليس بالضرورة أن الخلاف بين القبائل معناه حرب قبلية (100%) الجانب القبلي موضوع في الاعتبار، وقد يضاف إليه عناصر وأسباب وعوامل أخرى كثيرة، مبنية على سوء الظن المتبادل بين الأطراف، أو على اعتقادات، وتصورات، وخلفيات تاريخية معينة، وهذا الخلاف يجعل الأعداء في كثير من الأحيان لا يحتاجون إلى التدخل بين المسلمين، فالمسلم نفسه يقوم بمهمة القضاء على أخيه المسلم أو مقاومة جهده! فمثلاً! أنا اليوم أكتب كتاباً وأؤلفه وأنشره بين المسلمين، فبدلاً من أن يسعى العدو إلى القضاء على هذا الكتاب، أو محاربته، لا يحتاج العدو إلى شيء؛ لأن هناك مسلماً آخر سوف ينبري ويتصدى لإصدار كتاباً للرد على هذا الكتاب، وبالتالي تتحطم هذه الجهود بعضها على بعض، فلا أنا الذي استطعت أن أقضي على اجتهادات أخي المسلم الآخر، ولا هو الذي استطاع أن يقضي على اجتهاداتي، ولكننا استطعنا ونجحنا أن نقنع المسلمين بأنه أنا وأخي -ذلك الذي رد علي- كلنا لا نصلح لشيء، ونتخالف ونتهارش حول قضايا، وبالتالي تركنا الساحة لغيرنا، واشتغلنا فيما بيننا. وأيضاً لا يحتاج العدو أحياناً إلى أن يُصّوِب بندقيته في صدري، لأن هناك مسلماً قد سبقه، وصوّب البندقية في صدري، ربما يحتاج العدو أحياناً إلى أن يُساعد المسلم الضعيف، حتى يكون هناك نوع من التكافؤ لتطول مدة الحرب فيما بيننا، وما خبر -مثلاً- الحرب العراقية الإيرانية -مع أن القياس مع الفارق طبعاً- لكن فالحرب العراقية الإيرانية، تبين بالحقائق والوثائق أن الغرب كان يغذي الطرفين، من أجل مزيد من الإنهاك لقوة البلدين، ومزيد من نزيف الدماء، وتجربه لبعض الأسلحة الجديدة في منطقة إسلامية. إن هناك نصيحة غالية ينبغي أن نقولها في ظل الحرب الشاملة التي يواجهها المسلمون، في موضوع الخلاف: إننا بحاجة إلى قلوب واسعة، لا تحمل حقداً أو كراهيةً أو بغضاء لمسلم، ولا تتهم مسلماً يظن سوء وهي تجد له من الخير محملاً، وبحاجة إلى عقول واسعة، تُقدر اجتهادات الآخرين، وتفهم دوافعهم، وآرائهم، وحججهم في كل أمر، وتجعل ميداناً واضحاً في الأمور التي يمكن الخلاف فيها، وميداناً أيضاً واضحاً للتعاون حتى مع الذين تختلفون معهم، إنني أعتقد أنه لا مجال للخلاف بين المسلمين، إذا كنا نستطيع أن نردم الخلاف، أنا لا أقول: تُنهى الخلاف مع كل الأطراف، ولا أقول: اترك الخلاف مع المبتدعة، فهذا موضوعُُ آخر، بل أنا أخاطب أهل السنة والجماعة، وهم كثير. فأقول: لماذا لا توحدون صفوفكم، ألستم أنتم المخاطبين بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ألستم أنتم المعنيين بقوله عز وجل: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] ألستم أنتم ممن أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الذي رواه مسلم: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً -وذكر منها-: أن تعتصموا بحبل الله جمعيا ولا تفرقوا} وهل معنى الاعتصام بحبل الله والاتفاق أن يجتمع المسلمون على رأيك أنت الخاص؟ أو على اجتهاداتك أنت الشخصية، أو على قناعة هذه الجماعة، أو على آراء هذه الطائفة؟ كلا. فمن المستحيل أن يجتمع الناس على ذلك، ولكنهم يجتمعون على الأصول العامة، المستقرة، الناصعة، الواضحة في القرآن والسنة والتي اتفق عليها المسلمون من فجر التاريخ، أما الاجتهادات الفردية فهي لا تتوقف ولا تنتهي، وإذا لم يتفق المسلمون اليوم، وعدوهم يسعى إلى قتلهم، وينهب خيراتهم، ويستعمر بلادهم، وأقول بالحرف الواضح: يستعمر بلادهم، ويسعى إلى تنصيرهم وتكفيرهم، فإن عجز سعى لتصفيتهم والقضاء عليهم، إذا لم يتفق المسلمون وهم يواجهون اليوم عدواً مدججاً أعدادهم بالمليارات، وأموالهم طائلةُُ هائلة، وقوتهم الأسلحة النووية والكيماوية، وهذا أقل ما يملكون، فإذا لم يتفق المسلمون في ظل هذه الظروف، فقولوا لي بالله عليكم متى يتفقون؟ ومتى يعقلون؟! وأقول للمسلمين الذين لا يزالون يدندنون حول الخلافات التي يمكن تجاوزها، أو حتى يمكن إثارتها، ومع إثارتها يكون هناك قدر من التعاون على البر والتقوى، أقول: أكل يومٍ لا تعقلون؟! الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 السبب فيما صرنا إليه وهاهنا سؤال سادس يطرح نفسه: ما هو السبب فيما صرنا إليه؟ ولا داعي لأن أجتهد من عند نفسي، فلنسمع ماذا قال ربنا جل وعلا، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] . وقال تعالى: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [آل عمران:155] وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال:53] . وفي الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] وقال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] وقال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] . هذه تقريباً سبع أو ثمان آيات من كتاب الله تعالى، وهي ناطقة، لا تحتاج إلى تفسيرٍ أو بيان، وخلاصة هذه الآيات أن كل ما أصاب الإنسان من مصيبةٍ دينية أو دنيوية، فهي من عند نفسه، فهذا هو خلاصة المعنى العظيم الذي دلت عليه هذه الآيات. بقى في الموضوع أيها الإخوة كثير، وبقى في الوقت قليل، وهذه الأسئلة أمامي، ولذلك فسوف أسرد عليكم بقية الموضوع باختصار، في نحو دقائق، حتى نفرغ بعض الوقت لهذه الأسئلة. وإذا كان هذا هو السبب الإجمالي، وهو بسبب الذنوب والمعاصي، فإننا نستطيع أن ننتقل إلى ذكر وتشخيص بعض الذنوب والمعاصي، فإن الكثيرين إذا سمعوا كلمة الذنوب والمعاصي، لم يتصوروا من الذنوب والمعاصي إلا الذنوب والمعاصي الفردية: كالزنا، أو شرب الخمر، أو السرقة، أو أكل المال الحرام، أو حلق اللحية -مثلاً- أو تطويل الثياب، أو ما أشبه ذلك من الذنوب الكبيرة أو الصغيرة، وظنوا هذه هي الذنوب والمعاصي فقط، والواقع أن الذنوب والمعاصي أعظم وأشمل وأوسع من هذا المفهوم، فمثلاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 الانحراف في معرفة الله أولاً: الانحراف في معرفة الله تعالى ومحبته وتعظيمه، إلى الجهل به، أو اعتقاد وجود وسائط بين الإنسان وبين الله تعالى، أو ضعف المحبة لله، أو ضعف الرجاء فيما عند الله، أو ضعف التوكل على الله، أو ضعف الثقة وحسن الظن بالله عز وجل مما يؤدى إلى الاعتماد على النفس، أو الاعتماد على الناس، أو الخوف من المخلوقين، أو ما أشبه ذلك، سواءً أكانوا أفراداً، أو منظمات، أو مؤسسات، أو أجهزة، أو دول، أو غير ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 الانحراف في فهم العمل وأهميته ثانياً: الانحراف في فهم العمل وأهميته: الكثيرون من المسلمين لا يعرفون قيمة العمل، سواءً العمل للدين، أو العمل للدنيا، ولا يزال الكثيرون يجهلون أن العمل ضرورة للنجاة في الدنيا، كما هو ضرورة للنجاة في الآخرة، فإذا كان بعض المسلمين في المجال الديني، يعتقدون أن الأولياء والشفعاء يغنون عنهم عند الله عز وجل، وهذا مفهوم كنسي، وهو مفهوم صوفي -أيضاً- فإن الكثير من المسلمين -أيضاً- يعتقدون أن العمل للدنيا ليس ذا شأنٍ ولا ذا بال! والنصوص واضحة في القرآن والسنة في أهمية العمل، وأن الإنسان يدخل رحمه الله تعالى بعمله، وكذلك يحرم من رحمة الله تعالى بعمله. {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] وقال تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] وقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:115] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 الانحراف السلوكي ثالثاً: الانحراف السلوكي: باعتقاد أن صفاء القلب يكفي، والبعض يقولون أحياناً: ربك رب القلوب، والمهم هو الباطن، وبعضهم قد يقول: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله} وهذا حديث متفق عليه عن النعمان بن بشير، لكنهم يفهمونه خطأً، فالحديث معناه: إذا صلح القلب، صلحت الجوارح، ومن أدعى صلاح القلب، فالدليل على ذلك جوارحه، لكن البعض يفهمونه خطأً، فيظنون أن معني الحديث، أنه إذا صلح القلب كفى عن غيره، والواقع أنّ الرسول عليه الصلاة السلام قال: {صلح الجسد كله} ومثله الحديث الآخر: {التقوى ها هنا} نعم التقوى محلها القلب، ولكنها تفيض على جوارح الإنسان، وعلى سلوكه، وعلى أعماله، وعلى أخذه، وعلى إعطائه. والإسلام لم يبعث فقط لإصلاح القلوب، بل بعث لإصلاح القلوب، والسلوك، والحياة الفردية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والعلمية، وغيرها، ولا شك أن الانحرافات السلوكية مثل: أكل الحرام، أو النظر إلى الحرام، أو تعاطي الحرام، أو التعامل بالحرام، على مستوى الفرد، والجماعة، والدولة، هو من أسباب تشتت القلب، وبعده عن الله تعالى، ومن أسباب ضعف الهمة، ومن أسباب الخور والجبن والخوف، ومن أسباب قلة التوفيق للعبد في دينه ودنياه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 التخلف في الإعداد رابعاً: التخلف في الإعداد، وهذا من أعظم الذنوب والمعاصي، على الأفراد والجماعات والأمم، النقص في الإعداد العلمي والتقني، والله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] . ويأمر بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، والسير في الأرض، والاعتبار بالآيات في النفس، وفي الكون، وفي هذا دعوة إلى التعلم والتعليم والتأمل، وأول آية نزلت على الرسول صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] فهذا المسلم الذي دعي إلى النظر في الملكوت والتأمل في جميل صنع الله تعالى وإبداعه في الأرض، وفي الكون وفي النفس، لم يستعد ولا يزال متخلفاً في المجال العلمي، والتقني، وبالأمس كان المسلمون يملكون ناصية العلم، والحضارة، واليوم أصبحوا عاجزين حتى عن مجرد الاستفادة من إنتاج العلم والحضارة، وهم سوق غير جيدة لمنتجات الغرب. أحياناً: قد يشتري المسلمون مصنعاً بأكمله، بل وعماله معه أيضاً، وقد يقوم المسلمون ببناء مؤسسات، وشركات، وقواعد، ومراكز، كلها غربية من الألف إلى الياء، ويحصل في ذلك نصب، واحتيال، وخداع، وتضليل، وألاعيب، تبدأ من عند السمسار الذي يأخذ الأموال، إلى البائع، إلى ما يعلم الله تبارك وتعالى به، وفي ذلك خطورة كبيرة تكلم عنها مجموعة من الخبراء في ندوة بعنوان: هل انتقلت التقنية إلى العالم الإسلامي؟ ومن الذنوب والمعاصي والتخلف في الإعداد، أيضاً: التخلف العسكري، والتخلف العسكري أمر واضح، سواءً في المجال الفردي، أو في مجال التسليح، والغرب يفرض حصاراً على ألوان الأسلحة إلى العالم الإسلامي بالذات، وهذا نموذج للرغبة في بقاء المسلمين محتاجين، ومهددين من قبل عدوهم، وليس سراً أن أمريكا قد التزمت لإسرائيل ضمن محادثات السلام القائمة اليوم، أن تظل إسرائيل متفوقة عسكرياً على الأمة الإسلامية والعربية، مجتمعة وذلك لضمان سلامة إسرائيل وأمنها، مع أن أحد الخبراء الألمان يقول: هذا أمر عجيب!! لأنه إذا كان مطلوباً أن لا تقوم حرب في الشرق الأوسط، فيجب على الغرب أن يزود العرب بقنبلة نووية أيضاً، حتى يكون هناك نوع من التكافؤ النووي، أو ما يسمى بالردع الذي يضمن ألا تعتدي إسرائيل أو تقوم باستخدام هذا السلاح، لأن الطرف الآخر لا يملكه. وعلى كل حال فليست مشكلة المسلمين من الناحية العلمية، أو من ناحية السلاح أو غيره ليست مشكلتهم التسليح فقط بل إن كل التيسيرات المادية التي تمكن الإنسان من قضاء حاجاته الدينية والدنيوية بيسر وسهوله، وتسهل له القيام بأعماله بأقل قدر من الوقت، وأقل قدر من الجهد، وأقل قدر من المال، هي مما كان يجب أن يسعى إليه المسلم؛ فالمسلم كان ينبغي أن يسبق الغرب -مثلاً- في اختراع المكيف، واختراع مكبر الصوت، واختراع السيارة، واختراع الهاتف، واختراع الفاكس، واختراع ألوان التيسيرات المادية والعلمية، التي تخدم الإنسان وتحفظ عليه وقته وجهده وماله، ولكن المسلمين آثمون وعصاة، لأنهم قصروا في ذلك كله، وأخص القادرين على ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 ما هو المخرج؟ السؤال الذي يطرح نفسه: ما هو المخرج؟ وإذا كان السبب هو المعصية؟ فالمخرج هو الرجوع إلى الله تعالى، وإلى دينه، وهذه القاعدة المجملة، يمكن أن نترجمها إلى توصيات:- أولاً: المخرج بالإصلاح الشامل في مناهج التعليم، وفي مناهج الإعلام، والسياسة، والاقتصاد. ثانياً: إعداد الجامعات، والمراكز العلمية التخصصية، للإفادة من النهضة العلمية العالمية اليوم، وتطويرها وتوسيع نطاقها، والإمساك بزمامها وناصيتها. ثالثاً: تخلي المتسلطين على رقاب المسلمين عن حماية المصالح الغربية، إلى حماية مصالحهم وشعوبهم، وقيامهم بتحكيم شريعة الله تعالى في عباده. لكن هذه المطالب لمن تُوجِهها؟ إن من توجهها إليهم هم مصدر الداء وهم البلاء! وكما قيل: لقد أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تُنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخُ في رمادِ ولهذا أنتقل لأقول: لا يجوز أبداً أن يُلقي المسلمون باللائمة والمسئولية على الحكومات، فإن هذه الحكومات، يجب ألا ينتظر منها المسلمون شيئاً يذكر، بل إنها في كثيرٍ من البلاد، هي مصدر البلاء، ولهذا على المسلمين أن يسعوا إلى تحقيق ما يستطيعون بإمكانياتهم الذاتية، من خلال الأفراد، ومن خلال المؤسسات، والهيئات الإسلامية الشعبية، التي لا تهيمن عليها السياسة، ولا تديرها الحكومات لمصالحها الذاتية، وأنت بذاتك أيها المسلم، عليك واجب ودور كبير، وأقول: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 واجب المسلم تجاه قضايا المسلمين نحن مفلحون جداً إن خرجنا من هذا المجلس، وكل واحد منا يشعر أن له دوراً، يستطيع أن يؤديه ولو كان دوراً يسيراًَ، تشعر بقيمة العمل، وأنا سوف أقرأ عليك مجرد قراءة لبعض الأدوار التي تُفلح بها وتستطيع أن تقوم بها: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 توجيه الاهتمام إلى قضايا المسلمين ثانياً: ضرورة توجيه الاهتمام إلى قضايا المسلمين، والتتبع لأخبارهم، وألا نعتبر الكلام عن أمور المسلمين فضول أو لا فائدة منه، ولا أن استماع أخبارهم، أو قراءتها، أو الإطلاع عليها، لا فائدة منه! لا؛ بل هذا نوع من المشاركة، ينبغي أن تحرص عليه، وتبذل جهداً فيه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 التوجع للمسلمين والحزن لهم ثالثاً: التوجع للمسلمين والحزن لهم: وهذا التوجع والحزن كما أسلفت، لا يُشبع جائعاً، ولا يروي عطشاناً، ولا يغيث ملهوفاً، ولا يؤمن خائفاً، ولكنه ذا نفعٍ عظيم، لأن هذا التوجع والحزن الذي لا تتعبد به، هو وسيلة فالإنسان ما لم يتوجع أو يحزن لن يستطيع أن يصنع شيئاً، فلابد من التوجع لمصاب المسلمين، وبمناسبة هذا التوجع أقرأ عليكم هذه القصيدة الذي كتبها أحد الشعراء -الأخ محمد العجلان - وبعث بها إلينا: قتل وتعذيب وتشريد فمتى سيغمر كوننا العيدُ ومتى متى يا أمتي فرحي ومتى متى ستُزغردُ الغيدُ في كل شبرٍ أمةُُ هُتكت أستارها واغتُيل توحيدُ في كل شبرٍ صرخة نغم فدوت بِالصدى البيدُ لكننا نلهو فلا غضبُُ نبدي ولا الإيثارُ موجودُ وكأنَّ وقراً قد تغلغلَ في آذنِنا فالسمع مسدودُ صِربُُ وصهيونُُ تمُزقنا وسِلاحنا في الصدر تهيدُ والمجلس المأمول في شُغلٍ عنَّا يُماطِل فوقه الهودُ ويسومنا أبناءُ جلدتِنا بِسياطِهم والعدلُ مفقودُ والنخوة القعساءُ صادرها متفردُُ بالرأي نُمرودُ أدمى بخنجره حشاشتنا فإذا العراق الحُر مصفودُ وإذا العُروبة تنبري شيعاً عادت إليها الأزمُنُ السُودُ يا أمةً شاخ الزمان بها وعلت مُحياها التجاعيدُ عاثَ الخلاف بها وفرقها بُعد عن الإسلامِ مشهودُ الهَدي فيها وهي ضائعةُُ يقتادها القيثارُ والعودُ قد خُدِّرت بفم مُنغمة شُغلت بها والسيفُ مغمودُ وعلى رُباها ألفُ غانيةٍ رقصت ومِلءُ السمعِ ترديدُ هي والليالي الحُمر في طربٍ سكرى وليلُ الشِرك تصعيدُ في كل يومٍ يُستباحُ بها دم يُقامِر فيه عِربيدُ يا أمتي ما ضاع يُرجِعهُ سيف بِه الإيمانُ معقودُ يا أمتي هذا الكتابُ لنا ولنا به عز وتسويدُ فإذا به سِرنا سيغمِرُنا نصر مِن الرحمنِ موعودُ إذاً لابد من التوجع، نريد منك حزناً، نريد منك دمعة عين، وآهة أسف، وتنهيده لأخيك المسلم الجائع، أو العاري، أو المقتول، أو الجاهل، أو المريض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 نشر الوعي الحقيقي بين المسلمين رابعاً: نشر الوعي الحقيقي بين المسلمين، وإزالة الغشاوه عن المخدوعين بالإعلام، ليكون هناك مشاركة واسعة وعريضة في كلِّ قضايا المسلمين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 المشاركة المادية خامساً: المشاركة المادية ببعض ما أنعم الله تعالى عليك: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] وقال تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77] . وأنت خبيرُُ بقصة صاحب الحديقة ملكُُ من السماء يقول: أسق حديقة فلان، لماذا؟ لأنه يأكل ثلثاً ويتصدق بثلث، ويرد الثالث في الحديقة، فكن أنت صاحب هذه الحديقة، والأمر سهلٌ ميسور. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 المشاركة بالنفس سادساً: المشاركة بالنفس، وهذا يكون بالدعوة إلى الله تعالى، هؤلاء الجهال اذهب إليهم وعلمهم، فإن النقد المجرد، حيلة نفسيه، حين تقول: هؤلاء جهال، أذهب وعلمهم يا أخي، يجب أن تنزل للميدان، وماذا تنتظر من مسلم جلس أكثر من خمس وسبعين سنه تحت مطارق الشيوعية، في روسيا، أو في يوغسلافيا، أو في ألبانيا، أو في غيرها، هل دعوته أنت؟! هل علمته؟! هل فهمته فأعرض ورفض وأنكر؟ هذا أمرُُ آخر. الذهاب للجهاد في البلاد الملتهبة مطلوبٌ، ممن يملك ذلك، ولكن ينبغي أن نعلم أن من أعظم ألوان الجهاد أن نعلمهم الدين، ونعرفهم ونعرف هؤلاء الشباب المتحمسين للجهاد، الذين نشد على أيديهم، ونقول: هلموا، فالمسلمون يحتاجونكم في كل مكان، في يوغسلافيا، وفي غيرها، نقول لهم: مع ذلك كله ليس بالبندقية وحدها ينتصر الإنسان، قال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون) َ) [آل عمران:160] وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:126] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 السعي الجاد لإقامة جهدٌ دعوي مشترك سابعاً: هذا الكلام كله سوف يفرز مع الوقت أساليب أكثر تنظيماً، وأكثر دقة، وأغزر إنتاجاً، وأوسع عطاءً، للإخوة من المسلمين، والدعاة، والمحتسبين، والمهمتين، بقضايا المسلمين، سوف يفرز هذا الإحساس، وهذا الاهتمام جمعيات إسلامية، وهيئات خيرية، ومؤسسات دعويه، تسهر على مصالح المسلمين، وسنجد بعد وقت إذا سلكنا السبيل، سنجد جمعيات متخصصة للدعوة إلى الإسلام، الدعوة بالمراسلة، بالاتصال، بالتعليم، بالإعلام، وأفضل وسيلة للهجوم على النصارى، وأفضل وسيلة لمدافعة النصارى هي الهجوم عليهم، بتعليم المسلمين ودعوة النصارى أيضاً إلى الإسلام، وسنجد أيضاً جمعيات متخصصة في الاقتصاد، وتنمية المال الإسلامي، واستثماره فيما يرضي الله عز وجل، وسنجد جمعيات متخصصة في الإغاثة والأعمال الخيرية الإنسانية، وسنجد جمعيات متخصصة في التعليم على كافة المستويات، بما في ذلك تطوير الكفاءات العلمية الإسلامية، وسنجد الكثير من ذلك، وأقول: من يملك أمرين يستطيع أن يصنع الكثير: أولاً: الرغبة الصادقة. ثانياً: المال. فإذا ملكنا الرغبة الصادقة مع المال، فلن يقف في وجوهنا بإذن الله تعالى شيءٌ سيكون الله تعالى معنا متى كنا مخلصين. أيها الإخوة! هذا ما أحببت أن أقوله لكم، وأنا إذ أتحدث إليكم الآن عن جراحات المسلمين، أدعوكم إلى أن تصدقوا مع ربكم جل وعلا في أن تتخلوا عن كل ما تستطيعون التخلي عنه الآن، وليس غداً، لإخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وبعد إقامة الصلاة سيقف بعض الشباب على الأبواب، لجمع التبرعات التي ستوزع مناصفةً بين إخوانكم في البوسنة والهرسك، وإخوانكم في الصومال، جزاكم الله تعالى خيراً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 الدعاء الصادق أولاً: الدعاء الصادق: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال عليه الصلاة السلام: {من لم يدع الله يغضب عليه} وقال صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} . هل تظن أن ألف مليون مسلم -بل آخر إحصائية تقول: ألفاً ومائتين مليون مسلم- ليس فيهم شخص واحد لو أقسم على الله لأبره، أو لو دعا الله تعالى أجابه، بلى، وأنا أحلف أنه -إن شاء الله تعالى- لا تخلوا هذه الأمة من أخيار، وأطهار وأبرار فلماذا إذا لا نحشد هؤلاء؟ ولماذا لا ندعوهم إلى أن يقوموا في الهزيع الأخير من الليل؟! حين ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من سائل؟} فيقولون: نعم، يا رب نحن السائلين، نمد لك أكف الضراعة أن ترحم هذه الأمة الملهوفة، فلو أننا ركزنا على هذا الأمر، ودعونا الشِّيِبِ، والكبار، والصغار، والأطفال، والغافلون، وأصحاب القلوب النظيفة، إلى أن يدعو الله تعالى في مشاكل المسلمين دعواتٍ عامة، وخاصة، ولعلك واحدٍ من هؤلاء، يقول: ولو كنت ملوثاً بالذنوب والمعاصي؛ لا تقل هذا، بل العلم عند الله تعالى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 الأسئلة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 حقيقة ما يجري في أفغانستان السؤال يقول: كم كانت الأنفس مستبشرة بانتصار المجاهدين الأفغان، ولكن لم تكتمل الفرحة حتى حدث ما لم يكن في الحسبان، فهل أطلعتمونا على الصورة الحقيقية؟ الجواب الصورة الحقيقية سبق أن تكلمت عنها في مناسبات عدة، ينبغي أن نفرح لكل ما يقع للمسلمين، لكن ينبغي أن يكون فرحنا مشروطاً واعياً، فلا ينبغي أن يكون فرحنا كفرح الأطفال الذين لا يدركون المخاوف التي تهددهم. ففي أفغانستان أولاً: هناك مشاكل داخلية -تكلمت عنها مرات- وأخطرها قضية المليشيات، والمليشيات فعلاً هي تمارس دوراً خطيراً الآن، وهي السبب الرئيسي في الصراع بين المجاهدين. ثم هناك الخطر الخارجي، فالغرب لن يرضى أبداً بانتصار إسلامي وسيقاومه! مع أنه يقاومه وأنا أقول لكم: لا يجوز أبداً أن نخاف من الغرب، بل ينبغي أن ندرك أن الغرب عاجز، وإذا وجد قوة إسلامية صادقة، فإنه سيقف مكتوف الأيدي، وماذا تنفع روسيا أسلحتها السوفيتية النووية القوية، لم تمنعه من أن يسقط ويتهاوى كما تتهاوى وتتساقط أوراق الخريف، لكن سيحاول الغرب أن يستغل نقاط الضعف الموجودة فينا، وعلى سبيل المثال قرأت تقريراً غربياً يقول: تُحاول أمريكا أن تجعل في شمال أفغانستان منطقة خاصة للمليشيات يحكمونها -مستقلة- وأمريكا اليوم كانت تمارس دوراً في تجزئة العالم الإسلامي، ولعل العراق يعاني شيئاً من ذلك، وأفغانستان أيضاً، لماذا المنطقة المعزولة في شمال أفغانستان؛ حتى تحول بين الحكومة الأصولية في كابول، وبين أن ينتقل تأثيرها إلى الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، ومع ذلك أدعو لإخوانكم المسلمين في أفغانستان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 نصائح توجيهية للدعوة السؤال إن ما يشهده هذا البلد في الفترة الأخيرة من حركة طيبة في مجال إنكار المنكرات من قبل الهيئة، ونتيجة لذلك كثر الكلام من العوام، ونقلت الشائعات بلا تثبت، ونقل العمل بغير علم، ووقع في الأعراض بلا تورع، فهل من نصيحة؟ الجواب أولاً: أدع الإخوة إلى أن يبذلوا مزيداً من الجهد في هذا السبيل. ثانياً: أدعوهم إلى أن يكونوا على اتصال قوي بالناس، فنحن كما نحتاج إلى دور الإخوة في العمل في مجال الهيئات، نحتاج أيضاً إلى هؤلاء العاملين أنفسهم، أن يكون لهم اتصال إعلامي قوى في وسط المجتمع، بحيث يكون المجتمع معك في أي خطوة ويكون معك في الصورة، بحيث يشعر كل مواطن بأنك تُدافع عن عرضة وعن بنته، وعن قريبته، وعن أهله، وعن جيرانه، وأنك حريص عل الستر، وحريص على الإصلاح، وحريص على أن تسير الأمور بطريقةٍ هادئةٍ وسليمةٍ بعيدةٍ عن الإثارة، حتى تستطيع أن تكسب الناس إلى صفك، فعلينا أن نبذل ذلك، كما أن على العلماء والخطباء والدعاة دوراً في ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 وقفات مع سورة الذاريات سورة الذاريات فيها قوارع وزواجر، وفيها تكرار للقسم على أحقية البعث، وجزاء المتقين والمجرمين، ثم ذكر قصص السابقين تسلية للمؤمنين وتهديداً للمجرمين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 1 تأكيد البعث والجزاء {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ * وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ * إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ * قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذارايات:1-23] الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. هذه السورة العظيمة، سورة الذاريات، وهي مكية، وموضوعها هو موضوع الآيات المكية غالباً، تقرير العقيدة، وترسيخها في القلوب، وكشف أدلتها، والرد على المخالفين، وقد افتتح الله تعالى هذه السورة بهذا القسم العظيم {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْراً} [الذاريات:1-4] فأقسم بهذه الأشياء الأربعة، الرياح: وهي الذاريات، والسفن: وهي الجاريات، والسحاب: وهي الحاملات، والمقسمات: وهي الملائكة، وأقسم بها بصيغة الجمع ليكون أفخم وأوقع في النفس {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5-6] فهذا هو موضوع القسم، وهذه هي الوقفة الأولى. أما المسلم فلأنه يُعظِّم الله تعالى، فإن الأمر عنده أصلاً لا يحتاج إلى أكثر من أن يأمر الله بشيء فيفعله، أو ينهي عن شيء فيجتنبه، أو يقرر الله تعالى شيئاً فيؤمن به، فإذا جاءه هذا القسم من الله بهذه الأشياء العظيمة، وبصيغة الجمع، كان هذا سبباً في شدة اهتمامه، وتوجه قلبه، إلى هذا الموضوع المقسم عليه، أما غير المؤمن، فإن هذا القسم أيضاً سيحدث عنده شيئاً كبيراً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 2 لا يقبل على الهداية إلا من وفقه الله إن هذه الآيات بقوتها وشدتها ووضوحها، تقول لكل إنسان: لا تأخذ قضية الجزاء والبعث والحساب مأخذ التهاون والتساهل والتفريط، أعط القضية حقها من الاهتمام، ووجه قلبك، وفكرك، وعقلك إليها، وتأمل في أدلتها وحينئذٍ ستصل إلى النتيجة الصحيحة، لأنه لا أحد يُقبل على طلب الهداية، والبحث عن الحق، بتجرد وصدق وإخلاص، إلا وفقه الله سبحانه وتعالى لإدراك الهداية وتحصيلها، والدليل على ذلك قصة جبير بن مطعم، وأيضاً من القرآن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فهذه الآية نص في أن من يطلب الهداية، ويجاهد في طلب الهداية، فإن الله تعالى يهديه سبلها، ويوفقه إليها، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وأيضا قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] إلى غير ذلك من الآيات. إذاً: هذا القسم بهذه الأشياء العظيمة الكبيرة، وبصيغة الجمع، من الله جل وعلا، يحدث عند كل إنسان تأثيراً قوياً، فأما المؤمن فتأثير القسم عليه هو شدة الاعتناء والحفاوة بالأمر المقسم عليه، وشعوره بأنه موضوع خطير، وأن ربنا جلَّ وعلا ما ذكره هكذا، وإنما ذكره في سياق القسم عليه، والتأكيد على معناه. وأما غير المؤمن، فحتى لو لم يؤمن بهذا الشيء بمجرد القسم، إلا أن هذا يعطيه تأكيداً للموضوع، ويقول له: إن هذا الموضوع في غاية الأهمية، ويجب أن توجه قلبك، وعقلك، وهمك، إلى التفكير فيه، والبحث عن وجه الصواب، وتحري الحق، والمؤمن يعلم أن لا أحد يتحرى الحق، ويبحث عن الصواب بتجرد إلا اهتدى إليه، لأن هذا وعد من الله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ:46] فيقسم الله تعالى بهذه الأشياء على هذا الموضوع الجليل الخطير، {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:5-6] الدين هو الجزاء والحساب، فمعنى الآية: إن مجازاة الناس بأعمالهم يوم القيامة أمر واقع لا شك فيه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 3 وعود الله تعالى للمؤمنين أما قوله: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ} [الذاريات:5] فهو أعم من ذلك، فهم قد وعدوا أشياء كثيرة، ومما وعدوا أن يبعثوا، ويجازوا بأعمالهم، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، هذا مما وعدوا، لكنهم وعدوا أيضاً بغير ذلك، وعدوا بالنصر والتمكين للإيمان والمؤمنين، وأن الله تعالى سوف ينصر رسله، ووعدو أيضاً بأن الله تعالى سوف يخذل أعداءهم، ويجعل الدائرة عليهم، ووعدوا أيضاً بأن الله تعالى سوف يجري على يد رسله وأنبيائه من الآيات والحجج الباهرة الشيء العظيم، بل ووعدوا تفاصيل أشياء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، أنها ستقع مثل قصة عدي بن حاتم، التي فيها الوعد بفتح فارس والروم، ونصر المسلمين واستتباب الأمن في بلادهم، وكثرة الخير بأيدي المسلمين، ومما وعدوا أيضاً هزيمة الروم قال تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} [الروم:3] ثم انتصارهم من بعد: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3] وهزيمة فارس، ومما وعدو أيضاً: قصة سراقة بن مالك إن صحت: {كيف بك يا سراقة! إذا لبست سواري كسرى} ومما وعدوا فتح القسطنطينية ووعدوا أن هذه الأمة ستتبع الأمم قبلها، حذو القذة بالقذة، إلى غير ذلك مما جاء على ألسنة الرسل، وهو كثير جداً. فهذا قسم على أن كل ما توعدون من الله تعالى على لسان رسله، أنه صادق، وصدق الوعد يعني أنه سيقع ويتحقق، ثم أكد على أمر واحد مما وعدوت وهو الدين، يعني الجزاء والحساب يوم القيامة، فعم وخص {وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} [الذاريات:6] وإنما خص مسألة الدين، وهو المجازاة، دين الناس بأعمالهم، لأنه هو موضوع السورة، بل وكثير من السور المكية، وهو موضوع القسم أيضاً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 4 الكافرون في أمر مريج ثم أقسم الله تعالى بالسماء ذات الحبك، ذات القوة، ذات الجمال، ذات النجوم، إنكم يا معشر الكفار! {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:8-9] قضية القسم، وهي الوقفة الأولى كما سبق، هي التأكيد على موضوع البعث والقسم عليه، والدعوة إلى التأمل فيه والتفكر، ولهذا عقَّب بقسم آخر، بالسماء البعيدة، الرفيعة، القوية، البهية، الجميلة، ذات الحبك، إنكم يا من تكفرون بالبعث! قد تجاوزتم الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال! فأصبحتم في قول مختلف، لا يستقر على حال، فهذا كقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] ليس هناك شيء في الدنيا ثابت ومستقر، تطمئن إليه النفوس، والعقول، والقلوب، إلا الحق، فإذا آمن الإنسان بالحق، ودعا إليه، وعمل به، أورثه هذا طمأنينة ويقيناً واستقراراً، فتجد كلامه الأمس وكلامه اليوم هو كلامه غداً من حيث الجملة، لأنه ينطلق من مصدر واحد، لكن إذا ترك الحق وأعرض عنه، ابتلي بالتلون، والتذبذب، والنفاق، فأصبح شأنه اليوم غير شأنه بالأمس، وشأنه غداً غير شأنه اليوم، ولهذا قال: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] لأننا إذا تركنا المجال للتصورات العقلية، وجدنا أنا الإمكانيات العقلية -الاحتمالات العقلية- كثيرة جداً، فقد يتصور الإنسان مثلاً بالعقل بدون الدين، قد يتصور أن الحياة الدنيا التي يأتي بعدها الموت، هي نهاية المطاف، وأن من مات لا يبعث أبداً! هذا تصور عقلي، يمكن أن العقل يتصور هذا، وقد يتصور آخر، أن الإنسان إذا مات في هذه الدنيا فإن روحه تذهب إلى شخص آخر، أو إلى حيوان آخر، أو إلى طير! كما هو مذهب التناسخية الذين يقولون بتناسخ الأرواح، وقد يتصور الإنسان شيئاً مثل هذا، عشرات الاحتمالات العقلية، لماذا هذه الاحتمالات؟ ليس واحد منها بأفضل من الآخر، فمسألة الإمكان العقلي، هذا ممكن وهذا ممكن، واعتبار أن هذا الاحتمال أقوى، أو هذا ليس عليه دليل، فيصبح الكافر في قول مختلف، قد يقول اليوم قولاً، فيقنعه بعده آخر بقول ثان، وآخر بقول ثالث، وهكذا، فهو في قول مختلف مضطرب مريج، كما قال تعالى: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] وهذا القول المختلف هو قول متناقض، قول ليس عليه دليل ولا يخفى فساده إلا على الإنسان الذي عطل عقله، وألغى إدراكه، ولهذا قال: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: يصرف عن فساد هذا القول الذي أنتم فيه، فهذا القول المتناقض لا يصرف عنه إلا من عطَّل مداركه، وقُلِبت فطرته، فأصبح لا يميز بين الحسن والقبيح، ولا بين الحق والباطل. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 5 النظر إلى الحياة الدنيا طريقان الأول: طريق الوحي، الذي يقرر أن الحياة الدنيا مؤقتة، وأن الناس مطالبون بعبادة الله، وأن بعد الدنيا آخرةً، وبعثاً، وجزاءً، وحساباً، وجنة للمتقين، وناراً للعاصين، هذا طريق الله، وهو طريق واضح، من آمن به استقر قلبه، وهدأت نفسه، وعرف طريقه. الطريق الثاني: هو طريق الباطل، طريق الشيطان الذي ليس له قرار ولا استقرار، ولا يقوم على أساس، وإنما هو قول مختلف، مضطرب، مريج، لا يرتاب في ضلاله واضطرابه إلا من أراد الله تعالى له الضلال، فعطل عقله، وألغى مداركه، وانقلبت فطرته، فصار لا يستخدم هذه المواهب التي أعطاه الله تعالى إياها في الوصول إلى الحق، فهذا معنى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] أي: فأنتم يا معشر المكذبين بالبعث في أمر مختلف مضطرب مريج، لا يؤفك -أي: يصرف ويقلب- عن إدراك خطئه وفساده إلا من أفك، يعني: قلب وصرفت فطرته، وإلا فالإنسان العاقل يعرف فساده، ولهذا عقب أيضاً بقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10] وهذا دعاء عليهم، قتلوا: أي أهلكو ولعنوا وذموا، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ * يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:11-12] يعني هؤلاء القوم أهل الشك والحيرة والاضطراب، الذين لم يهتدوا إلى طريق الله، فظلوا في الإفك والتردد والشك، كل يوم عندهم احتمال عقلي، مثل ما تجده حتى عند كبار العباقرة إذا نظرت غير مؤمنين، إذا أتيت تفكيره في مسألة الإيمان وجدته أقل من تفكير الصبيان، لأنه ما استخدم هذه المواهب العظيمة في ما ينفعه في الدار الآخرة، إنما استخدم المواهب في الدنيا، فتجده اكتشف الكهرباء، واكتشف الجاذبية، واكتشف أعماق البحار، ومجاهيل الأرض، ومجاهيل الفضاء، واكتشف في مجال التصنيع، والزراعة، والذرة، أشياء كبيرة لأنه وجَّهه عقله إليها، واستخدم طاقاته لها، لكن القضية الكبرى قضية الآخرة ما وجه عقله إليها ولهذا يُعبَّر عنه بأنه أفك عن هذا الأمر، وصرف عنه، فوقع في هذا الأمر المختلف المريج، وأصبح من الخراصين، الذين يتشككون ويترددون ويتقلبون، فكل يوم لهم رأي، وهم ساهون غافلون لا يأخذون القضية مأخذ الجد، ولم يفكروا فيها تفكيراً عميقاً، بل هم في غمرتهم وغفلتهم وسهوهم ودنياهم. وأنت لو تأملت أحوال الناس لوجدت غالب الكافرين على هذا الأمر، فلو كان هناك إنسان مهتم بقضية الدين فعلاً ولو لم يكن مسلماً فإنه بعد عشر سنوات أو عشرين سنة، يصل في النهاية إلى الدين، يبحث ويقول: ذهبت ودرست النصرانية فلم تعجبني، ثم ذهبت ودرست اليهودية فلم تعجبني، ثم لم أكن أعرف الإسلام، فوجدت البهائية مثلاً فأخذت كتب البهائية أظنها هي كتب المسلمين، فقرأتها فلم تعجبني فوجدت فيها تناقضاً، وجلست سنوات وأنا في حيرة وفي قلق وفي شبه اليأس، حتى هممت بالانتحار ولكني لم أفعل، حتى وقع في يدي كتاب كذا، فقرأته فوجدت فيه الهداية، فيذكر بعض كتب المسلمين التي حصل عليها بالصدفة يظن، والواقع أنه قدر ساقه الله تعالى إليه، فكل إنسان يأخذ قضية الدين بجد ويبحث عنها بتحرٍِ، يصل في النهاية، وإنما يصرف عن الدين {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} [الذاريات:11] مشغولون بتفاصيل حياتهم اليومية، من وظيفة، وطعام، وشراب، وبرنامج يومي، ومشاريع بعد مشاريع، دراسة، ثم وظيفة، ثم زواج، ثم سفر، ثم مشاريع اقتصادية، ثم مشاريع علمية، ثم دنيوية، ثم، ثم حتى تنتهي حياة الواحد منهم وهو لم يجد وقتاً للتفكير، فهو في غمرة، أي في لهو، وغفلة، ولذلك هناك كفر اسمه كفر الإعراض، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] لأنهم ما فكَّروا أصلاً، فهذا إذا جاءه الموت صحا قال تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات:12] هذا سؤال مستهتر مستخف! فإن هذا ليس من شأن العبد، وهذا السؤال لا يطرحه إنسان جاد، فسواء كان يوم الدين بعد سنة أو بعد مائة سنة، أو ألف سنة، أو ما يعلم الله تعالى من ذلك، الإنسان الجاد يسأل: هل يوم الدين حق أم ليس بحق؟ ويبحث عن الأدلة، فإذا توصل إلى أنه الحق، أعد العدة له، وهو يعلم أنه لا يحول بينه وبين يوم الدين إلا الموت، ثم يلقى هو دينه وجزاؤه وحسابه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 6 يوم الدين غيبٌ لا يعلمه إلا الله أما يوم الدين الأكبر، يوم الجزاء الأوفى للطائعين والعاصين، والذي يجمع فيه الناس لرب العالمين، فهذا غيب عند الله تعالى لا يعلمه إلا هو، وإنما السؤال أيَّان يوم الدين؟ سؤال استبعاد أيضاً، فهو إنما يصدر من قلوب جاحدة، ونفوس منكرة، تعترض على الرسل بهذه الطريقة، فتقول: متى سوف نبعث وفي أي يوم وفي أي تاريخ؟ فالرسل يتكلمون بالجد، وهؤلاء يواجهون الموضوع بسخرية واستهزاء! ولهذا فمِثل هذا السؤال، (أيان يوم الدين؟) لا يستحق الجواب، إنما يستحق التهديد لأصحاب هذا السؤال، فإذا كنتم تقابلون الموضوع بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، جاحدين، مستهزئين، مستنكرين فالجواب {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:13] . أي: يحرقون بالنار، ويقال لهم: ذوقوا فتنتكم وحريقكم وعذابكم، الذي وعدتم به، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] أمس في الدنيا. وتقولون: أيان يوم الدين؟ {قَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16] هذا هو، ما أسرع ما وصلتم إليه! ومضت دنياكم كأنها عشية أو ضحاها، أو كأنها ساعة من نهار، أفضلكم وأحسنكم طريقة، وأكبركم عقلاً يقول: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً} [طه:104] {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} [المؤمنون:113] . إذاً هذه هي الوقفة الأولى في السورة، وهي موضوع القسم، الذي أقسم الله تعالى عليه، وهو إثبات البعث والوعد الحق، والصدق الذي لا يتخلف، لأنه ممن لا يخلف الميعاد، ولأنه ممن هو على كل شيء قدير وهو الله، وقد عالج هذا الموضوع، ومن العلاج: إثارة الاهتمام في نفس الكافر ليفكر في الموضوع على الأقل، ولا يأخذه بتهاون، أو استخفاف، أو لا مبالاة! فالموضوع خطير، وقد أقسم الله عليه، وأكدَّ أنه سيحصل، وأنَّ من أنكره أو كذَّب به أنه في أمر مضطرب، مريج، مختلف، ووبَّخ الله تعالى الخرَّاصين المرتابين، الذين لا يأخذون هذا الأمر بجد، وإنما يغفلون عنه، وهم في غمرة وغفلة ساهون لاهون، يتساءلون إذا سمعوا حديث البعث، والحساب، والجزاء: متى ذلك؟ في أي يوم ستقوم الساعة؟ وفي أي يوم سيكون الجزاء؟ أوهو قريب أم بعيد؟ وعالج هذا الاستخفاف بهذا الوعيد الذي يحرق القلوب {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:14] والداعية قد يأخذ من هذا درساً، فيمن يدعوهم إلى الله تعالى، وهو أن من أعظم وأنجح وسائل الدعوة، أن تفلح في كسب اهتمام المدعو، بمعنى أنه ليس المهم في البداية أن يؤمن المدعو بما تقول له مباشرة، فهذا قد يكون صعباً أحياناً، خاصة إذا كان المدعو كافراً أو شاكاً، لكن المهم هو أن تفلح في كسب اهتمامه، بأن تثير عنده القضية، بحيث تشغل تفكيره، فإذا وجدت أنك أفلحت في تحويل اهتمام هذا الإنسان مثلاً، من الدنيا، والوظيفة، والفن، والرياضة، والمصالح العاجلة، إلى الاهتمام بأمر الدين، والتفكير فيه، والبحث عن الصواب، فاعلم أنك قد قطعت مرحلة كبيرة في دعوة هذا الإنسان، وعليك بعد ذلك أن تساعده في الوصول إلى الحق، لأن أمامه عدة تصورات، وعدة احتمالات، وعدة حلول، فعليك أن تساعده في اختيار الحل الصحيح. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 7 صفات المتقين الوقفة الثانية: وهي ذات علاقة بالأولى، هي في صفات المتقين، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:14-19] فبيَّن المصير الذي هم صائرون إليه، وهو الجنات والعيون، وهذا مصير حق، أجمله هنا وفصله في مواضع أخرى، فذكر ما يأكلون وما يشربون، وكيف يعيشون وكيف يتحدثون، إلى غير ذلك مما هو إغراء كبير بالتشبه بهؤلاء، والتحلي بصفاتهم، وحتى بالنسبة للكافر، كما ذكرنا قبل في الوقفة السابقة، هذا الكلام عن المتقين، ينفعه لو ألقى السمع وهو شهيد، كيف ينفعه على ضوء الوقفة السابقة؟ المقصود أن تلمس أثر مثل هذه الآيات على نفسية إنسان غير مسلم، ولكنه يبحث عن الصواب، فلما يسمع: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] يثور في نفسه سؤال يؤكد المعنى السابق، أنت يا إنسان الآن أمام قضية كبيرة، فالذي يقول لك إن هناك بعثاً لا يقول: الناس يبعثون، ثم يؤخذ الحق لهذا، ويؤخذ الحق لهذا، ثم يموتون مرة أخرى، وإنما يقول: إن بعد البعث محاسبة على الأعمال كلها، ونتيجة هذه المحاسبة، هي جنات وعيون للمتقين، خالدين فيها، وبالمقابل نار يفتن عليها الكافرون {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات:13-14] . إذاً: فالأمر خطير وكبير، والنتيجة عظيمة، ويجب عليك أن لا تتخذ رأياً إلا بعد دراسة متأنية وعميقة، وأنت تجد هذا في كل أمور الدنيا، فتجد الإنسان إذا أراد أن يقبل على قرار كبير، مثل قرار التوظف بعدم التخرج من الجامعة، أو قرار الزواج، أو قرار موقع شراء الأرض في أي حي يشتريها، أو قرار إقامة عمل تجاري، أو مؤسسة تجارية، قد يكسب من ورائها مكاسب طائلة، فيصبح ثرياً أو مليونيراً -كما يقال- وقد يخسر فتُثْقِلُ الديون كاهله. إذا أراد الإنسان أن يقبل على قرار خطير من هذا النوع، هل يُقبِلُ عليه ببساطة ولا مبالاة، أم يتناوله بالدراسة العميقة؟ الأولى أنه يتناوله بالدارسة العميقة، لأنه يقول: إن هذا قرار له ما بعده، إذاً نفس القضية في موضوع البعث؛ فهذه الآيات وغيرها تقول للإنسان الشاك في أمر البعث: إن موضوع البعث موضوع خطير وكبير، والمسألة يترتب عليها حسب التصور الديني والإيماني جزاء وحساب، وبعث، وجنة أبداً، أو نار أبداً، فلا تقل: ليس هناك بعث، وتمشى دون تفكير، أو تقول: لا ندري! لا، توقف وفكِّر وتأمل، وادرس الموضوع دارسة بما يستحقه، فقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] يجعل المؤمن حريصاً مقبلاً على صفات المتقين للتحلي بها ونيل هذا الجزاء العظيم، ويجعل الناس حتى الكافر يعطي موضوع البعث اهتماماً وعناية يستحقهما. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:15-16] فذلك يوم القيامة في الجنة، ما أعطاهم الله تعالى من الخيرات، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قبل ذلك أي: في الدنيا، هذا هو الصحيح في تفسير الآية، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل الدار الآخرة، يوم كانوا في الدنيا كانوا محسنين. وفي المسألة والآية تفسير آخر، ذكره ابن كثير وغيره عن بعض السلف، أنهم قالوا: معنى الآية: أن المتقين يأخذون ما آتاهم ربهم من الفرائض، فإذا أوجب الله تعالى عليهم الصلاة أخذوها وصلوا، فإذا أوجب الصيام أخذوه وصاموا، فإذا أوجب الزكاة أخذوها وزكوا، إنهم كانوا قبل ذلك يعني: قبل أن توجب عليهم الفرائض، وتقرر عليهم الأحكام محسنين، أي: مستعدين في عقولهم وقلوبهم للامتثال والتنفيذ والصواب الأول، أن المعنى {آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الذاريات:16] ما أعطاهم ربهم في الجنة، من النعيم، والحبور، والحور والسرور، والقصور {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] قبل أن يصلوا إلى الدار الآخرة، في الدنيا كانوا محسنين، وكثيراً ما يصف الله سبحانه وتعالى أهل الجنة بالإحسان: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] وهناك آيات أخرى وصف الله تعالى فيها هؤلاء بالإحسان، وأثنى فيها على المحسنين مثل قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن:60] وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقوله: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) وقوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] إلى غير ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم فسَّر الإحسان في حديث جبريل فقال: {الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وحقيقة الإحسان في اللغة: هو جعل الشيء حسناً، فالبنَّاء إذا أتقن البِنَاء قلنا: هذا قد أحسن، والزارع إذا اهتم بزراعته، وعُنى بها، وعالجها من الآفات والأمراض، وأصلحها وسقاها ورعاها، قيل: هذا قد أحسن، والأب إذا اهتم بأمر أولاده، تسميةً وتربيةً وتعليماً وإطعاماً وعلاجاً وكساءً وغذاءً، قيل: هذا قد أحسن، فالإحسان في كل شيء، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث شداد بن أوس في صحيح مسلم {إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء -ثم مثل بأمثلة قريبة جداً ويسيرة- فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} رأيت كيف يكون الإحسان حتى في القتل، آخر ما يخطر في بالك أن تحسن في القتل، تحسن قتل الإنسان الذي استحق القتل، إما بحد أو قصاص أو غير ذلك- وإذا ذبحت البهيمة تحسن الذبحة -ومن إحسان الذبحة كما قال عليه الصلاة والسلام،- {وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} فهذا من الإحسان، فإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة وهي تقتل، فكيف يكون الإحسان معها قبل القتل! ولذلك دخلت امرأة النار في هرة، ودخلت امرأة الجنة في كلب، وإذا كان هذا الإحسان مع البهيمة، فكيف يكون الإحسان مع الإنسان؟! بمساعدته، وإطعامه، وسقيه، وطِيْب الكلام، وإطعام الطعام، وحسن الخلق، وغير ذلك، وإذا كان هذا الإحسان مع الإنسان في أمر الدنيا، فما بالك كيف يكون الإحسان في أمر الدين! {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات:16] كل هذه الأشياء تدخل في قوله: محسنين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 8 قيام الليل من خصائص المتقين {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] . فهذا ما يتعلق بأمر عبادتهم وصلاتهم أنهم يقومون الليل كله إلا قليلاً {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] و"ما" هنا مصدرية، يعني: هجوعهم في الليل كان قليلاً، فنومهم قليل، والغالب أنهم قائمون في صلاة، أو ذكر، أو عبادة، أو طلب علم، أو غير ذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلَّى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله} فهذا من يُسر الله تعالى على عباده، وإذا صلَّى الإنسانُ ولو صلاة الوتر، رجي أن يكون له حظٌّ من هذه الآية، فإن كان من أهل النوافل، وصفِّ الأقدام في الظلام، فهو حقيق وجدير بها، روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الناس: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم رسول اله صلى الله عليه وسلم، فذهبت أنظر إليه، فلما استثبت في وجهه -يعني: نظرت إليه وحققت النظر فيه- عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 9 الاستغفار شعار المتقين {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18] يدركهم السحر آخر الليل وهم يستغفرون الله تعالى، إما أن يكونوا يستغفرونه في صلاة، وهذا أفضل الاستغفار، وإما أن يكون مستغفراً ولو في غير صلاة، حتى لو أن الإنسان صحا في السحر وهو يتقلب على فراشه ويستغفر الله، لرجي أن يكون من أهل هذه الآية، وهذه العبادة، وهذه الصلاة، وهذا الذكر، وهذا الاستغفار من أعظم أسباب توفيق الله للعبد، وإعانته على ما يقاسيه من أمور دينه ودنياه، فإنه لا قوام، ولا قوة، ولا حول للإنسان، إلا بالله تعالى، فإذا عَبَدَ الله، أمدَّه الله تعالى بروح من عنده، فوجدته صلباً قوياً ذا همة عالية، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله تعالى ويسبح، ويهلل، ويقرأ القرآن، حتى يتعالى النهار ويرتفع، ويقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قواي! يقول هذا الشيء مثل الطعام للجسد، هو لروحي مثل الطعام لجسدي، لو تركته ما استطعت أن أعمل شيئاً في ذلك اليوم، فلا بد من الزاد وخاصة لأهل الدعوة إلى الله عز وجل، ولهذا خاطب الله رسوله صلى الله عليه وسلم بخطاب في معنى هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآن تَرْتِيلاًَ * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] أي أنك تحتاج إلى هذا القيام، لأنك تستعد لقول ثقيل، يُلقى عليك: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:2] . أ/ الإنفاق من صفات المتقين: ثم قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] فهم ليسوا دراويش لا يعرفون الأمور، ولا يوردونها، ولا يصدرونها! بل هم وإن كانوا من أهل الآخرة إلا أنهم لم ينسوا نصيبهم من الدنيا، فلهم تجارات، ولهم أعمال، ومزارع، ولهم خيرات في هذه الدنيا، لكنهم لم يجعلوا هذه الأشياء همهم، بل جاءتهم بغير عناء ومشقة، ولم تكن حلَّت من قلوبهم محلاً، فلذلك ينفقونها في أوجه الخير {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] هم لا يرون أن ما ينفقونه فضلاً بحتاً منهم، بل يرونه حقاً عليهم، فيخرجه الواحد وهو يتخلص من شيء لو بقي لظن أنه يفسد ماله، لأنه حق للآخرين، وحق الآخرين إذا دخل في المال أفسده، فيخرج المال، ويقول: هذا حق للسائل الذي يتعرض للسؤال، ويطلب من الناس المساعدة، أمَّا المحروم فقيل هو المتعفف الذي لا يسأل، وقيل: هو الذي اجتاحت ماله جائحة ذهبت به، وقيل: هو الإنسان الذي لا يوفق في تجارته، فكلما ذهب في مشروع فشل فيه، وكلما اشترى صفقة خسر فيها، وكلما أقبل على شيء أعرض الناس عنه، فلا يكون موفقاً في التجارة، وبذلك لا يكسب شيئاً، بل تركبه الديون، ويكون محتاجاً إلى مساعدة الناس، وكل هذا داخل في المحروم، وفي معنى قوله: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] والانفاق وإخراج المال وصفه النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه برهان، فقال: {والصدقة برهان} أي: دليل على صدق الإيمان، لأن الإنسان جُبِلَ على حب المال، كما قال الله عز وجل: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] وقال أيضا سبحانه: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] وقال سبحانه: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] وقال أيضاً: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] فقد رُكِّب في الطبيعة حب هذه الأشياء، والمؤمن الذي يخرج المال ليس معناه أن المال عنده مثل التراب لا يبالي به، بل قد جبل وطبع على شيء من محبته، ولكن حب الإيمان، وصدق اليقين، تغلَّب على هذه المحبة الفطرية فأخرج المال، ولهذا كانت الصدقة برهاناً على صحة إيمان صاحبها، وصدق يقينه، حيث تغلَّب على هذه الشهوة الفطرية، شهوة حب المال، وأخرج هذا المال، وهذه سمة للمؤمن في كل شيء، ليس في موضوع الصدقة فحسب، بل في كل شيء، المؤمن يقدِّم ما يدعوه إليه إيمانه، لا ما تدعوه إليه غريزته أو شهوته. فمثلاً: قد تجد المؤمن -أحياناً- أقوى غريزة، وأكثر ميلاً إلى النساء من ذلك الفاجر الذي لا يبين له حرام إلا أسرع إليه، ولكنَّ هذا المؤمن نهى نفسه عن الهوى، وألجمها بلجام التقوى، فأعرض عن الشهوة الحرام، وإن كانت النفس تتوق إليها. والمؤمن أيضاً قد يكون محباً للدنيا وللبقاء، ويرغب في تجنب المعارك والحروب، ولكنه آمن بالله وبالدار الآخرة، فَوَلَّدَ هذا عنده، شجاعة ورغبة فيما عند الله، تغلَّبت على حب الدنيا، فصار يخوض المعارك، ويُسرِع إلى الموت، ويتغلَّب على شهوة حب الحياة! وهكذا الأمر في المال أو غيره، ولهذا قال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] . وفي الصحيح قصة صاحب الحديقة، أن رجلاً سمع صوتاً في السماء يقول: اسقِ حديقة فلان، فتأتي هذه السحابة فإذا توسطت من بستان أهراقت ماءها، وأفرغت ما فيها، وانتهى الأمر، ثم يجد رجلاًً في هذه الحديقة، رجلاً فلاحاً بسيطاً، من عامة الناس، معه مسحاة يسوي الماء بمسحاته، فيتعجب! ما اسمك؟ قال: اسمي فلان، فذكر الاسم الذي سمعه في السحاب، قال: ماذا كنت تصنع؟ قال: لا شيء إلا أني إذا خرج الزرع في هذه الحديقة، قسَّمته ثلاثة أقسام: قسم للفقير وابن السبيل، وقسم يأكله هو أولاده، وقسم يرده فيها، ليس في الأمر معجزة، ولكن فيه التغلب على شح النفس، الذي يورث توفيق الله تعالى للعبد، يورث والبركة في المال. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 10 الحجج والبراهين على قدرة الله تعالى على البعث الوقفة الثالثة هي: في قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] وهي الآيات والحجج على قدرة الله تعالى على البعث ليوم الحساب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 11 تأييد البعث ثم ختم بقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] السماء التي فيها رزقكم، و الأرض التي فيها الآيات، إنه -أي: أمر البعث والجزاء- لحق، فعادت القضية بعدما ساق الأدلة ليؤكد على القضية الأولى، قضية البعث، ويقسم عليها قسما ثالثاً، أقسم عليها أولاً بالذاريات، والجاريات، والحاملات، والمقسمات، ثم أقسم بالسماء {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] ثم أقسم أخيراً سبحانه بقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] مثلما أنك تتكلم وتنطق، وهو حق لا شك فيه لأنه محسوس، يسمع بالأذن ويرى بالعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 12 الأرض ذكر الله تعالى في هذه الآيات، آيات الأرض مجملة، فقال: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20] وآيات الأرض كثيرة منها، ما ذكره سابقاً عز وجل في سورة (ق) فقال: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق:7] {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 13 النفس {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فالنفس أيضاً فيها آيات وعبر، سواء في بدن الإنسان، وأعضائه، وأجهزته، وتركيبه، وحياته، وقلبه وعقله، ولو تأمل الإنسان في نفسه لوجد العجب العجاب. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] ولذلك تجد أن أقرب الناس للإيمان هم الذين يتعاملون مع خلق الله تعالى مباشرة، إما مع الأرض، فالفلاح مثلاً يحرث الأرض ثم يضع الحب ثم يسقيه، ثم يجد هذه النبتة تخرج شيئاً فشيئاً، فيرى قدرة الله بعينه، فيما يخرج من الأرض، فالفلاح أقرب للإيمان، ولذلك دائماً حتى عند الأمم الأخرى غير المسلمين، تجد البيئات الزراعية بيئات محافظة متدينة. وكذلك الطبيب مثلاً، فالطبيب يتعامل مباشرة مع خلق الله، يتعامل -أيضاً- مع الإنسان، الجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والأعضاء، والدم وغير ذلك، فيتعامل مع خلق الله، ويرى بعينه آيات القدرة الإلهية العظيمة، ولهذا تجد التدين أيضاً في عالم الطب أكبر منه في أي مجال آخر، حتى في غير المسلمين قلمَّا تجد طبيباً ملحداً، تجد الطبيب يؤمن بوجود الله، لو لم يكن مهتدياً مسلماً، على الأقل تراه يؤمن بوجود الله، لأنه يرى صنعة رب العالمين بعينه، ويحسها بأحاسيسه وأعضائه، لكن لو نظرت -مثلاً- إلى الإنسان الذي يتعامل مع صنعة المخلوق، لوجدته أقلَّ إيماناً، فالإنسان الذي يتعامل مع الآلة مثلاً في المصنع، تجده غالباً عديم الإيمان، أو قليل الإيمان. إما أن يكون غير مؤمن وإما أن يكون غير مكترث أصلاً بهذه القضية، لا تعينه في قليل ولا كثير ولا يفكر فيها، ولا يصغي سمعه لمن يحدثه عنها، لأن بينه وبين صنعة الله تعالى واسطة، فهو يتعامل مع صنعة المخلوق، وطبعاً ينسى المخلوق الذي صنع هذه الآلة، بل ينسى نفسه لأنه مستغرق فيما بين يديه، ولكن الفلاح، أو الطبيب، أو نحوهم ممن يتعاملون مع صنعة الخالق مباشرة، هم أقرب إلى الإيمان، وأحرى بالتصديق، فهو ذكر العلامات هنا في الأرض، ثم ذكر العلامات في النفس، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] . {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] فكل شيء مكتوب عند الله تعالى، في اللوح المحفوظ، وهو في السماء، ففيه كل شيء، كما أن المطر ينزل من السماء فتحيا به الأرض، ويقوم عليه رزق الكثيرين من الناس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 14 الأنبياء مع أممهم بسم الله الرحمن الرحيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات:24-46] . الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، صلوات الله وسلامه على نبينا محمد، وسائر رسله وأنبيائه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 15 قصص الأنبياء فيها العبرة والعظة هذا المقطع الذي قرأناه الآن من قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] يعالج موضوعاً مهماً وهوقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من قصة إبراهيم {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] إلى لوط، إلى عاد، إلى ثمود، إلى فرعون، إلى نوح، فهذا المقطع يعالج قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وما حصل لهم مع أممهم، والعاقبة التي صاروا إليها. أما علاقة هذه القصص بما قبلها من الآيات في السورة من قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] إلى قوله: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات:8] إلى قوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات:13] إلى قوله: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ)) [الذاريات:15] العلاقة هي مصيرهم في الدنيا وفي الآخرة وهذا هو الرابط بين أول السورة وبين وسطها، وذلك أنه بعدما ذكر في الآيات السابقة مسألة الدين والجزاء والحساب يوم القيامة، التي بدأت بها السورة، وأقسم الله عليها، {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ يَسْأَلونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:14] فذكر في أول السورة أن ثبوت الجزاء بعد البعث، ومصير المؤمنين والكافرين، ثم ذكر هنا نماذج من الأمم والأقوام المكذبة، وما جرى لهم في الدنيا من العذاب والنكال وما ينتظرهم في الآخرة من السلاسل والأغلال، فهذا جزء من الرابط بين أول السورة وبين وسطها، وهذا السياق القرآني في قصص الأنبياء، يرد كثيراً في القرآن الكريم، بل لا تكاد تخلو سورة من سور القرآن، من قصص للأمم السابقة، وكثيراً ما يوجه الله تعالى أنظار عباده إلى هذه القصص، لما فيها من العبرة، فأما العبرة للمؤمنين فهي تسلية لهم وتسرية وطمأنة لقلوبهم، أنه مهما طالت الدنيا فهي قصيرة، وهذا مصير أعداء الله ورسله، فتطمئن قلوبهم، ولهذا قال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] كذلك فيها عبرة، ووعيد وتهديد للكافرين أنفسهم، فبقدر ما فيها تسلية للمؤمنين فيها وعيد على الكافرين: أن تربصوا، وانتظروا، وافعلوا ما شئتم! فهذا هو المصير الذي ينتظركم الجزء: 14 ¦ الصفحة: 16 سنة الله في عباده لا تتخلف وفي هذا القصص إلهام عظيم، لا يغفل عنه إلا من كان قلبه في تيه بعيد، هذا الإلهام هو أن سنة الله في عباده لا تتخلف، فالسنة التي جرت على قوم نوح، هي التي جرت على قوم موسى، وهي التي جرت على عاد، وثمود وعلى سائر الأمم، وهي التي جرت على العرب المكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم، وهي التي جرت على المعاندين بعد الرسول عليه السلام، وهي التي تجرى اليوم على أعداء الله، وهي التي تجري غداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فالسنة واحدة، فما هذه السنة؟ السنة أن الله تعالى جعل البقاء والعاقبة للحق، وجعل الزوال والضياع للباطل، وإن أجلب الباطل بخيله ورجله، وكثر أعوانه وهيلمانه وسلطانه، إلا أن الله تعالى قضى أن الباطل لا بقاء له، فإذا نظر المؤمن إلى هذا، عَلِمَ أن ما تقوم عليه الدول الكبرى والعظمى -كما يسمونها- التي تقوم على الباطل، وتنصر الباطل، وتجحد الحق، وتُلَبِّسُ على الناس، أن مصيرها إلى زوال، وأيقن يقيناً مثلما يوقن أن الشمس سوف تطلع اليوم، أن بناء الباطل إلى زوال، وإن مكنه الله تعالى عشرين أو ثلاثين أو ثمانين أو مائة سنة، فنحن نعلم أن هناك دولاً من الدول الرومانية، ومن الأمم السابقة، كان لها مكان ثم بادت واندثرت، وإن كانت عمرت من السنين ما شاء الله تعالى، فلا يُغتر بسطوة الباطل وطغيانه. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 17 دروس من قصص القرآن قصص الأنبياء فيها عبرة وتسلية للمؤمنين، وفيها وعيد وتهديد للكافرين، وكثرة ذكر القصص في القرآن الكريم، يؤخذ منه دروس: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 18 الإنسان بحاجة إلى التذكير الدرس الأول: أن الإنسان بحاجة إلى التكرار، فإن من طبيعة الإنسان أنه يغفل وينسى، وقد لا يفهم من أول مرة أحياناً، فالعليم به -سبحانه- جعل هذا القرآن مثاني، وكرَّر فيه الآيات والعبر، وصرَّفها وذكرها بوجوه مختلفة، حتى تستقر في ذهن الإنسان، أكثر قصة وردت في القرآن الكريم من قصص الأنبياء، هي قصة موسى عليه الصلاة والسلام، ذكرت في مواضع كثيرة، كما تجدها مثلاً في سورة البقرة، تجدها في العديد من السور، بل لا يكاد يذكر الله سبحانه قصص الأنبياء، إلا ويذكر قصة موسى، وأحياناً يذكر قصة موسى فقط، ولا يذكر معها غيرها من القصص، فهذا التكرار يفيد أنه لا يكفي في الأمر أن يقال مرة واحدة حتى يفهمه الناس، فبعض الدعاة إذا تكلم في الموضوع مرة واحدة، ظن أنه كفى ولا داعي لتكراره! لا، القرآن يدل على أنه ينبغي أن يكرر الإنسان، لأن المدعو قد ينسى، وقد يغفل، وقد يغلب عليه الشيطان إلى غير ذلك، فينبغي أن يكون هناك تكرار للمعاني المهمة، التي يراد ترسيخها في النفوس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 19 الإنسان بحاجة إلى التنويع الدرس الثاني: أنه مع التكرار ينبغي أن يكون هناك تنويع، فإنك تجد أن القصص في القرآن الكريم، لا تُذكر بعبارات واحدة، بل تغير، وأحياناً يكون فيها تطويل، وأحياناً يكون فيها اختصار، وأحياناً يكون فيها توسط، وأحياناً يذكر جوانب من القصة، وأحياناً يذكر جوانب أخرى، وفي كل موضع يبرز جانباً من الأحداث، لا يبرزه في الموضع الثاني، وتجد أن القصة تفهم من مجموع المواضع، فهذا يدل على أنه مع التكرار ينبغي أن يعتني الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، بالتنويع في مخاطبة الناس بالأساليب المختلفة، حتى يستحوذ على اهتمامهم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 20 أهمية القصة في حياة الإنسان الدرس الثالث: يبرز أهمية القصة في حياة الإنسان، وأنه ينبغي أن يحرص الداعية والواعظ على عرض بعض القصص وذكرها، مما يكون فيه عبرة للناس، دون أن يدعوه هذا إلى إيراد القصص المكذوبة، فمثلاً إذا أراد أن يتحدث عن التائبين، والتوبة، وفضل التوبة فلا مانع، بل ينبغي أن يورد بعض قصص التائبين، لما فيها من تحريك القلوب، وإغراء النفوس بأن تسلك مسلكها، وفي ذلك تأثير على السامع، ولكن لا ينبغي أن يجره هذا إلى التساهل في إيراد قصص موضوعة مكذوبة، ولو صُدِّرت بلفظ مثلاً: حدثني ثقة، وأخبرني شخص صدوق، أو ما أشبه ذلك، فلا ينبغي التساهل في إيراد القصص المكذوبة، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى لما أورد قصص الأنبياء، كما في قصص يوسف، قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يوسف:111] إذاً لم يكن حديثاً مكذوباً مفترى، ولكن كان عين الواقع وعين الحادث. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 21 وقفة مع قصة إبراهيم عليه السلام ذكر الله تعالى في هذا السياق قصص مجموعة من الأنبياء، أولهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وبينه وبين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أعمق الروابط وأقواها، فهو أبونا عليه الصلاة والسلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم أولى الناس به، وكان مجدداً لشريعته ودينه، بل هو دعوته، كما قال صلى الله عليه وسلم {أنا دعوة أبي إبراهيم} {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} [الذاريات:25] إذاً السياق هنا يبرز جانب الضيوف، أول ما تحدث ما قال: هل أتاك نبأ إبراهيم، قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات:24] إذاً الموضع هذا من القصة يعتني بإبراز جانب الضيوف، وماذا جرى لهم، وكانوا مجموعةً من الملائكة، جبريل ومعه مجموعة من الملائكة، جاءوه في صورة شباب، فيهم من الجمال الشيء العظيم، على ما هو ظاهر، فجاءوا إليه، ودخلوا عليه وسلموا، قالوا: سلاماً، قال: سلام قوم منكرون! وأبرز ما ذكر الله تعالى في صفة هؤلاء الضيوف أنهم مكرمون: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات:24] لأن إبراهيم بالغ في تكريمهم والحفاوة بهم، ويظهر هذا من خلال عدة أمور: أولاً: دخلوا عليه فقالوا: سلاماً، قال: سلام، فهذا أول الكرامة، أنه رد عليهم التحية بأحسن منها، فإن الرفع أثبت من النصب، فكأنهم قالوا: نسلم سلاماً فقال هو: عليكم سلام، مبتدأ وخبر، والجملة الاسميه دائماً تدل على الثبات والاستقرار والاستمرار، فكان رده أبلغ وأحسن من سلامهم، قالوا: سلاماً، قال: سلام. ب/ إحضاره العجل: ثم قال: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ} [الذاريات:26] وكلمة "راغ" معناها: ذهب إليهم خفية، إذاً هو تسلل إلى أهله، ولماذا لم يذهب علانية؟ هذا من التكريم لهم أيضاً، فإن الرجل المضياف يتسلل خفية عن الضيوف، ليقول لأهله: أعدوا الطعام، حيث طعام لا مَنَّ فيه، ولا أذى، ولا إعلان، أما الإنسان البخيل، أو الذي لا يحب أن يطعم ضيوفه، فماذا يصنع؟ إذا جاءه الضيوف وقف أمامهم وقال: هل تريدون شيئاً؟ تحبون أن أصنع لكم طعاماً، تشتهون شيئاً، وبدأ يعرض، لأنه يريد أن يقول الضيوف: لا نحتاج شيئاً بارك الله فيك، كأنما أكلنا وشربنا، لماذا؟! لأنه بخيل. أما الكريم فإنه يروغ خفية وبسرعة إلى الأهل وتلطف، ليطلب إليهم صنع الطعام، حتى يأتي الطعام للضيوف قبل أن ينتظروه، وقبل أن يترقبوا، فهذا أيضاً من الكرامة للضيوف، أنه راغ إلى أهله. {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] والفاء هنا يقول أهل اللغة عنها: إنها من حروف العطف والترتيب والتعقيب يعني: أنه جاء بعجل سمين بسرعة، بخلاف "ثم" فإنها تدل على التراخي، أما الفاء فتقول: قام فقعد، تدل على أنه قعد بعد قيامه مباشرة، {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وهذا أيضاً من الكرامة، فإنه عليه السلام استعجل أهله في صنع الطعام للضيوف، وسرعان ما قدم للضيوف عجلاً سميناً، وهنا أيضاً قال: {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] ما قدمه إليهم وقال: قوموا إلى الطعام! كما هي عادة الناس اليوم، بسبب تغير طبيعة الحياة ونمطها، أصبح الإنسان يُقدِّم الطعام في مكان، ثم يقول للضيوف: هلِّموا إليه، فيقومون من مكانهم إلى صالة الطعام، وهذا على كل حال من عادات الناس. لكن نبي الله عليه الصلاة والسلام، قدم الطعام {فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] وفي الآية التي بعدها، قال: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات:27] وأدناه منهم، بحيث لا يكون عليهم مشقة في القيام إليه، وهذا أيضاً من الكرامة. ج) صفة العجل: وقوله: {بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:6] وجاء في الآية الأخرى {بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود:69] والعجل فيه: الصفتان، أما صفته الأصلية فهو أنه سمين، وهو ما كان يملكه عليه السلام، فأعطاهم أجود وأسمن ما يملك من الذبائح، ثم إنه صنعه بطريقة خاصة، طريقة الشي (شواه لهم) وهذا معنى قوله: {حَنِيذٍ} [هود:69] فهو سمين من حيث خلقته، وحنيذ من حيث صنعته {فقربه إليهم قال أَلا تَأْكُلُونَ} [الصافات:91] وهذا أيضاً من الكرامة، فإن هذا أسلوب العرض في لغة العرب، ما قال: تقدموا كلوا، لا، قال: ألا تأكلون، ألا تتفضلون فتتناولون شيئاً من الطعام، ففيه أسلوب العرض المؤدب، البعيد عن مايفهم منه الأمر أو الطلب، وكل هذا من الكرامة، ففي ذلك دليل على أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، هو قدوة للمصلحين في الكرم والجود، وأنه ينبغي للإنسان الداعية إلى الله سبحانه وتعالى، أن يكون كريماً جواداً، في عطائه، وفي ضيافته، بل وفي علمه أيضاً، فيبذله للناس، وفي دعوته، وفي طِيْبِ قوله، وفي كل شيء، والكرم لا يتوقف على المال، فقد يُعطى الإنسان مالاً لكن مع المن والأذى! فلا يفرح به آخذه، ولكن هشاشة الوجه، وطلاقته، وبشاشته، وطيب الكلام، وحسن الاستقبال، كل هذا من أعظم ألوان الكرامة، فينبغي للداعية أن يتحراها، ويحرص عليها، بل وعلى كل خلق كريم جبلت عليه الفطر السلمية، وجاءت به الشرائع الإلهية، فحسن الخلق عموماً مما أطبقت عليه الشرائع، واستحسنه الناس على كافة طبقاتهم، حتى أسوأ الناس خلقاً، وأشد الناس طبعا، ً تجد أنه يرتاح للخلق السليم، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] أما شراسة الطبع، وغلظ الخلق، والجفاء، وغير ذلك من الأخلاق الذميمة، فهي لا تأتي بخير، لم يأتِ بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولا أقروها، ولا رضوها، فأولى بأتباعهم أن يبتعدوا عنها. وفي القصة التي ذكرها الله تعالى عن إبراهيم إجمال، فإن قوله -مثلاً- هنا: {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ} [الذاريات:27] {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [الذاريات:28] أوجس الخيفة منهم لأنهم لم يأكلوا الطعام، فهم كانوا ملائكة، لا يطعمون، ما خلقت أجسادهم للطعام والشراب، بل هم مستغنون عن ذلك، فلهذا لم يأكلوا، وهو لم يعلم حقيقتهم بأنهم ملائكة، بل عاملهم بمقتضى ما ظهر له من بشريتهم، فلمَّا رأى أيديهم -كما جاء في الآية الأخرى- ((فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ} [هود:70] إذاً الخيفة التي أوجسها هنا: هي أنهم لم يأكلوا، ففي الآية طيِّ، والتقدير: فقربه إليهم قال: ألا تأكلون، فلم يأكلوا! ولم تمتد أيديهم إلى الطعام، فحينئذٍ نكرهم وأوجس منهم خيفة أن هؤلاء القوم قد يكونون أضمروا شراً! وقد قيل: إن من عادة العرب أن الضيف إذا أكل لم يغدر بأهل المنزل، فإذا نوى وأضمر غدراً فإنه لا يأكل عندهم، ولهذا جرت عادة العرب عندنا أنه إذا جاء الضيف قالوا له: مالح، يعني كل من الطعام، لأنه إذا أكل من الطعام اطمأنوا إليه، أما إذا لم يأكل دلَّ على أنه يضمر بهم شراً وغدراً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 22 وقفة مع قوله تعالى: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً) قال تعالى: {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات:37] أي أن الله تعالى أهلك قرى قوم لوط، ولم يذكر ها هنا أيضاً كيف أهلكهم، وقد ذكر في آيات أخرى أن الله تعالى أمر جبريل فرفع قراهم ثم قلبها عليهم، وأمطر عليهم زيادة على ذلك حجارة من سجيل منضود {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ} [الذاريات:34] يعني معلمة، كل حجر فيه اسم صاحبه الذي هو موجه إليه، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] هذه الآيات تلهم سنة من سنن الله تعالى، أنه حيثما وجد الانحراف والشذوذ جاء عقاب الله، فيأخذها المسلم حتى ولو كان لا يعلم من واقع العالم شيئاً، لأن هذه سنة واضحة، الذي عاقب قوم لوط يعاقب غيرهم، السنة واحدة، والطبيعة والبشر واحد، والله تعالى حكم عدل، لا يمكن أنه يعاقب قوم لوط، ويترك غيرهم دون عقاب. انظر في واقع الناس اليوم، واقع العالم الفاسد الفاجر، في أمريكا وروسيا، وفي جنوب شرق آسيا، وفي كل مكان، حيث توجد الرذيلة الآن، ويوجد الشذوذ الجنسي بألوانه، من اللواط، وما يسمى بالجنس الثالث، إلى السحاق، إلى ألوان الانحرافات، إلى الجنس الجماعي، إلى غير ذلك من ألوان الانحراف الخلقي، التي لم توجد في الأمم السابقة والله أعلم، هل نجوا من عقاب الله؟! جاءهم العقاب نفسه فلا تغتر بالألفاظ والألقاب، الآن ما يسمى بمرض الإيدز، هذا الذي يهدد مئات الملايين من الناس، خاصة فيما يسمى بالبلاد السياحية التي تكثر فيها الرذيلة، وغالباً ما يكون هذا المرض بسبب الشذوذ الجنسي، لأن الرجل الذي مع زوجته ما أصابه هذا المرض، أصاب المنحرفين، وبصفة خاصة الشاذين، وعجز الطب عن علاجه على رغم المراكز المتخصصة في العلاج! وعلى رغم الأبحاث والجوائز، وعلى رغم الجهود الكبيرة، إلا أن هذا المرض كل يوم يفاجئ العلماء من جديد، حتى إن من آخر ما قرأت عن هذا المرض: أن أحد العلماء يقول: حير العلماء أنهم وجدوا أن مرض الإيدز يوجد في بعض الأجساد، دون أن يتمكن الأطباء من اكتشاف جرثومته، التي تكون سبباً في وجوده! يعني يجد في الأصل أن هناك جرثومة تنقل المرض، أو يكون وجوده بسببها، لكن وجدوا الآن أن هذا المرض يوجد في أجساد دون أن يعثر الأطباء أو يكتشف الأطباء هذه الجرثومة في جسد المريض! ومع ذلك لم يستطيعوا أن يعثروا له على علاج، ويقول الأطباء: أن هذا المرض إذا استمر في تزايده وتكاثره، على النسبة التي هو عليها الآن، فإنه يهدد حياتهم. فإذا نظرت إلى أهل الإيمان والتوحيد، وجدتهم بحمد الله بمنجاة من هذا، إلا من شذ منهم وفعل ما فعله الكفار، فالعقوبة أيضاً واحدة، والله تعالى حكم عدل، فلا ينجو هذا من هذه العقوبة لأن اسمه إسلامي، أو لأنه من بلد إسلامي، ولهذا تجد هنا في هذه البلاد، تجد عدداً من المصابين بهذه الأمراض والعياذ بالله ينامون في مستشفياتها، لكنه بلا شك لم يتحول إلى ظاهرة تخيف إلى الآن، كما هو الحال في أمريكا مثلاً أو في تايلاند، أو في غيرها من البلاد، والعجيب في الأمر أن تجحد وتكتم نسب وجود هذه الأمراض، ولا أدري أي مصلحة، وأي عيب في أن تعلن وزارة الصحة أو أي وزارة في العالم الإسلامي، أن هذا البلد فيه عدد من حالات الإيدز هي كذا! لنجعل الناس ينتبهون ويستيقظون، ويتعظون، ويعتبرون، وهذا ليس ناتجاً عن تقصير بالضرورة من أحد، وإن كان ناتجاً عن تقصير فهذا التقصير ينبغي أن يتدارك ويتلافى، وإذا كنا نعطي الشباب فرصة أن يسافروا إلى هناك، ونعطيهم التخفيضات والتسهيلات، والمساعدات، ونسهل لهم الإجراءات، فينبغي أن يعدل هذا ويصحح، ويمنع شباب الأمة أن ينهمكوا في الرذيلة التي تدمرهم دنيا وآخرة، فالعقوبة واحدة، وما أصاب قوم لوط يصيب غيرهم، ليس بالضرورة حجارة تنزل من السماء مسومة معلمة لأصحابها. المهم عقاب دنيوي عاجل من الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 23 البشارة بالولد ولما رأوا -هم- أثر التوجس عليه والاستغراب والإنكار! {قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات:28] فانتقل الحال من الخيفة إلى البشارة في لحظة واحدة! بشروه بغلام وقد كان لم يولد له، فبشروه على حين الكِبَر! ولهذا قال في الآية الأخرى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ} [الحجر:55] {فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات:29] يعني: صيحة عظيمة {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات:29] لطمت وجهها وضربت جبينها {وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات:29] سبحان الله! تقول: لما كنت بنتاً في سن الإيلاد لم أكن ألد، بل كنت عقيماً، والآن مع ذلك أصبحت عجوزاً، فكان من العجيب جداً أن تلد وهي عجوز، على أنها كانت عقيماً في سن الشباب، تعجباً وذهولاً! لأن الإنسان يألف الحال التي هو فيها، وإن كان يؤمن بقدرة الله تعالى، وأن الله تعالى لا يعجزه شيء: {قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:30-34] فأخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط المجرمين، ثم خرجوا من عنده بعد ما بشروه بهذه البشارة، وأخبروه بهذا الخبر، خرجوا من عنده إلى هذه القرية قرية سدوم، التي هي من قرى قوم لوط المؤتفكة، التي قلبها الله -تعالى- على أصحابها، فأخرج الله تعالى من كان فيها من المؤمنين قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:35-36] فهؤلاء القوم، بيت لوط ومن معه، اجتمع فيهم وصفان: الإيمان والإسلام، ولا شك أنه إذا وصف بالإيمان؛ فهو مسلم من باب الأولى؛ لأنه إذا ذكر الإيمان والإسلام دل كل واحد منهما على معنى، فالإيمان يدل على العمل الباطن، الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وأما الإسلام فيدل على العمل الظاهر، فهؤلاء اجتمع فيهم الإسلام والإيمان، ولا شك أن الإيمان مرتبة أعلى كما في حديث جبريل، فالله تعالى وصفهم بالوصفين، فقال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:35] فوصفهم بالإيمان {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات:36] فوصفهم بالإسلام أيضاً، أما إذا ذكر أحد هذين الأمرين دون الآخر، فإنه يدخل فيه الثاني تبعاً، فإذا قلت مثلاً: الإيمان، دخل الإسلام فيه، فلا يتصور أن تذكر إنساناً مؤمناً ويكون غير مسلم، بل يكون مسلماً من باب الأولى، وكذلك إذا قلت: الإسلام، دخل فيه الإيمان من حيث أصله، فإذا قلت: إن هذا إنسان مسلم معناه، أنه مؤمن بالله وكتبه وكتبه ورسله واليوم الآخر أيضاً، ولكنه مع ذلك مقيم للفروض والواجبات، وأركان الإسلام. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 24 وقفة مع قصة موسى عليه السلام {وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:38-40] أيضاً هذه قصة موسى وهي من أكثر ما يرد في القرآن الكريم. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 25 طغاة العالم اليوم والسنة ماضية، فأنت الآن لو نظرت إلى طغاة الدنيا، وجدتهم ملء السمع والبصر، من هو الذي لا يعرف رئيس أمريكا جورج بوش! الكل يتحدثون باسمه، العجائز، والكبار، والصغار، والأطفال، وينظرون إليه، ويسمونه رئيس العالم! والعبارات في مدحه والثناء عليه، خاصة في منطقة الخليج العربي، والكويت، صباح مساء، وأشياء تسبب التقيؤ لمن يقرؤها! تدل على الانهيار التام الذي وصل إليه هؤلاء، اصبر عليه، أياماً معدودات، ولنفترض أنه رشح مرة أخرى، فاصبر عليه سنوات أيضاً، ثم ينتهي ويموت ويصبح ذكرى، يتذكرها الناس، فيشتمونه ويلعنونه. وهكذا صدام حسين كوجه آخر طغى وتجبر، وأذل الناس، وقتل مئات الألوف من الناس، سواء من الأكراد، أو من المسلمين، أو من غيرهم، أو من أفراد شعبه الذين يزج بهم في المهالك، والمعارك دون حساب، لكن تربص به ريب المنون، سنوات ثم يهلك هذا الإنسان. تذكر الخميني طال عمره حتى ارتاب بعض الناس، كلهم يترقبون خبر موته، لا يأتي خبر موته، على رغم كبر سنه، ثم أخذه الله تعالى في ليلة وانتهى أمره، وكأنه ما مشى على ظهر الأرض، وكأنه لم يتحدث، وكأنه لم يخطب في هذه الجماهير، فيا سبحان الله! هذه الدنيا عاتية على الجميع، الكبير والصغير، والغني والفقير، فالإنسان يتأمل في قصص هؤلاء وعبرهم، يتذكر أنه هو أيضاً واحد من هؤلاء سوف يمضي، ولا ينفع الإنسان إلا عمله الصالح، حتى أنه لا ينفعه مدح الناس له، إلا أن يكون مدحاً بالخير الديني الشرعي من باب {أنتم شهداء الله في الأرض} . فهذا أخذ الله تعالى للطغاة من فرعون إلى يوم الناس هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات:40] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 26 سبب تكرر ورودها في القرآن ومن أسباب تكرر ورودها في القرآن أن بين قصة موسى وقصة محمد صلى الله عليه وسلم وقومه شبهاً كبيراً، فإن موسى له أتباع كثيرون، كما لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهاجروا من بلادهم كما هاجر محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، وكتب الله تعالى لهم تمكيناً في الأرض، كما كتب لمحمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه، فلذلك بين القصتين شبه عظيم؛ ولذلك يكثر ذكر قصة موسى، فقد ذكر الله هنا أنه بعثه إلى فرعون بسلطان مبين أي حجة ظاهرة قوية، فتولى فرعون بركنه وأعرض، واتهم موسى بأحد تهمتين: إما ساحر، أو مجنون، وهي التهمة نفسها التي اتهمت قريش بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] وتولى هذا الرجل وأعرض، وأصر على كبريائه وغطرسته؛ فأخذه الله تعالى وجنوده، والأخذ هنا يدل على شدة العقاب، كما يدل على شدة طغيان فرعون، وكثرة حشمه وخدمه وأتباعه، فما أغنى عنه جنده شيئاً! وفي هذا أيضاً درس للطغاة والمستكبرين . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 27 درس للطغاة والمستكبرين إذا كان في قصة لوط وقومه درس للفاسدين، والشواذ، والمنحرفين، ففي قصة فرعون وقومه درس للطغاة والمستكبرين، ففرعون كان يملك مصر، وبنى هذه الأهرامات الشامخة التي لا تزال قائمة إلى اليوم، وكان له جيوش جرارة، حتى إن بعض العلماء قالوا في قوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر:10] قالوا: إنه كان يملك الجيوش الجرارة الضخمة. وأيضا فرعون كان له أجهزة أمنية متطورة، مباحث واستخبارات، وقوى عجيبة، ولهذا يقول فرعون يخاطب في بعض خطبه التي يلهب بها مشاعر الناس {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] (حاذرون) هذه الكلمة تحتها معاني، أي نحن يقظون ومنتبهون، ونعلم جيداً كل ما يجري، ولا يغيب عنا شيء، ولدينا أجهزة تأتينا بكل الأخبار، فنحن حذرون من موسى ومن معه، فما أغنى عنه هذا شيئاً (فَأَخَذْنَاهُ) لاحظوا الأخذ، بقوة (وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ) -سبحان الله! - لاحظ كلمة (نبذناهم) أيضاً، مثلما الإنسان يأكل التمرة ثم ينبذ النواة أي يلقي بها، أو ينبذ الأشياء التي لا قيمة لها، هكذا الله سبحانه وتعالى أخذ فرعون ثم نبذه، ألقاه في اليم غير مأسوف عليه، (وهو مليم) آت بما يلام عليه ويعاقب عليه، فتصور حال هذا الطاغية، أمس يخطب في الجماهير ويرعد، ويزبد، ويرغي (َ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51-52] واليوم (فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] قال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] فيقذفه البحر على الساحل جثة هامدة، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون! وفي الحديث الصحيح أن جبريل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم، كما في المسند وغيره {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من خبال البحر -يعني طين البحر الأسود المغرب- فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة} . لما قال: آمنت، خاف جبريل أن تدركه الرحمة، لما يعلم من سعة رحمة الله تعالى، فكان يأخذ من طين البحر ويملأ بها فم فرعون، سبحان الله! {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:7] ذلك الإنسان الذي استكبر في الأرض، وطغى وتجبر، ماذا بقي الآن من فرعون، وهامان وقارون والنمرود وبختنصر وأبي جهل، وأبي لهب، والطغاة عبر العصور، ماذا بقي منهم؟ ما بقي منهم شيء إلا الذكر: وإنما المرء حديث بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى الجزء: 14 ¦ الصفحة: 28 وقفة مع قوم عاد {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] وقد ذكر الله تعالى تفصيل قصتهم في مواضع، اقتصر هنا على نوع العقوبة وهي الريح العقيم، أي: التي لا تثمر ولا تنبت، لأن من الرياح ما يلقح، ومنها ما يسوق السحاب، ومنها خير، أما هذه فهي ريح عقيم، لا تأتي إلا بالعذاب، قال تعالى: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات:42] يعني مما تدمره الريح، إلا دمرته قال تعالى: ((ِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات:42] وهذه الريح التي أرسلها الله تعالى على قوم عاد اسمها الدَّبوُر. ريح الدبور. قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح من حديث ابن عباس {نُصِرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} فالريح من جنود الله تعالى. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 29 وقفة مع قوم ثمود {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [الذاريات:46] يعني قبل هذا كله {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الذاريات:46] . إذاً: ذكر في هذا السياق عدداً من الأخبار، وعدداً من الأمم التي أهلكت، فذكر قوم لوط، وأنهم أهلكوا، بأن الله تعالى قلب قراهم، ثم أرسل عليهم حجارة من سجيل منضود، ثم ذكر الله تعالى فرعون وأن الله تعالى أخذه وقومه بالغرق، ثم ذكر الله تعالى عاداً، وأن الله تعالى أرسل عليهم الريح، ثم ذكر الله تعالى ثمود، وأن الله تعالى أرسل عليهم الصيحة، ثم ذكر قوم نوح، وأن الله تعالى أهلكهم بالغرق، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] هذه بعض جنود الله، الماء بعض جنود الله، والصيحة بعض جنوده، والريح بعض جنوده، والمرض بعض جنوده، والغرق بعض جنوده، والطوفان بعض جنوده، والزلازل بعض جنوده، والملائكة من جنوده، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فليطمئن بالاً المؤمنون المستضعفون المعذبون في كل مكان، فإن الدائرة لهم على عدوهم، ولا يغترن أقوام مد الله تعالى لهم في الأجل، وبسط لهم في الرزق، ومكَّن لهم في الأرض، فطغوا على عباد الله، فإن عقاب الله تعالى لهم بالمرصاد، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف:111] نسأل الله تعالى أن نكون من المعتبرين. قال تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ * وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ * وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ * فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:47-60] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 30 وقفة مع آيات الله الكونية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 31 الاستغفار مع وجود المعصية وهنا السؤال لو استغفر من قلب صادق وهو مقيم على المعصية، هل ينفعه ذلك؟ الاستغفار باللسان إذا كان من قلب صادق، يرجى أن ينفع صاحبه ولو كان مقيماً على المعصية، لأن الاستغفار من الأعمال الصالحة ولا شك، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] لكن لا يلزم أن يكون الاستغفار ماحياً للذنب بالكلية في هذه الحالة، مثل التوبة إذا تحققت شروطها، ولكن الاستغفار يخفف بإذن الله تعالى من حرارة الذنوب وشدتها، ويقاوم بعض ما يصدر منها، ولهذا على العبد أن يستغفر، ولا يترك الاستغفار لأنه مقيم على المعصية أو الذنب، فلابد إذاً من الاستغفار، ومع الاستغفار فإن الفرار إلى الله تعالى يكون أيضاً بأمر آخر، وهو الإقلاع عن الذنب، خاصة فيما يتعلق بالمصائب العامة. مثلاً أمر الله تعالى بترك الربا، فإذا ابتليت الأمة بالمصائب بسبب وقوعها في الربا، لا يقال لها: العلاج هو أن تستغفروا الله تعالى، فيقوم الناس في المساجد يصرخون ويبكون، فإذا خرجوا من المسجد ذهب كل واحد منهم إلى بنك ربوي يتعامل فيه بمعاملة تسخط الله تعالى! هذا لا يكون على مستوى الأمة، فإن استغفار الأمة في مجموعها هو بترك المعصية، وفرق بين الذنوب الفردية، والذنوب العامة التي تصبح ظاهرات ملموسة في المجتمع. مثلٌ آخر: أصيبت الأمة بهزائم عسكرية -مثلاً- وفرت من ميدان المعركة بسبب أنها ما أعدت جنودها الإعداد الصحيح، لم تبن الرجال العقائديين الذين يخوضون المعارك، ولم تصنع السلاح الذي يواجهون به خصومهم، ولم تستعد الاستعداد الكافي لمواجهة عدوها، ففرت من ميدان المعركة، فهل يكفي في ذلك أن تلجأ إلى المساجد وتقرأ القرآن؟ هذا لا يكفي، بل لابد أن يكون استغفارها حينئذٍ بفعل الأسباب، والطاعة لله تعالى، بإعداد العدة، سواء كانت عدة بتربية الرجال وإعدادهم، أو بإعداد السلاح، أو باتخاذ كافة الأسباب الداخلة تحت عموم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] . إذاً قوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] يومئ إلى القاعدة القرآنية العظيمة، وهي: أن ما أصاب الناس في دينهم أو دنياهم، فإنما هو بسبب أنفسهم، وأن المخرج من ذلك كله، هو بالفرار إلى الله تعالى، باستغفاره باللسان والقلب أولاً، وبتغيير الحال إلى ما يرضي الله جل وعلا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 32 إثبات الزوجية لدى المخلوقات قال تعالى: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات:49] من الإنسان، والحيوان، والطير، وغير ذلك، بل إن بعض العلماء المعاصرين عمموا لفظ كل شيء مطلقاً، فقالوا: حتى الجمادات قائمة على أساس قاعدة الزوجية، وخرجوا من هذا إلى بيان أن الله تعالى تفرَّد بالوحدانية، وجعل من صفات خلقه الزوجية، فما من مخلوق من إنسان، أو حيوان، أو طير، أو جماد، إلا وفيه مبدأ الزوجية، أما الله تعالى فهو الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، ما اتخذ صاحبة ولا ولداً. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 33 قل هو من عند أنفسكم إذاً: هذه الآيات الثلاث هي تطويف بالإنسان في ملكوت السماوات والأرض، وفي كل شيء، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] ثم عقَّب على ذلك بقوله: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ * وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} [الذاريات:50-51] وفي هاتين الآيتين، خاصة الآية الأولى منها إشارة إلى قاعدة مهمة هي واضحة، ولكنها تغيب عن الأذهان كثيراً، وهي أن كل ما يصيب الإنسان في نفسه، أو بدنه، أو أهله، أو ماله، أو ولده، إنما هو بسبب نفسه، ولا نجاة له مما أصابه إلا بإصلاح حاله، ولذلك قال هنا: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] قال بعض أهل العلم: كل شيء خفته فإنك تفر منه، إلا الله تعالى فإنك إذا خفته فررت إليه، والفرار إلى الله عز وجل يعني: الفرار إلى دينه، وطاعته، وامتثال أمره، واجتناب نهيه، والتخلص من أسباب العقوبات، وهذا أمر يصدق على الفرد والجماعة، والدولة والأمة، وهي قاعدة قرآنية جليلة قرَّرها الله تعالى في غير موضع، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وهذا الكلام يصدق على المصائب الدينية، والمصائب الدنيوية، والله أعلم. فأما المصائب الدنيوية، فأمرها واضح، مثل ما يصيب الناس من الكوارث العامة، كالقحط، والجوع، والخوف، وتسليط الأعداء، والتفرق، والقتال، والزلازل، وغيرها، فهي بسبب مصائب الأمة الدينية ومعاصيها، ومخالفتها لأمر الله عز وجل. وكذلك المصائب الدينية، فالوقوع في معصية ربما يكون عقوبة على معصية أخرى قبلها، كما أن الطاعة تكون سبباً في الطاعة بعدها، ولهذا قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وقال: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وفي سورة البقرة، قال سبحانه: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] وفي الحديث القدسي {من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إلي ذراعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة} . إذاً: الطاعة ثمرتها الطاعة بعدها، والمعصية ثمرتها المعصية بعدها، وبناءً عليه فكل ما يصيب الإنسان فهو بسبب ذنوبه، والمخرج من كل بلاء، هو حسب التعبير المذكور في الآية نفسها، المخرج من كل بلاء هو الفرار إلى الله، الفرار إلى الله بترك الذنوب والمعاصي، والاستغفار أيضاً من الذنب والمعصية، فلابد أولاً من الاستغفار، سواء اللفظ باللسان، "أستغفر الله" وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من أن يقول: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي} لقول الله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] وكان يحسب له في المجلس الواحد مائة مرة أستغفر الله وأتوب إليه، لكن لا يليق أن يستغفر العبد وهو مقيم على المعصية لا يفارقها، ولهذا ينبغي أن يشفع الاستغفار بالإقلاع عن الذنب. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 34 وقفة مع قوله تعالى: (بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ) المقطع السابق من السورة كان موضوعه قصص الأنبياء السابقين مع أممهم عليهم الصلاة والسلام، أما في هذه الآيات فهي دروس متعددة في الكون، وفي النفس، وفي التاريخ، تُطَوِّف بالإنسان في هذه الآفاق، وتبدأ بموضوع يتكرر كثيراً خاصة في الآيات المكية، وهو موضوع النظر في آيات الله تعالى الكونية، من السماء، والأرض، وما بينهما، وغير ذلك، فالله تعالى يذكر السماء، وأنه بناها، وكثيراً ما يعبر في السماء بلفظ البناء، البناء الدال على القوة والدقة، والإتقان، والصَنْعَةِ، بل قال سبحانه: {بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] والأيد: معناها القوة، يعني: السماء بنيناها بقوة، تقول: فلان رجل أيِّد، يعني قوي، وليس المقصود -والله تعالى أعلم- الأيدي في هذا الموضع، مع أن الله تعالى ذكر في مواضع لفظ الأيدي، إثبات الأيدي له، كما في قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً) [يس:71] وذكرها بلفظ التثنية أيضاً في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] وأيضاً بلفظ التثنية: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] وذكرها بلفظ الإفراد كما في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة:64] وأيضاً {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:10] وأيضاً {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {يد الله ملأى لا تغيضها نفقة} لكن المقصود بهذا الموضع في سورة الذاريات، {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات:47] يعني: بنيناها بقوة، الأيد: هو القوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات:47] الجزء: 14 ¦ الصفحة: 35 ابتلاء الإنسان سببه الإيمان أم الذنوب السؤال ذكر النبي صلى الله عليه وسلم {أن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، وأن الرجل يبتلى على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه قوة وصلابة، زيد في بلاءه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه البلاء فكيف نجمع بين هذا الحديث الذي ظاهره أن الابتلاء يكون بحسب قوة الإيمان، وبين هذه الآيات التي سردنا شيئاً منها، والتي تدل على أن الابتلاء يكون بسبب الذنوب والمعاصي؟ كيف نجمع بين هذا وهذا؟ الجواب إن المصائب نوعان: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 36 المصائب الفردية النوع الأول: مصائب فردية، مثل المرض لفلان من الناس، أو وجود مصيبة اجتاحت ماله، أو موت ابنه، أو حصول الهم والغم في قلبه، مصائب ذاتية شخصية، فهذه منها ما يكون بسبب ذنب أو معصية، فيكون تنبيهاً لصاحبها، أو تكفيراً لذنبه، ومنها ما يكون رفعاً لدرجته، كالذي يصيب الأنبياء، ولهذا لما أصيب أيوب عليه السلام بما أصيب به من المرض والضر، قال له قائل: والله ما أصابه الذي أصابه إلا بذنب فعله، فقال عليه الصلاة والسلام: {والله لا أدري ما تقولون! غير أني أمرُّ فأسمع الرجل يحلف بغير حق، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنه، كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في خير} . فالذنوب الفردية منها ما يكون لرفع الدرجات، كما هي الحال بالنسبة للأنبياء والصالحين، وأقوياء الإيمان، ومنها ما يكون عقوبة على ذنب، فيكون في ذلك تنبيه للإنسان. مثل شخص مواقع للذنوب والمعاصي، وكانت معظم ذنوبه ومعاصيه في شأن المال، فهو يأخذ المال من الحرام، ويسرق، ويغش، ويخدع، ويأكل الربا، ثم جمع هذا المال واشترى به سيارة -مثلاً- فلما أخذ السيارة مشى بها بضعة أمتار، فإذا بسيارة أخرى تأتي فتضربها ضربة لم تبق منها ولم تذر، فتجد هذا الإنسان تلقائياً يشعر بأن هذا الجزاء جزاءً وفاقاً لعمله. ومثله إنسان يعصي الله تعالى بعضو من أعضائه، فيجد أن الله تعالى سلَّط على هذا العضو داءً وبلاءً، فيشعر بأن الذنب مناسب للمعصية. هذا النوع الأول وهو المصائب الفردية، وهي أنواع، منها ما يكون لرفع الدرجات، ومنها ما يكون لتكفير السيئات. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 37 المصائب العامة النوع الثاني: المصائب العامة، وهذه كلها بسبب الذنوب والمعاصي، وهي التي وردت في القرآن الكريم، المصائب العامة ليست مصيبة فرد، بل مصائب الأمة، مثل فشل الأمة العسكري أمام عدوها، كما في قوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] ومثل الموت العام، ومثل الآفات المنتشرة، ومثل القحط والجدب والسنين، ومثل تسليط الحكام وما أشبه ذلك، فهذه كلها أسبابها الذنوب والمعاصي، ولهذا قال بعض السلف: [[أعمالكم عُمالكُم]] أي: أن الله تعالى يقيض لكم من الحكام والولاة والأمراء بحسب أعمالكم، فإن كانت الأعمال صالحة قيض الله للأمة رجالاً صالحين، وإن كان الأمراء بضد ذلك قيض لبها رجالاً أشراراً، كما قال جل وعلا: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] . {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] أي: اهربوا إليه، والجأوا إليه، من معصيته إلى طاعته، ومن مخالفته إلى امتثال أمره. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 38 أعداء الرسل عبر القرون الموضع الثاني: قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:52-53] وفيه إشارة إلى أن مواقف الأمم المعاندة لا يتغير من وقت لآخر، فهو موقف ثابت عبر العصور، كل أمة جاءها رسول فكذبته، قالوا له ساحر أو مجنون، فمنهم من قال إنه ساحر وذلك لما يرون من قوة تأثير كلامه ووقعه في النفوس، ومنهم من قال مجنون إشارة إلى أنه بما هو مخالف وغير مألوف، ولهذا قال الله تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات:53] ؟ هل أوصى بعضهم بعضاً بهذه الكلمات، فيرددها الأولون والآخرون؟ فهؤلاء يقولون: إن به سفاهة، وأولئك يقولون: به ضلالة! وهؤلاء يقولون: مجنون! وهؤلاء يقولون: اعتراه بعض آلهتنا بسوء، وهؤلاء وهؤلاء، هل أوصى بعضهم بعضاً بهذه الكلمات؟!! لا، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] . إذاً: الدوافع واحدة والأسباب واحدة، فكانت النتيجة واحدة، جاءهم رسول بما لا تهوى أنفسهم، ولم تعتد آذانهم سماعه، ولم تألف حياتهم هذه الأوامر والنواهي، فردوها ورفضوها وعيروا النبي بأنه ساحر أو مجنون، بسبب الطغيان الذي قام في نفوسهم، والطغيان: هو مجاوزة الحد، والله تعالى وصف أعداء دينه بالطغيان، في مواضع كثيرة، منها هذا الموضع {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] وفي ذلك إشارة إلى أن أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام على نوعين:- الجزء: 14 ¦ الصفحة: 39 الشعوب والعامة من الناس أما الفئة الثانية: فهي الشعوب أو الرعاع أو الدهماء أو العامة من الناس، وهؤلاء أيضاً يكون منهم طغيان بطغيان سادتهم، فمثلاً هذا الإنسان الأعزل الذي لا يملك شيئاً من الدنيا، وليس لديه علم ولا عقل، ولكنه مع ذلك يقوم في الإذاعة أو التليفزيون أو في الصحافة، أو على المنابر فيتكلم بالحط من شأن الدعاة إلى الله تعالى، واتهامهم بما هم منه براء، والتشكيك في نياتهم، وفي مقاصدهم، وفي أهدافهم، وفي أعمالهم، وفي مستقبلهم، وغير ذلك، هذا العمل الذي يقوم هو طغيان لاشك، لكن من أين استمد هذا الإنسان طغيانه؟ من الكبراء والسادة، لأنه يأوي في زعمه إلى ركن شديد، فهو يتكلم وهو يشعر بأن وراءه ظهراً يسنده ويشده ويؤازره، ولهذا عقَّب الله تعالى على هذا كله بقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54] أي: أعرض عنهم واستمر على دعوتك، وليس بضروري أن ترد على كل ما يقال في شأنك، فإذا قالوا: اليوم ساحر ليس بلازم أن النبي أو الرسول يأتي بأدلة أنه ليس بساحر والدليل أنه كذا وكذا، ولهذا لا نقول إن الرسول عليه السلام أجاب على دعواهم بأنه ساحر أو أجاب عليها، الله تعالى تولى الدفاع عنه أنه ليس بساحر، قالوا: شاعر أجاب عنه بأنه ليس بشاعر، قالوا: مجنون أجاب عنه بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] فقط نفى تكذيب لهذا الخبر، لكن هل نقل أنه جعل له رد ويأتي بالحجج والبينات إنه ليس بساحر، أو ليس بمجنون، ماذا يمكن أن يقول إنسان وصف بأنه مجنون؟ فكيف يثبت أنه ليس بمجنون، يأتي بأدلة يقول: أنا عندي كذا وأنا شأني كذا وأنا صفتي كذا، لا داعي، لماذا؟ لأن الذين أطلقوا عليه هذه الفرية، هم أعلم الناس بكذبها، وأنها اختلاق وأنها مجرد تشويش. إذاً: فالحل هو الإعراض، ولهذا أمره الله بالإعراض في مواضع كثيرة، منها هذا الموضع {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] أعرض عنهم فيما ألصقوه بك من التهم؛ السحر والشعر والجنون وغيرها، ولا تلتفت إلى ذلك، واستمر في الدعوة، من أين أخذنا واستمر في الدعوة؟ من قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] أي: هؤلاء وإن أعرضوا، وحاربوا، وأجلبوا، واتهموا، وكذبوا، إلا أنهم لن يضروا إلا أنفسهم، أما من أراد الله تعالى له الهداية والقبول فإنه سوف تصله كلمة الحق مهما شوشوا في وجهها وأجلبوا، فاستمر في دعوتك وذكِّر واستمر على تذكيرك، وسينتفع بتذكيرك من أراد الله تعالى لهم أن يهتدوا ويؤمنوا. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 40 أهل المناصب والرياسات النوع الأول: الكبرياء والسادة، أهل المناصب والرياسات والسياسات، فهؤلاء دائماً هم أول من يحارب الرسل والأنبياء، لأن دعوة الرسل والأنبياء خطرٌ يهددهم فعلاً، فهذا السيد المطاع الذي لا يخلف له أمر ولا إشارة، لأنه تعزز عليهم بأمر من أمور الدنيا، فإذا أطاع الناس الأنبياء افتضح هذا الإنسان وبان عوراه، ولهذا أبو جهل وأبو لهب ردوا دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الناس حين يؤمنون بالرسول عليه الصلاة والسلام، سيكون أبو جهل وأبو لهب مجرد أتباع مثل غيرهم من الناس، ولن يكونوا سادة، وعبد الله بن أبي بن سلول في المدينة كان ينظم له الخرز حتى يملك على الناس، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام قطع الطريق على هذه الرياسة الجاهلية الدنيوية، ولهذا غصَّ بالإسلام ولم يقبله بحال من الأحوال، حتى الصحابة أدركوا ذلك منه وقال بعضهم: يا رسول الله! ارفق به لقد أكرمنا الله بك وإنا لننظم الخرز له لنملكه علينا، فهو يرى أنك قد سلبته ملكاً كاد أن يبلغه، وقل مثل ذلك بالنسبة لفرعون وهامان وقارون، ولهذا ذكر الله تعالى في مواضع، أن الرسالة موجهة إلى هؤلاء أولاً قبل غيرهم، فمثلا موسى، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} [غافر:24] موسى ما أرسل إلا إلى هؤلاء الثلاثة فقط؟ كلا، موسى أرسل إلى الناس، إلى بني إسرائيل كلهم وغيرهم، ولكن المقصود أن هؤلاء الثلاثة هم الرؤساء والسادة الذين جروا الأمة ورائهم إلى الضلال، ولهذا قال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان:18] . إذاً: الدعوة توجه للكبراء وعلية القوم في هذه الآيات؛ لأنهم هم الذين يقودون أممهم، وهؤلاء غالباً هم أعداء الرسل، وهم الذين إذا رفضوا الدعوة بدءوا يحشدون العداوة لها، ويؤلبون الناس وضدها، هذا في الواقع ملموس جداً، الأمم الغربية الكافرة اليوم، هذا مثال لا يلزم أن تجد كل نصراني أو يهودي لو باحثته وحادثته وجدت عنده كراهية للإسلام وحقداً على الإسلام، قد يكون الكثير منهم لا يعرف الإسلام أصلاً ولا يدري عنه شيئاً، ولكن مع ذلك نحن نعلم يقيناً وقطعاً أن هذه الأمم الغربية هي التي سوف تحارب الإسلام والمسلمين، سواء في ميادين الحرب والمعركة أو في ميادين السلام، لماذا؟ لأن لهم زعماء وقادة يحرضونهم ويؤلبونهم، وإذا احتاج الأمر إلى تحريك هذه العداوات حركوها، مثل ما كان من قوم نوح، يقولون للشعوب: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] فيحركون العداواة عند الشعب ضد هذا الداعي. إذاً الفئة الأولى: فئة الكبراء أو الأكابر أصحاب النفوذ والسلطان، وهؤلاء طغيانهم ظاهر لأن بأيديهم القوة التي يتسلطون على الناس. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 41 الغاية من خلق العباد الوقفة الثالثة: في قوله جل وعز: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] وهذه من الآيات العظيمة، التي ذكر الله تعالى أن الخلق إنما خلقوا لأمر واحد، وهو أن يعبدوه تعالى ويوحدوه ولا يشركوا به شيئاً، لم يخلقهم جل وعلا ليتكثر بهم من قلة ولا ليعتز بهم من ذلة، ولا ليستغني بهم، فهو سبحانه الغني له ما في السماوات وما في الأرض، إنما خلقهم ليعبدوه وهو أيضاً خلق الخلق، الذين أراد أن يعبدوه، وخلقهم على نوعين: الجزء: 14 ¦ الصفحة: 42 خلق الله الخلق على نوعين النوع الأول: خلقوا للعبادة وجبلوا عليها، وهم الملائكة، ((يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ)) [الانبياء:20] والملائكة كثرة، سبع سماوات ملأى بالملائكة، {أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك، واضع جبهته له تعالى أو راكع أو ساجد} وقد جاء في بعض الآثار أن أهل السماء الدنيا يقولون: {سبحان ذي الملك والملكوت} وأهل السماء الثانية يقولون: {سبحان ذي العزة والجبروت} وأهل السماء الثالثة يقولون: {سبحان الحي الذي لا يموت} ذكره محمد بن نصر المروزي وغيره، المهم أنهم يسبحون، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم البيت المعمور، {وأنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة} فاحسب كم عدد الملائكة، كل يوم منذ خلقت الدنيا إلى قيام الساعة يدخل البيت المعمور سبعون ألف ملك، ما يأتيهم الدور مرة أخرى إلى يوم القيامة. إذاً عند الله تعالى عوالم من الملائكة، التي لا همَّ لها إلا التسبيح والطاعة للرب تبارك وتعالى، فهذا الصنف الأول. النوع الثاني: هم الذين خلقوا للعبادة، وأعطوا الاختيار، وهم الجن والإنس، كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وهذا السر سر التخيير هو سر الجزاء، ولهذا قال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} [الكهف:29] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} [الكهف:31] وقال هنا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:58] . الجزء: 14 ¦ الصفحة: 43 أنواع العبادة والعبادة أنواع: النوع الأول منها: الشعائر والقرب المحضة، مثل الصلاة، والصيام والحج الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة ومزدلفة، والمبيت بمنى، ورمي الجمار، والحلق أو التقصير في الحج والعمرة مثلاً، هذه وأمثالها هي شعائر محضة، وقرب محضة، لا يلابسها شيء آخر، فالعبد لا يصلي لأن الصلاة تكون سبباً لجمع المال مثلاً أو يصلي لأن الصلاة قوة للبدن، كلا، بل يصلي لأن الله تعالى أمر بالصلاة، ولهذا يصلي الظهر أربعاً، ويصلي الفجر ركعتين، ويصلي المغرب ثلاثاً، ويبدأ صلاته بالقيام ثم يركع ثم يسجد ثم يقعد ثم يسلم، يبدأ بهذا الترتيب وبهذه الصفة التي شرعها الله تعالى، لأنها عبادة إذا قال لك: قم تقوم، وإذا قال: اقعد تقعد، وإذا قال: اسجد تسجد، وإذا قال: التفت تلتفت، وإذا قال: لا تلتفت لا تلتفت، ولهذا تجد في موضوع العبادة والقربة المحضة إبراز جانب العبودية، وأن هناك رباً يطاع وعبداً ينفذ، مثلاً في الصيام لا تأكل ولا تشرب ولا تجامع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، لكن إذا غربت الشمس يكون فيه أمر لك بأن تأكل أو تشرب، لأن وقت التعبد انتهى في هذه اللحظة، وانتقلت العبادة من عبادة بالصوم إلى عبادة بالفطر. ومثله في الإحرام مثلاً فالإنسان عند الإحرام ممنوع أن يلبس ثيابه، إنما يلبس ثياب الإحرام بالذات، ويمتنع من محظورات الإحرام التي منها: حلق الرأس مثلاً، ومنها: الطيب وتقليم الأظافر، إلى غير ذلك، فإذا انتهى من إحرامه كان مأموراً أن يحلق رأسه -مثلاً- أو يلبس المخيط، ويتنظف وغير ذلك، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ففيه معنى التعبد بغض النظر عن الفائدة الدنيوية المهم أنه فيه أمر تنفذه، ولهذا لا داعي أننا ندخل في موضوع التعبد المصالح العاجلة، يعني لا معنى في نظري أننا نأتي للصلاة، ونقول: الصلاة رياضة للأبدان، وفيها صحة وعافية وتنشيط، هذا الكلام لا فائدة منه، لأن هذا وإن قاله أحد لكن يبقى أن الصلاة عبادة أمر الله بها فتنفذها، أفادتك في الدنيا أم لم تقد، حتى لو ضرت تؤديها، لأن الله أمر بها والله تعالى لا يأمر بما يضر، ولكن جدلاً. أما النوع الثاني: مما يدخل في معنى العبادة العام: هو القيام بما يحتاجه الإنسان في أموره الدنيا بنية صالحة، مثل: النكاح، والأكل والشرب، والنوم، والبيع، والشراء، وألوان التجارات، والعلوم الدنيوية، وتحصيل الصناعات وغيرها، فهذه الأشياء من الواضح أن هذه الأمور ليست من القرب المحضة والعبادات المحضة ولكن من الواضح أن الأمة تحتاجها وفي مجملها لابد للناس منها، ولهذا جاء الأمر بها، كما في قوله: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك:15] وغير ذلك إجمالاً فإذا استحضر العبد فيها النية الصالحة أُجِرَ على ذلك. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 44 الوعيد والعقوبة للذين ظلموا الوقفة الأخيرة في قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات:60] هذه الآية وعيد يؤكد أن العقاب الإلهي الذي نزل على الأمم السابقة، التي ذُكِرَت فيما مضى ينتظر كل من ساروا على الطريق نفسه، فكما أنهم اتفقوا في معارضة دعوة الأنبياء، وخاطبوا الأنبياء بعبارات واحدة ساحر أو مجنون، واتفقوا في الطغيان الذي أملى عليهم هذه المواقف، فكذلك العقوبة التي تنتظرهم واحدة، فلهم ذنوب مثل ذنوب أصحابهم، ولا يضير أنهم أمهلوا بعض الوقت حتى اغتروا، وقالوا أين العقاب، هانحن ممكنون معزون لم يصبنا شيء، استعجلوا العقوبة، فالله تعالى يقول: لا يستعجلون، فإن لهم ذنوباً وعقوبة مثل عقوبة من قبلهم، وويل لهم من يومهم الذي يوعدون، عقوبة دنيوية: مثل ما نزل بالأمم السابقة من الزلازل، والصيحات، والغرق، والطوفان وغير ذلك، وعقوبة أخروية: حينما يلقون الله تعالى. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ على محمد وعلى أصحابه أجمعين. الجزء: 14 ¦ الصفحة: 45 نداء الفطرة بين الرجل والمرأة الفطرة هي ما جبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة. وقد ذكر الشيخ حفظه الله جوانب الفطرة الإنسانية وأشكالها لدى الإنسان؛ وأكد ارتباط الدين بها كإقرارها وموافقتها وتنظيمها وتزكيتها، مبيناً تعرض الفطرة للمسخ والتغيير والإلغاء في عدة أشكال وحالات؛ وأن الشيطان له دور في ذلك وكذلك دور الجاهلية القديمة والحديثة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 1 حديث شريف عن الفطرة الإنسانية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة: روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماء جاءه جبريل عليه السلام بإناءين: في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل له: اختر أحدهما، فأخذ صلى الله عليه وسلم الإناء الذي فيه اللبن فشربه، فقال له جبريل عليه السلام: هُديت الفطرة} وفي لفظ: {أصبت! أصاب الله بك، أمتك على الفطرة} وهذا الحديث العظيم المتفق عليه هو حديثنا في هذه الليلة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 2 فوائد من الحديث وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ثلاث فوائد عظيمة: الفائدة الأولى: أن الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، خُلق عليها وجبل عليها، وهي ما تسمى بـ"الفطرة". والفطرة: هي ما جُبل الإنسان عليه في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مُقتضى الإنسانية، والتي يكون الإخلال بها أو مخالفتها خروجًا عن الإنسانية، إما خروجاً كلياً أو خروجاً جزئياً. هذه هي الفطرة على أصح أقوال أهل العلم. وهذا هو المعنى الذي اختاره عدد من العلماء: كـ ابن دقيق العيد، وابن القيم، والسيوطي، وغيرهم. الفائدة الثانية: أن الإسلام بل الرسالات السماوية كلها جاءت موافقةً للفطرة، ومؤيدةً لها، ومنطلقةً منها؛ ولذلك كان الإسلام دين الفطرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِينُ القَيّم} [الروم:30] وهكذا الرسالات السماوية الأخرى كلها جاءت موافقة للفطرة في الظاهر وفي الباطن. الفائدة الثالثة: إن هناك وسائل ومناهج أخرى يمكن أن يسلكها الإنسان وهي معارضة للفطرة ومخالفة لها؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام أُتي بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر. فالإناء الذي فيه اللبن: هو رمزٌ لإشباع الفطرة وتوجيهها بالطريقة الصحيحة التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام. والإناء الآخر فيه خمر، وهو إشارة أو رمز إلى من يوجهون الفطرة توجيهاً منحرفاً، ويستغلون هذه الأشياء التي جبل عليها الإنسان استغلالاً سيئاً. ولذلك سيكون حديثي في هذه الليلة في ثلاث نقاط: أولاها: ذكر الفطرة، والأشياء التي فُطر عليها الإنسان. والثانية: هي ذكر موقف الإسلام من الفطرة. والثالثة: هي ذكر موقف الجاهلية أو المناهج المنحرفة من هذه الفطرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 3 الفطرة الإنسانية -حقيقتها- أشكالها فمن المعلوم أن الإنسان مفطورٌ على أشياء كثيرة: فالإنسان مفطورٌ على حب الحياة، والتعلق بالبقاء؛ ولذلك تجد أن الطفل -مثلاً- وهو صبي صغير، لو هددته بأن تسقطه من فوق جدار أو في بئر، أو ترمي به من سيارة؛ فإنه يرتعد ويبكي خوفًا من الموت والفناء، وهذه فطرة لا يحتاج الطفل إلى أن يتعلمها؛ بل هي مخلوقة معه. ولذلك: تجدون أيضاً أن الصحف والإحصائيات في كثيرٍ من الأحيان تتحدث عن نسبة الانتحار في العالم، وأن نسبة الانتحار مثلاً، في أمريكا كذا، ونسبة الانتحار في بريطانيا كذا، ونسبة الانتحار في روسيا كذا، وأن أعلى نسبة للانتحار هي في البلد الفلاني. ويعتبرون الانتحار مسألة شاذة، بغض النظر عن أضرارها أو آثارها، فهم ينظرون إليها على أنها مسألة شاذة وتدل على انحراف في تربية هذا المجتمع، ولو كان أي مجتمع، لماذا؟ لأن حب البقاء وحب الحياة، أمرٌ فطري غريزي مركب في أصل طبيعة الإنسان. فمن الفطرة: أن الإنسان يحب الحياة. ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الوطن، يحب الأرض التي نشأ فيها بطبيعته. ومن الفطرة: أن الإنسان الذكر يميل إلى الأنثى أي يميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل. ومن الفطرة: أن الإنسان يحب الولد. ومن الفطرة: أن الإنسان يحب المال. ومن الفطرة: أن الإنسان يميل إلى العبودية. فالإنسان -بطبيعته- ضعيف يحتاج إلى أن يُكّمل ضعفه، أو يتوجه بضعفه إلى شيئٍ يعبده؛ أيَّاً كان هذا المعبود، سواء كان بحق أم بباطل لكن الإنسان مفطور على العبودية. من الفطرة: أن الإنسان يميل إلى التستر، وألا ينكشف أو يتّعرى أمام الناس؛ ولذلك فالعلماء الذين يتحدثون عن المجتمعات القديمة، ويتكلمون عن مجتمع الغابة؛ يصفونه بأنه مجتمع متعرٍ، متهتك، ليس فيه حجاب ولا لباس، فقضية التستر هي قضية فطرية غريزية مركبة مع الإنسان. والطفل - منذ صغره - تجد أنه يحس شيئًا فشيئًا بالخجل من ظهور سوءته أو عورته أمام الآخرين. وهكذا تجد أن هناك أشياء كثيرة جداً الإنسان مفطور عليها، صحيح أنها تنمو مع نمو الإنسان، ومع تربيته، ومع معايشته للمجتمع؛ لكن هذه الأشياء موجودة في أصل الإنسان حتى لو لم يوجد شيءٌ يُنمي هذه الأمور، ولا شيء يعارضها ويدمرها فإذا نشأ الإنسان، نشأ عليها، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل مولود يولد على الفطرة} والحديث -أيضاً- متفق عليه، وفي لفظ: {ما من مولود إلا يولد على الفطرة} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 4 موقف الإسلام من الفطرة إذا كان من البدهيات في حس كل مسلم ومسلمة أن خالق هذه الفطرة هو مُنَزِّل الأديان، هو مُنَزِّل القرآن، وهو الله تعالى؛ فمن الطبيعي أن نعلم يقينًا: أن هذا الدين وهذا القرآن لابد أن يكون موافقًا للفطرة؛ لأن خالق الإنسان هو منزل القرآن، فيستحيل أن يكون في دين الله، أو شرعه أمرٌ يعارض هذه الفطرة أو يخالفها؛ ولذلك قال الله عز وجل: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالخالق سبحانه هو أعلم بمن خلق؛ ولذلك أنزل الأديان الملائمة لهذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان فما أنزل الدين للملائكة -مثلاً- ولا نزل الدين للشياطين! وإنما نزل للإنسان فكان الدين يعالج قضية الفطرة معالجة صحيحة. والكلام في هذه النقطة يمكن أن يلخص في عدة أمور: الجزء: 15 ¦ الصفحة: 5 تزكية الدين للفطرة إن الإسلام لم يكتفِ بالاعتراف بالفطرة فقط، ولا بالموافقة لها فحسب، ولا بتنظيمها؛ بل أضاف إلى ذلك كله، الأمر الرابع، وهو تزكية الدين للفطرة. انظر إلى قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24] . لقد اعترف الإسلام بأن الإنسان بطبعه قد يحب ولده، أو زوجه، أو ماله، أو مسكنه، أو وطنه أو غير ذلك. لكن أن يصل ذلك إلى حد أن يفضل الإنسان هذه الأشياء على حب الله ورسوله، وجهاد في سبيله؛ فهو حينئذ إنسان فاسق يتوعده الله عزوجل بالوعيد الشديد: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} ] التوبة:24] ولما ذكر الله تزيين الشهوات للإنسان: من النساء، والبنين، والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ عقَّب بقوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:14-15] . إذاً: هذه الفطرة يجب أن توجه في الطريق الصحيح، ويجب أن تُزكّى بحيث تكون دافعاً إلى الخير، مصروفةً في سبيل الله، وألا تحول بين الإنسان وبين مرضاة الله عز وجل، وبين الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى. انظر أيها المسلم إلى المسلمين الأوائل الذين صنعهم الإسلام! وكيف كان موقفهم وتعاملهم مع هذه الأشياء التي فطروا عليها!! فطروا على حُب الحياة كغيرهم من البشر! ولكنهم كانوا يبذلون أرواحهم رخيصة في سبيل الله عز وجل، وكان الواحد منهم يحمل روحه على راحته، ويُلقي بها في مهاوي الردى، مقاتلاً في سبيل الله عز وجل! يفرح بالموت في سبيل الله ويسعى إليه! كما يفرح أهل الدنيا وأهل الحياة بالبقاء والسلامة!! ولعلّ من أبلغ من يصور مواقفهم تلك: الشاعر والشعر عند العرب هو المترجم عن حقائق ما في نفوسهم؛ فهو ديوانهم، وسجل حياتهم يقول الطرماح بن حكيم، معبراً عن حبه أن يقتل في سبيل الله، وأن يلقى الموت شهيداً في ميدان المعارك، يقول: وإني لمقتادٌ جوادي فقاذف به وبنفسي العامَ إحدى المقاذف فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكن على شَرْجعٍ يُعلى بخُضْرِ المَطارفِ ولكن أحن يومي سعيدًا بعصبةٍ يصابون في فجٍّ من الأرض خائفِ يسأل الله أن يكون موته موت شهادة على عصابة من المؤمنين يصابون ويقتلون في فج من فجاج الأرض: عصائب من شيبان ألَّف بينهم تُقى الله، نزَّالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهُمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف يفارقون الدنيا فيفارقون ما فيها من الأذى والحياة لا بد فيها من الأذى، فيفارقون هذا الأذى ويصيرون إلى موعود ما في القرآن الكريم. فأُقتل قعصًا ثم يُرمى بأعظمي كضغث الخلا بين الرياح العواصفِويصبح قبري بطن نسرٍ مقيله بجو السماء، في نسورٍ عواكفِ أي إن الموت في سبيل الله مع هذه العصابة من فوارس بني شيبان الشجعان المغاوير، ممن تحابوا في ذات الله وألَّف بينهم تقى الله هو أقصى ما يتمناه؛ إذ هذه الميتة تعني مفارقة هذه الدنيا المليئة بالأذى والكدر، وتعني الوصول إلى جنات الله التي وعدها المتقين والشهداء، ولا يضير الشهيد أن يُقتل قتلاً سريعًا، ثم تُرمى عظامه في الصحراء لتتنازعها تلك النسور العواكف العوائف. وهذا الوعد الموعود هو: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:15] . فإذا كان الإنسان يحب البقاء، فلا بد له في الدنيا من الموت، وإنما البقاء الأبدي الذي لا يكدره خوف الموت، ولا يكدره حلول الأجل؛ هو البقاء في الجنة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 6 توجيه الدين للفطرة وإذا كان الإنسان يحب الزوجة في هذه الدنيا، والزوجة تحب زوجها في هذه الدنيا، فإن المحبة بينهما مع ذلك يكدرها وينغصها أشياء كثيرة: من اختلاف الطبيعة بين البشر، من كون الإنسان يرى في زوجته ما لا يرضى، أو الزوجة ترى في زوجها ما لا ترضى، إلى منغصاتٍ أخرى كثيرة. وإنما اللقاء الذي فيه كمال السرور والتنعم واللذة هو في الجنة، ولذلك قال الله عز وجل: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ} [آل عمران:15] . فكلُّ ما يرغبه الإنسان في هذه الدنيا يجده في الدار الآخرة، وهذا فيه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يوجه هذه الأشياء التي فُطر عليها توجيهاً سليماً، وإذا كان -أيضاً- حب الإنسان للمال أمراً فطرياً، فإن الإسلام يوجه الإنسان إلى النفقة في سبيل الله، والاستعلاء على هذا الحب للمال، بحيث أن يكون حب الله ورسوله والجهاد في سبيله أعظم في نفسه من حب المال؛ ولذلك تنفق هذا المال في سبيل الله عز وجل وفي الحديث الصحيح: {لما أنزل الله قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] جاء أحد الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن أحب ماله إليه -بيرحاء- وهي بئرٌ ومزارع في، المدينة فقال: إنها أحب مالي إلي، وإني أشهدك أنها صدقةٌ لله ولرسوله، فيستعلي الإنسان على ما يحب، فإذا أحب شيئاً، أنفقه في سبيل الله عز وجل، وأدرك أن هذا المال، إذا أراد أن يكون مالاً رايحاً أو رابحاً} كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث السابق؛ فليقدمه أمامه ليوم الحساب. وإذا كان الإنسان يحب المتعة والبقاء في قرب زوجته وأولاده، ويكره الخروج للدعوة، أو الخروج للجهاد -مثلاً- فإنك تجد أن أحد المسلمين الأوائل، وهو النابغة، أراد أن يخرج في سبيل الله عز وجل، فأمسكت به زوجته وهي تبكي وتسائله: كيف تخرج وتتركني؟ فولى وهو يقول لها: يا بنت عمي! كتاب الله أخرجني كُرهًا وهل أمنعنّ الله ما فعلا؟ فإن رجعت فربُّ الكون يرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذُرني أو ضارعًا من ضنىً لم يستطع حولا أي: أنا رجلٌ قادر مستطيع، أسمع نداء الجهاد، فلا يمكن أن أترك الجهاد في سبيل الله عز وجل رغبةً في البقاء إلى جوار زوجة. ومن الطريف في هذا المقام ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل السير عن فروة بن عمرو الجذامي، وهو ملك عرب الروم، وكان هذا الرجل قد أسلم ودان بدين الإسلام، فَعلِمَ به الروم، فأمسكوا به وحبسوه وأرادوه على الردة عن دين الإسلام، فأبى وأصّر على دينه، فصلبوه إلى خشبه، وفوقوا إليه السهام، وهم يهددونه إن لم يرتد عن الإسلام أن يقتلوه؛ وهذا موقف صعب ولكن أصر هذا الرجل على دينه، فأبى أن يخرج منه، وكان يتمثل بأبياتٍ من الشعر في هذا الموقف، أو قال أبياتاً من الشعر في هذا الموقف. فتأمل وانظر! ما هي المشاعر التي جالت في نفسه، بطبيعة الحال أن هذا الرجل بشر، وإن كان مسلماً، فالإسلام يخاطب فطرة الإنسان -كما سبق- ولا يخرج الإنسان عن بشريته، بل يزكي هذه البشرية، ويقويها وينميها، فهذا الرجل يتذكر أولاً إخوانه المسلمين الموافقين له على الدين، فيقول: بلِّغ سراة المسلمين بأنني سلمٌ لربي أعظمي ومقامي ومعنى سراه: أي كبراء المسملين وهأنا الآن أموت مسلمًا لله، لحمي وعظمي، وعصبي ومخي قد خشع لله عز وجل هذا شعور عظيم عند رجل كهذا الرجل. ثم يتذكر زوجته وحب الزوجة - كما سبق- هو فطرة، فيقول: ألا هل أتى سلمى بِأن حليلها على ماء عفرا، فوق إحدى الرواحل هل علمت بأن الرجل الذي أحلها الله له وهو حليلها قد صلب الآن على ماء في فلسطين يقال له: ماء عفراء، فوق إحدى الرواحل وقد شبهها بالخشبة التي صلب عليها بالناقة أو الراحلة. على ناقةٍ لم يطرق الفحل أمها مشذبةٍ أطرافها بالمناجل إذاً: هذه الفطرة التي فُطِر عليها الإنسان، من حب المال من حب الحياة من حب الملكية من حب الزوجة أو الزوج من حب الولد؛ جاء الإسلام معترفاً بها؛ موافقاً لها؛ مُنظماً لها؛ مزكياً لها. وكان المسلمون الأولون الذين ربَّاهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه من بعده، كانوا صورةً صحيحة لمن يسلك المسلك الصحيح، فتكون هذه الفطرة بشأنه موجهةً الوجهة الصحيحة، وليست عائقاً يحول دون الجهاد في سبيل الله، أو دون البذل، أو دون الإنفاق، أو غير ذلك من الأشياء التي أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 7 موافقة الدين للفطرة وجاء الدين موافقًا لهذه الفطرة، فشرع الزواج الذي يلبي فطرةً غريزيةً عند الإنسان، وهي إشباع لا أقول الغريزة الجنسية فحسب؛ بل إشباع الظمأ العاطفي الموجود عند الرجل تجاه المرأة، والموجود عند المرأة تجاه الرجل، والذي إن لم يشبع بالحلال أشبع بالحرام. وجاء الدين آذناً بالكسب الحلال -مثلاً- وشرع تشريعات كثيرة، موافقة لهذه الفطرة، ولا يمكن -وهذه قاعدة لا يختلف فيها اثنان، لا يمكن- أن يوجد في الدين أي تشريع مخالف لفطرة فُطِِرَ عليها الإنسان، وإذا سبق إلى وهمك أو ظنك، أن هناك أمراً من أمور الشرع مخالفاً للفطرة؛ فيجب أن تعلم أن الحالة حينئذٍ لا تخلو إما أن يكون هذا الأمر غير مشروع ولكن الناس توهموا أنه مشروع، وهناك أشياء كثيرة ينسبها الناس إلى الدين جهلاً منهم، وفي الواقع أنها ليست من الدين، وحينئذٍ هذه الأشياء يمكن أن تكون مخالفة للفطرة في بعض الأحيان. وإما أن يكون هذا الأمر من الدين فعلاً، ولكنك توهمت أنه مخالف للفطرة، والواقع أنه موافق للفطرة، ومخالفته للفطرة وهمٌ عندك. والاحتمال الثاني: أن يوجد أمر مشروع فعلاً، ومخالف للفطرة، فهذا مستحيل! فالدين جاء موافقاً للفطرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 8 تنظيم الدين للفطرة أن الدين جاء منظماً للفطرة أي: شرع لها الطرق المشروعة التي تلبي هذه الفطرة وتوافقها؛ فشرع مثلاً طرق الكسب الحلال؛ ليستغني بها الإنسان عن طرق الكسب الحرام. ولذلك جمع الله تعالى بينهما، فقال: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] أي: أن أمام الفطرة كما سبق طريقان للإشباع: الطريق الحلال والطريق الحرام فالإسلام فتح طريق الحلال ونظّّمه لإشباع الفطرة، وأغلق الطريق الحرام؛ فأحّل الله البيع وحرّم الربا، فالإنسان يُلَبِّي الرغبة في التملك، والتي هي رغبة فطرية وغريزة موجودة حتى لدى الأطفال، يلبيها عن طريق الكسب الحلال، وليس عن طريق الربا المحرم. وكذلك أحل الإسلام الزواج؛ بل أمر الإسلام بالزواج، كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج} . فأمر الإسلام بالزواج؛ ولذلك كان الزواج على المستطيع الذي يشعر بالحاجة إليه واجباً على الصحيح من أقوال أهل العلم لقوله صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج} فهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب. وفي مقابل ذلك: حرّم الزنا، وهكذا أباح الإسلام الطريق الحلال وحرم الطريق الآخر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 9 إقرار الدين للفطرة الأمر الأول: أن الدين جاء مقراً بالفطرة معترفاً بوجودها، وإقرار الدين بالفطرة هو أمرٌ طبعي، ولكن يؤكد لنا ما عرفه الناس وعلموه من واقع الحياة. فمثلاً:- حب الحياة الذي هو فطرة مركوزة عند الإنسان، جاء في القرآن ما يدل على ذلك، يقول الله عز وجل عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:196] تأمل قوله تعالى: (أَحْرَصَ) واحرص كما يقول علماء اللغة أفعل تفضيل، أي: أشد الناس حرصاً فكأن معنى الآية أن الله عز وجل يقول: إن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة معنى ذلك: أن الناس كلهم حريصون على الحياة، لكن اليهود هم أشد الناس حرصاً. فمن هذه الآية عرفنا أن الإسلام يبين أن غريزة حب البقاء فعلاً غريزة فطر الإنسان عليها. مثلاً:- غريزة حب الزوجة، حب المال، وحب الولد جاء الدين مقراً لذلك، قال الله عز وجل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] . وهذا السياق لا يدل على مدح ولا ذم؛ إنما إشارة إلى أن هذه الأشياء عبارة عن فطرة فُطر عليها الإنسان، وغريزة رُكِّبت فيه، ويأتي بعد ذلك ذكر: متى تكون هذه الأشياء محمودة؟ ومتى تكون مذمومة؟ المهم أن هذه الأشياء أمور من حيث الأصل لا يلام عليها الإنسان. انظر أيضاً إلى قوله الله عزوجل في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المعارج:29-30] ثم عقب على هذا السياق بقوله: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] ليتأمل الإنسان قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] يجد أشياء عجيبة فعلاً! فإنهم غير ملومين لا يلامون على هذا الأمر، فالقضية من حيث الأصل ليست قضية يحمد أو يذم عليها؛ إنما الإنسان لا يلام فيها. قد يكون في قضية الزواج والنكاح أمور قد يستقذرها الإنسان لو تأمل فيها بطبيعته، خاصةً الإنسان الذي فيه سمو وترقّ، وكمال وحياء، قد يستقذر قضايا من قضايا النكاح والزواج، ولذلك جاء النص القرآني: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] أي: أن هذه قضية خارجة عن إرادة الإنسان، فالله عز وجل ركبها في الإنسان. حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم كغيرهم في هذا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، كما قال تعالى في الآية الأخرى: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المعارج:30] فالقضية قضية فطرة. ومن الطريف ما رواه أهل السير ورواه أيضاً النسائي في سننه -وهو في سنن ابن ماجة -عن حمنة بنت جحش رضي الله عنها، وكان زوجها مصعب بن عمير رضي الله عنه: {فقُتل مصعب في أحد شهيداً في سبيل الله وقتل أخوها عبد الله بن جحش شهيداً أيضاً، فقيل لـ حمنة: قُتل أخوك، عبد الله بن جحش، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقيل لها: قُتل زوجك مصعب بن عمير، فبكت وولولت وقالت: واحزناه!، هذا الموقف يدل فعلاً على مكانة الزوج عند زوجته، والعكس بالعكس، وأن القضية في الأصل قضية فطرية، وعقب الرسول عليه الصلاة والسلام، كما تقول هذه الرواية بقوله: {إن للرجل لشعبة لدى المرأة ليست لأحد} مكانة الرجل عند المرأة في أصل الفطرة ليست لأحدٍ غيره. وهكذا تجد أن الدين جاء مقراً بهذه الفطرة، معترفاً بوجودها، لا ينكرها، وهذا أمر طبعي -كما ذكرت- لأنه يستحيل أن يأتي الدين مخبراً بخلاف الواقع فما دام الإنسان مفطوراً على أشياء معينة؛ فلا بد أن يكون الدين -حين يأتي- مقراً بهذه الأشياء، معترفاً بها هذا الأمر الأول، في موقف الإسلام من الفطرة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 10 موقف الجاهلية من الفطرة أما النقطة الثالثة والأخيرة في هذا الموضوع فهي إشارة إلى موقف الجاهليات والمناهج المنحرفة من هذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان، وألخص موقف الجاهليات في هذه الفطرة في أحد موقعين: الموقع الأول: هو مسخ الفطرة؛ وأعني بمسخ الفطرة: أن الشيطان وجنوده وأولياءه، يستغلون هذه الفطرة التي فطر عليها الإنسان، ليوجهوها وجهةً منحرفة، ويحاولون بكل وسيلة أن يناقضوا ما أمر الله ورسوله به، فيفتحوا -مااستطاعوا- الباب المحرم لإشباع الفطرة، ويغلقوا ماستطاعوا الباب المشروع لإشباع الفطرة. انظر إلى الحديث الذي رواه النسائي وأحمد وابن حبان وغيرهم، وهو حديث حسن الإسناد، كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة، إسناده حسن، عن سبرة بن الفاكة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه أي: أن الشيطان قعد للإنسان في طريقه قاطع طريق, يمكن أن نقول: إن الطريق ها هُنا هو الفطرة فقعد له بطريق الإسلام، فقال له: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! قال صلى الله عليه وسلم: فعصاه فأسلم} . فالإنسان في هذه الحال -يفترض أنه إنسان مشرك أو كافر- دُعي إلى الإسلام، فلما هم أن يسلم، جاءه الشيطان، وقال له: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 11 حب المعرفة والاستطلاع من صور مسخ الشيطان للفطرة: أن الإنسان مفطور على حب المعرفة، فبدلاً من أن يسلك الوسيلة الشرعية عن طريق طلب العلم وتحصيله، وعن طريق توقع النتائج المستقبلية من خلال معرفة الأسباب وربط النتائج بها، وأسبابها ومقدماتها، وعن طريق الروئ التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنها من المبشرات، وأنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، عن طريق الاستخارة، بدلاً من ذلك يسلك الشيطان بالإنسان في محاولة الاطلاع وخاصة الاطلاع على الغيبيات، يسلك به الطريق المنحرف، عن طريق الكهانة، وإثبات الكهانة، وكثير من الناس يسافرون إليهم من أماكن بعيدة، عن طريق ما يسمى قراءة الفنجان، وعن طريق كثير من الخرافات التي شاعت في هذا العصر وذاعت وانتشرت حتى بين المسلمين، والأمثلة كثيرة. ومنها: زيارة الكهان والعرافين والمنجمين وقارئ الكف وقارئة الفنجان، وحظك هذا اليوم إلخ وهذا كله شيء من حيل الشيطان في مسخ الفطرة، وهو الشق الأول من كيده لتغيير خلق الله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 12 حب الجنس الآخر ومن صور مسخ الإنسان للفطرة: أن الإنسان مفطور على الميل للجنس الآخر، فالرجل مفطور على المرأة، والمرأة كذلك، والرجل يكمل المرأة، والمرأة تكمل المرأة. وهذه قضية بحد ذاتها فطرية غريزية لا يلام عليها الإنسان -وقد سبقت إشارة عابرة إلى موقف الإسلام منها، وهو أنه شرع الزواج وأمر بتيسير أسبابه وحث عليه- لكن انظر إلى موقف الجاهليات والمناهج المنحرفة من هذا الأمر! ستجد لو تأملت -أيضاً- في هذا الأمر عجباً! فالجاهلية في كل عصر -وفي هذا العصر خاصة- تحاول أن تجعل من هذا الميل الغريزي الموجود لدى كل جنس نحو الجنس الآخر؛ تحاول أن تجعل منه خنجراً تطعن فيه الإسلام والمسلمين، وتفعل ما يلي:- العمل بكل وسيلة على تهييج الغريزة الجنسية وإثارتها. سد الأبواب المشروعة للإشباع الفطري. ففي الوقت الذي يشحذ فيه الشيطان غريزة الإنسان، فإنه يقوم بعمل آخر متزامن مع هذا العمل: وهو سد الأبواب المشروعة للإشباع الفطري؛ وذلك بوضع العراقيل والعقبات الحقيقية والوهمية في هذا السبيل، ويختلق عوائق اجتماعية ونفسية وعقلية واقتصادية؛ للتأثير على الشباب والشابات بمؤثرات كثيرة، تقنعهم بأن قضية الزواج مسألة صعبة يجب عدم التفكير فيها الآن لأسباب عديدة، منها: مواصلة الدراسة، والعمل على تأمين المستقبل، وعدم توفر الإمكانات اللازمة، والظروف البيتية، وانصراف النفس أصلاً عن التفكير في هذا الموضوع وعدم التهيؤ له؛ بسبب مؤثرات تظهر بصمات إبليس في معظمها وقد جند آلاف الصفحات والمطابع، والمحررين، والأجهزة المختلفة لتحقيق هذا المطلب، وتضخيم هذه العقبات. أما الفتاة فهي لا تريد الزواج الآن؛ لأنها ما زالت طالبة في الجامعة، ويتقدم الأَكْفاء، فترفضهم بهذه الحجة، فلا تتخرج إلا وعمرها ثنتان وعشرون سنة -على أقل تقدير- فترغب أن تعمل لعدد من السنوات قبل الزواج؛ لأن من غير المعقول أن تتسلّم الشهادة الجامعية وتعلقها في المطبخ -هكذا تقول- ثم تبدأ في فترة متأخرة تفكر في الزواج، وهي تحتفظ بشروطها العسيرة في من ترضاه شريكًا لحياتها فالفتاة من شروطها وأقوالها: بأنها تريد إنساناً بصفاتٍ معينة، فحتى بعد سن الأربعة والعشرين -مثلاً- يتقدم واحدٌ وثاني وثالث فترفضهم! ويتقدم بها السن، بعد ذلك تريد أن تتنازل قليلاً عن شروطها؛ لكن الزوج الذي تريده ذهب إلى غيرها، وتقدم تنازلاً آخر، ولكن بعد فوات الأوان؛ إلى حد أنها قد تتنازل عن كثير من شروطها، فلا يتقدم لها من تريد، فقد يصل بها الحال إلى أن ترغب أن تكون زوجة ثانية أو ثالثة، فلا تجد من يوافقها على ذلك. وهناك في الواقع -الآن- كثير من الفتيات بلغت سن الثلاثين، بل تعدت هذا السن بمحض اختيارها، دعك ممن يعضلها أهلها، ودعك ممن لا تريد الزواج أصلاً، لأنها لا تريد هذا الأمر، وتشعر بأنها غير سوية في هذا المجال؛ لكن ممن يرغبن في الزواج -وهن غالب النساء- هناك من جاوزت هذا السن وبكثير؛ بل ولا زالت تشترط، تشترط شاباً بصفات معينة، ولا زالت الأحلام تدور برأسها!!. هذه صورة مما يحدث من كيد الشيطان في إيجاد العوائق والعقبات الكثيرة في الواقع وفي نفس المرأة، أو في نفس الرجل عن الزواج، وبالمقابل: انظر إلى الطرف الآخر! هل غريزة الإنسان ذكراً أو أنثى، خلال هذه المدة؛ هل هذه الغريزة نائمة؟ كلا. بل هذه الغريزة يقظة؛ والشيطان كما يسعى في الطرف الأول إلى محاولة إيجاد العوائق والعقبات الكثيرة، أمام الإشباع الصحيح للغريزة؛ يسعى في الطرف الثاني إلى فتح الباب على مصراعيه للإشباع المحرم، عن طريق الإغراءات الكثيرة عن طريق المجلات التي هي بالمئات؛ بل لا أبالغ إذا قلت: أنها بالآلاف، من مجلات الأزياء، مجلات الفن، مجلات السينما، مجلات الرياضة، مجلات الجمال، مجلات الجنس الخ. فمن مختلف البلدان تجبى إلى هذه البلاد ثمرات كل دارٍ من دور النشر المنحرفة؛ وتجد في بلاد الإسلام، مرتعاً خصباً، حيث الغنى والمال؛ ويشتريها المسلمون بأغلى الأثمان، من أجل ماذا؟! من أجل الصور الجميلة من أجل الأزياء، من خلال القصص المثيرة للجنس، المحركة للعاطفة وفي البقالات تباع هذه القصص، فضلاً عن المكتبات، وقد رأيت في البقالات، كثيراً منها روايات وقصص يسمونها روايات عبير!. ولله الحمد ما قرأت شيئاً منها؛ ولكن يكفي لتعلموا مدى سوء هذه الروايات، وإثارتها للغريزة الجنسية؛ أن بعض صحفنا السعودية كتبت تنتقد هذه الروايات، وتنتقد بيعها وتقول: إنها روايات تتاجر في الغريزة الجنسية، أو كما قالت إحدى الصحف. فما بالك بما تنتقده هذه الصحيفة، أو بالمادة التي تنتقدها هذه الصحيفة أي: لا بد أنها بلغت مبلغاً عظيماً في الإثارة الجنسية، ومعظم الروايات تدور حول الجنس قصص دواوين شعر لا أقول بالمرأة، فالمرأة ثياب متكاملة، المرأة عواطف، المرأة خلق، تتاجر بالجنس فحسب، وكأن الحياة كلها شهوة، أفلام الفيديو التي أصبحت محلاتها كثيرة جداً، والأفلام المسموح بها كثيرٌ منها يخجل الإنسان من سماع ما فيها فضلاً عن مشاهدتها، فضلاً عن الأفلام الممنوعة والتي أصبحت، تتداول بشكل غريب بين كثير من الشباب! أفلام تصل إلى حد عرض الجريمة الخلقية، على مرأى ومشهد من الشباب والشابات. فما بالكم أيها الإخوة بشاب غير متزوج، أو فتاة غير متزوجة، فيه غريزية وفطرة مركوزة أصلاً؛ باب الزواج المشروع، مغلق أو وضعت أمامه عقبات وعراقيل كثيرة؛ ثم يشاهد مثل هذه الأشياء أو بعضها، ما الذي يحدث؟! يحدث اشتعال لهذه الغريزة تحرك شديد انفعال غير طبيعي؛ فيركض الإنسان للطريق المباح إن كان يخاف الله عز وجل؛ فيجده مغلقاً، ولذلك يتجه للطريق الآخر، -الطريق المحرم- وهذا ما يريده الشيطان؛ يريد أن يسوق الإنسان بالقوة إلى هذا الطريق الحرام؛ ولذلك يشيع -مثلاً- في كثير من الأوساط: الكلام في الحب، والغزل، وتبادل الرسائل، والمعاكسات مع الشباب، والمعاكسات الهاتفية، وغير ذلك ومن الغريب جداً أن تجد أولياء الشيطان من أصحاب تلك الصحف، والمجلات، والمسرحيات، والتمثيليات، والكتب يطالبون بفتح المجال لمثل هذه الأشياء، بالعلاقة بين الشباب، بالاختلاط -كما يسمونه الاختلاط البريء- في العلاقات المباحة البعيدة الخ. فيا سبحان الله! {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] . فكثير من الناس يوقع نفسه في هذا الموقع، فيجره الشيطان إلى الآخر؛ إذا مشى خطوة، جره الشيطان عشر خطوات، فيأتي يبكي على نفسه! ولسان حاله يقول كما قال الشاعر: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماءِ وقد حدثني أحد الإخوة الثقات: أن بعض الشباب، في بلدانٍ منحرفة، كانوا يجلسون في مكانٍ مع بعض الساقطات العاهرات، ثم يخرجون إلى مكانٍ آخر والدموع تنهمر من عيونهم خوفاً من الله عز وجل!! فيا سبحان الله! ما الذي جاء بك أصلاً إلى هذا المكان؟! الإنسان إذا أسلم قياده للشيطان بخطوة، قد يجره الشيطان خطوات، وقد يصعب عليه أن يرفض الخطوة الثانية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 13 حب الراحة ثم يقول عليه الصلاة والسلام، في المرحلة الثالثة: {ثم قعد له في طريق الجهاد} أي أن الشيطان قعد للإنسان بطريق الجهاد هو الآن أسلم أولاً، ثم هاجر ثانياً، ثم أراد أن يجاهد. فالشيطان يقف للمرة الثالثة، وهو لا ييئس، فيقول له: {أين تريد أن تذهب؟ تجاهد! كيف تجاهد؟! أتدري ما الجهاد؟! الجهاد هو جهد النفس والمال} أي: إتعاب النفس والمال، إتعاب النفس معروف بالجهد الذي يبذله الإنسان؛ أما إتعاب المال فقد يكون مجازياً بمعنى إنفاق المال في الجهاد في سبيل الله، وقد يكون حقيقياً بمعنى أن الإنسان يتعب ماله، يتعب الخيل والإبل، يتعب العبيد الأرقاء تعباً حقيقياً بالجهاد في سبيل الله، هو جهد النفس والمال. فمالك وللجهد والتعب؟! الراحة والسكون أمر مطلوب، وأكثرنا يميل إلى الراحة والسكون حتى ولو كان يتطلع ويتمنى الخير ولله در الشاعر الذي يقول، -وما أجمل ما يقول-: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتالُ كل الناس بودهم أن يكونوا أبطالاً، وبودهم أن يكونوا شجعاناً، وبودهم أن يكونوا كرماء، وبودهم أن يكونوا ممن يشار إليهم بالبنان، وبودهم أن يكونوا في الدرجات العليا في الجنة؛ لكن الفرق ليس في الود والرغبة القضية قضية الاستطاعة، استطاعة الإنسان التغلب على حب هذه الأشياء؛ ولذلك يقول: لولا المشقة ساد الناس كلهم الجود يفقر والإقدام قتَّالُ فالشيطان يدعو الإنسان ويثير غريزة حب الراحة {الجهاد هو جهد النفس والمال، فتقاتل، فتقتل!! فتنكح الزوجة ويقسم المال} فالحقيقة أن الإنسان لو -فعلاً- شد أحزمته، وركب راحلته، ويمم شطر ميادين الجهاد فعلاً، ماذا تتوقعون أن يثور في نفس الإنسان من المشاعر؟! يتذكر الإنسان في مثل تلك الحال، أنه مُقِدَم على ميدان القتال، وهناك احتمال كبير جداً أن يقتل؛ والإنسان دائماً يضع الاحتمالات في نفسه، واحتمال القتل يغلب في مثل هذه الحال في نفس الإنسان فأنت ستقتل الآن ماذا سيجري بعد قتلك؟ ستفقد الحياة، وغريزة حب الحياة: غريزة موجودة عند الإنسان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 14 حب الحياة والبقاء يستغل الشيطان حب الإنسان للحياة والبقاء؛ ليثنيه به عن الجهاد في سبيل الله خوفًا من نيل الشهادة! وهكذا يجيء للابن من الناحية التي كَادَ فيها للأب، فقد خاطب الشيطان أبانا آدم فيها في الجنة، وقال: {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] وقال: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:21] . فلأن الإنسان يحب الحياة والبقاء، فالشيطان يقول له: ستقتل فتفقد الحياة!! أيضاً: الإنسان يحب أن يستمتع بزوجته فتنكح الزوجة من بعده، والإنسان يحب ماله فيقسم ماله من بعده، وكذلك ييتم أولادك، إذاً لا داعي للجهاد. قال صلى الله عليه وسلم: {فعصاه فجاهد} ؛ ومن الملاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام، في المواقف الثلاثه يذكر النتيجة الإيجابية، في الموقف الأول: {فعصاه فأسلم} في الثاني: {فعصاه فهاجر} في الثالث، {فعصاه فجاهد} . وبعدما ذكر كيد الشيطان وموقف الإنسان المسلم قال: {فإن فعل ذلك فمات؛ كان حقاً على الله أن يرضيه، أو قتل؛ كان حقاً على الله أن يرضيه، أو وقصته دابته؛ كان حقاً على الله أن يرضيه، وإن غرق كان حقاً على الله أن يرضيه} . فإذا صحت نية الإنسان، أرضاه الله تبارك وتعالى، ولو لم يبلغ ما سعى إليه من الشهادة!! الجزء: 15 ¦ الصفحة: 15 حب الوطن حب الوطن أمر فطري غريزي. لا يلام الإنسان عليه؛ إنما إن كان هذا الحب صرف في مرضاة الله، فدافع الإنسان عن وطن الإسلام وحماه من الكفار، ومن أعداء الإسلام الذين يريدون أن يحتلونه بالسلاح؛ أو الذين يريدون أن يفرضوا عليه الفساد والانحلال؛ فهذا محمود، وإن كان حب الوطن يدعو الإنسان إلى ترك الهجرة، وإلى ترك الجهاد، وإلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلى ترك الدعوة؛ فهذا مذموم. فحب الوطن بذاته غريزة، والشيطان يستثمر هذه الغريزة، فيحاول أن يحرك هذه الغريزة في نفس الإنسان؛ ليمنعه بها من أعمال الخير؛ بل ليجعل الوطن وثناً يعبد من دون الله عز وجل. أحد الشعراء المنحرفين واسمه صلاح بن عبد الصبور، من شعراء مصر، يتغنى بوطنه ويقول: الشمس أجمل في بلادي حتى السماء هناك أجمل أي أن الشمس في بلده أجمل من الشمس في أي بلد آخر! والسماء في بلده، أجمل من السماء في بلدٍ آخر! والأمر هو هو؛ لكنه يشير أو يريد أن يقول: إن حبه لوطنه جعل الأشياء كلها الموجودة في وطنه أحب إليه من الأشياء نفسها حين تكون موجودة في بلد آخر. شاعر آخر: وهو خير الدين الزركلي من شعراء أهل الشام، وهي قصيدة كانت تُغنى وتذاع في وسائل الإعلام، فيما أخبرني بعض الإخوة الثقات، يقول: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا أي أنه مستعد أن يقبل هذا الوثن ما دام هو الوطن. إذاً: الوطنية هي في كثير من الأحيان وثنية، ومن العجيب جداً أن شاعراً هو أحمد شوقي الشاعر المشهور _أيضاً_ وكل هؤلاء مع الأسف شعراء من المنتسبين إلى الإسلام! ذاك من شعراء النصرانية الذي يقول قائلهم: هبو لي دينًا يجعل العُرب أمةً وسيروا بجثماني على دين برهم ألا حبذا كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنمِ دعك من هؤلاء فهم كفارٌ نصارى؛ لكن المصيبة أن يكون المسلم ضحية هذه الوثنية التي يسمونها الآن الوطنية!! أحمد شوقي يقول مخاطباً بلاده بعد سفراً طويل: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشباباأدير إليك قبل البيت وجهي إذا فُهت الشهادة والمتابا! يا للعجب!! رجل يتفوه بالشهادتين وبالتوبة وأي توبة هذه لمن يقول: أدير إليك قبل البيت وجهي؟!! وليس المقصود الحديث عن فلان أو فلان، فهؤلاء قدموا لما عملوا، ولعلهم تابوا من هذه الأشياء، ولعل الله ختم لهم أو لبعضهم بخير، فالله أعلم، وليس المقصود الحكم على فلان، أو على علان، إنما المقصود الإشارة إلى أن الشيطان وجنده، والمناهج الجاهلية تستغل محبة الوطن الغريزية الموجودة عند الإنسان لتجعلها وثنية؛ بحيث يقدس الإنسان هذا الوطن ويصلي ويسجد إليه، ويضحي بأشياء كثيرة مطلوبة في الشرع محافظةً على هذا الوطن، وحباً له. وهذا الأمر -مع الآسف- أصبح اليوم نغمة يكثر الصحفيون والإعلاميون والكُتَّاب وغيرهم من الطرق عليها؛ ويعتبرون قضية الوطنية والوطن -في كثير من الأحيان- قضيةً أعظم حتى من قضية الدين. فمن الواجب -فعلاً- أن ننتبه إلى أن هذا مزلق يستغله كثيرٌ من أعداء الإسلام، لصرف عبودية المسلم من عبوديته لله عز وجل إلى العبودية لهذا الوثن، الذي يسمى الوطن؛ مع أن القضية ظاهرة فحب الوطن بحد ذاته أمرٌ لا يحمد ولا يذم، إن كان فيه خير فهو محمود، وإن كان فيه شر فهو مذموم كحب المال، كحب الزوجة، والولد {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] . فالشيطان يأتي للإنسان الذي يريد أن يهاجر، ويقول له: تهاجر، وتذر أرضك وسماءك! ويستمر الشيطان في الحديث والإغراء، فيقول لهذا الإنسان: وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، أي: مثل الفرس المربوط بالحبل الطول هو الحبل: فأنت إذا هاجرت تهاجر إلى بلد لا تعرفه، وإلى ناس لا تعرفهم، ليس لك أقارب، القبيلة مختلفة، ليس لديك وسائل لكسب المال؛ فأنت تصبح مربوطاً هناك، لا تستطيع أن تذهب ولا أن تأتي؛ فاترك الهجرة وابقَ في وطنك، قال صلى الله عليه وسلم: {فعصاه فهاجر} . الجزء: 15 ¦ الصفحة: 16 حب تقليد الآباء فالشيطان يستغل حينئذ كثرة موجودة عند الإنسان وهي حب التقليد حب الوفاء للآباء والأجداد، ونحن نجد أن هذه الغريزة يستغلها الشيطان في كثير من الأحيان، كم من إنسان يعرف الحق ويقول: بينه وبين أتباعه أنه وجد أمه وأباه وأقاربه على خلافه! ولذلك لما أسلم " بجير بن كعب " أخو " كعب بن مالك " الصحابي لما أسلم أرسل إليه أخوه كعب بن مالك يعاتبه على الإسلام، ويقول له: ألا بلِّغا عني بجيراً رسالة فهل لك فيما قلت؟! ويحك هل لكا؟ فبيِّن لنا إن كنتَ لست بفاعل على أي شيء غير ذلك دلَّكا؟ على خلق لم تلف أمًا ولا أبًا عليه ولم تترك عليه أخًا لكا يعاتبه: كيف تدخل في دين ما وجدت عليه أمك ولا أباك ولا أخاك؟! والمشركون كانوا يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة؛ والآن: كثيرٌ من الناس يضربون على هذا الوتر فإذا دعوا إلى الله ورسوله، قالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، حتى ولو كانوا من المسلمين! إذا دعوا إلى أمرٍ من أمور الدين، المجتمع قد تعوّد على خلافه، سنة مهجورة، بل أحياناً قد يكون أمراً واجباً، ولكن الناس قد تركوه وعملوا بخلافه، وجدت كثيراً من الناس يرفضون هذا الأمر، ويقولون: هذا أمرٌ ما عرفناه! بل بعضهم يقول: هذا دينٌ جديد! وبعض كبار السن إذا رأى أمراً لم يعتده، قال: منذ تسعين سنة ما رأيت مثل هذا الأمر، ولا سمعت به!! ولكن ماذا إذا كنت ما رأيت ولا سمعت؟!! الإنسان لا يزال متعلماً حتى يموت! إذاً في كثير من الأحيان الشيطان يحرك في الإنسان غريزة معينة، وهي غريزة حب التقليد، غريزة الوفاء للتقاليد والعادات التي وجد عليها الإنسان آباءه وأجداده ومجتمعه، فيحاول أن يحول بين الإنسان وبين التزام الخير، بتحريك هذه الغريزة وإثارتها وأنتم تجدون الشيطان في الحديث المذكور، يقول للإنسان: تسلم وتذر دينك ودين آبائك ودين آباء أبيك! ولله در الإمام الجليل العز بن عبد السلام! حين قال له تلاميذه: يا إمام! إنَّ في مكان كذا وكذا في القاهرة مكاناً أو حانةً يباع فيها الخمر، فذهب فنظر فوجد الأمر كما أُخبر فوقف في طريق السلطان، وكان قادماً في أحد الشوارع بأبهته وصولجانه، فلما قرب السلطان من هذا الإمام الذي كان يسمى سلطان العلماء لقوته وشدة بأسه وشجاعته في الحق، قال له العز بن عبد السلام: يا فلان -باسمه المجرد- إن في مكان كذا وكذا حانةً يُباع فيها الخمر، فقال السلطان للعز بن عبد السلام: يا سيدي! هذه الحانة من عهد أبي، أي هذه من قبل أن أتولى السلطة وهي موجودة فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: أنت من الذين يقولون: إنَّا وجدنا آباءنا على أمة، وإناَّ على آثارهم مقتدون، قال: أعوذ بالله! أعوذ بالله! وأمر بالحانة فأزيلت من ساعتها. فالإنسان المؤمن القوي يعتبر أنه يتقرب إلى الله عز وجل بمخالفة المألوف الذي وجد عليه الآباء والأجداد متى كان هذا المألوف مخالفاً لشريعة الله عز وجل. ثم قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {ثم قعد له -أي الشيطان قعد للإنسان -بطريق الهجرة-، هو الآن أسلم، في بلد شرك يريد أن يهاجر فقال له: تهاجر وتذر أرضك وسماءك؟! وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول} . كيف تهاجر فتذر أرضك وسماءك؟! الأرض والسماء هي أرض وسماء في أي مكان, لكن الإنسان بطبيعته -كما سبق- مفطورٌ ومجبول على حب البلد الذي نشأ فيه، وهذه بحد ذاتها لا تحمد ولا تذم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 17 نسخ الجاهلية للفطرة أي محاولة إلغائها بالكلية. فالشيطان مثلاً قد يغري بعض الإنسان بالرهبانية، لأنه إنسان غير قابل للصلاح، غير قابل للانحراف، فيريد الصلاح فيقربه بالرهبانية التي تتنكر للفطرة الموجودة عند الإنسان؛ وقد وجد في هذا العصر أنظمة كالشيوعية تتنكر للفطرة، فتلغي مثلاً الملكية الفردية، وتحرم على الإنسان أن يملك أي شيء، حتى القلم أو الثوب أو الحذاء الذي يلبسه هو ملك للدولة، وإنما تعطيك إياه الدولة لتستخدمه، ولا يملك الإنسان أدنى شيء، وإنما هي ملك للدولة. غريزة -مثلاً- حب الولد يحاولون أن يلغوها عن طريق كون الولد هو الآخر ليس لرجل من امرأةٍ خاصةٍ له؛ وإنما هو من أية امرأة، والدولة تستلم هذا الولد، وتضعه في محضن، وتربيه، ثم تتجه به إلى المصنع، وليس لأبيه به من علاقة. في دول أوروبا وأمريكا: نسخت الفطرة، حتى أن الزوج يفتخر أن تتعرى امرأته أمام الناس، وهذا هو نظام شريعة الغاب الذي ذكره العلماء عن المجتمعات القديمة غير المتحضرة، عاد الناس إليه اليوم في المجتمع الذي يصفونه بأنه المجتمع المتحضر. والله عزوجل يريد من عباده أن يسلكوا بهذه الفطرة المسلك الصحيح، فالإسلام هو دين الفطرة، والشيطان يريد أن يغلق أمام الناس الطريق الصحيح لإشباع هذه الفطرة؛ ليسلك بهم الطريق الآخر المنحرف. والله عز وجل جعل للإنسان إمكانية أن يسلك هذا الطريق أو ذاك، فقال سبحانه: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] . اللهم اهدنا الصراط المستقيم؛ اللهم أصلحنا واصلح لنا واصلح بنا، اللهم ثبتنا بالقول الثابت وفي الحياة الدنيا وفي الآخرة؛ اللهم احمنا من شر أنفسنا، ومن شر الشيطان وشركه، اللهم وفقنا لما تحب وترضى؛ اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك، وآخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راضٍ عنا؛ اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 15 ¦ الصفحة: 19 الغيرة والانتحار من آثار قوة الفطرة أو ضعفها السؤال الأمم السابقة تولد على الفطرة، وهل الغيرة من الفطرة؟ وكيف يكون المسلم غيوراً وهو لا يقيم بعض الصلوات ويفعل بعض المعاصي؟ وهل الانتحار يكون من فقد بعض الفطرة؟ الجواب أما الغيرة في الأصل فالغيرة من الفطرة في الجملة على أشياء معينة؛ فالإنسان يغار على أمور معينة -فمثلاً- المرأة تغار، وهذه فطرة موجودة في المرأة، لكن يهذبها الإسلام، والرجل كذلك يغار، والإنسان المسلم يغار من انتهاك حرمة الله عز وجل؛ لأنه يحب ما أحبه الله ورسوله؛ أما الذي يترك الصلوات ويفعل المعاصي، فَقَدْ فَقَدَ الغيرة أو كثيراً منها؛ لأنه كيف يغار وقد وقع هو فيما يُغارُ منه. أما الانتحار: فيكون من فقد أو ضعف فطرة معينة وهي حب البقاء، ويكون بالمقابل من وجود سبب؛ ولكن ضعفت الفطرة، في نفس هذا المنتحر. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 20 حكم قضاء الصوم للحائض السؤال إذا رأت المرأة الحيض في النصف الأول من رمضان، لأول مرة، ولم تصم الأيام الأولى من رمضان، هل عليها قضاء هذه الأيام؟ الجواب ليس عليها قضاء، الأيام التي حصلت منها قبل الحيض، بل تقضي الأيام التي تحيض فيها، ثم تصوم البقية. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 21 حكم لبس القفازات السؤال هل يجوز لبس القفازات السود، لغرض تغطيه اليدين عن الرجال، لأن البعض يقول: لا يجوز تغطية اليدين لئلا تكون مُلفتة للنظر؟ الجواب بل يجوز وأنا أرى أن هذا العمل طيب ومبارك ومن كمال تستر المرأة المسلمة، واعتزازها بأنوثتها ودينها أن تلبس المرأة المسلمة القفازين؛ بشرط ألا يكون ذلك بغرض الإثارة؛ لأن بعض الألوان من الملابس حتى حجاب الوجه؛ من الظاهر جداً أن بعض النساء تلبسه للإثارة، لأنها تلبس حجاباً قليلاً، إذا التفتت يميناً أو يساراً؛ أظهر جزءاً من وجهها، أو أظهر جزءً من رقبتها، أو أظهر نحرها فغطت بعض وجهها وأظهرت بعضه؛ من باب كل ممنوع مرغوب، فعلى المرأة أن تتستر تستراً صحيحاً، بعيداً عن الإثارة. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 22 حكم المزاح بالكذب السؤال ما حكم المزاح في الكذب؟ الجواب الكذب لا يحوز في كل حال، إلا في حالة مستثناة، معروفة ليس المزاح من بينها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 23 خلوة النساء بالسائق السؤال ما حكم الذهاب مع السائق، إذا كان يوجد أكثر من امرأة للضرورة؟ الجواب ما معنى الضرورة؟ وما هي الضرورة؟ للضرورة معنىً آخر غير المعنى الصحيح، فأما إذا كان هناك ضرورة، مثل مريض -مثلاً- لابد من أن يُوَصل المستشفى، ولا حل إلا بهذا؛ فهذا لا بد منه. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 24 حكم مطالعة المجلات المنحرفة السؤال ما حكم مطالعة المجلات، ووجودها في المنزل؟ الجواب المجلات السيئة المنحرفة -كما سبق- على المسلمين جميعاً أن يقاطعوها، وألا يقتنوها، ولا يجوز وجودها في البيت ولا مطالعتها. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 25 الإسلام هو دين جميع الأنبياء السؤال قلتم في أول المحاضرة: الأديان فهل هناك دين غير الإسلام، كما أني سمعت اليهودية، والنصرانية بدعة؟ الجواب أما الأديان؛ فدين الإسلام: هو الدين الذي نزل على جميع الرسل؛ فجميع الرسل دينهم الإسلام، وكلهم جاءوا بدينٍ واحد وهو الإسلام، بمعنى أن العقيدة التي جاءوا بها واحدة، لكن الشرائع مختلفة؛ فكل نبيٍ جاء بشريعة غير الشريعة التي جاء بها غيره، لكن جمع دين على أديان، كلمة دارجة مستعملة، وكان العلماء القدماء يقولون: إن هذا طبيب أديان، وهذا طبيب أبدان، ولا بأس من استعمال هذه الكلمة بهذا المعنى. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 26 حالات جواز الكذب السؤال ما أوجه الكذب التي يجوز فيها الكذب بالتفصيل، مع ذكر الأمثلة على ذلك في واقع الحياة اليومية؟ الجواب الكذب لا يجوز بل هو من كبائر الذنوب، متى يجوز الكذب؟ يجوز في حالات معينة: يجوز الكذب في حال الحرب؛ ويجوز الكذب للإصلاح بين المتخاصمين، فتنمي خيراً وتشيع بينهم أن فلاناً ندم، وفلان قال فيك كذا، وأثنى عليك؛ ويجوز الكذب من الزوج على زوجته؛ والذي يظهر لي مما يتعلق بكذب الزوج على زوجته هو فيما ليس بالكذب الصريح، بل هو نوع من وصف شيء معين، لا بد منه لاستمرار الحياة الزوجية، فمثلاً قد يخبر الزوج زوجته أنه يحبها؛ والواقع أنه يحبها فعلاً لكن حبه لها قليل، فهو قد يشعرها بأن محبتها في قلبه أكثر مما هي في الواقع؛ رغبة في استمرار الحياة الزوجية؛ فهذا النوع إن أمكن تسميته كذباً؛ جائز، لأنه يساعد على استمرار الحياة الزوجية، وهو نوع من جبر خاطر المرأة، وما أشبه ذلك من الأمور التي يرى الزوج أن فيها مصلحة لاستمرار العلاقة بينهما كذلك لو كان عند المرأة طمع في أشياء معينة، والزوج يصعب عليه أن يحقق هذه الأشياء، ويرى أن العلاقة الزوجية قد قامت الآن، ولا يمكن أن ينفصل عن هذه المرأة؛ فيضطر إلى أن يتعامل معها بأسلوب معين، قد يُعَّمي عليها بعض الأشياء، وقد يُبالغ في بعض الأمور تحقيقاً لهذا المطلب عند المرأة، مع أنه يبقى الأصل أن الكذب محرم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 27 الزوج التارك للصلاة السؤال ما واجب المسلمة إذا كان زوجها لا يصلي؟ الجواب إذا كان لا يصلي بالكلية، فعليها أن تنصحه، ثم تنصحه، ثم تنصحه؛ فإن لم ينتصح؛ فيحرم عليها أن تبقى في عصمته، بل يجب أن تبذل الأسباب لمفارقته، ويحرُم عليها أن تمكنه من نفسها؛ لأنه إذا كان مصراً على ترك الصلاة بالكلية؛ فهو كافر وكذلك تنصح المسلمة قريباتها، ممن تعلم هذا من أزواجهن. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 28 كفارة اليمين السؤال سائلة تقول: حلفتُ بالله ألا أدرس في المرحلة الثانوية؛ ولكنني كنتُ مترددة؛ فقطعتُ يميني ودرست وأنا الآن في ثاني ثانوي أجيبوني جزاكم الله خيراً، هل عليَّ أن أصوم أم ماذا؟ الجواب عليها كفارة يمين، ذكره الله عز وجل بقوله: {فَكَفَّارَتُه إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] فعليها أن تُطعم عشرة مساكين، أو تكسوهم؛ والإطعام يعادل -كما ذكر بعض المشايخ- أن تطعمهم نحو ستة كيلو من الأرز، توزعه عليهم. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 29 حكم مشاهدة التلفزيون السؤال ما حكم مشاهدة التلفزيون؟ الجواب مشاهدة البرامج التي تحتوي على مادة محرمة لا تجوز، فمشاهدة أو تلذذ الرجل بالنظر للمرأة، أو تلذذ المرأة بالرجل -بالنظر إلى الرجل- والشهوة في ذلك، سماع الغناء، سماع الموسيقى لا يجوز، اقتناء هذه الأجهزة التي قد تستخدم في البيت بغير موافقة المسئول عن البيت، استخداماً محرماً! إذا علم أن ذلك يحصل فهذا لا يجوز أيضاً. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 30 التحذير من خروج المرأة في الأسواق السؤال ما رأيكم في ظاهرة كثرة وهي خروج المرأة إلى الأسواق وخاصةً يوم الجمعة، الذي اعتادت النساء الخروج فيه من غير داعٍ لذلك ولا ضرورة؟ الجواب أدب الله عز وجل أفضل النساء -زوجات نبيه صلى الله عليه وسلم، الطاهرات- بقوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فالمسلمة مطالبة بالقرار في بيتها؛ وأعجب أشد العجب، لما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لزوجاته بعد أن حج بهن: {هذه، ثم لزوم الحُصر} أي أنه بعد الحج، المرأة من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم تلزم بيتها. فالمسلمة مملكتها البيت، لا تخرج إلا لحاجة، وإذا خرجت فتخرج متسترة، غير متطيبة ولا متزينة؛ فالمرأة تفتن وتفتتن، والرجل إذا نظر إلى المرأة؛ تصيبه الفتنة والتأثر قل أو كثر، حتى إن كثيراً من الرجال يتحدثون، أن أحدهم قد يرى زوجته؛ وهو يعلم أنها زوجته، فلا يلتفت إليها، ولا يأبه بها؛ لكن إذا لبست ثيابها، وتنكرت، ورآها من دون أن يعلم أنها زوجته ثارت في نفسه مشاعر شديدة وقوية، فالمرأة تفتن من رآها وقد تفتتن هي، وخاصةً إذا كانت متجملة متطيبة، وهي شابة، كما هو واقع كثيراً ممن يخرجن للأسواق، فلتتقِ الله المرأة المسلمة في نفسها، ولتتقِ الله في إخوانها المسلمين، وعليها إن اضطرت للخروج أو احتاجت إليه أن تخرج بثيابٍ متبذلة وهي تفلةٌ كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم: من تخرج للمسجد، وأن تُخفي جميع محاسنها، تُخفي وجهها، تُخفي نحرها تُخفي ذراعيها تُخفي قدميها؛ فإن هذا كله من كمال التستر … ولا شك أن الرجل حين يرى المرأة وقد غطت ذراعيها وكفيها وقدميها؛ يشعر أنه أمام امرأة مؤمنة متدينة صالحة، خرجت لغرض؛ فيشعر بالإكبار والإجلال لهذه المرأة؛ ولا يفكر أو يهم بالنظر إليها، وهذا شعور من المؤكد أنه يثور لدى كثيرٍ من الناس، حتى لَدى الفُساق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 31 نصائح مهمة للمرأة السؤال ما هي نصيحتك للمرأة المسلمة في هذه الأيام؟ وما هي الكتب التي تنصح بها المرأة المسلمة؟ ما حكم مجلات الأزياء التي تحمل صور النساء؟ وما حكم مخطابة المرأة للخياط الأجنبي الهندي أو غيره عند الخياطة، وكذلك لأصحاب المحلات؟ الجواب أما النصيحة للمرأة فالكلام فيها كثير، فإن المرأة يجب أن تنتبه لفطرتها، ولا تعارض هذه الفطرةح والمرأة خلقت بفطرة معينة متميزة عن الرجل، فعلى المرأة أن تُدرك أن من كمال دينها ومن كمال سعادتها أن تسعى إلى معرفة فطرتها، والتجاوب مع هذه الفطرة، يقول الشاعر: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول المرأة غير الرجل كما قال تعالى: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] فالمرأة حين تحاول أن تسترجل؛ هي كالرجل حين يحاول أن يتأنث! وما عجبُُ أن النساء ترجلت ولكن تأنيث الرجال عجيبُ يقول الشاعر: فالذين يطالبون مثلاً بخروج المرأة للعمل بالاختلاط بكون المرأة تشتغل في الهندسة؛ تشتغل مهندسة جسور، تشتغل سكرتيرة؛ تشتغل كذا؛ تشتغل كذا، يريدون أن يستمتعوا بالمرأة في قارعة الطريق، ويريدون أن يُخرِجُوا المرأة عن فطرتها فكمالك يا أختي المسلمة! هو في معرفتك بفطرتك التي فطرك الله عليها، وتزكية هذه الفطرة والتجاوب معها؛ فعلى المرأة أن تسعى إلى تحقيق فطرتها عن طريق الزواج المشروع؛ لأنه يُحقق للمرأة جانباً مهماً جداً، وعن طريق الإنجاب الذي يحقق -أيضاً- جانب مهم جداً عند المرأة، فالمرأة هي أُم، ومن أعظم مشاعر المرأة مشاعر الأمومة، والحنو على الولد، وتربية الأجيال الذين يخرجون على يديها، والشاعر -وأظنه حافظ ابراهيم - يقول: الأم مدرسةُُ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ. والآخر يقول عن أعداء الإسلام: وقديماً يئسوا من قهرنا حينما أعياهم لمح خيالك غير أن الذل قد دمرنا منذُ أن خضت بنا تلك المسالك فإذا انحرفت المرأة انحرفت الأجيال، وإذا صلحت المرأة صلحت الأجيال. نصيحتي للمرأة المسلمة أن تحرص على الوعي بالإسلام، والوعي بالمخططات الرهيبة التي يديرها أعداء الإسلام، وخاصةً اليهود لإفساد المرأة، وإفساد المسلمين بالمرأة. نصيحتي للمرأة المسلمة: أن تكون داعية، لا تقتصر على إصلاح نفسها؛ بل تحرص على إصلاح من حولها في البيت وفي المدرسة، وفي المجتمعات النسائية، والذي أنصح المرأة المسلمة به بعد كتاب الله، وبعد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو: إصلاح العقيدة من خلال الكتب الصحيحة، ككتاب التوحيد، العقيدة الطحاوية، العقيدة الواسطية، ومعرفة الأحكام المتعلقة بالمرأة في كتب الفقه، ككتاب فقه السنة -مثلاً- ومعرفة أحكام المرأة وما يتعلق بها من خلال المؤلفات والكتب المؤلفة في المرأة، وهي كثيرة جداً، منها كتاب عمر الأشقر، ومنها كتاب عبد العزيز المقبل، ومنها كتاب نعمة صدقي: خطر التبرج والإختلاط، ومنها كتاب مصطفى السباعي، المرأة بين الفقه والقانون، وكُتب كثيرة لا تحضرني. وأما مجلات الأزياء التي تحمل صور النساء فأرى من الواجب على المسلمين ذكوراً وإناثاً مقاطعتها، وشن حرب عليها، حتى تكسد سوقها، ويضطر مصدروها إلى التوقف أمَّا الرسم الذي بدون صور، أي رسم أزياء بدون صور فهذا لا بأس فيه، وأما مخاطبة المرأة للرجل إذا كان ذلك لحاجة، فهو جائز. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 32 الزواج وعوائقه السؤال إن الفطرة تجذب الرجل للمرأة وبالعكس، ولا يوجد من طريقٍ حلال إلا الزواج لإشباع هذا الميل، ونحن معشر الشباب الصالح إن شاء الله، نحرص على سلوك هذا السبيل؛ لكن ما قولكم فيمن يضع العراقيل في هذا السبيل كإكمال الدراسة الجامعية، أو تأمين المستقبل كما يقوله البعض، كأنهم لم يثقوا بوعد الله؟ الجواب يقول الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] فالزواج من أسباب الغِنى، وهذا أمرٌ مجرب، فالله عز وجل وعد الفقير إذا نكح بقصد الإعفاف أن يغنيه، وهذا أمرُ مشاهد؛ ومن أسباب الغنى: أن الرجل بعد الزواج يشعر بالمسئولية، وأنه أصبح رب أسرة، ولابد أن يعتمد بعد الله على نفسه، فيجد ويجتهد في تحصيل الاستغناء المالي. الأمر الآخر: أن الإنسان يجب أن يحرص على ترتيب الأولويات، فأغنى شيء على الإنسان دينه، كثيرٌ جداً من الشباب يشتكون من قضية ما يسمى بالعادة السرية، ويتكلمون كلام الإنسان اليائس، الذي يشعر بأنه تاب ثم وقع، تاب ثم وقع، حتى إن بعضهم ينذر على نفسه أن يقلع فلا يقلع، وبعضهم يقع في أشياء مُتعبة جداً، بسبب تكرر حصول هذا الأمر منه؛ لأنه ما أشبع هذه الغريزة الفطرية. فدينك أيها الشاب أغلى عليك من كل شيء، وعليك أن تفكر جدياً في حماية دينك، ولو على حساب أشياء أخرى؛ ولله در ذلك الصحابي الذي كان بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأةٌ فأهدت نفسها للرسول صلى الله عليه وسلم، فصوب إليها النظر، فكأنها لم تعجبه، فقال الرجل: {يا رسول الله! زوجني إياها إن لم تكن إليك بها حاجة، فقال له: أصدقها، ذهب يبحث فما وجد، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فما وجد، قال للرسول: إزاري هذا قال: إن أعطيت لها إزارك، بقيت ولا إزار لك ثم سأله إن كان يحفظ شيئاً من القرآن، فقال: زوجتك بما معك من القرآن} أي أن تعلمها شيئاً من القرآن. فذلك رجل يدرك أن قضية الزواج مهمة، إلى درجة أنه مستعد أن يخلع إزاره ليكون مهراً للمرأة؛ وآخر تزوجها بنعليه، طبعاً ذلك المجتمع كان فيه فقر؛ لكن المقصود أن أولئك كان يدركون أن قضية الزواج قضية أساسية، ويجب العمل على إزالة العوائق. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 33 حكم بعض البلدان السؤال أنت تقول أن حب البلد فطرة توجد في الإنسان يوجد بعض الشباب، إذا ذكرت له البلد الفلاني، يقول بأعلى صوته: أعوذ بالله من هذا البلد؟! الجواب قد يعوذ بالله من الانحراف والفساد الموجود في ذلك البلد، وقد يعوذ بالله من تقديم هذا البلد على محبة الله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وهذا صحيح. أما بغض البلاد بذاتها؛ فليس بمشروع، إلاَّ لو وجد بلد ورد في الشرع ما يدُل على سوئه؛ فإن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، وقد اختار الله بلداناً وفضلها وأثنى عليها، وذكر {أن الإسلام يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ولمكة وللمدينة فضل ليس لغيرهما، ولجزيرة العرب فضل، ولبلاد اليمن فضل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إني لأجد نفس ربكم من قبل اليمن} وقال: {آتاكم أهل اليمن} ولبلاد الشام فضل {وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} إلى غير ذلك. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 34 تزويج الشاب المنحرف السؤال يوجد شاب يشرب الدخان، ومسبل لثوبه، وحالقٌ لحيته، ولم أشهد عليه الصلاة مع الجماعة فهل يجوز للمرأة أن تتزوج مثل هذا الشاب؟ الجواب لا ينبغي للإنسان أن يُفرط في موليته؛ بل يجب عليه أن يختار لها الرجل المناسب، وكما أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر من يبحث عن زوجة بأن يظفر بذات الدين؛ فإن الولي وكذلك المرأة مأموران بالبحث عن ذي الدين، فينبغي للمرأة ألا تقبل بزوجٍ إلا أن يكون زوجاً صالحاً يعينها على طاعة الله، وكذلك يجب على الولي ألاَّ يُزوج من يعلم منه تقصيراً في دينه أو فسقاً أو انحرافاً. ثم بعد ذلك انظر إلى حال المرأة، فإن كانت المرأة متدينة صالحة، فلا تزوجها إلاَّ المتدين الصالح الذي يزيد من دينها؛ وإن كانت امرأة عادية كغيرها من الناس، فزوجها من هو من جنسها، إلا أن يتقدم لها من هو أفضل؛ فحبذا!. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 35 الحث على الزواج من الشاب المناسب (صاحب الدين) السؤال أنا فتاةُُ لم أتزوج، وكلما تقدم لي خاطب أرفضه بدون سبب، فما رأي الدين في هذا؟ وهل عليَّ وِزْرُُ؟ وما هي النصيحة لي ولأمثالي جزاكم الله خيرا؟ الجواب إذا كانت هذه الفتاة وأمثالها ممن تشعر بالرغبة الأصلية في تكميل دينها بالزواج، وهذا هو الغالب على جنس الإنسان ذكر وأنثى، فعليها وزر في رد الخاطب المناسب بدون سبب، ولا يجوز لها أن ترفضه، وتؤخر زواجها؛ لأنه قد لا يتقدم لها بعد ذلك من تريد وترغب فيه، فيجب على الفتاة أن تَفرح بقدوم الشاب الذي فيه صلاح، ولو كان فيه بعض النقائص. فمن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نُبلاً أن تُعد معايبهُ إذا كانت هذه النقائص في أمر الدنيا، كأن يكون وضعه المادي، متوسطاً -مثلاً- أو تكون هيئته عادية، أو يكون عليه بعض الملحوظات اليسيرة؛ فيجب على الشابة أو الفتاة أن تقبل بذلك، وأن تفرح به وَلِمَ تفرح؟ لأن الفتاة حين لا يتقدم لها من تريد، لا تستطيع أن تبحث هي؛ فالمرأة مطلوبة وليست طالبة، ومن العجب أن يتقدم لها رجل طيب وترفضه! وربما يكون عند المرأة -أحياناً- تهيب من موضوع الزواج، وحياء أو خجل منه؛ فعليها أن تدرك أن هذا أمرُُ فطري جبل الله عليه بنات آدم، ولا بد لها منه عاجلاً أو آجلاً، فأن تتزوج الآن بشاب مناسب خيرُُ من أن تُؤخر الأمر وترفضه بدون سبب؛ فقد لا تجد يوماً من الأيام من يتقدم لها، وقد تتنازل عن بعض ما تريد من الشروط، لكن بعد فوات الأوان. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 36 حقيقة الفطرة السؤال ما مدى صحة من قال: بأن الفطرة التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم: هي البحث عن معبود؟ الجواب هذا من الفطرة، فالفطرة -كما لعلي أشرت- فطرة ظاهرة، وفطرة باطنة: أما الفطرة الظاهرة: يمثلها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عشر من الفطرة -كما في الحديث الذي رواه مسلم، وذكر الختان، والاستحداد، وحلق العانة، ونتف الإبط، وانتقاص الماء، والمضمضة، وإعفاء اللحية، وقص الشارب} . فهذه من الفطرة الظاهرة، التي الإنسان بأصل فطرته يميل إليها؛ لأنها من كمال الإنسان ومما يحبب إلى الناس، ويجعل الألفة بينهم قائمة على أساسٍ سليم والشرائع كلها جاءت بتكميل هذه الفطرة، ورسم المنهج الصحيح لها. والفطرة الثانية: هي الفطرة الباطنة: وهي ميل القلب إلى معبود كما أشرت، وهذا أمرُُ فطري، والله عز وجل يقول: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] . فالإنسان لابد عابد، إما للشيطان أو للرحمن، يقول الله عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ويقول: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] . فالإنسان عابد بلا شك، ولو تُرك الإنسان وفطرته لاهتدى إلى الله عز وجل، والشرائع، والديانات السماوية جاءت لتزكي هذه المعرفة تُزكي معرفة الإنسان بالله عز وجل؛ فتجعله يؤمن بالله، ويعرف الله حق المعرفة، ويعبد الله حق العبادة؛ والشيطان والمجتمع المنحرف يحاول أن يصرف الإنسان عن هذه الفطرة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} . ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: أن في القلب شعثاً لا يلومه إلا الإقبال على الله، وفقراً لا يغنيه إلا التوجه إلى الله عز وجل؛ وأن العبد إذا لم يُقبل على الله تبارك وتعالى؛ فإن قلبه يتشعب في أودية الدنيا وفجاجها، فلا يبالي الله به في أي وادٍ هلك؛ ولذلك الإنسان إذا ترك دينه؛ أصابه من الأمراض النفسية مالا يعرفه بها إلا من عاشره!! نسأل الله السلامة، وأشد الناس شقاءً وتعاسة في الدنيا، هما الملحدون، والعياذ بالله. الجزء: 15 ¦ الصفحة: 37 سلوكيات خاطئة في الأذان تحدث الشيخ حفظه الله عن السلوكيات الخاطئة التي يقع فيها المؤذنون في أنحاء العالم الإسلامي، وقسمها الى قسمين أساسيين: أخطاء في جانب القصد والإرادة، وأخطاء في جانب المتابعة والموافقة للسنة. فكان من القسم الأول: طلب الأجرة والدنيا عن طريق الأذان، والرياء والسمعة به، وكان من القسم الثاني التمطيط وزيادة حروف وإبدال بعضها ببعض في كلمات الأذان، والجهر بالصلاة على النبي بعد الأذان وزيادة ما لم يشرع مثل (حي على خير العمل) (أشهد أن علياًَ ولي الله) كما تعرض لبعض الأحاديث الموضوعة في فضل الأذان والمؤذنين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 1 أخطاء الناس في نية الأذان الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. تعلمون بارك الله فيكم أنني ابتدأت في هذا المسجد درساً آخر كما كنا اتفقنا في أول الفصل السابق من أول العام الهجري وأن هذا الدرس هو درس علمي عام غير مخصص في موضوع معين؛ بل سيتناول موضوعات عدة، في جميع ألوان العلوم والفنون التي يحتاجها الناس، ولذلك فإن ذلك الوقت الذي بين الأذان والإقامة في درس بلوغ المرام، سوف أجعله غالباً للحديث عن بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس، فيما يتعلق بالباب الذي أشرحه من كتاب بلوغ المرام، فإذا كنت الآن أشرح -مثلاً- باب الأذان من كتاب الصلاة، فسأجعل ما بعد الأذان للتنبيه على بعض الأخطاء والأغلاط التي يقع فيها الناس في شأن الأذان، مما لا يتسع المجال لبسطه في الدرس نفسه، لضيق الوقت وكثرة الأحاديث التي تحتاج إلى شرح وبيان وبسط وإيضاح. فسأجعل هذا الوقت القصير بين الأذان والإقامة للحديث عن بعض الأخطاء التي يقع فيها الناس في أي باب من الأبواب التي تشرح من بلوغ المرام، وفي ذلك توفيق بين كون الدرس بين الأذان والإقامة ليس في صلب بلوغ المرام بحيث يفوت على الإخوة الذين يخرجون، وكذلك ليس بعيداً عنه بحيث أن الإخوة الذين يستفيدون فائدة تتعلق بالموضوع نفسه. فيما يتعلق بالأذان هناك في الواقع في الأمصار الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها بدع وانحرافات وأخطاء كثيرة تحتاج إلى بيان، وسأذكر شيئاً منها في هذه الجلسة، وأكمل ما تبقَّى في جلسات قادمة إن شاء الله تعالى. وأول ما يتبادر إلى الذهن في موضوع الأذان وغيره موضوع النية في الأذان. فإن الأذان عبادة بلا شك، بل هو من أجّل العبادات، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ذكر كثير من أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في المؤذنين، وهذا ليس على ظاهره، إنما المعنى أن المؤذنيين داخلون في هذه الآية، فهم ممن دعا إلى الله؛ لأنهم يدعون إلى شعيرة من أعظم الشعائر وهي الصلاة، ينادون إليها في اليوم والليلة خمس مرات، فهم داخلون متى ما أخلصوا وصدقوا مع ربهم في دلالة هذه الآية مبشرون بما بشّر إليه تعالى به أهلها: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] . وورد في فضله أحاديث كثيرة سبق ذكر شي منها، وإنما يكون الفضل لمن أخلص في عمله، فإنه -كما هو معلوم- لابد في العمل الصالح من شرطين:- أولهما: الإخلاص في القلب في نيته وإرادته وجه الله تعالى والدار الآخرة. والثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يزيد الإنسان وينقص على الهدي الذي كان عليه صلى الله عليه وسلم. وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إن أخطاء الناس في الأذان تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: يتعلق بالشرط الأول من شروط صلاح العمل وهو الإخلاص. والقسم الثاني: يتعلق بالشرط الثاني من شروط قبول العمل وهو المتابعة، فيخلون بمتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذانهم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 2 أخذ الأجرة على الأذان وأثره على الإخلاص وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن أبي العاص أن يتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً، كما سيأتي في حديثه: {واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} والمقصود أن هذا أقرب إلى الإخلاص، وليس أخذ الأجر على الأذان مانعاً من الإخلاص فيه. فإن الإنسان قد يكون مخلصاً في أذانه يريد ما عند الله تعالى، ولكن جاءه أجر فأخذه، ولو فاته أجر مادي أو راتب أو وظيفة أو ما أشبه ذلك، لما ترك الأذان لفواتها، بل لاستمر على ما هو عليه. إذاً لا بد من الإخلاص وإرادة وجه الله تعالى في الأذان، فالأذان عبادة يشترط فيها الإخلاص، كما يشترط الإخلاص في الصلاة وفي غيرها من العبادات. وفي هذا يقع كثير من الناس في أخطاء، فإن من الناس من يريد الدنيا بعمله، فيؤذن من أجل وظيفة -مثلاً- أو من أجل وجود بيت في المسجد يسكن فيه، ويكون هذا غرضه بحيث لو فاته هذا الأمر الدنيوي لما أذن، وهذا لا شك أنه آثم بنيته وفعله، لأنه أراد الدنيا بالدين -يأخذ الدنيا بالدين- وقد قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16] . وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن عمر رضى الله عنه: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها؛ فهجرته إلى ما هاجر إليه} . وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر النية في الهجرة، وهي عمل من أعظم العبادات، وفيها تجشّم المشاق والصعاب وترك البلد والأهل والولد والمال إلى بلد لا يعرفه الإنسان وإلى قوم غرباء عنه في سبيل الله، الظاهر إذا كان مثل هذا العمل تشترط فيه النية، فغيره كذلك، بل قد يكون غيره أولى من ذلك. فكل عمل لابد فيه من النية الصالحة، فمن أراد الدنيا بعمله الذي عمل -شرعي أو تعبد- فهو آثم بهذه النية والإرادة، وتركه لهذا العمل خير له عند الله تعالى، فإن الدنيا لا يجوز أن تطلب بالدين هذا من كان قصده الدنيا محضاً، أي: لا يريد من الأذان إلا كما أسلفت، إما الراتب أو الوظيفة وإما البيت الذي يكون تابعاً للمسجد، في بعض المساجد لا في كلها، إن كان هذا مراده فحسب فهو آثم، ويجب عليه ترك هذا العمل إذا لم يصحح نيته. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 3 المراءاة وحب المدح الحال الثاني: أن بعض الناس قد يؤذن رياءً أو سمعةً، وكيف يؤذن رياءً وسمعةً؟ يؤذن حتى يمدح بذلك أو يعرف، فإذا سمع الناس أنحاء البلد صوته، سُرَّ بذلك وأُعجِبَ ونظر في عطفيه، ورأى أنه قد عمل شيئاً عظيماً، وهذا أيضاً من الرياء، والرياء إذا خالط عملاً؛ فإنه حابط غير مقبول عند الله تعالى، والرياء شرك بل صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يسير الرياء شرك} وفيما يتعلق بالصلاة قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصلينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:7] فتوعد المصلي إذا كان مرائياً في صلاته، فغير المصلي أيضاً متوعد إذا كان قصده بالعمل الرياء والسمعة وهذا أيضاً صنف من الناس. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 4 من تلبيسات إبليس على المؤذنين الصنف الثالث: من الناس من يكون قصده بالأذان وجه الله تعالى، يؤذن ليدعو الناس إلى الصلاة، يؤذن بقصد الأجر والمثوبة، يؤذن طلباً لموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يسمع صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شجر ولا حجر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة} وموعوده صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر الذي قال فيه: {إن المؤذن يُغفر له مدى صوته} وفي بعض الأحاديث: {من حافظ على الأذان اثنتي عشرة سنة -وورد أقل من ذلك- فإنه يكتب له براءة من النار} والحديث صححه جماعة من أهل العلم، فيؤذن طلباً لهذا الموعود الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذنين. ولكن تأتي الأشياء الأخرى تبعاً، فقضية الوظيفة والراتب والمسكن وغيرها أمور ليست مقصودة له ابتداءً، إنما هي تأتي تبعاً، وهذا ولاشك أنه مأجور عند الله تعالى على آذانه ومثاب، وله الوعد الذي أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، ولا يضيره كونه أخذ شيئاً من لعاعة الدنيا ما دام ليس مقصود له في الأصل لا يضيره ذلك، لأن الأعمال كما سبق بالنيات. وهانحن نرى أن المجاهد يخرج إلى المعركة فيقاتل فيها، يبتغي ما عند الله، ويبتغي إعزاز الإسلام وإذلال الكفر، ثم تكون الغنائم فيأخذ منها، فلا يضيره ذلك، وإن كان قد ينقص من أجره، لكن لا يضره ذلك من حيث أنه يحبط عمله، كلا! بل أجره له، وبعضهم يقول: ينقص أجره بقدر ما أخذ، كما في الحديث الذي ذكر فيه {ألا تعجلوا ثلثي أجرهم} كما ورد. لكن على كل حال مادام قصده ما عند الله، فلا يضره أن تجيء الدنيا تبعاً لذلك، وهاهم الفقهاء يذكرون -أيضا- الحج فيقولون: إن من حج بقصد أداء الحج، وفي نيته أيضاً أن يشتغل بالتجارة في الحج، فهذا لا يضره بل نقل بعضهم الإجماع على ذلك وأنه جائز، يعني الإنسان إذا ذهب إلى بيت الله الحرام للحج، وفي نيته التجارة -أيضاً- فحج وتاجر هناك، فقد نقل بعض العلماء الإجماع على أن هذا جائز لا بأس به، وصح عن ابن عباس أنه في مثل هذا نزل قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة:198] فالآية نزلت في الحج وفيها: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: بالتجارة، لكن هؤلاء لم يكن غرضهم التجارة فقط لا! كان غرضه الحج والتجارة مع الحج أيضاً، فهذا جائز كما ذكرت، وإن كان ينقص أجره. إنما بعض الناس إذا حَدَثَ عنده هذا الأمر، ورأى أن في عمله الديني التعبدي الحصول على مكسب من مكاسب الدنيا، فإنه يترك هذا العمل ويُعرِضُ عنه. فقد يترك الإمامة في المسجد، أو يترك الأذان، أو يترك الدراسة وطلب العلم، أو يترك غيرها من المقاصد الشرعية، بحجة أن هذا العمل يجلب لي شيئاً من الدنيا، وأخشى أن تكون نيتي قد دخلها شيء، وأقول: إن الإنسان ينبغي أن يدرك أن الترك والفعل كل واحد منهما يحتاج إلى تأمل وفيه مدخل للشيطان، وقد ذكر أهل العلم كـ ابن حزم وغيره أن الشيطان يأتي أحياناً من جهة تشكيكه في نيته ليترك العمل، ونقل عن عياض أنه كان يقول: [[العمل لأجل الناس رياء، وترك العمل لأجل الناس شرك]] فإن الإنسان لا ينبغي له أن يعمل من أجل الناس، ولا أن يترك من أجل الناس وينبغي أن يدرك أن الشيطان أحياناً يأتي من جهة تشكيكه في صلاح نيته ليترك العمل الصالح، وعلى الإنسان حينئذ أن يدفع هذا الوارد أو الخاطر الذي خطر له، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويعمل على تصحيح نيته ما استطاع، ويستمر على عمله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 5 الفرق بين المخلص والمرائي والدليل على أن الإنسان الذي قصده الدنيا -وهذا ضابط جيد في نظري في كثير من الأمور- الإنسان الذي قصده الدنيا لا يبالي بالدين، فإذا كان الإنسان قصده الدنيا في عمل من الأعمال في دراسة أو في إمامة أو في تعليم أو في أذان أو في غيرها، الدليل أن قصده الدنيا أنه لا يعبأ بما تضرر به في دينه من وراء هذا العمل، فهو يقول بينه وبين نفسه: أنا قصدي الدنيا بهذا العمل، وقد حصلت الدنيا ولا يضيق صدره لذلك، ولا يكترث له، لأنه قصد الدنيا كما ذكرت. أما الإنسان الذي يضيق صدره، ويخاف من سوء النية، ويخاف من حبوط العمل، وتكثر عنده هذه الواردات، وهذه الهواجس والوساوس والخواطر، فهو الإنسان الذي يوجد عنده في قلبه إخلاص ورغبة في العمل الصالح لوجه الله، فيخشى أن يتأثر هذا العمل بنيةٍ غير حسنة، أو بإرادة دنيوية، ومثل هذا لا ينبغي أن يتساهل معه في ترك الأعمال؛ لأنه لوكل من ورد عنده هذا الوارد ترك العمل الصالح الذي يقوم عليه لما قام الإنسان بعمل صالح، فالشيطان يوسوس في الصلاة، في الزكاة، في الصوم، في الحج، في العمرة، في الإقامة، في الأذان في التعليم، وفي الوعظ، وغيرها، حتى تترك الأعمال كلها، ومن جهة أخرى لاضطرب أمر الناس؛ لأنه لوكل إنسان استجاب لهذا الوسواس، فمن يؤم الناس؟! ومن يؤذن لهم؟! ومن يعلمهم؟! ومن يعظهم؟! ومن يرشدهم؟! ومن يحسن إليهم؟! ومن؟! ومن؟! ربما لم يكد يوجد من يعمل ذلك؛ ولهذا كان السلف يقولون عن النفاق كما نقل عن الحسن البصري وغيره يقولون: [[ما أمنه إلا منافق، ولا خافه إلا مؤمن]] والمعنى أن المؤمن الذي دائماً يحاسب نفسه على أعماله ماذا قصدت؟ ماذا أردت؟ هل أردت وجه الله أم أردت الدنيا؟ هذا عنده أصل الإيمان، وعنده الوازع الديني؛ ولهذا يحاسب نفسه ويلومها: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] فهو مؤمن. لكن المنافق هو يعلم في قرارة نفسه أنه منافق، وقد واطأ نفسه على هذا الأمر، ورضي به وأقره فلا يكترث؛ لأنه يعرف في حقيقة نفسه أنه منافق، وهو يريد النفاق واختاره والعياذ بالله طريقاً له ومنهجاً له في الحياة، فقد أمن الأمر فهذا ظاهر. ولذلك ليس من الحسن ولا من الجيد أن بعض طلاب العلم -بل وبعض الدعاة والمصلحين أحياناً- يصل بهم الخوف من النفاق أو الخوف من الرياء في الأعمال إلى حد أن منهم من يقول عبارات مخيفة موحشة في هذا الباب، حتى إني سمعت أحدهم، وهو يتكلم في مناسبة عامة، ويتحدث عن النفاق والمنافقين فيقول: وإنه -يعني- نفسه -والله- وأقسم بالله على ما أراد أن يقول- من الراسخين في النفاق! وهو يعني أنه يتهم نفسه بالنفاق بل وبالرسوخ فيه، هذا لا يجوز أن يقال. بل هو غلط كبير، واستجابة لوساوس الشيطان، وإلقاءاته على نفس الإنسان الضعيفة، والمؤمن ينبغي أن يتقي ذلك ويتجنبه، كما أنه لا ينبغي للإنسان ولا يصح له أن يستجيب لهذه الوساوس في ترك العمل الصالح، إلا من صح عنده العزم على إرادة الدنيا كما ذكرت في أول حديثي، فهذا يطلب منه أن يترك العمل، فقد ذكرت في أول الحديث أن من عرف من نفسه معرفة جازمة لا إشكال فيها ولا شك أنه لا يريد وجه الله، ولا يريد الخير، ولا الأجر، ولا المغفرة، ولا يريد أن يشهد له كل شيء، وإنما يريد الدنيا، فمثل هذا يقال له: يجب عليه أن يصحح نيته وقصده، فإن كان لا يفعل، فإنه يجب عليه أن يترك هذا العمل؛ لأنه آثم به، ويَدَعَه لغيره ممن يظن فيهم الإخلاص. إذاً: هذا كلام عام عن مراتب الناس ومقاصدهم ونياتهم في موضوع الأذان وفي غيره. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 6 التهوين من شأن الأذان والخطأ الثاني: الذي يقع فيه الناس كثيراً هو أن كثيراً من الناس يتساهلون في شأن الأذان، ويقللون من أهميته، بل إن في بعض البيئات وفي بعض البلاد يعتبرون الأذان والعياذ بالله نوعاً من المسبة ويُعيَّرون به، وهذا من الانحراف عن دين الله، بل يوشك أن يكون هذا ردة عن الإسلام؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65-66] . إذاً الأذان شريعة الله، شريعة رب العالمين، وهو الفارق بين الأمم المسلمة والأمم الكافرة، وورد في فضله كيت وكيت من النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، فلا يُتصور من مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، وٌيصِّدق بما جاء عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يهوِّنَ من شأن الأذان، أو يقلل من قيمته، أو يعتبر أنه لا يتولى هذا العمل إلا إنسان فيه وفيه، أو يعير أحداً بذلك أو يسبه والعياذ بالله! هذا لا يتصور من مؤمن مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحدث منه، وكيف يحدث من مسلم هذا؟! وهذا أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني الذي شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالعلم والدين والجنة، يقول كما روى سعيد بن منصور والبيهقي وغيرهما بسند صحيح [[لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت]] فكان يتمنى أن يكون عنده وقت واستطاعة أن يتولى الأذان مع الخلافة، ولكنه ابتلى بهذه الخلافة فلا يطيق معها أن يؤذن. فكل مسلم يتمنى أن يكون من أهل هذه الشعيرة العظيمة والقائمين بها، مع إخلاص النية والقصد ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 7 الإخلال بوقت الأذان الخطأ الثالث: الذي يقع فيه بعض الناس هو ما يتعلق بوقت الأذان، فإن الأذان في غالبه إعلام بدخول وقت الصلاة ودعاء ونداء إلى فريضة الله، لا يخرج عن ذلك إلا الأذان الأول في الفجر الذي يكون قبل الوقت كما سبق مراراً، فإنه أذان لإيقاظ النائم، وتنبيه القائم الذي يصلي، حتى يخفف من صلاته لُيدرك السحور قبل طلوع الفجر في رمضان وما أشبه ذلك من المقاصد، وكذلك الأذان الأول يوم الجمعة الذي فعله عثمان رضي الله عنه على مشهد ومرأى ومسمع من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فأقروه كافتهم وعامتهم على ذلك، وصار شريعةً باقيهً في هذه الأمة، فإنه يكون قبل وقت الجمعة على المشهور في تحديد وقتها، أما فيما عدا ذلك فإن الأذان هو إعلام بدخول الوقت، والناس يعرفون أنه كذلك، فيلتزمون به في إقامة الصلاة وأدائها، وفي الإمساك في رمضان في أذان الفجر، وكذلك في الإفطار في رمضان في أذان المغرب، وما أشبه ذلك من الأمور المبنية على معرفة دخول الوقت وهي أمور كثيرة جداً لعلة عرف بعضها أو كثير منها في باب المواقيت الذي سبق وأن شرحته. فإن المواقيت يترتب على دخولها أشياء كثيرة جداً لا تكاد تحصر بيسر، سواء في موضوع الطهارات، أو في موضوع أصحاب الأعذار، أو في غيرها من الأحكام، فالأذان هو في عمومه إعلام بدخول الوقت، وقد أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، فقال: {أن الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن} فالمؤذن مؤتمن على الوقت ويجب عليه أن يراقب الله تعالى في تحديد الوقت، فلا يؤذن قبل الوقت ولا يتأخر عن الوقت في المساجد العامة. فمن الناس من يؤذن قبل الوقت وخاصة في رمضان، يؤذن بعضهم أذان الفجر الثاني قبل الوقت، فإذا قلت له: لماذا؟ قال لك: أذان على سبيل الاحتياط، حتى يُمسِك الناس عن الأكل والسحور، وهذا الاحتياط غلط، بل لا مجال للاحتياط في هذا الباب. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 8 مفاسد الإخلال بوقت أذان الفجر بدعوى الاحتياط هذا من الأنواع والأبواب التي ليس هناك مجال فيها للاحتياط، بل يترتب على أذانه قبل الوقت مفاسد عديدة وعظيمة منها: أولاً: أن هناك نساء في دورهن وأناساً في أماكن بعيدة إذا سمعوا أذان الفجر أقاموا الصلاة وصلوا، ظنوا أن الوقت قد دخل، فيكون هذا الذي احتاط بزعمه للصيام، قد فرّط في أمر أعظم، وهو أمر الصلاة، وباء بإثم أولئك القوم من الرجال والنساء الذين صلوا قبل الوقت اغتراراً بأذانه، فهذا ضرر. الضرر الثاني: أن كثيراً من الناس إذا سمعوا الأذان أمسكوا عن السحور، ومن المعلوم أن من سنة الرسول عليه الصلاة والسلام تأخير السحور، كما ورد في الصحيحين من حديث جماعة من الصحابة: {ما تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور} فتأخير السحور مشروع ومستحب وسنة، فيترتب على تعجيل بعضهم بالأذان - أذان الفجر الثاني- أن يمتنع الناس من السحور ويتوقفوا قبل خروج الوقت، فيفرط بسنة. الضرر الثالث: من الناس من لا يستيقظ إلا متأخراً، فإذا سمع الأذان لم يتسحر، وربما صام طاوياً في ذلك اليوم، ولا شك أن الذي تسبب له في ذلك يتحمل الوزر، فالتبكير بالأذان هذه بعض مضاره. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 9 مفاسد تأخير الأذان واختلاف المؤذنين وآخرون يؤخرون الأذان عن الوقت، وقد يؤخرونه تأخيراً ظاهراً يترتب عليه تفريط الناس في الصلاة، وتأخرهم عن المجيء إلى المساجد، وكثيراً ما نكون نحن قد أحرمنا بالصلاة -مثلاً- دخلنا في الصلاة أي صلاة- فبعدما ينتصف الأمام في الصلاة وأحياناً بعد السلام تسمع مؤذناً يؤذن للصلاة، وهذا أيضاً فيه ضرر عظيم؛ لأن كون الناس في البلد الواحد يصلون في وقت واحد، أو في وقت متقارب فيه مصالح كثيرة من أهمها: مصلحة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن تفاوت المساجد يجعلك لا تستطيع أن تأمر أحداً أو تنهاه، فإذا قلت له قال: صليت في المسجد الفلاني! بل إن هذا يحدث فقد أتيت يوماً من الأيام على جماعة، قد فتحوا دكاكينهم يبيعون فسألتهم، فقالوا: إننا قد صلينا في المسجد وأشاروا إلى مسجد، فذهبت فوجدت الناس قد صلوا فعلاً، وذهبت إلى مسجد آخر، فإذا به لم يقم الصلاة بعد، فَكَون وقت الأذان ووقت الصلاة في البلد الواحد يكون متقارباً في الجملة فيه مصالح عظيمة، ومن أهمها: مصلحة انضباط موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيه مصالح أخرى كثيرة، هذا وللحديث بقية والله تبارك أعلى وأعلم وصلى الله على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك ونشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 10 بدع الأذان الحمد لله رب العالمين؛ اللهم صلَّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: كنت تكلمت في المجلس السابق عن بعض أخطاء الناس في الأذان، وخاصة ما يتعلق بالنية، ثم انتقلت إلى ما يتعلق بضبط الوقت وتقديم بعضهم للأذان أو تأخيرهم له وما يترتب على ذلك من الأضرار والمخالفات، وقد أجمع أهل العلم على أنه لا يجوز للمؤذن أن يؤذن قبل الوقت بحال من الأحوال، إلا أذان الفجر الأول كما هو معروف، وكما سبق التنويه به، فأواصل الآن الحديث عن بعض الأخطاء والمخالفات التي يقع فيها الناس في الأذان. وحين أقول: يقع فيها الناس ينبغي أن يعلم أنني أقصد الناس في العالم الإسلامي كله، أي أن هناك أخطاء كثيرة -ولله الحمد- لا توجد في هذه البلاد، بسبب أن الله تعالى مَنّ على أهل هذه البلاد بعلماء ومصلحين، حفظوا لهذه الأمة في هذه الجزيرة كثيراً من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا نجد في هذه البلاد كثيراً من البدع العملية والأخطاء التي قد نجدها في بلدان أخرى، وقد تكلم جماعة من أهل العلم في بدع الناس وأخطائهم في الأذان، كما تكلم فيه الشيخ علي محفوظ والشيخ جمال الدين القاسمي وغيرهما من العلماء المصنفين، فذكروا أخطاء الناس وبدعهم في الأذان، وسوف أشير إلى أمور، منها ما ذكروها، ومنها ما لا يذكرونها، ولكني لاحظته من واقع ملاحظتي للناس: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 11 الأذان المُسَجَّل فمن الأخطاء أن بعض الناس -وسوف أركز الآن على الأخطاء في ألفاظ الأذان وأدائه- أن كثيراً من الناس يستغنون عن مباشرة الأذان باستخدام أجهزة التسجيل، فيأتون بأذان مسجل لأشخاص معروفين مقرئين أو غيرهم، ويضعونه في مكبر الصوت! وهذا يحدث في كثير من الأحيان، وأحياناً نسمعه بالميكروفون من مسافات بعيدة ولا شك أن هذا فيه خسارة كبيرة؛ فكيف يَسْتَبْدِلُ الإنسانُ الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويُفوت على نفسه الخير الكثير الذي وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤذن: {أنه لا يسمع مدى صوته جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له به عند الله تعالى يوم القيامة} فهذا من الأمور التي ينبغي تجنبها، وينبغي للعبد المؤمن أن يباشر الأذان بنفسه، ويحتسب الأجر في ذلك عند الله تعالى. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 12 المبالغة في التمطيط وإبدال بعض الحروف ببعض ومن ذلك أن بعض المؤذنين يبالغون في تمطيط أصواتهم بالأذان مبالغةً ممقوتةً ممجوجةً، فإذا قال مثلاً: "لا إله " مده مداً طويلاً قد يزيد على عشر حركات أو اثنتي عشرة حركه أو أكثر، وكذلك قوله: (الله) (حي على الصلاة) (حي على الفلاح) يمدونه مداً زائداً شديداً يخرج بالأذان عن شرعيته وحكمته، وهذا لا أعتقد أنه يكون أذاناً مشروعاً صحيحاً، لأن الإنسان إذا مد مداً مبالغاً فيه خرج اللفظ عن اعتباره اللغوي ووضعه اللغوي. ولذلك أذكر أن أحد الإخوة من الذين يمططون الأذان ويبالغون في ذلك، وكان في أحد المساجد في الرياض فأذن، وكان سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حاضراً لإلقاء محاضرة في ذلك المسجد، فلما انتهى من الأذان قام الشيخ -حفظه الله وبارك في عمره- وبين أن هذا ليس آذانا شرعياً، وبيّن الأذان، ثم أذن بنفسه حتى يُعلم غيره تعليماً عملياً، ولعله -والله تعالى أعلم- قصد إلى أمر آخر، وهو كأنه رأى أن الأذان الأول لا يكفي، فأذن عوضاً عنه، وهذا مجرد التماس مني، وقد يكون كذلك أو لا يكون، وبعض الناس يمدون الأذان مداً في غير محله، فمثلاً بعضهم يمدون بعد الهمزة يضعون ألفاً (آلله) فيقول: (آلله أكبر) مثلاً، وهذا لا يجوز، لأنه هنا كأنه أوجد عدة همزات، وكأنه صار استفهاماً، كما في قوله تعالى: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] فبدلاً من أن يكون خبراً أصبح استفهاماً، وهذا ولا شك أنه لحن يحيل المعنى، ولا يجوز. وبعضهم يمدون الباء في قوله "أكبر" فيقول: أكبار! وهذا أيضاً لا يجوز، وقد ذكر أهل العلم أن هذا اللحن يحيل المعنى، وأن (أكبار) هذا له معنى آخر لا يليق ذكره بهذه المناسبة، ولا يليق أن يلحن الإنسان هذا اللحن الملبس، الذي فيه سوء أدب. ومن أخطائهم: أن بعضهم إذا نطق باسم الرسول صلى الله عليه وسلم يضع مداً في غير محله، إما يضع واواً بعد الميم فيقول مثلاً: "موحمداً " أو يمد الحاء بعضهم فيقول " محامدا " فيضع بعد الحاء ألفاً وهذا كله كما سبق، يعتبر لحناً ومداً في غير محله، ومثله المد بعد الحاء في قوله: "حي" فبعضهم يضع بعد الحاء ألفا " حايّ " وكذلك في (اشهد) قد يضع بعد الدال واواً يشبع الضمه حتى يتولد منها واو فيقول " أشهدو أن "، ومثله أن بعضهم يشبع الكسرة في (إله) ، فيتولد منها ياء، فيقول "لا إيله إلا الله "، وكل هذه ناتجة عن الجهل، والعجمة، وعدم التعلم، وإن بعضهم قد يبالغ في تمطيط الأذان وتحسينه بصورة غير مشروعة. وأحياناً أحدهم يبدل حرفاً بآخر، ومن أشهر الأشياء الموجودة عندنا -مثلاً- أن بعض الناس يقول: (وكبر) (الله وكبر) ، ولا شك أن هذا لحن ومحيل للمعنى أيضاً، فإن المعنى الصحيح (الله أكبر) وأكبر أفعل تفضيل مبدوء بالهمزة فبعضهم يبدلون الهمزة واواً فيقولون: " الله وكبر "، وكذلك بعضهم يبدلون الحاء هاء في قوله " حي " فيقول " هي " وبعضهم يبدلون العين، أو يحذفون العين فبدل من أن يقول: "حي على الصلاة" تسمع بعض المؤذنين وخاصة من العوام يقولون: "حي لها الصلاة " وهو معبر عنها بمعنى عندهم، ولكن اللفظ الوارد عن الرسول عليه الصلاة والسلام هو بعلى "حي على الصلاة " وبعضهم قد يبدلون الهاء حاء فيقولون: "حي على الصلاح " وهم لا يشعرون بذلك؛ فهذه كلها وأمثالها كثير من الأخطاء التي يقع فيها بعض المؤذنين إما من العامة وإما ممن أسلفت ممن يبالغون في تمطيط أصواتهم بالأذان وتحسينه بصورة ليست مشروعة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 13 تسييد اسم الرسول في الأذان ومن الأخطاء التي يقع فيها الناس في الأذان، أن بعضهم يضيفون إلى لفظ اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، لفظ سيدنا فبعضهم يقول: " أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله " ونحن بلا شك نعلم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سيد ولد آدم، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، ولكن ذكر لفظ السيادة في الأذان أو في غيرها من الأذكار الشرعية، يعتبر زيادة لم يأذن بها الله، مثلما لو قال الإنسان مثلاً في التشهد " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم " فنحن نقول هؤلاء سادة وأنبياء لا شك، لكن لم يرد لفظ (سيد) في لفظ من الأذكار الشرعية، لا في الأذان، ولا في الإقامة، ولا في التشهد الأول، ولا في التشهد الأخير، ولا في غيرها من الأذكار، ولعلكم تستغربون إذا قلت لكم: إن أحد الإخوة كان إذا قرأ اسم الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن يقدم بين يديه بلفظ سيدنا! وهذا جهل عظيم وضلال مفرط. فمثلاً: إذا أراد أن يقرأ آخر سورة "الفتح {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] لا يقول محمد رسول الله والذين معه، يقول: سيدنا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار! والعياذ بالله لأنه أدخل كلام المخلوق في كلام الخالق؛ لأن القرآن كلام الله وهو قد أدخل كلامه الذي يقول فيه: إن سيدنا محمداً رسول الله، أدخله في كلام الله عز وجل، وهذا لا شك -كما أسلفت- ضلال عظيم، وبعضهم يدخله في الأذان أو في الإقامة وهذا أيضاً لا يجوز. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 14 الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان وكذلك بعض المؤذنين في عدد من الأمصار الإسلامية يختمون الأذان أو الإقامة بالصلاة على رسول الله بصوت مرتفع يشبه الأذان، فإذا قال: " لا إله إلا الله " منتهياً من الأذان، قال: اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وما أشبه ذلك من التواشيح والألفاظ والأهازيج والأناشيد التي يقولونها ويقحموها في العبادات، دون أن يوجد من يأمرهم أو ينهاهم أو يعلمهم أن هذا مخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 15 بدعة التثويب ومن البدع المحدثة المضافة في الأذان بدعة التثويب، وقد أشرت إليها، وما زالت موجودة، بل قد انتقلت عدواها إلى بعض هذه البلاد، وأعنى بالتثويب: أنه ينادى ببعض ألفاظ الأذان بين الأذان والإقامة، فإذا استبطأ الناس بعض الشيء أو بقي على الإقامة سبع دقائق أو نحوها؛ قام المؤذن: فقال: حي على الصلاة حي على الفلاح، وقد يقولون ألفاظاً أخرى: الصلاة رحمكم الله أو هلموا إلى الصلاة أو يخاطب أشخاصاً معينين أو ما أشبه ذلك، وهذه من البدع المحدثة حتى إن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه دخل مسجداً، فلما ثوب فيه المؤذن بين الأذان والإقامة خرج غاضباً، وقال: أخرجتني البدعة! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 16 الزيادة في دعاء الوسيلة بألفاظ غير واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن الأشياء التي يفعلها ويقولها الناس فيما يتعلق بالأذان ولا أصل لها، أن بعضهم إذا سمعوا الأذان قالوا: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، وهذا الدعاء مشروع ولكن بدون قول " الدرجة العالية الرفيعة " فأن هذا اللفظ لا أصل له في السنة، بل الثابت من أذكار الأذان -كما ستمر الإشارة إلى شيء منه الثابت أن الإنسان يقول كما يقول المؤذن هذا أولاً. وثانياً: إذا انتهى المؤذن من قول أشهد أن محمداً رسول الله قال الذي يتابعه: "رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً " وقد ثبت هذا في صحيح مسلم وفي مسند أبي عوانة بسند صحيح أنه يقال بعد الشهادتين. ثالثاً: أنه إذا انتهى المؤذن من أذانه يُصلي المتابع للمؤذن على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته " هذا الثابت من أدعية الأذان. أما قول بعضهم وهذا كثيراً ما يُسمع من المذيعين وغيرهم، يقولون: آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة، فلفظ "والدرجة العالية الرفيعة" لا أصل له فيما أعلم من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يحسن بالإنسان أن يقوله أو يحافظ عليه. وبعضهم -أيضاً- يضيف في آخر هذا الدعاء " إنك لا تخلف الميعاد " {وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد} وهذه اللفظة قد اختلف أهل العلم فيها، وذلك لأنها جاءت في حديث رواه البيهقي، وقال شيخنا عبد العزيز بن باز: إسناده صحيح، وكذلك جاءت في إحدى نسخ البخاري، ويدل على ذلك أن الإمام الحافظ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، في كتاب التوسل والوسيلة ذكر أنه رواه البخاري، وذكر هذه الزيادة فيه، وبالتحري تبين أنها موجودة في إحدى روايات البخاري لكنها يبدو غير ثابتة في الصحيح، وقد رجّح جماعة من أهل العلم من المتقدمين ومن المتأخرين أن زيادة {إنك لا تخلف الميعاد} زيادة شاذة لم تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخرون من أهل العلم من علمائنا، حتى من المعاصرين قالوا: حتى على فرض عدم ثبوتها فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى عن المؤمنين ودعائهمك: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:194] فقالوا: لا بأس أن يدعو بها أو يذكرها في آخر الدعاء. والذي أميل إليه ألا يقولها الإنسان، وإن قالها فلا يحافظ عليها، بل يقولها حيناً، ويدعها حيناً حتى يميز بين السنة الثابتة بلفظها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أمر ورد واختلف العلماء في صحته أو عدم صحته، اللهم إلا أن يقول الإنسان: أنا مقلد لفلان من الناس من العلماء الذين صححوا هذا الحديث، فحينئذٍ لا بأس أن يتابعه في قول هذه الكلمة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 17 أخطاء في الإقامة أما فيما يتعلق بالإقامة فإن من الأشياء التي يخطئ الناس فيها، أولاً: كما سبق في بعض ألفاظ الأذان أن بعض الناس يخطئون في ألفاظ الإقامة، وفي قولهم: "قد قامت الصلاة" بعضهم يفتحون التاء وبعضهم يضمونها فيقول بعضهم: "قد قامتَ الصلاة" وبعضهم يقولون: "قد قامتُ الصلاة"، والصواب بالكسر "قد قامتِ الصلاة" "قد قامتِ الصلاة". وأما بالنسبة للأدعية والأذكار الواردة في أثناء الإقامة فإن بعضهم إذا سمعوا قوله: "قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة " يقولون: أقامها الله وأدامها -أو وأدامه على لغة العامة- اللهم قنا شر الحسرة والندامة، وهذه لا تصلح إلا أن تكون عامية "أقامها الله وأدامه، اللهم قنا شر الحسرة والندامة " أما لو أردت أن تعرِّبها تخرِّبها إذا قلت أقامها الله وأدامها ذهب السجع، وعلى كل حال هذه الكلمة، لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنها وردت في حديث ضعيف جداً فيه ِ شهر بن حوشب وهو متكلم فيه، وفيه رجل مبهم مجهول لا يدري من هو، فالحديث إسناده ضعيف فلا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قول: {أقامها الله وأدامها} عند قول: "قد قامت الصلاة" فلذلك فإن ما ذكره بعض طلاب العلم من أنه يشرع أن تقال عن قد قامت الصلاة: {قد قامت الصلاة} -والله تعالى أعلم- ضعيف، لأن الشرعية لا تثبت إلا بدليل صحيح، وكوننا نأمر الناس أن يلتزموا بذكر هذه الكلمة وهذا الذكر عند هذا الموضع لابد أن يكون بتوقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما "اللهم قنا الحسرة والندامة" التي يقولها العامة أيضاً، فإنه لا أصل لها في السنة مطلقاً فيما أعلم، ولا شك أن الدعاء بأن يقي الله العبد شر الحسرة وشر الندامة، الدعاء هذا بحد ذاته دعاء جيد وحسن، لكن ذكره في هذا الموضع مذموم، لأنه قد يترتب عليه أن يظن الإنسان أو يظن غيره أنه سنة، وفي الواقع أن المحافظة عليه أقرب إلى البدعة منها إلى السنة. وإن كنت في الواقع لست ممن يشددون في هذه الألفاظ ما دامت صحيحة بنفسها، لكن ينبغي أن ننهى الناس عن التزام هذه الألفاظ والمداومة عليها، حتى لو أن إنساناً قالها مرة نقول له: هذه الكلمة معناها صحيح؛ ولكن كونك تقولها في هذا الحيز -في هذا المكان- بهذه المناسبة وتحافظ عليه هذا غير مشروع، لأن المحافظة إنما تكون على السنن الواردة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الأسبوع القادم إن شاء الله نواصل ونذكر أموراً أخرى تتعلق بالآذان والإقامة وأخطاء الناس فيهما، سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلَِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 18 أحاديث في فضل الأذان الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصّلَّى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 19 فضائل بلال رضي الله عنه ومن جهة أخرى فإن أول من أذّن من هذه الأمة هو بلال بن رباح رضي الله عنه وأرضاه، وهو من أفاضل الصحابة وأكابرهم، حتى إن عمر رضي الله عنه كان يقول: [[أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا]] يعني بلال بن رباح رضي الله عنه، ويكفي في فضل هذا الرجل الصابر المجاهد ما ورد في الصحيح أنه كان أحد سبعة، هم أول من أظهروا الإسلام فضايقتهم قريش، حتى لم يكن منهم أحد إلا وقد جاراهم في بعض ما يريدون، إلا بلال رضي الله عنه؛ فإنه هانت عليه نفسه في الله عز وجل، فكانوا يجرونه في صحراء مكة ورمضائها، ويضعون الحصى على صدره، ويقولون: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد فيقول: أَحَدٌ أَحَدْ، أَحَدٌ أَحَدْ. وقد ورد في روايات أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه الكلمة لقلتها]] . هكذا رواه ابن إسحاق في السيرة. وصبر رضي الله عنه وأرضاه ويكفي في فضل هذا العبد الصابر، أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشّره بالجنة، كما في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا بلال! حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعتُ دف نعليك أمامي في الجنة! فقال: يا رسول الله! ما تطهّرت طهوراً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بهذا الطهور ما كتب الله لي} فكفاه فضلاً وفخراً أن يكون من الثابتين الصابرين على الإسلام، ثم أن يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بحسن الختام، وبجنات ونهر: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] . وليس الصحابي الجليل بلال بن رباح بحاجة أيضاً إلى أن توضع أحاديث في فضله ومكانته وحسن أدائه وما أشبه ذلك، ولكن أعداء الله يفترون على الله وعلى رسوله، ويضعون الأحاديث التي فيها السخرية والتي تثير الاشمئزاز، ربما لتنفير الناس أحياناً من بعض الأعمال وبعض الشرائع وبعض الأحكام. وأذكر بعض هذه الأحاديث، وما ذكره العلماء في شأنها، فمن هذه الأحاديث: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 20 مما صح في فضل الأذان في هذه الليلة سنتحدث عن بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي وردت في فضل الأذان، وبعضها مشهور عند بعض الكُتّاب والمصنفين وغيرهم، وأود أن أقول في البداية: إن فضل الأذان ورد فيه نصوص كثيرة في الكتاب والسنة، فهو لا يحتاج إلى أن توضع على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث في فضله. - فقد سبق معنا حديث أبي سعيد الخدري: {لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة} . - وسبق حديث معاوية في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة} . - وكذلك جاء في حديث أبي هريرة: {يغفر له مدى صوته} . وفي كتاب الله تعالى قول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] جاء عن جماعة من السلف أن هذه الآية نزلت في المؤذنين، روى ذلك عبد بن حميد وابن مردويه وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ} [فصلت:33] قالت: المؤذن. وعمل صالحاً، قالت: صلى ركعتين. وهذا من باب التفسير بالمثال كما هو مشهور عند السلف، يفسرون الآية بالمثال، وليس المقصود حصر الآية في المؤذنين، ولا حصر العمل الصالح في الصلاة ركعتين، بل الآية عامة في كل دعوة وفي كل عمل صالح، لكن عائشة رضي الله عنها فسرتها بمثال وهو المؤذن، ومثل ذلك أيضاً جاء عن قيس بن أبي حازم رواه الخطيب البغدادي في تاريخه أنه قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إلى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} [فصلت:33] دعا إلى الله، قال: المؤذن. وجاء عن جماعة من الصحابة الإشادة بفضل الأذان ومكانته، أذكر منها بل ومن أعظمها وأجملها الكلمة التي سبقت عن عمر رضي الله عنه، والتي رواها سعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبيهقي وسندها صحيح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[والله لو كنت أطيق الأذان مع الخليفى لأذنت]] ويقصد بالخليفى: الخلافة التي وليها، وفي لفظ: [[لو كنت أطيق الأذان مع الخلافة لأذنت]] . ومثله جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال لرجل: ما عملك؟ قال: الأذان. قال: [[نعم ما تعمل! يشهد لك كل شيء]] والأثر هذا رواه ابن أبي شيبة في مصنفه. وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: [[لأن أؤذن -أو لأن أقوى على الأذان- أحب إليَّ من أن أحج وأعتمر وأجاهد في سبيل الله]] . وجاء عن ابن مسعود رضي الله عنه: [[لوددت أني أؤذن وأن لا أحج ولا أعتمر]] فدل على أن الأذان عندهم من أفضل الأعمال، حتى إنهم قد يفضلونه على نوافل العبادات من الحج والعمرة ونحوها، فالآذان له فضلٌ كبير في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي آثار الصحابة والتابعين هذا من جهة. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 21 أحاديث موضوعة في فضل الأذان 1- ما ورد {أن المؤذنين والملبين يخرجون يوم القيامة من قبورهم، المؤذن يؤذن، والملبي يلبي، وأن المؤذن يغفر له مدى صوته، ويشهد كل حجر أو شجر أو جن أو إنس، أو مدر ويكتب له بعدد صلاة من صلى معه بعدد أجورهم حسنات} وهو حديث طويل جداً فيه فضائل كثيرة للمؤذنين لا تثبت ولا تصح. أما ما سبق فبعضه صحيح. فأما كونه {يغفر له مدى صوته} فهذا صحيح وسبق، وأما كونه {يشهد له كل شيء} فهو صحيح وسبق. وأما كونه يخرج من قبره وهو يؤذن، فنقول: إن مات وهو يؤذن؛ فإنه يمكن أن يقال: إنه يبعث مؤذناً؛ كما ورد في الصحيحين في قصة الرجل الذي وقصته ناقته، وكان عليها في يوم عرفة؛ فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بأن يكفنوه في ثوبين، ولا يمسوه طيباً، ثم قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً، ومن مات على شيء بعث عليه} . وأما بقية الحديث والذي فيه مبالغات في فضائل المؤذنين، وأنه له ألف ألف حسنة ويحط عنه … إلى آخره، فهذا الحديث حديث موضوع ساقه ابن شاهين وفي إسناده سلام الطويل عن عباد بن أبي كثير وهما يرويان الأكاذيب، قال بعض أهل العلم أحدهما وضعه، إما سلام الطويل أو عباد بن أبي كثير. 2- والحديث الآخر يقول الحليجي: {إذا كان يوم القيامة جيء بكرسي من ذهب مكلل بالدر والياقوت، وعليها قباب من نور، ثم يُنادَى: أين المؤذنون؟ فيجلسون على هذه الكراسي} وهذا الحديث ذكره الخطيب البغدادي عن أبي سعيد الخدري وقال الخطيب: حديث غريب جداً تفرد به إسماعيل بن أبي يحيى، وهو ضعيف سيئ الحال جداً، فالحديث أيضاً حديث موضوع لا يصح بحال عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. 3- ومن الأحاديث الموضوعة ما رواه الدارقطني عن ابن عمر قال: {يجيء بلال يوم القيامة على راحلة رحلها من ذهب، وزمامها من در وياقوت، ويتبعه المؤذنون حتى يدخل أو يدخلهم الجنة} وهذا الحديث أيضاً حديث موضوع فيه خالد بن إسماعيل، وكان يضع الأحاديث ويلصقها عن الثقات، ويدخلها في حديثه، فهو كذاب وضاع وأحاديثه كلها موضوعة. 4- ومن الأحاديث الموضوعة في شأن الأذان أنه: {ما من مدينة يكثر مؤذنوها أو يكثر آذانها إلا قل بردها} والحديث ذكره الأزدي عن علي رضي الله عنه وفي إسناده رجل اسمه عمرو بن جميع وهو المتهم بوضع هذا الحديث. 5- ومن الأحاديث الموضوعة: {من قال حين يسمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله من قال: مرحباً بحبيبي وقرة عيني محمد، ثم يقبل إبهاميه، ويضعهما على عينيه، لم يَعْمَ ولم يرمد أبداً} أي: لا يصيبه العمى ولا الرمد أبداً، وهذا الحديث -أيضاً- موضوع ذكره الشوكاني في الفوائد المجموعة وغيره، والواقع أن هذا الحديث إنما اختلقه بعض المتصوفة ونسبوه إلى الخضر عليه الصلاة والسلام، وهو بسند منقطع فيه مجاهيل، وبينهم وبين الخضر أزمنة متطاولة فمن منهم رأى الخضر؛ حتى ينقل عنه هذه الرواية المختلقة الموضوعة المكذوبة؟! وجميع الروايات عن الخضر روايات مكذوبة ملفقة لا أصل لها، وهذا أحدها. 6- ومن أشهر القصص الموضوعة في شأن الآذان، قصة بلال رضي الله عنه والتي جاءت من طريق أنس ومن أقدم من رأيته ذكرها ابن عساكر في تاريخ دمشق ذكر في ترجمة إبراهيم بن محمد والذي جده أبو الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه القصة أن بلال لما ذهب إلى الشام -كان ذهب إلى الغزو- نام ذات ليلة فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال ما هذه الجفوة - كان بلال أبطأ عن زيارة المدينة- فاستيقظ بلال فزعاً مذعوراً خائفاً وذهب إلى المدينة من ليلته. قال: فلما دخل على المسجد جاء إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم - هكذا تقول الرواية المكذوبة - دخل على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكب عليه يلثم تربه ويقبله ثم جاءه الحسن والحسين، فقام إليهما يقبلهما ويبكي، فقالا له: يا بلال! أذن لنا كما كنت تؤذن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما كان عند السحر صعد بلال في المسجد في الموضع الذي كان يؤذن فيه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر فلما وصل إلى قوله: أشهد أن لا إله إلا الله ارتفع الضجيج والبكاء وارتجت المدينة به، فلما قال: أشهد أن محمداً رسول الله لم يبق أحد إلا صاح وبكى حتى خرجت العواتق من خدورهن، وخرج الناس يقولون: هل بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل بُعِثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فما رئي يومئذ أكثر باكياً ولا باكية بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومئذٍ. وهذه القصة على أنها قصة عاطفية ومثيرة إلا أنها قصة موضوعة، وفي إسنادها محمد بن أبي الفيض ولذلك قال الشوكاني في الفوائد المجموعة عن هذا الحديث: لا أصل له، وقبله قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان: هذا الحديث بين الوضع وهو ظاهر جداً أنه مكذوب ملفق من وجوه عديدة: أولاً: قضية أن بلالاً يأتي إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم فيقبله ويلثمه، حاشاه من ذلك! لم يكن هذا الأمر من دأب الصحابة ولا من دأب الجيل الأول، بل كانوا على شدة محبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتقون كل أمر أو فعل يمكن أن يؤدي إلى الشرك، وإنما هذا حدث في المتأخرين من الرافضة والمتصوفة وأمثالهم، هم الذين كانوا يعكفون على القبور، ويطوفون حولها، ويتمسحون بها، ويلثمون تربها، أما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا منزهين عن ذلك، وكانوا أكثر الناس تجريداً وتوحيداً وأبعد الناس عن الشرك ومظانه. ثانياً: أنه لا يحفظ الأثر والنقل إلا من هذا الطريق الذي فيه هذا الراوي الضعيف جداً وهو محمد بن أبي الفيض ولا عبرة بروايته. ثالثاً: أن بلالاً رضي الله عنه نقل كثير من أهل السير، كالحافظ ابن حجر في الإصابة وابن عبد البر في الاستيعاب وغيرهما ممن ترجموا له، وكذلك ابن أبي شيبة في مصنفه ذكر مجموعة من الآثار، في بعضها أن بلالاً رضي الله عنه لم يؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وتولى أبو بكر أراد بلال أن يذهب إلى الشام، ليجاهد مع المؤمنين هناك فقال له أبو بكر: بل تبقى وتكون عندي، فقال بلال لـ أبي بكر رضي الله عنهما: إن كنت أعتقتني لنفسك فاحبسني، وإن كنت أعتقتني لوجه الله فدعني أذهب للجهاد في سبيل الله، فخلى أبو بكر رضي الله عنه سبيله ثم خرج إلى الجهاد. ويقال: إن عمر رضي الله عنه حين خرج إلى الشام وذهب إلى بيت المقدس، لقي الصحابة وفيهم بلال، وطلب عمر من بلال أن يؤذن، فأذن بالشام حتى بكى عمر وبكى المسلمون جميعاً، وتذكروا الحالة التي كانوا عليها زمان حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالصحيح أن بلال خرج إلى الشام للغزو والجهاد، وظل هناك حتى مات رضي الله عنه وأرضاه، وكان موته سنة عشرين تقريباً، وقال بعضهم: وكان بطاعون عمواس، وطاعون عمواس كان في السنة الثامنة عشرة، المهم أنه كان في سنة عشرين تقريباً، ودفن بالشام إما بداريا أو بـ دمشق أو بما حولهما. فالمهم: أن بلالاً خرج إلى الشام في الغزو، وظل هناك حتى مات رضي الله عنه ودفن بها، فهذه القصة المروية عن بلال لا تصح ولا تثبت بوجه من الوجوه. هذا والله تبارك أعلى وأعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الليلة سوف نختم بإذن الله تعالى الكلام على بعض البدع المتعلقة بالأذان وفي الأسابيع القادمة سأتكلم بإذنه تعالى عن الآداب المشروعة للمؤذن مما لا يرد في بلوغ المرام وقد أخصص درساً للإجابة على أسئلة الإخوة عموماً حول الأذان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 22 الأصل في العبادات التوقيف وفي هذه الليلة أود أن أقف عند قضية أساسية في العبادات جميعاً وهي قاعدة معروفة عند أهل العلم، " أن الأصل في العبادات التوقيف " كما "أن الأصل في المعاملات والعقود الإباحة"، وهذه قاعدة نفيسة ومهمة جداً ونافعة للإنسان، فبالنسبة للعبادات لا يجوز للإنسان أن يخترع من نفسه عبادةً لم يأذن بها الله عز وجل، بل لو فعل لكان قد شرع في الدين ما لم يأذن به الله، فلم يكن لأحدٍ أن يتصرف في شأن الصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج زيادة أو نقصاً أو تقديماً أو تأخيراً أو غير ذلك، ليس لأحد أن يفعل هذا، بل هذه الأمور إنما تتلقى عن الشارع، ولا يلزم لها تعليل، بل هي كما يقول الأصوليون: غير معقولة المعنى، أو تعبدية، بمعنى أنه ليس في عقولنا نحن ما يبين لماذا كانت الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والفجر ركعتين، ليس عندنا ما يدل على ذلك إلا أننا آمنا بالله جل وعلا، وصدّقنا رسوله صلى الله عليه وسلم، فجاءنا بهذا فقبلناه، هذا هو طريق معرفة العقائد وطريق معرفة العبادات، فمبناها على التوقيف والسمع والنقل لا غير، بخلاف المعاملات والعقود ونحوها، فإن الأصل فيها الإباحة والإذن إلا إذا ورد دليل على المنع منها، فلو فرض مثلاً أن الناس اخترعوا طريقة جديدة في المعاملة في البيع والشراء عقداً جديداً لم يكن موجوداً في عهد النبوة، وهذا العقد ليس فيه منع، ليس فيه رباً ولا غرر ولا جهالة ولا ظلم ولا شيء يتعارض مع أصول الشريعة، فحينئذٍ نقول: هذا العقد مباح؛ كما ذكر الفقهاء ذلك في عقود كثيرة، فنقول: الأصل في العبادات التوقيف، والأصل في المعاملات والعقود ونحوها الإباحة والإذن. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 23 التوقيف في صفة العبادة العبادة توقيفية في كل شيء، توقيفية في صفتها -في صفة العبادة- فلا يجوز لأحد أن يزيد أو ينقص، كأن يسجد قبل أن يركع مثلاً أو يجلس قبل أن يسجد، أو يجلس للتشهد في غير محل الجلوس، فهيئة العبادة توقيفية منقولة عن الشارع. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 24 التوقيف في زمن العبادة زمان العبادة توقيفي -أيضاً- فلا يجوز لأحد أن يخترع زماناً للعبادة لم ترد، مثل أن يقول مثلاً: الليلة ليلة الإسراء والمعراج أو الليلة ليلة النصف من شعبان سوف أخترع عبادة معينة أو أزيد أو أنقص في العبادة من غير دليل، بل لا بد أن يكون زمان العبادة منقولاً أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يمكن أن نسميه زمان ويمكن أن نسميه سبب العبادة، فلابد أن يكون السبب مشروعاً، أما لو أدّى عبادة لسبب غير مشروع كأن قال: ليلة الإسراء والمعراج أو ليلة المولد النبوي أو ما أشبه ذلك يكون في ذلك مبتدعاً. وبالنسبة للزمان يمكن أن تقول: كصيام رمضان والوقوف بعرفة فإنه في زمان معلوم لا يجوز أن يتقدم أو يتأخر، ومثله مواقيت الصلوات لا يجوز أن يصلى قبل دخول الوقت أو بعد خروج الوقت، فلابد أن يصلى في الوقت. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 25 التوقيف في نوع العبادة كذلك لابد أن تكون العبادة مشروعة في نوعها، وأعني بنوعها أن يكون جنس العبادة مشروعاً، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأمر لم يشرع أصلاً، مثل من يتعبدون بالوقوف في الشمس، أو يحفر لنفسه في الأرض ويدفن بعض جسده ويقول: أريد أن أهذب وأربي وأروض نفسي مثلاً، فهذه بدعة! ومثله لو أن الإنسان مثلاً ضحى أو تقرب إلى الله تعالى بقربان لم يشرع، ولم يرد في النصوص ما يدل على شرعيته. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 26 التوقيف في مكان العبادة كذلك مكان العبادة لابد أن يكون مشروعاً، فلا يجوز للإنسان أن يتعبد عبادة في غير مكانها، فلو وقف الإنسان -مثلاً- يوم عرفة بالمزدلفة فلا يكون حجاً أو وقف بمنى، أو بات ليلة المزدلفة بعرفة، أو بات ليالي منى بالمزدلفة أو بعرفة، فإنه لا يكون أدّى ما يجب عليه، بل يجب أن يلتزم بالمكان الذي حدده الشارع إلى غير ذلك. فالعبادة باختصار لابد أن تكون توقيفية في كل شيء، ومن ذلك الأذان، فهو عبادة لاشك في هذا، عبادة متلقاة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت شرعيتها بالرؤيا، لكن أقر النبي صلى الله عليه وسلم الرؤيا وأمر بها، وكان الناس يؤذنون حتى قبضه الله تعالى، ثم صار المسلمون يؤذنون في كل مكان من عهده عليه الصلاة والسلام إلى يوم الناس هذا، أذاناً معروفاً يتلقاه الأصاغر عن الأكابر، ويتلقاه الأحفاد عن الأجداد، ولذلك فإنه ليس من حق أحد أن يتصرف في الأذان بغير ما شرع الله. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 27 من بدع المؤذنين وأذكر بعض ما وقع فيه الناس مما يخالف هذه القاعدة الثابتة المستقرة الوطيدة، فمن ذلك: الجزء: 16 ¦ الصفحة: 28 زيادة " أشهد أن علياً ولي الله " ومثل ذلك وهي الزيادة الثالثة التي أضافوها أنهم يضيفون في أذانهم: أشهد أن علياً ولي الله! وهذا نسمعه كثيراً في أذانهم في مناسبات عديدة، والغريب أيها الإخوة أنهم في هذا العصر صار النداء بهذه الكلمة من شأن الرافضة في كل مكان، يتميزون به عن أهل السنة، مع أن هذا الأذان كان القدماء من شيوخهم ينكرونه ويحاربونه، وقد نقلت لكم نصاً بحروفه تقريباً عن ابن بابويه القمي، وهو أحد كبار مجتهديهم في القرن الثالث من كتابه من لا يحضره الفقيه، وذلك في الجزء الأول (ص: 203) حيث تكلم عن الأذان بأشهد أن علياً ولي الله وما أشبه ذلك. فقال وهذا نصه قال: " المفوضة لعنهم الله قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان محمد وآله خير البرية مرتين " وفي بعض رواياتهم بعد الشهادة: " أشهد أن علياً ولي الله " مرتين، ومنهم من يرويه" علي أمير المؤمنين حقاً " مرتين، قال: " ولا شك أن علياً ولي الله وأنه أمير المؤمنين حقاً وأن محمداً صلى الله عليه وسلم وآله هم خير البرية، ولكن ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكرت هذا ليُعرف بهذه الزيادة المتهمون بالتفويض المدلسون أنفسهم من جملتنا ". فقد تبرأ هذا الشيعي المحترق الهالك تبرأ من " أشهد أن علياً ولي الله " وبين أنه ليس أصلاً ومع ذلك هاهم قومه وأتباعه الآن يقولونها في أذانهم، وما قصدهم في ذلك إلا مخالفة أهل السنة ومخالفة ما ورد في الكتاب والسنة، فنسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين وأعداء الدين من المبتدعين والملحدين وغيرهم. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 29 تكرار " لا إله إلا الله " بعضهم أيضاً يزيدون في آخر الأذان الشهادة مرتين، فيقولون: لا إله إلا الله لا إله إلا الله، وهذا لا أصل له، بل ومخالف لإجماع العلماء، فإنهم قد أجمعوا على أن الشهادة في آخر الأذان مرة واحدة كما نقل إجماعهم الحافظ ابن حجر وغيره، وسبق أن سقته، وكذلك جميع النصوص الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليس فيها ذكر التهليل في آخر الأذان إلا مرة واحدة، وبذلك يعلم أن هذه كلها من الزيادات التي أحدثها الناس في دين الله، وفي الأذان المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الأجدر بالمسلم الوقوف عند الحد الذي حدده الرسول صلى الله عليه وسلم لا يزيد عليه ولا ينقص منه. جعلنا الله وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين وآله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 30 الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري بعد الآذان إن بعض المسلمين مع الأسف -وهذا أسلفته ولكن أعيده الآن للمناسبة- يصلون على النبي عليه الصلاة والسلام بصوت جهوري بعد الأذان، وكأنها جزء من الأذان، فإذا انتهى المؤذن من قول لا إله إلا الله، قال بنفس الصوت وبنفس القوة: اللهم صلِّ على سيدنا محمد، حتى اعتقد كثير من العوام والجهال أن هذا من الأذان، فلو تركه لاستنكروا ذلك واستغربوا وتعجبوا، فهذا من الزيادة في الشرع وفي الدين بما لم يأذن به الله، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك إلا أن يُصلي ويسلم الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان سراً مرة أو عشر مرات، ورد {ثم صلوا علي فإنه من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا} فأمر بالصلاة عليه دون تحديد بعدد قل أو كثر. المهم أن تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يتحقق بأن تصلى عليه مرة واحدة، وما زاد فهو فضل، وهو خير لك، على أي حال، هذه الصلاة للمؤذن وغيره والمشروع فيها الإخفات والسر، وليس الجهر والإعلان. الجزء: 16 ¦ الصفحة: 31 قول: حي على خير العمل الثانية: مما زاده الناس في الأذان وليس منه (حي على خير العمل) وهذه زيادة وجدت عند الرافضة في كافة طوائفهم من الإمامية والزيدية وغيرها يضيفون في أذانهم بعد حي على الفلاح "حي على خير العمل" حي على خير العمل وهذه الزيادة أيضاً لا تثبت في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحال من الأحوال، والأحاديث الواردة في حي على خير العمل والآثار تنقسم إلى ثلاثة أقسام:- القسم الأول: منها أحاديث صريحة، لكنها مكذوبة ملفقة لا أصل لها، وذلك كالحديث الذي رُوي عن أبي محذورة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إذا أذنت فاجعل في آخر الأذان حي على خير العمل حي على خير العمل} وهذا الحديث في سنده أبو بكر أحمد بن محمد بن السري، قال فيه الذهبي: رافضي كذاب غير ثقة، ونقل عنه جماعة من العلماء من الكفر والفجور ما يدل على أنه لا خير فيه قبحه الله، قالوا: إن هذا الرجل كان يقول في تفسير قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة:9] أنه يفسر هذه بـ عمر رضي الله عنه قال: وجاء فرعون فذكر أمير المؤمنين ومن قبله فذكر الخليفة الراشد الأول، والمؤتفكات فذكر أمهات المؤمنين عائشة وحفصة فلعنة الله عليه وجزاه الله تعالى بما يستحق على هذا البهت والفجور والإفك العظيم. وهذا ليس بغريب على أعداء الله الرافضة؛ فإنهم في الواقع أشد كفراً من كثير من أعداء الإسلام، وأكثر حقداً على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم، ولذلك فإنما نسمعه في هذا العصر من كلام من يسمى ب سلمان رشدي وغيره في الصحابة إنما هو غيض من فيض مما تقوله الرافضة في كتبها، ومع ذلك يُصدرون الفتاوى بقتله وإعدامه، ولو عرفوا لأعدموا من علّمه هذه النغمة الجائرة الظالمة قبل، المقصود أن هذا الرجل أبو بكر أحمد بن محمد بن السري كذاب لا يقبل له حديث، ومع ذلك فقد روى هذا الحديث عن يحيى الحماني، وخالفه في ذلك غيره، فروه الحديث عنه، وفيه أنه قال: {واجعل في آخر الأذان الصلاة خير من النوم} مع أن يحيى نفسه غير مستقيم الرواية، وقد وقع فيه جماعة من أهل العلم حتى رماه الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه بالكذب ورماه غيره، فهو أيضاً غير ثقة والحديث موضوع مختلق مكذوب لا حجة فيه. من النصوص والآثار: الواردة في "حي على خير العمل" نصوص صريحة، وقد لا تكون ضعيفة جداً؛ ولكنها ليست بحجة، لأن الحجة كما سلف في كلام الله تعالى أو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، واختلف الأصوليون في كلام الصحابة إذا لم يعارض نصاً هل يكون حجة أو لا؟ على قولين، لكنهم لم يختلفوا أبداً في أن قول الصحابي إذا عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ليس بحجة، كما أنهم لم يختلفوا أبداً في أن أقوال التابعين ليست بحجة في الدين، إنما يحتج بقال الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان أما قال فلان قال علان، خاصة إذا كان مخالفاً لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا حجة فيه. فالنوع الثاني: آثار موقوفة على بعض التابعين، أو قد تكون مقطوعة إلى بعض التابعين، أو قد تكون موقوفة على بعض الصحابة، وأشهرها أثران: أولهما: أثر مروي عن علي بن الحسين بن علي المعروف بـ زين العابدين، وهذا الأثر فيه أن علي بن الحسين: حي على خير العمل، يقول: هذا هو الأذان الأول، والأثر رواه البيهقي في سننه وفي سنده ضعف. ولكن على فرض أنه حسن فقد حسنه بعض أهل العلم فإنه مقطوع من علي بن الحسين، فبين علي بن الحسين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي، فلا حجة في قوله. الأثر الثاني: ما رواه البيهقي وعبد الرازق وغيرهما أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يُؤذن بها في السفر، وسندها إلى ابن عمر لا بأس به جيد، والجواب على ما نقل عن ابن عمر من وجوه: الوجه الأول: ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في مجموع الفتاوى، قال: " إن بعض الصحابة كانوا ينادون بها في حال معينة، لتحريض الناس على الصلاة، وليست من الأذان " أي: ليس يدخلها في الأذان إنما ينادي بها هكذا من عند نفسه، ليست داخلة في صلب الآذان. الجواب الثاني: أن يقال: إنه من الثابت أن ابن عمر رضي الله عنه كان لا يرى الأذان في السفر، وهذا رأي خاص له، ذكره عنه البيهقي بأسانيد جيدة وهو رأي مرجوح على كل حال، والصحيح خلافه، لكن هذا رأيه رضي الله عنه كان لا يرى الأذان في السفر إنما يشرع للمقيم فحسب، وإذا لم يكن ابن عمر أصلاً يؤذن في السفر إنما كان ينادي، فإذا جاء وقت الصلاة، قد يقول: حي على الصلاة وقد يقول: حي على الفلاح وقد يقول: حي على خير العمل وقد يقول: حي على عمود الإسلام، وقد يقول أي كلمة يقصد فيها دعوة الناس إلى الصلاة، إلا في صلاة الفجر، فإنه كان يؤذن لها؛ لأن الناس يحتاجون إلى الأذان، ولو كان في سفر، فهذا هو الجواب عما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه. النوع الثالث: الذي يستدل بها بعضهم على لفظة "حي على خير العمل" نصوص صحيحة، لكنها لا تتعلق بالأذان لا من قريب ولا من بعيد، تذكر أن الصلاة هي خير العمل، لكن لم تقل قولوا في الأذان هذا الكلام، كلا! مثل حديث ابن مسعود، وقد سبق معنا في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة على وقتها} . فالحديث نص على أن الصلاة على وقتها أفضل الأعمال، لكن هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم اجعلوا هذا في الأذان؟ كلا! وهل كلما صح شيء نجعله في الأذان؟ كلا، فالصلاة خير العمل هذا لا شك فيه، خير العمل بعد الشهادتين، بل ورد في حديث ثوبان والذي رواه أحمد وابن ماجة والحاكم وصححه البيهقي وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن} . فالحديث نص على أن الصلاة هي خير الأعمال، والمقصود لا شك خير الأعمال البدنية، وإلا فإن الشهادتين هما أفضل الأعمال مطلقاً. فالصلاة أفضل الأعمال وآكد الأركان بعد الشهادتين، فلا شك أن الصلاة هي خير الأعمال؛ لكن قول هذا في الأذان بدعة لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، ولذلك نص العلماء على منعها، قال الإمام البيهقي بعدما عقد الباب في النداء للصلاة بحي على خير العمل، قال: " ولا يثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نكره الزيادة على ما ثبت عنه وبالله تعالى التوفيق ". ومثله قال الإمام النووي في المجموع: " يكره النداء بحي على خير العمل " وأقول ما قاله النووي ومن قبله البيهقي من كراهية ذلك والله تعالى أعلم، ليس مقصودهم فيه أنه يكره كراهية تنزيه، بل مقصودهم أنه يكره تحريماً، أي: يحرم، وهذا هو الصحيح بلا شك أنه يحرم أن ينادي أحدهم بحي على خير العمل، لأن هذه اللفظة لم ترد والآذان توقيفي لم تنقل لا عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا عن أبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي ولا عن غيرهم من الصحابة، إلا أن ابن عمر كان يقولها في غير الأذان، ولا حجة في فعل أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً هذه أيضاً من البدع التي أحدثها الرافضة في دين الله وما أكثر ما أحدثوا! الجزء: 16 ¦ الصفحة: 32 جهاد المرأة إن المرأة المسلمة لها مكانتها في الإسلام لذلك فقد جعل الإسلام المرأة شقيقة الرجل في التكاليف والواجبات، من ذلك الجهاد في سبيل الله، فكما أن على الرجل أن يجاهد بنفسه وماله، كذلك على المرأة أن تجاهد بمالها، إن كان لها مال. لذلك فقد تحدث الشيخ حفظه الله عن جهاد المرأة، وبين أن عليها أن تنفق في سبيل الله؛ إن كانت تملك مالاً، وذكر الشيخ صوراً من معاناة المسلمين في الهند وفي البوسنة والهرسك حتى تتحمس المرأة المسلمة للإنفاق في سبيل الله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 1 الدعوة إلى الخير والإنفاق إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً. هذه الليلة الثانية ضمن حديثي عن بعض الموضوعات التي تمس المرأة من قريب أو من بعيد، وهي في هذه الليلة ليلة الجمعة الخامس من شهر رمضان من عام (1413هـ) . أيها الأحبة أستهل حديثي بذكر طرفة وقعت في الأمس، فقد جاءني أحد الإخوة الشباب ومعه طفل له ولم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، ومع هذا الطفل ما يزيد على ألف ريال، قال: هذه للمسلمين في البوسنة وبعضها لصالح مشروع تفطير صائم، وقد كان هذا الطفل المبارك -إن شاء الله تعالى- يواصلني بين حين وآخر بمبالغ طيبة من المال، جمعها من المحسنين لصالح إخوانه المسلمين، وقال لي والده وهو يبتسم: إنني أربي ولدي على أن يكون شحاذاً للمسلمين، نعم! شحاذ ولكن للمسلمين، وشتان شتان بين هذا وبين غيره. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 2 النهي عن سؤال الإنسان لقد جاءت النصوص النبوية الكثيرة -أيها الإخوة أيتها الأخوات- تنهى عن أن يسأل الإنسان الناس لنفسه، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {أن المسألة تأتي يوم القيامة، وهي خموش أو خدوش في وجه الإنسان الذي يسال تكثراً} يسأل وعنده ما يكفيه ويغنيه، فتأتي مسألته يوم القيامة خدوشاً أو خموشاً في وجهه، حتى إن منهم من يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، فهؤلاء الذين يسألون تكثراً، ويسألون إلحافاً وإلحاحاً، ويسألون وعندهم ما يغنيهم، إنهم على أحسن الأحوال، يعرضون على الناس همومهم الخاصة، وحاجاتهم الشخصية ومتطلباتهم الذاتية. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 3 سؤال من أجل المسلمين شتان بين هؤلاء، وبين من يطلبون من الناس لا لأنفسهم ولا لذواتهم، بل هم عن ذلك كله بمعزل، وإنما يسألون الناس لإخوانهم المسلمين، فهم أدلاء على الخير، دعاة إلى أبوابه، يعملون على هداية الناس إلى ما ينفعهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء} . فهؤلاء الذين يدعون الناس إلى الخير وإلى مشاريع الخير وإلى أعمال البر؛ إن لهم من الأجر مثل أجور أولئك الذين انتفعوا بدعوتهم واستجابوا لندائهم، وشاركوا في أعمال الخير بسببهم، بل إنني أقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قام بشخصه الكريم بمثل هذا العمل النبيل الجليل، ففي صحيح مسلم، من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: {أن قوماً من مضر جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم متقلدي السيوف والعباءة، مجتابي النمار، فقراء جياع، حتى تمعَّر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم، وقام على المنبر، فقال عليه الصلاة والسلام: تصدق رجل من ديناره من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة، فجاء رجل بصرة كادت يده تعجز عنها، بل قد عجزت، وجاء آخر بصاع تمر، وجاء آخر بصاع بر، حتى رأى الصحابي رضي الله عنه أكواماً من الطعام، ورأى خيراً كثيراً من الذهب والفضة، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء} . فطوبى لك أيها الأخ المسلم، ولك أيتها الأخت المسلمة، إذا كنتم مفاتيح للخير، سارعتم إلى الإنفاق، وأعلنتم بالصدقة؛ فامتثل الناس وأسرعوا، وسننتم بذلك سنة حسنة، قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] طوبى لكم إن كنتم دعاة إلى الخير، تفتحون للناس أبوابه، وتحرضونهم عليه، وتحثونهم على فعله، فيفعل الناس؛ فلكم أجركم وأجر من عمل بذلك بسببكم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 4 وتجارة لن تبور أيتها الأخت الآتية إلى بيت من مساجد بيوت الله، الجالسة تستمعين ذكر الله، نحن نعرف ظروفك، فأنت أم لمجموعة من الشباب الموظفين رواتبهم كثيرة طيبة وهم أهل بر وإحسان، فكل واحد منهم يسارع أن يسبق الآخرين إلى تحصيل رضاك، وفي مطلع كل شهر هم يأتونك بمبالغ طيبة من المال، يمسحون بها خاطرك، ويبحثون بها عن مرضاتك، فتأخذين هذا المال وتحتفظين به، ثم إنك ربما سمحت به خواطر بعض الأطفال؛ فتشترين لهم بعض الحلوى، وبعض المبالغ اليسيرة، وبعض أنواع المأكولات، تعطينها لهؤلاء الأطفال، حتى تحضي منهم بابتسامة أو بدعوة، أو بكلمة جزاك الله خيراً، أو برضا أهليهم ولا حرج عليك في ذلك، ولكن ينبغي أن تدركي -أيضاً- أن هناك من هو أحوج إلى أن يسمح خاطره، وتطيب نفسه ويزال ما يعاني من الهم والفقر اللأواء والجوع. ونعرف أن أختكِ التي تجلس إلى جوارك في هذا المسجد المبارك، أنها هي الأخرى أرملة لفلان بن فلان الغني الكبير الذي مات عنها وترك أموالاً طائلة؛ فورثت بعده هذا المال أو جزءاً منه، وهي لا تدري فيما تنفق هذا المال، وربما صرفته في غير وجوهه، أو على أحسن الأحوال، ادخرته لنفسها، فهل تظنين أن لك عمراً آخر سوف تنفقين فيه هذا المال؟ كلا. إن مالك هو ما قدمت ومال وارثك ما أخرت. أما أختك الثالثة، تلك التي تقبع وراءً، فنحن -أيضاً- نعرف طرقها فهي مدرسة تستلم في نهاية كل شهر ما يزيد على عشرة آلاف ريال، ونعلم أنها تغير أثاث منزلها كل سنة، وأنها تخرج أحياناً إلى السوق في شهر رمضان وفي غيره، فتشتري ألواناً من الملابس والفساتين، وبعض متطلبات المنزل، وبعض الأواني، ثم تُهدي ما كان عندها من الأشياء إلى جيرانها وأقاربها ومعارفها ونعلم أن أهون شيء عليها؛ أن تشتري فستاناً بألف ريال أو ألفي ريال ثم تكتشف بعدما تعود إلى المنزل؛ أنه طويل أو قصير أو ضيق أو لونه غير مناسب، ثم لا ترجعه إلى صاحب الدكان، وإنما ترمي به وتقول الأمر هين والخطب يسير، وبدله غيره. لماذا؟ لأن عندها هذا المال الكثير، الذي لا تكلف بإنفاق شيء منه. إن زوجها مطالب شرعاً حتى بتأمين الطعام الذي تأكله، واللباس الذي تلبسه، والشراب الذي تحتاجه، والحذاء الذي تنتعله، وكذلك ما يتعلق بأطفالها وأولادها، ولذلك كان هذا المال الكثير الذي تستلمه، كان زيادة لا تدري كيف تصرفه. وأحسن من هذا تلك الأخت الأخرى، التي تحتفظ بالمال، أو تنفقه في وجوه مباحة، أو تعمل على أن تزيد المال من خلال المضاربات التجارية والمساهمات المباحة. ونقول لهذه الأخت وتلك وللثالثة: أمامكن ذلك المجال الخصب العظيم: للإنفاق في سبيل الله، إن هذا المال مهما ربي، فإنه يكسب (100%) على أحسن الأحوال، ولكن أمام الأخوات جميعاً تلك المساهمة الكبيرة العظيمة الريال بسبعمائة ريال، إنه في سبيل الخير، وإنها المسابقة في الطاعات، إنها المتاجرة مع الله: {َمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261] . إنه الربح العظيم، والتجارة التي لا تبور، وإذا كانت مشاركتكن -­أيتها الأخوات- في أعمال الدنيا قد تخسر وقد تربح، فإن المشاركة والمتاجرة مع رب العالمين ربح مضمون، وليس فيه شائبة ربا ولكنه حلال وأجر وبر وذخر، عند من لا يضيع عنده شيء، فأين المتسابقون والمتسابقات؟ وأين المتنافسون والمتنافسات؟ أيتها الأخوات الكريمات، أقلكن من تملك مقداراً من المال، ومن تدَّخرُ شيئاً منه لمقبلات الأيام، فلماذا لا تسرع الأخت بالإنفاق، وتدرك أن رزق اليوم يأتي به الله عز وجل، ورزق غدٍ يأتي معه؟ كل يوم له رزقه الخاص، وعلى العبد ألاَّ يحمل هم غد تقول سكينة بنت الحسين: سهرت أعين ونامت عيون لأمور تكون أو لا تكون إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك ما غداً سيكون الجزء: 17 ¦ الصفحة: 5 الأمل في النساء للإنفاق في سبيل الله أيتها الأخوات، لقد جربنا حظنا مع أولئك الرجال؛ فوجدنا أن منهم المنفق والقابض يده بالصدقة، ووجدنا أن الواحد منهم كلما زاد ماله، زادت همومه وشئونه، وكثرت مشاريعه، وقال: اليوم أريد أن أبني العمارة، وغداً المزرعة، وبعد غدٍ المضاربة وبعد ذلك عليه ديون، وأخيراً ما عنده سيولة، ثم هو يلتمس المعاذير ويخرج منا يميناً وشمالاً. جربنا حظنا مع أولئك الرجال؛ فاليوم نريد أن نجرب حظنا مع الأخوات الكريمات من النساء، ليس في هذا اليوم فحسب، بل وفي كل يوم، أن يكنَّ من المسارعات في سد الخلة، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وكسوة العاري، وتطبيب المريض والعائل، ودفن الميت. أيتها الأخوات الكريمات؛ كل ذلك يحتاج إلى المساهمة والمسارعة، وقد ذكرت لكن بالأمس نماذجاً حرصت على أن تكون من معاناة أخواتكم من النساء سواء في كشمير أو في الهند أو في البوسنة والهرسك، أو في غيرها من البلاد، وذلك حتى تدرك المرأة؛ أن أخواتها وبنات جنسها يعانين مثل هذه الآلام، وأنهن بحاجة إلى الريال قبل العشرة، والعشرة قبل المائة، والمائة قبل الألف مما تملكه الأخت الكريمة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 6 صور من معاناة المسلمين (مشاركة شعرية) لقد ذكرت لكم أمس، جزءاً من معاناة المسلمين الصعبة العسيرة، الموجودة في كثير من البلاد، هأنا اليوم أنقل هذه المعاناة بصورة أخرى، عبر كلمات منظومة شعرية، جادت به قريحة أحد الشعراء وهو الدكتور محمد بن ظافر الشهري، تعقيباً على مصاب المسلمات والمسلمين، الذي ذكرت بالأمس طرفاً منه: يقولان رفقاً بجسمي الرقيق فعيناك تهمي وفي الصدر ضيق وتحيا أسيراً لِحرِّ الأسى وإن كنت تبدو كحر طليق وقالا دع الهم أو بعضه ولم يعلما أنني لا أطيق فكيف السبيل إلى ضحكة وليس يقهقه صدر الخليق أنضحك والهدم في البابري ومن قبل في القدس شب الحريق وفي طاجكستان قتل لنا على القتل في سراييفو يفوق قتل المسلمون في طاجكستان، أكثر من مائة ألف مسلم قتيل، وعندي صورهم، ولولا حرمة المسجد؛ لأحضرتها لكم، مائة ألف مسلم قتلوا خلال أقل من شهر على يد الشيوعيين الذين تدخلوا في طاجكستان، كما تدخلوا في أفغانستان، وحاربوا المسلمين وألقوا بجثثهم في نهر جيحون، حتى صر النهر ماءً أحمراً من دماء المسلمين، وأما الذين هربوا إلى الأدغال والغابات فقد أنزلوا عليهم إنزالا مظلياً، ولاحقوهم وتتبعوهم بالرصاص، حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة. أما الذين هربوا من هذه النيران والحروب، فهم يزيدون على ثلاثمائة ألف مسلم بين الرجال والأطفال والنساء وكثير منهم ذهبوا إلى أفغانستان، المشغولة بهمومها، المنهمكة في مشاكلها الخاصة. وفي طاجكستان قتل لنا على القتل في سراييفو يفوق ويذبح راموس إخواننا على أرض مورو وما من شفيق في الفلبين هجمات شرسة من جيشهم على المسلمين في المناطق الجنوبية: وفي مقديشو تسال الدماء ليصنع منها لسان الغبوق وبث الصليب رجالاته برغم الخلافات عند الرفيق وفي إرتيريا وجاراتها ليخنقنا سام عند المضيق وكشمير والهند لا تسألا عن الهتك فيها لشعب عتيق فكم حرة مزقوا ثوبها ووالدها مثخن والشقيق ألم تسمعا أهل أبخازيا عشية نادوا نداء الزعيق أيا عرب السان فلتنفروا فإن التواني بكم لا يليق فما بعث القوم منا سوى غطيط فهم في سبات عميق وماذا يؤمل من ملأٍ أضلوا وضلوا سواء الطريق ومنهم مولون شطر الغروب ومنهم مولون شطر الشروق ويرجم فينا دعاة الهدى ويكرم فينا دعاة الفسوق ومتهمٌ كل ذي لحية من العرب بل والتقي الخليق فأي الفريقين أأبخازيا أم العرب أولى بعون المطيق هما كالغريقين في لجة فكيف يعين الغريق الغريق خليلي حل بإخواننا من الظلم ما لا يسر الصديق أذيقوا من الذل ألوانه فهل نتضاحك حتى نذوق وحتام نسفل في همنا وأعداؤنا همهم في سبوق ونشرب من قيء أعدائنا وإسلامنا فيه أحلى رحيق وتبقى هتافات أبنائنا تعيش النجوم يعيش الفريق هذه همومنا لا تتجاوز الكرة أو الفن. وتبقى هتافات أبنائنا تعيش النجوم يعيش الفريق وتبقى وسائل إعلامنا لنشر الرذيلة والزور بوق ونغمس في الفن أولادنا لتخرج معشوقة أو عشيق إذا زرع الفسق في نسلنا فهل نتوقع غير العقوق ومن كان عبداً لأهوائه ستهوي به في مكان سحيق عجبت لمن سار نحو الهوى كسير الفراشات نحو البريق وإسلامنا فيه تمكيننا وفيه ننال جميع الحقوق فؤادي يخفق من حبه فتسري محبته في العروق فهيا نحيي به أنفساً وإن لم يشأ كل نذلٍ صفيق نجادل بالحق كل الورى ولا نرم من أسلموا بالمروق خليلي سيرا على منهجي على منهجٍ سلفي عريق وكفا عن اللوم ولتحملا معي الهم أو فاتركاني أفيق أيها الإخوة والأخوات؛ إننا لا نتحدث في مثل هذه القضايا؛ لمجرد أن نثير الهموم والأحزان، ولا أن نزجي وقت الفراغ، فإن الوقت ثمين وخاصة في هذا الشهر الكريم، ولكنني أشعر أننا وأنكم جميعاً بأمس الحاجة إلى من يحرك ساكن قلوبكم، وقلوبكن -أيتها الأخوات- بشكل خاص؛ لتتعاطفوا مع مصاب إخوانكم المسلمين وأخواتكم المسلمات. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 7 فضل الصدقة ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب النساء كما في الصحيحين، من حديث ابن عباس: فوعظهن وذكرهن وقال: {يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن؛ فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة منهن سفعاء الخدين، فقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط} ففي هذا الحديث، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمات بالصدقة {تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن} فإذا لم تجد المرأة ما تتصدق به فلتخرج من حليها، من حليها الذي في يدها أو على صدرها، أو قرطها الذي في أذنها، أو خلخالها الذي في رجلها، أو محزمها أو من حليها الذي تحتفظ به في بيتها. فإن هذه الصدقة من أعظم وأهم أسباب النجاة من عذاب النار، ولهذا قال: {تصدقن فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} فدل على أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار، ومن أهم أسباب النجاة من السعير، ومن أهم أسباب دخول الجنة، والمرء في ظل صدقته يوم القيامة ذكراً كان أو أنثى. فعلى المرأة المسلمة أن تساهم في الصدقة، وإنني أسأل الله تعالى لكل أخت مسلمة، جادت يدها بما تستطيع، أن يجعل الله تعالى ما جادت به رفعة في درجاتها، وطولاً في عمرها، وصحة في بدنها، وسعادة في قلبها، وصلاحاً في ولدها، وعافية لها، ورفعة في درجاتها عند الله تعالى يوم القيامة، ونجاة لها من عذاب السعير، اللهم آمين اللهم آمين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 8 دعوة للرجال إلى الإنفاق في سبيل الله وإذا كنت أقول هذا للأخوات المؤمنات؛ فإني أقوله لكم أنتم أيها الرجال، يا أصحاب الأموال، يا أصحاب الأرصدة في البنوك، يا أصحاب المرتبات، أقوله لكم: أنتم بالذات، يعرف الواحد منكم كيف يوفر المال، ونحن ندري أن الواحد منا يعطي طفله في المدرسة الابتدائية يومياً، خمسة ريالات -أي في الأسبوع ما يزيد على خمسة وثلاثين ريالاً- فإذا كان عندك أربعة أطفال، فإنك تعطيهم أسبوعياً مائة وخمسين ريالاً، هذا للمقصف المدرسي فقط، أما لملابس المدرسة والملابس الرياضية، والأحذية، والأدوات المدرسية، والحاجيات والترفيه والمناسبات والأعياد والأسفار، فهذا شيء كثير، فلماذا ما تأتي إلى الحسابات إلا إذا طالبناك بالصدقة والإنفاق والبذل؟! لا يا أخي، نحن لا نطالبك بمالك، لكن نطالبك بمال الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] نحن نعلم أنك تعبت أنت تعبت في جمعه وفي تحصيله، وبحمد الله هو من حلال ولله الحمد والمنة ولا نلومك على حبه فالله تعالى يقول: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} [الفجر:20] لا نلومك على ذلك، لكن إنفاقك لهذا المال هو معيار صدقك وإخلاصك، ودليل إيمانك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي مالك الأشعري وهو في صحيح مسلم {والصدقة برهان} إن إنفاقك للمال دليل على استعلائك عن الدنيا، وعلى حب المال، وعلى أن الإيمان بالله، والرجاء فيما عنده، والأمل في الدار الآخرة؛ أقوى في قلبك من محبة المال، وأقوى في قلبك من وسوسة الشيطان قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:268] فأنفق يا أخي ولا تخش من ذي العرش إقلالاً. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 9 ما نقص مال من صدقة أتريد أن أخبرك، وأنتِ يا أختُ أتريدين أن أخبرك، الله سبحانه وتعال يقول: {يا ابن آدم أنفق، أُنْفِقْ عليك} والله لا يضيع منك قرش ولا ريال إلا ويعوضك من بيده خزائن السماوات والأرض خيراً مما أنفقت في الدنيا وفي الآخرة. صاحب الحديقة - كما جاء في صحيح مسلم- ملك خاص يبعث إلى السحابة في السماء، ويقول لها: يا سحابة، أمطري على حديقة فلان بن فلان، فإذا توسطت السحابة من هذا البستان؛ أفرغت ما فيها من الماء، والحدائق عن يمينها وشمالها ما أصابتها قطرة، فيأتي رجل إلى فلاح بسيط يسوي الماء بمسحاته، ويقول له: ما اسمك؟ قال: اسمي فلان بالاسم الذي سمعه في السحابة، فيقول: وما شأنك بي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب، يقول: أسق حديقة فلان، فماذا تصنع بمالك؟ هل هو يصنع معجزة؟! لا، الأمر يسير قال: هو ما رأيت، أنا أقسم المال إلى ثلاثة: ثلث أتصدق به، وثلث آكله أنا وأولادي وثلث أعيده في هذه الحديقة، فالأمر يسير، لا تضر بدنياك ولا تضر بآخرتك. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 10 الاهتمام بمأساة الأمة أولى من الاهتمام بمأساة فردية أيتها الأخت المسلمة، نحن نعلم أنه يأتيك في منزلك، أو حتى في المسجد، امرأة تقول: إنها محتاجة، وأم أطفال، وأيتام، ومسكينة، وليس لديها مال، وعليها ديون، وليس في بيتها ما تأكل. والواقع أن مجتمعنا -بحمد الله- مهما وجد فينا من الفقراء، إلا أنه في الجملة -خاصة في المدن- وضعه جيد، هناك مناطق نائية في غاية الفقر وفي غاية الجوع لا يجدون قوت اليوم، لكن في المدن الكبيرة، وخاصة أولئك الذين يطرقون الأبواب، ويأتون إلى البيوت، ويتعرضون للناس، غالبية هؤلاء في خير. وعلى فرض أنهم محتاجون؛ أفنقيس المأساة الفردية بمأساة الأمة؟ مصاب هذه المرأة أو ذلك الرجل، مصاب فرد واحد، أو بيت واحد، أو أسرة واحدة، لكنك الآن وأنتِ أيتها المسلمة، أمام مصيبة أمة بأكملها، برجالها وبنسائها وبأطفالها، أمة لا ينقصها إلا المال. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 11 الأمة لا ينقصها إلا المال يوجد في البوسنة، مائة ألف مجند، مستعدون أن يموتوا في سبيل الله، مستعدون أن يقاتلوا حتى آخر قطرة من دمائهم، وهذا العدد الكبير بإمكانه بإذن الله تعالى أن يحرر كل أراضي البوسنة من أيدي أعداء الإسلام، ولكن يمنعهم من ذلك أنهم لا يملكون السلاح، وهذا العدد الكبير -أيضاً- يحتاج -على أقل تقدير- ألف داعية، أي: بمعدل داعية واحد لكل مائة رجل، أو مائة داعية بمعدل داعية واحد لكل ألف رجل، لكن مائة داعية، يتطلبون مرتباً شهرياً قدره -على أقل تقدير- خمسين ألف ريال، فمن هي الجهة وما هي الدولة أو المؤسسة التي تعطيهم السلاح، وتعطيهم الإغاثات الإسلامية وترسل إليهم الدعاة؟! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 12 أهل السنة هم أولى بالبذل والعطاء يؤسفني أن أقول بذلت الشيعة والرافضة في ذلك شيئاً كثيراً، أما أهل السنة فما زالوا مترددين، وما زالوا يقبضون أيديهم، وما زالوا إذا أعطوا اليوم لم يعطوا غداً، ويقولون: طالت المسألة، نعم طالت وستطول، وإذا انتهت مأساة المسلمين في البوسنة ومأساتهم في طاجكستان، ومأساتهم في فلسطين، ومأساتهم في مصر، ومأساتهم في الجزائر، ومأساتهم هنا فسوف تقوم مآسٍ ومآسٍ أخرى للمسلمين، وهذه سنة الله: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول الجزء: 17 ¦ الصفحة: 13 دعوة للإنفاق في سبيل الله إنها سنة ماضية، وأهل هذا الدين مبتلون ومختبرون، فعلينا -أيها الإخوة وأيتها الإخوات- أن نفزع مع إخواننا المسلمين، وأن نصدق الله تعالى، وألا نمل ولا نكل ولا نحتقر شيئاً مهما قل؛ فإن الصدقة يربيها الله تعالى للإنسان، كما يربي أحدنا فلوه، حتى تكون كالجبل العظيم، أو تحسد نفسك الخير والمعروف والبر والجود؟ والله تعالى يقول: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] . فيا أيتها الأخوات المؤمنات -وأنا إذ أنادي النساء خاصة فإني أريد أن أثير حمية الرجال أيضاً- يا أيتها الأخوات المؤمنات تصدقن ولو من حليكن، كما قال لكن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم الناصح الأمين {تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم} ويا أيها الرجال، إذا بذلت النساء، وتخلت المرأة المسلمة عن ساعتها أو عن قرطها، أو عن شيء من حليها، أفتعجز أنت أن تتخلى عن جزء من مرتبك أو رصيدك، في سبيل الله تعالى. إن المحروم من حرم هذا الخير، خاصة في هذه الأيام المباركات، والساعات التي يرجى أن تضاعف فيها الحسنات، وتقال فيها العثرات، وتكفر فيها السيئات. فأسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً ممن أسرعوا إلى الخيرات، وسابقوا إليها فكانوا لها سابقين، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 14 أهمية الحديث عن المرأة حمداً لله تعالى حمداً، وشكراً له شكراً، على ما أنعم ووفق وهدى ويسر، هو أهل التقوى وأهل المغفرة. كنت قد وعدتكم أيها الإخوة والأخوات، أن أتحدث إليكم هذه الليلة والليلة القابلة، عن موضوع المرأة، وقد جرت عادة الناس أن يظنوا أن الحديث عن المرأة لا يعدو الحديث عن ثيابها فإن تجاوز ذلك فإلى شعرها، وقد ظن الظانون أن المرأة لا تعدوا أن تكون ديكوراً أو هنداماً يعتني بتزيينه وتحسينه فحسب، ونسوا الجانب الإيماني في المرأة، الجانب التكليفي الجانب الشرعي الذي جعل المرأة مع الرجل على قدم المساواة في أصل التكليف فما كلف به الرجل كلفت به المرأة، وما حرم عليه حرم عليها، هذا هو الأصل إلا ما استثني قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] . الجزء: 17 ¦ الصفحة: 15 اهتمام أعداء الدين بإفساد المرأة لقد وجد اليوم في مجتمعات المسلمين كلها -وبدون استثناء- جمعيات، ومؤسسات، وشركات، وجامعات، ومدارس، تهتم كيف تُدَرِّب المرأة على الغناء، أو على الرقص، أو على أساليب الإغراء والفتنة والإثارة، وتحويل المرأة إلى مجرد متعة يعبث بها الرجل، ويلهو ويقضي وقت فراغه، أو يزيل السأم والتعب عن نفسه، وبذلك حولوا المرأة إلى دمية ولعبة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104] . ويظنون أنهم بذلك يعملون شيئاً، ويزوقون هذا العمل بألفاظ مثل: تحرير المرأة، وإخراج المرأة من تسلط الرجل، والواقع أنهم أخرجوها من عناية الأب الحنون، أو من غيرة الزوج المشفق، إلى عبث الأجنبي البعيد الغريب، الذي لا يهمه من المرأة إلا أن تكون زهرة تقطف أو تشم، ثم يلقي بها بعيداً عن وجهه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 16 التلفاز والمرأة أيها الأحبة: نظرة سريعة إلى الإعلام اليوم، وأنا مضطر إلى تجاوز الكثير لضيق الوقت. لقد كان الإعلام منذ سنوات ليست بالبعيدة، إذا احتاج إلى أن يقدم صورة المرأة على شاشات التلفاز للطبخ -مثلاً- فإنك لا ترى من المرأة إلا كفيها وهي تقوم بعملية الطبخ، كانت هذه هي البداية، لكن ما هي النهاية؟ لا أحد -إلا الله- يدري ما هي النهاية؛ لأن النهاية ما تأت بعد. ولكننا نستطيع أن نعرف ما هو الواقع الذي نعيشه الآن، البارحة وبالذات ليلة الأربعاء وفي الساعة الواحدة ليلاً وفي القناة الثانية برنامج: الكاميرا الخفية، باللغة الإنجليزية، ماذا يعرض على أولاد وبنات المسلمين؟ شاب إنجليزي وسيم الوجه، يلبس تنورة أسكتلندية واسعة فضفاضة، وليس عليه ملابس داخلية تستر سوأته، وأمامه مجموعة من الفتيات في الثامنة عشرة، وهو يريد أن يعلق إعلاناً على الحائط، فيطلب من هؤلاء البنات أن يمسكن بالسلم حتى يصعد، ويصعد فينظرن إليه من أسفل، ويتضاحكن ويتغامزن، ثم تأتي نساء كبيرات السن، يحركن عيونهن ويرفعن حواجبهن، ويتحركن ويتحادثن بلغة معروفة. نعم هذا في شهر رمضان المبارك، يا أخي هذا ليس سراً، هذا يعرض على ملايين المشاهدين من المسلمين، وهذه القناة ليست وقفاً على الكفار ولا وقفاً على هؤلاء الغربيين الموجودين في هذه البلاد، ونحن نجد أن أكثر الناس يتابعونها، حتى ولو كانوا لا يجيدون لغتها. أما الملابس فقد أصبح عادياً أن تظهر المرأة وعليها ثياب إلى ركبتها، بل إلى ما فوق الركبة، وهذه الثياب تنحسر يوماً بعد يوم، وإذا استمر ذلك، ولم تتحرك غيرة الغيورين فما الذي يدريك أن تعرض المرأة على شاشة التلفاز في بلاد الإسلام وهي في ثياب النوم، أو بثياب البحر، أو وهي تراقص الرجال بصورة أو بأخرى. إن من يرى بداية الطريق يعرف نهايته، إذا لم يتحرك الغيورون، وإذا لم يؤخذ على أيدي القائمين على هذه الأجهزة، ممن لا يراقبون الله تعالى، بل ولا يراعون مشاعر المسلمين. أما القنوات التي تبث باللغة العربية فقد أصبح معتاداً أن تظهر الفتاة، بل والفتاة من هذه البلاد، وهي تلبس البنطلون، وتجلس أو تقوم مع رجل صور في المسرحية أو التمثيلية على أنه زوجها؛ فهو يحادثها، ويضاحكها، ويدنو منها، ويلمسها، ويتحدث معها حديث الزوج إلى زوجته!! فإذا عرضت مسرحية كويتية بعدما لقي إخواننا في الكويت الآلام والابتلاءات من الله عز وجل، والاختبار وجدنا أن الأمر لم يزدنا إلا إعراضاً، فالفتاة تظهر بأبهى زينتها، بل وقد لبست اللباس الضيق الذي يشرب الجلد شرباًً وهو ما يسمى بالاسترتش وهو عبارة عن ثوب ضيق جداً إذا لبسته الفتاة فإنه يلتصق بجسدها كما يلتصق الشراب بالقدم، ويصفها ويصف حجمها، بل يضاعف من فتنتها وإغرائها، وإلى أمامها شاب في قوة الشباب، وريعان الشباب، وهو يلامسها ويحادثها ويدنو منها ويكاد أن يلتصق جسده بجسدها، ويعرض هذا في شهر رمضان المبارك، بعدما خرج المسلمون من صلاة التراويح، وبعدما بللوا دموعهم بالبكاء، وبعدما سجدوا لله لرب العالمين، وبعدما سمعوا كلام الله تعالى، وإذا بهذه المشاهد والمناظر المؤذية تكدرهم أو تغيرهم، هذا هو ما يقدمه الإعلام للمرأة المسلمة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 17 المرأة والصحافة أما الصحافة فحدث ولا حرج، فالمرأة إنما هي تلك الفتاة التي نجحت في مسابقات الجمال، أو عارضات الأزياء التي تعطى مبالغ مقابل أن تعرض جمالها، وتبدي زينتها وإغراءها وفتنتها، حتى إنني قرأت في جريدة تصدر في دولة خليجية، وتوزع في العالم العربي والإسلامي كله، والجريدة عندي، وأقول هذا الكلام مع ما فيه من مرارة ولكنه الواقع الذي يجب أن تعرفوه، لأنه ليس سراً، إنه يباع في البقالات، ويعرض في المكتبات، ويقرؤه الفتيات والفتيات، مقابلات مع بعض اللاعبين، فماذا يقول أولئك اللاعبون؟ يقول أحدهم مثلاً: إذا خرجت من المباراة أجد خمسين فتاة في انتظاري وهن مستعدات لتقديم كل شيء، أنت تدري ماذا يعني كل هذا الكلام! وآخر يقول: زوجتي أحبها ولكنها لا تكفيني وحدها، وهم بطبيعة الحال لا يؤمنون بتعدد الزوجات، فهذا الكلام يعني تعدد الخليلات وتعدد العشيقات، أي أنه يخون ويرتكب ما حرم الله عز وجل، ويعلن ذلك وهو كافر، لكن العجب ممن يحمل اسماً إسلامياً، ويتكلم باللغة العربية، بل وفي بلد من بلاد الإسلام ينشر مثل هذا الكلام. وأعجب من هذا، أن يتداول المسلمون مثل هذا الوباء الفاحش البذيء، ثم لا تسمع صوتاً ينكر، ماذا بقي أكثر من هذا؟! ندع هذا الأمر جانباً! الجزء: 17 ¦ الصفحة: 18 المرأة عندهم تعني المجون والغرام لا غير إنها الجاهلية التي لا تعرف من المرأة إلا جسدها، ولا تفهم المرأة إلا لغة الغزل، ولغة الحديث الهامش المغري، بل أقول وبلغة صريحة: إن المرأة عندها هي فقط المرأة في غرفة النوم، لا يعرفون من المرأة دينها ولا خلقها ولا حيائها ولا خوفها من ربها، لا يعرفون المرأة الصادقة، المرأة المجاهدة، المرأة المؤمنة، المرأة الغيورة، المرأة المنفقة الباذلة المتصدقة كل ذلك لا يعرفوه. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 19 نماذج من المرأة المسلمة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 20 المرأة المذكورة في قصة أصحاب الأخدود ثم تأملي مظهر المؤمنة القوية الصلبة في تلك المرأة التي خبرنا من شأنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] . تأتي هذه المرأة تحمل صبيها على كتفها لتلقى في النار، فلما قربت من النار تكعكت وتلكأت وأشفقت على طفلها، فأنطقه الله الذي أنطق كل شيء: يا أماه اصبري فإنك على الحق، فتتقدم فتلقي بولدها إلى النار ثم تلقي بنفسها وراءه فيحترقون في نار الدنيا؛ لينتقلوا في لمحة بصر إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 21 مريم عليها السلام وتأملي في قصة مريم عليها السلام، التي أخبرنا الله تعالى من شأنها، وكيف واجهت مجتمعها؟ بذلك الأمر الغريب أن يأتي لها ولد دون أن يكون لها زوج، قال الله تعالى: {قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:27-28] إنه موقف صعب عظيم عصيب، ولكن الله تعالى مع المؤمنين، فينطق الله تعالى عيسى عليه السلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] ويعلم هؤلاء براءة مريم، وأنها أطهر من السحابة في سماءها، وأن الله تعالى أجرى على يديها هذه الآية العظيمة فُولِدَ لها عيسى من غير أب: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:59-60] وتصبر وتصابر وينالها الأذى من اليهود ومن غيرهم، في نفسها، وفي ولدها، حتى يجعل الله تعالى سيرتها أنموذجاً يحتذى، وخبراً يتلى إلى يوم القيامة. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 22 خديجة رضي الله عنها ثم تأملي في قصة خديجة رضي الله عنها، يأتيها النبي صلى الله عليه وسلم وقد أفزعه الملك بغار حراء، فيأتي ترعد فرائصه، ويقول: زملوني دثروني، فتقول له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق} وتظل خديجة إلى جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم تثبته وتصبره، تؤمن به وقد كذَّبه الناس، وتقف معه الناس يوم تخلى عنه الأقربون حتى تموت رضي الله عنها فيجد النبي صلى الله عليه وسلم ألم فقدها عام الحزن فقد كانت نعم الزوج والصاحب له. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 23 فاطمة رضي الله عنها وفي سيرة فاطمة رضي الله عنها، وهي فتاة في مقتبل عمرها، يأتي المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيؤذونه ويلقون عليه التراب، ويصنعون عليه سلى الجزور، ويصيبونه بكل ما يستطيعون، وهي لا تملك أن تدفع عنه إلا أن تأتي إلى والدها عليه الصلاة والسلام، فتزيل ما أصابه، وتغسل رأسه، وتحاول أن تعالج الدم الذي ينزف منه صلى الله عليه وسلم، ثم تُقبل على المشركين فتسبهم وتدعو عليهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 24 عائشة رضي الله عنها ثم انظري في سيرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت له نعم الزوجة، ثم تلقت عنه من العلم ما جعلها معلمة الرجال ومفهمة الأجيال، وما أشكل على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمر إلا وجدوا عند عائشة منه علماً. هذه الأمثلة الرائعة، والنماذج الحية، من نساء المؤمنين، الصادقات، الصابرات، المجاهدات، العابدات، العالمات، المعلمات، الفقيهات هذا هو تاريخنا، هذه حياتنا هذه سيرتنا هذه نماذجنا التي نقدمها للناس، فليفخر علينا الفاخرون. أيها الأحبة؛ إن البون شاسع، والخطب عظيم بين هذه الصورة التاريخية الحية للمرأة المسلمة وبين الواقع المر الذي يريد أعداء الإسلام وأعداء المرأة أن يجروها إليهم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 25 امرأة فرعون أما في الإسلام فشأن المرأة شأن آخر امرأة فرعون التي حكى الله عنها {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] إنها آسيا امرأة فرعون، من النساء الكوامل التي سطَّر الله ذكرها في القرآن الكريم، وذكر خبرها. لقد تمردت على الدنيا وأعرضت عن قصر الملك وما فيه من الفتنة والمال والترف والنعيم، وقالت: لا أريد قصور الدنيا ولكن قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11] إنها لم تغتر بكونها محظية أو زوجة ملك مصر المتأله الطاغية، ولم تنخدع بزخرف الدنيا، بل تمنت الخلاص لأن قلبها يتحرق بالإيمان {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] . إنها المرأة المؤمنة التي صبرت، وكان في قلبها من القوة، لا أقول: ما يواجه زوجاً عادياً من بني جنسها أو بني جلدتها، بل ما يتحدى رجلاً طاغية، خضعت له أمم بأكملها، وذلت له رقاب الأكابر من الرجال، وكان يقول على الملأ: {أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى} [النازعات:24] فلا يقول له أحد كذبت، أما تلك المرأة فقد تمردت عليه، ورفضت فرعنته، وتسلطه، وألوهيته المدعاة، وأعلنت كفرها به، ودعت الله تعالى أن ينجيها من فرعون ومن عمله، وأن ينجيها من القوم الظالمين. فهي نموذج للمؤمنة الصابرة، المؤمنة القوية، المؤمنة المجاهدة، المؤمنة التي هي تعد بآلاف الرجال: والناس ألف منهم كواحدٍ وواحد كالألف إن أمر عنا ثم تأملي في حال ماشطة بنت فرعون، تلك المرأة التي كانت هي الأخرى بليت بطغيان فرعون، وكانت مؤمنة موحدة ولكنها تكتم إيمانها على خوف من فرعون وملإه أن يفتنها عن دينها، فعلم فرعون أنها مؤمنة تعبد الله تعالى وحده ولا تشرك به شيئاً، فأحضرها وحقق معها، ألك رب غيري؟ قالت: ربي وربك الله رب العالمين، فأحضر قدراً من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح أحمر يتلهّب، ثم أحضر أطفالها الصغار وقد أمسكوا بثوبها وأحدهم على كتفها، فأخذهم من بين يديها وألقى بهم في هذا القدر الذي يتلهب حتى رأتهم بعينيها والنار تحرقهم واحترق قلب الأم شفقة على الأولاد، وفي قلب الأم من الرحمة والحنان والعطف على أولادها ما فيه، ولكن الإيمان فيه أغلب وأقوى. فرأت هذا بعينها فما قالت له انتظر ولا قالت له سأرجع عن ديني، لكنها قالت لي إليك حاجة؟ قال: وما حاجتك؟ قالت: أن تجعل عظامي وعظامهم في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم أخذها وألقاها في هذا القدر الذي يتلهب ناراً، فلما عُرِجَ بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء شم ريحاً طيبة، فقال: يا جبريل! ما هذه الريح الطيبة؟ قال: هذه ريح ماشطة بنت فرعون. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 26 صور من مآسي وآلام المرأة المسلمة ثم إني أنتقل من هذا وذاك إلى بعض الآلام الحية التي تعيشها المرأة المسلمة اليوم، وإنها آلام جديرة أن تستنزف منكم البكاء والدموع، وسأتحدث عنها الآن، وما بقي فسوف أدخره لما بعد صلاة التراويح؛ لأن خطبنا اليوم عظيم، وأمرنا جسيم؛ وهولنا عظيم. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 27 آلام المسلمات في البوسنة والهرسك أيها الإخوة والإخوات: قد وعدت أن أقرأ رسالة من أخواتكم المعذبات في أرض البوسنة والهرسك، وهأنذا آتي اليوم بما وعدتكم به، فهذه رسالة كلها أنين وبكاء من أخوات لنا مستضعفات اعتدى عليهن الصرب، وانتهكوا أعراضهن، الرقم يزيد على مائة وعشرين ألف مسلمة قد اغتصبت بالحرام، وانتهكت أعراضهن، أما الحوامل من هؤلاء، فهن لا يقل عددهن عن ستين ألف امرأة مسلمة، وأنتم تعلمون أن المعتصم سمع صوت امرأة تقول: وامعتصماه في بلاد عمورية، فجهز جيشاً قوامه تسعون ألفاً حتى طرق أسوار هذه المدينة وفتحها، أما اليوم فأكثر من ستين ألف امرأة، قد انتهك عرضها فعلاً، وهي تصيح: وامسلماه فأين السامعون؟ رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم 1- رسالة من البوسنة: تقول هذه الرسالة: الحمد لله والصلاة على رسول الله أما بعد؛ إلى كل مسلم ومسلمة إلى كل مؤمن ومؤمنة إلى كل عالم إلى كل شيخ إلى كل طالب علم إلى كل إنسان هذه صيحات ستين ألف امرأة حامل على أيدي الصرب، هذا نداء الخلاص من الجحيم الذي نعيش فيه، ونقول: يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم يا من تطلبون صحبته يا من تتمنون لقاء الله يا من تطمعون في الفردوس الأعلى من الجنة، يا أصحاب القلوب الحية، يا أصحاب القلوب العامرة بذكر الله، يا من في قلبه رحمة، يا من في قلبه شفقة، يا من في قلبه غيرة، يا من في قلبه نخوة، نحن نرسل لكم هذه الصرخات وهذه الاستغاثات، فنحن أخواتك، ونحن زوجاتك، ونحن بناتك، ونحن أمهاتك، نرسل لك التهاني، ونقول لك ولمن حولك من المسلمين: أنتم الآن تنتظرون شهر رمضان بهمة ونشاط، وعزم وفرح، وهو المطلوب في ذلك، لكن نحب أن نذكرك فنحن أيضاً ننتظر وضع أولاد الصرب، فالفرق في ذلك أن في انتظاركم فرح وسرور، وفي انتظارنا ألم وحسرة وبكاء ونخشى أن يظل هذا البكاء إلى الأبد، لكننا مع ذلك ما زلنا ننتظركم، وننتظر الفرح معكم، فلا نريد أن يحل علينا عيد الفطر المبارك إلا ونحن معكم في فرح وسرور خاصة إذا علمنا أننا تحررنا من الصليب، لذلك نناشدكم بالله أن تنقذونا مما نحن فيه. أطاب لكم العيش! أطاب لكم طعام! أطاب لكم نوم! أطاب لكم فرح! أطابت لكم سعادة! أطابت لكم ملذات الحياة الدنيا ونعيمها، وأنتم تعلمون ما نحن فيه؟! نحن نحب أن نطرح عليكم هذه الأسئلة ولا تهمنا الإجابة لنعرفها، فعندنا الإجابة، لكن لتعدوها أنتم لعلها تكون بداية لخلاصنا. كيف استطاع الصليبيون إخراج رجالهم من الخمّارات وهم سكارى لقتالنا واغتصابنا وهم على باطل؟ وكيف لم نستطع نحن ولم تستطيعوا أنتم إخراج رجالنا من المساجد لإعلاء راية الإسلام والجهاد في سبيل الله؟ ونقول لكم: نحن نطالبكم بالحق الشرعي الإسلامي فقط لا غير، فإذا لم يهز قلبك هذا الخبر، ولم تحرك قلبك هذه الصيحات، فما الذي سيهزك، فلقد هزت وامعتصماه واحدة وليس ستون ألف (وامعتصماه) ، هزت جيوشاً، هزت الجبال والأرض والنفوس، فمتى تصل وامعتصماه إلى قلوبكم؟ إننا ننتظر الموت فلم يعد للحياة طعم بعد الآن. أخواتكم النساء المسلمات في البوسنة، هذه دمعة حزن تترقرق على خد كل فتاة مسلمة. 2- رسالة أخرى من البوسنة: وفي مقابلها دمعة فرح لا بد أن نأسوا بها جراح القلوب التي أمرتها الجراح، فهذه رسالة بليغة معبرة بعثت بها أخت مؤمنة إلى ولدها المرابط على الثغور، إلى ابنها وفلذة كبدها الذي يحمل السلاح؛ دفاعاً عن أعراض المسلمات في البوسنة والهرسك: إلى ولدي الغالي الحبيب أبي العالية؛ حفظك الله ورعاك، السلام عليك ورحمة الله وبركاته، ما أجمل اللقاء بعد الانتظار ولو عبر السطور وبين الكلمات، بها يعلو الوجه النظارة ويرفرف القلب ليتابع البسمات، أعيش معك ومعكم جميعاً، ومن بين السطور لنا كلام، مرفوعٌ بيننا الغضب والملام، عتاب المحبة في الأجواء يسري كالهمام. ولدي الحبيب أخاطبك وأخاطب أبنائي جميعاً، حقاً إن الإخوة في الإسلام والعقيدة، أقوى وأحلى وأحب وأقرب من الإخوة في الدم والنسب، كلنا شوق للقّاء، لكن الجدير بالذكر أين اللقاء؟ في الأرض أم في السماء؟ على أرض من الطين والحصباء، أم على أرض ترابها زعفران وبهاء، في ليلة بعدها ليلة بعدها الفناء أم في زمان في ضحوة ما لها انتهاء، مع صحبة بعدها فراق، أم صحبة خلد وفردوس وبقاء؟ فلنعبر الشوك جميعاً لنلقى الأحباء يقول الله عز وجل: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] . ولدي الحبيب، كلنا يعد عدته للقائكم فأنتم الأعلون أيها المجاهدون إن أخلصتم النية لله تعالى فأنتم الظاهرون، وعدنا الله بالنصر المؤزر والفتح، فلنحذر أنفسنا التي بين جنبينا. أبا العالية الأم هي التي تحب ولدها، هي التي تتطلع إلى الغد كي يزهو نجم ولدها، كيف سيظهر ولدها في الآفاق، كيف تعلو درجاته؛ كيف يكون إنساناً ناجحاً، تتطلع إليه العيون بالاحترام والتقدير بما وصل إليه دائماً تتطلع إلى الأمام للغد الذي ينتظر ولدها كيف تفرش له الأرض رياحين، كيف تحل البسمة لا تفارق جبينه، هأنذا أصدقك القول يا أبا العالية أتمنى من الله العلي القدير أن يجعل لك نصيباً في العلو والرفعة عند الله، وأن يجعلك الله من الصديقين الذين صدقوا الوعد وباعوا أموالهم؛ ليشتروا جنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. أنا أتطلع إلى الغد المشرق الذي وعدنا بها ربنا جنات عدن لقاء دائم، سعادة أبدية، نشوة روحية، زوجات حسان كأنهن الياقوت والمرجان، تذكر قول الله عز وجل في سورة الرحمن التي تسمى عروس القرآن: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:47] {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن:48] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:49] {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن:50] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:51] {فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن:52] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:53] {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:55] {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:57] {كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:58] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:59] {هَلْ جَزَاءُ الإحسان إِلَّا الإحسان} [الرحمن:60] اللهم اجعلنا معهم يا رب العالمين، هذا ما أتمناه لك ولجميع أبنائي في الجبهة، هذا هو الأمل المنشود، أتمنى لكم الراحة والطمأنينة والعزة والرفعة والخلود غداً الدائم، كما يقول رب العزة في الحديث القدسي {يا أهل الجنة خلود فلا موت} هذا هو العز الحقيقي هذه هي المكانة. ولدي الحبيب، أنا لا أريد أن تعود إلى الدار الفانية، ولكن عندكم المعبر للعز والخلود والشرف والرفعة فكيف أسمح لقلبي وعقلي وفكري أن يناديك من الأعلى إلى الأدنى، أنا التي أحاول أن أصعد إلى الدرجات التي وصلتم إليها فشدوا من أزري وادعوا لي جميعاً أن ألحق بكم حتى أناضل إلى جانبكم بقدر ما أعطاني الله تعالى من وسع وقوة. أبا العالية؛ أناديك وأناشدك الله، أنت وجميع الأبناء الأحبة، أقولها صدقاً وأنت تعلم جيداً أنني لا أتكلم إلا إذا كنت على يقين من كلامي، لقد أحببت الجهاد في سبيل الله، لقد تغير فكري كثيراً، كل كياني ينضب بالجهاد، عيناي لا تتخيل غيركم، فكري لا يحتوي سواكم، فأنا أحبكم جميعاً. أرجو أن تبلغ جميع من تراهم أني أبلغهم التحية. ابني الحبيب حفظه الله؛ {أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أي الناس أفضل؟ قال: مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل} من هذا المنطلق العظيم والأجر الوفير الذي ينال المجاهد احتسبتك عند الله تعالى صبرت وسأصبر الكثير والكثير حتى آخر لحظة من عمري، وحتى آخر قطرة من دمي، الفراق صعب والضنى والولد غالي، ولكن الجنة لها ثمن، وهذا أبسط ما نقدمه لله، الشهادة لننال بها رضاء الله تعالى. والمجرمون الملاحدة الكفار، قد انتهكوا العورات، وهتكوا أعراض المسلمات، واعتدوا على البلاد، وأنتم الأمل المنشود لا بد أن نثابر ونناضل ونجاهد حتى النصر، النصر لدين الإسلام النصر لتكون كلمة الله هي العليا، التضحية من أجل أن يعبد الله وحده لا شريك له، بحرية وراحة وطمأنينة، الكثيرون ممن أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأولادهم يدعون الله تعالى لكم بالثبات وبالنصر المؤزر من عنده وهو العلي العظيم. ولدي عبد العزيز؛ الكل لا ينجو من عذاب القبر، الكل لا يفرمن ضمة القبر، إلا المجاهد في سبيل الله، هو الذي لا يكدر صفوه عند نومه مكدر، ولا أقول موته فإنه حي كما ذكر الله عز وجل {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {رباط يوم وليلة في سبيل الله خير من صيام يوم وقيامه، وإن مات فيه؛ أجري عليه عمله الذي كان يعمل وأجري عليه رزقه وأمن فيه من الفتنة} . سبحان الله! هذا كله في انتظاركم؛ إن صدقتم النية مع الله تعالى. يا ولدي، أنت حملت في اسمك من أسماء الله تعالى العزيز وهو القوي القادر القاهر، فأرجو أن تتمثل فيك عزة الإسلام وأن تكون قوياً على أعداء الله من الكفار والمشركين رحيماً بإخوانك المؤمنين، قال رسول الله صلى ال الجزء: 17 ¦ الصفحة: 28 من مآسي المسلمات هذه قصاصة تحدثك عن الانتهاكات الجماعية لحرمات المسلمين، وتصويرها بكاميرة الفيديو على يد الهندوس عبدة الأوثان، وإعلامنا في غفلة من هذا، ورجالنا أبعد ما يكونون، ونصيح بهم فلا يعتبرون ولا يتعظون، ونساؤنا أيضاً مشغولات بهموم أخرى. هذا نشرته وكالات الأنباء في الشهر الماضي، بنت عمرها تسع عشرة سنة، كانت ضحية للاغتصاب الجماعي، يتناوب عليها مجموعة من الرجال بالقوة وهي الآن بين الموت والحياة في أحد المستشفيات الحكومية وهي من المظلومين الذين ذهبوا ضحية، في يوم (10/ديسمبر/1992م) ، في القطار الذي غادر إحدى المدن في بهوسال وأخوها الذي كان يصحبها طعن بالسكاكين، ثم أحرق حياً أمامها. ثانياً: امرأة أخرى، عمرها عشرون سنة، تزوجت حديثاً من شاب مسلم، وجاءت من ولاية آسام الهندية، وراحت ضحية الاغتصاب الجماعي، أما زوجها فقد ذبح أمامها، وهي الآن بين الموت والحياة في أحد المستشفيات، بعدما صب عليها الحامض الأسيت. الثالثة: امرأة أخرى في العشرينات من عمرها راحت ضحية لضابط في الشرطة، ولقيت نفس المصير في ليلة السابع من ذلك الشهر في إحدى الشوارع. الانتهاكات والاغتصابات، التي راحت ضحيتها نساء مسلمات في إحدى المدن الهندية، كانت نتيجة للتطرف الهندوسي، الذي فتح أبواب العذاب على هؤلاء الأبرياء، والأنباء التي لا زالت ترد من مخيمات اللاجئين التي أقيمت لهؤلاء المنكوبين مروعة جداً، وهناك أحياء ومجتمعات استهدفت فيها النساء المسلمات خاصة لهذا العمل البربري الذي هو من أبشع وأظلم الأعمال. بعض النساء المسلمات، انتزعت ملابسهن بالقوة، ثم طلب منهن الفرار والمغادرة، والواحدة منهن لا تستطيع أن تواري بدنها من الرجال وهن في غاية الخوف والذعر يلتصق بأجسادهن أطفالهن الفزعون المذعورون، هذه المأساة لم تتوقف عند هذا الحد، بل اخترع الإرهابيون الهندوس وسائل شنيعة بإقامة الحواجز حتى تتساقط النساء فرائس سهلة لهؤلاء الإرهابيين. إن هناك قاعة يقال لها: قاعة مرجان، يلتجئ فيها حالياً أكثر من ألف وخمسمائة لاجئ من الرجال والنساء، وهي تعطي شيئاً مذهلاً عن هذا المنظر الرهيب الرعيب ونجد عند الكثير من هؤلاء قصصاً مخفاة لا يستطيعون أن يبيحوا بها، ولا تكاد أن تصدقها العقول. إن هؤلاء المجرمون القتلة، يصورون جرائمهم بكاميرات الفيديو، ويصورون مناظر الاغتصاب الجماعي والقتل والإحراق، ولا أحد يعلم بما يفعلون، غير أن من المؤكد أنهم لو خافوا من المسلمين لما فعلوا، ولو خافوا من القوات الدولية، أو الأمم المتحدة، أو منظمات حقوق الإنسان؛ لما تجرءوا على مثل هذا العمل الفاحش المشين. امرأة أخرى عمرها اثنتان وعشرون سنة، ذبح زوجها بالسكين أمام عينيها كما تذبح الشياه. الخامسة تحكي قصتها، بأن زوجها خرج ليعيد الأولاد من الخارج إلى داخل المنزل، ولكنه لم يرجع ولم يحدث ذلك، حيث أن الأسرة غادرت المنزل بأكملها، بعدما هاجمها الإرهابيون من الهندوس، وأمسكوا رب الأسرة وقتلوه، وضربوا على رأس بعض الأطفال بالسكاكين والسيوف، حتى جرحوهم وقتلوا منهم من قتلوا. ضحية أخرى تحكي قصتها بأنها سافرت مع أخيها ومع زوجة أخيها إلى موطنهم بالقطار الذي غادر مدينتهم، وهاجم الإرهابيون ذلك القطار واغتصبوها اغتصاباً جماعياً وضربوها بالعصا، ثم أشعلوا فيها النار وطرحوها خارج القطار، فوجدها اثنان من الشرطة فغطوها وأسرعوا بها إلى المستشفى وقد حُجِزَ بعض هؤلاء الذين قاموا بهذا العمل، وأدخلوا إلى السجن، كما أن أطفالها وبعضهم من الرضع أخذهم الإرهابيون كرهائن، ومن المعلوم أن بنات صغيرات قد اختطفن من المناطق المجاورة ولم يعرف مصيرهن بعد إلى اليوم. هذا بعض خبر أخواتكم وأخواتكن المسلمات، يلقين ما يلقين على أيدي عبدة البقر، وعلى أيدي عبدة الأوثان، وعلى أيدي المشركين، وهؤلاء -أيها الإخوة- ما حملوا السلاح، ولا قاتلوا، ولا أعلنوا الجهاد، ولا حاربوا، كل ما فعلوه أنهم مسلمون، وهم يترددون على المساجد، ويشهدون أن لا إله إلا الله، ويرفضون أن يتمسحوا بأرواث البقر، ويرفضون أن يعبدوا بوذا هذا كل ما فعلوا قال الله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:8-9] . أيها الإخوة، أما نبأ أخواتكم المسلمات في البوسنة والهرسك فهو خبر آخر، ولا أريد أن أبدأه الآن وسأحدثكم عنه بعد صلاة التراويح وسأتلوا عليكم رسالتين باكيتين في إحداهما دمعة حزن، وفي الأخرى دمعة فرح كلتاهما من أرض البوسنة والهرسك. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرحم هؤلاء المسلمين المستضعفين، أسأل الله تعالى أن يرحم هؤلاء المستضعفين، وأسأله جل وعلا أن ينزل بأعدائه عجائب قدرته، وأن يصب عليهم عذابه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نسألك لهؤلاء المسلمين في هذه البلاد وفي كل البلاد يا أرحم الراحمين، اللهم أغثهم يا مغيث، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم إنا نسألك أن تصغي لهم قلوب إخوانهم المسلمين، وقلوب أخواتهم المسلمات. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 29 الجهاد واجب على الجميع وأنتم أيها الأحبة؛ أنتم أيضاً أيها الأخيار، لكم جهاد، ولكم ثغور، ولكم رباط، فأين أين المجاهدون الصادقون رباطكم في إنكار المنكرات، التي لا أقول أصبحت في الشوارع! ولكنها دخلت إلى بيوتكم وإلى غرفكم الخاصة، وإلى عقولكم وعقول أولادكم وعقول بناتكم. وجهادكم أن تبذلوا مما أعطاكم الله عز وجل، فقد ناداكم المنادي، وصاح بكم، وأصبح يتسول على أعتابكم، لا ليكسب من ورائكم لقمة العيش فهو عنكم في غنى، ولكن يطالبكم أن تؤدوا بعض ما أوجب الله عليكم، لكم لا لغيركم فأنتم الرابح الأول والأخير، فإن مال أحدكم له ما قدم ومال وارثه ما أخر، وليس أحد إلا وماله أحب إليه من مال وارثه، جهادكم وجهادكن أيتها الأخوات، أن تربوا أولادكم على معاني الرجولة والبطولة والفداء، وأن تربوهم على دين الله عز وجل، على حفظ كتاب الله، وحفظ حديث رسول الله وعلى طلب العلم النافع وعلى الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعلى الولاء للإسلام وأهل الإسلام. فأين المشمرون؟ وأين المجاهدون؟ وأين المرابطون؟ وإذا لم تذهب بنفسك وربما أمامك عقبات وعقبات فلا أقل من دعوة صادقة، وإنني على ثقة بإذن الله تعالى وهذا من حسن الظن به جل وعلا أن ألوفاً من المسلمين قد قضوا فريضة من فرائض الله وهي الصلاة، وانتهوا من صيام يوم من رمضان، ثم تجمعوا في بيت من بيوت الله، وضجوا إلى الله تعالى بالدعاء وارتفعت أصواتهم، وعلا نحيبهم، وصفت قلوبهم، أن الله تعالى لا يرد هذا الدعاء. وكيف يرده وهو القائل: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وكيف يرده وهو القائل: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] لكن بصدق النية وصدق اللهجة والإخلاص والانقطاع إليه تعالى، وأن نعلم أن كل العرى وكل الحبال قد تقطعت في أيدينا، وكل الأبواب قد أغلقت في وجوهنا وما بقي إلا باب واحد وهو باب الله عز وجل، فلنطرق هذا الباب ولنلح: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجت ومدمن القرع للأبواب أن يلجا أفرأيتم أيها الأحبة هذه الجموع الغفيرة ما فيها واحد لو أقسم على الله لأبره يقول صلى الله عليه وسلم: {إن من عباد الله من أقسم على الله لأبره} لو سأل الله لأعطاه ولو طلب من الله لأجابه الله، وقد يكون ضعيفاً وقد يكون فقيراً وقد يكون مسكيناً وقد يكون مغفلاً، ولكن الله تعالى أعلم بعباده قال الله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] فاصدقوا الله تعالى من قلوبكم، وأصلحوا أحوالكم، وتفقدوا بيوتكم، وعليكم جميعاً القيام بدوركم الذي ينتظره منكم إخوانكم المسلمون. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 30 الأسئلة الجزء: 17 ¦ الصفحة: 31 حال بعض الأحاديث من الصحة والضعف السؤال ما هو الحديث الذي يبشر بفتح روما؟ وما صحة حديث: {من صلى أربعين يوماً في جماعة كتب الله له أو كتبت له براءتان} ؟ وحديث: {هل عندك شيء؟ قالت: لا، قال: إني صائم} ؟ الجواب أما حديث البشرى بفتح روما فهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قول النبي صلى الله عليه وسلم {مدينة هرقل تفتح أولاً} وفي حديث آخر: {وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً قسطنطينية أم مدينة رومية؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} ومفهوم الحديث أن مدينة روما تفتح ثانياً، والحديث صحيح. أما حديث: {من صلى أربعين يوماً في جماعة … } عند الترمذي وغيره فهو أيضاً صحيح عند جمع من أهل العلم وهو الراجح: {كتبت له براءتان براءة من النار وبراءة من النفاق} . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: {أعندك شيء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن صائم} وهو في الصحيح. أما الفطر في صيام النفل، إذا صام الإنسان نفلاً فهو أمير نفسه، بإمكانه أن يفطر وبإمكانه أن يواصل، أما لو صام فرضاً، كأن يكون صام قضاء رمضان، أو صام نذراً أو صام كفارة؛ فلا يجوز له أن يفطر. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 32 نصيحة للمعاكسين والمعاكسات السؤال أنا كنت أكلم امرأة في التلفون، وأنا أعلنها توبة إلى الله تعالى، أرجو الله تعالى أن يقبلها مني وأنا أشك أنها حاضرة معنا، هلاّ وجهت إليها كلمة؟ الجواب لقد تحدثت عن هذا الموضوع في أكثر من مناسبة منها محاضرة (قصة مكالمة هاتفية) ولكني أوجه خطابي للأخوات الكريمات، المرأة ضعيفة القلب، سليمة الفطرة، قريبة التأثر، وكثير من الشباب يخدعون المرأة بمعسول القول، وطيب الكلام، ويغرونها فربما تكون المرأة تجاوبهم من باب حب الاستطلاع، أو من باب التعرف عليهم، أو أحياناً يأتيها الشيطان فيقول: من أجل أن تنصحيهم، أو لتقضي وقت الفراغ، أو لأنها لا تجد في بيتها الحنان الذي تريد، ولكن هذه الأشياء كلها لا يجوز أبداً أن تغفل الفتاة أو تلهيها أو تنسيها أنها هي الخاسر الأكبر، وأنا أعرف حالات طلاق كثيرة، يكون السبب فيها أن الزوج يكتشف أن المرأة كانت تكلم، ولو كان كلاماً لم يصل إلى درجة ارتكاب الحرام أعني الحرام الأكبر الذي هو الفاحشة وإلا فمجرد مغازلة الشباب هو بذاته حرام، والله تعالى نهى عن الزنا فقال: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وكل ما يقرب الزنا من الكلام الهامشي، والأحاديث الطويلة، والضحكات المتواصلة، والإغراءات، والاتصال، والخلوة، والمواعيد، وتبادل الرسائل، وتبادل الصور، كل ذلك داخل في عموم قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] . وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة عن الخروج إلى المسجد وهي متطيبة، فكيف بخروج بعض الفتيات إلى السوق أو حتى لمقابلة رجل يخادعها عبر الهاتف، إنه من أعظم الإثم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي زانية} . ثم إنك تطيبين كلامك وتلينين قولك، وتحرصين على كسب هذا الرجل، أو كسب إعجابه وربما غرك بوعود الزواج، وأقول: إن كان عاقلاً لن يتقبل مثلك زوجة له، وإن كنت عاقلة فلن تقبليه أيضاً لأن بينكما سر يدل على عدم الأمانة بينكما، فإذا مضت أيام الزواج، ومضى عام أو عامان، قال: تذكرين يوم كذا وكذا، قلتِ له: وتذكر يوم كذا وكذا فاكتشف أنك لست بالأمينة، وصار يشك في اتصالاتك، فإذا دخل البيت ووجد أنك تكلمين أمك أو قريبتك، ثم اختصرت المكالمة شك فيك، وربما ركب على الجهاز تسجيلاً حتى يكتشف حقيقة الأمر. إذا كان الله تعالى يؤدب أمهات المؤمنين زوجات رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَه} [الأحزاب:32-33] فكيف تخالفين ذلك وأنت عرضة للفتنة والإغراء أكثر من غيرك؟ وهذا الرجل لا شك أن في قلبه مرض مرض الشهوة، وربما مرض العشق، وربما مرض الخداع. فاتقي الله أيتها الفتاة واتق الله أيها الشاب وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 33 حكم استعمال البخاخ للصائم السؤال ما حكم استعمال البخاخ لمعالجة الربو والإنسان صائم؟ الجواب إذا كان هذا البخاخ ليس فيه إلا مجرد الهواء الأكسجين فلا حرج فيه، أما إن كان مع الأكسجين مواد أخرى، كالبودرة أو الماء أو ما أشبه ذلك فلا يستخدم حال الصيام. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 34 مواضع رفع اليدين في الدعاء السؤال متى ترفع اليدين في الدعاء؟ الجواب ترفع اليدين حال الدعاء، وفي المواضع المشروعة؛ كالدعاء عند القنوت، والدعاء فيما أشبه ذلك من الأحوال، وليس كل دعاء ترفع فيه اليدين، فالدعاء بين السجدتين مجزوم ومقطوع أنه لا ترفع فيه اليدين، ومثله الدعاء في آخر التشهد، ومثله الدعاء عقب صلاة الفريضة، فكل ذلك مما يجزم ويقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يكونوا يرفعون فيه أيديهم. ولكن لو هجس بالإنسان هاجس في حالة معينة، أو نزل به ضر، فاستقبل القبلة ورفع يديه ودعا الله تعالى، فهذا أيضاً مشروع. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 35 حكم تتبع الزلات السؤال نعلم أن هناك بعض الناس الذين يبحثون عن الزلات والهفوات ما حكم ذلك؟ الجواب على كل حال لا ينبغي للمسلم أن يكون كذلك، فإنه ما من أحد من البشر إلا ويؤخذ من قوله ويترك كما قال الإمام مالك إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالبشر من طبيعتهم الخطأ، ومن شأنهم الزلل، ومن تتبع عورات الناس؛ تتبع الله عورته ففضحه ولو في عقر بيته، والعاقل من لا يحسب أخطاء الناس، بل يحسب صوابهم. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه الجزء: 17 ¦ الصفحة: 36 خطر الدش السؤال لي جار يمتلك فوق سطح بيته ما يسمى بالدش، نصحته فقال: إني لا أرى فيه غير الأخبار! فما توجيهكم لهذا؟ الجواب أولاً: الأخبار التي تأتي عن طريق الدش من الأقمار الصناعية، غالبها بغير اللغة العربية، ومعظم هؤلاء لا يتقنون اللغات الأخرى. ثانياً: إن مستوى الوعي عند الناس عندنا، لا يزال دون ذلك، فالكثيرون لا يتابعون الأخبار حتى عبر المذياع، فضلاً عن أن يتابعوا الأخبار المصورة التي تبث من الأقمار الصناعية. ثالثاً: لا شك أن هناك من يتابع الأخبار عن هذا الطريق وعن غيره، ولكنني أقول: ما ذنب النساء والأطفال والشباب المراهقين والبنات المراهقات في بيتك؟ واللاتي قد لا تستطيع أن تحول بينهن وبين ذلك، ثم ما ذنب أولئك الناس، الذين رأوا هذا على سطح بيتك فأساءوا بك الظن، وظنوا بك أموراً ربما لا تكون أنت أهلاً لها؟ بل ما ذنب من رأوك فقلدوك في ذلك واتبعوك، ففتحت باباً ربما كنت من أول من فتحه؟ وسننت سنة سيئة {ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} فننصح هذا الأخ بأن يقلع عن ذلك ويتركه، وإذا كان حريصاً على الأخبار فقنوات الاتصال والتعرف على الأخبار ممكنة كثيرة بغير هذا السبيل. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 37 حكم أكل الحبوب المانعة للحمل في رمضان السؤال ثمة سؤال ثالث يتكرر من بعض الأخوات، تسأل بعض النساء عن أكل الحبوب المانعة للحمل في رمضان؟ الجواب أقول: ذلك جائز، إذا كان لا يضر بصحة المرأة، بحيث تصلي المرأة مع المسلمين، وتصوم مع المسلمين، خاصة إذا كان عندها بعض الظروف التي تحوجها إلى ذلك، وإن بقيت المرأة على طبيعتها وخلقتها وتركت الحيضة بعادتها، وأفطرت أيام حيضها، ثم قضتها بعد ذلك، فهذا خير لها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأم المؤمنين عائشة عن الحيض: {ذلك أمر كتبه الله على بنات آدم} لكن جائز ذلك إذا كان لا يضر بالمرأة. أيضاً من الأمور التي تحتاج المرأة إلى معرفتها: إن لها أن تتناول هذه الحبوب في رمضان، ثم يتوقف عنها الدم وتصوم، فإنها لا تقضي تلك الأيام التي صامتها؛ فبعض النساء تظن أنها تصوم في رمضان، ثم تقضيها بعد ذلك، وهذا خطأ كبير، بل إذا توقف عنها الدم وصامت في رمضان فليس عليها بعد ذلك قضاء لا لصومها ولا لصلاتها. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 38 حكم الشبكة قبل الزواج السؤال ما رأيكم فيما يسمونه بالشبكة قبل الزواج؟ الجواب الشبكة قبل الزواج، هي عبارة عن هدية يعطيها أهل الزوج للفتاة قبل عقد النكاح، والأظهر أن هذا ليس فيه حرج إن شاء الله، وإن كنت أنصح بعدم استعماله؛ لأن البعض يقولون: إنه ليس من عادات المسلمين بل هو من عادات الأمم الأخرى، فإن ترك فهو أفضل، وإن كان تركه يؤدي إلى مفسدة، أو يجعل أهل الزوجة يظنون بأهل الزوج البخل أو ما أشبه ذلك، فلا حرج إن شاء الله تعالى. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 39 خبر عن جريدة الندوة السؤال سمعنا بأن رئيس تحرير جريدة الندوة قد عاد إلى عمله، فهل هذا صحيح؟ الجواب وأقول نعم، لقد ظهر اسم رئيس تحرير هذه الجريدة يوسف دمنهوري، ظهر مؤخراً على الجريدة مرة أخرى بعدما كان أقصي بسبب تعرضه للدعاة والعلماء، ونيله من أعراضهم، وكان إبعاده كان لمجرد تهدئة النفوس، ثم عاد مرة أخرى، وقد كتب في أول عودته مقالاً، كأنه يشيد بنفسه من طرف خفي وبموقفه وبثباته، وواجب على أهل الخير والاحتساب، أن يحتسبوا على هذا المنكر الكبير، ويسعوا في إزالته بقدر ما يستطيعون. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 40 التفحيط ومفاسده السؤال هناك سؤال آخر أيضاً: يتعلق بما كنت ذكرته قبل يومين في موضوع التفحيط والتطعيس، المفترض أن وقائع ذلك الاجتماع قد تمت في صباح هذا اليوم كان موعده يوم الخميس؟ الجواب لا شك أن مثل هذا العمل فيه مضار كبيرة وعظيمة، أولها: ضياع الوقت والعمر الذي به يحاسب الإنسان، وعلى ضوءه يكون من أهل الجنة أو من أهل النار {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] وإذا مات ابن آدم كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء وابن مسعود وأبي برزة وغيرهم رضي الله عنهم: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، منها عن عمره، ومنها عن شبابه} . والوقت أثمن ما عنيت بحفظه وأراه أهون ما عليك يضيع المفسدة الثانية: أن فيه ضياع المال، فإن هذه السيارات وما فيها، التي تشترى بأغلى الأثمان ثم يكون مصيرها التلف أو التصادم أو الضياع أو ما أشبه ذلك، إنها أيضاً من المال الذي يضيع بغير طائل. المفسدة الثالثة: والمشكلة الثالثة هي تعرض الإنسان للأخطار، فإن من الشباب من يموت في مثل هذه الأحداث، ومنهم من يصاب، وقد أخبرني بعض الإخوة العاملين في المستشفى، أن الذي يشاهد أقسام الحوادث في المستشفيات يصاب من ذلك بهم وغم شديد، فإن فلذات الأكباد، وزهرات الشباب، يذهب الكثير منهم بسبب حوادث السيارات، من الاصطدام أو الانقلابات أو ما أشبه ذلك، مع أن هؤلاء كثير منهم يحجمون عن أن سيدفعوا إلى ميادين المعارك، حيث قتيلهم شهيد في سبيل الله تعالى. ومن أعظم المفاسد المفاسد الأخلاقية، فإن اجتماع الكبار والصغار يترتب عليه علاقات مريبة، وصداقات لا يرتاح الإنسان إليها، وقد يترتب من جراء ذلك وسوسة الشيطان وتلبيسه على هؤلاء وأولئك. بل إن المتأمل والمشاهد يدرك أن كثيراً من هؤلاء الشباب خاصة الكبار، يصطحبون معهم صغار السن، من أصحاب الوجوه الوسيمة، والطلعات الصبيحة، ويفتخرون بهم ويتنافسون في مثل ذلك فهي مفاسد عظيمة، وحق علينا جميعاً أن نقوم بواجبنا في مقاومة هذا المنكر، فالمسؤولية العظمى تقع على من يستطيعون منع ذلك بالقوة أن يمنعوه كما يمنعوا غيره من التجمعات، التي تكون مباحة أو محمودة أحياناً، كما أنه واجب على أولياء الأمور، من الآباء والكبار والإخوة وغيرهم أن يسعوا إلى منع إخوانهم وأبناءهم ومن لهم سلطة عليهم، من الذهاب إلى تلك التجمعات. كما أن علينا جميعاً أن نقوم بدورنا كأجهزة الهيئات مثلاً، وكذلك أقول: على الدعاة وطلبة العلم والمخلصين أن يذهبوا إلى هناك، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويوزعوا الكتاب والشريط ويتكلموا، وسيكون لذلك أثر كبير إن شاء الله. الجزء: 17 ¦ الصفحة: 41 القول على الله بغير علم بدأ الشيخ حفظه الله تعالى المحاضرة بالكلام عن أسباب طرح موضوع (القول على الله بغير علم) . ثم تكلم عن أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية، وذكر بعد ذلك أقوال الأئمة السلف في التحذير من الفتيا معرجاً على ذكر الأمور التي يشملها القول على الله بغير علم، ثم ذكر صوراً للقول على الله بغير علم، منها المسارعة إلى الإفتاء بغير علم، ودعوى الاجتهاد، والخوض في مسائل بحجة أنها سهلة، والاعتقاد بأن الخلاف بحد ذاته حجة، وتتبع الرخص، وذكر آخرها مجاراة الظروف والخضوع لضغوط الواقع. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 1 أسباب طرح موضوع (القول على الله بغير علم) حمداً لله، وصلاةً وسلاماً على رسول الله. أما بعد: أيها الأحبة: إن مثل هذا الجمع الحاشد مهما بذل الإنسان، فإنه دون ما يجب له وإذا تصورنا أن جلوسنا في هذا الوقت سيكون ساعة من الزمان مثلاً، فإن هذه الساعة بالقياس إلى ألوف أو عشرات الألوف ممن قد يسمعون مباشرة أو بواسطةٍ، أي أن هذا الوقت سيكون زمناً طويلاً جداً وسيكون ثروةً هائلة من عمر الأمة ووقتها وأعتقد أن الاعتذار لا يسعفني ولا يشفع لي في هذا المقام ولكني أقدمه لكم على ذلك. أيها الأحبة لقد كان هذا العنوان الذي أشار إليه أخي الشيخ عبد الوهاب حفظه الله "القول على الله بغير علم" كان بنظر وقبول من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى وإنه لشرفٌ كبير لي أن أتحدث عن موضوع يقترحه ويحس بأهميته سماحة الشيخ عبد العزيز، فإنه خبير بملابسات الواقع وتحدياته، عارف بحاجات الناس التي تتطلب الشرح والبيان. أما أسباب طرق هذا الموضوع والحديث عنه، فلعل من أهم أسباب ذلك: هو جراءة كثير من الناس، من غير المختصين، على الخوض في مسائل الشريعة أصولاً وفروعاً، وهجوم كثير من هؤلاء على الخوض في الدقيق والجليل من المسائل دون خجل ولا حياء، فهذا على صعيد المتحدثين والمتكلمين. أما على صعيد العامة من الناس وجمهور الأمة؛ فقد أصبح كثيرٌ منهم لا يستطيعون التمييز عمن أخذوا، ومن يستحق أن يستمع إليه في الشرعيات، ومن يستحق ألا يؤخذ منه ولا يلتفت إليه، فأصبح في نظر عدد من الناس أن كل من تكلم في الشرع فإنه يستمع إليه، ويردد كلامه ويهتم به، مع أننا نجد أن كثيراً من هؤلاء في مسائلهم الدنيوية يرجعون فيها إلى أهل الاختصاص دون غيرهم، فإذا كان عند أحدهم مريض -مثلاً- فإنه لا يذهب به إلى البقال ليعطيه وصفة العلاج، لأنه يعرف أين مكان استقبال المرضى، وكذلك إذا أراد ترميم منزله فإنه لا يذهب إلى الخياط، بل يسند كل عملٍ إلى من يحسنه ويجيده، ممن كثرت دربته وعظمت خبرته فيه، فهذا في شئون دنيا الناس، لكنهم في شئون دينهم قد أصبح قسم كبيرٌ منهم يستمعون إلى من هب ودب ودرج، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن من يتكلم اليوم في قضايا الإسلام والدين وجد آذاناً تصغي إليه. فإذا أضفنا إلى هذا أن أسهم الإسلام بحمد الله قد ارتفعت، وراياته قد رفرفت، وشجرته قد بسقت فأصبح يخطب ود الإسلام والمسلمين كل أحد، وأصبحت كثير من القيادات اليسارية والناصرية في الماضي، في عدد من الأقطار الإسلامية، تكتب عن الإسلام وتؤلف فيه، وتتحدث عنه، والأسماء كثيرة جداً، ومن طالع الصحف الكويتية قبل الغزو العراقي للكويت أدرك هذا بجلاء، فقد أصبح الحديث عن الإسلام وقضايا الإسلام شأناً لكثير ممن كنا نعرفهم بالأمس يصرحون أنهم من اليساريين مثلاً، بل بعضهم كانوا من الشيوعيين، سواءً في مصر أو في بعض بلاد المغرب العربي، أو في بلدان الخليج، أو في غيرها. إذا عرفنا هذا أدركنا أن الكثيرين أصبحوا يتكلمون عن الإسلام ويخطبون ود هذه الجماهير، التي تقبل على الإسلام، وتبحث عن حكم الله تعالى وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام، فلو تصورنا هذا لأدركنا حجم الخطورة التي تقع فيها الأمة، إذا لم تستطع أن تميز، عمن تأخذ ومن هو الذي يستحق أن يتكلم في مسائل الشرع، ومن هو الذي يستحق أن يسكت؟ الجزء: 18 ¦ الصفحة: 2 أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية أيها الإخوة: أهمية الفتوى والكلام في المسائل الشرعية مما لا يحتاج إلى بيان، ذلك أن المفتي والمتكلم في أحكام الدين لا يعطينا رأيه الخاص، ولا وجهة نظره الشخصية، ولم نكن نحن نسأله عن مزاجه أو عن هواه، إنما هو يُسْأل عن حكم الله، أو حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الواقعة، أو النازلة، أو المسألة، ولذلك عبر الإمام القرافي -وهو من فقهاء المالكية وأصولييهم- عن المفتي بأنه ترجمانٌ عن الله تعالى، فإنه مترجم للنص الشرعي، وقد كان الإمام ابن القيم رحمه الله أكثر تسديداً منه حينما وسم كتابه الشهير بـ " إعلام الموقعين عن رب العالمين "، فاعتبر أن المفتي أو المتكلم في مسائل الشرع كأنه موقع عن الله تعالى، فهو بمثابة الوزير الذي يجعله الحاكم أو الملك يوقع عنه بعض الرقاع، والأوراق. فالمفتي موقع عن رب العالمين، ومخبرٌ عما يعتقد في الظاهر أنه حكم الله ورسوله في مسألة معينة، أو في موضوع، أو نازلة ألمت بالناس. ومن هذا المنطلق قال الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه الذي ذكرته آنفاً، قال: إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يجهل قدره، وهو أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات! أي هو منصب عظيم وكبير، وهو في نفس الوقت شرفٌ لمن يتسلم هذا المنصب، ومسئولية عليه أيضاً، ولذلك كان الله عز وجل في كتابه يتولى الإفتاء بنفسه في بعض المواضع، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} [النساء:176] فأفتى عز وجل بنفسه ونسب هذا الفعل لذاته المقدسة الشريفة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 3 تحذير السلف من الفتيا كان السلف يدرءون الفتيا ما استطاعوا ويحاولون أن يتخلصوا منها، ويسندوها إلى غيرهم. والكلام في نقل أقوال السلف في التحذير من الفتيا بحد ذاته يأتي في مجلدٍ كامل، لكن لو رجعت إلى مصدر واحد فقط للإطلاع، كسنن الدارمي مثلاً باب: من هاب الفتيا، تجده قد نقل في ذلك نصوصاً كثيرة أذكر منها نصين. الأول: منها عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من التابعين الثقات المعروفين، أنه سُئل فقال: [[لقد أدركت بهذا المسجد عشرين ومائة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما منهم رجل يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا يسأل عن فتيا إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا]] مائة وعشرون من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومن كبارهم، وممن طالت أعمارهم فحصلوا علماً كثيراً غزيراً، ومع ذلك كانوا يتدافعون الفتيا وكل واحد يتمنى أن أخاه يكفيه الفتيا، ويكفيه الحديث. النص الثاني: الذي نقله الإمام الدارمي هو أن الشعبي رحمه الله سئل كيف كنتم تصنعون إذا سئلتم عن فتيا أو مسألة؟ قال: على الخبير سقطت أو وقعت -أنا خبير بهذا- كان السائل يسأل أحدهم في المجلس فيقول لصاحبه: أفته أفته، فلا يزال حتى يرجع إلى الأول، كأن السائل يأتي في حلقة كبيرة كل واحد منهم يحيله إلى الآخر حتى يعود إلى أول شخص سأله، وغالباً ما يكون هذا المتصدر للحلقة، وما كان ذلك إلا لعلمهم بخطورة القول على الله تعالى بغير علم، وأن ذلك أعظم الذنوب على الإطلاق، كما نص عليه ابن القيم رحمه الله في أكثر من موضع، وقال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فختم هذه المحرمات الخمس التي اتفقت جميع الشرائع السماوية على تحريمها، وهي أعظم المحرمات، وأمهات الذنوب -الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم والبغي بغير الحق، والشرك بالله- بقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 4 الأمور التي يشملها القول على الله بغير علم والقول على الله عز وجل بغير علم يشمل أموراً: الأول: تحريم الكلام في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله بلا علم، كما يتكلم كثير من الناس في الألوهية، والربوبية، والغيبيات، والدار الآخرة، والجنة، والنار، والصراط، بدون علم، وبدون هادٍ ولا دليل، والهادي والدليل في هذه المسائل ليس هو العقل، وإنما هو النص الشرعي، لأنها أمورٌ ليس للعقل سبيل إلى إدراكها، فالخوض في هذه المسائل بغير علم ولا دليل هو من القول على الله بغير علم. الثاني: كما يشمل تحريم الكلام في القدر المكتوب بغير علم، ومن ذلك أن يتكلم الإنسان في أمورٍ مستقبلية إلى غير ذلك. الثالث: الكلام في الشرع بغير علم، مثل من يتكلم في الحلال والحرام، والأحكام، والواجبات، والمحرمات، بدون أن يكون عنده توكيل من الله عز وجل أو تفويض، والتفويض هو في الأصل نص شرعي من كتاب الله تعالى، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحٌ ثابت، ثم إن المُبَيِّن المُعْرِب عن هذا النص ليس كل أحد، وإنما هو العالم الذي أصبح يملك أداة التعبير عن الشرع، ولذلك قال الله عز وجل في كتابه، كما في الآية السابقة: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] وقال سبحانه: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقال عن المشركين: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:28] فأنكر عليهم أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فإذا فعلوا شيئاً واستحسنوه واعتادوه ثم نهوا عنه قالوا: الله أمرنا بذلك!! أما القول على الله بغير علم فهو أعظم الذنوب على الإطلاق، لأنه هو السبب حتى في الشرك. ولذلك كان المسلم حرياً جديراً بأن يحذر كل الحذر من القول على الله تعالى بغير علم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 5 صور من القول على الله بغير علم وسوف أذكر بعض الصور والألوان التي وقع فيها الناس في هذا الزمان في القول على الله تعالى، وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بغير علمٍ ولا هدى ولا كتاب منير. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 6 اختلاف اجتهاد المجتهد وهناك شيء آخر يخلط بعض الناس الذين ليس لديهم اختصاص، بينه وبين تغير الفتوى، وهو مسألة اختلاف اجتهاد المجتهد، أي أن عندنا عالماً أفتى بأن هذا الأمر حرام، وغداً بعدما بحث واستقصى غير رأيه، وقال: أنا أرجع عن قولي بالأمس، فالأمر الذي كان بالأمس حراماً، تبين لي الآن أنه حلال. هل نسمي هذا تغير الفتوى؟ لا يسميه العلماء تغير الفتوى أبداً، وإن كان الذين صنفوا ممن لا علم لهم ظنوا هذا من باب تغير الفتوى. هذا في الواقع من باب اختلاف اجتهاد المجتهد، والمجتهد قد يبدو له اليوم ما لم يكن بدا له بالأمس، وقد يرى اليوم مباحاً ما كان يراه بالأمس حراماً، وعليه كلما بدا له حكم جديد أن يبين ذلك للناس بالدليل. والسلف من الصحابة رضي الله عنهم تغيرت فتواهم في مسائل كثيرة جداً، يفتي أحدهم بشيء ويبدو له خلافه ويرجع عنه، بل كان من العلماء من يفتي بمسألة ومن الغد يرجع عنها، فيبعث أحداً يقول في الأسواق: من كنا أفتيناه بكذا وكذا فليأتنا فقد تغير رأينا في هذه المسألة. فمسألة اختلاف اجتهاد المجتهد تختلف جذريا عن مسألة تغير الفتوى، ومن العجيب أن بعض الناس يخلطون بينهما، فمثلاً من باب تغير الفتوى أن الساعة هذه التي تلبس في اليد، بالأمس كان هناك من يعتقد أنها سحر ويشك في ذلك، واليوم لا يوجد من يعتقد ذلك، هذا المثال أقرب للسخرية منه إلى الكلام العلمي الرصين المحقق، هل وجد من العلماء من قال إن الساعة سحر؟ كون بعض العوام اشتبه عليهم الأمر لأنه أمر جديد فكتب أحد العلماء كتاباً يبين أن الساعة صناعة وليست سحراً، ويزيل اللبس الموجود عندهم هذا شيء، لكن كون أحد من أهل العلم المحققين المعترف بهم قال إن الساعة سحر، هذه في الواقع سخرية بالعلماء. من أمثلة تغير الفتوى مسألة الرقيق، وأن الرقيق كان بالأمس يسترق وأفتى العلماء بتحريم الرقيق، ونقول: لم يفت أحد من العلماء في الواقع بتحريم الرقيق مطلقاً، لأن الرق حكم شرعي باقي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس ظاهرة مؤقتة لكنه ظاهرة مرهونة بأسبابها، فالرق في الإسلام ليس عن طريق سرقة الناس وبيعهم، إنما الرق عن طريق جهاد شرعي يسترق المسلمون فيه الكفار، هذا هو الرق في أصل منشأه الشرعي، وهو باقٍ أمس واليوم وغداً، وكونه اختفى لسبب أو لآخر، أو الناس حرروا أرقاءهم، أو تبنت الدول تحريرهم شيء آخر، ولا يعني أن الحكم الشرعي تغير، فالحكم الشرعي باقٍ، وآيات القرآن محكمة في هذا الأمر وليست منسوخة، ولا أحد يستطيع أن يمسحها من المصحف. إذاً: مسألة الخضوع لضغوط الواقع هي من أخطر المسائل، التي تجعل الناس يطوعون نصوص الشرع لأمزجة البشر، ونحن نقول: الدين ولله الحمد يسر كله، والرسول عليه الصلاة والسلام بعث بالحنفية السمحة، وبعث ميسراً لا معسراً، والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج، والفقهاء يقولون: إذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير، وفي ذلك كلام كثير يطول، لكن المقصود أن هذا لا يعني بحال التحلل من قيود الدين وأحكامه بحجة مراعاة الواقع أو ظروف أو ضغوط الواقع أو ما أشبه ذلك، والفتوى تتغير باختلاف عوائد الناس التي تبنى عليها الفتوى، أما حكم الله ورسوله فلا يتغير بحال من الأحوال. أقول: هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 7 الواقع له سلطان على النفوس والواقع لا شك أن له سلطاناً على النفوس أيضاً، من جهة أنه تتصور بعض النفوس صعوبة تغيير هذا الواقع، وصعوبة إزالته أو تحويله إلى واقع آخر يرضي الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وبعضهم قد يدخل هذا في باب الضرورات، ويقول لك: يا أخي هذه ضرورة. لكن ما حدود الضرورة؟ نحن نقبل بالضرورة، والضرورة لها أحكام، لكن لها ضوابط أيضاً، فليس كل شيء ظن الإنسان أنه يحتاجه أصبح ضرورة، بل للضرورة ضوابط وشروط، لا بد من تحققها فإذا تحققت هذه الضرورة فإنه يعمل بها في إطارها، وتقدر الضرورة بقدرها، دون أن يتعدى بها هذا الإطار إلى الناس كلهم بشكل عام، فالناس قد يقعون في المعصية ولكن مع الوقوع؛ ينبغي أن يكثر الإنسان من الاستغفار، وألا يتحول الأمر إلى أنه يبحث عن أمر يحلل له هذه المعصية، ففرق بين من يعصي ويقول: أستغفر الله والله غفور رحيم، قد يغفر الله تعالى له، لكن أن يقع في المعصية ثم يذهب يبحث في بطون الكتب عن نص يبيح له هذه المعصية فلا. وهل أنت تتعامل مع الله عز وجل بهذا؟ الله تعالى هل سوف يسألك أنك وجدت في كتاب معين، أو في قول عالم، أو في قول متكلم أو في قول إنسانٍ ما، أن هذا الأمر حلال؟! إن الله عز وجل يحاسبك على حسب ما أوصل إليك من كتاب أو سنة، إما آية محكمة، أو سنة ماضية ثابتة قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] هذا هو السؤال ماذا أجبتم المرسلين؟ إذا عجزنا عن ترك معصية وقعنا فيها كأفراد لا يبيح لنا أو يسوغ لنا أن نذهب للبحث عن تحليل لهذه المعصية، عَجزنا كأمة أو مجتمع عن تغيير بعض المنكرات الواقعة، من سفور، واختلاط، وربا، لا يجعلنا نذهب نبحث عن تحليل لهذا الأمر، بل نقول للحرام: هذا حرام وهو موجود، ونسأل الله أن يعيننا على إزالته، ونبحث عن الوسائل والأسباب، ولو فُرض أننا عجزنا نقول: يأتي الجيل القادم فيجعل الله تعالى تغيير هذا المنكر على يده، أما أن نتحول من العجز عن التغيير إلى البحث عن مرتبة أقل من ذلك، وهي محاولة إقناع أنفسنا بأن هذا الوضع أو هذا الحكم الذي سرنا فيه أنه مباح، فإن هذا تأخر لا يرضاه المؤمن لنفسه. أرأيت -مثلاً- لو تصورنا وجود اليهود في إسرائيل جائزاً وهذا مثال بعيد، لكن للتمثيل فقط، قد يكون المسلمون عجزوا في هذا الوقت بسبب أوضاع كثيرة جداً، عن إخراج اليهود من أرض المسلمين، نحن نقول: عجزنا لكن هناك أجيال بعدنا ستأتي وستخرج اليهود حتماً كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما جريمتنا نحن لو أقررنا اليهود على هذا الأمر وأعطيناهم وثيقة أن لهم جزءاً من فلسطين، بحجة أننا عاجزون، فأصبح وجود اليهود وجوداً يعني -كما يعبرون- شرعياً، بمقتضى موافقة المسلمين، معنى ذلك أن هذه خيانة للقضية، فالصحيح أن نقول: نحن عاجزون عن هذا الأمر وإسرائيل واقع، نعم واقع ولا نتجاهله، ولكننا مع ذلك لا نعترف بهذا الواقع أنه واقع صحيح، بل نقول: إن هذا كفعل اللص لو دخل بيتاً واحتله، وعجز صاحب البيت عن إخراجه، فإنه يقول: سيأتيك أولادي بعدي فيخرجونك، أو تأتيك الشرطة فتخرجك، لكن لا يبقى البيت لك، ولا يصبح لك لأنك كنت لصاً قوياً متسلطاً مدعوماً من الشرق أو الغرب، وقد ظن بعض الناس أن هذا الباب -باب تغيير مراعاة الواقع- أنه يدخل في باب تغيير الفتوى، وقد يحتجون بكلام لـ ابن القيم رحمه الله في هذا الباب، والواقع أن هذا في وادٍ وكلامهم في تغيير الفتوى في واد آخر، أي أن هناك شيئاً اسمه تغيير الفتوى هذا موجود تكلم فيه ابن القيم، وما هو تغيير الفتوى؟ كيف يتكلم الناس في الشرعيات وهم لا يعرفون المقصود، حتى المصطلحات غير معروفة لديهم! الجزء: 18 ¦ الصفحة: 8 كراهية تتبع الرخص وبالجملة كثر تحذير أهل العلم من تتبع الرخص كثرة شديدة، يقول سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله، ويقول ابن عبد البر في تحريم تتبع رخص العلماء: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم، وكذلك قال الإمام ابن حزم والباجي وابن الصلاح وغيرهم من العلماء، ونقلوا إجماع العلماء على أنه لا يحل لمسلم أن يكون شأنه تتبع الرخص: قال فلان: هذا يجوز، وقال فلان: هذا مباح، وقال فلان: لا يصل الأمر إلى التحريم، بل أقصى أحواله الكراهة. قال أهل العلم: تتبع الرخص بهذه الطريقة حرام بإجماع العلماء. وهذه شهادة من أربعة: ابن عبد البر وابن حزم والباجي وابن الصلاح، وقال الأوزاعي: من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام، لأن النوادر والشذوذات لا تنتهي بحال من الأحوال، وهي أصلاً ما اجتمعت في واحد من العلماء، بل تجد العالم بحراً زاخراً من الفضائل، لكن عنده زلة واحدة، فأنت أخذت الزلة هذه، والزلة هذه وجمعت الزلات، وصرت تتعامل بهذه الزلات، وتقول هذه أقوال أهل العلم، أي منهج هذا؟! وأي طريقة هذه؟! يقول الأوزاعي إمام أهل الشام: نحن نجتنب من أقوال أهل العراق خمساً، أي خمس مسائل من مسائل فقهاء العراق لا نقبلها، ونتجنب من أقوال أهل مكة خمساً، وذكر مسائل لا نقبلها من فقه هؤلاء، ولا من فقه هؤلاء حتى أن الإمام أحمد رحمه الله يقول: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ -وأهل الكوفة الحنفية يترخصون في النبيذ- وبقول أهل المدينة في السماع -أي في الغناء فبعض المدنيين يترخصون في الغناء دون أن يكون معه دف أو موسيقى- وبقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً، يقول: لو عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وقول أهل المدينة في السماع، وقول أهل مكة في المتعة لكان فاسقاً، مع أنه ما خرج عن أقوال العلماء، ومع ذلك فسقه، أما الأوزاعي فذهب إلى أبعد من ذلك، فيقول: يكفر ولو لم يخرج بعد من أقوال العلماء. قال الإمام ابن حزم رحمه الله: وهناك قوم بلغت بهم رقة الدين وقلة التقوى إلى طلب ما وافق أهواءهم في قول كل قائل، فهم يأخذون ما كان رخصةً في قول كل عالم، غير طالبين ما أوجبه النص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 9 تغير الفتوى يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن الفتوى تتغير بحسب العوائد والأحوال والأزمنة والأمكنة والنيات، وأضرب على ذلك أمثلة، قد يفتي العالم في بلد بشيء ويفتي في بلد آخر بشيء آخر في نفس الموضوع، لأن عادة أهل البلد تختلف، فمثلاً الدينار في بعض البلاد عندهم ثمانية دراهم، وبلد آخر الدنيا عندهم بعشرة دراهم، وفي بلد ثانٍ الدينار إحدى عشر درهماً، فهل الفتوى إذ قال واحد مثلاً: لله عليَّ أن أخرج عشرين ديناراً، في البلد الذي الدينار فيه صرفه بعشرة دراهم وقال: لم أجد دنانيركم أخرج من الدراهم؟ نقول له اضرب عشرين في عشرة فهذه مائتا درهم، لكن لو فُرض أنه جاءنا نفس السؤال في بلد آخر الدينار فيه يصرف باثني عشر درهم، وقال واحد: لله عليّ أن أخرج عشرة دنانير أو عشرين ديناراً، وقال: لم أجد دنانير في الواقع، ولا يوجد في السوق أبداً، وليس عندي إلا دراهم فكم أخرج؟ نقول له: اضرب عشرين في اثني عشر، فشكل الفتوى تغير باعتبار اختلاف مقدار صرف الدينار بين بلد وآخر. مثال آخر: قضية عبارات الطلاق، في بعض البيئات إذ قال الرجل لامرأته: سامحتكِ، معناه: طلقتكِ، وإذا قالت: سامحني قال: سامحتكِ هذا عندهم يعتبر طلاقاً، مثل ما عندنا هنا في مجتمع نجد مثلاً خاصةً في الماضي، أكثر منه في الحاضر، إذا قالوا فلان: خلىّ زوجته، خلاها معناه طلقها، هناك لو قالت له زوجته: سامحني وقال: سامحتكِ طلقت منه، وعندنا في نجد لو أن امرأة أخطأت على زوجها وقالت له: سامحني وقال: سامحتك، هل نقول: طلقت منه؟ لا. لكن في ذلك البلد الآخر، الذين لا يعرفون لفظة خلَّى، لو أن رجلاً أمسك بيد زوجته فقالت له: خلني فأطلق يدها، هل نقول أنها طلقت منه؟ لا. لم تطلق، لأن الفتوى هنا تغيرت بحسب المعروف عند الناس من معنى هذه الكلمة، فهذا نيته كذا وهذا نيته كذا، والأمثلة على ذلك في موضوع الطلاق والعتاق وغيرها شيء كثير. وفي بعض البيئات مثلاً عندهم اللبن شيء والحليب شيء آخر، وبعض الناس يسمونه حليباً كله، فلو أن واحداً حلف وقال: والله لا أشرب الحليب، هل يجوز له أن يشرب اللبن؟ لا يجوز، لأن اللبن عندهم والحليب كله اسم واحد، لكن في بيئات أخرى اللبن لبن والحليب حليب، فلو حلف ألا يشرب الحليب جاز له أن يشرب اللبن، أو حلف ألا يشرب اللبن جاز له أن يشرب الحليب، هذه بحسب عادات الناس ونياتهم وبحسب ألفاظهم وأوضاعهم. فمثلاً كان الإمام أبو حنيفة يفتي لو أن واحداً أراد أن يشتري بيتاً فشاهد غرفة واحدة في المنزل ولم يشاهد الباقي، أن هذا يكفي، لأن البيوت في عهد أبي حنيفة كانت غرفها متساوية ومتماثلة، فإذا شاهد واحدة كانت مثالاً للباقيات، لكن الذين بعده من تلاميذه خالفوه في هذه الفتوى، وقالوا: لا يكفي هذا، لأن عادة الناس في البناء تغيرت، وأصبحت الغرف مختلفة غير متساوية في مساحاتها، إذاً تغيرت الفتوى لأنه تغير الشيء الذي بنيت عليه، وذلك يدخل في أبواب عديدة، وعلى أي حال هذا معنى تغير الفتوى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 10 آثار تتبع الرخص ومن آثار هذا المسلك الخطير من تتبع الرخص وأخذها الاستهانة بالدين، إذ يصير الدين بهذا الاعتبار كما ذكر الشاطبي في الموافقات، وقد تكلم بكلام جيد في هذا الموضوع، قال: يصير الدين سيالاً لا ينضبط ما دام أنه لم يبق شيء يمكن التحاكم والرجوع إليه، كما أن من آثاره السيئة الإعراض عن الدليل الشرعي من الكتاب والسنة. ونحن نقول: نطالب الناس بالرجوع إلى الكتاب والسنة، لا إلى قول فلان أو علان لأن المطلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذا أمر يجب أن يقبل به كل مسلم قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 11 مجاراة الظروف والخضوع لضغوط الواقع أما الصورة السادسة والأخيرة: فهي مجاراة الظروف والعوائد الواقعة، والأوضاع المستقرة في مجتمعات الناس، وتطويع النصوص والأحكام الشرعية لها، مع مخالفة هذه الأشياء لحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن للواقع ضغطاً على كثير من النفوس، فإن الإنسان بطبعه يحب أن يوافق من حوله، ويحب أن يقرهم على ما هم عليه، ويكره أن يواجههم بشيء يكرهونه، فلذلك إذا انتشر عند الناس أمر وشاع وذاع، واستقر في حياتهم، وأصبح جزءاً من واقعهم، قد يصعب على الإنسان أن يقول لهم هذا حرام، أو هذا لا يجوز، وبالتالي يذهب ليبحث عن مسوغ في تحليل هذا الحرام أو تجويزه، حتى يسلم من هذا الحرج الذي يجده في نفسه، أو الذي يظن أنه يحدثه للناس. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 12 التيسير في الدين أحب أن أؤكد على قضية التيسير في الدين والرخصة في الإسلام، وأن الإسلام فيه تيسير عظيم، ومن التيسير أن الله تعالى ما أغلق باباً إلى الحرام إلا وفتح باباً إلى الحلال، وكان من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه إذا سئل عن مسألة يبين الحرام فيها ويبين الحلال أحياناً، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه، لما جاءوا إليه بتمر طيب فقال: {من أين هذا التمر؟ قال الصحابي رضي الله عنه: إنا نشتري الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة، -أي أن هذا تمر طيب نأخذ منه صاعاً ونعطيه صاعين أو ثلاثة آصع من تمر رديء، وهذا رباً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عين الربا} ومعنى عين الربا أي: هذا لا يجوز لأن التمر لا بد أن يكون متساوياً، صاعاً بصاع، ولو كان هذا تمر مثلاً سكري أو بلحي، وذاك تمر من نوع آخر رديء، لابد أن يكون متساوياً فقال: وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: {عين الربا عين الربا لا تفعل بع الجميع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً} يعني التمر الرديء بعه بالدراهم، ثم هذه الدراهم التي بعت بها، اشتر بها ما تشاء من التمر الطيب، فبين له المخرج أو البديل، كما يقولون بلغة العصر. ولا شك أننا بحاجة إلى علماء في الاقتصاد، وفي الإدارة، والاجتماع، وفي علم النفس، والسياسة، وإلى علماء في كل مجالات الحياة، يجمعون بين العلم بهذه التخصصات وبين أن يكون عندهم ثراء في العلوم الشرعية، بحيث يستطيعون أن يجعلوا هذه القضايا تحت المجهر الشرعي، ويصلوا فيها إلى نتيجة صحيحة، أو أن العالم الشرعي يستعين بمثل هؤلاء الخبراء في مجال تخصصاتهم، حتى يستطيع أن يتصور الأمور تصوراً صحيحاً، وأن يصل فيها إلى النتائج، وهناك -بحمد الله- مجامع فقهية وعلمية قد قطعت شوطاً لا بأس به في ذلك، مثلاً هيئة كبار العلماء في المملكة، والمجمع الفقهي في مكة وبعض المؤسسات خارج المملكة، قد يكون لها دور في ذلك وهي بداية. على كل حال نرجو أن تتواصل حتى تحل مشكلات الأمة، على ضوء كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن ترك الشدة على الناس أن لا نلزمهم أيضاً بمذهب معين، ما دام أن الدليل مع غيره، فلا نقول: اترك المذهب إلى مذهب آخر، لأنه أسهل وأيسر، وجدت مرة مجموعة من الناس عندهم وقف، هذا الوقف عبارة عن نقود، فمثلاً عندهم مائة ألف ريال، فسألتهم وقلت لهم: على أي أساس جعلتم المال وقفاً؟ قالوا: بحثنا فوجدنا في مذهب الإمام أحمد أنه جوَّز إيقاف المال فأوقفناه، فهل بحثتم في الآراء الأخرى، وبحثتم في الأدلة، وتوصلتم إلى قناعة أن هذا هو الحق؟ فلا بأس، أما إذا كان بمجرد ما علمت أنه يوجد عالم أفتى بهذا أخذت به، فهذا لا يصلح أبداً، فالمهم أن الدين فيه تيسير، وسماحة، وفيه فرص عظيمة جداً. وهذا جانب من الرخص. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 13 رخص الفقهاء وهناك نوع آخر من الرخص وهي رخص الفقهاء، أي لكل مذهب تسهيل في مسائل، فمثلاً تجد في مذهب هذا حلال وهذا حرام، إذاً الحلال يعتبرونه رخصة، لكن في المذهب نفسه ممكن أن يحرم مسألة أخرى يبيحها المذهب الأول، وهكذا تجد بعض الناس يأتي إلى المذهب يأخذ ما فيه من الرخص، فكل ما فيه من تحليل في هذا المذهب يأخذه، وكل ما فيه من تحريم يتركه، ثم يأتي إلى المذهب الآخر فيأخذ كل ما فيه من تحليل، ويترك ما فيه من تحريم، وهذه أيضا مسألة خطيرة، فهي عبارة عن تلفيق مجموعة من الآراء بغير ضابط، إلا بمجرد أنها رخص، ليس فيها مشقة على النفس، ولا تكليف لكنها تناسب المزاج، وخاصة مزاج الكسالى والقاعدين، والذين لا يحبون أن يعملوا، ولا أن يخضعوا حياتهم لحكم الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم، بل يصل الحال ببعض هؤلاء الذين لا يراقبون الله تعالى ولا يخافونه، أن يصنفوا مصنفات يجمعون فيها رخص بعض العلماء، وأن فلاناً رخص في كذا، وفلاناً رخص في كذا، فيجمعون في هذا كتباً وينشرونها عند العامة، حتى يتساهلوا في هذه الأمور، ويعجبني في هذا القصة التي ذكرها البيهقي وغيره. قال إسماعيل القاضي: دخلت على المعتضد وهو من أمراء بني العباس، فرفع إلي كتاباً لأنظر فيه وقد جمع فيه رخص بعض العلماء من غير تثبت ولا نظر ولا مقارنة ولا ترجيح، قال: فنظرت في هذا الكتاب ثم قلت: مصنف هذا الكتاب زنديق -هكذا يقول للخليفة- فسأله الخليفة لماذا؟ قال له: هذه الأحاديث التي ذكر لم تصح على ما رويت، فمن أفتى مثلاً بالمتعة لم يفت بإباحة الغناء والمسكر، وصاحب الكتاب قال لك: الغناء حلال، وأهل المدينة أباحوه، والمسكر حلال لأن أهل العراق أباحوه، والمتعة حلال لأن أهل مكة أباحوه، المتعة بالنساء وهي معروفة. وقال له: الذي أباح مثلاً النبيذ ما أباح الغناء، والذي أباح الغناء ما أباح النبيذ، والذي أباح المتعة ما أباح هذين، فكيف يأتي بترخيصات لهؤلاء جميعاً ويجمعها، وبالمناسبة المعتضد أمر بإحراق الكتاب هذا، ما دام أن مؤلفه زنديق، وهذا شأنه يحرق، ويقول بعضهم: ما أحوجنا إلى نار المعتضد لتحرق كتباً من هذا القبيل! وأرى أن هذا ليس بلازم، فحسبنا عقول هذه الأمة وأفهامها ومداركها ووعيها، فإنها هي النار التي سوف تحرق كل باطل ولن يصفو إلا الكلام الصحيح بإذن الله تعالى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 14 تتبع الرخص صورة خامسة من صور القول على الله بغير علم تتبع الرخص: ولا أعني الرخص الشرعية، مثل الفطر للمسافر أو للمريض، أو القصر وما أشبه ذلك، فهذه يحب الله تعالى أن يأتيها الإنسان، كما في الحديث الصحيح: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} وقال الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقال: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يسروا ولا تعسروا} فالدين هو دين اليسر وقال: {بعثت بالحنيفية السمحة} وهذا الدين فيه من الثراء والمرونة ما يجعله ملائماً مناسباً لكل وقت وكل بيئة، وكل وضع، وهذا ليس معناه أنه يخضع لها، لكنه يمكن أن يطبق في كل الظروف والأحوال، وفي الدين من السماحة والتيسير ما يعرفه المختصون، وليس معنى ذلك أنه كلما كان العالم أكثر منعاً وتحريماً كلما كان أوسع علماً، لا؛ بل العكس، فإن العالم الحقيقي أقرب إلى التيسير من غيره. وكما قال سفيان الثوري رحمه الله يقول: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، فبين شيئاً فيه ترخص، وتسامح، وتيسير، وتسهيل على الناس، لكن ليس ذلك عن أي إنسان، إنما عن ثقة، عن إنسان يعرف أين يضع الرخصة وأين يضع العزيمة، وأين يضع اليسر والشدة، قال: إنما العلم عندنا الرخصة عن ثقة، أما التشديد فيعلمه كل أحد، يقول مثلاً في التشديد: كل شيء هذا حرام هذا حرام هذا لا يجوز، فهذا كل إنسان قد يحسنه. يقول سفيان: عن العالم أنه الذي يميز ويعرف، خاصة في أشياء كثيرة جديدة جدت في واقع الناس وفي حياتهم، وأصبح كثير من الناس يتساءلون عن حكم الله وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ليس الصواب ولا المنهج السليم أنا نأتي ونقول كلما جاء شيء جديد وقفنا ضده، وقلنا: هذا لا يجوز وهذا حرام وهذا كذا وهذا كذا، بل والحمد لله قد وهب الله علماءنا في هذه البلاد قدراً طيباً حتى إن أحدهم لينظر في هذه الأشياء ويميز، ما يقبل منها فيقبله، وما يرد منها فيرده، وفق أصول وضوابط لا تتغير ولا تختلف. إذاً الدين يسر وتيسير، وسماحة وتسهيل، وهناك من الأشياء في هذا الباب أمر يطول الحديث يطول عنه الآن، وقد سبق أن تحدثت عن هذا في أكثر من محاضرة، أو كتيب متداول في أيدي الناس. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 15 خطر اتخاذ الخلاف حجة وهناك خطر كبير جداً من مثل هذا المسلك الذي يتشبث به البعض وهو يتمثل فيما يأتي: المرحلة الأولى: اتخاذ الخلاف مخرجاً للتحلل من قيود الشريعة، فكلما قلنا شيئاً قالوا: هذا فيه خلاف. وإذا رجع المرء إلىالكتب القديمة فما من مسألة عالباً إلا وسيجد فيها خلافاً شاذاً، أوخلافاً ضعيفاً، وسيجد فيها أقوالاً مهجورة ولو أردت أن أذكر لكم بعض الأقوال المهجورة، التي ذكرها بعض الفقهاء لتألمتم، حتى إني أذكر على سبيل المثال، أني قرأت يوماً من الأيام أن أحد من المتقدمين يقول: إنه إذا كان على أحد ديون كثيرة لإنسان، وما استطاع أن يسدده، فأراد أن يقدم نفسه عبداً رقيقاً لهذا الدائن مقابل الدين جاز له ذلك، أو كلاماً نحو هذا، وهذا لا يقول به أحد! وليس عليه أثارة من علم أو كتاب أو سنة وهذا معارض للأصول الشرعية، لكن وجد إنسان قال به، أو قد لا يكون قال به حقيقةً، لكنه نسب إليه أو فهم عنه خطأ، فلو ذهبنا نأخذ الأقوال الشاذة والضعيفة والمرجوحة فلن ننتهي أبداً، إذاً تحللنا من أحكام الشريعة كلها، ولم ننته من الخلاف حتى الآن. هذه المرحلة الأولى، أنه لا يلزمنا إلا المجمع عليه. وما لم يجمع عليه دعونا نأخذ منه ما نشاء. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 16 خطورة قول حتى الإجماع فيه خلاف المرحلة الثانية: وهي أن هؤلاء الذين كانوا يقولون: لا تحاكمونا إلا إلى المجمع عليه، سينتقلون بنا بعدها ويقولون لنا حتى الإجماع نفسه فيه خلاف، فهناك من العلماء من لا يقبل الإجماع، كما هو مذهب بعض الظاهرية، حتى بعض المتأخرين من الأصوليين قد لا يقولون بالإجماع. فنحن معذورون أن نأخذ ما نرى، خاصةً إذا تصورنا أن من الناس من لا يفرقون بين عالم قديم وعالم معاصر، فلو جاء عالم معاصر برأي ينقض إجماعاً قديماً، اعتبروا هذا العالم حجة في نقض الإجماع، ولذلك يحتج بعضهم بعلماء متأخرين، كالشيخ محمد رشيد رضا، وهم علماء أفذاذ، ولهم منزلة، ولهم آراء ناضجة، لكن لهم آراء -أيضاً- لا يوافقون عليها. والمقصود ليس تقييم هؤلاء العلماء، لكن المقصود أن من الناس من لا يفرق بين عالم متقدم في وقت انعقد فيه الإجماع، أو كاد أن ينعقد، وبين عالم متأخر قد يأتي بقول ينقض إجماعاً سبقه، دون أن يكون هذا العالم اطلع على الإجماع، ولعلي أضرب لكم مثلاً، واعتذر عن هذا المثل، لأنه ليس المقصود المثال، لكنه وقع لي فأحببت أن أذكره، لأن قضيتنا أكبر من مجرد قضايا جزئية، كما يشير بعضهم، ويذكرون مثلاً قضية حلق اللحية أو الموسيقى، التصوير، أو وسائل الترفيه، أو غيرها من المسائل. نقول: هذه كلها ليست هينة، لأن المراد كما قال الإمام مالك: ليس في الإسلام والدين والعلم شيء سهل، أو شيء هين {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] وحتى القضايا هذه لا نحكم فيها بالأمزجة أبداً، إنما نحكم فيها بما نعتقد أنه حكم الله ورسوله. لكن مقصودي بالمثال أن أوضح كيف يفعل بعض هؤلاء في كتاب اسمه فتح المنعم، تكلم فيه عن أشياء في صحيح مسلم وعن موضوع حلق اللحية كمثال، يقول هذا المؤلف وهو معاصر: لما عمت البلوى بحلقها في البلاد الشرقية حتى أن كثيراً من أهل الديانة قلد فيه غيره، خوفاً من ضحك العامة عليه، لأن العامة في بعض البلاد قد يسخرون منه لأنه ملتحٍ، يقول: لاعتياد العامة على حلقها في عرفهم بحثت غاية البحث عن أصلٍ أخرج عليه جواز حلق اللحية، حتى يكون لبعض الأفاضل مندوحة عن ارتكاب المحرم باتفاق. انظر كيف التناقض يقول: حلق اللحية محرم باتفاق العلماء، ومع ذلك يقول: ذهبت أبحث عن أصل أخرج عليه جواز حلقها حتى أعطي الذين استحوا من العامة وحلقوا لحاهم، وثيقة تبيح لهم فعل هذا العمل. فإذا كانت المسائل التي فيها خلاف، لا ننكر فيها ولا نتكلم عنها، ثم مسائل الإجماع ذاته فيها خلاف، فلا نتكلم فيها، فلم يبق عندنا إلا مسائل العقيدة، وحتى مسائل العقيدة سيستطيع هؤلاء أن يدخلوا فيها الخلاف مع بعض الفرق الضالة، من المرجئة، والجهمية، والقدرية، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم، وبذلك يصبح الدين كله شيئاً عائماً سيالاً غير منضبط، لا تستطيع أن تقف منه على شيء، وقد لا يبقى إلا ما يعبر عنه البعض بأنه روح الدين ولب الدين، وما هو روح الدين؟ وأين وجدت هذه الروح واللب؟ وليت المتحدثين عن هذه المسائل من العلماء! وهيهات للعلماء أن يتحدثوا بمثل هذا الكلام، إذاً لهان الخطب، ولكن كما قيل: فلو أني بليت بها شمي خؤولته بنو عبد المدان لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني وما أعجب شأن هؤلاء الناس! حينما يصل الحال ببعضهم إلى حد فقدان المنطق، وفقدان الموضوعية بصورة لا يستحون فيها من الفضيحة، فإذا قيل لهم رَأْينا في المسألة أنها حرام، قالوا: هذا يكفر الناس، سبحان الله! وقالوا: أنت تكفر الناس، أنت تعد هذه من أركان الإسلام، فتعتبر أن من يخالفك قد خرج عن الملة. أين وجدتم هذا الكلام؟ ألا تخافون الله عز وجل! ألا تتقون وتستحون! ألا تخشون من فضيحتكم أمام الأمة، أن تنسبوا كلاماً غير صحيح، للذي يقول: إن هذا حرام فهو لا يعتبر أن فاعله أحياناً فاسقاً، فضلاً عن كونه كافراً، لأنه قد يكون ارتكب هذا المحرم بتأويل لمقتضى دليل شرعي فيكون الذي فعله غير آثم أصلاً، فضلاً عن أن يكون كافراً، فما معنى أن يقول: هذا حرام، فيقول: هذا يكفر الناس، أو أنت تعد هذا من أركان الإسلام، أو تعتبر من يخالفك في الرأي وخارجاً من الدين، خارجاً من الملة، أين الحوار الموضوعي؟ وأين المجادلة بالتي هي أحسن؟ وأين المنطقية وأسلوب الحديث في الهواء الطلق الذي نتحدث عنه كثيراً؟! فإذا قلت لهؤلاء: قال الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا لك: أنت أعلم من فلان ومن فلان حين تخالفهم؟ فإذا قلت: قال أهل العلم. قالوا: أنت من المقلدين الجامدين، تتمسك بهذه الأقوال الجامدة وتحارب من أجلها. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 17 الاعتقاد بأن الخلاف بحد ذاته حجة الصورة الرابعة: وهي من أخطر الصور وأكثرها انتشاراً في هذا العصر، أن كثيراً من الناس -خاصة غير المتخصصين- يعتقدون أن الاختلاف بحد ذاته حجة، بمعنى أنهم يرون أن مجرد وجود عدة أقوال في مسألة حجة لهم في أنهم يأخذون من هذه المسألة ما شاءوا، فإذا كانت المسألة فيها قولان: قول يقول بالتحريم، وقول يقول بالإباحة، فهموا من ذلك أن المسألة هذه مباحة لأن فيها قولين، فيعتقدون أن الاختلاف ذاته حجة في الشرع. وقد ابتلي المسلمون بطائفة كثيرة من هؤلاء الذين صوروا أن مجرد الاختلاف في مسألة ما، يبيح للمسلم أن يختار من هذه الأقوال ما يشاء، بالرغبة والمزاج والتشهي، وليس بالدليل الشرعي، فيرون الاختلاف دليلاً على الإباحة، كما ذكر ذلك الخطابي والشاطبي وغيرهم، منكرين على هؤلاء الذين يرون الاختلاف في مسألة دليلاً على الإباحة، ويعتمدون على ذلك في جواز فعل الشيء بأن فيه خلافاً. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 18 الاحتجاج بالخلاف من باب الهوى هؤلاء لا يعتمدون في الخلاف على البحث عن الدليل الشرعي من آية أو حديث، ولا على تقليد عالم اعتمدوا في تقليده، وإلا لقلنا لهم: أهلاً ومرحباً، فلو أن أحداً قال: إن هذه مسألة فيها خلاف، فأنا لن أقبل كلامك، نقول: من ستقبل؟ قال: أنا سوف أذهب وأبحث المسألة وأستقصيها من الكتب، وأصل إلى نتيجة، نقول: هذا مسلك حميد فلتفعل بشرط ألا تأتي بقول لم يُسْبَقْ إليه، وأن يكون مرادك في قلبك هو الوصول إلى الحق، وليس مجرد التشهي، أو اتباع الهوى، لا بأس بهذا. وآخر قال: لن أسمع كلام فلان، نقول: من ستسمع؟ قال: أنا واثق بالعالم الفلاني وأقلده في هذه المسألة حتى قبل أن نعرف رأيه، نقول: لا بأس -ما دمت عامياً، لست من أهل البحث ولست طالب علم- أن تقلد عالماً تثق بعلمه وبدينه على أن تقلده في الرخصة والعزيمة، والتيسير والتشديد، فلا حرج في ذلك، لكن كونك تقول: بمجرد أن المسألة فيها أقوال، فأنا مأذون لي شرعاً أنني أختار على مزاجي وحسب رغبتي من هذه الأقوال ما أجد أن نفسي ترتاح إليه؛ فماذا يكون معنى الشرع على هذا الحال بهذه الصورة؟ لأننا نعلم أن الله عز وجل أمرنا عند التنازع بالرجوع إلى الكتاب والسنة، كما قال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فإن تنازعتم في شيء يعني من أمور الدين، فردوه إلى الله والرسول، فما كان فيه خلاف فليس الحكم أن آخذ ما أريد، وأنت تأخذ ما تريد، الحكم بيننا هو أن نرد الخلاف إلى الله، أي إلى القرآن، وإلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يعني الرد إلى شخصه في حياته، والرد إلى سنته بعد وفاته. هذا هو الميزان، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، ومن لم يقبل هذا الميزان فقد بين الله حكمه بقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} [النساء:59] فهذا هو الميزان، أما من لا يؤمن بالله واليوم الآخر، فهذا يختار ما يشاء. وفي بعض المواضع نفى الله الإيمان عمن لا يقبلون ذلك، كما في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوت} [النساء:60] وقال في آية أخرى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48-49] يعني إذا وجد حكماً شرعياً يعجبه أخذ به، وإذا وجد حكماً لا يعجبه رفضه، وقال لك: إن المسألة فيها خلاف، أنتم تتشددون وتحجرون واسعاً، وتضيقون على عباد الله، هذا لا يصلح، ثم أصبح يتكلم عليك في هذا الباب، نقول: نعم فيها خلاف على العين والرأس، ونحن لا نفرض رأياً معيناً أبداً، لكن الشيء الذي نفرضه هو الضابط الذي ينبغي التحاكم إليه، وهو قول الله عز وجل: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] . أما التشهي في الشرع فهو لا يجوز، لأن الشرع إنما جاء لإخراج الناس عن شهواتهم النفسية وأمزجتهم الذاتية إلى شريعة الله، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [الجاثية:18-19] وقال سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49] فما أنزل الله شيء وأهواءهم شيء آخر، وأنت مطالب بالحكم بما أنزل الله، وأهواؤهم تدعها عنك جانباً، ولا تلتفت إليها. فالعامي أو السائل أو المستفتي إذا جاء للعالم يقول: أفتني في المسألة الفلانية، أو ما حكم الله ورسوله في المسألة الفلانية؟ فهو في الحقيقة يقول له: يا عالم أو يا إمام أو يا مفتي أخرجني من هواي، لأن العامي أصلاً يعرف هواه. فعندما يسأله ما حكم شرب هذا الكأس؟ هو يعرف أن نفسه تشتهي هذا الأمر أو لا تشتهيه، وهو ما جاء يسأل العالم عن شهوته الذاتية أو عن مزاجه الشخصي، بل جاء يسأل العالم عن حكم رب العالمين، أو حكم سيد المرسلين في هذه المسألة. فمن غير الصحيح أن المفتي أو العالم أو الفقيه سيقول له: المسألة فيها قولان، وأنت اختر من القولين ما شئت، لأن معنى ذلك أنه رده إلى هواه، وهو ما لم يأت ليسألك عن هواه، لأنه يعرف هواه قبل أن يأتيك، إنما يريد حكم الله ورسول. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 19 الخوض في مسائل بحجة أنها سهلة الصورة الثالثة: من صور القول على الله بغير علم: الخوض في مسائل بحجة أنها يسيرة وسهلة، ولا تحتاج إلى أحد، وما أكثر ما يتسرع الناس في ذلك. يجلس مجموعة قد يكونون أحياناً من العامة، وأحياناً من المثقفين، لكن ثقافتهم ليست قوية بحيث تؤهلهم إلى الكلام في مسائل شرعية، والوصول إلى نتيجة معينة فيها، والقضية ليست مجرد مدارسة ومباحثة، بل أحياناً يتوصلون إلى آراء وإلى نتائج معينة، ويقول لك: يا أخي! الأمر هذا سهل، ويسير. ولله در الإمام مالك رضي الله عنه عندما سأله رجل عن مسألة فقال: لا أدري قال له السائل: إنها خفيفة ويسير وسهلة، فغضب الإمام مالك وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله عز وجل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] فأصل مسألة "حلال وحرام" ليست مسألة سهلة، أنت تعبر عن حكم الشرع، فأنت مترجم لحكم الله ورسوله، وموقع عن رب العالمين، ولست تأتينا بشيء من جيبك الخاص حتى تتساهل في هذا الأمر إلى هذا الحد، أو تفرط فيه بحجة أو بأخرى. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 20 حكم من تكلم بغير علم أما من تكلم بغير علم فهو آثم حتى لو أصاب فإصابته عن طريق الصدفة والموافقة، وليس بمقتضى الطريقة الشرعية، ولذلك فهو آثم في الحالين كما جاء في الحديث: {من قال في القرآن برأيه فقد أخطأ ولو أصاب} فإذا صح هذا الحديث فهو يخدم هذا الموضوع الذي نتكلم عنه، وعلى كل حال فلدينا حديث صحيح رواه ابن ماجة والإمام أحمد وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه} . فهذا المفتي الذي تكلم بدون علم ولا تثبت ولا دليل شرعي، يحمل وزره ووزر من أضله بغير علم، يقول الله عز وجل: {فمن أظلم مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:144] فمن تكلم في شأن دينيٍ بغير علمٍ فهو من أظلم الظالمين، فهو ظالم لنفسه وظالم لغيره، ظالم للأمة، ظالم للمجتمع، وإثمه موقوف عليه، وكذلك إثم من أضلهم بغير علم كما قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:25] . قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: من أفتى الناس وليس بأهل للفتوى فهو آثم عاصٍ، ومن أقره من ولاة الأمور على ذلك فهو آثم أيضاً. وقال ابن الجوزي رحمه الله ويلزم ولي الأمر منعهم كما فعل بنو أمية، وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب وليس له علم بالطريق، وبمنزلة الأعمى الذي يرشد الناس إلى القبلة، وبمنزلة من لا معرفة له بالطب وهو يطبب الناس، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم. يقول: وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبب من مداواة المرضى، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة ولم يتفقه في الدين؟ أي هو أولى من الطبيب الذي يتكلف الطب وهو لا يعرف ذلك. وقد تحدث بعض الفقهاء الحنفية عن مفتٍ يسمونه "المفتي الماجن" وقال الإمام أبو حنيفة: هذا المفتي الماجن يجب الحجر عليه لأنه متلاعب بفتواه، يفتي وليس أهلاً للفتوى. وبطبيعة الحال كون الإنسان يبحث في مسألة معينة، كطالب علم، أو إنسان عنده قدرة على الرجوع إلى الكتب، وبحث مسألة واستقصى أدلتها، والأقوال الموجودة فيها، ثم وصل إلى نتيجة، هذا ممكن؛ لأن الاجتهاد -كما يقول أهل العلم- يتجزأ، بمعنى أنه يمكن للإنسان أن يكون مجتهداً في مسألة واحدة بعينها، لأن هذا الاجتهاد هو الآخر له طريقه المعروفة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 21 شروط الإفتاء عند الإمام أحمد ولذلك يقول الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبعي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فمن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور. ثانيها: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة، بمعنى أن تكون أخلاقيات هذا المفتي أو هذا المتكلم في الشرعيات تجعله في موضع القدوة والأسوة، وتجعله فعلاً موضع الثقة في التعبير عن معاني الشرع وتوصيلها إلى نفوس الناس. الشرط الثالث: أن يكون قوياً على ما هو فيه، وعلى معرفته، بمعنى أن يكون عنده تمكن من المسائل الشرعية وقدرة على معرفتها والإحاطة بها. الشرط الرابع: الكفاية وإلا مضغه الناس، ويقصد بالكفاية أن يكون مستغنياً عما في أيدي الناس. الشرط الخامس: معرفة الناس، أي: أن يعرف الناس وحيلهم وألاعيبهم، لئلا يغتر بأقوالهم أو مكرهم أو حيلهم ولذلك كان الأئمة يحتاطون في الفتيا لأنفسهم، ويمنعون غيرهم من الإفتاء بغير علم، حتى قال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين عن شيخه يعني ابن تيمية رحمه الله ورضي عنه قال: كان شديد الإنكار على هؤلاء، أي الناس الذين يتسرعون في الكلام والفتيا بغير علم، قال: فسمعته يقول يوماً من الأيام، قال لي بعض هؤلاء المتسرعين في الفتيا: أجعلت محتسباً على الفتوى؟! أي: هل أنت مكلف من قبل السلطان بالاحتساب على أهل الفتوى؟ لأنه كما هو موجود الآن، كان كل أهل مهنة لديهم مسئول مراقب من قبل الجهات المختصة فيقولون له: هل أنت مراقب من قبل الجهات المختصة على أهل الفتوى؟ فكان يقول لهم رحمه الله: أيكون على الخبازين والطباخين محتسب، ولا يكون على الفتوى محتسب! يقرهم على ذلك فيقول: نعم أنا محتسب أمنع من ليس أهلاً من ذلك. والغريب أن بعض هؤلاء الناس نسبوا لـ ابن تيمية رحمه الله أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي! ابن تيمية الذي كان يلاحق المتسللين الذين يتصدرون للفتوى وليسوا من أهلها، ويمنعهم ويُشَهِّر بهم، ينسب إليه بعضهم أنه يجيز الاجتهاد حتى للعامي، كيف يكون هذا؟! وإذا احتججت أو اعترضت على بعض هؤلاء قال لك: يا أخي! لا تحجر واسعاً، أليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتفق عليه عن عمرو بن العاص وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أيضاً: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فيقول: أنا لا أعدم من إما من أجر واحد أو أجرين، فلماذا أنت منزعج؟ ولماذا أنت منفعل؟ ولماذا تعترض علي في كوني أتكلم وأفتي وأقول بحسب علمي في مسائل الشرع، وأكتب ما تيسر من المباحث المهمة في هذا الباب؟ لماذا تمنعني من ذلك؟! والواقع أن ما في هذا الحديث لن يكون حتى يتوفر فيه شرطان: الشرط الأول: أن يكون أهلاً للاجتهاد، بعلم غزير، وخبرة وتاريخ، ودراسات كافية. الشرط الثاني: أن يبذل وسعه في الاجتهاد في المسألة التي تعرض عليه، فلا يكتفي بكونه مشهوراً مثلاً، أو معروفاً، بل يكون إلى ذلك إذا عرضت عليه مسألة، قلَّب فيها وجوه الرأي، ونظر وتأمل، وإن كانت تحتاج إلى بَحْث بَحَث أو تحتاج إلى سؤال سأل، حتى يستقصي الحق ثم يقول به، فإذا فعل هذا فلا إثم عليه، بل هو مأجور في الحالين، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 22 دعوى الاجتهاد الصورة الثانية: من صور القول على الله تعالى بغير علم هي دعوى الاجتهاد، وذلك أن الأمر لا يقتصر على مجرد الكلام في الشرعيات، بل يتعدى عند بعض الناس إلى أن يدعي أحدهم لنفسه أنه مجتهد، وأنه يملك حق الاجتهاد، وفي الواقع أننا لسنا ممن يغلق باب الاجتهاد، كما يقال: فلان يغلق باب الاجتهاد، لأن هذا يحجر على عقول الناس، لكننا نقول كما قال بعض الكتاب المعاصرين، قال: إن باب الاجتهاد لم يفتح ولكنه كسر كسراً، أي أنه أصبح مكسوراً يدخل فيه كل إنسان من تأهل للاجتهاد ومن لا يتأهل، وتسلل كثيرون ممن ليسوا أهلاً لهذا الأمر، وادعوا أنهم مجتهدون، وأنهم مأجورون معذورون أخطأوا أم أصابوا، لأنهم مجتهدون. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 23 شروط الإفتاء ولقد اشترط العلماء -رضي الله عنهم- شروطاً للفتوى، فضلاً عن الاجتهاد، لا تتوفر إلا في القليل. من هذه الشروط مثلاً الإسلام، فالكافر أو المرتد هو فاقد للأهلية، وليس من حقه أن يتكلم في ذلك حتى يسلم إن كان كافراً، أو يعلن توبته إن كان مرتداً على الملأ، فحينئذٍ يسلك الطريق، ويبدأ يتعلم حتى يصبح أهلاً لما وضعه الله تعالى له. الشرط الثاني: هو التكليف، فإن غير المكلف الذي لم يصل إلى درجة أن يكون مكلفاً شرعياً لا يفتي أيضاً. الشرط الثالث: هو العدالة، فالفاسق سواء أكان فسقه بقول أم كان فسقه بفعل أم كان فسقه باعتقاد، هذا لا تقبل فتواه، ولا يسمع قوله، وهذه الشروط الثلاثة التي هي الإسلام والتكليف والعدالة مجمعٌ عليها عند العلماء، أنه لا بد من توفرها في المفتي، أو في المتكلم في أمور الشرع. وهناك شروط أخرى اختلفوا فيها منها الاجتهاد فبعضهم يقول: لا يقبل قول مفتٍ إلا أن يكون مجتهداً، ومعنى كونه مجتهداً أن يكون عالماً بالكتاب والسنة، عالماً بلغة العرب، عارفاً بأصول الفقه، عارفاً بالإجماع؛ لئلا يأتي بقول يناقض الإجماع وهو لا يدري، وكذلك أن يكون عارفاً باختلاف العلماء، حتى يستطيع أن يميز الاختلاف، ويأخذ بالقول الراجح ويترك القول المرجوح. كما اشترط آخرون جودة القريحة، واليقظة، وكثرة الإصابة، والذكاء، وهو ما يعبر عنه الإمام الجويني وغيره، بأن يكون المفتي فقيه النفس، أي يكون عنده يقظة وانتباه وذكاء، بحيث يعرف حيل الناس، ويعرف ألاعيبهم ويعرف طرائقهم، ويستطيع أن يتوصل إلى الحق بأسلوب مناسب. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 24 فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون إن الله تعالى يقول في موضعين من كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وأهل الذكر هم أهل العلم بالشيء، فالشرع يجعل التعرف على المسألة، من قبل أهل الاختصاص فيها، فإن كانت المسألة طبية فتسأل الأطباء فيها، وإن كانت المسألة لغوية تسأل فيها أهل اللغة، وإن كانت المسألة شرعية تسأل فيها أهل الشريعة، فهؤلاء هم أهل الذكر الذين قال الله تعالى عنهم: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ} [النحل:43] وليس غيرهم، فلا تسأل الطبيب عن مسألة شرعية، كما لا تسأل الفقيه عن مسألة طبية بحتة، ولا تسأل الأديب أو الشاعر أو الصحفي عن ما ليس من اختصاصه من الشرعيات، مع احترامنا للأديب والشاعر والصحفي، وتقديرنا للدور الذي يؤديه في خدمة المجتمع وحماية الأخلاق وتأديب النفوس، متى كان على مستوى هذه الوظيفة التي يقوم بها والحمد لله والذين هم على مستوى هذه الوظيفة كثير، وفيهم خير كثير. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم عاتب أصحابه في حديث صاحب الشجة، وهو رجل من الصحابة ذهب في غزوة فأصيب بشجة في رأسه، فأصابته جنابة، وأراد أن يسأل أصحابه ماذا يفعل، فأمروه بأن يغتسل، كما جاء في حديث من طرق، وقد حسنه بعض أهل العلم، والحديث في أبي داود وغيره، فاغتسل فمات من أثر الجرح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال} فالعاجز العيي الذي ليس عنده علم شفاؤه أن يسأل، فكان حق هؤلاء أن يسألوا إذ لم يعلموا، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم إلى أن يسأل من يعلم، وكذلك في قصة العسيف، الذي كان عنده رجل فزنى بامرأته، وذهب أبو العسيف هذا يسأل الناس، وسأل أهل العلم فأخبروه، وجاء للنبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك. فدل على أن الطريق الصحيح لجماهير الناس في معرفة الحلال والحرام هو أن يسألوا أهل العلم، وحين نقول تسأل أهل العلم فلا يعني هذا أنك قد أغمضت عينيك، فتعتقد وأنت أعمى، بل إذا كان عندك إمكانية وكنت إنساناً مثقفاً ولك قراءة، فإذا أفتى لك العالم بشيء، فناقشه فيما أفتاك، واعرض عليه قولا آخر سمعته، واسأله عن الدليل الذي احتج به، فلا مانع من هذا كله، لكن المهم أن تكون الفتيا، والكلام في المسائل الشرعية مضبوطاً محمياً محفوظاً، لا يملك أي إنسان أن يتكلم فيه دون قيد ولا شرط، ودون حسيب ولا رقيب. فهذه صورة وهي صورة جراءة بعض الناس على الكلام في الشرعيات، من الإفتاء وغيرها، دون أن يتأهلوا لذلك، أو يملكوا العلم الذي يرشحهم لمثل هذا المنصب، والناس لا غنى لهم عن المفتين المتخصصين، الذين طالت دربتهم ومرانهم وممارستهم للكتب وللناس. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 25 مثال على الإفتاء بغير علم ألا نتذكر جميعاً ذلك المسكين، الذي كتب يوماً من الأيام في إحدى المجلات المشهورة، مقالات طويلة عنوانها (ليس كل ما في البخاري صحيح) ونظراً لأنه اكتفى فقط بأقل قدر من المطالعة، فقد جاء يوماً من الأيام إلى حديث رواه البخاري في صحيحه، وهو حديث عائشة رضى الله عنها قالت: {كان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض} يباشرها أي تمس بشرته صلى الله عليه وسلم بشرتها، وقد يستمتع منها بما هو دون الفرج، وهذا معروف، لكن الرجل فهم من المباشرة معنى الجماع، فذهب يضعف هذا الحديث ويقول: إنه غير صحيح، ولو كان موجوداً في صحيح البخاري، قال لأنه يعارض القرآن الكريم: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222] . فالذي يأخذ الأمور ببساطة دون أن يرجع إلى المصادر والشروح والأقوال والكتب المعتمدة، من السهل جداً أن يقع في مثل هذا الخطأ، بل فيما هو أشد منه، والعجب كل العجب من قوم يتسارعون إلى عرض آرائهم في الحديث النبوي مثلاً، تصحيحاً أو تضعيفاً، قبولاً أو رداً، أو عرض آرائهم في المسائل الفقهية تحليلاً أو تحريماً، أو استحباباً أو كراهة أو إباحة، وقد ينكر أحدهم حديثاً أو حكماً شرعياً قبل مراجعة الشروح، وقبل مراجعة أقوال العلماء فيه، في الوقت الذي يسخر هؤلاء فيه مر السخرية من غيرهم، مدعين أن هذا الغير تعلموا بين يوم وليلة وتكلموا! فقد أصبحنا نسمع كثيراً من ينتقد شباباً درسوا العلوم الشرعية في أسبوع أو شهر أو ثلاثة أيام وتكلموا في الشرعيات، يقولون: هؤلاء لا بصر لهم، ثم وجدنا أنهم هم أنفسهم يتكلمون في قضايا جليلة أو خطيرة، دون أن يكلف أحد نفسه ولا حتى ساعة واحدة يراجع فيها ما قاله أهل العلم في هذه المسألة، فضلاً عن يوم وليلة أو أيام أو أسبوع أو شهر!! الجزء: 18 ¦ الصفحة: 26 المسارعة في الافتاء بغير علم الصورة الأولى: هي تسارع كثيرٍ من الناس، ممن قد يملكون جودة العبارة، ولكنهم لا يملكون العلم الشرعي الصحيح، على الهجوم والخوض في أمور الشريعة، دون تبصرٍ ولا روية، ودون أن يملكوا القدرة الكافية على ذلك، وقد يحتج بعض هؤلاء، بل كثير من الجهلة، يقول لك: يا أخي! الإسلام ليس فيه رجال دين ولا فيه كهنوت، وإنما هذا في النصرانية، فنقول: نعم ليس في الإسلام طبقة معينة اسمها رجال الدين، أو طبقة من الكهنوت، هي التي تملك وحدها حق تفسير الكتاب المقدس. بل كل إنسان يملك ولكن بعد أن يستوفي الشروط، أي أن الطريق مفتوح، وليس مقصوراً على فئة معينة، لكن ليس معنى كونه مفتوحاً أنه كلأ مباح لكل أحد، ليس في الإسلام رجال دين أو كهنوت، ولكن في الإسلام علماء، يرجع إليهم في معرفة نصوص الكتاب والسنة ودلالاتها ومعانيها، والغريب أن الناس أيضاً يدركون هذا جيداً فيما يتعلق بمجالاتهم الدنيوية، فمثلاً المكتبات الآن تغص بألوان الكتب الطبية، وقد أصبحت الدوريات والنشرات والمجلات الطبية بالآلاف، بل ربما بعشرات الآلاف في أنحاء العالم، وهناك مراكز متخصصة في إعداد البحوث وطباعتها وتوزيعها، بحيث إن الطبيب المهتم يتابع أولاً بأول كل ما جَدَّ في عالم الطب، فهذه الكتب والمجلدات الهائلة، والمزودة بالصور والتقارير والأرقام والإحصائيات، والتي تتجدد يوماً بعد يوم، وتوافي المختصين أولاً بأول، هل أغنت الناس عن الذهاب إلى الأطباء؟ كلا، أم هل أغنت الناس عن فتح المستشفيات والمستوصفات والمراكز الصحية والوحدات الطبية ومراكز الأبحاث؟! كلا، بل لا يزال الناس يشعرون يوماً بعد يوم بمسيس الحاجة إلى مثل هذه المراكز والمستشفيات والوحدات؛ لأن هذه الأوراق وحدها لا تكفي ولا يستفيد منها أصلاً إلا الطبيب المختص. أما عامة الناس ففائدتهم منها محدودة إلى حدٍ بعيد، قد يملكون فيها نوعاً من الثقافة التي تمكنهم من مناقشة الدكتور مثلاً، لكن أن يملكوا قدراً يمكنهم من كتابة الوصفات، ومعالجة الأمراض، فلا يكون هذا أبداً، وإلا لما كنا بحاجة إلى كليات الطب، ودراسات طويلة عريضة، ومراكز متخصصة وجهود ضخمة. فكيف نتصور مثلاً أن وجود النصوص الشرعية في الكتب، سواء في القرآن أم في السنة، أك في كتب أهل العلم، أنه كافٍ للناس، وأنه من حق أي إنسان مسلم أن يتكلم في أي مسألة تخطر له، بمجرد أن يقف على نص يظن أنه يتعلق بهذه المسألة التي أشكلت عليه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 18 ¦ الصفحة: 28 أهمية التخصص في علم الشرع وغيره السؤال ما رأيكم فيمن يقول إن كلامكم حول التخصص هو حجة أيضاً على علماء الشرع عندما يتكلمون في بعض القضايا السياسية والاقتصادية مما لا يدخل في تخصصهم، فكيف تكشف هذه الشبهة؟ الجواب هذا الكلام جميل، وقد ذكرت خلال حديثي عن الطبيب أن من حقه أن يبحث مسألة فقهية بشرط أن يسلك الطريق الصحيح، فيذهب إلى كتب الفقه، ويجمع الأقوال والأدلة، ويصل فيها إلى نتيجة معينة، وحسن جدا، لو عرض هذه النتيجة على عالم أو متخصص، وهذا الكلام نفسه نقوله عن عالم الشرع: أنه لو أراد أن يبحث قضية اقتصادية أو قضية سياسية هو عن حكم الله ورسوله فيها، فكيف نستطيع أننا نجعله يتصور هذه القضية تصوراً صحيحاً، ويدرك أبعادها الحقيقة، لا شك أن هذا العالم عليه أن يستعين بالمختصين ليطمئن على سلامة النتائج التي توصل إليها. ثم هناك قضايا كثيرة ليست من باب الاختصاص، نستطيع أن نقول إنها ربما تكون مشاعة لطبقة معينة من المستمعين يتكلم فيها الجميع، ويتحدث فيها الناس في الإذاعات وفي المجالس وفي الأحاديث وفي الصحافة وفي كل ميدان، ففي هذه لا تنظر إلى عالم الشرع باعتبار أنه عالم شرع فقط، هو أصلاً كإنسان له قدرٌ من العلم بهذا الشيء، وكمسلم ومتخصص له قدر وتصور في هذا الأمر وحكم الله ورسوله في ما يئول إليه. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 29 هل للمسلم حرية في إظهار دينه في بلاد الغرب السؤال تعلمون عداوة الغرب للإسلام وأهله، ولكن يشكل على البعض أن أي مسلم يستطيع إظهار شعائر دينه وبكل حرية، بل يستطيع أن يدعو إليه وذلك في بلد الغرب، فكيف يحل هذا الإشكال الوارد على بعض الناس؟ الجواب هذه مجرد لمحات وإشارات، ومن جهة عليك أن تلقي نظرة عابرة على جهود المنصرين في أنحاء العالم الإسلامي، وبالذات العالم الأكثر فقراً، انظر إلى جهودهم وقدِّر ما هذه الجهود وما هي دوافعها، ومن جهة أخرى ليس صحيحاً أن كل مسلم يستطيع أن يظهر شعائر دينه، وما قصة الفتيات المغربيات في فرنسا عنا ببعيد، الإسلام ما دام محصوراً في مستوى معين لا يشكل خطراً عليهم فهم يغضون الطرف عنه، لكن حين تزداد أسهم الإسلام ويرتفع قدره في بلادهم، سيكون هناك شأنٌ آخر لهم مع الإسلام، وهذا بدأ يظهر الآن في الغرب، في أمريكا وبريطانيا وفرنسا. أمر ثالث أن تلك المجتمعات أصلاً مبنية على الكفر، ولذلك هي في الواقع تحرج المسلم وتفرض عليه المخالفة في قوانين كثيرة يضطر هو أن يسايرها شاء أم أبى، بحكم المجتمع، نعم يستطيع أن يصلي، ويصوم، لكن هناك أشياء أخرى كثيرة، حتى الصلاة قد لا يكون هذا متيسراً في كل حال، قد يكون مربوطاً بعمل وبأمور اعتبارات كثيرة جداً تمنعهم من ذلك. أمر آخر، أنه قد تجد أحياناً أن جمهور الناس هناك -وأنبه إلى هذا لأهميته- كجمهور المسلمين في كثير من البيئات، صارت صلتهم بالدين ضعيفة جداً لكنها باقية، فمثل هؤلاء قد يتعاملون مع المسلم بصورة عادية، لا يحسون بحساسية شديدة تجاهه، لكن لو صار بينهم وبين المسلمين أخذ وجذب وعداء وحروب، أو صار الإسلام خطراً يهددهم، هنا قام زعماؤهم سواءً الزعماء السياسيون أو الزعماء الدينيون، فأثروا وحركوا حماس وحمية الناس لدينهم فتحركوا. هذا هو الموجود في بلاد النصارى منذ زمن بعيد، وهو -أيضاً- موجود بصورة عكسية في بلاد المسلمين، بمعنى قد تجد في مجتمع ما من مجتمعات المسلمين أناس لا يصلون وصلته بالدين واهية، ويمكن يسخر من المتدينين، لكن لو جاء قوم من الكفار وأغاروا على هذا الحي أو على هذا البلد المسلم، لربما كان هذا الإنسان الذي لا يصلي من ضمن المدافعين، حمية لإخوانه وبني عمه وللمسلمين معه وللناس الذين عاش معهم، لكن صلته بالدين واهية جداً، أثر بعد عين. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 30 الموقف الصحيح من اختلاف أقوال العلماء السؤال ما هو الموقف الصحيح من اختلاف أقوال العلماء، هل هو الثقة بالشيخ أم ماذا؟ الجواب هذا موضوع طويل سبق أن تكلمت عنه في أكثر من محاضرة، لكن باختصار هذا يختلف من إنسان لآخر، فمثلاً طالب العلم الطريقة الصحيحة هي أن ينظر في الأقوال والأدلة والراجح والمرجوح ويصل فيها إلى نتيجة، أما العامي فلا شك أنه لا يتمكن من ذلك ولا يستطيعه، حتى لو كان متخصصاً في فن آخر، لكنه عامي بالنسبة لأمور الشرع وغير قادر على معرفة الأدلة، ولا الوصول إلى مظان البحث في الكتب، فإن هذا ينظر إلى من يثق بعلمه ودينه ويقلده، وينبغي له أن يسأله عن الدليل فيما أفتاه به. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 31 كيفية التعامل مع من يطرح قضايا الشرع يريد سوء ً السؤال تعود البعض وبطريقة استفزازية التحدث في أمور الشرع، وطرح قضايا التكسر العلمي والفكري في مسار الأمة العام عن طريق مقالة صحفية كثيرة ومثيرة، ومن خلال المتابعة أقول: إنها تمثل طعنة في خاصر المستقبل الحضاري للأمة. سؤالي: كيف يتعامل الشباب مع هذه الجراثيم؟ الجواب هذه فعلاً طعنة، ولكنا مع ذلك ينبغي أن نثق أن الأمة ماضية في طريقها، وأن هؤلاء لن يضروا إلا أنفسهم، ولن يضروا الله شيئاً، وسيجزي الله الشاكرين، وأما الحل فبالنسبة لهذا الأشياء لا بد من مقاومتها، وبيان وجه الحق فيها بأسلوب علمي مترفع عن الإسفاف والتهجم، أو النيل والسب لفلان أو علان، فقضيتنا قضية الحق والباطل، وليست قضية شخص يذهب ويجيء، هذا لابد منه أولاً. ولابد أن نصبر ونصابر كما صبر أولئك؛ بل أعظم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] ، ولا بد أن تسعى الأمة من خلال المختصين، ومن خلال الجامعات الإسلامية، والكليات الشرعية إلى إيجاد الكوادر الكافية التي تحتاجها الأمة، وتستطيع أن تغطي حاجتها. لقد أتينا إلى بعض البلاد العظيمة التي يكون عدد المسلمين فيها يزيد على مائة وخمسين مليون، فوجدنا هذا البلد الواسع لا تكاد تجد فيه من العلماء المعروفين إلا من يعدون على أصابع اليد الواحدة. وهذا نقص خطير جداً؛ لأن كل فرد منا محتاج إلى شريعة الله حتى في ذات نفسه، فما أحوجنا إلى أن يُنتدب وينبرى لطلب العلم الشرعي وتحصيله، وتقديمه للناس -أيضاً- لأن بعض من يملكون شيئاً من ذلك أصابهم قدر كبير من حب العافية وإيثار السلامة، وحب الخمول والبعد عن الأضواء تواضعاً وزهداً، فظلموا أنفسهم وأمتهم {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 32 خطر الطعن في العلماء السؤال هناك من يتحدث عن العلماء، ويتصيد لهم الأخطاء والزلات، فهل من ردٍ شافٍ من فضيلتكم على هذا؟ الجواب الحديث عن علماء الأمة، هو في الواقع طعن للأمة كلها، وطعن للأمة ذاتها؛ لأن أولئك الذين يتحدثون عن علماء الشريعة إنما يقصدون الحيلولة بين الأمة وبين دينها؛ وذلك لأن الأمة لا تستطيع الوصول إلى حقيقة دينها، إلا من خلال أولئك الهداة المرشدين الذين أقامهم الله تعالى حجة على العالمين، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن بقائهم إلى يوم يقوم الدين، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} . فمحاولة النيل من هؤلاء العلماء هي في الواقع محاولة للنيل من الدين، وذلك لأن هناك فئة من الناس إما لجبنها أو خوفاً من الأمة لا تستطيع أن تنال الدين ذاته أو تمسه أو تتكلم فيه، فهي تبجل الدين ظاهراً، وتعظمه وتنطلق منه، ولكنها تنال من حملته، الذين إذا انفصلت الأمة عنهم، فقد انفصلت عن حقيقتها وظلت عن طريقها، وأصبحت ألعوبة في يد كل من هب ودب ودرج؛ ولذلك فإن النيل من العلماء من أخطر الأشياء أياً كان مستوى هذا النيل. وفي الحقيقة إن الذين ينالون من علماء الأمة ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات -مع الأسف- كثيرة، فمنهم من ينال من العالم لعلمه وفقهه، ومنهم من ينال منه لمواقفه، ومنهم من ينال منه لقوته في الحق، وهؤلاء وإن كانوا يصدرون مصادر شتى، إلا أنه يجمعهم هم واحد، وهو محاولة إسقاط مكانة أهل العلم وأهل الفتيا، والمعرفة بدين الله تعالى وشرعه، وهم لا شك كناطح صخرة يوم ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل الناس ينزعجون حينما يرون قالة في عالم أو في علماء، انتشر في بعض الفئات أو في بعض الأوساط، وهذا في الواقع أمرٌ لا يزعج؛ لأن الحق لا بد أن يحصحص يوماً من الأيام، والناس قد يتلقفون قالة تظهر، ويأخذها هذا عن هذا ويتحدثون، لكن دعك من انتشاره في وقت محدد لأنك لو نظرت إلى الأيام والليالي لوجدت أنه على الأيام لا يثبت بإذن الله تعالى في هذا الأمر إلا ما يكون فيه دعم مكانة العلماء وحفظهم وصيانتهم عن كل من أرادهم بسوء {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . الجزء: 18 ¦ الصفحة: 33 الفرق بين كتمان العلم وإظهار الحق السؤال ما هو الضابط بين كتمان العلم والجرأة عليه؟ الجواب كتمان العلم والجرأة عليه هما أمران متقابلان، فإن الجرأة تعني إظهاره، وكتمانه أي: إخفاؤه، فهما أمران متقابلان، لكن الإنسان على كل حال مطالب بإظهار العلم، كما قال الله عز وجل: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حق للأمة كلها، فمن حق الأمة أن تعرف أحكامها ومعانيها وحلالها وحرامها، لكن قد يحدث أحياناً ظرف ربما يستدعي السكوت عن بعض الحق لمصلحة راجحة، لأن الإنسان قد يرى لو نطق بهذا الحق أنه يترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة السكوت. فهنا تأتي قضية الموازنة بين المصالح والمفاسد، فسكوتك عن الحق هو مفسدة، لكنك لو قدرت أن نطقك بالحق قد يترتب عليه مفسدة أعظم من مفسدة السكوت فحينئذ لا شك أن السكوت يكون أولى تحصيلاً للمصلحة. الجزء: 18 ¦ الصفحة: 34 وقفات في شهر رمضان تحدث الشيخ -حفظه الله- عن بعض الأمور التي يحتاجها الصائم، فوقف ثلاثين وقفة في مطلع شهر رمضان بين فيها فضل هذا الشهر الكريم وأهمية التزود من فضائله ونفحاته، لأن تزكية النفس في شهر رمضان مطلب كل مسلم لا سيما أن للقرآن فيه طعماً خاصاً ولذة قاهرة ومعاني أصلية، ويعيش المرء فيه مع الله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 1 وقفة مع آية الصيام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: هذا هو المجلس السابع في سلسلة الدروس العلمية العامة، وينعقد في ليلة الإثنين، التاسع والعشرين من شهر شعبان لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة، ومن المحتمل أن تكون هذه الليلة هي آخر ليلة في شهر شعبان، فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا للصيام والقيام، وأن يوفقنا للتوبة النصوح، وأن يجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما استدبرنا، إنه على كل شيءٍ قدير. أيها الإخوة الأكارم: درسنا هذه الليلة درسٌ جديدٌ تحت عنوان: (عشر وقفات في مطلع شهر رمضان) فاعتباراً من هذه الليلة، وعلى مدى شهر رمضان المبارك، فسوف تكون الدروس -إن شاء الله- دروساً أو جلسات رمضانية، نتحدث عن بعض الأمور التي يحتاجها الصائم، وفي هذه الليلة لنا عشر وقفات في مطلع هذا الشهر، وبإذنه تبارك وتعالى في الأسبوع القادم لنا عشر وقفات أخرى، فالوقفات في الأصل عشرون لكن نأخذ منها الليلة عشراً، وسيكون موعد الدرس -إن شاء الله- بعد صلاة التراويح في هذا المسجد في ليلة الإثنين، أي في مثل هذه الليلة من كل أسبوعٍ إن شاء الله تعالى. الوقفة الأولى -أيها الإخوة- هي وقفة مع النص القرآني. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 2 الأصل في وجوب صيام رمضان يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون * أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:183-184] فهذه الآية أصل في وجوب صيام رمضان، ولذلك أجمع أهل العلم كافةً على أنه يجب على كل مسلم أن يصوم شهر رمضان، ومن أنكر وجوبه أو جحده فهو كافر مرتد؛ إلا أن يكون جاهلاً حديث عهد بإسلام فيعلَّم، فإن أصر على جحوده فإنه يكون كافراً؛ وذلك لأنه ثابت بنص القرآن {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] أي: فرض وأوجب وألزم عليكم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 3 الصيام فرض على من كان قبلنا قال الله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] وفي هذا تسلية للمؤمنين، وإشعارٌ لهم بأن الله عز وجل قد فرض هذا الفرض على من كان قبلهم من الأمم الكتابية السابقة، فلكم فيهم أسوةٌ وقدوة، فلستم أول من فرض عليه الصيام، وفي هذا من تخفيف وطأة الصوم ما فيه، فإن الإنسان إذا عرف أن هذا درب سلكه قبله الصالحون من الأنبياء وأتباعهم عبر القرون؛ فإنه يفرح بذلك ولا يستثقله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 4 العلة من الصيام ثم قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} [البقرة:183] إشارة إلى العلة والحكمة من مشروعية الصيام، وهي تحقيق التقوى للصائم {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] فهي قليلة بالقياس إلى السنة، فإنها شهر من السنة فهي أياماً معدودة قليلة ليس فيها على الإنسان مشقة ولا ثقل، إلى آخر الآيات. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 5 أصناف الناس في رمضان الوقفة الثانية: أصناف الناس في رمضان. والناس في استقبالهم لرمضان على صنفين: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 6 أناس فرحون الصنف الأول من الناس: من يفرحون بهذا الشهر، ويسرون بقدومه، وذلك لأسباب: أولاً: لأنهم عودوا أنفسهم على الصيام، ولهذا تجدون في السنة النبوية -مثلاً- استحباب صيام أيامٍ كثيرة، كالإثنين والخميس وأيام البيض ويوم عرفة لغير الحاج، ويوم عاشوراء مع يوم قبله أو يوم بعده، وصيام شعبان، وغير ذلك من الأشياء التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته؛ حتى يعتادوا الصيام ولا يصبح الصيام غريباً عليهم. ولذلك تجدون أن الذي يصوم النفل، وعلى الأقل يصوم أيام البيض -مثلاً- لا يستثقل صيام رمضان، بل يعتبر صيام رمضان بالنسبة له أمراً طبيعياً لا تكلف فيه ولا ثقل، لكن الإنسان الذي لا يصوم، لا ستاً من شوال ولا الأيام البيض ولا غيرها؛ فإنه يحسب لرمضان حساباً ويجد فيه شيئاً من الثقل والمشقة؛ لأنه لم يعود نفسه على الصيام. ولذلك ينقل عن السلف رضي الله عنهم من ذلك شيء عجيب. يروى أن قوماً من السلف باعوا جارية لهم فاشتراها رجل، فلما أقبل رمضان بدأ يتهيأ بألوان المطعومات والمشروبات لاستقبال شهر رمضان -كما يصنع الناس في هذا الزمان- فقالت لهم: لماذا تصنعون هذا؟! قالوا: نصنعه لاستقبال رمضان. قالت: وأنتم لا تصومون إلا في رمضان! والله لقد جئت من عند قومٍ السنة عندهم كأنها رمضان، لا حاجة لي إليكم ردوني إليهم. فرجعت إلى سيدها الأول. ويروى أن الحسن بن صالح وكان من الزهاد العباد الورعين الأتقياء، كان يقوم الليل هو وأخوه وأمه أثلاثاً، يقوم ثلثاً ويقوم أخوه ثلثاً آخر وتقوم أمه الثلث الباقي، فلما ماتت أمه تناصف هو وأخوه الليل، فصار يقوم نصفه ويقوم أخوه النصف الآخر، فلما مات أخوه نقل عنه أنه كان يقوم الليل كله. قيل: إن الحسن بن صالح هذا باع أمةً له، فلما انتصف الليل عند سيدها الجديد، قامت في وسط الدار وصاحت: يا قوم، الصلاة الصلاة، فقاموا فزعين، وقالوا: هل طلع الفجر؟! قالت: وأنتم لا تصلون إلا المكتوبة!! فلما أصبحت رجعت إلى سيدها، وقالت: لقد بعتني على قوم سوء، بعتني على قومٍ لا يصلون إلا الفريضة، ولا يصومون إلا الفريضة، لا حاجة لي إليهم ردوني ردوني، فردها. إذاً: إذا اعتاد الإنسان على الصيام لم يجد في صيام رمضان ثقلاً ولا مشقةً، وهذا من أسباب فرح المؤمنين بشهر الصوم، حيث يصومون فيه شهراً كاملاً، ويوافقهم الناس كلهم على صيام هذا الشهر. الأمر الثاني من أسباب رغبتهم فيه وفرحهم به: أنهم يعرفون أن الامتناع من اللذات في هذه الدنيا سببٌ لحصولها في الدار الآخرة، فإن امتناع الصائم عن الأكل والشرب والجماع، وسائر المفطرات في نهار رمضان طاعةً لله عز وجل، يكون سبباً في حصوله على ألوان الملذات في الجنة، فلقوة يقينهم بذلك يفرحون بهذا الشهر الكريم، والعكس بالعكس، فإن الإنسان الذي يقبل على الملذات المحرمة في الدنيا يكون هذا سبباً في حرمانه منها يوم القيامة. ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة} وإنما لم يشرب الخمر في الآخرة -أي وإن دخل الجنة- عقاباً له على تمتعه بخمرة الدنيا، وهي خمرةٌ محرمة حرم الله على عباده المؤمنين أن يتعاطوها، وقد ورد في حديث آخر أيضا: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} . السبب الثالث: أنهم يدركون أن هذا الشهر من أعظم مواسم الطاعات والتنافس في القربات: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ويعلمون أن الله عز وجل يجري فيه من الأجور ما لا يجري في غيره من الشهور، ولذلك يفرحون بقدومه فرح الغائب بقدوم غائبه وحبيبه، وهؤلاء لا شك همُ المؤمنون الصادقون، نسأل الله أن يجعلنا منهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 7 قومٌ كارهون وفي مقابل ذلك تجد طائفةً أخرى من الناس يستثقلون هذا الشهر الكريم، ويستعظمون نزوله بهم إذا نزل، فهو كالضيف الثقيل، ثم يعدون أيامه وساعاته ولياليه، وهم يعيشون على أعصابهم، ويفرحون بكل يومٍ يمضي وليلة تفوت، حتى إذا قرب العيد بدأت قلوبهم ترفرف فرحاً بقرب خروج هذا الشهر، وذلك لأنهم لم يقدروه حق قدره؛ لأنهم أولاً: اعتادوا على اللذات، والشهوات، من التوسع في المأكل والمشرب والملبس والمنكح، وغيرها فضلاً عن اللذات المحرمة، فوجدوا في هذا الشهر مانعاً وقيداً يحبسهم ويحول بينهم وبين لذاتهم؛ فاستثقلوه واستطالوا أيامه ولياليه. ثانياً: لأنهم قومٌ عظم تقصيرهم في الطاعات، حتى إن منهم من لا يؤدي الصلاة، ومنهم من يقصر كثيراً في حقوق الله، فإذا جاء هذا الشهر التزموا ببعض العبادات، فوجدتَ كثيراً من الناكثين القاسطين المقصرين بدءوا يترددون على المساجد، ويشهدون الجمع والجماعات إلى غير ذلك، فيستثقلون هذا الشهر؛ لأنهم يلتزمون فيه ببعض الطاعات التي قصروا فيها في غيره. لذلك يذكر المؤرخون -كـ ابن رجب وغيره- أن ولداً لـ هارون الرشيد كان غلاماً سفيهاً، فلما أقبل رمضان ضاق به ذرعاً وبدأ يقول: دعاني شهر الصوم لا كان من شهر ولا صمت شهراً بعده آخر الدهر فلو كان يعديني الأنام بقوة على الشهر لاستعديت قومي على الشهر فهو يدعو على رمضان ويقول: عسى ألا أصوم شهراً بعده آخر الدهر، ولو كان يمكن أن أستعين بالناس على هذا الشهر لأتغلب عليه لاستعنت بهم، قال: فأصيب بمرض الصرع، فكان يصرع في اليوم عدةَ مرات، وما زال كذلك حتى مات قبل أن يصوم رمضان الآخر بعد ما قال ما قال. وهكذا الذين يستثقلون رمضان لأنهم سيفارقون فيه مألوفهم من الشهوات، ويلتزمون ببعض العبادات، إضافةً إلى ضعف يقينهم بما أعد الله تبارك وتعالى للمؤمنين، فإنهم لا يدركون فضل هذا الشهر ولا يتصورون عظمة الأجر المكتوب لهم، فيه فلا يجدون فيه من اللذة والفرح والسرور ما يجده أصحاب الإيمان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 8 من معاني الصيام الوقفة الثالثة: من معاني الصيام. وللصيام -أيها الإخوة- معانٍ ومقاصد عظيمة لو تأملناها لطال عجبنا منها: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 9 الاستسلام والاستشعار للعبودية المعنى الثالث من معاني الصيام: الاستسلام لله تعالى. وذلك بأن تشعر بأنك عبد فعلاً، والعبودية لله هي كمال الحرية، ولذلك يقول عياض رحمه الله: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فهو يعتبر أن من أعظم الشرف أنه مخاطبٌ بقول الله تعالى: يا عبادي. ويقول الآخر: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حرا إذاً: كمال الحرية في كمال العبودية لله جل وعلا، والصوم يربي العبد على العبودية، وانظر كيف، يقول لك الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة:187] فيكون في هذا أمر لك بالأكل، فتجد أن من العبادة أن تأكل، ولذلك يستحب للإنسان أن يأكل -مثلاً- عند السحور وعند الإفطار كما هو معروف، ويكره له الوصال؛ بحيث يواصل الإنسان يوماً أو يومين فلا يفطر بينهما، فتكون العبادة حينئذٍ بأن تأكل وتشبع شهوتك من الأكل والشرب، وفي وقتٍ آخر يأمرك الله عز وجل بضد ذلك فيقول: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فتمسك من طلوع الفجر إلى الليل، عن الأكل والشرب وسائر المفطرات طاعة لله عز وجل، فتتربى حينئذٍ على العبودية الحقيقية لله، إذا قال لك: كل فإنك تأكل، وإذا قال لك: اشرب فإنك تشرب، وإذا قال لك: صم وأمسك؛ فإنك تصوم وتمسك. ففي هذا يتربى العبد على أن القضية ليست مجرد أذواق وشهوات وأمزجة يتعاطاها؛ بل هي طاعة لله عز وجل، فإن أمرنا بالأكل أكلنا وإن أمرنا بالإمساك أمسكنا. ولذلك تجد العبد -مثلاً- في صلاته أحياناً يقف، وأحياناً يركع، وأحياناً يسجد، وأحياناً يقعد، لأن هذا هو الأمر الذي أراده الله، وهذا هو التعليل. وفي الإحرام مثلاً حين يحرم الإنسان ليس منهياً عن الأكل ولا عن الشرب، ولكنه منهيٌ عن الجماع ودواعيه، ومنهيٌ عن تغطية الرأس، وعن الطيب وعن تقليم الأظافر، وعن قص الشعر، وعن جميع ألوان الترفه، فيمتنع عن جميع هذه الأشياء ما دام محرماً؛ لأن الله تعالى هكذا أراد منا إرادة شرعية، لكن له أن يأكل، ولو امتنع المحرم عن الأكل والشرب لأنه محرم لكان مبتدعاً في ذلك. فإذا انتهى إحرامه يقال له: مطلوبٌ منك الآن -وجوباً- أن تحلق أو تقصر رأسك، ومطلوبٌ منك أن تقلم أظفارك، وأن تتزين وتتطيب وتغتسل قال الله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج:29] . فهذه تربيةً على العبودية الحقيقية لله جل وعلا، يأمرك بالشيء فتمتثل ويأمرك بنقيضه فتمتثل أيضاً، وليس من الضروري أن ندرك علة أو حكمةً لهذا الأمر أو لذاك النهي، فالعلة والحكمة تتلخص في أن الله تعالى أمر فأطعنا وامتثلنا، ونهى فانتهينا وامتثلنا، وهذا هو معنى العبودية الحقيقية. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 10 تربية المجتمع المعنى الرابع من معاني الصيام: تربية المجتمع. ربما يكون الكثير منا -بل لعل الجميع- صام يوماً من الأيام نفلاً، إما أيام البيض أو يوم عاشوراء أو يوم عرفة، أو ما أشبه ذلك. فما هي المقارنة بين صوم النفل وصوم الفرض؟ صوم النفل يتعب فيه الإنسان بعض الشيء ويجد شيئاً من المشقة، أما صوم الفرض فإن الإنسان يقول فيه: سبحان الله! كيف يسر الله تبارك وتعالى لنا الصوم، والله ما كأننا صائمين. هكذا لسان الجميع، ما هو السبب؟ لا شك أن الله تعالى يعين العبد في فرض الصيام ونفله، وإن كانت الإعانة في الفرض أكثر، لكن الإعانة موجودة في الجميع، وإنما من أهم الأسباب -في نظري-: أن الله تعالى جعل صوم رمضان فرضاً على الجميع، ولذلك كلما تلفت الإنسان وجد أن المجتمع صائم، فأنت تخرج للسوق فتجد الناس صائمين، وتذهب لسوق الخضار فتجد الناس صائمين، وتدخل البيت فتجد أهل البيت صائمين، وتذهب إلى المدرسة فتجد زملاءك صائمين، وتذهب للعمل فتجدهم صائمين، فالكل صائم. ولذلك يحس الإنسان بأن الأمر الذي يفعله هو أمر يفعله الجميع، وهذا لا شك مما يجعل الموضوع غير ثقيل على النفس، ولهذا فالإخوة الذين يصومون في مجتمعاتٍ مفطرة، كما يقع لبعض الذين يعيشون في بلاد الغرب، إما لمرض -عافانا الله وإياكم- أو لحاجة أو لضرورة، فإنهم يجدون مشقة عظيمة في صيام رمضان؛ لأن الناس مفطرون هناك، فهو يجد الناس يأكلون في كل مكان، ولا يراعى أن يكون صائماً، فهو مطالب بأن يعمل كما يعمل غيره، ويخرج كما يخرج غيره، ويدخل كما يدخل غيره، من غير مراعاة لكونه صائماً، فيجد في ذلك مشقةً عظيمة، كما حدثنا الإخوة الذين عاشوا هناك في شهر الصيام، لكن في المجتمعات المسلمة الصائمة لا يجد الإنسان هذه المشقة، وفي هذا تربيةٌ للمجتمع. ولذلك رأينا -أيها الإخوة- بأعيننا أن الإنسان حين يذهب في شهر الصيام حتى للمجتمعات المنهمكة في الفساد، ولكن عليها آثار الإسلام وفيها بقايا الإسلام؛ يجد دخول الشهر الكريم مميز تماماً، فإذا دخل الشهر وجدت آثار رمضان ظاهرة على الجميع، حتى الفساق يظهر عليهم آثار الشهر الكريم، ففي ذلك تربية للمجتمع. ولهذا تلاحظون دائماً أن الإسلام يُعنى عنايةً كبيرةً بإصلاح المجتمعات من الفساد -مثلاً- كحادثة فردية، فإن هذه الأخطاء الفردية واقعة في كل مجتمع لا بد منها، حتى المجتمع النبوي مجتمع الصحابة، وقع فيه حالات من الانحراف، وجد إنسان زنا وآخر سرق وثالث شرب الخمر مثلاً، لكن المشكلة حين تتحول هذه المنكرات إلى منكرات معلنة موجودة على الملأ، فتتلوث البيئة العامة، ويصبح الإنسان الذي يريد الخير قد لا يهتدي لأن المجتمع يضغط عليه، ولهذا -أيضاً- تلاحظون أن أعداء الإسلام حريصون على إفساد المجتمع وتلويث البيئة. ولعلكم سمعتم -مثلاً- بما يسمى بالبث المباشر، وكثيراً من تُحدِثَ عن هذا الموضوع، وهو محاولة الدول الغربية أن ترسل بثاً تلفزيونياً إلى البلاد الإسلامية يكون مثل قنوات الراديو -تقريباً- بحيث يكون من الممكن في التلفاز أن يشاهد الإنسان أي محطة، وهذا ليس -كما يتصور البعض- أنه أمر قاب قوسين أو أدنى، لا شك أنه أمر فيه صعوبة وأمامه عقبات، لكنه أمر متوقع، فهم حين يفعلون ذلك وغيره كثير، يحاولون أن يلوثوا البيئة العامة حتى تفسد وتنحرف؛ بحيث أن الذي يريد الصلاح لا يصلح لأن المجتمع يعارضه، فهو إن صلح يصبح ضد التيار كما يقال. وهذا من أعظم مقاصد الصيام، أن الله عز وجل يربي المجتمع الإسلامي بالصيام، بحيث يتحول إلى مجتمعٍ صائم، ولذلك تجد الصغار عندنا يصومون، وتجد الفساق يستترون، وتجد الكفار لا يستطيعون أن يعلنوا الأكل والشرب في الأسواق وعلى الملأ، لأن المجتمع يفرض عليهم هذا الأمر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 11 التربية على التطلع إلى الدار الآخرة المعنى الثاني من معاني الصيام: أنه يربى العبد على التطلع إلى الدار الآخرة، وذلك لأن الناس موازينهم دنيوية في الغالب، فإذا أراد الإنسان -مثلاً- أن يشتري صفقة أو يبيع؛ فإنه يجري عملية حسابية لينظر هل هذه الصفقة رابحة أو خاسرة، وبناءً على ذلك يتصرف على حسب ما تصل إليه حساباته، فهم يقيسون بالأمور الدنيوية البحتة؛ لكن المؤمن عنده مقياس آخر وهو أنه يدرك أن هناك داراً آخرة فيها حساب، ولذلك قد يتخلى عن بعض الأشياء الدنيوية تطلعاً إلى ما عند الله. فمثلاً: بمقياس الماديين فإن الأكل يقوي الجسم، وفيه تحصيل للذة، والشبع، والسعادة، والشرب كذلك، وإتيان النساء كذلك، لكن المؤمن عنده مقياس آخر: أن هذه الأشياء وإن كانت تحقق بعض ما ذكر، إلا أن هناك مقياساً آخر وهو مقياس الآخرة. فإذاً من الممكن أن يترك المؤمن -مثلاً- الأكل لأنه ينتظر أن يجازى على هذا الترك في الآخرة وليس في الدنيا، ويترك الشرب لذلك ويترك المحرمات لذلك، فيتربى في قلبه الإيمان بالدار الآخرة، التي هي في الحقيقة دار الجزاء والحساب. أما ما يلقاه المؤمن في هذه الدنيا من النعيم بسبب الطاعة، فإنما هو عربونٌ فقط، فما تجده -مثلاً- من أثر الصوم في الدنيا، من الصحة والسعادة، والفرح، … إلى آخره، إنما هو عربون، والجزاء الحقيقي والثمن الحقيقي لهذا العمل إنما تجده في الدار الآخرة، فيربي الصوم الإنسان على التطلع إلى الدار الآخرة التي فيها الجزاء الحقيقي، وفيها نهاية المطاف، وليست نهاية المطاف في هذه الدار الدنيا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 12 ارتباط الصيام بالإيمان الحق بالله سبحانه أولاً: من معاني الصيام: أنه مرتبط بالإيمان الحق بالله جل وعلا. ولذلك جاء أن الصوم عبادة السر، لأن الإنسان بإمكانه ألا يصوم لو شاء، حتى لو لم يأكل ولم يشرب، فمجرد فقد النية يكفي في ألا يصوم الإنسان، فإن من شرط الصوم -خاصةً صوم الفرض كما سيأتي-: النية. فلو لم ينو الإنسان الصيام حتى لو ظل ممسكاً طيلة نهاره فإنه ليس بصائم، فالصيام قضية قلبية بين العبد وبين ربه، فكون الإنسان يمتنع عن الأكل والشرب وسائر المفطرات، على رغم أنه يستطيع أن يصل إليها في خلوة وبعد عن أعين الناس، دليل على أنه يتعامل مع ربٍ يؤمن به، ويعلم أنه مطلع على سرائره وخفاياه ولذلك يمتنع، ففي هذا تربية لقوة الإيمان بالله جل وعلا. وقل مثل ذلك في سائر العبادات، انظر -مثلاً- إلى الوضوء أمر إلى الغسل، فكون الإنسان يتعمد أن يتوضأ ويغتسل ليرفع حدثه الأصغر والأكبر، فلولا إيمانه بالله جل وعلا، وأن الله رقيبٌ عليه؛ لما كان يفعل ذلك. وانظر إلى الصلاة، فكون العبد يقول وهو قائم: " الحمد لله رب العالمين "، أو يقول وهو راكع: سبحان ربي العظيم، أو يقول وهو ساجد: سبحان ربي الأعلى، أو يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، أو يقول في التشهد: التحيات لله، والرجل الذي إلى جواره لا يسمعه، فلو لم يكن مؤمناً بإله يراقبه ويعلم حتى همسات لسانه ووساوس قلبه وخواطره، فلو لم يكن مؤمناً بهذا الرب؛ لما دعا وذكر الله عز وجل سراً، في حين أن جاره في الصلاة قد لا يسمع همساته وكلماته. إذاً فالصوم من أعظم معانيه: تربية الإيمان بالله العليم الخبير المطلع على العبد في سره ونجواه: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} [طه:7] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 13 فضائل الصيام الوقفة الرابعة: فضائل الصيام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 14 خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ومن فضائل الصوم: أن خلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك. وخلوف فم الصائم هي الرائحة التي تخرج من الفم، وهي في الواقع من المعدة، لكن تخرج عن طريق الفم في آخر النهار، بسبب خلو المعدة من الطعام، وهي رائحة مكروهة للخلق؛ لكنها محبوبةٌ للخالق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} وفي صحيح مسلم: {أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك} وفي هذا دليل على أنه لا بأس أن يتسوك الإنسان بعد الزوال. وهذا هو الرأي الراجح والصحيح في المسألة؛ بل يستحب للإنسان أن يستاك بعد الزوال ولو كان صائماً، فيستاك عند الصلاة وعند الوضوء، ويستاك عند دخول المنزل، وعند الاستيقاظ من النوم إلى غير ذلك من المواضع التي يستحب فيها السواك، لأن الخلوف هذا -أولاً- ليس من الفم وإنما هو من المعدة، وثانياً: أنه أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك. وقد ورد في أثر إسرائيلي: إن الله عز وجل لما أمر موسى أن يأتي إليه، أمره أن يصوم ثلاثين يوماً فصام ثلاثين يوماً، فلما انتهى منها وجد رائحة الخلوف في فمه فكأنه أفطر أو استاك، فأمره الله عز وجل أن يصوم عشرة أيام بعدها، وقال له: يا موسى، أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك. فأتمها الله تعالى عشرة أيام، فتم ميقات ربه أربعين ليلة. المهم أن من فضائل الصوم: أن خلوف فم الصائم -وهو أمر مكروه للخلق- أطيب عند الله تبارك وتعالى من ريح المسك، وهكذا جاء في الحديث عن دم الشهيد - مع أن الدم بحد ذاته أمر مستقبح مستقذر، بل هو نجس عند أكثر الفقهاء، لكن قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشهيد يأتي يوم القيامة وجرحه يدمي، اللون لون الدم والريح ريح المسك} . ولذلك فإن بكاء المذنبين بين يدي الله عز وجل، هو من أعظم السرور لهم والقربى إلى الله عز وجل، وربما يكون-أحياناً- خيراً من كثير من العبادات والطاعات التي يدل بها العبد ويستعظمها، ويعتبر أنه فعل من جرائها شيئاً عظيماً، بخلاف المنكسرين الباكين بين يدي ربهم، فإن قلوبهم منكسرة، ولذلك ورد في أثرٍ -وإن كان ليس بالقوي- أن الله عز وجل قال لبعض رسله وأنبيائه حين قالوا: أين تكون يارب؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم من أجلي. ولهذا لا أعظم من الدعاء؛ لأن الدعاء يتحقق فيه انكسار العبد، وافتقاره إلى الله جل وعلا، وخاصةً إذا كان دعاءً عن ضرورةٍ وعن اضطرار: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ} [النمل:62] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 15 الصوم كفارةٌ للذنوب ومن فضائله: أنه كفارةٌ للذنوب ومغفرة. ولذلك قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] فالصوم فيه حسنات كثيرة، والحسنات تذهب السيئات، فكل عمل صالح فهو سببٌ في مغفرة الذنوب وستر العيوب وتجاوز الله تبارك وتعالى عن العبد، ولكن ورد في الصوم خاصةً أحاديث كثيرة: منها: حديث حذيفة المتفق عليه، بل رواه الستة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فتنة الرجل في أهله وماله وجاره تكفرها الصلاة والصوم والصدقة} أي: أن ما يحدث منك من أخطاء، سواء أكانت كلمة نابية، أم اعتداءً أم إيذاءً لأهلك أم خطأ عليهم، أم في مالك، أم في جيرانك، أو ما أشبه ذلك من الصغائر، تكفرها الصلاة والصوم والصدقة. وفي الحديث المتفق عليه -أيضاً- عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} أي: إيماناً بالله عز وجل، واحتساباً لأجر الصوم، ومعرفة بما أعد الله تبارك وتعالى للصائمين، فهو يصوم ويتوقع الأجر الذي سيعطاه على هذا الصيام، غفر له ما تقدم من ذنبه. وفي الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر} . فالصوم مكفر لما قبله بشرط اجتناب الكبائر، فإن جمهور علماء أهل السنة وجمهور علماء السلف على أن الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة؛ وإنما الصوم والصلاة وغيرها تكفر صغائر الذنوب، ولذلك قال الله عز وجل (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 16 الصوم سبب للسعادة في الدارين ومن فضائل الصوم: أنه سبب للسعادة في الدارين. ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فطره وفرحةٌ عند لقاء ربه} أما فرحة الصائم عند فطره فهي فرحةٌ دنيوية وفرحةٌ عاجلة، وهي سعادة لأن السعادة في الحقيقة هي فرح القلب، فالذين يبحثون عن السعادة لا يجدونها إلا في طاعة الله تعالى وتقواه، وهذا نموذج للسعادة. فالذي يفطر يفرح عند فطره، وفرحه يكون من وجهين: الأول: فرحه بأن الله تعالى أباح له الأكل والشرب، والنفس مجبولة على حب الأكل والشرب، ولذلك تعبدنا الله تبارك وتعالى بتركهما، كما يترك الإنسان الجماع، مع أنه يرغبه وقد ركب في طبعه وجبلته، فيتركه طاعة لله تعالى، فإذا أذن له في ذلك فرح بأنه سوف يأكل ويشرب. والأمر الآخر الذي يفرح به، وهذا فرح أعلى وأسمى من الفرح الأول: أنه يفرح لأن الله تعالى وفقه لإتمام صيام ذلك اليوم، فيفرح بإكمال هذه العبادة وإتمامها على الوجه المطلوب، فهو فرح من الوجهين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 17 الصوم سبيل إلى الجنة الفضيلة الثالثة: إن الصوم سبيل إلى الجنة. ولذلك روى النسائي بسند صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، أنه قال: {يا رسول الله دلني على عملٍ يقربني من الجنة ويباعدني من النار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك بالصوم فإنه لا مثل له} فبين أنه لا شيء يقرب العبد من الجنة ويباعده من النار مثل الصيام. بل إن في الجنة باباً خاصاً للصائمين، كما في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة باباً يقال له الريان} ولاحظ اسم الباب، فإنه يتناسب مع صفة الصائم، فإن الصائم يصيبه العطش والجوع في سبيل الله؛ فجوزي بأن يدخل من باب الريان، والجزاء من جنس العمل: {إن في الجنة باباً يقال له الريان، يدخل منه الصائمون، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد غيرهم} فهذا جزاء الصائمين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 18 الصوم شافع مشفع الفضيلة الرابعة: أن الصوم شافع مشفع في الصائم. ولذلك روى الإمام أحمد والحاكم بسند حسن، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {القرآن والصيام يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: يا رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه. ويقول القرآن: يا رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال عليه الصلاة والسلام: فيشفعان} . فالأعمال التي يعملها العبد في هذه الدنيا لا مانع أن تكون يوم القيامة أشياءً حسية تشفع للعبد، وتتكلم وتوزن إلى غير ذلك مما ورد في النصوص الشرعية، وهاهنا أثبت النبي صلى الله عليه وسلم أن الصوم يكون ذاتاً يوم القيامة يتكلم ويقول: يا رب منعته الطعام والشراب والشهوة فشفعني فيه، فيشفع الصوم في صاحبه، سواء أكان صوم فرضٍ أم كان صوم نفل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 19 الصوم جنةٌ عن الشهوات ثانياً: الصوم جنة عن الشهوات . ولذلك جاء في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الشباب بالزواج، وإذا لم يستطيعوا أرشدهم إلى الصيام، وبين عليه الصلاة والسلام أن الصوم وجاء يمنع الشهوة أن تتحرك وتبلغ مبلغها في الإنسان. فإلى الشباب الذين يشتكون من الشهوات -وهم كثيرٌ خاصة في هذا العصر المليء بالمغريات، فالشاب -مثلاً- يشتكي أنه إن خرج إلى السوق وجد النساء المتبرجات، وإن دخل البقالة وجد المجلات التي فيها صور النساء الكاسيات العاريات، وإن ركب في السيارة سمع الغناء، وإن ركب الطائرة كذلك، وإن ذهب أو دخل أو خرج وجد الشهوة والفتنة تلاحقه في كل مكان، مع ما جبل عليه وركب من الشهوة الغريزية التي تتحرك في نفس كل إنسان، ومع ضعف الرادع والوازع عند الكثيرين- إلى هؤلاء الشباب نهدي هذه النصيحة النبوية: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} وهذا طب نبوي للذين يشتكون من الشبق وشدة الشهوة، وقد جرب هذا الطب فوجد أنه علاج ناجع ودواءٌ نافع، وهو كافٍ عن غيره من العلاجات والأدوية المادية، إضافة إلى أدوية أخرى شرعية في هذا المجال. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 20 الصوم جنةٌ من النار أولاً: الصيام جنةٌ من النار. كما جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الصوم جنة يستجن بها العبد من النار} وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} . إذاً: فالصوم جنة ووقاية من النار، وكلما صام العبد بعد عن النار، فإذا كان من صام يوماً أبعد سبعين خريفاً -أي سبعين عاماً- فما بالك بمن يصوم شهراً، وما بالك بمن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وما بالك بمن يصوم أكثر من ذلك! لا شك أنه أبعد ما يكون عن النار. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 21 فضائل شهر رمضان الوقفة الخامسة: فضائل الشهر الكريم، شهر رمضان. وما سبق إنما هو فضائل الصيام فرضاً أو نفلاً، أما فضائل رمضان فهي: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 22 ليلة القدر ومن فضائل هذا الشهر الكريم: أن فيه ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر قال الله: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] وقد حسب بعض أهل العلم ألف شهر، فوجدوها تزيد على ثلاث وثمانين سنة، وقد ورد في موطأ مالك بسند مرسل، أن النبي صلى الله عليه وسلم أُري أعمار أمته فكأنه تقالها بالنسبة إلى أعمار الأمم الأخرى، فأعطي ليلة القدر، وهي خيرٌ من ألف شهر؛ تعويضاً عن قصر أعمار أمته عليه الصلاة والسلام، فإذا أدرك العبد ليلة القدر التي هي خيرٌ من ألف شهر، فمعنى ذلك أنه أدرك فضل ثلاث وثمانين سنة، وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا الله جلا وعلا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 23 في رمضان دعاء مستجاب ومن فضائل شهر رمضان: أن فيه دعاءً مستجاباً. ولذلك روى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه بسند جيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل مسلمٍ دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان} . وقد ورد في أحاديث عديدة أن هذه الدعوة عند الإفطار، فليحرص العبد عند إفطاره على أن يستجمع جوامع الدعاء ويدعو بها، وسأتحدث -إن شاء الله- عن جوامع الدعاء في الوقفات القادمة بإذنه تعالى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 24 تغلق فيه أبواب النيران ثالثاً: من فضائل شهر رمضان: أنه تغلق فيه أبواب النيران، وتفتح فيه أبواب الجنان، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجن، كما جاء في الحديث المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا جاء رمضان غلقت أبواب النيران وفتحت أبواب الجنة وصفدت الشياطين} وفي لفظ: {وسلسلت الشياطين} أي: جعلت في الأصفاد والسلاسل، بحيث لا يصلون إلى ما كانوا يصلون إليه في غيره. ولذلك تجدون أن وسوسة الشيطان وكيده وتلبيسه على الناس في رمضان أقل منه في غيره، بل إن الشيطان يخاف من رمضان كما يخاف من الأذان والإقامة فيولي، ولهذا تلاحظون -أيضاً- أنه قبل أن يدخل رمضان يبدأ الناس العصاة يستعدون للتوبة، وكثيراً ما يسأل الناس فيقول أحدهم -مثلاً-: أنا عندي مظلمة وأريد أن أخرج منها، أو عندي مال حرام وأريد أن أتخلص منه، أو عندي أمور لا ترضي الله أريد أن أتوب منها. يقولون هذا قبل رمضان، ومعنى ذلك أن الشيطان يخاف من قدوم رمضان فيضعف كيده وتأثيره، فما بالك إذا دخل رمضان، وسلسل الشيطان وصفد بالأغلال، فإنه لا يكاد يصل إلى الناس إلا في أقل القليل من الذنوب والآثام. إلا أن هناك أناسٌ أصبحت نفوسهم شريرةٌ؛ بسبب تقبلها لوسوسة الشيطان، فحتى حين يضعف تأثير الشيطان عليها فإنه يكون فيها شرٌ بذاتها، ولذلك لا تعجب أن تجد والعياذ بالله من الناس من يكون انحرافه في رمضان، فقد وقفت على أقوامٍ كان انحرافهم في رمضان، بل وربما في ليلة القدر ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، وربما اجتمع فيها أقوامٌ على لهو وشرب وغناء وزنا -عافانا الله وإياكم من ذلك- وهذا من مسخ القلوب وانسلاخها. يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن الجزء: 19 ¦ الصفحة: 25 رمضان شهر القرآن أولاً: رمضان شهر القرآن قال الله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] وإنزال القرآن فيه، يحتمل أن يكون المعنى إنزاله من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما جاء عن ابن عباس، ويحتمل أن يكون المعنى أنه ابتدأ فيه إنزال القرآن، إذ إن القرآن أول ما أنزل في ليلة تقابل ليلة القدر، وليلة القدر من رمضان، وقيل إن قوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] يعني أنزل القرآن في مدحه وفضله والثناء عليه ووجوب صيامه، لكن القول الأول أقوى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 26 رمضان شهر الصبر ثانياً: رمضان شهر الصبر. فإن الصوم نصف الصبر، والصبر جزاؤه الجنة، وكما قال الله عز وجل في القرآن: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم، حيث يحبس الإنسان نفسه عن الأكل والشرب والجماع وغيرها، طيلة هذا الشهر الكريم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 27 من أحكام الصيام الوقفة السادسة: وقفة سريعة على بعض أحكام الصيام. ولا شك أن الكلام عن أحكام الصيام يطول بل فيه مصنفاتٌ خاصة، ولذلك سأتحدث باختصارٍ وبسرعةٍ -أيضاً- عن بعض هذه الأحكام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 28 المفطرات والمفطرات هي: أولاً: الأكل والشرب والجماع. فإذا تعمد الصائم شيئاً من هذه الأشياء فإنه يفطر بإجماع أهل العلم، وهي مذكورة في القرآن الكريم، ولذلك قال الله عز وجل: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187]-أي: النساء بالجماع- {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فأجمع أهل العلم على أن الأكل والشرب والجماع، هي من المفطرات إذا تعمد الإنسان شيئاً منها، من غير إكراهٍ ولا نسيان. ثانياً: من المفطرات -أيضاً-: القيء عمداً. إفإذا استقاء الإنسان وتعمد أن يستفرغ ما في بطنه فإنه يفطر بذلك، وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: {من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه} والحديث رواه أبو داود والترمذي، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتاب حقيقة الصيام: إنه حديث صحيح. ومعنى الحديث: أن من تقيأ من غير إرادةٍ فخرج منه القيء من غير قصد فهذا لا قضاء عليه، لكن لو تعمد كأن أدخل أصبعه أو شم شيئاً عن عمدٍ ليتقيأ فإن عليه القضاء، كما أفتى بذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث. ثالثاً: ومن المفطرات بالإجماع -أيضاً-: الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت أو نفست فإنه لا يصح منها الصوم، ولذلك جاء في حديث عائشة: {كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة} فدل على أن الحائض لا تصوم ولا يصح منها ذلك. هذه هي المفطرات المشهورة، ويدخل فيها ما كان في معناها، فمثلاً: يدخل في الأكل الإبر المغذية التي يستغني بها الإنسان عن الأكل والشرب، ويدخل في الجماع -من حيث أنه مفطر- الاستمناء عمداً بأي وسيلةٍ كانت فإنه يفطر ولا شك في هذا، ولا ينبغي أن يكون في هذا خلاف. ومن أفطر، فإن كان إفطاره بالجماع في نهار رمضان؛ فإن عليه أربعة أمور: الأول: أن يمسك بقية اليوم؛ لأن هذا الفطر غير مشروع، فيمسك بقية اليوم فلا يأكل ولا يشرب شيئاً. الثاني: التوبة لأن هذا إثمٌ عظيم، فهذا العمل كبيرة من الكبائر يجب التوبة منه. الثالث: أن يقضي يوماً مكان اليوم الذي أفسده. الرابع: الكفارة، وهي عتق رقبة فإن لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يجد أطعم ستين مسكيناً، فإن لم يجد سقطت عنه الكفارة. أما إن كان فطره بغير الجماع، بأكلٍ أو شربٍ؛ فإن عليه التوبة والاستغفار، وأن يقضي يوماً مكانه على الراجح من أقوال أهل العلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 29 الفطور يستحب للإنسان أن يؤخر السحور ويعجل الفطر، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح، الذي جاء من طرق عن العباس وغيره: {لا تزال أمتي بخيرٍ ما عجلوا الفطر وأخروا السحور} ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى يقول: أحب عبادي إلى أعجلهم فطراً} وفي صحيح مسلم [[أن عائشة سئلت عن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أحدهما يؤخر الفطور ويؤخر الصلاة، والآخر يعجل الفطور ويعجل الصلاة، أيهما أفضل؟ فقالت: الذي يعجل الفطور ويعجل الصلاة أفضل]] . فيستحب للعبد أن يعجل الإفطار بمجرد ما يتيقن غروب الشمس، ويفطر على رطب، فإن لم يجد أفطر على تمر، فإن لم يجد حسا حسواتٍ من ماء، كما ذكره أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء} والحديث رواه أبو داود، وأحمد، وابن خزيمة، والترمذي، وسنده صحيح. ويستحب عند الإفطار أن يقول الصائم: الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى. وهذا هو أصح ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الإفطار، فقد رواه أبو داود والدارقطني، وقال الدارقطني: إسناده حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر قال: {الحمد لله، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} ولا يثبت في أدعية الإفطار إلا هذا، لكن للإنسان أن يدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 30 النية لا بد من النية في صوم الفرض، ولذلك روى أصحاب السنن، وابن خزيمة بسند صحيح، عن حفصة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل} . فلا بد أن يبيت الإنسان الصوم من الليل، أي ينوي صوم الفرض من الليل، أما النفل فيجوز بنيةٍ من الليل أو النهار، فلو استيقظت بعد طلوع الشمس -مثلاً- ثم نويت صيام اليوم، فلا بأس بذلك إذا كان نفلاً، لكن الفرض لا بد له من نية من الليل. وهاهنا أنبه إلى أمور: بعض الناس يوسوسون في النية، والوسواس في النية من أردأ وأحط أنواع الوساوس، فأنت مسلم عرفت أنه دخل رمضان، واستقر عندك نية أنك سوف تصوم جميع رمضان، وهذا يكفي. التنبيه الآخر: إن قولنا من الليل، يمتد حتى طلوع الفجر، فلو فرض أن الإنسان نام ليلةً من الليالي ولم يعلم أن الليلة من رمضان، ثم استيقظ قبل الفجر بدقائق، وعلم أن الليلة من رمضان فشرب جرعة من ماءٍ ثم صام فإن هذا يكفي، وليس معنى تبييت النية أن ينام وفي نيته أن يصوم كما يتوهمه بعض الجهال. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 31 السحور السحور أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المتفق عليه عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسحروا فإن في السحور بركة} وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر} أي: أن اليهود والنصارى كانوا لا يتسحرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأن يتسحروا لمخالفة أهل الكتاب في ذلك. فينبغي للإنسان أن يتسحر، ولو على شربةٍ من ماء إذا لم يجد غيرها أو لم يتمكن من غيرها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 32 كيف يثبت دخول رمضان أولاً: لا يثبت رمضان إلا بإكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، أو برؤية هلال رمضان، كما قال عليه الصلاة والسلام: {إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له} وفي لفظ: {فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً} ولا يتم بغير ذلك، ولهذا لا يعتمد -مثلاً- على الرؤى. وقد ذكر العراقي في طرح التثريب، أن القاضي حسين وهو من فقهاء الشافعية، جاءه رجل فقال له: يا إمام أنا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم البارحة في المنام، فقال لي: إن الليلة من رمضان. -انظروا تلبيس الشيطان، وانظروا كيف يكون الفقه- فقال له القاضي حسين: الذي تزعم أنك رأيته في المنام، رآه أصحابه في اليقظة وقال لهم: {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته} إي: فلا عبرة بهذا الذي رأيته في المنام، ولم يأتك رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن لبس عليك. كذلك لا يجوز للإنسان أن يصوم احتياطاً لرمضان، فمن صام آخر يومٍ من شعبان احتياطاً لرمضان فهذا لا يجوز على الراجح، أما من صامه لأنه وافق يوماً كان يصومه، فلا حرج في ذلك، كما إذا صامه لأنه يوم الإثنين -مثلاً- أو أنه يصوم يوماً ويفطر يوماً فوافق يوم صومه، فلا حرج في هذا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 33 رخص الصوم الوقفة السابعة: رخص الصوم. فإن في الصوم رخصٌ عديدة رخص الله تبارك وتعالى فيها لنا، منها: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 34 جواز الفطر في السفر ومن الرخص: أن المسافر له أن يتمتع برخصة الله تعالى له في الفطر، فإن كان الصوم يشق عليه فالفطر أفضل له، حتى ولو كان مسافراً في سيارة مكيفة، أو مسافراً في طائرةٍ -مثلاً- أو غير ذلك، فإنه يجوز له أن يترخص برخص السفر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 35 صحة صيام الجنب ومن الرخص -أيضاً-: أن من أصبح جنباً فإنه يصوم ولا شيء عليه. فمن أتى أهله أو احتلم في الليل، ثم طلع عليه الفجر قبل أن يغتسل، فالصحيح في ذلك أنه لا شيء عليه، ويصوم ويغتسل بعد ذلك، وينوي الصيام وهو جنب ولا حرج في هذا؛ خلافاً لما أفتى به أبو هريرة أول الأمر، فإن هذا كان ثم نسخ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 36 السواك بعد الزوال والمضمضة والاستنشاق من الرخص: السواك بعد الزوال -كما أسلفت- بل هو مستحب في مواضعه، ومن ذلك أيضاً المضمضة، والاستنشاق للصائم، ولكن يستحب ألا يبالغ فيها، لحديث لقيط بن صبرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} وفي بعض الروايات: {وبالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً} فيتمضمض الصائم ويستنشق للوضوء ولغيره، لكن لا يبالغ فيهما خشية أن يصل شيء من الماء إلى حلقه فيفطر بذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 37 الأكل والشرب نسيانا ً من أكل أو شرب ناسياً، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: {من أكل أو شرب ناسياً فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه} والراجح عند جمهور العلماء، أن من أكل أو شرب ناسياً فصومه صحيح ولا قضاء عليه، خلافاً لـ مالك رحمه الله؛ لكن ينبغي أن ينتبه إلى أنه لو فطن وفي فمه شيء فإنه ينبغي أن يلفظه ولا يتمه، فبعض الناس من العوام يتناقلون قصة الرجل الذي كان معه شيء من العنب فأكله وهو صائم ناسياً، فلما بقي له حبة تذكر أنه صائم فقال: إذا لم يفطرَّ هذا الكثير فهذه الحبة الواحدة لن تفطَّر فأكلها. وهذا المسألة اختلف فيها أهل العلم، فبعضهم قال: أفطر بها، وبعضهم قال: لم يفطر لأنه جاهل. والصحيح أنه يفطر بذلك، فإذا تذكر وفي فمه شيء وجب أن يلفظه، وكذلك إذا رآه إنسانٌ يجب عليه أن يعلمه؛ لأن هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأيت من يأكل أو يشربُ في نهار رمضان ناسياً، فقل له: أنت صائم أو نحن في رمضان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 38 أخطاء الصائمين الوقفة الثامنة: أخطاء الصائمين ومثالبهم. ولا شك أن الصائمين من أفضل العباد، لكن مع ذلك لا بد من التنبيه على بعض الأخطاء التي يقع فيها الصائمون: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 39 سوء الخلق ومن مثالب الصوام: سوء الخلق. فإن كثيراً من الصائمين يصبح عنده سوء في خلقه بسبب امتناعه عن الأكل والشرب، فيغلظ على أهله ويقسو عليهم، وكذلك إن كان موظفاً يغلظ ويقسو على من يليه، ويعاملهم بأسلوبٍ فظٍ غليظ، ويستخدم ألفاظاً نابية لا تليق. والرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا، كما في الحديث المتفق عليه: {الصوم جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم} فأرشدك إذا كنت صائماً إذا سبك أحدٌ أو شتمك ألا ترد عليه، بل تقول له: إني صائم. فما بال بعض الناس إذا صاموا عكسوا القضية، فربما يكون الواحد منهم في غير الصوم هادئاً وديعاً خلوقاً، لكن إذا صام اشتدت أعصابه وتوترت، وأصبح يرمي بالعبارات النابية الغليظة هنا وهناك، لأهله وأولاده وجيرانه وزملائه إلى غير ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 40 اتخاذ رمضان فرصة للكسل ومن مثالب الصوام: أن بعضهم يتخذ رمضان فرصةً للكسل والخمول ويحتج بأنه صائم. ونحن نجد أن المسلمين الأُول كانوا عكس ذلك، فكثير من المعارك الإسلامية الشهيرة كانت في رمضان، ولم يكن الصيام فرصةً للنوم، وبعضهم يحتجون في ذلك بأحاديث ضعيفة مثل: {نوم الصائم عبادة} ولو فرض أنه صحيح فإنه لا يدل على ما ذهبوا إليه، فالحقيقة أن الصائم ينبغي أن يعود نفسه على النشاط والإقدام والقيام بالأعمال الصالحة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 41 المبالغة في تناول الأطعمة وأخيراً: من مثالب الصائمين: المبالغة في تناول الأطعمة. فإننا نجد أن كثيراً من الناس يستعدون لاستقبال رمضان بألوان المطعومات والمشروبات، ويعدون لسحورهم وفطورهم وعشائهم، من أطايب الطعام ما لا يعرفه الناس في غير رمضان، وهذا لا شك أنه يتنافى مع الحكمة الأساسية من مشروعية الصيام، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها أحد المصنفين وهو يوبخ الناس، فيقول لهم: "إنكم تأكلون الأرطال، وتشربون الأسطال، وتنامون بالليل ولو طال، وتزعمون أنكم أبطال". وهذا في الواقع حكاية الحال التي يعيشها كثير من الجهال فالإنسان عليه أن يكون مقتصداً في أكله وشربه في رمضان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 42 الإقبال على العبادة في رمضان وتركها فيما سواه فمن ذلك أن كثيراً من الناس يقبلون على العبادة في رمضان ويدعونها في غيره، ولذلك تمتلئ المساجد في رمضان، بل من المؤسف جداً أن المساجد تمتلئ في وقت المغرب خاصةً، ثم يقلون حتى إن آخر رمضان يصبح مثل غيره من الشهور تقريباً، وهذا أمر خطير ويجب على الأئمة والدعاة والوعاظ أن ينبهوا الناس إليه، ويستغلوا فرصة خروجهم من بيوتهم ومخابئهم إلى المسجد؛ لينبهوهم إلى خطورة مثل هذا العمل وفداحة أمر التهاون بالصلاة، التي قال عنها الرسول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} فمن الأخطاء أن بعض الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان، ويهجرون العبادات في غير هذا الشهر الكريم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 43 الصوم عما أحل الله والفطر على ما حرم الله من الأخطاء: أن بعض الناس يصومون عما أحل الله ويفطرون على ما حرم الله، فيصومون عن الأكل والشرب والجماع، لكنهم يرتكبون أشياء محرمةً، مثل الغيبة والنميمة وشهادة الزور والكذب، والسب والشتم وغيرها من المحرمات، سواء أكانت قوليةً أم فعلية. وهذا لا شك أنه انتكاس في مفهوم الصيام؛ لأن الصوم تربية، وليس من المعقول أن يربيك الله تعالى على ترك بعض المباح، ثم تذهب لترتكب أشياءً محرمةً في الصوم. ولذلك ذهب بعضهم إلى أنه يفطر بذلك؛ لكن الصحيح أنه لا يفطر بذلك، والحديث الوارد في هذا ضعيف، وهو قصة المرأتين اللتين غلبهما الصيام فجيء بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما: {قيئا فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال عليه الصلاة والسلام: إن هاتين أفطرتا على ما حرم الله وصامتا عما أحل الله} هذا الحديث لا يصح، وقد احتج به ابن حزم وغيره على أن الغيبة والنميمة تفطر وهو حديث ضعيف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 44 التركيز على الفوائد الدنيوية ومن الأخطاء التي يقع فيها كثير من الناس، خاصةً المتحدثين عن الصيام: أنهم يركزون في حديثهم على الفوائد الدنيوية للصوم، فيتكلمون -مثلاً- عن أثر الصوم في حفظ الصحة، ويأتون بالحديث الضعيف: {صوموا تصحوا} أو أثر الصيام في حفظ الجسم وفي الحمية، أو أثر الصيام في تحقيق سعادة دنيوية، وينسون ضرورة تنبيه الناس إلى أثر الصيام في الدار الآخرة، وضرورة أن يعلم الناس أن الصوم عبادة، سواء أكانت تضرك أم تنفعك، فأنت ينبغي أن تصوم حتى لو فرض جدلاً أن الصوم يضرك، فتصوم طاعةً لله جل وعلا. ولذلك إذا كان الإنسان يخوض المعركة وقد تذهب روحه في سبيل الله تعالى ولا يفطر؛ لأن هذه طاعة وعبادة وقربة، فليس المقصود أن الإنسان يصوم حتى يصح جسمه، أو يسلم من الأمراض والآفات والعاهات، أو يحصل على سعادة عاجلة، وإن كانت هذه الأمور كلها تأتي تبعاً، لكنه يصوم طاعة لله عز وجل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 45 وقفة مع بعض الأحاديث الضعيفة الوقفة التاسعة: وقفة مع بعض الأحاديث الضعيفة التي يتداولها الناس في رمضان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 46 صوموا تصحوا ومن الأحاديث الضعيفة حديث {صوموا تصحوا} فإن هذا الحديث -أيضاً- لا يصح، رواه ابن عدي والطبراني في معجمه الأوسط، وهو حديثٌ ضعيف، بل لعله ضعيف جداً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 47 حديث سلمان في استقبال رمضان ومن أكثر الأحاديث شهرة، وهي أحاديثٌ لا تصح: حديث سلمان الفارسي المشهور، الذي يقرأ به الناس في الدروس والكتب، وهو حديثٌ طويلٌ في استقبال شهر رمضان، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {أتاكم شهر رمضان إلى قوله: قد أظلكم شهر عظيمٌ مبارك، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعاً، من أتى فيه بخصلةٍ من الخير كان كمن أدى فريضةً فيما سواه، ومن أدى فريضةً فيه كان كمن أدى سبعين فريضةً فيما سواه، وهو شهرٌ أوله رحمه وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار. إلى آخره} فهذا الحديث -أيضاً- لا يصح، بل هو ضعيف في سنده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف، بل قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وكذلك نقل غيره تضعيفه عن أئمة آخرين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 48 نوم الصائم عبادة فمن هذه الأحاديث حديث: {نوم الصائم عبادة} وقد رواه ابن مندة عن ابن عمر، ورواه البيهقي عن عبد الله بن أبي أوفى، وهو حديث ضعيف ضعفه الحافظ العراقي في تخريج إحياء علوم الدين، فهو حديث لا يصح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 49 من أفطر يوماً من رمضان بغير عذر ومن الأحاديث الضعيفة -أيضاً- حديث: {من أفطر يوماً من رمضان بغير عذرٍ لم يجزه صيام الدهر كله ولو صامه} وهذا حديث مشهور على الألسنة، رواه البخاري تعليقاً، ورواه الأربعة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، من طريق أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة، وهو حديثٌ ضعيف فيه ثلاث علل: الأولى: أبو المطوس مجهول، الثانية: احتمال الانقطاع بينه وبين أبي هريرة، الثالثة: فيه اضطراب. فالحديث ضعيف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 50 الوقفة العاشرة وهي أن ثمة موضوعات رمضانية في طائفةٍ أخرى من القضايا، مثل: قيام رمضان، والتراويح، والعمرة، والعشر الأواخر من رمضان، وكذلك العيد، والدعاء في رمضان والنفقة، وما أشبه ذلك، وهذه سوف أفرد لها جلسة في الأسبوع القادم -إن شاء الله- في مثل هذه الليلة بعد صلاة التراويح. نسأل الله أن يلحقنا وإياكم خيراً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 51 فضل قراءة القرآن الوقفة الحادية عشرة: هي مع قول الله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] . فعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول ألم حرف، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف} رواه الترمذي وهو حديث صحيح. وعن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} رواه مسلم. وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الماهر في القرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران} . وقد أمر الله عز وجل بتلاوة كتابه، وبين أن هذا دأب الصالحين السابقين، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر:29-30] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 52 أخطاء الناس في قراءة القرآن وحول موضوع القرآن ورمضان، أريد أن أشير إلى بعض الملاحظات الجوهرية. فمن الملاحظات: أن بعض الناس يظنون أن ختم القرآن مقصود لذاته، فيهذ الواحد منهم القرآن هذ الشعر، لا يقف عند معانيه ولا يتدبره ولا يتخشع، ولا يرق قلبه عند معاني القرآن الكريم، إنما يهذه هذاً، وهمه الوصول إلى آخر السورة، أو الوصول إلى آخر الجزء، أو أن ينتهي من قراءة القرآن الكريم، ولا شك أنه ليس لهذا نزل القرآن، فإن الله يقول في القرآن نفسه: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه} [ص:29] . إذاً: المقصود هو التدبر والاتعاظ والاعتبار قال الله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] ويقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] فمن الخطأ الكبير أن بعض الناس يهمه أن يهذَّ القرآن هذاً ويختم، وإذا سمع هذه الآثار عن السلف أنهم ختموا في كل يوم مرةً أو في كل يومين مرة، قال: لا بد أن أقتدي بهم، فأصبح يهذُّ القرآن هذاً، لا يقف عند معانيه ولا يتدبره، ولا يخرج الحروف من مخارجها، ولا يعطي الأحكام التجويدية حقها، وهمه أن يختم القرآن، ولا شك أن ختم القرآن ليس مقصوداً لذاته، ولا شك أن كون الإنسان يقرأ بعض القرآن أو جزءاً أو سورةً منه، بتدبر وتفكر وتمعن خير من أن يقرأ القرآن كله دون أن يفهم منه شيئاً. وقد ثبت في موطأ مالك -رحمه الله- أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه جلس في تحصيل سورة البقرة عشر سنوات، فلما أتمها، نحر بدنة. هل ترى أن ابن عمر رضي الله عنه جلس عشر سنوات يتحفظ سورة البقرة؟ كلا! فإن صبيان الكُتَّاب عندنا يحفظون القرآن كله في سنة أو في سنتين، فلم يكن ابن عمر بحاجة إلى أن يجلس عشر سنين يحفظ سورة البقرة. إنما كان رضي الله عنه عشر سنين يحفظ السورة ويتعلم أحكامها ومعانيها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامها، ويقف عندما ورد فيها، وهذا هو الذي جعله يستغرق في ضبطها عشر سنين. الملاحظة الثانية: أنه في بعض البلاد يوجد عادات شكلية حول قراءة القرآن، ومن ذلك مصر. فمثلاً: عندهم -خاصةً في الماضي وربما اندرست هذه العادة الآن- عادة يسمونها المساهر، حيث يجلسون في رمضان خاصةً بعد صلاة التراويح إلى السحور، فيأتي ذوو اليسار والغنى الذين أوجد الله عليهم ورزقهم، فيستأجرون قارئاً يقرأ لهم القرآن في بيوتهم، فيجتمع الناس على هذا القارئ، ويرفعون أصواتهم بعد قراءة كل آية بلفظ الجلالة -الله الله- أو الله يكرمك، ربنا يكرمك ويعطونه من هذه الدعوات، ويرفعون أصواتهم بهذه الصيحات، ولا شك أن هذا مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم لعدة أمور: أولاً: قراءة القرآن بالأجر لا أصل لها، وهذا الذي يقرأ بالأجر الدنيوي ليس له أجر عند الله تعالى مادام قصده من القراءة الأجر من الناس. ثانياً: أن جمع الناس بهذه الطريقة لا تتم به الفائدة، فإن الأصل أن يقرأ الإنسان وحده ليتدبر ويخشع ويتمعن، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم -في السبعة الذين يظلهم الله في ظله- قال: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} . ثالثاً: أن رفع الأصوات عند قراءة القرآن ليس من عادات المؤمنين، ولا يجوز ولا يسوغ، فإن الله عز وجل قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] صحيح أنهم لا يرفعون أصواتهم عند القراءة، إنما يرفعونها بعد ما يسكت، لكن أيضاً هذا فيه سوء أدب مع القرآن، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه يفعلونه، ففي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ عبد الله بن مسعود: {اقرأ عليَّ القرآن. قال: قلت يا رسول الله! أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. فقرأ عليه سورة النساء حتى وصل إلى قول الله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، يقول ابن مسعود: فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان} صلى الله عليه وسلم. هذا هو الخشوع والتأثر بالقرآن، وهذا هو الاعتبار والأدب الواجب مع قراءة القرآن. ومن الأشياء التي تحتاج إلى وقفة فيما يتعلق بالقرآن الكريم: ما يسمى عند الناس اليوم بالختمة، وقد تحدثت عنها في مناسبات أخرى؛ لكن في هذا المناسبة أذكرها، فإن الناس في هذا -كما يقال- طرفان ووسط، وأعني بالختمة: إتمام قراءة القرآن في صلاة التراويح والقيام، ثم الدعاء المعروف، فمن الناس من يقول: هذه بدعة ولا يفصل، ومن الناس من يقول: الختمة سنة ويعمل بها -أيضاً- دون تفصيل. والذي أراه صواباً أنه لا بد من التفصيل في ذلك، فأقول: أولاً: إتمام قراءة القرآن الكريم في صلاة التراويح والقيام مشروع، كما سبق. ثانياً: الدعاء عند ختم القرآن الكريم -أيضاً- مشروع، وقد ثبت من حديث جابر عند أحمد وأبي داود، ومن حديث عمران بن حصين عند الطبراني، وهما حديثان صحيحان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا القرآن وادعوا الله به} وفي لفظ: {وسلوا الله به، فإنه يأتي قوم يتعجلون أجره ولا يتأجلونه} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقرأ القرآن ونسأل وندعو الله به. إذاً: فالدعاء عند ختم القرآن مستحب، وفي سنن الدارمي بسند جيد أن أنساً رضي الله عنه [[كان إذا ختم القرآن الكريم جمع أهل بيته فدعا بهم]] . ثالثاً: هذا الدعاء الذي يقال عند ختم القرآن الكريم ينبغي أن يكون في صلاة الوتر، سواء في التراويح أو في القيام، وذلك لأن الوتر هو المكان الذي ثبت شرعاً أنه مكان للدعاء، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو، ويقنت في وتره، وعلَّم الحسن كما في سنن الترمذي بسند حسن، أنه صلى الله عليه وسلَّم علمه أن يقول: اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخر الدعاء المعروف. فالسنة في الدعاء أن يكون في الوتر، قبل الركوع أو بعده، فكلاهما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان أكثر دعائه صلى الله عليه وسلم بعد الركوع. رابعاً: هذا الدعاء لا مانع من إطالته بمناسبة ختم القرآن، بمعنى أن يضاعف الإنسان الدعاء بمناسبة ختم القرآن، ويضيف أدعية تتعلق بالقرآن الكريم، مثل قول بعضهم: اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن الكريم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل القرآن لنا شفيعاً إلى آخر الأدعية الخاصة بالقرآن، وهذه مناسبة جيدة، أن يختار الإنسان أدعية تتعلق بالقرآن الكريم. أما الدعاء الشائع عند الناس الذي يبدأ عندهم بقوله: صدق الله العظيم الذي لم يزل عليماً قديراً إلى آخر الأدعية التي تبدأ عندهم بصدق الله العظيم، صدق الله، ومن أصدق من الله قيلاً، أو صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ما قال ربنا من الشاهدين، ولما أوجب وألزم غير جاحدين. فهذه لا أصل لها، والأولى بالإنسان أن يتجنبها، خاصةً وقد انتشرت عند الناس حتى ظن بعضهم أنها من السنن، فلو تركها أحد لأنكروا عليه وقاموا في وجهه، وقالوا: لقد خالفت السنة!! وليس لها أصل صحيح. ومما يدخل في المنع: أن بعض الناس يزيد في دعاء ختم القرآن مواعظ وأذكاراً تتعلق بذكر القبر وما يقع فيه من عذاب، وكذلك ذكر الصراط والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار وما يقع فيها، ولا شك أن هذا ليس محله، وهو من الاعتداء المنهي عنه، وربما أوصل بعضهم إلى أن تبطل صلاته، لأن بعضهم يحول الدعاء إلى موعظة ويخاطب المصلين بالخطاب المباشر، وهذا يبطل الصلاة بلا شك. فينبغي أن يفرق بين هذا وهذا، فمن يقول: إن الختمة بدعة أو الختمة سنة، كلاهما ينبغي أن لا يتسرع في إطلاق هذه الكلمة، بل لا بد أن يفصل ويبين ما يكون سنة وما ليس بسنة، مع أن الأمر لا ينبغي التشديد فيه -فيما يظهر لي- حتى إن الذين يقرءون دعاء الختمة في التراويح، أعني في صلاة ثنائية في غير الوتر، يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقنت في صلاة الفجر، كما ثبت عنه مرات، وثبت عنه القنوت في غير صلاة الفجر، في صلاة الظهر والعصر والعشاء في أحاديث كثيرة، فيقولون هذا من هذا، وإن كان هذا لا يقاس عليه، والعبادات ليس فيها مجال للقياس، ولذلك لا أصل للدعاء في صلاة ثنائية فيما أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 53 أسباب اعتناء الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان بالقرآن قراءة القرآن الكريم هي التجارة الرابحة التي لا تبور، وهذا في جميع الدهور وعلى مدى الأيام والشهور؛ لكنه في رمضان خاصة له وضع آخر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتني بالقرآن في رمضان أكثر مما يعتني به في بقية شهور العام، وذلك لأسباب: أولها: أن ابتداء نزول القرآن كان في رمضان، أي أن الليلة التي نزل فيها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَق * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَم} [العلق:1-4] كانت في رمضان، في الشهر الذي هو في الحقيقة شهر رمضان، وقد جاءت قصة نزول جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد يتحنث -وهو التعبد- قبل أن ينزع إلى أهله، ثم ينزع إلى أهله ويتزود لمثلها، حتى جاءه الملك فقال له: اقرأ. فقال: ما أنا بقارئ، قال عليه الصلاة والسلام: فأخذني فغتني أو فغطني -يعني ضغطه- حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بقارئ، -أي: أنا لا أحسن القراءة، لأنه كان أمياً عليه الصلاة والسلام- ثم فعل به ذلك ثلاثاً، ثم أرسله فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة ترجف بوادره، يقول: زملوني زملوني، فزملوه وغطوه حتى سكن ما به، ثم أخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق} . ثم انطلقت به إلى ورقة بن نوفل وكان امرءاً تنصر في الجاهلية، فهو يقرأ من الإنجيل بالعبرانية، ويكتب ما شاء الله أن يكتب، فأخبره الخبر، فقال: هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك. قال: أو مخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزرا. ثم لم يلبث ورقة أن مات، وفتر الوحي فترة} فهذه الحادثة كانت في رمضان على ما ذكره ابن إسحاق، وأبو سليمان الدمشقي، كما نقله ابن الجوزي في كتابه: زاد المسير في علم التفسير. إذاً: فأول آيات أنزلت من القرآن الكريم كانت في رمضان، وعلى هذا حمل بعض أهل العلم قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] أي: ابتدأ إنزاله، ويحتمل -أيضاً- أن يكون هذا هو معنى قوله عز وجل: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] وفي الآية الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان:3] فهي ليلة القدر وهي من رمضان. السبب الثاني: في أن عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان تتضاعف: أن رمضان هو الذي أنزل فيه القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما جاء ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وأطبق عليه السلف، أن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في السماء الدنيا في رمضان، وفي ليلة القدر، ثم كان ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم منجماً بحسب الوقائع والأحوال والملابسات، كما هو معروف في أسباب النزول، ولذلك جاء عن جابر رضي الله عنه أنه قال: [[إن صحف إبراهيم أنزلت في أول يوم من رمضان، وإن التوراة أنزلت على موسى بعد مضي ستة أيام من رمضان، وإن الزبور أنزل على داود بعد مضي اثني عشر يوماً من رمضان، وإن الإنجيل أنزل على عيسى بعد مضي ثمانية عشر يوماً من رمضان، وإن القرآن أو الفرقان أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم بعد مضي أربعة وعشرين يوماً من رمضان]] وقد نقل هذا المعنى عن جماهة من الصحابة، كـ واثلة بن الأسقع، وعائشة رضي الله عنهما وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً وموقوفاً، ونقل أيضاً أن الحسن بن علي رضي الله عنه، لما قتل أبوه رضي الله عنه قال: [[لقد قتلتم رجلاً في ليلة أنزل فيها القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ورفع فيها عيسى إلى السماء، وقتل فيها يوشع بن نون، وتيب فيها على بني إسرائيل]] والآثار في ذلك عن السلف كثيرة جداً، خلاصتها أن القرآن الكريم أنزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر في رمضان. السبب الثالث: -لتضاعف اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان-: أن جبريل كان يأتيه في رمضان فيدارسه القرآن كل ليلة، كما في الحديث الذي رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان يلقاه في كل ليلة، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وفي العام الذي توفي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم عارضه جبريل بالقرآن مرتين} فقد خصص جبريل عليه السلام شهر رمضان من الحول؛ لينزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ليلة فيتدارس معه ما أنزل من القرآن، أي من الحول إلى الحول، فكان رمضان فرصةً لمراجعة ما سبق نزوله من رمضان الماضي إلى رمضان الحاضر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن فيقرأ النبي صلى الله عليه وسلم وجبريل يستمع إليه، ويتم من خلال هذه العرضة إثبات ما أمر الله بإثباته، ونسخ ما أمر الله بنسخه: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَاب} [الرعد:39] . كما أنه قد يكون من ضمن ذلك شرح معاني القرآن ومدارستها بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين جبريل، ومن هذا أخذ أهل العلم مشروعية ختم القرآن في رمضان، لأن جبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم كانا ينهيان ما سبق نزوله من القرآن الكريم، وفي آخر سنة تم ختم القرآن مرتين من خلال المعارضة والمدارسة بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على أنه يستحب للمسلم أن يقرأ القرآن الكريم في رمضان مرةً أو أكثر، بل إن السنة للإنسان أن يختم القرآن في كل شهر مرة، بل إن استطاع في كل أسبوع مرة، بل لو استطاع أن يختم القرآن في كل ثلاث ليال لكان مستحباً له ذلك، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان السلف رضي الله عنهم يخصصون جزءاً كبيراً من رمضان لقراءة القرآن، حتى قال الزهري رحمه الله: إذا دخل رمضان فإنما هو قراءة القرآن وإطعام الطعام، وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل رمضان ترك قراءة الحديث، وأقبل على قراءة القرآن الكريم من المصحف. ونقل عن جماعة من السلف كـ النخعي، والأسود وغيرهم، أنهم كانوا يختمون القرآن في كل ثلاث ليال مرة، فإذا دخل رمضان ختموه في كل ليلتين مرة، فإذا كان في العشر الأواخر ختموه في كل ليلة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 54 القيام الوقفة الثانية عشرة: هي مع القيام. فكما أن رمضان شهر الصيام فهو شهر القيام، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] ويقول عز وجل في صفة عبادة المحسنين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] . ولذلك ثبت في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} وفي سنن الترمذي بسند صحيح، عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: {لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة سمعت الناس يقولون: جاء محمد جاء محمد، وانجفل الناس إليه -أي هرعوا وركضوا وأسرعوا إليه، وكان عبد الله بن سلام يهودياً لم يسلم بعد- قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فنظرت في وجهه، فلما استثبت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب. قال: فسمعته يقول: يا أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} . وفي رمضان خاصة قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه من حديث أبي هريرة -: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بأصحابه، كما ثبت ذلك من حديث عائشة في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ليلة فصلى رجال بصلاته، فلما كان من الليلة الثانية كثر الناس فصلوا بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان من الليلة الثالثة أو الرابعة كثر الناس حتى عجز المسجد عن أهله، فلم يخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى أصبح ثم قال لهم: قد عرفت مكانكم، ولكنني خشيت أن تفرض عليكم، ما منعني من الخروج إليكم إلا أنني خشيت أن تفرض عليكم، فصلوا -أيها الناس- في بيوتكم} فثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه صلاة القيام في رمضان ليلتين أو ثلاثاً. وكذلك حديث أبي ذر، الذي رواه أهل السنن وسنده صحيح، قال: {لم يقم بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى بقي سبع ليال، فصلى بنا حتى كان ثلث الليل، فلما كان من الليلة الثانية لم يصل بنا، فلما كان من الليلة الثالثة صلىَّ بنا حتى مضى شطر الليل، فقلنا: يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: لو صليت بنا بقية الليلة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة. ثم قام بهم بعدها صلى الله عليه وسلم الليل كله، قال: حتى خشينا أن يفوتنا الفلاح} والفلاح هو السحور، يعني صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى خشوا أن يفوتهم السحور. وهاهنا في موضوع قيام الليل في رمضان خاصة، لنا عدة ملاحظات: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 55 عدد صلاة التراويح الأولى: حول عدد التراويح، فالناس مختلفون اختلافاً كثيراً من إحدى عشرة إلى تسع وأربعين ركعة، وما بين ذلك، اختلافات طويلة عريضة في عددها، ولا يعنينا ذكر هذه الاختلافات، إنما يهمنا أمور: منها: كم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أصح ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: {ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة} فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي إحدى عشرة ركعة، لكن يطيلها ويحسنها، ويطيل القراءة والركوع والسجود عليه الصلاة والسلام. ثم ما الذي فعله الصحابة رضي الله عنهم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فإنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ زال الخوف أن تفرض صلاة التراويح والقيام على الناس، فأمر عمر رضي الله عنه المسلمين أن يجتمعوا على الصلاة، حيث دخل المسجد فوجدهم أوزاعاً، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرجل والرجلان والرهط، فرأى عمر أن يجمعهم على إمام واحد، فأمر أبي بن كعب وتميم بن أوس الداري أن يصليا بالناس، فصليا بهم، فيا ترى كم صلاة تميم بن أوس وأبي بن كعب؟ ورد في ذلك روايتان كلتاهما صحيحة، وهما من طريق السائب بن يزيد. الرواية الأولى: أن عمر رضي الله عنه أمرهم أن يصلوا بالناس إحدى عشرة ركعة. والرواية الثانية: أن تميم بن أوس وأبياً قاما بالناس بإحدى وعشرين ركعة، وفي رواية بثلاث وعشرين ركعة. ورواية إحدى عشر ركعة في موطأ مالك وسندها صحيح، ورواية إحدى وعشرين في مصنف عبد الرزاق وسندها صحيح، ورواية ثلاث وعشرين في سنن البيهقي وسندها صحيح. إذاً: ما هو المخرج من ذلك؟ بعض أهل العلم حكموا على رواية إحدى وعشرين وثلاث وعشرين بالشذوذ، لكن لا داعي لهذا؛ لأن الجمع بينها ممكن، فنجمع بين رواية إحدى عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين، بما جمع بينها الحافظ ابن حجر رحمه الله قال: إنه يحمل على التنوع والتعدد بحسب الأحوال وحاجة الناس، فأحياناً كانوا يصلون إحدى عشرة ركعة، وأحياناً إحدى وعشرين، وأحياناً ثلاثاً وعشرين، بحسب نشاط الناس وقوتهم. فإن صلوا إحدى عشرة أطالوا حتى كانوا يعتمدون على العصي من طول القيام، وإن صلوا ثلاثاً وعشرين خففوها بحيث لا يشق ذلك على الناس، وهذا جمع حسن. وانقدح في نفسي جمع آخر، لعله أن يكون معقولاً أيضاً وهو أن عمر رضي الله عنه أمرهم أن يصلوا بالناس إحدى عشرة ركعة، وهذا لم تختلف الرواية فيه أن الأمر صدر من عمر بإحدى عشرة، ولكن تميماً وأبياً صليا بالناس إحدى وعشرين، أو ثلاثاً وعشرين. فالأمر بإحدى عشرة والفعل الذي حدث إحدى وعشرين، أو ثلاث وعشرين، وذلك قد يكون بناءً على أمر عرض لهما، رأيا أن المصلحة أن يصليا إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين؛ لحاجة الناس إلى ذلك، أو أن الناس يستطيلون القيام بإحدى عشرة فرأوا أن تكون إحدى وعشرين أو ثلاثاً وعشرين، ويخففون في القيام والركوع والسجود، ليكون أمكن لهم في العبادة، هذا -أيضاً- ممكن وبه تأتلف النصوص. على كل حال: سواء صلى الناس إحدى عشرة، أم إحدى وعشرين، أم ثلاثاً وعشرين، إلا أنه ينبغي أن أنبه إلى أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم من أنه لا تجوز الزيادة في التراويح على إحدى عشرة ركعة، أنه قول ضعيف جداً، وينبغي عدم الالتفات إليه، وذلك لأن الأعرابي الذي جاء يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الليل، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مثنى مثنى} والحديث في الصحيحين، وهذا الرجل ما كان يعرف صفة صلاة الليل فضلاً عن أن يعرف عددها، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مثنى مثنى} أي تسلم من كل ركعتين، ولم يحدد له في ذلك عدداً محدوداً، بل أطلق الأمر، هذا أمر. الأمر الثاني: أن النوافل المطلقة جائزة مطلقاً، ليلاً أو نهاراً، إلا في أوقات النهي، ولم يرد لها حد معلوم، فلو صلى الإنسان قبل الظهر أو بعده، أو بعد العشاء أو في الضحى، ما تيسر له لما كان ملوماً في ذلك ولا معتوباً عليه، فهذه نوافل مطلقة جماهير الأمة، بما في ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم، على أنها لا تحد بحد لا يجوز الزيادة عليه، وإن كان منهم من يقول هناك عدد أفضل من عدد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 56 الصلاة إنما شرعت لتهذيب النفوس الملاحظة الثانية في صلاة التراويح: أن الصلاة عموماً بما في ذلك النافلة، إنما شرعت لتهذيب النفوس، وتصفية القلوب وتطهيرها من الحقد والحسد والبغضاء، وجعل قلوب المؤمنين متحابة متقاربة، وهذا من أعظم مقاصد العبادات، ففيها تهذيب وتطهير وتصحيح للنفوس، وهذا أمر ملحوظ، فإن العبد إذا أقبل على صلاته صفت نفسه ورق قلبه، واستغفر ربه من ذنبه، فكيف يجوز ويسوغ في منطق العقل؛ أن نجعل هذا الأمر الذي شرعه الله تعالى لتصفية القلوب وتطهير النفوس، وتحبيب المؤمنين بعضهم إلى بعض، ميداناً للخصام والتنافر والتباغض والتحاسد فيما بيننا؟! هذا يقع من بعض طلبة العلم؛ حينما يسودون الصفحات الطويلة في الخصام في صلاة التراويح، كم هي، ورد بعضهم على بعض، وهجوم بعضهم على بعض، وتشهير بعضهم ببعض، ويقع هذا عند طلبة العلم، وعند العامة في المساجد، فإذا جاء رمضان بدأ الخصام والشجار في التراويح، فمن قائل: صلِّ عشراً وآخر صلِّ عشرين، واختلفت الجماعة على الإمام، فبعضهم نريد عشراً وبعضهم يقول نريد خمساً، وبعضهم يريد أقل وبعضهم يريد أكثر، وبعضهم يقول: طول وبعضهم يقول: أسرع. وهكذا تتحول العبادة التي شرعها الله عز وجل لتهذيب النفوس والأفراد والمجتمعات وجمع الكلمة، في نفوس المسلمين المتأخرين المتخلفين في هذا العصر، إلى ميدان للتنافر والتطاحن والتباغض والتباعد، فتنعكس الآية ويضعف تأثير هذه العبادات في نفوس كثير من الناس. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 57 أهمية التوسعة في هذه الأمور الملاحظة الثالثة في موضوع التراويح: أهمية التوسعة في هذه الأمور على الناس. فإننا نعلم من هدي الإسلام أنه دين اليسر والسماحة، خذ على سبيل المثال: الحديث المتفق عليه، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وغيرهما، أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حج حجة الوداع، كان واقفاً للناس في منى لا يسأله أحد عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. قال قائل: رميت بعد ما أمسيت؟ قال: افعل لا حرج. حلقت قبل أن أرمي؟ قال: افعل ولا حرج ولم يسأل صلى الله عليه وسلم عن شيء قدم ولا أخر، من أعمال الحج مثل الرمي التي تفعل في يوم العيد، والنحر والحلق والطواف، إلا قال: افعل ولا حرج. سألوه عمن قدم الطواف؟ فقال: لا حرج، وسألوه عمن قدم الحلق؟ فقال: لا حرج، وسألوه عمن قدم النحر؟ فقال: لا حرج، لم يسأل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: لا حرج. فكان صلى الله عليه وسلم يحب التوسعة على أمته، وهذا مسلك نجده لعلماء أهل السنة عبر العصور، يكرهون المشقة على الناس، وهكذا يجب علينا في هذا العصر أن نبتعد عن المشقة على الناس في التراويح وغيرها. ومن الابتعاد عن المشقة أن يراعي الإنسان حال المأمومين، فإن كان يشق عليهم أن يصلي بهم عشر تسليمات، صلى بهم خمساً، وهذا أوفق وأقرب للسنة، وإن كان أكثرهم اعتاد على العشر وهي أخف عليهم، لأنه يشق عليهم طول الوقوف فيصلي بهم، عشر تسليمات ولا حرج في ذلك؛ لأنه ليس في صلاة التراويح حد محدود، المهم أن تكون مثنى مثنى، تسلم من كل ركعتين ولا تقرن أربعاً، ثم صل ما يناسبك، وإن كان الأصل في ذلك أن يكون العامة تبعاً لعلمائهم وأئمتهم وطلاب العلم، فليس الأصل أن العامة هم الذي يفرضون على الناس عدد الصلوات، لكن إن كان في ذلك مشقة أو اختلاف فينبغي تجنب ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 58 رمضان شهر الجهاد الوقفة الثالثة عشرة: إن رمضان شهر الجهاد. والجهاد -كما تعلمون- ذروة سنام الإسلام، وفي الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة مائة درجة، ما بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله، وأعلى ذلك الفردوس، فإذا سألتم الله؛ فسلوه الفردوس الأعلى، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تتفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن عز وجل} ففي الجنة مائة درجة هي للمجاهدين في سبيل الله عز وجل، ولذلك فإن رمضان ليس شهر النوم والكسل والبطالة، بل هو شهر الجهاد. خذ على سبيل المثال: حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعظم معركتين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كانتا في رمضان، أولاهما: معركة بدر الكبرى، فإنها كانت في شهر رمضان، ومعركة بدر هي الفرقان الذي فرق الله تعالى بها بين عهد الذل والاستضعاف، وبين عهد العزة والتمكين للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم في يوم بدر يرفع يديه إلى السماء ويبتهل إلى الله عز وجل، حتى سقط رداؤه عن منكبه، وهو يقول: {اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم نصرك الذي وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم في الأرض. حتى جاء أبو بكر رضي الله عنه من ورائه فالتزمه، ووضع رداءه على منكبيه، وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدة ربك -أي ارفق بنفسك- فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} فنصر الله تعالى رسوله والمؤمنين نصراً مؤزراً تحدثت به الركبان، وكان فرقاناً وفيصلاً بين عهد الذل والاستضعاف، وبين عهد القوة والنصر والتمكين قال الله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] . المعركة الثانية: هي معركة فتح مكة، وكانت من أخطر وأهم المعارك في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن مكة كانت مركز الجزيرة العربية، ومكان الحج والعمرة، والناس يأتونها من كل مكان، فكانت الوثنية تسيطر على مكة على مدى ثمان سنوات بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى منعوا الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية من دخول مكة وأداء العمرة، فلما ذهب عليه الصلاة والسلام إلى مكة ودخلها فاتحاً؛ دانت له الجزيرة العربية كلها. وكان فتح مكة في السنة الثامنة، وفي السنة التاسعة جاءت الوفود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من أنحاء الجزيرة العربية تبايعه على الإسلام، ولهذا يصح أن نقول: إن فتح مكة هو الوقت الذي زالت فيه غربة الإسلام، وأصبح الإسلام عزيزاً في أنحاء الجزيرة، وسقطت سلطة الوثنية في هذه البلاد. وكان فتح مكة -أيضاً- في رمضان. وهناك كثير من الفتوحات والمعارك الفاصلة في الإسلام كانت في رمضان، أذكر منها معركة عين جالوت، المعركة التي نصر الله فيها عباده المؤمنين بقيادة المماليك على التتار، وانكسر مدهم وانهزموا بعد ذلك هزيمةً منكرة لم يقم لهم بعدها قائمة. فرمضان هو شهر الجهاد، وهذا يذكرنا بأمرين: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 59 انعكاس المفاهيم في نفوس المسلمين أولهما: أن كثيراً من المسلمين اليوم انعكست هذه المفاهيم في نفوسهم، فلم يعد رمضان شهر الجهاد والعمل والتضحية. بل هو شهر البطالة والكسل والنوم، وهذا خطأ، فإن الجهاد باب واسع، فهناك الجهاد بالكلمة، والجهاد بالعلم، والجهاد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالدعوة إلى الله عز وجل وبالمال، وكل أنواع الجهاد مشروعة في رمضان وغيره، وهي في رمضان أولى من غيره. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 60 وجوب نصرة المجاهدين الأمر الثاني: أننا نعلم أن كثيراً من المسلمين الآن يحملون السلاح، مدافعين عن الحوزة ومنافحين عن الملة. يحدث هذا في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي إريتريا، وفي الفلبين، ويحدث -أيضاً- في بلاد إسلامية أخرى، وفي جميع هذه البلاد التي ذكرت، توجد أمم وطوائف من أهل السنة والجماعة، المشهود لهم بالصلاح والورع والتقوى ولزوم الجادة وصلاح المعتقد، وهم يقاتلون عدواً كافراً خاسراً، يهودياً أو نصرانياً أو شيوعياً، وهم بأمس الحاجة إلى أن يكون إخوانهم المسلمون معهم، بالدعاء وبالحماية والنصر، والمال، وبغير ذلك من الوسائل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 61 رمضان شهر الإنفاق الوقفة الرابعة عشرة: أن رمضان شهر النفقة والإنفاق. والنفقة عموماً من أعظم أسباب القرب من الله تعالى ودخول الجنة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 62 بعض مصارف الصدقة وفي موضوع الصدقة أود أن أشير إلى مصارف مهمة: المصرف الأول: مصرف المجاهدين في سبيل الله قال الله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّه} [التوبة:60] فالمجاهدون في سبيل الله هم أحد الأصناف الثمانية الذين تدفع لهم الزكاة، وقد بينت لكم أن في بلاد الأفغان وفلسطين وإريتريا والفلبين مسلمين ومجاهدين ومرابطين على الثغور، وإذا كنا لم نجاهد معهم، ولم نحمل السلاح معهم، ولم نخلفهم في أولادهم وأزواجهم بخير، فلا أقل من أن نعينهم بما تجود به أيدينا من المال، وهذه أعظم مصارف الزكاة في هذا العصر خاصة، ولذلك ينبغي دعم هؤلاء الإخوة المجاهدين، وبالأسباب والوسائل التي من الممكن أن تصل من خلالها الأموال إليهم بيسر وسهولة. ومن المصارف التي أود أن أشير إليها: الفقراء والمحتاجين من الشباب وطلاب العلم، فإنني أعلم كثيراً من طلاب العلم ­-وقد يكون بعضهم من بينكم، من بين المستمعين- من هم بحاجة إلى مساعدة إخوانهم، من لعوز، أو فقر أو حاجة أو إعسار، أو لأنهم يريدون أن يتزوجوا ولا يجدون ما يكمل لهم مهر الزواج وموؤنته، وفي ذلك إعفاف لهم وتحصين لفروجهم وإكمال لنصف دينهم، وفيه من المصالح مالا يخفى، كما أنه يعين على طلب العلم وتحصيله. وأود أن أشير إلى أن من الجهات التي تتقبل الصدقات والنفقات هي: الجمعيات الخيرية، فإذا وجدت جمعيات خيرية موثوقة، فلا بأس أن يعطيها الإنسان، لأن هذه الجمعيات تتحرى، وعندها ملفات خاصة بالأسر المحتاجة، وتعطيهم رواتب شهرية وتنفق عليهم، وفي هذا البلد أعلم أن القائمين على جمعية البر الخيرية من الناس الموثوقين المعروفين بالخير والاستقامة، والحرص على تحري وضع المال في موضعه الصحيح الشرعي، فينبغي للإنسان الذي يجد المال وربما لا يعرف مصارفه الصحيحة، أن يوكلهم في صرف هذا المال إلى مستحقيه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 63 جود النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان وفي رمضان خاصة ينبغي الإكثار من الجود اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، كما سبق في حديث ابن عباس: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان} وإنما كان جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان خاصةً أكثر لثلاثة أسباب: السبب الأول: لمناسبة رمضان، فإنَّ رمضان شهر تضاعف فيه الحسنات، وترفع فيه الدرجات، فيتقرب فيه العبيد إلى مولاهم بكثرة الأعمال الصالحات. السبب الثاني: كثرة قراءته صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان، والقرآن فيه آيات كثيرة في الحث على الإنفاق في سبيل الله، والتقلل من الدنيا والزهد فيها والإقبال على الآخرة، فيكون في ذلك تحريك لقلب الإنسان لأن ينفق في سبيل الله، وحري بكل من يقرأ القرآن أن يكثر من الصدقة في سبيل الله. السبب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلقى جبريل -كما سبق- في كل ليلة، ولقاؤه لجبريل من باب مجالسة الصالحين، ومجالسة الصالحين تزيد في الإيمان وتحث على الطاعة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من الصدقة في رمضان. وأنواع جوده صلى الله عليه وسلم لا تنحصر، والكلام في جوده يبدأ ولا ينتهي، فهو أجود الناس على الإطلاق، يتفنن صلى الله عليه وسلم في أنواع الجود، ويعطي كل من سأله، لا يرد سائلاً إلا أن لا يجد، حتى إنه صلى الله عليه وسلم قد يسأله رجل ثوباً عليه فيدخل بيته ويخرج وقد خلع ثوبه وأعطاه إياه، وحتى إنه صلى الله عليه وسلم يعطي غنما بين جبلين، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وربما اشترى الشيء فأعطى ثمنه ورده على بائعه، وربما اشترى وأعطى الثمن وزاده، وربما استسلف شيئاً فرده بأكثر وأطيب وأكبر منه، وربما أهدى وتصدق، وأعطى، وربما قبل الهدية وأثاب عليها أكثر منها وأعظم وأوفر، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأن يعطي أكثر مما يفرح الآخذ بما يأخذ، ففرحه صلى الله عليه وسلم بالعطاء أعظم من فرح الآخذ بالأخذ، حتى إنه ليصدق عليه وحده عليه الصلاة والسلام قول القائل: تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله وكان يجود صلى الله عليه وسلم بنفسه وماله، ويصفح عمن ظلمه ويعطي من حرمه، ويعفو عمن أساء إليه، وله في ذلك شيء كثير يطول ذكره عليه الصلاة والسلام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 64 الصدقة برهان الإيمان والصدقة دليل على صدق إيمان صاحبها، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث أبي مالك الأشعري، في صحيح مسلم: {والصدقة برهان} لأن النفس مجبولة على حب المال، فإذا تخلص الإنسان من الشح وحب المال وأخرج المال، دل على أنه يقدم مرضات الله تعالى ومحبوب الله تعالى على محبوب نفسه، ويتخلص من شح نفسه قال الله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] والأحاديث الواردة في الصدقة كثيرة جداً؛ لكن ينبغي أن يحرص الإنسان على أن يستتر بصدقته. ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الطبراني بسند حسن -كما يقول الدمياطي في المتجر الرابح- عن أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر} فليحرص الإنسان على الاستكثار من هذه الأشياء، وعلى أن تكون صدقته سراً. ومن الخطأ أن يتصدق الإنسان بمائة ألف ريال أو بخمسمائة ألف ريال من أجل أن يكتب اسمه في الجريدة، أو يكتب اسمه في دفتر التبرعات، أو يذكر عنه أنه المحسن الفلاني، اللهم إلا أن يكون قصده أن يكون في ذلك حثاً وتشجيعاً للناس على الصدقة، وإثارة المنافسة بينهم في العمل الصالح فهذا جيد، أما إن كان القصد الرياء والقيل والقال؛ فهذا -والعياذ بالله! - خسارة الصحابة في الدنيا ووبال عليه في الآخرة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 65 الإنفاق زيادة لا نقصان يكفي أن تعلم أن هذا الإنفاق الذي ينفقه الإنسان لا ينقص من ماله بل تزيده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع أحد لله إلا رفعه} فأثبت عليه الصلاة والسلام أن الصدقة لا تنقص المال بل تزيده، وهذه الصدقة التي لا تنقص مالك هي تزيد في أعمالك وقربك من الله عز وجل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 66 الصدقة من أعظم أسباب دخول الجنة وهي من أعظم أسباب دخول الجنة، واسمع بعض هذه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى أبو كبشة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {أحدثكم حديثاً فاحفظوه: ما نقصت صدقة من مال، ولا فتح عبد على نفسه باب مسألة إلا فتح الله تعالى عليه باب فقر، ولا تواضع أحد لله إلا رفعه -ثم قال-: وأحدثكم حديثاً فاحفظوه، إنما الدنيا لأربعه نفر: رجل آتاه الله مالاً وعلماً، فهو ينفق ماله في علمه، ويتصدق، ويصل رحمه، وينفق في سبيل الله؛ فهو أفضلهم، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل. فهما في الأجر سواء. ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علمه فهو يخبط فيه ولا يتقي الله عز وجل، ولا يصل به رحمه ولا يعطي منه المسكين، فهو أخبثهم منزلةً. ورجل لم يؤته الله تعالى مالاً ولا علماً، فيقول: لو أن لي مثل مال فلان لعملت مثل ما عمل. فهما في الوزر سواء} . والحديث رواه الترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وذلك يدل على أن نية المؤمن الصادقة على الإنفاق في سبيل الله وغير ذلك من أبواب الخير، أنها تبلغه منازل العاملين، متى كانت نيةً صادقة من أعماق قلبه، وليست مجرد أمنية، ففرق بين النية والأمنية، لأن بعض الناس يقول: لو عندي، لكن لو أعطاه الله عز وجل لكفر: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة:75-77] ففرق بين الأمنية وبين النية الصادقة المبيتة الجازمة، أنه لو أعطاك الله مالاً لفعلت مثل فلان، أو لو رزقك الله علماً لفعلت به مثل فلان. وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة: {أن رجلاً من بني إسرائيل سمع صوتاً في السحاب يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان. فلما توسطت السحاب المزرعة أمطرت ما فيها، فذهب الرجل فإذا فلاح يحول الماء بمسحاته، فاستوعبت الشريجة ذلك الماء كله، فقال له الرجل: ما اسمك يا عبد الله؟ قال: اسمي فلان -بالاسم الذي سمعه في السحابة- فقال: وماذا تصنع؟ قال: وما ذاك؟ قال: سمعت صوتاً في السماء يقول: أسق حديقة فلان أسق حديقة فلان، فلما توسطت السحاب مزرعتك أمطرت. فقال: أما إن قلت ذاك، فإنني إذا أخذت ثمرة هذه الحديقة تصدقت بثلثها، وجعلت ثلثها فيها، -أي رده في بذرها وإصلاحها- وأكلت أنا وأولادي ثلثها} . فمن أجل ذلك وسع الله على هذا الرجل، وبارك له في رزقه وفيما أعطاه، حتى إن ملكاً موكلاً بالسحاب، يقول: اسق حديقة فلان اسق حديقة فلان، يخصه دون غيره من الناس، ولذلك لا تعجب إذا رأيت الناس الذين أصيبوا بالكوارث والمصائب والنكبات، إنما أتوا من قبل أنفسهم. يقول لي أحد الإخوة القضاة: إنه جاءه رجل يشتكي إليه أن صاعقةً نزلت على غنمه فأتلفت منها مئاتاً -أكثر من سبعمائة رأس- فهو يأتي للمحكمة حتى تسجل له ويعوض عنها، يقول: فقلت له ذات مرة: ما سبب هذه المصيبة التي نزلت بك؟ لعلك لا تخرج الزكاة؛ قال: فرأيت الرجل تأثر ثم خرج من عندي ولم يعد بعد ذلك، وكأن هذه الكلمة وقعت من الرجل موقعاً، وعرف أن ما أصابه بسبب ذنوبه، فلم يرد أن يأخذ تعويضاً أو مقابلاً لذلك، ولعله تاب إلى الله عز وجل، ولذلك ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على أن نتقي النار بالزكاة والصدقات والنفقات. وقد جاء في الحديث المتفق عليه عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة} وفي الحديث الآخر المتفق عليه -أيضاً-: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى النساء وعظهن وذكرهن، وقال: يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار} فبين عليه الصلاة والسلام أن الصدقة من أعظم أسباب الوقاية من عذاب النار، ولو من الحلي، ولو بشق تمرة، فيجود الإنسان بقدر ما أعطاه الله عز وجل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 67 رمضان شهر التوبة الوقفة الخاسة عشرة: رمضان شهر التوبة، وفيه يرجع العباد إلى ربهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 68 أسباب كون رمضان شهر التوبة وإنما كان رمضان شهر التوبة لأسباب: أولها: جود الله تبارك وتعالى وصفحه عن عباده في هذا الشهر، حتى إنه صح أنه لله تعالى في كل ليلة عتقاء من النار. ثانيها: أن الشياطين تصفد وتسلسل، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين} وفي لفظ: {وسلسلت الشياطين} فالعباد يقتربون إلى الله في هذا الشهر، فهو فرصة ذهبية ليتوب التائبون من ذنوبهم. أيها الأخ إذا لم تتب في رمضان فمتى تتوب؟! وإذا لم تنب في مثل هذه الساعات فمتى تنيب؟! وإذا مضت أيام عمرك ولياليك ضياعاً فلا يجوز أن يضيع منك شهر رمضان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 69 شروط التوبة إخواني الكرام: للتوبة شروط ستة لا بد من توفرها، أسردها سرداً: أولها: الإخلاص لله عز وجل، وأن تكون توبة العبد صالحة خالصة لا يشوبها مقصد دنيوي. ثانيها: أن تكون في زمن الإمكان، أي قبل أن تطلع الشمس من مغربها، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم وتغرغر، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. ثالثها: أن تكون مصحوبةً بالإقلاع عن الذنب، فلا يصح أن يدعي الإنسان التوبة وهو مقيم على المعصية. رابعها: أن يندم الإنسان على ما مضى، فإن التائب نادم، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الندم توبة} فالندم يأكل قلب التائب أكلاً. خامسها: العزم على أن لا يعود إلى الذنب مرةً أخرى، وهذه هي حقيقة التوبة. سادسها: إن كان الذنب يتعلق بحقوق المخلوقين رده إليهم، من مال أو عرض أو أي شيء. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 70 رمضان شهر الدعاء الوقفة السادسة عشرة: رمضان شهر الدعاء. والله تعالى يجيب عباده في كل وقت، وخاصةً في رمضان، فقد سبق أن الله تعالى يجيب دعاء الصائم، وللصائم عند فطره دعوة لا ترد. وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء. السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها. السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين. وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] . مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها. فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري. فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه. فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن. السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء ، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي. وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا. وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي. فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء. ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم. ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا. ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه. السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له. وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 71 من أسباب إجابة الدعاء وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء. السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها. السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين. وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] . مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها. فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري. فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه. فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن. السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي. وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا. وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي. فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء. ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم. ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا. ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه. السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له. وكذلك من أعظم موانع استجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الله تعالى يقول -كما ورد في حديث مروي من طرق-: {يا أيها الناس! مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتسألوني فلا أعطيكم} فإذا ترك الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يأمرون أنفسهم ولا أولادهم ولا جيرانهم، ولا يأمرون الناس عامةً في المجتمع، فإن الله تعالى يحرمهم من إجابة الدعاء. وأود أن أشير إلى خمسة أسباب -ذكرتها في درس بلوغ المرام- لإجابة الدعاء: السبب الأول: اختيار الزمان الفاضل، وذلك كأوقات السحر، وفي أدبار الصلوات المكتوبات، وما بين الآذان والإقامة، وفي آخر ساعة من الجمعة، وعند دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وعند الإفطار، فإن هذه من أوقات إجابة الدعاء. السبب الثاني: اختيار المكان الفاضل، وذلك كالمساجد والأماكن الفاضلة، كـ مكة وغيرها. السبب الثالث: صفة الداعي، كأن يكون الداعي مسافراً، فإن المسافر مستجاب الدعوة، وكونه أباً يدعو لولده، وكونه صائماً يدعو الله عز وجل، وكونه مقاتلاً فإن الدعاء عند التحام الصفين مستجاب، وكذلك كونه مظلوماً فإن دعوة المظلوم لا ترد، يرفعها الله فوق السحاب، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين. وكذلك كون الداعي مضطراً، ومعنى الاضطرار وحقيقته: أن يقطع العبد جميع الأسباب والوسائل إلا عن الله جل وعلا، فينقطع إلى الله تعالى بقلبه انقطاعاً تاماً، ويفوض الأمر إليه تفويضاً تاماً، وحينئذٍ يجيبه الله بلا شك ولا امتراء، يقول الله عز وجل: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] . مر موسى عليه الصلاة والسلام برجل يدعو الله جل وعلا، فقال موسى: يا رب، والله لو كانت حاجة هذا الرجل عندي لقضيتها. فقال الله عز وجل: يا موسى، أنا أرحم به منك، ولكنه يدعوني وقلبه عند غيري. فأخبر موسى الرجل، فانقطع إلى الله بقلبه، فأجاب الله تعالى دعاءه. فينبغي أن يكون الداعي على حال من الإخبات والانكسار والاضطرار، وألا يكون دعاؤه على سبيل التجربة، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} والحديث جاء بإسنادين يقوي أحدهما الآخر، فهو حديث حسن. السبب الرابع: صفة الدعاء، مثل أن يكون الداعي متوضئاً متطهراً، مستقبل القبلة رافعاً يديه، يدعو بدعاءٍ ليس فيه إثم ولا قطيعة رحم، ويكرر الدعوة ثلاث مرات، ويدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، فإن هذا من أسباب إجابة الدعاء، وأن يحرص على التزام الأدب النبوي في دعائه، وقد سبق أن تكلمت تفصيلاً عن ذلك في محاضرة عنوانها: آداب الدعاء، وكانت في مثل هذا الشهر من رمضان في العام الماضي. وأود أن أشير في موضوع الدعاء، إلى الاعتداء الذي يقع من كثير من الناس في الدعاء خاصية في هذا الوقت: فمن الناس من يعتدي في إطالة الدعاء بما لا لزوم له، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، فمن الاعتداء: أن يطيل الإنسان في الأدعية ويفصل بما لا لزوم له، فتجد بعض الناس يقول: اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وأجدادنا وجداتنا، وأخوالنا وخالاتنا، وأعمامنا وعماتنا، ثم يبدأ يعدد الأقارب، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الجيران، فإذا انتهى منهم انتقل إلى الزملاء، وهكذا. وهذا قد يستغرق عشر دقائق، وكان يستطيع أن يقول اللهم اغفر لنا ولإخواننا، ولمعارفنا ولأقاربنا ويكتفي. فهذا التفصيل الذي لا لزوم له هو من الاعتداء في الدعاء. ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بإثم أو قطيعة رحم. ومن الاعتداء: أن يدعو الإنسان بأسماء لله تعالى لم ترد في القرآن ولم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل قول بعضهم: يا غفران يا سلطان، فإن هذا ليس من أسماء الله جل وعلا. ومن الاعتداء في الدعاء: المبالغة في رفع الصوت، حيث وجد في هذا العصر مكبرات الصوت، فتجد الداعي يدعو -أحياناً- في شرق البلد فيسمعه من في غربها، وهذا لا يليق، فالداعي يدعو إن كان لنفسه سراً قال تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعبادة كلما كانت سراً كانت أقرب للصدق والخشوع والإجابة، فإن كنت تدعو لنفسك فادع سراً، أما إن كنت تدعو لغيرك -كأن تكون إماماً تدعو للناس- فادع وارفع صوتك بقدر ما يسمعه المصلون، أما أن تدعو ويسمعك من بشرق الأرض وغربها، فهذا ليس بجيد، وأخشى أن يكون هذا باباً إلى الرياء والإعجاب بالعمل فينبغي تجنبه والحذر منه. السبب الخامس: زوال المانع، فإن الله لا يجيب الإنسان الذي يأكل الحرام، كما ورد في صحيح مسلم: {ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!} فالذي يأكل الحرام من ربا، أو يأكل أموال اليتامى ظلماً، أو يأكل أموال الناس بالباطل، أو بالغش أو بالحلف الكاذب، أو ما أشبه ذلك فلا يستجاب له. وكذلك من أعظم موانع استجا الجزء: 19 ¦ الصفحة: 72 مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان الوقفة السابعة عشرة: مع الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 73 صيام النبي صلى الله عليه وسلم لعاشوراء وذلك {حين قدم المدينة فوجدهم يصومون عاشوراء، فسأل عن سبب صيامه فقيل: يوم نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه، فقال: نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه} . حتى قال جماعة من أهل العلم: إنه كان واجباً، وثبت في صحيح مسلم من حديث الربيّع أنها قالت: {كنا نصوم عاشوراء ونُصَوِّم صبياننا، حتى يبكي أحدهم على الطعام فنعطيه اللعبةً من العهن يلعب بها حتى يكون عند الإفطار، وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى القرى التي حول المدينة: من أصبح صائماً فليصم، ومن أصبح مفطراً فليتم بقية يومه فلما فرض رمضان كان يوم عاشوراء سنة من شاء صامه ومن شاء لم يصمه} . وأول ما فرض رمضان كان على التخيير، إن شاء صام وإن شاء أطعم، ثم ألزم الناس بالصيام قال الله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] وصار الإطعام للشيخ الكبير والمريض، والمرضع والحامل إذا خافتا ومن في حكمهما، لكن كان الإنسان إذا أفطر في المغرب ثم نام العشاء -مثلاً- لا يجوز له أن يأكل، وفي صحيح البخاري أن رجلاً من الأنصار كان يعمل طيلة النهار في مزرعته، فلما جاء الليل قال لزوجته: هل عندك شيء؟ قالت: لا، لكن أذهب أبحث لك، فذهبت تبحث له عن طعام فلما جاءت وجدته نائماً، فقالت له: ياخيبةً لك! لأنه نام ومعنى ذلك أنه لا يجوز له بعد نومه أن يأكل شيئاً، وكان متعباً، فلما كان في النهار أغمي على هذا الرجل لشدة الجوع والتعب والإعياء، فنزلت الرخصة، وأذن الله تعالى للمسلمين أن يأكلوا ويشربوا حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، واستقرت الشريعة على ذلك. وكانت فريضة رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات، وكان عليه الصلاة والسلام يكثر من العبادة في رمضان، حتى إنه ربما واصل اليومين والثلاثة لا يأكل خلالهما تفرغاً للعبادة، فلما واصل أصحابه قال: {إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقين} وقد تكلم الإمام ابن القيم في زاد المعاد في أول الجزء الثاني عن هذا الحديث، وفصل وبين ما معنى قوله: "يطعمني ويسقيني" بما لا داعي لذكره هاهنا لضيق الوقت، والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان ليتفرغ لعبادة ربه، وكان يكثر من قراءة القرآن، كما سبق أنه كان مع جبريل يدارسه القرآن. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 74 من أحواله صلى الله عليه وسلم في رمضان وكان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يفطر يعجل في الإفطار، فيفطر قبل صلاة المغرب ثم يصلي، وكان يؤخر السحور أيضاً، فيتسحر ثم لا يكون بين سحوره وصلاة الفجر إلا وقت يسير. وسافر النبي صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان أسفاراً، منها سفر لغزوة بدر، ومنها سفر لفتح مكة وغيرها، فربما صام وربما أفطر في سفره عليه الصلاة والسلام، ففي صحيح مسلم عن أبي الدرداء قال: {كنا في سفر، في يوم شديد الحر، وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة} وفي السنن عن ابن عباس بسند صحيح، أنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع صيام أيام البيض في حضر ولا سفر} وربما أفطر صلى الله عليه وسلم في سفره، فكان يفعل هذا تارةً وهذا تارة، وأمر أصحابه مرة بالفطر، ولما أصر بعضهم على الصيام قال: {أولئك العصاة أولئك العصاة} كما في صحيح مسلم. ومما حدث له عليه الصلاة والسلام في رمضان أنه كان يزداد جوده، كما ثبت في حديث ابن عباس كما سبق، ومن الأحكام التي بينها صلى الله عليه وسلم بفعله: أنه كان يدركه الفجر وهو جنب ثم يغتسل ويصوم كما ذكرت عائشة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 75 السواك وأحكامه الوقفة الثامنة عشرة: تتعلق بالسواك. والسواك مشروع في كل وقت، خاصة في المواضع التي ورد النص عليها، وهي ستة مواضع. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 76 مواضع السواك أولاً: عند الصلاة. ثانياً: عند الوضوء. ثالثاً: عند دخول المنزل. رابعاً: عند الاستيقاظ من النوم. خامساً: عند قراءة القرآن. سادساً: عند تغير رائحة الفم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 77 مشروعية السواك وأدلته وأدلة ذلك كثيرة ثابتة في السنة، منها: حديث أبي هريرة في الصحيحين {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي لفظ: {عند كل وضوء} . ومنها: قول عائشة وقد سئلت: {بأي شيءٍ كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك} . ومنها: قول حذيفة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام من الليل كان يشوص فاه بالسواك} . ومنها: قوله عليه صلى الله عليه وسلم: {السواك مطهرة للفم مرضاة للرب} إلى غير ذلك من الأدلة. فينبغي للمسلم أن يتعاهد السواك في كل وقت، خاصةً في هذه الأوقات، قبل الزوال وبعده، فإن القول الصحيح أن السواك مشروع للصائم قبل الزوال وبعده، عند الوضوء والصلاة، وعند دخول المنزل، وعند قراءة القرآن، وما أشبه ذلك، هذا هو القول الراجح، لأن قوله عند كل صلاة وعند كل وضوء؛ يشمل ما قبل الزوال وما بعده. أما الأحاديث الواردة في المنع كحديث علي: {استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي} فهو ضعيف، بل هو ضعيف جداً، ومثله: {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يحصى يستاك وهو صائم} فهو ضعيف أيضاً؛ لكن الصحيح أن السواك مشروع للصائم كما هو مشروع لغير الصائم، قبل الزوال وبعد الزوال. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 78 وقت المسلم في رمضان الوقفة التاسعة عشر: وقت المسلم في رمضان. ووقت المسلم عموماً ثمين، وفي رمضان خاصةً أثمن وأعظم، ولذلك فإنني أنبه على بعض النقاط المتعلقة بأوقاتنا في رمضان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 79 سهر الليل بعض الناس يسهرون الليل كله وهذا خطأ، ولابد أن يجعل الإنسان له جزءً من الليل ينام فيه، لأن نوم الليل لا يقابله شيء من نوم النهار، وساعة أو ساعتين ينامها الإنسان في الليل يعوضان البدن خيراً كثيراً، هذه ملاحظة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 80 استغلال الوقت في قراءة القرآن الملاحظة الثانية: ينبغي لكل إنسان أن يستغل وقته في قراءة القرآن. فإن كان جالساً وقرأ من المصحف فهذا حسن، وإلا قرأ من حفظه وهو ذاهب آيب، في السيارة أو مكان العمل، أو في أي مكان يكون فيه، فينبغي أن يغتنم الإنسان هذه الفرصة ويكثر من تلاوة القرآن وترديده، ويحرص على أن يختمه -إن أمكن- كل أسبوع، أو كل ثلاثة أيام، أو كل عشرة أيام، وأضعف الإيمان -وأنا أعتبر أن هذا من التفريط- أن لا يختم الإنسان في رمضان إلا مرة واحدة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 81 ضرورة تجنب مجالس اللغو الملاحظة الثالثة: تجنب مجالس اللغو. فبعض الشباب بعد التراويح، بل ربما لا يصلون التراويح، يخرجون في دورات أو في سهرات، أو يجلسون عند بعضهم، ويتبادلون أطراف الحديث، وربما يكثر عندهم الهرج والمرج، والقيل والقال، وتبادل النكت والضحك، ويبالغون في ذلك، وقد يقعون في الغيبة والنميمة وقول الزور وما أشبه ذلك، وهذا لا يليق بالمسلم عموماً خاصةً في هذا الشهر الكريم، وما بال الإنسان يحصل على شيء من الحسنات ثم يتفرغ بعد ذلك لإتلافها بالمعاصي والموبقات! الجزء: 19 ¦ الصفحة: 82 رمضان ليس فرصة للعب ومن الملاحظات: أن بعض الشباب -بل كثير منهم- يعتبرون رمضان فرصةً للهو واللعب، فتجدهم بعد صلاة الفريضة أو بعد صلاة التراويح، يذهبون في مجموعات ليلعبوا الكرة، ويجلسون على ذلك إلى وقت السحور، ويعتبرون أن رمضان إنما يفرح به لهذا، وتجدهم مستعدين بالأنوار الكاشفة وغير ذلك. وأنا لا أمنع من ذلك إذا كان بالقدر المعقول المعتدل، أما أن يكون ليل الإنسان كله في ذلك، فلا شك أن هذا من الإهمال وتضييع الوقت في أمور لا فائدة منها، ولا شك أن نوم الإنسان أفضل بكثير من ذلك، فضلاً عن أولئك الشباب الذين يسهرون لمشاهدة التلفاز، وقد يكون فيه الغناء والموسيقى، وقد يكون فيه المسلسلات الهادمة للدين والأخلاق، والتي ينبغي للشباب تجنبها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 83 نوم النهار من الملاحظات: أن كثيراً من الشباب يقضون سحابة نهارهم في النوم، فإذا كان يسهر في الليل فبعد صلاة الفجر يذهبون للتفحيط بالسيارات، وقد وجدتهم، فبدلاً من أن يجلسوا مع المسلمين في مساجدهم حتى ترتفع الشمس، ثم يصلون ركعتين، فينالون الأجر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة حيث يقول: {من صلى الفجر ثم جلس حتى تطلع الشمس وصلى ركعتين كان كأجر حجة وعمرة تامةً تامةً تامة} يذهبون فيقضون ما بعد الفجر إلى ارتفاع الشمس في التفحيط والضحك واللعب، ثم إذا ارتفعت الشمس ناموا، حتى يأتي وقت العمل أو وقت الدراسة، فيذهبون مضطرين، ثم يعودون لمواصلة النوم إلى وقت الغروب. وهذه مشكلة كبيرة ينبغي تلافيها، فإن الإنسان إذا كان مضطراً إلى أن يقضي جزءاً من نهاره في الدوام، معنى ذلك أنه لابد أن يخصص جزءاً طيباً من الليل للنوم، حتى يكون نهاره معتدلاً، فيستطيع أن يجلس ويصلي الصلوات مع الجماعة، ويبكر إلى المسجد، ويجلس بعض الوقت في النهار ليقرأ القرآن وما أشبه ذلك. وبعض الإخوة ينامون حتى في الدوام، إن كان طالباً فهو ينام في الفصل، وإن كان موظفاً فهو ينام في وقت الدوام، ولا شك أن الراتب الذي أعطي له ليس مقابل نومه على مكتبه؛ وإنما أعطي مرتبه ليخدم المراجعين، ويقوم في مصالح المسلمين، فلا يجوز للإنسان أن يقضي وقت دوامه في النوم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 84 المرأة في رمضان الوقفة العشرون: المرأة في رمضان. المرأة كالرجل في رمضان فهن شقائق الرجال، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وما يقال في الرجل يقال في المرأة، وهي مطالبة كالرجل بقراءة القرآن والصيام والقيام، والنفقة في سبيل الله والدعاء، إلى غير ذلك من الطاعات والقربات، لكن أشير إلى بعض النقاط الخاصة بالمرأة: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 85 عدم الغفلة عن الصبيان وينبغي عدم الغفلة عن الصبيان، فإن المرأة إذا ذهبت تصلي قد تغفل عن أطفالها، فقد تصيبهم آفة دنيوية من خطف لا قدر الله أو غير ذلك، وقد يضرونه، فربما يكون لعب الأطفال بعضهم مع بعض، وبينهم ناس كبار في سن الخامسة أو السادسة عشرة، وربما العشرين أحياناً، وهذه قد تكون فرصةً لبعض الخبثاء، فيروجون المخدرات ويدربون هؤلاء عليها، أو على التدخين، أو على بعض العادات السيئة، أو على اللواط أو غير ذلك، فمن الخطأ أن تشتغل المرأة أو الرجل بنافلة، ويغفلون عن فريضة وواجب في رعاية أطفالهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 86 الغيبة والحذر منها من الأخطاء التي ينبغي أن تحذر المرأة منها عموماً وفي رمضان خصوصاً: الغيبة، فإن الغيبة ذنب عظيم، بل ذكر القرطبي أن الإجماع قائم على أنها من كبائر الذنوب، قال الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 87 ضوابط خروج النساء إلى المساجد وكثير من النساء يرتدن المساجد لصلاة التراويح والقيام، وهذا أمر لا بأس به -وإن كانت صلاتها في بيتها أفضل- لكن إذا جاءت إلى المسجد لأنها تنشط، أو لأنها لا تقرأ القرآن جيداً، أو لأنها تستعين بالجماعة على القيام فلا بأس بذلك، ولكن يجب أن تأتي بالصفة الشرعية، فلا يجوز أن تخرج المرأة متعطرة متطيبة متزينة، ولا أن تخضع بالقول أو ترفع صوتها، أو تؤذي الناس بشيء من ذلك، وبعض النساء تتبخر في بعض المساجد، وهذا من الطيب الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم. كما أن رفع النساء لأصواتهن في المساجد أمر مذموم، وقد يتأذى به الرجال ويسمعونه في كثير من المساجد. وفرصة وجود المرأة في المسجد فرصة نادرة، ينبغي أن يستثمرها الأئمة والمحدثون في الكلام عن موضوعات تخص المرأة، في أحكام، وآداب، وتوجيه، وترغيب، وترهيب، فإن النساء قل ما تصل إليهن الموعظة، وخروجهن في رمضان أمر معروف مستقر، فينبغي استثماره بالحديث في موضوعات تخص المرأة وتتعلق بها، وأن يوجه الحديث إلى النساء على الأقل في بعض الأيام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 88 الحائض والنفساء في رمضان فمن ذلك أن الحائض والنفساء لا تصلي ولا تصم، ولكنها تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة، كما ثبت من حديث عائشة رضي الله عنها. ومما يخفى على بعض النساء أن إحداهن قد تستخدم حبوب منع العادة، أو منع الحمل، وهذه -وإن كنت لا أنصح باستخدامها- في كثير من الحالات تكون ضارةً بالمرأة، إلا أن بعض النساء تستخدمها رغبةً في الصلاة مع المسلمين والصيام معهم، أو لأنها تريد أن تعتمر، أو لأن عادتها تختلف وتضطرب في رمضان، فتأتي يوماً وتذهب يوماً، فتستخدم هذه الحبوب حتى تنتظم العادة وتسلم من الحرج، وربما تظن بعض النساء أنها إذا توقفت عنها العادة بسبب هذه الحبوب فإنها تقضي هذه الأيام فيما بعد، مع أنه لا قضاء عليها، فمادامت قد طهرت ثم صلت وصامت، فإنه لا قضاء عليها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 89 العمرة في رمضان الوقفة الحادية والعشرون: العمرة وفضلها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 90 ملاحظات في موضوع العمرة في رمضان يلاحظ على سلوك الناس في موضوع العمرة في رمضان ملاحظ عديدة، منها: الأولى: أن بعض الناس -خاصة من الموظفين- يأخذون ما يسمى بالإجازة الاضطرارية للذهاب إلى مكة، وهذا لا يجوز، فإن الإجازة الاضطرارية -في حسب أنظمة الموظفين- إنما تمنح للموظف في حالة اضطرار، مثل حالة وفاة لقريب، أو ما أشبه ذلك، أما أن يأخذها في أمر ليس بضرورة، مثل أن يأخذها ليعتمر فهذا ظاهره أنه محرم. الملاحظة الثانية: أن كثيراً من الناس يسافرون بنساء دون محارم، فقد تسافر المرأة مع غير ذي محرم، ومما عمت به البلوى في هذا الزمن خاصة: أن كثيراً من الأسر يسافرون بخادمات عندهم وهن بدون محرم، فالخادمة جاءت من بلدها من أقصى الدنيا بدون محرم، وتسافر -أيضاً- إلى بيت الله الحرام، بدون محرم وهذا لا يجوز. ولذلك قال البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه: باب حج النساء ثم ساق فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها أحد إلا ومعها ذو محرم} . فكل شيء يسمى سفر لا يجوز للمرأة أن تركبه إلا مع ذي محرم، هذا في الحالات العادية. وقال رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن امرأتي انطلقت حاجةً، وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا -أي سفَّر زوجته للحج بدون محرم وذهب للجهاد- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {انطلق فحج مع امرأتك} اترك الجهاد، واذهب لتصحب امرأتك في حجها. ثم ساق البخاري رحمه الله -أيضاً- حديث أبي سعيد الخدري، وهو في مسلم -أيضاً- أنه قال: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع كلمات فأعجبنني وآنقنني: الأولى: {لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع ذي محرم} . والثانية: {لا صوم في يومين يوم الفطر ويوم الأضحى} . والثالثة: {لا صلاة بعد صلاتين بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس} . والرابعة: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى} . والشاهد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا مع ذي محرم} وجاء التقييد بيومين. وفي حديث ابن عباس جاء مطلقاً: {لا تسافر المرأة} فكل ما سمي سفراً، ورخص للإنسان فيه برخصة السفر من القصر والفطر وغيرهما، فإنه لا يجوز للمرأة أن تركبه إلا ومعها ذو محرم. ولذلك فإن من الخطأ أن يسافر الإنسان بأجنبية عنه، سواء أكانت بنت عم له أم من الجيران أم كانت خادمةً عنده في بيته. الملاحظة الثالثة: من الأخطاء التي يقع فيها الناس في موضوع العمرة: إهمالهم لأهليهم. فبعض الناس يسافرون ويتركون أولادهم؛ فقد يسافر الأب والأم، والأولاد بحكم أنهم يدرسون في المدرسة لا يذهبون، فيبقون نصف رمضان أو أكثر من ذلك في بلدهم، بدون رقابة عليهم، وقد يكونون من صغار السن، أو المراهقين، وممن يُخشى أن تحدث منهم الحوادث، وهذا من الخطأ يقول النبي: {كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول} فتذهب وتبتغي ما عند الله، وتضيع من ولاك الله أمرهم من الصبية ذكوراً وإناثاً، أو من الشباب المراهقين الذين لا تؤمن غوائلهم وأخطاؤهم، وقد يستفزهم الشيطان، وقد يستجرهم قرناء السوء إلى ما لا تحمد عقباه. ويحدث الخطأ بصورة أخرى، وهي أن الكثير يسافرون بأهليهم إلى مكة، ثم يعتكف الأب في الحرم، أو يقضي غالب وقته في الحرم، ما بين قيام وصلاة ونوم، ويترك الحبل على الغارب لأولاده وبناته، ولذلك رأينا ورأى غيرنا في البيت العتيق، وفي المسجد الحرام، وفي أطهر بقعة على وجه الأرض، من مظاهر التبرج والتفسخ وتضييع البنات الشيء الذي يندى له الجبين وهي أمور محزنة. والواقع أنني قد نبهت على هذا في أكثر من مناسبة؛ لكنني أرى ضرورة التركيز على هذا الأمر، لأنه قد عمت به البلوى في كثير من الأسر المعروفة، التي فيها دين وحياء ومراقبة، ومع ذلك تجدهم يسافرون ببناتهم ثم يتركونهن هناك بلا مراقبة. والذي يجب على الأب والأم -إذا ذهبوا بأولادهم وبناتهم- أن يراقبوهم جيداً ويتابعوهم، فإذا كانون عاجزين عن ذلك فلا معنى لذهابهم بهم إلى الحرم، حيث يكون هناك مجالات كثيرة لاختلاط الرجال بالنساء، وخروج المرأة بكافة الحجج، فتخرج بحجة الذهاب للحرم، وتخرج للسوق أو لتأتي بالطعام، أو إلى الشقة، وتخرج إلى مناسبات عديدة. فإذا كان الأب رجلاً يستطيع أن يحافظ على أولاده وبناته فحبذا، ولا شك أن في الذهاب بهم إلى هناك فائدة وتربية وخير، فهو بلد طيب مبارك ووقت طيب مبارك، تضاعف فيه الحسنات، فهذا أمر محمود، لكن إن كان عاجزاً عن رعايتهم وحياطتهم ومراقبتهم وضبط تصرفاتهم، فليبق حيث هو في بلده ولا داعي لأن يتسبب لنفسه ولغيره بالضرر العظيم. الملاحظة الرابعة: من الملاحظات التي تلحظ في موضوع العمرة: أن كثيراً من الناس خاصة الأئمة، ومن يكونون مرابطين على الثغور في الأمر والنهي والتوجيه والإصلاح والإمامة والحديث؛ يتركون أعمالهم ويذهبون إلى هناك، حيث يعتمرون ويقيمون في العشر الأواخر. ولا شك أن من كان مرتبطاً بإمامة أو حديث أو وعظ، أو وظيفة يحتاج إليها المسلمون؛ فإن الأولى في حقه -بل الأوجب عليه- أن يبقى حيث هو وفي ذلك من الخير ما فيه، فإن احتاج ذهب إلى العمرة على السيارة أو الطائرة يوماً أو يومين، ثم يعتمر ويدعو ثم يعود إلى محله الذي هو فيه. فإنه من غير المناسب أن تخلو المساجد أو المرافق من الوعاظ والمرشدين والمحدثين والأئمة، وهذا يحدث في أفضل الأوقات وهى أوقات العشر، فإذا أحب الإنسان أن يعتمر ويدرك الفضيلة؛ فبإمكانه أن يذهب يوماً أو يومين فيعتمر ويعود إلى عملة، الذي كان فيه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 91 العمرة كفارة والعمرة كفارة، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} . فنص عليه الصلاة والسلام على أن العمرة كفارة لما قبلها من الذنوب، حتى العمرة الأخرى التي تليها، وهذا عام في كل عمرة سواء أكانت في رمضان أم في غيره. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 92 العمرة في رمضان أما العمرة في رمضان فلها شأن آخر، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سنان -وهي امرأة من الأنصار لقيها النبي صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع- فقال لها: {يا أم سنان، ما منعك أن تحجي معنا؟ قالت: يا رسول الله! أبو سنان -زوجها- له ناضحان -بعيران- حج على أحدهما والآخر نستقي عليه. -فاعتذرت من عدم حجها مع النبي صلى الله عليه وسلم، بعدم وجود الراحلة التي تقلها إلى بيت الله الحرام- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: فإذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة. أو قال حجةً معي} . وفي هذا من الفضل ما فيه، فإن ظاهر النص يدل على أن من اعتمر في رمضان يبتغي ما عند الله، كأنما حج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقف معه بعرفة، وبات معه بمزدلفة، وأفاض معه إلى منى، وطاف وسعى معه، وهذا فضل عظيم لا يقدر قدره إلا الله جل وعلا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 93 وقفة مع الاعتكاف الوقفة الثانية والعشرون حول الاعتكاف. والاعتكاف هو لزوم مسجد بنية مخصوصة لطاعة الله تعالى، وهو مشروع مستحب مسنون باتفاق أهل العلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 94 مكان الاعتكاف ومما يتعلق بموضوع الاعتكاف أن بعض الباحثين ذهبوا إلى أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؛ المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم. والصواب أن الاعتكاف جائز في كل مسجد يصلى فيه، ويستحب أن يكون في المسجد الجامع؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة. فإن اعتكف في مسجد غير جامع فإنه يخرج ليصلي الجمعة ثم يعود؛ وذلك لقول الله عز وجل: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] فدل ذلك على أن الاعتكاف في كل مسجد جائز، إذا كان مسجداً تصلى فيه الفروض الخمسة، فإن كان جامعاً فهو أفضل. أما حديث {لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة} فعلى القول بصحته فإنه مؤول على أن أكمل ما يكون الاعتكاف وأفضل وأوفى ما يكون في هذه المساجد، هذا ما قاله أهل العلم. وقد انقدح في ذهني تأويل آخر للحديث -وهو في ظني حسن- وهو أن معنى الحديث، أن من نذر أن يعتكف في مسجد يسافر إليه فإنه لا يسافر، إلا أن يكون نذر الاعتكاف في المساجد الثلاثة، فإن الإنسان إذا نذر أن يعتكف في المسجد الحرام -مثلاً- وجب عليه الوفاء باعتكافه، فيعتكف في المسجد الحرام. ولكن لو نذر مثلاً أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجوز له أن يعتكف في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ويجوز له أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل ومن باب الأولى، ولو نذر أن يعتكف في المسجد الأقصى -فك الله أسره وطهره من رجس اليهود الغادرين الخائنين- جاز له أن يسافر إلى المسجد الأقصى ليعتكف فيه، وجاز له أن يسافر إلى مسجد المدينة، وإلى مسجد مكة، ليعتكف فيهما، لأنهما أفضل من المسجد الأقصى. لكن لو فرض -مثلاً- أنه نذر أن يعتكف في مسجد جواثا، وهو أول مسجد صليت فيه الجمعة خارج المدينة وهو بالبحرين بالأحساء والمسجد معروف الآن، فهل يجوز أن يسافر إلى مسجد جواثا ليعتكف فيه؟ لا يجوز أن يسافر ويشد الرحل إليه، لكن يجوز له أن يعوض عن ذلك بأن يعتكف في مسجد من مساجد بلده، أو يسافر إلى أحد المساجد الثلاثة. فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: {لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة} أي: لا اعتكاف ينذر ويسافر إليه؛ ولذلك فإن الأئمة مجمعون خاصةً الأئمة الأربعة، على أنه يعتكف في أي مسجد من المساجد الجوامع، ولا يلزم الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة. ولم يقل أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة أحد من الأئمة المعروفين المتبوعين، لا الأربعة، ولا العشرة، ولا غيرهم، إنما نقل هذا عن حذيفة رضي الله عنه، وواحد أو اثنين من السلف. ومن الملاحظات: في موضوع الاعتكاف، أن بعض الناس يعتبرون الاعتكاف فرصةً للخلوة ببعض أصاحبهم وأحبابهم، وتبادل أطراف الحديث، وكون مجموعة يعتكفون في مسجد، هذا لا حرج فيه؛ بل إن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، واعتكف معه أزواجه، حتى إن إحدى أمهات المؤمنين اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مستحاضة؛ حتى كانت ترى الدم وهي في المسجد. إذاً: فلا حرج أن يعتكف الإنسان مع صاحبه، أو قريبه أو حبيبه أو صديقه؛ لكن الحرج أن يكون الاعتكاف فرصةً للأحاديث، والسمر، والسهر، والقيل والقال وما أشبه ذلك. ولهذا قال الإمام ابن القيم بعدما تكلم عن الاعتكاف وما يفعله بعض الناس، وما يتوسعون فيه من الكلام وغيره قال: فهذا لون، واعتكاف رسول الله صلى الله عليه وسلم لون آخر، -أي: مختلف تماماً عن اعتكاف هؤلاء-. ومن الملاحظات: أن بعض الناس يعتكفون ويتركون أعمالهم وواجباتهم، وبعضهم قد يترك عمله الوظيفي الذي كلف به وألزم به، ويذهب ليعتكف. وليس من العدل أن يترك الإنسان واجباً ليفعل السنة، ولذلك يقال لمن اعتكف وترك عمله الوظيفي، إنه يجب عليه أن يقطع الاعتكاف، ويعود إلى عمله الذي ترك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 95 إطلالة على النبي صلى الله عليه وسلم في معتكفه إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف؛ ولذلك يجدر بنا أن نطل إطلالة سريعة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان يلتمس ليلة القدر، ثم اعتكف العشر الأوسط من رمضان، فلما خرج الناس من معتكفهم قام النبي صلى الله عليه وسلم فخطب بهم، وقال: {إني أريت ليلة القدر في العشر الأواخر، وإني أريت صبيحتها كأني أسجد على ماء وطين، فمن كان معتكفاً معي فليرجع إلى معتكفه} . والحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري، فرجع الناس إلى معتكفهم -أي: اعتكفوا عشرة أيام أخرى، وهي العشر الأواخر من رمضان-. قال أبو سعيد: وما نرى في السماء من قزعة حتى كان تلك الليلة، فجاءت سحابة فأمطرت، وكان سقف المسجد من جريد النخل، فسال سقف المسجد، قال: ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد على ماء وطين، والتفت إلينا وإن أثر الطين على جبهته وأنفه -عليه الصلاة والسلام- فتحققت نبوءته صلى الله عليه وسلم بذلك، وتبين أن تلك الليلة كانت ليلة القدر، وكانت ليلة إحدى وعشرين، فاعتكف صلى الله عليه وسلم العشر الأواخر من رمضان، ثم حافظ بعد ذلك على الاعتكاف في العشر الأواخر، كما في الصحيحين عن عائشة رضى الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده} . وفي العام الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم اعتكف -أيضاً- عشرين يوماً، أي: اعتكف العشر الأوسط مع العشر الأواخر، وذلك لأسباب: منها -والله تعالى أعلم-: أن جبريل عارضه القرآن في تلك السنة مرتين -كما سبق- فناسب أن يعتكف النبي صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً حتى يتمكن من معارضة جبريل بالقرآن كله مرتين. ومنها: أن في ذلك مضاعفة العمل الصالح؛ حينما أحس عليه الصلاة والسلام بقرب أجله ودنو وفاته؛ ولهذا قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] فالله سبحانه وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار في آخر عمره. وهكذا كان يفعل صلى الله عليه وسلم، يكثر من أن يقول في ركوعه، وسجوده: {سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} يتأول القرآن عليه الصلاة والسلام، فاعتكف عشرين يوماً في السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم، لمناسبة قرب وفاته ليضاعف العمل الصالح. وقد يكون من أسرار مضاعفة اعتكافه: أن يكون ذلك شكراً لله عز وجل على ما أنعم به عليه من هذه الأعمال الصالحة؛ من الجهاد والتعليم، والصيام والقيام وإنزال القرآن، وغير ذلك من الأعمال التي امتن الله تبارك وتعالى بها عليه. وكان عليه الصلاة والسلام يدخل معتكفه قبل غروب الشمس من الأيام التي يريد أن يعتكفها، فإذا أراد أن يعتكف العشر الأواسط -مثلاً- دخل المعتكف قبل غروب الشمس من ليلة الحادي عشر، وإذا أراد أن يعتكف العشر الأواخر دخل قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين. وذلك لأن العشر الأواخر تبدأ من غروب شمس يوم عشرين، أما ما ثبت عنه في الصحيح: {أنه صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم دخل معتكفه} فإنما المقصود أنه دخل المكان الخاص في المسجد حيث كان يعتكف في غرفة، كما ورد أنه اعتكف في مكان خاص، -في قبة تركية كما جاء في بعض الروايات- فكان يدخل هذا المكان الخاص، وإلا فقد كان في المسجد منذ غروب الشمس. ومن طريف ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في المعتكف ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج رأسه إليها وهي في المسجد، وهو في الغرفة فترجله، وتسرحه، وتغسله، وهو معتكف صلى الله عليه وسلم} وهي كانت حائضاً. فكان صلى الله عليه وسلم يتكئ كما في مسند أحمد على باب غرفتها، ثم يخرج رأسه إليها فترجله، وهذا دليل على أن إخراج المعتكف بعض جسده لا يضر، وليس كإخراج الكل، فلو أن إنساناً حلف أنه لا يخرج من هذا المسجد فأخرج يده، أو رأسه، أو رجله فإنه لا يعد خارجاً. ومثله المعتكف، لو أخرج يده أو رجله أو رأسه، فإن هذا لا يضر، وكذلك الحائض لو أدخلت يدها أو رجلها أو رأسها في المسجد لم يكن ذلك ممنوعاً ولا حرج عليها في ذلك؛ لأن هذا لا يعد دخولاً ولا خروجاً. ومن فوائد هذا الحديث أن المعتكف لا حرج عليه من أن يتنظف، ويتطيب، ويغسل رأسه، ويسرحه، وينظفه، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا ينافي الاعتكاف. ومن طريف ما وقع له صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه، {أنه خرج يوماً ليعتكف كما في صحيح البخاري فلما أن أراد أن يعتكف رأى صلى الله عليه وسلم الخيام منصوبةً في المسجد -أخبية منصوبة- هذا خباء حفصة، وهذا خباء عائشة، وهذا خباء زينب، فتعجب صلى الله عليه وسلم وترك الاعتكاف، وقال لأصحابه: آلبر أردْن بهذا؟! أي: هل تظنون أن ذلك من أجل البر، -لا- إنما فعلنه من أجل الغيرة وحرصاً على القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم} . وذلك لأن عائشة استأذنت -أولاً- فأذن لها، ثم استأذنت حفصة فأذن لها، ثم فعلت زينب فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى هذه الأخبية منصوبة، وفيها ما فيها من تضييق المسجد، وفيها ما فيها من المنافسة، كره ذلك صلى الله عليه وسلم وأمر بهذه الأخبية فقوضت ثم ترك الاعتكاف صلى الله عليه وسلم، فلم يعتكف تلك السنة، فلما كان في شوال اعتكف عشرة أيام، والأظهر والله أعلم أنه اعتكف عشرة أيام من بعد يوم العيد أي: تبدأ من الثاني من شوال. هذا هو الأقرب، ويحتمل أنه اعتكف من يوم العيد، وإذا صح أنه اعتكف من يوم العيد فهذا دليل على أن الاعتكاف لا يشترط معه الصيام؛ لأن يوم العيد لا يصام؛ لكن لا يلزم أن يكون يوم العيد من ضمن أيام الاعتكاف. ومن طرائف ما وقع لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ما رواه الشيخان عن صفية {أنها جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في معتكفه ليلةً فجلست تتحدث معه ساعةً، ثم قامت تنقلب إلى بيتها، فقام معها صلى الله عليه وسلم ليقلبها -أي: ربما يؤنسها، أو يزيل وحشتها في الطريق- حتى إذا وكان عند باب المسجد أي عند باب أم سلمة، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا. فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما أو على هنتكما، أرفقا إنها صفية. فقالا: سبحان الله! يا رسول الله، وكبر ذلك عليهما، وفي رواية أنهما قالا: أو فيك نظن يا رسول الله، أو فيك يشك يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، -يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم يعني في عروق الإنسان إلى القلب كالدم- إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً} قال مسلم: شراً. فمن شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على صدق إيمان هذين الصحابيين الأنصاريين، وخشيته أن يزيغا بأن يلقي الشيطان في قلوبهما شراً، فيشكا فيكون ذلك كفراً، أو يشتغلا بدفع هذه الوسوسة رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا حاجة لذلك أصلاً، وأنه لا مانع من كشف الموضوع، فقال لهما: إنها صفية بنت حيي، وهي زوج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا الحديث من الدروس الشيء الكثير؛ لكن لا أود أن أقف عندها؛ لأنها دروس خارج موضوع الاعتكاف، وخارج موضوع الصيام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 96 سر الاعتكاف والاعتكاف فيه سر عظيم من أسرار العبادة، وذلك لأن المدار في حياة الإنسان وأعماله على القلب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} . وأكثر ما يفسد القلب هي الشواغل والملهيات التي تلهيه عن الإقبال على الله عز وجل؛ كالاشتغال بالطعام والشراب والشهوات، وفضول الكلام وفضول النوم وفضول الصحبة، وغير ذلك من الأمور الضارة التي تصرف القلب عن الإقبال على الله عز وجل، وتفرقه وتشتته حتى لا يكاد يلتم ويجتمع على عبادة أو طاعة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 97 سر الربط بين الصيام والاعتكاف وشرع الله تعالى الصيام حتى يتخلص القلب ويتخفف من فضول الطعام والشراب والشهوة؛ لأن الإنسان في نهار رمضان يمتنع عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس، وهذا امتناع معتدل ليس فيه ما في الأديان الأخرى والمذاهب الأرضية الباطلة من الغلو، كما يفعل بعضهم فيصومون شهراً كاملاً، وبعضهم يجورون على الجسد فيمنعونه الأكل والشراب والنوم والطعام على مدى أيام وربما شهور، وبعضهم قد يدفنونه في الأرض فيجورون على أجسادهم، فليس هذا في الإسلام بل فيه حِمية معتدلة، هذا بالنسبة للصيام. ثم شرع الله تعالى الاعتكاف؛ حتى يتخلص الجسد والقلب من فضول صحبة الناس التي لا خير فيها، والتي قد تزيد فتصبح مثل ما إذا أصيب الإنسان بالتخمة من كثرة الطعام والشراب، ولذلك قال الشاعر: عدوك في صديقك مستفاد فلا تستكثرن من الصحاب فإن الداء أكثر ما تراه يكون من الطعام أو الشراب فكما أن الإنسان إذا أكثر من الطعام والشراب أصيب بالتخمة، كذلك إذا أكثر من الصحبة والمجالسة والاختلاط بالناس أصيب بالتخمة من جراء ذلك، فمرض القلب واعتل، فكان الاعتكاف حِمية للقلب من كثرة الصحبة والاختلاط بالناس. ثم فيه حِمية -أيضاً- من كثرة الكلام، لأن الإنسان غالباً ما يعتكف بمفرده، فيقبل على الله تعالى بالصيام والقيام وقراءة القرآن وما أشبه ذلك. وكذلك فيه حِمية من كثرة النوم، فإن الإنسان إنما اعتكف ليعبد الله تعالى، ولم يعتكف حتى ينام في المسجد، فيكون في ذلك من الإقبال واجتماع القلب على الله تعالى ما ليس في غيره. ولذلك استحب السلف الجمع بين الصيام والاعتكاف، حتى قال ابن القيم رحمه الله: إن جمهور السلف على أنه لا اعتكاف إلا بصوم. بل صح هذا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[لا اعتكاف إلا بصوم]] فرأوا أن الاعتكاف لا يصح إلا بالصيام، وهذا مذهب جماعة من الأئمة؛ وذلك حتى يجمع للإنسان بين الصيام وبين الاعتكاف فيحصل فضائل هذا وفضائل ذاك. وقال الإمام ابن القيم: إنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتكف إلا وهو صائم. وهذا الذي قاله رحمه الله فيه بعض النظر كما سيأتي. فقد نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال، ولم يثبت أنه كان صائماً في هذه الأيام التي اعتكفها، ولا أنه غير صائم، فالأمر على ذلك غير ظاهر. ولكن الأصح أن يقال: يستحب للإنسان ألا يعتكف إلا بصيام. هذه إشارة إلى بعض حكمة مشروعية الاعتكاف وجمع الصيام معه، كما هو مذهب جماهير السلف كما نقله ابن القيم، وثبت عن عمر وابن عباس وعائشة رضى الله عنهم، وبه قال مالك والأوزاعي والإمام أبو حنيفة، واختلف النقل في ذلك عن الإمام أحمد والشافعي. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 98 حكم الاعتكاف وإهمال الناس له قال الإمام أحمد فيما رواه عنه أبو داود: لا أعلم أحداً من العلماء إلا قال إنه مسنون. يعني الاعتكاف. وقد نقل عن الإمام مالك أنه قال: تأملت أمر الاعتكاف وما ورد فيه، وكيف أن المسلمين تركوه، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتركه، فرأيت أنهم إنما تركوه لمشقة ذلك عليهم -أي أن فيه مشقة- قال مالك: ولم أعلم عن أحداً من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن. وما قاله الإمام مالك متعقب؛ فإنه نقل عن جماعات من السلف أنهم كانوا يعتكفون، ومن ذلك أمهات المؤمنين كما سوف يأتي. ولذلك قال الزهري رحمه الله: عجباً للمسلمين تركوا الاعتكاف، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم ما تركه منذ قدم المدينة حتى قبضه الله عز وجل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 99 العشر الأواخر من رمضان الوقفة الثالثة والعشرون: مع العشر الأواخر. وبادرنا بهذه الوقفة لأن هذا هو الدرس الأخير ضمن هذه الدروس في هذا الشهر -إن شاء الله-. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 100 اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر كان صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر مالا يجتهد في غيره من العبادة، ومن ذلك أنه كان يعتكف فيها -كما سبق- وكان عليه الصلاة والسلام يتحرى فيها ليلة القدر، ولذلك جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأحيا ليله، وأيقظ أهله} وزاد مسلم: {كان إذا دخل العشر جدَّ وشدَّ المئزر} . فقولها: "شد المئزر" قيل: هو كناية عن التشمير للعبادة، وقيل: كناية عن اعتزال النساء، وهذا هو الأقرب أن معنى قولها: شد المئزر، كنايةً عن أنه لا يجامع النساء في العشر الأواخر من رمضان، بل يعتزل أزواجه صلى الله عليه وسلم. وهذه كناية معروفة عند العرب قال الشاعر: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار فمعنى شد المئزر أنه لا يحل إزاره لجماع نسائه، وذلك لأنه كان يعتكف في العشر كما هو معروف. وكان يجتهد في العبادة، ولذلك قالت عائشة: {شد المئزر وأحيا ليله} وهذا أيضاً كناية عن طول القيام والعبادة بالليل، وأنه كان يقوم الليل كله صلى الله عليه وسلم. فإما أن يكون المعنى أنه كان يقوم الليل كله من أوله إلى آخره، وإما أن يكون المعنى أنه يقوم معظم الليل. ولذلك جاء في حديثها الآخر في الصحيح: {ما علمت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام شهراً كاملاً غير رمضان، ولا قام ليلةً كاملة حتى الصباح} فيحمل قولها: {وأحيا ليله} على أنه يقوم أغلب الليل، ومن المعروف أنه يتخلل ذلك العشاء، والسحور، ويتخلل ذلك أشياء مما اعتيد أنه كان يفعلها صلى الله عليه وسلم، فيكون قولها أحيا ليله، أي أغلب ليله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 101 نصيحته لأهل بيته صلى الله عليه وسلم {وأيقظ أهله} أي: يوقظ أزواجه عليه الصلاة والسلام للقيام، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في سائر السنة؛ لكن كان يوقظهم لقيام بعض الليل. ولهذا جاء كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلةً، فصلى ثم قال: {من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسيةٍ في الدنيا عارية يوم القيامة} . وكذلك {كان يوقظ عائشة إذا أراد أن يوتر عليه الصلاة والسلام} لكن في العشر الأواخر كان يوقظهم أكثر وأطول مما كان يوقظهم في بقية الشهور والليالي. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 102 وقفة مع ليلة القدر الوقفة الرابعة والعشرون: ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر! الجزء: 19 ¦ الصفحة: 103 ليلة القدر ليست خاصة بهذه الأمة وفيما يتعلق بليلة القدر، فإنني أختم موضوعها ببيان أن هذه الليلة ليست خاصةً لهذه الأمة على الراجح، بل هي عامةً لهذه الأمة وللأمم السابقة، لما رواه النسائي عن أبي ذر أنه قال: {يا رسول الله! هل تكون ليلة القدر مع الأنبياء فإذا ماتوا رفعت؟ قال عليه الصلاة والسلام: كلا، بل هي باقية} وهذا أصح من الحديث الذي ذكرته في الجلسة الماضية عن مالك، أن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار أمته فكأنه تقالها، فأعطي ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر. وعلى فرض صحة حديث مالك، فهو قابل للتأويل، وحديث أبي ذر صريح في أن ليلة القدر تكون مع الأنبياء، ومما يقوي ذلك قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1] في ليلة مباركة، الذي أنزل فيه القرآن، ومن المعلوم أن القرآن يوم أنزل أنزل بالنبوة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبله لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم نبياً حتى تكون ليلة القدر بالنسبة له. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 104 علامات ليلة القدر ما هي العلامات التي تعرف بها ليلة القدر؟ العلامة الأولى: ثبتت في صحيح مسلم من حديث أبي بن كعب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن من علامتها أن الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، وهذا ثابت. العلامة الثانية: ثبتت من حديث ابن عباس عند ابن خزيمة، ورواه الطيالسي -أيضاً- في مسنده، وهو حديث سنده صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة القدر ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، تصبح الشمس يومها حمراء ضعيفة} . فذكر علامات إضافية، منها: أنها ليلة طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس فيها حمراء ضعيفة. ومن علاماتها -أيضاً-: ما ثبت عند الطبراني بسند حسن، من حديث واثلة بن الأسقع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنها ليلة بلجة -أي: منيرة- مضيئة، لا حارة ولا باردة، لا يرمى فيها بنجم} أي: لا ترى فيها الشهب التي ترسل على الشياطين. هذه ثلاثة أحاديث صحيحة، وهناك حديث رواه أحمد في مسنده، عن عبادة بن الصامت، وسنده صحيح إلا ما يخشى من انقطاعه، لكن يشهد له ما سبق، وهو حديث طويل وعجيب في ذكر بعض خصائص ليلة القدر. قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إنها ليلة صافية بلجة، كأن فيها قمراً ساطعاً، وهي ليلة ساكنة صاحية، لا حر فيها ولا برد، ولا يحل لكوكب أن يرمى فيها، والشمس تطلع صبيحتها مستويةً لا شعاع لها مثل القمر ليلة البدر، ولا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ} لأن عادة الشيطان أن يخرج مع الشمس كما في الحديث الصحيح: {تطلع الشمس بين قرني الشيطان} . أما في ليلة القدر فإنه لا يحل للشيطان أن يطلع مع الشمس، أو يجعل قرنيه باتجاه الشمس بحيث تطلع بين قرنيه، والحديث -كما ذكرت- لا بأس بإسناده في الشواهد؛ إلا أنه يخشى من انقطاعه، فإنه من رواية خالد بن معدان عن عبادة، ولم يثبت له منه سماع. وذكر بعض أهل العلم علامات أخرى لا أصل لها وليست صحيحة، إنما أذكرها لبيان أنها لا تصح، كما ذكر الطبري عن قوم أنهم قالوا: من علامات ليلة القدر أن الأشجار تسقط حتى تصل إلى الأرض، ثم تعود إلى أوضاعها، وهذا لا يصح. وكذلك ذكر بعضهم أن المياه المالحة تصبح حلوةً في ليلة القدر، وهذا أيضاً لا يصح. وذكر بعضهم أن الكلاب لا تنبح فيها، وهذا لا يصح. وذكر بعضهم أن الأنوار تكون في كل مكان حتى في الأماكن المظلمة، وهذا لا يصح. وأن الناس يسمعون التسليم في كل مكان، وهذا لا يصح. إلا أن يكون المقصود بذلك أنه لفئة خاصة ممن اختارهم الله تعالى وأكرمهم، فيرون الأنوار في كل مكان، ويسمعون تسليم الملائكة، فهذا لا يبعد أن يكون كرامةً لمن اختارهم الله تعالى واصطفاهم في هذه الليلة المباركة، التي هي خير من ألف شهر. أما أن يكون هذا عاماً فهو باطل، وهو معارض لدلالة الحس المؤكدة الثابتة ومشاهدة العيان. وينبغي أن يعلم أنه ليس من الضروري لمن أدرك ليلة القدر أن يعلم أنها ليلة القدر، بل قد يكون ممن لم يكن له منها إلا القيام والعبادة والخشوع والبكاء والدعاء، من هم أفضل عند الله تعالى وأعظم درجة ومنزلة ممن عرفوا تلك الليلة. فالعبرة هي بالاستقامة ولزوم الجادة، والتعبد لله عز وجل والإخلاص، كما ذكره طائفة من أهل العلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 105 ليلة مباركة فهي الليلة المباركة المذكورة في كتاب الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِين َ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْراً مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الدخان:2-6] . فسماها الله عز وجل الليلة المباركة: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان:3] وفيها أنزل القرآن، وقد صح هذا المعنى عن جماعة من السلف، منهم ابن عباس، وقتادة، وسعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وغيرهم من علماء السلف ومفسريهم، قالوا إن الليلة المباركة هي ليلة القدر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 106 (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال الله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان:4] أي أنه تقدر في ليلة القدر مقادير الخلائق على مدى العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات، والناجون والهالكون، والسعداء والأشقياء، والحاج والداج، والعزيز والذليل، ويكتب فيها الجدب والقحط وكل ما أراده الله تبارك وتعالى في تلك السنة، والظاهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه ينقل ذلك في ليلة القدر من اللوح المحفوظ، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: [[إن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وإنه لفي الأموات]] أي: أنه كتب في ليلة القدر من الأموات. ففيها يفرق كل أمر حكيم، أي يكتب ويفصل، وقيل: إن المعنى أنه يبين في هذه الليلة للملائكة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 107 لم سميت بليلة القدر وقال الله عز وجل عنها في السورة الخاصة بها: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:1-5] . فسماها الله تبارك وتعالى ليلة القدر، وذلك لعظيم قدرها، وجلالة مكانتها عند الله عز وجل، وكثرة مغفرة الذنوب، وستر العيوب في هذه الليلة المباركة. وقيل سميت ليلة القدر لأنه يقدر فيها وتكتب فيها المقادير. وقال الخليل بن أحمد: إنما سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق بكثرة الملائكة، من القدر وهو التضييق قال الله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ} [الفجر:16] أي: ضيق. وقال الله عز وجل تنويهاً بشأنها وعظمتها: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [القدر:2] ثم أخبر عنها بأنها خير من ألف شهر، أي: ثلاثة وثمانين سنة {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر:4-5] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 108 تحديد ليلة القدر وفي ليلة القدر وقفات وعبر، منها: أنها ليلة المغفرة. ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} . ويستحب تحريها في رمضان وفي العشر الأواخر منه خاصة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {التمسوها في العشر الأواخر} متفق عليه. وثبت هذا من حديث عبد الله بن عمر وأبي سعيد وبالذات في أوتار العشر الأواخر، وهي ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، كما ثبت في المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {التمسوها في العشر الأواخر في الوتر منها} . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه -وهو في الصحيح أيضاً- قال: {في تاسعة تبقى، في سابعة تبقى، في خامسة تبقى} فبين عليه الصلاة والسلام أنها أرجى ما تكون في الأوتار من العشر الأواخر. وكذلك جاء في البخاري من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليخبر أصحابه بليلة القدر فقال لهم: {إني خرجت لأخبركم ليلة القدر فتلاحا رجلان فأنسيتها} -أي: تخاصم رجلان، وهذا يدل على شؤم الخصومة في غير حق، خاصة الخصومة في الدين، وعظيم ضررها، وأنها السبب في غياب الحق وخفائه علىالناس- فقال عليه الصلاة والسلام: وعسى أن يكون خيراً، ثم أمر أن يلتمسوها في ليلة تسع وعشرين، وسبع وعشرين، وخمس وعشرين} . وأرجى ما تكون أيضاً في السبع البواقي، ولذلك جاء في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن جماعةً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أُروا ليلة القدر في السبع الأواخر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر} . ومعنى قوله عليه الصلاة والسلام: {أرى رؤياكم قد تواطأت} أي اتفقت، فكأنهم قد رأوها في المنام إما جاءهم أحد وقال لهم: إنها في السبع الأواخر، أو رأوا في المنام أن ليلة القدر تكون في السبع الأواخر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتحريها في هذه السبع الأواخر، وبالذات في ليلة سبع وعشرين، فإنها أرجى ما تكون. بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث ابن عمر عند أحمد، ومن حديث معاوية عند أبي داود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليلة القدر ليلة سبع وعشرين} . وليلة القدر أرجى ما تكون ليلة سبع وعشرين للحديثين السابقين؛ ولأن هذا مذهب أكثر الصحابة وجمهور العلماء، حتى إن أبي بن كعب رضي الله عنه، كان يحلف على ذلك كما في صحيح مسلم: [[يحلف أنها ليلة سبع وعشرين]] وكذلك ابن عباس رضي الله عنه قال: [[إنها ليلة سبع وعشرين]] واستنبط ذلك من استنباطات عجيبة، منها: أن كلمة (فيها) من السورة {تَنزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر:4] هي الكلمة السابعة والعشرين. ومنها: ما ورد أن عمر رضي الله عنه، لما جمع الصحابة وجمع ابن عباس معهم، فقالوا: لـ عمر رضي الله عنه هذا كأحد أبنائنا فلماذا تجعله معنا؟ فقال: إنه فتى له قلب عقول ولسان سؤول، وأثنى عليه ثم سأل الصحابة عن ليلة القدر، فأجمعوا على أنها في العشر الأواخر، فقال ابن عباس: [[إني لأعلم أين هي إنها ليلة سبع وعشرين. فقال عمر: وما أدراك؟ قال: إن الله تعالى خلق السموات سبعاً، وخلق الأرضين سبعاً، وجعل الأيام سبعة، وخلق الإنسان من سبع، وجعل الطواف سبعاً والسعي سبعاً ورمي الجمار سبعاً]] . ولذلك رأى ابن عباس أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، وكأن هذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه. وبعض العلماء قالوا: ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين، لأن كلمة ليلة القدر تسعة حروف، وقد ذكرت في السورة ثلاث مرات، والنتيجة ثلاثة في تسعة بسبعة وعشرين، ولم يرد دليل شرعي على أن مثل هذه الحسابات يمكن أن يعرف بها ليلة القدر. وهذا يذكرني بما يتحدث به بعض المعاصرين، هما يسمونه بالإعجاز العددي. وخلاصة القول أن نقول: ليلة القدر هي في العشر الأواخر وفي أوتارها وفي السبع البواقي، وأرجى ما تكون في ليلة سبع وعشرين، دون حاجة إلى مثل هذه الحسابات التي ما أنزل الله بها من سلطان. ومما يرجح أن ليلة القدر هي ليلة سبع وعشرين: أنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أريها في تلك الليلة، وأري صبيحتها أنه يسجد على ماء وطين، وليلة القدر والله تعالى أعلم تتنقل من ليلة إلى أخرى، فغالباً ما تكون ليلة سبع وعشرين لكن قد تكون ليلة إحدى وعشرين -أحياناً- كما في حديث أبي سعيد السابق، وهو متفق عليه، أنه في صبيحة إحدى وعشرين سجد على ماء وطين. ومما يتعلق بليلة القدر: أنه يستحب فيها الإكثار من الدعاء خاصةً الدعاء الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة رضي الله عنها حين قالت: {إن أريت ليلة القدر ماذا أقول؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} والحديث رواه الترمذي وابن ماجة وسنده صحيح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 109 وقفات مع العيد الوقفة الخامسة والعشرون: مع العيد. والعيد اسم لكل ما يعتاد، وهي شعارات موجودة عند كل الأمم، فكل أمة على الأرض من الأمم الكتابية، كاليهود والنصارى، أو غيرها، من الأمم الوثنية لها أعياد؛ وذلك لأن العيد يعود إلى فطرة وطبيعة وجبلة ركبت الغرائز والفطر، عليها من أن الناس يحبون أشياءً يتذكرون فيها بعض ما مضى. ولكن الأمم الكافرة أعيادهم ترتبط بأمور دنيوية، مثل قيام دولة، أو سقوط دولة، أو قيام حاكم أو سقوط حاكم أو زواجه أو تتويجه أو ما أشبه ذلك. وقد يحتفلون بمناسبة أخرى كربيع أو غيره، ولليهود أعياد وللنصارى أعياد، كما هو معروف، فعندهم عيد في يو الخميس، يزعمون أنه أنزلت فيه المائدة على عيسى عليه الصلاة والسلام. وكذلك النصارى لهم أعياد أخرى، مثل عيد ميلاد عيسى عليه الصلاة والسلام، ومثل عيد رأس السنة الذي يسمونه الآن بعيد الكريسمس، ومثل عيد الشكر أو عيد العطاء، ويحتفلون به الآن في جميع البلاد الغربية كأمريكا وبريطانيا، وغيرها من البلاد التي ورثت النصرانية وإن لم تكن نصرانية حقيقية. وكذلك المجوس والفرس لهم أعياد، مثل عيد المهرجان، وعيد النيروز وغيرها. والرافضة أيضاً لهم أعياد، كعيد الغدير الذي يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع فيه علياً على الخلافة، وبايع فيه الأئمة الإثني عشر من بعده، ولهم فيه مصنفات، حتى إن هناك كتاباً اسمه يوم الغدير يبلغ عشرات المجلدات. ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وجدهم يحتفلون بعيدين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيراً منهما: عيد الفطر وعيد الأضحى} كما جاء في سنن أبي داود، وسنن النسائي عن أنس بسند صحيح. ولذلك فليس للمسلمين إلا عيد الفطر وعيد الأضحى. قال الشاعر: عيدان عند أولي النهى لا ثالثٌ لهما لمن يبغي السلامة في غدِ الفطر والأضحى وكل زيادة فيها خروجٌ عن سبيل محمدِ قال ذلك رداً على الشاعر الذي يقول: المسلمون ثلاثة أعيادهم الفطر والأضحى وعيد المولد فإذا انتهت أعيادهم فسرورهم لا ينتهي أبداً بحب محمدِ فهذا أضاف عيداً ثالثاً، وهو عيد مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، فرد شاعرنا بقوله السابق: ولذلك ينبغي إحياء هذه الأعياد واستشعارها وإدراك معناها؛ لأنها شعائر إسلامية ينبغي أن يعلم الجميع أن المسلمين في يوم عيد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 110 تنبيهات مهمة حول العيد ومما ينبغي التنبيه عليه في موضوع العيد أمور: أولاً: بعض الناس يعتقدون مشروعيه إحياء ليلة العيد، ويتناقلون حديثاً ورد من طريقين {أن من أحيا ليلة العيد لم يمت قلبه يوم تموت القلوب} وهذا الحديث لا يصح، بل جاء من طريقين أحدهما ضعيف والآخر ضعيف جداً، فلا يشرع تخصيص ليلة العيد بحكم عن غيرها من الليالي، بل من كان يقوم بقية الليالي قام في ليلة العيد كما يقوم في غيرها، أما تخصيصها فلا يشرع. ثانياً: مما ينكر في العيد اختلاط الرجال بالنساء، في المصليات والشوارع والأماكن، ومع الأسف الشديد أن هذا الاختلاط يقع في أقدس البقاع وأفضلها، في المساجد بل وفى المسجد الحرام، ويقع فيه من مظاهر التبرج والسفور ما يحزن كل قلب غيور، وما يجعل الفتنة قاب قوسين أو أدنى، فإن كثيراً من النساء -هداهن الله- يخرجن بأبهى زينة، سافرات كاشفات متبرجات متزينات متعطرات، مع ما في المسجد من شدة الزحام، وفي ذلك من الفتنة والضرر العظيم ما فيه. ولذلك أنصح الشباب إذا صلوا صلاة الفجر يوم العيد، أن لا يخرجوا من المسجد، بل يبقوا حتى يصلوا العيد، ثم يجلسوا حتى يتفرق الناس بعداً عن الفتن العظيمة التي قد تعرض لهم. ثالثاً: مما يحدث في ليلة العيد، أن بعض الناس يجتمعون على الغناء واللهو والعبث، وهذا لا يجوز. ومن المفاسد التي تقع: أن بعض الناس يفرحون لأنهم قد تركوا رمضان وانتهوا من الصيام وهذا خطأ؛ فإن العيد إنما يفرح به لأن الله تعالى قد وفقنا لإكمال عدة الشهر والصيام، وليس الفرح لأننا قد انتهينا من الصيام، وتركنا هذا الأمر الذي يعتقد البعض أنه كان ثقيلاً عليهم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 111 آداب العيد للعيد آداب ينبغي التحلي بها: أولاً: الاغتسال قبل الخروج إلى العيد، وقد صح هذا في موطأ مالك وغيره عن ابن عمر رضي الله عنه، [[أنه كان يغتسل قبل خروجه]] وكذا صح عن السائب بن يزيد وصح عن سعيد بن جبير رضي الله عنه أنه قال: [[سنة العيد ثلاث: المشي -يعني يمشي للعيد ماشياً- والاغتسال، والأكل قبل الخروج]] ولعله أخذ ذلك عن بعض الصحابة. وذكر النووي رحمه الله اتفاق العلماء على أنه يستحب الاغتسال لصلاة العيد، والمعنى موجود، فإن المعنى الذي يستحب له الغسل للجمعة وغيرها من الاجتماعات العامة، متحقق في العيد بل هو أكثر ذلك. ثانياً: من آداب صلاة العيد: ألا يخرج في عيد الفطر حتى يأكل تمرات، لما رواه البخاري عن أنس {أن النبي صلى الله علية وسلم: كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات} بخلاف الأضحى، فإنه يستحب ألا يأكل إلا بعد العيد، من أضحيته. وإنما استحب أكل التمرات في عيد الفطر؛ مبالغةً في النهي عن الصوم في ذلك اليوم، لأن الإنسان يفطر قبل أن يذهب إلى العيد. ثالثاً: من آداب يوم العيد: التكبير، كما قال الله عز وجل: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] فأشار إلى مشروعية التكبير في العيد. والتكبير في العيد نقل عن ابن عمر رضي الله عنه، من طرق وبأسانيد صحيحة، عند البيهقي وابن أبي شيبة [[أنه كان يكبر إذا خرج من بيته إلى أن يأتي إلى المصلى]] وكان التكبير منذ الخروج من البيت إلى المصلى وإلى دخول الإمام، مشهوراً جداً عند السلف، وقد نقله جماعة من المصنفين كـ ابن أبي شيبة وعبد الرازق والفريابي في كتابه أحكام العيد ين عن جماعة منهم، حتى إن نافع بن جبير رضي الله عنه، [[كبر ثم تعجب من عدم تكبير الناس، وقال لهم: ألا تكبرون ألا تكبرون؟!]] وكذلك محمد بن شهاب الزهري يقول: [[كان الناس يكبرون من حين خروجهم من بيوتهم حتى يدخل الإمام]] فيشرع للإنسان أن يكبر من حين أن يخرج من منزله إلى أن يدخل الإمام في يوم العيد للصلاة ثم الخطبة. رابعاً: من آداب العيد: التهنئة التي يتبادلها الناس فيما بينهم أياً كان لفظها، كقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك من عبارات التهنئة المشروعة المباحة التي يتبادلونها. والتهنئة أمر كان معروفاً عند الصحابة، ورخص فيه أهل العلم كالإمام أحمد وغيره، وقد ورد ما يدل على مشروعيه التهنئة في المناسبات، وتهنئة الصحابة بعضهم بعضاً فيما إذا حصل لهم أمر يسر، كما هنوا من تاب الله عليهم، إلى غير ذلك، ولا حرج في هذه التهنئة. بل ورد في ذلك أثار عديدة صحيحة عن الصحابة؛ يحتج بها على أنه لا بأس أن يهنئ الناس يعضهم بعضاً بالعيد، وهذا من مكارم الأخلاق التي لا بد أن يحافظ الناس عليها، ولا حرج فيها، وأقل ما يقال فيها: إن هنأك أحد فهنئه وإن سكت فاسكت. قال الإمام أحمد رحمه الله: إن هنأني أحد أجبته وإلا لم أبتدئه. خامساً: من آداب العيد: التجمل بأحسن الملابس؛ لما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر [[أن عمر رضي الله عنه خرج إلى السوق فوجد حلةً من إستبرق تباع، فجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول! ابتع هذه تتجمل بها للعيد والوفود]] . فدل على أن التجمل للعيد والوفود كان معروفاً، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم عمر على التجمل؛ لكنه أنكر عليه شراء هذه الحلة التي هي من حرير، وقال: {إنما يلبس هذه من لا خلاق له} . وعن جابر رضي الله عنه قال: {كانت للنبي صلى الله عليه وسلم حلة يلبسها للعيد والجمعة} والحديث رواه ابن خزيمة، وعن ابن عمر -أيضاً- عند البيهقي بسند صحيح، [[أن ابن عمر كان يلبس للعيد أجمل ثيابه]] . فينبغي أن يلبس الإنسان أحسن ما عنده من الثياب. أما بالنسبة للنساء -إن خرجن- فينبغي أن يبتعدن عن الزينة؛ لأنهن منهيات عن إظهار زينتهن للرجال الأجانب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 112 أحكام العيد وفيما يتعلق بالعيد لدينا مجموعة من الأحكام أسردها باختصار: أولاً: يحرم صوم يومي العيدين، لحديث أبي سعيد الخدري السابق. ثانياً: يستحب الخروج للصلاة للرجال والنساء، لقول أم عطية رضي الله عنها -كما في الصحيح-: {أمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور -أي: البنات الغير متزوجات: الأبكار- وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى؛ ليشهدن الخير ودعوة المسلمين ويكبرن بتكبير الناس} . فإذا أمرت الحيض، والعواتق، وذوات الخدور، فمن باب أولى أن يؤمر الرجال والشباب بالخروج إلى العيد. وذهب بعض أهل العلم إلى وجوب الخروج لصلاة العيد لهذا الحديث ولغيره من الأدلة، كما في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] . قال بعضهم: المقصود صلاة العيد. ثالثاً: من أحكام صلاة العيد: أن الصلاة فيه قبل الخطبة، كما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وأبي سعيد وابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل الخطبة} . رابعاً: من أحكامه: أن الإمام يستحب له أن يكبر في الصلاة سبعاً في الأولى، وخمساً في الثانية، كما ثبت هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين، كـ عمر، وعثمان، وعلي، وأبي هريرة، وابن عباس، وأبي سعيد الخدري، وأبي أيوب الأنصاري، وزيد بن ثابت وغيرهم، وقد ورد في ذلك أحاديث عدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، ومن طريق كثير بن عبد الله المزني عن عمرو بن عوف، لكن -الأحاديث المرفوعة- كلها لا تصح لكن ثبت ذلك في أحاديث وآثار موقوفة. وكذلك يجوز أن يكبر أربعاً في الأولى وأربعاً في الثانية، فقد ثبت هذا عن جماعة من السلف منهم ابن مسعود رضي الله عنه، كما رواه عنه الفريابي وغيره، وهو مذهب الأحناف. خامساً: من أحكام العيد: أنه يستحب أن يقرأ في صلاة العيد بسورة (ق) ، واقتربت الساعة، كما في صحيح مسلم، أن عمر رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي فقال له: ماذا كان يقرأ النبي عليه الصلاة والسلام في العيد؟ فذكر له ذلك. وأكثر ما ورد أنه كان يقرأ بسبح والغاشية، كما يقرؤهما في صلاة الجمعة. سادساً: من أحكام العيد: أنه لا نافلة قبلها ولا بعدها، كما روى الستة عن ابن عباس رضي الله عنه، {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى العيد فلم يصلِّ قبلها ولا بعدها} إلا إذا صلى الناس العيد في المسجد، فإنه يصلى ركعتين تحية المسجد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 113 صدقة الفطر الوقفة السادسة والعشرون: مع صدقة الفطر. وصدقة الفطر فرض على الذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين، كما جاء في حديث ابن عمر وابن عباس المتفق عليه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 114 الأصناف التي تخرج منها صدقة الفطر فيما يتعلق بصدقة الفطر، فإنما تخرج من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد أنه قال: {كنا نخرجها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب} وزاد ابن عمر كما في صحيح ابن خزيمة: {أو صاعاً من سلت} والسلت هو: نوع جيد من الشعير ليس فيه قشر. وفى رواية أخرى عن ابن عباس عند ابن خزيمة، أنه قال: [[من أدى سلتاً قُبل منه، ومن أدى دقيقاً قُبل منه، ومن أدى سويقاً قُبل منه]] ولذلك بوب ابن خزيمة رحمه الله: باب إخراج صدقة الفطر من جميع الأطعمة. ولذلك فالصحيح أن صدقة الفطر تخرج صاعاً من طعام البلد أياً كان طعام البلد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 115 الأصناف الذين يستحقون صدقة الفطر وصدقة الفطر إنما هي للمساكين خاصة، وليست لأصناف أهل الزكاة الثمانية، بل هي للمساكين خاصة، لما جاء في حديث ابن عباس في الصحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {طهرة للصائم من اللغو، والرفث، وطعمة للمساكين} وهذا الذي رجحه جماعة من أهل العلم، كـ ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله. وتؤدى هذه الزكاة قبل الخروج إلى الصلاة، ومن أداها قبل العيد بيوم أو يومين فلا حرج، ولا يجوز تأخيرها عن الصلاة، فإن أخرها بعد فإنما هي صدقة من الصدقات. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 116 أحكام القضاء الوقفة السابعة والعشرون: أحكام القضاء. وفى هذه الوقفة أشير إلى أنواع من الناس: الجزء: 19 ¦ الصفحة: 117 أنواع الناس في القضاء النوع الأول: الحائض والنفساء، والمسافر، فهؤلاء يفطرون ويقضون. النوع الثاني: الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فإنهما تفطران، والراجح أنهما تفطران وتقضيان فحسب، لما جاء في قول الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] . - والحامل والمرضع تلحق بالمريض، لما في السنن من حديث أنس بن مالك الكعب، وسنده صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: {هلم إلى الطعام. فقال: إني صائم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هلم أخبرك إن الله تعالى وضع عن المسافر شطر الصلاة والصوم، ووضع عن المرضع والحبلى الصوم} فالحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو ولديهما، فالراجح أن عليهما الفطر والقضاء. وقال بعض أهل العلم: عليهما الفطر والقضاء والإطعام، وقال آخرون: عليهما الإطعام فقط. والخلاف فيما إذا خافت على ولدها. النوع الثالث: المريض، والمريض قسمان: الأول: المريض الذي يرجى برؤه، كمن يكون فيه حمى، فإن هذا المريض لا شيء عليه؛ لكن إذا شفي فعليه القضاء، فإن مات قبل أن يشفى فلا شيء على ورثته، أما إن تمكن من القضاء ثم فرط فعليهم أن يطعموا أو يصوموا عنه. - أما المريض الذي لا يرجى برؤه، بأن يكون مصاباً بالأمراض التي لا ترجى، وهى كثيرة -شفانا الله وعافانا وإياكم منها- فإن هذا المريض يفطر ويطعم عن كل يوم مسكيناً. النوع الرابع: الكبير الهرم الذي أصابه الخرف وزال عقله وسقط تمييزه، فإن هذا لا صوم عليه ولا قضاء ولا إطعام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 118 أمور تتعلق بالقضاء فيما يتعلق بالقضاء أشير إلى ثلاث نقاط: الأولى: أن بعض الناس يؤخرون القضاء إلى ما بعد رمضان الآخر، وهذا لا يجوز، لقول عائشة كما في صحيح البخاري: [[كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان، للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم]] ولأنه يترتب على ذلك تراكم الصيام على الإنسان، ولأن الصيام عبادة موقوتة بالسنة، فلم يجز أن يؤخر إلى السنة التي بعدها. والثانية: أنه لا يشترط التتابع في الصيام، فبعض الناس يعتقدون أن قضاء رمضان يشترط فيه التتابع، وهذا غير صحيح، بل له أن يصوم يوماً ويفطر ثم يصوم وهكذا. والثالثة: أنه يستحب الإسراع في القضاء، لأنه أسرع في إبراء الذمة، وأبعد عن تعرض الإنسان للموت والفوت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 119 صيام الست من شوال الوقفة الثامنة والعشرون: صيام الست من شوال، وهو مشروع. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 120 أدلة مشروعية صيام الست من شوال جاء في صحيح مسلم من حديث أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر} وهذا المعنى جاء عند الدارمي وابن ماجة من حديث ثوبان، وجاء عند أحمد من حديث جابر، وجاء عند البزار من حديث أبي هريرة، كل هذه الأحاديث تدل على مشروعية صيام الست من شوال، وهو الصحيح من مذهب الجماهير خلافاً لـ مالك. وإنما كان صيام الست مع رمضان صيام الدهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها فرمضان عن عشرة أشهر، والست من شوال عن ستين يوماً فهي أي: شهرين، فصارت العشر أشهر مع شهرين الحول كله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 121 المبادرة بصيام الست ويستحب المبادرة بصيام الست من شوال، بحيث يبدأ بها من اليوم الثاني استحباباً، ولو أخر إلى آخر الشهر فلا حرج عليه في ذلك، ولا يصومها من كان عليه قضاء من رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال} فالست من شوال تكون بعد قضاء رمضان، وبعض الناس يسمون اليوم الثامن من شوال عيد الأبرار، وهذه بدعة باطلة منكرة، فالأعياد اثنان -كما سلف- لا ثالث لهما. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 122 صيام النفل الوقفة التاسعة والعشرون: مع صيام النفل. {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم} ولم يعلم عنه أنه صام شهراً كاملاً غير رمضان، إلا شعبان فإنه كان يصوم أكثره. وكان عليه الصلاة والسلام يتعاهد صيام يوم الإثنين والخميس، ويتعاهد صيام أيام البيض، بل جاء عنه في حديث -وإن كان فيه ضعف- {أنه كان لا يترك صيامها في حضر ولا سفر} . وكان يأمر بصيام أيام البيض أيضاً، فقد أمر بذلك أبا هريرة، وأبا ذر، أمرهم بثلاث: منها: أن يصوموا ثلاثة أيام من كل شهر. وكان عليه الصلاة والسلام قد أذن ل عبد الله بن عمرو بن العاص أن يصوم يوماً ويفطر يوماً، ونهى عن صيام الدهر فقال: {لا صام ولا أفطر -وقال:- لا صام من صام الأبد} وقال عليه الصلاة والسلام: {من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم} . وكان يأمر بصيام يوم عرفة لغير الحاج، فأما الحاج فيكره له أن يصوم فيه، وقال عليه الصلاة والسلام: {احتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والسنة الباقية} . وكذلك صام عليه الصلاة والسلام عاشوراء، وقال: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} وصيامه عليه الصلاة والسلام النفل كثير. الوقفة الأخيرة: هي الخاتمة -نسأل الله تعالى لنا ولكم حسن الخاتمة- نحن -الآن- مقبلون على النصف الثاني من رمضان، فقد مضى نصفه وبقي نصفه الآخر، وكأنكم به وقد آذن بالرحيل، فالعاقل كل العاقل، والحازم كل الحازم هو من اغتنم ساعاته وأيامه ولياليه، فمن يدري ربما تكونون ممن كتبوا في سجل الأموات في هذا العام، فالبدار البدار، والإسراع الإسراع، والحذر الحذر من التفويت والتفريط ما دمت في زمن الإمكان. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 123 الأسئلة الجزء: 19 ¦ الصفحة: 124 مسجد العيد السؤال هل يعتبر مسجد العيد مسجداً؟ الجواب لا يعتبر مسجداً إنما هو مصلى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 125 الإجازة الاضطرارية السؤال الإجازة الاضطرارية، هل تجزم بتحريم أخذها من أجل العمرة علماً بأنه يجب التأكد من تفسيرها من الديوان؟ الجواب في الواقع أنني سألت بعض المسئولين في الديوان وأكثر من مسئول، وقالوا إنها تؤخذ في حالة الضرورة، مثل حالة وفاة وما أشبه ذلك، وهذا هو الظاهر. ولا شك أن القول بتحريمها مبني على معرفة الحالات التي يجوز فيها أخذ الإجازة الاضطرارية، لكن إن كانت على ظاهره أنها لا تؤخذ إلا للضرورة، فلا يجوز أخذها من أجل أداء العمرة. هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 126 التقبيل والمصافحة السؤال حكم التقبيل في يوم العيد؟ الجواب أولاً: بالنسبة للمصافحة يوم العيد، يقول الفقهاء: لا حرج في المصافحة إذا اتحد الجنس، بأن كان المتصافحان ذكراً مع ذكر، أما مصافحة الأنثى فلا يجوز؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لأن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له} . أما التقبيل، فإن كان له مناسبة مثل أنك لم تره منذ زمن فلا حرج فيه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 127 النية مع الإمام للوتر السؤال سمعنا أنه يلزم أن ينوى المصلى للتراويح بعد نهايتها نية جديدة للوتر، فإذا كان هذا صحيحاً فما الحكم فيمن صلى خلف الإمام عشر ركعات، ثم أوتر بواحدة، وكان من عادته أن يوتر بثلاث؟ الجواب الذي يظهر لي -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه من دخل مع الإمام بنية أنه سوف يستمر معه إلى نهاية الوتر أن هذا يكفي في النية، والله تبارك وتعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 128 التنويع لبيان الجواز السؤال بعض الأئمة ينوعون، بحيث يصلون أحياناً إحدى عشر وأحياناً ثلاثة عشر، وأحياناً يقرنون الشفع والوتر، وأحياناً يقنتون وأحياناً لا يقنتون، فما رأيك؟ الجواب بالنسبة للقنوت لا بأس بالمحافظة عليه، إلا أن يخشى أن يعتقد الناس وجوبه. وبالنسبة للصلاة إذا كان في التنويع مصلحة للبيان للناس فلا حرج، أما كثرة التنويع فليست حسنة، بل ينبغي أن لا يكثر الإنسان من التنويع، فيكون له عادة ولا مانع أن يترك هذه العادة أحياناً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 129 ترك العمل خشية الرياء السؤال يقول: أنا إمام المسجد في التراويح، وبيتنا قريب من المسجد، وأريد الاعتكاف وأخشى الرياء، أرجو إرشادي ماذا أفعل، وما هي الحالات التي تتيح لي الخروج من المسجد؟ الجواب لا تبالي بهذا الأمر الذي خطر لك من خشية الرياء، فلا يجوز ترك العمل خشية الرياء، بل ينبغي أن تعتكف وتتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، أما الحالات التي تخرج فيها من المسجد فتخرج لحاجتك، كما قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح: {وكان لا يخرج إلى البيت إلا لحاجة الإنسان} حاجتك من قضاء الحاجة، أو من الأكل والشرب وما أشبه ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 130 عدد عمر النبي صلى الله عليه وسلم السؤال كم اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا عمرته التي كانت مع حجته، منها: عمرة الجعرانة، وعمرة القضاء، وعمرة الحديبية، والعمرة الرابعة كانت مع حجته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 131 العمرة لإمام المسجد السؤال أنا مؤذن في أحد المساجد وأريد أن أعتمر، وقد طلبت من الوزارة إجازة لمدة أسبوعين ولم تمانع الوزارة؛ لكن لم أجد أحد يقوم مقامي؟ الجواب إذا وجد من يقوم مقامك ووافقت الجهة المختصة فلا حرج في ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 132 شد الرحال من أجل طلب العلم السؤال بمناسبة ذكر شد الرحال، أشكل على كثير منا أن بعض الشباب ينتقلون من بلدهم إلى بلد آخر من أجل صلاة التراويح في رمضان مع الأئمة، فهل يعتبر هذا من شد الرحال، مع العلم أنهم أتوا من أجل الإمام؟ الجواب لا حرج في ذلك، لا حرج في شد الرحال من أجل طلب العلم، أو من أجل الصلاة خلف إمام معين، أو من أجل السلام على رجل، أو من أجل زيارة مريض، أو من أجل زيارة أخ في الله، أو من أجل تجارة، لأن شد الرحل حينئذ ليس من أجل البقعة وإنما من أجل أمر آخر، والمنهي عنه هو شد الرحال من أجل البقعة باعتقاد فضلها عن غيرها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 133 القضاء لمن شرب بعد الأذان السؤال يقول: في هذا اليوم لم أقم إلا الساعة الخامسة إلا ربع، والأذان في الساعة الرابعة والنصف، وكان ذلك في أثناء إقامة الصلاة فشربت ماءً هل علي قضاء؟ الجواب نعم عليك القضاء. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 134 صيام أيام البيض وثلاثة أيام من شوال السؤال إذا صمت الأيام البيض وثلاثة أيام أخرى، فهل يكتب لي أجر صيام الست من شوال؟ الجواب نعم يكتب لك ذلك، إذا صمت أيام البيض من شوال وصمت منها ثلاثة أيام أخرى، يكتب لك أجر صيام الست من شوال. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 135 الإحرام بالنسبة للحائض السؤال حجزت في الطائرة للذهاب للعمرة يوم الثلاثاء بعد غد على أساس أن زوجتي قد تكون طهرت من الحيض، ولكن إلى الآن لم تطهر، فما الحكم في الإحرام للمرأة الحائض، وما هو العمل عند الوصول إلى المحرم؟ الجواب إذا وصلت إلى المحرم فتحرم زوجتك كغيرها وإن كانت حائضاً، فتغتسل وتلبس ثياب الإحرام وتلبي بالعمرة، لكنها لا تقضي مناسك العمرة حتى تطهر، فتعتمر أنت وتطوف وتسعى وتقصر، ثم تنتظر زوجتك حتى تطهر فإذا طهرت اعتمرت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 136 النية في الصوم السؤال ما حكم من لم ينتبه من النوم إلا بعد الساعة التاسعة تقريباً من النهار، هل عليه قضاء هذا اليوم؟ الجواب ما دام نوى الصيام في تلك الليلة فلا قضاء عليه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 137 الأكل في حال الشك السؤال ما حكم من أكل شاكاً في طلوع الفجر؟ الجواب صومه صحيح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 138 الطهارة لمس المصحف السؤال هل يجوز مس مصحف على غير طهارة؟ الجواب الصحيح الذي عليه جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم؛ أنه لا يجوز مس المصحف مباشرة إلا للمتوضئ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 139 المضمضة المتكررة السؤال هل عليَّ حرج إن تمضمضت؛ وذلك لأنني مدرس أحتاج أن أتمضمض بعد كل درس؟ الجواب لا حرج عليك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 140 تكرار العمرة السؤال ذكرت في الدرس الماضي أن بعض أهل العلم كره الإكثار من العمرة، فما مدى صحة ذلك؟ وما هو متوسط العمرة في السنة؟ الجواب قال بعضهم: كل عشرة أيام، وقال بعضهم: أكثر من ذلك، وقال بعضهم: أقل من ذلك، والصحيح أنه لا يتحدد ذلك، بل لا مانع أن يعتمر الإنسان متى شاء، لكن المنهي عنه أن يكرر الإنسان العمرة من مكة أي أن الإنسان يكون في مكة، وكل يوم وهو في عمرة، هذا لم يعهد عن السلف، أما كونه اعتمر ثم رجع، ثم ذهب مرة أخرى لأنه وجد رفقة أو ما أشبه ذلك فلا حرج. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 141 الاغتسال من المذي السؤال في صبيحة أحد أيام رمضان احتلمت ولم أر منياً وإنما رأيت مذياً، هل أغتسل من ذلك؟ الجواب لا تغتسل، ما دام لم يخرج منك مني فلا غسل عليك، فالمذي لا يوجب الغسل وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 142 الاعتكاف مع الجماعة السؤال ما رأيك في الاعتكاف في جماعة يتساعدون، ويأسرون أنفسهم الأمارة بالسوء، علماً بأنه يتخلل لعتكافهم بعض الكلام الدنيوي؟ الجواب لا حرج في إعتكاف جماعة، وإن تخلل كلامهم كلاماً مباحاً، كما تكلمت صفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما تكلم الرسول عليه الصلاة والسلام مع بعض أزواجه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 143 صلاة التهجد السؤال ما رأيكم في صلاة التهجد التي تقام في العشر الأواخر من ناحية عددها ووقتها وصفتها، وما تعليقكم على واقع الناس في التخلف عن هذه الصلاة؟ الجواب صلاة التهجد هي من ضمن صلاة القيام التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم وفعلها، حيث قام ليلةً بأصحابه حتى خشوا أن يفوتهم السحور، وكما سمعتم أنه كان إذا دخل العشر جدَّ وشدَّ المئزر وأحيا ليله، فينبغي على العاقل الرشيد الناصح لنفسه، أن يحرص على تعهد صلاة التراويح والقيام مع المسلمين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 144 الاعتكاف في الحرم المكي السؤال أيهما أفضل لمن لا عمل له في هذه العشر وليس هناك شيء يربطه من إمامة وغيرها، هل يقضيها في مكة والرحاب الطاهرة، أم في بلده مع أقرانه؟ الجواب الأفضل له أن يقضيها في مكة ويعتكف في الحرم -أيضاً- إذا لم يكن في ذلك مشقة عليه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 145 صلاة الليل مثنى مثنى السؤال ما حكم من صلى أربع ركعات في تسليمة واحدة؟ الجواب هذا لا ينبغي، فجماهير أهل العلم على منع ذلك وتحريمه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {صلاة الليل مثنى مثنى} أي: تسلم من كل ركعتين. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 146 الاعتكاف ساعة السؤال هل يجوز أن يعتكف المسلم ولو ساعة واحدة؟ الجواب لم ينقل هذا عن السلف، وعلى القول بأنه لا بد من الصيام في الاعتكاف، فلا إشكال أن أقل الاعتكاف يوم، لكن عند الحنابلة وبعض الشافعية أنه يجوز أن يعتكف ولو ساعة، قال الشافعية ولو لحظة، لكن هذا لم ينقل عن السلف، ولذلك الظاهر -والله تعالى أعلم- أنه لا ينبغي أن ينوي الإنسان نية الاعتكاف إذا أراد أن يدخل للصلاة وما أشبه ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 147 الصلاة عند طلوع الشمس في صبح ليلة القدر السؤال إذا كان في الأيام العادية، فإن الشمس تطلع بين قرني الشيطان، ولا يجوز الصلاة عند ذلك، فأما في صبيحة ليلة القدر فلا تخرج الشمس بين قرني الشيطان، فهل يجوز أن نصلي في تلك الصبيحة؟ الجواب السؤال هذا -سبحان الله! - انقدح في ذهني أنه سوف يأتي إلى وأنا أقرأ الحديث في مسند الإمام أحمد، لكن أقول: إن صح الحديث فيقال: إن صبيحة تلك الليلة لا يكون وقت طلوع الشمس فيها وقت نهي، لكن الحديث فيه ضعف، فهذا الأمر الذي انفرد به لا يبنى عليه حكم، وبناءً عليه أقول: صبيحة ليلة القدر كغيرها، وقت طلوع الشمس فيها وقت نهي. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 148 ليلة القدر علمها عند ربي السؤال هل تحسب ليلة القدر إذا تقدم الشهر أو تأخر؟ الجواب ليلة القدر علمها عند ربي، إنما على العبد أن يتحراها ويحرص على الإخلاص وكثرة العبادة فيها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 149 اعتزال النساء في العشر الأواخر للمعتكف السؤال هل اعتزال النساء في العشر الأواخر من تطبيق السنة؟ الجواب نعم، لمن كان يريد أن يعتكف. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 150 الخروج من المعتكف للحاجة السؤال ما حكم من يخرج من المسجد الحرام لتناول الطعام وقضاء الحاجة؟ الجواب لا بأس أن يخرج المعتكف، لأكل الطعام وقضاء الحاجة، ولا يلزمه أن يذهب إلى بيت صديقه القريب، لكن لا بأس أن يذهب إلى شقة -مثلاً- إن استأجرها أو ما أشبه ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 151 الدعوة هي السبيل السؤال يتكاثر الشباب على الأرصفة على أمور لا خير فيها، فما هو السبيل لعلاج هذه الظاهرة؟ الجواب السبيل هو أن يقوم الشباب المهتدي بحملة في الدعوة إلى الله عز وجل، وصحبة هؤلاء، ونشر العلم النافع بينهم، بواسطة الشريط والكتاب والصحبة والكلمة الطيبة، وغير ذلك من الوسائل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 152 أصح ما يقال بعد الإفطار السؤال ما أصح ما يقال بعد الإفطار؟ الجواب الحمد لله، ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى، ثم يدعو بما أحب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 153 الموقف من المنكرات السؤال يزداد الإيمان في هذا الشهر عند بعض الشباب، فنجد الشاب يقول: ما هو موقفي أمام ما أرى من المنكرات؟ الجواب موقفه أن يعمل على تغييرها ما استطاع: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 154 الحكمة من العيد بعد الصيام السؤال ما الحكمة من جعل العيد بعد الانتهاء من صيام شهر رمضان؟ الجواب لشكر الله تعالى على إكمال عدة الشهر، كما قال الله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 155 اقتناء الخادمة بغير محرم السؤال أهلي سوف يسافرون إلى العمرة وعندنا خادمة، وذهابها معهم أصلح من مكوثها في هذا البلد؟ الجواب يعني هما أمران أحلاهما مر، لكن عليك أن تبين لأهلك أن اقتناءهم لهذه الخادمة وهي بدون محرم أمر خطير ينبغي أن يصحح. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 156 أصح الأذكار بعد الوتر السؤال ما هو أصح حديث يقال بعد نهاية صلاة الوتر؟ الجواب أصح الأذكار التي وردت بعد الوتر، ما ثبت في سنن أبي داود، وسنن النسائي، ومسند الإمام أحمد وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من الوتر قال: {سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس يمد بالثالثة صوته} . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 157 الفطر يوم يفطر الناس السؤال: إنه بدأ الصيام هنا في السعودية، ويريد أن يذهب إلى مصر ليقضي إجازته هناك، وكان شهر رمضان في مصر ثلاثون يوماً لأنهم أتموا شعبان ثلاثين يوماً، فهل يصوم مع أهل مصر؟ مع العلم أنه سوف يصوم واحداً وثلاثين يوماً؟ الجواب أرى أن يصوم معهم- فيما يظهر لي- لموافقة الناس في ذلك، كما ورد في الحديث: {الفطر يوم يفطر الناس، والصوم يوم يصومون} . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 158 ضعف حديث نية المؤمن خير من عمله السؤال ما صحة حديث: {نية المؤمن خير من عمله} ؟ الجواب لا يصح هذا الحديث. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 159 الصفرة لها حكم الدم السؤال امرأة رأت بعد الظهر صفرةً، ولكن لم يخرج منها الدم إلا بعد الإفطار بزمن يسير بحيث خرج منها الدم بصورته الطبيعية، فهل تقضي هذا اليوم أم لا؟ علماً بأن هذه أول مرة يحصل لها مثل هذه الحالة. الجواب إذا كانت الصفرة متصلة بالدم فأرى أن حكمها حكمه، وأرى أن هذه المرأة تقضي ذلك اليوم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 160 الاغتسال للمعتكف السؤال هل يجوز للمعتكف أن يخرج كل يوم للاغتسال والتنظف والتطيب، أم لابد أن يكون الاغتسال موجباً للخروج؟ الجواب لا يجوز له أن يخرج كل يوم للتنظف والتطيب؛ لكن يغتسل للغسل الواجب ويخرج له إذا احتاج إلى الخروج، وأما غسل التطيب فلا أعلم أنه يجوز أن يخرج له. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 161 العمرة بعد ليلة السابع والعشرين السؤال أنا إمام مسجد أريد أن أختم القرآن في صلاة التراويح في المسجد في ليلة السابع والعشرين، وبعد ذلك أعتمر، علماً بأنه لا يوجد في المسجد من يسد محلي فما رأيك في ذلك؟ الجواب لا حرج في ذلك؛ لأنك إذا خرجت بعد ليلة السابع والعشرين فلا أظن أنك تعتمر وتعود بعد ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 162 اعتكاف يوم السؤال رجل أراد أن يعتكف يوماً واحداً فهل هذا صحيح، علماً بأنه يدخل قبل أذان الفجر ثم يخرج من معتكفه بعد المغرب، فهل هذا يكون يوماً؟ الجواب بالنسبة لمن أراد أن يعتكف يوماً فلا حرج في ذلك، كما في الصحيح أن عمر نذر في الجاهلية أن يعتكف يوماً وليلة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أوف بنذرك} وإذا أراد أن يعتكف يوماً وليلة فيدخل المعتكف من حين الوقت الذي نوى فيه، فإن نوى ليلة دخل قبل الغروب، وإن نوى يوماً دخل قبل الفجر، وإن نوى يوماً وليلة دخل قبل الغروب أيضاً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 163 إمام المسجد والعمرة في رمضان السؤال أنا إمام مسجد من قبل الأوقاف هل يجوز لي أن أذهب إلى الحرم لقضاء العشر الأواخر وأداء العمرة، علماً بأني قد أخذت موافقة الإخوة في المسجد؟ الجواب إذا وافقت جماعة المسجد على ذلك، وكان هناك من ينوب عنك في الإمامة، فلا أعلم في ذلك حرجاً، وإن كنت أرى أن الأفضل أن يقوم الإنسان بعمله وبواجبه ويصلي بجماعته، ولا مانع أن يذهب يوماً أو يومين يؤدي العمرة ثم يعود. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 164 الوتر وصلاة الليل السؤال إذا كنت إماماً وأنا مضطر أن أوتر بهم في صلاة التراويح، وأريد أن أوتر آخر الليل، هل يجوز لي ذلك؟ الجواب يجوز أن تصلي بهم وتوتر بهم، ثم تصلي آخر الليل ما قسم الله لك، وإن كان الأفضل مادمت صليت معهم وكانت هذه عادة مستمرة أن تكتفي بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} ثم تقرأ القرآن وتسبح الله عز وجل. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 165 شر صفوف النساء أولها السؤال بعض النساء تدخل المسجد المخصص، ثم تصلي في آخر الصفوف القريبة من الباب؛ بحجة حديث: {شر صفوف النساء أولها} ؟ الجواب الأظهر -والله أعلم- أن شر صفوف النساء أولها إذا كان بقرب الرجال، أما مع وجود عازل وفاصل فلا يكون الأمر كذلك، والله تعالى أعلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 166 المداومة على الدعاء في الوتر السؤال هل المداومة على الدعاء في الوتر سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب نعم، لا بأس أن يداوم الإنسان على الدعاء في الوتر، وإن تركه أحياناً ليبين أنه ليس بواجب فلا حرج في ذلك أيضاً. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 167 قراءة القرآن في التراويح السؤال هل أقرأ على الجماعة في التراويح القرآن وأكمله في البيت وحدي وأكون خاتماً للقرآن، أم تحق لهم الختمة؟ الجواب الأولى أن تقرأ لهم القرآن في صلاة التراويح ليسمعوا. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 168 أيهما أفضل قراءة القرآن في رمضان أم حفظه؟ السؤال يقول: هل ختم القرآن عدة مرات أفضل أو حفظه؟ الجواب الجمع بينهما جيد، فيحرص الإنسان على أن يزيد من حفظه في رمضان، وأن يكثر من قراءة القرآن. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 169 صلة الرحم تزيد في العمر السؤال قلت: إن صلة الرحم تزيد في العمر، ونعلم أن الإنسان يكتب رزقه وعمله وأجله، أرجو توضيح هذا؟ الجواب لست أنا الذي قلته، وإنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأسباب، حيث علم الله أن فلاناً يصل رحمه فزاد في عمره، وقال بعضهم: إن الزيادة في العمر تعني البركة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 170 رفع الصوت بالقرآن السؤال بعض الناس يرفعون أصواتهم في قراءة القرآن، بحيث يحدثون تشويشاً على الآخرين، فهل ينكر على مثل هؤلاء؟ الجواب إن كان يبالغ في رفع الصوت بحيث يؤذي الناس، فينكر عليه ذلك ويبين له أنه لا يرفع صوته، أما إن كان يقرأ والأصوات متقاربة فتحدث دوياً، وليس بعضها أرفع من بعض، ولا يؤذي بعضها بعضاً، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه جاء في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنني أعرف أماكن الأشعريين إذا نزلوا بالليل وإن لم أكن رأيت منازلهم بالنهار من أصواتهم بالقرآن} فدل على أنه إذا كان الجماعة كلهم يقرءون بصوت متقارب لا يؤذي بعضهم بعضاً، فلا حرج في ذلك؛ لكن إن كان واحد يرفع والبقية يخفضون أصواتهم، فهذا يبين له أن لا يرفع صوته. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 171 تغيير مكان السنة بعد الفريضة السؤال هل لتغيير مكان السنة بعد صلاة الفريضة فضل؟ لأننا نرى كثيراً من الناس يبادرون إلى تغييره. الجواب لا أعلم في ذلك حديثاً يصح إلا في الجمعة، وأنه لا توصل بصلاة حتى يتكلم أو ينتقل إلى مكان آخر، وبعض السلف كانوا يفعلون ذلك، واحتج بعضهم بقول الله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان:29] قالوا: إن المؤمن يبكي عليه مصعد عمله من السماء، وموضع عمله في الأرض، وكموضع سجوده في الأرض، فالأمر في ذلك واسع. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 172 التبرع بالدم وأخذ الحقن في أثناء الصيام السؤال هل التبرع بالدم وأخذ الحقن تفطر أم لا؟ الجواب سبق أن ذكرت الحقن. أما موضوع الدم، فإنه السائل يقصد إخراج الدم، فنقول: مسألة الحجامة فيها خلاف، فمنهم من يقول إنها تفطر، لحديث: {أفطر الحاجم والمحجوم} ومنهم من يقول: إنها لا تفطر لحديث {أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم} والذي يترجح عندي أن الحجامة لا تفطر، وأن القول بتفطيرها منسوخ. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 173 ختم القرآن السؤال الناس يهتمون بالختمة، فنرجو أن تقول ما يفيد عفا الله عنا وعنكم جميعاً؟ الجواب إن اعتقاد بعض الناس أن الختمة سنة لدرجة أن بعض الناس في المسجد يدعون في الليلة الواحدة مرتين، فيختم في الركعة الأخيرة من التراويح ويدعو، ثم يقوم ويشفع ويوتر ثم يدعو في الوتر، فلا شك أن هذا مخالف للسنة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف. أما كون بعض الناس يدعو عند انتهائه من قراءة القرآن، ويطيل في الدعاء في الوتر كما يقع الآن في الحرم، سواءً قبل الركوع أو بعده، فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كما في الترمذي: {اقرءوا القرآن وادعوا الله به} وقد ورد عن أنس [[أنه كان يجمع أهله ويختم بهم]] ولكن لم يكن هذا في الصلاة، بل يجمعهم في المنزل. فنقول: الختمة فيها تفصيل؛ فإذا كان الإمام يختم في الوتر أي: يطيل الدعاء، فلا داعي -مثلاً- لأن يقرأ هذه الختمات الموجودة، التي تتحول إلى نصيحة وموعظة، والتي لا تجوز، بل قد تبطل الصلاة أحياناً، مثل بعض العبارات التي يكون فيها خطاب للمصلين، ويطول فيها بذكر الآخرة والجنة والنار والقبر ومنكر ونكير، فالختمة ليست موعظة، وإنما هي دعاء، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 174 صوم المسافر السؤال نريد الذهاب إلى العمرة في رمضان -إن شاء الله تعالى- ونستطيع الصيام، وليس هناك مشقة أو عناء في السفر أو جوع أو عطش، فهل نصوم أو نفطر؟ الجواب بالنسبة لصوم المسافر وفطره، المسألة فيها كلام، ولكن الأقوى من الأقوال: أنه إن كان الصوم يضر المسافر فإنه يحرم عليه الصيام، وإن كان يشق عليه ولا يضره، فإن الأفضل في حقه أن يفطر ويجوز له الصوم، وإن لم يكن ليس عليه مشقة ولا ضرر، فالأفضل في حقه أن يصوم؛ إدراكاً لفضيلة الشهر وموافقةً للناس وتعجلاً في إبراء الذمة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 175 النية في صيام رمضان السؤال ذكرت في مسألة النية أنه يكفي نيةً واحدة للشهر، وقد سمعت أن أحد المشايخ يقول أنه يجب النية لكل يومٍ من رمضان، فما تعليقكم على ذلك؟ الجواب صحيح أنه لا بد من النية لكل يوم، لكن قصدي أن مجرد كونك علمت أن الشهر دخل فنويت صيام هذا الشهر كله فهذا يكفي، فكل ليلةٍ أنت تنوي أن تصوم غداً، ولا يحتاج أن تجدد النية أو تستحضر شيئاً في قلبك، فالنية موجودة أصلاً، إلا إذا قطعها الإنسان لأي سبب، كأن قطع نية الصيام ونوى ألا يصوم, فنقول: لا بد له إن أمسك ذلك اليوم أن يجدد نية له ولما بعده. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 176 الدخول على الخادمة في المنزل السؤال ما هو الموقف العادل النافع الذي توجهونه لمن في بيت أبيه خادمة، ما حكم دخوله البيت وهي فيه وبياته في البيت وهي فيه، وهو ليس محصناً متزوجاً؟ الجواب على الولد أن ينصح والده، ويبين الأضرار المترتبة على وجود هذه المرأة الأجنبية في بيته، وهي امرأةٌ تأتي بدون محرم من مسافاتٍ بعيدة، وربما تكون فتاةً في قلبها من الشهوة مثل ما في قلب غيرها، وخاصةً مع وجود شباب في البيت، ولا شك أن هذا خطرٌ عظيم، وهو كمن يوقد النار ويجعل البنزين قريباً منها، وعلى الشاب: أولاً: أن يناصح والديه. وثانياً: أن يبتعد عن هذه المرأة ويحرص على أن لا يراها ولا يقترب منها، فضلاً عن أن يخلو بها فهذا لا يجوز. وثالثاً: عليه إذا شعر بالخطر أن يسعى في إنقاذ نفسه ونجاتها، ولو ترتب على الأمر أن يبتعد عن البيت. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 177 رؤية الرسول في المنام السؤال ذكرت في بداية هذه الدروس من رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه حقاً، ثم ذكرت قصة الرجل الذي رأى الرسول وكذبه القاضي، فما الجمع بينهما؟ الجواب الجمع أن هذا خيل إليه أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فالواقع أن الشخص الذي رآه ليس هو النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 178 الكتب التي تقرأ في رمضان السؤال ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها على جماعة المسجد بعد صلاة العصر، وقبل صلاة العشاء في رمضان؟ الجواب في الواقع هناك كتب عديدة منها: كتاب الشيخ محمد بن صالح العثيمين مجالس شهر رمضان، وهو كتابٌ مفيد في النواحي الفقهية، ومنها كتاب لـ ابن رجب الحنبلي، وعنوانه: لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف فيه حوالي ثلاثة فصول، أو أربعة عن رمضان، وهو مفيدٌ وإن كان فيه أشياء ينبغي حذفها، ومنها كتب للشيخ عبد العزيز السلمان مفيدة، ومنها كتاب للشيخ عائض القرني عنوانه: ثلاثون درساً للصائمين وهناك كتاب يسعى الإخوة القائمون على الإفتاء في هذا البلد إلى طباعته -إن شاء الله- وهو كتاب جيد، إذا خرج سوف يسد فراغاً، لكن -إن شاء الله- لعله لا يتأخر عن العام القادم، أما هذه السنة فلا أظن أنه يمكن الاستفادة منه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 179 الجماع في نهار رمضان السؤال هذا يسأل عن قضية حصلت له مع زوجته في نهار رمضان وهو جاهل؟ الجواب أرى أن مثل هذه الحالات ينبغي أن يسأل عنها بذاته، لأنه لابد أن نعرف ما الذي حدث وما هي الظروف، وبعض الناس يكون جاهلاً، فيقول: أنا جامعت في رمضان وأنا جاهل فنقول: هناك فرق بين من يقول: إنني جاهل في أن عليَّ أن عليه كفارة. وإن كنت أعلم أنه لا يجوز. فنقول لهذا: لا ينفعك أن كنت جاهلاً بالكفارة بل يجب عليك التزام الكفارة وإن لم تدر بها، المهم أنك تعلم أن الجماع يفطر، فتجب عليك الكفارة حينئذٍ. ففرق بين هذا وبين إنسان يقول: إنه جاهل لا يعلم أن الجماع يفطر. ولكن هل يمكن أن يوجد إنسان لا يدري أن الجماع يفطر؟ يمكن أن يوجد إنسان مسلم حديث عهد بإسلام، أو إنسان في بادية بعيدة لم يعلم أن الجماع يفطر , فهذا له حكمة الخاص. أما الناس في مثل البيئات والمدن، فلا أعتقد أن منهم من يجهل أن جماع الرجل زوجته في نهار رمضان من المفطرات، بنص القرآن الكريم وبإجماع أهل العلم -كما أسلفت- وعلى كل حال فالحالات الخاصة يسأل عنها بصفة خاصة، حتى يستوضح ما الذي جرى. السؤال: مثل الذي يقول أنا جامعت في رمضان وأنا جاهل؟ الجواب: فنقول أنه يوجد فرق. بين أحد يقول: إنني جاهل أن عليه كفارة، فيقول أنا عارف أنه لا يجوز، لكن ما كنت أعرف أنه عليه كفارة، وهي إعتاق رقبه، أو صيام شهرين فهذا لا يضر، وإن كان جاهلاً نقول: يجب عليك، أي لا ينفعك جهلك، وإن كنت جاهلاً بالكفارة يجب عليك التزام الكفارة وإن لم تدر بها، المهم أنك عارف أن الجماع يفطر، فتجب عليك الكفارة حينئذٍ، وبين إنسان يقول أنه جاهل لا يعلم أن الجماع يفطر. السؤال: هل ممكن أن يوجد إنسان لا يدري أن الجماع يفطر؟ الجواب: ما أعتقد ذلك، يمكن أن يوجد إنسان مسلم حديث عهد بإسلام، أو إنسان في بادية بعيدة ما علم أن الجماع يفطر , هذا له حكمة، الخاص، أما الناس في مثل البيئات والمدن، فلا أعتقد أن منهم من يجهل أن جماع الرجل زوجته في نهار رمضان من المفطرات بنص القرآن الكريم، وبإجماع أهل العلم -كما أسلفت- على كل حال الحالات الخاصة يسأل عنها بصفة خاصة، حتى يستوضح ما الذي جرى. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 180 نوم الصائم في طاعة الله عبادة السؤال ما رأيك فيمن ينام عن الصلاة ويقول: {نوم الصائم عبادة} ؟ الجواب نقول: إذا كان نومه عن الصلاة فهو إثم ومعصية وطاعة للشيطان، وليس نوم الصائم إذا نام عن الصلاة عبادة، أما إذا نام نوماً طبيعياً يستعين به على طاعة الله فهو عبادة، كما أن نوم من ينام في القيلولة ليستعين بها على قيام الليل عبادة أيضاً. السؤال: من احتلم في نهار رمضان وأخر الغسل ساعتين أو ثلاثاً بحجة أنه نائم؟ الجواب: لا حرج عليه في ذلك، المهم أن لا يؤخر الغسل عن الصلاة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 181 الانتقال من مسجد إلى آخر بحثاً عن الخشوع السؤال عند قدوم رمضان يبحث الناس عن أئمة ليصلوا خلفهم، بحجة طلب الخشوع، إلى غير ذلك، مع ارتكابهم مفاسد بهجران مساجدهم،،إلى غير ذلك؟ الجواب لا أرى حرجاً ولا بأساً بأن يبحث الإنسان عن إمام حس الصوت ويصلي خلفه، ما لم يكن في ذلك ضرر، مثل كونك تترك مسجدك وهو يحتاجك -مثلاً- لأن تصلي فيه، أو أن تفتح على الإمام إذا نسي أو تحدَّث، أو أن يكون الجماعة يستوحشون من ذهابك، كأن تكون طالب علم مرموقاً في مسجدك، فإذا ذهبت تساءلوا أين ذهب فلان، فهنا لا تذهب، أما فيما سوى ذلك فلا حرج أن يذهب الإنسان إلى إمام يرتاح إليه، ويجد لذة ويخشع من قراءته. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 182 نوم النهار والعمل في الليل السؤال عملي يكون في ليالي رمضان، فأنا أعمل في الليل وأنام بعد طلوع الشمس حتى صلاة الظهر، وأنام بعد الظهر حتى العصر، فهل أنا آثم؟ الجواب ما دمت محتاج إلى ذلك فلا حرج عليك إن شاء الله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 183 المعلقات في البخاري السؤال قلت في حديث: {من أفطر يوماً في رمضان} حديث ضعيف رواه البخاري، فهل هناك حديث ضعيف في البخاري؟ الجواب أنا ما قلت رواه البخاري، وإنما قلت: رواه البخاري تعليقاً، والمعلقات في صحيح البخاري ليست أحاديث على شرط البخاري، ولم يروها البخاري بالإسناد، أي قد يقول البخاري: يروى عن رسول الله، مشيراً بصيغة التمريض، فهذه تسمى معلقات، فإذا قيل: رواه البخاري تعليقاً، فهذا يحتمل أن يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، أما إذا قلت: رواه البخاري وسكت، فمعناه أنه في الصحيح والصحيح لا كلام فيه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 184 صيام يوم قبل رمضان السؤال ورد في مجمل حديثكم أنه يجوز صيام اليوم الذي قبل رمضان إذا كان يوافق عادة للمرء، إلا أن من المفهوم أنه لا يجوز وصل شعبان برمضان؟ الجواب لا يجوز وصل شعبان برمضان على سبيل الاحتياط والتقديم بين يدي الشهر، أما إذا كان كما جاء في الحديث الصحيح: {إلا رجل كان يصوم صومه فليصمه} وفي لفظ: {إلا أن يوافق يوماً كان يصومه أحدكم} فلا بأس. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 185 النوم في نهار رمضان السؤال إن من الشائع لدى بعض الشباب المتوسم فيه الخير، السهر طول الليل مع اللعب والمرح، ويزعمون أن نوم بعض الليل صعب وثقيل، أرجو بيان وجه الحق في هذه القضية؟ الجواب لا شك أن ما يقع فيه اليوم كثير من الناس ويتحول ليلهم في رمضان إلى نهار، ويتحول نهارهم إلى ليل، حتى إن منهم من ينام النهار كله وربما نام عن الصلوات، لا شك أن هذا فيه من فوات المصالح الشيء الكثير، أما من يفوت الصلاة فهذا أمره آخر، لكن حتى الذي يصلي مع الجماعة ثم ينام، فهذا ما تحقق في حقه المقصود من الصيام، من استشعار الجوع والعطش، بل الأولى إذا كانت ظروف الإنسان مواتية أن ينام من الليل ولو بعضه، وينام من النهار ولو بعضه، ويحرص على أن يكون معتدلاً في ذلك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 186 الإفطار على الجماع السؤال يقول: إذا راقب رجلٌ الشمس، فلما غربت أراد أن يفطر وليس عنده شيءٌ يفطر عليه، فهل له أن يفطر على جماع أهله؟ الجواب لا حرج في هذا ما دام أنه أمر أباحه الله. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 187 كيفية قضاء رمضان السؤال امرأةٌ أدركها النفاس في جميع رمضان؟ هل يلزمها قضاؤه متتابعاً أم لا؟ الجواب لا يلزم القضاء متتابعاً، لأن قضاء رمضان يجوز فيه التتابع ويجوز فيه الإفراد، فلها أن تصوم يوماً وتفطر، ثم تصوم وتفطر كما تشاء، المهم أن لا يأتيها رمضان الآخر إلا وقد قضت ما عليها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 188 نوابٌ الشيطان! السؤال ورد في الحديث أن مردة الشياطين في رمضان تصفد، ولكن العجيب أن هناك مجموعةً من الناس يكثر فسادهم في رمضان؟ الجواب لأن هؤلاء الذين تسأل عنهم هم نواب عن الشيطان، وهم يقومون بالمهمة عنه في حال غيابه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 189 الصراع بين الحق والباطل السؤال يقول: مثل ما ينشط الصائمون في رمضان، ينشط أعداء الدين لإفساد الصيام على المسلمين، عن طريق الوسائل المتنوعة التي أصبح -للأسف- زمامها في أيديهم، فما هو العمل تجاه هذه القضية؟ الجواب الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:312] فالصراع لا ينتهي، والحرب لا تنتهي؛ ولكن على أهل الخير أن يضاعفوا جهودهم، ويعملوا على الاستفادة من وجود الناس في رمضان، خاصةً وقت تجمعهم في المساجد رجالاً ونساءً في صلاة التراويح والقيام. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 190 الوتر مع الإمام في التراويح السؤال أيهما أفضل الوتر مع الإمام في التراويح أم آخر الليل؟ الجواب الذي أرى أن يوتر مع الإمام في التراويح، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أهل السنن عن أبي ذر: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} . الجزء: 19 ¦ الصفحة: 191 النوم بعد صلاة التراويح السؤال أيهما أفضل أن ينام الشخص في الليل بعد التراويح، أو ينام بعد الفجر إلى الساعة التاسعة -مثلاً- إذا كان طالب علم يدرس؟ الجواب هذا حسب الظرف الذي يعيشه الطالب، ولا شك أن الأفضل أن ينام الإنسان بعد صلاة التراويح، لكن إذا كان عنده ظرفٌ مثل أن يكون محتاجاً للتأخر في الليل، فهذا يقدر بقدره، وقد سبق الكلام عن السهر وحكمه في دروس بلوغ المرام، فالسهر في العلم والعبادة والذكر ومسامرة الضيف والأهل والمصلحة لا حرج فيه. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 192 استعمال حبوب منع الحمل لأجل الصيام والقيام السؤال هل يجوز للمرأة أن تستعمل الحبوب إذا كان مقصدها صلاة التراويح؟ الجواب حبوب منع الحمل فيها ضرر على المرأة في غالب الأحيان، ولذلك إن ثبت أن في استخدام الحبوب ضرر على المرأة، فلا يجوز أن تستخدمها لا في رمضان ولا في غيره. لكن إذا ثبت أنه ليس هناك ضرر عليها بعد استشارة طبيب مثلاً، فهل يجوز لها أن تستخدمها في رمضان حتى تصوم وتصلي مع الناس؟ الذي يظهر لي أنه يجوز، لكن الأولى أن لا تفعله، فإن هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم ولا حرج عليها، إذا جاءت العادة أن تفطر ثم تقضي فيما بعد. ولكن إذا ثبت أنه ليس هناك ضرر عليها بعد استشارة طبيب مثلاً، فهل يجوز لها أن تستخدمها في رمضان مثلاً، حتى تصوم مع الناس وتصلي مع الناس؟ الجواب: الذي يظهر لي أنه يجوز، لكن الأولى أن لا تفعله، بل هذا أمرٌ كتبه الله على بنات آدم ولا حرج عليها، وإذا جاءت العادة أفطرت ثم تقضي فيما بعد. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 193 تقبيل المرأة ونزول المذي السؤال هذا يسأل عن نزول المذي هل يفطر أم لا؟ وكذلك يسأل عن تقبيل المرأة؟ الجواب بالنسبة لنزول المذي عند الجمهور أنه لا يفطر وهو الراجح. أما بالنسبة للتقبيل، فقد ورد في حديثٍ صحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لأربه، أي: لحاجته، فهو يملك نفسه، فإذا كان الإنسان يملك نفسه، كالشيخ الكبير أو الشاب الذي يملك نفسه؛ فلا حرج عليه في ذلك، أما إن كان لا يملك نفسه أو يعلم أن الأمر قد يتمادى به إلى ما هو أشد من ذلك، فإنه يمنع منه من باب سد الذريعة. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 194 وقت الدعاء في الصيام السؤال هل الدعاء قبل الإفطار أم بعده؟ الجواب الدعاء عند الإفطار. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 195 معجون الأسنان أثناء الصوم السؤال هل يجوز استخدام معجون الأسنان، لأن رائحة الفم كريهة؟ أو ما أشبه ذلك؟ الجواب لا شك أن الشيء الذي يفطر هو الذي يصل إلى الجوف، ولذلك المضمضة لا تفطر، فمعجون الأسنان إذا كان لمجرد غسل الأسنان به، ثم أخرجه ولم يصل إلى جوفه فلا شك أنه لا يفطر، أما إن وصل إلى جوفه شيءٌ منه أو من غيره فهذا هو الذي يفطر. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 196 قدوم المسافر قبل الغروب السؤال إذا قدم المسافر قبل الغروب فهل يبقى على فطره؟ الجواب هذا اليوم ليس محسوباً له ولا بد أن يقضيه، لكن لا يفطر علناً؛ لأن الناس قد يجهلون سبب فطره، وبعض العلماء يأمره بالإمساك لأن سبب الفطر قد زال. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 197 العلم بدخول الشهر قبل الغروب السؤال من لم يعلم بدخول الشهر إلا قبل الغروب فهل يمسك؟ الجواب لو لم يعلم بدخول الشهر إلا قبل الغروب فيمسك. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 198 الإفطار بالنية السؤال إذا حان وقت آذان المغرب وأنا في سيارتي ومن المحتمل أن أصل بعد خمس دقائق، فهل يجوز الإفطار بالنية فقط؟ الجواب ينوي الإفطار لكن إذا كان لديه شيءٌ يفطر عليه أفطر، وإلا فخمس دقائق لا تضر ما دام أنه سوف يفطر قبل صلاة المغرب. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 199 الأمور تقدر بقدرها السؤال كثيراً ما نسمع بعض الدعاة يقولون: خذوا من العلماء وناصحوهم وزوروهم، ومع ذلك نسمع بعضهم يضرب الأمثال على أن العالم لا يقدر أن يعطيك موعداً إلا بعد أشهر، وقال أحدهم بعد سنة فما رأيك؟ الجواب لعل الأخ يقصدني، والواقع أن ما قاله صحيح لأن الله عز وجل قال في آخر سورة البقرة: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] والكثير من المشايخ، خاصةً المشايخ الكبار المشهورين، عندهم أعمال أمثال الجبال، وربما الواحد منهم لا يجد وقتاً ليأكل أو يشرب أو يجلس مع أهله وأطفاله، فالواقع أنهم معذورون في ذلك، لكن الأمور تقدر بقدرها. الجزء: 19 ¦ الصفحة: 200 خلل في التفكير تحدث الشيخ عن مقتل الشيخ جميل الرحمن أمير جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، وذكر أحوال المجاهدين في أفغانستان، كما أنه يحتوي على ذكر صور من الخلل في التفكير، مع بيان حَلِّها وأسباب علاجها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 1 أفغانستان تودع الشيخ جميل الرحمن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أحبتي الكرام: سيكون حديثي إليكم بعنوان: (خللٌ في التفكير) . ولعل الذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع، هو ما سمعته من كثير من الإخوان والشباب وغيرهم، تعليقاً على الأحوال والأوضاع التي استجدت في أرض أفغانستان المسلمة، ولا شك أننا جميعاً سمعنا تلك الأخبار المزعجة، التي يأتي في طليعتها اغتيال الشيخ جميل الرحمن رحمه الله تعالى فقد اعتدت عليه يدٌ آثمة، في يومٍ مبارك من أيام الله تعالى، في يوم الجمعة، بالغدر والخيانة، وسددت إلى رأسه رصاصاتٍ أردته قتيلاً، وكان ذلك على يد أحد الشباب العرب، فإنا لله وإنا إليه راجعون. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 2 واجبنا نحو أفغانستان أحبتي الكرام: أسئلة كثيرة وكثيرة تدور حول قضية أفغانستان، وما موقفنا؟ وماذا نصنع؟ وما الذي جرى؟ وما الذي حدث؟ تساؤلات لا يأتي عليها الحصر، وأصدقكم القول منذ البداية أنه لن يكون موضوع حديثي هو الكلام عن قضية أفغانستان، وإن كانت هذه القضية تحتاج ليس إلى درس أو محاضرة أو جلسة فقط وقد سبق أن أشرت في أكثر من مناسبة، إلى أن قضية أفغانستان قضية كبرى في واقع المسلمين، وإذا عددت القضايا الكبرى التي شغلت المسلمين عبر سنين طويلة، فإن قضية أفغانستان تأتي في مقدمتها، مع مجموعة من القضايا الأخرى، كقضية فلسطين أو غيرها من القضايا المهمة. ومن حق هذه القضية الكبيرة علينا؛ أن نعطيها بعض وقتنا وبعض جهدنا، وتفكيرنا، وأن تنعقد المؤتمرات والجلسات والندوات لمعالجة هذه القضية، والبحث في كل ما يتعلق بها من قريبٍ أو بعيد، ألا تعتقدون -أيها الأحبة- أن قضية بُذِلَ في سبيلها ما يزيد على مليون وخمسمائة ألف ممن نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله، ألا تستحق منا أن ندرسها؟! قضية بذل في سبيلها مليارات الأموال، التي تعادل ميزانيات دول بأكملها! ألا تستحق أن ندرسها، ونستفيد منها العبر والدروس، ونعتبرها معلماً في تاريخ الدعوة وفي تاريخ الجهاد؟ أقل حق لهؤلاء القتلى الذين نرجو الله تعالى أن يكونوا شهداء، ولهذه الأموال الهائلة، الطائلة، ولهذه الجهود والدموع والدماء والعرق والسهر، والزمن الطويل الذي بذلناه، والتشريد والتطريد والهجرة، أقل حق لهذه التضحيات الجسيمة التي بذلناه نحن المسلمين؛ هو أن نعقد جلسات ودروس ومحاضرات، بل ومؤتمرات وحلقات للنقاش؛ لنأخذ الدروس والعبر، ونستفيد ونستلهم من هذه المواقف الكبيرة لحاضرنا ومستقبلنا هذا أقل حقٍ لهذه الجهود الكبيرة علينا، أما إذا تجاهلنا ذلك وتعامينا عنه، فمعناه أننا لم نقدر هذه القضية حق قدرها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 3 كيفية التعامل مع القضايا الإسلامية إنني لن أعالج هذا الموضوع في هذه الجلسة أبداً، ولكن الشيء الذي سأعالجه هو: طريقة تعاملنا نحن المسلمين، الذين نعتبر متعاطفين مع القضايا الإسلامية، نعتبر متعاطفين مع قضية أفغانستان، ومع قضية فلسطين، ومع قضية المسلمين في الفلبين، أو قضية المسلمين في أي بلدٍ إسلامي ترفع للإسلام فيه راية، ويقام للإسلام فيه دعوة، ويواجه المسلمون فيه عدواً، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو شيوعياً، أو علمانياً، أو أي لونٍ كان. طريقة معالجتنا نحن المتعاطفين مع قضايا المسلمين، تحتاج إلى معالجة إلى مراجعة، لدينا في الواقع خلل كبير، يتطلب النظر والمراجعة، كيف نستطيع خدمة قضايانا الإسلامية؟ أفغانستان وغير أفغانستان، كيف نستطيع أن نخدمها بالطريقة الصحيحة التي تجعلنا نكسب ثقة الناس الذين نتحدث معهم ونخاطبهم، وتجعلنا نستطيع أن نربط الناس بهذه القضايا الإسلامية ربطاً صحيحاً؟ ليس ربطاً مؤقتاً أو عارضاً أو عاطفياً سرعان ما ينفك وينتهي، من أدنى خبر يمكن أن ينتشر أو ينتقل أو يشاع، وإنما هو ربطٌ صحيح دقيق معتدل منصف، لا تؤثر فيه العوادي والمؤثرات القريبة والبعيدة، ولا يستطيع أحد أن يقسم عرى هذا الترابط. ولا شك -أيها الأحبة- أنه من السهل على أي إنسان أن يتكلم عن قضية أفغانستان أو عن غير قضية أفغانستان، يتكلم -كما يقال- كثيرٌ من الناس عن قضية أفغانستان من خلال بروج عاجية، ومن وراء مكاتب فخمة -هكذا يحدث- يتكلمون تحت المكيفات، وفي الأجواء الآمنة، والأمر كما كان يقول المتنبي: وسير الروم خلف ظهرك رومٌ فانظر على أي جانبيك تميلُ ما الذي حوله تدار المنايا فالذي حوله تدار الشمولُ أمامك عدو وخلفك عدو، وعن يمينك عدو، وعن يسارك عدو، هذا وضع إخواننا المجاهدين، لا أقول في أفغانستان، بل في كل مكان، وسواء كان جهادهم بالسيف والسنان، أو كان جهادهم بالقلم والبيان، أو كان جهادهم بأي وسيلة من وسائل الجهاد، وليس الذي يواجه العدو ويكون في نحره وفي مواجهته في الميدان، كالذي ينام ملء جفنيه، ويكبر الوسادة، ويبدأ ينتقد ويقول: وهذا صواب وهذا خطأ. وإنني لأعلم ناساً من الناس، وأرجو الله تعالى أن لا نكون منهم، هم على الآرائك متكئون، وللشاي والقهوة يشربون، ولأخطاء إخوانهم المسلمين يتسقطون، وعن زلاتهم يبحثون، ولعيوبهم يتصيدون، فإذا وقعوا عليها فإنهم يسرون بها ويفرحون، ويغدون بها ويروحون، ويشيرون بها ويلوحون، وكأنما عثروا على كنزٍ ثمين، أو على نصرٍ مبين!! فهذه مصيبة كبرى، أن ينفصل المسلم القاعد عن المسلم المجاهد، ولكن هذا لا يمنعني أبداً -أيها الإخوة- أن أؤكد على قضية مقابل هذا، وهي أن الإنسان البعيد، متى ما كان معك بعواطفه وقبله وعقله وإخلاصه وصدقه، فهو -في كثير من الأحيان- قد يكون أقدر ممن يواجه المشكلة على النظر الصحيح، والتفكير المعتدل المتزن البعيد عن العواطف، فإن زمام العواطف إذا انفلت -أحياناً- عطل العقل وأبطل مفعوله، فأصبح الإنسان يتحرك بعاطفة وانفعال وجو مشحون متوتر لا يمكنه من التفكير الهادئ، لأنه يخضع لردود فعل وأوضاع وأحوال ومشكلات، ومصائب يواجهها أولاً بأول، لكن الإنسان البعيد الذي لا يوجد هذا التأثر في نفسه، يستطيع أن يستخدم عقله -في كثير من الأحيان- بصورة أصح وأجدر وأجدى. ولذلك أقول: لا مانع أبداً أن يكون من المسلمين من يقاتل، ومنهم من يفكر لهؤلاء المقاتلين، ولا أقول: يفكر بالنيابة عنهم! لا، ولكنهم يفكرون معاً، بمعنى: أنه إذا لم تستطع أن تكون مقاتلاً بسيفك، أو بقلمك، أو بلسانك، أو بمالك، فلا أقل من أن تكون مقاتلاً بعقلك وفكرك، فترسم الطريق للناس، وتبين الوجهة السليمة، وتبين الصواب، وتحاول أن تصحح، تحاول أن توجه، تبذل ما تستطيع ولو بمشاركتك الذهنية والفكرية، وهذه القضية ليست سهلة، فأعتقد أن الذي يستطيع أن يخطط للمسلمين، لا يقل أهمية عمن يستطيع أن ينفذ، بل إن الذين يستطيعون أن ينفذوا كثيرون جداً، ولكن الذين يستطيعون أن يرسموا الطريق ويرسموا الخطة، هم أقل من القليل. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 4 تعريف بالشيخ جميل الرحمن وجماعته الشيخ جميل الرحمن رحمه الله هو زعيم جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة في أفغانستان، وهي إحدى الجماعات المجاهدة في تلك البلاد، والتي تلتزم بالمنهج السلفي الأصيل، في الأصول والفروع، ولهذه الجماعة نشاطٌ طيب في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وتصحيح مفاهيم الناس، ودعوتهم إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن لها جهداً طيباً مبروراً إن شاء الله في مجال المشاركة في الجهاد، ومقارعة الظالمين، وكانت ولاية كونر، إحدى الولايات الأفغانية تحت حكم هذه الجماعة، وقد أبلت فيها بلاءً طيباً، في نشر العقيدة الصحيحة، ومقاومة البدعة والخرافة، وإزالة آثار المنكرات من الخمور والمخدرات، وقطع الطرق وغيرها، واستتباب الأمن. وإن فقد رجلٍ في منزلة الشيخ جميل الرحمن، مما يؤسف كل مسلم عرفه وجلس إليه، وعرف قدر الرجل، فنقول تعليقاً على ذلك، بقلوب نرجو الله تعالى أن تكون قلوباً مؤمنةً صابرةً محتسبة، نقول لكل مجروح: إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجلٍ مسمى. ونقول وفاءً ببعض حق هذا الرجل: اللهم ارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين. اللهم افسح له في قبره، ونور له فيه، اللهم اقبله في الشهداء يا حي يا قيوم، اللهم اخلف للمسلمين خيراً منه، اللهم اجعله في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند ملكٍ مقتدر. أما ذلك القاتل فإنه باء بشر وخيبة، فإنه بعد أن أجهز على الشيخ هم بالهرب، فحين رأى أنه مأخوذٌُ رجع إلى نفسه فقتلها، نسأل الله حسن الخاتمة، والسلامة والمعافاة من أسباب سخطه وعقابه، وإنه لأمرٌ يؤرق الضمير ويقلق القلب ويحز في النفس، ويثير الأحزان والأشجان والمشاعر، أن يحدث أمرٌ كهذا. ولستُ بقاتلٍ رجلاً يُصلي على سلطان آخر من قريشٍ أأقتل مُسلماً في غير جرمٍ فليس بنافعي ما عشتُ عيشي له سلطانه وعليَّ إثمي معاذ الله من سفهٍ وَطيشِ إن هذا الحدث يؤكد أنه يأتي في فترة حرجة من تاريخ الجهاد الأفغاني، خاصةً أنه كان هذا الحدث في فترة كاد أن ينفذ فيها صبر الكثيرين، وهم يتطلعون إلى الأخبار في إسقاط كابول، والمدن الكبرى التي لا زالت تحت هيمنة الكفر الشيوعي في أفغانستان. كما أنه يأتي في ظل صراعٍ عسكريٍ دامي حول ولاية كونر، نقلته وكالات الأنباء والصحافة، شرقيها وغربيها، عربيها وأعجميها، وذهب ضحية ذلك الصراع عشرات وربما مئات النفوس، فإنا لله وإنا إليه راجعوان. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 5 خاتمة حسنة إنني إذ أبشر محبي الشيخ رحمه الله بهذه الخاتمة الحسنة، وهي أننا نرجو الله تعالى له أن يكون شهيداً في سبيله، وقد مات في يوم الجمعة، وقد جاءت بعض الآثار في فضل الموت في ليلة الجمعة ويومها، في مقابل النهاية اليائسة لذلك القاتل، وقد جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {كان فيمن كان قبلكم رجلٌ كان به جرحٌ فجزع، فأخذ سكيناً فحز بها يده، فلم يرقأ الدم حتى مات، فقال الله عز وجل: عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة} وأما لسان حاله، وهو يسدد تلك الضربات إلى رأس الشيخ، فهو كذلك الذي قتل رجلاً من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهو محمد بن طلحة، الذي كان يسمى بـ السجاد، فلما ذكره بالله عز وجل، سدد إليه السهم وقتله وهو يقول: وأشعث قوامٍ بآيات ربه قليل الأذى فيما يرى الناس مُسلمِ شككت إليه بالسهام قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً فلاناً ومن لا يتبع الحق يندمِ يذكرني "حم" والرمح شاجرٌ فهّلا تلا "حم" قبل التقدمِ إنني مع ذلك كله -أيها الأحبة- ومع هذه الأخبار المؤلمة التي أرقت قلوب المؤمنين، وجعلتهم لا يهنئون بعيشهم إلا أننا -مع ذلك كله- نبقى متفائلين بحمد الله، واثقين بنصره، مدركين حسن العاقبة للمؤمنين المجاهدين، طال الزمن أم قصر، فإننا على يقينٍ من ربنا عز وجل لا شك عندنا فيه. ومما يؤكد هذا التفاؤل أن وفوداً كثيرةً من الإخوان العرب ومن غيرهم، قد سعت للصلح بين الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، والذي يحاصر كونر ويحتل أكثرها، وبين جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة التي كان يتزعمها الشيخ جميل الرحمن، رحمه الله تعالى. وهذه الوفود قبل بها كل الأطراف، وبدأت تمارس مهماتها، وانتهت إلى توقف إطلاق النار نهائياً أو بشكل تقريبي، وكذلك اتفقت على حل المشكلات والقضايا المتنازع عليها، عن طريق الحوار والمفاوضة والمجالس المشتركة، وهذا هو الأصل، فإنني أعتقد أنه ليس من مصلحة المسلمين أن يتعاملوا مع من يخالفهم من خلال السلاح والقوة، وليس من المصلحة -في كل حال وفي هذه الظروف بشكلٍ خاص- أن تعود سهام المسلمين إلى صدورهم، كما أنه ليس من الاحترام أن تتعامل مع من تخالفه بالتهم التي تلصقها به، كما نجد الكثيرين ممن يقولون: هؤلاء عملاء لهذه الجهة أو لتلك الجهة، أو أنه بثهم الاستعمار أو بثهم الشرق أو الغرب. فليس من المصلحة أن نتعامل بأساليب الاتهامات المتبادلة، ولا أن يتم التعامل عن طريق استخدام القوة في حل المشكلات، فأمام المسلمين آفاق واسعة للحوار والأخذ والعطاء، والاتفاق على القضايا المختلف فيها، كما أن أمام المسلمين ميادين واسعة لقتال عدوهم، ويكفي أن المسلمين محاصرون في كل بلادٍ يرفعون فيها راية القتال والجهاد، وأن عدوهم أقوى منهم وأكثر عدداً وعدة، وأنه مدعومٌ من قوى شرقية وغربية، فجديرٌ بالمسلمين أن يتناسوا كل ما يمكن تناسيه من الخلافات، أو يؤجلوا ما يمكن تأجيله، وعلى أقل تقدير -إن لم يكن بينهم تناصرٌ وتعاملٌ- فلا أقل من أن يكون بينهم تنسيقٌ يحقن الدماء، ويوجه أفواه البندقيات والمدافع إلى صدور الأعداء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 6 الترهيب من قتل المؤمن إنها مأساة، نسأل الله تعالى أن يكفي المسلم شرها ويطفئها، وإن العدو ليفرح بمثل هذه الأخبار التي ينزعج لها كل مسلم ومسلمة، وإنني أُحَذِّر نفسي وإخواني في كل مكان، من التهاون بالدماء -دماء المسلمين- فإن الله عز وجل يقول في محكم تنزيله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] وهذا وعيدٌ شديد، فجزاؤه جهنم خالداً فيها، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء} . وفي حديث أبي بكرة المتفق عليه -أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {أيها الناس! أي شهرٍ هذا؟ أي يومٍ هذا؟ أي بلدٍ هذا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن دماءكم، وأعراضكم وأموالكم، عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بلغت؟ فلا ترجعوا بعدي ضلالاً -وفي رواية: كفاراً- يضرب بعضكم رقاب بعض} . وفي الصحيح -أيضاً- من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية إلى الحرقات من جهينة، فكان رجلٌ يقتل في المسلمين ويضرب، ولا يدع شاذه ولا فاذة إلا عرض لها، فلما رفع عليه أحد المسلمين السيف لاذ بشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فرفع عليه أسامة السيف فقتله، فلما جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أخبروه، فدعاه وقال له: {يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟! قال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً. خوفاً من السيف، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! قال: استغفر لي يا رسول الله، قال: كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟! فما زال يكررها، يقول أسامة: حتى تمنيتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ} . دم المسلم غالي عند الله عز وجل، وإنها لكارثة كبرى أن يتهاون الناس في دماء المسلمين، على سبيل التأويل، وعلى سبيل التمحل، وعلى سبيل الإغراق في بعض الأفكار وبعض التصورات، ونحن نعلم أن دماء المسلمين استحلت في أماكن كثيرة، وفي بلادٍ كثيرة، وعبر قرون من التاريخ. استحلت عن طريق التأويل، أي أن يقتله وهو يعتقد أنه بذلك يخدم الإسلام، وأنه يزيل عقبة من طريق الدعوة إلى الله، ومن طريق انتصار المسلمين وتغلبهم على عدوهم، لكن ينبغي للإنسان أن يضبط نفسه برادع الخوف والوجل من الله عز وجل، أن يوقف بين يدي الله تعالى موقفاً صعباً، فيسأل فيه عن محجمة دم أراقها بغير حق، فلا يكون عنده جوابٌ حينئذٍ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 7 قضية غياب العقلية الموضوعية التحليلية المعتدلة من أهم مشكلاتنا -أيها الأحبة- أستطيع أن أضعها تحت عنوانٍ كبير: إن أهم مشكلة أستطيع أن أقول: إن معظم الكلام الذي سيدور حولها الآن -على الأقل في هذا الدرس- من أهم المشكلات عند المسلمين: غياب العقلية الموضوعية التحليلية المعتدلة. وأضرب لك نماذج مبسطة تدل على ما أقصده بالضبط. في موضوع غياب العقلية الموضوعية. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 8 قضية أفغانستان بين الغلو والتفريط على سبيل المثال: القضية التي نعالجها نحن قضية أفغانستان. جاء يوم من الأيام بعض الإخوة المتحمسين والغيورين، الذين بذلوا وضحوا وجاهدوا، وكانوا يتكلمون على قضية أفغانستان، وقالوا: هي فرض عينٍ على كسل مسلم أن يذهب إلى أفغانستان، ليقاتل هناك، فرض عين، صراحةً هناك صعوبة، أن أقول: إن الجهاد فرض عين، وحتى إن هؤلاء الإخوة كانوا يقولون: سئلتُ في عدد من المحاضرات وكنت أقول: إن هذا الأمر أعتبره أن فيه شيئاً من التسرع، وعدم الدقة في الحكم. كيف يكون فرض عين على كل إنسان أن يخرج إلى أفغانستان؟! هذا غير صحيح، هناك فرق بين أن تحرض للذهاب إلى الجهاد، وتُحرض الناس على ذلك، وتدعوهم لأن يذهبوا ولو لبعض الوقت، وأن يحيوا في نفوسهم القوة والشجاعة والحماس، وأن يتخلصوا من حب الدنيا، ومن أسر الهوى، ومن الخوف، ومن معاني الذل. وبين أن تصدر حكماً شرعياً أن كل مسلم لم يذهب إلى أفغانستان فهو آمن. هذا صعب جداً؛ أن تلزم الناس شرعاً بأن يهاجروا إلى أفغانستان، ما معنى ذلك؟ دعك من الحكم الشرعي، وقضية فرض عين، معناه: أننا اختزلنا كل قضايا الأمة، ومشاكلها ومصائبها، والصعوبات التي تواجهها، فاختزلناها في قضية واحدة هي قضية أفغانستان، وفي مشكلة واحدة هي مشكلة أفغانستان. مع أن الواقع يشهد بأن الأمة تعيش من الهموم والمشاكل والصعوبات وأنواع التخلف العلمي والاقتصادي والتقني، بل وقبل ذلك كله، التخلف العقدي والشرعي والسلوكي والأخلاقي، فهي تعاني من ألوان التخلف، شيئاً كثيراً جداً، يتطلب جهوداً جبارة لنقل الأمة عنه وإخراجها منه، فليس صحيحاً أنك تختصر قضايا الأمة كلها في قضية واحدة. هذه القضية يجب أن تعطيها حقها، وهي -كما قلت في البداية- من أبرز القضايا، ومن يؤرخ لتاريخ المسلمين المعاصر، لو تجاهل قضية أفغانستان يعتبر خاطئاً، لكن هناك فرق بين كونها قضية كبرى وبين كونها هي القضية الوحيدة، هي قضية كبرى ولكنها ليست هي القضية الوحيدة، بل ثم عشرات القضايا يجب أن تكون في أذهاننا ونحن نتعامل مع قضية أفغانستان، أو قضية فلسطين، أو قضية أرتيريا، أو قضية الفلبين أو غيرها. إذاً: ليس صحيحاً أن نصادر كل القضايا، ونقول: بقي شيء واحد هو أفغانستان، نبدأ منها، وننتهي عندها، لا، لأنه ليس صحيحاً أن نجعل كل مكاسبنا في أفغانستان، كما يقال في المثل: "أن تجعل البيض كله في سلة واحدة"، هب أن العدو -وهو عدو كاسر شرس متآمر، يملك من القوة ما يملك- هب أن العدو أدرك أن قضية أفغانستان قضية حساسة، وأن المسلمين مستميتون في الانتصار لها، فحشد قواه الشرقية والغربية، وأجلب بخيله ورجله، وقاوم المسلمين، وأبطأ النصر عليهم في بلدٍ معين كأفغانستان. هل صحيح أن نجعل الأمور كلها مربوطة بهذه القضية؟ أم أننا يجب أن نجاهد في كافة الميادين وعلى كافة الأصعدة، ونعتبر أن قضية أفغانستان هي إحدى القضايا، وإحدى المكاسب، لكن لدينا قضايا أخرى ومكاسب أخرى، وينبغي أن نحافظ على الجميع جنباً إلى جنب. أما في مقابل هذا الأمر الذي يقول: فرض عين. قد تجد الطرف الآخر الذي يعتبر قضية أفغانستان، ليست في عداد القضايا المهمة عنده، فمن الناس -أصلاً- من لم يلقِ لها بالاً، وعلى مدى اثنتي عشرة سنة، كان المسلمون يسهرون الليالي، ويبذلون الدماء والدموع والأموال، ويبذلون فلذات أكبادهم على ميادين الجهاد، ومع ذلك وُجِدَ -ولا زال من المسلمين- من لا تعنيه هذه القضية في قليل ولا كثير، وكأنه ليس منها في قبيلٍ ولا كثير، وهذا أمر يصعب فهمه وتصديقه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 9 حقيقة القضية الأفغانية أنا قد أقدر إنساناً يهتم بهذه القضية، ولكنه يُفكر فيها بطريقة مختلفة، ليس شرطاً أن يوافقني على تفكيري وأسلوبي، لكن المهم هو أن يهتم بالقضية، أما كونه ينام ملء جفنيه وكأن الأمر لا يعنيه، هذا ليس بصحيح. إذا لم تعنيك أمور المسلمين، فأنت لم تحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام، في الحديث الصحيح: {مثل المسلمين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد} وقال: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً} فنحن لم نحقق هذه المفاهيم النبوية الصحيحة، إذا لم نهتم بهذه القضية. والنظرة المعتدلة، هي أن ننظر إلى أصل القضية الأفغانية، على أنها قضية شعب مؤمن، يثور في وجه الشيوعية التي تسلطت عليه، وابتزت أرضه وماله ودينه وعرضه بالحديد والنار، وتسلطت على رقاب المسلمين وأموالهم، ومزقتهم شر ممزق، وكانت -بلا شك- تريد مسخ أفغانستان، وإخراجها من عالم الإسلام إلى غير رجعة، وجعلها جزءاً من الدول الشيوعية الكافرة، فقام الشعب الأفغاني في وجه هذه المؤامرة، الشيوعية الماركسية، وضحى وصمم وبذل، وتميز عن كثير من الشعوب الإسلامية، التي أسلمت قيادتها طواعية ومن غير مقاومة. فإننا نجد كثيراً من بلاد الإسلام قد مسخت فعلاً، فلا تجد فيها من آثار الإسلام إلا رسوماً دارسة ضعيفة، ومسخ فيها الإسلام في الواقع -وقد رأينا هذا- مسخت حتى آثار الإسلام الظاهرة، ولم يبقَ إلا صوت الأذان وهو صوتٌ خافت، أو آثار تجدها هنا أو هناك، وهي آثار تظهر على استحياء في كثير من البلدان الإسلامية، ومع ذلك لم يظهر أهل تلك البلاد أي مقاومة لعدوهم، بل سلموا له واستسلموا، وخسروا الكثير دون أن يحتفظوا بكرامتهم، فقد سيموا بألوان الخف والهوان، ولم يحتفظوا حتى بكرامتهم وإنسانيتهم، فضلاً عن تدينهم وصلاحهم وثباتهم وشجاعتهم وإسلامهم. كانت الشيوعية يوم هيمنت على أفغانستان، لا زالت تحتفظ بقوتها، فرفع المسلمون هناك راية الجهاد، وأحيوا هذه الشعيرة العظيمة، التي أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنها: {لا تزال قائمة إلى قيام الساعة} وأن الراية لا تسقط أبداً، كما قال عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقودُ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} قال الإمام أحمد: فقه هذا الحديث: أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة. إذاً: الخيل المقصود به آلة الجهاد، فالجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقودُ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} وأحاديث أخرى كثيرة تثبت دوام الجهاد وبقاءه، منها الإشارة إلى الطائفة المنصورة، التي أخبر عليه الصلاة والسلام أنها لا تزال باقية إلى قيام الساعة، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس. إن الغريب في الأمر -أيها الإخوة- أن كثيراً من الدول التي كانت تحت القبضة الشيوعية -القبضة الحديدية- انعتق كثيرٌ منها، وتحررت بثورات شعبية -كما هو معروف- إلا أفغانستان، فإنها لا تزال تئن تحت مطارق الشيوعيين، سواء كان الروس خرجوا من أفغانستان وبقي دعمهم المادي، أو كان الروس لم يخرجوا، ولكنهم استخفوا، وصاروا يديرون الأمور من وراء الكواليس، وهذا يؤكد قضية وهي: قضية التواطؤ العالمي ضد الإسلام، وهو تواطؤ يزداد يوماً بعد يوم، خاصة في ظل الظروف الحاضرة، التي أصبح الغرب والشرق يتخوفون فيها من بروز القوة الأصولية الإسلامية، كما سوف أشير إلى بعض التقارير المهمة في هذا بعد قليل. إذاً: النقطة الأولى -أيها الأحبة- أنه يجب أن نحرص على أن نكون معتدلين في أحكامنا، لا يوجد داعي لأن نقول: إن القضية فرض عين، ويجب أن نصادر كل القضايا ونبقي هذه القضية الواحدة، ولا أن نقول: إنها لا شيء، وإن المسلمين يجب أن ينسوا هذه القضية ويسقطوها من حسابهم. بل ينبغي أن توضع القضية في إطارها الصحيح، وتقدر بقدرها، وأن تذكر الإيجابيات الكبيرة التي من أهمها: إحياء شعائر الجهاد، وتحريض المسلمين على القوة، وإدراك أن المسلمين باستطاعتهم أن يتغلبوا على عدوهم، حتى ولو كان قوة عظمى من القوى الدولية كروسيا الشيوعية، التي كانت قوية في ذلك الوقت، وقبل أن يصيبها داء التفكك والانهيار، وفضلاً عن أن الله تعالى اتخذ من المؤمنين شهداء، وتربى المسلمون. وتلقوا دروساً كبيرة في هذا المجال، والأمر -كما ذكرت قبل قليل- يحتاج إلى مؤتمرات ومجالس ودراسات، سواء كانت مكتوبة أم مقروءة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 10 فقدان التوسط والاعتدال إن كثيراً من المسلمين لا يعرفون التوسط والقسط في الأمور، ليس عندهم أنصاف الحلول -كما يقال- عندهم إما أبيض وإما أسود، إما صح وإما خطأ، فإذا أعجبوا بشيء أعطوه (100%) ، وإذا عزفوا عنه أعطوه صفراً. لو فرضنا -مثلاً- أن واحداً قرأ كتاباً فأعجبه هذا الكتاب، وصار يتكلم عنه في كل مجال وفي كل ميدان، ويقول: هذا الكتاب الذي ما أُلّف قبله ولا بعده مثله، هذا الكتاب فيه وفيه، هذا الكتاب الفتح المبين، هذا الذي يجب أن لا يخلو منه بيت. ثم أصبح يضفي على هذا الكتاب من الألقاب والأوصاف والمدائح مالا يجدر بكتابٍ من وضع البشر مهما كان، وحين يقرؤه غيره قد يجد في الكتاب نواحي إيجابية، ولكن يجد فيه نواحي سلبية، أو -على أقل تقدير- قد يخرج بانطباع أن ذلك بالغ في الثناء على هذا الكتاب، وأعطاه أكبر مما يستحق. ثم تأتي لآخر ربما في نفس الكتاب أو في غيره، يقرأ الكتاب فيأتي ويقول: هذا الكتاب لا يساوي شروة نقير، ولا يستحق أن يُشترى ولو بفلسٍ واحد، هذا الكتاب لا يساوي ثمن الحبر الذي كتب فيه، ولا قيمة الطباعة، ولا قيمة الورق. ثم يهون من شأن هذا الكتاب، حتى يُنفِّر الناس عنه! فليس عندنا وسط، لأن نقول: هذا الكتاب جيد ومفيد، وفيه جوانب طيبة، وهي كذا وكذا وبالمقابل فيه جوانب سلبية وهي كذا وكذا ويمكن للمسلم أن يقرأ الكتاب، فيستفيد من الجوانب الإيجابية ويحذر الجوانب السلبية. هذا الأمر قليل عند المسلمين، بل الكثير إما أن يثني فيبالغ، أو أن يحطم هذا الجهد فيبالغ. وهذا الكلام الذي أقوله في كتاب يمكن أن تقوله في شخص، فمن الناس من يُعِّظم شخصاً حتى يعتبره مجدد القرن، وحجة الزمان، وفريد العصر، ووحيد الدهر، وحجة الله على عباده، وأنه الذي لا يأتي الزمان بمثله أبداً، ويبدأ يضفي على هذا ما لا يحق له أن يقوله فيه. وقد يأتي إنسان آخر لنفس الشخص، فيضع من قدره، حتى تشك هل بقي أصل التوحيد عند هذا الإنسان؟ هل هو من أهل القبلة والملة؟! لأنه أفرط في ذمه والقدح فيه وتقبيحه والوقيعة فيه. فليس عندنا إنصاف حلول، ولا يمكن أن نقول: فلان رجل فاضل، وفيه خير وصلاح، واستقامة، وهو مجتهد، ولكن أخطأ في مسائل اجتهد فيها وما حالفه الصواب، أو أنه عليه نقائص وهي كذا وكذا. ما أقل ما نعرف هذا! تجد أننا إما أن نرفع الشخص فوق قدره، أو أن ننزله دون قدره ومنزلته. وما يقال في كتابٍ معين أو في شخصٍ معين؛ يمكن أن يقال في أي شيءٍ آخر، في شريط مثلاً، أو في نشاط إسلامي معين، أياً كان هذا النشاط، سواء كان دعوياً أو علمياً، أو جهادياً، أو في أي منهج من مناهج الدعوة، وفي جماعة من الجماعات، فتجد أن كثيراً من الناس إما أن يغلو أو يُفرط، ويضع من صفات المدح ما لا يليق، أو يُفرط ويسرف، فيضع من النقائص والعيوب ما لا يليق أيضاً. وما أحوج المسلمين إلى النظرة المعتدلة، التي يأمر الله تعالى بها! فالله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان، قال الله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة:8] والله عز وجل لما ذكر الخمر قال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219] والأمر هذا واضح، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما ذكر ملك الحبشة لأصحابه، وهو ملك كافر آنذاك، قال:: {اذهبوا إلى الحبشة فإن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد} لم يمنعه كون هذا الملك ملك الحبشة كافراً آنذاك، وأسلم بعد، أن يذكر أن هذا الرجل عنده عدل وإنصاف، ويحمي المظلومين، ولا يسمح بإيصال الظلم إليهم. فهذه هي السنة الشرعية الواجبة، أن تعدل في حق الشخص، والجماعة، والكتاب، والشريط، والنشاط الدعوي، والقريب والبعيد، وتحرص قدر المستطاع، ألا تأخذك العزة بالإثم، وألا تحب فتسرف في المدح، أو تبغض فتسرف في القبح والذم، بل أن تكون وسطاً معتدلاً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} [النساء:135] اجعل قلبك يا حبيبي متألهاً للحق، تعشق الحق حيثما كان، ولا تتعصب لغيره، وتقبل على كل شيء شاهداً من كتاب الله تعالى أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحب الناس إليك لا مانع أن تقول: فيه عيب وهو كذلك، وأبغض الناس إليك لا مانع أن تقول: عنده حسنة وهو كذلك. إذاً: المسلمون -في كثير من الأحيان- ما عندهم توسط أو تفصيل، ما عندهم إلا أبيض أو أسود صح أو خطأ، ليل أو نهار، (100%) أو صفر، أما التوسط فهو قليل، فإذا أقبلوا على شيء أقبلوا عليه بكليتهم، وإذا أعرضوا عنه أعرضوا عنه بكليتهم، فتعاملهم مع الأشياء نستطيع أن نصفه -في بعض الأحيان- بأنه تعامل عاطفي، ليس تعاملاً بالشرع وبالعقل، وبالحكمة، بل هو تعامل بالعاطفة، وحتى من الناحية العاطفية هو تعامل غير سليم، فأنت تجد -مثلاً- الإنسان الذي يبالغ في الحب، غالباً ما ينتقض الأمر إلى أن يبالغ في البغض، وفي حديث علي رضي الله عنه، الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً، عند الترمذي، أنه رضي الله عنه كان يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وهذه حكمة أمسك عليها، الحكم إذا كان معتدلاً -موجود ولكنه باعتدال، وبدون إسراف- فإنه يستمر ويدوم ويثمر، لكن إذا كان حباً جارفاً مسرفاً فإنه يتحول إلى بغضاء، وهذا معروف فإنك تجد العاطفة -كما يقال- متقلبة، فإذا كان الإنسان ممن إذا أحب أسرف، تجد أنه ممن إذا أبغض أسرف، وتجد أن هذا الحب قد يتحول في كثير من الأحيان إلى بغضاء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 11 التنصل من المسئولية هناك جانب آخر من الخلل في التفكير عند المسلمين وهو: قضية التنصل من المسئولية وإلقاء التبعة على الآخرين، فالمسلم في هذا الوقت كسول، يحب ألا يتنصل من المسئوليات، ويلقي بالتبعية على غيره، وقد ذكرت في بعض المناسبات مثلاً صينياً يقول: -والواقع أن هذا المثل يجب أن يكون عربياً في الظرف الحاضر-: (المشكلات التي نعانيها الآن من صنع الأجيال السابقة، وسوف تحل بواسطة الأجيال اللاحقة) . أما نحن فصرنا خارج الأقواس، ليس لنا دور في صناعة هذه المشكلات، ولن يكون لنا دور في حلها، وهذا هروب غريب من مواجهة المشكلات التي نعانيها، فنتنصل كثيراً من المسئولية، ونلقي بالتبعة على الآخرين. فتجد أي فرد منا لا شعورياً، لو يرى منكراً في الشارع، ما يخاطب نفسه ويقول: كيف أزيل هذا المنكر؟ مجرد أن يرى المنكر ينطلق بصورة عفوية ويقول: أين فلان؟ أين جهاز الهيئات؟ أين المشايخ؟ أين العلماء والدعاة؟ وأنت ما هو دورك؟ هل الإسلام نزل لغيرك!! أنت واحد من المسلمين، وكان يجب أن تشعر أنك مسئول مثلما غيرك مسئول، وبدلاً من أن تقول: أين فلان وعلان؟ وما دور الجهة الفلانية؟ وما دور العالم الفلاني؟ ينبغي أن توجه السؤال إلى نفسك: ما دوري أنا؟ وماذا فعلت أنا؟ لا بد أن يكون تفكيرك تفكيراً علمياً عملياً، تفكيراً إيجابياً، وليس سلبياً همك أن تخرج من المسئولية، وتلقي بالتبعة على غيرك. الدين يا أخي! ليس لفئة معينة، الدين للجميع، والقرآن نزل للجميع، وخاطب الناس كلهم قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:104] بل قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] فأنت من الناس وأنت -إن شاء الله- من الذين آمنوا، ويجب أن تقوم بدورك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 12 الاحتجاج بأن الابتلاء سنة ماضية من صور التنصل: إننا كثيراً ما نتعلق بقضية المحنة، كم أصيب المسلمون! كم شردوا!! كم قتلوا!! كم سجنوا!! كم عانوا من الآلام والمصائب والنكبات، ما الله به عليم!! ونحن دائماً وأبداً نضرب على وتر واحد، وتقول: إن الابتلاء والامتحان سنة الله في خلقه. نعم هذا صحيح، لكن لماذا لا نتصور أنه كما قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في معركة أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] . المحنة أحياناً قد تكون قضاءً وقدراً لرفع الدرجات، وقد تكون -أحياناً- بسبب فعلنا نحن المسلمين، ومهما كان المسلمون من الصلاح والاستقامة والتجرد، والقوة والدين، والعلم، والوعي، لن يكونوا في درجة أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبقيادة محمد نفسه صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قيل لهم في محكم التنزيل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . هذا درس لكل مسلم، أنه لا يجوز أبداً أن تقول: القضية قضية ابتلاء وامتحان، وتغفل عن التفكير في دورك أنت في هذا الابتلاء والامتحان، وأنه قد يكون بسبب أخطاء، أو زلات، أو سقطات، أو تسرع، أو تعجل، أو عدم دراسة للأمور، أو عدم تقدير للمواقف، جرَّت إلى مثل هذا الأمر، ومع ذلك إذا وقعت ونزلت فلا داعي لأن يتشفى بعضنا ببعض، ونقول: هذا يستحق ما نزل به كذا. وكأن الواحد يتشفى بإخوانه، بل لا بد أن يحزن لحزنهم، ويألم للمصيبة التي نزلت بهم، ويسعى لإخراجهم وإنقاذهم مما نزل بهم من مصيبة، أياً كانت هذه المصيبة، بغض النظر عن ما هي المصيبة، وفي نفس الوقت يأخذ من ذلك الدرس والعبرة. نحن نؤمن به كقضاء وقدر وقع لا محالة، والاحتجاج بالقضاء والقدر بعد وقوع الشيء لا مانع منه، لكن ما يمنع -أبداً- أن الإنسان يأخذ درساً وعبرة من هذا الأمر الذي وقع، وهذا نفس الكلام فيما ذكره أهل العلم في الاحتجاج بالقضاء والقدر على المصائب. فلو أن إنساناً وقع في معصية، سواء زنى أو سرق أو قتل، كونه يقول: هذا قضاء وقدر. بعد ما وقعت المعصية، نقول: هذا صحيح أنه قضاء وقدر، لكن كونه قضاء وقدر لا يمنع من أنه إذا وقع هذا الإنسان في معصية تتطلب تبعات أن يتحمل هذه التبعات، مثل كونه قتل فيقتص منه، أو كونه سرق فيقام عليه الحد، أو كونه ظلم أحداً، فيعيد المظلمة لصاحبها، هذا لا يمنع وإن كان وقع الأمر -أصلاً- بقضاء الله وقدره، كما أن وقوع الأمر بقضاء الله وقدره، لا يمنع من أن الإنسان يتوب إلى الله تعالى من الذنب الذي فعله، ويستغفر الله ويراجع نفسه ويصحح سيرته، ولو كان ذلك كله بقضاء الله تعالى وقدره. إذاً: لا يجوز أن نقول: القضية ابتلاء وامتحان ونصبر، مع أنه يجب أن نقول: هذا امتحان ونصبر إلا أنه ينبغي أن ندرك، ما هو دورنا في المحنة. والمحنة قد تكون أمراً إلهياً محضاً لا يد لنا فيه، فنقول: سلمنا وقد تكون بسبب فعلٍ منا، فنراجع فعلنا هل فيه خطأ أو ليس فيه خطأ. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 13 الاحتجاج بأن الأخطاء طبيعية ومن صور التنصل من المسئولية ومن الأخطاء أننا دائماً نقول: الأخطاء طبيعية، وليس هناك أحد معصوم. وهذه ليست هي المشكلة، نحن الآن لا نتناقش في العصمة، نحن متفقون على أنه ليس هناك أحد معصوم، ومتفقون على أن الأخطاء طبيعية، والأمم كلها -أصلاً- فيها سلبيات، فنحن ندرك سلبيات إخواننا المسلمين، لكن الأمم الأخرى فيها من السلبيات ما الله به عليم، وكم من أمم تحملت من السلبيات شيئاً كثيراً! ولو قرأت تاريخ أي أمة كالنصارى، أو اليهود، أو الشيوعيين، أو أي أمة بدون استثناء، سواء كانت أمة من الأمم الدينية، أو من الأمم العرقية؛ تجد فيها سلبيات وأخطاء ومشاكل وأمور صعبة. ولا شك أنه لا يقارن بها ما يقع في تاريخ المسلمين وواقعهم، هذا صحيح، ونحن لا نشك فيه، وليس معنى وجود السلبيات، أنه يجب أن نتوقف، أبداً، لكن معناه: أننا ينبغي ألا نتوقف عند مجرد قضية أن الأخطاء طبيعية. لابد أن نحدد ما هي الأخطاء، وكيف حصلت، ومن المسؤول عنها، وما سبيل الخروج منها، وما سبيل العلاج، وما أشبه ذلك، ويكون ذلك كله برفق ورويّة وحكمة، وإنصاف الباحث عن الحقيقة، وليس المتشفي الذي يبحث عن الخطأ والزلة حتى يتعلق بها لحاجة في نفسه أو في قلبه والعياذ بالله، فهناك فرق بين المشفق الذي يبحث الباحث عن الخطأ ليعالجه، فهو كالطبيب الذي يبحث عن المرض والألم، وبين الإنسان المغرض الذي هو كالعدو، يبحث عن الخطأ حتى يتشفى ويتهم، ويسب، وحتى يجد فرصته في التعليق والقيل والقال والكلام الذي لا طائل تحته. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 14 التهرب من القيام ببعض الأعمال من صور التنصل أيضاً: التهرب عن بعض الأعمال التي ربما ادعاها الإنسان في وقتٍ من الأوقات أي: أن الإنسان قد يدَّعي شيئاً ما ثم يتنصل منه، مثل ما يذكر في الطرائف والنكت: أنّ أحد الخلفاء جيء له بشيء فأعجبه هذا الشيء، فقال: من الذي فعل هذا؟ فسكتوا، فقام الخليفة وقال: إني سوف أعطيه جائزة. فقام إنسان وقال: أنا الذي فعلتها. فقال: اجلدوه مائة جلدة. فقاموا وجلدوا هذا الإنسان مائة جلدة، فلما انتهوا قال: اجلدوا فلاناً لأنه هو الذي فعلها على سبيل الحقيقة. فلما كان يتصور أن هناك جائزة قام يدعي، لكن لما عرف أنه لا توجد جائزة إلا العقوبة، قال: على الأقل أشركوا معي الفاعل الحقيقي لهذا الأمر فهذه مشكلة. وقد تجد كتاباً من الكتب، يؤلف الكتاب ولا يذكر عليه اسم المؤلف، إنما يذكر اسم رمزي، لأنه خائف أصلاً -وهذا حصل أكثر من مرة- ما استطاع أن ينشر الكتاب باسمه الصحيح، لأنه خائف أن تقدم على هذا الكتاب، حمله شرسة، وهجوم كاسح، وقد يعاقب صاحبه، إذا انتشر الكتاب ولم يذكر اسمه، فلما رأى الكتاب راج وانتشر، وطبعت منه مئات الآلوف من النسخ، وكتبت عنه الصحف وأشادوا به، قام وادعاه وقال: أنا الذي ألفت الكتاب. فهذا نوع من التهرب والتنصل من مسئولية عمل قام به الإنسان، يدل على ضعف الشجاعة. أذكر أنه في بعض البلاد الإسلامية، كان هناك نوع من مقاومة الأعداء في ذلك البلد، فلما كانت القضية أن توقع الانتصار بين عشية وضحاها، كان هناك أطراف عديدة كل واحد يقول: أنا الذي بدأت أنا الذي بدأت. فلما رأو أن الأمر آل إلى عاقبة غير محمودة ولا مرضية، أصبح كل إنسان يلقي بالتبعة والمسئولية على الأطراف الأخرى، ويحاول أن يتخلص هو أو يتنصل منها، ويقول: الذي بدأ أو الذي جر إلى هذا الأمر هو فلان أو علان. على سبيل المثال: هذا المثال الذي ضربته: إعلان الجهاد في بلد معين, وإعلان الجهاد أنا أعتبره قراراً تاريخياً ليس بالأمر السهل، إذاً: كيف يتم هذا الأمر؟ من هو الذي بدأ هذه القضية، حتى تتحدد المسئوليات بشكل واضح؟ هذه القضية تحتاج إلى نظر وتأمل، بمعنى أنه ينبغي على المسلمين أن يدرسوا أمورهم، ولا يتخذوا قرارتهم إلا بدقة متناهية، وبصورة جماعية مدروسة، لئلا تؤول القضية إلى تبرم وتنصل من المسئولية، كما ذكرت لكم في بلد ما، لما كان الجهاد في أوله، وكانوا يتوقعون نصراً سريعاً صار كل إنسان يدعي، فلما رأوا أن الأمور انتهت، أصبح كل إنسان يتنصل ويلقي بالمسئولية على غيره، هذا ليس بجيد. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 15 إلقاء المسئولية على الحكام أحياناً نلقي بالمسئولية على الحكام، ولا شك أن الحكام يتحملون مسئولية، وليست كمسئولية الأفراد العاديين أو مسئولية الشعوب، وكما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر المتفق عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} . ودور الحاكم الذي الأمة كلها معلقة في رقبته، ليس كدور الفرد العادي، هذا مما لا يشك فيه أحد ولا يختلف، لكن ننسى -أيضاً- أن الأفراد يتحملون دوراً كبيراً، حتى فيما يفعله العالم. أو الحاكم، ولما ذكر الله تعالى قصة فرعون وطغيانه، واستبداده قال: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:54-55] . إذاً: القضية أتت من قِبل الفرد أصلاً، زالت إنسانيته وكرامته وقوته ورجولته فاستخفه فرعون وأطاعه لأنه كان من الفاسقين. ويقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي: نجعل بعضهم على بعض أولياء بسبب أعمالهم، وليس من العدل أن يتصور مسلم أن الله تعالى يُسلط على أمة صالحة مستقيمة مجاهدة, آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، يسلط عليها ظالماً يسومها سوء العذاب، كما أنه لا يتصور أن يأتي حاكم كـ عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز لأمة فيها من المشاكل والعيوب والمآخذ ما فيها، ولو جاءها ربما كانت هي أول من يقوم ضده ويقتله، كما قال أحد الشعراء: قم يا صلاح الدين قم كم مرةٍ في العام تندبونه! حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة وإنه لو قام حقاً بينكم فسوف تقتلونه فينبغي أن ندرك الترابط بين جميع طبقات الأمة، حاكمها وعالمها وداعيتها وفردها والرجل والمرأة، والمتعلم والمعلم، فالجميع مترابطون، ومن الصعب أن تتصور أن هناك في فئةً صالحةً والباقي فاسدة أو العكس، بل إن الأمر مرتبط بعضه ببعض. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 16 الإلقاء بالمسئولية على العدو وأحياناً يبلغ بنا حد التنصل من المسئولية -وهذا أمر مضحك- إلى أن نلقي بالمسئولية على عدونا!!! ألا نضحك لو قيل لنا: شخص خرج من المعركة مهزوماً فقيل له: لماذا انهزمت؟ قال: كنتُ أتصور أن العدو ما يملك هذه القوة، ففوجئت أنه يملك قوة، ولم يراع ظروفي ولا راعى إمكانياتي الضعيفة، فهجم عليَّ هجمة شرسة، وكانت النتيجة أني انهزمت!! أو كما كان أحدهم يقول: كنا نتصور أن العدو يأتينا من الشمال، فجاءنا من الجنوب، فسخر منه بعض الشعراء، وقال له: كان على عدوك لو درى أدب القتالِ أن يستشيركَ في العبور من اليمينِ أو الشمالِ المفروض على العدو أن يستشيرك، ما يقطع أمراً دونك! عدوك ماذا تنتظر منه يا أخي؟! هو -أصلاً- عدو وأنت تقاومه، فماذا تنتظر من عدوك، إلا أنه سوف يستفرغ كل ما في وسعه في مقاومتك. فهمٌ غير صحيح أننا نلقي مسئوليتنا على عدونا، عدونا شرس وقوي، وعدونا -مع ذلك- بعيد النظر قوي التخطيط، ومع أنه قوي وبعيد النظر، وقوي التخطيط، مع هذا كله فإنه موحد الصف مجموع الكلمة، وأنا أقرأ عليكم الآن تقريراً نشر بعنوان: المسلمون قادمون؛ حتى تدركوا حجم العدو. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 17 تقرير إخباري تحت عنوان: المسلمون قادمون هذا التقرير نشر في مجلة أمريكية اسمها "ناشيونال بريفيو وأنا أقرأ عليكم الآن من ترجمة المقال، وهو مقال فيه جوانب تسر المسلم بلا شك، ولكن فيه جوانب تكشف عن حجم العداوة، التي واجهها المسلمون في كل مكان، في أفغانستان، وفي كل بلاد الإسلام: يقول: كاتب المقال واسمه دانيال بايبس: إن الغربيين يعتقدون الآن أن الإسلام اليوم يهددهم أكثر من أي شيء آخر، ولذلك بدءوا يرددون اليوم شعار: "المسلمون قادمون"، بدل شعارهم القديم: "السوفيت قادمون"، وأخذوا يوجهون أعداءهم نحو العالم الإسلامي والشرق الأوسط حيث يتركز المسلمون. ويعود بايبس بالذاكرة إلى حوالي ستمائة وخمسين سنة مضت، وبالذات إلى عام (1354م) ، عندما عبر الجيش العثماني لأول مرة مضيق الجردينل، إلى القارة الأوروبية، فيقول: منذ ذلك التاريخ، وحتى إيقاف تقدم الجيش العثماني على أبواب فيينا عاصمة النمسا الفترة التي استغرقت ثلاثمائة وخمسة وعشرين سنة، انصبت جميع المحاولات الغربية على السبل الكفيلة بإيقاف تقدم المسلمين نحو أوروبا. لأن أوروبا نفسها كانت مهددة تحت جحافل الجيوش الإسلامية الجرارة. يقول: إن خطر الإسلام الكبير على الغرب كان يتمثل حتى الأمس بالتهديدات العسكرية، أما اليوم فإن القوة الإسلامية تحولت إلى حركة فكرية وثقافية، تهدد أسس وقواعد الفكر والعقيدة الغربية. إذاً: الإسلام يخيفهم حتى حين يكون عقيدة فقط، أو كما يقول: حركة فكرية وثقافية. ثم يشير إلى زوال الصراع مع المعسكر الشرقي، الذي هو المعسكر الشيوعي -والمقال هذا كتب قبل تهاوي، وتساقط الجمهوريات السوفيتية- يشير إلى تقاسم النفوذ في العالم، ويقول: لم يعد قائماً الآن تهديد وخطر المعسكر الشرقي بالنسبة للغرب، لقد زال هذا الخطر، واليوم تعتبر الأصولية الإسلامية خطراً على الغرب، وهي في نموٍ وتصاعدٍ يوماً بعد يوم، وتشكل خطراً يهدد الغرب بشكل أكثر تعقيداً من خطر الحرب الباردة بين القوتين. ثم يدعو إلى التصدي للإسلام قائلاً: إن الغرب الذي أزال خطر الشيوعية وخطر الاتحاد السوفيتي، لا بد أن يُفِّكر بجدية في هذا الخطر الجديد، ويجب عليه أن يعتبر الاتحاد السوفيتي أكبر حليفٍ له ومتعاون معه، في مواجهة الأصولية الإسلامية. إذاً: حلف عالمي دولي، مع أنَّ كل قوة في ذاتها تملك من الإمكانيات ما تملك، لكن مع ذلك يقول: يجب أن يعتبر الاتحاد السوفيتي أكبر حليفٍ له ومتعاونٍ معه، في مواجهة الأصولية الإسلامية. ثم تكلم بعد ذلك عن إمكانية احتواء المسلمين من الناحية الفكرية، إمكانية صهر المسلمين في الحضارة الغربية، فيقول: إن المسلمين يقاومون بشدة أي محاولة لصهرهم في أي شيءٍ آخر غير الإسلام، فالباكستانيون -مثلاً- في بريطانيا، والجزائريون في فرنسا، والأتراك في ألمانيا، يحاولون تبديل تلك المجتمعات إلى دول إسلامية، في الوقت الذي كان ينتظر أن يذوب هؤلاء في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها. وفعلاً هناك فرى بأكملها تحولت إلى قرى إسلامية. وقد حدثني أحد الإخوة وهو ثقة، عن قرية بأكملها في ألمانيا تحولت إلى قرية إسلامية، حتى يقول: إنها قرية على منهج الكتاب والسنة، إلى حد أنه يقول: جاءت امرأة مرة بعد صلاة الجمعة إلى الإمام، أو الداعية الخطيب، فقالت له: إنها مسلمة وزجها كافر ورفض الإسلام، فقال: لا بد أن تفارقه، فقالت: هناك صعوبات وعندي أطفال. وقال: لا، وتكلم بقوة. فيقول بعد ذلك قلتُ له: لماذا لم تتلطف معها، وتأتيها بهدوء؟ قال لي: نحن لا نريد المسلم الضعيف، لا نريد إلا المسلم القوي الذي لديه الاستعداد للتضحية في سبيل دينه بكل شيء. ثم يشير الكاتب في مقاله إلى مسألة التوازن غير المتكافئ بين المسلمين والنصارى، فيقول: العائلة الواحدة في العالم الإسلامي لديها ستة أطفال، بينما العائلة الغربية لديها طفلان فقط، وهذه مسألة تشكل في المستقبل تهديداً آخر للغرب. ويقول أيضاً: إن الألف سنة الأخيرة مضت في حروب مختلفة بين النصرانية والإسلام، ويعتقد هو أن القرن الحادي والعشرين ميلادي، سميضي بهذا الشكل أيضاً، ثم يضيف: إن الغرب سيزول حتماً بهتافاتٍ تأتي من مهود أطفال المسلمين. ونحن نقول: قال الله عز وجل: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [الأنفال:19] يقول: إن الغرب سيزول حتماً بهتافاتٍ تأتي من مهود أطفال المسلمين. ثم يختم المقال: إن عالم الغرب، وإن كان يتمتع اليوم بقدرة مادية لا نظير لها، إلا أن هذه القدرة لا تستيطع أن تحفظ الغرب في مواجهة الآهات المظلومة للمسلمين، إن الغرب يائس إلى آخر المقال. المقصود من هذا المقال: الإشارة إلى أن القوى العالمية كلها، شرقيها وغربيها، تتحالف ضد الإسلام، وتعتبر أن أخطر شيء يواجهها الآن هو ما يسمى بالأصولية الإسلامية، ولذلك نحن نواجه عدواً شرساً قوياً موحد الصف، وهذا لا شك فيه ولا غرابة في ذلك، إنما ينبغي أن ندرك نحن حجم هذا العدو، وأن نواجهه بالوسائل المكافئة وما نواجهه من عدونا ليس مستغرباً، وينبغي ألا نحمل عدونا مسئولية ما ينزل بنا، لا يمكن أن نقول: ما نزل بنا من مصيبة مسئوليته تقع على عدونا. لماذا ما تحقق لك ما تريد؟ قال: العدو هو السبب. هذا أمر طبيعي، أتريد من العدو أن يسلمك الحصون؟ فينبغي أن ندرك. ومن المسلم به أن هذا يجعل الإنسان يكون بعيد النظرة، ولا ينتظر نصراً يقطفه بين يومٍ وليلة، أو في أسبوعٍ أو شهر، وأن القضية تحتاج إلى طول نفس، لكن ينبغي أن تقدر قوة العدو، وأن لا تحمل مسئولية ما أصابك عدوك. ناحية أخرى: حتى ونحن نتكلم عن عدونا وإمكانيات عدونا. وتحالف عدونا، هناك سؤال لا بد أن نطرحه على أنفسنا: نحن ما درونا في التأثر بعدونا؟ ما دورنا في التأثر بالأقوال التي يقولها، والأفعال التي يفعلها عدونا؟ بل وتسهيل مهمة هذا العدو أحياناً، وأحياناً قد نكفي عدونا بعضنا البعض، وقد لا يحتاج عدونا إلى سلاح في بعض الأحيان، فبعضنا يؤذي بعضاً، ويعارض بعضنا بعضاً، ويسقط بعضنا بعضاً، ويقتل بعضنا بعضاً، فماذا يصنع عدونا أكثر من هذا أحياناً؟! فالعدو غاية ما يريد أن يقتل المسلم، والمسلم قد يقتل أخاه أحياناً! غاية ما يريد العدو أن يحطم الرموز الإسلامية، والمسلم قد يُحطِّم رمزاً إسلامياً أيضاً! والخلافات قد تستشري وتتحول إلى نوع من الهم الذي يغرق الإنسان فلا هم له إلا فلان، ومحاولة إسقاطه بكل وسيلة، وبذلك نكفي عدونا أنفسنا، ولا يحتاج إلى أن يبذل الجهد لأننا بتناقضنا نحن، وبالمشاكل الموجودة فيما بيننا، أصبحنا كما تقول القاعدة: تعارضا فتساقطا. أسقط بعضنا بعضاً، وعدونا أصبح مشغولاً بالحصول على المزيد من المكاسب، والمزيد من التقدم، والمزيد من الأمور التي لم يكن ليحصل عليها لو كان يواجه قوة صحيحة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 18 صور من الخلل في التفكير أنا حين أتكلم عن هذا الخلل في التفكير، صراحة أقول: إن الخلل في التفكير عندنا من القمة إلى القاعدة، على كافة المستويات، تجده في كل فرد، سواءً كان فرداً ذا مسئولية خاصة، علمية أو رسمية، أو مسئولية دعوية، أو حتى تأتي إلى المدرس في الفصل، أو إلى الأب في البيت، تجد الأخطاء نفسها موجودة، فنحن نتربى على هذه الأخطاء، ونتعامل معها بصورة عفوية، ولذلك لعل طرق هذا الموضوع يساهم في تصحيح التفكير عندنا. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 19 العفوية والبساطة من عيوبنا أيضاً في التفكير: العفوية والبساطة أحياناً، وأخذ الأمور -كما يقال- بالبركة. مثلاً: عدم تقدير المواقف السياسية الدولية. هذا كثير ما يصاب به المسلمون، ويكون نتيجة لذلك أخطاء في مواقفهم وفي تصرفاتهم، وفي أعمالهم، أياً كانت هذه الأعمال، بسبب عدم قدرتهم على إدراك حساسية المواقف ودراستها بشكلٍ جيد، والمفروض أن الإنسان يعرف الجو الذي يتحرك فيه. وأيضاً: عدم تقدير قوة العدو، حتى أني أسمع من بعض الشباب. من يقول: المسلم إذا وجد أي قوة يقاتل بها عدوه؛ لأن الله يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فإذا أعددنا ما استطعنا الباقي على رب العالمين. إذاً: لماذا عقد الفقهاء باب الصلح وباب الهدنة مع العدو؟ وتكلموا في هذا، وأنه قد يعقد الصلح مع العدو لأسبابٍ معينة، بسبب عجز المسلم عن قتاله، صلح لفترة محدودة أو في ظرف محدود، فلماذا تكلم الفقهاء في هذا؟ أما كونك تقول: كل إنسان ملك أدنى قدرٍ من القوة كان بإمكانه أن يواجه عدوه. هذا ليس بصحيح، بل ينبغي أن تقدر قوة عدوك، وقد تصل إلى نتيجة أنه لا يمكن مواجهة العدو، والمسلمون بـ مكة قد قيل لهم: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] . وفي أفغانستان قد نستطيع أن نقول: لنا قوة تواجه قوة عدونا وتكافئ قوة العدو، أو تقرب منها بحيث نستطيع أن نقاومه. لكن قد يكون في بلادٍ أخرى لا يملك المسلمون هذه القوة، فهل يمكن أن يقوموا بقرارٍ كذلك القرار بدون دراسة؟ هذا ليس بصحيح. أيضاً من العفوية والبساطة: عدم تقدير قوة العدو. قد تجد أن العدو يملك قوى لا تستطيع أن تواجهها أو تكافئها، ودراسة هذه الأمور ووضعها في موضعها لابد منه، فنحن أيضاً -وهذا ضمن عفويتنا وبساطتنا- مسرفون في كثير من الأحيان في تقدير قيمة القوة البدنية والعسكرية، وشدة الاعتقاد بما يسميه المعاصرون الحل العسكري، نتصور أن الكلاشينكوف -كما يقال- تحل جميع المشكلات، وهذه مشكلة وخطأ كبير، وخلل كبير في التفكير. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 20 حاجتنا إلى الإمكانيات الساحة الإسلامية اليوم تكاد أن تخلو من الإمكانيات العلمية والعملية والدعوية، والمسلمون أمامهم مضمار طويل جداً، يحتاجون إلى أن يجندوا فيه من الإمكانيات والأعداد والكوادر الهائلة في كل مجال؛ حتى يصلوا إلى المستوى الذي يكونون جديرين فيه بنصر الله عز وجل لهم، وأقول: المسلمون الآن غير مؤهلين في الواقع لأن يقوموا بحضارة على مستوى العالم، لأنهم لا يزالون دون هذا المستوى في وضعهم الحاضر، فهم بحاجة إلى وقت وإلى جهود جبارة في كافة المجالات، يحتاجون إلى التربية الإيمانية الصادقة، وإلى تصحيح العقيدة وتصفيتها وترسيخها في النفوس، ويحتاجون إلى بناء العقليات الناضجة المتعقلة، البعيدة عن الاندفاع والهيجان والتقلب والاضطراب، ويحتاجون إلى الاندفاع في كل مجال للبناء والإصلاح والتعمير، يحتاج المسلمون في كل مجال من مجالات الحياة المباحة إلى أعداد كبيرة غفيرة، تجند وتجيش لخدمة الإسلام والمسلمين. في المجال الطبي -مثلاً- وفي مجال التقنية والتصنيع، والاقتصاد، وفي مجال الاجتماع، ومن ذلك أيضاً في مجال الإعداد المادي، والقوة المادية، وقبل ذلك كله في المجال الشرعي، وتصحيح عقائد الناس، وتصحيح أخلاقهم وعباداتهم، ودعوتهم إلى الالتزام بالكتاب والسنة، وتصحيح مفاهيمهم بحيث يكون هذا هو الإطار العام، الذي ينطلق منه المسلمون إلى كل مكان. فالقضية ليست بالبساطة، وأنك تتصور أنه كما يقول أحدهم: أصدقاء الحروف لا تعذلوني إن تفجرتُ أيها الاصدقاءُ كُل أحبابي القدامى نسوني لا نوار تجيبُ أو عفراءُ عندما تبدأ القنابل بالعزفِ تموتُ القصائدُ العصماءُ صحيحٌ أن القصائد العصماء تموت إذا بدأت القنابل، لا نريد من القصيدة العصماء أن تلقيها والناس يتقاتلون، لكن نحتاج إلى الإيمان الصادق، ونحتاج إلى الخبرة، والدراية، ونحتاج إلى ألوانٍ كثيرة من شئون الحياة، ومن العلوم التي يفتقر إليها المسلمون في واقعهم، وينبغي أن ندرك العلل في جسم الإسلام حتى نعرف كيف نخرج، وإلا فسوف نظل ندور في حلقة مفرغة ولا نخرج منها. فلابد ألا نسرفإذاً- في تقدير قيمة القوة العسكرية والحل العسكري، وأن نضعه في موضعه الطبيعي، هي جزء من القوة، لكن هناك قوى أخرى كثيرة قبلها ومعها وبعدها نحتاج إليها، هذا الإسراف في تقدير القوة العسكرية مخالف للسنن الإلهية. ولا داعي لأن يتعجل الناس، الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قال الله لهم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر:77] وفي الآية الأخرى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد:40] والرسول عليه الصلاة والسلام حينما كان يربي أصحابه، ما رباهم على أن قال لهم: إنكم ستملكون فارس والروم وغيرها، خاصةً في مكة، بل رباهم على أن قال لهم: {تبايعونني على الموت ولكم الجنة قالوا: ربح البيع لا نقيل، ولا نستقيل} . هذه هي القضية، إذاً القضية مربوطة بالدار الآخرة، وأن هناك جنةً عرضها السموات والأرض لمن جاهدوا في سبيل الله، وصبروا وقاتلوا وقتلوا، أما قضية أنه في الدنيا يحصل شيئاً أو ما يحصل، أو ينتصر أو ما ينتصر، أو يغلب أو ما يغلب، هذا أمر مرده إلى الله عز وجل، قد يعطى لهذا الجيل أو للجيل الذي بعده، هذا الأمر غيبٌ عند الله عز وجل. عود على بدء؛ فإن إيجابيات الجهاد الأفغاني كثيرة، ومع ذلك لا يعني أننا ننكر أن الجهاد الأفغاني -كأي عملٍ إنساني وكأي عمل إسلامي- لا يخلو من سلبيات هنا أو هناك، وينبغي أن تكون الصورة معتدلة في أذهان الناس، حتى لا يقاجئوا بأي وضع جديد يحدث، فيحصل عندهم صدمة، فبدلاً من الحماس الذي كان يقول: يجب ويجب، تحول إلى حماسٍ مضاد، يقول: يحرم ويحرم! فينبغي ألا نعيش ردود فعل دائماً وأبداً ننتقل من النقيض إلى النقيض، هذا سيفقد الناس الثقة بنا، كدعاةٍ للإسلام، وطلبة علم، وسيفقد الناس -أيضاً- الثقة بالجهاد ليس في أفغانستان فقط، بل في كل مكان، وهذا لاشك ليس من مصلحة الجهاد ولا المجاهدين، ولا من مصلحة الإسلام والمسلمين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 21 الخوف من النقد والتصحيح من مشاكلنا في التفكير وأخطائنا: الخوف من النقد والتصحيح. وهذا إن شاء الله سوف أخصص له درساً، لأنه موضوع مهم جداً. فنحن -في كثير من الأحيان- نعتبر أن الذي ينتقدنا أو يصحح لنا، أنه قد خذلنا أو تحامل علينا، قد يكون أخطأ في أسلوب النقد، أو في أسلوب التصحيح والتوجيه، لكن لا بأس أن يتحمل الأنسان مرارة الدواء. وإن أمكن أن يكون التصحيح بأسلوبٍ حسن حكيم ولطيف؛ فهذا ما نتمناه، وإذا ما أمكن فلا بد يأتي إنسان يقومني بأسلوبٍ جاف، أحب إليَّ من إنسان يسكت على أخطائي، ويتلطف معي، ويمدحني ويثني عليَّ بما ليس فيّ، فإن صديقك من صدقك. والحقيقة أن الذين يخذلون الأمة ويخذلونك، هم الذين يرونك على خطأ فيقرونك عليه ويسكتون، أو يؤيدونك، ويعتبرونه صواباً. ومع الأسف الشديد أن في عقول كثير منا -كما قلت قبل قليل- أننا نتنصل من الأخطاء، انظروا: هل أنتم تعرفون أني أقصد نفسي وأقصدكم أنتم؟ أم تتصورون أنني أتكلم عن أناس خارج الإطار؟ إذاً: تصورتم أنني أتكلم عن أناس خارج الإطار، معناه أن عندنا تنصلاً، حتى هذه الأشياء ما نشعر أننا نحن المخاطبون بها، نشعر أن المخاطب بها غيرنا، لأننا نلقي باللآئمة على الآخرين، فنحن -أحياناً- علامة الصداقة عندنا أن الإنسان كلما فعلنا شيئاً، قال: أحسنت أحسنت بارك الله فيك، هذا هو الصديق. وعلامة العداوة لنا؛ أن إنساناً إذا فعلنا بعض شيئاً، أو قلنا كلاماً قال لنا: أخطأتم أخطأتم. فإننا نقول: هذا عدولنا، هذا ليس صحيحاً، قد يقول لك الصديق الحميم المحب: أخطأت؛ لأنه يخاف عليك، وقد يقول لك العدو الشرس، الكاشر، على عداوته: أصبت. لأنه يريدك أن تمعن في الخطأ ولا يريد أن تتفطن له وأن تتجاوزه، قد يصدق كلام العدو، وقد يكذب كلام الصديق! الجزء: 20 ¦ الصفحة: 22 سرعة التعلق بالشائعات من أخطائنا في التفكير: سرعة التعلق بالشائعات -في التفكير والعمل- وعدم التثبت من الأخبار والحقائق والأحوال. لماذا لا نتثبت في الأخبار وفي الحقائق وفي كل الأمور؟ القضية دائماً يكون لها أطراف، والله تعالى يأمر بالعدل، وأنت مسئول بين يدي رب العالمين، لا تقل كلمة إلا وقد وزنتها، خاصة وأنك أشبه ما تكون بالحكم بين أطراف، فحاول ألاّ تظلم أحداً، ولو لم تكن تحبه أو ترتاح إليه، لكن حاول ألا تظلم أحداً، فإن الظلم مذموم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} . لماذا تنتشر الشائعات ونتعلق بها؟! لأسباب: أحياناً بسبب عدم التجرد، بل بتأثر الإنسان بظروفه وعلاقاته وصداقاته، وما أشبه ذلك، بل ربما بتأثر الإنسان بنظراته العقلية والنفسية، وقد يتحدث الإنسان -أحياناً- بصدق وحراراة وانفعال، لا تشك في أنه يتكلم من قلبٍ صادق، ومع ذلك قد لا يقول الحقيقة كاملة، لأنه يتكلم من طرف واحد أو ينظر من زاوية واحدة. والإنسان ينبغي أن يحرص -قدر المستطاع- على أن يزن بالقسطاس المستقيم، هذا الذي أمرنا الله تعالى به. وأحياناً تنتج الشائعات بسبب عدم التفريق بين الأماني والتطلعات، وبين الواقع الذي نعيشه. فهناك شيء تتمناه أنت وهناك شيء هو الواقع، فلا تخلط بين ما تتمنى أن يكون، وبين ما هو كائن فعلاً. مثلاً: في تحليل الأحداث؛ تجد كثيراً منا متفائلين دائماً وأبداً، كلما حللنا حدثاً نغرق في التفاؤل، فلماذا نغرق في التفائل؟ ينبغي أن نكون متفائلين لكن بدرجة معتدلة. ودائماً أسمع هذه الكلمة: الأمور على ما يرام الأوضاع تبشر بالخير! لا يوجد داعي للمبالغة -أيها الأحبة- ينبغي أن نكون معتدلين في تحليل الأحداث، أو حتى في رسم المستقبل، فلا نبالغ في التفاؤل بشكل يجعل الأمور فيما بعد تنتكس، ويقول الناس: إنّ هؤلاء أعطونا وعوداً ما لها رصيد، هؤلاء كانوا يبيعون ويذرعون في الهوى، ويبنون قصور، الآمال على أكوام من الرمال. فالأمنيات لا ينبغي أن تتحول إلى وعود، وحقائق، وأخبار، ولا ينبغي أن نعد الناس بشيء، ونحن غير واثقين من إنجازه تحقيقه. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 23 تضخيم الإنجازات من الخلل في التفكير: أننا أحياناً نبالغ في تضخيم الإنجازات، ونبالغ في تهوين الأخطاء، أحياناً الأخطاء نهونها ونقول: هذه أشياء عادية، وأمور بسيطة تم تعليقها، وانتهى الموضوع، محاولة أن أنهى الخطأ بأي شكل. أما الإنجازات فنعظمها وننفخ فيها، حتى نعطيها أكبر من الحجم الطبيعي. يقول: يا أخي! حتى لا نزعزع ثقة الناس بهذا العمل الذي قمنا به. أو يقول: حتى لا نعطي العدو فرصة، لأن ينفذ من خلال هذا العمل أو ذاك. وعلى سبيل المثال فيما يتعلق بالجوانب الرسمية؛ إن كان يسوغ ذكر، مثال لها: العرب في عام (73) فيما يسمى حرب رمضان، حققوا نصراً جزئياً، هذا النصر بالغوا في وصفه وتضخيمه، حتى اعتبر كأنه فتح الفتوح والنصر المبين، الذي أشبع كل رغبة الشعوب وحقق إراداتها، وجعلها تصل إلى ما كانت تصبو إليه، فنحن بالغنا في هذا النصر الجزئي وفي تضخيمه، وأعطيناه أكبر من حجمه، هو قد يكون نصراً، لكنه نصر جزئي. وفي المقابل الحروب السابقة، كحرب (67) و (56) و (48) هذه الأشياء تمر مرور الكرام، ونحاول ألا نقول: إنها هزائم، بل بالعكس -أحياناً- قد تتحول إلى انتصارات ولو كانت هزائم، ولو قتل منا اثنا عشر ألفاً أو عشرون ألفاً، ولو تحطمت الطائرات، المهم أنه انتصار، لماذا؟ لأن بقاء الحزب -كما يقال في بعض البلاد- بقاء الحزب الحاكم نفسه يعتبر نصراً، لأنه هو الحزب التقدمي الذي كانت إسرائيل تسعى للإطاحة به مثلاً، فهذا نصر بحد ذاته. فنحاول أن نصور للناس دائماً على أن الهزائم انتصارات، أو يخفف من وقع هذه الهزائم على النفوس، والواقع أننا ينبغي أن نضع الأخطاء، ونضع الإنجازات في وضعها الطبيعي. وليست القضية أننا نبالغ في الإنجازات وتضخيمها، وتهوين الأخطاء، بل قد نفتعل ونختلق إنجازات ليس لها وجود أصلاً -كما ذكرت قبل قليل- ونعتبرها نوعاً من النصر المبين. مثال آخر: القضية الأفغانية فنحن دائماً نتكلم عن المكاسب. وينبغي أن نتحدث عنها، وهذا لا شك فيه، ومنها: انتصارات، وتحرير جزء كبير من أراضي أفغانستان، واستمرار الجهاد على مدى هذه المدة الطويلة، يقاوم قوة من القوى العظمى لفترة من الفترات، ثم يقاوم إحدى الحكومات المدعومة في فترة أخرى، وأيضاً اتخذ الله منا شهداء، نرجو الله تعالى أن يتقبلهم، وأن يغفر لنا ولهم، ويثبت من بعدهم ومن وراءهم، واستفاد المسلمون دروساً كثيرة. هذه المكاسب للجهاد الأفغاني، لكن ينبغي أن تكون المكاسب معقولة، فلا يأتي واحد ويقول: الصحوة الإسلامية كلها من مكاسب الجهاد الأفغاني. لا، بل أنا أستطيع أن أقول العكس: إن الجهاد الأفغاني هو أثر من آثار الصحوة الإسلامية وجزءُ منها، والصحوة أكبر من بلد معين وأكبر من حركة جهادية، الصحوة صحوة علمية، وشرعية، وسلوكية وأخلاقية، واقتصادية، وفي كافة المجالات، وفي كل البلاد، ولذلك فإنها أوسع من ذلك. هناك حركة جهادية أخرى في غير أفغانستان، قد يكون بعضها قبل أفغانستان، كالجهاد في الفلبين مثلاً، وبعضها معه، وبعضها بعده أيضاً، والحركات الجهادية التي جاءت بعد أفغانستان، من المتوقع بل ربما من المؤكد أن للجهاد في أفغانستان دور في تحريك الجهاد في تلك البلاد ودعمه، هذا لا شك فيه. قضية سقوط الشيوعية -مثلاً- سقوط الشيوعية أكبر من أن نقول: إن سبب سقوط الشيوعية هو الجهاد في أفغانستان. صحيح أن أفغانستان من الأسباب، ويكفي أن الروس أدانوا التدخل في أفغانستان، وتلقوا في ذلك درساً ليس بالبسيط، وكان تدخلهم مسماراً في سقوط نفس الشيوعية، لكن سقوط الشيوعية أمر قبل الجهاد الأفغاني وبعده، بمعنى: أن سقوط الشيوعية أمر محتمُ، لأنها مخالفة للسنن الكونية وللنواميس، ومخالفة للفطرة وللحق، ولذلك كان لابد أن تسقط بهذا السبب أو بغيره من أسباب أخرى كثيرة، وقد سقطت الشيوعية في أنحاء كثيرة من العالم بسبب الكساد الاقتصادي، والإفلاس العقائدي، وبسبب عجزها عن صهر القوميات، وعن تلبية نداء الفطرة، وبسبب المشاكل التي واجهتها والتي كانت قضيةأفغانستان أحدها. ففرق بين أن أقول: إنّ الجهاد في أفغانستان سبب من أسباب سقوط الشيوعية، وبين أن أعزو سقوط الشيوعية -كما سمعتُ هذا بنفسي عن مسئول كبير جداً في دولة أفغانستان المؤقتة- أن سقوط الشيوعية كان سببه الجهاد في أفغانستان. كذلك الحركات الإسلامية والشعبية، وحركات الإنقاذ والدعوة في كل البلاد، لأفغانستان دورُ عليها، ولها هي دورٌ في أفغانستان أيضاً، فالمسألة مسألة تأثير متبادل بين هذه الحركات الجهادية والحركات الدعوية في أنحاء العالم الإسلامي، وإن كنتُ أعتقد أن أفغانستان بجهادها المستمر المستميت؛ سببٌ أصيل في كثيرٍ من هذه الحركات، وتحصيل هذه النتائج وإنجاز بعضها، ولكن ثمة أسباب أخرى كثيرة، وثمة قوى أخرى متظافرة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 24 ادعاء حصول الكرامات مثلٌ آخر في قضية الانجازات وتضخيمها، أو ادعاء إنجازات معينة؛ كان كثير من الإخوان يبالغون في الكلام عن كرامات الجهاد الأفغاني، فلا تجلس مجلساً إلا وتسمع رائحة المسك، والذي تبسم بعد ما قتل، وشيء من هذا القبيل، حتى ألفت في ذلك مؤلفات خاصة. من جهة نحن نؤمن بالكرامات ونعتقد بحصولها، وأن الله على كل شيء قدير، فهو يجري الآيات والمعجزات للأنبياء، ويجري الكرامات لأتباعهم، وأعتقد أن من الممكن أن تحصل كرامات للإخوة في أفغانستان؛ لأن منهم عدداً غير قليل يقاتلون في سبيل الله، نحسبهم كذلك والله حسيبهم. ولا نزكي على الله أحداً، وهم يواجهون عدواً طاغياً، ويحتاجون إلى تأييد من رب العالمين جلا وعلا، ولهذا فلا غرابة أن تحصل الكرامات، لكن كون الكرامات صارت قضية نبدأ بها ونعيد، ونتكلم عنها صباح مساء، ما الذي حصل؟ الذي حصل أننا بهذا العمل أوجدنا في نفوس كثير من الشباب، أن الذين يقاتلون في أفغانستان هم ملائكة، أو -على الأقل- بمنزلة الصحابة، فأعطيناهم صورة خيالية مثالية عن الواقع، فصار الشاب يذهب إلى هناك، وهو مشحون، يتوقع أنه سوف يلقى أبا بكر وعمر، فلما يذهب يجد السلبيات؛ وذلك لأن الجهاد الأفغاني جهاد شعب بأكمله، وبكل ما فيه من متناقضات موجودة في كل الشعوب الإسلامية بلا استثناء، فالشعب الأفغاني كله يجاهد، ولذلك من الطبيعي جداً أن فيه عيوباً على كافة الأصعدة، على الصعيد العقائدي، والتعبدي والعلمي والعملي، على الصعيد الفكري إلخ. هذا طبيعي؛ لأن الشعب الأفغاني بكل فئاته وقبائله وأطرافه دخلوا في الجهاد، وما أتصور أنه عندما يدخل الجهاد بقدرة قادر تتحول سلبياته إلى إيجابيات، ونقائصه إلى كمالات، هذا مخالف للفطرة والسنن الكونية، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ما حصل لهم كل هذا فضلاً عن غيرهم، ولذلك عندما يذهب الشاب بعقلية مملوءة بالكرامات والكلام حولها، ما إن يذهب حتى يجد بعض السلبيات، -أحياناً- يرجع منتكساً بزاوية قدرها مائة وثمانون درجة، بدلاً ما كان بالأمس الجهاد قد ملأ قلبه وعقله وحياته، أصبح بعضهم ربما يرجع بصورة عكسية تماماً، حتى أن منهم من يرجع يتهجم على الجهاد، ويتكلم عليه ويسقطه من حسابه. هذه ردة فعل، وهي نتيجة خطأٍ سابق، والخطأ السابق هو أننا أعطينا الأمر أكبر من حجمه، وبالغنا في تصوير الواقع، وفي سرد الإيجابيات والإنجازات وغيرها؛ فارتسمت ونقشت في عقل هذا الشاب، خاصةً وأن الشباب دائماً يفكرون تفكيراً مثالياً عاطفياً -كما أسلفت- فلما يأتي إلى الواقع يصطدم بأقل سلبية ولو كانت سلبية قابلة للاحتمال كالمعاصي مثلاً، فكم الطبيعي أن توجد المعاصي، لكن لو رأى معصية كأن يرى إنساناً مسبلاً أو حالق لحيته؛ رجع بصورة منتكسة، وقال: هذا كذا وهذا كذا، وسمعنا كذا ورأينا كذا. وقد سمعت من الشباب من يستنكر ويهول في استنكار قضايا هنا ما تصل إلى حدٍ أن تكون معصية أصلاً، فضلاً عن أن تكون أكثر من ذلك. إذاً: من أخطائنا نحن في التفكير: أننا نبالغ في تضخيم الإنجازات وتهوين الأخطاء، وهذا يأتي بنتيجة عكسية أحياناً، فبعد حين نجد أن هناك ردة فعل، لا توجد إنجازات، وتتحول القضية -في نظر البعض ممن يعيشون ردود فعل خاطئة- تتحول القضية في نظرهم إلى مجموعة من الأخطاء المتراكمة. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 25 حجب الحقائق عن الأمة من عيوبنا في التفكير: حجب الحقائق عن الأمة بشتى الحجب حقيقة نحن غير واثقين بالأمة التي نحن جزءٌ منها، أنا أقول: هذا على كافة الأصعدة، الحقائق محجوبة عن الأمة، حقائق الأمور الرسمية ولأمور العلمية ولأمور الدعوية والجهادية، في كثير من الأمو تحجب عن الأمة، لماذا؟! كأن الأمة ليست على مستوى إدراك الأوضاع والحقائق، والمشاركة في التفكير، فهناك من يفكر بالنيابة عنك، وهناك من يتصرف بالنيابة عنك، وهناك من يوقع بالنيابة عنك، وهناك من يعمل كل شيء، ما بقي إلا من يأكل ويشرب بالنيابة عنك. صودرت الأمة صراحةً، لماذا صودرت؟ لأنها حُجبت عنها كثير من الحقائق، حتى من طلبة العلم -أحياناً- من يحجب الحقائق عن الأمة. ومع الأسف، كان يمكن هذا في بعض الأحيان، إذا كان من المصلحة أن بعض الأمور تحجب، لكن المشكلة اليوم أن أجهزة الإعلام العالمية أصبحت تدخل كل بيت وكل عقل، فما تحجبه أنت يوصله غيرك، فأصبحت لم تفلح في حجب هذه الحقائق عن الأمة، ولكنه لم تتكلم أنت في حين تكلم غيرك، تكلم الخصوم والأعداء والمتسرعون، ولكنك أنت لم تتكلم لأنك ترى أنه لا يوجد داعي للحديث عن هذه الأمور، وينبغي ألا يتحدث بها الناس مثلاً، سواءً كانت قضايا علمية أو عملية أو دعوية أو غير ذلك. وبالتالي أصبحت الأمة تفاجأ -في كثير من الأحيان- أنها تكتشف بنفسها هذه الأخطاء، وهذه الحقائق، ويصبح تغييبها وسترها أمراً ليس في الإمكان، لأنه سيكون هنا إحباط معين، وتزعزع ثقة الأمة بدعاة الإسلام ورجال الإسلام؛ لأنها شعرت أنهم غير صادقين فيما كانوا يقولون، أو أنهم كتموا عنها الحقائق وحجبوها، وغيبوا الأمة فترة من الفترات، والواقع أننا ينبغي أن نخاطب الأمة. أنا أقول: إلى متى سنظل نخاف على هذه الأمة؟ إذا صدر -مثلاً- كتاب، ناقش في قضية من القضايا، قلنا: لا يوجد لهذا داعي لأن هذا يفتح أبواباً على الناس إذا تكلم شخص، قلنا: لا يوجد داعي هذا يفتح أبواباً على الناس. إلى متى تظل الأبواب مغلقة؟ وإلى متى نظل نحجر على هذه الأمة؟ لا نريدها أن تعلم بشيء ولا أن تطلع على شيء، مع أنها تتعلم وتطلع، أقل الناس اليوم من يقرأ في جريدة، ويسمع في الإذاعات، ويسمع في المجالس، ويطلع على أشياء كثيرة. بقي فقط دعاة الإسلام، وعلماؤه، والمخلصون، هم الذين -في كثير من الأحيان- يؤثرون عدم الحديث، ولذلك لم يظهر لهم صوتٌ وصورة صحيحة. إذاً لا داعي لأن نحجر على هذه الأمة ونفقد الثقة بها، فالأمة -إن شاء الله- ستنضج متى ما أعطيناها الثقة، عندك كتاب ترى نشرة للأمة، وفيه خير، انشر هذا الكتاب، وأنا عندي رد على هذا الكتاب ليس هناك مانع، أن أنشر الرد، ودع الأمة تقرأ الكتاب وتقرأ الرد على هذا الكتاب، وتحكم وتصل إلى الحقائق، وإذا أخطأ واحد ما أخطأ عشرة، ولا يصح إلا الصحيح، ويحق الله الحق، ويبطل الباطل. فلا يوجد داعي أننا نظل دائماً وأبداً في خوفٍ شديد، وفي رعبٍ على هذه الأمة، لا ينبغي هذا، بل ينبغي أن نعطي الأمة بعض الثقة، ونحاول أن نجر الأمة إلى المشاركة في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وأهل التفكير يشاركون معنا، حتى يكونوا في الصورة، إن حصل خطأ أدركوه وإن حصل صواب أيضاً أدركوه، أما كونهم يفاجئون بالخطأ وهم ما علموا به، ما الذي سوف يحصل؟ يحصل أنهم سوف يلقون بالأئمة، ويقولون: أنتم قلتم، وأنتم فعلتم، وأنتم إلخ. لماذا؟ لأنه لم يكن عندهم خبر سابق، لكن عندما يكونو مشاركين معك في التفكير، يكونون -كما يقال- في الصورة معك، وبالتالي لا يفاجئون بشيء. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 26 تحية شعرية للمجاهدين في أفغانستان أختم بهذه الأبيات التي أحيي، ويحيي فيها الشاعر، الجهاد والمجاهدين في أفغانستان: لن يطول الظلام يا كابول الطواغيت كلها ستزولُ أنتِ بنتُ الإسلام والشامة الزهـ ـراء في خده وأنت القبيل أنتِ بنتُ الإسلام والمجرم الـ وغد سرابٌ على ثراك دخيل راية الله في سمائك كالنسر وفرسانه لديك تصولُ إنها غضبة العقيدة فالـ أرض حنين والمسلمون سيولُ لكأني أرى هنالك عمراً يتهاوى أمامه أرطبيل ُ وأرى خالداً يهز سراياه تميلُ الحتوفُ حيث يميلُ وجنود الرحمن من كل صوبٍ فالميادين كلها تهليلُ والخيول التي أغارت ببدر هي في حومة الصراع الخيولُ أطلقيها الله أكبرُحتى يسقط الرأس منهم والذيولُ أطلقيها فإنهم حطب النارِ وأنت الذراع والإزميلُ لا تراعي فإن قدرة ربي فوق ما يرسم الغواة المغولُ كم ذليلٍ طغى وظن أن الريـ ح تجري كما يشاء الذليلُ هؤلاء البغاة سوف يعـ ودون خزايا وعصفهم مأكولُ زبد البحر لن يدوم وإن عانيت يا أختُ منهم ما يهولُ هذه سنة الحياة جراحٌ فكتويها وقاتلٌ وقتيلُ هكذا قدر الإله بأن النـ صر من عمقِ جرحنا مسلولُ يؤلم الجرح إنما نشوة النـ صر قريباً هي الشفاء العليلُ وقبل أن أقرأ الأسئلة ، أقول كما قال نبي الله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود:88] يعلم الله أنني لم أرد بهذه الكلمات إلا تصحيح الصورة عند المسلمين وتعديلها، والوصول إلى الحق الذي يحبه الله تعالى ويرضاه، والخروج بالمسلمين من بعض مشكلات وأزمات يواجهونها، ودعوتهم إلى تصحيح فكرهم وتصحيح مسارهم، وهو اجتهاد من نفسي بذلته، فإن كان ما قتله حقاً قُبِل، وإن كان خطأ رُدَّ، وإن كان منه حق ومنه خطأ، يقبل الحق ويرد الخطأ، وكل ما قلته -كما ذكرت- ليس إلا اجتهاداً، لم يكن دافعه إلا الأسى والحزن، حينما أرى الأسى والحزن في نفوس الشباب وغيرهم، وهم يسمعون بعض الأخبار التي تتناقلها أجهزة الإعلام، فيتجاوبون مع هذه الأخبار -أحياناً- بصورة غير صحيحة، لماذا؟ لأنها كانت مفاجئة، وكان المفروض -مع أن المسلم يحزن لها ولا يحبها ولا يتوقعها- لكن يجب ألاَّ تكون مفاجئة، بمعنى أن يكون عندنا صورة معتدلة، طبيعية وواقعية، بحيث أنه إذا حصل شيء يكون مربوطاً بتلك الصورة، فيضعه الإنسان في موضعه الطبيعي، فأن كان خطأ أو أمراً سلبياً، فيجب المسارعة بعلاجه، لكن -أيضاً- لا يتعدى الأمر ذلك. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 20 ¦ الصفحة: 28 إعطاء الصورة الصحيحة للأمور من البداية السؤال إن هذا الشقاق الذي حصل بين المجاهدين قد يستغله ضعاف النفوس لضرب أي جهادٍ يكون في أي مكان من البلاد في العالم، كفقولهم: انظروا لقد ساعدنا الأفغان، وماذا آل إليه أمرهم، أرجو التنبيه على ذلك. الجواب هو هذا الذي كنت أخشاه؛ أن يقول قائلٌ مثل هذا الكلام، لكن إذا كنا نعطي الناس من البداية الصورة الصحيحة، لأي أمرٍ يقوم، ليست القضية فقط قضية جهاد، أي عمل خيري يراد أن يقام به يعطى الناس الصورة الصحيحة، لا يوجد داعي أن نجعل الدنيا -كما يقال- ورق بلا شوك أمام الناس، ونعطيهم صورة مثالية، فإذا رأى الناس الواقع وجدوا خلاف ما قلنا، فظنوا بنا الظنون، وأساءوا ظنهم بنا، ولم يتجاوبوا معنا مرةً أخرى في نشاطٍ أو جهادٍ ندعو إليه أو نقوم به، إما تبرعات أو أعمال خيرية أو غيرها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 29 الحاجة إلى مضاعفة الجهود للقيام بالجهاد والدعوة السؤال اتجاه كثير من الناس إلى الجهاد الأفغاني، وفي المقابل هناك مسلمون يقتلون في أنحاء العالم، ويسجنون ويعذبون، مثل الفلبين وألبانيا وغيرها، فما يقدم لهم شيء، ما هو تعليقكم؟ الجواب ينبغي أن يقدم للمسلمين في كل مكان، وينبغي -أيضاً- أن نقوم بجهد كبير في الدعوة، أقول -أيها الأحبة- بوضوحٍ تام: الأموال التي بذلت للإخوة في أفغانستان، ينبغي أن يبذل أضعافها للدعوة إلى الله تعالى في كل مكان، وأن يملك المسلمون جهاز دعوة ضخماً مزوداً بإمكانيات هائلة، بمراكز إسلامية، ومساجد ومدارس ومكتبات ودور نشر وكتب وصحف ومجلات، وسائل إعلام، كلها مجندة للدعوة إلى الله تعالى، سواءً دعوة المسلمين إلى مراجعة دينهم وتصحيح عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم وتفكيرهم، أو إلى دعوة غير المسلمين إلى الدخول في الإسلام، ولو ملكنا ذلك لاستطعنا -بإذن الله- أن نحول جزءاً كبيراً من العالم إلى أناس يدينون بالإسلام، مع أن الأمر الآن يمكن، وكثير من الناس يتطلعون، لكن لا يجدون الأيدي التي تأخذ بهم وتوجههم، وكثير منهم قد لا يجد كتاباً واحداً عن الإسلام إلا كتب مشوهة، والناس الذين قتلوا بأفغانستان، ويقدرون بما يزيد على مليون ونصف، ونرجو الله تعالى أن يتقبلهم شهداء، وأن يغفر لنا ولهم، وأن يعوض المسلمين عنهم؛ ينبغي أن نجند أضعاف أضعاف هؤلاء، بل أضعاف من يكونون مقاتلين أيضاً، في أفغانستان وفي غير أفغانستان، نجندهم للدعوة إلى الله تعالى وتصحيح المفاهيم، سواءً في عالم المسلمين، أو في عالم الكفر بدعوته إلى الله عز وجل، ينبغي أن ندرك هذه القضية حق إدراكها. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 30 مقتل الشيخ جميل الرحمن دوافعه وآثاره السؤال ذكرتم مقتل الشيخ جميل الرحمن رحمه الله، وكتبه الله تعالى من الشهداء، ما هي الدوافع لمقتل الشيخ؟ وهل ترون أن لمقتله آثاراً سلبية على الجهاد هناك؟ وإذا كانت عندك بعض التفاصيل عن الحادث. الجواب عندي بعض التفاصيل عن الحادث، أما الدوافع فالذي قتله شخص عربي، يكنى بـ أبي عبد الله الرومي، وكان مراسلاً لبعض المجلات هناك، ويقول من يعرفونه: إنه يكره الدعوة السلفية وأهلها وأصحابها، وربما كان هذا هو الدافع لقتل الشيخ. أما الأطراف الأخرى، فلا ينبغي أن نتهم أحداً إلاَّ ببينة، وقد قرأتُ بالأمس خبراً عن حكمتيار الذي هو يمثل الحزب الإسلامي، الذي هجم على كونر، يدين فيه مقتل الشيخ جميل الرحمن، ويعتبر أن مثل هذا العمل، يعتبر إساءة للجهاد، خاصة في مثل هذه الظروف التي يمر بها، وخاصة أن قتل الشيخ كان بعدما تم توقيع بعض اتفاقيات الصلح بين الطرفين، بواسطة اللجان التي تدخلت للمصالحة. أما بالنسبة للذي حصل بالضبط، أنّ هذا الشاب جاء وقد كان أخفى المسدس، فسأل عن الشيخ فخرج الشيخ، حيث كان في إحدى جلسات المصالحة، فجاء ليعانق هذا الرجل، فأخرج المسدس، وضربه ضربةً في جبينه، وأخرى على جانب رأسه، فأرداه قتيلاً، ثم حاول الفرار، لكن الحراس لما سمعوا إطلاق النار جاءوا فأطلق على بعضهم، ولما رأى أنه مأخوذٌ أطلق النار على نفسه. نسأل الله تعالى السلامة والعافية، وأن يعافينا من سوء الخاتمة، ويختم لنا ولكم بخير، إنا لله وإنا إليه راجعون. أما الآثار السلبية، فلا شك أن لمقتل الشيخ آثاراً سلبية، سواءً على الولاية التي كان يقوم عليها، والجماعة التي كان يرأسها، أو على الجهاد بشكل عام، وسيكون لذلك مضاعفات ليست محمودة، وتأويلات وتفسيرات، وكل ما أتمناه أن يكون الحادث فردياً -كما ذكر- وقد قرأت اليوم خبراً في جريدة عكاظ سرني، وأرجو أن يكون الخبر صحيحاً، يقول: أفادت مصادر مطلعة في الحزب الإسلامي، حكمتيار، وفي جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، التي كان يرأسها الشيخ/ جميل الرحمن -رحمه الله- وقد عين بدله سميع الله أمس، أن مصادر في الطرفين قالوا: إن الحادث فردي، ولا علاقة لأحد من الأطراف به. كما قرأت مقالاً لـ سياف، بعث به بخط يده، وذلك قبل مقتل الشيخ جميل الرحمن، ويقول: إنه ليس له علاقة بالهجوم على كونر. وأرجو أن يكون هذا الخبر صحيحاً، وأن يجمع الله تعالى شمل المؤمنين المجاهدين، وأن يوحد صفهم وكلمتهم، وأن يكتب لهم النصر المبين. نسأل الله تعالى أن يجمعهم على كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفقهم لتدارك أخطائهم وتصحيحها، وتوحيد صفوفهم وجمع كلمتهم، وتوجيه سهامهم وبنادقهم وقواتهم ومدافعهم إلى عدوهم. اللهم اغفر لنا أجمعين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 20 ¦ الصفحة: 31 خصائص هذه الأمة إن تأخر المسلمين اليوم عن الحضارة المادية أورث يأساً في قلوب بعض المسلمين، وزعزعزة في ثقة بعضهم بالإسلام، وبالمقابل إعجاباً ودهشة بمغريات الحضارات الغربية، وهذا الدرس تذكير ما لهذه الأمة من خصائص اختصها الله بها على سائر الأمم تؤهلها لقيادة الأمة، كما أن فيه بعثاً للأمل في الأمة وأن الركود في الأمة سنة من سنن الله وبالعمل والإخلاص تنقشع هذه الظلمات. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 1 الدافع للحديث عن خصائص الأمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله الذي جعل نبينا خير الأنبياء، وجعل أمتنا خير الأمم، وجعلنا من خير أمة أخرجت للناس. فإن هذه الأمة قد اختارها الله عز وجل واصطفاها وأخرجها للناس، لا لنفسها فحسب بل للبشرية كلها، لتخرج هذه الأمة الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربها إلى صراط العزيز الحميد. والدافع للحديث في هذا الموضوع أن هذه الأمة في هذا العصر بل ومنذ قرون قد أصبحت في ذيل القائمة، باعتبار وجودها وقوتها وعزتها وتمكينها في الأرض، وذلك بسبب ضعف تمسكها بهذا الدين، وضعف التزامها به، فتقدمتها أمم أخرى كانت تعيش على فتات موائدها، وكما قيل: تقدمتني أناسا كان أكثر شوطهم وراء خطوي إذا أمشي على مهل وبذلك أصبح كثير من أبناء هذه الأمة، ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة إكبار وإعجاب وتقدير بل وتقديس أحياناً، وكيف لا يكون ذلك في زعمهم ونظرهم وهم يعتبرون أن هذه الأمم -الأمم الكافرة من الرومان والأمريكان والروس وغيرهم- قد تقدمت في مضمار الحضارة والعلم المادي وسبقت الأمة الإسلامية سبقاً بعيداً، في الوقت نفسه الذي أصبحت هذه الأمة ليس لها وجود يذكر في واقع الحياة، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الدنيوية العلمية والعملية. فلا هي الأمة التي تهدي الناس بهدي الله جل وعلا، وتنير لهم طريق الحياة، وتصدر لهم الخلق الفاضل والسعادة القلبية -تخلت هذه الأمة بطبيعة الحال مؤقتاً- ولا هي بالأمة المتقدمة علمياً وحضارياً ومادياً أيضاً. وهكذا ترتب على هذا الوضع انسلاخ كثير من شباب هذه الأمة عن هويتهم الإسلامية، وأصبح كثير منهم يتحدثون عن الآخرين حديث المعجب الذي ملأ الإعجاب عليه جوانحه وعقله، فأصبح يُكِنُّ للأمم الأخرى كل تقدير وإعجاب، وينظر إلى الأمة التي ينتسب إليها نظرة ازدراء، حتى إنك تقرأ في ملامح بعضهم، وتحس في أحاديثهم، وكتاباتهم، وقصائدهم أن كثيراً منهم يشعرون بالخجل من انتسابهم لهذه الأمة، وكأن الواحد منهم ينتسب إلى أب لا يحب أن ينتسب إليه، فيتحسس من هذه النسبة ويستحي منها. نعم، في المسلمين اليوم من يخجل أن يجاهر بأنه مسلم، خاصة في بعض المواقع وفي بعض المجالس وفي بعض المواقف، فقد يقول أنا عربي على استحياء أيضاً، ولكن الشيء الكبير الذي يهمه هو أن يظهر أمام الآخرين بأنه إنسان مثقف ومتحضر، وأنه يتابع أحدث أخبار الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي والمادي، وأنه قد ضرب بسهم في العلوم الدنيوية، وأنه إنسان عاش في أوروبا كذا سنة، وعاش في أمريكا كذا سنة ودرس في الجامعة الفلانية، وصديقه هو الدكتور فلان وفلان من الشخصيات الغربية. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 2 بعض الأحاديث في خصائص الأمة الحديث عن خصائص هذه الأمة مهماً؛ لنعيد الثقة لأنفسنا بأنفسنا، ولنعيد الثقة لشبابنا بهذه الأمة التي ينتسبون إليها، ولنبين للجميع أن هذه الأمة أمه مختارة فعلاً، وأن الله عز وجل قد ميزها بخصائص وسمات ليست لغيرها، وهذه الخصائص والسمات لها شأن كبير. وسأقف معكم وقفات مهمة في شأن هذه الخصائص لكنني أشير قبل ذلك إلى بعض الأحاديث الواردة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بعض ما ميز الله به هذه الأمة، أو ميز بها نبيها صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم وعلى سائر الأنبياء. فمن ذلك -مثلاً- ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي} والمعنى خمس خصائص: {نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة} فذكر عليه الصلاة والسلام هذه الخصائص الخمس، وهذا الحديث لا يعني بحال أن الخصائص التي لهذه لأمة ولنبيها المختار عليه الصلاة والسلام خمس فقط، بل هذا العدد كما يقول الأصوليون ليس له مفهوم. ولذلك جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الأنبياء بست -وذكر أربعاً من هذه الخصائص- ثم ذكر أنه ختم به النبيون عليه وعليهم الصلاة والسلام، وأنه أوتي جوامع الكلم} وكذلك في حديث حذيفة في صحيح مسلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل على الأنبياء بثلاث وذكر اثنتين، وقال: {وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة} فهذه ثمان خصال الآن. وكذلك في حديث حذيفة عند النسائي وابن خزيمة بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من خصائصه: أنه أعطي هذه الآيات من أواخر سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] أو قول الله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:284] إلى آخر السورة. وكذلك في حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت أربعاً وذكر منها: أنه سُمي أحمد، وأعطي مفاتيح الأرض، وجعلت أمته خير الأمم} وليس هذا فحسب، بل ورد خصائص أخرى كثيرة منها: مغفرة الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومنها: أن الله تعالى جعل بيده لواء الحمد يوم القيامة يحشر تحته آدم فمن دونه من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، ومنها أن الله تبارك وتعالى أعان النبي صلى الله عليه وسلم على شيطانه فأسلم، وذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟ قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير} ومن ذلك الكوثر: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وقد صح في الحديث أنه نهر في الجنة، وعلى كل حال الكوثر هو الخير الكثير، ومن الكوثر ذلك النهر ومنه غيره من الخصائص والفضائل التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حوضه عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من الخصائص والفضائل والمميزات، حتى إن أبا سعيد السمعاني صنف كتاباً سماه: شرف المصطفى، جمع فيه ستين خصيصة لهذا النبي المختار عليه الصلاة والسلام، وكذلك صنف الحافظ الضياء المقدسي كتاباً في ذلك، وهو لا يزال مخطوطاً في المكتبة الظاهرية بدمشق. وينبغي أن نفرق بين خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته على الأنبياء والأمم الأخرى، وبين خصائص النبي على أمته، بمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام وأمته لهم خصائص على غيرهم من الناس، وهي ما تحدثت عنه، وهناك خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، مثل كونه صلى الله عيه وسلم يحق له أن يتزوج بأكثر من أربع -مثلاً- ومثل كون نسائه لا يجوز أن يتزوجن بعده: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب:53] إلى غير ذلك من الخصائص الكثيرة والكثيرة جداً. وقد صنف فيها العلماء، حتى إن الحافظ أبا عبد الرحمن السيوطي صنف فيها كتاباً اسمه الخصائص جمع فيه ألف خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وهذه الخصائص ليست كلها مُسلَّمة، فبعضها مما يدعي بعض العلماء فيه الخصوصية والواقع أنه ليس خاصاً به عليه الصلاة والسلام، كما ادعى بعضهم خصائص للنبي عليه السلام لم تثبت له بل هي عامة له ولأمته؛ لأن القول بالخصوصية لا يثبت إلا بدليل كما هو معروف، وبعض العلماء إذا تعارض عندهم حديثان؛ قالوا: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال بعضهم -مثلاً- في الركعتين بعد الوتر أن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام، وكما قال بعضهم في الركعتين بعد العصر التي كان يحافظ عليها صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: هذه خاصة به، وعلى كل حال فالقول بالخصوصية لا يثبت إلا بدليل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 3 وقفات مع خصائص الأمة والمقصود من هذا الإشارة إلى أن هناك خصائص تميز بها النبي صلى الله علية وسلم عن أمته، وصنف فيها العلماء كـ السيوطي والبلقيني ومغلطاي والعراقي والوادياسي وابن الجوزي وابن حجر العسقلاني وغيرهم من العلماء والحفاظ والمصنفين، حتى إن المصنفات قد تزيد على ثلاثين كتاباً في هذا الباب. والمقصود ليست خصائص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، بل المقصود خصائص النبي عليه الصلاة والسلام وخصائص هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم الأخرى. ولذلك فإن لي وقفات وإشارات في هذا المجلس مع هذه الخصائص، لا تخلو -إن شاء الله- من فائدة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 4 الأدلة على أن الانتصار بالرعب عام للأمة لو فرض أن الرعب خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام لكان لأمته من ذلك الرعب نصيب، ومن ذلك أن غالب الخصائص التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم -وقد ذكرت منها حوالي ست عشرة خصلة في مطلع الحديث- ليس خاصاً بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل هو له ولأمته، وإلحاق مسألة الرعب بالأغلب الأكثر أولى من إلحاقها بالأقل بلا شك. ومن الأدلة على ذلك أيضاً الأحاديث الواردة في شأن الطائفة المنصورة والتي منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ظاهرين على الناس لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} والطائفة المنصورة بلا شك تمثل واجهة تجاهد عن هذه الأمة، وقد وصفهم عليه الصلاة والسلام بأنهم ظاهرون منصورون لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ إلا ما يصيبهم من اللأواء يعني: الجهد والتعب. ومن ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض الأحاديث -لما ذكر تأخر هذه الأمة وأنه سوف يصيبها الوهن-: {ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن} فدل على أن المهابة موجودة أصلاً في صدور الأعداء من المسلمين، ولكن لما ضعف المسلمون وتأخروا وأولعوا بحب الدنيا وكراهية الموت؛ نزعت المهابة من صدور عدوهم وألقي في قلوب المؤمنين الوهن، وهو حب الدنيا وكراهية الموت؛ وهذا في حديث ثوبان وهو عند أبي داود وأحمد وغيرهما وهو حديث صحيح. ومن ذلك أيضاً أن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [آل عمران:151] فدل على أن الرعب قد أُلقي في قلوب المشركين؛ لكن متى؟ حين يواجهون هذه الأمة الذين يحملون لا إله إلا الله، أما حين يواجهون من يصرخون ويقولون نحن نتحدى القدر، أو يقول قائلهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني فحينئذٍ يستأسد حتى من هم إخوان القردة والخنازير، كما صنع اليهود حين واجهوا من يتسمَّون باسم العروبة في عدة حروب، فحين يواجه الأعداء المسلمين يُلقي الله عز وجل في قلوبهم الرعب. ومن ذلك أيضاً الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري} فدل ذلك على أن كل من يخالف أمر النبي عليه الصلاة والسلام ضربت عليه الذلة والصغار، سواء كان كافراً أو كان مخالفاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر دون بعض. ولذلك حتى عصاة المسلمين وفساقهم لهم ذل وصغار بحسب فسقهم، يقول الحسن البصري عن بعض أهل المعاصي: [[إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 5 من خصائص المصطفى صلى الله عليه وسلم الوقفة الأولى: إن هذه الخصائص التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم منها ما هو خاص به عليه الصلاة والسلام، ومنها من هو عام له ولأمته، فمن الأشياء الخاصة به صلى الله عليه وسلم -مثلاً- بعض أنواع الشفاعة، فالشفاعة لفصل القضاء خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الشفاعة لبعض أهل النار أن يخفف عنهم العذاب كما سيأتي الإشارة إليه، فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهناك خصائص أخرى عامة له ولأمته، وهذا هو الكثير، ومن ذلك -مثلاً- قوله صلى الله عليه وسلم: {جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان} ومنه قوله: {جعلت أمتي خير الأمم} إلى غير ذلك مما سيأتي. فمعظم الخصائص هي عامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته وليست خاصة له، ولكن حتى الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن للأمة منها حظ كبير ونصيب وافر، فحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: {أوتيت جوامع الكلم} وهذا لا يعني أن هذا الأمر ليس لأمته منه شيء، وكذلك حين يقول: {سميت أحمد} لا يعني أنه ليس للأمة حظ، حين يقول: {ختم بي النبيون} لا يعني أنه ليس للأمة حظ من هذه الخصيصة، بل للأمة حظ يقل أو يكثر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يكون لها حظ وهي خصائص لنبيها صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من حظها من هذه الخصائص إلا أنها خصائص للرجل الذي رضيت به رسولاً ونبياً وإماماً وهادياً لكفى ذلك، فهذا مَعْلَم لابد من الوقوف عنده. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 6 حرص النبي على بيان هذه الخصائص الوقفة الثانية: النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على تأكيد هذه الخصائص، وبيانها وإشهارها وإظهارها في نفوس أصحابه، ويبرز هذا الاهتمام والحرص في عدة أمور: أولاً: نجد أن هذه الخصائص رواها لنا جماعة من الصحابة، فرواها لنا جابر كما في الحديث المتفق عليه -وقد ذكرته قبل قليل- وليس هذا فقط بل إن هذا المعنى جاء عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر الغفاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأحاديث هؤلاء الصحابة رواها الإمام أحمد في مسنده بأسانيد حسان كما يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكذلك جاءت هذه الخصائص عن أبي هريرة وغيرهم كما سيأتي الإشارة إلى طرف منها. فكون هذه الخصائص تروى عن ستة أو سبعة أو ثمانية من الصحابة، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلهج بها بين الحين والحين، ويكثر من ذكرها حتى حفظها عنه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم. وهذا يثير سؤالاً لماذا كان النبي صلى الله ذعليه وسلم معنياً بذكر هذه الخصائص؟ لكن قبل الإجابة على هذا السؤال أشير إلى أمر آخر يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بإبراز هذه الخصائص، وهو: في حديث عمرو بن شعيب الذي رواه أحمد بسند حسن أنَّ ذِكرَ النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الخصائص كان في غزوة تبوك. وغزوة تبوك من أواخر الغزوات إن لم تكن آخر الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يوحي بأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ألا تنسى، ولذلك فإن من الأشياء التى حرص عليها النبي صلى الله عيه وسلم أمور كان يقولها حتى وهو في مرض الموت، وكأنه يقول: أوصيكم بهذه الأشياء في اللحظات الأخيرة، ولماذا كان عليه السلام حريصاً على ذكر هذه الخصائص؟ ولا شك أنه يريد بهذا من أمته ألا تنسى دورها القيادي الذي كلفها الله تبارك وتعالى به في قيادة البشرية، وتصدر موكب الإنسانية. إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ لهذه الأمة أن تكون في ذيل القافلة، تلتقط فتات موائد الأمم الأخرى، وتكون في فكرها وخُلقها وعلمها، بل وحضارتها تابعة لغيرها من الأمم، بل هذه الأمة أراد الله تبارك وتعالى لها أن تكون في الصدر، وكما قال أبو فراس الحمداني: وإنا لقوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن لا تنسى هذه الأمة دورها القيادي في قيادة البشرية وتصدر موكبها، وفي المقابل كان صلى الله عليه وسلم يدرك بما أخبره الله تعالى من علم الغيب وأطلعه عليه، أن هذه الأمة ستمر بها فترات تنسى فيها مهمتها، وتضعف فيها وتتأخر عن موقعها، وبالتالي سوف تصبح هذه الأمة تابعاً لغيرها من الأمم، وسوف تصبح مقلدة لغيرها من الأمم، ومتشبهة بالأمم الأخرى، فتدخل وراء الأمم الأخرى جحر الضب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟} أي: نعم، هم اليهود والنصارى. فأشار عليه الصلاة والسلام إلى أنه ستمر بهذه الأمة حالات ضعف وفترات ركود وتخلف وتأخر، فتتقهقر فيها هذه الأمة، ويتصدر ركب البشرية أمم أخرى، وهذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم. فلذلك بيّن صلى الله علية وسلم هذه الميزة؛ حتى تظل الأمة مدركة أن الوضع الراكد المتخلف الذي تعيش فيه ليس هو الوضع الذي خلقها الله له، ورضيه لها، بل هو استثناء تسعى الأمة للخروج منه والوصول إلى الموقع الذي وصلت إليه، أرأيت الأستاذ حين يكون عنده طالب في الفصل، وجرت العادة أن هذا الطالب دائماً في المقدمة بتقدير ممتاز، ويأخذ العلامة (100%) في كل مادة، حتى عرف هذا الطالب في المدرسة بين أقرانه وبين أساتذته، فحين يخفق هذا الطالب يوماً من الأيام في مادة من المواد، أو حتى يخفق في سنة من السنوات لظروف ألمت به -ظروف أو صحية، أو أي سبب آخر- وقد كان أساتذته قبل ذلك ينفخون في همة هذا الطالب وعزيمته، حرصاً منهم على أن يظل هذا الطالب محتفظاً بموقعة، وحين يقع من الطالب هذا التأخر لظرف من الظروف أو سبب من الأسباب، فإن المدرس لا يفقد ثقته بهذا الطالب بل يعمل على أن يأخذ بيده لينهض من كبوته، ويلتمس له العذر فيما وقع فيه، ويبين له أن بإمكانه أن يستعيد موقعه السابق، وهذا هو الدور الذي تؤديه هذه الأحاديث للأمة في مثل هذا الوقت، في تقول للأمة: أنتم ممن كتب لهم هذه الخصائص، ممن كُتب أن تكونوا خير الأمم، فما بالكم أصبحتم في آخر الركب وفي ذيل القائمة؟! إن هذه الكبوة وهذه العثرة التي وقعتم فيها لا تعفيكم من محاولة النهوض مرة أخرى، ولذلك فإننا نجد -مثلاً- أن مسألة التقليد والتشبه بالأمم الأخرى التي ابتليت لها الأمة الإسلامية اليوم، فأصبحت تقلد الغرب في كل شيء: في الشكل والمظهر وميزات الشخصية والأسماء واللغة، فضلاً عن العلوم والنظريات العلمية، وأشياء أخرى كثيرة جداً أصبحت الأمة الإسلامية عالة فيها على غيرها، وأصبحت تقلد ليس فيما يُحسن، فالأمور الجيدة الحسنة لا تعد تقليداً، ولو أخذت من الأمم الأخرى فلا حرج في ذلك ولا ضير، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأمور الحسنة عن غيرهم، كما في شأن حفر الخندق، وكما في مسألة اللباس الذي كانوا يلبسونه مما نسجه فارس والروم وغيرهم، وكما في مسألة تدوين الدواوين، وغير ذلك من الأشياء المفيدة النافعة التي تُعلَّم المسلمين أن الخير هم أحق به من غيرهم، فكل خير يوجد عند أمة من الأمم الأخرى فالمسلمون أجدر به وأحرى، وإنما المصيبة أن المسلمين أصبحوا يأخذون عن الأمم الأخرى ما يدل على ضياع هويتهم وشخصيتهم. وإلا فما معنى كون المسلم -مثلاً- يقلد غيره في شكل شخصيته: في هندامه ومظهره وثيابه وصفَّة شعر الرأس؟ إن أعفوا شعر الرأس أعفينا، وإن حلقوا شعر الوجه حلقنا، وإن لبسوا الملابس بصفة لبسنا، وإن تكلموا بطريقة تكلمنا، حتى الأسماء والعادات، والتقاليد، وطريقة الأكل، والشرب، والتعامل، وعبارات الشكر والثناء، حتى العبارات فأصبحنا نقتبس من اللغات الأخرى كلمات، وكم منا من يفخر بأنه يجيد ويتقن كلمات يعبر فيها بلغة أخرى، ويشعر بنشوة حين يتحدث بهذه الطريقة. وهنا يأتي دور إحياء الثقة في المسلم بدينه وأمته، وأنه لا يجوز له أن يكون هكذا وينبغي أن يذكر أن له خصائص تمنعه من ذلك، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذكر هذه الخصائص وتكرارها وإشهارها حتى في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 7 هذه الخصائص ليست ميراثاً يورث الوقفة الثالثة: من معالم هذه الخصائص والمميزات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، هي: أن هذه الخصائص ليست ميراثاً يورث، وإنما هي عمل صالح يكتسب، ولذلك فإن الله عز وجل حين يذكر في كتابه الكريم الأنبياء وهم أفضل البشرية على الإطلاق، يبين أن هؤلاء الأنبياء لو لم يستقيموا على منهج الله وشرعه لما كان لهم مكان، وهم أنبياء معصومون لكن ليعتبر غيرهم، يقول الله عز وجل بعد ما ذكر قصص الأنبياء {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] وهكذا أيضاً يخاطب الأنبياء عليهم الصلاة والإسلام، إذاً: غيرهم من باب الأولى، فالقضية ليست إرثاً يُورث، بل القضية عمل يُكتسب، ومن استقام على هذا المنهج تميز بهذه الخصائص، ومن انحرف فليس له عند الله من خلاق. ولذلك اليهود -بنو إسرائيل- كانوا يفتخرون ويعتبرون أنفسهم شعب الله المختار كما هو معروف، لكن هذا الفخر مرفوض؛ لأنهم اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار؛ بسبب أنهم بنو إسرائيل، وهذه ليس لها عند الله قيمة ولا وزن، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] وليس بين الناس تفاضل عند الله جل وعلا بنسب، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لقرشي على غير قرشي إلا بالتقوى، وهذا لا يمنع أن هناك فضائل خصَّ الله بها أمماً أمم وقبائل كقريش وغيرها، لكن لا يعني كونه قريشاً -مثلاً- ألا يطيع الله عز وجل، وأن يعصيه، وأن يتمرد على تعاليم الإسلام! كلا، فمن عصى وانحرف فليس له موقع حتى ولو كان ابن نبي، وهذا ابن نوح ذكر الله تبارك وتعالى عنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] فيكون مصيره في الدنيا إلى الغرق ومصيره في الآخرة إلى الحرق، فلم ينفعه أن يكون أبوه نبياً، وهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبو لهب وأبو طالب مأواهم في النار، ولذلك يقول القائل: كن ابن من شئت أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي ويقول آخر: لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب إذاً: كون الإنسان من قبيلة كذا، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان عربياً، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان يعيش في الجزيرة العربية التي لها من الخصائص كيت وكيت وكيت -وهذا موضوع آخر يطول الحديث فيه- ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة. وإنما هذه الخصائص عمل وإخلاص واستقامة وصدق وجد. ولذلك من اعتمد على مواريث أنه فلان بن فلان، وأنه عربي، وأنه يعيش في الجزيرة العربية، وأنه ربما يتكل على هذه الأشياء ويكسل حتى يتأخر، وآخر ليس له من المواريث ما يجعله يفتخر، فيجد ويكدح ويعمل حتى يستطيع أن يثبت نفسه في الواقع، وينفع نفسه، وينفع غيره ويكون أعلى للناس، ولذلك ذكر بعض المؤرخين أنه في كثير من العصور كان كثير من العلماء، والفقهاء، والقضاة، والمفتين الذين هم مرجع الناس ومفزعهم في أمور دينهم وعقيدتهم وأحكامهم وشرعهم من الموالي الذين ليس لهم نسب عربي يفتخرون به، لكن هؤلاء الناس عرفوا أن موقعهم هو بتقواهم لله عز وجل، فلم يعتمدوا على أمر من الأمور الموروثة، بخلاف آخرين ربما اتكئوا على أشياء ورثوها واعتمدوا عليها وتركوا الجدَّ والاجتهاد والعمل فاستأخروا وسبقهم غيرهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 8 دلالة هذه الخصائص على المركز القيادي للأمة الوقفة الرابعة في هذه الخصائص -وهي مهمة-: أن هذه الخصائص تؤكد على المركز القيادي الذي بوأه الله تعالى لهذه الأمة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وبعثت إلى الناس كافة -أو إلى الناس عامة-} فهذه إشارة إلى أن هذه الأمة لا يمكن أن تتقوقع على نفسها أو ترضى بأن تعيش في صحرائها وجزيرتها أو بلادها، فرسالة هذه الأمة رسالة عالمية، ولذلك كان في الآيات المكية التي أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] حتى يوم كان الإسلام محصوراً في أفراد معدودين في مكة، كان الوحي يتنزل: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] فمهما كان الواقع الذي تعيشونه الآن لكن لا بد أن تفهموا أن مهمتكم مهمة عالمية، ورسالتكم للبشرية كلها وللإنسانية كلها، وهي ليست محصورة في بلد معين، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {وبعثت إلى الناس عامة} وبالمقابل يقول صلى الله عليه وسلم: {ختم بي النبيون} فهذا إشارة إلى أنه ليس هناك أمة من أمم النبوات، ومن أمم الهدايات ستتصدر البشرية على الإطلاق، فبنو إسرائيل قد تصدروا البشرية وقتاً من الأوقات. ولذلك قال الله عز وجل: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية:16] أي: على عالم زمانهم، فكانت الهداية فيهم وقتاً من الأوقات، فقادوا البشرية فيها، وبغض النظر عن فشلهم في هذه القيادة والأخطاء التي ارتكبوها، فالمهم أنها نزعت منهم القيادة وسلمت إلى الحنفاء من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنزع منهم هذه القيادة الربانية. وقد ترتفع أمة من الأمم بحضارتها الدنيوية وبعلمها المادي، فهذا قد يحدث كما هو واقع الآن، لكن هاتوا لنا أمة هدت البشرية بعد الأمة المحمدية. ولذلك لما تأخر المسلمون عن دورهم القيادي صارت البشرية تتخبط في دياجير الظلمات، ففقدت السعادة، وفقدت الخلق، وفقدت الدين، ولذلك وصلت في هذا العصر من الانهيار والفساد والتخبط إلى مستوى أصبحوا هم يتبرمون ويتضجرون منه، وهناك كتب عديدة -مطروحة اليوم في الساحة- كتبها علماء غربيون مختصون تصرخ بأقوالهم: إن حضارتكم إلى انهيار وإلى زوال، وحتى بعض المفكرين المسلمين الذين كانوا مخدوعين بهذه الحضارة، اقتنعوا بهذه الحقيقة وأصبحوا يؤكدون عليها، كما فعل المفكر الجزائري مالك بن نبي وغيره. والحضارة الغربية حضارة تنظر بعين واحدة، فهي حضارة المادة لكن الروح في خواء، لماذا؟ لأنه ليس هناك أمة هداية ربانية تقود البشرية، ولذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم وآخر الأمم، وهو صلى الله عليه وسلم ختم به النبيون، كما ختمت الأمم بأمته، ويستحيل أن توجد أمة تهدي البشرية غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يحصل أن يهدي البشرية -مثلاً- الهنود؛ لكن متى؟ حين يحملون الإسلام. وبذلك يكونون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يهدي البشرية أيُّ أمة من الأمم -أعني: عرقاً من العروق، أو جنسية من الجنسيات- متى ما حملوا الإسلام، ولكن الأدلة مع ذلك تؤكد على أن الأمة العربية أيضاً سوف تضطلع بدور كبير في مسألة هداية البشرية في المستقبل كما فعل أسلافهم في الماضي، والحديث في هذه القضية أيضاً خارج عن موضوعنا إنما هو مجرد إشارة. ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {أعطيت مفاتيح الأرض} وهذا إشارة إلى أن هذه الأمة سوف تعطي من النصر والتمكين ما يجعل الدنيا ملكاً لها، وفي حديث آخر في صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: {بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح الأرض -أو مفاتيح خزائن الأرض- حتى وضعت في يدي} وفي حديث ثوبان في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها} وفعلاً انتشرت الفتوح الإسلامية في المشرق وفي المغرب أكثر مما انتشرت في الشمال والجنوب. وعلى كل حال الحديث يوحي بأن الأمة الإسلامية سوف تهيمن على البشرية كلها أو جلها، وهذا حدث مرة واستمر ردحاً طويلاً من الزمن، ولا يعني أنها انتهت هذه البشائر النبوية؛ لأن هذه الوعود التي وعدها النبي صلى الله عليه وسلم ليست متوقفة عند وقت معين، بل نصوص القرآن والسنة تعمل في كل وقت، وليست منسوخة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 9 الماضي لا ننساه ولا نكتفي بالتغني به إن هذا المركز القيادي الذي تبوأته هذه الأمة كما أسلفت لا يكون بالكسل، ولا يكون بالنظر إلى الماضي، فنحن كثيراً ما نتكئ على ماضينا، ونهرب من الواقع إلى الماضي، ولذلك شعراؤنا وخطباؤنا ومتحدثينا ووعاظنا وكبيرنا وصغيرنا؛ كثيراً ما تجدهم يتكئون على الماضي، فالأب حين يريد أن يربي أطفاله ماذا يقول لهم؟ فهو لا يجد في الواقع من القصص ما يقوله لأولاده، ولا يجد من البطولات والفضائل والنماذج الحية ما يقوله لمن يربيهم، والأستاذ والخطيب والشاعر كذلك، فنحس بأن الواقع مر، ولذلك ليس في الواقع ما نتغنى به أو نمدحه، فنلجأ إلى أن نلتفت إلى الماضي، ولا أقول: إن الالتفات إلى الماضي خطأ، بالعكس نحن أمة لو نسينا ماضينا فلا وجود لنا، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي: مثلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيَّ في الناس انتسابا ويقول الآخر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره فكيف ننسى ماضينا وفيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم! وهو الذي جاءتنا هداية السماء بواسطته، وفيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أمنة لمن بعدهم فإذا ذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى أمته ما يوعدون -كما صح بذلك الحديث- وكيف ننسي ماضينا وفيه القرون المفضلة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها وخيريتها! ولا أقول إننا ننسى ماضينا، لكنني أقول: إن الاعتماد على الماضي والتغني به لا يكفي، فلا يكفي أن يقول الإنسان: أبي كان وكان وكان فحينئذٍ نقول له: أنت أصبحت "كنتياً" والناس يقولون فلان كنتيٌ إذا ترك العمل الصالح وصار يقول: كنت وكنت وكنت، وهذا أيضاً ما يحدث للإنسان الكبير، فعندما يكبر سنه لم يعد يستطيع أن يعمل شيئاً فيكتفي حينئذٍ أن يتحدث عن مآثره وفضائله السابقة فعلت وفعلت وكنت وكنت فهذا يسميه العرب كنتياً، فلا يكفي أن يكون الإنسان كنتياً، بل لابد مع النظر إلى الماضي والاستفادة منه أن ننظر إلى الحاضر وأن نعد لذلك، فهذا المركز الذي تبوأته هذه الأمة في الماضي لم تنله إلا بالجهاد الصادق، ولهذا كان من شرائع الإٍسلام الجهاد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم إنه: {ذروة سنام الإسلام} . وفي الحديث الآخر: {إن في الجنة مائة درجه أعدها الله للمجاهدين في سبيله} وعندما تقرأ الأحاديث الواردة في الجهاد وفي الاستشهاد -اقرأ مثلاً في أقرب كتاب وهو رياض الصالحين ما ورد في الجهاد وفي الشهادة- تتعجب من عظمة هذه النصوص، وقبل ذلك اقرأ الآيات الواردة في الجهاد في القرآن الكريم وتفسيرها، تجد أمراً غريباً، فما هو السر في تعظيم هذه الشعيرة؟ لأن هذه الشعيرة روح يسري في الأمة، فإذا فقدت الأمة هذه الروح فلا حياة لها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} والرعب إنما يكون للمجاهدين الذين يحملون سيوفهم على عواتقهم ويقول قائلهم: نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبراً محمود مثل إياز قام كلاهما لك في الوجود مصلياً مستغفراً العبد والمولى على قدم التقى سجداً لوجهك خاشعين على الثرى فهؤلاء يحملون سيوفهم على عواتقهم مجاهدين في سبيل الله جل وعلا، فهم الذين نصروا بالرعب، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامه وهو في المسند: {ونصرت بالرعب يقذف في قلوب أعدائي} وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو في المسند يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ونصرت بالرعب على أعدائي ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر} . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 10 حقيقة الانتصار بالرعب فهل هذا الرعب كان خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ أي: هل الجيش الذي كان فيه النبي عليه الصلاة والسلام هو فقط الذي ينصر بالرعب، والجيوش التي خرجت بدون النبي عليه الصلاة والسلام -كالسرايا أو من بعده- لا تنصر، أم أنها تنصر أيضاً؟ الذي قد يبدو للإنسان لأول وهلة أن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن الذي أعتقده أن هذا عام له ولأمته، وأمامي مجموعة من الأدلة تؤكد أن الرعب -وكلمة الرعب في حد ذاتها مرعبة- ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل هو عام له ولأمته، وأعرض على أسماعكم وعلى أنظاركم بعض هذه الأدلة التي تؤكد أن الرعب عام لكل مجاهدي هذه الأمة، فمن ذلك -كما أسلفت قبل قليل- أنه حتى الخصائص التي تخص النبي عليه الصلاة والسلام لأمته منها نصيب. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 11 حقيقة الجهاد في الإسلام الرعب أمر عام لهذه الأمة متى حملت راية لا إله إلا الله، وجاهدت في سبيل الله، واعتصمت بالله جل وعلا، فإنها حينئذٍ تنصر بالرعب ولو كان بينها وبين أعدائها مسيرة شهر، ولذلك فإن هذا هو سر شرعية الجهاد لنشر الإسلام وتحقيق المركز القيادي لهذه الأمة. أما قضية هل الجهاد هجومي أو دفاعي؟ فهذه مسألة لا تعنينا الآن؛ لكن ليس صحيحاً أن المسلمين يقيمون في بلادهم فإذا هاجمهم عدو دافعوا عن أنفسهم، فالقطَّة إذا هوجمت في بيتها دافعت عن نفسها، وكل أمة من الأمم تدافع عن نفسها، لكن الأمة الإسلامية تتميز بأنها ترفع راية الجهاد ليس من أجل إكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، لكن من أجل حمل الإسلام إلى الناس، ورفع الفتنة عن الناس، وإتاحة الفرصة لمن أراد أن يسلم أن يسلم، ولمن أسلم ألا يضايق ويضطهد حتى يضطر إلى الرجوع عن دينه، كما هو واقع اليوم حتى في بعض بلاد المسلمين، ففي بعض البلاد الإسلامية المحافظة يُسلم إنسان فلبيني أو كوري أو من أي جنسية أخرى ويكون مدير الشركة -أو رئيسها- نصرانياً فيظل يضطهد هؤلاء المسلمين، ويضايقهم ويجعلهم يعملون في رمضان في الشمس، ويمنعهم من أداء فريضة الحج، ويعمل كافة الوسائل حتى يضغط عليهم للرجوع عن دينهم. فالإسلام شرع الجهاد حتى يزيل كل عقبة يمكن أن تحول بين إنسان وبين أي الإسلام، وحتى تخضع الدنيا كلها لحكم الإسلام، فإما أن يسلموا وإما أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا فالسيف هو الحكم بيننا وبينهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 12 السر في إباحة الغنائم للمسلمين إن الإسلام لما شرع الجهاد أباح للمسلمين أخذ هذه الغنائم، وهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {وأحلت لي الغنائم} وذلك لأن الله عز وجل لما شرع للمسلمين الجهاد أمرهم بأن ينشغلوا به، وهذا الانشغال يمكن أن يُلهي المسلمين عن الزرع -مثلاً- وعن التجارة وعن بعض الأمور الدنيوية، فشرع للمسلمين الغنائم لتقسم بينهم، وجعلها لهم حلالاً ليعوضهم عن انشغالهم، وهذا أمر طبيعي. فهل من المعقول أن نقول للإنسان الذي يشتغل فرضاً في تعليم الناس الطب: هذا راتبك، ونقول للذي يشتغل في تعليم الناس الهندسة: هذا راتبك، ونقول للذي يشتغل في تعليم الناس الطباعة: هذا راتبك، ثم نترك الذي يشتغل بتعليم الناس العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والهدايات التي هي سر تميزنا واختصاصنا، ونقول له: لا يمكن! أن نعطيك أجراً على عملك، هذا لا يمكن، فنحن عندما فرغناه لهذا العمل لابد أن نعطيه مقابل ذلك، وهذا مثلٌ أقصد به أن أبين أن هذه الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة؛ ليس معناها أن الجهاد شُرِعَ من أجل الغنائم، فالجهاد إنما شرع للهدف الذي ذكرته، لكن لأن المسلمين سوف ينشغلون بالجهاد أحلت لهم الغنائم، أما الأمم السابقة فكانت الغنائم عليهم حراماً. في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {غزا نبي من الأنبياء فلما خرج بقومه قال لهم: اسمعوا! لا يتبعني رجل بنى بامرأة وهو يريد أن يدخل بها ولم يدخل بها} فرجل قد عقد على امرأة وما دخل عليها مشغول البال معها، فهذا ليس لنا فيه حاجة: {ولا رجل بنى داراً ولما يبني سقفها} أي: يشتغل بعمارة بناء، فالخاطر مشغول مع البناء، والمهندس وعمال البناء وكذا وكذا، فهذا لا حاجة لنا به: {ولا رجل اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر نتاجها} فمن عنده غنم وإبل حوامل وهو ينتظر ولادتها فلا يتبعني: {فرجع من كان كذلك وما بقي مع هذا النبي إلا الصفوة} ولذلك لما اقترب هذا النبي من هذه القرية خاف من غروب الشمس، فخاطب الشمس وقال لها: {أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا -ونحن المؤمنين نصدق بهذا لأننا ندرك أن الذي سير الشمس قادر على إيقافها- فتوقفت الشمس، فهجم هذا النبي على أعدائه وانتصر عليهم، فجمعت الغنائم -وكان الأولون من بني إسرائيل وغيرهم، منهم من لم يشرع له الجهاد أصلاً، ومنهم من شرع له الجهاد ولكن لاحظ لهم في الغنيمة، فكانوا إذا غنموا شيئاً جمعوه فأتت نار من السماء فأحرقته- فجمعوا الغنائم فعلا وأتت النار من السماء لتأكل هذه الغنائم فلم تأكلها، فقال هذا النبي عليه الصلاة والسلام: فيكم غلول -أي: إن أناساً أخذوا من الغنائم شيئاً سراً- ليبايعني من كل قبيلة رجل -فأمر كل قبيلة أن يبايعه منها ممثل- فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد رجل بيد النبي، فقال: فيكم الغلول، لتبايعني هذه القبيلة رجلاً رجلاً، فلصقت بيده يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول أنتم غللتم، فأخرجوا لهذا النبي بذرة من الذهب بقدر رأس بقرة، فوضعها مع الغنائم فأتت النار فأحرقتها، ثم أحلها الله تبارك وتعالى لنا؛ لأن الله تبارك وتعالى علم ضعفنا وعجزنا وحاجتنا فطيبها لنا} . فهكذا يقول صلى الله عليه وسلم، فأحلت هذه الغنائم لهذه الأمة لأنها جزء لا يتجزأ من مهمة الجهاد الشرعي الذي وضعه الله تبارك وتعالى وشرعه لهذه الأمة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 13 الأدلة من التأريخ على عموم الانتصار بالرعب للأمة ومن الأدلة على أن الرعب عام لهذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها هو: تاريخ المسلمين الحافل بصور الرعب التي كان الله تعالى يلقيها في صدور أعدائهم، وغزوات المسلمين سواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو في عهد الصديق وعمر حين كانوا عدداً قليلاً ألفين أو ثلاثة آلاف، يواجهون جيشاً عرمرماً مكوناً من مائة ألف أحياناً، أو مائتي ألف ومع ذلك كانت تدور الدائرة عليهم، وحين كان المسلمون يغيّرون مواقعهم فتصبح الساقة مقدمة، والميمنة ميسرة كان الأعداء يصابون بالذعر ويقولون: قد جاء المسلمين مدد، وكان الواحد من المسلمين -كـ القعقاع وغيره- يعد بألف رجل وأكثر من ذلك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 14 الأدلة من الواقع على عموم الانتصار بالرعب للأمة ونحن نذهب بعيداً وهذا الواقع الآن يؤكد على أن الرعب قد أصبح يسري في قلوب الكافرين، فظاهر هذا الرعب في واقع اليوم كثيرة. وعلى سبيل المثال: الجهاد الأفغاني الذي أعاد للمسلمين ثقتهم بأنفسهم وبدينهم، فهذا الجهاد مهما يكن ومهما تكلم حوله الناس يكفي أن ندرك أن دولة من الدول التي تسمى الدول الكبرى، وهى إما أول أو ثاني دولة في العالم تضطر إلى الهزيمة والفرار أمام قوم عزل لا حول لهم ولا قوة إلا بالله جل وعلا، وأمام قوم لا يصنعون السلاح وما تدربوا في بلاد الغرب، وما تخرجوا من جامعاتها، وكانوا ببنادقهم وأسلحتهم القديمة، ووسائلهم المتواضعة، وإيمانهم القوي يُقلقون مضاجع هؤلاء الكفار حتى أجلوهم واضطروهم إلى الفرار، وإلى إراقة ماء وجوههم أمام البشرية كلها، وغادروا بلاد الأفغان. وفي مطارق المجاهدين ما يدل على الرعب والذعر الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم، وقصص المجاهدين أثناء الجهاد قصص كثيرة جداً، وهي تؤكد فعلاً أن المؤمنين والمجاهدين كانوا ينصرون بالذعر والرعب الذي يلقى في قلوب أعدائهم، أكثر مما ينصرون بأسلحتهم وقوتهم. مثل آخر: إن مراكز الدراسات والرصد في بلاد الغرب حالياً أصبحت تعد وتصدر دراسات رهيبة عما يسمونه بالصحوة الإسلامية، وهي دراسات يظهر فيها الرعب، فهم حين يتحدثون عن الصحوة يتحدثون حديث الإنسان الذي يحس بأن الخطر محدق به، فهو يتكلم بلا عقل ولا وعي، ويطلق عبارات غريبة، وهذا التخوف من هذه الصحوة ليس لقوة الصحوة، فنحن المسلمين أصحاب الصحوة لا شك أن فينا ضعف ونقص وفينا أشياء كثيرة تحتاج إلى إصلاح؛ لكننا بدأنا، ولذلك يعجبني قول أحد الشعراء: بدأنا نمزق ثوب العدا ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم وفينا الكرامة مهجورة كمحصّنة لوثتها التهم وفينا وفينا إلى آخر القصيدة، ففينا عيوب كثيرة، ولا يعني وجود التوجه الإسلامي والصلاح أننا وصلنا إلى النهاية، لكن يعني أننا بدأنا، والواقع أنه لم يكن أحد يتصور أن هذه البداية الإسلامية كان يمكن أن تقض مضاجع المراقبين الغربيين إلى هذا الحد، لكنه الذعر والرعب الذي قذفه الله عز وجل في قلوب الأعداء، وهذه مجرد أمثلة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 15 الأدلة على أن المستقبل للإسلام إن هذه الأحاديث دليل على أن المستقبل للإسلام، وذلك لأن هذه النصوص كما أسلفت، نصوص عامة في الخصائص، ويعضدها أحاديث وآيات كثيرة، حيث يقول الله عز وجل في أكثر من موضع: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وهذا الإظهار لا نستطيع أن نقول: إنه محصور في وقت من الأوقات، أو إنه حدث وانتهى، لأن الأمة الموجودة اليوم على ظهر الأرض من المسلمين هي ممن يشمله قول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:9] وكذلك قول الله عز وجل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] . فالمؤمن الموجود اليوم على ظهر الأرض يقرأ هذه الآية ويعلم أنه مخاطب بها، فإذا كان هو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فإن الله تعالى قد وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يمكن لهم في الأرض كما مكن للذين من قبلهم، وأن يُبدلهم من بعد خوفهم أمناً حتى يعبدوه لا يشركون به شيئاً، وهذا الوعد قطعاً سيتحقق لأن وعد الله لا يتخلف. وأريد أن أشير إلى معنى مهم جداً في نظري، وهو يعصم كثيراً من الناس من وجود نوع من الشك أو التردد، فقد يقول قائل: يا أخي المسلمون جاهدوا في فلسطين، وبلاد الشام، وفي الفلبين، وأفغانستان، وإرتيريا، وفي بلاد كثيرة، ومع ذلك ما حدث لهم هذا الوعد، فما هو السر؟ فأقول: إن السر قد بينه الله تعالى أكمل بيان في كتابه العزيز، واسمع لقول الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] فهذه هي الآيات التي شرع فيها الجهاد: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] (فوعد) قاعدة وضعها الله رب العالمين لا يمكن أن يرتاب فيها مسلم مطلقاً، قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] ثم قال -وهنا السر-: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] . إذاً: حين تجد أن هناك حركة جهادية في الماضي، أو في الحاضر، أو في المستقبل جاهدت ومع ذلك لم تمكن ولم تنصر فارجع إلى هذه الآية، واعلم أن الله ينصر من إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأنت ما يدريك بأن هؤلاء الذين يجاهدون باسم الإسلام في الماضي، أو في المستقبل، أو حتى في الحاضر؛ أنهم فعلاً لو مكنوا لفعلوا، فهذا أمر غيبي عند الله لا أحد يستطيع أن يجزم به، ومهما أحسنا الظن، ومهما رأينا من علامات الخير، تظل قضية كون الإنسان يستخق على النصر أمر عند الله، وربما لو انتصرت بعض الحركات الجهادية لتمزقنا، أو لتأخر وفاؤها بما جاهدت من أجله، أو لحدث مالا تحمد عقباه، فالأمر لله، وهو سبحانه وتعالى يعلم المستقبل. ولذلك ينصر من يعلم أنهم إذا انتصروا جاهدوا، وصبروا، وأمروا، ونهوا، وصلوا، وأقاموا شرع الله عز وجل، فهذا هو السر: {} [الحج:40] ثم وصف هؤلاء بأنهم {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فلا تكن في مرية من هذا الأمر. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 16 تحديد مستقبل الإسلام مسألة مستقبل الإسلام تقررها نصوص كثيرة بالإضافة إلى نصوص خصائص هذه الأمة، ومثل ذلك ما ورد من أحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأذكر منها على سبيل المثال قول النبي عليه السلام كما في صحيح مسلم: {تقاتلون يهود حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله} وفي رواية: {إلا شجر الغرقد فإنه من شجر يهود} والآن اليهود في إسرائيل يغرسون شجر الغرقد ويكثرون منه، وهذا سر من أسرار حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا الغرقد يتستر على بني إسرائيل، ولا يخبر المسلمين المجاهدين عنهم، ومن ذلك الحديث الصحيح الذي رواه عبد الله بن عمرو بن العاص وقد سُئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فأخرج كتاباً وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذا السؤال فقال: عليه الصلاة والسلام: {مدينة هرقل تفتح أولاً} ومدينة هرقل القسطنطينية، وهكذا حدث الوعد الأول، والآن عندنا وعدان في الحديث، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {مدينة هرقل تفتح أولاً} . فيدل على أمرين: الأمر الأول: وهو نص أن مدينة هرقل تفتح في المرحلة الأولى. الأمر الثاني: وهو مفهوم أن مدينة روما تفتح ثانياً بعد ذلك، فهذا معنى قوله أولاً، وإلا فلا معنى أن تقول أولاً وتسكت ألا وعندك ثانياً، فمدينه هرقل متى فتحت؟ فتحت في القرن التاسع على يدي محمد الفاتح، فتحقق الوعد الأول بعد حوالي تسعة قرون، والغريب في الأمر أن المسلمين قبل ذلك بقرون لما فتحوا الأندلس قاربوا أن يفتتحوا مدينة روما وكانوا قاب قوسين أو أدنى منها، وكانوا من القوة بدرجة كبيرة، فلحكمة يعلمها الله خاض المسلمون معركة مشهورة يسمونها معركة (توربواتيه) ويسميها المؤرخون المسلمون معركة (بلاط الشهداء) فهزموا في هذه المعركة، وكان من نتيجة هذه المعركة أن تأخر المد الإسلامي وانتشر المد الروماني، واكتسح هؤلاء البلاد الإسلامية، فتأخر المسلمون بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من مدينة روما وروما لم يدخلها فتح إسلامي إلى اليوم، وهذا يؤكد أن للإسلام جولة قادمة منتصرة يصل فيها المسلمون في الفتوحات إلى بلاد لم يصلوا إليها في الماضي. وأقول: الدلائل والعلامات على ذلك كثيرة: الأمر الأول: تخبط البشرية الذي أشرت إلى طرف منه، وهو موضوع خطير مهم، وقد أصبح الآن قضية علمية وليس مجرد كلام إنشائي خطابي يحتاج إلى حديث خاص. الأمر الثاني: هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون. وأقول لمن يستبعدون هذا الأمر: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121-123] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 17 دلالة الأحاديث على رفع الله للآصار والأغلال عن هذه الأمة إن تلك الآصار والأغلال التي كانت على الذين من قبلهم، وقد ذكر الله عز وجل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وعلَّمنا في الدعاء أن نقول: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] . ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وهذا مجرد مثال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بهذا المثال إلى أن الله عز وجل وضع عنا الآصار والأغلال، ويسر لنا الدين. ولذلك جاء في الحديث الآخر -حديث حذيفة - أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من ضمن الخصائص التي مُيِّز بها: {أنه أوتي الآيات الأواخر من سورة البقرة} وهذه الآيات فيها قول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة:286] ففيها إشارة إلى رفع الآصار والأغلال عن هذه الأمة، فقوله عليه الصلاة والسلام: {جعلت لي الأرض مسجدا} أي: مكاناً يُصلى فيه؛ ولذلك جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم} . وفي حديث ابن عباس عند البزار قال: {وكان النبي لا يصلي حتى يبلغ محرابه} أما النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، فإن الواحد منهم إذا أدركته الصلاة صلى حيث كان، فعنده مسجده وعنده طهوره، وكذلك قوله عليه السلام: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} فالمقصود بالطهور: أن التراب مطهر، وهذا يشمل عدة أمور: منها: التيمم؛ وذلك أن الإنسان إذا لم يجد الماء أو خاف الضرر باستعماله جاز له أن يعدل عن الماء في الوضوء أو الغسل إلى التيمم، فيضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ويمسح بها وجهه وكفيه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة وعمار وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهي أحاديث كثيرة جداً، وأجمع العلماء على مضمون هذا الحكم من حيث الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل، فالمهم أن هذا هو معنى قوله: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} لكن حتى غير هذا من الأشياء التي يسِّر فيها الشرع في مسألة الطهور. فمثلاً: أن الإنسان لو وطئ بنعله أذى أو نجاسة ثم مشى بها على الأرض طهرت بالتراب بدون حاجه أن يغسلها، ولذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد ومالك وغيرهم بسند صحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه يوماً ثم خلع نعاله فخلع الصحابة نعالهم فلما سلم قال: مالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفا فأخبرني أن بهما أذى -أو قذراً- فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه؛ فإن وجد فيهما أذى فليمسحها وليصلِّ فيها} ولم يأمر عليه السلام بغسلها بل اكتفى بمسحها. في حديث أم سلمة وفي حديث امرأة من بني عبد الأشهل عند أبي داود بسند حسن: {أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لنا إلى طريق المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه} فما يصيب الثوب من الأرض المنتنة إذا مر على الأرض الطيبة زال ما فيه، وكذلك أم سلمة قالت: {سألت امرأة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! إني أطيل ذيلي -أي: ثوبي- وأمشي في المكان القذر؟ فقال: عليه الصلاة والسلام يطهره ما بعده} . وروى أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب له طهور} إذاً صور التطهير بالتراب ليست خاصة بالتيمم فقط بل التيمم وغيره، وهذه تشير إلى موضوع التيسير كما ذكرت. والتيسير له أمثلة ونماذج كثيرة جداً؛ بل إن العلماء رحمهم الله وضعوا قواعد، منها: قول الفقهاء والأصوليين مثلاً: (المشقة تجلب التيسير) وقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، بمعنى: أن الدين ليس فيه عسر ولا حرج ولا شدة، فإنسان لم يجد الماء فالعودة إلى التراب. مثلاً: إنسان لبس الخفين يمكن أن يمسح عليهما بدلاً من غسل القدمين، وإذا لبس العمامة بشروطها يمكن أن يمسح عليها بدلاً من مسح الرأس، وكذلك إنسان لا يستطيع أن يصلي قائماً صلى قاعداً، وإذا لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنب، وإذا لا يستطيع أومأ إيماء، وهكذا، جميع التكاليف الشرعية والأوامر والنواهي محددة ومربوطة بقدرة الإنسان واستطاعته، وليس فيها عسر ولا حرج ولا مشقة على الناس، وهذا أمر شامل في جوانب العبادات والمعاملات وغيرها، والحديث فيها يحتاج إلى بسط. وبعض الناس يتوسع في هذا الأمر ويحلل ما حرّم الله بحجة أن الدين يسر، فيقول: الغناء حلال؛ لأن الدين يسر، ومسألة تطويل الثوب لا شيء فيها؛ لأن الدين يسر، وهذه أمور مشهورة، ومنهم من يقول لك: أخذ الفائدة الربوية أمر عادي، والدين يسر فلا داعي إلى أن نشدد في الأمر، ومسألة الأمور المحرمة التي فيها نصوص صريحة ليس لنا دخل فيها، فنقول له: أنتلقى عنك أم نتلقى عن الله والرسول عليه الصلاة والسلام؛ إننا لا نشرع من عند أنفسنا، واليسر إنما هو في أمور معينة نص عليها الشارع، أو في قضايا كلية تعم بها المشقة والبلوى، أما مثل هذه القضايا التي هي مخالفات صريحة لأوامر الله ورسوله فلا كلام فيها لأحد بعد قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم. دعوا كل قول عند قول محمد فما آمِنٌ في دينه كمخاطر وهذه القواعد والأصول مستنبطة من مثل هذا الحديث، ومن قول الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وقوله جل وعلا: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وغير ذلك من النصوص. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 18 وقفات حول حديث أوتيت جوامع الكلم قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وأوتيت جوامع الكلم} وقد يبدو بادي الرأي أنها من الخصائص المختصة بالرسول عليه الصلاة والسلام وحده، لكنني ألمس في هذه الخصيصة أمراً وهو أن هذه الأمة العربية -أصلاً- قد أوتيت زمام الفصاحة والبلاغة، فالعرب كانوا فرسان الفصاحة والبلاغة، وكانوا يعقدون في جاهليتهم الأسواق للمناظرات وتناشد الأشعار والخطابة وغيرها، والله عز وجل قد امتن على الإنسان بقوله: {خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3-4] . ولذلك فإن الأمة الإسلامية من وراء نبيها عليه الصلاة والسلام الذي أوتي جوامع الكلم، أوتيت زمام الفصاحة، والبلاغة، والأدب، والشعر، وأنواع فنون القول. ولذلك فإننا نعتقد أن الواجب على حملة رسالة الإسلام، ودعاته، وعلمائه أن يكون لهم من الفصاحة والبلاغة، وحسن القول، وجمال العبارة، ورشاقة الأسلوب ما ليس لغيرهم، وأعني بذلك أن يكون هناك أدباء مسلمون، وشعراء مسلمون، يحسنون فن الكلام، والحديث، والأدب، والشعر، ويستطيعون أن يدعو الناس إلى الإسلام ويربوهم على أخلاقيات الإسلام من خلال منابر الخطابة والأدب والشعر، ومع الأسف الشديد قد تأخر المسلمون عن هذا الميدان وأصبح كثير ممن ينتمون إلى الأدب والشعر في هذه الأمة يأخذون من أدب الغرب، فالواحد منهم لا يعتبر أديباً ولا شاعراً ولا قاصاً إذا لم يقرأ للقصاص الغربيين والفرنسيين، وتجد الواحد منهم يقول: أنا قرأت لفلان، وهو مستعد أن يذكر لك القاص الأمريكي فلاناً، والقاص الفرنسي فلاناً، والقاص البريطاني فلاناً، وأنه قرأ له كذا من كتبه المترجمة، وربما يعرف من قصصهم وأدبهم الشيء الكثير، وينسج على منوالهم. بل أصبحنا نجد كثيراً يلجئون إلى أسلوب الغموض والرمز في التعبير عن معانيهم لأنهم يحملون معاني غير إسلامية، وتأخر الأديب المسلم عن الساحة، ولله در ذلك الشاعر الذي يقول منتقداً من يلجئون إلى الرمز والغموض في الشعر: الشعر ما لم تلح في التيه جذوته نوراً مبيناً فلا كانت عطاياه إن ضمه الحرف حيناً في توهجه أو ضمه الرمز حيناً في حناياه فالشعر ما زال يذكي وهج شعلته وقع الصراع فيؤتي بعض نجواه فهذا يؤكد أن الأديب المسلم يجب أن يبرز ويوجد، شاعراً، وأديباً، وكاتباً، ومتحدثاً، وخطيباً، وناقداً، وأن يُوصل إلى الناس تعاليم الإسلام وأخلاقيات الإسلام من خلال هذه الوسائل المباحة، والتي تؤثر في لفيف من القراء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 19 إشارات في رحمة الله لهذه الأمة الوقفة الخامسة: وهي إشارة إلى رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة، وهذه الرحمة ظاهرة جداً؛ من خلال أحاديث كثيرة وآيات؛ وأكتفي منها بالحديث الذي ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: {سجد وبكى فأرسل الله عز وجل جبريل يقول له: وهو سبحانه وتعالى أعلم سله ما يبكيك، فقال: ما يبكيك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي، فذهب جبريل إلى رب العزة جل وعلا، وأخبره -وهو تبارك وتعالى أعلم- فقال الله جل وعلا: قل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك} . ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث إلى بعض الخصائص، ِمنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وهو في الصحيح: {أن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، فإن عملها كتبت له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبت عليه سيئة واحدة} والمقصود من تركها لوجه الله وليس من تركها عجزاً، فهذا تكتب عليه سيئة لو تركها عجزاً، وكذلك أخبر الله عز وجل أن الحسنة بعشر أمثالها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أشار إلى أنه أعطي الشفاعة، والشفاعة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ستة أنواع: أولها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف في فصل القضاء، حين يأتون إلى الأنبياء آدم ومن دونه فيعتذرون ويردونهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيلبي، ويقول: أنا لها، أنا لها، فيشفع للخلق في فصل القضاء، فيفصل الله جل وعلا بين عباده، وهذه عامة لجميع الأمم. ثانيها: الشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة. ثالثها: الشفاعة في قوم من أمته استحقوا النار ألا يدخلوها، بل يغفر الله عز وجل لهم ويدخلهم الجنة رأساً. رابعها: الشفاعة في قوم من أهل الجنة أن ترفع منازلهم في الجنة. خامسها: الشفاعة في قوم دخلوا النار أن يخرجوا من النار ويُدخَلوا الجنة، وهؤلاء كثير؛ ولذلك صح في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} ولذلك فإن شرط الحصول على شفاعة المصطفي صلى الله عليه وسلم، -وبأبي هو وأمي- أن يموت الإنسان موحداً لا يشرك بالله شيئاً، فكل من وقع في شرك فإنه محروم من شفاعته صلى الله عليه وسلم، ومسألة عدم الشرك بالله مسألة خطيرة وكبيرة، وقد سبق أن تحدثت عندكم عن هذه النقطة بالذات، والمهم أن شفاعته عليه الصلاة والسلام نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً حتى وإن عذبوا، وهذبوا، ونقوا، فإنهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة. سادسها: هو نوع خاص به، وخاص -أيضاً- برجل واحد وهو: شفاعته عليه الصلاة والسلام في بعض أقاربه أن يخفف عنهم العذاب، وتلك شفاعته صلى الله عليه وسلم في أبي طالب كما ثبتت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه في ضحضاح من نار} وفي لفظ: {تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، وما يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} فخُفف العذاب عن أبي طالب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نظراً لأنه كان يرعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحوطه ويحميه، وقد يقول قائل: لماذا خص أبو طالب؟ فأقول: من الطبيعي أن يخص أبو طالب لأنه ليس هناك رجل آخر عمل مع النبي صلى الله عليه وسلم مثلما عمل أبو طالب، فهو رجل كافر ومع ذلك فعل من الحماية والحيطة وتمكين الرسول صلى الله عليه وسلم من القيام بدعوته في وقت الاستضعاف ما لم يفعله غيره. ولذلك لما مات كان خليفته وهو أبو لهب يقف ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهر به، ويقول: صابئ كذاب، لا تطيعوه، إنه يريد منكم أن تتركوا كذا وتتركوا كذا، فلم يكن هناك رجل مشرك وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم مثلما وقف أبو طالب طيلة حياته مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك خص بهذه الشفاعة. فهذه بعض الوقفات والمعالم التي أحببت أن أبسطها بين أيديكم حول هذه الأحاديث التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بعض خصائصه وخصائص أمته. نسأل الله جل وعلا أن يعز هذه الأمة وأن يعيد لها مكانتها وعزتها ومجدها، وأن يكتب لها العز والنصر والتمكين إنه على كل شئ قدير: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] والله تبارك وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 21 ¦ الصفحة: 21 حكم صدقة المرأة من مال زوجها السؤال ما حكم من أخرجت شيئاً من البيت وتصدقت به وزوجها لا يعلم؟ الجواب إن كان لا يرضى بذلك فلا يجوز، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه} أما إن كانت تعلم رضاه فلا بأس بهذا. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 22 حكم الأضحية عن الميت السؤال هل يصح أن نضحي عن جدي، بحيث يصل إليه ثواب الأضحية علماً أن أبناءه لا يتصدقون؟ الجواب لا بأس أن تضحي عنه أو عن غيره من الأحياء أو الأموات. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 23 حكم قص شعر المرأة السؤال ما حكم قص مقدمة الرأس للمرأة؟ وما حكم قص الشعر للمرأة؟ وهل الحديث الذي يقول: إن عائشة قصت شعرها إلى ما تحت الأذن صحيح؟ الجواب الحديث الذي في صحيح مسلم هو أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة، وبناء عليه نقول: إن قص المرأة لشعر رأسها جائز، بشروط: الأول: ألا يكون على صفة التشبه بنساء الكفار كما أسلفت. الثانية: ألا يكون على صفة التشبه بالرجال، مثل بعض الأخوات -هداهن الله- التي تبالغ وتنهك شعر رأسها حتى يصبح كأنه شعر رجل، وهذا من الانتكاس في الفطرة، وأصبح الشاب يطيل شعر رأسه ويتشبه بالمرأة، وبالمقابل المرأة تقص شعرها حتى كأنها رجل، وهذا لا يجوز وخاصة إن كانت المرأة ذات بعل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 24 دليل تحريم النظر إلى الحرام في التلفاز السؤال مشاهدة ما يوجد في التلفاز من مسلسلات وأفلام وأغاني تخل بديننا الحنيف، وكلما حذرنا الناس من ذلك احتجوا بأنه لا يوجد حديث يدل على أن التلفاز حرام إلخ؟ الجواب نحن نعرف أن الإسلام حرّم على الرجل النظر إلى المرأة وإلى زينتها، وإذا كان الرجل يشاهد في الشارع -مثلاً- وجه المرأة أحياناً فقط، ويشاهد امرأة مغطاة بالكامل، فهو في التلفاز أو الفيديو يشاهد من المرأة شيئاً كثيراً يثير من الفتنة والشهوة في قلبه مالا يثيره رؤية المرأة المحجبة التي في الشارع في حالات غير قليلة، وكذلك التلفاز والفيديو يعلم الشاب والفتاة أن هذه امرأة في التلفاز تركب مع رجل لا تعرفه، وأنها تعتقد صداقةً مع صديق، وأنها تهرب من أهلها، وتخون زوجها، ويقبلها بحجة أنه زوجها ولا تعرفه ولا يعرفها، وكل إنسان يعرفون ذلك، وأيضاً مشاكل أخرى كثيرة جداً. فتتربى الأجيال على أن هذه الأمور كلها لا بأس بها، وبالمقابل التلفاز يربي الناس على أن ما أحل الله لهم هو أمر سيء ويجب الفرار منه، فيتربى الناس مثلاً على أن طاعة الوالدين أمر غير محبب، والوالد يريد منك كذا والوالدة تريد منك كذا، وعلى أن تعدد الزوجات جريمة ونهايته إلى الفشل، فهذه هي الأشياء التي تربي أجهزة الإعلام الناس عليها، وأعتقد أن هذه الأمور لم تعد تخفى على أحد، لكن الإنسان أحياناً يلتمس في نفسه المبررات والمسوغات لارتكاب الحرام. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 25 حكم الجهاد بالمال السؤال ما حكم من يجاهد بالمال؟ الجواب هذا حسن، والجهاد بالمال قدمه الله في القرآن حتى على الجهاد بالنفس، قال تعالى: {وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95] . الجزء: 21 ¦ الصفحة: 26 أحكام لباس الخادمة في البيت السؤال ما هو حكم من عنده خادمة ولا تلبس الخمار الكامل؛ بحيث تلبس الحجاب فقط على الرأس، أما الوجه فيكون ظاهراً، وما هو حكم أن يراها زوجي أو يطلب منها أي شيء؟ الجواب لا يجوز للرجل أن ينظر إلى وجه امرأة أجنبية عمداً، ولا يجوز لها أن تظهر أمامه وهي غير محجبة، وأعني بالحجاب تغطية الشعر وتغطية الوجه أيضاً، والأدلة على ذلك كثيرة تربو على خمسة عشر أو عشرين دليلاً ذكرت شيئاً منها في الكتاب الذي هو حوار هادئ مع الغزالي ونقلت بطبيعة الحال عن العلماء الذي كتبوا في هذا الباب وأشرت إليهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 27 حكم الصلاة بالقفازين السؤال ما حكم صلاة المرأة بالقفازين، وما حكم ظهور اليدين، وما هو حد ظهور الوجه في الصلاة؟ الجواب الصلاة بالقفازين لا بأس بها، وستر اليدين في الصلاة مطلوب، ومن العلماء من قال بوجوبه، ومنهم من قال بأنه غير واجب، فإذا سترت يديها بالقفازين فهذا حسن، وإذا لم تسترها بالقفازين تسترها بثوبها الذي تلبسه للصلاة، وكذلك ما يتعلق بستر القدمين: فمن العلماء من قال بالوجوب، ومنهم من قال بأنه مستحب -أي في الصلاة- وليس بواجب، وأما الوجه فنص الفقهاء بأنه يكره ستره في الصلاة إذا لم يكن عندها رجال أجانب ولم تخش من مرورهم بها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 28 حكم إهداء أجر القراءة للميت السؤال هل تجوز قراءة الختمة بنية إهداء ثوابها للميت، وكذلك التسبيح والاستغفار؟ الجواب من العلماء من قال: إن قراءة القرآن للميت تصل، ومنهم من قال: لا تصل، لكنهم متفقون على أن الدعاء والاستغفار له مشروع؛ ولذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوصل خيراً إلى ميت أن يكثر من الدعاء له، وكذلك الصدقة فإنه ليس فيها اختلاف كما قاله بعض أهل العلم، والواقع أن فيه اختلافاً لكن الجماهير على أن الصدقة تصل إلى الميت إذا تصدقت عنه بشيء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 29 حكم صيام النصف من شعبان السؤال هل يجوز الصيام في ليلة النصف من شعبان والقيام فيها؟ الجواب تخصيص ليلة النصف من شعبان بالصيام والقيام لا يثبت فيه شيء، لكن على العموم يشرع للإنسان أن يصوم الأيام البيض من كل شهر وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بما في ذلك شهر شعبان. أما تخصيص النصف من شعبان بشيء، فلا يكاد يصح فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 30 الأيام التي يشرع فيها الصوم في محرم السؤال ما هي الأيام التي يشرع فيها الصيام في شهر محرم؟ الجواب من الأيام التي يشرع فيها الصيام في محرم: اليوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، وكذلك أيام البيض كما أسلفت، والإثنين والخميس، ولو صام المحرم كله فحسن. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 31 حكم لبس الشورت تحت العباءة السؤال ما حكم ما انتشر بين بنات أمتنا من لبس القصير المعروف بالشانية-كما يتبجحون به- ويتعذرون بأنهم لا يراهم الرجال، وإنما تكون وراءهم العباءة، مع العلم بأنه لو ارتفعت لظهر ما خفي، فأرجو من فضيلتكم أن توضح الخطأ من الصواب، لكي نسير ويسير عليه بناتنا وأخواتنا؟ الجواب مشكلتنا أننا -كما ذكرت إشارة في المحاضرة- أصبحنا متطفلين على موائد الآخرين، فملابسنا تصنع في الغرب؛ ولذلك الإنسان أحياناً يريد أن يشتري لابنه الصغير لابنته الصغيرة ثوباً يكون مناسباً، فربما يمر بالسوق فلا يكاد يجد ثوباً بالشكل الذي يرضيه، فهم في الواقع يفرضون علينا أمزجتهم وتقاليدهم وعاداتهم، ونحن مهمتنا أن نستورد وننفذ، ولا أكثر من انتشار هذه العادات والتقاليد خاصة بين أخواتنا من النساء فيما يتعلق بالملابس والتسريحات وغيرها. ولذلك فإن لبس هذا القصير في نظري أنه من أكبر المخاطر التي تهدد فتياتنا في هذه الجزيرة، ولو كان من ورائه عباءة؛ لأن العباءة: يمكن أن يحركها الهواء أو ترتفع المرأة؛ أو تصعد، أو تنزل، أو تركب السيارة، أو تصعد على الرصيف -مثلاً- أو ما أشبه ذلك، فيظهر منها شيء، وهذا أمر ملحوظ وكلنا نشاهد ونلحظ. وهناك أمر آخر: وهو أنه إذا كان وراءه العباءة فما الفائدة من لبسه؟ لكن المسألة أصبحت تدرجاً، ولذلك حتى العباءة هي الأخرى بدأت ترتفع ولا ندري متى يستقر بها القرار، وغطاء الوجه يوماً من الأيام كانت المرأة تلبس غطاء ساتراً فضفاضاً طويلاً، وأصبح الغطاء يرتفع قليلاً قليلاً حتى أصبح تحت الذقن وأصبح أعلى الرأس يبين، وأسفل اللحية يبين، والمرأة أحياناً قد تكون فتاة محافظة ومتدينة، ولا ترغب أن يظهر منها شيء؛ فتجد أنها بكل صعوبة تلتفت يمنة ويسرة، لأنها لو التفتت لظهر شيء من رقبتها، أو ظهر شيء من ذقنها، أو ظهر شيء من شعرها، فلماذا نلزم أنفسنا بهذه الأمور؟ ولماذا تكون أمورنا مستوردة عن الآخرين؟ أليس عندنا من الثقة بعاداتنا؛ بل بالشرائع التي تلقيناها عن ديننا ما يجعلنا نكتفي بها عن غيرها. وبالمقابل أقول: هذه البدع وهذه التقاليد المنحلة مهما كانت موجودة، ولكنني أنصح الأخوات المتدينات أن يكون لديهن من الاعتزاز بالزي الإسلامي وبالشرائع الإسلامية ما يمكن أن يوجد تياراً مضاداً، فمثلاً كثير من الفتيات الآن أصبحت تلبس القفازين -غطاء اليدين- وأصبح هذا أمراً مألوفاً ومعروفاً نشاهده في كل مكان، وهذه ظاهرة طيبة بدأتها فتيات مؤمنات وانتشرت حتى عند غيرهن من سائر النساء غير المتدينات، فهي عادة طيبة، ونقول للأخت الطيبة: عليها ألا تكتفي أن تعمل هي بشرائع الإسلام بل عليها أن تنشر هذه الأشياء بين الناس. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 32 كيف يكون الجهاد السؤال إن الجهاد في سبيل الله كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مهم جداً، والأمة لا يرجع عزها إلا بالجهاد، ولا تبلغ الدعوة في كل بلد يحارب إلا بالجهاد، والجهاد في أفغانستان يعد أهم حدث العالم اليوم، حتى إن أعداء هذا الدين يجدون حظاً من ثمرات هذا الجهاد المبارك، وللأسف نجد الهروب من كثير من المسلمين؟ الجواب لعلي أجبت على شيء من ذلك، وأقول: المجاهدون الأفغان بحاجة إلى دعمهم سواء بالمال والدعاء، وتبني قضيتهم إعلامياً -كما ذكرت- وهذا لا يقل عن مسألة الرجل، وقد سمعت بأذني من " عبد رب الرسول سياف أحد قادة المجاهدين، يقول: نحن بحاجة إلى المال، ولسنا بحاجة إلى الرجال، وغيره من قادة المجاهدين قالوا ذلك أيضاً، فالحقيقة دعم الجهاد الأفغاني واجب على المسلمين جميعاً، والتخلي عنه يعتبر نكوصاً وفراراً من المعركة، لكن كيفية الدعم؟ الدعم له ألف كيفية، وليس فقط كما يتصور بعض الإخوة الشباب من أنه لا يكون إلا بالخروج للجهاد، ووالله إذا وجد قائد محنك، ووجد عسكري قدير، ووجد أناس لهم كفاءة في هذا المجال، فسنقول لهم: اخرجوا لأن ميدانكم لا يسده غيركم، وإذا كان هناك أطباء يمكن أن يساعدوا في العلاج والتمريض؛ فينبغي أن يخرجوا وينظموا الخروج، وإذا كان هناك أناس يمكن أن يكون لهم مهمات تفتقر إليهم؛ فهؤلاء ينبغي أن يسارعوا في الخروج، ومن قعد هاهنا فعليه أن يدعم إخوانه بمجالات أخرى عديدة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 33 القرآن لب العلوم السؤال من الملاحظ أن بعض الشباب يقرءون الكتب الكثيرة، ولديهم ثقافة كثيرة في شتى العلوم؛ لكنه لا يحفظ إلا قليلاً من القرآن؟ الجواب هذا خطأ فالقرآن هو لب العلوم وأساسها، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ولذلك على الشاب أن يأخذ من القرآن بنصيب حسن، فإن أمكن أن يحفظ القرآن فحسن، وإلا فعلى الأقل أن يحفظ شيئاً من القرآن الكريم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 34 حكم صبغ الشعر السؤال هل يجوز صبغ الشعر؟ الجواب صبغ الشعر بالسواد لا يجوز، لأنه ورد نص في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وجنبوه السواد} أما صبغه بغير ذلك فلا بأس به؛ شريطة ألا يكون على غرار ما تفعله النساء الكافرات، وبعض النساء يذكرن أن بعض الأخوات -هداهن الله- شعرها كأنه أصبح لوحة رسام، وقد يكون فيه اثنا عشر لوناً أحياناً، أي: أن هذه الأمر أصبح ألعوبة، فينبغي للمرأة المسلمة أن يكون لها استقلال وهو تميزها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 35 حكم تسريحات الشعر السؤال هل يجوز للمرأة أن تعمل التسريحات في شعرها كما شاءت؟ الجواب نعم، بشرط ألا تكون هذه الأشياء مأخوذة عن الكافرات أيضاً، لأن التشبه بالكفار حرام كما في حديث ابن عمر {من تشبه بقوم فهو منهم} فكون: المرأة اليوم تسرح تسريحة فرنسية، وغداً قصة الأسد، وبعد الغد القصة الولاَّدية وهكذا، وكلما ظهرت ممثلة أو مغنية على شاشة التلفاز، أو على أشرطة الفيديو التي فتنت كثيراً من المسلمين اليوم بقصَّة تسارعت نساء المسلمين إليها، فلا شك أنها محرمة، أما كون المرأة تسرح شعرها بطريقة تعجبها وتعجب زوجها فلا شيء في ذلك إذا سلم من المحذور السابق، على أنه لا ينبغي أن يكون هذا شغلها الشاغل. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 36 حكم التجمل في نهار رمضان السؤال هل يجوز قص الأظافر والتطيب ووضع المكياج في نهار رمضان؟ الجواب قص الأظافر يجوز، بل هو مشروع إذا طالت، والتطيب شريطة ألا يكون بخوراً، لأن البخور قد يصل إلى أنف الإنسان، فلا ينبغي أن يستنشقه وهو صائم، وكذلك وضع المكياج لا بأس به في رمضان، وحكمه في رمضان مثل حكمه في غير ذلك، فتقام فيه المحاذير الأخرى. ووضع المكياج أثبت الأطباء أن المبالغة فيه تضر ببشرة المرأة، وكذلك بعض النساء -كما أسلفت- أحياناً تبالغ في رسم وجهها حتى كأنه لوحة رسام، وتجلس ساعات أمام المرآة، وهذا لا ينبغي، والجمال في الحقيقة جمال الخلق، والجمال الفطري لا يعدله شيء، والاعتدال في هذه الأمور مطلوب. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 37 حكم صلاة الفريضة في البيت السؤال هل صلاة الرجل للفروض في بيته باطلة، وهل الصلاة في المسجد واجبة؟ الجواب أما صلاة الجماعة في المسجد فهي واجبة، أما إذا صلى الفريضة في البيت فليست باطلة، بل هي صحيحة لكنه آثم في هذا العمل، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 38 الجهاد في سبيل الله بين الإفراط والتفريط السؤال لا شك أن الجهاد في سبيل الله أبرز خصائص هذه الأمة، ومما يُؤسف له أن هناك مجموعة من خطباء المساجد والمشايخ يتصدى لمن يذهب إلى الجهاد، فهل هناك من نصيحة في هذا المجال؟ الجواب أقول فيما يتعلق بالجهاد: لا يختلف اثنان من المسلمين في أن الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام، ومن أنكره فهو مرتد عن الدين، لكن بطبيعة الحال قد يختلف المسلمون، في تقدير المصالح، وحتى الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قد يختلفون، وقد يقول شخص: أنا أرى أن نبدأ بالجهاد، ويقول آخر: أنا أرى ألا نبدأ اليوم، ويرى آخر أن نأتي من جهة اليمين، وآخر من جهة الشمال، ويرى ثالث أن نرتب الجيش بطريقة، وابع أن نرتب بطريقة أخرى، وليس هذا في مسألة الجهاد في أفغانستان فقط، بل في الجهاد في كل مكان، في أفغانستان، وإرتيريا، وفلسطين، ومناطق عديدة. والجهاد أنواع: منها: الجهاد عبر ميادين الفكر والعلم وهذا من الجهاد العظيم اليوم لأننا نجد أن المسلمين يغزون في عقر دارهم بالأفكار الباطلة، والجهاد في واقع المجتمعات لأننا نجد كثيراً من المجتمعات الإسلامية أصبحت ضحية سيطرة العلمانيين والمنحرفين وغيرهم ممن يبرزون على أنهم شخصيات بارزة ومهمة، ويقودون الناس ويوجهونهم إلى وجهة غير إسلامية، فلا بد من مزاحمة هؤلاء، ولا أرى ترك المجتمعات الإسلامية لهؤلاء والخروج مع النفير العام إلى الجهاد، لكن من يخرج إلى الجهاد الأفغاني. ويقول: أنا ليس لي دور في المجتمع، وأنا لم أخلق لطلب العلم، ولا أحس بأني من أهل هذا الشأن، وأحب أن أذهب لأقوي إيماني هناك ولأستفيد وأعيش معهم وقتاً معيناً؛ فهذا -إن شاء الله- إلى خير، وإن قتل فإنا نرجو له الشهادة، ويكفي الإنسان أن يقرأ -كما أسلفت- من الأحاديث الواردة في فضل من يستشهد في سبيل الله تعالى، لكني أعتب على بعض الشباب -في المقابل- الذين يغلون في هذا، فبعض الشباب يقوم ويكتب الآيات الواردة في الجهاد والأحاديث، ويعتبر أن كل شخص لم يذهب إلى أفغانستان منافق، وفي قلبه ضعف، وأنه جبان، وهذا أيضاً تصور غير صحيح والاعتدال مطلوب في كل شيء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 39 حقيقة قصة الغرانيق السؤال ما حقيقة قصة الغرانيق؟ الجواب قصة الغرانيق هي: أنه بعض الناس يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن عند الكعبة، فقرأ قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19-20] فألقى الشيطان على لسانه أو في مسامع المشركين: (وإنها لهي الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهذه القصة مكذوبة لا أصل لها، ولا يليق بمقام النبوة وحفظ الله تعالى لدينه وشرعه، وتبليغ هذا الدين للناس دون أن يتلبس به شيء، أن يحدث ذلك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 40 حكم العمل في بنك ربوي السؤال أعمل في بنك ربوي ولا أجد غير هذه الوظيفة؟ الجواب هذا لا يجوز، الوظائف -إن شاء الله- كثيرة، والله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، وأبواب الرزق مفتوحة، وعليك أن تبحث عن المجال الصحيح الذي تشبع فيه نفسك وولدك وزوجك، وتسقيهم وتكسوهم بالمال الحلال: {فأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به} كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 41 واجب المسلمين تجاه إخوانهم في فلسطين السؤال ما هو واجب المسلمين نحو إخوانهم الذين يقاتلون في فلسطين تحت الانتفاضة الفلسطينية؟ وما هو واجبنا من أجل تحرير فلسطين من أيدي اليهود؟ وكيف نقوم بهذا الواجب بإذن الله تعالى؟ الجواب أحياناً نحن قد نتعجل الخطوات، فقد يتخيل الإنسان أن الطرق مسدودة فيقول كيف نستطيع؟ وهذه الأمور لا تأتي في يوم وليلة، بل الأمور تبدأ صغيرة ثم تكبر، وخذ على سبيل المثال قبل سنتين أو ثلاث سنوات من كان يتصور هذه الانتفاضة التي حصلت؟ كلنا بل حتى المحللون والخبراء والعلماء والسياسيون لم يكن أحد منهم يتوقع هذا الأمر، ثم أحدثه الله بإذنه تبارك وتعالى على يدي شباب صالحين ونساء متدينات. فالله عز وجل يخلق ما يشاء ويصنع ما يشاء، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، وإذا أراد أمراً يسّر أسبابه، ولكن علينا ألا نتعجل الخطوات. فالأمة التي عاشت قروناً مهزومة لا يمكن أن تنتقل من هذه الهزيمة في يوم وليلة، بل تحتاج إلى وقت حتى تصل إلى المستوى اللائق بها. أما واجبنا نحو الانتفاضة فيتلخص في أمور منها: أولاً: أن نحمل همَّ هؤلاء الإخوة، وأن نتابع أخبارهم بلهف، ونحرص عليهم، ونفرح بما يصيبهم من خير ونحزن بما يصيبهم من شر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤمنين كالجسد الواحد. ثانياً: تبني قضية فلسطين إعلامياً، بحيث نعلم الناس بأن الإسلام هو الذي يحرك هذه الصحوة وليست النصرانية ولا الشيوعية ولا العلمانية وإنما الإسلام، ونؤكد هذا بالأدلة الصحيحة. ثالثاً: أن ندعمهم بما نستطيع من المال وغيره، وكذلك لا بد من الدعاء لهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 42 الاستفادة من التقدم في خدمة الإسلام السؤال ذكرتم أن هناك علماء -أو أنا فهمت ذلك- أن بقوا متأخرين، ولم يتقدموا مع تقدم الحضارة، حتى يقدموا الإسلام للناس بأسلوب حسن ومحبب، وهناك علماء تقدموا في مجال تقديم الإسلام للناس، وأنا أعتقد أن من بين العلماء المتقدمين هو الغزالي غير أنكم تعرضتم له؟ الجواب الواقع أنا لا أقول الكلام الذي ذكره الأخ هكذا، فإن كان يقصد الأخ كلامي الأخير في ضرورة الاستفادة من الأساليب والوسائل، أو من الأساليب اللغوية فهذا كلام آخر. أما مسألة الاستفادة من العلم الموجود فهذا أمر متفق عليه عند المسلمين، من أن ما عند الآخرين من علم لا ضرر فيه فإن المسلمين أجدر به وأولى، وكان المفروض أن يسبقوا غيرهم إليه، أما إشارة الأخ فالواقع أننا لا نعتقد أن الإسلام بحاجة إلى أن نطوعه لظروف العصر. فمثلاً ما معنى كوني أقول: لا داعي أن أمنع المرأة من قيادة السيارة ويجوز لها أن تقود السيارة، فيأتيني واحد ويقول يا أخي، لماذا؟ فأقول: الدليل أن امرأة ذهبت في رحلة فضائية من روسيا -مثلاً- أو يقول إنسان: يجب الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد، وحثهن على الخروج وهذه سنة، فأقول له يا أخي، لماذا؟ فيقول: والله لأنه يوجد امرأة هندية أخذت جائزة نوبل لأنها نصرانية مبشرة، وامرأة فعلت، وامرأة فعلت. وأقول مثلاً: يأتي إنسان ويقول: يمكن للمرأة أن تصبح رئيسة للدولة، فيأتي إنسان آخر ويقول: يا أخي، ما هو الدليل من الكتاب أو من السنة؟ فيستدل مثلاً بملكة بريطانيا فهذا غير صحيح أن نطوع تعاليم الإسلام وأحكامه لضغوط الواقع عليه، فنحن نريد أن نصوغ الواقع على ضوء الإسلام، لا أن نراجع تعاليم الإسلام لنصوغه على ضوء الواقع، ونتخلص من أشياء نعتقد أن فيها غضاضة علينا إن قدمناها للناس، فهذا نوع من الهزيمة الفكرية في الواقع. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 43 حكم الإسبال بغير عمد السؤال ما حكم لبس الثوب الطويل بدون تعمد؟ الجواب لا يجوز، {ما أسفل من الكعبين في النار} كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بخيلاء أو بغير خيلاء، أو لم يكن يعلم أنه طويل؛ وهذا لا يتصور، لأن الإنسان يحس، ولا يمكن أن يلبس ثوباً دون علمه، إنما هذا عذر يحتج به بعض الناس المقصرين. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 44 النصر بالرعب مسيرة شهر غير خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم السؤال لقد ذكرت في كلامك أن خاصية الرعب مشتركة بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأمته، وذكرت الأمثلة والأدلة، لكن دار في ذهني أن هذا الخوف والرعب ليس متشابهاً كونه من النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مسيرة شهر} فهل كان الأعداء يخافون من الصحابة مسيرة شهر؟ أفيدونا. الجواب ما دام أن النصر بالرعب تبين أنه ليس خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا القيد وهو مسيرة شهر يتجه أن يكون كذلك أيضاً ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 45 التفرق سبب التأخر السؤال هل تفرق المسلمين إلى جماعات سبب في تأخر المسلمين، وما هو العلاج؟ الجواب التفرق أنواع: فإن كان التفرق من باب اختلاف التنوع -كما يقول علماؤنا- أي أن الناس منهم من يتخصص في شيء ومنهم من يتخصص في شيء آخر، فهذا لا ضير فيه، فالمسلمون لا بأس أن يوجد من بينهم من يتفرغ مثلاً لبناء المساجد وعمارتها والقيام بالمشاريع الخيرية، وآخر يقوم بشئون الدعوة، وثالث يقوم بالتعليم، وآخر يقوم بالكتابة والتعليم وهكذا، فهذا من باب اختلاف التنوع ولا بأس به. أما اختلاف التضاد وهو تفرق المسلمين إلى جماعات وأحزاب، وكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبره وكل إنسان يلقي باللائمة على غيره ويعتقد أن الحق معه وأن غيره باطل، وينظر إلى غيره نظرة ازدراء ودونية، وحسناته عنده سيئات، وسيئات أصحابه عنده حسنات، فهذا لا شك أنه من العوج، وهو أعظم أسباب تأخر الأمم وتخلفهم. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 46 كتاب حوار هادئ مع الغزالي السؤال الكتاب الذي صدر أخيراً، وهو كتاب حوار هادئ مع الغزالي، نود أن تشرح لنا مضمون هذا الحوار الذي جرى مع الشيخ الغزالي. الجواب هذا عبارة عن مجموعة خمس محاضرات سجلت في أشرطة مناقشة لآراء وأفكار الشيخ الغزالي في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ثم في سائر كتبه ومؤلفاته الأخرى القديمة والحديثة، وقد كتبت هذا الحوار وعدلته، وأضفت إليه وهذبته، وطبع في كتاب ويتلخص في ستة فصول تقريباً. الفصل الأول: عبارة عن تصنيف الشيخ الغزالي وإلى أي مدرسة ينتسب، وقد تبين من الدراسة أن الغزالي أقرب ما يكون إلى المدرسة العقلية، وإن لم يكن صورة طبق الأصل. الفصل الثاني: عن موقف الغزالي من أحاديث الآحاد، وقد تبين أنه لا يأخذ بها في العقيدة، وأنه يردها أحياناً لأسباب غير وجيهه ومن منطلق عقلاني يمكن أن يرد عليه بالحجة العقلانية نفسها. الفصل الثالث: موقفه من قضية القضاء والقدر، وقد تبين أن موقف الغزالي غير واضح أو غير مضطرد، فهو قد يفسر القدر أحياناً بالعلم، وقد يفسر القدر أحياناً بالنواميس الكونية التي وضعها الله تبارك وتعالى في الأشياء. الفصل الرابع: هو عن موقف الغزالي في قضية الشيعة، وقد تبين أن موقفه مضطرب في هذه المسألة؛ حيث إنه لا يدري حقيقة الخلاف بيننا وبينهم، ويقول: إن الخلاف بيننا وبينهم بسيط، بل يقول: نحن متفقون معهم في الأصول والفروع، وقد نقلت بالنصوص الموثقة من كتب القوم ما يؤكد حقيقة الهوة، والخلاف الجوهري القائم بيننا وبينهم في الأصول والفروع. الفصل الخامس: وهو موقف الغزالي من قضية المرأة وهو فصل طويل تحدثت فيه عن مجموعة من المواقف والآراء الغريبة التي قال بها الغزالي في عدد من كتبه، وبعضها لم يسبق إليه على مدى التاريخ الإسلامي. الفصل السادس: وهو بعنوان: الأدب العلمي عند الغزالي بين النظرية والتطبيق، وقد تحدثت فيه عن كلام الغزالي النظري في وجوب التحلي بمكارم الأخلاق والأدب في الحوار والهدوء في المناقشة، ثم أتبعته بنصوص وعبارات قالها الغزالي في من ينتقدهم، حيث بدأ بالصحابة ومروراً بالتابعين وانتهاء بالعلماء المعاصرين وشباب الصحوة الإسلامية. والفصل السابع: بعنوان نظرات في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث وهو أطول هذه الفصول، وهو عبارة عن نقد للكتاب في وقفات محددة. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 47 السهو والنسيان من طبيعة البشرية كلها السؤال هل السهو والنسيان من خصائص هذه الأمة؟ الجواب السهو والنسيان من طبيعة هذه الأمة لكنه ليس خاصاً بها، بل جميع البشر يقع منهم السهو والنسيان، لكن فيما يتعلق بالرسل والأنبياء فإنهم معصومون عن ذلك فيما يبلغون عن الله تبارك وتعالى. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 48 الاستعداد بالعلم قبل الدعوة السؤال يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] إلى آخر الآية، ولا شك أن الدعوة إلى الله أمر طيب، فهل الخروج مع جماعة التبليغ دون علم يجوز، أم يقوم الإنسان بطلب العلم مقدماً ثم الخروج، حيث إنهم يخرجون في جماعات وإلى بلدان غير إسلامية؟ الجواب الذي أرى أن الخروج إلى بلدان غير إسلامية، أو الخروج للدعوة، وتفريغ الإنسان نفسه للدعوة، يحتاج لأن يكون الإنسان على مستوى من العلم، أما مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} فصحيح، أي: أن الإنسان إذا علم شيئاً يجب أن يبلغه ولو كان قليلاً، فإذا رأيت أحداً على خطأ وأنت تعرف أنه خطأ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتقول له: هذا خطأ، لكن كونك تجلس في المسجد كي تدرس الناس وأنت لا تعرف إلا شيئاً يسيراً فتفتي بغير علم، وتقول مالا تعرف، فهذا لا يجوز. زكذلك كونك تخرج للدعوة وأنت في نفسك بحاجة إلى أن تكون نفسك؛ لأنك ستدعو الناس إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما إذا لم تكن محصناً بعلم صحيح من الكتاب والسنة أنك تقع في الخطأ، وربما تعمل ببدعة وأنت تظن أنها سنة، وربما تستشهد بحديث موضوع وأنت تحسب أنه في صحيح البخاري وربما تقرأ آية غلطاً أحياناً، وربما تأتي بأمثلة تضربها للناس وتعتقد أنها تكفي في الإقناع، وفي الواقع أنها لا تكفي لأنه لا بد من ربط الناس بالكتاب والسنة، فالإنسان أرى أنه لا بد أن يعد نفسه إعداداً جيداً قبل أن يخرج، خاصة إذا كان سيذهب إلى بلاد الكفار ليدعو الناس، وهناك مشكلات ومغريات، وشبهات وشهوات قد يتضرر منها الإنسان. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 49 ضرورة الصحوة الصناعية السؤال يعيش العالم الإسلامي فترة من التقاعس، لدرجة أننا نعتمد على البلاد الكافرة في جلب غذائنا ومعظم ما نحتاجه، والصحوة التي نعيشها غير مصحوبة بصحوة فكرية صناعية، فما تعليقكم على ذلك؟ الجواب هذا صحيح، ولذلك قلت في حديثي: إننا في البداية ولسنا في النهاية، ونحن نعتقد أننا وضعنا أقدامنا -إن شاء الله- على الطريق، لكن المسلمون بحاجة إلى أن يستكملوا الجوانب الأخرى، حتى في مجال التمسك بالإسلام، فلا نقول: إن المسلمين قد وصلوا إلى ما يجب أن يكون، فهناك حاجة شديدة إلى العلم الشرعي، وإلى الالتزام بالكتاب والسنة، وتصحيح المفاهيم والعقائد، وتوحيد الصفوف، وإلى تجنب الأخطاء، وإلى أشياء كثيرة، ثم في المجالات الأخرى في المجالات الأدبية، والفكرية، والعلمية، والصناعية المسلمون بحاجة إليها أيضاً. ومما يحمد أننا نجد كثيراً من الشباب المسلم أصبحوا يتخصصون في مجالات علمية وصناعية تحتاجها الأمة الإسلامية، ولا شك أن هذه من المجالات التي هي فرض كفاية، فما دامت الأمة الإسلامية بحاجة إلى طبيب إلى مهندس وإلى خبير في كافة المجالات، فإن التقصير في هذا يعتبر ذنباً تأثم به الأمة كلها حتى تقوم بهذا الواجب الكفائي. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 50 كتب تتحدث عن خصائص هذه الأمة السؤال ما هي الكتب الموثوقة التي تتحدث عن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وعن خصائص أمته أن بعضاً الموجودة في المكتبات؟ الجواب في الواقع لا يحضرني كتب تنطبق عليها الشروط التي ذكرت، إلا أنني أشرت خلال حديثي إلى بعض الكتب المطبوعة التي يمكن أن يستفاد منها، وإن لم تكن كتب موثقة بمعنى أن كل ما فيها صحيح، وبعض الكتب المؤلفة في السيرة النبوية قد تذكر شيئاً من ذلك. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 51 الاعتماد على شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقط السؤال بعض الناس يعصي الله تبارك وتعالى فإذا قيل له اتق الله، قال: إن أمة محمد على خير ولهذه الأمة خصائص، منها شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، فيعمل أعمالاً توجب دخول النار اعتماداً على عفو الله، وأنه من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، فنرجو إصدار نصيحة لمثل هؤلاء؟ الجواب هؤلاء كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف:169] ويقول الله عز وجل معاتباً لهؤلاء: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] فالاعتماد على عفو الله فقط ليس مسلكاً صحيحاً؛ لأن عفو الله إنما ينال بسبب وهو عملك الصالح، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] لكن لمن؟ {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ} [الأعراف:156-157] إلى آخر الآيات. فرحمة الله إنما تُنال بسبب أعمال الإنسان الصالحة، ورحمة الله هي السبب لدخول الإنسان الجنة، فبرحمة الله أدخلهم الجنة، وإنما استحقوا رحمته بأعمالهم الصالحة، أما الإنسان الذي يعتمد على هذا فقط فهو كمن يقرأ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ويسكت، يقول الله عز وجل: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] ولذلك لا يأتي في القرآن موضع تذكر فيه الجنة إلا ويذكر فيها النار، وتذكر فيه الرحمة إلا ولا يأتي موضع تذكر فيه العذاب، حتى يكون قلب المؤمن بين الخوف والرجاء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 52 مجالات الرعب السؤال هل يقصد بالرعب في مجال القتال الحربي دون المجال العلمي في باب المناظرة العلمية، بارك الله لأمة الإسلام في الدعاة والمخلصين؟ الجواب أما النصر فهو بالدرجة الأولى في مجال القتال الحربي، وهكذا النصوص جاءت؛ ولذلك قال: {ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر} ولكن هذا لا يمنع أيضاً الرعب في غيره من المجالات، ولذلك ذكرت مثلاً رعب أعداء الإسلام من الصحوة الإسلامية، وهذا الرعب ليس في مجال الحرب، لأنه ليس ثمة حرب بين الإسلام وخصومه على المستوى العام، فلا مانع أن يكون الرعب موجوداً حتى في مجالات أخرى كمجال المناظرة العلمية وغيرها. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 53 أسباب الضعف والوهن السؤال ما رأيكم فيما أصاب الأمة الإسلامية من ضعف ووهن، حتى إننا نرى قلة من اليهود يقتلون المسلمين، ويعبثون بكتاب الله، ويلعبون بمقدسات المسلمين، والمسلمون لا يملكون إلا الاستنكار باللسان، نرجو توضيح الأسباب التي أدت إلى ذلك؟ الجواب الأسباب كثيرة جداً؛ لكن الشيء الذي لا يجب أن يذهب عن البال، أن هذه سنة الله تعالى في الأمم، لأنه ما من أمة عبر التاريخ ظلت دائماً في القمة، فهذه سنة إلهية، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُسَاء ويوم نسر ولذلك ليس بغريب أن يحصل لأمة من الأمم ضعف، ودعونا ننظر إلى الأمم المسيطرة اليوم، فالأمم الغربية كانت في أوقات وقرون وأحقاب متطاولة أمة لا يعلم بها التاريخ ولا قيمة لها، وفي وقت من الأوقات كان الأوروبيون يأخذون بعض القبسات من النور والعلم عن طريق المسلمين في الأندلس وكانوا يفتخرون بأنهم يجيدون اللغة العربية، وعندما تدخل كنائسهم تجد فيها لوحات مكتوبة باللغة العربية، وفيها آيات قرآنية أحياناً. واليهود -مثلاً- مرت بهم قرون متطاولة وهم أمة مستضعفة منهكة ذليلة، لكن كتب الله عز وجل لهم الآن بحبل من الناس وتأييد منهم بعض التمكين، فعلى الإنسان ألا يكون دائماً أسير اللحظة والحاضر، فلا تنظر لليلة أو اليوم أو لو سنة أو عشر سنوات، فإن أعمار الأمم لا تقاس بهذه الأشياء. الجزء: 21 ¦ الصفحة: 54 مطارق السنن الإلهية لله تعالى في خلقه شئون، وفي الكون سنن إلهية لا تتبدل، ولا تتغير، وهي عامة شاملة لكل البشر إذا تحققت أسبابها تتحقق نتائجها، ومن ذلك التقدم والتطور والقوة والقهر، والمسلم ربما غاب عن ذهنه بعض ذلك، فأثر على إيمانه. وهذا من جهة، ومن جهة أخرى غاب عنها التفاعل والتسخير لهذه السنن، وهذا الدرس محاولة لوضع المسلم في طريق التفكير السنني ومعالجة السطحية والغفلة عند التعامل مع الوقائع والأحداث. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 1 الدنيا دار ابتلاء إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. هذا الدرس التاسع والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثالث من شهر جمادى الثانية لعام ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وعنوانه -كما أعلنت في المجلس السابق- (مطارق السنن الإلهية) . ومن الواضح جداً أن هذا العنوان يتحدث عن سنن التدمير لمن عصوا الله سبحانه وتعالى وخالفوا أمره، خلق الله تعالى الحياة للابتلاء فقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] فالإنسان -جنس الإنسان- مبتلى، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] المؤمن مبتلى بإيمانه، قال الله عز وجل {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2] والكافر أيضاً: هو الآخر مبتلى، قال الله تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] وهذه الحياة قُلبٌ لا تدوم على حال، ولا تبقى لأحد، كما قال فيها القائل: حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبرا حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار فإذا أردت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة المقدار فاقضوا مآربكم عجالى إنما عماركم سفر من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عواري إن الحياة كاسمها حركة لا تتوقف، وتغير لا ينتهي، وأحوال شتى يخلف بعضها بعضاً، ويخطئ كثير من الناس حين يعتقدون أن التاريخ يتوقف عند شخص معين، أو بلد، أو حاكم، أو دوله، أو أمة أبداً، ما زالت الدنيا تزول وتتغير، ولو بقيت لبقيت لرسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، ولو بقيت لبقيت للذين حكموا بشريعة الله تعالى، وقاتلوا دون كلمة التوحيد، وقدموا أرواحهم رخيصة في سبيل الله تعالى: تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمورُ وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغورُ وتطمع أن يبقى السرور لأهله وهذا محال أن يدوم سرورُ ويقول آخر: يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا هذه الحركة في الحياة، ليست عبثاً ولا ارتجالاً، بل هي مربوطة بسنة وناموس تحكمها بإذن ربها، وهذه السنن والنواميس كثيرة جداً ومتنوعة، وما سوف يتناوله هذا الدرس -بإذن الله تعالى- هو جزء من هذه النواميس فحسب، يتعلق بسنن التدمير، تدمير الله تعالى للكافرين والفاسقين والظالمين، ويتعلق بالعقوبات الإلهية التي تحكم حركة الأمم حينما تضل عن الصراط المستقيم وتخالف أمر الله عز وجل، يتعلق بالسنة التي تحكم حركة الأمم في صعودها وهبوطها وشدتها ورخائها ونصرها وهزيمتها. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 2 لماذا الحديث عن السنن الإلهية وهاهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا نتحدث عن هذا الموضوع؟ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 3 تعظيماً لله تعالى أولاً: نتحدث عن هذا الموضوع من باب تعظيم الله عز وجل، ومزيد الإيمان به، وذلك بالاطلاع على شيء من بديع حكمته وعظيم صنعته؛ إذ يعرف الإنسان الذي اطلع على سنن الله تعالى في الكون والحياة، أنه لا مكان في الحياة للصدفة العمياء -كما يقال- لا مكان في الحياة للفوضى والارتجال، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: {كتب الله تعالى مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء} فكتب الله تعالى كل ما هو كائن في هذه الدنيا، سواء على مستوى الفرد، أم الجماعة، أم الأمة، أم الدولة، أم على مستوى البشرية كلها، وهكذا جاء عند أحمد والترمذي من حديث أبي هريرة بنحوه بسند صحيح. إن الطبيب حين يطلع على شيء من خلق الله الخفي في الإنسان؛ يندهش ويصيح (لا إله إلا الله) ، والعالم حين يرصد في منظاره نظام الأفلاك البديع الدقيق العظيم، ويرى عظيم ما أودع الله تبارك وتعالى فيها من جميل الصنعة وجليلها؛ يرتعش مسبحاً للخالق المبدع الكبير سبحانه وتعالى، بل الفلاَّح الذي يضع الحبة في التربة، ثم يسقيها بالماء فيراها تنشق عن شجيرة، ثم تصبح شجرة مثمرة مونعة مورقة، يشاهد فيها نفس الحياة ونماءها وجمالها فيسجد لله تعالى شكراً، فتجد أن الذين يرون صنعة الله تعالى، هم أقرب الناس إلى الله تعالى، وأولى الناس بالإيمان، ولعل مقارنة سريعة -مثلاً- بين الفلاح وبين الصانع تبرز ذلك، فالفلاح يتعامل مع صنعة الله تعالى، ومع خلق الله، ومع الأرض، ومع النبتة، مع الزهرة، ومع المطر؛ فيرى صنع الله تعالى فيكون أقرب إلى الإيمان، ولهذا جاءت نصوص كثيرة في الحث على الزراعة والفلاحة وبيان فضيلتها، لكن الصانع في أحيان كثيرة يتعامل مع ما عملته أيدي الناس، ويتعامل مع الآلة، لهذا يقسو قلبه، وتجمد نفسه، وتجف عينه؛ إلا من رحم الله تعالى لأن بينه وبين التعامل مع خلق الله تعالى، حاجزاً من صناعة الإنسان نفسه. إذاً معرفة هذه السنن الكونية التي تحكم حياة الإنسان، وحياة الناس، وحياة الأمم والجماعات والأفراد؛ تدلك على شيء من عظيم صنع الله تعالى وبديع حكمته، فإذا اطلع المؤرخ -مثلاً- أو عالم الاجتماع، أو حتى الإنسان العادي، على آثار صنعة الله تعالى في حياة الأمم، وكيف حقت عليها كلمة الله، وكيف مضت عليها سنته، على غير ما يترقب الناس وعلى غير ما يتوقعون، فإنه يمتلئ إجلالاً وتوقيراً للواحد الأحد الذي يحيي ويميت وهو حي لا يموت، فيهتف قائلا كما قال الله عز وجل وأمر: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:27] سبحانه! {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] من شأنه أن يعز أفراداً ويذل آخرين، ويرفع أقواماً ويضع آخرين، يغني هذا ويفقر ذاك، ويحيي هذا ويميت ذلك: لك في البرية حكمة ومشيئة أعيت مذاهبها أولي الألباب إن شئت أجريت الصحاري أنهراً أو شئت فالأمواج فيض سراب ماذا دهى الإسلام في أبنائه حتى انطووا في محنة وعذاب فغناهُمُ فقر ودولة مجدهم في الأرض نهب ثعالب وذئاب الجزء: 22 ¦ الصفحة: 4 الاطمئنان إلى وعد الله بالنصر أما ثانياً: فإن النظر إلى هذه السنن يهب المؤمن الاطمئنان إلى وعد الله تعالى بنصر المؤمنين والمسلمين والصادقين، وبالتدمير على الكافرين والفاسقين والمعاندين، فلا ييأس المؤمن؛ لأن عنده رسوخاً في إيمانه بأن المستقبل لهذا الدين. إذاً معرفة هذه السنن تجعل المؤمن يرى حركة هذه السنن في الأمم الكافرة الممكنة وهي تتهاوى دولة بعد أخرى، ويوماً بعد آخر، وتحق عليها السنن في فساد اقتصادها، وفي فساد صناعتها، وفي فساد صحتها، في فساد اجتماعها، وفي المشاكل التي تواجهها، وفي التناقضات التي تعيشها، فيؤمن بأن الله تعالى الذي يحرك حياة الناس، ينتقل بهذه الأمم الكافرة من حضيض إلى آخر، وربما انتقل بالأمم الممكنة إلى درجات بعدها دركات، فيطمئن المؤمن إلى مصير هؤلاء الكافرين، وكذلك يرى المؤمن صنيع الله تعالى لعباده المؤمنين، وهو يجمعهم بعد تفرق، ويقويهم بعد ضعف، ويوحدهم بعد شتات، ويعلمهم بعد جهل، ويقيمهم بعد انحراف واعوجاج؛ فيطمئن، أما بالنسبة للكافرين فكما قيل: إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم وأما بالنسبة للمؤمنين: وإذا رأيت من الهلال بدوه أيقنت أن سيصير بدراً كاملا الجزء: 22 ¦ الصفحة: 5 مجاراة المؤمن لهذه السنن والانتفاع بها وثالثاً: معرفة هذه السنن الإلهية، تجعل المؤمن يجاري هذه السنن، وينتفع بها ويستفيد منها، فإن موافقة السنن الإلهية سبب للنجاح والفلاح، وإهمال هذه السنن أو الجهل بها سبب للدمار والبوار. وقد قص الله علينا في كتابه أخبار أمم كثيرة، ممن استفادوا من هذه السنن، آمنوا بها وعرفوها وراقبوها ورصدوها، واغتنموا الانتفاع بها، فوهبهم الله تعالى النصر، والتمكين، والقوة، والسعادة في الدنيا وفي الآخرة، كما قص علينا قصص أمم أخرى جهلت هذه السنن، أو عرفتها ولكنها لم تعمل بموجبها، فحقت عليها كلمة العذاب، فلم ينقذهم بعد ذلك ما كانوا فيه من قوة ونصر حينما بدأت عوامل الانحراف وعوامل الضعف تعمل فيهم عملها. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 6 القدرة على تفسير الأحداث رابعاً: إن معرفة الإنسان بالسنن الكونية تمنحه بإذن الله تعالى قدرة على تفسير الأحداث -خاصة الكبرى- تفسيراً شرعياً سليماً. كثير من الناس ينطلقون من منطلقات صغيرة، ومنطلقات آنية ووقتية، ولا يملكون القدرة على ربط النتائج بالأسباب، وقد يبهرهم الواقع الماثل المشهود، فيغفلون بمشاهدته والنظر إليه عن رؤية الماضي العريق أو عن رؤية المستقبل المنشود. أحد الدكاترة يقول: كنت مع صديق لي في قاعدة في بلاد الغرب، وهي التي أطلقوا منها ما يسمى بالمكوك الفضائي (تشالنجر) فيقول: كان زميلي إلى جواري ونحن نترقب إطلاق هذا القمر، فكان يتحدث بإفاضة واسترسال عن التقدم الغربي والتكنولوجيا الغربية، وما وصلوا إليه من تقنية، وهذا التقدم المذهل الذي حصل، ويتكلم عن ذلك حديث المعجب المبهور، يقول: فما هي إلا ثوانٍ حتى أطلقوا هذا الصاروخ، فانفجر بعد ثوانٍ من إطلاقه، فانقلب زميلي في لحظة واحدة، واعتبر أن هذا الذي حصل من انفجار الصاروخ في ثوانٍ، قال: هذه ضربة إلهية قاصمة، موجهة لغطرسة أمريكا التي ما فتئت تعتدي على الشعوب الضعيفة المضطهدة والتي والتي والتي، فانقلب رأساً على عقب خلال ثوانٍ بدلاً من أنه كان يطري الحضارة الغربية، وتقدمها المذهل، انقلب ليتكلم عن هذه الضربة الإلهية الموجهة إلى غطرسة أمريكا وكبريائها، وهذا يدل بكل تأكيد أنه لم يكن يملك معرفة صحيحة بالسنن الكونية، لا أولاً ولا ثانياً، أما أولاً فإن هذه الغطرسة، وهذه القوة، وهذه التقنية التي يملكها الغرب تمت لهم وفق سنة إلهية مدروسة معروفة، ويمكن أن تواجهها وتقضي عليها سنة إلهية أخرى أيضاً، كما أن هذا الانفجار نفسه، لا يعني أن الإنسان يتجاهل كل ما سبق وكل ما مضى، لأنه ما مر زمان طويل إلا واستطاعوا أن يتلافوا بعض الأخطاء، وبعض الأمور التي جعلتهم يحاولون هذا الأمر مرة أخرى، وثانية، وثالثة، ورابعة. إذاً: هم يحاولون أن يستفيدوا من السنن، ولا ييأسون ويعملون بالأسباب، أما المسلم فإنه في كثير من الأحيان يجهل هذه السنن، فضلاً عن أن يعرفها أو أن يفيد منها. إذاً من يملك المعرفة بالسنن الإلهية؛ فإنه يعرف التاريخ، ويعرف الواقع، ويعرف -بإذن الله تعالى- بشائر المستقبل، وفي كثير من الأمثال يقولون: التاريخ يعيد نفسه. صحيح أن السنن الإلهية التي حكمت في القرون الغابرة، هي التي حكمت الناس اليوم، وهي التي تحكمهم غداً -بإذن الله تعالى- إن للحياة البشرية سنناً كحياة الإنسان فكما أن لحياة الإنسان سنناً، وكما أن للوجود وللكون أيضاً سنناً، فكذلك الحياة البشرية. وأضرب لك مثلاً: الإنسان يمر بحالة الطفولة، أول ما يولد من ضعف كما قال الله تعالى: {والله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ} [الروم:54] ثم ينتقل إلى مرحلة الشباب، وفيها الفتوة والقوة، ثم يصل إلى درجة الكمال البشري المقدر له، وهو بكل حال ضعف، ليس كمالا مطلقا، لكنه أقوى، وآخر ما يصل إليه الإنسان حينما يبلغ الأشد، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف:15] بعد ما يبلغ الإنسان القمة، يبدأ في النقص، فالهرم ثم الموت، إذاً هي حركة بإذن الله تعالى تبدأ من الضعف وتنتهي إلى الضعف، ثم الموت، هذا بالنسبة للإنسان. اننتقل إلى الكون، انظر إلى الشمس -مثلاً- تجد أن الشمس تطلع كل يوم في كل صباح، وأول ما تطلع الشمس تكون أشعتها باهته باردة، بل تطلع وبعضها صفراء ليس فيها ذاك التوقد، ولا تلك الحرارة، ولا ذلك الإشراق القوي، فهي بداية كأية بداية، وما تزال الشمس ترتقي في كبد السماء وتشتد أشعتها وتتوهج أكثر وأكثر، حتى إذا توسطت كبد السماء في وقت الزوال كانت في قمة حرارتها، وقمة توهجها، بعد ذلك مباشرةً يبدأ نقصها، فتنتقل إلى جهة الغروب، وتبدأ تفقد حرارتها وقوتها وإشراقها وبياضها وصفاءها، وهكذا حتى تغرب في آخر النهار. وإذا كان هذا الكلام بالنسبة للإنسان، وهذا الكلام بالنسبة للشمس، فالكلام بالنسبة للأمم، أو للدول، أو للحضارات، هو كذلك فمثلاً الحضارة تبدأ ببذرة بسيطة، همة عالية في نفس إنسان، أو طموح وتوقد، ويرتقي في مدارج الكمال شيئاً فشيئاً، ثم يصل إلى القمة في النبوغ والعلو، وبعد ما يصل الإنسان إلى غايته وقمته تصل الأمم إلى غاية كمالها، ثم تبدأ عوامل النقص وعوامل الاسترخاء والدمار تنخر فيها شيئاً فشيئاً، ويبدأ -كما يقولون- العد التنازلي الذي لا يحول دون تحققه أن يتيقظ له بعض العقلاء، فينتبهون إلى أن الأمة بدأت تسقط، بدأت تنهار، وبدأت تضعف، لكن كما يقول المثل: (العين بصيرة واليد قصيرة) لا يملكون دفع هذه السنن الإلهية، لأنها سنة جارية عليهم بلا ريب، وهذه السنة هي الناموس الدائم الذي وضعه الله تعالى للكون والإنسان، أو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله قال: " هي عادة الله تعالى المعلومة في أوليائه وأعدائه". الجزء: 22 ¦ الصفحة: 7 سبب جهل الناس بالسنن الإلهية وهاهنا سؤال أيضاً، سؤال آخر يطرح نفسه، لماذا يجهل الناس هذه السنن والنواميس الإلهية؟ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 8 العمى والغفلة أولاً: يجهلونها بسبب العمى الذي يجعل الإنسان يغفل عن هذه السنة، بل إن من الناس من يعتبر الحديث عن السنن نوعاً من التهويل والمبالغة، ويقول: أنتم أحياناً تستخدمون هذه السنن لمجرد التسلية، فأنتم تنظرون إلى الأمم الغربية الكافرة وهي ممكنة، وتنظرون إلى الأمم المسلمة وهي ضعيفة مغلوبة على أمرها، فتحاولون أن تتسلوا، أو تغرُّوا أنفسكم بالحديث عن المستقبل أو الحديث عن السنن، هكذا لأنهم أصيبوا بالعمى، فأصبح الواحد منهم غير قادر على النظر إلى الماضي، ولا إلى المستقبل، بل وليس قادراً على النظر إلى الواقع نظرة عميقة تتجاوز السطح إلى الأعماق. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 9 الفارق الطويل بين السبب والنتيجة والسبب الثاني الذي يجعل كثيراً من الناس يجهلون هذه السنن، هو أن السنة أثرها بعيد، والفارق والفاصل بين السبب والنتيجة طويل قد لا يدركه الإنسان في عمره المحدود، إنما يدركه الذين ينظرون إلى مساحة واسعة، وربما امتدت المسافة بين السبب وبين النتيجة -مثلاً- بين الظلم الذي يقع وبين عقوبته، وربما امتدت المسافة إلى عمر جيل بأكمله، فربما حصد جيل ثمرة لم يكن هو الذي غرسها، وربما غرس جيل آخر شجرة، يقطف ثمرتها غيره. مثال: الظلم يقع اليوم وتظل الجهة التي قامت بالظلم، ومارست الظلم، وتسلطت على البلاد والعباد، وظلمت الناس في أنفسهم، وفي أرزاقهم، وفي حقوقهم وفي أعراضهم، تظل هذه الجهة الظالمة لفترة ما، ممكنة في الأرض، منهمكة في قهرها، وتسلطها وطغيانها، فحينئذ يشك بعض الناس- أصحاب النظر القصير- يشكون في هذه السنن ويقولون: أين السنة الإلهية من هذا الظلم الفادح الواقع الذي لم تأت عقوبته؟ ثم تقع نتيجة هذا الظلم بعد زمان يطول أو يقصر، الله تعالى أعلم به، فهو مقدر الأقدار سبحانه، تقع نتيجة هذا الظلم -مثلاً- بعد عشرات السنين، فبعض الناس يعون ويدركون، ويقولون: هذه العقوبة نتيجة ظلم قديم يتذكرونه، أما آخرون، فإنهم يصرون على تجاهل السنة، محتجين بواقع آخر ظالمٍ لم تجر عليه السنة، فإذا قلت لهم اليوم مثلاً: إن ما حصل بهذه الجهة أو تلك سبب للظلم الذي حصل قبل عشر أو عشرين أو ثلاثين أو مائة سنة، قالوا: لا يا أخي، لو كان هذا كذلك، فلماذا تجد المكان الآخر فيه ظلم ومع ذلك لم تحق عليه السنة الإلهية، ولم يؤاخذه الله تعالى بظلمه؟ الجزء: 22 ¦ الصفحة: 10 مثال لجهل الناس بالفارق فمثلاً: تسلط شاه إيران زمانا على بلاده، وسام الناس سوء العذاب، واستخدم كل ما وهبه الله تعالى وكل ما مكنه منه من القوة والبطش والإرهاب والمال والتخطيط والخبراء والأجهزة الأمنية الضخمة التي كان على رأسها جهاز السافاك المشهور، استخدمها في التسلط والقوة، والبطش والقضاء على إنسانية الناس، على أنفسهم، وعلى أرواحهم، وتدمير المعنى الحقيقي لوجود الإنسان، واستخدم من وراء ذلك الدعم الغربي الذي كان يملكه، لأنه كان يقوم بالدور المشبوه، كشرطي في المنطقة يعمل لخدمة المصالح الغربية. وظل على هذا زماناً طويلاً، وبالمقابل أيضاً كان هذا الرجل فاسداً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، فاسداً في أخلاقه، لا يعرف إلا في الليالي الحمراء الداعرة التي كان يقيمها في كل مكان، وما زالت الوثائق تحتفظ بتاريخه الأسود في مثل تلك الليالي الحمراء السوداء، ظل على هذا زماناً طويلاً، ثم حقت عليه سنة الله تعالى فسقط. فالذين يدركون حقيقة السنن الإلهية، نظروا واعتبروا، وقالوا: لقد حقت السنة على هذا الظالم الآثم الفاجر اليوم، وتحق السنة غداً على إخوانه ونظرائه ممن فعلوا مثل فعله، وسلكوا مثل طريقه، لكن آخرين ممن يجهلون السنن الإلهية، ولا يعرفون ربط الأسباب بالنتائج، يقولون: لا، لا يمكن أن يكون هذا نتيجة انطباق سنة على هذا الظالم الآثم الباغي، بدليل أن هناك ظالمين آثمين باغين طغاة آخرين، لم تجر عليهم هذه السنة، ولا زالوا يتمتعون بمثل ما كان يتمتع به في الأمس، فيجهلون لذلك السنة، وينسون أن هؤلاء لم يأت عليهم الدور بعد، وسنة الله تعالى ماضية في الأولين، كما هي ماضية في الآخرين. مثل آخر: سقوط الشيوعية -مثلا- لمخالفتها للسنة، ومخالفتها للشرع، ومخالفتها للفطرة، هذا السقوط يمكن أن يفسره إنسان على أنه سنة إلهية حقت على هذه الأمة الكافرة الظالمة الملحدة، لكن تجد آخر يقول لك: لا، يا أخي، لو كان ذلك كذلك، فلماذا نجد أن الغرب الآن ممكَّن، يملك القوة، ويملك البطش، ويملك الإرهاب، ويملك كل وسائل التمكين في الأرض، فلو كانت السنة حقت على الشرق الكافر الملحد، لماذا لم تحق السنة على الغرب العلماني أيضاً؟ وأقول: إن السنة التي حقت على الشرق، ستحق على الغرب، والسنة التي حقت على شاه إيران، ومن قبله من الطغاة، كـ النمرود، وفرعون، وهامان، وقارون، وأبي جهل، وأبي بن خلف، وغيرهم، سوف تحق على إخوانهم شاءوا أم أبوا، عرفوا أم جهلوا، أدركوا أم لم يدركوا، فسنة الله تعالى لا تحابي أحداً، ولا تجامل أحداً، وهي ماضية على هؤلاء كما مضت على أولئك، لكن لا يلزم أبداً أن تكون الصورة واحدة، فمثلاً سقوط الغرب، لا يلزم أن يكون بنفس الصورة التي سقط بها الشرق. الشيوعية -مثلاً- كانت تسلك أسلوب القوة، وأسلوب الاستبداد والقهر والدكتاتورية، الحكم بالبطش والحديد والنار، وهذا يستفز مشاعر الناس، يهيجهم، ويحركهم، ويبعث فيهم التحدي والمواجهة والمقاومة، ولذلك فإن الشيوعية تهاوت بسرعة، لأن الناس كانوا مليئين بالأحقاد والضغائن والكراهية، عليها فما أن أتيحت لهم أول فرصة مما يسميه جورباتشوف بالبروسترويكا، أي الإصلاح والتغيير، أو إعادة البناء، إلا وبدأ الناس يتذمرون ويعربون عن مشاعرهم، حتى وصلت الشيوعية لا أقول وصلت، لأنها لم تصل بعد إلى الحضيض، لكنها بدأت تتهاوى، وبدأ الغرب يتخوف من النتائج الأليمة، التي سوف تتبع ذلك، فقبل أيام كنت أقرأ تقاريراً، تتوقع احتمال حصول حروب أهلية نووية مدمرة بين الجمهوريات السوفيتية، ويتكلمون عن أن أكبر خطأ في تقديرهم هم، في تقدير مخابراتهم الغربية أكبر خطأ، وقعوا فيه، هو أنهم لم يسارعوا إلى إسعاف الاقتصاد الروسي، في فترة مضت، تأخروا وتباطئوا في ذلك مما ترتب عليه وصول الجمهوريات السوفيتية إلى درجة لا يمكن تداركها أو تلافيها. أما الغرب فلا شك أن النظام الذي يحكمه ليس نظاما استبدادياً، ولكن نظام ديمقراطي، ولذلك سوف تكون الطريقة التي ينهار بها الغرب، مختلفة -والله تعالى أعلم- عن الطريقة التي انهار بها الشرق، فإذا كان انهيار الشرق انهياراً سريعا عارماً في لحظة، فانهيار الغرب لا يمنع أن يكون بطيئا تدريجياً، قد لا يحس به الكثيرون، إلا الذين يرقبون الأحداث بدقة وبصيرة. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 11 القرآن الكريم والسنن الإلهية لقد عنى القرآن الكريم بذكر هذه السنن بطرائق مختلفة، فأحياناً بذكر نصوص تتعلق بهذه السنن، كما في قوله تعالى في تأديب وتعليم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عندما أصابتهم الهزيمة في أحد: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] إذاً هذه سنة تجري عليكم كما تجري على غيركم. ومثله قول الله تعالى: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:76] {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] لو أنهم أخرجوك من هذه القرية، واستفزوك أخرجوك وحاربوك وقاتلوك، لحقت عليهم كلمة الله تعالى بالعذاب، كما حقت على من كان قبلهم ممن أخرجوا رسلهم وأنبياءهم، وقاتلوهم أو قتلوهم. ويقول الله عز وجل: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} [الكهف:55] فذكر الله عز وجل أن الناس امتنعوا وتوقفوا عن الإيمان، ينتظرون أن تأتيهم سنة الأولين، ينتظرون العذاب، وإذا جاء العذاب ونزل بهم لم يكن ينفعهم إيمانهم: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر:85] ويقول الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:109] ويقول سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر:85] ويقول تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الفتح:22-23] . إذاً لو التقى الحق الصراح البواح الواضح النقي مع الكفر المدجج بالسلاح؛ لكانت سنة الله تعالى أن يولي الذين كفروا الأدبار: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [الفتح:22] فأحياناً يذكر الله تعالى السنة ذكراً صريحاً مباشراً، وأحياناً يذكر الله تعالى آثار هذه السنن على الأمم السابقة، كما في قوله -وهذا كثير جداً أكتفي بضرب مثلاً أو مثلين- في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] وكما في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6] فيذكر عز وجل عقوبة الكافرين، كما يذكر نجاه المؤمنين وفلاحهم وحمايتهم بقصص من قصصهم فيقول: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام:84] إلى غير ذلك من الآيات. فيربط الله تعالى تراوح الأمم بين النصر والهزيمة، والقوة والضعف والهدى والضلال، والاجتماع والفرقة، يربط ذلك كله بالسنن الإلهية التي لا تختلف ولا تتغير ولا تتبدل أبداً، وأحياناً يذكر الله هذه السنن بغرض دعوة الناس إلى النظر، والتأمل، واستخراج السنة من الأرض والتاريخ، فيقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] أي: سيروا في الأرض، انظروا مصارع الغابرين، مصارع الكافرين، فهذه آثارهم وهي بقايا، هذه بقية من منازلهم ومعالمهم، وبقايا حضارتهم تدل عليهم وعلى ما صاروا إليه، وما حدث لهم بعد ذلك. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 12 تطابق الواقع مع ما قرره القرآن من سنن كونية ولا زالت سنة الله تعالى ماضية، فنحن نجد ونشاهد آثار قرى ثمود، وكيف أهلكهم الله تعالى، وبقيت معالمهم ومصانعهم عبرة حتى نهى النبي صلى الله عليه وسلم غشيانها وإتيانها أصحابه، إلا أن يكونوا باكين معتبرين، يعرفون ما هذه السنة التي جرت على هؤلاء فيتجنبونها. كذلك نجد أن الله تعالى برحمته يبقي آثار بعض الكافرين والفاسقين والمعاندين يعتبر بها من بعدهم، فنحن نرى -مثلاً- آثار بعض البراكين، وبعض الزلازل، وبعض الأمور التي حصلت لأمم سابقة، ونجد آثار الفساد الذي ارتكبوه، وقد ذكر عدد من المؤلفين مدينة في إيطاليا، اسمها فيزوف، فقالوا: إن هذه المدينة أصابها بركان عظيم ضربها زلزال دمر أولها وآخرها، وبقيت الآثار التي تدل على سبب هذه العقوبة، بقيت الرسومات والصور، صور العرايا من النساء المومسات البغايا موجودة ماثلة ما مسها شيء، تقول للناس: ما أصاب هذه المدنية، إنما هو بسبب ما ارتكبوه من الفواحش والإثم والبغي والعدوان، ومخالفة أمر الله عز وجل ويقول تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] فيبين الله تعالى أو يأمر الناس، بأن يذهبوا ويتأملوا ما جرى للأمم، وما في الأرض حتى يعتبروا ويعرفوا هذه السنن، والنواميس التي تحكم الحياة بإذن ربها. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 13 السنن الإلهية في كتب المسلمين ومع أن هذه السنن ظاهرة في القرآن الكريم وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أن كثيراً من المسلمين قد غفلوا عنها، فقلما تجد كتاباً يتكلم عنها أو درساً أو محاضرة! وقد كان للإمام ابن خلدون رحمه الله تعالى جهد في ذلك من خلال مقدمته الشهيرة كتاب بمقدمة ابن خلدون، وبعد ذلك نجد زماناً طويلاً، أنه قل من العلماء من أن كتب أو تكلم عن هذه السنن، اللهم هناك لمحات ولفتات جيدة جميلة في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وفي كلام الإمام ابن القيم رحمه الله، وكذلك نجد في كتابة بعض العلماء والكتاب المعاصرين، فمثلاً هناك رسالة دكتوراة في هذا الموضوع، عنوانها: السنن الإلهية في الحياة الإنسانية للدكتور شريف الخطيب، وهناك بحث للأستاذ حسن الحميد وهو أيضاً بحث دكتوراة، وهناك كتاب اسمه أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله تعالى في الخلق للدكتور أحمد محمد كنعان وهو كتاب جيد، وهناك كتاب اسمه حول التفسير الإسلامي للتاريخ للأستاذ محمد قطب، عموماً الكتب التي تكلمت عن تفسير التاريخ، تعرضت كلها تقريباً للكلام عن السنن الإلهية. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 14 خصائص السنن الجزء: 22 ¦ الصفحة: 15 التعامل مع الإنسان في الغرب وفي بلاد الإسلام هذا كله يقع مع الأسف الشديد، بل إنني أقول: إن كثيراً من تلك الأمم، وتلك الدول الكافرة المحاربة، كثيرٌ منها تتعامل مع المسلمين أحسن مما تتعامل أنظمة إسلامية مع المسلمين أنفسهم، ولذلك في مرة من المرات التقيت ببعض المسلمين هناك، وكنت أتكلم عن قضية الإقامة بين أظهر المشركين، وتحريم الإقامة بين أظهر المشركين، وأذكر الآيات والنصوص الواردة في ذلك، واستطردت فيه واستفضت، فلما انتهيت قاموا عليّ، وأحرجوني أيما إحراج، قالوا: بالله عليك انقلنا إلى أي مكان تريد في بلاد الإسلام، إذا كنا هنا نعمل برواتب ضخمة وبأعمال كبيرة، فنحن نقبل وعلى يدك أو يد أمثالك أو يد غيرك من الناس، ومن الدعاة وممن يأتوننا، فيعاتبوننا ويوبخوننا، نقبل أن نعمل ولو كنا في كنس الشوارع في بلاد الإسلام، لكن أين هذا؟ وكيف يكون هذا؟ نحن نحترق شوقاً إلى بلاد الإسلام، نتحرق شوقاً إلى الأذان يجلجل في سمائها، نتحرق شوقاً إلى المساجد والمقدسات، يقول قائلهم: كم ذا أحن إلى أهلي إلى ولدي إلى صحابي وعهد الجد واللعبِ إلى المنازل من دين ومن خلق إلى المناهل من علم ومن أدبِ إلى المساجد قد هام الفؤاد بها إلى الأذان كلحن الخلد في صببِ الله أكبر هل أحيا لأسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربيِ إني غريب! غريب الروح منفرد إني غريب! غريب الدار والنسبِ ألقى الشدائد ليلي كله سهر وما نهاري سوى ليلي بلا شهبِ أكابد السقم في جسمي وفي ولدي وفي رفيقة درب هدها خببي هذا لسان حال أكثرهم، ولكنهم لا يجدون مفراً من ذلك. ومثلٌ آخر أقرب: دولة إسرائيل التي تحارب الإسلام والمسلمين اليوم، وهي تمثل التحدي المباشر لنا جميعاً، هذه الدولة بماذا تفتخر؟ بماذا استطاعت إسرائيل أن تكون دولة نموذجية في نظر العالم؟ لأنها أولاً دولة القوة، فهي لا تتعامل بالألاعيب والضحك على الذقون والخداع للشعب، تتعامل بالوضوح والنقاء، وتعد شعوبها فتفي بما وعدت، وعدتهم بأن تؤمنهم ففعلت، وضمنت لهم قدراً من القوة لا تملكه كثير من الدول العربية، بل أكثرها، بل كلها، وهي أيضاً دولة تفتخر بأنها دولة قد أرست دعائم الحكم الذي تسميه -ويسمونه- هم بالحكم الديمقراطي، فكل واحد من زعمائها يراعي حال الناس، يراعي أمورهم، ويسعى إلى كسب رضاهم، لأنه يدري أنهم إذا لم يرضوا عنه فإنهم لن يرشحوه، ولن ينتخبوه مرة أخرى، ولذلك كانوا مخلصين أمناء على مصالح شعوبهم. أما حين تنتقل إلى الصورة المقابلة صورة الدول العربية والإسلامية، فماذا ترى؟ ترى أولاً تحطيم إنسانية الإنسان، ونحن لن نخاطب هؤلاء من منطلق الدين والإسلام، لأن كثيراً منهم ممن تربوا في أحضان الغرب، وهم من العلمانيين الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فإذا حادثتهم وخاطبتهم من منطلق أنهم اعتدوا على الدين، وحطموه، قالوا لك: هذا مقتضى الوحدة الوطنية، وقد رأينا الوحدة الوطنية في عدد من البلاد الإسلامية، الوحدة الوطنية أن مائة وخمسين مليون مسلم في بلد عطلتهم يوم الأحد، هذه هي الوحدة الوطنية، الوحدة الوطنية أن مائة وخمسين مليون مسلم لا يقام لهم مسجد إلا ويقام بجواره كنيسة، ويقام بجواره معبد للبوذيين أو الهندوس، الوحدة الوطنية إنه إذا قُدم للمسلمين برنامج في الإذاعة أو التلفاز في يوم الأحد أو الاثنين، قُدم للنصارى في يوم الثلاثاء، وقدم للبوذيين في يوم الأربعاء. هذه هي الوحدة الوطنية عندهم!! أقول: حين تنظر إلى البلاد الإسلامية، تجد التخلف العلمي والتقني، والابتزاز الاقتصادي، وإهدار إنسانية وكرامته، وكأن الواحد منهم ينهب نهبا بسرعة، لأنه يقول: لا أدري قد لا أُمكَّن إلى الغد، فهو يحاول أن يغتنم كل دقيقة وساعة لينهب ما استطاع، من أموال الناس وأعراضهم، وخيراتهم وكل هم أولئك الزعماء هو أن يضمنوا لأنفسهم مستقبلاً زاهراً إذا ما طردوا من كراسيهم ومناصبهم، ولذلك ينتقل المسلمون من استبداد إلى استبداد، ومن بطش إلى بطش، يفرحون بحاكم جديد، فإذا به أشر وأشدّ سوءاً من الأول وهكذا. ومع ذلك أقول: إن هذه الأشياء لا يجوز ولا يمكن أن يحابي فيها أحد، لأن سنة الله تعالى كما حقت على الغرب، وحقت على اليهود، وحقت على النصارى، وحقت على الشيوعيين، كذلك تحق على المسلمين، فهؤلاء المسلمون المستضعفون، لم يكونوا مظلومين: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] . من هؤلاء الساكتون؟ أفهؤلاء المسلمون أبداً تكذبني وترجمني الحوادث والظنون {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] إذاً سنة الله تعالى شاملة للجميع بدون استثناء خصائص السنة الإلهية أيضاً أنها سنن واقعية: أي أنها تتحقق من خلال تسخير الله تعالى الناس، فمثلاً الظالم حينما يعاقب، على أيدي بشر آخرين، يسلطهم الله تعالى عليه ممن هم أقوى منه يداً، وأشد منه بطشاً، فينتقم الله تعالى من الظالم بظالم مثله، وكذلك الكفار يعاقبهم الله تعالى بالمؤمنين كما قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] يعذبهم الله تعالى بالمؤمنين: {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] . إذاً هذه السنن تتحقق من خلال عمل الناس وسعيهم، فهي إذاً حادٍ للعمل، وداعٍ للفاعلية والإيجابية والمشاركة، وليست مجالاً للقعود، لأن بعض الناس يقول: ما دام الأمر سنناً إلهية، فلماذا نعمل؟ لماذا لا نترك السنن الإلهية تعمل؟ أقول: لا! السنن الإلهية تعمل من خلال عمل البشر أنفسهم، يسخر الله تعالى الناس لتحقيق هذه السنن والسعي في طريقها أو اتجاهها الصحيح. إذاً ليس في إقرار السنن دعوة للمظلوم أن يرضى بالظلم، بأن يقول هذه سنة، لا! ولا دعوة بأن يرضى بمصادرة حرياته وحقوقه أو تقبيل اليد التي تغتاله، لا، إنما هي دعوة إلى أن يقاوم هذا الظلم، وأن يعرف أنه ما حاق عليه الظلم إلا بسببه هو، وقد قال الله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] إذاً السنن الإلهية سنن فعالة، من خلال عمل الناس أنفسهم، وهذا في الإسلام ظاهر كما أسلفت، قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:14] ويقول عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة:52] عذاب سماوي {أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] إذاً قد يكون العذاب على أيدي البشر أنفسهم. أما الشعوب الأخرى، فكثيراً ما تجهل هذه السنن، أو يتجاهلونها ويعتقدون أن هناك شيئاً سماوياً ينزل عليهم دون أن يكون لهم فيه جهد يحسب. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 16 أمثلة على ثبات السنن الإلهية مثال آخر في واقع الأمم الغربية: وهي أمم كافرة -كما ذكرنا- ولكنها سعت إلى إرساء دعائم العدالة بين أفرادها، وهذا أمر ليس بدعاً من القول، يقول لي بعض الناس: كيف تتكلمون عن الغرب؟ وكيف تثنون على بعض الجوانب المشرقة فيه؟ فأقول: يا سبحان الله! الأمة التي ائتمنها الله تعالى، وجعلها قيمة، وأمرها بالعدل تمتنع عن أن تشهد لقوم بحق موجود فيهم، أين نحن من قول عمرو بن العاص رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم: {لما ذكر المستورد بن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تقوم الساعة والروم أكثر الناس، فقال له عمرو بن العاص انظر ماذا تقول؟! قال: إني لا أحدثك إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمرو بن العاص: أما لئن قلت ذاك إن فيهم لأربع خصال} لاحظ! عمرو بن العاص صحابي جليل يتكلم في تقويم الواقع الاجتماعي والسياسي للروم، ولا شك أن الغرب هم امتداد للأمم الرومانية، فـ عمرو بن العاص يقيم الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للروم أو الغرب فيقول: [[إن فيهم أربع خصال هم أحلم الناس عن الفتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم]] أي أن من مزاياهم التضامن التكافل الاجتماعي، وعندهم محاولة التفكير واستخدام العقول، وعندهم سرعة الإفاقة بعد المصيبة، وخذ مثالاً ما ذكرناه قبل قليل، لما تحطم الأتوبيس الفضائي، ما قالوا: انتهينا، ونلغي المحاولات، بعد أسابيع كرروا المحاولة ونجحت، ثم قال عمرو رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[وخامسة حسنة جميلة]] أفردها عمرو بن العاص لأهميتها في نظره، وفي نظر كل إنسان، وقال: [[وأمنعهم من ظلم الملوك]] إذاً هم فيهم قوة، وامتناع، وليس من السهل السيطرة عليهم، وليس من السهل ابتزازهم، وليس من السهل أن تقوم وتنشأ وتستقر عندهم النظم الاستبدادية المتسلطة التي تحكم الناس بالقهر والقسر وقوة الحديد والنار. فنحن لا يمكن أن نقول في الغرب الآن أكثر مما قاله عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في أمم الرومان، الأمم الغربية الآن تقيم أنظمة يسمونها ديمقراطية، ونحن نقول: هذه الأنظمة الديمقراطية هي أنظمة ديمقراطية في الظاهر، ولكنها في الحقيقة ديكتاتورية، كيف؟ صحيح أنهم لا يفرضون على الناس شيء بالقوة، ولكنهم من خلال وسائل الإعلام ذات التأثير البليغ على كل مواطن عندهم؛ يوصلون إلى عقول الناس ما يريدون. فإذا أرادوا من الناس التصويت لصالح أمر من الأمور سلطوا وسائل الإعلام على التصويت لهذا الأمر، وفي النهاية يحصل الأمر الذي يريدونه برضا الناس وطواعيتهم وقناعتهم وليس بالضغط أو الإكراه، ولكن هذا كله لا ينفي صبغة الديمقراطية عنهم، ولذلك تجد أن الأمم الغربية أمماً مستقرة، ليس فيها قلاقل وزلازل وزعازع واضطرابات أمنية، وبالتالي أصبحت مكاناً للاستثمار الاقتصادي، بل تؤوي حتى المضطهدين -مع الأسف الشديد- من بلاد الإسلام، وقد رأيت بعيني المطرودين من ظلم وبطش الأنظمة المستبدة في العالم الإسلامي، والله رأيتهم في بلاد الغرب، وأعدادهم أحياناً تصل إلى عشرات الألوف، بل مئات الألوف، ربما أحياناً تقول: أمم بأكملها، ودول بأكملها لم يبق منها في البلاد إلا من يجيد فن النفاق، أما الذي لا يستطيع أن يعيش في جو النفاق الموبوء، فإنه اضطر إلى أن يهرب بدينه. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 17 الثبات من خصائص السنن الإلهية فهي ثابتة ومطردة إلا أن يشاء الله، لا يعارض ذلك وجود الخوارق والمعجزات والكرامات، فإن الخوارق والمعجزات والكرامات هي نفسها سنة إلهية أخرى، فمثلاً قبل قليل قرأت عليكم قوله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح:23] . إذاً من سنة الله تعالى أنْه إذا التقى المسلمون مع الكافرين، وبذل المسلمون وسعهم وطاقتهم، ومع ذلك بقى هناك نقص، فإن الله تعالى يسدد نقصهم برحمة من عنده، ويعينهم بجنوده التي لا يعلمها إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فيسلط على عدوهم الريح، أو الخسف، أو الزلزال، أو الطوفان، أو الفيضان، أو الغرق، أو المرض، أو أية آفة من الآفات، حتى تضعف قوته، وطالما أثر ما يسمونه بالكوارث الطبيعية المفاجئة في نتائج الحروب. فالجليد -مثلاً- قد يغير نتيجة معركة، والخيانات في أوساط الكفار قد تغير نتائج المعركة، وهناك أمور كثيرة جداً ليس هذا مجال الحديث عنها، المهم أنه حتى المعجزات والخوارق والكرامات، أو ما يمكن أن يعبر عنها بالتعبير الشرعي: وهو الآيات، حتى هذه لها سنة إلهية بإذن ربها وهي مربوطة بها، فالسنة ثابتة، ويقابلها سنة أخرى وأحياناً تتقدم عليها. الخاصية الثانية من خصائص السنن الإلهية: الشمول؛ أي أن هذه السنن شاملة لجميع الأمم بدون استثناء، فكوننا نسمى المسلمين، أو نعيش في رقعة إسلامية، أو لنا تاريخ معين أو انتماء معين، لا يغير من واقع السنن الإلهية شيئا قط، كلا يقول الله عز وجل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فليست القضية مجرد تمنيات، أو أحلام، أو أقوال، أو ادعاءات، بل القضية قضية عمل وجزاء، من يعمل سوءاً يجز به، في الدنيا ويجز به في الآخرة، أما جزاء الدنيا فإن الإنسان إذا جد واجتهد حصل على النتيجة التي يعملها، وأما في الآخرة فكما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:19] . بل حتى الرسل! يقول الله تعالى لنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:66] فحتى الرسل تحق عليهم هذه السنة. ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الحسبة: " إن الله تعالى ينصر الدولة العادلة أو يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة، أو مؤمنة، فالباغي يصرع في الدنيا، وإن كان مغفوراً له مرحوماً في الآخرة، وذلك لأن العدل هو نظام كل شيء، فإذا أقيم أمر الدنيا بالعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها عند الله تعالى من خلاق"، وهذا الكلام الذي ذكره شيخ الإسلام رحمه الله كلام مشرق نظيف يدل عليه التاريخ، كما يدل عليه الواقع. فمثلاً: اليوم نحن نرى الأمم الغربية وهي أمم كافرة بجميع المقاييس، -وهذا أمر معروف- لكن هذه الأمم الغربية سعت فحصلت ما سعت إليه. فمثلاً: سعت إلى التقدم التكنولوجي والصناعي، فاستطاعت أن تصل من ذلك إلى شيء لا يزال المسلمون عاجزين عن فهم بعضه، فضلاً عن مجاراته أو الوصول إليه في كثير من الأحوال، وهذا بكد يمينهم، فإن الله تعالى جعل في المادة أيضاً نواميس من استطاع أن يكتشفها سخر الله له هذا الكون كما هو معروف: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] حتى وصلوا إلى مسألة تفجير الذرة، وإلى أشياء وأمور، واكتشافات ما كان الناس يتوقعونها خلال قرون طويلة، فضلاً عن عشرات السنين، ومن عرف -مثلاً- الاكتشافات العلمية، أو الطبية، أو الصناعية؛ فإنه يصاب بذهول عجيب، فهذا سبب وصلوا من خلاله إلى نتيجة. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 18 خصائص المؤمنين الصادقين وهذا لا يعني أنني أقول: وليس للمسلمين خاصية، فالمسلمون الصادقون لهم خصائص، وليسوا هم المسلمين الذين ورثوا الإسلام عن أب وجد، لا! فهذه مُسوخ، كما قال أحدهم: أتقول المسلمون انهزموا أمة المختار في حرز الصمد إنما تلك مُسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجد فإذا ذلت لباغٍ فكما يعبث الفأر بتمثال الأسد المسلمون الصادقون، الذين رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، هؤلاء خصهم الله تعالى بخصائص وميزات في ضمن هذه السنن. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 19 عصمتهم إذا اجتمعوا أيضاً من الخصائص التي خص الله وميز بها المؤمنين: أنهم: لا ينساقون وراء الضلال أجمعهم، فقد ينساق بعضهم، وقد يضل بعضهم، وقد ينحرف بعضهم، لكنهم لا يجتمعون على ضلالة قط، لأن اجتماعهم معصوم، فاجتماعهم حق لا شك فيه، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فدل على أنه إن لم تتنازع الأمة، فعدم تنازعها دليل على أنها أصابت الحق، وكذلك أمر الله تعالى المؤمنين باتباع سبيل المؤمنين، وحذرهم من ضد ذلك فقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:115] . إذاً هذه الأمة اجتماعها معصوم عن أن تجتمع على ضلالة أو فساد. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 20 تمكين الرضا وطمأنينة القلب والبركة الأمر الثالث: أن الله تعالى إذا مكن هذه الأمة في الأرض، فان تمكينه لها تمكين رضا أما تمكينه الكافرين فهو تمكين إملاء، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] . الأمر الرابع: أن الله تعالى يختص المؤمنين إذا أعطاهم ومكنهم بخاصيتين مهمتين: الأولى: خاصية البركة: {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] . الثانية: خاصية الطمأنينة في قلوبهم وأرواحهم، هذا مع خاصية الجزاء في الدار الآخرة. أيها الأحبة، يقول بعض الناس في كثير من الأحيان -وهذه كلمة دارجة- يقول: اعمل ولا تنتظر النتيجة، وهذا دليل على أننا نجهل هذه السنن، أو نعتقد أننا نحن المسلمين لسنا بمنجاة، أو أننا بمنجاة منها ولسنا واقعين تحت طائلتها، وهذا في الواقع يوحي بفصل النتيجة عن السبب، وكثيراً ما يعزل المسلم نفسه عن الآخرين، فتجد المسلم يتبرأ من الأخطاء أو يعجز عن معالجة الأخطاء الموجودة في نفسه، ولكننا كثيراً ما نكون شجعاناً في الحكم على الآخرين، جبناء في الحكم على أنفسنا، كثيراً ما نزكي واقعنا العقائدي والسلوكي، ونتهم واقع الآخرين. مثلاً تقع مصيبة في أي بلد، فتجدنا نسارع إلى أن نقول: هذا بما كسبت أيديهم، هذا بذنوبهم لكننا ننسى أننا نحن الآخرين، معرضون للمصائب والمشكلات بسبب ما كسبت أيدينا، وبسبب ذنوبنا، وأن المصائب الكبرى الموجودة هنا وهناك هي موجودة عندنا أيضاً، كما قيل: إن بني عمك فيهم رماح. وفي كل واد بنو سعد! فالكوارث الموجودة في بلاد الإسلام موجودة في كل بلد، ولا يجوز بحال من الأحوال أن نزكي أنفسنا، أو نزكي واقعنا، فتجد الإنسان يقول: الحمد لله، نحن بخير، ونحن ونحن، فإذا قلت: يا أخي! ألا ترى المنكرات؟ ألا ترى بيوت الربا التي تحارب الله ورسوله؟! ألا ترى أجهزة الإعلام وكيف تمسح عقول الناس؟! ألا ترى مصادرة حرية الدعاة إلى الله تعالى وطلبة العلم؟! ألا ترى؟ ألا ترى؟ قال لك: يا أخي نعم، ولكننا بحمد الله نمتلك العقيدة الصحيحة، وعندنا التوحيد، وعندنا، وعندنا … ! وينسى أن كثيراً من الناس انسلخت قلوبهم حتى عن العقيدة الصحيحة، فأصبح عندهم عبادة للمادة، وعبادة للدرهم والدينار، وتوكل على الأسباب، وغفلة عن الله عز وجل، وأصبح عند كثير منهم تضييع لحدود الله تعالى، وجهل وتفريط وانحراف ونحن ما زلنا نتغنى بأمجاد سابقة، وأمور كان أجدادنا يتكلمون عنها في الماضي، وننسى الانحراف الموجود عندنا الآن، ونزين واقعنا ببعض الطلاء الحسن اللَّماع، الذي يعفينا من تغيير هذا الواقع والمجاهدة في إصلاحه نحو الأفضل ونحو الأحسن. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 21 لا يفنيهم عدوهم من هذه المميزات: أن الله تعالى إذا سلط عليهم عدوهم، فليس تسليط إفناء تامٍ واستئصالٍ عام، كلا! فإن الأمة الإسلامية تمرض ولكنها لا تموت، خذ هذه القاعدة: الأمة الإسلامية تمرض، ولكنها لا تموت بإذن الله تعالى، والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {سأل ربه ثلاثاً منها ألا يهلك أمته بسنة بعامة فأعطاه الله تعالى ذلك، ومنها ألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم} فلا يسلط الله تعالى على هذه الأمة عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، حتى يكون بعضهم يقتل بعضاً، وبعضهم يسبي ويهلك بعضاً. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 22 النموذج الأول من السنن الإلهية: سنة التغيير وأذكرها على شكل آيات لأن هذا أجود وأقوى، أولاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] . إذاً التغيير من الأمن إلى الخوف، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الوحدة إلى الشتات، ومن القوة إلى الضعف، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن حال إلى حاله، هو بإذن الله تعالى، بسبب سنة حقت على هؤلاء القوم، فهم غيرَّوا فغيرَّ الله تعالى ما بهم، كما قال الشاعر: لو أَنصفوا أُنصفوا؛ لكن بغوا فبغى عليهم الدهر بالأرزاء والنوب الجزء: 22 ¦ الصفحة: 23 القصص القرآنية وسنة التغيير وقد ذكر الله تعالى عدداً من القصص منها قصة سبأ -مثلاً- وذكر ما كانوا فيه: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] إذاً حقت عليهم سنة من سنن الله تعالى كما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قصة الثلاثة الأبرص والأقرع والأعمى، وكيف تغيرت أحوالهم، من حسن إلى قبيح، ومن قبيح إلى حسن بسبب أعمالهم وهذه القصة باختصار وهي في الصحيحين: {أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر أن ثلاثة من بني إسرائيل أو أراد الله تعالى كما في الرواية الأخرى في الصحيح أن يبتليهم، فجاء مَلَكٌ في صورة إنسان إلى الرجل الأول، وقال له: أي شيء أحب إليك؟ وكان أقرع، فقال: أن يذهب عني هذا الذي قدرني الناس به ويعود إليَّ شعر حسن، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل أو البقر، وأتى إلى الأبرص، وقال: يذهب عني هذا الذي قذرني الناس به، ويعود لي جلد حسن، وسأله أي المال احب إليك؟ قال: الإبل أو البقر، والثالث أعمى قال: أن يرد الله عليَّ بصري قال: أي المال أحب إليك؟ قال: الغنم -فذهب عنهم ما فيهم من الآفات وأعطاهم الله تعالى من المال ما أعطاهم، إذاً هذا التغيير حكمة لله تعالى- وبعد ذلك جاء هذا الملك في نفس الصورة إلى الأول، وذكَّره بحاله، وقال: أريد شيئا أتبلغ به، قال: إنما ورثت هذا كابراً عن كابر، والحقوق كثيرة، قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت! وجاء للثاني فرد عليه نفس الأول كذلك، وجاء للأعمى فقال: نعم! قد كنت أعمى فرد الله عليَّ بصري، وقد كنت فقيراً فأغناني الله، فخذ ما شئت ودع ما شئت، والله لا أرزؤك اليوم بشيء أخذته لله عز وجل، فقال: أمسك عليك مالك، فإنما أراد الله تعالى أن يبتليكم، وقد رضي الله تعالى عنك، وسخط على صاحبيك} . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 24 جرائم خطيرة مؤذنة بفساد الأحوال إذاً: هذه أيضاً من السنن الإلهية، فالتغيير -مثلاً- من العدل إلى الظلم، سواء ظلم النفس أم ظلم الرعية، حتى أهل الذمة ممن لا يجوز ظلمهم، فكيف بالمسلمين الذين قد يُظلمون وتضرب أبشارهم وجلودهم؟! وتؤخذ أموالهم أو يمنعون من الجهر بكلمة الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويحال بينهم وبينها؟! هذا الظلم هو من التغيير الذي يعاقب الله تبارك وتعالى عليه، ولهذا قال الإمام أحمد في مسنده: {عن أبي قذم قال: [[وجد رجل في زمن ابن أبي زياد صرة من حب -من البُر- أمثال النوى -أي كبيرة جداً- مكتوب فيها، هذا نَبت في زمن كان يُعمل فيه بالعدل} . إذاً: حتى ما يجده الناس من النقص هو بسبب الظلم. كذلك التغيير من الإيمان إلى الكفر، وواقع الدولة الإسلامية كله شاهد على ذلك، وقد ذكر الله تعالى في كتابه قصة هذه القرية: {قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] (فكفرت) وهذا هو الشاهد {بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] . والاتجاه المعاكس -أيها الإخوة- فالتغيير من الخير والسعة والسعادة والغنى والقوة إلى ضد ذلك هو بسبب أعمال الناس، كذلك العكس التغيير من الضعف إلى القوة، ومن الهزيمة إلى النصر هو بتوفيق الله تعالى بسبب عمل الناس. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 25 كيف يتم التغيير؟ يبدأ الاتجاه من النفس، وأول ما يبدأ التغيير نحو الأحسن من قناعتك أنت بفساد الحال، ولهذا يتساءل الكثيرون: لماذا الكلام عن فساد الواقع؟ فنقول: لأنه لا يمكن إصلاح الواقع- أي واقع كان- إلا بعد الاقتناع بأن الواقع فيه جوانب من الفساد لابد من إصلاحها، فأول خطوة: هي الاقتناع بفساد الحال. وثاني خطوة: هي الاقتناع بإمكانية التغيير، أن يمكن تغيير هذا الواقع نحو الأحسن. وثالث خطوة: هي القناعة بإمكانية أن تكون أنت، شخصياً، شريكاً في هذا التغيير، وليس غيرك، لا نريد إنساناً يقول: أنا لا حيلة لي، أو لا أستطيع، لا، نقول حاول جرب. ورابع خطوة: هي أن تقتنع بأن الإصلاح لا يمكن أن يتم إلا وفق المنهج الشرعي. وخامساً وأخيراً: أن تبدأ بالإصلاح ولو بخطوة واحدة، بإصلاح نفسك أو أهل بيتك أو من حولك. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 26 المعيشة الضنك لمن أعرض عن الله السنة الثانية: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] المعيشة الضنك هي الفساد في البر والبحر، كما قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] الفساد في البر، كقلة الأمطار -مثلاً- وجدب الأرض والقحط الذي يصيب الناس والزروع والثمار والدواب وغيرها، ولذلك تجد أن الناس في كثير من الأحيان يستسقون فلا يسقون، ويستمطرون فلا يمطرون، ويعودون إلى أنفسهم وربما شكك بعضهم في أهمية الاستسقاء، أو سؤال الله تعالى، ونقول: هذه سنة من سنن الله تعالى، لأن توقف الأمطار في كثير من الأحيان له سبب، فإذا أزال الناس الأسباب التي بها حرموا الغيث بإذن الله تعالى سقوا، وقد كان العلماء السابقون إذا طُلب منهم أن يذهبوا للاستسقاء يطلبون من الناس إصلاح الأوضاع، بدءاً من الحاكم ومروراً بكل أفراد المجتمع، ولعلكم تعرفون قصة الإمام المنذر بن سعيد البلوطي رحمه الله، وهو عالم من علماء الأندلس، لما أرسل إليه الحاكم يطلب منه أن يخرج إلى صلاة الاستسقاء، قال للذي جاءه، (للرسول) اذهب فانظر ماذا يصنع الحاكم، هل هو منكفئ على شرب الخمور، وعلى سماع غناء المغنيات، وعلى اللعب بالأحجار وغيرها وعلى الفساد؟ فلا داعي أن نستسقى، أما إذا كان بخلاف ذلك فتعال وأخبرني، فلما ذهب الرسول إلى الحاكم وجد أنه ساجد يبكي، يدعو الله، وقد بلل لحيته بالدموع، وهو يقول: يا رب! هاأنا عبدك منطرح بين يديك، لماذا تؤاخذ العباد كلهم بسبب جرمي أنا؟ فهذا أكبر شخص يشعر أنه هو المخطئ الأكبر والمسئول الأول، وأنه ربما عوقب الناس بسببه، فرجع وقال للشيخ المنذر بن سعيد: وجدت الحاكم يفعل كذا وكذا وكذا، فقام المنذر بن سعيد لتوه وقال: يا غلام، احمل الممطرة، إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 27 الفساد في البحر أما الفساد في البحر، فعلى سبيل المثال: التلوث، والزلازل في البحار وما تسببه من فيضانات، والفيضانات نفسها، وموت الحيوانات، ولعل أقرب مثال يمكن أن نلفت إليه الأنظار بقعة الزيت العائمة التي تكلم عنها الإعلام كثيراً، وربما بالغ الإعلام الغربي في تهويلها والكلام عن آثارها على الحيوانات، وعلى صعوبة الاستفادة من ماء البحار في الشرب وغيره، هذا نموذج أيضاً من الفساد في البحر، هذا وذاك فساد دنيوي. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 28 الفساد الديني أما الفساد الديني في البر والبحر -كما فسره بعض العلماء- فحدث ولا حرج، فأما الفساد الديني في البر فألوان المعاصي والموبقات التي ترتكب، وأما الفساد في البحر فحدث أيضاً ولا حرج عن العرى، وعن الأماكن التي تقام في البحار والقصور الفارهة الفخمة القائمة على الفساد وعلى المعصية، وعلى مخالفة أمر الله عز وجل، وعلى الخلوة بالمنكرات، وعلى الظلم، وعلى الكفر والإلحاد، ولعله سبق في هذا المكان الكلام عن قصر الرئيس السوفيتي، ووصفه وما فيه من أعاجيب الصنعة التي هي من أموال الكادحين، ومن عَرَقِ العمال المساكين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 29 إذا لم تقم الحدود الشرعية تحولت إلى عقوبات كونية قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] هذا كله جزء فقط من المعيشة الضنك، التي توعد الله تبارك وتعالى بها من أعرضوا عن ذكر الله عز وجل، ولعل من طريف ما يمكن أن يقال فيما يتعلق بالمعيشة الضنك: أن الله تعالى أمرنا نحن المسلمين أن نقيم الحدود على أصحاب المعاصي، فإذا تخلينا عن إقامة الحدود فإن هذه العقوبة الشرعية التي كان من المفروض أن نقوم بها نحن، تتحول بإذن الله تعالى إلى عقوبة كونية عامة، وإذا كان الحد الشرعي إنما يتناول العاصي فقط، فإن العقوبة الكونية العامة قد تشمل المباشر للجريمة وغير المباشر، ولهذا جاء في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كلم في المخزومية التي كانت تسرق، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: أتشفع في حد من حدود الله؟! ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} وحاشاها رضي الله عنها من ذلك، لكن هذا مثال في العدالة، حتى على بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وليس في المجتمع الإسلامي من يجري في عروقه دم مقدس، فهو فوق النظام والعدالة أو -كما يقال- فوق القانون، إنما يخضع الجميع لشريعة الله عز وجل، الكبير والصغير أمام شريعة الله تعالى سواء، وقد جاء عمر رضي الله عنه بـ ابن عمرو بن العاص، وطلب من القبطي الأجنبي البعيد بل والكافر أن يأخذ الدرة ويضعها على رأسه ويضربه ويقول: اضرب ابن الأكرمين، خذ حقك، انتصر من ابن الأكرمين، وفي بلاط أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، الذي اشتهر عنه قوله: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً]] . إذاً: عقوبة الحد -مثلاً- على السارق بالقطع، أو عقوبة رجم الزاني المحصن، أو عقوبة جلد غير المحصن، أو أي حد شرعي أمر الله تعالى به، إذا فعله الناس أمنوا واطمأنوا على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وأرغد عليهم الله تعالى بالعيش، فإذا قصروا ولم يقوموا بالحدود، فإن هذه العقوبة الشرعية تتحول إلى عقوبة كونية، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {إنما أهلك الذين من قبلكم} أهلكوا لماذا؟ لأنهم عطلوا الحدود؛ لم يقيموا الحدود الشرعية، فنزلت عليهم العقوبات الكونية القدرية التي لا يدلهم في دفعها، وهي عقوبات عامة تشمل الجميع، ثم يبعثون على نياتهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 30 كيف نجت الأمم الغربية من السنن الكونية حين نتكلم عن المعيشة الضنك والعقوبات الإلهية، ونضرب لكم مثلاً بمرض الإيدز كما قلت قبل قليل، يبرز سؤال يطرحه كثير من الناس ويقولون: كيف نجت الحضارة الغربية القائمة اليوم من طائلة السنة الكونية؟ وأقول: إن الحضارة الغربية حضارة منحرفة في عقيدتها، قد كفرت بالله تعالى وتنكرت له، فهي منحرفة في تصورها عن الإنسان وقيمة الإنسان، منحرفة في تصورها عن الحياة وهدفها وسر وجودها، منحرفة في سلوكها، وفي نواحي الحياة كلها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والفنية، فهي انحراف علمي وعملي شامل لكل شيء، إنها حضارة مشركة كافرة، والإنسان فيها جعل من نفسه إلهاً من دون الله عز وجل، وجعل المال إلهاً، من دون الله، وجعل الهوى إلهاً يعبد من دون الله، وجعل المادة إلها وجعل الآلة إلهاً، وجعل الإنتاج إلهاً، بل جعل الجنس إلهاً، فقد كفروا بالله تعالى وعبدوا كل شيء، ولهذا من كفر بالله عبد غير الله، فالإنسان لا بد له من عبودية قال تعالى: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] فإذا ترك الإنسان عبادة الله تعالى، سلط الله عليه أن يعبد غير الله، حتى قد يعبد الإنسان نفسه، وقد يعبد الجنس، وقد يعبد الحيوان، كل ذلك منهم هروب من عبادة الله تعالى وطاعته، فلا بد أن تحل عليهم عقوبة الله تعالى، ولا بد أن تنتفض وتنتصر الفطرة الحقة التي فطر الله الناس عليها، ولا بد أن يؤدي الغرب ضريبة انحرافه العميق البعيد، وسوف تكون بالتأكيد هذه الضريبة ضريبة فادحة قاصمة مدمرة! وإذا كان الإنسان الغربي -مثلاً- قد أدى جزءاً من هذه الضريبة من أعصابه وبدنه، من عافيته وصحته، من سعادته وطمأنينته وسرور قلبه، من مواهبه وخصائصه وعقله، ومن دنياه وآخرته، إذا كان أداها نقصاً في المال، ونقصاً في النسل يهدد بالانقراض، ونقصاً في الاهتمامات والطموحات، فإنه بالتأكيد سوف يؤديها على مستوى الحضارة كلها انهياراً متسارعاً لا يقف في طريقه شيء. ولكن هذا الانهيار لا يجب أن يكون بالضرورة كانهيار الأنظمة الشرقية في لحظة واحدة. إننا نجد أن أجداد هؤلاء ومن ورثوا عنهم الحضارة من اليونان والرومان، مروا بالتجربة نفسها. فمثلاً كانت العاهرات والفاجرات في حضارة اليونان تتبوءان مكانة عالية رفيعة، وقد وصل حب الجمال عندهم إلى درجة كبيرة، حتى جعل في نفوسهم اضطراباً واضطراماً وشهوة لا تتوقف عند حد، فصاروا مثل الذي يشرب من البحر لا يمكن أن يروى أبداً، حتى صنعوا التماثيل العارية يتفننون في صنعها، وينظرون إليها ويتلذذون بها. ثم تبدلت مقاييس الأخلاق عندهم، فصاروا لا يرون في الفواحش غضاضة يلام المرء عليها أو يعاب بها، بل إنهم حرفوا دينهم وغيروه وبدلوه حتى يتوافق مع هذا الانحراف الخطير الذي بلوا وافتتنوا به، ثم ظهرت الغريزة البهيمية عندهم بانتشار سوءة قوم لوط انتشاراً كاد يأتي على الأخضر واليابس، ورحبت بذلك أديانهم وأخلاقهم أيضاً فحرفوا الأخلاق والأديان حتى تتوافق مع هذا. وهذا كله نجد اليوم حرفاً بحرف يقع في بلاد الغرب، فقد وجدت عندهم أنظمة وقوانين تبيح كل ألوان الفساد الجنسي والإباحة الجنسية، ثم سقطت دولهم وتهاوت حضارتهم. وبعد هذا فالتاريخ اليوم شاهد بأن اليونان لم يكن لهم من المجد والرقي نصيب بعد ذلك أبداً إلى يوم الناس هذا، ثم جاءت الحضارة الرومانية، وكانت تهزأ بالدين في المسرح على حين تمارسه في المعبد، ففي الوقت الذي تعبد الله تعالى في معابدها فيما تزعم وتدعي، كانت تقيم التمثيليات والمسرحيات التي تهزأ بالدين وتهزأ بالله تعالى والرسل والأنبياء، ومع الأسف هذا هو الأمر يمارس اليوم في طول بلاد الإسلام وعرضها، سواء من خلال المسرحيات والتمثيليات التي جُلبت من بلاد الكفر، أم التي مارسها وقام بها أناس كانوا مسلمين يوماً من الأيام، ولكنهم انسلخوا عن هذا الدين وصاروا يهزءون ويسخرون به وبأهله. المهم الحضارة الرومانية كانت تهزأ بالدين في المسرح في حين أنها تمارسه في المعبد، وقد وصلت من غلوها في القوة وتسلطها إلى شيء كبير، واستغلت الأمم كلها لمصلحة وطنها القومي فقط، وضخمت اللذات الحسية وسعت وراءها، ثم صار ما صار من انهيار هذه الأمم. الأمة الغربية والحضارة الغربية اليوم، هي -أيضاً- آيلة إلى الزوال والفناء إن عاجلاً أو أجلاً، ومعالم الزوال والفناء بدأت تبرز ملامحها عندهم، ويكفي أن أقول لكم: إنه وقع في يدي أمس كتاب اسمه المسلمون قادمون، ألفه روائي بريطاني اسمه انطوني برجس، وبرجس هذا يتكلم في هذا الكتاب عن الخوف من الإسلام، من خلال مسرحية يصور فيها الإسلام وقد اكتسح بلاد الغرب وبريطانيا وغيرها، وطبعاً لا يصور الإسلام الحق، لكنه ويصور الإسلام الموجود اليوم، ويصور الانحراف الموجود عند المسلمين اليوم، وقد امتد إلى بلاد الغرب، وانتصر المسلمون واكتسحوا ذلك العالم. إذاً: الخوف من الإسلام لم يعد هاجساً في التقارير السرية الأمنية التي تتناقلها أجهزة الاستخبارات الغربية، بل تعدى ذلك إلى أن أصبح مادة يتناولها الأدباء والشعراء والكتاب والروائيون وغيرهم، فهم يدركون فعلاً أن حضارتهم إلى زوال وإلى فناء، وأن الإسلام هو البديل، ونحن نقول هذا سيكون بإذن الله تعالى، وعندنا من الأدلة على ذلك الشرعية، والواقعية، والتاريخية الشيء الكثير. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 31 قلة البركة من فساد البر، قلة البركة وإذا وجد المطر، ولم توجد البركة، فلا نفع فيه حينئذ، وقد يستفيد منه أفراد معدودون يختزلونه لأنفسهم، ويدخرونه، أو يحوطونه ويمنعون الناس من الانتفاع به، أو رعيه، أو الاستفادة منه بأي وجه من الوجوه، فيوجد ولكن لا توجد البركة في الانتفاع به والاستفادة منه، فكأنه لم يوجد حينئذ. ومن صوره: قلة الربح في التجارة، وقلة الريع في الزراعة، وقلة الدر والنسل في الحيوانات، وكثرة الأمراض والأوبئة، وكثرة الحرائق إلى غير ذلك، فهذا كله من فساد البر، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] والمصيبة أننا في كثير من الأحيان قد نعزوا الأمر إلى سببه المباشر، فنقول: هذا بسبب التماس كهربائي، أو بسبب سوء الطريق، نذكر السبب المباشر وننسى السبب الذي هو وراء الأسباب كلها، وهو أن هذا جزء من الفساد الذي ظهر بما كسبت أيدي الناس، ولعل من حكمة الله تعالى أن الله تعالى قد يسلط بعض هذه الأمور على أماكن الفساد، حتى تكون عبرة للمعتبرين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 32 اختلال الأمن وقلة المنافع من الفساد في البر اختلال الأمن، وقلة المنافع، ومحق البركات، والخذلان في كل ما يتوجه إليه الإنسان. إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده خذ على سبيل المثال: ما يتكلم عنه الإعلام الآن، وهو مرض الإيدز، قبل خمسمائة سنة، كان هناك مرض الزهري الذي يسميه الناس عندنا وفي أماكن أخرى يسمونه بمرض الإفرنج، لأن الناس هنا لم يعرفوا هذا المرض إلا من خلال الإفرنج الذين قدموا إلى البلاد، وكانوا مصابين بمرض الزهري: وهو مرض جنس بسبب العلاقات الجنسية المحرمة، ولهذا كان الناس هنا يسمونه الإفرنج، هذا المرض نشره ملك فرنسا الذي يسمى شارل الثامن، لما غزا إيطاليا وكان معه جيش ضخم وجعل في هذا الجيش خمسة آلاف أو قريباً من هذا العدد من البغايا المومسات من أجل الفساد والإفساد، فانتقل بفساده إلى أوروبا ونقل لها هذا المرض الخبيث، وهو مرض الزهري، ثم التقى بطائش آخر مثله، وهو البابا إسكندر السادس، ففعلوا معه الأفاعيل من الجرائم والموبقات، وكان ذلك كله قبل أن يكتشف البنسلين، الذي هو -بإذن الله تعالى- يقتل جرثومة هذا المرض. بعد ذلك نجد أن الله تعالى سلط على أصحاب المعاصي وعلى أصحاب الشذوذ، وعلى أصحاب المخدرات مرض الإيدز، الذي هو مرض فقدان المناعة المكتسب -كما يسمى- والعدد الفعلي لحالات الإصابة بهذا المرض تقدر بمليون ونصف مليون، ثلثهم تقريباً من الأطفال، وتذكر بعض المعلومات أن ما بين تسعة إلى أحد عشر مليوناً مصابون بالفيروس الذي يسبب مرض الإيدز، بل تقول بعض الدراسات: إنه يتوقع -والعلم عند الله تعالى- أنه بحلول عام ألفين سوف يدخل هذا الفيروس أجسام أربعين مليون شخص، وهذه عقوبة إلهية عاجلة لمن خالفوا أمر الله تعالى وارتكبوا نهيه، وهو نموذج من الفساد في البر. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 33 سنة المداولة ومن السنن أيضاً: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] سنة المداولة مع أن العاقبة للتقوى {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] فكل هيمنة للشرك والكفر تتلوها بإذن الله تعالى جولة ظافرة للإسلام وللمتقين، ولهذا قال الله تعالى في نفس الآية: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:141] . إذاً، الكافرين، صار لهم دولة ونصر في تلك المعركة، ولكن هذا لا يعني أن لهم استمراراً، كلا! بل إن الله تعالى أعطاهم ما أعطاهم حتى يمحص المؤمنين ويجعل العاقبة لهم، ويمحق الكافرين ويقضي عليهم ويزيلهم ويبيدهم، فأشار إلى أن العاقبة هي محق الكافرين، ويكفي أن تعلم أنه كما أن أول من كان في الدنيا وهو آدم عليه السلام وكان على الدين الحق وعلى الحنيفية هو وأولاده، علمهم الإسلام فكانوا طائعين مؤمنين. كذلك آخر ما يكون في هذه الدنيا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من نزول عيسى عليه السلام، وخروج المهدي، حيث تخرج الأرض بركاتها وخيراتها وكنوزها، حتى أن الجماعة أو الفئة من الناس يأكلون الرمان ويستظلون بقحفها، وحتى تملأ الأرض عدلا وقسطاً، كما ملئت ظلماً وجوراً، وحتى لا يوجد بين الناس حقد، أو حسد أو بغضاء إلى آخر ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يبعث الله تعالى الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين، ولا يبقى إلا شرار الناس، فعليهم تقوم الساعة، فالمداولة إذاً نهايتها ونتيجتها للمؤمنين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 34 نماذج المداولة من الكتاب العزيز وهذه نماذج ذكرها الله تعالى في كتابه أسردها سرداً، والله تعالى ذكر -مثلا- من الأمم الصالحة الممكَّنة التي أدال الله تعالى لها، داود وسليمان وذو القرنين: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف:85] وذكر من الأمم التي فسدت وكفرت وطغت؛ فعاقبها الله تعالى وحقت عليها سنته، سبأ وفرعون وثمود وعاد، ونحن نجد من الأمم القريبة والبعيدة من ذلك شيئا كثيراً. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 35 حكم وأسرار المداولة وللمداولة حكم وأسرار منها: أولاً: تحقيق عدل الله تعالى بين الأطراف، فالمقصر ينال جزاءه أياً كان. ثانياً: تمحيص الله تعالى للمؤمنين، سواء تمحيصهم بإزالة العيوب والأمراض الموجودة فيهم أم تمحيصهم بتكفير السيئات عنهم، أم تمحيصهم بإزالة المنافقين من بين الصف المسلم. ثالثاً: أن يتخذ الله تعالى ويصطفي ويجتبي من المؤمنين شهداء، كما قال: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] يختارهم إلى جواره ويرفعهم إلى أعلى المنازل، ولهذا قال هرقل لـ أبي سفيان: "هل قاتلكم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: فكيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال؛ ينال منا وننال منه، أو يدال منا وندال منه، فقال له هرقل: كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة". إذاً المداولة توحي بالحركة الدائمة والتجدد والأمل، وأن الأيام ليست ملكاً لأحد من الناس، إنما هي ملك لله تعالى، ولهذا قال الله تعالى: {وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار} فالأيام ليست ملكاً لأحد من البشر، ولا داعي لليأس والهزيمة، فمن هم الآن في القمة وسوف تنتهي بهم السنن الكونية إلى الحضيض، ومن هم في القاع سوف تصعد بهم أعمالهم الصالحة وفق السنن الإلهية الكونية بإذنه تعالى إلى القمة وإلى القوة. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 36 سنة المدافعة والصراع من السنن الكونية أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] هذه سنة الصراع، -كما يسميها بعضهم- أو سنة المدافعة، أو سنة الخصومة، وهي سنة جارية في الكون بين المؤمنين والكافرين، بل بين الناس بعضهم بعضاً، يقول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً} [الكهف:56] . الجزء: 22 ¦ الصفحة: 37 مظاهر الصراع إذاً: الصراع يكون أولاً: بالجدال بين الحق والباطل، أي: والصراع بالكلمة، والصراع بالفكرة، الصراع ومن خلال الكتاب والدرس والمحاضرة، ومن خلال المناظرة، ومن خلال الدعوة، فهذا هو صراع، ولذلك الله تعالى ذكر في الآية: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الكهف:56] إشارة إلى أنه جدال مستمر، فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار والدوام، فدائماً الكفار يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويستهزئون بالآيات وبالنذُر، فهذا جزء من الصراع بين الحق والباطل، لكن هذه المجادلة نتيجتها أيضاً مقررة في القرآن فلا داعي إلى أن تتعب ذهنك وعقلك في معرفة النتيجة، لكن تعب ذهنك وعقلك أو في مجادلة أهل الباطل، وفي الدعوة إلى الحق، لكن نتيجة لا تتعب وراءها، لأنها مقررة: {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [الكهف:56] النتيجة هي قال الله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] . فالنتيجة هي أخذ الله تعالى للمجادلين بالباطل، فلا تغتر بكثرتهم، ولا تغتر بهيلمانهم، ولا تغتر بالمقالات الطويلة العريضة، والكتب الضخمة، والأجهزة المسخرة للباطل، فلا تغتر بها، لأن في انتظارها جميعاً: {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر:5] وقد ضرب الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة، والكلمة الخبيثة في كتابه فذكر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] فهي تدل على الخضرة، الظل، الثبات، البقاء، العمق، الارتفاع، والخير، هذه هي الكلمة الطيبة، فهي مثل للحق والكلمة الخبيثة: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] فهي غير نافعة ولا خضراء ولا مثمرة ولا طويلة ولا عميقة ولا ممتدة مالها من قرار، ولذلك قبل دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة. إذاً: الخصومة أولاً تكون بالكلمة، ثم تنتقل بعد ذلك إلى مجالات وميادين أخرى قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] لا حيلة يا أخي! لا تتصور أن البشرية كلها سوف تسلك الطريق، إنما لابد من الخصومة بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإسلام والكفر. والخصومة بكل صورها تبدأ من الكلمة، وتنتهي بالمدفعية والدبابة والطائرة والصاروخ، الخصومة لابد منها، فالحرب نموذج من الخصومة، وهي أرقى وأعلى وآخر صور المدافعة بين الحق والباطل، ولهذا الله تعالى ربط قضية الحرب بين المؤمنين والكفار بالمدافعة، فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:40] إذاً أذن لهم بالقتال وبالجهاد لأنه {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] . إذاً تبدأ بالمدافعة الفكرية والدعوية والعقدية، وتمر بمراحل كالمدافعة الاقتصادية -مثلاً- والمدافعة الاجتماعية للهيمنة على مؤسسات المجتمع، ومدارسه، وأجهزته، وأجهزة إعلامه، القوة الموجودة فيه، والتأثير في الناس، وتنتهي بالصراع في ميادين الحرب والقتال بين المؤمنين والكفار. ويقول ابن خلدون رحمه الله عن الحرب كنتيجة أخيرة من نتائج الصراع الفكري -إن صح التعبير- يقول: " اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ أن برأها الله تعالى، وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض، يتعصب كل منهم لأهل عصبيته، فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان، إحداهما تطلب الانتقام والأخرى تدافع؛ كانت الحرب، وهو أمر طبيعي في البشر، لا تخلو عنه أمة ولا جيل، وسبب هذا الانتقام في الأكثر إما غيرة وإما منافسة، أو عدوان، وإما غضب لله تعالى ولدينه، وإما غضب للمُلْك وسعي في تمهيده " انتهى كلام ابن خلدون. فالحرب جزء من الحياة البشرية لا تنفك عنها بحال، ومغرقون في السطحية أولئك الذين يتصورون أو يعتقدون أن بالإمكان الاقتصار على الحوار، والحديث الهادئ، والمجادلة بالحجة، وأنه لا حاجة إلى القتال، وأننا يمكن أن نحول العالم إلى عالم مسلم من خلال الكلمة الهادفة. سطحية مفرطة، وجهل بالدين -أيضاً- هل تتوقعون أن طبيعة الإنسان تتغير؟ كلا! هل حقائق التاريخ تتغير؟ كلا، هل طبيعة الكفر تتغير؟ الله تعالى يقول: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فالكفر قرين الظلم دائماً وأبداً، هل تتغير طبيعة الكفر والظلم؟ الكلام في هذا يعني أختصره، وقد سبق أن ذكرت طرفاً منه في محاضرة (حي على الجهاد) وربما أطنبت في هذه النقطة بالذات، وعلى كل حال فإن الله تعالى قرر هذا وبينَّه أتمَّ بيان بقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] . فالقتال والجهاد والحرب بين الإسلام والكفر قائم ولابد، وقادم أيضاً. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 38 كل ما ارتفع في الدنيا سيوضع من سنن الله تعالى -وأختم بها- قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان {حقٌ على الله تعالى ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه} وقد قال عليه الصلاة والسلام هذا بمناسبة أن ناقته العضباء كانت لا تسبق، ثم جاء أعرابي على قعود له فسبقها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذه سنة عامة في كل الأمم، حتى أمم الدعوة إذا قامت لها حكومات وقامت لها دول، تبدأ فيها عوامل الضعف تدب شيئاً فشيئاً حتى تضعف، ثم تنحرف عن دعوتها وعقيدتها وما قامت من أجله، فتحق عليها السنة، وهي في مجال الخير، فمن باب أولى ما كان في مجال الشر، ونحن الآن نجد أن الأمم الغربية قد ارتفعت وبلغت أوجها، فالآن العالم يتكلم عن أمريكا على أنها هي القطب الأحادي الذي يدير العالم -كما يزعمون ويتصورون- وأنها أعظم الأمم، وأكبر القوى إلى غير ذلك من الهالات التي أطلقوها عليها ووصموها بها، وفعلاً قد أصابها من غطرسة الكبرياء، والقوة، والتسلط، والانفراد خاصة بعد انهيار النظام الشيوعي؛ أصابها من جراء ذلك شيئاً كبيراً، ولذلك فإن من حكمة الله تعالى {حقٌ على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه} فأقول: إن هذه القوة الكافرة المتنفذة اليوم، قد بلغت أوجها ونحن بمقتضى هذا الوعد النبوي نقول: حق على الله ألا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله تعالى. إذاً: سوف تتضع هذه القوى وتنهار، ويبدأ عدها التنازلي بمقتضى هذه السنة التي حددها وقررها وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم. يتوقع البعض أن وجود الروس والجمهوريات الاشتراكية في الماضي كان يحفظ التوازن بين الشرق والغرب، وهذا الكلام يحتاج إلى إعادة نظر، فأي توازن حفظه، ربما نقول إن وجود الشرق الشيوعي الملحد كقوة منافسة للغرب في الماضي جعل كثيراً من القوى التي تخاف من الشيوعية ترتمي في أحضان أمريكا وترتبط معها بالعهود والمواثيق الطويلة، وتقبل أن تكون أراضيها ميداناً لقوتها ولنشر صواريخها، أما بعد ما أنهار النظام الشيوعي الشرقي الكافر، فربما يزول ذلك الخوف، الذي جعل كثيراً من الدول تمد حبالها إلى أمريكا، إضافة إلى أنه سوف يجعل تلك الدول تشعر بخطورة أمريكا عليها، فتقوم بعمل وحدة فيما بينها، أو تحالفات لمواجهة الغطرسة الأمريكية والتسلط الغربي، وهذا ما نجد بشائره فيما يسمونه الآن بأوروبا الموحدة التي يتوقعون أن تظهر تقريباً عام ألف وتسعمائة واثنين وتسعين تقريباً، والتي بدءوا يوجدون لها المؤسسات والأجهزة التكاملية، وهذه أصبحت أمريكا تنظر إليها على أنها موجهة إليها، وأنها هي المستهدفة من ورائها. إذاً: {حقٌ على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} وربما يهلك الله تعالى بعض هؤلاء ببعض كما سبق ذكره في سنة أخرى، فطبيعة الحياة لا بقاء ولا قرار لها، وطبيعة الصراع بين الحق والباطل لابد أن تفعل فعلها بإذن الله تعالى، وعلى المؤمنين أن يعقلوا ويعرفوا هذه السنن الكونية، ليكون في قلوبهم أمل دائم بانتصار الإسلام، ولئلا تكبر في قلوبهم قوى الغرب الكافر، أو تعظم في نفوسهم فيظنوا أنه لا زوال لها، كما كان يتوقع بعض المفكرين في زمن مضى. وفي الأسبوع القادم إن شاء الله سوف يكون عنوان الدرس (مجرد إشاعة) . سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 22 ¦ الصفحة: 39 ونيسرك لليسرى دين الإسلام يسر، وشريعته هي الحنيفية السمحة، وبعض الناس يتشدد غيرةً للإسلام يتشدد، والبعض الآخر قد يرتكب المعاصي ويقول: الدين يسر، وفي هذا الدرس بيان لحقيقة اليسر مدعماً بنماذج من حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 1 اليسر بين الإفراط والتفريط إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:- فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. إنني لأشعر بسعادة غامرة وأنا أجلس بين ظهرانيكم في هذا البلد الكريم، الذي طالما تشوقت إلى لقاء أهله، وإلى لقاء إخواني في الله تعالى في هذا البلد، فالحمد لله الذي يسَّر هذا، في هذه الليلة المباركة ليلة الخميس، الثالث عشر من شهر ذي القعدة لعام (1412هـ) وعنوان هذه المحاضرة -أيها الأحبة- هو آية من كتاب الله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] . وإنما رغبت في الحديث عن هذا الموضوع، موضوع أن الدين كله موصوف بأنه يسر، لأن هذه الكلمة أصبحت في نظر كثيرين كلمة مطاطة، فأصبح الواحد منهم من الممكن أن يصنع كل شيء، ويرتكب كل مخالفة، فإذا وجد من يمنعه أو يردعه أو ينكر عليه قال له: يا أخي! ما بك؟ قال: الدين يسر. فاتخذوا من هذه الكلمة ذريعة إلى ارتكاب حرمات الله تعالى، وتعدي حدوده، بحجة أن الدين يسر. وفي المقابل نجد أن آخرين -وهذا واقع أيضاً- يقولون فعلاً: الدين يسر، ولكن هذه الكلمة تحولت عندهم إلى مجرد شعار غير قابل للتطبيق، فهو يوافق نظرياً على أن الدين يسر، لكن عندما تأتي إلى سلوكه العملي في حياته الشخصية، وفي معاملته لأهله، وفي عمله وفي دعوته وفي تعليمه وفي فتواه وفي أي عمل من الأعمال أو أمر من الأمور؛ لا تجد هذا اليسر الذي وصف به الدين، فهو يصف الدين باليسر إجمالاً، ولكنه لا يدخل هذا اليسر في التفصيلات، ولذلك ينال الناس من هذا حرجٌ شديد. فأحببت أن أحاول من خلال النص القرآني والنص النبوي، أن أمسك العصا من الوسط -كما يقال- وأن أجعل القرآن والحديث هادياً لنا في هذا الطريق، حتى نعرف كيف كان الدين يسراً، وما هي مجالات اليسر لهذا الدين. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 2 اليسر في حياة المؤمن ويقرأ المسلم -أيضاً- قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} [الكهف:88] فاليسر مصاحب للإيمان وللعمل الصالح، ولهذا تجد حياة المؤمن تيسيراً كلها، كلما طرق باباً فٌتِحَ له، لأنه يطرق الباب بقوة الله عز وجل، ويطرق الباب متوكلاً على الله، وهو يعلم أن الأمور كلها بيد الله، فيطرقه برفق وبهون، فحيثما توجه تجد أنه يتوجه بيسر، وإذا أراد أن يبحث عن وظيفة، أو عن عمل، أو عن دراسة، أو عن زوجة، تجد أنه يسير بهدوء ويفعل الأسباب، ولكن قلبه مستقر في صدره. لأنه يعلم أن الأمور كلها بيد الله، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن القضاء والقدر نافذٌ لا محالة، ولكنه متعبد بفعل السبب، فيفعل السبب وكله ثقة بالله، فإن أجرى الله هذا الأمر فرح به وسُر، وقال: شكراً لك يا رب. وإن امتنع رضي أيضاً، وقال: شكراً لك يا رب. فربما كان الخير فيما منعه الله تعالى منه قال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] وقال أيضاً: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] الجزء: 23 ¦ الصفحة: 3 المسلم والمشقة وقد يواجه المسلم في حياته بعض المشقة، فالمسلم لم يوعد بالجنة على ظهر هذه الأرض، إنما وعد بالجنة في الدار الآخرة، ولهذا قد يصيب المسلم المرض، وقد يفتقر، وقد يُؤذى، ويُسجن، ويُعذَّب، وقد تلصق به التهم الباطلة، وقد تؤذيه زوجته، وقد يؤذيه ولده، والله تعالى خاطب المؤمنين الأولين بقوله: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] وقال: {أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفال:28] . فإذا أصابه شيء من ذلك لم تضق الدنيا في عينه، ولم تظلم في وجهه، لأنه يتذكر الآية القرآنية التي يقول فيها ربنا عز وجل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] فيدرك أن هذه الدنيا يصحب العسر فيها للمؤمن خاصة يسر بل يسران {ولن يغلب عسر يسرين} فحيثما اشتد الأمر شعر المسلم بأن هذا مؤذن بقرب الفرج: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج فيؤمن بأن هذا العسر يتبعه يسر. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 4 معاني آيات اليسر الكثيرون يقرءون القرآن ويرددون آياته، ويسمعون -مثلاً- قول الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185] والآية نص صريح في أن شريعة الله تعالى يسر لا عسر فيها بوجه من الوجوه، ولهذا ذكر أهل العلم أن كل أمر أدَّى إلى العسر والمشقة فهو مرفوع عن الأمة، وكل ما فيه حرج فهو مرفوع عنهم، فإذا ضاق الأمر اتسع، والمشقة تجلب التيسير. ويقرأ المسلمون -أيضاً- قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] واليسرى هي الشريعة الميسرة، التي ليس فيها حرج ولا عنت ولا شدة، واليسرى هي الحياة الهنيئة السعيدة، التي ليس فيها قلق ولا ضيق ولا ضنك. إنها حياة المؤمنين الأتقياء الذين كتب الله لهم في هذه الدنيا السعادة بطاعته وعبادته، واليسرى هي كلمة التوحيد، بما فيها من وضوح ونقاء وسلامة وملاءمة للفطرة، واليسرى هي الجنة نهاية المؤمنين المتقين، الذين جعل الله لهم السعادة في الدنيا عربوناً للسعادة التي تنتظرهم في دار القرار. ويقرأ المسلم -أيضاً- قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] فيفهم من هذا بفطرته السليمة، أن القرآن كتاب ميسر، ليس فيه مشقة ولا حرج ولا عنت، يقرؤه الشيخ الكبير، ويقرؤه الأعجمي والطفل الصغير، حتى إنك تجد -أحياناً- طفلاً صغيراً ربما لم يجاوز السابعة أو الثامنة أو العاشرة من عمره، وهو يحفظ القرآن عن ظهر قلب، وقد رأيت بأم عيني أطفالاً يؤمون الناس في أوزاعٍ في المسجد الحرام يقرأ الواحد منهم القرآن عن ظهر قلب، وربما كان دون العاشرة من عمره، وهذا من تيسير القرآن في لفظه، وتيسيره في معناه، وتيسيره في فهمه، وتيسيره في قراءته، فهو ميسر، وتيسيره -أيضاً- في فهمه والاتعاظ به، ولهذا قال: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 5 قواعد عامة في الدين الجزء: 23 ¦ الصفحة: 6 آثار الغفلة والذكاء على اليسر لقد ارتبط في أذهان الكثير من الناس؛ أن اليسر يصحبه شيء من الغفلة والبساطة والوضوح، وأن العالم اليوم يتطلب الذكاء والنبوغ، وبعد النظر وبُعد التخطيط، وغير ذلك من الأشياء التي ربما كانت من أهم الأسباب في تعقيد الأمور، وفقدان الثقة بين الأطراف، فأصبحت أنا أعتقد أنك تخطط ضدي، وأنك تريد أن تمكر بي، وأنك تتآمر علي، ولذلك أتعامل معك بحذر ويقظة، وأفتح أعيني وآذاني، وأحاول أن أعمل ذهني، ماذا أراد بهذه الكلمة؟! وماذا أراد بهذه الخطة؟! وماذا أراد بهذا العمل؟! فلا أكاد أقبل منك شيئاً، إلا وفق معيار دقيق شديد يفتش في الأمور كلها، وأنت -أيضاً- تعاملني بهذه الطريقة، فتظن أن كل ما أقوله لك، أو أنصحك به، أو أقترحه عليك، أو أقدمه لك من المرئيات والخطط والاجتهادات، أنها أمور وراءها ما وراءها، ولهذا تتقبلها أنت بتحفظ وتقول: ربما يكون وراء الأكمة ما وراءها، ولابد من دراسة ولابد من خبراء. فهناك فقدان الثقة في العالم كله، فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الأب وابنه، وبين الزوج وزوجته، وبين المدير أو الرئيس وبين من تحت يده، وبين المدرس والطالب، وبين الدولة والأخرى، وعموماً فقدان الثقة هو من أهم أسباب تعقيد الأمور، فلو أن أمورنا كلها حُلَّت عن طريق اليسر والتيسير والمسامحة، لربما زال من ذلك شيء كثير. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 7 اليسر طابع لشخصية الرسول روى محجن بن الأذرع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة وخير دينكم اليسرة} فاليسر خيرٌ كله في كل شيء، فاحرص على أن يكون اليسر طابعاً لشخصيتك، وستعلم بعد قليل أن هذا اليسر من طابع شخصية النبي المختار صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوصي معاذ وأبا موسى الأشعري حينما بعثهما إلى اليمن: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا} والحديث في صحيح البخاري وغيره. إذاً اليسر طابع عام للإسلام، وطابع لشخصية النبي صلى الله عليه وسلم، في كل أموره وفي كل أعماله، بل هو صفة للدين، في العقيدة، وفي الشرائع، وفي الأحكام، وفي المعاملات، وفي البيوع، والدعوة، والتعليم، والجهاد، وفي كل شيء. وإليك نماذج من اليسر في الدين، وما يقابلها من اليسر في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي وصفه أحد كتاب الغرب وأدبائهم، ويقال له برناردشو يقول: لو كان محمد -ونقول: صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: حياً لحل مشاكل العالم ريثما يشرب فنجاناً من القهوة. إذاً مشاكل العالم كلها، اقتصاديها وسياسيها واجتماعيها وإداريها، يمكن أن تحل، لكن ليس بالتعقيد وليس بالتشديد وإنما باليسر. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 8 أخذ الدين باعتدال ويسر وهكذا دين الله تعالى، الطريق إلى جنة الله وإلى رضوانه، فلو أن إنساناً -مثلاً- كان قارب المعاصي والموبقات، وركب ما ركب من الذنوب، ثم بعد ذلك اهتدى وأقبل إلى الله تعالى، فقال: لقد مضى من عمري أربعون سنة، ولابد أن أستدرك، ولذلك أريد أن أضاعف أعمالي وأكثف عباداتي، وأريد أن أزيد، فتجد أنه أصبح يقوم من الليل كثيراً، ويصوم من النهار كثيراً، ويقرأ أجزاءً من القرآن، ويحرص على حفظ القرآن، ويحضر دروس العلم، ويقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصبح يضرب في كل ميدان بسهم، فإذا سمع بعد ذلك بخبر الجهاد في أفغانستان وفي غير أفغانستان، وخبر الشهادة في سبيل الله، قال: أظن أنه لا يكفر عني سيئاتي إلا الموت في سبيل الله، فترك هذه الأعمال كلها وذهب إلى هناك. بعد فترة وجد أنه لم يجد المجال الذي ينتظره، فذهب إلى ميدان ثالث، فأصبح هذا الإنسان مشتتاً لا يستقر على حال من القلق، لكن لو أنه مشى رويداً، وبدأ يحافظ على الفرائض ويبكر إليها، ويحافظ على وضوئها وركوعها وسجودها، ويقرأ ما تيسر من القرآن كما أمر الله عز وجل، ويصلي من الليل ما كتب له، ويصوم الاثنين والخميس، وأيام البيض، وأيام الست من شوال، وما أشبه ذلك، ويأمر بالمعروف، ويقول كلمة الحق، ومع ذلك فإنه يستمتع بما أحل الله تعالى له من أكل وشرب ونوم وغير ذلك، ويصل رحمه، ويحسن إلى جيرانه، ويقوم بتجارته ودراسته وأعماله وغير ذلك، فإن هذا الإنسان غالباً يستقر على تلك الحال، ولا يكون عرضة للتقلب والتلون. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 9 حث النبي ومدحه لليسر قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد وسنده حسن في الشواهد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة} يعني: أحبُّ الأديان إلى الله تعالى هذا الدين الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو دين أبينا إبراهيم وملته الحنيفية، المائلة عن الشرك إلى التوحيد، السمحة التي ليس فيها عسر ولا شدة بوجه من الوجوه. وعن أعرابي لم يُسم أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {خير دينكم أيسره} والحديث رواه أحمد وسنده صحيح، وكذلك قال عروة الفقيمي فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن دين الله تعالى يسر} وسنده أيضا حسن، وكذلك حديث بريدة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عليكم هدياً قاصداً} قاصداً: معتدلاً، لا إفراط فيه ولا تفريط، قال صلى الله عليه وسلم: {فإنه من يشاد هذا الدين يغلبه الدين} . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 10 كل ما فيه حرج فليس من الدين القاعدة الثانية: وهي أنَّ كل أمر فيه حرج حقيقي فليس من الدين بوجه من الوجوه، ولو كان مأموراً به -أصلاً- ثم ترتب عليه حرج، فإن الله تعالى يرفع الحرج عن هذه الأمة، ولهذا قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور:61] ليس عليهم حرج -مثلاً- في الجهاد والقتال؛ لأنهم لا يستطيعون ذلك، وفي هذا العمل من المشقة عليهم ما فيه، إذ أنهم عاجزون عن مقاومة عدوهم ومواجهته، فرفع الله تعالى عنهم الحرج في هذا، وفي غيره فيما هو مجال للرخصة والتيسير. وهكذا جاءت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم مرادفةً للقرآن، ومؤكدة على هذا المعنى، أن الدين ليس فيه حرج بوجه من الوجوه، فمثلاً في حديث أبي هريرة، الذي رواه البخاري في صحيحه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا} فوصف الدين بأنه يسر كله، فقوله: {ولن يشاد الدين أحد} أي يأخذه بالشدة والقوة {إلا غلبه} أي: غلبه الدين، ولذلك تجد أن الذين يفرطون في أمور الدين يؤول بهم الأمر إما إلى مشقة شديدة على أنفسهم، وإما إلى إفراط وتضييع والعياذ بالله ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فسددوا} أي: احرصوا على أن يكون رميكم صواباً، وأن يكون اتجاهكم سليماً ووسطاً قصداً، بين الإفراط والتفريط، بين الغلو والجفاء. وإذا أعوزكم التسديد، وحصل عند الإنسان شيء من التقصير فليقارب، أي يحرص على أن يكون قريباً من الصواب وأبشروا، واستعينوا على طريقكم إلى الله -تعالى وطريقكم إلى الجنة {بالغدوة، والروحة} بالسفر أول النهار، حيث النشاط والقوة والروحة وهي: السير بعد الزوال حينما تهدأ الشمس وتبرد، {وبشيء من الدلجة} يعني: مسير الليل أيضاً. {والقصد القصد تبلغوا} يعني اعتدلوا. فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم، شبه المسلم والعالم وطالب العلم والداعية بإنسان يريد أن يسافر، فلو فرض أن هذا المسافر قال: الطريق طويل، وأمامي مواعيد وارتباطات، ولابد من السرعة، فجار على راحلته -سواءً كانت بعيراً أو غيره، كما كانت وسيلة النقل في الماضي، أو حتى لو كانت سيارة، كما هي وسيلة النقل اليوم- فتجد أنه يجور عليها ولا يتوقف، فيركب هذه السيارة ولا يتوقف لملاحظة عيارات السيارة مثلاً، ولا لغير ذلك، ولا يقف ليبرد الجو، وإنما وضع رجله، وسار مسرعاً يقطع الفيافي والقفار، وينهب المسافات نهباً، وبعد ذلك ربما تعرض للسيارة عطل، وترتب عليه تأخير طويل، وربما أصبحت السيارة غير قابلة للمشي، فتأخر كثيراً أو ترك المسير، فترتب على ذلك أنه ضيع هذه الدابة أو السيارة وأتلفها، وكذلك لم يحصل على ما يريد من السفر. ولهذا جاء في الحديث الآخر: {إن المُنبَتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى} فلا هو قطع المسافة ولا هو احتفظ بالظهر أي: (الدابة) التي كان يركبها، ولهذا قال: {القصد القصد تبلغوا} لكن الذي يسير بهدوء واعتدال، ويعطي السيارة حقها، فإنه يصل -بإذن الله تعالى- في وقت مقارب، وهو -أصلاً- إذا كان عَّود نفسه على الاعتدال، فإنه يحتاط لسيره احتياطاً مناسباً، فتجد أنه لا يصيبه من لأواء السفر ووعثائه إلا الشيء اليسير. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 11 لا حرج في الدين بوجه من الوجوه وعلى كل حال، فالشريعة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم تتلخص في آية واحدة، هي قول الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وبذلك نعلم أولاً: أن كل أمر أمر الله به أو الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يكون فيه حرج بوجه من الوجوه، حتى ولو سالت من ورائه الدماء، ولو تقطعت الرقاب، ولو تدهدهت الرءوس، ولو فارق الإنسان أهله، وخلانه، وبلدانه، وأوطانه، يعلم أنه ليس في ذلك حرج، قال الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] مثلاً: الجهاد شريعة إسلامية، هل فيها حرج؟ لا، لأنه {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فيعلم المسلم وهو يجاهد، ويخوض المنايا، ويصارع الموت وينازله في المعارك، ويرى إخوانه وأحبابه تتساقط رؤوسهم أمامه، ويعقر جواده، ويهراق دمه، ويقسم ماله، وتتزوج زوجته من بعده، يرى أن هذا كله ليس فيه حرج بوجه من الوجوه، لأن الله تعالى نفى عنه الحرج، وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] . إذاً القاعدة الأولى: أن كل أمر من الدين لا يمكن أن يكون فيه حرج. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 12 نماذج من اليسر في الدين وشخصية النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: اليسر في الدعوة. تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعا، قال لقريش: {يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} ما قال: هؤلاء القوم مشركون ووثنيون، وقديمو عهد بكفر، ولذلك لابد أن نقدم لهم برنامجاً متكاملاً من الألف إلى الياء، يشمل أمور الدعوة كلها، ويحدثهم في الكبير والصغير والجليل والحقير، لا، إنما دعاهم إلى كلمة واحدة واضحة، ليس فيها تعقيد ولا غموض. الأعرابي كان يعرف معنى: (لا إله إلا الله) فكان يناديهم: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فجعل الهم كله هماً واحداً، ودعاهم إلى كلمة واحدة وقضية واحدة، ولم يشعبهم في الأموركلها، لماذا؟ لأن هذه الكلمة هي المفتاح، فإذا قبلوا هذه الكلمة انتهى كل شيء، وزالت الحرب، وانتهت الخصومة، وأصبح هؤلاء القوم مسلمين، وبدأوا بعد ذلك يتقبلون كل شيء أتاهم عن الله عز وجل. فهكذا كانت سيرته، وديدنُه صلى الله عليه وسلم، ينزل في القبائل قبيلة قبيلة، وفي المواسم في الحج، وفي الأسواق وفي نوادي قريش، وفي المسجد الحرام، وكل ما يقوله صلى الله عليه وسلم يثير معركة واحدة فقط، هي معركة الألوهية، معركة التوحيد: {يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} . وقد أجَّل صلى الله عليه وسلم كل شيء آخر غير هذه الكلمة وغير هذه الخصومة، لأن هذه الكلمة من شأنها أن تنهي جميع الخصومات التي يمكن أن تقوم. كان الرجل من الناس يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قضى خمسة وعشرين سنة في الجاهلية، وقضى خمسة وثلاثين سنة وهو يسجد للآت والعزى ومناة الثالثة الأخرى، فيجلس إلى جوار النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دقائق، أو ربع ساعة على أكثر، فيعلمه الدين والإسلام، ويخرج هذا الرجل -لا أقول مسلماً- بل يخرج مسلماً مؤمناً داعيةً إلى الله عز وجل. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 13 نموذج آخر ليسر النبي وهاهنا نموذج من نماذج اليسر: الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إلى أحد الناس حتى يصلي في بيته، لم يقل صلى الله عليه وسلم: من أنت حتى آتيك؟ أو أنا مشغول وما عندي وقت لمثل هذه الأمور. بل واعده ثم أتاه صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال: {أين تريد أن أصلي؟ قال: صلّ في مكان كذا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الضحى، بعد ذلك جلسوا يتحدثون، قال: حبسناه على خزيرة صنعناها له} لون من الطعام المتواضع آنذاك، انتظره النبي صلى الله عليه وسلم، ثم جلسوا يتحدثون: أين فلان؟ أين فلان؟ فذكروا رجلاً اسمه مالك بن جشعم أين هو؟ فقال واحد من الحضور: {دعوه، هذا رجل لا يحب الله ورسوله، فاستعظم النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة وقال: أليس يقول: لا إله إلا الله؟ قال: بلى يقولها، ولكننا نرى أن قلبه وذيله ورأيه مع المنافقين، ولا تنفعه لا إله إلا الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس يقول: لا إله إلا الله؟ قال: بلى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله -وفي رواية أنه قال-: أولئك الذين نهيت عنهم} دع باطنهم طالما أن ظاهرهم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي الصلوات الخمس مع المسلمين، فخذ الظاهر ودع الباطن لله عز وجل، فإن ظهر لك شيء فخذ به, الجزء: 23 ¦ الصفحة: 14 على الداعية تجنب التعقيد إن الدين واضح ليس فيه غموض ولا حواجز تحول بينه وبين الناس، كأي عِلمٍ آخر حينما يقدم للناس سهلاً بسيطاً، بعيداً عن التعقيد والإطالة وغير ذلك، وأن يُحشى بأمور ليس لها علاقة بالدين، فالعقيدة واضحة سهلة والدعوة كذلك، وعموماً لاشك أن هذا الأمر الذي كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ما دُعِيَ أحد إليه إلا قبله. ولكن كثيراً من الناس وضعوا أثقالاً وأغلالاً بين الناس وبين الدين، فأصبح الكثيرون يعتقدون أن هناك صعوبة في تدين الإنسان والتزامه واستقامته، لماذا؟ لأننا بمحض إرادتنا واختيارنا -وأحياناً باجتهادنا- نضع عقبات أمام الناس، تحول بينهم وبين الالتزام، وأضرب لذلك مثلاً: الصوفي -مثلاً- الذي يقول لمن يريد الإسلام: لا يمكن أن تكون مؤمناً حقاً حتى تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، ومع ذلك لا بد أن تتبع شيخنا، وتكون مريداً له، وتتابعه فيما يريد، وتصدقه فيما يقول، وتحضر درسه مثلاً، هذا أضاف إلى الدين تعقيداً ليس من أصل الدين حال بين الناس وبين الدين. كذلك المتعصب لمذهب من المذاهب الفقهية، والذي يقول لأي مسلم جديد: لا يمكن أن تكون مسلماً حقاً إلا إذا آمنت بالله ورسوله، وأيضاً اعتقدت بأن مذهب الشافعي -رحمه الله- هو الحق، واتبعته في الفروع كلها، أو مذهب أبي حنيفة -رحمه الله- أو مالك -رحمه الله- أو غيرهم، فأضفنا شيئاً جديداً ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما أمر به، ولا ألزم به أحداً من الناس، وكان يمكن أن نقول لأي مسلم جديد: لا نحتاج إلى أحد من الناس، يكفيك أن تكون تابعاً لإمام الأئمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكفيك القرآن، والحديث، فتقرؤه وتعمل بما فيه، فقد نزل للفيلسوف في صومعته، ونزل للعالم في مختبره، ونزل للذكي شديد الذكاء، والعبقري، كما نزل للغبي الذي ربما لا يفهم من الأمور إلا القليل، ونزل للعربي كما نزل للعجمي. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 15 سهولة الدخول في الدين لهذا من الأهمية بمكان أن نُسهِّل الأمر للناس، ونبين لهم أن الدين يمكن فهمه بسهولة، ويستطيع أي عالم بل استطاع كثير من العلماء أن يُلخِّص الدين في عشر ورقات، بل أقل من ذلك، يقرؤها الإنسان في نصف ساعة، ويمكن أن تترجم لغير العربي في نصف ساعة أيضاً، فيفهم من خلالها أصول الدين ومبادئه العظام، التي بها -بإذن الله تعالى- النجاة من النار ودخول الجنة، وأنت تجد مثلاً كتاب الأصول الثلاثة في أصول الدين لا يتعدى بضع ورقات، وما زاد عن ذلك فإنه من الخير والبر الذي يمكن أن يستفيد منه الإنسان ويتزود، ولكنه مما لا يلزم الإنسان أن يتعرف عليه، إلا أن يكون من العلوم الضرورية، كتعلم الطهارة -مثلاً- إذا جاء وقتها، والصلاة والحج إذا أراد وهكذا. فالطريق إلى الإسلام مفتوحة، وهذا من التيسير في الدعوة، فمثلاً الأمم السابقة كان يقال لهم: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:54] فكانت توبتهم أن يقتلوا أنفسهم حتى قتل بعضهم بعضاً، قيل: قتل منهم في ليلة واحدة أكثر من سبعين ألفاً من بني إسرائيل، فهذه كانت توبتهم (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) . النصارى اليوم، لا يستطيع الواحد منهم أن يتوب هكذا ببساطة، حتى يأتي إلى القسيس، ويقوم بعملية الاعتراف أمامه، فيعترف أمامه بذنوبه، وبناءً على هذا يكون هذا القسيس وسيطاً وشفيعاً بينه وبين الله عز وجل، لكن في الإسلام كل هذه الطقوس لا مكان لها، كل ما في الأمر أن المذنب ولو بلغت ذنوبه عنان السماء، ولو أتى من الجرائم بكل ما يخطر على بال؛ من الزنا والفجور والقتل وسفك الدم الحرام ونهب المال وغير ذلك، كل ما يتطلبه الأمر أن يرفع يده إلى السماء ويقول: أستغفر الله وأتوب إليه. ويواطئ قلبه لسانه على ذلك، فإن كان في ذلك حقوقاً للمخلوقين ردها إليهم، ولا يحتاج إلى شفيع ولا إلى وسيط في هذه الدنيا لقبول توبته، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح من حديث صفوان بن عسال: {إن للتوبة باب قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} الجزء: 23 ¦ الصفحة: 16 عمرو بن عبسة مثال آخر: عمرو بن عبسة رضي الله عنه، كان في الجاهلية يعرف أن الناس ليسوا على شيء، ويكره الأصنام، فسمع ببعثة رجل في مكة يقال له: (محمد) صلى الله عليه وسلم، فجاء إليه يتصنت الأخبار ويتسمعها، وقد ورد هذا الحديث في البخاري ومسلم {فلما لقيه قال: ما أنت؟ قال: أنا نبي. قال: وما نبي؟ قال له: أرسلني الله. قال: آلله أرسلك؟ قال: نعم. قال: بماذا بعثك؟ قال: بأن يُعبد الله وحده لا شريك له، وتُهجر اللات والعزى، وتُكسر الأصنام، وتُوصل الأرحام} فهذه خمس كلمات يمكن أن يحفظها أصغر الناس وأقل الناس ذكاءً، يحفظها العجمي ولو كان لا يحفظ اللغة العربية، فخرج من عنده داعية، قال: {إني أريد أن أعلن الإسلام، قال: لا. لا تستطيع ذلك يومك هذا -لأنه -عليه السلام- كان مستخفياً بمكة، وقومه عليه جرآء- قال: ولكن اذهب إلى قومك، فإذا سمعت أني قد ظهرت فأتني} . فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر إلي المدينة، جاءه عمرو بن عبسة بعد زمان طويل ربما عشر سنوات أو أكثر، فلما لقي النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {أتعرفني؟ قال: نعم، أنت الذي أتيتني بمكة، قال: نعم} فهذه البساطة - إن صح التعبير - والبعد عن التعقيد في تعليم الدين. بُعِثَ بالعبودية لله وحده لا شريك له، وأن تهجر الأوثان، لا لات ولا عزى ولا مناة ولا هبل، وأن يُوحَّد الله، وأن تُوصل الأرحام، وتُكرم الضيوف، ويُحسن إلى الفقير والمسكين وابن السبيل، فهذه هي الصورة الواضحة النقية لدعوة التوحيد التي كان يدعو إليها النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 17 الجن خذ نموذجاً من الجن مما ذكره الله تعالى بقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] صرفهم الله تعالى إلى الرسول، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي الفجر في بطن نخلة، بين مكة والطائف، فسمعوا شيئاً من القرآن قدر60 أو 80 آية أو 100 آية، كان يقرأ في صلاة الفجر كما في الصحيح ما بين الستين إلى المائة، فلنفرض أنهم سمعوا مائة آية، وربما أنهم جاءوا الصلاة في منتصفها -مثلاً- المهم أنهم سمعوا القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا. كل واحد يشير للآخر ويقول: اسكت، لا يريدون أن يفوتهم شيء، آذانهم مفتوحة، ولا يوجد حواجز بينهم وبين القرآن {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] لم يقل: مسلمين، ولا مؤمنين! وإنما قال: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) !. إذاً تجاوزوا مرحلة الإسلام، وتجاوزوا مرحلة الإيمان أيضاً، وتعدوه إلى مرحلة الإنذار، إنهم منذرون، أي: صاروا دعاة بمجرد حضورهم صلاة واحدة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنذرون من طراز فريد، يقف الواحد منهم خطيباً أمام قومه، وهو يقول: {يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:30-32] . فهؤلاء القوم هزوا قلوب الجن بالإنذار والتحذير، وقالوا لهم: بعث نبي جديد من بعد موسى يدعو إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وفي الآية الأخرى قال تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1-2] كلام طويل يعبر عن لهفتهم وتأثرهم وانفعالهم بهذا الذكر وهذا الوحي، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 18 الطفيل بن عمرو الدوسي وخذ على ذلك بعض الأمثلة اليسيرة السريعة: مثل: الطفيل بن عمرو الدوسي، والقصة طويلة لكني أختصرها وأصل قصته في صحيح مسلم: {يأتي إلى قريش فما يزالون به حتى يضع في أذنيه القطن، لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب منه أبى الله إلا أن يسمعه شيئاً، فقال: أنا والله رجل لبيب أعرف الشعر، وأعرف ألوانه وهزجه وقصيده ورجزه ومقبوضه، ومبسوطه، فأسمع من الرسول (صلى الله عليه وسلم) فإن رأيت حقاً قبلته وإن رأيت باطلاً رددته، ولا يمكن أن أجبر بعقل غيري، فيقوم وينزع القطن، ويسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم، فسمع كلاماً جزلاً فخما قوياً عظيماً، وهو القرآن، فآمن وأسلم. وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: إلامَ تدعو؟ فعلمه الإسلام، فقام هذا الرجل من عند الرسول صلى الله عليه وسلم -لا أقول مسلماً فقط- بل قام مسلماً مؤمناً داعية، وذهب إلى قومه، فتأتيه زوجته لتسلِّم عليه، فقال: إليك عني، فلستُ منكِ ولستِ مني، قالت: ولم فداك أبي وأمي؟ قال: إني قد أسلمت وتبعت محمداً صلى الله عليه وسلم. قالت: ديني دينك. فقال: اذهبي واغتسلي. فذهبت واغتسلت ثم شهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله} . يأتيه أبوه وأمه فيقول لهم نفس الكلام, ويأتيه قومه وقبيلته فيقول لهم كذلك، فيسلمون كلهم عن آخرهم على يد رجل لم يمكث في مدرسة إلا مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، تلَّقى فيها درساً أو محاضرة كانت مدتها خمسة عشر دقيقة أو قريباً من ذلك. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 19 يُسر النبي صلى الله عليه وسلم في مواجهة الأخطاء الأخطاء موجودة في كل مجتمع، حتى المجتمع النبوي وجد فيه أخطاء كثيرة، فقد زنا ماعز وزنت الغامدية، فكيف واجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخطأ؟ يأتي ماعز، والغامدية، فيقول: لعلك قبَّلت، لعلك غمزت، لعلك لعلك حتى يعترف الرجل ويُصرّ على اعترافه، فيقيم عليه الحد. وكذلك الغامدية قال لها: لعلِّكِ لعلَّك تقول: {تريد أن تردني كما رددت ماعزاً يا رسول الله! والله إني لحبلى من الزنا} فيقيم عليها الحد بعدما ولدت، وفطمت، فلما نال منها رجل قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {والله لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له} وفي رواية: {لقد تابت توبة لو وزعت بين سبعين من أهل المدينة لغفر لهم} . فأصل الاعتقاد في التجاوز عن الأخطاء؛ أن الإنسان يعتقد أن الله سبحانه وتعالى قد يغفر لكل إنسان إلا الشرك، لقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فقد يغفر الله تعالى للعبد كل ذنب إلا الشرك، فلا تحكم على أحد بخطأ أن الله تعالى سوف يعذبه أو يعاقبه، فإن الله تعالى بكرمه ينجز الوعد، ولكنه قد يعفو عن الوعيد، وكما قيل: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني عن سطوة المتهدد وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي الجزء: 23 ¦ الصفحة: 20 قصة معاوية بن الحكم قصة معاوية بن الحكم، سبقت معنا قبل قليل، كيف خاطبه الرسول صلى الله عليه وسلم وكيف علمه كذلك قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد، ولمَّا نهره الصحابة أو هموا به، أمرهم فتركوه، ثم دعاه وعلَّمه أن هذه المساجد لم تُبْنَ لهذا، وإنما بنيت لذكر الله تعالى وقراءة القرآن. فهذا الرجل تعجب من حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً. فقال له: النبي صلى الله عليه وسلم: {لقد تحجرت واسعاً} الجزء: 23 ¦ الصفحة: 21 تعامله صلى الله عليه وسلم مع المجامع في رمضان {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! هلكت، قال: ما أهلكك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم في رمضان، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره بالكفارة على ما هو معروف. لكنه لا يجد شيئاً، لا يستطيع أن يعتق رقبة، ولا يستطيع أن يصوم شهرين متتابعين أو أن يطعم ستين مسكيناً، فلما جلس الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه بعد قليل شيء من التمر، فقال: خذ هذا فتصدق به. فقال: يا رسول الله! أتصدق به على أفقر منا، فوالله ما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: خذ هذا فأطعمه أهلك} فقد جاء الرجل خائفاً وجلا مذعوراً يخشى من أشد العقوبات؛ لأنه وقع في هذا الذنب العظيم، بل هو كبيرة لأنه لم يجعل عليه كفارة إلا وهو من كبائر الذنوب، وذهب الرجل مبتسماً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطاه هذا التمر الذي جاء به إلى أهله، فرجع إلى قومه يقول: وجدت عندكم الضيق والعسر والشدة، ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة واليسر. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 22 يُسر معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة يسر النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته مع أصحابه أمر عجيب! كان معهم طيلة الوقت أو أكثر الوقت، في السفر، والإقامة، في الحرب والسلم، في الحج والعمرة والجهاد والغزو وفي المسجد بل في البيت، ولذلك قالت عائشة: [[كانت معظم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره قاعداً بعدما حطمه الناس]] هذا داخل وهذا خارج، وهذا في شفاعة وهذا في قضية. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 23 تواضع الرسول في حجة الوداع حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، ومعه أكثر من مائة وعشرة آلاف، إحصائية الحجيج عام حجة الوداع مائة وعشرة آلاف أو يزيدون والناس كثير، فلم يكن أحد يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، في غمار الناس لا يقال: إليك إليك، وليس هناك حراس، ولا حجاب، ولا جنود، ولا شُرَط، ولا سياط، ولا أعوان، ولا بنادق، ولا عصي، إنما كان في غمار الناس يمشي صلى الله عليه وسلم يقول: {أيها الناس، السكينة السكينة، فإن البر ليس بالإيضاع} فينصحهم بالهدوء، يأتون إليه وهو يرمي الجمار على ناقته صلى الله عليه وسلم، ويطوف ويسعى، كل ما في الأمر أنه من أحب أن يسأله عن شيء سأله، ويحيطون به ويسألونه، وهو قائم أو قاعد أو ماشٍ صلى الله عليه وسلم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 24 الرسول وعتبان بن مالك عندما دعاه عتبان -كما ذكرت لكم- وحبسه على خزيرة، وهذا ليس إنسانا عادياً، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هم الملوك؟! ومن هم الرؤساء؟! ومن هم الأمراء؟! ومن هم السادة؟! ومن هم العباقرة؟! ومن هم القواد؟! ومن هم الأثرياء بالقياس إلى شخصية النبي صلى الله عليه آله وسلم؟! لا شيء، هم أقزام صغيرة ونقط ضعيفة، ومع ذلك هذا السيد صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عتبان بن مالك فيحبسونه على خزيرة صنعوها له، ويقول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري: {لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت، ولو أهدي إليَّ ذراع أو كراع لقبلت} تواضع لله، ويسر في الشخصية، وبُعدٌ عن التكلف، وكان عليه الصلاة والسلام يزور أصحابه، ويجالسهم ويضاحكهم، ولم يكن عنده شيء من التكلف في لباسه أو فراشه، فيلبس ما تيسر ويفترش ما تيسر بعيداً عن الأبهة والكبر. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 25 الرسول والجارية كانت الجارية تأخذ بنبي الله صلى الله عليه وسلم، فتذهب به إلى أي سكك المدينة شاءت، أو تواعده في أي مكان، فيأتي إليها ويصغ أذنه لها، ماذا تتوقع أن تقول الجارية؟ أمة في أحد البيوت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من سيدها، أو من أهل البيت، أو من شدة العمل أو من غير ذلك، وربما تذكر تفاصيل وأموراً لا حاجة بها، ولو أن هذه الجارية جاءت إلى واحد منا الآن -وأنا على يقين- وحدثته بمثل هذه الأمور لقال لها: لست بفارغ لهذه التفاصيل، وهذا الكلام الذي ليس لنا به حاجة، وليس عندي وقت لمثل هذه الأشياء، اذهبي وابحثي عن غيري. مع أن الواحد منا قد لا يكون عنده عمل يذكر. ولكن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ورسول الله وخاتم النبيين كانت تواعده في أي مكان من سكك المدينة، فيصغي أذنه لها، فتتكلم وتتكلم حتى ينتهي ما عندها، ولا ينتهي الأمر، بل يذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ليشفع لها، أو يتدخل عند أوليائها وعند سادتها إلى غير ذلك من الأمور. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 26 شفاعة الرسول لمغيث كان هناك شيخ كبير في السن اسمه مغيث، كان له زوجة اسمها بريرة، وكانا مملوكين ولما أعتقت قالت: لا أريد هذا الرجل. فجاء الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشفع له عند هذه المرأة التي يحبها حتى تقبل به، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ودعاها وقال لها: {ما لك عن مغيثp أي: لماذا لا تقبلين به؟ قالت: تأمرني يا رسول الله. قال: لا، إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي به} . فكان العباس رضي الله عنه يقول: [[كنا نراه في أسواق المدينة يمشي ودموعه تقاطر على لحيته]] حباً في هذه المرأة التي لم تُرِدْه بعدما أعتقت. المهم حتى أدق الأمور يأتون بها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان معهم أكثر وقته، ومع ذلك لم يكن ليتكلم على هذا ويوبخ هذا ويعاتب هذا، بل بالهشاشة والبشاشة والبسمة ولين الجانب والسماحة. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 27 الرسول وعمرو بن العاص عمرو بن العاص رضي الله عنه -وهو ليس من متقدمي الإسلام- لما أسلم عيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية ذات السلاسل أميراً عليهم، وكان فيهم أبو بكر وعمر. فتوقع p=1000174عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه أحب الناس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لما يرى من حسن خلقه معه ومعاملته ولطفه وبشاشته في وجهه، فقال كما في صحيح البخاري: {يا رسول الله! من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قال: فمن الرجال؟ قال: أبوها} ثم عد أناساً، فسكت عمرو قال: من أجل ألا أكون في آخرهم، فلم يواصل السؤال. المهم لماذا توقع وطمع أن يكون من أحب الناس؟ لما رأى من حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم معه ولطفه ولين جانبه. ما لعن أحداً ولا سب ولا شتم، وقلَّ أن يرى الغضب في وجهه إلا إذا انتهكت حرمات الله تعالى، فإنه حينئذٍ لا يقوم لغضبه شيء. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 28 يُسر النبي صلى الله عليه وسلم في معاملته مع أزواجه الجزء: 23 ¦ الصفحة: 29 نحن والرسول انظر إلى التيسير في الأمور، وفي معالجة الأخطاء، والتيسير في مواجهة المرأة، وكيفية علاج الغيرة، وكيفية المعاملة. كم مرة هجر النبي صلى الله عليه وسلم نساءه؟ المعروف أنه هجرهن مرة واحدة، شهراً كاملاً من الهلال إلى الهلال، هذا المعروف المذكور. لكن كثيراً من الرجال تجد أن حياتهم مع زوجاتهم تقوم على أساس الهجر، فهو يغضب من أجل الطعام، ويغضب لأن الثوب غير مكوي اليوم، ويغضب لأن الأطفال ليسوا نظيفين بما فيه الكفاية، ويغضب لأن البيت لم يكنس، ويغضب لأسباب كثيرة جداً، وربما تكون علاقة الزوجين تقوم غالباً على أساس الهجر والترك، وأول وآخر علاج يعالج به زوجته هو أن يهجرها، إما بترك الكلام أو يهجرها في المضجع أو غير ذلك. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 30 غيرة عائشة رضي الله عنها ثارت غيرة عائشة يوماً على خديجة من كثرة ما يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: [[يا رسول الله! ما تذكر من عجوز شمطاء هلكت في الدهر الأول، أبدلك الله تعالى خيراً منها]] أي: تذكرها دائماً كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة. فقال لها: النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تبسم وتحمل غيرتها: {إنها كانت، وكانت، وكانت، وكان لي منها ولد} فرجع -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم يذكر محاسن خديجة مرة أخرى، وهذا يغير أمّنا عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها. مرة من المرات كسرت عائشة رضي الله عنها الصحفة من الغيرة أيضاً، جاءت زوجة أخرى فقدمت طعاماً، وهو يوم عائشة، فضربت الصحفة فكسرتها وانتثر الطعام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {طعام بطعام وصحفة بصحفة} وأمر أن الصحفة السليمة ترسل إلى تلك المرأة، وأن الصحفة المكسورة ترد إلى عائشة، ويؤكل الطعام بها. أخطأت عائشة رضي الله عنها يوماً، فوضعت قراماً فيه صور أو تماثيل في سهوة لها، أشبه بالنافذة للغرفة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم استعظم ذلك، فرأت الغضب في وجهه، فقالت: أتوب إلى الله وإلى رسوله، ماذا أذنبت؟ فقال: {إن هؤلاء المصورون يعذبون يوم القيامة الخ} . المهم أمرها أن تهتك هذا الستر، فهتكته وجعلته وسائد. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 31 تيسيره لأمر الزواج جاءته المرأة فلما قال الرجل: يا رسول الله! زوجنيها. قال: {التمس ولو خاتماً من حديد. فلم يجد، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن} هذا جانب من التيسير في أمر الزواج. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 32 وضوح المشاعر من معاملته صلى الله عليه وسلم مع أزواجه: وضوح المشاعر: {سئل: من أحب الناس إليك قال: عائشة} . كثيرون اليوم يستحي الواحد منهم أن يعبر عن شعوره تجاه زوجته مثلاً، ويستحي الواحد منهم، بل يستعيب أن يذكر أو أن يعرف الناس اسم زوجته، ويعتبر هذا عاراً، وأنه منافٍ للمروءة والرجولة، لكن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول: عائشة. فذكر اسم زوجته وأيضاً أنها أحب الناس إليه. وكان عليه السلام يقف لـ عائشة وهي تنظر إلى الحبشة، وهم يلعبون في المسجد حتى تمل، فإذا ملت وسئمت انصرفت وانصرف صلى الله عليه وسلم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 33 قصة زواج عائشة وعلى سبيل المثال: عائشة في قصة زواجها، لما دخل بها النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، كانت تلعب مع البنات، فدعتها أمها أم رومان إلى نسوة من الأنصار، فأصلحن من شأنها وغسلن رأسها، ثم قلن لها: على اليُمن والبركة وعلى خير طائر. وأدخلنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنني إليه وذلك ضحى]] بدون تكلف ولا مبالغات، في الالتزامات والمواعيد والمناسبات والتكاليف، وغير ذلك من الأشياء التي حوَّلت الزواج إلى مشكلة صعبة ربما لا يستطيع الكثيرون أن يجتازوها أو يقتحموها. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 34 يُسر النبي النبي صلى الله عليه وسلم مع خصومه كيف كان عليه السلام يتعامل مع خصومه؟ وكيف كان تيسيره في ذلك؟ الجزء: 23 ¦ الصفحة: 35 المنافقون والمشركون كيف عامل المنافقين؟ أخذهم بالظاهر، لم يقتل أحداً منهم، بل إنه لما طلب إليه ذلك، قال -كما في صحيح البخاري عن جابر -: {فكيف إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} فما دام يعلن الإسلام فإني آخذه بالظاهر وأدع سريرته إلى الله عز وجل. المشركون كيف عاملهم؟ عاش في مكة ثلاث عشرة سنة بين أظهر المشركين والوثنيين، فكان يعاملهم ويبيع منهم ويشترى، ويدعوهم ويتحدث معهم، وغير ذلك من ألوان المعاملات التي تجري عادة بين هؤلاء الناس، ومما يقطع به قطعاً لا شك فيه: أن النبي عليه السلام لم يكن يهجرهم أبداًً، بل كان يعاملهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، ويبيع منهم ويشتري، ويدعوهم إلى الله عز وجل، ويحضر مجالسهم ويحادثهم، وربما كنى بعضهم إلى غير ذلك. نموذجان من معاملاته بصفة خاصة لبعض المشركين: الأول: قصة غورث بن الحارث، وهي في صحيح مسلم: {لما نزلوا في منزل، وكانوا يتركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مكان تحت شجرة، فنام تحته صلى الله عليه وسلم، وتفرق أصحابه في الأشجار، فجاءه رجل مشرك فأخذ السيف وسله على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا محمد! من يمنعك مني؟ فقال: الله. فسقط السيف من يده، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: من يمنعك مني؟ فقال: لا أحد، قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: لا} انظر كيف الوضوح عند هذا الرجل وإن كان مشركاً لكن ليس عنده نفاق، ما آمن ولذلك قال: لا، والسيف على رقبته قال: {ولكني أعاهدك ألا أحاربك، ولا أكون مع قوم يحاربونك} فجاء الصحابة فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم خبر هذا الرجل. القصة الثانية: قصة ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة، لما أخذه المسلمون وكان يريد أن يعتمر، فقبضوا عليه وأودعوه في المسجد، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه النبي عليه السلام، وفي اليوم الثاني تكرر نفس الكلام، وفي اليوم الثالث قال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة فأطلقوه، فخرج الرجل وذهب إلى ماء قريب من المدينة - نخل - فاغتسل، ثم جاء وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله يا محمد ما كان على وجه الأرض أرض أبغض إلي من أرضك، فقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، والله يا محمد، ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله يا محمد ما كان على الأرض دين أبغض إلي من دينك، فقد أصبح دينك أحب الأديان كلها إلي} ففرح النبي صلى الله عليه وسلم. ثم ذهب هذا الرجل إلى قريش فقال لهم: والله لقد أسلمت، ولا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فرض عليهم الحصار الاقتصادي إلا بإذن الرسول عليه الصلاة والسلام. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 36 تعامله مع اليهودي مات الرسول صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند يهودي، معناه أنه كان يبيع ويشتري منهم. دعاه يهودي إلى خبز شعير وإهالة سنخة كما في الصحيح، فأجابه وأكل منها صلى الله عليه وآله وسلم. دعته امرأة بخيبر - زينب كما هو معروف- هو وجماعة من أصحابه، دعتهم إلى طعام، فأكل صلى الله عليه وسلم وأكلوا، ونهس نهسة وكان فيها سم، فألقاها عليه الصلاة والسلام وقال: {إن هذا الذراع يخبر أنه مسموم} والقصة معروفة وهي في الصحيح. {جاءه اليهود وقالوا: السام عليك يا رسول الله! فغضبت عائشة وقالت: عليكم السام واللعنة. -والسام هو الموت والهلاك- فنهاها الرسول علية الصلاة والسلام وقال: إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، قالت: ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله! كأنها ظنت أنه ما اطلع وما علم، أو أن الأمر فاته، قال: أولم تسمعي ما قلت؟ قلت: وعليكم} أي الموت حتم للجميع، لا أحد يموت دون أحد. وكان في جيرانه غلام يهودي، فكان يخدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما حضرته الوفاة جاءه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا غلام! قل لا إله إلا الله. فنظر إلى أبيه فقال له أبوه: أطع أبا القاسم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده وهو يرفع يديه إلى السماء ويقول: الحمد الله الذي أنقذه من النار} وأسلم هذا الغلام ومات على الإسلام، والحديث في صحيح البخاري الجزء: 23 ¦ الصفحة: 37 هديه وتيسيره في العبادات الجزء: 23 ¦ الصفحة: 38 الطهارة توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، وكان وضوؤه يسيراًً بعيداً عن التكلف وما ابتلي به الموسوسون وغيرهم، يتوضأ بكل ما لم يعلم فيه نجاسة، فالأصل في الماء أنه طهور، ولما سُئِلَ عن الماء الذي ترده السباع والدواب والكلاب وغيرها، قال: {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} وكان يتوضأ بمد ويغتسل بصاع، ويقول: {أما أنا -أي في الغسل- فأفيض الماء عل رأسي، ثم على جسدي فإذا أنا قد طهرت} وإذا لم يجد الماء، أو تضرر باستعماله، لجأ صلى الله عليه وسلم إلى التيمم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 39 الصوم والذكر أما في الصوم، ورخصه للمريض والمسافر والحامل وغيرهم، أو الحج، ورخصه للمرأة والضعيف والصبي والرعاة. كذلك الذكر وقراءة القرآن -مثلاً- من جواز القراءة عن ظهر قلب حتى لغير المتوضئ ما لم يكن جنباً، لكن لا يمس القرآن إلا طاهر، وكذلك يذكر الله تعالى وسبحه ويهلله، ولو كان جنباً، وهذا بالإجماع، لكن لا يقرأ القرآن حتى يغتسل. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 40 الصلاة الصلوات خمس وهي خمسون في الأجر، كما في صحيح البخاري، وفي حديث عبادة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه أصحاب السنن وسنده صحيح: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد، من حافظ عليهن بركوعهن وخضوعهن وسجودهن وطهورهن، كان له عهد الله أن يدخله الجنة، ومن لم يحافظ عليهن لم يكن له عند الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} . جاءه أعرابي فسأله عن الإسلام، فذكر له الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والصوم، فقال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق} بل في رواية: {من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا} . ليس هناك أحد من الصحابة ذكر في سيرته أنه صلى لله في ليلة ألف ركعة، ولا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كان يصلي إحدى عشرة ركعة من الليل، وفي بعض الأحيان ثلاث عشرة ركعة، كان يصلي من الليل وينام كما قال الله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:2-5] . كيف كان صلى الله عليه وسلم يُعِّلم الناس الصلاة؟ {جاءه رجل فصلَّى ثم سلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: ارجع فصلّ فإنك لم تصل ثلاث مرات وهو المسيء في صلاته، والحديث في الصحيحين- قال له: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني. قال: إذا قمت إلى الصلاة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم اجلس حتى تعتدل جالساً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها} . هذه هي الصلاة في أوضح وأبسط وأجلى صورها، علمها النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل، بل إنه عليه الصلاة والسلام ذكر أنه من لم يحسن قراءة الفاتحة فليذكر الله تعالى ويقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلابالله. وذلك إذا كان لا يستطيع أن يقرأ الفاتحة ولا يحسنها ولا يتعلمها. وأذن للإنسان أن يصلي في كل مكان، فقال عليه الصلاة والسلام: {جعلت لي الأرض مسجداً وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان} وكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم متواضعاً، مبنياً بناءً بسيطاً بعيداً عن التكلف، وعن التشييد، وكانت أبوابه مشرعة -مفتوحة- حتى قال ابن عمر كما في صحيح البخاري: [[كانت الكلاب تقبل وتدبر]] وفي رواية: [[وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما كانوا يرشون شيئاً من ذلك]] لأنه إما أن الشمس تزيل هذا، أو لأنه لا يظهر أثر البول على مكان معين. وقال صلى الله عليه وسلم بالنسبة للعاجز، كما في حديث عمران بن حصين وهو في الصحيح: {صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} قال تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] . الجزء: 23 ¦ الصفحة: 41 حال الموسوسين في العبادات ولو قارنت ذلك بحال كثير من الموسوسين الآن لرأيت العجب العجاب. هذا سيد البشر صلى الله عليه وسلم، وهذا تيسيره في أمر العبادة، في أمر الطهارة والصلاة والحج والزكاة والصوم وغيرها، وبعده عن ألون التكلف في ذلك. أو تقارنه بحال الغلاة من المتصوفة وغيرهم، وما يذكر عنهم من طول التعبد فيما يزعمون، وما هي بعبادة، أو ما يذكر عنهم من الأحوال وغيرها. أو تقارنه بحال الخوارج، الذين هم كما قال عنهم عليه الصلاة والسلام: {يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقراءته إلى قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقد آل بهم الأمر إلى تكفير المؤمنين، بل تكفير بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن هؤلاء القوم غلوا في العبادة، ولم يفهموا معنى التيسير في الإسلام، فكانت عندهم جرثومة تعظيم ورؤية النفس والاغترار بالعمل. أما صاحب المعصية -مثلاً- فعلى رغم معصيته هو خير منهم، لأن صاحب المعصية لا يقوم في نفسه دافع الغضب من المعصية والمقت لأهلها، ولا يقتنص النصوص من أجل أن يكفر فلاناً وفلاناً، بل تجده متواضعاً لله عز وجل، ولهذا ربما يكون الإنسان الذي عنده قدر من العبادة خيراً من الإنسان الذي بالغ في التعبد إذا صاحب تعبده اغترار، أو إعجاب، أو رؤية النفس، أو يظن أنه بذلك استحق الجنة، كلا! بل عبادة قاصدة معتدلة، مع تواضع لله عز وجل واعتراف بأن النعمة منه، وأن العبد لو قضى حياته كلها في سجدة واحدة ما أدى شكر نعمة الله عز وجل، بل العبادة من نعمه، والإيمان من نعمه، والشكر من نعمه، وكما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر عدم السؤال الافتراضي؛ لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح بأن يفترض الناس أسئلة خيالية، ثم يسألون عنها، وكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها كما في صحيح مسلم. فالأصل في الأشياء الطهارة، في المياه والبقاع والثياب وجميع الأشياء، ولذلك كان يلبس الثياب التي نسجها المشركون، ولا يلزم أن يغسلها، بل أجمع المسلمون عل جواز لبسها دون أن تغسل، وكان أصحابه يلبسون من الثياب الرومية وغيرها، ولا يقال عن شيء إنه نجس إلا بدليلٍ ظاهرٍ قاطع على نجاسته. ولهذا استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم آنية المشركين، وأكل فيها وشرب منها، كما في الحالات التي دعوه فيها إلى بيوتهم، وكما إذا سيطر المسلمون على أرض، أو غنموا شيئاً من الغنائم من المشركين، كالملابس أو الأواني أو غيرها، كانوا يستعملونها دون غسل، بل توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة، كما في حديث عمران وأصله في صحيح البخاري، إلى غير ذلك. عدم السؤال الافتراضي: لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يسمح بأن يفترض الناس أسئلة خيالية، ثم يسألون عنها، وكره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها كما في صحيح مسلم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 42 الأصل في الأشياء الإباحة كذلك من التيسير في أمر الأحكام: اعتبار أن الأصل في الأعيان الإباحة، ولا يحتاج إلى دليل في الإباحة، لكن الذي يقول بالتحريم هو الذي يحتاج إلى دليل، فالأصل في الأشياء أنها مباحة، كما قال الله عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} [الجاثية:13] الجزء: 23 ¦ الصفحة: 43 جواز المحرم للحاجة وللمصلحة الراجحة ومن التيسير -أيضاً- في الأحكام: أن المحرمات -تحريم الوسائل- تجوز للضرورة وللحاجة، وتجوز للمصلحة الراجحة أيضاً، كما أجاز النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- النظر إلى المرأة المخطوبة، وإن كان النظر أصله حرام؛ لكن أجاز ذلك للمصلحة، وكذلك إذا سام أو استام أمة، وأراد أن يشتريها ينظر إليها. ومثله إذا كان يعاملها ويحتاج إلى أن يعرفها لغرض في أمر البيع، ويمكن أن يلحق بذلك -أيضاً- على سبيل المثال: موضوع التصويرعند من يقول بتحريمه، فإنهم يرون تحريمه تحريم الوسائل، فيكون جائزاً للضرورة وللحاجة وللمصلحة الراجحة أيضاً. ولهذا كان من قواعد أهل العلم: المشقة تجلب التيسير، ويقول بعض الأصوليين: إذا ضاق الأمر اتسع وما ذلك إلا جانب من تيسير النبي صلى الله عليه وسلم في هديه، ودعوته، وعقيدته، وتعليمه، وأحكامه، وعبادته، ومعاملاته، فصلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورضي الله تعالى عن أصحابه الكرام، الذين تلقوا عنه هذا اللون من العلم ومن الدعوة ونقلوه إلى من بعدهم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 44 إجراء عقود المشركين ومناكحاتهم ومثله -أيضاً- من التيسير في الأحكام: إجراء أنكحة المشركين وعقودهم على ما كانت عليه قبل الإسلام، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم والناس متزوجون وعندهم عبيد، وعندهم بيوع، أشياء باعوها وأشياء اشتروها وأشياء رهنوها إلى غير ذلك، فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك كله على ما كان عليه من قبل. ومثله -أيضاً- ما يتعلق بأسمائهم وملابسهم وعوائدهم التي لا تعارض الشرع، فإن النبي عليه السلام لم يغيرها، ولم يكن يشترط في كل من أسلم أن يغير اسمه ما دام أن الاسم ليس فيه تعبيد لغير الله مثلاً، ولا أن يغير ملابسهم بل كانت الملابس التي يلبسونها هي ملابس العرب التي كانت في الجاهلية، إلا ما كان منها معارضاً للشرع، مثل أن يكون حريراً محرماً أو مسروقاً أو مغصوباً أو مصبوغاً بمحرم أو نجساً، فهذا أمر آخر. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 45 الأسئلة الجزء: 23 ¦ الصفحة: 46 اختلاط الأقارب من غير المحارم السؤال كثير من الناس يقولون: الدين يسر ويفهمون فهماً خاطئاً، ومن الأفهام لهذه المسألة الاختلاط بين الأقارب الذي يعتبر من الأخطاء الشائعة في كثير من الأماكن، وإذا ما نصحته ووجهته إلى أن هذا لا يجوز، قال: إن الدين يسر، ولم يحرم دخول الأقارب بعضهم على بعض، فبماذا تنصح؟ الجواب الجواب هو أن تذكر له النص، من اليسر ألاّ تعقّد له المسألة، بل توضحها له، عندك نص من الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، يقول: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فخلوة الرجل بامرأة غير محرم لها حرام، هذا من اليسر في التعليم، كذلك أن تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم الصادق المصدوق قال: {إياكم والدخول على النساء، قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو -وهو أخو الزوج وقريبه- قال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} وكلا الحديثين في الصحيح. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 47 تدريس البنات من قبل الرجال السؤال يقول: تقيم وزارة الصحة بجيزان دورة للممرضات، والذين يدرسون هؤلاء الممرضات رجال، فما رأيكم في هذا المنكر؟ وما الدور للمشايخ والعلماء، وطلبة العلم من شباب الصحوة؟ الجواب الحمد لله الخير الآن كثير، والعلماء والمسئولون عن الدعوة والقضاة والأخيار موجودون في هذا البلد وفي غيره، فما عليك إلا أن تبلغ هؤلاء بأي وثيقة تدل على أن هذا المنكر قائم فعلاً، وثق ثقة تامة أن هؤلاء العلماء لا يمكن أن يتخلوا عن دورهم في إنكار هذا المنكر، بزيارة المسئولين عن الشئون الصحية، ومطالبتهم بتغيير هذا المنكر وإزالته، وتطمئن قلوب الناس لذلك. هذا وأسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألَّا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 48 التعامل مع اليهود والنصارى السؤال هل معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود والنصارى تصلح لمعاملتهم في هذا الزمان؟ والله يقول: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد:35] . الجواب اليهود الآن في حالة حرب معنا، خاصة اليهود في إسرائيل، وكذلك النصارى في عدد من البلاد، هم في حالة حرب مع المسلمين، والمحاربون لهم أحكام خاصة في المعاملات، ولكن إذا كان المسلمون في حالة استضعاف، فإنهم يسلكون المعاملة التي سبق، فإذا كانوا في حالة قوة فإنهم يسلكون معاملة أنهم يدعون الناس إلى الإسلام، فإن أبوا استعانوا بالله وقاتلوهم. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 49 طلب حث على الجهاد بالمال السؤال يقول: نرجو حث الإخوان على التبرع لإخوانهم في جمهورية البوسنة والهرسك، الذين يتعرضون للذبح والتعذيب والاضطهاد من الصرب الصليبيين؟ الجواب تحدثنا البارحة في أمسية أو ندوة بعنوان: مشاهدات من يوغسلافيا، عن مشاهدات مؤسفة، ومؤذية جداً، عما يلقاه المسلمون هناك من مصائب ونكبات على أيدي الصرب النصارى، الذين يذبحونهم ذبح الخراف، وهناك أشياء يندى لها الجبين لا يتسع المجال لها، لذلك أحيلكم على الشريط الذي ذكرت وعلى غيره، وأدعو الإخوان إلى أن يبذلوا لله تعالى ويساعدوا إخوانهم بما تجود به نفوسهم. بل يجب أن يكون هناك بذل حقيقي وصادق لهؤلاء الإخوة؛ لأنهم الآن يدافعون عن أنفسهم، وقد ترى منهم شاباً شجاعاً جلداً قوياً تنهمر الدموع من عينه، لأنه يقول: لا أملك السلاح الذي أدافع به عن نفسي، وهو شجاع، ولو طلبت منه أن يهد معسكرات فيها (300) ألف إنسان لفعل. ولا يوجد من الحليب الذي يتغذى به أطفالهم إلا نحو خمسين أو أربعين كرتوناً مثلاً. من لهؤلاء المسلمين؟! من للجياع وللأراملة وللأطفال وللنساء؟! من للشباب الشجعان الذين يقولون: نريد السلاح؟! أنت لهم يا أخي، وهم يستغيثون بالله ثم بك، ولا يجوز لك أن تخذلهم، والله العظيم إن خذلتهم فسيخذلك الله عز وجل في موقف تحب فيه نصرتك، فأدعوكم ثم أدعوكم إلى أن تسارعوا بالبذل لإخوانكم. ولا نسامح واحداً منكم -يستطيع- أن يخرج من هذا المسجد إلا ويبذل ما يسر الله تعالى له، من لم يجد المال فليتبرع بما يستطيع، حتى لو أن تتخلى عن ساعتك التي في يدك في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل:20] ومن لم يجد اليوم، فمن الممكن أن يأتي في الغد أو بعد الغد بما يستطيع، وندعو النساء، وندعو الإخوة إلى أن يوجهوا هذه الدعوة -أيضاً- إلى كل الناس، وينقلوا لهم هذا الكلام، ويرسلوا إليهم بعض الأشرطة التي تتكلم عن هذا الموضوع، يجب أن تكونوا كلكم رسلاً لدعوة الناس إلى التبرع لإخواننا المسلمين في يوغسلافيا. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 50 الحب في الله والحب الطبيعي السؤال شخصان متحابان في الله إلى درجة كبيرة، حتى أصبح أحدهما لا يأمر الثاني بالمعروف ولا ينهاه عن المنكر؟ الجواب هذا ليس حباً في الله، لأن الحب في الله كلما زاد كان سبباً في التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، ولكن هذا الحب قد يكون حباً طبيعياً أو حب ألفة، أو قد يكون غير ذلك أيضاً، فينبغي أن يعرف أن الحب في الله كلما زاد، كان سبباً في أن يزيد أحدهما لصاحبه دعوة إلى الله ونصيحة له، وأمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، فالحب يعرف بثمراته. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 51 واجب الإنسان تجاه تارك الصلاة السؤال يقول: بماذا تنصح من له زوجة لا تصلي، وتسمع الغناء وتشاهد التمثيليات والأغاني في التليفزيون؟ أو امرأة لها زوج به هذه الصفة؟ الجواب يجب أن يأمر الرجل زوجته بالصلاة، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] فيأمرها بذلك، بل أن يحملها على الصلاة حملاً، فإذا أصرت على ترك الصلاة، فإنه ينبغي له أن يتركها ولا خير له فيها؛ بعد أن يستفرغ الوسع في دعوتها، وكذلك المرأة ينبغي لها أن تأمر زوجها بالصلاة، وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وتلح عليه في ذلك، وتكثر وتبذل الوسائل والأسباب، وتعطيه الكتب والأشرطة، وتوصي به الجيران، وتوصي به إمام المسجد، وتوصي به من تعرف من الأخيار، فإذا أيست من صلاحه ورأت أنه مصر على ترك الصلاة بالكلية؛ فينبغي لها أن تفارقه ولا خير لها فيه. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 52 غشيان المعصية بذريعة التيسير السؤال بعض الناس يتركون كثيراً من الفرائض ويرتكبون بعض المعاصي، ويقولون: الدين يسر. الجواب نقول لهم: هذه كلمة حق عندكم أريد بها باطل، الدين يسر ولكن ليس من اليسر أن تعصي الله تعالى؛ لأن المعصية عسر على العبد، والله تعالى قال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] فالدين يسر، وكل ما أمر به الدين فهو يسر، وكل ما نهى عنه الدين فهو عسر. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 53 حكم صلاة الجمعة للعسكريين في خارج المدينة السؤال نحن أفراد عسكريون لا يتجاوز عددنا خمسة عشر، ونعمل في مركز يبعد عن المدينة كثيراً، وحيث أننا نمكث أكثر من شهر في المركز، وصلاة الجمعة تفوتنا وقد قيل إنها لا تقام إلا بأربعين، أفيدونا؟ الجواب إذا كنتم تقيمون دائماً في هذا المكان، فإنه يمكن أن تستأذنوا في إقامة صلاة الجمعة، لأن الجمعة على الصحيح لا يشترط لها أربعون، بل يمكن أن تقام الجمعة بثلاثة، وليس للجمعة عدد يشترط له، وما ورد في ذلك من الأحاديث ليس بصحيح، إنما إذا كانوا جماعة مقيمين مستقرين، فإنه يمكن أن يقيموا الجمعة فيها، ويستأذنوا في ذلك من جهات الأوقاف، أو من الإفتاء أو من غيرها. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 54 الجهاد والخلاف بين المجاهدين في أفغانستان السؤال يقول: يرغب السامعون في معرفة آخر تطورات الجهاد في أفغانستان وما هي حقيقة الخلاف الذي تثيره وسائل الإعلام؟ الجواب أولاً: وسائل الإعلام إذا أثارت الخلاف، فهي تذكر بعض الحقيقة، ولكنها تتعمد تضخيم هذه الحقيقة لحاجة في نفسها، فالصحيفة التي تتمنى أن تقوم حرب أهلية في أفغانستان، تجد أنها تكتب بالخط العريض: الحرب الأهلية تدق طبولها في أفغانستان، لأن هذا ما يتمنون، قال تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] فالخلاف قائم ولا شك، بل منذ أن قام الجهاد والخلاف قائم وموجود، ولكن الواقع أن الأمور الآن - في اعتقادي تسير نحو صورة قد تكون أفضل مما يتوقع الكثيرون، صحيح أنها ليست الصورة التي نتمناها. وفي أوضاع الجهاد سلبيات ربما تحدثت عن بعضها فيما مضى، ولا داعي للحديث عنها الآن. ولكن من آخر الأخبار التي وصلتني هذا اليومك أن الجناحين الذين بينهما اختلاف، الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، وجناح أحمد شاه مسعود، أن هناك لقاءً بينهما، وأن هناك اتفاقاً على أن تكون هناك قوات محايدة يقودها جلال الدين حقاني، وهو من جناح يونس خالص، تقوم بحراسة كابول وحمايتها، وتحول بين الطرفين، وأن هذا الاتفاق يمكن أن يحظى بالقبول من الطرفين، وربما يكون كل من الطرفين يشعر بالحاجة إلى الوحدة، وإلى عدم نزف الدماء، وأن وجود خلاف بين المجاهدين قد يكون سبباً في تدخل أطراف خارجية، هذا آخر الأخبار وهو خبر -إن شاء الله- مشجع. الأمر الذي أحزنني كثيراً، وأحزن المسلمين أيضاً، هو وجود مجددي على رأس وسدة الحكم هناك، ولا أدري كيف تسلل هذا الرجل؟! مع أنه يرأس حزب من أصغر الأحزاب، ومع أنه رجل صوفي، وغير مرضي في مسلكه ولا في اعتقاده، ولكن إنا لله وإنا إليه راجعون. ومما يؤسفني أن هذا الرجل وضع شهرين، ولكنه يقول: إن الشعب الأفغاني يحبني وأنا لا يكفيني شهران، بل أحب أن أحكم سنتين أو أطول من ذلك، ولكنني أقول: ينبغي أن يقول المسلمون كلمتهم، وأن يضغطوا على المجاهدين في منع هذا الرجل من مثل هذه الأشياء وإيقافه عند حده. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 55 أسهم المزاد في البنوك السؤال ما حكم شراء الأسهم المطروحة في مزاد البنوك الربوية؟ الجواب لا شك أن هذا لا يجوز، لأن البنوك الربوية قامت على أساس محاربة الله ورسوله، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279] فالربا من أكبر الكبائر، ولا يجوز تعاطيه ولا التعامل مع أهله بحال من الأحوال، ولا يجوز تأجيرهم محلات، ولا العمل عندهم في وظائف ولا غيرها، ويجب أن تعلم أن الرزاق هو الله. حدثني أمس أحد الإخوان يقول: كنت أعرف موظفاً في أحد البنوك، وكان راتبه في البنك عشرة آلاف، فتركه لله، وتوظف بـ (2800) ريال، يقول لي: والله قلت له بالأمس: أريد أن أسألك سؤالاً. فقال: لا تسألني أنا أعرف ما ستسألني. ستقول لي: كيف استطعت أن تتعايش مع الوضع الجديد 2800 فقط؟ فقلت له: نعم. قال: والله إن بقية الراتب لا زالت في جيبي إلى الآن ونحن في نهاية الشهر، وقبل وعندما كان عندي عشرة آلاف لم يكن فيها بركة، كانت تنتهي قبل ذلك وكنت أستدين، أما الآن فيقول: والله أحتفظ ببعض المال وبعض الراتب، ويقول: والله وجدت في نفسي كرماً ما عهدته من قبل. فالمسألة مسألة بركة، وإذا بارك الله فلا حد لبركته، وإذا محق الله البركة فلا ينفعك أن يكون عندك الملايين من الأموال. فأنصح الإخوة الذين يتعاملون مع البنوك شراءً للأسهم، أو عملاً فيها أو إيداعاً أو تأجيراً لها، أو تعاملاً بأي لون من الألوان، أن يتوبوا إلى الله تعالى من ذلك، وأن يقاطعوا هذه البؤر التي يُحاربُ فيها الله تعالى ورسوله. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 56 نصيحة للمدرسين السؤال يقول: ما هي نصيحتكم للمدرسين وخاصة من يشرف منهم على النشاط؟ الجواب هذا التدريس الآن نموذج للتيسير، هذا مدرس يتمثل التيسير في تعليمه، فتجد أنه ميسر في معاملته للطلاب، يعطف عليهم، ويتجاوز عن أخطائهم، ويلطف بهم، إن أراد وضع الأسئلة يسر فيها، ليس بمعنى أنه ضيع المنهج، لكنه يكون معتدلاً، فيضع أسئلة تدل على مستوى الطالب تماماً، ليس فيها مبالغة في التشديد، وليس فيها أيضاً مبالغة في التسهيل وتضييع المنهج. عندما يأتي إلى دور التصحيح مثلاً، تجد أنه يعطي الطالب الدرجة التي يعتقد أنها مناسبة له، فبعض الناس يقف طويلاً عند الدرجة، وينقر فيعطي ربع درجة، وثلث درجة، ونصف درجة، وهناك أشياء من الممكن التسامح فيها، لأنه ليست القضية رياضيات 1 + 1 =2، وإنما فيها مجال للأخذ والرد. فتجد معلماً -مثلاً- يتسامح مع طلابه، وييسر في معاملاته، ويعطف عليهم، ومع ذلك يضبط الدرس، ويضبط المادة، وينهي المنهج، وجاد في تدريسه ومحبوب عند الآخرين، فهذا نموذج للتيسير في هذا الموضوع. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 57 صيدلي نصراني ينصر السؤال هناك صيدلي نصراني، إذا جئته هش في وجهك ويقول: نحن نحب المسلم. لكنه يحاول إغواء الشباب ببث أفكار نصرانية؟ الجواب أولاً: نتساءل لماذا يوجد هذا النصراني؟ خاصة أنه يبدو أنه عربي، وليس هناك أخبث من النصارى العرب، ولا أكثر حقداً منهم على الإسلام والمسلمين، فأقول: يجب أن نبذل النصيحة لمن أحضره إلى هذه البلاد، أن يبعده ويستبدله بحنيف مسلم، خاصة ونحن الآن على حالة حرب مع النصارى في كثير من البلاد، بل في كل الدنيا، حرب بين الإسلام والنصرانية، أو كما يقول بعضهم حرب بين الهلال والصليب، لكن هذا لا نرتضيه شعاراً، بل بين الإسلام وبين النصرانية، حرب قائمة لا يهدأ أوارها ولن يهدأ حتى قيام الساعة، فينبغي أن يكون جزءاً من مقاومتنا لهؤلاء الذين يذبحون إخواننا في يوغسلافيا، ويذبحون إخواننا في بلاد العرب، ويتآمرون على مكتسبات المسلمين في الجزائر، وفي تونس، وفي مصر وفي كل مكان، ويؤيدون كل عدو ضد الإسلام. ينبغي أن يكون أقل ما نفعله أن نبعدهم عن بلادنا، ولا نتعامل معهم، لا في صيدليات، ولا في ورش، ولا في مصانع، ولا في تعليم، ولا في تدريس، ولا في استشارات، ولا في غير ذلك. ثم ينبغي إذا ظل هذا الرجل قائماً أن نكون يقظين له، ونتتبع كل ما يقوم به من أعمال، وإذا ثبت لدينا أنه يبشر أو ينصر، أو يدعو إلى ديانته، أن يضبط ذلك عنه ويبلغ لمن يستطيع أن يبعده. الجزء: 23 ¦ الصفحة: 58 هموم فتاة ملتزمة في هذه الأوضاع التي كثرت فيها وسائل الفساد أصبحت الفتاة الملتزمة تواجه هموماً ومصاعب كثيرة، تحتاج إلى من يضع لها الحل المناسب، الذي يتناسب مع طبيعة المرأة والعصر. وقد قام الشيخ سلمان العودة -حفظه الله- بجمع ما يصل إليه من الرسائل التي تحكي كثيراً من مشاكل المرأة الدعوية والزوجية والعائلية، وعرضها في هذا الدرس بأسلوب شيق ممتع، مع وضع الحلول المناسبة لها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 1 معنى الالتزام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا. هذا الدرس الثامن والأربعون من" الدروس العلمية العامة" في ليلة الإثنين 26/جمادى الأولى/ 1412للهجرة. والعنوان" هموم ملتزمة". من نعني بكلمة ملتزمة. إننا نعني بها تلك الفتاة التي آمنت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم نبياً ورسولاً، ورضيت بمنهج الله تعالى وشريعته ديناً ودرباً وطريقاً، فلم ترض بقوانين الشرق والغرب ولا تقاليدها، وإنما رضيت أن تكون أسوتها وقدوتها هن النسوة المؤمنات الصالحات من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة والتابعين. فليست هي تلك الفتاة التي أخذت الدين تقليداً عن آبائها وأجدادها، وهي تشعر أنه عبءٌ ثقيل تتمنى أن تلقيه عن كاهلها صباحاً أو مساءً، ولا تلك الفتاة التي أخذت من دينها بظاهره، وغفلت عن باطنه وحقيقته، فإن الدين كلٌ، مظهر ومخبر، سلوك وعقيدة، ولا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يفرط ببعض الكتاب: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ} [البقرة:85] . وهذه قصيدة للشاعر العشماوي في وصف بعض التناقض الموجود عند بعض البنات والنسوة، يقول: هذي العيونُ وذلك القدُّ والشيحُ والريحانُ والنَّدُّ من أين جئتِ؟ أَأَنْجَبَتْكِ رؤىً بيضٌ فأنتِ الزهرُ والوردُ قالت وفي أجفانِها كَحَلٌ يُغري وفي كلماتها جِدُّ عربيةٌ حُريتي جَعَلَتْ مني فتاةً مالها ندُّ أغشى بقاعَ الأرضِ ما سَنَحَتْ لي فرصَةٌ بالنفس أعتدُّ عربيةٌ فسألتُ: مسلمةٌ؟ قالت: نعم، ولخالقي الحمدُ! فسألتها والحزن يَعْصِف بي والنارُ في قلبي لها وقْدُ من أين هذا الزِّيُّ ما عَرَفَتْ أرضُ الحجازِ ولا رأت نَجْد?! هذا التبذُّل يا محدّثتي سهمٌ من الإلحاد مرتَدُّ! فتنمَّرَتْ ثم انْثَنَتْ صَلَفًا ولسانُها لسِبابها عَبْدُ قالت: أنا بالنفسِ واثقةٌ حريَّتي دون الهوى سدُّ فأجبتُها والنارُ تَلْفَحُني: أخشى بأن يتناثَرَ العِقدُ! ضِدَّانِ يا أُختاه ما اجتمعا: دينُ الهدى، والكفرُ والصَدُّ والله ما أزْرى بأمتِنا إلا ازدواجٌ ما له حدٌّ! الجزء: 24 ¦ الصفحة: 2 مصادر موضوع هموم فتاة ملتزمة وبين يدي الحديث يتساءل البعض من الإخوة عن مصادر هذه المادة التي سأقدمها لكم الآن، فأقول: بعد كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الذين بهما نسترشد ونستهدي في كل طرق الحياة، فمعظم هذه المادة من رسائل الأخوات، واستفساراتهن، وكتاباتهن إليًَّ، فلهن مني التحية والسلام والدعاء، فبدءًا من العنوان وهو (هموم ملتزمة) هو اقتراحٌ من إحدى الأخوات، ومرورًا بالموضوعات، وانتهاءً ببعض الأسئلة التي أحضرتها معي، وأرجو أن يكون ثمة وقت للإجابة عليها أو على بعضها، وقد حرصت أن يكون كل ذلك مما عملته أيديهن. تقول إحداهن في مطلع اقتراحها للموضوع: إن الملتزمة بحاجةٍ ماسة إلى من يأخذ بيدها، ويطور لها التزامها، وبالذات مع شعورنا بأن هناك من الواعين من يعتقد أن تحجُّب الفتاة وتركها لمشاهدة التلفاز هو النقطة الأخيرة التي تقف عندها وليتهم يعلمون أن معظم الملتزمات يملكن كل شيءٍ إلا الفكر والفهم السليم! فهكذا تقول الأخت. وإذا كنا نوافق أن كثيرًا من الناس يظنون أن الالتزام ينتهي عند حد الحجاب وترك مشاهدة التلفاز، مع أن الواقع أن المسلم أو المسلمة لايزالان في جهاد وترقٍّ إلى الموت، تصديقًا لقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . فالالتزام ليس مرحلة يتجاوزها الإنسان إلى غيرها كلا! وليس قضيةً ينتهي عندها المرء! بل إن الالتزام هو محاولة مستمرة تظل مع الفتى ومع الفتاة إلى الممات، حتى في ساعة الموت يجاهد الإنسان نفسه ويعبد ربه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] . ومادام أن الروح في الجسد، ومادام أن النَّفس يتردد؛ فأمام الإنسان ألوان وألوان من المجاهدات والمصابرات والمدافعات؛ يحتاج الرجل إليها، وتحتاج المرأة إليها. ولكننا لا نوافق تلك الأخت، على أن معظم الملتزمات يملكن كل شيءٍ إلا الفكر والفهم السليم، فإن كثيرًا من الأخوات الملتزمات يملكن-بحمد الله- قدرًا جيدًا من الفهم السليم، ويملكن عقولاً ناضجة، ويملكن مواهب قوية، نسأل الله لنا ولهن جميعًا الثبات. أما العناوين فهي كالتالي: أولاً: المرأة والالتزام . ثانياً: من صفات الداعية. ثالثاً: من مشكلات الدعوة النسائية. رابعاً: عقبات في الطريق. خامساً: موضوعات وكتب. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 3 المرأة والالتزام إن المرأة بطبيعتها أكثر تأثرًا بالخير والشر، وبما يحيط بها من الرجل؛ ولذلك نعرف خطر استغلال تلك الأجهزة العامة -أجهزة الزور المسماة بأجهزة الإعلام- في التخريب، وتأثير تلك الأجهزة في عقلية المرأة خاصة مع بقاء المرأة في المنزل، ووجود الفراغ الذي تعيشه جزءاً من الوقت، فكثيرٌ من النساء تعتكف عند هذا الجهاز، ومنه تتناول ثقافتها وعلمها، بل وحتى معلوماتها عن دينها، فهي إنما تتلقاها بواسطة هذا الجهاز من خلال بعض الأقوال، وبعض الآراء، وبعض الأطروحات، وبعض الأمور التي تقدم لها. إن من الواجب: أن تُستخدم الوسائل العلنية العامة في مخاطبة النساء كالشريط، والكتاب، والمحاضرة المتخصصة بل والمدرسة والجامعة، حتى أقول: والسوق، وكلَّ وسيلة متاحة مباحة، فإنه ينبغي أن يستخدمها الدعاة إلى الله تعالى في الوصول إلى عقول النساء، وقلوبهن، ومخاطبتهن بآيات الله تعالى والحكمة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 4 أهمية تعليم الفتاة الملتزمة وبعض الإِخوة يَعتبون عليَّ، ويقولون: لماذا تحرض النساء على الاستمرار في الدراسة-مثلاً- أو على مواصلة العمل، وخاصة من المتدينات؟ و الجواب أقول لإخوتي وأخواتي: إننا في مجتمعٍ لا ننفرد نحن بصياغته وصناعته؛ بل هو مجتمعٌ فيه صناع كثيرون، ذوو عقول شتى، ومذاهب مختلفة، وآراءٍ متباينة؛ بل ونظرياتٍ واتجاهاتٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار- كما يقال- فإذا توقفت الملتزمة عند حدٍ معينٍ فغيرها لا يتوقف. ومعنى ذلك أننا حين ننصح المتدينات بترك الدراسة -مثلاً- أو ترك مجالات العمل والتأثير؛ فإننا سمحنا لكل الفئات، وكل الطبقات، وكل الاتجاهات التي لا تسمع لنا أصلاً- لها بأن تنمو وتتوغل وتتغلغل في المجتمع، ووضعنا سدًّا منيعًا أمام العنصر الوحيد الذي يمكن أن يساهم بشكلٍ جيدٍ في ضبط المسيرة، أو يساهم في تحجيم الشر والفساد، ولا أعتقد أن ثمة خدمةً يمكن أن نقدمها للعلمانيين بالمجان أكثر من هذه الخدمة، ولا توجد خدمة يمكن أن نقدمها لأصحاب النوايا السيئة وصرعى الشهوات أعظم من هذه الخدمة، وليس هناك أعظم من أن تصبح التجمعات النسائية بجامعاتها وبكلياتها ودراساتها ومعاهدها وندواتها وأعمالها خالية من الفتاة الملتزمة، التي ترفع راية الدين، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. وأقل ما يمكن أن تقوم به تلك الملتزمة هو: أن تشعر المجتمع بما يجري داخل تلك المجتمعات النسائية، وما يكون وراء الكواليس، ووراء الستار. إنَّ العلماء والدعاة-بل والعامَّة- أحوج ما يكونون إلى من يقول لهم: إنه يجري في أوساط النساء كيت، وكيت، وكيت، فأين دوركم؟ وما مجالكم؟ وأين هي أصواتكم؟ فإخبارهم بما يحصل ويحدث داخل تلك الأسوار هو أقل ما يجب. ومع ذلك أقول أيها الإخوة وأيتها الأخوات: إنني أعتقد أن زمن الشكوى المجردة قد انتهى، أو كاد أن ينتهي، وأعني بذلك أن دور الخيرين والخيرات لا يجوز أبداً أن يتوقف عند مجرد رفع الشكاوى للجهات المختصة: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وأقول: إن هذا الدور الذي يقف عند مجرد الشكوى فقط قد انتهى، أو كاد أن ينتهي لأسبابٍ أهمها: أولاً: إنه لو كان هناك إصرار من القمم على منع رياح التغيير والفساد لأحكموا غلق النوافذ، والمسئولون الصغار دائماً وأبداً يتلمسون مواقف الكبار، وردود فعلهم، ومدى حزمهم، أو تساهلهم، ولذلك يقال في النكت والطرائف: إذا أردت أن تعرف مدى قوة المسئول في بلدٍ؛ فانظر في سلوكِ البقال، فإذا صار بينك وبين البقال مشاجرة، فقلت له: إن فعلت وإلا رفعتك إلى مدير الشرطة، أو إلى المحافظ، أو إلى الأمير، فإن وجدته اضطرب وارتبك وخاف فاعرف أن هذا دليل القوة والعدل، وأن سيف الحق صارم، أما إن قال لك: ارفع وافعل ما شئت، وأمامك هيئة الأمم المتحدة، وأمامك وأمامك فاعلم أن الأمر دليلٌ على التراخي. ثانياً: ضغوط الناس لا يمكن إهمالها بحالٍ من الأحوال، فنحن -الآن- في عصرٍ صار للجماهير فيه تأثيرٌ كبير، فأسقطوا زعماء كباراً، وهزوا عروشاً، وحطموا أسواراً وحواجز، وما زالت صورة العُزَّل الذين يواجهون الدبابات بصدورهم في الاتحاد السوفيتي، بعدما قام الإنقلاب الشيوعي الأخير الذي فشل، ما زالت صور أولئك العزل يتدافعون في وجوه الدبابات بالآلاف، بل بعشرات الآلاف حتى استطاعوا، وهم لا يملكون ولا رصاصة واحدة أن يقفوا في وجه ذلك الانقلاب ويفشلوه، ما زالت هذه الصورة ماثلة للأذهان، وقد رآها العالم كله حيةً في شرقه وغربه. فإذا كان المجتمع الذي نعيش فيه مجتمعاً منقسماً، وهذه حقيقة: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] والإنقسام إلى حق وباطل، ومهتدٍ وضال، ومؤمنٍ وفاجر، هذا أمر لا خيار فيه، ولا حل له، ولا يعني أن هناك سعياً إلى تمزيق المجتمع، بل هو سعي إلى تسمية الأمور بأسمائها الحقيقة، ووضع الأمر في نصابه. فإذا كان المجتمع منقسماً -وهذه حقيقة- فيجب أن يمارس الخيرون كافة الوسائل لتحقيق قناعاتهم الشرعية. والشكوى وسيلة لا يمكن أن نهون منها أو من شأنها، ولكنها من أضعف الوسائل خاصةً إذا لم يكن معها غيرها. لكن يستطيع الأخيار أن يمارسوا دورهم كغيرهم. فكما أن تلك الفتاة المنحرفة المشبعة بأفكار الغرب واتجاهاته، استطاعت أن تصل إلى موقع التأثير والمسئولية، وغيرت عقول بعض بناتنا وفتياتنا، وأثرت عليهن، فكذلك تستطيع الفتاة الطيبة الصالحة المهتدية أن تكون في الموقع نفسه، وليس هناك حواجز -بحمد الله- كبيرة تقفُ في وجهها، وإن وجدت حواجز فالتغلب عليها ممكنٌ، والحاجة أم الاختراع، والمؤمن الصادق لا يعدم حيلةً توصله -بإذن الله تعالى- إلى ما يريد. الأمر الثالث الذي يجعلني أقول: إن مجرد الشكوى لا يكفي: هو أن من غير الممكن اليوم أن نقول للناس: أغلقوا الجامعات، والمستشفيات، والمؤسسات النسائية، فإن هذا أمرٌ غير ممكن، وهو أيضاً غير مطلوب، فلا بد للناس من كل هذه الأمور، وهي مؤسساتٍ ارتبطت بحياة الناس -الآن- بدون شك، فلم يبق إلا أن يرسم لهذه المؤسسات والمدارس والمستشفيات الإطار الشرعي الصحيح، والشرعُ جاء ليضبطِ كل شيء، قال تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الاسراء:12] ولم يبق إلا أن تشجع الفاضلات على إدارتها، أو على الأقل على المساهمة فيها، ومزاحمة الاتجاهات الأخرى غير المهتدية. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 5 أساليب المستغربات أيها الأحبة أيتها الأخوات كانت رموز الوطنية والتحرر والثقافة- زعموا- في معظم البلاد العربية، أمثال: هدى شعراوي، وأمينة السعيد، ونوال السعداوي والقائمة المعروفة، رموزاً في نظرهم يطبل لها الإعلام، وتتكلم عنها الصحافة، ويعتبرن رائدات في مجالهن. أما في بلاد الجزيرة بالذات، فلا تزال المستغربات في العقل والشعور موضع ازدراء وسخرية من المجتمع- بحمد الله تعالى- فهن يكتبن في صحافتنا بكل تأكيد، ولكن على استحياء، وبشيء من الغموض! فإذا أرادت إحداهنَّ نقد الدين؛ عبرت بالطقوس، والتقاليد البالية، والسراب، ومخلفات القرون السابقة، ولكنها لا تستطيع أن تتكلَّم عن الدين هكذا صراحًا بواحًا. وإذا أرادت نقد العلماء والدعاة؛ عبّرت عنهم بالمتطرفين والأصوليين، وأصحاب العنف وضيق الأفق أو أبعدت النجعة؛ فعبَّرت بالكهانة والكهنة!! وهنا يبرز مسئولية القادرات من أخواتنا وبناتنا، في وجوب وجود قيادات نسائية معروفة على كافة المستويات. فلابد أن يوجد في المدرسة قيادات، وفي نطاق التعليم قيادات، وعلى مستوى البلد قيادات؛ بل وعلى مستوى الإقليم قيادات. وهذا وإن كان واجبًا في كل بلاد الإسلام، إلا أنه في هذه البلاد أيسر وأسهل، فلا يزال الميدان مكشوفًا مفتوحًا لمن أراد. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 6 من صفات المرأة الداعية إذا كنّا نتحدث عن الفتاة الملتزمة، فإنني أكاد لا أتصور أن امرأةً، أو رجلاً ملتزمًا، يمكن أن يكون غير داعية- في مثل هذه الظروف الواقعة الآن- لأن من الالتزام أن يدعو الإنسان. ومعنى كون المرأة ملتزمة: أنها مطيعة لربها، يقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] إذاً فأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر؛ هو جزءٌ من التزامها، وقيامها بالدعوة إلى الله تعالى هو جزءٌ من التزامها، لأن الله تعالى يقول: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [آل عمران:110] : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143] إذاً فقيامها بواجبها، وقيامها بالدعوة إلى الله، وقيامها بالإصلاح، وقيامها بالأمر والنهي هو جزءٌ من التزامها. وقد أثبتت الأحداث والتجارب الكثيرة، أن هذه الأمة -رجالاً ونساء- لديها قدرة على قبول الحق؛ بل لديها رغبة في سماع الحق والتزامه إذاً لا عذر لرجل منا -أو امرأةٍ- أن يقول: أنا ملتزمٌ ولكني غير داعية أبداً! وهذا الكلام يجب أن ينتهي؛ لأن كل ملتزمٍ هو داعيةٌ بالفطرة، لأن التزامه يعني أنه مطيع، والذي أمره بالصلاة هو الذي أمره بالدعوة، وهو الذي أمره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يمكن أن نفرق بين هذا وذاك بحالٍ من الأحوال، ولذلك ستجدون -وستجدن أيتها الأخوات- أن حديثي ينصب علىالملتزمة الواعية الداعية، باعتبار أنها هي المخاطبة أصالةً بهذا الموضوع، ولا شك أن كل صفةٍ نتصورها في الرجل الداعي هي أيضاً مطلوبة في المرأة. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 7 الصفة الخامسة: الاعتدال ومن الأخلاق والصفات التي ينبغي أن تهتم بها الداعية: الاعتدال في كل شيء، ومن الاعتدال: الاعتدال في مشاعرها بين الإفراط والتفريط. فنحن نجد من بعض الأخوات من تكون جافة في عواطفها ومشاعرها، فلا تتجاوب مع الأخريات، ولا تبادلهن شعورًا بشعور، وودًّا بود، ومحبةً بمحبة، أو تبتسم في وجوههنَّ، وترى أن جديَّة الدين وجدية الدعوة تتطلب قدرًا من الصرامة والوضوح والقسمات الحادة، وهذا أمر-بلا شك- غير مقبول: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقول للمرأة أيضاً: وتبسُّمُكِ في وجه أختكِ صدقة أيضاً؛ فالحكم عام. وبالمقابل هناك من النساء ومن الأخوات من تبالغ في المشاعر، وتبالغ في إغراق الأخريات بمشاعر قد تصل أحيانًا إلى حد الإفراط، فتجدين أن من الأخوات من لا تصبر عن فلانةٍ ساعةً من نهار، فإذا ذهبت إلى بيتها بدأت تتصل بها بالهاتف، وتكلمها الساعات الطوال، وربما خلت بها أوقاتًا طويلة، تبث إحداهنَّ إلى الأخرى مشاعرها وهمومها وشجونها؛ بل ربما تغار إذا رأت أخرى تجالسها أو تحادثها تغار منها لأنها تريدها لنفسها فقط!!. وهذا نوع مما يسمى بالإعجاب في أوساط البنات، فضلاً عن قضية المحاكاة والتقليد، أي أنها تقلدها في كل شيء: في حركاتها وسكناتها، وفي طريقة كلامها، وفي لباسها، وفي حذائها، وفي حركة يدها … في كل شيء تقلدها. ولاشك أن ذوبان شخصية البنت في أخرى-ولو كانت داعيةً- ضياع؛ لأن الله عز وجل خاطب كل إنسان بمفرده: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93-95] وقال سبحانه: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] . فينبغي أن تشعر المسلمة باستقلاليتها، وأنها لا يجوز أن تذوب في شخصيةٍ أخرى، فإن لها استقلاليتها، ولها مسئوليتها، فهي موقوفة بين يدي الله تعالى يوم القيامة بذاتها وبمفردها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 8 الصفة الرابعة: الاهتمام بالمظهر ومن الصفات التي ينبغي أن تتحلَّى بها الأخت الداعية أيضًا- وأقوله تعقيباً وعطفاً على ما سبق- هو أن يكون عندها قدرٌ من اهتمامها بمظهرها. وأقول هذا؛ لأنه قد يظن بعض الناس أنني أدعو المرأة المتدينة الداعية إلى أن تكون متبذلة، بعيدةً عن الاهتمام بمظهرها كلا! فالمظهر هو البوابة الرئيسة التي لابد من عبورها إلى قلوبِ الأخريات. ومن الطَبَعي أن تتحلى المرأة، أو تبحث عن الثوب الجميل، وقد قال الله تعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] فكون الفتاةِ تنشأُ منذ طفولتها في الحليةِ هذا أمرٌ طبعيٌ لا تلام عليه. ومن الطبعي: أن تهتم المرأة بتسريح شعرها مثلاً، وأن تعتني بمظهرها، والرسول صلى الله عليه وسلم أوصى الرجل بذلك، ولما جاءه رجل أشعث الرأس أمره بأن يسرح شعره ويدهنه، ولما جاء بعد ذلك قال: {هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} فالمرأة مع بنات جنسها من باب أولى. ونحن بطبيعة الحال لا نقبل أبدًا أن تتبرج المرأة المسلمة بزينة، ولا أن تتطيب لخروجها من بيتها، لكن هذا لا يعني بحالٍ التبذل، أو أن تذهب إلى المجتمعات النسائية في أثواب مهنتها، خاصة حين تكون داعية يشار إليها بالبنان. وإنني أقول لكم أيها الإخوة ولكنَّ أيتها الأخوات عن تجربةٍ وصلت إلي من عددٍ من الأطراف: كثيرٌ من الفتيات اليوم يعرضن عن الدعوة، لأنهن يتصورن أن معنى الالتزام وحضور الحلقة في المسجد -مسجد المدرسة- أو سماع الشريط يعني أن الفتاة سوف تتخلى عن كل مظهرٍ من مظاهر اهتمامها بنفسها، وهي لا تريد ذلك، فتقول: كل شيء إلا اهتمامي بمظهري فمن الذي قال: إنّ الإسلام يحول بينها وبين ذلك في حدود ما أباحه الله تعالى، وفي حدودِ ما ليس بحرام؟! فالمظهر مباح إذا كان ثوباً ليس زينة في نفسه وغير متطيبة فيه ولا تظهر به أمام الرجال. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 9 الصفة الثالثة: حسن الخلق ومن الصفات التي ينبغي أن تلتزم بها الفتاة الداعية: حسن الخلق، والتواضع، ولين الجانب، مما يحبب إليها الأخريات، ولعل غرس المحبة في نفوس المدعوات هو أولُ سببٍ لقبول الدعوة، فالدعوة إلى الله تعالى هي حبٌ، والأسلوبُ شديد التأثير في قبول الدعوة أو ردها، ولا يجوز لنا أبدًا أن نتجنى على الحق الذي نحمله حين نقدمه للناس بالأسلوب الغليظ الجاف؛ بل يجب أن نعطف على الآخرين، ونحتوي مشاعرهم، ونتلمس همومهم، ونشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، ولانستعلي عليهم أو نستكبر؛ فما تواضع أحدٌ لله تعالى إلا رفعه. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 10 الصفة الأولى: العلم بما تدعو إليه فمثلاً: العلم بما تدعو إليه، وهذا يعتبر من الواجبات، فلا يمكن أن تدعو إلى شيءٍ وهي لا تعلم: هل هو من الشرع، أم ليس من الشرع، وهل هو من العادات أم من العبادات؟ وهل هو من الأمور الدينية أو من التقاليد الاجتماعية الموروثة مثلاً. والشرع واضحٌ بحمد الله، إما آية محكمة، أو سنة ماضية، أو إجماعٌ قائم، أو قولُ معروف مبني على اجتهاد صحيح واضح كالشمس، فلا بد أن تعرف المرأة المسلمة الأمر الذي تدعو إليه بدليله، بحيث إذا قال لها أحد: ما الدليل؟ أو لماذا؟ استطاعت أن تجيب على ذلك. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 11 الصفة الثانية: القدوة الحسنة ثم يأتي دور القدوة ومن قبل قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار، فتنْدَلِقُ أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان! ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وكنت أنهاكم عن المنكر وآتيه} . إذاً من الخطورة بمكان أن يتكلم الإنسان بلسانه، ثم يكذب ذلك بأفعاله. يا واعظَ الناس قد أصبحتَ متَّهمًا إذ عِبْتَ منهم أمورًا أنت تأتيها أصبحتَ تنصحهم بالوعظ مجتهدًا والموبقات- لَعَمري- أنت جانيها والرجل والمرأة في هذا الحديث سواء، وإنما ذكر الرجل على سبيل التغليب، وإلا فالحكم واحد، والطبيعة واحدة، وما ثبت في حق الرجل ثبت في حق المرأة إلا بدليلٍ يخرجها منه. يا أيها الرجلُ المعلمُ غيرَه هلَّا لنفسِك كان ذا التعليمُ تصفُ الدواءَ لذي السقام وذي الضَّنى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تَنْهَ عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ فالتربية والدعوة بالسلوك -أحياناً- أحسن من ألف محاضرة، وسلوك امرأةٍ بين زميلاتها في حسن خلقها وأدبها، ومظهرها ومخبرها، وطيب حديثها، والتزامها بشريعة ربها، وصلاحها؛ أعتقد أنه أفضل من كثيرٍ من الكلمات والمحاضرات التي نبدئ فيها ونعيد، ونردد الكلام، وقد لا يسمعه الكثيرون. فكثيرٌ من الأخوات وكثير من البنات تقول: أنا ليس عندي رغبة في سماع الأشرطة الدينية؛ وهذا كثيراً ما يقع، لكن لو وجدت أمامها نموذجًا حيًّا، وصورةً حيةً من فتاةٍ ملتزمةٍ متدينةٍ، فأعجبتها؛ أعتقد أنها هنا لاتحتاج إلى أن تسمع شريطًا أو لا تسمع؛ فالحق واضحٌ، ولا يحتاج إلى صعوباتٍ في من يريده. فلابدّ من القدوة الحسنة، وأن تكون الأخت الداعية قدوةً حسنةً في عبادتها، وسلوكها، ومخبرها، وقلبها، وعقيدتها، وأخلاقها، وطيبتها، ومظهرها أيضًا: في شكلها وثيابها وفي شعرها وثيابها ومشيتها، وفي حركاتها، في أعمالها وأقوالها، وكل شيء، وأضرب لكَ ولكِ مثلاً على ذلك: المرأة الداعية القدوة، التي تظهرٍ بمظهر لا يليق بمثلها؛ كأن تلبس مثلاً عباءةً لامعةً مطرزة، أو تلبس كابًا مطرزًا هو زينة بنفسه، أو تضعه على كتفها، أو تظهر زينتها للأجانب، أو تكون مولعة بمتابعة الموضات والتسريحات أولاً بأول. إن هذا المظهر حين تتحدث وتدعو -لا نقول: إنه يجب عليها أن تسكت إذا كانت هكذا، لا! فهي مطالبة بالدعوة كما قلنا منذ قليل- فإنها تكون بهذا العمل الذي عملته قد سنت للأخريات سنةً يقلدنها فيها، إما عن حسن ظن بأن هذا العمل الذي فعلته لا شيء فيه، والدليل أن فلانةً فعلته، أو سيقولون: إن هذه المرأة لا تستحق أن يسمع لها، لأنها تناقض قولها بفعلها، بل أقول: لا بأس أن تتجنب الأخت الداعية هذا، بل ينبغي أن تتجنب بعض الأمور المشتبهة حمايةً لعرضها، وحمايةً لدعوتها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 12 من مشكلات الدعوة النسائية وهناك مشكلاتٌ كثيرةٌ في مجال دعوة النساء، أشير إلى شيءٍ منها، فمن هذه المشكلات: الجزء: 24 ¦ الصفحة: 13 صعوبة التأثير على كبار السن المشكلة الثالثة: صعوبة التأثير على كبار السن، فكثيرًا ما تشتكي الفتيات من امرأة كبيرة السن، وقد تكون أمها أو أم زوجها أو خالتها أو قريبتها، وأن هؤلاء النسوة لا يقبلن التوجيه، وإذا قيل لهن شيء؛ قالت: أنتم كل شيء عندكم حرام! أنتم دينكم جديد! أنتم كذا، أنتم كذا … وتشتكي كثيرٌ من النساء من مثل هذا. فأقول: ينبغي أن يراعى هذا بالنسبة للنِّساء الكبيرات في السن بأمور: منها أن تتلطف المرأة في الدعوة؛ ومنها أنها إذا رأتهن على منكر فمن الممكن أن تصرفهن عنه أولاً، فإذا رأت غيبة فتحاول أن تطرح موضوعاً آخر بعيداً عنه، فإذا انشغلت النساء بهذا الموضوع الجديد عن موضوع الغيبة، بحثت الفتاة يوماً من الأيام عن كتاب يكون فيه كلمة لأحد العلماء المعروفين-كسماحة الشيخ ابن باز مثلاً أو غيره- فيه تحذير من الغيبة، أو من النميمة، أو بيان الحكم الشرعي الذي أخطأت فيه المرأة، ثم تأتي المرأة وتقول: أريد أن أقرأ عليكن فتوى للشيخ ابن باز يقول: بسم الله الرحمن الرحمن، وتقرأ، فحينئذ لا تملك المرأة -الأم الكبيرة- أن تقول: هذا دينٌ جديد، أو أنتم كل شيءٍ غيرتموه؛ بل تقول: سبحان الله! سبحان الله! العلم بحر! وتقبل هذا الكلام؛ لأنها عرفت أن هذا الرجل له ثقله، وله قدره، وله وزنه. ومن الحلول: مراعاة الحاجة إلى أسلوب ملائم في الدعوة يتميز بالمرح والمؤانسة وتطييب قلوب وخواطر الآخرين وتقديم النصيحة لهم في قالبٍ من الود والمحبة، ويمكن أن يأتي هنا دور الهدية؛ فإنها تَسُلُّ السخيمة كما جاء في حديث، وإن كان لا يصح. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 14 صعوبة التوفيق بين الدعوة والمنزل المشكلة الثانية في مجتمعات الدعوة النسائية هي: صعوبة التوفيق بين العمل والدعوة والشئون المنزلية؛ فأمام المرأةِ -مثلاً- العمل: دراسةُ أو تدريس أو أيّ عمل آخر، وأمامها الدعوة، وأمامها -أيضاً- بعض الأمور المنزلية: البيت، والزوج، والأولاد … إلى غير ذلك، وهذه بلا شك معضلة حقيقية، ولا أتجاوز الحقيقية إذا قلت: إنها أكبر مشكلةٍ تواجه الداعيات، وعلى عتبتها تتحطم الكثير من الآمال والطموحات؛ فكم من فتاةٍ تشتعل في قلبها جذوة الحماس للدعوة إلى الله تعالى، وتعيش في مخيلتها الكثير من الأحلام والآمال والطموحات، فإذا تزوجت وواجهت الحياة العملية، تبخَّرت تلك الآمال، وذابت تلك المشاعر، ولم تعد تملك منها إلا الحسرات والأنَّات والآهات والزفرات والذكريات والله المستعان! وكثيراً ما تقول الفتيات: كنت وكنت وأصبح كثير من الأخوات كنتياً! فهي تستطيع أن تقول: كنتُ وكنتُ، لكن لا تستطيع أن تقول: أنا الآن أفعل كذا إلا في القليل، ولا أزعم أيضاً أنني أملك حلاً لهذه المعضلة، ولكنني أحاول المشاركة في بعض الحلول: فأول إضاءة في هذا الطريق هي في ظل قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:2-3] ويقول الله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق:5] ويقول الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] . فالتقوى هي أول حل: أن يتقي العبد ربه، وتتقي الأمة ربها جل وعلا في نفسها، ووقتها، وزوجها، وعملها، ومسئولياتها. والتقوى ليست معنىً غامضًا كما يتصور البعض؛ نحن من الممكن أن نحدد التقوى في بعض النقاط والأمثلة التالية: من التقوى: أن تختصر الفتاة ثلاث ساعات تجلسها أمام المرآة، وهي تعبث بالأصباغ وترسم وتمسح، وتزين شعرها؛ لتصبح هذه الثلاث الساعات نصف ساعة-مثلاً- أو ثلث ساعة، دون تفريطٍ في العناية بجمالها لزوجها، الذي هو جزءٌ من شخصيتها وجزء من فطرتها. ومن التقوى: أن تختصر الفتاة مكالمةً هاتفية تقضي فيها ساعتين مع زميلتها، في أحاديث لا جدوى من ورائها؛ لتكون هذه المكالمة ربع ساعة، أو عشر دقائق في السؤال عن الحال والحلال والعيال وغير ذلك. ومن التقوى: أن تختصر الفتاة الوقت المخصص لصناعة الحلوى-مثلاً- من ساعةٍ ونصف إلى صناعةٍ جيدةٍ جاهزةٍ، لا يستغرق تحضيرها -أحيانًا- نصف ساعة. ومن التقوى: أن تقتصد المؤمنة في نومها، فالنوم من صلاة الفجر -مثلاً- إلى الساعة العاشرة ضحى، وبعد الظهر، وقسطًا كافيًا من الليل هذا من عادات الجاهلية، وامرؤ القيس لما كان يمدح معشوقته، كان يقول: نئوم الضحى، فيمدحها بكثرةِ نومها، لكن في الإسلام مضى عهد النوم وانتهى، وأصبح المؤمن مطالبًا بأن يكون قسطه من النوم مجردَ استعدادٍ لاستئناف حياةٍ من البذل والجهاد. فنومها إلى الساعة العاشرة ضحىً، ثم بعد صلاة الظهر، وقسطًا كافيًا من الليل هذا الأمر لا يسوغ، والرجل مثلها، ولذلك في قصة أم زرع وهي في صحيحي البخاري ومسلم: {اثنتي عشرة امرأة اجتمعن وتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئًا، فكل واحدةٍ قالت: زوجي كذا … زوجي العشنق، إن أنطق أطلَّق، وإن أسكت أعلَّق} إلى آخر القصة الطويلة التي لا شأن لنا بها الآن، لكن الخامسة منهن قالت: {زوجي إن دخل فَهِد، وإن خرج أَسِد، ولا يَسْأل عما عَهدْ} فما معنى فهد؟ يقول ابن الأنباري: إن معنى قولها: (إن دخل فهد) . هو أنه صار كالفهد، وهو حيوان كثير النوم، فهي تقول: إنه إذا دخل التف بفراشه وغفل عنها، ونام نومًا طويلاً، أما إذا خرج فهو كالأسد الهصور على الناس، (ولا يسأل عما عهد) أي: أنه رجلٌ فيه كرمٌ وفيه إعراض، فهو لا يدقق في كل شيء، ولا يسأل عن كل شيء، وقد كان العرب يمدحون الإنسان بمثل هذا الشيء. ومازال العرب-أيضًا- يمدحون الإنسان بقلة نومه واقتصاده في ذلك، وأراكم تذكرون قول الهُذلي الذي يقول مادحاً رجلاً: فأتت به حُوشَ الفؤاد مُبَطَّناً سُهُدًا إذا ما نام ليلُ الهَوْجَلِ. فكون الإنسان قليل النوم ذلك مما يمدح به الرجل والمرأة، والاقتصاد في ذلك ممكنٌ، فالعلماء في السابق كانوا يقولون: إن القدر المعتدل من النوم ما بين ست إلى ثمان ساعات يومياً، وهذا الكلام ذكر جماعةٌ من السابقين إجماع الأطباء عليه. أما الآن فقد ظهر أطباء معاصرون يقولون: لا. بل الأمر الغالب أن النوم الطبيعي من ست إلى ثمان ساعات؛ لكن قد يكتفي الجسم بدون ذلك، كثلاث أو أربع ساعات أحيانًا، وقد يحتاج إلى أكثر من ثمان ساعاتٍ أحيانًا، وهذا وذاك قليل، لكنه موجود. الإضاءة الثانية: هي قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90] وقول النبي صلى الله عليه وسلم -فيما رواه الشيخان- لـ عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً} . والزَوْر يحتمل أن يكون المقصود به: الجوف، أي: أن نفسك لها عليك حق، فينبغي أن تأكل بقدر ما تحتاج مثلاً، وقيل: إن المقصود بالزور: الزوَّار، فلهم حقٌ عليك أيضًا، وحقُّ الأضياف ألا تهملهم وتهجرهم وتخسرهم، وتعرض عنهم: {فآت كل ذى حقٍ حقه} ولذلك سوء التوزيع يكون سببًا في ضياع الثروة. وإذا كانت أغلى ثروة نملكها هي الوقت؛ فإن سوء توزيع الوقت من أسباب الضياع، ولو أن الرجل والمرأة أفلحا في ضبطه وتوزيعه بطريقة معتدلة؛ لكسبا شيئاً كثيراً. فبعض الزوجات الداعيات-مثلاً- تشتكي أن زوجها الملتزم لا يعطيها من الوقت ما يكفيها، وهذه جاءت لي فيها شكاوى كثيرة، وأقول- ولعلي لا أكون من هؤلاء-: ليس أولئك بخياركم! فمن يقصرون في حقوق بيوتهم ليسوا من الخيار. فكثير من النساء تشتكي أن زوجها لا يعطيها من الوقت ما يكفيها، وقد لا يأوي إلى البيت إلا متأخراً، وربما يأوي وهو متعب قلق أو متضايق، فهو لا يريد أن ينظر إلى زوجته، ولا أن يجلس معها، وإنما يريد أن يأوي إلى الفراش، أو ينام أو يخلو بهمومه، أفليس من المناسب إذن- إذا كان الأمر كذلك- أن تكون المرأة منشغلةً بعض الوقت بشئون بيتها، أو شئون دعوتها، أو شئون أولادها في ظل غياب زوجها؟! خاصةً ونحن نعلم أن المرأة إذا كانت جالسةً في البيت تنتظر الزوج، فهي تعدُّ الساعات والدقائق عدًّا، فإذا جاء زوجها كانت قد استطالت غيبته، واستبطأت مجيئه، لكن إذا كانت المرأة هي الأخرى مشغولة في أمورٍ مفيدةٍ نافعة في دينها أو دنياها؛ فإن الوقت يمر عليها بغير ذلك. ومن العدل ترتيب الأولويات والمهمات، فالفرض-مثلاً- يقدم على النفل، وربنا تعالى يقول في الحديث القدسي الذي رواه البخاري: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه … } إذًا أولاً الفرائض ثم النوافل؛ لأنّ الله تعالى لا يقبل نافلةً حتى تؤدَّى الفريضة، كما قال أبو بكر رضي الله عنه في وصيته. فالفرض يقدم على النفل، والضرورات تقدم على الحاجات، والحاجات تقدم على الأمور التكميلية التحسينية، هذا إذا كان هناك تعارض. فليس من العدل أن تهمل المرأة زوجها وبيتها وأولادها؛ بحجة أنها -مثلاً- مشغولة بالدعوة، كما أنه ليس من العدل أن يهمل الرجل بيته وزوجه وأولاده؛ بحجة أنه مشغول بالدعوة، وليس من العدل أن تغفل المرأة الداعية عن عملها الوظيفي الذي تتقاضى عليه مرتبًا من الأمة، أو تغفل عن عملها الدعوي الذي هي فيه على ثغرة من ثغور الإسلام، ويُخشى أن يؤتى الإسلام من قبلها، فبإمكانها أن تسند بعض المهمات إلى آخرين، وهذا من الحلول، فيتحملون معها المسئولية، وهي تقوم بدور التوجيه والإشراف، فإذا كثرت عليها الأعمال استطاعت توزيع المهمات مثلاً، فيمكن أن يساعدها أحدٌ في القيام على شئون الأطفال، خاصةٍ ممن يوثق بعلمها ودينها وخلقها، ويمكن أن يساعدها أحدٌ في ترتيب بيتها، ويمكن أن يساعدها أحدٌ في مهماتها الدعوية - كما أسلفت قبل قليل- ويساعدها أخرياتٌ يتدربن على هذه الأعمال شيئاً فشيئاً، ويقمن بهذه المهمة، ويساعدن عليها. أما الإضاءة الثالثة فهي قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين} [الأنعام:161-162] . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن جابر، ومسلم عن حذيفة رضي الله عنهما: {كلُّ معروف صدقة} و (كل) : من ألفاظ العموم: {كل معروف صقة} . ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والترمذي، والحاكم عن جابر رضي الله عنه: {وإن من المعروف أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، وأن تفرغ من دلوك في إناء جارك} ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الطيالسي، وأحمد، والنسائي عن عمرو بن أمية الضمري {كل ما صنعت لأهلك فهو صدقة عليهم} والكلام للرجل والمرأة-أيضًا- على حدٍ سواء؛ بل في الحديث المتفق عليه الذي رواه البخاري ومسلمعن أحمد عن أبي الجزء: 24 ¦ الصفحة: 15 قلة عدد النساء الداعيات وهذه القلة يعاني منها الكثيرون؛ ولذلك نجدُ أن هناك جهلاً كبيرًا في أوساط الفتيات، حتى في عالم المدن، فضلاً عن القرى والأرياف والمناطق النائية. والحلُّ أمام هذه المشكلة يتمثل في عدةِ أمورٍ أعرضها باختصار وبسرعة؛ رغبةً في استكمال الموضوع: فمن الحلول: طلب المشاركة من الجميع، بمعنى أن تحرص الأخت المسلمة على أن تشارك كل النساء في الدعوة إلى الله تعالى، وأن تشارك كل الغيورات، حتى مع وجود شيءٍ من التقصير، وينبغي أن نضع في أذهان النساء والرجال أيضاً: أنه لا يشترط للدعوة أن تكون كاملاً، فالدعوة ليست نادياً للكَمَلَة، والكمالُ في البشر عزيز، وما من إنسانٍ إلا وفيه نقص؛ لكن هذا النقص لا يمكن أن يحول بين الإنسان وبين قيامه بواجب الدعوة إلى الله تعالى، فأنت تدعو -مثلاً- إلى ما عملت، بل حتى ما لم تعمله يمكن أن تدعو إليه بطريقتك الخاصة. فمثلاً: الإنسان المقصر -رجلاً كان أو امرأة- يمكن أن يقول للناس: أيها الناس إن الأمر الذي إن وقعت فيه، وهو كيت وكيت وكيت، أعرف أنه خطأ، وأستغفر الله تعالى منه، وأتوب إليه، وقد يكون فيكم من هو أقوى عزيمةً مني، أو أصلب إرادةً، أو أصدق إيماناً، أو أخلص لله عز وجل، فيستطيع أن ينجح هو فيما فشلت فيه أنا، فتكون دللت على الخير، ولك مثل أجر فاعله، ولو كنت مقصراً فيه: ولو لم يعظ في الناسِ من هو مذنبٌ فمن يعظُ العاصين بعد محمدِولذلك قال الأصوليون: حق على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضًا! وعلى هذا فوقوع الإنسان في المعصية لا يسوِّغ له ترك النهي عنها أبدًا؛ بل ينهى عن المعصية ولو كان واقعًا فيها، ويأمر بالمعروف ولو كان تاركًا له، وإن كان الأكمل والأفضل والأدعى للقبول هو سيرةُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] . إذًا حتى مع التقصير يجب أن تجر الأخت الداعية الأخريات إلى المشاركة، فمثلاً بعض الطالبات في المدارس يمكن أن تشارك إحداهن في كلمة، أو في توجيه، أو في إعداد بحث مصغر في أمور معينة، تُحدّث بها بنات جنسها، من خلال حلقةِ المسجد، أو من خلال الدرس، أو من خلال أيه مناسبة أخرى مع مراعاةِ تعهد هؤلاء النساء بالتوجيه؛ فكونها قامت، وتكلمت، أو ألقت محاضرة أو كلمة أو بحثًا؛ لا يعني ذلك أنها قد جاوزت القنطرة، وأصبحت داعيةً، يطلب منها ولا يوجه إليها؛ يطلب منها أن تأمر الناس ولا تُؤمر هي، كلا! بل هو مطلوبٌ أن تُتَعاهد، ويُحرص عليها، وتُنصح، وتُقرأ مشاعرها، وتوضع في موضعها الطبعي، فلا يبالغ في الثقةِ بها وإطلاقِ العنان لها بما قد يضر بها. وقد سمعت واطلعت على كثيرٍ من الحالات، منها أن الفتاة عندما تكون في المرحلة الثانوية -مثلاً- ثم يسند إليها أمرُ الدعوة كله في المدرسة؛ فتكون هي الداعية، وهي المعلمة والمتكلمة والواعظة والمتحدثة وتصبح الأنظار تتجه إليها، والأصابع تشير إليها، والأخريات ينظرن إليها نظرةً معينة أن هذا يفقدها -أحيانًا- نوعاً من القدرة على ضبط نفسها، وعلى اتزانها، ويكونُ له تأثيرٌ سلبيّ على نفسيتها، وعلى اهتماماتها التربوية الأخرى، فربما تنسى نفسها أحيانًا، وربما تبالغ في بعض الأمور، وربما تجتهد فلا تصيب؛ لأن الفترة والسن التي تعيش فيها لا تجعلها قادرةً على الاجتهاد في كل المسائل؛ بل ربما يشعر أهلها بشيءٍ من التقصير، وقد اطلعت على حالاتٍ وصلت إلى حد أزمة نفسيةٍ بسبب هذا الأمر. إذاً يجب أن نفرق بين كوننا نقول: لا تتدخل الفتاة وهي في هذا السن في الدعوة، وهذا لا يصلح، وبين كوننا نضع في يدها الأمر كله من الألف إلى الياء، ونجعلها هي القائمة بالأمر قياماً كاملاً، فهذا أيضاً لا يصلح، بل ينبغي أن تكون في مجال التدريب والمساهمة والمشاركة مع أخريات، وأن نتعاهدها بالتوجيه والنصح، ونقول: هنا أصبت، وهنا كنت تحتاجين إلى احتياط في الأمر أكثر، وهذا خطأ ينبغي تجنبه وهكذا. الحل الثاني: الاتجاه نحو الجهود العامة: فمثلاً: مجموعة من الجلسات قد لا تشمل سوى عشرين أو ثلاثين امرأة، أي: قد تجعل المرأة في بيتها جلسةً خاصةً لخمسٍ من جيرانها -خمسُ نساءٍ فقط- لكن لو أنها أقامت محاضرة أو درسًا عامًّا أو أمسية؛ لكان من الممكن أن تشمل مئات النساء، فيكون هذا الجهد المحدود الذي صرفته إلى خمس، كان من الممكن أن تصرفه إلى خمسين، أو إلى خمسمائة امرأة. وبطبيعة الحال نحن لا نقلل من أهميّة الدروس والجلسات الخاصة؛ فهذه الدروس والجلسات الخاصة لها أهميتها، فهي: أولاً: أنها تخاطب فئة من المجتمع. ثانيًا: أنها ربما قد توجد امرأة تقدر على أن تقيم جلسةً خاصة لخمس؛ لكنها لا تستطيع أن تقيم محاضرةً أو درسًا عامًّا. ثالثًا: أن الجلسة الخاصة -خمس نساء أو عشر- يمكن التحكم في وقتها وفي مكانها، وهذا كله يسهل إمكانية أن تُقام، لكن درساً أو محاضرة قد يصعب قيامه. لكن متى أمكن أن تقوم المرأة بنشاط عام: كمحاضرةٍ أو درسٍ عام أو ندوة؛ فإن هذا يكون أبلغ في التأثير، وأوسع في المنطقة التي تخاطبها. الحل الثالث: ضرورة التركيز من الجميع -رجالاً ونساءً- على إعدادِ جيلٍ من الداعيات الواعيات ممن يحملن هم الإسلام، وتنمية هذه المعاني -معاني الدعوة- لديهن. فقد تكون زوجتك-مثلاً- ممن تصلح لهذا، فلا يجوز أن يكون زواجها نهاية المطاف، أو أختك، أو قريبتك، أو بنت أختك، أو محرمك؛ فينبغي أن تحرص على أن تعدها داعيةً إلى الله تعالى، وكذلك النساء الداعيات من المدرسات ينبغي أن يعتنين بإعداد نوعياتٍ من الفتيات وتهيئتهن وتأهيلهن للقيام بهذه المهمة الصعبة؛ لأن واحدةً من النساء يمكن أن تقوم عن عشرٍ، وكما يقال: والناس ألفٌ منهمُ كواحدٍ وواحدٌ كالألفِ إن أمرٌ عَنَا ولا نحتاج إلى تحريف في هذا البيت، فقد حرفه قبلنا: أبو عبد الرحمن بن عقيل، فقال: والناس ألفٌ منهمُ كواحدة وواحدة كالألفِ إن أمرٌ عَنَا وهذا صحيح، فربما امرأة غلبت آلاف الرجال، ومن يستطيعُ أن يأتي في عيار أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أو خديجة، أو حفصة، أو زينب، أو أم سلمة رضي الله عنهن، أو غيرهنَّ من المؤمنات الأُول؟ حتى كبار الرجال تتقاصر هممهم دونهن، وما زال في هذه الأمة خيرٌ، رجالاً ونساءً. الحل الرابع: الاستفادة من النشاطات الرجالية: فلماذا نتصور أن نشاط المرأة ينبغي أن يكون محصورًا؟ فالنشاطات الرجالية: كالدروس-مثلاً- والمحاضرات، والندوات، ومعظم الكلام الذي يقال فيها يصلح للرجال ويصلح للنساء، وكما أسلفت أن الشرع جاء للرجل والمرأة، وخاطب الجنسين معًا، وما ثبت للرجل ثبت للمرأة إلا بدليل. وليس يلزم أن تكون المرأة مجتمعًا مستقلاًّ متكاملاً، فقيهتها منها، وداعيتها منها، ومفتيتها منها أن هذا ليس بلازم، والرسل عليهم الصلاة السلام كانوا رجالاً فقط، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109] إذًا فالرسل كانوا رجالاً، ولا أرى أن أدخل في جدلٍ عقيمٍ حول: هل بعث من النساء أحد؟ فإن ابن حزم له رأيٌ، وبعض الفقهاء لهم رأىً آخر، ولكن الجمهور- كما ذكر القرطبي وغيره -على أن الرسل كلهم كانوا من الرجال، ولم يبعث الله نبية قط. فلا أريد أن أدخل في الجدل العقيم، فنقف عند الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:109] وهؤلاء الرجال كانوا يخاطبون الرجال، ويخاطبون النساء؛ ويدعون الجميع على حدٍ سواء. إذًا لا مانع- حفظًا للجهود- أن تنضم النساء إلى مواكبِ المستمعين إلى الدروس والمحاضرات والمجهودات الرجالية بطبيعة الحال على انفرادٍ، ومع التزامهنَّ بأوامر الشرع: في عدم التطيب إذا أرادت الخروج، وعدم لبس الثوب الذي يكون زينةً في نفسه، وستر نفسها، وعدم الجهر بالقول والاختلاط بالرجال … إلى غير ذلك؛ لكنها -أيضاً- تستفيد في مجالاتها الخاصة المنعزلة. وهنا يأتي دوركم أنتم يا أولياء الأمور: دور الأب، ودور الزوج، دور الأخ، في تسهيل المهمة وإعانة المرأة على بلوغ محلها الذي تريد. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 16 عقبات في طريق الدعوة هناك عقباتٌ كثيرة تعترض الداعية، كما يعترض الرجل الداعية عقبات أخرى كثيرة أيضاً، فمن العقبات: الجزء: 24 ¦ الصفحة: 17 عدم تجاوب بعض النساء مع الدعوة ومن العقبات التي تواجهها المجتمعات الدعوية النسائية: عدم التجاوب من الأخريات -من النساء- ورد بعضهن للدعوة. وبدءًا أقول: هذه الأمة أمة مجربة، فلست أنت أول من دعا؛ وإنما دعا قبلك كثيرون وكثيرات، وكان التجاوب كثيرًا وكبيرًا، والكفار الآن يدخلون في دين الله أفواجًا، فمن باب أولى أن المسلمين يستجيبون لله وللرسول إذا دعوا إلى ما يحييهم، وإذا أمروا ونهوا. فأما أسباب عدم التجاوب فإنها ترجع إلى بعض الأمور التالية: أولاً: منها ما يتعلق بالمدعوة نفسها: فقد يكون السبب فعلاً من المدعوة، وذلك كأن تكون شديدة الانحراف، أو طال مكثها في الشر، وأصبح خروجها منه ليس بالأمر السهل، وأصبحت جذورها ضاربة في تربة الشر والفساد، أو صعوبة طبعها وعدم ليونتها، كون عندها شيء من العناد والصعوبة في المراس، أو فساد البيئة التي ترجع إليها، ووجود قرينات سوء يدعونها إلى الشر والفساد وهذا كله يمكن أن يعالج بالصبر وطول النَّفَس، والأناة، وتكثيف الجهود، وربط هذه الفتاة ببيئة إسلامية جيدة جديدة تكون بديلاًَ عن البيئة الفاسدة التي تعيش فيها. وقد يكون عدم قبولها للدعوة بسبب كبر سنها -كما أسلفت قبل قليل- فيعالج بالوسائل المناسبة. ومن هذه الأسباب التي تعوق قبول الدعوة ما يتعلق بالداعية نفسها -المرأة التي تدعو- وذلك كعدم استخدامها الأسلوب المناسب، أو عدم قدرتها على الوصول إلى قلوب الأخريات، أوقسوتها، أو شدة تركيزها على أخطاء الآخرين، وهذه مشكلة وهي كون الدعوة تركيزاً على الأخطاء، أو شعور الأخريات بأن الداعية تمارس نوعًا من الأستاذية أو التسلط، مما يحرضهن على مخالفتها ومعاندتها؛ لأنهن يعتبرن عملها هذا مسّاً للكرامة، أو جرحًا للكبرياء، والشيطان حاضر، فيؤجج في الفتاة مشاعر الكبرياء والعزة، فترفض الدعوة ولا تُقبل عليها. والعلاج: أن تحرص الفتاة الداعية على استخدام أسلوب الالتماس، والعرض، والتلميح، دون المواجهة والضرب في الوجه كلما أمكن ذلك، وألا تُشعر الأخريات بأنها مستعلية عليهن، أو أنها فوقهن، أو أنها تشعر بالأستاذية، أو التسلط عليهن. ومن العلاج: العناية بشخصية المرأة: عقيدةً، وثقافةً، وسلوكًا، ومظهرًا، ومخبرًا، دون إهمال الأمور المعنوية المهمة والأساسية، بسبب الاشتغال بالقضايا المظهرية فحسب. أقول: إن (90%) من الأسئلة التي تصل إلي -أيها الإخوة- لا تكاد تتجاوز شعر الرأس إلا إلى أكمام اليدين، أو حذاء القدمين!! إذاً فأين عقيدة المرأة؟! وأين أخلاقها؟! وأين خوفها من ربها؟! وأين معرفتها بأحكام دينها؟! وأين معرفتها بعباداتها؟! وأين معرفتها بالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج؟! وأين معرفتها بحقوق الآخرين عليها؟! أين أين؟ كل هذه الأمور لا تكاد تجد عنها أسئلةً! إنما تجد الأسئلة محصورة في موضوعات محدودة جدّاً، وقد قلت ذلك من خلال استقراء لعدد كبير من الأسئلة التي وصلت إلي، ونحن لا نهوّن من أمر شيء من الدين، فالدين كله مهم، ولما قيل للإمام مالك في مسألةٍ ما: هذا أمرٌ صغير، قال: ليس في الدين شيء صغير، والله تعالى يقول: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5] . فالدين كله كذلك، لكن أيضًا رحم الله امرءًا وضع الشيء في موضعه، فمن الحكمة أن يضع الإنسان الشيء في موضعه، فمثلاً: لماذا نهوّن من أمور العقيدة وأمور القلب؟! القلب الذي يقول فيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} لماذا لا نعتني بالقلب وصلاحه صلاحاً للظاهر أيضًا؟! ومن العلاج أيضاً: عدم تتبع الزلات والعثرات، فما من إنسان إلا وعليه مآخذ وله زلات، وليس من الأسلوب التربوي أبداً التركيز على ملاحظة الزلات، بل قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني أحيانًا، ويمدح الإنسان الذي يستحق المدح بخصال الخير الموجودة فيه، وكتب المناقب في البخاري، ومسلم، وكل كتب السنة مليئة بمثل ذلك، فيثني على الإنسان بالخير الموجود فيه؛ حتى ينمو هذا الخير ويكبر، وحتى يقتدي به الآخرون في ذلك، لأن مدح الإنسان بالخير الموجود فيه يدعو إلى مزيد منه، وليس شرطاً أن تمدح الشخص، بل تمدح الفئة، أو الأمة، أو الطائفة بالخير الموجود فيهم، فإن هذا يدعوهم إلى مزيد من الخير، وإلى التغلب على خصال النقص الموجودة لديهم، ولا يمنع هذا أن يُلاحظ على الفتاة أحيانًا شيء من النقص، فتُنصح مباشرة في رسالة، أو حديثٍ أخوي مباشر، أو مكالمةٍ هاتفية … أو غير ذلك؛ لكن لا يكون هذا هو الأصل؛ بل يكون طارئاً، بمناسبة وجود غلطٍ معين. ومن العلاج: عدم محاصرة المرأة المخطئة أو المقصرة، أو المسارعة في اتهامها، فنحن لم نؤمر أن ننقب عن قلوب الناس، ولا أن نشق عن بطونهم، ومالنا إلا الظاهر، ولسنا مغفلين بكل تأكيد، لكننا لا نطلق لخيالنا العنان في تصور فساد مستور، أمره إلى الله تعالى، إن شاء عذَّب، وإن شاء غفر، ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: {ورحمتي سبقت غضبي} وأحيانًا يتصور الإنسان فساداً، ويغلب على ظنه أنه واقع، لكن ليس هناك داعٍ مادام الأمر مستوراً، أو لم يظهر لك، ولا عندك أدلة عليه، فدع أمر الناس للناس، وقد يتبين لك أن ما كنت تظنه خطأً، وسوء الظن مشكلة تعذب قلب الإنسان نفسه، وقد تسبب أذىً للآخرين، وقد تحول بينه وبينهم في دعوتهم إلى الله تعالى. فالأمور المستورة دعها إلى الله، ومن أظهر شيئاً أخذناه به، أما المستور فأمره إلى الله تعالى. وبين اليقظة وسوء الظن خيطٌ رفيع، فبعض الناس عنده تغفيل، والتغفيل مذموم، فقد يرى الفساد ويتجاهله أو يتغافله؛ وهذا لا يصلح، فينبغي أن يكون الإنسان يقظًا واعيًا مدركًا، وفي نفس الوقت سوء الظن يبعده جانباً. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 18 عقبات من البيئة فساد البيئة: التي تعمل فيها المرأة مثلاً، سواء كانت هذه البيئة: مدرسة، أو مؤسسة، أو مستشفى، أو معهدًا أو غير ذلك، فإن البيئة إذا كانت بيئة فاسدة فإنها تؤثر في نفسية المرأة، وتضغط عليها ضغطاً شديدًا. وأضرب لذلك مثلاً، وهي رسالة جاءتني من إحدى الأخوات، تتكلم عن هذا الصرح العلماني المعروف معهد الإدارة العامة، تقول: العاملات فيه من الفلبينيات غير المسلمات غالبًا -أقسم بالله لك- أن بعض الطالبات يجدن متعةً في الحديث معهن بكل صراحة، حتى إنها تعمل لها ما يسمى بالحلاوة وقص الشعر وكتابة الأشعار الغزلية وترجمتها، والمسجد عبارة عن مترين في مترين، مَمَر تقطعه ستارة بسيطة، جلستُ مرةً أنصح - ولا يزال الكلام للأخت- بعض طالبات التمريض، فكادوا يكونون عليَّ لبدًا، يقلن: لا يدخلك الدين شوي شوي، وهذا هو الكلام الذي يقولونه لها. فهذا مثال، وهو مثال صغيرٌ محدود، والمستشفيات مثلاً، مضايقات بعض الأطباء والمراجعين والممرضين، الجامعات وما فيها من اختلاط، وحفلات مختلطة، ورجال يدرسون البنات مباشرة بدون حجاب، وليس عن طريق الدائرة التليفزيونية المغلقة، وقد تكون الدائرة التليفزيونية المغلقة موجودة، وتترك ليتكلم الرجل مع النساء مباشرة، ويأخذ توقيعاتهن بالموافقة على أن يدخل عليهن كفاحًا ووجهًا لوجه!!. دكتور يشرف على رسالة طالبة، وقد يلتقي بها على انفراد في غرفته الخاصة إلى آخر تلك المهازل التي ليس لها آخر!! وقبل أيام أثيرت قضية قريباً منا جداً، هنا فيالكويت، وقد تكلمت عنها الصحف بشكل مزعج للغاية، وهي أن الدكاترة في كلية الطب هناك يمنعون الطالبات المنتقبات من دخول الفصول، سبحان الله!! لماذا تمنعونهن من دخول الفصول؟! قالوا لك: إذا كانت الفتاة منتقبة -قد لبست النقاب على وجهها- معنى ذلك أن المريض قد يخاف، ولا يكون مرتاحاً نفسياً، ولا يساعد ذلك على العلاج!! فانظر كيف يأتون بالحجج الواهية وإلى هذا الحد بلغت عنايتهم بالمرضى!! وآخر يقول: أنا أقرأ التعبيرات والتأثر على وجوه الطلبة، ومن خلال رؤيتي لوجه الطالب، أعرف إن كان الطالب فهم أو لم يفهم، قبل أو لم يقبل، أُعجب أو لم يُعجب، فكيف أقرأ هذا في وجه الطالبة وهي منتقبة؟! فانظر كيف الحيل، وهي حيلٌ أوهى من بيت العنكبوت، وأتفه من عقولهم! وهذا الكلام السخيف الذي لا ينطلي على أحد، ثم يكتب في الصحف ويقال، وثارت قضية كبرى. وأنا أقول: يا إخوة! إنما أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض، فإذا كان هذا في جامعات الكويت، وهي منا قاب قوسين أو أدنى، فما الذي يأؤمنك أن يكون الدور عليك؟! ولذلك أقول: إنما أُكِلتُ يوم أُكل الثور الأبيض. فيجب على أصحاب الغيرة أن يتحركوا الآن في هذه القضية وفي غيرها، ويكون لهم مساهمة، وأقل ما نستطيع أن نفعله هو مخاطبة المسئولين وولاة الأمر ومكاتبتهم. أمر آخر: تلك الصحف الكويتية التي تنشر هذه المهاترات وما هو أحطُّ منها، وقد رمت سهامها، وأصلتت سيوفها على رقاب الخيرين، فما تركت لفظًا من ألفاظ السباب والشتائم في قاموس اللغة، بل وما ليس في قاموس اللغة، إلا وألصقته بهؤلاء الأخيار، وتكلمت فيهم وسبتهم، وشتمتهم وعيرتهم، وقالت الكلام البذيء المفجع المفظع، الذي لا يجوز أن يقال في مثل هذا الكلام، فوالله قصاصاتٌ -أحلف لكم بالله- لو جلست إلى الفجر أقرأها ما انتهت، كلها هجاء للأخيار، وليكن الأخيار فيهم أخطاء، ونحن لا نقول: إنهم ملائكة، لكن إلى هذا الحد، ويهجوهم أناسٌ لهم تاريخٌ معين، فكثير ممن يهجوهم لهم تاريخ معين، إلى يومك هذا. فأقول: ما هو دورنا؟ أقل ما نستطيع أن نفعله هو أن نمنع دخول هذه الجرائد إلى بلادنا؛ لأنها إنما تُشْتَرى في أسواقنا هنا أكثر مما تُشْتَرى في مكان آخر، ولو أنها أوقفت أو طولبت بأن تكف عن أعراض الأخيار، وأن تتكلم بعقل واعتدالٍ ومنطق، ونحن لا نقول: لا تنتقد الأخيار، بل انتقد من شئت، لكن بالحجة، والبرهان، وبالموضوعية، وبالتعقل، وبالمنطق، وبالكلام، وبالدليل، أما كونك تأتي بألفاظ السباب والتجريح، والتجديف دون دليلٍ ولا حجة؛ وإنما هو مجرد بذاءة وقلة أدب، فقلة الأدب لا يجوز أن نشتريها بأموالنا. وأقول: أين الرجال؟. أقل دورٍ يمكن أن نقوم به هو: منع دخول هذه الجرائد والمجلات إلى بلادنا، ومنع بيعها في بقالاتنا، وإذا لم نفلح، فأقل ما نستطيع هو أن نتنادى نحن الأخيار والغيورين، وأن نكلم كل أفراد المجتمع بوجوب مقاطعة هذه الصحف والمجلات، ومحاربتها، وشنَّ حملةٍ لا تتوقف عليها، حتى تتوقف هي عن النيل من ديننا، ومن كرامتنا، ومن مقدساتنا، ومن أخلاقنا، ومن الرجال الصالحين حلول لفساد البيئة: ولعلي شطحت بعيداً في الكلام عن بعض المشكلات التي تتعلق بالأسرة أو بالبيئة التي تعيش فيها المرأة، ومن الحلول في ذلك: مواصلة العلماء وطلاب العلم والدعاة الغيورين بكل ما يحدث داخل تلك المجتمعات إنها ليست أسرارًا ولاخفايا، كيف وهي تنشر في بعض الصحف العالمية؟! أعني بعض ما يجري في مجتمعات النساء هنا، فإذا تحدثت طالبةٌ -مثلاً- أو راسلت أحد الدعاة، حُقق معها بحجة أنها نشرت أسرار الجامعة، أو نشرت أسرار المستشفى، كيف يحدث هذا؟! إننا يجب أن نطمئن جميعًا على الجو الذي تتعلم فيه بناتنا، وتتعلم فيه أخواتنا، ومن حقنا جميعًا أن نعرف عنهن الكثير، مثلاً قبل أيام: نُشر من إحدى الجمعيات النسائية إعلان عن حفل غنائي سوف تحييه المغنية من جدة المدعوة بـ: ديسكفري، وسوف يقام على شرف زوجة فلان، والتذاكر بمائتين وخمسين إلى مائة ريال، والمكان هو المكان الفلاني، والزمان هو الزمان الفلاني، وهذا إعلان يباع في كل مكان، ويوزع في البقالات، فهل هذا من الأسرار حين يتنادى الغيورون لمقاومة مثل هذا الفساد؟! إن هذا ليس سراً، وأقول من باب وضع الحق في نصابه: قد وصل إليّ ما وصل إلى غيري من اعتذار تلك الجمعية عن هذا الحفل، وأنه لن يقام، لكن ينبغي أن يعرف ماذا وراء هذا؟ هل فعلاً سيتوقف الحفل، أم أنه سوف يقام سراً بطريقة معينة؟! ومن الذي كان وراء مثل ذلك الإعلان في جمعية نسائية خيرية في مكان ما؟! ومن الحلول: النزول للميدان مهما كانت التضحيات، فالهروب من هذه المجالات عبارة عن هدية ثمينة -كما أسلفت- نقدمها بالمجان للعلمانيين والمفسدين في الأرض، وأرى-اجتهادًا- ضرورة خوض هذه الميادين، وتحمل الفتاة ما تلقاه في ذات الله عز وجل إلا إن خشيت على نفسها الفتنة، ورأت أنها تسير إليها فعلاً؛ لضعف إيمانها، أو قوة الدوافع الغريزية لديها، أو ما شابه ذلك، فحينئذٍ فالسلامة لا يعدلها شيء. ويجب أن تظل الدعوة هاجسًا قويًا للأخت مع كل الأطراف، فلا تعين الشيطان على أخواتها الأخريات، فحتى تلك التي يبدو فيها شيء من الجفوة في حقها، أو الصدود عنها، أو سوء الأدب معها، يجب أن تتحمل منها، وتتلطف معها، وتضع في الاعتبار أنه من الممكن أن تهتدي، والله تعالى على كل شيء قدير: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء} [القصص:56] . ويجب على الدعاة والتجار والمخلصين أن يسعوا جاهدين إلى إقامة مؤسسات إسلامية أهلية نظيفة مستقلة. فلم يعد مستحيلاً إيجاد مستشفى نسائي خاص، ولم يعد مستحيلاً إقامة أسواق نسائية خاصة؛ بل هي موجودة بالفعل، ولم يعد مستحيلاً إقامة مدارس نسائية خاصة، بل وليس من المستحيل إقامة جامعات، أو جامعة على الأقل خاصة بالنساء، في هذا البلد وفي كل بلد. وأعتقد أن الظروف الاقتصادية والظروف العلمية والظروف الإسلامية مواتية -الآن- لمثل هذه الأعمال، فقد طال تململ الناس من تلك الأوضاع الفاسدة في عددٍ من المؤسسات الصحية والتعليمية والإدارية دون أن يطرأ عليها أي تغيير، ولم يجعلنا الله بمنه وكرمه بدار هوانٍ ولا مضيعة، وهاهي أمم الكفر الآن قد سعت في هذا المضمار. وقد رأيت بعيني جامعات تضم ألوف الطالبات في قلب أمريكا ليس فيها طالب واحد على الإطلاق، مع أن دينهم ليس هو الذي أملى عليهم ذلك -فهم غير متدينين حقيقة- ولكنهم رأوا في ذلك مصلحة ما. أفليس هذا جديراً بنا؟! كما قرأت في عدد من الأخبار أن هناك فنادق في ألمانيا وغيرها مخصصة للنساء، كما أننا نجد في بعض البلاد العربية والإسلامية بدايات لذلك، فمثلاً سمعت أن في سوريا مستشفيات مخصصة للنساء. وهنا لابد أن نشير إلى بعض البوادر: إنّ هناك بعض الجمعيات الخيرية وبعض الجهود الفردية كانت وراء إقامة مستشفيات ومستوصفات مخصصة للنساء، تحمي المرأة المسلمة من المشاكل والصعوبات والقضايا الصعبة التي تواجهها المرأة، حينما تذهب للتطبيب في المستشفيات العامة. بل هي تحل مشكلة كبيرة، فنحن نجد أن هناك جهوداً غير عادية لمحاولة إثارة قضيّة التمريض في أوساط البنات، ودعوتهن إليه بكل وسيلة، وتمنيات كبيرة من قبل المسئولين في الاكتفاء بالممرضات السعوديات كما يقولون. وأقول: هذا لن يكون أبداً، إلا إذا أوجدنا البيئة الصالحة، التي تستطيع الفتاة أن تجد فيها الحفاظ على دينها وأخلاقها، وهي تقوم بتمريض النساء من بنات جنسها، بعيدًا عن ارتكاب الحرام، وبعيدًا عن الاختلاط بالرجال. فإذا كنتم تريدون فعلاً من بناتنا وبنات المسلمين أن يدخلن معاهد التمريض والمعاهد الصحية، فيجب عليكم أولاً أن توجدوا البيئة الصالحة التي تُطمئن الفتاة وتُطمئن أهلها، إلى أنها سوف تكون بهذا المكان المأمون المضمون البعيد عما حرَّم الله. وحينئذٍ نعم، أما أن يزجُّ الرجل ببنته في مثل هذه البيئات التي لا يأمن الإنسان على بنته فيها، والتي يرى فيها من المنكرات الشيء العظيم، فلا أعتقد أن هذا ممكنٌ أبدًا بحال من الأحوال، حتى غير المتدين لا يتقبل هذا؛ لأن الفتاة التي صارت في مثل هذه الأوضاع فإن الرجل إذا أراد أن يتزوجها، فإنه يعزف عنها، فحتى من الناحية المصلحية ومن الناحية الدنيوية، فإنهن سوف يكن بعيدات عن مثل هذه الأمور. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 19 الشعور بالتقصير كثير من الأخوات الداعيات تشعر بأنها ليست على مستوى المسئولية، وهذه في الواقع أنها مكرمة وليست عقبة. والمشكلة هو أن تشعر الفتاة بكمالها أو أهليتها التامة، ومعنى ذلك أنها لن تسعى إلى تكميل نفسها أو تلافي عيبها، ولن تقبل النصيحة من الآخرين؛ لأنها ترى في نفسها الكفاية، أما شعورها بالنقص والتقصير، فهو مدعاة إلى أن تستفيد مما عند الآخرين، وأن تقبل النصيحة، وينبغي أن تعلم الأخت الداعية أنه ما من إنسان صادق إلا ويشعر بهذا الشعور0 ويقول لي الكثيرون من الإخوة الشباب: لو تعرف حقيقة ما نحن عليه؛ لعذرتنا وغيرت رأيك، ونحن لا نقول هذا على سبيل التواضع، أو هضم النفس، ولا نعتقد أن النقص الذي عندنا هو كالنقص الذي عندك أو عند الآخرين؛ كلا! بل نحن مقصرون إلى درجةٍ لا تحتمل والغريب أن هذا الكلام يقوله كلُّ إنسانٍ عن نفسه، فوالله أيها الإخوة، لو نطق أفضل الناس في هذا العصر، لقال هذا الكلام بعينه، ولكنه يدور في قلبه وفي نفسه، ويؤثر ألا يقوله؛ لئلا يفجع الآخرين أو يثبط عزائمهم أو يفتر هممهم، وهذه طبيعة الإنسان، أنه كلما ازداد صلاحه، زاد شعوره بالتقصير، وكلما علم وعرف علمًا جديدًا، ازداد معرفةً بأنه جاهل، كما قال الشاعر: وكلما ازددت علمًا ازددتُ علمًا بجهلي فكلما زاد فضل الإنسان زاد شعوره بالنقص، وكلما زاد جهله وبعده زاد شعوره بالكمال. وباختصار فإنه ما دامت الروح في الجسد، فلن يكمل الإنسان، وكلما شعر بالتقصير وهضم النفس، كان أقرب إلى الله تعالى وأبعد عن الكبر والغرور. وقد يبتلي الله تعالى العبد أو الأمَة بنوع تقصير خفي لا يعلمه الناس، يحميه الله تعالى به من داء العجب، ويجعله به دائم الذل لله، ودائم الانكسار والانطراح بين يديه عز وجل، فلا يمنعنَّكِ الشعور بالتقصير من الدعوة إلى الله؛ فإنها من أعظم العبادات التي يكمل الإنسان بها نفسه، وهي من أفضل القربات، ونفعها يتعدى إلى الأخريات، وهي أفضل من نوافل الصوم، وأفضل من نوافل الصلاة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] . ومن عقبات النفس أيضاً: التخوف والإحجام والتهيب من الدعوة والكلام أمام الأخريات، وهذا لا يمكن أن يزول إلا بالتجربة والممارسة، ففي البداية: يمكن أن تتعلم الفتاة وسطَ مجموعةٍ قليلة، فتلقي كلمة ولو كان مكتوبةً في ورقة، ثم مع مجموعةٍ أكثر، ثم تشارك في المسجد والدروس التي تقام في المدرسة، ثم تبدأ بعد ذلك في إعداد بعض العناصر، وتُلقي ما سوى ذلك من نفسها، وبطريقة الارتجال، ولابد من التدرب، وإلا ستظل المرأة، وسيظل الرجل يقول: لا أستطيع! ولو ظل إنسانٌ يتلقى طُرقَ السباحة -مثلاً- عشرسنوات نظرياً، ما استطاع أن يسبح؛ لكن لو نزل خمس دقائقَ في الماء، وحاول أن يعوم، وخشي من الغرق، ولكنه تغلب، وهناك من يرشده ويؤيده ويساعده ويسدده، فإنه يتعلم في خمس دقائق أو أقل من ذلك. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 20 موضوعات وكتب كثيرًا ما يأتيني أسئلة من الإخوة والأخوات عن موضوعات أوكتب مقترحة، وقد رأيت أن أسرد في هذه المناسبة طائفة من الموضوعات، وطائفة من الكتب، تكون نافعة -إن شاء الله- لمن يسمعها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 21 موضوعات تناسب المرأة عموما ً أولاً: من الموضوعات التي أرى أنه من المناسب أن تطرح في مجال النساء ودروسهن عمومًا ما يلي: الطهارة. التوبة. محبة الله تعالى. محبة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثقافة الفتاة. اللباس والزي الشرعي، وشروطه. نصائح للفتاة قبل الزواج. الأُخُوّة في الله، ومعناها، وفضلها، وبيان متى تكون الأُخُوّة دينية، ومتى تكون الأُخُوّة عواطف مذمومة. آثار المعصية على الفرد، وآثار المعصية على المجتمع. التواضع وفضله. الأمانة. إصلاح القلوب. أنواع القلوب. أسباب صلاح القلب وأسباب فساده. أثر الإيمان باليوم الآخر على الفتاة. عذاب القبر ونعيمه، ووسائل النجاة من عذاب القبر. أثر الإيمان بالقدر في حياة الإنسان، وفي حياة المرأة. الأمانة. دور الفتاة في إصلاح المجتمع. دور الفتاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصفات الآمر والناهي. صفات الداعية. الولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين. واقع المرأة الغربية وأسبابه. أسباب السعادة الزوجية. طرق تربية الأبناء، ودور الأم في ذلك. سير ونماذج من حياة الصحابيات، وهذا عدة موضوعات. أثر المسلسلات والأفلام على الفتاة. وسائل أعداء الإسلام لإفساد المرأة. حقوق الآخرين. حقوق الوالدين. حقوق الزوج. حقوق الإخوة. حقوق الأبناء. حقوق الأصدقاء. حقوق الجيران. أثر الجليس على الإنسان. موضوع قراءة القرآن، وفضله، وآدابه. موضوعات للمناسبات، مثل: الحج. الصيام. الإجازات الصيفية. الأحداث المتجددة القريبة والبعيدة. الأذكار والأدعية الشرعية. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 22 كتب تناسب المرأة الداعية والفتاة عموما ً أما فيما يتعلق بالكتب التي يمكن أن تعرض في بعض المناسبات، ويمكن أن توضع في المكتبة المنزلية، ويمكن أن تقرأها الفتاة، فأذكر منها بعض ما تيسر، فمن الكتب مثلاً: تفسير ابن كثير. العقيدة الواسطية. كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب. زاد المعاد. فتاوى النساء لـ ابن تيمية. التحفة العراقية لـ ابن تيمية في أعمال القلوب. إغاثة اللهفان لـ ابن القيم. رياض الصالحين للنووي. تهذيب سيرة ابن هشام. قبسات من الرسول. الشمائل المحمدية للترمذي ومختصره للشيخ الألباني. الفوائد لـ ابن القيم. صيد الخاطر لـ ابن الجوزي على ثغرات فيه. تلبيس إبليس لـ ابن الجوزي. حقوق النساء في الإسلام لـ رشيد رضا. معركة التقاليد لـ محمد قطب. عودة الحجاب لـ محمد أحمد المقدم. المرأة المسلمة المعاصرة للدكتور/ أحمد محمد بابطين. كيف تخشعين في الصلاة؟ لـ رقية المحارب. الموضة في التصوير الإسلامي لـ فاطمة بنت عبد الله. عمل المرأة في الميزان للدكتور البار. النساء الداعيات لـ توفيق الواعي. رسائل إلى حواء لـ محمد رشيد العويد. كلمات إلى حواء لطائفة من الكتاب. دليل الطائفة المؤمنة لـ محمد الخلف سري وللنساء فقط للقطان. أفراح الروح لـ سيد قطب. مواقف نسائية مشرفة لـ نجيب العامر. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 24 ¦ الصفحة: 24 صورة غير واقعية للمرأة السؤال بعض المقالات الصحفية النسائية قدمت صورة غير واقعية عن نسائنا، بل هو تهافتٌ نادر تقوم به طائفة منحرفة، أو رجال على لسان المرأة، فما هو تعليقكم؟ الجواب هذا صحيح، كثيراً مما ينشر باسم النساء هو من كتابة الرجال، وإذا وجد الفساد في مجتمعنا -ونحن نقول أنه موجود- فهو قليل في الرجل والمرأة أيضاً، فإذا وجد في المجتمع عشر نساء منحرفات، فهذا المجتمع والحمد لله فيه مئات من النساء المهتديات الصالحات، لكن ربما لا يكتبن في الصحف، ولو كتبن إلى الصحف فربما كان كثير من ذلك لا ينشر. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 25 كيفية دعوة النساء الكبيرات السؤال كيف توجهنا لدعوة النساء الكبيرات لترك بعض البدع، علماً أن الجواب منهن: (عناقٌ تعود أمها الرضاعة) ؟ الجواب نعم. يمكن -كما قلت سابقاً- أن تقرئي عليهن كتاباً لسماحة الشيخ/ ابن باز، أو ابن تيمية، أو لـ ابن القيم، أو لبعض علمائنا المعاصرين، وتقولي: هذا كلام العلماء، ليس كلامي. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 26 حكم خروج المرأة متعطرة السؤال لاحظت خروج بعض النساء الأقارب متطيبات، وحين أنهاهن عن ذلك، يقلن: نحن خارجات إلى مجتمعٍ نسائي لا اختلاط فيه مع الرجال؟ الجواب المشكلة أنها وإن كانت خارجةً إلى مجتمعٍ نسائي، إلا أنها في كثيرٍ من الأحيان تمر بالرجال، فإذا كانت -مثلاً- ذاهبةً للمدرسة، فسائق الأوتوبيس، وبواب المدرسة، وإذا خرجت فالرجال الواقفون على جانب الطريق ينتظرون بناتهم، كل هؤلاء من الرجال الذين لا يجوز لهم أن يجدوا ريحها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 27 كثرة وتنوع أساليب الفساد السؤال أرجو الاطلاع على اللقاء الذي أجري هذا اليوم مع إحدى المذيعات السعوديات في جريدة عكاظ؟ الجواب الله المستعان! تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد الجزء: 24 ¦ الصفحة: 28 كيفية الرد على دعاة الفساد السؤال إذا حصل أن قام أحد الأشخاص السيئين، وتحدث عما يريد أمام جمعٍ من الناس، فما هو الأسلوب الأمثل لرد سمومه؟ وهل من المناسب قيام الجمهور بالرد عليه، مع العلم أنه سيستغل ذلك ضد الصحوة ومنسوبيها؟ الجواب لا. بل ينبغي أن يقوم إنسان عنده القدرة على الرد بمنطقٍ قوي، ويتكلم بكلامٍ حكيم هادئ، ويظل ينقض ما قاله وفتله ذلك الإنسان شيئاً فشيئاً، حتى ينتهي منه، ولا أعتقد أن من المصلحة أبداً أن يخرج الناس على شكل مجموعات، سواء في محاضرةٍ أو أمسيةٍ أو غيرها، فإن هذه الصورة صورةٌ غير لائقة، وتدل على نوع من التسرع والطيش وعدم الانضباط، وخاصةً بعض المحاضرات وبعض الأمسيات أمسياتٌ طيبة، ويقوم عليها رجالٌ فضلاء ودعاةٌ نبلاء، فينبغي أن نكون جميعاً ساعين على إنجاحها وانضباطها، وتسامع الناس عنها بصورةٍ جيدة على عكس ما يحصل، لأنه قد يحصل أمرٌ غير ما تريد، فالناس حين يتكلمون عن أن هناك محاضرة أو أمسية حصل فيها هرجٌ ومرجٌ، وكلامٌ وقيل وقال، قد يتصور بعض الناس أن هذا دليل على عدم نجاح الأمسية، ولو كانت الأمسية في الحقيقة ناجحة، والجمهور غفير. ولكن مع الأسف مثل هذه التصرفات غير المدروسة تفسد أكثر مما تصلح، فألفِتُ إلى ذلك الأنظار، والإنسان ينبغي أن يكون منضبطاً في تصرفاته، كما أن الاعتداء على الآخرين أحياناً بالضرب أوغيره بغير بينةٍ لا يجوز، وقد بلغني أنه في مناسبات عديدة اعتدي على أشخاصٍ بسوء الظن، فقد يظن ببعضهم جاءوا لأغراضٍ سيئة، أو أنهم ينقلون الكلام، أو يتجسسون، أو ما أشبه ذلك، فيظهر أن هذا غير صحيح، فقد يكون الإنسان أحياناً له ظروف نفسية، أو أمور خاصة، أو أشياء جعلت الناس يظنون به ظناً معيناً، ولا يجوز أن يؤخذ الناس بغير علم، بل ينبغي للعبد أن يتقي ربه، ويدرك أنه محاسبٌ على تصرفاته، وأن تصرفاته لا تحسب عليه هوفقط، بل تحسب أحياناً على قطاعٍ عريضٍ من الناس. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 29 حقيقة الالتزام السؤال كثير من الملتزمات لا يعرفن معنى الالتزام، حيث إن الالتزام في نظرهنَّ هو عدم الضحك والابتسام، وعدم الكلام وغير ذلك، فما رأيكم في ذلك؟ الجواب الالتزام مظهر ومخبر كما أشرت، والعناية بالقلب، وتصحيح الاعتقاد، وتصحيح المشاعر، وتصحيح السلوك أمر أساسي، والمظهر جزءٌ من الدين أيضاً، والذي أمر الرجل مثلاً بإعفاء اللحية وأخذ الزينة عند الصلاة هو الذي أمر الرجل بأن يصلح قلبه، وأن يتقي ربه وأن يخاف الله عز وجل، والذي أمر المرأة مثلاً بأن تتحجب هو الذي أمر المرأة بأن تخاف ربها، وتطيع زوجها، وتؤمن بالله تعالى وباليوم الآخر، فلا يجوز أن نفرق بين هذا وذاك. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 30 تراجع عن إعلان حفل السؤال يقول: يقال أنه سيغني في حفلة من الحفلات امرأة سعودية؟ الجواب ذكرت أنه قد جاء -إن شاء الله- نفي لهذا الخبر، وأرجو أن يكون النفي لا يحتاج إلى نفي أيضاً. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 31 من مفاسد تدريس الرجال في مدارس النساء السؤال هذا السؤال من بعض الأخوات عن بعض المدرسين الرجال الموجودين في مدارس البنات، وما هو الحل؟ الجواب الحل في الحقيقة هو أن يُسعى إلى تحويل هؤلاء الرجال إلى مدارس الأولاد، وألا يدرس النساء إلا نساء مثلهن، فإن دخول الرجل على المرأة -إضافة إلى أنه يحرجه هو ويضايقه- لا شك أن فيه مفاسد كثيرة جداً من سماع أصوات النساء، خاصة وهي تقرأ القرآن، وربما تعتقد أنها سوف تحسن صوتها في القرآن، فيكون صوتها فيه ليونة، وتأثير، ونعومة، وأشياء كثيرة من هذا القبيل. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 32 سبب قلة النساء المتفقهات في الدين السؤال ما هو السبب في قلة المتفقهات في الدين من النساء؟ هل هو راجع لطبيعة المرأة، أم لأن المرأة ليست كالرجل حيث يتوفر له التلقي المباشر من العلماء؟ وما هي الطريقة الأفضل لطلب العلم بالنسبة للمرأة مع إيضاح أيسر الكتب في إيصال المعنى، حيث أنه يتعذر علي فهم كثير من الأمور في المراجع التي ينصح العلماء بدراستها خاصة في العقيدة والفقة؟ الجواب لقد ذكرت بعض هذه الكتب، وبعض الأسباب والوسائل التي من شأنها أن تجعل المرأة تحصل على بعض العلم وتصل إلى شيء. أما سبب قلة المتفقهات في الدين، فأقول: أنه ليس بلازم أن نقارن دائماً بين الرجل والمرأة، فليس من الضروري أن يوجد متفقهات في الدين في أوساط النساء كالرجال، بل لن يوجد هذا أصلاً، وعبر التاريخ حين تقرأ كتب التراجم -مثلاً- تجد تراجم الرجال بالألوف، لكن حين تأتي إلى تراجم النساء تجدها أقل، وتجد في الغالب أن النساء المترجم لهن يغلب على أحوالهن الجهالة وأنهن غير معروفات، وهذا دليل على أنه فعلاً المرأة المسلمة ظلت تعيش في مجتمعها الخاص طيلة القرون في العالم الإسلامي، فهو مجتمع متكامل المرأة معزولة فيه عن الرجل، وهذا الذي يحاول أعداء الإسلام خرقه الآن بكافة الوسائل، لكن هذا لا يمنع النساء من أن يتفقهن في الدين، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: [[رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين]] وكثير من النساء كانت تأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وتسأله في أمور دينها أسئلة، وتقدم قولها: يا رسول الله، إن الله لا يستحي من الحق، فالتفقه في الدين مطلوب، وينبغي لمن تأنس من نفسها قوة أن تتفقه لنفسها ولغيرها، لتعلم من حولها من النساء. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 33 حكم النذر السؤال ما حكم أن ينذر الشخص نذراً معيناً، ثم يتراجع عنه؟ الجواب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {النذر لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل} والنذر يجب الوفاء به، فإذا نذر الإنسان وألزم نفسه بشيء وجب عليه الوفاء به، ولكن ينبغي ألا يعود الإنسان نفسه أن ينذر شيئاً؛ لأن هذا النذر لا يقدم ولا يؤخر، ولا يرد من قدر الله تعالى شيئاً. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 34 من أساليب التورية السؤال عند الكلام أحياناً -وخاصة عند النساء- يجري الحديث في أمور، وتتم الأسئلة على نحو تخاف المرأة منه من العين أو الحسد، وتضطر إلى التحايل في الإجابة، فما حكم ذلك؟ وما حكم الأمور التي بين المرأة وزوجها مما لا تود المرأة أن يطلع عليه الجميع، فتعمد إلى تغطية بعض الأمور؟ الجواب يمكن أن تغطي ذلك دون الحاجة إلى الكذب، فمثلاً: إذا قيل لها: كيف حالك مع زوجك؟ بدلاً من أن تقول: أمورنا طيبة ولله الحمد، وكما يقال في المثل: سمن على عسل، وكل شيء على ما يرام، وتبدأ تذكر محاسنه، فبدلاً من ذلك إذا كانت تخاف ممن حولها، فإنها تستطيع أن تقول: الله المستعان، الله يصلح الأمور، الله يصلح الأحوال، البيوت لا تخلو من مشكلات، الحياة ليس عليها أحد مرتاح، وما أشبه ذلك من الكلام العام الذي ليس فيه تصريح بحقيقة الحال التي تعيشها مع زوجها، وفي نفس الوقت ليس فيه كذب تؤاخذ به. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 35 نصيحة موجهة للطالبات والمعلمات السؤال أرجو نصيحة بعض الطالبات لما يفعلنه بالمعلمات. الجواب كثير من الطالبات ربما يتناولن المعلمات والعكس، فتقول بعض المعلمات: إنهن إذا التقين فإن الحديث بينهن غالباً ما يكون عن بعض الطالبات، فلانة فيها، وفلانة فيها، وفلانة مقصرة، وأحياناً لا تكون المسألة مجرد تقويم للطالبة ومستواها الدراسي، وما أشبه ذلك، بل تتعدى إلى الكلام عن شخصيتها، وتصرفاتها، وطبيعتها، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا تحتاج إلى بيان، وهذا لا شك من الغيبة، والعكس صحيح أيضاً. فكون الطالبات إذا اجتمعن تكلمن في المدرسات، وجعلن لكل واحدة منهن لقباً يعيرنها به، ويتكلمن: هذه فيها، وهذه فيها، وهذه فإن هذا أيضاً من الغيببة التي لا تجوز، وقد قال الله عز وجل: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] . هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 36 مشكلة جهل الفتيات بطريقة الطبخ السؤال هناك مشكلة ظاهرة بين البنات، وهي أن بعضهن لا تعرف أن تشتغل، أو تساعد أمها، أو أخواتها بحجة الدراسة، أو غير ذلك، فنرجو منكم أن تكشفوا هذه المشكلة الخطرة. الجواب هذه فعلاً مشكلة، وعندي فيها عدة أمور، حتى أنَّ واحداً يقول: أعرف بيتاً فيه ثلاث أخوات ملتزمات، وفيه أربع خادمات، ففي هذا البيت فيه ثلاث بنات غير متزوجات، وأربع خادمات، حتى أن بعض الفتيات أحياناً طبخ الشاي لم تتعود عليه، لأنها ألفت أن تسند هذه الأمور إلى غيرها، إما إلى الأم، وإما إلى الخادمة، والأم كثيراً ما ترأف بالبنت، فتقول: إنها متعبة، أو اتركوها تدرس، أو ما أشبه ذلك، وتنسى أن هذه البنت ستواجه مشكلة كبيرة بعد الزواج، فبعدما تتزوج سوف تكون في بيت مستقل، زوجها يطلب منها كل شيء، وعليها أن تقوم بكل شيء، فكيف تعمل؟ وكيف تصنع؟ إذا وجدت صعوبة، فستكون كارثة. وفي مرة من المرات اتصلت امرأة على بيت لا تعرفه، تقول: الله يعافيكم، الله يجزيكم خيراً، بينوا لي كيفية طريقة طبخ الماكرونة بالطريقة الجديدة، قالوا لها: لا نعرف، قالت: زوجي عنده ضيوف، وقال: اطبخيها بالطريقة الجديدة، وأنا زوجة جديدة، فقلت له: إن شاء الله، لأنني لا أستطيع أن أقول له: لا أعرف، فهذه المرأة إذا تعلمت الوصفة والطبخة عن طريق الهاتف، فستغلط فيها مائة مرة، وأنا -والله- لما سمعت الخبر، يعلم الله أني رثيت لحال هذه الفتاة، وتصورت موقفها الصعب مع زوجها، فمن المسئول؟ المسئول أمها، وقبل أمها هي المسئولة فعلاً، لأنها امرأة عاقلة رشيدة، والمفروض أن تدرك أنه ينبغي أن تعد نفسها للحياة الزوجية إعداداً كاملاً، وألا تستهين بشيء، فتعلمها كيف تعد نفسها، وكيف تعد بيتها، وكيف تنظف بيتها؟ وكيف تعد مطبخها، وكيف تعد الطعام، وبعض الأمثال يقول: أقرب طريق إلى قلب الزوج هو بطنه، أي: أن توفر له الطعام الطيب، وبغض النظر عن كون هذا الكلام صحيحاً، أو خطأً، لكن بلا شك أن الرجل لما يجد أن المرأة أخفقت في صناعة الشاي والقهوة، وفي إعداد الطعام للضيوف، وفي أمورٍ كثيرة، فسيبدأ ينتقد مرة، ومرة، ومرة، وفي النهاية قد تحصل مشكلة، بل قد يحصل طلاق، بل حصل هذا في مرات عديدة، فينبغي للفتاة أن تدرك أن معرفة مثل هذه الأمور هو جزء من شخصيتها وكمالها. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 37 المنهج في تعليم الزوجة السؤال ما هو المنهج الكامل الذي يسير عليه الرجل تجاه زوجته، وذلك بكيفية تعليمها لدينها وأخلاقها والدعوة إلى الله، حتى يكون قد تمكن من رعايتها، ولا يصبح مهملاً لها، ولا يكونُ خاسراً لزوجته، جزاكم الله خيراً؟ الجواب كثيراً ما تشغل الرجل علاقاته بزوجته -العلاقات الطبيعية الفطرية الغريزية- عن أن يقوم بحقوقها في تعليمها، كأن يجعل لها درساً في كل يومين، أو في كل ثلاثة أيام، أو في الأسبوع، ويعطيها بعض الكتب لتقرأها، وبعض الأشرطة لتسمعها، ويخصص لها من وقته حتى أقول: لو خصص ثلاث ساعات في الأسبوع للزوجة، يسألها عما قرأت؟ وهل في هذا الكتاب مشكلة؟ وسألها وأجابها وحل بعض الأمور وساعدها، لكان ذلك كافياً، ووزع هذه الثلاث الساعات على ثلاث فترات، هذا يكفي، وبقية وقت المرأة تخلو بنفسها، فتقرأ كتاباً، أو تستمع إلى شريط، ثم تقوم بحقوقها الشرعية الأخرى بلا شك. الجزء: 24 ¦ الصفحة: 38 أسلوب من أساليب الدعوة السؤال إذا حاولت دعوة أهلي لترك التلفاز، قالوا: ماذا نعمل؟ أنت تذهب مع إخوتك وأصدقائك، بمعنى لو جلست في البيت لشاهدت التلفاز، ما هو الحل، أفيدونا؟ الجواب ينبغي أن يكون لك جهود أكبر من ذلك، فينبغي أن تقنع إخوتك الصغار بترك التلفاز، وأن تجعل لهم جلسةً خاصة كما ذكرت، وتجعل في البيت أشرطةً، وكتباً مفيدة، وتحدث والديك عن خطر التلفاز، وضرره على الأولاد والبنات، وتحدثهم عن البث المباشر القادم وخطورته، حتى يقتنعوا بضرورة إخراجه، وتظل تصر وتضرب هذا الباب حتى تنجح، وكما قيل: أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا الجزء: 24 ¦ الصفحة: 39 وسائل المنصرين التنصير العالمي الخبيث أصبح أخطر غزو يشتغل في العالم وهذا الغزو الخبيث لبلدان العالم، تنظم له القدرات الجبارة والإمكانيات الهائلة التي يمكن أن تحقق أكبر قدر ممكن من أهدافه، ويستغل النصارى كل فرصة وكل ضعف في العالم، كما يفرحون بالحروب والكوارث التي تصيب العالم لنشر النصرانية عن طريق الإغاثة كما يوظفون الإعلام والعلم والتعارف والمناسبات لذلك. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 1 معنى التنصير أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] . {من محمد عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ)) [آل عمران:64] } رواه البخاري -رحمه الله تعالى- في "كتاب الجهاد" من صحيحه. طالما دمغ أهل الكتاب أهل الإسلام بكل نقيصة، ورموهم بكل عظيمة، وما تركوا عيباً ولا عاراً إلاََََََََََََََّ وألصقوه بهم، وأخرجوا أنفسهم منه أبرياء، وهم الذئاب في جلود الضأن، وهذا واحد من بني جلدتهم، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء. رشيد سليم الخوري -الشاعر القروي اللبناني- يقول في "ديوانه" وهو يتكلم عن بني قومه من النصارى-: وكيف ألومُ في وطني الزمانا ومنا ذله لا من سوانا ألسنا قد أهناه فهانا وقلنا: كن فرنسياً فكانا إذاً فليهننا ليل المراد رضينا للتعصب أن نهونا فأغمضنا على الضيم الجفونا نقول: المسلمون المسلمونا فنلعنهم ونحن الخائنونا نبيع بدرهم مجد البلاد بربك قل متى لبنان ثارا ليدرك من علوج الروم ثارا متى ابتدرت إلى السيف النصارى لتغسل بالدم المسفوح عارا وتدرك مرة شرف الجهاد هذا هو الدرس الخامس والستون، وهذه هي ليلة الإثنين: الخامس من شهر صفر/ من سنة (1413هـ) وبالمناسبة فعنوان هذا الدرس هو: وسائل المنصرين. * مصطلح التنصير يقصد به: ذلك الجهد الكنسي الذي يقوم به الدعاة من النصارى في الدعوة والعمل، والذي يهدفون من خلاله إلى إدخال الشعوب في الديانة النصرانية؛ سواء الشعوب المسلمة، أو الشعوب الوثنية، أو غيرها. أو يهدفون إلى تشكيك المسلمين في دينهم، وإخراجهم منه، أو إلى تثبيت النصارى على ملتهم، ودعوتهم إلى مزيد من التدين. - إذاً- فالتنصير، مأخوذ من النصرانية، -أي: الدعوة إلى النصرانية-. * والنصرانية: هي الاسم الشرعي للديانة التي جاء بها عيسى عليه السلام، أو هو الاسم الذي سمي به أتباع عيسى عليه السلام، قال الله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:14] . وإن لم يكن هذا الاسم أتى أصلاً إلا من قولهم هم، فالمهم أنه عرف بهم، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون يستخدمونه في حقهم. وهو أولى من استخدام لفظ المسيحية والذي كثيراً ما يطلق على النصارى؛ وذلك لأن المسيحية هي نسبة إلى المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام، وهو منهم بريء؛ إذ قد خالفوا أمره، وغيروا منهجه، وتركوا هديه ودينه وسنته، قال الله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل عمران:68] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم} كما في البخاري. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 2 تنصير لا تبشير الأولى بكل الأنبياء هم الذين اتبعوهم، وأحيوا سنتهم، وكان دينهم جميعاً التوحيد. ومن الخطأ استخدام لفظة (تبشير) الذي كثيراً ما يقال عن التنصير؛ وذلك لأن لفظة (تبشير) فيه دلالة على أن هؤلاء القوم يدعون إلى البشارة وإلى الخير، ويبشرون الناس بالسلام، وبالرحمة، وبالبر، وبالجود، وبالسعادة، وهم ليسوا كذلك، والأولى بلفظة (التبشير) هو المسلم؛ فهو المبشر حقاً؛ ذلك أن لفظة (تبشير) من صفات النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الفتح:8] . وهكذا من سار على دينه فهو المبشر حقاً، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن كما في "الصحيحين" قال: {بشرا ولا تنفرا} . فالتبشير: هو اسم على دعوة المسلم الحق، وليس على دعوة النصراني بحال. وقد استخدم لفظة (تبشير) جماعة كثيرون من الكتاب المسلمين، وقصدوا به النشاط النصراني في الدعوة إلى النصرانية، مثل ما كتب: عمر فروخ وخالدي في كتابهما المشهور الكبير المفيد "التبشير والاستعمار في البلاد العربية"، ومثلهم أيضاً: إبراهيم الجبهان "ما يجب أن يعرفه المسلم عن النصرانية والتبشير"، ومثله: مصطفى غزال، إلى غيرهم من الكتاب الذين يجري على ألسنتهم لفظ التبشير، والأولى أن يقال: التنصير لا التبشير. * ولماذا اختار النصارى لدعوتهم لفظ التبشير؟ أولاً: لأنهم متفنون في التضليل الإعلامي، كما سيتضح لكم جلياً الآن أو بعد فترة. وثانياً: لأنهم أخذوا هذا من كلمة يزعمون أنها جاءت في الكتاب -في الإنجيل- يقول الرب: -زعموا- "أجمل الذين يبشرون بالخيرات، ويبشرون بالسلام " الجزء: 25 ¦ الصفحة: 3 التبشير النصراني اسم يخالف الواقع الذين يبشرون بالخيرات، ويبشرون بالسلام هم حملة الدين الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:10] . يزعمون أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال لهم وعلمهم: "من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ منك الرداء فأعطه القميص". ولكن رأينا أن هؤلاء الذين يتشبثون بعيسى ابن مريم يمارسون ألوان الوحشية باسم السلام، ويمارسون ألوان الحرب باسم التبشير، ورأيناهم ينشرون السلام كما ينشر المطر بإذن ربه الخضرة والنماء، رأيناهم ينشرون السلام في فيتنام حيث الجثث والجماجم والأشلاء، ورأيناهم ينشرون السلام في حربين عالميتين خلال أقل من نصف قرن أتت على الأخضر واليابس، والحرث والنسل، ولا زالت آثارها إلى اليوم ماثلة للعيان، ورأيناهم ينشرون السلام خلال تينك الحربين في اليابان في هيروشيما وناجازاكي، ورأيناهم ينشرون السلام في لبنان الذي لم يكد يبقى فيه حجر على حجر. ورأيناهم ينشرون السلام اليوم في يوغسلافيا؛ حيث العبرات تقطع قلوب الأطفال والشيوخ والنساء والأرامل، وحيث ألوان الاعتداءات الوحشية التي يعجب الإنسان كيف استطاع بشر أن يجرؤ عليها!، وكيف يتحملها ضمير إلا أن يكون ضمير الشيطان وأوليائه، ورأيناهم ينشرون السلام قريباً منا هنا في العراق؛ فلم يرحموا أنات الثكالى، واليتامى، والفقراء، والجياع، والعطاش، وتحالفوا مع الشيطان الآخر حزب البعث العلماني في إحكام القبضة على هذا الشعب المسلم؛ فلا ماء، ولا قوت، ولا طعام، ولا إغاثة، ولا غذاء، ولا علاج، باسم الحصار الاقتصادي. هذا هو السلام الذي ينادون به. هذا السلام الذي نادت معابدكم أم تلك مجزرة يخزى لها البشر الجزء: 25 ¦ الصفحة: 4 لماذا نعالج موضوع التنصير نعالج هذا الموضوع لخمسة أسباب: أولاً: لأن التنصير خطر يهدد المسلمين منذ زمن بعيد، وهو اليوم يمد يديه، ويكشر عن أنيابه، ويفتل سواعده لحرب ضروس مع العقيدة الإسلامية، فكان لا بد من أن تدق طبول الخطر ليسمع من لم يسمع، ويعرف من لم يعرف؛ خاصة إذا علمنا أن التنصير اليوم يتلصص بأساليب ووسائل ماكرة خبيثة، هي أحياناً أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، ويرضى ولو باليسير من العمل، فإذا لم يستطع أن ينصر المسلم رضي بدون ذلك مما تحقرون من أعمالكم. ثانياً: لأنه لا بد أن يقاوم المسلمون هذا الخطر، ويكثفوا الجهود لحربه في كل مكان. ثالثاً: من أجل مزيد من الجهاد الذي تبذلونه، ويبذله المسلمون في الدعوة إلى الله عزوجل. إيه! هذا صنيع أهل الباطل على باطلهم، فكيف يكون صنيعكم أنتم على حقكم؟!! {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] . ولا يوجد وسيلة في الدفاع أحسن من الهجوم، إذاً فينبغي أن نرفع شعار الدعوة إلى الله تعالى في أوساط النصارى، ولنعتبر هذا على الأقل من الوسائل لإيقاف المد التنصيري أو تهدئته. رابعاً: أن طرق مثل هذا الموضوع حرصاً على تعديل الصورة في نفوس المسلمين. وليس التنصير هو الخطر الوحيد الذي يهددنا، فثمة أخطار كثيرة من داخلنا ومن خارجنا، والتنصير ذاته لن يبلغ فينا مبلغه إلا إذا وجد فينا تربة خصبة تنبت فيها جراثيمه وبذرته، والله تعالى يقول: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . ولكن التنصير خطر على كل حال، ونحن حين نتحدث عنه نأمل ونطمع أن يكون هذا الحديث مساهماً في تعديل الصورة في نفوس المسلمين العاديين، والمثقفين، وطلبة العلم، بل والعلماء، أي: أن يدرج في قائمة اهتماماتهم خطراً جديداً اسمه: (التنصير) وأنه خطر مدجج يستهدف أصول العقيدة الإسلامية لدى مسلمين في مناطق نائية وبعيدة، وأطفال، وصغار، ونساء؛ بل ولدى المسلمين في العواصم والمدن الكبرى، وفي حوزات الإسلام، وعواصمه العظام. إن من السذاجة أن تتصور أن الناس يملكون مناعة ضد التنصير، قد تكون أنت تملك بعض المناعة، لكن من السذاجة أن تتصور أن 1000 مليون مسلم حسب الإحصائية، أو أن (40%) أو (30%) من هذا الرقم يملكون مناعة ضد هذا الخطر، وسوف يتبين لك إن كنت ممن يظن هذا الظن أنه ظن في غير محله. فهناك مسلمون يتنصرون، وتقام احتفالات أحياناً بتنصر 800 مسلم في يوم واحد، وهناك من لا يتنصرون فعلاً ويغيرون أسماءهم من عبد الله إلى جورج أو جوزف، ولكنهم يتأثرون فيصبح التنصر منهم قاب قوسين أو أدنى، ليسوا أعداء للنصارى، ولا يكرهون النصرانية، ولا يعتقدون أنها باطل، ولا يرون أن النصراني من أهل النار، وهؤلاء قد لا يكونوا أصبحوا نصارى بالمقياس النصراني ذاته ولكنهم حملوا الجرثومة، فإذا تنصر ولده أو تنصرت بنته، قال: هذه حرية شخصية، وما دام والمسألة قابلة للأخذ والرد فلماذا أنا أضغط على ولدي، أو أضغط على بنتي، أو أقف في وجهه!! والنصارى أطول منك نفساً، وأبعد منك نظراً في بعض الأحيان. وقد لا يوجد هذا ولا ذاك، ويبقى المسلم مسلماً مؤمناً بأصول الدين، مكفراً للنصارى، معتبراً أنهم من أهل النار، ولكن هذا الجهد التنصيري المكثف الموجه إليه هو شخصياً ولَّد عنده فتوراً في الحماس. ولا شك أن هذا مشاهد، فالذين يعايشون النصارى من غير المتحمسين للإسلام؛ بل من المسلمين العاديين كثرت الطرق عليهم مما يولد عندهم فتوراً تجاه الدعوة، وعدم حماس لحمل رسالة الإسلام. فلابد أن ندرج في قائمة اهتمامات أهل الإسلام خطراً جديداً اسمه: التنصير. نوجه هذا الكلام لمن يشتغلون بالمعارك الصغيرة، معركة على قضية سهلة لا تقدم ولا تأخر، ولا يترتب عليها هدى أو ضلال، أو حق أو باطل، وإنما فيها راجح ومرجوح. خامساً: أن هذا هو دعوة للتائهين من المسلمين، إلى الشباب الذي يلهث وراء الكرة، ووراء الفن، ووراء الفيلم، ووراء المسلسل، ووراء الأغنية، ووراء المرأة، نقول لهؤلاء: هذا جهد عدوكم، فأفيقوا قبل أن يغرقكم الطوفان ويبتلعكم الموج وأنتم لا تشعرون. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 5 مصادر معلومات وسائل المنصرين من أين استقيتُ هذه المعلومات التي سوف أقدمها لكم -الآن- وعبر أسابيع تالية -أيضاً-؟ هناك عشرات الكتب -على كل حال- تتكلم عن هذا الموضوع، ولكني وجدت نفسي منهمكاً في مطالعة ما يزيد على (1500) وثيقة تنصيرية وصلتني، ولم أنته بعد إلا من شيء منها، وأنا على يقين أن هذه الوثائق التي أملكها هي مجرد نماذج قليلة وناقصة لبعض جوانب الموضوع؛ إذ أنه لم يكن هناك جهد لاستكمال الموضوع واستجماعه، إنما هي النماذج والوسائل والوثائق التي وصلتني من الإخوة بجهودهم الشخصية. ولا يفوتني أن أشكر من ساعدوني من الإخوة الشباب في توفير الوثائق حول هذا الموضوع بجهودهم الذاتية، سواء عن طريق المراسلة أو عن طريق الفاكس، أو بواسطة الزيارة وإرسال بعض المظاريف، والأوراق، والمجلات، والأشرطة وغيرها، فأقول لهم: جزيتم خيراً، وقد قمتم ببعض واجبكم تجاه دينكم وتجاه فضح هذا المخطط. كما أشكر مجموعة من المؤسسات والهيئات الإسلامية، وعلى رأسها الندوة العالمية للشباب الإسلامي، وكذلك لجنة مسلمي أفريقيا، فقد واصلوني وراسلوني بمجموعة كبيرة من الأوراق، والوثائق، والمنشورات، والحقائق التي أشكرهم عليها شكراً كثيراً، ولهم مني الدعاء في ظهر الغيب، وليعذرني هؤلاء وأولئك على أني أقتصر في شكرهم على هذه الكلمات التي قد يسمعونها، وربما لا يسعفني الوقت أن أكتب لهم شكراً خطياً وأبعث به إليهم، فليعذروني على ذلك، جزاكم وجزاهم الله خير الجزاء، وبارك الله تعالى في جهودكم وجهودهم. وقد انتابتني حيرة شديدة وأنا أطالع هذه الأوراق فما أدري ما آخذ منها وما أدع!، ولذلك رأيت أن من المناسب، خاصة وأن هناك طلباً من عدد من الإخوة أن يجّزأ الموضوع على فترات، فرأيت أن من المناسب أن يخصص أكثر من موضوع، فسأتحدث إليكم في الأسبوع القادم وأقول لكم: التنصير يجتاح العالم الإسلامي، هذا في الأسبوع القادم، وفي أسبوع آخر سوف أتحدث عن التنصير في منطقة الخليج العربي بالذات؛ لخطورة الأمر وما فيه من الوثائق والحقائق المذهلة التي قد لا تتصورونها. ومع ذلك فالموضوع أكبر من محاضرة أو محاضرتين أو ثلاث؛ ولهذا أجد أن سرد بعض المصادر -الآن- قد يفيد في تغطية الموضوع في جوانب قد لا نملك -نحن- أن نتكلم عنها في كثير ولا في قليل، وأيضاً أذكر هذه المصادر حتى يعلم الجميع أن الحديث إنما هو من وثائق، وحقائق، ومعلومات هي في الغالب مستقاة من مصادر رسمية، أو مصادر تنصيرية محايدة، أو أنها متعاطفة مع النصارى. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 6 تقارير صحفية عن نشاط المنصرين من المصادر: تقارير صحفية وإعلامية من جهات مختلفة تنصيرية، أو إسلامية عن نشاط المنصرين، أو تقارير شخصية موثقة تصل بشكل يمكن الاعتماد عليه. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 7 وثائق حول النشاط التنصيري ومن المصادر -أيضاً- وثائق رسمية لمؤسسات، أو شركات، أو دول تشير إلى جوانب من هذا النشاط التنصيري، وسأتحدث عنها بوضوح وبالأرقام في حينه، لأن هذا حق لا بد من بيانه، ولا يجوز أن يسكت عن الحق الذي يهدد المسلمين في عقيدتهم بدعوتهم إلى دين آخر غير دين الإسلام. هذه بعض المصادر وغيرها كثير. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 8 الكتيبان والمطويات والنشرات وغيرها من المصادر أيضاً: الكتب والكتيبات والمطويات والنشرات والدوريات والأشرطة التي وصلتني من جهات شتى، وهي كتب ووثائق تنصيرية هي جزء من عمل المنصرين، والكثير من هذه الأشياء مخصص للمسلمين، ومكتوب للمسلمين وبلغتهم وبأسلوبهم، حتى أنك تجده يسوق الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، بل أحياناً بأسانيدها وهذا من أعجب ما رأيت، فيقول: حدثنا محمد حدثنا المثنى يسوق الحديث أحياناً بإسناده من أجل أن يأنس قلب المسلم، ويستخدم العبارات الإسلامية، وقد تجد في بداية الكتاب (بسم الله الرحمن الرحيم) وتجد أن الكتاب من أوله إلى آخره ليس فيه هجوم على الإسلام ولا على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل فيه اعتراف بنبوته أحياناً، لكنه يدخل بطريقة ذكية إلى قلوب السذج والمغفلين من المسلمين. فتجده إذا ذكر اسم الله يقول: الله عزوجل، الله جل جلاله، الله سبحانه وتعالى، مع أن هذه الكلمات ليست معروفة عند النصارى، لكن أخذوها من المسلمين. وإذا ذكر عيسى فالنصارى يقولون: يسوع، لكنهم في كتبهم يقولون: عيسى إذا كان الكتاب مخصصاً للمسلمين، من أجل أن تأنس القلوب بذلك وترتاح له. بل تجد في هذه الكتب على الغلاف صورة لعربي، أو خليجي بالشماغ والعقال وثيابه المعروفة، وربما تجد صورة بلباس الأمراء لطفل صغير يحمل الصليب، أو يحمل الإنجيل في يده على غلاف الكتاب. وشأن هذه الأشياء غريب جداً، فهناك كميات بمئات الألوف في هذه البلاد فضلاً عن غيرها من البلاد النائية، أو البلاد التي يستهدفها التنصير مباشرة. وقبل قليل أخبرني الشيخ سعيد بن زعير؛ الأستاذ في كلية الدعوة، أنه وصله ألف نسخة من كتيب بحجم أصابع اليد في البريد من أجل أن يقوم جزاه الله خيراً بتوزيعه على الناس، من كتب النصارى، حتى المشايخ يرسلون إليهم كتب ورسائل وطرود من المصادر، وسأتحدث على كل حال عن هذه النقطة مستقبلاً بتفصيل أكثر. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 9 الكتب التي تناقش النصارى أولاً: الكتب التي تناقش دين النصارى، وهذه مصادر عامة: من خلال الكتاب والسنة والرد عليهم، وتثليب ماهم فيه، وبيان مذاهبهم وأقسامهم إلى غير ذلك، ومن أشهرها كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لـ ابن تيمية رحمه الله، وكذلك كتاب هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى للإمام ابن القيم رحمه الله، ومن الكتب المعاصرة كتاب محاضرات في النصرانية للشيخ محمد أبو زهرة، وكتاب "أضواء على المسيحية" لـ شلبي، فضلاً عن كتب "الملل والنحل" وهي كثيرة، فضلاً عن كتب التفسير التي تتكلم عن النصارى من خلال تناول الآيات القرآنية في سورة البقرة وآل عمران والنساء وغيرها. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 10 الكتب المعاصرة عن نشاط المنصرين ومن المصادر: الكتب التي تتحدث عن نشاط المنصرين، والجمعيات التنصيرية، وأساليب دعاة النصرانية، سواء على سبيل الإجمال، أو على سبيل التفصيل في بلد معين، أو في بلدان، أو قارات بأكملها. من تلك الكتب على سبيل المثال، وإلا فهي تعد بالمئات: من أخطرها كتاب الزحف إلى مكة للدكتور خالد نعيم؛ وهو أستاذ في جامعة الأزهر فيما أذكر، وهذا الكتاب مطبوع وقد نشر على حلقات في مجلة المجتمع الكويتية، وهو كتاب وثائقي مهم، ومنها كتاب حقائق ووثائق عن التنصير في العالم الإسلامي للدكتور عبد الودود شلبي، وله كتاب آخر أيضاً اسمه أيها المسلمون أفيقوا قبل أن تدفعوا الجزية، ومنها: كتاب "التنصير في القرن الأفريقي ومقاومته" للسيد أحمد يحي، وهناك كتب غيرها كثيرة. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 11 كتب تعالج الجانب العسكري والسياسي من المصادر: الكتب التي تعالج الجانب السياسي، أو العسكري للتنصير، وهي كثيرة جداً، وزادت أضعافاً مضاعفة في حرب الخليج التي ينظر إليه كثير من المنصرين، ومن النصارى ولو لم يكونوا دعاة على أنها ترسيخ للنصرانية وفتح أبواب وآفاق جديدة لها في العالم الإسلامي، وفي منطقة الخليج والعراق خاصة، ومن هذه الكتب مثلاً، وهي -أيضاً- كثيرة بالمئات، بعضها موجود يباع وبعضها لا يباع، كتاب المسيحية والحرب للدكتور رفيق حبيب، ومثل: كتاب "النبوءة والسياسة"، "الإنجيليون العسكريون في الطريق إلى حرب نووية"، "التبشير الإستعمار في البلاد العربية" وهو: كتاب لـ عمر فروخ خالدي قديم لكن فيه معلومات مفيدة. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 12 الكتب التي تدون محاضر المؤتمرات من المصادر: الكتب التي تدون محاضر المؤتمرات النصرانية، أو التنصيرية، التي تقام في بلاد الغرب، أو الشرق، وهذه كتب كثيرة ومن أشهرها كتاب الغارة على العالم الإسلامي الذي ترجمه محب الدين الخطيب ومساعد اليافي، ذكروا فيه وثائق المؤتمر التنصيري، أو أكثر من مؤتمر تنصيري على الأصح وهي وثائق قديمة ولكنها مهمة ومفيدة وهي تتجدد، ومنها كتاب مهم -أيضاً- طبع في أكثر من (1000) صفحة لا يباع ولكن حصلت عليه بطريقة خاصة اسمه التنصير خطة لغزو العالم الإسلامي وهذا الكتاب بينت فيه وثائق مؤتمر عقد في أمريكا في كلورادو عام (1978م) -وأيضاً- أعتذر إليكم أن التواريخ ستكون جلها أو كلها بالميلادي، ولقد حصلت على أوراق التحويل، وعلى آلة، ولكن لم أجد الوقت الذي يمكنني من تحويل التاريخ فالمعذرة، واستغفر الله من ذلك. المهم, هذا المؤتمر الذي عقد عام (1978) في كلورادو، وحضره أكثر من (150) منصر من أنحاء العالم، واستمر أياماً، وقدم فيه أكثر من (40) دراسة ميدانية وثائقية مقارنة من أخطر ما يكون، وخرجوا بتوصيات علمية غريبة، نشر على رغم التحفظ عليه في أكثر من (1000) صفحة في أمريكا، ومهمة هذا المؤتمر كانت هي: التخطيط لتنصير المسلمين جميعاً، وكان عددهم آنذاك -فيما أذكر- أكثر من (720) مليون حسب الإحصائيات الرسمية. فكان المؤتمر يهدف إلى تحويلهم إلى نصارى، ومن أجل ذلك عقد المؤتمر، وقد قام الأستاذ عبد الرزاق ديار بكرلي، بدراسة هذه الوثائق دراسة جيدة، وطبعت هذه الدراسة -أيضاً- في كتاب اسمه تنصير المسلمين، وهو بحث في أخطر استراتيجية طرحها مؤتمر كلورادو، ونشر هذا الكتاب -أيضاً- على حلقات في مجلة المجتمع الكويتية، وطبع في الرياض في أحد دور النشر. من الكتب -أيضاً- التي تفضح بعض خطط المنصرين في مؤتمراتهم كتاب اسمه سبعمائة خطة لتنصير العالم وهذا الكتاب رشح على أنه أهم وأخطر كتاب نصراني لعام 1988م قبل نحو أربع سنوات، تكلم عن (700) خطة لتنصير العالم، ودرسها خطة خطة، وإيجابياتها وسلبياتها، وخلص على أن ما يزيد على (400) خطة منها فاشلة، و (300) خطة منها قابلة للنجاح مع بعض التعديلات، وصفا له نحو (120) خطة رأى ضرورة التركيز عليها والعناية بها الجزء: 25 ¦ الصفحة: 13 أهداف المنصرين ما هي أهداف المنصرين في دعوتهم؟ الجزء: 25 ¦ الصفحة: 14 الهيمنة العالمية للكنيسة لعل الهدف الأكبر الذي يسعون إليه: هو بسط هيمنة الكنيسة النصرانية، سياسياً، واقتصادياً، وعلمياً، ودينياً على العالم كله، فباختصار هم يدورون حول هذا الهدف الكبير، ويسعون إلى تنصير العالم، يحدوهم في ذلك نبوءة تقول لهم: " إذا نزل عيسى سيتنصر اليهود، وسوف تخضعون أنتم وهم لمعركة فاصلة في هرمجدون في فلسطين ضد قوى الشر -أي: ضد المسلمين- وتنتصرون عليهم، وتقوم مملكة الرب في أرضهم " الجزء: 25 ¦ الصفحة: 15 التنصير أو ترك المسلم بلا دين أما أهدافهم التفصيلية فكثيرة: منها مثلاً: إدخال غير النصارى في النصرانية سواء كانوا من المسلمين وهم الهدف الأول لحملات النصارى أو حتى البوذيين، أو الوثنيين، أو غيرهم. ومنها: -وهذا يحدث عند العجز- أنهم يكتفون بإخراج المسلم من دينه وإبقائه بلا دين، وهذا الهدف الذي تكلم عليه زويمر في مؤتمر المنصرين حينما، خطب فيهم وسط أجواء من التشاؤم، حيث كانوا يقولون: عجزنا عن تنصير المسلمين، فخطب فيهم يقول لهم: " اعلموا أننا لا نريد أن نخرج المسلم من دينه لندخله في النصرانية، فهذا شرف لا يستحقه، وإنما نريد أن نخرج المسلم من إسلامه حتى يبقى بلا دين، ثم دعا وقال: باركتكم عناية الرب. وأقول: هو كذوب فيما قال: أولاً: لأن هذا الكلام على قاعدة الثعالب، يروى أن الثعلب حاول أن يصل إلى العنب فعجز، فقال: الحمد لله الذي أنجاني من الحرام، وفي لفظ أنه قال: هذا عنب حامض ولو صعدت إليه لوجدته غير ناضج، فتركه -زعم- لعدم صلاحيته، فهكذا زويمر ومن معه لما عجزوا في فترة من الفترات في الحصول على أعداد كافية من المسلمين المتنصرين، طمأن قومه بأنه ليس المقصود تنصيرهم وإنما المقصود إخراجهم من دينهم. ولا شك أن هذا هو بعض أهدافهم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 16 التشكيك في بعض أحكام الإسلام ومن أهدافهم -أيضاً- التشكيك في بعض أحكام الإسلام؛ وهذا يعملونه على نطاق واسع -خاصة لدى القراء من المثقفين، وأنصاف وأرباع المثقفين- ومن أبرز القضايا التي يتكلمون عنها: قضية الرق، وقضية الجهاد، وقضية تعدد الزوجات، فهذا الثلاثي لا تجد منصراً في الدنيا يتكلم على الإسلام إلا يبرز هذه الأمور الثلاثة، ويحاول أن يشكك المسلمين في دينهم من خلالها. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 17 الهيمنة على البلاد الموجودين فيها ومن أهدافهم: الهيمنة على البلاد التي يكون لهم فيها وجود يذكر؛ بحيث يحاولون أن يرفعوا النصارى، أو المتنصرين، أو المتعاطفين معهم أيضاً إلى مواقع حساسة، سواء كان في الجيش، والعسكر، أو في الإعلام، أو في التعليم، أو في المناصب السياسية، أو غيرها، وليس سراً أن عدداً من البلاد الإسلامية أصبحت في قبضة النصارى بسبب وصول بعض عملائهم إلى السلطة. ولعلي أسبق الأحداث وأذكر لكم هذه القضية، وإن كانت ضمن درس الأسبوع القادم، أن أكبر بلد إسلامي في العالم إندونيسيا (190) مليون أكثر من (90%) منهم في الأصل مسلمين، هذا البلد يتعرض اليوم لحملة تنصيرية بلغ من وقاحتها، وضراوتها أنهم يعدون رجلاً مسئولاً -الآن- عن العسكر وعن الأمن، يعدونه ليدخل في معركة الرئاسة -رئاسة الدولة- أي: أن من الممكن أن يتولى رئاسة هذه الدولة رجل نصراني، وسأذكر لكم اسمه، لا تستغربوا ففي هذا البلد بذاته (190) مليون عطلتهم يوم الأحد، ولا أحد يعترض هناك. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 18 وسائل التنصير كل وسيلة شريفة أو دنيئة فهي مباحة عندهم، فالغاية تبرر الوسيلة، ومتى كان للنصارى عهد أو عقد أو ميثاق خاصة بعدما كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وتركوا دينه، وأصروا على الكفر. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 19 المؤتمرات العلمية الحادي عشر: المؤتمرات العلمية تعقد حتى في البلاد العربية، ففي مصر عقد مؤتمر من أخطر مؤتمرات المنصرين، وخرج بتوصيات خطيرة، ثم في كلورادو -كما أسلفت- مؤتمر عام (1978م) ، وتوصياته طبعت في كتاب في أكثر من (1000) صفحة، وقبل شهور عقد المؤتمر السابع لمجلس الكنائس العالمي، وحضره مندوبون عن المنصرين في أنحاء العالم، والغريب أن هذا المؤتمر خرج بتوصيات من أخطرها: تعيين البابا شنودة -زعيم الأقباط المصريين النصارى- مسؤولاً عن الإرساليات التنصيرية، أو مسؤولاً عن مجلس الكنائس العالمي في الشرق الأوسط، وإعطاؤه صلاحيات كبيرة، وهذا يدل على الأهمية الكبيرة التي يمنحها المنصرون في منطقة الشرق الأوسط، والمنطقة العربية والإسلامية، ويمتلكون الدراسات، والبحوث، والمؤتمرات. أما المسلمون -مع الأسف الشديد- لا يكادون يملكون شيئاً من ذلك. وبشكل عام؛ فالحضارة بأيديهم، والدولة اليوم في العالم لهم، وليس سراً أن أمريكا هي امبراطوية الصليب، ومثلها بريطانيا وفرنسا، فجميع التيسيرات الحضارية، والخدمات العلمية هي تحت تصرف الكنيسة، ورهن إشارة بابا الفاتيكان؛ فضلاً عن القوة السياسية والعسكرية التي تمنح النصراني مزيداً من الثقة، ومزيداً من القوة، وقد تصيب المسلم أحياناً بشيء من الضعف، أو الإحباط، وتسبب له مزيداً من الضغوط على الدول لتسهيل مهمة النصارى في بلادهم، ودعمهم، وقمع الحركات الإسلامية المعارضة لهم باسم الدعوة إلى السلام، أو إقرار الديمقراطية، أو الأخوة الإنسانية، أو حرية الأديان. يقول منصر كويتي: الصليب الوحيد المرفوع في الكويت هو الصليب الأحمر -صليب الإغاثة- ولكن المسيحيين الكويتيين قد اكتسبوا ثقة جديدة من الدور الذي لعبته القوات الغربية في حرب الخليج، أي: رفعت رؤوسهم. وقد سمعنا -جميعاً- الكلام المنهزم الذي تفوه به الكثير من رؤوس الفكر، والثقافة، والصحافة، والإعلام هنا، فضلاً عن غيرهم من عامة الناس، والسذج، والبسطاء. ومع ذلك فالكنيسة غير راضية عن أساليبها، ووسائلها؛ بل هي تسعى في تطويرها، ومراجعتها يوماً بعد يوم. وهناك منظمة اسمها: التنصير عام 2000م، أنشأت بطلب من البابا ذاته، ولها مكتب في سنغافورة وفي أكثر من بلد، ومهمتها محاولة تطوير أساليب التنصير في العقد القادم، فهم يقولون: العقد القادم عام 2000م هو عقد النصرانية. وفي مقابلة أجرتها جريدة تنصيرية مع الدكتور أكبر عبد الحق وهو منصر، قال: سألوه عن عدم الاستجابة واليأس الذي خالط بعض المنصرين، فقال: الذين يعملون بجهد وإخلاص وإيمان من المنصرين، فهم كمن يغرس البذرة بالتربة في الصحراء وقد تنبت يوماً من الأيام، أما الخاملون واليائسون فنحن نضعهم جانباً ولا نلتفت إليهم، ثم سألته عن سر تنصر 2000 مسلم في الهند تحت رعايته هو، فأعاد ذلك إلى أسباب منها: كثرة الإرساليات إلى الهند، ومنها: أن كثيرين منهم درسوا الإنجيل عبر المراسلة، وهذا يدل على خطورة هذه الوسيلة، وقال: لقد سلطنا عليهم النشرات المسيحية. وعموماً، فالمنصرون يقسمون الدول إلى قسمين: القسم الأول: دول يسمونها مفتوحة، وهي التي يتمكنون فيها من طباعة كتبهم، ومنشوراتهم، وإنشاء الجمعيات الخاصة بهم، والدعوة علانية إلى مذهبهم. القسم الثاني: يسمونها دول مغلقة وعلى رأسها السعودية، ومجموعة كبيرة من الدول وهم لا يقصدون أنها مغلقة بمعنى: أنه لا يمكن الوصول إلى قلوب الناس فيها، حتى لبنان عدّوها من الدول، المغلقة، وبعض الدول الأخرى، يبدو أنهم يطمعون في أكثر وأكثر مما هم عليه الآن!! فبالنسبة للدول المغلقة فلا شك أنهم يسعون إلى أهداف التنصير السابقة التي هي: إخراج الناس من دينهم، ولكنهم يركزون على ما دونها من الأحكام، مثل: تحسين تصور الناس عن النصرانية، ونشر الأفكار العلمانية، ونشر الفساد والإباحية، وتكثيف النصارى، والتأكيد على ضرورة حرية الأديان، ومن أعظم مطالبهم: استحداث قوانين في تلك الدول تسمح للإنسان أن يتدين بما شاء، فلا تقيم عليه حد الردة إذا كفر؛ لإنه يقول بحرية الدين، فيتدين بما شاء، فهي تسعى إلى تدعيم دعوتها من خلال استحداث قوانين تسمح بذلك، ولو على الأقل بإيجاد مواطنين يستقرون من دول أخرى بغير الدين الذي منه تلك الدولة، حتى يقطعوا ويزيلوا أن تكون الدولة من دين واحد. فالصومال -مثلاً- البلد الأفريقي الوحيد الذي لا توجد فيه أقلية، فكل سكانه مسلمون، مع ذلك أقامت فيه النصرانية أربع كنائس في العاصمة ذاتها، وسعت إلى تغيير القانون؛ بحيث يتيح للإنسان أن يتنصر، فهم يسعون إلى عمل ذلك في العالم كله دون استثناء. -إذاً- الأهداف تختلف من بلد إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، ولكن الوسائل واحدة: تنوعت الأسباب والموت واحد الجزء: 25 ¦ الصفحة: 20 العناية بالناشئة من الجنسين الوسيلة التاسعة: العناية بالنشء من الشباب والفتيات الصغار، -والحصول عليهم بأي وسيلة. ومن ذلك: مجلات مخصصة للأطفال، ومصورة وجميلة، وفيها حوار، إثارة، جاذبية، وقد اطلعت على مجلة اسمها الأشبال، مجلة كل الأولاد العرب، وكل البنات العرب- وهي مجلة مصرية والله ما أكتمكم -أيها الإخوة- أنني لما قرأتها قلت: ربما أنني وضعت هذه المجلة خطأ مع ملفات التنصير لأنه ليس فيها تنصير، ففي أولها بسم الله، وفي الصفحة الثانية أحدهم كتب مقالاً اسمه صالح طفل صغير، قلت: هذه -أكيد- مجلة إسلامية، وفي آخرها دعاء، فأنا أقرأ الدعاء {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم َ* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَليهم} [الفاتحة:5-6] وبعد قليل وجدت: "اللهم اهدنا بقلوب لا تعمى عن رؤية نعمتك العظمى، نعمة تضحيتك بعيسى فداء قدسياً لنا" فلاحظ في آخر صفحة!! وفي آخر سطر!! أجنحة النسور، مجلة مصرية للأطفال -أيضاً- وفيها قصص للأطفال مثل: جنة الأحزاب، وهي سلسلة قصص مأخوذة من الكتاب المقدس؛ الذي زعموا أنه مقدس، وكتبت على شكل حوار شيق للأطفال، وحوارات كثيرة على مستوى الصغار، وبرامج للصغار في التلفاز، وفي الكمبيوتر، وفي الإذاعات. عدد المدارس المخصصة للشباب التي يشرف عليها منصرون لتعليم أبناء المسلمين وصلت في العام الماضي إلى ما يزيد على (99. 000) مدرسة ومعهد، وهذه مخصصة لأولاد وبنات المسلمين؛ بل وصل الأمر إلى خطفهم لأولاد المسلمين في غينيا من أجل تربيتهم على النصرانية، وأخذوهم فجاء بعض الإخوة الطيبين وقالوا للآباء: هؤلاء كفار -نصارى- وسوف يخرجون أولادكم من الإسلام ويدخلونهم في النصرانية، فذهب الآباء للمنصرين وقالوا: تراجعنا نريد أولادنا، قالوا لهم: لا هيهات، لا يمكن أن نعيد لأحد منكم ولده إلا بعد ما يدفع فدية مقدارها (360. 00) فرنك غيني، هذا في غينيا، مقدارها أظن (50) دولاراً أمريكياً. ومن الذي يملك هناك (50) دولاراً أمريكياً، فهم لا يملكون لقمة العيش، وبناء عليه ظل الأولاد مع النصارى، وقالوا لآبائهم: سوف يمكثون معنا فقط (25) سنة، ومسألة الصغار من الجنسين هي أخطر ورقة في يد المنصرين، حيث يغفل الأهل كثيراً، ويصبح الولد في يد الممرضة، أو الخادمة، أو المدرسة زماناً طويلاً، وقبل قليل ذكرنا قضية الخادمات والممرضات المبعوثات من الإرسالية التنصيرية الشرقية إلى المسلمين. وهناك معلومات مؤكدة عندي عن أناس من هذه البلاد خرجوا من الإسلام ودخلوا في النصرانية للسبب ذاته. ولو لم يظفر المنصرون بهذا لظفروا بما دونه من التأثير؛ ولذلك نشرت جريدة المدينة -هذا مثال- عنواناً: (حرب قذرة ضد مدارسنا) وذكرت في ذلك المقال والتحقيق خبراً، وعندي -أيضاً- أمور أخرى تتعلق به (مساطر، وأقلام، وأدوات مدرسية) وأشياء تحمل أفكار نصرانية، وتحرض على الإباحية، والعنف، والفساد، وفيها صور لقسس، ورهبان، وصلبان، وغير ذلك، -وأحياناً- صور إباحية منشورة وموجودة؛ بل بعض هذه الأشياء يباع في المكتبات؛ فضلاً عن مسابقات ثقافية وصلت إلى بعض الطلاب في المدارس، وتجد هذه المسابقة عن بابا نويل وماذا قال: بابا نويل؟ وهذا لأطفالنا، وله قصة لعله يأتي لها ذكر إن شاء الله. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 21 إقامة المدارس والمنح المجانية الوسيلة العاشرة: العناية بالطلاب والشباب من خلال إقامة المدارس لهم، وسبق ذكر رقمها، أو المنح الدراسية المجانية التي تقدمها الكنيسة لمن يحتاجون من أولاد المسلمين، وينتخبون منهم الأذكياء ويقيمونهم في بلادهم؛ بل حتى في بلاد المسلمين. وأذكر لكم نكتة، أو طرفة، في شركة كبرى تنقب عن الزيت في بلد ما، كانت هذه الشركة تحتوي الشباب وتدربهم، ثم ينتخب المنصرون -الذين كانوا يأتون باسم خبراء- بعض هؤلاء الشباب لتدريبهم على النصرانية، أو التأثير عليهم، فإذا أعجبوا بالشاب كانوا في وقت الظهيرة يحضرون له الماء البارد ويقولون له: اشرب، ثم إذا شرب سكبوا بقية الماء على الأرض وزملاؤه ينظرون ويتمنون أن يشربوا، ولكن هيهات؛ لأن هذه خصيصة لهذا الشاب حتى يشعر بأنه مختص، أما أولئك المسخرون والعملة فإنه يوضع على ظهورهم أوراق ملصقة يكتب عليها المدير التعليمات، ويقول له: اذهب إلى فلان، فيذهب إلى فلان فيلقيه ظهره فيقرأ المعلومات ثم يمسحها، ويكتب الجواب على هذه التعليمات ليذهب إلى الأول وهكذا وهذا كان موجوداً. -إذاً- هم يهتمون بالأذكياء، وينتقونهم، ويختارونهم، ويخصونهم؛ ولذلك يواجه الطلاب المسلمون في الغرب قصص كثيرة من الدعوة إلى النصرانية، سواء عبر الهاتف، أو المراسلة، أو الصداقة، أو حتى بمجرد المقابلة، وعندي قصص كتبوها لي في أوراق من هذا الجنس يتعجب الإنسان منه. هم يصطادون -أيضاً- السواح من المسلمين، وفي عدد قديم من جريدة المسلمون، تحقيق يقول: إن عشرات المنصرين في حديقة الهيدبرك في لندن يدعون العرب خصيصاً إلى النصرانية، وصوروا واحداً منهم وصدره مكتوب عليه (المسيح ابن الله) {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} [الإسراء:43] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] الجزء: 25 ¦ الصفحة: 22 الرياضة سادساً: من الوسائل الرياضة. قبل سنوات نشرت صحفٌ سعودية منها: جريدة اليوم كلاماً يدل على اكتشاف خطة تنصيرية لاستغلال مبارات كأس العالم لبث التنصير، ونشر وتوزيع الأشرطة والكتب والنشرات، يقوم وراءها الفاتيكان، هذا أقيمت في السعودية، فكيف إذا كانت في بلد آخر من البلاد التي تعتبر مفتوحة للدعوة النصرانية، ومثله كل الدورات والألعاب الأولمبية التي تقام في العالم تستخدم للتنصير، ومن آخرها ما يسمى بدورة برشلونا، والشباب يتابعونه، لكن الكثير منكم يمكن لأول مرة يسمع هذا الكلام، وكذلك معرض أشبيليا، وهذه الدولة وهذا المعرض عندي وثائق على أن هناك خطة أن يتولى النصارى العرب الاتصال والتنصير فردياً هناك، وتوزيع النشرات والأفلام وعنوانين المؤسسات التنصيرية في العالم على الحضور وعلى المسافرين إليها. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 23 العمل الاجتماعي في مجال المرأة والمجتمع الوسيلة السابعة: العمل الاجتماعي في مجال المرأة، وفي مجال المجتمع، وفي مجال حل المشكلات: ومن ذلك: أن هناك منظمة فلبينية تنصيرية اسمها منظمة شادي، وكلمة شادي عندهم في لغتهم معناها الرب، هذه المنظمة تهتم بشكل خاص بالمرضى، والمعوقين، وأصحاب المشكلات النفسية، والذين يواجهون صعوبات في حياتهم، والغريب في الأمر أن هذه المنظمة معها نشرة اسمها: شادي، وعندي أعداد من هذه النشرة، ونشرت في أحد الأعداد عناوين لمندوبي هذه المنظمة، نشرت فيه أربعة عناوين بغير العربية، ووجدنا أن عنوانين منها في داخل المملكة وأحدها في بريدة على مسافة كيلو مترات منكم؛ في المدينة الصناعية، وفي الأخير كتب اسمه دوان طبال مندوب لهذه المنظمة، ثم كتب صندوق البريد. ويدخل في العمل الاجتماعي -الذي يهدف إلى نشر النصرانية- العمل على تحديد النسل، فهم يحاولون تنصير النسل، لكن بودهم -أيضاً- أن لا يوجد مسلم على وجه الأرض يحتاج إلى تنصير، وقد دفعوا معونات -وهذه معلومات مؤكدة- فأمريكا دفعت لمصر معونات ضخمة مخصصة، بشرط أن تستخدم في تحديد النسل، فضلاً عن هبات، ومعونات، ومعدات، وأجهزة أرسلت إلى كليات الطب في مصر، وحتى إلى كلية الطب في الأزهر ذاته والتي تتعلق بموضوع الإجهاض، وإمكانية إسقاط الأطفال من أرحام الحوامل، وهذه الأخبار نشرتها عدة صحف منها: جريدة المسلمون عدة "275" -تقريباً-. ومن ذلك أن مجلس الكنائس العالمي وهو ربما أعلى سلطة مسؤولة عن التنصير، حشد آلاف من المربيات كما يقول رئيس إرسالية التنصير في الشرق الأوسط، يقول: " إن مجلس الكنائس العالمي حشد آلاف من المربيات، -ووضع خطوطاً تحت هذا الكلام- آلاف من المربيات، والخادمات، والممرضات، والأطباء، والمهندسين، لدعم خطة لتنصير المسلمين عام (2000م) "، فهم مصرون على أن يتحول المسلمون عام (2000م) إلى نصارى، ومن ذلك استخدموا حتى المربيات، والخادمات، والممرضات، والأطباء، والمهندسين. ويقول هذا المسؤول -وهو رئيس إرسالية التنصير في الشرق الأوسط-: إن هؤلاء -الذين أرسلوا- قد اتخذوا الوسائل والأسباب التي تمهد لهم التوغل في جزيرة العرب. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 24 المراسلات ثامنا: ً من الوسائل: المراسلات. وهي من أخطر وأنجح الوسائل؛ لسهولتها، ووصولها في الغالب، وإمكانية تداولها. وأنا أعجب من البريد في العالم العربي الذي يلاحق رسائل الخير والدعوة إلى الإسلام، والرسائل الموجهة إلى العلماء والدعاة، ويصادرها أحياناً، ويكشفها أحياناً أخرى، وتفوت منه القليل، أما رسائل النصارى فتأتي ليست على استحياء، رأيت بعيني طرداً بريدياً ضخماً في داخله نسخ من الإنجيل، وأوراق ومجلات وأشياء كثيرة مبعوثة من النصارى إلى مواطن عربي في بلد ما. الإذاعات التنصيرية لها برامج للتعليم بالمراسلات، وهي برامج مجانية، وهي تعقد الصداقات، وتوصل الكتب والمجلات والأشرطة مجاناً إلى من يريد، وكل ما يهمهم هو الحصول على عنوانك، ثم بعد ذلك نم فسوف يأتيك كل شيء. مثال: جمعية طريقة الحياة في لبنان، وهي جمعية للتنصير بالمراسلة، وترسل كتباً وكتيباتٍ، وأشرطة وغير ذلك؛ بل وتمنح شهادات للخريجين، وعندي نماذج من الأسئلة، ونماذج من الاختبار، ونماذج من هذه الشهادات؛ بل حتى ترسل لمن لم يطلب بمجرد التعرف على عنوانه، وقد اكتشفت أن مجلة الوطن العربي، وهي وكر من أوكار النصارى في فرنسا، ومع الأسف أنها عميلة لبعض الأنظمة العربية -أيضاً-، واتخذت هذا ذريعة لضرب الإسلام والمسلمين، والنيل من الدعاة بطريقة مهينة، لكن هذه المجلة تنصيرية، وعندها ركن للتعارف، ويبدو أن هناك تعاوناً بينها وبين المنظمات التنصيرية، فهي ترسل ركن تعارف إلى تلك المنظمات؛ وتقوم بمراسلة الشباب والفتيات الذين يعلنون وينشرون أسماءهم وعناوينهم هناك. كذلك هناك المسابقات الثقافية التي تعد على كتب، أو من خلال الإذاعة، أو من خلال بعض البرامج، ويؤخذ لها جوائز ضخمة، وتكون وسيلة للاتصال بين المؤسسات التنصيرية وبين القراء. وكذلك بعض السفارات تقوم بالعمل نفسه، وعندي نماذج من طرود تبعث بها السفارات، وترسلها إلى مواطنين في كل مكان بحجة الدعوة إلى الترفيه، أو السياحة، أو التعريف ببلد ما، وهي تحمل في داخلها دعوة إلى التنصير. بعض المنصرين يكتب لك ويقول: إذا لم يصلك خلال عشرين يوماً فأرجو إشعارنا لنقوم ببعث طرد آخر؛ علماً أننا سوف نرد حالاً على جميع رسائلك. في أحد المرات طلب منهم أحد المسلمين كتاب الإنجيل، -أو ما يسمى بالإنجيل وليس هو الكتاب الذي أنزله الله على نبيه عيسى، وهذا أمر معروف لدى كل مسلم- فقالوا: أما بالنسبة لهذا الكتاب فسوف نرسله لك من داخل بلدك لنضمن وصوله؛ لأنه بلد محافظ، وبلد مغلق، ويخشون أن يكتشفه رقيب البريد، فقالوا: سوف نرسل لك الإنجيل من داخل البلد حتى نضمن وصوله إليك. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 25 المجلات والصحف والدوريات من الوسائل: المجلات، والدوريات، والصحف: وعدد المجلات التي تخدم التنصير، -أي: المخصصة لهذا الغرض- (24. 900) مجلة ودورية في العالم، هذه إحصائية العام الماضي، ويطبع من العدد الواحد -أحياناً- ملايين، ويوزع مجاناً، ويرسل بالبريد لمن يريد. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 26 الإعلام بشتى أشكاله من وسائلهم: الإعلام المرئي، والمقروء، والمسموع. أشرطة الكاسيت: فالإنجيل -كله- فرغوه على أشرطة كاسيت -أشرطة وعظية فيها وعظ، وكلمات من الإنجيل، وموسيقى دينية كما يقولون، وترانيم دينية، وابتهالات، - وسوف أذكر لكم نماذج لأنني استمعت إلى بعض هذه الأشرطة، ونقلت بعض ما فيها من الكلام، بعضها معدة خصيصاً للمسلمين، فتجد فيها كلمات، ودعاء، وابتهال، ربما يسمعها المسلم من أولها إلى آخرها -أحياناً- لا يكتشف أنها تنصيرية؛ لأنها تقوم للتمهيد لدعوة التنصير. هناك منظمة في أفريقيا اسمها منظمة (بي. آر. إم) قامت بتحويل خمسين من الإنجيل إلى الأشرطة، أي: خمسين إصداراً كما يقال. وتقول هذه المنظمة: يجب أن تتوفر جميع الترجمات بكل اللغات للإنجيل بصورة أشرطة صوتية في نهاية عام (2000م) -أي: بعد نحو ثمان سنوات، يجب أن تكون الأناجيل بلغات العالم كله مفرغة في أشرطة- والعجب أن هذه الأشرطة تصل حتى إلى الفقراء الذين لا يجدون لقمة العيش في المخيمات. حدثني طبيب سعودي ثقة من الإخوة الطيبين، يقول: " رأيناهم في بعض المخيمات إذا كان هناك كهرباء أهدوا للمسلم جهاز تسجيل على كهرباء، وإذا لم يوجد أعطوه جهاز التسجيل ومعه البطاريات -الحجر- فإذا لم يتمكن من هذا ولا ذاك، أعطوه جهاز تسجيل يشتغل بالهمبل حتى يستمع إلى مضمون هذه الأشرطة. أين الذين يحاربون الشريط الإسلامي، وكأن خصمهم الوحيد هو الشريط الإسلامي؟! ومثل الأشرطة: الإذاعات، وسأذكر إحصائية الإذاعات بعد قليل، لكن من أشهر الإذاعات وخاصة التي تتكلم بالعربية: صوت الغفران، وحول العالم، ونداء الرجاء، وهذه كلها تذاع من ألمانيا، ومثل: دار الهداية من سويسرا، وصوت الحق من لبنان، وكلستار وهذه من زائير، وزيول من إندونيسيا، وكلمة الحق من أسبانيا، ونور على نور من مرسيليا، لاحظ الأسماء تجد أن المسلم العادي لا ينتبه لها، وأحياناً يضعون برنامجاً في الإذاعة اسمه: الله أكبر، يقدمه الشيخ عبد الله. المسلم في أدغال أفريقيا ما يدريه أن هذا برنامج تنصيري؟ والبث في هذه الإذاعات متبادل على مدى 20 ساعة، أي: منسق بين جميع هذه الإذاعات بحيث أنها لا تبث في وقت واحد؛ بل تتوقف هذه لتبث تلك مما يدل على التنسيق، وتبث بأكثر من 80 لغة، ولها صناديق بريد في العواصم العربية وغيرها، وتستخدم المراسلة، والمطبوعات، وغيرها للتواصل مع مستمعيها، بل هناك برامج مخصصة للمستمعين، ورسائلهم، وبريد لهم يذاع باستمرار، ثم من الإذاعة يراسلونهم، وينقلون أسماء الذين يتصلون بالإذاعة إلى محطات التنصير في العالم لتتم مراسلتهم من تلك المراكز. ومن ذلك -أيضاً-: أشرطة الفيديو، والتلفزة، وقد أغرقوا الأسواق بالأفلام التنصيرية المحضة في مصر وغيرها، فضلاً عن أن معظم الأفلام التي تصدر من عندهم فيها لوثات تنصيرية، حتى لو كانت بعيدة عن التنصير تجد أن فكرة الصلب، أو فكرة الفداء، أو الكلمات النصرانية تأتي على كلمات ابطال تلك المسرحيات وغيرها. ومن الطرائف والعجائب: وكم بمصر من المضحكات، ولكنه ضحك كالبكاء، وهو أن مصر وصلها أشرطة عديدة تنصيرية منها شريط يتناول سورة البقرة، وفي مطلع هذا الشريط صوت خوار كخوار البقرة، ومغلف بآيات من سورة البقرة، وفي أثنائه كلام لا يمت إلى الدين بصلة، فليس فيه إلا السخرية، والبذاءة، والاستهزاء بالقرآن وبسورة البقرة، وطبعاً- صودر هذا الشريط. ولكن في عام 1989م تم تنسيق بين تلفزيون مصر وبين الفاتيكان من أجل إعداد وإخراج معاني القرآن الكريم من خلال ما يسمى بالرسوم المتحركة التي تخاطب الأطفال غالباً، -رسوم متحركة يعدها الفاتيكان- إن هذا ليس بالأغاليط، بل هذه حقائق، وقد نشر هذا الخبر في عدد من الصحف منها جريدة المسلمون بقلم أحد الكتاب المصريين، فرسوم متحركة يعدها الفاتيكان لتفسير القرآن وتقدم لمصر، لا تقدم للعالم الإسلامي من خلال البث الفضائي المصري الموجه للعالم الإسلامي، والذي يلتقط في هذه البلاد -كما هو معلوم. وهذا تمهيد للبث التلفازي التنصيري الذي سوف يتم عبر الأقمار الصناعية، وهذه الخطة أعدها الفاتيكان لعام (2000م) ويأمل أنه خلال ذلك العام يكون قد غطى العالم كله ببث تنصيري من خلال الأقمار الصناعية، وليس سراً أن بابا الفاتيكان ألقى خطاباً قبل أشهر بسبعين لغة، منها اللغة العربية، والتقط هذا الخطاب في أنحاء العالم، ولا أُذيعُ سراً لو قلت لكم هذا الخطاب الذي ألقاه بابا الفاتيكان التقط هنا على مسافة لا أقول كيلو مترات بل أقول أمتار منكم حيث كان جهاز الاستقبال في المستشفى التخصصي ينقل محطة روسيا وCNN آنذاك، ونقل بعض البرامج التنصيرية، ونقل خطاب البابا إلى العالم. هناك مؤسسة اسمها: إعلام الشرق الأوسط، وهذه المؤسسة تقوم بالتعاون مع ست هيئات نصرانية؛ تقوم بإنتاج برامج مشتركة، وتقول هذه المؤسسة في أحد منشوراتها، اسمعوا الكلام، تقول: "بالرغم من عدم سيطرة المسيحيين على برامج التلفزيون في الشرق الأوسط إلا أن الأمور تسير بسرعة! -أي: أن الأمور على ما يرام، ولو لم نسيطر؛ فإن الأمور بأيدينا- ثم تقول: إن البث المباشر عن طريق الأقمار الصناعية يتدفق تدفقاً، ويلاحظ أن أعداداً كبيرة قد اشترت -فعلاً- الأجهزة الخاصة بالتقاط برامج البث المباشر بالرغم من فقر الكثيرين منهم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 27 توزيع الكتب الوسيلة الثالثة: توزيع الكتب والكتيبات بشتى اللغات، وبشتى الأساليب، وبشتى الموضوعات مع تعمد الدس، والتشويه، والكذب في مثل هذه الدراسات، والكتب، والمقالات. وعندي من ذلك مئات، أرجو أن أذكر منها شيئاً في المستقبل، لكن يكفي أن تعلم أنهم طبعوا في العام المنصرم، (88. 600) كتاب، وأنا متأكد أن أكثركم فوجيء وقال: رقم قليل (88. 600) كتاب بسيط. فنقول (88. 600) عنوان كتب جديدة؛ لكن من كل كتاب منها يطبع مئات الألوف من النسخ، فـ (88000) اضربها في (100. 000) -أيضاً-؛ لأن كل واحد من هذه الـ (880. 00) عنوان يطبع منه -أحياناً- مئات الآلاف من النسخ، وتوزع بالمجان. هذا فضلاً عن أنه طبع في العام الماضي فقط (53. 000. 000) نسخة من الإنجيل، وغالبها يوزع على المسلمين؛ بل قبل سنتين وأثناء أزمة الخليج، طبعت مؤسسة فرانكين من الإنجيل أكثر من (700. 000) نسخة مخصصة للخليج العربي ووزعت في الخليج العربي، وقد وصلني منها نصيب لا بأس به، هذا فضلاً عن الكتب والكتيبات، والنشرات والمطويات الصغيرة التي تتعجب منها بكل الأحجام التي تتصورها، وكل المقاسات، فضلاً عن التقاويم. وفي كل يوم تجد التقويم مرصع بآية من الكتاب -من الإنجيل-، مكتوبة بخط جميل، وملونة، وزهور، وأشياء تلفت الانتباه، وتشد الذهن، ويتعجب منها الإنسان، وملصقات يمكن أن تلصق على السيارة، أو على الباب، أو على المدخل، أو في البيت، أو في المكتب. وكروت التهاني بالأعياد، -أعياد الميلاد، وأعياد النصارى، أعياد الكرسمس مثلاً، وعيد رأس السنة، وعيد القيامة، إلى غير ذلك من أعيادهم، وبخطوط جميلة، وألوان، وصور عارية -أحياناً-، وصور يزعمون أنها لمريم عليها السلام، أو لعيسى، أو فيها شيء من الآيات الإنجيل، إلى غير ذلك. فضلاً عن نشر الصلبان في كل مكان، وفي كل ميدان، والثياب، والملابس، والسيارات، والأواني، والذهب، وفي كل شيء، ولو تأملت تكاد تجد صليباً موضعاً على عمد، دعك من المبالغات، ودعك من الوسوسات، ودعك من التخيلات والأوهام، إنما حقائق الصلبان التي تلوح وتلمع ولا يمكن تجاهلها، لا تكاد تجد شيئاً صدر منهم إلا وفيه صليباً ظاهراً، أو خفياً، أو صورة عارية، أو صورة للعذارء -كما يزعمون- أو صورة لعيسى، أو صورة للإنجيل، أو غير ذلك. بل إن منشوراتهم ومطوياتهم وصلت إلى المساجد، البيوت، المدارس، ولعل من الطريف أنه أرسل لي أحد الإخوة -جزاه الله تعالى كل خير- أرسل لي من ينبع أوراقاً جاءت من الإنجيل تصوروا كيف جاءت هذه الأوراق!؟ جاءت مع الفواكه التي تباع، الشمام، التفاح، البرتقال، فتجد أن فوقها وتحتها وعن يمينها ويسارها أوراق من الإنجيل يقصدون بها أن تصل إلى المسلمين، والكل يتذكرون تلك المطويات التي وصلت إلى معظم البيوت، مثل: مطوية شهادة القرآن التي أجزم أنه وزع منها -هنا ملايين- وهي عندي من أخطر ما يكون؛ لأنها تشكك المسلم المغفل أو البسيط أو ضعيف الثقافة، بأن القرآن يعترف بأن الإنجيل غير محرف، وهذه هي خلاصة المطوية أو النشرة شهادة القرآن. ومثلها: نشرة أخرى عندما تقابل الله، نشرت في كل مكان، والثالثة: صلاة الأسرار المقدسة وهي -أيضاً- نشرت على نطاق واسع. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 28 التخريب الأخلاقي الوسيلة الثانية: وسيلة التخريب الأخلاقي. فالكنيسة تدار فيها الخمور، وتقام فيها علب الليل، وحفلات الرقص الماجن للمراهقين والمراهقات. من أجل استهواء الشباب وجلبهم إلى النصرانية خاصة إن كانوا من شباب المسلمين. ومن الطريف: ذكرت لجنة مسلمي أفريقيا: أن منصراً بني في النيجر مسجداً، يقولون: ذهبنا ورأيناه بعيوننا فتعجبنا! فوجدنا أنه أقام بجوار المسجد مرقصاً وملهى؛ فصار يأتي إلى الشباب الذين هم يصلون أصلاً، فإذا اجتمعوا تحدث إليهم وأخذهم إلى المرقص والملهى، ويسر لهم أسباب الفساد، يقولون: حاولنا أن نقف دونه، لكن عبثاً أن نحاول؛ لأن قوانين البلد تسمح بإقامة المراقص والملاهي ولو بجوار المساجد. فالله المستعان!! وآخر: منصر فرنسي، أقام في بلد مجاور مسجداً، يقول: تعجبنا وذهبنا ورأيناه، فقال المسلمون: بنى لنا هذا المسجد القس فلان. فقلنا: عجيب قس يبني مسجداً. قالوا: وأكثر من ذلك، وبنى لأطفالنا مدرسة بجوار المسجد، يدرس فيها أولادنا، يقولون: فذهبنا إلى المدرسة فوجدنا الأطفال، ولم نجد القس، ومن معه ممن يدرسون الأطفال. فسألنا الأطفال سؤالاً: من ربك؟ وطلبنا أن يقوموا على السبورة ليكتبوا. يقول: فقام أحدهم، وقال: الله هو المسيح، السيد المسيح، وهذا من أولاد المسلمين. -إذاً- النصارى يحملون معهم جراثيم الانحلال حيث حلوا، وحيث رحلوا، وما أخبار البيئات التي يكثرون فيها -في هذه البلاد- عنا ببعيد، فما نسمعه وتسمعونه من أخبار أرامكوا -مثلاً- حيث الاحتفالات الراقصة، وحيث الاختلاط، وحيث الزينة، وحيث التبرج، وحيث قيادة النساء للسيارة، وحيث الفساد، وحيث ألوان المخالفات الشرعية، إلاَّ نموذج لذلك. ومثلها -أيضاً- الهيئة الملكية بينبع، صور وأخبار يتعجب الإنسان هل هو في يقظة أو في حلم! أن توجد في بلاد الإسلام، وعلى مرأى ومسمع من أهل العلم، والعلماء، وطلبة العلم، والدعاة، وقد لا يكون بين هذا البلد وبين أقرب بلد آخر يسكنه الناس إلا بضع كيلو مترات، أو أقل من ذلك، وتقام الاحتفالات الراقصة، وتقام أعياد الميلاد، وتجعل النساء سكرتيرات للرجال بأبهى زينة، ويحدث أمور يندى له الجبين؛ بل وأكثر من ذلك مما لا أرى مراعاة لمشاعركم، ومحافظة على عواطفكم لا أرى -الآن- أن أتحدث عنها، ومثله: بعض القطاعات في وزارات الدفاع التي يكثر فيها أمثال هؤلاء، ويعملون على جلب من كان من بني جنسهم وجلدتهم من النصارى على إبعاد المسلم حتى ولو كان مسلماً بالهوية فحسب، المهم من اسمه محمد وعلي وصالح فهذا غير جيد ولو كان يشتغل الليل والنهار، ويرسل له إنذار: بعد إنذار، ويقال له: لا بد أن تحسن الأداء وإلا سوف نقوم بفصلك، وبعد إنذارين أو ثلاثة يتم فصله ليأتي بعده جورج وجوزيف ومشيل وأمثالهم. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 29 الخدمات الإنسانية من وسائلهم: أولاً: الخدمات الإنسانية. هم يقولون: التبشير والسلام، والديمقراطية، والإنسانية. فالخدمات الإنسانية مثل: الإغاثة، والطب، والمساعدات: من أهم ما يتوسلون ويتوصلون به، فهم يحملون الإنجيل بيد والعلاج باليد الأخرى؛ بل إن الكوارث التي تحصل في البلاد الإسلامية هي فرصتهم السانحة، يفرحون بها لأنهم من خلالها يلتقطون ما يريدون، ويضعون الحب ليصطادوا به. مثلاً: منظمة الصليب الأحمر الدولية منظمة إغاثية عالمية كبرى، حتى بعض إغاثات المسلمين التي تؤخذ من جيوبهم بالقرش والريال؛ تقوم -أحياناً- منظمة الصليب الأحمر الدولي بتوزيعها على مسلمين آخرين في بلادهم. ففي بنجلادش -مثلاً- قامت منظمة الصليب الأحمر بتوزيع بعض الإعانات التي دفعتها دول إسلامية، فتوزعها على المسلمين هناك ليتنصروا بها. وهذه وصمة عار تلحق المسلمين؛ ووصمة عار -أيضاً- تلحق النصارى؛ أنهم يستغلون ضعف الإنسان، وحاجة الإنسان، وفقر الإنسان، من أجل الضغط عليه بتغيير دينه. وقد دافع أحد المنصرين -وهو الدكتور بيتر ماكوليا - عن ردة الفعل التي توجد لدى المسلمين -يسميهم الجيران المسلمين- من الاستغلال النصراني في الكوارث من أجل ذبح نصارى جدد، وقال لهم: أبداً، نحن أولاً: دوافعنا للمساعدة دوافع إنسانية، فنحن نلبي نداء المسيح الذي أمرنا أن نمسح على جراح المجروحين. ثانياً قال: نحن نعالج الحاجات كلها -الحاجات الظاهرة والباطنة- فنعالج الفقير بالطعام، والمريض بالغذاء، والعاري بالكسى، -وأيضاً- نعالج الضال بالهداية التي نعطيها له من الكتاب المقدس، أي: الإنجيل، -وقال الشفاء نوعان: شفاء طبيعي، وشفاء فوق الطبيعي، فنحن نقدم بيدٍ الشفاء الطبيعي في القارورة، ونقدم لهم بيدٍ الشفاء فوق الطبيعي؛ وهو الدعوة إلى النصرانية. وليس خافياً عليكم أن الأمم المتحدة بمنظماتها، والبنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية، والصليب الأحمر، واليونسكو وغيرها هي: وسائل بيد مجلس الكنائس العالمي، وعملائه المغروسين في أنحاء الأرض. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 30 إحصائيات ميزانية التنصير اسمع يا أخي فإني أخاطب عقلك، وأخاطب قلبك، وأخاطب تجار المسلمين، وأخاطب الدعاة، وأخاطب الشباب، وأخاطب المسلم العادي، فهذه إحصائيات دقيقة. في عام (1990م) -قبل سنتين- كانت ميزانية التنصير (157) مليار دولار، وفي العالم (21. 000) منظمة. وفي العام الذي بعده، -أي: قبل سنة فقط- وهو عام (1991م) ارتفعت الميزانية إلى (181) مليار دولار، وبلغت المؤسسات والوكالات حوالي (121. 000) منظمة؛ أي: من (21000) إلى (121000) منظمة ووكالة ومؤسسه دولية للدعوة إلى التنصير؛ إضافة إلى (82) مليون جهاز كمبيوتر مخصص لأغراض تنصيرية. ويوجد في العالم عام (1990م) : (99200) معهد، و (4) ملايين منصر، وتحولوا بعد سنة واحدة؛ -أي: عام (1991م) - من (4) ملايين إلى (17) مليون منصر، جيش بأكمله، منهم (112000) في أفريقيا فقط، القارة التي يصرون أن تتحول إلى نصرانية عام (2000م) ، وسيأتيك الخبر اليقين في الجلسة القادمة إن شاء الله. هذا العدد (17) مليون منصر؛ والذين يبتعثون غير المقيمين في بلادهم، فإذا كان أفريقي منصراً فلا يعد ضمن الإحصائية. وطبع عام (1990م) (65600) كتاب جديد -كما ذكرت لكم سابقاً- يطبع من الكتاب الواحد مئات الآلاف من النسخ، فتحول هذا الرقم بعد سنة واحدة إلى (88600) كتاب. وطبعت (24000) مجلة دورية، وزادت إلى (24900) بعد سنة واحدة. وطبعت (51) مليون نسخة من الإنجيل عام (1990م) وزودت عام (1991م) إلى (53) مليون نسخة. ويمتلك النصارى (2160) محطة تلفزة وإذاعة، منها 50في أفريقيا، وتحولت بعد سنة -عام (1991م) - إلى (2340) محطة تلفزة وإذاعة. الجزء: 25 ¦ الصفحة: 31 قصيدة شعرية للشنقيطي ونختم بهذه القصيدة، التي تستثير مشاعر المسلمين للشيخ محمد بن الشيخ الشنقيطي من شعراء القرن الثاني عشر الهجري، وهو زعيم الدعوة إلى الجهاد، وقد أطلق صيحته هذه قبل دخول النصارى إلى الشواطئ الموريتانية. أسارى لوعة وأسى ننادي وما يغني البكاء عن الأسارى ولو في المسلمين اليوم حر يفك الأسر أو يحمي الذمارا لفكوا دينهم وحموه لما أراد الكافرون له الصغارا حماة الدين، إن الدين صارا أسيراً للصوص وللنصارى فإن بادرتموه تداركوه وإن لا يسبق السيف البدارا بأن تستنصروا مولىً نصيراً لمن والى ومن طلب انتصارا وروم عاينوا في الدين ضعفاً تراموا كلما راموا اختبارا فإن أنتم سعيتم وابتدرتم برغم منهم ازدجروا ازدجارا وإن أنتم تكاسلتم وخبتم برغم منكم ابتدروا ابتدارا فألفوكم كما يبغون فوضى حيارى لا انتداب ولا ائتمارا فيا للمسلمين لما دهاكم إلى كم لا تردون الحوارا أجيبوا داعي المولى تعالى أو اعتذروا ولن تجدوا اعتذارا أجيبوه بدنياكم تعزوا وتدخروا من الأجر ادخارا وهذا ما أشرت به عليكم وإن لم تجعلوني مستشارا فإن أنتم توليتم فحسبي وجاري الله نعم الله جارا ومن يك جاره المولى تعالى كفاه فلن يضام ولن يضارا وربي شاهد وكفى شهيداً به إني دعوتكم جهارا وكم من ناصح قبلي دعاكم جهاراً بعدما يدعو سرارا وفي كل حين يدعو لم يزدكم دوام دعائه إلا فرارا الجزء: 25 ¦ الصفحة: 32 كلمة الشيخ سعيد بن زعير أيها الإخوة وقتنا انتهى أو كاد، ولكن بين أيدينا ضيف عزيز، وداعية كبير، وأخ كريم، نحمل له جميعاً الود، وتتلهف آذاننا إلى سماع كلماته النيرة. فأدفع المنبر لفضيلة الدكتور سعيد بن مبارك آل زعير، ليشنف أسماعنا بما يفتح الله تعالى عليه، على أن موعدنا معه غداً، وهو موعدٌ إن شاء الله تعالى قريب. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فنحمد الله الذي هدانا للإسلام، ونسأل الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العُلى أن يثبتنا عليه، وأن يرد كيد الكائدين للإسلام وأهله في نحورهم. أما ما طلب فضيلة الشيخ سلمان، فهو أمر أستجيب له، وإن كان الموضوع -موضوع التنصير- كما أشار موضوعاً طويلاً، ووعد باستكماله في الأسابيع القادمة، ولكن مشاركة أذكر نقطاً قليلة لما مر: أولاً: ينبغي أن نعلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب} ولا شك أن النصارى من أهل العبادات التي صاحبها هو الشيطان، وهذا اليقين أن الشيطان لن يعبد لا يعني أن نتكئ وننام، إن التحريش الذي ورد في نفس الحديث يفرح به النصارى اليوم، والتحريش قد يكون بين شخص وشخص، وقد يصل إلى حرب ضروس -كما مر معكم في العامين الماضيين- وهذا من كيد الشيطان الذي يرضيه. ونعلم أن النصارى نجحوا في تنصيرهم لأعداد من المسلمين، ولا أقول: أعداد من العوام والجهلة، ومن يدخلون في النصرانية طمعاً في الخبز، أو في الدواء، ولكن أضرب مثالاً: في عام (1386هـ) بعد أن أقام اليهود دولتهم في فلسطين انتقل عدد كبير من المسلمين في تلك البلاد؛ وانتقلوا في بقاع الدنيا، وهربوا من ضغط اليهود ومن تخاذل المسلمين، ووصلت جاليتهم إلى مختلف بقاع الأرض، منهم في أمريكا الشمالية، ومنهم في أمريكا الجنوبية، ومنهم في أوروبا. وأذكر أنني رأيت مركزاً إسلامياً أنشأ في تلك السنة في واشنطن، أنشأه جماعة من المسلمين من أبرزهم رجل من أهل فلسطين مهندس انتقل إلى ذلك البلد، أنشأ المركز الإسلامي للدعوة إلى الله، وهو من الدعاة، ومن الحريصين على دينه، وبعد سنوات ليست طويلة انتقل أولاد هذا الداعية إلى النصرانية، فهذا داعية وصاحب مركز إسلامي ومسجد، واستطاع النصارى أن يحولوا أبناءه!! ورأيت مدير المركز الإسلامي في واشنطن وقال لي: من المضحكات المبكيات أن بعض أبناء صاحب هذا المركز النصارى يأتون إلينا يدفعون تبرعات للمركز الإسلامي، ويقولون: لأنه مركز أنشأه والدنا، نصارى تحولوا عن الدين ولم يبق معهم إلا العرقية لأبيهم. وأيضاً- رجل ممن انتقلوا إلى تلك البلاد من الدعاة، اجتهد النصارى حتى حولوا أولاده إلى النصرانية، لا أقول: إلى التسيب، وإنما إلى النصرانية، وانتقلوا إلى عدد من الكنائس المختلفة ولم ينتقلوا إلى كنيسة واحدة، وعندما توفي ذلك الداعية وقعت بين أبنائه فتنة، -أبناؤه النصارى أصابتهم فتنة- أتدرون ما هي؟ خلاف حول طريقة دفن والدهم، فكل منهم يقول: ادفنوه على طريقة الكنيسة التي اتبعوها، داعية مسلم يختلف فيه النصارى في طريقة دفنه. وثالث: في تلك البلاد كتب في وصيته، وقد خلف بنيات، قال: أوصي أن تدفن بناتي على الطريقة الإسلامية، يوصي أن تدفن بناته على الطريقة الإسلامية، أما قبل ذاك فليس لهن من الإسلام شيء. هذا هو مكر النصارى الذي تحقق، ولكن عندما قلنا: إن جزيرة العرب لن يعبد فيها الشيطان، هل النصارى تركوا جزيرة العرب؟! في الحقيقة لا. إن في جزيرة العرب -اليوم- نصارى، لا أقول: قدموا للعمل، وإنما نصارى يحملون الجنسية العربية في جزيرة العرب، ففي الكويت نصارى لهم كنائسهم. وقد ذكر الشيخ قبل قليل في تقرير أحد النصارى أنه لا يرفع في الكويت إلا الصليب الأحمر، -الصليب الأحمر مرفوع في الكويت- وفي غير الكويت من كل بلادنا، ولكن في الكويت صلبان لمستشفيات، ولمدارس، ولإرساليات، وصلبان بيضاء، وصلبان زرقاء، ومن الألوان الأخرى؛ بل وفي معظم دول الخليج كنائس، وأفرادها من أبناء الجزيرة. ورأيت بعيني في دولة من دول الخليج، وفي أحد فنادقها الدليل السياحي يذكر أن من معالم المدينة بإمكانك أن تزور كذا وكذا وكذا، وفيها من المعالم الكنيسة الفلانية، والكنيسة الفلانية، والكنيسة الفلانية في الجزيرة العربية. وكما مر في كلام الشيخ أن جزيرة العرب من البلاد المغلقة، أو بالأحرى المملكة العربية السعودية مغلقة، أي: ليس هناك سهولة في النشاط التنصيري بها، فهي مغلقة بألا يسمح بإقامة الكنائس، ولكن هل النصارى ينشطون؟ نعم، ولهم نشاط متعدد وخطير، ومنه أنواع شتى أذكر منها: السفارات -سفارات النصارى-: توزع الدعوات إلى أبناء المسلمين، ولا تذهب إلى الفقراء والمساكين؛ بل تذهب إلى أساتذة الجامعات وإلى علية القوم يدعون للزيارة، وَنَفَسُ النصارى الطويل لا يدعو إلى النصرانية في أول يوم الجزء: 25 ¦ الصفحة: 33 ماذا في الإجازة الإجازة وقت فراغ يمكن استغلاله بالخير، ويمكن العبث فيه بالشر، والوقت كالإناء الفارغ يصلح لشرب الخمر كما يصلح لشرب العسل، وقد أصيب الشباب المسلم بمرض الانبهار بمنجزات الغرب، وفي هذا الدرس توجيه طيب وتحذير شديد متعلقان باستغلال الإجازة. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 1 أهمية الوقت واستغلاله الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراًً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: أيها الإخوة، أيها الوجوه الطيبة: نحييكم في بيت من بيوت الله، نتلو فيه كتاب الله، ونتدارسه فيما بيننا، ونستمع إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكما تعلمون فالناس في هذه البلاد يستقبلون أيام العطلة الصيفية، هذه الأشهر، وهذه الأيام، وهذه الساعات، التي هي من أعمارنا، تحسب علينا وتسجل، ويوم القيامة تنشر الدواوين. من الناس من يجعل هذه الأيام من عمره فرصة يعتبرها من حقيقة عمره، فيستغلها في طاعة الله، ويستغلها فيما يقرب إلى الله عز وجل، ومن الناس من يعتبرها من الوقت الضائع، فلا يهتم بها، ولا ينظر إليها، بل يعتبر الوقت وقت رفاهية ونزهة، والذهاب يمنة ويسرة حتى يمضي العمر سبهللاًً، وتمضي الأيام حتى يقال فلان مات. إخوتي الأكارم: أسأل الله تعالى أن يوفقني لأن أتكلم في هذه الجلسة بكلام مفيد، وأن يجعلكم ممن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وحقيقة فقد عقد الشيخ لساني عن الكلام بارك الله فيه بهذا الثناء الذي أشهد لله أنني لا أستحق بعضه، فأقول كما قال الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] . ماذا في الإجازة؟ الناس أيها الإخوة: وخاصة الشباب والطلاب يستقبلون الإجازة الصيفية بعدما ودعوا أيام الامتحانات، بما فيها من سهر وتعب ودراسة وعناء واجتهاد، ولذلك فإن الإجازة هي للشباب ذكوراً وإناثاً أكثر من غيرهم، فإن الفلاح مثلاً طيلة عمره في عمل وجهد، وكذلك التاجر والموظف وغيره، فإن الإجازة هي للشباب أكثر من غيرهم، والجميع يستقبلون الإجازة ويخططون لاستقبالها بالطريقة التي تناسبهم. أيها الإخوة: المطلوب أننا طيلة العام نُعد الشباب لأن يكونوا على مستوى استغلال واستثمار هذه الفرص، وهذه الإجازات بالشكل الذي يفيد؛ بحيث نربي أولادنا وبناتنا على تحمل المسئولية، فإن قضية الإجازة مثل بقية العام يتوقف استثمارها على عقلية الشاب، وعلى تربيته، ومستواه. فمثلاً: إذا وجد شاب على مستوى من الفهم والعلم والإدراك والشعور بالمسئولية؛ فإنه يستثمر أيام العام الدراسي في غير وجه، ويستثمر الإجازة، ويستثمر شهر رمضان، ويستثمر مناسبة الحج وغيرها من المناسبات بالصورة المناسبة الجيدة التي تتناسب مع مستواه، مع تربيته، وفهمه ومع عقله. ولذلك حتى حين يكون مشغولاً؛ يكون مشغولاً فيما يفيد، ويحرص على أن يختلس من وقته ولو شيئاً يسيراً يستفيد منه، وعلى العكس من ذلك الشاب الضائع الذي لم يترب التربية الحسنة، ربما لو كان وقته فارغاً من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، فإنه لا يستثمر الوقت بالطريقة المناسبة، ليس لديه أهداف معينة يسعى إلى تحقيقها. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 2 من قصص السلف فالأصل أن كل هذه الوسائل يجب أن تصب في بناء وإعداد الشباب والفتيات الذين يحملون أهدافاً صحيحة، ويسعون إلى استثمار أوقاتهم فيما يفيد، ويكون هدفهم الأعلى إعادة سيرة الشباب السابقين من أجدادهم وزعماء هذه الأمة الكبار. عبد الله بن عباس: يعيدون لنا سيرة عبد الله بن عباس رضي الله عنه -مثلاً- الذي مات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو لما يبلغ الاحتلام، في أول سن الاحتلام والبلوغ، ومع ذلك كان من أحبار هذه الأمة، وكان يحمل من علم الرسول صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، حتى أعجب الرسول صلى الله عليه وسلم بسلوكه وسيرته وحسن أدبه فقال {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} . ذات مرة وضع ماء للوضوء يتوضأ به، وصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة مبيته عند خالته ميمونة، وحمل من العلم الشيء الكثير؛ حتى كان هذا الشاب الثقف العالم الجليل يجلس عند باب الرجل من الأنصار بعد صلاة الظهر ليأخذ عنه العلم، فيجد هذا الرجل نائماً، فيتوسد رداءه، فتأتي الريح فتسفي عليه التراب، فإذا قام الأنصاري لصلاة العصر وجد ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً عند بابه، فيقول ابن عباس! فيقول: نعم، فيقول: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! فيقول: نعم، ما الذي جاء بك؟! قال: جئت أسألك عن حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: لو أرسلت إلي فأتيتك، أي: آتي إليك، قال: لا، العلم أحق أن يؤتى إليه. وكان ابن عباس يأخذ بركاب زيد بن ثابت، ويخدمه ويسوق به الراحلة، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا. عبد الله بن عمر: يجددون لنا سيرة عبد الله بن عمر رضي الله عنه، الذي يقول: عرضت على الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبلغ، وعرض عليه في الخندق وهو ابن خمس عشرة فقبله، فلما سمع عمر بن عبد العزيز هذه القصة؛ قال: إن هذا يصلح حداً للفصل بين الكبير والصغير، أن يبلغ خمس عشرة سنة، وهذا فيمن تتوفر له وسائل البلوغ الأخرى. المهم أن ابن أربع عشرة سنة كانت طموحاته واهتماماته تتعلق بالقتال والجهاد، حتى قبل أن يبلغ يأتي لعله أن يقبل، فإذا رده الرسول صلى الله عليه وسلم في أحد، عرض نفسه مرة أخرى في الخندق، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وخاض المعركة وعمره خمس عشرة سنة. عمير بن أبي وقاص: يجددون لنا سيرة عمير بن أبي وقاص، لما أرادوا الخروج إلى المعركة وكان طفلاً صغيراً فرده الرسول عليه السلام، فعبر عن حزنه كما يعبر الصبية الصغار عن حزنهم، ذهب إلى أمه يبكي في حجرها، فلما علم الرسول صلى الله عليه وسلم بخبره أجازه وقبله، فجاء أخوه سعد بن أبي وقاص يُعِدّ له سيفه ونصله ورمحه، فكان السيف يخط في الأرض من قصره وصغره، ومع ذلك خاض المعركة وقتل فيها شهيداً. رضي الله عنهم وأرضاهم. مصعب بن عمير: يعيدون لنا سيرة مصعب بن عمير، الذي كان شاباً من أعطر وأجمل وأترف فتيان مكة، حتى إنه كان إذا مشى في طرف الشارع؛ شمت الفتيات في البيوت رائحة طيبه في طرف الشارع الآخر، كانت كل فتاة تنظر إليه ترجو أن يكون هو فارس أحلامها، وفتاها وشريك حياتها. فلما دخل الإسلام، قَلَبه رأساً على عقب، وغير مجرى حياته، حتى إنه أقبل يوماً من الأيام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب لا يكاد يستره من العري والفقر الذي أصابه بسبب إيمانه، فطأطأ الرسول صلى الله عليه وسلم وبكى وقال: والله لقد رأيتك بمكة وما فيها فتىً أحسن جمة منك، ثم أنت أشعث الرأس في بردة، ولما مات رضي الله عنه لم يجدوا ما يكفنونه به -كما في صحيح البخاري- إلا بردة لا تستره، إذا غطوا بها رأسه بدت رجليه، وإذا غطوا بها رجلاه بدت رأسه. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا بها رأسه وأن يجعلوا على رجليه من الإذخر، وهو نبت معروف في الحجاز. سفيان بن عيينة: يجددون لنا سيرة علماء الحديث الذين كان الواحد منهم يحضر مجلس التعليم والفقه وهو ابن عشر سنوات وإحدى عشرة سنة، واثنتي عشرة سنة، حتى إن سفيان بن عيينة يقول: كنت أختلف إلى الزهري وأنا صبي صغير، حتى إن له جعابتين تجدل رأسه كما يفعل الصبيان الصغار. قال: فاختلفوا يوماً عند الزهري في حديث، قال بعضهم عن سعيد، وقال بعضهم عن أبي سلمة، قال: فقال الزهري: ما تقول يا صبي فيما اختلف فيه هؤلاء الرجال الكبار، هل الحديث عن سعيد أم عن أبي سلمة؟ قال فقلت له: (عن كُلاهما) بضم الكاف، قال: فضحك مني، عجب من قوة حفظي، وضحك من لحني لأني أخطأت في اللغة العربية لكنه ضبط الحديث. وكذلك الرجل الآخر الذي يقول: كنت أغدو على مجلس علماء الحديث ووجهي كالدينار، وطولي سبعة أشبار، وفي أذني أقراط كآذان الفأر، فإذا رأوني وفي يدي المحبرة والكتاب، قالوا: أفسحوا للشيخ الصغير، فكان هؤلاء يتربون في أتون المعارك، أو في مجالس العلم، أو المساجد، أو أماكن العبادة والتقوى حتى إن الواحد منهم كان يتعلم التعبد والخشوع والورع والدين قبل أن يتلقى الحديث وغيره. الاستفادة من جميع المؤثرات: فنحن بحاجة إلى أن تتوفر جميع الأجهزة الموجودة في المجتمع، أولاً: المسجد، ثم البيت، ثم المدرسة، ثم الشارع، ثم الأجهزة الأخرى المؤثرة، مثل أجهزة الإعلام، والأجهزة التابعة لرعاية الشباب وغيرها، الأصل أن هذه الأشياء كلها تتوفر لبناء الشاب الذي يعرف كيف يستثمر وقته في ما يفيد، والذي يصدق عليه وصف الشاعر الذي يقول: غلام من سراة بني لؤي كلابي الأبوة والجدود جدير عن تكامل خمس عشر بإنجاز المواعد والوعيد غلام من سراة بني لؤي منابي الأبوة والجدود، يعني ينتسب فيها بني لؤي إلى بني عبد مناف، تلقى علم الرجولة والشهامة والتقوى والأريحية جدير عند تكامل خمس عشرة سنة بإنجاز المواعد والمواعيد، عمره خمس عشرة سنة، لكن مع ذلك يستطيع أن ينجز ما وعد أصدقاءه، أو ما توعد أعداءه، فإذا توعد أعداءه بشيء أنجز. ، وإذا وعد أصدقاءه بشيء أنجز. أما نحن اليوم؛ فنحن لا ننجز وعداً ولا وعيداً، نعد الناس بأشياء كثيرة أننا سوف نفعل ونفعل ولا ننجز، ونتوعد أعداءنا بأننا سنلقي بهم في البحر، ونقتلهم قتل عاد، ونفعل بهم، ونشجب ونستنكر، ولكننا لا نفعل شيئاً من ذلك. ولذلك حق علينا قول الشاعر: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع لا يرغب فينا صديق، ولا يرهب منا عدو، هذا كبيرنا فضلاً عن صغيرنا. نحن بحاجة إلى من يجدد لنا سيرة محمد بن القاسم الذي يقود الجيوش وعمره خمس عشرة سنة. إن الشجاعة والسماحة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمد قاد الجيوش لخمس عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدد من مولد قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ولهاته عن ذاته أشغال زملاؤه يلعبون في الشوارع لا زالوا أطفالاً وصبياناً، وهو يقود الجيوش والمعارك. نحن بحاجة إلى من يجدد لنا سيرة ابن تيمية رحمه الله، جلس للتعليم وعمره (19) سنة ولما أكمل (20) سنة كانت حلقته حلقة هائلة لا يدرك مداها، وكان الشيوخ الذين قد شابت لحاهم في الإسلام يحملون الدفاتر والمحابر ويكتبون ما يقوله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 3 تحديد الهدف عامل مهم لحفظ الوقت فالمصيبة كل المصيبة -أيها الإخوة- في أن شبابنا يفقدون الهدف الذي يسعون من أجله، تسأل الشاب: لماذا يعمل؟ لماذا يعيش؟ ما هو الهدف الذي يسعى من أجله؟ تجد أهداف بعض الشباب محدودة جداً. أما أن يخطط الشاب إلى أهداف ولو أهداف قريبة يسعى إلى تحقيقها والوصول إليها، فهذا غائب لدى كثير من الشباب. إذاً: حين يوجد الشاب الذي يحمل الأهداف الصحيحة، ويفكر التفكير الصحيح، حتى لو كان هذا الشاب مريضاً يتقلب على فراش المرض، فإنه يستفيد من وقته، وقد زرت أحد الشباب الذين تعرضوا لأحداث وحوادث، وأصبحوا مُقعَدين فوجدت هذا الشاب يستثمر كل دقيقة من وقته، في حفظ كتاب الله، في قراءته، في دراسة العلم، في مجالسة الصالحين، حتى أنه لا يستقبل الضيوف والزوار إلا في أوقات معلومة، مع أنه أحوج ما يكون إلى أن يرفه عن نفسه ويسلي نفسه باستقبال هؤلاء وتوديع أولئك، وتبادل الحديث معهم، لكنه رأى أن في ذلك مضيعة لوقته، فأصبح وهو على سرير المرض مقعداً لا يتحرك، لا يمشي ولا يقوم يستثمر وقته بصورة صحيحة جيدة. وزرت آخرين وهم في السجون ممن من الله عليهم بالهداية في داخل السجون، فوجدت أن هؤلاء الذين لا يتحركون إلا داخل أربعة جدران، وجدتهم يستثمرون أوقاتهم بصورة صحيحة وجيدة، وفي مقابل ذلك أرى وترون أن كثيراً من الناس الذين أعطوا المال، والصحة، والسلامة، والحرية، والوقت، مع ذلك تجد هؤلاء الناس يضيعون أوقاتهم دون حساب. لماذا؟ لأنهم لم يوفقوا للتربية السليمة، ولم يحملوا أهدافاً صحيحة يعملون من أجلها، غابت عنهم الأهداف؛ فأصبحت أوقاتهم تضيع سدى. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 4 تكافل مؤسسات المجتمع للإعداد السليم للفرد الأصل -أيها الإخوة- أننا نعمل طيلة العام على إعداد الشاب، لا بد أن يعرف كيف يستثمر أوقاته، أوقات الإجازة وغيرها، والأصل أيضاً أن جميع المؤسسات الموجودة في المجتمع تعمل لهذا الهدف. مثلاً: المسجد؛ يعمل على إعداد الشباب من خلال: الصلوات، الجمعة، الجماعة، الدروس، المكتبات، الأشرطة، المحاضرات. المدرسة بما فيها من المدرسين، والنشاطات، والمناهج الدراسية وغيرها، تسعى إلى الهدف نفسه. البيت يسعى إلى الهدف نفسه من خلال جهود الآباء في تربية الأبناء، من خلال الإصلاح، من خلال القنوات التي يستفيدون منها في تربية أولادهم، حتى الشارع، الأصل أن الشارع يساعد في تربية الولد، وهكذا قل مثل ذلك في أجهزة الإعلام، المفروض والأصل أنها تساعد في بناء الشباب بناءً تربوياً صحيحاً إلى غير ذلك من الوسائل. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 5 مرارة الواقع هذا هو الواجب، أما الواقع الذي نعاني منه أيها الإخوة فهو واقع مرير من عدة نواحٍ: الجزء: 26 ¦ الصفحة: 6 مثال لضحية من ضحايا الهدم وكذلك أذكر لكم مشهداً أو نموذجاً يعتبر نتيجة لمثل هذا، ولا أقول: إن هذا النموذج غالب وأعممه، لكنني أقول: إنه نموذج لشباب لم يتربوا التربية الصحيحة فصاروا ضحية هذا التناقض: خلال فترة الامتحان الماضية كنت أتجول بين الطلبة، فلفت نظري ماسة من ماسات الطلاب كالعادة طلابنا يملون ماساتهم بالكتابات، كتابات غير هادفة؛ لكنها في كثير من الأحيان كتابات ساذجة عادية، ليس فيها شيء، لكن هناك ماسة أصبحت مثل السبورة، فيها ألوان وأشكال وصور ورسوم، فلفتت نظري، وقلت: أريد أن أعرف عقلية هذا الشاب الذي يجلس على هذه الماسة من خلال ما يكتب. هذه الكتابات التي أمامي في اعتقادي أنها تمثل عقله، وتربيته ومستواه الخلقي والفكري والتربوي، فماذا وجدت في هذه الماسة؟! وماذا كتب هذا الطالب؟! طالب في كلية شرعية -مع الأسف- تجد في أعلى الماسة رسم هذا الشاب قلباً قد طعنه سهم، وهذا تعبير عن أن هذا الشاب يتكلم في قضايا الحب والغرام والغزل التي يتحدث عنها السفهاء وشباب الشوارع، فهو قد رسم قلباً قد طعنه سهم الحب، تحت هذا القلب كلمة: "الحب عذاب"، وهذه أيضاً من كلمات الشوارع التي لا تستغرب أن تجدها مكتوبة في شارع، أو في مكان سيئ، لكن أن توجد في مستوى كهذا، فهذا مؤشر خطير! وتحت هذه الكلمة تجد شعارات رياضية: يعيش فريق كذا، ويسقط فريق كذا، وفريق كذا بطل العالم، وفريق كذا بطل الشرق الأوسط، وفريق كذا، وهلم جراً، وفي زاوية أخرى تجد مقطعاً من أغنية يقول: يا حبيبي سلطة العاشق كبيرة. أنا في الواقع لم أسمع هذا البيت إلا من خلال قراءتي في هذه الماسة! يا حبيبي سلطة العاشق كبيرة. إذاً: هذه عقلية طالب في مستوى كلية شرعية، فما بالك في طالب ثانوية أو في متوسط! هذه ثمرة وهذا نموذج وعينة من ثمرة الشباب الذين لم يوفقوا في أن يتربوا في مسجد، أو في حلقة العلم، أو في درس القرآن، أو في مركز صيفي، على يد أستاذ، أو شيخ أو معلم ناضح أو في بيت سليم، إنما وقعوا ضحية نوادي الكرة، وأجهزة الإعلام، وأصدقاء السوء، فكانت النهاية هي هذا، عقليات محدودة، واهتمامات متخلفة. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 7 أجهزة الهدم أما أجهزتنا التي يفترض فيها أن تقوم بدور مضاد، فإن الواقع أن أحسن ما يقال فيها: إنها تتناقض، ففي الوقت الذي تجد أن المسجد يبني ولا يهدم -ورواد المساجد هم خير الناس وبحمد الله، على ما هم عليه- فالذين يترددون على المسجد، ويصلون الجمعة والجماعة، ويحضرون الدروس والمحاضرات، ويشاركون في حلقات العلم، ودروس القرآن الكريم، والمكتبات الخيرية هم بلا شك خير الناس، إجمالاً هم خير الناس. لكن هذا الجهد الذي يبذل في المساجد توجد وسيلة أخرى تعمل على هدمه، فإن الشاب إذا بنى المجدد لحلقة من إيمانه، أو سلسلة من يقينه في المسجد، فإن ذلك تهدمه الأغنية الخليعة، والمشهد الفاجر، والصورة العارية، وتهدمه أجهزة الرياضة، وقد تهدمه المدرسة أحياناً إذا وجد في المدرسة من لا يحسن تربية الشباب، ومع الأسف قد يهدمه البيت. فكم من شاب يشتكي بيته، يشتكي من أبويه، حيث إن كثيراً من الآباء الذين لم يكتب لهم الاستقامة في شبابهم، أصبحوا يغارون أن يصبح أولادهم خيراً وأصلح منهم، فأصبح الأب، أو أصبحت الأم يضعون العراقيل في وجوه أبنائهم، فالأب يتحدى ولده، كيف أنت تذهب إلى المسجد قبلي؟ كيف أنت تحارب التلفاز الموجود في البيت ونحن تربينا عليه منذ نعومة أظفارنا، ومنذ طفولتنا؟! كيف تمتنع عن أكل المال الحرام الذي آتي به من البنك؟ تتحداني! وأصبحت الأم هي الأخرى تحارب بناتها أحياناً؛ ولا أقول: إن هذا هو الوضع الغالب، لكنه موجود، فأصبحت الأم تنتقد بناتها على إعراضهن عن سماع الغناء، أو مشاهدة التلفاز، أو امتناعهن من الخروج، أو من الوقوع في الغيبة والنميمة، أو من الأكل الحرام، أو من الوقيعة في أعراض الناس، أو من غير ذلك من المحرمات التي ربما تكون بعض الأمهات قد اعتادت عليها. إذاً: هناك وسائل كثيرة تهدم ما يبنيه المسجد، أو ما تبنيه وسائل التربية الأخرى، المدرسة قد تبني، والبيت قد يبني؛ لكن على أي حال نحن موافقون ومتفقون على أن هنالك أجهزة تهدم ما تبنيه تلك الوسائل الصالحة. ولذلك كانت المحصلة النهائية هي أننا وجدنا كثيراً من شباب الأمة يعيشون حالة من التناقض والتذبذب، تجد له وجهين: فيه خير وفيه شر، فيه إيمان وفيه نفاق، فيه تقوى وفيه فجور، فيه حب للخير ولكن فيه ميل إلى الهوى والشر! الجزء: 26 ¦ الصفحة: 8 مخططات النصارى فمن جهة: فإن الأعداء يخططون ليس للإجازات فقط، بل يخططون لإتلاف وتدمير شبابنا، ومن ضمن تخطيطهم استغلال الإجازات في مزيد من التدمير للعنصر الشبابي في هذه الأمة. فمثلاً: نجد أنهم يخططون للحفلات التي يستقبلون فيها الشباب، لتدمير أخلاقهم ودينهم، ونشر المخدرات والفساد فيما بينهم، وقد تجد من صحفنا ومجلاتنا ونشراتنا من يساعدهم في ذلك، وقد اطلعت على إحدى صحفنا المحلية وقد نشرت إعلاناً بالخط العريض عن حفلة سوف تقام في إحدى الدول المجاورة، وأن الحفلة حفلة مختلطة بين قوسين: للعائلات، يعني يدخلها الشباب والفتيات، الرجال والنساء على حد سواء. وكلكم يعرف أنه ليس هناك شيء يعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في تلك البلاد، لتنظم الأمر، أو تمنع أو تعزل، فالقضية مفتوحة على مصراعيها، فإذا كانت حفلة للعائلات لكل واحد منا أن يتصور ماذا سيجري؟ هم يخططون ويسهلون، وما عليك سوى أن تتصل بالهاتف، لتحجز وأن تسافر مع تخفيض للتذاكر، ومع خدمات متوفرة في أماكن مختلفة. يخططون لإقامة المخيمات التي تستقبل شبابنا، بحجة أنها تدرب الشباب، تدربهم على العمالة، والمهارات، واللغة الإنجليزية، ودروس التقوية، تستقبل الطلاب الراسبين بصور شتى، وحقيقتها أنها تريد أن تستغل هذا الشاب لتوفر له جواً من الفساد والانحلال بعيداً عن رقابة الأبوين، بعيداً عن رقابة المجتمع، بعيداً عن المؤثرات الطيبة الموجودة في المجتمع. المجتمع هنا مهما كان فإنها توجد فيه مؤثرات طيبة، وإذا وجد جهاز يدمر فإن هناك أجهزة أخرى تبني، لكن هناك يتفردون بالشاب حتى يستطيعوا أن يحشوا وقته وعقله وفكره ولبه بأشياء سيئة، ولا يوجد ما ينافسهم في ذلك. فهم يستغلون الإجازات في برامج التلبية والتخدير، التي تدمر عقول الشباب، وتهمش اهتماماتهم، أي أنها تجعل اهتماماتهم هامشية لا تتعدى الكرة، وأي فريق يفوز، وحضور المباريات، والمنافسة فيها، ولا تكاد تجاوز ذلك إلا شيئاً قليلاً. الأعداء يخططون حتى إن أجهزة التنصير التي تدعو إلى الديانة النصرانية وتقوم عليها الفاتيكان، وهي أغنى دولة في العالم، وتبذل الآن أموال طائلة لإدخال نصارى جدد من أولاد المسلمين، يستغلون حتى المباريات الرياضية لنشر الدعايات، ونشر الوسائل المختلفة التي تدعو إلى الديانة النصرانية، أو على الأقل تربط الشباب بمؤسسات تنصيرية، حتى المباريات الرياضية يستغلون هذا الجمع الغفير بالدعوة إلى الديانة النصرانية، ونشر بعض الأوراق والكتب والنشرات والبرامج التي تدعو إلى دينهم. بل أدهى من ذلك وأمر أنهم يستغلون صناديق البريد لمراسلة الشباب، وقد رأيت صوراً مما يبعثون به إلى بعض الشباب، حيث يدعونهم إلى ممارسة الحرية، والاشتراك في الأندية، ومؤسسات وأجهزة موجودة في بلادهم، تمنح الشاب حق الفساد والانحلال وتوصل إليه الصور الخليعة، والأفلام المنحلة، والأشرطة السيئة، وتمكنه من ممارسة الرذيلة بكل وسيلة. فضلاً عن تلك المجلات التي تخصص زوايا وصفحات خاصة لما يسمونه بالتعارف، وضمن التعارف، تنشر صور فتيات، وأسماء فتيات في أنحاء بلاد العالم الإسلامي، وتجد كثيراً من الشباب -مع الأسف- بسذاجة وبلاهة يراسلون ويكتبون ويقيمون علاقات، وقد يكون كثير من هذه البؤر وهذه الفتيات وهذه المؤسسات هي مصايد لاصطياد الشباب وتجنيدهم ليكونوا جواسيس، أو إيقاعهم في شباك المخدرات، أو استغلالهم ليسيئوا إلى بلادهم وأوطانهم قبل أن يسيئوا إلى دينهم وأنفسهم. لكن كثيراً من شبابنا فيهم بلاهة وسذاجة وغفلة، ويظنون القضية مجرد ترفيه، كأس، وخمرة، وامرأة وأغنية وسيجارة، ويظنون أن الأمر يتوقف عند هذا الحد، ولا يدركون ماذا وراء الأكمة؟! الجزء: 26 ¦ الصفحة: 9 الفرق بين شعوب العالم والمسلمين العالم -أيها الإخوة- يعد أجياله للسباق، حتى إنهم في دولة إسرائيل يدربون حتى الفتيات، لماذا يدربونهن؟ لأنهم يعدون أجيالهم وشعوبهم لليوم القادم، فاليهود يخططون للهيمنة على البلاد الإسلامية والعربية، ولهم فيها مطامع، ثم يخططون بعد ذلك لإقامة دولة أو ما يسمى بحلم إسرائيل الكبرى. والروس واليابانيون والأمريكان وجميع أمم العالم أصبحت تخطط، وتعد أجيالها من الأولاد والبنات وتربيهم تربية تتناسب مع الأهداف التي يخططون لها من أجل السباق الدولي، كل دولة تنافس الدولة الأخرى، سباق علمي، سباق حضاري، وسباق عسكري، فالعالم اليوم مجموعة من الذئاب يعتدي بعضها على بعض، والقوة والنصر فيه للغالب، والبقاء فيه للغالب. ليس في العالم اليوم قيم ولا معايير ولا أخلاق ولا رحمة بالفقير والمسكين، وكل ما تسمعونه إنما هو كلام فارغ يضيعون به الأوقات، ويخادعون به الناس، إنما الكلمة الوحيدة التي تحكم اليوم دول العالم كلها هي كلمة القوة، فالدول كلها تتسابق للقوة، في المجال العلمي، والجسمي، والعملي، والاقتصادي. والشعوب الضعيفة سوف تبقى مسحوقة لا قيمة لها، ولا وزن، ولا رأي، ولا كلمة، فهل كتب على الأمة الإسلامية أن تبقى أمة ضعيفة؟! وأن يبقى اهتمام شبابنا محصوراً في الأغنية والكرة والصورة الخليعة، وتبقى الأمم الكافرة تجند وتدرب شبابها لتربيتهم على القوة والنضج وتدربهم على السلاح، وكأنهم يعدون لليوم الذي سيفتكون بنا، فهل كتب علينا أننا نبقى أذلة؟! لا شك أننا ننتظر مستقبل الإسلام المُشرِق، لكن هذا المستقبل لن يأتي إلا حينما نشعر بالواقع المرير الذي نعيش فيه، ونبدأ في التخلص والخروج من هذا الواقع. إخوتي الكرام: الإجازة هي جزء من العمر، ومسئولية الإنسان عن عمره لا تنتهي إلا بالموت وباليقين، المسلم والكافر في ذلك سواء، فهي بالنسبة للمسلم كما يقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] إذاً أنت مطالب بالعبادة سواء كنت في إجازة، في عمل أم في غير عمل، في ليل أم في نهار، في شباب أم هرم أم شيخوخة. الكفار وهم في النار يقولون: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43-47] إذاً: الكافر عاكف على معاصيه، وعلى أعماله السيئة حتى الموت، والمؤمن عاكف على عبادة ربه حتى الموت، سواء في ذلك الإجازة وغيرها. لكن الإجازة تتميز بأمور، وأهم ميزة في الإجازة بالنسبة للطالب أنه يستطيع أن يستغل وقته كما يريد هو لا كما يقال له. فمثلاً: الطالب في الدراسة قد يدخل عليه الأستاذ يدرسه مادة لا يرغبها، وبعض الطلاب -مثلاً- قد يكرهون مادة الجغرافيا، أو مادة اللغة الإنجليزية، أو مادة الرياضيات يكرهها، ولذلك إذا دخل المدرس ربما يتشاغل عنه بأي أمر من الأمور، قد يتشاغل بقراءة جريدة، وقد ينام، وقد يقرأ كتاباً، وقد يلهو مع زميله؛ لأنه لا يرتاح لهذه المادة ولا يحبها، فهي مفروضة عليه، وإن درسها فإنما يدرسها من أجل أن ينجح، إذاً في الدراسة توجد أشياء يقضي الإنسان فيها وقته كما يراد له لا كما يريد هو. لكن في الإجازة لا يكون هذا، الوقت تستطيع أن تقضيه أنت كما تريد لا كما يراد لك، الوقت رهن يديك، رهن إشارتك، افعل فيه ما تريد، ومن هنا تتعارظم المسئولية. من جهة أخرى فإن كثيراً من الأسر والعوائل خلال الدراسة مرتبطون بأولادهم في المدارس، فلا يذهبون ولا يجيئون ولا يسافرون لأن أولادهم في المدرسة، لكن إذا انحل رباط الأولاد من المدرسة أصبحت الأسرة تستطيع أن تسافر إلى أي جهة شاءت. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 10 كيفية قضاء الإجازة عند الناس كيف كيف الناس في قضاء الإجازة؟ لا شك أن تفكير البعض ينصرف إلى أمور معينة، أمور تتناسب مع الوضع الذي ذكرته قبل قليل. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 11 متابعة الرياضة فئة أخرى من هذا الشباب؛ قد لا تفكر بهذا الأسلوب، وبهذه الطريقة، لكنها تعنى بجانب من جوانب الحياة واحد، وكثير من الشباب قد أصبحت الرياضة هي همه الأول والأخير، وهو من خلال الإجازة يفكر في لعب منتظم في الجري، أو السباحة، أو كرة القدم، أو الطائرة، أو السلة، أو التنس إلى غيرها، ويتابعون مثل هذه الدورات، ومثل هذه المناسبات والبرامج والجداول التي تقام، ويعتبرون أن هذا أثمن ما يضيعون فيه أوقاتهم، حتى إننا أصبحنا إذا سمعنا كلمة رعاية الشباب لا نفهم إلا الكرة. أما أن نفهم أن رعاية الشباب تعني تربية أخلاق الشباب على معالي الأمور، لا نعرف ذلك!! أما أن نعلم أن كلمة رعاية الشباب تربية دين وعقائد الشباب، وتقوية إيمانهم بالله واليوم الآخر فإن كثيراً منا لا يعرف ذلك! إذا قيل رعاية الشباب انصرف الذهن إلى ملعب، ونادٍ، وكرة، ومدرجات، وهلم جراً! يا ليت هذه الجموع التي تجري وتلهث خلف الكرة، يا ليتها تلعب فعلاً، فربما قال قائل يربون أجسامهم، وإن كانت الأمة ليست بحاجة إلى عجول آدمية، ومهما بلغت قوة الإنسان لن يكون أقوى من الفيل، ومهما بلغ جماله لن يكون أجمل من الطاووس، لكن جسم البغال وأحلام العصافير، هذا لا يصح، ولا نريده! نريد أجساماً قوية، ونريد معها عقولاً قوية، نريد إيماناً قوياً نريد ثقافة واسعة، ونريد مستوى عاماً عالياً هذا كله نريده ويا حبذا! أما أن يكون هَمُّ الشاب أن ينصرف فقط إلى تربية جسمه فهذا لا يصلح، لكن حتى تربية الجسم لا تتحقق، فإن (99%) من الشباب الذين يركضون خلف الكرة إنما هم مشجعون فقط، قد تَلِفت أقدامهم من الجلوس في المدرجات، وتدمرت أعينهم، وتسمرت أعصابهم من النظر إلى لعب الكرة، سواء في الملاعب، أم عبر الشاشات. أما هم لا يلعبون، هم فقط مشاهدون، يؤيدون هذا ويعارضون ذاك، ويصرخون بأصواتهم بهذا أو ذاك، ويفرحون لدخول هدف على فريق أو يحزنون بذلك! أما أن يلعبوا وتقوى أجسامهم فحتى هذا مع أنه ليس هدفاً بذاته لكنه غير موجود! ولذلك ندري وندرك أن هذه الجهود الطائلة -جهود بمعنى الكلمة جهود وكفى- هذه الجهود الطائلة لا يستفيد منها ولا يستثمرها إلا أعداد محدودة يعدون على أصابع اليد الواحدة في كل بلد ممن يلعبون فعلاً، أما بقية الجماهير فهم مشاهدون فحسب. إذاً: مجرد العناية بجانب واحد في الرياضة لا تصلح، وأقول: لست ضد الكرة في حد ذاتها؛ إذا التزم الإنسان فيها بالأخلاق الإسلامية من التستر والبعد عن السب والشتم واللعن، والحقد والحسد والبغضاء، والتطاول والتطاحن، وكانت في حدود المعقول، فلم يضيع وقته كله في لعب الكرة ومشاهدتها، لست ضد الكرة إذا كانت بهذا الحدود، وبهذا الإطار، هذا من جهة. ومن جهة أخرى للحقيقة، وحتى يكون كلامي كلاماً يفهم بصورته الصحيحة أنه يوجد في الأندية -بحمد الله- في كل بلد نخبة من النوعية الطيبة الذين اتجهوا إلى الله تعالى، واستقاموا على الطريقة، وصلحوا وعملوا على إصلاح الأندية، وجلب المشايخ والعلماء إليها، وتحريك النشاطات الإسلامية، هذا كله صحيح وموجود وهذه جهود مشكورة، لكن يبقى الواقع الذي ذكرته يبقى هو الغالب منذ زمن، ولا يزال هو الغالب إلى الآن. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 12 السفر إلى الخارج كثيرون يفكرون -مثلاً- في الإجازة بالسفر إلى الخارج، وبالذات كثير من الشباب يخططون لقضاء إجازتهم في بؤر الفساد والرذيلة، في بلاد قريبة يستطيعون أن يصلوها عن طريق سياراتهم وخلال مدة وجيزة، أو في بلاد بعيدة لم يكونوا بالغيها إلا بالطائرات. ولا حاجة إلى ذكر الأسماء، وهناك يقع كثير من الشباب في الفساد الأخلاقي، في بؤر الرذيلة، والانحلال، ومعاقرة الداعرات، والعاهرات، والفاجرات، حيث الهربز والإيدز والأمراض الجديدة التي لم تسمعوا بها بعد، حيث الخمور والمخدرات التي تفتك بهم، ويقعون ضحاياها، حتى أنه حدثني أحد الشباب أن هناك عصابات في تلك البلاد يضعون في أجهزة التكييف مادة معينة إذا استنشقها الشاب أصبح مدمناً وأصبح يبحث عن المخدر في كل مكان. حتى لو كان تاجراً، أو لم يكن في نيته أن يتعاطى المخدر، فإنه مع كثرة استنشاق الهواء الذي وضع في هذه المواد، يصبح مدمناً يبحث عن المخدر في كل مكان. وقد حدثني بعض الشباب الذين يعيشون هناك عن ضحايا كثيرة، وأمور محزنة، حدثوني عن شيخ قد جاوز عمره الستين سنة، وقد جاء من هذه البلاد إلى هناك ليتعاطى الخمور ويقع في أحضان المومسات، -عافاني الله وإياكم- قال: فشرب في اليوم الأول ست زجاجات من الخمر، وشرب في اليوم الثاني أكثر من ذلك، وشرب في اليوم الثالث اثنتي عشرة زجاجة، فشعر بثقل وذهب ليتقيأ في دورة المياه فسقط ومات هناك، وبعد طول وقت وجدوه ميتاً، ورأسه في دورة المياه -عافاني الله وإياكم من ذلك. نهاية بئيسة! والويل كل الويل للذين يتسببون في إلقاء كبار السن في ذلك فضلاً عن الشباب، إذا كانت الدعاية ووسائل الهدم والتخريب، وأساليب الإثارة والجاذبية قد أثرت حتى في كبار السن، فما بالكم بالشاب الذي يشتعل جسمه قوة وحيوية وشباباً؟! إنهم يذهبون بحجة السياحة، ويقعون في مثل هذه الأشياء، ووراء ذلك كله أعيد ما ذكرته لكم قبل قليل؛ إن هناك أجهزة المخابرات العالمية تخطط لاقتناص كثير من الشباب، وتجندهم ليكونوا مخبرين وعملاء لها، خاصة في ظل الحاجة المادية؛ لأن كثيراً من الشباب يعانون من الحاجة المادية، يعانون من قلة ما في اليد، وهو مواجهة الشاب بلا وظيفة فترة طويلة، وربما لم يستطع أن يستمر على تلك الأسفار التي أدمنها واعتاد عليها، وحينئذ ما أسهل أن يصطاد هذا الشاب، ويجند ليكون وسيلة هدم، ليكون معول هدم لدينه وأمته وبلده وأسرته ونفسه. ولذلك فإن المسئولية علينا -أيها الإخوة- جميعاً أفراداً ومؤسسات وأجهزة وحكومات أن نقف ضد هذا العبث الذي يدمر شبابنا، أما إني لا أقول: إن كل من يسافر يسافر لهذا الغرض، الواقع أن هناك من يسافر لأغراض أخرى صحيحة، وهم كثير وسأتحدث عن ذلك بعد قليل، لكنني الآن أتحدث عن عيّنة أو نموذج من الشباب، وكيف يفكرون في قضاء الإجازة. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 13 الاستغلال الصحيح للإجازة أما الأسلوب الأمثل لاستغلال والاستفادة من الإجازة فإنني ألخصه في عدد من المشاريع التي يمكن أن يفكر الشاب أيها يصلح له. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 14 نشاطات متنوعة أخيراً؛ بقيت قضية النشاطات المتنوعة من المشاريع المهمة، المراكز الصيفية هي من المجالات المهمة التي يمكن أن يستفيد منها الشباب، وأنصح الإخوة أن يُوجِدوا في المراكز عناصر قوية، لأن المراكز يقبل إليها شباب مبتدئون بسطاء عاديون بحاجة إلى التربية، فإذا لم يوجد في المركز نوعيات ممتازة تربيهم وتوجههم وتأخذ بأيديهم فقد لا يكون المركز على المستوى المطلوب. من النشاطات المتنوعة: النشاط في الدعوة إلى الله، ونشر الكتب المفيدة، ونشر الأشرطة الإسلامية إلى غير ذلك. أسأل الله أن يوفقني وإياكم للاستفادة من أوقاتنا فيما يقربنا إليه، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 15 مشاريع اجتماعية مشروع الزواج: النوع الرابع من المشاريع: مشاريع اجتماعية، ولعلنا نبدأ بالزواج، على رأس المشاريع الاجتماعية الزواج، والزواج -أقول للإخوة والأخوات-: ينبغي أن يكون من أكبر الهموم، بالنسبة للشباب ينبغي أن يفكر الشاب بجدية في الزواج، حتى لو كان في ثالث ثانوي أو في أولى كلية، ينبغي أن يفكر في كيفية الزواج، ويعمل على تذليل العقبات، وتهيئة الأسباب. أحد الصحابة رضوان الله عليهم لما أراد أن يتزوج قال: {ليس عندي شيء يا رسول الله، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: التمس وابحث، ذهب وهو يقول: ليس عندي إلا إزاري هذا -أي أنه مستعد أن يخلع ثوبه من أجل أن يتزوج به- قال: إن أعطيتها إزارك بقيت ولا إزار لك، التمس ولو خاتماً من حديد، لكنه ما وجد شيئاً، فقال له: زوجتكها بما معك من القرآن} زوجها على أن يعلمها سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا! فانظر كيف أن الصحابي يحس بأهمية الزواج، يخلع نعليه من أجل أن يتزوج بهما؟! إذاً: يا إخوة، يا شباب! لا نقول: والله الظروف لا تسمح. الظروف نحن الذين نصنعها بإذن الله تعالى. بالنسبة للأخوات -أيضاً- بعثت إلي بعض الأخوات رسالة تعتب فيها على العلماء والمشايخ والمتحدثين تقول: أنتم دائماً تلقون اللوم على الفتيات في تأخير الزواج، مع أن الفتيات ليس لديهن مانع من الزواج متى وجد الكفء، لكن أن تتزوج الفتاة المتدينة بإنسان منحرف، أو مدخن أو فاسق هذا لا يكون. أقول: صحيح؛ هذه بادرة طيبة، وما أنكم دام تسمعون هذا الكلام أيها الشباب على لسان مجموعة من أخواتكم أن كل فتاة متدينة مستعدة من الزواج، حتى لو اضطرت أن تترك الدراسة من أجل الزواج لا مانع لا من ذلك متى وجد ذلك، متى وجد الكفء، إذاً هلموا إلى هذا الأمر، وإن كان هذا لا يعفيني أن أقول: هناك نوعية قد لا تكون كثيرة، من الفتيات ربما تؤجل الزواج بغرض مواصلة الدراسة أو غيره، وهذا خطأ يجب أن ينتهي. فمن المشاريع الاجتماعية التي نفكر فيها في الإجازة مشروع الزواج. العمل مع الأهل: ومن المشاريع الاجتماعية العمل مع الأهل: أبوك مزارع -مثلاً- فلا مانع في أن تستغل الإجازة في خدمة الوالد في أعمال زراعية، أو كان تاجراً اشتغل مع الوالد في أعمال تجارية، أي عمل يريده الوالد أعمل معه فيه، أو كان الوالد مسافراً في إجازة فأقوم بالنيابة عنه بالأعمال التي يقوم بها، هذه كلها تربي الرجولة التي نحتاجها في نفوس شبابنا، ومن شأنها أن تعد لنا رجالاً يمكن أن تعتمد عليهم الأمة. زيارة الأقارب وإقامة المخيمات: الأقارب والأسرة: زيارة الأقارب سواء كانوا قريبين أو بعيدين، إقامة مخيمات للعائلة، بعض العائلات أصبحت تقيم مخيماً، مخيم تجمع فيه أفراد العائلة في المنطقة، قد يجتمع ثلاثمائة أو أربعمائة فرد، وهذه بادرة طيبة ويجب تشجيعها ونشرها، كل عائلة معروفة منتشرة يجمعون أفراد العائلة يتعارفون ويتناصحون فيما بينهم، يقيمون أياماً في البر، ثم يعودون. كذلك الرحلات الشبابية؛ مجموعة من الشباب الصالحين يخرجون في رحلات سواء للحج أو للعمرة، أو رحلات إلى مناطق سياحية إلى داخل المملكة أو أماكن معينة، أو رحلات في الوعظ والإرشاد إلى مناطق في الجنوب أو في الشمال، أو في البادية، المهم أنهم يحققون فيها الصحبة الصالحة والمتعة، وقضاء الوقت فيما يفيد والترويح وفي نفس الوقت يقومون بجزء من الواجب في تعليم الناس الخير والصلاة والعبادة والوضوء، وأنتم تعرفون أن كثيراً من الناس في بعض القرى النائية يجهلون حتى أبسط الأمور، والله يا إخوة هناك من يجهلون حتى القراءة للصلاة، حتى قرآن الصلاة لا يجيدونه، الوضوء لا يعرفونه، الصلاة لا يعرفونها، فما الذي يمنع أن مجموعة من الشباب يخرجون هنا أو هناك يعلمون الناس. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 16 مشاريع جهادية النوع الثالث من المشاريع التي يمكن أن تستثمر في الإجازة: مشاريع جهادية، ولعل أبرز ما يذكر إذا ذكر الجهاد فحي هلا بأفغانستان، وكثير من الشباب -وهذا بادرة في الجملة طيبة- يفكرون كثيراً أن يذهبوا إلى بلاد الأفغان ليتدربوا على السلاح هناك، وليشاركوا في بعض المعارك، ولا شك أن هذا الأمر بغض النظر عن سلبياته، والتي ربما ذكرتها في مناسبات أخرى، إلا أن هذا الأمر له إيجابية لا يمكن إغفالها، وهو أنه يربي في شبابنا روح القوة والفتوة والفروسية والبطولة والرجولة، ونحن أحوج ما نكون إلى شباب من هذا النوع، لسنا بحاجة إلى شاب تربى كما تتربى الشجرة في الظل، إذا حركتها الريح كادت أن تسقط، نحن بحاجة إلى شباب يتربون تحت أزيز المدافع والرصاص، وتحت مخاوف الهجوم صباحاً أو مساء، نحن بحاجة إلى شباب تربوا على شعث الجبال، وفي الخيام، وحمل المدافع، وحمل الرشاشات، وحمل البنادق، وسهر الليالي في التربص والانتظار، نحن بحاجة إلى شباب كهؤلاء. هؤلاء هم الذين تعتز بهم الأمة، هم الذين تنتصر بهم الأمة، هم الذين تنتظرهم الأمة بفارغ الصبر لينقذوها من الذل والهوان الذي غطى عليها، ولا شك أنه فيما يتعلق بقضية الذهاب إلى أفغانستان لست ممن يقول للشباب هاجروا إلى هناك؛ لكن أقول: الذين يذهبون فمسعاهم حميد، وليس صحيحاً أن نترك الشباب يذهبون إلى بانكوك، أو كازابلانكا، ونبارك خطواتهم في الوقت الذي ننتقد الذين يذهبون إلى جلال أباد وقندهار وكابل، هذا ليس صحيحاً. وإن كان الشاب يجب أن يفكر تفكيراً عقلياً صحيحاً قبل أن يذهب، ويجب أن يعرف هل ظروفه تناسب أم لا تناسب، هل يسمح والداه بذلك أم لا يسمحا، ولماذا يذهب؟ هل من المصلحة أن يذهب أم لا؟ هذا كله يجب أن يكون. فأرجو ألا يفهم كلامي على أنني أعطي الشباب الضوء الأخضر وأقول: هاجروا إلى أفغانستان كلا! في الواقع أقول: إن ذهاب الشاب أنا أعتبر أن هذا أمر يستحق الإكبار، لكن التشجيع على الذهاب هذا يحتاج إلى معرفة ظروف كل شاب. كذلك ما يتعلق بالمشاريع الجهادية التعرف على أحوال المسلمين وخاصة اللاجئين المهاجرين في بلاد كثيرة: ففي باكستان ملايين المهاجرين من الأفغان يعيشون حالة من الفقر والجوع والتشريد يرثى لها، وتنتشر بينهم المؤسسات التنصيرية، لا حرج على الشاب أن يذهب ليلقي نظرة على إخوانه، على الأقل يحزن لهم إذا لم يستطع أن ينفعهم، على الأقل يحزن لحزنهم، أو ينظر إلى أحوال اللاجئين الإريتريين مثلاً في السودان، أو المسلمين المشردين في أي مكان، يلقي نظرة على تلك الأحوال، يعرف جانباً من آلام الأمة الإسلامية وأحزانها، هذه مشاريع جيدة يمكن أن يفكر فيها الشاب إذا كان عازماً ولا بد على أن يسافر إلى بلد ما، فالبديل عن الأسفار المحرمة هي تلك الأسفار التي ينتفع فيها، ويستفيد خيراً منها. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 17 مشاريع التعبد هناك مشاريع نستطيع أن نطلق عليها أنها مشاريع علاجية، وهي مشاريع تعبد، خاصة ونحن الآن مقبلون على الحج، والحج هو أحد أركان الإسلام كما تعلمون، وفيه من الفضل الشيء العظيم، حتى إن الله عز وجل قال: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وفي فضل الحج أحاديث كثيرة، ليس هذا المجال مجال ذكرها، لكن الحج هو أحد المشاريع التي ينبغي أن يفكر الشاب في قضاء جزء من إجازته فيها، خاصة إذا كان لم يؤد فريضته، فإن كثيراً من أهل العلم يرجحون ويصححون أن من بلغ ذكراً كان أو أنثى فإنه يجب عليه أن يحج، ولا يجوز له أن يؤخر الحج لغير عذر، فمن بلغ من ذكر أو أنثى وهو يجد المال ويستطيع أن يحج؛ فإنه يجب عليه الحج، صح هذا عن جماعة من أهل العلم، ولا يحق لوالديه منعه، وكذلك الزوجة لا يحق لزوجها أن يمنعها، بعض الزوجات تقول: أنا لم أؤد الفريضة، وظروفي مناسبة، وزوجي يمنعني من الحج، لا يجوز له أن يمنعها خاصة إذا وجدت من سيحج بها من أب أو أخ أو محرم. فالحج هو أحد المشاريع، ومثله العمرة، ومثلهما حفظ القرآن الكريم، فالإجازة فرصة لأن يرتب الشاب وقته أن يحفظ القرآن، أو يحفظ جزءاً من القرآن الكريم، ولو فكر الشاب أنه يحفظ في كل يوم صفحة من القرآن الكريم لحفظ في الأسبوع سبع صفحات، ويحفظ في الشهر ثلاثين صفحة، يحفظ في الإجازة نحو مائة صفحة، معنى ذلك أنه صار يحفظ خمسة أجزاء من القرآن الكريم خلال الإجازة الصيفية. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقال لصاحب القرآن يوم القيامة اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} معنى ذلك أنك خلال ست إجازات ستكون قد حفظت القرآن الكريم كله، وهذا لو لم تستثمر بقية العام، أما لو استفدت من العام كله فخلال سنتين تحفظ القرآن الكريم كاملاً. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 18 مشاريع علمية 1- لزوم حلقات المشايخ: النوع الثاني: ما يمكن أن نطلق عليه مشاريع علمية، وهي كثيرة جداً، من المشاريع العلمية لزوم حلقات المشايخ، فإن حلقات العلماء من أقوى وأحسن المشاريع التي يستثمر فيها الشاب وقته، وينبغي أن تعلموا -أيها الإخوة وأيها الشباب خاصة- أن هذه الحلقات العلمية الموجودة في هذه الجزيرة اليوم تكاد أن تنعدم في الدنيا كلها، لا تكاد تجد حلقات علمية مثلما تجد في المملكة، اللهم إلا حلقات يسيرة موجودة في بعض بلاد الشام، وبعض بلاد الهند. أما في كثير من بلاد العالم الإسلامي قد أقفرت تلك الحلقات، وقد زرنا بلاداً عديدة منها لا يوجد للحلقات العلمية فيها ذكر، الحلقات في المساجد التي تخرج منها العلماء، وتخرجت منها الأجيال عدمت أو كادت في كثير من البلاد الإسلامية، إذاً ينبغي أن نفرح بأن هذه الحلقات ما زالت موجودة، بل أصبحت تنمو وتتكاثر بحمد الله، وأن نعمل على أن ينضوي الواحد منا تحت حلقة من هذه الحلقات. يحفظ فيها متناً من المتون، أو يستمع فيها إلى شرح، أو يتابع علماً من العلوم أياً كان هذا العلم النحو، العقيدة، الفقه، الأصول، الفرائض إلى غير ذلك، فهذه من المشاريع العلمية التي يستطيع أن يستثمر فيها وقته، كذلك المحاضرات والدروس التي تقام، وهي كثيرة وفي الإجازة تتضاعف حيث تقوم الجهات الخيرية وخاصة الإفتاء بتنظيم محاضرات ودروس منوعة في المراكز الصيفية وفي المساجد وفي غيرها، فمن الممكن للشاب أن يحرص على متابعة هذه الدروس والحلقات وتسجيلها أو تلخيصها وكتابة بعض العناصر المهمة فيها، والانتفاع بما يقال ويلقى فيها. 2- القيام ببحوث علمية: ومن ذلك البحوث العلمية: فإن البحث -أيها الإخوة- من الوسائل التي لا يغني عنها غيرها، وقد جربت ذلك وجربها غيري، ربما يجلس الإنسان وقتاً كثيراً فلا يستفيد مثلما إذا أحذ بحثاً، خاصة لو كان البحث تحت إشراف شيخ أو معلم أو أستاذ أو أخ يكبره، اختر موضوعاً من الموضوعات التي تتناسب مع مستواك وحاول أن تبحث عن عناصر هذا الموضوع ومراجعه، وتوفرها، أو تذهب إليها في المكتبة وتعد هذا البحث وتعرضه على أحد العلماء أو المشايخ أو طلاب العلم. لكن أُحذّر أن يكون البحث فوق مستواك، مثل أن يقوم طالب في الثانوي بإعداد بحث مثلاً في قضية عقدية عويصة هذا لا يصلح؛ لأن هذه القضية تحتاج إلى عالم فحل يبحث فيها. أو يأتي إلى قضية مشكلة لا زالت مشكلة عند العلماء فيعد بحثاً، هذا لا يصلح. أو أن يقوم طالب في الثانوية مثلاً بإعداد بحث في طفل الأنابيب، وما حكمه في الشريعة؟ نقول له: لا، ابتعد عن هذا، هذا أمر لا يصلح لك، أو يقول: أريد أن أعد بحثاً في القراءات السبع والأحرف السبعة في القرآن؟ نقول: لا، هذه القضية أعجزت كثيراً من أهل العلم، والخبرة والتعمق، فما بالك بمثلي ومثلك من المبتدئين، هذا لا يصلح لك، فإن الإنسان لو كان عنده مصباح كهربائي (110) وشبكه على خط كهرباء (220) أو (380) فما الذي يحدث، يحدث أنه يحترق! وهكذا أنت إذا بدأت بإعداد بحثاً لا يتناسب مع مستواك؛ ربما تصل إلى نتيجة سيئة خاطئة في هذا البحث، أو تعجز ومن ثم تقرر مقاطعة العلم وعدم الاستمرار في مثل هذه البحوث. 3- الدوارت الصيفية: ومن الوسائل العلمية أو من المشاريع العلمية: الدراسات والدورات الصيفية: هناك دراسات صيفية في الجامعة، من الجيد أن الشاب يلتحق بدراسة صيفية، المهم أنه يستثمر إجازته في أمر مفيد، أو دورة أياً كانت هذه الدورة. أقول أيها الإخوة: افترض أنها دورة لإحدى الجمعيات الخيرية، دورة مثلاً في الكهرباء، دورة في الآلة الكاتبة، دورة في الكمبيوتر، دورة في أي أمر مفيد للإنسان في دينه ودنياه، ما الذي يمنع الإنسان أن يستفيد من وقته في مثل هذه الدورات التي تعلم وتقام في أماكن عديدة؟ هذا أمر طيب. 4- القراءة المفيدة: ومن المهم أن الشاب ينمو ويتقوى في جوانب عديدة، ولا بد أن أشير إلى قضية مهمة ربما كان المهم أن تأتي في الدرجة الأولى وهي قضية القراءة، أذكر -أيها الإخوة- أنني حين كنت في السنة الثالثة المتوسطة وفقت بأحد الشباب الذين نصحوني بالقراءة وأرشدوني إليها ووفروا بين يدي بعض الكتب، فبدأت أقرأ في تلك الإجازة مع أنني كنت أذهب مع والدي -رحمه الله- إلى الدكان، فكنت أضع الكتاب في وسط دفتر البيع، وأقرأ حتى استطعت أن أقرأ في تلك الإجازة أكثر من ستين كتاباً، فلما سألني ذلك الأخ الذي وجهني ماذا قرأت؟ استحييت أن أقول له ستين كتاباً، لأني قلت سيكذبني فذكرت له بعض هذا الرقم، والواقع أنني لا زلت حتى الآن أعيش بعض ثمرات تلك القراءة التي قرأتها في بعض السنوات؛ بسبب التوجيه السليم من بعض الإخوة، فأنصح الإخوة أن يرتبوا لأنفسهم برنامجاً لقراءة مجموعة كبيرة من الكتب المفيدة. اقرأ وانصح الشاب لكي يستمر في القراءة أن ينوع، لأنه لو أراد الشاب أن يقرأ كتباً علمية بحتة ربما يمل، لو قال أقرأ كتباً في الفقه، فقرأ المغني ربما قرأ فيه مجلداً ثم يمل وينقطع، لكن أقول: اقرأ في كتب منوعة، وأنصح بأن يقرأ الإنسان كتب التاريخ، والتراجم، والسير، لأن فيها تقوية للعزيمة، وفيها شد وفيها بناء، وفيها تربية، فضلاً عن قراءة الإنسان ما يهمه من الكتب في العقيدة، وكتب في الحديث، وكتب في التفسير، المهم القراءة القراءة القراءة يا شباب! ينبغي أن نكون مدمني قراءة، وأعجب -أيها الإخوة- كل العجب أن نجد من بعض العمال الذين أتوا إلى بلادنا من بلاد أخرى، وإن كان لا ينبغي ضرب المثل بهم، لكن هذا واقع نشاهده جميعاً، تجد العامل يسوق (الدركتل) والله رأيت هذا بعيني، والكتاب في حجره، كتاب يحوي أكثر من سبعمائة صفحة؛ قد يكون قصة، لكن في حجره يقود السيارة والكتاب بجواره، فإذا وقف عند الإشارة فتح يقرأ! في الطائرة تجد أننا نائمون أو نفتش في الصحف، بينما كل واحد منهم في يده كتاب يقرأ! لقد تربوا على القراءة أما نحن فتربينا على إهدار الأوقات بلا طائل، وتجد الشاب إذا قرأ خمس صفحات قال: مللت! لماذا لا نربي أنفسنا على القراءة، حتى تكون القراءة دأباً لنا وديدناً، والله إن الإنسان إذا ربى نفسه على القراءة واختار الكتاب المناسب أنه بعد فترة تصبح القراءة لذة، يتلذذ بالقراءة فضلاً عن الفائدة، ولا يحتاج إلى من يحثه على ذلك أو يشجعه عليها. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 26 ¦ الصفحة: 20 طلب النصيحة السؤال إنني كلما قرأت آخر سورة الفرقان في صفات عباد الرحمن، تقطع قلبي ألماً وحسرة. كيف أكون منهم، فما هو الطريق الأسلم الذي أسلكه لكي أصل إلى منزلتهم؟ الجواب أولاً هنيئاً لك هذا الشعور الحي فإن هذا علامة الإيمان، أن الإنسان إذا سمع صفات المتقين حزن ألا يكون منهم، وإن سمع الجنة طار شوقاً إليها، وإذا سمع النار طار خوفاً منها أو فزعاً، فهذا لا شك يدل على أن في قلبك حياة، لكن عليك أن تشكر نعمة الله، وشكر نعمة الله التي هي عندك الآن هي أن تضع قدمك على الطريق، والطريق يتلخص في كلمة واحدة: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . إذاً أقول: جاهد في الله بالعبادة وطلب العلم والتقوى، بإصلاح نفسك وغيرك، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (والذين جاهدوا) لم يبين فيما جاهدوا؛ المهم جاهدوا في الله، في أي مجال. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 21 الملتزمون ومشاكل في البيت السؤال يوجد في بيتنا تلفزيون، هذا الجهاز المدمر لا أملك سلطة على تغييره لصغر سني، ارسم لي طريقة مثلى لحل هذه المشكلة، كما أن أخي لا يصلي في المسجد، وهو يجافيني ولا يكلمني لالتزامي، فما الحل؟ الجواب بالنسبة للتلفاز، أقول: إنك لا تملك سلطة، وأنا قد ذكرت لك قبل قليل الشاب الذي كتب على ماسته يقول: (سلطة العاشق كبيرة) فيجب أن تكون عاشقاً. فأقول: يجب أن يكون الفرد منا عاشقاً للإصلاح، مستميتاً في سبيله، وألا يظن أن الأمور تأتي بسهولة، فبعض الشباب -مثلاً- بمجرد أن يهديه الله تعالى ويفتح عينيه ويدرك أن هذه الأشياء يجب أن تزول؛ يتصور أنها يجب أن تزول فعلاً، وينسى قضية المجاهدة، وأنه لا بد فيها من طول النفس والصبر والأناة، ولذلك فإنني أنصح الأخ: أولاً: بأن يكون ذا مكانة في البيت، فمن الخطأ أن يكون بعض الشباب الصالحين في بيوتهم ليس لهم أي دور، قد يوجد في البيت شاب منحرف، يكون هو الذي يخدم والديه، وهو الذي يقوم بشئون البيت، ويتحرك بالمناسبات، ويصل الرحم ويزور الأقارب. أما هذا الشاب فهو كبعض الشباب الصالح ينام حتى الضحى، ثم يستيقظ للذهاب عند زملائه، فلا يجدونه إلا عند الغداء أو العشاء أو النوم، فيقولون ماذا انتفعنا بالشاب الصالح؟ ينبغي أن يكون الشاب الصالح في منزله أنموذجاً في القيام بالأعمال التي يحتاجها أهل البيت، يكون لهم شخصية حتى يكون الحاكم فيه. الأمر الثاني أن يحرص على الإصلاح في أهل البيت، إصلاح قلوبهم، هل وضع درساً في المنزل، ضع درساً في البيت، هذا مشروع من المشاريع الطيبة، اجمع إخوانك وأخواتك الكبار والصغار والوالدين على درس من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو من قصص الصالحين، أحي قلوبهم وحرك قلوبهم بقدر ما تستطيع، أوجد حركة التوعية في المنزل. ثالثاً: أن توجد البدائل المناسبة، كتب طيبة، قصص، رسائل صغيرة، أشرطة مفيدة، أجهزة نافعة، الآن يوجد أجهزة للصغار لأن غالب الناس يحتجون بالأطفال، الآن يمكن أن يشتري الإنسان جهازاً يسمى بالكمبيوتر للأطفال، وتوجد فيه برامج للصغار يعلمهم القرآن، والسنة، واللغة العربية، وأشياء مفيدة وهي أمور مباحة لا حرج فيها، وتوجد ألعاب مباحة للصغار، قصص لهو وتسلية في حدود المباح، وكذلك الكبار أوجد لهم ما يناسبهم مما هو في حدود المباح، بعد ذلك ابدأ حملة منظمة لإخراج الجهاز من المنزل، إذا كان في البيت خمسة أجهزة ابدأ من الجهاز الذي في الصالة، هذا ما له حاجة أخرجه، بعد ذلك تدرج للذي في المجلس، وهكذا حتى تخرج جميع الأجهزة التي في البيت، لكن هذا يحتاج إلى الصبر، ولا تأتي الأمور عفواً. أما بالنسبة لأخيك الذي تقول إنه منحرف ولا يصلي، فعليك أن تنصحه فإن لم يستجب فعليك أن تنصحه، فإن لم يستجب فعليك أن تنصحه، فإذا أعيتك الحيلة وأيست منه، وكلمت أهلك في شأنه، حاول أن تسلط عليه إمام المسجد، وزميله في العمل، وصديقه وجيرانه، فإذا أيست حين ذلك عليك أن تدعو له حتى يتوب الله تعالى عليه. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 22 المؤامرات على العلماء السؤال الكثير منا يعلم ما تخططه المخابرات العالمية لضرب علماء الإسلام بولاتهم وحكامهم، وقد سمعنا أخيراً أن هناك مخططاً للتشكيك في الدعاة، وانتهاك أعراضهم وقذفهم وسجنهم، وذلك لكي يندفع الناس عنهم ويبتعدوا عنهم، فإذا كان ذلك واقعاً فمن وراء ذلك، وما هي الجهود المبذولة لمواجهة هذه المهمة الخطيرة، وفقكم الله؟ الجواب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11] . هذا والله تبارك تعالى أعلم. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 23 معاناة من تكرار المعاصي السؤال إنني شاب أعاني من سعة الوقت، فهو طويل عليَّ، وخصوصاً إذا كنت لوحدي، فإن الشيطان يكون معي فأعمل المعاصي، ثم أتوب، وأعمل المعاصي ثم أتوب، وهكذا، أرجو نصيحتي والرد على سؤالي، وجزاكم الله خيراً. الجواب عليك أن تحرص على ألا تكون لوحدك إلا بقدر الحاجة، بل اجعل نفسك في وسط قوم صالحين، أو مع أهلك أو في عملك، واحذر من الفراغ؛ لأن الشيطان يتسلل على الشاب في الفراغ خاصة في فتن الشهوات، فإذا جلس الشاب فارغاً لا شغل له؛ عرض له صوراً جميلة، وأشكالاً حسنة تثير غريزته وشهوته، ثم مناه ثم حركه، ثم دفعه، وهكذا ربما وقع الشاب في معصية أو شهوة فيندم حال وقوعها ويتوب، ثم إذا خلا مرة أخرى وقع وهكذا. فليحرص الإنسان على ألا يخلو بنفسه، وإن خلا بنفسه ثم وجد أن الشيطان بدأ يتسلل إليه فعليه أن يقوم، ولا يجلس، ويذهب في زيارة صديق، أو القيام بعمل طيب، أو للمشاركة في أمور خيرة: زيارة مكتبة، أو في أمور مباحة حتى لو ذهب للرياضة أو ما أشبه ذلك من الأمور المباحة خير له من أن يجلس على انفراد؛ إذا شعر بأن الشيطان يتسلل إليه، هذا مع أن الإنسان بقدر الإمكان يحرص على أن يحصن قلبه من الشيطان، فإن أخطر ما يكون الشيطان إذا تسلل إلى قلبك، يبدأ بك أولاً بشهوة يحركها، وبعد فترة تصبح هذه الشهوة إذا ما ثارت يسعى الإنسان بنفسه لإثارتها وتحصيلها، ثم يسعى للحصول عليها، ولو كلفه ذلك جهداً كبيراً. فالأمور كلها والعياذ بالله كما قال بعض السلف: سلسلة العيوب، كل عيب يجر إلى ما وراءه، حتى يقع الإنسان ضحية كيد الشيطان وهو لا يدري، ثم إن على الشاب أن يحرص على تحصين نفسه بالزواج، فهو البديل الشرعي، فإن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 24 خطر المبالغة في تصوير قوة الأعداء السؤال ذكرت حفظك الله عن تخطيط الأعداء واهتمامهم بتربية شبابهم بأهداف مرسومة، ولكن ألا ترى أن المبالغة في تصوير هذا الأمر قد يؤدي إلى تعظيم صورة الكفار في أنظار الناس المسلمين، وبالتالي الإعجاب بشكل غير مباشر بهم، وهذا يؤدي إلى اليأس من مجابهتهم، والانهزام الداخلي في نفوس الشباب الملتزم، أرجو سماع رأيكم وجزاكم الله خيراً؟ الجواب لا شك أن المبالغة -كما ذكر السائل- في تصوير قوة الأعداء وتخطيطهم ربما تؤدي إلى الإعجاب بهم، لكن ذكرها كما ذكرتها خلال المحاضرة عرضاً ليس فيه مبالغة، بل بالعكس فيه تقليل من الواقع الذي يعيشونه، فإنهم قد بلغوا من التخطيط والقوة والدقة مستوى لا أستطيع أن أتحدث عنه، ولكن المبالغة في ذلك لا ينبغي أن تكون، يعني لا ينبغي للمتحدث أن يبالغ في عرض قوة الأعداء وإمكانياتهم، إلا أن يذكرها بقدر ما يكون هناك من حفز لهمم المؤمنين للمنافسة، وهذا موجود، حتى عند السابقين، فإن الإنسان إذا رأى ما عند أعدائه من القوة والتخطيط والكيد والمكر يغار ويغضب ويصبح عنده همة وقوة يعجزهم فيه ويسبقهم، كما قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:10] مع أن المؤمن يجب أن لا يهن ولا يحزن، وأن يعرف ويدرك أن المستقبل لهذا الدين، وأن الكلمة الأخيرة هي للإسلام مهما خططوا ودبروا وحاولوا، فإننا نعلم ونقطع كما أن دون غد الليلة أن المستقبل لهذا الدين، وأن للإسلام جولة قادمة منتصرة. لكن هذه الجولة يجب أن تكون على أيدينا، أو على أيدي من نربيهم نحن بحيث يستخدمون الإمكانيات المتاحة لهم، ويعدون القوة فيغلبون الأعداء بإيمانهم وبقوتهم. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 25 المحبة في الله والتأثر الوقتي بالمحاضرات السؤال إني أحبك في الله، وغالب الأسئلة كلها تنبئ عن محبة الإخوة لك في الله، ولذلك نكتفي بهذا، ونقول إن جميع الإخوة الحضور ما جاءوا إلا لمحبة الشيخ في الله، ونسأل الله عز وجل أن يجمعنا وإياهم وفضيلة الشيخ وجميع إخواننا المسلمين في ظل رحمته. يقول: وأريد نصيحة لي، حيث إنني أجد تفاعلاً بعد كل محاضرة، وأمني نفسي بالعمل بما فيها، ولكن ماذا بعد المحاضرة، فإني أنسى كل شيء، وأصبح كما كنت، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟ الجواب أحبك الله وسائر الإخوة على مشاعرهم الفياضة، وأنصحك أخي الحبيب بأمور: أولها: أن تكثر من سماع المواعظ، فإن المواعظ سياط تلهب القلوب، فأكثر من سماع المحاضرات والخطب والدروس المفيدة. ثانيها: أن تكثر من صحبة الأخيار، فإنهم يذكرونك ويقوون من عزيمتك، قد تكون صاحب عزيمة ضعيفة، وهمة ضعيفة، فإذا صحبت الأخيار جروك بالقوة إلى الأمور الطيبة التي هم عليها. الثالث: أن تحدد لنفسك أهدافاً معينة، وأعني بالأهداف أهدافاً قريبة، فمثلاً الآن الإجازة بدأت، خلال هذا الأسبوع حدد لنفسك هدفاً، وليكن هدفك -مثلاً- أن تختم القرآن مرة في هذا الأسبوع هذا هدف يعتبر. فإذا أتيت السبت القادم ووجدت أنك ختمت القرآن الكريم، سوف تشعر براحة غامرة؛ لأنك فعلاً حددت لنفسك هدفاً فوصلت إليه، في الأسبوع الثاني حدد لنفسك هدفاً -مثلاً- أن تقرأ رياض الصالحين مثلا للإمام النووي، أو خلال شهر تقرأ هذا الكتاب، وكتاب ثالث وهكذا تحدد لنفسك أهدافاً معينة، كلما انتهيت من هدف انتقلت إلى الهدف الذي بعده. رابعاً: أن تجعل لنفسك شخصاً تعمل على أن تكون مثله من الأحياء الذين تعيش إلى جوارهم، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة لكل مؤمن قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] لكن النفوس مجبولة على محاباة وتقليد الأحياء: (والحي قد يغلب ألف ميت) وربما لو كان لك شيخ حي أقنعك بشيء، لكن قد يكون الواقع خلاف ما أقنعك به، لكن لأنه حي وشخصيته مؤثرة فيك أقنعك في هذا الأمر، مسألة شخصية أو غيرها. ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها} السنة الحسنة هي أن تجد إنساناً عمل خيراً فتقلده وتحاكيه في هذا الخير، وهذا يرجع إلى قضية صحبة الأخيار والبحث عن الأستاذ والمربي الناصح الناجح. الجزء: 26 ¦ الصفحة: 26 كتب عليكم الصيام إن شهر رمضان هو أفضل الشهور على الإطلاق، ذلك لأن الله تعالى اختصه بفضائل كثيرة، منها أنه أنزل فيه القرآن وأنه شهر الصيام، إلى غير ذلك من الفضائل، فحري بشهر هذه فضائله أن يُعتنى فيه بطاعة الله تعالى وعبادته، من الصلا ة والصيام والعبادة والذكر وقراءة القرآن وغيرها. لذلك نجد أن الشيخ حفظه الله في هذا الدرس قد بين أهمية رمضان والحكمة من فرض الصيام فيه، ثم حث على تقوى الله تعالى وعبادته، وعلى الإنفاق في سبيل الله في رمضان وخاصة وأن هناك إخواناً لنا فقراء لا يجدون ما يسدون به رمقهم، وأن هذا هو دأب النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 1 قوله عز وجل: (كتب عليكم الصيام) الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، هو مستحقُّ الحمدِ وأهلُه، وهو أهلُ التقوى وأهلُ المغفرة، فالحمد لله الذي بارك لنا في رجب وشعبان، وبلَّغَنَا رمضان، والصلاة والسلام على رسوله وخليله ومجتباه محمد صلى الله عليه وسلم سيدِ ولد عدنان، وعلى آله وأصحابه الذين كانوا مصابيح الدجى، ونجوم الهدى، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فها نحن قد تجاوزنا في هذه الليلة وخلفنا وراء ظهورنا اليوم الأول من شهر رمضان من هذا العام، عام 1413 للهجرة. أيها الأحبة: يقول الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أياماً معدودات} [البقرة:183-184] إن لنا مع هذه الآية الكريمة -التي هي الأصل في وجوب الصيام على المسلمين جميعاً- وقفات: أولاها: قوله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فإنه دليل على وجوبه على المسلم البالغ العاقل القادر في هذا الشهر الكريم، فإن الكتابة تعني: الإيجاب، والفرض، والإلزام، والذي كَتَب علينا الصيام بهذه الآية الكريمة، هو الذي كَتَب علينا الصلاة، وهو الذي كتب علينا الحج وهو الذي كَتَب علينا الزكاة، وهو الذي كَتَب علينا الجهاد، وهو الذي كَتَب علينا سائر الأحكام، فحقٌ بمن امتثل أمر الله تعالى في الصيام أن يمتثل أمر الله تعالى في غيره، وألاَّ يفرق بين ما جمع الله تعالى، ولا يجمع بين ما فرَّق الله عزَّ وجلَّ. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 2 المفطرات فهذه أصول المفطرات الثلاثة: الجماع، والطعام، والشراب، ولهذا قال الله تعالى في القرآن الكريم: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] أي: النساء في ليل رمضان {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ} [البقرة:187] الصيام عن المباشرة، وعن الأكل، وعن الشرب {إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فهذه أصولُ المفطرات المُجْمَعُ عليها عند فقهاء الإسلام، فهذا المقصود بالصيام في قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] وهو إحدى الشعائر العظيمة، وأحد أركان الإسلام التي بني عليها، كما في الحديث المتفَق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقامٍ الصلاة، وإيتاءِ الزكاة، وصومِ رمضانِ، والحجِّ} وفي رواية: {والحجِّ، وصومِ رمضان} فهو أحد أركان الإسلام ومَبانِيْهِ العِظام التي أجمع المسلمون على وجوبها وفرضيتها، حتى إن من جحد فرضية الصيام فإنه يكفر، ولو صام أمسك؛ لأنه جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة، ومُجْمَعاً على وجوبه عند علماء المسلمين. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 3 تعريف الصيام والصيام: هو الإمساك، كما قال الشاعر: خيلٌ صيامٌ وخيلٌ غير صائمةٍ تحت العجاج وأخرى تعلكُ اللجما وقال الله تعالى في قصة مريم عليها السلام: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} [مريم:26] كان صومها عن الكلام قال تعالى: {فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} [مريم:26] والصيام في شريعة المسلمين هو: الإمساك عن المُفَطِّرات، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية التعبد لله عزَّ وجلَّ، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي عن الصائم: {يَدَع شهوته، وطعامه، وشرابه مِن أجلي} فالمقصود بالشهوة: الجماع، أو ما يماثله في تخلص الإنسان من الشهوة، فهذا كله محرم في نهار رمضان، وهو من المفطرات، ومثله أيضاً: كل الأشياء التي يُخرِج الإنسانُ بها شهوتَه، ولهذا قال الله تعالى: {يدع شهوته، وطعامه، وشرابه} وكذلك الطعام فهو من المفطرات والمحرمات في نهار رمضان، ومثله: الشراب. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 4 قوله تعالى: (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فإن الله تعالى بين أن الصيام قد كُتِبَ وأُوجِبَ على من كان قبلنا من الأمم السابقة، من بني إسرائيل وغيرهم من أتباع الأنبياء والمرسلين، وليس بحتم أن يكون الصوم عندهم كالصوم عندنا بكل حال، وأن تكون الأحكام له هناك كما هي الأحكام له هنا، ولكن أصل الصوم مشروع في حق الأمم السابقة، كما هو مشروع في حق هذه الأمة، ومفروض عليهم كما هو مفروض علينا، وفي ذلك تعزيةٌ وتسليةٌ للمسلمين، وتصبير لهم على ما يَجِدونه من مشقة الصيام، وألم الجوع والعطش، وقد يصوم الإنسان في يوم شديد الحر، طويل ما بين الطرفين، فيصبر ويصابر ويكابد ألم الجوع والعطش صابراً لله تعالى، فيقال له: اصبر، فلستَ أنتَ أول مَن سلكَ هذا السبيل، ولا أول مَن صام، بل أنتَ من الأمة المختارة المصطفاة المجتباة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم والتي هي أفضل الأمم، وآخر الأمم وجوداً، وأول الأمم دخولاًَ الجنة، فحقيقٌ بك أن تصبر، وأن تلتزم، وأن تطيع الله تعالى، وأن تنفذ أمره، كما نفَّذ الذين من قبلك من الأمم الذين كانوا أقل منك شأناً، وأبعد منك رتبة، ولكنهم فعلوا ما أمرهم الله تعالى به. ولهذا لما أمر الله تعالى يحي بن زكريا -كما في: السنن، وهو حديث صحيح أمره أن يأمر بني إسرائيل كلمات، فتأخر فيها، فقال له عيسى عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى أمرك أن تأمر بني إسرائيل بهذه الكلمات، فإما أن تقوم بها أنتَ، وإما أن أقوم بها أنا فقال له يحي: إنكَ إن قمتَ بها دوني خشيتُ أن يصيبني من الله تعالى عذاب، فقام يحي، فنادى في بني إسرائيل، فجمعهم في بيت المقدس، حتى امتلأ المسجد بهم، ووقفوا على الشرفات، فقال: إن الله تعالى يأمركم بكلمات ثم ذكرها، وكان منها: إن الله تعالى يأمركم بالصيام، وإنما مَثَل الصائم كمَثَلِ قوم معهم صرة فيها مسك، وإن خلوفَ فمِ الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} فهو أمر وُجِبَ على من كان قبلنا، وأُوْجِبَ علينا في شريعة محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- وحقيقٌ بنا أن نكون أقوى امتثالاً، وأصبر وأصدق في امتثال أمر الله -عزَّ وجلَّ- لأننا من هذه الأمة المختارة. ثم قوله تعالى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] هو: ترسيخ لقلب الإنسان، وتدعيم له وتثبيت، وإشعار له بمعنى التعبد لله تعالى، ولهذا جاء في حديث رواه ابن أبي الدنيا، وهو حديث حسن، عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه كان مع قومه في سرية، فسمع هاتفاً يهتف: من صام لله تعالى في يوم شديد الحر، كان حقاً على الله -عزَّ وجلَّ- أن يُرويَه يوم القيامة، قال أبو بُردة: [[فكان أبو موسى -رضي الله عنه وأرضاه- يتحرى اليوم الشديد الحر، الذي يكاد ينسلخ فيه الإنسان من الحر، فيصومه لله تعالى]] {صوموا يوماً شديد الحر لحر يوم النشور} والجزاء من جنس العمل. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 5 الإسلام رباط يربط الماضين باللاحقين أنتَ لستَ غريباً، هؤلاء هم سلفك، ومن يأتون من الأجيال القادمة هم خلفُك، والإسلام رباط يربط الماضين باللاحقين، ويربط الغابرين بالآتين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مالك وغيره، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {وَددْنا أنَّا رأينا إخواننا قالوا: أوَلَسْنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: لا، أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين يأتون بعدُ} فالمسلمون الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بالغيب، ما اكتحلت عيونهم برؤيته، ولا تلذذت آذانهم بسماع لذيذ كلامه، ولا تنعموا بالصلاة خلفه، هؤلاء المسلمون الذين آمنوا به -عليه الصلاة والسلام- واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتمنى أحدهم أن يكون رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بماله ونفسه، هؤلاء المؤمنون الذين جلُّ همِّ أحدِهم أن يحشره الله تعالى مع محمد صلى الله عليه وسلم وأن يُوْرِدَه الله تعالى حوضه، وأن يجعله يوم القيامة معه في الجنة، حتى يتمنوا رؤيته -عليه الصلاة والسلام- بما ملكت أيديهم، وربما تحقق لهم ذلك، فأراهم الله تعالى شخصَه الكريم في المنام، كما قال -عليه الصلاة والسلام-: {من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل بصورتي} أي: مَن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شخصه وصفته التي نقلها عنه المؤرخون، فإنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة؛ لأن الشيطان لا يتمثل برسول الله عليه الصلاة والسلام. فهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وَددْنا أنَّا رأينا إخواننا} ويحق لنا أن نتطلع إلى رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تتشوق قلوبنا للقائه، والاجتماع معه، وسماع كلامه، كيف لا، وهو صلى الله عليه وسلم تمنى أن يرانا، ويلقانا -عليه الصلاة والسلام-، فهؤلاء هم السابقون، يتمنون أن يروا اللاحقين، أما اللاحقون فهم يدعون الله تعالى للسابقين قال الله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] فيَدْعُون لإخوانهم الذين سبقوهم بالإيمان، ويدعون الله تعالى لهم بالمغفرة، فهذه رابطة الإيمان، ورابطة التقوى. {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] إنها شريعة واحدة، وشعيرة واحدة، يأخذها اللاحق عن السابق، وتتوارثها الأمم والأجيال، جيلاً فجيلاً، ورعيلاً فرعيلاً. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 6 هذه الأمة في موكب الأمم السابقة {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] إذاً أنتم أمة من ضمن أمم كثيرة تعبدها الله تعالى، فسمعت وأطاعت وذلت وخضعت لأمره، كلهم كانوا مسلمين، وكانوا مؤمنين، وكانوا مطيعين، وكانوا من أتباع الأنبياء، وهذه الآية الكريمة تربطك بهم، فلا تظن أنك فرد وحيد معزول في زمن الغربة واستحكام العزلة على أهل الإسلام، وفي زمن انتشار المنكرات، وقلة الطاعات، وكثرة المخالف، وقلة الموافق، لا. فأنتَ فرد من أمة طويلة عريضة، لها أول وليس لها آخر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أمة في قادتها: آدم -عليه الصلاة والسلام- الذي كان نبياً مكلماً، وفي قادتها: نوح -عليه الصلاة والسلام- الذي بسبب دعوته جعل الله تعالى السماء تنزل الماء والأرض تتفجر به، حتى التقى الماء على أمر قد قُدر، وغرق أهل الأرض، ونجا نوحٌ ومن معه وفي قادتها: موسى -عليه الصلاة والسلام- الذي جعل الله تعالى البحرَ له يَبَساً، لا يخاف دَرَكاً ولا يخشى، وفي قادتها: إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- الذي قال الله: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وفي قادتها: محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي يقول الخُزَّانُ في الجنة: {بكَ أُمِرْتُ أن لا أفتح لأحد قبلك} . فهي أمة ممتدة في شعاب الزمان، ضاربة في جذور التاريخ، وهي أمة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ففي الصحيح: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا مَن خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} أمةٌ قاتل أولُها مع نوح، ومع موسى، ومع سائر الأنبياء، ويقاتل آخرُها المسيحَ الدجال مع عيسى -عليه الصلاة والسلام- ومع المهدي محمد بن عبد الله رضي الله عنه الذي يبعثه الله تعالى قائداً ومعلماً للمسلمين، فهي أمة عريقة عميقة، كثيرة العدد، عظيمة الوجود، ممتدةٌ في شعاب التاريخ. فأنت إذاً تنتسب إلى هذه الأمة، وهذه أعظم نسبة، وأوثق رباط، إنه رباط المحبة في الله، ورباط الأخوة، ورباط الدين. وهذه الآية تذكرك كلما هلَّ هلال رمضان، وكلما سمعتَ صوتَ المنادي، وكلما وقفتَ بين يدَي الله، أنك تسلك طريقاً لستَ فيه بالأول، ولستَ بالوحيد، وإن كنتَ غريباً في بيتك، أو في بلدك، أو غريباً في وطنك، أو حتى غريباً في عالمك، فأنتَ لستَ غريباً على الوجود، فإن الوجود يعْرِفُكَ. فهذه الشمس التي تشرق عليك وتغرب، ألم تعلم أنها أُمِرَت بالوقوف عن الجريان من أجل يوشع بن نون -عليه الصلاة والسلام- لما غزا قوماً فأدركتهم، فقال للشمس: {أنتِ مأمورة، وأنا مأمور -لئلا تغيب- اللهم احبسها عليَّ شيئاً، فحبست الشمس، حتى فتح الله له} . قفي يا أخت يوشع خبرينا أحاديث القرون الأولينا يعرفكَ هذا البحر الذي تجمد لموسى عليه الصلاة والسلام، تعرفكَ هذه الأرض التي تشهد بما عُمِل عليها من خير أو شر، كما ذكر الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْأِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:1-5] . الجزء: 27 ¦ الصفحة: 7 قوله تعالى: (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) لماذا نؤمر بالصوم؟ ولماذا نؤمر بالصدقة؟ ولماذا نؤمر بالصلاة؟ ولماذا نؤمر بسائر العبادات؟ الجزء: 27 ¦ الصفحة: 8 الصيام فرصة لتحقيق التقوى إن الصيام فرصة لتحقيق التقوى، وللتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وللإقلاع عن سائر الذنوب والمعاصي، ومن لم يفلح في تغيير عاداته السيئة في رمضان، فهو في غير رمضان أولى بالبُعد. هذا على نطاق الفرد، خاصة وأنه يجد المجتمعَ كلَّه يساعده، فأنت إذا ذهبت للمدرسة وجدت الناسَ صائمين، وفي السوق صائمين، وفي الشارع أيضاً تجدهم صائمين، فالمجتمع كله يقوي عزيمتك، ويشد أزرك، ولهذا لا يجد الصائم في رمضان ألم الصيام، ولكنه حين يصوم النفل يجد تعباً ومشقة في ذلك الصيام؛ لأنه يصوم والناس مفطرون، وكذلك لو أفطر الإنسان في رمضان لعذر، أو لمعصية، لم يجد للطعام في حلقه طعماً، ولم يجد للماء مساغاً؛ -هذا إن كان مؤمناً - لأن نفسه وروحه تكره ذلك، وتمقته وتبغضه، فيتحول الحلوُ إلى مُرٍّ علقمٍ. ثم تقوى المجتمعات كلها، لعلكم تتقون في مجتمعاتكم أيضاً، ولهذا كان رمضان شهراً ذا شخصية مميزة في واقع المسلمين كلهم، فالغريب إذا دخل مجتمعات المسلمين في شهر رمضان، يشعر أن هناك أمراً غير عادي، حتى أهلُ المعاصي والفجور، يغلقون حاناتهم ومواخيرهم، وأماكن فجورهم وفسادهم، ويتجهون إلى المساجد طاعة لله عزَّ وجلَّ، وهذا مصداق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {إذا دخل رمضانُ فُتِّحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النار، وصُفِّدَتِ الشياطينُ} وفي رواية: {وسُلْسِلَتِ الشياطينُ} أي: وُضِعَتْ في السلاسل والأصفاد؛ فلا يَخْلُصون إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه قَبْل من الوسوسة للناس، وإغرائهم بالمعصية، ودعوتهم إلى الفجور. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 9 الصائم متلبس بالعبادة طوال نهاره إنكَ وأنتَ صائم في نهار رمضان تشعر بأنك متلبس بعبادة، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنتَ نائم فأنت في عبادة، وحين تنشغل فأنت في عبادة، وحين تبيع فأنت في عبادة، وهذا من أسرارِ الصيام وخواصِّه، فالمصلي -مثلاً- هو في عبادة أثناء الصلاة، لا يشتغل بغيرها، ثم يُقْبل على ما سواها، أما الصائم فهو في عبادة في كل أحواله، يتقلب على فراشه وهو صائم، يشتغل بدنياه وهو صائم، يدرِّس وهو صائم، يعمل في وظيفته وهو صائم، يعمل في حقله وهو صائم، يكتب وهو صائم، يقرأ وهو صائم، فعبادة الصيام لا تنفك عنه ولا ينفك عنها، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. أفَيَجْدُر بشخص متلبس بعبادة أن يعصي الله -عزَّ وجلَّ- وهو في حال العبادة، فيقولَ زوراً، أو يَشهدَ زوراً، أو يَكذب، أو يَغِش، أو يَحلفَ يميناً كاذبة، أو يَحقد، أو يَحسد، أو يَظلم، أو يفتري، أو يترك ما أوجب الله، أو يفعل ما حرَّم الله، إن ذلك لَعَيْبٌ، وإذا فعل هذا وهو صائم فأولى به أن يفعله في حال الفطر، ولذلك كان الصيام فرصة لتصحيح الأحوال، والتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، وذلك لأنه يغير حياة الإنسان، ويقلب الروتين المألوف عنده، فهو فرصة لإعادة ترتيب الأوضاع، والتوبة إلى الله عزَّ وجلَّ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه ابن خزيمة، وابن حبان في: صحيحهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر، فقال: آمين آمين آمين، قالوا: يا رسول الله، قلت: آمين ثلاثاً، قال: نعم، إن جبريل أتاني آنفاً فقال: مَن أدْرَكَ رمضان، فلم يُغْفَر له؛ فأبعده الله، قل: آمين. قلتُ: آمين. قال: مَن أدْرَك أبَوَيه أو أحدهما عند الكِبَر، فلم يَدْخَل الجنة؛ فأبعده الله. قل: آمين. قلت: آمين. قال: مَن ذُكِرتَ عنده، فلم يصلِّ عليك؛ فأبعده الله، قل: آمين، قلتُ: آمين} ما بالك بدعوة، إمام الدعوة فيها جبريل، والمؤَمِّن محمد -عليه الصلاة والسلام- أفَيَسُرُّك أن تكون ممن دعا عليهم جبريل، وأمَّن عليهم محمد صلى الله عليه وسلم، بأن يبعدك الله تعالى؟ من أبعده الله، فمن ذا يقربه؟ لا ينفعه أن يقربه المخلوقون، أو يرفعوا شأنه، أو يقيموا له وزناً، إذا أبعده الله عزَّ وجلَّ، من وجد اللهَ تعالى فماذا فقَد؟ ومن أبعده الله فلا ينفعه أن يقربه العالمَون كلهم. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 10 غنى الله عن عباده إن الله تعالى غني عنا، كما قال -عزَّ وجلَّ-: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7] وقال سبحانه: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ} [فاطر:15] وقال: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم:19] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20] فالله تعالى هو الغني. وفي الحديث القدسي: {يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في مُلكي شيئاً، يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخِرَكم وإنسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نَقَص ذلك من مُلكي شيئاً} فالله تعالى لا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي. ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فالله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض قال الله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [البقرة:255] {إِنما أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . وهو الغني، فأنتَ إن عصيت الله، لا تضره، والملائكة في السماوات -كما في: الصحيح: {أَطَّتِ السماء، وحق لها أن تَئِطَّ، ما فيها موضع أربع أصابع إلاَّ وفيها ملَكٌ واضع جبهته لله -عزَّ وجلَّ- أو راكع، أو ساجد} {أهل السماء الدنيا يقولون: سبحان ذي المُلْك والملكوت، وأهل السماء الثانية يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت، وأهل السماء الثالثة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت} كم عدد الملائكة في السماء؟ إذا كان البيت المعمور في السماء السابعة، يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألف مَلَك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة، فكم يدخله في الأسبوع؟ وفي الشهر؟ وفي السنة؟ وفي مائة سنة؟ وفي ألف سنة؟ وفي ما يعلم الله عزَّ وجلَّ كل هؤلاء لا هَمَّ لهم إلاَّ عبادة الله عزَّ وجلَّ {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:26-28] فالله تعالى عنده من يعبده، وإنما خلقَكَ ليبتليَك، ولهذا قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] وفي الحديث في: الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَن لَمْ يَدَعْ قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجةً في أن يَدَعَ طعامَه وشرابَه} والمعنى -والله أعلم-: إن الله تعالى ليس به حاجةٌ لهذا ولا لغيره، فالله غني عن كل العباد، وإنما شُرِع الصيام؛ لأن يمنع الإنسانَ عن قول الزور وشهادة الزور وعن الإثم، والمعصية، والجرائم، فإذ الم يمتنع الإنسانُ بالصيام عن ذلك كله، فماذا فعل الصيام فيه إذاً؟ ولماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى؟! هل صام من أجل الله؟! هل صام لينفع الله؟! الله تعالى ليس به حاجةٌ إليه، ولا تنفعه طاعة المطيع، ولا تضره معصية العاصي. إنما الصيام لك؛ ليحقق التقوى فيك، ولهذا قال -عزَّ وجلَّ-: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] . الجزء: 27 ¦ الصفحة: 11 عظمة التشريع الإسلامي في الشعائر الظاهرة إنكَ تقف مندهشاً أمام عَظَمَة التشريع الإسلامي، في هذه الشعائر الظاهرة المعلَنة. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 12 شعيرة الصيام ومثله أيضاً: الصيام فإنه شعيرة ظاهرة عامة، يشترك فيها المسلمون جميعاً، وتظهر بصماتها على مجتمعاتهم، لكنني أقول: نعم كل المسلمين يستعدون لرمضان، فمِنهم: مَن يستعد لرمضان بإخلاص القلب، وتصحيح النية، والإقبال على العبادة، وتجريد القصد لله تعالى، والعزم على التوبة. مِن الناس مَن يستعد لرمضان بألوان الأطعمة والأشربة والمأكولات، كما يفعله كثيرٌ من الناس. ومِنهم مَن يستعد لرمضان ببرنامج خاص -كما يفعل الإعلاميون- يحتوي على المواد المعينة، الذي يُخاطَب به الناسُ، ويُوَجَّهون توجيهاً معيناً، وإذا كان يُقَدَّم للناس في غير رمضان المسرحية المنحرفة التي يمثلها فلان وفلان، وتدرِّب على المعاني الرديئة، فإنه في رمضان قد تُقَدَّم لهم المسرحيات التي يظهر فيها ذلك الممثلُ نفسُه وعينُه، يؤدي دور خالد بن الوليد، أو صلاح الدين الأيوبي، أو غيرهما من أبطال الإسلام وعظماء التاريخ، حتى يظن الناس أن أولئك كانوا كهؤلاء، ويلتبس الأمر عليه، وتتحول الحقيقة إلى خيال، ويتحول الجد إلى هزْل. ومِن الناس مَن يستعد لرمضان باللهو واللعب، كما نجده في كثير من البلاد، في ألوان المباريات الكروية، والدورات الرياضية، ومع الأسف الشديد أن يعْلَنَ في هذا العام، في شهر رمضان، عن ما يزيد على خمس عشرة مباراة رياضية، تستغرق جُلَّ الليل، وسوف يتكوم أعداد كبيرة من الشباب في ملاعب الكرة لمشاهدتها، أما الذين لا يستطيعون ذلك فهم سيتابعونها من خلال الشاشة، وسوف تأخذ جزءاً كبيراً من الليل، على مدى خمس عشرة ليلة من ليالي هذا الشهر الكريم، فإذا سهر الإنسانُ الليلَ كله يشاهد الكرة، فماذا تُراه سيصنع في نهاره؟ هل سيدرس؟ هل سيتعلم؟ هل سيقرأ القرآن؟ هل سيتعبد الله تعالى؟ بل -أحياناً- أقول: هل سوف يصلي الصلوات الخمس مع المسلمين؟ الله المستعان! ومِن الشباب مَن يستغلون ليل رمضان في تنظيم دوريات خاصة بهم، في عدد من الأحياء والأماكن والملاعب، تستغرق جُلَّ الليل، وربما كان أجمل ما يذكرهم برمضان هي: تلك الأنوار الكاشفة، والملاعب الليلية، والدوريات، وما أشبهها، وحقيقٌ وجدير بشباب الإسلام، أن يدرك حجم المؤامرة التي يدبرها له أعداء الإسلام وأعداء الدين من اليهود وغيرهم، وألا يقبل أن يكون لقمة سائغة لهم. مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب مؤامرة تدور بكل بيتٍ لتجعله ركماً من تراب إنه جديرٌ بالمسلم أن يحقق معنى الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] فإذا لم يَدَعِ الإنسانُ قولَ الزور والعملَ به، وشهادةَ الزور، واللَّغْوَ والرَّفَثَ، فأيُّ سبب يدعوه إلى الصيام إذن؟! إن الله تعالى ليس بحاجة إلى أن يَدَعَ هذا الإنسانُ طعامَه وشرابَه. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، اللهم اغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم احشرنا مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً، اللهم متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراءَ مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه، اللهم ارزقنا فيه النية الصالحة. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 13 الصلاة فالصلاة -مثلاًَ- تجد المسلمين وهم في تجارتهم وبيعهم وشرائهم، منهمكين في دنياهم، فإذا طرق آذانَهم صوتُ المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، ترك الواحد منهم الذي في يده، حتى ربما كان يزن بالميزان، فترك الكفة، واتجه إلى القبلة يصلي. نحن الذين إذا دُعوا لِصلاتِهِم والحربُ تَسقي الأرضَ جامَاً أحْمَرا جعلوا الوجوهَ إلى الحجاز وكبَّروا في مسمَعِ الرُّوح الأمين فكَبَّرا محمودُ مثل إياس قام كلاهما لكَ في الوجود مُصَلياً مستغفِرا العبدُ والمولى على قَدَم التقى سَجَدا لوجهكَ خاشعَين على الثرى إن انطلاق ملايين الأصوات في مشارق الأرض ومغاربها، في كل يوم خمس مرات: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، إنه إعلانٌ بانتصار محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، فقد رفع الله تعالى له ذكرَه كما وعد: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] وأخْمَل ذِكْرَ أعدائه وحاسِدِيه، وشانِئيه: {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:3] فلا يذكرهم الناس إلا باللعنة، أما هو صلى الله عليه وسلم فملايين الحناجر والأصوات في مشارق والأرض ومغاربها، تعلن الشهادة له بالرسالة والنبوة، في كل يوم خمس مرات. وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيِّ إلى اسمِهِ إذا قال في الخمس المؤذنُ: أشهدُ وشقَّ له من اسمه كي يُجِلَّهُ فذو العرش محمودٌ، وهذا محمدُ هذا في شأن الأذان ولذلك: {أمر النبيُّ صلى الله عليه وسلم الغزاة من أصحابه إذا أرادوا أن يغيروا على قرية أن ينتظروا، فإن سمعوا صوت المؤذن كفوا وإلا أغاروا} لأن هذا فيصل بين الإيمان والفجور. ومثله أيضاً أمر الصلاة، فإن الصلاة من الشعائر الظاهرة التي تفصل بين الإسلام والكفر، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: {بين الرجل وبين الكفر والشرك: تَرْكُ الصلاة} {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كَفَر} ولما ذكر صلى الله عليه وسلم أئمة الجَور قال: {الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قالوا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم، ونخرج عليهم، ونقاتلهم؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة} ولما استأذنه رجلٌ من أصحابه في أن يقتل الرجل الذي احتج على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: اعدل يا محمد، هذه قسمة ما أُرِيْدَ بها وجهُ الله قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لعله أن يكون يُصَلِّي} فبالصلاة حقن المسلمُ دمَه، وبالصلاة انتمى إلى هذه الأمة العظيمة الكريمة، والصلاة شعيرة ظاهرة، لا يُقْبَل أن يَسْتَتِر بها الإنسان، وهو يستطيع أن يعلنها، ولهذا كانت صلاة الجماعة واجبة على الصحيح من أقوال أهل العلم، حتى هدَّد النبي صلى الله عليه وسلم مَن يتركها بأن يحرق عليه بيتَه بالنار. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 14 الجود في رمضان الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الأحبة: إنكم اليوم تستقبلون هذا الشهر الكريم، وقد انتهيتم الآن من أداء فريضة من فرائض الله عزَّ وجلَّ، ألا وهي صلاة العشاء، ثم أداء هذه السنة، التي نُقِلَت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي التراويح، وقد صلاها صلى الله عليه وسلم ثلاث ليالٍ أو أربع، ثم ترك أداءها في الجماعة، خشية أن تُفْرَضَ على أمته، فحافظ عليها أصحابُه من بعده. أيها الأحبة: نبيكم -عليه الصلاة والسلام- كان أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن، حتى إنه صلى الله عليه وسلم ما سُئل شيئاً قطُّ فقال: لا. وربما طَلَبَ منه أحدٌ الثوبَ الذي يلبسُه فدخل بيته، فخلعه وبعث به إليه. كأنَّكَ في الكتاب وَجَدْتَ لاءًَ مُحَرَّمةً عليكَ فلا تَحِلُّ فما تدري إذا أعطيتَ مالاً أيَكْثُرُ في سَماحِكَ أم يَقِلُّ؟ إذا حَضَر الشتاءُ فأنتَ شَمْسٌ وإنْ حَضَر المصِيْفُ فأنتَ ظِلُّ حتى إنه صلى الله عليه وسلم يفرح بما يُعطِي أكثر من فرح الآخِذِ بما يأخذ. تَراهُ إذا ما جئتَه مُتهللاً كأنَّك تُعطيِهِ الذي أنْتَ سائله ولو لم يكن في كفِّه غيرُ روحِه لَجَاد بِها فلْيَتَّقِ اللهَ سائله هكذا كان قدوتُكم وأسوتكم، على رغم شظف العيش، وقلة ذات اليد، وأنه كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: [[يمر في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الهلال ثم الهلال ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ما أوقد في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم نارٌ قال: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء]] وكان عليه الصلاة والسلام {ينام على حصير، فيؤثر جنبه، حتى يراه عمر، فيقول: يا رسول الله! كسرى وقيصر يدوسون على الحرير والديباج، وأنت هكذا فيقول: أولئك قوم عُجِّلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا} أيها الأحبة: أنتم، وقد أنعم الله عليكم، وأعطاكم، وأوسع عليكم، وأنتم في هذا الشهر الكريم، وفي هذه الساعات المباركة، تسمعون يقيناً أحوال الكثيرين من إخوانكم في بلادٍ شتى من بلاد الله تعالى، يعانون من المصائب، والفقر والجوع والمرض ما لا قِبَل لهم به، ويجدون من أعداء الدين من اليهود والنصارى مِن ألوان الدعم والتأييد والمساندة والمساعدة الشيء الكثير، وهم يستصرخونكم ويستنجدون بكم. وكل قضايا المسلمين بلا استثناء تحتاج إلى المال، ولو وجد المسلمون المال الكافي؛ لعرفوا كيف يدعون إلى الله، كيف ينشرون العلم، ولعرفوا كيف يحاربون الفقر والجوع، كيف يحاربون عدوهم، ولعرفوا كيف ينتصرون عليهم، ولحرروا بلادهم بإذن الله تعالى. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 15 دعوة إلى الإنفاق على الفقراء المسلمين أيها الأحبة: وفي هذه الليلة بالذات، أذكركم بإخوان لكم في القارة السوداء، إفريقيا التي يكتسحها التنصير، ويحاربها ويعمل على تحويلها إلى النصرانية. وفي هذا اليوم بالذات قرأت خبراً يقول: النصارى في الصومال يشترون الفتيات المسلمات، من سن اثنَي عشر إلى ستة عشر سنة، يشتروهُنَّ، ويُزَيِّنُوهُنَّ، ويُجَمِّلوهُنَّ، ولك أن تعرف ماذا يريدون بِهِنَّ، ليس التنصير فقط، بل تحويلهن إلى راهبات، وليس الفساد فقط، بل تحويلهن -لو استطاعوا، وأرجو أن لا يفلحوا- إلى بائعات للهوى والفساد. فأين أنتَ يا غيور، هذه من محارمك، وكل مسلمة يجب أن تشعر أن انتهاك عرضها يسيء إليكَ، وأن العار الذي يلحق بها يلحق بك، ذُلُّهُ وحُوبُهُ وبَوارُه، فأنتَ مطالَبٌ اليوم بإنقاذ هذه المسلمة. وذلك الطفل: الذي يتلوى جوعاً، مَن له إلاَّ الله ثم أنت، والفقراء، أكثر من سبعمائة ألف مسلم إرتيْرِي في السودان، لا يجدون الكفاف، ويبيتون في بيوت من القَش، لا تواري من حرٍ ولا برد ولا شمس، وأعداد غفيرة من المسلمين يفترشون هذه القارة المترامية الأطراف، يجدون حولهم النصراني، يدعوهم إلى النصرانية، فإن تنصروا سهل لهم المهمات كلها، وجعل الدنيا لهم ورقاً بلا شوك كما يقال. أما المسلم، فيستصرخونه وينادونه، وهو كأنه لا يسمع، بل إنه لا يسمع فعلاً، فها أنا قد بلغتكم صوت إخوانكم، ووالله لتسألون عنهم، والله لتسألون عنهم، والله لتسألون عنهم، وإذا فَرَّطْتُم اليوم، فالدور عليكم غداً، إنهم أمانةٌ في أعناقكم، كبارهم وصغارهم، شيوخهم وشبابهم، رجالهم ونساؤهم، فقراؤهم وخائفوهم وجُهَّالُهم. فواجب علينا أن نعلمَهم بنشر الدعوة، ونغنيَهم -بإذن الله تعالى- بالمال، والعطاء، واللباس، والكساء، والطعام، والدواء. وواجب علينا أن نحميَهم من شر أعداء الإسلام، وأنا أدعوكم اليوم، رجالَكم ونساءَكم، أغنياءَكم ومتوسطيكم، شيوخَكم وشبابَكم، أدعوكم إلى أن تتقوا الله في أنفسكم، كما أدعوكم إلى أن تتقوا الله في إخوانكم هؤلاء، وإلى أن تنفقوا لإخوانكم في القارة السوداء، في إفريقيا، مما تجود به أنفسكم، من الزكاة، أو الصدقة، أو غير ذلك قال تعالى: ((وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) [البقرة:272] وإنما هو لكم فأكثروا أو أقِلُّوا. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 16 الإنفاق في مجالات لا تنفع المسلمين لا أدري لماذا تجد السخاء والإنفاق في المجالات التي إن كانت عبارة عن مشاريع خيرية في الظاهر، وهي في الحقيقة بخلاف ذلك، لا تضر ولا تنفع، فتجد الكثيرين يسارعون إلى الإنفاق، إما مجاملة لفلان وفلان، وإما عادة برزوا عليها، وإما ليُسْكِتوا أفواه الناس، وإما من أجل أن يُذكَروا بذلك، فإذا جاء مجال الإنفاق في سبيل الله، وفي أعمال الخير، وفي وجوه البر؛ وجدتَ قبض اليد، ألم تعلم كيف شبَّه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك البخيل الذي يُمْسك يدَه عن الإنفاق، إنه كمِثْل رجل عليه جُبَّة، كلما أراد أن يُوَسِّعَها تضامَّت عليه وضاقت، أما ذلك المنفق فهو الرجل الذي عليه جُبَّة، وكلما وسعها اتسعت حتى تُعْفِيَ أثََره، وتقفوَ بنانه. ما لكم إذا قيل لكم أنفقوا في سبيل الله قبَضتُمْ أيديَكم؟ و {إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] يدعوكم الداعي إلى الإنفاق، فلا تسرعون، ولا تندفعون، وأكثرُنا ينفق وفي قلبه ونفسه شيء، وعنده شيء من الإعراض، وهو يرى أنه قد أخرج شيئاً وَدَّ ألاَّ يُخرج غيره. فيا عبد الله، إنك إنما تنفق على نفسك، وتتصدق لنفسك، والنفقة هذه أنت في ظلها يوم القيامة، ومن أعطى فإنما يعطي لنفسه، ومن تصدق فإنما يتصدق لنفسه، ومالُكَ ما قدَّمتَ، ومالُ وارثك ما أخرتَ. فأنا أدعوكم الآن -عاجلاًَ غير آجل- إلى أن تتقوا الله تعالى في أنفسكم، وتتقوا الله تعالى في ذراريكم، الذين يُحفظون -بإذن الله تعالى- بصدقكم وإخلاصكم وتقواكم، وتتقوا الله في هذه الأمة، التي أنتم منها، جزءٌ من جسدها، ولعلكم أنتم يدَها الباذلة، وكفَّها المنفقة، فأنفقوا وتصدقوا، لا أقول: مِن مالكم بل من مال الله الذي آتاكم، ومما جعلكم مستخلفين فيه، فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 27 ¦ الصفحة: 18 حكم ختم السحور بماء أو لبن السؤال بعض الناس، وبخاصة العامة، إذا أرادوا أن يمسكوا عن الأكل والشرب، يجعلون حولهم ماءً أو لبناً، معتقدين أنه من الضروري ختم السحور بشربة ماءٍ أو لبن، ويسمونه بالعامية: استعقاد، فمن شرب فإنه لا يمكن أن يأكل أو يشرب بعد هذه الشربة، فما حكم ذلك؟ الجواب هذا ليس له أصل، بل إن الإنسان يُشرع له أن يتسحر بما تيسر له من طعام أو شراب، ثم إن له أن يأكل إلى طلوع الفجر، أما كون بعضهم يعتقد أنه إذا نوى الصيام قبل الفجر بنصف ساعة، أو ثلث ساعة، أو أقل، فإنه لا يجوز أن يعود ويأكل أو يشرب فهذا خطأ، بل له أن يأكل ويشرب حتى يطلع الفجر، كما قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] . كما أن ختم السحور بشربة ماء، هذا أيضاً ليس له أصل، فإن أراد بشربة الماء أن يتمضمض لإخراج بقايا الطعام من فمه، فلا حرج في ذلك، أما إن اعتقد أن هذا شيءٌ يُتَعَبَّدُ به، فليس في ذلك أصل. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 19 حكم الصلاة والصيام من غير غسل للجنابة السؤال أنا بلغت مبلغ النساء، إلا أنني لم أعلم عن غسل الجنابة إلا بعد زواجي، فماذا يجب عليَّ فيما مضى من صيام وصلاة؟ الجواب الأصل: أن عليها إعادة كل صلاة صلَّتها دون غسل جنابة، أما بالنسبة للصيام فصيامها صحيح، لكن إن كانت الأيام طويلة جداً، أي: إن كانت سنوات طويلة، سبع سنوات، أو ثمان سنوات وهي على ذلك لا تغتسل من الحيض، وتصلي وهي على ذلك دون غسل جهلاً منها، فإن طول هذه الأيام ربما يجعل لها سعة في أن تكثر من النوافل، وتستغفر الله تعالى، وقد أفتى بعض أهل العلم: بمَن طالت عليها مثل هذه الأيام -أفتى لها بأنه لا يلزمها إعادة الصلاة، لعظم المشقة، في إعادة صلاة سبع، أو ثمان سنوات، وإلا فالأصل وجوب قضاء كل صلاة صلاها الإنسان على غير طهارة. ثم إني أتساءل: لماذا تجهل مثل هذه المرأة أو هذه الفتاة حكماً من أظهر أحكام الإسلام؟ وهي في مدينة من مدن الإسلام، بل في عاصمة وحاضرة من حواضر العلم والدين، إن هذه مسئولية كبيرة على الآباء والأمهات، في تعليم أولادهم وبناتهم، وعلى العلماء وعلى الأئمة أيضاً، في تفقيه الناس وتثقيفهم، خاصة في رمضان، وهي مسئولية على البنات بشكل خاص، أن عليها أن تتعلم أمور دينها، ولا تنتظر أباها أو أمها حتى يعلمها، فوسائل العلم اليوم كثيرة، وأصبح من الممكن أن تقرأ كتاباً، أو تسمع شريطاً، أو تسأل عما أشكل عليها من أمور دينها. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 20 المشاركة في مشروع الشيخ سفر الحوالي السؤال يقول: ما رأيكم في مشروع الشيخ سفر الحوالي حفظه الله، وما رأيكم في الجمع له؟ الجواب نعم، الجمع لمشروع الشيخ سفر الحوالي، والمشاركة في هذا المشروع العظيم من أعمال الخير والدعوة، وتكلفة هذا المشروع تقارب ستين مليوناً، ولن يمكن تسديدها إلا عن طريق المحسنين والأخيار والراغبين في الخير، ولكن هذا المشروع مما لا تصلح فيه الزكاة، ومن أحب أن يدفع لهذا المشروع شيئاً، فأنا على استعداد لإيصاله إلى فضيلة الشيخ سفر الحوالي حفظه الله. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 21 العمرة عن الميت السؤال ما حكم العمرة عن الرجل المتوفي إذا كان والداً، أو أُمَّا، أو ما أشبه ذلك؟ وهل يصل الأجر إليهما؟ الجواب جاء في صحيح مسلم يقول عليه الصلاة السلام: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ يُنْتَفَعُ به، أو وَلَدٍ صالحٍ يدعو له} . وكذلك جاء الحال بالنسبة للحج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذِنَ للمرأة أن تحج عن أبيها، وكذلك العمرة. فإذا حج الإنسان أو اعتمر عن أبيه أو أمه الميتين، فإن الأجر يصل إليهم إن شاء الله تعالى وله بذلك أجر أيضاً. ومثل ذلك: إذا تصَدَّقَ عليهما، كما قال بعض السلف: ليس في الصدقة اختلاف، وقال في الحديث أيضاً: {أو ولدٍ صالحٍ يدعو له} فالدعاء من أعظم الأعمال التي ينبغي للناس أن يكثروا منها لآبائهم وأقاربهم، ومن أحسنوا إليهم من الأحياء والأموات. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 22 التقبيل في نهار رمضان السؤال يقول: ما حكم تقبيل الزوجة في نهار رمضان؟ الجواب إذا كان التقبيل يترتب عليه، أو يخشى الإنسان أن يجره إلى الوقوع في بعض المفطرات، فإنه يجب عليه أن يتجنبه، من باب سد الذريعة، كما إذا كان شاباً قوي الشهوة، شديد الشَّبَق، ويخشى أن لا يملك نفسه، فعليه حينئذٍ أن يبتعد عن ذلك؛ لأنه يجره إلى الوقوع في الحرام. أما إذا أمن على نفسه فلا حرج، كما قالت عائشة رضي الله عنها: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه} أي: لحاجته. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 23 زكاة الأرض إذا كانت للتجارة السؤال يقول: هل على مَن يملك قطعة أرض زكاةٌ، إذا كانت معدة للتجارة؟ الجواب إذا كانت الأرض معدة للتجارة ففيها الزكاة، أما إذا كانت الأرض اشتراها ووضع فيها ماله، وفي نيته أن يبني عليها بيتاً في المستقبل، أو في نيته أن يزرعها، أو ما أشبه ذلك، ولم يعدَّها للتجارة، فلا زكاة فيها. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 24 حكم مسابقة الإمام السؤال يقول: لقد كبَّرت مع الإمام تكبيرة الإحرام، وبعد الركعة الأولى سهوت، ثم سبقت الإمام بركعة من ركوعها وسجودها، ثم أستدركتُ وتابعتُ الإمام، وسجدتُ للسهو، وقد أعدتُ صلاتي، هل ما فعلتُه صحيحاً؟ الجواب لا يجوز للإنسان أن يسابق الإمام، فإذا سابق الإمام متعمداً بطلت صلاته، وفي مثل هذه الحالة إذا كان سابقه بركعة وهو ساهٍ، فإنه كان من حقه أن لا يعتد بتلك الركعة، ويأتي بها بعد سلام الإمام، وما دام أعاد الصلاة فلا شيء عليه إن شاء الله تعالى. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 25 حكم إيذاء المصلين في المسجد السؤال بعض المصلين -هداهم الله- يأتي متأخراً إلى المسجد، ثم يضايق إخوانه ممن أتوا إلى المسجد مبكرين، أرجو توجيه كلمة لهم؟ الجواب على الإنسان إذا جاء إلى المسجد أن يجلس حيث انتهى به المقام، ولا يضايق الناس، أو يؤذيهم، أو يتخطى صفوفهم أو رقابهم؛ لأن في ذلك أذية للمسلمين الذين جاءوا مبكرين إلى هذا المسجد. أما من أراد الخير، فعليه بالتهجير والتبكير إلى المسجد، وكما قال صلى الله عليه وسلم: {ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه} فبكر وبادر، والفرق بينك وبين من بادروا ربما عشر دقائق، أو ربع ساعة، وما بين هذا وذاك كبير فرق. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 26 حكم الأمر بالمعروف مع عدم أمر النفس السؤال إنني مدرس -بحمد الله- أحث الطلاب على الالتزام والعمل الصالح، مع أنني مقصر في ذلك، فهل هذا من الخطأ؟ الجواب لا. أما تقصيرك، فهو من الخطأ، فعليك أن تستدركه. وأما حثك للطلاب على العمل الصالح، فهو حق، ولو كنتَ مقصراً فيه، فالله سبحانه وتعالى أمرنا جميعاً أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ولو كنا مقصرين، ولو كنا مفرطين. ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد الجزء: 27 ¦ الصفحة: 27 سجود التلاوة السؤال يقول: إذا كان شخص يقرأ سورة فيها سجدة، وهو غير مستقبل القبلة، فهل يسجد نحو القبلة أو أي جهة، وخاصة إذا كان جالساً على كرسي ونحوه؟ الجواب ينزل عن الكرسي، ويستقبل القبلة، ويسجد لله تعالى، هذا هو المشروع في حقه إذا مرَّ بآية سجدة. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 28 قدر العلم الذي يكفي الداعية إلى الله السؤال في الدعوة إلى الله تعالى لا يوجد دعوة بدون علم، فكيف يعرف الإنسان أنه اكتفى بالعلم الذي يهديه للدعوة إلى الله تعالى؟ الجواب الدعوة إلى الله لا بد أن تكون على علم، لكن ليس من شرط الداعي أن يكون مكتملاً في العلم، فلو كان هذا الشرط شرطاً شرعياً ما دعا أحدٌ، لأنه لا أحد إلا وفيه نقص من البشر، حاشا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. إذاً فعليك أن تدعو إلى الله تعالى بما تعلم، حتى لو كان ما تعلمه قليلاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم، -كما في الصحيح: {بلِّغوا عني ولو آية} فمن علم سورة الفاتحة، فحق عليه أن يُعَلِّمَها مَن يَجْهلها، ومن علم قصار السور فليُعَلِّمْها من لا يَعْلَمُها، وهكذا، وليس من شرط الداعية أن يكون كبيراً في العلم، ولا عالماً يُشار إليه بالبنان، ولا مفتياً، ولا فقيهاً، لكن الشرط: ألا يدعو إلا إلى ما يعلم، أما ما لا يعلم فيقول فيه: الله تعالى أعلم. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 29 زكاة الحلي السؤال يقول: أريد أن أعرف: هل في الذهب المستعمل زكاة، علماً أنه لا يوجد مالٌ لاستخراج زكاة إلا عن طريق بيع شيء منه؟ الجواب هذه المسألة فيها خلاف، فإن جمهور العلماء، الأئمة الثلاثة وابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم، وجمع كبير من الصحابة والتابعين قبلهم، يرون أن الذهب المستعمل للمرأة ليس فيه زكاة، وبعضهم يقول: زكاته إعارته، واستدلوا لذلك بأدلة وقياسات كثيرة ليس هذا مجال عرضها. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن في الذهب المستعمل زكاة، وهذا اختيار جماعة من أهل العلم، منهم من المعاصرين: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وجمع من أهل العلم، فإذا أخرجت المرأة زكاة الذهب احتياطاً؛ فهذا أفضل وأحوط وأبرأ للذمة، وإن لم تخرج فالأظهر -إن شاء الله تعالى - أنه ليس عليها شيءٌ. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 30 حكم دفع الزكاة للأخ الفقير السؤال لي أخ فقير، وأنا -بحمد الله- أملك بعض المال، فهل يجوز أن أخرج الزكاة إلى أخي؟ الجواب إذا كان هذا الأخ فقيراً، أو محتاجاً، أو غارماً، فإنه يجوز أن تدفع إليه زكاة مالك، إنما لا تُدفع الزكاة للأصول ولا للفروع عند عامة الفقهاء، فلا تدفع للأب أو الجد، ولا للابن أو ابن الابن، كما لا تُدفع إلى من تجب عليك نفقتهم؛ لأنك إن أعطيتهم الزكاة كنت تحمي بها مالك. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 31 من دعي إلى طعام وهو صائم السؤال يقول: بالنسبة لصيام النفل: إذا دعيتُ إلى وجبة وأنا صائم فبماذا أرد؟ وكذلك إذا أردتُ إخبار أحد بأني صائم؟ الجواب أما إذا دُعيتَ: فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن كان مفطراً فليأكل، وإن كان صائماً فليصلِّ} أي: يدعو لأهل الوليمة، فيدعو الله لهم بأن يكثر الله تعالى في رزقهم، ويوسع في مالهم، ويجزيهم خيراً، وما أشبه ذلك من الدعوات. أما إذا أوذي الإنسان، أو تعرض له أحد بسب أو شتم أو ما أشبه ذلك، فليقل كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن امرؤٌ شاتمه أو سابَّه فليقل: إني صائم، إني صائم} قال بعض الفقهاء: يقول ذلك بكل حال، وقال بعضهم: يقول هذا إذا كان الصوم فرضاً، أما إن كان نفلاً فيقوله سراً، لئلا يكون ذلك من الرياء، والأقرب: أنه إن أمن الرياء، قال ذلك في فرض أو نفل، فإن خاف على نفسه الرياء في صوم النفل، فإنه يقول ذلك سراً، ويُعرض عنه. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 32 كيفية قراءة النبي صلى الله عليه وسلم السؤال حبذا لو ذكرتَ: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقرأ؟ وكيف كان يرتل؟ ويقف على المعنى، إلى غير ذلك؟ الجواب النبي صلى الله عليه وسلم كان جبريل يعارضه بالقرآن، في كل سنة مرة، وفي العام الذي قُبِضَ فيه، عارضه بالقرآن مرتين؛ إيذاناً بدنو أجله، وهذا أصل في مشروعية ختم القرآن الكريم في شهر رمضان، وكان صلى الله عليه وسلم يرتل القرآن ترتيلاً كما أمره الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:4] [[وكان يقف على رءوس الآي]] أي: على نهايات الآيات -كما قالت أم سلمة: {وكانت قراءتُه مداً، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:1-3] يقف على رأس كل آية، ويمدها مداً} ولم يكن هو صلى الله عليه وسلم، ولا أحدٌ من أصحابه، يَهُذُّ القرآنَ هَذَّاً كهَذِّ الشِّعر، ولا ينثره كنثر الدقل، كما نهى عن ذلك الإمام المقرئ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهو من قراء الصحابة، ولا يكون هَمُّ الواحد منا نهاية السورة، أو نهاية الوجه، أو نهاية الجزء، أو نهاية المصحف؛ لأن القرآن إنما أُنْزِل ليُعتَبر به، ولتُتَدَبَّر آياتُه، وليُوقَف عند معانيه، ولتُحَرَّك به القلوب، ولأن يختم الإنسانُ القرآنَ مرة واحدة في رمضان بترتيل وتمعن، ويقف عند المعاني، ويسأل عما أشكل، ويعرض قلبه على القرآن الكريم، ويحاول أن يخشِّع قلبه وصوته بالقرآن أفضل من أن يهُذَّ القرآن، ويختم مرات ومرات، دون أن يخرج من ذلك بطائل. فكم قارئ للقرآن ما وقف عند حدوده، ولا ائتمر بأوامره، ولا انتهى عن زواجره، وهذا لا يكاد يستفيد من قراءته عملياً، وإن كان لا شك أن قراءة القرآن خير، وتحريك اللسان بذكر الله تعالى خير، وهو مأجور على كل حال، ولأن يقرأ القرآن ولو بغير تأمل، أفضل من أن يسكت، ولأن يسكت أفضل من أن يتكلم بكلام الفحش والسوء. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 33 حكم مسح الوجه بعد الدعاء السؤال ما حكم مسح الوجه بعد الدعاء؟ الجواب مسألة مسح الوجه بعد الدعاء، فيها خلاف بين أهل العلم، والأظهر والأرجح: أنه لا يثبت فيها حديث، ولكن مَن فَعلها فلا شيء عليه؛ لأنه قد جاء في هذا حديثان، صححهما بعض أهل العلم، كالإمام الترمذي وغيره. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 34 ما يجري في أفغانستان السؤال حبذا لو أعطيتنا نبذة عما يجري في أفغانستان؟ الجواب هو خلافٌ بين الجمعية الإسلامية بقيادة رباني والحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، وهي فتنة -نسأل الله تعالى أن يَقِيَ المسلمين شرها- وهناك هدنة قائمة في هذه الأيام، ونرجو أن تكون بدايةً لأن تضَعَ الحربُ بينهم أوزارَها. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 35 ما أخبار الجهاد في الصومال والبوسنة السؤال يقول: لا يخفى عليكم حال الإعلام وصنيعُه لنا، نرجو أن تحدثونا عن أخبار الجهاد في: يوغسلافيا، والصومال؟ الجواب أما في الصومال، فالحمد لله، كانت كل الأحداث الماضية، على رغم أنه أريد بها شر، إلا أن المسلمين استفادوا منها، وقد بدأت التقارير الغربية تتكلم عن تنامي الوجود الإسلامي في الصومال، وأن أهل الخير والدعوة في الصومال، هم الذين بقوا الآن أعزاء أقوياء، وأنهم انتشروا في أوساط القبائل انتشاراً كبيراً، وقاموا بنشاط كبير في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا أيضاً يبشر بخير، ومهما كادوا ومكروا فالله من ورائهم محيط: ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيْدُ كَيْدَاً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] . أما في البوسنة: فلا زالت الحرب سِجالاً بين المسلمين وأعدائهم، وقد دخل مع أعداء المسلمين مجموعات من الشباب من القوميين الروس، الذين تطوعوا للقتال إلى جانب إخوانهم من أهل الكتاب، من النصارى الصرب، أما المسلمون فلا زالوا يصيحون بكم، وعندي رسالة لعلِّي أقرؤها عليكم غداً، جاءتني من بعض الأخوات المسلمات البوسنيات تتفطر لها القلوب ألماً وحسرة. الجزء: 27 ¦ الصفحة: 36 فما استكانوا لربهم وما يتضرعون كل ذنب لا بعد له من جزاء، وهذا الجزاء له صور وألوان، وفي هذا الدرس فصل الشيخ حفظه الله هذه الصور، ثم تكلم عن أحوال المؤمنين وغيرهم عند نزول العقوبات. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 1 كل عمل لا بد له من جزاء إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك وخليلك وحبيبك ونبيك ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته وعمل بسنته إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيرا، أما بعد: أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكر لكم جميعاً حسن حفاوتكم، وكرم عنايتكم، ولطف استقبالكم، وإن كان هذا ليس بغريبٍ منكم، فهو مما لا أستحقه، وأسأل الله عز وجل: أن يغفر لي ما لا تعلمون، وأن يستر علي وعليكم وعلى سائر إخواننا المؤمنين، ونسأل الله عز وجل ألا يفجع بنا عباده الصالحين، وأن يجعلنا في الدنيا والآخرة من المغفورين، المستورين، وكما قال الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيراً مما يظنون]] أحبتي الكرام: هناك قاعدة وسنه إلهية، ثابتة مستقرة، جاءت نصوص الكتاب والسنة في تثبيتها وبيانها وهي: أن كل عمل لابد له من جزاء، في الدنيا وفي الآخرة، قال الله عز وجل: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40] وقال: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] وقال: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] . وكذلك الحال بالنسبة للأعمال الصالحة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] وليس الجزاء في الآخرة فحسب، بل الجزاء من جنس العمل في الدنيا والآخرة، ولذلك من عمل الصالحات أحياه الله تعالى حياة طيبة، كما وعد الله في كتابه فقال: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] . هذا في الدنيا، ومن عمل السيئات فكذلك يجازيه الله بها في العاجل، كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] . أما في الآخرة فالأمر أظهر من أن يذكر، وحسبك أن الجنة والنار هما دار القرار: الموتُ بابٌ وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدارُ الدارُ جنة عدنٍ إن عَمِلْتَ بما يرضي الإله وإن فرطت فالنارُ هما مصيرانِ ما للمرءِ غَيرُهما فانظر لِنفسكَ ماذا أنتَ تختارُ الجزء: 28 ¦ الصفحة: 2 العقوبات الدينية هناك عقوبات إلهيةٌ دنيوية كثيرة، يعاقب الله تعالى بها خلقه على ذنوبهم، وعلى معاصيهم، وهي أنواع: النوع الأول: منها عقوبات تتعلق بدين الإنسان: فيعاقب الإنسان على المعصية بعقوبات دينية، مثل قسوة القلب، فربما وقع الإنسان في المعاصي حتى يقسو قلبه، فلا يميزُ معروفاً من منكر، ولا حقاً من باطل، ولا خيراً من شر، ولا هُدىً من ضلال، كما قال الله عز وجل: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] يعني: غلب وغطى عليها ما كانوا يعملون من الأعمال السيئة، حتى كانوا لا يميزون بين الحق والباطل، وكما قال عز وجل: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] . وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ} [النمل:4] . وجاء في بعض الآثار: أن رجلاً من بني إسرائيل قال: يا رب، كم أعصيك ولا تعاقبني، فقيل له: يا عبدي، كم أعاقبك ولا تشعر. فهذه ميزة العقوبات الدينية، أن الإنسان في كثير من الأحوال قد لا يشعر بأثرها؛ لأنه لا يزال قلبه تغلب عليه المعاصي والذنوب، حتى لا يميز بين صحوة القلب وموته، وبين نوره وظلمته، وبين صحته ومرضه، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أشربها -أي: تقبل الفتنة ورضي بها وتشربها وأحبها- نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت في قلبه نكتةٌ بيضاء؛ حتى تكون القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً، كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة} فإذا جاءت ذلك القلب الموعظة زلت عن اليمين وعن الشمال، لكن لا يقع فيه شيء؛ لأنه كأس مقلوب، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، فهذه هي العقوبات الدينية. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 3 أنواع العقوبات الدنيوية النوع الثاني: فهي العقوبات الدنيوية. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 4 عقوبات لا دخل للمخلوق بها والعقوبات الدنيوية قد تكون عقوبات من عند الله تعالى، يعني: قضاءً وقدراً لا دخل للمخلوق ولا حيلة له فيها، وذلك: كالقحط، والجدب، والجفاف، والفقر، والزلزال، والبركان، والفيضان، والطوفان، والخسف، ومثله الكسوف في الشمس والقمر، وكذلك الموت: موت القريب أو الحبيب أو ما أشبه ذلك. فهذه عقوبات إلهية، مثلها مثل الصواعق، مثل الأشياء التي تنزل من السماء، ولا حيلة للخلق فيها بأي حال من الأحوال، فهذه من عند الله تعالى. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 5 عقوبات بأيدي بعض المخلوقين وأما النوع الثاني من العقوبات الدنيوية: فقد تكون بأيدي بعض الخلق، وبأيدي بعض الناس، كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا} [التوبة:52] يعني: قل يا محمد للكفار: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] إما النصر أو الشهادة: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ} [التوبة:52] والعذاب من عنده تعالى قد يكون خسفاً، وقد يكون زلزالاً، وقد يكون بركاناً، وقد يكون فيضاناً، وقد يكون قحطاً، وجدباً، وجفافاً: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] . إذاً هذا نوع ثانٍ من العذاب، بأيدينا، يعني: بسيوف المؤمنين، وبسهامهم، وبرماحهم، وبقذائفهم، وبجهادهم، فيبتلي الله تعالى الكفار بالمؤمنين يعذبهم بهم، حيث ينتصر المؤمنون على الكافرين فيسومونهم ويقتلونهم ويأخذون أموالهم وما في أيديهم، ويستبيحون نساءهم، يعني: عن طريق السبي بسنته المعروفة، المهم أن هذا عذاب من عند الله تعالى، ولكنه بأيدي المؤمنين، كما قال الله عز وجل في آية أخرى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14] . إذاً: العقوبات التي تُصب على الكافرين بجهاد المؤمنين هي من عند الله عز وجل، ومثله العقوبات التي تصب على المؤمنين بأيدي الكافرين هي عقوبات من عند الله تعالى، فقد يسلط الله الكافر على الظالم أو الفاسق أو الفاجر يسومه سوء العذاب، كما سلط فرعون على بني إسرائيل: {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة:49] . فهذه عقوبة من عند الله عز وجل، أجراها على يد بعض خلقه، قد يجريها على يد المؤمن عقاباً للكافر، وقد يجريها على يد الكافر عقاباً للمؤمن إذا عصى أو فرط أو قصر. ولا شك أن تسلط الأعداء على الأمم الإسلامية في هذا الزمان بأخذهم خيرات بلادهم، ونهبهم لها، وتسلطهم عليها، وخنقهم للأمة الإسلامية، واعتدائهم على أموالها وبلادها وأعراضها ودمائها وأنفسها، وكون كثير من بلاد الإسلام أصبحت لقمة سائغة في أيدي أعداء الدين، يفعلون بها ما يشاءون فيتحكمون فيها، وفي اقتصادها يرسمونه كما يشاءون، ويفرضون فيه من الاقتصاد الكافر ما يشاءون، أو في سياستها فيوجهونها وفق ما يخدم أغراضهم ومآربهم، أو في خيراتها وبترولها ومعادنها ونفائس ما وضع الله تعالى فيها من خيرات، أو تسلطهم على أموال المسلمين، أو تسلطهم على أنفس المسلمين، حيث يقتلونهم قتل عاد وإرم، كما نسمع مما يقع للمسلمين في بلاد فلسطين أو في أفغانستان أو في إريتريا أو في الفلبين أو في غيرها من بلاد الشرق والغرب؛ حيث أصبح سيف الكفار مسلطاً على رقاب المسلمين في أكثر بقاع الأرض، لا شك أن هذا كله عقوبات من الله عز وجل لعباده، وخاصة الذين خالفوا أمره، لقد أصبحت أمم الكفر تتحكم في بلاد الإسلام، حتى في أخص خصائصها، وأصبح المسلم محتاجاً إلى الكافر في كل شيء -مع الأسف الشديد- فمركبه من عنده، وملبسه من عنده، ومأكله في كثير من الأحيان من عنده، ومشربه من عنده، وسائل التبريد أو التدفئة أو التسخين أو النطق أو الكلام أو إلخ. أو أي وسيلة يحتاجها المسلم، فهي في الواقع من إنتاج مصانع الكفار، بل أصبح المسلم يحتاجهم حتى في الأمور التي لا شك أن حاجة الأمة فيها إلى عدوها هي نوع من المسخ، فمتى عُرف -مثلاً- أن العدو يدفع عن عدوه أو يحميه، أو يحمي سياسته أو اقتصاده، أو يدافع عن بلاده، فهذا ما لم يعهد منذ فجر التاريخ، ولا شك أن حاجة المسلمين في هذه البلاد، وفي كل البلاد إلى أعداء الإسلام، في مثل هذه الأمور، وفي كثير من الأمور لا شك أنه نوعُ من البلاء والعقوبات الإلهية التي صبها الله عز وجل علينا، حتى نتوب إليه تعالى، ونراجع ديننا. ولا شك أن واقع الأمة الإسلامية اليوم أشبه ما يكون بواقع الأمة الإسلامية في أيام صلاح الدين حين كان يقول الشاعر: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيبُ فحقٌ ضائع وحمىً مباحٌ وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ وكم من مسلمٍ أضحى سليباً ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليبُ دم الخنزير فيه لهم خلوقٌ وتحريقُ المساجدِ فيه طِيبُ أمورٌ لو تأملهنَّ طفلٌ لطفَّل في عوارضه المشيبُ أتسبى المسلمات بكل ثغرٍ وعيش المسلمين إذاً يطيبُ أما لله والإسلامِ حقُُ يُدافعُ عنه شبَّانُُ وشِيبُ فقل لذوي الكرامةِ حيثُ كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا إن التاريخ يُعيد نفسه، وبلاد الإسلام تتعرض لهجمات الأعداء وتسلطهم في كل جانب ومجال من مجالات الحياة يوماً بعد يوم، وما أخبار الأندلس حين تسلط عليها الأعداء من فرنسا وغيرها، فبدءوا يقصون ثوب الإسلام من الأندلس شيئاً فشيئاً؛ حتى طردوا المسلمين ونصَّروهم وجعلوا لهم محاكم التفتيش التي تمسخ المسلمين مسخاً، وتحرقهم إن أصروا على دينهم بالأفران، وتقتلهم شر قتلة، وما أخبار المسلمين في فلسطين أيضاً حين تسلط عليها اليهود ففتكوا بالمسلمين وقتلوهم، وأجروا الشوارع من دمائهم أنهارا -إلاَّ نموذجٌ لذلك، وكانت هي الأخرى نموذجاً لما حصل في الأندلس، كما قال القائل:- خلت فلسطين من أبنائها النُجب وأقفرت من بني أبنائها الشُهبِ طارت على الشاطئ الخالي حمائمهُ وأقلعت سُفن الإسلام والعربِ يا أخت أندلسٍ صبراً وتضحيةً وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ ذهبتِ في لجة الأيام ضائعةً ضياع أندلسٍ من قبلُ في الحقبِ وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ بمثلها أُمَّةُ الإسلامِ لَمْ تُصَبِ وما أخبار أفغانستان وهي أندلس هذا الوقت إلا نموذج لذلك، فهي البلاد المؤمنة التي لم تُدنِّسْ أرضها قدم كافر، حتى أنها هي الدولة الوحيدة مع هذه البلاد التي لم يقم فيها كنيسة للنصارى، ومع ذلك تجتاحها جحافل الروس وعملائهم من الأفغان الشيوعيين، ويقع للمسلمين فيها من نهب الأموال وتدمير الأرض وأخذ الخيرات، وهتك الأعراض، وقتل النساء والأطفال مالا يخفى على أحد في هذا الوقت، وما هزائمنا نحن المسلمين في عام (48، 67) من الميلاد إلاَّ نموذج ودليل وعبرة من عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] . إذاً كما أن الله تعالى قد يسلط علينا القحط والجدب، أو أنواع المرض أو الفقر أو أي عقوبة إلهية، فقد يسلط الله علينا سيف العدو؛ حتى نعود إليه ونستكين إليه، ونتضرع، وننكسر بين يديه، يقول الله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] ويقول سبحانه عن بعض المعرضين الضالين من عباده الغافلين: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء:60] . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 6 حال المؤمنين عند العقوبات أيها الإخوة الأكارم: الناس أمام عقوبات الله عز وجل، صنفان: الصنف الأول: صنف المؤمنين الذين يعتبرون بهذه الأشياء ويتعظون، ممن إذا ذكروا تذكروا، سواء ذكروا بآيات الله الشرعية من القرآن والسنة والمواعظ، أم ذكروا بالآيات الكونية التي يصبها الله تعالى عليهم، من العقوبات السماوية أو العقوبات بأيدي بعض الكفار، فيكون في ذلك لهم نذيرٌ وعبرة، وهذا كان شأن المؤمنين من الرسل وأتباعهم مدار التاريخ. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 7 حال أهل جزيرة كريت المثل الآخر: هي قصة -أيضاً معروفة في التاريخ- وقعت في جزيرة يقال لها: جزيرة كريت، والمسلمون يسمونها جزيرة إقريطش، وكانت هذه الجزيرة، جزيرة صغيرة في البحر المتوسط، وكان فيها مدينة يخرج منها دائماً الغزو للروم، وهذه المدينة الصغيرة كثيراً ما تخرج منها جحافل وجيوش لغزو الروم، فغضب ملك الروم أشد الغضب من هذه المدينة، وحلف أن يدخلها ويدمرها على أهلها، وغزاها بجيش كثيف، ملأ السهل والجبل وملأ البحر، وحاصر هذه المدينة حصاراً طويلاً، ولم يكن لهذه المدينة بد من الاستسلام، وكانت أشبه بإنسان صغير، أمسك عدوه بخناقه، وخنقه بثوبه، بحيث إنه ينتظر الموت في أي لحظة، وظهرت بوادر المجاعة في هذه المدينة، حيث لم يكن في ذلك العصر وسائل للاتصالات الهاتفية، أو غيرها بحيث يعلم المسلمون بالأمر، فبقيت هذه المدينة بمعزل لا يعلم المسلمون من أمرها شيئاً، وبعد ذلك تشاور أهل المدينة، واتفق أمرهم على أن يستسلموا؛ لأنه ليس أمامهم مفر من الاستسلام، فليس بيدهم قوة ولا حماية كافية، ولا استطاعوا أن يخبروا المسلمين بخبرهم فبقوا قلة قليلة، يحيط بهم جيش كثيف مدجج من الروم. فكان هناك شيخ كبير السن، معتزل في أحد مساجد المدينة، فلما علم بالخبر دعا رءوس القوم، وقال لهم: ما الذي عزمتم عليه؟ قالوا: عزمنا على الاستسلام، قال: هل بقي لكم قوة تدافعون بها، أو حيلة تحتالون بها؟ قالوا: لا، لم يبق لنا شيء، قال: فاستمعوا إلىَّ إذاً: اخرجوا جميعاً إلى ساحة القرية، وأخرجوا رجالكم، ونساءكم، وأطفالكم، وبهائمكم، ودوابكم، ولا يبقى في القرية مريضٌ ولا صحيحٌ ولا كبيرٌ ولا شيخٌ ولا طفل إلا خرج، ثم افصلوا الأب عن ابنه، والأم عن ولدها، والقريب عن قريبه، ففعلوا ذلك كله، فبدأ الصياح والنحيب، الطفل يحن إلى أمة، والأم تبكي على طفلها، والقريب يبكي على قريبه، ثم أمرهم أن يبتهلوا إلى الله عز وجل، فابتهلوا إلى الله تعالى، وعلا نحيبهم، وصياحهم، وتضرعهم، إلى الله عز وجل. فقال: هل بقي بقلوبكم شيء غير الله تعالى، واللجوء إليه والانكسار، قالوا: لا والله ما بقي في قلوبنا شيء، كلُُ الحيل الدنيوية قد فشلت، ولم يبق إلاَّ الاعتصام بالله تعالى. قال: فافتحوا إذاً أبواب المدينة، واخرجوا إلى عدوكم مرة واحدة، عجوا إلى الله عجة واحدة، وقولوا: يا الله ففعلوا، وفتحوا أبواب المدينة، وخرجوا دفعةً واحدة، فلما رآهم العدو، قذف الله في قلوبهم الرعب ففزعوا وخافوا، وظنوا أن المسلمين قد أعدوا لهم خطه شديدة، فهرب العدو لا يلوي على شيء، وما التفت أحد منهم حتى وقع في البحر، ثم انصرفوا مهزومين، دون أن يمسوا المسلمين بسوء. فأهل هذه الجزيرة لم ينتصروا بعدد ولا عدة ولا بقوه ولا بإمكانيات ولا بماديات ولا بأسلحة متطورة، ولا بتقنية، ولا بتقدم وتصنيع، ولا بكثرة جيوشهم؛ إنما انتصروا حين انقطعت قلوبهم إلى الله تعالى، لأن المسلم يعلم أن النصر من عند الله تعالى، وأن الله تعالى بيده مقاليد السماوات والأرض: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح:4] . فالله تعالى لو شاء أن يأمر السماء أن تمطر لأمطرت على أعدائنا ناراً تحرقهم، ولو شاء أن يأمر الأرض لزلزلت من تحت أقدام عدونا، ولو شاء عز وجل لسلط عليهم الريح، ولو شاء لسلط عليهم البراكين، ولو شاء لسلط عليهم طوفاناً من عنده: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] . لكن كل هذه الوسائل يدخرها الله عز وجل لعباده الصادقين، الذين علم الله من قلوبهم الانقطاع إليه، وصدق اللجوء والرغبة فيما عنده. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 8 حال صلاح الدين الأيوبي في مواجهة الصليبيين أولهما: مَثَلُ صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، كما يذكر ذلك عنه ابن شداد، وهو عالم كان من أصحاب صلاح الدين، فيذكر ابن شداد: أن الإفرنج لما نزلوا بيت المقدس قريباً منه، وتواصلت الأخبار إلى صلاح الدين بأنهم قد عزموا على الصعود إلى القدس، ومحاصرته، وركبوا القنابل عليه، واشتدت مخافة المسلمين من ذلك بسبب شدة بأس العدو وتسلطهم وقلة المسلمين، فاضطر الأمراء إلى الاجتماع، وتشاور الناس فيما بينهم ماذا يصنعون؟ يقول ابن شداد: ضاق صدر صلاح الدين واكتأب وحزن لذلك، وتقسم فكره، قال: فكنت جالساً معه طوال الليل، وهو يقسم الناس أقساماً، ويضع على كل قسم أحد الرجال ممن يختاره ويثق به، وكان الزمان شتاءً، وليس معنا ثالث إلا الله عز وجل، فلما بقي على الفجر قريباً من ساعة، قلت له: لعلك ترتاح، يقول: خشيتُ عليه أن يتعكر مزاجه؛ لأنه كان يتأثر، وكان فيه تعب في جسمه، فقلت لـ صلاح الدين لعلك ترتاح ساعة، يقول: فقال لي صلاح الدين: لعله جاءك النوم اذهب فارتاح أنت، يقول: فخرجت من عنده إلى بيتي، فما وصلت إلى بيتي، وأخذت بعض شأني إلاَّ وقد أذَّن لصلاة الفجر، قال: فتوضأت ثم أتيته، وكان يصلي الفجر معه، فلما أقبلتُ على صلاح الدين، إذا هو يمر الماء على يديه -يتوضأ- قال لي: والله ما جاءني النوم أصلاً -ما نمت أصلاً حتى احتاج إلى وضوء- من صلاة العشاء وهو سهران في مصالح المسلمين، وفي هذا البأس الذي نزل به، قلتُ له: علمت أنك لم تنم، قال: كيف عرفت ذلك؟ قلت له: ما بقي للنوم وقت، وأعلمُ أنك في مثل هذا الظرف لا تنام، يقول: فلما صلينا الفجر قلتُ له: قد وقع لي خاطر -خطر في بالي خاطر- وأرى أنه حق إن شاء الله، قال: وما هو؟ قال: قلت له: نَكِلُ أمر الدفاع عن بيت المقدس إلى الله عز وجل، بالإخلاد إليه، والتوكل عليه، وصدق اللجوء والإنابة إليه، والخروج من المعاصي دقيقها وجليلها. قال: كيف أصنع؟ قال: أرى -واليوم يوم الجمعة- أنك تغتسل ثم تخرج إلى المسجد مبكراً، وتخرج صدقات كثيرة إلى الفقراء، والمحتاجين سراً، وعلي يدي من تثق بهم من الناس، تجعلهم يتصدقون على الخلق بأموالك، وتخرج من جميع المظالم، ثم تصلي ركعتين لله سبحانه وتعالى تصدق فيها، وتنكسر بين يديه، فإذا سجدت تطلب من الله تعالى بقلب منقطع إليه: أن يغيث المسلمين، وينصرهم على عدوهم، يقول: ففعل ذلك كله، ثم صلى ركعتين، وكُنت إلى جواره، قال: فسمعته يقول وهو في سجوده: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية إلا منك، وعجزنا عن دفاع عدونا إلا بك، فإنا نستغيث بك، ونستنصرك ونعتصم بك، يقول: فابتهل إلى الله عز وجل، وبدأت الدموع تنحدر من عينيه فلما رفع رأسه من سجوده، إذا دموعه تتقاطر من لحيته. يقول: فعلمت أننا منصورون ولابد، فلما كان في مساءِ ذلك اليوم، الذي هو يوم الجمعة جاءتنا رسالة أو رقعة من الإفرنج، فيها أن الإفرنج متخبطون، وقد ركبوا بعسكرهم إلى الصحراء -خرجوا إلى الصحراء- ووقفوا إلى قائمة الظهيرة -إلى وقت الزوال- وأنه صار بينهم اختلاف في ذلك، يقول: فلما كان يوم السبت جاءنا خبر بمثل هذا، فلما كان يوم الأحد وصل جاسوس فأخبرنا أن الإفرنج قد اختلفوا، وأن الفرنسيين منهم، وكانوا قد تحالفوا من الغربيين وغيرهم من أعداء الإسلام من النصارى، فأخبرهم الرسول -الجاسوس- الذي جاء إليهم، أن الفرنسيين يقولون: لابد من مهاجمة القدس، ومحاصرتها. وأما من يسمون بالإنكشارية فإنهم يرون أنه لا يخاطر بدين النصرانية، يقولون: جنود عيسى لا نخاطر بهم، ولا يمكن أن نلقي بهم، سبحان الله! ما أشبه الليلة بالبارحة، الآن يوجد من أمم الكفر والنصارى، من يستميت في القتال، لأنه يريد أن يقضي على الأمة المحمدية، ويوجد من جنود الكفر واليهود والنصارى وغيرهم، من يرون أن قطرة دمٍ من كافر أغلى من المسلمين أولهم وآخرهم، فهكذا كان الأمر، فحصل بينهم خلاف أدى إلى أنهم ينسحبون من هذا الموقع، ويتركون بيت المقدس في أيدي المسلمين، وهكذا انتصر صلاح الدين دون أن يخوض معركة، لأنه أسند أمره إلى الله عز وجل. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 9 الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر مثلاً: في معركة بدر كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقود قلة قليلة لا تتجاوز الثلاثمائة أمام جحفل من جحافل الكفر، يزيد على الألف مدججين بألوان السلاح، ومع ذلك عرف الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه لن ينتصر على هذه الكثرة الكافرة لا بعدد ولا بعدة ولا بقوة ولا ببأسه، وإنما ينتصر عليهم بعون الله تبارك وتعالى. ولهذا بنوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريشاً، فكان يدعو ويرفع يديه إلى السماء، ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، اللهم أسألك وعدك ونصرك} حتى سقط رداؤه عن منكبه عليه الصلاة والسلام، من شدة دعائه وافتقاره وابتهاله إلى الله سبحانه وتعالى؛ حتى جاءه أبو بكر رضي الله عنه والتزمه من خلفه، وقال له: {يا رسول الله، كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجز لك ما وعد} فلما رأى أبو بكر ابتهال الرسول صلى الله عليه وسلم وصدق لجوئه إلى الله عز وجل عرف أن النصر آت لا محالة!! ليس لأن عدونا كذا، ولا لأن قوتنا كذا، ولا لأن إمكانياتنا كذا، ولا لأن جغرافية البلد كذا، ولا لأي سبب إنما لأنه رأى الانكسار الذي عودنا الله عز وجل أنه لا يرد من فعله، وما هي إلا ساعات حتى أخذوهم -كما هو معروف-: أتُطفئُ نُور الله نَفخة كافرٍ تعالى الذي بالكبرياءِ تفردا إذا جلجلت (اللهُ أكبر) في الوغى تخاذلت الأصوات عن ذلك النِِدا هناك التقى الجمعان جمع يقوده غرور أبي جهل كهرٍ تأسدا وجمعٌ عليه من هداه مهابة وحاديه بالآيات بالصبر قد حدا وشمَّر خيرُ الخلقِ عن ساعد الفدا وهزَّ على رأس الطغاة المهندا وجبريلُ في الأُفق القريبِ مُكبرٌ لِيلقي الونى والرعب في أنفُسِ العِدا وسرعان ما فرَّت قُريشُُ بِجمعها جريحةَ كبرٍ قد طغا وتبددا ينوء بها ثُقل الغرامِ وهَمُّهُ وتجرحها أسرى تُريدُ لها الفِدا وأنفُ أبي جهل ٍ تمرغ في الثرى وداسته أقدام الحفاةٍ بما اعتدى ركب عليه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال له أبو جهل: [[لمن الدائرة اليوم؟ قال: يا عدو الله! لله ولرسوله وللمؤمنين، قال: لقد ارتقيت مُرتقى صعباً يا رويعي الغنم]] . وأنف أبي جهل تمرغ في الثرى وداسته أقدامُ الحفاةِ بِما اعتدى ومن خاصم الرحمن خابت جُهودُهُ وضاعت مساعيه وأتعابُه سُدى وفي معركة أحد هُزم المسلمون ولم ينتصروا، هُزموا وكانت فعلاً هزيمة منكرة لم يكن المسلمون يتوقعونها بأي حال، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران:165] . يعني: يوم بدر. قلتم أنَّى هذا؟! فتعجب المسلمون كيف حصل هذا؟! ظنوا أنهم ما داموا مسلمين، ومادام قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم لا يهزمون أبداً، فقالوا: أنَّى هذا؟! كيف حصل؟! فقال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . نرجع إلى القاعدة: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] فالله تعالى قادر على أن ينصر المسلمين دون قتال، ودون سيوف، ودون جهاد، ودون بلاء، لكنه عز وجل أجرى سنته فيهم أنه ينصر من ينصره، ينصر من يستحق النصر، ينصر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] . ولذلك ظل المسلمون على مدار التاريخ: إن ألمت بهم ملمة أو تكالب عليهم عدو عرفوا أنهم لن ينتصروا على هذا العدو بعدد ولا بعدة، إنما بصدق اللجوء إلى الله عز وجل، وإن نزلت بهم هزيمة، وجروا أذيال الخيبة في معركة من المعارك، عرفوا أنهم إنما أُتُوا من قِبَل أنفسهم، ولعلي أذكر لكم مثالين في ذلك: الجزء: 28 ¦ الصفحة: 10 صور من ألوان العذاب أيها الإخوة هذه نماذج مما سُلط على المسلمين من كيد عدوهم فانتصروا عليهم بقوة الله تعالى، لا بقوتهم هم، وأما الأشياء التي سُلط على المسلمين فيها نكبات ومصائب إلهية، فحدث ولا حرج: الجزء: 28 ¦ الصفحة: 11 قحط المطر ولما قحط المطر وأجدبت الأرض وجاءه رجل -كما هو معروف في الصحيح في حديث أنس - فقال: {يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله أن يغيثنا، فرفع الرسول عليه الصلاة والسلام يديه إلى السماء، وهو على المنبر، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، قال: فوالله ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من على المنبر، إلاَّ والمطر يتقاطر من لحيته عليه الصلاة والسلام} . هكذا استسقى عليه الصلاة والسلام، ومدحه عمه أبو طالب، فقال: أبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عِصمةٌُ للأراملِ يعوذ به الهُلَّاك من آل هاشمٍ فهم عنده في خيرة وفواضلِ ومن بعده لما قحط المطر، وأجدبت الأرض، جاء الناس إلى عمر يشكون إليه، فقال عمر: [[اللهم إنا كُنا نستشفع إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فتسقينا، وإنا نتوسلُ إليكَ بِعَمِّ نبيك صلى الله عليه وسلم -بـ العباس - قم يا عباس فادع، فقام العباس فدعا، وقال: اللهم إنه ما نزل بلاءٌُ إلا بذنبٍ ولا رُفع إلاَّ بتوبة، واستغفر الله عز وجل، فما انتهى من دعائه، حتى نزل المطر، وأغاث الله المسلمين]] . هكذا ظل المسلمون في كل زمان، إذا نزلت بهم نازلة، استسقوا الله عز وجل فأغاثهم وأسقاهم، ولعل من طريق ما يروى ويساق في هذا، ما نُقل عن المنذر بن سعيد، وهو من علماء الأندلس الكبار، في عهد بني أمية. فقد قحط الناس في بعض السنين، آخر مدة عبد الرحمن الناصر، فأمر الحاكم، المنذر بأن يخرجَ إلى الصحراء ويستسقي، ويطلب من الله عز وجل أن ينزل للناس المطر، وصام الرجل أياماً، وتأهب واجتمع الناس في مصلى يقال له: مصلى الربض خارج المدينة، اجتمعوا فتأخر عليهم العالم المنذر بن سعيد، ولم يخرج إليهم، والأمير ينظر من الشرفة -يطل عليهم من قصره- ينظر حال الناس، ثم خرج هذا العالم متخشعاً، متضرعاً، متواضعاً، وقام ليخطب على المنبر، فلما رأى حال الناس، وما هم فيه من الضعف والحاجة بكى وأجهش، وغلبته تلك الحال ونشج وانتحب، ثم بدأ يخطب، فقال: سلامٌ عليكم، ثم بعد ذلك غلبه ما يجد، فلم يستطع أن يكمل، ولم يكن هذا من عادته، بل كان خطيباً لا يُشق له غبار، لكنه من شدة حاله، لما قال سلامُُ عليكم، لم يستطع إن يكملها، ثم استأنف بعد ذلك، وهو شبه حسير، فنظر إلى الناس، وقال: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54] ثم قال: استغفروا ربكم، ثم توبوا إليه، وتقربوا بالأعمال الصالحة، فضج الناس وهو يتكلم بكلام متقطع من شدة البكاء، فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، فلم ينفض القوم، حتى نزل على الناسِ غيثٌ عظيم. واستسقى مرة من المرات، فجعل يهتف بالخلق: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [فاطر:15-16] فهيج الناس على البكاء ونزل المطر. ومره ثالثة: جاءه رسول الأمير يقول له: الأمير يأمرك بأن تخرج للاستسقاء، فقال: ماذا صنع الأمير، قبل أن أخرج لابد أن أعرف ماذا صنع؟ هل غير المنكرات؟ هل أبطل المفاسد؟ هل أزال المكوس والضرائب التي أثقلت كواهل الناس؟ هل انتهى عن المعاصي؟ هل حكم بين الناس بكتاب الله وسنة رسوله؟ هل أزال المظالم؟ هل ولى على الناس العدول الأخيار الأكفاء؟ وهكذا … انطلق يتساءل، ماذا صنع الأمير؟ فقط يأمرنا بأن نستسقي كل يوم أو كل أسبوع!! لا أذهب حتى أعرف ماذا صنع؟ فقال له: إنني ما رأيت الأمير منكسراً أشد منه هذا اليوم! يقول الرسول -رسول الأمير-: إنه قد خرج من المظالم، وتصدق بمالٍ كثير، ولبس أخشن الثياب، وأبعدها عن الترف والزينة، وأنه قد سجد في التراب، وعلا نحيبه، وارتفع صوته، وهو يخاطب الله عز وجل، ويقول: يا رب هذا أنا، ناصيتي بيدك، أتراك تعذب الرعية بذنبي، وأنا لا أفوتك يا رب! فلما سمع المنذر بن سعيد هذا الكلام، قال للخادم الذي معه: احمل الممطرة -الممطرة بمعنى: الشمسية الآن التي تقي من المطر- إذا خشع جبار الأرض، رحم جبار السماء. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 12 زلزلة الأرض مثال: زلزلت الأرض في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه -زلزلت المدينة- فماذا صنع عمر؟ ضربها برجله، وقال لها: [[اسكني بإذن الله تعالى، ثم قال للناس لمن حوله: والله ما كانت هذه الزلزلة إلا عن شيء أحدثتموه -أي: لابد أنكم فعلتم شيئاً، زلزلت منه الأرض- والله لئن زلزلت مرةً أخرى، لا أساكنكم في هذه الأرض أبداً، ولأخرجنَّ من بين أظهركم]] يقول: إذا حصل الزلزال مرةً أخرى، سوف أخرج وأترككم، وهذا الأثر رواه ابن أبي شيبة والبيهقي وسنده صحيح. وكذلك حال ابن مسعود رضي الله عنه، عندما رجفت الكوفة في عهده، فقال لأهل الكوفة: [[إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه]] والأثر رواه الطبري في تفسيره. أي: إن الله عز وجل يطلب منكم أن تتوبوا، وأن تُنيبوا، وأن تُقلعوا، وأن تعودوا إلى الله عز وجل، فأروا الله عز وجل من أنفسكم صدقاً في التوبة. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 13 الكسوف والخسوف ولذلك تجد أن الله عز وجل شرع لنا صلاة الكسوف، وصلاة الخسوف، وصلاه الاستسقاء، لماذا؟ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، حين صلى فقال: {إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، يخوف الله تعالى بهما عباده، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته} {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] . ولذلك لما كسفت الشمس خرج الرسول صلى الله عليه وسلم فزعاً يجُرُ إزاره، يخشى أن تكون الساعة، فصلى وبكى عليه الصلاة والسلام، وقرأ القرآن وتقدم وهو يصلي، ثم تأخر، وتكعكع، وقال عليه الصلاة والسلام: {عُرضت عليَّ الجنة والنار في عرض هذه الجدار} حتى أنه من طول صلاته صلى الله عليه وسلم، كان يُصيب بعض من يصلون وراءه الغشيان، يعني: يثقل عليهم، وقد يقعد أحدهم على الأرض، وقد يُصاب بشيءٍ من الغشيان، بسبب طول القيام. لأنه عليه الصلاة والسلام كان صاحب قلبٍ حي، وكان صاحب قلب يقظ، فهكذا أمر الله عز وجل عباده بهذه الصلوات، بل عند العلماء صلاة يسمونها صلاة الآيات، تفعل إذا كان هناك زلزلة مثلاً، أو كان هناك فيضان، أو كان هناك آية غير الكسوف والخسوف، وهذه الصلاة ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنه، كما ذكر ذلك البيهقي، وثبتت عن عائشة، وجاءت عن ابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم: أن المسلمين يصلون صلاة الآيات، إذا حصل آية من الآيات الكونية غير الخسوف، وغير الكسوف، كالزلزلة -مثلاً- أو البركان، أو الفيضان أو ما شابه ذلك. إذاً: فقد صلى الرسول عليه الصلاة والسلام لما حصل الخسوف، والكسوف. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 14 أحوال المسلمين اليوم وواجبهم أما المسلمون اليوم، فحدث ولا حرج، كم ينزل من المصائب، والنكبات والمحن والفتن سواء من عدوهم، أو من أمور قدرية: كالقحط، والجدب ونقص الأموال والأنفس والثمرات، ومع ذلك تجد أن كثيراً من المسلمين -كما يقال في المثل- مكانك راوح!! إذا جاء الكلام في المطر -مثلاً- قالوا: إن سبب عدم نزول المطر هذه السنة هو اتجاه الرياح كذا! أو وضع الأمور كذا! أو الجو كذا! وعللوا ذلك بتعليلات مادية، فإذا جاء الحديث عن مصيبة من المصائب، ولو كانت زلزالاً -مثلاً- قالوا: إن هذا بسبب انكسار في القشرة الأرضية! وهذا بسبب كذا! وإذا جاءت قضية الكسوف والخسوف -أيضاً- عللوها بتعليل معين، قالوا: هذا بسبب توسط القمر بين الأرض والشمس! إلى غير ذلك من التعليلات!! والواقع أننا لا ننكر الأسباب المادية هذه، وقد تكون صحيحة، لكنْ هناك سبب وراء هذه الأشياء كلها، وهو السبب الشرعي: أن الله عز وجل يبتلي عباده بهذه الأمور لعلهم يرجعون!! وهذا عندنا نحن المسلمين ليس موضع خلاف، لأن الأمر واضح في القرآن: {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً * وَنُخَوِّفُهُمْ} [الإسراء:59-60] {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] فإذا مني المسلمون بهزيمة، هزيمة عسكرية -مثلاً- قالوا: هذا بسبب نقص الإمدادات، أو هذا بسبب أن العدو كنا نتوقع أن يأتينا من الشمال فجاءنا من الجنوب، أو كنا نتوقع أن يأتينا من الجنوب فجاءنا من الشمال، أو هذا بسبب خيانة، وجعلوا يفسرون الأمور تفسيرات جزئية مادية، ونسوا السبب الأكبر الذي هو الإعراض عن الله عز وجل، والاعتماد على الأسباب المادية وحدها، بحيث إن المسلمين الآن قد انقطعوا عن الله بدل أن ينقطعوا إلى الله، انقطعوا عن الله!! وإذا انقطعنا عن الله، معنى ذلك أننا لا نطمع أبداً في معجزة، أو آية إلهية خارقة من الخوارق، لا تتوقع أن الله يمدك ويغيثك بزلزال يُدمر عدوك، أو أن الله تعالى يمدك ويغيثك بريح تدمر عدوك، أو أن الله تعالى يمدك بطوفان يأتي على عدوك، أو أن الله تعالى يمدك بالملائكة يقاتلون معك ضد عدوك، لا تنتظر شيئاً من هذه الخوارق، إذا كنت قد انقطعت عن الله تعالى، إذا كنت اعتمدت على قوتك، وعلى إمكانياتك، وعلى قدراتك المادية، وَكَلَكَ الله إلى هذا، خاصةً وأنك بالقياس إلى عدوك قليل من كثير، فما هي قوة الأمة الإسلامية بالقياس إلى قوة عدوها؟! لا شك أنها ضعيفة، وأننا إن كُنَّا سنقاتل عدونا بقدراتنا المادية البشرية، فإننا لا يمكن أن ننتصر بحالٍِ من الأحوال، لكننا نملك أيها الإخوة أفتك سلاح، وهذا ليس مجرد كلام شائع، لا، أبداً يا إخوان، هذا القرآن الكريم مليء بالأشياء التي أمد الله تبارك وتعالى بها أولياءه، أليس الله عز وجل هو الذي أيبس البحر لموسى ومن معه؟ أليس الله عز وجل هو الذي قال للنار: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 15 صور من إكرام الله لأوليائه فالله عز وجل أجرى الآيات، وأجرى المعجزات، وأجرى الخوارق، التي لم تكن للناس في حساب، أجراها لأوليائه ورسله وأنبيائه، حتى أتباعهم فهذا أبو أدريس الخولاني، لما ألقاه الأسود العنسي في النار، لم تحرقه النار، فخرج منها كما خرج إبراهيم من نار النمرود!! حتى إذا جاء إلى عمر رضي الله عنه، قام إليه، وقبله وقال: الحمد لله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من حقق الله تعالى له الآية التي أجراها على إبراهيم عليه السلام: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فالله تعالى حيٌ قيوم، قدير، وهم لا يعجزونه، يقول الله عز وجل: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ * وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:59-60] . أعدوا ما استطعتم، لكن إن استفرغتم وسعكم، فلا تعتمدوا على إعدادكم، فإن إعدادكم بالقياس إلى قوة العدو غالباً قليل، لكن اعتمدوا على الله عز وجل، فإنه يكمل نقصكم. أيها الإخوة المؤمن المعتبر حاله كحال وهب بن منبه رضي الله عنه، يروى أنه سجن يوماً من الأيام في السجن، فقال له أحد الحضور: [[يا أبا عبد الله، ألا أنشدك بيتاً من الشعر؟ -يريد أن يقرأ عليه القصيدة، ليسري عنه ويذهب ما بنفسه من الهم والحزن- فقال له: يا ولدي نحن الآن في طرف من عذاب الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُون} [المؤمنون:76] ثم صام ثلاثة أيام متواليات، فقيل له: يا أبا عبد الله ما هذا الصيام؟ قال أُحدث لنا فأحدثنا]] يعني: قضية عادية سجن ثلاثة أيام، ولم يقل: هذا بسبب كيد الأعداء، وهكذا وهكذا، بل رجع إلى نفسه، يقول: هذا لا شك بسبب ذنبٍ وقع مني، ولذلك يقابله بماذا؟! يقابله بالتوبة النصوح، وصدق اللجوء إلى الله عز وجل، فيصوم ثلاثة أيام متتابعات. لذلك انظر مثلاً إلى موسى عليه الصلاة والسلام، لما أخذت قومه الرجفة ماذا قال؟ قال: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ} [الأعراف:155] . ويونس عليه الصلاة والسلام في بطن الحوت قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فعاد إلى نفسه يلومها، ويعاتبها، ويوبخها، ويستغفر من ذنبه. نوح عليه السلام يقول لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . جاء رجلٌُ إلى الحسن البصري -رحمه الله- وهو في المجلس، فقال له: يا أبا سعيد، إننا في بلدٍ قد قحطت فيه السماء، فلا تُمطِر، وأجدبت الأرض فلا تُنبِت، فقال: استغفر الله عز وجل -عليك بالاستغفار- ثم قام من عنده، فجاء إليه رجل آخر، وقال له: يا أبا سعيد، أنا رجلٌُ تزوجت منذ كذا وكذا، ولا يولد لي ولد، فقال: عليك بالاستغفار، فقام من عنده، فجاء له رجل ثالث، وقال له: يا أبا سعيد أنا رجلٌ لا أذهب إلى تجارة -أقيم مؤسسة أو شركه- إلاَّ تَفْشَلْ -كلما اتجهت إلى جهة خسرت- فقال: عليك بكثرة الاستغفار، فقال له بعض الحضور: يا أبا سعيد، ذكروا لك أمراضاً ثلاثة، وذكرت لهم علاجاً واحداً!! قال لهم: إن الله تعالى يقول: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . إذاً: من أراد المال، من أراد البنين، من أراد الجنات، من أراد الأنهار، فعليه بكثرة الاستغفار. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 16 أحوال غير المؤمنين مع آيات الله أما غير المؤمن فإنه يمضي قُدماً لا يلوي على شيء، كما حكى الله تبارك وتعالى عنهم: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ما خضعوا، ولا ذلوا، ولا انكسروا، ولا دعو الله عز وجل، ويقول الله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [المؤمنون:74-75] . فهم في الدنيا كشأنهم في الآخرة، أليس الله عز وجل أخبر عن هؤلاء القوم في الآخرة حين يعاينون النار بأعينهم، ويوقفون عليها، كما ذكر عز وجل عنهم {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فهذا كلامهم، قال الله عز وجل وهو أصدق القائلين: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] . حتى بعد أن عاينوا النار بأعينهم وشاهدوها وقاسوا شيئاً من حرها ولهيبها، وخوفها، لو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه. يقول: ابن عباس رضي الله عنه: [[كل شيءٍ في القرآن "لو" فهو مما لا يكون]] . لكن لو فرض أنهم ردوا، لرجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر والضلال والفساد: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] . يقول مجاهد: العذاب هو السَنة، يعني: القحط، والجدب، والجوع، وغير ذلك. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 17 حال قريش بعدم الاعتبار بآيات الله وقد روى ابن جرير، والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس رضي الله عنه: {أن أبا سفيان جاء إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال: يا محمد أنشدك الله والرحم، فقد أكلنا الوبر بالشحم من شدة الجوع، قد قتلت رجالنا بالسيف وقتلت أطفالنا بالجوع والفقر} وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وأسلم ثمامة بن أثال الحنفي وهو سيد بني حنيفة في اليمامة قال ثمامة: [[والله لا يسري إلى مكة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]] فمنع الميرة عنهم، فكادوا أن يموتوا من شدة الجوع، فجاء أبو سفيان يستغيث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: يا محمد قتلت رجالنا بالسيف، وقتلت أطفالنا بالجوع، فأنشدك الله والرحم إلاَّ فكَّيت هذا الحصار الاقتصادي الذي فرضته علينا. هذا هو السبب الذي نزلت فيه الآية، وبعد ذلك عادوا إلى ما كانوا فيه من الكفر: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] وهكذا شأن الكافر حتى يرى العذاب. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 18 حال ابن نبي الله نوح مثلاً: ولد نوح على نوح السلام، لما رأى بعينه بوادر الغرق، ورأى السماء تهطل بالمطر، والأرض تفور، ونوح يقول لولده: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود:42] لم يستيقظ بل قال: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] . ولازلنا في الأسباب المادية، إذاً لاحظت الكافر كيف عقليته! وكيف تفكيره! وكيف نظره! فالمسألة عنده مادية بحتة يقول: هناك قمة مرتفعة سوف أصعد إليها، بحيث لا يصل الماء إليَّ، لماذا؟! لأنه لم يتصور أن القضية عقوبة إلهية، بل تصور أن المطر اشتد هذه المرة، وأن المطر لن يصل إلى أعالي الجبال، وبعد ذلك سوف تشربه الأرض، ويعود الأمر كما كان، قال: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} [هود:43] لكن الواعين والمدركين يقولون: كما قال نوح عليه الصلاة والسلام، قال: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:43] . الموج قطع الحوار بين نوح وبين ولده -حال بينهما- فغرق الولد ونجا نوح عليه السلام. هذه نظرة غير المؤمنين، فهم يفسرون الأمور تفسيراً مادياً، حتى أن أحدهم لما حصل زلزال في مصر، قيل في عهد كافور الإخشيدي، وقيل في عهد الدولة التي تسمى بالدولة العبيدية، وهي الدولة الفاطمية، لما حصل الزلزال فيها، قام شاعر أمام ملك من ملوكها، يُدافع عنه، مع أن الزلزال عقوبة إلهية، لكن ماذا قال الشاعر؟! حَوَّلَ هذه العقوبة إلى نعمة، قال: ما زلزلت مصر من كيدٍ أَلمََّ بِها لكنها رقَصَتْ مِنْ عَدلِكمْ طَربَا فهو يقول: ليس بزلزال بل مصر ترقص فرحاً بكم وبعدلكم وكرمكم!! هنا دور المنافقين، يحولون الكوارث إلى نِعم، ويحولون المصائب إلى أمور يُفرح بها ويُسر بها ويتحدث بها؛ لأن هذا الزلزال ما هو إلاَّ رقص من عدلكم وإنصافكم وإحسانكم، وهذا مدعاة إلى أن الإنسان يستمر ويُصر على ما هو عليه من الفساد والانحلال. أيها الإخوة: وكم أخذ الله عز وجل الكافرين، والفاسقين، والظالمين، بالآيات والنذر، فربما أصر كثير منهم على ما هو عليه. ولاشك أن ما تعيشه هذه الأمة الإسلامية منذ قرون، منذ أن زالت الدولة الإسلامية الواحدة التي يستظل المسلمون جميعاً بظلها، وأصبح المسلمون شيعاً وأحزاباً لا يوالي بعضهم بعضاً، ولا يناصر بعضهم بعضاً، ولا يغضب بعضهم لبعض، ولا ينتصر بعضهم لبعض، بل ولا يدري بعضهم ما يجري للبعض الآخر، منذ ذلك الوقت وهم في بلاء ومحن لا يعلهما إلا الله عز وجل: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ وأنتم يا عباد الله إخوانُ لقد مر وقت كان المسلمون يستنجدون بنا في كل بقاع الأرض، فربما أعرض كثير من المسلمين عن غوث إخوانهم، ونصرتهم والقيام بحقوقهم، كم كنا نسمع من استباحة الأعراض في كل مكان، في لبنان، وفي فلسطين، في أفغانستان، في القريب في البعيد، فماذا كنا نقول؟! كان كثير من الناس يقول: إنهم يستحقون، هؤلاء وقعوا في المعاصي والذنوب، وعثوا في الأرض الفساد، سبحان الله! ونحن ما هو حالنا؟! هل نحن أتقياء بررة؟! وهل نحن أطهار أخيار؟! أليس فينا الفساد والانحلال، والضياع، والتقصير، والربا، والمعاصي، والتقاطع، والتدابر، والتقصير، والجهل، والهوى، والغفلة، والتعلق بالدنيا، وموالاة الكفار، وارتكاب المعاصي؟! أين هذا؟! هل نحن في عالم آخر؟! أليست رياح الفساد هبت علينا من كل مكان؟! فكيف نتصور أن المسلمين يشردون في كل مكان ونحن بمنجاة مما يصيبهم؟! ثم سمعنا أخباراً أخرى وثالثة ورابعة، ولعل آخر ما سمعنا هو ما جرى لإخواننا في الكويت وهي البلد المجاور، وكان الناس يقولون بملء أفواههم. أما هذا البلد ففيه وفيه وفيه! الجزء: 28 ¦ الصفحة: 19 نسيان عيب النفس وإبصار عيوب الآخرين وكلنا نعلم أن كل بلاد الإسلام أصبحت -مع الآسف- مسرحاً لكثير من المنكرات الكبار، التي تسخط الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279] . لكن المصيبة والمشكلة، أنك تُبصِر عيوب الآخرين وتنسى عيوبك! وكثير من المسلمين، وأخص هذه البلاد اليوم، مازالوا يتكئون على كلمة يرددونها في مناسبة وغير مناسبة، أن هذه البلاد بحمد الله أهلها أصحاب عقيدة سليمة، وهذه البلاد بحمد الله هي قلعة الإسلام، وهذه البلاد بحمد الله هي البقية الباقية، وهذه البلاد بحمد الله هي التي سلمت من الشرور، وهذه البلاد بحمد الله وهذه البلاد بحمد الله ونحن لا ننكر أبداً أن هذه البلاد أحسن من غيرها، لكن غيرها قد يصل إلى القرار، إلى الهوة السحيقة، إلى نهاية الوادي، فهل إذا كفر الناس، ونحن دونهم بشبرٍ أو ذراع قلنا: الحمد لله، نحن أحسن؟! لماذا ننظر إلى غيرنا؟! لماذا لا ننظر إلى حالنا الآن مع ما يجب علينا في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! بل لماذا لا ننظر إلى حالنا الآن مع حالنا في الماضي؟! هل نحن في زيادة أم نحن في نقص وتأخر؟! فإن الشيء الذي ينقص ينتهي، والشيء الذي يزيد يصل إلى كمال، فإذا نظرت إلى أحوالنا لوجدت أمور المسلمين تتأخر وتتردى في كافة المجالات، يوماً بعد يوم، فتدرك أن الخطر داهم، وأنه لا ينفعنا أبدا أن نتعلل بوضعٍ كُنا عليه، كنا وكنا، لا تكن (كنتياً) يقول: كُنت وكُنت: كُن ابن من شئت واكتسب أدباً يُغنيك محموده عن النسبِ إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي فاعتمادنا على أنه كان حالنا في يوم من الأيام كذا وكذا هذا ليس بصحيح ولا يكفي، كذلك اعتمادنا على قضيه صلاح العقيدة، صحيح أن العقيدة بحمد الله، ليس عندنا قبورُ تُعبد، وليس عندنا مزارات منكرة، وليس عندنا بدعٌ مُنتشرة، لكن لماذا لا نتساءل عن أمورٍ قد خرقت عقيدة الأمة كلها، والأمة في غفلة؟! مثلاً: قضية التعلق بالدنيا، قد يعبد الإنسان وثناً، أو صنماً، أو ولياً، وقد تُنسى عبادة القرش، والريال، والدرهم، والدينار، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار} فلماذا لا أتصور هذا، وأنه من أعظم الأشياء التي تخل بالعقيدة: أن من الناس من أصبحوا عبيداً للدنيا، عبيداً للمنصب، أو للشهوة، أو للقرش، والريال، أو للوظيفة، أو للكرسي، أو لفلان، أو للزعيم؟! قضية أخرى: وهي الولاء للكفار: أصبح كثير من المسلمين يحبون الكفار من أعماق قلوبهم، ويتكلمون عنهم بكلام عجيب، على حين يذمون إخوانهم المؤمنين ويسبونهم وينالون منهم، والكافر أصبحً عزيزاً كبيراً في أعيننا له عندنا المكانة، وهو الولي، وهو المحب، وهو المدافع، وهو النصير، وهو الحامي، وأصبح المسلم مُبغضاً؛ لأنه من بلدٍ آخر!! أليس هذا واقعاً؟! إذاً: أين الولاء والبراء؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] . هذا يخل بأصل العقيدة عند المؤمن، كثير من المؤمنين انسلخوا -والعياذ بالله- من حقيقة ولائهم وبرائهم، وأصبحوا يوالون، ويعادون في الدنيا، وحسب ما تقتضيه أصول الإعلام الذي يرسم عقولهم، ويصور لهم الأمور بصورة غريبة. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 28 ¦ الصفحة: 21 الجهاد السؤال أريد أن أذهب إلى الجهاد، ولكن أمي ليس لها أحد غيري يعولها، فهل يجوز لي أن أذهب مع العلم أن عمري لا يتجاوز الخامسة عشر سنة؟ الجواب لا يجوز لك أن تذهب، ما دام حالك بهذه الحال أن تترك والدتك. تركت أباك مرعشةً يداه وأمك لا يسيغ لها شرابُ لا يجوز لك أن تفعل ذلك، أما الجهاد في أفغانستان فهو ليس فرض عين وإنما هو فرض كفاية. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 22 حكم المال الحرام السؤال أخذ مبلغاً من المال بغير حق، وأدخله في بناء عمارة سكنية، وأخذ قرضاً من البنك، وتاب إلى الله عز وجل، فماذا يصنع؟ الجواب لا بد أن يعرف من أصحاب هذا المال، ويعيده إليهم، فإن لم يستطع أن يدفع لهم المال الآن، فإنه يكسبه ديناً في ذمته أو يتحلل منه. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 23 كلمة الحق السؤال هناك أسباب تمنع من الحق وقول كلمة الحق، فما هو الحل، وهل نعمل بالقاعدة الأصولية: (درء المفاسد أولى من جلب المصالح) ؟ الجواب نعم فيعمل بها، لكن ينبغي أن نميز المصالح من المفاسد، فإن كلمة الحق لا يجوز الصمت عنها، والإنسان إن لم يستطع أن يقول الحق بنسبة (100%) يقول بنسبة: (50%) ، وإن لم يستطع أن يصرح بالحق، فليلمح به ليعلم الناس الأمر. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 24 البث المباشر السؤال ما رأيك في البث المباشر، وهل فيه خطورة؟ الجواب نعم فيه خطورة سواء كان البث الذي قد يصل إلى هذه البلاد -كما أعلن أمس عن البث المصري الذي هو بأموال سعودية- أو البث الأجنبي وهو الذي بدأ يدهم ويذاع على المنطقة الشرقية، أو البث المباشر الذي سوف يأتي من بعض الأقمار الصناعية لا شك أنه خطر كبير، لكن ينبغي أن ندرك أن الأمور في المستقبل والله تعالى أعلم سوف تكون خير بلا شك للإسلام والمسلمين، لماذا؟ لأن الأمور سوف تتضح ليس هناك مجال للإنسان في أن يماري أو يداهن أو يكون الدين بالوراثة، لا. إما أن يهتدي الإنسان على بصيرة، أو يضل على بصيرة، وهذا لا شك فيه خير كبير، أهم مقومات النصر. كما قال تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح:25] إلى آخر الآية، ونحن مطمئنون بأن ما يجري فإنه سوف يصب في بحر خير الإسلام والمسلمين، وبشرط: أن نبذل الجهد ونجمع الكلمة ونشتغل بالدعوة، الدعوة أيها الإخوة، كن داعياً حيثما قعدت، وحيثما قمت، في البيت، في المدرسة، في السوق، في الشارع، في المسجد، حاول أن تكون داعية ذا خلق حسن، ابتسامة عريضة تكسو وجهك، بالكلمة الطيبة، بالهدية، بالسخاء، بالكرم، بالجود، بالدأب والاستمرار والإصرار والتواضع، واطمئن إلى أن العاقبة للتقوى كما أخبر الله عز وجل. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 25 مادة ذات لون أسود توضع على الأظافر السؤال هناك مادة مثل الحناء ذات رطوبة تخض وتوضع على الأظافر بدلاً من المناكير، فما حكمها للمرأة المصلية، وهي ذات لون أسود؟ الجواب إن كانت هذه المادة لها جرم يمنع وصول الماء فلا يجوز ذلك، أما إذا كانت مجرد لون كالحناء مثلاً فلا حرج فيه. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 26 إعادة الوضوء السؤال شخص توضأ للظهر، وبقي على طهارته إلى العصر، ولكنه لم يصل بهذا الوضوء، وراح يتيمم بحجة أنه لم ينو هذا الوضوء؟ الجواب لا يصلح هذا. الخاتمة:- أسأل الله تعالى في ختام هذا المجلس أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم إنا نبرأ إليك من أنفسنا وذنوبنا ومعاصينا وأخطائنا. اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، اللهم افضح المنافقين من العلمانيين وأعداء الدين، اللهم افضحهم وأظهر أسرارهم، اللهم اجعل ولاءنا لك ولرسولك وللمؤمنين، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لكونن من الخاسرين، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم، اللهم صل على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً مباركاً إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 27 زيارة الصالحين السؤال ما رأيكم فيمن يعتقد أن زيارة الصالحين والعلماء وتكون شفاعةً له يوم القيامة، هل هذا من الشرك؟ الجواب زيارة الصالحين مشروعة، وفي صحيح مسلم: {إن رجلاً زار أخاً في قرية فأرصد الله تعالى على مدركته ملكاً فقال له: أين تريد؟ قال أريد أخي فلان، أزوره في الله عز وجل، قال هل لك عليه من نعمة تردها عليه، قال لا: غير أني أحبه في الله، قال: فإني رسول الله تعالى إليك، أن الله تعالى يحبك كما أحببته فيه} فزيارة الصالحين خير وبركة وهي قربة إلى الله عز وجل. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 28 انتقاد الجماعات السؤال ما رأيك في الذي يقول: الدين تشعب، والدعوة السلفية والإخوان المسلمون هذا تشعب؟ وما أصح هذه الدعوات وأقربها إلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف ندعو إلى الحق، وهذا لابد أن يكون في أحد هذه الدعوات؟ الجواب هذا ليس بلازم، فإن أولاً: كل من دعا إلى الله عز وجل، داخل نحن إطار أهل السنة والجماعة، ولا ارتكب بدعة غليظة يخرج بها عن مسمى أهل السنة، فهو إن شاء الله إلى خير، ولا ينبغي أن نفرق المسلمين أو أن يكون النيل من فلان أو من علان؛ لأننا أمام عدوٍ كافر نحتاج إلى أن نوحد كلمتنا إزاءه وأن لا يشتغل بعضنا ببعض، وإن كان مثل هذا لا يمنع من النصيحة والتنبيه على الأخطاء الموجودة عند هذه الطوائف التي أشار إليها السائل، فما من جماعة إلا وعندها صواب اجتهدت ووفقت فيه، وعندها خطأ اجتهدت ولم توفق فيه، فنحن نسعى إلى تثبيت الصواب الذي عندها وإزالة ومحو الخطأ الذي وقعت فيه بالحسنى وبالكلمة الطيبة وبحسن الظن، وأما الهجوم والتشفي والشتم والسب، فلا أرى أنه من وسائل الدعوة في هذا الوقت، ولا في أي وقتٍ من الأوقات، والحق الذي سأل عنه الأخ ليس بلازم أن يكون عنده طائفة بعينها، بل قد يكون بعض الحق عند هؤلاء، وبعضه عند هؤلاء، وبعضه عند هؤلاء، والحق ضالة المؤمن أينما وجده أخذه. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 29 خروج النساء متبرجات السؤال ما حكم خروج النساء إلى الأسواق متبرجات وكشف الأيدي ولبس البرقع بالنسبة للنساء؟ الجواب خروج النساء إلى الأسواق متبرجات لا يجوز بحالٍ من الأحوال؛ لأن الله تعالى يقول: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:33] فالمرأة المؤمنة مطالبة بألا تتبرج بالزينة عند رجلٍ أجنبي، ولا يجوز للمرأة أن تخرج متبرجة أو متطيبة، حتى أفتى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في السنن، بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجالٍ ليجدوا ريحها فهي زانية} وليس معنى زانية أنها وقعت في الزنا الذي هو الفاحشة لكن هذا هو نوع من الزنا، كما في الحديث الآخر: {العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع والفم يزني وزناه القبلة -وفي رواية الكلام- واليد تزني وزناها اللمس، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} فهذا نوعٌ من الزنا لا يجوز للمرأة المسلمة أن تقع فيه، وهي تخاف الله عز وجل. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 30 الأناشيد السؤال ما حكم الأناشيد في الإسلام مع ذكر الأدلة؟ الجواب الأناشيد تجوز بشروط: الأول: أن تكون المعاني التي احتوت عليها الأناشيد معاني شرعية ليست فيها بدعة ولا محرم ولا منكر. الثاني: أن لا يكون معها ضربٌ بالطبل، أو الموسيقى من آلات اللهو. الثالث: أن لا تغلب على الإنسان، وتكون كل همه، لما رواه البخاري في صحيحه: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً خيرٌ له من أن يمتلئ شعراً} أما الدليل على جوازها -فهذا معروف- فالرسول صلى الله عليه وسلم، كان يوصي حسان بن ثابت أن يشعر في المسجد، كما في سنن الترمذي، وقال: حسن صحيح، فيقوم عليه، وينشد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي البخاري في الصحيح {أن حساناً رضي الله عنه كان يمشي وهو يشعر فمر به عمر رضي الله عنه، فلحظه بعينه فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهو شعر حسنه حسن، وقبيحه قبيح} . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 31 متابعة الأخبار السؤال بعض الناس همه متابعة قرارات مجلس الأمن، هل تكون كذا أم كذا، وقد يعتمد على صوت أمريكا؟ الجواب بالنسبة لمتابعة الأخبار، فالمسلم مطالب أن يتابع الواقع ويدري ما يجري في الدنيا، أما الاعتماد على هذه الأشياء، فالإنسان ينبغي أن يكون أكبر منها، ويدرك أننا ولله الحمد، عندنا من الانطلاق بالفكر والنظر والإيمان، ما يجعلنا أقدر منهم في أن نتصور الأحداث، ولو كانوا يملكون من الوسائل والإحصائيات ومراكز المعلومات ما يملكون. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 32 الغش السؤال طالب مسلم كسائر الطلاب ولكني امتنعت عن الغش، وأنا ولله الحمد لا أغش، لكن المشكلة أننا الذين لا نغش نأخذ درجات ضعيفة، وأما الذين يغشون فهم ينالون درجات عالية؟ الجواب هذه ضريبة التمسك بالدين يا أخي الكريم -إن صح التعبير- هذا الذي تدفعه دليل على أنك مستعد أن تتخلى عن ذلك، أليس المسلم يدفع الزكاة، والكافر لا يدفعها فأنت لماذا تخرج المال؟ لكي تنال ما عند الله عز وجل، أليس المسلم يتخلى عن شهوته لابتغاء مما عند الله؟! أنت كذلك قد تتخلى عن درجات، أو عن مستويات عالية، تبتغي ما عند الله عز وجل، مع أنه ينبغي للطالب المسلم أن يكون مجتهداً مبرزاً بين زملائه وأقرانه. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 33 الدعاء للكافرين ودورنا في الأحداث الراهنة السؤال ما هو دور المسلم في الأحداث التي تمر بها الأمة؟ وما هو دورنا في الهجعة الشرسة على المرأة المسلمة؟ وما حكم من يقول: الله يعز رئيس دولة كذا وكذا، وهي دول كافرة عدوة للإسلام والمسلمين؟ الجواب أما الدعاء للكفار بالعز، فهو -والعياذ بالله- من أبشع صور الموالاة للكافرين، لأن عز الكافرين ذل للمسلمين، وهذه قاعدة ومعادلة لا تختلف أبداً، عز الكافر ذل للمؤمن، فإذا دعوت بعز الكافرين، فهذا بحقيقة الأمر ذل للمؤمنين، فليتق الله من قال هذا، وليقل: أتوب إلى الله، قبل أن تقبض روحه على هذا الحال. أما الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة، فالدور كبير -ولعله سبق الكلام بشيء من ذلك- لكن علينا دور تجاه هذه الحملة: تجاه نسائنا، وتجاه أختك وزوجتك وقريبتك في البيت، ثم دور أكبر تجاه النساء في المجتمع، بقيام الحلقات العلمية والدروس وتنشيط المحاضرات في مدارس البنات، والمحاضرات في المساجد، خاصة بالمرأة -أيضاً- وننشر الكتب التي تتعلق بالمرأة، ومحاولة إيصالها إليهن بكل وسيلة. أما دور المسلم في الأحداث، فإنه دور كبير، ولعل من أهم الأدوار: أولاً: التضرع إلى الله تعالى والتوبة إليه. ثانياً: العمل على إزالة المنكرات الموجودة في المجتمع، فإنها أسباب الخروج من هذه الأزمات وثالثا: تثبيت الناس، لأن الناس في حالة ارتباك، وتضعضع، واختلال في المفاهيم، واضطراب في الولاء والبراء ومعرفة العدو من الصديق، وخوف شديد يحتاجون إلى من يثبتهم ويطمئنهم ويقول لهم بملء فمه: إن المستقبل للإسلام، وإن المستقبل لهذا الدين، وأنكم أيها المسلمون لغانمون ومنصورون بإذن الله عز وجل. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 34 التعامل مع البنوك الربوية السؤال لا شك بحرمة التعامل مع البنوك الربوية، ولكن نحن موظفون، ونجبر على استلام رواتبنا من إحدى هذه البنوك، فما حكم ذلك؟ الجواب إذا أُجبرت فلا شيء عليك، ولك أن تأخذ راتبك من هناك. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 35 صلاة المسبل السؤال هل تقبل صلاة المسبل؟ الجواب جاء في صلاة المسبل حديث عند أبي داود، عن أبي هريرة قال: بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ ثم جاء، ثم قال: اذهب فتوضأ، فذهب فتوضأ ثم جاء، فقال له رجل: يا رسول الله، مالك أمرته أن يتوضأ؟ ثم سكت عنه فقال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله جل ذكره لا يقبل صلاة رجل مسبل إزاره} ولكن الحديث ضعيف، فيه رجلٌُ اسمه أبو جعفر من أهل المدينة وهو مجهول فالحديث ضعيف، لكن الإسبال لا شك في تحريمه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في البخاري: {ما أسفل من الكعبين من الإزار في النار} وفي الحديث الآخر: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب إليم وذكر منهم المسبل} . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 36 الدعاء بالشفاعة السؤال هل يجوز أن نتوسل بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تقول: إنا أن ندعوك بشفاعة رسول الله؟ الجواب إذا دعوت الله تعالى أن يشفع فيك نبيه صلى الله عليه وسلم، مثل أن تقول: اللهم شفع فيَّ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم فلا حرج بذلك. الجزء: 28 ¦ الصفحة: 37 البيع للكفار السؤال ما حكم بيع ما يحتاج إليه أفراد القوة الأجنبية من الحوائج؟ الجواب أرى أنه لا بأس من أن يبيع لهم الإنسان ما يحتاجون إليه، لكن مع بغضهم، ومعرفة أنهم أعداء، كما أخبر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] . الجزء: 28 ¦ الصفحة: 38 الكلام في العلماء السؤال كثير من الناس أصبح همه وأكثر كلامه في العلماء، فبماذا تنصحوننا أن نقرأ؟ وبماذا تنصحون هؤلاء؟ الجواب في الواقع أن العلماء الذين أذعنت الأمة لعلمهم وفقههم وفهمهم قد جاوزوا القنطرة، ولا يضرهم من تكلم فيهم، لأنهم قد اتفقت الأمة عليهم، وتوحدت كلمتها إجمالاً، ولا يعني هذا أنهم معصومون، لكنهم إن أخطئوا فهو باجتهاد فَهُم مأجورون إن شاء الله، ولهم فيه تأويل سائغ، فلا ينبغي النيل من العلماء، ولا التعرض لأعراضهم وجعلهم ديدناً وهماً للإنسان، وينبغي أن يخاف العبد من العقوبة التي أشار إليها ابن عساكر حين قال: "اعلم أخي أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله تعالى في هتك منتقصيهم معلومة، ومن وقع فيهم بالثلم، ابتلاه الله تعالى قبل موته بموت قلب". الجزء: 28 ¦ الصفحة: 39 حديث إلى معتمر العمرة إلى بيت الله مكفرة للذنوب، والمسلم محتاج إلى ذلك، بل قد قال بعض أهل العلم بوجوبها. وفي هذا الدرس بيان مختصر واضح سهل لأعمال العمرة وبعض ما يحرم على المحرم. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 1 فضل العمرة حمداً لله تعالى حمد الشاكرين، وصلوات الله وسلامه على نبيه سيدنا محمدٍ أفضل الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أما بعد: طلب مني كثيرٌ من الإخوة والأخوات، أن أتحدث عن بعض مسائل العمرة وما يتعلق بها. والكلام في موضوع العمرة طويلٌ وطويل، ولكنني أوجزه في عدة أمور منها: فضل العمرة: يقول الباري جلَّ وعلا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وهذا فيه إشارةٌ إلى فضل العمرة، ووجوب إتمامها على من دخل فيها، وكذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة} فذكر عليه الصلاة والسلام أن العمرة من كفارات الذنوب، والمقصود بذلك الصغائر من الذنوب، أما الكبائر فإن جمهور أهل العلم وأهل السنة والجماعة على أنه لا يكفِّرها إلا التوبة النصوح، لقوله عز وجلَّ: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] . بل العمرة في رمضان خاصة لها مزيةٌ كبرى، ففي الصحيحين من حديث أم العلاء الأنصارية، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: {إذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرةً في رمضان تعدل حجة} وفي رواية للبخاري وغيره: {فإن عمرةً في رمضان تعدل حجة معي} أي: مع النبي صلى الله عليه وسلم. فإنك إذا ذهبت معتمراً مُهلِّاً لذي الجلال والإكرام في هذا الشهر الكريم، قائلاً لبيك عمرة، كتبك الله تعالى -إن كُنت مخلصاً- كما لو كنتَ لبيت بالحج مع سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، وكما لو كنت طُفتَ معه بالبيت، وسعيت معه بين الصفا والمروة، ورميت معه الجمار، ووقفت معه بعرفة، وبِتَّ معه بمزدلفة ومنى، فأي خيٍر أعظم؟ وأي فضلٍ أوسع وأوفر وأكرم من هذا الفضل العظيم، والخير الكثير الجزيل؟ قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] . فلا يفوتنك -يا أخي المسلم- ولا تفوتنكِ -يا أختي المسلمة- هذه الفضائل في هذا الشهر الكريم، فإنه موسم الخيرات، وهو راحل عما قريب، وقد تدركه العام ولا تدركه عاماً آخر، فالبدار البدار إلى تدارك هذه الفرص وعدم تفويتها: بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفُرص واغتنم مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الصُبح قَنص فهذا صيد الآخرة، فبادره مع الصباح، قبل أن تطير الطيور بأرزاقها، ويفوتك ما وعد الله مما وعد به العاملين المخلصين الجادين، فاحرص أن تكون منهم. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 2 صفة العمرة باختصار صفة العمرة باختصار: الجزء: 29 ¦ الصفحة: 3 الحلق أو التقصير ثم بعد ذلك يحلق أو يقصر، والحلق أفضل من التقصير، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً، وللمقصرين واحدة، فقال: {اللهم ارحم المحلقين. وفي روايةٍ: اللهم اغفر للمحلّقين. قالوا: والمقصرين، قال في الثالثة: والمقصرين} . فالحلقُ أفضل والتقصير مجزئٌ. فإذا فعل ذلك فقد تمت عمرته، ويجب أن يكون متطهراً في الطواف، أما في السعي فلا يشترط فيه الطهارة، فلو سعى وهو غيرُ متطهرٍ جاز وأجزأه ذلك. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 4 السعي بين الصفا والمروة ثم يذهبُ إلى الصفا، فيرقاه ويقول: {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فإذا رقاه استقبل البيت، فرفع يديه وكبَّر وهلَّل، ودعا بما أحب، ثم كبر وهلل، ويقول: "الله أكبر، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده". ثم يدعو، ثم يكرر هذا الدعاء، ثم يدعو، ثم يكرره ثم يدعو. ثم يمضي إلى المروة، فإذا حاذى العلم الأخضر ركض شدّاً، وهو في وادي الأبطح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يقطع الأبطح إلا شدّاً} أي: ركضاً وبسرعة. ثم يمشي إلى أن يصل إلى المروة، فيرقاها ويستقبل البيت، ويدعو كما دعا عند الصفا، وهكذا حتى ينتهي من الأشواط السبعة. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 5 ركعتا الطواف والشرب من زمزم ثم إذا انتهى من الأشواط السبعة؛ فإنه يذهب خلف المقام ويصلي ركعتين، وهما ركعتا الطواف، وهما سُنةٌ عند كثير من الفقهاء، ويقرأ -استحباباً- في الركعة الأولى بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] وفي الركعة الثانية بعد الفاتحة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . ثم يشرب من ماء زمزم، وهو كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: {طعام طُعمٍ وشِفاءُ سُقمٍ} كما في صحيح مسلم، وفي حديث آخر صحيح: {ماء زمزم لما شرب له} فيشربه ويتوكل على الله تعالى، ويدعو الله تعالى أن يكون خيراً له وبركةً في دينه ودنياه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 6 الطواف ثم يأتي إلى البيت فيجعله عن يساره، مُبتدئاً من عند الحجر الأسود، ويطوف سبعة أشواط، ويبدأ الطواف بقوله: "بسم الله والله أكبر". ثم يكبر ويشير بيده اليمنى في بقية الأشواط، ويستحب أن يقول ما بين الركن والمقام: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار"، ويدعو في الطواف بما أحب من خير الدنيا والآخرة، وإن قرأ شيئاً من القرآن فحسن، وليس للطواف دعاء يخصه، وما يتناقله الناس أو يقرءونه من الكتب فهذا مما لا أصل له، وينبغي نهي الناس عنه وتعويدهم على تركه، وعلى أن يدعوا بما أحبوا من خير الدنيا والآخرة، من صدورهم لا من كتب يقرءونها قد خُصص فيها لكل شوط دعاءٌ خاص. فإذا استطاع أن يستلم الركن اليماني؛ مسه بيديه وكبَّر، وإن لم يستطع مرَّ من عنده ولا يُكبر، فإذا أتى الحجر الأسود قبله واستلمه وكبر. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 7 الإحرام أن يحرم الإنسان بالعمرة من أحد المواقيت المكانية المعروفة، وهي معروفة مشهورة، وأماكنها معروفة أيضاً، فيحرم بالعمرة بعد أن يتجرد من المخيط ويتطيب ويتنظف، قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، لبيك عمرة. فيُحرم بالعمرة، وكذلك المرأة حتى لو كانت حائضاً أو نفساء؛ فإنها تحرم بالعمرة من الميقات، ولكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر من حيضها أو نفاسها، فإذا طهرت اغتسلت، ثم طافت بالبيت وسعت بين الصفا والمروة، وهذا مما يخفى على كثير من النساء. ومن تجاوز الميقات دون أن يُحرم، سواء كان بالطائرة أم بالسيارة، فإن عليه إذا وصل إلى جدة أو إلى أي مكان، وأراد العمرة -وقد كان نواها من الأصل- عليه أن يخرج إلى الميقات فيحرم منه، فإن لم يحرم من الميقات بل أحرم من موضعه، فقال كثيرٌ من أهل العلم: عليه دم، وهو بلا شك آثم بفعله ذاك. أما من لم ينوِ العمرة أصلاً، فإنه يحرم من أدنى الحل، أي إذا طرأت عليه نية العمرة وهو بمكة؛ فإنه يحرم من أدنى الحل كما قال أهل العلم. فإذا أحرم الإنسان لبَّى حتى يصل إلى البيت، فإذا دخل إلى البيت قدَّم رجله اليمنى قائلاً: "بسم الله والسلام على رسول الله، اللهم افتح لي أبواب رحمتك، أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم". وهذا الدعاء يُشرع أن يقوله عند دخول كل مسجد، وكذلك عند دخول المسجد الحرام. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 8 أخطاءٌ تقع للمعتمرين وهي كثيرة جدّاً، فمن ذلك أن بعضهم يسافرون إلى العمرة ويتركون أعمالهم الواجبة، فقد يترك أحدهم عمله الوظيفي المنوط به، بل والذي تتعلق به بعض مصالح المسلمين، وهذا خطأٌ كبير؛ فإن الإنسان ينبغي أن يقدم الفرض على النفل، والله تعالى لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة. وينبغي أن تعلم -أيها المسلم- أن قيامك بوظيفتك وخدمتك للمسلمين بنية صالحة، خاصةً إذا كُنت في مرفق يحتاجون إليك، أن هذا من الأعمال العظيمة المقربة إلى الله تعالى، وليست القضية مجرد عمل تتقاضى عليه مُرتباً، بل أنت تخدم فيه إخوانك المسلمين، وتقدم إليهم ما يحتاجون، فأنت بهذا مأجورٌ مثاب. ولا داعي لأن تحتال على الأنظمة للخلاص منها والفرار؛ بحجة أنك تريد أن تؤدي العمرة، والعمرة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل حجة، يمكن أن تتم خلال أربع وعشرين ساعة، فخلال إجازة الخميس والجمعة -مثلاً- مع مساء الأربعاء، بل ما هو دون ذلك، تستطيع أن تذهب وتأتي بعمرة، وقد يكون معك أهلك أو والداك أو أحدهما يشاركونك في هذا الفضل. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 9 إفراط الآباء في الثقة بأبنائهم إن مما ينبغي أن يتفطن له الآباء، وأولياء الأمور والشباب: أن كل واحدٍ منا يحسن الظن بأخواته، ويحسن الظن بزوجته، ويحسن الظن ببنته، لأن البنت أمام والدها خجولة حيية، وهذا طبع، وفيها خجلَّ فطري فعلاً، ولو تكلم أبوها في الزواج -مثلاً- لطأطأت رأسها وخجلت، ولم تستطع أن ترد عليه، ولهذا جاء في الحديث {إذنها صمتها} أي: إذا استشيرت في شخصٍ معين صمتت، فيظن الأب أن هذه البنت إذا كانت تخجل من الزواج الذي هو على كتاب الله وسنة رسوله، فهي أولى أن تكون بعيدةً عما يسخط الله تعالى في غيره، فيبالغ في حسن الظن، ويدع لها الأمر كله، فلا يتفطن لذلك، فالهاتف بمتناول يدها، وتخرج متى ما شاءت، وتدخل متى ما شاءت، وتفعل ما شاءت، وتخرج للسوق إلى غير ذلك. وهذا خطأٌ كبير؛ لأن البنت إذا غاب عنها والدها، وأخوها، ومحرمها، وزوجها، وكانت في السوق وتناولتها ذئاب بشرية وتعرضت لها؛ فإنها قد يوسوس لها الشيطان، وقد يزين لها من ترى، فيصور لها أنه خيرٌ لها من زوجها، أو خيرٌ لها من غيره، وكذلك قد لا تكون راغبةً هي، ولكن الشيطان يغري غيرها بها، فربما أوذيت في نفسها ولو بالكلام، في شيءٍ لا تريده هي، وكم جاءتني من أسئلة واستفسارات من نساء كثيرات، يشتكين أموراً حصلت لهن في أطهر البقاع، أقولها لكم صريحة حتى تتفطنوا، وهنَّ في المطاف أو عند رمي الجمار، أو في المسعى، في الأماكن الفاضلة التي اختارها الله تعالى واصطفاها. نسأل الله تعالى بمنه، وكرمه أن يتوب على جميع عصاة المسلمين، وأن يهديهم إلى الحق، ويردهم إليه رداً جميلاً، ونسأله جلَّ وعلا أن يرزقنا وإياهم تعظيم حرمات الله، وتعظيم شعائره، والبعد عما يسخطه. لكن هذا لا يمنع أن يوجد من يستهويهم الشيطان، من ضعاف النفوس، وضعاف الإيمان، ففي مثل هذه البقاع الطاهرة، والأماكن النظيفة، والأوقات الفاضلة أيضاً، قد يحصل ما لا تحمد عقباه، بعمدٍ أو بغير عمد. إذاً: الإفراط في الثقة والمبالغة أمرٌ مذموم، وينبغي للإنسان أن يتفطن لمن تحت يده، ومن ولاه الله تعالى أمرهم من البنين والبنات، فيتعاهدهم بالنصح والإرشاد والتوجيه، والتذكير بالله وباليوم الآخر، وبعقاب الله تعالى للمخطئين والمعاندين والمقصرين، ولا يبخل عليهم أبداً ولا ييئس، ومع النصح والتوجيه والإرشاد؛ لابد من المراقبة. وأقولها صريحةً: لا بد من المراقبة للكبير والصغير، حتى المتدين لا يمنع أن يراقَب، لأن الشيطان لا يمكن أن يقول هذا إنسان متدين ولا حاجة لي به، إذا كان يغري الإنسان المنحل بالفاحشة؛ فهو قد يغري الإنسان المتدين بما دون ذلك، وأقل ما يغريه به النظر الحرام، والنظر الحرام يجر إلى ما بعده. نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ وقد رأينا أن الشيطان أفلح ووصل حتى ببعض الأخيار، فأوصلهم إلى بعض الأمور التي ما كانوا هم يتصورون أن يصلوا إليها، ولكن المسألة مسألة خطوات الشيطان، فينبغي المراقبة حتى للكبير. وكنتُ ذكرت لبعض الإخوة في بعض المناسبات؛ أن هناك وزيراً في إحدى الدول العربية بلغ الستين من عمره، وفي إحدى المرات أجروا معه مقابلة، فكان يقول: إن والدي لا يزال حياً، وإنه لا يزال يراقبني بدقة حتى الآن، الولد عمره ستون سنة الآن، وأصبح جداً، ووزيراً، وتجاوز فترة المراهقة بمراحل كثيرة، لكنه يقول: لا يزال والدي يراقبني فكلما أردت أن أخرج من البيت، استوقفني وقال: إلى أين يا ولدي؟ فأقول له: يا أبتِ سوف أذهب إلى عملي في الوزارة، أنا وزير. فيقول: ساعدك الله، ويدعو له ثم يخرج. يقول: فإذا تأخرت وجئت في وقتٍ غير مناسب، أو متأخر عن الوقت المعتاد، أوقفني وقال: لماذا تأخرت يا ولدي؟ فأقول له: يا أبتِ، تأخرت بسبب حركة المرور، وشدة الزحام، واضطررت أن أتأخر ساعة، أو نصف ساعة، أو أقل أو أكثر. فيقول: حياك الله والحمد لله على السلامة. وما يزال الولد ملتزماً بهذا النظام الرتيب، وكذلك الأب، فيلزمك إذا كان ابنك في الثامنة عشرة، أو التاسعة عشرة أو العشرين أو بنتك؛ أن تكون شديد المراقبة لهم، وشديد اليقظة. وليست القضية سوء ظن أو اتهام، بل القضية أولاً: أننا لا نحسن الظن أبداً بالشيطان، ونعرف أن الشيطان مسلط على كل بني آدم. ثانياً: إن الشيطان يملك من الوسائل والحيل والأساليب الشيء الكثير، وبناءً عليه فلا نحسن الظن بالشيطان، ولا نتوقع أن أولادنا أو بناتنا معصومون من وسوسته وكيده، بل ما من إنسان إلا وقد سلط عليه الشيطان، ومن أجل هذا؛ نراقبهم، ونحاسبهم، ونسائلهم، ونناصحهم، ونبذل الوسع لهم، ولأن تجلس في بيتك يا أخي، لمراقبة أولادك وبناتك وذكر الله تعالى، والصلاة في المساجد، خيرٌ لك من أن تذهب إلى مكة، حيث اجتماع الناس، والكثرة الكاثرة. فإذا كنت تعلم أنه يصعب عليك أن تحافظ على أهلك وأولادك وبناتك، وأنه لن تستطيع ولن تتمكن أن تراقبهم، وتطمئن إلى سلامة سلوكهم واعتدال تصرفاتهم؛ فالجلوس في البيت لمراقبة الأبناء أفضل وأخير. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 10 واجب أولياء الأمور نحن نعلم أن كثيراً من الشباب والفتيات فيهم خيرٌ وفيهم دينٌ، ولن يكون هذا في نيتهم، ولكن الشيطان لا يزال يجرهم خطوةً خطوة، وشيئاً فشيئاً حتى يوقعهم، والله تعالى قال: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة:168] ، فهي خطوات، وكل واحدة تجر إلى التي تليها، فليتقِ الله المسلمون والمسلمات، وليبعدوا عما حرم الله، وليتقِ الله أولياء الأمور فيمن ولاهم الله تعالى أمرهم من الأولاد والبنات، وليراقبوهم، وقد حصل مراتٍ ومراتٍ أن يقع للولد أو للبنت مشكلة، وقد يقبض عليه -أحياناً- من قبل بعض الأجهزة والوسائل، والأب ربما كان جالساً بعد صلاة الفجر في الحرم، يقرأ القرآن ويذكر الله تعالى ويدعوه. فأولى لك يا أخي ثم أولى؛ أن تعتني بأولادك وبناتك، وتراقبهم من كيد الشيطان ووسوسته، ومن شر شياطين الإنس والجن، وتطمئن على سلامة سلوكهم واعتدالهم، من أن تقبل على قراءة القرآن والذكر، وتتركهم لحالهم وما يصنعون. وأحسن ما تفعل أن تقول لهم: لا آذن لكم بالخروج إلى الحرم، لكن للأسف أنت لم تأذن للبنات بالخروج إلى الحرم، لكنك أذنت لهن بأن يخرجن إلى السوق. ولعل الكثير يعرفون ماذا يقع في أيام الأعياد، من تزاحم الناس في الحرم، وفي الساحات المحيطة به، التي زينت للرجال والنساء، بالطيب والعطور النفاذة التي تنادي من مكانٍ بعيد، ولا أحد يستطيع أن يدفع أحداً عن القرب منه، ويحصل من جراء ذلك أمورٌ الله تعالى أعلم بها، فينبغي أن يكون العاقل حريصاً على وقاية نفسه، وعلى وقاية من تحت يده، من مثل هذه الأمور؛ بشدة الحرص، والتعاهد، وبكثرة النصح. تقول ماذا أصنع؟ أقل ما تملكه تعاهدهم بالنصيحة الدائمة، والتذكير الدائم، والتخويف الدائم. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 11 حال البنات والفتيات أما البنات، فقد تكون البنات أيضاً من الفتيات الصالحات، الدينات الصينات، والكريمات العفيفات، وما أكثرهن بحمد الله! وما أطيب الحديث عنهن! فهؤلاء النساء الطيبات، تجد أن الواحدة متعففة ومتحجبة، إن خرجت لا تخرج إلا لحاجة للحرم، أو لحاجة لا بد منها، فإذا خرجت تجدها بعيدة عن الزينة والطيب، وتجدها تلبس القفازين في يديها، وجوارب في رجليها، وعباءة فضفاضة، وتستر وجهها بغطاءٍ طويل، وتبعد عن الرجال وأماكن ازدحامهم، وتذهب لتصلي أو تعبد الله، أو تسأله أو ترجوه، أو تخرج لحاجةٍ لا بد لها منها، وتحرص على أن لا تخرج إلا ومعها أحد، يبعد عنها الأعين النهمة، والذئاب الجائعة، والسباع الضارية، فإن كانت بناتك من هذا الصنف فالحمد لله. أما إن كنتَ تعلم أن بناتك لسن كذلك، أو كنت ممن يحسن الظن ببناته وأولاده، فيظن أنه لا أطيب ولا أحسن منهن، ولا يدري ما الأمر عليه فهذه مصيبة. فبعض الفتيات -هداهن الله- يخرجن إلى الأسواق كثيراً، ويتجولن في الدكاكين والمحلات، ونحن جميعاً نعرف مكة وأزقتها، وشوارعها الضيقة، بعض الأماكن التي توجد فيها الدكاكين في مكة، لو التقى فيها اثنان لتضايقا، والدكاكين أضيق وأضيق، مع أنها أماكن ازدحام، وأوقات ازدحام، وفيها كثرة، وكثيرٌ ممن فيها إنما هم يتسكعون فقط، ليسوا يتسوقون لغرض، وإنما يذهبون إما للفرجة، وإما لأغراضٍ أخرى، فيحصل من جراء ذلك الازدحام، وتلاصق الأجساد وتلامسها، وبعض المغرضين ومرضى القلوب يجدون في ذلك بغيتهم وضالتهم، وقد رأينا وسمعنا واطلعنا من ذلك على أمور يندى لها الجبين، ويستحي الإنسان من ذكرها، والحمد لله على ستر الله، ولكننا ننبه الإخوة من أولياء الأمور والشباب، وننبه النساء والفتيات أيضاً إلى ضرورة الحذر من ذلك كل الحذر. وبعض الفتيات قد تذهب للحرم، ولكنها تذهب متزينة متطيبة، فتفتن الناس، وتفتن الشباب، وقد رأيت بعيني مجموعات من الشباب، شدوا أحزمتهم وحقائبهم، وأزمعوا الرجوع من مكة، فقلت لهم: لماذا ترجعون بعد أن أصبح الناس يأتون؟ قالوا: لا قبل لنا بما نرى من هذه الفتن، التي هي كقطع الليل المظلم، نريد أن نخرج ونعود إلى بلادنا. فهؤلاء الشباب، تُحرك الشهوات في قلوبهم، وتُثار كل الغرائز في نفوسهم، ويُصدون عن الحرم وعن البيت العتيق، ويُمنعون من العبادة والذكر بسبب فتاةٍ مراهقة لم ترزق ديناً يردعها، ولم ترزق ولياً يُعلِّمها ويقوم عليها، فأصبحت تتزين وتتطيب، وتخرج إلى الأماكن وإلى الأسواق، بل وإلى الحرم، فتزاحم الناس في المطاف، وفي أوقات الازدحام والضيق، والإنسان ربما لا يلجأ إلى المطاف في مثل تلك الأوقات إلا لطوافٍ واجب لابد منه. أما الطواف النفل فيتحرى له الأوقات التي لا يكون فيها ازدحام، ولا يكون فيها ضيق، ولا يكون فيها كثرة من النساء، أما أن امرأة فتاة شابة، تطوف في أوساط الرجال وبينهم، فمثل تلك الأوقات ما أظن أن هذا مما يتقرب به إلى الله تعالى، خاصةً إذا علمنا ما بُليَ به الناس اليوم من كثرة الفتن والشهوات والمغريات، فليتقِ الله أولئك النساء، وليتقِ الله أولياء أمورهن. وكذلك بعض الفتيات قد تفعل ما يفعله الشباب، فتعاكس بالهاتف من خلال كبينات الهاتف الموجودات حول الحرم أو غيرها، وقد تركب مع أجنبيٍ عنها، وقد ترتكب ما نهى الله عنه، وقد تعاكس بعض الشباب في الشوارع، أو من خلال البلكونات، أو من خلال النوافذ، أو من خلال وسائل أخرى غير هذه، أو ترمي عليه رقم هاتف أو رسالة أو ما أشبه هذا، فهؤلاء لم يذهبن للأجر، ولكن كما قال الشاعر: من اللائي لم يحججن يبغين حجةً ولكن ليقتلن البريء المغفلا أين تقوى الله؟! أين خوف الله؟! أين مراقبة الله؟! ومثله المزاحمة عند أبواب الحرم دخولاً وخروجاً؛ لأن الناس يخرجون دفعةً واحدة، عند صلاة المغرب، وبعد صلاة التراويح، وفي سائر الأوقات، وبعد صلاة الفجر أيضاً، ويكون هناك ازدحام بين الرجال والنساء، وليس هناك فاصلٌ بينهم، بل في كثير من الأحيان يلتقون في بابٍ واحد، ويقع ازدحام وتلاصق بالأجساد. فالحياء والدين والورع وخوف الله تعالى يمنع الإنسان من مقارفة ذلك كله، أو القرب منه، وينأى ويبعد بنفسه وبمن تحت يده من المحارم والنساء، خاصةً من الفتيات الشاباب وكذلك الفتيان الشباب، يبعدهم عن ذلك كله، فإن الشيطان يجر أقدام الجميع رجالاً ونساءً إلى ما يسخط الله تعالى، والشيطان لا يستحي من أحد، ولا يوقر أحداً، ولا يرعى حرمة للبيت العتيق ولا لغيره. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 12 من منكرات الأخلاق إن كثيراً من الناس يذهبون بقضهم وقضيضهم من أول رمضان، أو في العشر خاصة، ويجلس الأب هناك، قد يكون الأب متعبداً لا يخرج من المسجد إلا لِلعَشَاء والسحور، ويترك بعد ذلك بناته وأولاده وزوجاته، لا يدري ماذا يصنعون ويفعلون، بل أشد وأنكى من ذلك، أنه يمنعهم من الذهاب إلى الحرم، ثم لا يدري ماذا يصير لهم بعد ذلك. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 13 حال الشباب أما الشباب فمنهم -لا شك- الصالحون والأخيار والفضلاء، الذين يراوحون بين صلاةٍ وذكرٍ وقراءة قرآن، وقيامٍ وتراويح، وغير ذلك من الأعمال الفاضلة الصالحة، فإن كان أولادك من هذا الصنف فلا حرج عليك إن شاء الله، لكن قد يكون بعض الأولاد من المراهقين الذين يتسكعون في الشوارع ويتجولون، ويذهبون إلى الأسواق، ويذهبون إلى مداخل الحرم، ويزاحمون الناس في أماكن كثيرة، ويضيقون على عباد الله، بل يحصل منهم أذى للناس بالقول وبالفعل، وقد يركبون السيارات، وقد يضايقون المارة، ويحصل منهم أشياء كثيرة، فتصبح ذهبت من أجل الحصول على الأجر، وتسببت في إثمٍ لنفسك ولغيرك، ولم تعهد أولادك بالتربية. وقد يحصل أن هؤلاء الأولاد يلتقي بهم سفهاء آخرون من أهل مكة، أومن الطارئين عليها من البلاد الأخرى، فيتعارفون ويتبادلون ما بينهم من الأخلاق الضارة والعادات السيئة، فيأخذ بعضهم عن بعض، مثلاً: ارتكاب الفواحش، أو سماع الغناء، أو تعاطي المخدرات، أو صحبة الأشرار، أو التدخين على أقل تقدير، ويقع من جراء ذلك شرٌ كثير، وقد يحصل أن هؤلاء الشباب -وقد تركهم والدهم وأهملهم- يقفون طوابير عند كابينات الهاتف، فيكلمون ويتصلون ببعض البيوت، ويزعجون أهلها، وقد يحصل منهم معاكسات هاتفية، ومغازلات للنساء، وأحاديث لا ترضي الله، والأب غافلٌ عن ذلك كله لا يدري ماذا يجري. وهذا لا يجوز، فإنه مسئولٌ عنهم، وفي الصحيحين عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فهذه رعيتك ماذا صنعت بها؟ لقد تركتها ترعى في المرعى الأسن غير النظيف، وأنت غافلٌ لاهٍ، هذا لا يليق ولا يجوز. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 14 الذهاب بالخدم ومن الأخطاء التي يقع فيها الكثير من الناس: أنهم يذهبون بخدمهم، وقد يكون معهم خادمة غير مسلمة، وقد اطلعت على شيءٍ من هذا، إما كافرة، أو نصرانية، أو بوذية أو وثنية، فيلبسونها الحجاب والجلباب والعباءة، وتصبح كما لو كانت من نسائهم، وتمر من عند نقاط التفتيش على أنها من بعض أهل البيت، ولا يعرفون وجودها، مع أن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] . والمسجد الحرام قيل هو الحرم كُله، وقيل هو البيت الحرام "الكعبة وما حولها"، فلا ينبغي لهم أن يذهبوا بمن ليس بمسلم إلى تلك الأماكن الطاهرة، هذا فضلاً عن أنها تصحبهم وهي ليس معها محرم، وهذا أيضاً مخالفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} . الجزء: 29 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 29 ¦ الصفحة: 16 ما يقال بعد الوتر السؤال أرجو تنبيه الإخوة إلى ما يُسن قوله بعد الوتر؟ الجواب يسن أن يقول بعد الوتر، إذا سلم من الوتر: {سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس -وإن زاد-: رب الملائكة والروح} فحسنٌ. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 17 حكم الولائم للموتى السؤال الولائم التي تصنع عشاء للموتى ما حكمها؟ وهل لها أصل؟ الجواب عموم الصدقة عن الميت لا بأس بها، فليتصدق عن الميت، بمال أو رز أو غير ذلك، ويعطى للفقراء والمساكين والمحتاجين. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 18 الوسوسة في الوضوء والصلاة السؤال أنا مصاب بالوسوسة والشك، حيث أني في بعض المرات أعيد الوضوء أكثر من ثلاث مرات، وأقرأ الفاتحة، في الركعة أكثر من مرة؟ الجواب لا يجوز لك أن تكرر قراءة الفاتحة، ولا أن تتوضأ أكثر من ثلاث مرات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم} فهل يسرك أن تكون موصوفاً على لسان سيد المرسلين أنك مسيء ومتعدِ وظالم، فيسعك ما وسع الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، فتوضأ وضوءاً معتدلاً سابغاً بعيداً عن الإسراف، وادفع عنك وسوسة الشيطان بالاستعاذة منه، ولا تستجب لهذا الوسواس، وإذا قاومته بشدة وحزم أعانك الله عليه، ويمكنك مراجعة شريط: "رسالة إلى موسوس" وشريط "رسالة إلى موسوسة" وكذلك إذا أحسست بخروج شيء منك؛ فلا تلتفت إليه حتى تتيقن، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث: {فلا يخرج حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} أي: حتى يستيقن ويعلم ويقطع بأنه قد انتقض وضوؤه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 19 بيع الأسهم بربح السؤال رجل اشترى أسهماً من سابك ونقل البحر، وبعد مدة باع هذه الأسهم بربح، فما حكم الربح؟ الجواب سبق أن بينا أننا نقترح عليه إذا باعها بربح، أن يتخلص من نصف الربح ويصرفه في أعمال الخير. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 20 تجنب الاختلاط السؤال لاحظت بعض الاختلاط المشين، وأن بعض الأفراد لا يقوم بدوره، فهل من توجيهك لذلك؟ الجواب ينبغي للجميع وخاصة الشباب أن ينتبهوا لذلك أثناء الخروج من هذا المسجد، فيبتعدوا عن أماكن وجود النساء وتجمعهن، ويا حبذا أن توقف سياراتهم أيضاً بعيداً عن ذلك، ورحم الله امرءاً دفع هذا الأذى عن نفسه وعن غيره من المسلمين والمسلمات. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 21 هل في الحلي زكاة السؤال يوجد عند زوجتي ذهب، وأريد أن أدفع عنه زكاة، فما حكم ذلك؟ وذلك الذهب لم يتم عليه الحول بعد، ويتم الحول في شهر صفر، وأنا أحب أن أخرج زكاته في رمضان؟ الجواب حسن أن تخرج الزكاة، فجمهور العلماء على أنه ليس فيه زكاة، وذهب آخرون إلى وجوب الزكاة في الحلي المستعمل، وهذا مذهب الإمام أبي حنيفة، واختاره جماعة من علمائنا المعاصرين، كالشيخ ابن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، وجمهور الأئمة، وهو اختيار ابن تيمية وابن القيم وذهب جمعٌ كبير أيضاً من علمائنا المعاصرين أنه لا زكاة فيه، فإن زكى فإنه أحوط، وكون الزوج يخرج زكاة ذهب زوجته هذا جيد، وإن قدم الزكاة -كما اقترح السائل- فأخرجها الآن فلا حرج، بحيث يخرجها العام القادم في رمضان أيضاً. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 22 حديث أسماء الله الحسنى السؤال قال صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} هل هذا الحديث صحيح؟ الجواب نعم هذا حديث رواه البخاري: {إن لله تسعة وتسعين اسماً مائةً إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} والإحصاء يشمل أموراً:- أولها: معرفة هذه الأسماء وحفظها. ثانياً: معرفة معانيها. ثالثاً: استحضارها بالقلب؛ بحيث تدعوك إلى الخير وتنهاك عن الشر، وعدم تحريفها أو صرفها عن دلالتها. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 23 حجز المكان في المسجد السؤال بعض المصلين يحجزون أمكنة في هذا المسجد، ما رأيك في هذا؟ وهل من حقي أن أجلس في مكانٍ وضع فيه شيء يدل على أنه محجوز؟ الجواب ليس في المساجد حجزٌ، لكن إن كان في داخل المسجد وطرأ عليه أن يتوضأ؛ فذهب إلى دورات المياه فهذا شيء، أما أن يحجز ثم يذهب إلى بيته ليتناول طعام العشاء أو ما أشبه ذلك فهذا لا يصلح، ومن أتى ووجد هذا فمن حقه أن يزيله. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 24 معنى الباء من سبحان الله وبحمده السؤال أرجو منك تفسير معنى كلمة: سبحان الله وبحمده، ماذا تعني الباء؟ الجواب معناها الملابسة، أي أنك متلبسٌ بحمد الله تعالى، تسبحه وأنت متلبسٌ بحمده. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 25 دعوة إلى مقاطعة بنوك الربا السؤال عشنا قبل قليل آيات التحذير من الربا وبيان عقوبته، فلو تكرمت بدعوة الموجودين بتركه، ومقاطعة بنوك الربا، ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه؟ الجواب هذه دعوة إلى مقاطعة بنوك الربا، وعدم التعاون معها في كل مجال، وسوف أخصص له إحدى الليالي -إن شاء الله- في مسجد آخر إن ضاقت الأيام، فإنني -إن شاء الله- سوف أكون في الليلة القادمة في هذا المسجد، وسيكون بعنوان الدرس: "خمسة مقترحات". الجزء: 29 ¦ الصفحة: 26 موسى هو المقصود السؤال قلت في حديثك: رجلٌ من بني إسرائيل قال: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] فهل المقصود به موسى؟ الجواب نعم. قال: {إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] هو موسى عليه السلام. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 27 نصيحة للشباب بخصوص التلفاز السؤال أسأل الله أن يجمعنا في الفردوس، في بيتنا تلفاز، وهو عند أخواتي، ووالدي كبير السن، يرفض إخراجه وهو لا يقرأ ولا يكتب، وهذا حال كثير من الآباء والبيوت، فما نصيحتكم لأولئك الشباب؟ الجواب جاءتني ورقة اليوم من أحد الإخوة، يتكلم عن أضرار هذا التلفاز، وأنه خطر يداهم البيوت، ويقول: إنه يحرق البيوت، ويدمرها تدميراً كبيراً، وإنه جر كثيراً من الشباب والفتيات إلى ألوان من الفساد لا يعلمها إلا الله. والناس منهم من يجهل ذلك، ومنهم من يتجاهل، ومنهم من يأخذ الأمر ببساطة، ويقيس الناس على نفسه، فإذا رأى تأثيره عليه محدوداً لأنه كبير السن وعاقل، ظن أن تأثيره على أولاده كذلك. وأنا أدعو الجميع إلى إخراج هذا الجهاز من بيوتهم، وأن يستبدلوا به أشياء مفيدة، كالأشرطة المفيدة، والكتب النافعة، وبعض القصص، وبعض المجلات المفيدة، وكذلك بعض الألعاب للصغار التي تشغلهم، ويمكن أن يستخدم الوالد أو الولد جهاز الكمبيوتر وما فيه من البرامج العلمية النافعة، التي ليس فيها إثم ولا حرام، ليغني الصغار ويشغلهم عن مثل هذه الأمور. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 28 اختلاف نية المأموم والإمام في عدد الركعات السؤال الإمام صلى الوتر ثلاث ركعات بدون علم بعض المأمومين، فلم ننو الوتر، فهل صلاتنا صحيحة؟ الجواب مادام أنك دخلت مع الإمام بالأصل من أول الصلاة، وأنت تنوي ألا تنصرف إلا معه؛ فأنت تنوي أن تصلي معه الصلاة كلها وتنصرف على وترٍ. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 29 تخطي الرقاب في المسجد السؤال هناك بعض الإخوة -هداهم الله- يتأخرون عن الحضور إلى المسجد، فيأتون متأخرين، ويتخطون رقاب الناس، ويضيقون عليهم، فما حكم ذلك؟ الجواب ينبغي على الأخ أن يأتي مبكراً، وفي الحديث: {لو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه} التهجير أي التبكير إلى المسجد، وإذا أتى متأخراً فليجلس حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطى رقاب الناس ولا يؤذيهم. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 30 الطيب لا يفطر السؤال هل الطيب يفطر؟ الجواب مجرد الرائحة لا تفطر، أما إذا كان يتصاعد منه شيءٌ يدخل إلى الأنف كالبخور، فينبغي على الصائم أن يتجنبه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 31 قضاء الصلاة للحائض السؤال هل يلزم المرأة إذا حاضت قبل غروب الشمس، قضاء صلاة المغرب؟ الجواب إذا حاضت قبل غروب الشمس، فلا يلزمها قضاء صلاة المغرب، وكيف تقضيها وقد حاضت قبل أن يدخل وقتها. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 32 الدخان هل يفطر السؤال والدتي توقد ناراً وهي صائمة لقصد التدفئة، فهل يكون الدخان مفطراً؟ الجواب الأولى أن تتجنبه وتبتعد عنه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 33 إجبار البنت على الزواج السؤال أسأل الله أن ينفع المسلمين بك وبسائر إخواننا من طلبة العلم، هناك أبٌ له بنات وهنَّ على سن الزواج، ولكنه يريد تزويجهن من أحد الأقارب، وهُنَّ لا يردن ذلك، أرجو توضيح أمرهن، وأرجو توجيه نصيحة للأب؟ الجواب لا يجوز للأب أن يزوجهن بدون رضاهن، فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تستأمر البنت في زواجها، وحرامٌ عليك أن تزوج بنتك إلا بكامل رضاها، ولا تضغط عليها حتى مجرد ضغط، اللهم إلا إن كانت تريد إنساناً منحرفاً؛ هنا تضغط عليها، أما أن تزوجها من قريب أو من إنسان بينك وبينه علاقة بدون رضاها، فالذي سوف يعيش مع الزوج هي وليس أنت، ويحرم على الأب أن يزوج بنته إلا برضاها وموافقتها، ويأخذ منها موافقة شفهية بالكلام، فإن لم يمكن فأقل تقدير أن تسكت، إذا قال: ما رأيك في فلان؟ وسكتت، معنى هذا موافقة، أما إذا قالت: لا أريده، أو أخبرت أمها وقالت: لا أريد فلاناً؛ فيحرم على الآباء أن يلزموا بناتهم بالزواج ممن لا يردن، كما أنه يحرم على الآباء عضل بناتهم. بلغني وعلمت يقيناً أنه في البيوت بنات في سن الخامسة والثلاثين، بل علمت أن في البيوت نساء في سن الأربعين؛ حال أبوها بينها وبين تزويجها. أعوذ بالله، ألا تخاف أن يحول الله بينك وبين رحمته؟ إذ حرمتها من نعيم الدنيا، وأنت يمكن أن يكون عندك ثلاث أو أربع زوجات، أما تخاف الله؟! أما تراقب الله؟! أين حنان الأبوة؟! أين عاطفة الأبوة؟!! هذا قلبٌ قُد من حجرٍ فلو تلين صخور الصين ما لانا والله أنا أستغرب كيف يحدث هذا من آباء! بل كيف يحدث من أباء مؤمنين بعضهم قد يكون راكعاً وساجداً وعابداً! نسأل الله السلامة والعافية. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 34 الكعب العالي والمناكير السؤال ما حكم لبس الكعب العالي، وحكم المناكير؟ الجواب المناكير إذا كانت المرأة تصلي -أي ليست حائضاً- فإنه يجب عليها أن تزيلها إذا أرادت الوضوء، لأنها تحول دون وصول الماء إلى موضعها. أما بالنسبة للكعب العالي فإن كان مرتفعاً ارتفاعاً غير معتاد؛ فإنه يظهر المرأة كما لو إن كانت طويلة أكبر من حقيقتها، وكذلك يعرضها لبعض الأخطار، ووقع الكعب على الأرض له رنينٌ وتأثير، والله تعالى قال للمؤمنات: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] فأنصح المؤمنات بتجنبه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 35 تجعيد الشعر السؤال بعض الطالبات ذوات الشعور الناعمة يَعْمَدْنَ إلى تخشين شعورهن بطريقة معروفة بين الفتيات، فما حكم هذا الفعل، مع العلم أن ذلك من صنع نساء الغرب؟ الجواب هذا ما يتكلم عنه العلماء ويسمونه بالتجعيد، والأصل أن تجميل المرأة نفسها وشعرها وثيابها خاصةً المتزوجة؛ أنه جائز، ما لم يفضِ ذلك إلى إفراط، أو تضييع للوقت، أو تقليد لنساء الغرب، وأرى أن مثل ذلك العمل إن تركته المرأة فهو أحسن، وإن فعلته دون أن يكون في ذلك اشغالاً لها، أو مُثلةً وطول عناية بهذا؛ فلا أرى في ذلك إن شاء الله حرجاً. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 36 قول: ما صدقت على الله السؤال ما حكم قول: ما صدَّقت على الله؟ الجواب لا أرى في هذه الكلمة بأساً إن شاء الله، لأن معناها لم أكن أتوقع أن يحصل هذا الأمر. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 37 ملابس الإحرام للنساء السؤال ما هي ملابس الإحرام بالنسبة للنساء؟ الجواب الواقع أنه ليس للمرأة لباس إحرامٍ كالرجل، بل تحرم فيما شاءت من الثياب، وتتجنب ثياب الزينة المثيرة في ألوانها، والمزركشة والجذابة، وكذلك تتجنب الطيب الذي يلفت إليها الأنظار، ويجوز لها أن تغير ثيابها. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 38 احتلام المحرم السؤال ما حكم من احتلم وهو محرم؟ الجواب إنَّ هذا لا يضره، لأن هذا شيء ليس في طوقه ولا في إمكانه، كما أنه لو احتلم وهو صائم أيضاً، فإنه لا شيء عليه في ذلك، وإنما عليه أن يغتسل فحسب، ولا يضر ذلك في إحرامه ولا في صيامه. أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم عمرةً متقبلة، وحجاً مبروراً وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً، ورزقاً واسعاً، إنه على كل شيء قدير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 39 تنبيهات على العمرة بقي في موضوع العمرة نقاط متعددة نمر عليها بسرعة، رعاية لقصر الوقت، فمن ذلك: أولاً: بالنسبة للدعاء الذي ذكرته في الطواف: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" هذا يقال بين الركن اليماني والحجر الأسود، أثناء الطواف. ثانياً: يستحب للطائف أن يرمل في الأشواط الثلاثة الأولى، أي أن يمشي مشياً سريعاً مع مقاربة الخطى، في الأشواط الثلاثة الأولى كلها، من الحجر إلى الحجر، كما في الصحيح عن جابر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر إلى الحجر} ثم يمشي في الأشواط الأربعة الباقية. ثالثاً: يستحب للطائف -أيضاً- أن يضطبع، ومعنى ذلك: أن يظهر الكتف الأيمن ويجعل الرداء من تحته، ويجعل طرفي الرداء على كتفه الأيسر، يفعل ذلك في الطواف كله، فإذا انتهى من الطواف، غطى كتفه الأيمن قبل أن يصلي ركعتي الطواف. هناك محظوراتٌ كثيرة للإحرام معروفة: مثل لبس المخيط للرجل، والطيب للرجل والمرأة، ويتأكد النهي عنه في حق المرأة، خاصةً إذا كانت تريد الخروج، وكذلك نهي المرأة عن تغطية وجهها، إذا لم يكن في حضرتها رجال أجانب، ومثله: النكاح، أعني: عقد النكاح، وكذلك النساء، ومثله أيضاً الخِطبة قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يَنكِح المحرم ولا يُنكِح، ولا يخطب} ومثل ذلك قص الشعر أو حلقه وقص الأظافر، وغير ذلك مما ذكره الفقهاء، والأمر في شأنه وتفصيله يطول. على كل حال، هذه بعض المسائل ذكرتها لعموم الحاجة إليها. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 40 أخذ إجازة لأجل العمرة السؤال أنا موظف في وظيفة إدارية، ولا يترتب على غيابي عن العمل أي ضرر، فهل يجوز لي أخذ إجازة اضطرارية من أجل الذهاب إلى العمرة؟ الجواب ذكرت هذا في دروس رمضان، وجرى له تعديل في الطبعة الجديدة، وبشكلٍ عام أرى أن الإنسان لا يحسن في حقه -لا أقول يحرم- أن يأخذ إجازة اضطرارية من عمله إلا لحاجة، مثل إذا كانت أمه سوف تذهب للعمرة، وهو يذهب محرماً لها فلا بأس، أو كان أبوه سيذهب، وهو سيذهب في خدمته فلا بأس، أو كان هناك بعض أهله سيذهبون ويخشى عليهم، فيريد أن يذهب لمراقبتهم وضبط أحوالهم والاطمئنان على سلامتهم هناك؛ فلا حرج، أو كان هناك بعض الشباب سيذهبون وهو سوف يكون كالموجه والمرشد والمربي لهم فلا حرج أيضاً. أما بالنسبة للعمرة -فكما ذكرت- يمكن أن يأخذها دون أن يحتاج إلى إجازة، ونحن نريد أن يكون المسلم موظفاً وعاملاً، نموذجاً للإنتاج والعمل والأداء والإخلاص في عمله. ومن المعلوم أن من دينك وتدينك أن تكون ناجحاً في عملك، ومحافظاً على دوامك، وقائماً بما يتعلق بك، وتكون في وجه الجمهور شاباً ملتزماً يخدم الناس، ويقوم بما يجب عليه، وما يحتاجون إليه، وهذا جزء من الدين ينبغي أن نحرص على إبرازه للناس، فالدين الإسلامي ليس في المسجد فقط، بل حتى في وظيفتك، يمكن أن تظهر التدين من خلال نجاحك في عملك، وقيامك به وحرصك عليه، وظهورك أمام الجميع من رؤساء ومن مراجعين، بمظهر الإنسان الحريص على أداء العمل، والقيام به خير قيام لوجه الله، لا من أجل ثناء الناس. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 41 السهو في التكبير في الصلاة السؤال ما حكم من يسهو في التكبير في الصلاة، كالتكبير عند الرفع من السجود؟ الجواب أما إن كان إماماً فعليه أن يسجد سجود السهو، وكذلك إن كان منفرداً، أما المأموم فلا شيء عليه، وخاصةً إذا كان تابعاً للإمام من أول الصلاة. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 42 حكم العمرة والطواف للحائض السؤال تسأل كثيرٌ من النساء عن حكم طوافها وهي حائض، أو أدائها للعمرة وهي حائض؟ الجواب قد سبق أن بينت أنها تحرم بالعمرة، أي تلبي بالعمرة وتحرم وهي حائض، ولكن لا يجوز لها أن تطوف بالبيت حتى تطهر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ل عائشة كما في الصحيح: {غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري} فلا تطوف بالبيت حتى تطهر، تنتظر حتى تطهر ثم تغتسل بعد ذلك، وتطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، ثم تقصر من شعرها، من كل جديلة أو ظفيرة قدر أنملة. ولا يجوز لها الطواف وهي حائض، إلا لضرورة عند بعض أهل العلم، والضرورة تقدر بقدرها. فلو كانت امرأة أتت من مكانٍ بعيد، ولا تستطيع البقاء حتى تطهر، ومحرمها ورفقتها لا يمكن أن يجلسوا معها، وإذا ذهبت لا تستطيع الرجوع أيضاً، وليس هناك وسيلة لرفع الحيض؛ لأن هناك الآن وسائل طبية من الممكن أن يرتفع الحيض بها، فتطوف وهي طاهرة، فإذا تعذر ذلك كله أصبحت بين خيارين؛ إما أن تجلس في مكة وتذهب الرفقة، وقد ينالها من جراء ذلك ضررٌ عظيم، أو أن تذهب وهي لم تقضِ عمرتها، فأفتى حينئذٍ شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وجماعةٌ من علمائنا المعاصرين، بأنها تتحفظ ثم تطوف، وهذا يعتبر من أجل الضرورة القصوى فحسب. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 43 حكم طواف الوداع السؤال يسأل كثيرٌ من الناس عن حكم طواف الوداعِ للعمرة؟ الجواب طواف الوداع بالنسبة للحج فرضٌ لا شك فيه، وفي حديث ابن عباس في الصحيح [[أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه رخَّص أوخفف عن الحائض والنفساء]] أما بالنسبة للعمرة فقد اختلف أهل العلم، والجمهور على أنه لا يجب على المعتمر طواف وداعٍ، فإن طاف للوداع فحسن، وإن ترك فلا شيء عليه، وهذا هو الذي تسانده ظواهر النصوص، والله تبارك وتعالى أعلم. إذاً لا يجب على المعتمر طواف وداعٍ، إن وادع فحسن، وإن ترك فلا شيء عليه، وذهب بعض أهل العلم، إلى وجوب ذلك، فطواف الوداع -على كل حال- فيه خروج من الخلاف، لكن الذي يظهر ويترجح: أنه إن ترك طواف الوداع لحاجة أو استعجالٍ أو غير ذلك من الأسباب؛ فلا شيء عليه. الجزء: 29 ¦ الصفحة: 44 جزيرة الإسلام تحتوي هذه المادة على التعريف بالجزيرة العربية، والأحاديث التي وردت في فضل أماكنها، ثم المميزات التي تمتاز بها الجزيرة العربية عن بقية الأرض. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 1 تنبيهات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه صلاة وسلاماً دائمين إلى يوم الدين. السلام عليكم ورحمه الله وبركاته. هذا هو الدرس (31) من الدروس العلمية العامة، في يوم السبت، ليلة الأحد 15 من شهر جمادى الأولى لعام (1411هـ) . أيها الأحبة الكرام: موضوع هذه الليلة: جزيرة الإسلام. وأود أن أنبه أن بعض الإخوة بمجرد أن ينتهي الإمام من الصلاة، يأتون سراعاً إلى هذا المكان، ولا شك أننا نعلم أن الإمام -مثلاً- له حق في البقعة التي صلى فيها، والمؤذن له حق في البقعة التي صلى فيها، والجماعة الذين في الصف الأول كذلك، والإخوة أصحاب التسجيلات يحتاجون إلى مساحة تكون فارغة يتحركون فيها. مع هذا أقول: يعلم الله أنني إذا رأيت مثل هؤلاء الإخوة حتى من الشباب الصغار، أنني أحس بفرح كبير؛ لأننا ندرك أن مثل هؤلاء الشباب على أكتافهم -بإذن الله تعالى- يكون مستقبل الإسلام، وقد يكون من بين هؤلاء الصغار الذين ما لبسوا الغتر، قد يكون من بينهم -أحياناً- عالم جليل، وفقيه نبيل، وداعية ومرشد وخطيب ومجدد ومجاهد. فنحن نفرح بمجيئهم إلى هذه المجالس، ونسر بذلك أيما سرور، لكن من باب المحبة، والحرص على البعد عن كل أمر قد يعيبك به الناس؛ أحببت أن أنبه إلى ذلك. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 2 المختارة والمفضلة في الجزيرة أحبتي الكرام: الله عزوجل وهو الخالق، وهو الذي يختار كما قال الله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] خلق البشر، واختار منهم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وخلق الخلق واختار منهم ما يشاء، وخلق الملائكة واصطفى منهم أفضلهم كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وخلق البلاد والأرضين واختار منها بقاعاً وهي أفضلها وأطهرها، يقول الله عزوجل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] ويقول الله عزوجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] . وهذا الاختيار والاصطفاء الإلهي لا بد أن يكون اختياراً على علم؛ لأن الله تعالى هو العالم، ولذلك قال عزوجل: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فالله عز وجل اختار من البشر أفضلهم، واختار من البقاع أفضلها، كما قال عزوجل: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان:32] . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 3 فضل الشام ومثله: بلاد الشام؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حكم لها بالفضل، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وهو صحيح: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وذكر لأهل الشام فضائل أخرى، بل صنف فيه عدداً من أهل العلم كتباً خاصة. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 4 فضل الحجاز ومن الأماكن الفاضلة: الحجاز بشكل عام، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه مسلم: {إن الدين يأرز بين المسجدين -مسجد مكة ومسجد المدينة- كما تأرز الحية في جحرها} . إذاً يحنّ الدين وينضم ويجتمع إلى بلاد الحجاز، إلى مكة والمدينة وما بينهما. وفى حديث جابر -وهو في صحيح مسلم أيضاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز} فحكم النبي صلى الله عليه وسلم؛ بأن بلاد الحجاز وأرض الحجاز مأوى للمؤمنين، يفيئون إليها مرة بعد أخرى، وأن الإيمان في أهلها أكثر، ولا شك أن هذه ليست تزكية مطلقة؛ لأن أهل الحجاز حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان فيهم كفار معاندون، وكان فيهم منافقون مستترون بنفاقهم وكفرهم، وكان فيهم وفيهم ولكن الغالب عليهم يومئذ الإيمان. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 5 فضل اليمن وكذلك الحال بالنسبة لأرض اليمن، وهي جزء من جزيرة الإسلام، وجزء من جزيرة العرب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة: {أتاكم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً، الإيمان يمانٍ، والفقه يمانٍ، والحكمة يمانية} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن هذه الفضائل. واليمن يشمل مواقع عديدة، حتى أهل المدينة هم في الأصل من اليمن، وكذلك ما تيامن عن الكعبة فهو يسمى ويعد من اليمن، وليس مقصوراً فقط على البقعة الجغرافية التي تسمى اليوم اليمن، بل الأمر أشمل من ذلك، ويشمل كل ما كان عن يمين الكعبة. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 6 فضل المدينة المدينة المنورة -مثلاً- يقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أنس بن مالك وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المدينة حرام، ما بين كذا إلى كذا وذكر موضعين، وفي رواية: ما بين عير إلى ثور المدينة حرام ما بين كذا إلى كذا، فمن أحدث فيها حَدَثاً، أو آوى فيها مُحْدِثاً فعليه لعنة الله، والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منهم صرفاً ولا عدلاً} هذا من فضل المدينة المنورة، كما جاء في حديث سهل بن حنيف أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أهوى بيده إلى المدينة، وأشار إليها بيده وقال: {المدينة حرم آمن} والحديث في صحيح مسلم. وعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يصبر أحد على لأواء المدينة وجهدها، إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة} وهو في صحيح مسلم، وذلك لأن المدينة فيها حُمَّى، قد تصيب بعض الذين يهاجرون إليها، أو يقيمون فيها، أو يسكنون بها، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يصبر أحد على تعب المدينة وحمَّاها ولأوائها وجهدها إلا كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة} . ولذلك -أيضاً- يقول صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وهو في صحيح مسلم: {المدينة كالكير تنفي خبثها} وفى رواية: {تنفي خبث الناس كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب} . فإن المنافق لا يكاد أن يقر له بالمدينة قرار، ولا يكاد أن يطيب له فيها دار، فهو فيها كالسجين، كالطير في القفص يحاول الفرار منها. ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس في آخر الزمان يخرجون من المدينة إلى الشام وإلى العراق وإلى غيرها، قال عليه الصلاة والسلام: {المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} كما في حديث سفيان بن أبي زهير، وهو حديث متفق عليه. ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً: {أمرت بقرية تأكل القرى، يقولون يثرب وهي طابة؛ تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب} . إذاً الرسول صلى الله عليه سلم أُمر بأن يهاجر إلى مدينة طيبة مباركة مشرفة، وهي: المدينة النبوية، تأكل القرى، يسمونها يثرب، كما قال المنافقون: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] وهي كما سماها النبي صلى الله عليه وسلم طابة. ولعل من فضل المدينة ومكة: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أنه إذا جاء المسيح الدجال لا يستطيع أن يدخل مكة ولا المدينة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {على أنقاب المدينة ملائكة يحرسونها، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال} . وهذا الحديث متفق عليه. {على أنقاب المدينة -أي: أبوابها وطرقها- ملائكة يحرسونها لا يدخلها الطاعون} أي: مرض الطاعون كوباء، فإنه لا يدخل المدينة، بمعنى: أن أهل المدينة لا يصيبهم الطاعون وباءً عاماً ينتشر ويفشو فيهم كما يفشو في البلاد الأخرى. وكذلك الدجال لا يستطيع أن يدخل المدينة. قال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي بكرة: {لا يدخل المدينة رعب المسيح الدجال، لها يومئذ سبعة أبواب، على كل باب ملكان يحرسانها} . وفي الحديث الثالث: وهو حديث أنس رضي الله عنه­، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس بلد إلا وسيطؤه الدجال، -ليس بلد في الدنيا كلها إلا سيطأه الدجال- إلا مكة والمدينة، فإنه لا يطؤهما ولا يستطيع أن يدخل إليهما، لكن ينزل في سبخة من السباخ القريبة من المدينة، فترجف المدينة ثلاث رجفات، فيخرج إليه فيها كل كافر ومنافق} . إذاً قوله عليه الصلاة والسلام: {فيخرج إليه كل كافر ومنافق} دليل على أنه هذا درس وعبرة كبيرة -أيها الأحبة- أنه حتى في الزمان الذي يخرج فيه الدجال، وهو أكثر الزمان ظلمةً وقترةً وسواداً وفساداً وفتنة، حتى في ذلك الوقت يكون في المدينة المنورة، وفي جزيرة العرب، أناس كثيرون يحتاجون إلى النفاق، لماذا يحتاجون إلى النفاق؟ لماذا لم يجاهروا بكفرهم وردتهم وفجورهم؟ ذلك لوجود الخير، ووجود الشوكة للمؤمنين، والصالحين، والطيبين. ولذلك حتى في زمان الدجال؛ المنافقون مستترون في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون أن يُظْهِروا رءوسهم، أو يخافون على مصالحهم، ولذلك يستترون فإذا جاء الدجال كشفوا عن مقاصدهم ومآربهم، وكشروا عن أنيابهم، وخرجوا إلى الدجال في سبخة من السباخ المحيطة بالمدينة. ويكفي المدينة شرفاً وفضلاً وبهاءً ومكانة؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن فيها بقعة من بقاع الجنة. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عبد الله بن زيد المتفق عليه: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} وفي الحديث الآخر: {ومنبري على حوضي} فالرسول عليه الصلاة والسلام ذكر أن هذه البقعة المشرفة من مسجده صلى الله عليه وسلم أنها روضة من رياض الجنة، وهي اليوم تسمى: الروضة النبوية. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 7 فضل مكة أحبتي الكرام: هناك أماكن اختارها الله عز وجل واصطفاها واختصها، وهي أماكن كثيرة جداً، أذكر شيئاً منها، وبعض ما ورد في فضل هذه الأماكن بإيجاز واختصار، لأن الموضوع مهم وطويل. فالله عز وجل اختار مكة والحرم من حولها، كما قال الله عزوجل: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96-97] . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا} . فلا يجوز السفر إلى بقعة في الدنيا كلها بقصد العبادة، إلا لهذه الأماكن الثلاثة، لأن الله اختارها وجعل الصلاة فيها أفضل من الصلاة في غيرها. ومثله في فضل مكة: ما رواه البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل، ولم يحرِّمها الناس} وفي حديث ابن عباس أيضاً: {إن مكة حرَّمها الله عز وجل يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام لا يحل لأحد أن يسفك بها دماً، فإن أحد ترخَّص بقتال النبي صلى الله عليه وسلم، فقولوا: إن الله عز وجل أذن لنبيه ولم يأذن لكم} . ومن المواقف الطريفة والعجيبة في فضل مكة: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أُخرج منها في الهجرة، بعد أن آذاه كفار قريش واضطهدوه، واضطروه إلى الخروج من مكة، خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وكانت آنذاك بلداً صغيراً محدوداًَ، ربما في حدود الحرم اليوم وما حوله، فلما تجاوزها النبي صلى الله عليه وسلم، وصار إلى الشمال الشرقي منها، ربما في المكان الذي توجد فيه الأسواق اليوم، التفت إلى مكة وهو يبكي عليه الصلاة والسلام يقول مخاطباً مكة التي أحبها، قال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي وهو حديث حسن. ومثله ما رواه البخاري أيضاً: {أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما جعل زوجه وابنه إسماعيل في مكة، وذهب وتركهم لحقت به زوجته تقول له: يا إبراهيم، إلى أين تذهب وتدعنا في هذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ وهو لا يجيب، فلما رأت إصراره قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذاً لا يضيعنا. فرجعت إلى ولدها، فجاءهم جبريل عليه الصلاة والسلام، فقال لهم: لا تخافوا الضيعة، فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه} . إذاً وهذا وصية من جبريل عليه السلام لأهل بيت الله وأهل حرمه، وسكان أرضه وبلاده الطاهرة الطيبة المقدسة المباركة، لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 8 جزيرة الإسلام في السنة النبوية جاء ذكر الجزيرة في أحاديث عدة، رأيت أن أسردها لكم مع شيء من التعليق عليها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 9 تعليق على حديث: {عودة الجزيرة مروجاً وأنهاراً} ومن النصوص الواردة في جزيرة العرب: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى يكثر المال، وحتى يخرج الرجل بصدقته فلا يجد من يأخذها، ولا تقوم الساعة حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً} وقوله عليه الصلاة والسلام: {حتى تعود جزيرة العرب مروجاً وأنهاراً} يحتمل عدة أمور: الاحتمال الأول: أن يكون المقصود أن الناس ينشغلون في بعض الأزمنة بالحروب والمعارك والفتن ونحوها، عن الأرض والمزارع والمياه ونحوها، فيهملونها فتكون أنهاراً تسيح ليس لها أحد يهتم بها. وهذا ذكره النووي، وهو بعيد. الاحتمال الثاني: أن يكون ذلك بسبب عناية الناس بالزراعة، وحفرهم للآبار والعيون، وشقهم للترع ونحوها وزرعهم للأرض، وهذا ما نجد بوادره الآن في هذه الجزيرة؛ حيث اشتغل كثير من أهلها بالزراعة، وأخضر كثير من صحاريها الجرداء، وهو داخل -والله أعلم- في معنى الحديث. الاحتمال الثالث: وهو من أقوى الاحتمالات: ما ذكره جماعة من العلماء المتخصصين في هذا العصر، أن هناك احتمالاً كبيراً أن تتحول الجزيرة -فعلاً- إلى أرض ذات هواء لطيف، وجو طيب، وهناك توقع لكثير من العلماء يقولون: احتمال مجيء ما يسمونه بالزحف الجليدي القادم من جهة الشمال إلى هذه الجزيرة، والذي يتسبب في تلطف هوائها، وحسن جوها، ومزيد اعتداله، وبناءً عليه يوجد في هذه الجزيرة فعلاً مروج حقيقية، وأنهار حقيقية، كما كانت موجودة فيها من قبل، كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: {حتى تعود جزيرة العرب} فقوله: (تعود) قد يدل بظاهره على أنها كانت مروجاً وأنهاراً في غابر الزمان، وتعود في آخر الزمان أيضاً مروجاً وأنهاراً، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم. فخالقها جل وعلا قادر على أن يفجر فيها الأنهار والعيون، وأن يحول جدبها إلى خصب، وأن يحول أراضيها الجرداء القاحلة إلى رياض خضراء مزهرة، والله تعالى على كل شيء قدير: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] . ومن النصوص الواردة في الجزيرة العربية من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما رواه نافع بن عتبة، وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، ثم تغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال فيفتحه الله} إذاً المسألة بالترتيب أربعة أشياء، يا أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام هكذا ذكر لكم نبيكم عليه الصلاة والسلام عملكم: أولاً: تغزون -والخطاب لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- جزيرة العرب، وهكذا كان، فإنهم غزوا الجزيرة حتى لم يمت النبي عليه الصلاة والسلام إلا ومعظم الجزيرة خاضع لحكم الإسلام، وجاءته الوفود من كل مكان ففتحها الله. بعد ذلك انتقلوا إلى بلاد فارس، فغزوها ففتحها الله. ثم انتقلوا إلى بلاد الروم، ولا زالت الحروب مع الروم ومع بلاد الروم. ثم بعد ذلك الدجال وهو في آخر الزمان. أربعة مراحل في تاريخ هذه الأمة، ذكرها صلى الله عليه وسلم، وظاهر من خلالها أن جزيرة العرب هي أول ما يفتح للإسلام، ويجتمع عليه أمر هذا الدين. أيضاً من الأحاديث الواردة: حديث حذيفة بن أسيد رضي الله عنه، وهو في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج عليهم يوماً وهم يتذاكرون الساعة. فقال: ماذا تتذاكرون؟ قالوا: نتذاكر الساعة. قال صلى الله عليه وسلم: إنها لن تقوم حتى تروا عشر آيات} فذكر صلى الله عليه وسلم الخسف والدخان والدابة، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: {وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في جزيرة العرب خسف في آخر الزمان قبل قيام الساعة، ولعل هذا الخسف الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم، هو الخسف الذي بينه في حديث عائشة وأم سلمة وغيرهما، وهو في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يعوذ عائذ بالبيت} وفي أحد الأحاديث: {أنه صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام عبث في منامه -أي تحرك في منامه بحركة لم تكن معهودة منه- فلما استيقظ، قالت له عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! صنعت شيئاً لم تكن تفعله! قال عليه الصلاة والسلام: العجب أن ناساً من أمتي أو قوماً من أمتي يؤمون هذا البيت لرجل من قريش، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم} . وفى رواية: {يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم} وفي رواية: {ثم لا ينجو منهم إلا الشريد الذي يخبر عنهم} فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يسخر الأرض لنصرة قوم من أوليائه وحزبه وجنده، يعتصمون بذلك البيت ليس لهم منعة إلا سيوفهم واعتصامهم بالله جل وعلا وثقتهم به، فيؤمهم قوم، أي: يغزونهم ويقاتلونهم، وهم أقوى منهم وأقدر، فيسلط الله تعالى عليهم الأرض، فتفتح فمها ثم تبتلع هذا الجيش عن آخره، حتى يكون فيه أسواقهم ودوابهم ومن ليس معهم، والمجبور، والمستبصر، وابن السبيل، والتاجر وغيرهم، ثم يبعثون على نياتهم، يردون مورداً واحداً، ويصدرون مصادر شتى. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 10 تعليق على حديث: {إن الشيطان يئس أن يعبد في جزيرة العرب} النوع الثاني من النصوص: ما رواه مسلم أيضاً، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم} . والحديث رواه مسلم، وقد جاء الحديث نفسه عن جماعة من الصحابة، منهم أبو هريرة وجرير وأبو الدرداء وأبي بن كعب وعبادة بن الصامت وغيرهم، كلهم ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} . وهذا الكلام يحتمل أموراً منها: أولاً: إن الشيطان يئس أن يعود أهل الجزيرة مرتدين كلهم، وإن وجد منهم ردة، ووجد فيهم شركاً، ووجد فيهم فساداً، لكن يئس الشيطان أن يرتد الناس كلهم عن الإسلام في هذه الجزيرة. ثانياً: أن يكون المقصود الناس الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا، فإن الشيطان لما رأى انتشار الإسلام وعزته وقوته؛ يئس من رجوع الناس عن دينهم أو ردتهم عنه، واستسلم للأمر الواقع. وذكر العلماء وجوهاً أخرى لهذا الحديث، ومنها: أنَّ يأس الشيطان متعلق بالمصلين، فالذين يصلون وهم ورواد المساجد، قد يئس الشيطان منهم أن يعبدوه ويشركو في ولكنه رضي منهم بما دون ذلك، وهو التحريش بينهم، وإثارة العداوات والبغضاء، وملء القلوب بالإحن والضغائن، والكلام في الناس حتى تمتلئ القلوب بالضغائن والأحقاد. هذا هو الذي تسلط به الشيطان على المؤمنين في هذه الجزيرة وفي غيرها، فنحن نرى المؤمنين وطلبة العلم -في كثير من الأحيان- يكون في قلوبهم الحسد البغضاء وسوء الظن والقيل والقال، إلى غير ذلك من الأشياء التي يوقد الشيطان نارها في قلوب المصلين، فيرضى منهم الشيطان بذلك ويكفيه منهم هذا. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 11 الجزيرة العربية عاصمة الإسلام روى ابن عباس رضي الله عنه، كما في الصحيحين قال: {يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى حتى بلَّ دمعه الثرى، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما اشتد به وجعه، قال: ائتوني حتى أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً. قال: فاختلفوا، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فبعضهم قالوا: قربوا حتى يكتب لكم كتاباً. وبعضهم قالوا: ما شأنه صلى الله عليه وسلم؟ -استفهموا- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فالذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه، ثم أوصاهم صلى الله عليه وسلم بثلاث: الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب. والثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم -أي: أعطوا الوفود التي تبايع على الإسلام بمثل ما كنت أعطيهم- قال الراوي: ونسيت الثالثة} والثالثة كما ذكر أهل العلم، هي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد، الذي وجهه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام. وفي حديث عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} والحديث عند مسلم وفي رواية عند الترمذي قال: {لئن بقيت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} . وعائشة رضي الله عنها تقول: [[آخر ما عهد للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا يترك بالجزيرة دينان]] . لا يجتمع ولا يتساكن في جزيرة العرب دينان، وجزيرة العرب هي جزيرة الإسلام وجزيرة الإيمان، لا يساكنه فيها دين آخر أبداً. وحديث عائشة رواه أحمد، وسنده حسن. ومثله حديث أبي عبيدة رضي الله عنه: {آخر ما تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته: أخرجوا يهود الحجاز ونصارى نجران من جزيرة العرب} . إذاً نص النبي صلى الله عليه وسلم على إخراج المشركين واليهود والنصارى، وبالذات يهود الحجاز، لأنهم كانوا موجودين في خيبر ونحوها، وكذلك النصارى كانوا موجودين في نجران، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم، والحديث رواه أحمد. وروى مالك في الموطأ عن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} . هذا هو القسم الأول من النصوص الواردة في الجزيرة، وهي صريحة من أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لهذه الجزيرة بأنها عاصمة الإسلام وبقعته، وتتميز عن كل بلاد الدنيا بهذا الحكم الخاص؛ أنه لا يجتمع فيها دينان، ولا يساكن الإسلام فيها ملة أخرى، لا شرك ولا يهودية ولا نصرانية ولا مجوسية، ولا غيرها. وما ذلك إلا لأنها المنطلق الأول والأخير للإسلام، ولأن الله عزوجل كتب أن تكون هذه الجزيرة هي الدار، كما قال الله عزوجل: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر:9] . فهي دار الإيمان وبلاده وأرضه، التي يفيء إليها، ويأتي إليها أهل الإيمان من كل مكان وفى كل زمان. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 12 حدود الجزيرة العربية ما هي الجزيرة العربية؟ وما هي حدود هذه الجزيرة؟ وما المقصود بها؟ تكلم أهل العلم كالإمام أحمد والشافعي ومالك وغيرهم، في حدود هذه الجزيرة، وغالب هذه الأقوال تذكر بعض بلاد الجزيرة العربية؛ كاليمامة، والحجاز، ومكة، والمدينة، وخيبر، وفدك ونحوها. ويقول الخليل بن أحمد: إن الجزيرة العربية سميت جزيرة؛ لأنه يحدها بحر الحبشي من جهة، وبحر فارس من جهة أخرى. كأنه يعني الخليج العربي والبحر الأحمر، كما تسمى بلغة الناس اليوم. فهذه حدود الجزيرة العربية، وهي في الواقع ليست جزيرة وإنما هي شبه جزيرة؛ لأن البحر يحدها من ثلاث جهات تقريباً، وسموها جزيرة من باب التسامح، وهي أكبر شبه جزيرة في العالم، فلا يوجد شبه جزيرة في الدنيا في مساحة وسعة هذه الجزيرة العربية. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 13 مميزات الجزيرة العربية وهذا الموقع الذي تميزت به له آثار كبيرة جداً، يدركها الإنسان بأدنى تأمل، من آثار هذا الاختيار الإلهي لهذه الجزيرة ما يلي: وسنقف وقفات عند هذا الموقع وهذه الجزيرة، وهذه الأرض التي اختارها الله تعالى للإسلام: الجزء: 30 ¦ الصفحة: 14 اعتدال جوها وهوائها ميزة رابعة: وهي من طريف ما ذكره بعض العلماء، خاصة من يسمونهم بعلماء الفسيولوجيا، يقولون: إن هذه الجزيرة بحكم وجودها في المنطقة المتوسطة بين الشرق والغرب، فإن هواءها وجوها معتدل نسبياً، ولذلك فإن الإنسان الذي يعيش فيها يستطيع أن يتكيف مع الأجواء الأخرى شديدة البرودة مثلاً، بخلاف الناس الذين يعيشون في الأجواء الباردة، كالمناطق القطبية مثلاً، والبلاد الأمريكية؛ فإنهم لا يستطيعون أن يتكيفوا مع جو هذه الجزيرة. ولذلك إذا جاءوا إليها، سرعان ما تتأثر وجوههم وسحناتهم وأشكالهم، ثم ينتقل التأثير بعد ذلك إلى أجهزة أجسامهم، وتتأثر بذلك تأثراً كبيراً. وهذه ميزة؛ أن هذه الجزيرة هي لأهلها، لأهل هذه البلاد، لأهل الإسلام، أما أهل الإسلام فيستطيعون أن يغزوا بلاد الدنيا كلها، فهم يذهبون إلى كل البلاد فيستطيعون أن يعيشوا فيها، لينشروا فيها دين الله عز وجل، وينشروا فيها القرآن، وينشروا فيها أحاديث الرسول عليه والصلاة والسلام، فهم يستطيعون أن يتكيفوا مع كل الأجواء ومع كل البلاد. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 15 الموقع الاستراتيجي ميزة خامسة: إن هذه الجزيرة في موقع استراتيجي هام، فهي تمسك بخناق العالم كله، وتتحكم بطرق تجارته، فهي صلة الوصل بين عدد غير قليل من الدول الكبيرة والقارات، وهي تربط بينها، وتهيمن على عدد من الممرات المهمة، التي يعتبر إيقافها -لو أوقفت- يعتبر قطعاً لشريان الحياة عن جزء كبير من هذه الأرض، وهذه ميزة أيضاً لهذه الجزيرة اختارها الله عزوجل لها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 16 نعمة الشمس وأخيراً فيما يتعلق بالميزات الموجودة في هذه الجزيرة: هذه الشمس التي أنعم الله بها على هذه الجزيرة، أتدرون أنهم يحسدوننا على كل شيء، حتى على هذه الشمس التي تشرق علينا؟! كم في هذه الشمس من الخيرات: {وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً} [النبأ:13] هذه الشمس التي تكون سبباً في الصحة والعافية، وقتل كثير من الأوبئة والأمراض الموجودة في الهواء، وفي النباتات، وفي الإنسان، وفي غيرها. هذه الشمس التي تكون سبباً في ظهور نباتات كثيرة يستفيد منها الناس، كالليمون وغيره، والذي يقول بعض الغربيين: لو كان عندنا هذا ما احتجنا إلى مستشفيات، ويحسدوننا عليه أيضاً. هذه الشمس التي بدءوا الآن يفكرون بما يسمونه بتخزين الطاقة الشمسية؛ بحيث يمكن أن تحول إلى أشياء يستفاد منها في الزراعة، وفي التهوية، وفي التصنيع، وفي الإضاءة، في أشياء كثيرة جداً بواسطة ما يسمونها بالطاقة الشمسية. وهم -أيضاً- يحاولون أن يعرقلوا هذه المشاريع، ويقفوا في وجهها. هذه الشمس التي هي سبب في خيرات كثيرة أنعم الله بها على هذه الأرض. ولذلك بمجمل هذه الأشياء؛ فإن هذه الجزيرة -باختصار- تستطيع أن تستغني عن الدنيا كلها، بثرواتها وخيراتها، بمزروعاتها وحيواناتها وألبانها، بشمسها وهوائها، تستطيع أن تستغني عن الدنيا كلها، فهل تستطيع الدنيا أن تستغني عن هذه الجزيرة؟! كلا! إن هذه الجزيرة تملك -قبل ذلك كله- أمراً آخر هو أعظم من هذا، ألا وهو أنها تملك إيصال الهداية إلى البشرية كلها، تملك أن توصل هذا الدين وتحمل هذا النور، الذي حمّله الله عزوجل أهل هذه البلاد، وحمَّله المسلمين أجمعين من ورائهم، على حين أن الدنيا لا تملك إلا الضياع والدمار والخراب والبوار. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 17 صحراؤها حمتها من كيد الغزاة الميزة الثانية: أن أرض هذه الجزيرة الصحراوية جعلتها بمنجاة من كيد الغزاة. فإن صحراء هذه الجزيرة ورمالها مقبرة للغزاة الذين يهمون بها منذ فجر التاريخ، فقد حماها الله عزوجل بصحرائها ورمالها الممتدة، وأرضها الواسعة، من كيد الغزاة المحتلين منذ فجر التاريخ إلى اليوم، كما أن الله عزوجل حماها بذلك من تأثير الحضارات المادية، فتأثير الحضارة المادية في الماضي والحاضر على الجزيرة هو أقل تأثيراً، ففي الماضي -مثلاً- كانت حضارة الفرس والرومان واليونان والهند والصين، ومع ذلك الجزيرة كانت بعيدة عن هذا كله لا تدري ماذا يدور في الدنيا! أما اليوم فمع أن الجزيرة -ولا شك- قد تأثرت بالحضارات المادية الموجودة، ووجد من أبنائها من يتأثر بحضارة الشرق فيدين بمبدأ الشيوعية -مثلاً- أو يتأثر بحضارة الغرب، فيرفع راية العلمانية، وينادي بفصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة، وعن المرأة، وعن الاجتماع، وعن الاقتصاد، وعن التعليم، وجعله محصوراً في المسجد. فوجد هؤلاء ووجد أولئك، ولا تزال رياح الفساد والتغيير تهب على هذه الجزيرة من كل مكان، وهذا أمر لسنا نجهله بحمد الله، وينبغي أن نكون جميعاً على أن يكون هذا الأمر على بالنا، وألا نستنيم أو ننخدع بما نتكلم فيه. ولكنني أقول: مع ذلك؛ إن من العدل أن ندرك أن هذه الجزيرة على رغم هذا كله؛ لا تزال هي أطهر بقعة في الدنيا، ولا تزال أنموذجاً فريداً من بين بلاد الدنيا. ولو أردت أن أتحدث عن التميز الموجود الآن في الجزيرة لطال المقام، ولست أريد -كما ذكرت- أن أبالغ في مدح هذه الجزيرة ومدح أهلها والثناء عليهم، حتى كأننا لا نريد أن نصنع شيئاً، لا. ليس بين أحد وبين الله عزوجل سبب إلا التقوى، فالقرشي والعربي وساكن الجزيرة وغير ساكن الجزيرة والأعجمي، كلهم في ميزان الله تعالى سواء قال الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وليس لنا بلد نقول هذا بلدنا، سواء آمن أم كفر، كلا! أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنا لك حيث يبعثها المنادي فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني وميزة الصحراء في هذه الجزيرة أيضاً: أنها جعلت شعوب هذه الصحراء شعوباً قوية أبية جديرة، لا تحمل الضيم، ولا تقبل الذل، ولا ترضى به، ولا تعطي الدنية في دينها بحال من الأحوال. إن في الشعوب التي نشأت في الصحراء، من القوة والشهامة والعزة والأنفة والكرامة أشياء كثيرة، ولذلك يقول الرافعي -رحمه الله-: إنما الإسلام في الصحراء انتهد ليجيء كل مسلم أسد انظر هل أنت كذلك، أم لا؟! وانتهد، أي: وجد ونشأ. إنما الإسلام في الصحراء انتهد ليجيء كل مسلم أسد ليس كالمسلم في الخلق أحد ليس خلق اليوم بل خلق الأبد المسلم لا أحد مثله، خاصة حين يكون نشأ في هذه الصحراء، وتربى على القوة والرجولة والفتوة فيها، بعيداً عن ترف الحضارة وزخرفها والإغراء في لذاتها ومادياتها وشهواتها. هذا محمد إقبال يناديكم، ويقول: أمة الصحراء يا شعب الخلود من سواكم حل أغلال الورى أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من هو الذي قال: {إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله عز وجل} ؟ إنه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى يد من تحقق هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟! لقد تحقق على يدي أمته وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين. أي داع قبلكم في ذا الوجود صاح لا كسرى هنا لا قيصرا من سواكم في حديث أو قديم أطلع القرآن صبحاً للرشاد هاتفاً في مسمع الكون العظيم ليس غير الله رباً للعباد لا تقل أين ابتكار المسلمين؟ لا تقل: أين حضارة المسلمين، أين علمهم، أين تقدمهم؟! لا تقل أين ابتكار المسلمين؟ وانظر الحمراء واشهد حسن تاج دولة سار ملوك العالمين نحوها طوعاً يؤدون الخراج دولة نقرأ في آياتها مظهر العزة والملك الحصين وكنوز الحق في طياتها دونها حارت قلوب العارفين أنتم يا شعب الصحراء، طالما كنتم جمالاً للعصور وجمالاً للتاريخ وجمالاً للأمم، تشرئب الأعناق عند ذكركم. فكروا في عصركم وانتبهوا طالما كنتم جمالاً للعصر وابعثوا الصحراء عزماً وابعثوا مرة أخرى بها روح عمر ينادي -رحمه الله- أن يكون في المسلم روح عمر من جديد، روح القوة والشجاعة والشهامة والحمية والأنفة وإباء الضيم. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 18 احتواؤها على ثروة طائلة ميزة ثالثة: تتميز هذه الجزيرة في موقعها وأرضها وهوائها وصحرائها وذلك يتعلق أيضاً بجوها وتربتها وصحرائها: إن الله عز وجل جعل فيها خزائن الأرض، ولذلك جاء في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} هكذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم، ولاحظ التعبير: {مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي} . يقول أبو هريرة رضي الله عنه: [[فقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنتم تنتثلونها]] أي تستخرجونها. وكان الناس في يوم من الأيام يحسبون خزائن الأرض هي الذهب والفضة فقط، لا يعرفون غيرها، أما اليوم فقد علمت الدنيا كلها أن هناك في باطن هذه الأرض، خاصة أرض الجزيرة، أنها كما يقولون: خزان يعوم على بحر من النفط. هذا النفط الذي هو من أعظم خزائن الأرض، وأعظم ثرواته وخيراته، حتى إن حضارة الناس اليوم وحياتهم في الشرق والغرب؛ لا يمكن أن تستغني عن هذا النفط بحال من الأحوال، ولو تعطل لتوقف اقتصادهم، وتوقفت صناعاتهم، بل وتوقفت حياتهم، وسياراتهم، وأمورهم، وتدفئتهم، وغذاؤهم، وأكلهم وشربهم، كل أمورهم بنوها على هذا، خاصة في بلاد الشرق والغرب. إذاً: في هذه الجزيرة هذه الثروة الهائلة العظيمة التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بها وبغيرها، حينما قال: {وبينا أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} فهذا جزء من خزائن الأرض، أكثر من (70%) من نفط العالم، موجود في هذه الجزيرة وما حولها. وأما بلاد الدنيا كلها على سعتها أطرافها، فيها قرابة 30% من هذا النفط. قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] وقد انزعج لذلك وجزع منه أعداء الإسلام من الكفار ومن كافة الأصناف، وتعجبوا كيف يكون في هذه البلاد كل هذه الخيرات؟! كيف تكون بهذا الثراء العظيم؟! يقول تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ * وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:68-69] . إنهم يسخرون من هذه الجزيرة ومن أهلها، ويكيدون لهم، ولكن الله عزوجل لهم بالمرصاد قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] . إن الأمة الإسلامية يوم أن تستطيع أن تتحكم تحكماً حقيقياً بخيراتها، فهي بلا شك الأمة القادرة على قيادة البشرية، وتزعَّم الإنسانية، ونشر دينها في أرجاء المعمورة من أقصاها إلى أقصاها، وأن تكون هي الأمة القائدة والرائدة العظيمة، التي تذعن لها جميع بلاد الأرض. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 19 الجزيرة مركز الدنيا أولاً: الجزيرة وسط في هذه الدنيا كلها، فإننا نحن المسلمين سرنا حتى إذا صرنا في مركز الأرض قعدنا وقلنا هذا موقعنا الذي اختاره الله تعالى لنا جزيرة العرب، ولذلك الدراسات الحديثة اليوم تقول: إن مكة هي مركز الأرض؛ بمعنى أن اليابسة موزعة على مكة بنسب منتظمة متعادلة، فمكة في الوسط، وقد كتب أحد المتخصصين في علم المساحة؛ وهو الدكتور حسين كمال الدين، كتب في مجلة البحوث الإسلامية، التي تصدرها رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء، في العدد الثاني بحثاً طويلاً، أثبت فيه بالأدلة والدراسات والإحصائيات والبحوث؛ أن مكة هي مركز الكرة الأرضية، وهي مركز الدنيا. ولذلك الفقهاء القدماء -فقهاء الأحناف والشافعية وغيرهم- يذكرون أن هناك يوماً في السنة لا يكون للأشياء فيه ظل بمكة، يوم واحد في السنة كل الأشياء في مكة عند الزوال لا يكون لها ظل، لماذا؟ لأن الشمس تكون عمودية تماماً على مكة، فلا يكون للأشياء ظل، أما في البلاد الأخرى فإنه عند الزوال -وقت زوال الشمس الساعة 12بالتوقيت الزوالي- يكون للأشياء ظل لكنه قليل، أما في مكة، فهناك يوم أو أكثر، لا يكون للأشياء ظل عند الزوال على الإطلاق؛ لأن مكة مركز الأرض، والشمس تكون عليها عمودية تماماً، فلا يكون للأشياء فيها ظل. وهذه ميزة، ولذلك قال الله عزوجل: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7] . قال بعض أهل العلم: لأن الدنيا كلها حول أم القرى، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعث لينذر الدنيا كلها، لا لينذر الجزيرة العربية فحسب، ولا لينذر العرب فحسب، ولكن لينذر الأمم كلها: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 20 فضل العرب ومميزاتهم العرب الذين يسكنون في هذه الجزيرة ومن حولها، أي شعب هم؟ وما ميزتهم؟ وما خصائصهم؟ لست من القوميين الذي يريد أن يمدح العرب ويتغزل بهم، ويجعل العرب أفضل الشعوب أياً كانوا: مسلمين، أو يهوداً أو نصارى، أستغفر الله فإن القومية دين آخر غير دين الإسلام بهذا المعني. ولكنني أيضاً، لست من الشعوبيين الذين يحاولون أن يقللوا قيمة العرب، ويتهموا العرب، أو يفضلوا عليهم شعوباً أخرى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه العظيم الكبير اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، يقول: إن أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جميع الأجناس، من عجمها ورومها وعبريها وفارسيها وغيرهم. فجنس العرب أفضل من جميع الأجناس على سبيل الإجمال، وقد يوجد في العجم أفراد أفضل من العرب، وقد يوجد في الفرس أفراد أفضل من العرب، لكن الجنس -بشكل عام- العرب أفضل، كما أننا نقول مثلاً: جنس الرجال أفضل من جنس النساء. ومع ذلك قد يوجد في النساء من هي أفضل من الرجال. هكذا يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن جنس العرب أفضل من جنس العجم، والروم والفرس وغيرهم. وهذا أمر معروف، حتى لا يكاد أن يجادل فيه أحد من الذين فقهوا عن الله تعالى وعن رسوله. وهذا الفضل للعرب من جوانب عديدة منها: الجزء: 30 ¦ الصفحة: 21 اللغة أولاً: اللغة. فإن الله عزوجل اختص العرب بهذه اللغة الواسعة الشاعرة القوية، التي أنزل الله تعالى بها كتابه: وَسِعْتُ كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آيٍ به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي الجزء: 30 ¦ الصفحة: 22 الحفظ الميزة الثانية فيما يتعلق بالعرب هي: الحفظ؛ فإن العرب عندهم أذهان قوية قادرة على الحفظ؛ ولذلك تجد أن العربي يستطيع أن يحفظ من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، ومن الأشعار، والأقوال، وغيرها ما لا يستطيع غيره من الشعوب، وهذه ميزة. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 23 العقول الميزة الثالثة: العقول؛ وأعتقد أن العرب، وخاصة في هذه البلاد يتميزون بعقول عملية، أي: أن العرب يتميزون بالعقول التي تعلمهم كيف يعملون؛ وكيف يخطون الطريق لنصر دينهم؛ كيف يجاهدون في سبيل الله؛ كيف يصلون إلى ما يريدون، وليست العقول التي دمرتها الفلسفة والترف والضياع في أمور لا طائل تحتها. فإن الفلسفة ضيعت كثيراً من العقول الأجنبية، فالعرب لا يعترفون بهذه الفلسفة، ولا يلتفتون إليها. فالعقول عندهم هي التي ترشد الإنسان إلى الطريق المستقيم الذي يكون به سعيداً في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 24 الأخلاق ومن أعظم الميزات للعرب أيضاً: الأخلاق والغرائز؛ فإنهم يتميزون بأخلاق لا يتميز بها غيرهم، وهذا لا يشك فيه أحد عايش العرب، وعايش غيرهم من الأمم والشعوب. فهم أطوع للخير، وأقرب للسخاء، والحلم، والشجاعة، والكرم، والوفاء، والعطاء من سواهم حتى في الجاهلية كان العرب عندهم طبيعة طيبة لكنها مثل الأرض الطيبة التي لم ينزل عليها مطر، فلما جاء الإسلام كان المطر الذي نزل على أرض طيبة فـ: {اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] . كان العرب في جاهليتهم يهيمون بالحرية، ويأبون الذل، والرق، والاستعباد، ويبعدون عن الغطرسة، والازدراء ولا يقبلون الضيم بحال من الأحوال، ولم يتعودوا على حمل الضيم، ولهم في ذلك قصص عجيبة. أما الأمم الأخرى فإنها تقبل الضيم، وأذكر لذلك قصة طريفة، يقال: أن كسرى أمر جنوده أن -يمسحوا الأرض- يمسحوا بلاده ويقوموا بإحصائية عن المزارع والأراضين وغيرها، فمسحوها وقدموها بين يديه، فجمع كسرى الناس، وقال لهم: قد جمعنا الأرض، ومسحناها، وقررنا أن نأخذ منكم في السنة (3) مرات مقداراً معيناً من المال، نضعه في بيت المال حتى إذا حصل أمر عارض، احتجنا فيه إلى المال، أخرجنا من هذا المال وأنفقناه في حاجتنا، فما رأيكم؟ فسكتوا وأعاد مرة أخرى: ما رأيكم؟ وسكتوا. ومرة ثالثة، يقول: ما رأيكم؟ فقام إنسان مسكين رديء الحال وبدأ يعطيه من ألفاظ التبجيل، والتقدير، والتوقير المعروفة للطغاة، ثم قال له: كيف تجعل هناك خراجاً وجُعْلاً ثابتاً في السنة ثلاث مرات، على أرض غير ثابتة؟ فإن الزرع يهيج ويموت، والماء يتوقف، والنبع يجف، والكَرْم يهلك، فكيف نخرج عطاءً ثابتاً على أشياء قد تموت وقد تهلك؟! فقال: يا مشئوم، يا مشئوم ماذا تعمل أنت؟ ما هو عملك؟ قال: أطال عمرك! أنا كاتب. فقال أين الكتاب؟ فجاء الكتاب كل واحد معه الدواة. قال: اقتلوه بالدواة، فبدأ كل واحد يضرب هذا المسكين بالدواة حتى قتل هذا المسكين. وبعد ذلك قال كسرى للناس: ما رأيكم؟ قالوا: رضينا، رضينا، والذي تراه هو المبارك. فهذه الأمم الأخرى تحملت الضيم، وتعودت على حمله، وأذعنت له حتى لا يهم أحد منهم أن يتكلم بالحق. أما العرب فكانوا على النقيض من ذلك؛ حتى في جاهليتهم؛ ولذلك أمثلة كثيرة من أمر الجاهلية يطول الكلام فيها، وهي موجودة في كتب الأدب والشعر، لكن لا بأس أن أضرب شيئاً منها: هناك رجل عربي في الجاهلية كان عنده فرس نفيسة يسميها: سكاب، فجاءه شيخ القبيلة، أو ملكهم، فقال له: أريد هذا الفرس، أريدها لي، أو أعطني إياها، أو أهدها إليّ، فرفض وأنشأ يقول أبياتاً من الشعر: أبيت اللعن! إن سكاب علق نفيس لا يعار ولا يباع أبيت اللعن: حجية معروفة عند العرب. علق نفيس: يعني شيء مهم جداً، لا يعار ولا يباع. فلا تطمع أبيت اللعن فيها ومنعكها بشيء يستطاع ما دمت مادامت أستطيع أن أمنعكها، فلن أعطيكها بحال من الأحوال. أيضاً عمرو بن كلثوم، وهو شاعر جاهلي معروف، طلب منه عمرو بن هند؛ وهو ملك من ملوك العرب، طلب منه أن يزوره، قال: تأتي أنت وأمك، فجاء هو وأمه -اسمها ليلى - وزاروا هذا الملك. فجلس هو عند الملك عمرو بن هند، وجلست أمه عند أمه، فقالت أم الملك لـ أم عمرو -هذا الزائرة-: يا ليلى أعطيني الطبق هذا، وكانت قد أوحت للخادمات أن اذهبن، فهي خططت خطة، وقالت لهن: اذهبن كلكن. وقالت لها: يا ليلى أعطيني الطبق، تريد أن تكون خادمة لها. فقالت لها: صاحبة الحاجة تقوم إلى حاجتها، لا أعطيك الطبق قومي أنتِ. فألحت عليها، فلما أصرت عليها، صاحت وقالت: واذلاه، يا لتغلب، -تغلب قبيلتها- فسمعها ولدها وكان جالساً عند الملك عمرو بن هند في الرواق، فقام إلى سيف معلق في الرواق فأخذه وضرب به رأسه حتى برد، ثم عدا وسطا هو وقومه على كل ما في هذا الرواق فأخذوه وذهبوا، وهربوا إلى جزيرتهم، ثم أنشأ يقول: بأي مشيئة عمرو بن هند تطيع بنا الوشاة وتزدرينا تهددنا وأوعدنا رويداً متي كنا لأمك مقتوينا؟! يعني: متى كنا خداماً لأمك؟! إذاً: هذا كان حال العرب في الجاهلية، وهذه لا شك أنها خصائص فطرية ليست بالسهلة. وأذكر -أيها الإخوة- على سبيل المثال في مجال الكرم -مثلاً- العربي حتى الآن والمسلم كريم، وفي بلاد الكفار لا يعرفون شيئاً اسمه الكرم، بل إنهم إذا رأوا مسلماً يجود بالمال لغيره ضحكوا به، وقالوا: هذا مجنون، كيف يعطي المال بدون مقابل؟! فهم لا يتذوقون طعم الأخلاق الفاضلة؛ فضلاً عن أن يعملوا بها. أما لما جاء الإسلام ظهر صدق العرب في أمور؛ حتى الذين كانوا يحاربون الإسلام ظهر صدقهم، مثلاً: سهيل بن عمرو لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما اتفقوا على كتابة الكتاب، قال: {اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: لا تكتب رسول الله، فوالله لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك} فكانوا صرحاء، أي: الكافر منهم صريح في كفره، والمؤمن صريح في إيمانه. ولذلك كان المنافقون في المدينة غالبهم من اليهود، ولم يوجد في مكة منافق، بل إن في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوماً من الأيام جالساً تحت شجرة نائم، فجاءه رجل من الأعراب، اسمه غورث بن الحارث وهو مشرك، فرفع السيف على النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم والسيف في يده، فقال يا محمد: من يمنعك مني؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله، فسقط السيف من يده، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف ومده، وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد؛ يا محمد! كن خير آخذ. قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله -والسيف أمامه الآن، قال: لا -فهو لم يخف من الموت- قال: ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله النبي صلى الله عليه وسلم} . إذاً هذا دليل أن هذا الرجل ليس عنده استعداد للنفاق، فهو إما مسلم صريح، أو كافر صريح. عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه قاتل النبي صلى الله عليه وسلم كما هو معروف ثم أسلم، وفي معركة اليرموك ضايقوا عكرمة، وضايقوه، وضايقوه، وتألبوا حوله حتى أرادوه أن يفر من المعركة، فقال: [[قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في الكفر في مواطن كثيرة، وأفر منكم اليوم!؟ لا والله، من يبايعني على الموت؟ فبايعه خلق على الموت، فصار يضرب ويقاتل بسيفه، حتى أثبتوه بالجراحة، ثم قتلوه رضي الله عنه]] يقول: غير معقول أني أفر من المعركة، وأنا بالأمس أقاتل الرسول عليه الصلاة والسلام، والآن بعد أن هداني الله للإسلام أفر من أمام الروم. ولذلك أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على قبائل كثيرة من قبائل العرب، والكلام في هذا يطول. من القبائل التي أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليها قريش قال: {الناس تبع لقريش مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم} . كما أثنى صلى الله عليه وسلم على أسلم فقال: {أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها} . وعلى الأنصار، وجهينة، ومزينة، وأشجع، وبنو تميم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم عن بني تميم: {إنهم أشد الناس على المسيح الدجال} . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 25 شواهد التاريخ والواقع والمستقبل نقطة سادسة في الموضوع وهي: شواهد التاريخ والواقع والمستقبل. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 26 شواهد المستقبل أما فيما يتعلق بمستقبل هذه الجزيرة فسأتحدث عنه في نقاط. ذكرت قبل قليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم هدد جيشاً بالخسف؛ لأنه يغزو الكعبة، ويحاول أن ينتهك الحرمة، ويسيء إلى بلاد الله تعالى وأهله وحرمه، فالله عزوجل يأخذه بهذه الطريقة التي بيَّنها الرسول صلى الله عليه وسلم. كذلك الحارث بن مالك، كما في الحديث الذي رواه الترمذي، وسنده حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم -بعد ما فتحت مكة- قال: {لا تغزى مكة بعد اليوم أبداً} وهذا دليل ووعد صادق من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ بأن مكة وما حولها محفوظة بحفظ الله عز وجل، فلا تغزى -بعدما غزاها النبي صلى الله عليه وسلم وفتحها- لا تغزى إلى قيام الساعة، لا يغزوها عدو كافر، يهودي أو نصراني أو شيوعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ووعد به. وفى ذلك بيان لحفظ الله عزوجل لهذه البلاد ولأهلها، وأنه وإن قصرت فيهم النفقة، وإن عجزوا، وإن كان فيهم نقص في إمكانياتهم وقدراتهم المادية والعسكرية، إلا أن الله عزوجل يحفظ هذه البلاد بقوم صالحين يقومون على أمر هذا الدين، وهم جزء من الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث. إذاً فجهود الأعداء الخارجيين أياً كانوا، الذين يحاولون غزو هذه الأمة، وتحطيم قوتها وإمكانيتها، سوف تذهب أدراج الرياح، وسوف تدفن في رمال الصحراء، وكذلك جهود الأعداء الداخليين أياً كانوا أيضاً، وبأي اسم تسمو، وتحت أي راية حُشِرُوا، جهودهم سوف تبوء بالفشل، وسوف يدركون في النهاية أنه ليس أمامهم إلا أحد ثلاثة أمور: إما أن يتوبوا إلى الله عز وجل، ويقلعوا عما هم عليه ويتركوا مثل هذا الأمر. وإما أن يهربوا إلى غيرها، فإن هذه الجزيرة كالمدينة، كما ذكر هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تنفي خبثها، وتنصع طيبها} فهي تنفي الخبث والنفاق والمنافقين، فإذا جاء الدجال وهو الفتنة الكبرى، لا يدخل مكة ولا المدينة، ويخرج إليه كل منافق ومنافقة، ولا يطيقون البقاء، ويلحقون بزعمائهم، سواء كانوا من اليهود، أو النصارى، أو القوميين أو الشيوعيين أو المنافقين أو سواهم، لا مقام لهم هاهنا، وإلا فليأذنوا بحرب من الله ورسوله، كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60-61] . يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد، الذي رواه البخاري: {ليُحجنَّ هذا البيت، وليُعتمرنَّ بعد يأجوج ومأجوج} إذاً البيت باق، والمدينة باقية، ومكة باقية، والجزيرة محفوظة بحفظ الله جل وعلا، وما دورنا إلا أن نعمل على أن نكون نحن المؤمنين الذين يحفظ الله تعالى بنا البلاد والعباد، فهذا هو واجبنا. وسأتحدث عن جوانب أخرى من الموضوع في محاضرة قادمة. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 27 شواهد التاريخ أما شواهد التاريخ فكثيرة. أولاً: البيت العتيق، قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] قال جماعة من المفسرين: إنما سمي بالبيت العتيق؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط، ولا يزال محفوظاً بحفظ الله تعالى من تسلط الطغاة والكفار والمفسدين عليه. ثانياً: ما ذكر الله عزوجل في سورة الفيل، لما جاء أبرهة بجيشه لهدم الكعبة، فسلط الله عليهم الطير الأبابيل، وأنزل في ذلك قرآناً يتلى، يمتن به على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أهل بيته فقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5] . ثالثاً: إن هذا البيت من لدن أول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو يُحج ويُعتمر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيحين، عن ابن عباس رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بواد بين مكة والمدينة فقال: أي واد هذا؟ قالوا: هذا وادي الأزرق. قال: كأني بموسى هابطاً من هذه الثنية، له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية -إذاً البيت مزار الأنبياء- ثم مر بثنية أخرى ثنية هرشة، قال: أي ثنية هذه؟ قالوا: هذهثنية هرشة. قال: كأني بيونس بن متى عليه جبة من صوف، راكباً على ناقته له جؤار إلى الله تعالى بالتلبية} فالبيت مزار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. أيها الإخوة، هذه الجزيرة لم تذعن يوماً من الأيام -مثلاًَ- لتسلط أهل بدعة من البدع، لم يحكمها الرافضة يوماً من الأيام -مثلاًَ- ولا حكمها القرامطة، ولا حكمها الخوارج، ولا حكمتها أي نحلة أو ملة ضالة مضلة، فهذا تعبير عن بقائها للإسلام، وإنما قد يتسلطون على بقعة من بقاعها في وقت محدود، في مكان محدود وزمان محدود، ثم يبعدهم الله تعالى عنها على أيدي المؤمنين الصادقين. وأمثلة ذلك كثيرة، وما أخبار القرامطة عنا ببعيد. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 28 شواهد الواقع أما فيما يتعلق بالواقع: فإن هذه الجزيرة -بحمد الله تعالى- تحظى وتفرح اليوم، وتعلن سرورها بهذه الصحوة المباركة العارمة، التي قد أينعت وآتت أكلها بإذن ربها، هذه الصحوة في هذه الجزيرة ليست خاصة بالجزيرة ولكنها عامة، وإنما تتميز الصحوة في هذا البلد بأربع مميزات، لا تكاد توجد في أي بلد آخر إلا ما شاء الله. الميزة الأولى: أنها سبقت تيار الفساد. فإن البلاد الأخرى عم فيها الفساد وطم، وسيطر فيها العلمانيون والمفسدون والمنافقون، ثم استيقظ المؤمنون بعد ذلك فبدءوا من جديد، فكانوا مسبوقين بالفساد، وكأن فعلهم كان استجابة لهذا الفساد الموجود ورداً عليه. أما في هذه الجزيرة؛ فإنها منذ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، وهي لا تزال تعيش في أوضاع -على سبيل الإجمال- جيدة، وتنتقل من خير إلى خير، ولا يزال العلم والعلماء، والدعاة وطلبة العلم، والحلقات والدروس العلمية فيها قائمة على قدم وساق، لم يمر بها خلال ذلك فترة ركود أو جمود، أو غفلة أو انهيار، أو تسلط الفساد والمفسدين عليها، وهذه نعمة كبيرة. فالخير سبق تيار الفساد، ولذلك رأينا الفتيات -مثلاً- الملتزمات بالحجاب، واللاتي يلبسن القفازين في أقدامهن وأيديهن، وهذا مظهر، وأنا لا أقول أن هذا كل شيء وأن هذا هو الإسلام، لكن هذا مظهر يدل على الالتزام بالحجاب وعلى التدين، رأينا هذا قبل أن نسمع أصوات الأفاعي المنادية بتحرير المرأة بزمان طويل. وهذا دليل على أن تيار الصحوة واتجاه الناس إلى الخير والإسلام؛ سبق تيار الفساد والعلمنة والتغريب في هذه البلاد، وهذه ميزة كبيرة ولا شك. يتبع هذه الميزة ميزة أخرى وهي: أن هذه الصحوة في هذه البلاد هي من المجتمع وجزء لا يتجزأ منه، ليست الصحوة في هذه البلاد عبارة عن جمعية خاصة، أو فئة معينة، أبداً. الصحوة هي المجتمع في هذه الأمة، وهي الناس الذين أعلنوا أنهم دائماً وأبداً مع هذه الصحوة، ومع الإسلام، ومع الخير، ضد كل دعوة تناوئ الدين وتحاربه. ولذلك فالصحوة جزء من هذا المجتمع لا يتجزأ، بل هذا المجتمع كله يعيش صحوة كبيرة، بخلاف بلاد أخرى كثيرة، فقد تجد أهل الخير فئة محدودة منعزلة، وقد تجد الغلبة في المجتمع للشر وأهله، وقد يرمى هؤلاء بشتى التهم فيجدون من يصدق ما يقولون. الميزة الثالثة -وهي أيضاً من ميزات الصحوة في هذه البلاد خاصة- هي: أنها سلمت من الغلو، فإننا نجد في كثير من البلاد أن الصحوة الإسلامية قد ابتليت ببعض الأطراف التي شذت عن القاعدة وغلت وزادت، وربما يكون ذلك بسبب الفساد الموجود في تلك البلاد، كما نجد -مثلاً- شيئاً من ذلك في مصر، أو نجد شيئاً من ذلك في الصومال، أو نجد شيئاً من ذلك في باكستان، أو في الهند، أو في الجزائر، أو غيرها، حتى إنه يوجد نماذج -وإن كانت قليلة- ممن يسمون حقيقةً بالمتطرفين، وهم فعلاً غلاة وإن كانوا قليلين. والعدو يستغل هؤلاء، ويحاول أن يطلق لفظ التطرف ليشمل كل المؤمنين، حتى في هذه البلاد يحاول أن يرميهم بهذا اللقب الجارح، فيحاول أن يصف كل ملتحٍ يضع المسواك في جيبه، ويقصر ثوبه، ويتردد على المسجد، يحاول أن يصفه بأنه متطرف. فلا علينا من الأعداء، وليقولوا ما شاءوا، فنحن لم نعبأ بهم يوماً من الأيام، ليقولوا عنا متطرفين، وليقولوا عنا أصوليين، وليقولوا عنا ما شاءوا، فقد عرفنا طريقنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم نعد نلتفت إلى ما يقولون عنا، بل العيب عندنا والذي يحزننا لو مدحونا، فلو مدحونا لكان هذا دليلاً على أننا فينا شيء يعجبهم ويرضيهم، وهم أعداء لا يرضيهم إلا ما يسخط الله عزوجل، فالذي يسرنا هو أن يذمونا. لكن يوجد في البلاد الأخرى أناس قد يكون عندهم شيء من الغلو، أما في هذه البلاد ففي حدود ما أعلم؛ فإن الله تعالى حمى هذه البلاد وهذه الصحوة، وقد تجولت في كثير من مدنها ومناطقها، وجلست مع الشباب، فلم أر هناك ما يسمى بالتطرف. صحيح أن الآراء قد تختلف، وقد يوجد الإنسان عنده شدة، وقد تختلف أساليب معالجة الأخطاء، ولكن ليس هناك غلو في حدود ما أعلم. وأرجو الله عزوجل الذي حفظ هذه الصحوة، وهذه الأمة فيما مضى، أن يحفظها فيما بقي، فإن العدو يتربص الدوائر، ويحاول أن يجد ولو نموذجاً يسيراً حتى يعمم هذا النموذج، ويحاول أن يرمينا كلنا بمثل هذا الأمر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . ميزة رابعة: إن هذه الصحوة بنيانٌ واحد متصل بعضه ببعض، ليست شيعاً وأحزاباً، كما هي الحال في عدد من البقاع، تتحارب فيما بينها، وكل واحدة ترفع راية، فهذه الصحوة بنيان واحد متصل، يدور حول العلماء الكبار، وحول طلبة العلم، وحول الدعاة المعروفين المشهورين، وحول الخطباء الذين تستمع إليهم الأمة في كل جمعة، وحول الأئمة وأمثالهم ممن هم قادة الصحوة، وزعماؤها وأئمتها وموجهوها، وهذه نعمة كبيرة، فليست الصحوة شيئاً آخر غير الإسلام، وغير المجتمع المتدين، والعلماء، وطلبة العلم، كله أمر واحد لحمته وسداه، لا يمكن تمييز بعضه عن بعض. وهذه كلها نعم يدركها العقلاء العارفون بأحوال الأمم الأخرى. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 29 الأسئلة . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 30 خطأ استدلال دعاة الوطنية بحديث: {إنك لأحب البلاد إليَّ} السؤال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: {إنك لأحب البلاد إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} . فالدعاة إلى الوطنية، وإلى حب الأرض والتراب، قد يستغلون هذا الحديث لإقناع الناس بصحة ما يدعون إليه من حب الوطن والدفاع عن الوطن، دون ذكر للدين، فما قولكم؟ الجواب في الواقع، أما دعاة الوطنية فإننا نحثو في وجوههم التراب، ونقول لهم: خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تتطايروا عمياً وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا فوق إيران في الهند في روسيا وتركيا إذاً بلاد الإسلام واسعة، والمسلم لا يشده إلى الوطن أنه ولد فيه، وأظلته سماؤه، وأقلته أرضه، ولا تراب الوطن، ولا خضرة الوطن، ولا زيتون الوطن، ولا شيء من ذلك، ولا هذه الصحراء العفراء كما يقولون، كلا! وإنما يشده للوطن أنه بلد الإسلام، فأي بلد يحكم بالإسلام وهو وطن الإسلام ندافع عنه دفاعاً عن الإسلام. ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أحب مكة؛ لأنها بلد الكعبة، ولأنها البلد الذي يحبه الله عزوجل، فليس حبه لها لأنها مكة التي ولد فيها، كلا! وإنما لأن الله تعالى يحبها، وهكذا المؤمن يحب ما يحبه الله تعالى من البقاع والأشخاص والأعمال والأقوال والأسماء وغير ذلك، ويبغض ما يبغضه الله تعالى، أما دعاة الوطنية فاحثوا في وجوههم التراب. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 31 مفهوم الوحدة العربية القومية الديمقراطية السؤال الوحدة العربية، القومية العربية، حكم الشعب بالشعب، ما معنى هذه المصطلحات؟ الجواب الوحدة العربية: هذه دعوة إلى توحد العرب كلهم تحت راية واحدة، مسلمهم وكافرهم ويهودهم ونصرانيهم، وهذه لا شك دعوة قومية باطلة مناوئة للإسلام. أما القومية العربية، فهي كذلك. وأما حكم الشعب بالشعب: فهو ما يسمى بالديمقراطية، فالغرب ينادي بالديمقراطية، والمقصود بالديمقراطية؛ أن لا يُحكم بالإسلام، وإنما يحكمون بما يراه الشعب. فالشعب يختار ممثلين له، يكونون في مجالس معينة، فإذا أريد مسألة تنادوا فيها، مثلاً لو أرادوا البحث في قضية، أوضاع المرأة، هل نأذن للمرأة بالاختلاط بالرجال أو لا تختلط بالرجال مثلاً، يقولون: لا نرجع إلى القرآن والسنة، إنما نعرض الموضوع على الممثلين الذين يمثلون الشعب، والذين اختارهم الشعب. فنقول: ما رأيكم؟ فإذا قال أكثرهم: لا مانع أن تختلط المرأة بالرجل فتختلط، وقل مثل ذلك في قضايا العقوبات، والحدود، والمعاملات، والأحكام وغيرها، لا يؤمنون بحلالٍ ولا حرام. فهذا معنى الديمقراطية في الأصل. وبعض الناس يطلق الديمقراطية ويقصد بها الشورى. ونحن لا يعنينا هؤلاء، بل يعنينا مصطلح الديمقراطية كما هو في أصله، وهي كلمة يونانية أصلها: ديموكراتي، أي: حكم الشعب، ويعرفها بعضهم: بأنها حكم الشعب بالشعب. فالشعب مصدر هو السلطات، وهو الذي يحلل ويحرم، ويأمر وينهى، ويمنع ويبيح، هذا معنى الديمقراطية في الأصل. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 32 ذو السويقتين والكعبة السؤال ذكرتَ في المحاضرة أن الكعبة لا يغزوها غاز، فما رأيك في ذي السويقتين الذي يغزو الكعبة ويهدمها، ويقلعها حجراً حجراً؟ الجواب ذو السويقتين أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {من الحبشة، رجل صغير الساقين، أو أعوج الساقين، يقلع الكعبة حجراً حجراً} فكيف نقول؟ يمكن الإجابة عنه بأجوبة: إما أن يقال: إنه لا يغزوها غزواً؛ لأنها حينئذٍ يكون من ضياع الأمر، وقبض أرواح المؤمنين، ما يجعل أنه يأتي إليها بدون حاجة إلى غزو وجند وأعوان وأنصار. الجواب الثاني: أن يقال: هذا مستثنى؛ لأنه أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فلا يغزوها غيره. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 33 حكم الحجز في المسجد السؤال أخ يسأل عن الذين يضعون الحجز -كما يقول- في الصف الأول، كالورق أو قلم أو مفاتيح، وهم إما في الصفوف الأخيرة يقرءون، أو يكون بعضهم خارج المسجد؟ الجواب على كل حال، إذا كان الذي وضع علامة الحجز -كما يقول الأخ الكريم- موجوداً داخل المسجد فأرى أنه له الحق في ذلك إذا أراد أن يتكئ، أو أطال البقاء في المسجد. أما إذا كان خارج المسجد فليس له الحق في ذلك. وأنصح الإخوة أن لا يضعوا هذا الحجز؛ لأن كثيراً من الناس يلاحظون وينتقدون، ونحن نحب ألا يكون عليكم كلام، وكلكم -بحمد الله وشكره- من أهل الخير، الذين أنتم علامة أو كالشامة بين الناس، فنريد أن لا يلاحظ الناس أي أمر مهما كان قليلاً ودقيقاً، وإن كان الأمر من حقك والناس قد يلاحظونه فكونك تتركه وتتنازل عنه لوجه الله عزوجل؛ فهذا شيء طيب وتشكر عنه. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 34 فضل الشام السؤال ما الجمع بين ما ورد في فضل الجزيرة وعودة الشام إليها، وما ورد في فضل الشام لا سيما في آخر الزمان؟ الجواب الجزيرة والشام كلها من بلاد الإسلام، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الطائفة المنصورة وهم بالشام، فإن المقصود من قوله: {وهم بالشام} والله تعالى أعلم، أي: في آخر الزمان. فإن المهدي وعيسى بن مريم عليهما السلام يكونان بالشام، كما ثبت ذلك في الأحاديث الكثيرة الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 35 معنى: {ومنبري على حوضي} السؤال ذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {ومنبري على حوضي} فهل هذا يعني يوم القيامة، أي هل هذا الكلام على معناه الظاهر أم ماذا؟ الجواب ظاهر الكلام أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن منبره على حوضه، وهو قد يدل على أن هذه البقعة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي روضة فعلاً من رياض الجنة. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 36 حدود جزيرة العرب السؤال ذكرت إخراج اليهود، فما هي حدود جزيرة العرب؟ الجواب حدود جزيرة العرب مختلف فيها، لكن أكثر العلماء يحددون الجزيرة بتحديد قريب من الذي يحددها به الجغرافيون اليوم. وبعضهم قد يقتصر على الحجاز. ومسألة إخراج بعضهم لا يلزم إخراج اليهود والنصارى من كل الأنحاء في الجزيرة، إلا ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجهم منها، بمعني: أن الرسول عليه الصلاة والسلام -مثلاً- أقرهم في اليمن، وكذلك أبو بكر وعمر أقروهم فيها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 37 من العادات السيئة السؤال ذكرت أن الناس سواسية عند الله وأن أكرمهم عند الله أتقاهم، وهناك ميزة سيئة في هذه الجزيرة وهي التفاخر بالأنساب. وهناك من لا يقبل تزويج الرجل حتى إذا كان ذا دين أو عالم إذا كان أقل منهم نسباً، فأرجو نصح المسلمين في ذلك؟ الجواب في الواقع هذه القضايا التي نخصص لها محاضرة. لكن بشكل عام أحذر أهل الجزيرة من أمور: أولها: أن لا يغتروا بهذا الكلام ويعتقدوا أن مؤدى هذا الكلام أن نضع خدودنا على أيدينا وأن لا نعمل شيئاً، فإن الله عزوجل -كما ذكرت في ثنايا المحاضرة- لم يخصص شخصاً أو بقعة لذاتها فقط؛ إلا بالعمل الصالح، فمن كان من أهل العمل الصالح فهو من أقرب الناس إلى الله عز وجل، وأولى الناس بالإسلام، ولو كان في أقصى بلاد الدنيا، ومن كان كافراً أو فاجراً أو منافقاً؛ فإنه أبعد الناس عن الله، وأقرب الناس إلى سخطه وعقوبته ولو كان في جوف الكعبة، فلا نغتر بهذا الأمر. أمر ثانٍ: لا نغتر بالكلام الذي ندندن حوله كثيراً حين نقول: نحن أفضل من غيرنا، وبلادنا أحسن من غيرها، والمرأة لا تزال عندنا محجبة، والاختلاط غير موجود. لا تنظر إلى الوراء، بل يجب أن ننظر إلى الخطوات والمخططات التي تحاك ضد هذه البلاد وأهلها، وإلى الأخبار التي تترامى إلى مسامعنا يوماً بعد يوم، والتي تدل على أن هناك من يريد بهذه البلاد شراً. وقد استمعت إلى مقابلة مع رجل ذي مكانه في إحدى الإذاعات، وهو يُسأل عن وضع المرأة في هذه البلاد، فقال للأمريكان الذين يقابلون معه: إنه يجب عليكم أن لا تقيسوا وضع المرأة في هذه البلاد مع وضع المرأة في أمريكا؛ فوضعها في أمريكا لم تحصل على حقوقها إلا بعدما ناضلت (200) سنة، وحصلت على حق التصويت بعد (120) سنة، فلا تقيسوها بالمرأة في بلادكم -أي أن المرأة في بلادنا متخلفة هكذا معنى كلامه- فلا تقاس بوضع المرأة في أمريكا التي حصلت على حقوقها، وكأن المعنى: انتظروا فعامل الزمن سوف يجعل المرأة هنا تكون كالمرأة في تلك البلاد. ثم قال كلاماً آخر لا أود أن أقوله، يتحدث عن الدعوة إلى المدنية، وأننا نريد المدنية للناس، ومعروف ماذا يقصد بالمدنية، لكن لا نريد أن نفرضها على الناس بالقوة، والمقابلة مسجلة عندي. أمر ثالث أنبه إليه، وهو ما أشار إليه الأخ، وهي قضية التفاخر بالأحساب فهذا من أمر الجاهلية، كما قال عليه الصلاة والسلام: {أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الطعن في الأنساب، والفخر بالأحساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة على الميت} فلا ينبغي الفخر بالأحساب، قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم لآدم وآدم من تراب} . الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم في أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء ولذلك لا فضل لأبيض على أسود، ولا لعربي على أعجمي، ولا لقبيلي -كما يقولون- على خضيري، أو شعوبي، أو أو إلى آخره إلا بالتقوى والعمل الصالح. فالناس كلهم سواسية، ولا بأس أن يتزوج هذا من هذه، أو هذه من هذا، والكفاءة لا تتعلق بذلك. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 38 فتح القسطنطينية السؤال ذكر بعض طلبة العلم أن فتح القسطنطينية التي تم على يد الفاتح لا يعد فتحاً إسلامياً؟ الجواب بل هو فتح إسلامي، لكن ليس هو الفتح الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفتح الأخير يكون قُبيل خروج الدجال. أسأل الله عز وجل أن يغيث قلوبنا وبلادنا وأرواحنا، وأن يجعل هذه البلاد حصناً حصيناً للإسلام وأهله، وأن يكفيها ويكفي أهلها شر أعدائها الظاهرين والمستترين. وأسأل الله عزوجل أن يحفظ بيته وأهله وبلاده، إنه على كل شيء قدير. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 39 جزيرة العرب للإسلام فقط السؤال هل نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يبقى في جزيرة العرب دينان مجرد نهي أن يوجد أو أمره بإبعاد أي دين غير الإسلام، أم فيه إخبار بأنه لا يمكن أن يستمر في جزيرة العرب دينان باقيان يدينون بهما؟ الجواب بعض أهل العلم قالوا: هذا نهي: {لا يجتمعْ في جزيرة العرب} وبعضهم قالوا: إنه خبر: {لا يجتمعُ في جزيرة العرب} والأظهر والله تعالى أعلم: أن هذا نهي من النبي صلى الله عليه وسلم، وأمر بإخراج اليهود والنصارى وسائر أصحاب الملل والأديان الأخرى من هذه الجزيرة؛ بحيث تبقى عاصمة الإسلام، ولا يقيم فيها إلا المسلمون. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 40 إشكال حول الخسف في جزيرة العرب السؤال ذكرت الحديث الذي فيه الخسف في جزيرة العرب، علماًً بأنه قد ذكر في إحدى المناسبات؛ أن الشيخ الزنداني يقول: بحكم وجود السلسلة الضخمة من جبال السروات يكون فيها الخسف؟ الجواب الحقيقة لم أسمع ولم أقرأ هذا الكلام، الذي ذكره الشيخ الزنداني، ولهذا لا أستطيع أن أتكلم عنه. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 41 حكم من يكره مكة والمدينة السؤال ما رأيكم في من يكره مكة لوجود الرائحة وغير ذلك، وكذلك المدينة؟ الجواب نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، مكة والمدينة لا يكرههما إلا منافق، كيف تكره البيت الحرام؟! البيت العتيق الذي تهفو إليه أرواح المؤمنين وأفئدتهم من كل مكان؛ استجابة لأمر الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27-28] واستجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم:37] . فلا بد أن يخفق قلب المؤمن بحب مكة والمدينة، ولا يلزم من ذلك أن يحب كل ما فيهما، فقد يكون فيهما من الناس، ومن الأحوال، ومن الأوضاع، ومن الأشخاص ما لا يُحَب، فيميز الإنسان بين هذا وهذا. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 42 سبب تسمية الدرس السؤال لماذا اخترت الموضوع أن يكون "جزيرة الإسلام"، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {جزيرة العرب} ؟ الجواب هي جزيرة العرب، لكنني أحببت من خلال العنوان أن أؤكد للناس كلهم أن جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام، أن جزيرة العرب التي اسمها في التاريخ والجغرافيا جزيرة العرب، اسمها في الواقع العملي جزيرة الإسلام في الماضي والحاضر والمستقبل، فهي لا تصلح إلا للإسلام، ولا يصلح لها إلا الإسلام. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 43 فضل وادي العقيق السؤال وادي العقيق في المدينة المنورة، هل ورد فيه شيء؟ الجواب نعم. ورد في الحديث الصحيح عن عمر وغيره: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في وادي العقيق، فقال: أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرة في حجة} ، وفى رواية: {فقل: عمرة وحجة} . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 44 فضل جبل أحد السؤال كذلك جبل أحد هل ورد فيه شيء؟ الجواب نعم. ورد في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {هذا أحد جبلٌ يحبنا ونحبه} . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 45 سبب تسمية البقيع ببقيع الغرقد السؤال ما هو سبب تسمية البقيع ببقيع الغرقد؟ الجواب سبب تسميته بذلك؛ لكثرة شجر الغرقد في ذلك البقيع. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 46 مخطط دولة اليهود السؤال ما رأيك في تخطيط أبناء القردة والخنازير -اليهود- في وضع دولة كبيرة لهم، ومنها أجزاء من بلاد الإسلام سموها دولة إسرائيل الكبرى؟ هل هذا صحيح؟ الجواب نعم. اليهود يخططون لمراحل: الأولى: إسرائيل الصغرى، وهي الموجودة الآن. المرحلة الثانية: إسرائيل الكبرى، وهي تمتد امتداداً كبيراً، وتأخذ أجزاءً كبيرة من بلاد العرب، ومنها: بلاد في هذه الجزيرة، يخططون لها، فهم يحلمون بأراض كبيرة، كخيبر مثلاً، وتيماء، وفدك، وغيرها من البلاد التي يدعون أنها كانت لهم، يخططون لذلك ويكيدون. والمرحلة الثالثة التي يحلم بها اليهود هي: إقامة دولة إسرائيل العالمية التي تحكم الدنيا كلها، وهذه كلها أحلام تكتب على الماء، مثل الذي يرقم على الماء لأننا نملك وعداً من الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أيمن بن صريم: {تقاتلون المشركين -والمقصود بالمشركين هاهنا اليهود- على نهر بالأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه. قال الراوي: ولا أدري أين الأردن يومئذٍ} والحديث حسن، كما حسنه جماعة من أهل العلم، والأدلة قويه وقائمة على أنه حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإسرائيل لن تتعدى حدودها الحالية كثيراً، وسوف نقاتلهم على نهر الأردن وننتصر عليهم: {حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} . الجزء: 30 ¦ الصفحة: 47 الجمع بين حديثين السؤال كيف الجمع بين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {المدينة تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد} وقوله عن المسيح الدجال: {إنه ينزل في سبخة، ثم ترتج ويخرج كل كافر ومنافق} ؟ الجواب هذا من نفي المدينة لخبثها، فالخبث موجود لكنها تنفيه غالباً، ولذلك هذا من نفي المدينة لخبثها، أنه إذا جاء الدجال نفت المدينة خبثها فخرج الكفار والمنافقون منها. الجزء: 30 ¦ الصفحة: 48 أساليب خصوم الإسلام إن الإسلام هو دين الله تعالى، والله تعالى قد قضى وقدر أن الصراع دائم بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، فالإسلام محارب من قبل أعدائه محاربة ضارية، وأعداء الإسلام يتخذون كل الأساليب التي تمكنهم من حرب الإسلام، وما من أسلوب إلا وجربوه ضد الإسلام، ولابد أن يعرف المسلم هذه الأساليب، حتى يكون على بينة من أمره. وقد تحدث الشيخ عن جملة من هذه الأساليب بشيء من التفصيل. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 1 منزلة الأخوة في الله عز وجل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد: أيها الإخوة: يسرني في بداية هذا اللقاء بعد أن ألقي عليكم تحية الإسلام، وهي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أن أرحب بهذا الجمع الأخوي المبارك، ببيتين من الشعر ليس من نظمي، ولكنهما من تجميعي، فأنا لا أنظم ولكنني أجمع، وأنتم جميعاً تعرفون المصانع أو الصناعات التجميعية. يا قوم إن حبال الله تجمعنا فهل يفرقنا خيطٌ من البشر أما البيت الآخر فهو: والشوق في أضلعي ما إن يبينه نظمٌ من الشعر أو نثرٌ من الخطب إن مثل إن هذا الجمع الطيب، يثير في النفس مشاعر الأخوة الإسلامية، فعلى رغم تنائي الديار، وتباعد الأخطار والأمصار؛ إلا أن لواء الأخوة الإسلامية يظلل الناطقين بـ (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ويجمعهم على كلمة التقوى، ويوحد بينهم، ويُقِّرب مشاعرهم، فهم من أقصى بلاد العالم الإسلامي إلى أقصاه، يلتقون في شعورٍ واحد منسجم، حتى كأنهم جسدٌ واحد، فيكون شأنهم كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} وفي الحديث الآخر: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} . وكما قال الشاعر: تذوب حشاشات العواصم حسرةً إذا دميت في كف بغداد أصبع ولو أن بَرَدى أنَّت لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع هكذا أخوة الإسلام تجمع المتباعدين والمتقاربين. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 2 الصراع بين الحق والباطل سنة ماضية أيها الإخوة: موضوع المدارسة في هذه الليلة كما سمعتم هو: أساليب خصوم الإسلام في ضرب الدعوة الإسلامية. وقد اعترض في العنوان على كلمة: المعاصرة؛ لأن الأساليب في حقيقتها لا تختلف، فالأساليب التي كان يستخدمها فرعون لحرب موسى، هي الأساليب التي استخدمها النمرود لحرب إبراهيم، وهي التي استخدمتها قريش لحرب محمد صلى الله عليه وسلم، وهي الأساليب التي تستخدمها الجاهلية في كل زمان ومكان؛ لحرب الإسلام والدعوة الإسلامية. إخوتي الأكارم، إن الذي يستمع إلى مثل هذا الحديث، يفترض -بادئ ذي بدء- أن عنده تسليماً مطلقاً لا يقبل الشك، في قضية الصراع بين الحق والباطل. إذاً: من البدهيات التي يجب أن نوقن بها يقيناً كاملاً: أن الحق والباطل منذ وجد الإنسان في صراع دائم لا ينتهي، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، صراع يبدأ بالدعوة إلى الحق، وانقسام الناس إلى مؤمنٍ وكافر، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] . إذاً: يترتب على الدعوة إلى الله انقسام الناس إلى فريقين: مؤمن وكافر، لا تنتهي القضية عند حد مجرد اختيار الإنسان للهدى أو للضلال، للإيمان أو للكفر، كلا! بل تنتقل إلى مسألة الصراع والخصام، ولذلك قال: {فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] الخصام بكل وسيلة، بالصراع العقائدي، واللسان والإعلام والبيان، وبكل وسيلة ممكنة، ولذلك يقول الله عز وجل أيضاً: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] . إذاً: هناك صراع بالقول واللسان والحجة والبيان، وغير ذلك من الأساليب، بين جند الله وجند الشيطان، حتى الرسل والأنبياء جعل الله تعالى لهم أعداءً، بل إن الله تعالى عبَّر عن الكافرين بأنهم أعداء الله سبحانه، فقال تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] فالكافر عدوٌ لله تعالى، كما أن الله تعالى عدوٌ له، وهذا الزخرف اللفظي والبهرج الإعلامي، الذي يستخدمه الضالون، يغتر به من لم يرد الله تعالى هدايتهم بل أراد فتنتهم، ولذلك قال في الآية السابقة: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ} [الأنعام:113] أي هذا الزخرف وهذا الخداع والتضليل الإعلامي الذي يسلكه أعداء الإسلام: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] بعد ذلك ينتقل الصراع إلى مرحلته الثالثة والأخيرة، وهي الحرب الصريحة بين الإسلام والكفر، وهذا ظاهر جداً، كما في قوله تعالى -حين ذكر عن فرعون أنه كان يهدد موسى وبنى إسرائيل بقوله- {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] هذه هي نهاية الصراع، أنه يتحول إلى صراع عسكري مسلح دامي، والعاقبة للمتقين في الدنيا وفي الآخرة. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 3 أسباب معرفة كيفية الحرب ضد الإسلام أيها الإخوة: لابد لنا -جميعاً- أن نفهم كيف يحاربون الإسلام، سواءً كانوا من الأعداء البعيدين أو من القريبين لأسباب: أولاً: إن الذي لا يعرف أساليب الخصوم في حرب الإسلام؛ قد يتأثر بهذه الأساليب، فربما يذهب بعضنا ضحية تضليل، أو خداع أو تلبيس من أعداء الإسلام، بسبب جهله بالأساليب والطرائق التي يسلكونها. ثانياً: قد يتعدى الأمر ذلك، ليشارك الواحد منا مشاركة فعلية في هذه الأساليب، ويكون عوناً لأعداء الإسلام على المسلمين من دون أن يشعر، لماذا؟ لأنه مغفل لم يدرك هذه الأساليب. ثالثاً: لأننا باعتبارنا مسلمين، مطالبون بمواجهة هذه الأساليب بمثلها. فحتى نواجهها ونرد كيد المعتدي في نحره؛ لابد أن نعرف هذه الأساليب واحداً بعد آخر. وسأشير إلى خمسة من الأساليب، التي ظهر لي أنها تجمع معظم الأعمال والخطط التي يسلكها أعداء الإسلام، سواءً كانوا من القريبين أو البعيدين. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 4 حقيقة الحرب ضد الإسلام وإذا كان البعض يحاولون أن يغطوا هذا الصراع -أحياناً- بألفاظ وهمية وأشياء أخرى؛ فينبغي ألَّا ننخدع عن حقيقة هذه الحرب الضارية ضد الإسلام. أحياناً نسمع من يقول: إن الغربيين يعطون الحرية للإسلام والمسلمين في الدعوة والصلاة وغيرها، وهذا الكلام قد يكون فيه شيء من الحق ولكن أُريد به باطل، أو شيء من الحق حمل أكبر من حجمه الطبيعي، فالواقع أن أولئك القوم، قد يقبلون بنشاط إسلامي إلى مدى معين وإلى مستوى معين، لكن لا يقبلون أن يرتفع الإسلام عن هذا المستوى، بحيث يتحول الإسلام إلى خطر يهددهم ويهدد مجتمعاتهم وأديانهم. فنحن جميعاً يجب أن نعلم ونقتنع -بمقتضى مطلق الصراع بين الحق والباطل، الذي قرره الله تعالى في كتابه، وقرره الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته، بأكمل وأوضح بيان- أنهم لا يمكن أن يرضوا بذلك. ولا مانع أن أشير إلى مثال صغير ولكنه معبر: فرنسا بدأ يغزوها الإسلام، وقبل فترة ليست بالقريبة، كتب أحد الصحفيين الفرنسيين، يشكو من الإسلام ومن تعاظم مده ويقول: كأنني أتصور ذلك اليوم الذي إذا جاء وقت الأذان، وضعت مكبرات الصوت في شوارع باريس، ولبس الناس الثياب البيضاء، فإذا أذن المؤذن أغلقت المحلات، وفرشت البسط في الشوارع، واتجه الناس إلى مكة وقالوا: الله أكبر. ويذكر كيف أن عدداً من أصدقائه كان منهم واحد رسام، وآخر وثالث ورابع، وتحولوا إلى مسلمين، فكان الإسلام يتحرك في فرنسا بصورة جيدة، وينتشر بشكل سريع، لكن الكل سمعوا بقصة الفتيات الثلاث المحجبات، التي أصبحت قضيتهن قضية كبرى في الصحافة العالمية، وقد حصلت على قصاصات من كثير من الصحف الأوروبية والأمريكية، تتحدث عن قضية الحجاب، لأن مجموعة من الفتيات العربيات المسلمات لبسن الحجاب في المدرسة، فثارت قضية كبرى، ومنعن من دخول المدرسة، ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت قضية صحفية، ونبش أولئك القوم التاريخ الماضي، ونبشوا قضية الحجاب في مصر، وقضية الطهطاوي وقاسم أمين وتاريخ الحجاب، ثم انتقلوا إلى قضية الخميني والخطر القادم من الإسلام، وربطوا هذا كله بوجود ثلاث فتيات يلبسن الحجاب في المدرسة. إذاً حالوا أن يضفوا على القضية زخماً كبيراً، ويعظم الأمر ويتطور ليصبح قضية كبرى في صحافتهم، بل في مؤسساتهم الإدارية. إذاً قضية الحرية التي تمنح للإسلام هناك، هي مجرد غطاء وهمي أو حرية إلى مستوى معين، فإذا تخطَّاها وتعداها المسلمون فسيواجهون حرباً ضارية. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 5 انقسام الناس إلى إيمان لا نفاق فيه ونفاق لا إيمان فيه أيها الإخوة: مرَّ على المجتمعات الإسلامية في هذا العصر وقت من الأوقات، ربما نستطيع أن نقول: إن غالبية الناس في تلك المجتمعات، كانوا وسطاً، ليس لديهم صلاح ظاهر متميز، واستقامة وحرص على الدعوة، كما أنه ليس لديهم انحراف ظاهر -أيضاً- وعداوة للإسلام. فغالبية الناس متوسطون، يصلون الصلوات الخمس -هذا في وقتٍ ليس بالبعيد في أكثر المجتمعات الإسلامية- ويؤدون الزكاة، ويحافظون على الأعراض، لكن ليس لديهم غيرة على الإسلام، ولا حماس للدين، ولا انطلاق في الدعوة، ثم مني العالم الإسلامي بعدد من النكبات والنكسات، والدعوات المضللة، من شيوعية إلى علمانية إلى قومية إلى بعثية إلى غيرها، ومني بتجارب مريرة في مجال السياسة والاقتصاد وغيرها، ومني -أيضاً- بالاستعمار العسكري الذي سيطر على معظم البلاد الإسلامية، فحاول مسخ المسلمين، وتحويلهم عن دينهم إلى أديان أخرى، ثم جاءت هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون اليوم. ولذلك أصبحت تجد -عياناً- أن المجتمعات الإسلامية اليوم، بدأت تتحول تدريجياً إلى التميز الذي ورد الإخبار عنه في حديثٍ عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أنه أشار أنه في آخر الزمان وقبل قيام الساعة، يتحول الناس إلى معسكرين، معسكر إيمان لا نفاق فيه ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، الآن بدأ هذا التميز وبدأت بوادره، فأصبح كثير من الناس يتجهون اتجاهاً إسلامياً صحيحاً عن علم ومعرفة ووعي وقناعة بالدين، فيضحون في سبيل الدين بالغالي والنفيس، ويختارونه على علم، ويبذلون في سبيله الوقت والمال والإمكانيات والجهود وكل ما يستطيعون، ويتحملون في سبيله الأذى والتعب. وفى مقابل ذلك، تجد أن هناك جموعاً من المنسلخين عن جسم هذه الأمة، الذين رضوا لهم اسماً آخر غير اسم الإسلام، الذي سماهم به الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قال الله: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} [الحج:78] رضوا أن يكونوا شيوعين -مثلاً- أو علمانيين أو ملحدين أو زنادقة، أو أي أمر آخر غير الإسلام، هؤلاء اختاروا طريقهم -أيضاً- عن عمد وبوضوح، وصاروا يضحون في سبيله، ويتعبون من أجله، ويدعون إليه. إذاً: أصبح المجتمع يتميز إلى معسكر إيمان عن وعي وبصيرة، ومعسكر نفاق أو ضلال -أيضاً- عن معرفة وإدراك وإصرار مسبق، وموقع الوسط الذي كان بالأمس يشغله أكثر الناس، بدأ ينقص ويتآكل تدريجياً، فبعض الناس تتجه نحو الإسلام عن وعي، وبعضهم يتجه إلى الضلال والانحراف عن وعي وتعمد وإصرار أيضاً، أما الوسط فيقل شيئاً فشيئاً، وربما يأتي يوم من الأيام لا تجد في أي مجتمع إسلامي شخصاً تستطيع أن تقول: إنه متوسط، ليس مؤمناً إيماناً حقاً ولا عدواً للإسلام، قلَّ أن تجد شخصاً كهذا. وهذا نموذج للصراع بين الحق والباطل وبين الإسلام والكفر والهدى والضلال. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 6 أسلوب الاحتواء الأسلوب الأول، هو ما يمكن أن نطلق عليه: أسلوب الاحتواء، ومحاولة تفريغ الدعوة الإسلامية من مضمونها الصحيح، وتحويل الدعوة عن مسارها، وعن أهدافها التي قامت من أجلها. فالدعوة الإسلامية في كل مكان، يجب أن يكون هدفها هو: إعادة عبودية الناس لله جل وعلا فقط، ليس لها أي هدف أو مطمع، إلا أن تجعل الناس عبيداً حقيقيين لله تعالى، تدعوهم إلى الله عز وجل، قال تعالى: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه} [الأعراف:59] وكثيراً ما يحاول الأعداء في البداية -بدلاً من أن يواجهو الدعوة صراحةً- أن يفرغوها من محتواها، أن يحتووا هذه الدعوة، ويسيطروا أو يهيمنوا عليها بطريقة أو بأخرى. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 7 قاعدة المصالح والمفاسد قبل أن ننتقل من الأسلوب الأول، وهو أسلوب محاولة الاحتواء وتفريغ الدعوة من مضمونها الحقيقي، أودُّ أن أشير إلى قضية ربما تلتبس على كثيرٍ من الناس وكثيرٍ من الدعاة، وهي: إن هذا الكلام لا يمنع من تحصيل المسلم لخير الخيرين ودفعه لشر الشرين، فإن قاعدة المفاسد والمصالح في الإسلام قاعدة عظيمة، وهي تقتضي أن المسلم قد يحصل على مصلحة ولو من العدو أحياناً، فيرى أن كسبها نافع، دون أن يؤثر هذا في الهدف الحقيقي الذي يسعى إليه، ودون أن يغير في وجهة الدعوة. كما أنه يدفع المسلم إلى أن يحارب الشر ولو كان شراً جزئياً؛ لأنه يرى أنه شر عظيم، وينبغي دفعه عن مجتمع المسلمين، فنفرق بين قضية تحصيل المصالح ودفع المفاسد، وبين قضية الاستجابة لأعداء الإسلام في بعض المطالب التي يريدون من ورائها تحويل مسار الدعوة عن هدفها الحقيقي، وهو إعادة عبودية الناس لله جل وعلا. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 8 اشغال الداعية ببنيات الطريق من هذه الوسائل التي يسلكونها -مثلاً- أنهم قد يشغلون بعض الدعاة -كما يقال- ببنيات الطريق، وقد يستنزفون جهودهم في أعمال جانبية، بحيث تكون هذه الأعمال الجانبية غاية الدعاة ونهاية مقصدهم ومطافهم. على سبيل المثال: ربما يشغلون الداعية بالوسيلة عن الغاية، فيشغلون الداعية -مثلاً- بالمنصب، الذي يخيل إليه أحياناً أنه وسيلة إلى الدعوة إلى الله تعالى، وإلى حمل الناس على الإسلام، فيشغلونه بذلك عن الحقيقة التي يدعو إليها ويعمل من أجلها، يشغلونه بالوظيفة، ويشغلونه ببعض الأشياء السياسية، عن هدفه الأعظم والأسمى الذي يهدف إليه. من الوسائل في موضوع الاحتواء: أنهم قد يظهرون نوعاً من الإصلاحات أو نوعاً من التدين، الذي يوهم الناس بأن هؤلاء القوم معهم، فيحاولون بذلك، أو ينجحون في سحب مشاعر الناس، أو تخدير مشاعرهم، وكثيراً ما يظهر العدو الموافقة لك على ما تريد وعلى ما تقول، خاصةً حين يجد أنك جادّ فيما تدعو إليه. وهذا أمر قد نجده في حياتنا القريبة, فلو أراد شخص منا من آخر أمراً فشعر ذلك الشخص أنك مصمم على ما تريد، وتطلبه بقوة ومستعد أن تضحي في سبيله، فإنه لا يبدأ بمواجهتك فيستثير بذلك غضبك وانفعالك، بل في البداية يقول لك: يا أخي، ما تريده سوف أنفذه وأنا مستعد, ويعطيك وجهاً يدل على الرضى والموافقة والقبول، حتى يسحب هذا الشعور الموجود عندك، ويشعرك بأنك وإياه على خطٍ واحد، ثم يُنفَّذ بعد ذلك ما يريد. من ذلك مثلاً: النصارى فقد يظهرون للمسلمين نوعاً من التسامح أحياناً، أو يمكنونهم من العبادات, ولهذا لا غرابة أن تجد أن هناك مؤتمرات تعقد في كثير من البلاد، مما يسمونه بالحوار الإسلامي المسيحي، وهذا الموضوع عُقد له مؤتمرات كثيرة جداً في لبنان، وفي مصر، وفي أسبانيا، وفي الفاتيكان، وفي ليبيا، وفي غيرها من البلدان الإسلامية، مؤتمر الحوار الإسلامي المسيحي، يقولون لك: يا أخي! نحن نريد أن نسمع منك وتسمع منا، نجلس على مائدة المفاوضات، ما كان عندك من حق تقبله وما عندنا من حق نقبله، نتعاون جميعاً في حرب الشيوعية وفي حرب المادية، إلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي يخادعون بها بعض السذج من المسلمين. فالهدف من وراء هذا الأسلوب: هو تفريغ الدعوة من محتواها، وتذويب هذه المشاعر الفياضة لدى المسلمين, مشاعر العداء لليهود, وللنصارى, ومشاعر العداء للشيوعيين، ولأي أمة من الأمم الكافرة. ولذلك تجد كثيراً من المسلمين -اليوم- أصبح الواحد يخجل أن يطلق عليهم كفاراً، يخجل أن يسمي النصراني كافراً، حتى أنى قرأت في بعض صحفكم قبل وقت ليس بالبعيد، مقالاً طويلاً يدافع فيه صاحبه عن اليهود، وعن النصارى، ويقول: من الخطأ أن تفهموا أن اليهود كفار، أو أن النصارى كفار، فاليهود مسلمون والنصارى مسلمون، والله تعالى لا يطالب اليهود بأن يكونوا مسلمين مثلنا، ولا يطالب النصارى بذلك, لكن يطالب اليهود بأن ينفذوا تعاليم دينهم، ويطالب النصارى كذلك بأن ينفذوا تعاليم دينهم، كما يطالبنا نحن بأن ننفذ تعاليم ديننا!! وهذا في الواقع تكذيب للمعلوم من الدين بالضرورة؛ لأن جميع المسلمين مجمعون على أن الدين الوحيد المقبول عند الله تعالى، هو الدين الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد نسخ جميع الأديان السابقة، نسخ اليهودية، ونسخ النصرانية، حتى لو كانت غير محرفة، فكيف وقد دخل في اليهودية والنصرانية من التحريف ما تعرفون!! وهذه القضية ليست جديدة، فإن التتار حين جاءوا إلى البلاد الإسلامية، كانوا متوحشين وثنيين، فلما جاءوا إلى بلاد الإسلام، كانوا يملكون القوة والسلاح لكن لا يملكون الفكر؛ فلذلك أظهروا الإسلام، وكانت الجحافل والغزوات المتأخرة من التتار، يأتي مع جيشهم عدد من القضاة والمؤذنين والأئمة، ويحملون المصاحف ويظهرون شيئاً من الإسلام، ويدَّعون أنهم مسلمون، وقد ينطقون بالشهادتين، بل ينطقون بها، ومع ذلك كانوا يقاتلون المسلمين ويحاربونهم، وهذا أوجد الشك عند كثيرٍ من المسلمين في قضية حرب التتار، فحسم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذا الإشكال: كيف نقاتل التتار وهم يعلنون الإسلام؟ حسم ذلك بفتوى مشهورة معروفة موجودة ضمن الفتاوى. المهم أن التتار كانوا بهذه الطريقة يستميلون المسلمين إلى ألا يحاربوهم ولا يقاتلوهم، ويستسلموا أمامهم؛ لأن هؤلاء مسلمون، فكيف نحاربهم وفى صفوفهم القضاة والمؤذنون والمرشدون، ومعهم المصاحف يحملونها على أيديهم وعلى ركائبهم حيث حلوا وارتحلوا؟ الجزء: 31 ¦ الصفحة: 9 زرع النفاق وبناء مساجد الضرار الأسلوب الثاني -من أساليب حرب الإسلام قديماً وحديثاً- هو: زرع النفاق وبناء مساجد الضرار. وهذا الأسلوب من المكر اليهودي، فبعد أن استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وضرب الإسلام بجرانه في الأرض، علم اليهود أن من الصعب حرب الإسلام علانية؛ فزرعوا ودسوا أذرعهم الخفية وهم المنافقون، ولذلك كانت الأولى البذرة من النفاق في المدينة على أيدي اليهود، كانوا منافقين من اليهود، الذين أظهروا الإسلام لضرب الإسلام وحربه، وهؤلاء أشد خطراً من الكافر المعلن وذلك لما يأتي: أولاً: لأنهم يعيشون بين المسلمين، ويعرفون عورات المسلمين، ويستطيعون أن يصيبوهم في الصميم. ثانياً: لأنه يصعب اتقاؤهم، فالكافر المعلن يمكن معرفة الخطر منه؛ لأنه معروف متميز، أما المنافق فإنه يعيش داخل الصف المسلم، وبالتالي يصعب معرفته واتقاء شره، ولذلك قال الله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4] أي: المنافقين، وقوله: (هُمُ الْعَدُوُّ) هذا أسلوب حصر، ومعروف عند العارفين باللغة العربية كأن معنى قوله: (هُمُ الْعَدُوُّ) أي لا عدو إلا هم، وليس المقصود حصر العداوة فيهم فقط، لكن المقصود التأكيد على شدة عداوتهم، وضراوتها وقسوتها وصعوبة الحذر منها، ولذلك قال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] والمنافقون في كل زمان ومكان، لهم شخصيات ومؤسسات وملل ونحل، يدخلون وينفذون من خلالها. على سبيل المثال: من شخصياتهم التاريخية عبد الله بن سبأ اليهودي، المعروف بـ ابن السوداء، وكان يهودياً من أهل صنعاء، فلمَّا رأى قوة الإسلام وانتشاره؛ أعلن الإسلام وجاء بين المسلمين، ثم تسلل إليهم، وبدأ يفتك بالمسلمين ويدعو وينشر بينهم الأفكار الضالة باسم الإسلام. والشخصيات المنافقة على مدار التاريخ كثيرة، أما الملل والنحل فلعل من أكثرها وأعظمها التي استغلها المنافقون، على سبيل الإجمال ما يسمى: المذاهب الباطنية، والمذاهب الباطنية لفظٌ عام يشمل طوائف كثيرة، من الرافضة، والصوفية، والقاديانية، والبهائية في العصر الحاضر، وغيرها من الملل والنحل التي انشقت عن جسم الأمة الإسلامية، وأصبحت تقيم المؤسسات والمدارس والمراكز في بلاد العالم الإسلامي، وفي بلاد أمريكا وأوروبا، وتعلن أنها تدعو إلى الإسلام، وهي في الواقع تدعو إلى دينٍ آخر غير دين الإسلام، وإلى نبيٍ آخر غير محمد عليه الصلاة والسلام، لكنها تتمسح بالإسلام؛ للخداع والتضليل لهؤلاء السذج المغفلين، خاصة حين يكون الإنسان غير مسلم فيدعى إليهم، أو يكون حديث عهد بالإسلام، ولا يعرف عنه شيئاً ولا يميز بين الحق والباطل، فيضله هؤلاء، وقد يدخلونه في دينهم وملتهم ونحلتهم. فهذه نماذج من المنافقين. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 10 مساجد الضرار ومن بيوت الضرار ومساجد الضرار: المنافقون بنو مسجد الضرار الأول في المدينة، وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: تصلي فيه؛ لأن مسجدك بعيد، ويصعب علينا في الليلة الشاتية والليلة المطيرة أن نصل إليه، فهذا مسجد بنيناه حتى نصلي فيه فدعو الرسول عليه الصلاة والسلام للصلاة فيه، فنهاه الله عز وجل عن ذلك فقال: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108] فنهى الله رسوله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وسماهم ضراراً فقال: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:107] كم من مؤسسة وكيان وجهة ومركز وشخصية، تحمل اسم الإسلام وتلبس لباسه، وتنادي به، لكن حقيقتها خلاف ذلك، وكم من إنسان يظهر الدعوة إلى جانب من جوانب الإسلام، وهو في الواقع كما قيل: كلمة حقٍ أريد بها باطل. وما أصعب التحرز من هؤلاء، فشأنهم كما قال الشاعر: والمدّون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجبيخادعون به أو يتقون به وماله منهم رفد سوى الخطب كم من إنسان كانت خطبه ملأى بالكلام عن الإسلام، والدعوة إلى الإسلام، وحماية الإسلام، وتاريخ الإسلام، وتمجيد محمد صلى الله عليه وسلم، لكن أعماله على النقيض من ذلك! وهذا يذكرني بالأسطورة التي تذكرها بعض الكتب، عن انخداع بعض الناس بهذا الأمر، يقولون: إن هناك صياداً كان معه بندقية، فدخل إلى مكان ليصطاد بعض الطيور، فكان هناك عصفوران، فقال أحدهما للآخر: انظر إلى هذا يريد أن يصطادنا، فنظر إليه وقال: إنه لن يصطادنا، ألا ترى أن عينيه تدمع وتبكي رحمة لنا وشفقة علينا؟ فقال له: لا تنظر إلى دمع عينيه، ولكن انظر إلى هذا السلاح الذي في يديه. فكثير من الناس -كما يقال- يذرفون على الإسلام دموع التماسيح، لكن أقوالهم تقول لكل رائي ومتأمل: إنهم كاذبون في ذلك، ومن قبل كان عبد الله بن أبي بن سلول، شيخ النفاق والمنافقين في المدينة، كان إذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم وخطب، قام بعده عبد الله بن أبي بن سلول يعقب على الخطبة، ويشيد بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا لهذا النبي الكريم الذي اختاره الله لكم واجتباه وخصكم به إلى غير ذلك من الكلام، وكان الناس ينخدعون بكلامه في أول الأمر. إذاً ليس المقياس هو الكلام والخطب الرنانة، فكم من خطبٍ قيلت وليس لها رصيد من الواقع، إنما المقياس هو اتباع القول بالعمل، هذا هو الميزان الشرعي الحقيقي لمعرفة صدق الإنسان من كذبه، فإذا قال الإنسان قولاً -وهنا أيضاً أحذر- إذا قال الإنسان قولاً حسناً، لا ينبغي أن نسارع في اتهامه، بل يجب أن نتميز بالعدل حسناً جميلاً، نقول: هذا قول حسن وجميل، ولكن ننظر ماذا بعد هذا القول؟ فإن وجدناه أتبع القول بالعمل، كان هذا آيةً على صدقه، وإن وجدنا أنه توقف عند حد هذه البضاعة الكاسدة، بضاعة القول فحسب، وخالف ما يقول؛ عرفنا أن هذا القول كمجرد خداع وتضليل، وترويج هذا الأمر على الناس فقط. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 11 معرفة أساليب دس المنافقين أيها الإخوة: لابد من معرفة العدو من الصديق حول هذا الأسلوب، أسلوب دس المنافقين وبناء مساجد الضرار، لئلا يلتبس الأمر على كثيرين، فيتهمون من هم من هذا الأمر براء، أو ينخدعون بأناس ليس لهم في هذا الشأن نصيب. فمن أوجب الواجبات على المسلم؛ أن يعرف عدو الإسلام من وليه، وهذا أمر تقتضيه الأخوة، والولاء والبراء في الإسلام، فلا ننخدع بشخص لمجرد أنه يتكلم بكلام معسول، حتى نرى مصداق ذلك في سيرته وسلوكه. الأمر الآخر: لابد من فضح المنافقين وبيان خططهم ومؤامرتهم على الإسلام، سواءً كانوا أشخاصاً أو مؤسسات، أو أجهزة أو جمعيات، أو أحزاب أو تجمعات، أو ملل أو نحل، لابد من فضحها، وهذا من ضمن المقاصد التي نزل القران من أجلها، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] فاستبيان سبيل المجرمين -أي: إيضاح ومعرفة سبيل الكافرين والضالين- هي من مقاصد إنزال الكتب وبعثة الرسل؛ لأن المسلم مطالب بأن يحب المسلم ويبغض الكافر والمنافق ويتبرأ منه، وكيف تبغضه وتبرأ منه وتحاربه وأنت لا تعرفه؟ ولذلك من أعظم المصائب التي يبتلى بها المسلمون، أن يلتبس العدو عندهم بالصديق، فيتحول الصديق -أحياناً- إلى عدو، ويتحول العدو -أحياناً- إلى صديق، لماذا؟ خذ مثالاً: قد يقع داعية من الدعاة في خطأ -والخطأ لا يسلم منه أحد- فيتحول هذا الداعية من صديق نعرف أنه مجاهد في سبيل الله ومضحٍ، عند بعض الناس إلى عدو؛ لأنه أخطأ، ومن هو الذي لا يخطئ؟ فهنا جعلنا الصديق عدواً. مثال آخر: قد ينصح الداعية لبعض قومه، والنصيحة -أحياناً- توجد البغضاء، كما قال الأول: وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح أي أن الناصح ربما يبغض، لماذا؟ لأنه قال لنا كلاماً ما نحب أن نسمعه، نحن دائماً نحب أن نسمع من يمدحنا، ويقول: كلكم على صواب، وكل فعلكم حسنٌ وجميل، ولم يقع منكم ما يعاب، فهذا من طبيعة الإنسان: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص:24] ولذلك إذا وجد إنسان يقول لنا: أخطأتم. ربما نبغضه ونحوله إلى عدو، ولو كان داعية للإسلام. فهنا جعلنا الصديق عدواً، وفى أحيان أخرى لغفلتنا وسذاجتنا نجعل العدو صديقاً؛ لمجرد أنه كان يجيد فن الخداع. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 12 تأجيج النزاع القائم بين المسلمين الأسلوب الثالث: هو أسلوب تأجيج النزاع القائم بين المسلمين، واستثماره وتوظيفه لخدمة أعداء المسلمين، والخلاف بين المسلمين أمرٌ قديم، والذين يعتقدون أنهم يستطيعون أن يقضوا على الخلاف الموجود في داخل الأمة واهمون! من غير الممكن -مطلقاً- أن نجمع الأمة على كلمةٍ واحدة في جميع الأمور، أصولها وفروعها، فلابد من الخلاف، لأنه إذا اختلف أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والعشرة المبشرون بالجنة، فكيف يعتقد أحد أن أصحاب الدعوة وأهل الإسلام، في القرن الرابع عشر والخامس عشر والسادس عشر، سوف يجتمعون على كلمة سواء في كل شيء؟ هذا لا يمكن أن يكون، لابد من وجود خلاف بين المسلمين، وهذا أمر يجب أن نسلم به، لكن هذا الاختلاف لا يعني التفرق ولا يعني التنازع والتناحر. أعداء الإسلام يحاولون أن يستغلوا هذا الخلاف -الذي هو واقع لا محالة- يستغلونه لتحقيق مآربهم ومقاصدهم، فيصطادون في وسط هذا الجو، فكم من إشاعة أشيعت بين الدعاة إلى الله تعالى، وبين الصالحين من المسلمين ضد فلان، أو ضد الفئة الفلانية أو الطائفة الفلانية، أو أن فلاناً يريد بك شراً، أو قال عنك شيئاً، وحين تتحقق تجد أن هذا ليس له رصيد من الواقع، خاصة والنفوس -في كثير من الأحيان- تكون مشحونة بنوع من الحساسية، فإذا كان عندي حساسية ضد فلان؛ لأن له أسلوباً في الدعوة يختلف عن أسلوبي وطريقةً تختلف عن طريقتي، يكون عندي جو نفسي مهيأ لتقبُّل ما ينقل عنه، فإذا قيل لي: إن فلاناً يتكلم فيك ويغتابك ويسبك؛ سارعت إلى تصديق هذا الأمر، لماذا؟ لأنني أقول: الشيء من معدنه لا يستغرب، ليس ببعيد أن يتكلم عني فلان؛ لأنه يخالفني في الأسلوب والمنهج والطريقة والتعلم وما أشبه ذلك. فالنفوس مشحونة ومستعدة لتقبل مثل هذه الإشاعات، حتى لو كانت كاذبة، وهذه فرصة للمنافقين وضعاف النفوس؛ لأن يندسوا في وسط المسلمين وفي وسط الدعاة، ويلوثوا هذا الجو الأخوي الطيب الآمن. وقد يصل الأمر إلى التحريض، فيحرضون بعض الجهات الإسلامية على بعض، ويشغلون بعضها ببعض، وما ألذها على نفوس الكفار وأعداء الإسلام، أن يوفروا قوتهم وإمكانياتهم، ويجعلوا المسلمين ينشغلون ببعضهم ببعض، فما يبنيه زيد يهدمه عمرو، وما يكتبه صالح يمحوه إبراهيم، وهكذا يصبح المسلمون أحدهم يبني والآخر يهدم، كما قال الأول: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم على سبيل المثال: في بعض البلاد الإسلامية يكتب أحد الدعاة كتاباً، يوضح فيه مسألة يعتقد هو أن من الواجب عليه أن يوضحها، ثم يوظف مجموعة كبيرة من الناس الذين يثقون به؛ لينشروا هذا الكتاب بين الناس، حتى يصل إليهم، فينشرونه في المساجد والمدارس والمراكز وفي كل مكان, وفي ذلك بذلوا جهداً كبيراً، في كتابة الكتاب وطباعته، وفي الإنفاق عليه، وتوزعيه وفي غير ذلك، بعد ذلك يسمع مسلمٌ آخر بهذا العمل، وهو يعترض عليه ويعتقد أنه ضار؛ فيجند مجموعة أخرى لأخذ هذا الكتاب من كل مكان يوجد فيه، وإتلافه والقضاء عليه، وهكذا يؤخذ الكتاب ويتلف ويُقضى عليه, فهذا الجهد كم ثمرته للمسلمين؟ لا شيء، بل أقل من لا شيء وهي السلبية؛ لأن الكتاب الذي تَعب عليه قد أتلف وانتهى ولم يستفد منه أحد، ولكن هناك جهود كبيرة من المسلمين من الطرفين ضاعت هباءً منثوراً. وفى أحيان أخرى الأعداء لا يكتفون بمجرد التحريض، بل يساعدون بعض المسلمين على بعض، ولعلنا نذكر على سبيل المثال نماذج تاريخية، إذا كنت ذكرت لكم -آنفاً- أن عبد الله بن سبأ اليهودي المتمسلم - ابن السوداء - دخل الإسلام ليهدم من الداخل، فإنه استغل بوادر الاختلاف بين المسلمين في أواخر عهد عثمان رضي الله عنه؛ فبدأ بنشر الفتنة، فلمَّا جاءه خبر موت علي بعد فترة، رفض وقال: والله لو أتيتموني بدماغ علي في سبعين صرة ما صدقت، بل إنه حي وإنما ذهب إلى ربه كما ذهب موسى إلى ربه، وسوف يعود ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً ظلماً. وبدأ يؤلب الناس ويدعوهم وينشر بينهم العقيدة المعروفة عقيدة الرفض، حتى أسس هذا المذهب الذي ظل -على مدار التاريخ- هدماً للإسلام. كيف استطاع عبد الله بن سبأ اليهودي ومن معه، أن يؤججوا الصراع بين المسلمين على رغم أن المسلمين كانوا على درجة كبيرة من الوعي؟ اندس بعضهم في جيش علي، واندس بعضهم في جيش معاوية، رضي الله عنهم أجمعين، فلما التقى مبعوث علي ومبعوث معاوية لكتابة الصلح، وكانت نفوس الصحابة رضي الله عنهم مستعدة جداً للمصالحة ورأب الصدع وخم الصف، أصبح الذين في جيش علي من أتباع ابن سبأ يتحرشون بجيش معاوية، والذين في جيش معاوية يتحرشون بجيش علي، حتى كان معاوية يقول: غريب أمر علي! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! ويقول علي: غريب أمر معاوية! كيف يتفاوض معي في الليل وجنده ينهالون على جيشي؟! وما زال هؤلاء يتحرشون حتى أنشبوا الخصومة والقتال بين المسلمين وحدث ما حدث. أريد أن أوضح أن أعداء الإسلام -من المنافقين وغيرهم- يستغلون الخلاف بين المسلمين ويؤججونه، وقد يدخلون فيه ويستغلون عملاءهم في داخل الصف الإسلامي؛ لتأجيج الصراع بين المسلمين وإنهاك جسم الدعوة الإسلامية. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 13 الحصار الأسلوب الرابع: أسلوب الحصار. والحصار ينقسم إلى قسمين: الجزء: 31 ¦ الصفحة: 14 الحصار الإعلامي النوع الثاني: هو ما يمكن أن يُسمَّى بالحصار الإعلامي. وأعني بالحصار الإعلامي: محاولة تشويه الدعوة ونشر الإشاعات الكاذبة حولها. قريش فعلت هذا الحصار الإعلامي، بطريقة تتناسب مع عصرها وبيئتها، فبعد ما استفاد الرسول عليه الصلاة والسلام من التجمعات التي كانت تحدث في مكة، مثل اجتماعهم في سوق عكاظ، ومجنة وذي المجاز وغيرها، وكذلك في مواسم الحج التي كانت العرب تجتمع فيها، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يذهب، وأحياناً كان يذهب ومعه أبو بكر إلى القبائل، فيعرض الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم دعوته، كما ورد في حديث ربيعة بن عباد الديلي، وطارق بن شداد وجابر وغيرهم، وهي أحاديث صحيحة ثابتة، أن الرسول عليه السلام كان يأتي إلى الناس والقبائل، فيقول: {من أنتم؟ فيقولون: نحن بنو فلان. فيقول: من يؤويني وينصرني، حتى أبلغ رسالة ربي؟ فإن قريشاً منعوني أن أبلغ رسالة ربي} وأحياناً يقول لهم: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} وكان خلفه رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتين، يلاحقه ويرميه بالحجارة ويضع التراب على رأسه ويقول: لا تطيعوه! إنه صابئ كذاب، يريد أن تتركوا ما تعبدون، ويريد أن تتركوا حلفاءكم من الجن. فيقول ربيعة: سألت أبي: من هذا؟ قال: هذا محمد وهو يذكر النبوة، وهذا الذي خلفه يمشى وراءه هو أبو لهب بن عبد العزي. فكانت قريش تحاول أن تحاصر الدعوة الإسلامية حصاراً إعلامياً، حتى إذا قدم أحد إلى مكة قالوا له: إن محمداً -ونقول صلى الله عليه وسلم- ساحر، يفرق بين المرء وزوجه وبين المرء وأخيه. فلا يزالون ببعض الناس حتى يضعون في آذانهم القطن -كما ورد في قصه الطفيل، وهي قصة في الصحيح- حتى لا يسمعوا شيئاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الحد بلغت محاصرة قريش الإعلامية لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. واليوم في هذا العصر وسائل الإعلام أصبحت تؤثر في الناس، وتصوغ عقولهم ومناهجهم وأفكارهم، ربما نستطيع أن نقول: إن وسائل الإعلام أبلغ من أي أمر آخر في التأثير على الناس، أبلغ من المدرسة مثلاً، وأبلغ من الأصدقاء، وأبلغ من أي وسيلة أخرى. وسائل الإعلام اليوم أخذت جميع الوسائل، فلننظر ماذا تقول وسائل الإعلام أو الكثير منها عن المسلمين وعن الإسلام. كثيراً ما نجد من يصف المسلمين والدعاة بأوصاف مثل لفظ الأصوليين، -مثلاً- أو لفظ المتطرفين، أو غير ذلك من الألفاظ التي يريدون من ورائها السب والشتم، أنا لست أنكر أنه يوجد بين المسلمين -في الماضي والحاضر والمستقبل- يوجد بينهم غلاة، ويوجد بينهم من تجاوز الحد ومن يعتدون ويظلمون الناس، ويبغون في الأرض بغير الحق، ويوجد بينهم المخطئ، لكن هل أصبح هؤلاء هم الأكثرية والأغلبية حتى أن معظم الحديث ينصب عليهم؟ ثم ما هذه التقسيمات التي أصبحنا نسمعها عن عامة المسلمين، أن هؤلاء متشددون وهؤلاء معتدلون، وهؤلاء متطرفون وهؤلاء كذا وهؤلاء كذا؟ هل من حق إنسان سواءً كان علمانياً أو زنديقاً أو ملحداً أو عدواً للإسلام، ربما لا يصلي مع الجماعة، ولا يُعرف بأنه من العلماء ولا من طلاب العلم، ولا من الدعاة إلى الله عز وجل، هل من حقه أن يصنف المسلمين إلى مثل هذه الأصناف؟ نحن قد نقبل تصنيف العلماء، حين يقول لنا أهل العلم الشرعي المعروفون الموثوق بهم: إن هذه الفئة ضالة أو غالية أو متطرفة. نقبل ذلك، وحين نجد أدلة صريحة على ذلك نقبل، لكن حين يقول لنا إنسان -نعرف أنه ليس من أولياء الإسلام، ولا حزبه ولا من أهله، شخص قضى عمره في حرب الإسلام، وفي تشويه التاريخ الإسلامي، وفي الوقيعة بين المسلمين -فنجد أنه يتعارض لشخصيات إسلامية مرموقة، شخصيات جاوزت القنطرة، شخصيات دعوية جهادية، علمية، فيبدأ يشرِّح ويجرح، ويرفع هذا ويخفض ذاك، فإننا نقول لكل مسلم: إنه لا ينبغي لك أن تصغي لمثل هذا، وإن أصغيت له فلا تقبل منه، بل كن معه كما قال الأول: لقد أنلتك أذناً غير صاغيةٍ ورب متنصت والقلب في صمم أما أن نتقبل نحن -مثلاً- ترويجات الصحافة والإذاعة وأجهزة الإعلام، في تقسيم المسلمين وتصنيفهم، فهذا خطأ كبير، وأعود فأكرر وأقول: أنا لست أنكر أنه يوجد بين المسلمين من يقع منهم الخطأ، ويوجد غلاة في الماضي والحاضر والمستقبل، بل يوجد في كل أمة من الأمم، على سبيل الإجمال والتفصيل، ما من أمة في الدنيا إلا ويوجد فيها غلاة ومعتدلون، ويوجد فيها مفرطون، سواءً الأمم الكتابية كاليهود والنصارى، أو الأمم الوثنية أو الشيوعية أو غيرها، تجد في الشيوعية -مثلاً- الغلاة الشيوعيون الحمر، الذين لا يؤمنون إلا بالقوة والحديد والنار، وتجد فيهم من دون ذلك، وتجد فيهم من يتسامحون في هذا الأمر ويجاملون الأوضاع، وقد يتمسحون بالإسلام ويخادعون أو يتقون به. من الاتهامات التي توجه -أحياناً- عبر هذا الحصار الإعلامي للدعوة الإسلامية: اتهام الدعاة في نياتهم ومقاصدهم. وإمام هذه الطريقة هو فرعون، فإنه كان يقول لموسى وهارون، يتهمهم بأن لهم مطامع ونيات سياسية: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] أي: إنكم تريدون من وراء هذه الدعوة، أن تكونوا زعماء وقادة وسادة، ويكون الأمر لكم {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] . وبعده واجه الرسول صلى الله عليه وسلم التهمه نفسها، فلما جهر بدعوته وقال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:5-6] وقولهم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] -كما ذكر بعض المفسرين- يقصدون أن محمداً صلى الله عليه وسلم، ليس يريد دعوتكم للإسلام، وإنما يريد أن تكونوا أتباعاً له، وأن يكون زعيماً وقائداً لكم، فاتهموا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يقظاً في هذا الأمر -وهو كذلك- وقد سدده الله تعالى وعصمه، فكان يتجنب الأمور التي تكون مدعاة لإثارة الأقاويل في هذا الباب، كما سيأتي. ومن التهم -أيضاً- التي واجهها العلماء عبر التاريخ: ما نذكره أن شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد قام بدعوته وإصلاحه وتجديده، وشى به بعض الناس إلى السلطان المملوكي، وقالوا له: إن ابن تيمية يريد الملك ويريد السلطان. فدعا ابن تيمية وأحضره في مجلسه، وسأله عما قيل له، فقال له ابن تيمية: أنا أريد ملكك! والله إن ملكك وملك التتار لا يساوي عندي فلساً واحداً، إنما أنا أدعو إلى الله عز وجل، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الدعاة المعاصرون، فكم رأينا وسمعنا من يتهمهم بمثل هذه التهمة، وأنهم متآمرون، وأن لهم مطامع، وأن لهم مقاصد وأغراض سياسية، وما أشبه ذلك، ولذلك أقول: إن كثيراً من الناس يُلتبس عليهم هذا الأمر، لأننا لا نقول: إن الإسلام لا سياسة فيه مثلاً، بل السياسة جزء من الدين ولاشك في هذا، والقرآن الكريم فيه نصوص كثيرة تتعلق بتنظيم حياة الناس، كأفراد ومجتمعات ودول وأمم إلى غير ذلك، وفى القرآن الكريم قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] الظالمون، الفاسقون. ولهذا أرى أنه من الواجب على الدعاة -دائماً وأبداً- أن يحرصوا على تجنب كل أمر يمكن أن يوقع اللبس عند الناس، مثلاً: تحالف بعض المسلمين مع جهات مشبوهة أحياناً، هذا يحدث، وهو يوقع لبساً عند كثير من الناس، أن هؤلاء القوم ليس لهم هدف إلا الوصول إلى السلطة، فبأي أمرٍ وصلوا لا يهمهم ذلك. فلهذا نقول: الأجدر بالداعية أن يتجنب أي أمر يمكن أن يوقع اللبس عند الناس، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -كما في الصحيحين من حديث عائشة - قال لـ عائشة رضي الله عنها: {لولا أن قومك حديثو عهد بكفر؛ لهدمت الكعبة وأقمتها على قواعد إبراهيم، وجعلت لها بابين: باباً يدخل الناس منه، وباباً يخرجون منه} لكنه لم يفعل ذلك الذي تمناه صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا الفعل قد يوقع عند الناس لبساً، وقد يقول بعضهم -وهم حديثو عهد بكفر-: إن محمداً صلى الله عليه وسلم صنع هذا ليكون له مكانة، أو حتى يذكر بهذا، أو حتى يكون له الذكر الحسن، أو ما أشبه ذلك من الأمور التي قد تسبق إلى أذهانهم، فاتقى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصلحة تحصيلاً لما هو أعظم منها، وكذلك أقول: الداعية يهمه ثقة الناس به وبدعوته، حتى لو فاتته بعض المصالح الآنية العاجلة. وذلك لأن تحطيم شخصية الداعية هو تحطيم للدعوة، والناس لا يمكن أن يتصوروا حقاً مجرداً عن الأشخاص، ولذلك الله عز وجل كان يرسل الرسل من الناس وينزل معهم الكتب؛ لأن مجرد إنزال كتاب -مثلاً- أو مجرد كلمة الإسلام؛ لا يمكن أن يتقبلها الناس، إلا بعد أن تتمثل في أشخاص يدعون إليها، فبعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الإسلام، ثم جعل العلماء والدعاة من بعده يرثون هذا التراث والميراث والهدي الذي خلَّفه لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فحماية شخصية الداعية، من أن يمسها سوء أو تنال بسوء أو يعلق عليها أحد، هو من أعظم المقاصد الذي ينبغي الحرص عليها. ولهذا نجد أنه -أيضاً- عبر التاريخ، هناك من يُحاول تشويه وتلويث شخصيات الدعاة بأي صورة، حتى -أحياناً- في أمور تستطيع أن تقول: إنها تافهة. خذ مثلاً: ما قاله بنو إسرائيل عن موسى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] إذاً هو مجرد تشويه بأي أسلوب وبأي صو الجزء: 31 ¦ الصفحة: 15 الحصار المادي القسم الأول: الحصار المادي والاقتصادي، حتى الحصار البدني، ولعل من أكثر النماذج شهرة: ما فعلته قريش مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، بما يسمى في السيرة النبوية (حصار الشعب) وهو حصار ثابت في الصحيحين، في حديث أسامة بن زيد وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة، أو لما كان عام حجة الوداع قال: {نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر} ففي ذلك اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، أراد أن يظهر نعمة الله تعالى عليه وعلى المسلمين بالفتح، فنزل بالخيف وهو الوادي الذي التقت فيه قريش، وكتبت فيه هذه الصحيفة الظالمة الآثمة؛ ليبين أن هذا المكان الذي كان بالأمس حورب الإسلام منه وحوصر، اليوم ينزل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فاتحاً مظفراً منصوراً، فقريش عقدت صحيفة وعلقتها بجوف الكعبة، ألا تبايعهم ولا تشاريهم ولا تتزوج منهم ولا تزوجهم، حتى يسلَّم إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومكثوا على ذلك ثلاث سنوات -كما تقول بعض الروايات- حتى أن عتبة بن غزوان يقول -كما في صحيح مسلم-: ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله مالنا طعام إلا ورق الشجر، حتى قرحت أشداقنا -من كثرة ما يأكلون من الورق- ولقد وجدت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك -أي سعد بن أبي وقاص - نصفين، فاتزرت بنصفها واتزر سعد ٌ بنصفها، فما أصبح اليوم منا رجل إلا وقد أصبح أميراً على مصر من الأمصار. المهم أن قريشاً فرضت حصاراً اقتصادياً واجتماعياً على المسلمين في الشعب لمدة ثلاث سنوات، قريش التي كانت تتبجح بالكرم والجود، حتى قال زهير، كما هو معروف في قصيدته يمدح بعض زعمائهم، يقول: على مكثريهم رزق من يعتريهم وعند المقلين السماحة والبذل فما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل كانت العرب تتمدح بالجود والكرم والعطاء، حتى كان عبد الله بن جدعان - وهو من أجود قريش المشهورين- كان يجعل موائداً كبيرة جداً، من العسل والطعام والبر وغيرها، ويرسل أناساً يصيحون في أطراف مكة: هلموا إلى الطعام في دار عبد الله بن جدعان، وبذلك مدحه أمية بن أبي الصلت في قصيدته التي يقول فيها: له داع بمكة مشمعلٌّ وآخر فوق دارته ينادي إلى قطع من الشيزى عليها لُبابُ البر يُلبَكُ بالشهادِ هؤلاء لما صارت الحرب مع الإسلام، نسوا كل ما تعارفوا عليه من الأخلاق والقيم والعادات والتقاليد، والأشياء التي توارثوها، وحاصروا المسلمين، حتى كان يسمع تضاغي وصراخ الأطفال في الشعب من شدة الجوع، لا تلين لذلك قلوب القرشيين، حتى إن المسلمين هاجروا إلى الحبشة فراراً من هذا الإيذاء، وبعد ذلك إلى المدينة. وبعد ذلك يأتي دور المنافقين -أيضاً- قال الله تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] وكم نجد في هذا العصر من الحصار على المؤمنين في أرزاقهم، ووظائفهم، وأموالهم، وفي التضييق عليهم بكل وسيلة، فضلاً عما يشيعه كثير من أعداء الإسلام من شائعات عن المسلمين؛ لمنع نجاحهم في أي مشروع يريدونه، فإذا قام الدعاة إلى الله تعالى -مثلاً- بمشروع إصلاحي أو دعوي، أو إغاثة أو مساعدة للمسلمين في أي مكان، لا يبعد ولا يستغرب أن تجد من يشيع الشائعات الكاذبة، أن هذا المال يتلاعب به، وأن هذا المشروع لصالح فلان أو علان، أو أنه ما أريد به وجه الله، وإلى غير ذلك من الأقاويل، التي يقصدون من ورائها الحصار الاقتصادي والمالي على المؤمنين وعلى الدعاة. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 16 فصل الداعية والدعوة عن المجتمع أشير إلى أمر يمكن أن يعتبر نوعاً من الحصار، ربما نعتبره نوعاً رابعاً، وهو: فصل الداعية والدعوة عن المجتمع. وهذا أمر خطير، يعمل أعداء الإسلام فيه على قناتين، القناة الأولى: على قناة المجتمعات، فأعداء الإسلام يحاولون تلويث البيئة العامة وتلويث المجتمع. خذوا على سبيل المثال: المخدرات كيف تفتك بالمجتمعات الإسلامية بشكل غريب، قضية ما يسمى بالبث المباشر، أفلام الفيديو، أوكار الدعارة والبغاء والفساد، وبيوت الربا، إلى غير ذلك من المؤسسات الكثيرة، التي تهدم في داخل المجتمع المسلم، وتحاول أن تلوث البيئة العامة، ليست مجرد مفاسد مستترة، لأن الفساد إذا كان مستتراً كأن يكون رجل واحد في بيته فساد، فهذا أمره هين، ولا يضر إلا نفسه، المشكلة الكبيرة، هي حين يتحول المجتمع إلى مجتمع منحرف، تعلن فيه صور الانحراف والرذيلة والفساد، وتستقر حتى تصبح عرفاً مستقراً عاماً، لا أحد يستطيع أن ينكره أو يغيره، هنا تكون البيئة فسدت، فأعداء الإسلام يحاولون من جهة أن يبالغوا في إفساد البيئة، وينشروا مثل هذه الوسائل التي تساهم في تضليل الأجيال وصدها عن دين الله عز وجل. ومن جهة أخرى -أيضاً فيما يتعلق بالمجتمع- يحاولون أن يبينوا للناس: إن الدعاة سيخرجونكم من أمورٍ قد ألفتموها وعرفتموها، فإذا أراد أعداء الإسلام أن يتحدثوا عن داعية، قالوا: أتدرون إلى ماذا يدعو هذا الإنسان؟ يدعوكم إلى أن تتركوا كذا وكذا، وتتركوا التعامل بكذا، أمور قد تعودنا عليها، فبمجرد ما نعرف أن إنساناً ويحذرنا منها نشمئز منه، كما كان زعماء قوم نوح يقولون لهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] فيذكرون لهم أسماء هذه الأصنام المحببة إليهم الأثيرة في نفوسهم (لا تذرن آلهتكم) أي: هذا شُغلكم أنتم، لا تتركوه من أجل فلان أو فلان. وفي كثيرٍ من الآيات القرآنية، يقول تعالى: {لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عليهِ آبَاءَنَا} [يونس:78] إذاً أنت تريد أن تُغيِّر وضعاً مستقراً وعرفاً قائماً في نفوس الناس، فهذا مدعاة إلى أن يرفض الناس هذه الدعوة. فمن جهة يحاول أعداء الإسلام أن يفسدوا المجتمع، وأن يزيدوا من تشبث وتمسك المجتمع بالانحرافات الموجودة فيه، ومن جهة ثانية: يحاول الأعداء أن يضغطوا على الدعوة الإسلامية، بكافة الوسائل وأنواع الحصار، حتى -أحياناً- بالاعتقال، والتعذيب، والإنهاك، والقتل، إلى غير ذلك، وهذا من أجل أن يكون تفكير هؤلاء -الذين يحملون الدعوة- أن يكون تفكيرهم تفكيراً غير معتدل؛ لأن الإنسان إذا كان يُفكِّر في جوٍ من الكبت والضغط، غالباً يكون تفكيره يتجه نحو العنف، واستخدام القوة والشدة في مواجهة هذا الوضع الذي يعيشه، وهذا يريده الأعداء -أحياناً- ليستعدوا على الدعوة، ويُحولوا الأمر إلى صراع بينها وبين المجتمع. ولذلك تلاحظون اليوم -أيها الإخوة- خاصةً في الصحافة الغربية، وأبواق أعداء الإسلام في البلاد الإسلامية، أن هناك تركيزاً على موضوع الصحوة الإسلامية، والتقارير يوماً بعد يوم من مراكز الدراسات الغربية، في أمريكا، وفي أوروبا وفي روسيا عن الخطر الإسلامي، وعن الصحوة الإسلامية، وعن مستقبل الصحوة، وعن أشياء كثيرة، وهذه التقارير المختلفة والتي تخرج يومياً، وعشرات الكتب -ولابد أنكم جميعاً عندكم خلفية عن مثل هذا الأمر- المقصود منها الاستعداء على الإسلام، يريدون أن يقولوا للناس: احذروا الإسلام فالإسلام خطرٌ قادم يهددكم ويريدون أن ينشبوا صراعاً بين الإسلام وبين المجتمعات الإسلامية. ولذلك فإنني أقول: إن الحل في هذا الأمر، هو أن يدرك الدعاة إلى الله عز وجل، أن من الضروري أن ينغمسوا في المجتمعات. ما قيمة الداعية إذا خرج عن مجتمعه؟ الداعية في المجتمع كالسمكة في البحر، فإذا خرج منها فقد جدواه وفقد معنى كونه داعية. فالواجب على الداعية أن ينغمس في المجتمع ويدخل في الناس، يتعرف إليهم ويعرفهم بنفسه، لا يجوز أن يكون الداعية لغزاً غير معروف بين الناس، بل ليعرف الناس ماذا تدعو إليه، ومن أنت، وما هي أخلاقك، وما هو أسلوبك، وما هو منهجك، ولتكن واضحاً معهم. كما أنه يجب على الداعية أن يكون محبوباً لدى الناس، بحسن الخلق والتلطف وتحمل الأخطاء من الناس ومداراتهم، ومدارة الناس صدقة، كما ورد عن جمع من السلف، وهي تختلف عن المداهنة أو الإدهان في الدين، المداراة مطلوبة، دفع بعض الشر ببعض، واتقاء أعظم الشرين وجلب خير الخيرين، والتلطف مع الناس في الدعوة، والتحبب إليهم والابتسام في وجوههم، ومحاولة إعطائهم صورة حسنة عن الدعوة إلى الله عز وجل. من أعظم المكاسب التي يمكن أن يحققها الدعاة إلى الله تعالى: أن يلتحموا بالمجتمع، ويتبنوا هموم المجتمع وآلامه ومشاكله؛ ليكونوا هم جزءاً منه، كما أن من الواجب عليهم أن يسعوا سعياً حثيثاً إلى دفع الفساد الذي يجتاح المجتمعات الإسلامية، ولذلك كم هو حسن وجميل، أن يسعى الدعاة إلى الله تعالى إلى إيجاد مراكز ومؤسسات وأجهزة، تسعى إلى إصلاح المجتمع بشكل عام. صحيح أن هناك جهات لإصلاح الشباب -أحياناً- نشاطات خاصة بالشباب، أو مراكز أو مخيمات، أو ما أشبه ذلك، لكن من الواجب -أيضاً- أن نسعى إلى إصلاح المجتمع شيباً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً، وكافة الطبقات يجب أن نوصل إليها كلمة الإسلام؛ لنحول دون هذا الانفصال الذي يسعى إليه الأعداء؛ للوقيعة بالطرفين بكل حال. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 17 أسلوب المواجهة الصريحة أخيراً: أشير إلى الأسلوب الخامس: وهو أسلوب المواجهة الصريحة. سواء في ذلك المواجهة العقدية، التي تتمثل في نقد الإسلام صراحةً، كما نجد كثيراً منهم يسبون الدين والعياذ بالله وما أكثر ما نجد في أجهزة الإعلام من النيل من الإسلام، أو النيل من الرسول صلى الله عليه وسلم، بل قد يتعرض بعضهم لذات الله عز وجل إما نثراً أو شعراً. أو التعرض لبعض أحكام الإسلام وتشريعاته، بحيث يحاول أن يقتطع هذا الغصن من تلك الشجرة، ويقول: هذا ليس من الإسلام، ثم ينهال عليه. مثلاً: يأتي إلى قضية الربا، فيحاول أن يستل هذا الحكم الشرعي الثابت، ثم يسب أولئك الذين يمنعون من الربا، أو من بعض صور الربا بحجة أنهم لا يفهمون الدين، أو قضية الحجاب، أو تحريم الغناء، أو أي قضية معينة، يأخذها ويحاول أن يفصلها من الدين، ويقول: ليست من الدين. ثم يتكلم عنها كما يحلو له، وأحياناً قد لا يجرؤ على هذا ولا على ذاك، فينتقل إلى الخطوة الثالثة وهي: المواجهة مع شخصيات الدعاة، والنيل منهم كما أسلفت. أما القسم الثاني من المواجهة، فهي: المواجهة المادية. وأعني بها: الحرب المعلنة على الإسلام والمسلمين، كما كان فرعونهم الأول يقول: {سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف:127] وهذا قد يكون في بداية الدعوة، كما كان فرعون يقول: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] وقد يكون بعدما تكتمل الدعوة، وتكون قوةً مرهوبة الجانب، فيخشى منها الأعداء، فيحاولون أن يعاجلوها بالمواجهة المادية الصريحة المعلنة. نسأل الله تعالى أن يقي المسلمين شر هؤلاء الأعداء، ويبصرهم بمؤامراتهم، ويهبهم القيادة الصالحة التي تقودهم إلى التوفيق والعز والنصر والسعادة، إنه على ذلك قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 31 ¦ الصفحة: 19 عدم الاعتناء بالعلم الشرعي السؤال ما رأيكم فيمن يقول: إن من أكبر معوقات الدعوة داخلياً -أي من نفس الدعاة- هو عدم الاعتناء بالعلم الشرعي، والاهتمام بالتحرك مع الجهل أو العلم السطحي؟ الجواب هذا صحيح، مسألة العلم الشرعي أصل ينبغي الاهتمام به خاصةً للداعية، ليس من الضروري أن يتحول كل داعية إلى عالم، لكن ينبغي أن يقوم من بين الدعاة من يتخصصون في العلم الصحيح، كما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فأولاً: لابد أن يقوم من بين الدعاة من يتخصص للعلم الشرعي، ويبني نفسه في هذا المجال بناءً صحيحاً متوازناً متدرجاً. أما ثانياً: فإن الداعية ينبغي أن لا يدعو إلا إلى ما يعلم، أما أن تدعو إلى شيء وأنت لم تتأكد منه، ولم تعرف دليله؛ فهذا خطأ، لا تدعو إلى شيء تعلمه أنت، من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 20 كتاب: حوار هادئ مع الغزالي السؤال فضيلة الشيخ، ما صدى كتابك: حوار هادئ؟ وهل رأيت أن هناك إيجابية لمن رددت ضده، وهو الغزالي؟ الجواب بالنسبة للصدى، فأحمد الله تعالى وأثني عليه، فهذا توفيق منه وفضل، فقد كان لهذا الكتاب ولله الحمد صدى كبيراً في سائر البلاد الإسلامية وغير الإسلامية ووقفت على ذلك، فقد وصلني عبر البريد -بدون مبالغة- مئات الرسائل من السعودية وجميع دول الخليج، ومصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب وبريطانيا وفرنسا وأمريكا، وكلها تتحدث عن أثر هذا الكتاب وصداه، وتقبل الناس له. ثم رأيت بعيني في بعض الزيارات التي قمت بها إلى عددٍ من الدول، وخاصةً في أمريكا، رأيت هذا الكتاب -ولله الحمد- في كل مكتبة، وعند كثير من الشباب، ولقي من كثير منهم حفاوة وتقبلاً، وفتح عيونهم على بعض الاجتهادات الخاطئة، التي تحدث عنها الغزالي، في كتابه المعروف: السنة النبوية، فله صدى طيب ولله الحمد. أما إن كان السائل يقصد صداه لدى الغزالي نفسه، فالأقوال متضاربة في ذلك، فبعضهم يقول: إنه تقبله بقبولٍ حسن، ووعد بالتعديل والإصلاح، وبعضهم يقول خلاف ذلك، ولكن قطعت جهيزة قول كل خطيب، فالمقابلات الصحفية التي أجريت مع الشيخ في عدد من المجلات، منها مجلة الأنباء هنا، ومنها جريدة الأنباء، ومنها جريدة المسلمون، ومنها جريدة اسمها جريدة المساء، وكلها تدل على أن الرجل لا يزال متمسكاً بآرائه، بل وبأسلوبه الذي يستخدمه في مواجهة الآخرين، وتدل على أنه ما زال متمسكاً بهذا الأمر. وقد زرت المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، والذي ذكره الشيخ الغزالي في مقدمة الكتاب، وقال: إنني وضعت الكتاب بناءً على مشورتهم. وحدثني مديره، أنهم حين اطلعوا على الكتاب -كتاب حوار هادئ مع الغزالي- رأوا فيه أشياء كثيرة، ينبغي أن يعاد النظر في كتاب الغزالي على ضوئها، وقال لي: إننا أرسلنا نسخة من الكتاب إلى المؤلف الغزالي، وقلنا له: إن هذا ليس أي كلام، وإنما هو كلام علمي، ويجب أن تعيد النظر فيه وتصححه؛ ليطبع الكتاب مرةً أخرى بعيداً عن الأخطاء الموجودة فيه. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 21 دراسة الفتاة في الجامعة السؤال إنني فتاة تخرجت من المرحلة الثانوية العامة، واخترت الجلوس في البيت، فوقف الجميع ضدي، فما تنصحني أنت به يا شيخنا الفاضل، أرجو التفصيل؟ الجواب الحقيقة السؤال عندي مشكلة؛ لأنني لا أعرف حقيقة الأوضاع، وكما يقول الأصوليون: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، فهذا يتوقف -أولاً- على وضع الجامعة التي يمكن أن تنتقل أو تدرس فيها هذه الفتاة، هل يمكن أن تلتزم بالإسلام فيها أو لا يمكن؟ ثم يتوقف -ثانياً-: على مدى قدرة هذه الفتاة على التحمل، كما سلفت آنفاً في موضوع الدعوة، فبعض الناس قد يعيش في أجواء ليست نظيفة تماماً، لكن عنده صبر وجلد واعتزاز بدينه وبشخصيته يمنعه من الانجراف، وهناك إنسان آخر يشعر في نفسه بأنه رخو العزيمة قريب من الانحراف، فمثل هذا لا شك أنه لا يستشار في الموضوع، بل ينبغي أن يبتعد عن المجالات الموبوءة، ويطالب بأن ينجو بنفسه. هذا هو التفصيل الذي يمكن أن تقيس الفتاة نفسها ووضعها على ضوء هذا المقياس العام. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 22 كيف ينظم المسلم وقته السؤال نريد وصية تنصح بها الحضور لنتفع بها إن شاء الله، وما هو الجدول اليومي للمسلم؟ الجواب أما النصيحة: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلانية، فهذه كلمة قصيرة تغني عن غيرها. أما الجدول اليومي، فلا أرى من الضروري أن المسلم يجعل له جدولاً يومياً؛ لأن الإنسان بشر وليس آلة، فلا يستطيع أن يجعل لنفسه جدولاً مبرمجاً بالدقيقة؛ لأنه مرتبط بآخرين وبظروف وبأشياء كثيرة، فتؤثر في وقته، لكن الشيء الذي أقترحه عليكم كبديلٍ عن الجدول اليومي: أن يرسم الإنسان لنفسه أهدافاً متنوعة، مثلاً خلال هذا الأسبوع أرسم لنفسي هدفاً أن أنهي قراءة هذا الكتاب، وأحدد لنفسي كتاباً مناسباً أعرف أنه يتناسب مع وقت فراغي، فأعمل خلال هذا الأسبوع على أن أختم هذا الكتاب، قد أجلس يوماً كاملاً للقراءة، وفي آخر ربما لا أجد ولا ساعة للقراءة، فعندي مجال للتحرك ومرونة، المهم أن لا يضيع وقتي، فالمهم ليس رسم الجدول، كما لو كان الإنسان في مخيم مثلاً، المهم هو ضبط الوقت. فالذي أنصح به الإخوة لضبط أوقاتهم، أن يرسموا لأنفسهم أهدافاً محددة، وأن يقووا في قلوبهم الاستشعار بقيمة الوقت وأهميته، فالأمر كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] فهذا العمر هو الذي بمقتضاه تحاسب وتعذب أو تنعم، ويقول شيخ الإسلام الهروي: إن الوقت سريع التقضي، أبي التأتي، بطيء الرجوع. فسرعان ما يضيع الوقت، ولذلك كثيراً ما نجلس جلسة طويلة، وخاصةً حين نكون مطمئنين، فإذا نظر الإنسان إلى الساعة قال: سبحان الله! كيف وصل الوقت إلى هذا الأمر. فهو سريع التقضي، بطيء التأتي أبي الرجوع، فإذا مضى الوقت لا يمكن أن يعيده الإنسان بحالٍ من الأحوال ما مضى فات والمؤمل غيبٌ ولك الساعة التي أنت فيها والحمد لله رب العالمين. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 23 تبيين الأخطاء والرد عليها السؤال فضيلة الشيخ! ضربت مثلاً على النزاع بين المسلمين وانشغالهم بالردود، فما جوابك لمن وجد كتاباً فيه أخطاء عقدية، هل يسكت ويترك، أم يرد عليه، وما رأيكم وجوابكم؟ الجواب هذه مثل الأخطاء التي تشيع، إذا انتشر شيء ووقع فيه لبس عند الناس، وربما كان سبباً في وقوع بعضهم في أخطاء وهو لا يشعر، واجب على العلماء وعلى الدعاة وعلى من يحسنون الحديث؛ أن يبينوا هذه الأخطاء للناس، سواءً ربطوها بكتابٍ أو شخصٍ أو ما أشبه ذلك أو تحدثوا عنها حديثاً عاماً، لكن أعتقد أن من الصعب -بل من العسير إن لم يكن المتعذر- أن يرد الإنسان على كل من تكلم، لأن الباطل لا يتناهى، كل إنسان يقول ما يشاء، وله هواه من أقوال وآراء وأمور يضلل بها الناس، فلا يمكن أن يقف الإنسان أمام هؤلاء جميعاً فيرد على كل إنسان بعينه، لكن مهم جداً أن نبدأ نحن ببيان الحق، لا تكون دعوتنا مجرد رد فعل لجواب، أو رد على فلان أو علان فقط، الأصل أن ندعو الناس إلى الله تعالى وإلى الإسلام وإلى الدين، ونبينه لهم حتى يتقبلوه، والفطرة السليمة تقبل الحق، خاصةً إذا كان في جو هادئ، ليس بجو شد وجذب وأخذ وعطاء وجدل وخصومة. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 24 المستقبل للإسلام السؤال إلى أين تسير الدعوة في نظركم، وأيهما أخطر: الأعداء القريبين من أهل جلدتنا أم أولئك الكفار؟ ثم ما هي صحة عبارة قلتموها وهي: الإسلام يغزو فرنسا؟ الجواب العبارة إن شاء الله نرجو أن تكون صحيحة، أنا ما زرت فرنسا، ولا أدري كيف أحوال المسلمين فيها، لكن الذي نسمع وحسب ما رأينا في بعض البلاد في أوروبا وأمريكا؛ أن هناك توجهاً طيباً نحو الإسلام، سواءً من قبل المسلمين الذين يقيمون هناك، من الطلاب والعمال وغيرهم، أو حتى من قبل أهل البلاد الأصليين، الذي يدخلون في الإسلام أفواجاً، وهذا أمر رأيناه في أمريكا بشكل واضح ويبشر بخيرٍ كثير، وهناك تعطش للإسلام، ولولا ما تبثه أجهزة الإعلام هناك، من تشويه متعمد للإسلام، وما تركز في نفوس الجميع هناك، من أنه لا يفكر الواحد منهم بالإسلام أصلاً؛ لأنه لا يفهم من الإسلام إلا أنه دين قمع ووحشية ودماء، فالمثقف منهم يعرف عن الإسلام قضية تعدد الزوجات، وقضية قتل المرتد فقط، فهم يفهمون مجموعة شبهات، أثيرت في نفوسهم على الإسلام، ولذلك الذي يبحث منهم عن الدين -كما رأينا مع الأسف الشديد- يبحث في اليهودية فييئس، ثم يبحث في النصرانية فييئس، ثم يبحث في البوذية، ويبحث في الأديان الوثنية، وفي القاديانية، ولكن لا يبحث في الإسلام، قد أسقط الإسلام من الحساب ابتداءً، بسبب التشويه الإعلامي الغريب فعلاً. أي: أنها أصبحت قضية غير قابلة للنقاش عندهم مسألة الإسلام، فهناك واجب علينا، أن نقشع هذه الغشاوة التي قد غطت على عقولهم وأفكارهم عن الإسلام، ثم نبين لهم الإسلام الصحيح، وأعتقد أنهم سوف يقبلون عليه بشكل غريب جداً؛ لأنهم متعطشون وقلقون، ومستاءون من الأوضاع التي يعيشونها، يعيشون والله في جحيم لا يطاق، ذكرهم وأنثاهم سواء، حتى من النواحي الاقتصادية، ليس السقوط للشيوعيةفقط، بل الدور ينتظر الدول الغربية، التي تعاني من بوادر أزمات اقتصادية، وربما نشاهدها عن قريب. فنعتقد ونرجو الله تعالى أن يكون الإسلام يكتسح كثيراً من بلاد الأرض، وعلى الأقل هذا أمل نرجو أن يتحقق. أما مسألة: إلى أين تسير الدعوة؟ كأن الأخ يتساءل عن مستقبل الدعوة الإسلامية، والواقع أن الذي ينظر إلى أوضاع العالم الإسلامي والدعوة الإسلامية؛ يتفاءل بخيرٍ كثير، وأنا من المتفائلين بمستقبل الإسلام، ولكن حين ننظر إلى واقع الدعاة، لا أقول: إن هذا التفاؤل يضعف أو يقل، لكن ربما يحس الإنسان، بأن وقت تحقق هذا الفأل ليس بالقريب جداً، وذلك لأن أوضاع كثير من المنتسبين إلى الإسلام وحملة الدعوة، أوضاع تحتاج إلى مراجعة وتحتاج إلى تصحيح. على سبيل المثال: نفتقد العدل، ونفتقد التوازن، ونفتقد الشمول. أما قولك: أيهما أخطر العدو القريب أم البعيد؟ العدو القريب أخطر دائماً، ولذلك أمرنا بالابتداء بهم، والعدو الأخطر هو العدو الملابس، أي: العدو الذي يكون قريباً من الإنسان جداً، أحياناً نفسك، وأحياناً قد يكون إنساناً يسير معك في نفس الطريق، وكثيراً ما تجد انحراف داعية -مثلاً- يفت في عزيمه كثيرين، ويقعدهم عن الانطلاق في الدعوة إلى الله تعالى، كما أن عزيمة الإنسان نفسه -أحياناً- تقعده عن الدعوة، ولا أريد أن أستشهد بحديث {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} أولاً: لأنه حديث ضعيف. وثانياً: لأن معناه ليس على الإطلاق، فلا يمكن أن نصف القتال بالجهاد الأصغر، وجهاد النفس بالأكبر دائماً، وإن كان جهاد النفس أمراً عظيماً؛ لأن الإنسان إذا انتصر على نفسه يستطيع -بأذن الله تعالى- أن ينتصر في المعركة العسكرية، المعركة الكبرى. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 25 الدعوة إلى الله تعالى في أوساط الناس السؤال نرى البعض يحاول الإصلاح عندما يخوض في البيئة المعادية للإسلاميين، ثم يتشرب فتنهم فيذوب فيهم، فما هو العلاج؟ الجواب الإنسان ينبغي أن ينظر إلى نفسه، أول سؤال تسأل نفسك: ما هي البيئة التي أستطيع أن أدعو فيها؟ فأحياناً بعض الناس وهبه الله سبحانه وتعالى صلابة وقوة في شخصيته، عنده قوة في عقله وقلبه، ومقاومة ضد الشبهات بإذن الله تعالى، وصمود أمام المغريات والشهوات، فهذا لا يمنع أن يهجم على بعض المجالس ويتحدث، ويجادلهم ويناظرهم ويدعوهم إلى الله تعالى، ولا نقول: إنه آمن، فليس هناك أمن من الانحراف، لكنه مطمئن إن شاء الله إلى نفسه، وما وهبه الله تعالى. هناك إنسان آخر يشعر من نفسه بالضعف الشديد، بحيث أنه إذا جلس في تلك المجالس وخالط أولئك القوم؛ وجد من نفسه أنه تأثر، حتى أنه -أحياناً- قد يكون قاب قوسين أو أدنى من الفاحشة والرذيلة، وأحياناً يسمع الشبهة؛ فترن في ذهنه أسبوعاً أو أسبوعين، وتنغص عليه حياته وعبادته، فمثل هذا نقول له: انج بنفسك، اترك هذه المجالس وهذه المجتمعات، واحصر دعوتك في الناس الذين ليس لديهم شبهات ولا شهوات، لكنهم ضعفاء يحتاجون إلى تقوية، ودعم، وتشجيع، وما أشبه ذلك. هناك شخصٌ ثالث عنده بعض القوة، لكن قد يشعر -أحياناً- بتأثر، فهذا أرى أن الأصل أن يندفع في الدعوة إلى الله تعالى؛ لأنه يقل أن يوجد إنسان إلا ويتأثر، حتى الدعاة الكبار إذا سمعوا الشبهات لا تتشربها قلوبهم، لكن لا شك أن سماع الإنسان للشبهة ثم رده عليها؛ يورث قلبه نوعاً من الجفاء، فليس الذي يجلس ليناظر المنحرفين مثل ذلك الشخص الذي يجلس ليتعبد ويذكر الله تعالى ويبكي ويخشع ويسجد، بينهما فرق كبير. بل إن الذي يقاتل العدو في المعركة، ليس في إشراق قلبه وشفافية روحه، مثل ذلك الشخص المتعبد في محرابه، فبينهما فرق، لكن قد يكون أجر هذا أعظم من أجر هذا، وإن كان قلبه أصابه نوع من الجفاف، فهذا الداعية ينبغي أن ينتبه لهذا. فليس المقياس هو مجرد إشراق القلب وسعادة النفس، قد أجلس في مجتمع أعاني وأشعر بجفاف في قلبي، لكنني أحس بأنني على ثغرة، لو تركتها لأتي الإسلام من قبلها، فأنا أجلس مع هؤلاء القوم، وأدعوهم وأنصحهم، على رغم أني أحس بأن قلبي قد يكون فيه نوع من الانقباض، ولو كنت جالساً للتعبد وقراءة القرآن؛ لكان قلبي أكثر إشراقاً، لكن الفائدة أقل، فهذا نفعٌ متعدٍّ وذاك نفعٌ لازم، والنفع المتعدي -عند التعارض- يقدم على النفع اللازم، مع أن الإنسان ينبغي أن يجمع بينهما، فتجعل لنفسك أوقاتاً تخصصها للعبادة والذكر وترقيق القلب؛ لئلا تصاب بقسوة القلب وهو داء الأمم السابقة. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 26 كيف نواجه أساليب الأعداء السؤال ما هي المواقف الإيجابية من الدعاة ضد هذه الأساليب الهدامة؟ الجواب لعلي أشرت خلال هذا الحديث إلى بعض هذه المواقف، ولعل الموقف الأساسي يتكون من ثلاث نقاط أشرت إليها في البداية أيضاً، وهي: معرفة هذه الأساليب لتجنب التأثر بها، وتجنب المشاركة فيها، ومواجهتها بالأساليب المكافئة؛ فإذا كان العدو يستخدم -مثلاً- أجهزة الإعلام لضرب الإسلام، فلماذا يبقى المسلمون متخلفون في كل مجال؟ وكأن التقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي وقفٌ على أعداء الإسلام، هذا خطأ ينبغي أن ينتهي. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 27 موقف الغزالي السؤال من أي الأساليب التي ذكرتها تصنف موقف الغزالي من الدعوة الإسلامية؟ الجواب الواقع أنا لا أعتقد أن الغزالي من أعداء الإسلام، الغزالي رجل أخطأ في أمور معينة، وهذا لا ينسي أن الرجل كان له جهاد، وله مواقف معينة سابقة، في مواجهة النصارى، وفي مواجهة العلمانيين، ومواجهة الشيوعيين، وله كتابات عن الإسلام، فالله تعالى يأمرنا بالعدل، ومع ذلك الرجل له مواقف -خاصة في الأخير- مواقف كثيرة مؤسفة ومحزنة أن تصدر من مثله، وإلا لو صدرت من غيره لم يكن في الأمر غرابة، وهذه الأشياء تحدث عنها العلماء وتصدوا لها وردوها، وأكثروا في ذلك -جزاهم الله خيراً- حتى استبان الحق للناس أو لأكثر الناس، ونتمنى للشيخ أن يهديه الله تعالى، ويبصره بعيوب نفسه حتى يتراجع، ونرجو الله تعالى أن يختم لنا وله بخاتمة خير. لست أعتقد أن الرجل عدواً للإسلام حتى أصنفه من الأصناف السابقة، وإن كانت سمعة الرجل وتاريخه السابق وبلاؤه، جعل كثيراً من الشباب الأغرار، الذين ليس لديهم استقرار وعمق في العلوم الشرعية، يتقبلون ما يقول بحجة أن هذا كلام فلان، وهو له كذا وكذا من التاريخ والكتب والمواقف، فالسمعة جعلت كثيراً من الناس يتقبلون هذه الأشياء دون تمحيص، وهذه من العيوب الكبيرة؛ أننا أصبحنا نعرف الحق بالرجال، والواقع أن العكس هو الذي يجب أن يكون، أن نعرف الرجال بالحق، وليس نعرف الحق لأنه قاله فلان أو قاله علان. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 28 التفرق والاختلاف بين الدعاة السؤال فضيلة الشيخ: هل تعتقد أن من المعوقات للدعوة تفرق الدعوات؟ إذا كان نعم، فما السبيل إلى جمعهم على كلمة سواء؟ الجواب الواقع لست أعتقد أن مجرد التفرق والاختلاف بذاته عائقاً كبيراً، لأن هذا الاختلاف قد يكون اختلافاً محموداً، وقد يكون من العسير -كما أسلفت- جمع الناس على رأي واحد، لكن أعتقد وأجزم أنه من المعوقات -كما أشرت إليه- أن ينشغل الدعاة بعضهم ببعض، فيكون الأمر كما قال الإمام الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرمٍ ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا كم من داعية يهمه أن يسقط أخاه، إسقاطاً مادياً أو معنوياً، يشوه سمعته ويحط من قدره، إما غيرةً وحسداً، وإما مخالفةً، وإما لحاجةٍ في نفسه، فتجد أنه يستغل جميع السبل والوسائل لهذا الأمر، ولو أنه صرف هذا الجهد للتحذير من منحرف أو عدوٍ للإسلام؛ لكان ذلك خيراً له. أذكر قصة طريفة بغض النظر عن كونها صحيحة أو غير صحيحة لكن فيها عبرة: دخل بعض الخوارج على عمر بن عبد العزيز رحمه الله، الخليفة الأموي العادل، وكان عمر بن عبد العزيز أرسل من يناظر الخوارج ويأخذ منهم ويناقشهم، وهدى الله تعالى على يديه جمعاً غفيراً، وكانوا يرتاحون لـ عمر بن عبد العزيز من بعض النواحي؛ لأنه رجل عادل ومنصف، والعدل والإنصاف من أسباب جمع كلمة المسلمين دائماً وأبداً، فدخلوا على عمر بن عبد العزيز وقالوا: أنت رجلٌ فيك وفيك لكن نريد منك أمراً وهو أن تلعن معاوية، لأنك لا تلعن معاوية، فلماذا لا تلعن معاوية؟ فقال للسائل: منذ متى عهدك بلعن فرعون؟ ففكر السائل وقال: والله منذ زمن بعيد. فقال للسائل: إذاً انتظر حتى ننتهي من لعن فرعون. وليس المقصود أن عمر سينتقل بعد لعن فرعون إلى لعن معاوية، حاشاه من ذلك رضي الله عنه؛ لأنه لا يمكن أن يلعن صحابياً من المؤمنين، وهو معاوية رضي الله عنه، لكنه أراد أن يقيم الحجة على هذا الخارجي، أن مسألة اللعن لا يتعبد بها، مجرد لعن أشخاص، ولذلك هذا الرجل لا يتذكر متى لعن فرعون، ربما لم يلعن فرعون إلا أن يقرأ القرآن الذي فيه لعنه ولعن أمثاله. فمن المؤسف أن بعض الدعاة يشتغلون بإخوانهم، قد يتفق معك أخوك في (70%) أو (80%) من اجتهاداتك، ومع ذلك تشتغل به وتحاول أن تسقط مكانه، والآخر الذي تختلف معه (100%) من أعداء الإسلام أو خصومه، ربما لم يصب منك بسوء، وأذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الله بن المبارك رضي الله عنه ورحمه الله، فاغتاب رجلاً من الصالحين، فقال له عبد الله بن المبارك: هل غزوت الروم؟ قال: لا. قال: هل غزوت الفرس؟ قال: لا. قال: هل غزوت الهند والسند؟ قال: لا. قال: فسلم منك الروم والفرس والهند والسند ولم يسلم منك أخوك المسلم!!! فالغيبة داء يفتك بالمؤمنين، تناول أعراض الدعاة والوقيعة فيهم والحط والتجريح، وتأتي -أحياناً- بأساليب ملفوفة، أحياناً تأتي بأسلوب النقد أو بأسلوب التقييم أو بأسلوب النقد الذاتي، وأحياناً يسميها ملاحظات، وهي في الواقع غيبة، حتى -أحياناً- مجرد كلمة، فإذا ذكر شخص فأنت في نفسك تريد أن تسقط قيمته، لكن من باب الورع لا تريد أن تقول كلمة صريحة، فتقول: دعوه الله يستر علينا وعليه. هذه الكلمة بحد ذاتها غيبة، لماذا؟ لأنك تقول للناس هذه عليه أشياء وملاحظات لا أريد أن أبينها، دعوه ستر الله علينا وعليه. أو يُذكر شخص فتقول: لا أريد أن أغتابه وهذه غيبة؛ لأنك حين قلت: لا أريد أن أغتابه. معناه: إنني لو أردت أن أقول فيه لقلت فيه شيئاً كثيراً، ومجال الحديث فيه واسع، لكن أنا ورع لا أريد، فاغتبته من حيث تدري ولا تدري. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 29 خطر البدعة ومنزلة العقيدة السؤال فضيلة الشيخ جزاكم الله خيراً، قد ذكرتم الأسلوب الأول في محاربة الإسلام وهو الاحتواء، ولا شك أن خطورة أهل البدع على الإسلام أشد من أعدائه الكفار، وأهل البدع خاصة من يجعل العقيدة في الخلف، يسلك هذا الأسلوب باحتواء الشباب حولهم، بإعطائهم المناصب وغير ذلك، ألا ترى أن هذا الأسلوب يعم الكفار وأهل البدع؟ وما رأيك فيمن يدعي أن العقيدة تفرق بين المسلمين؟ الجواب البدعة هي إحدى مصائد الشيطان، لكنها ليست كالكفر، وهذا الأمر هو ظاهر لكن نحتاج إلى بيان، فالكفر درجة أعظم من البدعة، وإذا حصل الشيطان من الإنسان على الكفر؛ فلا يهمه بعد ذلك شيء من أمره، فإذا لم يقع منه على الكفر، قنع منه بالبدعة، فإذا لم يقع منه على البدعة، قنع منه بالمعصية الكبيرة، فإذا لم يستطع قنع بالمعصية الصغيرة، فإذا لم يستطع فقد يقنع من الإنسان بأن يشتغل بالمفضول ويترك الأمر الفاضل، فالشيطان له مراحل متدرجة من الإنسان. أهل البدع أنواع: هناك بدع مكفرة. يعتبر أصحابها الذين يقولون بها ويعرفون معناها -فعلاً- من خارج الأمة الإسلامية، كما هو ظاهر -مثلاً- في القاديانية والبهائية والتجانية، وكثير من الطوائف التي تعتقد كفراً بواحاً صراحاً لا لبس فيه ولا غموض، فهذه الطوائف لا يمكن أن تحسب من الإسلام، ولا من الثنتين والسبعين فرقة التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا بضربٍ من التأويل، وهؤلاء يصدق عليهم الكلام الذي ذكرته آنفاً. وهناك بدع دون ذلك، بدع لا يصل الأمر فيها إلى حد الكفر، منها بدعٌ غليظة، ومنها بدع خفيفة، والناس مراحل في هذا الباب، وينبغي أن نفرق ونميز بينهم، فلا نعاملهم معاملة واحدة، وهؤلاء ليسوا أعداءً للإسلام دائماً حتى نستطيع أن نقول: إنهم يسلكون هذه الأساليب لحرب وضرب الإسلام، بل قد يكون فيهم أناس صالحون وفيهم دعاة إلى الله، وفيهم من نفع الله بهم، وهدى الله على أيديهم بعض الكفار، وإن كانت ليست هداية مطلقة، لكنه تحول من الكفر الصراح إلى إسلامٍ مشوبٍ ببدعة، وهذا خير من بقائه على الكفر، وخيرٌ من ذلك لو أنه سلك مسلك الاعتدال، وآمن بالعقيدة الصحيحة وسار على طريقة أهل السنة والجماعة، فإذا تيسر هذا فهو غاية المطلوب. أما موضوع العقيدة، فيجب الاهتمام بالعقيدة، والعقيدة تعني أموراً: فمن العقيدة: معرفة أسماء الله تعالى وصفاته، والإيمان بها وإثباتها كما أثبتها السلف الصالح رضي الله عنهم، دون أن يدخل الإنسان في تأويلها أو تكييفها أو نفيها، أو ما أشبه ذلك. ومن العقيدة: الإيمان بربوبية الله تعالى، وأنه المالك الخالق المتصرف المدبر. ومن العقيدة: الإيمان بألوهية الله، وهذا جانب مهم جداً ويغفل عنه الكثيرون، وهو أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] فكثير من المنتسبين إلى الإسلام أصبحوا يثقون بأصحاب القبور مثلاً، يثقون بمن يسمونهم بالأولياء أكثر مما يثقون برب العالمين، فإذا نزلت بالواحد منهم نازله، نادى فلاناً أو علاناً من المقبورين يرجوه كشف الضر أو دفعه أو ما أشبه ذلك. كذلك الحكم بغير ما أنزل الله، واستيراد قوانين وأنظمة كافرة وتحكيمها في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم ورقابهم، هذا أيضاً مما ينافي توحيد الألوهية، قال الله {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . ومن العقيدة: إحياء المعاني العقدية في نفوس الناس، وهذا يغفل عنه الكثير أيضاً، قضية حب الله تعالى وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه، وتفويض الأمر إليه، وما أشبه ذلك من معاني العقيدة التي يغفل عنها الكثيرون ولا يتحدثون عنها، وهذا أمر ينبغي التنبه له. فالمسلم يهتم بهذه الأشياء وهي المنطلق، لا يتصور إنسان مسلم بدون عقيدة، بل لا يتصور إنسان بلا عقيدة، إما عقيدة صالحة أو منحرفة، لأن هذه ميزة الإنسان أنه يعتقد، بخلاف الحيوان الأعجم الذي لا ينطق ولا يفهم ولا يخاطب، أما الإنسان فهو مخاطب، وأول ما يخاطب به هو العقيدة، ولذلك أول واجب على المكلف هو شهادة أن لا إله إلا الله، وهذا هو أول ما بعث به الرسل وأول ما قالوا لأممهم، وأول ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم. كما في حديث ابن عباس، حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن -كما في الصحيحين- {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله} فالعقيدة أولاً، ولا إشكال في هذا، وهي أولاً وأخيراً أيضاً، بمعنى: أننا لا ندعو إلى العقيدة ثم تنهي دور العقيدة، وبدأنا ندعو إلى غيرها، ليس هناك تجزئة، بل ندعو إلى العقيدة وإلى غيرها، وفي جميع المراحل. القرآن الكريم نزل في المدينة، كان يرسخ العقيدة في نفوس الناس، حتى في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فالعقيدة لا ينتهي تعليمها عند حد معين، بل ينبغي سقي شجرتها، ولا تنتهي إلا بموت الإنسان {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] . الجزء: 31 ¦ الصفحة: 30 اختلاف الناس في الأصول والفروع السؤال لقد ذكرتم أن من الصعب جمع الأمة على كلمة واحدة في الفروع والأصول، أقول -بعد إذنكم-: إن الفروع ظاهر الخلاف فيه بين الأمة، ولكن الأصول الذي أعلمه أن الصحابة والتابعين أصولهم واحدة، لم يختلفوا في باب الألوهية والربوبية أوالأسماء والصفات، أو أمر الرسالة وغيرها من الأصول، أرجو أن أكون قد فهمت خطأً، أرشدونا بارك الله فيكم؟ الجواب لست أقصد أن الناس يختلفون في الأصول وفي الفروع أي: أصول الدين وفروعه، لكنني أقول: إن اتفاقهم على الأصول والفروع كلها غير ممكن، بمعنى أنهم يمكن أن يتفقوا على الأصول، لكن لا يمكن أن يتفقوا على الجزئيات وتفاصيل الأحكام، فالخلاف في الأحكام موجود، أما في القضية الاعتقادية فإنني لا أعلم، بل أجزم أنه لم يقع أن أحداً من الصحابة رضي الله عنهم، تلبس ببدعة في ذلك، بل حمى الله هذا الجيل الشريف المبارك المختار، عن أن يتلبس ببدعةٍ اعتقادية، وانقرضوا عن آخرهم وهم على النهج الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أنهم أصبحوا مقياساً يعرف به الحق من الباطل، ولهذا لما قال صلى الله عليه وسلم، أو ذكر الفرقة الناجية قال: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} إذاً: الوضع الذي كان عليه الصحابة هو المقياس الذي يعرف به الحق من الباطل، وتحاكم عليه أوضاع الناس. فموضوع أصول الاعتقاد لا يُختلف فيها قد يختلف أهل السنة أحياناً في بعض تفاصيل الاعتقاد، يختلفون في جزئية من جزئيات العقيدة، فقد اختلفوا -مثلاً- في إثبات الصورة وما أشبه ذلك، هذا قد يقع داخل أهل السنة، وإن كان الحق ظاهراً في كثير من هذه المسائل بقوة الدليل. لكن أن يوجد بين أهل السنة من يسلك مسلك التأويل، فهذا لا يمكن أن يكون على الإطلاق. يمكن أن يجتمع المسلمون على أصولٍ واحدة، لكن الاجتماع على الفروع هو الذي أقول: لا يمكن، كما أنني أريد أن أؤكد على أمرٍ آخر، وهو: لابد من الاختلاف في الأسلوب، الأساليب تتنوع من عصرٍ إلى عصر، والوسائل تختلف، وأحياناً يرى الحاضر ما لا يرى الغائب. وفي أول عهود الصحابة رضي الله عنهم، اختلفوا في جواز كتابة الحديث، فكان منهم من يرى أنه لا يجوز أن يكتب الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وقال -كما في حديث أبي سعيد-: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} ولكن هناك آخرون يرون جواز الكتابة، ويحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: {اكتبوا لـ أبي شاه} وقوله في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب، فوالله ما خرج منه إلا حق، وأشار صلى الله عليه وسلم إلى فمه} فكانوا مختلفين في هذا الأمر وفي هذه الوسيلة، لكن بعدما وجدوا ونظروا بأعينهم، ورأوا الضرورة العملية الملحة لكتابة الحديث، انتهى هذا الخلاف، وأجمع الصحابة رضي الله عنهم على أهمية كتابة الحديث، بل زال وانقرض الخلاف في ذلك. فالوسيلة تختلف من عصر إلى عصر، ولذلك لا يمكن أن نجمع الدعاة على أسلوب واحد، فهذا داعية يهتم ببناء المساجد، وآخر يهتم بنشر الدعوة، وثالث يهتم بنشر العلم، ورابع يهتم بدعوة العامة، وخامس يهتم بدعوة الخاصة، وسادس وسابع وثامن قد علم كل أناس مشربهم، وكل امرئٍ منهم له مقام معلوم، قد لا يستطيع أن يقومه غيره، فهذا من التنوع المحمود، من اختلاف التنوع لا من اختلاف التضاد. الجزء: 31 ¦ الصفحة: 31 مشاهدات في يوغسلافيا يوغسلافيا جزء من الأمة الإسلامية، ولكن النصرانية الحاقدة المتمثلة بالصرب أرادت أن تستأصل المسلمين من هناك وبالتالي من أوروبا، وفي هذا الدرس شهادة شاهد عدل عاين الكارثة وعايشها وذكر المصائب هناك. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 1 أسباب البشارة بوجود الخير قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فالمفترض في هذه الليلة، أن المجلس هو من مجالس الأمالي شرح بلوغ المرام وهو المجلس التاسع عشر بعد المائة، ولكنني رأيت أن في الأخبار الجديدة والأحوال التي نقلها لنا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان الأستاذ بقسم الفقه بجامعة الإمام بكلية الشريعة فرع القصيم رأيت فيها ما يستوجب أن يسمعه الإخوان غضاً طرياً من فمه، فلذلك كان هذا المجلس ندوة في الحديث عن مشاهدات في يوغسلافيا. وأريد أن أقدم -أيها الأحبة- برأي أراه وأعتقد أن فيه بشارة كبيرة، وتسرية عن القلوب والنفوس: ليس صحيحاً أن ما يعانيه المسلمون اليوم في يوغسلافيا أو غيرها أمر جديد غريب لم يمر حقبة من حقب التاريخ. كلا بل أزعم أن المسلمين عاشوا منذ سنوات ليست بالبعيدة، عاشوا أوضاعاً أصعب وأشد من الأوضاع التي يعيشونها الآن، بل إن ما نسمعه اليوم من أخبار المسلمين في تلك البلاد أو غيرها ينبئ بخير كثير ينتظر المسلمين في القرون والعقود المقبلة، وأعز هذا الزعم بأمور:- الجزء: 32 ¦ الصفحة: 2 المسلمون في حال دفاع لا إقامة خلافة أيها الأحبة: وفيما يتعلق بيوغسلافيا فسوف يحدثكم شاهد عيان انتدبه الإخوان المشايخ في هذا البلد قبل أيام ليرى ويسمع ويطمئن، وجاء يحمل لكم الأخبار الجديدة، ولكنني أختم كلمتي بملاحظة واحدة فقط هي: أن المسلمين في يوغسلافيا الآن يدافعون عن أنفسهم، هذا هو تشخيص الوضع القائم هناك، ويجب أن يكون هذا واضحاً فالمسلم يدافع عن نفسه، وعن زوجته، وعن أطفاله، وعن بيته، وعن مزرعته، وعن ممتلكاته، فلم يقم المسلمون بيوغسلافيا بإعلان الجهاد المقدس، والزحف على البلاد المجاورة لضمها إلى دولة الإسلام، لا، وإنما هم يدافعون عن أنفسهم، والدفاع عن النفس مشروع بجميع المقاييس، وبكل الديانات، وبكل الأعراف، وبكل القوانين، فلا أحد يعتب عليهم، لماذا يدافعون عن أنفسهم؟ من حق كل مسلم في يوغسلافيا وهو يقتل أن ينتقم من قاتله وقاتل أولاده إن استطاع قبل أن يموت، هذه هي الصورة، وبناء عليه فالمطلوب مساعدة المسلم في يوغسلافيا حتى يستطيع أن يدافع عن نفسه، أو ينتقم من قاتله قبل أن يموت، فلا تتصور أنك إذا بذلت ما تبذل من المساعدة لإخوانك هناك، أنك ستسمع الأخبار غداً أو بعد غد عن قيام الإمبراطورية الإسلامية التي تضم بلاد البوسنة والهرسك والصرب والكروات والجبل الأسود وغيرها وإن كان هذا ممكناً وما هو على الله بعزيز؛ لكن ضع الأمور في نصابها، مسلم يقتل يريد أن يدافع عن نفسه، ومن حقه أن يدافع، ومن حقه على أخيه المسلم أن يساعده بما يستطيع، ونحن نعلم أن أخوة الإسلام جعلت المعتصم يثأر للمرأة المسلمة في عمورية وهي تقول (وامعتصماه) فيسيِّر الجيوش الجرارة حتى يفتح هذا البلد وينتصر لهذه المرأة الوحيدة التي ديست كرامتها، فكذلك من حق إخواننا وأخواتنا المسلمات في يوغسلافيا وغيرها أن نساعدهم؛ خاصة وقد تخلت عنهم السياسة في كل مكان، من منطلق التحالفات الدولية والإحراجات والتحفظات وغير ذلك، فلم يبق إلا القرش والريال التي يدفعها إخوانهم المسلمون، وهي مهما قلَّت يبارك فيها ربنا -جل وعلا- لأنها مساعدات صادقة غير مشروطة، والله تعالى يربي الصدقات ويبارك فيها. رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم لا يلام الذئب في عدوانه إن يك الراعي عدو الغنم أمتي هل لك بين الأمم منبرٌ للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خَجَلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عابثا ببقايا كبرياء الألم أين دنياك التي أوحت إلى وترى كلِّ ينيم نغم أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم فيمَ أقدمت وأحجمت ولم يشتف الثأر ولم تنتقم أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم اسمعي نوح الحزانى واطربي وانظري دمع اليتامى وابسمى واتركي الجرحى تداوي جرحها وامنعي عنها كريم البلسم ودعي القادة في أهوائها تتفانى في خسيس المغنم أيها الإخوة: أترككم مع مشاهدات أخينا فضيلة الدكتور صالح بن محمد السلطان، فإلى حديثه جزاه الله خيرا. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 3 تمسك المسلمين بدينهم أولها: أن المسلمين ما لقوا من هذه الحرب الضروس التي يلقونها الآن إلا لأنهم قد تمردوا واستعصوا على التهجين والتدجين والتكفير الذي يحاوله الأعداء، ولو أن المسلمين أعطوا الدنية في دينهم ورضوا أن يتخلوا عن دينهم إلى غير رجعة، لما كان بينهم وبين الكافرين من النصارى واليهود والشيوعيين مشكلة تذكر، ولعاشوا إخواناً في وطنيتهم وفي مصالحهم المشتركة، وفي تربتهم التي توحدهم، ولكن المسلمين قد أصروا على التشبث بدينهم حتى آخر قطرة من دمهم وحتى آخر نفس، ولذلك لقوا ما لقوا من الحرب التي تقول: لو أن هؤلاء المسلمين رضوا بطريق المهادنة للكفار والرضا بما يطلب منهم؛ لما لقوا هذا الأمر، هذا أولا. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 4 الحرب بين النصرانية والإسلام وثانيها: أن النصارى واليهود وسائر أعداء الدين لو لم يشعروا الآن بأن المسلمين الآن خطر داهم لما قاوموهم بهذه الطريقة الغريبة، فإنك لا تكاد تجد اليوم حرباً أو مشكلة ذات بال في الشرق أو في الغرب، إلا وتجدها مواجهة بين دين الإسلام ودين النصرانية. الحرب في يوغسلافيا -وهي موضوع الحديث- هي حرب بين الإسلام والنصرانية والحرب التي تدور رحاها الآن في عدد من ولايات الاتحاد السوفيتي مثلاً بين الأرمن والأذاريين هي حرب بين الإسلام والنصرانية، والحرب في بورما والحرب في بلاد العرب هي بين الإسلام والنصرانية. ولا أعتقد أن النصارى الآن يستطيعون أن يخفوا سمة هذه الحرب أو يلبسوها لبوساً آخر، فهي حرب صليبية ضد الإسلام، وإلا فأي معنى أن تكون تلك الدول التي تنادي بالديمقراطية هي أول من يرضى بذبح الديمقراطية في البلاد العربية والإسلامية؟ لأنهم يقولون: إن تلك الديمقراطية سوف تكون معبراً وجسراً للأصوليين، ولن تكون في صالحنا في يوم من الأيام، وأي معنى أن تكون الدول التي تنادي بحقوق الإنسان، وتتشدق بحفظ حقوق الإنسان أول من يبصم ويوقع على انتهاك حقوق الإنسان في الجزائر ومصر وتونس بل وإسرائيل وغيرها من البلاد؟! أي معنى في أن الجمعيات في فرنسا تنتقد تصرفات الحكومة الجزائرية تجاه شعبها، أما الحكومة الفرنسية فتوافق على وضع الديمقراطيةعلى الرف إلى أجل غير مسمى، وتعلن أنها تقر وتؤيد تصرفات المجلس الأعلى بدون تحفظ، ثم تتبعها أمريكا فتؤيد أيضا بدون أي تحفظ جميع التصرفات والقرارات التي اتخذها المجلس الأعلى! وأي معنى أن تكون المواجهة في بعض البلاد في مصر بين الأقباط وبين المسلمين تُصوَّر على أنها تصرفات من بعض الأصوليين؟؟ وتقوم الدول العلمانية لتقدم للدول الغربية عربوناً على أنها ضد كل ما هو إسلامي، فتقول: إن أجهزة أمنها تلاحق الأصوليين المتطرفين وتعمل على اجتثاث جذورهم، وأنها تسعى إلى حماية حقوق الأقباط والمسيحيين والنصارى، وكأنها تقول للغرب: نحن أكثر منكم إخلاصاً لما تريدون، وأكثر منكم حرباً على الإسلام، وأكثر منكم حماية للآليات، فاطمئنوا فلن تهدأ لنا عين، ولن ينعم لنا بال، ولن يقر لنا قرار إلا بعد أن نقلم أظفار كل من ينتسبون إلى الإسلام والدعوة الإسلامية. الحرب -الآن- في كل بلاد العالم حرب -كما يعبرون هم- بين الهلال والصليب، ونحن نقول: حرب بين التوحيد والتثليث، حرب بين الإسلام وبين النصرانية ويعجبني أن عدداً من الكتاب الذين هم أبعد ما يكونون عن تمثل هذه المعاني وإدراكها، أصبحوا يدركون الآن بشكل واضح بل ويكتبون بصورة قوية عن حقيقة هذه الحرب، وألفت أنظاركم مثلاً إلى كتابات الدكتور فهمي هويدي والدكتور فهمي هويدي من الكتاب الذين لم نعهد منهم أي نظرة لتعميق مفهوم الولاء والبراء في الإسلام، أو مفهوم الحرب على النصارى، أو أي مفهوم من هذه المفاهيم التي كنا وكان غيرنا يتحدث عنها منذ زمن بعيد، ولكني رأيت كتاباته الأخيرة تنضح بالتركيز على هذا المعنى وإبراز هذه الحقيقة؛ لأنها لم تعد مجرد حقيقة دينية موجودة في النصوص السماوية، كلا، بل أصبحت حقيقة سياسية واقتصادية وعسكرية واجتماعية وإعلامية يدركها كل متابع للأحداث والأوضاع والتطورات في العالم، وليس فقط يدركها الذين يقرؤون النصوص القرآنية والنبوية بعمق وإدراك. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 5 ما لقيه المسلمون في الماضي أشد مما يلاقونه اليوم الأمر الثالث: أن المسلمين واجهوا فيما مضى أشد مما واجهوا الآن على حسب ما تقوله التقارير والإحصائيات، فأنت مثلاً لو قرأت ما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وماذا فعل استالين في المسلمين، لوجدت أنه أجرى الدماء أنهاراً من أهل لا إله إلا الله، بل أقرب مثال يوغسلافيا نفسها -وهي موضوع حديثنا الليلة- ألم تعلم أنه هجَّر من المسلمين اليوغسلاف بعد الحرب العالمية الأولى أكثر من ستة ملايين، أي أكثر من العدد الموجود الآن هجروا إلى تركيا وغيرها من البلاد، وأنه قتل منهم ما يزيد على مائتين وخمسين ألفاً، ولم يطلق طلقة واحدة من المسلمين أنفسهم، ولم يتكلم خطيب واحد آنذاك عن تلك المجازر، ولا عن هذه الهجرة الجماعية، ولا عما لقيه المسلمون تحت مطارق الشيوعية. إذاً ليس الفارق أن المسلمين الآن يواجهون ما لم يواجهوا من قبل، ولكن أن المسلمين الآن أصبح لهم عيون يبصرون بها، وآذان يسمعون بها، وألسن يتحدثون بها. صحيح أن هناك جهوداً كبيرة لسمل تلك العيون وقطع تلك الآذان، ولمحاولة تدمير تلك العيون، ولقطع تلك الألسن، والحيلولة بينها وبين كلمة الحق، نعم ولكن العيون تبصر والأذان تسمع، والألسن تتكلم، والمسلمون الآن الفارق بينهم وبين المسلمين قبل ثلاثين وأربعين وخمسين وستين سنة، أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يكترثون لما يجري لإخوانهم في أي مكان، ولم يكن هناك من يتحدث عن أحوال المسلمين وما يلاقون، فكان يجري ما يجري في غيبة المسلمين، وفي ظل التجهيل الكامل والقطيعة الكاملة بينهم وبين إخوانهم. أما اليوم فكل ما يجري إنما يقع على مرأى ومسمع من العالم كله، بما في ذلك المسلمون الذين أصبحوا الآن أكثر وعياً وإدراكاً وتعاطفاً وتحمساً وغيرة، فأصبح المتكلم يتحدث بحرقة، والسامع يستمع بلهفة، وأصبح المسلم الذي يضرب في يوغسلافيا ينادي ويستغيث بالله عز وجل، ثم بإخوانه المسلمين في كل مكان من الأرض، ويدري أنهم يسمعون ويرون، وأنهم يعملون على نصرة إخوانهم بقدر ما يستطيعون. إذاً هذا هو الفارق، فلا يصيبنك -يا أخي الكريم- شيء من اليأس أو القنوط، وأنت تسمع مثل هذه الأحداث، واعلم أن ما يجري للمسلمين اليوم جرى قبله الكثير الكثير، بل إننا نلمح بوادر تقدم كبير في الواقع الإسلامي الآن، تقدم في التجاوب، وما اجتماعكم هذا إلا نموذج للتجاوب، فإن هذا المجلس لم يقرر إلا البارحة في مثل هذه الدقائق، ولم يكن ثمَّ وقت كافٍ للإعلان عنه، ولا لدعوتكم إليه، ولم نكن نتوقع أننا نجد ولا شيئاً يذكر بالنسبة إلى هذا الجمع الحاشد الحافل الذي احتشد لسماع هذا الحديث، هذا مع أنكم سمعتم قبل ذلك عن أوضاع يوغسلافيا الكثير، فسمعتم في الدروس العلمية على مدى ثلاثة أسابيع، وسمعتم في المحاضرات والدروس والندوات الذي خصصت لهذا الموضوع، ثم ها أنتم أولاء تقبلون في مثل هذا المجلس وتملئون هذه الساحة الواسعة في هذا المسجد المبارك لهفةً إلى سماع الجديد والمزيد والمفيد، فجزاكم الله خيراً. وهذا دليل مادي قريب على أن المسلمين الآن أصبحوا أكثر تماسكا، وأكثر استعداداً للتضحية، وأكثر حرصاً على سماع أوضاع إخوانهم وبشكل عام أن المسلمين اليوم يعيشون واقعاً أكثر حيوية وتجاوباً مع إخوانهم مما كان من قبل، وتجاوب المسلمين مع أوضاع إخوانهم في أفغانستان هو نموذج آخر، فإن الحرب الأفغانية دامت أربع عشرة سنة، وهذه مدة طويلة كانت كفيلة بأن تزرع في النفوس اليأس والقنوط، وتجعل الذين يقبلون على الجهاد الأفغاني دعماً بالمادة أو بالسلاح أو ذهاباً إليهم للمشاركة أن يتخلوا عنه، ولكن الواقع يشهد أن المسلمين لم يتخلوا عن الجهاد في أفغانستان وما كانوا أكثر حماساً للجهاد في أفغانستان منهم في شهر رمضان من هذا العام وما بعده؛ حيث بشائر النصر المبين تزف إلى المسلمين في هذا البلد وفي كل بلد. فأقول أيها الإخوة لننظر إلى هذا الواقع من هذا المنطلق، ولندرك أن هذا يشبه إلى حد كبير ما تسمعونه من المنكرات التي تقع اليوم في المجتمع، فكثيرون يقولون: والله أصبحنا اليوم نسمع منكرات ما كنا نسمعها من قبل. أقول: نعم هذا صحيح وأنا واحد من هؤلاء، لكن هذا ليس لأن المنكرات لم تكن موجودة، كلا، بل كانت موجودة ويوجد أضعاف أضعافها في الماضي، ولكن لأن كثيراً من المنكرات في الماضي كانت تتم في الظلام، وفي غيبة الرقيب وفي غفلة الناس، ولم يكن الناس يعرفون لمن يشتكون، ومن يخبرون، ومن يبلغون، بل ربما تجد أحياناً مؤسسات كبيرة، يقع فيها المنكر فلا يوجد من ينكره، ولا من يبلغ به، ولا من يخبر أهل العلم عنه، فلذلك مضت أمور كثيرة طافت على المسلمين وتمت في غيبتهم. أما اليوم فكل ما يفعل أو ينشر في الصحف، أو يقال في المجالس أو يتم؛ حتى ولو كان عليه من التحفظات والسرية الشيء الكثير، فإنه بعد ساعات قلائل يصل إلى أسماع من يعنيهم إنكار المنكر، وأحياناً كثيرة يصل موثقاً بالصوت أو بالصورة أو بالوثائق التي لا تقبل الجدل إذ هي وثائق دامغة، ولذلك أصبحت المنكرات تعرف، ويسهل مقاومتها ومحاربتها والقضاء عليها. أما في الماضي فكانت تقع دون أن يعلم بها أحد، أقول هذا الكلام لأننا بحاجة إلى أن يكون عندنا قدر من الثقة بمستقبل الإسلام، ووالله إننا كلما رأينا مزيداً من الضغط على الإسلام والمسلمين، ومزيداً من الحرب وجدنا في ذلك آية من آيات الله تعالى في النصر المبين للمؤمنين، لأن الله عز وجل يقول: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:214] يقولون ذلك وقد أبطأ النصر عليهم وتأخر، وأصابهم ما أصابهم، وتحرقت قلوبهم، وتلهفت نفوسهم، فسألوا متى نصر الله؟ وهاهنا يأتيهم الجواب من الله جل وعلا: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . الجزء: 32 ¦ الصفحة: 6 نظرات حول القضية قال الشيخ: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: فإن هذه الأمة لا تكاد تفيق من صدمة موقف حل بها إلا والصدمة الأخرى تنتظرها، فبالأمس قضية المسلمين في بورما وقبلها في فلسطين وفي كشمير وفي أفغانستان وفي إريتريا وفي الصومال وفي الجزائر وفي تونس وفي يوغسلافيا وفي البوسنة والهرسك. واليوم تعود محاولة تصفية المسلمين مرة أخرى، كما حدث في أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما جرت الأنهار بدماء المسلمين في تلك الحقبة، لكنها اليوم تعود أكثر عنفاً وشراسة وقد تطورت وسائل الفتك والتدمير في ظل غيبة الأمة وتداعي الأمم عليها، وفي هذه الندوة، وفي هذه الدقائق ألقي نظرة سريعة على قضية المسلمين في تلك الديار من خلال الفقرات أو النقاط الآتية:- أولا: أطماع النصارى في هذه الجمهورية، ثم مشاهدات من تلك البلاد، ثم حديث عن الأحوال الاقتصادية، فالأحوال العسكرية، فالأحوال السياسية، فالنواحي الإعلامية، ثم أختم ذلك بما تعنيه البوسنة للمسلمين في رأي أهلها ونظرهم. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 7 أطماع النصارى قبل الكلام على ما حصل من مشاهدات في تلك البلاد أبدأ الحديث: ببيان أطماع النصارى في هذه الجمهورية فأقول: دأب النصارى هناك على ذكر أن البوسنة جزء من أراضيهم، وأنه لا يمكن انفصالها، وأن من فيها من المسلمين إنما هم أخلاط وفدوا إليها وينبغي أن يرحلوا منها، أو يبقوا تحت ظل وهيمنة هذه الدولة الصربية النصرانية ولا شك أن هذه دعاوى باطلة لا رصيد لها من الواقع، بل إن عند المسلمين هناك من الوثائق ما يثبت أن هذه الدولة كانت مستقلة منذ أكثر من ثمان مائة وخمسين عاماً، ولكن مع ذلك فقد اقتطع الصرب وكذلك الكروات منذ الحرب العالمية الثانية أجزاء كبيرة واستراتيجية ومهمة من هذه الجمهورية، واضطروها وحصروها في وسط هذه الجمهورية، ولم يبق لها إلا منفذ صغير على البحر لا يوجد فيها ميناء بحري، كما يزعمون. ولكن السبب الحقيقي في هذه الأطماع: هو ما تحويه هذه الجمهورية من المواد الخام التي توجد فيها، ولا توجد في غيرها من الجمهوريات، إضافة إلى السبب الرئيسي، وهو الحقد الشديد على الإسلام وعلى المسلمين، والذي ظهر جلياً أثره في أثناء هذه الحروب المتتابعة على هذه البلاد، بعد ذلك أذكر مشاهد من داخل تلك البلاد وهذه المشاهد التي وقفنا عليها، هي على قسمين:- قسم: رأيناه بأعيننا. وقسم: رأيناه عن طريق التصوير وتارة كان ينقل التصوير حياً على الهواء، وتارة يعرض بعد أن ينقل. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 8 مأساة اللاجئين فالمسلمون يعيشون في داخل البوسنة أوضاعاً مأساوية لا يعلمها إلا الله، وقد شاهدت أوضاعاً تصور حجم هذه المعاناة والأسى والألم الذي يكابده هذا الشعب الأعزل، وسأذكر بعض هذه المشاهد، وهي نماذج لمشاهد أخرى تتكرر في كل يوم، بل في كل ساعة، فمن هذه المشاهد: رأينا يوم الجمعة بعض اللاجئين الذين وفدوا من تلك البلاد، واستقبلهم المسلمون في المركز الإسلامي في زاغرد وعندما أرادوا ترحيلهم رأيت امرأة مسنة تبلغ السبعين وهي تبكي وحولها ثلاثة أطفال الأكبر منهم يبلغ أربع سنوات وثلاث وسنتين، وهي تبكي ثم تشيح بوجهها عن الناس، فسألنا عن حالها، فقالوا: إنها خرجت من هذه البلاد بعد أن هجم الصرب على منزل ابنها، فأراودوا امرأته عن نفسها فأبت، فقتلوها وبقروا بطنها وتركوا هؤلاء الأطفال، فما كان من أم أبيهم إلا أن هربت بهم بمساعدة بعض المسلمين، حتى وصلت إلى هذا المركز، وهي في حالة من الإرهاق والخوف والتعب والألم والفقر فليس معها شيء غير ثيابها، وعلبة واحدة من الحليب لا تدري لمن تكفي من هؤلاء الأطفال، وهي تناشد المسلمين في المركز أن يبقوها عندهم في المركز، ولا يتركوها تذهب إلى معسكر اللاجئين في سلوفينيا وهي دولة نصرانية كافرة؛ لأن سلوفينيا تستقبل اللاجئين المسلمين استقبالاً سيئاً. فهذا نموذج من النماذج التي رأينا في تلك الديار، وبعد ذلك قمنا بزيارة لأحد المراكز هناك، جُمع اللاجئون في صالة رياضية واحدة وحشروا -وهي عبارة عن صالة رياضية كأنها غرفة رياضية- جمعوا فيها ما يزيد على مائة وخمسين من الأطفال والنساء والشيوخ، وحالهم لا يعلم بها إلا الله، رأيت امرأة تبلغ الستين وهي تبكي ولا تقف عن البكاء، فسألناها عن ذلك فقالت: إنها مصابة بمرض في القلب، وإنها تركت أولادها السبعة في سراييفو يدافعون عنها ولقد انقطعت أخبارهم ولا تعلم عنهم، ثم طلبت منا أن نلمس الفرش التي ينامون عليها فإذا هي كالحجارة، ثم رأيت والإخوان امرأة تبكي بجانبها وهي دونها في السن، فقالت: إنها تركت أبناءها يدافعون عن سراييفو ولا تعلم عنهم شيئاً، وقد انقطعت أخبارهم منذ أكثر من ثلاثة أيام، ثم رأينا أيضاً امرأة تبلغ الثمانين أو تزيد، وهي لا تتكلم فوقفنا عندها وسألناها عن حالها، فقالت إنها أتت مع ابنتها وأبناء ابنتها وهم أطفال وهم الآن مرضى وبحاجة إلى الحليب، وإنها قد تركت ابنها وزوج ابنتها يدافعون عن بلادها، وما يحزنها هو أن أخبارهم لا تصل إليها وتخاف على هؤلاء الأطفال الذين أنهكهم المرض. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 9 نقص السلاح ومن المشاهد التي رأينا، أنّا كنا في المركز الإسلامي في زغراد فجاء أحد الجنود القواد والشجاعة ظاهرة في محياه، ولو هز سارية لهزها من شجاعته وقوته، لكنه عاجز عن الكلام ويفرك إحدى يديه بالأخرى، فاستوقفناه وسألناه فعجز أن يتكلم، ثم قال: -ومعنا المترجم- قدمت لتوي والناس في بلدنا يذبحون كما تذبح الأنعام، وهو يفرك يديه إحداهما بالأخرى ويقول: نريد السلاح نريد السلاح، إنهم جبناء لا يمكن أن يقفوا في وجوهنا، لكن ينقصنا السلاح، ثم يشيح بوجهه عنا وتذرف الدموع من عينيه، ورأيت بجانبه شاباً صغيراً يبلغ الثالثة أو الرابعة عشرة، وقد لبس بدلة عسكرية وظهر على عقله شيء من الخفة، فسألنا عن حاله، فقالوا: لقد أمسك به الصرب عند منزله مع أخيه الذي يبلغ الثامنة عشرة من عمره، فشنقوا أخاه وهو ينظر، فهرب هذا الصغير فأطلقوا عليه النار فأصابوه في قدمه، لكنه -بحمد الله- تمكن من الهرب، فتلقفه بعض المسلمين وحمله إلى كرواتيا ومكث أسابيع يعالج ومنذ شفائه وهو يلبس هذه البدلة، ويقول: لن أخلعها إلا في سراييفو. هذه بعض المشاهد التي رأيتها بعيني أنا والإخوان الذين كانوا معي. وهناك مشاهد رأيناها حية على الهواء، ومشاهد رأيناها وكلها حدثت بعد يوم الثلاثاء الماضي، فيوم السبت الماضي رأينا في التليفزيون في الصورة على الهواء جندياً صربيا يستوقف مسلماً، ثم يقول له: أنت تقاتل الصرب ثم يطلق النار على رأسه، فتمر امرأة فيطلق النار على وجهها، فيرديها قتيلة وتنزف الدماء من فمها. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 10 القتل والحرق والتخريب أما عن القتلى والجرحى في شوارع المدن فقد رأينا العشرين والثلاثين بجانب بعضهم البعض لا يمكن أن يقترب منهم أحد، ولا يمكن أن يواريهم المسلمون، ورأينا امرأة أطلق عليها النار، فالتف الناس حولها وأسرعوا بها لكنها ماتت بين أيديهم، ورأينا الأطفال عند إلقاء القنابل يهربون، لكن لا يدرون إلى أين يذهبون، وقد قتل عدد كبير منهم، كما سنقرأ بعد قليل -إن شاء الله-. كذلك شاهدنا الناس في مقبرة مدينة سراييفو العاصمة يحفرون القبور، ويدفنون الموتى ولا يصدق المنظر إلا من رآه، كأنك تشاهد من في هذا المسجد، من كثرة من يحفر القبور ومن يقوم بدفن الموتى، وهذا لا شك أنه يدل دلالة قاطعة على عظم المصيبة وكثرة القتلى. أما عن الحرائق فلا تسل، فرأيت قبل ليلتين سراييفو وهي تحترق جميعها، في كل مكان تحترق هي والمدن الكبيرة، وتنقلها التليفزيونات الألمانية والنمساوية حية على الهواء، رجال المطافي يتركون النار؛ لأن القنابل تتساقط عليهم، وبدأ الصرب في الآونة الأخيرة بإلقاء القنابل الكبيرة التي لم تكن تُعرف إلا في الحروب الكبيرة، كحرب الخليج فبدءوا يلقون القنابل التي يبلغ زنة الواحدة منها مائتين كيلو، وقد رأيتها وهي تلقى على أحد المنازل فتدمره تدميراً عظيماً حتى خلصت إلى الملجأ الذي دخله النساء والأطفال فقتلتهم جميعاً وهم ست عشرة نفساً، وقد بلغ عدد من فر إلى كرواتيا أكثر من مائتين وخمسين ألف لاجئ، وإلى سلوفينيا أكثر من ثلاثين ألفاً، أما الذين يدورون في داخل البوسنة يتنقلون من مكان إلى مكان، فيزيدون على الثلاث مائة ألف. ويتبع الصرب في طريقة دخولهم للمدن الإسلامية وضربها أسلوباً في غاية الخبث، فيحيطون بالمدينة -كما وصف لنا أحد من خرج من تلك المدن واسمه حارث رجيج وهو من مدينة جفنسا، وقد خرج منها قريبا ورأيناه هناك- فقال: إنهم يحيطون المدينة بالدبابات، ثم يطلبون من المسلمين أن يسلموا أسلحتهم، وسواء سَلَّمْ المسلمون أسلحتهم أم لم يسلموا فإنهم يبدءون بضرب المدينة بالدبابات والمدافع ثلاثة أيام، ثم بعد أن يضربوا المدينة يدخلونها، فيقتلون كل من قابلوه على السواء ذكوراً وإناثاً، ويطلبون من الرجال أن يكشفوا عن عوراتهم، فمن وجدوه مختتناً قتلوه، ثم بعد ذلك يطردون من بقي، ويحضرون الشاحنات الكبيرة ويحمِّلونها بما تحويه هذه المخازن والبيوت من المواد الغذائية ومن الأثاث، ثم بعد ذلك يطلبون من الناس العودة، فإذا بدأ الناس بالعودة صوروا عودتهم إلى منازلهم، ثم تبع ذلك عرض في تليفزيوناتهم للعالم كله بأنهم لا يتعرضون للمسلمين، وأن المسلمين هم الذين يقاتلون الصرب ويطردونهم، وبعد ذلك يقومون بإحراق ما يشاءون من المدن، ويركزون على المساجد والمنشآت الحيوية في هذه المدن. هذا عرض موجز لبعض المشاهد ولطريقة دخول الصرب وهتكهم للحرمات والأعراض، وسفكهم للدماء، وضربهم للرقاب. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 11 الجانب الاقتصادي قال الدكتور: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: بعد ذلك أنتقل لأتحدث عن الناحية الاقتصادية وأحوال المسلمين هناك: فالمسلمون يمرون بحالة اقتصادية سيئة وتسوء الأحوال يوماً بعد يوم، والأغذية تكاد تنفد، وساعد على سوء هذه الأحوال ما تقدم ذكره من نهب الصرب للحوانيت والمنازل، ومما زاد في ذلك أن الصرب شددوا القبضة على الجمهورية، فلا يمكن أن تدخلها الأغذية إلا في عسر شديد وبمجازفة كثير من البوسنيين عبر طرق جبلية شاقة ووعرة وفي الليل، وحينما كنا هناك اتصل بعض الإخوان من اليوغسلاف الذين درسوا في جامعة الإمام بأقاربه في سراييفو فرد عليه طفل صغير -وذلك بعد أن عادت الاتصالات يوم الجمعة- فسأله عن الأحوال فقال يا عم إنني الآن آكل الحب اليابس لا أجد ما آكل شيئاً، ومع صعوبة إدخال المواد الغذائية إلى تلك البلاد فإنها قليلة جداً، وقد قمنا بزيارة للمستودعات التي تجمع فيها الأغذية عن طريق هيئة الإغاثة، وكذلك بنك التنمية الإسلامي، ولجنة المرحمة البوسنوية وهي لجنة تجمع التبرعات من العمال البسنوييين في ألمانيا فوجدنا أن الطعام -وهذا الطعام خاص بالمسلمين في داخل البوسنة- وجدنا أن هذا الطعام لا يزيد على حمولة عشر شاحنات، مع أن الناس هناك في الداخل في غاية الضيق والجوع. أما الأدوية فلا تزيد على الثلاثين أو العشرين كرتوناً. أما الحليب فقد لا أبالغ إذا قلت: إنه لا يزيد على أربعين كرتوناً، الحليب الذي سيدخل إلى أطفال اللاجئين هناك، الذين يزيدون على ثلاث مائة ألف، وأثناء تفقدنا لهذه المستودعات وصلت شاحنتان من ألمانيا تحملان الأغذية، وكان في انتظارهما بعض الشاحنات قدم بها المتطوعون من البوسنة فشحنوها مباشرة، وذهبوا بها إلى داخل البوسنة عبر هذه الطرق الوعرة وبعضها لا يمكن أن تصل، ثم توقف وتدخل في داخل الغابات، ثم يبدأ الرجال بنقلها على ظهورهم عبر هذه الطرق الجبلية الشاقة، والحق أن الإخوة من منسوبي هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية هناك يقومون بجهود كبيرة يشكرون عليها، ويشرف على ذلك الأخ الفاضل الدكتور عبد الله العبدان الذي حضر شخصياً لمتابعة الأعمال هناك والإشراف عليها. أقول: وبحمد الله فرغم ما يحصل للمسلمين هناك من الجوع والفقر والمعاناة، إلا أن معنويات المسلمين هناك مرتفعة بحمد الله، وكل ما يحتاجونه هو المال الذي يشترون به السلاح. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 12 الناحية العسكرية قال الدكتور: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: أما الناحية العسكرية فقبل أن أتكلم عن أحوال المسلمين عسكريا، أقدم ذلك بنبذة مختصرة عن القوات في يوغسلافيا وكان توزيعها على النحو التالي:- القسم الأول: الجيش النظامي ويبلغ تعداده مائتين وخمسين ألفاً، وهذا الجيش خاضع للحكومة الفيدرالية في بلغراد عاصمة صربيا وجله من الصرب. والقسم الثاني: قوات الدفاع الشعبي في كل جمهورية، وهذه القوات تخضع لحكومة هذه الجمهورية، ولما كان الصرب يسيطرون على الجيش، فقد استولوا على جميع أسلحة الجيش، وبعد أن استولوا على جميع الأسلحة، قاموا بتوزيع جزء كبير منها على المواطنين الصرب في المدن والقرى الصربية، حتى إنهم نقلوها إلى القرى التي طُرُقها وعرة بطائرات الهيلوكبتر، فسلحوا جميع الصرب وفي مقابل ذلك نجد أن المسلمين لا يملكون شيئاً، مما حدى بحكومة البوسنة أن تبيع عليهم الأسلحة، مما اضطر بعضهم أن يبيع ما يملكه من دواب وأثاث ويشتري به سلاحاً يدافع به عن نفسه وأهله. أما قوات الدفاع الشعبي الخاصة بكل جمهورية، -فمع الأسف- خدع الصربُ المسلمين، فقبل فترة طلب الصرب أن يقوم الجيش بحراسة مخازن الأسلحة -أسلحة قوات الدفاع الشعبي- فوافقوا في البوسنة بحسن نية، فبدأت قوات الجيش -القوات الصربية- تحرس هذه المستودعات، يحرسونها من الأمام ويحفرون الأنفاق من الخلف حتى فرغوا جميع ما فيها من الأسلحة، ولما أعلنت البوسنة استقلالها، لم يكن في حوزتها أي شيء من السلاح، في مقابل ما تملكه الصرب من الأسلحة المتطورة، التي يبلغ عدد الدبابات فقط فيها أكثر من ألفين وخمسمائة دبابة، هذه المفارقة في السلاح مع الصرب أدت إلى انهيار معنويات المسلمين وضعفها، لاسيما بعد أن تأخر وصول الإمدادات إلى المسلمين، وهذا بالطبع أدى في أول الأمر إلى سقوط عدد كبير من المدن والقرى الإسلامية، بل وصل الحال إلى أن المسلم إذا رأى دبابة ألقى بسلاحه وهرب. بعد ذلك قام بعض الإخوة العاملين هناك في المراكز الإسلامية بالاتصال بالحكومة وحثهم على الدفاع عن بلدهم وأخبرهم بأن الأسلحة والأغذية والأدوية في طريقها إليهم، وأن عليهم أن يخبروا أفرادهم بذلك، بعد ذلك مباشرة بمجرد هذا الخبر ارتفعت معنويات الحكومة والأفراد واستماتوا في الدفاع عن بلادهم، ووصلهم بعد ذلك بعض الأسلحة التي تم شراؤها بأموال بعض المحسنين من المسلمين، ولا يخفى عليكم ولا أخفيكم ولا أكتمكم أنهم في أمس الحاجة إلى تبرعاتكم وإلى مد يد العون. فهم في حاجة ماسة إلى سلاح يشترونه ليدافعوا به عن أنفسهم، ولما حُمِلتْ التبرعات التي تبرعتم بها أنتم وإخوانكم من المسلمين في كثير من البلاد، لما وصلت اشُتُري السلاح بعد وصولها بسويعات، ورأيناه وهو يحمل إلى داخل الجمهورية، أنا بعيني رأيته يحمل إلى داخل البوسنة بعدها مباشرة وبعد أن حصل المقاتلون من المسلمين على الأسلحة في مدينة كننس على سبيل المثال لما حصلوا على هذه الأسلحة، مباشرة بعون الله استطاعوا تحرير هذه المدينة، وأسقطوا أربع طائرات وطائرة هيلوكبتر، واستولوا على عدد من الدبابات، مع أن الأسلحة التي قدمت إليهم أسلحة بسيطة وصغيرة لا تساوي شيئاً في مقابل ما يملكه الصرب، لكن بحمد الله وبتوفيقه أمكنهم من دحر الصرب وإخراجهم من هذه المدينة. ويقول الإخوة هناك: لو كان عندنا (10%) من سلاح الصرب لاستطعنا تحرير البوسنة خلال أيام قليلة، لكن المشكلة التي نعاني منها هي مشكلة السلاح، ولما حصلوا على المال اشتروا به مضادات للدبابات، ودمروا بها أكثر من مائة دبابة بمجرد حصولهم على نوعية من الأسلحة هي R. B. G المضادة للدبابات، فيحتاجون إلى أموال. وهناك من أقرضهم لكنه جعل هذا القرض مربوط بمدة معينة، إذا لم تسدد هذه الأموال فإنه لن يمنحهم سلاحاً آخر. وأثناء مقامنا هناك حضر بعض الشباب من بعض المدن في شمال البوسنة يطلبون السلاح فلم يكن هناك شيء من السلاح لأنه حمل في الليل فوقفوا حائرين، وفي أثناء ذلك قدم بعض الإخوة المسلمين من ألمانيا وقد جمع منها التبرعات من بعض العمال المسلمين هناك، فأعطاهم عشرين ألف دولار فقط يعني ما يعادل اثنين وسبعين ألف ريال، فطاروا من الفرح وسارعوا واشتروا بها سلاحاً، وعادوا أدراجهم إلى بلادهم، مع أن المبلغ يسير جداً، لكنهم قالوا: بإذن الله سنحرر بلادنا بهذا السلاح وإن كان يسيراً. ورأيت مع الإخوة بعض القواد وهو القائد الوحيد الذي يهاجم، أي أن جميع القواد في البوسنة من المسلمين يدافعون عن المدن البوسنوية، ورأيت هذا القائد الوحيد الذي يهاجم رأيته قد أتى لأخذ الأسلحة، وقد استطاع أن يستولي -بحمد الله- على خمسة عشر كيلو متراً في طريقه إلى سراييفو، ويقول: بقي علينا خمسة عشر فقط ونصل إلى المدينة، وإذا وصلنا إلى هذه المدينة فإن الطريق ينفتح إلى سراييفو لكن نريد الأسلحة، ونريد أن تكون الأسلحة مضاعفة، مع أن الذي حمل لهم من السلاح شاحنة واحدة وهي تفي ببعض حاجاتهم، لكن كما قال بعض الإخوان: إن ما نحصل عليه من السلاح يساوي (1. 5%) مما نحتاجه، وهم الآن يحاولون قطع الطريق الرئيسي بين صربيا وبين البوسنة والهرسك ومحاولاتهم جادة، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم لقطع هذا الطريق، ومتى قطع هذا الطريق فإن الإمدادات التي تصل إلى داخل البوسنة إلى الجنود الصرب ستنقطع ويصعب عليهم خط الرجعة، ويحاصرهم المسلمون من الجهتين، وطلبوا منا أن ننقل لكم شكرهم ودعائهم لكم على ما قدمتموه، وأن نبين لكم أنهم بأمس الحاجة إلى مساعداتكم، وأنهم قد مدوا أيديهم إلى الكثير والكثير، ولكنهم بحاجة إلى مساعدات المحسنين من المسلمين بعد أن تعذر عليهم وصول المساعدات من غير المحسنين. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 13 الجوانب الأخرى قال الدكتور: صالح بن محمد السلطان حفظه الله: الجزء: 32 ¦ الصفحة: 14 الجانب الإعلامي أما الناحية الإعلامية: فالكلام عنها في غاية الأسى والأسف، فالذي يسمع ويشاهد الإعلام الإسلامي يظن أنه لا يوجد في البوسنة حرب إبادة وتصفية، بل يقطع أن الأمر لا يعدو كونه مجرد مناوشات بسيطة ومحدودة جداً، نعم هذا واقع الأمر وقد سمعت الإذاعة تقول: قتل اليوم اثنان فصار العدد ثمانية، أي سخف هذا السخف وأي هراء؟! المدن يُصَفُّ فيها الرجال ثم يكشف عن عوراتهم فمن وجد مختونا ذبح كما تذبح الأنعام، وفي مدينة واحدة وفي ليلة واحدة ذبح أكثر من أربعمائة وعشرين مسلماً، ثم تأتي الإذاعة وتقول اليوم قتل اثنان والأمس ستة فصار العدد ثمانية، أو ليرتفع العدد إلى ثمانية، وهذا قبل أيام قليلة جداً سراييفو والمدن الكبيرة -كما أسلفنا- تحترق وصارت خراباً، وكما أسلفنا أنهم بدءوا في الأيام الأخيرة بإسقاط القنابل الكبيرة التي تدمر أحياء بأسرها، ولكن ليس لمثل هذه الأخبار ذكر، ولا تعرف في وسائل إعلامنا الإسلامي. قضية المسلمين في تلك البلاد لا يعرفها الكثير من المسلمين، ومن يعرفها فإنه يجهل الكثير مما يحدث بسبب نقص تغطية الإعلام لهذه الأحداث تغطية صحيحة، ولا شك أن الإعلام يتحمل قسطاً كبيراً من نتيجة ما حصل وما يحصل للمسلمين هناك، حيث لم يتفطن لهذه القضية إلا متأخراً فكان الدعم قليلاً ومتأخراً، ولو ألقيت نظرة عابرة على معظم الجرائد لوجدت أخبار المسلمين هناك قليلة إن لم تكن معدومة، وإن وجدت فإنها توجد في أماكن لا يتنبه لها، ومع الأسف فإن هذه القضية تتصدر الصحف الغربية في ألمانيا والنمسا وغيرها، مع أن الأمر لا يعنيهم في قليل ولا كثير. أما في صحفنا الإسلامية التي من المفترض أن تكون قضية المسلمين هناك قضيتهم، فإنهم لا يعرفون عنها شيئاً. فالإعلام الإسلامي مع الأسف في واد، وقضايا الأمة في وادٍ آخر، وكأن الأمر لا يعنيهم من قريب ولا بعيد، فأين الولاء والبراء؟ وأين هذا من ترديد الشعارات الفارغة؟ إن الناس في هذه الأيام وفي هذا الزمان صاروا يعقلون ويفهمون، ولهم عقول يميزون، فعودوا أيها الإعلاميون إلى رشدكم، واهتموا بقضايا أمتكم، فقد نبذ إعلامكم وترك: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] . الجزء: 32 ¦ الصفحة: 15 ماذا تعني البوسنة للمسلمين الفقرة الأخيرة: ماذا تعني البوسنة للمسلمين في رأي أهلها؟ يقول الدكتور عرفان سكرتير حزب العمل الذي يرأسه الرئيس علي عزت -قابلناه هناك- يقول: على المسلمين أن يعرفوا جيداً أهمية بقاء البوسنة وقيامها، وأثر ذلك على انتشار المسلمين في أوروبا فهي رأس الحربة في الإسلام في أوروبا مع مراعاة أن الأوروبي بطبيعته يمكن أن يتقبل الإسلام ويدخل فيه إذا كان من يدعوه أوروبياً أكثر ممن لو كان من غير الأوروبيين، انتهى كلامه. وهذا الكلام جيد من حيث الجملة، وقد صرح الرئيس الفرنسي بأنه لن يسمح بقيام دولة أصولية في أوروبا وهذا ما يفسر عدم الضغط على صربيا كما حدث مع بعض الدول التي للغرب مصالح في بقائها، ومن هذا أقول: إن وجود دولة إسلامية في أوروبا سيكون فاتحة خير على المسلمين، وطريقاً قريباً لدعوة الناس هناك. وأختم كلامي ببعض الأخبار التي وصلت من هناك، أقرأ الخبر الأول: وهو من أخبار يوم الجمعة، ثم أقرأ الخبر الذي وصل اليوم. من الأخبار في مدينة فوجا والقرى المجاورة كما أفادت الأنباء التي وصلت إلى المركز: قتل عشرات المسلمين في المذابح الجديدة التي ارتكبها الصرب ضد المدنيين العزل، وفي مدينة أوجاك قصف الجيش اليوغسلافي المدينة الساعة السادسة والنصف مساءاً بالقنابل التي تزن كل قنبلة منها مائتي كيلو، ولا يعلم عدد القتلى والجرحى والخسائر المادية حتى الآن، في مدينة بنيلوكا أطلق العدو الصربي أمس صاروخا على مسجد فرحات باشا، وهو من المساجد القديمة فأصاب منارته، ويستمر هدم منازل المسلمين ونهب محلاتهم التجارية. أيضاً من مدينة بنيلوكا المدينة محاصرة ويتعرض سكانها للقهر، والشعب على حافة المجاعة، والقوات الصربية تنهب وتهدم مباني وبيوت المسلمين وخاصة بالقنابل الحارقة، كما أن الحزب الإسلامي في هذه المدينة يطلب من رئاسة الجمهورية أن يوقفوا هذا القهر وهذا التجنيد الإجباري. في مدينة سراييفو في إحدى القرى القريبة، قامت القوات الصربية بقتل جميع الأسرى من النساء والأطفال، وكذلك في مبنى مدرسة ابتدائية في مدينة دوربانيتيه قام الصرب بذبح جميع الأسرى المسلمين، وكان أغلبهم من النساء والأطفال. وهذا الخبر وصلنا اليوم قبل صلاة المغرب، أعلن نائب رئيس الأركان في البوسنة بأنه إذا لم يتم إرسال أسلحة قريبة إلى الجيش، فلن يتمكن الجيش البوسنوي من الدفاع عن المنطقة التي تحت سيطرته، ولكن مع ذلك -بحمد الله- فكما أسلفت بالأموال التي قدمت لهم تم بها شراء بعض الأسلحة ووصلت قبل يومين إليهم وصلت البشائر: ففي مدينة يوسنكي بوردو تم تحرير أجزاء المدينة التي كانت تحتلها القوات الصربية، وتم تحطيم دبابتين وقتل مائة وعشرين جندياً من القوات الصربية، وفي مدينة شابلن قامت القوات الصربية بنسف الجسر الذي على نهر المدينة من أجل قطعه بين شطريها، وفي مدينة أوجاك التي ذكرت قبل قليل أنها تضرب بالقنابل التي تزن مائتي كيلو، في هذه المدينة تم تحرير ضواحي المدينة وما حولها من القوات الصربية، وأسر حوالي ألفين من القوات الصربية، والاستيلاء على عدد كبير من الأسلحة، وفي مدينة سيريرفستا تم تحرير المدينة جميعها من قوات العدو، وتم أسر ثلاثمائة واثنين وخمسين صربياً، والاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة والذخيرة، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 16 الجانب السياسي أما الناحية السياسية: فتحاول الحكومة البوسنوية الآن أن تستفيد من جميع القنوات السياسية المتاحة، وهي تعلم أن الغرب يريد أن يضعف هذه الجمهورية حتى تدوم حاجتها إليهم، وهذا ظاهر من قراراتهم التي لا تعدو أن تكون حبراً على ورق، ولم يوجد ضغط حقيقي من هذه الحكومات، وإن كانت تزعم كذباً أنها تضغط على حكومة صربيا من أجل أن تسحب قواتها، لكن الإخوة هناك يعلمون أن هذه الأخبار أخبار مزورة وغير صحيحة، والمجموعة الأوروبية وهي تجتمع لتعاقب صربيا -كما يزعمون- تخرج بقرارات كلها لا تعدو عن كونها لفت نظر بوجوب سحب هذه القوات. لماذا؟ لأن هذه الدولة -صربيا- تسفك دماء المسلمين، وهي دولة نصرانية كافرة مثلهم، وليس لهم مصلحة في إضعافها كمصلحتهم في إضعاف الكثير من الدول الإسلامية كما شاهدناه في حرب الخليج، وهذا الشيء ليس بغريب عنهم، بل متوقع منهم، ومثله ما يصدر من قرارات هيئة الأمم المتحدة التي هي في الواقع لا تعدو أن تكون ألعوبة في يد الولايات المتحدة تصرفها كما شاءت، وتديرها كما يحلو لها، وكما يتمشى مع مصالحها، فهذا أمر متوقع حتى للمسلمين هناك في البوسنة كانوا يتوقعون ذلك، ويعلمون أن الغرب الكافر لا يريد دولة إسلامية في أوروبا كما صرح بذلك الرئيس الفرنسي، أقول: لكن الذي لم يتوقعوه ولم يخطر على بالهم، وحز في نفوسهم وآلمهم أشد الألم، هذا الموقف الهزيل من الدول الإسلامية، فدول لم تعترف بهذه الجمهورية المسلمة كالمغرب والجزائر، ودول لم تعترف بها إلا بعد أن اعترف بها الغرب -أوروبا والولايات المتحدة- وكان اعترافها اعترافاً هزيلا، بعكس إيران مع الأسف التي تستغل هذه المواقف وتجريها لمصلحتها، وتدافع في الظاهر عن المسلمين هناك، وتدافع عن حقوقهم، لكن بحمد الله أنهم يعرفون حقيقة الموقف الإيراني منهم، ويزداد ألمهم حينما يرون سكوت الحكومات الإسلامية على هذه المذابح الجماعية والمجازر، وكأن الأمر لا يعني هذه الحكومات الإسلامية من قريب ولا بعيد، فأي إسلام هذا الإسلام؟! وأي موالاة هذه الموالاة؟! بل وصل الحال بهم مع ما حل بهم أنهم قالوا: لو جاء مجرد شجب أو استنكار من الدول الإسلامية لكان لذلك أثره في نفوسنا، ولكان ذلك مؤثراً على الصرب لأن الصرب يهمهم مثل هذه الأمور، بل قالوا: لو جاء تهديد من الدول الإسلامية بقطع العلاقات والمعاملات لكان موقف الحكومة الصربية موقفاً مغايراً لما هي عليه الآن من مذابح ومجازر. أقول: وهل وصل الضعف بنا أن نعجز حتى عن مثل هذه الأمور، أن نعجز عن مجرد شجب أو استنكار، مع أن مثل هذه الأمور -تعد ضعيفة وهزيلة- أمور لا تنقص منا شيئاً، وهي في نفس الوقت مثمرة للمسلمين هناك، ومن هذا المكان ومن هذا المنبر أذكر المسئولين في الدول الإسلامية عامة وفي هذه الدولة خاصة بمسئوليتهم تجاه ما يتعرض له المسلمون هناك من مجازر، وأشعرهم بتقصيرهم بسبب المواقف التي يقفونها من المسلمين هناك، كذلك أنادي طلبة العلم والدعاة وعلماءنا الأكابر بالوقوف مع إخوانهم، وحث المسئولين على كل ما يقدرون عليه في نصرة إخوانهم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلاميا، وإلا فإن العلماء والدعاة قد قصروا في واجب النصح الذي تحملوه، وهم مسئولون عنه عند الله تعالى، والجميع كذلك كلٌ بحسبه، فإن عضواً من الأمة يقطع ويراد استئصاله، فالله الله أيها المسلمون في إخوانكم ما دام في الأمر مهلة، وقبل أن تندموا حين لا ينفع الندم. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 17 دعوة للتعاون قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله: جزاك الله خيراً على هذا البيان المفيض المفيد، وهاهنا مجموعة من الأسئلة حول هذا الموضوع، قبل أن أعرضها أو أقرأ شيئاً منها أقول: أنتم الآن سمعتم، ولسنا نريد منكم مجرد السماع، بل نريد منكم -وقد تخلى الرسميون عن المسلمين- أن تصدقوا الله -تعالى- وتروا الله -تعالى- من أنفسكم قوة، وإذا كان لنا شيء من الحق عليكم فإننا نناشدكم به بحكم أخوة الإسلام، ألا يبخل أحد منكم على المسلمين بما يستطيع قلَّ أو كثر، بما تجود به نفسه، فنحن حين نرى هذه الحرب التي تديرها دول، وإمكانيات مذهلة، وطائرات، وقنابل، ودبابات بالآلاف، وإمكانيات هائلة، والعالم كله يتفرج، والأمم المتحدة، تقول: إن التدخل غير ممكن لأسباب مادية وتكاليف وغير ذلك، نعلم أن الأصل أنه كان يجب على القوة الإسلامية، التي مكن الله لها في الأرض أن تدعم إخوانها، ولكن إن تخلى عنهم الرسميون، فإنه يجب علينا أن نبذل نحن ما نستطيع. ولا ننسى أبداً أن المجاهدين الأفغان، استطاعوا أن يقاوموا دولة روسيا التي كانت إمبراطورية هائلة تنافس أقوى أمم الأرض آنذاك، استطاعوا أن يتغلبوا عليها ويحاربوها هذه السنين الطويلة، ليس كما يدعي الصحفيون من خلال الدعم الأمريكي، لا، ولا من خلال دعم الحكومات العربية والإسلامية، كلا، وإنما من خلال الدعم الشعبي، بل أقول: من خلال جزء من الدعم الشعبي، لأن هناك أموالاً من دعم الشعوب الإسلامية حيل بينها وبين الوصول إلى المجاهدين، فالقدر الذي وصل إلى أيدي المجاهدين الأفغان جعل الله تعالى فيه البركة فقاوم به هزيمة أقوى إمبراطورية في العالم آنذاك، وبإذن الله فإن القرش والريال الذي تدفعه أنت سينتصر به أخوك المسلم البوسنوي على قوات الصرب، وعلى غيرها، فلا تقل أين يقع هذا المال مما أريد؟ الله -تعالى- يبارك ولا حد لبركته، والله -تعالى- ينزل نصره على من يشاء. لكن بشرط أن تكون المعركة في البوسنة والهرسك هي معركة المسلمين جميعاً وليس معركة قلة لا يملكون من السلاح إلا (1. 5%) مما يحتاجون إليه ومما يتطلبونه، فلا نسامحكم والله أبداً إلا أن تشاركوا بقد ر ما تستطيعون، وحتى من دفع بالأمس يوم جمعنا التبرعات نطالبه أن يدفع اليوم ويدفع غداً، ومن لا يملك إلا ريالاً أو عشرة ريالات فليدفعها، ومن استطاع أن يتخلى عن شيء من حاجته فليتخل عنها، ليس هذا فقط، بل نطالبكم أن تنقلوا هذه القضية إلى الشيوخ والرجال والنساء والكبار والصغار، وأن تحدثوا بها الأطفال وأن تطلبوا من كل من تتحدثون معه أن يساهم بشيء من المال لدعم إخوانكم، ونطالبكم أن تتحدثوا إلى الخطباء وإلى العلماء وإلى طلبة العلم، وإلى الدعاة أن يثيروا هذه القضية على أعواد المنابر، وفي المجالس، وفي الميادين، وفي كل مكان، أن يجمعوا التبرعات للمسلمين هناك، وأن يعلموا أنها تبرعات المقصود منها سد جوعة الجائع. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 32 ¦ الصفحة: 19 وقف الحرب السؤال يسأل الكثيرون عن سؤال محير وهو: من الذي -بعون الله تعالى- سوف يكون وقف الحرب على يديه؟ الجواب أنا أخبرك الخبر اليقين بهذا، الذي سوف يكون وقف الحرب على يديه هو محمد بن عبد الله المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه يخرج في آخر الزمان، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً، فبذلك تدين الأرض كلها للإسلام، وتخرج الأرض خيراتها وكنوزها، أما قبل فإن الحرب بين المسلمين وأعدائهم ستظل سجالاً، حتى وإن انتصر المسلمون في يوغسلافيا وإن قام للمسلمين دولة، وإن قام للإسلام خلافة، وإن اجتمع المسلمون، مع ذلك كل هذا لا يعني أن النصارى سوف يلقون السلاح، وينامون ملء جفونهم ويقولون لا حيلة في ذلك، لا، هذه سنة الله تعالى أن الحرب قائمة بين الإسلام وخصومه في كل مكان، ولكن من ذا الذي يستطيع أن يوصل السلاح إلى المسلمين، المهم أنت أعطنا المال ودع الباقي لمن يستطيع أن يقوم به. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 20 النصارى العرب السؤال لماذا لا يقاطع المسلمون النصارى العرب الموجودين على الأقل في الصيدليات والورش هنا، وفي جميع بلاد المسلمين وهم من النصارى؟ ولماذا لا يتصل بأصحاب الصيدليات والمحلات ويخوفون بالله؟ الجواب هذا طالبت به في درس الأحد، وأرجو الله تعالى أن يجد هذا الطلب آذاناً صاغية، فإذا كانت الحكومات الإسلامية عاجزة عن مقاطعة دولة الصرب والضغط عليها، فأقل شيء أن تفلح الشعوب الإسلامية في مقاطعة النصارى، واستقدام المسلمين سواء للخدمة أو للعمل أو للوظيفة أو لغير ذلك. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 21 التبرع بالزكاة السؤال يقول: هل يصح تقديم الزكاة لهم؟ الجواب يا أخي الزكاة تقدم لمن هو دون ذلك، الذي لا يملك الأمور الحاجية تُقدم له للسكن، وللغذاء، وللطعام، وللشراب، وللباس الذي يحفظه من أذى الحر والبرد، فما بالك بإنسان يُقتل أما تعطيه السلاح من الزكاة حتى يدافع عن نفسه؟! إن هؤلاء من أحوج الناس إلى الزكاة، وخاصة ونحن نعلم أنها تصل من طرق -إن شاء الله- موثوقة ومضمونة. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 22 بيع الكتاب للإنفاق السؤال لا أملك المال لكن أملك الكتب، فهل يستحب لي أن أبيعها لأنفق المال؟ الجواب أقول: إذا كانت كتباً لا يحتاج إليها فبإمكانه أن يبيع منها، وإلا يستطيع أن يبيع بعض الأشياء الأخرى غير الكتب، يا أخي الساعة التي في يدك بعها وأعطنا قيمتها، إذا كان عندك أشياء فائضة عن حاجتك، وفي الحديث: {سبق درهم ألف درهم} . وهذا ينبه إلى أنه من الممكن أن من ليس معه شيء من المال، أن يرسل مالاً أو شيكاً في أي شيء آخر هذا أمر معلوم. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 23 تذكير بالدعاء للمسلمين في يوغسلافيا السؤال هذا أخ يقول: إن القلوب قد تهيجت والدموع قد ذرفت فهلا استغل هذا اللقاء للدعاء للأخوة هناك؟ الجواب نعم، هذا كان في ذهني أن ندعو للإخوة هناك، فأنتم الآن جمع غفير لعل من بينكم من لو أقسم على الله تعالى لأبره، ولعل من بينكم صاحب قلب صادق، ولقمة حلال، وسر بينه وبين الله عز وجل يجيب الله تعالى به دعوته، أو يشعر بالضرورة الآن وهو يرى دماء المسلمين تنزف في كل مكان، وثمرات جهادهم يقطفها خصومهم، وبيوتهم تهدم عليهم، ورجالهم يقتلون، ونساؤهم تنتهك أعراضها، وأطفالهم يحرمون حتى من لبن الأم، بل حتى من الحليب الذي به قوام حياتهم، فلعل إنساناً يشعر بالضرورة فيدعو الله -تعالى- وهو مضطر والله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه، وإن شاء الله لا تعدم هذه الأمة أن يكون من بينها من هو كذلك. فاللهم، يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا قاضي الحاجات: نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى واسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، أن تنصر إخواننا في يوغسلافيا نصراً مؤزراً، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم ولا تنصر عليهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا حي يا قيوم، اللهم إنهم جياع فأطعمهم، وعراةٌ فاحملهم، اللهم إنهم عاجزون فقوهم بقوتك يا قوي يا عزيز، اللهم إنهم فقراء فأغنهم، اللهم إنهم فقراء فأغنهم، اللهم افتح لهم أبواب الخير والنصر وطرقه بقدرتك يا حي يا قيوم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم انصرهم، اللهم افتح لهم أبواب الخير، اللهم حرك لهم قلوب المسلمين في كل مكان، اللهم حرك لهم قلوب المسلمين في كل مكان، اللهم أدر الدائرة على محاربيهم من النصارى وأهل الكتاب، اللهم أدر الدائرة على عدوهم، اللهم أنزل على الصرب بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك، اللهم أنزل عليهم نقمتك. اللهم يا حي يا قيوم، يا ناصر المستضعفين انصر المسلمين، ويا جابر المنكسرين اجبر كسرهم، اللهم اجبر كسرهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أسمعنا من أخبارهم ما تقرُّ به عيوننا، وتطمئن به قلوبنا، اللهم لا تكلهم إلى ضعفهم، ولا إلى فقرهم، ولا إلى مسكنتهم، ولا إلى الحكومات التي تخلت عنهم، اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت، أنت القوي ونحن الضعفاء، أنت الغني ونحن الفقراء، إنا نسألك سؤال المستغيث الملهوف، سؤال من ذلت لك رقبته، وخضعت لك جوارحه، يا حي يا قيوم لا تدعهم لأنفسهم، اللهم لا تكلهم إلى أحد من خلقك أبداً، اللهم أنزل عليهم نصراً سريعاً مؤزرا يا حي يا قيوم. اللهم ونسألك للمسلمين في أفغانستان ونسألك للمسلمين في بورما ونسألك للمسلمين في كشمير، ونسألك للمسلمين في فلسطين ونسألك للمسلمين في الجزائر ونسألك للمسلمين في تونس ونسألك للمسلمين في مصر ونسألك للمسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، يا حي يا قيوم عجل لهم بالنصر والفرج، يا فارج الكربات يا قاضي الحاجات يا مجيب الدعوات، اللهم حرك قلوب المسلمين أن يرفعوا إليك الدعوات الصادقة يا حي يا قيوم، اللهم وافتح لدعواتهم أبواب السماء، اللهم لا تدعهم لأنفسهم، ولا تكلهم إلى عدوهم، يا حي يا قيوم، إن لم يكن بك عليهم غضب فهم لا يبالون؛ لكن عافيتك هي أوسع لهم، نعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن يحل بهم غضبك أو ينزل عليهم سخطك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. ونحن نطالب الإخوة أيضاً أن يقوموا بنشر هذا الشريط وما شابهه وتوزيعه على المسلمين. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 24 حاجة يوغسلافيا إلينا السؤال هل يحتاج المسلمون هناك إلى ذهابنا إليهم وكيف؟ كذلك السؤال للشيخ صالح. الجواب سألنا الإخوة هناك فقالوا: نحن لسنا بحاجة إلى أحد يقاتل معنا، يوجد عندنا من الجنود المدربين العاملين أصحاب الخبرات في القتال ما يمكن أن يدافعوا به عن بلادهم ويحرروها، ولكننا فقط بحاجة إلى السلاح. وقال الشيخ سلمان: ولذلك يمكن أن نقول لهذا الأخ: أعطنا قيمة التذكرة التي سوف تسافر بها، واجلس هنا سوف تزودهم بالدعوات الصادقة قيمة التذكرة خمسة آلاف فقط. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 25 الجهاد الفعلي السؤال يقول: لقد سمعنا هذه المشاهد عما يجري في بلاد المسلمين من التعذيب والقتل، وقد سمعنا من قبل مثل ذلك، وسوف نسمع الكثير، ولكن هل مجرد الكشف عن المرض سوف يشفيه؟ وهل سمعت أن المدن حررت باللسان المجرد؟ وهل سمعت أن السلاح ينزل من السماء على معوقين؟ كم نسمع هذه الأصوات المتدفقة بالحق في المحاضرات والدروس والمناسبات، ولكن من تخاطب؟ هل تخاطب من يزينون سياراتهم بأصواتكم، ومنازلهم بأسمائكم، أين العمل وأين السبيل إلى التطبيق؟ ثم قال: السيف أصدق إنباء من الكتب في حدِّه الحد بين الجد واللعب الجواب فأقول: إن كانت قصصاً نتسلى بها، فما قاله الأخ صحيح (100%) وإن كانت هذه الأحاديث حركت حميتكم، وربطتكم بإخوانكم، ودعتكم إلى مزيد من الدعم والبذل، فإنها -إن شاء الله- جزء من الحرب التي نديرها على أعداء الله من أهل الكتاب، من اليهود والنصارى والمشركين، وبإذن الله تعالى نحن على ثقة من موعود ربنا عز وجل أنه تعالى سوف ينصرنا عليهم، وسوف تقوم للإسلام دولة في أوروبا على رغم أنوفهم، وسوف تقوم للمسلمين قائمة، ويجتمع المسلمون كلهم تحت دولة الخلافة التي توحد ما تشتت وتفرق من أمرهم. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 26 التبرعات وإمكانية الجهاد السؤال هل من الممكن أن يقوم في يوغسلافيا جهاد إسلامي، مثلما حصل في أفغانستان ونرجو التحدث عن التبرعات أين تذهب هل للجياع أم للجهاد؟ الجواب تذهب للجياع وتذهب للجهاد كما شرح الشيخ صالح في كلمته، أما هل سوف يقوم في يوغسلافيا جهاد إسلامي، فنحن نقول الآن كما أسلفنا في مقدمة الحديث: المسألة الآن مسألة دفاع المسلم عن نفسه، ودعك من قضية الجهاد فهو أمر سابق لأوانه. الشيخ صالح يريد أن يعقب على هذا الموضوع. قال الشيخ صالح بن محمد السلطان: بسم الله الرحمن الرحيم، أقول فيما يتعلق بالأموال التي تصرف فقد بذلنا الكثير في محاولة معرفة الطرق التي يصرف فيها هذا المال، ورأينا أنه بحمد الله يصرف في قنواته الصحيحة، وأن الرئيس علي عزت قد كلف لجنة للطوارئ برئاسة مفتي المسلمين هناك، وبعضوية رئيس مجلس شورى المسلمين هناك ونائبه، ورأيناهم وهم يقومون بشراء ما يحتاجه المسلمون في الداخل من كل شيء، ويقومون بتوزيعه ويبذلون الجهد العظيم في ذلك، ولقد رأيناهم إلى الساعة الثانية من الليل وهم يتابعون هذه الأعمال، ثم يقومون لصلاة الفجر ويستمرون في أعمالهم، وقبل أن نفارق تلك البلاد بلحظات كنا في مكتب رئيس لجنة الطوارئ، في مكتب هيئة الإغاثة فدخل علينا رئيس لجنة الطوارئ وهو منفعل لا يدري كيف يتصرف، وهو يقول: وصلنا الآن خبر أن هناك تسعة وعشرين ألف لاجئ بلا طعام، ويحض الإخوة على سرعة حمل الأطعمة من هذه المستودعات، فثقوا -إن شاء الله تعالى- أن ما تتبرعون به يصل إلى إخوانكم، وقد بذلوا الكثير والكثير، وهناك من أقرضهم وينتظر سداد هذه الأموال حتى يتم تزويدهم بأسلحة وأغذية أخرى. الجزء: 32 ¦ الصفحة: 27 فوائد من زاد المعاد إن الذي يطالع الكتب ويقرؤها ويتمعن فيها يجد فيها فوائد جمة فقهية كانت أو أصولية أو عقدية، أو لغوية أو حديثية أو نحوها. وقد تحدث الشيح حفظه الله عن بعض الفوائد البديعة من كتاب زاد المعاد، وهي فوائد متفرقة في عدة مواضع وأبواب اختارها الشيخ من الأجزاء الخمسة، ثم أتم الدرس ببعض الفوائد أيضاً من كتاب العزلة لأبي سليمان أحمد بن محمد الخطابي. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 1 فوائد المجلد الأول إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: في هذه الليلة سوف أبدأ في كتاب جديد نافع مفيد، بإذن الله العزيز الحميد، وهو كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام الحافظ المفسر الفقيه، المجاهد شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي بكر الدمشقي الحنبلي، الشهير بـ ابن قيم الجوزية، المولود سنة [691/751هـ] والطبعة التي سوف أعتمد عليها، هي الطبعة التي حققها شعيب الأرنؤوط، وعبد القادر الأرنؤوط , وطبعت في مؤسسة الرسالة، عام (1399هـ) ، وسوف نأخذ من كل جزء بعض الفوائد والشوارد التي تستحق أن تقيد ويحتفظ بها، ونبدأ بالجزء الأول. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 2 سكوت البخاري عن الراوي وأخيراً: في صفحة [471] ذكر المصنف كلاماً في سكوت الإمام البخاري عن الراوي، فإن المصنف الذي هو ابن القيم ذكر عكرمة بن إبراهيم، وأن البيهقي ضعفه، ثم قال: " قال أبو البركات ابن تيمية -يعني الجد- ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه -وتاريخ البخاري هو التاريخ الكبير، في تراجم الرواة، وهو مطبوع، قال: فإن البخاري ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، فكأنه بهذا يشير إلى أن البخاري إذا ذكر الراوي في تاريخه، ولم يذكره بجرح ولا تعديل، فإنه ليس بمجروح عنده، وهذا كلام مشهور عند أهل العلم، لكن فيه نظر؛ فإن الساكت لا ينسب له قول، إذا سكت الإمام عن الرجل، فإنه لا يمكن أن ينسب إليه قول، فقد يكون بيض له لأن يعود إليه فيما بعد، أو لم يحضره شيء في حاله أو في شأنه أو لغير ذلك من العلل والأسباب، فهذه القاعدة: أن من سكت عنه البخاري في تاريخه، فهو ليس بمجروح عنده، فيها نظر، ولعلها لا تثبت على إطلاقها. هذا ما تيسر من الفوائد في هذا الجزء. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 3 أمثلة للحديث المقلوب وفي صفحة [439] ذكر أمثلة للحديث المقلوب، فإنه قال في صفحة [438] في حديث عطية العوفي عن ابن عباس: " كان النبي صلى الله عليه وسلم: {يركع قبل الجمعة أربعاً، لا يفصل بينها في شيء منها} إلى أن قال: هذا الحديث فيه عدة بلايا " فذكر أن بقية بن الوليد إمام المدلسين وقد عنفه، ثم ذكر مبشر بن عبيد منكر الحديث، ثم ذكر أن الحجاج بن أرطأة ضعيف مدلس، ثم ذكر أن عطية العوفي، ضعيف، ثم قال: وقال البيهقي، عطية العوفي لا يحتج به ومبشر بن عبيد الحمصي منسوب إلى وضع الحديث، والحجاج بن أرطأة لا يحتج به، قال بعضهم: ولعل الحديث انقلب على بعض هؤلاء الثلاثة الضعفاء، لعدم ضبطهم وإتقانهم فقال: قبل الجمعة أربعاً، وإنما هو بعد الجمعة، فيكون موافقاً لما ثبت في الصحيح، ونظير هذا: قول الشافعي في رواية عبد الله بن عمر العُمري: {للفارس سهمان، وللراجل سهم} قال الشافعي: كأنه سمع نافعاً يقول: للفرس سهمان وللراجل سهم فقال للفارس سهمان، وللراجل سهم حتى يكون موافقاً لحديث أخيه عبيد الله، قال: وليس يشك أحد من أهل العلم، في تقديم عبيد الله بن عمر على أخيه عبد الله في الحفظ. قلت - ابن القيم -: ونظير هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في حديث أبي هريرة: {لا تزال جهنم يلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة فيها قدمه، فيزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط: وأما الجنة فينشئ الله لها خلقاً} فانقلب على بعض الرواة فقال: {أما النار فينشئ الله لها خلقاً} فهذا أيضاً من المقلوب، قلت - أيضاً من كلامه- ونظير هذا حديث عائشة {إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم} وهو في الصحيحين فانقلب على بعض الرواة فقال: {إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل، فأكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال} وهذا للحافظ ابن حجر فيه كلام، في موضوع انقلاب هذا الحديث، وأن فيه نظر، قال: ابن القيم رحمه الله: "ونظيره أيضاً عندي حديث أبي هريرة: {إذا صلى أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه} وأظنه وهم -والله أعلم- فيما قاله رسوله الصادق المصدوق {وليضع ركبتيه قبل يديه} كما قال وائل بن حجر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه} وقال الخطابي وغيره حديث وائل بن حجر أصح من حديث أبي هريرة " فهذه أمثله للأحاديث المقلوبة في المتن. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 4 قاعدة في معرفة السنن والبدع وفي صفحة [432] ذكر فائدة أصولية نفيسة أيضاً، وهي مرجع الإنسان في معرفة السنن والبدع فقال وهو يتكلم عن موضوع الجمعة، والسنة قبلها: " ولا يجوز إثبات السنن في مثل هذا بالقياس؛ لأن هذا مما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لم يفعله ولم يشرعه؛ كان تركه هو السنة، -هذه القاعدة- ويقول: ونظير هذا، أن يشرع لصلاة العيد سنة قبلها أو بعدها بالقياس؛ فلذلك كان الصحيح أنه لا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة، ولا لرمي الجمار، ولا للطواف ولا للكسوف، ولا للاستسقاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يغتسلوا لذلك، مع فعلهم لهذه العبادات، انتهى كلام المصنف. إذاً: يؤخذ من ذلك قاعدة، وهي: أن ما انعقد سبب فعله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، فالسنة تركه حينئذٍ. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 5 تحية المسجد وفي صفحة [435] ذكر كلاماً لعلِّي ذكرته قبل بفي مناسبة، نقل عن أبي البركات ابن تيمية في قصة الرجل الذي جاء يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال له: {أصليت ركعتين؟ قال: لا، قال: فصل ركعتين وتجوز فيهما} جاء في سنن ابن ماجة، في هذا الحديث زيادة: {أصليت ركعتين قبل أن تجئ؟} قال: قال أبو البركات ابن تيمية قوله: [قبل أن تجئ] يدل على أن هاتين الركعتين سنة الجمعة، وليستا تحية المسجد " انتهى كلام أبي البركات، قال الشيخ ابن القيم قال شيخنا حفيده أبو العباس: وهذا غلط، أي أن الحفيد استدرك على جده رحمهما الله جميعاً- والحديث المعروف في الصحيحين عن جابر قال: {دخل رجل يوم الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: فصلِّ ركعتين} وقال: {إذا جاء أحدكم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين، وليتجوز فيهما} فهذا هو المحفوظ في هذا الحديث، وأفراد ابن ماجة في الغالب غير صحيحة، هذا معنى كلامه " هذا ما نقله ابن القيم عن ابن تيمية. وبناءً عليه: فإن هاتين الركعتين هما تحية المسجد، قال ابن القيم رحمه الله: " وقال شيخنا أبو الحجاج الحافظ المزي: هذا تصحيف من الرواة، إنما هو: {أصليت قبل أن تجلس؟} فغلط فيه الناسخ، وقال: - المزي - وكتاب ابن ماجة، إنما تداولته شيوخ لم يعتنوا به، بخلاف صحيحي البخاري ومسلم، فإن الحفاظ تداولوهما، واعتنوا بضبطهما، وتصحيحهما، قال ولذلك وقع فيه أغلاط وتصحيف يعني: سنن ابن ماجة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 6 انتقاء الإمام مسلم أحاديث الضعفاء وفي صفحة [363] ذكر فائدة نافعة، لطالب الحديث، حول طريقة الإمام مسلم رحمه الله في الانتقاء من أحاديث الضعفاء، قال: " وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما {أن رسول الله صلى الله وعليه وسلم، لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة} رواه أبو داود فهو حديث ضعيف، في إسناده الحارث بن عبيد " ثم ذكر الأقوال فيه إلى أن قال: كان يشبهه في سوء الحفظ، محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وعيب على مسلم إخراج حديثه " هذا الكلام نقله ابن القيم عن ابن القطان، ثم عقب عليه ابن القيم بقوله: ولا عيب على مسلم في إخراج حديثه حديث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لأنه ينتقي من أحاديث هذا الضرب ما يعلم أنه حفظه، كما يطّرح من أحاديث الثقة، ما يعلم أنه غلط فيه، فغلط في هذا المقام من استدرك عليه إخراج جميع حديث الثقة، ومن ضعف جميع حديث سيئ الحفظ، فالأولى: طريقة الحاكم وأمثاله. والثانية طريقة أبي محمد بن حزم وأشكاله، وطريقة مسلم هي طريقة أئمة هذا الشأن، يعني كأنه قال: إن الناس ثلاثة أصناف: منهم: من يطرح حديث الراوي الضعيف مطلقاً، ومنهم: يقبل حديث الراوي الثقة مطلقاً، والإمام مسلم كأنه توسط، فكان يأخذ من حديث الراوي الذي فيه ضعف ما يعلم أنه ضبطه، ويترك من حديث الراوي الموثوق ما يعلم أنه غلط فيه، فكانت طريقته وسطاً في هذا. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 7 الحديث المرسل وفي صفحة [379] ذكر فائدة تتعلق بالحديث المرسل، ومتى يصح قبوله، فإن المشهور عند كافة المحدثين، أن الحديث المرسل لا يقبل، ولكن من العلماء -كـ الشافعي - وغيره من قبل الحديث المرسل بشروط والمصنف رحمه الله هاهنا قال: " في صفحة [379] والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس أو قول صحابي، أو كان مرسله معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكين، ونحو ذلك مما يقتضي قوته، عُمل به، فبين أن المرسل لا يترك مطلقاً، وقد يقبل إذا وجد ما يعضده، أو يشهد له. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 8 ساعة الإجابة في صفحة [394] ذكر ساعة الإجابة، وساعة الإجابة يوم الجمعة فيها أقوال، لعلها تزيد على اثنين وأربعين قولاً، كما ذكرها الحافظ ابن حجر في الفتح، ولكن للحافظ ابن حجر والمصنف وسبقهما إلى ذلك بعض الأئمة، رأياً في ساعة الإجابة، بأنها قد تكون مفرقة في يوم الجمعة، فبعضها من دخول الإمام، إلى أن تقضى الصلاة -كما في صحيح مسلم- وبعضها في آخر ساعة من العصر، كما في السنن بسند صحيح. يقول المصنف: "وعندي أن ساعة الصلاة، ساعة ترجى فيها الإجابة أيضاً، وكان قد ذكر موضوع ساعة العصر، فكلاهما ساعة إجابة، وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد العصر؛ فهي ساعة معينة من اليوم لا تتقدم ولا تتأخر. وأما ساعة الصلاة فتابعة للصلاة تقدمت أو تأخرت، لأن لاجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم وابتهالهم إلى الله تعالى تأثيراً في الإجابة، فساعة اجتماعهم ساعة ترجى فيها الإجابة، وعلى هذا تتفق الأحاديث كلها، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم قد حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله تعالى في هاتين الساعتين "والحقيقة أني وجدت كلاماً له علاقة بما ذكرت قبل قليل، حول مسجد قباء ومسجد المدينة، قال: " ونظير هذا، قوله صلى الله عليه وسلم، وقد سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى، فقال: {هو مسجدكم هذا، وأشار إلى مسجد المدينة} وهذا لا ينفي أن يكون مسجد قباء الذي نزلت فيه الآية مؤسساً على التقوى، بل كل منهما مؤسس على التقوى، وكذلك قوله في ساعة الجمعة: {هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن تنقضي الصلاة} لا ينافي قوله في الحديث الآخر: {فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر} . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 9 طريقة خطب النبي صلى الله عليه وسلم في صفحة [424] ذكر المصنف كلاماً نفيساً عجيباً في نقد بعض طرائق الوعاظ، الذين يبالغون في تخويف الناس من موضوع الموت، ويغفلون عما هو أهم منه، وهو كلام ينبغي أن يكتب بماء الذهب! وأن يطلع عليه كل داعية وواعظ، حتى يعرف الأسلوب المناسب في الوعظ، والموضوعات المهمة. وهذا الكلام أقرؤه وإن كان فيه طولاً، لأنه كلام لذيذ جداً، يقول: وكذلك كانت خطبته صلى الله عليه وسلم، إنما هي تقرير لأصول الإيمان، من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، ولقائه وذكر الجنة النار، وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته، وما أعد لأعدائه وأهل معصيته، فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيداً، ومعرفة بالله وأيامه؛ لا كخطب غيره التي إنما تفيد أموراً مشتركة بين الخلائق، وهي النوح على الحياة، والتخويف بالموت، فإن هذا أمر لا يحصل في القلب إيماناً بالله، ولا توحيداً له، ولا معرفة خاصة به، ولا تذكيراًَ بأيامه، ولا بعثاً للنفوس على محبته والشوق إلى لقائه، فيخرج السامعون، ولم يستفيدوا فائدة غير أنهم يموتون، وتقسم أموالهم، ويبلي التراب أجسامهم، فيا ليت شعري أي أيمان حصل بهذا؟! وأي توحيد ومعرفة وعلم نافع حصل به؟! ومن تأمل خطب النبي صلى الله عليه وسلم وخطب أصحابه، وجدها كفيلة ببيان الهدى والتوحيد، وذكر صفات الرب جل جلاله وأصول الإيمان الكلية، والدعوة إلى الله وذكر آلائه تعالى، التي تحببه إلى خلقه، وأيامه التي تخوفهم من بأسه، والأمر بذكره وشكره، الذي يحببهم إليه، فيذكرون من عظمة الله وصفاته، وأسمائه ما يحببه إلى خلقه، ويأمرون من طاعته وشكره وذكره؛ ما يحببهم إليه، فينصرف السامعون وقد أحبوه وأحبهم، قال: ثم طال العهد وخفي نور النبوة، وصارت الشرائع والأوامر رسوماً تقام، من غير مراعاة حقائقها ومقاصدها، فأعطوها صورها، وزينوها بما زينوها به، فجعلوا الرسوم والأوضاع سنناً لا ينبغي الإخلال بها، وأخلوا بالمقاصد التي لا ينبغي الإخلال بها، فرصعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع؛ فنقص بل عدم حظ القلوب منها، وفات المقصود بها انتهى كلامه. وهذا صحيح، يعني أنه أصبحت خطب كثير من الناس فيها سجع وترتيب وتغنٍ بالقراءة، واعتقدوا أن هذه سنن لا يجوز الإخلال بها، وغفلوا عن المعنى الذي هو المقصود من الخطبة، باختيار الموضوعات المهمة، وتحريك قلوب الناس بها. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 10 النوم على الشق الأيمن وفي صفحة [321] ذكر سر النوم على الشق الأيمن، فقال: " وفي اضطجاعه على شقه الأيمن سر، وهو أن القلب معلق في الجانب الأيسر، فإذا نام الرجل على الجنب الأيسر استثقل نوماً؛ لأنه يكون في دعة واستراحة، فيثقل نومه، فإذا نام على شقه الأيمن؛ فإنه يقلق، ولا يستغرق في النوم، لقلق القلب وطلبه مستقره وميله إليه، ولهذا استحب الأطباء النوم على الجانب الأيسر، لكمال الراحة وطيب المنام؛ وصاحب الشرع يستحب النوم على الجانب الأيمن؛ لئلا يثقل نومه، فينام عن قيام الليل، فالنوم على الجانب الأيمن أنفع للقلب، وعلى الجانب الأيسر أنفع للبدن والله أعلم. وهنا أشير إلى فائدة ليست بعيدة عما ما ذكره المصنف وهي النوم جهة القبلة، فإن من المشهور عند الناس أنه يشرع للإنسان أن ينام مستقبل القبلة، وهذا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيه شيء يرجع إليه سوى حديث واحد، عند أبي يعلى في مسنده، ذكره ابن كثير في تفسيره؛ في أول تفسير سورة الحديد، وهو حديث ضعيف جداً، فيه السري بن إسماعيل وهو متروك فلا يثبت في استقبال القبلة في النوم حديث صحيح. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 11 قضاء الوتر في صفحة [324] ذكر المصنف رحمه الله عدم مشروعية قضاء الوتر فقال: " ولم يكن صلى الله عليه وسلم، يدع قيام الليل حضراً ولا سفراً، وكان إذا غلبه نوم أو وجع، صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة، قال: فسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: في هذا دليل على أن الوتر لا يقضى، لفوات محله، فهو كتحية المسجد، وصلاة الكسوف والاستسقاء ونحوها، لأن المقصود به أن يكون آخر صلاة الليل وتراً، كما أن المغرب أخر صلاة النهار، فإذا انقضى الليل، وصُلِّيتِ الصبح؛ لم يقع الوتر موقعه، هذا معنى كلامه إلى آخر ما قال " ولكن ذكر عدد من أهل العلم ونقل عن جمع من الصحابة، أن الإنسان له أن يوتر آخر الليل، قبيل الفجر ولو أدركه الفجر، أو مع الأذان، سواء أكان هذا الوتر أداءً أم قضاءً، فمن قام قبيل الأذان، أوتر ولو أذن وهو في أثناء الوتر، وكذلك من أراد أن يوتر مع الأذان، فلا بأس بذلك إذا لم يكن هذا من عادته، بل تأخر يوماً فاستيقظ مع الأذان. فأوتر فلا بأس، وإن لم يوتر، فإنه يشرع له أن يصلي له من النهار ما شاء شفعاً، ركعتين أو أربع أو ست أو غير ذلك. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 12 أصناف الناس في القرآن في صفحة [338] ذكر المصنف رحمه الله أصناف الناس في القرآن الكريم فقال: " الناس في هذا أربع طبقات: الأول: أهل القرآن والإيمان، وهم أفضل الناس. والثانية: من عَدِمَ القرآن والإيمان. والثالثة: من أوتي قرآنا، ولم يؤتَ إيماناً. الرابعة: من أوتي إيماناً ولم يؤتَ قرآنا. قالوا: فكما أن من أؤتي إيماناً بلا قرآن أفضل ممن أوتي قرآناً بلا إيمان، فكذلك من أوتي تدبراً وفهماً في التلاوة، أفضل ممن أوتي كثرة قراءة وسرعتها بلا تدبر، قالوا: وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها، وقام بآية حتى الصباح " إلى آخر ما قال رحمه الله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 13 إغماض العينين في الصلاة في صفحة [294] ذكر المصنف رأيه في موضوع إغماض العينين في الصلاة، وإغماض العينين فيه كلام كثير، يقول المصنف: وقد اختلف الفقهاء في كراهته، فكرهه الإمام أحمد وغيره، وقالوا: هو فعل اليهود، وأباحه جماعة ولم يكرهوه، وقالوا: قد يكون أقرب إلى تحصيل الخشوع، الذي هو روح الصلاة وسرها ومقصودها -قال رحمه الله- والصواب أن يقال: إن كان تفتيح العينين لا يخل بالخشوع، فهو أفضل؛ وإن كان يحول بينه وبين الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه، فهنالك لا يكره التغميض قطعاً، والقول باستحبابه في هذا الحال، أقرب إلى أصول الشرع ومقاصده من القول بالكراهة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 14 أكثر الناس تشدداً في الرجال وفي صفحة [304] ذكر رحمه الله أن أشد الناس مقالة في الرجال يحيى بن معين، يعني أن أكثر علماء الجرح والتعديل تشدداً في تجريح الرجال هو يحيى بن معين، ولكن هذا ليس على إطلاق، فإن الظاهر -والله أعلم- من كلام أهل العلم، في كلام ابن معين في الرجال، أنه أقرب إلى الاعتدال، وأن أشدهم مقالة في الرجال هو أبو حاتم الرازي. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 15 تعدل ثلث القرآن في صفحة [316] ذكر سبب كون سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، فقال: " فسورة [قل هو الله أحد] متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة إلى أن قال: فتضمنت إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه. ثم قال: وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي، الاعتقادي" ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي وإباحة، والخبر نوعان: الأول: خبر عن الخالق تعالى، وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه، فأخلصت سورة [قل هو الله أحد] الخبر عنه أو الخبر وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي؛ كما خلَّصت سورة [قل يا أيها الكافرون] من الشرك العملي الإرادي القصدي ولما كان العلم قبل العمل، وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزله منازله؛ كانت سورة [قل هو الله أحد] تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغ التواتر. وقد صنف شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك كتاباً -عظيم الفائدة نفيساً- اسمه: جواب أهل العلم والإيمان، في أن قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن، وقد طبع مرات طبعات ناقصة، ثم حقق في جامعة الإمام، قسم العقيدة، حققه الشيخ سليمان الغفيص، تحقيقاً على نسح خطية، ولكنه لم يطبع بعد. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 16 القنوت في صلاة الفجر وفي صفحة [274/275] ذكر رحمه الله، كلاماً جيداً، لم أره لغيره من أهل العلم، فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت في صلاة الفجر، قال: " ولا ريب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ثم تركه، فأحب أبو هريرة أن يعلمهم أن مثل هذا القنوت سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله، وهذا رد على أهل الكوفة الذين يكرهون القنوت في الفجر مطلقاً عند النوازل وغيرها ويقولون: هو منسوخ، وفعله بدعة فأهل الحديث متوسطون بين هؤلاء وبين من استحبه عند النوازل وغيرها -يعني: كالشافعية- وهم أسعد بالحديث من الطائفتين؛ فإنهم يقنتون حيث قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتركونه حيث تركه، فيقتدون به في فعله وتركه، ويقولون: فعله سنة وتركه سنة، ومع هذا فلا ينكرون على من داوم عليه، ولا يكرهون فعله، ولا يرونه بدعة، ولا فاعله مخالفاً للسنة " وإن كان في هذا نظر؛ لأنه صح عند النسائي وغيره من حديث سعد بن طارق {أنه سأل أباه عن القنوت وقال: إنك صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، فهل رأيتهم يقنتون؟ قال: أي بني محدث، وفي لفظ: بدعة} فدل على أن المداومة على القنوت في الفرائض ليس بمشروع، بل هو أقرب إلى أن يكون مكروهاً أو بدعة، ثم قال المصنف رحمه الله: " بل من قنت فقد أحسن، ومن ترك فقد أحسن، وركن الاعتدال -أي: من الركوع- محل الدعاء والثناء، وقد جمعهما النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ودعاء القنوت؛ دعاء وثناء، فهو أولى بهذا المحل، وإذا جهر الإمام به أحيانا ليعلم المأمومين فلا بأس بذلك، فقد جهر عمر بالاستفتاح ليعلم المأمومين؛ وجهر ابن عباس بالفاتحة في صلاة الجنازة ليعلمهم أنها سنة، ومن هذا أيضاً جهر الإمام بالتأمين وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله، ولا من تركه، وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة النسك من الإفراد والقرآن والتمتع وليس مقصودنا إلا ذكر هديه صلى الله عليه وسلم الذي كان يفعله هو؛ فإنه قِبلةُ القصد، وإليه والتوجَّه في هذا الكتاب، وعليه مدار التفتيش والطلب. وهذا شيء، والجائز الذي لا ينكر فعله وتركه شيء، فنحن لم نتعرض في هذا الكتاب لما يجوز، ولما لا يجوز؛ وإنما مقصودنا فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم إلى آخر ما قال " وأذكر أنه ضمن كلامه أشار إلى أن القنوت الذي ورد من حديث أنس وغيره: {أنه لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا} ليس معناه القنوت عند الفقهاء -بمعنى رفع اليدين وإطالة الدعاء- وإنما مقصوده: إطالة الركن بعد الركوع، أي أنه يطيل القيام بعد الركوع؛ ولذلك جاء في الصحيحين من حديث أنس: {أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع؛ وقف حتى يقول القائل قد نسي} لأن الناس كانوا يخففون هذا الركن، فأحب أن يخبرهم أن السنة إطالته، فهذا هو المقصود بقنوته صلى الله عليه وسلم حتى فارق الدنيا. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 17 ركعتا النبي بعد الوتر في صفحة [251] حيث ذكر فيها المصنف رحمه الله الركعتين اللتين كان يصليهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر تارة جالساً وتارة قائماً، وهذه من المواضع المشكلة عند كثير من أهل العلم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصلى ركعتين بعد الوتر جالساً مع أنه قال: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} قال رحمه الله: (وكذلك الركعتان اللتان كان يصليهما أحياناً بعد وتره، تارة جالساً، وتارة قائماً، مع قوله: {اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وتراً} فإن هاتين الركعتين لا تنافيان هذا الأمر، كما أن المغرب وترٌ للنهار، وصلاة السنة شفعاً بعدها لا يخرجها عن كونها وتراً للنهار، وكذلك الوتر لما كان عبادة مستقلة، وهو وتر الليل، كانت الركعتان بعده جاريتين مجرى سنة المغرب من المغرب؛ ولما كان المغرب فرضاً، كانت محافظته عليه السلام على سنتها أكثر من محافظته على سنة الوتر، وهذا على أصل من يقول بوجوب الوتر ظاهر جداً، وسيأتي مزيد كلام في هاتين الركعتين -إن شاء الله- وهي مسألة شريفة لعلك لا تراها في مصنف) وفي هذا إشارة إلى أنه سوف يبحث المسألة في مواضع أخرى. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 18 قول المصنف: [حديث غريب] وفي صفحة [249] ذكر المصنف رحمه الله معنى كلمة غريب، فأحياناً طالب العلم قد يجد أن الترمذي أو أبا نعيم أو غيرهما من أهل العلم، قولهم عن حديث ما: إنه حديث غريب؛ فلا يفهم من هذه الكلمة معناها وبعضهم قد يظن أن معنى غريب: أي ليس له إلا إسناد واحد، وهذا الفهم صحيح، لكن أيضاً كلمة غريب أشار المصنف إلى أنها تعني الضعف، فإذا قيل غريب فقط، فالغالب أن هذا يعني الضعف، ولذلك قال المصنف عن حديث: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يلحظ في الصلاة يميناً وشمالاً الحديث} قال: فهذا حديث لا يثبت، قال الترمذي فيه: حديث غريب ولم يزد، وهذا فيه إشارة، إلى أنه ضعيف وقد تكلم عن هذه المسألة أيضاً في صفحة [359] من نفس المجلد. وقال: أما حديث {من صلى الضحى بنى الله له قصراً في الجنة من ذهب} فمن الأحاديث الغرائب، وقال الترمذي: غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وكذلك أعاد المسألة في صفحة [420] من نفس المجلد، فلتراجع. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 19 المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الصلاة في صفحة [256] ذكر المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الصلاة، فقال: "وأما المواضع التي كان يدعو فيها النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فسبعة مواطن. أحدها: بعد تكبيرة الإحرام في محل الاستفتاح. الثاني: قبل الركوع وبعد الفراغ من القراءة في الوتر، والقنوت العارض في الصبح قبل الركوع إن صح ذلك فإن فيه نظراً. الثالث: بعد الاعتدال من الركوع كما ثبت ذلك في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن أبي أوفى {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رفع رأسه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد، اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد، اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوسخ} . الموضع الرابع: في ركوعه كان يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. الخامس: في سجوده وكان فيه غالب دعائه. السادس: بين السجدتين. السابع: بعد التشهد وقبل السلام، وبذلك أمر في حديث أبي هريرة وحديث فضالة بن عبيد. وأمر أيضاً بالدعاء في السجود: قال: وأما الدعاء بعد السلام من الصلاة مستقبل القبلة أو مستقبل المأمومين، فلم يكن ذلك من هدية صلى الله عليه وسلم أصلاً، ولا روي عنه بإسناد صحيح ولا حسن، أما تخصيص ذلك بصلاة الفجر والعصر؛ فلم يفعل ذلك هو ولا أحدٌ من خلفائه، ولا أرشد إليه أمته؛ وإنما هو استحسان رآه من رآه عوضاً من السنة بعدهما، والله أعلم". ولذلك: علم أن رفع اليدين في الدعاء بعد الفريضة بدعة، لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك محافظة الناس على رفعهما بعد السنة والتزام ذلك على اعتقاد أنه وارد ومأثور، فإنه ليس بوارد، فإما أن يقال: إنه غير جائز، أو يقال: إن الأولى تركه لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والدعاء في صلب الصلاة أولى من الدعاء خارجها، وإن كان الدعاء بعد الصلاة، أعني الفريضة، ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح: أنه كان يستغفر ثلاثاً بعد السلام، وفي حديث معاذ: أنه كان يقول: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وفي حديث سعد بن أبي وقاص عند البخاري والنسائي: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 20 الجهر بالنية في الصلاة وفي صفحة [201] ذكر الصواب في مذهب الشافعي رحمه الله، في موضوع الجهر بالنية، وذلك لأن كثيراً من الجهال يظنون أن الإمام الشافعي من مذهبه أنه يجهر بالنية أو يشرع الجهر بالنية قال: "في هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة ولم يقل شيئاً قبلها ولا تلفظ بالنية ألبتة، ولا قال أصلي لله صلاة كذا، مستقبل القبلة أربع ركعات، إماماً أو مأموماً، ولا قال أداءً ولا قضاءً ولا فرض الوقت، وهذه عشر بدع لم ينقل عنه أحد قط بإسناد صحيح ولا ضعيف ولا مسند ولا مرسل لفظة واحدةً منها البتة؛ بل ولا عن أحد من أصحابه، ولا استحسنه أحد من التابعين، ولا الأئمة الأربعة؛ وإنما غرَّ بعض المتأخرين قول الشافعي رضي الله عنه في الصلاة: إنها ليست كالصيام، ولا يدخل فيها أحد إلا بذكر، فظن بعض المتأخرين أن الذكر تلفظ المصلي بالنية، وإنما أراد الشافعي رحمه الله بالذكر: تكبيرة الإحرام ليس إلا، وكيف يستحب الشافعي أمراً لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، في صلاة واحدة، ولا أحدٌ من خلفائه وأصحابه، وهذا هديهم وسيرتهم فإن أوجدنا أحدٌ حرفاً واحداً عنهم في ذلك، قبلناه، وقابلناه بالتسليم والقبول، ولا هدي أكمل من هديهم، ولا سنة إلا ما تلقوه عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم". الجزء: 33 ¦ الصفحة: 21 أنواع البكاء في صفحة [184] ذكر أنواع البكاء، فقال عن النبي صلى الله عليه وسلم " وكان يبكي أحياناً في صلاة الليل، والبكاء أنواع: أحدها: بكاء الرحمة والرقة. والثاني: بكاء الخوف والخشية. والثالث: بكاء المحبة والشوق. والرابع: بكاء الفرح والسرور. والخامس: بكاء الجزع من ورود المؤلم وعدم احتماله. والسادس: بكاء الحزن. والسابع: بكاء الخور والضعف. والثامن: بكاء النفاق، وهو أن تدمع العين، والقلب قاسٍ، فيظهر صاحبه الخشوع وهو من أقسى الناس قلباً. والتاسع: البكاء المستعار والمستأجر عليه، كبكاء النائحة بالأجرة، -يعني إذا مات لهم ميت ولم يوجد من يبكي عليه؛ يعطون امرأة أجرة مقابل أن تبكي عليه- يقول فإنها كما قال عمر رضي الله عنه: [[تبيع عبرتها وتبكي شَجْوَ غيرها]] والعاشر: بكاء الموافقة: وهو أن يرى الرجل، الناس يبكون لأمر ورد عليهم، فيبكي معهم، ولا يدري لأي شيء يبكون، ولكن يراهم يبكون فيبكي " وقد ذكر تفصيلاً في هذا يراجع في موضعه. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 22 هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكئ على السيف في صفحة [190] ذكر رحمه الله فائدة، جيدة ومناسبة. فإننا نسمع اليوم أن كثيراً من أعداء الإسلام يقولون: إن الإسلام إنما انتشر بالسيف وبالقوة فقط! ولذلك فإن الخطيب الإسلامي، يتكئ على سيفه إشارة إلى أن الإسلام، إنما انتشر وتغلب بالسيف، والقوة. ونحن نقول: نعم الإسلام انتشر بالسيف والقوة، وانتشر أيضاً بالدعوة السلمية، كما هو معروف، وكلاهما له دوره في الفتح الإسلامي، والمصنف يقول: "ولم يحفظ عنه أنه توكأ على سيف، وكثير من الجهلة يظن أنه كان يمسك السيف على المنبر إشارة إلى أن الدين إنما قام بالسيف، وهذا جهل قبيح من وجهين: أحدهما: أن المحفوظ أنه صلى الله عليه وسلم، توكأ على العصا وعلى القوس. الثاني: أن الدين إنما قام بالوحي، وأما السيف فلمحق أهل الضلال والشرك، ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي كان يخطب فيها، إنما فتحت بالقرآن ولم تفتح بالسيف " وقد أعاد هذا المعنى في صفحة [429] من نفس المجلد، قال: "ولم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس أو عصا ولم يحفظ عنه أنه أعتمد على سيف، وما يظنه بعض الجهال أنه كان يعتمد على السيف دائماً، وأن ذلك إشارة إلى أن الدين قام بالسيف، فمن فرط جهله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 23 أصول الطب في صفحة [164/165] ذكر فائدة طبية، وأنتم تعرفون أن ابن القيم خصص جزءاً من هذا الكتاب للطب النبوي، وهو الجزء الرابع، ولكن ذكر هاهنا فائدة وأعادها في ذلك الجزء، قال: وأصول الطب ثلاثة: الحمية، وحفظ الصحة، واستفراغ المادة المضرة، وقد جمعها الله تعالى له صلى الله عليه وسلم ولأمته في ثلاثة مواضع من كتابه، فحمى المريض من استعمال الماء خشية من الضرر، فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فأباح التيمم للمريض حمية له، كما أباحه للعادم -والحمية: هي المنع من تناول أطعمة وأشربة لضررها على المريض، وهي ما نسميها نحن بالحجبة- وقال: في حفظ الصحة: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأباح للمسافر الفطر في رمضان، حفظاً لصحته، وقال: في الاستفراغ في حلق الرأس للمحرم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فأباح للمريض ومن به أدنى من رأسه، وهو محرم أن يحلق رأسه فيستفرغ المواد الفاسدة والأبخرة التي تولد عليه القمل … إلى آخر ما ذكر رحمه الله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 24 أنواع المشي وفي الصفحة [168] ذكر أنواع المشي، وذكر في ذلك فصلاً مفيداً أذكره واقرؤه، لأننا بحاجة إلى أن نعرف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في المشي فكثير من الناس يرون أن من الاتباع: البطء في المشي والتماوت فيه، وأن الإسراع ينافي الوقار المطلوب لطالب العلم، قال رحمه الله: ((فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في مشيه وحده ومع أصحابه)) كان إذا مشى تكفأ تكفؤاً، وكان أسرع الناس مشية، وأحسنها وأسكنها، قال أبو هريرة: [[ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كأنما الأرض تطوى له، إننا لنجهد أنفسنا، وإنه لغير مكترث]] وقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: [[كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا مشى تكفأ تكفؤاً، كأنما ينحط من صبب، وقال مرة إذا مشى تقلع]] قلت -القائل ابن القيم - والتقلع: الارتفاع من الأرض بجملته، كحال المنحط من صبب، وهي مشية أولي العزم والهمة والشجاعة، وهي أعدل المشيات وأروحها للأعضاء، وأبعدها من مشية الهوج والمهانة والتماوت، فإن الماشي إما أن يتماوت في مشيه، ويمشي قطعة واحدة -كأنه خشبة محمولة، وهي مشية مذمومة قبيحة، وإما أن يمشي بانزعاج واضطراب مشي الجمل الأهوج، وهي مشية مذمومة أيضاًَ، وهي دالة على خفة عقل صاحبها، ولا سيما إذا كان يكثر الالتفات في حال مشيه يميناً وشمالاً، وإما أن يمشي هوناً وهي مشية عباد الرحمان، كما وصفهم بها في كتاب فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] قال غير واحد من السلف: بسكينة ووقار، من غير تكبر ولا تماوت، وهي مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه مع هذه المشية، كان كأنما ينحط من صبب، وكأنما الأرض تطوى له، حتى كان الماشي معه يجهد نفسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم غير مكترث، وهذا يدل على أمرين: أن مشيته لم تكن مشية بتماوت ولا بمهانة، بل مشية من أعدل المشيات. ثم ذكر المصنف رحمه الله أنواع المشيات، وهي عشر، من شاء أن يراجعها فليراجعها، لكن نذكر عناوينها الرابع: السعي، والخامس: الرمل، ويسمى الخبب، والسادس: النسلان، والسابع: الخَوْزَلى، والثامن القهقري، والتاسع الجَمَزَى، والعاشر: التبختر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 25 المواضع التي تكون فيها لمرأتان بمثابة رجل واحد وفي صفحة [160] ذكر المصنف رحمه الله فائدة عزيزة في المواضع التي تكون فيها المرأتان بمثابة رجل واحد، قال: وقد روى الترمذي في جامعه من حديث أبي أمامة وغيره، عن النبي صلى الله وعليه وسلم، أنه قال: {أيما امرئٍ أعتق امرأً مسلماً، كان فكاكه من النار، يجزئُ كل عضو منه عضواً منه، وأيما امرئ أعتق امرأتين مسلمتين، كانتا فكاكه من النار يجزئ كل عضوين منهما عضواً منه} وقال -أي: الترمذي - هذا حديث صحيح، قال الإمام ابن القيم: وهذا يدل على أن عتق العبد أفضل وأن عتق العبد يعدل عتق أمتين، فكان أكثر عتقائه صلى الله عليه وسلم من العبيد، وهذا أحد المواضع الخمسة، التي تكون فيها الأنثى على النصف من الذكر- أي أن بعض الناس يعتقدون أن الأنثى على النصف من الذكر في كل شيء، فإذا جاءت مناسبة قالوا للذكر مثل حظ الأنثيين، في كل شيء؛ فمثلاً: لو كان هناك مجموعة من الأقارب من المحارم يتحدثون فيما بينهم، لتكلم الرجال وقالوا للمرأة: للذكر مثل حظ الأنثيين، أي: أقلي الكلام مثلاً، وقل مثل ذلك في موضوعات كثيرة، فيقولون ذلك على سبيل المزاح، وعلى سبيل الجد أحياناً فالمصنف يشير إلى أن هناك مواضع مخصصة، تكون فيها المرأة بمثابة نصف الرجل، وهذا أحدها، قال المصنف: والثاني العقيقة، فإنه عن الأنثى شاة، وعن الذكر شاتان عند الجمهور، وفي عدة أحاديث، صحاح وحسان. والثالث الشهادة، فإن شهادة امرأتين بشهادة رجل، وهذا أيضاً ليس على إطلاقه، فليس في كل شهادة، لأن النص ورد فيه في موضع البيوع التي يكون الرجال فيها أكثر معرفة من النساء. قال: والرابع: الميراث، والخامس: الدية". الجزء: 33 ¦ الصفحة: 26 كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وذكر المؤلف رحمه الله في صفحة [117] في كتب النبي صلى الله عليه وسلم، في صفحة [118] قال: " ومنها كتابه إلى أهل اليمن وهو الكتاب الذي رواه أبو بكر بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده، ورواه الحاكم في مستدركه، والنسائي وغيرهما مسنداً متصلاً، ورواه أبو داود وغيره مرسلاً " وهذا الكتاب سبق أن تكلمت عليه، وبينت رواياته في موضع لمس المصحف، يقول المصنف: وهو كتاب عظيم، فيه أنواع كثيرة من الفقه: في الزكاة، والديات، والأحكام، وذكر الكبائر، والطلاق، والعتاق، وأحكام الصلاة في الثوب الواحد، والاحتباء فيه، ومس المصحف وغير ذلك، قال الإمام أحمد: لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتبه، واحتج الفقهاء كلهم بما فيه من مقادير الديات. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 27 زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأم حبيبه في صفحة [109] ذكر المصنف، تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ أم حبيبة، وهي رملة بنت أبي سفيان، القرشية، قال: تزوجها وهي ببلاد الحبشة، وأصدقها عنه النجاشي أربعمائة دينار، وسيقت إليه من هناك وماتت أيام أخيها معاوية هذا هو المعروف المتواتر عند أهل السير والتواريخ، وهو عندهم بمنزلة نكاحه لـ خديجة بمكة، ولـ حفصة بالمدينة، ولصفية بعد خيبر -يعني: في الوضوح- قال وأما حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زُميل عن ابن عباس أن أبا سفيان قال للنبي صلى الله عليه وسلم: {أسألك ثلاثاً، فأعطاه إياهن، منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوجك إياها} -والحديث في صحيح مسلم، وفيه بقية الثلاث، الأولى كما سبق تزوج أم حبيبة - والثانية: معاوية تجعله كاتباً بين يديك، والثالثة: تُأمرني فأقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فيقول: "هذا الحديث غلط، لا خفاء به" هذا يقوله ابن القيم رحمه الله ويقول: "قال أبو محمد بن حزم وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمار " تعرفون عكرمة بن عمار!! لكن ابن حزم -غفر الله له- رماه بهذه المسألة ورماه بالكذب، فقال: كذبه عكرمة بن عمار، ولا شك أن هذا غلط من ابن حزم، غفر الله لنا وله. يقول ابن الجوزي في هذا الحديث: هو وهم من بعض الرواة، لا شك فيه ولا تردد، وقد اتهموا به عكرمة بن عمار إلى قول ابن القيم رحمه الله وقد أكثر الناس في هذا الحديث، وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال الصحيح أنه تزوجها بعد الفتح -لهذا الحديث قال-: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان، قالت طائفة بل سأله أن يجدد له العقد تطييباً لقلبه، فإنه كان قد تزوجها بغير اختياره، وهذا باطل لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا يليق بعقل أبي سفيان، ولم يكن من ذلك شيء. وقالت طائفة ومنهم البيهقي والمنذري: يحتمل أن تكون هذه المسألة من أبي سفيان وقعت في بعض خرجاته إلى المدينة وهو كافر، حين سمع نعي زوج أم حبيبة بالحبشة، فلما ورد على هؤلاء ما لا حيلة لهم في دفعه من سؤاله أن يأمره حتى يقاتل الكفار، وأن يتخذ ابنه كاتباً -لأن هذا كله ورد في الحديث- قالوا: لعل هاتين المسألتين وقعتا بعد الفتح، فجمع الرواي ذلك كله في حديث واحد. ثم ذكر أجوبة كثيرة، وفي آخرها قال: وقالت طائفة: بل الحديث صحيح ولكن وقع الغلط والوهم من أحد الرواة في تسمية أم حبيبة، وإنما سأل أن يزوجه أختها رملة، ولا يبعد خفاء التحريم للجمع عليه، أي على أبي سفيان - فقد خفي ذلك على ابنته وهي أفقه منه وأعلم، حين قالت لرسول الله صلى الله وعليه وسلم: هل لك في أختي بنت أبي سفيان: {قال: أفعل ماذا؟ قالت تنكحها، قال: أوتحبين ذلك؟ قالت: لست لك بمخلية، وأحب من شركني في الخير أختي، قال: فإنها لا تحل لي} فهذه هي التي عرضها أبو سفيان، على النبي صلى الله عليه وسلم، فسماها الراوي من عنده أم حبيبة، وقيل: بل كانت كنيتها أيضاً أم حبيبة، وهذا الجواب حسن، لولا قوله في الحديث فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سأل، فيقال حينئذٍ: هذه اللفظة وهم من الراوي، فإنه أعطاه بعض ما سأل، فقال الراوي: أعطاه ما سأل أو أطلقها اتكالاً على فهم المخاطب، أنه أعطاه ما يجوز إعطائه مما سأل، والله أعلم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 28 زواج أم سلمة في صفحة [107/108] ذكر من الذي زوج أم سلمة، فذكر حديث الإمام أحمد عن ابن عمر بن أبي سلمة عن أبيه عن أم سلمة أنها لما انقضت عدتها من أبي سلمة، بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: مرحباً برسول الله إلى قوله وفيه، فقالت لابنها عمر قم فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزوجه، يقول: وفي هذا نظر، فإن عمر هذا كان سنه لما توفي صلى الله عليه وسلم، تسع سنين، ذكره ابن سعد: وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال سنة أربع، فيكون له من العمر حينئذٍ ثلاث سنين -يعني يوم تزوج رسول الله صلى الله وعليه وسلم أمه- ومثل هذا لا يزوج، قال ذلك ابن سعد وغيره، ولما قيل ذلك للإمام أحمد قال: من يقول إن عمر كان صغيراً؟! قال: أبو الفرج ابن الجوزي ولعل أحمد قال هذا قبل أن يقف على مقدار سنه، وقد ذكر مقدار سنه جماعة من المؤرخين كـ ابن سعد وغيره، وقد قيل: إن الذي زوجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن عمها عمر بن الخطاب، والحديث: {قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم} ونسب عمر، ونسب أم سلمة يلتقيان في كعب فوافق اسم ابنها عمر اسمه، فقالت: {قم يا عمر فزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم} فظن بعض الرواة أنه ابنها، فرواه بالمعنى وقال فقالت لابنها وذهل عن تعذر ذلك عليه، لصغر سنه، ونظير هذا وهم بعض الفقهاء في هذا الحديث، وروايتهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قم يا غلام فزوج أمك} قال أبو الفرج ابن الجوزي: " وما عرفنا هذا في هذا الحديث " إلى آخر ما ذكر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 29 حال أحاديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده ففي [ص:45] ذكر المصنف رحمه الله أحاديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، حيث استشهد بحديث في المسند وغيره من طريق بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أنتم موفون سبعون أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله} ثم قال: قال علي بن المديني وأحمد: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح. ونقل ابن القيم هاهنا، يشم منه رائحة الموافقة على هذا النقل، وهو تصحيح رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 30 استقبال القبلة واستدبارها في قضاء الحاجة وفي صفحة [49] ذكر فائدة ليست بعيدة عن الموضوع الذي نتحدث فيه الآن، وهو يتحدث عن خواص القبلة، فقال: " ومن خواصها أيضاً أنه يحرم استقبالها واستدبارها عند قضاء الحاجة دون سائر بقاع الأرض وأصح المذاهب في هذه المسألة: أنه لا فرق في ذلك بين الفضاء والبنيان، لبضعة عشر دليلاً قد ذكرت في غير هذا الموضع، وليس مع المفرق -أي: بين الفضاء والبنيان- ما يقاومها البتة، مع تناقضهم في مقدار الفضاء والبنيان، وليس هذا موضع استيفاء الحجج من الطرفين". فتلاحظون تركيز الإمام بن القيم هاهنا على عدم التفريق بين الفضاء والبنيان، وهو قوي ألا يفرق بينهما، لكن! هل نقول بالتحريم فيهما؟ ابن القيم وابن تيمية كما في الاختيارات وغيره، وابن حزم والشوكاني وغيرهم، يرون التحريم مطلقاً كما أسلفت، وقد ذكر المصنف أنه رد التفريق بينهما، ببضع عشر دليلاً ذكرت في غير هذا الموضع، وهو رحمه الله تكلم عن هذه المسألة، أي: مسألة استقبال القبلة واستدبارها في عدة مواضع، فتكلم عنها في الجزء الثاني من زاد المعاد وتكلم عنها في مدارج السالكين في الجزء الثاني أيضاً، وتكلم عنها في مواضع من كتاب إعلام الموقعين عن رب العالمين، وتكلم عنها أيضاً في تهذيب سنن أبي داود، وقد راجعت المواضع التي تمكنت من الرجوع إليها، فلم أجد هذه الأدلة التي ذكرها، وإن كان بسط الكلام بعض البسط، في الجزء الثاني من زاد المعاد وكذلك بسطه بعض البسط في تهذيب سنن أبي داود. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 31 من هو الذبيح في صفحة [71] ذكر مبحثاً مفيداً حول الذبيح، من هو؟ قال: وهو يتكلم عن نسب الرسول صلى الله عليه وسلم " وإسماعيل هو الذبيح على القول الصواب عند علماء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وأما القول بأنه إسحاق عليه السلام؛ فباطل بأكثر من عشرين وجهاً، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، يقول هذا القول -أي أن الذبيح هو إسحاق عليه السلام- متلقى عن أهل الكتاب؛ مع أنه باطل بنص كتابهم؛ فإن فيه " إن الله أمر إبراهيم أن يذبح ابنه بكره، وفي لفظ وحيده، ولا يشك أهل الكتاب مع المسلمين أن إسماعيل هو بكر أولاده إلى آخر ما ذكر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 32 مراتب الوحي وفي صفحة [78] ذكر مراتب الوحي السبع أو الثمان، يقول رحمه الله: " وكمل الله له -أي: النبي صلى الله عليه وسلم- من مراتب الوحي مراتب عديدة. إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، وقد ذكر في غير هذا الموضع معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {الرؤيا الصادقة جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفسره تفسيراً لطيفاً بديعاً فقال: " ذلك لأن مدة الرؤيا الصادقة كانت ستة أشهر، ومدة الوحي كله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثلاثة وعشرين عاماً، فإذا نسبنا ستة أشهر إلى ثلاثة وسبعين عاماً، ترتب على ذلك أن النسبة واحد إلى ستة وأربعين، يعني: نصف إلى ثلاثة وعشرين". إذاً: المرتبة الأولى: الرؤيا الصادقة. المرتبة الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء طلب الرزق، على أن تطلبوه بمعصية الله، فإنما عند الله لا ينال إلا بطاعته} . المرتبة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً. المرتبة الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك، حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها، ولقد جاءه الوحي مرة كذلك وفخذه على فخذ زيد بن ثابت، فثقلت عليه حتى كادت ترضها. المرتبة الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكره الله في سورة النجم. فالمرة الأولى: كما في صحيح مسلم عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض} والثانية: عند المعراج. ولكن -والله أعلم- أن عدها من مراتب الوحي؛ لأن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وتنزل الملك على الرسول صلى الله عليه وسلم مع نبوته، كلما رآه كان في ذلك فائدة، ولذلك طلب الرسول عليه الصلاة والسلام، أن يراه على صورته التي خلق عليها. المرتبة السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج من فرض الصلوات وغيرها. المرتبة السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك؛ كما كلم الله موسى بن عمران، وهذه المرتبة هي ثابتة لموسى قطعاً بنص القرآن، وثبوتها لنبينا صلى الله عليه وسلم هو في حديث الإسراء. وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهي تكليم الله له كفاحاً من غير حجاب، وهذا على مذهب من يقول: إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه تبارك وتعالى، وهي مسألة خلاف بين السلف والخلف، وإن كان جمهور الصحابة بل كلهم مع عائشة، كما حكاه عثمان بن سعيد الدارمي إجماعاً للصحابة. يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يره. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 33 عمر المسيح عيسى في صفحة [84] ذكر رحمه الله الشك في عمر المسيح عليه السلام حين رفع، قال: "وأما ما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه رفع إلى السماء، وله ثلاثة وثلاثون، فهذا لا يعرف له أثر متصل، يجب المصير إليه". الجزء: 33 ¦ الصفحة: 34 أهمية كتاب جلاء الأفهام في صفحة [87] يثني المؤلف رحمه الله على كتابه جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام، يقول: في أسماء الرسول عليه الصلاة والسلام فمنها محمد وهو أشهرها، وبه سمي في التوراة صريحاً، كما بيناه بالبرهان الواضح في كتاب جلاء الأفهام في فضل الصلاة على خير الأنام، وهو كتاب فرد في معناه، لم يسبق إلى مثله في كثرة فوائده وغزارتها، بينا فيه الأحاديث الواردة في الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم صحيحها من حسنها من معلولها، وبينا ما في معلولها من العلل بياناً شافياً، ثم أسرار هذا الدعاء وشرفه، وما اشتمل عليه من الحكم والفوائد، ثم مواطن الصلاة عليه ومحالها. ثم الكلام في مقدار الواجب منها، مع اختلاف أهل العلم فيه، وترجيح الراجح، وتزييف المزيف -ثم يقول رحمه الله- في أثناء هذا الثناء "ومخبر الكتاب فوق وصفه " ولذلك حري بنا جميعاً أن نقتني هذا الكتاب، ونقرؤه، مادام ثناء الشيخ عليه بهذه الدرجة، مع أنه يقتصد في الثناء عادة رحمه الله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 35 الفوائد المنتقاة من الجزء الثاني الحمد لله، لا زلنا في مختارات من كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، للإمام ابن قيم الجوزية، وقد أنهينا مختارات من الجزء الأول، ونبدأ في الجزء الثاني؛ وهذه المختارات في هذا الجزء ليست كثيرة، وقد رأيت حذف بعضها -أيضاً- حتى نستطيع أن نسير في بعض الكتب الأخرى المهمة، والموضوعات الأخرى أيضاً التي قد نحتاج إلى طرحها في مثل هذا الوقت القصير. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 36 فائدة العطاس وفي صفحة [438] ذكر في هذه الصفحة فائدة العطاس، وقال: " ولما كان العاطس قد حصلت له بالعطاس نعمة ومنفعة بخروج الأبخرة المحتقنة في دماغه؛ التي لو بقيت فيه لأحدثت له أدواءً عسرةً، شُرِعَ له حمد الله على هذه النعمة، مع بقاء أعضائه على التئامها وهيئتها بعد هذه الزلزلة التي هي للبدن كزلزلة الأرض لها؛ ولهذا يقال: سمَّته وشمته، بالسين والشين … إلى أن أقال: فإن العطاس يحدث في الأعضاء حركة وانزعاجاً … إلى آخر ما قال". الجزء: 33 ¦ الصفحة: 37 الألفاظ المكروهة في صفحة [468] ذكر رحمه الله الألفاظ المكروهة -وهو فصل يحسن مراجعته- فذكر فيه ألفاظاً نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: ما شاء الله وشاء فلان، ومثل: لولا الله وفلان، ومثل أنا بالله وبفلان، وأعوذ بالله وبفلان، وأنا في حسب الله وحسب فلان، وأنا متكل على الله وعلى فلان فإنه إن قال ذلك؛ جعل فلاناً نداً لله عز وجل، وكذلك أن يقال: مطرنا بنوء كذا وكذا. ومنها: الحلف بغير الله. ومنها: أن يقول في حلفه: هو يهودي أو نصراني أو كافر إن فعل كذا. ومنها: أن يقول لمسلم: يا كافر! ومنها: أن يقال للسلطان: ملك الملوك، وعلى قياسه قاضي القضاة هذا كله لا يجوز. ومنها: أن يقول السيد لغلامه وجاريته: عبدي وأمتي، ويقول الغلام لسيده: ربي، وأن يقول السيد: فتاي وفتاتي، وأن يقول الغلام: سيدي وسيدتي. ومنها: سب الريح إذا هبت؛ ومنها سب الحمى؛ ومنها: سب الديك، ومنها: الدعاء بدعوى الجاهلية، والتعزي بعزائهم؛ ومنها: تسمية العشاء بالعتمة؛ ومنها النهي عن سباب المسلم؛ ومنها: أن تخبر المرأة زوجها بمحاسن امرأة أخرى؛ ومنها: أن يقول في دعائه اللهم اغفر لي إن شئت، ومنها الإكثار من الحلف، ومنها: أن يسمي المدينة يثرب، ومنها: أن يسأل الرجل فيم ضرب امرأته، إلا إذا دعت الحاجة؛ ومنها: الإفصاح عن الأشياء التي ينبغي الكناية عنها؛ ومنها: أن يقول: أطال الله بقاءك وأدام أيامك -وطال عمرك- وعشت ألف سنة ونحو ذلك؛ ومنها: أن يقول الصائم: وحق الذي خاتمه على فم الكافر، ومنها: تسمية المكوس حقوقاً -ويقاس عليها الفوائد الربوية المحرمة بإجماع أهل العلم، فقد أصبحوا يسمونها في هذا العصر: فوائد؛ لتهوين شأنها وخطرها على المسلمين، ومنها: تسمية المشروبات الكحولية والخمر وغيره؛ مشروبات روحية؛ ومنها: تسمية الزنا والفجور والعلاقات المحرمة: تبادل الحب والعواطف والغرام وما أشبه ذلك من الألفاظ التي تهون من خطرها على المسلمين والمسلمات، ثم ذكر أن منها أن يقول المفتي: أحل الله كذا وحرم كذا، إلا فيما ورد النص بتحريمه، قال: -واختم بذلك وهي كلمة سبق أن سمعتموها مني أكثر من مرة- " فصل: وليحذر كل الحذر من طغيان " أنا " "ولي" و"عندي"؛ فإن هذه الألفاظ الثلاثة أُبتلي بها إبليس وفرعون وقارون؛ (فأنا خير منه) لإبليس؛ (لي ملك مصر لفرعون؛ و (إنما أوتيته على علم عندي) لقارون. وأحسن ما وضعت "أنا" في قول العبد: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر، المعترف، ونحوه، "ولي" في قوله: لي الذنب ولي الجرم، ولي المسكنة ولي الفقر، ولي الذل و"عندي" في قوله: اغفر لي جدي وهزلي وعمدي وكل ذلك عندي. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 38 النهي عن قول "عليك السلام" وفي صفحة [420] ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن عليك السلام، تحية الموتى} فقال: " كان هدية في ابتداء السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، وكان يكره أن يقول المبتدئ: عليك السلام " أي عليك السلام هذا يقوله الذي يرد، أما المبتدئ فيقول: السلام عليك ثم قال: " قال أبو جري الهجيمي: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت عليك السلام يا رسول الله، فقال: {لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى} حديث صحيح، وقد أشكل هذا الحديث على طائفة، وظنوه معارضاً لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم، في السلام على الأموات بلفظ السلام عليكم، بتقديم السلام " يعني: كأنهم فهموا من قوله: " عليك السلام " أن الميت يقال له: عليك السلام " فظنوا أن قوله: فإن عليك السلام تحية الموتى " إخبار عن المشروع، وغلطوا في ذلك غلطاً أوجب لهم ظن التعارض، وإنما معنى قوله: {فإن عليك السلام تحية الموتى} إخبار عن الواقع، لا عن المشروع، أي إن الشعراء وغيرهم يحيون الموتى بهذه اللفظة، كقول قائلهم: عليك سلام الله قيس بن عاصمٍ ورحمته ما شاء أن يترحما فما كان قيس هُلْكُهُ هُلْك واحدٍ ولكنه بنيانُ قوم تهدَّمَا فكره النبي صلى عليه وسلم أن يحيَّى بتحية الأموات، ومن كراهته لذلك؛ لم يرد على المسلم بها " ومثل ما ذكر المصنف هاهنا، قول الشاعر يرثي أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه. عليك سلام من أمير وباركت يد الله في هذا الأديم الممزقِ فمن يسعَ أو يركب جناحي نعامة ليدرك ما أدركت في الأرض يسبق فخاطبه بقوله عليه السلام. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 39 الأقوال في السلام والرد على أهل الكتاب وفي صفحة [425] ذكر المصنف رحمه الله المذاهب في السلام والرد على أهل الكتاب، فقال في صفحة [424] صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تبدؤوهم بالسلام، وإذا لقيتموهم في الطريق، فاضطروهم إلى أضيق الطريق} لكن قد قيل: إن هذا كان في قضية خاصة، لما ساروا إلى بني قريظة قال: {لا تبدؤوهم بالسلام} فهل هذا حكم عام لأهل الذمة مطلقاً، أو يختص بمن كانت حاله بمثل حال أولئك؟ هذا موضع نظر، ولكن قد روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه} والظاهر أن هذا حكم عام. وقد اختلف السلف والخلف في ذلك، فقال أكثرهم لا يبدؤون بالسلام، وذهب آخرون إلى جواز ابتدائهم كما يرد عليهم، روي ذلك عن ابن عباس، وأبي أمامة وابن محيريز، وهو وجه في مذهب الشافعي رحمه الله، لكن صاحب هذا الوجه قال: يقال له السلام عليك فقط، بدون ذكر الرحمة وبلفظ الإفراد: وقالت طائفة: يجوز الابتداء لمصلحة راجحة، من حاجة تكون له إليه، أو خوف من أذاه، أو لقرابة بينهما، أو لسبب يقتضي ذلك، يروى ذلك عن إبراهيم النخعي، وعلقمة، وقال الأوزاعي: إن سلّمت، فقد سلَّم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون ". ثم ذكر الخلاف في وجوب الرد عليهم وقال: " فالجمهور على وجوبه، وهو الصواب -أي أن ترد عليهم السلام- وقالت طائفة: لا يجب الرد عليهم، كما لا يجب على أهل البدع وأولى، والصواب الأول -أي الوجوب- والفرق أننا مأمورون بهجر أهل البدع، تعزيراً لهم وتحذيراً منهم، بخلاف أهل الذمة. " الجزء: 33 ¦ الصفحة: 40 صيغة التكبير في عشر ذي الحجة وفي صفحة [395] جاء الكلام عن مسألة التكبير في عشر ذي الحجة، وهي مسألة من مسائل العلم، التي يختلف فيها بعض طلاب العلم -أحياناً- هل يشرع، وما الدليل على مشروعيته -سواءً أكان تكبيراً مطلقاً أم تكبيراً مقيداً-؟ قال رحمه الله: " وكان صلى الله عليه وسلم، يكثر الدعاء في عشر ذي الحجة، ويأمر فيه بالإكثار من التهليل والتكبير والتحميد ". ويذكر عنه: أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: {الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، ولله الحمد} وهذا وإن كان لا يصح إسناده فالعمل عليه إلى آخر ما قال " والمحقق الله، فقد ذكر حديث البخاري، والترمذي، وأبي داود، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذا الأيام العشر} ثم ذكر حديث الدارقطني عن جابر وضعفه، قال: " وفي الباب عن علي وعن عمار عند الحاكم في المستدرك ضعفه الذهبي والبيهقي، قال الحاكم فأما من فعل عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن مسعود فصحيح عنهم التكبير من غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي {أنه كان يكبر بعد صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق} وإسناده صحيح، وصححه الحاكم، وروى ابن أبي شيبة أيضاً عن أبي الأسود قال: " كان عبد الله بن مسعود يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، يقول: [[الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد]] وإسناده صحيح " انتهى كلام المحقق وما دام أنه ثبت عن علي وعمر وابن عباس وابن مسعود أنهم يكبرون، فهذا دليل على مشروعيته، واشتهاره عند الصحابة، ويبعد أن يخترعوا هذا الأمر من عند أنفسهم، وهم الوقافون عند حدود الله، وإنما رأوا هذا من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فتأسوا به، وبناءً عليه: نقول بمشروعية التكبير المقيد من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 41 المبالغة والغلو في الأسماء وفي صفحة [343/344] ذكر مضرة المبالغة والغلو، وهو يتكلم عن مسألة الأسماء، فإنه في هذا الفصل ذكر النهي عنه التسمي بيسار، وأفلح ونجيح ورباح وغيرها، وذكر أنه أحياناً قد يسمى الشخص باسم لا يليق به، فقد يسمى الشخص محيي الدين وهو عدو لله ولرسوله، وقد يسمى سراج الإسلام وهو يسعى في إطفاء نور الله في الليل والنهار، وقد يسمى بعبد الله عز وجل أو بعبد الرحمن أو بعبد الرحيم، وهو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولكن التعبيد من حيث الأصل مشروع تسميته بذلك؛ وإنما الألقاب والكنى، مثل: سراج الملة، وركن الدين، ومحيي الإسلام، وما أشبه ذلك، هذه لا تنبغي. فقال: " اقتضت حكمة الشارع، الرؤوف بأمته، الرحيم بهم؛ أن يمنعهم من أسباب توجب لهم سماع المكروه أو وقوعه، وأن يعدل عنها إلى أسماء تُحَصِِّل المقصود من غير مفسدة، هذا أولى، مع ما ينضاف إلى ذلك من تعليق ضد الاسم عليه، بأن يسمى يساراً من هو من أعسر الناس، ونجيحاً من لا نجاح عنده، ورباحاً من هو من الخاسرين، فيكون قد وقع في الكذب عليه وعلى الله، وأمر آخر أيضاً وهو أن يطالب المسمى بمقتضى اسمه؛ فلا يوجد عنده " أي: ينتظر الناس منه أن يكون على اسمه، وأن يكون اسماً وافق مسماه ولفظاً طابق معناه، فيجدون النقيض، قال: فيجعل ذلك سبباً لذمه وسبه كما قيل: سموك من جهلهم سديداً والله ما فيك من سداد أنت الذي كونه فساداً في عالم الكون والفساد فتوصل الشاعر بهذا الاسم إلى ذم المسمى به ولي من أبيات: وسميته صالحاً فاعتذى بضد اسمه في الورى سائرا وظن بأن اسمه ساتر لأوصافه فغدا شاهرا وهذا كما أن من المدح ما يكون ذماً موجباً لسقوط مرتبة الممدوح عند الناس، فإنه يمدح بما ليس فيه، فتطالبه النفوس بما مدح به، وتظنه عنده؛ فلا تجده كذلك، فتنقلب ذماً! ولو ترك من غير مدح لم تحصل له هذه المفسدة، ويشبه حاله؛ حال من ولي ولاية سيئة ثم عزل عنها؛ فإنه تنقص مرتبته عما كان عليه قبل الولاية، وينقص في نفوس الناس، عما كان عليه قبلها، وفي هذا قال القائل: إذا ما وصفت امرءاً لامرئٍ فلا تغلُ في وصفه واقصِدِ فإنك إن تغلُ تغل الظنون فيه إلى الأمد الأبعد فينقص من حيث عظمته لفضل المغيب على المشهد وهذا معنىً لطيف، يعني أنه: إذا مُدِحَ لك إنسان -وقيل: والله لو رأيت فلاناً لرأيت العقل والخلق والدين والعبادة وكذا وكذا- لعظم في عينك، فإذا رأيته ربما نقص عما كان، لأن المبالغة في المدح أولاً: أورثت النقص عندك، ثانياً: نسبته إلى ما ذكر، ولذلك قال: " وعلى هذا فتكره التسمية بـ: التقي، والمتقي، والمطيع، والطائع، والراضي، والمحسن، والمخلص، والمنيب، والرشيد، والسديد. وأما تسمية الكفار بذلك، فلا يجوز التمكين منه، ولا دعاؤهم بشيء من هذه الأسماء، ولا الإخبار عنهم بها، والله عز وجل يغضب من تسميتهم بذلك. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 42 الالتزام في الكعبة وفي صفحة [298] ذكر مسألة الالتزام في الكعبة، وهي من المسائل التي ننكر نحن على من يفعلها، ومن يلصقون وجوههم وصدورهم ببعض أجزاء الكعبة، فكثيراً ما ننكر على من يفعل ذلك، يقول المصنف رحمه الله: " وأما المسألة الثانية: وهي وقوفه في الملتزم، فالذي روي عنه، أنه فعله يوم الفتح، ففي سنن أبي داود عن عبد الرحمن بن أبي صفوان قال: {لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، انطلقت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد خرج من الكعبة، هو وأصحابه، وقد استلموا الركن من الباب إلى الحطيم، ووضعوا خدودهم على البيت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم} والحديث فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف، لكن له شاهد. وروى أبو داود أيضاً من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: {طفت مع عبد الله -لعله عبد الله بن عمرو بن العاص - فلما حاذى دبر الكعبة- قلت: ألا تتعوذ؟ قال: نعوذ بالله من النار، ثم مضى حتى استلم الحجر، فقام بين الركن والباب، فوضع صدره ووجهه وذراعيه هكذا، وبسطهما بسطاً وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله} والحديث في سنده المثنى بن الصباح وهو ضعيف، لكنه ينجبر بما قبله، يقول المصنف: " فهذا يحتمل أن يكون في وقت الوداع، وأن يكون في غيره، ولكن قال مجاهد والشافعي وغيرهما: إنه يستحب أن يقف في الملتزم بعد طواف الوداع، ويدعو وكان ابن عباس رضي الله عنهم يلتزم ما بين الركن والباب -فالملتزم ما بين الركن والباب- وكان يقول: لا يلتزم ما بينهما أحد يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه إياه، والله وأعلم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 43 اختلاف الرواة في القصة على أوجه عديدة وفي صفحة [296] ربما كنت قد ذكرت بعض هذه الأشياء سابقاً ذكر المصنف مسألة تعدد القصة، فأحياناً توجد رواية فيها قصة، اختلف الرواة فيها على أوجه عديدة، فمثلاً: هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل الكعبة أو لم يصلِّ؟ قال بعضهم: صلى، وقال بعضهم: لم يصلِّ. وقال بعضهم: يحمل هذا على تعدد القصة، بأن يكون دخل مرة وصلى، ودخل مرة ولم يصلِّ قال المصنف رحمه الله في صفحة [296] " فقيل: كان ذلك دخولين، صلى في أحدهما، ولم يصلِّ في الآخر، وهذه طريقة ضعفاء النقد؛ كلما رأوا اختلاف لفظ، جعلوه قصة أخرى، كما جعلوا الإسراء مراراً لاختلاف ألفاظه، وجعلوا اشتراءه من جابر بعيره مراراً، لاختلاف ألفاظه، وجعلوا طواف الوداع مرتين لاختلاف سياقه ونظائر ذلك. وأما الجهابذة النقاد؛ فيرغبون عن هذه الطريقة، ولا يجبنون عن تغليط من ليس معصوماً من الغلط، ونسبته إلى الوهم. قال البخاري وغيره من الأئمة والقول قول بلال، لأنه مثبت شاهد صلاته، بخلاف ابن عباس، والمقصود: أن دخوله صلى الله عليه وسلم البيت إنما كان في غزوة الفتح، لا في حجه ولا في عُمَرَهِ، وفي صحيح البخاري عن إسماعيل بن أبي خالد قال: [[قلت لـ عبد الله بن أبي أوفى: أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في عمرته البيت؟ قال: لا]] وقالت عائشة: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين، طيب النفس، ثم رجع إليَّ وهو حزين القلب، فقلت: يا رسول الله! خرجت من عندي وأنت كذا وكذا، فقال: إني دخلت الكعبة، وودت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي} . فهذا ليس فيه أنه كان في حجته، بل إذا تأملته حق التأمل، أطلعك التأمل على أنه كان في غزاة الفتح، والله أعلم، وسألته عائشة أن تدخل البيت، فأمرها أن تصلي في الحجر، ركعتين. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 44 حديث عائشة في رمي الجمار وأبي هريرة في التحصيب وفي صفحة [248] ذكر حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل، بـ أم سلمة ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت، فأفاضت، قال: الإمام ابن القيم رحمه الله: " هذا حديث منكر، أنكره الإمام أحمد وغيره " وهذا الحديث يحتج به بعضهم، والإمام رحمه الله ذكر أنه منكر. وفي صفحة [294] ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما انتهى من حجه، نزل بالخَيف، خَيف بني كنانة، قال المصنف رحمه الله: " وقد اختلف السلف في التحصيب، هل هو سنة أو منزل اتفاق؟ -أي: من غير قصد- على قولين: فقالت طائفة هو من سنن الحج، فإن في الصحيحين عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حينما أراد أن ينفر من منى: {نحن نازلون غداً إن شاء الله بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر} يعني بذلك المحصَّب، وذلك أن قريشاً وبني كنانة تقاسموا على بني هاشم وبني المطلب ألاَّ يناكحوهم، ولا يكون بينهم وبينهم شيء حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقصد النبي صلى الله عليه وسلم إظهار شعائر الإسلام في المكان الذي أظهروا فيه شعائر الكفر والعداوة لله ولرسوله، وهذه كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه، أن يقيم شعار التوحيد في مواضع شعائر الكفر والشرك، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبنى مسجد الطائف موضع اللات والعزى. أي: الخيف هو المكان الذي اجتمعت فيه قريش، وكتبوا الصحيفة الجائرة الظالمة، التي بموجبها كان الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في شعب أبي طالب فترة، بل وبنو هاشم وبنو المطلب، حتى من غير المسلمين، ولا يبايعونهم ولا يبتاعون منهم، ولا يناكحونهم حتى كان يسمع صياح الأطفال من الجوع في هذا الخيف، أي نوع من الحصار الاقتصادي للمسلمين. فالرسول عليه الصلاة والسلام لما فتح مكة , ودانت له الجزيرة العربية بإذن الله تعالى، أراد أن يظهر شعار الإسلام وعزة الإسلام في المكان الذي ضويق فيه، فنزل في هذا الخَيف، حيث تقاسموا على الكفر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 45 شروط النسخ في صفحة [187] فائدة مهمة في شروط النسخ، ذكر الإمام ابن القيم أن النسخ يحتاج إلى أربعة أمور: يحتاج إلى نصوص أخر تكون تلك النصوص معارضة لهذه، ثم تكون مقاومة لها، أي: في قوتها، ثم يثبت تأخرها عنها. فأولاً: لا بد في إدعاء النسخ من وجود نص يفهم منه أن هذا ناسخ، ثم هذا الناسخ: لا بد أن يكون في قوة المنسوخ أو المدعى نسخه، ثم لا بد أن يكون معارضاً له، بحيث لا يمكن الجمع بينهما بحمل هذا على حال وهذا على حال؛ ثم لا بد أن يثبت تأخر الناسخ، وتقدم المنسوخ. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 46 متى يشرع الاحتياط في العبادة وفي صفحة [212] ذكر متى يشرع الاحتياط في العبادة؟ فقال: " الاحتياط إنما يشرع إذا لم تتبين السنة، فإذا تبينت فالاحتياط هو اتباعها وترك ما خالفها، فإن كان تركها لأجل الاختلاف -يعني الاختلاف بين العلماء- احتياطاً، فترك ما خالفها واتباعها أحوط وأحوط، فالاحتياط نوعان: احتياط للخروج من خلاف العلماء. واحتياط للخروج من خلاف السنة، ولا يخفى رجحان أحدهما على الآخر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 47 ما حرم تحريم الوسائل يباح للحاجة في صفحة [242] ذكر فائدة أراها مهمة جداً، قال وهو يتكلم عن المحرم الذي نهاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرب طيباً، قال: " وإذا كان النبي صلى الله وعليه وسلم، قد نهى أن يقرب طيباً أو يمس به، تناول ذلك الرأس والبدن والثياب، وأما شمه من غير مسَّ، فإنما حرمه من حرمه بالقياس، وإلا فلفظ النهي لا يتناوله بصريحة، ولا إجماع معلوم فيه يجب المصير إليه، ولكن تحريمه من باب تحريم الوسائل، فإن شمه يدعو إلى ملامسته في البدن والثياب، كما يحرم النظر إلى الأجنبية؛ لأنه وسيلة إلى غيره، وما حرم تحريم الوسائل؛ فإنه يباح للحاجة، أو المصلحة الراجحة " هذه يجب أن تحفظوها يا إخوان - قال: كما يباح النظر إلى الأمة المستامة والمخطوبة ومن شهد عليها، أو يعاملها أو يَطُبُها. الشاهد أنه قال: " وما حرم تحريم الوسائل، فإنه يباح للحاجة، ويباح للمصلحة الراجحة " طبعاً ومن باب الأولى أنه يباح للضرورة، نقول ما حرم تحريم الوسائل، يباح للضرورة، والحاجة والمصلحة الراجحة، وعلى هذا تنحل إشكالات كثيرة، وهذه القاعدة ذكرها ابن القيم في عدة مواضع، ذكرها أيضاً في إعلام الموقعين، وذكرها في مواضع أخرى من زاد المعاد وبالقاعدة هذه تندفع إشكالات كثيرة على بعض الناس الذين تلتبس عليهم أمور اليوم، فمثلاً قضية التصوير عند من يقول بتحريمه هو محرم تحريم وسيلة، لا تحريم غاية، فهو حينئذٍ يباح للضرورة والحاجة والمصلحة الراجحة، فإذا اضطر الإنسان إلى ذلك، كما يصور الإنسان لاستخراج بطاقة، أو رخصة أو شهادة، أو لحاجة إلى ذلك، ولو لم تصل إلى حد الضرورة، أو لمصلحة راجحة فيها نفع ظاهر يربو ويزيد على المفسدة الموجودة، فمثل هذا الحال يفتي العلماء بجواز ذلك، ولذلك تجد أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز على رغم أنه يشدد في مسألة التصوير، حتى أنه يقول: إنه كبيرة من كبائر الذنوب. بل صدرت بذلك فتوى من هيئة كبار العلماء، تقول: إن التصوير كبيرة من كبائر الذنوب، ومع ذلك فإن الشيخ رحمه الله يجيز التصوير للحاجة والمصلحة، فضلاً عن الضرورة، وقد سئل عن مسائل عديدة، يكون في التصوير فيها مصلحة، لنشر الخير أو تعميمه بين الناس، أو مدافعة الفساد، فقال بأن هذا حسن ولا بأس فيه، وقد سمعت هذا منه بأذني أكثر من مرة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 48 نبذة موافقة الإمام أحمد للسنة في صفحة [183] ذكر فائدة عن الإمام أحمد، تدل على عظيم موافقة الإمام أحمد للسنة، وحرصه عليها، فقال: " ولله در الإمام أحمد رحمه الله إذ يقول لـ سلمة بن شبيب، وقد قال له: يا أبا عبد الله: كل أمرك عندي حسن، إلا خلة واحدة. وما هي؟ قال: تقول بفسخ الحج إلى العمرة، فقال يا سلمة، كنت أرى لك عقلاً، عندي في ذلك أحد عشر حديثاً صحاحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أأتركها لقولك؟!! الجزء: 33 ¦ الصفحة: 49 حال الليث بن سليم ِوفي صفحة [147] ذكر فائدة تتعلق بالجرح والتعديل، وهي كلامه عن الليث بن أبي سليم، بعد أن ذكر الأقوال فيه، فقال: " ومثل هذا حديثه حسن، وإن لم يبلغ رتبة الصحة " وذكر أقوال آخرين ضعفوه، لكن هذا رأي الإمام ابن القيم نفسه أن حديثه حسن. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 50 ترك الأوْلى لتأليف القلوب وفي صفحة [143] ذكر رحمه الله مسألة مهمة لطالب العلم وللداعية، وسبق أن ذكرتها تفصيلاً في هذا الموضع؛ لكن أيضاً أقرأ ما ذكر وهي: أن الإنسان ينبغي له أحياناً أن يترك الأولى إلى ما هو أقل منه، رغبة في تأليف القلوب والموافقة، وعدم تفريق الناس. فيقول رحمه الله لما ذكر إحرام النبي صلى الله عليه وسلم وأنه أحرم قارناً، ومع ذلك فإنه تمنى أنه كان متمتعاً قال: " ولمن رجح القرآن مع السوق أن يقول: لم يقل هذا لأجل أن الذي فعله مفضول مرجوح؛ بل لأن الصحابة شق عليهم أن يحلوا من إحرامهم مع بقائه هو محرماً، وكان يختار موافقتهم ليفعلوا ما أُمروا به مع انشرح وقبول ومحبة، وقد ينتقل عن الأفضل إلى المفضول، لما فيه من الموافقة وتأليف القلوب، كما قال لـ عائشة: {لولا أن قومك حديثو عهدٍ بجاهلية؛ لنقضت الكعبة وجعلت لها بابين} فهذا ترك ما هو الأولى لأجل الموافقة والتأليف، فصار هذا هو الأولى في هذه الحال " أي أن المفضول يصبح هو الفاضل إذا كان فيه جمع للكلمة وتأليف للقلوب والموافقة، وتحصيل مصالح أخرى. ثم قال: " فكذلك اختياره للمتعة بلا هدي، وفي هذا جمع بين ما فعله وبين ما وده وتمناه ". الجزء: 33 ¦ الصفحة: 51 فائدة لغوية وفي صفحة [105] وهو يسرد حجة النبي صلى الله عليه وسلم، ذكر فائدة لغوية جانبية فقال: والعرب إذا اجتمعت الليالي والأيام في التاريخ، غلبت لفظ الليالي؛ لأنها أول الشهر، وهي أسبق من اليوم، فتذكر الليالي، ومرادها الأيام. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 52 حال حديث الحجاج بن أرطأة وفي صفحة [111] ذكر كلاماً عن الحجاج بن أرطأة والمقالات فيه، ثم ذكر خلاصة رأيه في ذلك، أي حديث الحجاج بن أرطأة فقال: وحديثه لا ينزل عن درجة الحسن ما لم ينفرد بشيء، أو يخالف الثقات. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 53 من غلطوا في حجه صلى الله عليه وسلم وإهلاله في صفحة [122] ذكر رحمه الله! بعد أن ذكر من غلطوا في حج النبي صلى الله وعليه وسلم وعمرته، من الأئمة والرواة وغيرهم، فقال: غلط في عمر النبي صلى الله عليه وسلم خمس طوائف، ثم ذكرها. إحداها: من قال: إنه اعتمر في رجب، والثانية: من قال إنه اعتمر في شوال، والثالثة: من قال: إنه اعتمر من التنعيم … والرابعة: من قال: لم يعتمر في حجته أصلاً، والخامسة: من قال إنه اعتمر عمرة حل منها، ثم أحرم بعدها بالحج " هؤلاء، خمسة أصناف من الناس غلطوا في عُمَر النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال: فصل: ووهم في حجه خمس طوائف الأولى: التي قالت حج حجاً مفرداً لم يعتمر معه. والثانية: من قال: حج متمتعاً تمتعاً حل منه ثم أحرم بعده بالحج. والثالثة: من قال: حج متمتعاً تمتعاً لم يحل منه لأجل سوق الهدي، ولم يكن قارناً. والرابعة: من قال: حج قارناً قراناً طاف له طوافين، وسعى له سعيين. والخامسة: من قال: حج حجاً مفرداً، واعتمر بعده من التنعيم. ثم قال: غلط في إحرامه خمس طوائف … وذكرها. الشاهد أنه بعدما ذكر هذا الغلط قال: " فصل في أعذار القائلين بهذه الأقوال، وبيان منشأ الوهم والغلط " وهذا يعطينا أيها الإخوة درساً مهماً من هذا الإمام الجهبذ الفحل في التماس الأعذار لأهل العلم فيما يخطئون فيه من الآراء والأقوال أو الأعمال أيضاً، وأن الإنسان ينبغي أن يكون عنده أيضاً جرأة وشجاعة على أنه إذا كان الخطأ واضح؛ يقول: هذا خطأ؛ ثم يكون عنده في مقابل ذلك إعذار والتماس ذلك العذر لهذا الإنسان في وقوعه في هذا الخطأ، بحيث لا يلقي عليه باللائمة، أو يضع من قدره وتصبح القضية في ميزاننا كما هي اليوم في ميزان كثير من الناس، إما (100%) أو صفر، إما أن يكون هذا الإنسان كاملاً لا يعرفون فيه عيباً، فإن وجدوا فيه عيباً أسقطوا قيمته بالكلية، ولم يروا له فضلاً، وهذا خطأ! بل يقال للمصيب: أصبت، ويقال للمخطئ -بعد أن يتبين خطؤه بالدليل الصحيح- أخطأت؛ ثم يلتمس العذر لهذا المخطئ في خطئه -فهو أي ابن القيم - بدأ في التماس الأعذار فقال: أما عذر من قال اعتمر في رجب -مثلاً- فحديث ابن عمر: {أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب} متفق عليه، إذاً هذا عذر قوي لهم. قال: وأما من قال: " اعتمر في شوال فعذره ما رواه مالك في الموطأ … " إلى آخر ما ذكر من الأعذار. ثم قال فصل في صفحة [127] " فصل: في أعذار الذين وهموا في صفة حجته " ثم قال في صفحة [150] " ذكر الذين غلطوا في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عذرهم، إلى آخر ما ذكر، وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يمكن أن يراجع هذه المسألة، لكن المقصود: الدرس التربوي في التماس العذر للإنسان إذا أخطأ. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 54 أسباب شرح الصدر فمن المختارات في صفحة [23] من الجزء الثاني، ذكر المصنف رحمه الله! فصلاً طويلاً مفيداً، في أسباب شرح الصدور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حصل على الكمال من شرح الصدر، وذكر من هذه الأسباب: التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشرح صدر صاحبه، وذكر منها: النور الذي يقذفه الله في قلب العبد، وهو نور الإيمان، فإنه يشرح الصدر ويوسعه، ويفرح القلب، فإذا فقد هذا النور من قلب العبد، ضاق وحرج وصار في أضيق سجن وأصعبه، ومنها: العلم فإنه يشرح الصدر ويوسعه، حتى يكون أوسع من الدنيا، والجهل يورثه الضيق والحسرة والحبس، فكلما اتسع علم العبد انشرح صدره، وليس هذا لكل علم! بل للعلم الموروث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو العلم النافع، فأهله أشرح الناس صدراً، وأوسعهم قلوباً، وأحسنهم أخلاقاً، وأطيبهم عيشاً. ومنها: الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، ومحبته بكل القلب، والإقبال عليه والتنعم بعبادته، فلا شيء أشرح لصدر العبد من ذلك، حتى إنه ليقول أحياناً: إن كنت في الجنة في مثل هذه الحالة، فإني إذاً لفي عيش طيب! وللمحبة تأثير عجيب في انشراح الصدر، وطيب النفس، ونعيم القلب، لا يعرفه إلا من له حس به، وكلما كانت المحبة أقوى وأشد كان الصدر أفسح وأشرح. ثم قال: " ومن أسباب شرح الصدر: دوام ذكره على كل حال، وفي كل موطن". ومنها: الإحسان إلى الخلق ونفعهم بما يمكنه من المال والجاه، والنفع بالبدن، وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرح الناس صدراً، وأطيبهم نفساً وأنعمهم قلباً، ومنها الشجاعة: فإن الشجاع منشرح الصدر، واسع البطان، منكسر القلب ". ثم قال ضمن الشجاعة: فحال العبد في القبر، كحال القلب في الصدر، نعيماً وعذاباً وسجناً وانطلاقاً، ولا عبرة بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيق صدر هذا لعارض، فإن العوارض تزول بزوال أسبابها. ثم قال: ومنها بل من أعظمها: إخراج دغل القلب من الصفات المذمومة، التي توجب ضيقه وعذابه، وتحول بينه وبين حصول البُرء. ومنها: ترك فضول النظر، والكلام، والاستماع، والمخالطة، والأكل، والنوم، فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً وهموماً في القلب، تحصره وتحبسه وتضيقه ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها، فلا إله إلا الله ما أضيق صدر من ضرب في كل آفة من هذه الآفات بسهم. وما أنكد عيشه، وما أسوأ حاله، وما أشد حصر قلبه! ولا إله إلا الله، ما أنعم عيش من ضرب في كل خصلة من تلك الخصال المحمودة بسهم، وكانت همته دائرة عليها، حائمة حولها! إلى آخر ما قال رحمه الله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 55 فوائد الجزء الثالث في صفحة [40] ذكر أن أرواح الأنبياء في السماء، وأجسادهم في قبورهم، وذلك في مجال سماعه صلى الله عليه وسلم لسلام المُسلِّم عليه. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 56 مجرد الاعتراف بالنبوة لا يكفي وفي صفحة [638] الإشارة إلى فائدة، وهي: أن مجرد الاعتراف بالنبوة لا يكفي للإسلام، بل لا بد من قبول ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطاعته فيما أمر به، واعتقاد وجوب طاعته. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 57 قصة صلب فروة بن عمرو الجذامي وفي صفحة [646] ذكر قصة فروة بن عمرو الجذامي، وهو مسلم، أسلم وآمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عاملاً للروم، فأحضروه وصلبوه، وأصر على الإسلام، وكان -وهو مصلوب على خشبة- يقول أبياتاً من الشعر: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها على ماء عفرا فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يطرق الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل يعني بذلك الخشبة التي صلب عليها، وسلمى: هي زوجته. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 58 أصغر القوم خادمهم وفي صفحة [652] ذكر حديث {أصغر القوم خادمهم} . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 59 الإثابة على النية وفي صفحة [658] ذكر حديثاً يدل على أن المرء يثاب على ما فعله بنية، ولو كان يرغبه فطرة ويميل إليه. وفي صفحة [658] ذكر مراتب الضيافة، وأنه حق واجب، وتمام مستحب وصدقة. وفي صفحة [659/661] ذكر السنة في الشاة الملتقطة، أنه يخير ملتقطها بين ثلاثة أمور: يخير بين أكلها وغرم ثمنها، أو بيعها وحفظ ثمنها، أو الإنفاق عليها. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 60 المواضع التي يتعين فيها الجهاد وفي صفحة [558] ذكر المواضع التي يتعين فيها الجهاد، والمشهور أن هذه المواضع ثلاثة: إذا استنفره الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم {وإذا استنفرتم فانفروا} وإذا داهم العدو أهل البلد، وإذا التقى الصفان وتقابل الجيشان. وفي صفحة [558] أيضاً ذكر حكم الجهاد بالمال والنفس. وفي صفحة [571] ذكر الجهاد بالقلب وما يتعلق به. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 61 اغتنام فرص القربة والطاعة وفي صفحة [574] ذكر معاقبة من وأتته الفرصة فأهملها، وهذا الموضع ينبغي أن يقرأ، لما فيه من الحث لنا، قال رحمه الله: ومنها -وهو يتكلم فيما أذكر عن قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ وبالمناسبة: فقد ذكر فوائد بديعة -لا أظن أنها توجد في غير هذا الكتاب تستخرج من قصة الثلاثة الذين خلفوا؛ فارجعوا إليها في هذا الموضع- " فقال: ومنها: أن الرجل إذا حضرت له فرصة القربى والطاعة، فالحزم كل الحزم في انتهازها والمبادرة إليها، والعجز في تأخيرها والتسويف بها، ولا سيما إذا لم يثق بقدرته وتمكنه من أسباب تحصيلها، فإن العزائم والهمم سريعة الانتقاض قَلَّما تثبت، والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير، فلم ينتهزه؛ بأن يحول بين قلبه وإرادته، فلا يمكنه بعد من إرادته عقوبة له، فمن لم يستجب لله ورسوله إذا دعاه، حال بينه وبين قلبه وإرادته، فلا يمكنه الاستجابة بعد ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] فقد صرح الله بهذا في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] وقال الله تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] وقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة:115] . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 62 من كانت بدايته محرقة كانت نهايتة مشرقة وفي صفحة [576] ذكر ضمن فوائد قصة الثلاثة الذين خلفوا أن مرارات المبادئ حلاوات العواقب، ومن كانت له بداية محرقة، كانت له نهاية مشرقة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 63 التفنن في أساليب الدعوة وفي صفحة [601] ذكر مسألة إظهار خلاف الواقع، فقال وهو يتكلم عن الوفود: " ومنها: حسن سياسة الوفد وتلطفهم، حتى تمكنوا من إبلاغ ثقيف ما قدموا به، فتصوروا لهم بصورة المنكر لما يكرهونه، والموافق لهم فيما يهوونه، حتى ركنوا إليهم واطمأنوا، فلما علموا أنه ليس لهم بُد من الدخول في دعوة الإسلام؛ أذعنوا فأعلمهم الوفد، أنهم بذلك قد جاءوهم " أي: أظهروا لهم أنهم جاءوا لغرض، والواقع أنهم جاءوا لغيره. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 64 فضائل أهل اليمن في صفحة [619] ذكر مَنْ هم أهل اليمن، الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، في مواضع عديدة، منها قوله: {جاء أهل اليمن، هم أرق أفئدة وأضعف قلوباً، الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية، والسكينة في أهل الغنم … } إلى آخر الحديث. وذكر حديثاً عن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أتاكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم خيار من في الأرض، فقال رجل من الأنصار: إلا نحن يا رسول الله -أي ليسوا خيراً منا- فسكت، ثم قال: إلا نحن يا رسول الله فسكت، ثم قال: إلا أنتم} كلمة ضعيفة وفي ذلك إشارة إلى أن أهل اليمن هم الأشعريون. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 65 تكفير أهل البدع لمخالفيهم في صفحة [423] ذكر أن أهل البدع يسرعون إلى تكفير مخالفيهم، فيقول: " فصل: وفيها: أن الرجل إذا نَسَبَ المسلم إلى النفاق والكفر متأولاً، وغضباً لله ورسوله ودينه لا لهواه وحظه، فإنه لا يكفر بذلك، بل لا يأثم به، بل يثاب على نيته وقصده، وهذا بخلاف أهل الأهواء، والبدع؛ فإنهم يكفرون ويبدعون لمخالفة أهوائهم ونحلهم، وهم أولى بذلك ممن كفروه وبدعوه ". وفي صفحة [458] ذكر حكم إسناد عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده وقد سبق فائدة مشابهة لذلك. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 66 كراهة الصلاة في الحمام وأماكن الصور وفي صفحة [458] أيضاً ذكر الكلام على الصلاة، في المكان الذي فيه صور، فقال: " وفي القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل البيت، وصلى فيه، ولم يدخله حتى محيت الصور منه، ففيه دليل على كراهة الصلاة في المكان المصور، وهذا أحق بالكراهة من الصلاة في الحمام - ولا يقصد بالحمام مكان قضاء الحاجة، بل الحمام هو مكان الاغتسال- لأن كراهة الصلاة في الحمام؛ إما لكونه مظنة النحاسة، وإما لكونه بيت الشيطان، وهو الصحيح؛ وأما محل الصور فمظنة الشرك، وغالب شرك الأمم كان من شرك الصور والقبور. " الجزء: 33 ¦ الصفحة: 67 الوعد من الله لا ينافي فعل السبب وفي صفحة [480] ذكر أن الوعد لا ينافي فعل السبب، وهذه فائدة مهمة أيضاً، ومعناها: أن الله عز وجل -مثلاً- لما وعد المؤمنين بالنصر، فلا يعني هذا أن يقعدوا عن فعل الأسباب، ولما وعد بعضهم بالجنة، لا يعني أنهم يتركون العمل الصالح المؤدي إلى الجنة. قال المصنف رحمه الله: " ومنها أن من تمام التوكل استعمال الأسباب إلى قوله: وكثير مما لا تحقيق عنده، ولا رسوخ في العلم يستشكل هذا، ويتكايس في الجواب، تارة بأن هذا فعله تعليماً للأمة، وتارة بأن هذا كان قبل نزول الآية " أي قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] إلى آخر ما ذكر" ثم قال: " ولو تأمل هؤلاء! أن ضمان الله له العصمة، لا ينافي تعاطيه أسبابها، لأغناهم عن هذا التكلف؛ فإن هذا الضمان له من ربه تبارك وتعالى لا يناقض احتراسه من الناس ولا ينافيه، كما أن إخبار الله سبحانه له بأنه يظهر دينه على الدين كله ويعليه، لا يناقض أمره بالقتال وإعداد العدة والقوة ورباط الخيل، والأخذ بالجد والحذر والاحتراس من عدوه، ومحاربته بأنواع الحرب، والتورية " إلى آخر ما ذكر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 68 الإيثار بالقرب وفي صفحة [505] ذكر مسألة الإيثار بالقُرَبِ، وهي مسألة كثيراً ما يذكر الفقهاء فيها أنه: لا إيثار في القُرَبِ، فقال: المصنف رحمه الله ومنها: كمال محبة الصديق له -أي للرسول صلى الله عليه وسلم- وقصده التقرب إليه، والتحبب بكل ما يمكنه، ولهذا ناشد المغيرة أن يدعه هو يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بقدوم وفد الطائف، ليكون هو الذي بشره وفرحه بذلك، وهذا يدل على أنه يجوز للرجل أن يسأل أخاه أن يؤثره بقربة من القرب، وأنه يجوز للرجل أن يؤثر بها أخاه، وقول من قال من الفقهاء: لا يجوز الإيثار بالقرب؛ لا يصح وقد آثرت عائشة عمر بن الخطاب بدفنه في بيتها جوار النبي صلى الله عليه وسلم، وسألها عمر ذلك، فلم تكره له السؤال، ولا لها البذل، وعلى هذا فإذا سأل الرجل غيره أن يؤثره بمقامه في الصف الأول، لم يكره له السؤال، ولا لذلك البذل، ونظائره. ومن تأمل سيرة الصحابة، وجدهم غير كارهين لذلك، ولا ممتنعين منه، وهل هذا إلا كرم وسخاء، وإيثار على النفس بما هو أعظم محبوباتها، تفريحاً لأخيه المسلم وتعظيماً لقدره، وإجابة له إلى ما سأله وترغيباً له في الخير، وقد يكون ثواب كل واحد من هذه الخصال راجحاً على ثواب تلك القربة، فيكون المؤثر بها ممن تاجر، فبذل قربة وأخذ أضعافها؛ وعلى هذا: فلا يمتنع أن يؤثر صاحب الماء بمائه أن يتوضأ به، ويتيمم هو إذا كان لابد من تيمم أحدهما، فآثر أخاه، وحاز فضيلة الإيثار، وفضيلة الطهر بالتراب؛ ولا يمنع هذا كتاب ولا سنة ولا مكارم أخلاق، وعلى هذا فإذا أشتد العطش بجماعة وعاينوا التلف، ومع بعضهم ماء، فآثر على نفسه واستسلم للموت؛ كان ذلك جائزاً، ولم يُقل: إنه قاتلٌ لنفسه، ولا إنه فعل محرماً، بل هذا غاية الجود والسخاء، كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] وقد جرى هذا بعينه لجماعة من الصحابة في فتوح الشام، وعد ذلك من مناقبهم وفضائلهم، وهل إهداء القُرَب المجمع عليها والمتنازع فيها إلى الميت إلا إيثار بثوابها، وهو عين الإيثار بالقرب، فأي فرق بين أن يؤثره بفعلها ليحرز ثوابها، وبين أن يعمل ثم يؤثره بثوابها " وللشيخ كلام طويل في الإيثار بالقرب في غير هذا الموضع. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 69 جواز إعانة المشركين والظلمة على ما فيه مصلحة للمسلمين ما لم تقع مفسدة أكبر في صفحة [303] ذكر فائدة مهمة أيضاً وهي، ما إذا طلب المشركون من المسلمين إعانتهم على تعظيم الحرمات، يقول: ومنها -أي فوائد صلح الحديبية- أن المشركين وأهل البدع والفجور والبغاة والظلمة، إذا طلبوا أمراً يعظمون فيه حرمة من حرمات الله تعالى، أجيبوا إليه وأعطوه وأعينوا عليه ومنعوا غيره؛ فيعاونون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وعلى بغيهم، ويمنعون مما سوى ذلك، فكل من التمس المعاونة على محبوبٍ لله تعالى مرضٍ له؛ أجيب إلى ذلك كائناً من كان، ما لم يترتب على إعانته على ذلك المحبوب مبغوض لله أعظم منه، وهذا من أدق المواضع وأصعبها وأشقها على النفوس" وهذه فائدة مهمة في واقعنا اليوم، لأن الإنسان أحياناً، قد يجد من إنسان صاحب بدعة أو انحراف أو بغي أو ظلم أو شرك؛ أنه يطلب منه أن يعينه على أمر فيه مصلحة وخير ونفع للإسلام والمسلمين، ورعاية لحق من حقوق الله، وحفظ لحرمة من حراماته، فيكره أن يعين هذا الإنسان وهو على ما هو عليه، من فسق وفجور وفساد، فكونه صلى الله عليه وسلم قال: {لا يسألوني أمراً يعظمون فيه حرمات الله تعالى إلا أجبتهم إليه} يفيد هذه الفائدة التي التقطها الإمام ابن القيم رحمه الله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 70 تقديم المعارض للبراءة الأصلية وإنكار تكرار النسخ وفي صفحة [374] ذكر فائدتين أصوليتين:- أولاهما: تقديم المعارض للبراءة الأصلية، أي: إذا وجد عندنا رأيان أو حديثان في مسألة، أحدهما موافق للبراءة الأصلية، أي لأصل الجواز، والآخر معارض للبراءة الأصلية، يقدم المعارض لأنه يدل على النسخ ولذلك قال: " وقد روى مسلم في صحيحه من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب} ولو قُدِّر تعارض القول والفعل هاهنا؛ لوجب تقديم القول، لأن الفعل موافق للبراءة الأصلية والقول ناقل عنها، فيكون رافعاً لحكم البراءة الأصلية، وهذا موافق لقاعدة الأحكام؛ ولو قدم الفعل، لكان رافعاً لموجب القول، والقول رافع لموجب البراءة، ويلزم تغير الحكم مرتين وهو خلاف قاعدة الأحكام " وفي قوله: فيلزم تغير الحكم مرتين، إشارة إلى رأيه -وهو رأي قوي أيضاً- الذي ينكر فيه أن يكون النسخ حصل مرتين، كما يدعيه بعض أهل العلم، في مسائل، من أشهرها: مسألة نكاح المتعة أنه حرم ثم أبيح ثم حرم؛ وقيل مثل ذلك في مسائل غيرها فـ ابن القيم رحمه الله ينكر أن يكون النسخ يقع في مسألة واحدة مرتين، وما ذهب إليه في نظري قوي والله أعلم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 71 صفوان بن المعطل وفي صفحة [260] تكلم عن صفوان بن المعطل رضي الله عنه وأرضاه، وأن عائشة لم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المعطل إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم ذكر المصنف عن أبي حاتم أن صفوان كان كثير النوم، فكأنه كان ثقيل النوم؛ ولذلك لم يستيقظ إلا متأخراً، وقد جاء في السنن أن زوجته شكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 72 الفتنة التي أمرنا باعتزالها في صفحتي [170،169] ذكر أن الفتنة التي أمرنا باعتزالها هي القتال الواقع بين الصحابة؛ فقال وهو يتكلم عن معاني الفتنة: والفتنة التي يوقعها بين أهل الإسلام، كالفتنة التي أوقعها بين أصحاب علي ومعاوية، وبين أهل الجمل وصفين، وبين المسلمين، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا، لون آخر؛ وهي الفتنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي} وأحاديث الفتنة التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها باعتزال الطائفتين، هي هذا الفتنة " يعني: هذا الفتنة بين المسلمين، وسواء كانوا الصحابة أو غيرهم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 73 أخطاء المؤمنين بالنسبة إلى أخطاء الكفار في صفحة [170] ذكر أن أخطاء المؤمنين قليلة إلى جنب أخطاء الكفار، فقال: " والمقصود أن الله سبحانه حكم بين أوليائه بالعدل والإنصاف، ولم يبرئ أولياءه من ارتكاب الإثم بالقتال في الشهر الحرام -كلامه الآن في سرية عبد الله بن جحش - بل أخبر أنه كبير، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبر وأعظم، من مجرد القتال في الشهر الحرام، فهم أحق بالذم والعيب والعقوبة! لا سيما وأولياؤه كانوا متأولين في قتالهم ذلك، أو مقصرين نوع تقصير يغفره الله لهم في جنب ما فعلوه من التوحيد والطاعات، والهجرة مع رسوله، وإيثار ما عند الله، فهم كما قيل: وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع فكيف يقاس ببغيض عدو جاء بكل قبيح، ولم يأتِ بشفيع واحد من المحاسن. وفي صفحة [218] ذكر كلاماً طيباً في فوائد الهزيمة يرجع إليه. وفي صفحة [225] ذكر معنى قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146] فليرجع إليه. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 74 أسماء الله كلها حسنى وفي صفحة [236،235] ذكر أن أسماء الله عز وجل كلها حسنى، يقول في كلامه عن الله عز وجل: " أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته، وأفعاله وأسمائه، فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه، وصفاته كذلك؛ وأفعاله كذلك، كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل، وأسماؤه كلها حسنى. فلا تظنن بربك ظن سوء فإن الله أولى بالجميل ولا تظنن بنفسك قط خيراً وكيف بظالم جان جهول وقل يا نفس مأوى كل سوءٍ أيرجى الخير من ميت بخيل وظن بنفسك السوءى تجدها كذاك وخيرها كالمستحيل وما بك من تقىً فيها وخيرٍ فتلك مواهب الرب الجليل وليس بها ولا منها ولكن من الرحمن فاشكر للدليل الجزء: 33 ¦ الصفحة: 75 إذا علل الحكم بعلة عامة لم يكن للعلة الخاصة فائدة في صفحة [114] ذكر قاعدة أصولية، وهي: أن الحكم إذا علل بالأعم كان الأخص عديم الفائدة. عقد فصلاً في هديه صلى الله عليه وسلم، فيمن جس عليه، ثم قال: " ثبت عنه أنه قتل جاسوساً من المشركين، وثبت عنه أنه لم يقتل حاطباً، وقد جس عليه، واستأذنه عمر في قتله، -أي قتل حاطب - رضي الله عنه، فقال: {وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فاستدل به من لا يرى قتل المسلم الجاسوس، كـ الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله! واستدل به من يرى قتله، كـ مالك وابن عقيل من أصحاب أحمد رحمه الله وغيرهما، قالوا: لأنه علل بعلة مانعة من القتل -يعني: علل عدم قتله لـ حاطب، بعلة مانعة من القتل، وهي كونه شهد بدراً- منتفية في غيره، ولو كان الإسلام مانعاً من قتله -أي: قتل الجاسوس- لم يعلل بأخص منه؛ لأن الحكم إذا علل بالأعم، كان الأخص عديم التأثير، وهذا أقوى " يعني: أن الشيخ رحمه الله، يذهب كشيخه شيخ الإسلام إلى جواز قتل الجاسوس تعزيراً، لكن قتله إلى السلطان. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 76 خطأ قول من قال: " إن الإذن بالقتال نزل بمكة " وفي صفحة [70] ذكر تخطئة من قال: إن الإذن بالقتال نزل بمكة، يقول: " وقد قالت طائفة: إن هذا الإذن كان بمكة والسورة مكية، وهذا غلط لوجوه: أحدها: أن الله لم يأذن لهم بمكة في القتال، ولا كان لهم فيها شوكة يتمكنون بها من القتال بمكة. الثاني: أن سياق الآية يدل على أن الإذن بعد الهجرة، وإخراجهم من ديارهم، فإنه قال: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} [الحج:40] . الثالث: قوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر من الفريقين. الرابع: " أنه قد خاطبهم في آخرها بقوله: [يا أيها الذين آمنوا] والخطاب بذلك كله مدني، فأما الخطاب [يا أيها الناس] فمشترك" يعني بين المكي والمدني. الخامس: أنه أمر فيها بالجهاد، الذي يعم الجهاد باليد وغيره، ولا ريب أن الأمر بالجهاد المطلق إنما كان بعد الهجرة السادس: أن الحاكم روى في مستدركه من حديث الأعمش عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر: [[أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن، فأنزل الله عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]] ] وإسناده على شرط الصحيحين. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 77 فوائد المجلد الرابع في الطب النبوي والجزء الرابع قد خصصه الشيخ رحمه الله للطب النبوي. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 78 الحارث بن كلدة طبيب العرب وفي صفحة [302] ذكر الحارث بن كَلَده وهو طبيب العرب كما هو معروف فقال: " يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بمكة فقال: {ادعو له طبيبا، ً فدعي الحارث بن كَلَده، فنظر إليه فقال: ليس عليه بأس، فاتخذوا له فريقةً -وهي الحلبة- مع تمر عجوة رطب يطبخان فيحساهما -يعني: يشربهما- ففعل ذلك فبرئ} . قال في التعليق: الحارث بن كَلَده ثقفي من الطائف عاش في الجاهلية والإسلام، ورحل إلى بلاد فارس، وأخذ الطب من أهلها ترجمه الحافظ في الإصابة. ونقل عن ابن أبي حاتم أنه لا يصح إسلامه، وأخرج أبو داود بسند صحيح عن سعد قال: {مرضت مرضاً أتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني، فوضع يده بين ثديي حتى وجدت بردها على فؤادي، فقال: إنك رجل مفؤود، ائت الحارث بن كَلَده أخا ثقيف، فإنه رجل يتطبب} . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 79 احتباس المني من أسباب الوسواس في صفحة [249] ذكر أن من أسباب الوسواس، احتباس المني في بدن الإنسان، وبناءً عليه: فقد يكون الزواج سبباً لدفع الوسوسة، وهذا أمر مشهود، فبعض الموسوسين إذا تزوجوا زال ما بهم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 80 قتل اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في صفحة [123] ذكر قتل اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ولما احتجم النبي صلى الله عليه وسلم؛ احتجم في الكاهل وهو أقرب المواضع التي يمكن فيها الحجامة إلى القلب، فخرجت المادة السمية مع الدم، لا خروجاً كلياً، بل بقي أثرها مع ضعفه لما يريد الله سبحانه من تكميل مراتب الفضل كلها له، فلما أراد الله إكرامه بالشهادة ظهر تأثير ذلك الأثر الكامن من السم ليقضي الله أمراً كان مفعولا. وظهر سر قوله تعالى لأعدائه من اليهود: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87] فجاء بلفظ [كذبتم] بالماضي، الذي قد وقع منه وتحقق، وجاء بلفظ [تقتلون] بالمستقبل الذي يتوقعونه وينتظرونه " يعني: آخر نبي قتله اليهود وهو خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإن كل مسلم يعتبر أن عند اليهود ثأراً له لابد أن يأخذه به يوماً من الأيام، فإنهم هم الذين سموا الرسول صلى الله عليه وسلم وكان يقول في مرض موته: {مازلت أجد أثر الأكلة التي أكلت بخيبر وهذا وجدت أوان انقطاع أبهري} . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 81 أول من استخدم كلمة [ما لا نفس له سائله] في صفحة [112] ذكر المصنف رحمه الله أن أول من استعمل كلمة ما لا نفس له سائلة -بمعنى ما ليس له دماً يجري- هو إبراهيم النخعي، قال: " وأول من حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلم بهذه اللفظة، فقال: ما لا نفس له سائلة، إبراهيم النخعي، وعنه تلقاها الفقهاء، والنفس في اللغة: يعبر بها عن الدم، ومنه نَفست المرأة -بفتح النون- إذا حاضت " هذا كلام شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله. أقول: وقد وقفت على حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ذكر ما لا نفس له سائلة، حديث مرفوع ولعله في الدارقطني إن لم تخنّي الذاكرة، ولكن هذا الحديث ليس بقوي، فينازع في كون إبراهيم النخعي أول من استخدم هذا الاصطلاح. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 82 فوائد عيادة المريض في صفحة [116] ذكر فوائد العيادة ومنها: تفريح نفس المريض، وتطييب قلبه، وإدخال ما يسره عليه … إلى غير ذلك من الفوائد. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 83 أضرار العسل وفي صفحة [119،118] ذكر أن العسل قد يضر أحياناً يقول: " وأما العادة فلأنها كالطبيعة للإنسان، ولذلك يقال: العادة طبع ثانٍ، وهي قوة عظيمة في البدن؛ حتى إن أمراً واحداً إذا قيس إلى أبدان مختلفة العادات كان مختلف النسبة إليها، مثال ذلك: أبدان ثلاثة حارة المزاج في سن الشباب، أحدها: عُوَّد تناول الأشياء الحارة، والثاني: عود تناول الأشياء الباردة، والثالث: عود تناول الأشياء المتوسطة، فإن الأول -أي الذي عود تناول الأشياء الحارة- متى تناول عسلاً لم يضر به، والثاني: متى تناوله أضر به، والثالث: يضر به قليلاً " فأشار إلى أن العسل قد يضر بعض الأبدان، وإن كان الله عز وجل وصفه بأنه شفاء، فهو شفاء كما وصفه الله؛ لكن لا يلزم أن يكون شفاء لكل مرض على الإطلاق. ولذلك فإن بعض أهل العلم سئل عمن به السكر، فإذا تناول العسل قد يضره ويزيد من مرضه، فهل يتناوله؟ فقال: نعم يتناوله واحتج بقوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] . وفي هذا -فيما يظهر لي والله تعالى أعلم- نظر! لأن كون العسل فيه شفاء للناس، هذا لا شك فيه، فهو شفاء؛ لكن لا يلزم أن يكون شفاء لكل دواء، ولكل شخص، وهذا من المعلوم بالضرورة، فإن الرسول ذكر أنواع أخرى من العلاجات غير العسل، ولو كان العسل علاجاً لكل شيء، لما احتاج إلى أن يذكر معه غيره. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 84 الأحاديث الواردة في الكي في صفحة [66،65] أيضاً ذكر المصنف -قبل هذا الموضع- الأحاديث الواردة في الكي، وذكر أنها أربعة أنواع: أحدها: فعله -يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الكي- والثاني: عدم محبته له، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه؛ ولا تعارض بينها بحمد الله تعالى. فإن فعله يدل على جوازه. وعدم محبته له لا يدل على المنع منه. وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل. وأما النهي عنه: فعلى سبيل الاختيار والكراهة، أو عن النوع الذي لا يحتاج إليه، بل يفعله خوفاً من حدوث الداء والله أعلم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 85 ما حرم لسد الذريعة يجوز للمصلحة والحاجة وفي الصفحة [78] ذكر قاعدة سبقت مراراً وهي: أن ما حرم لسد الذريعة، يجوز للحاجة وللمصلحة، قال: " وتحريم الحرير إنما كان سداً للذريعة، ولهذا أبيح للنساء وللحاجة والمصلحة الراجحة، وهذه قاعدة ما حرم لسد الذرائع، فإنه يباح عنه الحاجة والمصلحة الراجحة، كما حرم النظر سداً لذريعة الفعل -يعني الزنا- وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة والمصلحة الراجحة، وكما حرم التنفل بالصلاة في أوقات النهي، سداً لذريعة المشابهة الصورية بعباد الشمس، وأبيحت للمصلحة الراجحة. وكما حرم ربا الفضل سداً لذريعة ربا النسيئة، وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة من العرايا، وقد أشبعنا الكلام فيما يحل ويحرم من لباس الحرير، في كتاب التحبير لما يحل ويحرم من لباس الحرير ". وهذا الكتاب لا أعرفه، ولا أدري أنه مطبوع أو لا. وفي صفحة [85 - 87] ذكر أسباب الصداع، وأنها عشرون سبباً، يمكن الرجوع إليها. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 86 خاصية السبع وفي صفحة [98] ذكر خاصية السبع، التي ترد ذكر السبع في عدد من المواضع، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {من أكل سبع تمرات مما بين لابتيها -أي المدينة- حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي} . فذكر خاصية السبع، فقال: إنها قد وقعت قدراً وشرعاً، فخلق الله عز وجل السماوات سبعاً، والأرضين سبعاً، والأيام سبعاً، والإنسان كمل خلقه في سبعة أطوار، وشرع الله لعباده الطواف سبعاً، والسعي بين الصفا والمروة سبعاً، ورمي الجمار سبعاً، وتكبيرات العيدين سبعاً في الأولى وقال صلى الله عليه وسلم: {مروهم بالصلاة لسبع} وإذا صار الغلام سبع سنين خير بين أبويه إلى أن قال: وسخر الله الرياح على قوم عاد سبع ليال، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعينه الله على قومه بسبع، كسبع يوسف. ومثل الله سبحانه ما يضاعف به صدقة المتصدق، بحبة أنبتت سبع سنابل إلى أن قال: والسنين التي زرعوها دأبا سبعاً، وتضاعف الصدقة إلى سبعمائة ضعف، ويدخل الجنة من هذه الأمة بغير حساب سبعون ألفاً، فلا ريب أن لهذا العدد خاصية ليست لغيره، والسبعة جمعت معاني العدد كله وخواصه، فإن العدد شفع ووتر إلى آخر ما قال مما يمكن أن يراجع في موضعه. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 87 أهمية الاعتقاد في الدواء في صفحة [101،100] ذكر أهمية الاعتقاد في الدواء، فقال: ويجوز نفع التمر المذكور في بعض السموم، فيكون الحديث من العام المخصوص، ويجوز نفعه لخاصية تلك البلد، وتلك التربة الخاصة من كل سم، ولكن هاهنا أمر لابد من بيانه، وهو: أن من شرط انتفاع العليل بالدواء قبوله، واعتقاد النفع به، فتقبله الطبيعة، فتستعين به على دفع العلة، حتى إن كثيراً من المعالجات ينفع بالاعتقاد، وحسن القبول، وكمال التلقي، وقد شاهد الناس من ذلك عجائب، وهذا لأن الطبيعة يشتد قبولها له وتفرح النفس به، فتنتعش القوة، ويقوى سلطان الطبيعة، وينبعث الحار الغريزي إلى آخره. وهذا ما يسمونه بالعلاج النفسي في هذا العصر، فالإنسان إذا كان عنده قناعة بالعلاج وبالطب نفعه بإذن الله، وإذا لم يكن لديه قناعة فلا ينفع. ولذلك تجد بعض الناس إذا ذهبوا إلى رجل يثقون فيه، ويطمئنون به، فقرأ عليهم فإنه بإذن الله ينتفعون بقراءته، ليس كله فقط لصلاح هذا الرجل أو لا، ولكن لذلك، ولكون هؤلاء اعتقدوا به فنفعهم هذا الاعتقاد. ولذلك يحكى أن رجلاً كان في الشام في دمشق جالساً مع بعض تلاميذه، فجاءته امرأة كانت تعتقد به وتعظمه فقالت له: إن بيني وبين زوجي مشاكل وخصومات وأشياء كثيرة، فأريد أن تكتب لي ورقة لعل الله أن ينفعني بها، فكتب لها ورقة جعل فيها آية من القرآن الكريم {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّه} [آل عمران:154] أو نحو ذلك، ثم طواها وأعطاها إياها، على سبيل تطييب خاطرها، فبعد فترة جاءته وهي تدعو له، وقالت: جزاك الله خيراً قد انتفعت بهذه الورقة، وزال ما بيني وبين زوجي من المشكلات … إلى آخره، فكشف الورقة لتلاميذه وأخبرهم ما فيها. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 88 الفطر بالحجامة وفي صفحة [61/62] ذكر مسألة الفطر بالحجامة، ورجح بقوله: الصواب أن الفطر بالحجامة لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارض، وأصح ما يعارض به حديث حجامته وهو صائم، ولكن لا يدل على عدم الفطر إلا بعد أربعة أمور: أحدها: أن الصوم كان فرضاً. الثاني: أنه كان مقيماً. الثالث: أنه لم يكن به مرض احتاج معه إلى الحجامة. الرابع: أن هذا الحديث متأخر عن قوله: {أفطر الحاجم والمحجوم} فإذا ثبتت هذه المقدمات الأربع، أمكن الاستدلال بفعله صلى الله عليه وسلم على بقاء الصوم مع الحجامة، وإلا فما المانع أن يكون الصوم نفلاً يجوز الخروج منه بالحجامة وغيرها، أو من رمضان، لكنه في السفر، أو من رمضان في الحضر، لكن دعت الحاجة إليه، كما تدعو الحاجة من به مرض إلى الفطر، أو يكون فرضاً من رمضان من غير حاجة، لكنه مُبقَّي على الأصل، وقوله: {أفطر الحاجم والمحجوم} ناقل ومتأخر، فيتعين المصير إليه، ولا سبيل إلى إثبات واحدة من هذا المقدمات الأربع، فكيف بإثباتها كلها. " الجزء: 33 ¦ الصفحة: 89 الصرع وأنواعه في صفحة [66] ذكر مسألة الصرع، وأنه نوعان: صرع من الأرواح الخبيثة، وصرع من الأخلاط الرديئة، وقال فيما يتعلق بصرع الأرواح: فأئمتهم -أي الأطباء- وعقلاؤهم يعترفون به، ولا يدفعونه؛ ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة فتدافع آثارها. ثم قال: " وأما جهلة الأطباء وسِقْطهم وسفلتهم، ومن يعتقد بالزندقة فضيلة، فأولئك ينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحس والوجود شاهد به، وإحالتهم ذلك على غلبة الأخلاط هو صادق في بعض الأقسام لا في كلها " انتهى كلامه. وفي هذا رد على ما قاله عدد من المفكرين والكتاب والصحفيين في هذا الوقت من إنكار صرع الجن والشياطين للإنسان! ولعلكم سمعتم ما ذكره الشيخ الطنطاوي في فتاويه وكلامه من إنكار ذلك؛ وما تكلمت عنه جريدة المسلمون في مجموعة من أعدادها، حين قابلت بعض الأطباء، وصرحوا بإنكار إمكانية صرع الجن للإنس. ولذلك أحب أن أنبه إلى أن الناس في هذه المسألة كما يقال طرفان ووسط! فمن الناس من ينكر هذه القضية بالكلية، ومن ينكر فليس معه إلا الجهل كما ذكر الشيخ؛ لأنه لا يستطيع أن ينكر ذلك. وكون العلم لا يستطيع أن يثبته، فالعلم لا يزال يحتاج إلى وقت حتى يصل إلى منتهاه بل لن يصل إلى منتهاه أبدا، وكما يقال: عدم العلم بالشيء لا يعني العلم بعدمه، فهذا طرف. الطرف الآخر: وهم جمهور العوام الذين يبالغون في إثبات هذه الحقيقة، فتجد أن الواحد منهم كلما نزل به مرض قال هذا جن هذا سحر هذا عين، فيبالغون في ذلك وهذا لا ينبغي، فمن المعروف أن أسباب الأمراض كثيرة، والمبالغة في الحكايات والقصص والتهاويل التي يتناقلها الناس لا ينبغي الإفاضة بها، لكن نحن ينبغي أن نؤمن بأن دخول الجن في الإنس ممكنة شرعاً وثابتة واقعاً، وهي من الأمور الحقيقية التي لا يمكن أن يجادل فيها إلا من يجادل في البديهيات؛ لأنها من الأمور التي ترى بالعين وتسمع بالأذن وتحس بالواقع. وكم من إنسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، ولا يقرأ القرآن؛ فيدخل فيه جني؛ فيقرأ القرآن عن ظهر قلب، وقد يقرأ القرآن كله! هذا يحصل! ومن الناس من يدخل فيه جني فيتكلم بلغات مختلفة وهو لا يعرف شيئاً منها. وفي ذلك قصص معروفة في المجتمع، وفي أشخاص بأعيانهم، فلا داعي للإفاضة بها، فلابد من التوسط والاعتدال في ذلك. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 90 أثر الإيمان في العلاج والدواء في صفحة [11] ذكر كلاماً طيباً عن أثر الإيمان في العلاج، والاستفادة من الدواء، فقال -بعد أن تكلم عن الأطباء وطبهم- قال " وأين يقع هذا وأمثاله من الوحي، الذي يوحيه الله إلى رسوله بما ينفعه ويضره؟! فنسبة ما عندهم من الطب إلى هذا الوحي كنسبة ما عندهم من العلوم إلى ما جاءت به الأنبياء، بل هاهنا من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم من الأدوية القلبية والروحانية، وقوة القلب واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والدعاء والتوبة والاستغفار والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لا يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه. وقد جربنا نحن وغيرنا من هذا أموراً كثيرةً، ورأيناها تفعل ما لا تفعله الأدوية الحسية " إلى آخر ما قال، وهو كلام مفيد جداً. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 91 مراتب الغذاء في صفحة [18] ذكر مراتب الغذاء، وهو كلام بدأ الاقتصاديون في هذا العصر يتكلمون فيه، ويخيل إليهم أنهم قد اكتشفوا كشفاً لم يصل إليه من قبلهم، فيما يعطى المواطن، وما يجب للدولة أن تحققه للمواطن، من نسبة العطاء والغذاء، والغريب أن كلامه منطبق مع كلامهم -يقول في صفحة [18] : ومراتب الغذاء ثلاثة، أحدها مرتبة الحاجة، والثانية: مرتبة الكفاية، والثالثة مرتبة الفضلة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه، فلا تسقط قوته ولا يضعف معها، فإن تجاوزها؛ فليأكل في ثلث بطنه، ويدع الثلث الآخر للماء والثالث للنفس، وهذا من أنفع ما للبدن والقلب إلى آخر ما قال. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 92 التفاوت في خطابه صلى الله عليه وسلم وفي صفحة [25] ذكر أن خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، يتفاوت، وهو يتكلم عما ثبت في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الحمى، أو شدة الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء} قال: وقد أشكل هذا الحديث على كثير من جهلة الأطباء، ورأوه منافياً لدواء الحمى وعلاجها، ونحن نبين -بحول الله وقوته- وجهه وفقهه، فنقول: خطاب النبي صلى الله عليه وسلم نوعان: عام لأهل الأرض، وخاص ببعضهم. فالأول: -أي العام- كعامة خطابه، والثاني: كقوله: {لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول، ولا تستدبروها؛ ولكن شرقوا أو غربوا} فهذا ليس بخطابٍ لأهل المشرق والمغرب، ولا العراق، ولكن لأهل المدينة وما على سمتها -كالشام وغيرها- وكذلك قوله: {ما بين المشرق والمغرب قبلة} . وإذا عرف هذا، فخطابه في هذا الحديث، خاص بأهل الحجاز وما والاهم، إذا كان أكثر الحميات التي تعرض لهم من نوع الحمى اليومية العرضية الحادثة عن شدة حرارة الشمس، وهذه ينفعها الماء البارد شرباً واغتسالاً. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 93 أنواع المرض وفي صفحة [5] أن المرض نوعان: مرض القلوب، ومرض الأبدان، وهما مذكوران في القرآن قال: ومرض القلوب نوعان: مرض شبهة وشك، ومرض شهوة وغي، وكلاهما في القرآن، قال تعالى في مرض الشبهة: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] وقال: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} [النور:48] إلى قوله: {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [النور:50] فهذا مرض الشبهات والشكوك. وأما مرض الشهوات، فقال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فهذا مرض شهوة الزنا. " الجزء: 33 ¦ الصفحة: 94 قواعد الطب وفي صفحة [6] ذكر رحمه الله أن قواعد الطب ثلاثة، قال: " وذلك أن قواعد طب الأبدان ثلاثة: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة -أي: إخراجها- فذكر الله سبحانه هذه الأصول الثلاثة، في هذه المواضع الثلاثة. فقال في آية الصوم: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فأباح الفطر للمريض لعذر المرض، وللمسافر طلباً لحفظ صحته وقوته، لئلا يذهبها الصوم في السفر إلى أن قال: وقال في آية الحج: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فأباح للمريض، ومن به أذى من رأسه، من قمل أو حكة أو غيرهما، أن يحلق رأسه في الإحرام، استفراغاً لمادة الأبخرة الرديئة، التي أوجبت له الأذى في رأسه باحتقانها تحت الشعر، إلى أن قال: وأما الحمية فقال تعالى في آية الوضوء: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء:43] فأباح للمريض العدول عن الماء إلى التراب حميةً له أن يصيب جسده ما يؤذيه، وهذا تنبيه على الحمية عن كل مؤذٍ له من داخل أو خارج. خلاصة كلامه رحمه الله أنه قال: إن قواعد الطب الثلاث- التي هي: حفظ الصحة، والحمية، واستفراغ المواد الفاسدة، كلها مذكورة في القرآن الكريم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 95 فوائد المجلد الخامس وأما الجزء الخامس من زاد المعاد فإن فيه مواضع يسيرة، نذكرها في هذا المجلس. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 96 تحريم بيع الماء وفي صفحة [800] تكلم عن بيع الماء وأنه حرام، فقال: وما فضل منه عن حاجته وحاجة بهائمه وزرعه واحتاج إليه آدمي مثله أو بهائمه، بذله بغير عوض، ولكل واحد أن يتقدم إلى الماء ويشرب ويسقي ماشيته، وليس لصاحب الماء منعه من ذلك … إلى آخر ما قال. الطريف في هذه المسألة: أن العلماء لما تكلموا في موضوع التيمم -وقد ذكرته قبل قليل- قالوا: إن وجد الماء بقيمة المثل اشتراه، قال الإمام ابن حزم في كتاب المحلى لا يجوز له أن يشتري الماء، ولو وجده بقيمة المثل أو أقل من ذلك، بل لو اشترى ماءً بقيمة المثل أو أقل ثم توضأ به، فإنه لا يجزؤه ذلك، إلا أن يتيمم، قال: لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حرم بيع الماء، فبيعه حرام وشراؤه حرام، وهذا عقد باطل ولا يجوز له أن يستعمل هذا الماء. لكن بقي أن يقال -رداً على ابن حزم إن هذا الإنسان وإن كان بيعه حراماً، فلنفترض أنه أخذ الماء وتوضأ به، من غير بيع؛ لأنه يجب على صاحبه أن يبذله له إن لم يكن في حاجته، فيكون وضوؤه حينئذٍ صحيحاً، والله تعالى أعلم. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 97 حيض الحامل في صفحة [731]-هذه قفزة بعيدة مراعاة للوقت- ذكر أن الحامل لا تحيض، وذلك بعد أن ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة} قال استنبط أن الحامل لا تحيض، وأن ما تراه من الدم، يكون دم فساد بمنزلة الإستحاضة، تصوم وتصلي، وتطوف بالبيت وتقرأ القرآن، وهذه مسألة اختلف فيها الفقهاء. فذهب عطاء والحسن وعكرمة ومكحول وجابر بن زيد ومحمد بن المنكدر والشعبي والنخعي والحكم وحماد والزهري وأبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي وأبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر والإمام أحمد في المشهور من مذهبه، والشافعي في أحد قوليه، إلى أنه ليس دم حيض ". ثم ذكر من قالوا بالقول الآخر: وأنه دم حيض، والقول الأول: هو مذهب سماحة شيخنا عبد العزيز بن باز، فإنه يفتي بأنه ليس بحيض فيما أذكر من فتاواه. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 98 حرمة بيع كل وسيلة للشرك والزندقة في صفحة [761] ذكر مسألة تحريم بيع أشياء معينة، وردت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: فصل، وأما تحريم بيع الأصنام، فيستفاد منه تحريم بيع كل آلة متخذة للشرك، على أي وجه كانت، ومن أي نوع كانت صنماً أو وثناً أو صليباً، وكذلك الكتب المشتملة على الشرك وعبادة غير الله، فهذه كلها يجب إزالتها وإعدامها، وبيعها ذريعة إلى اقتنائها واتخاذها، فهو أولى بتحريم البيع من كل ما عداها، فإن مفسدة بيعها بحسب مفسدتها في نفسها … إلى آخر ما قال. وهذه عبرة لبعض الناس الذين يبيعون ما حرم الله، فمن الناس من يبيعون الصور والتماثيل التي قد تعبد من دون الله، ومنهم من يبيعون كتب الكفر والزندقة والإلحاد. دخلت مكتبة فوجدت فيها كتاباً يباع في سائر المكتبات، وهو ديوان شعر لشاعر تونسي اسمه أبو القاسم الشابي، هذا الكتاب يقول فيه الشاعر: حدثوني هل للورى من إله راحم مثل زعمهم أواه يخلق الخلق باسماً ويواريهم ويرنو لهم بعطف الإله إنني لم أجده في هذه الدنيا فهل خلف أفقه من إله وهذا الكتاب يباع في كثير من المكتبات، وأناس لا يخافون الله عز وجل، يكسبون أموالاً من وراء بيع هذه أعني كتب الزندقة والإلحاد، ودعك من كتب الجنس، التي فيها كثير من القصص والروايات، وكثير من المجلات المملوءة بصور النساء، والدعوة إلى خروج المرأة وسفورها واختلاطها وسفرها، وتحويلها إلى مغنية أو راقصة أو ممثلة، فلا تكاد تدخل بقالة إلا تجد فيها هذه الأشياء، إضافة إلى بيع الدخان، وبيع الخمر سراً، وبيع أشياء كثيرة، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله عز وجل ولا يأكلوا ما حرم الله تعالى. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 99 الزواج على المرأة في صفحة [118،117] ذكر رحمه الله مسألة الزواج على المرأة، وأن بني هشام بن المغيرة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجوا علياً، ابنة أبي جهل، فلم يأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وقال: {إلا أن يريد ابن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما فاطمة بضعة مني يريبني ما أرابها … إلى آخر ما قال. فقال الإمام المصنف رحمه الله في التعليق على هذا الحديث: فتضمن هذا الحكم أموراً: أحدها: أن الرجل إذا شرط لزوجته ألا يتزوج عليها، لزمه الوفاء بالشرط، ومتى تزوج عليها فلها الفسخ " ثم قال: فيؤخذ من هذا أن المشروط عرفاً، كالمشروط لفظاً، وأن عدمه يُمَلَّك الفسخ لمشترطه. فلو فرض من عادة قوم أنهم لا يخرجون نساءهم من ديارهم، ولا يمكنون أزواجهم من ذلك البتة، واستمرت عادتهم بذلك، كان كالمشروط لفظاً ". يعني وإن لم ينطق به أهل المرأة، لكن كان هذا معروفاً عنهم مستفيضا في المجتمع، ثم قال: وهو مطرد على قواعد أهل المدينة، وقواعد أحمد رحمه الله أن الشرط العرفي كاللفظي سواء. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 100 الكفاءة في النكاح في صفحة [158] ذكر الكفاءة في النكاح، وبماذا تكون الكفاءة؟ والمقصود بالكفاءة: تكافؤ الزوجين، والفقهاء لهم في ذلك تفصيلات كثيرة في المقصود من الكفاءة. فالمصنف رحمه الله قال: " فصل في حكمه صلى الله عليه وسلم في الكفاءة في النكاح " وذكر آيات وأحاديث ثم قال: " فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم، اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر، ولا عفيفة بفاجر " ومع الأسف -إخواني الكرام- فإن كثيراً من الآباء يزوجون بناتهم المؤمنات الدينات الصينات من كفار لا يصلون، بل بعضهم ملاحدة وقد يكونوا شيوعيين أو ملحدين أو زنادقة. فقد تجد بنتاً متدينةً، تصوم النهار وتقوم الليل، في بيت رجل سكير عربيد فاجر لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فتلقى منه الويل، لأن المرأة موقعها ضعيف، وقد لا يصلي هذا الرجل، فتجده-في البيت دائماً أوقات الصلوات، وهي مكرهة- يأخذها زوجها بالقوة من بيت أهلها، ثم يأتي بها إلى بيته ويضاجعها ويجامعها بالقوة، وهي لا تملك لنفسها، إلا الدموع والبكاء، وسؤال الله عز وجل. أفلا يخافون الله عز وجل القائل: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] فيجعل الواحد ابنته عند رجل كافر، يطؤها حراماً نسأل الله السلامة من ذلك. يقول المصنف: فالذي يقتضيه حكمه صلى الله عليه وسلم اعتبار الدين في الكفاءة أصلاً وكمالاً، فلا تزوج مسلمة بكافر ولا عفيفة بفاجر، ولم يعتبر القرآن والسنة في الكفاءة أمراً وراء ذلك، فإنه حرم على المسلمة نكاح الزاني الخبيث، ولم يعتبر نسباً ولا صناعة، ولا غنىً ولا حريةً، فجوز للعبد القنِّ نكاح الحرة النسيبة الغنية إذا كان عفيفاً مسلماً، وجوز لغير القرشيين نكاح القرشيات، ولغير الهاشميين نكاح الهاشميات، وللفقراء نكاح الموسرات. وقد تنازع الفقهاء في أوصاف الكفاءة … إلى آخر ما قال. والمهم أن رأي المؤلف رحمه الله أن الكفاءة هي الدين فقط، وبناءً عليه: يُعلم أن ما شاع عند الناس من أن الناس لا يتزوج بعضهم من بعض إذا اختلفت أنسابهم -كما يعبرون بالخطوط- فهذا خط وهذا خط، وهذا قبيلي، وهذا خضيري، وهذا كذا وهذا كذا، وبنوا عليها: أن هذا لا يتزوج من هذا، فهذا من انتكاس القيم والمفاهيم. ومن العجيب أن الناس في هذا الزمان -كما ذكرت لكم قبل قليل- قد يزوج الرجل النسيب من عائلة معروفة ابنته من كافر لا يشهد الصلاة ولا يصلي جمعة ولا جماعة، ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر!! لماذا؟! لأنه من قبيلة كذا أو من عائلة كذا، ويأتيه إنسان قد يكون في الغاية من الدين والورع والتقوى والصلاح، ليس من نسبه فيرده! فهكذا يكون انتكاس المفاهيم واختلال القيم، لكن في هذه المسألة ينبغي أن تراعى قضية وهي: أنه إذا كان مثل هذا الأمر يدعو إلى مشاكل عائلية، وافتراق وقطيعة رحم، ونوع من هذه الأمور، وقد يؤدي فيما بعد إلى الطلاق، بسبب ضغوط الأهل، فيحرص الإنسان على تجنبها، لا لأنه غير جائز شرعاً، لكن مراعاة للمصلحة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 101 النهي عن المغالاة في المهور في صفحة [178] ذكر رحمه الله كلاماً في موضوع المغالاة في المهور، وهو من المسائل التي كثرت وأصبح الناس يتبارون فيها، في مقدار ما يدفعون وفي استئجار القصور والأفراح لليالي العرس، واستئجار الفنادق ومقدار ما يدفعون فيها فيتنافسون في ذلك، ويرهقون كاهل الزوج المسكين بهذه التكاليف. فبعد أن ذكر أحاديث قال: " فتضمن هذا الحديث أن الصداق لا يتقدر أقله، وأن قبضة السويق وخاتم الحديد، والنعلين؛ يصح تسميتها مهراً، وتحل بها الزوجة " من يزوج بنته على قبضه سويق أو على خاتم حديد أو على نعلين؟! قال: " وتضمن أن المغالاة في المهر مكروهة في النكاح، وأنها من قلة بركته وعسره. وتضمن أن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج، وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها؛ جاز ذلك، وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها، كما إذا جعل السيد عتقها صداقها، وكان انتفاعها بحريتها وملكها لرقبتها هو صداقها ". الجزء: 33 ¦ الصفحة: 102 أخذ الجزية من الناس وفي صفحة [92،91] ذكر رحمه الله مسألة أخذ الجزية من الناس، وهل تؤخذ من غير أهل الكتاب وهذه مسألة فيها خلاف. فبعضهم قالوا: تؤخذ من اليهود والنصارى فقط، وبعضهم قال تؤخذ من اليهود والنصارى والمجوس، لما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر، وبعضهم قال: تؤخذ من سائر المشركين والكفار. قال الشيخ رحمه الله في صفحة [91] ولم يأخذها صلى الله عليه وسلم من مشركي العرب، فقال أحمد والشافعي: لا تؤخذ إلا من الطوائف الثلاث التي أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وهم اليهود والنصارى والمجوس، ومن عداهم فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، وقالت طائفة: في الأمم كلها إذا بذلوا الجزية قبلت منهم، أهل الكتابين بالقرآن، والمجوس بالسنة، ومن عداهم ملحق بهم، لأن المجوس أهل شرك لا كتاب لهم، فأخذها منهم دليل على أخذها من جميع المشركين، وإنما لم يأخذها صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان من العرب، لأنهم أسلموا كلهم قبل نزول آية الجزية، فإنها نزلت بعد تبوك، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ من قتال العرب، واستوثقت كلها له بالإسلام، ولهذا لم يأخذها من اليهود الذين حاربوه " إلى آخر ما قال. وقال: وفرقت طائفة ثالثة، بين العرب وغيرهم، فقالوا: تؤخذ من كل كافر إلا مشركي العرب. ورابعة فرقت بين قريش وغيرهم وهذا لا معنى له، فإن قريشاً لم يبق فيهم كافر يحتاج إلى قتاله، وأخذ الجزية منه البتة، إلى آخر ما قال. والظاهر -والله تعالى أعلم- أن القول بأخذها من سائر المشركين، قول قوي، ويشهد له ما رواه مسلم من حديث سليمان بن بريده عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال> >} وذكر فيها الجزية، فدل على أن الجزية تؤخذ من كل مشرك؛ يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو وثنياً، ولعل مما يؤيد ذلك قوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] . الجزء: 33 ¦ الصفحة: 103 تحريم إجبار البكر على النكاح وفي صفحة [99،97،96] ذكر رحمه الله مسألة عدم إجبار البكر على النكاح، حتى تستأذن فقال وموجب هذا الحكم -أي: تحريم إجبار البكر- أنه لا تجبر البكر البالغ على النكاح، ولا تزوج إلا برضاها، وهذا قول جمهور السلف ومذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه، وهو القول الذي ندين الله به، ولا نعتقد سواه، وهو الموافق لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ونهيه وقواعد شريعته ومصالح أمته. أما موافقته لحكمه فإنه حكم بتخيير البكر الكارهة. إلى أن قال: وأما موافقته لأمره فإنه قال: {والبكر تستأذن} وهذا أمر مؤكد. إلى أن قال: وأما موافقته لنهيه، فلقوله: {لا تنكح البكر حتى تستأذن} . إلى أن قال: وأما موافقته لقواعد شرعه، فإن البكر البالغة العاقلة الرشيدة لا يتصرف أبوها في أقل شيء من مالها إلا برضاها، ولا يجبرها على إخراج اليسير منه بدون رضاها، فكيف يجوز أن يُرِقَّها، ويخرج بُضعها منها بغير رضاها، إلى من يريده هو. وأما موافقته لمصالح الأمة، فلا يخفى مصلحة البنت في تزويجها بمن تختاره وترضاه، وحصول مقاصد النكاح لها به، وحصول ضد ذلك بمن تبغضه وتنفر عنه، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول، لكان القياس الصحيح وقواعد الشريعة لا تقتضي غيره، وبالله التوفيق". وهذه مسألة مهمة -أيها الإخوة- فكثير من الآباء اليوم يتساهلون في تزويج البنت البكر، ممن يريدون هم، إما لكونه ثرياً أو لكونه قريباً أو لغير ذلك من الأغراض، وهذا حرام لا يجوز إذا كانت لا ترضى به، ومن حقها أن تطالب بالفسخ. ونجد في واقع المجتمعات في عصرنا هذا من الآثار السلبية الضارة -من انتشار الزنا والخيانة الزوجية- الكثير بسبب هذه القضية؛ لأن الأب إذا زوج البنت من رجل لا تريده، فالغالب أنه لا يحصل وفاق؛ لأن المرأة إذا دخل عليها الزوج وهي في نفسها لا تقبله، فالغالب أنها تبقى على ما كانت عليه، والمرأة فيها من الشهوة مثل ما في الرجل، فلذلك إذا أصر الأب وأصر الزوج على التمسك بهذه المرأة، ولم يكن عنده وازع من الإيمان والخوف من الله عز وجل يزعه، فقد تفكر في الخيانة، وخاصة حين يكون كبير السن. وكثير من القضايا التي توجد في الدوائر الرسمية، يكون السبب فيها مثل هذا الأمر، وخاصة أن الزوج يكون مسناً، فلا يعطي المرأة ما تريد، وهي شابة في سن الشباب والفتوة والقوة والحيوية، فلا تجد عنده ما تريد من العواطف، ومن إشباع غريزتها إلى غير ذلك، فيقع ما لا تحمد عقباه، ويحصل أيضاً حالات طلاقٍ كثيرة بسبب هذا الأمر؛ فليس من حق الأب أن يزوج بنته ممن لا تريد، كما أنه ليس من حقه أن يأخذ المهر، فالمهر في الواقع للبنت، وليس للأب، وكون بعض الآباء لا يخافون الله عز وجل، فيزوج ابنته بمبالغ طائلة، ثم يأخذ هذا المال؛ فهذا المال حرام وسحت، يأكله سحتاً، ولا يجوز له أن يأخذ قرشاً واحداً إلا برضاها. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 104 حد شارب الخمر وفي صفحة [46] ذكر مسألة كثر فيها كلام أهل العلم، وهو يتكلم في مسألة حد الخمر؛ فإن العلماء اختلفوا في حد الخمر في أمور: اختلفوا أولا: هل الأربعون التي جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حد أم تعزير؟ ثم اختلفوا فيمن تكرر منه شرب الخمر مرة أو مرتين والثالثة والرابعة، فما حكمه؟ هل يقتل أم يكتفى بجلده؟ وقبل أن أذكر قوله أقول: إن الترمذي رحمه الله ذكر حديث معاوية بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه، فإن شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} . وقال الترمذي في آخر كتابه السنن في كتاب العلل في آخر السنن، قال: لم أذكر اتفق العلماء على ترك العمل به، إلا حديثين وذكر ثلاثة أحاديث، وقال بعضهم: تصل إلى أربعة، منها حديث ابن عباس في أن النبي صلى الله عليه وسلم {جمع في المدينة من غير خوف ولا سفر ولا مطر} ومنها: هذا الحديث أنه قال: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} ذكره ابن القيم رحمه الله وقال: وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتله في الرابعة أو الخامسة واختلف الناس في ذلك، فقيل: هو منسوخ، وناسخه {لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث} وقيل: هو محكم، ولا تعارض بين الخاص والعام، ولا سيما إذا لم يعلم تأخر العام، وقيل ناسخة حديث عبد الله بن حمار، فإنه أُتِىَ به مراراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلده ولم يقتله، وقيل: قتله تعزير بحسب المصلحة، فإذا كثر منه ولم ينهه الحد، واستهان به، فللإمام قتله تعزيراً لا حداً، وقد صح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: [[ائتوني به في الرابعة: فعلي أن أقتله لكم]] وهو أحد رواة الأمر بالقتل عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهم معاوية وأبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وقبيصة بن ذؤيب رضي الله عنهم ". ثم قال في آخر الكلام رحمه الله في صفحة [48] : " ومن تأمل الأحاديث؛ رآها تدل على أن الأربعين حد، والأربعون الزائدة عليها تعزير اتفق عليه الصحابة رضي الله عنهم؛ والقتل إما منسوخ، وإما أنه إلى رأي الإمام بحسب تهالك الناس فيها واستهانتهم بحدها، فإذا رأى قتل واحد لينزجر الباقون؛ فله ذلك، وقد حلق فيها عمر رضي الله عنه وغرَّب، وهذا من الأحكام المتعلقة بالأئمة وبالله التوفيق ". وقد ذكر الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله -العالم المحقق المصري- في تعليقه على مسند الإمام أحمد، كلاماً طويلاً في تعزيز القول بقتل شارب الخمر فليرجع إليه في شرحه وتحقيقه للمسند. وهذا يدل على فقه الصحابة رضي الله عنهم، فإن من فقههم أنهم يقولون: إذا كثر وقوع الناس في جريمة ضاعفوا العقوبة عليها، بخلاف ما عليه الناس في هذا الزمان؛ فإن الناس إذا كثر وقوعهم في جريمة تساهلوا فيها، وفرطوا وقالوا: صعب أن نجلد الناس كلهم، أو نضربهم أو نسجنهم أو نقتلهم، فرأوا أن كثرة الوقوع في الشيء مدعاة إلى التخفيف، خلافاً لهدي الصحابة رضي الله عنهم؛ فكان رأيهم أن كثرة الوقوع في الأمر مدعاة إلى المبالغة في العقوبة، حتى ينزجر الناس، وكما قيل: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 105 عقوبة اللواط منها: ما ذكره رحمه الله في صفحة [40] فيما يتعلق بعقوبة اللواط، قال: لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قضى في اللواط بشيء -ويقصد بالقضاء هاهنا يعني حكم حد- لأن هذا لم تكن تعرفه العرب، ولم يرفع إليه صلى الله عليه وسلم، ولكن ثبت عنه أنه قال: {اقتلوا الفاعل والمفعول به} رواه أهل السنن الأربعة وإسناده صحيح وقال الترمذي: حديث حسن. وحكم به أبو بكر الصديق، وكتب به إلى خالد بعد مشاورة الصحابة، وكان علي أشدهم في ذلك. وقال ابن القصار وشيخنا -يعني ابن تيمية رحمه الله- أجمعت الصحابة على قتله، وإنما اختلفوا في كيفية قتله، فقال أبو بكر الصديق: [[يرمى من شاهق]] وقال علي رضي الله عنه: [[يهدم عليه حائط]] وقال ابن عباس: [[يقتلان بالحجارة]] . فهذا اتفاق منهم على قتله، وإن اختلفوا في كيفيته ". ثم قال: وهذا الحكم وفق حكم الشارع، فإن المحرمات كلما تغلظت، تغلظت عقوباتها، ووطء من لا يباح بحال أعظم جرماً من وطء من يباح في بعض الأحوال. يقصد رحمه الله أن الزنا، على أنه كما وصفه الله تعالى فاحشة وجريمة عظمى، إلا أنه أخف من اللواط؛ لأن هذه المرأة تباح إذا كان بعقد شرعي، بخلاف اللواط فإنه لا يباح بأي حال من الأحوال ولذلك كانت عقوبته أعظم، فقد اتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتل اللوطي وإن اختلفوا في كيفية قتله. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 106 فوائد من كتاب العزلة للإمام الخطابي الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. كنت قد وعدت أنه اعتباراً من هذه الحلقة -إن شاء الله- سوف أبدأ بتقديم بعض الكتب على سبيل انتقاء وانتخاب بعض الفوائد والفرائد، والشوارد التي قد لا يقف عليها الإنسان بسهولة، وذلك أولاً -حتى يستفيد الإنسان من هذه الأشياء، وحتى ينشط إلى قراءة هذه الكتب والاطلاع عليها, وهي فوائد متفرقة ومتناثرة لا يجمعها موضوع ولا عنوان ومن الطبيعي أن تكون إحداها مشرقة والأخرى مغربة، واحدة في الفقه والأخرى في الأصول، والثالثة في التاريخ والرابعة في الأدب، ولكن يربطها رابط عام وهو الفائدة -إن شاء الله-. والكتاب الذي اخترته هو كتاب العزلة للإمام الحافظ المحدث الأديب اللغوي أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي المولود سنة 317هـ والمتوفى سنة 388هـ، والخطابي له مصنفات كثيرة جداًَ، منها معالم السنن تعليقه على سنن أبي داود، ومنها غريب الحديث، ومنها كتاب الدعاء وغيرها, وهذا الكتاب هو أحد كتبه التي جمع فيها من النقول والنصوص والأشعار، وجمع فيها من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وهو موضوع العزلة, ومن فوائد هذا الكتاب ومميزاته أنه تعرض لمباحث. منها: مباحث في موضوع العزلة والخلطة, ومتى تكون العزلة أفضل، ومتى تكون الخلطة أفضل؟ ومنها: الحث على اختيار الجلساء والأصحاب الصالحين. ومنها: حسن المعاشرة وذكر الصحبة وآدابها، وهو بذلك يذكر قصصاً وطرائف وأخباراً وأشعاراً فيها متعة وفائدة. ومن مميزات الكتاب: الحديث عن الناس وطبائعهم وما جبلوا عليه إلى غير ذلك، ولكن ينبغي أن يعلم أن هذا الكتاب قد بالغ فيه الإمام الخطابي في الحط من الخلطة والحث على العزلة, حتى قال هو في آخر الكتاب: إني أخشى أن أكون قد بالغت في ذلك أو زدت عليه بما لا ينبغي, ويقول في آخر الكتاب: في باب لزوم القصد -أي: رجع إلى الحديث عن القصد والاعتدال- قال: قد انتهى من الكلام في أمر العزلة، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا جرينا ولا إياه أردنا, فإن الإغراق في كل شيء مذموم وخير الأمور أوسطها, والحسنة بين السيئتين, وقد عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق عز وجل, والحملة على النفس منها ما يؤودها ويكلها, فما ظنك بما دونها من باب التخلق والتكلف, وهذه من أجمل ما في الكتاب فينبغي أن ينتبه لها, لإن منهج الكتاب ليس مرضياً كله في مدح العزلة وذم الخلطة. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 107 التحذير من عبادة الله بغير علم وبصيرة وهناك قصة أختم بها هذه المختارات، ذكرها المصنف في صفحة [91] وهي تدل على ما يقع للعُباد الذين يعبدون الله من غير علم وعلى غير بصيرة، وكيف يستزلهم الشيطان ويستدرجهم! بل ذكر قصتين في ذلك. الأولى: قال: كان الشافعي رحمة الله عليه رجلاً عطراً -أي يحب الطيب- وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية، وهو نوع من الطيب، فيمسح بها الأسطوانة التي يجلس إليها الشافعي رحمه الله، وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية، وكان يسمي الشافعي بالبطال -أي: يعتبر أن طلب العلم والحديث نوع من البطالة- يقول: هذا البطال هذا البطال. قال: فلما كان ذات يوم عمد هذا الرجل إلى شاربه، فوضع فيه الأذى، ثم جاء إلى حلقة الشافعي، فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها وقال: فتشوا نعالكم، فقالوا ما نرى شيئاًَ يا أبا عبد الله، قال: فليفتش بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك الرجل، فقالوا يا أبا عبد الله هذا. فقال له: ما حملك على هذا؟ قال رأيت تجبرك، فأردت أن أتواضع لله عز وجل، ولا شك أن الشافعي رحمه الله أبعد الناس عن التجبر، ولكن هذا ظن هذا الصوفي المتعبد على جهل وضلال. قال الشافعي: خذوه فاذهبوا به إلى عبد الواحد - عبد الواحد مدير الشرطة- فقولوا له: قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت ننصرف، قال فلما خرج الشافعي؛ دخل إليه فدعا به، فضرب ثلاثين درة، قال الشافعي: إنما هذا لتخطيك المسجد بالقذر، وصليت على غير طهارة. وانظر إلى فقه الإمام الشافعي ما قال: لأنك أهنتني، أو لأنك تعمدت إيذائي، إنما لأنه تخطى المسجد بالقذر، وصلى على غير طهارة. ثم ذكر المصنف قصة ثانية: وهي أعجب من الأولى قال: " أخبرني بعض أهل العلم قال: كان يختلف معنا رجل إلى أبي ثور، وكان هذا الرجل ذا سمت وخشوع، فكان أبو ثور إذا رآه جمع نفسه، وضم أطرافه، وقيد كلامه -أي: من باب الهيبة لهذا الرجل، ألا يلحظ على أبي ثور أمراً يخالف ما ينبغي له من الهدي والسمت والأدب؛ فكان أبو ثور يتحفظ إذا حضر هذا الرجل- قال: فغاب عن مجلسه مدة، فتعرف أبو ثور خبره، فلم يوقف له على أثر. ثم عاد إلى المجلس بعد مدة طويلة، وقد نحل جسمه وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمع قد ألصقها بها، فما كاد يتبينه أبو ثور -أي ما كاد أن يعرفه، لأنه اختلف عليه- ثم تأمله فقال له: ألست صحابنا الذي كنت تأتينا؟ قال بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟ قال: قد رزقني الله سبحانه الإنابة إليه، وحبب إلي الخلوة وأنست بالوحدة واشتغلت بالعبادة- الشيطان يستله من مجالس الذكر والعلم إلى أماكن أخرى يخلو بها فيه، ويملي عليه ما يريد كما سوف يلاحظون - قال له أبو ثور: فما بال عينك هذه؟ قال: نظرت إلى الدنيا، فإذا هي دار فتنة وبلاء، قد ذمها الله تعالى إلينا وعاب فما فيها، فلم يمكنني تغميض عيني كلتيهما عنها، ورأيتني وأنا أبصر بإحداهما نحواً مما أبصر بهما جميعاً، فغمضت واحدة وتركت الأخرى. فقال له أبو ثور: ومنذ كم هذه الشمعة على عينك؟ قال: منذُ شهرين، قال أبو ثور: يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين؟ وطهارة شهرين؟ انظروا إلى هذا البائس، قد خدعه الشيطان، فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه ويتعهده ويلقنه العلم ". يعني الشيطان اختلس هذا الإنسان من مجلس أبي ثور وتفرد به، فـ أبو ثور نبهه إلى أن عليه وضوء شهرين وطهارة شهرين لأنه توضأ وصلى على غير طهارة هذا المدة، حيث لم يغسل ما تحت هذا الشمعة التي كانت على عينه، ثم وكل أبو ثور بهذا الرجل من يحفظه ويتعاهده ويلقنه العلم؛ لئلا يجتره الشيطان مرة أخرى. وفي الكتاب فوائد وفرائد كثيرة غير ما ذكرت، ولكن هذا أبرز ما فيه. أسأل الله أن يعلمني وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 108 مدح الموت وكراهة تمنيه وفي صفحة [78] ذكر كلام بعضهم في مدح الموت، ولا شك أن تمني الموت لا ينبغي إلا إذا خاف الإنسان من الفتن يقول: " أنشدني بعض أصحابنا لـ منصور بن إسماعيل: قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه وفراق وفراق كل معاشر لا ينصف الجزء: 33 ¦ الصفحة: 109 صحبة الفتيان والقراء ومما يعجب في هذا الكتاب: أن المصنف رحمه الله ذكر في صفحة [89] كلمة أو كلمات إحداها، قول سفيان الثوري: " لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً " وذكر رواية قال: زار عبد الله بن المبارك رجلاً من أهل نيسابور، ينسب إلى الزهد والتقشف، فلما دخل عليه فلم يقبل عليه الرجل - وابن المبارك هو من هو إمام الدنيا- ولم يلتفت إليه، فلما خرج ابن المبارك، أُخبر الرجل بما كان، وأُعلم أنه عبد الله بن المبارك، فخرج إليه يعتذر ويتنصل وقال: يا أبا عبد الرحمن! اعذرني وعظني- اعذرني من التقصير في استقبالك- قال: له ابن المبارك، نعم! إذا خرجت من منزلك؛ فلا يقع بصرك على أحد، إلا أُريت أنه خير منك، وذلك أن ابن المبارك رآه معجباً بنفسه، ثم سأل عنه فإذا هو حائك. قال: وعن سفيان قال: " من لم يتفت لم يتقرأ " قال أبو سليمان يشرح هذه الكلمة - إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم، بشاشة الوجه وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة الأكثرين من القراء، الكزازة وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة؛ كان جديراً أن يتبقى معه تلك الذوقة والهشاشة، ومن تقرأ في صباه، لم يخلُ من جفوة أو غلظة … " إلى آخر ما قال. والحقيقة أن هذا الكلام وإن كان ليس على إطلاقه، فلا شك أن في صغار طلاب العلم من فيهم من لين العريكة وسجاحة الخلق، والهشاشة والبشاشة الشيء الكثير، إلا أن له رصيد من الواقع، وإنما سقته حتى ينتبه الإخوة إلى هذا الأمر، ويباعدوا أنفسهم عن مثل هذه الخصال. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 110 من عيوب أصحاب الحديث في صفحة [86/87] تطرق المصنف رحمه الله لبعض عيوب أصحاب الحديث، وأصحاب الحديث كما قيل: هم على ما هم خيار القبائل، وأفضل أصحاب العلوم، لكن ليس من طائفة إلا وفيها عيوب، والتحذير من عيوبهم مطلوب، فذكر أن رجلاً رأى من أصحاب الحديث بدعة سيئة، فلام أهل الحديث، وقال: إنه لا يعلم علماً أشرف، ولا قوم أسخف منهم، وهذا يحمل على أنه قاله في حال غضب وانفعال، ولا يقبل من قائله. وذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الواحد بن غياث يقول: سمعت أبي رأى رجلاً من أصحاب الحديث صلى لجنبه، فلما سلم الإمام سلم دفاتره -وكانت قد فاتته ركعة- ولم يصلِّ الركعة التي فاتته، يعني لانشغاله بالطلب غفل عن الركعة التي فاتته، وذكر هاهنا قصة يقول: حدثنا مؤمل بن إيهاب قال حدثني يحيى بن حسان قال كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محمل شيخ ضعيف فانتهبوه، ودقوا يد الشيخ -أي ضروا الشيخ- وأخذوا بعض ما معه، فجعل الشيخ يصيح يا سفيان لا جعلتك في حل مما فعلوا بي، لأن ذلك كان في مجلسه، بسبب الزحام، قال: وسفيان لا يسمع -أي: أن سفيان يسمع صوت الرجل لكن لا يدري ما يقول- قال سفيان: فنظر سفيان إلى رجل من أولئك الذين صنعوا بالشيخ ما صنعوا -رجل ليس من أهل الحديث لكنه ملصق فيهم- فقال له سفيان ماذا يقول هذا الشيخ؟ قال: يقول زدنا في السماع" العكس- الشيخ يريد أن يسكت سفيان، حتى يزول الزحام، فهذا قال: إن الرجل قال يا شيخ يا سفيان: زدنا في السماع. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 111 مداخل الشيطان في صفحة [97] ذكر أبو سليمان رحمه الله قولاً مفيداً في بيان مداخل الشيطان، فقال: قال علي بن غنام: كلا طرفي القصد مذموم، وأنشدنا أبو سليمان: تسامح ولا تستوفِ حقك كله وأبقِ فلم يستوف قط كريم ولا تغلو في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم قال: عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: [[لا يكون حبك كلفاً، ولا يكون بغضك تلفاً]] . ومن الفوائد التي ذكرها المصنف رحمه الله، أنه ذكر إخوان السراء، الذين يصاحبون الإنسان في حال غناه، فإذا احتاج إليهم هربوا منه، وذكر من ذلك قول بعضهم: وإن من الإخوان إخوان كثرة وإخوان حياك الإله ومرحباً وإخوان كيف الحال والأهل كله وذلك لا يسوى نقيراً مُترباً جواد إذا استغنيت عنه بماله يقول إلي القرض والقرض فاطلبا فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره وجدت الثريا منه في البعد أقربا الجزء: 33 ¦ الصفحة: 112 إعراض السلف عن الفساد وفي صفحة [71] يشير المصنف إلى ما حصل من الفساد، وتغير كثير من السلف منه، قال، قال المصنف أبو سليمان قال وأنْشِدتُ هذا البيت:- هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غَيَّر لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود هذه الأبيات يحفظها الإنسان ليتمثل بها في بعض الوقائع، خاصة في هذا الزمان المظلم، فكثيراً ما ترى أحداثاً وتسمع أخباراً، أي: تجعلك تردد هذه الأبيات: هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول كعب وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غيَّر لم يبكِ ميت ولم يفرح بمولود الجزء: 33 ¦ الصفحة: 113 من أحوال السلاطين ومن الفوائد التي ذكرها المصنف، في صفحة [95] ذكر كلاماً لبعض الحكماء ينبغي أن يعلم، قال أبو سليمان: " قال بعض الحكماء: إن الذي يحدث للسلاطين التيه في أنفسهم -وهو العجب والغرور، ورد النصيحة، وبطر الحق وغمط الناس- والإعجاب بآرائهم لكثرة ما يسمعونه من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم، فَصدَقُوهم عن أنفسهم، لأبصروا الحق، ولم يخفَ عليهم شيء من أمورهم" وبذلك تعلمون أن الواجب على العلماء وطلاب العلم والجلساء والندماء، ليس هو المبالغة في المديح والتبجيل، وتصحيح الأعمال، بل هو النصيحة الخالصة، التي لا يراد من وراءها دنيا. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 114 التحذير من قرناء السوء ومن الفوائد الموجودة في الكتاب أن المصنف رحمه الله ذكر أن أعرابياً، كان بالكوفة، وكان له صديق يظهر له المودة والنصيحة، فاتخذه هذا الأعرابي من عدده للنوائب، فأتاه فوجد أنه بعيد مما كان يظهر له، فأنشأ يقول: إذا كان ود المرء ليس بزائد على مرحباً كيف أنت وحالكا ولم يك كاشراً أو محدثاً فأف لود ليس إلا كذلكا لسانك معسول ونفسك بشة وعند الثريا من صديقك مالكا وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قابلتها شمالكا وهذه الأبيات رواها غيره، منهم ابن حبان في نزهة الفضلاء وغيره، وفيها التحذير من قرناء السوء. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 115 تواضع سفيان بن عيينة وفي صفحة [70] قال: أخبرني ابن سعدويه قال: حدثنا إسحاق، قال سمعت محمد بن عبد الأعلى يقول: خرج علينا سفيان بن عيينه، ونحن جلوس على باب داره - هؤلاء طلاب العلم والحديث ينتظرون سفيان ليحدثهم - فخرج علينا فقال: خلت الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد أي: أن سفيان بن عيينة يحزن أن الديار خلت من العلماء فيما يقول هو، فصار سيداً هو، مع أنه ليس أهلاً لذلك في ظنه، ولا شك أن سفيان هو من هو في الفضل والعلم، والسؤدد والمكانة، لكن هذا من فضله ونبله وتواضعه وهضمه لنفسه رحمه الله فكيف لو خرج علينا في هذا الزمان؟! قال: وأنشدني إبراهيم بن فراس في نحو هذا - في نفس هذا الموضوع -قول الشاعر: وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيد لو يظفرون بسيد أي: القوم الذين وضعوك سيداً عليهم يحتاجون فعلاً إلى سيد؛ لأنهم ما وضعوك في هذا الموقع إلا لفقرهم من السادة، وقلة الأكفاء. قال وفي آخر: وما سدت فيهم إن فضلك عمهم ولكن هذا الحظ في الناس يقسم أي: ما كانت سيادتك لفضلك وكرمك؛ وإنما هو قضاء وقدر. الجزء: 33 ¦ الصفحة: 116 الصومال الجريح تحدث الشيخ عن أسباب اختياره الموضوع، ثم ذكر أحوال إخواننا في الصومال ودور المنظمات التنصيرية في التنصير هناك، ودور مراكز الإغاثة الإسلامية، وواجبنا نحوها، ثم ذكر الأخوة الإيمانية عند الصحابة، والسلف وكيف هي فيما بيننا، وبيَّن طريقة القرآن والسنة في تقرير مبدأ الأخوة وأن الاسلام هو الفرق بين الناس، وليست القبيلة، ولا البلد، ولا غير ذلك. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 1 أسباب أختيار موضوع الصومال الجريح إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعتذر إليكم عن هذا التأخير الذي كان لأسباب خارجة عن إرادتي، ثم إنني في هذه الليلة ليلة الأربعاء، العاشر من رمضان، كنت قد زورت لكم حديثاً عنوانه اعترافات مذنب. ثم بدا أمر جديد دعاني إلى تأجيل هذا الموضوع إلى ليلة غد، أما في هذه الليلة فسيكون حديثي إليكم حديثاً سريعاً قصيراً عن جرح من جراحات المسلمين، عن الصومال الجريح. والذي دعاني إلى هذا الموضوع أمور هي: الجزء: 34 ¦ الصفحة: 2 التجاوب والتبرعات أولها: ما رأيته منكم من التجاوب الكبير، فإن مجموع التبرعات، التي بذلتموها كان رقماً طيباً جداً، فقد وصلت إلى ما يزيد على مائتي ألف ريال، فجزاكم الله تعالى خيراً، وأسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يرزقكم خيراً مما أنفقتم، وأن يبارك لكم فيما أعطاكم، وأن يكثر في المسلمين من أمثالكم، وأن يزيدكم جوداً وكرماً وإيماناً، إنه على كل شيء قدير. لم يكن الفرح بهذا العطاء لمجرد؛ أنه عطاء، فإن ثرياً واحداً، ربما يعطي أضعاف أضعاف هذا المبلغ، ولكن الفرح كان أكثر بتجاوبكم، وشعوركم بالمسئولية ومشاركتكم، فإن الواحد يعلم أنه لم يكن أحداً منكم، لا من ذكرانكم ولا من إناثكم، مستعداً للمشاركة، وربما فوجئ بذلك الطلب، ومع هذا حصل هذا الخير الكثير، فأسأل الله تعالى أن يجزيكم خيراً. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 3 التقارير التي تصف المأساة في الصومال الأمر الثاني: الذي دعاني ويدعوني الآن إلى طرح موضوع الصومال الجريح، هو مجموعة من التقارير التي جاءت من هناك، وكلكم علمتم بالمأساة التي نزلت بإخوانكم، نزلت بما يزيد على ثلاثة عشر مليوناً موزعين بين الصومال وجيبوتي لم يكن بينهم نصراني واحد، بل ثلاثة عشر مليوناً كانوا في البادية، يدعون الله تعالى أن يتوفاهم، قبل أن يروا بعيونهم نصرانياً واحداً، وكانوا إذا شرب النصراني في الإناء، فإنهم يغسلونه سبع مرات كما يغسلون الإناء إذا ولغ فيه الكلب، كانوا يستعظمون أن يروا رجلاً كافراً بالله تعالى، يمشي على وجه الأرض، بلادهم مليئة بالمساجد، على حين لم يكن يوجد فيها كنيسة واحدة. ولذلك كانوا هدفاً للنصارى، فسعوا وخططوا واستغلوا أزمات المسلمين، ومزقوا بلادهم، حتى كانت الكارثة الأخيرة، وحينئذ شمرت المنظمات النصرانية عن ساعد الجد، وذهبت عشرات المنظمات من أشهرها منظمة أطباء بلا حدود، وهي منظمة نصرانية، وكذلك الصليب الأحمر، ووكالة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، وغيرها من المنظمات الرجالية والنسائية النصرانية، التي أصبحت تستقبل المسلمين رجالاً، ونساءً، وأطفالاً، وتأخذهم وتذهب بهم إلى بلاد الكفر، حتى هاجر من الصومال ما يزيد على مليوني إنسان غالبيتهم من الشباب، رجالاً ونساءً فتياناً وفتيات ذهبوا إلى بلاد الكفر، ليحصلوا هناك على الجنسيات على المرتبات، ويحصلوا على سكن مجاني، ويحصلوا على كل المميزات، وإذا جاءوا يبحثون عن بلاد المسلمين، لم يجدوا البلد الذي يؤويهم، وأستطيع أن أقول وأنا مطمئن: ليس هناك دولة واحدة من دول المسلمين من أعلنت استعدادها لاستقبال عدد من الصوماليين قل أو كثر، بل إن مجرد الزيارة كان أمراً صعباً، فإذا أراد الإنسان أن يذهب إلى عمرة أو إلى زيارة، أو إلى إقامة مؤقتة في أي بلد إسلامي، فإن أهون ما يقال له: إن جوازك مزور، ووثائقك غير مضبوطة، ولذلك نحن نعتذر إليك. إنها لكارثة؛ أن يجد اليهود في دولتهم المسماة بإسرائيل، فرصة للعمل في أوساط المسلمين، وأن يوزعوا الأدوية المختوم عليها بختم دولة إسرائيل، ويوزعوا الإعانات والإعانات، ويحضروا المؤتمرات، التي يقيمها المسلمون، ويسعوا إلى الإيقاع بين الصوماليين وبين العرب، فيقولون للصوماليين: إن العرب يحتقرونكم ويزدرونكم، وينظرون إليكم نظرة دونية، ولا يقيمون لكم وزناً، وينشر هذا في عدد من المطبوعات، التي تروج بين إخواننا في الصومال. وأن يجد النصارى فرصتهم السانحة في العمل الإغاثي الإنساني، في ظاهره والعمل التنصيري في حقيقته، وأن يكون المسلمون هم آخر من يتحرك لغوث إخوانهم. ثم تأتي الطامة الكبرى، يوم دخلت قوات الغزو الأجنبي القوات الأمريكية إلى الصومال بقوتها وأعدادها وعتادها، دخلت ودعواها أنها تغيث المسلمين، تفض الخصومات بينهم، أما حقيقتها فهي غزو مبطن لهذا البلد، ليس للالصومال فحسب، بل للقارة الأفريقية بأكملها، فهي نوع من الضربة الوقائية، ليطمئن الغرب إلى أن الإسلام الأصولي لن يكون له وجود يذكر في إفريقيا السوداء، وأن مضيق باب المندب وغيره سيكون مؤمناً، وأن الوجود الغربي سيكون قريباً من مناطق العمليات في الشرق الأوسط، وأمس -بالذات- أعلن الرئيس الأمريكي الجديد أن القوات الأمريكية، في منطقة الصومال، وفي منطقة الخليج، سوف يكون لها طابع المرابطة الطويلة الأمد. نعم هذا كنا نعرفه من قبل، حتى كانوا يعلنون أن إقامتهم في الصومال، لن تتجاوز أربعة أشهر أو ستة أشهر، وأن وجودهم سوف يكون محصوراً بألف أو ألفين، فقد تفاقم العدد وأصبح بعشرات الألوف، وأعلنوا صراحة أن وجودهم سوف يتخذ طابع المرابطة الطويلة. أيها الإخوة ذلك الصومالي، الذي كان بالأمس يكره أن ينظر في وجه الكافر، أو يشرب بعده، أصبح اليوم يسمع -وفي المسجد الجامع الكبير- رجلاً من ضحايا الغزو الغربي السافر الكافر، مثل بعض بني جلدتنا الذين أصبحوا يتكلمون عن العداوة للغربيين على أنها من أدبيات القرن الماضي، كما قال رئيس تحرير إحدى المجلات الإسلامية، جبر الله عزاءنا وعزاءكم، أصبحت العداوة للغربي الكافر من أدبيات القرن الماضي، كيف والقرآن الكريم يصرح بعداوتهم؟! كيف والسنة النبوية مليئة بذلك؟! إنها الهزيمة النفسية. يقوم رجل من المنتسبين إلى الإسلام، على منبر الجمعة بعد الصلاة، في جامع من الجوامع الشهيرة وفي هذا العام بالذات، في مدينة بيدوا الصومالية، ويقول: أيها الناس أيها المسلمون أنتم ترون حالنا وما حل بنا من المجاعة نتيجة الحروب الأهلية والقبلية، ولقد رأيتم أنه لم يهتم بنا أحدٌ من إخواننا المسلمين، لا من العرب ولا من العجم، ولقد لاحظتم أن الذين هبوا لنصرتنا وإغاثتنا هم النصارى وعلى رأسهم الأمريكان، وبقية الدول الأوروبية، ثم يقول: علينا نحن كشعب قاسى من الحروب والويلات، ألا نعتبر أن المسيحية عدو لنا، -هذا تعبيره- أو أن المسيحية دين محرف وأننا نخافه، بل يجب علينا، أن نأخذ منهم المساعدات، بقلوب مطمئنة ونية صادقة، وأن لا نعتبرهم أعداءً؛ لأنهم أرحم بنا من المسلمين، وبما أن جميع الأديان السماوية والمسيحية من أول الأديان السماوية فهي أرحم دين ساعدنا، ومعتنقوا هذا الدين هم أرحم الناس بنا، فما الحرج من أن يعتنق بعضنا هذا الدين الرحيم، الذي أثبت ذلك للعالم بمواقفه معنا ومع جميع المتضررين في العالم!! انظروا من الذي يقف مع المسلمين في البوسنة والهرسك إلا الهيئات النصرانية؟ من الذي يقف مع المسلمين المبعدين في فلسطين إلا الصليب الأحمر الدولي؟ من الذي يقف مع الصوماليين إلا النصارى؟ فالمطلوب منكم -هكذا يقول- ترك الناس وشأنهم، كل يختار الدين الذي يحبه ويرتاح إليه لا إكراه في الدين. انظر إلى البعد الشاسع والتأثير العظيم، ذلك المسلم صاحب الفطرة الذي كان يقرأ القرآن الكريم، فيعرف أن المسلم هو أخوه حيث كان، وأن الكافر عدوه مهما كان، فيترتب على ذلك أن يحب المسلمين ويبغض الكفار لا يزال الكفار به، يعملون له الأعمال، ويخططون له الأحاييل، حتى يوجد من بين المسلمين، من تكون هذه نظرته وهذا منطقه. أيها الإخوة لا أريد أن تتصوروا أن شعب الصومال تحول إلى مجموعة، من المنهزمين وضعفاء الإيمان، والمغترين بالنصارى، كلا! فإن هذا الشعب، يشهد صحوة إسلامية قوية جداً، في الجنوب والشمال على حد سواء، وفيما يسمى بجمهورية أرض الصومال مثلاً، فقد وجد اجتماع ومؤتمر عام لا يزال معقوداً إلى الآن، وكانت أهم قرارات هذا المؤتمر ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية، وهناك المساجد مليئة بالمصلين والحمد لله، والشباب الدعاة إلى الله تعالى، لهم نشاط منقطع النظير، والعلماء والمشايخ الآن هم الذين أثبتوا أنهم قادرون على ضبط الأمن، والقضاء على اللصوص وعلى المجرمين، فالإسلام، هو مستقبل الصومال، وشعب الصومال شعب مسلم مهما عملوا، ولكن هذا لا يمنع من وجود العلمانيين والمنهزمين، وضعفاء الإيمان والمتأثرين، بل والذين شريت ضمائرهم من قبل الغرب، فيستغلون بعض الظروف وبعض الأوضاع. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 4 طريقة القرآن والسنة في تقرير مبدأ الأخوة لنعد قليلاً إلى طريقة القرآن الكريم والسنة النبوية في تقرير مبدأ الإخوة الإسلامية. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 5 أين نحن من الأخوة الإيمانية الحقيقية أيها الإخوة أنحن ندري معنى الأخوة الإيمانية الحقيقية؟! أنحن نألم لآلام إخواننا؟! كلا والله، بل إنني أقول: أي معنى لأخوة نظرية، نقولها بألسنتنا في كثير من الأحيان، وندعي أننا إخوان للمسلمين في كل مكان، وأننا أعداء للكافرين، ثم تجد أن المسلم يصيح ويستغيث ويستنصر، فلا يهب لنصرته ونجدته إخوانه المؤمنون، بل يسارع أعداء الدين من اليهود والنصارى المتربصين؛ ليعطوهم الطعام بيد والضلال باليد الأخرى، إنجيلاً أو توراةً أو كفراً أو إلحاداً أو ما أشبه ذلك. والله تعالى يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] فهم استنصرونا واستغاثوا بنا واستصرخونا. كم يستغيث بنا المستضعفون وهم جوعى وعطشى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان أيسرك أن تتحول بلاد المسلمين إلى أوكار للنصارى، وأن يعلن المرتدون على المنابر أنه لا حرج على إنسان أن يغير دينه؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول، كما في صحيح البخاري عن ابن عباس {من بدل دينه فاقتلوه} والرب جل وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ويقول: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] أيسرك أن ترى أعداء دينك يأخذون فلذات الأكباد من أولاد المسلمين بعشرات الألوف؛ من أجل أن ينصروهم، لا أقول: من أجل أن يتحولوا إلى لادينيين، ولا أقول: من أجل أن يتحولوا إلى نصارى، بل من أجل أن يتحولوا إلى قسس، ودعاة للديانة النصرانية، وقد يكون اسم الواحد منهم جورج أو ميشيل، ولكن اسم أبيه عبد الله، أو محمد أو علي أو صالح، وهذا موجود مع الأسف الشديد. فالغوث الغوث أيها المؤمنون! واليقظة اليقظة يا أصحاب القلوب! دعونا من مشاكلنا الصغيرة، ودعونا من همومنا الذاتية، ودعونا من قضايانا الخاصة، وهلم نطل على هذا الجسد الإسلامي المثخن بالجراح، وهلم ننظر لهذه الأمة التي عبث بها عدوها، لم يكتف بأخذ أموالها، ولا بإهدار اقتصادها، وقد فعل، ولم يكتف بغزوها عسكرياً، وجعلها تحت مظلة قواته وأجهزته وجنوده وعدده وعُدده، وقد فعل، ولم يكتف بأن يجعل جميع أولي النفوذ والقوة في البلاد، من ربائب الغرب الذين تخرجوا من جامعاته، ورضعوا من ألبانه، وقد فعل، بل أضاف إلى هذا كله، أنه أراد أن يحول أفراد المسلمين، ومستضعفيهم وجهالهم، ونساءهم وأطفالهم إلى دين النصرانية. إنهم يعدون العدة للحرب العظمى بين الإسلام والكفر، والمعركة الفاصلة، ونحن نعلم علم اليقين، ونشهد بالله أننا نؤمن بذلك، وأن الله تعالى سينصر دينه ويظهر كلمته، وأن أمر الإسلام إلى ارتفاع، وأمر الكفار إلى سفول وأن هؤلاء يكيدون والله تعالى يكيد قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ولكننا نعلم علم اليقين أيضاً أن الله تعالى ابتلانا بأن نقوم على هذا الدين، وأن ننصر دينه، وأن نعلي كلمته، قال الله عز وجل: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:14-15] . إنه مما يجرح القلب أن تكون بلاد المسلمين كلأً مباحاً لأعداء الدين، يتدخلون كما شاءوا وينشرون دعوتهم، ويفسدون كما شاءوا، دون حسيب أو رقيب. لقد تدخل الكفار في بلاد الكفر، ومع ذلك لقنهم الكفار في فيتنام وغيرها دروساً لم ينسوها قط، وظلت محفورة في ذاكرتهم، أما بلاد المسلمين فهي أهون الضحايا، وهم يدخلون مطمئنين يظنون أنهم آمنون، ونحن نقول: إن نصر الله تعالى للمؤمنين آت، وإن الله تعالى سيبعث لدينه جنداً، وإذا تخلينا نحن اختار الله تعالى غيرنا قال الله: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ} [محمد:38] {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} [المائدة:54] من هؤلاء القوم، ليسوا قوماً جبناء ولا بخلاء، ولا قوماً همهم أن يقاتلوا إخوانهم، وأن يتشاغلوا فيما بينهم، كما كانت الجاهلية الأولى. وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا المهم أن نفتعل معركة ولو مع أقرب قريب، والمؤاخي الحبيب، ولو مع المؤاخي، ولو مع الموافق لك في دعوتك ودينك ومنهجك. أما أولئك قوم صنف آخر، يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين -ذليل متواضع لأخيه المؤمن- أعزة على الكافرين ذووا قوة وشجاعة وبأس، لكن ليس على إخوانهم، وإنما على الكافرين {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] كل حالة رده. عاشها المسلمون، جاء الله تعالى بعدها بالنصر على أيدي جند، يصنعهم على عينه، ويختارهم سبحانه، ويوفقهم للبلاء والصبر والجهاد، وتقع على أيديهم الوعود، التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فهلم أيها الأخ الحبيب نكون جزءاً من هذه الطائفة، وهذه الفئة التي وعد الله تعالى بها؛ فنجاهد بعلمنا وبعقولنا وأيدينا وأموالنا وألسنتنا وبدعائنا، وبكل ما نستطيع. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 6 الإسلام هو الفرق بين الناس إنك تعجب وأنت تقرأ في القرآن الكريم {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فتدرك أن الله تعالى لم يفرق بين الناس بألوانهم ولا ببلدانهم ولا بقبائلهم، وإنما جعل الإسلام هو الفرق بين الناس، فمحمد صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس، من أسلم وآمن فهو أخونا، له مالنا وعليه ما علينا، ومن كفر فهو العدو اللدود، ولو كان أخوك لأبيك وأمك، ولو كان من جلدتك ولو كان من بلدك، فنحن لا نعترف بحدود الجاهلية ولا نعتبر أن الأخوة هي الأخوة الوطنية أو الأخوة القبلية أو الأخوة العرقية. كلا، وألف كلا، الأخوة: هي أخوة الدين والإيمان، أما أخوة الدم وأخوة النسب وأخوة الوطن، فكل هذه الأشياء نجعلها تحت أقدامنا، متى تعارضت مع أخوة الدين، مع الولاء والبراء الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فجعل قريشاً تنقسم إلى قسمين: مؤمنين وكفار والمؤمنون يعتبرون أن سلمان الفارسي وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وفلان الأوسي أو الخزرجي الأنصاري أنهم هم إخوانهم، أما أخوه القرشي من قبيلته ومن بلده بل وربما من أبيه وأمه، فإنه يواجهه لا أقول بالكلمة القوية بل حتى بالسيف في ميدان المعارك. كم أب حارب في الله ابنه وكم أخ حارب في الله أخاه يقول: مصعب بن عمير لأخيه عزيز بن عمير: رآه وهو يؤسر فقال مصعب للأنصاري: اشدد وثاقه، فإن أمه امرأة غنية تفتديه منك بأغلى الأثمان، فقال: يا أخي، فهذه وساتك بي قال مصعب: كذبت لست بأخي هذا أخي -يعني الأنصاري- هذا أخي دونك. نعم إنها أخوة الدين والإيمان التي نسوا في ظلها كل معنى آخر للإخاء غير إخاء العقيدة، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] ثم تنتقل إلى السنة النبوية وهذه نماذج فتجد أنه صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} البنيان في حالة القوة كل لبنة تشد الأخرى وتقويها فإنك تلحظ أن اللبنة بذاتها قد يجملها الطفل وقد يكسرها، لكنها إذا كونت جدارا يشد بعضه بعضا ويقوي بعضه بعضا فإنه يقف في وجه العواصف والأعاصير ولا يستطيع أحد أن يزيله، فهذا في حال القوة فالقوة لا تجعل المؤمنين ينقسمون على أنفسهم أو يتحاربون فيما بينهم أو يضرب بعضهم بعضا أو يدمر بعضهم بعضا. فما هو الأمر في حال الضعف؟ في حال الضعف يعبر عن ذلك الحديث الآخر العظيم حديث النعمان بن بشير وقد رواه مسلم في صحيحه عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} إنه جسد اشتكى منه عضو بالحمى ارتفاع الحرارة بالمرض بالألم فلا يظل هذا الجرح أو هذا العضو يألم وبقية الجسد لا يتألم، بل يكون الجسد كله يتداعى له، إذا اشتكى رأسه اشتكى كله وإذا اشتكت يده اشتكى كله وإذا اشتكت عينه اشتكى كله هذا هو الإيمان. تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبع ولو أن بردى أنت لخطب أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع الجزء: 34 ¦ الصفحة: 7 المنظمات التنصيرية في الصومال هذه بعض الجراح التي جاءتني هذا اليوم من الصومال، ومن الأشياء، التي وصلت إليَّ، نموذجاً للجهود التنصيرية. هذه الورقة وهي عبارة عن دعاية لشركة نصرانية اسمها c. r. d. e، أي منظمة التطوير الإغاثية الكنسية. هذا نموذج للعمل التنصيري المكشوف، نصراني لا يقول: جئتكم للإغاثة أو للمساعدة أو للإنسانية، ولكن يقول: جئتكم لأدعوكم إلى الإنجيل! هذه الورقة عبارة عن منظمة مهمتها أنها مسئولة عن المشاريع الإنمائية الزراعية في الصومال، وأنت تعرف حاجة الصومال إلى مثل هذه المشاريع، فأي مشروع زراعي إنمائي، لابد أن يمر من خلال هذه المؤسسة أو هذه الشركة. وهذه الشركة عندها فكرة أنها سوف تقوم في منطقة اسمها منطقة أرابي، في شمال غرب الصومال، سوف تقوم بعمل مشاريع زراعية، يؤوون من خلالها أكثر من ثلاثمائة ألف لاجئ مسلم، يؤوونهم في مشاريع إغاثية، وفي هذه المنطقة الزراعية الممتازة، هذا العمل الذي قد يكون سبباً في تنصير ألوف وربما مئات الألوف من المسلمين، وخاصة من الأطفال والجهلة، فكم تتوقع أن يكلف هذا العمل؟! إنه لا يكلف أكثر من ثمانية ملايين ريال سعودي! أين أغنياء المسلمين؟ أين رءوس الأموال؟! أين الدعايات الطويلة العريضة عن الإغاثات والمساعدات والكلام الإعلامي الذي يبدأ ولا ينتهي؟! فقط ثمانية ملايين ريال من شأنها أن تقوم بمثل هذا العمل، فهذا نموذج لمثل هذه المنظمة، وهذه المنظمة تلاحظ أنها وضعت في أسفل الورقة مربعاً كبيراً، وحشرت فيه أسماء مئات من المنظمات الأخرى، التي تعمل في الصومال، وفي القرن الأفريقي بشكل أوسع، وفي القارة الإفريقية وكل هذه منظمات نصرانية، ذات أهداف تنصيرية مكشوفة، أما تلك المنظمات التي تسعى إلى التنصير باسم الإغاثة والإنسانية والدعم والطب والعلاج فحدث ولا حرج. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 8 دور مراكز الإغاثة الإسلامية ووجوب دعمها صحيح أن الأوضاع في الصومال قد تحسنت عن ذي قبل، وخاصة في العاصمة مقديشو، وفي بعض المناطق في جمهورية أرض الصومال فهناك تحسن كبير، ولكن لا يزال هناك مناطق في أواسط الصومال ما وصلتها الإغاثة بعد، ولا يزال هناك منظمات إغاثية إسلامية كثيرة، بأمس الحاجة إلى العون والدعم، خاصة وهي تواجه حرباً من القوات الأمريكية ومن قوات الأمم المتحدة ومن المنظمات التنصيرية الغربية، الذين بدءوا يضغطون على جميع المنظمات الإسلامية، ويعبرون عنها بأنها منظمات أصولية وأنه ينبغي حصارها، وأن أي إنسان يريد أن يعمل عليه أن يعمل من خلال الأمم المتحدة ومنظماتها، فهم بأمس الحاجة إلى دعمكم. إن هناك مطابخ ومراكز توزيع، وإغاثة ومساعدة في طول الصومال وعرضها إسلامية، توشك أن تتوقف بسبب قلة الدعم أو توقفه من المسلمين. إن من الأهداف التي سعى إليها الإعلام العالمي، أن أشعر المسلمين بأن الأوضاع في الصومال قد تحسنت، وأن الأمور على ما يرام، ولذلك فهذا من مكاسب التدخل الغربي، هكذا صوروا للناس كذباً وزوراً، ثم اطمأنت قلوب المسلمين، وظنوا أن إخوانهم في الصومال قد استغنوا عنهم، وهنا كاد المجال أن يخلو للمنظمات النصرانية الغربية. فيا أهل الصيام والقيام! ويا من ترجون لقاء الله تعالى والدار الآخرة! ويا من تعلمون أنكم موقوفون بين يدي الله تعالى ومحاسبون، وبأعمالكم مجزيون! ويا من تحملون قلوباً يثيرها هم المسلمين في كل مكان وصدوراً تحزن لحزن أهل لا إله إلا الله! يا أهل التوحيد! كما جدتم وساعدتم إخوانكم في البوسنة والهرسك، فإني أدعوكم هذه الليلة إلى أن تصدقوا لله تعالى، وتروا الله تعالى من أنفسكم خيراً، وأن تبذلوا كل ما تستطيعون لإخوانكم المسلمين في الصومال، واعلم أنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت عليها، وأن الله جل وعلا وهو لا يخلف الميعاد يقول: {يا ابن آدم أَنَفقْ أُنفِقْ عليك} فإذا كان ربك، وأنت تؤمن به وتصدق بوعده يقول لك: أنفق أنفق عليك، ماذا تريد أكثر من هذا؟ سوف تكسب الأجر والغنيمة والسعادة والبر والمغفرة بإذن الله عز وجل، ومع ذلك كله لن ينقص من مالك شيء، وفي الصحيح: {ما نقصت صدقة من مال} وأنت خبير بقصة صاحب الحديقة، التي جاء فيها: اسقِ حديقة فلان، اسقِ حديقة فلان. فاصدق الله تعالى يصدقك، وقدم لنفسك وقدم لآخرتك وسارع، ولعل الله تعالى في هذه الساعة المباركة أن ينزل علينا -نحن الحاضرين- من بركاته ما يرحمنا به إنه على كل شيء قدير. اللهم ارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم تقبل منا، اللهم استر علينا، اللهم ارفع درجاتنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم وحد كلمتهم اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم حرك الإيمان في قلوبهم اللهم اجعلهم يتناصرون بأخوة الإيمان يا رحيم يا رحمن، اللهم احم المسلمين من شر النصارى واليهود وسائر أعداء الدين، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم وفقنا يا حي يا قيوم. ثم إني أدعو -أيها الإخوة- الإخوة الشباب أن يقوموا بجمع التبرعات من الحضور المصلين، أما بالنسبة للأخوات، فإني أدعوهن إلى مزيد من البذل والصدقة، فإن المرأة ينبغي أن تتصدق وتعلم أن هذه الصدقة سعة في رزقها، وعافية في بدنها، وصلاح في أولادها وصحة لها وصلاح لزوجها، وزوال للمشكلات التي تعانيها، وقيل ذلك كله هي قربة لربها، ترجو ثوابها وأجرها وذخرها يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم. هناك أبياتٌ أيها الإخوة من الشعر ننشدها فنقول: أنا عالميٌّ ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي أو نقول: مسلمون مسلمون مسلمون حيث كان الحق والعدل نكون يا أخي في الشرق أو في المغرب أنا منك أنت مني أنت بي لا تسل عن عنصري أو نسبي إنه الإسلام أمي وأبي لكن المحك الحقيقي: هو أن نحول هذه الشعارات إلى برنامج عملي نطبقه، فنعيش مع إخواننا بقلوبنا وحياتنا، وألسنتنا، ودعواتنا، وأموالنا، وبكل إمكاناتنا. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 9 الأسئلة الجزء: 34 ¦ الصفحة: 10 حكم اجتماع النساء بتبادل الأحاديث في المسجد السؤال بعض النساء في المدارس يتفقن على الحضور في هذه المساجد من أجل الكلام مع بعضهن أثناء صلاة التراويح أرجو توجيه كلمة لذلك؟ الجواب لا شك أن المساجد ما وضعت لهذا، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى من ينشد ضالة في المسجد قال: {إنما بنيت هذه المساجد لما بنيت له} وأمرنا إذا سمعنا من يبيع أو يشتري، أن فقول: لا أربح الله تجارتك، ومن ينشد الضالة أن نقول له: لا ردها الله عليك، مع أنه قد يحتاج إلى شيء من ذلك. فأن تكون المساجد فرصة لتبادل الأحاديث، والطرائف والأقوال، والأخبار، وهذا قد يشغل المصلين، ويلهيهم عن صلاتهم، وقد يدخل فيه نميمة أو غيبة أو قيل وقال مما لا يجوز، فلاشك أنه لا ينبغي أن تستخدم المساجد لهذا، بل على الأخوات أن يعتبرن هذه فرصة لعبادة الله، وسماع القرآن، والتأمين على الدعاء، وذكر الله تعالى، والتكبير، والقيام، والركوع والسجود، وما يدري العبد ربما يدخل الجنة بسجدة، أو ركعة، أو دعوة توافق باباً مفتوحاً، ولا يدري العبد في أي عمله البركة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 11 حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء السؤال ما حكم مسح الوجه باليدين بعد الدعاء؟ الجواب هذا فيه أقوال: من أهل العلم من يرى ذلك، لأنه جاء في حديث عند الترمذي أو حديثين، وقال ابن حجر: إن مجموعها يقتضي أنه حديث حسن، وكذلك حسنه الترمذي، والأكثرون على أن ذلك لا يثبت؛ وبناءً عليه فالأولى أن لا يمسح الإنسان وجهه بعد الدعاء، أما تقبيل البعض لإيديهم فهذا لا أصل له البتة، ولم يرد في حديث ولا غيره. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 12 حكم تعليق الأذكار والأدعية في السيارات السؤال ما الحكم فيما يعلق في السيارات من الأذكار والأدعية؟ الجواب إذا كانت هذه الأذكار مناسبة مثل ذكر السفر، أو ركوب الدابة، أو ما أشبه ذلك، فهذا جائز لأنه يذكر الركب بمثل هذا، لكن الاعتماد عليه لا ينبغي، فإن الذكر لا ينبغي أن يعتمد على تعليقه، بل ينبغي أن يقوله الإنسان. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 13 حكم من لا يتعلم بحجة عدم معرفة الأساسيات السؤال ما الحكم فيمن يقول: أنا لن أطلب العلم لأني لا أعرف الأساسيات، فيقول: أنا لا أتعلم الحديث لأني لا أعرف المصطلح، وما نصيحتكم؟ الجواب أخشى أن تكون هذه الأمور يجر بعضها إلى بعض، عليك أن تطلب العلم، فإذا كنت لا تعرف المصطلح فابدأ بالمصطلح، مع أن الإنسان يستطيع أن يتعلم من العلوم، ولو لم يكن ملماً بغيرها إلماماً كاملاً، فمثلاً تستطيع أن تقرأ في كتب الحديث، ولو لم يكن لديك علم واسع بالمصطلح، وتستطيع أن تقرأ في كتب التفسير، ولو لم يكن لديك علم غزير بالفقه، وعلى الإنسان أن يبدأ بالعلم شيئاً فشيئاً، ويبدأ بالمختصرات، ويبدأ بالعقيدة، ويبدأ بالكتب النافعة، وإذا أشكل عليه شيء سأل، ولا يهجم على العلم، وألا يدعي شيئاً ليس له، فكونه حفظ أو قرأ لا يعني أنه تحول إلى عالم أو مفتٍ يتكلم في الدقيق والجليل. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 14 تعارض صلاة العشاء مع التراويح للمتأخرين السؤال جماعة دخلوا المسجد متأخرين عن صلاة العشاء، وقد شرع الإمام في صلاة التراويح، فهل من الأفضل إقامة جماعة جديدة، أم الدخول مع الإمام بنية العشاء؟ الجواب الأفضل أن يدخلوا مع الإمام بنية العشاء، ويتموا بعد ذلك ركعتين، ولا يضر اختلاف النية بين الإمام والمأموم، فإن معاذ بن جبل رضي الله عنه، كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يذهب إلى قومه في بني سلمة فيصلي بهم صلاة العشاء، وهي له نافلة ولهم فريضة كما في سنن البيهقي وغيره، وسنده صحيح، فاختلاف النية بين الإمام والمأموم لا يضر. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 15 وفاة الشيخ أحمد مفتي زاده السؤال يقول: نشرت مجلة المجتمع في عددها الأخير نبأ وفاة الشيخ أحمد مفتي زاده وهو من أنصار السنة في إيران بعد أن أمضى عشر سنوات داخل السجون؟ الجواب هذه من الأخبار التي وصلتني بالفاكس من بعض الإخوة المعنيين بأوضاع أهل السنة في إيران، فقد كتب إلي الأستاذ الدكتور العالم الشهير عبد المنعم صالح العلي، هو ومحمد أحمد الراشد بنبأ وفاة الشيخ أحمد مفتي زاده بعد زمان طويل قضاه في السجن، وبين أخبار المسلمين السنة في إيران وما يعانون من المصاعب والمشاكل، وأنهم بأمس الحاجة إلى دعم إخوانهم من أهل السنة ومساعدتهم، فإن ثمة فرص لإقامة المساجد في بلاد السنة، ودعوتهم ونشر الكتب بينهم، بل هناك بعض الفرص سواءً في العراق أو في إيران لدعوة الشيعة إلى السنة، وقد أخبرني ثقات أن أعداداً كبيرة من شباب الشيعة قد دخلوا إلى مذهب السنة في العراق وفي إيران، مع أن الدعوة هناك ضعيفة وقليلة والضغط كبير، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 16 حكم من أتاها الدم في وقت الطهر السؤال هناك امرأة أتتها العادة، ثم طهرت عدة أيام، وبعد طهرها بأيام أتاها الدم مرة أخرى فهل تصلي وتصوم؟ الجواب إذا كانت المرة الأخرى أتاها دم العادة المعتاد بلونه ورائحته، فإنها تدع الصلاة والصيام حتى تطهر. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 17 حكم من أخذت الجهات الرسمية منهم الزكاة السؤال يقول: في العام الماضي ذهبت إلى أحد التجار لكي أعرض موضوع رجل مستحق للزكاة، فأعطاني مبلغاً من المال واعتذر لقلته، وقال: إنه يؤخذ منا أغلب الزكاة، وحدث مثل هذا الاعتذار لرجل هذا العام، بأن الزكاة تؤخذ من هؤلاء، وربما تأخذها بعض الجهات الرسمية، فهل هذه الزكاة تصل لمن يستحقها؟ الجواب إذا أخذت منهم رسمياً فقد برئت ذمتهم، أما كونها تصل أو لا تصل، فهذه مسئولية من أخذها. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 18 استغلال وقت العمل السؤال أنا أعمل في دائرة حكومية ومن بعد الظهر لا يوجد عمل، لكن زملائي يجتمعون في غرفة ويقرءون الجرائد ويتكلمون بلا فائدة، حتى تسمع بعض الكلام من بعيد والضحك، أرجو توجيه كلمة لهؤلاء؟ الجواب على الإنسان إذا كان في عمل حكومي، ولم يكن عنده عمل يشغله، أن يقبل على قراءة القرآن فهي فرصة لقراءة القرآن، وذكر الله تعالى والتسبيح وهو صائم، والملائكة تصلي عليه وتستغفر له، وهو مع ذلك يقبض مرتباً مقابل بقائه في هذا العمل، أما أن يشغل ذلك بمثل هذه الأمور التي ربما تكون نوعاً من الغيبة أو النميمة، فهذا لا شك أنه محرم، أما إن شغل وقته بالأمور المباحة، كالكلام في الأشياء المباحة، فلا حرج عليه في ذلك، ولكن الأولى ألا يضيع عمره في مثل هذه الأشياء، أو ألا يطيل فيها. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 19 الفقير الذي يجوز له أخذ الصدقة السؤال من هو الفقير الذي يجوز له أخذ الصدقة والزكاة، وإذا كان راتبه ألفين وخمسمائة ريال، والبيت إيجار ومعه الزوجة، وعنده ثلاثة أطفال فهل يستحق الزكاة والصدقة؟ الجواب هذا يعتمد على ما يملكه هذا الرجل، فمن حق الإنسان أن يملك بيتاً ولو كان محتاجاً إلى أن يشتري بيتاً له ولأولاده، فإن له أن يأخذ الزكاة لهذا، ولو اشترى بيتاً بدين فإن له أن يأخذ الزكاة ليسدد هذا الدين، إذا لم يكن عنده ما يسدد به دينه، فليس له دخل ولا مزرعة ولا دكان ولا غير ذلك، فإن البيت من الأشياء الضرورية، ومثل ذلك الغذاء والكساء والدواء، وما أشبه ذلك من الحاجيات التي يحتاجها هو أو زوجته أو أولاده، وإذا أعطيت إنساناً فلتغنه، أي: تعطيه ما يكفيه ويكفي أولاده لشهر أو شهور أو سنة لا حرج في ذلك، فإذا أعطيتم فأغنوا. أسأل الله تعالى أن يعطي منفقاً خلفاً، اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم أعط منفقاً خلفاً، اللهم من تصدقوا وبذلوا وأنفقوا وساعدوا فإننا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا يا حي يا قيوم يا أرحم الأرحمين، يا أكرم الأكرمين، يا جواد يا كريم، أن تجعل السعادة في قلوبهم، والعافية والصحة في أبدانهم، والبصيرة في قلوبهم، والرفعة في درجاتهم، وأن تطيل أعمارهم، وتصلح أعمالهم وأولادهم وذراريهم يا أرحم الراحمين، وتحل مشكلاتهم، وتوفقهم لكل خير إنك على كل شيء قدير، اللهم وفق المسلمين في كل مكان إلى ما تحب وترضى، اللهم وفقهم إلى الاجتماع على طاعتك، والعمل بشريعتك، والدعوة إلى سنتك إنك على كل شيء قدير، اللهم من كان من المسلمين فقيراً فأغنه، ومن كان مريضاً فعافه، ومن كان ذليلاً فأعزه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين يا خير الناصرين، اللهم قد أغلقت أبواب أهل الأرض، ولم يبق إلا بابك يا واسع الجود، إنك على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 20 معنى مائلات مميلات السؤال ما معنى هذا الحديث: {مائلات مميلات} الجواب هذا الحديث في صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: {صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، ثم قال: نساء كاسيات، عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} ومعنى قوله: {مائلات مميلات} قيل: مائلات في مشيهن مميلات غيرهن وقيل: مائلات عن الحق مميلات غيرهن عن ذلك، وهذا كله داخل في معنى الحديث السابق. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 21 حكم تناول السحور وقت الأذان السؤال يقول: قمت متأخراً وتناولت طعام السحور والمؤذن يؤذن، ولم أنته إلا بعد فراغ المؤذن، هل علي شيء؟ الجواب لا ينبغي للإنسان أن يتناول طعام السحور بعد طلوع الفجر، فإذا كان المؤذن أميناً يؤذن على الوقت، فينبغي الإمساك بمجرد سماع لفظة الله أكبر من صوته. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 22 الغلول السؤال السكوت عن الزملاء في المكتب الذين يكثرون الغياب، حيث إن بعضهم لا يحضر إلا بعد الظهر طوال السنة؟ الجواب هذا لا يجوز، بل هذا من الغلول، والله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:161] فلا يجوز للإنسان أن يكون على عمل فيتأخر في عمله، أو يفرط فيه، أولا يقوم بالواجب، وعليه إن وقع منه شيء من ذلك على غير تعمد؛ أن يسعى إلى تعويضه بقدر ما يستطيع. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 23 استخدام الأيدي العاملة الكافرة السؤال يقول: يوجد في إحدى الصيدليات في الصالحية عامل نصراني مصري يتحدى مشاعر المسلمين، ويقول: لأطفالهم: إنه لا فرق بين الإسلام والنصرانية، فنرجو حث الإخوان على مقاطعته؟ الجواب أولاً: يجب على كل المسلمين أن يستبعدوا مثل هؤلاء النصارى، وخاصة نصارى العرب، فلا يوجد أخبث ولا أحقد على الإسلام والمسلمين منهم، وهم أشد حقداً من نصارى الروم فنصارى العرب عصوا على بينة وعلى بصيرة، وهم قد جالسوا المسلمين في بلادهم، وحاربوهم وعادوهم وعرفوا ما عندهم، فهم أخطر ما يكون، وبعض هؤلاء النصارى في مصر يجعلون هناك شبكات لإيقاع الفتيات المسلمات في أوكار الدعارة، ويجعلون شبكات لتوريط شباب المسلمين، والحكومة هناك -مع الأسف الشديد- تعتبر أن هذا نوعاً من الحرب الطائفية، وتتصيد من تسميهم بالمتطرفين، ولم نسمع أن هناك تعرضاً للنصارى بوجه من الوجوه، فإلى الله تعالى المشتكى، فعلينا أن نستبعد جميع العمال، سواء أكانوا أطباء، أم صيادلة، أم موظفين، أم فنيين، أم ما كانوا، إذا كانوا من غير المسلمين، وألا نستعمل إلا مسلماً، ثم إذا عرفنا أنه يوجد مثل هؤلاء؛ فعلينا أن ندعوهم إلى الله عز وجل، فإن عرفنا أنهم مصرون محاربون للإسلام فيجب حينئذٍ أن يقاطعوا، خاصة إذا تفوهوا بمثل هذا الكلام، الذي إذا ثبت عليهم يعتبر نقضاً للعهد المبرم معهم، وينبغي على من اطلع على ذلك أن يثبته بالوسائل الشرعية، ثم يرسل ذلك إلى أهل العلم والإيمان. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 24 حكم صوم من لم يستيقظ إلا بعد الفجر السؤال ما رأيكم في صائم فات وقت السحور ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، ما حكم صومه؟ الجواب صومه صحيح ولا شيء عليه، ما دام قد نوى الصيام من الليل. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 25 حكم من ترك تحية المسجد السؤال رأيناك جلست ولم تؤد تحية المسجد، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الرجل الذي جلس بالصلاة ركعتين؟ الجواب لعلي لم أجلس على الأرض، هذا أولاً، الأمر الثاني: إنني تأخرت، وشعرت بأنني أخذت من وقتكم ولا شك أن تحية المسجد سنة مؤكدة أمر النبي عليه الصلاة والسلام بها فقال: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وقد جلس بعض الصحابة في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح دون أن يصلوا هاتين الركعتين ولم يقل النبي عليه الصلاة والسلام لهم شيئاً، فتحية المسجد سنة من فعلها فهو مأجور ومن تركها فلا شيء عليه. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 26 واجبنا نحو المجاهدين في فلسطين السؤال هذه ورقة من بعض الإخوة يقول نرجو ألا تنسى إخوة لنا في فلسطين، فادع الله تعالى أن يعينهم ويثبتهم، وخاصة أهل قطاع غزة ضربت عليه السلطات الإسرائيلية حصاراً، بدأ تنفيذه اليوم وإلى إشعار آخر، بسبب مقتل اثنين من اليهود، وجرح سبعة آخرين على يد بعض الشباب، وقد قتل جندي يهودي هناك، وواجب علينا نصرة إخواننا المسلمين ودعمهم والوقوف معهم ولو بالدعاء؛ عسى الله أن يرزقنا صلاة في المسجد الأقصى، ويعين إخواننا في فلسطين: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84] ؟ الجواب نسأل الله أن يذل اليهود ومن شايعهم، فإن اليهود لم يكن لهم من شأن ولا قوة؛ لولا أنهم دعموا بحبل من الناس قال الله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:112] فنحن العرب الذين نتسمى بالعروبة، نحن الذين مددنا إليهم الحبال، ورضينا بوجودهم، وعقدنا معهم المعاهدات، ومددنا معهم الجسور، بل ونحن الآن نعقد معهم الاتفاقيات للتبادل الاقتصادي، والتبادل الصناعي، والتبادل الأمني، والتبادل العسكري، ومن أجل أن نكون نحن واليهود صفاً واحداً في مقاومة الأصولية الإسلامية، لقد نجم النفاق في هذا الزمان، وظهر قرنه، وذرا صوته، وأصبح الإسلام يحارب في بلاده باسم حرب الأصولية، وحرب التطرف، وحرب العنف، وما أشبه ذلك من المسميات، وأصبح بعض بني قومنا يمدون أيديهم إلى اليهود ضد إخوانهم: والمدعون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وما له منهم رفد سوى الخطب الجزء: 34 ¦ الصفحة: 27 حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية السؤال يقول: أتحرج كثيراً في الصلاة، حيث إن الإمام لا يترك فرصة لقراءة الفاتحة، وهو يقرأ بعدها مباشرة؟ الجواب لا حرج عليك في ذلك، فالراجح من أقوال أهل العلم أن المأموم لا يجب عليه قراءة الفاتحة في الجهرية، خاصة إذا كان الإمام لا يسكت بعد الفاتحة، والله تعالى يقول: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي ذكره مسلم {إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا} فمن كان وراء الإمام فقراءة الإمام له قراءة، فإن سكت الإمام فاقرأ، وإن قرأ الإمام فعليك بالسكوت ولا حرج عليك. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 28 الجريمة في الغرب والسقوط الوشيك السؤال يقول: سمعت في إحدى الإذاعات تقريراً عن الجريمة بين الأحداث في بريطانيا، وكانت على شكل ندوة، وكان من ضمن المشاركين بعض المسئولين الذين قالوا: إن هذه الجرائم في أوروبا إنما هي من إفرازات الرأسمالية، وأن هذا النظام له سلبيات كثيرة، فهل هذا يدل على تبرم من هؤلاء بذلك، وأنه يبشر بسقوط هذا النظام؟ الجواب نعم، وعندي معلومات كثيرة عن ذلك، وسوف أخصص لها بعد رمضان إن شاء الله محاضرة خاصة عنوانها السقوط الوشيك. وسوف أتحدث فيها عن الانهيار الذي ينتظر الأمم الغربية، بعد ما راحت ضحيته الأمم الشرقية. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 29 مجالسة الكفار السؤال ما حكم مجالسة الكافر؟ الجواب إن كانت مجالسته للدعوة وأمره بالخير وبيان الدين له، وبيان ما هو عليه من الباطل، فذلك من الخير ومن البر والله تعالى أمر بذلك وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل:12] أما إن كانت مجالسته لتسمع ما عنده من الضلال والفساد والانحراف وترضى بذلك، فهذا لا يجوز، قال الله تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [النساء:140] وأما إن كانت المجالسة لحاجة مثل أن يكون جمعك معه عمل، فلا حرج عليك في ذلك، ولكن عليك أن تستفيد من ذلك في دعوته إلى الله تعالى، وأمره بالإيمان والإسلام، مع أنه ينبغي على المسلمين أن يسعوا في إخراج المشركين من بلاد الإسلام، وخاصة من جزيرة العرب، وقد ساءني جداً ما سمعته من قدوم بعض الأطباء والموظفين من الهندوس، أهذه الجائزة التي نقدمها لهم، بعد ما هدموا أكثر من ثلاثمائة مسجد، منها المسجد البابري، وبعد ما قتلوا آلاف المسلمين، وبعد ما انتهكوا أعراض أخواتنا المسلمات؟! نقدم لهم هدية على طبق من ذهب، وكثير من هؤلاء الهندوس يأخذون أموالهم من منطقة الخليج العربي، وقد عرفت ذلك، وعندنا معلومات جديدة خطيرة عنهم وعن مخططاتهم في هذه المنطقة المهمة الثرية الغنية، فالله الله في إخوانكم المسلمين، لا تخذلونهم، ولا تولوهم الأدبار، ولا تطعنوهم في ظهورهم باستعمال الهندوس، وأعداء الإسلام. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 30 حكم الأرباح البنكية الربوية السؤال لي مساهمة في شركة سابك، وقد علمت أن الأرباح تدخل البنك للحصول على بعض الفوائد الربوية، فلو احتنبنا هذه الأرباح الممزوجة بالفوائد امتثالا لقول الله عز وجل: {لا تَأْكُلُوا الرِّبا} [آل عمران:130] ولكن استعملته لشراء بعض الحاجات الأخرى، كفرش المنزل ولعب الأطفال وغيرها، فهل هذا جائز؟ الجواب إن كنت تعلم أنها من الربا فلا يجوز لك استعمالها {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] أما إن كنت لا تدري فانظر، إن كانت هذه الشركة تعلن نسبة الأرباح والفوائد البنكية، فتقول مثلاً: عشرة في المائة فوائد بنكية، فعليك أن تخرج من الأرباح ما قيمته (10%) وتتخلص منها في أبواب الخير، أما إن كنت لا تدري، فعليك أن تتخلص من نصف هذه الأرباح (50%) منها في أبواب الخير، ولا تجعلها في شيء من أمورك الخاصة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 31 حامل لعبة الورق أثناء الصلاة السؤال صليت الظهر، وبعد الانتهاء منها تذكرت أني أحمل في جيبي لعبة ما يسمى بالورق، ومن المعلوم أن فيها صوراً، ثم عزمت أن أخرجها من جيبي قبل العصر، ولكني نسيت، وكذلك الحال في المغرب والعشاء، فما حكم صلاتي؟ الجواب أما صلاتك ما دمت ناسياً والصورة مخفية؛ فأرجو أنها مقبولة -إن شاء الله تعالى- وصحيحة، أما مايتعلق بهذه الصور فعليك أن تزيلها، وعليك أن تتلفها، وذلك لأن هذه اللعبة تضيع الوقت، وتسبب العداوة بين الإخوة، وربما يتحول لعبها إلى نوع من الإدمان، وقد قال كثير من أهل العلم بأنها مكروهة، بل بعض أهل العلم وصل بها إلى درجة التحريم، لما فيها من الإلهاء والإشغال عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 32 الملابس التي فيها صور السؤال هل يجوز لبس الملابس التي فيها صور أو عليها علامة صليب؟ الجواب ينبغي للمسلم أن يحرص على تجنب هذه الملابس، خاصة إذا كانت على الكبار، وخاصة إذا كانت هذه الصور لرجال أو نساء، وقد تكون صوراً لبعض العظماء عند الكفار، كالمغنين والممثلين، والراقصات وعارضات الأزياء والرؤساء، وما أشبه ذلك ممن هم من الطواغيت الذين يجب بغضهم ومحاربتهم وتجنبهم، ومقاطعة كل ما يكون فيه تصاوير لهم، أما إذا كانت على الأطفال فالأمر أخف، ومع ذلك ينبغي -إن أمكن- أن تطمس الصور، أو تزال أو يزال بعضها، فإن لم يتسن ذلك كله، فعلى أقل تقدير أن تلون بألوان من جنس لون الملابس، بحيث لا تتميز الصورة بلون خاص. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 33 النظر إلى العورة أثناء الصيام السؤال أنا امرأة أقوم بعلاج زوجي بتطهير جرح في مكان ما، ويؤدي ذلك إلى النظر إلى العورة، فهل في ذلك مضرة على الصوم؟ الجواب يعتقد بعض النساء أن النظر إلى العورة يسبب الفطر، وقد سألتني نساء كثيرات: هل كشف الطبيبة على امرأة للحاجة، هل ذلك يفطر؟ والجواب: كلا! لا علاقة لذلك بالصيام ولا يفطر، لا الطبيبة التي تكشف ولا المريضة التي يكشف عليها، ومثل ذلك المرأة لو اضطرت إلى الكشف على زوجها لعلاج أو تمريض فإن ذلك لا يفطر. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 34 استجابة الدعاء السؤال تقول: أنا أدعو الله تعالى في هذا الشهر المبارك فلا يستجاب لي، وأنا طالبة في إحدى المدارس؟ الجواب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي} ولا يدعو المؤمن بدعاء إلا أجابه الله تعالى، أو دفع عنه من الشر مثله، أو ادخره ليوم الحساب، فهو على خير، والله تعالى يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ولو لم يكن من بركة الدعاء إلا أنه عبادة لله تعالى يكتب للعبد به أجر عند الله تعالى لكفى، فهو إذا دعا كتب له أجر، كما إذا صلى أو صام أو تصدق أو حج أو ماشابه ذلك. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 35 دعاة على أبواب جهنم السؤال يقول: في حديث حذيفة الذي ذكر {دعاة على أبواب جهنم} فالآن كثرت الدعوات من الجماعات والأحزاب، فهل هؤلاء هم أولئك الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة {دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها} ؟ الجواب هم الذين يدعون إلى الضلال، ويدعون إلى الفتنة، ويدعون إلى مخالفة السنة، وإلى البدع، وإلى الشيوعية وإلى الاشتراكية، وإلى الكفر، وإلى الرفض، ويدعون إلى الاعتزال، ويدعون إلى ما أشبه ذلك من المبادئ الكافرة أو الضالة، فهؤلاء هم الذين أخبر عنهم النبي عليه الصلاة والسلام، أما من يدعون إلى الخير والهدى والإيمان والسنة، فإن هؤلاء على خير، وليسوا مقصودين بالحديث، ولو كانوا مقصرين في بعض الأمور. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 36 حكم تارك الصلاة السؤال إنسان يصوم رمضان، وفي غير رمضان لا يصلي أحياناً فهل إذا ترك صلاة المغرب في رمضان أو غيره هل له أجر من الله تعالى؟ الجواب أما إن كان هذا الإنسان تاركاً للصلاة بالكلية، كما هي حال بعض الناس لا يصلون قط، ومع ذلك يصومون، فهؤلاء على القول الراجح عند جماهير أهل العلم أنهم ليسو بمسلمين، ولا ينفعهم صومهم ولا عبادتهم، لأن الله تعالى يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وقال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} أما إن كان يصلي ويترك، يصلي أحياناً ويترك أحياناً، فهو على خطر عظيم، وقد أتى باباً من أبواب الكبائر، ويخشى أن يختم له بسوء، ويخشى ألا يقبل منه عمله، فإن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين، فعليه أن يتوب إلى الله تعالى ويراجع دينه، ويحرص على الصلاة، بل يكون مع المسلمين في صلواتهم {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] . الجزء: 34 ¦ الصفحة: 37 استعمال الفكس للصائم السؤال الفكس هل يفطر أم لا؟ الجواب كل الروائح بمجردها لا تفطر، لكن ينبغي للإنسان أن يحرص على أن الأشياء التي تكون رائحتها نفاذة ألا يقر بها من أنفه محافظة على صيامه، ومثل ذلك أيضاً ما ذكرته من موضوع البخور الذي يحرق بالنار. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 38 الإسراف بالمال أثناء العمرة السؤال يقول: بعض الناس يذهبون إلى العمرة ويستأجر أحدهم سكناً بعشرات الآلاف، ولو أنه تصدق بهذا المبلغ على فقير لكان خيراً له؟ الجواب سبق أن ذكرت أن السفر إلى العمرة وإطالة البقاء هناك، مع إهمال الولد فيه مضرات كثيرة، ولو أن هذا الإنسان ذهب وأدى العمرة، وحصل على الأجر تعدل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، خاصة في شهر رمضان الكريم، ثم وفر بقية المبلغ للفقراء والمساكين والمحتاجين وأهل الديون، أو لأصحاب الجوائح العامة، والشعوب المسلمة المستضعفة التي تعاني؛ لكان ذلك خيراً له. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 39 سجدة التلاوة أثناء السفر السؤال ما حكم سجدة التلاوة أثناء السفر؟ الجواب إذا كان الإنسان في سيارة، وهو يقرأ القرآن فوصل إلى موضع سجدة، فإن كان يقود السيارة فإنه لا يسعه أن يسجد حينئذٍ، لأن السجود قد يكون سبباً في حادث يضره أو يضر غيره، أما إن كان راكباً وقرأ فإنه حينئذ يسجد بحسب وسعه، ولو أن يضع يديه وجبهته على ما أمامه، ويسبح الله تعالى. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 40 جمع التبرعات في الحرم السؤال ما حكم جمع التبرعات في الحرم المكي الشريف، خاصة في العشر الأواخر لصالح المسلمين المتضررين؟ الجواب يا ليت أن يكون هذا، ولكن إذا لم يتيسر هذا على النطاق العام، فلا حرج عليك أنت أن تبذل وسعك في جمع التبرعات للمسلمين بكل مناسبة. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 41 حكم الماء النازل من البدن أثناء غسل الجنابة السؤل: هل الماء النازل عن الجسم أثناء الغسل من الجنابة نجس أم لا؟ بمعنى: إذا لامس الملابس المعلقة النظيفة تكون نجسة؟ الجواب هذا المال النازل من البدن، إن وقع على نجاسة في البدن مثل البول فإنه يكون نجس، أما إذا لم يقع على نجاسة بمعنى أن المغتسل قد طهر موضع النجاسة أولاً ثم اغتسل بعد ذلك، فإن الماء النازل من البدن لا يكون نجساً، ولا ينجس الملابس التي يقع عليها. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 42 الأسباب الشرعية في العلاج السؤال لقد ابتلاني الله تعالى منذ سنتين بمرض، ولقد راجعت قرابة عشرة أطباء لكنهم لم يجدوا شيئاً وما زلت أشكو من هذا المرض، فأرجو الدعاء لي بالشفاء، لعل الدعاء بتأمين الحاضرين يكون مستجاباً؟ الجواب أولا: عليك أن تدعو الله تعالى لنفسك كما أسلفت، فلن يكون أحد أنصح منك لنفسك، ولا حرج أن تستخدم الأسباب الشرعية، ومنها الرقية، فإنها ربما تنفع، وقد قرأ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه سورة الفاتحة على لديغ، فبرأ وقام كأنما نشط من عقال، ثم إني أسأل الله تعالى لك ولسائر مرضى المسلمين أن يشفيهم ويعافيهم، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 43 الاهتمام بقضايا المسلمين السؤال إنكم قد تحدثتم عن المسلمين في كل مكان، ألا يستحق الجهاد في فلسطين والمجاهدين مثل هذا الحديث؟ وتذكير المسلمين بوجوب تحرير الأقصى من أيدي اليهود، وبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك، فقد جمعت التبرعات للمجاهدين في العالم، ونسيتم مجاهدي فلسطين فقد نسيتموهم حتى من الدعاء؟ الجواب ندعو الله تعالى أن ينصر إخواننا المجاهدين في فلسطين، ونسأله جل وعلا أن يحرر المسجد الأقصى من رجس اليهود، ونسأل الله تعالى أن يقر عيوننا برؤية كتائب الجهاد، وهي تدق أبواب هذا البلد المبارك، وتطهره من رجس اليهود، فنحن لم ننس هؤلاء الإخوة، فهم يعيشون معنا وفي قلوبنا، وإني أشكر الأخ الكريم الذي كان محامياً عن قضية من قضايا المسلمين، وهكذا يجب علينا جميعاً، فإن الجراح كثيرة والألم أكثر، فربما في غمرة ذلك قد يكون الأمر كما قيل: تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد ولكن علينا أن نكون مدافعين عن قضايانا، ومذكرين بها، وأنا أطالب الإخوة الذين يحملون هم جرح معين أن يبذلوا وسعهم في سبيله، فالإخوة الفلسطينيون -مثلاً- عليهم أن يكونوا دائماً وأبداً مذكرين بقضيتهم في كل مكان، والإخوة من بلاد المغرب كذلك والإخوة من البوسنة كذلك، والإخوة من الصومال كذلك والإخوة من الفلبين كذلك، بحيث تظل قضايا المسلمين تعيش في وجداننا وفي حياتنا، وسأحاول إن شاء الله أن أخصص وقتاً لذلك. الجزء: 34 ¦ الصفحة: 44 حديث الركب تحتوي هذه المادة على مجموعة من المتفرقات، منها دعوية ومنها أخبارية، ومنها سياسية، فقد تحدث عن العطلة الصيفية، ثم تكلم عما يحدث بالمسلمين في بقاع الأرض، ثم تحدث عن أخطار محدقة بالأمة الإسلامية. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 1 التصحيف إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد عباد الله! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وهذا المجلس الرابع والستون من الدروس العلمية العامة في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثاني والعشرين من شهر الله المحرم من سنة (1413هـ) وعنوان هذا المجلس (حديث الرَّكْبِ) . والركب: جمع راكب، والمقصود بهم: جماعة المسافرين، فإن القوم إذا كانوا في سفر فإنهم يعزفون كثيراً عن الأحاديث الثقيلة الطويلة، ويحرصون على الأحاديث القصيرة المختصرة المتنوعة؛ رغبةً في أن يقطعوا عنهم عناء الطريق، وهذا ما قصدته وأشرت إليه بهذا العنوان، أي أن حديثي إليكم الليلة سيكون على نمط أحاديث سابقة، مثل: "من هنا وهناك" أو "ثمرات الأوراق" وما شابه ذلك. مع أن هذا الحديث سيكون فيه من الموضوعات والأحداث والأحوال ما تنوء بحمله الجبال وما تهتز له القلوب، وما تدمع له العيون، ولكن المقصود على كل حال هو التنويع لا غير، وقد قرأ بعض الإخوة العنوان خطأً فقرءوه حديث الرُكَب -بضم الراء وفتح الكاف- ثم ذهبوا في تفسيره كل مذهب وقالوا: جمع ركبة، وظنوا أنه يتعلق بأحاديث واردة في موضوع الرُكَب سواء في الصلاة أو في غيرها. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 2 كلام السلف في تلقي العلم عن الكتب ولذلك كان السلف رحمهم الله يقولون: لا يؤخذ القرآن من مصحفي ولا العلم عن صحفي، أي أن الذي أخذ علمه عن الأوراق والقماطر، ولم يثنِ ركبته عند أهل العلم كثيراً ما يقع في الخطأ والوهم والتحريف والتصحيف لسوء فهمه وقلة علمه وضبطه، ومما يذكر في هذا الباب -وقد ألف فيه كثيرون من أهل العلم منهم الإمام العسكري صنف فيه كتباً منها تصحيفات المحدثين- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: [[لا يورث حميلٌ إلا ببينة]] أي أن الحميل الذي يحمل من بلاد الروم أو غيرها ولا يعرف أهله؛ فإنه لا يرث من ادعاه إلا أن يأتي ببينة على أنه ابنه أو قريبه، فصحفها بعضهم وقرأ هذه الكلمة هكذا " لا يرث جميل ٌ إلا بثينة " ومع ما فيها من الخطأ النحوي فإن فيها الخطأ المعنوي الكبير، ومن المعروف ما بين جميل وبثينة من العلاقة، وكأن هذا المحرف المصْحِّفْ جعل بثينة ترث جميلاً. وقد ذكر الإمام العسكري شيئاً كثيراً مما يتعلق بتحريفهم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم وتصحيفهم له، ثم انتقل إلى بابٍ آخر أوسع وأخطر وهو تحريفهم لآيات الله سبحانه وتعالى وسوء قراءتهم لها، وفي ذلك الكتاب الذي أشرت إليه شيءٌ كثير. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 3 الشباب والإجازة ولا أقول نحن الآن على أبواب الإجازة، بل قد دلفنا إليها، وقد مضى منها أيامٌ أو أسبوع أو أكثر من ذلك، وهاهنا يتطلب الأمر حديثاً طويلاً لا أريد أن أفيض فيه الآن، فقد سبق وأن تكلمت عنه قبل سنة أو أكثر بعنوان (ماذا في الإجازة) ولكنني أشير إلى أمور سريعة فحسب. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 4 واجبات الشباب الذين يبقون في بلادهم ملاحظة ثانية: إن كثيراً من الشباب يبقون في بلادهم هنا، ويتساءلون ماذا نصنع، وماذا نعمل؟ فأقول: ما أكثر المجالات والميادين التي تحتاج إلى جهود الشباب حتى وهم في بلادهم! فأما دروس العلم وحلق الذكر فهي كثيرة بحمد الله، جداً فيحرص الشاب أن يجعل برنامجه في هذه الإجازة حفظ شيءٍ من كتاب الله عز وجل، فإن لم يكن أو قد حفظ القرآن الكريم فحفظ شيءٍ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف أتحدث في نهاية هذا المجلس -إن شاء الله تعالى- عن برنامج جديد لتحفيظ السنة النبوية، فإن لم يكن فعليه أن يثني ركبه في مجالس أهل العلم مدارسةً ومذاكرةً وسؤالاً واستماعاً وغير ذلك، فإن لم يكن فاشتراكاً في بعض المشاريع الخيرية، والمراكز الصيفية، والجولات الوعظية، التي تذهب إلى سائر البلاد لتعليم الكتاب والسنة، وتعليم الناس أمور الاعتقاد وأمور التعبد وغير ذلك، فإن لم يكن هذا ولا ذاك أو مع هذا كله فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الأسواق مع مجموعة من أهل الخير، فإن وجدوا منكراً غيَّروه بالكلمة الطيبة والأمر المناسب في الأسواق، والأندية، والحدائق وأماكن تجمعات الشباب، ترتادون هذه الأماكن وتجلسون مع أصحابها تباسطونهم في الحديث، وتدعوهم إلى الله عز وجل، وتزيلون هذه الوحشة الموجودة في قلوب أهل الخير، وتهدونهم الكتاب المفيد والشريط النافع، وتدعونهم إلى مجالس الذكر وإلى المساجد وحلق العلم، وتذكرونهم بالله تعالى، وتحدثونهم عن أوضاع إخوانهم المسلمين في كل مكان. وما أحوج الشباب إلى مثل هذه الأمور! خاصةً وأنهم في الإجازة يتفرغون فيتجمعون على الأرصفة وفي الحدائق والأسواق وفي غيرها، ولربما لا توجد جهات رسمية تقوم بالاتصال بهم أو دعوتهم أو منع أي تجاوز أو مخالفة، وإن وجد شيئاً من ذلك فهو قليل، فما أحوجنا إلى المحتسبين المتبرعين الذين ينذرون أنفسهم لوجه الله تعالى في مثل هذه السبل، وفي مثل هذه الميادين! هذه وقفة سريعة مع موضوع الإجازة والكلام فيها كما أسلفت يطول. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 5 زيارة المسلمين في بقاع الأرض أولاً: يتجه كثير من الشباب الصالحين في مطلع الإجازة إلى زيارة المسلمين في بلادٍ شتى كجمهوريات الاتحاد السوفيتي، أو المسلمين في يوغسلافيا، أو غيرها من البلاد سواء بجهود شخصية، أو عن طريق بعض الجامعات، أو عن طريق هيئة الإغاثة، أو عن طريق غيرها، وبكل حال فإن هذا أمرٌ طيب ومواصلة المسلمين هناك أمر مطلوب، ودعوتهم إلى الله عز وجل ونشر العلم الصحيح هي من أهم المهمات. إننا نجد -أيها الإخوة- أن من أصحاب الاتجاهات المنحرفة من الصوفية والرافضة وغيرهم يبذلون جهوداً كبيرة لتغيير عقول المسلمين هناك، وقد وقفت من ذلك على شيء كثير مما كتبوا وصنفوا وألفوا وسجَّلوا، فقيام أهل السنة والجماعة، وأصحاب الاتجاهات الصحيحة بزيارة إخوانهم هناك، ودعوتهم إلى الله عز وجل، ومساعدتهم هو من منافسة أهل الشر بالخير، ومقاومة الباطل والضلال بالهدى والقرآن الذي أنزله الله تعالى هدى للناس وبينات، وواجب على الأمة المسلمة، وواجب على القادرين من الشباب وغيرهم، لكن ينبغي أن يراعى في هذا أمور: أن الإنسان يذهب إلى بلاد لا يعرفها فهو يحتاج إلى أن يكون عنده وعيٌ ويقظة وخوف يمنعه من الوقوع في الحرام، فلا يذهب بمفرده، ولا يذهب إلا من يعلم من نفسه يقيناً وقوةً وصبراً وثباتاً في مواجهة الفتن ومواجهة المغريات والشهوات. كذلك ينبغي أن يعرف أنه يذهب إلى بلاد يكثر فيها النصب والاحتيال والتستر، فلا ينبغي أن يذهب الإنسان وهو طيب القلب سليم الطوية ومعه مالٌ جمعه من المسلمين فيعطيه لأي إنسان يحسن به الظن، بل ينبغي أن يستفيد من خبرة من سبقوه إلى هناك، وألا يقع في بعض الشباك والفخاخ التي تنصب لكثير ممن يأتون إلى كثير من البلاد الإسلامية. أمر ثالث: إنه ينبغي أن يحدد الإنسان ما هو الهدف الذي يذهب من أجله، هل هو يذهب من أجل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وتعليم الكتاب والسنة، أم يذهب إلى إغاثة محتاجين وملهوفين ومشردين، أم يذهب للاستطلاع ومعرفة الأوضاع هناك، فلابد أن يحدد الهدف الذي من أجله ذهب حتى لا تذهب به الرياح يمنةً ويسرة. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 6 التطرف قضى الله سبحانه وتعالى فيما سبق من أسابيع ويسر إلقاء محاضرتين: إحداهما في جدة والأخرى في مكة أما المحاضرة التي في جدة فقد يسر الله تعالى أن ألقيتها في جامع الإسكان في العاشر من المحرم، وكانت بعنوان (حقيقة التطرف) وموضوع هذه المحاضرة واضح، ولا أتحدث عما قلته فيها فهو موجود لمن رغب أن يستمع إليه. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 7 فرج فودة وأفكاره وكتاباته النقطة الرابعة في موضوع التطرف أيضاً: من القضايا التي أثارت التطرف أن هناك كاتباً مصرياً اسمه فرج فودة هذا الكاتب قتله بعض الشباب الذين ينتسبون إلى إحدى الجماعات الإسلامية، أو هكذا قالت أجهزة الإعلام وأجهزة الأمن هناك، وقامت الدنيا ولم تقعد من أجل فرج فودة وتكلموا عنه أنه شهيد الكلمة، وبدءوا يترحمون عليه ورفع، حتى إن رئيس الدولة طلب أن تطبع كتبه كلها على نفقته وتوزع بالمجان، ولو قرأ أي إنسان أي صحيفة أو مطبوعة لوجد أنها تثني على هذا الرجل، وتتكلم عنه وتعتبره مثالاً ورمزاً للفكر والعقل والمنطق. فلننظر الآن فرج فودة هذا الذي غضبوا من أجله ومن أجل قتله من يكون، دعونا من تاريخ فرج فودة، ومتى ولد، ومتى مات، وما هي المناصب التي تقلد فيها لأن الموضوع طويل، لكن لـ فرج فودة مجموعة من الكتب منها: ما قبل السقوط، الحقيقة الغائبة، حوار حول العلمانية، الطائفية إلى أين، الإرهاب، حوارات حول الشريعة، وله عدد كبير من المقالات المطبوعة في الصحف والمجلات الحكومية، إلى جانب صحيفتيالتجمع والأحرار، بالإضافة إلى مقالاته الأسبوعية (كلام في الهواء) التي تنشر في مجلة أكتوبر، وكان ضيفاً ثابتاً على التلفزيون المصري. هل فرج فودة مسلم؟ بداية للجواب على هذا السؤال أقرأ عليكم بعض كلامه، أنا لا أحكم على فرج فودة فهو قد قدم إلى ربه عز وجل، وأترك الحكم عليه إلى كل إنسان عادل يسمع الكلام الذي سوف أقرؤه الآن، يقول: إن القوانين الوضعية تحقق المصلحة للمجتمع أكثر من الشريعة الإسلامية، هذا في كتاب الحقيقة الغائبة، ويقول: ورأيي أن القانون الوضعي يحقق مصالح المجتمع في قضايا الزنا أكثر مما ستحققه الشريعة لو طبقت، أيضاً في الحقيقة الغائبة (ص:121) . وعن القانون الحالي في مصر يقول: إنه يعكس احتياج المجتمع المعاصر بأقدر مما تفعله الشريعة، ويقول: ببساطة أنا ضد تطبيق الشريعة فوراً أو حتى خطوة خطوة؛ لأنني أرى أن تطبيق الشريعة لا يحمل في مضمونه إلا مدخلاً لدولة دينية. هذا في كتاب حوارات حول الشريعة، (ص:11) ويقول: إن الدعوة إلى إقامة دولة دينية في مصر تمثل ردة حضارية شاملة بكل المقاييس. الطائفية إلى أين (ص:20) . وقد سخر الرجل قلمه ولسانه بصورة بذيئة لمنع تطبيق الشريعة الإسلامية، وتطاول الرجل على عبد الله بن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وقال عنه: إنه كان يسرق بيت المال. هذا في كتاب الحقيقة الغائبة (ص:60) وكان فرج فودة يدعو للتعايش مع إسرائيل، وبدأ هو بنفسه في التعامل بالاستيراد والتصدير، حيث يمتلك شركة تعمل في هذا المجال، وكان يعترف بأن السفير اليهودي في القاهرة صديقه، ويعد هذا الرجل من أبرز دعاة تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وجاء تأسيسه لحزب اسمه حزب المستقبل في هذا الصدد، ومما يقوله: إن المنطقة مقبلة الآن على السلام الذي ليس له إلا أسلوب واحد، وقد وضع الرجل نفسه أمام الرأي العام بكل وضوح أنه ضد قيام الدولة الإسلامية وضد تطبيق الشريعة، وكان ذلك واضحاً كل الوضوح. في مناظرة أخيرة عقدها مع أحمد محمد خلف الله في معرض الكتاب في هذا العام، وفي مواجهة محمد الغزالي ومأمون الهضيبي ومحمد عمارة وهم دكاترة يمثلون الاتجاه الآخر، يتكلمون باسم الاتجاه الإسلامي، في هذه المناظرة أثار حنق الكثيرين من عامة الشعب، ومن المؤمنين على وجه الخصوص وأصحاب الاتجاه الإسلامي. يقول فرج فودة: إن أعضاء اللجنة التشريعية في مجلس الشعب المصري قد أصيبوا باكتئاب شديد، قال لأنهم طالبوا بتحريم سفور المرأة، ومنع الشذوذ الجنسي، ومنع الزنا بالتراضي، وعندما حدثت حادثة الأتوبيس بالعتبة وهي قضية اعتداء علانية على عرض امرأة، كتب مقالاً فيه سخر فيه ممن قالوا: إن سبب الحادثة هو السفور والتفسخ في العلاقات، وفقدان الحشمة في الملابس النسائية، وقال: إن سبب هذا الحادث هو التطرف الديني. وللكاتب مواقف مشهودة ومشهورة من مظاهر التدين العامة كالحجاب، واللحية، ومحاربة الاختلاط وغيره، وقبل وفاته بأيام تقدم بمشروع للرئيس المصري يطالب فيه بوضع فقرة في الدستور لمحاربة الإرهاب الديني، قد أقر الآن، برنامج نظام لمحاربة الإرهاب والتطرف الديني، في مجلس الشعب وهو موضع التنفيذ هناك. على أي حال من ضمن ما يقوله أيضاً: إن ابن تيمية قد هددني بالقتل، رغم أنه مات قبل قرون - لا يزال الكلام له- إلا أنه ما يزال سيفه مصلتاً على رقابنا يهددنا جميعاً بالقتل، لذلك أرسلت لبعض علماء الأزهر وقلت لهم: لماذا لا نعيد محاكمة ابن تيمية؟! وعلماء الأزهر هؤلاء الذين يطالبهم بمحاكمة ابن تيمية ماذا يقول عنهم؟ إنهم نالوا نصيباً من شتائمه وسبابه حتى طالت بنادقه شيخ الأزهر نفسه، وطالب بجلد شيخ الأزهر في ميدانٍ عام. كما هاجم أيضاً الدكتور يوسف القرضاوي والشعراوي وغيرهم، وملأ كتبه باللمز والهمز على الصحابة والتابعين، فليس غريباً أن يتكلم في بعض المشايخ أو بعض العلماء، أو بعض المنتسبين إلى العلم. هذه المؤهلات التي كتبها وقالها جعلته الكاتب المفضل عند الأقباط النصارى، لأنه يعلن ما لا يقدرون هم على إعلانه، حتى إن شنودة نفسه أعلن مرات أنه معجب بكتابات فرج فودة، ولما طلب منه أن يبعث بشخص يمثل الأقباط في أحد المرات رشح فرج فودة، وقال: فرج فودة يمثلنا. وفي كتابه الطائفية إلى أين يقول: إن البرامج الدينية تمثل اختراقاً للإعلام، وخطراً على مدنية الدولة، ويعتبر أن الإعلام في مصر التلفاز والإذاعة والصحف وغيرها تشجع الفتنة الطائفية بإذاعتها للأذان، ويقول: هذا تراجع إعلامي أمام المد الديني، ويرى أنه من الخطأ الفادح الذي وقع فيه المشرفون على التلفزيون، أنهم أعطوا مساحات كبيرة من ساعات الإرسال للبرامج الدينية خاصة للشعراوي في تفسيره وأحاديثه، كما هاجم بعنف إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة هناك؛ لأنها اصطبغت بالصبغة الدينية، ويتعجب كيف سمحت لمجلة المجاهد بالانتشار في صفوف أفراد القوات المسلحة، كما هاجم العلماء الذين حرموا الربا، وتحفظوا على فتوى مفتي مصر بإباحة شهادات الاستثمار ووصفهم بأنهم فقهاء النكد، وقال: يجب أن نضحي بتطبيق الشريعة بالكلية حتى لا نخدش مشاعر النصارى. قال هذا في جريدة الأهالي. وهجم على منظمة حماس الفلسطينية، وقال: إنها نجحت في تقسيم الصف الفلسطيني لأول مرة، ونجحت في تقليص إعلام دمشق وعندما حدثت أزمة حلايب بين مصر والسودان كتب يقول: أهلاً ومرحباً -يعني بالخلاف- ويدافع عن جون قرنق في جنوب السودان. هذه بعض الكلمات والمقالات التي كتبها وقالها. من الأشياء الطريفة: يقول محمد زكريا وكيل أحد الأحزاب هناك: ذهبت إلى فرج فودة عام 1990م وقلت له: أخشى عليك أن يهدر دمك مجنون، ويحكم عليك بالموت متصوراً أنه يضحي بنفسه من أجل الإسلام والمسلمين، يقول: خوفته بهذا، فالتفت إليّ بعد أن انقبض وجهه وقال: تفتكر أنه يمكن يحدث ذلك؟ قلت له: كل شيء ممكن، إذا اعتقد القاتل أنه قتلك في سبيل الله ممكن، قال: فقام من مقعده وتوجه إلى الشرفة، ورفع حصيرة الشيش وقال: اطمئن الحكومة موفرة حماية كبيرة عند المنزل وعند المكتب، وأشار إلى مكتب المباحث القريب منه، وقال: انظر هذا الكشك الذي أمام المكتب وعلى ناصية كلية البنات، أقامته المباحث لحمايتي، وعند مدخل العمارة يوجد حراسة، قلت له: -وهذا وكيل أحد الأحزاب وليس من المنسوبين إلى الاتجاه الإسلامي- قلت له: إذاً هذا معناه أن هناك تحريضاً لك، وأن هناك من يشجعك ويقول لك: استمر ونحن نوفر لك الحماية، في الوقت الذي فشلوا في حماية رأس السلطة السابقة يعني أنور السادات فقال: لا، إن رسالتي هي أن أنقي الإسلام من خطايا المسلمين، يقول: قلت له: أخشى عليك يا فرج من نفسك. إذاً نخلص من هذا الكلام إلى أن الذين قتلوا فرج فودة هم الذين دفعوه إلى أن يهاجم الإسلام والمسلمين وأن ينال من دين الله عز وجل، وقالوا له: نحن نوفر لك الحماية، وقل ما شئت، ودافع عن اليهود، ودافع عن النصارى، ودافع عن العلمانيين، وهاجم الإسلام والمسلمين والصحابة والشريعة والدولة الإسلامية، وتكلم عن التطرف والمتطرفين، ونحن سوف نحرسك ونحفظك منهم، فهؤلاء هم الذين قتلوه حقيقة وإن كانوا قد ألصقوا التهمة بمن يسمونهم بالمتطرفين. وبمناسبة ذكري لهذا التقرير المطول الذي اجتزأت منه، فإني أشكر الأستاذ عبد الله الوهيبي الذي أرسل لي بهذا التقرير الوافي عن هذا الرجل بناءً على محادثة بيني وبينه. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 8 مقال نشرته جريدة صوت الكويت النقطة الثالثة التي تتعلق بموضوع التطرف: مقال نشرته جريدة صوت الكويت في (6/1/1413هـ) عنوانه: حب الوطن والتكفير ووزارة التربية، والمقال غريب يقول فيه: أنه نقل نصاً من كتاب التربية الإسلامية المقرر على الصف الثاني متوسط يقول هذا النص: (وطني أغنى الأوطان، فيه خيرات كثيرة يحاول اغتصابها أعداؤنا الكفرة من أمم الكفر أمريكا وروسيا وإسرائيل وسوف أدافع عن وطني) انتهى النص. بعد ذلك علق عليه هذا الكاتب يقول: مع احترامي وتقديري لكل الأساتذة أقول لهم: 1- ليس من حقكم أن تحكموا على الناس بالكفر!! فما عادت القضية أن تكفر المسلم الذي ارتكب مكفراً، بل حتى الكافر واليهودي والنصراني والبوذي والوثني لم يعد اليوم من حقك -في نظر هؤلاء- أن تقول له: كافر! والله تعالى يسميهم كفاراً ويقول: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة:1] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة:6] إلى غير ذلك من النصوص الصريحة في كفر اليهود والنصارى والوثنيين وغيرهم، وهذا من المعلوم من الدين بالضرورة الذي لم يختلف عليه المسلمون قطعاً، ومع ذلك يقول هذا الإنسان: ليس من حقكم أن تحكموا على الناس بالكفر. 2- إسرائيل وشعبها يدينون بالتوراة، وهو كتاب أنزله الباري على سيدنا موسى عليه السلام، وبالتالي فهم أبناء عمومتنا من أهل الكتاب وليسوا من أهل الكفر. 3- أمريكا وشعبها يدينون بالمسيحية، وكتابهم هو الإنجيل الذي جاء به سيدنا عيسى عليه السلام ناصحاً وهادياً لليهود، ولاقى في سبيل دينه وكتابه ما لقي من تعذيب وتشريد واتهام، ومن ثَمَّ صلب على أعواد المشانق، فهم ليسوا من أهل الكفر، وإنما يؤمنون بالله واليوم الآخر. وقبل أن أواصل قراءته أذكركم بأن هذا المسكين نسي أنه سب اليهود من حيث لا يدري؛ لأنه من هو الذي تعرض لعيسى عليه السلام، ومن هو الذي كذبه، ومن هو الذي اتهمه، ومن هو الذي آذاه وعذبه وشرده وزعم أنه صلبه؟ إنهم اليهود، ولو تذكر هذا الإنسان أن الذين فعلوا هذه الجرائم هم اليهود ما قال الذي قال، لأن التطبيع الآن وعلاقات السلام -مع أبناء عمومته كما سماهم- تستدعي أن لا يذكر تاريخ اليهود المليء بالحقد على الأنبياء والقتل والتشريد والإيذاء والاعتداء عليهم. ثم قال: ومن ثم صلب على أعواد المشانق وربنا عز وجل قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ويقول: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157-158] فيا سبحان الله! أن تجد إنساناً يحمل اسماً إسلامياً وينتسب إلى بلاد إسلامية، وأن تجد جريدة تصدر باللغة العربية وفي بلادٍ عربية وتباع في بلاد المسلمين كلها، وفي هذه البلاد أيضاً، ثم تنشر مثل هذا الكلام المخالف نصاً لكلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وعقيدة المسلمين منذ أن وجد الإسلام إلى اليوم، ثم يمضي الأمر وكأن شيئاً لم يكن. 4- وهو الآن أحرج لأنهم تكلموا عن روسيا وروسيا كانت بلداً شيوعياً، فماذا يريد أن يقول عن روسيا؟ هل يريد أن ينفي عنهم الكفر أيضاً، قال: روسيا لم يكن نظامها السياسي، وتركيبتها الاقتصادية، وفلسفتها الاجتماعية لم تكن تؤمن بالأديان قاطبة، ولكن الشعب الروسي خليط من الأديان الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية، ويسبحون في ملكوت الله ويصلون في قرارة أنفسهم ليل نهار ويتجهون إلى الله صباح مساء تبارك الله رب العالمين، ثم يقول: إذاً لماذا اتهام الناس بالكفر وهي تهمة بغيضة شنيعة، وإذا كانت أمريكا من أمم الكفر كما يصف هذا الكتاب المقرر على أولادنا فكيف يفسر مدرس هذه المادة موقف أمريكا من تحرير الكويت المؤمنة المسلمة وهي الدولة الكافرة؟! وعلى افتراض أن أمريكا وشعبها من الكفار الزنادقة، هل كنا نرفض موقفهم المؤيد لنا ومساعدتهم لتحرير الكويت؟ وهل كنا سنضحي بالكويت من أجل أن أمريكا التي سوف تحررنا هي من أمم الكفر؟ أقول: يبدو من هذا الكلام أن هناك مجموعة نشأت ليس في الكويت فحسب، بل في العالم الإسلامي لم يعد الميزان عندها هو القرآن والسنة ولا الإسلام، وإنما الميزان عندها هي قضية الكويت فمن وقف معهم في أزمة الكويت فهو حبيبهم وصديقهم الذي ربطوا به حاضرهم ومستقبلهم، ومن سكت أو وقف ضدهم أو تحفظ أو كان معهم ولكن بالحق، فهذا هو عدوهم الذي لا يقبلون منه صرفاً ولا عدلا. ولهذا لم يعد غريباً أن نجد على الجماعات الإسلامية، وعلى بعض الدول الإسلامية، هجوماً شنيعاً بالحق أحياناً وبالباطل في الغالب، في المقابل الذي نجد فيه مثل هذه اللهجة الغريبة جداً مع إسرائيل وأمريكا أو روسيا مع أمم الكفر الذين سماهم الله عز وجل كفاراً، ولم يسمهم أحد من عند نفسه. أما قضية موقف أمريكا فهذا عجبٌ من العجب، هل قال أحد في الدنيا كل الدنيا أن أمريكا تدخلت في الكويت لأنها بلد مؤمن يحمي الإيمان ويحمي السلام ويحمي العدالة؟ أبداً! أمريكا تدخلت من أجل مصالحها، وهذا ليس سراً يقوله الجميع، ولعلكم تعرفون أن هناك أديباً ودبلوماسياً كبيراً من هذه البلاد كان يكتب أثناء الأزمة يومياً، وقد كتب فيمن كتب، وقال: لا أحد ينكر أن تدخل الغرب في أزمة الخليج كان من أجل حفظ مصالحهم ولا شيء في ذلك، إذاً هذا ليس سراً وليس موضع اختلاف. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 9 مقال نشرته صحيفة روز اليوسف أمرٌ آخر: نشرت صحيفة مصرية اسمها روز اليوسف مقالاً طويلاً عما أسمته التطرف المسيحي، وقالت: إنه كما يوجد متطرفون في الإسلام، هناك متطرفون في المسيحيين، وذكرت جماعة التكفير والهجرة عند النصارى ومن يرأسها ومعلومات كثيرة، الغريب في الأمر أنها تكلمت مع زعيم من زعماء الأقباط يسمى البابا شنودة وكان يتكلم بقوة، وقال لا يوجد تطرف مسيحي أو نصراني أبداً! ولو وجد لكانت أجهزة الأمن المصرية قد قبضت عليه وأصبح يدافع عن بني قومه. وأقول: يا ليت أن يوجد في المسلمين وعلمائهم هناك وفي كل مكان من يدافع عن أعراض المسلمين، والذين يزج بهم في السجون ويعلقون على أعواد المشانق، وتصدر الآن القوانين والأنظمة الرسمية التي تعطي رجل الأمن الحق في قتل المسلم في الشارع، ويقول رئيس دولة إسلامية كبرى: مش عاوزين محاكمات ووجع رأس، نريد أي إنسان متطرف يضرب بالرصاص في الشارع وننتهي من أمره، لا نريد تحقيقات وأخذ ورد. وقد أصدرت مصر كما سمعتم جميعاً ما أسمته بالتنظيم المتعلق بمحاربة التطرف كبرنامج أو جدول قد أقرته وأصبح الآن موضع التنفيذ، فيا ليت أنه يوجد من علماء الأزهر، أو من علماء الإسلام من يدافع عن حقوق المسلمين هناك، كما دافع ذلك القبطي النصراني عن حقوق بني قومه وبني جنسه وبني دينه من النصارى. والغريب أن -مجلة روز اليوسف - ذكرت بعد هذا التقرير مقالاً مختلقاً ووضعته أيضا على الغلاف الرئيسي، ومع هذا كله فإنها بيعت وتداولت وقرأها الناس هنا وهناك، هذا الخبر المختلف يتعلق بدير يوجد في سينا اسمه سان كاتريك، قالت المجلة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد حفظ لهذا الدير مكانته وكرامته بخطابٍ موجود محفوظ وبشهادة عشرين من الصحابة، ثم ذكرت خطاباً مكتوباً تزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كتبه، وأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو الذي قام بخطه، وأن عشرين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شهدوا عليه، وأن هذا الخطاب وجد في ذلك الدير الموجود في سينا. وقد صدّقت الصحيفة هذه الرسالة ونشرتها، وقالت: هذا دليل على حماية الرسول صلى الله عليه وسلم للأقباط والنصارى وحفظ كرامتهم، وأن المتطرفين في مصر وغيرها يخالفون هدي الرسول صلى الله عليه وسلم. ونحن نقول: الإسلام يحفظ كرامة الإنسان، وأهل الذمة في الإسلام لهم حقوقهم المعروفة، وقد تكلم عنها العلماء قديماً وحديثاً، وممن تكلم عنها الإمام الفذ ابن القيم رحمه الله في كتاب أحكام أهل الذمة وهو مطبوع في مجلدين، وممن تكلم عنها من المعاصرين الدكتور عبد الكريم زيدان وهو فقيه عراقي في كتاب ضخم سماه أحكام الذميين والمستأمنين ولكن مَنْ قال: إن النصارى في مصر أو غيرها قد حفظوا الأمانة ورعوا العهد؟! وصلتني رسائل تقول: إن النصارى يقتلون المسلمين ويعتدون عليهم، بل ويعتدون على أعراض المسلمات، ويوجد في الجامعات هناك وفي بلادٍ أخرى شبكات نصرانية مهمتها اصطياد الفتيات المؤمنات والإيقاع بهن وتصويرهن على أوضاع سيئة، ثم تهديدهنَّ بأن ينخرطن في تيار الفساد والرذيلة والبغاء، وإلا فضحوهن على رؤوس الأشهاد ولدى أقاربهن ومحارمهن، فضلاً عن نشر المخدرات وغيرها، وكل القائمين بكل بهذه الأمور هم من النصارى. مَنْ قال: إن الأقباط والنصارى في مصر أو في غيرها قد حفظوا العهد والميثاق؟! وهم يكتبون كثيراً كتابات تنال من الإسلام ومن الرسول صلى الله عليه وسلم، بل من رب العزة عز وجل فضلاً عن المسلمين؟! ومن المعلوم أنه لو فرض أن هناك يهودي أو نصراني له عهد وميثاق فسب الله ورسوله، فإنه ينتقض عهده وميثاقه بذلك. ثم مَنْ قال: إن الأمر الذي يحدث هو مجرد صراع بين النصارى والمسلمين؟! وأن الحكومة تحاول إيقاف ما يسمى بالفتنة الطائفية؟! إنني متأكد أن المقصود أن يثبت بعض من ينتسبون إلى الإسلام للغرب ويقدموا له شهادة حسن السيرة والسلوك، أنِ انظروا في أي مشكلة تحصل بين المسلمين والنصارى نحن نقف مع النصارى ضد المسلمين، هذا هو الذي يراد أن يقال، هي رسالة للغرب ولأمريكا بالذات، أنه نحن الآن علمانيون بما فيه الكفاية، ونحن لا نفرق بين المسلم والنصراني، بل على العكس نحن نقف مع النصراني ضد المسلم، ولذلك لم نجد ولا صحيفة مصرية واحدة تكلمت عن حقوق المسلمين المسلوبة، ولا -على الأقل- أفسحت المجال لهم أن يدافعوا عن أنفسهم، ولكن كانت جميع الصحف تدافع عن النصارى؟ لأنها تمثل الرأي الرسمي. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] هذا حكم الله عز وجل: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] يخشون من النظام الدولي الجديد {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] ولا شك أن هذه الوثيقة التي نشرتها مجلة روز اليوسف ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثيقة مكذوبة مختلقة لم يذكرها أحد من أهل العلم بالتاريخ والأخبار فضلاً عن المحدثين وغيرهم، فهي وثيقة مختلفة مزورة، وهي تشبه الوثيقة التي زورها اليهود، وأشهدوا عليها مجموعة من الصحابة، ثم ثبت أنها وثيقة مختلقة بشهادة التاريخ نفسه، وتكلم عنها الإمام الخطيب البغدادي، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم، وكانوا قد أشهدوا عليها مجموعة من الصحابة، وزعموا أنها كتبت يوم خيبر، مع أن أولئك الصحابة لم يكونوا أسلموا يومئذٍ. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 10 ندوة في لندن عن التطرف لكنني أضيف الآن بعض الموضوعات المتعلقة بعنوان المحاضرة، وهو (حقيقة التطرف) فقد سمعت بعد هذا العنوان ندوة عقدت وأذيعت في إذاعة لندن عن هذا الموضوع، وتكلم فيها كثير من الناس، ولم أسمع منها إلا قليلاً من الصوت المعتدل، فقد سمعنا في تلك الندوة وهي مسجلة في أكثر من ساعة صوتاً يتهم الإسلام نفسه بالتطرف من هذه البلاد -لا أعني هذه البلاد بالذات- لكن من بلاد الإسلام، ومن نساء ورجال يحملون أسماءً إسلامية، فيقولون: إننا نسمع كثيراً من يفرقون بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، ونحن لم نسمع إسلاماً معتدلاً قط، -كما تقول إحداهن- فكل ما سمعناه هو تطرف وغلو، وهم يدعون إلى قتل الكفار، بل إلى قتل المسلمين الذين يخالفونهم في الاتجاه، وتقول: إن كل من يحمل أفكاراً علمانية، أو ينادي بفصل الدين عن السياسة وعن الحياة فهو في نظر هؤلاء كافر، وإذا أصر على دعوى الإسلام فإنهم يصفونه بأنه زنديق، ويعتبرونه حلال الدم والمال، ثم قالت أخرى: إن أولادنا يُعَلَّمون في المدارس ألواناً من التطرف وإنهم يصلتون علينا سيف النصوص، فكلما قامت واحدة منا تنادي بتحرر المرأة، أو تغيير أوضاع المرأة العربية، أو إعطائها حقوقها، فإنهم يصفونها بأنها متأثرة بالغرب، ويصلتون عليها سيف النصوص الشرعية -أي القرآن الكريم والسنة النبوية- وكأنها تريد من الناس ألا يقرءوا آية ولا يقرءوا حديثاً رعايةً لخاطرها لأن هذه الآية وهذا الحديث يدلان على أن هذا هو الإسلام وما عداه هو الباطل، وماذا بعد الحق إلا الضلال. ولم يقتصر أمرهم عند حد مطالبة المسلمين بالكف عن الرد على الخصوم أو عيبهم، بل وصل الأمر إلى حد أن يقولوا: لا نريد منكم أن تقرءوا الآيات القرآنية ولا أن تقرءوا الأحاديث النبوية. لأنكم بذلك تستغلون سيفاً اسم سيف النصوص أو السيف النصي الذي تحاربون به كل من يخالفكم، ونقول لهم ولهن: ليس علينا عيبٌ إلا أننا نرجو أن نكون وقافين عند حدود الله، ملتزمين بالنص قرآناً وسنة، أما أنتم فلا: وكل خلاف بيننا فلأننا وعيناه في ضوء الكتاب ولم تعوا فهذا طرف. الطرف الثاني: يدافع عن الإسلام، ولكنه ضمن دفاعه عن الإسلام يُحَمِّلَ الإسلام ما لا يحتمل، فيقول: الإسلام دين التسامح ودين الحرية، والمسيحيون -كما يسميهم- إخواننا، والإسلام يفتح لهم ذراعيه، ويحفظ لهم إلى غير ذلك من الكلمات المطاطة الواسعة التي بموجبها فقد المسلمون معنى الولاء والبراء، معنى البراءة من المشركين والكفار، معنى الالتزام والتميز بهذا الدين، فصار كثير، من المنسوبين إلى الإسلام وإلى العلم الشرعي والى الجامعات والمؤسسات الإسلامية يتكلمون عما يسمونه إخواننا الأقباط في مصر، ويعطونهم من عبارات الثناء والترحيب والتكرمة ما لا يعطونه حتى لإخوانهم المسلمين ممن يصمونهم بأنهم متطرفون، ويرمونهم بأبشع الألقاب وأحط الأوصاف. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 11 أخبار البوسنة والهرسك وبعد هذا الاستطراد حول موضوع التطرف، الذي كان موضوع محاضرة جدة فإنني أنتقل إلى موضوع المحاضرة الثانية، وكانت في مكة، وكانت بعنوان (لماذا يخافون من الإسلام) وهي على كل حال تتكلم عن الغرب والنصارى وعداوتهم لهذا الدين من منطلق كلام الله عز وجل، ثم من منطلق الواقع المشهود الذي يؤكد حقيقة عداوتهم لنا في الماضي والحاضر والمستقبل على حدٍ سواء، ومما يتعلق بهذا الموضوع أن هناك تحليل يتلكم عن انهيار الإمبراطورية الأمريكية، وأتجاوزه لأن الوقت يمضي بنا سريعاً، وأنتقل بعده إلى الكلام عن موضوع البوسنة والهرسك والجديد في هذا الأمر. هذه القضية القديمة الجديدة أخبارها تلاحقنا أسرع منا، ولذلك الكثيرون لا يسمعون شيئاً وإن كنت ذكرت بعض أخبارهم في المحاضرة المشار إليها، لكنني سوف أنقل لكم الآن وبسرعة بعض الأخبار الجديدة والمفزعة عن أحوال إخواننا المسلمين هناك. يقول الرئيس الأمريكي في لقاء له مع رئيس البوسنة والهرسك: بينما نحن نجتمع الآن هنا تجري هناك عمليات إبادة للمسلمين في البوسنة والهرسك وهذا لا بد أن يتوقف، وأضاف الرئيس الأمريكي: الشعب الأمريكي يرى مناظر الإبادة اليومية، والمجازر التي تحدث للمسلمين في البوسنة والهرسك، ويتساءلون هل يمكن إيقاف ذلك؟ قال: لا بد من دعم هناك ومساعدة لحماية وجود البوسنة والهرسك. هذا كلام الرئيس الأمريكي، ويكفي بالتعليق عليه أن الصحف الفنلندية نقلت هذا التعليق وقالت: إنها فرصة مناسبة لأمريكا لإثبات مصداقيتها للأنظمة العربية، ونحن نريد من أمريكا قولاً لا فعلاً، أما الكلام فهو للمزايدة والتجارة فقط، نحن نريد منه فعلاً تدخلاً لحماية المسلمين إن كانوا صادقين! والرئيس الفرنسي زار مطار سراييفو وفرح بعض الناس بذلك وتعجبوا، لكن الواقع أن هذه الزيارة أثارت شكوكاً لدى الأوساط السياسية الإسلامية هناك؛ حيث انتشرت أخبار كثيرة بأن الصرب كانوا على علم بموعد الزيارة وبمدتها، وأن إيقاف إطلاق النار على طائرة الرئيس الفرنسي كان متفقاً عليه أيضاً، فيما كانت النتيجة النهائية للزيارة هي إيقاف إصدار قرار مجلس الأمن بالتدخل ضد صربيا. إذاً هو قام بحركة سريعة وذكية من أجل إيقاف قرار مجلس الأمن بالتدخل ضد الصرب، وإلى ذلك فقد تضاعفت المضايقات التي يوجهها الكروات وهم الحلفاء الآن للمسلمين في جمهورية البوسنة بعد تشكيل الحكومة الكرواتية الداخلية التي يرأسها قائد القوات الكرواتية في البوسنة والهرسك الذي يحظى بدعم كبير من الرئيس الكرواتي الذي قام بتعيينه رئيساً لهذه الحكومة المستحدثة. ومن الأخبار الموجعة والمفزعة أيضاً: أحد الناس وهو لاعب في الماضي لكرة القدم، ثم أصبح رجل أعمال، وهو اليوم أحد المشردين المهاجرين خرج من مسقط رأسه وهو موجود حالياً في سراييفو يقول: لا يمكن وصف الذي حدث في تيشغراد فالشوارع والجسور والأنهار كلها مغرقة بالدماء، لقد أصبحت مذبحاً لم يبق فيها أحد، هاجرت معنا بعض الأسر الصربية التي اتهمت بخيانة الشعب الصربي، يقول: أصعب وأشد الأوقات تكون حينما ينزل جنود الصرب الاحتياطيون من قرية تابعة لإحدى الكتائب فيسكرون مع جيراننا من الصرب، ثم تحت تأثير الخمر ينطلقون من بيتٍ إلى بيت يتلذذون بهتك أعراض البنات المسلمات دون سن البلوغ وأمام ذويهن، وقمة التلذذ تكون بإسقاط الأطفال والرضع من فوق جسر نهر درينا، ثم يراهن القناصة مَنْ منهم سيصطاد أكبر عدد، إننا لم نحص عدد الضحايا حتى الآن لكن من المؤكد أنه لم يبق بيت واحد سالماً، كانوا ينهبون كل شيء، انتهى مصنع الأثاث، كل الآلات والأدوات نقلت بالشاحانات إلى صربيا أما الممتلكات الخاصة فقد نهبوها كلها، فأخذوا الأثاث حتى الحطب الذي جمعه الناس في مخازن الفحم أخذوه. ومن أخطر وأبشع الأخبار التي وصلتني اغتصاب الفتيات المسلمات في مدينة برجكو يقول: لا تزال تتوالى الأخبار بما تقشعر له الأبدان، وتشيب له الولدان، فبجانب المجازر الوحشية التي تقوم بها المليشيات الصربية والجبل الأسود ضد المسلمين الأبرياء، فإنهم يعملون على تحقيرهم وإذلالهم، وذلك من خلال أعمالهم الاضطهادية: من الضرب المبرح، والخدش بالسكاكين، ورسم التثليث والصلبان على أجسادهم، وقطع الأعضاء التناسلية، وتقذير المساجد وتمزيق ورمي المصاحف والمشي عليها، وأعمال وحشية أخرى. ومن أكثر الأعمال الوحشية التي يقوم بها أعضاء المليشيات هي اغتصاب الفتيات بالقوة، والتي لم تسلم منها حتى الفتيات من سن سبع سنوات، وحتى النساء فوق ستين سنة، ولكي يهينوا أهاليهن أكثر فإنهم يقومون بذلك أمام أعينهم من آبائهن وإخوانهن وأطفالهن وجيرانهن، وجرت أخيراً مثل هذه الأعمال في مدينة ذكر اسمها باللغة الإنجليزية حيث قام بعض أعضاء هذه المليشيات بأخذ مائة وخمسين مسلمة وأعمارهن بين عشر وخمسة عشر سنة، وقاموا باغتصابهن أمام أعين كثير من الأقرباء وأمام مجموعة من المسلمين، وهؤلاء الفتيات البائسات لمدة أيام كانوا يتنقلون بهن على أماكن متعددة لأعضاء المليشيات، وبعد مرور شهر على اعتقالهن أطلقوا سراحهن، ووصلن إلى مدينة توزولا، وهن الآن في حالة سيئة للغاية حيث أجسادهن وحالتهن النفسية منهارة، وقد طلبوا من الجمعية الإسلامية في مدينة توزولا بأن تقدم لهم فتوى بالسماح للفتيات البائسات بإسقاط الحمل الموجود في أحشائهن. هذا التقرير مؤكد وقد أرسل إليَّ وعليه ختم رسمي، وكتب إليَّ الأخ شكري حسنين يقول: هذه الأخبار والتقارير التي تحكي عن مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك من الوكالة الإسلامية للأنباء، وعليها ختم الرئاسة العليا هناك، فهي أخبار مؤكدة. إلى هذا الحد بلغ الأمر بهؤلاء الصرب النصارى ومن ورائهم العالم المتفرج، إنها حرب صليبية تؤكد عداوة النصارى للمسلمين في كل زمانٍ ومكان، وعلى المسلمين أن يفهموا ويفقهوا هذه العداوة التي ذكرها الله تعالى في كتابه فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ} [آل عمران:118-119] . الجزء: 35 ¦ الصفحة: 12 بعض المواضيع التي سيتكلم عنها الشيخ في دروسه العلمية العامة هناك كثير من الإخوة والأخوات يتمنون أن أعلن عن عدد كبير من الموضوعات؛ حتى يتمكنوا من مواصلتي بما لديهم من وثائق وحقائق أو أخبار أو اقتراحات حول هذه الموضوعات، ولهؤلاء ولأولئك أذكر بعض الموضوعات التي سوف أقدمها -إن شاء الله تعالى- في هذه الدروس، سبق وأن تكلمت عن موضوع التنصير، وقد جاءني فيها أوراق ووثائق كثيرة جداً وغريبة، ولكن ما زلت أنتظر الكثير من ذلك، خاصة وأن بعض الإخوة وعدوني وذكروا أن عندهم كميات كبيرة من الوثائق المتعلقة بالتنصير في منطقة الخليج العربي فأطلب من هؤلاء الإخوة سرعة موافاتي بما لديهم. كما أن هناك موضوعاً جديداً مهما سوف أشير إليه الآن، وهو ما يتعلق بالبث المباشر، ومثل موضوع التلفزيون والفيديو، فإنني أنتظر من بعض الإخوة معلومات ووثائق حول هذه القضايا وحول الصحون والهوائيات التي تستقبل البث العالمي، ومن الموضوعات موضوع المرأة، وما يتعلق بأحوال المرأة المسلمة في بيتها وفي مدرستها، ومآسي الطلاق هو أحد الموضوعات إلى غير ذلك. ومن الموضوعات: قضية التصنيع والتقنية وحاجة المسلمين إلى ذلك، ومنها موضوع الحروب الصليبية المعاصرة والمعلومات حولها، ومنها المسلمون في عدد من البلاد فإن في عزمي إن شاء الله أن أخصص موضوعات عن عدد من البلاد الإسلامية، موضوعاً مثلاً، أو عن اليمن وأحوال الدعوة الإسلامية هناك، موضوعاً آخر أيضاً عن مصر وموضوعاً آخر عن تونس، وموضوعاً عن فلسطين، فآمل من الإخوة خاصة من الشباب المنتسبين لهذه البلاد موافاتي بما لديهم من معلومات ووثائق وحقائق عن الدعوة الإسلامية في تلك البلاد وعن أحوال المسلمين هناك، وآمل من الإخوة مشاركتنا، وبالمقابل أعدهم بأني سوف أتحدث بإذن الله تعالى قريباً عن هذه الموضوعات، وأوجه خطاباً للمسلمين هناك. وقبل أن أغادر الموضوعات أود أن أشيد بمجموعة من المشاركات الجيدة والإيجابية، من ذلك لجنة البر الإسلامية فإن هذه اللجنة وبالذات ما يتعلق بالإعلام فيها لها نشاط كبير، وهي توافينا وتوافي غيرنا أولاً بأول بأخبار المسلمين في البوسنة والهرسك وأفغانستان والسودان وغيرها، فلهم منا جزيل وجميل الدعاء، وأسال الله أن يبارك في جهودكم وشكراً لهم على ما يفعلونه في سبيل التوعية في قضايا إخوانهم المسلمين، وكذلك وكالة اسمها وكالة قدس برس توافيني على وجه الخصوص بالأخبار المتعلقة بأوضاع المسلمين في فلسطين، وأخبار منظمة حماس، وأعمال اليهود هناك، ويرسلها لي بعض الإخوة الشباب جزاهم الله خيراً. وأيضاً بعض الشباب أرسلوا لي بعضاً من الموضوعات، أحدهم أرسل لي موضوعاً مهماً هو عن تاريخ الصحوة الإسلامية جزاه الله خيراً، وآخر أرسل لي قرابة ستة موضوعات بالفاكس، وكلها موضوعات مهمة وثمينة، وسوف أتكلم عنها وأدعو الله تعالى أن يبارك في وقته وجهده. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 13 قصيدة عن البوسنة والهرسك والأستاذ عبد الرحمن بارود صور مأساة المسلمين في سراييفو في هذه القصيدة الجميلة التي أقرأ شيئاً منها: أبحرت في الجماجم البشناق والسكارى من سكرهم ما أفاقوا آه يا مسلمون متم قروناً والمحاق الأعمى يليه محاق أي شيء في عالم الغاب أنتم آدميون أم نعاج تساق نحن لحمٌ للوحش والطير منا الجثث الحمر والدم الدفاق قد هوينا لمَّا هوت وأعدوا وأعدوا من الردى ترياق يعني لما تركنا قوله عز وجل: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وأقول: نعم، وأيضاً لما تخلينا عن ديننا وتمزق شملنا. واقتلعنا الإيمان فاسودت الدنيا علينا واسودت الأعماق وإذا الجذر مات في باطن الأرض تموت الأغصان والأوراق سراييفو تباد والعالم المجنون لغوٌ وخسة ونفاق فيمَ هذا الحطام والقصف الذبح وبقر البطون والإحراق نطقت بالشهادتين وهذا عندهم جرمها الذي لا يطاق تركوها وحولها من نمور الصرب طوقٌ من خلفه أطواق كل حين تلمُ لحم بنيها ذي يد تلك طفلة تلك ساق نضب الماء والدواء وجرحاها ألوفٌ وفي الجحور اختناق فتحت فوقها جحيم تدك الأرض حمراء مالها إغلاق ومئات القرى حطامٌ وأما عن بيوت الرحمن فهي انسحاق وعلى المحصنات تبكي البواكي يا لعرض الإسلام كيف يراق ليت شعري يا بحر هل أنت بحرٌ أم سراب على الفلا رقراق سراييفو من دولة المجد عثمان أبوها والفاتح العملاق سراييفو من قلب مكة بالتوحيد يعلو لواؤها الخفاق ملكٌ كالحمائم البيض حبٌ وسلامٌ ورحمة وانطلاق هاهي الآن ساعة الذبح قد خارت قواها وزاغت الأحداق وإذا حزت السيوف الحلاقيم فلا ينفع الذبيح النعاق قدمتها الصلبان للصرب قرباناً وللصرب كلهم عشاق يا قطيعاً من ألف مليون رأسٍ صار نهباً يجري عليه السباق أيها اللحم في نيوب الضواري صهوات العز السيوف العتاق أنت يا بطرس بن بطرس غالي بسياط الحقد الدفين تساق لا يزال الصليب يحجب عينيك ونجم الكنيسة البراق بيدي بطرس ٍ وتبت يداه علقت في المشانق الأعناق لو فعلنا بالصرب ما فعلوه لرأينا الذي رآه العراق قد حفظنا للمرة الألف عنكم عالم الغاب ما له ميثاق سل عن العدل جدك الولد القبطي لما جرى بمصر السباق قد حملنا قرآننا فأضاءت ألف عامٍ مضت وسبع طباق وأعادٍ من جلدتي طعنوني ولهم بين أضلعي أنفاق كم عدو من جلدتي باع لحمي وله من دمي الذكي اغتباق أين أنتم يا من رقصتم لتيتو يوم كان الهوى وكان العناق جرعتنا الأصنام سماً زعافا والطبول الجوفاء والأبواق يا عبيد العبيد منذ أتيتم طفحت بالنخاسة الأسواق يا شباباً من عالم الغيب جاءوا كالغيوث ارتوت بها الآفاق طلعوا من جذور بدرٍ بدوراً قد سقاها من نوره الخلاق بسيوفٍ مخبوءة في الشرايين لها من لظى البروق ائتلاق فارتقبهم فرسان فتحٍ جديد وأمام الخيول طار البراق أخرجوا من محارق الكفر أنقى جوهراً ليس في الصفوف اختراق داركم فوق والعرائس حورٌ ودماء الشهيد نعم الصداق هذه أيضاً قصيدة سلمني إياها بعض الإخوة وهي للشاعر عبد الرحمن العشماوي مطلعها: نناديكم وقد كثر النحيب نناديكم ولكن من يجيب تعثرت الخطى حتى رأينا خطانا لا تهش لها الدروب وقد نشرت في المجلة العربية في العدد الأخير، ولضيق الوقت أعتذر عن قراءتها، وأنتقل إلى النقطة الثانية وهي الكلام عن بعض الموضوعات الجديدة. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 14 البث المباشر النقطة التالية هي تتعلق بالتلفزيون والهوائيات والبث المباشر، وهذا الموضوع موضوع كبير ويحتاج أيضاً إلى حديث، وذكرت لكم أننا نحتاج إلى مشاركة من بعض الإخوة، ولكن حتى تأتي هذه المشاركة نخصص وقتاً لهذا الموضوع أتكلم عن هذا الموضوع باختصار، فقد نشرت بعض الصحف منها جريدة الرياض في عدد يوم الأربعاء 8/1 نشرت أن الكويت الآن أصبحت تستقبل البث المباشر التلفزيوني وبدون هوائيات، وتقول إن هناك الآن خدمة تلفزيونية لاستقبال البرامج عبر الأقمار الصناعية، وهي طريقة تغني عن استخدام الهوائيات أي أن هناك جهوداً الآن عن طريق وكالة الوزارة وزارة المواصلات لإيصال هذه الخدمة إلى المواطنين بواسطة خط تلفزيوني يمكن أن يوصل إلى المشترك فيه ما يزيد أحياناً على أربعين قناة تلفزيونية عالمية، مقابل رسم معين، وسوف يتولى القطاع الخاص توفير هذه الخدمة عن طريق شركة وطنية مساهمة، وأضاف أن وزارة الإعلام تنظر إلى هذه العملية على أنها خدمة وبادرة حضارية ومطلوبة ليتمكن المشاهد من متابعة الأحداث العالمية فور وقوعها. وهذه قضية خطيرة؛ لأن هناك كثيراً من المحطات العالمية متخصصة بتخريب الأخلاق وهذا موجود، ويمكن الاتصال بها عن طريق اشتراك يوصل إلى البيوت، كما يشترك الإنسان بالهاتف وغيره، وهناك محطات ووكالات متخصصة في التنصير وتخريب عقائد المسلمين وعقولهم، وهذه يمكن أن تصل إلى أي بيت عن طريق الاشتراك، وتخرب عقول الرجال والنساء والشباب وغيرهم. هذا في الكويت في الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن خطر التلفاز وضرره حتى من الناحية الطبية، فمن الغريب أن في نفس العدد من جريدة الرياض تكلموا عن أن مشاهدة التلفزيون -وهذه نتيجة دراسة للأطفال في أمريكا ترفع نسبة الكلسترول إلى معدلات خطيرة بين الأطفال، وتؤدي إلى إصابات أمراض القلب، وقال: إن هذا نتيجة دراسة أجريت على مجموعة كبيرة من الأطفال هناك. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 15 انتشار الصحون والهوائيات أيها الإخوة ظاهرة غريبة بدأت تطل علينا في هذه البلاد، فالذي يتجول في شوارع جدة أو الرياض يفاجأ ويندهش من هذه الصحون والأقراص الهائلة والكبيرة، وذات الأحجام الواسعة، والمخصصة لاستقبال البث العالمي المباشر، حتى إن بعض هذه الأقراص تصل قيمته إلى ما يزيد عن مائة ألف ريال حسب تقرير وتحقيق نشرته جريدة الرياض في (14) محرم، وبعضها من الحجم المتوسط سبعون ألف ريال، ومن الحجم الصغير من ثلاثين إلى أربعين ألف ريال، يدفع إنسان مائة ألف ريال من أجل هذا الصحن! ثم يتأسف البعض من الصحفيين وغيرهم لأصحاب الدخل المحدود الذين لا يملكون إلا الحسرة والانتظار! حيث لا يتسنى لهم الأمر بحكم ضيق اليد أن يركِّبوا مثل هذه الصحون والأطباق التي تستقبل البث المباشر. أمرٌ آخر: تجدها في الشوارع تباع، وقد رأيت هذا كثيراً في جدة والرياض وشوارع بأكملها تقريباً خصصت لتصنيع الهوائيات وتركيبها، بل يقول تقرير نشر في جريدة الرياض أيضاً في (15) محرم: في المنطقة الصناعية بالرياض الكل تحول إلى صناعة الدشوش، مائة ورشة فعلاً تخصصت في هذا وحولت عملها إلى صناعة الدشوش، وأثرت حتى إن بعضهم أصبحوا يمتلكون الملايين بسبب إقبال الجمهور على هذه الأشياء. كنا في الماضي نسمع أن هناك منعاً من قبل الإعلام ومن قبل الجمارك لدخول مثل هذه الآلات والأجهزة التخريبية، التي تدمر عقول الناس وأخلاقهم وأديانهم، بل وهي سببٌ من أهم الأسباب المباشرة في زعزعة استقرار وأمن هذه البلاد، كنا نسمع أنها ممنوعة وكانت ممنوعة فعلاً، ولا أعتقد أنه فعلاً صدر قرار بنسخ المنع، ولكن يبدو أن القبضة قد تراخت وأن هناك تسامحاً أو غضاً للنظر عن هذه الأشياء، فمن غير المعقول وجود مائة ورشة تصنعها في الرياض ووجود محلات رأيناها بأعيننا في الرياض تعد بالمئات في الرياض وجدة لبيع هذه الهوائيات وتركيبها في محلات كثيرة جداً، بل هناك أحياء راقية ربما تكون موجودة في معظم البيوت فيها. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 16 خطورة البث المباشر إن بعض هذه القنوات وبعضها تستقبل أكثر من خمس وأربعين محطة، فتستقبل محطة إسرائيل مثلاً، تستقبل القناة الفرنسية، تستقبل قنوات تنصيرية، تستقبل قنوات تبث الدعارة، تبث الرذيلة، تبث الفساد، تبث الانحلال، فضلاً عن أنها تستقبل قنوات رياضية، وقنوات علمية، وقنوات تعليمية، وقنوات إخبارية، وقنوات اقتصادية هذا كله صحيح، ولكن: أولاً: كم حجم المعنيين بالأخبار في مجتمعنا؟ أطرح سؤالاً آخر: هل مجتمعنا بلغ من الوعي والإدراك والحرص على تتبع الأخبار أولاً بأول ومعايشتها إلى هذا الحد؟ في تقديري بأن الأمر ليس كذلك، وأن مجتمعنا ربما يعيش أحياناً حالةً من الأمية في معرفة الأخبار، وحاجة إلى توعية كبيرة، وأن هناك تعتيماً كبيراً على هذا المجتمع ورَّث تخلفاً في الوعي الإخباري، والحرص على تتبع الأخبار سواء كانت علمية أو اقتصادية أو تربوية أو تعليمية أو رياضية أو سياسية أو غير ذلك. إن من المؤكد أن الدافع لدى الأغلب هو أمرٌ آخر غير ذلك، والإنسان بطبيعته قد يحب مشاهدة المشاهد المثيرة والمشاهد المغرية، وإذا لم يكن لديه رادع ديني وإيمان وخوف من الله عز وجل، فإن العين تطمح والبصر ينطلق، لهذا أدبنا الله عز وجل بقوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30-31] ورسولنا صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة: {العين تزني وزناها النظر} فأنا أعتقد أن الكثيرين أو أن عدداً غير قليل -وأحب أن أكون صريحاً مع من يستمعون إليَّ- أعتقد أن أكثر من يقتنون هذه الأجهزة الهوائية، أنهم يمارسون ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وما نهى عنه الله عز وجل، فتطمح أبصارهم إلى رؤية ما لا يرضي الله سبحانه وتعالى. نحن جميعاً بشر، ونحن من طينة واحدة، ومن طبيعة واحدة، والمشاعر الموجودة عندك موجودة عندي، والطموحات الموجودة عندك موجودة عند زيد وعُبيد من الناس، فليست القضية سراً وكون الشباب يقبلون على المجلة التي تعرض صورة امرأة جميلة، بل كون المجلات تختار أجمل النساء وتعرضها على غلافها يعني أن الجميع يعرفون أن الإنسان وخاصةً الشباب تغريه صورة المرأة الجميلة. إذاً الكثير ممن يقتنون هذه الهوائيات ويستقبلون بها المحطات العالمية وتلفزيونات العالم، هم يبحثون عن شيءٍ آخر غير مجرد الأخبار، وعلى سبيل المثال هناك قناة عربية، بل لا أفشي سراً إذا قلت إنها قناة سعودية يملكها رجال من أهل هذا البلد وتسمى (الإم بي سي) او تلفزيون الشرق الأوسط، تبث من لندن، وتلتقط في كل مكان من هذه البلاد، بل قبل فترة كان التلفزيون السعودي نفسه يلتقط الأخبار منها ويذيعها عبر فقراته مباشرةً فيشاهدها كل إنسان، فماذا في هذه القناة؟ يقولون: إن المقصود منها نقل الصورة الإسلامية ونقل الصورة العربية … إلخ، نجد في هذه القناة عروض أزياء لنساء كاسيات عاريات فاتنات مفتونات، رقصات، أخبار من أنحاء العالم، أمور تتعلق بما يسمى بالفلكلور الشعبي، أو أخبار تتعلق بالفنون الشعبية من كل بلد من مصر أو سوريا أو الشام أو غيره أو من هذه البلاد، وقد تذيع القرآن الكريم، وقد تنشر أحياناً معلومات معينة، لكن هذا قليل من كثير بالقياس إلى فترة الإرسال التي تبثها تلك القناة. فإذا كان هذا الكلام في قناة عربية يملكها أناس عرب ومسلمون، فما بالك بالقنوات العالمية؟! فما بالك بالقنوات الفرنسية؟! وعلى سبيل المثال في تونس يلتقطون القنوات الفرنسية، وقد نشر قبل سنوات في جريدة المسلمون تحقيقاً عنها تحدث عن أنها تتاجر صراحةً بالأعراض، وتغري الناس بعرض الفساد الخلقي بلا رتوش، وبلا سواتر، وبلا حياء، ليست القضية الآن قضية امرأة أو رجل أو قبلة أو كلام، حتى الرذيلة والجريمة والفاحشة تعرض عليك! فهل بلغ الحال بالمسلمين في هذه البلاد الطاهرة بلاد الحرمين الشريفين أن يشتري أحدهم بمائة ألف ريال صحناً أو طبقاً يركبه في بيته؟! يقول: يتابع الأخبار، فهل زوجتك، وابنتك المراهقة، وولدك المراهق يتابعون الأخبار؟! وأنت تعرف أن ولدك يقضي جل وقته في التفحيط، ولو طلبت منه أن يذكر لك عواصم الدول الكبرى ما ذكرها لك، ولو طلبت منه أن يتكلم عن البلاد التي يعاني المسلمون فيها من المصائب ما يعانون لاعتذر وقال لك: أنا مشغول، ولدك الفاشل الذي رسب في الامتحان مثلاً تأتي له بهذا من أجل أن يتابع الأخبار، أطفالك تربيهم على عوائد النصارى واليهود، وتقول: يتابعون الأخبار!! كنا بالأمس نعرب عن أحزاننا من التلفاز، وبالذات من القناة الثانية، وما يعرض فيها من الأمور التي لا يرضاها الله ولا رسوله، ولا يرضاها المؤمنون لأنفسهم، وهي تزداد يوماً بعد يوم، فإذا بنا نفاجأ بهذا الخطر الداهم الذي أصبح يقتحم البيوت من أعاليها، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم الجزء: 35 ¦ الصفحة: 17 وسائل محاربة البث المباشر إنه خطر جدير بأن نحاربه، وأقول: ونحاربه بوسائل منها: أولاً: الحث والحرص على مخاطبة المسئولين بمنع مثل هذه الأشياء، منع استيرادها، ومنع تصنيعها، ومنع تركيبها، سواءً في البيوت، أو في المحلات العامة كالفنادق والمستشفيات، إن أخشى ما أخشاه أن يتحول هذا الأمر إلى تنافس محموم في الفنادق وفي الشقق المفروشة وفي المستشفيات، فيصبح صاحب الفندق يركب مثل هذه الهوائيات، حتى يجر إليه الزبائن وقد حدثني بعض الشباب أنه في بلدٍ من المناطق المباركة المقدسة في هذه البلاد قد ركب أريال أو دش يستقبل قنوات كثيرة قريباً من أحد المنتزهات فصار الناس يأتون إلى هذا المنتزه زرافات ومجموعات كبيرة؛ لأنهم يمكن أن يلتقطوا بعض القنوات عن طريقه. فلابد من مخاطبة ومناصحة ومطالبة من يملكون القرار بأن يقفوا ضد هذا الخطر الداهم، ويمنعوا مثل هذه الأشياء لا دخولاً ولا بيعاً، ولا تصنيعاً ولا تركيباً، لا في البيوت، ولا في المحالات والأماكن العامة كالفنادق والمستشفيات والجامعات وغيرها. ثانياً: وهذا أمرٌ أرى أنه في غاية الخطورة: أنه بد من التوعية فهب أنه لا يستجاب لك، أو أن هذا الأمر أقر وبقي وأصبح واقعاً مفروضاً لا يملك أحدٌ أمامه شيئاً، أمامنا وسيلة كبيرة وهي مخاطبة عواطف المسلمين، وعقولهم وتوعيتهم، فينبغي أن يكون للخطيب دور، وللمتحدث دور، وللأستاذ في المدرسة دور، وللإنسان داخل أسرته دور، وفي حيه دور، وفي المسجد دور، ومع قرابته دور، ينبغي أن تكثر الكتب والرسائل والنشرات، التي تحذر المسلمين من هذا الخطر، وتكشف لهم عن حجم الغزو الصليبي الداهم الذي يهدد بيوتهم وعقولهم وأديانهم وأخلاقهم، وإذا فقد المسلم عقيدته فموته خيرٌ له من الحياة، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] فأن يبقى المسلم حياً وهو وقد مسخ دينه ومسخت أخلاقه ومسخت عقيدته؛ فإنه لا خير فيه حينئذٍ لا دنيا ولا آخرة، ولكن أن يموت المسلم دون دينه فمآله إن شاء الله تعالى إلى جناتٍ ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فتخريب عقول المسلمين وأديانهم وأخلاقهم هو أخطر بكثير من قتلهم، بل أخطر بكثير من إبادتهم ومن انتهاك أعراضهم، فلنتفطن وننتبه جيداً. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 18 مآسي الصومال أما القضية التالية؛ فهي عبارة عن أفراح وأحزان، وأذكرها بسرعة فالوقت يمضي سريعاً، ومع الأسف فلن نتمكن من ذكر الكثير مما أتمنى، هذا تقرير أرسله الأستاذ أحمد الصويان وهو أحد إخواننا الموثوقين المعروفين من الصومال حيث ذهب إلى هناك، وهو تقرير مبكٍ محزن عن أوضاع المسلمين، ولابد أن أقرأ عليكم ولو بعضه، ولعلكم تحصلون عليه يقول: هرب كثيرون من رحى الحرب القبلية التي تدور على أرض الصومال ويقول: يعجز القلم عن ذكر ما يجري هناك، عشرات من الأطفال يتساقطون يومياً بسبب الجوع وسوء التغذية، وعشرات من النساء والعجزة أهلكهم المرض والحزن، كل أسرة تحمل مأساة تنهد لها الجبال، ثم يقول: في بعض الإحصاءات بلغت نسبة الوفيات في بعض المخيمات واحد بالألف يومياً، وهذا يعني أن عدد الوفيات يومياً أربعون حالة، هذا في أحد المخيمات، ففي مدينة منديرا مات في يومٍ واحد أثناء وجودنا فيها أكثر من ثلاثين طفلاً بسبب الجوع والمرض، ورأينا عدداً ليس بالقليل من الأطفال والنساء في حالة الاحتضار، ومن المحزن أن (80%) تقريباً من النساء الحوامل يمتن أثناء الولادة لعدم وجود الرعاية والعناية بهن، ولقد استحدث الناس بجوار كل مخيم مقبرة جديدة، وفي عدد من الأماكن التي نذهب إليها كان الناس يقولون لنا: لا نريد منكم طعاماً ولا شراباً، ولكن نريد منكم أكفاناً نكرم بها موتانا، بل حتى لباس الأحياء لا يتوفر عند بعضهم، فالعري أصبح ظاهرة طبيعية خاصةً بين الأطفال، وكم من امرأة لا تستطيع أن تخرج من كوخها لأنها لا تملك ما تستتر به، وقد رأيت في مخيم إيفو وهو أحد المخيمات القليلة التي وزعت فيها الخيام، رأيتهم ينزعون البطانة الداخلية للخيام ويلبسونها للنساء والأطفال لعدم توفر الكساء، وزاد الأمر سوءاً وقسوةً الجفافُ الشديد الذي أصاب الأراضي الكينية المجاورة للصومال مما أدى إلى موت الحيوانات والمواشي التي يعتمد عليها بعد الله تعالى عامة الناس، وهذا أدى إلى هجرة جماعية إلى أهالي البادية الكينية، وقد زرت مدينة فوجدتها أكثر سوءاً من بعض مناطق اللاجئين الصومال. يقول أيضاً في هذا التقرير: (20%) من الأطفال يموتون تحت سن خمس سنوات خلال شهر إبريل من هذا العام، مع العلم أن كلهم من المسلمين. ويقول: المياه هي إحدى المشكلات الأساسية التي يعانون منها في المنطقة حيث لا تتوفر الآبار، وقد وصل الحال ببعض الناس أنهم يسيرون أكثر من خمسين كيلو متر بحثاً عن الماء، وفي بعض مواقع اللاجئين رأيت الناس يصطفون إلى منتصف النهار لكي يحصلوا على إناء من الماء لا يكفيهم ليومٍ، وبسبب انعدام أبسط متطلبات الحياة البشرية انتشرت الأمراض كانتشار النار في الهشيم، مثل أمراض سوء التغذية حيث لا ترى إلا هياكل عظمية، وأمراض نقص البروتينات خاصة بين الأطفال، وهؤلاء تكون بطونهم منتفخة وبصورة عجيبة جداً، والأمراض الجلدية، كما انتشرت بينهم أمراض السل والملاريا والحصبة والإسهال. يقول: على الرغم من أن اللاجئين الصوماليين في كينيا مسلمين (100%) إلا أن المنظمات التنصيرية غزت الساحة بصورة مذهلة جداً، فالنشرات التنصيرية أصبحت في أيدي الناس، وقد رأيت بنفسي بيد أحد الأطفال قصة مصورة باللغة الصومالية محتواها أن المسيح هو المخلص، أو المنقذ، ورأيت في مخيم آخر منصرة بريطانية تقدم مساعدات إغاثية للمتضررين، وتساعدهم في بناء منازلهم من القش، ولكي تستطيع أن تؤثر في نفوسهم سمت نفسها عائشة، ومن أبرز المنظمات التنصيرية العاملة في الميدان الصليب الأحمر، منظمة كير الكاثولوكية، منظمة أطباء بلا حدود الهولندية، منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، منظمة أوكسفام للإغاثة البريطانية، منظمة العون الأمريكي، منظمة الرؤية العالمية، منظمة الـ GTZ الألمانية إلى غيرها. يقول: تحاول هذه المنظمات أن تعيق أعمال الهيئات الإسلامية وتعرقلها، ولكن {َيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32] فعلى الرغم من هذا الزخم التنصيري المتلبس بلباس الإغاثة إلا أن الناس بحمد الله تعالى لا يزالون يشعرون بهويتهم الإسلامية، ويفرحون فرحاً شديداً إذا رأوا رجلاً مسلماً، ومن المواقف التي أسعدتني في مخيم العلواق أن الناس اجتمعوا حولنا، ولما أردت الخروج من بينهم دفع أحد الأطفال أخته الصغيرة وقال لها: ابتعدي من طريقه أتظنين أنه نصراني؟ إنه مسلم يقول: فأظهرت استنكاري لذلك لأحد العامة، فقال لي والأسى يعصر قلبه قال لي: لقد كنا في بادية الصومال نسأل الله عز وجل ألا يرينا يوماً من الأيام وجه كافر، وكان الناس لا يشربون في الإناء الذي شرب منه الكافر إلا بعد غسله بالتراب، ثم قال: أما الآن فأصبحنا نفرح بمشاهدتهم، ونجري وراءهم لنبحث عن لقمة العيش التي لم نجدها إلا منهم، ثم ذرفت عيناه وهو يقول: أين أنتم أيها المسلمون؟ ثم ذكر في آخر التقرير ما يحتاجه المسلمون هناك من المواد الغذائية بمختلف أنواعها، وخاصة حليب الأطفال المجفف، المياه النقية، وهذا يتطلب حفر الآبار، توفير الأطباء والأدوية، وتوفير الملابس والخيام. ثم يقول الأخ: هذا نداء عاجل أبعثه باسم اليتامى الذين فقدوا آباءهم فلا تسمع إلا صراخهم، وباسم الثكالى اللاتي أنهكهن المرض فلا ترى إلا دموعهن، وباسم الشيوخ والعجزة الذين أسقطهم الجوع فلا تسمع إلا نحيبهم، باسم مسلمي الصومال الذين يموتون في كل ساعة وما من مجيب نداءٌ أبعثه إلى كل مؤمن بالله ويهمه أمر المسلمين، إلى كل مؤمن مصدق بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وبقوله صلى الله عليه وسلم: {ما نقص مالٌ من صدقة} اللهم هل بلغت، اللهم فاشهد. وهناك تقارير كثيرة جداً عندي عن الصومال وإحصائيات وأرقام وصور يطول المجال بذكرها، فهذه أحد الأخبار المحزنة هناك، وبالمقابل حتى يزول حزنكم أذكركم بالخبر السار الذي حدث في السودان، حيث تمكنت الدفاعات والقيادات الإسلامية المقاتلة في جنوب السودان من إلحاق أقسى الهزائم بالنصارى المقاتلين هناك بقياد جون قرنق ومن يساعده من الغرب الصليبي الكافر، فتمكنوا من إسقاط مدينة توريت وهي المدينة التي كان يوجد فيها قرنق وتوجد فيها قيادته، وبسقوط هذه المدينة يكون المسلمون قد حرروا مناطق الجنوب كلها تقريباً، ولم يبق عليهم إلا تطهير بعض الجيوب، ومع ذلك يقول النصارى: نحن سوف نواصل القتال، ربما من خارج السودان. فنحمد الله تعالى أن كلل نصر المسلمين هناك بهذه الانتصارات الكبيرة، وهناك أخبار مشجعة جداً عن توفيق الله للمسلمين المقاتلين هناك، بل عن أحوال المقاتلين وأنهم يفتحون تلك البلاد باسم الله تعالى، وأنهم من المؤمنين المحافظين على الصلوات، المقيمين لحدود الله عز وجل، فندعو الله عز وجل أن ينصرهم نصراً مؤزراً وأن يحفظهم من كيد عدوهم في الداخل والخارج. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 19 من أخبار الجزائر أما في الجزائر فالأمر بين بين، فلعلكم سمعتم آخر أنباء محاكمة القيادات المسلمة هناك، حيث حكم على قيادة الجبهة الإسلامية بالسجن ما بين اثنيعشر إلى أربع سنوات، ولا شك أن هذا حكم دون ما كان متوقعاً، ولكنه من الظلم الذي لا يرضاه الله سبحانه وتعالى ولا يرضاه المسلمون، ولهذا ينبغي أن يتداعى المسلمون للمناداة ومخاطبة الجهات المختلفة في رفع الظلم الواقع على هؤلاء الشيوخ، والواقع على المسلمين جميعاً هناك، وإعطائهم حقوقهم المشروعة، وما زال المسلمون يتربصون أن يكون هناك انفراج في الأزمة في الجزائر فقد أدرك العسكر وأدرك السياسيون هناك فيما يبدو أن أسلوب القتل، وسفك الدماء والزج بالناس في غياهب السجون لا يمكن أن يقضي على روح الإسلام التي تحركت في نفس هذا الشعب القوي الأبي، ولهذا تراجعوا خطوات إلى الوراء، وهذا درس لهم ودرس لغيرهم ممن يهددون ويوعدون المسلمين بالتنكيل، فنقول لهم: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة:34-35] افعلوا ما شئتم، فإن الإسلام أبقى وأقوى، وكم من طاغية حارب الإسلام فذهب الطغاة وبقي الإسلام. وهذه قصيدة كنت أنوي أن أقرأها لكن ضاق المجال عنها للشاعر العشماوي، تهميشات على مقتل رئيس الجزائر يقول في مطلعها: قل لي بربك هل وجدت سبيلا وهل اتخذت إلى النجاة دليلا أوجدت قبرك روضة من جنة ووجدت ظلاً في ثراه ظليلا أم كان قبرك من لهيب جهنم ورأيت شيئاً في التراب مهولا ماذا تقول لمنكر ونكيره أتقول إنك لم تكن مسئولا ماذا تقول لمن سيحصي كل ما قد كان منك كثيره وقليلا ماذا تقول لصاحب الجبروت في يومٍ يصير به العزيز ذليلا أتقول إنك قد نبذت كتابه ورضيت قانون الضياع بديلا أتقول إنك ما اقتديت بشرعه يوماً وإنك تهجر التنزيلا أتقول إنك قد سجنت دعاته وجعلت قيد الصالحين ثقيلا أمسيت في ثوب الرئاسة رافلاً ورأتك أجفان النهار قتيلا أمسيت تنتظر المحاكمة التي صغتم بها للاعتداء فصولا هأنت تخرج من حياتك عاجزاً وتركت خلفك قصرك المأهولا قواتك اضطربت فما رفعت يداً تحميك أو أرخت عليك سدولا ما بال ضباط الحراسة أصبحوا خرساً وأطرقت الرءوس ذهولا قل للذين سمعت قرع نعالهم لا تتركوني هاهنا معزولا واسأل فرنسا ربما مدت يداً للقبر أو بعثت لك الأسطولا! إلى آخر القصيدة. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 20 من أخبار تونس أما في تونس فالخطب عظيم، جاءتني تقارير مذهلة جداً خمسون ألف مسلم سجين هناك، وتؤكد الأخبار يوماً بعد يوم عن حرب الإسلام وأهله في تونس، الحريات صودرت والكرامات ديست، والمساجين قد صودرت أبسط حقوقهم، وهم في حالة يرثى لها، يعذبون صباح مساء، ويعتدى على حرياتهم الشخصية، ويجبرون على أعمال خسيسة حتى وصلت بهم الدناءة والخسة إلى درجة لا يصدقها إنسان، فأين المنظمات الدولية من هذا الأمر؟ امتلأت السجون بالشباب والفتيات من المسلمين، لا لشيءٍ إلا أنهم ينتسبون إلى الخير وأهله، ويطلق الشباب لحاهم، وأما الفتيات فيرتدين الحجاب. صدرت قرارات سرية بمساءلة كل رجل يرى عليه لحية، وكل امرأة تلبس الحجاب، وصدر قرار بنزع الحجاب على رؤوس النساء جبراً وخاصة في المدارس والجامعات، بل وحتى في الشوارع، وتعرضت الفتيات لمضايقات من يسمون يسمى برجال المباحث والمخابرات، وصدرت قرارات سرية تدعو لملاحقة المتدينين والتجسس عليهم سواء كانوا من العلماء أم الشباب أم المساجد أم الجامعات، والويل لمن لا يطبق هذه القرارات، بل وصل الأمر إلى أن الكليات الإسلامية تجري مسابقة رياضية في كلية أصول الدين، والنساء من الطالبات في الكلية لبسن السراويل القصيرة التي تخرج نصف الفخذ من الفتاة، هذا كله لكي يبعد هؤلاء المدرسون عن أنفسهم التهمة؛ وليقولوا: إنهم ليسوا ضد القرارات السرية خوفاً من الطغيان حتى لا يزج بهم في غياهب السجون كما فعل بخمسين ألف سجين، والذي يزور تونس هذه الأيام لا يصدق أنه في دولة تدين الإسلام بسبب المحاربة العظيمة لجميع مظاهر الإسلام. حدثني شباب تونسيون أنه الآن ولأول مرة ظهرت أفلام تونسية محلية تظهر فيها الفتاة المسلمة كما ولدتها أمها، وفي أحد الأفلام اسمه عصفور الصف -كما أخبروني- يقولون: ظهر فيه سبع لقطات عاريات لأول مرة في تاريخ تونس، وذلك ليقولوا للغرب: نحن دولة علمانية، نحن نفتح ذراعينا للسياحة الغربية، ونقول للسواح من كل الأجناس والأديان: تعالوا من أجل تنشيط الاقتصاد التونسي، وهانحن قضينا على المتطرفين الذين يشكلون لكم بعض الإزعاج. وجاءتني أيضاً رسائل من بعض المضطهدين أو من يتصل بهم في تونس منها رسالة تتعلق بأوضاع النساء تقول: قامت قوات أمن الدولة باختطاف إحدى الأخوات زوجة أحد المجاهدين واقتادوها إلى الوزارة هناك، وتعرضت للضرب والتعذيب، وجردت من ثيابها، وضايقوها، وصورت بالفيديو على حالٍ سيئة لمساومة زوجها على أقواله أمام المحكمة وتحطيم معنوياته، مما أدى إلى إصابة تلك الأخت بانهيار عصبي ألزمها الفراش، علماً أنه قد تم تلفيق شريط لزوجها حين كان في السجن. ثانياً: قامت عناصر من فرق الأمن باغتيال أخت أخرى وهي زوجة لأحد المؤمنين هناك، ومورست عليها شتى صنوف التعذيب، حيث تم تجريدها من ملابسها، واعتدي عليها بالضرب والحرق بالسجائر، وهددت بالاعتداء عليها جنسياً لأخذ معلومات حول مكان اختفاء زوجها، وقد تكررت هذه الممارسة العديد من المرات. ثالثاً: تعرضت إحدى الزوجات خلال اعتقالها إلى حروق بليغة في صدرها تنكيلاً بها وبزوجها، وإضافة إلى آلاف من الحالات الأخرى التي يضيق الوقت بذكرها. وهذا تقرير لمنظمة العفو الدولية! لم نسمع أية مؤسسة إسلامية مع الأسف الشديد تكلمت، ولا جهة خيرة ولا هيئة إسلامية دافعت، ولكن سمعنا هذا التقرير من منظمة العفو الدولية! وقد قمت بنفسي بإيصال هذا الخطاب إلى سماحة والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز قبل نحو شهر أو شهرين، وطلبت منه مع بعض الإخوة الدعاة وطلبة العلم أن يكتب، وفعلاً كتب سماحة الوالد خطاباً إلى رئيس الدولة هناك يذكره بالله عز وجل، ويطالبه برفع الظلم عن المسلمين، وقد أخبرني آخر مرة التقيت به فيها قال لي: لم يأت رد منه حتى الآن، هذا التقرير من منظمة العفو الدولية وهي منظمة غير إسلامية يتكلم عن التعذيب في سجون تونس ولأن التقرير طويل وخطير ومزعج ولا يتسع المجال لقراءته فإنني أحيلكم إلى مجلة المجتمع عدد (106) فإنها قامت بنشر هذا التقرير أو نشر فقرات منه. أخيراً وليس آخراً لأنه بقي أشياء كثيرة لا يتسع لها الوقت، فهناك موضوع يتعلق بالرياضة والاحتراف، وأنتم تعلمون أنه قد أقر قانون الاحتراف الآن، وسُمِحَ بمجيء اللاعب الأجنبي ليشارك في النوادي الرياضية السعودية، وهناك تصفيق صحفي على هذه القرارات الخطيرة قرار الاحتراف وقرار اللاعب الأجنبي، والذي كان معمولاً به ما بين 97 إلى عام 1402هـ، ومعنى ذلك أن النوادي سوف تستقبل أعداداً كبيرة من اللاعبين، وكثيراً ما يكونون من النصارى، تذكرون مثلاً ريتي رينو الذي كان يعمل هنا ويلعب هنا، يقول لي شاهد عيان: رأيته بعيني في أستاد جدة الرياضي، والله رأيته وأحد كبار لاعبي الكرة ينكب على قدميه ويقبلهما، كما رأيناه جميعاً وقد حمل على الأعناق في الصور، فهذا الآن يفتح المجال للاحتراف، وقد صفقت وهللت الصحف لمثل هذه القرارات، ونذكر أيضاً أن بعض اللاعبين كان يعطى ستين ألف ريال كمرتب فضلاً عن المخصصات الأخرى من أجل أن يشارك في أحد الأندية، ويقولون: إن هذا سوف يعطي دفعة جديدة للرياضة السعودية، وأقول: أي قيمة لرياضة مستعارة يكون الفائزون أولئك فضلاً عن أن الرياضة أصلاً رأينا فيها معروف، وقد أخذت أكبر من حجمها وأصبحت ملهاة للكثير من الشباب. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأصلي وأسلم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 35 ¦ الصفحة: 21 الشباب والغريزة إن طريق الشيطان إلى القلوب يتمثل بمرضين هما: مرض الشبهات ومرض الشهوات، ويدخل الشيطان إلى القلب عن طريق الشهوات بوسائل عديدة منها النظر إلى الحرام والتعلق بالحرام والعشق والشذوذ. ويستطيع الإنسان أن يحصن نفسه من الشيطان بوسائل عدة منها: الخوف من الله، والتبصر بالعواقب والزواج والصوم والسعي إلى إصلاح النفس. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 1 من أوصاف المنحرفين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وليس من قبيل المجاملة أو سلوك الطرق التقليدية في بداية الحديث؛ أن أقول لكم: إنني مسرور بالاستماع إليكم، ومسرور بمشاهدة وجوهكم المشرقة النيرة، وإن هذا شعور يلاقينا كلما رأينا ثلة من شباب هذه الأمة، نقرأ في وجوههم -إن شاء الله- حب الخير والتطلع إليه، والبحث عن الطريق المستقيم. وأنا ألحظ في وجوهكم، وفي عيونكم ونظراتكم، وفي صمتكم الدال على الرغبة في الخير والبحث عنه، وتلمس الطريق المستقيم، أقرأ من وراء ذلك خيراً كثيراً، لا أقول هذا مجاملة في بداية الحديث، ولكني أقوله تعبيراً عن شعور في قلبي. أيضاً أشكر أخي سعادة الأستاذ صالح التويجري مدير المعهد، والإخوة الأساتذة الذين كانوا -بعد الله تعالى- وراء هذا النجاح الكبير الذي يحظى به المعهد بتوفيق الله، سواء على المستوى الأخلاقي والديني، وهذا بالدرجة الأولى، أو على المستوى العلمي والفني، وهذا مطلب مهم باعتباره من أهم أو هو أهم أهداف إنشاء هذا المعهد. وهم -أيضاً- كانوا وراء حضوري إلى هذا المكان، فقد كان لحرصهم -جزاهم الله خيراً- ورغبتهم، السبب في مجيئي إليكم وحديثي معكم. أحبتي الشباب! قبل أن أدخل في الموضوع الذي حددت أن أتكلم معكم فيه، أقول: لفت نظري في قراءة الأخ للآيات وصفان ذكرهما الله تعالى في وصف المنحرفين عن الصراط، فهو سماهم مرة بالكافرين، فقال: {َ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] وسماهم مرة أخرى بالمتكبرين، فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وهذا فعلاً ملفت للنظر. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 2 معنى الاستكبار لاحظ الوصف الثاني الذي سماهم الله به، وهو وصف المتكبرين قال تعالى: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60] وفي الآية الأخرى: {الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23] . إذاً: الاستكبار ما هو؟ أعظم ألوان الاستكبار هو الاستكبار عن الحق، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} وقال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] . الجزء: 36 ¦ الصفحة: 3 أساس العبودية لله التذلل له ومن هنا نلاحظ أن أساس العبادة وصلبها يقوم على أساس أنه يوجد إنسان ذليل، وهناك رب عزيز، فالذي ليس عنده استعداد؛ لأن يذل نفسه، لا يمكن أن يكون عابداً أبداً، ولا يمكن أن يكون مسلماً أبداً، لكن لا يذل نفسه للشهوة ولا للطاغوت ولا للناس مهما كانوا، إنما يذل نفسه لواحد فقط وهو الله. انظر إلى العبادة كيف هي، أعز ما في الإنسان، وأكرم ما عليه وجهه، ولهذا الإنسان إذا أراد أن يهين آخر، يسيء إليه في وجهه، بحركة أو بقول أو بكلام أو بضرب، ولهذا من باب تكريم الإسلام للوجه وللإنسان، أن الرسول عليه السلام قال: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته} أي لا تضرب الإنسان في وجهه، حتى لو أردت أن تؤدب ولدك، أو من هو أصغر منك تؤدبه، لكن لا تضربه على الوجه، اضربه في أي موضع آخر، الوجه له تقدير وتكريم، لأن الله تعالى كرم الإنسان، فقال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] وأجمل وأحسن وأعلى ما في الإنسان وجهه، وهو لذلك مجمع الحواس، فالسمع، والبصر، والذوق، والشم، وكذلك العقل الذي يفكر به الإنسان، كلها تجتمع في رأس الإنسان. إن العبادة التي يطالب المسلم أن يعملها، تتعمد أن يذل هذا الإنسان أعز ما فيه -وهو هذا الجزء المهم من جسمه - بذله لله فقط؛ لأن الذل لله تعالى عز، ولن تجد في الدنيا كلها عزاً أعظم من أن تذل لله تعالى. إذاً: رحى العبادة تدور على الذل، فتجد أن الإنسان إذا صلى فأول ما يفعله أن يطرق رأسه مطأطئه، لا ينظر يميناً ويساراً، وفوق وتحت؛ بل تجد أن المصلي العابد حقاً وجهه في الأرض، ينظر للأرض، عيونه مثبتة في موضع السجود، لا يلتفت يمينه ويساره، ونهى الرسول عليه السلام عن الالتفات، وقال: {هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد} هذا وهو واقف. فإذا ركع تجده يطأطئ رأسه، والقيام والركوع في الصلاة تمهيد لغاية الانكسار لله وهو السجود، حيث يهبط الإنسان ويهوي إلى الأرض فيجعل جبهته على التراب -ليس شرطاً على التراب- إنما على الأرض، على فراش أو على شيء يسجد عليه، المهم أنه جعل أعز ما فيه أسفل شيء من جسده -وهو وجهه- جعله على الأرض، ثم يقول: سبحان ربي الأعلى. أي: في الوقت الذي أنا فيه ساجد، إنما جعلت جسمي كله في الأرض اعترافاً بألوهية العلي الأعلى، واعترافاً بأنه هو المستحق وحده للعبادة. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 4 الذل لله عز وجل ولذلك تجد هذا الإنسان الذي يعبد ربه بهذه الطريقة، بقدر ما هو ذليل لله، تجده عزيزاً عند الناس، عزيزاً بشكل لا يمكن أن يخطر في بالك، يمكن أن تذهب روحه ولا يذل نفسه. أحد العلماء سجن، وحكم عليه بالإعدام، فجاءه بعض الناس يتوسطون، وقالوا له: نريد منك أن تكتب كلمة واحدة تعتذر فيها إلى الحاكم؛ من أجل أن يطلق سراحك ويعفو عنك. فقال: إن السبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله، لا يمكن أن تخط كلمة واحدةً تقر بها حكم طاغوت ورضي -فعلاً- أن يقتل، ويعلق على المشنقة وهو يبتسم؛ لأنه يرى أن المسلم أعز من أن يسترحم للباطل أو يذل له. المسلم الحق قد يموت ولا يمد يده لأحد يسأله، ولهذا جاء جماعة من الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فأسلموا وأوصاهم بأشياء، فكان من ضمن ما أوصاهم به عليه الصلاة والسلام أن قال لهم: {لا تسألوا الناس شيئاً} فكان أحدهم -لاحظ التطبيق- يسقط السوط من يده وهو على البعير، فلا يقول لأحد: أعطني السوط؛ بل ينزل ويأخذ السوط ثم يصعد مرة أخرى، حتى كلمة اعطني السوط لا يقولها! إذاً الذل لله تعالى هو العز، والفقر إلى الله تعالى هو الغنى، وهذه قضية أساسية في الدين، فالعبادة تقوم على الذل، وكل حب يقوم على الذل، فالعشاق -مثلاً- والمحبون، تجد أن أبرز صفات العاشق -في التاريخ والأدب والواقع- تجده ذليلاً لمن يحب، حتى لو طلب منه أن يعمل أبشع الأعمال وأسوأ وأحط الأعمال، فإنه يفعلها من أجله ولا يتردد، بل يعتبر هذا شرفاً له، لماذا؟ لأنه يعتبر هذا من التعبير عن الحب، ولهذا يقول الشاعر: مساكينُ أهلُ الحب حتى قبورُهم عليها غبارُ الذل بين المقابر فإذا كان العبد يحب الله تعالى، فمعناه أنه لا بد أن يعترف له بالذل، أنه ذليل بين يديه، منكسر ومفتقرٌ إليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] ليس الفقر في المال فقط؛ بل هذا النَّفَسُ الذي هو سر حياتك الذي يدخل ويخرج، هو يتحرك بإدارة الله تعالى، ولو شاء الله تعالى لحجزه وانتهت حياتك، فالفقر فطري في الإنسان. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 5 سبب تسمية المنحرف عن الصراط بالكافر إذاً لماذا سمى الله الذي ينحرف عن الطريق المستقيم كافراً؟ يجب أن نسأل أنفسنا هذا السؤال. سماه كافراً لأن الفطرة عنده موجودة، والعقل عنده موجود، والمعرفة عنده في النهاية موجودة، ولكنه يستر هذه الحقائق الموجودة بنفسه، بمعنى أنه يغالط نفسه ويضحك على نفسه، فالحق معروف لديه، وعندما تجادله توصله إلى طريق مسدود وتحرجه فعلاً، ولكنه يخادع نفسه، ويسلك الطريق المنحرف، وبعد ما يسلك الطريق المنحرف يقول: لا أريد أن أثبت للناس أنني أعرف الحق وأتركه، وأنني أسلك طريق الباطل على رغم أنني أعرف أنه خطأ، لا أريد أن يفهم الناس عني هذا، لأن هذا دليل على أنني ضعيف الهمة. إذاً: ما الحل؟ الحل هو أن يقول الإنسان: إن هذا الطريق الذي سلكته -وهو يعرف أنه طريق خطأ- يقول: لا هذا صواب! وذاك الطريق الذي تركه -وهو يعرف في الواقع أنه طريق الحق- يقول: لا! هذا خطأ. هذا أصل معنى كلمة الكفر، وقد تجد إنساناً يسلك طريق الخطأ، لكنه صادق مع نفسه وصريح، عندما تقول له: يا أخي! لماذا أنت على هذه الحال؟ يقول لك: يا أخي! أنا أعلم، ولا أحتاج أن تقول لي إن هذا خطأ، وأنه غير لائق مني، لكن يا أخي عسى الله أن يهديني، وعسى الله أن يأخذ بيدي، وأنا عندي ضعف همة، والسبب سوء التربية في الطفولة، وعدم وجود من يوجهني، وو إلى آخره. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 6 أمثلة للإعراض عن الحق وأضرب لكم مثالين قريبين لا يتعلقان بموضوع الكفر، لكن يتعلقان بأن الإنسان في كثير من الأحيان يعرف الحق، ولكنه إما إن يعرض عنه ضعفاً، أو لغير ذلك من الأسباب، ثم من الناس من إذا ترك الحق حاول أن يجعل الحق باطلاً، ويجعل الباطل حقاً: من الصور الموجودة في مجتمعنا: صور المغنين والغناء، والمجتمع يتكلم عن الغناء على أنه نوع من الفن كما يسمونه، وتكتب عنه الصحف في الملاحق الفنية، وذلك لأن الفن عندنا -وفي كل مكان- له دور كبير في تخدير المشاعر، وصرف الناس عن الاهتمامات الحقيقية التي ينبغي أن تشغل عقولهم، إلى اهتمامات أخرى ثانوية أو ساقطة أحياناً. فالفن -كما نعلم في الغالب- يخاطب غرائز الإنسان، ويتكلم عن العشق، والحب، واللقاء، والوصال، والهجر، وصفات المحبوبة، ولون شعرها، ولون رمشها ووجهها ونظرتها، وضحكتها إلى آخره. هذا اللون من الفن وما يصحبه كما تعرفون من الموسيقى والغناء وتحسين الأصوات، وظهور أصوات الرجال تسمعها النساء فتتكسر قلوبهن، أو ظهور أصوات النساء يسمعها الرجال إلى آخره. هذا الفن قد تواجه اثنين واقعين فيه، يشتغلان بالغناء، أنا رأيت اثنين منهم- كتاب - أحدهم لاحظت في رأسه شيباً، وهو لا يزال في مقتبل العمر، فقلت له: لماذا ظهر فيك الشيب على رغم صغر سنك؟ قال لي: أقول لك بصراحة، ظهر الشيب علي وأنا في مقتبل عمري، وذهبت للأطباء وسألتهم، فقالوا لي: إنك تواجه مشكلة نفسية، ووضعاً قلقاً وعدم ارتياح، أنت غير مقتنع بالوضع الذي أنت فيه. وقال: أنا بصراحة غير مقتنع ولا أشعر أني خلقت لأكون مغنياً، ولا لأن أصدح بهذه الكلمات في آذان الناس، أنا أحس أنني شيء آخر غير هذا. فقلت له: إذاً ما الذي جاء بك إلى هذا المجال؟ فقال: أنا بصراحة أعتبر المسئول الأول والأكبر عن هذا الموضوع هو والدي رحمه الله؛ لأنه غفل عني، ولم يهتم بي ولم يوجهني، بل ربما كان يشجعني، حتى كبرت ووجدت نفسي في هذا الأمر، ووجدت نفسي محاطاً بصداقات، وعلاقات، ومعرفة، وارتباطات، ومواعيد، وأمور، وشهرة، وسمعة، وأشياء كثيرة كسبتها من وراء مثل هذا الأمر، فلم يعد من السهل أن أسحب نفسي. وليست القضية قضية أن أترك المجال فقط، القضية تتطلب قدراً من قوة العزيمة والإرادة، والصبر والتحمل، قد لا أملكها الآن، لكن لو عرفت من البداية لكان من السهل أن أتراجع. انظر! هذا إنسان سالك طريق خطأ، طريق الغناء، لكن سلوكه هذا الطريق ما جعله يقول: لا يا أخي ليس في هذا شيء، لماذا أنتم تبالغون كثيراً؟ الغناء ليس فيه بأس، فهو لم يسلك الطريق هذا، إنما سلك طريق الوضوح والصراحة حتى مع نفسه. تأتي لإنسان آخر يسلك نفس الطريق، فعندما تتحدث معه، تجد أنه يركز كثيراً ويقول لك: يا أخي الغناء لا شيء فيه، الغناء أمر مباح، وقد كان فلان يسمع الغناء، وكان فلان من العلماء يبيح الغناء، ويحاول أن يفلسف لك الخطأ حتى يتحول الخطأ إلى صواب! لاحظ الفرق الكبير!! الثاني يستر الحقيقة والأول يكشفها، وسبحان الله! ما من إنسان -غالباً- إلا وعنده شعور وميزان داخلي يستطيع أن يهتدي به إلى شيء من الحق، ولهذا يقول الله تعالى، كما في الحديث القدسي: {إني خلقت عبادي كلهم حنفاء} أي: على الفطرة المستقيمة الواضحة البينة، بحيث أي إنسان لو تُرِكَ وشأنه، لاهتدى إلى الله عز وجل، أي إنسان لو تركته وشأنه لاهتدى إلى الله تعالى، صحيح أنه لا يستطيع أن يعرف الدين، ولا يستطيع أن يعرف الإسلام، لا يستطيع أن يعرف أن هناك خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن هناك نبياً اسمه محمد عليه الصلاة والسلام بعث إلى الأمة، وأن هناك كتاباً اسمه القرآن، وأن هناك شهراً اسمه رمضان يصام، وأن هناك حجا، وصفة الحج كذا، هذه التفاصيل بالتأكيد لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الوحي؛ لأنها من الله. لكن شعوره بأن الله موجود، وأن الله هو المعبود الحق، وأنه يجب أن يتوجه ويتأله بالقلب إلى الله، هذا يعرفه بفطرته، كيف لا يعرفه والحيوان يعرفه يا أخي؟! إذاً: الله تعالى عندما يسمي المنحرفين عن الصراط المستقيم كفاراً، إنما يسميهم كفاراً لأنهم يسترون الحقيقة التي يعرفونها في قلوبهم، أي يضحكون على أنفسهم ويخادعون أنفسهم، فيصورون أن ما وقعوا فيه من الخطأ أنه صواب، وأن ما تركوه من الصواب أنه خطأ، ولهذا سماهم الله كفاراً. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 7 معنى الكفر ما معنى الكافر في لغة العرب؟ وأنتم أهل الزراعة تعرفون كما قال الله تعالى: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] كما قال في الآية الأخرى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد:20] فالمزارع يحفر الأرض والتربة، ويضع فيها الحب ثم يدفنه، ولذلك ما زالت القرى الصغيرة في عدد من البلاد في مصر وغيرها، يسمونها (كفور) كفركذا، أو كفر كذا، أي: قرية كذا أو مجموعة من المزارع. إذاً الكفر في أصل اللغة هو الستر والتغطية، ومنه يسمى المزارع أو تسمى الزراعة أو القرية بالكفر؛ لأنهم يبذرون الحب ويدفنونه في التربة. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 8 أمراض القلوب أقول: قلب الإنسان بطبيعته فيه تشتت وتفرق، لا يمكن أن يلمه ويجمعه إلا الإقبال على الله سبحانه وتعالى فإذا أقبل العبد على الله أقبل الله تعالى عليه، وحفظ له قلبه، وجمع شمله، ووحد همه، فصار هذا الإنسان يملك من الاستقرار والانضباط والسعادة الشيء الكثير، وإذا أعرض عن الله تعالى أعرض الله تعالى عنه، حتى لا يبالي في أي أودية الدنيا هلك، فتجد هذا الإنسان ليس له قاعدة، وتجده يبحث عن السعادة في كل مكان لكن لا يحصل عليها. فمن الأشياء المسلطة على قلب الإنسان -وهي قضية أساسية بالنسبة للشباب-: قضية الشهوة، والقضية الثانية: قضية الشبهة. فهذان المرضان هما: اللذان يهلك بهما من يهلك من الناس، إما أن يكون هلاكه بشهوة، أي: دوافع غريزية تدفعه إلى الوقوع في الحرام، فينجر من الحرام إلى حرام آخر وهكذا. الأمر الثاني هو الشبهة: يخطر في قلبه وفي عقله -أحياناً- تساؤلات لا يجد لها جواباً، فتجره إلى التفكير بشكل معين، وقد توقعه في نوع من الإلحاد، أو توقعه في نوع من الشك على أقل تقدير، أو وسوسة في قلبه تنغص عليه حياته. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 9 الزواج هو الطريق الشرعي لتصريف الشهوة ففيما يتعلق بالشهوة: هي أصلاً فطرة مركوزة في كل المخلوقات، وهي فطرة أو غريزة مركبة لحكمة ومصلحة يعلمها الله لاستمرار التناسل في الكون، سواء للإنسان أم للحيوان، وقد جعل الله تعالى الزواج أو التزاوج بين البشر، هو السبيل الشرعي الصحيح لإشباع هذه الغريزة وهذه الفطرة، وجعلها تسلك طريقها الصحيح، لكن -كالعادة- الشيطان لا يمكن أن يرضى لك بسلوك الطريق الصحيح، بل الغريب أن الشيطان إذا سلكت الطريق الصحيح يحاول أن يثنيك عنه، ولهذا جاء في صحيح مسلم: {إن إبليس ينصب عرشه على البحر، ويبعث سراياه يضلون الناس ويخربون فيما بينهم، فيأتيه واحد ويقول: فعلت كذا وكذا وكذا -أي من المعاصي- فيقول: ما فعلت شيئاً -أي: أنه سوف يتوب ويستغفر- فيأتيه الثاني ويقول: ما زلت بفلان حتى فرقت بينه وبين زوجته. فيقربه الشيطان ويدنيه ويقول: أنت أنت} أي: وهذا جيد، عملك حسن، لماذا؟ لأنه فرق بينه وبين زوجته. إذاً الطريق الصحيح الذي هو طريق الإشباع الفطري بالزواج، يحاول الشيطان أن يجعل أمامك ألف عقبة، وإذا تحقق الزواج حاول الشيطان أن يجعل هناك مشكلات عائلية مستمرة بينك وبين زوجتك حتى يفرق بينكما، لأن هذا الطريق لا يصلح له، يحبط جهوده ويخرب ما يهدف ويسعى إليه. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 10 الشباب ومشكلة الزواج ولذلك تجد كثيراً من الشباب عندما تحدثه في موضوع الزواج يضحك، ويقول لك: الله المستعان! أنت تتكلم عن خيال! أتزوج! أنا الآن طالب في الثانوي، أمامي تأمين المستقبل، أمامي الوظيفة، هل أسكن زوجتي في أي بيت؟! وكيف أصرف عليها؟! وكيف أصرف على نفسي؟! وأمور ومشاكل وقضايا، وأمامي ثلاثة من إخواني لم تزوجوا بعد، ووالدي لا يمكن أن يساعدني! أتذكر الصحابي الذي سأل الرسول عليه الصلاة والسلام، وجلس عنده {فجاءت امرأة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووقفت عنده، وقالت: يا رسول الله! جئت أهب نفسي لك -أريدك أن تتزوجني، لأن الرسول عليه السلام -بلا شك- كل امرأة شريفة يسرها أن يكون زوجها- فنظر إليها الرسول صلى الله عليه وسلم وصعد النظر وصوبه -كأنها ما أعجبته عليه الصلاة والسلام- فسكت قليلاً، فجاء رجل من عنده، وقال: يا رسول الله! زوجنيها إذلم يكن لك بها حاجة، قال له الرسول عليه السلام: ابحث عن مهر -التمس- فذهب ورجع وما وجد شيئاً، قال: ما وجدت شيئاً يا رسول الله، ما وجدت إلا إزاري هذا، -عليه إزار ورداء، قال: أعطيها واحداً، فهو من اقتناعه بأهمية الزواج مستعد أن يتخلى عن ثوبه من أجل أن يتزوج- فقال: إن أعطيتها إزارك بقيت ولا إزار لك، لكن التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب وبحث فما وجد، فسأله: هل عندك شيء من القرآن؟ قال: نعم عندي سورة كذا وسورة كذا. قال: أزوجك إياها على أن تعلمها هذه السور. فزوجه إياها على سور من القرآن يعلمها إياها} . المقصود من هذه القصة: هذا الرجل الصحابي لأن تفكيره سليم، أدرك أن الزواج حاجة ضرورية فطرية غريزية في الإنسان، وأن الإنسان ما دام أنه لم يتزوج فإنه يعتبر ناقصاً، تفكيره غير مستقل، وغير مستقيم، فيه نقص معين، وحياته غير مستقرة، أموره غير منضبطة، ولهذا فهو من شدة تفانيه في موضوع الزواج مستعد أن يتخلى عن ثوبه من أجل أن يتزوج. لكن نحن الآن لا نجد هذا في نفوس الكثيرين، تجد أن الإنسان يشعر أن فكرة الزواج -أصلاً- مؤجلة خمس أو ست سنوات، وهذا عنده أمر مفروغ منه، وأنا حدثت في هذا كثيراً من الشباب، ففكرة الزواج عنده مؤجلة، وبالتالي لا يفكر فيها أصلاً، والكلام الذي تقوله يزل عن أذنه مثل ما يزل الماء عن الصخرة يميناً وشمالاً، لأنه ليس عنده استعداد أصلاً أن يفكر في الموضوع، لكن لو أقنع نفسه -على أقل تقدير- بأن يفكر في الأمر، فيمكن أن يجد بعض الحلول. أقل تقدير أنه بدلاً من أن الزواج عنده بعد ست سنوات، أن يقتنع أنه يمكن أن يجعل المدة ثلاث سنوات، ويجد في العمل، ويرتب أموره بشكل معين؛ حتى يستطيع أن يحقق ذلك. مثلاً: عندنا طلاب في الكلية يقول لك: زواجي بعد ما أتخرج، وأتوظف، وبعد ما يا أخي! أنت الآن طالب، فإذا كنت تشعر بالحاجة، فما هو المانع من أن تنتسب في الكلية، وتبحث عن عمل وظيفي تستفيد من ورائه، وتكوّن نفسك بشكل صحيح، وتعد موضوع الزواج؟ ما الذي يمنع الإنسان أن يكون له عمل إضافي؟ يقول لي بعض الناس: أتينا إلى أناس في كثير من البلاد، وهم شباب جسم الواحد منهم كالفيل في القوة، وصحته -ما شاء الله تبارك الله- ومن أسر وعوائل، ويعتبره الناس أنه ابن وزير، أو ابن مسئول كبير، أو ابن غني وثري من الأثرياء، ويمكن أن تجد الشاب هذا يعمل في بعض المطاعم؛ ينظف المطعم أو ينظف الصحون؛ مقابل مبلغ معين من المال، فليس في العمل ومواجهة العمل، أي ذلة، كما -مع الأسف- تلقينا هذا وتعودنا عليه في بيئتنا، بالعكس هذا شرف للإنسان أنه يعمل. محمد عليه الصلاة والسلام، أشرف الناس وأكرم الناس، كان يعمل في المطبخ مع زوجته: {كان يكون في حاجة أهله، حتى إذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة} . فكيف تكون هذه أشياء غير شريفة أو أشياء غير محمودة؟! وكذلك نبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وأشرف المكاسب أن يأكل الإنسان من عمل يده. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 11 طرق الشيطان في إشباع غريزة الجنس الشيطان وضع أمامك ألف عقبة أمام الإشباع الحلال وهو: الزواج. وبالمقابل فتح أمامك أبواباً كثيرة من الإشباع الحرام. مثلاً: من الإشباع الحرام: السفر فتجد هذا الشاب الذي يقول لك: ليس عنده مال، يجمع من هنا ومن هنا، حتى إذا جاءت الإجازة؛ فإنه يكون قد وفر له مبلغاً من المال يسافر به إلى أماكن الرذيلة والعياذ بالله فيعود وقد فقد دينه، وفقد عرضه، وفقد أخلاقه، وفقد صحته، وفقد أشياء كثيرة، ولو أنه جمع هذا المال مع مثله مع مثله مع مثله؛ لاستطاع أن يستغني بالزواج. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 12 النظر إلى الحرام من الطرق التي يفتحها لك الشيطان: طريق النظر إلى الحرام سواء النظر المباشر للنساء الغاديات والرائحات، أو في صور المجلات، أو في الأفلام أو غيرها، بحيث أصبح هذا والعياذ بالله دأباً وديدناً لكثير من الشباب، يتمتعون بالنظر إلى الممثلات، والمغنيات والراقصات، سواء في المجلات -كما ذكرت- أو في التلفاز، أو في أفلام الفيديو، أو غيرها، بحيث إنهم يعتبرون هذا جزءاً من حياتهم، يتكلمون فيها كما يتكلمون عن زملائهم في العمل، فلانة شكلها كذا، وهذا شكله كذا وإلى آخره بأمور معينة. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 13 التعلق بالحرام والعواطف المنحرفة بعضهم قد يشبع هذا الجانب عن طريق التعلق بالحرام، أي العشق أو الحب. والعشق يمكن أن يكون -أحياناً- لامرأة، وهذا -مع الأسف- أصبح جزءاً منه وهماً، وجزءاً منه حقيقةً. فالحقيقة أن الإنسان كما قال الله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] يفتن نفسه، ينظر ويتأمل، وكأنه يود أن يقع أسير هذا الأمر. وأحياناً يكون وهماً بأن الإنسان يضحك على الآخرين، فكم من إنسان منَّى الفتاة بالأحلام المعسولة وضحك عليها، وأعطاها الكلام الحلو؛ من أجل أن يبتز منها أنوثتها، ثم يتركها تبكى ويذهب إلى غيرها، وكثيراً ما يقع مثل هذا الأمر. وأحياناً قد يكون التعلق بإنسانٍ آخر، مثل الشاب بالشاب، فيكون بينهم قوة ارتباط وشدة تواصل. وفي مجال النساء يسمونه إعجاباً، والشباب لا أعرف بالضبط ما يسمونه، قد يسمونه هكذا. المهم أنه تعلق، تجد هذا الشاب -وقد رأيت بعض هؤلاء- عيونه ساهمة، وتفكيره كذا، كأنه معك وهو في الواقع غير موجود معك، لماذا؟ لأنه مبتلى بالتعلق بشخص معين، لا يجلس إلا معه، ولا يركب إلا به، ولا يستأنس إلا معه، ولا يمزح إلا معه، ولا يتحدث إلا معه، وقد أعطاه كل قلبه. وهذا يعتبر شذوذاً، إذا وصل الحد إلى هذا اعتبر وانحرافاً في الغريزة، انحرافاً في العاطفة، يمكن لإنسان أن يحب آخر محبة معتدلة، يقدره، ويحترمه، ويفرح برؤيته، هذا طبيعي، لكن عندما يصل إلى هذا الحد أن يصبح الإنسان أسيراً للآخر، لو غاب عنه شعر بقلبه يخفق ويرفرف حتى يلتقي به، ولا يريد أن يفارقه، وقد يكون هذا سبباً وسبيلاً إلى الوقوع في الحرام من ارتكاب الفاحشة والعياذ بالله أو غيرها من الأمور التي تسخط الله -جل وعلا- وهذا أيضاً يوجد كثيراً خاصة بين الشباب الذين تكون أعمارهم متفاوتة. والإنسان عليه أن يكون منتبهاً؛ لأن هذا خطر كبير حتى على مستقبله في الحياة الزوجية، لأن الفطرة أو القلب الذي انتكس وانحرف وخالف الفطرة، قد يكون من الصعب أن يعود أحياناً، ولهذا عاقب الله سبحانه وتعالى قوم لوط فرفع قراهم ثم أرسل عليهم حجارة من السماء، وقتلهم بها، وقلب عليهم ديارهم لماذا؟ لأن الفطرة عندهم انتكست وانحرفت، فما أصبحوا يصلحون للحياة، لا بد أن يصفى هؤلاء، ويخرجوا من الحياة بهذه العقوبة الإلهية، ليأتي بعدهم جيل آخر يكون مستقيماً ومعتدلاً. فينتبه الإنسان إلى مثل هذه الغرائز، ومثل هذه التوجهات وما فيها من الخطر. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 14 آثار الإشباع المحرم للغريزة هذا الإشباع المحرم الذي يتمثل بالسفر، أو يتمثل بالنظر ومتابعة النساء في مجال الواقع، أو في الأسواق، أو في المجلات، أو في الأفلام أو غيرها، أو يتمثل بالتعلق، سواء أكان تعلقاً بامرأة، أم بشاب مثله قد يؤدي إلى الوقوع في الفاحشة، من زنا أو لواط أو غير ذلك من الموبقات. عموماً هذا الإشباع المحرم لو تأملتم لوجدتم له آثاراً معينة، وسأذكرها باختصار. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 15 الأمراض الجنسية من عواقب وآثار الإشباع المحرم: قضية الأمراض الجنسية التي أصبحت تفتك بالشباب، وضحاياها بالملايين في العالم، وأصبحت هي أعظم تحدٍ يواجه هؤلاء المشبعين بالحرام والذواقين، وهي عقوبة من الله تعالى، الرجل مع زوجته لا يصيبه مرض جنسي، لكن مع امرأة في الحرام، الأمراض الجنسية تترصده، وكل يوم مرض جديد، وكلما اكتشفوا عقاراً جديداً ظهر آخر، ولعل الهربس، والإيدز، وبالذات مرض الإيدز الذي أصبح الآن ضحاياه مئات الألوف بل ملايين، وخاصة في العالم الغربي، وفي المناطق التي يكثر فيها السواح، مثل تايلاند، ومع الأسف شباب الخليج لأنهم أثرياء نوعاً ما هم أكثر من يذهب إلى هناك. وقد أتيح لي مرة أن أسافر، حيث كنا ذاهبين إلى أندونيسيا، فوقفت الطائرة في مطار بانكوك، وعلم الله أننا نزلنا نصف ساعة أو ساعة في المطار على خجل واستحياء، لكن الأمر الذي يدمي قلبي، أني رأيت شباباً نعرف سحناتهم من السمر، من شبابنا، لأن السحنة واضحة، فتجده بشكل معين في المطار، والله المستعان. فإذا رأونا خجلوا وأشاحوا بوجوههم، لكنها كارثة عظمى بأن يقفوا وراء هؤلاء كالذين لا يريدون بمجتمعاتنا خيراً. فهذه البلاد بلاد تايلاند هي من أكثر بلاد العالم تعرضاً للإصابة بالإيدز، ولكنهم لا يعلنون هذا في الإحصائيات الرسمية؟ لأن هذا قد يقلل من نسبة السواح، فهم يعطون أرقاماً غير صحيحة حتى تظل السياحة إلى بلادهم قائمة؛ لأنهم يستفيدون مادياً واقتصادياً بشكل كبير من مجال السياحة، فلا يعطون الأرقام الحقيقية عن نسبة المصابين بهذا المرض وبهذا الداء. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 16 الفضيحة في الدنيا والآخرة من الآثار السيئة: قضية الفضيحة، والفضيحة لها صور شتى، منها: افتضاح الإنسان في وقوعه في معصية، حتى يتكلم الناس عنه، حتى الذين يقعون في مثل ما وقع فيه يتكلمون عنه في المجالس ويقولون: أنا رأيت فلاناً وكذا وحصل له كذا، وأي شر أسوأ من أن يسود وجه الإنسان بفضيحة تلاحقه أبد الدهر. صورة أخرى من صور الفضيحة أعظم من هذه، بعض الشباب في فترة من فترات غياب الموجه، وغياب الإنسان الذي يرشدهم، يسافرون إلى الخارج ويرتكبون الحرام، فيمكن أن يفضح عن طريق وجود مرض جنسي يصيبه بسبب المعاشرة المحرمة، وكثير من المومسات والبغايا في العالم مصابات بأمراض مثل الهربس والإيدز وغيرها. والغريب أن علماء الطب يقولون: إن المرأة المصابة بهذا المرض الجنسي يصبح عندها حقد عجيب على الرجال، فتتمنى أن توقعم في الشرك، ولهذا تتزين لهم وتتعرض لهم، وتحاول أن تغريهم وتخطفهم، حتى إذا التقوا بها جنسياً انتقل المرض باللقاء الجنسي إليهم. حتى أنني قرأت مرة قصة عجيبة، تقول: إن هناك رجلاً من أثرياء العرب وأصحاب رءوس الأموال، ذهب ودخل في أحد المطاعم في أوروبا، فلما دخل وجد فتاة في أول المطعم جالسة على الماسة بمفردها ومعها حقيبتها، وإذا بها قطعة من الجمال، فجاء وجلس إلى جوارها، وحياها وتحدث معها وضاحكها، ثم عرض عليها أن تذهب معه، فوافقت مباشرة، ومن الواضح جداً أنها استرسلت معه في هذا الأمر وكأنما كانت تنتظره. فذهب وجلس وإياها في غرفة في أحد الفنادق، وارتكب معها الحرام، ونام آخر الليل، فلما استيقظ التفت ينظر إلى الفتاة فما وجدها بجانبه، وجد أنها قد قامت، فقام فزعاً؛ لأنه قد تعلق قلبه بها، قام فزعاً يتلفت في الغرفة فلم يجدها، ذهب يميناً وشمالاً فما وجدها، دخل إلى دورة المياه، فلما دخل وجد كلاماً مكتوباً على زجاجة المغسلة، مكتوب بالروج الذي تتجمل به المرأة بخط عريض: مرحباً بك عضواً جديداً في نادي الإيدز! وفعلاً فزع الرجل وذهل؛ لأنه عرف أن هذه المرأة مصابة، وأنها عندما كانت تنتظره عند باب المطعم، كانت تنتظره لتوقع به كما تنتظر فريستها، وفعلاً أصيب الرجل والعياذ بالله بهذا الداء القاتل بسبب هذه الوقعة، فهذه من الفضيحة. وكثير من الشباب -دعك من الإحصائيات الرسمية لكن الحقائق تنطق- كثير من الشباب من هذه البلاد -فضلاً عن غيرها- ولك أن تطلق الخيال لعنانك، فكثير منهم قد يستحي -أصلاً- أن يبوح بإصابته بالمرض، لكن الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى مراجعة المستشفيات والمصحات أعداد كبيرة، فهذه يعني فضيحة كبرى والعياذ بالله. وهناك فضيحة أيضاً بشكل ثالث، الفضيحة عن طريق وقوع الحمل، فقد يرتكب الإنسان الجريمة في ساعة من ساعات فوران الشهوة وغلبة الشيطان وغيبة الإيمان، فيكون جنى جناية عظمى على نفسه وعلى غيره. فنحن إذا رأينا أو زرنا بعض الشباب الذين يكونون مجهولي الهوية لا يعرف من أبوهم، فنحن نشعر بحجم كبير من الشفقة عليهم، والرحمة لحالهم، والتحسس لهم، ونشعر بالجناية الكبرى والجريمة المنكرة، التي لا يمكن أن يقدرها الإنسان، على أب كان هو السبب في عذاب مثل هذا الولد، حتى إن الإنسان -أحياناً- يجد مشاعر لا يملك إزاءها إلا البكاء أمام أمثال هؤلاء الأبرياء، بعضهم أطفال في وجوههم براءة الأطفال، ابتسامات بريئة، لا يدري، وقد يدري بالأمر الصعب الذي يواجهه أمام المجتمع، حين يسأل عن أبيه فلا يجاب! من الفضائح -أيضاً- التي يتوقعها الإنسان ويترقبها -وهي أعظم الفضائح- الفضيحة على رءوس الأشهاد يوم القيامة. وإذا كان الإنسان منا ليس عنده استعداد للفضيحة أمام عشرة أو عشرين أو خمسين الآن، فما بالك بفضيحته يوم القيامة على الخلائق كلهم من الأولين والآخرين؟! وهي فضيحة طويلة، ليست بيوم أو يومين أو شهر أو سنة أو عشر سنوات. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 17 الحرمان من المتعة الحلال من عواقب وآثار الإشباع المحرم: أن الله تعالى يحرم الإنسان من المتعة الحلال. فهؤلاء الناس الذواقون الذين جربوا على الأقل النظر، بغض النظر عن الوقوع في الزنى أو الفاحشة، -إذا عود الشاب نفسه على أنه دائماً وأبداً يسمر عيونه في التلفاز أو الفيديو، أو المجلات الخليعة، وينظر في النساء، فما الذي يحصل؟ النساء اللاتي يعرضن في التلفاز أو الفيديو أو المجلة، يختارون جميلات العالم، من أجل عرضهن على أنظار الشباب، وبطبيعة الحال المجلة حتى يأخذ مالك من جيبك فإنه يضع صورة جميلة على الغلاف، والفيلم من أجل أن يأخذ مالك وعقلك وأخلاقك -أيضاً- فإنه يضع فيه مناظر جميلة، ومشاهد تخدش الحياء. فإذا عود الشاب نفسه على مثل هذا الأمر، عندما يتزوج ما الذي يحصل؟ يرى أن النساء اللاتي تعود على مشاهدتهن شيء آخر، لأنهن نساء منتقيات تحت إشراف، وتحت مراقبة معينة، وتحت اختيار ولجان وأمور، لن يحصل على مثلهن أبداً، ولو حصل -ولن يحصل بإذن الله- لكن لو حصل فستكون حياته مع إحداهن جحيماً لا يطاق، لأنها امرأة قد يستمتع بها الإنسان الغادي والرائح خمس دقائق ينظر إليها، لكن أن تكون زوجة عنده في البيت هذا لا يمكن؛ لأن الزواج مسألة والاستمتاع مسألة أخرى، فالزواج أبعد من هذا وأعظم من هذا. المقصود أن هذا النظر الحرام فتح نفسه على هذه الأشياء، فعندما يريد الحلال يحرم من متعته. مثلاً: افترض أنه يريد أن يخطب، وكل واحدة يذهب ليشاهدها، فإنه يقول: يا أخي لا تصلح، دخلت علي كأنها خشبة وليست إنساناً، لا أرى فيها شيئاً، لا تعجبني، فيتركها ويذهب لامرأة أخرى، فيقول: يا أخي! أعوذ بالله هذه أردأ من الأولى. يذهب ليرى ثالثة ويقول: يا أخي لا أريد الزواج، لماذا؟ لأن قلبه انفتح، وليس عنده موازين مضبوطة، وليس عنده مقاييس، فهو ينظر إلى هذه الفتاة التي دخلت عليه، وفي ذهنه وفي عقله وفي قلبه تلك الفتاة التي شاهدها في التلفاز أو الفيديو أو في المجلة، فهو يقارن بالشكل، انظر كيف حرم من المتعة الحلال بسبب وقوعه في النظر الحرام! ويمكن أن يحرم حتى من المتعة الزوجية، التمتع بما أحل الله تعالى له من زوجه، بسبب نظره إلى الأخريات، وبسبب وقوعه فيما حرم الله تعالى، وكم من إنسان يعاني في حياته الزوجية ما يسمى بمرض العنة أو العجز الجنسي؛ بسبب وقوعه فيما حرم الله قبل ذلك، فيعاقب بعقوبة من جنس المعصية التي وقع فيها. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 18 زيادة اشتعال الشهوة من أهم الآثار: زيادة اشتعال الشهوة. فالإنسان عندما يريد هذا الأمر كأنه يريد أن يطفئ ناراً بقلبه، وشهوة تتأجج، لكن هل الواقع أن الشهوة تنطفئ بهذا؟ قد تهدأ عشر دقائق أو نصف ساعة، لكنها تزيد اشتعالاً فيما بعد ذلك، ولهذا أسوأ آثاره أنه يزيد من اشتعال الإنسان، يزيد من فوران الشهوة، فهو يفتح النفس والعياذ بالله بصورة معينة على الشهوات، حتى يكون الإنسان معذباً بشكل دائم. يقول ابن الجوزي في بعض كتبه: هذا الإنسان الذي أصبح منفتحاً على الشهوات ذواقاً، يأتي إلى هذه وإلى هذه وإلى هذه، يقول: هذا لو أتي له بنساء بغداد كلها ما كفينه، فيصبح عنده زيادة في شهوته واندفاع وتوقد يعذب، ولهذا قال العلماء: من أحب شيئاً غير الله عذب به، فتجد الإنسان يعذب من حيث يظن أنه يبحث عن إشباع وتهدئة لغريزته، فهو مثل الذي يشرب من البحر ولا يزيده الشرب إلا عطشاً، قد يشعر بالامتلاء لكن يشعر بأنه عطشان، كأنه ما شرب شيئاً! ما شفا نفسه، وما شفا قلبه، وهو في الواقع يتوقع أو يظن أنه يشبع بهذه الطريقة. على النقيض من ذلك: الإنسان الذي منع نفسه وجاهدها بعض المجاهدة، هل تعتقد أنه خسر؟ لا, أول نقطة: أنه قد هذب نفسه وغريزته فأصبحت في الطريق الصحيح. النقطة الثانية: أن هذا النهم والجوع إلى المعصية الذي عند الآخر غير موجود عنده، لأنه وقف نفسه عند حد معين ونهاها عن الهوى، فانكفت وتوقفت وعرفت حدودها، واستطاع الإنسان أن يتحكم في نفسه، يحركها في مجال التحريك، ويوقفها في مجال الإيقاف. هل تعتقد أنت يا أخي! أن الشاب المستقيم الطاهر العفيف، هل تعتقد أنه ليس عنده شهوة؟ بل قد يكون أشد منك، لكنه نهى النفس عن الهوى وقاومها؛ فشعر بلذة الانتصار. افترض أن إنساناً جاءه موقف صعب كاد أن يقع فيه في الحرام، ثم انتصر وجر نفسه ونجا، فبعد ساعتين يقول: الحمد لله، لو أنني وقعت في المعصية، الآن المعصية لذتها ذهبت وراحت، لكن بقي الإثم، وبقيت الحسرة في قلبي وبقيت العواقب، لكن لأنني منعت نفسي الآن أشعر بالانتصار ولذة النصر، وهذه اللذة تجعله دائماً في موقف قوة، وفي موقف استعلاء على النفس وصبر عليها. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 19 العفة عند أهل الإسلام وعند أهل الغرب إني أود أن أقول لكم أيها الشباب: نحن المسلمين والعرب ورثنا قضية الشهامة والغيرة على الأعراض، وأحلف لكم بالله العظيم؛ أن أبا جهل، وأبا لهب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وعتاولة الكفار في مكة الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله الذي لا إله غيره أنهم أكثر غيرة على أعراضهم وعلى حيائهم وعلى نسائهم، من كثير ممن ينطقون بـ لا إله إلا الله محمد رسول الله اليوم! أولئك قوم فيهم شهامة العروبة، ونخوتها وأنفتها وحميتها. هند بنت عتبة لما بايعها الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {ولا يزنين. قالت: يا رسول الله وهل تزني الحرة؟!} استغربت فقالت: هل الحرة تزني حتى تقول: لا يزنين! الجزء: 36 ¦ الصفحة: 20 النخوة والغيرة عند العربي الشيء الثاني: قضية حفاظ نخوة العروبة على العرض، العربي الجاهل الذي كان يقاتل من أجل حماية عرضه: أصون عرضي بمالي لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض بالمال فمع الأسف الشديد أن كثيراً ممن ينتسبون للإسلام قد فقدوا غيرة الإسلام كما فقدوا نخوة العروبة، وهذا مخطط غربي، فالغرب لا يؤلمهم شيء مثلما يؤلمهم طهارتنا، لا يزعجهم شيء كما يزعجهم الشاب الذي يذهب ويدرس هناك، ويرون أنه محافظ وبعيد عنهم، فهذا يزعجهم. ولذلك يقول واحد: إن هناك دراسة قامت بها امرأة خبيرة اجتماعية، جاءت إلى بعض المناطق هنا في الجزيرة، وكان هدفها أن تجري تحقيقات وتحريات ودراسات في مجال النساء، فكانت كلما لقيت امرأة بحكم أن معها دراسات وتقارير واستبانات وأمور، كلما لقيت امرأة كانت تحاول أن تعرف هل هي بكر، أم غير بكر، من غير المتزوجات، فاكتشفت أن جميع النساء اللاتي التقت بهن أبكار من غير المتزوجات، فكانت منزعجة إلى أبعد الحدود، وأنه هل من المعقول أن كل فتاة غير متزوجة في هذا المجتمع بكر؟ فهذا الأمر كان مزعجاً لها، وكانت نتيجة خطيرة بالقياس إليها، في نظر الغرب وهم على النقيض من هذا تماماً، لا يمكن أن تتزوج الفتاة وهي بكر، فيشعرون مثلما يشعر الإنسان الذي رأى الناس على صواب وهو على خطأ، فحاول أن يجر الناس إلى الخطأ الذي وقع فيه، وتعرفون قصة اللص الذي علّم الشرطة بيته في الليل حتى يهتدوا إليه في الصباح، فلما رأى أن بيته معلّم باللون الأحمر، ذهب وعلّم بيوت الناس كلها، حتى إذا جاءت الشرطة لم يدروا أين بيت السارق، لأن كل الأبواب أصبحت حمراء، فكذلك الحال مع هؤلاء، فهم يريدون أن تكون القضية متاحة مباحة للجميع. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 21 انعدام كلمة العرض من اللغة الإنجليزية لكن اليوم انظر الله المستعان! أصبحنا نتعرض لمحاولة تربيتنا على الدياثة رجالاً ونساءً بكافة الوسائل، وهذا أثر من آثار هيمنة الحضارة الغربية، أنتم تدرون أن كلمة العرض هذه غير موجودة في لغتهم، ليس هناك كلمة أخرى تقابلها عندهم، ليس لها مقابل، لأنه -أصلاً- ليس عندهم شيء يقابل اسم العرض، ليس هذا موجوداً عندهم. ومن الطرائف: أننا كنا نسمع أمهاتنا وجداتنا منذ زمن بعيد، إذا أحد الأطفال بال على ثيابه وهو صغير -أكرمكم الله- تدعو عليه أمه، ومن ضمن الدعوات التي -أحياناً- نسمعها، أن الأم تقول لولدها: أعطاك الفرنج، ما هو الفرنج هذا؟ يقول بعض الخبراء: إن الفرنج هو مرض جنسي، من جنس الزهري أو السيلان أو غيرها من الأمراض الجنسية، وأن العرب إنما عرفوه عن طريق الإفرنج، لما جاءوا غزاة محتلين وغير ذلك لبلاد المسلمين، فلذلك ارتبط المرض هذا في أذهان العوام رجالاً ونساءً، ارتبط بالإفرنج الذين كانوا هم السبب في مجيئه، ولأنه مرض يتعلق بالأعضاء التناسلية، تدعو الأم على ولدها إذا خالف أمرها أمرها بهذا المرض. إذاً: هم لهم تاريخ أسود في هذه المجالات، فلا غرابة، لكن الغرابة منا نحن، الذين يفترض أننا ورثنا حفاظ الإسلام على الأعراض، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام مرة من المرات قال لـ عمر -والحديث في صحيح البخاري- قال: {إنني دخلت الجنة فرأيت قصراً، ووجدت إلى جواره امرأة تتوضأ -هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، وأين؟ في الجنة - دخلت الجنة فرأيت قصراً، وإلى جواره امرأة تتوضأ، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر، فذكرت غيرتك فأعرضت، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟!} أي: هل أغار منك! يا رسول الله؟! والرسول نفسه عليه الصلاة السلام في مرة من المرات: {جاء من المقبرة وقد دفن ميتاً، فوجد ابنته فاطمة دخلت البيت، فاطمة الطاهرة المطهرة زوج علي بن أبي طالب، وبنت محمد عليه الصلاة والسلام، وسيدة من سيدات نساء الجنة ونساء العالمين، ومع ذلك يسألها: من أين أتيت؟ قالت: يا رسول الله أتيت من عند أهل هذا الميت أعزيهم بميتهم. فقال: لعلك وصلت معهم إلى الكدى؟ -وهو مكان قريب من المقبرة- قالت: لا يا رسول الله! معاذ الله أن أصل إلى هناك وأنا سمعتك تقول ما تقول. فقال: أما لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة، أو ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك} فحفاظ الإسلام على الأعراض يفترض أننا ورثناه. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 22 علاج مشكلة الغريزة وأختم بالكلام عن العلاج في مثل هذه الأمور: الجزء: 36 ¦ الصفحة: 23 السعي في إصلاح النفس ومن الحلول: السعي في إصلاح النفس، والبحث عن القرناء الصالحين، والالتحاق بحلقات تحفيظ القرآن الكريم، وقراءة الكتب الإسلامية المختصرة الصغيرة المفيدة، وسماع الأشرطة المفيدة، والبحث عن محضن يتربى الإنسان من خلاله على الأجواء الطيبة المناسبة. وأعتذر إليكم عن الاسترسال والإطالة، وأسأل الله تعالى أن يجعل هذا المجلس المبارك نافعاً لي ولكم، وأن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، ويصلح أحوالنا في الدنيا والآخرة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 24 التفكير في العواقب الأمر الثاني: التفكير في العواقب أن يستخدم الإنسان العقل ويفكر، والتفكير -مهما كان- يهدي الإنسان بإذن الله تعالى، إذا دعاك زميلك إلى السفر، والإجازة قربت، هيا نسافر ونرى ونستمتع. فانتبه واجعل أمامك ضوءاً أحمر يقول لك: لا! لا تدري ما وراء هذا السفر، وهذا الذي جرك إلى السفر الآن، قد يقول لك للسياحة والمتعة والمشاهدة فقط، لكن قد يجرك إلى أمور أخرى في وقت لا تستطيع أن تمتنع فيه. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 25 الزواج الأمر الثالث: هو الاستغناء بالحلال كما ذكرت، أن يفكر الإنسان دائماً وأبداً تفكيراً جدياً بالإشباع المباح، فالذي حرم الزنا أباح الزواج. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 26 الصوم الحل الرابع: كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء} فإن الصوم يلفت النظر أولاً إلى أمور، منها: أنه عبادة، والعبادة تقرب إلى الله وتبعد عن المعصية. الأمر الثاني: أنه يصرف طاقة الجسم في مصرف صحيح، ولهذا يمكن أن نقول أيضاً: من الحلول أن الإنسان يشغل نفسه بالأعمال القوية، والأعمال النافعة، مثل العمل في أي مجال، أو الرياضة، أو العمل في مزرعة، أو العمل في دكان، العمل في مكان معين، هذه الأشياء كلها تصرف طاقة الإنسان وتشغله بأمور تبني شخصية، تؤمن -بإذن الله تعالى- مستقبله، تنفعه، وتجعله إنساناً سوياً قوياً مستقيماً صالحاً عضواً فعالاً في هذا المجتمع. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 27 الخوف من الله أول علاج: الخوف من الله قال الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] نعم! الإنسان عنده غريزة، لكن وعنده قرآن، ودين، وسنة، يفترض أنها تحرك قلبه للخوف من الله تعالى، والخوف من الله هو أهم حاجز، أما قضية هذا ابن أسرة، وهذا من عائلة فهذا كلام فارغ، حتى الخوف من الفضيحة -الذي تكلمت عنه -قد يردع الإنسان وقد لا يردعه غالباً، لأن الإنسان إذا تحركت شهوته وتأججت؛ ألغى عقله وأغلق التفكير، وانطلق وراء الغريزة ووراء الشهوة، لكن الخوف من الله هو الرادع والحاجز. يوسف نبي الله عليه الصلاة والسلام شاب في قوة الشباب، وحيويته، وتوقده، فعنده مثل ما عند غيره، بل أقوى، لأن الأنبياء أشد من غيرهم في هذا الجانب، والرسول عليه الصلاة والسلام نفسه أعطي قوة ثلاثين رجلاً في الشهوة، بل ورد أنهم ثلاثون رجلاً من أهل الجنة، فيوسف عنده هذا الجانب، وهو قوي أيضاً، هذه ناحية. الناحية الأخرى: أنه كان في بلد غريب؛ لأنهم ذهبوا به -كما تعرفون- إلى مصر، وهو في الأصل من فلسطين، فالبلد غريب وهو غير معروف، لا يعرفه أحد في البلد. الناحية الثالثة: أنه؟ في أي مكان؟ في بلد الملك نفسه رئيس الوزراء، والتي تعرض نفسها عليه هي زوجة العزيز نفسه، وتتجمل له، وفي قصر سيدها وزوجها، وتتجمل وتغلق الأبواب وتقول: هيت لك، وفي بعض القراءات قالت: (هئت لك) أي: تهيأت لك فتعال كل الطرق مفتوحة وليس هناك رادع، امرأة جميلة، ومعروف أنه لن يتزوج العزيز إلا امرأة من أجمل النساء، وفي قصر الحكم، وهذه تعتبر سيدة له، أي أنها تأمره، وإذا رفض فإنها قد تعاقبه، حتى القتل قد تقتله، فها هي قد سجنته وتسببت في سجنه بضع سنين، واحتمال الفضيحة غير وارد إلا ما شاء الله، وبلد غريب، وهو شاب، فما هو الذي حال بينه وبين هذا؟ معاذ الله! قال الله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:24-25] فهو يهرب منها وهي تلحقه وتركض إليه وتجره. إذاً قضية الخوف، والتقوى هي الرادع الأول والأكبر من الوقوع في مثل هذه الأمور. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة . الجزء: 36 ¦ الصفحة: 29 الاهتمام الزائد بالمظهر السؤال بعض الشباب يريدون أن يقدم الشيخ نصيحة إلى بعض الشباب الذين يهتمون بشعورهم، ولا يهتمون بطول ملا بسهم، ويركزون على مظهرهم أكثر من مخبرهم؟ الجواب المشكلة ليست في المظهر، المظهر جزء من شخصية الإنسان، كون الإنسان يعتني بمظهره وهندامه بما يتناسب مع رجولته هذا أمر حسن، بل قد أمر به الشارع: {جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أشعث الرأس متسخ الثياب، فلم يعجب هذا المظهر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: من أي المال أعطاك الله؟ أنت فقير أم غني؟ قال: أنا غني وعندي أموال كثيرة، عندي من الغنم والإبل والذهب والفضة وغيرها. فقال: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليك. فلماذا أنت أتيت بهذه الثياب وبهذا الشكل؟ فذهب الرجل وحسن ثيابه وزينها وطيبها وسرح شعره بشكل جيد، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أحسن من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} . الجزء: 36 ¦ الصفحة: 30 حرمة الدخان وأحكام الحبوب المنشطة السؤال يسأل عن الدخان عن حرمته وعن كراهيته، كما يقول: إنني آكل حبوب منشطة للمذاكرة وهي ليست مخدرة، فما حكم ذلك؟ الجواب بالنسبة لحكم المخدرات فمعروف ذلك، وعندكم جهود التوعية في شأنها وخطرها، وهي -كما قلت-: ضمن حملة عالمية لتدمير هذه الأمة، وقد اكتشفت خططاً لتدمير هذه البلاد بالذات، بإيصال المخدرات والحشيش إليها، لأنهم يدركون أنها هي الخطر الأكبر الذي لا يزال يهددهم، فما دام أن هناك شعباً واعياً ومدركاً وعاقلاً، فالخطر قائم، فيجب أن يكون عندنا وعي، وأنا لا أشك أن يكون الشباب في مثل عقلكم وسنكم وتفكيركم بعيدين عن هذه الأمور، لأن غالب من يقع في ضحية المخدرات إنسان فاشل في حياته. فعليكم أن تدركوا أنه لا يكفي أن تكونوا أنتم بعيدين عن هذه الأمور، بل لابد أن تؤدوا رسالتكم إلى المجتمع لتحذير من تعرفون من حولكم، من إخوة وأقارب وجيران، وغيرهم من مثل هذه الأمور، وتحذير أهلهم من الغفلة عنهم. والتدخين أيضاً لا يجوز، ولا شك في تحريمه، لأنه ثبت طبياً ضرره، وكل ما ثبت ضرره فهو محرم، وضرر التدخين معروف لديكم ضمن جهود التوعية؛ سواء ضرره الصحي والاقتصادي، أو الأضرار الاجتماعية، وقد نشر في إحدى الصحف -أظنها اليمامة- إحصائية مذهلة تعتبر مصيبة كبرى، عندما يتكلم عن المبلغ الذي هو قيمة استيراد المملكة للسيارات، وقيمة استيرادها من السجاير، فتصور أنه قد يقول لك: وأنا لا أحفظ الرقم تماماً إن استيراد المملكة من السيارات مليار أو مثل هذا، وعندما يذكر لك قضية السجاير تجدها ضعفها وأكثر منها. فهذه كارثة اقتصادية على الأمة، فالناحية الاقتصادية ضررها ظاهر، والناحية الصحية أيضاً ضررها ظاهر، وقبل هذا وبعده التدخين ليس من الطيبات التي يفرح الإنسان بها، ويحمد الله عليها، بل هي من الخبائث، سواء في أثرها أو في رائحتها أو في مواصفاتها، فهي محرمة ولا يجور للإنسان أن يتعاطى هذه السجاير، وإذا ابتلي بها فيحرص قدر المستطاع على التخلص منها ولو بالتدريج، ومع ذلك عليه أن يحرص على الإسرار بذلك، وأن لا يُعرف عنه. وأنا أعجب -أيها الإخوة- هناك شخص لي معه اتصال دائم، وأراه بشكل دائم، ومكثت معه سنوات، فما علمت أنه يدخن، ولا توقعت ذلك ولا خطر في بالي، حتى أخبرني أحد أقربائه، فهذا يدل على رجولة عند هذا الإنسان وخير وصلاح، أنه ما دام قد بلي بهذا الأمر، وما استطاع التخلص منه فلا يخبر به، يتحفظ بحيث لا أحد يعلم عنه هذا، ولا يشم عنه رائحة ولا تأثيراً ولا شيئاً يدل على ذلك. أما مسألة الحبوب المنشطة للمذاكرة، فأنا أعتقد أنه ما من حبوب منشطة إلا ولها تأثير سلبي، والوضع الطبيعي أن الإنسان يظل يذاكر ما دام يحس بنشاط، فإذا شعر بالتعب فعليه أن ينام، ثم يواصل نشاطه من جديد بشكل طبيعي، أما هذه الحبوب المنشطة فمن المعروف طبياً يقيناً؛ أنه ما من نوع من أنواع هذه الحبوب إلا وله مضاعفات وسلبيات على الإنسان، أقلها أن يعتاد الجسم عليها، ويصبح لا يحتفظ بنشاطه بدون هذه الحبوب. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 31 من أحكام القصر في السفر السؤال أحدهم يقول: إنه يأتي إلى المعهد من بيته، وهو على بعد مائة وثلاثين كيلو متر عن بريدة، فهل يقصر الصلاة؟ والثاني يقول: إنه يسافر سفر قصر، ولكن للصيد والنزهة، فهل يقصر الصلاة؟ الجواب بالنسبة للسفر للصيد والنزهة، إذا كانت تنوي أن تسافر مسافة بعيدة فاقصر، لكن لو فرضنا أنه ما نوى مسافة بعيدة، بل نوى أن يذهب قريباً ليصيد في مزارع قريبة من البلد، لكن من سوء حظك أنك ما وجدت صيداً، فقلت: أذهب للتي وراءها ثم التي وراءها، وصار الطريق يسترسل بك بدون قصد منك، فهذا قال كثير من الفقهاء: إنه لا يقصر، مادام أنه لم ينو السفر. لكن إذا نوى السفر للصيد أو للنزهة وذهب بعيداً فهذا يقصر، كذلك الطالب الذي يأتي إلى المعهد عن بعد مائة وثلاثين كيلو، فإن له أن يقصر إذا كان في الطريق ذاهباً أو آيباً، أو حتى إن كان في البلد هنا، ولكنه فاتته صلاة الجماعة، فإنه يجوز له أن يصليها قصراً، أما إذا رجع إلى بلده فمعروف أنه يقصر في الطريق راجعاً كما قصر آتياً، فإذا وصل إلى بلده صلّّى تماماً من غير قصر. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 32 حكم من يؤخر الصلاة السؤال المجموعة الثانية تدور حول الصلاة، وأصحابها يسألون: ما حكم من ينام عن صلاة الفجر، أو صلاة العصر؟ أو ما حكم من يؤخر الصلاة عن وقتها مثل من يحضر المباريات؟ هذا جزء. والجزء الثاني يقول: إننا أربعة أشخاص في المنزل ونصلي جماعة في البيت، فما حكم هؤلاء؟ الجواب {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] أمر الصلاة عظيم، وهي الفيصل بين الإسلام والكفر، هي العلامة الفارقة، فنحن عندما نذهب إلى بلاد الإسلام، أو التي كانت بلاد إسلام وحكمها المستعمرون، ثم حكمها من بعدهم تلاميذهم، وقد مسخوا آثار الإسلام فيها، تذهب إلى تركيا -مثلاً- إلى أندونيسيا، ما هو الذي بقي لهم؟ حقيقة الذي بقي لهم شيء واحد: (الله أكبر الله أكبر) لا تعرف هذه البلاد ما هي إلا إذا جاء وقت الأذان ضجت بالأذان والتكبير. فالصلاة هي الفيصل بين الإسلام والكفر وهي الفارق، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقال: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} . ولهذا أنا أقدم لكم نصيحة محب: لا تدعوا الصلاة في أي ظرف من الظروف، فلا يوجد ظرف من الظروف يبيح لك ترك الصلاة، سواء كان مرضاً أو مباريات، أو أي شيء، ليس هناك ظرف يبيح للإنسان ترك الصلاة، بل يجب أن يصلي الصلاة وفي وقتها. ومن رحمة الله أن الإنسان يمكن أن يصلي في أي مكان قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة صلى حيث كان} فلا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة لأجل مباريات، من أجل مباريات تؤخر الصلاة! أصلاً نحن لا نسمح لك أن تذهب إلى المباريات، خاصة إذا كنت من المدمنين الذين يتابعون الدورات والأشياء والمباريات ويركض وراءها، يا أخي هذا ضياع لعمرك، ونحن لا نرضى لك بذلك. والله يا إخواني إني كنت مسروراً جداً: عندما قرأت في جريدة الرياضية، أنهم منزعجون يقولون: إن الشباب قد أعرضوا عن المباريات، وتركوا الملاعب، وبدءوا يدرسون هذه الظاهرة، وأجروا مقابلات مع رؤساء النوادي، ما هو التحليل وما هو السبب؟ الحمد لله رب العالمين، يعلم الله أننا سررنا بهذا، ليس كرهاً للرياضة وأهلها، فإن الرياضة في أصولها الصحيحة ليس فيها شيء، لكن لأن الرياضة أصبحت الآن تهميشاً لعقليات الشباب، حيث حصروا اهتمامهم بها فقط، عشرون ألفاً يتدافعون ويتراكضون في الأسواق من أجل المباريات، وهؤلاء فلذات الأكباد، هؤلاء هم عزنا، ومجدنا، إذا ضاع هؤلاء فمن ننتظر؟! ننتظر كبار السن والعجزة!! يا أخي انفع أمتك ديناً أو دنيا، فكله نافع، أما مسألة الكرة الآن فلم تعد رياضة؛ بل بالعكس حتى من الناحية الجسمية، الذين يجلسون على المدرجات أو أمام التلفاز ماذا استفادوا؟ هل هم ربوا أجسامهم؟ هل ركضوا؟ بل هم جالسون تتكدس أعصابهم، وتشتد وتتأثر وتسترخي، وتضعف عقولهم, فهي حتى من الناحية الجسمية ضارة، حتى وصل الحال أن أصبحت الرياضة ألوهية والعياذ بالله. قرأت في جريدة الجزيرة مقالاً عنوانه: (ضحايا الكرة!) وذكر أن واحداً في نادي الزمالك قفز في المدرج حين هدف فريقه، قفز وسقط ميتاً، وذكر تاريخاً وقصصاً ونحن نعرف أشياء من هذا. وهذا الهدف الذي مات من أجله ما انتهت المباراة إلا وجاء هدف يقابله وانتهت المباراة بالتعادل، فما كسبنا شيئاً. فالمقصود يا أخي أن الرياضة الآن يجب أن تعيدوا النظر فيها، وأنا ما أفرض عليكم فيها شيئاً، لكن يكفيني أن كل واحد يخصص خمس دقائق فقط يفكر: هل وضع الرياضة بالشكل هذا صحيح أو خطأ؟ من الناحية الدنيوية والدينية؟ فكيف إذن يسمح لك أن تؤخر الصلاة؟! حتى لو كنت تخوض معركة مع الكفار فلن يسمح لك، فكيف تؤخر الصلاة من أجل الكرة؟! فينبغي بل يجب على الإنسان إذا كان في البلاد أن يصلي مع الجماعة، والرسول صلى الله عليه وسلم ما أذن لـ عبد الله بن أم مكتوم، وهو رجل أعمى لا يجد من يدله إلى المسجد، ومع ذلك لم يأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم بترك الجماعة، بل قال له: {هل تسمع النداء؟ قال: نعم قال: فأجب} . فما دمت أنك عبدلله، والله يقول لك: حي على الصلاة حي على الفلاح، فيجب أن تأتي إلى حيث الأذان وتصلي مع الناس. أما إن نام عن الصلاة لعارض، ولم يكن عابثاً كل يوم ينام عن الصلاة، ولا يصلي إلا بعد طلوع الشمس، فهذا لا يجوز، لكن إنسان عنده ظرف معين، كأن يكون مريضاً، أو نام عن الصلاة فتأخر، ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فهذا يصلي، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك} أما كونك تقوم الساعة السابعة وتصلي ثم تفطر وتمشي، فهذا لا يمكن ولا يجوز. وبالنسبة للصلاة داخل البيت، لا يجوز لهم أن يصلوا داخل البيت مادام هناك مسجد داخل البلد، ولو صلوا في البيت فصلاتهم صحيحة ومجزئة، لكنهم آثمون على ترك الصلاة جماعة في المسجد. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 33 ظاهرة الملتزمين وانعزالهم عن المجتمع السؤال المجموعة الأولى تدور حول الالتزام، والالتزام ظاهرة محببة والحمد لله، والأسئلة التي جاءت عن الالتزام دارت حول موضوعين: جزء من الشباب يرى أنه يسمع الغناء، ويعزف العود، ويقصر في صلاة الجماعة، ويستهزئ بالملتزمين أيضاً، ويرغب من فضيلة الشيخ أن يوضح له كيف يبتعد عن ذلك. الجزء الثاني من الأسئلة: يعتب على الملتزمين ويقول: إنهم لا يختلطون بغيرهم، ولا يصحبونهم في رحلاتهم واجتماعاتهم، وقد يكون في بعض عباراتهم فضاضة قد تنفر من يرغب في الالتزام، أو من يميل إلى الالتزام، هؤلاء وهؤلاء يرغبون في كلمة من الشيخ توضح لهم كيف ينتهجون؟ الجواب بالنسبة للأسئلة الأولى فهي ظاهرة إيجابية؛ لأنه -كما ذكرت لكم في مطلع الحديث- ليس منا إنسان لا يخطئ، بل كل الناس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} . فليست المشكلة أن الواحد يخطئ، بل أحياناً الخطأ طريق الصواب، ورُبَّ معصية يدخل بها الإنسان الجنة؛ لأنه وقع في خطأ فبعد ذلك استيقظ قلبه، وصارت هذه المعصية أمام وجهه دائماً وأبداً، فيكثر من الأعمال الصالحة والاستغفار والتوبة، حتى دخل الجنة، وعلى العكس رُبَّ طاعة أوردت الإنسان النار والعياذ بالله هي الطاعة، لكنه عمل الطاعة فصار مدلاً بنفسه معجباً بها، ويشعر أنه فعل وأدى ما عليه، فيصل والعياذ بالله إلى الدرك. فمجرد وقوع الإنسان في خطأ ليس هو المشكلة، لكن المشكلة الحقيقية أن يصبح الخطأ عندي وعندك صواباً، لأننا ألفناه وأصبحنا ندافع عنه ونستمرئه. يا أخي! إن الله فتح أبواباً، يقول ربنا في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم} انظر! ربنا سبحانه وتعالى، الرب الكريم الرحيم الجواد المتعطف على عباده، يتعرض لهم: اسألوني ادعوني اطلبوا مني استغفروني: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} . هل هناك أحد يحول بينك وبين استغفار الله؟ لا يوجد أحد، ونوح عليه السلام كان يقول لقومه: استغفروا ربكم، ألف سنة إلا خمسين عاماً، قال تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] حتى الدنيا تحصلون عليها، لو أن أنساناً استقام وصلح، فهل يخسر شيئاً؟ والله العظيم -وأحلف بالله ولا أستثني- والله الذي لا إله غيره إن أسعد طبقات الدنيا من آدم إلى قيام الساعة هم المتدينون، الصادقون في تدينهم في الدنيا قبل الآخرة. يا أخي! الملتزم الصادق عنده لذة الدنيا بجميع ما فيها لذة الشرب والأكل، والنساء، والمال، والحياة الدنيا نفسها هي عنده مضاعفة، ومسكين الذي لا يسلك هذا الطريق، بل هو في خسران بكل المقاييس، فالالتزام والتدين الحق هو للدنيا قبل الآخرة، ولهذا يقول نوح لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . فالالتزام لن يخسرك شيئاً أبداً، وحتى هذه الذنوب التي يرتكبها الإنسان، ثم يستغفر الله منها، فإن الله غفور رحيم، لكن على الإنسان ألا يصر على الذنب أولاً، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . الشيء الثاني: عليه أن يملك قلباً منيباً أوّاباً رجّاعاً، سليماً: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] . فمثلاً: الإنسان الذي يسخر بالملتزمين -كما قال في السؤال- هذا لا يملك قلباً سليماً، وليس بصادق، وإلا فكيف يسخر بمن يتمنى أن يكون مثلهم؟! وكيف يسخر بمن يعتقد أنهم على الصواب وهو على الخطأ؟! أليس هذا من حجب الحقيقة وسترها إذ أنه يعرف ويستر؟ والإنسان الذي عنده معصية، ولكنه يملك قلباً فيه صلاح، تجده إذا رأى الأخيار أحبهم، ويقول: ياليتني أكون يوماً مثلكم! أرجو الله ألا يحرمني يوماً من الدهر أن أكون منكم! فيحبهم، ويقدرهم، ويواليهم، ويدافع عنهم، هذا هو القلب السليم، ولو كان عنده ذنب أو تقصير. لكن أن تكون القضية بالعكس، أن يشعر أنه طرف وهم طرف ثانٍ، وهو في وادٍ وهو في وادٍ ثانٍ، هنا عليه أن يعيد الحساب مع نفسه. أيها الإخوة إن أمامنا فرصاً نحن مسئولون عنها، لقد رأيت في بلاد العالم الذي يريد الهداية أمامه ألف عقبة، وقد قرأت ورأيت بعيني بعض الذين أسلموا، كالأمريكان، أو الفرنسيين أو غيرهم، رأينا تجاوزوا عقبات طويلة، أبوه يهودي، وأمه نصرانية، بيئته فاسدة وحياته وعقليته وتفكيره، ذهب إلى المكتبة ووجد أن الكتب التي فيها مشوهة عن الإسلام، سأل فما وجد من يجيبه، عنده أناس من العرب، ولكنهم جاءوا يشتغلون بالدنيا، فأمامه ألف عقبة، ومع ذلك ظل الرجل مصابراً يبحث، وفي النهاية وقع على الإسلام وأسلم. لقد بحث وسلك طريقاً طويلة، وأنت يا أخي ليس أمامك ولا أي عقبة، ففي المعهد نشاط خيري، وفي المسجد نشاط خيري، وفي السكن كذلك، وعند أهلك، وفي البلد الذي أنت فيه إذا عدت، وفي كل مجال، المكتبات مليئة بالكتب، بل وتوزع، وكذلك الأشرطة، فمن السهل أن تحصل على الخير، فليس لك عذر -أخي الكريم- فكن صادقاً مع نفسك، ولا تمنِّ نفسك بالأعذار، هذا بالنسبة للطائفة الأولى. أما بالنسبة للطائفة الثانية فهذا حق، فعلى الملتزم أن يكون صورة لما يدعو إليه، أولاً: ما دام أن الله قد هداه إلى الخير، هذا الخير الذي هداه الله إليه زكاته وشكره أن يدعو غيره إليه، وهذه الدعوة يجب أن تكون بالتي هي أحسن قال الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فالدعوة بالبسمة، الدعوة بالإحسان إلى الآخرين، وبالتلطف معهم، والصبر عليهم، الدعوة في خدمتهم حتى في أمورهم الدنيوية ومساعدتهم، في دراستهم وفي أعمالهم، ومشاكلهم، الدعوة بطول النفس معهم، والحرص عليهم، هذا هو الذي يليق بالإنسان، خاصة ونحن الآن أمام جهود كبيرة موجهة إلى الشباب لإغرائهم، فهم بحاجة إلى اليد الحانية التي تنتزعهم بالأسلوب الحسن، ويبقى هناك من الناس من قد لا ينجح تماماً في هذا. فنحن نقول: الصورة المثالية أنك أمام داعية ملتزم، مطبق لما يقول، أخلاقه عالية، صاحب ابتسامة، وكلمة طيبة، وصاحب صبر، هذا أكمل شيء. وهناك رجل ملتزم وخير، ولكنه لا يدعو، أو يدعو لكنه يدعو بأسلوب ليس حسناً. الثالث إنسان منحرف أو مقصر. الجزء: 36 ¦ الصفحة: 34 الرؤى والأحلام تحدث الشيخ عن داوعي الحديث عن هذا الموضوع، ثم ذكر دلالات الرؤى والأحلام، ثم بين حقيقة الرؤيا عند غير المسلمين وعند المسلمين، وعلى ضوء ذلك شرع في ذكر أقسام الرؤيا كما تدل على ذلك النصوص الشرعية، ثم عرف الرؤيا الصالحة ومنزلتها، وأن من جملة من يرى الرؤيا الصالحة الأنبياء والصحابة الصالحون وأنه قد يراها غير الصالحين، وذكر بعض الرؤى الواردة عنهم. ثم عدد عوامل صدق الرؤيا، وأنه لا يثبت بالرؤيا حكم شرعي، وأن لها آداباً، وختم بالكلام على تعبير الرؤيا الجزء: 37 ¦ الصفحة: 1 مقدمة عن الدروس العامة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذا هو الدرس الأول من (سلسلة الدروس العلمية العامة) التي كنت وعدت بها إخواني من طلاب درس الحديث في مطلع العام الهجري الحالي، أي: قبل نحو ستة أشهر، ثم وعدتهم في المجلس السابق أن نبدأ في هذه الليلة، وهي ليلة الإثنين، السابع عشر من شهر رجب لعام (1410هـ) . لابد -أيها الإخوة- قبل أن أبدأ بموضوع هذه الأمسية، أن أعطي الإخوة الحضور والمستمعين فكرة عن منهج هذا الدرس. ففي الأصل كانت هناك نية لإيجاد درس آخر في (بلوغ المرام) لكن حالت دونه بعض الحوائل، ففكرت في إقامة درس آخر، ثم ترددت ماذا يكون الموضوع الذي أُدرِّس فيه؟ هل أدرس في التفسير مثلاً؟ فهناك وقفات وفوائد عظيمة في هذا العلم، أم أُدرِّس في السيرة النبوية؟ ولا شك أن الناس في أمس الحاجة إلى دروس وعبر من سيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم أم أدرس في العقيدة والتوحيد؟ وهذا هو لُبُّ اللباب وأصلُ الأصول، وقد كثرت الثغرات والانحرافات في هذا الباب، فالناس أيضاً في أمس الحاجة إلى من يبصرهم بحقيقة دينهم وأصل الأصول فيه، ألا وهو موضوع العقيدة الصحيحة، والرد على أهل البدع والأهواء والمِلَل والنِّحَل وغيرهم. وبعد طول تفكير؛ رأيت أن من المناسب أن يكون هذا الدرس عاماً ليشمل هذه الأمور جميعها؛ بحيث يكون لدينا فرصة لنتحدث في إحدى الليالي -مثلاً- عن موضوع في العقيدة، ونتحدث في ليلة أخرى عن موضوع في السيرة، وفي ليلة ثالثة: عن موضوع يتعلق بالأخلاق والآداب والسلوك، وفي بعض الليالي عن موضوعات تتعلق بالأحوال الاجتماعية، والتنبيه عن بعض ما يقع الناس فيه، وأحياناً يكون هناك مناسبة تستدعي الحديث عنها، كقدوم موسم من مواسم الطاعة، كاستقبال رمضان أو الحج، أو وجود مناسبة تاريخية معينة، أو حدوث حادث يتطلب التعليق عليه والتوعية بشأنه، فضلاً عن بعض الموضوعات الأخرى التي يناسب طرحها في مثل هذا المجال. ولذلك رأيتُ أن يبقى موضوع هذا الدرس عاماً، من ناحية عدم تقييده بفن معين، بل قد أتحدث - أحياناً - عن كتاب من الكتب له أهمية، أو نقد له، أو أتحدث عن ترجمة لبعض رجالات الإسلام الكبار، وبعض الدروس والعبر والفوائد من حياته إلى غير ذلك؛ بحيث لا يكون هناك حدود أو قيود في هذا الموضوع. هذا من جهة موضوع الدرس، فلن يكون له موضوع خاص، بل سيكون لكل ليلة موضوع خاص، وقد يستدعي الأمر -أحياناً- أن أتحدث ليلتين أو أكثر، على مدى أسبوعين أو أكثر في موضوع واحد؛ لأنه موضوع طويل، ولا يمكن استقصاؤه واستيعابه في درس واحد أو جلسة واحدة، كما هو الحال -تقريباً- بالنسبة لدرس هذه الليلة، فسيتضح لكم أنني لا أستطيع أن أستغرق كل ما ينبغي أن يقال في هذا الموضوع في هذه الأمسية الواحدة. إذاً: هو درس علمي عام، وسأحرص -إن شاء الله- على أن يكون تناول الموضوع الذي أريد الحديث عنه -قدر الإمكان- مُيَسراً مُسَهلاً قريباً، يمكن أن يفهمه أي إنسان، بمعنى: ألاَّ يكون هذا الدرس خاصاً بطلاب العلم، كما هو الحال في درس (بلوغ المرام) بل أن يكون الدرس درساً للكافة، مِن الكبار والصغار، والمتعلمين وغير المتعلمين، ومِن الرجال والنساء أيضاًً، ولذلك -إن شاء الله- سيتم إيجاد وترتيب مكان مخصص للنساء، إن لم يكن موجوداً فعلاً الآن، هذا ما يتعلق بموضوع الدرس. أما وقته فقد علمتموه جميعاً، فسينعقد بصفة دورية أسبوعية -إن شاء الله- في كل أسبوع، في مساء الأحد، ليلة الإثنين، بعد صلاة المغرب، في هذا المكان، في الجامع الكبير ببريدة. أما فيما يتعلق بما بين الأذان والإقامة، فسيكون مخصصاً للإجابة على الأسئلة غالباً، باستثناء هذا الليلة؛ لعدم ترتيب مسبق في هذا، وإلاَّ فسيكون هناك ورق تُوَزَّع على الإخوة الحضور أو على من أراد؛ لكتابة الأسئلة، على أن تكون الأسئلة متعلقة بالدرجة الأولى بالموضوع، لا مانع من الأسئلة المهمة وإن لم تكن في الموضوع، لكن في الدرجة الأولى: بالموضوع؛ لأننا سنتناول -كما ذكرتُ- موضوعات كثيرة، فيستحسن أن تكون الأسئلة فرصة لاستكمال الجوانب التي قد لا أكون تطرقت إليها أثناء الحديث. هذه مقدمة تتعلق بفكرة هذا الدرس وطبيعته وطريقته، ولا أستغني عن جهودكم في هذا المجال؛ لأن هذا الدرس عام -كما ذكرتُ لكم- فمثلاً: حين يوجد في المجتمع ظاهرة معينة تحتاج إلى الحديث عنها، قد لا أستطيع أن أدرك هذه الظاهرة؛ لأنني - أحياناً - أكون بعيداً عنها، لكن منكم من يدركها، ويحس أنها موضوع يستحق الحديث، فلا مانع من الاقتراح في هذا المجال، بل هو مطلوب. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 2 أهمية موضوع الرؤى والأحلام موضوع هذا الليلة هو: الحديث عن (الرؤى والأحلام) . ولا بد أن يسأل سائل: لماذا تبدأ بهذا الموضوع، موضوع الرؤى والأحلام؟ فأقول: أولاً: ليس البدء بهذا الموضوع مقصوداً أن نبدأ به دون غيره، كلا! بل من منهج هذا الدرس ألا يلتزم -كما ذكرتُ- بترتيب معين، بل ينتقل من موضوع إلى موضوع، ولو كانا متباعدَين؛ لدفع الملل والسآمة عن نفوس الإخوة الحضور والمستمعين عموماً. ثانياً: أما الحديث عن الرؤى والأحلام، فهو ضروري لأسباب أشير إليها: الجزء: 37 ¦ الصفحة: 3 بيان شمولية الإسلام الأمر الثالث الذي يدعو إلى الحديث في موضوع الرؤيا هو: أن نبين أن للإسلام بياناً وتفصيلاً في كل أمر من الأمور، كما قال الله عز وجل: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] وقال أيضاً: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ولذلك جاء في الصحيح: {أن رجلاً من اليهود أو من المشركين قال لـ سلمان الفارسي رضي الله عنه: هل علمكم نبيكم كل شيء، حتى الخراءة؟ -يعني: آداب قضاء الحاجة- قال: أجل! أمرنا ألا نستقبل القبلة بغائط ولا بول، وألا نستنجي برجيع ولا عظم، وألا نستنجي بأقل من ثلاث أحجار} . فلم يمت النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد بين لأمته البيان الشافي الشامل الكامل في كل أمر من الأمور، دقيقها وجليلها، ومن ذلك: أمر الرؤيا، فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم أتم بيان، وهذا الهدي النبوي الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يقف في مقابلة كلام المنحرفين الذين لم يستنيروا بنور النبوة، فأنت تجد في موضوع الرؤيا -مثلاً- هناك للأطباء في الرؤيا كلام، وللفلاسفة أيضاً كلام، ولعلماء النفس في العصر الحاضر في الرؤيا كلام، حتى أن فرويد، وهو صاحب مدرسة التحليل النفسي -كما يسمونها- له نظرية متكاملة في الأحلام، وسيأتي الإشارة إلى بعض الطرائف المضحكة في شأن هؤلاء بعد قليل إن شاء الله. إذاً: نحن نبين للناس هدي الإسلام وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ في مقابل ما يُشاع على ألسنة الكثيرين من انحرافات الجاهلية، ولوثات المادية، ومع الأسف الشديد لم يعد الكلام في الرؤيا -الذي يقوله أعداء الإسلام- سراً، فقبل أسابيع كنت أستمع إلى أحد البرامج، فإذا به يتحدث عن الرؤى والأحلام، ويذكر نظريات غربية مادية في شأن الرؤيا، ويعتبر أنها من أحدث ما توصل إليه العلم، وأنها أمور طريفة، مع أن المسلم الواعي لا يملك إلا أن يضحك منها، ويحمد الله على نعمة العقل والإسلام. وعلى أي حال فإن منهج الإسلام في موضوع الرؤيا هو منهج الاعتدال، لا إفراط ولا تفريط، ليست الرؤيا وحياً ولا تشريعاً، كما أن الرؤيا ليست عبثاً ولا تخليطاً، بل منها الحق ومنها الباطل، كما سيظهر. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 4 ارتباط الرؤى بواقع الناس ثانياً: أننا نجد أن الرؤيا مرتبطة بواقع الناس، فكثيراً ما يتحدث الناس عن الرؤى والأحلام وخاصةً النساء، وغيرهن على سبيل العموم، كثيراً ما يتحدثون عن الرؤى والأحلام، يقال: رأيت فيما يرى النائم، ورأت فلانة، ورأى فلان، وما أشبه ذلك. وعلى سبيل المثال أيضاً: عندما تسمع من بعض المشايخ الذين يسألهم الناس عن أمور دينهم، تجد أن كثيراً من السائلين يسألون عن الأحلام -أحياناً- أكثر مما يسألون عن الحلال والحرام، كثيراً ما يسأل الإنسان عن رؤيا رآها لنفسه، أو لأبيه الذي مات منذ كذا أو أمه التي ماتت منذ كذا، أو قريبه، لكن ربما هذا الإنسان نفسه لا يسأل -أحياناً- عن أمر من أمور الدين الذي يخصه ويتعلق به، وقد يكون بعض ما يسأل عنه من الرؤى والأحلام أضغاث أحلام لا قيمة لها. وأذكر أن كثيراً من المغرضين يستغلون ناحية اشتغال الناس بالرؤيا، فينشرون -أحياناً- رؤى باطلة، ولعلكم جميعاًَ تذكرون الورقة التي وُزِّعت منذ سنين عما يسمى بـ (رؤيا الشيخ أحمد) خادم الكعبة، كما سُمِّيَ في الورقة، وفيها تهاويل وخرافات ومبالغات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، وفي نفس الورقة طُلِبَ أن تُكْتَبَ هذه الرؤيا وتوزع، وأن من استهان بها أو أحرقها أو أتلفها فإنه يتعرض للعقوبة العاجلة والآجلة، وهذه الرؤيا كَتَبَ فيها سماحةُ الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رسالة بعنوان: تنبيه هام على كذب الوصية المنسوبة إلى الشيخ أحمد، ووزع الكتاب كثيراً ومراراً، ومع ذلك فإن هذه الوصية نفسها تثور بين حين وآخر، وتنتشر عند الخاصة والعامة، وأخص: أوساط النساء في كثير من الأحيان. وقبل فترة ليست بالبعيدة في أواخر الفصل الأول؛ اتصل بي مجموعة غير قليلة من الطالبات، يسألن عن رؤيا يزعمن أنها وُجِدَت، فيقلن: إن إحدى الفتيات كانت مريضة أو شيئاً من هذا القبيل، ورأت في المنام إحدى أمهات المؤمنين، فقالت: إنها مَسَحَتْ عليها، فشُفِيَتْ بإذن الله، ثم قالت لها: اكتبي هذه القصة في ورقة (13) مَرَّة، وأبلغي الناس أن يكتبوها (13) مَرَّة، ومن كتبها فإنه يكون له الأجر والثواب في الدنيا والآخرة، ومن استهان بها فإنه يُعاقَب. وانتشرت هذا الأسطورة في أنحاء البلاد، وبدأ بعض النساء يَكْتُبْنَها، خوفاً من العقوبة الدنيوية، أو خوفاً من العقوبة الأخروية، مع أنها أسطورة مكذوبة مختلقة لا أصل لها. ونحن لا نشك في أن هذا الأمر مكذوب لأسباب عديدة، سبق أن بينتها في بعض المناسبات، منها على سبيل المثال: إن هذه الرؤيا لا يتعلق بها تشريع ولا حلال ولا حرام، بمعنى: أنه ليس فيها حكم شرعي، حتى يلزم الناس أن يطلعوا عليها ويعرفوها ويكتبوها، فمن أنكر هذه الرؤيا وكذبها، فكيف نقول: إنه آثم أو يتعرض لعقوبة؟! التشريع من عند الله تعالى، والله تعالى أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقد كَمُلَ الدين، وتمت النعمة، فلم يعد الدين بحاجة إلى من يكمله، بمعنى: أن بعد وفاة الرسول -عليه الصلاة والسلام- لن يَجِدَّ أمرٌ من الأمور يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- مطلوباً من الناس، أو يصبح بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- منهياً عنه، المنهيُّ عنه عُلِم والمطلوبُ عُلِم، ولم يعد هناك مجال للزيادة أو النقص في الدين. كما أننا نعلم أن هذه القصة مسلسلة بالمجهولين والكذابين، فمن التي رأت هذه القصة؟ ومن الذي روى عنها وأسند عنها هذا الخبر؟ لا شك أنهم أناس أو نساء مجهولات لا نعرف مَن هُن! ثم لنفترض أن هؤلاء النساء نساء موثوقات ودينات وصينات وعابدات وو إلخ، فكيف يروِين مثل هذا الأمر الذي لو فُرِضَ أنه صحيح ورأته واحدة في المنام؛ لكنا نجزم ونقطع بأنه من لَعِبِ الشيطانِ على الإنسان؟ لأن الشيطان قد يأتي للإنسان في المنام فيلعب به ويخادعه، فإذا حدث مثل هذا، فكان الأجدر بالإنسان أن يكتم هذا الأمر ولا يُخبر بِلَعِب وعَبثِ الشيطان به في منامه، أما أن يعلنه على الناس ويبينه ويضحك به على السذج، فهذا -لا شك- أنه لا يجوز. وأخيراً: أقول في شأن هذه الرؤيا: كونها تطلب أن تُكتب هذه الرؤيا وتُنْشر، وتزعم أن رجلاً كتَبَها فحصل له سعادة ومال وتوفيق، وآخر مزقها ففصل من وظيفته، وثالث أصابه حادث، ورابع تلف ماله بسبب تمزيقها، نسأل: هذه الرؤيا هل تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدينية، أم تُكْتب على أنها أمر من الأمور الدنيوية؟ إن كانت ستكتب على أنها دين، فلا شك أن هذا باطل؛ لأن تعالى يقول في محكم التنزيل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] فالإنسان لو صلَّى -مثلاً- أو صام أو حج يريد الدنيا؛ لكان صومه وصلاته وحجه من الأشياء التي يُعاقَب عليها في الآخرة، وإن كانت عبادات في الأصل، لكنه أراد بها الدنيا قال الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] وكذلك يقول الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] . إذاً: أنت لو صليتَ -مثلاً والصلاة مشروعة كما هو معلوم- تريد الدنيا، وتريد مدح الناس أو ثناءهم، أو أن يزوجوك، أو أن تحصل على وظيفة من المصلين، لكانت صلاتك وبالاً عليك، وتعذب بها يوم القيامة، وهي عبادة في الأصل، لكن نيتك فيها سيئة، فكيف حين يفعل الإنسان أمراً ليس مشروعاً بنية تحصيل الدنيا؟ هذا لا يكون. والأسباب في الوصول إلى الأمور الدنيوية معروفة، فالإنسان -مثلاً- إذا أراد حفظ صحته -بعد توفيق الله- يعمل بالأسباب، مثل: تجنب الإكثار من الطعام والشراب أو الإقلال منه، أو التعرض -مثلاً- للبرد الشديد، أو الحر الشديد، أو غير ذلك من الأسباب التي تجلب له -بعد إرادة الله تعالى- المرض. فأسباب تحصيل الأمور الدنيوية معروفة، وأسباب تحصيل الأمور الدينية أيضاً معروفة، فهذه الرؤيا ليست من أسباب تحصيل أمور الدنيا، وليست من أسباب تحصيل أمور الدين، وبذلك ثبت أنها باطلة، وأنه يجب التحذير منها، وأن ينتبه لذلك أولياء الأمور، فينبهوا من يطلعون عليه إلى مثل هذا السخف ومثل هذا الهراء. إذاً: كثيراً ما يشتغل الناس بالرؤى والأحلام، وكثيراً ما تؤثر في حياتهم، وتجعل بعضَهم يتصرفون تصرفات منافية للشرع. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 5 الغلو في الرؤى أو الجفاء عنها أولاً: ما ذكره الإمام أحمد رحمه الله: أنه كان يقول في عهده، وقد شُكِي إليه بعض الانحراف في أمور معينة، فقال: "هذا الزمان قَلَّمَا تجد فيه شيئاً مستقيماً". أكثر الأشياء مُعْوَجَّة، وإذا كان هذا في عصر الإمام أحمد، فما بالك في عصرنا هذا؟! فكل شيء في عصرنا هذا يكاد أن يكون وقع فيه اعوجاج عظيم، ويحتاج إلى تقويم، ففي موضوع الرؤيا -مثلاً- تجد هناك مَن غلا في تقييم الرؤيا ورَفَعَها عن مكانتها، حتى أصبحتَ تجد مَن يَعْتَبر الرؤيا تشريعاً أو ينقص بها شرع الله عز وجل، فقد يحلل الحرام أو يحرم الحلال؛ بناءً على رؤيا رآها، وقد يدَّعي بعضهم عِلْمَ الغيوب التي تفرد الله تعالى بعلمها، والتي لم يطّلع عليها أحداً، بسبب أنه رأى رؤيا أو رئيت له رؤيا، وطالما افتتن الناس -مثلاً- بأن فلاناً رأى أن الساعة تقوم بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، مجرد رؤيا في المنام، تخدع كثيراً من سذج الناس ودهمائهم، مع أنها مناقضة لصريح القرآن الكريم، قال الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان:34] {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه:15] {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:42-45] ومع ذلك فكثيراً ما ينخدع الناس بهذا، وقد تنشره الصحف أحياناً، ويغتر به بعض المسلمين. وفي مقابل هؤلاء الذين يعظمون شأن الرؤيا، ويعتبرونها -أحياناً- تشريعاً؛ تجد هناك من يستهينون بالرؤيا ويفرطون في شأنها، حتى أنهم لا يرونها شيئاً، يقللون من قيمتها، بل لا يرون لها قيمة البتة، ويرون أن جميع ما يُتَحَدَّثُ عنه من الرؤى، إنما هو كلام عجائز، وخرافات وأساطير وما أشبه ذلك! وهذا هو الآخر انحراف في الطرف الثاني، وهو أقرب ما يكون إلى نظرات الماديين في هذا العصر، الذين لا يؤمنون إلا بالمحسوس، ولذلك ينكرون الغيب، وما يتعلق به من الأمور. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 6 معنى الرؤيا ودلالتها النقطة الثانية التي سأشير إليها هي: الحديث عن معنى الرؤيا ودلالاتها. أما معنى الرؤيا فهو ما يتخيله الإنسان ويَعْرِض له في منامه. وتُجْمَع على رؤى، ومفردها رؤيا، ويقال: أحلام، ومفردها حُلُم، وسيأتي بيان الفرق بين الرؤيا وبين الحُلُم. وأما ما يراه الإنسان عياناً فيُسَمَّى رؤية، بالهاء، فإذا قيل: رؤيا، فمعناها: رؤيا في المنام، وأما إذا قيل: رؤيةٌ، فالمقصود رؤية بالعين المجردة، وقد تُسمى الرؤيا مناماً. هذا فيما يتعلق بتعريفها. أما فيما يتعلق بدلالات الرؤيا، فأحب أن أشير إلى عدة نقاط، أعتبر أنها مهمة جداً. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 7 التثبيت للمؤمنين الدلالة الرابعة من دلالات الرؤيا: أنها تثبت من الله عز وجل للمؤمنين، ولهذا -أيضاً- سبق أن في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب؛ لأن المؤمن أشد ما يكون حاجة إلى تثبيت الله تعالى له في مثل ذلك العصر الذي قَلَّ فيه المساعدون، وكثر فيه المخالفون والمناوئون. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 8 الدلالة على نوع من الفراغ الدلالة الخامسة من دلالات الرؤيا والانشغال بها: أنها تدل على نوع من الفراغ. فإن كون المجتمعات فارغة من الأمور الجادة يجعلها تتجه إلى الحديث عن الأحلام، ولذلك أسلفت لكم قبل قليل، أن في هذا العصر كثر الحديث عن رؤى ومنامات باطلة ومخالفة للشرع، لماذا؟ لأن الناس عندهم فراغ، ليس لديهم علم شرعي صحيح، وليس لديهم أعمال إسلامية ودينية نافعة، فيشتغلون بهذه الأمور التي لا قيمة لها، ومثل ما تسمعونه وتقرءونه في الكتب عن منامات الصوفية وأحلامهم وأباطيلهم، التي يزعمون أنهم رأوها على فُرُشِهِم، لهذا السبب نفسه، كما أنها تكون في النساء أكثر منها في الرجال، للسبب نفسه أيضاً. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 9 التطلع إلى المجهول المغيب الدلالة الثالثة من دلالات الرؤيا: أن في الرؤيا تطلعا إلى المجهول المغيب عن الإنسان. ومن حِكمة الله تعالى أنه غيَّب عن الإنسان أشياءَ كثيرة، عالَم الغيب محجوبٌ عن الإنسان، فالإنسان بطبيعته يتطلَّع إلى المغيَّب عنه، فإن كان مؤمناً فإنه يتطلع بطريقة، وإن كان غير مؤمن فإنه يتطلع بطريقة أخرى. خُذ على سبيل المثال: كثيرٌ من الناس يتجهون إلى التعرف على المحجوب عنهم عن طريق الخط في الرمل، والضرب بالحصى، وإتيان الكهان والعرافين والمنجِّمين وغيرهم، الذين يدَّعون علم الغيوب، فيقولون للناس: سيحدث كذا وكذا، وكذا، وهذا من وحي الشياطين إليهم. ومثله الخط في الرمل والضرب بالحصى وغيرها. فبعض الشباب -مثلاً- إذا أهمه أمر وأراد أن يعرف نتيجته؛ يسلك طريقة هي طريقة الخط في الرمل؛ لأنهم يهتمون بأمور دنيوية؛ فإن الواحد منهم إذا اهتم بموضوع الرياضة، فالرياضة أصبحت هماً مقلقاً لكثير من الشباب، فهو يهتم لقضية من يفوز في مباراة رياضية، لكن لا يهتم بقضية الإسلام، وقضية انتصار الإسلام، وقضية التنصير الذي يجتاح المسلمين، وقضية احتلال اليهود لبلاد الإسلام، والشيوعيين، والنصارى، هذه قد لا تهمه. يهمه أن فريق كذا انتصر على كذا، فإذا أُعْلِنَ عن مباراة حاوَلَ أن يتعرَّفَ على نتيجة المباراة قبل حصولها، كيف؟ يخط خطوطاً في السبورة أو في الأرض مثلاً هذا يفعله بعض الشباب، يضاهِئون به فِعْل أهل الجاهلية، ويَتْبَعُون به وحيَ الشياطين، فيخطون خطوطاً عشوائية، فيقولون: إن كانت الخطوط فردية، فالنصر حليف فلان، وإن كانت الخطوط زوجية؛ فالنصر حليف فلان، ثم بعدما ينتهون من التخطيط العشوائي يبدءون في العد، فإذا كان فردياً قالوا: المنتصر فلان، وإن كان زوجياً قالوا: المنتصر فلان. إذاً: يتعرف الإنسان غير المؤمن أو ضعيف الإيمان، الذي يَتَّبِع الشيطانَ في كثيرٍ من أموره، يتعرف أو يحاول أن يتعرف على ما حُجِب عنه عن طريق الوسائل المحرمة. ولعلكم تشاهدون ما يُكْتَب في المجلات والصحف اليوم، وهي تباع في أسواقنا مع الأسف الشديد: حظك هذا الأسبوع، أو ما أشبه ذلك، ويضعون بروجاً معينة، فإذا كنتَ من مواليد برج الثور، أو مواليد برج الحوت، فإنه في هذا اليوم سوف يحصل لك أزمة عاطفية، أو يحصل لك أمور تجارية، ومكاسب تجارية، أو صفقة مربحة، أو يحصل لك كذا وكذا. ومع الأسف أن المسلمين يشترون هذه الأشياء بأموالهم، ويتعاطونها فيما بينهم، وينسون هدي نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي حذَّر من الكهان والعرافين والمنجمين، وبيَّن أن من صدقهم فإنه كافر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أتاهم ولو لم يصدقهم؛ فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، صح ذلك عنه عليه الصلاة والسلام. هذا شأن غير المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يتعرفون على المحجوب عنهم بهذه الطريقة. أما المهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يُفْتَح له روزنة إلى ما حُجِب عنه -إلى المجهول- عن طريق الرؤيا وما أشبهها، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لم يَبْقَ من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة، يراها الرجل، أو تُرى له} وإنما عدَّها النبي صلى الله عليه وسلم من النبوة؛ لأن هذه المبشرات فيها إشعار للمؤمن بأمر خير سيقع، فيكون فيها تبشير له بما سيقع من هذا الخير، وقد يكون فيها تحذير المسلم من شر سيقع؛ ليأخذ أُهْبَتَه واستعداده له، فتكون محذرات، وإنما سماها مبشرات على سبيل التغليب، ولأنها بالنسبة إلى غيره تعتبر خيراً له. فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هذه الرؤى من المبشرات، كما أنه عليه الصلاة والسلام قال في الحديث المتفق عليه أيضاً: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وفي لفظ: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة} . وقد أطال أهل العلم في الكلام على معنى كون الرؤيا من النبوة، بما لا أرى ما يدعو إلى الحديث عنه الآن والإطالة في شأنه، لكن من الأشياء المشهورة في هذا الباب: ما ذكره الإمام ابن القيم، وذكره قبله جماعة من العلماء: أن معنى كونها جزءاً من (46) جزءاً من النبوة: أن الرؤيا الصالحة في أول النبوة، مكثت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم مكث ثلاثاً وعشرين سنة نبياً رسولاً عليه الصلاة والسلام فستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة هي جزء من ستة وأربعين جزءاً. وهذا التفسير عليه بعض الاعتراضات والمآخذ، التي من أهمها: إن الحديث جاء في سياق بيان البشارة للمؤمنين بالرؤيا، وعلى هذا التفسير تكون خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم على أي حال هذا أحد الأقوال في الحديث. والأقرب والأظهر عندي -والله تعالى أعلم- أن مقصود الحديث: أن الرؤيا فيها إشعار للمؤمن بخير سيقع ليغتنمه، أو بشر سيقع ليجتنبه ويحذر منه ويتخذ أُهبته واستعداده، فهي من هذا الوجه جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؛ لأن فيها إخباراً لهذا المؤمن بأمر غيب لم يقع، وإن كان لا يمكن الجزم والقطع بهذه الرؤيا إلا إذا وقعت؛ لأنه قد يخطئ الذي عبَّرها، وقد تكون على خلاف ما ظن أو على خلاف ما توقع. المقصود: أن المؤمن فتح الله تعالى له هذا الرَّوْزَنَة، لمعرفة بعض الأحداث والأشياء التي وقعت أو ستقع أيضاً، كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علَّم المؤمنين موضوع الاستخارة في الأمور المستقبلية، كما في صحيح البخاري من حديث جابر: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسميه باسمه- خير لي في ديني ودنياي، وعاجل أمري وآجله، ومعاشي ومعادي فاقْدِرْه لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضِّني به} في مقابل أن أهل الجاهلية كانوا يستقسمون بالأزلام -مثلاً- لمعرفة الأحسن من الأمور في ظنهم، وأهل هذا الزمان لهم طرق -أيضاً- تناسبهم في معرفة الأنسب من الأمور، وفعلها أو تركها، مثلما يقولون: قراءة الكف، أو غير ذلك من الوسائل الجاهلية، ففي الإسلام بدل وعوض عن كل أمر يطمح ويتطلع إليه الناس. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 10 الدلالة الأولى: أنها تدل على اهتمام صاحبها الدلالة الأولى من دلالات الرؤيا: أنها تدل على اهتمام صاحبها. فإذا اهتم الإنسان بشيء فإنه كثيراً ما يراه في منامه، كما أن الواحد إذا اهتم بأمر فإنه يشغله وهو في الصلاة أحياناً، ويشغله وهو يستمع إلى محاضرة، فكذلك يشغله هذا الأمر وهو في المنام، فيرى رؤى وأحلاماً متعلقة بهذا الأمر الذي شغله في اليقظة. ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث سمرة بن جندب المتفق عليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه، وقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإن رأى أحدهم رؤيا قصها. فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: خيرٌ لنا وشرٌّ لأعدائنا} ويؤوِّل هذه الرؤيا. إذاً: كونه صلى الله عليه وسلم يسأل أصحابه: {هل رأى أحد منكم رؤيا؟} دليلٌ على أن أولئك الرجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان هم الإسلام يشغل قلوبهم -حتى وهم يتقلبون في فرشهم- كانت قلوبهم مرتبطة بالإسلام، ولذلك انظر أيَّ لون من المرائي كانوا يرونها؟ وسأشير في نقطة قادمة إلى بعض مرائي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لا بأس أن نسبق الأحداث، وأشير إشارة عابرة إلى شيء منها: رؤيا عبد الله بن عمر -مثلاً- كما في الصحيحين يقول: {كنت أنام وأنا أتمنى أن أرى رؤيا، فرأى يوماً من الأيام أنه جاءه رجلان فأخذا بيديه، فذهبا به فوقفا به على النار، قال: وإذا بها رجال قد عرفتهم، وهي مطوية كطي البئر، ولها قرنان، فقلت: أعوذ بالله من النار. فقالا لي: لن تُرَعْ -أي: لا تخف- ثم ذهبا به إلى الجنة، وأعطياه قطعة من حرير، قال: فما أريد مكاناً إلا طارت بي إليه، ثم استيقظ، فأخبر أخته حفصة بهذه الرؤيا، فأخبرت بها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: نِعْم الرجلُ عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل. فكان عبد الله بن عمر بعد ذلك لا ينام من الليل إلا قليلاً} كان كثير الصلاة رضي الله عنه وأرضاه. إذاً: هذا ما كان يفكر فيه ابن عمر في يقظته رضي الله عنه وأرضاه، أي: كان موضوع الجنة والنار قد شغل باله، وكان له حيز في قلبه وتفكيره في اليقظة، فلما نام رأى رؤيا تتناسب مع هذا الهم الذي كان يشغله في يقظته. ومثله مرائي كثيرة حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم نفسه، كما في رؤياه في معركة أحد، وكما في رؤيته صلى الله عليه وسلم لـ عمر في أحوال عديدة، ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {دخلت الجنة فوجدت فيها قصراً من ذهب، فاقتربت منه فوجدت امرأة تتوضأ، فسألتُ: لمن هذا القصر؟ قالوا: لـ عمر قال: فأردتُ أن أدخل، ثم ذكرتُ غَيْرَتك فولَّيتُ مدبراً، قال أبو هريرة: فبكى عمر رضي الله عنه وقال: أوَ عليك أغار يا رسول الله!} وقل مثل ذلك في مرائي كثيرة رآها النبي عليه الصلاة والسلام، أو رآها أصحابه الكرام، أو رآها الصالحون، وسوف أشير إليها -إن لم يمكن في هذه الحلقة- ففي الأسبوع القادم الذي وعدتكم بأننا سوف نكمل فيه الحديث عن هذا الموضوع. المهم أن الرؤيا أولاً: تدل على اهتمام الرائي بأمر من الأمور، فإذا كان الإنسان مشتغلاً بقضية الإسلام والإيمان، فإنه -غالباً- يرى أموراً تتعلق بهذا الموضوع. وقُل مثل ذلك فيمن يكون مشغولاً بغير هذا، مَن يكون مشغولاً بالدنيا أو بالدراسة، أو بأي أمر من الأمور، غالباً ما يرى ما يتناسب مع اهتمامه. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 11 دلالتها على العجز وعدم التمكن الدلالة الثانية من دلالات الرؤيا: هي أنها تدل على نوع من العجز وعدم التمكن. كيف ذلك؟ الإنسان - أحياناً - تُغْلَق أمامَه الأبواب في أمر من الأمور، والوسائل التي يستطيعها بذلها، ثم فوض الأمر بعد ذلك إلى الله، والإنسان بطبيعته ضعيف وعاجز، وهذا من حكمة الله تعالى، ومن علامات النبوة -أيضاً- أن الرؤيا تدل على العجز في الإنسان. ولذلك تجد -مثلاً- أن السجين كثيراً ما يرى الرؤيا. لأن السجين أُغْلِقَت أمامَه الأبواب، فهو عاجز لا يستطيع أن يصنع شيئاً، ولذلك غالب بضاعته تتعلق بالرؤيا، وفي القرآن الكريم في سورة يوسف، ذكر الله تعالى ضمن القصة مرائي عدد من المساجين الذين ذكروا ليوسف عليه السلام مرائيهم: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] . وكثيراً ما يرى المسجونون الأحلام ويتحدثون بها، وأذكر شاعراً كان يقول وهو في السجن، يصف حاله: خرجنا من الدنيا ولسنا من أهلها ولسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السَّجَّان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجُلُّ حديثِنا إذا نحن أصبحنا الحديثُ عن الرؤيا فهي تدل على نوع من العجز، ولعلي أستشهد في هذا بالحديث الذي صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مسلم وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تقارب الزمان لم تَكَدْ رؤيا المؤمن تكذب} . والمقصود بذلك: أنه في آخر الدنيا، وقبل قيام الساعة، يغلب على رؤيا المؤمن الصدق، حتى لا تكاد تكذب، ولا تكاد تخلف، ولعل من الحِكَم -والله تعالى أعلم- أن المؤمن في آخر الزمان ضعيف مستضعف؛ لأن الإيمان قَلَّ ونَدُرَ أهله، وكَثُر الشرك والفساد والضلال والانحراف والمنكر، فأصبح المؤمن يعتصر قلبه من الأسى والحزن، ثم لا يجد طريقة ينصر فيها الإسلام، ويأمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، ويدعو الناس إلى الخير، وحينئذ -مع شدة اهتمامه بقضيته- ينفس الله تبارك وتعالى عن هذا المؤمن بهذه الرؤيا، التي يكون فيها الأنس والسرور والتثبيت والتبشير لهذا المؤمن. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 12 حقيقة الرؤيا النقطة الثالثة في هذا العرض: هي تحديد حقيقة الرؤيا. ما هي الرؤيا من حيث الحقيقة؟ هذا سؤال عويص، وفيه طرائف بالنسبة لغير المسلمين. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 13 حقيقة الرؤيا عند غير المسلمين يعجبني في هذا أن الإمام المازري يقول: إن غير الإسلاميين -أي: العلماء من غير المسلمين- لهم في شأن الرؤيا خبط وتخليط كثير وأقوال باطلة، وذلك بسبب أن الرؤيا أمر يتعلق بالروح وبالنفس، والروح لا يعلم حقيقتها إلا الله، قال تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء:85] وهؤلاء الفلاسفة والمنحرفون من غير الإسلاميين، حاولوا أن يتوصلوا إلى حقيقتها فضلوا؛ لأنهم إذا كانوا لا يمكن أن يتوصلوا إلى حقيقة الروح والنفس التي هي أصل الرؤيا، فمن باب الأولى لا يمكن أن يتوصلوا إلى حقيقة الفرع وهو الرؤيا. على سبيل المثال: هناك رجل ذكره ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل، وسماه: صالح قبة، وهو تلميذ النظام، والنظام من شيوخ المعتزلة يقول: إنه يقول: إن من رأى شيئاً في المنام فما رآه فإنه حق كما هو، وضرب: ابن حزم مثالاً يتناسب مع مجتمعه وبيئته، يقول: لو أن إنساناً نائماً في الأندلس، ورأى أنه في الصين في المنام، فإنه يكون حقيقة في الصين، وأن يكون الله اخترعه في تلك اللحظة في الصين!! وهذا من الباطل المحال الذي لا يحتاج إلى نقض ولا إلى عرض أيضاً؛ لأنه أمر دون الكذب والباطل ودون المحال أيضاً؛ فلا يحتاج إلى الاشتغال به، وإن كان هناك من قال به مِن سَقَطَةِ الناس وسفهائهم. وهناك الأطباء -وأعني بالأطباء: الأطباء من الماديين، أما الأطباء من المسلمين فدينهم الإسلام- وقولهم في هذا الباب كقول غيرهم من علماء الإسلام، لكن أعني: الذين ينظرون نظرة طبية بحتة، يرون أن الأشياء التي يرآها الإنسان في المنام تعود إلى الأخلاط الموجودة فيه، فإذا كان يغلب على الإنسان البلغم -مثلاً- فإنه يرى كثيراً أنه يسبح في الماء، وإذا كان الغالب عليه الصفراء؛ فإنه يرى النيران في المنام، وإذا كان غلب عليه الدم؛ فإنه يرى أشياء فيها فرح وسرور ومتعة أثناء نومه، وهكذا بحسب الأخلاط التي تغلب على مزاج الإنسان، ويرون أن جميع ما يراه الإنسان هو من هذا الباب. وأما الفلاسفة، فإنهم يرون أن الرؤيا هي انعكاس لأمور منقوشة في العالم العلوي، فإذا صادفها الإنسان انعكست على نفسه ورآها. وهذا كله كلام باطل؛ لأنه ليس عليه دليل، لا من النقل ولا من العقل. فالنقل عن المعصوم ما جاء بهذا، ولا قاله الله ولا الرسول عليه الصلاة والسلام. والعقل لا يدل على هذا أيضاً، فهذه أمور فوق مستوى أن يدركها العقل. إذاً: هو كلام هُراء في هُراء. وفي العصر الحاضر وُجِِدَت مدرسة يسمونها مدرسة التحليل النفسي، ويقوم على رأسها يهودي مجرم، هو: فرويد، وهذه المدرسة تفسر الرؤيا تفسيراً معيناً، ولها فيها نظرية متكاملة، يقولون: إن الرؤيا أو الأحلام التي يراها الإنسان ليست مجرد خليط جزافي، وإنما هي أولاً: تأثيرات من أمور ماضية، سواءً في الأيام القريبة أو في التاريخ البعيد لتربية الإنسان، وما واجهه من أحداث، فتظهر على الإنسان أثناء الرؤيا، كما يرون أنها تعبير عن أشياء مكبوتة في النفس. فإذا كان الإنسان جائعاً -مثلاً- في زعمهم فإنه يرى في المنام أنه يأكل، أو عطشاناً فإنه يرى في المنام أنه يشرب، وهكذا بالنسبة لأية رغبة مكبوتة، حتى إنهم يقولون: إذا كان يكره -مثلاً- شخصاً قريباً منه من أقربائه، ولا يستطيع أن ينتقم منه، فإنه قد يرى في المنام أنه يقتل حية -مثلاً- تعبيراً عن هذا الإنسان الذي يريد أن ينتقم منه ولا يستطيع إلى غير ذلك مما يقولونه. والغريب أن هؤلاء يرون أن مهمة أو وظيفة الرؤيا حراسة النوم، يقولون: إن الإنسان أثناء النوم قد تعرض له أصوات أو أشياء مزعجة تمنعه من الاستمرار في النوم، فأحياناً الرؤيا مهمتها أن تحرس الإنسان أثناء النوم، بحيث يكون منشغلاً فلا يصحو أو ينزعج، فيقولون: لو أن إنساناً ينام وهو متعب وبحاجة إلى النوم، ويأتي إنسانٌ فيضرب الجرس ويدق عليه الباب، فبدلاً من أن يستيقظ من منامه ويقوم ليفتح الباب؛ يرى في المنام أنه يُضْرَبُ الجرسُ ويُدَقُّ البابُ، وأنه قام وفتح وهو في المنام، فيعفيه هذا العمل من مهمة القيام. وآخر متعب لا يريد أن يذهب إلى الدوام، فيرى في المنام أنه قد توضأ واغتسل ولبس ثيابه وذهب إلى الدوام، وهو في الواقع لا يزال يتقلب في فراشه، هذا تفسيرها. أذكر لكم أنني سمعتُ -كما قلتُ قبل قليل- أحدهم يتحدث فيقول: إن آخر نظرية في تفسير الأحلام، وآخر صرعة علمية -كما يقولون- أن واحداً يقول: إن الأحلام هذه عبارة عن نفايات المخ، بمعنى: أن المخ أثناء النوم يعيد تنظيم نفسه، فهذه الرؤى التي يراها الإنسان هي نفايات، أي: قمامة المخ يخرجها، فيحصل للإنسان هذه المرائي وهذه الأحلام. هذه كلها تصورات أقوام قد ضلوا عن سواء السبيل، ما استناروا بنور الكتاب والسنة؛ ولذلك وجدت عندهم هذه التصورات التي هي بالضرورة نتاج العقل البشري، فالعقل البشري في هذه الأمور إذا لم يستنر بنور الكتاب والسنة فستكون هذه نهايته، يأتي بهذه الأقوال والخرافات المضحكة التي ليس عليها أثارة من علم، لا من علم المعقول ولا المنقول، ولو كانت أموراً تُدْرك بالحس أو بالعقل لكان لنا كلام معهم، لكنها أمور ليست حسية ولا عقلية، فلا سبيل إلى معرفة هذه الأمور إلا عن طريق الوحي والشرع. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 14 حقيقة الرؤيا في الإسلام أما الإسلام فله حكم وبيان في موضوع الرؤيا وتحديدها، وألخص ما يتعلق بهذا الموضوع في أقسام: أ- القسم الأول: الحُلُم. والمقصود بالحلم: هو ما يصيب الإنسان أثناء المنام من تزيين وتسويل وتمثيل الشيطان، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، من حديث جماعة من الصحابة في الصحيحين أنه قال: {الرؤيا من الله، والحُلُم من الشيطان} . ومثاله: أن يرى الإنسانُ نفسَه في موقع حرج جداً، وأن هلاكه لا بد منه بحال من الأحوال، فهذا حُلُمٌ يريد الشيطانُ أن يخيف به الإنسان. مثال آخر: أن يرى الإنسانُ أن رأسَه مقطوع، وهو يَتَدَهْدَهُ ويَتَدَحْرَجُ أمامه مثلاً، وهذا الحلم وقع لأعرابي، كما في صحيح مسلم، من حديث جابر، {فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! إني رأيتُ أن رأسي قد قُطِع، فهو يَتَدَهْدَهُ أو يَتَدَحْرَجُ أمامي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخبر الناس بتلاعب الشيطان بك في المنام} أي: إن هذه مجرد وساوس وتسويلات وتزيينات من الشيطان، لا ينبغي للإنسان أن يتحدث عنها ولا يخبر الناس بها، بل يعلم أنها من الشيطان، وسيأتي بيان الأدب الواجب في مثل هذا. وأيضاً من الأحلام التي هي من الشيطان: أن يرى الإنسانُ في منامه شيئاً يخالف الدين، كأن يرى -مثلاً- أن مَلَكَاً أو نبياً يأمره بارتكاب ما حرم الله، فهذا يكون من الشيطان ولا بد، وأعظم من ذلك أن يرى الإنسان أن ربه يأمره في المنام بارتكاب ما حرم أو بترك ما أوجب. وأذكر في هذا المجال قصة حدثت للإمام عبد القادر الجيلاني -رحمه الله- وهو من أئمة أهل السنة، وإن انتحله الصوفية وتَبَنَّوْه، فقد جاء الشيطان إلى الإمام عبد القادر وهو في منامه وأوقد أمامه ناراً عظيمة في المنام، وزين وسَوَّل له هذا، ثم ظهر هو في وسط النار، وهو يقول له: يا عبد القادر، يا عبد القادر، أنا ربك، وقد أحللتُ لك ما حرَّمتُ عليك. فهذا الرجل الموفق المسدد لم يغتر بل قال: اخسأ يا عدو الله. ثم استيقظ وعلم أن هذا من الشيطان؛ لأنه يعلم أن الله تعالى لا يمكن أن يحلل بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حراماً، ولا يحرم حلالاً، فقد خُتِمَ الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبه كَمُل الدين وتمت النعمة، ولم يعد الوحي يتنزل، وليس لأحد أن يخرج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم كائناً من كان. ومن ادعى أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم فهو مرتد عن الإسلام كما يدعي بعض شيوخ الطرق الصوفية. المهم كونه رأى أن هذا الشيطان يدعي الألوهية، والشيطان لا يمنع أن يدعي الألوهية، كما ادعاها فرعون وغيره، ثم يقول لـ عبد القادر: إني قد أحللت لك ما حرمت عليك. فعرف أن هذا من لعب الشيطان به في المنام، واستعاذ بالله منه، وقال: اخسأ يا عدو الله. هذا القسم الأول وهو الحُلُم. ب- القسم الثاني مما يراه الإنسان في المنام: حديث النفس. فالإنسان إذا حدَّث نفسه بشيء، وأطال التفكير فيه، أو تمناه وتمنى حصوله، أو اعتاد مواجهته ومعالجته في الواقع، فكثيراً ما يراه في المنام، فقد تجد الإنسان يرى في المنام ما يتعلق بعمله وشأنه الذي يشتغل به في الدنيا، أو ما يتمنى من الأمور، من كسب أو جهاد أو تجارة أو غيرها، أو الأشياء التي يفكر فيها، وإذا فكر الإنسان -مثلاً- لمدة ربع ساعة قبل النوم بأمر؛ فإنه -غالباً- يرى شيئاً يتعلق بما حدث به نفسه، وهذا لا يُحْمَد ولا يُذَم، بل هو من الأمور العادية. جـ- القسم الثالث: ما يكون مِن قِبَل الطبع. وهذا لا مانع أن يقع لبعض الناس، فإذا تغير مزاج الإنسان -كما أسلفت- فإنه قد يرى شيئاً يتناسب مع تغير مزاجه، بزيادة البلغم أو زيادة الدم أو ما أشبه ذلك، فيرى أحياناً نيراناً أو يرى سروراً، أو يرى نوراً وضوءاً أو ما أشبه ذلك، بحسب تغير مزاجه، وهذا يحدث إذا مرض الإنسان -مثلاً- أو اعتلت صحته، أو أكثر من الأكل، أو كان شديد العطش، فيحدث له مثل هذا. د- القسم الرابع: الرؤيا التي هي من الله تعالى. وهذه -لا شك- أشرف الأقسام وأعظمها، وقد ورد فيها عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وهذا الحديث عند البخاري، وفي الصحيحين من حديث أبي قتادة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الرؤيا الصادقة من الله والحُلُم من الشيطان} وأيضاً من حديث أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها فإنما هي من الله، وإذا رأى رؤيا يكرهها فإنما هي من الشيطان} والحديث متفق عليه. ومن حديث أبي هريرة -كما أسلفت-: {لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات} وفي صحيح مسلم: أنه قال: {الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له} وفي حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه، كشف الستر ثم نظر إلى الناس ورأسه معصوب، ثم قال: {لم يبقَ من النبوة إلا المبشرات، الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له} والحديث رواه البخاري. فهذه الرؤيا التي يكون فيها خير للإنسان، كأن يرى الإنسان فيها بشارة بخير، أو تنبيهاً على أمر سيقع، فيكون فيها خير، وقد يكون فيها تحذيراً أحياناً. فمثلاً: قد يرى المؤمن النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، ورؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، كما سيأتي، لكن ربما يرى النبي عليه الصلاة السلام في المنام وهو مُزْوَرٌّ عنه، ومعرض عنه، فيكون هذا إشارة إلى أنه حصل من هذا المؤمن نوع من التقصير، فيتنبه إليه ويحرص على أن يستدركه، فيكون في ذلك خيراً له، وإن كانت الرؤيا قد تحزنه لما رأى، لكن يكون فيها خيراً له. هذا ما أحببت أن أقوله في هذه الليلة. وفي الأسبوع القادم -إن شاء الله- سوف نستكمل موضوع الرؤيا، ونذكر بعض مرائي النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والصالحين، وتعبير الرؤيا، وبعض القصص الطريفة في ذلك، والآداب الواجبة للمؤمن إذا رأى رؤيا يحبها أو رأى رؤيا يكرهها، وبعض المتفرقات المتعلقة بموضوع الرؤيا، وبعد صلاة العشاء في الأسبوع القادم -إن شاء الله- نجيب على الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع، والله تبارك وتعالى أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 15 الرؤيا الصالحة وفضيلتها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذا الموضوع الثاني والأخير إن شاء الله في موضوع الرؤى والأحلام، وسأتحدث عن مجموع نقاط تتعلق بموضوع الرؤيا الصالحة، وآدابها وما يتعلق بذلك، وأود أن أشكر الإخوة الذين وافوني ببعض اقتراحاتهم حول موضوعات الدروس. فقد اقترح بعض الإخوة أن يكون موضوع الدرس في العقيدة والتوحيد، ولا شك أن العقيدة والتوحيد هما الأصل الذي ينبثق عنه غيره. ولكنني أود أن أقول للإخوة: إنني قد خصصت درساً منذ زمن بعيد ولا يزال قائماً في موضوع العقيدة والتوحيد. وقد أنهينا فيه بحمد لله ما يزيد عن ثلثي كتاب التوحيد للشيخ الإمام المجدد: محمد بن عبد الوهاب، حفظاً وشرحاً. وكذلك الإخوة الذين يقترحون بأن يكون شرحاً لأحد كتب السنة الأخرى إضافة إلى بلوغ المرام، فإنني أقول لهم: بأننا في أربعة أيام في الأسبوع بعد صلاة الفجر وهي السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء، نقرأ ونحفظ ونشرح في مختصر صحيح البخاري للزبيدي ومختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري. ونعود إلى موضوع الرؤيا الصالحة. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 16 المرأة قد ترى الرؤيا الصالحة ومن الرؤيا الصالحة التي رأتها أنثى ما رواه البخاري وغيره عن أم العلاء الأنصارية رضي الله عنها قالت: {لما هاجر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اقتسم الأنصار المهاجرين، فطار لنا عثمان بن مظعون -صار في سهمنا ونصيبنا- قالت: فذكرت من صلاته وعبادته وذكره لله عز وجل وصومه، ثم مرض فمرضته، قالت: فلما مات جاء النبي صلى الله عليه وسلم، فكشف عن وجهه وقبله وبكى، فقلت: هنيئاً لك يا أبا السائب الجنة، فشهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك يا أم العلاء؟! إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً، خلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقها وخلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم، وإني والله وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، فقالت: فو الله يا رسول الله لا أزكي بعده أحداً أبداً، ثم حزنت حزناً شديداً رضي الله عنها، قالت: فلما نمت رأيته في المنام، ورأيت له عيناً تجري، فجاءت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك فقال: ذلك عمله} أي هذه العين التي تجري له في المنام هي عمله الصالح. إذاً: الرؤيا الصالحة قد تكون من رجل أو امرأة وقد تكون ليلاً أو نهاراً. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 17 منزلة الرؤيا الصالحة جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو متفق عليه: {الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} جاء هذا المعنى عن أنس بن مالك، وعن عبادة بن الصامت، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، وأحاديثهم ثلاثتهم كلها متفق عليها، {الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} وجاءت في صحيح مسلم عن ابن عمر: {الرؤيا الصالحة جزء من سبعين جزءاً من النبوة} . وجاء في بعض الألفاظ: {جزء من خمسة وأربعين} وكذلك {تسعة وأربعين} و {خمسين} . وقد ذكر الحافظ العراقي في طرح التثريب، أنه ورد في هذا الحديث ثمان روايات أكثرها سبعون، وأقل عدد فيها ستة وعشرون وما بين ذلك ست روايات، والأكثر من الرواة على أن العدد ستة وأربعون. فإن ذهبنا مذهب الترجيح رجحنا رواية ستة وأربعين، وإن ذهبنا مذهب التوثيق وهو أولى؛ لأن هناك روايات صحيحة لا نطعن فيها كما ذكر ابن عبد البر وغيره، منها رواية مسلم عن ابن عمر فإنه قال: {الرؤيا الصالحة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوة} فإننا نقول: إنها تتفاوت بحسب الرائي وبحسب الحال. هناك رؤيا الإنسان الصالح المستقيم العابد العالم الصدوق، هذه تكون جزءاً من ستة وأربعين، وربما تكون جزءاً من ستة وعشرين، أما الإنسان المخلط -أمثالنا- ممن خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً أو المقصر هو المستور، فقد تكون رؤياه جزءاً من خمسين أو ستين أو سبعين جزءاً من النبوة. وقال بعضهم: إنه ليس المقصود العدد، وإنما المقصود الإشارة إلى أن الرؤيا يطلع الإنسان فيها على ما غيب الله عنه، فهي من هذا الوجه تشبه النبوة في بعض أجزائها، وعلى كل حال فإنه لم يقل إنها من الرسالة، إشارة إلى أن الرؤيا لا يعتمد عليها في التشريع كما سبق أن أكدته في الدرس الماضي. النبوة: هي العلم بغيب من غيب الله تعالى. النبي:- هو من أوحي إليه وأخبر بغيب، والوحي نفسه غيب، فهذا معنى قوله: {جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة} . فقد تكلم العلماء وأطالوا في هذا الحديث في كلام لا أرى تحته طائلاً، وخلاصته أن يقال كما قال بعضهم: إن هذا من الأمور التي قد يعلمها العلماء إجمالاً لا تفصيلاً، فإن هناك أموراً يعلمها العلماء جملة وتفصيلاً، كأمور الشرائع، وهناك أمور لا يعلمها العلماء مطلقاً، وهناك أمور يعلمونها جملة ولا يعلمونها تفصيلاً، وهذا الحديث منها، فإنه لم يحدث لأحد من أهل العلم أن اطلع على أجزاء النبوة، ثم قاس الرؤيا إليها أو عد هذه الأجزاء جزءاً جزءاً. فنحن نقول: الرؤيا الصالحة جزء من النبوة، وحسن السمت جزءٌُ من النبوة، والهدي الصالح جزء من النبوة كما ورد ذلك في الحديث، وغير ذلك لا نعلمه بل يعلمه الله. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 18 زمان الرؤيا الصالحة هذه الرؤيا الصالحة قد تكون في الليل، وقد تكون في النهار، أما في الليل فكثير، ولعل أكثر الرؤيا الصالحة قد تكون في الليل، ولكنها قد تكون في النهار، خلافاً لما يتوهمه الناس. ولذلك جاء في صحيح البخاري من حديث قصة نوم النبي صلى الله عليه وسلم عند أم حرام بنت ملحان: {أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عندها، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: قوم من أمتي عرضوا علي يركبون ثبج هذا البحر -وثبج البحر بالتحريك هو وسط البحر- غزاة في سبيل الله، ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت منهم، ثم نام صلى الله عليه وسلم واستيقظ مرة أخرى وهو يضحك، فقالت له: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما يضحكك؟ قال: قوم من أمتي عرضوا عليَّ يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسرة أو مثل الملوك على الأسرة، قالت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، وكان زوجها عبادة بن الصامت فذهبت معه في الغزو، فسقطت من راحلتها وماتت رضي الله عنها} . فالرؤيا قد تكون بالليل، وقد تكون بالنهار، وقد تكون من رجل، وقد تكون من امرأة، فقوله عليه الصلاة والسلام: {الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له} ليس المقصود الرجل الذكر وإنما هذا على سبيل التغليب بمعنى الإنسان ذكراً كان أو أنثى. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 19 تعريف الرؤيا الصالحة الرؤيا الصالحة: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترُى له} وهي من المبشرات؛ ففيها بشارة وخير ووعد حسن لهذا المؤمن، وقد جاء في القرآن الكريم ما يدل عليها، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] . روى الإمام مالك في موطئه بسند صحيح عن عروة بن الزبير رضي الله عنه أنه فسر قوله تعالى: (لهم البشرى) بالرؤيا الصالحة، فقال: البشرى هي الرؤيا الصالحة، وذلك أخذاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إلا المبشرات} ولا شك أن تفسير عروة مما يصدق عليه أنه من التفسير بالمثال، فليس مقصوده رضي الله عنه أن البشرى هي الرؤيا الصالحة، كلا! فإن من المعلوم قطعاً أن الرؤيا الصالحة لا تكون في الآخرة إنما تكون في الدنيا، وأما الآخرة فليس فيها نوم كما قال عليه الصلاة والسلام: {النوم أخو الموت} وأهل الجنة لا ينامون، وكذلك أهل النار. فالبشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة أعم من الرؤيا الصالحة، لكن الرؤيا الصالحة مثال يفسر البشرى، وإلا فالبشرى أعم من ذلك وأوسع. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 20 الأصناف الذين يرون الرؤيا الصالحة والذين يرون الرؤيا الصالحة هم أصناف من الناس: الجزء: 37 ¦ الصفحة: 21 رؤيا الصالحين ومن الرؤيا الصالحة غير رؤيا الأنبياء رؤيا الصالحين كما سبق، ولعل من أكثر الناس، صلاحاً بعد الأنبياء هم الصحابة، ولذلك لهم مرائي كثيرة حسنة كتبت في كتب السنة أكتفي بذكر ثلاثة نماذج: منها: رؤيا عبد الله بن سلام رضي الله عنه -الذي كان يهودياً وأسلم- فقد رأى في المنام أنه يرقى ويجد عروة فيستمسك بها -ضمن رؤيا طويلة- وأنه يرقى جبلاًَ فكلما أراد أن يرقى خر لأوله، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أما العروة الوثقى فهي لا إله إلا الله تموت عليها، وأما هذا الجبل فهو الشهادة ولن تبلغها، وهكذا فإنه لم يمت شهيداً رضي الله عنه، ولذلك كانت هذه الرؤيا شهادة له بالموت على الإسلام، وكان الصحابة يشيرون إليه، ويقولون: رجل شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. ومنها: رؤيا عبد الله بن عمر وقد سبقت الإشارة إليها: {رأى أن في يده قطعة من حرير لا يريد مكاناً في الجنة إلا طارت به، ثم خرج فرأى رجلين ملكين معهما مقامع من حديد فذهبا به إلى النار، قال: فإذا هي مطوية كطي البئر، وعليها قرن، وإذا فيها رجال، قد عرفتهم من قريش، فقلت: أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، أعوذ بالله من النار، فقال له رجل: لن تراع لن تراع -لا تخاف- فقصها على حفصة فقصتها حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يقوم من الليل، فكان عبد الله بن عمر لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً} . ومن المرائي الحسنة للمؤمنين ما ورد عن عائشة رضي الله عنها فقد ورد في موطأ مالك بسند فيه انقطاع -وإن كان صحيحاً- أنها قالت لأبيها: [[إنني رأيت ثلاثة أقمار وقعت في حجرتي، فسكت ولم يعبر الرؤيا، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفن في حجرتها، قال لها أبو بكر: هذا أول أقمارك، وكان القمر الثاني أبوها أبو بكر، والثالث عمر، حيث دفنوا جميعاً في حجرتها رضي الله عنها]] . الجزء: 37 ¦ الصفحة: 22 رؤيا غير الأنبياء والصالحين الرؤيا الصالحة يراها الأنبياء، والرؤيا الحق لا شك أنها وحي، ويراها الصالحون كذلك، وكذلك قد يرى الرؤيا الصالحة أناس مستورون -لا يعرفون بصلاح ولا بغير ذلك- ولكن هذا ليس كثيراً وأما الفسقة والكفار فقلما يرون الرؤيا الصالحة، نعم قد يرون رؤيا تأتي كما رأوها، فهذا لا شك أنه يحدث للكافرين ويحدث للفساق من المؤمنين، ولعل من أصح وأصرح أمثلتها، أي: ما ورد في القرآن الكريم في قصة يوسف عليه السلام: {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف:43] فهذه الرؤيا رآها الملك وكان كافراً وعبرها له يوسف عليه السلام فكانت رؤيا حق، {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49] . وكذلك الرجلين اللذين كانا مع يوسف في السجن: {قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36] فأخبرهما: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [يوسف:41] . فقد ذكر بعض أهل التفسير أن الآخر كان كاذباً في رؤياه، فلما قال له يوسف: تصلب فتأكل الطير من رأسك، قال: إني كنت كاذباً، فقال يوسف: قضي الأمر الذي كنتم فيه تستفتيان، والله أعلم إن كانت هذه الرواية في كذب الرائي حقاً أو كاذباً فالله تعالى أعلم بذلك. ومما يضرب به المثل على إمكانية أن يرى الفاسق أو الكافر الرؤيا وتكون حقاً، يذكرون أن بختنصر رأى في المنام رؤيا فسرها له المعبرون أنه يفقد ملكه، وكذلك كسرى رأى فقدان ملكه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك عاتكة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم رأت أن حجراً سقط في مكة وطار إلى كل مكان منه شظية، وأول هذا بفتح مكة على يد المؤمنين أو نحو ذلك. المهم أن الكافر أو الفاسق يندر أن يرى الرؤيا الحسنة، أما المؤمن الصالح فأكثر رؤياه رؤيا حسنة، وهذا نظيره أن المؤمن أكثر حديثه الصدق، والكافر أكثر حديثه الكذب، ولكن قد يصدق الكاذب، حتى الشيطان قد يصدق أحياناً كما قال صلى الله عليه وسلم: {صدقك وهو كذوب} . وكذلك ورد أن الكهان والعرافين والمنجمين قد يخلط الواحد منهم كلمة الحق أو الصدق بتسع وتسعين كذبة، فتكون واحدة صواباً، والباقي كذب، فكذلك رؤياهم قد يكون فيه الحق ولكنه قليل نادر. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 23 رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الرؤيا الصالحة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وأنس وقتادة وأبي سعيد المتفق عليها، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من رآني في المنام فقد رآني، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي} أو {لا يتكونني} على اختلاف في ألفاظ الحديث. فكل من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فهذه بشارة له، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، بل الصورة التي رآها في المنام هي صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن لا بد من التنبيه في ذلك على أمور: أولها: أن تكون رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على صورته المعروفة، فلا بد أن يكون الرائي يعرف ويعلم صورة صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجسدية من خلال قراءته في كتب السنة والسيرة، فيعرف حاله وطوله وشعره وما أشبه ذلك، أما لو رأيت شخصاً في المنام على غير هيئة النبي صلى الله عليه وسلم فلا يلزم من هذا أن يكون هو الرسول، كما إذا رأيت شخصاً طويلاً بائن الطول أو قصيراً بائن القصر أو نحيفاً بائن النحافة أو سميناً بائن السمن، أو رأيته علىهيئة لا تليق بالنبي صلى الله عليه وسلم كأن يكون عليه أثر معصية أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يكون الرسول عليه الصلاة والسلام، بل يكون الشيطان صور للإنسان صورة في منامه ثم لبس عليه أنه الرسول وليس كذلك. كما أن بعض الناس -وهذا يحدث- قد يرون في المنام ويلبس عليهم الشيطان أن هذا ذو الجلال والإكرام وكما سبق أن ذكرت لكم في قصة عبد القادر الجيلاني رحمه الله، وهذا يكون من الباطل غالباً، فالإنسان لا يمكن أن يرى ربه في هذه الدنيا، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث الدجال: {تعلمون أنه أعور يقول: أنا ربكم، واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا} وإن كان بعض أهل العلم قال: إن العبد الصالح يمكن أن يرى ربه في المنام، لكن الحقيقة غير ذلك، والله تعالى أعلم. لأننا لا يعلم كيف هو سبحانه إلا هو، ولذلك لا يمكن أن يميز الإنسان إذا رأى في المنام أن يعرف أن من رأى هو الله، أو أن يكون الشيطان لبس عليه، فتحسم مادة هذا الباب أصلاً، فهذا هو الأولى، وفي المسألة خلاف، ونقل عن الإمام أحمد وغيره اختلاف في ذلك والله تعالى أعلم. إذن لا بد في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون عالماً عارفاً بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أن لاتقبل ممن ترى في المنام أنه رسول أن يأمرك أو ينهاك عن أمر يخالف الشرع، ولذلك ذكر الشاطبي رحمه الله في الاعتصام أن الكتاني رأى في المنام رجلاً يقول: إنه رسول الله، فقال له: ادع الله ألا يميت قلبي، فقال له: قل كل يوم أربعين مرة: يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت! فقال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى وهو الفقيه الفحل المحقق: أما كون الذكر سبباً لحياة القلب فهذا لا شك فيه، وأما ذكر الله تعالى بالوحدانية فهو من أعظم الأذكار، وكذلك الدعاء يا حي يا قيوم، فكل هذا وارد في الكتاب والسنة، لكن تخصيص أن يقول هذه الكلمة أربعين مرة كل يوم هذا لم يرد في السنة النبوية، ولذلك فالقول بأنه مشروع للكتاني أو لغيره هو أمر باطل لا يمكن أن يقال به. ومثله ما ذكره الشاطبي عن ابن رشد وكان قاضياً، أنه جاءه رجلان من العدول الثقات يشهدان على فلان، فلما نام رأى في المنام أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أتى وقال له: لا تقبل شهادة هذين الرجلين فإنهما كاذبان، فلما استيقظ تردد، ثم جزم بقبول شهادتهما ورد هذه الرؤيا؛ لأن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي كما سبق، ولا مدخل لها في تقرير الأحكام، وسيمر شيء من ذلك لا يخلو من طرافة. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 24 الأنبياء الصنف الأول: هم الأنبياء؛ وكل رؤيا الأنبياء حق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رؤيا الأنبياء حق} فإن الأنبياء لا يقولون من الكلام إلا الصدق، ولذلك لا يرون في المنام إلا الحق، فجميع رؤيا الأنبياء حق بلا استثناء، ولذلك ورد عن جماعة من أنبياء الله ورسله في القرآن مرائي رؤها وكانت حقاً لا شك فيه، لعل من أشهرها وأعرفها رؤيا يوسف عليه السلام التي جاءت في سورة يوسف: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4] . فهذا أول السورة، وفي آخر السورة: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] . رؤياه عليه الصلاة والسلام جاءت حقة كفلق الصبح، وقد جاء عن بعض السلف عند الطبراني والبيهقي كما في رواية عن سلمان الفارسي وسندها صحيح: [[كان بين رؤيا يوسف وبين تعبيرها أربعون سنة]] . وجاء عن ابن مسعود أنها تسعون سنة أو ثمانون سنة وقيل أقل من ذلك، وذكر بعض السلف أن أمد الرؤيا ينتهي إلى أربعين، أي إذا رأى الإنسان رؤيا فأقصى ما يمكن أن تحدث فيه أربعون سنة، وهذا استنباط من الرواية الواردة عن سلمان الفارسي، لكن ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى صريح ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد تتحقق الرؤيا في زمان طويل يزيد على أربعين سنة، وهذه رؤيا يوسف عليه السلام. ومنها أيضاً رؤيا إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:102-105] . وقد جاء عن السدي عند ابن أبي حاتم في قصة ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل قصة طويلة مشهورة أنه ذهب به، فجاء الشيطان إلى أمه فقال: إنه ذهب ليقتله، فأضجعه إبراهيم بعد أن أخبره، فقال له: يا أبت اشدد وثاقي، واجعل وجهي إلى الأرض لئلا تصيبك رقة أو رحمة فتصد عن أمر الله عز وجل، ثم قال: أبعد ثوبك لئلا يصيبه الدم، فتراه أمي فتحزن لذلك، فكان يضع السكين على رقبته، فتتغير وتصبح شفرتها إلى أعلى، ثم بعث إليه الله تعالى بكبش من الجنة، وفدى به إسماعيل عليه السلام. وهذه القصة وإن كانت من روايات بني إسرائيل إلا أنها تسير في منوال النص القرآني ليس فيها جديد، لأن من المعلوم أنه ذهب معه وعرض عليه الرؤيا ووافقه على ذلك، بل أمره وقال: يا أبت افعل ما تؤمر، وأسلم لله عز وجل وتله للجبين: أي: جره، وجعل جبهته على الأرض، وبدأ يحاول أن يذبحه، وهنا سمع النداء: {يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:104-105] {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] وجعل الله تعالى عمله ذكراً حسناً في الناس إلى يوم يبعثون، فهذه من رؤيا الأنبياء وهي حق، ولو لم تكن حقاً لما عمل إبراهيم عليه السلام بمقتضاها، فرؤيا الأنبياء حق؛ أي: أنها وحي من عند الله عز وجل. وكذلك رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت في الصحاح عنه مرائي كثيرة جداً، لعلي أسرد شيئاً منها لما فيها من العبرة والعجب؛ ولأن هذه الرؤى التي رأها النبي صلى الله عليه وسلم من شأنها أنها تعود الإنسان على التعبير الحسن للرؤيا، فهي مدرسة يتخرج منها المعبرون. فمن ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينما أنا نائم إذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي -وهذه إشارة إلى الفتوح التي فتح الله بها على أمته صلى الله عليه وسلم- قال عليه الصلاة والسلام: ثم نظرت في يدي فوجدت فيهما سواران من ذهب فأهمني أمرهما، فأوحي إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما هذين الكذابين اللذين أنا بينهما مسيلمة الكذاب والأسود العنسي، وفي رواية: فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي} . فأول النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأساور من الذهب التي رآها في المنام في يديه بأنها عبارة عن رجلين يدعيان النبوة في آخر حياته صلى الله عليه وسلم، وهكذا كان، فقد ادعى مسيلمة وهو في اليمامة وتبعه بنو حنيفة، وادعى الأسود بن كعب العنسي -بفتح العين وسكون النون- النبوة، وتغلب على اليمن، وطرد عامل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وكان له شأن عظيم حتى أنه كان يضحك على الناس ويلبس عليهم، ويذكر ابن إسحاق من طرائفه أن كان يسمى ذا الحمار فيقول: إن سبب تسميته بهذا الاسم أنه كان في يومٍ من الأيام يمشي في الشارع فمر به حمار أو قرب منه، فعثر الحمار فسقط على الأرض، فقال: إنه قد خر لي ساجداً فسمي بعد ذلك بذي الحمار. وضحك على الناس وتغلب على اليمن زماناً، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وكان هذا الرجل تزوج امرأة مسلمة بالقوة، فاتفقت مع بعض المسلمين كـ فيروز الديلمي، ومعه رجال على أن تفتح لهم سرباً إلى منامه ففعلت، ثم دخلوا عليه فقتلوه، وكان هذا على الراجح بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. لأن أمر الأسود إنما انتشر وارتفع بعد وفاته عليه الصلاة والسلام. وقد قال أهل العلم في تأويل هذه الرؤيا: إن كونهما سوارين من ذهب، والرجل يحرم عليه أن يلبس سواري الذهب هذا دليل على أنه هم يلحقه، وهكذا كان، فقد لحق النبي صلى الله عليه وسلم هم من أمر هذين المتنبئين، وكذلك قالوا: كونهما من ذهب دليل على سرعة ذهابهما، وعلى سرعة زوالهما. وأما كونه نفخهما فقد اختلف فيها أهل التعبير، والأقرب -والله تعالى اعلم- أن النفخ هنا إشارة إلى هوان أمرهما، وأن مجرد نفخة من الرسول عليه الصلاة والسلام كافية في القضاء عليهما. صحيح أن أمرهما علا وارتفع، وكان لهما خبر عظيم لكن إلى قصر، ما حصل لهم كما حصل في شأن الإسلام الذي لا يزال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها في علو وقوة، فإن أمرهما لا شك يعتبر قصيراً، وكذلك نفخهما إشارة إلى فضيلة أبي بكر رضي الله عنه، وأنه بمنزلة الروح من الرسول عليه الصلاة والسلام، كما ذكر ذلك ابن القيم في زاد المعاد؛ لأن الذي تولى القضاء على حركات الردة هو أبو بكر الصديق. وكذلك من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه البخاري عن أبي هريرة {أنه عليه الصلاة والسلام رأى امرأة عجوزاً ثائرة الرأس قد خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة -أي بالجحفة- قال: فأولتها بالحمى التي كانت في المدينة، ومعلوم أنه كانت فيها وباء الحمى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بنقل حماها إلى الجحفة، فاستجاب الله دعاءه} ورأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في المنام على شكل امرأة عجوز ثائرة الرأس. كذلك حديث ابن عمر في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأيت في المنام رجلاً آدم كأحسن ما أنت راءٍ من أُدم الرجال جعداً، كأن رأسه يقطر ماءً واضعاً يديه على كتفي رجلين وهو يطوف بالكعبة، فقلت: من هذا؟ فقيل لي: هذا عيسى بن مريم عليه السلام، قال: رأيته، ورأى رجلاً جعداً قططاً أعور كأن عينه اليمنى عنبة طافية، فقلت: من هذا؟ قيل لي: هذا هو المسيح الدجال} فهذه من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك روى أبو موسى كما في البخاري {أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل بين حرتين قال: فذهب وهلي -أي: ظني- إلى أنها هجر -الأحساء- فإذا هي المدينة -وهجر فيها نخل- قال النبي صلى الله عليه وسلم: ورأيت كأنني هززت سيفاً فانقطع طرفه، ثم هززته مرة أخرى، فعاد أحسن ما كان، فأولت ذلك بنقص، ثم بالخير الذي آتنا الله به بعد بدر، ورأيت بقراً تذبح فأولتها قتلى في أصحابي} هكذا كان في معركة أحد حيث قتل طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ومن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم -وهي حق- ما رواه البخاري وروى مسلم أوله من حديث سمرة وهو حديث طويل فيه: {أن ملكين أتيا النبي صلى الله عليه وسلم هما جبريل وميكائيل، فقالا له: انطلق، فأتيا به على رجل مضطجع وعنده رجل يضربه بالحجر، فيشق رأسه فيتدهده الحجر، فيأتي الرجل به، فإذا رأس المضطجع قد التأم، فيضربه به مرة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقالا: انطلق، قال: فانطلقا بي، فإذا برجل مضطجع على جنبه، وعنده رجل قائم بكلوب من حديد فيضعه في شقه، ثم يشقه حتى يبلغ به أذنه، ثم يضعه في منخره فيشقه، ثم يضعه في عينه فيشقها، فإذا انتهى ذهب إلى الشق الآخر، فعاد الأول كما كان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ماهذا؟ فقالا: انطلق، قال: فانطلقا به فإذا بنهر أحمر كالدم، وإذا به رجل وعند جانب النهر رجل عنده حجارة، فإذا جاء هذا الرجل الذي في النهر يخرج ضربه بالحجر فوضعه في فمه، فعاد إلى وسط النهر، فقلت: ما هذا؟ فقالا: انطلق، فأتيا بي على شيء مثل التنور أعلاه ضيق وأسفله واسع، وإذا فيه رجال ونساء عراة، إ الجزء: 37 ¦ الصفحة: 25 عوامل صدق الرؤيا لا بد أن يتحرى الإنسان على أن تكون رؤياه صادقة، ومن ذلك: 1- أن يحرص أن يكون صادقاً في حديثه، ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وأصدقهم رؤيا أصدقهم حديثاً} وهو من حديث أبي هريرة، فكلما كان الإنسان حريصاً على تحري الصدق والبعد عن الكذب أو المبالغة أو التهويل فيما يقول؛ كان هذا أدعى إلى أن يرى في المنام الصدق، وكلما كان الإنسان متوسعاً في الروايات والأخبار وربما مختلقاً للأكاذيب؛ فإنه يكون أبعد عن الصدق في رؤياه. 2- أن ينام الإنسان على السنة: كأن ينام على جنبه الأيمن متطهراً، ويقرأ الأذكار الواردة والإخلاص والمعوذتين ويمسح بهما رأسه ووجهه وما أقبل من جسمه، وكذلك يقرأ الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ عبادك الصالحين، اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك، اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت} كما في صحيح البخاري عن البراء، وغيره من الأذكار الواردة، ثم يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر حتى تغلبه عينه، فإن هذا من الأسباب التي تجعل الإنسان لا يرى في منامه -إن شاء الله- إلا المرائي الحسنة. 3- اعتدال الإنسان فلا يكون نام على جوع أو شبع أو عطش شديد أو هم شديد، أو ما أشبه ذلك، بل يكون معتدل المزاج خالياً من أسباب الرؤيا الصالحة، كما أسلفت في آخر الزمان لا تكاد رؤيا المؤمن تكذب، إذا تقارب الزمان فقيل: إذا اعتدل الليل والنهار، وقيل: قبيل قيام الساعة، وهو الأرجح. 4- التواطؤ عليها، أي: أن يراها أكثر من إنسان، وهذا حدث كليلة القدر -كما سبق الإشارة إليه- وقال صلى الله عليه وسلم: {أرى رؤياكم قد تواطأت} . كذلك كما حدث في رؤيا الأذان، فقد رآها عبد الله بن زيد بن عبد ربه: {رأى الرجل الذي معه ناقوس يحمله قال: تبيعه؟ قال: ما تصنع به؟ قال: ننادي به للصلاة، قال: ألا أدلك على ماهو خير لك من ذلك؟ قال: بلى، قال: تقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر، ثم ذكر الأذان، ثم استأخر قليلاً، ثم قال: والإقامة أن تقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ثم ذكر الإقامة، فغدا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنها لرؤيا حق فألقها على بلال فإنه أندى منك صوتاً، فلما سمعها عمر في بيته خرج يجر إزاره، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: والله يا رسول الله! لقد رأيت الذي رأى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله} حَمِدَ الله على تواطؤ رؤيا أصحابه، وأن هذا مما يؤكد صدق هذه الرؤيا. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 26 عدم ثبوت الحكم الشرعي بالرؤيا الرؤيا لا يثبت بها الشرع، وهذه قضية مهمة جداً، فلو أن إنساناً رأى شيئاً في المنام يقول له: فلان عالم فاسأله عن دينك، أو فلان سارق أو زان؛ فأقم الحد عليه فإنه لا عبرة بهذه الرؤيا ولا يلتفت إليها. ومن طريف ما يذكر أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي أحد الخلفاء، فلما دخل عليه قال المهدي وقد غضب واشتد غضبه: علي بالسيف والنطع، قال: وما تصنع به يا أمير المؤمنين؟ قال: أقتلك! قال: ولمَ؟ قال: إني رأيت في المنام أنك تطأ على بساطي وأنت معرض عني، فسألت أهل التعبير عن ذلك، فقالوا: إنه يظهر لك الموافقة والود، ويبطن لك المخالفة والبغض، فقال شريك بن عبد الله وكان حكيماً: ما أنت بإبراهيم، حتى تكون رؤياك كرؤياه، ولا معبرك بيوسف حتى يكون تعبيره كتعبير يوسف، أفبرؤيا كاذبة تستحل دماء المؤمنين؟! فخجل المهدي وسكت، وخرج هذا الرجل من مجلسه، ثم أعرض عنه بعد ذلك. وهكذا أنجى الله هذا الرجل بسبب حكمته، وبسبب معرفته أن الرؤيا لا يثبت بها حكم شرعي، ولا تستحل بها دماء ولا أموال ولا أعراض، ولا يثبت بها حلال ولاحرام ولا يلتفت إليها. ولذلك أؤكد التحذير من بعض المرائي التي تنتشر في بعض الناس، مثل رؤيا أن الساعة تقوم قريباً، والعلامة على ذلك: افتحي أي مصحف تجدي فيه ورقة ممسوحة أو تجدي فيها شعرة، وقد شاعت هذه في أوساط الطالبات، وكذلك اكتبي هذه الورقة ثلاث عشرة مرة ووزعيها، وإلا فسوف تفقدين شيئاً عزيزاً عليك، فهذه من الأكاذيب والخرافات التي لا تنتشر إلا عند ضعفاء العقول وضعفاء العلم والإيمان. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 27 آداب الرؤيا أولاً: أن يبتعد الإنسان عن الكذب في رؤياه، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث ابن عباس الذي عند البخاري {من تحلم -ادعى في منامه شيئاً لم يره- كُلِّفَ يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل} . وكذلك رواه الترمذي من حديث علي وسنده حسن: {من تحلم وادعى رؤيا وهو فيها كاذب، كُلِّف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين، وهو لا يستطيع أن يفعل ذلك} . ومثله في التحذير من ذلك، ما رواه البخاري عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {إن من أفرى الفري -أي من أكذب الكذب- أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا} . فمن الخطورة أن يكذب الإنسان في رؤياه، وهذا بعض الناس يتساهل فيه، والكذب في الرؤيا كالكذب في اليقظة، الكذب في الرؤيا أقل ما يقال فيه: إنه كالكذب في اليقظة، بل قال بعضهم: إنه أشد من ذلك. ثانياً: على الإنسان إذا رأى رؤيا صالحة فيها خير؛ أن يحمد الله تعالى، فيقول: الحمد لله، ويستبشر ويفرح بهذه الرؤيا، ويحدث بها من يحب، كما ورد ذلك في حديث أبي سعيد في صحيح البخاري: {فليحمد الله وليحدث بها} وورد من حديث أبي قتادة: {لا يقصها إلا على وادٍّ -محب- أو ناصح أو عالم} . ثالثاً: إذا رأى رؤيا مكروهة؛ فهذه فيها الأدب منها أن يتعوذ من شرها ومن شر الشيطان، ويتفل عن يساره ثلاث مرات، فإن الشيطان يخنس ويبتعد حينئذٍ عن هذا الإنسان، فلا يسيء إليه، وكذلك لا يذكرها لأحد قط، لا محب ولا غيره، لا قريب ولابعيد، فقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جابر عن أن يخبر الإنسان بتلعب الشيطان به في المنام: {لما أتاه الأعرابي فقال: يا رسول الله! رأيت في المنام أن رأسي قطع، فهو يتدهد أمامي وأنا ألحق به، فتبسم الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنكر على هذا الأعرابي، ثم صعد المنبر فقال: لا يخبر أحدكم بتلعب الشيطان به في المنام} فلا ينبغي للإنسان أن يذكر الرؤيا السيئة لأحد؛ لئلا يشمت به عدو أو يؤولها أحد، فيكون هذا التأويل هماً في قلب الإنسان، وقد يكون سبباً في وقوعه في بعض ما دلت عليه الرؤيا. رابعاً: من أدب من رأى رؤيا لا تسره أن يقوم ويصلي، فقد ورد هذا من حديث أبي هريرة في صحيح مسلم. خامساً: من الأدب أن يتحول عن شقه الذي كان نائماً عليه، تفاؤلاً لتحول حاله من سيء إلى حسن، وقد ورد هذا في حديث جابر الذي رواه مسلم. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 28 تعبير أو تفسير الرؤيا الإمام مالك قال كما ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره -لما قيل له في تأويل الرؤيا: هل يؤولها كل أحد؟ قال: لا، أيلعب بالنبوة؟ أي: ما دامت الرؤيا جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فهل يلعب بها كل أحد؟ فأنكر على من أوَّل الرؤيا أو فسرها وهو غير عالم، فقيل له: يا إمام! إن بعضهم يؤول الرؤيا على الأمر الحسن، وإن كان لا يعلمها؟ أي إذا قال له إنسان: رأيت رؤيا فإنه يؤولها على تأويلٍ حسن يطمئن هذا الإنسان، وهو ليس لديه علم، قال: لا يفعل ولا يعبث بالنبوة. فلا ينبغي للإنسان أن يُعِّبر أو يفسر الرؤيا إلا إذا كان عنده إلهام وتوفيق من الله ومعرفة بشأن الرؤيا، لأن الرؤيا قد تكون للشيء وعدمه، فقد ورد أن رجلاً جاء إلى أحد الصالحين، فقال له: إني رأيت في المنام أنني أؤذن، قال: إنك سوف تسرق، فتأول قول الله عز وجل: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70] ثم جاءه رجل آخر، فقال له: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: إنك سوف تحج فتأول قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج:27] . لذلك على الإنسان ألاَّ يتسرع في تعبير الرؤيا، بل يعتبر أنها من الدين وأنها من الشرع، والحمد لله! فالله عز وجل جعل لنا سعة في قول: لا أدري، وفي قول: الله أعلم. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 29 أقسام الرؤيا الرؤيا قسمان: النوع الأول: ظاهر جلي: كمن رأى في المنام أنه يأكل شيئاً، فحدث له ذلك في اليقظة، فهذا ظاهر ليس فيه رمز وليس فيه خفاء. النوع الثاني: رؤيا مرموزة لا يعبرها إلا الحاذقون، وهذه الرؤيا لها قواعد وأصول تخفى على كثير من الناس، ولذلك سبقت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمثلة كثيرة، قد لا يستطيع الإنسان أن يتوقعها. كذلك عمر رضي الله عنه قال: إنه رأى في المنام أن ديكاً نقره ثلاث نقرات، فأولها بأنه يقتله رجل من العجم، فقتل رضي الله عنه وطعنه أبو لؤلؤة المجوسي ثلاث طعنات، كما هو معروف في السيرة. ومن الذين اشتهروا بتأويل الرؤيا ابن سيرين وقد جاء في صحيح البخاري عنه أنه كان يقول: [[إن الرؤيا ثلاث: إما حديث النفس، أو تحزين من الشيطان، أو رؤيا من الله]] . وهذا ثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما سبق، قال ابن سيرين: وكانوا يعجبهم القيد، ويكرهون الغل، ويقولون: القيد ثبات في الدين، وهذا من الأشياء التي يعجب الإنسان منها، فإن السلف رضي الله عنهم كانوا يكرهون الغل، والغل هو القيد الذي يكون في عنق الإنسان في النوم، ولعل كراهيتهم للغل؛ لأنه ورد في القرآن على أنه عقوبة لأهل النار: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ، فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر:72] وكذلك قال تعالى عن الكفار: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس:8] . أما القيد: فيكون في الرجل فيعجبهم القيد، لأن القيد منع الإنسان من المشي إلى الحرام، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن} المؤمن لا يقتل ولا يعتدي على الناس؛ لأن الإيمان قد قيده بذلك؛ فالقيد دليل على الإيمان، أما الغل في الحلق فكانوا يكرهونه ويعتبرونه أمراً ليس بحسن. ولكن مع أن ابن سيرين له تأويلات كثيرة، إلا أن هناك كتاباً مشتهراً من تفسير ابن سيرين، تفسيراً للأحلام وتأويل للرؤى، وهذا فيه أشياء كثيرة منسوبة إلى ابن سيرين لا تصح، ولذلك يجب الحذر منه، ومن الخطورة بمكان أن ينتشر هذا الكتاب بين أيدي العامة والرجال والنساء، لأن الكتاب فيه حقائق وأباطيل، ولا تصح نسبته إلى ابن سيرين، فقد يؤول الشيء بالشيء أو بضده، إما رزق أو موت، فإذا رأى الناس هذه الرؤيا أصابته بهم شديد. ينبغي التحذير من هذا الكتاب وتبيين أن هذا الكتاب لا يعتمد عليه، وكذلك هناك كتاب آخر للنابلسي فيه أشياء صحيحة وأشياء غير صحيحة، وهناك لبعض الحنابلة وهو أحمد بن عبد الرحمن المقدسي كتاب سماه البدر المنير في تأويل الأحلام ذكره الذهبي، وسوف يأتي الإشارة إلى بعض تأويلات المقدسي. وذكر من هذه التأويلات ابن القيم في زاد المعاد المجلد الثالث، ذكر تأويلات المقدسي، وقد التقى به وأخذ عنه وإن كان ابن القيم يقول: لم يتح لي فرصة أن أقرأ عليه تأويل الرؤيا لصغر سني ولتقدم وفاته رحمه الله، وكان يسمى بـ الشهاب العابر، لأنه دقيق، حتى يقول: الذهبي لا يدرك شأنه في تفسير الأحلام، لا يشق له غبار في تأويل الرؤى والأحلام، فمن ذلك أن رجلاً رأى في رجله خلخالاً، فقال له: سوف يصيب رجلك داء تتخلخل منه، وهكذا كان. وجاءه آخر فقال: إني رأيت في أنفي حلقة من ذهب، ورأيت فيها حباً أحمر جميلاً، فقال له: إنه سوف يصيبك رعاف! وهكذا كان. وجاءه آخر فقال له: رأيت في يدي سواراً والناس ينظرون إليه، فقال له: سوف يصيب يدك داء برص أو بهاق أو نحوه، وسوف ينظر الناس إليه. وجاءه آخر فقال: رأيت في يدي سواراً ولقد خفيته فلا ينظر إليه الناس، فقال له: سوف تتزوج امرأة حسنة جميلة رقيقة، قال: وهكذا كان. وأشار الإمام ابن القيم في الموضع المشار إليه إلى أن الحلية في اليد قد تكون هماً، وقد تكون تزويجاً، وقد تكون بنتاً تولد له أو ما أشبه ذلك. فيكون الشيء رمزاً لآخر، مثلاً: الذهب يكون رمزاً للمرأة الصالحة، وقد يكون الرمز باللفظ كما سبق بأن الذهب أوله بعض أهل العلم بالذهاب لسرعة ذهاب شأن الكذابين. ومن ذلك ما ورد في صحيح مسلم عن أنس: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {رأيت أنني في دار عقبة بن رافع، وكأنه أُتي لنا بتمر من تمر ابن طاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأولته الرفعة لنا في الدنيا والعاقبة لنا في الآخرة، وأن ديننا قد طاب} أخذ الرفعة من اسم رافع، وأخذ العاقبة من عقبة، وأخذ طيب الدين من أنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أكلوا من تمر يسمى تمر ابن طاب وهو من جيد تمر المدينة. وكما ذكر ذلك عدد من المعبرين. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 30 خطورة تعبير الرؤيا وقد ورد في الحديث الذي رواه أبو رزين العقيلي وسنده جيد عند أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر، فإذا عبرت سقطت} وظاهر الحديث يدل على أن الرؤيا لأول عابر، فإذا عبَّرها الإنسان؛ فإنها قد تقع كما عبرها والله تعالى أعلم. وهذا ليس على إطلاقه كما تدل عليه الأحاديث الأخرى لكنه يحدث، وهو ردع للإنسان أن يُعبر الرؤيا إذا لم يكن عالماً بذلك، وليسعه ما وسع رجال الملك حين قال لهم: أفتوني في رؤياي، قالوا: أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، فليقل الإنسان: وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، إلا إن كان ممن وفق وألهم وسدد في ذلك فلا بأس. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 31 الأسئلة الجزء: 37 ¦ الصفحة: 32 صاحب الرؤيا الصالحة السؤال هل الذي يرى في المنام رؤيا صالحة، هل يكون صالحاً؟ الجواب الرؤيا الصالحة في المنام للرجل الصالح، لكن قد يرى غير الصالحين رؤيا صالحة في المنام، لكن هذا نادر كما سبق، مثل قصة رؤيا الملك كما في سورة يوسف، وكذلك الرجلان صاحبا يوسف كانا مشركين كما هو ظاهر من السير، وكذلك رأيا رؤيا وقعت مثلما رأياها. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 33 اختلاف تعبير الرؤيا حسب أحوال الذي رآها السؤال ذكرت في معرض الحديث أن رجلاً أتى إلى أحد الصالحين، فقال: إني رأيت أني أؤذن، ففسرها الرجل أنك تسرق، وفسرها للرجل الآخر أنه يحج، فما الفرق بين الرجلين من حيث رؤياهما؟ وما التوفيق بينهما؟ الجواب أن الرجل الأول الذي قال له: تسرق ظهر للمعبر من حاله وهيئته أنه رجل أقرب إلى الفسق وخفة اليد، فدل هذا أنه سارق، ولذلك من أصول تعبير الرؤيا أن يكون العابر عنده معرفة بحال الشخص إما ظاهره أو باطنه. وأما الآخر فكأن الرجل كان عليه سيماء الصلاح، فرأى أن أذانه يعني الحج {وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث ابن عباس وهو حديث صحيح- قال: يا رسول الله! إني رأيت كأن ظلة في السماء تنطف السمن والعسل، والناس تحتها يتوكفون ويأخذون منها، فمقل ومستكثر، ورأيتُ حبلاً موصولاً بين السماء والأرض، فأخذت به يا رسول الله فرفعت، ثم أخذ به بعدك رجل آخر فرفع، ثم أخذ به رجل ثالث فرفع، ثم أخذ به رجل فرفع ثم انقطع، ثم وصل له ثم رفع، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! دعني أعبر هذه الرؤيا - يريد أبو بكر أن يتعلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعم المعلم! ونعم المتعلم! فقال: أما الظلة التي في السماء فهي ما آتانا الله به من الخير. أما السمن والعسل الذي تمطره وينزل منها فهو الوحي والقرآن الذي أكرمنا الله به، وأما كون الناس يأخذون منها فمقل ومستكثر فهؤلاء الناس يأخذون بقدر أوعيتهم وبقدر ما معهم من الدين والعلم، وأما الحبل الذي بين السماء والأرض فهو الحق الذي بعثك الله به، تأخذ به أنت فتعلو، ثم يأخذ به رجل بعدك فيعلو، ثم يأخذ به رجل آخر فيعلو، ثم يأخذ به رجل فينقطع ثم يُوصل له فيعلو، فقال: أبو بكر بأبي أنت وأمي يا رسول الله! أخبرني أصبت أم أخطأت؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: والله يا رسول الله لتخبرنني ما أخطأت؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقسم} . وترك الرسول عليه الصلاة والسلام هذه الرؤيا دون أن يعبرها أو يفسرها أو يبين الخطأ من الصواب، وهذا دليل أن الإنسان إذا عبر الرؤيا باجتهاد، وكان أهلاً لذلك من حيث العلم بالشرع والعلم بأحوال الناس، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر وهو مجتهد، كما فعل أبو بكر. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 34 مآل الرؤى السؤال هل كل رؤيا حسنة تؤول بالخير، وكل رؤيا شر تؤول شراً؟ الجواب هذا معنى الرؤيا الحسنة أنها تؤول إلى خير، وتكون خيراً للإنسان في عاجل أمره أو آجله، والرؤيا السيئة هي ضد ذلك. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ وسلم على نبيك وعبدك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 35 حكم الكذب في الرؤيا السؤال إذا كذب الرجل أنه رأى في المنام لغرض صحيح، فهل يجوز الكذب في ذلك، مثل أن يقول لشخص لا يصلي في المسجد إني رأيتك تعذب؛ من أجل أن يصلي في المسجد؟ الجواب لا يجوز هذا، وليس هذا من طرق الدعوة إلى الله تعالى، بل على الإنسان أن يقول له: إني سمعت الله تعالى يقول في كتابه: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] وسمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سنته: {بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة} ويقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وما أشبه ذلك من النصوص التي تدل على عظمة عقوبة تارك الصلاة، وفي ذلك كفاية في أن يختلق له رؤيا لا أصل لها. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 36 أثر قراءة آية الكر سي السؤال هل يمكن للشيطان أن يتمكن من الإنسان وقد قرأ آية الكرسي وقرأ الورد، فإذا رأى شيئاً لا يسره، فهل هذا من الشيطان أم هو غير ذلك؟ الجواب نعم آية الكرسي ورد: {من قالها فإنه لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح} لكن هذا فيمن قرأها بحضور قلب، وصفاء نفس، وعمل بمقتضاها، فإن في الآية من المعاني والآثار الشيء العظيم، أما من قرأها بقلب راكد لاهٍ، فإن هذا لايكون له مثل ما للأول، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عمر وأبي هريرة وهو حديث حسن بمجموع طرقه قال: {ادعوا وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يجيب دعاء من دعاه بقلب غافل لاهٍ} . فإذا كان الدعاء وهو من أفضل العبادات لا يستجاب من قلب العبد الغافل اللاهي، فكذلك غيره من الأذكار والأدعية إذا غفل الإنسان ولها، ولا شك أنه مأجور على قراءته ليس كمن سكت ولم يقرأ، لكنه ليس كمن قرأ بقلب حاضر ونفس مقبلة على ذكر الله. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 37 حكم الإخبار بالرؤيا السيئة السؤال إذا رأى الإنسان رؤيا غير طيبة كمن رأى شخصاً يُقتل أو شخصاً يقتله، فهل يخبرهم بهذه الرؤيا أم لا؟ الجواب كلا! فإن هذه الرؤيا فيها شر، فعلى الإنسان ألاّ يخبر بها أحداً، كما سبق في الآداب المطلوبة في الرؤيا السيئة، سواء كانت الرؤيا تتعلق به، أو كانت رؤيا تتعلق بغيره، ولكن إن كان في هذه الرؤيا تحذير وتنذير وتخويف، فعليه أن يعرضها على بعض المعبرين؛ لأن بعض الرؤى كما أسلفت يكون فيها إنذار، مثل أن ترى رجلاً وترى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أعرض عنه، فإن هذه الرؤيا قد يكون فيها إنذار لهذا الشخص، فلا بأس أن تعرض على بعض المعبرين، ثم يستشار في إخبار صاحب الرؤيا إن كان في ذلك تنبيه على بعض الذنوب التي وقع فيها. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 38 حديث النبي الذي كان يخط والجواب على وجه الإشكال فيه السؤال لقد تحدثت عن حكم الخط، وأنه في حديث معاوية بن الحكم الطويل أنه: {سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخط؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك فليعقل} فما حكم الخط في الحديث؟ الجواب لا يجوز الخط بالرمل، مثلما يفعله الرمالون والعرافون والمنجمون، لا يجوز لأنه من ادعاء علم الغيب، والله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65] فلا يجوز للإنسان أن يدعي علم الغيب بسبب من الأسباب أو بوسيلة من الوسائل، لا عن طريق الخط، ولا قراءة الكف، ولا قراءة الفنجان، ولا غير ذلك من الطرق التي يسلكها المشعوذون، الذين يضحكون على الناس ويأخذون أموالهم ويستخفون بعقولهم، أما الحديث فظاهره والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كان نبي من الأنبياء يخط} فيكون هذا طريقة من طرائق الوحي لذلك النبي سواء كان إدريس أو غيره، والوحي له طرق كثيرة تختلف من نبي إلى آخر، وقد ذكر الإمام ابن القيم في طرق الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنها على ثمانية أضرب، منها الرؤيا الصالحة، ومنها الإلهام ومنها ومنها فيكون هذا نوعاً من الإلهام لذلك النبي، أما غير النبي فليس له شيء من ذلك. أما قول النبي عليه السلام: {كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك} فهذا على سبيل التعجيز، كما في القرآن الكريم في مواضع كثيرة: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} . ليس معناه الإذن للإنسان أن يصنع ما شاء، لكن على سبيل التعجيز وبيان أن الأمر واضح ولا إشكال فيه، فهنا قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك} كأن الحديث يقول للسائل: هل أنت نبي؟ سيقول السائل: كلا! فسوف يقول له: هل تعرف أنت الطريقة التي كان يخط بها ذلك النبي؟ فسوف يقول: لا! فيكون الجواب: إذن لا سبيل لك إلى ذلك. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 39 أسباب انبعاث حديث النفس السؤال ذكرتم أن الرؤيا من الله وأن الحلم من الشيطان، فمن أي شي يكون النوعان الآخران وهما حديث النفس وما يكون مما يناسب الطبع؟ الجواب لعل هذا مما لا يوصف بأنه من الله تعالى ولا من الشيطان، هو من الله تعالى من ناحية أنه خالقه ومقدره بلا شك، لكنه ليس مما يفرح به أو يسر، كذلك ليس هو من الشيطان الذي يحذر به المؤمنين، بل إنه من الأمور العادية، كما أن الإنسان قد يفكر وهو يقظ بأفكار وتخطر له في نفسه خواطر من الأمور المباحة التي لا تحمد ولا تذم، وكذلك له أفكار وخواطر محمودة، مثل الهم بالأعمال الصالحة: إذا هم بحسنة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وفي مقابل ذلك قد يفكر ويخطر في باله خواطر سيئة يلام ويذم ويعاقب عليها، كما إذا هم بالسيئة ولم يمنعه من عملها إلا العجز عنها، فإنه يأثم بذلك ويعاقب عليه كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله! ما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه} . وكما في قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] هذا مجرد الإرادة أو الهم الجازم على المعصية يأثم عليه الإنسان إذا كان لم يمنعه من فعله إلا العجز. أما إنسان هم بارتكاب الفاحشة وكاد أن يبدأ، ثم اطلع عليه رجل يخافه أو يستحي منه فأقلع، فهذا ما أقلع خوفاً من الله حتى يكتب له حسنة، وإنما أقلع خوفاً من المخلوقين أو لعجزه. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 40 النوم في الجنة السؤال ذكرت أن ليس في الجنة والنار نوم، فما معنى قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان:24] ؟ الجواب ليس المعنى أنهم يقيلون فيها؛ فإن النوم أخو الموت كما قال عليه الصلاة والسلام، وأهل الجنة لاينامون فيها، لكن المقصود أن الناس إذا بعثوا من قبورهم وحوسبوا، ذهب أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار, وكأن مقامهم في عرصات القيامة وقت كوقت القيلولة كما ذكر ذلك بعض السلف. فالمقصود ذهابهم إلى الجنة في وقت القيلولة، وليس أنهم ينامون في هذا الوقت. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 41 تعبير الرؤيا السؤال إذا اعتقدت أني رأيت رؤيا فكيف أعرف معناها؟ وهل من اشتُهر بتعبير الرؤيا حالياً؟ الجواب إذا تبين لك أن الرؤيا فيها بشارة وخير؛ فهذا دليل على أنها رؤيا حق وخير إن شاء الله، وهناك من يعرفون بتأويل الرؤيا. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 42 بعض المراجع في الرؤى والأحلام السؤال نرغب أن تذكر في بداية المجلس أو نهايته بعض المراجع المهمة في كل بحث؟ الجواب هناك بعض المراجع المهمة في موضوع الرؤيا، فمنها كتاب تعبير الرؤيا في صحيح البخاري، المجلد الثاني عشر من فتح الباري، وقد أطال الحافظ ابن حجر النفس في شرحه، ومنها كتاب طرح التثريب شرح التقريب للعراقي الجزء السابع، ومنها كتاب الاعتصام للشاطبي الجزء الأول، حيث ذكر طرائق أهل البدع في الاستدلال وذكر منها الاحتجاج بالمنامات، ومنها كتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل لـ ابن حزم في آخر الكتاب الأخير. ومنها كتاب جامع الأصول في حرف التاء تعبير الرؤيا، حيث جمع الأحاديث الواردة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها كتاب المنامات لـ ابن أبي الدنيا، وإن كان كتاباً جمع فيه ما هب ودب من الرؤى والأحلام، وابن أبي الدنيا رحمه الله يجمع روايات، فيها الصحيح، والحسن، والضعيف، وفيها الموضوع الباطل الذي لا أصل له، فينتبه لذلك القارئ. ومنها كتاب زاد المعاد لـ ابن قيم الجوزية في مواضع عديدة من الكتاب حيث ذكر آداب النوم، وآداب الاستيقاظ وكذلك ذكر الرؤى في الجزء الثالث. وذكر أحمد بن عبد الرحمن بن نعمة بن سرور المقدسي، صاحب كتاب البدر المنير في تعبير الأحلام. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 43 الكتاب المنسوب لابن سيرين السؤال ما رأيكم في كتاب ابن سيرين تعطير الأنام في تأويل الأحلام؟ الجواب هذا الكتاب لا يصح عن ابن سيرين، ولا يعلم أن الإمام ابن سيرين رحمه الله كتب كتاباً وإن كان من المشهورين في تفسير الرؤى والأحلام. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 44 ابن تيمية والاسترشاد بالرؤيا السؤال سمعت من أحد العلماء أن شيخ الإسلام ابن تيمية رأى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: عليك بالاستثناء يا أحمد، وذلك حين أشكل عليه حال الذين يقدمون ليصلي عليهم، فهل يكون أخذ منها حكماً شرعياً؟ الجواب ذكر ابن القيم رحمه الله أن ابن تيمية رحمه الله تردد فترة في الجنائز التي تقدم ليصلى عليهم وهو يشك في حالهم، ويظهر له من أحوالهم خلاف الاستقامة، فتردد في ذلك فترة، ثم نام فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال له: عليك بالاستثناء يا أحمد. والاستثناء المقصود به الدعاء يقول: اللهم إن كان عبدك هذا صالحاً فاغفر له وارحمه وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد إلى آخر الدعاء. وهذا اجتهاد من الشيخ رحمه الله، وكأنه رأى أن هذا ليس فيه حكم شرعي، رأى أن الرؤيا هذه فيها تنبيه إلى حكم الفاجر، فهي تشبه من بعض الوجوه رؤيا أبي جمرة نصر بن عمران الضبعي كما في صحيح البخاري جاء إلى ابن عباس فقال له: [[أترى أن أحرم بالحج والعمرة؟! قال: نعم أحرم بالعمرة متمتعاً بها الحج، فجاء إلى بعض الناس فنهوه عن ذلك؛ لأن عمر رضي الله عنه كان ينهى عن التمتع، وكذلك عثمان رضي الله عنه كان ينهى عن متعة الحج، فتابعهم بعض الصحابة ونهوا أبو جمرة عن ذلك، لكنه أطاع ابن عباس وأحرم بالعمرة متمتعاً بها إلى الحج، فلما نام رأى في المنام رجلاً يقول له: حج مبرور وعمرة متقبلة. فجاء إلى ابن عباس وأخبره بالرؤيا، فقال له: هديت إلى سنة نبيك! وفرح ابن عباس بالرؤيا، وقال له: أقم عندي حتى أقسم لك من مالي، وأجعلك كأحد أولادي، فأقام عنده وأخذ عنه العلم، وكان يترجم بينه وبين الناس]] . يحمل كلام ابن تيمية رحمه الله أنه رأى أن هذه الرؤيا ليس فيها حكم شرعي، وإنما كأنها نبهته إلى حكم ظاهر له، خفي عليه ثم انتبه له. وإن هذا تفسير لفعله، كان بالنسبة لغيره لا يعتبر هذا دليلاً شرعياً، ولا يجوز للإنسان أن يستثني في الدعاء، بل الراجح أن الإنسان إذا ظهر من حاله أنه مسلم، يؤخذ بظاهره ويدعى له، فإن عرفت بأن هذا الشخص كافر حرم عليك أن تدعو له وإذا شككت في حاله، وعرفت منه أنه فاسق مظهر للفسق كالذين يتركون الصلاة مع الجماعة، ويصرون على تركها أو يؤذون المؤمنين أو يتعاطون الربا عياناً ويحاربون الله ورسوله أو ما أشبه ذلك كالذين يجاهرون بالمعاصي، يغنون مثلاً ينشرون الفساد والفاحشة بين المؤمنين أو تسلطوا على المسلمين وآذوهم في أنفسهم وأموالهم وأرزاقهم، وما أشبه ذلك. فمثل هذا أرى أن الأفضل من العالم إذا قدم مثل هؤلاء للصلاة أن ينصرف ولا يصلي عليه، ردعاً لغيره وتعزيراً لغيره من الناس، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وفعل هكذا بعض أصحابه، فالرسول عليه السلام كان إذا قدم إليه رجل عليه دين، قال: صلوا على صاحبكم وتركه، وكذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على الغال الذي غل المتاع، وكذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على قاتل نفسه، كما ورد في صحيح مسلم ولم يصلِّ عليه مع أنه ليس بكافر، فأخذ من هذا أهل العلم أن الإنسان المجاهر بالفسق والمصر على ذنوبه أن الأفضل إذا كانت الظروف مناسبة له وليس هناك فتنة أو ضرر ظاهر أن يبتعد العلماء المرموقون عن الصلاة عليه؛ حتى يكون بذلك زجر وردع له لمن كان على مثل شاكلته. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 45 من آداب الرؤيا السيئة السؤال قلت: من آداب الرؤيا السيئة أن يقوم يصلي، ثم ذكرت أنه يحول جنبه، وهذا ظاهره التعارض، فما الجمع؟ الجواب لا تعارض! بل يفعل هذا وهذا، فإما أن يصلي وإذا رجع إلى فراشه فإنه ينام على جنبه الآخر، أو نقول: يتحول بمجرد أن يستيقظ، ثم بعد قليل يقوم ويصلي. أو يقال: إن استطاع أن يقوم ويصلي فعل، وإن لم يستطع فعلى الأقل يتحول من جنب إلى آخر. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 46 تعلق الروح بالجسد السؤال يقال في علم النفس: إن الإنسان إذا لم تخرج روحه وتتجول، فقيل: إنها تصعد إلى السموات العلى، وقيل: إنها تتجول في الدنيا، وعليه تخرج أو تأتي الأحلام، فما قولكم؟ الجواب قولنا هو قول أهل السنة والجماعة، كما ذكروا في كتب الاعتقاد أن تعلق الروح بالجسد على مراتب: أقوى وأتم ما يكون تعلق الروح بالجسد في الدار الآخرة، أهل الجنة وأهل النار تتعلق أرواحهم بأجسادهم تعلقاً تاماً ولذلك يكون لأهل الجنة أتم النعيم، ويكون لأهل النار أشد العذاب. ثم تعلق الروح بالجسد في الحياة الدنيا في حال اليقظة هذا هو في المرتبة الثانية. المرتبة الثالثة: تعلق الروح بالجسد في الدنيا في حال النوم، ثم في المرتبة الرابعة: تعلق الروح بالجسد في حال البرزخ، فإنها تتعلق الروح بالجسد لكنها تحله أو تسكن فيه، فلا يوصف بأنه حي حياة دنيوية مستقرة، بل روحه متعلقة بجسده بكيفية أضعف مما هي عليه في الدنيا، ولذلك لا يدركها الناس. الجزء: 37 ¦ الصفحة: 47 أساليبهم في حرب الإسلام لقد تفنن أعداء الإسلام في حربه سراً وعلناً، واستخدموا ما أمكنهم من وسائل لإضعاف الإسلام في قلوب المسلمين، وقد ذكر الشيخ هذه الأساليب وفضحها، داعياً المسلمين إلى التنبه لها ومحاربتها، والعمل على إحياء روح الإسلام بين المسلمين. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 1 قواعد أربع في الحرب ضد الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، أيها الأحبة الكرام، موضوع هذا الدرس هو: وسائلهم في حرب الإسلام، وهذا هو المجلس الثالث والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، في ليلة الإثنين، السابع والعشرين من شهر جمادى الآخرة من سنة (1413هـ) . أولاً: قواعد أربع لا بد منها: الجزء: 38 ¦ الصفحة: 2 القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية إن العداوة والصراع في هذه الحياة قائمة إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، وليست هذه العداوة بالضرورة مبنية على خطأ ممن نصبت له العداوة، ولا على ظلم، ولا على اعتداء؛ بل إن الله تعالى، وهو الإله الكريم الجواد الرحيم الرحمن المتفضل على عباده بكل خير، ومع ذلك كان له من خلقه أعداء، كما قال الله عز وجل: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] . وهكذا الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وهم خلق عند الله تعالى في السماء، ومع ذلك لهم أعداء، والرسل عليهم الصلاة والسلام لهم أعداء، وأي أعداء قال تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] . فذكر أن هناك من اليهود وغيرهم من هم أعداء لجبريل عليه الصلاة والسلام، أما الرسل صلى الله عليهم جميعاًَ وسلم، فإن العداوة لهم برزت أشد البروز، لأن لكلٍ منهم شريعةً ومنهجاً وأتباعاً وديناً، وربما أقام النبي عليه الصلاة والسلام دولة، وحارب أعداءه وقاومهم، ولهذا قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] . فانظر كلمة (كل) ما من نبي إلا وله أعداء، مع أن النبي قد لا يكون له أتباع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فهناك من الأنبياء من لم يكن لهم تابع، لكن كان لهؤلاء أعداء يحاربونهم ويناصبونهم، وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] . وهذا يبين سبب خلق النار، وما فيها من السعير والعذاب، لأن النار أعدت لهؤلاء الذين فسدت فطرهم، وخربت عقولهم، وتحجرت قلوبهم، فهم لا يسمعون. وإن كانوا ذوي آذان، ولا يبصرون وإن كان لهم عيون، ولا يعتبرون وإن كان في صدورهم قلوب، لكنها لا تعي ولا تعقل، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] . فهؤلاء الذين هم أعداء الرسل، وأعداء الله والملائكة، وأعداء الدين والحق، هم وقود النار، فهذه قاعدة لا بد من فهمها وبيانها، مهما حاولت وجادلت وتحريت وتلطفت، واستخدمت من الأساليب والطرق، فلن تعدم عدواً، ولن يعدم المؤمن أحداً يؤذيه حتى ولو كان على قمة جبل. ولستُ بناجٍ من مقالةِ شانئٍ ولو كنتُ في رأسٍ على جبلٍ وعر الجزء: 38 ¦ الصفحة: 3 القاعدة الثانية: الأعداء جبهة واحدة ضد الإسلام إن الأعداء مهما وجد بينهم من التباغض والتباين والتناقض والتباعد، فإنهم إذا واجهوا الحق وواجهوا الإسلام؛ وحدوا صفوفهم في مواجته، خاصةً إذا قويت شوكة الدين وعز جانبه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] . مع أن التاريخ شاهدٌ بالكثير من القصص والأخبار، التي كان اليهود فيها أعداء للنصارى، وكان النصارى فيها أعداء لليهود، ومع ذلك قال الله تعالى لليهود: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] قال بعض المفسرين: المعنى أن بعض النصارى أولياء لبعض، وبعض اليهود أولياء لبعض. وقال آخرون: بل المعنى أن اليهود والنصارى يجتمعون ويوحدون كلمتهم إذا واجهوا دين الحق والإسلام، فينسون العداوات فيما بينهم لمواجهة هذا العدو المشترك، كما هو المشاهد اليوم، فإننا نجد تحالف القوى العظمى ضد الإسلام، اليهودية، والنصرانية، والعلمانية، وبقايا الشيوعية، كلها أصبحت جبهة واحدة ضد الإسلام. وليسَ غريباً ما نرى منْ تصارعٍ هو البغيُ لكنْ بالأسامي تجددا وأصبحَ أحزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجهِ الدينِ صفاً موحدا إنهم جميعاً يظهرون العداوة لهذا الدين: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] . من كل ذئب إذا واتته فرصته أهوى إليك بناب الغدر عن كثب وإن بدا جانب الأيام معتدلاً سهلاً أتاكَ بثغرِ أغيدٍ شنب ما شئتَ من مقتٍ ما شئت أدبِ ما شئت من ذلةٍ في خده الثربِ إن الأفاعي وإن لانتْ ملامسها ماذا على نابها من كاملِ العطبِ كانوا المطيةِ للأعداء مذ درجوا فينا وما برحوا في كلُ محتربِ رسل الفساد وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ الجزء: 38 ¦ الصفحة: 4 القاعدة الثالثة: تعاون المسلمين مع الأعداء إن هذا الكيد الموجه ضد الإسلام، والموجه ضد المسلمين، لم يكن ليبلغ مبلغه ويحقق أثره لولا أنه وجد آذاناً صاغية من المسلمين، ووجد تربة خصبةً لزرعه في بلاد الإسلام، ولهذا قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . ثم قال في الآية التي بعدها: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الأنعام:113] وقال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] . إن من السهل أن نلقي الملامة على عدونا، سواءً الاستعمار، أو الصهيونية، أو الحكومات الجائرة، أو أمريكا، أو القوى الخفية، أو القوى المعلنة، ولكن هذا الكلام ليس دقيقاً، فهو -أعني العدو- إنما نفد من خلالنا، وبحبل منا بلغ ما يريد، حتى الشيطان نفسه، وهو أعظم الأعداء، إنه يقول يوم القيامة في خطبته الشهيرة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في كتابه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] . وقد صدق في بعض ما قال وهو كذوب، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام، فإنه ما كان له من سلطان، إنما سلطانه على الذين آمنوا به وتولوه، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:99-100] . وإذا نظرنا اليوم إلى عدونا، وقد نفذ إلى مجتمعاتنا، وإلى بلاد الإسلام كلها، فإننا من الممكن أن نتصور أنه كان يمكن أن يحدث النقيض، وكان من الممكن أن يؤثر جهد المسلمين وكيدهم في عدوهم، وكان هناك احتمال أن يقع غزو فكريٌ إسلامي على الأمم الكافرة، ولكن الذي حصل هو أن أعداء الإسلام قووا وضعف المسلمون، ووجد العدو في المسلمين من القبول والاستجابة ما مكن له، فعلينا أن نلوم أنفسنا، وأن نعود إلى ذواتنا، وأن ندرك أنه ما كان هناك شئ ليحدث لولا أننا تجاوبنا مع هذا الكيد، فحقيق بنا أن نخاطب هذه الأمة المكلومة المجروحة بكلمات الشاعر الذي يقول لها: ادفني قتلاكِ وارضي بالمصيبةْ واذهبي عاصفةِ الليل غريبةْ واحملي العارَ الذي أنجبتهِ وتواري في الزنازينِ الرهيبةْ أنتِ ضيعت البطولات سدى يا شعوباً لم تعلمها المصيبةْ الجزء: 38 ¦ الصفحة: 5 القاعدة الرابعة: كيد الأعداء ومكرهم ضعيف إن كيد العدو ضعيف، ومكره إلى تباب، قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] . وسبحان الله! قد يتصور بعض البسطاء، والذين لا علم عندهم، وغير المتأملين، قد يتصورون نوع تعارض ظاهري، بين الآيات التي وردت في شأن كيد الكافر، يقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ويقول: {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] أي: في ضياع، ولا قيمة له ولا بقاء له، فهذه الآيات تدل على ضعف كيد الشيطان، وأتباع الشيطان من الكافرين، وزواله، وذهابه وضلاله وأنه لا يبلغ أثره. وبالمقابل هناك آيات أخرى تتحدث عن عظيم كيدهم ومكرهم، قال الله تعالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] . فسبحان الله! انظر إلى واقع الحياة المشهود اليوم لترى مصداق ما أخبر به الله جل وعلا في كتابه الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، فأنت اليوم حين تقرأ عن خطب أعداء الإسلام ودراساتهم واحتياطاتهم؛ تحس بعمق الكيد وخبثه ودهائه، وأنهم يحسبون لكل شيء حساباً، ويدبرون أدق التدبير وأعظمه وألطفه، فلهم حيل وأساليب خفية لطيفة لا يدركها أكثر الناس، فهنا تتذكر قول الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] فهو مكرٌ دقيق، مكرٌ لو بلغ أثره وتحقق مقصوده لزالت الجبال بسببه، لكننا نجد أن الجبال باقية في مكانها، إذاً مكرهم دقيق ولطيف وبعيد، ولكن آثاره أقل مما يدبرون ويتصورون. فإذا نظرت في المقابل إلى الآيات الأخرى التي تتكلم عن ضعف كيدهم، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:25] ؛ وجدت مصداق ذلك اليوم في أعمال كثيرة ظنوا هم أنها بأيديهم، فإذا بالأمر يكون خلاف ما يتوقعون، فتجد الثغرات التي تقع في النتائج المترتبة على أعمالهم ولو بعد حين، وتكتشف ضعف الكيد ووهنه وكثرة ثغراته في أمور كثيرة، منها: مثلاً مواجهة الشيوعية اليوم. لقد كان العالم الغربي يتعامل مع الشيوعية على أنها قوة باقية لعشرات السنين، وصرحوا بذلك، كما في كتاب نصر بلا هزيمة لـ نيكسن وغيره، ولم يكن هناك أي دراسة تتوقع سقوط الشيوعية في الغرب بهذه السرعة، فإذا ببناء الشيوعية يتهاوى خلاف ما كانوا يتوقعون، فلما تهاوى، حاولوا أن يصطادوا في الماء العكر، وقالوا: نحن كنا وراء سقوطالشيوعية، وسربوا أخباراً عن أعمال الفاتيكان في بولندا للقضاء على الشيوعية، وعن اتصالاتٍ خفية، وعلى أن العالم الغربي هو الذي كان يسعى إلى إسقاط الشيوعية. نعم كان للعالم الغربي يدٌ في ذلك، لكن اليد الغربية كانت يداً واهية ضعيفة، وأما الذي أسقط الشيوعية فهي السنن الإلهية العظيمة التي سبق الحديث عنها. مثال آخر: حرب الخليج، لقد ظن العالم الغربي أنه سوف يخرج من حرب الخليج ظافراً منتصراً، وسوف يتوج ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، الذي بموجبه يخضع العالم لهيمنة الصليب، ممثلاً في الولايات المتحدة أو في الأمم المتحدة وهما لفظان أو اسمان لمسمى واحد، فإذا بحرب الخليج تتمخض عن أحداث لا يتوقعونها، مثلاً: كانوا يتوقعون أن يتخطف المؤمنون بعد حرب الخليج في بيوتهم بلادهم، وأن يضعف شأن الإسلام، فإذا بهم يواجهون أن العالم الإسلامي عاش فراغاً كبيراً بعد حرب الخليج، وأن الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يلبي طموحات الناس وتطلعاتهم ورغباتهم وأمورهم، هو العودة إلى الدين الحق، فشهد العالم الإسلامي كله صحوة إسلامية عظيمة، زادت وتنامت بعد حرب الخليج الثانية. مثال آخر: ظنوا أنهم قد قضوا على جميع التحديات التي كانت من بقايا الشيوعية، فإذا بتحديات جديدة تبرز أمامهم في بلاد العالم الإسلامي، وفي البلقان، وفي الصين، وفي غيرها. مثال رابع: حرب البلقان، سواءً في البوسنة والهرسك أو في غيرها. إنها مثلٌ شاهدٌ يدل على ضعف الكيد الكافر، فهي قوة إسلامية ضعيفة قليلة، ومع ذلك وقف الصرب أمامها عاجزين مقهورين، على رغم سنة كاملة من الضرب والحرب والحصار والتقتيل والإبادة، ومع ذلك -أيضاً- وقف العالم الغربي عاجزاً محتاراً، فإن بقاء الحرب يهدد قوة الغرب ويهدد هيبة الأمم المتحدة، وربما ينذر بخطرٍ كبير، وربما تتحول جزيرة البلقان إلى بحرٍ من الدم، وهذا ما توقعت وتنبأت به استخبارات بريطانيا وغيرها، ومع ذلك هم عاجزون عن حل هذه المشكلة. مثال خامس: قضية الصومال. إنهم يدركون أن الأمر خطير، ولهذا أعلنوا أمس واليوم أن القوات الأمريكية سوف تنسحب قريباً، وأنه خلال شهرٍ واحد سوف تكون بعض هذه القوات قد غادرت وانسحبت، وحلت محلها قوات أخرى من دولٍ متعددة، وواجهوا سلبيات هناك لم تكن لهم في حساب. المهم أنهم قد يقدرون ويحسبون ويخططون ويرسمون، لكن تأتي النتائج خلاف ما كانوا يتوقعون، كما قال الله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ؛ إن علينا أن نؤمن بالله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى هو وحده المتصرف في الأكوان، فهو الرب الذي لا يُقضى شيء إلا بإذنه، ولا يقع في الكون إلا ما يريد، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون. فالذي ينفذ هو أمر الله تبارك وتعالى، وليس أمر الغرب أو الشرق، ولا أمر هذه الدولة أو تلك، ولا يقع في الكون شيء إلا بإذن الله عز وجل. زعمتْ أوروبا أن تحارب ربها وليغلبنَّ مغالب الغلابِ إن النموذج الفرعوني ظاهرٌ اليوم عياناً، فهذا فرعون كان يقول: إن هؤلاء -أي موسى وأتباعه-: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] أي: قلة وحفنة، كما يعبرون بلغة العصر الحاضر: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] فهم يقولون: هؤلاء أقلية، ويحاولون أن يعرقلوا خطة الحضارة، وسير الأمور، ونظام الإدارة، ونحن حذرون يقظون، وسوف نقاومهم بكل الوسائل. هذا هو الظن الفرعوني، الظن البشري الجاهلي، عمل على حسب التأييد الشعبي، وعلى ملء عقول الناس، وعلى تشويه نظراتهم، حتى قال عن موسى عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وقد قال الحافظ ابن كثير، قال: قيل في المثل: أصبح فرعون واعظاً. ففرعون يخاف على الدين، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] وفرعون يبعد الفساد ويحاربه: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] وهذا يقوله فرعون في مواجهة موسى عليه صلوات الله وسلامه، وجمع فرعون الكهنة، ورجال الدين في زمانه، وجبرهم لصالحه، فكانوا يحضرون الحفلات والمناسبات وغيرها، ويؤيدونه، ولما مات قاموا وصاحوا وبكوا وأعولوا وجمعوا الشعوب بهذه المناسبة، لما مات أحد الفراعنة، لكن النتيجة على الرغم من القوة التأله والطغيان النتيجة: هذا فرعون جثة ملقاة على جانب البحر: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] يقول الله تبارك وتعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس:91-92] . فقذف البحر بجثته إلى الخارج {لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] وفي الحديث الصحيح عند الترمذي وغيره، أن جبريل عليه الصلاة والسلام يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من حال البحر فأدسه في فيه؛ مخافة أن تدركه الرحمة} أي أن جبريل عليه السلام يضع في فم فرعون الطين الأسود، خشية أن تدركه رحمة الله. فهذا هو إلههم الذي كانوا يعبدون ويؤلهون، وكانوا له يسجدون، وبحمده يسبحون، هاهو جثة ملقاة على البحر، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، إذاً هذه قواعد أربع لا بد أن نعيدها باختصار: القاعدة الأولى: العداوة والصراع في الحياة سنة إلهية. القاعدة الثانية: الأعداء مهما اختلفوا فيما بينهم يوحدون صفوفهم في مواجهة الإسلام. القاعدة الثالثة: لم يكن كيد العدو ليبلغ مبلغه؛ لولا أنه وجد من المسلمين تجاوباً معه. القاعدة الرابعة: إن كيد الكافرين ضعيف وهو إلى تبابٍ وإلى ضلال. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 6 فائدة طرح موضوع: أساليب الأعداء في محاربة الإسلام ثانياً: فائدة طرح الموضوع: إن كشف أساليب الأعداء سنة قرآنية وطريقة نبوية، فقد ذكر الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خطط المشركين فقال: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا} [الإسراء:73] {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا} [الإسراء:76] إلى غير ذلك. وذكر خطط اليهود فقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] وذكرت خطط النصارى فقال: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75] . وذكر خطط المنافقين فقال: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا * هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:3-4] . إذاً فذكر خطط الأعداء وكشفها، منهج قرآني وسنة نبوية، ولها فوائد عظيمة منها: الجزء: 38 ¦ الصفحة: 7 التطعيم تطعيم المؤمن ضد هذه الأساليب، بحيث تؤدي أساليب الأعداء إلى مردود عكسي، فتزيد الإيمان بدلاً من أنهم كانوا يريدون أن تضعفه، وتوثقه ولا يرتاب المؤمنون بسببها ولا يشكون. مثال: قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران:173] هذه خطة، عمل أبو سفيان وقريش على نشر إشاعة مؤداها: إن قريشاً قد حشدت حشودها للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستئصال شأفتهم، وقالوا ربما تكون هذه الإشاعة سبباً في ضعف المسلمين وترددهم، أو تراجع بعضهم وقلة يقينهم وإيمانهم، قال الله تعالى: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] . فأثمرت هذه الخطة نتيجة عكسية، المشركون ما كانوا يريدون أن يزيد الإيمان، ولا أن يزيد التوكل، ولكن الله تعالى جعل النعمة في طي النقمة. وربما نقمٌ في طيها نعم وربما صحت الأبدان بالعلل إذاً الإرهاب النفسي والتخويف كان مقصوداً، لكن المؤمنين الواعين المتوكلين على الله تعالى، تمردوا على هذا النوع من الحرب، وجعلوه لصالحهم. مثلٌ آخر: قال الله تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] . المسلم المعاصر اليوم حين يقال له -مثلاً-: سيقول الذي أشركوا عن دعاة الإسلام ورجاله وعلمائه كيت وكيت، وسوف ينشر في الصحف كذا وكذا، وسوف يقال في الإذاعة كذا وكذا، فإنه إذا رأى هذا الكلام وقرأه أو سمعه؛ فإنه لم يتأثر به بل قال: هذا مصداق ما علمنا أنهم سيقولون كذا ويقولون كذا. إذاً كشف هذه الخطط فيها تطعيم للمسلم أن يتأثر بها، فإذا قيل له: سوف يقول أعداء الإسلام -مثلاً- عن دعاة الإسلام إنهم متطرفون. فإذا قرأ في الجريدة: المتطرفون، قال: هذا ما كنا نُحذّره من قبل، فالذين حذرونا كانوا مصيبين وصادقين، وقد عرفوا دخيلة هؤلاء وخبيئتهم، وماذا يقولون وماذا تنطوي عليه جوانحهم. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 8 مواجهتها بالطرق المناسبة الفائدة الثانية: مواجهة هذه الأساليب بالطرق المناسبة؛ فإن الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولا شك أن الغفلة عن ألوان الخداع التي يمارسها اليوم عدو الإسلام، فهو يملك الإعلام، ويملك الاقتصاد، والتصنيع، والإدارة، لا شك أن الغفلة عن خططه تؤدي إلى الوقوع في شراكه وحبائله، ولا يمكن للأمة أن تواجه هذه الحرب الضروس؛ إلا إذا وصلت إلى درجة من الوعي والإيمان والتوكل على الله تعالى، والإدراك الواضح لأساليب الخصوم. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 9 تقوية الإيمان الفائدة الثالثة: تقوية الإيمان عند المؤمنين. فإن الحرب لا تزيدهم إلا قوة، وقد حدثني أحد الإخوة أن كثيراً من الشباب يقبض عليهم، وهم حدثاء عهدٍ بهداية وبإيمان، فيودعون السجون، ويعذبون ويضربون ويؤذون، فإذا خرجوا كانوا أشداء أقوياء، صُبُراً عند الحرب. صدقاً عند اللقاء، وهذا مصداق ما أخبر الله تعالى به: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً)) [الأحزاب:22] . الجزء: 38 ¦ الصفحة: 10 رص الصفوف وجمع الكلمة الفائدة الرابعة: رص الصفوف وجمع الكلمة. فإن الشعور الحقيقي بالخطر، وقوة العدو وشدته وشراسته، يؤدي إلى الوحدة والتقارب، وما أحوج المسلمين اليوم إلى توحيد صفوفهم، وإزالة العداوة والشحناء بينهم!. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 11 أساليب قديمة وجديدة قال الله تعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43] . قال الحسن وقتادة وجمهور المفسرين: قد قيل فيمن أرسل من الرسل من قبلك؛ ساحر وكاهن ومجنون وكذبوا كما كذبت، فلم يقل لك الناس من الشتم والسب والعيب والأذى، إلا ما قالوه للرسل من قبلك. ونحن نقول اليوم لدعاة الإسلام، وأهل العلم والصلاح، نقول لهم: ما يقال لكم إلا ما قد قيل للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكم أسوة وقدوة؛ فإنه لا يمكن أن تجد كلمة قيلت اليوم إلا ولها رصيدٌ في الأمس، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] . إن طرائق الكفر في محاربة الإيمان هي هي، وإن تغيرت الأدوات وتنوعت الوسائل، إلا أن الأصول ثابتة، وإليك بعض الأمثلة: الجزء: 38 ¦ الصفحة: 12 الحصار وفرض الإقامة الجبرية خامساً: الحصار وفرض الإقامة الجبرية. كما فعلوا بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال:30] أي: يمنعوك من الخروج ومغادرة البلد. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 13 النفي من الأوطان سادساً: النفي من الأوطان والإخراج، قال الله تعالى: {أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] . وكذلك في الآيات الأخرى: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82] . فعيبهم وذنبهم: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82] أصبح التطهر عاراً وعيباً وذنباً عند هؤلاء المنكوسين الممسوخين، فأصبحوا يخرجونهم، لأنهم أناس يتطهرون. إن من الممكن جداً أن يستخرج من القرآن الكريم حصرٌ كامل للأساليب الفكرية في مقاومة دعوة التوحيد عبر العصور، وهذا باب يطول، وما ذكرته لا يعدو أن يكون بعض الأمثلة التي تؤكد أن الأساليب القديمة هي ذاتها الأساليب الجديدة، التي يستخدمها طغاة العصر في مقاومة الإسلام والتوحيد والدين. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 14 التصفية رابعاً: التصفية والقتل والقمع، ويسمونها التصفية الجسدية، قال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ} [الكهف:20] فهو قتل وبطريقة بشعة أيضاً، وكذلك قال فرعون ومن معه: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر:25] . أي: اقتلوهم هم واقتلوا أبناءهم، ويجوز أيضاً أن يكون المعنى التهديد بقتل الأولاد، إرغاماً للمؤمنين، واضطراراً لهم إلى التراجع عن دينهم؛ بحيث يقتل ولد واحد منهم والأب يرى، ومما يصدق ذلك قصة ماشطة بنت فرعون، وقد رواها أهل السنن وأحمد بأسانيد عديدة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صعد إلى السماء ليلة أسري به، وجد ريحاً طيبة، فقال: {يا جبريل ريح من هذه، قال: هذه ريح ماشطة بنت فرعون قال: وما كان من خبرها؟ قال: إن ماشطة بنت فرعون سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله. فقالت بنت فرعون: الله والدي أبي. قالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين. قالت: أولك ربٌ غير أبي؟ قالت: نعم، ربي وربك الله. فقالت: أخبر أبي. قالت: أخبريه، فذهبت البنت إلى أبيها وقالت: إن الماشطة قالت كيت وكيت، فأحضرها فقالت: نعم، ربي وربك الله. فأحضر قدراً من نحاس، فأوقد عليه النار حتى أصبح أحمر يتلهب، ثم جاء بها ومعها أولادها، فقال لها: ارجعي عن دينك. فقالت: لا أرجع. فأخذ ولدها الصغير ليلقيه في هذا القدر، فقالت: لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي في قبر واحد. قال: ذلك لك علينا من الحق. فأخذ ولدها ووضعه في هذا القدر، فإذا هو يحتمس ويسود ويحترق في لحظة واحدة، والأم ترى وتشاهد، ثم أخذ الآخر وكان ممسكاً بطرف ثوبها فألقى به في القدر، ثم أخذ الثالث من على كتفها فألقى به في القدر، والأم تصبر وتتجلد، ثم أخذها ورماها معهم فاحترقوا جميعاً} . قال الله: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] . لقد ذهب فرعون وذهبت الماشطة، لكن هذا إلى نار تلظى قال الله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] وتلك إلى: {جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] إذاً التصفية والقتل واردة عندهم، وقد يقتلون أولاد الواحد، إرغاماً له ومضايقةً وتهديداً، بل قد يهددونه بالاعتداء الجنسي على بناته أو على زوجته أو على قريبته؛ من أجل مضارته ومضايقته، كما هو ظاهر الآية أيضاً: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] . أي: أبقوهن حيات، للخدمة والامتهان والابتزاز والاغتصاب، والاعتداء الجنسي عليهن. هذا هو منطق الكفر أمس واليوم وغداً، ولا تظن إلا هذا: {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر:25] . الجزء: 38 ¦ الصفحة: 15 تشويه نية الداعي ومقصده أولاً: تشويه نية الداعي ومقصده، والحكم على ضميره، وعلى ما في داخله، قال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] وقيل لموسى وهارون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] إذاً قيل للرسل موسى ومحمد وغيرهم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، قيل لهم: أنتم تريدون الملك، وتريدون السلطة، والحكم، وتسعون إلى قلب الأنظمة في البلاد. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 16 اتهام الإنسان في عقله ثانياً: اتهام الإنسان في عقله. قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: إنا لنراك في ضلالة، وقالوا: ساحر ومجنون ومسحور، إذاً اتهموه في عقله وتفكيره ونظره، حتى يحولوا بينه وبين الناس، ودعوا الجماهير إلى التمسك بموروثاتها، والوفاء لآبائها وأجدادها وتقاليدها، وأن الرسل والأنبياء يريدون أن يغيروا هذه الأشياء، ويحكموا على الأمم السابقة بالضلال والانحراف، ولهذا ذكر الله تعالى ما قاله قوم نوح: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً} [نوح:23-24] . فحرضوا الجماهير بالتمسك بهذه المورثات والعادات والتقاليد والشخصيات والآباء والأجداد، وأن الرسل يريدون صرفكم عن ذلك كله. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 17 أسلوب التضييق على المؤمنين والحصار ثالثاً: أسلوب التضييق على المؤمنين والحصار. سواء كان حصاراً اقتصادياً، كما قال المنافقون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] مساكين! يظنون أن أهل الإيمان طلاب مال وطلاب جاه، وما علموا أن الدرهم والدينار تحت أقدامهم، وأنهم لا يعبئون بالدنيا ولا ينظرون إليها، بل يحتقرونها، ويحتقرون من يسعى في جمعها، وهكذا تعلموا من رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم، فهكذا المؤمنون. أما المنافقون فظنوا أن المسألة مادية، ولهذا قالوا: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] أي: ينصرفوا إذا لم يجدوا مالاً، ولم يجدوا نفقة، وأيضاً المنافقون بذلك يظنون أن الرزق بأيديهم، وأن العطاء من جيوبهم، فإذا رأوا إنساناً رزق من غير طريقهم تعجبوا واندهشوا، وقالوا من أين جاء لفلان المال؟ ومن أين جاء له هذا العطاء؟ ومن أين جاءت له هذه المزرعة؟ ومن أين جاءه هذا الرزق؟ فإذا حجبوا هم ما بأيديهم ظنوا أن الإنسان يموت جوعاً وعطشاً وفقراً، أو يذهب يتسول ويسأل الناس ما يأكل وما يشرب. وما علموا أن الله تعالى بيده خزائن السماوات والأرض، وأن الله تعالى يعطي ويرزق من يشاء بغير حساب، قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:3] . يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدوا خماصاً وتروح بطاناً} فهم يظنون أن الحصار الاقتصادي يجعل المؤمنين يتراجعون. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 18 الحرب المعاصرة إننا محتاجون أن نلقي شيئاً من الضوء على الحرب التي تواجه الإسلام اليوم، لأننا نصطلي بنارها، ونواجهها ونعايشها لحظة لحظة وساعة ساعة، وهذه الحرب تتحدد فيما ظهر لي في هدف واحد كبير، وهو الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم. إننا بحاجة إلى أن نضع خطاً كبيراً تحت هذه الكلمة: (الفصل بين المسلمين وبين حقيقة دينهم) بالفصل بينهم وبين القرآن، والفصل بينهم وبين المسجد، والفصل بينهم وبين العلماء والدعاة؛ ليسهل حينئذٍ خداع العامة، وترويج الأقاويل الباطلة عليهم، بعيداً عن أولي الأمر وأولي الرأي، الذين يدركون ويستنبطون، ويسهل صرف الناس عن دينهم والتلبيس عليهم. وطالما وقفت الأمة -مرات كثيرة- مع جُلادها ضد منقذيها بسبب عدم تبين الأمور، وغيبة الوعي، وضياع الهدف، وما جمال عبد الناصر عنا ببعيد، طالما صفقت له الجماهير، وطالما تحلق الشباب في العالم الإسلامي يستمعون إلى خطبه، وطالما وضعت الأمة فيه آمالاها، وإذا بالأمور تتبين عن حقدٍ مبيتٍ للإسلام والمسلمين، وقضاء مبرم على هذا الدين بقدر ما كانوا يستطيعون. إنه بالفصل بين الأمة وبين دينها، وبينها وبين قرآنها وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين علمائها ودعاتها؛ ليسهل القضاء على علماء الأمة وعلى دعاتها بشتى الوسائل، والأمة تتفرج وتشعر أن الأمر لا يعنيها، إن الوئام والانسجام بين الدعاة وبين الأمة هو خير وقاية للطرفين. وقد قال قوم شعيب لشعيب: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود:91-92] لقد تعللوا برهطه وعشيرته، وامتنعوا عن رجمه وقتله لمراقبة ورعاية رهطه وعشيرته وقبيلته ومن حوله. إذاً: التفاف الأمة حول دعاتها، وقاية لعلماء الأمة من ألوان الخسف والإهانة، ولقد مر بالأمة زمانُ علق العلماء على أعواد المشانق وقتلوا، وصب عليهم ألوان العذاب، بل وأحرقوا بالنيران في الميادين العامة، كما حصل ذلك في الصومال، وحصل ذلك في مصر، وحصل في عدن أيام الشيوعية، وحصل في الشام، وحصل في بلادٍ كثيرة، وشوهت صور العلماء في وسائل الإعلام، وعرضوا على أنهم دراويش، ومتخلفون وعلى أنهم رجعيون، وعلى أن هم الواحد منهم أن يجمع عدداً من الزوجات، وعلى أنهم أصحاب عقول عتيقة، وقتل وشرد منهم من شرد وقتل، وكانت الشعوب خلال ذلك كله لاهية تبحث عن لقمة العيش، وتبحث عن الوظيفة، وتقطعت النداءات دون جدوى، وكان الحال حينئذٍ كما قيل: لقد أسمعتَ لو ناديتْ حياً ولكنْ لا حياةَ لمن تنادي ولو ناراً نفختَ بها أضاءت ولكن أنتَ تنفخُ في رمادِ فالتقاء الأمة بعلمائها، واجتماعها معهم، والوئام والانسجام بين هؤلاء وأولئك؛ هو وقاية للعلماء والدعاة والمخلصين والمجددين والمصلحين من أن تمتد إليهم يد الأذى أو يد التشويه، وهو -أيضاً- وقاية للأمة ذاتها من الانحراف، في عقيدتها أو في سلوكها أو في عبادتها، وذلك لوجود الهداة الدعاة، الذين يبصرونها بدين الله تعالى، ويدعونها إليه، ويحذرونها من سبل الضلال، ولن تجد الأمة قط أنصح لها من أهل الدعوة والعلم، لا في دينها ولا في دنياها، إذاً هم وقاية للأمة في دينها من الضياع والانحلال والفساد، وهم وقاية للأمة في دنياها -أيضاً- من تسلط المتسلطين، فإن العلماء والدعاة والمخلصين هم المدافعون عن حقوق الأمة , وهم المحامون عن مصالحها، دينية أ, دنيوية، وهكذا كانوا عبر التاريخ ولا زالوا إلى يوم الناس هذا. لقد جرب العدو -أيها الأحبة- وأدرك أن الشعوب قابلة لأن تتحرك وتثور إذا مست عقيدتها مساً مباشراً. إن إحراق المصحف أو هدم المسجد -مثلاً- أو شتم الرسول عليه الصلاة والسلام، أو سب الله تعالى من قبل بعض الكافرين، والمنافقين، إن هذا يثير المشاعر، ويحرك حتى أكثر الناس بعداً عن الدين، حتى المشاعر الخامدة تتحرك. وما أخبار المسجد البابلي إلا شاهد عيان على ذلك، كيف تحركت الأمة من أقصاها إلى أقصاها، حيث مس مسجدٌ مساً مباشراً وهدم بصورة صريحة، وقد يسبب مثل هذا الاعتداء على المسجد أو المصحف، أو على الرسول عليه الصلاة والسلام، أو على العالم الرباني، قد يسبب طوفاناً من الغضب يجرف في سيله كل خطط الأعداء. ولهذا فلا بأس من قدر من العناية بالمصحف، وقراءته في الإذاعة، حتى في إذاعة إسرائيل، وإذاعة لندن، وصوت أمريكا، يفتتحون بالقرآن الكريم، ولا بأس أيضاً من تحلية المصحف بالذهب، ولا بأس أيضاً -عند الضرورة- من إنشاء معاهد تخصص للقرآن الكريم، شريطة أن تقتصر على مجرد اللفظ، وإتقان القراءة والتجويد، دون التربية والبناء، ودون الدعوة للعمل بالقرآن، بل حتى التجويد ينبغي أن يكتفى منه بالإدغام والإخفاء ويتجنب الإظهار، كما قال الشاعر: وإخفاءٌ وإدغام وويل للذي أظهر أما تفسير القرآن والدعوة إليه، فضلاً عن المناداة بتحكيمه والعمل بشرائعه؛ فهي جريمة عندهم، ربما يصل عقابها إلى القتل أو ما يسمونه بالإعدام، لأن الذي ينادي بذلك خارج عن القانون، ويريد تحطيم مكتسبات الوطن، ويريد العودة إلى عصور التخلف والرجعية، وهو مرتبط بالقوى الأجنبية العميلة، إلى غير ذلك. ولا بأس -أيضاً- من تشييد المساجد وتزويقها وتفخيمها، وصرف الأموال لذلك، والإعلان السافر المتكرر عن بناء المسجد على نفقة فلان، وتوسعته على نفقة علان، وترميمه على نفقة فلانة، لكن لا مانع من أن يبنى جوار المسجد كنيسة صغيرة، أو معبد لـ بوذا، أو حتى مرقص للترفيه والتسلية، كما رأيناه في عدد كبير من بلاد الإسلام. أما المتردد على هذا المسجد ليصلي فيه، فإنه بمجرد أن يصلي الصلوات الخمس يصنف في قائمة المتطرفين، ويعتبر متزمتاً، وتلاحقه أجهزة الأمن وتكتب عنه التقارير، أما إذا أقام درساً في المسجد أو ألقى كلمة، أو التقى بزميل أو زميلين أو قريب أو صديق؛ فهو حينئذٍ رئيس تنظيم سري خطير، أو يعمل تجمعات محظورة، وكم هدمت من مساجد وعطلت عن العبادة الحقيقية دون أن ينكر الناس ذلك. إذاً: الناس يغضبون إذا هدم المسجد علانية، أو أحرق المصحف، لكن إذا عطل عن غرضه وهدفه، وسبب وجوده، فإن الناس ربما يغفلون ولا يتحركون، خاصة إذا أُحكم الكيد ونظم المكر، وأيضاً لا مانع من تعظيم النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم التعرض له أو المساس بشخصه، وأن يوجد قانون في بعض الدول يحارب ويعاقب من يفعل ذلك، لكن الويل كل الويل لمن يعمل بسنة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن هذا من أكبر البراهين على أنه إرهابي، وعلى أنه يعاني من الكبت الجنسي، وعلى أنه -على أقل تقدير- يستغل الدين لأغراض شخصية، وهو يكفر الدين، والدين من هذا الإنسان براء. وخلاصة ذلك أن هناك طريقة واضحة اليوم، وهي تهدئة المشاعر بالمحافظة الظاهرية على أماكن العبادة، والحفاظ الظاهر على أشخاص الملة، أنبياء كانوا أو علماء أو دعاة، وبالمقابل يكون العمل الجاد للحيلولة بين الأمة وبين قرآنها، وبينها وبين مسجدها، وبينها وبين عالمها بشتى الوسائل، ومن هذه الوسائل المتعلقة بالأمة الموجهة لها: الجزء: 38 ¦ الصفحة: 19 أولاً: تجنيد الأجهزة الإعلامية لصياغة وذلك لصياغة الأمة صياغة علمانية، من خلال البرنامج والمسلسل والأغنية والتعليق الإذاعي والحوار والتغطية الإخبارية؛ بحيث يساهم الإعلام في صياغة الأمة، وتقديم نمط كامل للحياة العلمانية، هو بديل عن دين الله تعالى الذي يحكم الحياة كلها. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 20 ثانياً: تجنيد الأجهزة التعليمية على كافة المستويات وذلك بتخريج الطلاب والطالبات، الذين لا يشعرون بالاعتزاز بدينهم أو تاريخ أمتهم، بل تربوا على أن أهم شيء في الحياة هو تحصيل الشهادة لضمان الوظيفة، أي: البحث عن لقمة العيش، ولو أراق الإنسان في سبيلها ماء وجهه، ولو ضحى من أجلها، وملأ الرعب والخوف قلبه، ولو سكت عن كلمة الحق ولو داهن وجامل ونافق، وتربية الطلاب على أن الولاء الوطني الأجوف للزعيم أو الحزب أو الطائفة أو القبيلة؛ هو الولاء الحقيقي. ولذلك كان السعي إلى تجفيف منابع التدين، وتطبيع العلاقات بين الأديان -كما يسمونها- الإسلام مع اليهودية ومع النصرانية، وبالتالي تغيير المناهج الدراسية، خاصة مناهج الدين، ومناهج التاريخ، ولم يسلم هذا التغيير حتى في هذه البلاد، التي تعتبر آخر المعاقل التي تتمنع على أعداء الإسلام وخصومه. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 21 ثالثاً: سن القوانين الاجتماعية العلمانية وهي التي تبيح العلاقات المحرمة بين الجنسين، بل وتشجع ذلك باسم الحرية، وباسم ممارسة الحياة الاجتماعية السليمة من العقد، وفي معظم بلاد العالم الإسلامي تسن القوانين التي تحمي المجرمين باسم الحرية، ولكن هذه القوانين نفسها التي تتيح للإنسان إقامة علاقاتٍ مع امرأةٍ أجنبية؛ لا تسمح للإنسان أن يتزوج امرأةً أخرى على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 22 رابعاً: إغراق المجتمعات بالمؤسسات والمدارس والنوادي سواءً النوادي الرياضية أو الترفيهية أو الاجتماعية، شريطة أن يكون هدف هذه النوادي تربية المجتمع العلماني البعيد عن قيود الدين. إن مثل هذه الأساليب السابقة وغيرها، تولد مجتمعاً لا مكان للدين فيه، إلا أنه ترفع فيه المنارات، ويسمع فيه الأذان، وربما كان من الممكن أن يتم عقد النكاح فيه على الطريقة الشرعية إذا رغب الطرفان، وكذلك من الجائز أن يتم دفن الموتى فيه على الطريقة الإسلامية، أما ما سوى ذلك فلا، ونحن نجد نماذج لمثل هذه المجتمعات التي عمل العدو على مسخها، في تركيا اليوم وفي إندونسيا، وهما أوضح نموذج لذلك، ومثله ما عملته اليهودية في دولة إسرائيل مع المسلمين في فلسطين؛ حيث فرضت عليهم العلمانية في القوانين الاجتماعية، وفي المؤسسات والمسلسلات والتعليم وفي سوى ذلك. حتى أنه في بعض هذه الدول تكون نسبة المسلمين (90%) ، ومع ذلك تكون الإجازة يوم الأحد ولا أحد يعترض على ذلك، لأنه أصبح قانوناً ملزماً، والجميع تربوا على النظرة العلمانية اللادينية، أما الداعية فإنه يعاني من هذه المجتمعات الأمرين، فهو -كما يقال- مثل صياح القبور. وهذا الوضع إذا وصلت المجتمعات إلى هذا المستوى؛ فإن هذا يوحش قلوب المتدينين من أبناء المجتمع، ويجعل ظنهم يسوء بالناس من حولهم، بل وربما أودى بكثير من الناس إلى ممارسة كثير من المعاصي العظام، التي تشمئز منها الأبدان وتقشعر منها الجلود، بل وربما وصل الحال إلى ارتكاب الكفر البواح عياناً وعلانية، بالقول أو بالفعل أو بهما معاً، وبذلك يضعون حاجزاً بين الدعاة وبين هذا المجتمع، المجتمع المنحرف في أخلاقياته وسلوكه، أما دعاة الإسلام فيشعرون أنهم في وادٍ آخر، وربما أصبحوا ينظرون إلى هذا المجتمع نظرةً سيئة، ويعتبرونه موالياً للأعداء ومناصراً للكافرين ضد الإسلام وضد الدعوة والخير؛ بسبب هذا الشر المستطير المنتشر فيه، ومع ذلك؛ فإن هذا الحاجز الذي أقاموه في المجتمعات العلمانية، يمكن تخطيه بالدعوة وبالصبر والمصابرة، وبطول النفس، وبالتوكل على الله تبارك وتعالى. ولهذا وجدنا أن حزباً كحزب الرفاه، الذي كان يسمى حزب السلام في تركيا، وهو حزب إسلامي؛ وجدناه يحصل هذا العام على أكثر من (25%) من الأصوات، ويتجاوز بذلك جميع الأحزاب العلمانية، فيسقط في يد الأحزاب الأخرى العلمانية كحزب الأمة وحزب الصراط المستقيم، وتندهش وتتعجب، وتقيم الدراسات للنظر في حزبها وبرامجه وقياداته وضرورة التغيير وغير ذلك، والواقع أن هذا هو تجاوب الأمة مع صوت الحق متى خلي بينها وبينه، حتى أن بعض العلمانيين في تركيا يقولون: نحن ندرك أن الخلافة قد تقوم اليوم أو غداً في تركيا، بل ربما في العالم الإسلامي كله، لكن نحن لا نريد أن نراها، يقول الله: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43] {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] . لو قالوا: إن كان هذا هو الحق فنسأل الله أن تأتي الخلافة اليوم قبل غد، وأن نستمتع نحن بها قبل أولادنا، لكن أنى لهم أن يقولوا، إنما قالوا كسابقيهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] . أيضاً نحن نجد اليوم في فلسطين، على رغم الجهود اليهودية المكثفة؛ لتغيير عقول وقلوب وأخلاق وعادات وتقاليد الشعب الفلسطيني، من خلال الإعلام المكثف، ومن خلال التعليم والمؤسسات والقوانين، ومن خلال الأساليب الجهنمية، ومع ذلك تجد أن الأمة قد شمرت عن ساعد الجد، وصدقت وعادت إلى دينها، وأنتم تسمعون أخبار منظمة حماس، وهي منظمة إسلامية داخل فلسطين، وهناك نشاط إسلامي أوسع وأكبر داخل الفلسطينيين، سواءً في الأرض المحتلة أو في غيرها، وقد رأيت الذين أبعدوا وعددهم أكثر من أربعمائة، أبعدوا عن ما يسمى بدولة إسرائيل، وهم اليوم بين إسرائيل وبين لبنان لا أحد يقبلهم، رأيتهم وهم جميعاً يشيرون بأصابعهم بعلامة التوحيد، ورأيت كثيراً منهم وعليهم شعار من شعار الالتزام بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو إعفاء اللحى، وهم في الغالب من الأشخاص المتدينين، بل كلهم من المتدينين. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 23 وسائل العزل بين الأمة وعلمائها إن هذا يكشف على أنه مهما خطط العدو لجعل المجتمعات الإسلامية مجتمعات علمانية؛ حتى يرفضها الدعاة ويبتعدوت عنها، ويحاربوها ويسعوا إلى تدميرها؛ إلا أنه من الممكن أن يتغلب الدعاة، وأن تتغلب الأمة على هذه الحواجز، ولذلك يسعى العدو إلى لون آخر من الحواجز، وهي الحواجز التي يقيمها في الأمة ضد الدعاة، وهاهنا يأتي الدور الكبير للحيلولة بين الأمة وبين أهل الدعوة والإسلام بكافة الوسائل، ومن هذه الوسائل ما يلي: الجزء: 38 ¦ الصفحة: 24 الاتهام بخدمة أهداف خاصة الأسلوب الرابع: هو الاتهام بخدمة أهداف خاصة. كأن يتهم الدعاة بأنهم لا يسعون إلى مصلحة الأمة ولا يهمهم أمر الدين، وإنما هم يسعون إلى تحقيق أهداف جماعة بعينها، وما ذلك إلا للحيلولة بينهم وبين بقية المسلمين. إنني أقول لكم أيها الإخوة: إن مجرد الانتماء والانتساب للجماعات التي تكون على الكتاب والسنة، وعلى طريقة السلف الصالح؛ إن مجرد الانتساب ليس حراماً بذاته، وقد قرأت لكم في المجلس السابق فتوى سماحة الوالد عبد العزيز بن باز بحروفها في هذا الجانب، ومن ينتسب إلى جماعة من هذه الجماعات، ليس عليه حرج أن يعلن ذلك صراحة، لأن المسألة لا تعدو أن تكون تعاوناً على البر والتقوى، وليس الانتساب إلى هذه الجماعات عيباً ولا عاراً، ولكن مجرد إلصاق هذه التهمة بفلان أو علان دون أن يقول هو بذلك ولا ادعاه ولا أعلنه؛ إن هذا من أظلم الظلم، وهو من الكذب الذي يجب ألا يلقه المسلمون بألسنتهم. إن هذا التصنيف إلى جماعات وطوائف الذي تسعى إليه أجهزة الأمن في بلادٍ كثيرة، وقد أصبح يتسرب إلى منطقة الخليج العربي؛ يجب أن يحارب علانية، والانتساب إلى الجماعات -كما قلت- متى كان مجرد انتساب، لا يشوبه تعصب ولا بدعة ولا هوى؛ ليس عيباً ولا عاراً، ولكننا مع ذلك -معاشر دعاة الإسلام- نرى أن الأفق الأرحب أفق الأمة أوسع وأنظف وأحسن، وبناءً عليه؛ فإن دعاة الإسلام ليسو دعاة جماعة بعينها، ولا يدعون الناس إلى طائفة بذاتها، وإنما هم دعاة إلى دين الإسلام، ولا يقبلون هذه الأطر الضيقة؛ أن يحجموا بها شخصياتهم أو عقولهم أو آراءهم أو نفوسهم، وإن كانوا لا يحاربون هذه الجماعات، ولا يناصبونها العداء، بل هم يصادقونها ويوالونها على البر والتقوى والطاعة، ويتعاونون معها بالمعروف، ويناصحونها إذا رأوا منها ما يوجب النصيحة، وهذا هو الذي أعلمه من هؤلاء الدعاة. ومن ذلك أيضاً: العمل على تكثير الجماعات الإسلامية والطوائف، وتشقيقها وتوسيعها، وضرب بعضها ببعض، حتى يسلم العدو، ويقف متفرجاً؛ على حين يتشابك هؤلاء كما يتشابك الصبيان فيما بينهم. إن الغريب قد لا يستطيع ما يستطيعه القريب، فالقريب أبلغ في المحاربة: احذر عدوك مرة واحذر صديقك ألف مرة فلربما انقلب الصديق فصار أدرى بالمضرة ولذلك يجب على دعاة الإسلام ورجاله وحملته؛ أن يكونوا فوق مستوى المسائل الشخصية، والمعارك القريبة، وأن لا يقبلوا أن تثار معركة إلا مع عدو الإسلام، أما المعركة مع إخوانهم ومع أحبابهم وأصحابهم؛ فيجب أن لا يستجيبوا لها، وأن يكونوا فوق مستوى هذه المعارك التي هي للعدو لا للصديق. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 25 الحصار الإعلامي الأسلوب الخامس: هو أسلوب الحصار الإعلامي. ففي الوقت الذي يُجند الإعلام فيه لضرب الدعاة، والنيل منهم، وسبهم والتشهير بهم، فإن دعاة الإسلام لا يمكنون من الدفاع عن أنفسهم، بل إنه يستكثر عليهم زاويته. بل إنني أقول بصراحة: حتى مجرد ذكر اسم بعض العلماء وبعض الدعاة، ممنوع في الإعلام في أكثر من دولة، مجرد ذكر اسمه، اللهم إلا أن يذكر اسمه لسبه وعيبه وشتمه وتنقصه واتهامه؛ فهذا لا بأس به، وكذلك الحال في الكتب، إنني أضرب لك مثلاً: كتابان يتعلقان بشخص: أحدهما فسح له؛ لأنه يَنال منه ويَرد عليه، أما الآخر فإنه لم يفسح له، على رغم أنه كتاب لا يمت إلى الواقع بصلة، وليس فيه إلا قال الله قال رسوله، وقال أهل العلم، وفيه تقريض لأحد كبار الأئمة والعلماء في منطقة الخليج، وبالذات في هذه البلاد في المملكة وفيه هذه الأمور، ومع ذلك فإن هذا الكتاب لم يفسحَ له؛ لمجرد وجود ذلك الاسم على غلافه. ومثله أيضاً: حرب الشريط الإسلامي، والحيلولة بينه وبين الناس؛ أن يسمعوه أو يشتروه أو يتبادلوه، وما زالت القضية حتى اليوم حيلولة بين الناس وبين عددٍ من طلبة العلم والدعاة، لا يستمعون إليهم، ولا تصل إليهم دروسهم ولا محاضراتهم ولا أشرطتهم، على رغم أننا نجد أن هناك ترويجاً في الأشرطة الغنائية -حتى في الصحف- وإعلاناً عنها، وجوائز لمن يشتريها، ونجد هناك إغراءً للمغنين والمغنيات المحليين بالانتشار، ونجد هناك ترويجاً للمسلسلات المحلية، وإظهاراً للفتيات السعوديات على شاشة التلفاز، إلى غير ذلك من الوسائل، هذا نموذج محلي، وهناك نماذج أخرى في جميع البلاد -ولا أستثني- تنصب في الحصار الإعلامي على صوت الحق، وصوت الوضوح والصراحة، ومحاولة الترويج والتشهير للأصوات الأخرى المغرضة. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 26 اتهام العلماء بطلب الدنيا بالدين أولاً: اتهام الدعاة بأنهم يريدون مقاصد دنيوية، مثل السعي لقلب نظام الحكم، وهي شبهة قديمة، ومع ذلك ما فتئوا من ترديدها وما ملوا منها، ومن الطريف المضحك: أن أحدهم قيل له: أنت تسعى إلى قلب نظام الحكم. قال: لا -هذا في مصر- هو أصلاً نظام الحكم مقلوب، ونحن نسعى إلى تعديله. والطريف أن الذين يطلقون هذه الكلمة: (السعي إلى قلب نظام الحكم) هم أنفسهم قلبوا نظام الحكم، فلننظر كيف جاء الرئيس التونسي مثلاً، وكيف جاء الرئيس الجزائري، وكيف جاء الرئيس السوري وغيرهم، كيف جاءوا إلى الحكم، هل جاءوا برغبة شعوبهم واختيارهم؛ أم جاءوا على صهوات الدبابات والمدافع، لقد أطلقتها أجهزة الأمن على شباب دون العشرين وهم لا يملكون إلا مقصات الأظافر يقلبون بها نظام الحكم!!! وإن من السهل توزيع الخبر على وكالات الأنباء العالمية لتطير به في كل مكان، وتتحدث عنه في كل مناسبة؛ حتى لا يبقى أدنى ريب أو شك حتى عند المتحمسين للدين، وحتى عند الغيورين، والعقلاء، والواعين -أحياناً- لا يبقى عندهم شكٌ أن الخبر صحيح، وكيف لا يكون الخبر صحيحاً، وقد تصدر الصحف كلها، ونشر بالخط العريض، وقد اعترف المتهمون بالجريمة وقد وقد، وهكذا تتنطلي الحيلة عليهم. يا أعدلَ الناس إلَّا في معاملتي فيك الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحكمُ أخي: عليك المسارعة إلى ما علمك الله: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] فنحن وسائر دعاة الإسلام، بل وكل مسلم ولو لم يكن داعية معروفاً أو مرموقاً، واجب عليه أن يسعى إلى العمل بشريعة الله سبحانه وتعالى، وتحكيمها في عباده، سواء في دماء الناس أو أعرضهم أو أموالهم {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] والفاسقون الظالمون، وهذا دين الله وقوله، شاء من شاء وأبى من أبى، رضي كم رضي وسخط من سخط؛ لكن اتهام الناس بغير بينة، وانتزاع الإقرارات تحت وطأة التعذيب والتهديد والعسف والإرهاب؛ أمرٌ غير مقبول، ويجب أن يرفضه الجميع، ويرفضوا كل ما نتج عنه. لقد سمعت أحد المتهمين الذين أعدموا في قضية سابقة حدثت في مصر، وهو يقول للقضاة: إنني أعرف أنني مقتول، ويشرفني جداً أن ألحق بقافلة الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل، وإن أجهزة الأمن قد قالت لي قبل أن أحضر هاهنا إلى القاعة أن إذا غيرت شيئاً في اعترافاتي أو إقراراتي التي أخذت مني بالقوة، إذا غيرت شيئاً منها أمام المحكمة؛ فسوف يقتلونني بطريقتهم الخاصة. ثم قال: لأن أقتل اليوم أحب إلي من أعيش تطاردني أشباح الاغتيال والقتل في كل لحظة. أيها الإخوة: إن من الأمور العادية أن يتم تزوير اعترافات وشهادات وإدلاءات ونشرها بين الناس، وكما قيل: لا يلام الذئب في عدوانهِ إن يك الراعي عدو الغنمِ ومن المقاصد الدنيوية التي يتهمون الدعاة بها أيضاً: اتهامهم بأخذ الأموال واختلاسها، والتشهير بذلك وترويجه بأجهزة الإعلام، مع عدم إعطائهم فرصة حتى للدفاع عن أنفسهم ولو في نطاق محدود. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 27 اتهامهم بالعمالة لدول أجنبية وهذا يعتبر طعناً في الولاء والوطنية، والعجيب أن تلك الجهات التي تتهمهم بالولاء لدولٍ أجنبية؛ هي نفسها ذات ارتباطات صريحة بدولٍ معادية، فهي على صلة بإسرائيل وتعاونٍ وطيد معها، ولها علاقات خفية ومعلنة مع أمريكا، ومع مخابراتها، وتصل إلى حد الولاء والتبعية المطلقة لها، بل وما نشر من أرواق المخابرات السوفيتية والأمريكية؛ يكشف تورط شخصيات كبيرة وشهيرة في مثل ذلك، فالأمر كما يقول المثل: رمتني بدائها وانسلت. واليوم أصبحت إيران والسودان محط الرحال، فكل من دعا إلى الله، أو طالب بالحكم بالشريعة، أو علل أو تعلل، أو أمر بمعروف أو نهى عن منكر، فإن أسهل ما يمكن أن يقال في شأنه: إنه مرتبطٌ بإيران ومرتبطٌ بالسودان، وإيران والسودان منطلق للتخريب والإرهاب والمعسكرات الإرهابية، ويجب أن ندرك أنه كما قيل: من فمك ندينك. كنت أتعجب كيف تنشر جريدة الحياة كثيراً من الأخبار المزورة الكاذبة! فإذا بها تصرح قبل أربعة أيام في ردٍ على أحد المراسلين أو أحد القراء، تقول له: إن معظم الأخبار السياسية كاذبة، سواءً نشرتها صحيفة الحياة أو غيرها من الصحف، ولو لم نقتصر إلا على الأخبار الصحيحة لأصدرنا لك ورقاً أبيض أو رسمنا فيها صوراً للقطط والكلاب. إذاً يجب أن ندرك أن مثل هذه الدعايات والأقوال المغرضة؛ لا تعتمد على حقٍ ولا على صدق، وقد عجبت أكثر حينما قرأت في خضراء الدمن -أيضاً- خبراً يقول: إن الأردن كانت قد اتهمت اثنين من النواب بتهمٍ، كالإرهاب وحيازة الأسلحة، وغيرها من التهم التي يعتقدون أنها تؤثر في مشاعر الجماهير وتهز قلوبهم وعقولهم، ونشروا وقالوا: إن هناك شاهداً اعترف بأنه هو الوسيط الذي نقل الأموال من إيران إلى هذين النائبين، وإذا بهذا الشاهد نفسه يرسل إلى جريدة خضراء الدمن رسالة يقول فيها: إنني كاذبٌ في هذا الإدلاء الذي قلته، وهذه الشهادة التي قدمتها، وإنما قمت بذلك تحت وطأة الترغيب والترهيب، وقد نشر هذا في قصاصة في الجريدة، وهي موجودة عندي، إذاً لا ثقة بأجهزة الأمن، ولا ثقة بأجهزة القضاء ولا أجهزة الإعلام؛ إذا كانت تتحدث عمن تسميهم بالإسلاميين أو الأصوليين أو المتطرفين أو غير ذلك من العبارات، إذا تكلمت عن رجال الإسلام فلا ثقة بها مطلقاً، والثقة بها في غير ذلك منزوعة. إن مثل هذه الأشياء قد توجد عند الناس، وقد تصور لهم أنكم أنتم أيها الناس بسطاء ومغفلون، وأنكم لا تعرفون بواطن الأمور، فتحملون الأمور على ظواهرها، وتصور أن هؤلاء دعاة، وأنهم مخلصون، وأن قصدهم الخير، وقصدهم الدعوة، أما الحقيقة الخفية الباطنة فهي أن هؤلاء مرتبطون بإيران، أو مرتبطون بالسودان أو مرتبطون بجهات أخرى، والخفايا فيها فضائح في هؤلاء المتسترين بالدين، إنهم يخادعون الجماهير بمثل هذا الكلام حتى يقول الإنسان والله يمكن أنني مسكين مخدوع آخذ الأمور بالظاهر، والأمور الخفية لا أعرف عنها شيئاً، على كل حال هما خصمان، أحدهما يملك أجهزة الإسلام ويسلطها على عدوه، ويوجهها كيف يريد، والآخر لا يملك حتى مجرد التصريح لجريدة، وربما يلوذ بالصمت حتى في بعض مجالسه الخاصة وما كل ما يعلم يقال. وفي مجلة مهاجرة أيضاً الوطن العربي قدمت تحقيق العلاقات الإسلامية بأمريكا فما هي علاقة الجماعات الإسلامية بأمريكا؟ قالت: عمر عبد الرحمن وهو زعيم الجماعة الإسلامية أو تنظيم الجهاد في مصر، أنه مقيم في أمريكا، وقالت: إن حسن الترابي وهو زعيم الجبهة الإسلامية في السودان إنه ذهب وزار أمريكا وكندا، إذاً مجرد زيارة لأمريكا، أو مجرد إقامة فيها تعتبر عند هؤلاء علاقة بالمخابرات الأمريكية وتعاون مع أمريكا. أما الذين يصدرون صحفاً بكاملها في بلاد الغرب، والذين يقيمون علاقات بأكملها مع أنظمة، ويقيمون بعلاقات مع أجهزة مخابرات عربية وغربية؛ فهؤلاء أطهر من السحاب في سمائها، ويجب عليك أن تؤمن بالمتناقضات في هذا الزمن. ومثل ذلك: الاتهام بالارتباط الأجنبي، ولو لم يكن بالحكومات، مثل الارتباط بأحزاب أو جماعات أو قوى خفية أو قوى ظاهرة، فإن مجرد الدعوى لا تصعب على أحد، ولكن المطلوب هو الوثائق والأدلة، كما قال الله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] . إن من الممكن أن يتهم المروجون لمثل هذه الأقاويل وهذه الأكاذيب، وهذه الإشاعات الباطلة، من الممكن أن يتهموا بأنهم عملاء لـ (C. I. الجواب ) مثلاً، أو للموساد، أو حتى لإحدى القوى العظمى، فما هو المانع من ذلك؟ وما هو الدليل الذين يدفعون به عن أنفسهم؟ إن الله تعالى قال: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] . وأيضاً لا يكفي أن تأتي لي ببرهان من إنسان مكبل في غياهب السجون، يعاني من ضغوطٍ نفسية وعائلية واقتصادية، وتنتزع منه بالقوة إقراراً ثم توزعه على الناس، أو تشهر به في وجهه، دعه حراً طليقاً وعلى الملأ وفي الهواء الطلق، تقف أنت وإياه على قدم المساواة دون أن تتميز أنت بمزية، ليس لك مزية إعلامية، ولا مكانة خاصة، ولا تسلط خاص، ولا وسائل ولا إغراءات، وحينئذٍ يكون الكلام منكما مقبولاً. أما أن يكون القاضي يملك الوسائل كلها، ويرمي الخصم بكل نقيصة، ولا يسمح له بالدفاع عن نفسه، فإن هذا أكبر دليل على أن كل المسألة لا تعدو أن تكون كذباً في كذب، ولعباً على السذج والمغفلين، ويجب أن لا نكون سذجاً ولا مغفلين. إن مسألة الاتهام بالانتماء اليوم أو الانتساب، أو الولاء لدولة أو لجماعة؛ أصبح أمراً رائجاً تروجه أجهزة الأمن في بلاد عدة للتأثير على الناس، وتشويه صور الدعاة، والحط من قدرهم أو التشكيك في مقاصدهم، وأن دوافعهم ليست غيرة للدين ولا للحرمات، ولا غضباً لله ورسوله، وإنما بدوافع خارجية وانتماءات أجنبية، وما أشبه ذلك، فعلى المسلمين أن يكونوا على مستوى من الوعي بحيث يحبطوا هذه التهم. وقل لي بالله عليك: ما هو الشيء الذي تريده من الداعية حتى يثبت براءته؟ هل تريد منه أن يقول لك: هذا كذب؟ إنه يقول لك بملء فمه: إن هذا كله كذب في كذب في كذب. لكن ماذا تريد أكثر من ذلك؟ إنسان اتهم بتهمة وليس عليها دليل، هو لا يملك إلا أن يقول لك: إن هذا كذب، ولا يملك هو الدليل، وإذا أردت أن تطلب منه يميناً فخذ يمينه، أما أكثر من هذا فإن الذي يطالب بالدليل هو ذلك الذي يلقي بتلك التهم على دعاة الإسلام، وهي على كل حال كما قيل: شنشة أعرفها من أخزم. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 28 الاتهام بالتطرف والإرهاب أما الأسلوب الثالث فهو: الاتهام بالتطرف والإرهاب، والسعي إلى تحطيم المكتسبات الوطنية والسياسية كما يقال، وضرب اقتصاد البلاد، والسياحة، والمكاسب السياسية، وضرب الاستقلال الوطني. إن جميع الصحف المصرية اليوم إلا ما ندر، وجميع الصحف التونسية، ومعظم الصحف الكويتية، تضرب على هذا الوتر، وتصور دعاة الإسلام وشباب الجماعات الإسلامية، بل وشباب الدعوة -ولو لم يكونوا من الجماعات- على أنهم متوحشون، وليست لديهم قدرة على الحوار، وعلى أنهم متعصبون، وأصحاب انفعالات وهياج عاطفي وعصبي، وأنهم لا يستطيعون الحوار مع الأطراف الأخرى، إلا من منطلق أحادي، أي: أنهم يؤمنون بأن آراءهم حقٌ لا يقبل الجدل، وأن آراء غيرهم باطل لا يستحق النظر أو التأمل، وأن خصومهم كفار أو فساق، ويكفرون الناس، وأنهم يمارسون أساليب العنف، إلى غير ذلك. إن مثل هذه الأساليب لا تعبر حقيقة عن دعاة الإسلام، فإن دعاة الإسلام يؤمنون بالحوار، وكيف لا يؤمنون به والله تعالى يقول: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] . وكيف لا يؤمنون به والله تعالى يقول: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا منهم} [العنكبوت:46] . لكن الذي لا يؤمن بالحوار هو الذي يمارس أسلوب الإسقاط، فهل حاوروا هم شباب الإسلام، ورجال الدعوة؟ هل حاوروهم بالحجة والبرهان، أم حاوروهم بالسب والشتم والتجريح والاتهام، وممارسة أسلوب الإسقاط على هؤلاء والتهرب؟ فمثلاً تجد منهم من يَتهم ثم يَنفي، يَرمي ثم يَهرب، وأقرب مثال: ذلك الكاتب في جريدة الندوة، لقد كتب مقالاً ينادي به ويطالب بضرب المتطرفين والقضاء عليهم، فلما رد عليهم صاحب الفضيلة الشيخ سفر الحوالي، كتب هو في مقال بعدها يقول: إنني لم أكن أقصد أهل هذا البلد، لكنني أقصد المتطرفين في مصر، وفي تونس، والمتطرفين في بلاد أخرى في الجزائر وغيرها، ثم إذا به بعد ذلك بعددين يقول بالحرف الواحد: سفر الحوالي وجماعته من المتطرفين، إذاً لقد أبان عما يخبؤه قلبه، وكشف عن تناقضه، وحدد حقيقة ما يدعو إليه، وهو أنه يدعو -في الوقت الذي ينادي به بالوحدة الوطنية هو وأمثاله- إلا أنهم يدعون إلى ضرب الإسلام والصحوة، وضرب المسلمين والدعاة، وهو وغيره يعرفون أن ضرب الإسلام في هذه البلاد يعني القضاء على كل خيرٍ فيها، فإن هذه البلاد لا وجود لها إلا بالإسلام، وما عرفت استقراراً -في يوم من الأيام- ولا أمناً في غير شريعة الله عز وجل. إن هؤلاء لا يترددون موغلون في الكذب والتزوير، والاستهانة بعقلية الجماهير والقراء، فهم يفترضون أن القراء مغفلون، وسذج، وسريعوا النسيان، فلا مانع أن يناقض هؤلاء اليوم ما قالوه بالأمس، ولا مانع أن يستشهدوا بالكلام لنقيض ما هو له، ولا مانع أن يضربوا الأمور بعضها ببعض، ومن أعجب العجب أن الكاتب السيئ الذكر إياه، ذكر بيان سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز في الرد على المتطرفين، مع أن بيان الشيخ -حفظه الله تعالى- إنما كان للدفاع عن دعاة الإسلام في هذا البلد، سواء الشيخ سفر الحوالي أو غيره. ولا مانع عند هؤلاء من اتهام الأطراف الأخرى بأنها تعيش حالة من الهستيريا العقلية، وهي الضلالة أو الجنون كما قيل بالنسبة للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو أنهم يعانون أزمات نفسية، فهم يلقون هذا على دعاة الإسلام، أو أنهم يعانون من ظروف اقتصادية، ولذلك أحد الكاركاتيرات التي اطلعت عليها اليوم في بعض الصحف المصرية، أن زعيم جماعة -ملتحٍ وقصير الثوب وعليه عمامة- يعطي واحداً صرة من الذهب ويقول له: خذ سمكة في يدك ولا عشر في البحر. أي: بدلاً من أن تذهب تبحث عن وظيفة فلا تجد، تعال وكن متطرفاً، وأعف لحيتك وصلِّ في المسجد، وهذه الفلوس، أي: أنهم يغرون الناس بالمال، مع أننا نعرف أن هؤلاء مساكين ليس عندهم أموال، من الذي يعطيهم المال؟ إسرائيل تعطيهم، أو أمريكا، دول الخليج، أو غيرها؟! نحن نعرف أن العالم كله يحاربهم، والصحف كلها تسميهم المتطرفين والإرهابيين، ولا تسمح بصوت حقٍ يدافع عنهم، فهم غرباء في هذا الوقت وفي هذا الزمن، ومع ذلك يقول: سمكة في يدك ولا عشر في البحر. وكذلك قرأت في جريدة أخرى: أن المتدينات من الفنانات اللآتي اعتزلن الفن، وتبن إلى الله تعالى، والتزمن الحجاب الشرعي؛ أنهن أخذن مالاً من بعض الجهات مقابل الالتزام بالحجاب، أنتم لا تأخذون أموالاً، ولا تقبضون مقابل، وفرج فودة -مثلاً- الذي كان يكتب للدولة لم يقبض مالاً ولا مرتباً!! أما هؤلاء المساكين الذين لا يجد أحدهم لقمة العيش، ويترك من غداءه لعشائه ومن عشائه لغدائه، هؤلاء يقبضون من الشرق ومن الغرب. ولا مانع أن يوصف هؤلاء بأنهم يعانون من كبت جنسي، وقد قرأت اليوم في إحدى الكاريكاتيرات أيضاً أن أحد شباب الجماعات الإسلامية صوره في صورة ساخرة، يحاول أن يلحق ببنت، فلما أعرضت عنه وتركته قال لها: أنا أحبك لكن إذا تخليت عني فسوف أشيع في الحي أن الحب حرام! لاحظ كيف يصورون الأمور على غير وجهها! أما هم أصحاب الصحف، والإعلام والسلطة، وأصحاب النفوذ؛ فهم العقلاء، وهم الأسوياء المحترمون النظيفون النزيهون، ما سرقوا أقوات الشعب، ولا سرقوا المساعدات الخارجية، ولا اضطهدوا الناس، ولا أودعوهم في غياهب السجون، ولا تعاملوا مع المخابرات الأجنبية، ولا اتصلوا بالدول الخارجية، ولا وصلوا إلى الحكم بقوة الحديد والنار، ولا صادروا رغبة الشعب، ولا سخروا كل إمكانيات الدولة لتحقيق مآربهم ومطالبهم. إن الألفاظ والألقاب التي يطلقونها اليوم على دعاة الإسلام؛ إنه لا يطلقها إلا من سفه نفسه، أفهذه هي أهوات الحوار لديكم الذي تدعون إليه وتنادون به؟ إن الذي يصدر في صحفنا المحلية اليوم كما نوهت سابقاً بمثال جريدة الندوة، وأنوه الآن بمثال جريدة الجزيرة فيما كتبه حماد السالمي في أكثر من مرة، عن سب المتدينين وإلصاق تهم التطرف بهم، وأنهم ليس لهم نصيب لا من الدين ولا من العروبة!! إن هذا هو طليعة الغثاء الخارجي الذي بدأ يغزونا في الداخل، وأخشى أن يكون وراء الأكمة ما وراءها، فيجب أن يتحرك الغيورون على الدين هنا وفي كل مكان، ويجب أن يُسعى لوقف هؤلاء عند حدهم، وجعل هؤلاء المتكلمين عبرة لغيرهم. إنه إن مرت هذه الكلمات بسلام؛ فسوف نرى سيلاً من التهجم على المتدين في صحفنا، وإنا نعلم أن منكم سماعون لهم، وأنَّ المنافقين متواجدون في كل مجتمع وفي كل مؤسسة، في الإعلام وفي غيره، وهم إن أتيح لهم المجال؛ سوف يعبرون عن أحقادهم ومرض قلوبهم في النيل من المتدينين وسبهم، والنيل من الدين ذاته. إنه لا مانع أبداً من المطالبة بمحاكمة هؤلاء شرعاً، واللقاء معهم، ومناظرتهم ومراسلتهم، والرد عليهم، وإخراجهم في بيوتهم وفي مكاتبهم، واضطرارهم إلى أن يتوبوا إلى الله تعالى، علانية، إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا؛ ليرتدع بهم غيرهم ويتوقف من كان يضمر في نفسه شراً. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 29 مداخلة هاهنا مشاركة أرسلها لي أحد الإخوة؛ ولأنها مفيدة ونافعة أحببت أن أقرأها عليكم، وإن لم تكن ذات علاقة كبيرة بهذا الموضوع: يقول: في هذا الوقت الذي تشتد فيه ضراوة الكافرين ومن شايعهم من العملاء والمنافقين، ويقود هذا الزحف الأممي على أهل الإسلام دولة الصليب، يبقى جهد الدعاة قاصراً عن دفع هذا الظلم الذي لحق بالإسلام وأهله، وفي أحيانٍ كثيرة يبدو هذا الجهد محصوراً في عمل من الأعمال لا يتعداه الداعية، فيفرغ فيه جل وقته، ويبذل فيه غالب جهده، ألا يمكن أن تتغير تلك الصورة فيكون المسلم -إن صح التعبير- جهازاً متعدد الأغراض -وهذه من الكلمات التي ينبغي أن تنقل لأنها تعبير عن فكرة سليمة- فتكون له مشاركة في وجه من أوجه الخير، والتي ربما تكون في اليوم الواحد أمامه، فيضيف إلى جهده الأساسي الذي اختاره لنفسه جهداً آخر، وكلما سنحت له فرصة أضاف عملاً آخر يرضى الله تعالى به عنه، فيأمر بمعروف وينهى عن منكر، إما بقول أو كتاب، أو زيارة قريبٍ أو صلة رحم، أو دعوةٍ إلى الله ورسوله، أو يفرغ جزءاً من وقته مع زميله في العمل أو صديقه في الدراسة أو جاره؛ للحديث عن شئون المسلمين، وعن قضية حدثت لهم، أو ينشط لتوزيع شريط أو عن أمرٍ ألم بالمسلمين، أو يساهم في الحديث في المسجد بأي صورة، عن معنى آية من آيات القرآن الكريم يختارها، أو حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أو يواصل من يرجو فيه خيراً للإسلام والمسلمين، بل وأن يحمل منقطعاً أو يؤوي مسكيناً، ويبلغ رسالة الأنبياء والرسل بسهولة وبساطة ووضوح، وغير ذلك كثيرٌ كثير. فإذا عاد إلى منزله أو أوى إلى فراشه، دعا الله عز وجل للمسلمين في كل مكان، وأسأل الله تعالى أن يعز هذا الدين وأهله، وأن يخذل الكافرين والمنافقين، وأن يشتت شملهم، وأن يمزقهم كل ممزق، وأن يجعل الدائرة عليهم إنه سميع مجيب. وصلى على نبينا محمد وآله وصحبه. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 30 الأسئلة الجزء: 38 ¦ الصفحة: 31 تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى السؤال تكلمت في القاعدة الثانية عن اليهود والنصارى، وأنهم يجتمعون سوياً أمام المسلمين، ولكن الله تعالى يقول: {تحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] أي: يكونون مع بعض بصورة شكلية، وإذا اجتمعنا ضدهم فسوف نكون نحن المنتصرين؟ الجواب هذا مثل ما ذكرت لك في موضوع الكيد، كيدهم قوي ومكرهم تزول منه الجبال، ولكن إذا واجهوا المسلمين الصادقين ذهب كيدهم، كما قال الله تعالى: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] . أي: إذا جاء أولياء الرحمن ذهب كيد أولياء الشيطان وصار ضعيفا. أما إذا واجهو العلمانيين والقوميين والوطنيين؛ فإنهم حينئذٍ منتصرون عليهم. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 32 أهداف أمريكا في الخليج السؤال نحن أبناء المسلمين وخاصة العرب، الكثير منهم يبرروا ضعف مواقفهم أن الغرب لهم أهداف، وأين دليل حرب الخليج، حيث كان يقول الناس: إن أمريكا سوف تضع قاعدة عسكرية ولها أهداف، ولكنها خرجت مع انتهاء الحرب، نرجو التوضيح؟ الجواب في الواقع أن الأمر واضح جداً من خلال حرب الخليج وما كان خافياً بالأمس أصبح واضحاً اليوم، وأصبح الغرب لا يجدون غضاضة في أن يصرحوا به ويعلنوه، فمن أهم الأهداف التي سعوا إليها ضرب أي قوة تواجه إسرائيل. وهذا أصبح معلناً اليوم، حتى أن بعض العلمانيين في بلادنا صرحوا به، لقد ضربت قوة العراق وكان من أهداف ضربها تأمين سلامة إسرائيل، واليوم يقولون: إن إيران تهدد قوة إسرائيل، ولا بد من إيقاف الصادرات إلى إيران، وفرض حصارٍ عليها، ومثلها أي دولة أخرى، وكذلك ما يتعلق بليبيا، فإن من أهم المقاصد والأهداف: تأمين إسرائيل ومحاولة تدمير أي قوة تواجهها. كذلك من الأهداف حماية آبار النفط، وضمان وصول النفط إلى دول الغرب، وهذا لا شك تحقق لهم، ونحن لا نقول إن العراق لا يشكل خطراً، فالعراق خطر أيضاً، ولكن هناك أخطار أخرى، هناك إسرائيل خطر، وهناك خطر الإسلام الذي يخاف منه الغرب أن يكون مداً متنامياً في العالم الإسلامي كله. أيضاً: تدشين ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، القائم على القطب الأحادي، أي على أن الولايات المتحدة المتفردة بالسلطة فيه، كان هو أحد الأهداف المقصودة، وقالوا: إنه لا بد أن يكون الإعلان عن النظام الدولي الجديد وسط طبول الحرب الذي تفرع؛ بحيث يكون له هيبة وتأثير ووقع في نفوس الناس. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 33 دور أعداء الإسلام في الداخل السؤال ذكرتم مجملاً ومفصلاً أساليب أعداء الإسلام وخططهم في الخارج، فما هو دور أعداء الإسلام في الداخل؟ هل هو نطاق ضيق وعمل قليل، أم هو تنفيذ لما هو في الخارج؟ الجواب أعداء الإسلام في كل مكان هم هم، ولكنهم أحياناً يكونون كفاراً معلنين، وأحياناً يكونون منافقين يستترون بالدعوة إلى العلمانية، أو إلى العلمية وإلى الوطنية، وإلى غير ذلك من الشعارات البراقة، التي تناسب المقام وتناسب الحال، ولكن هم كما قال الله تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] . الكل يعرفون اليوم من هم أولياء الإسلام، ومن هم محبوه، ومن هم المدافعون عنه، ويعرفون من خصومه وأعداؤه. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 34 الفقه والواقع السؤال ما رأيك في من يقول: إن تعلُّم أحوال العالم الإسلامي أهم من تعلم أحكام الحيض والنفاس؟ الجواب هذا خطأ؛ لأنه لا ينبغي أن نضرب الدين بعضه ببعض، فمن الدين تعلم أحكام الحيض وأحكام النفاس، والوضوء والغسل والصيام والحج والزكاة وغيرها، ومن الدين -أيضاً- أن يتعلم الإنسان ما يحتاجه في أمر معاشه، ومن الدين -أيضاً- أن يعرف الإنسان ما يجب عليه من مساعدة إخوانه ومناصرتهم. وأقول: ليس ضرورياً لكل مسلم أن يعرف تفاصيل أحوال العالم الإسلامي، فإذا وجد من يكفي ومن يقوم كفى، لكن ينبغي أن يخاطب المسلمون -أيضاً- بالمساعدة بالمال، والمساعدة بالدعاء في بعض الأمور، وينبغي أن نعلم أنه كما يوجد بين المسلمين من يهتم بأحوال الأمة الإسلامية، ويتحدث عن قضاياها، ويكشف الخطط التي تدبر ضدها؛ ينبغي أيضاً أن يوجد في المسلمين دعاة معروفون مشهورون، همهم تعليم الناس النية الصالحة، وتعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتعليم الناس أحكام العبادة، وتعليم الناس المبادئ العامة، والأصول والقواعد الكلية للدين، كل هذا يجب أن يكون، والمؤسف اليوم أننا قد ننتقد واحداً تكلم ولا نتكلم نحن، فينبغي أن نقول كل ذلك مما تمس الحاجة إليه. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 35 المنشورات التي فيها بعض خطط أعداء الإسلام السؤال نقرأ كثيراً من المنشورات التي فيها بعض أعمال أعداء الإسلام وبعض خططهم، فهل يصدق كل ما ينشر من هذه المنشورات؟ وهل من الممكن أن تكون غير صحيحة؟ الجواب نعم من الممكن أن تكون غير صحيحة، فالأعداء أحياناً يتكثرون ويحاولون إيجاد حرب نفسية كما أشرت عند المسلمين، من جهة أن يشعروا المسلمين بأن الغرب والعدو يملك قوة ضارية وضاربة، وأنه لا سبيل إلى مقاومته وأنه ليس أمام المسلمين إلا التسليم، وأن يلقوا سلاحهم ويطأطئوا رءوسهم، ويتركوا الأمر لعدوهم، فكثيرٌ من النشرات والإخباريات، وكثير من الإحصائيات تعتمد على مثل هذه الحرب النفسية. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 36 أخبار عن المسلمين السؤال معظم الأسئلة تدور حول أخبار البوسنة، وأخبار الصومال، وما يجري في مصر، وتغيير مناهج التعليم، واستمرار إيقاف الأشرطة؟ الجواب حقيقة الحديث عن مثل هذه الأمور طويل، وربما معظمها سبق أن تحدثت عنه، وفيما يتعلق بالصومال فقد أعلن جماعة من العلماء هناك، وأعلن الاتحاد الإسلامي الجهاد ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وحصلت اشتباكات مع قوة العدو الكافر هناك، وصارت هناك بعض البوادر، وكأن الغرب حاول أن يسبق الأحداث؛ فأعلن -كما أسلفت- عن أنه سوف ينسحب قريباً، وحاول أن يضم إليه بعض الطوائف وبعض الجهات، وحاول أن يغري الناس باستتباب الأمن وبتوزيع المعونات، والعجيب أنهم يقولون: إن الجنود الأمريكيين الذين جاءوا لتوزيع المعونات، كانوا يضعون أيديهم على خدودهم في انتظار الناس، فلا يأتيهم إلا العدد القليل لطلب المعونة؛ لأن الناس ليسو في مجاعة كما صور لهم إلى هذا الحد. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 37 القوات المسلحة في الصومال السؤال ما هي تصوراتكم تجاه إرسال بعض دول الإسلام قوات إلى الصومال؟ الجواب في الحقيقة هذا من الأمور المؤسفة؛ أن تكون الدول الإسلامية تبعاً في هذا لغيرها، وأن يبعث المسلمون قوات تبعاً لغيرهم، لو أن المسلمين كانوا صادقين لكانوا هم أصحاب المبادرة، وعلى فرض أن ثمة حاجة في الصومال إلى قوة تحرس قوافل الإغاثة، كان من الممكن أن تقوم بها دول إسلامية، وأن يكون المسلمون هم الذين يساعدون إخوانهم هناك، أما أن تقوم بها أمريكا بمبادرة من قبل نفسها، حتى قبل أن تستشير الأمم المتحدة ذاتها وترسل ثلاثين ألفاً من قوات المارينز، ثم بعد ذلك تتوالى القوات الغربية، ثم يطلبون من المسلمين إرسال عدد رمزي من القوات، لمجرد إضفاء الشرعية على ذلك؛ فهذا ِأمرٌ غير صحيح. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 38 ¦ الصفحة: 38 نهاية التاريخ انتشرت في العالم الغربي وأميركا على وجه الخصوص، نظريات نهاية التاريخ وذلك منذ بداية التسعينات الميلادية في القرن الماضي، ومؤداها أن العالم الغربي والديمقراطية التي يُعمل بها هي المنقذ الأوحد بعد زوال الشيوعية، كما أن من هذه النظريات من يبشر بصدام الحضارات، وهم يرشحون عدة حضارات لصدام الحضارة الغربية، على رأسها جميعاً الحضارة الإسلامية المجيدة، ومما يلفت النظر وجود دراسات في العالم الغربي نفسه وأمريكا؛ تؤكد الانهيار الوشيك للحضارة الغربية. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 1 نظرية نهاية التاريخ في أمريكا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته أجمعين. ثم إن هذه الليلة، ليلة الإثنين السادس من شهر ربيع الأول، من سنة (1414) من هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وهذا الدرس هو السادس والتسعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وعنوانه: (نهاية التاريخ. وهذا العنوان مستعار من كتاب أحدث ضجة كبيرة، وقد طبع في أمريكا ووزع في أنحاء العالم، وترجم إلى اللغات الحية بما في ذلك اللغة العربية، ومؤلف هذا الكتاب رجل ياباني الأصل أمريكي الجنسية والمولد، اسمه فرنسيس فوكوياما، أما المترجم العربي فهو الدكتور حسين الشيخ، وقد طبعت الترجمة العربية للكتاب في دار العلوم العربية ببيروت في قرابة ثلاثمائة صفحة، وقد أتيح لي أن أقرأ مجموعة من التحاليل، والتقارير، والدراسات حول هذا الكتاب، ثم أن أطلع عليه بترجمته العربية. وفكرة هذا الكتاب -نهاية التاريخ- فكرة بسيطة إلى حد السذاجة -كما يقول أحد المحللين- وهي تعتمد على أن المؤلف يقول وهو يحتفل بسقوط الشيوعية، وانهزامها، ودفنها: إن الديمقراطية الغربية قد انتصرت، وانتصر معها الغرب، ولم يعد أمام العالم -أمريكا والغرب- ما ينتظرونه من جديد، فلقد حدث الجديد فعلاً، وهو انهيار الماركسية وتفكك الاتحاد السوفيتي، وانتشار النظام الديموقراطي الليبرالي الحر في العالم، بما في ذلك الدول الشرقية التي كانت تابعة للمنظومة الشيوعية، ولهذا فقد أُغلق باب التاريخ فلا جديد بعد اليوم، إلا في حدود بعض الإصلاحات والتغييرات الطفيفة هنا أو هناك. فهذه هي فكرة الكتاب، يقول المؤلف: ليس هناك أيدلوجية، أو عقيدة يمكن أن تحل محل التحدي الديمقراطي الغربي الذي يفرض نفسه على الناس، لا الملكية، ولا الفاشية، ولا الشيوعية، ولا غيرها، حتى أولئك الذين لم يؤمنوا بالديمقراطية، ولم يتبنوها كمنهاج لحكمهم، أو حياتهم، أو عملهم، يقول: سوف يضطرون إلى التحدث بلغة ديمقراطية، ومجاملة التيار من أجل تبرير الانحراف والديكتاتورية والتسلط الذي يمارسونه. أما الإسلام فإن المؤلف يتحدث عنه بلغة مختلفة بعض الشيء، فهو يقول: يمكن أن نستثني الإسلام من هذا الحكم العام، وهذا الكلام، فهو دين متجانس، ودين منتظم وهو قد هزم الديمقراطية في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، وشهدت نهاية الحرب الباردة بين الغرب والشرق، تحدياً سافراً للغرب على يد العراق، وهو يعتبر أن التحدي العراقي يتضمن تحدياً إسلامياً، باعتبار الموروثات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط، فهذا الدين الإسلامي، يقول المؤلف: على رغم جاذبيته العالمية، وقوته إلا أنه ليس له جاذبية خارج المناطق ذات الثقافة الإسلامية، فالشباب مثلاً في برلين، أو طوكيو، أو موسكو، أو واشنطن لا يجذبهم الإسلام، وإن كان يؤمن به أعداد من الذين يعانون ظروفاً صعبة، أو من الساخطين على الأوضاع العامة هنا أو هناك. إذاً: يقول: أصبح من الممكن أن نخترق العالم الإسلامي بالأفكار التحررية الغربية، وأن نكسب أنصاراً داخل المسلمين ممن يؤيدون الليبرالية الغربية، أو العلمنة الغربية. وهذا التوقع الذي طرحه المؤلف في كتابه نهاية التاريخ، هو مجرد حلم لذيذ، أو توقع محتمل على أحسن الأحوال في ظنه، أما الآخرون فيقولون خلاف ذلك، إن هذا الكلام الذي قاله، قاله من قبله هتلر حينما تحدث عن الرايخ الثالث الذي سيعيش ألف عام على حد زعمه، ولكن هذا التوقع اصطدم بالواقع المخالف تماماً لما يقول. ومثل ذلك الماركسية التي كانت تتحدث عند انتصار اليوتوبيا، وقيام جنة دنيوية، وفردوس ينتظم العالم كله تحت ظل الشيوعية، فإذا بالشيوعية لم تعش أكثر من سبعين سنة، وهي عمر إنسان عادي ليس عمر دولة، أو أمة، أو معتقد، ثم في ظل هذه السنوات القصيرة يعيش العالم الشرقي تحت الشيوعية حياة بائسة كئيبة. ومثل ذلك نبوءة شبلنجر عن انهيار الغرب. إذاً: هي مجرد ظنون، أو أوهام، أو أحلام لذيذة مخدرة، يتوقعها هؤلاء الكاتبون. وكما ذكرت فقد أشار وأثار هذا الكتاب زوبعة كبيرة، وكتبت عنه مئات الصحف في أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وكتب عنه كاتبون كثيرون، بعضهم قسس، وبعضهم مفكرون اجتماعيون أو سياسيون، وانتقدوا هذا الطرح الأمريكي المتطرف، واعتبروا أن الكاتب بسيط إلى حد السذاجة، وأن ما قاله لا يعدو أن يكون احتفالاً بسقوط الشيوعية، ولا يملك مقومات النظرية العلمية الصحيحة. و السؤال ماذا يعني سقوط الحضارة الغربية، أو الحضارة الأمريكية على وجه الخصوص؟ ماذا يعني تحديداً؟ بعض الناس يتصورون -مثلاً- أننا حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو أمريكا، أو الحضارة الغربية، يعنون معنىً عاماً شاملاً يترتب عليه تدمير جميع المنجزات الحضارية، وعودة الإنسان -كما يقولون- إلى العصور البدائية بعيداً عن كل ما يتمتع به في هذا العصر. وهناك -مثلاً- طرح عبارة عن فيلم اسمه: مقاتل على الطريق لـ جورج ميلر، وهذا الروائي يتنبأ بهذه النهاية المرعبة للعالم الغربي، والبؤس الذي سوف يلف العالم هناك، ويقضي على كل المنجزات الحضارية التي يتمتع بها الناس اليوم، سواء منجزات الاتصالات المختلفة، أم المتعة، أم الرفاهية، أم النقل، أم الكهرباء، أم غير ذلك. وهكذا روايات الخيال العلمي -كما يسمونها- التي تصور تدمير الحضارة التكنولوجية الحديثة، والعودة المفاجئة إلى العصور البدائية، ولذلك فإن البعض يبدون انزعاجاً من الحديث عن سقوط الغرب، لأنهم يظنون أن سقوط الغرب سوف يترتب عليه زوال هذه الفرص والإمكانيات التي يتمتعون بها الآن. حتى إنني قرأت لكاتب إسلامي في جريدة الحياة، أنه يقول: ينبغي ألا نطرح هذا الأمر بتفاؤل لأن هذه الأشياء مصلحة مشتركة بين الأمم كلها، وهذا في الواقع ليس مقصوداً لنا، حينما نتحدث عن سقوط الغرب، أو سقوط أمريكا، وإن كان هذا مطروحاً لدى بعض الغربيين، فهناك جماعات من العلماء المتخصصين يتوقعون أحوالاً سيئة سوف تكون إليها البشرية، حتى يوم كان هناك نظرة متفائلة مثالية للمستقبل قبل عشرات السنوات وكانت هي السائدة. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 2 نظريات علمية عن نهاية التاريخ حين ذاك كتب فيلسوف ألماني اسمه سبيكر، كتب كتاباً عن تدهور الحضارة الغربية، وتوقع مستقبلاً مظلماً للغرب، وللعالم كله من وراء الغرب، ثم جاء العالم الإنجليزي جورج أورويل، وكتب كتاباً اسمه: العالم عام أربع وثمانين، وكان كاتباً متشائماً، وتوقع أوضاعاً سيئة، لكن الواقع كان أكثر تشاؤماً منه!! فإن الأوضاع التي مر بها العالم عام أربع وثمانين وما بعده، كانت أكثر سوءاً وسوداوية وقتامة، مما تصوره وظنه ذلك العالم الإنجليزي. ثم كتب الفيلسوف الآخر أيضاً هولن ويلتن، وهو الآخر إنجليزي، كتب عن سقوط الحضارة الغربية وذلك ضمن منظومة متسلسلة من البحوث والكتب والدراسات القديمة، التي كانت تتحدث عن سقوط وشيك للعالم الغربي. وهناك علماء الفلك الذين يكتبون نهايات مفزعة عن الكون، بسبب زيادة طاقة الشمس وحرارتها -مثلاً- ووجود ثقب ضخم لطبقة عليا، يسمونها: طبقة الأوزون، ويقولون: إن هذا الثقب إذا ظل يكبر بالمعدلات التي تحدث الآن فإنه سوف يترتب عليه أخطار تهدد الحياة البشرية كلها. مثلاً: زحف الماء على الكرة الأرضية، وتغطية مدن بأكملها، وغمرها بالمياه، وابتلاع هذه المدن بسكانها، وإمكانياتها، تلوث البيئة والجو، وانتشار الأمراض، ومنها: سرطان الجلد، إلى أشياء أخرى مترتبة على هذا الخطر الذي يسمى ثقب الأوزون. وعلماء الطب -مثلاً- يتحدثون أيضاً بنفس النظرة، ويتكلمون عن الأخطار والأمراض التي سوف تحدث للبشرية من جراء هذا الثقب الذي أصبح مرئياً وملاحظاً الآن، وهو يتزايد بسبب كثافة الاستهلاك التصنيعي خاصة في الدول الغربية. إضافة إلى ذلك فعلماء الطب يدقون نواقيس الخطر من الأمراض الذي أصبحت تفتك بالبشرية، فلم يعد مرض السرطان هو أخطرها، بل أصبح مرض الإيدز الذي ضحاياه يعدون بعشرات الملايين، وحاملو الجراثيم مئات الملايين، ويتوقع أن تزداد النسبة بكثرة في السنوات القادمة، ويقف الطب عاجزاً عن ذلك، إن هذا يهدد السلالات البشرية، ويهدد الحياة على وجه الأرض. أما علماء البيئة فهم يرسمون صورة مكبرة لما حدث في المعمل النووي في الاتحاد السوفيتي، معمل يسمونه "تشر نوبل" وقد تسرب من هذا المعمل بعض الإشعاعات النووية، فدمرت الحياة هناك، وأثرت، وقتلت، وغيرت أشياء كثيرة، وانتقلت آثارها عبر مأكولات وفواكه وخضروات وأشياء إلى العالم العربي والإسلامي بل إلى العالم كله. فهم يقولون: ماذا لو حدث زلزال -مثلاً- في أحد المواقع التي تقام عليها مفاعلات أو معامل نووية، وترتب على ذلك تسرب خطير لهذه المواد والإشعاعات القاتلة للناس؟ بل ماذا لو حصلت حرب نووية أو حرب جرثومية بين دولتين من دول العالم، لامتد أثر ذلك وضرره إلى مواقع كثيرة، بل ماذا لو تملكت بعض ما يسمونها بالجماعات الإرهابية، أو عصابات المافيا، أو المجموعات التخريبية في العالم، وبطبيعة الحال أنا لا أقصد بهذا المسلمين إنما يُقصد بشكل عام تلك الجماعات التي تتاجر بكل شيء في الشرق والغرب، وهي جماعات إرهابية؛ همهما تحصيل المال والثراء والكسب، ماذا لو تملكت بعض هذه العصابات السلاح النووي، فضلاً عن أن المصانع والنفايات والإشعاعات النووية التي تدفن -غالباً- في بلاد المسلمين، أو تصدر بصورة أو بأخرى، حتى إن آخر ذلك أن الصومال وضع في مياهها بعض النفايات النووية أن هذا أيضاً يهدد الحياة البشرية على وجه الأرض. إذاً: هؤلاء توقعوا نهاية حادة، وحاسمة للحياة البشرية، وأن سقوط الحضارة لا يعني فقط تأخراً أو تراجعاً، بقدر ما يعني تهديداً للحياة البشرية على وجه الأرض، أو على الأقل تهديداً للمنجزات الحضارية التي يتمتع بها الإنسان في العالم كله. وهؤلاء العلماء يتفقون على أن العالم يسير إلى كارثة محققة لا مهرب منها، يقول كاتب روماني شهير: إن محاولة إنقاذ العالم حينئذ هي مثل محاولة الفئران أن تهرب من سفينة على وشك الغرق، فهي تهرب من السفينة لتغرق في البحر، فهي بين حرق أو غرق. فهذه التوقعات أو الظنون مع أنها الآن لا تؤخذ بعين الجدية، إلا أنه ينظر إليها على أنها من الطرائف العلمية، ومع ذلك يجب ونحن نتحدث عنها أن نتنبه إلى أربع أو خمس نقاط: أولاً: هذه الأشياء هي احتمالات قائمة وواردة، وليست أموراً في دائرة المستحيل وغير الممكن، والمعتاد أن مراكز التحليل الغربية تضع لكل احتمال حساباً، فينبغي أن تُوضع هذه الأشياء في الاعتبار، وألا تستبعد استبعاداً كلياً، أو نهائياً. ثانياً: من المعلوم أن ثمة حضارات كثيرة سادت ثم بادت، وقد ذكر الله تعالى لنا في القرآن الكريم أخبار أمم كثيرة مكن الله تعالى لها، وبوّأها في الأرض، ثم حكم عليها بالهلاك والفناء، فلم يغن عنهم بأسهم من عذاب الله تعالى شيئاً، قال الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:42-48] . وتأمل: أولاً: كأين: قرى كثيرة كانت ممكنة، وذات حضارة، وآبار، وقصور مشيدة، وقوة، وعروش، ثم خوت على عروشها، وعطلت آبارها وقصورها المشيدة. ثانياً: هذا الأمر عبرة للذين يعقلون، ويدركون سنن الله تعالى في عباده أفراداً وأمماً وجماعات، ولا يغفل عن هذه العبر إلا أولئك العميان الذين ليس لهم قلوب يعقلون بها، ثم هم يستعجلوننا بالعذاب، فيقولون: متى ذلك؟ هاهو العالم الغربي مُمكن منذ عشرات السنين، وأنتم تقولون سقط الغرب، ونحن لا نرى الغرب إلا يزداد قوة، ورسوخاً، وتمكناً، وتغلغلاً، وسيطرة على العالم، وبعضهم يقول: وعلى الطبيعة، فأين أقوالكم، وزعومكم التي ملأتم بها آذاننا على حين أن الغرب لا يزال يتمكن يوماً فيوماً؟ قال الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] ثم هذا التمكين الذين يعيشونه هو مرحلة الإملاء والإمهال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] {أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] فأي ظلم أعظم من الظلم الذي يعيشه الغرب اليوم، وهو يكيل بمكيالين، ويزن بميزانين في قضايا كثيرة جداً معلومة. النقطة الثالثة: ثمة نصوص شرعية، وأحاديث نبوية عن النبي صلى الله عليه وسلم توحي وتدل على أن العالم سوف يعود إلى العصور البدائية في آخر الزمان، وسوف يستعمل السلاح الأبيض، فمثلاً: في صحيح مسلم لما تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الملاحم الكبرى التي تقع قرب الساعة، وقبل ظهور المسيح الدجال، ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم: الفرسان الذين يفتحون القسطنطينية، ويعلقون سيوفهم على شجر الزيتون، إذاً هم يحملون السيوف، وقال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم} . إذاً: فهم يقاتلون -حسب ظاهر النص النبوي- عبر الخيول، ويحملون السلاح الأبيض، يحملون السيوف والخناجر ونحوها ويقاتلون بها، وهذا قد يدل -والله تعالى أعلم- على أن ما توقعه العلماء والخبراء من نكسة للحضارة الغربية، أنه أمر وارد وواقع، لكن متى؟ الله تعالى أعلم، بعد عشر سنين، أو مائة سنة، أو مائتي سنة، أو أقل أو أكثر، فإن هذا مما لا يطيق له البشر تحديداً أو ضبطاً، بل هو غيب من غيب الله تعالى جل وعلا. وبعض المحللين والدارسين للنصوص النبوية، قالوا: إن ما أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام لا يلزم أن يكون مقصوداً به السيف ذاته، أو الخيل نفسه، بل قد يكون هذا تعبيراً عن السلاح الذي يستعملون أياً كان، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام عبر باللغة التي يفهمها المخاطبون يومئذ. الأمر الرابع: أن المسلمين، بل وغير المسلمين حتى من أهل الديانات السماوية يؤمنون بالساعة وأنها ستقع، والقيامة أنها ستحق فهي الصاخة، والحاقة، والقارعة التي أخبر الله تعالى عنها، وهي التي سوف تدمر الحياة الدنيوية ونظامها المعتاد، وتنقل الناس إلى العالم الأخروي، عالم الجزاء والحساب. {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ * وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ * إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الإنفطار:1-4] ذلك هو يوم الجزاء والحساب: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] وقبل ذلك الساعة التي هي تبليغ الحياة الدنيوية والقضاء على البشر وموتهم عن آخرهم، حتى ملك الموت يموت. خامساً: أمريكا بالذات برزت بسرعة، فبروزها كقوة عالمية وقيادة دولية كان بعد الحرب العالمية الثانية، وخلال تقريباً خمسين سنة تبوأت هذا المنصب العظيم الكبير كشرطي للعالم اليوم، والغرب ربما احتمى بها واستعان بها خوفاً وذعراً من الشيوعية التي كانت تهدده، بل سيطرت على جزء كبير من أوروبا الشرقية على ما هو معروف. ولذلك العالم الغربي يريد الآن أن يخلع نير السيطرة الأمريكية عنه، ويتخلص من هيمنتها عليه، ولهذا يوجد تناقض صارخ وواضح بين أمريكا وأوروبا الموحدة، وبين أمريكا ودول أوروبا كلاً على حدة كبريطانيا، أو ألمانيا، أو فرنسا، وبين أمريكا والصين، وبين أمريكا واليابان، وبينها وبين دول أخرى. إذاً: أمريكا برزت بسرعة، ولهذا لا غرابة أن يكون انهيارها سريعاً أيضاً، كما تتوقع بعض الدراسات، وبعض التحاليل، وسوف أشير إلى شيء منه الجزء: 39 ¦ الصفحة: 3 توقع انكفاء العالم الغربي على نفسه أما الصورة الثانية للانهيار: وهي التي غالباً ما يرسمها السياسيون الغرب فهي لا تعدو أن تكون نوعاً من انكفاء العالم الغربي على نفسه، وانكماشه، وانشغاله بهمومه الخاصة، ومشاكله الداخلية، وكف يده عن العالم الخارجي، وهذا الأمر أصبح يمثل تياراً في السياسة الأمريكية حيث يطالب بعدم التدخل في الدول الأخرى، والانهماك والانشغال بالهم الداخلي، وأن علاقة أمريكا بالعالم، وما يتطلبه ذلك من تدخل، وإرسال القوات، ودفع المساعدات إلى غير ذلك، أن هذا من أهم أسباب الانهيار الاقتصادي الذي يهددها، ولهذا عليها أن تقلل من حجم تدخلها العالمي. حتى في بعض الصور الديمقراطية الغربية يُخشى أن تتحول أيضاً إلى خطر يهدد أمريكا في نظر السياسيين، فإن مستشار الأمن القومي السابق واسمه بريجنسكي ألف كتاباً اسمه: (خارج نطاق السيطرة) وهذا الكتاب يقول فيه: إن العالم الذي جاء بعد الشيوعية عالم خطر، عالم قلق، ومتوتر، ويجب أن ندرك المخاطر الناجمة عن الديمقراطية الغربية، حيث سيوجد في أمريكا نوع من الإباحية المطلقة، كل شيء مسموح، وكل شيء مباح، وبالتالي سوف تتعرض مصالح الأفراد للخطر، وسوف يوجد هناك قدر كبير من الأنانية بين الأفراد توجد انشطاراً في المجتمع وخطراً عظيماً، إنه عالم -كما يقول بريجنسكي - يعيش حالة غليان بعد انهيار الشيوعية. ومن الجدير بالذكر أن هذا الرجل وهو بريجنسكي أنه كان قد توقع سقوط الشيوعية عام سبع وثمانين للميلاد-تقريباً- في كتاب سماه: السقوط العظيم توقع فيه سقوط الشيوعية كما حدث فعلاً. وهذا أسلوب أو نموذج لهذا الأمر، وينبغي أن أشير في المجال إلى أن هذا الأمر يشمل رجال الاقتصاد الغربي، فإن الاقتصاد الغربي الأمريكي يعيش ما يسمونه بمرحلة النكبة، نكبة الاقتصادي الأمريكي. وعلى سبيل المثال هذا كتاب جديد ومهم اسمه: الإفلاس عام خمس وتسعين، ومؤلف الكتاب باحث ومؤرخ أمريكي اسمه هاوإي كيكي، وهذا الكتاب الذي نشرته دار أمريكية -دار ليكل باور- يرسم مسلسلاً متلاحقاً للانهيارات الأمريكية التي سببها الاقتصاد المثقل بالديون على الخزينة الأمريكية. والغريب أن صحيفة: نيويورك تايمز اعتبرت هذا الكتاب ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجاً وانتشاراً في العالم. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 4 انهيار الاقتصاد الأمريكي فهذا الكتاب يحدد بالضبط عام خمس وتسعين ميلادية، يعني: بعد أقل من سنتين أنه عام السقوط والانهيار الأمريكي، ويحدد أن الانهيار سوف يتم من خلال الاقتصاد الأمريكي المتردي، وهناك دراسة اقتصادية رصينة جداً، بل دراسات اطلعت عليها، ولا يسعفني الوقت أن أعرضها لكم، لكن على سبيل المثال، تقول إحدى هذه الدراسات وهي دراسة علمية دقيقة، تقول: إن الاقتصاد الأمريكي الآن -الاقتصاد الحكومي- محمل بأربعة ترليونات من الديون، وهو رقم خيالي لا يمكن للعقل أن يتصوره، وأن هذا الرقم سوف يزداد إلى نهاية العقد الحالي، أي: حوالي ستة سنوات سوف يزداد إلى حوالي ثلاثة عشر ونصف ترليون دولار أمريكي. فهذا الرقم الخطير -يقول- سوف يجعل أمريكا أمام عدة خيارات لا مخلص لها منها، هذه الخيارات أولها خفض المرتبات للموظفين بنسبة ربما قد تصل إلى أكثر من (30%) للموظف العادي، وبالمقابل زيادة الضرائب عليهم إلى نحو (50%) وماذا تتصور من رجل خُفض مرتبه بنسبة (30%) وزيدت الضريبة (50%) هذا أمر لا يحتمل ولا يطاق، والذين يعرفون العقلية والنفسية الغربية يدركون أن هذا الأمر لا يمكن أن يعمله رئيس مهما كان في الظروف العادية. وهذا الاحتمال لا يمكن أن يعملوه من أجل تطوير والحفاظ على اقتصادهم من الانهيار. الحل الثاني هو: أن يعلن العجز عن سداد الديون، وهذا معناه إعلان الإفلاس وهو لا يعني سقوط الاقتصاد الأمريكي فقط، بل يعني سقوط الدولار الأمريكي، وسقوط اقتصاد جميع الدول التي ربطت نفسها بالدولار، ومع الأسف الدول العربية هي جزء من هذا العالم الذي ربط اقتصاده بالدولار الأمريكي. الحل الثالث، وهو المتوقع: أن تقوم الحكومة هناك بما يسمونه بتسييل الدولار، وهو يعني طباعة كميات هائلة من الأوراق النقدية ليس لها رصيد يقابلها، لمجرد إغراق الأسواق بها وسد الحاجة وهذا الأمر سوف يؤدي إلى انهيار الاقتصاد فعلاً، بمعنى أن الدولار سيفقد قيمته بالتدريج، حتى إنه في النهاية لا يساوي إلا قيمة الورقة التي طبع عليها فقط، وهذا أيضاً هو انهيار كالذي قبله ولكنه بدلاً من أن يكون انهياراً مفاجئاً سوف يكون انهياراً بطيئاً أو تدريجياً. فهذه الدراسات ليست مجرد أوهام، أو خيالات، إنها دراسات علمية من مراكز متخصصة غربية، وشرقية، تدق نواقيس الخطر، ولذلك فإن أمريكا نفسها بدأت تشن حرباً اقتصادية ضد اليابان مثلاً، وضد أوروبا، وضد الصين، وهي حرب مكشوفة وأخبارها تعلن يومياً، وأي شخص متابع للصحف الاقتصادية أو الملاحق الاقتصادية في الصحف يدرك ذلك جيداً. وعلى سبيل المثال: فإنك تجد أن أمريكا تضغط على اليابان من أجل أن تفتح أسواقها للمنتجات الأمريكية، وبالمقابل تحاول أن تُحد من وجود المنتجات اليابانية في الأسواق الأمريكية، وكذلك تضغط على بعض الدول من أجل توقيع معاهدات للتبادل التجاري سواء مع فرنسا أم مع أوروبا أم غيرها تكون في النهاية لمصلحة أمريكا. وكذلك تنافسها على الأسواق الآسيوية، وهي الأسواق الرئيسية في العالم اليوم، سواء في ذلك أسواق العالم الإسلامي أم بقية الدول الآسيوية المعروفة، والعجيب أنه في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد الأمريكي والغربي من التضخم، والتراجع في معدلات النمو، فإنك تجد أن الدول الأخرى كالصين -مثلاً- واليابان، بل والدول النامية كماليزيا، وكوريا، وغيرها أن معدلات النمو فيها ترتفع باضطراد، أحياناً بنسبة (7%) وأحياناً بأكثر من هذا، وهذا أمر تحدث عنه بعض الخبراء بأنه أمر يشبه المعجزة -في ظنهم- لأنه ليس له تفسير واضح مكشوف. ويتوقع أنه في ظل التراجع والتردي الاقتصادي الأمريكي، أن أمريكا ستجد نفسها مضطرة إلى التدخل المباشر لحماية اقتصادها، ومصالحها، ونفطها، وصناعاتها، سواء كان ذلك في اليابان -كما توقعت إحدى الدراسات- أم في مناطق أخرى من العالم كالخليج العربي أم غيرها. إذاً: هذا لون من الدراسات السياسية والاقتصادية، يصور انحساراً للوجود الأمريكي والغربي بشكل عام، على نمط ما حدث لبريطانيا، فقد كانت بريطانيا يوماً من الأيام امبراطورية لا تغيب عنها الشمس -كما يقال- ثم اضطرت إلى التخلي عن مستعمراتها، ومحمياتها، وعادت أدراجها إلى الوراء إلى بلادها، ولكنها ظلت محتفظة بتقدمها العلمي والعسكري، وتفوقها ومركزها الدولي، على ما هو معروف الآن. وهذا بحد ذاته كافٍ، فإنه سوف يعطي المسلمين فرصة أن يرتبوا أوراقهم، وأن يعرفوا مصالحهم، وأن يتعاملوا مع من يكون التعامل معه أصلح لهم وأضمن لنجاحهم وحفظ اقتصادهم. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 5 صراع الحضارات أما النوع الثالث من الدراسات الغربية: فهي الدراسات التي ترسم تصوراً آخراً لنهاية الحضارة الغربية، وهو يتمثل فيما يسمونه بالصراع الحضاري، وهي صراعات مكشوفة وأحياناً مخفية غير معلنة بين الحضارات المختلفة، وهذه يمثلها كتاب يعتبر تقريباً أحدث كتاب صدر هناك، وقد أعدت عنه دراسات في جريدة الحياة قبل بضعة أيام. وهذا الكتاب اسمه: صدام الحضارات ومؤلفه صمويل هنتجتون ويعتقد هذا المؤلف أن ثمة صداماً وصراعاً سوف يحدث بين حضارات مختلفة، ويرشح هو ستة حضارات في العالم إضافة إلى الحضارة الغربية، فما هذه الحضارات الست المرشحة لدخول المعركة؟: أولاً: الكونفوشيوسية: الصين. ثانياً: اليابانية. ثالثاً: الإسلامية. رابعاً: الهندية. خامساً: الأرثوذكسية السُلافية سادساً: الأمريكية اللاتينية. ويرشح في الدرجة الأولى الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية للمستقبل القريب، باعتبارها أعظم خطر يهدد الحضارة الغربية، وقد حشد هذا المؤلف كل ما يحتاج إليه من الأدلة والشواهد والإثباتات على أن الصراع الحضاري هو القادم، وعلى أن الحضارة الإسلامية والصينية هي أخطر ما يهدد الغرب اليوم. مع أن المؤلف أيضاً توقع وجود نوع من التعاون بين المسلمين وبين الصينيين، وقال: إن ذلك يهدد الحضارة الغربية، والقيم والمصالح الغربية. وهذه الدراسة صدام الحضارات، تعطي الدين أهمية قصوى في الصراع بين الحضارات، ولذلك ينظر المؤلف إلى الصراع العربي اليهودي، على أنه صراع بين دينين -دين الإسلام واليهودية- ومثل ذلك الصراع بين الجمهوريات السوفيتية يعتبره صراعاً دينياً، وربما الصراع في البوسنة والهرسك يدخل في هذه القائمة أيضاً. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 6 احتمالات مآل صراع الحضارات فهناك صراع حضاري منوع في كل المجالات. صراع فكري، صراع ديني وعقائدي، صراع علمي، صراع سياسي، صراع اقتصادي، صراع حضاري شمولي. وأمام هذا الصراع هناك عدة احتمالات: الاحتمال الأول: هو تغريب العالم: أي تحويل العالم إلى عالم تابع للغرب مسلم بنظريات الغرب، وقيمه، وأخلاقياته، وحضارته، وهذا غير ممكن ولا وارد. الاحتمال الثاني: هو الصدام الحضاري، الصدام بين الحضارات والمواجهة بينها، وهو ما توقعه المؤلف وذهب إليه. الاحتمال الثالث: هو -كما قال المؤلف- انتصار قيم التسامح الثقافي والحوار بين الحضارات، والمبادئ المشتركة التي تجمع الأمم كلها، وهذا الأمر مستبعد جداً. فالمؤلف رجح ورشح أنه سيكون هناك صراع بين الحضارات، وهذا المؤلف وضع نفسه في الخندق الغربي، لأنه رجل أمريكي يقول -كما قال الذي قبله فوكوياما يقول: أنا أمريكي (100%) وإن كنت من أصل ياباني إلا أنني لا أعاني من عقدة ازدواجية الانتماء فأنا أمريكي (100%) وهو يقدم أمريكا، بل يقول: إنني أشعر أنني سوف أقدم دوراً عظيماً لأمريكا وقد يكون هذا الدور في البيت الأبيض -هكذا يقول فوكوياما - ومثله أيضاً هنتجتون فهو يقول مثل ذلك، ويضع نفسه في الخندق الغربي. ثم يقول: يجب أن نرص الصفوف الغربية أمام التحدي الإسلامي والتحدي الصيني، ويجب أن نطور نوعاً من الوحدة بين أمريكا وأوروبا، ويجب إيجاد علاقة تعاون على أقل تقدير بين أمريكا وروسيا، بين أمريكا واليابان، يجب ألا نذهب بعيداً في تخفيض القدرة العسكرية الغربية. وهذه الأشياء الذي يطالب بها، لأنه يقول: إن هناك عدواً منتظراً استعدوا له، كيف يستعدون له؟ وحدوا صفوفكم، وتعاونوا مع أصدقائكم الآخرين، لا تخفضوا أسلحتكم كثيراً، ولا تذهبوا بعيداً في ذلك لأنكم سوف تحتاجونها. فانظر إلى الوعي والعمق والإدراك والتخطيط للمستقبل وأنت حين تأتي للمسلمين تجد أنهم على رغم الضعف، والذلة، والقلة، والتأخر إلا أن الخلافات الشرسة تعصف بهم فلا تبقي أحداً مع أحد، وإلى الله المشتكى وهو وحده المستعان! وهذا الكتاب: صدام الحضارت قد يكون ردة فعل للمد الأصولي العالمي، والتوجهات الدينية الموجودة في الإسلام، وفي بقية الديانات الأخرى، وكأنه يدعو أمريكا إلى أن تعتصم بمعطياتها، وخصائصها في مواجهة قوم مسلمين يؤمنون بدين، وينتمون إليه انتماءً عريقاً. كما أن هذا الكتاب يتحدث ويكشف حرج القوى الغربية -أمريكا وغيرها- إزاء ما يسمونه بالديمقراطية في العالم العربي والإسلامي، فهو يقول لك: إن الديمقراطية مع أنها هي البديل الذي يقدمه الغرب، وهي الشيء الذي يتحدثون عنه، وهي دين الغرب، وعقيدته، ومنهجه، وسياسته إلا أنهم يقولون لك: إن الديمقراطية خطر في العالم العربي والإسلامي. وذلك لأن الديمقراطية الحقيقية لو طبقت في العالم العربي والإسلامي فسوف تدعم قوى معادية للغرب، على نمط ما حصل في الجزائر، والأردن، واليمن، وما يمكن أن يجري في مصر وأي بلد آخر، أي أنها سوف تدعم التوجهات الأصولية التي تكتسح الشارع العربي والإسلامي، وبالمقابل فإن رفض الديمقراطية في العالم الإسلامي سوف يكرس التذمر، والتوتر، والقلق الاجتماعي والسياسي، ويجعل الرفض والغضب الشعبي يزداد ويتفاقم يوماً بعد يوم. إن هذا الطرح -طرح الصراع الحضاري- هو طرح معقول في نظري في الجملة، وإن كان هذا الطرح مقلقاً للعلمانيين لأنه يقتضي الاعتصام بالدين، وسوف يجعل كل أمة تعود إلى دينها، وإلى عقيدتها، وإلى تراثها الصحيح تعتصم به أمام من يحاربونها بدين مختلف، وعقيدة مختلفة، وتراث متغير، وأمور وخصائص تاريخية مميزة. ولذلك يقول البعض: إذا صح هذا التوقع في صدام الحضارات فإن النصر في جميع الديانات، وفي جميع الأمم، وفي جميع الدول، سوف يكون لأكثر التيارات تشدداً وانغلاقاً في جميع الحضارات، وسوف يكون النصر بالنسبة للمسلمين -مثلاً- حليف من يسمونها بالتيارات الأصولية التي تدعو إلى رجعة صادقة وكاملة إلى الدين في جميع ميادين الحياة. ومثل ذلك في الديانات الأخرى، فالنصرانية -مثلاً- سوف يكون النصر للتيارات الأصولية المتشددة فيها، والهندوس سوف يكون النصر للتيارات الهندوكية المتشددة التي تؤمن بالحديد والنار في مقاومة خصومها وأعدائها، ومثل ذلك بالنسبة لليهود أو غيرهم، وخاصة إذا كانت تلك التيارات تملك قوة الاستقطاب والتأثير في الجماهير. فهذه ثلاثة توقعات يمكن أن يتم من خلالها سقوط الحضارة الغربية، وبالجملة فهناك قائمة طويلة جداً من الأمراض الفتاكة المزمنة التي تنخر في الجسم الغربي عامة، والجسم الأمريكي خاصة. وهناك على سبيل المثال: الأمن واختلال الأمن، فساد الأسرة وتفككها، ضياع الشباب ومشكلاتهم، الإجهاض وهو قضية خطيرة، المخدرات وانتشارها وعصاباتها، الشذوذ الأخلاقي والجنسي، الفقر المدقع في تلك الدول الغنية حتى إنك تجد أنه عام (1978م) كان عدد الفقراء الذين لا يجدون قوت اليوم -دون مستوى الفقر المعدم- ثلاثمائة مليون إنسان فقط، وبعد عشر سنوات تحول هذا الرقم إلى كم؟! هل تتوقع أنه انخفض؟! كلا، بل ارتفع إلى مليارين من الناس، مليارا إنسان يعيشون دون مستوى الحياة الإنسانية العادية من شدة الفقر، حتى في أرقى المدن الغربية والأمريكية ينامون على الأرصفة ويأخذون أطعمتهم من صناديق القمامة، وقد رأيت بعيني مثل هذه المشاهد، وهم يعدون في بعض الولايات بالملايين. البطالة: وانتشار معدلات البطالة وارتفاعها في أمريكا وغيرها. عصابات الإجرام: كالمافيا وغيرها، وهي عصابات خطيرة للخطف، وللسرقة، وللقتل، وللاغتيال، ولتعاطي وبيع كل الأشياء بلا استثناء. الديون الفردية: كل الأفراد مدينون في أمريكا، والديون الفردية تزيد الآن على (4. 4 تريليون دولار) على أفراد الشعوب الأمريكية! فكل فرد مدين وهو يقضي حياته كلها في تسديد الديون: دين للسيارة، دين للبيت، دين للزواج، دين لكل شيء، وهذا أمر خطير بدأ يتسرب أيضاً للبلاد الإسلامية. التعليم وانهياره: حتى إن هناك كتابا ًانتشر ودرس، عنوانه: أمة معرضة للخطر -أظن أني سبق أن تحدثت عنه- يتكلم عن انهيار التعليم في أمريكا. الإعلام وخطره أيضاً، التجسس على الأفراد، أو على الدول، أو على المؤسسات، والتجسس المضاد أيضاً. النعرات العنصرية في أمريكا، والصدام بين البيض والسود مثلاً، وقد حدثت كما تعرفون أحداث كثيرة من هذا القبيل في العام الماضي، وراح ضحيتها عشرات الأفراد، ومليارات من الأموال. تلوث البيئة: وهو أحد الأمراض الخطيرة، الأمراض الفتاكة كما أسلفت، الفشل السياسي والفضائح الكثيرة التي تلاحق البيت الأبيض وتلاحق جميع مراكز الإدارة والسياسية في فرنسا، وفي إيطاليا، وفي بريطانيا، وفي ألمانيا، وفي غيرها. وعلى سبيل المثال: هناك عشرات بل مئات المقالات موجودة عندي تتحدث فقط عن الفشل السياسي في أمريكا، ومشكلات داخل البيت الأبيض، وقضايا تتعلق بشخص الرئيس هناك، وفضائح عن ذاته، وعن علاقاته، وعن إخوانه، وأخواته، ومن الذي سجن بالمخدرات، ومن الذي سجن بالسرقة، ومن ومن، وبعض القضايا المتعلقة به، وأشياء شخصية تدل على أن هناك -فعلاً- إخفاقات كثيرة، وفشلاً في الإدارة، وتأخراً في الإنتاجية. أيضاً الفضائح التي تلاحق الإيطاليين اليوم، يومياً فضائح تكشف عن رجال الحكم هناك، وكثير من رجال السياسة هناك لم يعودوا لامعين لشعوبهم بما فيه الكفاية. فهذه قائمة طويلة، وعندي فيها معلومات كثيرة لعل جلسة خاصة -إن شاء الله- تخصص لمثل هذه الأمور، لأنها لا تخلو أيضاً من عبرة، وطرافة في بعض الأحيان، وبغض النظر عن هذا كله إلا أن الجميع يتفقون على وجود صعوبات جمة تنتظر المسيرة الغربية عامة، وتنتظر المسيرة الأمريكية على وجه الخصوص. ولقد كنا في يوم من الأيام نقرأ كلاماً كهذا عن انهيار الحضارة الغربية، وأذكر أنه وقع في يدي كتاب للأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى اسمه: المستقبل لهذا الدين، فقرأت فيه فصلاً بعنوان: انتهى دور الرجل الأبيض، وهو يتكلم كلاماً شبيهاً بهذا، عن أن دور الغربيين قد انتهى، وجاء دور المسلمين الذين يجب أن يحملوا ويقدموا للعالم الحل، فكنا نعلم أن ذلك حق، ولكن الإنسان يراوده شيء مما يرى من هيمنة الغرب، ومما يسمعه من المستغربين الذين كانوا يعدون هذا الكلام أضحوكة يسخرون بها ويتلهون بها، بل حتى الصالحون داخلتهم الظنون في ذلك، وصار إيمانهم أحياناً نظرياً، فهم يقولون نعم صحيح ولكن! إذاً: عندهم شك ويتوقعون أن العالم الغربي سيظل مهيمناً لفترة طويلة غير منظورة، حتى المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله وهو مفكر عميق، واجتماعي متخصص، إلا أنه مع ذلك كان يميل إلى القول بخلود الحضارة الغربية وأبديتها في الدنيا، ثم تراجع عن ذلك وأعلن خلافه. ونحن إذاً نفرح ونسر لكل حديث عن سقوط أمريكا أو الحضارة الغربية، لأننا وإن جاءنا بعض إنتاجها، وبعض تيسيراتها المادية والحضارية، إلا أنها أصلتنا بنارها في مجتمعاتنا وأممنا، فنحن وإن كنا كأفراد في نعمة، إلا أننا كأمة في خطر، ولا يجوز أبداً أن ننظر إلى الناحية المادية، أو الأنانية، أو الفردية فحسب، وأردد وترددون مع الشاعر هذا الأبيات: أنا ضد أمريكا إلى أن تنقضي هذي الحياة ويوضع الميزان أنا ضدها حتى وإن رقَّ الحصى يوماً وسال الجلمد الصوان بغضي لأمريكا لو الأكوان ضمت بعضه لأنهارت الأكوان هي جذر دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان من غيرها زرع الطغاة بأرضنا ومن ذا سواها أكبر الطغيانا حبكت فصول المسرحية حبكة يعيا به المتمرس الفنان هذا يكر وذا يفر وذا بهذا يستجير ويبدأ الغليان حتى إذا انقشع الدخان مضى لنا جرح وحل محله سرطان وإذا ذئاب الغرب راعية لنا وإذا جميع رجالنا خرفان وإذا بأصنام الأجانب قد ربت وبلادنا ورجالها القربان إذاً: لا نلام حينما نبغض هذا الصنم الذي مارس ألوان التسلط على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. أيها الأحبة: إن سنة التغيير قطعية، والتاريخ ما توقف لغير فوكوياما حتى يتوقف له، أما الشرع ف الجزء: 39 ¦ الصفحة: 7 الجهاد بالدعوة إلى التوحيد ومن الجهاد الدعوة إلى الإسلام في بلاد المسلمين، ليكون الإسلام هو الأساس الذي عليه يجتمعون ومنه ينطلقون، والدعوة إلى التوحيد، توحيد الله تعالى، وإفراده بالعبادة، ونفي جميع الأوثان والأنداد والأصنام التي ما أغنت عن المسلمين شيئاً، ولا يمكن أن تغني عنهم شيئاً، ولا يمكن أن يكونوا مسلمين حقاً وهم يرونها بين أظهرهم، ويسكتون عنها أو يداهنونها. فلا بد من توحيد الله تعالى، وصرف جميع أنواع العبادة له، فلا حب إلا لله، ولا خوف إلا منه، ولا رجاء إلا فيه، ولا عبادة لغيره، وكل ألوان العبادة: الصلاة، والصيام، والذبح، والنذر، والحكم، والعبودية، كلها تصرف لواحد جل وتعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] . إن الفرد بالتوحيد لله تعالى ينضبط في عمله، وتستقر نفسه، وعقله، ويثمر، وينتج، ويصبح إنساناً فعالاً مؤثراً في هذه الحياة. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 8 الجهاد بأسلمة النظم ولا بد أيضاً من اعتماد الشريعة الإسلامية في جميع الشرائع، وفي جميع الأنظمة، وفي جميع الإدارات، فلا يكون هناك مصدر آخر للتقنين أو التشريع غير الإسلام، وعلى كافة المستويات الداخلية: في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، أو علاقة الحاكم بالمحكوم، أو علاقة الرجل بالمرأة، أو الخارجية في علاقة المسلمين بالدول الأخرى عربية كانت أو إسلامية، أو عالمية. وكذلك في الاقتصاد، أو الإعلام، أو التعليم، أو العلاقات الاجتماعية، أو غيرها، فنسلم لله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] . إذاً لا بد من إقامة الحياة الإسلامية في بلاد المسلمين كلها على أساس الإسلام عقيدة وشريعة، وإذا آمنا بذلك، وسعينا في تطبيقه بصدق وجد، فحينئذ التقصير، والنقص، والخطأ غير المقصود يصحح على مدى الأيام. وإذا وجد المسلم الواثق بدينه، والواثق بمستقبله، الذي يعلم أنه لا حل إلا في الإسلام، ويحرك طاقاته في هذا السبيل لأدركنا حقاً ويقيناً وصدقاً أننا -لا أقول سوف نحرر بلاد الإسلام منهم- بل سوف نملك حتى موضع أقدامهم، كما قال هرقل: {لئن كان ما تقوله صدقاً لسوف يملك ما بين قدمي هاتين} . الجزء: 39 ¦ الصفحة: 9 الجهاد بعرض شمولية الإسلام لغير المسلمين ولا بد من دعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ودعوتهم إلى العقيدة الإسلامية التي هي الحل لكل المعضلات الفلسفية التي تعبث بعقولهم، ودعوتهم إلى المنهج الأخلاقي البديل عن الفساد، والانحراف، والفوضى، والأنانية الموجودة في بلاد الغرب، والذي يُؤمن لهم الرحمة، والتعاون، والأخوة التي يفتقدونها، ولا بد من دعوتهم إلى المنهج التعبدي الذي يربط الإنسان بربه في عالم الماديات والآلة. ولابد من دعوتهم إلى الاقتصاد والسياسة على نمط الإسلام، وتقديم المنهج الإسلامي الصحيح من خلال معاهد ومؤسسات تطرح هذا الجانب، فالإسلام جذاب في كل شيء، كما هو جذاب في عقائده، هو جذاب أيضاً في أخلاقه، وفي عبادته، وفي منهجه للحياة، ولابد من تصحيح النظرة الغربية التي أصبحت موجودة لدى المواطن الغربي عن الإسلام والمسلمين. ثم لا بد من الإفادة من معطيات العصر، ووسائل الإعلام، ووسائل الاتصال المختلفة، والتقنيات الحديثة واللغات في إيصال الدعوة إلى أولئك القوم وشرح الإسلام لهم، إن من المدهش والمحزن أن تجد مكتبات ضخمة في الكونجرس في أمريكا، وفي بريطانيا وفي غيرها، فيها كل كتب الدنيا، ثم إذا بحثت عن الكتب الإسلامية لا تجد أي كتاب موجود، وفي بعض الأحيان لا تجد إلا الكتب التي تمثل اتجاهاً خاصاً ككتب الرافضة -مثلاً- أو الإباضية، أو القاديانية، أو غيرهم من أهل البدع وأرباب الضلالة. أولئك الطلاب أو غيرهم من الذين يذهبون من العالم الإسلامي إلى الغرب، ويقيمون في أوساط الأمم الغربية، دارسين أو موظفين: هل حملوا المشعل؟ أم أنهم منهزمون في داخلهم، منهزمون عقائدياً، وحضارياً، وإن كانوا يتكلمون بألسنتهم بغير ذلك؟ فلسان حال أحدهم يقول: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألم أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغم؟! كم تخطيت على أصدائه ملعب العز ومغنى الشيم وتهاديت كأني ساحب مئزري فوق جباه الأنجم حلم مر كأطياف السنا وانطوى خلف جفون الظلم أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبس الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إن الكثيرين يتكلمون بمثل هذه العبارات والكلمات والأقوال، أي أنهم منهزمون أمام الغرب، فهم لا يقدمون الإسلام بقوة، ولا يطرحونه بشجاعة في أخلاقهم، وسلوكهم، وأعمالهم، واتصالاتهم، وجهودهم هناك. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 10 نماذج تبشّر بالخير ومع ذلك فإن المستقبل مشرق، ومن أجل كلام أكثر تفصيلاً أطرح هذه النماذج السريعة، التي لا يسمح الوقت بأكثر منها:- الجزء: 39 ¦ الصفحة: 11 الدعوة داخل الجيش الأمريكي المجلس الإسلامي الأمريكي: هذا مجلس في مجال دعوة المجندين، وقبل دقائق سلمني أحد الإخوة رقعة أو قصاصة من جريدة المسلمون تتكلم عن المسلمين الموجودين داخل الجيش الأمريكي، وأعتقد أنه قال: إن عدد المسلمين هناك حوالي ثمانية آلاف مسلم في الجيش الأمريكي، لكنهم -كما يقول المقال- بلا مفتٍ، وبدون رتب كبيرة، وبلا تأثير، هذا في العدد (421) لكن الكلام الذي سوف أقوله مختلف بعض الشيء، فقد وصلني تقرير يقول: إن هذا المجلس الإسلامي الأمريكي المسئول عن الدعوة بين المجندين الأمريكان، يديره شخص يتبعه مجموع من الأفراد وهم قليلون على كل حال، لكن الغريب أن هذا المجلس كُون من قبل وزارة الدفاع الأمريكية وبرضاهم وموافقتهم. أي دولة عربية أو إسلامية تجعل هناك جهة مسئولة عن التوعية والإرشاد الديني والإسلامي في صفوف جيوشها وشعوبها، ويوجد في هذه البلاد بوادر ومكاتب مسئولة عن ذلك، نسأل الله تعالى أن يمنحهم القوة والفرصة لممارسة دورهم وجهدهم. أما في كثير من الجيوش الإسلامية فإن مجرد وجود كتاب إسلامي، أو محاضرة يعتبر أمراً خطيراً، لكن المهم أن وزارة الدفاع الأمريكية أوجدت ما يمكن أن نسميه مكتباً للتوعية الدينية خاص بالمسلمين، وأعطته صلاحيات واسعة، فنظمت لهم رحلة حج، وقام معهم ذلك المسئول، ومنحت ذلك المسئول رتبة عليا -جنرالاً في الجيش الأمريكي- وأعطته فرصة وإمكانية أن يدخل إلى جميع القواعد العسكرية الأمريكية -بحرية أو جوية أو برية- ويتفقد أحوال المسلمين هناك، وينظم جداول لزيارتهم ومحاضرات ودروساً تلقى لهم، وكتباً وأشرطة توزع عليهم، وجعلت هناك تعميماً على جميع مؤسساتها للمواصفات المطلوبة، ما هو الطعام الذي يقدم للجندي أو الضابط المسلم؟ وما هو الشراب الذي يقدم له؟ وما هي الأعياد التي يسمح له بالاحتفال بها؟ من أجل مراعاة المسلمين ومنح الحرية لهم حتى داخل الجيش الأمريكي. وفي ذلك المقال الذي تلوته عليكم قبل قليل صورة لمجموعة من المسلمين وهم يؤدون الصلاة هناك، فضلاً عن تكوين بعض المواد الإعلامية من أفلام وأشرطة للتثقيف والتدريب والتعريف بدين الإسلام، وحرية دعوة غير المسلمين إليه أيضاً، وكذلك دفن الموتى على الطريقة الشرعية، بالإضافة إلى هذا كله فقد سمحت وزارة الدفاع الأمريكية، بأن يعلن هذا المجلس عن نفسه في جميع المطبوعات والمجلات والصحف التي تصدرها وزارة الدفاع. إذاً: أمامنا فرص لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام لو كنا جادين وصادقين، وقد تكون هذه الفرص -أحياناً مع الأسف- أعظم وأكبر من الفرص الموجودة في بعض الدول العربية والإسلامية. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 12 الدعوة بالتخطيط في بعض المراكز الإسلامية النموذج الثاني: هو نموذج مختلف بطبيعة الحال -إنما المقصود التنويع- وهو مركز الدراسات الاقتصادية والاجتماعية في أنقرة بتركيا، وقد عقد مؤتمراً تعاونياً للمرة الثانية، وحضره جمع من العلماء المسلمين من مصر، وبلاد المغرب، وباكستان، والهند، وغيرها، وتفرعت عنه عدة لجان منها لجنة خاصة بالعلم والتكنولوجيا، وأصدرت توصيات كبيرة وعظيمة، ولكنها نظرية بطبيعة الحال، ولجنة أخرى للتنظيم والتشكيل بتقسيم العالم الإسلامي إلى أقاليم، وإلى ولايات وإلى أقسام، والتركيز عليها، ولجنة ثالثة للعمل التربوي في أوساط المسلمين، ولجنة رابعة للإعلام الإسلامي وتقديم البديل، ولجنة خامسة للمناهج الاستراتيجية، وخرجت بتوصيات كبيرة وبناءة. المهم والخطر أن هذا المركز وهذا المؤتمر لم يحدد الجهة التي يمكن أن تنفذ هذه التوصيات، وهذا هو المشكل، أو كما يقال من يعلق الجرس، فمن الممكن جداً أن يرسم حتى فرد واحد توصيات كثيرة، لكن من الذي يتولى التنفيذ في ظل غياب الإرادة الإسلامية الصحيحة من المسلمين حكومات وشعوباً وأفراداً تجاه ذلك. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 13 التقدم التقني والاقتصادي النموذج الثالث: ماليزيا فنسبة الارتفاع في معدلات النمو في ماليزيا سبعة إلى عشرة في المائة باطراد، وهم يخططون إلى أن يكونوا عام (2000م) وقد وضعوا حداً، وسيكونون دولة اقتصادية وصناعية عظيمة في مصاف الدول الكبرى، فهم خططوا لذلك ورسموا وسعوا وفعلوا وحققوا تكريماً لليد العاملة الماليزية، وحققوا نقلاً للتقنية والتصنيع، وحققوا تقدماً اقتصادياً حتى إنهم يصنعون الآن ألوان الصناعات: السيارات، والمكيفات، والآلات، والأسلحة، وغيرها. حتى إن السيارة التي يستقلها رئيس الوزراء هي نفسها صناعة محلية، وهي تجربة ضخمة تستحق الدراسة، وعندي عنها مقالات وأشياء كثيرة، وربما يكون ذلك الذي لاحظ خطورة التعاون الإسلامي الكونفوشي كما سماه -التعاون بين المسلمين وبين الصين- ربما لاحظ وجود نوع من التقارب بين ماليزيا والدول الآسيوية، وبين الصين، واليابان، وبعض تلك الدول. وهذا أمر جيد ينبغي أن يطرحه المسلمون، حيث يكون هناك نوع من التعاون، ونقل التقنية، والتصنيع والاقتصاد المتبادل بين المسلمين وبين تلك الدول كبديل عن العالم الغربي الذي أثبت انحيازه لليهود، وانحيازه للنصارى في البوسنة، وتعصبه لمصالحه الذاتية والشخصية. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 14 إيجابيات في الحضارة الغربية ونحن نتحدث عن الغرب لا بد أن نتحدث ونشير إلى بعض هذه الإيجابيات، ويظن البعض أننا نتجاهل الإيجابيات العظيمة الموجودة في المجتمع الغربي، وأننا ننظر -فقط- للجانب المظلم أو المعتم منه، وهذا خطأ، لكن طبيعة الحديث تقتضي التركيز على ذلك، وإلا فهناك إيجابيات عظيمة، أذكر منها ثلاثاً تقريباً بإيجاز واختصار، وإنما اخترتها لأنها تتعلق بموضوع حديثناً: الجزء: 39 ¦ الصفحة: 15 صدق الغرب مع نفسه أولاً: الغرب صادق مع نفسه، وواضح، ومباشر، ومهتم بعرض المشكلات ومعالجتها في الهواء الطلق، بل والغرب يرصد الميزانيات الضخمة لمثل هذا العمل، ولدراسة المشاكل الموجودة وتحديدها، ويقيم المراكز، ويتيح لوسائل الإعلام، تلفزة أو صحافة، كل الوسائل التي تضمن قدرتهم على معالجة المشكلة وعرضها، أما نحن المسلمين فنعتمد أسلوب التعتيم، والتعمية، والتستر على المشكلات، ونعتقد أن الصمت، والزمن كفيل بحل المشكلات، مع أنه ربما يكون الصمت والزمن سبباً في زيادتها وتفاقمها. مثال: أمة معرضة للخطر كتاب -كما قلت قبل قليل- يتحدث بعد إعداد من لجنة مكونة من ثمانية عشر خبيراً يمثلون جميع القنوات الغربية الأمريكية درسوا على مدى ثمانية عشر شهراً، ثم أعدوا تقريراً نشر في العالم، وفي جميع وسائل الإعلام يتكلم عن الخطر الذي يهدد الغرب، ويهدد أمريكا، من خلال عملية التعليم ويدعو إلى الإصلاح، وما قالوا: إنه تقرير سري، ولا خاص، ولا رأوا أن في نشره إثارة لفتنة، ولا تقليلاً من ثقة الشعب بحكومته. مثال آخر: الموضوع الذي نتحدث عنه الآن، جاءتني الآن ورقة من أحد الإخوة يقول: إنك خلال كلمتك تحدثت عن مجموعة من الكتب التي نشرت في أمريكا، وهي تتحدث عن سقوط أمريكا وانهيارها، وتراجع اقتصادها، فلماذا لم يحاكم أولئك الذين كتبوا هذه الكتب؟ وهذا السؤال قرأته الآن، وهذا شيء عجيب، إن الغرب ربما يقدم جوائز لأولئك الذين ينتقدونه، والذين يتكلمون عن مشكلاته، وربما يتحدث عن كتبهم علانية، والناس يقبلون عليها، وأجهزة الإعلام تعرضها بطرق مختلفة، ولا يملك أحد أن يعترض على مثل هذه الأشياء. فمفهوم التقهقر الغربي يعالج، ويطرح على خطورته، وعلى حساسيته، وأنهم يتناولونه بشيء من الحذر أحياناً، إلا أن الكتب والصحف والمجلات، أصبحت تتناوله بوضوح، لأنهم يدركون أن السكوت عن هذا، أو إغماض الأعين لا يعني أن الغرب أصبح يترقى، ولا يعني أن الانهيار توقف، فهم يرون أنه إن كان ولا بد من الانهيار، فليكن انهياراً نشهده نحن بعيوننا، ونسعى على الأقل في تخفيف حدته، أما أن نواجهه بالمشكلة بعدما استفحلت، وتعاظمت، وأصبحت مواجهتها كالمستحيل، فلا فائدة من ذلك. وهناك ميزات أخرى في الحضارة الغربية لبسطها مقام آخر، ويفيدنا كثيراً التعرف عليها والاستفادة منها. أسأل الله تعالى أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين واليهود والنصارى والوثنيين والمنافقين وسائر أعداء الدين، آمين يا رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 39 ¦ الصفحة: 16 إرضاء الله تعالى إن الرضا بالله عز وجل رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً له مقتضيات يجب تحقيقها. ولذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن هذه الأمور التي تقتضيه، وبين كذلك كيفية تحقيقها قولاً وعملاً، وبين أنه لا ينال ثمارها ولا يستحق وعدها إلا من حققها قولاً وعملاً وأن من كان كذلك يبشر بثلاث بشائر هي: 1- حصوله على إيمان يجد لذته في قلبه. 2- غفران ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. 3- يرضيه الله يوم القيامة ويجعله من أهل الجنة. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 1 الرضا بالله ربا ً الحمد لله فاطر السماوات والأرض، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين. أيها الإخوة غاية ما يصبو إليه كل مؤمن في هذه الدنيا هو: أن يحصل على السعادة المطلقة في الدارين، وأي مطمحٍ أو مطمع يتمناه الإنسان أكثر من أن يمنحه الله في هذه الدنيا الرضا والسعادة في قلبه؛ ثم أن يصير بعد الموت إلى جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر؟! والرسول عليه الصلاة والسلام قد بيَّن لنا الطريق إلى ذلك بعبارات شتى. فنوع في القول وأبدأ وأعاد، حتى تكتمل الحجة على كل إنسان. ومن ذلك أنه عليه الصلاة والسلام حدثنا في أحاديث كثيرة؛ مبيناً أن الوسيلة إلى تحصيل هذا المطلب: هي أن يحقق العبد الرضا بالله رباً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وبالإسلام ديناً. فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وجبت له الجنة} وهذا الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن، فرتب على قول هذه الكلمة: الجنة دون أن يقيد ذلك بوقت معين، فمن قال: رضيت بالله رباً، أي: ولو قالها مرةً في عمره، على ظاهر هذا الحديث، وقد وردت أحاديث أُخر في هذه الكلمة مقيدة بأوقات خاصة منها ما رواه ابن ماجة عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد أو إنسان أو مسلم يقول حين يصبح وحين يمسي: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً إلا كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة} وهذا الحديث رواه ابن ماجة بإسناد حسن، وروى أبو داود والنسائي نحوه. فقيَّد قول هذه الكلمة بأن يقولها حين يصبح وحين يسمي -وهو كما سمعتم حديث حسن- فهو يدل على أنه يشرع لكل مسلم أن يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً. وفي حديث ثالث بين النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية قول هذه الكلمة عند سماع الأذان؛ فروى مسلم في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، ثم قال: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، غفر له ذنبه} فقيَّد قول هذه الكلمة عند سماع الأذان، ولعل المقصود أن يقولها بعد سماعه للشهادتين؛ لما ورد في رواية أخرى لـ مسلم أنه قال: {من قال حين يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله} . الجزء: 40 ¦ الصفحة: 2 الوعد المترتب على قولها في الدنيا والآخرة ففي هذه الأحاديث: وعد الرسول صلى الله عليه وسلم من قال هذه الكلمة بوعود، منها: أن يرضيه الله تعالى يوم القيامة، ومنها أن يدخله الجنة، ومنها أن يغفر له ذنبه؛ وكل هذه أشياء ثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن الله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، فإذا وعد قائل هذه الكلمة بهذه الوعود الثلاثة من غفران الذنوب، وإدخال الجنة، والرضا عنه وإرضائه؛ فلابد أن يؤمن المسلم بهذا الوعد، ويعلم أن الله تعالى من كرمه وجوده أنه إذا وعد المسلم -على عمل صالح- بوعد؛ فإنه يحققه له. أما إذا توعده على ذنبٍ بوعيد؛ فإنه قد يغفر ويعفو ويسامح؛ تكرماً منه وفضلاً. ولذلك ذكر الإمام الخرائطي في كتابهمكارم الأخلاق"أن رجلاً من المعتزلة -وهو عمرو بن عبيد - جاء إلى الإمام المقري القاري اللغوي أبي عمرو بن العلاء، فقال له: يا أبا عمرو أرأيت إذا وعد الله عبده وعداً على عمل صالح، فهل يمكن أن يخلفه الله، قال أبو عمرو: لا. لا يمكن أن يخلف الله وعده، قال: فإذا وعد عبداً على معصية بعقوبة فهل يمكن أن يخلف وعده، فقال له أبو عمرو بن العلاء: إنما أوتيت من جهلك بلغة العرب؛ لأن العرب تطلق الوعد على الأمر الصالح وعلى الخير، وعلى العِدة بالرضوان أو بالجنة أو بالعطاء، أو بما أشبه ذلك، أما ما كان عقوبةً فإن العرب تسميه وعيداً، ولا تسميه وعداً. ألم تسمع إلى قول الشاعر -وهو عامر بن الطفيل - حيث قال: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أختتي من سطوة المتهدد يعني: لا أخاف، ولا أبالي، ولا يتغير لوني من سطوة المتهددين. وإني وإن أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي فالعرب تقول الوعد فيما كان من الوعد بخير، أما ما كان بشر فتسميه وعيداً. فمن كرم الله وجوده أنه إذا وعد العبد -على عمل صالحٍ- بجزاء؛ فإنه لا يخلف هذا الوعد وهذا فيما يتعلق بالدار الآخرة. أما فيما يتعلق بالدنيا فقد روى مسلم في صحيحه عن العباس بن عبد المطلب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ذاق طعم الإيمان! من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً} . ومن ذاق طعم الإيمان، فإنه يجد السعادة في قلبه وفي حياته في هذه الدنيا؛ ولذلك فإنك تجد من هذه النصوص أن هذه الكلمة فيها سر السعادة في الدنيا وفي الآخرة. أفلا يجدر بك أيها المسلم وأنت تسمع هذا الوعد -على لسان الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام- من الله الذي لا يخلف وعده؛ أن تتأمل في هذه الكلمة؟ ولماذا رتب الرسول صلى الله عليه وسلم على قولها وتحقيقها هذه الوعود العظيمة؟ بلى، إنه لجدير بنا أن نتأمل هذه الكلمة، ونعمل على تحقيق معناها في واقع حياتنا، فأول ما ينبغي للمسلم: وهو أن يدرب نفسه ويعودها على قول هذه الكلمة مع ورده في الصباح والمساء؛ لأن النطق بها -بلا شك- فضيلة؛ لكن النطق المجرد لا يكفي -كما هو معروف- والأمور الشرعية لم يكن ترتيب الجزاء المطلق عليها بمجرد النطق بها؛ بل لا بد من أمور أخرى وراء ذلك، وسأبين بعض هذه الأشياء حسب ما يتسع له الوقت. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 3 الرضا بالله ومقتضياته فأما قولك: رضيت بالله رباً، فإنه لا بد أن يكون إخباراً عن أمر صادق ولا بد أن يكون إخباراً عن صدق؛ أما من يقول بلسانه: رضيت بالله ربا، وهو في واقع حياته غير راضٍ بالله ربا؛ فإنه إنما يكذب قوله بفعاله؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: {ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً} فلم يقل: من قال، بل من رضي يعني: حقق قوله بفعله. والرضا بالله عز وجل يشمل عدة أمور: الجزء: 40 ¦ الصفحة: 4 التوكل على الله وحده في كل الأحوال ومن تحقيق الرضا بالله رباً: ألَّا يتوجه الإنسان إلا إلى الله تعالى، فلا يطلب الخير إلا منه، ولا يطلب دفع الشر إلا منه؛ فهذا يحقق له التوكل على الله؛ وذلك لأنك حين تقول: إنني قد طلبت من فلان أمراً وقد رضيت به، معناه أنك قد اكتفيت بفلان هذا، فلم تعد تطلب هذا الأمر من غيره؛ لثقتك بحرصه على تحقيق ما تريد. وكذلك أنت حين تقول: رضيت بالله رباً؛ فإنك تعني: أنك لا تطلب الأمور حقيقةً إلا من الله تعالى؛ ولذلك ورد في صحيح مسلم وغيره في الحديث المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنه رأى أمته وقيل له: إن فيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل منزله، فبات الناس يدوكون ليلتهم في هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب. فقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يدركوا الجاهلية، وقال بعضهم أشياء، فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هم الذي لا يسترقون، ولا يكتوون ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون} . فبين أن أساس فضيلة هؤلاء الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، هي: أنهم حققوا التوكل الكامل على الله عز وجل -وعلى ربهم يتوكلون- حتى إنهم من شدة توكلهم على الله تعالى لا يسترقون، يعني: لا يطلبون من أحد أن يرقيهم فيقرأ عليهم إذا مرضوا، ولا يتطيرون أي: لا يتشاءمون أو يتفاءلون بهذه الطيور؛ لمعرفتهم بأن كل شيء بقضاء وقدر، ولتوكلهم على الله تعالى. فتحقيق التوكل على الله تعالى هو من الرضا بالله رباً، يعني: أنك رضيت بالله في تحقيق ما تحب، ودفع ما تكره؛ وحين تستعين بالناس في أمر من أمور الدنيا، فلا بد أن تدرك أن هؤلاء الناس إنما هم أسباب يحقق الله على أيديهم ما يشاء. فلا بد -حين تستعين بأحد في أمر من الأمور- أن تعرف أن هذا الإنسان الذي استعنت به؛ إنما هو وسيلة يحقق الله تعالى على يديه ما أراد لك من خير، أو يدفع بسببه عنك الشر. وهذا من الرضا بالله رباً. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 5 تحقيق العبودية لله وحده والكفر بالطاغوت ومن الرضا بالله رباً: تحقيق العبودية له، وهي تعني: ألَّا تعبد غيره، فترضى به إلهاً معبوداً، ومن المعلوم أن الألوهية: هي توحيد الله تعالى بأفعال العباد؛ فتدرك أنه لا يجوز صرف العبادة لغير الله تعالى، ثم تحقق هذا في نفسك، فتعبد الله وحده لا شريك له، وهذا يتطلب من كل مسلم أمرين: الأمر الأول: الكفر بالطواغيت وليست الطواغيت -كما يتصور كثير من السذج- محصورة في الحجارة التي كان الناس في الجاهلية ينحتونها ويسجدون لها ويعبدونها، فهذه صورة بدائية ساذجة من صور عبادة غير الله والإيمان بالطواغيت؛ فهناك مئات أو آلاف الصور التي قد يعبد الإنسان فيها هذا الطاغوت، أو يؤمن بالطاغوت غير هذه الصورة، منها مثلاً: الصورة الموجودة في كثير من البلاد الإسلامية من تقديس الأولياء، ودعائهم، وسؤالهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، ودفع الضر وغير ذلك، وهذا موجود في كثير من البلاد الإسلامية. ومنها ما يقع فيه كثير من الشباب من ذريات المسلمين من اعتناق المذاهب الأرضية البشرية المناهضة لدين الإسلام، كمن يؤمنون بالإشتراكية مثلاً، أو بالقومية، أو بالبعثية، أو بالعلمانية، أو بغيرها من المذاهب والنظريات التي وضعها الناس لتنظيم حياة البشر؛ فهي دين آخر غير دين الإسلام، يعبد الناس فيها رباً غير الله تعالى. ومن صور الإيمان بالطاغوت: تحكيم القوانين الوضعية في الأنفس والدماء والأموال والأعراض في بلاد المسلمين وهذا بلاء عم وطم، ومع الأسف أن كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم لا يفرقون بين الإسلام وبين هذه القوانين، وربما فضل بعضهم هذا القانون على دين الله عز وجل وشرعه، لأن في هذا القانون -مثلاً- مصلحة شخصية له، أو تسهيلاً عليه في أمر من الأمور، أو لأنه يعتقد أن في الإسلام قسوة أو شدة أو أحكاماً لا تتناسب مع هذا الواقع، وهذا كله كفر بالله العظيم، مؤدٍ إلى الردة الكاملة، وخروج معتقد ذلك وفاعله عن دين الإسلام إلى دين الطاغوت والعياذ بالله. ومن الإيمان بالطاغوت: أن يفضل الإنسان في واقع حياته الأشياء الدنيوية على الأمور الأصولية التي لا قيام للإسلام إلا بها فمثلاً: تجد من الشباب من يسمع منادِ الله عز وجل في كل يوم -حي على الصلاة حي على الفلاح- وبيته مجاور للمسجد، فلم تحدثه نفسه يوماً من الدهر أن يجيب هذا المنادي، ويقول: لبيك يا رب، ويأتي إلى المسجد ليصلي مع المسلمين، أو حتى يصلي في بيته، لكنه يسمع خبراً في الإذاعة أو في الجريدة أو في غيرها أن هناك دورة ألعاب تقام في مشرق الأرض أو في مغربها أو في أي أرض من الدنيا؛ فيتجشم الصعوبات، ويزيل العقبات! فإن كان عنده اختبار أجله، أو عنده ظروف تغلَّب عليها، ولو كان أهله أو أقاربه في أمس الحاجة إليه، ضرب بذلك كله عرض الحائط، وذهب من أجل هذا الأمر! فهذا يؤكد لك: أن هذا الشاب الذي استجاب لنداء الشيطان -في هذا الأمر- ولم يستجب لنداء الله تعالى -الذي يطرق أذنه خمس مرات- أن هذا الإنسان مؤمنٌ بهذا الطاغوت الذي ملأ قلبه حتى لم يعد في قلبه محلٌ لغيره، ولذلك يترك الصلاة التي يقول فيها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وفي الحديث الآخر في السنن: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} -وكل هذه أحاديث صحاح- ويرضى بالكفر، في حين أنه يرتكب أشد الصعوبات من أجل حضور مباريات رياضية. وقل مثل ذلك في أمور أخرى كثيرة. ومن صور عدم تحقيق العبودية لله والكفر بالطاغوت: أنك تجد كثيراً من الناس قد أصبحوا عبيداً للدرهم والدينار والقرش والريال. ولا يلزم من ذلك أن يصنعوا تمثالاً من ذلك، لكن أصبح هذا القرش أو الريال هو المعبود في قلوبهم؛ ولذلك في الصحيحين عن أبي هريرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة إلى آخر الحديث} . فسماه عبداً لهذه الأشياء، فنحن نجد أناساً عبيداً لهذه الأشياء إما عبودية مطلقة، أو عبودية جزئية، فمن عبيد هذه الأشياء عبودية مطلقة: من فضلوها على الأصول التي لا قوام للإسلام إلا بها، كمن يشتغل بالدنيا بالحلال والحرام وبالمضاربات الربوية، وبكل وسيلة وبالختل والغش والخداع ومع ذلك تجد أنه في سبيل هذه الأشياء، قد يهزأ بالأمور الدينية، فقد يسخر بمن يحرمون الربا أو يمنعونه، أو بمن يوجبون الزكاة، أو بمن يذكرونه بالله عز وجل، وقد يعتبر من الجنون: أن يفوت الإنسان صفقة تجارية مراعاةً لحكم شرع، فهذا عبد العبودية المطلقة لهذا القرش والريال. وقد تكون عبودية جزئية، كمن يكون قائماً بفروض الإسلام لكن قد غلب على قلبه حب هذه الأشياء، والاشتغال بها حتى فضلها على بعض الواجبات. فكل هذه الأنواع هي نوعٌ من الإيمان بالطاغوت، والمسلم لا بد أن يكفر بالطاغوت أولاً، ثم لا بد أن يؤمن بالله تعالى ثانياً، فلا بد من أن يخلي قلبه من عبادة الطاغوت والإيمان به، ثم يملأ قلبه بالإيمان بالله تعالى، وعبادته، والتوجه إليه. ولذلك كانت كلمة الشهادة -لا إله إلا الله- فيها نفي وإثبات؛ نفي الألوهية عن غير الله -وهذا يعني الكفر بالطاغوت- وإثبات الألوهية لله وحده، وهذا كقوله تعالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] . إذاً فتحقيق العبودية لله تعالى والكفر بالطاغوت هو من الرضى بالله تعالى ربا. فهذه الأشياء كلها لا بد أن يعلم المسلم أنها داخلة ضمن قوله: رضيت بالله رباً، يعني آمنت به خالقاً رازقاً محيياً مميتاً لا شريك له في ذلك، ورضيت بقضائه وقدره على نفسي وأهلي ومالي وكل ما يتعلق بي، وقنعت بما رزقني وأعطاني فلا أتسخط على ذلك ولا أجزع منه، وتوجهت إليه بالعبادة فلا أعبد معه غيره. فكل هذه الأشياء هي داخلة ضمن حقيقة الرضا بالله تعالى رباً. وأما الرضا بالإسلام ديناً فيعني أموراً: أولاً: الإيمان بالإسلام وأنه هو النظام والدين الوحيد الذي لا يقبل الله تعالى من أحدٍ ديناً سواه، ولا ينجو في الآخرة ويدخل الجنة إلا أهله. فمن اعتقد أن هناك طريقاً آخر إلى مرضاة الله والجنة غير الإسلام -مع الإسلام، أو من دونه- فهو مرتد، وهذا كما يوجد عند كثيرٍ من المنتسبين إلى الإسلام -مع الأسف الشديد- من اعتقادهم أن دين اليهود بالنسبة لليهود حق، ودين النصارى بالنسبة للنصارى حق، ودين المسلمين بالنسبة للمسلمين حق، فكأنهم يقولون: كل هذه طرق موصلة إلى الله تعالى، وأنت تجد مثل هذه الكتابات في بعض ما تكتبه مجلة العربي وتجد هذه الكتابات واضحة في فكر ذلك الكاتب المغربي المسمى: محمد أركون. فتجد التشكيك في أن الإسلام هو الدين الوحيد الحق، الذي لا يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه، فلا بد لمن رضي بالإسلام ديناً أن يعرف أن الرضا بالإسلام ديناً يقتضي أن تدرك أنه من يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، وأنه لا طريق إلى رضوان الله والجنة إلا الإسلام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ثانياً: تطبيق هذا الإسلام في واقع حياتك تطبيقاً عملياً، أما من يقول: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يرضى في واقع حياته بدينٍ آخر، أو بأديان شتى؛ فهذا من التناقض الذي لا يرضاه الله للمؤمنين. أرأيتم من يقول: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يتعامل بالربا ويرضاه ويقر به؟! أين الرضا بالإسلام؟ أين الرضا بحقيقة الإسلام؟ أرأيت من يقول رضيت بالإسلام ديناً، ثم يقر نظاماً اجتماعياً مخالفاً للإسلام، فيطالب بمنع الطلاق إلا عند القاضي، بحيث لا يقع الطلاق -ولو نطق به الزوج- إلا عند القاضي ووفق ضوابط معينة، أو يطالب بمنع تعدد الزوجات، أو يطالب بأشياء اجتماعية في قضايا المرأة والعلاقات الاجتماعية، تناوئ وتناقض دين الإسلام؟ هل يرضى الله عز وجل من إنسان أن يقول بلسانه: رضيت بالإسلام ديناً، ثم يقول في واقع حياته بصورة عملية -فيقول حاله إن لم يقل مقاله- إنه رضي بالاشتراكية ديناً، أو بـ القومية، أو بالقانون الفلاني، أو بالنظرية الفلانية، أو بالنظام الفلاني ديناً؟! هذا لا يكون. بل هذا إن قال: رضيت بالإسلام ديناً؛ فإن دين الله وشرعه يقول له: كذبت، أنت لم ترض بالإسلام ديناً؛ فالذي يرضى بالإسلام ديناً يعني أنه اختار طريق الإسلام على غيره، ولو ترتب على ذلك بعض الخسائر الدنيوية. فالإسلام له تضحيات، ومن يرضى بالإسلام سيضحي بأشياء، فقد يضحي ببعض المال، وقد يضحي ببعض المكانة، وقد يضحي ببعض العلاقات في سبيل تحقيق الإسلام، والرضا به، ولو كسب ذلك غيره ممن لم يرض حقيقة الرضا بدين الإسلام. ثالثاً: أن تجعل الإسلام هو الحكم في علاقتك بالناس، فتوالي وتعادي فيه، فمن كان من أهل الإسلام أحببته وواليته، وإن كان من غير جنسيتك أو من غير بلدك أو من غير طبقتك، ولو لم ينفعك بأمر من الأمور؛ ومن كان عدواً للإسلام مناوئاً له حاربته وأبغضته، ولو كان أقرب قريب، ولو كان جارك أو أخاك أو ابنك، ولو كان ينفعك في أمور كثيرة من أمورك الدنيوية؛ فالمقياس عندك في علاقتك مع الناس هو الإسلام. وهذه القضية مهمة -أيها الإخوة- ونحن نرى اليوم في مجتمعنا أعداداً من الشباب قد انسلخوا من هذا الدين والعياذ بالله وتطلعوا إلى غيره من الأديان البشرية الأرضية، والنظم الوضعية، والمذاهب الإلحادية وغيرها. وأصبحوا يتكلمون عن ذلك في المجالس ويجاهرون به، وقد يجتمع أفراد العائلة كباراً وصغاراً، فينبري من بينهم شابٌ حدث السن، قليل العلم غراً، فيهجم على قضايا الدين، وعلى أهل الإسلام؛ وقد يتكلم في الله تعالى أو في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في بعض نظم الإسلام وتشريعاته بملء فمه؛ ثم لا يجد من هؤلاء من ينكره عليه، أو يبين وجوب البراءة من هذا الإنسان ومحاربته بعد إقامة الحجة عليه، فقد لا تجد ذلك أحياناً. فالواقع أننا اليوم ونحن نجد هذه البوادر ال الجزء: 40 ¦ الصفحة: 6 القناعة بما قدر من أمور الدنيا ثم هناك أمر ثالث يدخل في الرضا بالله تعالى، أو قد يكون جزءاً من الرضا بالقدر؛ لكنه وجه آخر، وهو: أن يقنع الإنسان بما أعطاه الله عز وجل من الأمور الدنيوية؛ فالإنسان أُعطي أشياء هي عبارة عن مواهب أو ملكات أو أعطيات من عند الله تعالى، ليس للإنسان يد في زيادتها ولا في نقصها. فمثلاً العقل، ليس للإنسان قدرة أن يزيد من عقله أو ينقصه، وكذلك الأشياء الخلقية الطبيعية التي لا يمكن تغييرها، فهذه الأشياء ليس للإنسان يدٌ فيها، بل هي من عند الله تعالى، فلا بد أن يرضى الإنسان بالله رباً؛ فيقنع بهذه الأشياء؛ ولذلك قال الله عز وجل في سورة النساء: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:32] يعني: إذا رأيت إنساناً فضل عليك -مثلاً- بالجسم أو بالعقل أو بأي أمر آخر ليس مكتسباً يمكن التنافس فيه؛ وإنما هو هبة من الله عز وجل؛ فلا تتمنى ما أعطى الله فلاناً، أو تتسخط مما أعطيت، بل اسأل الله من فضله. ولذلك قال سبحانه: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] ولذلك على ضوء الآية كون المرأة ترى ما فضل به الرجال، فتسخط كونها خلقت امرأة، وتتمنى أن تكون رجلاً؛ فهذا ينافي كمال الرضا وحقيقة الرضا بالله رباً؛ لأنه لا سبيل إلى تغيير ذلك، ومثل ذلك كون الإنسان رجلاً أو امرأة يتمنى -من هذه الأشياء الفطرية- ما عند فلان وفلان؛ مع أنه لا سبيل إلى تغيير هذه الأمور، فهي أمور ممنوحة من الله تعالى. فهذا الأمر الأول: هي أشياء خلقية من الله تعالى. والأمر الثاني: أمور دنيوية: من المال، ومن الجاه، ومن المنزلة، ومن السلطان , ومن المكانة الاجتماعية، ومن غيرها. فقد تجد إنساناً فضل عليك بهذه الأشياء هو أغنى منك، وأوسع منك في الدنيا، وأحسن منك في المكانة الاجتماعية؛ وقد ترى المرأة امرأةً أخرى فضلت عليها بأشياء من هذه الأمور الدنيوية؛ فأيضاً يقنع الإنسان بما أُعطي من هذه الأمور ويرضى بها، ولا ينظر إلى من هو فوقه. ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {انظروا إلى من هو دونكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} فأنت في أمور الدنيا إذا نظرت إلى من هو دونك -وجرب ذلك- شعرت بحقيقة النعمة التي أنت فيها؛ لكن إذا نظرت إلى من هو فوقك شعرت بالحسرة على أنه فاتك ما عنده. ولذلك من نظر إلى من هو دونه؛ رضي بما أعطاه الله، وأذكر في هذه المناسبة قصة وقعت لأحد الناس، وهي أنه كان رجلاً لا يولد له إلا الإناث، فسخط من ذلك وضاق به صدره، حتى إن زوجته لاحظت عليه هذا الأمر، وتمنت من أعماق قلبها أن تلد ذكراً، لكن الأمر ليس بيدها، ففي أحد المرات أُدخلت زوجته المستشفى للولادة، وكان عازماً على أنها إن ولدت أنثى أنه سيطلقها ويتزوج غيرها، أو ما أشبه ذلك. وكانت زوجته خائفةً من ذلك، فلحظت عليها القابلة هذا الأمر، فسألتها فأخبرتها بالخبر، فأخبرت هذه المرأة الطبيب بذلك، وكان الزوج في الغرفة ينتظر خبر الولادة، فولدت المرأة أنثى، فقال الطبيب للمرأة: اطمئني لن يقع -إن شاء الله- إلا كل خير، فذهب إلى زوجها، وقال له: أبشر! قد ولد لك غلام، فتهلل وجه الرجل وفرح واستبشر، فقال له: ولكن هذا الغلام مشوه، فيه ارتجاج في المخ، وفيه تشويه في وجهه وفي يديه وفي رجليه، وفي سائر جسده، وبدأ يعدد له -من العيوب الخلقية في هذا الطفل المزعوم- أشياء كثيرة، حتى انقلب هذا الفرح في نفس الأب إلى حزن عميق، وعاد على نفسه يلومها، ويقول لنفسه: هذه عقوبة من الله عز وجل لي؛ حيث لم أرض بما رزقني من الإناث فعاقبني بهذه العقوبة، ونبهه هذا الأمر -الذي سمعه- وهذا الخبر، إلى تقصيره في السابق، وأن الواجب أن يرضى بما كتبه الله له، والخير فيما اختاره الله تعالى. فوطَّن نفسه على الصبر والرضا والتسليم، وبعد أن هدأت نفسه وركن إلى الله عز وجل ورضي به، قال له الطبيب: إنما ولدت لك أنثى ليس فيها عيب؛ وإنما أحببت أن تضع نفسك في موضع من هو دونك، فتصور نفسك في موقع رجل لا يولد له إلا أولادٌ مشوهون، فيهم من العاهات والآفات الشيء الكثير، فتحمد الله عز وجل؛ أو تجعل نفسك في موقع إنسان لا يولد له ألبته، فترضى بما قسمه الله لك. فلا بد أن يعرف الإنسان أن من كمال وتحقيق الرضا بالله رباً؛ أن يقنع الإنسان بما كتب له في هذه الدنيا، ولا ينظر إلى من هو فوقه في الأمور الدنيوية. أما في القضايا الدينية: من عبادة وطلب علم، ومسابقة إلى الخيرات، فينبغي أن ينظر إلى من فوقه حتى يزيده ذلك إقبالاً وحرصاً على الخير، في حين أنه لو نظر إلى من دونه لقال: أنا في خير ونعمة، وأنا أحسن من فلان وفلان، فبقي على ما هو عليه، وربما قصر في بعض الطاعات. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 7 الإقرار بربوبيته تعالى وأنه هو: الخالق الرازق المحيي المميت الضار النافع، الذي بيده تصريف الأمور وتدبيرها، وهذا القدر لا بد منه، ولكنه لا يكفي؛ لأنه حتى المشركون الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخوانه من الأنبياء والمرسلين، كانوا يؤمنون بربوبية الله تعالى، قال الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّه} [لقمان:25] فلم ينفعهم ذلك؛ ولكن الإيمان بربوبية الله أمر لا بد منه لما بعده، فلم يؤمن بربوبية الله من أنكر وجود الله تعالى كما هو مذهب الدهرية والشيوعيين الذين لا يؤمنون بوجود الله تعالى، وربما كان عدم إيمانهم لأغراض سياسية؛ لاستمرار دولتهم وحفظ مكانتها، أو للمحافظة على هذا المبدأ الذي جاء به زعيمهم ماركس. ومع الأسف أن يوجد من ذراري المسلمين في جميع البلاد الإسلامية -من الشباب الأغرار- من تلقفوا هذه المبادئ الكافرة، ورضعوها وآمنوا بها وتحمسوا لها، وأصبحوا دعاةً على أبواب جهنم، من أجابهم إلى هذه المبادئ قذفوه فيها. النوع الثاني ممن لم يؤمنوا بالله رباً: هم من يعتقدون أن هناك مصرفاً مع الله عز وجل -كما يعتقد كثير من المنتسبين إلى الإسلام- كالصوفية مثلاً، الذين يعتقدون أن من الأولياء والأقطاب والأبدال والأوتاد من لهم تصرف في شئون الكون: في الرزق، والإحياء، والإماتة، وغير ذلك. ومثلهم -بل أشد منهم وأكثر- الرافضة الذين يعتقدون أن لأئمتهم خلافة تكوينية على كل ذرة من ذرات الكون، كما يقول طاغوتهم الأكبر الخميني في كتابهالحكومة الإسلامية: إن لأئمتنا خلافة تكوينية على كل ذرة من ذرات هذا الكون. فهم يعتقدون أن هؤلاء الأئمة مشاركون لله تعالى في ربوبيته. فلا بد من الإيمان بأن الله تعالى وحده هو الرب لا شريك له في ذلك؛ ثم لا بد من تحقيق الأمر الآخر المترتب على إيمانك بربوبية الله، وهو: أن ترضى بهذه الربوبية، وأعتقد أن هناك وفرقاً بين مجرد الإقرار وبين الرضا. فالأمر الأول: نوعٌ من الإقرار بأن الله هو الرب؛ لكن الثاني: هو الرضا بربوبيته، وقد يقول قائل: إن من أقر بأن الله هو الرب، وأن تصريف الأمور كلها بيده، لا بد أن يرضى بذلك؛ لأنه ليس له مفر من ذلك. ولكن الواقع أن الأمر ليس كذلك؛ فإن كثيراً من الناس -مع اعترافهم بأن الله تعالى هو الرب- لم يحققوا الرضا بهذه الربوبية، أرأيتم من أصيب بمصيبة في نفسه أو أهله أو ماله: من فقر أو مرض أو موت قريبٍ أو حبيب أو عقم عن الإنجاب أو فقد مال، أو ما أشبه ذلك من المصائب التي تنتاب الناس في كل حين، ففرقٌ بين أن يقر في قرارة نفسه بأن الذي قدر وقضى عليه هذه المصيبة هو الله، ثم يسخط ويتجزع ويقلق، وبين أن يرضى بالله رباً، ويعلم أن هذه المصيبة هي بإذن الله، فيرضى ويسلم. ففرق بين هذا وذاك، بين من يقر بأنها من عند الله ولا يرضى بها -فهذا حقق الإقرار لكنه لم يحقق الرضا- وبين من يقر أنها من عند الله، ثم يرضى ويسلم. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 8 الرضا بأقدار الله والقدر أمر يتعلق بالربوبية، فإيمانك بالقدر: هو إيمانك بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت مقدر الأقدار، وأن كل ما في الكون هو بإرادة الله تعالى ومشيئته. فلا بد أن يرضى المسلم بقضاء الله وقدره في نفسه، وأهله، وماله؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] فمن سلم بذلك، وآمن به ورضي هدى الله قلبه حين نزول المصيبة، ومنحه من الاطمئنان والرضا والسكون ما قد يحول هذه النكبة والنقمة إلى نعمة. ويقول سبحانه: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22-23] فالإيمان بقضاء الله وقدره، والرضا به والتسليم، يمنح الإنسان الطمأنينة والهدوء والسكون عند نزول المصائب، ويمنحه -أيضاً- الأمن قبل نزولها؛ ونقص ذلك أو عدمه هو نقصٌ في الرضا بربوبية الله تعالى. وحين نتأمل واقعنا وواقع كثير من المسلمين من حولنا، نجد أن كثيراً من المسلمين يرهبون المصائب قبل نزولها، فتجد الإنسان منهم قلقاً خائفاً حتى ولو كان في نعمة، خائفاً أن تنزل به المصيبة، فهو يتوقع نزول مصيبة تفجعه صباحاً أو مساء، وهذا نوع من التشاؤم أو الاكتئاب، ومن أهم أسبابه ضعف الرضا بالله رباً. ثم إذا نزلت المصيبة وجدت من كثير من المسلمين التسخط والجزع والتبرم بالأقدار الشيء الكثير، وقد يصاب الإنسان بمصيبة في أهله، أو في ماله، يترتب عليها لشدة جزعة أن يجلب على نفسه مصيبةً أخرى؛ كمن يفقد المال فيصاب بهمٍ وغمٍ شديد، حتى ربما كان سبباً في فقد عقله أو في إصابته بمرضٍ في جسده، وربما في موته أيضاً. فأين الرضا بالله؟! أين الرضا بالله الذي يجعل الإنسان يحس بأنه عبدٌ لله تعالى يقضي الله تعالى فيه ما يشاء؟ وأين الدعاء الذي نردده في كل مناسبة، خاصة في القنوت في رمضان أو غيره: {اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك} . فمن كان يؤمن بهذه المعاني في قلبه؛ لا بد أن يتقبل قضاء الله وقدره في كل شيء بالرضا والتسليم، مع أنه سواء قبله بالرضا والتسليم أم بغيره. فالقدر النازل لا مفر منه؛ لكن من رضي بالله وسلم منح الرضا في قلبه والأنس، وحُفظ له أجره؛ ومن لم يفعل ضاع أجره، ولم يدفع شيئاً من هذه الأقدار التي نزلت به. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 9 الرضا بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ومقتضياته الأمر الثالث: هو الرضا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً: وهذا أيضاً يشمل أموراً منها: الجزء: 40 ¦ الصفحة: 10 السير على خطاه ثالثاً: والأمر الثالث الذي من الرضا به صلى الله عليه وسلم نبياً هو اتباعه، وإيثار السير على خطاه صلى الله عليه وسلم على السير على خطى غيره من البشر أياً كانوا؛ فهو أعظم أسوة وقدوة. ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فمن كان يرجو الله، واليوم الآخر فله مقنعٌ وكفاية بالتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم، واتباعه في دقيق الأمور وجليلها. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 11 الدفاع عنه صلى الله عليه وسلم رابعاً: هو أن يدفع الإنسان عن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وسيرته؛ ما يلصقه بها أعداء الإسلام -من المنافقين واليهود والمستشرقين ومن المرتدين وغيرهم- ممن يحاولون أن يشوهوا شخصية الرسول عليه الصلاة والسلام بأي صورة؛ كأن يشوهوا شخصيته بعدم العدل، أو بقضية تعدد الزوجات، أو بالحروب التي خاضها صلى الله عليه وسلم، أو بأسلوب معاملته لليهود، أو بالتشريعات التي جاء بها عليه الصلاة والسلام، أو بغير ذلك. فكثير من الناس يقرءون ما يكتبه المستشرقون، ومن سار على خطاهم من المرتدين المنسلخين عن هذا الدين، فقد يسبق إلى قلوبهم شيء من ذلك، أو لا تنكره قلوبهم؛ والذي رضي بمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، يغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويغضب من النيل منه أو الحط من قدره أو التعرض لشخصيته؛ أكثر مما يغضب لو تعرض أحدٌ لشخصيته هو، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه عن أنس: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان -وذكر منها- أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما} . فالواحد من الناس قد يغضب لو سمع سباً أو شتماً في جدٍّ من أجداده أو في قبيلته؛ ولكنه قد يسمع -أحياناً- أو يقرأ في الصحف، أو في بعض الكتب، أو في بعض الأجهزة الإعلامية نيلاً من الرسول صلى الله عليه وسلم بصفة مباشرة أو غير مباشرة فلا يغضب كما يغضب من ذلك؛ فقد ينزل في السوق -أحياناً- كتاب يتكلم عن أنساب بعض القبائل، ويكون في هذا الكتاب نوعٌ من الأخطاء العلمية كنسب قبيلة إلى غير نسبتها الصحيحة، أو أخرج عائلة من القبيلة الحقيقة التي تنتسب إليها، فتجد هؤلاء الأفراد المنتسبين إلى هذا البطن أو الفخذ أو القبيلة تثور ثائرتهم، ويغضبون ويوصلون الأمر إلى الأجهزة العليا، حتى يسحب هذا الكتاب ويعاقب صاحبه ويعاد الحق إلى نصابه -وهذا لا يلامون فيه- لكن الشيء الذي نطالب به: هو أن يكون غضبنا لله ولرسوله ولدينه أشد من غضبنا لأشخاصنا، أو لأنسابنا، أو لقبائلنا، أو لأمورنا الدنيوية المتعلقة بنا، من فعل هذه الأشياء السابقة. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 12 ثمار الرضا بالله ربا ً ثم قال وهو يفهم ما يقول، ويعني ما يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً؛ فليبشر بالأمور التالية: أولاً: أن يمنحه الله إيماناً يجد لذته في قلبه، وهذا أغلى ما يطمح إليه إنسان في هذه الدنيا. ثانياً: أن تغفر له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: أن يرضيه الله تبارك وتعالى يوم القيامة، ويجعله من أهل الجنة، وأي مطلب يبحث عنه إنسان فوق هذا! لكن هذه الأشياء لا تجعل الإنسان ينكص عن قول هذه الكلمة، بزعم أني أخشى أن أكون لم أحققها! لا، قل هذه الكلمة، وافهم معناها، واحرص على تطبيق مقتضاها بكل ما تستطيع، ولا يمنعك الضعف في تطبيق أمرٍ من الأمور عن غيره، فلا شك أن المحافظة عليها صباحاً ومساءً باللسان أمرٌ مشروع. فلا ينبغي أن يفهم من إيضاح معناها: أن يترك الإنسان النطق بهذه الكلمة؛ لأنه يقول لم أحقق معناها. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده رسولنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 13 الإيمان بنبوته ورسالته أولاً: الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم، ولذلك في البخاري وغيره من حديث البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه أن يقول إذا أوى إلى فراشه ضمن الدعاء المعروف: {آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت فلما أعادها عليه البراء، قال: آمنت بكتابك الذي أنزلت وبرسولك الذي أرسلت، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، وبنبيك الذي أرسلت} . فلابد أن تؤمن بالنبوة والرسالة، فهو نبيٌ صلى الله عليه وسلم مكلفٌ بتبليغ هذه الدعوة إلى جميع الناس، ولا يمكن أن يوجد معه أو بعده نبي آخر ينسخ دينه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 14 وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم ثانياً: وهذا لا يكفي، فقد يوجد إنسان يشهد بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، لكنه لا يرى عليه وجوب اتباعه -لسبب أو لآخر- كمن يعتقد أنه رسولٌ إلى العرب خاصة، أو رسول في وقت معين، أو أنه جاء لبيئة معينة، وهذا موجود كثيراً عند ملوثي الأفكار من المنتسبين إلى الإسلام. ومثله من يعتقد أن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست واجبة، فليس ضرورياً أن نطيعه، فنحن نصدقه لكن لا نطيعه، فهذا غير مسلم بل هو كافر؛ فمن لم يلتزم بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر، كافر ولو اعترف بنبوته، واعترف برسالته وأحبه، فهو كافر إذا لم يعترف بوجوب اتباعه وطاعته ولم يلتزم بذلك. ولذلك روى مسلم في كتاب الحيض من صحيحه عن ثوبان {أن حبراً من أحبار اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إني سائلك، قال ثوبان: فدفعته دفعةً كاد يسقط منها، قال: ولم دفعتني؟ قلت له: ألا تقول: يا رسول الله، قال: إنما أسميه باسمه الذي سماه به أهله، قال النبي عليه الصلاة والسلام: فإن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، قال: إني سائلك، قال: هل ينفعك إن حدثتك، قال: أسمع بأذني، قال: سل، فقال هذا الرجل: أين يكون الناس حين تبدل الأرض غير الأرض؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: في ظلمة دون الجسر -يعني الصراط- قال: فمن أول من يجوز -يعني يمضي على الصراط- قال النبي صلى الله عليه وسلم: فقراء المهاجرين، قال: فما تحفتهم أول ما يدخلون الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت أو النون، قال: فما طعامهم عليها؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم؟ قال: من عين تسمى سلسبيلاً، قال: صدقت، ثم قال: إني سائلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هل ينفعك إن حدثتك، قال: أسمع بأذني، قال: ما الذي يجعل الولد ذكراً أو أنثى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمع ماء الرجل وماء المرأة فماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا ماء الرجل أذكر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة أنثى بإذن الله، فقال هذا الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم: صدقت، وإنك لنبيٌ} . بل في رواية عند الترمذي وغيره، أنهما كانا رجلين فقبلا يدي النبي صلى الله عليه وسلم ورجليه، وقالا له: إنك لنبي، ولكن مع اعترافهم بنبوته لم يطيعوه؛ إما لأنهم ينتظرون نبياً آخر بعده من بني إسرائيل -كما زعم بعضهم- أو لأنهم يخافون أن تقتلهم اليهود، أو للتعصب، وهذا هو الغالب. والمهم أنهم لم يلتزموا بوجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم ذلك، ولذلك فإن التزام وجوب طاعته شرطٌ أساسي في صحة الشهادة. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 40 ¦ الصفحة: 16 واجبنا نحو ما ينشر في المجلات من أباطيل السؤال هذا أخٌ يسأل فيقول: إنه دخل عند أحد الأقارب، ووجد مجلة فيها كلام يخالف الإسلام، وهي مجلة اليقظة، وهذه الكلمة هي عبارة: عن كلام عن امرأة، وأنها امرأة تدرس وتتعلم وتخرج وعندها طموح، ويقول: إنها تؤيد عمل المرأة في كل مجال دون خوف أو تردد، فالمرأة في نظرها كالرجل متساويين تماماً، وليست كما يقولون: نصف رجل؛ لأنها أثبتت جدارتها في المناصب الكبرى، فهي وزيرة واعية ومديرة جادة ومهندسة وطبيبة وعالمة ومحاربة أيضاَ إلى آخر هذا الكلام؟! الجواب هذا الكلام ليس في مجلة اليقظة فحسب، بل في كثير من هذه المجلات التي أصبحت تغص بها مكتباتنا بل وبقالاتنا، وهذا الكلام بطلانه لا يحتاج إلى أمر، ونحن لسنا نتلقى الحكم على هذه الأشياء من مجلة اليقظة، أو مجلة سيدتي أو غيرها؛ بل نحن -بحمد الله- قد عرفنا طريقنا، فلا نأبه بهذه الأشياء؛ لكن هناك كثير من المغفلين من المسلمين تتسلل هذه الأفكار إلى عقولهم ذكوراً وإناثاَ! ولذلك أقول: إن الواجب على كل فرد منا، أن يجعل من نفسه جندياً عند باب بيته، فيفتش البضائع التي تدخل: كل مجلة، أو فكرة، بل وكل كتاب أو شريط أو أشياء معينة حتى لا يدخل إلا المواد النافعة، ويكون في يقظته وانتباهه كالجندي الذي يمسك بالمدفعية في قلب المعركة، فهو يتوقع الهجوم في كل لحظة! وبهذه الصورة يمكن أن يحافظ الإنسان على بيته. ثم إن هناك واجباً عاماً علينا تجاه المجتمع: وهو أن الإنسان إذا وجد مثل هذه الأشياء ورآها؛ يحاول أن يكتب عنها سواء كتب في الصحف أو كتب للمشايخ والعلماء، أو كتب للمسئولين في وزارة الإعلام، لأنه مع كثرة الضيق والتبرم من هذه الأشياء وكثرة الشكوى، ينتبه من كان غافلاً. ولذلك فقد قرأت اليوم في إحدى الصحف: أن وزارة الإعلام قد منعت دخول ثلاثة وعشرين مجلة من هذه المجلات الفنية المتخصصة؛ وهذه خطوة طيبة كان يجب أن تتم منذ زمن طويل، لكن ربما تكون -مثل- هذه الخطوة بسبب جهود بعض الناس في الكتابة عنها، والتنبيه عليها. وكذلك بعض الأفلام: علمت أنها منعت بسبب أنه كتب عنها، فلو أن كل إنسان اطلع على مثل هذا الشر كتب عنه للمشايخ والعلماء أو للمسئولين في الإعلام أو لغيرهم، وردَّ عليها في الصحف، فسيصبح هناك رأي عام عند الناس معارض لهذه الأشياء. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 17 صحة حديث: رضيت بالله ربا ً جزى الله فضيلة الشيخ على ما قدم، فقد أفاد وأجاد، ونسأل الله أن يجعلها خالصة لوجه الله تعالى، وفي ميزان حسناته يوم القيامة. السؤال فضيلة الشيخ: ما مدى صحة ثبوت ذكر هذا الدعاء في أذكار الصباح والمساء، مع ذكر من صححه من العلماء؟ الجواب ذكرت أن الحديث ورد بعدة ألفاظ منها: {من قال: رضيت بالله ربا} الحديث وهذا في رواية أبي سعيد، ومنها: {من قال حين يمسي} وهذا قد لا أكون ذكرته في حديث ثوبان: {من قال حين يمسي} وفيه ضعف؛ لأن فيه أبو سعيد سعد بن المرزوبان، وهو ضعيف مدلس. وفي اللفظ الثالث في حديث أنس من قال: {أيما عبد أو إنسان أو مسلم قال حين يصبح وحين يمسي} وهذا عند ابن ماجة بسند حسن، وهو أيضاً عند أبي داود والنسائي وغيرهما بلفظ مقارب. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 18 الحزن على ما فات ومعنى كلمة: خيرة السؤال يقول السائل: فضيلة الشيخ عندما يفوت على الإنسان أمرٌ من الأمور مثل أن يفوت عليه سنة من دراسة أو سنتين، فهذا الإنسان عندما يتذكر ذلك يحس بحزن في نفسه، فما هو جواب من كان على هذه الصفة؟ وله سؤال آخر يقول: يقال لمن حصلت له مشكلة أو مصيبة: خيرة، فما معنى هذه الكلمة؟ الجواب خيرة أي: لعل ما نزل بك خيرٌ لك، وإن كنت لا تحبه ولا تتمناه. أما حزن الإنسان على ما فاته من أمور الخير، فهو من الحزن المحمود الذي ينبغي أن يدفعه إلى أن يعوض وينشط في مستقبل الأيام ويتدارك ما فاته، فهذا الحزن هو أمرٌ جبلي وطبيعي؛ بل هو محمودٌ لأنه يدفع الإنسان إلى المسارعة في أعمال الخير في المستقبل. أما إن كان هذا الحزن مدعاة لأن يقعد الإنسان، ويقول: فاتني الركب ولا أستطيع! فهو حينئذٍ ينقلب إلى نوع من التحسر المذموم. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 19 بطلان حجة استجابة الدعاء عند القبور السؤال ذكر الإمام الذهبي في السير -في ترجمته لأحد السلف-: أن الدعاء كان مستجاباً عند قبره! فما رأيكم في هذه العبارة؟ الجواب هذه العبارة لا شك أنها خطأ! لأن قصد القبور للدعاء غير مشروع، بل هو من البدع المحدثة، ثم دعوى أن فلاناً يجاب الدعاء عند قبره؛ فهو الآخر غير صحيح، والذي أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الأدعية هو: أن هناك أوقاتاً فاضلة للدعاء، وأحوالاً فاضلة ينبغي للإنسان أن يتحراها؛ وكذلك أرشدنا إلى ألفاظ وعبارات وأدعية يحرص الإنسان على معرفتها والدعاء بها. أما قصد قبر أحد، فهو بدعةٌ محرمة، ودعوى أن الدعاء يستجاب عند قبره هي خطأ وغير صحيحة وكلٌ يأخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 20 كيف يكون الداعية محبوبا ً السؤال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فأرجو من فضيلة الشيخ أن يبين كيف يكون الداعية محبوباً من جميع الناس؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب كونه محبوباً من جميع الناس، فهذا يطلب المحال! لكن يكون محبوباً من أهل الخير والصالحين، فهذا قد يكون ممكناً، ومن أعظم وسائله: أن يصلح ما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الله إذا رضي عن العبد أحبه، وإذا أحبه كتب محبته في قلوب عباده الصالحين -كما ورد في الحديث الصحيح- ومن أهم وسائله: الإحسان إلى الخلق. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم وليس المقصود أن يستعبد الإنسان قلوب الناس؛ إنما المقصود: أن الإحسان سببٌ في توجه قلوب الناس لهذا الإنسان بالمحبة. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 21 دفع الضر لا ينافي الرضا بالله ربا السؤال وهذا سؤال يقول: هل محاولة دفع الضر عن الإنسان يعتبر من عدم الرضا بقضاء الله، وبالله رباً، وبما قدره؟ وإذا قدر وأن إنساناً كان فقيراً أو جاهلاً، فيقول: أنا قد رضيت بالله رباً، وبما قدر، ثم لا يعمل ولا يحاول التغيير؟ الجواب أما دفع الضر: فهو مطلوب، والإنسان وغير الإنسان بطبيعته يحاول أن يدفع الضر عن نفسه ما استطاع. فدفع الضر عن الإنسان مطلوب! بل لا يسع الإنسان شرعاً أن يعلم أن هناك ضرراً سيصيبه وهو يستطيع دفعه فلا يدفعه؛ فهو كغيره من الأسباب المشروعة. أما من لا يعرف هذه الكلمة ولا يعلم معانيها ولا يحاول التغيير؛ فينبغي أن يعلم -وقد بينت- أن قول هذه الكلمة بحد ذاته هو ذكر لله تعالى، يؤجر عليه الإنسان إذا صلحت نيته. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 22 سؤال الله الدنيا وكثرة المال السؤال إني أحب أن أكون في مرتبة عالية من الدنيا، فأقول: اللهم نجحني نجاح الدنيا كل مرة، وارزقني الدرجة العالية، وأحب أن يكون لي مال كثير وأدعو بذلك، فما حكم ذلك؟ جزاك الله خيراً. الجواب وجهنا الله تعالى إلى ذلك حيث قال: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فسؤال الإنسان ربه من فضله أمر من العبادة، والدعاء هو العبادة: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وكون الإنسان كلما نزلت به حاجة أنزلها بالله، فهذا من ثقته بالله، فحسن بالإنسان أن يسأل الله تعالى كل ما يحتاج من الأمور: لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب لكن عليك ألَّا تنظر إلى من هو فوقك فتحسده على ما هو فيه، كمن تقدم عليك في الدراسة أو في المال أو في غير ذلك؛ ثم عليك أن تتطلع إلى الآخرة أكثر من أن تتطلع إلى الدنيا، فلا تجعل همك الدنيا، وسؤالك الله أموراً دنيوية بحتة؛ بل احرص على أن تسأل أموراً أخروية أكثر من أن تسأل هذه الأمور الدنيوية. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 23 شمولية الرضا بالله للدين ووجوب الاتباع السؤال بسم الله الرحمن الرحيم: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً وبالقرآن إماماً نرجو من فضيلتكم التحدث عنه -علماً بأنه حجة الرسول- فقال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] . الجواب إن كان السائل يقصد: زيادة وبالقرآن إماماً، فلا تشرع هذه الزيادة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام الذي رضيت به رسولاً أرشدك على أن تقتصر على هذه العبارات الثلاث: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً وإلا فقد يتطلب منك الأمر -إذا أردت الدخول في التفاصيل- أشياء كثيرة، تبين أنك رضيت بها، كأن -مثلاً- ترضى بالصحابة مبلغين للدين، أو ترضى بالإٍسلام في منهج كذا أو في منهج كذا، أو ما أشبه ذلك، لكن رضاك بالله تعالى وبالإسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن رضاك بالقرآن؛ لأن الذي جاء بالقرآن هو الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى، فالقرآن كلام الله، ومادمت رضيت به فقد رضيت بكتابه، والرسول صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وما دمت رضيت به فقد آمنت بهذا البلاغ الذي جاءك به، والدين الذي قرره القرآن هو الإسلام؛ ولذلك -مثلاً- الإيمان بالآخرة وبالجنة وبالنار وبالملائكة وبغيرهم كل هذا في الجملة داخل في العبارة السابقة، بدون حاجة إلى التفصيل؛ لأنك إذا رضيت بالله وبالرسول عليه الصلاة والسلام، وآمنت به فالمعنى أنك آمنت بكل ما جاء به، آمنت بالبعث، وآمنت بالجنة بالنار، وبالملائكة، وباليوم الآخر، وبالقدر، وبالنبيين، وبالكتب السابقة، كل هذا داخل في العبارة التي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 24 تمني الخير لا ينافي الرضا بالله السؤال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: إني أحبك في الله وأرجو منك ألا تنسانا من دعائك الصالح، ويقول: هل من يتمنى أن يكون حليماً مثل فلان ممن اشتهروا بالحلم أو الكرم -وغيرها من الصفات المحمودة، ويقول: اللهم اجعلنا مثل فلان- ينافي الرضا؟ الجواب أحبك الله كما أحببتني فيه، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياك وجميع إخواننا المستمعين وجميع المسلمين ممن رضي به رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأن يميتنا على ذلك. أما مسألة تمني هذه الخصال الحميدة، فسبق الكلام عنها خلال الكلمة السابقة، فهذه من الأمور الخيرة والصالحة التي ينبغي للإنسان أن ينظر فيها إلى من هو فوقه، ويحرص على الوصول إلى ما وصل إليه؛ فإن هذه الخصال من الإسلام، والحرص على تحقيقها أمر مشروع، ولا ينافي الرضا بل هو أمر مطلوب كما ذكرت. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 25 إرضاء الله وصلة الرحم السؤال من تحقيق رضا الله: صلة الرحم، وأختي لديها ولد لا يصلي، وإذا وصلتها وأعطيتها مالاً فسينتفع منه هذا الذي هو مصرٌّ على ترك الصلاة، فهل أقطعها أم أصلها، أرجو التفصيل؟ الجواب ما دامت أختك محافظة على الصلاة فصلتها حقٌ، وكونك تصلها بالزيارة والمساعدة والمال وغير ذلك؛ فكل ذلك مشروع. أما ولدها فلا تعطه شيئاً، ولا تساعده في هذه الأمور إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ويحافظ على الصلاة. وأما الحق الذي عليك له -إن استطعت- فهو: أن تناصحه في الله تعالى، وتبين له عظم شأن الصلاة ووجوب أدائها وما أشبه ذلك؛ فإن لم يُجدِ فيه شيئاً؛ كان عليك أن تبين لأختك الطريقة الصحيحة في معاملة هذا الولد، بالضغط عليه حتى يصلي، أو هجرانه ومباعدته وإبعاده عن المنزل -متى كان ذلك ممكناً- وأما صلتك لأختك فلا شيء فيه. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 26 معنى مقولة: كفر دون كفر السؤال أرجو توضيح هذه المقولة والتفصيل فيها -إن كانت تحتاج إلى تفصيل- والمقولة هي: كفر دون كفر، هل هي صحيحة أم لا؟ وجزاكم الله خيراً؟ الجواب مقولة كفر دون كفر هذه، ثبتت عن ابن عباس رضي الله عنه، في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] فقال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، أي: الخوارج، وإنما هو كفر دون كفر، وهي صحيحة كفر دون كفر، وفسق دون فسق، وظلم دون ظلم، كل هذه الأشياء صحيحة، بمعنى أن الكفر كفران: أولاً: كفر أكبر ينقل عن الملة: وذلك كعبادة غير الله أو دعائه، أو الشرك بالله تعالى، أو اعتقاد أن هناك نظاماً خيراً من نظام الإسلام، أو مثله، أو اعتقاد أن الإسلام لا يصلح للتطبيق في هذا العصر مثلاً، أو تحكيم القوانين الوضعية في رقاب المسلمين ودمائهم وأموالهم، واستباحة ذلك. فكل هذه الأشياء هي من الكفر الأكبر الناقل عن الملة. أما النوع الثاني: فهو كفر دون كفر، وذلك كما ورد في نصوص كثيرة أنه: {أيما عبد أبق من مولاه فقد كفر حتى يرجع إليه} أو أن: {من أتى امرأة في دبرها فقد كفر} أو {من انتسب إلى غير مواليه، أو إلى غير أبيه فقد كفر} أو قوله عليه الصلاة والسلام: {ثنتان من أمتي هما بهم كفرٌ، الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت} إلى غير ذلك من الأمثلة. فكل هذه الأشياء هي من كفر المعصية -الكفر الأصغر- فهو كفر لا يخرج عن الملة، وقل مثل ذلك في الفسق، فالفسق قد يطلق على الكفر كما في قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقا} [السجدة:18] يعني كمن كان كافراً، لقوله بعد ذلك: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} [السجدة:20] . فالفسق قد يكون فسقاً أكبر، يعني: كفراً مخرجاً من الملة، وقد يكون فسقاً دون ذلك كسائر المعاصي التي يرتكبها الإنسان. وكذلك الظلم قد يكون ظلماً أكبر بالكفر، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] وقد يكون ظلماً دون ذلك كظلم الإنسان نفسه بألوان المعاصي. الجزء: 40 ¦ الصفحة: 27 وذروا ظاهر الإثم وباطنه أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بترك الإثم الظاهر منه والباطن، لأن في تركه النجاة والخلاص في الدارين، والإثم الظاهر هو الإثم الذي يظهر للناس ويجاهر به، ويعاقب المجتمع كله به، ففي الحديث: كل أمتي معافى إلا المجاهرين، والمجاهرة قد تكون لمعاصٍ شخصية يجاهر بها أصحابها في المجتمع، وقد تكون أيضاً بالسكوت عن معاصٍ معلنة متفشية في المجتمع يحرسها القائمون على أموره كمعصية الربا ومؤسساته المنتشرة في كل بلاد المسلمين. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 1 مكانة المسجد في الإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وحييتم في هذه الروضة من رياض الجنة تتبوءونها بمجلسكم هذا، فإنه {ما مشى عبد إلى مسجد من مساجد الله عز وجل لأداء فريضة من فرائض الله؛ إلا كانت خطواته إحداهما ترفعه درجة، والأخرى تحط عنه خطيئة، ولا تزال الملائكة تدعو له وتستغفر له ما دام في مصلاه ذلك ما لم يؤذ فيه} . فهذا خيرٌ عظيم، وهو إعادة للدور والمكانة التي كان يتبوؤها المسجد في عهود الإسلام الأولى حين كان المسجد هو حلقة الدرس والجامعة التي تخرج الأجيال، وكان المسجد هو ميدان التدريب على الرماية وفنون القتال، وكان المسجد هو مجلس الشورى الذي يتدبر فيه المسلمون أمورهم، يتشاورون فيما بينهم، ويتباحثون فيما يعرض لهم، ثم مرت بالمسلمين أحقاب وأزمنة عمروا فيها المساجد وشيدوها، ورفعوا فيها المنائر، وفخموا فيها الأبنية، واعتنوا بذلك أتم عناية، ولكنهم أهملوا الحقيقة التي من أجلها وجد المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] . إن رفعها ليس ببنائها فحسب، ولا بتشييدها فقط، إنما رفعها الحق هو بإقامة ذكر الله تعالى فيها، وجعلها مجلساً للدرس، والبحث، والتعلم، والجدال بالتي هي أحسن، وبإعادة مهمتها، ومكانتها التي أوجدت لها، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً مباركاً فيه أن عادت المساجد اليوم في رقاع العالم الإسلامي إلى ما كانت عليه أول الأمر، فأصبحت المساجد اليوم منطلقاً للدعوة، ومكاناً للدروس وحلق العلم والمحاضرات، وميداناً لنشر الكتاب والشريط، وموضعاً لإعلان الفتاوى العلمية التي يصدرها أهل العلم في بلاد الإسلام، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين وغيرهما من أهل العلم وأئمته. فالحمد لله على ذلك كثيراً، والحمد لله أن رأينا بأعيننا كيف عمرت المساجد بحلق تحفيظ القرآن الكريم، وحلق تحفيظ السنة النبوية، ودروس العلم، ومحاضراته، وغير ذلك مما هو نافع مفيد، ثم شكراً لله تعالى شكراً، وحمداً له حمداً، أن وفق مكاتب الدعوة في سائر البلاد -في هذا البلد وفي غيره- إلى المساهمة في هذا الإحياء الإسلامي المنشود لدور المسجد ورسالته، وهذا يجعلنا حريصين أشد الحرص على دعم مكاتب الدعوة بقدر المستطاع، والوقوف إلى جانبها، ومساعدتها في أداء مهمتها ورسالتها بكل غالٍ ونفيس. ومن ذلك دعمها الدعم المادي، فإن مكاتب الدعوة على رغم الدور العظيم التي تقوم به في هذه البلاد، إلا أنها تفتقر إلى الدعم المادي الذي يمكنها من أداء رسالتها، وهي لا تستطيع أن تقوم بهذه المهمة إلا بأن تمدوا -أنتم أيها الإخوة الحاضرون، وأيها الإخوة المستمعون- أن تمدوا أيديكم إليها بالعون والمساعدة المادية والمعنوية. وإنني أقول لإخوتي الأحبة الكرام: حقٌ علينا جميعاً أن نقف صفاً واحداً، وكلمةً واحدة، ويداً واحدة في سبيل نصرة الحق والدين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] . فـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] انصروا الله تعالى في أنفسكم، وفي أموالكم، وفي بيوتكم، وفي مساجدكم، وفي مسئولياتكم، وفيما ولاكم الله -تعالى- واسترعاكم عليه، يخلف لكم الله تعالى بذلك أجراً وذخراً، وهو المطلع على ذلك: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 2 سياق الآيات السابقة لقوله تعالى (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) عنوان هذه المحاضرة أيها الأحبة: هو جزء من آية من كتاب الله جل وعز: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة السبت السابع عشر من ذي القعدة من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، في مدينة المذنب، في مسجد الجمل. {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] إنه منتزع من تلك الآية الكريمة الآية مائة وعشرين من سورة الأنعام، قال الله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْأِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120] وقد جاءت هذه الآية الكريمة بعد تطواف طويل في السورة، في عدد من أصحاب الجرائم والكفر والمعصية لله تعالى، تحدثت الآيات قبلها عن الذين أنكروا الوحي والنبوات، وأجلبوا في وجه الرسل عليهم الصلاة والسلام وقالوا {إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] . فأبدوا قراطيس، وأخفوا حقائقها ومعانيها وجواهرها؛ لأنهم أظهروا ما لا بد من إظهاره، وكتموا الحق الذي اؤتمنوا عليه، فكانوا كما قال الله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] وجاءت هذه الآيات بعد ما ذكر الذين يدعون نقيض ذلك، فيزعمون أن الله تعالى اختارهم واصطفاهم، وأنزل الرسل عليهم بكرة أو عشياً، ويقولون: قد أنزل علينا الوحي، فعاتبهم الله تعالى وجلَّى كذبهم وزيفهم، وقال سبحانه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام:93] وهؤلاء ما ادعوا دعواهم العريضة تلك بتنزل الرسل عليهم، ومجيء الوحي إليهم، إلا من استكبار في أنفسهم وإثم في قلوبهم، دعاهم إلى أن يدعوا ما ليس لهم بحق، وما زال ورثة هؤلاء الكذابين الأفاكين، قائمين إلى اليوم. وقبل أيام أعلن التليفزيون اليمني عن رجل يدعي النبوة، ويقول: إن ماءه الذي يوجد في بئره خيرٌ وأكثر بركة من ماء زمزم، لأن ماء زمزم مذكر، وماؤه هو مؤنث، وهو خير منه! وادعى أن الملائكة تنزل عليه بوحي الله عز وجل، وأنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويقدر على شيء من ذلك كثير، وأتيحت له وسائل الإعلام في الوقت الذي يحال بين دعاة الحق ودعاة الهدى وبين هذه الوسائل بشتى الأساليب، والطرائق، والحيل، والألاعيب. وجاءت هذه الآيات الكريمة بعد ما ذكر الله تعالى الذين أشركوا به آلهة أخرى، وأشركوا، واتخذوا من دونه أنداداً: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ} [الأنعام:100] . فهؤلاء الذين أشركوا بالله عز وجل ما أشركوا به إلا لمرض قلوبهم بالشهوة أو بالشبهة، وعبادتهم غير الله عز وجل، وتقصيرهم في معرفة ما يجب لله، وتعظيمهم لبعض المخلوقين تعظيماً أوصلهم إلى أن رفعوهم إلى مقام الألوهية، وجعلوا لهم شركة في العبادة، فأشركوا مع الله تعالى الجن أو غير الجن. وجاءت هذه الآية الكريمة بعد أولئك الذين ادعوا دعوة عريضة أنهم أهل للإيمان وأهل للتقوى، وأنه متى جاءتهم الحجج البينة والآيات الظاهرة آمنوا بالله عز وجل، قال الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:108-109] فهم يدعون أن توقفهم في الإيمان هو من باب التثبت والتحري والبحث والصبر، وأن الذين أسرعوا في الإيمان هم من ضعاف العقول، وضعاف النفوس، السريعين إلى قبول كل قول، ولهذا أقسموا بالله جهد أيمانهم. فأنت تتصور بين عينيك إنساناً بطوله وعرضه وبلسانه الفصيح المبين، يقسم بالله أيماناً تُرَوب الماء، وليس اللبن، أنه لو جاءته حجة ظاهرة وآية بينة لآمن وأسلم، ولكن الله تعالى يقول: هم كاذبون، وإذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون، وإنما حال بينهم وبين الإيمان أنهم رأوا الحق فأعرضوا عنه، ولهذا حيل بينهم وبينه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:109] . جاءت الفرصة فأعرضوا عنها، فعاقبهم الله عز وجل بأن حال بينهم وبينها، وجعل أفئدتهم وأبصارهم زائغة لا تستقر على حال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أما أولئك الذين أسرعوا للإيمان فهم أهل التقوى والصدق وأهل النقاء والنظافة في قلوبهم، ما حال بينهم وبين الإيمان كبر ولا غطرسة ولا أنفة في قلوبهم ولا تعاظم في نفوسهم، وما قالوا: {لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} [الفرقان:21] بل قالوا {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء:46] وأجابوا داعي الله عز وجل. وجاءت هذه الآية بعد ذكر الذين يتمردون على شريعة الله، ويعاندونها بالباطل، يجلبون في وجه الحق بشبهات من عندهم يزخرفونها بجميل القول وحسن العبارة، ويأتون بالقانون المعارض لشرع الله تعالى، ويأتون بالهوى المعارض للحق، ويلبسون به على الناس: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . فهم يتعاونون فيما بينهم: (شياطين الإنس وشياطين الجن) يتعاونون على الزخرفة والتلبيس على الناس، قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} [الأنعام:112] ثم قال: {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ} [الأنعام:113] فلا يصغي لهم أذنه، ولا يلين لهم قلبه، ولا يجعل لهم عقله ميداناً، إلا أولئك الذين لم يؤمنوا بالآخرة، ولم يجعلوها في حسابهم، فتلبست بهم الشبهات، واجتالتهم الشياطين، وأعرضوا عن الحق أيما إعراض، ورضوا بحكم الهوى عن حكم الله جل وعلا. بعد ذلك ذكر الله تعالى أيضاً الأكثرية من الناس التي رضيت بالباطل وقبلته، بل أصبحت من الدعاة إليه: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] . لأنهم إما مقلد أعمى يغتر بمعسول القول وحلو العبارة، وينخدع بما تروج له أجهزة الإعلام، فيقرأ في الصحف العناوين العريضة، ويشاهد في التلفاز البرامج المرئية المؤثرة الكثيرة، ويسمع في الإذاعة حسن القول ومعسوله، ويقرأ في الكتب القصص، والأشعار، والقصائد، والتحاليل، والأخبار، والدراسات التي توصف بأنها تاريخية وعلمية وموضوعية وغير ذلك من الألفاظ والألقاب الفضفاضة؛ فينخدع بذلك فيتحول من إنسان على فطرته إلى شخص منخدع بالباطل، ثم ينتقل بعد ذلك خطوة أخرى ليصبح داعية إلى الضلالة، من أطاعه أضله عن سبيل الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] . إن أكثر الناس إنما هم مقلدون، عقولهم وقلوبهم هي مسرح لآراء الآخرين، قد رضوا أن يفكر عنهم غيرهم، وأن ينظر في الأمر سواهم، ثم يملي عليهم ما وصل إليه، فيقبلون ذلك منه، ويرددونه بألسنتهم دون أن تعيه قلوبهم، ولو نظرت عبر التاريخ كله لوجدت أن الجاهلية التي واجهت الرسل عليهم الصلاة والسلام كان لها زعماء يغرون العامة، ويقولون لهم: {لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً} [نوح:23-24] . بعد ذلك ذكر الله عز وجل في الآيات موضوع الأكل مما ذكر اسم الله عليه، وأن المؤمنين عليهم أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وذبح بالذكاة الشرعية، قال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ} [الأنعام:119] . لقد قال المشركون لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه: أنتم تأكلون ما ذكيتم، ولا تأكلون ما ذبح الله عز وجل، فتأكلون ما ذبحت أيديكم، ولا تأكلون ما ذبحه الله بسكين من ذهب؛ يعنون الميتة، لماذا تفرقون بين هذا وذاك؟ هذا من وحي الشياطين، شياطين الجن والإنس الذي هو قانون وضعي يعارضون به شريعة الله تعالى، فشريعة الله تقول المذكى حلال، المذكى باسم الله على يد مسلم أو كتابي هذا حلال، أما شريعة الطاغوت فتقول: حتى الميتة حلال، والدم حلال، لماذا؟ لأنها مما ذبحه الله عز وجل، فالحكم أنها حلال في شريعة الطاغوت، والتعليل أو الدليل أنها مما ذبح الله، وهذا من تلبيس الشيطان على بني آدم، فهو من وحي شياطين الجن تلقفه عنهم شياطين الإنس، ورموا به في وجوه المؤمنين بالتشبيه والتشكيك، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} [الأنعام:121] أي: في تحليل الحرام أو تحريم الحلال واعتقاد ذلك {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] { الجزء: 41 ¦ الصفحة: 3 نظائر هذه الآية في القرآن الكريم لهذه الآية الكريمة نظائر في كتاب الله جل وعز، وهي في موضعين: أولهما: قوله تعالى في سورة الأنعام: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] . والآية الثانية هي في سورة الأعراف: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] والقرآن مثاني كما قال الله عز وجل يشهد بعضه لبعض، ويؤيد بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، فالإثم الظاهر والباطن هو الفواحش ما ظهر منها وما بطن المذكور في الآيتين. قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه العظيم مدارج السالكين قال ما خلاصته: إن العبد لا يستحق اسم التائب استحقاقاً كاملاً تاماً إلا إذا ترك جميع المحرمات التي نهى الله تعالى عنها في القرآن، ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عنها في السنة، والمحرمات اثنا عشر جنساً، ذكرها الله تعالى في كتابه، هي الكفر، والشرك، والنفاق، والفسوق، والعصيان، والإثم، والعدوان، والفحشاء، والمنكر، والبغي، والقول على الله تعالى بغير علم، واتباع غير سبيل المؤمنين. ثم قال رحمه الله: فهذه عليها مدار ما حرم الله عز وجل، وعامة الخلق يرجعون إليها ويقعون فيها إلا من عصم الله جل وعز من أتباع الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد يكون في الرجل أكثرها، أو أقلها، أو خصلة منها، وقد يعلم ذلك أو لا يعلمه، والمعصوم من عصمه الله تعالى. فينبغي أن تعلم هذه الأصول من المحرمات، وأن تعلم أن من أعظم ما جاءت به الرسل النهي عن هذه المحرمات، والتحذير منها بكافة الوسائل والطرق. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 4 دلالة الآية ثالثاً: دلالة الآية: الآية أمرت بترك الإثم، وهو المعصية التي توجب الإثم، وإنما سميت المعصية إثماً لأنها سبب في الإثم الذي يلحق العبد، ولهذا سمى العرب الخمر إثماً، كما قال شاعرهم: سقوني الإثم ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور أي: سقوني الخمر، وقال آخر في مجلس أبي العباس: نشرب الإثم بالصواع جهارا وترى المسك بيننا مستعارا أي: يشربون الخمر، وقال شاعر جاهلي ثالث: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول وإنما سميت الخمر إثماً لأنها سبب في الإثم، أو داعية إليه. ولهذا قال مجاهد في تفسير هذه الآية: المقصود بالإثم الظاهر والباطن معصية الله تعالى في السر والعلانية، وعبارة المفسرين كلهم تدور حول هذا المعنى؛ وهي أن الآية قسمت الإثم إلى قسمين: الأول: إثم ظاهر يراه الناس بعيونهم، أو يسمعونه بآذانهم ويعرفونه. والنوع الثاني: إثم باطن لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا القليل من الناس. ثم توعد الله تعالى الذين يكسبون الإثم أن يكون كسبهم للإثم خسارة عليهم يوم الحساب: {سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ} [الأنعام:120] أي: من الجرائم والآثام متى؟ {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 5 تعريف ظاهر الإثم رابعاً: ظاهر الإثم: ما هو ظاهر الإثم؟ ظاهر الإثم: علانيته، كما قال قتادة، والربيع بن أنس، وأبو العالية، ومجاهد، والزجاج وغيرهم من المفسرين، وذكر ذلك الطبري، وابن كثير، وابن الجوزي، وسواهم، وظاهر الإثم أو علانيته يشمل أموراً منها: أولاً: المجاهرة بالمعصية وإعلانها على الملأ، وقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل أمتي معافىً إلا المجاهرين} أي: المعلنين بالمعاصي الذين لا يستترون بها، والمجاهرة بالمعصية تضاعف إثمها، فإن العاصي إذا استسر بمعصيته ضر نفسه فقط، أما إذا جاهر فإنه يكون بذلك ضر المجتمع كله، وجرَّأ آخرين على الوقوع في الإثم، أو تقليده في ذلك ومحاكاته، وبذلك انتقلت لوثة المعصية إلى المجتمع كله، فتنفسها الناس في الهواء، وشربوها مع الماء، ورضعوها مع لبن الأم، وتعاطوها بكل حال؛ لأنها أصبحت جزءاً من أعراف المجتمع ورسومه، يفعلها الجميع علانية لا يستترون بها، ولا يدارون عنها. متى يجاهر الإنسان بالمعصية؟ إنه لا يجاهر بها إلا إذا كان في قلبه استخفاف بالذنب، وجراءة عليه، وتهاون بالمجتمع، ولا يجاهر بالمعصية أيضاً إلا إذا كان المجتمع مقصراً أو مفرطاً بشريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاحتساب على الخطاة والجناة والعصاة، فهو يسكت ويجامل ويستحي، يسكت عن هذا لقرابته، ويسكت عن هذا لمنزلته، ويسكت عن هذا لإمارته أو سلطانه، ويسكت عن هذا لمنصبه، ويسكت عن هذا لتجارته. وبذلك يستمرئ الناس المعصية، فيعذب المجتمع كله بسببها، ولو كان الذي يفعلها قليلاً، فإن الناس إذا رأوا المعصية، ورأوا المنكر فلم يغيروه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب، كما جاء ذلك في أحاديث صحاح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا لا يعني أبداً أن المجاهر بالمعصية يكفر بذلك، كلا! بل هو آثم فاسق، ولكنه لا يكفر ما دام معتقداً أن المعصية حرام، إنما يبقى الحديث على ظاهره: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} . يبقى ليكون أهيب في النفوس، وأوقع في القلوب، وأردع عن الوقوع فيما حرم الله تعالى، ولهذا مجرد المجاهرة ليست كفراً، ولكن ننطق بما نطق به الصادق المصدوق أن كل الأمة معافى إلا المجاهرين فهم غير معافين، وكيف يكونون في عافية وهم يجاهرون ويبارزون الله تعالى بالمعصية؟! ولهذا قال السدي، والضحاك وغيرهما في هذه الآية {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] قالوا: ظاهر الإثم أولات الرايات، وباطنه أولات الأخدان. ما معنى هذا الكلام؟ معناه: أنه كان في الجاهلية نساء يعتبرن الزنا حرفة ومهنة يقمن بها، وهذا معلن، وتضع الواحدة منهن الراية على بيتها، حتى يعرفها الغريب فيأتي ويأوي إليها، إنها تعلن بجريمتها وإثمها، وتتظاهر بذلك، فهذا من ظاهر الإثم. أما باطن الإثم فهن أولات الأخدان؛ أن تجعل الواحدة لها صديقاً تخادنه، وترتكب معه المعصية، ولكنها لا تتعاطى ذلك مع الجميع، وهذا مشهود موجود حتى في مجتمعاتنا، فأنت تجد من المنحرفات وصاحبات النفوس المريضة اللاتي تغلبت عليهن الشهوة، تجد منهن من تركض مع كل من أخذ بيدها، عرفته أو لم تعرفه؛ لأنه داخلها من ذلك والعياذ بالله تعلق بالشهوة وتربص بها وركض وراءها، فهي لا تعف عن شيء، ولا تتردد في شيء. وفي بعض بلاد الإسلام -مع الأسف الشديد- مع أنها بلاد إن لم تكن أغلبيتها مسلمة، فكل سكانها يقولون إنهم مسلمون، ومع ذلك قد تجد في بعض تلك البلاد مواخير الزنا وبيوت الدعارة علانية، وبعض بلاد الخليج مع الأسف الشديد أصبحت مكاناً للمومسات يأتين إليها من أنحاء الأرض والعياذ بالله، ويلتقي بهن شباب الإسلام حتى تنسلخ أخلاقهم وقيمهم، وتضعف قلوبهم ونفوسهم، ويرتكبوا ما حرم الله عز وجل، وينقلوا أوبئة الأمم الأخرى، وأمراضها وعيوبها وآفاتها إلى بلادهم وأسرهم ومجتمعاتهم النقية النظيفة العفيفة، فإنا لله وإنا إليه راجعون! أقول يوجد في بعض النساء من تكون كذلك، قد انفتق قلبها على الشهوة، فأصبحت تركض وراءها وتبحث عنها، فهي كصاحبات الرايات التي تعلن بالمعصية، كل من اتصل عليها بالهاتف أو راسلها أو رمى لها برقم أو عنوان أو دعاها في سيارة ركبت معه لا تلوي على شيء، ولا تتردد في شيء، فهذا من ظاهر الإثم وعلانيته، أما باطن الإثم فقد مثل له هؤلاء الأئمة بأولات الأخدان التي تتخذ لها خدناً أو صديقاً أو حبيباً، وهذا كثير جداً حتى في بعض المجتمعات المحافظة، وحتى في بعض الأسر النظيفة النقية العفيفة، فتجد للبنت صديقاً تتصل به ويتصل بها، وتخلو به، بل وتركب معه، بل ترتكب معه ألواناً من الحرام دون الزنا، بل يصل الأمر إلى الزنا، وأول خطوة قد تكون يسيرة في نظرها، لكن الخطوة الأخيرة ولو كانت صعبة إلا أنها لم تستطع أن تمتنع عنها وكما قيل: وكأس شربت على لذة وأخرى تداويت منها بها والله عز وجل يقول: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] . فالخطوة الأولى كانت نظرة، أو لمحة، أو كلمة، أو عبرة، أو ضحكة، أو مجاملة، والخطوة الأخيرة هي كسر الزجاجة، والوقوع في الفاحشة العظمى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] وقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] لقد سماها الله تعالى فاحشة لأنها جمعت ألواناً من الإثم والزور والظلم والغبن الذي لا يحق ولا يحل، فما بالك حين يكون ذلك في شأن امرأة خانت زوجها، وغدرت بأطفالها وأولادها وبناتها، وألبستهم عاراً وشناراً لا يمحى، فخالفت زوجها إلى غيره؟! بل ربما في بيته وربما على فراشه أيضاً؟! الجزء: 41 ¦ الصفحة: 6 المجاهرة بالمعاصي الشخصية هذا نموذجٌ فحسب لظاهر الإثم في المجاهرة بالمعصية. ومن ظاهر الإثم -أيضاً- المجاهرة بالمعاصي الشخصية المتعلقة بشخص الإنسان في ثوبه، أو كلامه، أو مأكله، أو مشربه، أو ملبسه، أو شعره، أو هيئته، أو ما أشبه ذلك: مما يراه الناس ويعرفونه، ويتكلمون عنه في مجالسهم، فإن هذا من ظاهر الإثم الذي نهى الله عز وجل عنه، ومن ذلك بل أخطر منه البوح ببعض الأشياء الخاصة، والتحدث بها في المجالس، والتمدح بها، واعتبار أنها علامة من علامات الكرم، والرجولة، والقوة، والفتوة، والشخصية. فأحدهم إذا كبر المجلس قام يفتخر بمغامراته، ويعرض بأفعاله، ويتحدث عما فعل، فعلت كذا، وفعلت كذا، رحلات وعبث ليس تحته طائل، ويخبر عن تلعب الشيطان به في اليقظة لا في المنام. ولو أنه استتر بستر الله عز وجل، واتقى الله، واستغفر الله تعالى، لكان في عافية، ولكنه جاهر، فدخل في قوله عليه السلام: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} . ومن ذلك أيضا التشبع بما لم يفعل من المعصية والزور، فبعض البنات في المدرسة إذا جلست في الفسحة مع زميلاتها فقالت إحداهن: صديقي فلان، وقالت الأخرى: أنا أتصل بشاب، وقالت الثالثة، وقالت الرابعة -وهي بنت نقية عفيفة لكنها استحت أن تنفرد من بينهن- قالت: وأنا لي صلة بابن عمي، وهو كذا وهو كذا، وهذا وإن كان قليلاً، لكنه ينبغي أن يحاصر من بدايته ويقاوم بقدر المستطاع، لتظل مجتمعاتنا نقية، فإن الثوب الأبيض يبين فيه الوسخ والعيب ولو كان قليلاً، بخلاف الثوب الأسود فإنه مهما وضع فيه الإنسان لا يبين ولا يظهر. يجب أن تكون أسرنا ومجتمعاتنا وأفرادنا أثواباً بيضاء، تأبى على ألوان الغش والخداع والتدليس. ومن ذلك أيضاً بل شر منه توثيق الإنسان جريمته ومعصيته بوثيقة يؤاخذ بها في الدنيا والآخرة، وأي عار أو شنار أعظم عند الله تعالى ثم عند الناس أن يتحلق الناس ليسمعوا ماذا؟! ليسمعوا شريط مغازلة بين ذكر وأنثى، يقول لها فاحش القول، وترد عليه بمثل ذلك، وربما تحدث الناس فقالوا: فلان، وقالوا: فلانة، وأي عار أو شنار من أن يتناقل الناس صوراً بأيديهم على الورق تتحدث عن جريمة وقع فيها زيد أو عبيد من الناس؟! وأي عار أو شنار أعظم من أن يتحلق الناس حول هذه الشاشة ليشاهدوا شريط فيديو يعرض جريمة وقع فيها فلان! وقد يكون شخصاً معروفاً مشهوراً يتحدث الناس باسمه، ويتكلمون عنه، ثم يتبعونه باللعنة على جريمته العظيمة التي غدر فيها ليس بامرأة، وإنما غدر فيها بمجتمع كامل، وغدر فيها بنفسه، وغدر فيها بأسرته، وعصى فيها الله عز وجل، هذه كلها ألوان من المجاهرات، لكنها يمكن أن توصف بأنها مجاهرات تتعلق بالجريمة الشخصية، أو الفردية، أو الفاحشة الخاصة بالإنسان. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 7 المجاهرة بالمعاصي الجماعية لكن ثمة ألوان أخرى من المجاهرات أعظم من ذلك وأخطر، ألا وهي: المجاهرات الجماعية، والمنكرات العامة التي يعلن المجتمع كله معصية الله تعالى من خلالها ويصر عليها، بل ويقيم المجتمع المؤسسات والدور والأجهزة التي تحرسها وتحميها وتدعمها وتقيم بناءها، ويظل هذا المجتمع عليها يغذيها بعرقه، وجهد أبنائه وماله وسمعته، ويعمل المجتمع على تدعيمها وتعميق جذورها وترسيخها يوماً بعد يوم. تقول لي: مثل ماذا؟ أقول لك: بيوت الربا التي تجاهر بحرب الله عز وجل صباح مساء، تعلن الحرب على الله جل وعز: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة:279] أي: بترك الربا، {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] . بيوت الربا التي تدار فيها الفوائد المحرمة التي جاء في تحريمها أكثر من سبعة عشر حديثاً، فهي أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك أقول بملء فمي: اقتصاد البلاد الإسلامية كلها وبدون استثناء يقوم على هذا الربا الحرام الذي هو حرب لله عز وجل، فكيف ترى وتظن في اقتصاد يقوم على محاربة الجبار؟! أليس مصيره إلى خسار وإلى إفلاس وإلى ضياع؟! ولذلك تجد أن أموال المسلمين تضيع في بنوك الغرب حيث تودع هناك فيستثمرها الغرب، ويأخذ المسلمون منها الفتات القليل الذي هو -أيضاً- حرام؛ لأنه جاء عن طريق فوائد ربوية، وليس عن طريق مضاربة أو ربح حلال. تضيع في النفقات والأعطيات والهبات السخية التي تنفق ذات اليمين وذات الشمال على أعداء الإسلام وأعداء المسلمين من اليهود، أو من النصارى أو من غيرهما، تضيع في مجاملات واستمالات لبعض الطوائف والأطراف، فيوماً هنا ويوماً هناك، ومع ذلك ما قربت منا بعيداً، ولا أزالت عداوة، ولا نفعت إلا بإيغار الصدور وتعميق العدواة وتحريك الضغائن في هؤلاء وأولئك، فأصبحوا كلما قلت عنهم النفقة أعلنوا العداوة، وصرحوا بها، وبدءوا يبتزون أمم الإسلام يوماً بعد يوم. وذلك كله من آثار تخلي الله عز وجل عن المسلمين في اقتصادهم حيث أقاموه على غير شريعة الإسلام، وعلى غير ما يرضي الله عز وجل، فبارزوا الله تعالى بهذه المعصية الكبيرة العظيمة، معصية الربا التي هي من أكبر الكبائر، ولم يرد فيما أعلم في شيء من المعاصي من النصوص في القرآن والحديث في التعظيم لها والتحذير منها وبيان خطورتها وفظاعتها مثل ما ورد في شأن الربا. ومن ذلك أيضاً، من المعاصي الظاهرة الجماعية التي يقوم المجتمع، أو تقوم المجتمعات الإسلامية على حمايتها وحراستها وحياطتها: دور الرذيلة والبغاء والدعارة الموجودة في بعض بلاد الإسلام، بل والمرخص لها رسمياً في بعض بلاد الإسلام، وتقوم بعض الجهات بالإشراف الطبي عليها، وتأخذ منها الضرائب، وتعتبر أن هذه الدور هي جزء من الدخل القومي، وجزء من تحقيق معنى الاقتصاد، وجزء من جذب السواح، وهذا موجود في دول مغاربية، ودول أفريقية إسلامية، وفي بلاد كثيرة من بلاد الإسلام، والله المستعان! والغريب أن الناس يستفظعون ذلك، ويستعظمونه، وهو لا شك فظيع عظيم، وكيف لا يستفظع المسلم الذي يستفظع مجرد سماع كلمة الفاحشة، كيف لا يستفظع أن يقع فيها إنسان؟! بل كيف لا يستفظع أن يعلن بها آخر؟! إذاً: كيف لا يستفظع أن توضع لوحة طويلة عريضة تنادي المارة إلى الإثم والفواحش؟! ولكنني أعجب -وحق لي أن أعجب- لماذا يستفظع المسلمون أن يرخص لبيوت الدعارة وبيوت الرذيلة، ولا يستفظعون أن يرخص للبنوك الربوية مع أن الربا أعظم من الزنا؟! وقد يسمون هذه البيوت بغير اسمها، {يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها} ، فهي تسمى أحياناً النوادي الليلية أو الملاهي أو المراقص أو المسارح أو ما أشبه ذلك، وكل ذلك من باب تغيير الأسماء، والحقائق واحدة. ومن المنكرات الظاهرة الاجتماعية التي هي من ظاهر الإثم، والمجتمعات الإسلامية كلها تنفخ فيها وتؤيدها وتدعمها وتساعدها، وتنفخ فيها روح الحياة والقوة يوماً بعد يوم: أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي التي تشحذ الغرائز، وتهيجها وتثيرها من جهة، فهي تخاطب الشباب والفتيات: هيت لك! هيت لك! صباح مساء؛ من خلال الأغنية، ومن خلال الرقص الخليع، ومن خلال المشهد، ومن خلال الصورة، ومن خلال العبارة، فهذه الكلمة هي التي يدندنون حولها صباح مساء، أو من خلال تشويه الحقائق الواقعية، وطمس الصورة التي يحتاج الناس إلى معرفتها، وشغل الأمة بالتوافه من الأمور، والاهتمامات الفارغة؛ فيوماً بالكرة والرياضة، ويوماً بصناعة الأبطال الوهميين، ويوماً بالفن الرخيص، ويوماً بالنفخ في صور القيادات المصطنعة التي لا قوام لها بذاتها، فهي لا تملك المواهب الذاتية التي تقدم نفسها للناس من خلالها، بل هي تتهاوى كلما هدأ التطبيل لها، ولذلك تحتاج إلى أن ينفخ فيها باستمرار، وأن تعظم أبداً، وأن يتحدث عنها، وأن يصفق لها، وأن يظل الناس في ضجيج وهتاف لها حتى تكون لماعة باستمرار، ويظل الناس منخدعين بها. وإلا فما معنى أن تقدم رموز الحداثة والأدب والشعر الحداثي في إعلام المسلمين، على أن هؤلاء هم الأدباء، وهم الشعراء، وهم رموز العلم، والفن، والفكر، والثقافة، والتقدم؟! ويحال بين الصوت الإسلامي والنموذج الإسلامي وبين أن يخاطب ولو قطاعاً من المسلمين، بل يوصم بكل نقيصة، فتلصق به تهم التطرف، والإرهاب، والتخلف، والرجعية، والانحطاط، والسوداوية، والرغبة في الرجوع إلى عصور الحريم وإلى العصور الوسطى، والعمل على القضاء على مكتسبات الدول، وعلى تدمير الاقتصاد، وعلى هدم المصالح القومية، وما أشبه ذلك من العبارات التي يلصقونها، ثم لا يسمحون للمتهم حتى بمجرد الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يعرض بضاعته بضاعة السماء ويدعو الناس إليها. وما معنى التمكين لهؤلاء المنافقين، والهتافين، والمطبلين، الذين لا يجيدون إلا فن النفاق، والمداهنة، والتطبيل، والتزمير، والحيلولة بين رجال العلم، ورجال الدعوة، ورجال العمل، ورجال الصناعة، ورجال التقوية، ورجال الخبرة الذين ينفعون الأمة في دينها، أو ينفعون الأمة في دنياها؟! وما معنى تقديم صنائع الغرب وخدامه ومحاصرة رجال الإسلام المخلصين الذين هم خير مخلص لأمته ووطنه؟! إن من العجب أن تضيع الملايين من الشباب والفتيات في بلاد الإسلام بطولها وعرضها في لهاث مسعور وراء الإغراء، أو وراء الشهوة، أو وراء الفساد باسم الفن تارة، وباسم الرياضة تارة أخرى، وباسم الرقص، وباسم ألوان وألون من المغريات العصرية، أو يضيعون وراء الشهوة التي يبحثون عنها، أو يضيعون أيضاً وراء الشهرة عن طريق من هذه الطرق السابقة. فإذا من الله على واحدهم بالهداية، وتاب إلى الله تعالى وأناب، فإن كان شاباً أقلع عن ذلك كله وربَّى لحيته، وتردد على المساجد، وصلى لله عز وجل واستقام حاله، وإن كانت فتاة تحجبت، وسترت ما حرم الله، وابتعدت عن الحرام، وتركت كل ما لا يرضي الله عز وجل. وبالأمس يوم كانوا في طريق الغواية، كانت الطرق كلها أمامهم مفتوحة، والأبواب مشرعة، ووسائل الإعلام تدعوهم صباح مساء، والأموال تصب عليهم صباً، أما يوم اهتدوا فقد وجدوا المتسع ضيقاً، ووجدوا الميدان مزحوماً عنهم، فَمُنَّ عليهم وبخسوا حقهم، مُنّ عليهم حتى بكلمة يسيرة يدافعون فيها عن أنفسهم، أو يبينون حقيقة موقفهم، وقد رأيت كثيراً من الصحفيين وغيرهم يقولون عن أولئك الفتيات المتحجبات اللاتي كن بالأمس راقصات، أو فنانات، أو ممثلات، أو ما شابه ذلك، قال عنهن أرباب الصحافة الكثير، فقالوا: هؤلاء البنات قبضن مرتبات وأموالاً من الخارج مقابل الهداية، وقال آخرون: تحولن إلى متطرفات ومتزمتات، وقالت فئة ثالثة: إن هؤلاء كن يمارسن بالأمس باسم الفن أموراً غير حميدة، فلما كان الأمر كذلك تركن الفن، أما بقية الفنانات اللاتي ما زلن على طريق الفن فهن نظيفات تقيات عفيفات، فالله أكبر كيف تحولت الأمور وانقلبت الموازين؟! إذا وصف الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل وقال السها للشمس أنت ضئيلة وقال الدجا يا صبح لونك حائل وطاولت الأرض السماء جهالة وفاخرت الشهب الحصى والجنادل فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل كيف تعيّر التقية النقية التي ضحت بالشهرة، والمال، وتحملت في سبيل الله ألسنتكم الطويلة يا أرباب الإعلام، ويا أهيل الصحافة، وتحملت في سبيل ذلك أذى الأبعدين والأقربين، وتخلت عن أشياء كثيرة في سبيل الله عز وجل، وكان حق المجتمع أن يؤيدها ويناصرها ويدعمها، ويقدمها للأجيال على أنها النموذج الذي يجب أن يحتذى، لا أن يطعنها في خاصرتها أو في ظهرها، ويتهمها بمثل هذه التهم. وليس العجب أن يتسلط على الإعلام مثل أولئك الذين لا يمثلون إلا أنفسهم، لكن العجب أن تسكت الأمة عن هؤلاء، والعجب أن تشتري الأمة مطبوعاتهم وكتاباتهم وأشرطتهم وأفلامهم، وأن يكون مال المسلمين دعماً وتقوية لهؤلاء يثرون على حسابهم. ومن ظاهر الإثم أيضاً تولي أعداء الله عز وجل بالقول والفعل، وتمكينهم من بلاد المسلمين، ودعمهم، ومساعدتهم، وتسهيل السبل أمامهم في مقابل إيذاء أهل الخير، ومضايقتهم، واضطهادهم، والحيلولة بينهم وبين الدعوة إلى الله تعالى، أو عبادته، أو طاعته، أو الجهاد في سبيله، نعم إننا نعلم في بلاد الإسلام كلها أنه تقام الاحتفالات للنصارى علانية، وفي الشوارع العامة، وفي الساحات والميادين العلانية، ويحضرها أولاد المسلمين وبناتهم وكبارهم وصغارهم بصور مختلفة، ويرقصون على أنغام الموسيقى، ويقدم لهم رجال النصرانية على أنهم نماذج حية مثلما قدم لـ بابا نويل أو غيره في عدد من الاحتفالات التي أقيمت في هذه البلاد وفي غيرها من البلاد. في حين أنهم يستكثرون على أهل الخير أن يجتمع منهم ولو كان العدد قليلاً، وقد يسمح لمجموعة من النصارى أن تجتمع منهم ألوف في ميدان أو فندق أو قصر أو مكان ليقيموا الاحتفالات، ويلقوا الكلمات، ويتبادلوا الأحاديث بأجواء مخ الجزء: 41 ¦ الصفحة: 8 باطن الإثم خامساً: باطن الإثم، أما الباطن وهو السر والخفي فكثير، ولكن هاهنا السؤال لماذا نص الله تعالى على باطن الإثم دون ظاهره؟ فأقول لأسباب: أولها: إن من شأن الإنسان المؤمن أن يخفي إثمه، ويستتر به عن الناس لأنه يدري أنه عيب وعار ومذمة، ولهذا روى الإمام أحمد رحمه الله ومسلم رحمه الله في صحيحه عن {النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، فقال: البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس} فالمؤمن يكره أن يطلع الناس على الإثم بفطرته وطبيعته، لأنه يعلم أن الناس يستعيبون ذلك ويسترذلونه ويذمونه، والمقصود بالناس: المؤمنون الأتقياء الذين يذمون الباطل وينكرونه، ويعرفون المعروف ويأمرون به. إذاً فالآية نهي عن الإثم من حيث هو إثم، عرفه الناس أو لم يعرفوا، فهو يترك الإثم لأنه إثم: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12] ولهذا قال ابن الأنباري رحمه الله: المعنى ذروا الإثم من جميع جهاته. السبب الثاني: أن من الناس من يترك المعصية علناً، لا يتركها خوفاً من الله عز وجل ولا خشيةً من عقابه، ولكن يتركها حفاظاً على مكانته الاجتماعية، وخشية انكسار جاهه عند الناس، وحياطة لمنزلته، وذلك لأنه في مجتمع متدين، تقوم علاقاته على أساس ديني، فهو حريص على صورته الدينية لدى الجيران، ولدى الأقرباء، ولدى الزوجة، ولدى أهل الزوجة، ولدى زملاء العمل أو المهنة، ولذلك هو يستتر عن الناس جميعاً، ولكنه لا يستتر عن الله عز وجل لأنه لا يخافه، فهو يستخفي من الناس ولا يستخفي من الله، ولا يترك المعصية مراقبة لله تعالى هذا من جهة. أوقد يكون تظاهره بالطاعة وإخفاؤه للمعصية رعاية لمكانته الخاصة في المجتمع المبني على أساس ديني، كأن يكون إماماً، أو خطيباً، أو عالماً، أو داعياً، أو موجهاً، أو مرشداً، فيرى أن الناس ينظرون إليه على أنه رمز للدين والتدين والصلاح، ولذلك هو كسب المنزلة بهذا السبب، ونال رضا الناس من هذا الوجه، حتى لو كان مجتمعه مقصراً، أو منحرفاً أو مفرطاً، فهو يحتاج حفاظاً على منزلته الخاصة إلى المصانعة الظاهرة والتجمل والتعمل للناس دون أن يراعي الله عز وجل في الباطن، لأنه تقي الظاهر فاجر الباطن، والعياذ بالله! السبب الثالث: أن من الناس من يترك المعصية عجزاً، استفرغ وسعه في الحصول على المعصية والوصول إليها، فخطط ودرس ونظم وكاد وأبلغ، ولكنه فشل بعد ذلك، وعجز عن الوصول، فذهب وهو يفرك إحدى يديه بالأخرى تمنياً للمعصية ورغبة فيها، لكن حيل بينه وبين ما يشتهي، وهذا قد ثبت له إثم نيته، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} . فهو قد استفرغ وسعه في تحصيل ذلك العمل، ولكن انقطعت به الأسباب، وأغلقت في وجهه الأبواب، إما بأن أمره انكشف للناس، أو أن تدبيره انفرط وبطل، أو فاته ما يتمنى وما يخطط له، ولهذا جاء في حديث أبي بكرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: يا رسول الله، هذا القاتل -أي: قتل نفساً- فما بال المقتول؟! قال عليه الصلاة والسلام: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه} . لقد ثبت له إثم العزم والنية الجازمة والمحاولة وبذل الوسع في الوصول إلى المعصية، ثبت له ذلك كله، ولكن الله تعالى لا يظلم أحداً، فهذا يكتب له إثم ما سعى إليه وما بذل وحاول، أما المعصية فلا تكتب عليه معصية لم يفعلها، لا يكتب عليه أنه زنى وهو لم يزن، لكن زنت يده بالبطش، وزنت رجله بالمشي، وزنت عينه بالنظر، وزنت أذنه بالسمع، وزنى فمه بالقبلة أو بالكلمة، أما فرجه فلا يكتب عليه إثم زناً لم يفعله. وهكذا السارق تكتب له سرقة رجله بالمشي، وسرقة يده التي امتدت إلى الحرام، وسرقة المحاولة بالتسلق -مثلاً- أو الوصول والتسلل إلى ذلك المكان، لكن لا يكتب عليه إثم مال لم يقم بسرقته أو أخذه، وهكذا بقية المعاصي، ولذلك جاء في حديث ابن عباس -أيضاً- في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال -فيما يرويه عن ربه عز وجل: {إذا هم العبد بحسنة فعملها كتبت له عشر حسنات، إلى أضعاف كثيرة، فإذا هم بها فلم يعلمها كتبت له حسنة كاملة، فإن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإذا هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة} قال الله تعالى في آخر الحديث: {فإنه إنما تركها من جرائي} أي: من أجلي وخشية، ومراقبة لله عز وجل. فلذلك كتبت له حسنة حينما ترك السيئة، تركها لوجه الله فكتبت له حسنة، لكن لو تركها عجزاً بعد ما حاول وبذل واستفرغ جهده، فإنه يكتب عليه وزر محاولته تلك كما دل عليه حديث أبي بكرة السابق. أما صور باطن الإثم: فهي صور كثيرة، ولأن هذا الموضوع موضوع خطير، وهو مرادي أصلاً من هذه المحاضرة، فإني أدع ذكر بقية الصور لضيق الوقت عنها لمحاضرة أخرى إن شاء الله تعالى، وأدع ما بقي من الوقت للإجابة على ما قد يكون هناك من أسئلة. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 9 الأسئلة الجزء: 41 ¦ الصفحة: 10 نصيحة لرجال الأمن السؤال يقول: ما يروجه بعض المنافقين عن شباب الصحوة من صورة غير حقيقية، تعرضهم للنقل عن وظائفهم مثل ما حدث في هذه المنطقة من نقل بعض الشباب إلى مناطق أخرى، فهل هناك توجيه لمن ينقل مثل هذه الادعاءات؟ الجواب أنا أخاطب رجال الأمن في هذا الأمر؛ لأن لهم دوراً كبيراً عظيماً، وهذا التقارير الأمنية التي تكتب عن زيد وعبيد هي التي يبنى عليها في كثير من الأحيان قرارات بسجن أو مضايقة أو نقل أو إيقاف أو ما أشبه ذلك. فأنا أدعو الإخوة من رجال الأمن إلى أن يتقوا الله تعالى، وأن يعلموا أنهم هم جزء من أبناء هذه البلاد، وقد ولاهم الله تعالى مثل هذه المسئولية العظيمة الخطيرة، فليعلم الواحد منهم أن كل ما يخطه بقلمه، أو يقوله بلسانه، أو يسجله بجهازه أنه مسئول عنه بين يدي الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] . وأن من تخاطبهم من رؤساء ومسئولين لن يغنوا عنك من الله شيئاً، وأنهم لن ينفعوك ولن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عز وجل لك أو عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف. فعليك أن تتحرى الحق، وأن تراقب الله تعالى، وأن تبتعد عن أن تكتب ما يضر مسلماً أو يسيء إليه، ولا تغتر بأنه عدو لك أو خصم، أو أن ذلك قد يرفعك في وظيفتك أو رتبتك، أو أنه قد يجعل مسئولك يرضى عنك، فإنه قد يرضى عنك، ولكن قد يسخط الله عليك من فوق سبع سماوات، وقد يكون سخط الله عز وجل عليك سبباً في كره زوجتك لك، أو عقوق أولادك، أو قلة أموالك، أو عدم توفيقك في أمورك، أو مرض في بدنك، أو ما أشبه ذلك مما لا توفق فيه. وكيف تسجد لله وتركع بين يديه، وتقول: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم، سبحانك اللهم وبحمدك، إياك نعبد وإياك نستعين كيف تفعل ذلك وأنت تعلم أنك قد تكون يوماً من الأيام حاربت مسلماً أو ولياً من أولياء الله؟! لا يا أخي أنت حاربت الله، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي أعلمته بأني محاربٌ له. فكيف يكون حالك وأنت ضعيف فقير، إذا كان ربك مؤذناً لك بالحرب؟! كيف تقول له: إياك نعبد وإياك نستعين، وأنت تعلم أنك تحاربه بتقارير تكتبها، أو أقوال تنقلها، أو شبهات، أو ظنون؟! أنت تقول: أظن الأمر كذا، لكن مسئولك يكتب الأمر على أنه حقيقة، والذي فوقه حتى يرفع على أنه تقرير على أعلى المستويات، وكانت بدايته تلك البداية الضعيفة التي لا تعدو أن تكون ظناً أو انتقاماً من شخص بينك وبينه خصومة، أو تحقيقاً لهوى في نفسك. فأنا أدعو الإخوة من رجال الأمن إلى أن يراقبوا الله عز وجل ويتقوه، ويبتعدوا عن الحرام، وأن يدركوا أن قرشاً يدخل جيوبهم من غير حلال يحبط كثيراً من أموالهم، ويكون سبباً في تلفها: {وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به} . وأنا أعلم أن من بينهم كثيراً ممن يراقبون الله عز وجل، ويخافونه، ويحبون الخير، ويصلون مع المسلمين، ولكنهم كمؤمن آل فرعون، مضطهد لا يستطيع أن يبطل باطلاً ولا أن يقول حقاً، لكن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] . ووالله لا يجوز لأحد أن يضر مسلماً حتى ولو أبعد عن وظيفته، أو أقصي عن عمله، أو أخرت علاوته أو ترفيعه. إذا لم تقل الحق فعلى أقل تقدير لا تقل الباطل، واعلم أن دعوات المسلمين في آناء الليل وأطراف النهار وفي أدبار الصلوات، اعلم أن دعواتهم على من تسبب في أذى مسلم، أو آذى مسلماً، أن جزءاً منها ينصرف إليك إن كنت ممن آذى، أما إن كنت بعيداً عن ذلك بريئاً، يؤذيك أن يصاب مسلم، وتفرح لعز الدين فأنت -إن شاء الله- على خير {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] . على كل حال نترك بقية الأسئلة، لعل الله يتيح لها فرصة، وإلا فهي كلها أسئلة جيدة تدل حقيقة على مستوى جيد للإخوة الحضور، أسأل الله تعالى أن يجزيهم خيراً، وألا يخيب مسعاهم، وألا يقوموا من اجتماعهم هذا إلا وقد غفرت لهم ذنوبهم، وحطت عنهم خطاياهم، ورفعت درجاتهم. أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يغفر لنا أجمعين، وأن يهب المسيئين منا للمحسنين، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى. أسأل الله أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم من أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام بسوء فأشغله بنفسه، اللهم فك أسر إخواننا المضطهدين المأسورين في كل مكان، اللهم فك أسر إخواننا في مصر، اللهم فك أسرهم في الجزائر، اللهم فك أسرهم في كل مكان، اللهم انصر إخواننا في البوسنة، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في مصر والجزائر يا رب العالمين، اللهم انصر إخواننا في طاجكستان. اللهم انصر إخواننا فوق كل أرض وتحت كل سماء، يا ناصر المستضعفين اللهم بيت أعداء الدين، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم أقر أعيننا بهلاكهم يا حي يا قيوم، اللهم صب عليهم البلاء صباً يا رب العالمين، اللهم فك أسر أخينا الشيخ إبراهيم الدبيان، اللهم فك أسره يا حي يا قيوم، اللهم فك أسره يا حي يا قيوم، اللهم فك أسر إخواننا المأسورين المسجونين في بلاد الجوف يا رب العالمين، اللهم من أرادهم بسوء فأشغله بنفسه، اللهم من آذاهم فسلط عليه العذاب، اللهم إن أردت هدايته فعجل له بالهداية، وإن سبق في علمك أنه لا يهتدي فعجل له بالعقاب والعذاب يا رب العالمين، حتى يكون عبرة لغيره، إنك على كل شيء قدير. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 11 إجراء عملية ضرورية للنساء من الرجل السؤال لدي جرح قديم وله أثر واضح، وقرر فيه عملية تجميل، ولكني مترددة في ذلك؛ لأن الذين يقومون بها رجال، فبماذا تنصحونني؟ الجواب إن استطعت أن تجدي نساءً يقمن بها فعليك بذلك، أما إن لم تجدي إلا رجالاً، فإن كان هذا لا يؤثر فيك ولا يضر، فأرى أن تصبري وتحتسبي، أما إن كان يضرك فلا بأس أن يعملها رجال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] مع العلم أنه يوجد الآن مستشفيات نسائية في أكثر من مكان يمكن أن تساهم في ذلك. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 12 النوم عن الصلاة السؤال لي أخ مصلٍ، ولكن إذا نام يصعب إيقاظه، وأحياناً يرفض القيام، فبماذا تنصحوني؟ الجواب عليك أن تنصحيه بأن يستعد للقيام بالتبكير في النوم، ووضع المنبهات، والنوم على طهارة، وذكر الله عز وجل والنوم على الجنب الأيمن، وما أشبه ذلك مما يعينه على الاستيقاظ، ويدعو الله تعالى، وأن تكثري من تذكيره، فإنه لو عظمت الصلاة في عينه لاستيقظ وقت الصلاة، أو استيقظ إذا أوقظ، أما إن كان ذلك يرجع إلى مرض فيه كما يقع في البعض، أو أمر موروث بحيث أنه لا يستيقظ أبداً، فإن الأمر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ صفوان: {إذا استيقظت فصلِّ} . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 13 خبر إيقاف الشيخ السؤال ما هي حقيقة توقيفكم؟ هل هذا صحيح؟ الجواب نعم صدر بذلك قرار، ولكن الشيخ عبد العزيز وعد شفهياً أنه سوف يلغي هذا القرار قبل أسبوع، وآخر ما وعد به غداً يوم السبت أنه سوف يصدر قراراً بإلغاء ما سبق، وأرجو من الله تعالى أن يتمكن من ذلك وألا يحال بينه وبينه، وعلى كل حال الأمر بيد الله، والمؤمن يعلم أن الخير فيما اختاره الله عز وجل. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 14 أخبار الانتخابات في اليمن السؤال يسأل عن الانتخابات التي جرت في اليمن؟ الجواب نعم جرت في اليمن انتخابات كما تعلمون، وفاز ما يسمى بحزب المؤتمر الشعبي في الشمال بأغلبية الأصوات؛ لأنه يؤيده الجيش، ويؤيده أجهزة الأمن، وبعض القبائل، وكذلك فاز حزب الإصلاح اليمني الذي يرأسه الشيخ الأحمر، والشيخ عبد المجيد الزنداني، فاز بحوالي سبعة وستين صوتاً أو قريباً من ذلك، وفاز الحزب الاشتراكي في الجنوب بحوالي ستة وخمسين صوتاً، وبعض الأحزاب العلمانية، والبعثية، والزيدية فازت بقليل من الأصوات. وعلى كل حال الأمر حصل ووقع وتم، ونسأل الله تعالى أن يوفق المسلمين هناك إلى التصرف المناسب، وإلى الحكم بالشريعة، وإلى اتخاذ التدابير اللازمة التي تضمن تحكيم شريعة الله عز وجل وإحياء شعيرة الجهاد في سبيله بالقول والفعل، وتسخير إمكانية ذلك البلد العظيم إعلامياً، واقتصادياً، وعسكرياً، وأمنياً، واجتماعياً لخدمة الإسلام. فإن هذا البلد عمق عظيم للإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الإيمان يمان، والحكمة يمانية} وأثنى صلى الله عليه وسلم عليهم برقة أفئدتهم وسلامة قلوبهم، وكان منهم الأشعريون أبو موسى وقومه الذين قال الله عز وجل فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] . فهم حملة رسالة الإسلام إذا نكص الناس وتخلوا: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وأدعو الإخوة هناك أيضاً إلى العمل على تسوية خلافاتهم فيما بينهم في المسائل الاجتهادية بالطرق الهادئة الأخوية التي ترضي الله عز وجل وتفوت الفرصة على خصوم الإسلام، وأن يبتعدوا عن الشجار، وارتفاع الأصوات فضلاً عن ارتفاع العصي والأيدي أو ما فوق ذلك. أسأل الله تعالى بمنه، وكرمه، وأسمائه، وصفاته أن ينصر الإسلام والمسلمين في اليمن إنه على كل شيء قدير، وأن ينصر إخواننا هناك، وأن يوفقهم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يجمع كلمتهم على الحق، وأن يصلح ذات بينهم، وأن يكفيهم شر أعدائهم، وأن يرينا في اليمن وفي سائر بلاد الإسلام من تحكيم شريعته وإحياء الجهاد ما تقر به عيوننا إنه على كل شيء قدير. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 15 حكم قراءة القرآن أثناء فترة الحيض للمرأة السؤال أحاول ختم القرآن خلال شهر، ولكن لا يمكنني ذلك، دون قراءته خلال أيام الدورة، فهل يمكنني تلاوته وعلي القفازين؟ الجواب يجوز للمرأة -على القول الراجح- أن تقرأ القرآن، ولو كانت حائضاً أو نفساء، وهذا مذهب جماعة من أهل العلم كـ مالك، وهو رواية في المذهب، واختاره طوائف من أهل العلم، ومنهم سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وأدلته كثيرة، فللمرأة أن تقرأ القرآن ولو كانت حائضاً أو نفساء، لكن لا يجوز لها أن تمس المصحف، بل عليها إن احتاجت إلى مسه أن تمسه من وراء حائل، أما الجنب فالراجح أنه لا يجوز له قراءة القرآن حتى يغتسل، وذلك لأن بين الجنب والحائض فرقاً، فأما الجنب فإنه يمكنه إزالة حدثه باغتسال، أما الحائض فحدثها ليس في يدها. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 16 الدعوة للتبرع لمكتب الدعوة السؤال يقول: تعلمون أن مكتب الدعوة محتاج إلى الدعم المادي، وأن هذا من التجارة الرابحة، فحثوا الحضور على ذلك، لأن المكتب له مبنى يحتاج إلى الدعم لكي يشتروه؟ الجواب سبق أن ذكرت في المقدمة حاجة مثل هذه المكاتب إلى الدعم، وأنا أدعوا الإخوة إلى المشاركة في سبل الخير وأبوابه، ودعمها مادياً ومعنوياً، وأرجو أن يقوم بعض الإخوة بعد الصلاة بجمع التبرعات لهذا المشروع. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 17 إطلاق الجاهلية على العالم الإسلامي السؤال هل يعتبر وضع العالم الإسلامي بحربه على الدعوة وإطلاق التطرف على دعاته فيه جاهلية؟ الجواب لا ينبغي أن نطلق هذه الكلمة على عمومها، فهذه الأعمال كلها من أعمال أهل الجاهلية، لكن لا يمكن أن نصف الناس كلهم بأنهم في جاهلية، لأنهم يوجد فيهم أهل العلم، وأهل الخير، وأهل الفتوى، وأهل الدين، وأهل الصلاح، والذين هم على خير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتواتر: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} . الجزء: 41 ¦ الصفحة: 18 مقاطعة المحطات التي فيها مخالفات السؤال يقول: هناك محطات هنا فيها عمال هندوس وفيها بيع مجلات فاسدة وما أشبه ذلك؟ الجواب ينبغي مقاطعتها بعد مناصحة القائمين عليها، فإن انتصحوا وأبعدوا هؤلاء العمال فالحمد لله، وإلا تقاطع هذه ويبتعد عنها. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 19 ضرورة إبعاد الهندوس عن جزيرة العرب السؤال يقول: بشرى نزفها للجميع، وصلنا تعميم في إحدى الدوائر الحكومية ينص على ضرورة إبعاد العمالة الهندوسية من القطاعات المختلفة، بأقصى سرعة ممكنة؟ الجواب أتمنى أن يتحول هذا التعميم إلى برنامج عملي، لقد علمت أن وزارة الصحة استقدمت مئات العمال الهندوس خلال الشهور الثلاثة الماضية، وكان مندوبو الوزارة موجودين في الهند في الوقت الذي هدم فيه المسجد البابري، واعتدي على أعراض المسلمات، واستقدموا عدداً من الهندوس كان نصيب منطقة القصيم منهم بالعشرات، والله المستعان. أرجو أن يتحول هذا التعميم إلى واقع عملي، وأن يقوم كل إنسان في ميدانه وفي إدارته بتطبيق ذلك والسعي فيه. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 20 دور المرأة المسلمة في الدعوة السؤال دور المسلمة في الدعوة إلى الله، سواء كانت معلمة أم ربة منزل؟ الجواب دور المسلمة دور كبير وجليل وخطير، سواء في منزلها مع زوجها ومع أطفالها، أم في مجتمعها مع بنات جنسها وجيرانها وزميلاتها وقريباتها، في المناسبات وفي الأفراح وفي الاجتماعات وفي الدروس العلمية وفي تحفيظ القرآن الكريم، وفي تحفيظ السنة النبوية، أم حتى في مدرستها بعقد حلق العلم ومجالس الذكر وتوزيع الكتب وتوزيع الأشرطة النافعة ونشر الخير بين البنات بقدر المستطاع. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 21 الفتوى الواجب إصدارها في شئون الصراعات السؤال لماذا لم يصدر منكم توجيه حازم تجاه أعمال الجماعات الإسلامية المنسوبة من اغتيال وتفجير، من حيث الحلال والحرام في مصر؟ الجواب الواقع الآن ليست المسألة مسألة فتوى، الآن المسألة تتطلب أن تقال كلمة الحق في مجمل الواقع الذي حدا بهم، واضطر كثيراً منهم إلى ما وصلوا إليه، ونحن يصعب أن نحكم على ردة الفعل، ونتجاهل الفعل، نحن نقول: إن ما يحدث الآن في مصر، أو الجزائر، أو غيرها، هو أثر يسير لمخالفة هدي الله عز وجل والله تعالى، يقول: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] . وأنا أحلف بالله العظيم، الواحد، الأحد، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، أن كل مجتمع يعرض عن شريعة الله تعالى، ويعرض عن التحاكم إليها، ويحكم غير هذه الشريعة، ويحارب الله تعالى ويحارب رسله، أنه سوف يتعرض لأقسى وأشد وأغلظ وأعظم من تلك الزعازع والقلاقل والفتن التي تعيشها الشعوب الإسلامية، سوف يتعرض لأشد من ذلك كله إذا لم يراجع تصرفاته ويصححها، ويخاف الله عز وجل ويتقي الله، ويأتمر بأمر الله، وينتهي عن نهيه. فالقضية لا تتعلق بفتوى تصدر إلى هؤلاء، إنما القضية أوسع من ذلك، لا بد أن تصدر فتوى عن حكم التقنين والعمل بالقانون، ولا بد أن تصدر فتوى عن حكم موالاة الكفار والإلقاء إليهم بالمودة، ولا بد أن تصدر فتوى عن حكم تجنيد الإعلام لحرب الإسلام، ولا بد أن تصدر فتوى عن حكم استقدام الدعارة والفجور باسم السياحة، وباسم الفن، وباسم غير ذلك من الأشياء، ولا بد أن تصدر فتوى باسم تمكين اليهود، ومساعدتهم وتطبيع العلاقات معهم باسم السلام، ولا بد أن تصدر فتوى باسم التمكين للنصارى من الدعوة إلى دينهم، وإغراء المسلمين بالخروج عن الدين والدخول في النصرانية، وإيقاع البنات المسلمات في فكاك وشراك النصارى الذين ينظمون شبكات دعارة يورطون بنات المسلمين فيها، ويجرونهن إليها جراً، ولا بد أن تصدر فتوى بالظلم الواقع على المسلمين في كل مكان، ولا بد، ولا بد، ثم تصدر بعد ذلك فتوى في حكم ما يجري! أما أن تكون الفتوى مجيرة إلى فئة خاصة هي الفئة التي تريد السلطات الرسمية أن تصدر عنها فتوى، فأنا أرى أن يربأ طالب العلم بنفسه عن ذلك. وقد تحدثت عن هذا الموضوع كثيراً، وكان آخر ذلك (السهام الأخيرة) التي هي ضمن الدروس العلمية، كما تحدثت عنه في محاضرة (حقيقة التطرف) وكانت في جدة، وفي محاضرة (نثار الأخبار) ؟ أيضاً ضمن الدروس العلمية. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 22 فتنة البث المباشر السؤال إن بعضهم يقول: إن الخطب والمواعظ لن ترد فتنة الأقمار الصناعية؟ الجواب هذه صحيح، لن ترد، لأنه كما قال الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد فأنت تجد أن فتوى العلماء في تحريم الدشوش أصبحت تلاحق وتصادر، ويحقق مع من يوزعها، وإلى الله تعالى المشتكى وهو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله! ولكن علينا نحن أن نكون جميعاً وسائل إعلامية متنقلة، ينبغي أن نعلم أن همم الرجال تزيل الجبال، وأن قوة الشباب يمكن أن تفتت الصخور بإذن الحي القيوم، متى ما صدقوا وأخلصوا، كن أنت داعية إلى الخير بكل مكان، حيثما حللت تنشر كتاباً، أو شريطاً، أو كلمة حق، أو أمراً بمعروف، أو نهياً عن منكر، أو دعوة، أو دفاعاً عن خير، أو محاولة إيصال الخير بقدر ما تستطيع، وحينئذٍ سوف تكون هذه الوسائل ضعيفة الجدوى، بل ربما تحول بعض الوسائل الإعلامية إلى أساليب قد تستثمر في صالح الخير ولو في نطاق ضيق. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 23 مناظرة أهل الكتاب السؤال إنه يحب الشيخ أحمد ديدات الذي يعمل مناظرات مع النصارى؟ الجواب هذا جيد، لا بأس به، كما قال الله تعالى: {ولا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] وقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فالمجادلة والمناظرة بالحق، متى ما كان عندك بذلك علم ومعرفة، وتستطيع أن ترد على شبهاتهم هو أمر طيب، وينبغي أن نسلط عليهم سهام الدعوة، منهم من يسلم، ومنهم من يضعف يقينه بدينه، ومنهم من يقل حماسه، ومنهم من قد يثير عنده علامة استفهام، وتكبر فيما بعد، وربما تكون سبباً في الإسلام إلى غير ذلك. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 24 حسن الظن من حسن العمل السؤال يقول: قال الله تعالى: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن عبدي بي ما شاء} فهل حسن الظن من حسن العمل؟ الجواب حسن الظن من حسن العمل، وحسن العمل من حسن الظن، أي أن حسن ظن الإنسان بربه يكون بسبب أعماله الصالحة، فإذا عمل صالحاً وفقه الله تعالىلحسن الظن، وكذلك حسن الظن بالله عز وجل هو من العمل الصالح الحسن الذي ينبغي للعبد أن يحرص عليه، أما أن يقول الإنسان: أنا أحسن الظن بالله وهو يبارزه بالمعصية صباح مساء، فهذا ليس بصحيح، بل هو من وضع الشيء في غير موضعه، لو أحسنوا الظن لأحسنوا العمل. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 25 الأحداث مع الشيعة في المنطقة الشرقية السؤال يقول: لقد أرهقنا وأزعجنا ما حصل للشيخ إبراهيم الدبيان وغيره من العلماء، فما هي أخباره؟ وما هو عملنا نحو هذا المنكر؟ هل صحيح ما حصل في الشرقية من تسلط أحد الشيعة على رجال الهيئة؟ الجواب نعم، كل ذلك صحيح، والخطب يطول، والذي نخشاه أن يكون العلمانيون قد رفعوا رءوسهم، ووجدوا الأرض الخصبة والجو المناسب، فأصبحت طرق الخير تضيق يوماً بعد يوم، وأصبح الدعاة يسحب منهم البساط خطوة بعد أخرى، وأصبح العلمانيون وأهل الشهوة يعلنون بباطلهم وفسادهم يوماً بعد يوم. فهذا الشيخ إبراهيم -حفظه الله وعجل فرجه- مضى عليه الآن عشرة أيام تقريباً، وهو رهين السجن، ولا أحد يعلم عنه شيئاً، مع أننا نعلم أنه لم يأتِ ما يدعو إلى ذلك، ونعلم أن أرباب الفساد والريب والشهوة والظلم الذين يقبضون بجرائم علنية، أنهم يخرجون بالكفالة، وهذا نظام معروف شائع. فلماذا يعامل الدعاة بمعاملة خاصة، وطلبة العلم؟! ولماذا لا يخرجون؟! ولماذا لا تحال قضايانا جميعاً إلى المحاكم الشرعية؟! لقد رضينا بشريعة الله تعالى حكماً في أمورنا كلها، دقيقها وجليلها، لا مثنوية في ذلك، فلماذا لا تحال هذه القضايا إلى المحاكم الشرعية يبت فيها أهل العلم والقضاة؟! وأعتقد أننا جميعاً نرضى بحكم الله عز وجل في أنفسنا ودمائنا وأهلينا وغير ذلك، ومن طلب الشريعة فإنما طلب حقاً، وينبغي أن يلبى، أما أن يرفض أو يعرض عن ذلك، فهذا هو الخطب الجلل: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:48-50] إنها خياراتٌ لا مخلص من أحدها، وكلها خيارات عظيمة عظيمة! إننا نعجب أن يفتح المجال للشيعة على مصراعيه، فيعقدون الاجتماعات العلنية، يحتفل مئات من الشباب منهم بزواجهم، يحضر عشرات الألوف هذه الاحتفالات، وتعلن في الجرائد، وتقدم في التلفاز، ويتحدث عنها، وبإذن رسمي، فإذا أراد أهل الخير أن يجتمع فيهم عدد قليل، قيل: لا، هذا فيه إثارة، وهذا فيه خطورة! فإذا اجتمع النصارى اجتمعوا أين؟ اجتمعوا في الميادين العامة في الظهران، في الأسواق والشوارع الرئيسية، رقص، وغناء، وموسيقى، التقى الرجال والنساء، السعوديون وغير السعوديين، المسلمون والكفار، ورأينا ذلك بأعيننا في وثائق لا تقبل الرد أو المناقشة، وترى فلذات الأكباد يعرضن أنفسهن أمام الرجال، وأمام الكفار بملابس النوم، الأرواب الشفافة التي تكشف ما وراءها. وترى الشاب السعودي يحمل العلم الأمريكي، وترى الرجل الأمريكي يحمل العلم السعودي، وترى بابا نويل المنصر المعروف، يأتي بتمثيلية تقوم بأداء دور من أدواره على مرأى ومسمع من الجميع، وترى الإذن لأكثر من ستمائة مهندس وخبير غربي مع زوجاتهم بالاحتفال على مدى ثلاثة شهور في فنادق رئيسية شهيرة، يختلط فيها آلاف الرجال والنساء من الأمريكان وغير الأمريكان، وكل ذلك تحت سمع المجتمع وبصره وموافقته. فإذا كانت القضية قضية المتدينين ضيقنا الخناق عليهم، فهذا خطيب يفصل، وهذا يبعد، وهذا يحاكم، وهذا يحقق معه، وهذا يطرد من البلد، وهذا يبعد عن عمله، وهناك عشرات الخطباء في المنطقة الشرقية بالذات قد أبعدوا منذ زمن بعيد، وحيل بينهم وبين المنبر، ثم تجد أن آخر ذلك مداهمة مقر حكومي رسمي، لماذا؟ لأنه مقر هيئة بالجبيل قبل يومين، ويأتي مريد الشرطة ومعه أعوانه، فيداهم ويفتش، ويصبح الآمر الناهي، ويأمر أفراده باحتجاز بعض العاملين في الهيئة، وعلى رأسهم رئيس الهيئة، ويسجن يوماً كاملاً لماذا؟! ما الجرم؟! ما الخطب؟! الجرم أن شيعياً قد اشتكاهم، وادعى أنهم آذوه، وأتى بتقرير من مستشفى هو أحد أفراده العاملين فيه، فهو يشهد لنفسه، أو يشهد له بعض أصحابه، ولنفرض أن ذلك حق، وأن الرجل ضرب، لننظر هل ضرب بباطل أم بغير باطل؟ ثم لنفرض أنه ضرب بغير باطل، وكل ذلك دون إثباته خرط القتاد! ولكن لنفرض أن الأمر وقع، ما الذي يدعو إلى هذه الأعمال الاستفزازية الموجهة إلى أهل السنة والجماعة بالذات؟ والموجهة لرجال الدعوة ورجال الصحوة على سبيل الخصوص، هل يراد أن يستثاروا بمثل هذه الأعمال؟ هل يراد أن يخرجوا عن صبرهم وطورهم؟ هل يظنون أنه ليس لهم من يحرسهم، ولا من يحميهم، ولا من يغضب لهم؟ نعم يجب أن يعلموا إنه إذا كان للشيعة دولة تغضب لهم، وللنصارى دول تحامي دونهم، أن المسلمين وأهل السنة يغضب لهم الجبار من فوق سبع سماوات. يجب عليكم جميعاً أن تكونوا عمليين وفاعلين ومؤثرين، دعوا عنا النوم، ودعوا عنا الكلام، ودعوا عنا التمني، وانزل للميدان، وشارك بقدر ما تستطيع، شارك بالمراسلة، بالاتصال الهاتفي، بالزيارة، بالحديث، بكتابة البرقيات، بكتابة الرسائل، بالخطب، بالدروس، بالمحاضرات، بالكلمات في المساجد، وبكل ما تستطيع. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 26 إعلان لجنة حقوق الإنسان بالسعودية السؤال يقول: أذيع في إذاعة لندن عصر هذا اليوم إنشاء جمعية لحقوق الإنسان في المملكة، برئاسة الشيخ عبد الله المسعري، وعضوية كل من الشيخ عبد الله بن جبرين وبعض المشايخ الذي على رأسهم عبد الله بن حمود التويجري وغيرهم، فما رأيكم في ذلك؟ الجواب على كل حال وصلني هذا الخبر، ووصلتني ورقة عن هذه اللجنة، التي مهمتها الدفاع، وأعتقد أن هذه اللجنة من أهم الضرورات التي نحتاج إليها الآن، خاصة في ظل التسلط على شباب الإسلام، وعلى دعاته وعلى أهل السنة والجماعة، ولعلكم تعرفون -أيضاً- أن بعض الشباب مسجونون في الجوف منذ عشرة أيام، لسبب وجريمة هي أن زوجاتهم يدرسن القرآن الكريم في البيوت، هذا هو الذنب الذي من أجله سجنوا وأوذوا، ولا يزالون رهن الاعتقال منذ تلك الأيام. فإلى متى يقع مثل هذا؟ في الوقت الذي يمكن فيه للنساء بعرض الأزياء، ويمكن فيه بالاختلاط، ويمكن فيه بالفساد، ويمكن فيه بألوان المخالفات الشرعية، ويمكن فيه للشباب بالرياضة، ولعبة الكرة، وعقد النوادي والاجتماعات من أجل تنمية الروابط -كما يقولون- وتدعيمها في تلك المنطقة وفي غيرها من المناطق. الجزء: 41 ¦ الصفحة: 27 نظرة الغرب إلى المسلمين تحدث الدرس عن أسباب خوف الغرب من الإسلام وأن منها الصحوة (الرجوع إلى الدين) بحيث فشل التنصير واستعاد المسلمون تميزهم، ثم ذكر من الأسباب: التكاثر السكاني عند المسلمين وأثره على الغرب، ومن الأسباب تنامي القوة العسكرية عند المسلمين. ثم تطرق إلى كيفية مواجهة الغرب لذلك. ثم ذكر الأشياء التي تؤثر في نظرة المسلمين إلى الغرب وأن من أهمها الدعم لإسرائيل ثم أجاب عن الأسئلة. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 1 أسباب المخاوف الغربية من الإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداًً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا الدرس الثمانون من سلسلة الدروس العامة، وهذه ليلة الإثنين السادس من شهر جمادى الآخرة من سنة ألف وأربعمائة وثلاثة عشر للهجرة، وعنوان هذا المجلس: (نظرة الغرب إلى المسلمين) وأول فقرة فيه، هي بعنوان: (الدرس السابق خلاصات وتعليقات) . إن مما استفدناه من جلستنا الماضية، أن مخاوف الغرب من الإسلام تتزايد يوماً بعد يوم، سواء في ذلك مخاوف الحكومات الغربية، أو مخاوف المؤسسات الفكرية والسياسية وغيرها، أو مخاوف المواطنين العاديين الذين يكثر بينهم التخوف من الإسلام، بل تلقي إليهم أجهزة الإعلام الرعب بمجرد مشاهدة الثوب العربي، أو الغترة العربية، أو مشاهدة الإنسان المسلم. وأسباب هذه المخاوف الغربية من الإسلام كثيرة منها: الجزء: 42 ¦ الصفحة: 2 تنامي القوة العسكرية في العالم الإسلامي أما السبب الثالث والأخير فهو: تنامي القوة العسكرية في العالم الإسلامي، خاصة بعد تحرر الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، وهي تملك الأسلحة والعتاد، بل وتملك القوة النووية، ولهذا فلا غرابة أن يصرح الرئيس الأمريكي السابق بيكر تصريحاً رسمياً بعد ما زار تلك الجمهوريات وبالذات موسكو: أن من أهداف الزيارة مواجهة المد الأصولي، ومنعه من الوصول إلى تلك الجمهوريات. ولا شك أن الحرب التي تعلن الآن على إيران -في نظري- وتصريحها هي جزء من ذلك، فالغرب يخيفه أن تمتلك إيران الأسلحة النووية لماذا؟ هل لأنه لا يضمن أن تستخدم إيران السلاح ضد دول الخليج، إذاً لهان الأمر، وكان بإمكانه أن يجعل إيران ذراعاً يهدد دول الخليج، من أجل مزيد من الولاء له، والارتماء في أحضانه، ولكن الغرب يخاف أن تتطور الأمور بصورة لا يمكن تصورها الآن، وأن تدخل المنطقة كلها في مواجهة عامة شاملة تكون إسرائيل طرفاً فيها، فإذا كان الغرب يسعى إلى إيقاف إيران عن تعزيز قوتها، فلا تظن هذا خوفاً على دول الخليج بل هو بالدرجة الأولى خوف على ربيبته وحليفته الإستراتيجية التاريخية المسماة بإسرائيل. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 3 الرجوع إلى الدين أولاً: الرجوع إلى الدين: فإن الدين هو سر القوة، والبقاء، والصبر، وسر التجمع والوحدة بين المسلمين، فالغرب ينزعج كثيراً من إقبال الناس على الإسلام، سواء ما نسميه نحن باصطلاح: الصحوة الإسلامية، أو أي مظهر آخر ينم عن عودة إلى الدين ورجوع إليه، فإن هذا يشكل عند الغرب رعباً ليس باليسير، ولذلك دلالات مهمة: أ/ فشل جهود التنصير: أولها: أن الغرب حينما يكتشف عودة الناس إلى الإسلام، فمعنى ذلك أنه يكتشف أن الجهود الضخمة التي بذلها هو للتنصير قد باءت بالفشل، وأن الجهود الأخرى التي بذلها للتغريب، ومحاولة جعل المسلمين بعيدين في مجال حياتهم عن الإسلام أنها هي الأخرى لم تجدِ نفعاً، وعلى سبيل المثال بثت إذاعة ألمانيا، وإذاعة صوت أمريكا، باللغة الأمهرية الموجهة إلى بعض البلاد الإفريقية وغيرها، بثت تقريراً نشرته الواشنطن بوست، أبدت فيه تخوفها من تمدد الإسلام، وهذه المخاوف تعتبر تعزيزاً وتأكيداً لمنشور سري وزعته الكنيسة باللغة الإنجليزية، وأشار هذا المنشور إلى سرعة تنامي عدد المسلمين، ولا سيما في أثيوبيا، حيث لا يرتاد الكنيسة إلا أقل من (5%) من سكان أديس أبابا، وأكد المنشور على ضرورة السعي الجاد للتنصير، ونقل التنصير من بيت إلى بيت لمواجهة الإسلام، هذا فيما يتعلق بالتنصير، وهو مثال من طرف القلم كما يقال، وإلا فالأمثلة في الجريدة الواحدة تعد بالعشرات. أما فيما يتعلق بالسلوك الاجتماعي والأخلاقيات في أوساط المسلمين، فقد نشرت -وهذا أيضاً مجرد مثال- مجلة اسمها بانوراما الخليج، في عدد سابق مقالاً عنوانه: "خلونا ننشد ما دامت الغناوي حرام" وخلاصة المقال أن الكاتبة تبدي ذعرها وانزعاجها من شباب وشابات هذه الجيل، الذين أصبحت حياتهم -كما تعبر هي- حياة رتيبة مللاً في ملل، وأصبحوا يعيشون روتيناً لم يفرض عليهم، ولكن اختاروه بأنفسهم من المدرسة إلى المسجد إلى البيت وما أشبه ذلك، هؤلاء الشباب تقول: لم يعد الواحد منهم يتجه -مثلاً- إلى النوادي الاجتماعية، ولا يتجه إلى الجامعة لماذا؟ لأن الجامعة فيها اختلاط، وأصبحت البنت تفرح بمجرد ما تدعو لها أمها بالزواج، وتقول بصوت عالٍ: اللهم آمين، اللهم آمين، فالكاتبة المتحدثة مذعورة من هذا الإقبال على التدين ومن الالتزام بالأخلاقيات الذي لم يفرض على البنات والأولاد، وإنما بمحض اختيارهم، طلبوه وأرادوه، ونحن لا شك لا نصدق أبداً حقيقة ما تقول هي عن الملتزمين والملتزمات، فهم سباقون إلى كل خير، وهم بحمد الله منافسون في كل ميادين الحياة، ولكن هذه صورة من صور التشويه. تقول في آخر المقال: خلونا نطلع، نمثل، نقرأ، نعزف، وحتى خلونا ننشد مادامت (الغناوي) حرام. إن مثل هذا الكلام له معنى كبير، على رغم أننا نعلم جميعاً أن الأجهزة الرسمية في البلاد الإسلامية، ليست أجهزة محايدة لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، لا، بل هي تزيد في جرعة الفساد كلما زادت نسبة الخير، فكلما كثر الإقبال على الدروس والمحاضرات، كثفت الدورات الرياضية، ووسع نطاقها لإغراء المزيد من الأولاد والبنات بالاتجاه إليها، وكلما زادت الحشمة والعفة في أوساط البنات, وسعت أجهزة الإعلام من مساحة التحلل فيها، وقبل ثلاثة أيام نشر في القناة الثانية، في التلفزيون السعودي مشهداً -الذين يكبون على مشاهدة التلفاز يندهشون منه- رجل يقبل فتاة، وهكذا. إذاً الدلالة الأولى التي يكتسبها ويكتشفها الغرب من التوجه نحو الإسلام أن جهوده للتنصير، أو التغريب على حد سواء قد باءت بالفشل. أما الدلالة الثانية: فهي أن العالم الإسلامي بدأ يستعيد تميزه، واستقلاليته الفكرية، والعقائدية. إن من الممكن أن يتعايش الغرب مع دول إسلامية، علمانية في إطارها العام، فالذي يزعج الغرب ليس هو مجرد رفع شعار الإسلام فحسب، ولا مجرد بناء المساجد فحسب، ولا مجرد دفن الموتى على الطريقة الإسلامية فحسب، وإن كان ذلك كله يزعج الغرب أيضاً، ولكن الذي يخيف الغرب هو الوجود الإسلامي بالمعنى الشمولي للإسلام. الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يهيمن على الاقتصاد، فيهدم الربا، ويحاول إقامة النظام الشرعي الإسلامي بديلاً عن النظام الرأسمالي الربوي الغربي. الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يرفع راية الجهاد، والجهاد ذروة سنام الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} هذا الجهاد الذي كان شبحاً على مدار التاريخ يخيف الغرب، وهو الذي أذعنت له أوروبا يوم وطئتها سنابك خيول المسلمين القادمة من بلاد الأندلس، -أسبانيا الفردوس المفقود- ويوم أن احتل المسلمون العثمانيون أجزاء غير قليلة من أوروبا، وكادت روما عاصمة النصارى أن تقع في أيدي المسلمين. الذي يخيف الغرب هو ذلك المجتمع المسلم الذي يبني علاقاته الدولية ومعاهداته ومواقفه على أساس من العقيدة الإسلامية الصحيحة. الذي يخيف الغرب هو الإسلام الذي يقيم نظام الدولة بتفاصيله كلها على أساس التشريع الإسلامي، ومرجعية القرآن والسنة. إذاً: فالذي يخيف الغرب: هو ما يسميه هو بالإسلام الأصولي، الإسلام المهيمن على كل مناحي الحياة، ولو كان الذين يحملون هذا الإسلام الأصولي، مهذبين بأساليبهم، ولو كانوا منطقيين، ولو كانوا عقلانيين، المهم أنهم يحملون فكراً شمولياً، يحملون الإسلام كله جملة وتفصيلاً، ويمتثلون قول الله عز وجل: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] فيعملون على أن يؤمنوا بالكتاب كله، ويدعوا إليه كله، ويقوموا به كله، فلا يجزئون الإسلام، ولا يجعلون القرآن عضين، كما توعد الله من يفعل ذلك، فهؤلاء الأصوليون مهما كانت أساليبهم مهذبة، وطرائقهم لبقة، وعباراتهم هادئة، وشخصياتهم لطيفة، إلا أنهم مصدر إزعاج كبير للغرب. وعلى النقيض فإنَّ الإسلام الذي يمكن أن يقبل به الغرب بشكل مؤقت، هو لون آخر سيتبين بعد قليل، إن خطراً كهذا الخطر الإسلامي يمكن أن يهدد الغرب في عقر داره، أما ذلك اللون المهجن المدجن لا أقول من الإسلام، فالإسلام واحد، ولكن أقول: من المسلمين المنتسبين إلى الإسلام، فهذا من الممكن أن يهادنه الغرب، وأن يصالحه مصالحة مؤقتة -أيضاً- ليست طويلة الأمد؛ لأن هذا الإسلام الناقص الذي قد يؤمن به بعض المسلمين، من الممكن أن يتحول مع الوقت إلى الإسلام الكامل، وهذا المسلم الضعيف، من الممكن مع الأيام أن يعطي صوته وتأييده ونصرته لذلك المسلم القوي، إنما يعمل الغرب على الموازنة بين المصالح، وترجيح بعضها على بعض، فمن الممكن أن يهادن بعض شرائح المسلمين مؤقتاً، ريثما يفرغ للعدو الأكبر (الإسلام الأصولي) . إن التاريخ كله هو في الحقيقة تاريخ الصراع بين العقائد والمبادئ والمذاهب، ومن يستعرض الحروب العظمى في التاريخ يتأكد من هذه الحقيقة، فالحروب الإسلامية كلها على مدار أربعة عشر قرناً من الزمان، ثم الحروب الصليبية وغيرها، هي مجرد أدلة على أن التاريخ كله، تاريخ الصراع بين العقائد. لا تظن أبداً أن التاريخ تاريخ الصراع على المرأة، أو تاريخ الصراع على حفنة من الطعام، أو تاريخ الصراع على البترول فحسب، لا؛ هذه الأشياء كلها صحيحة، لكن الصراع الجذري والصراع الجوهري بين كل أمم الدنيا هو الصراع بين العقائد، الصراع بين الأديان، الصراع بين المذاهب، وقلّبْ تاريخ أي أمة من الأمم، لا تخطئك هذه الحقيقة قط، ولا شك أن الغرب اليوم لا يملك العقيدة التي يستطيع أن يواجه بها الإسلام، وإن حاول الغرب أن يستعين بالعقيدة النصرانية كحل، ويكثف الجهود في الدعوة إليها، وقد طالب نكسون كما ذكرت لكم في المجلس السابق بأن على أمريكا أن تشبع العالم روحياً، ولا تكتفي أن تشبعهم مادياً بالمساعدات فحسب، وقال: إن علينا أن نحمل الإنجيل بيد، ونحمل المساعدة الإنسانية باليد الأخرى، ومع ذلك فلا شك أن الغرب يدرك أن النصرانية غير قادرة على مواجهة الإسلام. لقد فشلت النصرانية وانهزمت في أوروبا دون أن تواجه ديناً آخر، فالأوربيون تركوا النصرانية، وتركوا الكنيسة إلى ماذا تركوها؟ إلى دين آخر؟ لا؛ لم يتركوها إلى الشيوعية مثلاً، والذين تشيعوا من الغرب قليل، أحزاب معدودة في فرنسا وفي غيرها، لم يترك الغرب النصرانية إلى اليهودية، لم يترك الغرب النصرانية إلى الإسلام؛ لأن الإسلام لم يقدم له بصورة دعوة سابقاً، إنما ترك كثير من الغربيين النصرانية عقيدةً وسلوكاً وعبادةً، تركوها إلى المرقص، والماخور، والسوق، والبنك، وإلى غير ذلك. فدل هذا على أن النصرانية دين محرف أولاً، ودين منسوخ ثانياً، فلو كانت غير محرفة، لكفاها أنها منسوخة؛ مما يدل على أنها لا تلائم الإنسان في هذا العصر، فالله تعالى هو العالم بطبيعة الإنسان، وفضلاً عن كونها منسوخة فهي محرفة -أيضاً- دخلتها يد التحريف والتغيير والتبديل، من اليهود ومن النصارى ومن غيرهم، فإذا كانت النصرانية قد فشلت في استقطاب الناس في قلب أوروبا على رغم عدم وجود المنازع لها، فكيف تتصور أن يكون الحال لو كانت النصرانية في مواجهة الإسلام؟ لا بد أن يؤمن ويوقن المسلم الذي يصدق الله تعالى ويؤمن به، ويصدق رسوله صلى الله عليه وسلم، بأن النصرانية فاشلة في مواجهة الإسلام، وأن مجرد ظهور الحق كافٍ في دحضها، قال الله عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] فالباطل زاهق وذاهب لا بقاء له ولا وجود، وقوله سبحانه: {فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] ، أي: يصيبه في الدماغ، ضربة مسددة قاضية لا بقاء له معها قط. وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَ الجزء: 42 ¦ الصفحة: 4 التكاثر السكاني للمسلمين أما السبب الثاني الذي يثير مخاوف الغرب فهو: التكاثر السكاني للمسلمين، وقد ذكر ريتشارد نكسون: أن أربعة أخماس المواليد في العالم هم من المسلمين، فأربعة من كل خمسة أطفال يولدون هم مسلمون، وبلاد الغرب نفسها مهددة بهجرة خمسين مليون مسلم خلال حوالي ثلاثين أو خمس وثلاثين سنة، هؤلاء من المسلمين العاديين الذي ذهبوا يبحثون عن الثروة، أو فرص العمل، أو عن لقمة العيش. إسرائيل نفسها تواجه تزايد في أعداد الفلسطينيين، ولذلك تسعى إلى تعقيمهم بقدر المستطاع، وتسعى إلى تهجير أعداد غفيرة من اليهود من روسيا وغيرها، مع أن هذا يزيد في أعبائها الاقتصادية، وهي تواجه أزمة اقتصادية، المهم أنَّ عندها مشكلة التكاثر السكاني التي تواجه به أعداد الفلسطينيين. إذاً: هاجس الخوف من التزايد العددي الإسلامي، هاجس كبير جداً، وإليك بعض الأدلة السريعة: د/ من مذكرات ريتشارد نكسون: أولاً قال ريتشارد نكسون في مذكراته، وقد خلع قفاز الدبلوماسية والسياسة، وقال بصراحة متناهية: إنه ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلا إحدى حلين:- الأول: القضاء على الإسلام بقتل جميع المسلمين. الثاني: العمل على استيعاب المسلمين وتذويبهم. فمن المفترض عنده أن الإسلام عدو لدود، ولكن المشكل عنده كيف يمكن مواجهة هذا العدو، بهذا الأسلوب أم بذاك، ومع أن هذا الرجل رجح الحل الثاني؛ أنه لا داعي لمواجهة القتل، بل ينبغي أن نعمل على تذويبهم؛ إلا أن الخبراء في السياسة الأمريكية يدركون أي سياسة يميل إليها هذا الرجل على سبيل الحقيقة، لا على سبيل التظاهر. هـ/ تحذير صحيفة يهودية: مثال آخر: حذرت صحيفة يهودية اسمها جيرو سالم بوست -وهي شهيرة- حذرت زعماء اليهود من اليقظة الإسلامية، ودعت إلى التحرك لمواجهة الخطر الإسلامي، ونشرت مقالاً عنوانه: "الطوق الإسلامي الفولاذي" قالت فيه: إن تأييد الجماهير الذي يحظى به الدعاة الإسلاميون، مرده فساد الأوضاع العامة في الشارع العربي، إن الأصوليين يشكلون طوقاً فولاذياً حول إسرائيل، وهم غير مستعدين حتى للتلفظ بكلمة السلام، فضلاً عن الاعتراف بإسرائيل. فإسرائيل، جزيرة في بحر إسلامي متنامي، وهذه الدول المحيطة بها مهما كانت هي دول إسلامية، مهما حيل بينها وبين إسلامها، فإذا كانت الدول البعيدة أوروبا وأمريكا وغيرها تخاف من الهجرة الإسلامية، فما بالك بدولة تقيم في قلب البحر الإسلامي، وهي إسرائيل وهي -أيضا- جسم طارئ غريب على المسلمين. و/ إرسال دماء ملوثة إلى تونس: مثال ثالث: ثارت ضجة إعلامية، ربما قرأها البعض، حول شحنة من الدماء الملوثة التي باعتها فرنسا على تونس، هذا الدم تبين أنه ملوث بماذا؟! بجرثومة الإيدز، وفقدان المناعة، فمات بسبب هذه الشحنة ثلاثة، وحقن بها اثنا عشر شخصاً، منهم مجموعة على شفير الموت، وما زال التحقيق في ذلك كبيراً في تونس , وما زالت هناك حرب إعلامية بينها وبين فرنسا، وربما كان لهذا الحرب أبعاد، فإن من الأبعاد المهمة أن أخا الرئيس التونسي مقبوض في فرنسا بجريمة المخدرات، يحاكم هناك، ولذلك منعت الصحف الفرنسية من الدخول إلى تونس، وصار هناك جفاء في العلاقات، ولكن -أيضاً- هذه الشحنة لها تأثير معين ولها دلالة معينة، هو أن الضمير الغربي ضمير فاسد حقود على الإسلام، مهما كان هذا الإسلام إسلاماً ضعيفاً وليس إسلاماً أصولياً، ومع ذلك فإن هذا الخبر صغير الأهمية بالنسبة لتلك الأنباء التي تثبت أن هناك مخلفات إشعاعية خطيرة دفنت في أرض الصومال مما يشكل تهديداً خطيراً للبيئة، وتهديداً خطيراً للإنسان هناك. ز/ أحداث الصومال: مثال رابع: أحداث الصومال، وهي مؤشر خطير، فقد فُرِضَتْ الاستقالة على مندوب الولايات المتحدة في الصومال وهو عربي اسمه سحلول؛ لأنه كشف جوانب من الإهمال والتقصير في عمل هذه الهيئة الدولي في حق المسلمين في الصومال فأقيل أو فرضت عليه الإقالة، مع أن تقارير الأمم المتحدة ذاتها تقول: إنَّ المساعدات الدولية فشلت والفقراء يتزايدون. وأقيل هذا الرجل من منصبه؛ لئلا يكشف الفضيحة التي تورطت فيها الأمم المتحدة في التقصير بحق المسلمين في الصومال، بل أن هناك ما هو أخطر من ذلك، هناك تقرير يجب أن نضعه في الاعتبار نشرته جريدة "انترناشيونال هلاردتربيون" في أحد أعدادها بتاريخ (18/10/1413هـ) أي قبل حوالي ما يزيد على عشرة أيام -هذا التقرير عنوانه: "صرح إسلامي جديد"، ويتكلم التقرير عن مجموعة من الشباب المسلم في الصومال الذين يقومون بمجهودات عسكرية هناك، سأقرأ عليكم منه فهو مترجمٌ إلى العربية، يقول: مجموعات من الأصوليين الإسلاميين المسلحين جيداً، يتوسعون في أنحاء المناطق الصومالية، في منطقة القرن الإفريقي، وذلك كمسعى جاد لإقامة معقل قوي للإسلام الأصولي في المنطقة حسب كلام مراقبين صوماليين وأجانب، أقوى مجموعة وأكثرها حضوراً حزب الاتحاد الإسلامي المعروف بالاتحاد، والذي يلبس زي الإخوان المسلمين العالميين، قد حقق غزواً واسعاً في شمال الصومال، المطل على خليج عدن إلى إقليم أوجادين داخل أثيوبيا، وإلى المناطق التي يقطنها الصوماليون شمال كينيا -قبل أن استرسل في نقل هذا التقرير أحب أن أفيدكم أن هذا الاتحاد الإسلامي هو اتحاد سلفي على طريقة الكتاب والسنة، بعيد عن جميع أنواع الانحرافات السلوكية والعقدية وغيرها، وقد التقيت بأفراد منه، ومعهم تزكيات من مجموعات من أهل العلم وسيرتهم سيرة معروفة- لقد أقام الاتحاد معسكرات للتدريب في أنحاء شمال الصومال وإقليم أوجادين، ويدير شبكة للإمداد بالمال والسلاح، للشعوب الصومالية في جيبوتي والصومال وأثيوبيا وكينيا حسب ما أفاد عشرات القادة المحللين والدبلوماسيين وموظفي الإغاثة في الصومال وأثيوبيا الذين تحدثنا إليهم. أحد الأهداف المعلنة لحركة الاتحاد، توحيد مختلف فئات الشعب الصومالي تحت راية الإسلام، ثم ذكروا أن الفوضى التي حصلت في الصومال بسبب سقوط حكومة زياد بري عام (1990م) قد سهلت نشاط الأصوليين في المنطقة، ثم قالوا: إن الإسلام الأصولي، قد فشل في بلاد كثيرة، ولكن كانت هناك حكومات توقف الأصوليين -يعني في البلاد التي فشل فيها كما قال عمر يوسف أزهري - وهو ممثل الجبهة الديمقراطية لإنقاذ الصومال، أما في الصومال فهم يتحركون بحرية وسط هذا الفراغ، وقال: يجب عدم الاستهانة بهم؛ لأنه إذا سمح لهم بالنمو فوق طفولتهم، فسوف يشكلون تهديداً حقيقياً لمنطقة القرن الإفريقي بأسرها، ثم ذكروا اغتيال طبيبة في بوصاصو وهو أحد المواني المطلة على خليج عدن، واتهموا الجبهة -جبهة الاتحاد الإسلامي- بأنها هي المسئولة عن ذلك، ثم ذكروا سيطرتهم على هذه المدينة، وتكلموا عن معسكراتهم التي تقدم التدريب العسكري والديني لآلاف من الشباب، وأنها أقيمت في عدة مدن، وقال: لم تنجح محاولاتنا المتكررة للاتصال بقيادات الاتحاد في المنطقة، لكن حسب قول بعض شيوخ القبائل الصوماليين الذي يعرفونهم، إن قادة الاتحاد يقولون: بأنهم حملوا السلاح للدفاع عن أنفسهم في بلد تسوده الفوضى العارمة وتنتشر فيه العصابات المسلحة، ثم قال: إنه لم يمكن تحديد مصادر التموينللاتحاد بينما تقول بعض المصادر إن المتدينين الصوماليين في الخارج يدعمون الاتحاد، ويقول الصوماليون الكثيرون: إن مصادر غربية تدعمهم -أيضاً-، وهذا المقصود منه التشويه لهؤلاء المسلمين، ثم قال: ومن الملحوظ أنه يأتيهم من تنظيمات أصولية متطرفة في السعودية وإيران وباكستان والسودان ودول أخرى بعض المساعدات. يقول دبلوماسيون غربيون: إن شحنات الأسلحة للصومال قد سجلت أنها تغادر ميناء جيزان السعودي في البحر الأحمر، هذه كلها أقاويل ودعايات وأكاذيب المقصود منها تشويه صورة هؤلاء الشباب أمام المواطن الصومالي العادي؛ لأنه يتخوف حينما يقال له: هؤلاء من الخارج، خاصة إذا قيل له: مدعومين من الغرب، يقول التقرير: إن التراث الإسلامي المشترك قد وحد مختلف الفروع القبلية في الحركة الوطنية الصومالية في الشمال، وكذلك فإن علاقات الصومال التجارية والثقافية مع دول الجزيرة العربية والخليج تقوم على جذور عميقة، انتهى التقرير. وعلق عليه مندوب الاتحاد بقوله: لا شك أن بعض ما ذكرته الصحيفة صحيح من حيث الأصل، ويعتبر من الأمور الظاهرة التي لا تخفى على أي زائر للصومال، خاصة إذا كان مهتماً بمثل هذه الأخبار، ووجد بعض الأطراف التي تزوده بالمعلومات الأخرى في المناطق، ولكن فيها قدر من المعلومات غير الصحيحة مثلما يذكرونه عن دعم بعض الدول، وعدد القتلى والجرحى في المعارك من الجبهة الديمقراطية العلمانية، حيث سبق أن أعلنا المعلومات الصحيحة حول هذه الأمور، ونعتقد أن غرض الجريدة لا يخفى على الكثيرين فيما يتعلق بالإشارة حول هذه الأمور، ولكن يبقى الأمر الهام، وهو ما يظنه الأعداء فينا من قوة التخطيط والتدبير والرعب الذي يصيبهم، والموقف الذي يقفه الكثيرون منهم حيث لا يعرفون كثيراً عن قضاياهم المهمة فالله المستعان! هذا الكلام يتحدث عن مجموعة محدودة من الشباب المسلمين في الصومال، فانظر كيف كان رد الفعل الغربي ضخماً وخطيراً وكبيراً أمام ذلك. في مقابل هذا الخبر، خبر آخر كبير نشرته كل الصحف أمس وقبل أمس، بما في ذلك جريدة الحياة والشرق الأوسط والصحف المحلية وغيرها، يتلكم عن أربع سفن أمريكية تنقل أكثر من ألف وثمانمائة جندي أمريكي من قوات المارنز، وبالذات من الفرقة اثنين وثمانين والتي كان لها مشاركة فعالة في حرب الخليج، أبحرت متوجهة إلى منطقة عمليات الشرق الأوسط، والمقصود بها بالذات منطقة الصومال، وهي نواة لقوة أمريكية ستتواجد هناك، تتراوح حسب المصادر الأمريكية نفسها ما بين عشرين إلى ثلاثين ألف جندي أمريكي جاهزة للتدخل، وقريبة من موقع الأحداث، والغريب في الأمر أن المتحاربين في الصومال أيدوا هذه القوة؛ لأنهم شعروا أن هناك خطراً إسلامياً ينازعهم. إذاً: السبب الثاني الذي يخيف الغرب هو: التكاثر السكاني الإسلامي، وما العملية التي تجري في الصومال -مثلاً- من عملية الإبادة عن ط الجزء: 42 ¦ الصفحة: 5 كيف يواجه الغرب الإسلام الغرب يواجه الإسلام بأساليب مختلفة. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 6 تعميق الغرب للروابط مع الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي ثالثاً: تعميق الغرب للروابط مع الحكومات العلمانية في العالم الإسلامي، والتغاضي عن أخطائها الكبيرة، فيتغاضى الغرب -مثلاً- عن إهدارها لحقوق الإنسان، مع أن الغرب يتبجح بأنه حامي حقوق الإنسان، أو يتغاضى الغرب عن أنها حكومات دكتاتورية هدمت الديمقراطية، وقضت عليها في الوقت الذي يتبجح فيه الغرب على أنه عالم ديمقراطي، وأن أهم أهداف النظام الجديد: إقرار الديمقراطية في العالم، وذلك لأن الغرب يعلم أن البديل عن تلك الحكومات العلمانية في نظر الغرب هو الأصولية، ولذلك رضي الغرب بضرب المسار الديمقراطي كما يسمونه في الجزائر، لأن البديل الجبهة الإسلامية. ويبدو والله أعلم أن الأصولية ورقة رابحة للطرفين للحكومات العلمانية، وللغرب أيضاً، فأما الحكومات العلمانية فهي تستثمر الأصولية الموجودة في شعوبها؛ لكسب تأييد الغرب وضمان موقفه، فهي تقدم نفسها دائماً وأبداً على أنها البديل، وأنه لا بديل عنها إلا الأصولية، فعليكم أيها الغربيون أن تدعمونا وتقفوا في صفنا. أما الغرب: فهو يستثمر الأصولية أيضاً؛ لتهديد الحكومات العربية، لضمان من مزيد الولاء له، فهو دائماً وأبداً يقدم لهم التقارير، وأنه يقول لهم: لو تخلينا عنكم ساعة من نهار لم تكونوا شيئاً مذكوراً، كما كان بالأمس يهدد الحكومات العربية بالأحزاب الشيوعية. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 7 النشاط التنصيري الواسع رابعاً: النشاط التنصيري الواسع، والنشاط التنصيري كان موضوع بحث في هذه الدروس على مدى ستة أسابيع، ويومياً تأتي معلومات خطيرة من الداخل والخارج عن المنصرين، لكن كمثال من طرف الذهن إليك هذا الخبر: أطفال ألبانيا اليتامى كلهم -وألبانيا دولة أكثر من (70%) منها مسلمون- وقعوا رهينة لمنظمة نصرانية اسمها "مبرة أمل العالم"، ويقوم أمور أولياء هؤلاء الأيتام بتوقيع وثيقة يعترفون بموجبها بحق هذه المبرة في أن تتولى أمر أطفالهم، منذ اليوم ولمدى تسع وأربعين سنة، ومعنى ذلك أن الطفل سيظل لمدى تسع وأربعين سنة في قبضة هذه المبرة، أو هذه المنظمة النصرانية، وهم يتعلمون داخل تلك الدار ويتربون فيها، ويمارسون حياتهم كلها، حتى أن أحد الصحفيين الأمريكان ذهب إلى هناك، وشاهد التعليم النصراني، بل وشاهد المسرح الذي قد أقيم فيه حفل ترفيهي، فقام الأطفال الذين حفظوا الأغاني الإنجليزية -وهم لا يعرفون الإنجليزية، لكنهم حفظوها جيداً- شاهدهم وهم يقرءون تلك الأغاني عن ظهر قلب: أوه كم أحب يسوع، أوه كم يحبني يسوع، هكذا يردد أطفال المسلمين اليتامى في ألبانيا، ثم قام ممثل وعرض على الأطفال رواية أو قصة إنجيلية مأخوذة من كتابهم المقدس كما زعموا، ثم تحدث عن نوع الأشخاص الذين يدخلون الجنة. وقال ممثل منظمة اليونيسيف -وهي منظمة تابعة للأمم المتحدة-: إن في العقد المبرم بين هذه الجمعية وبين الحكومة الألبانية فقرة خاصة تستطيع المبرة بموجبها -المبرة النصرانية- تبني هؤلاء الأطفال، وقد نشر هذا الخبر في جريدة القبس الكويتية، عدد"6976". إذاً: النشاط التنصيري الواسع يستهدف تحويل المسلمين إلى نصارى منذ الطفولة، وهذا نموذج في ألبانيا، أما النماذج في الصومال، والبوسنة والهرسك وعموم القارة الإفريقية، وفي إندونيسيا ودول الخليج، وفي مصر فقد سبق ذكر أشياء من ذلك. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 8 الحروب المدمرة خامساً: الحروب المدمرة، سواء تلك الحروب التي يدعمها الغرب بين فرقاء من داخل المسلمين، كنموذج الصومال، وقد ثبت أن هناك طائرة جاءت بحجة الإغاثة فسقطت هذه الطائرة -وهي من طائرات الأمم المتحدة- فوجد المسلمون داخل هذه الطائرة أسلحة فتاكة، بعثت بها قوى غربية إلى أحد الفرق المتنازعة في الصومال، فهم يدعمون هذا الطرف وذاك من أجل مزيد من الحروب، ومزيد من الإبادة، ومزيد من الرعب، وكل ذلك تمهيد لفرض وصاية دولية على البلاد الإسلامية. أما الحرب التي تدار بأيدي نصرانية في البوسنة والهرسك فأمرها واضح، البابا شنودة في جريدة العالم اليوم يقول: إن الحرب في البوسنة ليست حرباً إسلامية أو دينية، بل هي حرب سياسية. ولا غرابة أن يقول البابا شنودا ذلك، فقد كشفت الصحف وجميع الإذاعات خبراً مفزعاً مفجعاً عظيماً، ما هذا الخبر؟! شركات مصرية تقوم بنقل البترول إلى صربيا متحدية بذلك الحصار الدولي، نعم في الوقت الذي تقوم فيه أو تأذن فيه الحكومة المصرية بإقامة مهرجانات ومؤتمرات شعبية لمناصرة المسلمين في البوسنة والهرسك، تعطي ضوءاً أخضر للشركات لأن تخرق الحظر على صربيا، وتقوم بإرسال شحنات من البترول وغيره إلى جمهورية الصرب التي تقاتل المسلمين، تماماً- كما رسم ريتشارد نكسون في كتابه، وقرأتها عليكم في المجلس السابق: نأذن لأصدقائنا أن يلعنونا علانية، ليتجنبوا الإحراج في مقابل أن يؤيدونا سراً. وهاهنا تقرير عن أطفال المسلمين في البوسنة، سوف أقرؤه عليكم الآن، وهو تقرير مبكٍ محزن تتفطر منه الأكباد، وتسيل منه العيون، وتحزن له القلوب عنوانه "أطفال الحرب ضحايا الذاكرة" وقد نشر في جريدة الواشنطن بوست، يوم الأحد (28/5/1413هـ) وهو عبارة عن قصص لأطفال مسلمين. يقول الكاتب: أدمير يتبع أمه حول معسكر اللاجئين وهو يصطف حولها، هناك ملابس قد وصلته من التبرعات، ولكن في كل ليلة هذا الطفل المسلم ذو السنوات الثمان يسافر وحده في الأحلام، ذلك عندما يتذكر هو ومئات الآلاف من الأطفال مثله أحداث الحرب في يوغسلافيا السابقة، على حشية رقيقة مصنوعة من الأغصان في غرفة يشترك فيها هو وثلاثون آخرون معه، يتكلم أدمير في نومه، يصرخ وينادي ويحذر ثم يبكي على والده الذي أطلق الصرب النار عليه مع ابن عمه وعمه في (20/7/92م) عندما يفزع من نومه، لا يستطيع أحد أن ينام في تلك الغرفة. تقول أمه: لقد رأى أدمير المنازل تحترق والأجساد ملقاة أمام منزلنا، لقد أخذته إلى الطبيب مرتين، ويقول الطبيب: إنه مليء بالخوف، أعتقد بعض الأحيان أنني قد فقدت ابني، لقد صدم الأطفال في هذه الحرب أكثر من غيرهم، وأكثر من أي وقت مضى، حتى في الحرب العالمية الثانية، كثير من الأطفال قد بدت عليه أعراض أزمات نفسية عميقة، هناك أحد الأطفال كان يرى -ولمدة ثلاثة أيام ومن النافذة- جثمان أخيه يتحلل، وقد أصبحت جثته سوداء من الذباب حولها، بينما القذف المتواصل والشديد منع عائلته من أخذه ودفنه، الآن في منطقة اللاجئين خارج منطقة الحرب، هذا الطفل يجلس ساعات طويلة يحدق بعينيه إلى أعلى، ويطرد الذباب الذي يتخيل إليه أنه على وجهه. كما أن طفلاً آخر وهو زياد، وعمره أربعة عشر سنة كان قد اختبأ خلف حافلة عندما قبض الصرب على عائلته في (25/7) ثم رأى على بعد بضعة أقدام أمه وأخته، وثمانية وعشرين آخرين من أقربائه تطلق عليهم النار ويقتلون، الآن يعيش زياد مع أقربائه في ألمانيا، وفي الليل يتذكر ما حصل في ذلك الوقت، ولماذا لم ينج أحد في تلك الحادثة، ويفكر بذلك كل الوقت ويبكي. إن كثيراً من القاتلين كانوا معروفين لدى هؤلاء الأطفال، فقد كانوا جيرانهم ومدرسيهم، (أقول: هكذا يجب ألا نثق بالنصارى طرفة عين، وإن جاورونا، وإن جلسوا بين أظهرنا، وإن جاءونا كخبراء، أو كأصدقاء، أو كسفراء، أو بأي صفة، فإنهم هم صانعو الخيام) تقول الدراسات التي أجريت على أطفال العراق بعد حرب الخليج: إن الأزمات النفسية، قد تزيد عبر الوقت، إذا لم يجد الطفل من يفضي إليه بشعور، ولكن في البوسنة أكثر أطفال المخيمات على الطرق، عائلاتهم قد تفرقت. إن كابوس أدمير يستمر في إيقاظ من في الغرفة، ولكنه لم يعد يثير شفقة أحد، ولكن عندما يستيقظ أدمير يتكلم عن والده وعن ساعته، تقول أمه: إن الصرب أخذوا ساعته في الباص الذي أخذهم إلى الخارج، وهو دائماً حزين لها، أنا أخبره أنني سأشتري له ساعة أخرى، ولكنه لا يريد إلا تلك الساعة؛ لأنها كانت هدية له من والده الذي قتله الصرب. حالات متزايدة من انتحار الأطفال، فقدان التركيز، فقدان النوم، فإن غالب الأطفال الذين هم من مناطق الحرب قد رأوا أناس قد قطعوا إلى نصفين بفعل مدافع الهاون، وأطفال قد رأوا قذائف تقطع رءوس أمهاتهم، أو تقص رجلي طفل هو بين ذراعي أمه، تقول أسبيكا، وهي جدة لبنت عمرها خمس سنوات: إن الصرب قذفوا قريتنا بالقنابل لثلاثة أيام بلياليها، وقد تحول شعر ابنتها إلى أبيض، وتعتقد أسبيكا أن الصرب سوف يهاجمونهم مرة أخرى في معسكرات اللاجئين، ولذلك فهي ترتدي حذاءها دائماً، لا تخلعها حتى إذا ذهبت لتنام، إن الأطفال لا يستطيعون أن يفهموا ما رأوه بأعينهم، ولذلك فإن تلك الأحداث تدور في أذهانهم في الحالات الطبيعية، يعالج الأحداث، ولكن عندما يشاهد المرء خارج خبرته المعتادة؛ فإنه يعيش في حالة من الأزمة النفسية، كثيراً ما يقتل أحد أفراد العائلة بين عائلته، وكثيراً ما يكون هناك اغتصاب للأطفال وللأمهات أمام أطفالهن، وأطفال يرون رجال يقومون بتقطيع أمهاتهم بزجاج مهشم أمامهم، بعض الأطفال ينامون لثلاث أو أربع ساعات فقط، وبعد أشهر من تلك الأحداث التي مرت على بعضهم ما زال بعضهم يشعر ويتصور رائحة الدم، أو رائحة البنادق، أو بعضهم لا يستطيع التخلص من رؤية اللهب والحرائق في عينيه، إنه بالفعل كفلم مصور لهذه الأحداث في أعينهم طوال الوقت. هكذا يلقى المسلمون من أعدائهم من الصرب ومن ورائهم من الغرب الذين تقع كل هذه الجرائم على أيديهم. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 9 الهدنة مع المسلمين أولها: نوع من الهدنة مع المسلمين الذين يتصفون بالمرونة -كما يسمى- كحل مؤقت يضمن لهم عدة نتائج:- النتيجة الأولى: أن الغرب لا يستطيع مواجهة المسلمين كلهم جملة واحدة، فلذلك يسعى إلى تقسيمهم إلى أقسام، قسم من المسلمين يمكن أن يتعامل معهم الغرب، بل يمكن أن يتحالف معهم، ويظهر الرضا، ويكتب تقارير المديح والثناء، ويحاول تحسين صورتهم شيئاً ما، وهم أولئك المسلمون الضعفاء الذين لا يحسون بأي روح عداء للغرب، بل هم إما جهلة، أو عملاء، أو منافقون، أو ما أشبه ذلك، فهو يضمن عدم مواجهة المسلمين جميعاً بالتحالف مع فئة منهم، من ضعفاء الإيمان وضعفاء النفوس. أما الأمر الثاني الذي يضمنه الغرب أنه قد يستطيع ضرب المسلمين بعضهم ببعض، فيضرب من يسميهم بالأصوليين والمتطرفين والإرهابيين بمن يسميهم بالمسلمين المعتدلين، الإسلام المعتدل، الإسلام المرن، الإسلام غير الأصولي، الإسلام العصري، ولذلك تجد أن جميع الدول العربية اليوم تعلن حرباً على ما تسميه بالإسلام الأصولي. فمصر -مثلاً- أقرت قانون مكافحة الإرهاب الذي يضمن لرجل الأمن أن يضرب أي مشتبه به في الشارع دون أن يقال له: لماذا، وأن يخطأ في العقوبة خير من أن يخطأ في العفو، لا تظن أن جندياً سوف يوقف أو يحاكم؛ لأنه أخطأ في قتل إن لم تثبت جريمته أبداً، لأن مصداق ولائه لدولته، وكرهه للأصوليين أن يقتل دون تمييز، بل في الجزائر جاءتني أخبار دامية كتبها أحد الشباب، وحلف لي بالله أن ما قاله صحيح، وأنه لا يعدو أن يكون بعض الحقيقة، في بلدة الأخيضرية -وهي مركز من مراكز المسلمين القوية- يقول: ذهب أحد الشباب إلى الإسعاف من أجل قلع ضرسه، وكان معه والده، ففوجئ أن أجهزة الأمن تأتي بسرعة، وبطريقة مرعبة، فتأخذه من أحضان أبيه وتذهب به إلى الساحة العامة، ثم تطلق عليه الرصاص لترديه قتيلاً، فأصيب والده بالغيبوبة، أما الطبيب فقد أصيب بانهيار عصبي، وماذا كان ذنب هذا الشاب، كان ذنبه أنه ملتحٍ. لا مانع أن تكون أجهزة الأمن اشتبهت فيه، لكن لا تحقيق ولا محاكمة ولا مساءلة ولا سجن، بل يأخذه من حضن والده ثم يوضع في الميدان العام ويقتل!! دول المغرب العربي لما اجتمعت وفشلت في الهدف الذي اجتمعت له، أعلنت على الاتفاق على استراتيجية واحدة لمقاومة الأصوليين، وكتب يوسف دمنهوري في جريدة الندوة، مقالاً، يطالب فيه بالقضاء على الأصوليين الذين يدمرون المنجزات الحضارية للدول، ويهددون اقتصادها بالإفلاس، وقد كتب مقالاً بالأمس أو اليوم يعتذر فيه عن هذا الكلام، ويرد على من تكلم في شأنه فضيلة الشيخ سفر الحوالي، إلا أن كتاباته لم تكن اعتذاراً وإنما كانت نوعاً من اللف والدوران تجاه هذا الأمر، وأعتقد أنه يجب ألا يكتفي بذلك حتى يعلن تراجعه عما قال علانية. المهم أن الغرب يريد أن يضرب المسلمين بعضهم ببعض، فيضرب الشعوب بالحكومات، بل يضرب الشعوب بعضها ببعض، لو استطاعوا، وعلى سبيل المثال: هذا يشمل تهييج الحكومات ضد الصحوة، وضد الأصولية، باعتبارها خطراً، بل وتضخيم شأنها من خلال التقارير الصحفية، التي ربما بالغت أحياناً في ذكر هذه الصحوة والحديث عنها، وربما وجدت مقالاً صحفياً طويلاً، أو برنامجاً إذاعياً، أو حتى برنامجاً تلفزيونياً، يمتد لساعة ونصف في إحدى المحطات في الغرب، ما هو موضوعه؟! موضوعه الحديث عن أحد دعاة الإسلام في هذه البلاد، والكلام عن كل كلمة أو عبارة أو حديث أو مقال أو نشاط. فهذا التضخيم من خلال التقارير الصحفية والمعلومات الإعلامية، أو حتى من خلال المعلومات الأمنية والاستخباراتية، التي لا شك أن هناك آفاق كبيرة للتعاون بين الشرق والغرب، بل حتى بين الشرق وإسرائيل، تعاون أمني للقضاء على الأصوليين، ومعرفة مدى خطورتهم واتصالاتهم، وكيفية مقاومتهم، وكما يشمل ذلك إعطاء الفرص لبعض الشخصيات المحسوبة على الإسلام وعلى الدعوة الإسلامية لتؤدي بعض الدور لتقليص النفوذ العلماني الذي يعتبر ورقة في يد الأصوليين، فإن قوة العلمانيين في أي بلد هي في الواقع قوة كما يقولون للأصوليين؛ لأنها تأكد للشعوب أن تلك الحكومات ليست محايدة، بل هي حكومات علمانية محاربة للإسلام فلا بد من تقليص النفوذ الإعلامي نوعاً ما، ومحاولة أن يستر ولو بعطاء رقيق من بعض الشخصيات التي لها طابع إسلامي، ولذلك تعيد بعض الدول منصب المفتي، وتجعل للمفتي دوراً كبيراً في الإعلام، وربما وضعت له برامج كثيرة، وربما استفادت منه في مناسبات عدة حتى تخادع شعوبها عن حقيقتها العلمانية، وتحاول أن تبرز نفسها كما لو كانت حكومات إسلامية. كما يشمل ذلك تحريض بعض الأطراف الإسلامية على بعض، ومحاولة ضرب الجماعات الإسلامية بعضها ببعض، وضرب النشاطات الدعوية بعضها ببعض، واعتقد أن محاولة تمزيق شمل الدعوة الإسلامية، وتكثير الجهود والرايات والأسماء من أهم الوسائل في ذلك، ومما يحكى ويذكر أن مستشاراً أمنياً كان وزيراً لإحدى الدول العربية الكبيرة، مستشاراً في دولة أخرى، أنه كان يقترح الاقتراح التالي: ما لم توجد في أي بلد عشرات من الجماعات الإسلامية؛ فإنه لا يمكن مقاومة الأصولية بحال من الأحول. إذاً الأمر الأول في مواجهة الإسلام عند الغرب هو نوع من الهدنة مع من يسمونهم بالمسلمين المعتدلين، لمقاومة المسلمين الأصوليين، حسب تعبيراتهم. ثانياً: المزيد من الحصار على العالم الإسلامي؛ حتى لا تصل إليه الأسلحة، ولا الخبرات العلمية، ولا أسرار التقنية؛ ليظل العالم الإسلامي فقيراً في مجال العلوم، مرتبطاً بالغرب محتاجاً إليه، ولهذا قد يبيع الغرب على المسلمين مصانع بأكملها وقواعد بأكملها، حتى الأيدي العاملة تأتي معها، حتى يكون المسلمون عالة على الغرب، لا يعرفون حتى كيف يديرون مصانعهم. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 10 ماذا صنع لنا الغرب؟! لقد ثارت الحرب العالمية الأولى، وشارك العرب فيها الحلفاء أثناء الحرب، ولما انتهت الحرب وقامت عصبة الأمم؛ وضعوا جميع بلاد العرب والمسلمين تحت الانتداب والاستعمار، ونهبوا خيراتهم وأعطي وعد بلفور لتسليم فلسطين إلى اليهود. ثم قامت الحرب العالمية الثانية، وكان في أعقابها قرار تقسيم فلسطين، وإنشاء دولة إسرائيل، ودعمها على المستوى العالمي من قبل الشرق والغرب، واليوم يقوم النظام الدولي الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفيتي كبديل عن الحرب الباردة، والغريب أن هذا النظام لم يكن بديلاً عن الإسلام، ولم يكن الإسلام شريكاً فيه؛ إنما قام هذا النظام على أنقاض الشيوعية. ومع ذلك كان نصيب المسلمين والعرب هو الأكبر في هذا النظام الدولي الجديد، فهل كان الإسلام هو العدو المنهزم أمام الغرب في تلك الحرب الباردة حتى يلقى هذه المواجهة أم أن ضرورة البحث عن عدو جعلت الغرب يواجه الإسلام في هذه الحرب؟! لم يكن المسلمون حلفاء للشيوعية التي سقطت، بل كانوا ضدها، ولم تكن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي، ذات شعبية أبداً، كان الشيوعيون في العالم الإسلامي لا يشكلون أكثر من (2%) فقط وكانت الأحزاب الشيوعية منبوذة. ومع ذلك فإن الذين تبنوا الشيوعية في العالم الإسلامي، سواء حكومات أو أحزاب إنما تبنوها لأن أمريكا كانت تعلن دعمها لإسرائيل، فكان مقتضى العداء لإسرائيل، أن يلقي المسلمون بأنفسهم في أحضان روسيا، لكن هذا لم يقع إلا على نطاق ضيق جداً، فلماذا يعتبر الغرب أن سقوط الاتحاد السوفيتي، يعني إعلان الحرب على المسلمين، حتى أن رجلاً بريطانياً اسمه فريد هوليداي، وهو أستاذ في جامعة لندن، كان يسارياً إلى حد ما، وكان له مواقف -يقولون: مواقف مشرفة- في السابق من القضايا العربية، كقضية فلسطين مثلاً، ومع ذلك كتب مقالاً في جريدة الإندبندت البريطانية يدعو إلى أخذ الحذر من الإسلام، وقال: إن الإسلام غزا أوروبا مرتين، ويجب الاستفادة من القوة الأمريكية الموجودة اليوم لضرب الإسلام قبل أن تتم المحاولة الثالثة الإسلامية لغزو أوروبا. إذاً: في ظل النظام الدولي الجديد، هناك حرب معلنة على الإسلام، وقد لخص وزير خارجية بريطانيا هذه الحرب بقوله: يجب على الأمم المتحدة أن تقوم بدور امبريالي في حكم الدول الصغيرة التي لا تحسن حكم نفسها، نعم الدول الإسلامية: هي الدول الصغيرة التي لا تحسن حكم نفسها. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 11 الأشياء التي تؤثر في نظرة المسلمين إلى الموقف الغربي وهذه بعض الأشياء التي تؤثر في نظرة المسلمين إلى الموقف الغربي: أولاً: الدعم الفعلي غير المشروط لإسرائيل، والالتزام بتفوقها على جميع الدول العربية والإسلامية، وآخر دليل هو تصريح كلنتون في كتابه مصلحة الشعب أولاً، الذي يقول فيه: نؤيد حاجة إسرائيل للاستمرار في تفوقها النوعي والعسكري على خصومها العرب مجتمعين، ويجب على إسرائيل وأمريكا إقامة هيئة عليا مشتركة للتعاون في مجال البحث وتنمية الصناعة، للقرن القادم، ونحن مطالبون بجهد مضاعف لمنع وصول الأسلحة الخطيرة إلى إيران وسوريا وليبيا والعراق لحماية إسرائيل، والقدس هي عاصمة إسرائيل إلى الأبد، والسلام الذي لا يراعي أمن إسرائيل لا يعد سلاماً. انتهى كلامه. ألا يؤكد لكم هذا ما قلته لكم قبل قليل، من أن الغرب حين يمنع إيران من التسليح، إنما يمنعها خوفاً على إسرائيل؟ بلى. ثانياً: دعم الأنظمة العربية العلمانية الموالية للغرب، ودور المخابرات المركزية الأمريكية في ألوان الاضطهاد الذي يلقاه المسلمون واضح جداً، سواء في مصر أو تونس أو الجزائر أو غيرها، وإن كان الغرب لا يمانع أن تشتم تلك الدول أمريكا مقابل أن تؤيدها في الخفاء كما أسلفت. ثالثا: إيمان الغرب بعقائد ومُثل وأخلاقيات مناقضة ومناوئة للإسلام، وتبنيه لها، سواء فيما يتعلق بدعم الجهود التنصيرية في العالم الإسلامي، أو تصدير أنماط الحياة الغربية القائمة على الإباحة الجنسية، وعلى الحرية الشخصية، وعدم الإيمان بالعفة والطهارة الأخلاقية، سواء عن طريق الأمريكان الموجودين في البلاد العربية والإسلامية، أو عن طريق وسائل الاتصال كالإذاعة والصحف والتلفزة والكمبيوتر والكتاب وغير ذلك، وآخر ذلك أشرطة كمبيوتر شائعة تعرض ألوان الفساد الأخلاقي والدعارة، وموجودة في كل مكان، ويتداولها الناس، أو عن طريق إغراء المسلمين المقيمين في بلاد الغرب بذلك. رابعاً: الابتزاز الاقتصادي الذي يمارسه الغرب في حق المسلمين، ومصادرة ثرواتهم وخيراتهم، وذلك بأشكال مختلفة معروفة، وبالتالي يدرك المسلمون أن بلادهم وخيراتهم هدف بارز للمطامع الأمريكية الغربية. خامساً: عدم مصداقية أمريكا والغرب في تبني حقوق الإنسان -كما يدعون- أو حماية الحرية والكرامة، أو القيام بأي مبادرة حقيقية في هذا المجال، فالروح التي يتحرك بها الغرب، لا تختلف أبداً عن الروح الاستعمارية التي كانت قائمة في العالم الإسلامي قبل عشرات السنين، وبصورة واضحة فإن أمريكا دولة نصرانية وهي حامية الصليب، وكذلك الغرب كله، وهم كفار داخلون في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فكيف تستغرب من كافر وصفه الله بالظلم، أن يظلم غيره، فضلاً أن يظلم من يعتبره عدواً له وهو المسلم؟! بهذا يتبين أنه قبل النظام الدولي الجديد وبعده، كان المسلمون في الحالين هم الخاسر الأكبر. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 12 الأسئلة الجزء: 42 ¦ الصفحة: 13 قرار إيقاف الأشرطة السؤال ما رأيكم بصحة إلغاء القرار المتعلق بإيقاف الأشرطة؟ الجواب هذا الخبر ليس صحيحاً، بل القرار ساري المفعول، ولم يوقف، وقد جلسنا مع سماحة الوالد ليلة الخميس الماضي، وأخبرنا عن امتعاضه وانزعاجه وسائر أهل العلم من هذا القرار، وأنهم سعوا فيه وكلموا بعض المسئولين، ولا يزالون يبذلون مجهوداً في ذلك، وسئل الشيخ علانية -أيضاً- ولم يذكر لنا أن هناك أي تغيير في هذا الموضوع، فعليكم أن تعلموا أن هذا القرار لا يزال قائماً وساري المفعول، ولم يلغ أبداً. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 14 مقارنة النصارى بالمسلمين السؤال رجل معجب بالغرب النصراني، ويقول: إن العمال النصارى أكمل من العمال المسلمين، وأحسن عملاً؟ الجواب أولاً: لا ينبغي أن يقارن النصارى بالمسلمين، على الإطلاق إنما قد تقول: إن هذا العامل عندي مع أنه كافر فإنه أكثر إخلاصاً من المسلم، هذا قد يقع، ليس هذا لأنه كافر، وهذا مسلم، ولكن لأن لهذا ضعيف الإيمان، وذاك الإنسان إما أن يكون ربي تربية معينة، أو ربما يعمل هذه الأعمال حتى يخدع بها بعض المسلمين، أو أنه ذكي يعرف من أين تؤكل الكتف، وكيف يحظى بثقة من حوله، حتى يمنحوه مزيداً من الأعمال، ومزيداً من الصلاحيات. الغرب لا يسرق القرش والريال كما يفعل ضعفاء المسلمين، لكنه يسرق البنوك بأكملها، والغرب لا يضربك على وجهك، ولكنه يقتل شعباً بأكمله. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 15 خوف الغرب السؤال ما رأيكم أن الغرب بقوته وتخطيطه يخاف المسلمين، مع أنهم لم يصلوا إلى مرحلة التحدي حقيقة؟ أما المسلمون فإنهم يخدرون بمثل هذا الكلام، حتى وإن قلت في نهاية المحاضرة: يجب أن لا يحملنا هذا الكلام على الركون؟ الجواب أما إنه تخدير، فلا أعتقد ذلك؛ لأن عندنا أن القوة، قوة الإسلام باقية مهما كان الأمر، وكون الإنسان يعيش شعوراً مؤقتاً بعد أن سمع محاضرة، هذا لا يضر، المهم مستوى الوعي والإدراك الذي يوجد لدى الشعوب الإسلامية وعلى كل حال لدينا يقين مهما كان الأمر، أن قوة الغرب لن تنفعه إذا واجهه المسلمون الصادقون. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 16 أسباب ضعف المسلمين السؤال إن العالم الإسلامي ينحدر كل يوم، وأعداؤه يتقوون على حسابه، ويتحولون من الدفاع إلى الهجوم، ويقتطعون كل يوم قطعة من العالم الإسلامي يستذلونها ويستعبدونها، هل الأسباب كانت نتيجة طبيعية لكل ما حدث من انحراف خلال القرون، أم أن هناك أسباب أخرى؟ الجواب هذه ثمرة الانحراف السابق، والإعراض عن شريعة الله تعالى، وهي ضربة معلم، ودرس للمسلمين، ونحن على يقين أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبلغ المستوى المطلوب له، في تمسكها بدينها، وصدقها مع ربها وتوكلها عليه، وإيمانها ووحدتها ونبذها لألوان الخلاف والفرقة إلا على مثل هذه المطارق، فأنت لو جلست سنين طويلة تتكلم للمسلمين عن عدوهم وخصمهم، وحربه لهم وهم لا يرونه، ولا يرون أعماله، فإنهم لا يمكن أن يدركوا ذلك جيداً. وعلى الأقل على مستوى الشعوب والمستوى العام، إذا رأوا بعيونهم ماذا يصنع بهم عدوهم، وكيف يعاملهم فإن هذه الأشياء هي الكفيلة بأن توعي المسلمين، وترفع من مستوى إدراكهم لمسئولياتهم إلى القدر المطلوب. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 17 نظرة المسلمين إلى العلمانيين السؤال لقد تحدثت عن نظرة الملتزمين في نظر الغربيين، فلو تحدثت عن نظرة الملتزمين إلى المتعاملين مع الغرب والذين يحملون شعاراتهم وأفكارهم وعقائدهم في الداخل والخارج، والذين هم من بني جلدتنا؟ الجواب هذا الكلام عن العلمانيين وقد تكلمت عنهم في محاضرة قديمة، قبل ثلاث سنوات عنوانها المعركة بين الإسلام والعلمانية. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 18 انتشار الإسلام السؤال قلت: من المستبعد أن تكون دول الغرب إسلامية، والعلم عند الله، فكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول ما معنى كلامه: ستكون الأرض إسلامية والكل يشهد أن لا إله إلا الله؟ الجواب لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وإنما أخبر بانتصار الإسلام في جولة قادمة، وأن المسلمين سيكون لهم معارك مع اليهود، وأن الله سيدخل هذا الدين في كل بيت مدر ووبر، وهذا لا يلزم ولا يعني أن يكون الغرب والشرق كلهم مسلمين. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 19 الترف والمادة من أسباب ضعف المسلمين السؤال ألا تعتقد أن الترف القاتل، والانصراف إلى العمارة المادية للأرض، وعدم اتخاذ أسباب القوة من أسباب الضعف الذي أغرى أعداء الأمة، فجاءوا من الشرق والغرب، يحاولون القضاء على دين الله تعالى؟ الجواب نلاحظ أن هذه الأسئلة تنم عن وعي وعن إدراك، أننا نعيش وضعاً يجب دراسته، ومعرفة أسبابه، إذاً المسلمون يعيشون مشكلة أنهم متخلفون دينياً، وعقلياً، وعقائدياً، وأخلاقياً، وسلوكياً، وعلمياً، وسياسياً، واقتصادياً، وإعلامياً، ويجب أن نبحث ما هي الأسباب، هذا موضوع له مجاله الخاص، فلا أريد أن أدخل فيه؛ لأن الأسباب كثيرة وما ذكره الأخ وغيره هي بعض الأسباب. إذاً: من المهم جداً أن ندرك أننا نعيش مشكلة ينبغي أن نعرف أسبابها، ونعمل على التخلص منها. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 20 الاستدلال بالآيات والأحاديث السؤال لقد سمعت ذلك في أكثر من مجلس، ولولا ثقتي بانشراح صدرك، وتقبل النقد والملاحظة، لم أذكر ذلك، أقول: يلاحظ قلة الاستدلال بالأحاديث والآيات مع أنها تزخر بالأدلة على كثير مما تقوله: فالإسلام دين اليوم والأمس وغدٍ؟ الجواب لا شك، لكن يا أخي ذكر الآيات والنصوص هو في مجاله، فمثلاً: لو لاحظت الأسبوع قبل الماضي، عندما تكلمت عن العمال، كان هذا الموضوع والحمد لله مليئاً بالآيات والأحاديث، والذي قبله "أنصفوا المرأة" كان مليئاً بالآيات والأحاديث، لكن عندما نتكلم عن نظرة الغرب إلى المسلمين، قدمنا -مثلاً- بمسألة الكفار وموقفهم من الإسلام، بعد ذلك أصبحنا محتاجين أن نعرف ونسمع ماذا يقول الغرب عنا؟ وأنا معك فيما تقول، وأنا والله أتضايق حينما أتحدث عن مثل هذه الأمور؛ لولا أني أشعر أنها ضرورة، والذي أتمناه أن يكون كلامنا كله حول النصوص وحول الآيات، وإذا قربت من ذكر آية أو حديث، فإن نفسي تنشرح، وقلبي يفرح، والسرور يملؤني ويغمرني، وهذا أمر أبوح لك به، بغض النظر عن هذا السؤال، لكن أحياناً يكون الموضوع يتطلب شيئاً آخر، فنحن إذا أردنا أن نخبرك ماذا يقول عنك الأعداء، فنحن محتاجون أن ننقل كلامهم بكل ما فيه، وهذا قد يتطلب بعض الوقت. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 21 أخبار من عمان السؤال في هذا الأسبوع والذي قبله، نرى بعض الأخبار التي تقلق المسلمين في هذا الزمان، وهي أخبار عمان وشن الدولة على المسلمين هناك بالسجن والتعذيب، فما هي آخر أخبار المسلمين هناك؟ الجواب الحقيقة لم يأتني خبر جديد غير الذي ذكرته لكم فيما سبق، ولكن هذا السؤال ذكرني بقضية: وهي أنني ذكرت لكم في ذلك اليوم، أو في يوم قبله، أن هناك بعض البضائع كالتفاح الإيراني، جاءت إلى الأسواق في هذه البلاد، وقد غطيت في جوانبها كلها بقصاصات من المصحف الشريف، وبالذات مصحف المدينة المنورة، مقصوصة وموضوعة لهذه البضائع، والتفاح قادم من إيران، وهذا خطر كبير، وهي جريمة منكرة، لو جاءت هذه البضائع من إسرائيل، ونحن الآن نتكلم عن قضية إلغاء المقاطعة الإسرائيلية، فلا مانع أن تجد تفاح، يافا، وعكا، وحيفا، بعد زمن يطول أو يقصر بالأسواق، لو جاء التفاح من إسرائيل وفيه هذه القصاصات من المصاحف، لم نستغرب أن يفعلوا هذا، فهم اليهود، ولو جاء هذا التفاح من بلاد نصرانية لم نستغرب، لكنه جاء من إيران، وإيران دولة تقول: بأنها تحترم القرآن الكريم، وتدعي أنها تعظم القرآن الكريم، وتقول: إن القرآن الكريم دستورها، فأنا من هذا الموقع أرسل مناشدة لتلك الدولة، ممثلة بسفارتها في هذه البلاد، والمسلمون كلهم يتساءلون عن سر هذه الإهانة للقرآن الكريم، وعن سر هذا التحدي المباشر لمشاعر المسلمين، إن سفارة إيران نفت مرات أن تكون إيران أرسلت البترول إلى الصرب، ونفت مرات أن تكون ساعدت النصارى على المسلمين في أذربيجان، ولكنها لا تستطيع أن تنفي هذا الخبر؛ لأن تلك القصاصات موجودة في أيدينا، وقد وجدها الناس ورأوها، وتداولوها، وموجود عندي نماذج منها، أظن أنني قد أطلعتكم على شيء منها، ولم يبقَ إلا أننا نسائل هذه الدولة من خلال سفارتها في هذا البلد، ونطلب منهم جواباً وإيضاحاً، عن سر هذه الإهانة لكتاب الله عز وجل، وعن سر هذا التحدي العظيم لمشاعر المسلمين. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم كن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إن نسألك أن تفرج كروب المسلمين في كل مكان، اللهم فرج كربهم، اللهم فك أسرهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم عمنا برحمتك وتوفيقك يا أرحم الراحمين، اللهم أنزل علينا من بركاتك وجودك يا حي يا قيوم، اللهم بارك لنا فيما أعطيتنا، اللهم ربنا هب لنا من لدنك علماً، اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم إنا نسألك أن تصلح أحوال المسلمين جميعاً كبيرهم وصغيرهم، ذكرهم وأنثاهم، حاكمهم ومحكومهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم إن نسألك أن تصلح أحوالنا يا حي يا قيوم، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح شبابهم، وشيبهم ورجالهم ونساءهم، وحكامهم وشعوبهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 22 مقالات بعنوان (أمريكا تعايش أم تصادم) السؤل: طالعتنا جريدة المسلمون في عددين سابقين بمقابلات مع عدد من الشخصيات الإسلامية وغير الإسلامية بعنوان أمريكا تعايش أم تصادم؟ الجواب هذا اطلعت على شيء منه، ولا بأس أن يقرأ الإنسان، لكن عليه مع القراءة أن يكون عنده حس ووعي عقدي إسلامي؛ لأننا لا نأخذ معلوماتنا عن الغرب، من خلال أقوالهم فقط، بل ينبغي أن نأخذ من خلال القرآن والسنة، وقد كان من همي أن أذكر لكم النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد عداوة الكفار للمسلمين، ولكنني عزفت عن ذلك: لأنني شعرت أنني أثقلت عليكم، وأكثرت عليكم فيه، فإنني ذكرته لكم مراراً وقرأت عليكم تلك الآيات: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إلى غير ذلك من والآيات النصوص الكثيرة. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 23 قصاصة من جريدة الشرق الأوسط هذه قصاصة بعث بها بعض الإخوة من جريدة الشرق الأوسط فيها عدة مقالات، فيها مقال يقول: مجلة سيدتي تقيم معرضاً للأزياء السعودية في لندن، وقد عرضوا صوراً من هذه الأزياء وذكروا الخبر، وفي المجلة نفسها مقال يقول: الجمال والحرب، وقد نشر صورة فتاتين جميلتين، وعلقوا عليها بهذا التعليق، يقول: رغم الحرب الضارية في جمهورية يوغسلافيا، وعملية التفريق العرقي التي تقوم بها القوات الصربية، ضد جمهوريتي البوسنة، وكرواتيا، فإن ملكتي جمال أسلوفونيا وكرواتيا وجدتا ما يثير الابتسامة بعيداً عن شبح الحرب على الشاطئ الصناعي الذي أقامته اللجنة المنظمة لمسابقة جمال العالم في جنوب إفريقيا المقرر انطلاقها الشهر المقبل، في هذا التعليق أمران:- الأمر الأول: الحرب تفريق عرقي وليست حرباً دينية، هذا الكلام نفسه هو كلام البابا شنودة في جريدة العالم اليوم، يقول: المسألة مسألة الحرب العرقية، مع أن من المعلوم أن العرق واحد، فالمسلمون البسنويون، والصرب والكروات أصولهم العرقية واحدة وليست مختلفة، وإنما المختلف هو الدين، فهؤلاء يحاولون أن يجعلوها حرباً عرقية؛ ليغطوا الطابع الديني في هذا الحرب، ونحن لا نستغرب من شنودة أن يقول ذلك، فهو عضو في مجلس الكنائس العالمي، وهو المسئول عن المجلس في مستوى الشرق الأوسط كله، لكن الذي نستغربه من مجلة تصدر باللغة العربية، ويكتب فيها كتاب إسلاميون، بل مجلة محسوبة على هذه البلاد، أن تجعل المسألة، مسألة تفريق عرقي! الأمر الثاني: أكثر ما شد أنظار هذه المجلة وكتابها المأفونين الكلام عن ملكتي جمال تبتسمان على رغم شبح الحرب، فتباً لهؤلاء وتباً لمن يشتري هذه الجريدة، لقد ناديتكم وطالبتكم مراراً أن تقاطعوا هذه الجريدة، وأقول لكم: أيها الإخوة! المقاطعة التي صدرت منكم قد أثمرت، ولا أدل على إثمارها من أن هناك بعض الشركات الرسمية، كشركة الطيران السعودي أنها أصبحت توزع هذه الجريدة أحياناً وحدها على الركاب، وقد يركب البعض في طائرة ضخمة فيها مئات الركاب، فلا يوزع عليهم إلا جريدة الشرق الأوسط، وقد كتب لي مجموعة من الإخوة من داخل الخطوط يؤكدون هذا الأمر، كما هاتفني به وشافهني مجموعة من الإخوة الذين ركبوا في بعض الطائرات، وكأن ذلك نوع من الدعم لهذه الجريدة في مقابل إعراض الناس عنها، لكنني متأكد -أيضاً- لو أنكم قمتم بحملة صادقة وشاملة على هذه الجريدة أنه لن ينفعها الدعم الرسمي مهما كان، فأنا أؤكد عليكم ذلك، وقد سبق أن قرأت عليكم فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين، وقد أرسلنا إلى سماحة الوالد في الأسبوع الماضي ملفاً عن هذه الجريدة، وما نشر فيها؛ برجاء أن يصدر فتوى عامة للمسلمين، وسوف نقوم إن شاء الله بتوزيع فتوى الشيخ عبد الله بن جبرين عن هذه الجريدة، على نطاق واسع. وهذا -أيضاً- مقال يشير إلى كاتب -أحد كتاب هذه الجريدة- لا أريد أن أذكر اسمه، وإن كان كلامه أكثر من الكفر، وأكثر من الإلحاد، وقد وقع في يدي كتاب ألفه: وهو عبارة عن حلقات كان ينشرها في هذه الجريدة، يسخر فيه بالله تعالى، وينسب الله تعالى إلى الجهل، ويسخر فيه بجبريل، حتى إنه يقول: إن جبريل جاء يعرف الله تعالى على رؤساء الدول العربية، فيقول لله تبارك وتعالى -تعالى الله عما يقول الكافرون والظالمون والملحدون علواً كبيراً-: هذا فلان، وهذا فلان، والله تعالى كما زعم هذا الخبيث، يقوم من عرشه ويصافحهم واحداً تلو الآخر، حتى جاء دور الرئيس جمال عبد الناصر فلم يقم -كما زعم هذا الخبيث- ولم يسلم الله تعالى عليه، قال جبريل لماذا؟ قال: لو قمت لجلس هذا الإنسان مكاني، هذه أحد الطرائف والنكت، وقد قرأتها -أيضاً- على الوالد سماحة الشيخ عبد العزيز، فأنا أدعوكم أيها الإخوة أن تغاروا لدينكم، وتغضبوا لربكم، وأقول: لا خير فينا إن لم نستطع أن نقاطع مثل هؤلاء الذين يعلنوها صريحةً، وكنت أتوقع أن هذه الجريدة تستحيي، أو تراعي مشاعر المسلمين، فإذا بي أقرأ عدد هذا اليوم، وإذا هناك مجموعة من المقالات والقصص والأخبار، التي تدل على أن هؤلاء موتى القلوب، وأنهم غير آبهين بأحد، فاتقوا الله يا عباد الله وغاروا لدينكم. الجزء: 42 ¦ الصفحة: 24 حفل مسابقة السنة أقيم هذا الحفل في مدينة بريدة بالقصيم ختاماً لمسابقة في حفظ الأحاديث النبوية، مقسمة إلى فئات تبدأ الفئة الأولى في حفظ الصحيحين بالكامل، ثم الفئة الثانية في حفظ أحدهما، ثم الثالثة في حفظ ألف حديث منهما، ثم الرابعة في خمسمائة، والخامسة في مائة حديث، والسادسة في خمسين حديثاً نبوياً، وقد كرم الحفاظ في هذا الحفل المهيب والذي حضره عشرات المشايخ والعلماء من أرض الحرمين، وألقى عدد من العلماء والمشايخ كلمات في الحفل، كما ألقيت فيه عدد من القصائد الشعرية. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 1 بين يدي الحفل قال مقدم الحفل حفظه الله: صاحب السمو الملكي أمير منطقة القصيم، أصحاب الفضيلة العلماء، أيها الدعاة الأجلاء، إخواني الحضور، أيها الوجهاء والأعيان، يا من تجشمتم عناء الحضور لتشجعوا حفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرادوا أن يصحبوا أنفاسه صلى الله عليه وسلم بعد أن فاتهم صحبة نفسه صلى الله عليه وسلم. معاشر الإخوة: إن الدهشة لتعقد لساني، وأنا أرى هذه الجموع الغفيرة التي اتجهت نحو هذا المكان الطيب، منذ أول عصر هذا اليوم، والتي امتلأت بها ساحات هذا المسجد على اتساعها، بل والشوارع المحيطة بها، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على تشجيعكم للمسيرة العلمية التي هي بحق مفخرة لهذه البلاد. هذا يوم يسجل في أمجاد بلدتنا على صحائف من نور تشرفنا معاشر الإخوة: لا يسعني إلا أن أقول لكم: حياكم الله، وأسأله أن يجعل خطواتكم في ميزان حسناتكم، ثم لا يسعني إلا أن أبدي لكم مشاعر لا يسعني أن أخفيها، وهو أننا عشنا على مدار أسبوعين ومنذ أن أعلن عن هذه المسابقة وهذا التكريم، عشنا اتصالات مكثفة من المحبين والغيورين؛ كل يتسابق يريد أن يقدم خدمة للعلم والعلماء، بل ربما تشاحَّ اثنان أو أكثر على تقديم خدمة لكم، ومن متصل يقول هل سيقدم من العلماء فلان وفلان؟ وإذا بنا نتفاءل ونقول نعم سيقدمون، وإذا بهم اليوم من أمكنة كثيرة، من مكة المكرمة ومن المدينة المنورة ومن جدة ومن الرياض ومن الدمام ومن الأحساء، ومن الجوف، ومن رفحاء، ومن عرعر ومن نجران ومن جيزان ومن أبها، ومن سائر مناطق المملكة أجمع. بل لا أخفيكم إذا قلت: إنه قدم من خارج المملكة من دول الخليج ضيوف أعزاء علينا، فحياكم الله وبياكم، وجعل خطواتكم في ميزان حسناتكم، وأسأله أن يجعل هذا الجمع المبارك يجتمع في مقعد صدق عند مليك مقتدر. وإن أبناءكم طلاب العلم لممتنون أتم الامتنان بحضوركم، هذا وأترك المجال لبدء حفل تكريمنا على بركة الله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. المقدم: أيها الإخوة الكرام: كم نحن مسرورون وكم نشعر بالغبطة والسعادة، ونحن نعيش هذه اللحظات المباركة، ونشاهد هذه الوجوه الزكية النيرة، ونرى هذه الجموع الحاشدة التي غص بها المسجد داخله وخارجه وعلويه وتحتيه، وامتلأت به الساحات المحيطة به، وأغلقت بها الشوارع من حوله، إنه اجتماع متميز أيها الإخوة، متميز من جهة كثرة الحضور من الوفود والضيوف وأهل هذا البلد، ومتميز من جهة نوعية الحاضرين ومكانتهم، فقد ضم هذا الاجتماع المشهود كثيراً من العلماء والدعاة والقضاة، وطلبة العلم المعروفين ليس في هذه المنطقة فحسب، ولا في هذا البلد فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي كله. كما ضم هذا الاجتماع المبارك عدداً كبيراً من الوجهاء، والتجار، وأعيان هذا البلد المبارك، فشكر الله للجميع مسعاهم، وكتب لهم خطواتهم وجزاهم على إجابة هذه الدعوة، وتجشم عناء السفر خير الجزاء وأوفاه وأجزله. أيها الحضور الكرام: موعدكم الآن مع كلمة لسماحة الوالد فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، والذي نعلم جازمين أنكم أيها الإخوة تتشوقون وتتمنون حضوره بشخصه حفظه الله، كما كنا نتمنى ذلك من كل قلوبنا ولكن ظروفه -حفظه الله- ومشاغله الكثيرة التي لا تخفى عليكم حالت بينه وبين ذلك، وقد شاركنا -حفظه الله وجزاه الله خير الجزاء- بكلمة ضافية يلقيها نيابة عنه واحد من علمائنا الأجلاء ودعاتنا الفضلاء الذين نتشوق كذلك للقائهم والاستماع لحديثهم ألا وهو فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود فليتفضل بارك الله فيه وأجزل له المثوبة. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 2 كلمة الشيخ عبد الله بن قعود نيابة عن الشيخ ابن باز قال الشيخ: عبد الله بن حسن بن قعود حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه، أما بعد:- فإن الله تعالى قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق وعلمه الكتاب والحكمة -أي القرآن والسنة- كما في الحديث الذي رواه أهل السنن بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} فالقرآن والسنة هما الأصلان اللذان عليهما مدار الأحكام، ومن رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن قيض لها من يحفظ عليها أمر دينها، فمنذ العصور الأولى والأمة تعتني بالقرآن حفظاً ومدارسة وفهماً، وتأملاً، وتفسيراً، تعلماً وتعليماً وإلى اليوم، والحمد لله على ذلك. فهذه المدارس القرآنية، والجمعيات الحكومية والخيرية التي تربي النشء على حفظ كتاب الله وفهمه، والعمل به، مما يسر كل مسلم، وإن مما يضاعف الفرحة أن نجد إقبال حفاظ القرآن وغيرهم على التفقه في الأمور الشرعية ودراسة السنة النبوية وحفظها وتعلمها وتعليمها، فإن هذه الدروس العلمية المقامة في المساجد في سائر منطقة القصيم، وغيرها لتعليم الحديث والفقه والتفسير، هي من رياض الجنة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا: يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال حلق الذكر} . وقد صحت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تتداعى إليها، فنحمد الله على وجودها وكثرتها وكثرة المقبلين عليها، ونسأل الله أن يبارك في عمل القائمين عليها، ويضاعف مثوبتهم، ويرزقهم الإخلاص في ذلك، وأن يجزيهم خير الجزاء. وإن مما ينبغي الإشادة به: الاهتمام بالسنة النبوية في هذا الوقت الذي كثر فيه الإعراض عنها، والاعتراض عليها من بعض الجهلة أو من أهل البدع أو غيرهم، فالعمل على نشر السنة واجب وتعليمها من أفضل القربات وأجل الطاعات، وقد كان السلف الصالح يحرصون على تعليم الطلبة شيئاً من السنة النبوية، ويحرصون على حفظها في الصدور، وعدم الاكتفاء بالكتب والمصنفات خاصة ما يتعلق بمتون الأحاديث وجوامع الألفاظ، وقد سرني كثيراً ما قام به الإخوة في اللجنة العلمية، ومكتب الدعوة في القصيم من رعاية الدروس وتنظيمها والإشراف عليها، لحمايتها من الإفراط والتفريط، ومن الغلو والجفاء والسير بها إلى الطريق المستقيم، فالحمد لله على ذلك كثيراً، وشكر الله لأصحاب الفضيلة القائمين على مشروع حفظ القرآن والسنة، والتفقه في الدين جهدهم وعنايتهم، حيث حفظوا الطلاب، وبذلوا لهم من الوقت والجهد الشيء الكثير، ثم أجروا لهم الاختبارات والمسابقات لحفزهم على طلب العلم، فضلاً عما يقومون به من طباعة الكتب المفيدة، وتوزيعها وغير ذلك من الأعمال النافعة، فجزاهم الله على ذلك كله خير الجزاء وأفضله وأوفاه. وإنها سنة حسنة محمودة أن يُشجَّع الطلاب على الحفظ، وتجرى لهم الاختبارات، ويعطون الإعانات والجوائز التشجيعية على ذلك دفعاً لهم ولغيرهم إلى الخير، فهو عمل طيب مبارك مشكور. وإنني أدعو الإخوة المشايخ وطلبة العلم في سائر المناطق إلى القيام بمثل هذه الأعمال النافعة من تربية النشء على القرآن والسنة علماً وعملاً، ونرجو أن نسمع في المستقبل عن أعمال خيرية كثيرة من جنس هذه الأعمال، والله تعالى يقول: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] ويقول سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} ويقول صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} . وإنني بهذه المناسبة: أوصي جميع الطلبة وجميع المعلمين بتقوى الله سبحانه، وإخلاص النية، والصدق في العمل، كما أحثهم على مواصلة الطلب وعدم الملل أو العجز، وعلى أن يجمعوا بين العلم والعمل، فإن العمل هو ثمرة العلم، وعليهم بالإقبال على القرآن والإكثار من تلاوته ومدارسته وتفهم معانيه، فإنه أصل العلوم وأساسها. كما أحث أولياء الأمور على تشجيع أوليائهم المنتسبين إلى هذه الحلقات، وتسهيل أمورهم وحثهم على ذلك، وإنني أشكر كل من ساهم في تيسير أمر هذا الاجتماع المبارك من المسئولين والتجار والمشايخ وغيرهم. فجزى الله الجميع خيراً، كما أدعو الجميع إلى المزيد من المساهمة في دعم هذا المشروع النافع، دعماً مادياً ومعنوياً فإنه بحسب ما يتوفر من الإمكانات والتسهيلات يكون نجاح العمل واستمراره، وقد جاء في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله تعالى عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} . نسأل الله للجميع التوفيق والهداية والسداد، وصلاح القول والعمل في الظاهر والباطن، والله تعالى ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبيه محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان. عبد العزيز بن عبد الله بن باز الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد. وأستسمح المنظمين بأن أدعو وأرجو من الإخوة أن يؤمِّنوا فقد يكون من بينهم من هو حري باستجابة الدعوة، فأقول اللهم احفظنا واحفظ الشيخ عبد العزيز من الفتن، اللهم احفظنا وإياه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ثبتنا على ما يرضيك إلى أن نلقاك غير مبدلين ولا مغيرين، اللهم وقد أكرمتنا بالإسلام، ومننت علينا بالعلم فنور به طريقنا في الدنيا وفي القبور، وفي طريقنا إليك، واختم للجميع بالصالحات، واجز شيخنا عنا وعن الإسلام والمسلمين خيراً وبارك في أيامه، واجزه أحسن ما يجزى به مخلص عن أمته، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد. قال مقدم الحفل حفظه الله: نشكر فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود على زيارته وتشريفه لنا ولهذه المسابقة، ونشكره مرة أخرى على إلقائه هذه الكلمة العطرة التي وجهنا فيها سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز فلهم منا جزيل الشكر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظهم بالإسلام، وأن يوفقهم لما يحبه ويرضاه من الأقوال والأعمال. أيها الجمع المبارك، أيها الإخوة، أيها العلماء والمشايخ: كم نحن مسرورون وكم نحن مغتبطون بهذا الجمع المبارك، وبهذا اللقاء الذي هو يوم عظيم وموسم كريم، تذكر فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم فتحفظ وتعظم، إن هذا يوم من أيام الله سبحانه، يوم عظيم ويوم مبارك ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله مباركاً على الجميع. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 3 كلمة الشيخ العجلان أيها الحفل الكريم: معنا كلمة الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله العجلان رئيس محاكم القصيم، ذلكم الشيخ الفاضل الذي عرفه الجميع بخلقه وتواضعه الجم، ذلكم الشيخ الذي كان لجهوده الأثر العظيم في دفع مسيرة الدروس العلمية في هذا البلد، فله منا جزيل الشكر والعرفان، ونسأل الله تعالى أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فليتفضل حفظه الله وجزاه الله عنا وعن الإسلام خيراً. قال الشيخ: عبد الرحمن بن عبد الله العجلان حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز أمير منطقة القصيم. أصحاب الفضيلة العلماء. أصحاب السعادة. أيها الحفل الكريم: أحييكم بتحية الإسلام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأرحب بكم في هذا المكان المبارك الذي نجتمع فيه لتكريم حفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما احتفلنا قبل أشهر بحفظهم لكتاب الله جل وعلا، وأشكركم جميعاً على تفضلكم بالحضور، وتكبدكم المشقة من قريب وبعيد، وترك أمور هامة عليكم إيثاراً وتكريماً وتشجيعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشتغلين بها والمهتمين بها، فجزاكم الله خير الجزاء، وأرجو الله أن يكتب خطواتكم في سجل حسناتكم، وأن يجزيكم عليها {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] . ثم إنني -أيها الإخوة- أشكر أصحاب الفضيلة رئيس وأعضاء اللجنة العلمية، والمسئولين في مكتب الدعوة والإرشاد ببريدة على اهتمامهم البالغ بتعليم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على أن يحفظها الطلاب، وأن يهتموا بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظوه، فجزاهم الله خير الجزاء، وأهنئ إخواني وأبنائي حفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان سلفنا الصالح -رضوان الله عليهم- يهنئ بعضهم بعضاً بما ينال به ثواب الله جل وعلا، وأفضل عمل وأفضل شيء تنفق فيه الأوقات والجهود الحفاظ على كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن حفظ سنته، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نضر الله امرءاً سمع منا شيئاً فحفظه فبلغه كما سمعه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم: {فرب مبلغ أوعى من سامع} وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الوحي الثاني، وصاحبها المعصوم عن الزلل -صلوات الله وسلامه عليه- يقول ربنا جل وعلا {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {العلم ثلاثة: آية محكمة، أو سنة قائمة، أو فريضة عادلة، وما سوى ذلك فهو فضل} . وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {كنت أكتب كل شيء أسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وأنت تكتب كل ما تسمعه منه، وهو يتكلم في الغضب والرضا فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا الحق} رواه أبو داود. وقد أمرنا جل وعلا في أي خلاف وتنازع أن نرجع إلى كتابه -جل وعلا- وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال جل وعلا: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] قال العلماء: الرد إلى الله: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسول الله، الرد إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحذرنا جل وعلا من مخالفة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] يقول عبد الله بن عباس: [[أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك]] . ورتب جل وعلا طاعته على طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال عز من قائل: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فهنيئاً لحفاظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنيئاً للعلماء المشتغلين بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر. {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} . فحري بنا أيها الإخوة أن نغتنم فرصة الوقت، والقدرة والنشاط في أن نصرف جل وقتنا لكتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، حفظاً ودراسة، وتعلماً وتعليماً، وأن ننشِّئ أبناءنا على ذلك، وأن نبذل لهم الجوائز التشجيعية، وأن نشجع الإخوة الأفاضل الذين قاموا بهذا المشروع العظيم، ونشجع الآخرين للقيام بمثل ذلك لعل هذا أن ينتشر كما انتشرت الجمعيات الخيرية لحفظ كتاب الله جل وعلا. وقد كنا في القريب لا نجد من يحفظ كتاب الله إلا القليل، واليوم -ولله الحمد- نرى العدد الكثير من حفاظ كتاب الله جل وعلا، وتباشير الخير بدأت بحمد الله بحفظ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فشجعوهم أيها الإخوة تشجيعاً مادياً ومعنوياً يخلف الله عليكم ويبارك في أوقاتكم وأعمالكم. هذا وأرجو الله أن يثيب الجميع خيراً، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، وأن يجعل سعينا مشكوراً، وعملنا مقبولاً، وأن يوفق الجميع لسعادة الدنيا والآخرة. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال مقدم الحفل حفظه الله: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، شكر الله لشيخنا عبد الرحمن العجلان هذه الكلمة الضافية، والتي أبان فيها أن هذا الحفل هو تكريم لحفظة السنة وحملتها من أبنائنا، واحتفاءً بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم كما احتفى الجميع في هذا المكان الطاهر في حفظ هؤلاء لكتاب الله الطاهر جل وعلا. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 4 عرض نماذج من حفاظ السنة فنحن أهل كتاب وسنة، منهجاً وعقيدة وسلوكاً وأخلاقاً وتوجيهاً، واليوم -أيها الإخوة- نحتفل بحفظة السنة التي كانت نتيجة لمسابقة أقيمت فيما مضى، هذه المسابقة -أيها الإخوة- تتكون من ستة فروع. أما الفرع الأول: فهو حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم وقد شارك في هذا الفرع ثمانية طلاب. وأما الفرع الثاني: فهو حفظ أحد الصحيحين صحيح البخاري أو صحيح مسلم، وقد شارك في هذا الفرع ثمانية طلاب. وأما الفرع الثالث: فهو حفظ ألف حديث، وقد شارك فيه أيضاً ثمانية طلاب. وأما الفرع الرابع: فهو حفظ خمسمائة حديث، وقد شارك في هذا الفرع تسعة طلاب. وأما الفرع الخامس: فهو حفظ مائة حديث، وقد شارك في هذا الفرع خمسون طالباً. وأما الفرع السادس: فهو حفظ خمسين حديثاً، وقد شارك في هذا الفرع ستة وثلاثون طالباً. أيها الحضور الكريم: وتعطيراً لهذا المجلس ببعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فإننا سنعرض لكم في هذا الحفل المبارك نماذج متنوعة من هذه الفروع الستة، وقد اختير من هذه الفروع من يمثلهم، وقد تم أيها الإخوة اختبار هؤلاء الطلاب من قبل، ويقوم بتحكيم هذه المسابقة، أو إلقاء هذه المقاطع على الطلاب كل من فضيلة الشيخ عبد الله بن حمود التويجري، والشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ يحي بن عبد العزيز اليحيى، فنرجو من المشايخ الكرام أن يتقدموا للمنصة لإلقاء المقاطع المتنوعة التي يختارونها للطلاب المتسابقين. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 5 المتسابق الأول: عبد الله بن غدير التويجري ونبدأ أيها الإخوة بالفرع الأول ومع الطالب عبد الله بن غدير التويجري. قال الشيخ: سلمان حفظه الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. حسب معلوماتي فإن الإخوة حفظوا أولاً صحيح الإمام مسلم ثم حفظوا بعد ذلك ما زاد عليه من صحيح الإمام البخاري، فتجمع لهما الصحيحان ابتداء بصحيح مسلم ثم أضافوا إليه ما يتعلق بالزيادات من صحيح الإمام البخاري. السؤال اقرأ من قول الإمام مسلم رحمه الله في باب: (الاستعانة بالمشركين في الغزو) : عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر} . الجواب الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، قال رحمه الله تعالى: وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان بحرة وبرة؛ أدركه رجل قد كان يذكر منه جرأة ونجدة، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئت لأتبعك وأصيب معك، فقال له الرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: لا، قال: فارجع فلن أستعين بمشرك} . السؤال: اقرأ من قوله رحمه الله تعالى في باب: (الاستئذان والسلام) : عن أبي بردة عن أبي موسى الأشعري، قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: السلام عليكم الجواب: وعن أبي بردة رضي الله عنه قال: جاء أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، السلام عليكم هذا أبو موسى، السلام عليكم هذا الأشعري، ثم رجع، فقال عمر رضي الله عنه: ردوا عليَّ الرجل، فلما جاء قال: ما ردك؟ كنا في شغل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع} . السؤال: اقرأ من قوله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فجعل يقول الجواب: وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قدم مسيلمة الكذاب على عهد النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فجعل يقول: إن جعل لي محمد الأمر من بعده تبعته، فقدمها في بشر كثير من قومه، فقدم إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس وفي يد النبي صلى الله عليه وسلم قطعة جريدة، حتى وقف على مسيلمة في أصحابه فقال: لو سألتني هذه الجريدة ما أعطيتكها، ولئن أدبرت ليعقرنك الله، وإنك لأُرى الذي أريت فيك ما أريت، قال ابن عباس: فسألت عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنك أُرى الذي أريت فيك ما أريت، فأخبرني أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بينا أنا نائم رأيت في يدي سوارين من ذهب، فأهمني شأنهما، فأوحي إلي في المنام أن انفخهما فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان من بعدي، فكان أحدهما مسيلمة الكذاب والآخر العنسي صاحب صنعاء} . السؤال: اقرأ في باب كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ألا كلكم راع} . الجواب: وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسئول عنهم، والمرأة راعية على بيت بعلها وولده وهي مسئولة عنهم، والعبد راع على مال سيده وهو مسئول عنه، ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} . السؤال: اقرأ باب: في (خيار الأئمة وشرارهم) عن عوف بن مالك رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم} . الجواب: وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم، قيل يا رسول الله: أفننابذهم بالسيوف؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة} . السؤال: باب: (النهي عن لبس الديباج) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لبس النبي صلى الله عليه وسلم يوماً قباء من ديباج الجواب: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {لبس النبي صلى الله عليه وسلم قباء من ديباج أهدي له ثم أوشك أن نزعه، فأرسل به إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقيل له: قد أوشك ما نزعته يا رسول الله؟ فقال نهاني عنه جبريل عليه السلام، قال فجاءه عمر رضي الله عنه يبكي، فقال: كرهت شيئاً وأعطيتنيه فما لي؟ قال: إنما أعطيتكه لتبيعه، فباعه بألفي درهم} . السؤال: باب: (النهي أن يُقيمَ الرجلَ من مجلسه ويجلس فيه) عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقيم الرجلُ الرجلَ} . الجواب: وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا} . السؤال: بسم الله الرحمن الرحيم {اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب، والنياحة على الميت} حديث من؟ الجواب: أبي هريرة في مسلم. السؤال: حديث {بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة} الجواب: جابر / مسلم. السؤال: {كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم} . الجواب: ابن عمر / البخاري. السؤال: {شهرا عيد لا ينقصان} الجواب: أبو بكرة متفق عليه. السؤال: {إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} ابن عمر / مسلم. السؤال: {من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي ابتاعها إلا أن يشترط المبتاع} الجواب: ابن عمر / متفق عليه. السؤال: {إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما} الجواب: أبي سعيد عند مسلم. السؤال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} . الجواب: عائشة / مسلم. السؤال: {إن شر الرعاء الحطمة} الجواب: عائذ بن عمرو متفق عليه. السؤال: {من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو زرع نقص من أجره كل يوم قيراطان} الجواب: ابن عمر وأبو هريرة / متفق عليه. السؤال: {قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن من أمتي أحد فإن عمر منهم} . الجواب: عائشة / متفق عليه. السؤال: {يأتي الشيطان أحدكم فيقول من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول من خلق الله فإذا بلغه ذلك فليستعذ بالله ولينته} الجواب: أبو هريرة / متفق عليه. السؤال: {لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول} الجواب: ابن عمر / مسلم. السؤال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث} الجواب: أنس بن مالك / متفق عليه. السؤال: {لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان} الجواب: ابن عمر / متفق عليه. السؤال: {إنه ليس بدواء ولكنه داء} الجواب: وائل الحضرمي / مسلم. السؤال: {ألم تر آيات أنزلت علي الليلة لم يُرَى مثلهن قط} الجواب: عقبة بن عامر / مسلم. السؤال: {مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب} الجواب: أبو موسى / متفق عليه. السؤال: {إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه} الجواب: عبد الله بن عمر متفق عليه. بارك الله فيك. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 6 المتسابق الثاني: محمد بن صالح الطالب الثاني من الفرع الأول وهو في حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم الطالب محمد بن صالح فليتفضل. السؤال اقرأ يا محمد من قوله رحمه الله في باب: (رقية الرجل أهله إذا اشتكو) عن عائشة رضي الله عنها قالت: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى إنسان مسحه بيمينه ثم قال: أذهب البأس} . الجواب بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله. قال رحمنا الله تعالى وإياه، عن عائشة -رضي الله عنها قالت: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه، ثم قال: أذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً} . السؤال: اقرأ من قوله في باب: (خروج الموحدين من النار) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم} . الجواب: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس منكم أصابتهم النار بذنوبهم، أو قال بخطاياهم، فأماتهم الله تعالى إماتةً حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، فقيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حمل السيل، فقال رجل من القوم: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان في البادية} . السؤال: اقرأ من قوله في باب: (تزويج الصغيرة) عن عائشة رضي الله عنها قالت: {تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين} . الجواب: عن عائشة -رضي الله عنها قالت: {تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم لست سنين، وبنى بي وأنا بنت تسع سنين، فقدمنا المدينة فوعكت شهراً فوفى شعري جميمة، فأتتني أم رومان وأنا على أرجوحتي ومعي صواحبي، فصرخت بي فأتيتها وما أدري ما تريد بي، فأخذت بيدي فأوقفتني على الباب فقلت: هه هه! حتى ذهب نَفَسي، فأدخلتني بيتاً فإذا نسوة من الأنصار، فقلن: على الخير والبركة وعلى خير طائر، فغسلن رأسي وأصلحنني، فلم يرعني إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى، فأدخلنني إليه} . السؤال: عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: {يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟} . الجواب: عن عائشة رضي الله عنها قالت: {قلت يا رسول الله: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على عبد يا ليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فإذا فيها جبريل فناداني فقال: يا محمد: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال تأمره بما شئت فيهم} . السؤال: {إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق عن قلوبهم} أكمل هذا الحديث ومن راويه الأعلى؟ الجواب: الحديث عن أبي سعيد الخدري متفق عليه: {إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق عن قلوبهم، فقفى الرجل، فنظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مقف، وقال: إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، قال: أظنه قال: لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود} . السؤال: {الدين النصيحة قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين} لمن هذا الحديث؟ الجواب: حديث تميم الداري عند مسلم. السؤال: {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث} من راوي الحديث الأعلى ومن أخرجه، وأكمل الحديث؟ الجواب: حديث أبي هريرة متفق عليه {إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخواناً} . السؤال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} الجواب: ابن مسعود عند مسلم. السؤال: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر، ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟} . الجواب: أبو بكرة وأنس / متفق عليه. السؤال: {ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات} الجواب: أبو هريرة / مسلم. السؤال: {كان بلال يؤمر أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة} الجواب: أنس / متفق عليه. السؤال: {لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا} الجواب: أبي هريرة / متفق عليه. السؤال: {لقنوا موتاكم لا إله إلا الله} الجواب: أبي سعيد الخدري / مسلم. السؤال: {لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين} الجواب: أبو هريرة / متفق عليه. السؤال: {الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً} الجواب: أم سلمة / متفق عليه. السؤال: {مَهَلُّ أهل العراق من ذات عرق} الجواب: جابر / مسلم. السؤال: {الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة} الجواب: ابن عمر / في مسلم. السؤال: {إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج} الجواب: عقبة بن عامر / متفق عليه. السؤال: {فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان} الجواب: جابر / مسلم. السؤال: {ألا أنبئكم ما العضه} الجواب: ابن مسعود مسلم. السؤال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أقرأ عليك} الجواب: أنس / متفق عليه. بارك الله فيك الجزء: 43 ¦ الصفحة: 7 المتسابق الثالث: ياسر إبراهيم السلامي أيها الإخوة والطالب الثالث في الفرع الأول في حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم هو الطالب ياسر إبراهيم السلامي فليتفضل. اقرأ يا ياسر من قوله في: (باب الترغيب في النكاح) عن علقمة رضي الله عنه قال: كنت أمشي بسم الله الرحمن الرحيم: قال -رحمنا الله تعالى وإياه- عن: علقمة - قال: {كنت أمشي مع ابن مسعود رضي الله عنه بمنى فلقيه عثمان رضي الله عنه فقلت: أمشي معه، فقال: يا أبا عبد الرحمن ألا نزوجك جارية شابة لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك؟ فقال: أما لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} . السؤال باب: (الإهلال حين تنبعث به الراحلة) عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر الجواب {عن عبيد بن جريج أنه قال لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: رأيتك تصنع أربعاً لم أر أحداً من أصحابك يصنعها، قال: وما هن يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان إلا اليمانيين، ورأيتك تلبس النعال السبتية، ورأيتك تصبغ بالصفرة، ورأيتك إذا كنت في مكة أهل الناس حتى يروا الهلال، ولم تهل أنت حتى يكون يوم التروية. فقال عبد الله: أما الأركان فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس إلا اليمانيان، وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها} . السؤال: {صنفان من أهل النار لم أرهما} من هو راوي الحديث، الأعلى ومن أخرجه، وأكمل الحديث؟ الجواب: من حديث أبي هريرة عند مسلم. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة؛ لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا} . السؤال: {ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء} . الجواب: عن عطاء قال: {قال لي ابن عباس رضي الله عنهما ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ قلت: بلى، قال: هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله؛ إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي!! قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، قالت: فإني أتكشف، فادعُ الله ألا أتكشف، فدعا لها} متفق عليه. السؤال: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين} الجواب: جبير بن مطعم، متفق عليه. السؤال: {من استقبل قبلتنا، وصلى صلاتنا، وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله} الجواب: حديث أنس عند البخاري. السؤال: حديث {الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله} الجواب: حديث ابن عمر، متفق عليه. السؤال: حديث {ما الموجبتان؟ قال: من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئاً دخل النار} الجواب: الحديث حديث جابر عند مسلم، ومتفق عليه من حديث ابن مسعود في الصحيحين بلفظ {من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار، قال ابن مسعود: وأنا أقول من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة} السؤال: {المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة} الجواب: حديث معاوية بن أبي سفيان عند مسلم. السؤال: رواه عن معاوية من؟ الجواب: طلحة. السؤال: {أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها} الجواب: حديث أبي هريرة عند مسلم. السؤال: {خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها} الجواب: حديث أبي هريرة، عند مسلم. السؤال: {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} الجواب: حديث ابن عباس في الصحيحين. السؤال: حديث {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه} . الجواب: الحديث حديث عائشة عند مسلم، متفق عليه من حديث أبي موسى وعبادة بن الصامت. السؤال: حديث {تسحروا فإن في السحور بركة} . الجواب: حديث أنس، متفق عليه. السؤال: حديث {بيداؤكم هذه الذي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أهل إلا من عند} . الجواب: حديث ابن عمر متفق عليه، رواه عنه سالم. السؤال: {مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مَليءٍ فليتبع} الجواب: حديث أبي هريرة في الصحيحين. السؤال: {من احتكر فهو خاطئ} الجواب: حديث معمر عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله. السؤال: {العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود في قيئه} . الجواب: حديث ابن عباس، متفق عليه. السؤال: {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} الجواب: حديث النعمان بن بشير. السؤال: {يسرا ولا تعسرا} الجواب: حديث أبي موسى، متفق عليه. السؤال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو} الجواب: حديث ابن عمر، متفق عليه. السؤال: {حفظت من رسول الله اثنتين: إن الله كتب الإحسان على كل شيء} الجواب: حديث شداد بن أوس عند مسلم. السؤال: {من كان له ذبح يذبحه فإذا أهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من أظفاره ولا من شعره شيئاً} الجواب: حديث أم سلمة عند مسلم. السؤال: {لا فرع ولا عتيرة} الجواب: حديث أبي هريرة متفق عليه. السؤال: {تجدون الناس كإبل مائة لا تكادون تجدون فيها راحلة} الجواب: حديث ابن عمر، متفق عليه. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 8 الدروس العلمية أيها الإخوة: إن مما يفرح المؤمن، ويقر عينه، ويثلج صدره، أن يعلم أن هذا البلد مليء بالدروس العلمية، عند كثير من علماء هذا البلد، ولا غرابة في ذلك فإن هذا البلد له سابقة في تخريج العلماء وطلبة العلم، ونظراً لضيق الوقت فسأكتفي بذكر الدروس هي كالتالي: الشيخ عبد الرحمن عجلان دروسه: فرائض، فقه، تفسير. الشيخ محمد بن صالح المنصور دروسه: فقه، وحديث، وتفسير، ونحو. الشيخ سلمان بن فهد العودة دروسه: حديث، وعقيدة، ومصطلح، والدروس العامة. الشيخ محمد بن فهد دروسه: توحيد، وحديث، وكتب منوعات. الشيخ عبد الله إبراهيم القرعاوي دروسه: كتب منوعة العقيدة تفسير حديث فرائض. الشيخ حمود بن صالح المرشد دروسه: توحيد وفقه. الشيخ محمد بن سليمان العويمر دروسه: كتب منوعة. الشيخ عبد الله بن محمد دروسه: كتب منوعة. الشيخ صالح الخزيم دروسه: عقيدة وفقه. الشيخ صالح الونيان دروسه: حديث ومصطلح. الشيخ حسن بن صالح حميد درسه: حديث وتفريعاته. الشيخ عبد الله المرزوق درسه: تفسير. الشيخ سليمان اللقيم درسه: نحو. الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان دروسه: تفسير ونحو وحديث. الشيخ يحي بن عبد العزيز اليحيى دروسه: حديث ومصطلح وتفسير. الشيخ إبراهيم بن صالح الجبوري درسه: حديث. الشيخ صالح بن سليمان درسه: نحو. الشيخ محمد بن عبد الله الخضيري درسه: عقيدة. الشيخ عبد الله بن فهد السلوم درسه: توحيد. الشيخ محمد بن صالح المقيفد درسه: تفسير. الشيخ عادل الفضيل دروسه: فقه وتوحيد ومصطلح. الشيخ صالح سليمان دروسه: تفسير وفقه. هذه نبذة موجزة عن بعض الدروس التي في هذه البلدة هي بمثابة الإشارة إلى الحركة العلمية في هذا البلد. أيها الإخوة؛ أما الآن فمع كلمة لفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 9 كلمة الشيخ سلمان العودة بسم الله الرحمن الرحيم رواد سنة أحمد وشبابه زادوا بنور حضوركم تنويرا وربا البلاد تعطرت أنفاسها حيوا الكرام رعية وأميرا أهلاً شيوخ العلم كل قلوبنا قد كبرت لوصولكم تكبيرا أحبتي الكرام: الوقت يمضي سريعاً ولا نريد أن نطيل عليكم في هذا المقام، ولذلك اعذروني إذا كانت كلماتي كلمات عابرة. فأولاً: نرحب بالجميع كبيرهم وصغيرهم، مأمورهم وأميرهم، شيوخهم وطلابهم، وإنما نرحب هذا الترحيب لأننا عاجزون عن أن نخص كلاً باسمه، والفضلاء الحاضرون كثير، وأعتقد أننا إن سمينا بعض الوفود وبعض القادمين فسيكون شأننا كشأن أهل حفلة العرس فإنهم ينسون في كثير من الأحيان أقرب الناس إليهم، وألصق الناس بهم، ولكن لا غرو علينا إن نسينا فإن الذي يتعامل مع الكرام يتعامل مع النفوس الطيبة الكريمة التي تحمل الأمر على أحسن المحامل، فبين أيدينا ممن يستحقون الإشارة والإشادة الكثير الكثير، فهذه كلمة لهم جميعاً. هذا الاحتفال -أيها الإخوة- يقام في هذا المسجد بيت من بيوت الله تعالى، ومكان من أماكن العبادة لأنه تكريم لحفظة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والداخلين في هذه المسابقات. إن المسابقة التي تنظرون اليوم جزءاً من ثمرتها حسب ما رأيت وعلمت هي جهد كبير قديم قام عليه مجموعة كبيرة من المشايخ والفضلاء وعلى رأسهم مكتب الدعوة والإرشاد بالقصيم الذي هو ممثل لسماحة الوالد الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز. بل إن الشيخ نفسه كان يتابع هذه المسابقة وهذه الدروس أولاً بأول منذ شهر رمضان الفائت بل وقبل ذلك، وقد دعم هذا المشروع دعماً كبيرا ًمادياً ومعنوياً، فجزاه الله تعالى عنا وعنكم وعن طلبة العلم في كل مكان أفضل الجزاء وأكرمه وأوفاه. أيها الإخوة: نحن نحتفل اليوم بتخريج مائة وعشرين حافظاً، منهم من يحفظ الصحيحين كما رأيتم نماذج من هؤلاء، وأقلهم من دخل هذه المسابقة وحفظ بسببها خمسين أو مائة حديث من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فلماذا نحتفل بهؤلاء؟ أولاً: حتى نعبر للجميع عن شمولية العلم والتعليم في هذا البلد، فإن العلم والتعليم هنا ليس مقصوراً على فن خاص، ولا على علم بعينه فأمام تدريس العلم تفسيراً وحفظاً للقرآن، وحديثاً، وفقهاً، وعقيدة، وأحكاماً، وغير ذلك، وما الدروس التي أعلن عنها قبل قليل إلا نموذج جزئي لهذا الأمر الذي نتحدث عنه. ومع العلم فإن المشايخ هنا حريصون أشد الحرص على أن يكون العلم مقروناً بالعمل وبالدعوة إلى الله تعالى، وبالمشاركة في ميادين الحياة، فنحن لا نريد أن نخرج حفاظاً فقط يقرؤون قراءة مجردة، وإنما نتمنى أن تخرج هذه الدروس رجالاً للحياة، يوجَّهون ويُعَلِّمون ويَعْمَلون ويدعون إلى الله تعالى، ويجاهدون في سبيل الله تعالى بما يستطيعون. ثانياً: إن من أهم ما نقصد ويقصد إليه الشيوخ هو عملية تطبيع الحفظ، فقد كنا نسمع منذ زمن أنه وجد في القرن الماضي في هذه المنطقة رجل يحفظ صحيح البخاري، أو في منطقة أخرى آخر يحفظ صحيح مسلم، فكان الحفظ حكراً على أصحاب المواهب النادرة الذين أعطاهم الله ذواكر جيدة جبارة، أما اليوم فنحن نريد أن نؤكد للناس بصورة عملية أن الحفظ ليس مقصوراً على أصحاب المواهب الجبارة، بل هو أمر أصبح طبيعياً ومتاحاً لأصحاب المواهب العادية، بل والمواهب التي قد تكون أقل من عادية مع شيء من الجهد، وشيء من الاهتمام، وشيء من تفريغ الوقت بالنسبة للمشايخ. أيها الأحبة: لا نعتقد أبداً أن وجود حافظ واحد لصحيح البخاري مثلاً يعني أننا أضفنا إلى نسخة البخاري نسخة جديدة، ولنفترض أننا أضفنا إلى البخاري نسخة جديدة؛ فإن النسخة بحد ذاتها مهمة ومفيدة، ويكفي أن فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه وذكر خبره، وعمله وعلمه وغير ذلك: أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا إننا حين نحفظ هؤلاء ويحفظهم غيرنا، فإنما نريد أن يكونوا حفاظاً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيون تلك السنة التي عمل بها العلماء السابقون، ويكونون نماذج حية من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في أقوالهم وأعمالهم وسلوكهم، وإذا كانت الدروس العلمية اليوم في هذا البلد فقط أربعين أو خمسين أو ستين درساً، فبمقتضى هذا التطور الكبير والإقبال العظيم سيتوفر عندنا خلال سنتين أو ثلاث أعداداً كبيرة ممن يحفظون القرآن، وإضافة إلى ذلك يحفظون الصحيحين ويحفظون شيئاً من السنة، وقد حفظوا متوناً في العقيدة وفي الفقه وفي النحو وفي غيرها وسيكون كل واحد منهم معلماً للشريعة في حيه ومسجده. وأود أن أشير إلى أن هذه الدروس التي ذكرها الإخوة هي في مدينة بريدة فقط، أما حين ننتقل قليلاً فسنجد إلى جوارنا -مثلاً- دروس فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في عنيزة، ومجموعة أخرى كبيرة من الدروس فيها وفي مناطق أخرى في منطقة القصيم، أما على مستوى البلاد كلها فالأمر أكبر من أحيط به في مثل هذه العجالة. أختم كلمتي بالترحيب بكم جملة وتفصيلاً، وأقول شكر الله لكم مسعاكم، وكتب الله لكم خطواتكم، وإن كل ما أستطيع أن أقدمه لكم وقد عنيتم إلينا أن نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وهو الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد أن هذه الأقدام التي مشت إلى المسجد المبارك أنها لا تمشي إلى النار، إن الله تعالى على كل شيء قدير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تعقيب المقدم: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، جزى الله شيخنا الفاضل خيراً على هذه الكلمة الطيبة. أيها الإخوة: لا يفوتني في هذا المقام أن أكرر ترحيبنا الحار لصاحب السمو الملكي أمير منطقة القصيم وأصحاب الفضيلة العلماء، وأصحاب السعادة المسئولين في هذه البلدة وفي غيرها، والدعاة والحضور جميعاً. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 10 عرض لأسماء المشايخ الحاضرين أيها الإخوة وقد حضر هذا الاجتماع كما سمعتم قبل قليل عدد من الوفود من شتى مناطق المملكة وسأشير إلى بعض منهم على عجل، بقدر ما يسمح به الوقت. من الرياض قدم إلينا عدد كبير من المشايخ ومنهم: فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين عضو الإفتاء والإرشاد. فضيلة الشيخ عبد الله بن جسن بن قعود عضو هيئة كبار العلماء سابقاً. فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن صالح البراك أستاذ في جامعة الإمام. فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن حمود التويجري رئيس قسم السنة. فضيلة الشيخ الدكتور ناصر العمر وهو أستاذ في جامعة الإمام. والدكتور سعيد آل زعير. والدكتور عبد الرحمن العشماوي. وهؤلاء كلهم أساتذة في جامعة الإمام، وكذلك الشيخ عبد الوهاب الطريري وهو محاضر في جامعة الإمام. والدكتور محسن العواجي أستاذ في جامعة الملك سعود. والشيخ عمر سعيد العيد أيضاً محاضر في جامعة الإمام. ومن مكة قدم إلينا جمع من المشايخ وعلى رأسهم الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي أستاذ في جامعة أم القرى. والأستاذ عبد الحميد داغستاني جامعة أم القرى. الشيخ جابر محمد مدخلي الأمين العام للتوعية الإسلامية. والشيخ محمد أمين ميرزا عالم أيضاً في التوعية الإسلامية. والشيخ سعد سليمان العكوز في الشئون الدينية. والأستاذ عبد الرحمن بن عبد العزيز السديس جامعة أم القرى وهو ابن عم فضيلة الشيخ عبد الرحمن إمام الحرم المكي. وكذلك الأستاذ الدكتور حمزة الفهر جامعة أم القرى. والأستاذ الدكتور محمد بن سعيد القحطاني جامعة أم القرى. والشيخ مرزوق بن سالم الغامدي إمام مسجد الرحمة. والشيخ الدكتور عابد السفياني عميد كلية الشريعة جامعة أم القرى. ومن جدة وفد إلينا جمع من العلماء أذكر منهم فضيلة الشيخ فريح العقلاء، وأعتذر عن ذكر بقية العلماء لأنه لم تؤخذ هذه الأسماء إلا حين دخولهم إلى هذا المكان، ولهذا لم نتمكن من حصرهم جميعاً، فأرجو المعذرة من الجميع. من الطائف وفد إلينا أيضاً كل من: الشيخ علي بن محمل العتيبي قاضي المحكمة المستعجلة. والشيخ محمد عمر عرب عضو جماعة تحفيظ القرآن الكريم بالطائف. والشيخ عبد الله بن رداد النفيعي، عضو جماعة تحفيظ القرآن الكريم في الطائف. والشيخ أحمد بن موسى الشهري، رئيس جماعة تحفيظ القرآن بالطائف. وأيضاً ورد إلينا من الأحساء جمع من العلماء منهم الشيخ منصور بن إسماعيل وهو مندوب الدعوة هناك. ومن حائل ورد إلينا أيضاً الشيخ سليمان العامر رئيس هيئات حائل. والشيخ إبراهيم الصائغ. والشيخ سعيد هليل عضو الدعوة والإرشاد. ومن المدينة المنورة كل من الشيخ صالح بن سعد السحيمي رئيس قسم العقيدة بالجامعة الإسلامية. والشيخ الدكتور صالح بن عبد الله العبود عميد كلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة الإسلامية. والشيخ الدكتور يحي اليحيى عميد شئون الطلاب بالجامعة الإسلامية. وورد إلينا من الجنوب كل من المشايخ التالية أسماؤهم وهم: الشيخ عائض بن عبد الله القرني. والشيخ محمد بن يحي القرني رئيس محكمة صبيا وهو عضو تمييز الآن. والشيخ جريم بن يحي حكمي رئيس محكمة بيشة. والشيخ يحي بهلول رئيس محكمة الشقيط. والشيخ علي حمد عريشي مستشار شرعي. والشيخ موسى علي شبيبي رئيس بلدية. والشيخ الحسن علي العسكري رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والشيخ محمد علي شيبان عريشي وهو عضو هيئة أيضاً. وورد إلينا من الزلفي أيضاً عدد من المشايخ منهم الشيخ محمد المعتق رئيس محكمة الزلفي. والشيخ الدكتور عبد الله بن محمد الطيار أستاذ الفقه في جامعة الإمام فرع القصيم. والشيخ مديد السويفي مندوب الدعوة بالزلفي. وأما من القصيم أيها الإخوة فلا يفوتني أن أرحب بجمع من مشايخنا الكبار وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين. وفضيلة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي. وفضيلة الشيخ صالح المنصور. وفضيلة الشيخ محمد بن صالح المنصور. وفضيلة الشيخ إبراهيم بن عبد المحسن العبيد، وغيرهم ممن لا يتسع الوقت للإشادة بأسمائهم. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 11 المتسابق الرابع: عبد الله بن ناصر السلمي أترككم الآن مع متسابق رابع وهو من الفرع الثاني واسمه عبد الله بن ناصر السلمي، وقد كان في الأصل قد رتب لاختبار اثنين من الفرع الثاني، ولكن لضيق الوقت اختصرناهم بواحد ونرجو من الطالب أن يتقدم من أجل امتحانه. السؤال اقرأ يا عبد الله من قوله رحمه الله: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه} . الجواب بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. قال المصنف رحمه الله تعالى: وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم، ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى، ويقول: أما بعد فإن خير الكلام كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها} . السؤال: اقرأ من قوله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان ابن لـ أبي طلحة يشتكي الجواب: {كان ابن لـ أبي طلحة يشتكي، فخرج أبو طلحة فلما جاء قال: كيف الصبي؟ فقالت: بخير} . السؤال: اقرأ من قوله: عن سليمان بن يسار قال: تفرق الناس عن أبي هريرة فقال له: نأكل أهل الشام أيها الشيخ وعن سليمان بن يسار رضي الله عنهما قال: تفرق الناس عن أبي هريرة رضي الله عنه فقال له: نأكل أهل الشام يا أبا هريرة، حدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول الناس يوم القيامة يقضى عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمة فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال: كذبت، ولكنك قاتلت حتى يقال: فلان جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، ثم أتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت ولكنك تعلمت ليقال عالم، فقد قيل} . السؤال: {لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا} أكمل الحديث، واذكر راو الحديث الأعلى، ومن أخرجه. الجواب: أنس، متفق عليه، {لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله التقوى هاهنا وأشار إلى قلبه} الحديث عن أبي هريرة. {ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم} . السؤال: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد ليتكلم بالكلمة} . الجواب: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً تهوي به سبعين خريفاً في النار} وفي لفظ آخر: {يهوي به ما بين المشرق والمغرب} . السؤال: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس} الجواب: مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. السؤال: {اللهم وليديه فاغفر} الجواب: مسلم من حديث جابر. السؤال: {إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط} الجواب: متفق عليه من حديث أبي أيوب الأنصاري. السؤال: {إذا وجد أحدكم في بطنه شيئاً فأشكل عليه، أخرج منه شيء أم لا؟ فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} الجواب: متفق عليه من حديث أبي هريرة، وجاء معناه من حديث عبد الله بن زيد بمعنى بعيد. السؤال: {أبرد أبرد أو قال انتظر انتظر، وقال: إن شدة الحر من فيح جهنم} الجواب: متفق عليه من حديث أبي ذر وأبي هريرة وجاء معناه أيضاً من حديث أبي سعيد وابن عمر عند البخاري. السؤال: {أوتروا قبل أن تصبحوا} الجواب: مسلم من حديث أبي سعيد. السؤال: {نحن السابقون الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا} الجواب: متفق عليه من حديث أبي هريرة. السؤال: {أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض} الجواب: متفق عليه من حديث أنس. السؤال: {يهود تعذب في قبرها} متفق عليه من حديث أبي أيوب. {أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع فما كان بدر ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع} الجواب: متفق عليه من حديث رافع بن خديج. السؤال: {ما من يوم يصبح العبد إلا وفيه ملكان ينزلان فيقول أحدهما} الجواب: متفق عليه من حديث أبي هريرة. السؤال: {إنك ببطحاء مباركة} الجواب: ابن عمر، متفق عليه. السؤال: {إن أحد جبل يحبنا ونحبه} الجواب: متفق عليه من حديث أنس. السؤال: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر أو قال غيره} الجواب: مسلم من حديث أبي هريرة. السؤال: {لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان} الجواب: عن أم الفضل، مسلم. قال مقدم الحفل حفظه الله: ومن الدروس العلمية في هذا البلد المبارك درس فضيلة الشيخ ابن قعود في الأصول للفقه وأصوله. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 12 مقابلة مع أحد الطلاب للشيخ عبد الوهاب الطريري الآن نبقى مع مقابلة مع أحد الحفظة يجريها فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري فليتفضل جزاه الله خيراً اللهم لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن، أيها الإخوة في الله لقد أذكرتنا بريدة هذه الليلة حواضر العلم الشرعي في المدينة النبوية وفي الكوفة وفي بغداد ونيسابور وبخارى ودمشق، أذكرنا هذا الجمع مجالس التحديث حيث الإمام أحمد بن حنبل ومحمد بن إسماعيل البخاري، ومسلم بن الحجاج، ومحمد بن يحي الذهلي. أذكرنا هذا اللقاء بحفاظ السنة من سلف الأمة، يوم كان للمساجد وحلق العلم دوي بالحفظة وطلبة الحديث النبوي، أبهجنا هذا اللقاء، أبهجنا حيث أبان عياناً أن هذه الصحوة المباركة موصولة بإمامها محمد صلى الله عليه وسلم ترشف من نبعه، وتنفق من ميراثه، وتقفو أثره وتسير على نهجه، {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] . ولابد في هذا اللقاء المبارك أن توجه التحية والحفاوة والتقدير لمن لولاهم لما كان لقاء، ولولاهم لما اجتمعنا هذا الاجتماع، إنهم الفتية الذين انتدبوا لسنة محمد صلى الله عليه وسلم يستظهرونها حفظاً، ويتتبعونها فقها، وينفقون صفو شبابهم في العناية بهذا الإرث النبوي والعلم المحمدي. فيا حفظة السنة أبهج الله قلوبكم، وأبلغكم من العلم مأمولكم، فقد سعدت بكم القلوب وقرت بكم العيون: بكم تبتنى شرفات الحياة وينشق للفجر منها عمود لكم كلكم سيزف الثناء وتزجى المنى وترف البنود أيها الإخوة في الله أنتم الآن مع لقيا سريعة مع أحد الحفظة للسنة النبوية فليتفضل مشكوراً الأخ يوسف الغفيص. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 13 مقابلة مع الطالب يوسف الغفيص نرجو من الأخ يوسف الغفيص أن يتقدم جزاه الله خيراً. السؤال اتفضل أخ يوسف عرف بنفسك؟ الجواب بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وفي الحقيقة أجدني محرجاً ومديناً لكم أن آخذ من وقتكم من وقت هذا الاجتماع المبارك للاستماع إلى شيء مما أقوله، ولكنه النزول عند رغبة وتكليف المشايخ الكرام الذين لا أجد مجالاً للتخلص من أمرهم وتكليفهم، فحقهم علينا الاستجابة لأمرهم، فاعذرونا بارك الله فيكم الاسم: يوسف محمد الغفيص. العمر، والمستوى الدراسي: مواليد عام 1390هـ، تعينت معيداً في قسم العقيدة، وقد بدأت بحمد الله الدراسة في الرياض. السؤال: مشايخك يا أخ يوسف؟ الجواب: مشايخ كثير في الحقيقة، وعلى رأسهم سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في درس الفقه، وسماحة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي في العقيدة، وفضيلة الشيخ العلم الماجد سلمان بن فهد العودة وقد لزمته كثيراً واستفدت منه في علوم شتى، كذلك الشيخ يحي عبد العزيز اليحيى واستندت إليه كثيراً لا سيما في حفظ السنة، كذلك الشيخ عبد الله بن صالح الفوزان وغيرهم من الأساتذة الكرام في الجامعة كثير. السؤال: هل تحفظ القرآن يا أخ يوسف؟ الجواب: الحمد لله، وهو ولا شك أنه الأصل الأول قبل حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه جامع العلم وجامع الدين، وهو حبل الله المتين. السؤال: هل حفظت الصحيحين؟ الجواب: أحمد الله، مختصراً على طريقة المشايخ الكرام الجمع بين الصحيحين. السؤال: وعلى من؟ الجواب: على فضيلة الشيخ يحيى بن عبد العزيز اليحي. السؤال: كم تبلغ محفوظاتك الآن؟ الجواب: بحمد الله عز وجل وأسأله التوفيق، قرابة الأربعة آلاف تقريباً. ما شاء الله تبارك الله! السؤال: وهل هناك متون علمية تدرسها على بعض المشايخ؟ الجواب: نعم زاد المستقنع عند فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكذلك الطحاوية عند الشيخ حمود بن عقلاء، وكذلك في العقيدة كتاب التوحيد والواسطية عند الشيخ سلمان العودة، وكذلك بلوغ المرام عند الشيخ سلمان، وكذلك سنن أبي داود عند فضيلة الشيخ يحي، والنحو درست عند الشيخ سلمان، والأصول عند الشيخ عبد الله الفوزان، وغير ذلك أسأل الله التوفيق. السؤال: هل تسمعنا يا أخي يوسف دليلين من حفظك يدلان على أهمية الحفظ؟ الجواب: لعل من ذلك الحديث المتفق عليه: {عن أبي جمرة قال: كنت أترجم بين يدي عبد الله بن عباس وبين الناس، فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجبر، فقال: إن وفد عبد القيس أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: من الوفد أو من القوم؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالوفد أو بالقوم غير خزايا ولا ندامى، قالوا: يا رسول الله! إنا نأتيك من شقة بعيدة، وإن بيننا وبينك هذا الحي من مضر، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، قال: فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، وقال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خُمساً من المغنم، ونهاهم عن الدباء والحنتم والمزفت، قال شعبة: وربما قال النقير، وقال احفظوه وأخبروا من وراءكم} . {وزاد ابن معاذ عن أبيه قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس، إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} . السؤال: ما وجه الاستدلال؟ الجواب: وجه الاستدلال قول النبي صلى الله عليه وسلم: {احفظوه وأخبروا به من وراءكم} . الحديث الآخر، حديث أبي زيد عمرو بن أخطم رضي الله عنه قال: {صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر وصعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت الظهر، ثم نزل وصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأعلمنا بما كان وبما هو كائن، فأعلمنا أحفظنا} والحديث من إخراج مسلم. السؤال: هل من مشاركة في الدعوة يا أخ يوسف؟ الجواب: إنني ذو قصور وتقصير، ولا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل أصل من أصول هذا الدين العظام، وهو واجب من الواجبات الضرورية، ومن أصول الإسلام، أسأل الله العون والتوفيق للجميع. بارك الله فيك ووفقك ونفعك ونفع بك، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. شكر الله لفضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري على تفضله بإجراء هذه المقابلة الممتعة والتي كانت ولا شك تقديماً لأنموذج من الشباب الحافظين، وكنا نود أن يكون في الوقت فسحة لمقابلة شباب آخرين من الحفظة، فإن منهم من وصلتني أنباء بأنه يحفظ أكثر من خمسة آلاف حديث، وشخص آخر من الحفظة يبلغ حفظه أيضاً أربعة آلاف حديث، فلله الحمد والمنّة. كما نشكر الأخ الكريم يوسف بن محمد الغفيص على هذه المعلومات الطيبة، والتي قصد من ورائها تشجيع إخوانه من طلاب العلم بأن يحذوا حذو هذا المنهج، وأن يسلكوا هذا الطريق الطيب، سائلين الله -جل وعلا- أن يحفظه وأن يوفقه فيما بقي من وقته وعمره، للاستمرار في طلب العلم الشرعي، وأن ينفع به إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير. أيها الإخوة: وإنه لا يفوتنا في عداد الترحيب بالحضور الكرام أن نرحب بالشيخ سمير بن خليل المالكي الذي حضر إلينا من مكة فحياه الله وحيا الله جميع الحاضرين. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 14 مسابقة حفظ ألف حديث أيها الإخوة: ننتقل الآن إلى الفرع الثالث وهو حفظ ألف حديث ونظراً لضيق الوقت فإننا نكتفي بطالب واحد بدلاً من طالبين وهو خالد بن عبد العزيز السيف فليتفضل مشكوراً. المقابلة: السؤال اقرأ من قوله رحمه الله تعالى في باب: (قبول الصدقة تقع في غير أهلها) عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة الجواب بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على إمام المرسلين؛ قال رحمه الله تعالى: {عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال رجل: لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية، فأصحبوا يتحدثون تُصدِّق على زانية! قال: اللهم لك الحمد! على زانية! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد غني، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق على غني! قال: اللهم لك الحمد! على غني! لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون تُصُدِّق الليلة على سارق! قال: اللهم لك الحمد! على زانية وعلى غني وعلى سارق} . السؤال: اقرأ من قوله في (باب الإحسان إلى المملوكين) عن المعرور بن سويد قال: مررنا على بـ أبي ذر بالربذة وعليه برد الجواب: {عن المعرور بن سويد قال: مررنا على أبي ذر بالربذة، وعليه برد وعلى غلام مثله، فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة، فقال: لقد كانت بيني وبين رجل من إخواني كلام، وكانت أمه أعجمية، فعيرته بأمه فشكى إلى} . السؤال: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان} أكمل. الجواب: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} . السؤال: {سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} من راوي هذا الحديث الأعلى، ومن أخرجه؟ الجواب: {وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم سباب المسلم فسوق وقتاله كفر} متفق عليه. السؤال: {أي المسلمين خير} الجواب: {وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده} . السؤال: {أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر} الجواب: حديث زيد بن خالد الجهني، متفق عليه. السؤال: {لكل نبي دعوة مستجابة تعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه. السؤال: {اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم} الجواب: أبو هريرة، مسلم. السؤال: {توضئوا مما مست النار} الجواب: أبي هريرة، مسلم. السؤال: {لا تتحروا بصلاة طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك} الجواب: روته عائشة، متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر وعائشة. السؤال: حديث {كخ كخ ارم بها ارم بها، أما تعلم أن الصدقة لا تحل لنا} الجواب: أبو هريرة، مسلم. السؤال: {ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه. السؤال: {ما كان رسول الله يصوم في العشر قط} الجواب: عائشة، في مسلم. السؤال: {أيام التشريق أيام أكل وشرب -وفي رواية- وذكر لله عز وجل} الجواب: رواه مسلم. السؤال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة} الجواب: أنس، متفق عليه. السؤال: المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه. السؤال: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه. السؤال: {تنكح المرأة لأربع} الجواب: أبو هريرة، متفق عليه. السؤال: {أوْلِمْ ولو بشاة} الجواب: أنس بن مالك، متفق عليه. السؤال: {استوصوا بالنساء خيراً} الجواب: أبي هريرة، متفق عليه. السؤال: {المرأة تقبل في صورة شيطان وتدبر في صورة شيطان} الجواب: جابر، رواه مسلم. السؤال: {نهى عن بيع علم المخابرة والمعاظمة} الجواب: مسلم. السؤال: حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {قضى بالشفعة} الجواب: جابر، متفق عليه. السؤال: حديث {ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا أوصى بشيء} الجواب: عائشة، مسلم. بارك الله فيك، ما شاء الله. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 15 قصيدة للشاعر عبد الرحمن العشماوي وإنما الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كيساً وإن حمقا وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا قالهما شاعر النبي صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه نعم إن الشعر شعور صادق معبر عنه بلفظ جميل، إن هذا الصدق وجمال التعبير خصلتان قد ألفناهما عند شاعرنا الإسلامي الكبير أخينا الدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي، الذي أبى إلا أن يشاركنا ابتهاجنا بهذه المناسبة الطيبة، فنظم قصيده عنوانها (عناقيد الضياء) فليتفضل مشكوراً بإلقائها على أسماعكم، أو بالأحرى في قلوبكم. قال الدكتور عبد الرحمن العشماوي: بسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أحيكم جميعاً بتحية الإسلام الخالدة: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أحبتي قبل أن أبدأ بإلقاء القصيدة أريد أن أضع أمامكم ملاحظة واحدة وهي: أنني أتهيب منذ زمن طويل من كتابة شيء عن الرسول عليه الصلاة والسلام، كلما أردت أن أكتب توقف القلم، لأنني أجد أن الألفاظ التي أملكها تظل عاجزة عن تصوير ما أحمله في قلبي تجاه رسولنا عليه الصلاة والسلام، القصيدة هذه ستسمعون فيها نداء يا سيد الأبرار، وهو نداء استحضار أدبي لا دعاء ولا رجاء، وتعلمون صفاء عقيدتنا في هذا الأمر، اللهم صلِّ وسلم على نبيك محمد صلاةً وسلاماً دائمين ما دام الليل والنهار. هلّ الهلال فكيف ضل الساري وعلام تبقى حيرة المحتار ضحك الطريق لسالكيه فقل لمن يلوي خطاه عن الطريق حذار وتنفس الصبح الوضيء فلا تسل عن فرحة الأغصان والأشجار غنت بواكير الصباح فحركت شجوى الطيور ولهفة الأزهار غنت فمكة وجهها متألق أملاً ووجه طغاتها متواري هلّ الهلال فلا العيون ترددت فيما تراه ولا العقول تماري والجاهلية قد بنت أسوارها دون الهدى فانظر إلى الأسوار واقرأ عليها سورة الفتح التي نزلت ولا تركن إلى الكفار أوما ترى البطحاء تفتح قلبها فرحاً بمقدم سيد الأبرار عطشى يلمظها الحنين ولم تزل تهفو إلى غيث الهدى المدرار ماذا ترى الصحراء في جنح الدجى هي لا ترى إلا الضياء الساري وترى على طيف المسافر هالة بيضاء تسرق لهفة الأنظار وترى عناقيد الضياء ولوحة خضراء قد عرضت بغير إطار هي لا ترى إلا طلوع البدر في غسق الدجى وسعادة الأنصار ما زلت أسمعها تصوغ سؤالها بعبارة تخلو من التكرار هل يستطيع الليل أن يبقى إذا ألقى الصباح قصيدة الأنوار ماذا يقول حراء في الزمن الذي غلبت عليه شطارة الشطار ماذا يقول للاتهم ومناتهم ماذا يقول لطغمة الكفار ماذا يقول ولم يزل متحفزاً متطلعاً لخبيئة الأقدار طب يا حراء فليلهم كحكاية نسجت ومنك بداية المشوار أوما تراه يجيء نحوك عابداً متبتلاً للواحد القهار؟ أوما ترى في الليل فيض دموعه أوما ترى نجواه بالأسحار؟! أسمعت شيئاً يا حراء عن الفتى أقرأت عنه دفاتر الأخبار؟! طب يا حراء فأنت أول بقعة في الأرض سوف تفيض بالأسرار طب يا حراء فأنت شاطئ مركب مازال يرسم لوحة الإبحار ماجت بحار الكفر حين جرى على أمواجها الرعناء في إصرار وتساءل الكفار حين بدت لهم في ظلمة الأهواء شمعة ساري من ذلك الآتي يمد لليلنا قبساً سيكشف عن خبايا الدار؟ من ذلك الآتي يزلزل ملكنا ويرى عبيد القوم كالأحرار؟ ما باله يتلو كلاماً ساحراً يغري ويلقي خطبة استنفار ما باله يقسو على أصنامنا باللوم بالتسفيه بالإنكار هذا محمد يا قريش كأنكم لم تعرفوه بعفة ووقار هذا الأمين أتجهلون نقاءه وصفاءه ووفاءه للجار هذا الصدوق تطهرت أعماقه فأتى ليرفعكم عن الأقذار طب يا حراء فأنت أول ساحة ستلين فيها قسوة الأحجار سترى توهج لحظة الوحي الذي سيفيض بالتبشير والإنذار اقرأ ألم تسمع أمين الوحي إذ نادى الرسول فقال لست بقاري اقرأ فديتك يا محمد عندما واجهت هذا الأمر باستفسار وفديت صوتك عندما رددتها آياً من القرآن باسم الباري وفديت صوتك خائفاً متهدجاً تدعو خديجة أسرعي بدثار وفديت صوتك ناطقاً بالحق لم يمنعك ما لاقيت من إنكار وفديت زهدك في مباهج عيشهم وخلو قلبك من هوى الدينار يا سيد الأبرار حبك دوحة في خاطري صدَّاحة الأطيار والشوق ما هذا بشوق إنه في قلبي الولهان جذوة نار حاولت إعطاء المشاعر صورة فتهيبت من وصفها أشعاري ماذا يقول الشعر عن بدر الدجى لما يضيء مجالس السمار؟ يا سيد الأبرار أمتك التي حررتها من قبضة الأشرار وغسلت من درن الرذيلة ثوبها وصرفت عنها قسوة الإعصار ورفعت بالقرآن قدر رجالها وسقيتها بالحب والإيثار يا سيد الأبرار أمتنا التَوَت في عصرنا ومضت مع التيار شربت كئوس الذل حين تعلقت بثقافة مسمومة الأفكار إني أراها وهي تسحب ثوبها مخدوعة في قبضة السمسار إني أراها تستطيب خضوعها وتلين للرهبان والأحبار إني أرى فيها ملامح خطة للمعتدين غريبة الأطوار إني أرى بدع الموالد أصبحت داء يهدد منهج الأخيار وأرى القباب على القبور تطاولت تغري العيون بفنها المعماري يتبركون بها تبرك جاهل أعمى البصيرة فاقد الإبصار فرق مضللة تجسد حبها للمصطفى بالشطح والمزمار أنا لست أعرف كيف يجمع عاقل بين امتداح نبينا والطارِ كبرت دوائر حزننا وتعاظمت في عالم أضحى بغير قرار إني أقول لمن يخادع نفسه ويعيش تحت سنابك الأوزار سل أيها المخدوع طيبة عندما بلغت مداها ناقة المختار سل صوتها لما تعالى هاتفاً وشدا بألف قصيدة استبشار سل عن حنين الجذع في محرابه وعن الحصى في لحظة استغفار سل صحبة الصديق وهو أنيسه في دربه ورفيقه في الغار سل حمزة الأسد الهصور فعنده خبر عن الجنات والأنهار سل وجه حنظلة الغسيل فربما أفضى إليك الوجه بالأسرار سل مصعباً لما تقاصر ثوبه عن جسمه ومضى بنصف إزار سل في رياض الجنة ابن رواحة واسأل جناحي جعفر الطيار سل كل من رفعوا شعار عقيدة وبها اغتنوا عن رفع كل شعار سلهم عن الحب الصحيح ووصفه فلسوف تسمع صادق الأخبار حب الرسول تمسك بشريعة غراء في الإعلان والإسرار حب الرسول تعلق بصفاته وتخلق بخلائق الأطهار حب الرسول حقيقةٌ يحيا بها قلب التقي عميقة الآثار إحياء سنته إقامة شرعه في الأرض دفع الشك بالإقرار إحياء سنته حقيقة حبه في القلب في الكلمات في الأفكار يا سيد الأبرار حبك في دمي نهر على أرض الصبابة جاري يا من تركت لنا المحجة نبعها نبع اليقين وليلها كنهار سحب من الإيمان تنعش أرضنا بالغيث حين تخلفت أمطاري لك يا نبي الله في أعماقنا قمم من الإجلال والإكبار عهد علينا أن نصون عقولنا عن وهم مبتدع وظن مماري علمتنا معنى الولاء لربنا والصبر عند تزاحم الأخطار ورسمت للتوحيد أكمل صورة نفضت عن الأذهان كل غبار فرجاؤنا ودعاؤنا ويقيننا وولاؤنا للواحد القهار والسلام عليكم. قال مقدم الحفل حفظه الله: شكر الله لشاعرنا الدكتور عبد الرحمن على هذه القصيدة وجزاه الله خير الجزاء. أيها الإخوة لا يفوتني قبل أن نقدم لمجموعة من الطلاب امتحانهم، أن نرحب بوفد وفد إلينا من السودان البلد الشقيق، وعلى رأس هذا الوفد فضيلة الشيخ أبو زيد محمد حمزة نائب رئيس جماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان. كما لا يفوتني أيها الإخوة أن أرحب بوفد الدمام والخبر وعلى رأسهم فضيلة الشيخ محمد بن سليمان الشيحة. والشيخ رياض بن عبد الرحمن الحقيب. والشيخ عثمان السيف. والشيخ محمد الدهيمان. ومن الرياض أيضاً جاء إلينا قبل قليل كل من الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل. والشيخ محمد الفراج. والشيخ عبد العزيز الوهيري، فأهلاً بالجميع ومرحباً. أيها الإخوة: لا يفوتني أيضاً أن أشكر من أعماق قلبي أولئك التجار الذين ساهموا في دعم المشروعات الخيرية ومنها هذه المسابقة التي رأيتم شيئاً من برامجها، ومن هؤلاء وعلى رأسهم التاجر المعروف صالح بن عبد العزيز الراجحي. والشيخ سليمان بن عبد العزيز الراجحي. ودرع بن سليمان الدرع. وعلي بن عبد الرحمن القرعاوي، وصالح السلمان، وعبد الله بن إبراهيم الجديعي. وهؤلاء أيها الإخوة بذلهم وعطاؤهم مشهود معروف لدى الجميع. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 16 مسابقة حفظ خمسمائة حديث أيها الإخوة: أترككم مع ثلاثة من المتسابقين من الفروع الثلاثة الأخيرة، من الفرع الرابع الطالب عادل بن عبد الله السعوي، وبعده من الفرع الخامس الطالب زياد بن عبد الله الغفيري، ثم من الفرع السادس والأخير الطالب عادل بن عبد الرحمن المحسن. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 17 المتسابق: عادل السعوي نبقى مع الطالب الأول في الفرع الرابع عادل بن عبد الله السعوي، ومتسابقو الفرع الرابع يحفظون من الأحاديث خمسمائة حديث. المقابلة: السؤال اقرأ يا أخ عادل من قوله: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لكل نبي دعوة مستجابة. الجواب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة بإذن الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} . السؤال: اقرأ من قوله: باب وقت صلاة العشاء {عن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم} . الجواب: عن عائشة رضي الله عنها قالت: {أعتم النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل، وحتى نام أهل المسجد، ثم خرج فصلى وقال: إنه لوقتها، لولا أن أشق على الناس} . هذا لا يعني أننا سوف نعتم في صلاة العشاء حتى يذهب عامة الليل. السؤال: {ثلاثة من كن فيه وجد حلاوة الإيمان} ؟ الجواب: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} متفق عليه. السؤال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فقال: {مستريح ومستراح منه} السؤال: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: مُر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة فقال: {مستريح ومستراح منه، فقيل: ما المستريح وما المستراح منه؟ فقال: العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب} متفق عليه. السؤال: {هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} الجواب: رواه العباس بن عبد المطلب، متفق عليه. السؤال: {تبلغ الحلية حيث يبلغ الوضوء} الجواب: أبو هريرة، مسلم. السؤال: {يهود تعذب في قبرها} الجواب: أبو أيوب، متفق عليه. السؤال: {إنما الصبر عند أول الصدمة} الجواب: أنس بن مالك، متفق عليه. السؤال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص على القبر} الجواب: جابر بن سمرة، مسلم. السؤال: {لا يموت أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن} الجواب: جابر بن عبد الله، مسلم. السؤال: {إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون} الجواب: أم سلمة، مسلم. السؤال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الأضحى والفطر -نخرج الحيض-} الجواب: أم عطية، متفق عليه. السؤال: {أفضل الصلاة طول القنوت} لما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الصلاة. الجواب: جابر، مسلم. السؤال: {أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد} الجواب: أبو هريرة، مسلم. أحسنت. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 18 مسابقة حفظ مائة حديث الجزء: 43 ¦ الصفحة: 19 المتسابق: زياد الغفيري والآن نبقى أيها الإخوة مع أحد الطلاب من الفرع الخامس وهو حفظ مائة حديث، ومع الطالب زياد بن عبد الله الغفيري فليتفضل. الأخ زياد ممن حفظوا تجاوباً مع مشروع مسابقة السنة النبوية، فاختار أهله -جزاهم الله خيراً- وكل من عني بتربية ولده، اختاروا له مائة حديث من صحيح البخاري وغيره متفرقة. السؤال {من يقوم ليلة القدر} الجواب أبو هريرة. السؤال: {آية المنافق ثلاث} الجواب: {آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان} . السؤال: {من غدا إلى المسجد} الجواب: {من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له نزلاً من الجنة كلما غدا أو راح} . السؤال: {إذا قلت لصاحبك} ؟ الجواب: {إذا قلت لصاحبك وهو بجانبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت} . السؤال: {صلاة في مسجدي هذا} الجواب: {صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام} . السؤال: {الذي يخنق} الجواب: {الذي يخنق نفسه يخنقها في النار، والذي يطعن نفسه يطعنها في النار} السؤال: {إن الإيمان} الجواب: {إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها} . السؤال: من هو الصحابي؟ الجواب: أبو هريرة. السؤال: من رواه؟ الجواب: البخاري. السؤال: {يسلم الصغير} الجواب: {يسلم الصغير على الكبير، والمار على القاعد، والقليل على الكثير} . السؤال: {حجبت النار} الجواب: {حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره} . السؤال: {أول ما يقضى} الجواب: {أول ما يقضى بين الناس في الدماء} . السؤال: من هو الصحابي؟ الجواب: ابن عمر. السؤال: والراوي من هو؟ الجواب: البخاري. السؤال: {الجنة أقرب} الجواب: {الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك} . السؤال: من هو الراوي؟ الجواب: ابن عمر. السؤال: في أي صف تدرس؟ الجواب: ثاني ابتدائي. بارك الله فيك وأصلحك الله. وأضيف أن هذا الطالب عمره سبع سنوات، وهو من مدينة الرس. أيها الإخوة: وممن شاركنا في حفلنا هذا جمع من المشايخ أيضاً لم أذكر أسماءهم سابقاً ومنهم: الدكتور الشيخ أسامة بن عبد الله بن عبد الغني خياط رئيس قسم السنة بكلية الدعوة بجامعة أم القرى. وكذلك الشيخ حمد الريس رئيس جماعة تحفيظ القرآن بمدينة تمير وتوابعها ومعه بعض الأعضاء. وكذلك الشيخ الأستاذ الدكتور علي بن سعيد الغامدي المدرس بالحرم النبوي والأستاذ بجامعة الإمام فرع المدينة. والدكتور محمد الفلاح الجامعة الإسلامية. والشيخ الفاضل عبد الله الجلالي. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 20 مسابقة خمسين حديث أيها الإخوة: أترككم مع المتسابق الأخير وهو الطالب عادل بن عبد الرحمن المحسن وهو من الفرع السادس ويحفظ خمسين حديثاً نبوياً فليتفضل. لعلنا أيها الإخوة حتى يطمئن الطالب ويجلس، أن نستغل الوقت، هذه ورقة جاءت تقول: أرجو الدعاء لفضيلة الشيخ صالح بن أحمد الخليصي في هذا الجمع المبارك، فنسأل الله تعالى بقدرته وعزته وجلاله ورحمته أن يشفيه ويعافيه ويزيل عنه البأس إنه على كل شيء قدير، وأن يمد في عمره على طاعته. الآن أترككم مع الطالب. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 21 المتسابق: عادل بن عبد الرحمن المحسن الطالب يحفظ الأربعين النووية مع زيادة ابن رجب، في الأربعين النووية. السؤال حديث عن معاذ بن جبل تحفظه؟ اقرأ الحديث؟ الجواب قال رحمه الله تعالى: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: {قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويبعدني عن النار، قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه، تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، ثم قال له: ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم الجنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والصلاة في جوف الليل، ثم تلا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16] حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة:17] } . السؤال: حديث {لا ضرر ولا ضرار} اقرأه؟ الجواب: عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا ضرر ولا ضرار} حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني، وغيرهما مسنداً، ورواه مالك في الموطأ مرسلاً عن عمر بن يحي عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها بعضاً. السؤال: عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الجواب: {إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت} رواه البخاري. السؤال: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لو يعطى الناس} الجواب: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر} حديث حسن رواه البيهقي وغيرهما، وهو في الصحيحين. بارك الله فيك. قال مقدم الحفل حفظه الله: أيها الإخوة: نشكر المشايخ الفضلاء على قيامهم بهذه المسابقة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك فيهم ويجزيهم خيراً. أيها الإخوة: إن وجود هؤلاء العلماء والدعاة فرصة لا تقدر بثمن، ولذلك انتهزنا هذه الفرصة لإقامة مجموعة من المحاضرات والندوات في مدن القصيم المختلفة، وكم كانت أمنيتنا أيها الإخوة أن تدوم فعاليات هذه المسابقة لمدة أسبوع على الأقل، ولكن مشاغل هؤلاء العلماء، وتعسر إقامتهم هذه المدة جعلتنا نرضى منهم بالقليل، ولكن القليل منهم كثير وكثير، جزاهم الله عنا خير الجزاء. وإليكم أيها الإخوة سرداً بهذه المحاضرات والندوات وأماكن وجودها: في بريدة محاضرة بعنوان: الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، يلقيها فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي. وفي عنيزة ندوة علمية يشترك فيها كل من فضيلة الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، والشيخ سعيد بن مبارك بن زعير، والشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري. وفي الرس ندوة علمية أيضاً يشترك فيها كل من الشيخ سلمان بن فهد العودة، والشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، والشيخ عبد الله بن حمود التويجري. وفي رياض الخضراء ندوة علمية أيضا يشترك فيها كل من المشايخ ناصر العمر، وحمزة الفهر، والثالث لم يتقرر حتى الآن. وهناك محاضرة في البكيرية بعنوان نصائح لطالب العلم، يلقيها فضيلة الشيخ رياض بن عبد الرحمن الحقيب. أيها الإخوة: لا يفوتني أن أرحب بفضيلة الشيخ عبد الله بن محمد الدبيخي وهو من وفد الدمام. وأيضاً أن نشكر شكراً جزيلاً مؤسسة الراجحي التجارية للصيرفة عن فرع القصيم فقد تبرعوا لهذه المسابقة بارك الله فيهم. وأحب أن أنبه إلى أن التجار الذين ذكرت أسماءهم قبل قليل هم كلهم ممن شاركنا في هذا الحفل فجزاهم الله خير الجزاء وبارك فيهم. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 22 توزيع جوائز الحفل والآن نبقى مع توزيع الجوائز. أيها الإخوة: نأتي إلى الفقرة الأخيرة في هذا الحفل المبارك -إن شاء الله- وهي توزيع الجوائز، حيث تم صرف جوائز تشجيعية للحافظين، وحيث أن الحفظ يتفاوت فقد تفاوتت أيضاً الجوائز، ونظراً لضيق الوقت فإننا سنختار مندوباً عن كل فرع يستلم جوائز زملائه، نرجو أيها الإخوة من صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر أمير منطقة القصيم، وصاحب الفضيلة الشيخ عبد الرحمن العجلان أن يتفضلا بتوزيع الجوائز على الفائزين. أيها الإخوة: أما الفرع الأول: فهو في حفظ الصحيحين، وقد تسابق في هذا الفرع ثمانية وكلهم نجحوا بتقدير ممتاز، ومقدار الجائزة اثنا عشر ألف ريال لكل فائز، يتفضل الأخ تركي بن فهد الغميز لاستلام جوائز هذا الفرع بأكمله، ثم يعطي زملاءه كلاً بحسبه. أما الفرع الثاني: فإنه في حفظ أحد الصحيحين وقد تسابق في هذا الفرع ثمانية، وقد فازوا جميعاً بتقديرات تتفاوت ما بين ممتاز وجيد جداً ومقدار الجائزة ستة آلاف لممتاز، وخمسة آلاف وأربعمائة لتقدير جيد جداً، ويتفضل الأخ فهد بن عبد الله التركي باستلام جوائز هذا الفرع. أما الفرع الثالث: فمقداره ألف حديث، وعدد المتسابقين ثمانية، ومقدار الجائزة ثلاثة آلاف لتقدير ممتاز، وأقل من ذلك بقليل لتقدير جيد جداً، ويتفضل الأخ أحمد بن محمد السبعوق لاستلام جوائز هذا الفرع. أما الفرع الرابع: فمقدار أحاديثه خمسمائة، حديث وتسابق في هذا الفرع تسعة متسابقين، ويتفضل الأخ إبراهيم بن عبد العزيز الفصيلي لاستلام جوائز هذا الفرع. أما الفرع الخامس: فمقداره مائة حديث، وقد تسابق في هذا الفرع خمسون طالباً، ويتفضل الأخ محمد بن صالح الفصير لاستلام جوائز هذا الفرع. أما الفرع السادس: فمقداره خمسون حديثاً، ويتفضل الأخ خالد بن حمد الصائغ لاستلام جوائز هذا الفرع. بعض الإخوة يرغب في ذكر الفائزين في الفرعين الأول والثاني ولذلك نسرد أسماءهم: أما الفرع الأول فهو في حفظ الصحيحين صحيح البخاري وصحيح مسلم والإخوة المتسابقون هم: ياسر بن إبراهيم السلامي ممتاز يوسف بن محمد الغفيص ممتاز عبد الله بن غدير التويجري ممتاز تركي بن فهد الغميز ممتاز صالح بن سليمان الصقعبي ممتاز محمد بن صالح محيجين ممتاز فهد بن عبد الرحمن اليحي ممتاز إبراهيم بن صالح الحيمضي ممتاز أما الفرع الثاني فهو حفظ أحد الصحيحين وأسماؤهم وتقديراتهم كما يلي: عبد الله بن ناصر السلمي ممتاز فهد بن عبد الله التركي ممتاز عبد الله بن فوزان الفوزان ممتاز عبد الرحمن بن عبد العزيز العقل ممتاز محمد بن عبد العزيز الفراج جيد جداً سليمان بن محمد الدبيخي جيد جداً عبد العزيز بن عبد الرحمن الراجحي جيد جداً فهد بن أحمد الأسطى جيد جداً أيها الإخوة: شكر الله للجميع مساعيهم ونسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير إن شاء الله، ونسأله تعالى كما جمعنا في هذه الدار أن يجمعنا في مستقر رحمته إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 23 كلمة الشيخ ابن عثيمين أيها الإخوة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحييكم في هذا اللقاء الطيب المبارك إن شاء الله، إخواني في الله اغتناماً لهذا الوقت نلتقي مع بعض مشايخنا الفضلاء، ومع أستاذنا وشيخنا صاحب الفضيلة محمد بن صالح العثيمين فليتفضل مشكوراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فإننا هنا في القصيم نرحب بإخواننا الذين قدموا إلينا من بلاد شتى، ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا أول بركة لهذا المشروع الجيد المفيد، الذي فيه حفظ لشريعة الله عز وجل، بحفظ سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والذي نسأل الله تعالى أن يجعله أول باكورة لمثل هذا المشروع، فإن هذا -كما نعلم جميعاً- هو أول ما حصل من هذا النوع، لأن الناس كانوا فيما سبق يعتنون بكلام الله عز وجل، ونعم المعتنى به، وهو الذي يجب أن يعتني به أولاً. ولكن هذا اللقاء لبيان المتسابقين ومراتبهم وجوائزهم هو أول سباق من نوعه، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} . وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أن حفظ شريعة الله، كما يكون بحفظ القرآن والسنة، فإنه يكون بحفظ الشريعة عملاً يعمل بها الإنسان فيما يعتقده في ربه، في أسمائه، وصفاته، وأحكامه وأفعاله، وفيما يعتقده في كتبه، ورسله، وملائكته، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره. وكذلك أيضاً فيما يقوله بلسانه، من تسبيح الله تعالى وتهليله وتكبيره، وقراءة كتابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك مما يقرب إلى الله، وكذلك مما يكون في أفعاله من القيام بعبادة الله على الوجه الأكمل، والقيام بمعاملة عباد الله على الوجه الذي يحب أن يعاملوه به، وإن أهم من يقوم به، وأعظم من يقوم بهذه الأمور هم طلبة العلم، الذين هم قدوة الأمة في عقيدتها، ومقالها، وفعالها. فالواجب علينا -نحن طلبة العلم- أن نكون يداً واحدة، وألا نتفرق مهما اختلفت الآراء المبنية على الاجتهاد السائغ، فإن الاختلاف في الاجتهاد أمر ثابت من عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى عهدنا هذا، ولكنه لا يجوز أبداً بأي حال من الأحوال أن يكون سبباً لتفرق القلوب، فإن تفرق القلوب هو الداء العضال الذي لا يفرح به إلا أعداء الأمة الذين ينتهزون الفرص في تشتتها، وتفرقها. وإنني أرجو من إخواني طلبة العلم أن يكون بعضهم لبعض ولياً، يتولاه، وينصره، ويدافع عنه، ويكون معه في الحق، ويذود عنه، وإذا أخطأ والخطأ لا يعصم منه إلا من عصمه الله -فليبين له الخطأ، وليكن ذلك سراً بينه وبينه، دون أن يفشيه لأحد، لأن الخطأ إذا ظهر للناس فإنه سيجعل فوق الخطأ خطأً آخر وثالثاً ورابعاً وهكذا. لكن إذا كان نصيحة بين الإنسان وأخيه فإنه يزول -بإذن الله- مع حسن النية، وحسن الطريقة، فالإنسان قد يخطئ، وقد تظن أنه أخطأ، وقد تكون أنت الذي أخطأت، فإذا تقارب الناس وتناصحوا فيما بينهم وتبين الحق؛ فإنه لا يعذر أحد لمخالفته أبداً. لكن الشر كل الشر أن ينتهز الواحد منا خطأ صاحبه، ثم ينشره بين الناس فتبقى الضغينة والأحقاد، والعداوة والبغضاء بين الناس، ثم إن الخلاف الذي يقع بين العلماء، والتعادي بينهم، والقدح بين بعضهم ببعض ليس ضرراً على العالم شخصياً، بل هو ضررٌ على الشريعة كلها، لأن حملة الشريعة هم العلماء فإذا طعن بعضهم ببعض، لم يثق العامة لا بالطاعن ولا بالمطعون فيه، وحينئذ تضيع الشريعة الإسلامية بين الأحقاد والضغائن. لذلك أنا أدعو من هذا المكان، وفي هذا المجتمع المبارك إلى أن يرجع كل منا إلى صواب رأيه، وأن يفكر في الأمر، وألا يجعل من مخالفة أخيه عداوة وبغضاء، وألا يجعل أيضاً من نعمة الله على أخيه بقبوله عند الناس ألا يجعل من ذلك حسداً وكراهة لما أنعم به الله عليه، فإن ذلك بلا شك من أخلاق اليهود كما قال تعالى عنهم: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:109] . ومن المعلوم أن الحاسد لن يضر المحسود شيئاً؛ لأن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء كما قال الله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} [النساء:54] وإنما يضر الحاسد نفسه، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، والحسد جمرة عظيمة في قلب الحاسد، لا يمكن أن يهدأ له بال، ولا يقر له قرار حتى يرى نعمة الله على أخيه قد زالت والعياذ بالله. وحينئذ يهلك ويفقد تمام الإيمان الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} . وإن ظني في ختام كلمتي هذه أن الذين يقومون على هذا المشروع الجيد الطيب، وهو حفظ السنة، ظني أنهم لن يغفلوا ما ينبغي أن يكون الطلبة منه على علم، وذلك: بفقه الأحاديث والعمل بها، ودعوة الناس إلى ما تدل عليه من الأخلاق والآداب العالية، كما أظن أيضاً أنهم لن يغفلوا رجال الإسناد، وحفظ الطلبة للرجال، لأن ذلك يعينهم على ما إذا أتى هؤلاء الرجال في سياق ما ليس في الصحيحين أو أحدهما، فيعرفون الحديث بمعرفة رجاله، واتصال سنده. وأخيراً أسأل الله تعالى أن يجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً، وأن يجعل سعي الجميع مشكوراً وذنبنا مغفوراً إنه جوادٌ كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. المقدم: شكر الله لفضيلة شيخنا على هذا الكلمة التوجيهية لأهل العلم، وأحب أن أبشر فضيلة شيخنا وغيرهم، بأن الحلق العلمية تحرص أشد الحرص على معرفة فقه الحديث، بل إن هناك حلقاً في هذا البلد خاصة لفقه الأحاديث، فالحمد لله إن أغلب من يحفظون الحديث هم ممن يهتمون بفقه الحديث، وهذا فضل من الله ومنّه. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 24 كلمة الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي أيها الإخوة: أترككم مع كلمة لأحد مشايخنا، وهو شيخنا الشيخ حمود بن عقلاء الشعيبي فليتفضل. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: إننا نرحب بإخواننا ونحييهم في بلدهم بلد العلم، وبلد العقيدة، وبلد الدعوة، فحياهم الله في بلدهم ومع إخوانهم، وإننا لنرجو الله أن يثيبهم، ويجازيهم على ما بذلوه من تعب وجهد في السفر من بلادهم إلى هذه البلد المباركة، وعلى ما تركوه من مشاغلهم، وجاءوا حباً للعلم ولأهله. أيها الإخوان: إن الله سبحانه وتعالى قد منَّ على عباده بإرساله محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم، حيث قال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] وإن أكبر نعمة أنعم الله بها على أهل الأرض هي إرساله محمداً صلى الله عليه وسلم إليهم بالهدى ودين الحق. وكثيراً ما يذكر سبحانه وتعالى بهذه النعمة في كتابه العزيز {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الأنفال:26] وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:102-103] . وقال سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] وإذا أراد الإنسان أن يعرف مدى هذه النعمة وعظمها؛ فعليه أن يلقي نظرة ولو سريعة على ما كان عليه العالم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أدرك ذلك وعرفه، عرف مدى عظم النعمة الذي منَّ الله بها على عباده من وفقه منهم وهداه لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم. كل واحد من هؤلاء الحاضرين يدرك ويعرف يقيناً الفساد والضلال والجهل الذي كانت عليه الأمم قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الخير ما حصل لهم إلا بالشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، فالعالم قبل الإسلام كانوا أمماً وثنية منها الأمم المتحضرة كالفرس والروم والأحباش وغيرهم، ولكن مع هذا هم يستعبدون شعوبهم، ويرون أنهم من جنس غير الجنس الذي منه الملوك والرؤساء. بل يريدون منهم أن يقدسوهم ويعبدوهم، وهذا ثابت في التاريخ لكل ناظر ينظر فيه، ولهذا لما دخل رجل من الفرس على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد حلق لحيته، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أمرك بهذا؟ قال: أمرني ربي -يريد ربه الملك كسرى- فكانوا يؤلهون أنفسهم، ويرون أنهم أرباب لشعوبهم، وأنه لا يجوز لأحد أن يخرج عما يريدونه أو ما يأمرونه به، أو يشرعونه لهم. أي: أن الشعوب عبيد والملوك آلهة، وهذا ظاهر لكل من ينظر في تاريخ الأمم السابقة قبل الإسلام، وما أشبه الليلة بالبارحة، هذه حالة أولئك، ولا أريد أن أشرح قولي: ما أشبه الليلة بالبارحة لأنه واضح، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد بأهل الأرض خيراً فأرسل إليهم محمداً صلى الله عليه وسلم، فدلهم على الخير، ونهاهم عن الشر، وقال بعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: [[توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء، إلا وذكر لنا منه علماً]] . وقال عمر رضي الله عنه: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فذكر بدء خلق الإنسان إلى أن دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، ولم يترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه} . وقال عليه الصلاة والسلام: {تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك} وقال عليه الصلاة والسلام: {إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي} . فعلى الأمة الإسلامية أن تقتدي بهذه النصوص والأخبار عنه صلى الله عليه وسلم، وتعمل بها لأجل أن تنجو من الشرور المحدقة بها في الدنيا والآخرة، وإذا نظرنا إلى واقع المسلمين في هذا العصر وجدنا أن قوله عليه الصلاة والسلام: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا يا رسول الله: أمن قلة نحن؟ قال: لا، أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل} . وصدق صلى الله عليه وسلم، المسلمون يبلغون ألف مليون في العالم أو يزيدون، ومع هذا لا تجد إلا القليل والقليل جداً من يتمسك بشرع النبي صلى الله عليه وسلم، ويقتفي أثره في التشريع وفي الأحكام، بل اختاروا لأممهم وشعوبهم شرائع جاءوا بها من عند أعدائهم أعداء المسلمين، أعداء الإسلام الذين ما فتئوا يبحثون عما يضعف الإسلام، أو يقضي على الإسلام منذ بزغ نور الرسالة، وحتى يومنا هذا، ما زالوا يدبرون المؤامرات، ويدبرون الخطط لإضعاف الإسلام أو القضاء عليه، من بعثته صلى الله عليه وسلم وحتى يومنا هذا، بالمؤامرات، بالحروب، بإحداث الأفكار المنحرفة السيئة، وكل هذه الأوقات والأزمنة التي مضت ما استطاعوا أن يحصلوا على مرادهم في القضاء على الإسلام، ولكن في عصرنا الحاضر جعلوا لهم أعواناً من المنافقين والملحدين والكافرين الذين اندسوا في صفوف المسلمين، وجعلوا لا يفتئون يفرقون صفوفهم، ويحدثون الخلافات بينهم، ويشككون نشء المسلمين في عقيدتهم وفي شرعهم. وكانت لهم صولات وجولات في الكتابات، وفي الشعر، وفي التشريع، وفي المناهج كطريقة المنافقين الأولين، يفعلون أموراً يظهر منها الإصلاح وهم يريدون بها القضاء على الإسلام، يزعمون أنهم مصلحون وهم والله مفسدون يريدون القضاء على الإسلام، وينفذون أوامر أسيادهم في خارج بلاد المسلمين، وإلا فكيف يرضى المسلمون، كيف يرضى حكام المسلمين أن يتحاكموا إلى الطاغوت (إلى القانون) ويجعلونه دستوراً، وشريعة يرجع إليها أفراد الأمة وجماعاتها يتحاكمون إلى الطاغوت وإلى القانون في معظم بلاد المسلمين، وينسون أنه سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] . هذا خبر منه سبحانه وتعالى عامٌ لا يقصد به أمة من أمة، ولا قوم من قوم، وإنما هو عام لجميع الناس، لجميع الأمم، من أعرض عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحكم غيرهما سواء حكمهما في كل شيء، أو حكمها في شيء دون شيء، فإنه داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] . نرى أعداء الإسلام الكافرين، والملحدين، والعلمانيين، والحداثيين، ومن لف لفهم يصولون ويجولون في العالم الإسلامي، بقصائدهم، وكلماتهم، ومقالاتهم، ولا نرى أحداً يعترض لهم، أو ينقدهم، أو حتى يسمح لغيره أن ينقدهم أو يرد باطلهم، وأما غيرهم من المصلحين من الدعاة الذين يريدون تقويم الأمة، ويريدون تطبيق شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وتعليم الكتاب والسنة، هؤلاء توضع العراقيل في طريقهم، ولا يتمكنون من تبليغ رسالات ربهم في معظم العالم الإسلامي، بل يحال بينهم وبين دعوتهم، وبينهم وبين ما يريدونه. ولكن إذا رأينا هذه الصحوة -التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل التوفيق رفيقها ومصاحبها، وأن ييسر لهم ما يهدفون إليه من تقويم الأمة، وتطبيق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم- إذا رأينا ذلك فإننا نعلق آمالاً عظيمة على هؤلاء وعلى مناهجهم، وعلى طريقتهم في الدعوة إلى الله وإلى الجهاد، ومعلوم أن الجهاد ليس طريقه مفروشاً بالورد، ولكنه مفروش بالشوك، ومفروش بالمتاعب، ولا بد في ذلك من الصبر والتحمل، ولا بد من الإصرار على إعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى، وتحكيم شرعه في جميع العالم الإسلامي على يد هؤلاء الشباب الذين نذروا أنفسهم ونذروا حياتهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى سبيله، وإلى نصرة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يوفقنا جميعاً لما يحبه ويرضاه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 25 قصيدة للشيخ عائض القرني أيها الإخوة: ومع قصيدة شعرية للشيخ عائض القرني، فليتفضل مشكوراً. قال الشيخ عائض بن عبد الله القرني حفظه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وفيهم مقامات الحسان وجوههم وأندية ينتابها النبل والفضل على مقتفيهم حق من يقتفيهم وعند المقلين السماحة والبذل وما كان من خير أتوه فإنما توارثه آباء آبائهم قبل وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخل جزى الله رب الناس خير جزائه وأبلاكمُ خير البلاء الذي يبلو أيها الناس: ليس عندي نثر كثير، ولكنْ عندي شيء من الشعر، وقبل أن أبدأ في القصيدة أنا أعلم أني في القصيم ولست في الرياض، ولكني سوف أخبركم بخبر سر بيني وبينكم، والمجالس بالأمانات، ومن شاء منكم أن يخبر به الناس فليفعل بعد أن يستأذن مني. الخبر: شكر يعلن في الأسواق والمساجد لأهل الرياض، وخبرٌ هو يخصني وما أنا إلا طويلب ممن حضر، لكن أمة لا تجحد ولا تجمد، تقول للمحسن: أحسنت، وتقول للمسيء: أسأت، أمة تشكر لعلمائها، وقضاتها، وخطبائها، ودعاتها، أمة يقول معصومها عليه الصلاة والسلام {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه} . أمة تقول لمن أحسن جزاك الله خيراً، أنا في القصيم ولست في الرياض، ولكني أقول لأهل الرياض: جزاهم الله خيراً، ولعلكم سوف تسمعون ببعض أخبارهم، ببعض أخبار علمائهم، كأمثال الشيخ عبد الله بن قعود، والشيخ ابن جبرين، والشيخ البراك، والشيخ حمود التويجري، والقضاة، والدعاة، والخطباء، ورجال الأعمال، فأخجلوني من كثرة الكرم، وكثرة التبجيل والحفاوة، فأبذلوا البيوت، والشراب، والطعام، والمال، والسيارات، والأوقات. جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت همُ خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت ولا زلت في الرياض، وأهل القصيم يعرفون ما هم في قلبي ولي معهم كلام خاص، لكنني الآن في الرياض، والقصيدة بعنوان (نجد الإباء ومهد البطولات) نجد الهدى والفجر يا أرض الحمى المجد فوق بساط سهوتك ارتمى قيس وليلى والكميت وجرول ودموع عشاق الفضيلة قد همى وهنا خيام الحب كل مفازة ملأى من الوصل المعطر واللمى صهوات خيل بني تميم أسرجت وسيوف وائل ضرجت منها الدماء وسل الخزامى في الدجى يروي الهوى غضاً ويلعب في العشية بالدمى هذي الجماجم كل جمجمة لها عهد من التاريخ ألا تحجما صلت على شفتيك يا نجد الحمى قبلات من زار الحطيم وزمزما وسقاك يا نجد الأبوة وابل بالحب يدلف بالحياة غطمطما ألقيت رحلي والعصا ووسادتي ووضعت رأسي فوق أرضك منعما ونثرت أحلام الشباب طرية في وجنتيك وقد نسيت المأتما وأتيت يا نجد الإباء مشاعري تمتاح منك وذا يراعي مفعما قد جئت والهمم الكبار رواحلي عاهدتها بالأمس أن تتقدما شيخي رسول الله أروي نهجه أحسو الهدى منه وأدني الأنجما أجد المتاعب في هواه لذيذة وكذاك يفعل من يعيش متيما من لم تلده أمة وشريعة غراء تبت فلتذقها علقما الأزد أنصار الرسول جدودنا هل أبصرت عيناك فينا مأثما؟ هم أهل بدر والمشاهد كلها لله كم من باسل قد أضرما تلك المكارم لا مساعي تائه يتجرع الصهبا ويهوى الدرهما يا نجد عندي ألف قافية همت في كل بيت ألف معنى قد هما من نجد تبدأ قصة الحق الذي هو حبل من عرف الطريق وألهما ولنجد في ذرات جسمي منزل يا نجد حبك في السويدا خيما علماؤها خطباؤها طلابها كم من كريم عاش فيهم ملهما أحببتكم في الله والله الذي شق القلوب لمن أراد وأنعما لو أن دمعي جدول وزعته أو أن عمري يستطاع لقسما شُم الأنوف كريمة أخلاقهم لا يسلمون الضيف حتى يكرما وأشد من ينهى الغوي عن الردى من طاش بغياً وشحوه الميسما يتهافت الدجال عند ظهوره من زحفهم حتى يعود محطما فاخر بهم من شئت أو ظاهر بهم فهم الشموس بنورهم يجلى العمى وصل الرياض مع القصيم بقبلة عانق بها جيل الهدى متبسما قد جئت من أبها وكل حديقة غرثى وكل خميلة ماتت ظما فركبت راحلة القبول مشرقاً ومغرباً والأرض حيت والسما والكون مدرستي وربي حافظي والشرع تاجي والهوية مسلما أما أهل القصيم فلهم يومٌ خالد من أيام الله سوف أدخره ليوم من الدهر، وأتيت أخبركم بما فعل أهل الرياض معي لئلا أكون جاحداً منكراً للجميل، لأقول للمحسن أحسنت، فقد أحسنوا كل الإحسان، وأحسنتم أنتم قبل وبعد أثابكم الله على هذا الحفل، وعلى هذا القيام لله، بما يرضى عنه سبحانه وتعالى، وأثاب علماءكم، ودعاتكم، وخطباءكم وحضوركم أجمل ثواب. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:181-182] وفي الحقيقة عندي قصيدة هنا بعنوان (أرض القداسات في القصيم) ولكني تذكرت هذه وقد سايرني بقصيدة أخرى الدكتور عبد الرحمن العشماوي عسى الله أن يحفظه ويسدده ويتولانا وإياه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا. المقدم: جزى الله الشيخ عائض خير الجزاء. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 26 كلمة للشيخ عبد الرحمن البراك ومع كلمة للشيخ عبد الرحمن البراك فليتفضل. قال الشيخ عبد الله البراك حفظه الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهداه وسلم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة في الله: أخاطبكم جميعاً بهذا اللقب لأنه وصف مشترك يجمع بيننا صغيرنا وكبيرنا، وإلا ففيكم من له حق علينا مشايخ لنا كرام، نسأل الله أن يرفع درجاتهم وأن يجزيهم خيراً، وإخوة نسأل الله أن يجمع بين قلوبنا على محبته سبحانه وتعالى. أيها الأحباب: إنه لجمعٌ يهيج مشاعر من يحضره، جمعٌ علام؟ جمعٌ على الخير، على العلم، على الحب في الله، نسأل الله أن يحقق لنا ذلك بمنه وكرمه. لقد جئت أيها الإخوة، وأجبت الدعوة، وما جئت إلا لأحضر، وأشجع بالحضور، وأسلم على أحبابٍ طالما انقطع بيني وبينهم اللقاء المباشر، وإن لم ينقطع اللقاء الثابت الدائم. ففي هذا اللقاء منافع كثيرة، لقاء الإخوة في الله، لقاءٌ يؤكد الحب في الله، لقاءٌ يؤكد الدعوة إلى الله، لقاءٌ يشجع الناشئين الذين نرجو أن يكونوا خلفاً صالحاً لأسلافهم. ولقد بدا لي أن أذكر بهذه المناسبة أن مثل هذا الجمع الذي يقوم على تشجيع العلم، وعلى تشجيع حفظة القرآن وحفظة السنة، تشجيعهم التشجيع المعنوي قبل المادي. وهذا الجمع الذي يضم أشتاتاً من أقطار متباعدة كما نُوه عن ذلك في الكلمات التي تضمنها الحفل، هذا الاجتماع أيها الأحباب يضم علماء، ويضم طلاب علم، يضم إخوة محبين في الله يحبون الخير وأهل الخير، ويعينون على الخير بأنفسهم وأموالهم، إنَّ مثل هذا في هذا العصر الذي أرى أنه أعظم العصور فتناً، فالصراع بين الحق والباطل أمر جارٍ وثابت على مر الزمن، سنة الله في خلقه، وما أسكن الله الجنس البشري في هذه الأرض إلا ليبتليه {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] . فالصراع بين الحق والباطل قائم على الدوام، ولكنه في بعض الأعصار وفي بعض الزمان تشتد المحن، وتشتد وتقوى قوى الباطل وقوى الشر، وأرى أن هذا الزمان قد قويت فيه قوى الشر، وعظمت فيه الفتنة لما مكن للبشرية من وسائل، ومن حكمة الله البالغة أن جرت هذه الوسائل على أيدي أمم الكفر، حكمة بالغة، المسلمون هم الأضعف الآن مادياً، ولا أقول: هم الأضعف معنوياً، فالمسلمون مهما بلغ بهم الضعف، فهم الأقوى وإن امتحنوا، وإن حصل لهم وحصل عليهم تسلط من الأعداء. لا سيما من كان مستقيماً على منهج الله، معتصماً بحبله، قد اتقى الله ما استطاع فلا يضره أن يفتقد كثيراً من القوى المادية فهي أحوال ومراحل، ولا بد أن تكون العاقبة للمؤمنين المتقين، الصابرين وإن مروا بمحنة، وهم منصورون على كل حال، منصورون في الدنيا وفي الآخرة، والنصر متنوع، وصوره متعددة {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] في الحياة الدنيا متعلق بننصر، أي: ننصر رسلنا وننصر الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، أي: قد وعد الله رسله والمؤمنين بالنصر في الدنيا والآخرة. ومع هذا البلاء العظيم، وهذه الفتن المدلهمة، والمتمثلة في قوى الباطل في سائر دول العالم، مع هذا ومع الكيد المتنوع المادي والمعنوي لا بد أن يبقى الحق ثابتاً، وهذا علمٌ من أعلام نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ضروري ولازم من ختم النبوة، فإذ قد ختمت النبوة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلا بد أن تبقى شريعته، ولا بد أن يبقى الدين الذي جاء به، لا بد أن يبقى لتبقى الحجة، ولا بقاء لهذا الدين إلا بحملته، وما أسعد من كان من حملة هذا الدين القائمين به قولاً وعملاً! أقول: إن مثل هذا التجمع العلمي الخيري الأخوي وما يجري على غراره؛ هذا يعبر عن خير في الأمة ولله الحمد، وعن خير في الأمة يرجى أن يظهر أكثر وأكثر وأن يعود، أقول: إنه علمٌ على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى يرجع إلى آية وحديث، أما الآية فقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] وعد صادق لا يخلف {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران:9] . وحفظ الذكر يستلزم حفظ القرآن، وحفظ ما يفسر القرآن وهو سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستلزم أن يبقى في هذه الأمة من يحمل القرآن نصاً ومعنى، وعملاً، أما الحديث فهو الحديث المشهور، قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يظرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى} . الجزء: 43 ¦ الصفحة: 27 قصيدة للشيخ ناصر الزهراني أيها الإخوة مسك الختام مع رياض الشعر، ومع الشاعر الشيخ ناصر الزهراني، فليتفضل الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. معذرة أيها الأحبة: فهده مقطوعة متواضعة كتبتها في طريقي إليكم: سلام قصيم المجد والعلم والذرى ومن خير أبناء الجزيرة عنصرا سلام لكم يا معدن العلم والتقى وأفضل من يعلو مقاماً ومنبرا هنا هامة التاريخ ذلت لربها هنا باء بالخسران من كان فاجرا هنا وثبات الجيل جيل محمد هنا يوم ميلادي أباهي به الورى رعى الله يا أرض القداسات ساعة قطعنا بها أرض المفازة في السرى أتينا ديار الخير والأنس والتقى على تربك الغالي نبث المشاعرا أتيناك جرحاً قد برانا ولوعة أتيناك آهات وشعراً محبرا أتيتك مكلوم الفؤاد منغصاً ودمعٌ غزيرٌ فوق خدي قد جرى أيا موطني قدمت روحي ومهجتي لتحيا عزيزاً شامخاً عالي الذرى أيا موطني ما كنتُ يوماً مخادعاً ولا خائناً للعهد أو متنكرا صدقتك في حبي وطلقت راحتي واضنيت نفسي كي أرى الجدب مزهرا ألا يا قصيم الحب تلك إشارة وكتمت في صدري من الحزن أسطرا أرى منظراً تهتز نفسي لمثله فكم من عيون سرها اليوم ما ترى ألا هكذا تبنى المعالي وتشترى بحفظ لهدي المصطفى سيد الورى فبالعلم علم الشرع سدنا وبالتقى مشينا على أنقاض كسرى وقيصرا وما قيمة الإنسان إلا بدينه فمن كان أتقى كان بالمجد أجدرا وكم من أخي كفر يغاظ بما يرى فيمسي كسيف البال مضنىً مكدرا يولي إلى أربابه في بلاهة ليروي لهم من خيبة الظن أسطرا فكم كان يرجو أن يرى الدين ضائعاً وأن يصبح الإنسان منه تحررا فأرهبهم إقبالنا والتزامنا وعودتنا الحرى إلى أوثق العرى تود وحوش الغاب أن نخسر المنى وألا ترى في الأرض يوماً غضنفرا وكم يكره الجعلان يوماً حياته إذا ما رأى جواً جميلاً معطرا أيا إخوة الإسلام تاقت إليكم قلوب تعاني من لظى الهم أعصرا فسيروا على درب الهداية والتقى فما خاب عبدٌ عاش لله شاكرا ولا بد من رأي قويٍّ موحدٍ وإلا رأيت الجهد جهداً مبعثرا وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 43 ¦ الصفحة: 28 هموم المرأة تحتوي هذه المادة على مجموعة من الأمور التي تهم المرأة وقد بدأ بمدخل عن كون النساء شقائق الرجال ، وأنها لم تخلق كما خلقت البهائم، ثم تكلم عن هموم المرأة، وركز اهتمامه على الموضة وأضرارها، وكيف الخلاص من هذا الداء ثم أجاب على الأسئلة. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 1 النساء شقائق الرجال إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلىآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هموم المرأة: هو الدرس الحادي والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الرابع عشر من ربيع الآخر، لسنة (1412هـ) . أيها الأحبة: أرى جمعكم في هذا اليوم أقل من المجلس السابق، ولا أدري أهو نوعٌ من الاحتجاج على معالجة قضايا المرأة، أم أنه تنفيذٌ لأوامر صدرت إليكم من جهةٍ مجهولة، وقد قرأت في بعض الطرائف، أنه أقيم معرض في مكانٍ ما، ووضع فيه لوحتان، كتب على أولاهما: الذين تطيعهم زوجاتهم، وكتب على اللوحة الثانية: يقف هنا الذين يطيعون زوجاتهم؛ فوقف أمام لوحة الذين يطيعون زوجاتهم طابورٌ طويل، أما اللوحة التي كتب عليها: الذين تطيعهم زوجاتهم، فلم يقف أمامها إلا رجلٌ واحد، فجاءت اللجنة المنظمة لهذا الاختبار، لتسأل هذا الرجل، إلى أي حدٍ تطيعه زوجته؟ فقالوا له: ما سر وقوفك هنا؟ قال: لأن زوجتي أمرتني بأن أقف هنا! أيها الأحبة: المرأة شقيقة الرجل وأخته، ونظيره في أصل الخلقة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . فالناس من جهة التمثيل أكفاءُ أبوهمُ آدمٌ والأم حواءُ فإن يكن لهمُ من أصلهم نسبٌ يفاخرون به فالطينُ والماءُ ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} [الأعراف:189] . فأصل الخلق وأصل البشر آدم عليه السلام، وقد خلقت منه حواء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: {إن المرأة خلقت من ضِلعٍ} كما في الصحيحين، وجاء عن ابن عباس: [[أنها خلقت من ضلع آدم عليه السلام]] ولهذا يقول الشاعر: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارُها أتجمع ضعفاً واقتدراً على الفتى أليس غريباً ضعفها واقتدارُها فالمرأة خلقت من الرجل، لكنها خلقت بطبيعة خاصة، فهي تحتاج إلى أن تعرفها المرأة ويعرفها الرجل، حتى يتم التعامل معها بصورة صحيحة، وبشكلٍ عام فإن نظرة الإسلام إلى المرأة يلخصها قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي روته عائشة رضي الله عنها كما في المسند، وسنن أبي داود وسنن الترمذي، ورواه أيضاً أنس، كما في مسند البزار، ومسند أبي عوانة، وسنن الدارمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما النساء شقائق الرجال} وهو حديث حسن، فالمرأة شقيقة الرجل، وهي جزءٌ منه، وهي أخته، وأمه، وزوجه، وقريبته. والمعاملة في الدنيا الأصل فيها التساوي، إلا ما نص الشرع على تمييز الرجل عن المرأة فيه، أو نص على تمييز المرأة عن الرجل فيه، وكذلك المعاملة في الدار الآخرة، قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء:124] . ولذلك فإنه من نافلة القول، ومن البدهيات التي لا تحتاج إلى تكرار، وهو أن نقول: إن المرأة جسد، وروح، وعقل، وحين نتحدث في هذا الدرس عن هموم المرأة، فإننا لن نقصر الحديث على الهموم المادية البحتة من مطعم ومشرب وملبس ومنكح؛ لأن هذه الهموم كلها تمثل الجانب الجسدي، في الرجل والمرأة على حدٍ سواء، وحصر الإنسان في هذه الهموم فقط -كما هو واقع في الحضارات المادية الغربية والشرقية اليوم هو نوعٌ من جعل الإنسان حيواناً لا هم له، إلا الأكل والشرب والسفاد، يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 2 الطبيعة البهيمية إن كون الإنسان في هذه الدنيا لا همَّ له إلا المتعة، بالأكل والشرب وبألوان المتع المادية الحسية، هو أمرٌ يشترك فيه الإنسان مع الحيوان، بل لا نبالغ إذا قلنا: إن الحيوان أقوى من الإنسان فيه، فالناس إذا رأوا إنساناً شرِهاً في الأكل، قالوا: هذا يأكل أكل البعير مثلاً، أو أكل الحمار، فالإنسان إذا كانت القضية مقصورة على الجوانب المادية، والمتع الحسية، فإن الحيوان فيها يكون أبرع من الإنسان وأكثر. وفي هذا المجال يعجبني ما ذكر الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه الجيد المفيد: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، وهو يتكلم عن الإنسان، فماذا يقول عن الإنسان؟ يقول: "لم أعن بالإنسان كل حيوان منتصب القامة، عريض الظهر، أملس البشرة، ضاحك الوجه، ممن ينطقون ولكن عن الهوى، ويتعلمون ولكن ما يضرهم ولا ينفعهم، ويعلمون ولكن ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، ويكتبون الكتاب بأيديهم، ولكن يقولون: هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ويجادلون ولكن بالباطل ليدحضوا به الحق، ويؤمنون ولكن بالجبت والطاغوت، ويعبدون ولكن من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، ويبيتون ولكن ما لا يرضى من القول، ويأتون الصلاة ولكن كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، ويصلون ولكنهم من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراءون ويمنعون الماعون، ويُذَكَّرون ولكن إذا ذكروا لا يذكرون، ويدعون ولكن مع الله آلهة أخرى، وينفقون ولكن لا ينفقون إلا وهم كارهون، ويحكمون ولكن حكم الجاهلية يبغون، ويخلقون ولكن يخلقون إفكاً، ويحلفون ولكن يحفلون بالله وهم كاذبون، فهؤلاء وإن كانوا بالصورة المحسوسة أناساً فهم بالصورة المعقولة لا ناسٌ ولا نسناس. والنسناس نوع من الحيوان الوهمي، الذي يدعون أنه يشبه الإنسان، مثل العنقاء، أي أنه حيوان وهمي لا وجود له كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: [[يا أشباه الرجال ولا رجال]] بل هم من الإنس المذكور في قوله تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . قال: وما أرى البحتري إذا اعتبر الناس بالخلق لا بالخلق متعدياً، في قوله: لم يبق من جُل هذا الناس باقية ينالها الوهم إلا هذه الصورُ -يقول: ما بقي من الناس إلا صورهم وأشكالهم، أما حقائقهم فاختفت وزالت- ولا من يقول في قصيدةٍ أخرى: فجلهمُ إذا فكرت فيهم حميرٌ أو ذئابٌ أو كلابُ ولا تحسبن هذه الأبيات أقوالاً شعرية وإطلاقاتٍ مجازية، فإن الله تعالى يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ". الجزء: 44 ¦ الصفحة: 3 المراد بهموم الإنسان إذاً نحن حين نتكلم عن هموم الإنسان، رجلاً كان أو امرأة، لا نقصد به هموم الجسد فحسب، ولا هموم المادة فسحب، ولا هموم الأشباح الحسية، وإنما نقصد هذه ونقصد معها هموم العقل وهموم الروح، التي بها تميز الإنسان وصار إنساناً، وأنقل لك ولكِ أختي المسلمة أيضاً، نصاً آخر عن الراغب في كتابه السالف الذكر أيضاً، وهو نصٌ جميل يقول: "جعل الله الإنسان سلالة العالم وزبدته، وهو المخصوص بالكرامة، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الاسراء:70] وجعل ما سواه كالمعونة له، كما قال الله تعالى في معرض الامتنان: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] قال: وليس فضله بقوة الجسم؛ فالفيل والبعير أقوى منه أجساماً، ولا بطول العمر في الدنيا، فالنسر أطول عمراً منه". وأقول من عندي: ذكر بعض الذين صنفوا في الحيوان كـ الجاحظ، والدميري وغيرهم، أن الضب أيضاً طويل العمر، حتى قال بعضهم: إنه يعيش إلى سبعمائة سنة، ولا أدري من هو الذي عاش سبعمائة سنة، حتى راقب الضب واكتشف أنه عاش هذه المدة الطويلة! المهم هذا مما قيل. يقول: فليس فضل الإنسان بقوة الجسم؛ فالفيل والبعير أقوى منه أجساماً، ولا بطول العمر في الدنيا؛ فالنسر والفيل أطول منه عمراً، ولا بشدة البطش؛ فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، ولا باللباس واللون؛ فالطاوس والدراج أحسن منه لباساً ولوناً، ولا بالقوة على النكاح؛ فالحمار والعصفور أقوى منه نكاحاً، ولا بكثرة الذهب والفضة؛ فالمعادن والجبال أكثر منه ذهباً وفضة. قال المتنبي: لولا العقولُ لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسانِ ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عوالي المرانِ أي لولا العقول التي ميز الله بها الناس، لكان الحيوان أدنى إلى الشرف من الإنسان، ولما تفاضل الناس فيما بينهم، ودبرت أيدي الأبطال الشجعان في المعارك الأسلحة التي يحملونها. يقول: وليس فضل الإنسان بعنصره الموجود منه، كما زعم إبليس حيث قال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] بل ذلك بما خصه الله تعالى به من المعنى الذي ضمنه فيه، والأمر الذي رشحه له، وقد أشار إليه بقوله تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] وقوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75] . إذاً ميزة الإنسان أن الله تعالى خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه، فوقع الملائكة له ساجدين، أعني آدم عليه السلام، ثم كانت سلالته مفضلة على بقية الخلق بالعقل والروح والتكليف، فميزهم الله تعالى وفضلهم على كثيرٍ ممن خلق تفضيلاً. قد رشحوك لأمرٍ لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهملِ الجزء: 44 ¦ الصفحة: 4 مكانة المرأة في الإسلام إذاً فنحن ننظر للمرأة على أنها الجزء الآخر من الحياة، والوجه الثاني من المجتمع، ونعتبر الذين ينظرون إلى المرأة، على أنها مجرد أداة لترويج بعض البضائع والسلع، أو مادة للإعلانات التجارية كما يحصل في التلفاز وغيره، أو أنها صورة للإغراء على غلاف مجلة، حتى يقبل عليها المراهقون، أنهم يستخدمون من المرأة الجانب الجسدي فحسب، ويحرضون فتيات المجتمع على العناية بالجانب الجسدي وحده، فنحن نعلم جميعاً -ولا يختلف منا اثنان في هذا- أن الذين يقدمون المرأة في إعلانٍ تجاري في التلفاز، أو على صورة غلاف في مجلة، لا يقدمون للناس الفتاة العاقلة، ولا يقدمون الفتاة الخلوقة، ولا يقدمون الفتاة الذكية، ولا يقدمون الفتاة المتدينة، ولا يقدمون الفتاة البارة، ولا يقدمون الفتاة القادرة على صناعة الحياة، وصناعة السعادة، كلا، إنما يقدمون الفتاة الجميلة!!. وهم بهذا يقولون لفتيات المجتمع: إن الأهمية هي للجانب الجسدي فحسب، وهي للجمال فقط!! وهذا في الواقع إجحافٌ بحق المرأة ذاتها، قبل أن يكون إهداراً لكرامة الإنسان، وذلك أن الفتيات الجميلات من المجتمع يشكلن في كل المجتمعات نسبة معينة افرض أنها (20%) أو (25%) أفلا يعني ذلك أن هؤلاء يحتقرون ثلاثة أضعاف المجتمع؛ لأنهن لا يتميزن بالجانب الجسدي البارز لديهم؟! ثم حتى هذه الجميلة، ماذا قدموا لها؟ إنما جعلوها ألعوبة ومطية للوصول إلى أغراضهم، وجعلوها أداة لترويج بضائعهم، ولأخذ الأموال من جيوب الناس وسرقتها من الفقراء؛ حتى يثروا على حساب الآخرين، فهم في الواقع حطموا جنس الإنسان أولاً، وحطموا عنصر المرأة بالذات ثانياً، فأولى طبقات المجتمع بأن تحارب هذه النوعية من الناس هي المرأة، لأنهم يوجهون إلى المرأة تهمة خطيرة، ويحقرون المرأة بما فيه الكفاية. إن صناعة الإعلام في العالم كله -أيها الأحبة- تقوم عليها اليوم شركات تستخدم من المرأة أداة ترويج لكل شيء، حتى أخص خصائص المرأة تستخدمها شركات الإعلام والإعلان في أغراضٍ لا تمتُّ إلى المرأة بصلة، لا من قريب ولا من بعيد، وربما وجدت إعلاناً عن بعض المعدات الثقيلة، أو الدركترات أو غيرها، أو السيارات، فوجدت أنهم يعلنون عن ذلك، ويلفتون نظر المشاهد من خلال صورة امرأة جميلة. ونحن لا ننكر الجانب المادي من المرأة، ولذلك سنتحدث في هذه الحلقة وفي حلقات قادمة -إذ قد لا يتسع الحديث الآن لكل شيء- عن الجوانب المادية من المرأة، فسأتحدث عن الموضة والشعر والزواج والمنزل وغيرها، ولكننا سنضيف إليه الجانب الأخلاقي والمعنوي من المرأة، فنتحدث -مثلاً- عن العبادة، وعن الدعوة، وعن أحوال القلب، وعن الأسرة، وعن العمل، وعن الدراسة، وعن الأشياء الأخرى التي تحتاج المرأة إلى الحديث عنها. أيها الإخوة والأخوات، كنا بالأمس نسمع بعض الناس يتحدثون عن غياب المرأة، أو غياب الفتاة عن مجالات الإبداع، والأدب، والشعر، والقصة، والنقد، وضعف مشاركتها في هذا المجال، ليس في هذه البلاد فحسب، بل في بلادٍ أخرى كثيرة، فإذا برزت امرأة وكتبت مقالة، أو قصة أو قصيدة أو أخرجت ديواناً، صفقوا وطبلوا، وحاولوا أن يبرزوا هذا من أجل دعوة الأخريات للمشاركة والمساهمة، أما اليوم فإذا بنا نجد أن الأمر تحول إلى مجالات الشعر الشعبي مثلاً، الذي لا يعني أكثر من مغازلات مكشوفة على صفحات الجرائد؛ التي أصبحت تخشى من الكساد، فتتلاعب بمشاعر المراهقين والمراهقات دون رقيبٍ ولا حسيب، فاليوم نقرأ قصيدة شعبية لفتاة، وغداً قصيدة شعبية لفتى، تدور حول عبارات الحب والغزل والغرام والتغني بالحبيب، والشوق إلى لقائه، وشتم العادات والتقاليد على حد تعبيرهم، التي تحول بينهم وبين ما يشتهون. وتصور فئة قليلة من المجتمع على أنهم يمثلون طبقة الشباب، أو طبقات الفتيات كلهن، بل تطور الأمر أكثر من ذلك، فأصبحنا نجد بعض الصحف الرياضية تنذر بقدوم الأقلام النسائية على صفحاتها الباهتة، وتستفز مشاعر المجتمع بهذه الطريقة الغريبة، ولما لم تجد هذه الصفحات ومن ورائها، تجاوباً من بنات هذا المجتمع، صارت تكتب بأقلامٍ رمزية وتستعير أسماء وهمية للنساء، لا وجود لها إلا في خيال المرضى الذين صنعوها واختلقوها، فهذه مثلاً فتاة كذا، وهذه بنت بريدة، وهذه فتاة الحفر، وهذه مشجعة هلالية، وهذه فتاة نصراوية، وهذه وهذه الخ، وبعناوين ملفتة، فلانة ترد على فلان، أو عنوان آخر: بنات يهاجمن فلاناً، إثارة مكشوفة، دعوة البنات إلى المساهمة في مجال الكتابة الرياضية، تمهيداً لبروزهن ومشاركتهن ومطالبتهن بالرياضة، وكأن هذه الجريدة الباهتة، تستجدي بناتنا أن يكتبنَ إليها تجاوباً معها، بعد ما استثارت، أو حاولت أن تستثير مشاعرهن للكتابة. وأنا بطبيعة الحال لستُ أنكر أنّ في مجتمعنا بعض الفتيات المخدوعات، لكنني أعلم علم اليقين -ويعلم غيري- طرائق بعض غلمان الصحافة، لجر الفتيات إلى ما يريدون، وطرائقهم إيضاً في طرح الموضوعات النسائية بأسلوبهم الخاص. ونحن نخاطب أولاً الإخوة القائمين على تلك الصحف، أن يتقوا الله تعالى في بنات المسلمين، فلسنا بحاجة إلى مثل هذه الهموم الرياضية الجديدة إن صح التعبير، التي يريدون أن يغرقوا فيها بنات المسلمين، وكفى ما نال شبابنا من الضياع على مدرجات الكرة، وكفى ما نال شبابنا من الضياع على الأرصفة. ونخاطب ثانياً أولياء أمور البنات والشباب في بيوتهم، أن يراقبوا بيوتهم جيداً، فمن غير المعقولٍ -أيها الأب الكريم- أبداً أن تشتري جهاز التلفاز، وتضعه في البيت، ولا تدري ماذا يحدث بعد ذلك، فأقل ما نستطيع أن نقوله لك: إن هذا الجهاز يعرض المباريات الرياضية، وليس ببعيد، أن يكون من بين اللاعبين -وهم يظهرون بصورةٍ تبرز أكثر أجسامهم- من يلفت نظر الفتيات، فيكون مجالاً للإغراء، ومجالاً للإعجاب، ومجالاً للحديث، ومجالاً للاتصال، وربما اتصلت فتاة تسبق دمعتها كلمتها، تقول: كنتُ أسخر ممن يقولون: أخرجوا التلفاز من البيوت، واليوم عرفتُ لماذا يطالب الصالحون بإخراجه من البيوت، لأنني وقعت ضحيته، ووقعت في هوى من لو جاء يخطبني من الباب ما قبلته، ولكنها بلوى الفؤاد. كما أننا نخاطب القائمين على رقابة الصحف في كل مكان، ألّا يسمح بنشر مثل هذا الهراء، ومثل هذا الهوس الكروي على صفحات الجرائد والمجلات، حفاظاً على أخلاقيات الأمة، وحفاظاً على المستوى الذي نريده لصحافتنا! أما بعد: الجزء: 44 ¦ الصفحة: 5 هموم المرأة فالهموم التي سأتحدث عنها كثيرة، وسأبدؤها بهمّ هو لا شك ليس أكبرها ولا أعظمها، ولكن هكذا بدأت به، ثم شعرتُ بأن الوقت لا يتسع لغيره. إذاً فترتيب هذه النقاط التي سأتحدث عنها لا يخضع لأهميتها، بل بالعكس، ربما كان الموضوع الأول، ينبغي أن يكون هو آخر الموضوعات، ليس أهمها بل هو في آخرها، أو من آخرها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 6 همُّ الموضة والموضة كلمة أجنبية إنجليزية معناها: على الطراز الحديث أو الجديد، أو آخر زي، والإنسان الذي يتبع الموضة أولاً بأول، ذكراً أو أنثى، يطلق عليه عندهم: مودرن، أي عصري أو جديد، وهذه الألفاظ البراقة، مثل طراز حديث، أو آخر زي، أو موضة، وهذه الألفاظ تختلب ألباب السطحيين دائماً، وتجعلهم يسيرون في ركابها، لأنهم غير مستقلين في حكمهم على الأشياء بل هم تابعون لغيرهم، فلا يحبون أن يكونوا متأخرين في نظر الناس، أو رجعيين أو متخلفين، أو كما تقول بعض البنات: دقة قديمة، وهذا إذا رأت امرأة لا تتابع الموضة، فتقول: هذه دقة قديمة، ومن قبل سميت الخمر مشروبات روحية، وسمي الزنا حباً وغراماً عند بعضهم، وسمي الانحلال والفجور وكشف العورات فناً، وسميت عبودية الأجسام رياضة. وفي المقابل يحرص الغرب على تسمية الإسلام بالرجعية، وكثيراً ما يطلق الآخرون على المتدين بأنه معقد أو طائفي أو متطرف أو أصولي أو ما أشبه ذلك من العبارات التي يقلبون بها الحقائق، من أجل تنفير الناس عن هذا الأمر، أو دعوتهم إلى ضده. والموضة هي فنٌ مستقل أيضاً، قائم بذاته، له في الغرب والشرق دورٌ كبيرة، ودور العرض أيضاً موجودة مع الأسف حتى في بلاد الإسلام، بل حتى في كثيرٍ من البلاد المحافظة، حيث يضعون صالات العرض -عرض الأزياء- انتظاراً لوجود فرص تتيح لهم أن يقوموا بالعرض، فأماكن العرض مستمرة، والحفلات الساهرة تستنزف ملايين الريالات، وهناك برامج إذاعية وتلفازية، تهتم بالموضة، وليس بغريبٍ فقد أعلنت الصحف في هذه الأيام عن مركز تلفزيون الشرق الأوسط، وهذا المركز يبث من لندن إلى العالم، وإلى العالم العربي بالذات، ومن ضمن البرامج التي أعلنوا عنها -لدعوة الناس ولفت نظرهم إلى هذا المركز- برنامج دنيا الموضة!! وهو في طليعة البرامج التي يبشرون بها الجماهير!! وإن مما يلفت النظر بالمناسبة، أنني قد قرأت في الأمس في جريدة الرياض إعلاناً غريباً جداً، وهو إعلان عن إيريال هوائي خفيف صغير الحجم، ثمنه معقول، يباع في محل مجهول لا يُعْرَف مكانه إلا من خلال الهاتف، والخطوط التلفونية الضخمة التي تدل على توقع الإقبال الكبير عليه، وهذا الإيريال يستقبل مركز تلفزيون الشرق الأوسط، الذي يبث من بريطانيا، والمحطة المصرية، ومحطة الهند، ويحتمل إضافة محطات أخرى، وهو خفيف التركيب سهل الأداء، وبطبيعة الحال سيكون سعره معقولاً، وليس مثل الأشياء الغالية الأخرى، الأقراص التي قد تصل إلى عشرات الآلاف من الريالات، أما هذا فسيكون أقل حتى يتسنى للآخرين الاستفادة منه، وربما قالوا: إنه صنع خصيصاً للشرق الأوسط، فلستُ أستبعدُ أبداً أن يكون روعي في صناعته بشكل خاص؛ أنه يمكن وضعه في البيت دون أن يدرك الآخرون ذلك، بحيث لا يدري الناس إن كان هذا البيت يستقبل البث الخارجي أو لا يستقبل، لأن هذا الإيريال صغير ومعقول، ولا يشاهد بصورة واضحة كما تشاهد الأقراص الكبيرة. وهذا جزء من الغزو الخطير الكبير، ونحن نتذكر في هذه المناسبة قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] . إنها حضارة جديدة، وثقافة جديدة، وتعاليم جديدة، بل أقول بكل وضوح: إنه دين جديد يقدم للناس كبديل عن دين الإسلام. فإذا كان الإسلام ينظم حياة الإنسان من يوم يولد إلى أن يموت، فالإسلام يستلم الإنسان يوم يولد، بل قبل الولادة، حتى وهو في بطن أمه، ويوم يولد، يستلمه الإسلام فيقترح الاسم المناسب، ويذكر الأسماء الممنوعة مثلاً، إلى أن يموت، فيذكر مثلاً طريقة دفن الميت، وما بين ذلك كله دين، ينظم لك من إلى، فما يعرض من خلال قنوات البث الإعلامية هو دينٌ جديد بديل عن الإسلام، يستلم الإنسان منذُ نعومة أظفاره، ومنذُ طفولته، فيما يسمى بأفلام الكرتون وغيرها، إلى أن يلفظ آخر نفس في حياته، وهو ينظم له برنامج حياته كاملاً. فهذه قضية يجب أن تكون واضحة للعيان، وأن ندرك حجم الخطر، وكيف نواجه مثل هذه المخاطر التي تهدد المسلمين، المهم أن أقول: إن دنيا الموضة هي من أهم البرامج التي يبشرون بها في هذا المركز. أما المرأة فإنما يبشرون بدنيا الموضة لها، لكي تطلع على آخر صرعات الموضة ساعة بساعة، بل دقيقة بدقيقة، وأما الرجل فلكي يستمتع بمشاهدة اللحوم الآدمية، التي تتخصص في تهييج الغرائز وإثارتها باسم الفن والعرض والرقص الخ. خاصة وقد نشرت جريدة الشرق الأوسط أيضاً، في عدد الجمعة مقالاً ضافياً واسعاً، بعنوان: لندن تستعيد مكانتها الدولية في عالم الأناقة والموضة. أيها الأحبة وأيها الأخوات! للموضة قانونٌ صارخ، لا يجوز في عرف ودين ملوك الموضة تعديه، ويسهر على حماية هذ القانون جموعٌ من ضعفاء العقول المجندين لخدمة رجال الموضة ودورها وبيوتها، إذا رأى هؤلاء الرجال أو النساء المرأة مثلاً تلبس أزياء السهرة في الصباح، أو أزياء الصباح في الظهيرة، أو أزياء الليل في النهار، أو أزياء النهار في الليل، أو أزياء فصل الربيع في الخريف، أوالعكس، تغامزوا وتضاحكوا وتقهقهوا، كأنهم رأوا إنساناً قد هبط عليهم من عالمٍ آخر، أو من كوكبٍ آخر. وبذلك يحكمون القبضة، فلا يستطيع إنسان أن يخرج عن رموزهم وعن رسومهم وعن طقوسهم وعن شرائعهم في عالم الموضة، وليس الفرق فيما يتعلق بالموضة في سماكة الثوب، وأن منه للصيف ثوب، ومنه للشتاء ثوب، أو شفافيته، كلا، بل تعدى الأمر إلى الألوان، والخيوط، والخطوط، والتصميمات، والأشكال، والأحجام إلى غيرها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 7 المكياج ويتبع ذلك أيضاً المكياج، فهناك عشرات الألوان مما يسمى بأحمر الشفاة، وعدة ألوان من ظلال العيون، وأغلبها ذلك اللون الأحمر الباهت الذي يجعل المرأة التي تطلي به جفنيها، وكأن جفنيها متورمان من شدة البكاء، وكأنها امرأة حزينة قد ابتليت بمصيبة، وهذا يصبح موضة أو عادة لا تملك الفتاة إلا أن تخضع له، ويصبح حسناً في عينها، ولو كان قبيحاً في عينها قبل قليل. ومن الغريب أن الوشم وهو ظاهرة قديمة، يسعى إلى إخراج الدم من الجلد عن طريق الوخز أو غيره، ثم يثبت بذلك ويصبح ألواناً ثابتة في الجسد، هذا الوشم كان موجوداً عند أهل البادية في الزمان القديم، ومرَّ وقت شنت عليه الصحافة والكتب والمحاضرات وغيرها حملة شعواء، وأن هذا تشويه للإنسان، وهذا، وهذا إلخ. أما الآن فعاد الوشم من جديد لأنه قانون الموضة الصارم الذي يفرض على الجميع، فعاد الوشم من جديد، ولا تستغرب ولا تستغربي أبداً أن تجدي فتاةً يوماً من الأيام، وقد وشمت في وجهها، أو في يديها، أو في أي موضع من جسمها بلا استثناء، صوراً، أو ألواناً أو زهوراً أو أشياء معينة، لأن هذا قانون الموضة الجديد. ثم هناك أيضاً من ألوان المكاييج مكياج خاص للون الأسمر، ومكياج خاص للأشقر، وثالث ورابع وخامس، وهناك أدهان منوعة، لحفظ البشرة، وأخرى لترطيبها، وثالثة لتغذيتها، ورابعة لتنظيفها، وخامسة لتثبيت المكياج، وسادسة لإزالته، وسابعة وثامنة وتاسعة إلخ. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 8 تسريحات الشعر وهناك تسريحات الشعر، وهي شيءٌ آخر، وكل موضة لها تسريحة تخصها، والذين يتبعون هذه الموضة، أو هذه التسريحة لا يملكون إلا أن يخضعوا لرسومها، فإذا كانت رسوم الموضة تقتضي أن يكون الشعر منتفشاً مجعداً، فإنه لا بد من فعل ذلك، حتى ولو كانت الفتاة ذات شعرٍ ناعم، تتفاخر بنعومته في الأمس، فإنها اليوم تسعى بألوان المعالجات المختلفة حتى يصبح شعرها متثنياً ومجعداً، وإذا كانت الموضة بعكس ذلك، فإنها تسعى بقدر ما تستطيع، من خلال الكوافير وغيرها إلى أن يكون شعرها ناعماً مسترسلاً، وليس المهم هو أن يعجبها هذا أو ذاك، إنما المهم هو متابعة قانون الموضة، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، وألا تخرج عنه بحالٍ من الأحوال. وهذه لا شك أنواعٌ من الأشياء التي أتتنا عن طريق الغرب، وأصبحنا نسير فيها حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلناه، وهناك أنواع بطبيعة الحال من البودرة والعطور، وطلاء الأظافر، ومن التسريحات التي نسمع بها في مجتمعنا: تسريحات الكاريه، والقصة الفرنسية، وآخر ما سمعت من صرعات التسريحات: عاصفة الصحراء!! الجزء: 44 ¦ الصفحة: 9 شباب الموضة وكما أن هناك موضات للنساء فيجب أن نعلم أيضاً أن الرجال لهم كذلك موضات خاصة، ولا بد أن بعضكم مرَّ على أماكن الحلاقة بالنسبة للرجال، ووجد أنواع القصات للشباب، فالرجال أيضاً لهم موضات خاصة، ونقوش وألوان وخامات تصنع منها الثياب والقمصان، وهي تستهدف إلحاق الرجال بالنساء، فهناك السلاسل الذهبية التي يلبسها بعض الشباب، وهناك قصات الشعر كما أسلفت، وهناك تشجيعهم على حلق اللحية، واعتبار أن إعفاءها نوعٌ من التخلف، فهذا قانون الموضة، وهو يخالف شريعة الله تعالى، ومع ذلك فيتبعون قانون الموضة! ومن الطريف أنه في أكثر من بلد إسلامي -وأقول بين قوسين: إسلامي باعتبار ما كان- يحارون حين يريدون أن يضعوا لوحة على حمامات النساء، وحمامات الرجال، كيف يميزون أن هذه الحمامات للرجال، وهذه الحمامات للنساء؟ وذلك لأن الفوارق عندهم ذابت أو كادت أن تذوب بين الرجل والمرأة، وقد رأيت بعيني أنهم -أحياناً- يضعون على حمامات الرجال صورة إنسان وبفمه ما يسمى بالغليون، لأنه لا يوجد شيء يميزون به الرجل، إلا أنه أكثر تدخيناً من المرأة، فيضعون صورة إنسان، -لا أقول: رجل، لأنه لا يتميز أنه رجل أو امرأة- المهم في فمه الغليون، فتدخين الغليون دليل على أن دورات المياه هذه خاصة بالرجال. وأحياناً يضعون صورة حذاء بكعبٍ عالي، وكأنه لم يبق من ميزة المرأة إلا الكعب العالي، وأحياناً ثوباً قصيراً ميزة للمرأة، لأن المرأة تلبس ثوباً قصيراً، أما الرجل فثوبه إلى ما تحت الكعبين، وهذا مع الأسف موجود حتى في هذا البلد، في أكثر من مكان، وربما تراه في بعض المطارات أحياناً، وذات مرة، قررت الموضة أن تجعل من رسومها إعفاء اللحية، فسارع المفتونون بالموضة إلى إعفاء اللحية، ثم عادوا إلى حلقها من جديد، حينما تغيرت الموضة واختلفت. ونحن نجد مع الأسف الشديد، أن من الأجانب، من العظماء عندهم ومن نخبتهم الممتازة، ممن يسمونهم برجال الدين ومن المفكرين، ومن الرسامين، ومن الفلاسفة، ومن أصحاب العقليات الفذة والعباقرة عندهم من يعفون لحاهم، ويفتخرون بها، ويظهرون في صورهم بلحاهم الكثة، وفي كثير من بلاد الإسلام، صار حتى العلماء والفقهاء والوعاظ يتحرجون من إعفاء اللحية، ويحلقونها ليعبروا على الأقل للآخرين عن مرونتهم وتسامحهم، ويتخلصوا من وصمة التطرف والتخلف التي يخشون أن تلصقها بهم جهة من الجهات. فلقد صارت الموضة، وملاحقة الموضة هماً يعيشُ مع الفتى ومع الفتاة ليلاً ونهاراً، حتى والفتاة على مقاعد الدراسة! وليسمح لي الجميع أن أذكر لكم نكتة مصنعة محلياً، فهي ليست حقيقة على كل حال، وهذه النكتة تقول: إن المدرسة -وهي مدرسة المواد الشرعية- سألت الطالبة وقالت لها: ما هي أسباب سجود السهو؟ أي: متى يشرع للإنسان أن يسجد سجود السهو؟ فتوقفت الطالبة حائرة، لا تعرف ما هو الجواب، فساعدتها المدرسة في بعض الإجابة، قالت لها: يا ابنتي يشرع سجود السهو إما لزيادة، أو لنقص، أو لشك، أو؟ فقالت الفتاة: أو تطريز!! وعلى كل حال: أرجو ألا يكون هذا مدعاة إلى شيءٍ آخر، فنحن نتحدث عن عينة فقط، ولا أحد يستطيع أن ينكر وجودها. والحمد لله في المقابل هناك عينات كثيرة جداً، وهي الغالبية إن شاء الله، في أكثر من مكان، وأكثر من ميدان، من فتياتنا من ترفعنَّ عن هذا المستوى، بل أصبحنَ بحاجة إلى من يحثهنَّ على المحافظة على قدر من العناية بالنفس، كما سأتحدث بعد قليل. وهناك قصة واقعية، وهي لمعيدة جامعية سمراء اللون وسمراء الشعر، حيث إنها جاءت يوماً من الأيام إلى مدرستها، وقد صبغت شعرها باللون الذهبي، ثم أخذت تتحدث عن سر هذه الصبغة باللون الذهبي، وهو لونٌ لا يتناسب إلا مع اللون الأبيض، فذكرت هذه الفتاة لبعض زميلاتها أن لها أخاً يدرس في أوروبا، وقد تزوج بفتاةٍ أوروبية، فلما أراد أن يزور مسقط رأسه -البلد الذي هو منه- سارعت أخته بصبغ شعرها باللون الذهبي الذي هو لون شعر الأوروبيين، وهو السائد هناك!! حتى لا تبدو تلك الفتاة العربية أقل جمالاً وجاذبية من زوجة أخيها الأوروبية، وفاتها أن في السمراوات من هي أشد جمالاً وجاذبيةً من غيرهن، لأن الجمال لا تحده الأصباغ والألوان، والذهبي لا يناسب مطلقاً تلك الفتاة، بل يجعل من شعرها أضحوكةً للأخريات، فذهبت تلك الفتاة إلى المطار، تستقبل أخاها وزوجته الأوروبية، وفوجئت بالعروس الأوروبية، وقد ارتدت ثياباً فضفاضةً طويلةً، واحتشمت وغطت رأسها بخمار، فلم يبدُ من شعرها الذهبي الحقيقي خصلة واحدة، وبلغ السيل الزُبى، وغضبت هذه الفتاة أشد الغضب، عندما استضافت أخاها وزوجته الأوروبية في بيتها، فرأتها تسارع إلى الوضوء والصلاة، كلما طرق الأذان مسمعها، وتقول لمن حولها: الصلاةَ الصلاةَ!! بينما تغطُ تلك المعيدة في نومٍ عميق، أو تتشاغل بأي عمل جانبي؛ لتخفي عار تركها لهذه الفريضة التي هي الفاصل بيننا وبين الكافرين، كما في الحديث: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فما كان من زوج تلك الفتاة العربية إلا أن استقبح أفعال زوجته، وبدت له وكأنها حيوانٌ لا هم لها إلا الأكل والشرب واللهو فحسب، فكان يعاتبها، مقارناً أفعالها بأفعال تلك الفتاة المسلمة الأوروبية، فما كان منها إلا أن طردت أخاها وزوجته المؤمنة من المنزل، قائلةً: إنكما ستخربان بيتي، فاختارا مكاناً آخر ليقيما فيه. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 10 أضرار الموضة وللموضة أضرار كبيرة جداً، لا أستطيع أن أتحدث عنها، بل هناك كتاب خاص وهو جيد جداً، لـ فاطمة عبد الله عن الموضة وحكمها، أنصح بقراءته واقتنائه، لكن من أضرار الموضة بشكلٍ عام: الجزء: 44 ¦ الصفحة: 11 الاستنزاف المادي أولاً: إذا كانت المعلمة أو الموظفة تقبض في نهاية الشهر مرتباً ضخماً، فإنها لو اهتمت بمتابعة الموضة أولاً بأول، فمن المؤكد أن هذا الراتب قد لا يكفي لمتابعة الموضة والعناية برسومها وطقوسها وتقاليدها، وهذا لا شك فيه إهدارٌ لاقتصاد الأمة بشكل عام، وفيه إهدار لحياة هذه الفتاة، التي أصبحت تحيا للتتجمل، وتلبس اللباس الحسن، وتعتني بشعرها، ومكياجها، ولون بشرتها. كما أن فيه تضييعاً لهذا المال، الذي كان من المفروض أن يصرف في المصارف الشرعية، مثل الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين والأهل والأقارب وسبل الخير، أو على الأقل أن تحفظه المرأة لنفسها، فربما تحتاج يوماً من الدهر، أو لأولادها، فربما يموت زوجها، فتكون محتاجة إلى ذلك، أو مساعدة زوجها على تكاليف الحياة، فضلاً عن أن تقوم المرأة، إضافةً إلى ما تنفق من نفسها، بمطالبة زوجها بمزيدٍ من الرسوم الباهضة والتكاليف. ولو أن إنساناً خبيراً في الاقتصاد، حسب الأموال الضائعة التي تذهب إلى جيوب اليهود وإلى غير اليهود من رجال الموضة، لوجد أن اقتصاد الأمة في خطر، من جراء هذه الأموال التي تذهب إليهم عن هذا السبيل. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 12 التحطيم المعنوي لإنسانية الإنسان ثانياً: كما أن من أضرار الموضة التحطيم المعنوي لإنسانية الإنسان؛ لأن أبرز سمات الموضة هي التلاعب بإظهار أجزاء جديدة من جسم المرأة، وبطريقة جديدة أيضاً، ولا أبالغ إذا قلتُ أحياناً: إن العري الكامل الذي يعيشه الإنسان في الغابة أخف وألطف بكثير من ذلك العري المتفنن الذي تبدو به المرأة وهي تتابع الموضة أولاً بأول، وتخضع لرسومها الملزمة، وإذا ما بدا من المرأة أي تمنع تجاه رسوم الموضة، صدرت التعليقات بأنها لا تزال تعيش بعقلية ريفية، وأنها فتاة قروية، لا تزال تمارس أخلاق القرية، وقد سمعت هذا بأذني. وإذا كان هدف اللباس في الإسلام هو ستر جسد المرأة وحمايته من العيون النهمة والنظرات الجائعة، فإن هدف اللباس الغربي هو التفنن في كشف جسد المرأة، وقد قال الله عز وجل: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20] فهذه من مهمات إبليس وجنوده: {لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:20] وقال سبحانه: {فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} [الأعراف:22] وقال سبحانه: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا} [الأعراف:27] وقال جل وعلا: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] . والموضة لعبة -أيها الأخ وأيتها الأخت- وإذا دل اسم الموضة على التجديد والحداثة، وأن الموضة زي جديد، فحقيقة الموضة أنها عودة إلى القديم، وعودة إلى الوراء، فالملابس القصيرة مثلاً وجدت في أيام الفراعنة، وجددتها الموضة، وفتحات الفساتين الموجودة الآن، وجدت في فرنسا قبل عهد نابليون، وأطلق عليها القسس وقد حاربوها حين ذاك: نوافذ الجحيم. وكثيراً ما تكتب بعض المجلات النسائية تحت زيٍ حديث، وموضة جديدة، تكتب عبارة: ملابس جدتي أصبحت موضة! إذاً فالتي تريد أن تسبق الموضة، عليها أن تحافظ على القديم الذي هي عليه، وبعد زمانٍ طويل سوف ترجع النساء الأخريات إليها. وقد رأيت بعيني الموضة في أكثر من بلد غربي، فوجدت كثيراً من الشباب والفتيات يعتبرون أن الموضة هي لبس ما يسمى بالجنز القديم الممزق، فيشتري الشاب منهم أو الفتاة لباس الجنز، ويقوم بتمزيقه بنفسه بطريقةٍ معينة، فيشققه هنا وهناك من عند الركبة ومن أمام ومن فوق ومن تحت وهكذا، ويشقق أسفله، ثم يمشي به، فيصبح ثوباً مهماً عندهم، وقد يبيعه بأضعاف ثمنه الذي اشتراه به وهو جديد!!! فما دامت هذه رسوم الموضة، فإنهم يتبعونها؛ لأنهم في الغرب ليس عندهم إلا هذه القضية، وكل يوم عندهم جديد، لكن العجب من أناس ينتسبون إلى الإسلام، وهم من أهل الإسلام، وعندهم هذا القرآن، وعندهم هذا الدين، وعندهم هذا التميز، ومع ذلك رضوا من أنفسهم ومن عقولهم ومن استقلاليتهم، بأن يكونوا مجرد أتباع لملوك الموضة، بل لزبانية الموضة الذين يصدرونها في دور الغرب والشرق، ثم يتلقفها المسلمون وتتلقفها المسلمات دون وعي ولا بصيرة. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 13 تنبيهات للمرأة وأود في نهاية الحديث عن الموضة، أن أوضح أموراً في غاية الأهمية، وأريد أن أقول بين يدي ذلك الكلام -الذي قلته قبل قليل-: الموضة ليست هي أهم شيء، والحديث عن لباس المرأة ليس هو أهم شيء، لأننا اتفقنا على أن قيمة الإنسان ليست بلباسه، بل قيمة الإنسان بعقله وروحه وقلبه وإيمانه ودينه وصلاحه، واللباس دوره بعد ذلك، فهو أمرٌ ثانوي: يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ لكن مع ذلك هذا هو الموضوع الذي بدأت فيه، وأرجو عدم المؤاخذة إذا تناولت بعض القضايا التي يراها بعض الناس قضايا جزئية أو قضايا ثانوية، لأنه لا ينبغي أن تحكم على الموضوع إلا بعد أن يكتمل من كل جوانبه. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 14 التساهل في الحجاب النقطة الثالثة: هناك ظواهر سلبية جانبية، لا بد من لفت النظر إليها، وذلك مثل طريقة بعض الأخوات حتى من المحجبات، في لبس غطاء الوجه، أو لبس العباءه، أو لبس ما يسمونه بالكاب، الذي ظهر في هذه الأيام، ولا أريد أن أطيل التفصيل في هذه النقطة، لكن أترك التصوير الدقيق لإحدى الأخوات الغيورات التي كتبت إليَّ منذ فترة ليست بالقريبة، رسالةً تتحدث فيها وتصور بصورة دقيقة بعض ما يجري في أوساط الفتيات على سبيل التحذير، تقول: (وللنساء طرقٌ خفية شيطانية في لبس حجابهن -هذا لا يغضب أحداً لأنه من كلام النساء- قد يطلع على محظورها، كل وجهٍ إلا وجوه العلماء مع بالغ الأسف الشديد، ولا ريب أن للعالم عذره، إذ أنه رجلٌ وللرجولة عالمها الخاص -هذا من كلام الأخت التي رمزت لنفسها بالرباب وهو كلامٌ دقيق- تقول: إذ أنه رجلٌ وللرجولة عالمها الخاص، الذي من دأبه أن تظل دقائق أمور النساء بعيدةً عن إطاره، بالذات إذا علمن أن أغلب محارم أولئك العلماء والدعاة من الملتزمات، بحيث لا يرى الشيخ منهن الحالة الرديئة التي عليها بعض فتيات الأمة من خلال نسائه المحارم، لذلك كان لا بد أن تتولى الخائفات على مصير الأمة، أمر تنبيه المشايخ، وبالأخص من يخاطبون عامة الناس، ويصلون إليهم، إما من فوق منابر المساجد، أو حتى من خلال ذبذبات الأشرطة. ولم أجد أنا طريقةً أنبه إليها إلا من خلال هذه الرسالة، وعلى غير عادة، فمعذرةً إن أخطأت السبيل، والمشكلة التي أتيتكم من أجلها، وباختصار هي اليوم في عددٍ من المدن، في السوق، في المدرسة، أمست الواحدة منا تضع عباءتها فوق أكتافها لا على رأسها، ثم تأتي بغطاءٍ طويلٍ جميل، ارتفعت الآن قيمته المادية من بضعة ريالات بالأمس، وكانت لا تتجاوز العشرة، واليوم وصلت حدود المئات، وذلك ولا شك تبع لارتفاع مهمته، ثم تديره الفتاة بفنٍ على حدود رأسها، متصنفة به، وبسرعة ترمي قطعةً أخرى سوداء صغيرة على ملامح وجهها وتمضي، هذا بعد أن كنَّا نستر وندخل الغطاء الطويل مع سائر الأعضاء تحت العباءة، بحيث تبدو الواحدة منا جسماً أسود لا يكاد يرى منه إلا عتمة سواده، أما هذه الطريقة الجديدة المدروسة، فوالله إن العابد لو رمق المرأة وهي بهذه الصورة مرةً واحدة، ما زرعت هذه النظرة في صدره إلا رغبةً جادةً في تكرارها ألف مرة. والأكثر إيلاماً أن هذه الطريقة بكل ما تحمله من مساوي، لو انتشرت بين فتياتنا -وقد انتشرت فعلاً فستجر خلفها محاذير أكثر خطورة، خذ واحداً منها، ليس من السهل على المرأة أن ينزع حجابها الأسود الذي اعتادته على وجهها، هكذا دفعةً واحدةً، وشياطين الإنس والجن لا ريب يدركون ذلك، ويفقهون ما هو أبعد منه، فنزعه ومن ثم سفورها قضيةٌ مدرجة، لا تسير إلا بعجلات هي الخطوات المؤطرة بإطارٍ فنيٍ خفيٍ بديع، فقط هي اليوم تسحب الغطاء الصغير المعروف بالشيلة من أسفل العباءة إلى فوقها، فتظهره منسدلاً على أكتافها بكل ما فيه من علاماتٍ جمالية، يزيدها جمالاً وحسناً شكل أكتافها الذي تكفل الغطاء بتحديدها بدقة، وتبقى ترتدي العباءة بهذه الصورة فترةً هادئةً وقصيرة، فيها يمارس الدعاة إلى الله تعالى تقليب الكتب، وتصفح بطون المراجع بعيداً عن الأصابع المسمومة التي تعمل خلف أستار الظلام، وحتى يعتاد الآباء وتألف الأمهات، وحتى تجرؤ العاقلات من الفتيات على لبس العباءة بهذه الصورة، ترى بعدها بفترةٍ كيف تبدأ الأكتاف الناعمة تظهر مللها من ضيافة هذا الغطاء الذي اعتلى فوقها منذُ فترةٍ أقل من قليلة، فيعلن انسحابه من الأكتاف، كما قد تم إعلان إنسحابه من أسفل العباءة إلى أعلاها. لذلك أشعرُ ورب الكعبة بالخشية التي تمزق أنيابها صدري، أخشى أن يأتي اليوم الذي نقلبُ فيها أبصارنا، نديرها شمالاً مرة ويميناً تارة، نبحث بين ركامِ فتياتنا عن اللون الأسود الذي اعتدنا رؤيته، فيرتد إلينا البصر خاسئاً وهو حسير إلخ. فمثل هذه الصور التي تعبر عن أنماط ووسائل في لبس الفتاة لغطاء الوجه، أو لعباءتها، أو لغير ذلك، هي من الأشياء التي ينبغي أن يتفطن لها، لأن من شروط اللباس الشرعي ألا يكون زينةً في نفسه، وقد أحضر لي مجموعةٌ من الشباب مجموعةً مما يسمى بالكاب، ويباع في الأسوق، فرأيتُ فيه من ألوان الزينة ومظاهر الجمال ما قد يجعل عدم لبس المرأة له أفضل مما لو ظهرت وهي غير لابسة له، فهو زينةً في نفسه، وهو لا يحقق الغرض الشرعي بالستر وغض نظر الرجال عنه، بل ربما دعا الآخرين إلى تأملها، والنظر إليها، وزادها حسناً إلى حسنها، وجمالاً إلى جمالها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 15 لا مانع من متابعة الموضة إذا لم تخالف الشرع الأمر الأول: لا مانع مطلقاً أن تخيط الفتاة ثوبها بالطريقة التي تعجبها، والتي ترى أنها جميلة، فنحن لسنا خبراء تجميل، بحيث نقول للفتاة: هذا شكل حسن، وهذا شكلٌ قبيح. كما أن حرص الإنسان ذكراً أو أنثى على الجمال أمرٌ فطري لا يلام عليه، وفي صحيح مسلم: {أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} إذاً نحن لا ننتقد الفتاة لعنايتها بثوبها، أو عنايتها بشعرها، أو عنايتها بنظافتها، أو ما أشبه ذلك، فهذا أمرٌ لا تثريب عليها فيه، لكن الشيء الذي نستنكره هو كون الفتاة مستعبدة للموضة، تتابعها أولاً بأول، وتستبدل ثوبها كلما تغيرت الموضة، فهذه المتابعة من العبودية للموضة، وانحصار الهم في الجانب المادي، والتبعية لليهود وغيرهم والنصارى، والتشبه بالأعداء في خصائصهم، فإن متابعة الموضة ساعة بساعة، هي من خصائص عارضات الأزياء، ومن خصائص الراقصات، والفنانات من المتاجرات بالأجساد الرخيصة. إذاً أقول للإخوة والأخوات حتى لا يلتبس عليهم رأيي في هذه المسألة بكلامٍ قلته من قبل: إنني أفرق بين فتاة ترى موديلاً فيعجبها، فتخيط عليه مع مراعاة الضوابط الشرعية، فإن كان قصيراً طولته، وإن كان ضيقاً وسعته، وإن كانت فيه فتحات أزالتها ثم لبسته، فهذا لا أرى فيه حرجاً عليها، وبين فتاةٍ أخرى كل همها مُنصبٌّ على متابعة الموضة، وكل يومٍ ثوبٌ جديد، وكل يوم زي جديد، وكل همها ومالها ووقتها منصرف لهذه القضية، فلا شك أن هذا نوع من العبودية لغير الله عز وجل فهذه نقطة. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 16 عناية المرأة بجمالها مطلوب النقطة الثانية: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] . ونحن -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- بقدر ما ننتقد تلك الفتاة التي تحولت إلى تمثال من الشمع سرعان ما يذوب، همها القماش الذي تلبسه، وقيمتها في ثوبها، بقدر ما ننتقد تلك الفتاة، فنحن ندعو الفتاة المسلمة الملتزمة أن تكون على قدرٍ من العناية بجمالها وثيابها ونظافتها وترتيب أمورها، وهي ناحية فطرية غريزية لا ينبغي أن نجور عليها بحالٍ من الأحوال، وكما أن الأولى ظاهرة سلبية موجودة، فالثانية أيضاً ظاهرة سلبية موجودة عند بعض الفتيات. لذلك استغرب سلمان الفارسي -كما في صحيح البخاري- لما رأى أم الدرداء متبذلة!! وكانا أخوين، فلما رآها سلمان الفارسي قال: {يا أم الدرداء مالي أراك متبذلة؟ -ملابسك ليست ملابس امرأة متزوجة- قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له همة في الدنيا، بالنهار صائم وبالليل قائم!! فلما جاء أبو الدرداء وأراد أن يقوم، قال له سلمان: نم، فنام، وبعد قليل أراد أن يقوم فجاءه سلمان، وقال: نم، فنام، وبعد قليل جاءه فقال: نم، فنام، فلما بقي من الليل جزء، قال: قم الآن فصل، ثم قال له: إن لنفسك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، فأعط كل ذي حقٍ حقه} وهذا حديث مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فلماذا استغرب سلمان الفارسي من هيئة أم الدرداء، وكونها متبذلة في ملابسها؟ لأنها امرأة متزوجة، والمفروض أن يكون عندها قدر من العناية بزوجها وبملابسها، وبمظهرها، حتى تلفت نظر زوجها وتعفه عن النظر إلى الأخريات، ولذلك استغرب لما لم يجد هذا. والحديث الآخر، حديث عائشة رضي الله عنها تقول: {دخلت عليَّ خويلة بنت حكيم بن أمية، وكانت عند عثمان بن مظعون -زوجة عثمان بن مظعون رضي الله عنه- قالت: فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذاذة هيئتها -ملابسها غير جيدة وغير ملائمة- فقال لي: يا عائشة، ما أبذ هيئة خويلة! -غريبة ملابسها- قالت: فقلت: يا رسول الله! امرأةٌ لها زوجٌ يصوم النهار ويقوم الليل، فهي كمن لا زوج لها، فتركت نفسها وأضاعتها، قالت: فبعث رسول الله صلى الله وسلم إلى عثمان بن مظعون، فجاءه فقال: يا عثمان! أرغبة عن سنتي؟ قالت: فقال: لا والله يا رسول الله، ولكن سنتك أطلب، قال: فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليكَ حقَّاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم} والحديث رواه أحمد في مسنده، وأبو داود، وغيره، وله شواهد منها حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وزاد في آخره قال: {فأتتهمُ المرأة بعد ذلك -ولاحظ هنا دقة امتثال الصحابيات لأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم وتوجيهاته- فأتتهم المرأة بعد ذلك، كأنها عروس -أي متزينة متجملة مهتمة بمظهرها بما فيه الكفاية- فقيلَ لها: مه!! - تعجبت عائشة رضي الله عنها فالوضع قد تغير قالت لها عائشة: مه، -أي ما الخبر؟ - قالت: أصابنا ما أصاب الناس} أي: عادت الأمور إلى مجاريها، والحديث بهذا اللفظ رواه ابن حبان، وقد روى البخاري أيضاً الحديث الذي أسلفته، وهو بمعنى هذا الحديث فهو شاهد له. إذاً قضية الاهتمام بالثياب وبالجمال أمرٌ فطري عند الرجل والمرأة لا يلام عليه، وخاصةً إذا كانت المرأة متزوجة، فكون بعض الفتيات يظهر منها قدرٌ من عدم العناية بشعرها ومشطه وتسريحه ودهنه وتزيينه، أو عدم العناية بمظهرها وثيابها وترتيبها وجمالها، هذا أمرٌ تلام عليه، وربما يكون أحياناً هذا التواضع والتقشف سبباً في إعراض بعض الفتيات عن مجالس الذكر وحلق العلم والوعظ؛ لأن تلك الفتاة ذات العناية بملبسها تظن أن حضورها في المجالس ومشاركة الأخريات فيه، يقتضي إهمال ذلك الجانب الذي تعتني به هي أو إغفاله، أو تظن أنها سوف تصبح في محل النقد والاستغراب من الفتيات الملتزمات، فهو يحول بين الأخريات وبين الالتزام. وعناية الفتاة الداعية بمظهرها هي البوابة الضرورية للوصول إلى قلوب الأخريات، دون أن تخرج عن حدود اللباس الشرعي، فهي قدوة، ولا ينبغي أن تعمل شيئاً يكون في موضع النقد، أو يقلدها فيه الآخرون. وهذه المرأة الداعية مع هذا وذاك هي امرأة لها زوج، أو سيكون لها زوج، فيجب أن يرى فيها من الجمال والعناية به ما يغض بصره ويعفه عن النظر الحرام، وهذه من جوانب العظمة في الإسلام، حتى تكلم عنها الغربيون، وأعجبوا بها أيما إعجاب، كما سوف أتحدث في حلقة قادمة إن شاء الله، فإن الإسلام يربط الدنيا بالآخرة كنسيجٍ واحد، فحتى المرأة وهي تتجمل لزوجها، هي بهذا العمل تتقرب إلى الله تعالى، وتقرب من الجنة. فالإسلام لا يستقذر أو يعيب مثل هذه النظافة، أو مثل ذلك الجمال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر، قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ} . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 17 محلات الخياطة النقطة الرابعة: ما يتعلق بمحلات الخياطة وسلبياتها: أولاً: ربما أقول بدون مبالغة: إن أكثر محلات الخياطة الموجودة في كل البلاد -خاصةً في هذه البلاد- هي محلات الخياطة النسائية، فهي أكثر من أية محلات أخرى، وهل نستطيع أن نقارن محلات الخياطة بالمكتبات؟! لا مقارنة! فيمكن أن تجد في البلد عشر مكتبات، لكن لا غرابة أن تجد فيه ألفاً أو ألفاً وخمسمائة محل خياطة، وهذا بلا شك مؤشر خطير، يدل على ضعف الاهتمام بالناحية العقلية، والناحية العلمية، والناحية الفكرية، وناحية إعداد الإنسان في مقابل العناية بالناحية الشكلية والجمال المظهري. وهذه الظاهرة لا شك تستحق الدراسة، ولو كانت في بلد من بلاد الغرب لوجدت دراسات طويلة عريضة عن هذه الظاهرة، وإيجابياتها، وسلبياتها، وأضرارها الاقتصادية، وأضرارها الاجتماعية، وأضرارها الإنسانية والأخلاقية إلخ. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 18 سلبيات محلات الخياطة وأنا أذكر لكم بعضاً من سلبيات هذه المحلات على سبيل الاختصار والإيجاز، فمن السلبيات: الجزء: 44 ¦ الصفحة: 19 تفويت مصالح على الآخرين ومن السلبيات تعطيل النساء الأخريات، اللائي جئنَ لهذا الخياط، وغالباً ما يكون هذا بطبيعة الحال في الشارع، فيقفنَ على شكل طابور أمام الغادين والرائحين في انتظار أن تنتهي هذه المرأة، وهذا مشهد يراه بعضنا في بعض الأحيان، وفيه سلبية، وهو مشهد غير لائق، لا من الناحية الأخلاقية والشرعية، ولا من الناحية المصلحية. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 20 الوقوع في بعض المخالفات الشرعية وبعض الرجال مع الأسف يطلب من الخياط أن يقوم بالتفصيل على البنت الصغيرة مباشرة، وهي ليست بصغيرة، فربما تكون مابين الثامنة إلى الثالثة عشرة من عمرها، ومع ذلك يطلب من الخياط أن يقوم بالتفصيل عليها مباشرة، ويعتقد أن هذا يكون فيه التفصيل أدق، ولا ينتبه إلى الجانب الأخلاقي في المسألة. وكذلك من السلبيات ظهور أجزاء من جسد المرأة خلال الأخذ والعطاء، والحديث وما أشبه ذلك مع الخياط. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 21 تضييع وقت الزواج السلبية الثالثة: تعطيل ولي أمر هذه المرأة وضياع وقته، فهو جالس في السيارة ساعتين ونصف ساعة، أو واقف ينتظرها، وإن ذهب وتركها فهذه مشكلة أكبر، وفيه ما فيه من تعريض هذه المرأة لأمور قد لا تحمد عقباها. وكذلك احسب من ناحية اقتصادية إذا كُنا لا نؤمن بأهمية الوقت من الناحية الشرعية، ونحن بحمد الله مؤمنون بذلك، وندرك أن ساعتين ونصف ساعة قد يعمل الإنسان فيها عملاً جليلاً يدخل به الجنة، لكن حتى من الناحية الاقتصادية، ساعتان ونصف كان يمكن أن يكسب الإنسان فيه شيئاً كثيراً، وعلى مستوى الأمة كلها، احسب كم فرداً يجلسون: ذكراً أو أنثى عند الخياط ساعتين ونصف الساعة؟ ستجد أننا ضيعنا وأهدرنا من وقت الأمة وعمرها وحياتها قدراً كبيراً جداً من الممكن أن الأمة تمشي فيه خطوات إلى الأمام، في مجال التقدم العلمي أو في مجال الصناعة أو في مجال التطور أو في مجال مواجهة عدوها، وفي كل مجالات الحياة التي تحتاج إليها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 22 التأخر عن البيت ومن السلبيات التأخر عن البيت، أي أنها ثلاث ساعات بعيدة عن المنزل، وفيه أطفال، وفيه بنات، وما يدريك ماذا حصل للأطفال، ربما حدث لهم شيء، فقد يحصل لبعضهم مشكلة، أو قد يعبث بعضهم بأمور معينة. هذه رقعه وصلت إليَّ يقول فيها صاحبها: هناك محلات في بعض الأحيان هي محلات خياطة، تبقى مفتوحة إلى ساعات متأخرة من الليل، ومع ذلك قد تتردد عليها النساء، وهذه أيضاً سلبية جديدة من السلبيات -كما ذكرت- وهي التأخر عن البيت، وفي ذلك ما فيه من احتمال وقوع أشياء للأطفال، تحتاج المرأة فيها إلى أن تكون قريبة منهم، أو حتى عدم إمكانية الرقابة على البيت، لا من قبل المرأة، ولا من قبل الرجل الذي أصبح مشغولاً معها، ويزيد الطين بلة إذا عرجت المرأة على محلات أخرى أيضاً لخياطة أو لشراء بعض البضائع والسلع. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 23 الإسراف السلبية الأولى: الكثرة بشكل ملفت للأنظار كما ذكرت، وهو يدل على مدى الإسراف التي تعيشه البيوت، لأنها ما كثرت إلا ولها زبائن، وهؤلاء الزبائن هم من النساء بطبيعة الحال الكبيرات أو الصغيرات، فهو يدل على مدى الإسراف في البيوت. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 24 التبسط في الكلام مع رجل غير محرم السلبية الثانية: وقوف المرأة أمام الخياط لفترة طويلة من الوقت، أحياناً ربما تصل إلى ثلاث ساعات، وهذا بدون مبالغة، وافترض أن المرأة ذهبت من أجل تخييط ملابس للزواج، فإذا تصورت أنها تريد أن تخيط ثلاثين ثوباً، مع أنه تقول بعض الفتيات: ماذا؟! ثلاثين ثوباً!! لا يكفي ستون ثوباً للزواج عند بعضهن، لكن لنفرض نحن القدر المعقول ثلاثون ثوباً، ولو افترضنا أن المرأة تريد أن تشرح للخياط طريقة خياطة الثوب أو الموديل الذي تريده في خمس دقائق، مع أن هذا أمر بعيد، ويصعب أن تستطيع إفهامه في خمس دقائق، فإن كان كل ثوب يتطلب خمس دقائق، فالنتيجة: ثلاثون في خمسة، فيكون الناتج مائة وخمسين دقيقة، أي: ساعتان ونصف والمرأة واقفة أمام الخياط. وقد يترتب على هذا الوقوف التبسط في الكلام، ورفع الكلفة، وترقيق القول، والتودد إليه، خاصةً إذا احتاجت المرأة إلى إنجاز العمل بسرعة، فتجد أنها تقول للخياط مثلاً: الله يخليك، لو تكرمت، تكفى، وما أشبه ذلك، بل إنه حصل أن بعض الفتيات -وهي العروس نفسها- تحضر بطاقة دعوة للخياط لحضور حفل زواجها!! وربما تستخدم أحياناً عبارات غير لائقة؛ لأنها حين تتحدث عن الموديل وصفته وطوله وعرضه وخصره، وأين تكون الفتحة، و، وإلخ. تتحدث بكلام غير لائق مع رجل أجنبي عنها، ولكنها تتبسط معه مع اعتياد ذلك، ويصبح أمراً عادياً. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 25 الحلول المقترحة هنا نعرض بعض الحلول المقترحة لتلافي هذه المشكلة: الجزء: 44 ¦ الصفحة: 26 توعية المرأة ومن الحلول أيضاً: توعية المرأة بمخاطر مثل هذا العمل، والبحث عن وسائل بديلة، مثل أن تقوم المرأة أو الفتاة برسم الموديل المراد في المنزل، وشرح كل ما تريد على ورقة، ثم يحضره رجل إلى الخياط، وإذا لزم الأمر تحضره هي مع محرمها، وذلك بدلاً من أن تقوم هي بطلب كتاب الأزياء من الخياط وتقليبه واختيار ما تريد، وربما لا يكون اختيارها سريعاً، وربما غير مناسب، وربما تندم عليه بعد ذلك، فيكون سبباً في تأخيرها، وتأخير من ينتظرونها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 27 قيام المرأة نفسها بهذه المهمة ومن الحلول: قيام المرأة بعمل الخياطة بنفسها، وليس في الأمر صعوبة تذكر، وعلى الأقل يمكن أن يوجد في الأسرة أو العائلة أو البيت فتاة واحدة تقوم بهذه المهمة ولو بمقابل؛ لأن هذه وسيلة من وسائل الكسب الحلال الطيب المبارك، متى كان ملتزماً بالشروط الشرعية. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 28 تأهيل الفتيات في مجال الخياطة ومن الحلول أيضاً: قيام الجهات المختصة وبالذات جهاز تعليم البنات والأجهزة الأخرى المساوية له بإيجاد دورات قصيرة لتعليم مبادئ الخياطة والتفصيل، والتشجيع على دخولها من قبل الطالبات والمدرسات، وربات البيوت، أو تكون لهن دورات قصيرة، ولو كان ذلك أيضاً برسوم بحيث تكون في مدارس البنات، ويراعى فيها الضوابط الشرعية. ومن الحلول أيضاً: أن يضع أصحاب محلات الخياطة، لوحات إرشادية في محلاتهم يكون فيها تنبيه للمرأة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وبيان ما يحل ومالا يحل، وذكر الشروط الشرعية في اللباس. فهذا جانب صغير وقليل مما أردت الحديث عنه فيما يتعلق بهموم المرأة، ولنا وقفة أخرى مع بقية هموم المرأة، سأتحدث عنها بشيء من الاختصار، في الأسبوع القادم، حتى ننتهي من هذا الموضوع. إذاً: جلسة الأسبوع القادم ستكون إن شاء الله بعنوان: همومٌ أخرى للمرأة، وسأتحدث فيها عن هموم كثيرة جداً، تعايشها الفتاة في بيتها، وفي مدرستها، وفي بيت الزوجية، وسأنقل لكم صوراً من رسائل كتبتها بعض النساء، وهي في الواقع صور جيدة، ومشرقة، ومعبرة، وتبشر -إن شاء الله- بخيرٍ كثير. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 29 ترشيد محلات الخياطة فمن الحلول: ترشيد هذه المحلات بعدم فتح المجال على مصراعيه للرخص بدون دراسة أو تخطيط لمعرفة وتحديد مدى الحاجة إلى هذه الأشياء، وهذا موجود في كل الأشياء، وفي كل المجالات، فيكون فتح هذه المحلات وفق سلسلة وأولويات معينة، وأرقام معروفة، فتفتح بقدر الحاجة، ولا يزاد على ذلك، لما ينجم عنها من أضرار اقتصادية وأخلاقية على الأمة. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 30 عدم الإسراف في كثرة الملابس ومن الحلول أيضاً: عدم الإسراف في كثرة الملابس، فبعض الفتيات تلبس الثوب مرة واحدةفقط، بل يقول صاحب محل: نعاني من كثرة الملابس التي لا يحضر أصحابها لاستلامها، ونحتار كيف نصنع فيها، وهي ملابس غالية الثمن، حتى يقول: أحضرت إحدى الفتيات لنا قماشاً بثمانمائة ريال، وبعد ما قام الخياط بخياطته وأعطاه لها فذهبت، وخلال عشر دقائق أعادته، وقالت: إنه لا يصلح! وطلبت منه أن يخيط لها ثوباً جديداً بطريقة أخرى، فطلب منها الخياط، إذا كان يمكن أن يجري تعديلات على الثوب الأول، قالت: لا، ليس هناك شيء، والثوب جيد، لكنه لا يناسب جسمي، وهكذا ضاعت ثمانمائة ريال هدراً. يا أخي هذا جزء من ثروة الأمة، وجزء من ثروة الآباء، وجزء من حاجة المرأة التي قد تحتاج إليها المرأة في يوم من الأيام، والرجل والمرأة كلاهما على مستوى المسئولية والمفروض أن يدركا أن التصرف بالمادة بهذه الطريقة لا يخدم أبداً إلا الأعداء. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 31 الأسئلة الجزء: 44 ¦ الصفحة: 32 ليس هذا من أخلاق المسلمات السؤال بعض الفتيات المتدينات لا يرين للنساء كبيرات السن فضلاً وشأناً، فتجدهنَّ لا يجلسن معهن، ولا يفدنهن ولا يستفدنَ منهن تجربة ومروءة نرجو التوجيه؟ الجواب هذه مشكلة حقيقة، سببها من الطرفين، فإن كبيرات السن كثيراً من الأحيان لا يستمعن إلى نصائح الفتيات اللاتي هن أصغر منهن سناً، وإنما يعتمدن على موروثهن وما أخذن، ويقلن: نحن أدرى ونحن أعرف، ولا ندري ما هذا الدين الجديد الذي جئتن به! فيكون هذا سبباً في إعراض الفتاة، والفتاة أحياناً تأخذ الأمر بجد، ويكون عندها حماس قوي، فتريد من النساء الأخريات أن يكنَّ منصاعات ومستجيبات أولاً بأول، ومنفذات للأوامر والتعليمات، وهذا أمرٌ صعب، فالفتاة بحاجة إلى قدر من المرونة والتفاهم والتحمل والتدرج فيما تريد أن تعمله مع الآخرين، ولا يمكن أن تغير الأمور وتصلحها كلها دفعة واحدة، خاصة كبيرات السن فهن بحاجة إلى سعة الصدر وسعة البال، وهناك أمور كثيرة جداً لا بد من تمريرها، بمعنى أن تقتنع الفتاة أن هذه الأمور لا حيلة فيها، لأنها كبرت مع المرأة، وصارت جزءاً من شخصيتها، وجزءاً من حياتها، ولا حيلة في تغييرها، لكن يسعى الإنسان ويحاول أن يهذبها أو يصلحها شيئاً فشيئاً. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 33 هذا هو البديل يا مسلمات السؤال ما رأيكم في طرح مجلات إسلامية، تختص بالزي الإسلامي لمحاولة التقليل من خطر المجلات النسائية المستوردة من الغرب؟ الجواب هذا موضوع، إذا أمكن طرح الزي الشرعي بشروطه الشرعية، وبدون صور، وبطريقة تغني المرأة المسلمة عن تلك المجلات المسماة بالبردة، والتي تأتي من الشرق والغرب والشمال والجنوب، وكل بلاد الدنيا، فإذا أمكن ذلك، وصار مضبوطاً بالضوابط الشرعية، فهذا شيء لا بأس به إن شاء الله. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 34 حكم لباس الثياب القصيرة للبنات الصغيرات السؤال هل على المرأة وزر إذا ألبست بنتها ثياباً قصيرة؟ الجواب إذا كانت البنت كبيرة الجسم، ولو كانت صغيرة السن، وجسمها ملفت للأنظار، فينبغي أن تراعي أمها أن تلبسها ثوباً ساتراً فضفاضاً، خاصةً إذا كانت سوف تظهر أمام الرجال. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 35 هذا هو الإسراف السؤال بعض النساء إذا اشترت ثوباً أو خاطته، لبسته مرة أو مرتين في الكثير، ثم لا تلبسه وتقول: هذا الثوب لا يمكن أن يرى مرة أخرى في العرس، فما نصيحتكم في هذا الأمر؟ الجواب وهذه مصيبة إذا كان الثوب لا يمكن أن يرى مرة أخرى، فهذا بابٌ طويل، والغريب في الأمر أن هناك مسألة أخرى، وهي أن امرأة تقول: ذهبتُ إلى محل أزياء وأنا محجبة، ومعي امرأة أريد أن أشتري لها ثوباً لزوجها، فنظرت إلى زيٍ جميل، فقلت لها: هذا يصلح لزوجك، تقول: فجاءت المرأة التي كانت تبيع في ذلك المحل، فلمت رأسها، ووضعت يديها على رأسها، وقالت: أعوذ بالله! حرام عليكِ! حرام عليك، قلت: لماذا؟ قالت: هذا الثوب الجميل تلبسه لزوجها!! هذا ثوب يمكن أن تلبسه في أرقى المحلات وتلفت به أنظار الآخرين، ليس لزوجها فقط! أي كأن الثوب الذي للزوج يجب أن يكون ثوب المطبخ، أما إذا أرادت أن تتزين وتتجمل، فإنما تتزين وتتجمل للآخرين، وهذه كارثة، وكم تحطمت بيوت بسبب ذلك! وإلى متى نظل نحن نركض وراء قانون الموضة ووراء رسومها؟! ولا بد أن تقوم الأخوات العاقلات والفتيات المتدينات بوضع حد لذلك ووضع حد لذلك، لا يكون بمسك العصا من الطرف الآخر بأن تكون متبذلة في ملابسها، ومتواضعة ليس لديها أدنى قدر متبذل من العناية بالجمال، لا! بل ينبغي أن تحرص الفتاة المتدينة على أن تكون مهتمة بجمالها بصورة معتدلة، وكأنها تقول للأخريات: هأنا مهتمة بمظهري معتنية به، ومع ذلك لم أسلك الطريق الذي سلكتنه في المبالغة بالثياب وتكثيرها، وعدم لبسكن الثوب مرة أخرى إذا لبس سابقاً. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 36 الطريقة المناسبة للتخلص من الموضة السؤال ما هو الأسلوب والطريقة التي ترى أنها مناسبة للتخلص من الموضة؟ وما رأيك إذا اتفقت مجموعة من الفتيات على ترك ذلك والتوسط فيه؟ الجواب هذا أسلوب جيد، لأنه ليس أمامنا إلا أسلوب القدوة الحسنة، وأسلوب القدوة الحسنة من أهم الأساليب، فإذا وجد في كل مدرسة، وكل فصل، وكل مجتمع، وكل نادي، وكل عرسٍ، وكل حفلة، مجموعة من الفتيات متدينات، وواعيات، وعاقلات، وفي أرقى المستويات، ومع ذلك عندهن رفض لأصول الموضة وقوانينها، وتمرد عليها وكفرٌ بها، فإن هذا سوف يكون مدعاة إلى أن تقلدهن الأخريات، فالناس دائماً يقلدون القوي، وتستطيعين أن تكوني بذلك قدوة للأخريات، وسوف يقلدنكِ بكل تأكيد. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 37 حكم التقيد في تسريحة الشعر السؤال بعض الفتيات عندما تقول لها عن تسريحة الشعر: {من تشبه بقومٍ فهو منهم} تقول بطبيعة الحال: أنا لست مقلدة، وإنما رأيت أن صديقتي فعلت ذلك، أو نحو ذلك؟ الجواب على كل حال الحديث: {من تشبه بقوم فهو منهم} هو حديثٌ صحيح ورواه ابن عمر، وهو في سنن أبي داود، ومسند الإمام أحمد، وسنده جيد. وبالنسبة لموضوع التسريح، فقد ذكرت في كلامي قبل قليل: إن كانت هذه الفتاة كل يوم لها تسريحة جديدة، وهي تتابع قانون التسريح أولاً بأول، وكلما خرجت تسريحة جديدة سرحت رأسها بمقتضى هذه التسريحة، فلا شك أن هذا مذموم، لما فيه من ضياع الوقت وضياع العمر، وتقليد الغرب والتشبه بهم، والتبعية المطلقة لهم في الظاهر والباطن، أما كون فتاة أعجبت بشكلٍ معين في تسريح شعرها، وعملته دون أن يكون متابعة الموضة هماً لها، فهذا أمرٌ لا أرى فيه -إن شاء الله- حرجاً، ولا بأس به. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 38 اعتذار عن الإسهاب في الموضوع السؤال أرى أنك أسهبت في وصف الموضة، وأنا أقول عن نفسي: إني تضايقت من ذلك؟ الجواب لا بأس! إن كان هذا حصل فأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 39 مواجهة الغزو من قبل الشباب السؤال بماذا يواجه الشباب الغزو والإثارة وخاصةً من الفتيات في الأماكن العامة؟ الجواب بالنسبة للشباب الذكور بطبيعة الحال: أولاً: على الشاب أن يتجنب الأماكن التي تتواجد فيه النساء، مثل الأسواق، وقرب مدارس البنات، وأماكن تجمع النساء وغيرها، فعلى الشاب أن يكون بعيداً عن هذه الأشياء لا يقترب منها، وإذا اقترب منها لحاجة، فعليه أن يلتزم بأوامر الشرع، بغض البصر، والبعد عن النظر إلى الحرام؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اصرف بصرك؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية} كما أن على الفتاة واجباً بحفظ نفسها من نظر الآخرين، وألا تكون مدعاةً لإثارة الفتنة، حتى لا يُفتَتَنْ بها الآخرون، أو تَفتَتِنَ هي بالآخرين، وكما قيل: كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظمُ النارِ من مستصغر الشررِ كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرورٍ جاء بالضررِ وقال الآخر: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادرٌ عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ ووالله إني لأعلم -يا إخواني- من فتن الرجال والنساء بالنظر ما يشيب من هوله رأس الوليد. ولكن ربما الإنسان إذا كثر سماعه لمثل هذه الأخبار والقصص، صار عنده نوع من الاعتياد على هذا الأمر، فلم يعد يهز وجدانه ويؤثر في ضميره، فلا حول ولا قوة إلا بالله! الجزء: 44 ¦ الصفحة: 40 جرأة المفسدين السؤال إحدى المجلات -مجلة اليقظة- أرسل إليها أحد الإخوة، فقال: لماذا تضعون صورة فتاة كاشفة على غلاف المجلة؟ وكان الرد عبر المجلة: لو وضعنا صورتك أو صورة أمثالك، لم تأخذ المجلة هذا الرواج!! الجواب هذا ما قلناه قبل قليل، فهناك مجلات كاسدة، أرادت أن تثري على حساب المساكين، وليس من العدل ولا من العقل أن يثروا على حسابنا، ولو أننا كنا رجالاً بمعنى الكلمة، وكانت النساء نساءً بمعنى الكلمة، لاستطعنا أن نقاطع هذه المجلة، فنقاطع مجلات الأزياء، ونقاطع المجلات التي تتاجر بجمال المرأة، وتستهين بإنسانية المرأة، وتستهين بعقل المرأة، وتستهين بعفة المرأة، وتستهين بأخلاق المرأة، ونقاطع المجلات أو الجرائد الرياضية التي تجر الفتاة جراً إلى المشاركة، ولو فعلنا أو كنا على مستوى المسئولية، لعرفوا بعد أسبوع أو أسبوعين أنه فعلاً عليهم أن يراعوا مشاعر هذا المجتمع، أو تلك المجتمعات المسلمة، أو هذه الأمة المسلمة، وأن يخضعوا وينصاعوا لما نريد نحن المسلمين، لكن مع الأسف الشديد، على حساب من أثرت تلك المجلات؟ وعلى حساب من اشتريت تلك الجرائد؟ إنها لا تباع في إسرائيل أبداً، إنما تباع في بلاد الإسلام!!. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 41 وسائل حماية الرجل لأهله من التبرج السؤال كيف يمكن للرجل حماية أهله من التبرج أو خداع التلفاز بطريقة حكيمة؟ الجواب الحقيقة أقولها بصراحة، وهي مسألة صعبة، لكنني أقولها والدين النصيحة: بعد ما حصل الذي حصل، وجرى الذي جرى، منذ زمن كان العقلاء والعلماء يحذرون من قضية البث المباشر الذي أصبح في تناول الفرد العادي من الناس اليوم، أقول: لا حل إلا أن يقوم العقلاء بإخراج جهاز التلفاز من بيوتهم، وأن يقوموا بحملة صادقة على ذلك، ويقنعوا أهلهم بذلك. وقد حدثني عدنان أكبر، وهو بالمناسبة صاحب دار أزياء ضخمة، وقد كان مصمماً عالمياً للأزياء، حدثني بنفسه، ورأيت معه أطفاله الصغار، وهم يحفظون شيئاً من القرآن الكريم، وقال لي: إنني لما هداني الله تعالى قمتُ في ساعةٍ واحدة، فأخرجت جهاز التلفاز من البيت وكسرته، فقال له أهله وأقاربه: على الأقل بالتدريج حتى نرفق بالصغار ونعلمهم، فقال: لا يمكن أن نتدرج في هذا الأمر، هذه قضية لا خيار فيها، والذي يريدني يقبلني بهذه الشروط، وما هي إلا لحظات قليلة حتى اعتاد الكبار والصغار وألفوا هذا الأمر، ورأيت معه أطفاله وهم يحفظون أجزاء من القرآن، وعليهم سمات الخير والصلاح، نسأل الله لنا وله ولهم الهداية والثبات. فهممُ الرجال تزيل الجبال، ولا أعتقد أن الإنسان عاجز عن أن يقوم بمثل هذه المهمة، فما قيمة الجهود التي تبذل لإصلاح الإعلام الداخلي إذا كُنَّا قد غُزينا من فوقنا؟ وجاءونا من فوقنا! فهذه قضية لا بد من استيعابها. إذا وجد الجهاز في البيت فهذه والله مأساة، لأنه لا أعتقد أنك سوف تبقى بواباً على التلفاز، تفتح وتغلق متى جاء أمرٌ تحبه أولا تحبه، فأنت تخرج إلى العمل، وتخرج للصلاة، وتخرج للوظيفة، وتخرج للدراسة، وتخرج لشئونك الخاصة والعامة، وربما في بعض البيوت يوجد في كل غرفة جهاز تلفاز. فالخطر -أيها الأحبة- شديد، ونحن بحاجة إلى أن ندرك حجم الخطر وحجم الغزو، وأن ندرك أن الغربيين يريدون منَّا الشيء الكثير، وأهم خطوة يريدونها الآن هي التغيير الاجتماعي. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 42 وسائل لإخراج التلفاز من البيت السؤال نحن أسرة بلانا الله بالتلفاز، ونريد إخراجه، ولكن الوالد يحول دون ذلك، فما قولكم؟ الجواب لا بد من إقناع الوالد بإخراج التلفاز، ومن الوسائل في إقناعه أن تعمل الأخت ما يسمى بالرأي العام المعارض لوجود التلفاز، وهذا قد عملته عدد من الأخوات والإخوة ونجح، مثل أن تقوم الأخت بإقناع أخواتها الصغيرات بأن التلفاز ضار ومفسد، وأنَّ من أضراره كذا وكذا، ثم تقنع إخوانها الصغار بذلك، ثم تبدأ بأمها، ثم بأخوانها الكبار، حتى يصبح في البيت رأي عام واتجاه بضرورة إخراج الجهاز من المنزل. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 43 حكم لبس المرأة للأشياء القصيرة والضيقة السؤال هناك بعض الشباب لا يتدخل في أمور زوجته الخاصة، فتلبس بعض الثياب الضيقة، والحذاء العالي وغيرها من تتبع الموضة، فا رأيكم في هذا؟ ولسان حاله يقول: هذه أمور خاصة لا دخل لي فيها. الجواب أما إن كان لبسها للأشياء الخاصة بحضرة زوجها فياحبذا ذلك، فإن المرأة مطالبة بأن تتبعل لزوجها، وسأتحدث عن هذه النقطة في الجلسة القادمة إن شاء الله تعالى، أما إن كان لبسها لذلك عند الأجانب، فما قيمة الرجل إذا لم يكن قواماً على أهله؟! قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 44 دور المرأة في الدعوة السؤال ما هو دور المرأة في الدعوة؟ وكيف تكون المرأة داعية داخل عالمها المحافظ؟ الجواب هذا أحد الهموم التي سوف أتحدث عنها في الجلسة القادمة، وهو لدعوة. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 45 الهزيمة النفسية لدى الشباب السؤال ما رأيكم بالظاهرة التي انتشرت أخيراً، وهي وجود بعض الشباب والفتيات يلبسون الثياب، ويلصقون عليها بعض أعلام الدول الكافرة، كما وجد أيضاً كثير من الشباب يلصقون هذه الأعلام على زجاج السيارات؟ الجواب هذا نوع من الهزيمة النفسية، أي أننا أصبحنا مستعبدين للغرب الكافر في كل شيء، نفكر بعقليته، ونقتني صناعاته، ونتلقى أفكاره وفلسفاته، ونأخذ بنمط حياته في كثير من أمورنا، وأخيراً أصبحنا نتلقى حتى المواد الإعلامية من الغرب، والغرب إذا استطاع فهو يحب أن يجعل بلاد العالم كلها -وبالذات بلاد المسلمين بالدرجة الأولى لأنها أخطر شيء يواجه الغرب- مسرحاً واسعاً للغرب، تروج فيها بضائعه، ويسرح ويمرح فيه جنوده وأعوانه وعملاؤه وأنصاره كيف شاءوا، وتنتشر فيها أفكاره وأساليبه وطرائقه، وتنفذ فيها سياساته كما قال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال تعالى: {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة:2] وقال تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وقال جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] . الجزء: 44 ¦ الصفحة: 46 المحن والمصائب ودلالتها على المعاصي السؤال هل ما يصيب المسلم من الهموم والأحزان يدل على وجود المعاصي فيه، فعليه أن يراجع نفسه، أم أن هذا كما ورد في الحديث: {لا يصيب المؤمن من همٍ ولا غمٍ ولا نصب إلا كفر الله عنه من خطاياه} ؟ الجواب ما يصيب الإنسان في هذه الدنيا من هموم أو مصائب دنيوية، فهو قد يكون بسبب ذنبٍ فعله، فيكون تكفيراً لذنوبه، وقد يكون رفعة لدرجاته، ولو لم يفعل ذنباً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، الأمثل فالأمثل} فالنبي عليه الصلاة والسلام هو أفضل الناس، ومع ذلك هو أشدهم بلاءً، فليس كل ما يصيب الإنسان دليلاً على أنه مذنب أو عاصٍ، اللهم إلا المصائب العامة التي تنزل بالأمة، مثل الفقر العام والجدب والقحط والهزائم والفيضانات والزلازل، وغيرها من المصائب العامة التي تجتاح الأمة بأكملها، هذه هي التي لا تكون إلا بسبب ذنوب الأمة ومعاصيها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 47 حكم تفصيل الثياب بموديلات مختلفة ومبالغ كبيرة السؤال ما حكم تفصيل الثياب بموديلات مختلفة للنساء، وبمبالغ كبيرة جداً، وهل تنصحني بالامتناع عن تفصيل الثياب لزوجتي عند حصولها على مبلغ كبير؟ الجواب إذا كان المبلغ فاحشاً، ولا يتناسب مع مستواك المادي، ومع مستوى زوجتك المادي أيضاً، فأنصحك بالكف عنه، أما إذا كان المبلغ معقولاً يتناسب مع مستواك فلا بأس؛ لأن بعض الناس يقول: ما حدود الإسراف؟ فأقول: حدود الإسراف وكونه باهضاً أو فاحشاً أو غير ذلك يختلف من إنسان إلى آخر، فالإنسان الفقير حين يكون قيمة الثوب بمئات الريالات، مثلاً خمسمائة أو ستمائة، يكون هذا المبلغ مرتفعاً، لكن هذا المبلغ بالنسبة لأسرة ثرية يعتبر مبلغاً معقولاً، وهكذا يختلف من أسرة إلى أخرى، وهذا يحدده العرف. وعلى كل حال -إن شاء الله- لنا لقاء في الأسبوع القادم، بعنوان: هموم أخرى للمرأة، وسوف أحاول أن أنفض في كل ما تبقى -إن استطعت- مما يتعلق بموضوع المرأة وهمومها الأخرى، وأنا في انتظار ما يصلني من مشاركة الإخوة والأخوات، فإنني اعتمدت في جل ما قدمتُ لكم في هذه الجلسة على رسائل وملاحظات وكتابات من بعض الأخوات الفاضلات، ولهنَّ مني الدعاء بأن الله يسعدهن في دنياهن وأخراهن، ويثبتنا وإياهنَّ بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويكثر في مجتمعات المسلمين من أمثالهن. وأسأل الله لنا ولكم جميعاً أن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا، ونسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يحيينا حياة السعداء، وأن يميتنا ممات الشهداء، وأن يرزقنا الذرية الصالحة، التي تحمل راية الإسلام وتدافع عنه، وتموت في سبيله، وتنصره نصراً مؤزراً عزيزاً، إنه على كل شيءٍ قدير. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 48 من سلبيات الخياطين السؤال لعل من السلبيات، بل من أعظم السلبيات استقدام أيدٍ عاملة غير مسلمة، وأحياناً وسيمة بالإضافة إلى أن المسلمين المستقدمين يختارون من الشباب الوسيم؟ الجواب هذه أيضاً سلبية تضاف إلى ما ذكرته، فإنني أذكر الأشياء على سبيل التفصيل، إنما ذكرت ما تيسر منها أو ما ظهر لي. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 49 فتيات ساذجات السؤال لقد سمعتُ أختي منذُ يومين تتحدث عن بنات الفصل، وتقول: إنهنَّ كتبن على جدار الفصل عبارات عن بعض اللاعبين، ثم كتبن في جدار المسجد: اللاعب فلان، فأرجو أن توجه نصيحة لهؤلاء الطالبات الساذجات؟ وكذلك ما دور البنات عندما يحدث مثل هذا؟ الجواب صراحةً أشعر -علم الله- وأنا أقرأ هذا السؤال كأن السائل وجه إلى قلبي خنجراً مسموماً وطعنني به، إذ أنه يعز علينا أن نسمع عن فلذات أكبادنا، وعن بناتنا اللاتي كنا وما زلنا ننتظر منهنَّ أن يكنَّ معلمات ومربيات للأجيال، وأن يكنَّ كما قالت إحداهنَّ -وقد كتب لي مقالاً سوف أذكر طرفاً منه في الأسبوع القادم-: إنَّ على كل فتاةٍ منا أن تسعى في تربية ابنها، وكأنها تربي الخليفة المنتظر، فتيات مجتمعنا وفتيات هذه الأمة، التي كنا ولا زلنا ننتظر أن يكنَّ أبلغ رد على دعاة التغريب والتخريب والعلمانية والفساد. يا أختي الكريمة: هذا اللاعب الذي تتحدثين عنه تنظر إليه كل الفتيات، وربما تحاول أن تتصل به عبر الهاتف، وربما تتمنى أن تلقاه، فهل يسرك أن يكون زوجك بهذه الصورة، أم أنكِ تريدين أن تكوني عبثاً للغادين والرائحين ليس لك حياةٌ مستقرة، ولا بيت تأوين إليه، ولا زوجٌ تلوذين بالله تعالى ثم به، ويكون أباً لأولادك وراعياً لك، ومشبعاً لعواطفك ورغباتك، أية فتاة ترضى أن تكون بهذه الصورة؟! لماذا تندفع الفتيات مع مشاعر المراهقة إلى هذا الحد؟! وهنا أُحَمِّل أولياء الأمور مسئولية كبيرة، وأحمِّل الأخوات المدرسات أيضاً مسئولية كبيرة، وهذا طبعاً حديث جرنا إليه السؤال، وكان المفترض أن يقال في الأسبوع القادم، فلا يجوز للمدرسة أبداً أن تكون مهمتها أن تلقي الدرس ثم تخرج، إنما مهمتها صناعة عقول الفتيات، وتعليم الفتاة ما يضرها وما ينفعها، ودعوة الفتاة إلى الخير، وتحذير الفتاة من المخاطر التي تهددها. الجزء: 44 ¦ الصفحة: 50 نظرة في مستقبل الدعوة الإسلامية الإسلام باقٍ، والمستقبل لهذا الدين، والمسلمون بحاجة إلى مراجعة ماضيهم والنظرة إلى المستقبل بإدراك ووعي مع رسم الأهداف الصحيحة الموصلة لإحياء هذه الأمة من جديد وذلك يكون بقيامها بواجب الجهاد على كافة المجالات والأصعدة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 1 الصحوة والمستقبل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. إخوتي الكرام: حين نتحدث عن مستقبل الدعوة الإسلامية، أو الصحوة الإسلامية، فإننا لا نتحدث عن طائفةٍ معينة، أو حركةٍ مخصوصة في نطاقٍ محدودٍ من المكان، أو لحظاتٍ محدودة من الزمان، لكن نتحدث عن يقظة المسلمين في كافة المجالات والأصعدة، نتحدث عن هذا البحر الذي تصب فيه جهود العلماء والفقهاء المخلصين، وتصب فيه جهود الدعاة والمربين، وتصب فيه جهود الشجعان والمفكرين، وتصب فيه جهود الكتاب والشعراء وغيرهم من الداعين إلى الله عز وجل، فهي بلا شكٍ أكبرُ من أن تكون محصورةً في نطاقٍ معين، أو مكانٍ معين، أو راية معينة، أو شعار معين. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 2 التخطيط والإعداد للمستقبل في القرآن أما الحديث عن الصحوة، أما الحديث عن المستقبل لهذا الدين، أو لهذه الصحوة، فهو كما يقال: حديثٌ ذو شجون يشتمل على: حيث تعلمنا من الكتاب والسنة أهمية التخطيط والإعداد للمستقبل، وأهمية ترقب الأحداث ومواجهتها بصبرٍ ويقظةٍ وإيمان، فمثلاً في القرآن الكريم نجد قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وضمن هذه القصة نرى ذلك الرجل الذي كان يقول ليوسف عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف:43] تنتقل الرؤيا من الملك حتى تقرع سمع يوسف، ومن خلالها يعبر ما يجري في المستقبل، وأن الناس يزرعون سبع سنين دأباً، ويأمرهم بأن يضعوا هذا في سنبله ويحفظوه ليوم الشدة، قال تعالى حاكياً عنهم: {فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف:47-49] هذه القصة نتعلم فن النظر والإعداد للمستقبل، فقد توقع يوسف عليه الصلاة والسلام من خلال هذه الرؤيا وتعبيرها الذي علمه الله إياه، ماذا سيقع في مقبلات الأيام، ثمَّ أخذ العدة لهذا الأمر الذي توقعه وأمر الناس بأن يدخروا ليوم الشدة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 3 النواميس والسنن الكونية وعلاقتها بالمستقبل وبصفة أوسع وأشمل من ذلك، فإن القرآن الكريم مليء بالحديث عن السنن الكونية والنواميس الاجتماعية، التي جعلها الله تعالى جاريةً في حياة الناس أفراداً ومجتمعات، بحيث إن المسلم إذا عرف هذه السنن، استطاع أن يقرأ المستقبل من خلال الواقع، كما أن الإنسان يعرف أن النتائج لها أسباب، فإذا وجد الأسباب تلمس نتائجها من ورائها بناءً على السنن والنواميس التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، وفي تلك المجتمعات، وبينها لنا أتم بيان في القرآن الكريم. وأخبار الأمم السابقة وقصصها وما علق وذكر الله تعالى على تلك الأحداث من العبر والدروس والآيات كفيلٌ بأن يجعل الإنسان ينظر للمستقبل من خلال الواقع، وأقرب مثال على هذا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة:66] وقوله: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:97-98] إلى غير ذلك من الآيات التي هي عبارة عن نواميس وسنن إلهية، من خلال استقرائها في الواقع نستطيع أن نتوقع ماذا يحدث للأمة إذا عملت بمقتضى هذه النواميس أو أخلت بها. فبين هذه النواميس وبين الواقع علاقةً وثيقة، هي علاقة النتيجة بالسبب، وبينهما ترابطٌ عضويٌ لا ينفك بحال، ودراسة الحاضرِ بناءً على ذلك تتيح للإنسان فهم الواقع، كما تتيح له تصوراً إجمالياً للمستقبل، إضافةً إلى هذا وهذا فإنه الطريق العلمي الصحيح لاستقراء أحداث المستقبل، أن نستقرئ أحداث المستقبل من خلال النظر إلى أحداث الواقع. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 4 قرائن تدل على المستقبل وهناك قرائنُ كثيرةٌ جاء بها القرآن الكريم، وذكرها الرسول عليه الصلاة والسلام تعين على استقراء المستقبل، وهي كثيرة منها: الجزء: 45 ¦ الصفحة: 5 الرؤيا الصادقة والرؤيا قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {أنها جزء من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة} وذلك لما فيها من تطلع الإنسان إلى أمورٍ حادثةٍ مستقبلة، ليست واقعة فيتوقعها الإنسان، ومن خلال رؤيا يراها في المنام يظن أنه قد يحدث كيت وكيت وكيت، وهذا في السنة النبوية منه كثيرٌ وكثير، يكفي أن نذكر -مثلاً- قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله، رأيت في السماء ظُلة "سحابة" تنطف السمن والعسل، والناس يأخذون منها فمستقلٌ ومستكثر، ورأيت حبلاً ممدوداً بين السماء والأرض فأمسكتَ به أنتَ فرُفعت، وأمسك به رجلٌ بعدك، فرفع وأمسك به رجلٌ آخر فرفع، ثم أمسك به رجلٌ ثالثٌ فانقطع به، ثم وصل له فرفع، فقال أبو بكر: يا رسول الله دعني أعبرها، قال: افعل، فقال: أما هذه الظلة فهي ما آتانا الله به من العلم والإيمان والوحي، والناس منه يأخذون بقدر علمهم وإيمانهم، وأما هذا الحبل فهو الحق، تأخذ به فتعلو ويأخذ به رجلٌ بعدك فيعلو، ويأخذ به رجل ثالث فيعلو، ويأخذ به رجل آخر فينقطع، ثم يوصل له فيعلو، ثم قال: والله يا رسول الله، أو قال: أخبرني يا رسول الله هل أصبت؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أصبت بعضاً وأخطأت بعضاً، فقال: والله يا رسول الله لتخبرني ما أصبت وما أخطأت، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم لا تقسم ولم يخبره} فهذه الرؤيا هي عبارة عن تفسير لما وقع فيما بعد من موت النبي صلى الله عليه وسلم شهيداً في سبيل الله عز وجل بسبب الأكلة التي أكلها بخيبر، ثم ولاية أبي بكر وقيامه بالحق، ثم ولاية عمر وقيامه بالحق، ثم ولاية عثمان وما حدث له بعد ذلك من المصائب، ثم استشهاده في سبيل الله عز وجل إلى غير ذلك. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 6 الفراسة والفراسة يقول الله عز وجل فيها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] فمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يكون فيهم تفرسٌ، وفراسةٌ تصدق في استقراء الأحداث، وتوقع ما يجري، يلهمه الله تعالى إلهاماً، فتأتي توقعاته مطابقة للواقع أو قريبة من ذلك، بسبب ما أعطاه الله تعالى من زكاة القلب، وصدق الفراسة، وصلاح الباطن. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 7 الفأل الحسن من القرائن أيضاً الفأل الحسن، وهي الكلمة الطيبة يجريها الله تعالى على لسان العبد الصالح، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلنها حرباً على الطيرة والتشاؤم باعتبارها عادات الجاهلية، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل بالكلمة الطيبة، ومثله الرؤيا الصالحة وما أشبه ذلك، فكان يتفاءل صلى الله عليه وسلم بالأسماء الحسنة والكلمات الطيبة، سواء كانت اسم شخصٍ أو اسم بلدٍ أو ما أشبه ذلك. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 8 صدق الدعاء من القرائن أيضاً: صدق الدعاء، فإن العبد أحياناً يستطيع أن يتوقع -بإذن الله تعالى- بعض ما تخبئه الأيام المقبلة من جرَّاء دعوةٍ صادقة، تخرج من قلبٍ محترق، فيظن أن يحدث كذا، أو يهلك الله طاغيةً مثل أن ينصر مجاهداً، أو يبين حقاً أو يكشف زيفاً، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول فيما صح عنه: [[إني لا أحمل هم الإجابة، ولكن أحمل هم الدعاء، فإذا ألهمت الدعاء، كانت معه الإجابة]] يعني رضي الله عنه بكلمته تلك أن العبد أحياناً يشعر بصدق الدعوة إذا خرجت من قلبه وحرارتها، فيحس كأن أبواب السماء تفتح لها، ويثق بإذن الله تعالى سيجيب له هذه الدعوة. وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع ومن ذلك أيضاً: أشياء كثيرة يتوقع الإنسان بها بعض ما تخبئه الأيام، هذه الأمور السابقة كلها تجتمع على أمر واحد، هي أننا لم نتعبد بشيءٍ من هذه الأشياء، بل هي محض فضل من الله عز وجل، فليس مطلوباً من الإنسان أن يجلس في انتظار فراسةٍ صادقة، أو رؤيا صالحة يبني عليها تصرفاً معيناً، أو يتبع فألاً يحدث له، لكن إن جرى هذا الأمر على لسان أحد، أو رأى أحد رؤيا صالحة؛ فإنه يفرح بها ويستبشر. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 9 قرائن معرفة المستقبل أمورٌ ليست تعبدية إذاً: خلاصة الكلام في مثل هذه القرائن أنها ليست مما تعبد به العبد، فيجلس في انتظار رؤيا صالحة أو فراسةٍ أو إلهامٍ من رجل صالحٍ أو دعوةٍ صادقة ينتظر نتيجتها، هذا كلامٌ مطلوبٌ من الإنسان أن يفرح به إن وقع، ويسر به ويأنس له، ويعتبره من حسن الظن بالله عز وجل، لكن ليس مطلوباً من الإنسان أن يتعبد بانتظار رؤيا صالحة، أو فأل حسن، ولذلك قال العلماء: الفأل الحسن إن وقع يفرح به، لكن لا يطلبه الإنسان، أما الدعاء فلا شك أن الإنسان متعبدٌ بأن يدعو الله تعالى، لكن الدعاء هو أحد الأسباب التي يفعلها الإنسان، ويضيف إليه الأسباب الأخرى، كما ورد [[أن عمر رضي الله عنه مر بإبلٍ جرباء، فقال: ماذا تصنعون بها؟! قالوا: هاهنا امرأةٌ صالحة نأمرها فتدعو الله عز وجل بالشفاء لها، فقال لهم عمر رضي الله عنه: اجعلوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران]] اخلطوا مع دعاء العجوز شيئاً من القطران، لا بأس بدعاء العجوز، لكن لا بأس أن نفعل معه سبباً طبيعياً مما جعل الله تعالى وعلق النتائج عليه. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 10 التحدث عن المستقبل في السنة النبوية ومن جهة ثانية: فإن أمامنا مجموعة كبيرةً من النصوص الحديثية، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم والتي تتعلق بالحديث عن أمور مستقبلية، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستقع لهذه الأمة، وهي ما يسميه العلماء -علماء الحديث خاصة، يسمونها أخبار الملاحم أو أخبار الفتن، وقلّ كتابٌ من كتب الحديث كـ البخاري أو مسلم أو السنن أو غيرها، إلا وتجد فيه باباً خاصاً لهذه الأحاديث، أبواب الفتن والملاحم يتكلمون فيها عما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم عن أمورٍ مستقبلة، الله تبارك وتعالى أعلم متى تقع منذ وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى قيام الساعة، ويكفي أن أذكر في مثل هذه الأحاديث أن جماعة من العلماء أفردوها بالتصنيف، منهم الإمام أبو عمرو الداني صنف كتاباً لا يزال مخطوطاً اسمه السنن الواردة في الفتن، ومنهم نعيم بن حماد له كتاب في الفتن هو مخطوط أيضاً في حدود ما أعلم، ولا شك أن من هذه الأحاديث أحاديث الملاحم والفتن، الأحاديث المتعلقة مثلاً بظهور المهدي أو عيسى بن مريم، أو الدجال أو غير ذلك. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 11 كيفية معاملة هذه الأحاديث إن طريقة التعامل مع هذه النصوص المتعلقة بأمور مستقبلية هي طريقة حساسة جداً، فإنها هي الأخرى مما لم نتعبد بانتظاره وترقبه، بل هي غيوب يجريها الله تبارك وتعالى متى شاء ومتى أراد، ولذلك كانت توقعات بعض السابقين، لهذه الأمور غير مطابقة للواقع، فمثلاً المهدي والمسيح بن مريم -عليه السلام- منذ زمن طويل والناس يترقبون ظهورهما، حتى إن الإمام العراقي قال في منظومته في المجددين لما عدّ المجددين، وصل إلى القرن الثامن فقال:- والظن أن التاسع المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي فالأمر أقرب ما يكون وذو الحجا متأخرٌ ويسود غير مسود فكان يتوقع أن يكون المهدي، أو عيسى بن مريم هو مجدد القرن الثامن، أو مجدد القرن التاسع، وقد تبين بالدلالة دلالة التاريخ القطعية أن هذا الظن في غير محله، وكذلك ظن غيره ممن توقعوا مثل الأمر، ومثل الأحاديث الواردة في الكلام عن آخر الزمان، كحديث: {إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك} فإنك تجد عالماً تكلم عن هذا الحديث ربما في القرن الرابع أو الخامس، فقال: وقد صح هذا في زماننا، فإننا نرى كيت وكيت وكيت، فيأتي عالمٌ آخر في القرن السابع فيقول: رحمة الله على فلان، كيف لو رأى ما نحن فيه الآن؟! إنهم كانوا في خير كثير بالقياس على ما نحن فيه، وهكذا، فهذه ظنونٌ وتوقعاتٌ وحدس، قد لا يكون أحدٌ مصيباً فيها على كل حال. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 12 المطلوب من المسلم تجاه الأمور المستقبلية إننا أيها الإخوة: نميل أحياناً إلى شيء يعفينا من العمل والتفكير في المشكلات، خاصةً إذا ادلهمت الأحداث واحلولك الظلام، وحينئذٍ يحس الإنسان أنه يجب أن ينتظر وافداً من خارجه، يجلو الله تبارك وتعالى به عنه المحنة والغمة، وهذا لا شك آية العجز والفتور وضعف الهمة، فنحن كما أسلفتُ لسنا مطالبين بأن نجلس في انتظار مجيء المهدي، أو مجيء عيسى بن مريم عليه السلام ولا شك بأننا نؤمن بنزول عيسى، بل الأحاديث فيه متواترة ودلالة القرآن عليه ظاهرة، وكذلك نؤمن بخروج المهدى في آخر الزمان، والأحاديث فيه كثيرة، وقد صرح جماعةٌ من العلماء أيضاً بأنها متواترة؛ لكن ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أننا نتعبد بانتظار هذا أو ذاك، بل هذا مهرب نفسيٌ لطيفٌ نلوذ به، ونلبي به رغبة في نفوسنا، وتدعو إلى تجنب دراسة المشكلات والتفكير في حلها، وتعليقها على أمرٍ من الخارج، وعليه فنحن متعبدون بدراسة أمورنا دراسةً صحيحة، والنظر في واقعنا نظراً سليماً، والبحث عن مخرج وبذل الوسع، وترك ما سوى ذلك لله عز وجل، فهو الذي يحكم في أمر الغيب بما يشاء. بل أقول أيها الإخوة: حتى هؤلاء الموعود بهم، كالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام والمهدي، حتى هؤلاء الموعود بهم، لن ينزلوا على أمةٍ منهكة متهالكة متآكلة، فإن الله تبارك وتعالى وحده هو الذي يحيي الموتى، بل سينزلون على أمةٍ يجدر بها أن يقودها مثلهم، وكما أن الله عز وجل ذكر في كتابه أنه يولى بعض الظالمين بعضاً، فكذلك هو يولي بعض الصالحين بعضاً، فمتى كانت الأمة فيها صلاح وخير وقوة وجدارة، قيض الله تعالى لها من يحكمها، ممن يكون مهدياً ولو لم يكن هو المهدي المنصوص عليه في الأحاديث، لكن يكون مهتدياً بسنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هذا من جهة ثانية. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 13 المستقبل لهذا الدين ومن جهة ثالثة أيضاً، فإننا يجب أن نعلم علماً قطعياً يقينياً لا يرتابه شك أن المستقبل لهذا الدين، وذلك بدلالة القرآن والسنة والتاريخ والواقع والفطرة والأحاديث والأدلة في ذلك كثيرة، سواء كان من الناحية الشرعية أم من الناحية التاريخية أم من الناحية الواقعية، وسواء كان في واقع الأمة الإسلامية التي بدأت تستيقظ، أم واقع الأمم الكافرة التي بدأت تئن تحت مطارق المادية، وتتطلع إلى حضارةٍ جديدةٍ تنقذها من مهاوي الرذيلة. إذاً الكلام في مستقبل الإسلام وأن المستقبل لهذا الدين، هو أمر مفروغ منه، ولا يحتاج إلى إفاضة أو بيان. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 14 غفلة المسلمين عن دراسات المستقبل على رغم أن الدلائل الشرعية -التي أسلفت- تدل على أهمية النظر للمستقبل والإعداد والتخطيط له، فإن المسلمين في كثير من الأحيان غفلوا عن إدراك الواقع بالبصيرة فيه، وغفلوا عن معرفة أبعاد هذا الواقع، ومعرفة الأحداث ومجرياتها، وما وراءها، فضلاً عن أن يستطيعوا استقراء المستقبل وأخذ الأهبة والحيطة والحذر، فضلاً عن التأثير في الأحداث بصورةٍ حقيقية، ومع الأسف أننا نجد أن الغرب قد سبقنا في مجالاتٍ منها هذا المجال، فإنهم في الغرب يهتمون بالدراسات المستقبلية بشكل غريب، وقد أصبحت تلك الدراسات علماً مستقلاً بذاته يسمونه علم المستقبل، ويخصصون له الجامعات والمراكز والأندية، من ذلك مثلاً نادي روما، الذي أعد دراسات، منها: دراسة أجريت ونشرت تحت عنوان: "أحوال العالم" متوقعٌ فيها عدداً من الكوارث التي تسعى إليها البشرية، مثل كارثة الانفجار السكاني، أو كارثة نضوب الموارد الطبيعية، أو كارثة نقص الأغذية، أو كارثة الأسلحة النووية والكيماوية وتضخمها، بما يكفي لإبادة البشرية كما ذكروا في تقريرهم، ليس هذا موضع دراسة نتائجهم، وإنما المقصود أن هذا نموذجٌ لدراساتهم. ومثله الدراسة التي أعدتها جامعة "ساسكس" وهي إحدى الجامعات في جنوب بريطانيا، ونشرت أيضاً، وكانت هذه الدراسة قد أجراها فرقٌ من الباحثين، كلما انتهى فريقٌ تولاها فريقٌ آخر، واستمرت على مدى ثلاثين عاماً، ثم نشرت وكان من ضمن النتائج التي توقعوها في تلك الدراسة أن الحضارة الغربية آيلة للسقوط، وأنهم يقولون: أن البديل هو توقع حضارةٍ تخرج مما يسمونه بالعالم الثالثة، تحتاج إلى جرأة وشجاعة وتغيير جذري في واقع ذلك العالم لإنتاج حضارة جديدة تحقق متطلبات الإنسان، إضافة إلى دراساتٍ كثيرة، قامت بها معاهد متخصصة، كمعهد المستقبل الذي يقوم عليه هملر ومعهد "هدسون" والمؤسسات المستقبلية، والجمعية الدولية لدراسات المستقبل، والتي يعد المنتسبون إليها بالألوف. إضافةً إلى مؤتمرات ونظريات ودوريات ونشرات ومجلات، في أوروبا وأمريكا وبريطانيا، جعلت همها دراسة الإنسان والمستقبل، والعناية بذلك عنايةً كبيرة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 15 ما يملكه المسلمون لدراسة المستقبل وبطبيعة الحال نحن المسلمين نملك من إمكانيات دراسة المستقبل ما لا يملكون. أولاً: نملك النواميس والسنن الكونية التي نجدها في القرآن الكريم والسنة النبوية، وهذه ليست في منظورهم. ثانياً: نملك من صحة الحدس والنظر وصدق الفراسة والقرائن الأخرى ما لا يملكون، ومع ذلك فإن الدراسات الإسلامية في هذا المجال قليلة، أذكر منها -في حدود ما اطلعت عليه- كتاباً أصدره الدكتور محمد جابر الأنصاري، في البحرين بعنوان العرب والعالم عام (2000م) وقد نشر هذا الكتاب، وتوقع من خلاله ظهور حضارة جديدة يقوم عليها ما سماه المؤلف بالحضارة الصفراء، ويقصد أن يقوم على هذه الحضارة الجنس الأصفر اليابان والصين والدول المحيطة بها وتكون وريثة للحضارة الغربية، وكأنه يتوقع أن تكون جسراً تعبر من خلاله الحضارة بعد ذلك إلى هذه الأمة الإسلامية ومثل كتابات الدكتور رشدي فكار فقد كتب عن المسلمين وتحديات المستقبل، ومروان بحيرى كتب العرب والعالم عام (2000م) ، والدكتور النفيسي كتب أيضاً حول الصحوة ومستقبلها، إضافةً إلى كتابات متفرقة هنا وهناك. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 16 أهمية قضية المستقبل لكن لاشك أن الكلام عن قضية المستقبل، مستقبل المسلمين عامةً، ومستقبل الدعوة الإسلامية خاصةً، هو من القضايا الخطيرة التي تحتاج إلى اجتهادات جماعية ودراسات ومؤتمرات حتى تصل إلى بعض النتائج، ولا أقصد بالنتائج أن نأتي ونقول: إن الصحوة الإسلامية والدعوة الإسلامية عام كذا سوف يحدث لها كذا وكذا، عبارة عن تنبؤات، هذا ليس مجدياً وليس مهماً، لكن الشيء المهم هو أن نرسم ما يجب أن نفعله للمستقبل، نرسم التحديات التي تواجه الأمة في مستقبلها، حتى نستعد لها في وقت مبكر. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 17 علاقة المستقبل بالماضي وهناك سؤالٌ يطرح نفسه قبل ذلك: هل يدرس المسلمون أحداث الماضي؟ لأن المستقبل يولد من رحم الماضي، فالمستقبل هو امتدادٌ للحاضر، والحاضر امتدادٌ للماضي، وعليه فهل نحن ندرس أحداث الماضي دراسةً صحيحة؟ العقد الماضي مثلاً، أين الدراسات التي تحدثت عن مكاسب الإسلام فيه؟! أو عن خسائر الأمة الإسلامية، عن الخطأ والصواب، عن الصحيح من غيره؟! أين الدراسات التي تقوّم أعمال المسلمين خلال العقود الماضية، وتحاول أن تضع النقاط على الحروف، لتبين ما هو الخطأ الذي يجب أن يصحح وما هو الصواب الذي يجب أن يستمر، في الواقع لا يزال المسلمون -أيها الإخوة- تسيرهم عواطف تحركهم نحو أحداث الحاضر بدون وعيٍ، فهم يغرقون في مشكلات الحاضر، فلا يفكرون في جذورها لإزالتها، ولا يفكرون في حلولها المستقبلية. مثال: إنسان يصيبه الصداع مثلاً ويؤلمه حتى لا يستطيع أن ينام من ألم الصداع، فتجد أن كل ما يفكر فيه، هو أن يأخذ حبوباً مهدئة تجعله يتمكن من النوم براحةٍ أو يتحدث براحة، أو يأكل أو يشرب أو يجلس بصورةٍ طبيعية، لكن أن يفكر في أسبابِ هذا الصداع، التي قد تزيد على اثني عشر سبباً من أجل إزالة هذه الأسباب، لا يفكر بذلك، أو يفكر أيضاً في حلولٍ مستقبلية، فإنه لا يفكر، إنما يفكر في لحظته الحاضرة، فإذا زال عنه الألم بدأ يمارس أعماله بصورةٍ طبيعية، ونسي هذا الألم الذي كان يعاني منه. مثال آخر: إنسانٌ مسه الجوع وألمه فأصبح يتلوى منه، وينصب همه على لقمة عيشٍ تسد جوعته، وتجعله يتصرف بصورةٍ طبيعية، لكن هل يفكر ما الذي آل به إلى هذا المستوى من الفقر والمسغبة والمتربة؟ لا! أو هل يفكر بالحلول المستقبلية التي تجعله يخرج من هذه الأزمة؟ أيضاً لا! كل همه أن يجد لقمةً حاضرةً يسد بها جوعته، فإذا شبع قال لك: أنا يكفيني رزق اليوم، أما المستقبل فله ألف حلاّل كما يقولون. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 18 كيف نصنع مستقبل هذا الدين والحقيقة التي تحتاج منا إلى دراسة، هي كيف نصل لهذا المستقبل؟ وكيف نستطيع أن نصنع هذا المستقبل؟ فإننا نعلم أن الله عز وجل يريد منا أن نبذل ما في وسعنا إلى الوصول إلى هذه النتيجة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنوا واقع الإسلام، نصروا الإسلام نصراً مؤزراً حتى دانت له الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها، وحتى نزل قول الله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وأنزل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سعوا وخططوا وبذلوا وتعبوا، حتى صنعوا هذا النصر لهذا الدين، كذلك المطلوب منا بعد أن علمنا أن الله تعالى آتٍ بالنصر لهذا الدين لا محالة أن يكون دورنا وجهدنا هو السعي لتحقيق النصر، وصناعة المستقبل بإذن الله تعالى لهذا الدين. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 19 أسباب الاغتراب في نظرة المسلمين لمستقبلهم نقطة خامسة أيضاً: مما يزيد من الضبابية والاغتراب في نظرة المسلمين لمستقبلهم ولواقعهم ولماضيهم أمور:- الجزء: 45 ¦ الصفحة: 20 التعتيم على الماضي نقطة أخرى تؤثر في نظرنا للماضي، وبالتالي في نظرتنا للمستقبل، وهي قضية التعتيم على الماضي، وعلى أحداثه وأوضاعه، سواء التعتيم على المستوى الرسمي، أو التعتيم على المستوى الدعوي، في كثيرٍ من الأحيان، لابد من الاعتراف بالخطأ، والاعتراف بالخطأ فضيلة، وليس يعيب الإنسان أياً كان موقعه -سواء كان مسئولاً أو حاكماً داعية أو عالماً- أن يعترف بخطئه، ويقول: إن الأمر كان كذا وكذا، وفي تصورنا كذا وكذا، وجاءت النتائج مخالفة لما كنا نتوقع، هذا لا يضر، ومن هو الذي لا يخطئ؟! الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل فلابد أن يقع في الخطأ، وقضية نقد الذات، ونقد النفس لابد منها، كم واحداً منا يملك الشجاعة فينتقد نفسه أو ينتقد واقعه أو تاريخه أو ماضيه، وبالتالي يملك أن يراجع مسيرته؟ يراجع الأوراق ثم يصحح الأخطاء، لابد من الرجوع إلى التفسير الشرعي للأحداث، وأحب أن أضرب لكم بعض الأمثلة. مرت الدعوة الإسلامية في تاريخها القريب بمحنٍ كثيرة في معظم البلاد الإسلامية، ومن خلال هذه المحن زج بالدعاة في غياهب السجون، وعلق جماعة منهم على أعواد المشانق، وشرد منهم من شرد، وأصبحت أحداثهم أحداثاً دامية، يرويها التاريخ في مصر، وفي بلاد الشام، وفي فلسطين، وفي الفلبين، وفي مناطق كثيرة جداً، ولا يكاد يوجد بلد إسلامي إلا وتعرض الدعاة فيه إلى محنة، بل إلى محن، كيف ننظر إلى هذه المحن التي ابتلينا بها، كثيراً ما نخرج من المسئولية بأن نقول: إن هذا ابتلاءٌ وامتحان، وقد وعد الله تعالى من يكون على الطريق الصحيح، أن يبتليه ويمتحنه، قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} [التوبة:16] إلى غير ذلك من الآيات، ثم نخرج وكأن المحنة ما هي إلا ابتلاءٌ وتمحيصٌ محض، وليس لنا فيها يد، وهذا جزء من الواقع صحيح لاشك فيه، لكننا غفلنا عن الجزء الآخر المتعلق بمسئوليتنا نحن عن قضية المحنة، قال الله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن:11] وفي الآية الأخرى قال تعالى: {إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد:22] وفي الآية الثالثة قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] . إذاً: المصائب والنكبات العامة التي تنزل بالأمم وبالدول وبالجماعات وبالطوائف، هذه المصائب لابد لها من أسباب، أما مصيبة الفرد، فقد يكون لها سبب، وقد تكون تمحيصاً كما قال عليه السلام: {أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل} قد يكون تمحيصاً ورفعةً للدرجات، لكن المصائب العامة التي تنزل بالأمم، لها جانب مسئولية في الأمة نفسها، وفي الطائفة نفسها، وفي الدولة نفسها، فنحن نغفل عن هذا الجانب الذي نحن مسئولون عنه، ونقول: هذا ابتلاءٌ وامتحانٌ من الله تعالى وليس دورنا فيه إلا الصبر، الصبر مطلوب، لكن أيضاً مراجعة الأخطاء، فقد نكون تعجلنا في خطواتٍ كانت سبباً في المصيبة، أو سلكنا طريقاً غير صحيح، أو قصرنا في اتخاذ الأسباب، أو غفلنا عن التوكل على الله عز وجل، وتفويض الأمور إليه، واعتمدنا على أسبابنا ووسائلنا، فوكلنا الله إلى أنفسنا إلى غير ذلك من الأسباب التي يمكن أن نستقرئها من خلال دراسة المحنة، ومعرفة دورنا في هذه المحنة. مثال آخر قلة الأتباع: رأيت كثيراً من الدعاة حين ينظر إلى من حوله فيجد قلةً في من يتبعونه، فيقول: هذه هي السنة، سنة الله تعالى في الأمم، ثم يسرد لك الآيات الواردة في القرآن الكريم، فيقول لك: قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] ويستدل لك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: {ويأتي النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان} ثم يخرج وكأنه حينئذٍ يقول: قلة من يتبعونني في الدعوة ليست لتقصيرٍ عندي، ولكن هذه سنة إلهية، أي ليس لي أي دورٌ فيها، وهنا تأتي الخطورة، وهو أننا قد نجبن عن مواجهة أنفسنا بالحقائق، مع أن هذه الآيات الواردة هنا هي في شأن الكفار، أما هذه الأمة المحمدية فقد ثبت بدلالة الشرع والتاريخ والواقع أيضاً أنها أمة معطاءة، أليس الرسول عليه السلام قال في نفس الحديث، حديث عمران قال: {ثم رفع لي سوادٌ عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، ولكن انظر فنظرت فإذا سواد قد سد الأفق، فقيل لي: هذه أمتك، وفيهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب} وفي رواية أخرى قال ابن حجر: سندها حسن: {ومع كل ألف سبعون ألفاً} إذاً هذه أمة العطاء وأمة البذل وأمة القبول، وحين يرتفع في هذه الأمة صوتٌ صادقٌ للدعوة، تلتف حوله الأمة ولابد على مدار التاريخ، ولما كانت هذه الأمة في الجاهلية، كانوا في سوق عكاظ والمجنة وذي المجاز، كل شاعرٍ يجتمع حوله عشرة أو عشرون لكن لما قام الرسول عليه الصلاة والسلام بدعوته اجتمع حوله في حجة الوداع -كما ذكر الحاكم أبو عبد الله وغيره- ممن سمعوا خطبته أكثر من مائة وأربعة عشر ألفاً، يستمعون خطبة النبي صلى الله عليه وسلم، أولُ مرةٍ يجتمع مثل هذا الحشد، ثم ورث هذا السر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فأصبحنا نجد مثلاً الإمام أحمد يحضر مجلس درسه ما يزيد على خمسة آلاف إنسان، هذا مجلس فقه وحديث وسنة، ومجلس وعظه يحضره ما يزيد على خمسة آلاف، ويحضر جنازته ألوف مؤلفة لا يحصيها العد، ثم يأخذ الراية بعده أئمة كُثُر، خذ منهم ابن الجوزي مثلاً كم كان يحضر مجلس وعظه؟ ذكروا أنه كان يقدر بعشرات الألوف، وقد يُسْلم في المجلس الواحد عشرات من أهل الذمة، ويتوب مئات من المؤمنين الضالين، ابن تيمية رحمه الله كيف كانت قلوب الأمة تلتف حوله؟! إذاً: ليس بصحيحٍ أن نخرج من قلة الأتباع بأن نقول: هذه والله سنة الله تعالى، ونسوق الآيات الواردة في شأن الكفار، وأنهم أكثر أهل الأرض، ثم نطبقها على أنفسنا، لا، فقد تكون قلة الأتباع لهذا الداعية أو ذاك، ترجع إلى أسباب تعود إليه هو، مثلاً قد يكون ذلك لغياب القدوة، لأن هذا الداعية ليس على مستوى القدوة، فيدعو إلى شيءٍ لا يطبقه في نفسه، وقد يكون السبب لأجل قسوة الشروط أحياناً، فالداعية يريد من الناس أن يلتزموا بشروطٍ صعبة لا يقبلها أي إنسان، يريد إنساناً على مستوى معينٍ ذكاء معين، وطاعة معينة، وانقيادٍ معين، واستعدادٍ معين، والناس كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {كإبل مائة لا تجد فيها راحلة} إذاً قسوة الشرط قد يكون من أسباب قلة التابع إلى غير ذلك. مثال ثالث: ضعف التأثير من الداعية في الناس، يدعو فيجد أن أثره ضعيف، يرجع يقول: هذا أمر طبيعي أليس الرسول عليه السلام لما ذكر الغرباء قال: {من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} إذاً هذا أمر طبعي ولا غرابة فيه، وينسى أن هذا الأمر قد يكون بسبب ضعف المؤثر، أو ضعف الوسيلة التي يستخدمها في الدعوة، أو عدم القدرة على الوصول إلى نفسية المتلقي وعقله وقلبه وفكره إلى غير ذلك. مثال رابع: قضية المفاجأة بالأحداث والنتائج، نفاجأ بأحداث كثيرة، لعل أحداث الساعة، من الأحداث التي فوجئ بها الجميع، وقبلها أحداث كثيرة وقعت على كافة المستويات، إذا فوجئنا بها نلوذ ونحتج بالقدر، ولاشك أن الله تعالى ذم المشركين على احتجاجهم بالقدر، في ثلاثة مواضع من كتابه، قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] بل الإنسان المؤمن مسلكه مسلك أبيه آدم عليه السلام، صحيحٌ أنه يؤمن بأن هذا كله بقضاء الله وقدره، لكن لا يمنع هذا أن يكون هناك أسبابٌ أوصلت إلى هذه النتيجة، ويجب العمل على إزالة هذه الأسباب، ولذلك من آمن بالأسباب وعملها، وآمن بالقدر؛ فهو مؤمن موحد على مذهب آدم عليه السلام ومن يشابه أباه فما ظلم! لابد أن ننازع القدر بالقدر، كما قال بعض أهل العلم: ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعتيم ننازعه بالمكاشفة والتعبئة، ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون -لاشك- عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت، فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو كمسئولية الحاكم، أو كمسئولية المفكر، بل كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته. أما تحميل المسئولية لجهةٍ معينة، كالحكام أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة، ونطلع نحن أبرياء، وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} وهذا الحديث لا يصح سنداً ولا متناً، وبناء على تحديد المسئولية، نكون جميعاً مطالبين بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه، كل متخصصٍ في مجالٍ يقدم ورقة، ويرفع راية، ويخط طريقاً، ويجر وراءه من يستطيع. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 21 عدم تحديد الهدف بدقة أولها: عدم تحديد الأهداف بدقة، وهذه مشكلة يعانيها المسلم على المستوى الفردي، وعلى المستوى الاجتماعي، ففي تصور كثيرٍ من الدعاة إلى الله عز وجل، أن الهدف يتلخص فيما يسمونه بالحل العسكري، حركة جهادٍ تقوم هنا أو هناك لمجاهدة الكافرين والظالمين والقاسطين، ثم بعد ذلك تقوم دولة الإسلام، وتبدأ ببسط سلطانها وهيمنتها على الأرض، ولاشك أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام، ولاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} ولاشك أيضاً أن الجهاد شريعةٌ ماضيةٌ إلى قيام الساعة، لا يمنعه فجور الفجار ولا ظلم الظالمين ولا قسط القاسطين؛ ولكن الإسلام دينٌ مهيمنٌ على كل شيء، والجهاد يجب أن يكون في جميع الاتجاهات، والجهاد يجب أن يكون في كل ميدان. ولا بد هنا من التخصص في جميع المجالات، فمثلاً: في مجال التخصصات الشرعية، فلاشك أن العلماء والفقهاء الشرعيين هم الكواكب الذين تسير الأمة على هديهم، وتقتبس من نورهم، ويوم تغيب هذه النجوم، فإن الأمة تتيه في صحراء لا هادي فيها ولا دليل لها، ولذلك فإن التخصص في مجال الدراسات الشرعية من ضمن الأهداف التي يجب أن تضعها الأمة في قائمة الأولويات، وذلك بأن ينبري وينبعث من بين شباب الأمة وشباب الصحوة طائفة كما قال تعالى: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] . والتخصصات العلمية الأخرى: كالطب والهندسة والعلوم والاقتصاد، كل هذه تحتاجها الأمة، وتحتاج إلى متخصصين فيها، وتحتاج الدعوة إلى كوكبةٍ من المتخصصين يصدقون ما يقوله العالم الشرعي، فإذا قال العالم الشرعي: الكلام والحكم كذا وكذا وكذا، قال له الطبيب: صدقت، وقال له المهندس: صدقت، وقال له الاقتصادي: صدقت، وقال له المتخصص في كل مجالٍ: صدقت، حتى ليقول العلماني، عدو الإسلام حين يرى أن الأصوات تنادت عليه من كل مكان، تؤيد وتصدق ما قاله عالم الشرع، حتى ليقول كما قال أبو جهل: هذا أمر دبر بليل. خذ مثلاً حين يتكلم العالم عن خطر الزنا، يستطيع أن يأتي بالنصوص الشرعية والأحاديث النبوية، ويفيض في ذلك ويبين عواقبه في الدنيا والآخرة، وما ورد في ذلك، حتى أن المؤمن بالله واليوم الآخر يقشعر بدنه ويخاف، لكن هناك الكثير من الناس لم يصل إليهم هذا الكلام، ولم يصل إلى قلوبهم، فنحتاج حينئذٍ إلى طبيبٍ يصدق كلام العالم، فيقوم يتحدث -مثلاً- عن الأمراض الجنسية: الهربز، والإيدز، والكلاميبيا، وغيرها من الأمراض الجنسية الفتاكة التي أصبحت إحصائياتها ترعب أكفر الناس وأكثرهم طغياناً وصفاقةً ووقاحةً وجرأةً على الله تعالى، تجد الطبيب يقوم فيصدق كلام هذا العالم من خلال ميدانه في الطب، ومن خلال معلوماته واختصاصاته. مجالٌ آخر: وهذا مثالٌ قد يكون قريباً من واقعنا ويمسنا كثيراً، قضية الجن أو العين -مثلاً- هذه القضية قد يجلس العالم زماناً طويلاً يقنع بها كثيراً من الناس فيقتنعون، وقد يكون من بينهم من لا يزال في قلبه حُسيكة، بل قد يكون منهم من لم يسمع هذا الكلام، وقد يتعلق بأقاويل لبعض المنسوبين إلى العلم في مثل هذه الأمور، لكن ما رأيك حين يقوم الطبيب من خلال ميدانه وعمله ومرئياته ومختبراته، ليصدق كلام هذا العالم، ويحقق بعدما يقوم بكشوف وتحريات على هذا المريض، فيقول له: كل هذه التحاليل والكشوف كلها أثبتت أنه ليس فيك مرضاً عضوياً يمكن أن يخضع للتحليل والطب البشري، فبقي عليك الطب الشرعي، فتلجأ إلى الرقية وإلى القراءة وإلى الذكر وإلى الأوراد الشرعية التي تستعيذ بالله من خلالها، من شر شياطين الإنس والجن، فكم يكون وقع مثل هذا على نفسية المريض؟! بل على نفسية المجتمع كله؟ وقل مثل ذلك من الناحية العملية فقد، يتحدث العالم طويلاً، عن قضية خطورة الاختلاط والتبرج، ووجوب التستر وما أشبه ذلك بكلام قوي مدعم بالدليل من الكتاب والسنة وأقوال السلف والآثار، وفيه مقنع لمن أراد القناعة، لكن مع ذلك يبقى الواقع واقعاً مريراً، فإذا جاء الواحد منا إلى مستشفى، أو إلى مستوصف أو ميدان أو مختبر أو جامعة أو كلية، ووجد فيها من ألوان الاختلاط الشيء الكثير الذي لا قبل له به، فنظل نقلب أيدينا ونقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، لكن من خلال وجود هؤلاء المتخصصين، الذين نذروا أنفسهم في كل ميدان، واعتبروا أنفسهم مصدقين لكلمة الشرع، نستطيع أن نغير هذا الواقع تغييراً عملياً، فإذا قال عالم الشرع كلمته في تحريم الاختلاط -مثلاً- أو تحريم التبرج والسفور، وجدنا أنه ينبري كوكبة من الأطباء ليقوموا عملياً بفصل تطبيب الرجال عن تطبيب النساء، فهذه كوكبة من الأطباء أفلحت ونجحت في تكوين وإقامة مستشفى خاص بالنساء، طاقم المستشفى من ألفه إلى يائه طاقم نسائي، ويثبت للناس عملياً أن هذا ممكن وليس مستحيلاً، وكيف يكون مستحيلاً في بلاد الإسلام ونحن نعرف أنه في بلاد الغرب أصبح واقعاً عملياً، جامعات مخصصة للنساء، وفنادق مخصصة للنساء، ومستشفيات خاصة للنساء، هذا في أمريكا وبريطانيا وألمانيا، وأخبار تقرءونها في الصحف، فيصدق المتخصص في أي مجالٍ ما يقوله عالم الشرع ويطبقه تطبيقاً عملياً. وقل مثل ذلك في مجال الاقتصاد فكم يتحدث العالم عن الربا، وخطر الربا، وضرر إقامة الاقتصاد على الربا، وخطر التفاوت الكبير بين الطبقات في توزيع الثروة، ووجوب العدل، وتحريم الظلم، إلى غير ذلك، لكن يبقى الواقع في بعض الأحيان وفي بعض المجالات يبقى الواقع بعيداً عن ذلك، لكن نحتاج مع ذلك إلى من يصدق كلام هذا العالم ويحوله، لأنه ليس صحيحاً أن نتوقع أن العالم الشرعي بيده كل شيء، يكفي في مهمة العالم الشرعي أن يبين لنا هذا الطريق، ثم نحن نسير وراءه، فيبقى دور المتخصص في الاقتصاد، أن يبين من خلال الدراسات والتحاليل والتقارير الواقعية المبنية على أوضاع العالم الغربي، والبنوك وغيرها، والألاعيب الاقتصادية، أن يثبت صدق ما قاله هذا العالم في واقع الناس، وأنه لابد من أن نقيم اقتصادنا على الأسس الإسلامية، وأن نخلصه من لوثة الربا، التي ما كانت في شيءٍ إلا أفسدته. وكذلك في مجال الاقتصاد أقول: لابد من التوبة النصوح من الإسراف في تحذير الناس، من الحرص على المال، وترغيبهم في الوظائف، فقد أسرفنا كثيراً في تحذير الناس، من الاشتغال بالتجارة، ونسينا (نعم المال الصالح للعبد الصالح) وركزنا على قضية خطورة المال، وأنه قد يكون سبباً لانحراف الإنسان وفساده وظلمه وغفلته وانشغاله عن الدعوة، أسرفنا في ذلك كما أسرفنا في إغراء الناس بأن يتعلقوا بالوظائف، ويركزوا عليها ويغفلوا عما عداها. وفيما يتعلق -أيضاً- بالاختصاص، ضرورة الاختصاص نلحظ أن كثيراً من الشباب المتدين، أرادوا أن يحطموا خرافة الصراع بين الدين والعلم التي كانت موجودةً في أوروبا، فدخلوا في الكليات وفي الطب وفي الهندسة وفي العلوم وفي كليات تكنولوجيا الحاسب الآلي إلى آخره، ولكننا بعد ذلك نتساءل: هل نجحنا فعلاً في إقناع الناس بالقضاء على هذه الأسطورة؟ أم فشلنا فوجدنا أننا بعد ذلك نهرب من بعض المجالات وبعض التخصصات؟ تحت عقدة الخوف من الفشل أو الشعور بأننا نسير في طريقٍ مسدود، أو أننا يجب أن نتجه اتجاهاً آخر؟ وأحياناً تقرأ -مثلاً- أن هناك نقابة للأطباء المسلمين، كم عدد أعضاء هذه النقابة ثلاثون ألف -مثلاً- في إحدى الدول، وهؤلاء الثلاثون ألفاً من الأطباء المسلمين ماذا فعلوا لأمة الإسلام؟! ماذا فعلوا للدعوة؟! من المؤسف أن تقول الإحصائيات: إنه ما بين (30% إلى 50%) من هؤلاء يعيشون في بلاد الغرب، ومعنى ذلك أن جهودهم وتخصصاتهم وإبداعهم هو يصب في خدمة صحةِ وعافيةِ الكفار، وأن الأمة الإسلامية قد خسرت هذه الطاقات الهائلة الجبارة المتخصصة، هذا جانبٌ فيما يتعلق بالتخصصات العلمية. جانبٌ آخر في قضية التخصصات العملية، مثلاً: محو الأمية، سواء أمية الحرف، أي: القراءة والكتابة، أم أمية الفكر والعلم، وذلك من خلال محو أمية الناس في عقائدهم بحيث يتعلمون مبادئ العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومحو أمية الناس في معرفة الأحكام الشرعية التي لابد لهم منها، ومحو أمية الناس في تعليمهم مبادئ التفكير الصحيح، وفي بعض الدول تحتفل منذ سنوات بمرور عشرات السنين على نهاية آخر أمي في تلك الدولة، وفي بعض البلاد الإسلامية لا تزال نسبة الأمية فيها تصل أحياناً إلى (80%) ، ماذا فعلنا لمحو أمية المسلمين؟! ما هو المانع من أن ينبري مجموعة من الدعاة، فيذهبوا إلى تعليم المسلمين مبادئ القراءة والكتابة، وقِصار السور، ومبادئ العقيدة الإسلامية في أي مكان؟ ونعتبر أننا بذلك قدمنا خدمة جليلة للدعوة الإسلامية. وهناك -أيضاً- تخصص عملي آخر، وهو قضية توفير القوت لما يسمونه بالعالم الثالث، بل هناك ما يسمى بالعالم الرابع، أو ما يسمى بحزام البؤس، حيث يموت كثيرٌ من المسلمين من الجوع، في مناطق كثيرة، وأكثر الشعوب التي تموت من الجوع من الأمة المسلمة!! ما هو المانع أن ينبري كوكبةٌ من الدعاة في التخصص في توفير لقمة العيش للمسلمين؟ ومن خلال لقمة العيش نقدم إليهم الدعوة؟ وهل كتب على المسلمين ألا يتخصصوا في توفير الغذاء والكساء، والصحة والتعليم، وأن يتخصص في توفير ذلك المنصرون، وذلك من خلال جهودهم ومؤسساتهم وأموالهم الهائلة، لاشك أننا يجب أن نحطم ذلك، ونبين أن المسلمين يجب أن يكونوا أحق بذلك، وهؤلاء هم إخوانهم، وفي هذا وذاك لابد من الإحسان والنجاح، حتى نضمن للإسلام أرضيةً خصبةً تسيرُ الأحداث بقوة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} والحديث رواه البيهقي وغيره وسنده حسن، يتقنه ليس فقط من أجل الصنعة، بل يتقنه لوجه الله عز وجل، وليس فقط من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعاً حسناً، أو حتى لا ينفض من حوله المشترون أو الرواد، بل هذه الأهداف تأتي تبعاً، لأن المؤم الجزء: 45 ¦ الصفحة: 22 رسم الأهداف الصحيحة أخيراً: إذا أفلحنا في رسم الأهداف الصحيحة، التي نسعى في الوصول إليها، والتوجه إليها بتوازن، دون أن نبرز جانباً على حساب جانبٍ آخر، كأن نبرز جانب الاهتمام مثلاً بعلم من العلوم، سواء كانت علوماً شرعية أم علوماً دنيوية، على حساب جوانب أخرى، أو نبرز في الدعوة على الجانب الأخلاقي، أو جانب الاهتمام بالقيم والسلوك الإسلامية على الجانب الاجتماعي، والاهتمام بمشاكل الناس وحاجاتهم، وتحقيق مطالبهم من لقمة العيش، أو قدرٍ من التعليم كجانب من احتياجاتهم الاجتماعية والدنيوية القريبة، أو الاهتمام بالجانب السياسي أيضاً، أو الاهتمام بالجانب الاقتصادي، فلابد على كل حال أن نهتم بالجوانب هذه كلها متوازنةً، إذا رسمنا الأهداف بدقة، وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد أو عقدين من الزمان، بعد عشرين سنة أو أقل أو أكثر، سنجد أننا أمام أمةٍ قد دبت فيها الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسانٍ ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، وركز على ما يحسن وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات والأصعدة، وأصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] كيف ننصر الله عز وجل؟! ليس معنى (نصر الله) هو فقط أن ننصر الله في معركة حربية، لا بل ننصر الله بأن نحقق الإسلام في مجال الاقتصاد، ونحقق الإسلام في مجال الطب، ونحقق الإسلام في مجال الاجتماع والخدمات الاجتماعية، ونحقق الإسلام في مجال السياسة، ونحقق الإسلام في المجال الفردي، وعلى مستوى الأمة، فإذا فعلنا ذلك كله، وحققنا الإسلام أخيراً في مجال الحرب، فحينئذٍ خضنا الحرب ونصرنا الله؛ لأننا نصرناه في كافة المجالات، فهذا مجالنا الأخير، وهو مجال القتال الذي نحتاج فيه إلى عون الله ونصره، لأننا مهما بذلنا لن نكون على مستوى قوة عدونا، فحينئذ ينصرنا الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] فقد تثبت الأحداث أحياناً أن الله تعالى لو منحنا نصراً رخيصاً بسبب حرب أو قتال، ما استطعنا أن نقوم بتكاليف هذا النصر وتبعاته، ثم لابد ثانياً من أن ننصر الله عز وجل بعد ما مكننا، فنقيم الصلاة، ونؤتي الزكاة، ونأمر بالمعروف، وننهى عن المنكر. فحين ندرك أننا لم ننتصر في معركة عسكرية، نرجع فنقول: إن الله تعالى علق النصر على أمر مستقبلي، ينصر الله عز وجل من؟ الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وما يدريك أنك إن مكنت أقمت الصلاة وآتيت الزكاة؟! قد يكون من بين المؤمنين من لو مكن لنكص على عقبيه، فنحتاج حينئذٍ إلى أن ننصر الله تعالى في واقعنا الفردي والاجتماعي على كافة الأصعدة، وبصورة عمليةٍ صحيحة جادةٍ ومستمرة، وألا نتوقع أن نحصل للإسلام على نصر هينٍ رخيص، يتحقق من خلال معركةٍ نخوضها، ثم نستلم الراية ونبدأ الفتح، فهذا تصور فيه قُربٌ وبساطة، ولا يتناسب مع خط سير الأحداث، أقول هذا القول، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 45 ¦ الصفحة: 24 التشاؤم في آلام المسلمين السؤال هل من التشاؤم ذكر ما يحيط بالمسلمين من مخاطر من أعداء الله تعالى من النصارى واليهود؟ الجواب ليس هذا من التشاؤم، لكن ينبغي مع ذلك أن يكون مع الإنسان روح التفاؤل، والبشارة للناس، ينبغي أن يثبت الناس، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في معركة الأحزاب حينما ادلهمت الخطوب وأحاط الأحزاب بالمدينة من كل جانب، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11] ومع ذلك لما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بالمعول خرجت النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أُريت فيها قصور بصرى، وفتحت لي كنوز كسرى وقيصر، فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالنصر، من خلال اشتداد الأحداث: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج فحين نتحدث عن الأحداث وضراوتها وقسوتها ينبغي ألا نيئس الناس أو نقنطهم، أو نجعلهم يصلون إلى طريق مسدود، لا، بل ينبغي أن نغرس في قلوبهم الثقة بالله عز وجل، وأن المستقبل للإسلام، والسكنية، والطمأنينة، وأن نبين أنه كلما ادلهم الظلام كان هذا دليلاً على قرب انبلاج الفجر. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 25 مؤتمر الدراسات المستقبلية للإسلام وغياب طلبة العلم السؤال قبل ثلاثة أشهر، أقام مركز الدراسات لمستقبل الإسلام مؤتمراً حول مستقبل الصحوة، في الجزائر، وظهر من خلال المحاضرة أنك تبارك مثل هذه الدراسات وتتحمس لها بعد أن حررت أصالتها الشرعية، كيف ترى ذلك المؤتمر كبداية للدراسات المستقبلية الإسلامية، ولماذا يغيب طلبة العلم عن مثل هذه المؤتمرات؟ الجواب لعله فاتني أن أشير إلى هذا المؤتمر أثناء المحاضرة، لأنني سمعت خبره في حينه، أما قضية تقييم أو تقويم المؤتمر فهذا يعتمد على قراءة الأوراق التي قدمت للمؤتمر، ومع الأسف لم تصل إلي بحيث أستطيع أن أقومها، وذلك أن الكلام على المستقبل، كالكلام عن الواقع وكالكلام عن أية قضية، قد يأخذ أكثر من منحنى، فقد يعالجه الإنسان بصورة صحيحة وسليمة، وقد يعالجه بصورة بعيدة، فبعض الناس قد يعالجون المستقبل من خلال تصحيح الأوضاع، وهي على الأقل في وجهة نظري قد تكون صحيحة، ومع ذلك يرون تصحيحها، الكلام على المؤتمر سلباً أو إيجاباً يفتقر إلى اطلاعي إلى ما جرى فيه، ولم يَتَسَنَّ لي شيء من ذلك، أما قضية الغياب، فهذا الغياب المسئول عنه الذين ينظمون مثل هذه الأعمال، فإنهم حينما يوجهون الدعوة إلى مجموعات طلبة العلم أو المتخصصين أو المهتمين، فأعتقد أنهم لا بد أن يظفروا ولو ببعض هؤلاء. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 26 الصحوة الإسلامية عاطفية أم علمية؟! السؤال ما رأيكم بقول أحد العلماء بأن الصحوة الإسلامية صحوة عاطفية، وليست علمية، وما هو السبيل إذا كانت عاطفية إلىالنهوض بها إلى العلمية؟ الجواب دائماً الأحكام التعميمية لا تخلو من خطأ، فالقول بأن الصحوة عاطفية ليست علمية، عمومٌ ليس بصحيح، وكيف تكون الصحوة ليست علمية، ونحن نرى أن شباب الصحوة قد ملئوا المساجد، وعمروا حلق الذكر ومجالس الدرس، وأقبلوا على طلب العلم إقبالاً منقطع النظير، فأحيوا مجالس الذكر بعد اندراسها، وبدأنا نجد الشباب يهتمون بالبحث، والقراءة، والاطلاع، ويلتفون حول العلماء بشكل جيد ومشجع، فالواقع أن الصحوة لها جانب علميٌ كبير، هذا من الناحية الشرعية، أما من الناحية الاختصاصية، فلا شك أن البوادر طيبة، ويكفي أننا نعلم جميعاً ويعلم غيرنا أن الأكثرية في الكليات العلمية كالطب والهندسة في غالب الجامعات الإسلامية هم ملتزمون متدينون، وهذه ظاهرة لاشك مشجعة، أما قضية العاطفة، فلا شك أن هناك جانباً عاطفياً في الصحوة الإسلامية، وهذا الجانب العاطفي ليس مذموماً بكل حال، فالعاطفة مطلوبة، والإنسان الذي ليس عنده عاطفة إنسان جامد، لأن الإنسان لا يعيش فقط بالفكر وحده، الإنسان يحتاج إلى عاطفة حية، بل إنني أقول: إن العاطفة أمر لا بد منها، ونحتاج إلى قدر من العواطف أكثر مما نحتاج إلى قدر من التفكير، لأن التفكير يخاطب مجموعةً من الناس، أنت حينما تتكلم في موضوع يتعلق بالفكر، يستمع إليك مائة، لكن حين تتكلم في قضية عاطفية، يستمع إليك ألوف، ويسمعون إليك بقلوبهم، ويتجاوبون معك بشكلٍ جيد وقوي، والإسلام والدعوة الإسلامية بأمس الحاجة إلى مثل هؤلاء، لكن نحن أيضاً كما أننا بحاجة إلى العاطفة، بحاجة إلى التفكير السليم والنظر البعيد، وبحاجة إلى أن نضع العاطفة في موضعها، فلا تسيرنا العاطفة نحو الأحداث، فهذا هو الأمر الخطير أن نجعل العاطفة هي التي تحرك أعمالنا وتصرفاتنا، فنندفع لأننا مثلاً نملك تضحية، ولا نفكر بشكل جيد، فنندفع هنا وهناك، ونحن مستعدون للقتال والتضحية وأن نستشهد في سبيل الله، ونريق دماءنا بكل يسر وسهولة، والواحد يركض ويقول: هبي يا رياح الجنة، إني لأجد ريح الجنة من دون كذا وكذا، لكن أن نفكر جيداً قبل أن نضحي هذا الذي يحتاج إليه، نحتاج إلى أن نجعل الفكر يقود العاطفة، وليس العكس. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 27 تفسير الأحداث عند المسلمين السؤال ما هو سبب ركون كثير من المسلمين إلى الأسباب المادية فقط، سواء في تحليلهم لأحداث الماضي، أم عندما يخططون للمستقبل، خصوصاً عند من يسمون أحياناً بالإسلاميين؟ وما هو الحل في تصحيح هذه النظرة في المجتمع الإسلامي، في مختلف شرائحه؟ الجواب أعتقد أنه ليس من الواقع الآن أن المسلمين يميلون إلى التفسير المادي، بل في الواقع الآن -وهو الذي ألحظه- أن المؤمنين يميلون إلى التفسير العاطفي، فالعاطفة تتلاعب فينا بشكلٍ كبير، في حبنا وبغضنا وتفسيرنا للأحداث، إن أحببنا شخصياً رفعناه إلى القمة، وإن أبغضناه أو كرهناه أنزلناه إلى الحضيض، لا نعرف أنصاف الحلول، أي إن أبغضنا أسرفنا، وإن أحببنا أسرفنا، خلافاً لما جاء عن علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] وإن أردنا أن نحلل الأحداث، تجدنا نميل أحياناً إلى النظرة الأحادية، تفسير الأحداث بإرجاعها إلى سبب واحد فقط، وهذا خطأ؛ لأن كثيراً من الأحداث تشترك فيها أسبابٌ عديدة، ونميل أحياناً في تفسير الأحداث إلى تبسيط الحدث، فنقول: القضية سهلة وبسيطة، ونهون الموضوع بحيث لا يحتاج إلى تفكير، أو نضخم الأمر حتى نجعله فوق مستوى التفكير، وأنه يصعب التفكير فيه. المهم أننا نريد أن نتخلص من التفكير السليم المنطقي في الحدث، فنحن بين أمرين: إما أن نقول: إن الحدث صعب، بحيث أننا لا نفكر فيه، أو سهلٌ جداً بحيث أنه لا يستحق التفكير، وهذا يذكرني بالنكتة التي تنسب إلى جحا يقولون: إنه قام يوماً خطيباً، فقال: أيها الناس! هل تدرون ماذا أريد أن أقول؟ قالوا: الله أعلم، قال: إذاً لا فائدة أن أخبركم، فنزل، فاتفق الناس إن صعد المنبر على أن يقولوا: نعم نعلم، فلما صعد مرة أخرى، قال: أيها الناس! هل تدرون ماذا أريد أن أقول؟ قالوا: نعم، قال: إذاً لا فائدة في أن أخبركم، ما دمتم تدرون فلا داعي أن أخبركم، ثم نزل، وفي المرة الثالثة اتفق الناس أن يقول بعضهم: نعم، وبعضهم: لا، فلما صعد المنبر قال: أتدرون ماذا أريد أن أقول؟ قال بعضهم: نعم، وقال بعضهم: لا، فقال: من يعلم يخبر من لا يعلم، ثم استغفر ونزل! وقصدي من وراء هذا أن أقول: إن كثيراً من المسلمين يميلون إلى تبسيط الموضوع، أي أن عندنا -مثلاً- مشكلة نعانيها، فأحياناً نبسط المشكلة حتى تظهر بأنها مشكلة ما تحتاج إلى تفكير لأنها سهلة، فإذا جاء واحد وبين المشكلة، وأبعادها، وجذورها وما أشبه ذلك؛ قلنا: إذاً القضية خطيرة، هذه ما يمكن يبت فيها شخص، بل تحتاج إلى جهود ومؤتمرات وأحلنا القضية على مجهول حتى نتجنب التفكير فيها، وفي كل الصورتين كأننا لا نريد أن نكلف أنفسنا عناء التفكير في المشكلات، ومواجهة المشكلات بشكل صريح، ثم العمل على دفعها وحلها، وهناك طائفة من المسلمين لا شك قد يفكرون في الأسباب المادية، ويغفلون عن القضايا الشرعية، والتوكل على الله عز وجل، وهذا أيضاً خطأٌ آخر، فالعدل مطلوب. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 28 خطر الذنوب والمعاصي السؤال حول ما أصاب الإخوة الكويتيين، فيسأل الأخ عن سبب ذلك، ويقول: أنه بسبب المعاصي والذنوب، وأنه لم يسمع أحداً تحدث عن هذا؟ الجواب في الواقع أن هذا حديثُ أكثر الخطباء في حدود ما أعلم، وأقول: ينبغي حين نتحدث ألا نتحدث وكأن شعباً آخر أصيب، فالمصيبة للمسلمين جميعاً، وليست مصيبة شعبٍ معين، والذنوب قاسم مشترك فينا وفيهم، فالأمر من بعضه، ولكن هذا لا يمنع أن يكون في ذلك تنبيهاً لنا ولهم في ضرورة الإسراع بالتوبة إلى الله عز وجل، والإقلاع عن الذنوب والمعاصي، والإقبال على الله تعالى بالصدق في كل أمر. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 29 خطر المحن على مستقبل الصحوة السؤال على الأحداث الراهنة، وهو يقول: ما رأي فضيلتكم في تأثير الأحداث الراهنة على الصحوة الإسلامية ومستقبل الدعوة؟ الجواب أما على المستوى القريب، فالذي يبدو أن الأحداث سوف تكون ضارة بالصحوة الإسلامية، من وجوه:- أولها: أننا نعلم أن المناطق التي أصيبت - منطقة الخليج بشكل عام- هي من المناطق التي عرفت بأنها ذات جهد كبير في دعم المشاريع الإسلامية العالمية، في مشارق الأرض ومغاربها، وحيثما تجولت في بلاد الدنيا، فرأيت مدرسة أو مشروعاً أو مؤسسة أو معهداً أو مسجداً، لوجدت أن بصمات وأصابع الخيرين من أهل الخليج موجودةٌ فيه، وهذا لاشك سيتأثر بالأحداث تأثيراً سلبياً كبيراً. من جهة أخرى: فإننا نجد أن هذه الأحداث اكتسحت في غمرتها مجموعة غير قليلة من الإسلاميين الذين انخدعوا بالعبارات البراقة الرنانة، وفي غمرة العاطفة المشبوبة، نسوا أحداث الماضي القريب، فبالأمس جاءت ثورة إيران، فوجدنا أن جماعة غير قليلة من دعاة الإسلام -دعك من رجل الشارع- قد انساقوا بغفلةٍ وراء هذه الدعوة الباطنية المشبوهة، وصدقوا شعاراتها الكاذبة وحلفوا لها يمين الولاء، ونفخوا في بوقها، وكتبوا لها الكتب، ودعموها حتى تكشفت الأحداث، فرجعوا عما كانوا يعتقدون بخيبة أمل، واليوم يتكرر الخطأ، فالذين وقفوا بالأمس ضد العراق في حربه مع إيران، هاهم اليوم نجد منهم طوائف في عدد من البلاد الإسلامية، يقفون إلى جانب العراق، ويقومون ببعض المظاهرات الصاخبة إلى جانبه، وينسون بذلك جرائم العراق الكبيرة ضد أهل السنة في العراق، وضد الأكراد وهم أيضاً من أهل السنة في حادثة حلابجة، التي قتل فيها ما يقارب -حسب ما ذكرت بعض المصادر الإعلامية- عشرين ألفاً بأسلحة كيماوية، ودمرت تدميراً وقضي على الدعوة الإسلامية، بل ونسوا حتى مواقفهم السابقة، ضد هذا الطاغية المتجبر، فانطلقوا وراءه، وقد يقف آخرون في مقابل ومواجهة هذا التيار، فقد تتواجه سيوف المسلمين، أو سيوف شباب الصحوة الإسلامية، وقد يقوم الدعاة إلى الله تعالى في أكثر من مكان وسط غيبة الوعي بحرب بالوكالة عن غيرهم، حرب من حروب الوكالة، هم الخاسرون فيها بكل حال، وسواءً انتهت الحرب بالنصر أم بالهزيمة، فإنهم في الحالين ليس لهم من الأمر شيء، إنما يستعان بهم في مثل هذه الأحداث إذا اهتزت الأمور، واضطربت واحتيج إليهم، صرخ بأنصاره يناديهم إلى جهاد مقدس، أو إلى قتالٍ أو ما أشبه ذلك، فاستفز عواطفهم واستثارهم فاستخفهم فأطاعوه. فعلى المدى القريب لاشك أن هناك ضرراً يلحق بالصحوة، أما على المدى البعيد، فإن المؤمن ينبغي أن يكون متفائلاً على الدوام، ويعجبني الفأل، فنحن نتفاءل ونقول: هزيمة (1967م) كانت شرارة انطلقت بعدها الصحوة بشكل واسع متنامٍ، وامتدت امتداداً أفقياً عريضاً، وشملت قطاعات كبيرة، وأظن أن الصحوة الإسلامية حتى تمتد امتداداً رأسياً، أي امتداد عمقٍ وفهمٍ وعلمٍ ومشاركة وإيجابية وإدراك ووعي وتعقل، تحتاج إلى أحداثٍ مماثلة، تنصهر في بوتقتها، وتصحح مسيرتها، وتهزها بشدة حتى تجعلها تعي واقعها، فالمؤمن يتفاءل بمثل هذه الأحداث، ولو على المدى البعيد، وهذا قد يظهر ولو بعد سنين، قد لا يستطيع الإنسان أن يتنبأ بتحديدها. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 30 دور المتخصصين في الجوانب العلمية السؤال ما موقف المتخصصين في التخصصات العلمية، في الطب، والكيمياء، والفيزياء، من حال المسلمين في هذا الوقت، وذلك لما وصل إليه المسلمون من درجة متدنية في أخذهم التقنية العلمية والتكنولوجيا؟ الجواب كما أسلفت إجمالاً في المحاضرة، دور كل متخصص أن يجاهد في ميدانه -هذا هو الأصل- ولذلك مثلاً قد تحدث حالات تحتاج الطبيب أن يقيم درساً في الحديث أو في السيرة في المسجد، وهذا قد يحدث، لكن ليس هو الأصل، الأصل أن الطبيب يتعبد من خلال القيام بشريعة الله في اختصاصه، في محاولة تصحيح أبدان المسلمين، فنحتاج إلى الصحة والعافية في بدن المسلم، حتى المسلم الضعيف، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يكون قوياً في دينه وإيمانه ومجاهداً في سبيل الله عز وجل، فضلاً عن تحقيق الإسلام من خلال المؤسسات، والمجالات والوسائل، فضلاً عن تصديق كلمة العالم الشرعي -كما أسلفت- وكلٌ في اختصاصه، يمكن أن يقال فيه ما قيل في مجال الطب. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 31 أهمية التخصصات السؤال تحدثتم عن أهمية التخصصات، وأنها منقولة أن ترجع إلى العالم الشرعي، لكن الإسلام دين الكمال، أليس المفترض أن يكون الطبيب يفقه في دين الله، فـ ابن المبارك رحمه الله كان مجاهداً، وتاجراً، وعالماً، وشاعراً، والشافعي كان طبيباً وعالماً لعلكم تدندنون حول هذا؟ الجواب هذا فيه جزء من الصواب، لكن كم عندنا في الأمة من ابن المبارك؟ وكم عندنا في الأمة من مثل الشافعي؟ فمن الصعب أن نفترض في كل إنسان أنه ذو كفاءات متكاملة، فالطبيب الذي ينهمك في طبه، يصعب أن يكون متخصصاً في الحديث، حتى يعرف الأسانيد، والمتون، والرجال، والجرح والتعديل، والشذوذ والعلة القادحة، ويتكلم في الرجال والأسانيد، حتى كأنه كما ذكر السائل ابن المبارك، أو يحي بن معين في مجلس درسه، يصعب هذا، كما أن المتخصص في العلم الشرعي والحديث والفقه، يصعب أن يتحدث في القضايا الطبية، كما لو كان طبيباً متخصصاً، هذا معروف، فالتخصص لابد منه، لكن التخصص لا يعني أن الطبيب أصبح أمياً في مجال الشرعيات، لا فعنده علم أولاً: بفروض الكفاية، ومعرفة بالعقيدة الصحيحة، لابد من هذا، وعنده معرفة بالأحكام الشرعية التي يحتاج إليها، كأحكام الطهارة والوضوء والصلاة، والزكاة إن كان ذا مال وما أشبه ذلك، ومعرفة أحكام المعاشرة الزوجية. المهم الأحكام التي هي فرض عين على أن يعرفها. ثانياً: أن يكون عنده معرفة ببعض الأحكام التي تخصه في مجال عمله، بعد ذلك لاشك أنه يحتاج إلى العالم الشرعي، والعالم الشرعي أيضاً قد يحتاج إليه، فإن العالم الشرعي قد يقدم له استفتاء في موضوع طبي، وهو لا يفهم المصطلحات الموجودة، أو في موضوع اقتصادي، لا يدري ما معنى هذه المصطلحات الموجودة في السؤال، يحتاج إلى متخصص يأتي ويشرح له، ويبين له أبعاد الموضوع، ولذلك من أهم شروط المفتي العلم بالنازلة أولاً. ثانياً: العلم بحكم الله تعالى فيها، فإذا لم يتصور المفتي الواقع من جميع جوانبه وأبعاده تصوراً صحيحاً، ويدرك ما وراءها، ويعرف حقيقتها، فقد يأتي حكمه ناقصاً أو مقتصراً، لأنه حكم حكماً سطحياً، وكم من إنسانٍ يقول: والله الأمر كذا، فإذا بين له الأمر تغير حكمه، قال: لا، إذا كان كذلك تغيرت المسألة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 32 التخصصات المختلفة وحاجة الصحوة إليها السؤال هل الصحوة الإسلامية الآن بحاجة أكثر إلى متخصصين في العلم الشرعي، أم العلم التجريبي؟ الجواب الصحوة الإسلامية محتاجة إلى الجميع بلا شك، وقد يكون من الصعب في مثل هذا الوقت أن أحدد حاجتها أكثر إلى العلم الشرعي، أو حاجتها أكثر إلى العلم التجريبي، لكن لاشك أن التخصصات كثيرة -كما أسلفت- فحين نقول: العلوم التجريبية أو الطبيعية مثلاً، أو الإنسانية هذا يدخل تحته علومٌ كثيرة جداً، كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والعلوم الإنسانية، كالتربية، وعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها، بل كل تخصصٍ فيه شعب نحتاج إلى متخصصين فيه، ولذلك نحتاج في الواقع إلى جيوش جرارة في مثل هذه التخصصات. كما نحتاج بلا شك إلى العالم الشرعي الذي يواكب مثل ذلك، وفيما يتعلق بالعلم الشرعي، أعتقد أننا ما زلنا نحتاج إلى الكثير لكن ليس عدداً بقدر ما نحتاج إلى نوعية في مجال التخصص الشرعي، فلسنا نحتاج الآن كثافة العدد بقدر ما نحتاج جودة النوعية، ولو أن يتخصص وينبري للعلوم الشرعية آحاد من الناس، لكن يكونون ذوي كفاءات عالية، عقليات قوية، تفكير سليم، قدرات، حفظ، قوة، بحيث أنهم يسدون الفراغ الموجود، لأننا بحاجة إلى الاجتهاد في جميع المجالات، فالآن الطبيب يواجه مئات بل ألوف الإحراجات الشرعية، ويأتي ويضعها بين يديك، هات الحل؟ والمتخصص في الاقتصاد يأتي بمشاكله يضعها بين يديك، والعسكري كذلك، والمتخصص في كل فنٍ يأتي بهذه الإشكالات الجديدة الحادثة، ويضعها بين يديك، فنحن نحتاج في الواقع إلى عقليات قوية، أكثر مما نحتاج إلى عدد، كما أننا نحتاج إلى أمرٍ آخر في مجال التخصص الشرعي، وهو ما يمكن أن يسمى بالاجتهاد الجماعي، من خلال المؤسسات، كالمجمعات، والمجالس الفقهية، ونحوها التي تخرج برأي مدروس، بعد بحث ومناقشة، يشترك فيه أفراد متعددون، وتشترك فيه عقول مختلفة. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 33 المواثيق الدولية السؤال نرجو من فضيلتكم بيان مدى وجوب التزام الداعية بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي تسود العالم في هذا العصر، والتي قد تُعطل بعض شعائر الإسلام، ومن مثل هذه المواثيق احترام الجوار ومخالطة الكفار؟ الجواب المواثيق الدولية أولاً: هي حبر على ورق تستخدم عند الحاجة، فالذين صنعوا هذه المواثيق من الكفار يفعلون ما يشاءون، ويسرحون كيف شاءوا، وأعمالهم سواء في بلاد الإسلام أو في غيرها معروفة؛ لم تمنع المواثيق الدولية مثلاً روسيا من أن تكتسح أفغانستان، ولم تمنع أمريكا من ضرب عدد من البلاد الإسلامية، ولكنها تستخدم عند الحاجة في نطاق ضيق، وفي مجال الدول الصغيرة، التي تدور في فلك الدول الكبرى، هذا من جانب. ثانياً: أنه بغض النظر عن المواثيق الدولية الموجودة حالياً والمنبثقة عن هيئة الأمم، ومنظمات حقوق الإنسان وغير ذلك، بشكل عام في أي زمان ومكان، وعندنا أمةٌ مسلمة وعندنا دولةٌ مسلمة، إلى أي حدٍ يسعها الالتزام بهذه المواثيق؟ أقول: هذه المواثيق يسع المسلمين أن يلتزموا بها في حدود ما لا يتعارض مع الأصول والقواعد الشرعية، ليس صحيحاً أن يلتزم المسلمون مثلاً في أي زمان أو مكان، بالمواثيق وهي تمنعهم من القيام بواجب الجهاد في سبيل الله، فالجهاد واجب، ولا يمكن أن يبطله أحد كائناً من كان، وأي ميثاق يبطل الجهاد فهو باطل، ولا يمكن أن يلتزم به المسلمون في حال من الأحوال. وأيضاً لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تساوي المسلم بالكافر، وتجعلهما على حد سواء في أمر من الأمور، لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تجعل الولاء والبراء منعدماً بين المسلم والكافر أيضاً، لا يمكن أن يلتزم المسلم بمواثيق تلزمه أن يحكم بالطاغوت، ويحكم بغير ما أنزل الله، في أموال الناس ودمائهم، وأعراضهم، وفروجهم، كل هذا لا يلتزم به المسلم على أي حال؛ لكن إذا وجدت مواثيق فيها مصلحة للمسلمين، وليس فيها ما يعارض، الذي يظهر أنه لا مانع أن يقر هذه المواثيق المسلم، ويوافق عليها إذا كان فيها خير ومصلحة للإسلام، ونفع له ونشر للدعوة، ما الذي يمنع من ذلك؟! الجزء: 45 ¦ الصفحة: 34 الولاء والبراء في الإسلام السؤال من الأمور التي أهملت كثيراً في حساب كثير من الدعاة، قضية الولاء والبراء، ولهذا الأمر عدة أسباب فما هو السبيل لإبراز هذه القضية وجعلها في المواقع المخصص لها؟ أرجو الإفادة! الجواب قضية الولاء والبراء أولاً: هي جزءٌ من العقيدة الإسلامية بشكلٍ عام، ولا شك أن العقيدة إذا ضعفت في قلوب الناس، والذي يبرز ضعفها هو الواقع والأحداث المتجددة، فكثير من الناس يخيل إليه أنه مؤمن متمسك، فإذا نزلت المصائب بانت الحقائق، فأما المؤمن فإنه إذا رأى الأحداث قال: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] أما المنافق فيقول: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] . التوكل مثلاً كجزء من العقيدة الإسلامية، فقد يخيل أنه متوكل، وقد يقول: توكلنا على الله، بكرةً وعشية؛ لكن إذا جاءت الأحداث، تغيرت قناعته، واهتز توكله، وأصبح قلبه نهباً للخواطر والمشاعر، والإذاعات والإشاعات؛ ويتخذ الأسباب الممكنة، ويسعى إلى الأسباب غير الممكنة، وكأنه مضبوع مسبوع، يركض بلا عقل، قد فقدَ توازنه وثقته واطمئنانه، نحن لا ننكر فعل الأسباب، لكن فرق بين من يفعل الأسباب وقلبه مطمئن واثق، وبين من يركض يسرةً ويمنةً ولا يدري بأي شيء يبدأ، وقلبه قد انهار وتأثر من حدثٍ معين، هذا مثال. وهكذا مثال الولاء والبراء: الكلام نفسه، قد يقول إنسان مادام في حالة الرخاء والأمن وعدم الحاجة: لست بحاجة إلى هذا يمكن الكافر، وأنا في غنى؛ لكن إذا احتاج إليه في أمر من الأمور ضعف هذا التوكل، وأصبح يقول: هذا أستفيد منه، هذا كذا، وكما قال تعالى: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر:8] والأحداث هي التي تبين عن معادن الرجال، وصدق إيمانهم، أو عدم صدقهم، أما السبيل فلا شك أن السبل كثيرة، من أهمها الكلمة التي بعث بها الأنبياء والمرسلون، أن نبين هذا للناس ونجليه من خلال الخطب، والمحاضرات، والدروس، والمجالس، لأن الناس يحتاجون إلى تثبيت، ويحتاجون إلى دعم، ويحتاجون إلى تصحيح مواقفهم، وإذا لم يقم بذلك الداعية والعالم والخطيب، فمن يقوم به؟! الجزء: 45 ¦ الصفحة: 35 مكائد الشيطان تحتوي هذه المادة على ذكر غاية الشيطان وهدفه من إضلال الناس، ثم جاء ذكر الوسائل والأساليب التي يتخذها الشيطان لغواية الناس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 1 الحاجة إلى الاستفادة من المعلومات الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إنني في بداية هذه الكلمة المتواضعة، أحب أن أشكر أشياخي وأساتذتي، الذين حرصوا على تشجيع تلميذٍ صغير من تلاميذهم، فحضروا في هذه الليلة، وأحب أن أقول: إنني كنتُ أعتقد أنها لا تعدو أن تكون كلمة في إحدى أُسَرْ هذا المعهد وعلى كل حال، فإنني أشكر لهم تكرمهم بهذه الجلسة، التي أرجو أن يكون من ورائها إن شاء الله الخير الكثير، وحول هذا الموضوع، بل وحول كل موضوع أحب أن أقول: إننا دائماً لسنا بحاجة إلى المعلومات المجردة، بقدر ما نكون بحاجة إلى الاستفادة من هذه المعلومات، فكم وكم من الناس من تجد لديه العلم والمعرفة في كثير من الأمور، وقد يبرز في هذا أهل الاختصاص وأهل الفن، ولكن تجد استفادته وانتفاعه بهذه المعلومات قليلاً أو معدوماً، وهذا ممن كتب عليه الشقاء، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] . فالقضية -أيها الإخوة- ليست في كوننا نعرف فقط، بل القضية في كوننا نستفيد مما نعرف، والإنسان يشاهد في واقعه العملي أحياناً أشياء مادية ملموسة يستغربها، وأضرب لذلك مثلاً: لو افترضنا أن رجلاً من الناس يعاني من مرض من الأمراض، ويخاف من هذا المرض أشد الخوف، ثم ذهب إلى الأطباء، فقالوا له: إن علاجك يكون في الحمية، أي: أن تمتنع عن تناول أطعمة بعينها، وأعطوه قائمة بألوان وأنواع الطعام التي يجب أن يمتنع منها، فأخذ هذه القائمة، وحفظ هذه الأسماء وأتقنها، وظل لا يحتمي منها، ولا يمتنع عنها، هنا نقول: هذا الإنسان عرف السبيل إلى العلاج، لكنه لم يستفد، لأنه لم يمتنع، ولماذا لم يمتنع؟ قد يكون عدم امتناعه في الغالب ناتجاً عن ضعف إرادته، فهو يعلم أن هذا فيه ضرر عليه، لكنه لا يستطيع أن يمنع ويقهر نفسه عن تناول هذه الأطعمة، ويكون في هذه الأشياء حتفه. كذلك الحال بالنسبة لمكائِد الشيطان، من منا يجهل العداوة التي قدرها الله سبحانه وتعالى وقضاها بين الإنسان وبين الشيطان؟ وكيف يجهلها المسلم، وهو يقرأ القرآن الكريم الذي يشير دائماً وأبداً أن الشيطان كان خلف جميع النكبات التي أصابت هذا الإنسان؟! وخروج أبينا آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة كان بحيلة من هذا العدو اللعين، وقد حكاها الله سبحانه وتعالى لنا في القرآن الكريم، وبين كيف وسوس إليه الشيطان، وأغراه بمخاطبة غريزة موجودة ومفطورة في قلب الإنسان، وهي حب الخلود وحب البقاء، فقال: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] وأيضاً أغراه بقضية حب التملك، حتى أخرجه من الجنة. وما من مصيبة نزلت بالإنسان إلا ومصدرها الشيطان، وسببها الشيطان، ومع ذلك كله تجد كثيراً من الناس على رغم معرفتهم القوية بهذه الألاعيب وهذه الأحاديث قد يقعون فيها، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى يقول لنا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] ثم يقول: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] . الفقرة الأولى من الآية تؤكد العداوة، وأنها موجودة: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ} [فاطر:6] وهذه القضية نظرية، وهي معرفة عقلية مجردة، كل الناس يؤمنون بها، ولذلك عقب الله سبحانه بقوله: {فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] أي: عاملوا هذا الشيطان كما تعاملون عدوكم، واعتبروا كل ما يأمركم به الشيطان أو يدعوكم إليه الشيطان كيد العدو لعدوه، ومن ينتظر من عدوه خيراً أو أمراً بخير؟! وهذا التحذير الإلهي يأتي أيضاً في سورة أخرى، فبعد أن يذكر الله تبارك وتعالى لنا قصة الشيطان مع أبينا آدم ورفضه للسجود له، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50] هذه هي قصة العداوة التاريخية بين الإنسان وبين الشيطان، يعقب الله تبارك وتعالى عليه بقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف:50] . وقد يكون غريباً أن هذا المخلوق الذي يعلن الله سبحانه وتعالى في كتابه في غير موضع أنه عدوٌ لنا، قد يكون من الغريب أن كثيراً من الناس يتبعون هذا العدو، ويتخذونه ولياً من دون الله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} [النساء:119] . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 2 الشيطان لا يدعو إلا إلى عبادته إلى ماذا يدعوك الشيطان أيها الإنسان؟ كل ما في الأمر أن الشيطان -بكلمة مختصرة- يدعوك إلى عبادته، كما أن الله خلقك وأمرك بعبادته فقط، ولم يكلفنا الله بأمرٍ آخر إلا عبادته، فقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] أي: أن الآية فيها حصر نفي وإثبات، نفي أن يكون الله خلق الناس لغرض آخر إلا لغرض واحد وهو العبادة، فالله يدعوك إلى عبادته، والشيطان يقف في الطرف الآخر، أيضاً يدعوك إلى عبادته، وقد يكون من القليل أن يعبد الشيطان عبادة حقيقية، وإن كان هذا ليس معدوماً، فهناك طوائف موجودة في البلاد الإسلامية، وطوائف حديثة ظهرت في البلاد الأوروبية، يقيمون معابد يسمونها معابد الشيطان، ويصلون فيها للشيطان ويسجدون له!! لكن هذه الصورة ساذجة، صورة بدائية من صور عبادة الشيطان، إنما مفهوم عبادة الشيطان أوسع من هذا كله، فإذا كان الله عز وجل، يدعوك إلى أمر، والشيطان يدعوك إلى أمر يخالفه، فعصيت الله وأطعت الشيطان، فهذه شعبة من العبادة، وكم وكم تجد الإنسان يستجيب لداعي الشيطان حين يضعف فيه وازع العقيدة والإيمان. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 3 صور من عبادة الشيطان ونجد في القرآن الكريم أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين وقف أمام والده المشرك المكابر يذكره ويقول له: {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم:44] . ولم يكن والد إبراهيم ممن أقاموا المعابد والهياكل وصلوا فيها وسجدوا فيها لإبليس، بل كانوا يعبدون الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب وغيرها، وإنما إعراض الإنسان عن عبادة الله إلى عبادة الصنم، هي في الحقيقة عبادة الشيطان، حتى ولو برزت في بعض الأحيان أنها عبادة لملكٍ مقرب أو لنبيٍ مرسل، فالذين يعبدون الملائكة هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، والذين يعبدون الأنبياء هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، والذين يعبدون الأولياء والصالحين هم في الحقيقة يعبدون الشياطين، ولذلك إذا كان يوم القيامة يحضر الله سبحانه وتعالى الناس في صعيدٍ واحد، ويحضر آلهتهم المدعاة، فمن كان يعبد شيئاً تبعه؛ فيأتي هؤلاء الناس الذين كانوا يعبدون الملائكة في الدنيا، يحضرهم الله تبارك وتعالى، ويحضر الملائكة، الذين ادعوا أنهم كانوا يعبدونهم، ويسأل الله سبحانه الملائكة، فيقول: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:40] هؤلاء الذين كانوا في الدنيا يتظاهرون بعبادة الملائكة هل كانوا يعبدونكم فعلاً وحقاً أيها الملائكة؟ فماذا تقول الملائكة؟ تقول كما قال عنها: {قَالُوا سُبْحَانَكَ} [البقرة:32] فبدءوا بتنزيه الله سبحانه وتعالى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ} [سبأ:41] أي: وإن ادعوا عبادة الملائكة، فالملائكة تبرأ من هذه العبادة وتنكرها، وتقول: نحن عبيدٌ مربوبون نتوجه بالدعاء والعبادة لله رب العالمين، فلا ينبغي أن نُعبد: {سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ:41] . إذاً: أنكر الملائكة أن يكون هؤلاء يعبدونهم، وقالوا: {بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} [سبأ:41] وما المقصود هاهنا بالجن؟ المقصود بالجن: الشياطين، لأن إبليس هو أبو الجن كما تعلمون، إذاً: فالإنسان حتى وهو يخيل إليه أنه يعبد ملكاً من الملائكة، حقيقة الأمر أنه يعبدُ الشيطان، وكيف يعبد الشيطان؟ لو قيل له: إنك تعبد الشيطان؟ لأبى ونفر وتخلى عن هذه العبادة، لكن نقول: يعبد الشيطان، لأن الذي دعاه إلى هذه العبادة وزينها له، وأغراه بها هو الشيطان، فقد سلك طريق الشيطان وأعرض وأبى عن طريق الله سبحانه وتعالى، هذه صورة من صور عبادة الإنسان للشيطان. وخلاصة القول فيها: أن الشيطان يدعو الإنسان إلى أمرٍ واحد فقط، هو أن يعبده!! وما المعاصي إلا دليل إلى عبادة الشيطان، فهي صورة مصغرة من صور العبادة، فأنا وأنت حين نعبد الله تعالى، نصلي ونسجد وندعو ونقرأ القرآن ونتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بأسمائه وصفاته، وهذه هي العبادة، أو هذه هي بعض صور ومظاهر العبادة، كذلك نفس الشيء إذا صرفت هذه الأشياء لغير الله، أو انحرف الإنسان عن الطاعات إلى المعاصي، يكون وقع في شيءٍ من عبادة الشيطان، فالذي يرتكب معصية، نقول هذه المعصية انحراف، وفيها نوع من عبادة الشيطان أو طاعة الشيطان، لأن الذي أمرك بهذه المعصية هو الشيطان. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 4 أصل العبادة أصل العبادة في الحقيقة: هي الطاعة، ولذلك يقال: طريق معبد، أي: أنه مطروق، وكذلك بعير معبد، وغير ذلك. فأصل العبادة: هي الطاعة والاتباع، فما دام الإنسان أطاع الشيطان بهذه المعصية، نقول: إن هذه شعبة من العبادة، لكن حذار أن نقول: إن وقوع الإنسان في هذه المعصية أنه عبد الشيطان! هو أخطأ لا شك، واتبع الشيطان في هذه المسألة، وهذه شعبة من شعب العبادة، لكن يبقى الإنسان مسلماً، ما دام لم يصدر منه سوى هذه المعصية، يبقى مسلماً لأنه يعبد الله أكثر أحيانه، ويؤدي المفروضات الواجبات عليه، وإنما زل ووقع في هذه معصية، فهذه المعصية تبقى إثماً يحاسب عليه، وقد يعذبه الله سبحانه وتعالى إن لم تتداركه رحمته، لكن يبقى مسلماً، إنما إذا خلع ربقة العبودية لله، وتوجه بكليته إلى عبادة الشيطان، فترك الصلاة، وترك الدعاء، وترك الإيمان بالله، وصار يتبع الشيطان، ولا يرد له أمراً، هنا نقول: إن هذا الإنسان قد انخلع تماماً من العبودية والإيمان بالله سبحانه وتعالى، وصار عابداً للشيطان بكل ما تحمله كلمة العبودية من معنى. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 5 الطرق التي يتوصل بها الشيطان إلى أمنيته هذه -أيها الإخوة- هي أمنية الشيطان، لكن كيف يتوصل الشيطان إلى هذه الأمنية؟ لو جاء الشيطان إلى إنسان مسلم، حتى ولو كان هذا المسلم عاصياً لله، أو واقعاً في بعض الأمور، ثم قال له: إني أريد منك أن تعبدني، أو وسوس إليه بعبادة ملك مقرب، أو نبيٍ مرسل أو صالح من الصالحين، أو بالكفر بالله والعياذ بالله، لنفر هذا الإنسان واشمأز من هذا الطلب، لأنه يوجد شيء من حرارة الإيمان في قلبه. والشيطان أولاً: وهبه الله سبحانه وتعالى أسلحة قوية وفتاكة، لحكمة يعلمها الله سبحانه وتعالى. وثانياً: اكتسب خبرة طويلة جداً تصل إلى آلاف السنين أو أكثر من ذلك، الله أعلم، منذ عاش تجربته مع آدم عليه السلام، وإلى أن يموت وينتهي، والشيطان يكتسب تجارب يوماً بعد يوم، وقد يقع في مزلق مع إنسان، فيستفيد منه للمرات القادمة، فالشيطان ذكي، ولا يمكن أن يبارئ الإنسان، أو يطلب منه أمراً يعرف منذ البداية أن نفسه تنفر منه، كما يفعل أولياء الشيطان من الناس، فجنود الشيطان الذين جتدهم في هذه المهمة، عندما يريدون أن يضلوا الإنسان أو يصرفوه عن طريق الحق، يبدءون معه بصغار الأمور قبل كبارها، أمرٌ أو درسٌ تلقوه على يد شيخهم وأستاذهم، فالشيطان يبدأ بالإنسان أولاً: بالكفر، فإذا كان ذلك ممكناً بوسيلة أو بأخرى، أن يدعو الشيطان الإنسان إلى الكفر، فهو أغلى ما يريد، لأنه بذلك يضمن أن هذا الإنسان سوف يكون مرافقاً له في النار، والعياذ بالله! فإذا استطاع الشيطان أن يدخل الإنسان إلى الكفر فعل، وذلك بأحد طريقين: الجزء: 46 ¦ الصفحة: 6 طريق الشبهات الطريق الأول: طريق إثارة الشبهات في قلبه، يشككه في الله، أو في الرسول صلى الله عليه وسلم، أو في القرآن، أو في الجنة، أو النار، أو في البعث، فإذا استقرت هذه الشكوك في قلب الإنسان، وامتلأ بها ضميره، فإنه حينئذٍ يكون قد سلم قياده للشيطان، وانتهى منه الشيطان. ولكن قبل أن نغادر هذه النقطة، أقول: يجب أن نفرق بين الوساوس التي قد تعرض لكل إنسان، وبين العقيدة المستقرة في القلب، فما من إنسان إلا والشيطان يحاول أن يغريه، ويحاول أن يثير عليه الشكوك والوساوس، وخاصة في فترة الشباب وفترة التفكير، فيبدأ الإنسان يضرب يمنةً ويسرةً ويفكر، وقد يحاول الشيطان أن يلقي إليه بقدر ما يستطيع بعض الشبهات، فتجد هذا الإنسان -وكم رأينا من بعض الشباب، حتى الذين فيهم خيرٌ وصلاحٌ واستقامة- تجده يعيش حياته في قلق، لا يهدأ له بال، ولا يستقر له ضمير، ولو فتشت لوجدت أن الشيطان قد ألقى في قلبه شبهة من الشبهات، أو وسوس له بشيءٍ ما نغص عليه حياته. ثم بدأ يقول له: أنت الآن على حال من الكفر، أو شك في الدين، ومن الممكن أن الموت يداهمك اليوم أو غداً، فتموت كافراً، وهذا الشعور يقلق الإنسان كثيراً، يقلقه كثيراً أن يشعر أنه لم يستقر الإيمان في قلبه، وأن الموت يهدده في كل لحظة، فهو حريص على أن يمتلئ قلبه إيماناً، لكن ليس بإمكانه ذلك بين عشية وضحاها. فأقول: هنا يجب ألا ننخدع بهذه القضية، لأن هذه ألعوبة محبوكة من الشيطان، لكن يجب أن نكون منتبهين لها، ربما يكون قصد الشيطان هنا، إضافة إلى أنه يحرص بطبيعة الحال على أن يضل الإنسان، قد يكون قصده من جانبٍ آخر، وهو أنه ينغص على المؤمن عيشه، ولا تظن أن الشيطان لا يفكر في هذه الأمور، حتى الحزن، يحرص الشيطان على أن يكون الإنسان حزيناً، وقد ذكر الله تعالى هذا في كتابه، فقال: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:10] والشيطان حريص على أن يكون الإنسان فقيراً: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] فربما يكون قصد الشيطان هنا أن ينغص عليك الحياة، ويجعلك في حال من التوتر والهم والحزن شديد، على الأقل ربما يكون من نتائج هذا أن الإنسان قد يكون عنده رغبة في الخير وحرص على الطاعات، فيضعف ويصبح إنساناً عادياً، يؤدي الفرائض، ولا يهتم بأمرٍ آخر. فإذا قيل له: اتق الله وفكر في أمور دينك، وفكر في الآخرة، قال: يا أخي أنا لا أحب أن أفكر في هذه القضايا، لماذا لا تحب أن تفكر فيها؟ قال: لأني إذا فكرت فيها، تبدأ الوساوس، والشكوك، والهواجس تتسرب إلى قلبي، ثم إني أحب أن أبقى إنساناً لا أفكر في هذه الأمور، ولا تخطر لي على بال، يكفيني أن أكون كعوام المسلمين، أصلي وأصوم وأزكي وأحج، ولا أحب أن أدخل في نفسي مثل هذه المتاهات، وهذا لأن الشيطان يحرص على اصطياده، ولاحظوا كيف وصل الشيطان إلى ما يريد، بطريقة قد تخفى على الإنسان، فإذا وجد إنسان شيئاً من ذلك في قلبه، فأقول: أولاً: يجب أن يقنع نفسه بأن الحالة التي يعيشها، ليست حالة شك، وإنما هي حالة وسوسة تدل على صريح الإيمان في قلبه، وفي الصحيح أن الصحابة جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في قلبه ما يتعاظم أن يتكلم به} وفي بعض الروايات قالوا: {إن أحدنا يجد في قلبه ما لأن يحترق حتى يصير حمماً، أحب إليه من أن يتكلم به} نفس الشعور الذي عندك جاء إلى الصحابة، وأخبروا سيد الدعاة صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} وفي أحاديث أخرى صحيحة قال: {ذاك صريح الإيمان} وقوله: ذاك اسم إشارة قد يكون راجعاً إلى الوسوسة التي ألقاها الشيطان، لأنهم قالوا: {إن أحدنا يجد} ثم قال: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال ذاك صريح الإيمان} . فيكون ما وجدوه هو صريح الإيمان، وقد يكون الضمير راجعاً إلى شعورهم الذي عبروا عنه بقولهم: ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به} أو {ما لأن يحترق أحدنا حتى يصير حمماً أحب إليه من أن يتكلم به} والمقصود أنك أيها الإنسان الذي قد تشعر بنفسك أحياناً بهذا الشعور، لو سألناك أنت الآن فإننا نجدك متأثراً وخائفاً، تخاف من ماذا؟ تقول: والله أخاف أن أموت على هذه الحالة، هذا نفسه دليل على أنك مؤمن، لأنه لو لم يكن عندك إيمان لما كان يهمك أن تموت على هذه الحالة، أو أن تموت على أي حال، لكن خشيتك أن تموت على هذه الحال، لأنك تعلم في قرارة قلبك أن موتك على حالٍ من الشك في نظرك يكون نتيجته أن تكون من أهل النار، وهذا الشعور يجعلك تخاف، فهو دليل على أنك مؤمن وعندك صريح الإيمان، فلا يجب أن تقلق لكن لا أقول لك لا تأبه ولا تهتم بهذا الشعور، لا. بل ينبغي للإنسان أن يكافح هذا الأمر، يكافحه بقراءته القرآن الكريم، بالذكر، بالعبادة، بصرف التفكير عن هذه الأمور، بقراءة الكتب التي تصرف هذه الهواجس والوساوس، وأهم من ذلك، لا أقول أهم من العبادة، لكن أهم من قراءة الكتب، أن تتصل ببعض الشيوخ الذين تثق فيهم، وتعرض عليهم ما تجد، حتى لا تبقى وحدك في المعركة، بل تستعين بمن قد يكون خاض هذه الأمور أو عاشها، أو جربها، أو عرف عنها أكثر مما تعرف. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 7 طريق الشهوة الطريق الثاني: هو طريق الشهوة، فقد يكون الإنسان أصلاً لا يفكر في الأمور هذه، وعقله منصرف عن الشبهات، ومؤمن بها إيماناً مسلماً، لا يوجد مجال للتأثير عليه، فيأتيه الشيطان عن طريقٍ آخر، فهذا الإنسان بشر ركبت فيه الشهوة، فلا يزال الشيطان ينفخ في نار الشهوة، ويؤججها في قلب هذا الإنسان، حتى يوقعه في مزلق من المزالق، والنهاية في كلا الطريقين التي يحرص عليها الشيطان، هي إيقاع الإنسان في الكفر. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 8 أساليب الشيطان لكن قد يجد الشيطان صعوبة في هذه المرحلة، فيحاول بمرحلة أخرى أقل. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 9 حرص الشيطان على أن يختم للإنسان بسوء الخاتمة وإذا عجز الشيطان عن هذه الأشياء كلها فإنه لا يضع رجلاً على رجل، ويترك -كما يقولون- الحبل على الغارب، بل يظل يجاهد الإنسان حرصاً على سوء الخاتمة والعياذ بالله، ولذلك كان الإمام أحمد، رحمه الله، وهو ممن خبروا كيد الشيطان، فعصمهم الله تعالى منه، كانت الشياطين تخاف من الإمام أحمد، ولعلكم جميعاً تذكرون القصة الصحيحة عنه أن رجلاً أصيب بجن في بغداد -أصابه الجنون- فعجز عنه الأطباء والقراء، فذهب أهله إلى الإمام أحمد، وقالوا: إن هاهنا رجل أصابه جن، فأعطاهم الإمام أحمد رحمه الله نعلاً، وقال: اذهبوا إليه وقولوا له: يقول الإمام أحمد: يخرج وإلا جئت لأضربه بهذا الحذاء، فلما قالوا هذه الكلمة عند الرجل المجنون، قال الجني: بل أخرج، الإمام أحمد أطاع الله فأطاعه الجن. لقد ابتلي بالمحنة فصبر وخرج منها كما يخرج الذهب من النار نقياً مصفى، ووقف هو في طرف والدنيا كلها بما فيها الخليفة في طرف آخر، وضُرب وجُلد وكان يغمى عليه، ويسيل الدم منه وهو صابر، فيعرضون عليه الطعام فيأبى أن يفطر، وكان يصلي والقيود في رجليه والدماء تسيل منه، فهذه صورة من صور الثبات على المبدأ، لو كانت عند غيرنا، ولو كانت عند الأمم الأخرى الكافرة، لشغلوا بها الدنيا، وملئوا بها أسماع الناس. المهم أن هذا الإمام الجليل حفظ الله فحفظه الله، فلما كان آخر لحظة من حياته حاول الشيطان محاولة أخيرة أن يضعف بعض هذا المستوى الإيماني الرفيع الذي وصل إليه الإمام أحمد، فمر من عنده الشيطان، وقال: فتني يا أُحَيمِد، فُتّني يا أُحَيْمِد أي يقول: أفلت منى ويئست منك، فقال له الإمام أحمد: لا بعد، لا بعد -وكان في نوع من الغيبوبة- فلما صحا قالوا له: إنك تقول كذا، قال: إن الشيطان عرض لي، يقول: فتني يا أُحَيْمِد، فأقول له: لابعد، لابعد، أي: ما فتك، لأنه لو وافق الإمام أحمد الشيطان على أنه فاته، لكان هذا مدخلاً ذكياً للشيطان أن يضعف المستوى الإيماني عند الإمام أحمد في اللحظة الأخيرة من لحظات حياته. فالشيطان إذاً يعمل هذه الأشياء كلها، بل هو مع نجاحه فيها، يحرص على أن يسيء للإنسان الخاتمة، وهذا الأمر كان يقلق بال الصالحين ويقض مضاجعهم، حتى وهم يعبدون الله يخافون أن يأتيهم الشيطان وهم في حال الاحتضار، فيغريهم أو يضرهم، ولا عصمة للإنسان من هذا إلا أن يكون في حال حياته مع الله سبحانه وتعالى كثير الاستعاذة من الشيطان، ويحصن نفسه من الشيطان بالحصون المنيعة من الذكر والقرآن والدعاء والعبادة وصحبة الأخيار وغير ذلك. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 10 شغل الإنسان عن عبادة الله فإذا عجز الشيطان من الإنسان عن طريق الرياء والعجب والغرور والزهو، انتقل إلى المرحلة الرابعة: وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا عصى الإنسان الشيطان وعبد الله تعالى، وتخلص من العجب، وعرف قدر نفسه، وعرف أن كل نعمة عنده فهي من الله، فما ينبغي للإنسان أن يعجب؛ لأنه إذا كانت النعمة من الله، فمن واجبك أن تشكر هذه النعمة، لا أن تغتر بها، لأنه لو خلق الإنسان منا غبياً، لما استطاع أن يكون ذكياً، ولو كان دميماً لما استطاع أن يكون جميلاً، ولو خلق فقيراً لما استطاع أن يكون غنياً، فكل نعمة عندك من الله فما ينبغي لك أن تغتر بها، بل أن تدرك أنها مسئولية عليك، ولذلك يقول الشاعر: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر أي: إذا قمت بشكر النعمة، فهذا الشكر نفسه نعمة جديدة تحتاج إلى شكر جديد، وهكذا تنتقل من شكر إلى شكر إلى شكر، حتى تموت وما أديت شكر نعمة الله، فهذا الشكر جعل الإنسان يرفض وسوسة الشيطان في موضوع العجب والغرور. ثم ينتقل الشيطان إلى المرحلة الرابعة، وهي أن يشغل الإنسان عن عبادته، فإذا دخل الإنسان في الصلاة، بدأت المعركة مع الشيطان، وهذا دأبه، وكلنا نشتكي من هذا الأمر، ونطرحه في مجالسنا ونشتكي منه، ونتكلم فيه، ولكننا واقعون فيه، وهذه من الأمور التي يقال فيها: إن عند الإنسان علماً بها، لكنه لم يستفد من علمه، وعند الإنسان معرفة لكنها معرفة عقلية مجردة، كلنا ندخل في الصلاة، فنكبر، ولا ننتبه إلى الصلاة إلا بالتسليم، وقد بين ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري قال: {إن الشيطان إذا أُذن للصلاة أدبر، وإذا انتهى الأذان جاء، فإذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهت الإقامة جاء حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا لما لم يكن يذكر} . وفي هذا المجال قصة، وهي أن رجلاً جاء لـ أبي حنيفة وقال له: إني نسيت كذا وكذا -وضع شيئاً في مكان ونسيه- فقال له أبو حنيفة: صلِ عشر ركعات، وسلم من كل ركعتين، وسبح واستغفر، ولن تتم العشر إلا وقد عرفت أين وضعت الشيء، فلما قام هذا الرجل صلى الركعتين الأوليين، ثم اتنفل من صلاته -انصرف من صلاته- وجاء إلى أبي حنيفة ودعا له، وقال: جزاك الله خيراً، وصية ناصح، قال: لماذا؟ قال: إني قد ذكرت هذا الشيء، فضحك أبو حنيفة رحمه الله، وقال: هذا الشيطان اللعين، عرف أنك سوف تصلي عشر ركعات، فأحب أنه يذكرك بالأمر قبل أن تتم العشر، وبعد أن صليت الركعتين ذكرك بهذا، ليقطع عليك بقية الركعات التي أمرتك بأدائها. فهذا أمر كلنا يعلمه، ولذلك لو استطعنا أن نخلص بمجاهدة الشيطان في هذه الأمر، لحصلنا من وراء ذلك خيراً كثيراً، وفي الحديث الصحيح: {من توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه، غفر له ما تقدم من ذنبه} والرسول صلى الله عليه سلم صلى ذات يوم وكان في قبلته ستارة فيها تصاوير، فقال لـ عائشة رضي الله عنها: {أميطي عنا قرامك هذا، فإن تصاويره لم تزل تعرض لي في صلاتي} . ولما أهدي له أبو جهم أنبجانية وكان فيها أعلام وخطوط، فلما انتهى من الصلاة خلعها، وقال: {اذهبوا بأنبجانيتبي هذه وأتوني بأنبجانية أبي جهم؛ فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي} فيجب على المصلي أن يحرص ما استطاع على أن يستحضر قلبه في صلاته، ووسائل استحضار القلب في الصلاة كثيرة، ليس هذا مجال ذكرها والحديث عنها، ويمكن للإنسان أن يرجع إلى كتاب مختصر منهاج القاصدين أو كتاب إحياء علوم الدين للغزالي، فإنه يجد فوائد في ذلك. وبمناسبة ذكري لكتاب إحياء علوم الدين للغزالي، أقول: إن هذا الكتاب مفيد جداً في هذا الباب، لكن يجب أن يكون قارئه على حذر شديد، فالكتاب مليء بالأحاديث الضعيفة والموضوعة والمكذوبة، ومليء بخرافات الصوفية التي سيطرت على الأمة الإسلامية في وقت من الأوقات، وهي سقطات كبيرة وخطيرة أيضاً ليست بالبسيطة، أما في مجال ترقيق القلوب والمعاني الإيمانية فإنه مفيد، فإذا انتبه الإنسان إلى هذه المزالق التي أشرت إليها، استفاد منه، وإلا فليدعه وليستفد من غيره من الكتب. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 11 الدعوة إلى البدع فإذا عجز الشيطان عن الإنسان عن طريق شغله في عبادته، انتقل إلى المرحلة الخامسة: وهي أن يدعوه إلى البدعة. فيقول له: أنت عابد، مصل صائم تخلصت من كيد الشيطان، ويجره إلى مزيد من الخير، حتى يوقعه في الطرف الآخر، فكما أن المعاصي ضرر ووسيلة وبريد للشيطان، كذلك البدعة والغلو في الدين وسيلة للشيطان. وخذوا مثالاً واضحاً في هذا: قضية الخوارج الذين ظهروا في عهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما بعده، ما أتاهم الشيطان من جهة العبادة. كان ابن عباس يذهب إليهم ويقول عنهم: كانت جباههم كأخفاف الإبل، قد تمتنت من طول السجود والعبادة، وكانوا شباباً إذا رأيتهم أنضاء عباده وأطلاح سهر، تقول: بهم مرض وما بهم من مرض، ولكنه من طول الصيام والعبادة والقيام، لكن كان الصحابة إذا رأوهم يبكون كما بكى أبو بكرة رضي الله عنه وغيره، ويقولون: [[كلاب النار، كلاب النار]] ويقول بعضهم: لولم أسمع الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالها مرة ولا مرتين ولا ثلاث ما قلتها، وقال صلى الله عليه وسلم: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} ؛ لأنهم زادوا في العبادة والزيادة في العبادة ممنوعة كالنقص فيها؛ لأن العبادة تشريع وتوقيف من عند الله ولا أعني بالزيادة أن تقوم الليل فتصلي أكثر من ثلاث عشرة ركعة، فهذا لا يدخل في هذا الباب، وإن كان من الأولى والأفضل للإنسان دائماً الالتزام بالسنة في كل شيء، ولا على ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من مزيد، لكن لأنهم زادوا في العبادة بمعنى أنهم غلوا، وصارت نتيجة عبادتهم أنهم أصيبوا بالغرور، وأصيبوا بالعجب الذي جعلهم ينظرون إلى الناس، على أنهم عصاة وفساق وجهلة ومرتدون، وهم وحدهم المسلمون، حتى كفروا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، والشيطان يضحك عليهم، وهم يعتقدون أنهم قد أرغموا الشيطان، وقد أهانوا الشيطان، وداسوه بأقدامهم، والحقيقة أن الشيطان يرقص في رءوسهم ويضحك مسروراً بهذا، لأن هذا يشبع رغبة عدد من الناس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 12 الإغراء بالكفر فالمرحلة الأولى هي مرحلة الكفر، فإذا عجز الشيطان عنها فإنه يؤجل هذه المرحلة، لا أقول: ينهيها لا، إنما يؤجل هذه المرحلة، ويبدأ بخطوة أسهل منها، لأنه كما قلنا يبدأ بالطريقة المناسبة لحال الإنسان. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 13 الإغراء بالمعاصي وترك الطاعات فيبدأ بإغراء الإنسان بالمعاصي وترك الطاعات، فالإنسان الذي ما استجاب للشيطان في دعوته إياه إلى الشرك وإلى الكفر بالله، فيبدأ الشيطان يحاول مع الإنسان بالمعاصي وترك الطاعات، ويحاول يقنعه بألا يصلي، وألا يصوم، وألا يقرأ القرآن، ومع الأسف الشديد تجد أن أكثرنا في كثير من الأحيان قد يقع من حيث لا يشعر بهذا التثبيط، سبحان الله!! يا إخوة: الإنسان حينما يسمع -مثلاً- قصيدةً من القصائد الجميلة، أو كلمة أو يشاهد مشهداً من المشاهد، تجده مشدود الأعصاب مهتم يشعر بنشاط لهذا الأمر، لكن إذا أراد أن يقرأ القرآن، مع أن القرآن هو أبلغ الكلام وأعظم الكلام وخير الكلام، ويكفي أنه كلام رب العالمين سبحانه. حينما يسمع القرآن تجد الإنسان يبدأ ينعس أحياناً، أو يتشاغل أحياناً، وهذه والله لو تأملناها لوجدناها غريبة فعلاً، ما الذي يجعل الإنسان هكذا، إنه كيد الشيطان ووسوسته للإنسان، فهو يغري للإنسان هنا بترك الطاعة. فإذا عصا الإنسان الشيطان وفعل الطاعة، وصلى وصام وقرأ القرآن، لا ييأس الشيطان هنا، بل يأتي ويحاول أن يفسد عليه هذه الطاعة، يفسدها عليه بالرياء، ويفسدها عليه بالعجب. الرياء: هو أن يعمل الطاعة من أجل الناس، ومن أجل أن يراه الناس، والعجب لا يكون كذلك، فربما فعل الطاعة لله وبنية خالصة، ولكن بعد ما فعل، أصابه الزهو والغرور والإعجاب بنفسه والعياذ بالله وصار يشعر أنه فلان بن فلان، فهذا يحبط عمله، والعياذ بالله. ولذلك -أيها الإخوة- تجدون الغرور لا يسلم منه طائفة من الطوائف، كلها تصاب بالغرور، لكن غرور يناسب ما هي عليه، فالشيطان قد يدعو الإنسان إلى الغرور، إن كان جميلاً بجماله، وإن كان غنياً بماله، وإن كان فصيحاً فبلسنه وفصاحته، وإن كان عالماً أغراه بعلمه، وإن كان عابداً أغراه بعبادته، وكلكم تعرفون قصة الإسرائيلي الذي كان يعبد الله دهراً طويلاً، فذكر له رجل من الفساق المدمنين على المعاصي، فقال: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: {من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟! لقد غفرت له وأدخلتك النار} أو كما ورد في الحديث القدسي. فالذي دعا الإنسان إلى هذه الكلمة والعياذ بالله هو الغرور، ولذلك قال بعض السلف: لا يبلغ الإنسان حقيقة التواضع، إلا أن يرى لكل إنسان لقيه من المسلمين فضلاً عليه، لأنك حين ترى أنك خير من الناس، هنا تصاب بنوع من الغرور والعجب، وما أكثر ما يوجد هذا في طلاب العلم والعباد! ومن أسباب كثرة وجوده: أنهم آمنون من هذا الأمر، والمثل يقول: من مأمنه يؤتي الحذر، وقد يكونون يجاهدون الشيطان في المعاصي، أي: لو جاء الشيطان لإنسان عالم، وقال له: الزنى -عياذاً بالله- هذا العالم لا يفكر مجرد تفكير في الزنى، ويعتبره معصية، أو السرقة لا يفكر في هذه الأمور، أو جاءه يشككه في الجنة أو في النار، لا يمكن أن يستجيب لهذه القضايا، لأنه في حال من العبادة والزهد والورع مع الله سبحانه وتعالى، التي تجعل هذه الأمور بعيدة عنه كل البعد، ولكن يأتيه الشيطان فيقول له: الناس في نومهم وأنت تتعبد، الناس في لهوهم وأنت قائم أو راكع أو ساجد، أنت الذي حصَّلت من العلم كذا وكذا، وحصَّلت من العبادة كذا وكذا، ولا يزال به حتى يوقعه في العجب. ولذلك من داء العباد العجب، فتجد العبد في المجلس يحرك شفتيه، لأنه لا يريد أن يجهر بالذكر حذراً من أن يكون مرائياً، فيحرك شفتيه، وينسى أن هذه أحبولة ذكية وخبيثة من أحابيل الشيطان، فهو يحرك شفتيه ليقول لمن حوله: انظروا إنني عابد، ومع أنني عابد فأنا بعيد عن الرياء ولا أجهر بعبادتي، بل بيني وبين نفسي حتى لا أفسدها بالرياء، وهذه نفسها وسيلة وكيد من كيد الشيطان، فهذا مدخل لطيف وذكي جداً من مداخل إبليس اللعين أعاذني الله وإياكم منه. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 14 صور من سوء الخاتمة وكم سمعنا من صور سوء الخاتمة ما يتقطع له الفؤاد أسىً، وقد حدثني أحد الثقاة أن صديقاً له أيضاً من الناس الطيبين الصالحين لا حظه في بعض الوقت وقد بدأ عنده نوع من التعب وضيق الصدر وشرود البال حتى خاف عليه، حتى إنه لا يكاد يأكل ولا يشرب ولا يطعم ولا يتحدث ولا يجلس مع الناس، وكان صديقاً له فجاء إليه، وقال له: يا أخي ما لك؟ فأبى أن يخبره، فأصر عليه، وقال: إما أن تخبرني وإما أفارقك فلا أصحبك أبداً، فما قيمة الصداقة إذا كنت تخفي عني أموراً ولا تبديها، فقال له: يا أخي الأمر شديد وخطير، كان لي أخ، وكان رجلاً مسرفاً على نفسه، واقعاً في المعاصي، فمرض وضعف واشتد به المرض حتى كان في حال الاحتضار، فقال لي: اذهب وأتني بالمصحف، يقول: فتطلع قلبي وسررت، وقلت: لعل الله كتب لأخي أن يتوب في هذه اللحظة من حياته، لعله يريد أن يضعه على صدره، يموت مطمئناً، فبعض الناس يكون لهم هذا الشيء، بغض النظر عما إذا كان هذا الأمر مشروعاً أو غير مشروع يقول: فأحضرت المصحف، فقال لي والعياذ بالله: إنه كافر بهذا القرآن، يقول: فوالله إن الدنيا كلها أظلمت في عيني؛ لأنني في الماضي كنت أرى فعل الفسق، وأراه على المعاصي وأشك فيه، لكن كان الأمل عندي موجوداً، ورحمة الله سبحانه وتعالى واسعة، لكن بعد ما لفظ هذه الكلمة في اللحظة الأخيرة من عمره، يقول: صرت أتصور أخي وهو في هذا العذاب الذي لا يفتر، ثم أتصور ما يئول إليه في يوم القيامة من العذاب الذي لا يمكن أن ينفك عنه أبداً. وأنتم تعلمون أن الله عز وجل حرم الجنة على الكافرين، وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً كان يقاتل مع المسلمين قتالاً شديداً، ولا يترك شاذة ولا فاذة إلا تعرض لها، فقال الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحسن ما أبلى فلان اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو في النار -حتى كاد بعض الصحابة أن يرتاب، كيف في النار؟! هذا الرجل الذي جاهد أحسن مما جاهدنا يحكم له الرسول صلى الله عليه وسلم بالنار، والحديث صحيح- فقال رجل: والله لأنتظرن ما يفعل، فصار يلاحقه ويتابعه في المعركة، فجاءوا إلى رسول الله صلى عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله قتل فلان شهيداً، قال: هو في النار، -فزاد شكهم وحيرتهم في ذلك، فبينما هم كذلك إذ جاءهم خبر يقول: لا، إن الرجل لم يقتل، وإنما جرح وما زال حياً، وذلك الرجل يراقبه ويصحبه، حتى اشتدت به الجراحة، فقام ووضع السيف على الأرض وذبابة السيف إلى أعلى، ثم وضعها في صدره أو في بطنه واتكأ على السيف والعياذ بالله حتى خرج السيف من ظهره ثم مات- فجاء الرجل وقال: يا رسول الله، أشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي قلت هو في النار اشتدت به الجراحة فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أني رسول الله، قم يا فلان فناد في الناس: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر} فهذه صورة من صور سوء الخاتمة. أعتقد أنني قد أكون أطلت عليكم، فأكتفي بما ذكرت، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجيرني وإياكم من مكايد الشيطان، وأن يحفظنا على ذلك حتى نلقاه، وإنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 46 ¦ الصفحة: 16 نصيحة حول كتاب تلبيس إبليس السؤال ما رأيكم بقراءة كتاب تلبيس إبليس لـ ابن الجوزي، وهل ورد فيه بعض الخرافات؟ الجواب ورد فيه خرافات وروايات إسرائيلية وأقاويل وأقاصيص، ليست لها أسانيد؛ لكن الكتاب جيد جداً، وأنا أنصح بقراءته، والإنسان عنده حاسة تمييز، فالأشياء الذي يرويها مطلقة ليس لها زمام ولا خطام، الإنسان غير ملزم بما فيها والتصديق بها، لكن فيه كشف مداخل الشيطان ووساوسه فهو جيد، خاصة إذا علمنا أن ابن الجوزي رحمه الله كان واعظاً، حتى كان يحضر حلقته في بغداد الآلاف المؤلفة، وكان يسلم أعداد كبيرة من اليهود والنصارى على يديه. وبالمناسبة أقول: الكلام عن موضوع ترقيق القلوب والسلوك مع الأسف الشديد صار وقفاً على الصوفية، وقد دخلوا فيه فأفسدوه، وحشدوا فيه من الخرافات والانحرافات والضلالات ما الله به عليم، ولكن يوجد من شيوخ وأئمة أهل السنة من كتب في هذا الموضوع ومن أفضلهم الشيخ الإمام ابن القيم رحمه الله، ثم الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، ثم ابن الجوزي. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 17 من مداخل الشيطان السؤال أنا طالب، وأحياناً يوسوس لي الشيطان، بأن أترك الدراسة؛ لأن النية غير خالصة لطلب العلم، وخاصة أن بعض المدرسين يحرضوننا على الاجتهاد عند الامتحان فقط، فما هو الخلاص من هذه الوساوس؟ الجواب إن الشيطان أحياناً يغري الإنسان بترك الطاعات بطريقة خاصة، فإذا شعر أنك تصلي أدخل عليك الشيطان الرياء، ويمكن أن يدعوك الشيطان إلى أن تعالج هذا الرياء بأن تترك هذه الصلاة والعياذ بالله، وقد تستغرب إذا قلت لكم: إن إنساناً بدأ الشيطان يأتيه من هذا الجانب، فبدأ يترك صلاة الجماعة، ويصلي في البيت، أمام والديه وإخوانه، ثم بدأ الشيطان يوسوس له، أنه قد يكون مرائياً في هذا، فبدأ يصلي في غرفته، ويقفل باب الغرفة على نفسه، لئلا يراه أحد، فهذه مشكلة. إن الشيطان قد يدعوك إلى ترك الطاعة، بأن يدخل عليك ما تتوهم أنه شيء من الرياء، مثلاً لماذا تريد أن تترك الدراسة؟ عندما تشعر أن النية قد لا تكون خالصة، ما بالك إذا لم يكن عندك وازع إيماني يجعلك تشعر بوجوب الإخلاص، فنصيحتي لهذا الأخ ألا يترك الدراسة، والذي يترك الدراسة يفوت على نفسه وعلى غيره مصالح كثيرة. أما أن الإخوة المشايخ يحرضونك على الدراسة والمذاكرة عند الامتحان، فهذا أمر طبيعي، وإلا أصلاً لماذا وضع الامتحان إلا ليشد من همم الطلاب، بوجود حافز يدعوهم إلى المذاكرة، وكل حافز لا يعني أنك لم تخلص النية، ووجود الحافز لا يعني عدم وجود النية، فالإنسان قد يعمل عملاً خير ياً ويعطى عليه راتب مثلاً، كالتدريس أو غيره، فلا نقول: إن هذا الإنسان يعمل للدنيا، إذا كانت نيته صحيحة فهذا الحافز الذي وجد مشجع له، ولا يؤثر ولا يضعف من قيمة هذا العمل إن شاء الله. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 18 من الكتب المفيدة التي ينصح بقراءتها السؤال ما هي الكتب التي تنصحوننا بقراءتها وخاصة ونحن شباب تنفعنا الثروة الثقافية؟ الجواب أنصحكم بالقراءة وخاصة قراءة كتاب الله، ثم الحرص على القراءة، وقد لا يكون من المناسب أن أخص كتباً، فقد أذكر بعضها وقد أنسى بعضاً آخر، لكن النصيحة التي أسديها لكم هي المواظبة على القراءة وخاصة في هذا العمر الذي تعيشون فيه، فإن هذه الأيام التي تمر لن تعود، حتى إن انتبه الإنسان فيما بعد فالعمر الذي مر وفات لن يرجع، ويمكن أن يستفيد مما يأتي، لكن لن يستطيع أن يسترجع الأيام التي فرط فيها فيما مضى، والقراءة تنفع، ونفعها لا يمكن أن يقدر بثمن، ولذلك أنصحكم نصيحة أخ مجرب أن تحرصوا على القراءة وتكثروا منها، أما الكتب فأهم شيء يقرؤه الإنسان هو كتاب الله، وأن يجعل الإنسان له ورداً يقرؤه من كتاب الله ما شاء الله له، جزء أو أقل أو أكثر من ذلك، ثم يقرأ، فلا يقرأ ما هب ودب، بل يستشير بعض الناصحين، ليشيروا عليه بالكتب المهمة. فمن الكتب المفيدة في الحديث النبوي كتاب رياض الصالحين، فهذا الكتاب سبحان الله!! كتب الله له القبول، مع أنه أحاديث منتقاة من السنن ومن الصحيحين، لكن كتبه وكتب الله له القبول بشكل عجيب وملموس، وفعلاً إذا قرأت شعرت بأن الإمام النووي رحمه الله قد وفق في الاختيار، فهذا الكتاب طيب جداً ومفيد، وحبذا أن يقرأه الإنسان حتى ينهيه، ثم يقرأه أخرى ليكتسب ثروة حديثة كبيرة جداً، في مجال شرح الحديث هناك كتاب فتح الباري وهو كتاب كبير وشامل. وهناك كتب في مجال العقيدة مثل كتاب فتح المجيد، وتيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب وهي كتب مفيدة جداً، وهناك كتاب شرح العقيدة الواسطية، لـ محمد خليل هراس، وهو أيضاً كتاب طيب، وهناك كتب كما يقولون للثقافة الإسلامية، أذكر منها الآن كتاباً طيباً للشيخ أبو الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وله كتاب آخر أيضاً بعنوان: إلى الإسلام من جديد، هذه الكتب فيها روح، وفيها إيمان، وثقة، فمن الجيد للإنسان أن يقرأها، وهناك كتب أخرى لا يتسع المجال لذكرها. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 19 كيف تصارع الشيطان السؤال دائماً يجد الواحد منا مصارعة مع إبليس، وقد يتغلب الشيطان على أحدنا، فبماذا تنصحوننا ونحن في هذه الحالة، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] أنصح الشاب أولاً: أن يتذكر -إذا وقع أو كاد أن يقع- شدة عقاب الله؛ إن الله ركب في الإنسان غريزة، وهذه الغريزة تكون قوية حتى تطفى على العقل، لكن في المقابل جعل للإنسان الذي ينحرف عن الطريق عقاباً، مجرد سماع العقاب يذهل العقول، ويوم القيامة الحرمان من الجنة يعتبر أقسى أنواع العقاب، فكيف إذا أضيف إلى ذلك أن يعذبك الله في النار، وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى يوم القيامة بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيصبغ في النعيم صبغة، ثم يقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب -يقسم بالله ما رأى شيئاً قط، فهو قد نسي كل ما مر به في الدنيا- ويؤتى بأشد أهل الدنيا نعيماً، من أهل النار، فيصبغ أو يغمس في العذاب غمسة، ثم يقال له: يابن آدم هل مر بك خير قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا -والله- يارب، ما مر بي نعيم قط، ولا رأيت خيراً قط} فهذا أكثر أهل الدنيا نعيماً لحظة واحدة في النار تنسيه ذلك النعيم، لماذا لا تتصور نفسك في هذا الموقف؟ -حماني الله وإياكم من ذلك- وتتصور أن كل لذة في الدنيا يعقبها حسرة، بل حتى حسرة في الدنيا، والمؤمن إذا فعل معصية تجده مضطرب النفس، وكما يقول الشاعر: إن أهنا عشية قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل فاللذة التي دعتك انتهت وزالت، وبقي الهم ووخز الضمير وعذاب النفس، فأقول: بقدر ما تشعر حجم الشهوة التي ركبها الله فيك تذكر حجم العقاب الذي وضعه الله تعالى. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 20 هل إبليس من الملائكة السؤال هل إبليس من الملائكة أم لا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً مع الدليل؟ الجواب هذه المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله قديماً، وذلك بحسب قواعد الأدلة، فقال بعضهم: إن إبليس كان من الملائكة حقيقة؛ لأن الله عز وجل استثناه منهم كما قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ} [البقرة:34] فقال: كان إبليس من الملائكة حقيقة، والدليل هذه الآية، وذهب آخرون إلى أن إبليس لم يكن من الملائكة، بل كان من الجن، وإنما ورد استثناؤه في القرآن، لأنه كان معهم، وربما كان في ظاهر الأمر قريباً منهم فشمله الخطاب، وهذا رجحه عدد من العلماء، لأنهم قالوا: إن الملك مجبول على الخير في أصله لا يعرض له وازع الشر ولا البغي ولا الاستكبار، فالملائكة كما قال الله عنهم: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] هذان قولان في المسألة. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 21 معرفة الكسوف بالحساب السؤال تحديد وقت الكسوف نسمع عنه في الجرائد، فهل الكسوف يدرك بالحساب، وما دام يدرك بالحساب فهل يكون آية تخويف؟ الجواب في الحقيقة أنا لا أفترض أن أسأل هذه الأسئلة، لأنها تقديم بين أساتذتي، وأن أجيب على هذا الشيء، ولكن في هذا الموضوع، أقول: قد ساءني في الحقيقة كلام بعض الناس حول هذا الموضوع، من جهة جهلهم في الدين وكلامهم فيه بغير علم، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى وجود البلبلة عند الناس، وأقصد بذلك أننا أحياناً نكابر الواقع، نسمع خبر الكسوف قبله بفترة، وكل الناس يؤمنون بها، فيأتي بعض المسلمين الآن ويقولون لك: هذا كذب، فإذاً هذه مكابرة للواقع لأن حركة الشمس وحركة القمر يمكن أن تضبط وتدرك، وقد تكلم العلماء في هذا كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، والذين أنكروا أن يقال مثل هذا الأمر لم ينكروا أنه يمكن أن يدرك بالحساب، وإنما قالوا: إنه لا ينبغي أن يعلن على العامة، لأن الإعلان قد يؤدي إلى بلبلة، وهذا ليس فيه شيء، فمن الممكن أن نقول: أن مثل هذا لا يعلن للعامة، لكن أن نقول: إن هذا كذب وتزوير وليس بصحيح، ثم إذا وقع قلنا حصل موافقة وابتلاءً واختباراً، هذا في نظري هو من المكابرة، والمسلم لا يعبد الله على رأي فلان ورأي علان أبداً، القرآن والسنة فيصل بين الناس فيما يختلفون فيه. أما هل يكون آية وهو يدرك بالحساب فأقول: إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12] بعضهم قال: آية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس، فالقمر بحده حتى قبل أن يكسف هو آية، والشمس آية. نحن نعلم أن الشمس تطلع كل صباح وتغيب كل مساء فهي آية، وأنت أيها الإنسان آية، والكسوف آية، والخسوف آية، وكل شيء له آية سبحانه، وإنما الكسوف يكون آية من جهة أنه مخالف لمجرى العادة، فهو ينبه الناس أن الذي جعل الشمس والقمر ينخسفان أو ينكسفان قادر على أن يزيلهما البتة، فلا نتمتع بشمس ولا قمر، كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:71-73] . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 22 الفرق بين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء السؤال كيف نفرق بين الشيطان والنفس الأمارة بالسوء؟ وهل النفس واحدة أم أنواع؟ وهل إبليس أبو الجن أم أبو الشياطين؟ وما هو الفرق بين الجن والشياطين؟ الجواب أما الأمر الأول وهو التفريق بين الشيطان وبين النفس، فالشيطان هو شئ خارجي، أما النفس فهي نفس الإنسان، لكن النفس قابلة للخير والشر، قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7-8] فالنفس قابلة للهدى والضلال، ولذلك إذا وسوس لها الشيطان، تحركت وازع الضلال في النفس واستجابت للشيطان. أما النفس هل هي واحدة؟ فهذا كلام تكلم فيه القدماء، وفي نظري أنها فلسفة لا يجب أن نشغل أنفسنا فيها، إنما الذي يجب أن نعلمه أن النفس على مراتب، هناك أناس نفوسهم أشرقت، فأصبحت نفوسهم عندها إيمان لا يكاد يوسوس لها الشيطان إلا نادراً، وهذه هي النفوس التي تبشر عند موتها لقوله تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27-28] . النوع الثاني: نفس فيها خير، ولكن يكيد لها الشيطان فتعصي ثم تتوب، وتعصي ثم تتوب، وتلوم نفسها على هذه المعصية، فهذه النفس اللوامة، وقد أقسم الله بها فقال: {وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:2] . النفس الثالثة: هي الأمارة بالسوء، وهي التي زادت فيها عناصر الشر والفجور، وصارت أقرب إلى استجابة الشيطان. أما إبليس فالمعروف والمشهور أنه أبو الجن, والله أعلم. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 23 حقيقة الصراع مع الشيطان السؤال ما الذي يذهب الوسوسة حتى لا أقع في مصايد الشيطان، وهل يتوفى الشيطان في الدنيا أم لا؟ الجواب لا شك أنه يموت، فالشيطان طلب من الله كما حكى الله عنه في قوله: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] فلم يجب الله دعاءه، ولم يقل إلى يوم يبعثون، لكن قال: {إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [الحجر:38] والشيطان يموت، والملائكة يموتون حتى ملك الموت يموت قبل يوم القيامة، ويبقى الله سبحانه، وهذا هو الشق الأول. أما الشق الثاني: أعتقد أن موضوع الكلمة كله يتعلق بموضوع وسوسة الشيطان وإيراد بعض مصايده، والذي يظن أنه تمر به مرحلة خالصة من وسوسة الشيطان ومكائده فقد أخطأ، ولذلك قلنا: الشيطان يوسوس حتى وأنت على فراش الموت، والحرب سجال يوم لك ويوم عليك، فإذا قوي إيمانك وصحت نيتك غلبته. وفي المناسبة أذكر قصة ذكرها الإمام ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس وهو من الكتب المفيدة في هذا المجال، مفيد جداً يقول: إن عابداً من العباد كانت في أيامه شجرة يعبدها الناس، فقام وأخذ فأسه وذهب إلى هذه الشجرة ليقطعها، فجاءه الشيطان، وقال له: أين تريد؟ قال: أريد الشجرة الفلانية لأقطعها، فحاول الشيطان أن يمنعه من ذلك، فقام هذا العابد وأخذ الشيطان وقعد عليه حتى صار الشيطان تحته، فقام العابد فلحقه الشيطان إلى الشجرة، فقال له: الشجرة تقطعها اليوم ثم تنبت من جديد ويعبدها الناس، ألا أدلك على خير من ذلك؟ قال: نعم، قال: اذهب إلى صومعتك، واجلس في عبادتك، وأنا أعطيك في كل يوم دينارين، تستغني بها عن الناس وعن الحاجة، وتتصدق أيضاً بها على الفقراء والمساكين، ففكر العابد فوجد الأمر مناسباً له، فقال: نعم، فرجع العابد إلى صومعته، ففي اليوم الأول جاءه بأربعة دنانير، وفي الثاني جاءه بدينارين، وفي الثالث جاءه بدينار واحد، وفي اليوم الرابع انقطع، فخرج العابد مغضباً، وحمل فأسه على كتفه، وفي هذه المرة خرج أكثر انفعالاً أكثر من الأولى، فقال له الشيطان: أين تريد؟ قال: إلى الشجرة لأقطعها، قال: هيهات لا تستطيع، فقام العابد يصارعه، فصرعه الشيطان، فقال العابد: الآن أستسلم لك، فأخبرني، قال: المرة الأولى خرجت من أجل الله فغلبتني، أما هذه المرة فلم تخرج من أجل الله فغلبتك. فالإنسان يصارع الشيطان فيصرعه مرة، والشيطان يصرع الإنسان مرة، والإنسان يصرع الشيطان أخرى، لكن إذا خلصت النية فالله سبحانه يساعده ويعينه. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 24 خطر شياطين الإنس والجن السؤال نسمع كثيراً أن شياطين الإنس أعظم خطراً من شياطين الجن، فهل هذا صحيح؟ وهل عليه دليل؟ الجواب يذكر الله سبحانه وتعالى شياطين الإنس والجن جنباً إلى جنب، فمراتبهم قد تكون نسبية لأن مهمتهم واحدة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] فمهمتهم زخرفة القول وتضليل الناس به، وشياطين الإنس هم في الحقيقة جند للشيطان الأكبر إبليس اللعين، ولكنهم في بعض الأحيان قد ينجحون في طرق ووسائل يفشل فيها شيطانهم ورئيسهم الأكبر؛ لأنهم منا ومن بني جلدتنا يتكلمون بلغتنا ويوسوسون للإنسان، ويستطيعون في بعض الأحيان أن يصرفوه عن طريق الخير إلى طريق الشر، فهم قد ينجحون في أعمال ووسائل يفشل فيها الشيطان أولاً، أو لا يستطيع الشيطان أن يصل إليها إلا عن طريقهم، ولذلك فالإنسان كما يحذر من الشيطان ويستعيذ بالله منه في كل لحظة وفي كل حين، يجب عليه أن ينتبه وأن يحذر من شياطين الإنس، الذين يتدسسون بالإنسان ويتزينون له بكافة الصور، وكم والله من ضحية ذهبت بسببهم -ومع الأسف الشديد- لأنهم أصدقاؤه، وقد يحبهم ويحبونه فعلاً، لكنهم يأتونه بمداخل من الشر حتى ينجرف. وأنتم تعلمون اليوم ما يعانيه مجتمعنا من انتشار بعض المنكرات، كالمخدرات التي شاعت في أوساط الشباب -مثلاً- والأفلام وغيرها، على رغم الجهود المبذولة لتلافي هذه الأشياء، فالجهات الشرعية من جهتها تنصح وتحذر وتذكر، والجهات الأمنية تتابع هذه الأمور وتعاقب عليها أشد العقاب، ومع ذلك تجد الأمر يزداد خطورة، صحيح أن هناك تجاراً يتاجرون بهذه الأشياء، لكن أيضاً هناك شياطين الإنس الذينيجرون أصدقاءهم إلى هذه الأمور، فالحذر الحذر من شياطين الإنس والجن. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 25 كيفية طرد الوسواس في الصلاة السؤال تردد في فكري بعض الوساوس وأشياء أخرى في الصلاة، فما هي الأدعية والأذكار التي يمكن أن أقولها للتخلص من ذلك؟ الجواب أولاً: الرسول أرشدنا إلى الاستعاذة بالله من الشيطان، فإذا حال بينك وبين صلاتك ودعاك إلى الوسوسة أو شغلك، فاستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، هذا أمر. الأمر الثاني: هو الأمر الإيجابي، وهو أن تشغل نفسك عن الشيطان، لأن نفسك إذا لم تشغلها، شغلها الشيطان، ففكر في ماذا تقرأ؟ وفكر في صلاتك؟ لو فكرنا في هذه الأمور أيها الإخوة لاستفدنا منها كثيراً. جلست في يوم من الأيام مع بعض الجيران، فسألتهم ما معنى سبحان ربي الأعلى، أو سبحان ربي العظيم كلمة نقولها في كل حين، وفي كل وقت، لكن ما معناها؟ فوجدت أن أكثرهم لا يعرف ما معناها، وهذا دليل على أننا أخذنا الصلاة وغيرها من الأعمال بالوراثة والتقليد، وصرنا نفعلها، ولذلك لا تترك فينا أثرها، فاعلم وفكر أولاً ما معنى الأذكار، وما معنى الآية التي نقرؤها؟ فتجد أن هذا بإذن الله خير عاصم من الشيطان. وهناك مثال آخر غير سبحان ربي الأعلى، وسبحان ربي العظيم، وهو إذا رفع الإنسان رأسه من الركوع يقول: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، وإذا سلم من الصلاة قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثلاثاً، ثم قال، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد. وكل هذا ثابت صحيح، فما معنى لا ينفع ذا الجد منك الجد؟ أعتقد أن أكثر الإخوة قد يكون سمعها من الأشرطة، أو يفهم معناها، ولذلك تعلم أنك أنت تخاطب الله، ولو أن إنساناً كلمك بكلام لا يفهمه هو، لكان هذا خطأً فادحاً فكيف تكلم رب العالمين، تقول: اللهم. وأنت لا تدري ما معنى الكلمة التي بعد اللهم؟ بالمناسبة (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: صاحب الغنى والحظ والنصيب لا ينفعه ذلك الغنى والحظ والنصيب، إنما ينفعه العمل الصالح، ولا ينفع ذا الجد، أي صاحب الجد وصاحب الغنى، لا ينفعه منك: أي عندك، الجد أي: الغنى، وإنما ينفعه العمل الصالح. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 26 كيفية معالجة الوسوسة في صفات الله السؤال إذا قرأت في التوحيد في باب أسماء الله وصفاته أشك في بعض الصفات، فهل هذا ضعف في الإيمان أم لا؟ الجواب أولاً: أقول: تعبيرك بأَشُك ليس بجيد، ولا أعتبر أن هذا شك، وإنما هو نوع من الوسوسة، والوسوسة ليست نقصاً في الإيمان، ولكن ينبغي للإنسان أن يدافع الوسوسة وكيد الشيطان، ولكن في الحقيقة هنا أمر مهم جداً وثمين، وأذكر هناك أناساً كثيرين كانوا في فترة أو مرحلة من مراحل حياتهم يحتاجون إلى هذا الأمر الذي سأقوله، فالشيطان أحياناً يأتيك، فيحاول أن يصور لك صوراً لا تليق بالله عز وجل، وهذا يضيق به الإنسان، وفعلاً كما قال الصحابة: [[لأن يحترق أحدنا حتى يكون فحماً أحب إليه من أن يذكر هذا الأمر]] فيصور لك في ذهنك رب العالمين بصورة نقص فهنا الحل بسيط جداً، وهو يتمثل في القاعدة التي ذكرها بعض الأئمة وهي: إذا تصورت الله في صورة فاعلم أن الله على خلافها، فهناك لا توجد مشكلة، فهذه إذا كانت صورة صورها لك الشيطان، أما لو وجد عند الإنسان شك حقيقي، فيجب على الإنسان أن يتصل ببعض الشيوخ والعلماء، ويسألهم في هذا الأمر حتى يشفوا علته، لكن من الصعب أحياناً على الشاب أن يفرق بين الشك وبين الوسوسة، لأن الوسوسة تظهر في مظهر الشك، ولا يحل هذا الإشكال إلا أن يستعين الإنسان بالله ثم ببعض المشايخ والعلماء الذين يميزون له ويبينون له الفرق إذا كان وسوسة أو إذا كان شكاً حقيقياً. أما إذا كان شكاً، فهذا ضعف في الإيمان. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 27 على طريق الدعوة "على طريق الدعوة" لقاء أجراه الشيخ/ عبد الرحمن العشماوي مع الشيخ سلمان -حفظهما الله تعالى- وقام الشيخ بإعطاء نبذه تعريفيه عن نفسه، ثم تكلم عن مرحلة طلبه العلم، ثم تطرق إلى الحديث عن جهوده الدعوية والعلمية والفكرية في الساحة. ثم أجاب على عدة أسئلة تتمحور حول الأمة الإسلامية والأخطار التي تهددها وأيضاً عن واقع الدعوة الإسلامية ومعوقاتها والخلاص منها وإلى غير ذلك من الأسئلة الهامة التي لابد للمسلم أن يضعها أمام عينيه. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 1 تقديم الدكتور عبد الرحمن بن صالح العشماوي على طريق الدعوة، هذا الطريق الطويل، الذي سلكه الأنبياء والمرسلون، والعلماء والدعاة المصلحون. طريق الدعوة إلى الله تعالى، هو طريق إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وهو طريق السعي الدءوب إلى إصلاح البشرية، بإنقاذها من سيطرة الشهوات والشبهات، ومن تسلط الأهواء والنزوات. طريق الدعوة إلى الله بكل ما فيه من متعة مناصرة الحق ونشره، والدعوة إليه، وبكل ما فيه من العناء والعوائق والصعوبات، قد سار عليه عبر الأزمان رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وجرى لهم فيه من المواقف والتجارب والعبر والدروس ما نراه جديراً بالاهتمام والمتابعة، حتى ترى الأجيال نماذج حية للعمل والجد، فتفيد من أخبارها ومواقفها، وتجد القدوة الصالحة التي تدلها على طريق الخير. وقد بدأنا -أيها الأحبة- رحلتنا مع العلماء والدعاة، من خلال سلسلة على طريق الدعوة، ومضينا سوياً على هذا الطريق، حيث اصطحبناكم في عدد من اللقاءات فيما مضى، وها نحن نكمل الرحلة، وندعوكم لإكمالها معنا، ونواصل خطواتنا في طريق الدعوة من خلال هذا اللقاء الجديد، وهو لقاء نلتقي فيه مع عالم شاب، له دوره البارز في الساحة، وله خطواته الثابتة المتواصلة على طريق الدعوة إلى الله. نلتقي بالأخ الكريم الداعية الشيخ/ سلمان بن فهد العودة؛ لنرحل معه ومع الإخوة المستمعين في موكب من المحبة والإخاء، نستطلع فيه تجربة الشيخ سلمان منذ أن نشأ في أسرته طفلاً متطلعاً إلى الحياة، وفتىً مغرماً بطلب العلم حريصاً عليه. إلى أن أصبح محاضراً في الجامعة وداعية إلى الله، تقام له الدروس والندوات التي تحظى بمتابعة شباب الأمة المتطلعين إلى طلب العلم الشرعي، والمتعطشين إلى المعرفة الجادة، والفكر السليم. على طريق الدعوة نرحب بفضيلة الشيخ سلمان. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 2 حياة الشيخ سلمان الشخصية ونشأته السؤال شيخ سلمان، قد تعودنا في هذا اللقاء الطيب أن يتعرف الإخوة المستمعون على العلماء والدعاة من خلال حياتهم الشخصية، ثم من خلال رحلتهم العلمية، وجهودهم الفكرية والدعوية. فنود في بداية هذا اللقاء الطيب، أن يتعرف المستمع الكريم على الاسم الكامل للشيخ سلمان، وتاريخ الميلاد والمكان؟ الجواب الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. فيما يتعلق بالاسم، فاسمي هو سلمان بن فهد بن عبد الله العودة، من مواليد عام (1375هـ) تقريباً، وكان ميلادي في إحدى ضواحي مدينة بريدة من منطقة القصيم. السؤال: هل يمكن أن نعرف اسم هذه الضاحية؟ الجواب: هي بجوار قرية صغيرة تسمى قرية البصر، تبعد عن بريدة قرابة خمسة عشر كيلو متر. السؤال: شيخ سلمان هل يمكن معرفة الحالة الاجتماعية، وعدد الأولاد؟ الجواب: الحالة الاجتماعية متزوج، وعندي -بحمد الله- ستة أولاد ما بين ذكر وأنثى. وأكبرهم معاذ. السؤال: إذاً: نرحب مرة أخرى بـ أبي معاذ ونسألك -جزاك الله خيراً- عن النشأة التربوية، وأن تذكر أي ذكريات عن الطفولة؟ الجواب: كانت نشأتي في تلك القرية التي أشرت إليها من قبل، ودرست فيها سنتين من سنوات الدراسة الابتدائية، وأتذكر أننا كنا في القرية، ومعروف أجواء القرى وما يكون فيها غالباً من الهدوء، والبعد عن المؤثرات المختلفة. فكانت طبيعة النشأة -بحمد الله- نشأة في بيئة طيبة، ونتردد -بحمد الله- على المساجد، وقرأنا قدراً لا بأس به من القرآن على إمام الجامع في تلك القرية، وكان من فضلاء الرجال في ذلك الوقت، وقد ظل الرجل على رغم كبر سنه حياً -رحمه الله- إلى أن توفي في العام الماضي، عن سن يقارب الخامسة والثمانين أو يزيد. وأتذكر أنهم كانوا -في بعض الأحيان- يؤدبوننا على عدم التأخر عن الصلاة ولو لركعة واحدة، فمن فاتته ركعة واحدة في الصلاة، فإنه قد يؤدب على ذلك. كما أتذكر أننا ظللنا فترة نقرأ القرآن في بيت مجاور للمسجد، وقد نجلس فيه أوقاتاً طويلة نقرأ القرآن، منا من يقرأ لنفسه، ومنا من يقرأ على الشيخ أو الإمام رحمه الله، وجزاه الله خيراً. وإن كان هناك من ذكريات ما زلت أعجب منها، وهي تجمع بين الماضي والحاضر؛ فإنني في العام قبل الماضي، لمحت في أحد الدروس العلمية في الجامع الكبير شخصاً كأني أعرفه، فلما خرجت قابلني وصافحني وسلم علي، وعرفني بنفسه، فإذا به أحد أساتذتي الذين درسوني في المدرسة الابتدائية في تلك الأيام. وقد دارت الأيام فإذا به يصبح أحد طلابي في الجامع، ولا يزال يحافظ على الدرس بشكل منتظم، فعجبت من هذه الأخلاق الجبارة، التي جعلت هذا الرجل يتجاوز عامل السن والاعتبارات الأخرى التي يقيم الناس لها وزناً، ويجلس في الحلقة كأحد الطلاب. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 3 حياة الشيخ في بداية الطلب السؤال نحن الآن كأننا بدأنا نتحدث عن بداية طلب العلم، فنريد أن تفصل لنا قليلاً في هذا الموضوع، وتذكر مراحل العلم الأخرى، وأبرز المشايخ الذين تلقيت على أيديهم العلم، وكان لهم أثر في حياتك العلمية؟ الجواب بعدما انتقلنا من القرية إلى المدينة إلى بريدة، وكنت في آخر السنة الثانية الابتدائية؛ التحقت بمدرسة ابتدائية تسمى مدرسة الأندلس، أو سميت فيما بعد الأندلس، وتخرجت منها. ثم التحقت بالمعهد العلمي ببريدة، وفيه قضيت ست سنوات دراسية، وكان المعهد يضم نخبة من فضلاء مشايخ البلد -على سبيل المثال- منهم الشيخ صالح السكيتي رحمه الله، والشيخ علي الضالع رحمه الله، والشيخ صالح البليهي رحمه الله، وأمثالهم كثير. فكانت دراستي في المعهد قد أتاحت لي فرصة الجلوس بين أيديهم، والأخذ من علمهم وأخلاقهم، واستفدت من ذلك -بحمد الله- فائدة كبيرة. كما أن التحاقي بالمعهد أتاح لي فرصة الاستفادة من مكتبة المعهد آنذاك، وكانت عامرة بالعديد من الكتب، وهناك مكتبة للإعارة، وتُجدد وقتاً بعد وقت، فتضم عدداً كبيراً من الكتب الجديدة التي يحتاج الناس إليها، فاستفدت منها -بحمد الله- فائدة كبيرة، وكانت بداية طيبة لتنمية العلوم الإسلامية، سواء بالاستفادة من أولئك المشايخ الفضلاء، أم بالاستفادة من تلك الكتب التي كانت موجودة في مكتبة المعهد. ولا يفوتني أن أقول: إنه قبل ذلك، وفي أواخر المدرسة الابتدائية، كانت هناك بعض القصص الموجودة عند الصغار، والتي قد لا تخدم القضية التربوية بشكل جيد، لكن ربما لضعف الموجه في تلك الفترة، كالقصص الصغيرة التي ما زالت متداولة في أيدي الطلاب الصغار اليوم، وربما قرأت منها قدراً كبيراً، وأذكر أنني كنت وإخواني نتناوب قراءتها، حتى أن الواحد ليقف على رأس الآخر؛ ينتظر أن ينتهي من هذه القصة حتى يأخذها ليقرأها بدوره. فكنا نقرأ بنهم، لكن لا نجد المادة المفيدة، فلما كتب الله تعالى وصرت إلى المعهد العلمي والتقيت بشيوخ، بل وبطلاب خاصة من يكبرونني في السن، استفدت منهم فائدة كبيرة؛ حيث توجهت إلى قراءة الكتب العلمية المفيدة والاستفادة من المشايخ. حتى أني أذكر أنني كنت أذهب مع والدي رحمه الله إلى الدكان، حيث كان يبيع، فكنت أحضر معي باستمرار كتاباً أو أكثر، ولأن الأهل كانوا يخوفوننا في تلك الفترة من العين، كنت أخفي الكتاب في وسط دفتر اليومية، فيظن من يأتي أنني أسجل حسابات أو شيئاً من هذا القبيل، وأنا كنت أقرأ، حتى أنني قرأت في أحد الإجازات الصيفية ما يزيد على ستين كتاباً، بعضها يصل إلى مائتين أو إلى ثلاثمائة صفحة، وغالبها كتب مفيدة، وإن كان يغلب عليها طابع التاريخ أو القصص، أو أشياء من هذا القبيل، وفيها ولا شك كتب توجيهية، وكتب في العقيدة، وكتب علمية، وأذكر منها الأصمعيات، الذي جُمعت فيه عيون الشعر العربي القديم، وكنت أحاول أن أتحفظ شيئاً منها. أما فيما يتعلق بالشيوخ؛ ففضلاً عمن ذكرت من المشايخ، فلعلي أؤكد على فضيلة الشيخ صالح البليهي رحمه الله، فهو من الشيوخ الذين أفتخر بالانتساب إليهم، لأن الرجل كان على سعة علمه رحمه الله وذلك يبرز من خلال كتابه السلسبيل، بالدرجة الأولى، وجهوده العلمية الأخرى. كان الرجل يتمتع بأخلاق عالية، وكرم السجايا والطباع، وليونة مع الناس، وحسن استقبال للطلاب، وحسن تربيتهم، ولذلك ألفته نفسي وكنت أتردد عليه في منزله، وأستفيد من علمه ومن خلقه، وأرجو أن يكون الله تعالى نفعني بشيء من ذلك. وإن كان من شيء يؤسى عليه؛ فهو أن الشيخ رحمه الله توفي في الوقت الذي كنت مسافراً إلى أمريكا لحضور مؤتمر جمعية الكتاب والسنة في عام مضى، فهناك أخبرونا بوفاته رحمه الله وما حصل في جنازته من جمع غفير؛ يذكرنا بما تكلم فيه المؤرخون عن علماء سابقين؛ كما حصل للإمام أحمد، ولـ ابن تيمية، ولـ ابن الجوزي، ولغيرهم من العلماء رحمهم الله تعالى. فضلاً عن علماء آخرين؛ لم يُكتب لي أن أتتلمذ عليهم على مقاعد الدراسة، لكنني استفدت من علمهم بالحضور في مجالسهم العلمية، أو قراءة بعض الكتب عليهم، منهم الشيخ محمد بن صالح بن العثيمين، حيث كنت أحضر دروسه اليومية في الإجازات الصيفية، وهي دروس طويلة تستمر -أحياناً- إلى أكثر من ساعتين ونصف، أو ثلاث ساعات وزيادة، فكنت أحاول حضورها ما استطعت، وأستفيد منها، وهي دروس منوعة، في التفسير والحديث والفقه والأصول والفرائض، وغيرها من أنواع العلوم. فضلاً عن مجالساتي للشيخ واستفادتي من علمه بقدر المستطاع، وكذلك شيخنا الشيخ محمد بن صالح المنصور، وهو قاضٍ سابق من علماء بريدة، وأفرح بمجالسته كثيراً، وأستفيد من علمه، وقد قرأت عليه قدراً لا بأس به من كتاب الروض المربع في الفقه الحنبلي، ولا زلت أطمع في تكميل هذا الكتاب على يديه، والاستفادة منه، مهما كثرت المشاغل والصوارف. ومنهم شيخنا الشيخ حمود بن عبد الله العقل، حيث حضرت عدداً من دروسه في الجامع الكبير، حيث يدرس العقيدة الطحاوية، واستفدت منها، وكان يدرس مع العقيدة الطحاوية النحو في شرح ألفية ابن مالك. والتحقت بعد المعهد بكلية الشريعة، واستفدت من عدد من الأساتذة من الإخوة السعوديين وغيرهم، في كافة العلوم المدرسة في هذه الكلية. ومما يفخر به كل طالب علم أو طويلب علم؛ أن يكون التقى أو أخذ ولو نزراً يسيراً، عن سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فهو تاج العلماء في هذا العصر، وإمامهم وواسطة العقد فيهم. ولهذا سعيت إلى لقائه كثيراً، وحصل أن استفدت منه -والحمد لله- في بعض المسائل، حيث أستغل الجلوس معه، على أن هذه الجلسات قد لا تكون انفرادية، لكن أحرص على استغلالها في بعض الأسئلة المشكلة لاستيضاح رأي الشيخ فيها، والاستفادة منه، سواء في المسائل الفقهية، أو في رأيه في بعض الأحاديث -درجة بعض الأحاديث النبوية- أو الجمع بين ما يشكل من الأحاديث، أو ما أشبه ذلك، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 4 بعض علماء السلف الذين يتلقى عنهم العلم السؤال جزاك الله خيراً يا شيخ سلمان، بلا شك أن لطالب العلم مشايخ يتلقى منهم العلم مباشرة، وقد ذكرت لنا طرفاً من هذا. لكن هناك أيضاً المشايخ الذين يتلقى منهم طالب العلم العلم، إما من علماء السلف، أو من بعض المعاصرين الذين لم يلتق بهم، فهل يمكن أن نعرف بعض الأسماء في هذا المجال؟ الجواب أما فيما يتعلق بعلماء السلف، فإن كل ناشئ في هذه البلاد المباركة في هذه الجزيرة، غالباً ما يكون استفاد وانتفع كثيراً بمؤلفات الشيخ الإمام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم وهكذا كان. فإنني -بحمد الله- وثيق الصلة بتراث هذين الإمامين الجليلين، ولا زلت أحرص في كل مسألة أبحثها أو تعرض لي، أن أطلع على رأيهما وأعرف اختيارهما فيها، لما لرأيهما من الأهمية والقوة والتميز التي يشهد بها كل منصف. لهذين الإمامين أثر كبير، ليس علي فحسب؛ بل ربما في عنق كل طالب علم في هذه البلاد، بل وكل طالب علم مخلص باحث عن الحق، ملتزم بالمنهج الصحيح، البعيد عن الانحراف في أرجاء العالم الإسلامي، من أقصاه إلى أقصاه. فضلاً عن الكتب الأخرى؛ التي تتداول كثيراً في هذا المجتمع، وهي بحمد الله ذات صلة وثيقة بالمنهج السلفي الصحيح، أذكر منها على سبيل المثال: كتاب تفسير ابن كثير، فهذا الكتاب قلما يوجد طالب علم إلا وقرأه، أو قرأ منه، وكان هذا الكتاب يقرأ في المساجد إلى وقت قريب. وكذلك الإمام النووي، خاصة في كتابه رياض الصالحين، فإننا كنا نقرؤه ونحن صغار في البيت على الوالد رحمه الله، ولا زال يقرأ في المساجد، وهو من أجمع وأحسن ما كتب في مختصر أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك كتب الإمام ابن رجب الحنبلي؛ فهي كتب قوية، فيها ترقيق، وتربية، وتهذيب، وفيها جمع، مع بُعدها إلى حد كبير عن لوثات الصوفية التي تكدر هذا المنبع الصافي. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 5 زملاء الشيخ سلمان في الدارسة السؤال جزاك الله خيراً يا شيخ سلمان، للدراسة زملاء، فهل يمكن أن نعرف بعض هؤلاء الزملاء البارزين إذا أمكن؟ الجواب في الواقع هناك زملاء كثير، فهناك زملاء الدراسة، وهناك بعد التخرج من المعهد والدراسة في الجامعة زملاء، قد يختلفون شيئاً ما، لأنني بعد التخرج التحقت بكلية اللغة العربية سنتين، ثم حولت إلى كلية الشريعة في نهاية السنة الثانية. حتى أني أذكر بالمناسبة؛ أنه كان عندي في تلك السنة بحثان: الأول عن كان وأخواتها -هذا تابع للغة العربية- وقد قدمته، أو كان هذا في السنة الأولى، وفي الثانية كان عن عبد القادر الجرجاني، وكتابه أسرار البلاغة. وفي كلية الشريعة بعدما انتقلت إليها قدمت بحثاً آخر عن صلاة الجماعة وأحكامها، وما يتعلق بها، وهناك زملاء التخرج في الجامعة. بعدما تخرجت التحقت بالتدريس بالمعهد العلمي ببريدة، فدرست فيه ما يزيد على أربع سنوات، وكان لي في هذه الفترة زملاء، ربما أن بعضهم من أساتذتي وشيوخي الذين درسوني في المعهد، ثم تخرجت فيه وزاملتهم في التدريس فيه. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الجامعة؛ حيث أعددت فيها رسالة الماجستير، وكان لي فيها زملاء آخرون، ولعلي أكتفي بذكر أقل القليل منهم: أذكر من الزملاء الذين كانوا معي منذ الدراسة الابتدائية وحتى التخرج من الجامعة، وظل صديقاً طيلة هذه المدة، بل إلى أن قبضه الله تعالى إليه، وهو أخي الشيخ صالح بن إبراهيم الشيبان رحمه الله تعالى، الذي لا زلت أحتفظ بذكريات كثيرة ودقيقة معه، منذ أن كنا طلاباً في المدرسة الابتدائية، فالمتوسطة، فالثانوية، فالمعهد، فالجامعة، وبعد ذلك ظلت علاقة الأخوة والمحبة تربط بيننا، إلى أن قبضه الله تعالى إليه في السابع والعشرين من شهر رمضان، في ليلة الجمعة من هذا العام، على إثر حادث تصادم، أسأل الله تعالى أن يكتبه في الشهداء، وأن يغفر لنا وله، وأن يرفع درجته في المهديين، ويخلفه في عقبه في الغابرين، ويغفر لنا وله أجمعين. والزملاء كثير بحمد الله، وكلهم أحتفظ معهم بعلاقات الحب والمودة، نحمد الله تعالى على ذلك. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 6 الشيخ سلمان وحفظ المتون السؤال في هذه الرحلة العلمية، هل حفظت شيئاً من المتون؟ الجواب لا بد من ذلك، فإن طبيعة تكوين الطالب في هذه البلاد وفي غيرها من مراكز العلم الشرعي، تهتم بتلقين الطالب عدداً من المتون، وإن كنت لا أستطيع أن أستحضر كثيراً منها، لكنني أذكر من المتون على سبيل المثال فيما يتعلق بالعقيدة: الأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، وكتاب التوحيد، والعقيدة الواسطية. وأذكر أيضاً فيما يتعلق بالنحو: متن الآجرومية، وقد حفظته وحفظته لطلابي الصغار في المسجد. وكذلك فيما يتعلق بالفرائض: هناك متن الرحبية، وهو عبارة عن منظومة شيقة وخفيفة في علم الفرائض، وهي مختصرة أيضاً، فضلاً عن كتاب زاد المستقنع في الفقه الحنبلي، ولعله أخصر كتب الحنابلة وأكثرها مسائل، وقد حفظت جزءاً كبيراً منه في المعهد العلمي، وقرأت شرحه -كما أسلفت قبل قليل- على عدد من المشايخ، منهم الشيخ صالح البليهي رحمه الله، ومنهم الشيخ محمد بن صالح المنصور حفظه الله ووفقه. وهناك في المصطلح أيضاً: مختصر للحافظ ابن حجر وهو: نخبة الفكر، وقد حفظته في زمن الطلب، ودرسته وحفظته لطلابي أيضاً في زمن التعليم، هذه بعض المتون. وهناك بعض المتون قد حفظت شيئاً منها لكن لم أكملها ولم أضبطها تماماً، منها ألفية ابن مالك في النحو، ومختصرات ومتون أخرى، منها في الأصول وغيرها، لكنني لا أستطيع أن أقول إني حفظتها بشكل صحيح. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 7 الشيخ سلمان وحفظ القرآن السؤال هل تحقق للشيخ سلمان العودة حفظ القرآن الكريم منذ الصغر؟ الجواب في الواقع لم يتسن لي هذا الشرف الكبير، الذي هو نعمة، كما قال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فأثنى على الذين يوجد القرآن في صدورهم بأنهم ممن أوتوا العلم. فلم يتسن لي أن أحفظ كتاب الله تعالى في صغري، وإن كنت بدأت بحفظه بعدما انتقلنا إلى المدينة، فحفظت سورة البقرة، ثم في الجامعة حفظت عدداً من السور، إلى سورة يونس، وبلا شك آخر القرآن هو أصلاً محفوظ من المقررات الدراسية. وهناك سور متفرقة حفظتها أيضاً بجهدي الشخصي، كسورة الكهف وطه وهود وإبراهيم وغيرها من السور، لكن بقي علي مواضع متعددة وإن لم تكن بالكثيرة، لم يسبق لي أن حفظتها. كما إنني أقول: إن السور التي حفظتها تحتاج إلى مراجعة دائمة، وبهذه المناسبة يتبين دور الأسرة في محاولة تحفيظ الصبية القرآن الكريم، لأنه من الملحوظ أن الذين حفظوا في طفولتهم، بل في أول طفولتهم، يكون حفظهم مجوداً ولا يحتاج إلى كثير مراجعة، بخلاف الذين حفظوا عن كبر، فإنهم مع كثرة المراجعة يظل في حفظهم خلل كبير. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 8 رسالة الماجستير السؤال بالنسبة لرسالة الماجستير، عن ماذا كانت؟ الجواب رسالة الماجستير في قسم السنة وعلومها في كلية أصول الدين، وكان موضوع الرسالة: غربة الإسلام وأحكامها في ضوء السنة النبوية. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 9 رسالة الدكتوراه السؤال وبالنسبة للدكتوراه، هل سجلت موضوعاً فيها؟ الجواب نعم، سجلت موضوعاً منذ فترة ليست بقصيرة، وكان عنوان هذا الموضوع هو: أحاديث التشبه جمع وتحقيق ودراسة، وأعتقد أن دلالة الموضوع الذي هو التشبه، يدخل فيه التشبه بالكفار، والتشبه بالفساق، والتشبه بالأعراب، والتشبه بالرجال من قبل النساء، وبالنساء من قبل الرجال، والتشبه بالحيوانات، حتى التشبه بالصالحين، كالتشبيه بالملائكة، والتشبه بالأنبياء، والتشبه بالصالحين، فهو موضوع واسع ذو علاقات اجتماعية وطيدة، وله جوانب متعددة. ولا شك أنه مهم كموضوع للدراسة، لكن نسأل الله أن يوجد من يتحدث عن هذا الموضوع بشكل علمي جيد. السؤال: وهل قطعت فيه شوطاً كبيراً؟ الجواب: في الواقع هناك كتاب مخطوط ضخم جداً للغزي اسمه (حسن التنبه لما ورد في التشبه) وهذا المخطوط الذي لا يزال مخطوطاً، ولعل السر في كونه لا يزال مخطوطاً هو ضخامته، واستطرادات المصنف، التي قد لا تكون ذات أهمية علمية كبيرة. لكنه من جهة أخرى حشد نصوصاً هائلة في هذا الكتاب، وهناك -ولله الحمد- بداية مشروع عندي، في جمع الأحاديث والآثار الموجودة في هذا الكتاب، بحيث أنها يستفاد منها في الرسالة على حدة، بعيداً عن استطرادات المؤلف التي قد لا يكون ثمة حاجة كبيرة إليها. كما أن الإمام ابن تيمية رحمه الله، كتب كتاباً فذاً بل فريداً في هذا الباب، وهو اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، وكله يدور على هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، وهو تميز المسلمين عن الكافرين في كل شئونهم. وهذا الموضوع أعتقد أنه في العصر الحاضر ذو أبعاد خطيرة جداً، خاصة مع انفتاح العالم بعضها مع بعض، ووجود تأثيرات عميقة بعيدة المدى على أخلاقيات الناس وحضاراتهم وعاداتهم وتصرفاتهم الفردية والاجتماعية والدولية، ومما يتطلب -فعلاً- لوجود أمة إسلامية متميزة عن غيرها من الأمم الكافرة، وهو زيادة الاهتمام والعناية بالموضوع. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 10 العمل الحالي للشيخ سلمان السؤال جزاكم الله خيراً الحياة العملية، ما هو العمل الآن حالياً؟ الجواب محاضر في كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم، وعندي في هذا الفصل محاضرات في كلية اللغة العربية، وفي قسم اللغة، وقسم الاجتماع، وقسم الجغرافيا. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 11 طبيعة التدريس في المسجد والجامعة والفرق بينهما السؤال يبدو لي يا شيخ سلمان أنك قد قمت بالتدريس في الجامعة وفي المسجد أيضاً، هل يمكن أن نعرف شيئاً عن العمل في هذين المجالين؟ ثم هل هناك فرق بين هذين المجالين؟ الجواب أما بالنسبة للمسجد -فالحمد لله- معظم جهودي كانت في التدريس في المساجد، وثمة دروس كثيرة في المسجد، لعل أقدمها هو ما بعد صلاة الفجر، فمنذ ما يزيد على ست سنوات، كان عندي درس يومي بعد صلاة الفجر في جميع أيام الأسبوع عدا الخميس والجمعة، وأحياناً قد يكون الدرس -أيضاً- في يوم الخميس، خاصة في الفترة السابقة، فكان الدرس يومياً، وقرأنا فيه -والحمد لله- عديداً من الكتب، منها زاد المعاد لـ ابن القيم، فقد قرئ علي وعلقت على المواضع التي أرى أنها تحتاج إلى تعليق فيه. ومنها بعض المختصرات المذكورة قبل قليل، كالأصول الثلاثة، والقواعد الأربع، ومتن الآجرومية، بالإضافة إلى قراءة شيء من القرآن الكريم في مطلع كل درس، هذا في الفترة السابقة، لأن الدرس تنقل بين أكثر من مسجد، بحسب السكن الذي أسكن فيه. ثم بدأ الطلاب يقرءون ويحفظون علي: مختصر صحيح البخاري للزبيدي، ومختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري، وقد قطعنا بحمد الله تعالى وبمنه وكرمه شوطاً بعيداً جداً في هذين الكتابين، فقد تجاوزنا الثلثين أو قريباً من ذلك فيما يتعلق بصحيح البخاري، والنصف فيما يتعلق بصحيح مسلم، ويحفظ مجموعة من الإخوة الطلاب، وأعلق على كل حديث بشرح له، خاصة فيما يتعلق بـ البخاري، أما مسلم فإنني أختصر فيه الشرح بعض الشيء. وكذلك يقرأ الطلاب في يوم الإثنين مجموعة من الكتب، منها: كتاب التوحيد للإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قرءوه عليّ حفظاً وشرحته كاملاً بحمد الله، ثم بدءوا يقرءون علي بعد ذلك، العقيدة الواسطية، وقد وصلنا فيها إلى منتصفها، فانتهينا من الآيات القرآنية التي ساقها المصنف، ووقفنا على الأحاديث، وكذلك يقرءون نخبة الفكر، وأقوم بشرحها. فهذه أهم الدروس التي أدرسها بعد صلاة الفجر. أما بعد صلاة المغرب، فعندي درسان: الأول: درس بلوغ المرام، وقد سجل في التسجيلات مائة حلقة، ووصلنا فيه إلى صفة الصلاة، وأحمد الله تعالى أن وفق على التزام منهج علمي دقيق قدر ما استطعت، في شرح الأحاديث ودراستها وتخريجها والكلام عليها من جميع النواحي. وقد لقي هذا الشرح -بحمد الله- قبولاً، ومما أعتز به ثناء مشايخي الكبار على هذا الشرح، واستماعهم إليه وتتبعهم له في الأشرطة، وقد يأتيني من بعضهم ملاحظات، وكل هذا مما يشجعني ويدفعني إلى بذل المزيد في هذا. كما أن كثرة الطلب لهذا الشرح مطبوعاً؛ تدل على حاجة الناس إليه أو شعورهم بوجود نوع من الفائدة فيه، وقد يكون هذا من باب حسن الظن، وقد يكون لأن هذا الكتاب بلوغ المرام، لم يسبق أن شرح بطريقة متكاملة، فإن الشرح الوحيد المتداول عند الناس هو سبل السلام، وفيه نقص كبير، وهو مختصر عن البدر التمام أيضاً، ففيه نقائص كبيرة جداً، وفيه خلل أيضاً، وقد يتجاوز أحاديث دون أن يعلق عليها بشيء، فمن هنا كانت أهمية شرح كتاب كهذا. وهناك درس آخر بعد المغرب في الجامع الكبير، وهو درس علمي عام، وهذا الدرس هو الآخر، لقي قبولاً من المحبين وطلاب العلم، بل ومن عامة الناس، وتناولنا فيه مواضيع شتى، والرابط الوحيد بينها أنها موضوعات تربوية وتوجيهية، تمس حاجة الناس. فمثلاً: تحدثت في أكثر من درس عن قضية "الأسماء والألقاب والكنى" وتحدثت عن قضية "المزاح وآدابه" وقضية "النكت والطرائف"، وتحدثت عن قضية "الرؤى وآدابها وأحكامها"، إلى موضوعات كثيرة، تزيد على خمسة وثلاثين موضوعاً، وبعضها يكون في عدد من الأشرطة اثنين أو ثلاثة، في عدد من الحلقات. وهذا إضافة إلى المحاضرات التي لا تلتزم بالوقت ولا بالمواضيع، بل تكون متفرقة في المدارس أو في بلدان مختلفة. فهذا ما يتعلق بالدروس أو النشاط في المساجد. ولا شك فيما يتعلق بالفرق بينهما، أن هناك فرقاً كبيراً، لأن التدريس في المساجد يخاطب فئة هي -أصلاً- جاءت للتحصيل، ولا يدفعها إلى ذلك إلا أمر واحد وهو الرغبة في سماع العلم وتحصيله، فهم نوعية مختارة، ولذلك هم -أحياناً- أكثر حرصاً من الشيخ ومتابعته، وقد يكون حرصهم سبباً في المواصلة واضطرار الشيخ إلى أن يراجع وأن يحضر ويستعد للدرس؛ ليكافئ هذا الجهد الذي يبذله الطلاب. أما في الكلية يختلف الأمر، فإن الدراسة نظامية، ويأتي فيها الجميع، وقد يكون من الطلاب من يرغب في الدراسة لذاتها، وقد يكون منهم له مقاصد أخرى، كنوع من تكميل شهاداته أو الوصول إلى وظيفة معينة، وقد يكون الطالب مرتاحاً لهذا الدرس، أو لا يكون مرتاحاً إليه، بخلاف طالب المسجد، فإن الغالب أنه لا يأتي إلى الدرس أو الحلقة، إلا وهو يحس برغبة ذاتية في حضورها هذا من جانب. ومن جانب آخر، فإن مستوى طالب المسجد يختلف عن مستوى طالب الجامعة -على الأقل- باعتباره متخصصاً، فطالب الجامعة -ولأضرب لك مثلاً-: أنا أدرس في اللغة، وفي الاجتماع، وفي علم النفس، وهؤلاء الطلاب غير متخصصين في المواد الشرعية، وبالتالي فإن همَّ الإنسان من خلال المحاضرة أو الدرس؛ أن يوصل إليهم قدراً من المفهومات الشرعية الصحيحة، والعلوم النافعة، والقواعد المهمة التي تنفعهم في حياتهم، دون الدخول في تفاصيل أخرى قد لا يتسع المجال لها. بخلاف طالب المسجد؛ فإنه طالب متخصص، وهو يعد نفسه، أو يجب أن يعده شيخه؛ ليكون فقيهاً يسد فراغاً في المجتمع بعد سنوات قلت أو كثرت. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 12 كتب الشيخ سلمان السؤال بالنسبة للكتب التي أصدرتموها، والكتب التي تعتزم إصدارها بعد ذلك. الجواب بالنسبة للكتب التي صدرت: الحمد لله صدر عدد طيب من الكتب، لعل من أشهرها كتاب حوار مع الغزالي وفيه ناقشت آراء وأفكار الشيخ محمد الغزالي في كتابه الأخير، بل ليس الأخير، إنما كان الأخير في ذلك الوقت، وهو (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث) . ومنها: كتاب (المسلمون بين التشديد والتيسير) و (نداء الفطرة) وكتاب (دروس رمضان) وكتاب (جزيرة الإسلام) ورسالة (جلسة على الرصيف) و (من أخلاق الداعية) وهناك كتاب مهم، قمنا بتحقيقه أنا وأخي الدكتور ناصر القفاري، لمؤلف الكتاب وهو أحمد الكسروي، أحد علماء الشيعة في إيران، والكتاب اسمه (الشيعة والتشيع) وفي الواقع الكتاب في غاية الأهمية؛ لأنه كتب بقلم رجل من رجالات الشيعة، وهو يناقش مذهبهم، ويفند أصول المذهب بطريقة علمية عقلية قوية، وكان لهذا الكتاب صدى كبير، حتى إن مؤلف هذا الكتاب دفع حياته ثمناً لهذا الكتاب، فقد قتل في أحد شوارع طهران، وقد كتب الكتاب بناءً على طلب شيعة الكويت. فهذا الكتاب قمت بتحقيقه مع الدكتور القفاري، وطبع بمصر. ولكنه لم يصل إلينا، ولم ينتشر كما ينبغي له، ولعله تتيسر الأسباب لإعادة طباعته مرة أخرى. أما بالنسبة للكتب التي أقوم بإعدادها، فلعل من أهمها: شرح بلوغ المرام، وهو في الواقع مكتوب من خلال الأشرطة، فقد قام الطلاب بتفريغه، وهو عندي في مذكرات، وقد تداوله الناس في هذه المذكرات وقرؤه. لكن لا شك أن المذكرات من كتابات الطلاب، وهي من إلقائي الشفهي فهو عبارة عن أمالي، يعرض فيها ويحدث ما يحدث في المشافهة عادة من التجوز أو التسامح في العبارة، كما أن الطالب قد يفهم الكلام أو ينقله أو يسمعه على غير ما نطق به الشيخ، فتتداخل بعض الحروف، أو تلتبس عليه بعض الأمور، فيحدث فيها أشياء تحتاج إلى تصحيح، ولم يتسن لي أن أقوم به بالنسبة للمذكرات، فشعرت بالحاجة إلى إعادة كتابة الكتاب مرة أخرى، وفعلاً قد بدأت من جديد بكتابته بنفسي، وكتبت ما يزيد على مائة صفحة، انتهينا فيها من الباب الأول وهو باب المياه. وأنا بعون الله تعالى عازم -خاصة في هذه الظروف، التي أتيحت لي فيها فرصة أكبر- على التفرغ لتصحيح هذا الكتاب وإصلاحه؛ ليكون جاهزاً للتداول والطباعة في أقرب وقت. وهناك كتاب آخر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أيضاً جاهز للطباعة. وقد سبق أن طبع لي كتابان في سلسلة رسائل الغرباء، الأول: الغرباء الأولون، وهو دراسة في السنة النبوية، والثاني هو بعنوان: صفة الغرباء، وهناك القسم الثالث، وهو في طور المراجعة والتصحيح الآن، وسوف يقدم للطباعة حال إنجازه بإذن الله تعالى. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 13 الاستفادة من الأشرطة العلمية السؤال للأشرطة دورها الفعال كما تعلم، ولك مشاركتك الفعالة أيضاً، ولك تركيز على الشريط الإسلامي، فماذا يرى الشيخ سلمان في مجال التركيز على الشريط للاستفادة منه، وهل يرى ما يراه بعضهم: من أنه يمكن أن يتفقه الشباب عن طريق الأشرطة بدل حضور الحلقات، أم لا بد من الجمع بينهما؟ الجواب بالنسبة لوسائل التركيز والاستفادة من الشريط، فلا شك أن هناك فرصاً كبيرة جداً للاستفادة، ومن أهم ذلك تنويع المادة العلمية، بحيث تخاطب جميع طبقات المجتمع، لأن الشريط وسيلة فعالة بلا شك وسريعة الانتشار. وأيضاً الاستفادة منها ممكنة لكل أحد وفي كل الظروف، وهي متنوعة بحيث تخاطبي طبقات المجتمع المختلفة، كمخاطبة النساء مثلاً، ومخاطبة الشباب، ومخاطبة كبار السن، ومخاطبة الأطفال أيضاً. أما فيما يتعلق باستخدام الشريط كبديل عن حضور الحلقة العلمية، فهذا غير ممكن بحال من الأحوال، فحضور الحلقة يربي على أشياء لا يتربى عليها الإنسان في الشريط، ويكفي في ذلك أن يتربى الطالب على ثني ركبتيه في مجلس العلم، فهذا شيء يحتاج إليه الطالب، ولن يتلقاه إلا في الحلقة، كما أن ربط الطالب بشيخه وبزملاء الطلب والتعلم، يتم من خلال حضور الحلقة، كما أن فرصة السؤال والاستيضاح ممكنة في الحلقة وغير ممكنة في الشريط. لكن الشريط بديل -بلا شك- عند تعذر الحضور إلى الحلقة أو تعسر هذا الأمر، كما يلحظ في بلاد بعض الإخوة، حيث لا يوجد في بلدهم شيوخ يعلمون، أو يكون سكنه في مناطق نائية، أو لا تسمح له ظروفه بالحضور، أو يغيب أحياناً لعارض، فيعوض عن ذلك بسماع الشريط. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 14 طريقة تحضير الدروس السؤال بالنسبة لمحاضراتكم ودروسكم، فإنه يلاحظ تسلسل المعلومات وتتابعها، فهل يمكن أن يعرف المستمع شيئاً عن طريقة إعدادك لهذه المحاضرات والدروس؟ الجواب بالنسبة لما يتعلق بالدروس؛ كدروس بلوغ المرام، فأمرها واضح؛ لأنها مسائل علمية وأحاديث محددة، فيرجع إليها الإنسان في مراجعها، ويمكن أن أقول: إنني أكتب كل ما أريد أن أقوله في هذه الدروس قبل أن أذهب إلى الدرس، ثم ألخص ذلك في ورقة، حتى أضمن ألا يفوتني شيء من هذه المعلومات المهمة، وأنا أقوم بإلقاء الدرس. أما فيما يتعلق بالدروس العلمية؛ فإنها تمر بمراحل: المرحلة الأولى: مرحلة اختيار الموضوع، وقد كتبت عندي قائمة كبيرة بكل الموضوعات التي في ذهني، حتى لو مرت في ذهني وأنا في أي مكان فإني أحاول أن أسجله، مما يحتاج إليه الناس في أي مجال، كما أنني لا يمكن أن أنكر استفادتي من عدد كبير من المخلصين الذين يواصلونني ويراسلونني، أو يتصلون بي بالهاتف ويقترحون علي موضوعات معينة، وخاصة أولئك الذين يتجاوزون اقتراح العنوان إلى اقتراح عناصر، وتسجيل بعض النقاط المهمة، وبعض المفاهيم الخاطئة، وبعض الأشياء التي تحتاج إلى معالجة، فيساعدونني على تحديد الموضوع. المرحلة الثانية: بعد ذلك أقوم بتسجيل عناصر الموضوع في ذهني قبل أن أرجع إلى أي كتاب، لأنه قد يكون هناك عناصر في ذهن الإنسان لا يجدها في كتاب محدد، فإذا سجلت العناصر سجلت ما يتعلق بها من نصوص ومعلومات وغير ذلك؛ بدأت الرجوع إلى المراجع، وإضافة ما أريده إلى ما كتبته سابقاً، ثم أستكمل كتابة الموضوع، بتسجيل عناصره، وتسجيل النصوص المتعلقة به، سواء كانت نصوصاً من القرآن الكريم، أو من السنة النبوية، أو من أقوال أهل العلم، أو بعض الأشعار، أو غير ذلك. ثم أعود فألخصها في ورقة تكون أمامي أثناء الإلقاء؛ لأضمن عدم فوات شيء من هذه المعلومات، التي أعتقد أنها مهمة، وحصل هناك بعض التعب في جمعها، وقد يستغرق إعدادي للموضوع أحياناً يوماً كاملاً أو يومين متواصلين. أما بالنسبة للمحاضرات، فقد يكون موضوع المحاضرة في الأصل موضوعاً يتطلب معالجات عامة، ولهذا لا يكون فيه من المراجع والمراجعة والتصحيح والكتابة، مثلما يكون في الدروس العلمية. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 15 الطريقة المثلى لتدريس القرآن والفقه وربطهما بالواقع السؤال هنالك سؤال له شقان فيما يتعلق بتدريس العلماء في المساجد: فمنهم من يركز تركيزاً واضحاً على الفقه على حساب علوم أخرى كالقرآن مثلاً، إضافة إلى أن تدريس الفقه لا تراعى فيه -في الغالب- مسائل الواقع، بل قد تجد أن بعض المسائل في المعاملات لا وجود لها الآن، فما هي الطريقة المثلى في تدريس هذا الجانب؟ والجانب الآخر: بالنسبة لتدريس القرآن الكريم، هنالك تقصير في هذا الجانب، ولكن إذا درس ربما ركز على المسائل الشرعية واللغوية والبيانية في القرآن الكريم، بينما نادراً ما تجد من يناقش معاني القرآن، ويربطها ربطاً شرعياً وربطاً روحياً بواقع الناس، فما هي الخطط التي تقترحونها في هذين الجانبين؟ الجواب فيما يتعلق بالفقرة الأولى، وهي: قضية العناية بتدريس الفقه. فأعتقد أن هناك مسوغاً واضحاً، وهو أن الفقه يتعلق بأحكام تفصيلية يحتاجها الناس، فإن جمهور الناس غالباً ما يسألون عن تفاصيل حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في مسائل يعانونها في واقع حياتهم. ولهذا يكون هناك اهتمام وعناية، هذا فضلاً عن كثرة مسائل الفقه وكثرة الفروع، مما يحتاج إلى وقت وإلى فترة طويلة في ضبطها وحفظها ودراستها، فهذا جانب. ولكن هذا -بلا شك- لا يسوغ بحال من الأحوال، أن يغلب جانب الفقه بمفهومه الاصطلاحي، الذي يعني المسائل الفرعية، على الفقه بمفهومه الشرعي الأصلي السلفي، الذي هو الفقه في الدين حقيقة، أصولاً وفروعاً: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} كما في المتفق عليه، ومن التفقه في الدين معرفة القرآن، ومعرفة السنة إلى غير ذلك. أما فيما يتعلق بربط الفقه بمسائل الواقع، فهذه -فعلاً- مشكلة، ولا بد من العناية في ربط الفقه بمسائل الواقع بقضايا كثيرة، تبدأ بقضية الناحية المنهجية، وترتيب المواد، وطريقة عرضها، فإن كانت كتابة، فبوضع عناوين فرعية وترقيم، إلى غير ذلك. وأيضاً تمر بالأسلوب وباللغة، فإن اللغة التي يفهمها الناس اليوم حتى طلاب العلم، غير اللغة التي هي موجودة في بعض الكتب الفقهية، فتحتاج إلى نوع من مراعاة الواقع، ومستوى الناس في اللغة، وتقريب هذا الأمر إليهم، وتنتهي بالمضمون. فمثلاً: علاج القضايا المستجدة من أهم المسائل، وليس صحيحاً أن يهتم الناس بقضايا لا وجود لها -الآن- من الناحية الفقهية، ويغفلوا عن مشاكل، أو ما يسميها الفقهاء بالنوازل والحوادث التي طرأت الآن واحتاج الناس إليها، وهي كثيرة، في مجال الاقتصاد، وفي مجال الاجتماع، وفي مجال المعاملات، وفي المجالات الدولية وفي غيرها، وتحتاج إلى رأي أو اجتهاد شرعي ناضج فيها. كما أن الناس يحتاجون من خلال تدريس القضايا الشرعية، سواء كان فقهاً أم أصولاً، أم تدريس القرآن الكريم نفسه -كما أشرت في سؤالك الآخر- يحتاجون إلى ربط هذا العلم بالواقع. فأنت عندما تقرأ للغزالي، أو تقرأ للجويني أو تقرأ لـ ابن قدامة في كتبهم الأصولية، أو غيرهم من العلماء، تجد أن الأمثلة التي يضربونها أمثلة منبثقة من صميم الواقع الذي يعيشونه، ولذلك كانوا يعيشون الواقع حقاً، ويضعون الأمثلة للطلاب من واقعهم، لكننا نحن نردد نفس الأمثلة التي ذكروها، والواقع أنه ينبغي أن تكون هناك أمثلة من واقع الحياة، بحيث يربط الطالب بالحياة، ويعرف أنه يتعلم ليعلم وليدع الناس، وليغير واقع الناس إلى ما يرضي الله تعالى، وليس لمجرد العلم. أما فيما يتعلق بالقرآن، فلا شك أن التقصير وهجران القرآن على كافة المستويات موجود، وإذا درس القرآن فقد يدرس -أحياناً- لكن يغلب على ذلك طابع العناية بالمسائل الشرعية واللغوية والبيانية كما أسلفت. أما الحل في نظري، فأعتقد أن من أهم ذلك، هو ما أسلفته من محاولة ربط معاني القرآن الكريم بواقع الناس، لأن القرآن نزل هكذا، حيث نزل منجماً بحسب الوقائع والأحوال، وكان يعالج قضايا يحتاجها الناس. فعندما تأتي امرأة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينزل القرآن: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] . ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها لما سألها سائل: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: {ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن} . فكان القرآن في واقع الناس هو الذي يحرك واقعهم، ويسير واقعهم، أما الآن فقد اكتفى كثير من الناس بأن القرآن يستفتح به في المجالس، وفي الندوات، وفي المناسبات، وفي الإذاعات، عن أن يكون مسيراً لواقع الفرد والجماعة والدولة. وبالتالي صارت دراسة القرآن -سواء كانت تأليفاً، أم دراسة في المساجد- يغلب عليها هذا الطابع، ولعله يكون هناك دروس -إن شاء الله- تحاول أن تصحح هذا الأمر، وتحاول أن تجمع بين الفهم الصحيح للقرآن المبني على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شرح القرآن وفسره بسنته، فالسنة تفسر القرآن، ومع ذلك يربط هذه الأشياء بواقع الناس. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 16 مسألة الجمع بين الفكر والعلم الشرعي السؤال بالنسبة إلى ما يسمى بالانفصام بين الفكر والعلم الشرعي في هذا الزمان، فكثيراً ما نجد مفكرين، ولكن حظهم قليل من العلم الشرعي، ونجد العكس أيضاً، هل يمكن أن يصور لنا الشيخ حلاً لهذه القضية؟ الجواب إن التخصص مبدأ يجب أن نؤمن به ونعترف به، فيوجد إنسان وجَّه همَّه وعنايته للعلم الشرعي أصولاً وفروعاً، وشُغل عما عداه، فمن الصعب على عالم متخصص كهذا، أن يشغل نفسه بدراسة اللغات ليتعرف على الفكر الغربي من مصادره، أو حتى أن يقرأ الكتب المترجمة ويعرف مصادر الفكر وأنماطه وتياراته، وما أشبه ذلك، ثم يرد عليها. فهذا أمر تفنى دونه الأعمار، ويمكن أن يتخصص فيه آخرون، بعد أن يتزودوا بالأصول الشرعية، التي تمكنهم من معرفة مواطن الخلل في ذلك الفكر، والرد عليه بصورة شرعية صحيحة، وعدم التأثر به، أو الانسياق وراءه. ولكن أعتقد أن هناك قاسماً أو قدراً مشتركاً، لا بد أن يوجد في الصنفين، فكما أننا نشترط فيمن يدرس تيارات الفكر المنحرف -غربية وشرقية- أن يكون عنده قاعدة من العلم الشرعي تمكنه من تقويم هذا الفكر ومعرفة خطئه من صوابه. فكذلك ينبغي أن يكون من يتكلم في الشرعيات والأحكام وغيرها، خاصة في مثل هذا العصر الذي اشتهرت وانتشرت فيه الأفكار، وأصبحت تطل من خلال الشاشة، والجريدة، ومن خلال المقال، والكتاب، أن يكون عنده ولو إلمام عام بهذه التيارات، بحيث يستطيع أن يجيب الناس فيها، ويبين القدر الذي قد يتأثر به عامة الناس منها. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 17 كتاب حوار هادئ، وتأثيره سلباً وإيجاباً السؤال شيخ سلمان، الكتاب الذي كتبته وأصدرته: حوار هادئ مع الغزالي له أثر جيد ونحن نلمس ذلك، ولكن نريد من الشيخ سلمان، أن يعطي صورة لهذا الأثر سلباً أو إيجاباً، من خلال ما بلغه كتابةً أو مشافهةً إن أمكن؟ الجواب لقد كان لهذا الكتاب -بحمد الله- صدى واسع وطيب أيضاً، ولعلي أعتبر أن الرسائل البريدية تعطي مؤشراً واضحاً عن هذا. فقد تلقيت، ولا زلت إلى هذا الأسبوع أتلقى رسائل من أنحاء العالم الإسلامي، بل وغير الإسلامي أيضاً، فقد جاءتني رسائل من الجزائر والمغرب ومصر ودول في الخليج العربي واليمن، وهناك رسائل جاءتني من بريطانيا وفرنسا وغيرها، وكلها تتحدث عن هذا الكتاب، وربما يكون كلامي في هذا الموضوع غير دقيق (100%) لأن هذه الرسائل ليست أمامي، لكنها كانت على الأقل مئات الرسائل، ومعظم هذه الرسائل تكتفي بالتعبير عن ارتياحها للكتاب والرد ومنهجه، وطلب نسخة من هذا الكتاب، وكذلك جاءتني رسائل كثيرة من السودان. وهناك رسائل تثني على جوانب، وتنتقد جوانب أخرى من الكتاب، وهذه أيضاً ليست بالقليلة، قد تكون ملاحظات علمية، وقد تكون ملاحظات لغوية، وقد تكون ملاحظات منهجية، ربما أُسلم لشيء منها أن الصواب معهم، وهناك أشياء أخرى قد يكون عندي الجواب عليها، وهناك القليل من الرسائل كان نقداً للكتاب، وهذا النقد ينقسم إلى شقين: هناك نقد يقول: إنك تسامحت مع محمد الغزالي أكثر مما يجب، وقد جاءتني إحدى الرسائل من فرنسا، وكانت رسالة ثائرة، ووصفت الشيخ بأوصاف أعف عن ذكرها؛ لأنها لا تناسب، وربما يكون فيها شيء من الزيادة، فهذا نوع. النوع الثاني: تعتقد أنني بخست حق الرجل وظلمته، ولم أعطه حقه، وأذكر منها بالدرجة الأولى: رسالة جاءتني مطبوعة، لم يتحدث صاحبها فيها عن الكتاب فقط، إنما أدخل العالم الإسلامي كله من خلال زاوية هذا الكتاب، فصار يتكلم عن مشاكل المسلمين وأوضاعهم، وأوضاعنا وأوضاع كثيرة جداً من خلال نقده لهذا الكتاب، وكان -في الواقع- نقداً مريراً. حتى إني أذكر من كلماته أنه يقول: يمكن أنك لاحظت غلاف الكتاب، وأظن الأخ الذي رسم الغلاف اسمه زهران، وكتب اسمه على الغلاف، فهو يقول: أنا لا أجد فرقاً بين سلمان وزهران، فهذا يشطب على الغلاف، وهذا أتى بأفكار في آخر الكتاب، أو من هذا القبيل. وربما أن هذه أكثر الرسائل غلياناً وانفعالاً، ومع ذلك كله، أذكر أن كاتبها في آخرها اعتذر لي اعتذاراً حاراً، وقال إنني أغبطك على هدوء أعصابك، وعلى سعة بالك، وشيء من هذا القبيل، وطلب التماس العذر له لأنه إنسان مشرد، ولا يستقر في مكان، من الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم، فهو قد اعتذر عن هذا، وأسال الله تعالى أن يغفر لي وله ولسائر المسلمين. كما أنني أذكر -أيضاً- من ردود الفعل، خلال زياراتي لعدد من البلاد الإسلامية، زرت الكويت سابقاً، والبحرين وأمريكا وكندا وفرنسا، وكلها من المواقع التي توجد فيها كتب الغزالي بكثرة، وكنت أتوقع أن تكون ردود الفعل مختلفة، لكنني وجدت أن من لقيتهم مطمئنون إلى منهج الكتاب بصفة عامة، وأحمد الله تعالى على ذلك. السؤال: بالنسبة للشيخ الغزالي، هل كان له معك نقاش في هذا الموضوع، ولو عن طريق الرسائل؟ الجواب: لقد جاءتني رسالة من أحد الإخوة من مصر، ويقول إنه تلميذ خاص من تلاميذ الغزالي، والرسالة كان فيها اعتدال واعتراف بأشياء كثيرة، وفيها تصحيح لأمور معينة، وفيها ثناء على الكتاب، وإشعار بأنه لم يقع موقعاً سيئاً من الشيخ. وبالنسبة للأشرطة فقد انتشرت في مصر، وسمعها الغزالي، وكان مريضاً آنذاك، فسمع الأشرطة ولم يكن رده أيضاً سيئاً، وقد اتصل بي أكثر من واحد من أصحاب المكتبات، وكان تجاوبه معقولاً، لكن فيما بعد، أُجريت معه عدة مقابلات في عدد من الصحف، وكان يتكلم بطريقة مختلفة تماماً، فلا أدري هل هو يتكلم عن شيء آخر، أم أن الصحفيين أفلحوا في استفزازه بطريقة معينة، وقد يكون ثمة ملابسات أخرى. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 18 المنهج السليم للنقد السؤال هنالك سؤال حول النقد، كما يقول المثل: (الناقد بصير) والناس يحبون أن ينتقدوا على اختلاف مستوياتهم، فما المنهج السليم للنقد في أوساط طلاب العلم وأهل الدعوة؟ الجواب هذا سؤال في غاية الأهمية، لأن قضية النقد هي أولاً: قضية حيوية وضرورية، وأي أمة ليس فيها نقد، معنى ذلك أنها تستمرئ أخطاءها وتستمر عليها، ولا ترضى بمن يصححها، فهي أمة آيلة إلى الفناء شاءت أم أبت، رضيت أم سخطت. فلا بد من النقد على كافة المستويات، ومن ذلك ما يتعلق بالدعوة والدعاة، والعلم الشرعي وطلاب العلم، فهم يحتاجون إلى إثارة النقد فيما بينهم. لكن الناس في موضوع النقد ما بين مفرِط ومفرِّط. فمن الناس من همه النقد، فتجده لا يتكلم إلا منتقداً، وأعرف بعض الأحبة من هذا القبيل، جبلوا على هذا الأمر، فلا يلتذ الواحد منهم إلا بالنقد، وكأنه يعتبر نفسه قيماً أو وصياً يصحح للناس، وهذا صعب تَحمُّله مهما كان الأمر. كما أن من الناس من يفرِّط في هذا الأمر، فيتقبل كل شيء، ولا يحب أن يُنتقد ولا أن يَنتقد، فهو يستثقل أن يُلاحَظ أو يُوجَّه إليه أيُّ شيء، فذلك هو لا يَنتقد الآخرين، وكأنه يريد أن يسكت ليسكت الناس عنه، وكما يقال (افتضحوا فاصطلحوا) . والواقع أنه يجب أن يكون عندنا مسلك وسط في هذا الجانب، فالنقد لا بد من الاعتراف به على مستوى الجميع، والناقد ينبغي أن يلتزم بالمنهج العلمي الشرعي الصحيح. فالتهم لا داعي لها، والتهجم لا داعي له، والنبرات النابية في غير محلها لا داعي لها، بل يكون النقد منصباً على فكرة، فلا تتحدث عن فلان، وأن فيه كذا، تحدث عن فكرة معينة، أو مذهب معين، أو خطأٍ معين، وصحح هذا الأمر بالأدلة، ودع القراء أو المستمعين يشاركونك أو يخالفونك في هذا الجانب، هذا من جهة. الجهة الثانية: ينبغي أن لا يكون النقد ومعرفة الأخطاء، إهداراً لحسنات الآخرين، وتنكراً لجميلهم، فما من إنسان إلا وفيه شيء من الخير، والمسلم عنده شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وما دام محققاً لها فهو على خير بإذن الله تعالى، وينبغي ألا ينكر فضله. فإذا انتقدت إنساناً فحسنٌ أن تبدأ بذكر بعض فضائله وبعض حسناته؛ لأن هذا أدعى لأن يقبل هو، ويقبل من يكون على شاكلته، لأنك عندما تكتب النقد تكتبه غالباً له وللمعجبين أو المتأثرين به، فإذا رأوك متحاملاً، لم يقبلوا منك شيئاً حتى الحق الذي جئت به، لكن إذا رأوك منصفاً معتدلاً كان هذا مسلكاً سلساً حسناً يدعو إلى تقبل الحق الذي جئت به. وعندنا كتاب الله وهو حسبنا قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219] فلم يمنع الإثم الكبير الذي فيها وكونهما محرمين، أن الله تعالى يبين أن فيهما منافع. كما أن عندنا كتاب الله وهو حسبنا، فالهدهد لما قال سليمان: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21] وفي آخر الآيات قال الله تعالى لما ذكر قول الهدهد: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] إلى أن قال: {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل:27] فالمسألة مسألة موضوعية، أصدقت أم كنت من الكاذبين بالأدلة المادية الصحيحة، أما من ادعى دعوى لا دليل عليها، فيضرب بدعواه عرض الحائط. كما أن الحق كونه ظهر على لسان الهدهد؛ لم يمنع نبي الله سليمان عليه الصلاة والسلام من تقبله والتثبت منه. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 19 الدعوة تبليغ مع وجود العقبات السؤال بالنسبة لتبليغ العلم، كيف السبيل إلى أن يبلغ العالم علمه، مع وجود العقبات أمامه؟ الجواب العقبات لا بد منها، والعالم الصادق لا بد أن يلقى العقبات، وإلا لم يكن صادقاً، فإن الذي أمرَنا وأمرَ الأمة بأن تبلِّغ، ذكرَ العقبات، وأن الإنسان بقدر ما يبذل، بقدر ما سيواجه من نفسه وممن حوله من الأقربين والأبعدين. فالعقبات أمر طبيعي، وهي بالنسبة للمستبصر هي المؤشرُ على صدق توجهه، وصحة مسلكه ومنهجه، ولو لم يجد هذه العقبات كان عليه أن يراجع نفسه، ويصحح مساره، بمعنى أنه سلك طريقاً آخر لم يجد فيه تلك الجبال التي نصبت له، ولا تلك الصعاب، ولا تلك العقبات، فهذا أمر طبيعي. لكن عليه أن يواجهها بالصبر، الذي لا يدعوه إلى أحد طرفين، إما أن ينفد صبره فيسلك مسلكاً غير محمود، لا يتسم بالحكمة ولا يتسم بالبحث عن المصلحة العامة. أو بالعجز الذي يؤدي به إلى أن يترك، ويعتبر أن عقبات الطريق أكبر من إمكانياته، فعند ذلك ييأس ويترك العمل. فعلى الداعية أن يتحلى بالصبر وطول النفس، ومعرفة أن الأمور تتغير، والأيام تتغير، والعقبات توجد ثم تزول. بل إن هذه العقبات عند التأمل؛ هي جزء من شخصية العالم، ابحث عن أي عالم في تاريخ الأمة واقرأ تاريخ هذا العالم؛ تجد أن طبيعة المواقف ووجود بعض العقبات، هي جزء من تاريخه الذي كون حياته، وكون شخصيته، وكون علمه، وكونه كشيء معتبر وشيء صاحب قيمة في المجتمع، فهو أمر لا يُغضب منه، ولا يعتبر أمراً غير مألوف في حياة الدعاة وطلبة العلم، فضلاً عن العلماء. والعقبات التي تكون أمام العالم، لا تحول بينه وبين إيصال العلم بالكلية، فإن العقبات قد تُغلق عليه طريقاً، لكن إذا كانت الدعوة وكان التعليم يتحرك في قلبه، فسيفتح بدلاً من الطريق طُرقاً، وسوف يجد الوسيلة لإيصال العلم إلى أهله، قد تغلق طريقاً، لكن يفتح الله تعالى له أخرى، بل قد يكون هذا سبباً في توجيهه إلى أمور قد تكون أثمن وأهم وأغلى مما يشتغل به، ولكنه قد يكون مقصراً فيه فتوجهه إليه. فهكذا قد يقيض الله تعالى بعض الناس ليوجهوا الدعوة، ويوجهوا العلم الشرعي الوجهة الصحيحة التي يحتاج إليها. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 20 الجفوة بين العلماء والشباب السؤال كثيراً ما يشتكي بعض الشباب من عدم تفاعل العلماء معهم في كثير من القضايا، وكثيراً ما يقولون نحن بحاجة إلى العلماء المربين، فماذا نقول لهؤلاء الشباب؟ الجواب في الواقع أن القضية يجب أن يخاطب فيها الطرفان معاً، فمن جهة: الشباب مطالبون بأن يلتفوا حول علمائهم، ويجلسوا إليهم، ويستشيروهم في أمورهم، بل وأن يقتربوا منهم، لأن كون الشاب قد يحضر حلقة العلم ثم ينصرف دون أن يتعرف على الشيخ أو يعرفه بنفسه، أو يحييه بتحية الإسلام، أو يقدم له ما اعتاد الناس عليه من أمور فيها معاني التقدير والتكرمة والتعبير عن الود والاحترام لهذا الشيخ، فإن هذا تقصير من جانب الشاب، وينبغي أن يتدرب الشاب على طرائق وأساليب في الحضور إلى العلماء، والتعرف عليهم، وتعريفهم بنفسه، والتقرب من نفوسهم وقلوبهم. وفي مقابل ذلك فلا شك أن الأصل في العالم أن يستمع إلى هؤلاء الشباب، وأن يفتح ويفسح لهم صدره، ليستمع إلى همومهم ومشاكلهم، وأحياناً قد يكون الشاب عنده مشكلة تؤرقه، فإذا عرضها عليك تشعر بأنها صغيرة أو تافهة في مقياسك، لكنها بالنسبة له مقلقلة ومزعجة، يحتاج إلى من يشاطره ويشاركه في الاهتمام بها، فمن المهم أن يشعر بصدر يتسع لمشاكله، يتجاوب معه، يعطيه شيئاً من وقته. وينبغي للشاب حين يفقد هذا أن يعلم أن العالم مشغول بما هو أكبر من ذلك، فربما ينشغل العالم عن مشكلة فردية، لكنه منشغل بمشكلة أمة، ولا شك أنه حينئذٍ معذور، حين يعتذر عن سماع تفاصيل جزئية في مشكلة يعانيها شخص بعينه. لكن على سبيل العموم، كما قال عليه الصلاة والسلام: {سددوا وقاربوا} ولا شك أن دور العالم لا يتوقف عند مجرد حقن المعلومات في ذهن الطالب، بل دوره أكبر من ذلك، فدوره هو بناءً الطالب بناء متكاملاً، والمساهمة في حل مشكلاته، وأن يعيش مع الطالب في كل جزئيات وتفاصيل حياته، أن يجعله عالماً وداعية ومصلحاً، وليس أن يجعله مجرد حافظ للمعلومات لا يتعدى الأمر عنده هذا الحد. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 21 بعض أخطاء الدعوة الإسلامية السؤال واقع الدعوة الإسلامية فيه كثير من المعوقات والأخطاء، فهل للشيخ سلمان أن يحدد لنا شيئاً من ذلك؟ الجواب واقع الدعوة الإسلامية، جزء من واقع الأمة الإسلامية، وأنا أعتبر أن أخطاء الدعوة الإسلامية، هي انعكاس أو ظل لأخطاء الأمة الإسلامية في شرقها وغربها، ولكنها قد تكون بصورة مصغرة أحياناً، ولعل من أبرز الأخطاء: ما أسلفت قبل قليل من غياب النقد الصحيح، واعتبار أن هذا النقد -متى كان بناءً صحيحاً- أنه نوع من الهدم أو التشهير. والواقع أن النقد شرط أساس لا بد منه، وهو النصيحة التي أمر الله بها، وأمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم، حيث قال: {الدين النصيحة} فهذا من النصيحة لخاصة المسلمين، التي نحتاج إليها جميعاً. كما أن من أهم الأخطاء: غياب المنهج الصحيح. فإن كثيراً من الدعاة ينطلقون من مشاعر ومن عواطف ومن تلهف، ومن الإحساس بالواقع الأليم للأمة، والحاجة إلى تغييره، لكنهم لا ينطلقون من منهج صحيح، ولهذا يذهبون ذات اليمين وذات الشمال، وقد يتجهون يوماً مع هذا ويوماً مع ذاك، وتتفرق بهم السبل، والواقع أنه لا عاصم من هذا إلا بالعودة إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح، والتماس العبرة والأسوة، ورسم الخطوط الأساسية من خلال هذه الأسس الثلاثة -الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة- ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. فهذه أبرز الأشياء التي في الذهن، والحديث في هذا الأمر يطول التفصيل فيه. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 22 وسائل الدعوة إلى الله السؤال إذاً ما رأيك في وسائل الدعوة التي يمكن أن نواجه بها مثل هذه المعوقات والأخطاء؟ الجواب وسائل الدعوة جزء من واقع الدعوة، والمقصود بالوسائل: الأشياء التي يتوسل ويتوصل بها إلى تحقيق المقصود، فهي المعبر بين الدعاة الناس. وهناك وسائل متفق عليها في كل البلاد وفي كل الأمم عبر التاريخ، مثل وسيلة الكلمة التي بعث بها الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكل رسول قد دعا بكلمة: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فهو يدعو الناس إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، ونبذ الآلهة والأنداد التي تعبد من دون الله عز وجل. وهذه الكلمة يمكن أن تصل من خلال وسائل شتى: بالخطاب الشفهي، فيمكن أن تصل عبر كتاب، أو في قصة، أو في قصيدة، أو في أي وسيلة متاحة ومباحة. وهناك وسائل كثيرة للدعوة توجد في كل عصر، وأعتقد أن الدعاة إلى الله تعالى يستطيعون استخدام أي وسيلة للدعوة متاحة لهم بشرطين: الشرط الأول: أن تكون هذه الوسيلة ليس فيها محظور شرعي، فلا يقوم باستخدامها ارتكاب محظورات شرعية محرمة بنص كتاب أو نص سنة أو بإجماع العلماء، فالغاية لا تبرر الوسيلة، فصحة الغاية، وأن المقصود إيصال الدعوة لا يبرر استخدام أي وسيلة قد تكون محرمة. فالشرط الأول: أن تكون الوسيلة مباحة على الأقل، أما إذا كانت مشروعة وثبت استخدامها، فهذا لا شك من باب الأولى. الشرط الثاني: أن يغلب على الظن، أو أن يجزم الداعية بأن هذه الوسيلة تحقق مقصوده، فإن المقصود من الوسيلة هو الوصول إلى الغاية وإلى الهدف، فلا بد أن يقتنع الداعية بأن هذه الوسيلة تحقق مقصوده، إما ظناً غالباً أو جزماً. أما الاعتقاد بأن وسائل الدعوة تعبدية، فلا أدري كيف هذا، -ولا شك أن الدعوة من أعظم العبادات- إلا أننا حين نقول: إن الوسائل توقيفية؛ فإننا بذلك ندخل الوسائل حينئذٍ في القرب التي يتقرب بذاتها إلى الله، وفي الشعائر التعبدية، وليس الأمر كذلك، فوسائل الدعوة كوسائل الجهاد، وهي أمور تخضع للحاجة وللواقع الذي يحتاج إليه الناس، وليست تعبدية بذاتها، لأنها ليست من القرب المحضة، ولا من الشعائر التعبدية. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 23 بعض إيجابيات الدعاة وسلبياتهم السؤال إذاً من هذا المنطلق؛ لا شك أنه ستكون هناك سلبيات وإيجابيات عند الدعاة، فهل يتصور الشيخ سلمان بعض هذه السلبيات وهذه الإيجابيات حتى يمكن تجنبها؟ الجواب السلبيات فيما يتعلق بالدعوة والدعاة كثيرة، ولعلي أسلفت شيئاً منها. أما ما يتعلق بالإيجابيات فلا شك أن الأصل في الدعوة الإيجابية، لأن الدعوة خطاب للمجتمع بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودعوتهم إلى المنهج الصحيح، وتصحيح المفهومات المنحرفة، والسلوكيات الخاطئة في المجتمع، وتقريب المجتمع مما يجب أن يكون عليه، فهذه هي الدعوة في أبسط تفهيماتها وتعريفاتها، فالأصل في الدعوة الإيجابية، وحين نجد خطأً أو خطأين في واقع الدعاة، أو في أساليبهم، أو في طرائقهم، أو في أساليبهم ووسائلهم التي يسلكونها في الدعوة، فإن هذا يعتبر استثناءً من الأصل الذي يجب أن يكون. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 24 مشكلة تعميم الأمور السؤال ما دمنا تحدثنا عن الإيجابيات والسلبيات، فهناك من يرى أن بعض الدعاة يقعون في مشكلة تعميم الأمور، وحالياً يدور حديث كثير -مثلاً- في أزمة الخليج التي نعيشها حول هذه التعميمات. فمثلاً يقولون: الشيخ سلمان العودة نفسه عمم في بعض الأحكام، وقال: إنه لن تقع حرب في منطقة الخليج، وقال: أبشر بطول سلامة يا مربع. ومن مثل هذا الكلام، فنريد أن تبين للناس حقيقة هذا الأمر حتى يكونوا على بصيرة من الأمر؟ الجواب التعميم في الأحكام غالباً ما يجانبه الصواب، واللجوء إلى الدقة والتبصير يكون أقرب إلى الحق، لأن الإنسان يستطيع أن يميز بين بعض الأمور المتشابهة، وهذا أمر يقع لكثيرين في الماضي والحاضر، ولا غبار أنه يقع وأنه يجب تصحيحه. أما فيما يتعلق بهذه الأزمة التي أشرت إليها، وما ذكره عني بعضهم، فأعتقد أنه يحتاج إلى توجيه عدة أمور: أولاً: هل فعلاً كان مرادي أن الحرب لن تقع؟ لم يكن هذا قصدي، بل: واضح من لهجتي وحديثي، بل السؤال الذي وجه أصلاً في المناسبة، حيث أن القضية كانت في مدى مشاركة أطراف معينة بالضبط في موضوع المقاومة الكويتية فكان هذا هو السؤال، وجاء الجواب بهذا الأمر. أما وقوع حرب بين قوتين عظميين أو بين دولتين، فلم يكن هذا موضع السؤال قط، فهذه قضية توضع في الاعتبار، وفعلاً لم يقع من المقاومة الكويتية -التي كان الأخ يسأل عنها في حدود ما أذكر- مشاركة فعالة، أو دور، أو أنه كان لها أثر مباشر فيما جرى، على أنه لا ينكر أن لهم أدواراً إيجابية في جوانب أخرى. الجانب الثاني: لنفترض أن هناك من الدعاة -سواءً أنا أو غيري، أو من المحللين- من قال: إنه لن تقع حرب، فلماذا نستعظم هذا الأمر؟ ألا ندري أن (60%) من المحللين الغربيين الذين هم مختصون في هذا الأمر، ويسهرون الليل ويتعبدون النهار في متابعة ما يجد، ومعرفة المرئيات والأبعاد؛ كانوا يتوقعون ألا تقع حرب، ويستبعدون وقوعها. إذاً: ليس بغريب أن يقع في هذا التوقع غيره، بل ما المانع أن يتصور بعضهم أنه ربما حتى القائمون على مجريات الأحداث، والذين يرسمون خط سير الأحداث وفق ما يتصورون، قد تتغير وجهة نظرهم، ويتغير قرارهم بين الفينة والأخرى، بحسب ما يكون أمامهم من معطيات متجددة في الحدث، ومع التسليم بأن هذا قد يكون صدر من بعض الدعاة، إلا أنه لماذا نعتبر أن هذه قضية كبيرة أو غريبة أن تقع؟ لأن الداعية حين يتكلم لا يتكلم عن نص كتاب منزل ولا سنة محكمة، ولا شريعة ماضية، وإنما هي مرئيات في واقع معين، قد تصيب وقد تخطئ. السؤال: نتوقع أشياء كثيرة منها: قضية النواحي الاقتصادية، حيث توقع خبراء اقتصاديون أن تصل قيمة برميل البترول إلى ثمانين وأكثر من ثمانين دولاراً، ولم يصل إلى النصف من هذا، فهذه توقعات لم تحصل، ولكن الناس دائماً تلفت نظرهم مثل هذه الأمور، وتحتاج إلى بيان؟ الجواب: لكني أعتبر أن هذا له جانب إيجابي في الواقع؛ لأن هذا يؤكد أن الناس يعتبرون أن الدعاة أن كلمتهم ذات قيمة، ولذلك قد يسمع كلمتهم العامي وغير المختص وغير المطلع، فلا يستطيع أن يدرك الأمر الذي أشرنا إليه. فهذا يؤكد على أن كلمة الدعاة تسير بها الركبان شرقاً وغرباً، ويؤكد على أن الناس يأخذونها مأخذ الجد والاهتمام، ولهذا يستغربون أن يقع خلافها، فهذا جانب إيجابي ينظر إليه في الموضوع. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 25 الجماعات الإسلامية وتصحيح الأخطاء السؤال الجماعات الإسلامية، كثر الحديث عنها وعن فرقتها، وعما سُمي بفشلها في تحقيق أهدافها، وذلك ضمن الحملات التي تشن عليها في هذا العصر، فهل للشيخ سلمان العودة، أن يدلي برأيه في هذا الموضوع؟ الجواب ما يسمى بالجماعات الإسلامية، هي إفراز لواقع معين عاشته الأمة الإسلامية، ولا زالت تعيشه، ولا يمكن عزلها عن المجتمعات التي انبثقت منها. ومسألة فشلها في تحقيق أهدافها، من الصعب أن نقول: إنها فشلت بهذا الأسلوب، كما أن من الصعب أن نقول: إنها نجحت في تحقيق أهدافها، فأعتقد أن الفشل والنجاح أمر نسبي يتفاوت بين بلد وآخر، وبين فئة وأخرى من الناس. لكن لا شك أن الأمر الذي يجب أن نقوله هو: أن الدعاة إلى الله عز وجل سواء ما يسمى بالجماعات الإسلامية، أو الدعاة إلى الله تعالى في كل بلد وفي كل مكان؛ أنهم بحاجة دائماً إلى مراجعة وتصحيح مسيرتهم، وسماع النقد الهادف البناء، وتصحيح الأخطاء الواقعة. وأنا حقيقة أتعجب من جهود بذلت، وسنوات طويلة قد تعد بالعشرات من جهود الدعاة وعرقهم، وتضحيات جسام، ومع ذلك لا تقابل هذه الجهود الكبيرة الجبارة بمؤتمرات أو حلقات نقاش جادة تعمل على معرفة الصواب والخطأ، وأين مكمن الخلل، ومراجعة الخطوات، وتصحيح المسار، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذا، ومن حق تلك التضحيات التي بذلتها الأمة، وضحت من أجلها أن يراجع الناس مسيرتهم بين آونة وأخرى. ونعجب من الغرب أعداء الله وأعداء الإسلام، كيف يستفيدون من أخطائهم بصورة غريبة، فيراجعون مسيرتهم بشكل مستمر، بل إننا نجد أن التاجر يراجع حساباته بشكل دوري، ويصحح أخطاءه. فالدعوة الإسلامية أحوج ما تكون إلى مثل هذه المراجعات، وليس عيباً أن يقول الدعاة: إنهم أخطئوا، أو إنهم تصرفوا تصرفات غير محمودة، أو إنهم اجتهدوا فلم يحالفهم الصواب في مسألة أو مسألتين، أو عشرين، بل العيب كل العيب هو أن نُصِّر على أخطائنا، وأن نقول: إننا ما زلنا نسلك الطريق المستقيم في كل أمورنا، ونحاول أن نجعل الأمور كلها على ما يرام، فإذا اعترفنا بالخطأ اعترفنا به اعترافاً إجمالياً، فنقول: نعم نحن بشر نخطئ ونصيب، ولسنا معصومين، ثم نقف عند هذا الحد، ولا نحدد أخطاءنا. فيجب على الجميع -سواء ما تعرض له السؤال من الجماعات الإسلامية، أو الدعاة أو طلبة العلم، أو أي فئة من فئات الأمة، بل الأمة كلها- أن يكون عندها اعتراف إجمالي وتفصيلي بالأخطاء، والاعتراف الإجمالي الكل يقر به، ونقول: نحن بشر نخطئ ونصيب، ولسنا معصومين، لكن ماذا بعد هذا؟ هل تحولت هذه القناعة المجملة إلى نظرات تفصيلية في أنهم أخطئوا في كذا وأخطئوا في كذا، ويجب أن يصحح؟ أما اعتبار أن هذا أمر يشمت به أعداءهم، أو أن هذا يفرق الناس من حولهم، فهذا ليس بصحيح، فإن الذي يفرق الناس هو أن يتستر بعضهم على الأخطاء، حتى تتفجر الأخطاء كلها دفعة واحدة، ثم تجعل الجميع شتاتاً، ونجد أن الأمة علقت آمالاً كثيرة على أحياء، ثم تبين لها أن الأمور ليست كما كانت تعتقد وتتصور. أما الأعداء فإنهم يجدون في مثل هذه الأمور فرصة لشن حملات غير منصفة ولا عادلة، ونجد أنهم يخرجون من هذا إلى شن حملة على الإسلام نفسه فإننا نجد أن كثيراً ممن يتناولون قضية الإسلام والدعوة الإسلامية لا يقف وجودهم عند فئة معينة، أو على فرد معين، أو على موقف معين أخطئوا فيه، بل يتعدى الأمر إلى الهجوم على كل من يرفع راية الإسلام، وكل من يتسمى بالإسلام، وإن كانوا لا يجرءون على النيل من الإسلام نفسه، لكنهم إذا نالوا من دعاته ومن علمائه، ومن الفئات التي تدعو إليه، ولو كان فيها ما فيها من ملاحظات أو أخطاء، ما بقي للإسلام حينئذٍ شيء، فخلت الساحة لأعداء الإسلام، وإن كانوا يلبسون لكل حالة لبوسها. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 26 حكم التعددية في مناهج العمل الإسلامي السؤال شيخ سلمان، بالنسبة لظاهرة التعددية في مناهج العمل الإسلامي وجماعاته، هل هي بناء على هذا الذي قيل، ظاهرة معقولة من الناحية الشرعية والواقعية؟ الجواب التعددية في الواقع لها أكثر من صورة؛ والعلماء السابقون تكلموا عن موضوع الاختلاف، فهناك اختلاف يمكن أن يفسر بأنه اختلاف تنوع، وهذا مقبول شرعاً وواقعاً. والمقصود باختلاف التنوع: أن يتخصص فئات من الناس لألوان من الخير لا يتخصص فيها غيرهم، فهناك فئة -مثلاً- متخصصة في بناء المساجد، وهناك فئة أخرى متخصصة في بناء المدارس والقيام عليها، وهناك فئة ثالثة متخصصة في تأليف الكتب ونشرها، وهناك فئة رابعة متخصصة في الرد على أهل البدع والمنحرفين وأهل الزيغ والضلال مثلاً، وهناك فئة خامسة متخصصة في الجهاد في سبيل الله، ومقاتلة أعداء الله على الثغور، وسادساً وسابعاً إلى آخره، فهذا تنوع محمود وطبعي ولا غبار عليه، وينبغي أن يكون بعضهم يكمل بعضاً، ولا يلوم بعضهم بعضاً، أو يعتبر أنه يشتغل في غير طائل. فليس صحيحاً أن المشتغل بالجهاد يعتب على المتفرغين لدراسة الفقه، ويقول: مساكين هؤلاء يشتغلون بأمور عفى عليها الزمن في وقت ينازل الإسلام فيه الكفر. هذا ليس منهجاً صحيحاً لأن الأمة -حتى في حالة القتال- تحتاج إلى الفقيه. كما أنه ليس صحيحاً أن المتفقه في المسجد، يعتب على الذين يشتغلون بمنازلة العدو ويعيب عليهم أنهم لم يتفرغوا لدراسة العلم الشرعي وتعلمه، اللهم إلا أن يكونوا قصروا فعلاً في تعلم العقيدة التي يحتاجون إليها، فيلامون على ذلك مثلاً، أو قصروا في تعلم الأحكام الشرعية التفصيلية، التي يحتاجونها هم في قتالهم لأعداء الله تعالى وما يتعلق بذلك، فيلامون على هذا، ويدعون إلى التصحيح. فهذا لون من الاختلاف لا حرج فيه، كما أنه مما يدخل فيه: أنه قد تختلف اجتهادات الناس في معاملة واقع معين، وكلها اجتهادات مبنية على أدلة شرعية وقواعد عامة، وليس في القضية نص يجب الرجوع إليه، فهذا لا ينبغي أن يلوم بعضهم بعضاً. لكن هناك نوع آخر من الاختلاف مذموم، وهو اختلاف التضاد، واختلاف التضاد مذموم في حقيقته وفي صورته: أما في حقيقته، فاختلاف التضاد منبثق من اختلاف المناهج، بمعنى أن هؤلاء لم ينطلقوا من منطلق عقدي صحيح، ولم يحتكموا إلى الكتاب والسنة وما كان عليه سلف هذه الأمة؛ فلذلك اختلفوا في الكتاب، واختلفوا على الكتاب، واختلفوا في فهم النصوص الشرعية التي دل الدليل الصريح على المعاني الصحيحة لها، ولذلك تفرقت بهم السبل. فهذا نوع من الاختلاف، ثم ترتب على هذا اختلافهم في طريقة معالجة الواقع، وفي أساليبهم وفي مناهجهم، بناءً على اختلافهم في الفهم الصحيح للإسلام، وما يجب أن يكونوا عليه، فلا شك أن هذا الاختلاف مذموم، ويترتب عليه أن يكون بعض هؤلاء ينقض جهود بعضهم الآخر، وربما يشتغل بعضهم بحرب بعضهم الآخر أكثر مما يشتغل بحرب الأعداء الأصليين للإسلام، فهذا اختلاف تضاد في أصله ومنطلقه، واختلاف تضاد في نتيجته وثمرته، ولا شك أنه اختلاف مذموم شرعاً، وثمرته الواقعة ثمرة مرة كما يشهدها الجميع. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 27 حكم المشاركة في المجالس النيابية السؤال اشتراك الدعاة في بعض البلدان العربية والإسلامية في المجالس النيابية، وتعاونهم مع بعض الأحزاب التي لا تسير وفق منهج إسلامي، وذلك لتشكيل جبهة معارضة ضد بعض الحكومات العلمانية، فهل هذا من خلال تصوركم إجراءٌ من الناحية الشرعية يمكن أن يكون مقبولاً؟ الجواب مثل هذا السؤال من النوازل الجديدة التي تحتاج إلى اجتهادات جماعية، لأن الاجتهادات الفردية مدعاة إلى تشعب الآراء واختلافها وكثرتها، وكثرة القيل والقال فيها، وتجد الناس فيها أطرافاً متباعدة. فمنهم من يعتبر هذا لوناً من الشرك، يوقع صاحبه في الخروج من الدين، ومنهم من يعتبر هذا أمراً مباحاً سائغاً، بل مشروعاً وربما أدى إلى القول بوجوبه. ولذلك لا أرى أن أقدم رأياً محدداً في هذه القضية، بل ربما لا أملك رأياً محدداً في هذه المسألة، لكنني أستطيع أن أضع بعض القواعد العامة: فمن القواعد العامة: أن الأصل في المسلم ألا يقبل المشاركة في أي حكم بغير ما أنزل، لأن الحكم بغير ما أنزل الله في مجال التشريع والتقنين لا شك أنه كفر ينقل عن الملة، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44-45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] . وتكلم أهل العلم عن مثل هذا الأمر، حتى أشار الإمام الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية إلى أن هذا الأمر مما أجمع المسلمون عليه أن هذا كفر ينقل عن الملة. أي: فرض القوانين الوضعية الجائرة الكافرة، التي تحكم الناس في أنفسهم وأموالهم ودمائهم وأعراضهم، وتعميمها على الناس وحمايتها. والمسلم لا شك أنه لا يمكن أن يقبل بهذا الأمر، وأن يكون شريكاً فيه، والله تعالى يقول: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وقال تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] تشرك: بالتاء. الجانب الثاني: إن من أهم ما يُعنى به الداعية هو وضوح الدعوة وجلاؤها وعدم التباسها في حال من الأحوال، فإن الناس في أكثر من بلد، صاروا يتصورون أن الدعوة الإسلامية عبارة عن الحرص على نيل مطامع ومكاسب دنيوية، وربما ظنوا أن الدعاة يتنافسون ويتسابقون مع غيرهم إلى الكراسي وإلى الوصول إلى السلطة. ونحن نعرف أن هناك بعض المغرضين، يصطادون في الماء العكر -كما يقال- ويحاولون أن يلبسوا الدعاة هذا الثوب الذي لم يفصَّل لهم، لكن ربما أن واقع بعض الدعاة الذين تجاوزوا أشياء كثيرة، وتأولوا في اجتهادات ومواقف عديدة، ربما أنه جعل الناس يملكون نوعاً من القابلية؛ لتصديق مثل هذه الإشاعات ومثل هذه الأمور المكذوبة. فلذلك أقول: إن من المهم أن تكون الدعوة واضحة وجلية غير ملتبسة، وأن الدعاة إلى الله عز وجل لا يريدون من الناس أجراً، ولا يسألونهم عليه دنياً ولا مالاً، إنما همُّ الدعاة هو أن يقوم الإسلام، وأن يقوم حكم الله تعالى في الأرض. أما أشخاصهم فلا تعنيهم بقليل ولا كثير، ولا يبالون أن تُقرض أجسامهم بالمقاريض، وأن هذا الخلقَ قد أطاعوا الله عز وجل. فينبغي أن يفهم الناس هذا عن الدعاة فهماً قولياً وفهماً عملياً أيضاً، ليُقطع الطريق على أي مغرض يحاول أن يلبس الدعاة مثل هذا الثوب. الجانب الثالث: قد يكون هناك مصالح في حال من الأحوال، وفي وضع من الأوضاع، تستدعي اجتهاداً قد يكون استثناءً من قاعدة كلية عامة، فهذه المصالح تعتبر -أحياناً- حاجات، وتعتبر -أحياناً- ضرورات فتقدر بقدرها، ويجتهد فيها بكل نازلة أو واقعة معينة من يملكون الاجتهاد: ممن يملكون العلم الشرعي أولاً، ويملكون المعرفة بالحالة التي يتكلمون عنها ثانياً، وإن أصابوا حينئذٍ فلهم أجران، وإن أخطئوا وكانوا أهلاً للاجتهاد فلهم أجر واحد. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 28 إعداد الخطط لمواجهة الأعداء السؤال يلاحظ في مسيرة الدعوة، أن هنالك تركيزاً واضحاً من كثير من الدعاة، على سلبيات أو على خطورة الأعداء وسلبيات مخططاتهم بالنسبة إلى عالمنا الإسلامي. ولكن قليلاً ما نجد من يضع خططاً لمواجهة هذه الخطورة، فما رأي الشيخ سلمان في هذا الموضوع؟ الجواب الحقيقة أنك بسؤالك هذا لامست داءً دفيناً في نفوسنا جميعاً، وهو أن الأمة -وخاصة دعاتها لأنهم المعول عليهم بالدرجة الأولى- الأمة ودعاتها أصبحوا يميلون إلى جانب من السلبية وعدم التفاعل مع الأوضاع، وعدم القيام بدورهم المنوط بهم، وفي سبيل أن نسوغ لأنفسنا هذا الدور -الذي هو دور القعود والركود والنكول- أصبحنا نبحث عن أحد نعلق عليه أوضاعنا، وأقرب ما نعلق عليه هو قضية الأعداء. فيكفي أن نقول: الاستعمار، والأعداء، والصهيونية واليهود والنصارى والمنافقون، ثم ننام ملء جفوننا؛ معتقدين بذلك أننا معذورون، والواقع أن منهج القرآن الكريم واضح، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] و (شيئاً) هنا نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء. أي: إن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم أي شيء، وأيضاً ها هنا نص صريح، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فهذا مهرب نفسي يلجأ إليه المسلمون ويلجأ إليه الدعاة؛ ليقعدوا عن القيام بالواجبات الملقاة على عواتقهم، وإلا فحتى مع كيد الأعداء -ولا نشك في كيد الأعداء، ويجب أن ندرك خطر كيدهم ومدى مكرهم لكن مع ذلك كله- نحن مطالبون بأن نواجه هذا الكيد وهذا الأمر، وحين نواجهه بصدق وإخلاص سيدفعه الله تعالى عنا، وسيجعل جهودهم تبوء بالدمار والبوار والخسار، وجهود المؤمنين مهما قلَّت تظهر آثارها وثمارها. فهذا نوع من المهرب النفسي الذي يلجأ إليه بعضهم؛ للتخلي عن القيام بدورهم في مواجهة هذا الواقع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى: إننا إذا أردنا أن نقوم بدورنا، وأصبحنا -فعلاً- متربين على الإيجابية، فلا نريد إنساناً يقول: ماذا بيدي وماذا أصنع؟ أنا صفر على الشمال، فهذا الكلام يجب أن يختفي، فإذا وجد الداعية الفعال الإيجابي، الذي يسأل ما دوري وهو صادق، ويريد أن يؤدي دوره، حينئذٍ سنكون أمام أمة فاعلة، أمام أمة مؤثرة، الفرد منها بعشرة أو بمائة بل ربما بألف. يقول الله عز وجل: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] حين نكون أمام مثل هذه النوعية من الأفراد؛ معناه أننا نملك قدراً كبيراً من طلبة العلم والدعاة، بل ومن عامة المسلمين الذين يملكون الاستعداد لفعل أي شيء، وهنا يأتي دور التخطيط لمواجهة كيد الأعداء، ودور العلماء والدعاة في رسم الخطط التي تواجه كيد العدو على كافة المستويات، ولا شك أن المسلمين يحتاجون إلى مثل هذا. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 29 كيف تواجه التهم ضد الدعاة السؤال من أساليب خصوم الدعوة -كما تعلم- في تشويه صور الدعاة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي، أن توجه إليهم بعض التهم المالية والأخلاقية، وغير ذلك من التهم، فما رأيك في هذه القضية؟ وما واجب الدعاة تجاه هذا الأمر لأخذ الحيطة؟ وما واجب عامة الناس في مقابلة هذه التهم؟ الجواب أيضاً هذا السؤال حقيقة في غاية الأهمية، فهو أنموذج عملي واقعي، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث رمته الدنيا عن قوس واحدة، وألصقوا به كل التهم: المالية والأخلاقية واتهامه في مقاصده ونياته، إلى غير ذلك. ومع ذلك استطاع عليه الصلاة والسلام، بتوفيق الله وتسديده، ثم بصبره وسلوكه الطريق الصحيح، أن يتغلب على كل هذه الأشياء، وأن تتحول الآلة الإعلامية للكفار إلى آلة غير مؤثرة. لماذا؟ أولاً: لأن شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم كانت شخصية واضحة، غير قابلة لإلصاق هذه التهم بها، فقد كان عليه الصلاة والسلام يتحرك في الهواء الطلق -كما يقال- وكل ما عنده ظاهر ومكشوف ومعروف للناس. وشخصيته عليه الصلاة والسلام لم يتلبس بها ما يريب أو يعاب، حتى التصرفات التي فيها تأويل كان عليه الصلاة والسلام يتجنبها، مع أنه قد يكون التأويل أو بعض الأشياء التي يكون فيها تلميح للإنسان فيها متسع، كالمعاريض ففيها مندوحة عن الكذب، ومع ذلك، حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تجنبها. ولذلك لم يجد المشركون أي أمر يمكن أن يتعلقوا به في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، فاضطروا إلى إطلاق تهم عارية عن الدليل، فقالوا: هو ساحر، وشاعر، وكذاب، وكاهن إلى آخره، والناس الذين رددوها هم أول من يدري أنها كذب، وجمهور الناس حين سمعوها، لم يستطيعوا أن يصدقوها وهم يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجدون في شخصيته ما يمكن أن يصدق ما قيل عنه. ولذلك على الداعية: أولاً: أن يدرك أنه عرضة لهذه الأشياء، فعليه أن يحرص قدر المستطاع أن تكون شخصيته واضحة نظيفة، بعيدة عن أي أمر يمكن أن يتعلق به الخصوم. ثانياً: إن على الدعاة أن يحرصوا على إيضاح الصورة الحقيقية للناس من خلال وسائل إعلامية مكافئة وقوية وتقوم بهذا الدور، وتخاطب جماهير الأمة، بحيث لا يحال بين الأمة وبين دعاتها بأصوات غير نظيفة، ولا مخلصة ولا صادقة. ثم على الدعاة أن يربوا الناس على التثبت والتبين في الأقوال والأخبار، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] بحيث تملك الأمة منهجاً واضحاً صحيحاً في غربلة الأخبار والإشاعات والكتب والأقاويل والتهم، ومعرفة الحق منها والباطل، وعلى كل حال فإن عندنا نص من كتاب الله تعالى، يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] فمتى ما كان الدعاة مؤمنين صادقين مخلصين، ويريدون وجه الله والدار الآخرة؛ فلا عليهم أن يقول الناس فيهم ما قالوا. ومهما ضج الباطل فإن دولته ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، قال الله: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] وكم من تهمة قيلت وتحدث الناس بها، وروجوا لها، ولكنها ولدت ميتة، ولهذا بمجرد أن تخلت عنها الأجهزة والأشخاص الذين كانوا يروجون لها سقطت ميتة، وبقي الحق شامخاً لا تؤثر فيه تلك العوادي. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 30 أهم مظاهر العلمانية السؤال ننتقل إلى موضوع آخر، ويبدو أننا في كثير من الأسئلة نثير بعض الهموم، ولكن هذه هموم الأمة، ونسأل الله تعالى أن يقودها إلى طريق النصر. ماهي أهم مظاهر العلمنة في الوقت الحاضر؟ الجواب العلمنة في الوقت الحاضر تتجلى في مظاهر كثيرة تسير جنباً إلى جنب، وبشكل عام: محاولة نقل واقع الأمة إلى واقع غير إسلامي، والحيلولة بين الإسلام الصحيح وبين واقع الأمة في كل مجالاتها. فلم تعد العلمنة اليوم مقصورة على جانب معين، يمكن أن يتحدث عنه، بل من الواضح أن هناك خططاً للعلمانيين في أنحاء العالم الإسلامي؛ لمحاولة حصر الإسلام في زاوية ضيقة، لا أقول في مسجد، بل في زاوية ضيقة من المسجد، لأنه حتى المسجد يحاول العلمانيون حصر المسجد في أدوار محدودة، والحيلولة بينه وبين دوره التاريخي، الذي كان يقوم به ولا يزال -بحمد الله- يقوم به إلى حد بعيد. فالعلمنة اليوم ليست محصورة في مجال معين، بل هي حركة تستهدف حياة الأمة، والحيلولة بين الأمة الإسلامية وإسلامها. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 31 المتعاطفون مع العلمانية السؤال إذاً نحن نقول هنا -طارحين تساؤلاً يقوله بعض الناس-: إن الدعاة يبالغون أحياناً ويهولون من موضوع العلمانية ودورها في عالمنا الإسلامي، وفي البلاد الإسلامية، نقول هذا القول ونوجهه على شكل سؤال إلى الشيخ سلمان، فما إجابته؟ الجواب أنا لا ألوم من يطرح مثل هذا السؤال؛ لأنه أحد صنفين من الناس. إما أن يكون إنساناً يعيش غيبة عن الواقع، ويعيش في قرن مضى، أو يعيش في أحلام قادمة، فهو لا يعيش الواقع، ولذلك يستغرب الحديث عنه، وكم من إنسان يستفظع ويستعظم كلاماً، فإذا ذكرت له تفاصيل عاد فحملها أكثر مما كان ينكر من قبل. والنوع الثاني من الناس: هم أولئك العلمانيون، أو أولئك المتأثرون بهم، ممن يحاولون أن يخفوا حركاتهم، ويعملوا في الظلام بعيداً عن العيون، وبعيداً عن محاولة كشف خططهم وألاعيبهم، وبالتالي يشيرون بأصابع الاتهام لكل من يتحدث عنهم بأنه يبالغ، لأنهم يريدون أن يتحركوا. ومن الخطط الأساسية التي يتكلمون عنها -وبالأمس كان في يدي قصاصة من جريدة خارجية تتكلم عنها- أن التغيير يجب أن يكون بالتدريج، إذاً هم يؤمنون -الآن- بأن التغيير يجب أن يكون بالتدريج، وألاَّ يواجه المجتمع صراحة بأشياء كثيرة قد تستفز مشاعر المجتمع، ومعروف كيف يكون التدريج في مثل هذه الأمور، لا أعلم كيف يتصور الناس مثل هذا الأمر؟ على رغم الواقع الذي وجدنا فيه أنه حتى المسلم العادي، أصبح يشكك في أشياء كثيرة من واقعه، ومدى ارتباطها بالإسلام، وما ذلك إلا بتأثير لوثات علمانية عامة أصبح الناس يتنفسونها مع الهواء. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 32 النصيحة ومفهومها الشرعي السؤال إزاء هذه الأمور والقضايا التي تحيط بالأمة، والتي تجري في واقع العالم الإسلامي، نحن نعلم أنه -شرعاً- لا بد أن يكون للنصيحة دورها في هذا المجتمع، ولكن من خلال استقرائنا جميعاً، أن مفهوم النصيحة في الإسلام قد اختلط في هذا الزمن عند كثير من المسلمين مع مفهوم المعارضة المفهوم عند الغرب، فأخذوا يخلطون بين المفهومين، وينسون أن النصيحة أمر مشروع بالنسبة للمسلمين، فنريد من الشيخ سلمان -جزاه الله خيراً- أن يجلي هذه النقطة، حتى يعرفها الإخوة المستمعون حق المعرفة؟ الجواب لعل هذا نموذج -ذكرناه قبل قليل- من اختلاط المفاهيم وتأثير العلمنة في مفاهيم المسلمين العامة؛ لأن النصيحة أصل في الدين، حتى الذين يكتبون في العقائد، يذكرون وجوب النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. والله عز وجل ذكر في كتابه من صفات المؤمنين: {إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث تميم بن أوس في مسلم: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة} فهي أصل، ومع ذلك فهي أصل عملي درج عليها المسلمون منذ أبي بكر رضي الله عنه إلى يوم الناس هذا: أن كل فرد مسلم مطالب بالنصيحة: النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. فبالدرجة الأولى تكون النصيحة لمن ولي أمراً من أمور المسلمين، إذ أن النصيحة حينئذٍ تكون ثمرتها أكبر وأعظم، والمسئولية على الجميع في التوجيه والتصحيح، فهذا أصل شرعي ثابت مطرد مستقر، لم يتخل المسلمون عنه يوماً من الأيام، وكانوا يسلكون كافة الوسائل لهذا الأمر، والحديث في تفصيل الوسائل يطول. وبالمقابل، المسلمون اليوم بُلوا بحملات تغريبية وجهود للعلمنة، تحاول أن تنقل واقع المسلمين إلى الغرب. فمن جهود العلمانية: محاولة إثارة قضية المعارضة لتكون بديلاً عن النصيحة، فهم: أولاً: يعتبرون المعارضة لذات المعارضة، فهناك جهات -أو ما يسمونها أحزاباً- موقفها موقف المعارضة، وقد تكون القضية تمثيلاً في بعض الأحيان، وقد تكون حقيقة، لكن هذه الأحزاب تحرص على كشف عيوب الآخرين، وعلى التماس العيوب لهم، بل ربما تجعل من أمور فعلوها عيوباً ولو لم تكن كذلك إلى غير ذلك، مما يعرف في تاريخ الغرب المعاصر، وهكذا الحال بالنسبة لعدد من الدول الإسلامية. أما في نظام الإسلام، فليس هناك حاجة إلى شيء اسمه المعارضة، لأن عندنا النصيحة هي البديل الشرعي، فالناصح ليس معارضاً لك، ولا يعني أنه ضدك، فهو ينصح لأنه يرى أن هذا خطأ ينبغي أن يصحح، وهذا صواب متروك يجب أن يفعل. ولا يمنع أنه بعد حين، يأتي ليقول: إن هذا الفعل -فعل آخر- إنه صواب يوافق مادل عليه الكتاب والسنة، أو إن هذا الأمر الذي تُرك إنه -فعلاً- خطأ تُخلي عنه. فليست القضية قضية مبدأ، أن الإنسان يجب أن يكون مبدؤه مبدأ معارضة، بل القضية قضية النصيحة، التي تعني تصحيح الصواب وكشف الخطأ. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 33 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالمفهوم الشرعي السؤال بالنسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أيضاً يرتبط في أذهان بعض الناس في هذا الزمن، بقضية إثارة الفتنة والخروج، فنريد أن توضح هذه النقطة أيضاً؟ الجواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو جزء من النصيحة، بل هو جزء لا يتجزأ من حياة الأمة ومقوماتها، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] بل إن الأمة في مجموعها! يجب ويتحتم عليها أن يوجد فيها فئة أو طائفة أو أمة تقوم بهذا الدور. كما قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] فهو فرض على الأمة بالإجماع، إما فرض عين على الأفراد، وإما فرض كفاية على الأمة بمجموعها. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يأخذ صوراً شتى، فقد يُنصح المنصوح سراً، وقد ينصح علانية، وقد ينصح بالقول، وقد ينصح بالفعل، وقد يؤمر باليد، أو باللسان، أو بغير ذلك من الوسائل التي ذكرها أهل العلم، وفصلوا فيها. ولا يرتبط هذا بقضية الفتنة، بل إن الفتنة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] فالذي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو الذي وقع في الفتنة ودعا إليها، لأن الفتنة هي أن تترك الأمة مميزاتها ومقوماتها لتتحول من أمة مسلمة إلى أمة تأتي إلى الشرق والغرب، فتأخذ ما سقط من فتات موائدهم وحثالات أفكارهم، وتتلمذ على مناهجهم، وتتخلى عن سر تميزها وقوتها وبقائها، وهو إيمانها والتزامها بهذا المبدأ، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لأن هذا معناه عندنا -وعند كل من يؤمن بالله ورسوله وما جاء به- أن الأمة تسير إلى الهاوية، وتسير إلى العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. فمن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ سلط الله عز وجل عليه من الآفات والمصائب- في المال وفي الاقتصاد وفي الاجتماع وفي الأمور المختلفة، وفي عدم إجابة الدعاء، وفي التفرق والتشتت، وفي التناحر الداخلي، وفي كثرة الآلام والمصائب والنكبات، وفي تسليط الأعداء الخارجيين- ما لا قبل لهم به. والعاصم من هذا كله -بإذن الله تعالى- هو إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مهما كانت ثقيلة على النفوس. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 34 المناظرة وفائدتها وشروطها السؤال بالنسبة لأسلوب المناظرات بين الدعاة وغيرهم، ما رأيك فيه من حيث جدواه وفائدته؟ الجواب المناظرة ثابتة في كتاب الله عز وجل، كما ذكر الله عن إبراهيم في قصة مناظرته مع الرجل الكافر، قال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] . فهي مناظرة بين إبراهيم عليه السلام وهذا الرجل الكافر النمرود، وكانت نتيجتها أن الله أظهر حجة إبراهيم، وبهت الذي كفر. فهي من حيث المبدأ لا حرج فيها، بل هي وسيلة من وسائل الدعوة الثابتة، التي لها ما يشهد في الكتاب والسنة. لكن لا شك أن المناظرة مرهونة بمجموعة من المقومات، إذا وجدت كانت المناظرة نافعة، منها: أولاً: أن يكون المناظر قوي الحجة، وإلا فقد يظهر عليه خصمه لضعف حجته، أو ضعف بيانه، فيلتبس الحق بالباطل، ويظن الحضور أو المستمعون أن الحق مع ذلك الكافر أو المبطل. ثانياً: أن تكون المناظرة في مسائل اشتهرت وانتشرت عند الناس، أما أن تكون المناظرة هي السبب في إشهارها ونشرها، فهذا لا حاجة إليه. فقد يكون هناك جمهور عريض من الناس، لم يسمع أصلاً بالشبهة، وليس بحاجة إلى ردها، فهذا لا حاجة إليه. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 35 دور المرأة المسلمة السؤال المرأة المسلمة، ما رأيكم في دورها الذي يمكن أن تقوم به في هذه الأزمة التي تعيشها الأمة؟ الجواب دور المرأة في الدعوة يبدأ مع دور الرجل تماماً، فالرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة، في أول صحيح البخاري، حين ذكرت نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء إلى خديجة، فذكرته وذهبت به إلى ورقة بن نوفل، وكانت تقول له: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً} فبدأ دور المرأة متزامناً مع دور الرجل، وكان دورها التثبيت والتقوية، والنصيحة والمشورة والحماية والمشاركة. وكل هذه الأدوار نحتاجها من المرأة المسلمة اليوم، خاصة ونحن ندرك أن المرأة المسلمة والمجتمع المسلم البيت المسلمة، يتعرض لحملات شرسة من الأعداء، والمرأة هي الهدف الأول لسهام الأعداء الداخليين والخارجيين، ولهذا فإن العناية بالمرأة وتوعيتها، وقيام الفتاة المسلمة بدورها الدعوي والإصلاحي، ووجود من يعتنين بذلك، ويتخصصن له، ويبذلن في سبيله الغالي والنفيس، هذا أمر أصبح ضرورة لا خيار لنا فيها بحال من الأحوال. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 36 واقع الصحوة الإسلامية السؤال بالنسبة إلى الصحوة الإسلامية تحتاج منا إلى وقفة، فلو تحدث لنا الشيخ سلمان عن أسباب هذه الصحوة، وعن الواقع الذي تعيشه وتقويمه لهذا الواقع؟ الجواب بالنسبة للأسباب؛ فالصحوة هي الأصل، والانحراف هو الطارئ، فالصحوة لا تحتاج إلى البحث عن الأسباب، إنما الذي يحتاج إلى البحث عن الأسباب هو الانحراف الذي كان في الماضي في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وفي معظم قطاعات المجتمعات الإسلامية. فذلك الانحراف هو الذي يحتاج إلى البحث عن أسبابه؛ لأنه خروج عن الخط الأصلي الذي تميزت به هذه الأمة. ولا شك أن هناك خط انحراف تاريخي طويل، أدى إلى ما وصلت إليه الأمة، فصحت الأمة بعض الشيء على نفسها، وهي في أحضان الأعداء، والسهام مصوبة إليها من كل جانب، فبدأت تدرك أنه لا يمكن أن تتخلص من كيد أعدائها وتحتفظ بنفسها، إلا من خلال الرجوع إلى مقوماتها الأصلية. فهي لا تستطيع أن تواجه العدو بفكر العدو نفسه، ولا يمكن أن تواجه العدو إلا وهي أمة مستقلة، وإلا معنى ذلك أنها سوف تذوب وتصبح جزءاً من أعدائها، كما ذابت أمم كثيرة لما حاول أعداؤها أن يدخلوها ضمنهم، وسيطروا عليها، وهيمنوا عليها، واكتسحوها، فضاعت حضاراتها وضاعت مقوماتها، وضاع تاريخها، فأصبحت جزءاً من عالم آخر. أما الأمة الإسلامية، فإن هذا لا يمكن أن يكون بالنسبة لها، ولا يمكن أن تستأصل وتكون جزءاً من أمة أخرى. ولذلك تعود إلى مقوماتها الأصلية، إلى دينها، وعقيدتها الصحيحة، كلما تعرضت لهجمات العدو، وهذا الذي حصل بالنسبة للصحوة الإسلامية. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 37 بعض سلبيات الصحوة السؤال ما هي سلبيات الصحوة؟ الجواب في الواقع أن الصحوة تعتبر بداية مشجعة؛ ولذلك فمن الطبيعي أن يكون ثمة سلبيات كثيرة، لعل منها أن هذه الصحوة ما زالت لا تخاطب كل طبقات المجتمع، ولعل من سلبياتها: أن هذه الصحوة، أو الدعوة الإسلامية بشكل أصح وأوسع، لا تملك من الوسائل الإعلامية ما يكافئ ويقاوم قوة العدو. ولعل من سلبياتها أيضاً: ضعف التعليم، ولعل هناك نوعاً من التخبط، لأننا ما زلنا في البداية، ولذلك تجد الدعاة إلى الله عز وجل لا يملكون مناهج صحيحة، ولا يملكون مناهج مكافئة، ولا يملكون من ذلك إلا القليل، ومع ذلك ينبغي أن يكون عندنا ثقة بالله عز وجل، وأمل كبير في مقبلات الأيام. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 38 مستقبل الصحوة الإسلامية عقبات على طريق الصحوة السؤال ما مستقبل الصحوة الإسلامية؟ وما المحاذير والعقبات التي تقف في طريقها من وجهة نظر الشيخ سلمان العودة؟ الجواب بالنسبة لمستقبل الصحوة، وهو مستقبل الإسلام أيضاً، فهو من جهة: مستقبل مضمون، وأعجب كيف يقلق قوم بين أيديهم كتاب الله عز وجل الذي يقول: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ويقول: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:55] ويقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] ويقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] إلى آخر حشد هائل من النصوص، وأحاديث من السنة، تؤكد أن الأمة باقية والإسلام باقٍ: {بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل الله به الكفر} فالمستقبل لهذه الأمة ولهذا الدين ولهذه الصحوة بلا شك. لكن هذا المستقبل؛ قضى الله تعالى وقدرَّ، أنه يتم من خلال جهد الناس وتضحيتهم وعرقهم وسهرهم وجهادهم، والله تعالى قادر على أن يكون ذلك بواسطة ملائكة ينزلون من السماء، لكن شاء جل وعلا أن يكون هذا أثر من جهود الناس الذين ابتلاهم واختبرهم بهذا، لذلك فمن البدهي أن نقول: إن المستقبل لهذا الدين ولهذه الأمة، وللإسلام. وقد يكون في الطريق عقبات كثيرة ومتاعب ومصاعب، كما قال عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا} [التوبة:16] وذكر في آيات كثيرة الابتلاء وأنه سنته في خلقه. فهناك محاذير وعقبات تواجه الدعاة إلى الله عز وجل، وقد تؤخر أو تؤجل من النصر الذي يمكن أن يحصل عليه المسلمون. ومن أهم هذه المحاذير: التفرق، فإن الله عز وجل قال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فإن التفرق والشتات من أهم أسباب الفشل، وذهاب الريح، وتسليط الأعداء، قال الله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] إذ أنه يفتت الجهود ويشتتها، ويضرب بعض الدعاة ببعض، ويحول الجهد بدلاً من أن يكون مضاعفاً ضد العدو، إلى أن يكون العدو بعافية وبمنجاة، والجهد يضرب بعضه بعضاً، فيحطم بعضه بعضاً. ومن أهم المحاذير التي تخشى دائماً وأبداً: أن يندفع الدعاة إلى الله عز وجل والمؤمنون بعواطفهم قبل أن يحتكموا إلى منطق العقل، وقبل أن يستشيروا من هم أوسع منهم علماً، وأوضح منهم وأكثر وعياً، وأكثر قدرة على تصور الأمور ومعرفة النتائج والإيجابيات والسلبيات. إن مما نواجهه ونجده عياناً: أن الصحوة في أكثر من بلد إسلامي، أينعت وكادت أن تصل إلى حد أن تقطف الثمرة، ويحقق الله لها خيراً كثيراً، ويكون لها مكانة بين الناس، وتصل إلى كل بيت وإلى كل شخص. ولكن يكون هناك تحرك غير مدروس، أو يكون هناك تسرع، أو يكون هناك استجابة لبعض دوافع الاستفزاز، أو يكون هناك انفعالات تدعو إلى الدفاع، وتدعو إلى تصرف طائش، وتدعو إلى استخدام القوة في غير أوانها، أو في غير مكانها، وبأسلوب غير مناسب وممن لا يملك مثل هذا الحق، فتؤدي إلى أن تكون هذه عقبات في طريق الصحوة. وقد يخسر الدعاة شيئاً كثيراً دون أرباح تذكر، وما السبب إلا أنهم استجابوا لنوازع ودوافع واندفاعات، وربما الواحد منهم يريد أن يعبر عن شعور في نفسه، أو عن غضب، أكثر مما يبحث عن عز ونصر للإسلام والمسلمين. وأعتقد أن قضية الدعوة إلى الله عز وجل، ليست تنفيس عواطف، ولا مسألة تفريج انفعالات يحسها الإنسان، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} فليجرب الداعية نفسه، هل هو فعلاً وقاف عند حدود الله تعالى؟ إذاً: قد يبلغ به الانفعال ذروته وأوجه، ومع ذلك يمسك ويلجم نفسه بلجام التقوى، والخوف من الله تعالى، فلا يتحرك إلا حيث يعتقد أن الشرع يريد منه أن يتحرك، ولا يندفع أي اندفاع يعتقد أنه يضر بالدعوة، وأحياناً شدة الاندفاع قد تجعل الإنسان يعمى، حتى عن معرفة النتائج وحسن تقديرها. وأعتقد أن من أعظم المخاطر والمحاذير والعقبات، التي نستطيع أن نقول: إنها أثرت تأثيراً بالغاً في مسيرة الدعوة الإسلامية في أكثر من بلد هي الاندفاعات غير المدروسة، واستخدام القوة بأساليب ليست شرعية ولا يقرها النظر الصحيح، بل إن النتائج تؤكد أن آثارها السلبية كبيرة، ونتائجها الإيجابية إن لم تكن معدومة، فهي ضئيلة جداً. فما أحوج الدعاة إلى الله عز وجل، أن يتذرعوا بالصبر والحلم وسعة البال وطول النفس، وإذا أشكل عليهم أمر أن يرجعوا إلى علمائهم، وإلى من هم أقدم منهم وأوسع علماً، ويستنيروا بالآراء، والعاقل من حنكته التجارب، ومن اتعظ بأمسه ليومه. فهذه من أعظم المحاذير التي يُخشى على مستقبل الصحوة الإسلامية منها. أما إذا سلكت الصحوة الإسلامية أسلوب الحكمة، وأسلوب الدعوة الهادئة، فأعتقد أن النفوس تملك قدراً كبيراً من التأهيل لقبول ما لدى الدعاة، ولسماع كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستفادة من الموعظة، ومن الحكمة. وهناك مؤشرات كبيرة تدل على هذا منها: قرب النفوس من الخير، واستعدادها لذلك. فأرجو الله عز وجل وأسأله أن يجنب شباب الصحوة وشباب الدعوة مثل هذه المزالق والمنعطفات، التي لا تعود عليهم بمصلحة، لا في دينهم ولا في دنياهم. وكم من إنسان يذهب من هذه الدنيا، يعتقد أنه مجاهد وموحد، لكن قد يكون مأزوراً غير مأجور، لأنه ما حسب حسابات صحيحة، ولا درس الأمور دراسة صحيحة، ولا عمل بما يقتضيه الشرع، وما تمليه العقول السليمة، فأدت إلى نتائج أضرت به وبدعوته. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 39 الجزيرة العربية وبعض مميزاتها السؤال الجزيرة هي بلد الإسلام، وقلعته الأولى، هذا ما تطرحونه دائماً يا شيخ سلمان في بعض أحاديثكم ومحاضراتكم وندواتكم، وهو بلا شك رد على كثير ممن يريدون أن ينالوا من هذه القلعة، فهل يمكن أن تذكر لنا ما تتميز به هذه الجزيرة؟ وما يجب على أبنائها من عمل في سبيل حماية دينها وكيانها؟ الجواب بالمناسبة أذكر أنني قرأت في إحدى المجلات، في مقابلة مع أحد قادة التحالف، أنه سئل عمَّا لاحظه في هذه الجزيرة، فكان يقول: إنه مضطر إلى أن يعترف بأن هناك عناية إلهية تحمي هذه الجزيرة، وأن الله تعالى يدافع عن أهلها، فهو قال كلاماً هذا معناه. وأعتقد أن هذا كلام صحيح، والعدل ما شهدت به الأعداء، فلا شك أن هذه الجزيرة هي أرض الإسلام ومنطلقه، وإليها يجتمع وينظم ويأوي مرة أخرى، وكل الفتن التي تعم المسلمين إذا وصلت إلى هذه الجزيرة تحطمت ولا أدل على ذلك من أعظم فتنة؛ فتنة المسيح الدجال، يبدأ العدد التنازلي عنده عندما يصل إلى المدينة المنورة، فيخرج إليه الرجل الصالح، ويفضح أكاذيبه، فيظل في تأخر وتراجع حتى يقتل في الشام، كما هو معروف في الروايات الصحيحة. فهذه الجزيرة هي قلعة الإسلام وأرضه، وإليها يأوي مرة أخرى، وفيها البلاد التي اختارها الله عز وجل، كمكة والمدينة، وهناك أحاديث وآثار أكثر من أن تذكر. في هذه البلاد تتميز الدعوة الإسلامية بمميزات، قد لا توجد في أي بلد آخر، لعل من أهمها: أن هذه الدعوة مرتبطة بالمشايخ والعلماء وطلبة العلم المعروفين، فهي ليست مبتوتة عنهم، أو هي طرف وهم طرف آخر، بل الكل نسيج واحد، لا يفترق بعضهم عن بعض. ولعل من آثار ذلك: أن الصحوة تميزت بأنها صحوة علمية شرعية، تعتمد على النص والدليل من الكتاب والسنة، فهي بعيدة عن اندفاعات العواطف الهوجاء، كما أنها بعيدة عن البدع والانحرافات والأخطاء. إضافة إلى أن هذه الصحوة، سلمت من ألوان التطرف الذي قد يكون حصل في أكثر من بلد، بل في أكثر من زمان ومكان، من حيث وجود نوع بما يسمى التطرف، واسمه الشرعي الغلو، أعني الغلو الحقيقي، ولا أعني الغلو الذي يلصقه بعض المغرضين بالإسلام وبالدعوة الإسلامية، من أجل تشويه الصورة، فيعتبرون أن الملتزم بالسنة، والعامل بالكتاب، الداعي إلى الله تعالى، متطرفاً مهما كان. حتى إنني قرأت في أحد المجلات في هذا الأسبوع، يقول: "إن المتطرفين قالوا كلاماً لم يُقل عبر التاريخ كله" فتعجبت وتساءلت في نفسي: ما هذا الكلام الجديد الذي لم يقله أحد عبر التاريخ كله؟ فقال: "إنهم يقولون: إن سماع الموسيقى حرام" يا سبحان الله!! هذا الكلام لم يقل عبر التاريخ، دعك من قناعتك أنت، وإن كنت لست أهلاً لتَبُتَّ في قضايا شرعية، لكن إلى هذا الحد تتجاهل الحقائق!! إذاً: أنا لا أعني التطرف بمفهوم العلمانيين وأعداء الدين، إنما أعني التطرف والغلو الحقيقي الذي يحكم العلماء عليه فعلاً بأنه تطرف، مثل: من يكفر المسلمين أفراداً أو مجتمعات، فهذا لا شك أنه من الغلو، وهو من فكر الخوارج، وهو موجود في أكثر من بلد، لكن هذه البلاد حماها الله تعالى من مثل هذا التطرف، ووجود حالات فردية -مهما كان- لا تعتبر ظاهرة تستحق أن يشار إليها، وتكبر بحال من الأحوال، فهذه من المميزات. كما أن هذه الصحوة سلمت من الاختلافات التي توجد في بلاد أخرى كثيرة، فهي دعوة إلى الله عز وجل، تقوم على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن تلاعب الأهواء، وبعيداً عن الدوران وراء أشخاص بأعيانهم، ولذلك نرجو الله تعالى أن تكون دعوة واحدة، لا يفرقها مفرق ولا يشتتها مشتت. فهذه بعض ميزات الدعوة الإسلامية في هذه البلاد، وتلك بعض ميزات هذه الجزيرة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 40 وسائل ترشيد الصحوة الإسلامية السؤال عندما تحدثنا الآن عن الإيجابيات والسلبيات في الصحوة، وذكرنا أن هنالك محاذير وعقباتٍ، يخيل إلي أن الموضوع يدعونا إلى أن نوجه سؤالاً إلى الشيخ سلمان حول وسائل النهوض وترشيد هذه الصحوة، لتحقق الآمال المرجوة منها؟ الجواب الحقيقة إذا شعر المسلمون بأنهم هذه الصحوة، والصحوة هي هُم، وأنها جزء من مجتمعهم، فأعتقد أن المجتمع والأمة والصحوة إلى خير، لأن كل فرد سيجعل من همه تصحيح المسار، وتوجيه هذه الدعوة توجيهاً سليماً. الأب في بيته، والأخ والأخت، والقريب والبعيد، والكبير والصغير، والعالم والمتعلم، الجميع يتعاونون في هذا السبيل، فإذا حدث هذا؛ فهذا خير كبير للأمة وللمجتمع ولهذه البلاد دون شك. وعلى أي حال، فإن ترشيد هذه الصحوة، إضافة إلى أنه مسئولية الجميع، هو أيضاً مسئولية من يملكون القدرة على تصور الأمور تصوراً صحيحاً، ورسم الطريق الصحيح، وفهم الأشياء على ضوء الكتاب والسنة. إن ترشيد هذه الصحوة يعني ضرورة التوجيه الدائم للشباب؛ لأن الإنسان لا بد له من سير؛ فإن وجد الطريق الصحيح، ووجد من يدله عليه سار، وإن لم يجد الطريق الصحيح، فسوف يجتهد ويمضي، وقد يخطئ ويصيب، وقد لا يكتشف خطأه إلا متأخراً، بل قد يصعب عليه أن يتراجع عن خطأٍ أصر عليه سنين عدداً. ولذلك كان من هدفين اختيار سلسلة من الكتب، عنوانها: نحو ترشيد الصحوة، وقد خرج الكتاب الأول من هذه السلسلة، وهو بعنوان: من أخلاق الداعية، وقد ركزت فيه على عدد من الجوانب، خلاصتها: الدعوة إلى الاعتدال، إلى التوسط، والبعد عن الإفراط أو التفريط في كثير من الأمور، مما يضمن للداعية قدراً كبيراً من الانضباط. ولعل من القضايا الأساسية التي تحتاج إلى ترشيد هي: علاقة الشاب الداعية أو طالب العلم، أو الشاب المتدين، بالمجتمع، بأسرته وبوالديه وجيرانه وزملائه، وبالحي وبالبلد، بل بالمجتمع كله، فهذه من القضايا التي تحتاج إلى الكثير من التركيز. بمعنى: ألا نركز في ذهن الشاب المتدين، أنه طرف والمجتمع طرف آخر، وأن العلاقة بينهما علاقة تباعد وتضاد، كلا، بل نشعر هذا الشاب بأنه عنصر إصلاح في هذا المجتمع، وأن دوره في الإصلاح إنما يتم من خلال إقامة الجسور مع هذا المجتمع. بالخلق الحسن، بالكلمة الطيبة، بتعميق الصلة بالناس، بتقديم الخدمات لهم، حتى في المجالات الدنيوية، بالخدمات لأهل البيت، وللإخوة وللأخوات، للجيران، إيصال الخير إليهم بكل وسيلة، فيكون أنموذجاً حياً لما يدعو إليه الإسلام، بحيث إننا سنستغني بذلك عن الكثير من الكلام الذي يقال في تلميع صورة الدعاة إلى الله تعالى، وسنستغني عن الكثير من الكلام الذي يقال في الدفاع عن الدعاة، وسنستغني عن كثير من الكلام الذي يقال في حماية أعراض الدعاة، أو رد بعض الإشاعات والأقاويل والتهم التي تحاك ضدهم. لماذا؟ لأنه أصبح كل داعية وكل شاب متدين، أصبح أنموذجاً عملياً لما يدعو إليه. فهو وسيلة إيضاح واضحة، لا تدع لأحد مجالاً، بحيث إنه إذا وجد مجلس واكتظ هذا المجلس، تحدث هذا فأثنى على شاب طيب، وآخر أثنى وآخر وقد يكون من بينهم مريض القلب، في قلبه مرض وحقد، لكن لا يستطيع أن يتكلم؛ لأنه يشعر أنه يسبح ضد التيار الذي تكلم فيه هؤلاء المؤمنون. فما أحوجنا إلى تربية الشباب المتدين على تمتين وتعميق الجسور والروابط مع المجتمع، والقيام بالخدمات التي يحتاجونها، حتى في المجالات الدنيوية، فضلاً عن المجالات الدينية، من إيصال الكتاب، والشريط، وإيصال المفهوم الصحيح، والفكرة الطيبة، وكل وسيلة من شأنها أن تحقق هذا الهدف. والحقيقة هذا الموضوع مهم، وكم كنت أتمنى أن يكون موضوعاً لمحاضرة أو درس، عسى الله تعالى أن يوفق لذلك، لكن -على الأقل- نلقي هذه الإضاءة السريعة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 41 أهم مظاهر غربة الدين ووسائل رفع هذه الغربة السؤال من خلال سلسلة الغرباء، التي أصدرتموها، ما أهم مظاهر غربة الدين، وما وسائل رفع هذه الغربة في نظركم؟ الجواب تحدثت في الجزء الأول عن مظاهر غربة الدين في العصر الأول، كما أنوي الحديث في سلسلة رقم [3] عن وسائل دفع ورفع هذه الغربة، وفي العدد الخامس منها -إن شاء الله تعالى- سيكون الحديث عن الغربة المعاصرة وأهم مظاهرها، ووسائل دفعها أو مدافعتها. وهذا العدد الخامس هو لا يزال في طور الإعداد، وهو يحتاج إلى وقت كبير، لكن من أهم مظاهر غربة الدين في هذا الوقت، وما أكثر مظاهرها: أولاً: ما أشرنا إليها قبل قليل من قضية العلمنة، التي غزت العالم الإسلامي، بحيث أصبح الدين في نظر كثير من الناس، وفي واقع الحياة، معزولاً عن جوانب كثيرة من شئون الحياة، لا يستشار فيها، وإن استشير فإنما يستشار لتقرير أمر معين يراد أن يكون. فهذا جانب من مظاهر غربة هذا الدين، حيث أصبح بدلاً من أن يخدم أصبح يستخدم في جوانب معينة، ويعزل عن أكثر جوانب الحياة. ثانياً: الجهل بقضية الإسلام، أصولاً وقواعد، الجهل بالعقيدة الصحيحة، غلبة البدع المنحرفة: الصوفية، والرافضة، والبدع الاعتقادية الأخرى، أما البدع العملية فحدث ولا حرج، وتضرب في طول البلاد وعرضها، فتجد أن هذه الأشياء أصبحت جزءاً من الدين، يتدين به جماهير المسلمين وعامتهم في بلاد كثيرة دون أن ينكرها أحد، بل إذا همَّ أحد بإنكارها اعتُبر أنه يغير السنة، وهذا يذكرنا أيضاً بكتاب من الكتب المخطوطة في موضوع الغربة، اسمه: بيان غربة الإسلام في بلاد مصر والشام وما حاذاهما من بلاد الأعجام. ويتحدث هذا الكتاب بالدرجة الأولى، عن قضية الصوفية وانتشارها وتغلغلها في فترة تاريخية مضت -في فترة بعيدة- فما بالك في هذا الزمان، والله المستعان. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 42 واقع الأمة الإسلامية اليوم السؤال عندما نفتح بوابة للتأمل على واقع الأمة الإسلامية في هذا الزمن، فما الذي سيقوله الشيخ سلمان العودة في وصفه لهذا الواقع؟ الجواب واقع الأمة الإسلامية، أصبح على سبيل الإجمال ليس بحاجة إلى بيان، فإن كل فرد منا يعيش هذا الواقع، ولعل من إيجابيات هذا الواقع: أنه لم يعد هناك أحد مقتنعاً بصلاحية هذا الواقع للبقاء والاستمرار، فقد وصل الواقع في الأمة الإسلامية من التردي إلى الحد الذي أصبح الجميع مقتنعين بأنه واقع متردٍ يجب أن يتغير، فيكفي هذا وصفاً لهذا الواقع، فهو نهاية مجموعة من الإحباطات، ومجموعة من حالات الفشل والتأخر عن دين الله عز وجل، والانفلات من قيم الدين وأحكامه، حتى الانفلات، من مصالح الدنيا التي يحتاج الناس إليها وهذا نتيجة طبيعية لترك الدين، ونرجو أن يكون هذا بداية للتصحيح، فإن الأمر إذا بلغ نهايته، معناه بداية صفحة جديدة، يرجى أن تكون أفضل مما كان عليه الحال. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 43 أخطر الأعداء السؤال هنالك بعض النقاط حول واقع الأمة الإسلامية، نستأذنكم بأن نطرحها بشكل سريع؛ منهم أخطر أعداء الأمة؟ وما وسائلهم في تفريقها وتمزيقها من وجهة نظركم؟ الجواب أخطر الأعداء ذكرهم الله تعالى في كتابه: وهم اليهود، فاليهود أخطر الأعداء، وأشدهم عداوة، وأعظمهم مكراً وكيداً، وإن كانوا يكيدون على التقية والخفاء، فهم لا يستطيعون مواجهة الأمة في وضح النهار، إنما من وراء الأستار يكيدون ويدبرون، ولهذا لا يحتفظ التاريخ بمعركة فاصلة مع اليهود للمسلمين قط، إنما يحتفظ بمناورات ومحاورات وكيد خفي، ولا يزال الكيد موجوداً إلى اليوم. وبقي أن نعلم أن هناك معركة قادمة، شاء الناس أم أبوا مع اليهود، كما حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مكانها على نهر الأردن، كما في حديث نهيك بن صريم، وهذه المعركة آتية لا ريب فيها. وفي حديث في الصحيحين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن المسلمين سوف يقاتلون اليهود، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} فخطر اليهود هو أعظم خطر على الأمة الإسلامية. العدو الثاني: النصارى، وهم أيضاً عدو تاريخي كبير، وملاحهم مع الإسلام في الماضي والحاضر والمستقبل معروفة، وامتلأت بها صفحات كتب التاريخ. العدو الثالث: المشركون والوثنيون، ويدخل فيهم الملاحدة الشيوعيون ونحوهم، وهؤلاء أيضاً عدو شديد العداوة. والعدو الرابع: هم المنافقون، ولعل المنافقين هم من أخطر الأعداء؛ لأنهم يتعاونون مع كل عدو ضد الإسلام والمسلمين، ولأنهم مندسون في الصف، وتمييزهم صعب، وهم يعتبرون جزءاً من الأمة، ويتسمون بأسماء المسلمين، وقد يكون لهم من القدرة على التأثير والتغيير والإفساد ما ليس للعدو البعيد المتميز. فهذه أبرز أعداء هذه الأمة، وينبغي أن نعلم أن هذه الأعداء جميعاً تتحالف بعضها مع بعض ضد الإسلام. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 44 من خطط الأعداء في تفريق الأمة الإسلامية السؤال هنالك مقولات تفرق عادة بين المسلمين، وتنطلق من خلالها أخطار تحدق بالأمة، كأخطار القومية والشعوبية، كيف يمكن لك أن تحدد هذا؟ الجواب القومية والشعوبية، وجهان متقابلان في الظاهر، والقومية هي التي تغالي في تقدير قيمة العرب، والشعوبية هي التي تسقط العنصر العربي وتزدريه وتحتقره، وكلاهما انحراف عن الجادة، والعرب في ميزان الشعوب لهم ميزات وفضائل متى تمسكوا بهذا الدين، لكن إذا تخلوا عن هذا الدين فلا قيمة لهم ولا اعتبار. ويبقى أن من خطط الأعداء: تفريق المسلمين، لأنهم يدركون أنهم يستطيعون أن يقضوا على المسلمين متى ما أوجدوا الفرقة بينهم، فكل فئة يمكن القضاء عليها على انفراد، لكن لو واجههم المسلمون كأمة واحدة ولحمة واحدة؛ لعجز العدو عنهم. ولهذا فخطط الأعداء تبدأ بتفريق المسلمين بدعوات القومية ودعوات الشعوبية، فضلاً عن الدعوات الأخرى من الدعوات الأرضية، كالبعثية واليسارية والماركسية وغيرها، حتى يفرقوا الأمة ويمزقوها، ويقطعوا أجزاءً وأوصالاً من جسدها، فجزء صار بعثياً، وجزء صار اشتراكياً، جزء صار شيوعياً، كل هذه أوصال انفصلت عن جسم الأمة الإسلامية، فإذا بقيت الأمة فرقوها بشتى الشعارات والآراء، حتى يقضوا عليها شيئاً فشيئاً. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 45 منهج أهل السنة والجماعة في التغيير السؤال إزاء هذا الواقع، ما منهج أهل السنة والجماعة في تغيير واقع الأمة إلى الأصلح؟ وما وسائل تحقيق هذا المنهج؟ الجواب هذا السؤال مهم جداً، لأنه مجال أفكار وآراء كثيرة متباينة، وأعتقد -أيضاً- أن مثل هذا الموضوع ليس مجرد سؤال، بل هو موضوع كبير، وهو مما يحتاج إلى أن يتنادى إليه العلماء والدعاة والمصلحون في حلقات نقاش طويلة، ولو أمكن في بعض المؤتمرات التي تعقد في أكثر من مكان، أن يكون هذا من موضوعات البحث، بحيث تطرح فيه أوراق مختلفة، ويكون هناك نقاش للوصول إلى الأفضل. لكنني أود أن أشير إلى عدد من الكُتاب عُنوا بهذا الموضوع، ولا يمكن لمن يتكلم في هذا الموضوع؛ أن يتجاهل ما كتبه المفكر الجزائري المسلم: مالك بن نبي، فقد كتب عدداً من الدراسات، مهما يكن عليها من مآخذ وملاحظات، إلا أن فيها نفساً جيداً في قضية النظرة السليمة للتغيير -تغيير واقع الأمة- لأننا يجب أن ننظر للأمة على أنها كلُّ، وليست أجزاء. إذاً: التغيير يجب أن يكون تغييراً حقيقياً للأمة، وليس تغييراً شكلياً، والتغيير الحقيقي للأمة لا بد أن ينطلق من الإنسان، فإذا أفلحنا في تغيير الإنسان، معنى ذلك أننا أفلحنا في تغيير الأمة، وبدأت البداية صحيحة. ويكون التغيير بتغيير الإنسان عقدياً، وهذا التغيير العقدي بإصلاح عقيدته في الله وفي الملائكة، والكتب، والرسل، وفي البعث وفي كل قضايا الإيمان، وهذا التغيير يترتب عليه تغيير في سلوك الإنسان، ويترتب عليه تغيير في واقع الأمة بأكملها؛ لأننا نملك قناعة بأن هذه الأمة أمة عقدية، ومتى تخلت عن هذه الميزة فليس لها قيمة، فهي أمة عقدية. فلا بد أن ينطلق التغيير من الإنسان، الإنسان يجب أن يكون منطلقاً لهذا التغيير. يتساءل بعضهم عن عقبات وأوضاع كثيرة موجودة في واقع الأمة، وكيفية تغييرها. فنقول: هذه العقبات مرتبطة بأشخاص، وأفراد الأمة، والقرآن الكريم واضح كل الوضوح في الترابط الكامل بين جميع طبقات هذه الأمة، كالترابط بين الآباء والأبناء، وبين العالم والمتعلم، وبين الرجل والمرأة، وبين الحاكم والمحكوم فالترابط بين كل فئات المجتمع، وهذه قضية ثابتة في الشرع. وخذ على سبيل المثال، قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] نولي أي: نجعلهم أولياء، والولاية في أصل اللغة العربية معناها: أن شيئاً يلي شيئاً، أي: أنه قريب منه، مقترباً منه، وموالياً له. إذاً هذا المجتمع الذي يوالي بعضه بعضاً، فكبيره يوالي صغيره، وحاكمه يوالي محكومه، وهكذا الرجل والمرأة، والعالم والمتعلم، إذاً: هذا المجتمع بينهم قاسم مشترك عام، وهو روح تسري في هذه الأمة، فمتى أمكن تغيير الفرد وبدأ تغيير الفرد بداية صحيحة، معنى ذلك أن هذه الأمة ستتغير لا محالة، وأن مقتضى عدل الله عز وجل أن الله تعالى يولي بعض الظالمين بعضاً، وكذلك يولي بعض الصالحين بعضاً، فيوم كان الناس في مثل حال عثمان وعلي وعمر والزبير وطلحة، كان على رأسهم مثل أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، ولما تردت أوضاع الناس؛ تردت أوضاعهم على كافة المستويات، على مستوى العالم، والمتعلم، وعلى مستوى الحاكم، والمحكوم، والرجل والمرأة. ومن الملاحظ أن الأمة من ضمن ما تعيش من آفات وأمراض وعلل؛ أنها دائماً تحاول أن تلقي بالمسئولية على الآخرين، ومن ضمن ذلك: أن الناس يلقون بالمسئولية على أي جهة، يمكن أن تتحمل الوزر عنهم في زعمهم مثلاً، فتجد أن العامة يلومون العلماء، وقد تجد من العلماء من يلومون العامة، وقد تجد من الرعايا من يلومون حكامهم، وقد تجد الحكام يلومون رعاياهم، أي أن هناك روح التلاوم الكبيرة، ولا شك أن نسبة الخطأ تتفاوت، فليست المسئولية واحدة. لكن من حيث مبدأ التغيير والإصلاح، إذا تصور شخص أن القضية هي إصلاح العالم فقط، أو إصلاح الحاكم فقط، أو إصلاح المرأة فقط، فإنه يكون مخطئاً، فلا بد من إصلاح المجتمع بأكمله، وبالتالي فإن المجتمع عبارة عن أفراد فلا بد من إصلاح الإنسان، والتركيز على الإنسان في بنائه وفي عقيدته، وفي تصحيح نظرته؛ لأن العقيدة منطلق لكل التصرفات، فتصحيح العقيدة يتبعه تصحيح كل تصرفات الإنسان. والكلام في هذه القضية لا شك يطول، بل إنني أعلم أن هنالك رسائل ماجستير ودكتوراه في مثل هذا الموضوع، لكن هذه على الأقل نظرة عابرة تتناسب مع ضيق الوقت. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 46 آثار أزمة الخليج السؤال أزمة الخليج المعاصرة، صورة من الصور الدامية في واقع هذه الأمة، ولا شك أن لهذه الأزمة آثارها التي ظهر بعضها، والتي ربما يظهر بعضها في المستقبل. فما تصوركم لهذه الآثار، وما توقعاتكم للآثار المستقبلية من خلال استقراء أحداث هذه الأزمة؟ الجواب في الواقع ينبغي أن نسأل أولاً: هل هي أزمة مبتوتة الأصل عن واقع الأمة؟ بمعنى أنها مجرد نزوة من طاغية، أم أن الأمر مع ذلك وأكبر من ذلك. لا شك أن القضية نزوة طاغية، هذا موجود، لكن لا أعتقد أن هذا الأمر بهذا التبسيط، ولعل هذا من عيوبنا في التفكير، فأحياناً قد نضخم القضايا أكبر من حجمها، حتى كأنها تستعصي على الحل، ثم نُهوِّنها من جهة أخرى حتى كأنها لا تحتاج إلى حل. فأعتقد أن القضية ليست قضية فردية، بل القضية تنبعث من مشكلة الأمة بأكملها، فهي أزمة ضمن أزمة أكبر منها، هي مظهر في الواقع أو عرض لمرض تعيشه الأمة، وهو غياب الإنسان، -كما ذكرنا قبل قليل- هذا نموذج. أزمة غياب الإنسان الفاعل المؤثر في الأمة، وبالتالي يمكن أن ينتهي دور حاكم العراق، ويأتي دور عشرات أمثاله، لماذا؟ لأن غياب الإنسان الذي يقول له: لا، ويمنعه من الطغيان، ويمنعه من الاستبداد والاعتداء على حقوق غيره، ويمنعه من الظلم، غياب هذا الإنسان، هي الأرضية الخصبة التي يمكن أن ينبت فيها مثل هذا الحدث مرة أخرى أو يتكرر. إذاً هي جزء أو إفراز واقع الأمة، ولذلك فإن الآثار في اعتقادي باقية، ونسأل الله تعالى أن يقي الأمة شر أعدائها، وأن يكفيها كل من يريد بها سوءاً أو مكروهاً. وأما سبل الاستفادة من تلك الآثار والخروج منها، فلا شك أنه ما أنزل الله من داءٍ إلا وله دواء، وأن سبل الإصلاح كثيرة، لكنها تحتاج إلى العزيمة الصادقة في إزالة الأسباب التي قد تُوجد مثل ذلك، فإذا أقبلت الأمة على الإنسان -ثروتها الهائلة المهدورة- تنمي فيه رجولته وكرامته وإنسانيته، وتحفظ له شرفه وقيمته وقدره، ولا تهدر ذلك على عتبة النفاق والتردد والمجاملة وإذا اعتبرت الأمة بأفرادها وبالبشر الذين هم جزء منها؛ فمعنى ذلك أن الأمة سلكت الطريق الصحيح للإصلاح، وهذا كله لن يكون ولن يتم إلا من خلال مراجعة المنهج الإلهي، والرجوع إليه، والتزام الناس بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في دقيق أمورهم وجليلها. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 47 وضع الجهاد الأفغاني السؤال ننتقل إلى سؤال آخر حول واقع الأمة الإسلامية، وهو سؤال يتعلق بالجهاد، فالجهاد في بعض الدول الإسلامية قائم وبحمد الله، ولو أخذنا مثلاً على ذلك أفغانستان؟ فما تقويمكم لوضع الجهاد الأفغاني الآن؟ الجواب الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر في أحاديث كثيرة؛ أن الجهاد ماض إلى قيام الساعة، ومصداق ذلك أن هذه الراية مرفوعة، كلما سقطت في بلد تلقفها آخرون، ولعل المجاهدين في أفغانستان ممن شارك في حمل هذه الراية، وإحياء هذه الشعيرة على مدى أكثر من عشر سنوات، وهذه منِّة كبرى من الله تعالى منَّ بها على أهل تلك البلاد. والجهاد الأفغاني أصبح مدرسة تخرج منها كثيرون، وتعلم منها المسلمون في أكثر من بلد كيفية صناعة العزة والكرامة، وكيفية رفض مؤامرات الأعداء، وكيفية التحرر من كيدهم ومكرهم، حتى استطاع المسلمون أن يؤثروا في واقع أكبر دولة في العالم، واقع روسيا الشيوعية. ولست أزعم أن سقوط روسيا هو بسبب الجهاد الأفغاني، فلا شك أن هذا زعم مفرط للخيال، ولكنني أعتقد أن للجهاد الأفغاني أثراً لا ينكر فيما حصل للشيوعية، فهو أحد الأخطاء الكبيرة التي وقع فيها الشيوعيون. ومجموع هذه الأخطاء كان سبباً في سقوط الشيوعية في بلاد العالم، وتخلخل وضع الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية كما هو معروف، وتعرضها للانهيار الاقتصادي والسياسي الذي تعاني منه الآن. فالجهاد الأفغاني مدرسة استفاد منها المسلمون في أكثر من بلد، وفي كيفية إحياء شعيرة الجهاد، في كيفية مقاومة عدوهم، ولهذا فلا غرابة أن نسمع بأخبار الجهاد في إرتيريا وفي الفلبين وفي أكثر من بلد إسلامي. ولكن من الأشياء التي أتساءل عنها بدهشة، أن هذا الجهاد الذي عمره -كما ذكرت- أكثر من عشر سنوات، عدد من قتلوا -ونرجو من الله تعالى أن يكونوا شهداء في سبيله- قد يقارب المليونين، والأموال الذي بذلت فيه طائلة هائلة لا يقدرها إلا الله، العرق، الدموع، الدماء، السهر، تضحيات جسام، ألا تستحق هذه الجهود الجبارة، وهذه التضحيات الجسيمة، ألا تستحق من المسلمين نوعاً من المراجعة، ونوعاً من محاولة الدراسة لمعرفة الأرباح والخسائر، ومعرفة الخطأ والصواب، ومعرفة أسباب تأخر النصر، ومعرفة أهم العقبات والمعوقات، ومعرفة وسائل تحقيق النصر، ومحاولة تصحيح المسار، ومحاولة الاستفادة من الجهاد في أفغانستان؛ للجهاد في أي بلد إسلامي آخر، ومحاولة الاستفادة حتى لواقع الأمة الإسلامية؟ أعتقد أن هذه الأسئلة وغيرها كثير لم يطرح إلى الآن، وهو في الواقع مدهش، فهو يدل على أن المسلمين يملكون التضحيات، لكنهم لا يملكون التفكير الجاد في كثير من الأحيان. فأقل ما يجب للجهاد الأفغاني على المسلمين والعلماء والمفكرين؛ أن يكون هناك مؤتمر، بل مؤتمرات أو دراسات -على الأقل- على صفحات المجلات والصحف، دراسات منصفة هادفة، يعنيها همُّ الإسلام، وليس يعنيها شيء آخر، ولا تنطلق من منطلق التشفي أو الوقيعة، أو أي منطلق غير شرعي، إنما تنطلق من منطلق النصيحة لله ورسوله، ثم النصيحة لهؤلاء المجاهدين، ثم النصيحة للمسلمين في كل مكان، تعمل على مراجعة المسيرة، ومعرفة أين أخطأنا وأين أصبنا، وما حجم أرباحنا، وما حجم خسائرنا، وكيف نستفيد من هذا الأمر للمستقبل!! أما أن نتعامل مع القضية بعاطفية محضة؛ فهذا لن ينقلنا من ورطة إلا إلى ورطة أخرى، ولن ينقلنا من مشكلة إلا إلى مشكلة أعقد منها. وأسأل الله تعالى أن يكلل جهود المجاهدين الأفغان بالنجاح، ويكلل جهود المجاهدين في كل مكان. وأثني على الانتصار والنجاح الذي حصل في رمضان، وهو سقوط مدينة خوست أحد أكبر المدن الرئيسية، في أيدي الإخوة المجاهدين. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 48 ولاية الفقيه السؤال مسألة ولاية الفقيه، أثارها بعض الناس، واتهم بعض الدعاة بالدعوة إليها، فما قول الشيخ سلمان العودة في هذه المسألة؟ الجواب الناس قد يتكلمون في أمور، لا يستطيعون أن يدركوا خلفياتها ولا أبعادها الفكرية ولا العقدية أو سواها. فأول سؤال يجب أن يطرح: ما هي ولاية الفقيه؟ فمن حق قرائي أو مستمعيَّ أن أشرح لهم المصطلح، والمصطلح ليس ملكي، ولا أنا الذي ابتدعته، أي أن الذي كتب في هذه المسألة، ليس المصطلح ملكه ولا هو الذي ابتدعه، إنما هو ناقل فليحدد لنا ما هي ولاية الفقه. ولاية الفقيه مبدأ شيعي (100%) غير قابل للنقل لأي مذهب آخر، لأن الشيعة تميزوا بميزات عن أهل السنة. ومن مميزاتهم أنهم يعتقدون بوجود إمام غائب، غاب سنة (260هـ) ولن يعود إلا في آخر الزمان، وهو الإمام الثاني عشر محمد بن حسن العسكري،ولهذا يسمون الإثنى عشرية، لأنهم ينتظرون ظهور هذا الثاني عشر. وكثيراً ما يقولون بما فيهم الخميني: (عج) بعدما يذكرون اسمه، فهم يرمزون له بحرف العين والجيم، رمزاً لقولهم: عجل الله فرجه وسهل الله مخرجه، فهم يعتقدون أن هذا الإمام المختفي في السرداب سيظهر. ولذلك سخر منهم الشعراء، وقال قائلهم: ما آن للسرداب أن يلد الذي أدخلتموه بجهلكم ما آن فعلى عقولكم العفاء فإنكم كلفتم العنقاء والغيلان أي: أنكم أتيتم بالمستحيلات، رجل غاب سنة (260هـ) ودخل السرداب، ويخرج بعد عشرات القرون بل مئات القرون، فهذا أمر عجاب، فالشيعة يعتقدون بالإمام الثاني عشر، ويرون أن الأمور كلها موقوفة إلا بظهور هذا الإمام، فلا ولاية إلا بظهوره، وكل دولة تقوم قبل ظهوره؛ فهي دولة باطلة ظالمة طاغية وحكامها مغتصبون. فهذه هي عقيدتهم، وبالتالي واجهوا إحراجاً كبيراً طوال التاريخ، فأوجد الخميني في ولاية الفقيه لهم مخرجاً، حيث أنه جعل الفقيه الشيعي ينوب عن الإمام الغائب -بزعمهم- في تولي مسائل معينة، فجعله نائباً عنه وسمى هذا الاجتهاد الخاص به ومن قبله بأحد مشايخه، سماه: ولاية الفقيه. فأهل السنة والجماعة ليس عندهم الإمام الثاني عشر، وأهل السنة والجماعة منذ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي كان الحكم فيهم للكتاب والسنة، والذين يحكمونهم -بحمد الله تعالى- مسلمون، وبالتالي ليسو بحاجة إلى ولاية الفقيه؛ لأن الفقيه حينئذٍ ينوب عمن؟! فليس هناك أصلاً من ينوب عنه هذا الفقيه؛ حتى تقوم هذه الفكرة أو النظرية أصلاً، إنما هي نظرية شيعية بدءاً وانتهاءً. أما أهل السنة والجماعة، فالذي يحكمهم مسلم، سواء كان فقيهاً أم يأخذ عن الفقهاء، والأمر سيان، سواء حكم بعلمه هو إن كان عالماً، كما يُفعل بالنسبة للخلفاء الراشدين، أو عمر بن عبد العزيز أو معاوية بن أبي سفيان أو غيرهما من الخلفاء الفقهاء، أم كان يرجع إلى فقهاء أهل السنة، فيأخذ منهم، ويستشيرهم، ويصدر عن رأيهم، فالأمر في ذلك سيان، والحكم والولاية فيه لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن هذا المنطلق يتبين أن القضية زوبعة في غير محلها، وإنما الذين أثاروا هذه القضية -في الواقع- انطلقوا من ألعوبة نفسية يخادعون بها، وهذه الألعوبة قرأناها يوم كنا طلاباً، وأعتقد أنهم يسمونها التعلم الشرطي، أي: ربط شيء بشيء، بحيث لا يهمه إن كان الكلام خطأً أو صواباً، قبله الناس أم لم يقبلوه، حتى لو اكتشف الناس أنه خطأ، لكن يكفي أن تربط اسم فلان باسم فلان، بحيث يكون هناك شيء من التداعي، كلما ذكر فلان ذكر معه شخص آخر، فيكون هذا مدعاة لتشويه الصورة، أو للتخويف، أو لإحداث نوع من علامات الاستفهام. وأعتقد أن هذا نوع من الكيد والمكر الفاسد، والله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] ولهذا دائماً تكون النتائج -بحمد الله- عكس ما يراد له. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 49 خطبة الجمعة بين الدور المنوط بها والواقع الذي نعيشه السؤال خطبة الجمعة، بين الدور المناط، والواقع الذي تعيشه؟ الجواب خطبة الجمعة هي من أعظم وسائل الدعوة، لا يوجد وسيلة في الدنيا، بأن يأتي الناس لسماع إنسان -بأوامر الله تعالى وأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم- إلا خطبة الجمعة، فبمقتضى التعبد؛ الإنسان مسوق ومدعو إلى الإنصات، وكل مسلم يأتي للجمعة، حتى المقصرين في الفروض الخمسة، ولا يصلونها مع الجماعة، أو يفرطون فيها، يأتون يوم الجمعة، وينصتون للخطبة، بمقتضى أمر الشرع، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت} حتى إنكار المنكر وأنت تسمع الخطبة لا تنكر، حتى رد السلام وأنت تسمع الخطبة لا ترد، حتى تشميت العاطس وأنت تسمع الخطبة لا تشمت، لماذا؟ لأن المطلوب كمال الإنصات للخطيب. يبقى السؤال: هذا الخطيب كم يستمع إليه؟ لا أعني خطيباً بعينه، لكن عموم خطباء المسلمين، وعموم المساجد يحضرها ملايين بلا شك، بل مئات الملايين في أنحاء العالم الإسلامي، فماذا يسمعون؟ هذا هو السؤال الكبير! ألا تستحق خطبة الجمعة التي يحشد لها هذا الحشد الهائل، ألا تستحق جهوداً خاصة؟! ألا تستحق كتباً معينة؟! ألا تستحق دورات تدريبية للخطباء؟! ألا تستحق تأهيلاً للخطباء؟! ألا تستحق عناية الدعاة إلى الله عز وجل والعلماء والخطباء بالدرجة الأولى، بحيث يكون هنالك اهتمام؟! فليس كثيراً على الخطيب؛ أن يخصص يوم الجمعة والخميس كاملاً؛ لإعداد الخطبة ومراجعتها، وضبطها وتصحيحها، بحيث تكون ملائمة للواقع، وتمس حاجات الناس وواقعهم وظروفهم، وتناسب مستواهم العقلي والذهني واللغوي، وتحرك مشاعرهم، وتكون منوعة، ويلتزم فيها بتربية الناس على الكتاب والسنة والدليل الشرعي، إلى غير ذلك من الأشياء التي يجب على الخطباء أن يحرصوا على إيصالها إلى الناس. أما واقع الخطبة فالله المستعان! فهناك خطب لا شك على المستوى المطلوب، وخطباء مشاهير ربما بلغت شهرتهم العالم الإسلامي، وهذا أمر مما يحمد بلا شك. لكن بالمقابل هناك خطباء كثير، قد تجد أن الخطيب في واد، والناس في واد آخر، حتى إننا دخلنا في عدد من المساجد، في العديد من البلدان الإسلامية، فوجدنا أن الناس حلقاً حلقاً، كل عشرة يتحدثون فيما بينهم، وكأنهم في مطعم أو ناد، والخطيب يصيح بأعلى صوته، ولا نكاد نرى إنساناً يستمع لهذا الخطيب، ما السر في ذلك؟ هناك عدة أسباب، منها: أن الخطيب قد لا يكون لامس شغاف قلوب الناس، أو تلمس حاجاتهم، أو خاطبهم بصورة مباشرة، لأن الكلام المؤثر يستمع إليه الجميع، حتى من لا يرغب في الاستماع. وأمر آخر: قصر الخطبة على معان محددة، بعيدة عما يعتمل في نفوس الآتين إلى المسجد. وأضرب على ذلك مثالاً: حين كانت الأزمة في الكويت وغزو الكويت، وما ترتب عليها من آثار بعيدة؛ أصبح كل مسلم مشحون بهذه القضية، ثم يأتي إلى المسجد فماذا يسمع؟ قد يجد أن الخطيب يتكلم عن أحكام تغسيل الموتى مثلاً، وهذا الموضوع جيد بحد ذاته، ولا بد للناس أن يعرفوا كيفية تغسيل الموتى، وأحكام الدفن، وما شابهه، لكن هل هذا اليوم هو يومه المناسب؟ ليس هذا اليوم يومه المناسب، هذا في وادٍ وذاك في واد آخر. فكان ينبغي أن تعالج الخطبة واقع الناس، أو تستفيد من واقع معين لتوجيه الناس نحو الأشياء المطلوبة لهم. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 50 رد الأفكار المنحرفة وكيفية الرد عليها السؤال الأفكار المنحرفة لا تقدم نفسها للناس بنفسها، وإنما يحملها أشخاص ويقدمونها إلى الناس، فالرد الأسلم هل هو التركيز على الأفكار لدحضها؟ أم على الأشخاص الذين يحملونها لإسقاطهم؟ الجواب المهم أولاً: هو الأفكار بلا شك؛ لأن الفكرة تنتشر، بخلاف الفرد يذهب ويأتي، ويموت وينتهي ويتراجع، لكن المهم الفكرة في الدرجة الأولى، لأن الفكرة تنتشر وتبقى، وهي بحاجة إلى دحض، وإذا سقطت الفكرة سقط من يحملها. لكن أيضاً لا ننسى أن الفكرة تتقمص أشخاصاً، وخاصة الأفكار الأرضية في كثير من الأحيان، ليس لها عمر ولا بقاء، ولا امتداد، لأنها كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. فهي تقوم بأفرادها، خذ على سبيل المثال: الناصرية فهي فكرة شاعت وذاعت وراجت في يوم من الأيام، ببقاء أو بوجود شخص يتبناها ويدعو إليها، وأوتي ملكة الخطابة والبيان والتأثير بأسلوب معين، فتجاوب معه سريع التأثر والانفعال في شرق البلاد وغربها، حتى في هذه البلاد وسواها، لكن انتهى فماتت بموته، ودفنت معه في كفنه. إذاً: الفكرة هي الأهم، أيضاً الأشخاص الذين تقمصوا هذه الفكرة وتبنوها، وأصبحوا رموزاً تعرف بهم، ويعرفون بها، هم أيضاً بحاجة إلى أن يكشفوا للناس؛ حتى لا يغتروا بهم أو ينخدعوا بهم. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 51 برنامج الشيخ سلمان اليومي السؤال ننتقل إلى بعض الأسئلة السريعة، لنصل بعد ذلك إلى ختام هذا اللقاء، حيث أسعدتنا -جزاك الله خيراً- بهذه الإجابات المختصرة، ولكنها إجابات مفيدة ونافعة بإذن الله تعالى. فما البرنامج اليومي الذي يتبعه الشيخ في حياته اليومية؟ الجواب أولاً: درس بلوغ المرام بعد صلاة الفجر، ثم الدرس العلمي الذي أشرت إليه سابقاً، حيث يستمر ساعة تقريباً، وقد يزيد على ذلك في بعض الفرص، ثم ساعة أو أكثر للراحة، ثم الإفطار، ثم بعد ذلك الاشتغال إلى الظهر بما يتيسر، إن كان هناك دروس أو محاضرات، أو قراءة لبعض الكتب، أو تصحيح لكتب أخرى، أو ما أشبه ذلك. ثم بعد صلاة الظهر وقت للإجابة على الأسئلة بالهاتف، ثم الغداء، ثم وقت الراحة قبل صلاة العصر. بعد صلاة العصر امتداد لوقت الضحى، إما قراءة لكتب، أو إعداد لدروس أو محاضرات، أو مراجعة كتب معينة. وبعد المغرب إلقاء درس أو محاضرة، كما هو في يوم الأحد والثلاثاء، وبقية الأيام قد يكون فيها استقبال بعض الضيوف وبعض الطلبة والمحبين، وقد يكون للاستفادة من أشياء مفيدة، أو لزيارة الوالدة أو بعض الأقارب أو نحو ذلك. وبعد العشاء، إذا كان هناك درس أو محاضرة؛ فالغالب أني لا آوي إلى البيت إلا متأخراً بعض الشيء، ثم يكون هناك تناول طعام العشاء، ثم قد يكون هناك استفادة من الوقت، في قراءة أو تحضير أو مراجعة أو إجابة على بعض الأسئلة، أو تصحيح، وقد يكون هناك أحياناً ارتباطات أخرى. وقبل النوم يكون هناك ساعة ونصف أو ساعتين: تحضير لدرس الفجر: قراءة من صحيح البخاري وصحيح مسلم، والواسطية، ونخبة الفكر، ونحوها من الكتب، وتخريج لبعض هذه الأحاديث وما أشبه ذلك، ثم النوم بعد ذلك. فهذه صورة مجملة للبرنامج اليومي. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 52 ضيق الوقت بالنسبة للأسرة السؤال هل تجد صعوبة أو ضيقاً في الوقت بالنسبة إلى الأولاد والأسرة؟ الجواب لا شك أنه في حالة وجود الدروس بكاملها قائمة، أن هذا يؤثر على ارتباطات أخرى تأثيراً بليغاً، ولذلك أكثر المستفيدين من توقف الدروس هم الأولاد والوالدة حفظها الله، ولعل ما يحدث هو ببركة دعائهم أيضاً. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 53 مكتبة الشيخ سلمان السؤال هل يمكن أن نتجول جولة ذهنية في مكتبتك العامرة، ونعرف بعض معالمها وأوصافها ليعرفها الإخوة المستمعون؟ الجواب عندي مكتبة -بحمد الله- لا بأس بها، وقد قيض الله لي مجموعة من الفضلاء الطلاب والإخوة يوافونني بما يجد في المكتبة العامة من مطبوعات قديمة أو جديدة، في تأليفها، وهذه المكتبة عندي مقسمة إلى أنواع الفنون: تبدأ بالتفسير فالعقيدة، ويتبعها الفرق والملل والأهواء والنحل، ثم الفقه وأصوله، ثم منوعات مختلفة، -وأنا أسردها لك الآن على حسب تسلسل الكتب فيها- ثم التاريخ والسيرة النبوية، ثم الأدب والشعر وما يتعلق بهما، ثم اللغة والنحو والصرف، ثم الموسوعات والقواميس والمعاجم والمنوعات، ثم كتب الوعظ والتربية والتوجيه ونحوها، ثم كتب التراجم ونحوها، ويدخل فيها كتب الرجال في الحديث النبوي ثم كتب الفهارس، ثم كتب السنة النبوية، تأتي في الأخير، وهي في الواقع في الأول؛ لأنها تكون قريبة من مكان جلوسي، بحيث يسهل تناولها لكثرة الحاجة إليها، وكثرة التردد عليها. وفي هذه المكتبة مجموعة لا بأس بها من أمهات الكتب، وفي ألوان وأنواع وفنون، ولا زال هناك حاجة إلى المزيد. السؤال: هل هناك عدد تقديري بالنسبة للكتب؟ الجواب: لا أستطيع أن أحددها بالطبع. السؤال: هل هي مرتبة بحسب الترتيب المعروف؟ الجواب: ليست مرتبة، إنما مرتبة على حسب الفنون، وبسبب الانشغال ليس هناك ترتيب دقيق حتى في داخل الفن الواحد، فهي لا زالت تحتاج إلى حملة أخرى لمزيد من التنظيم. السؤال: لكن بالنسبة إليك من خلال تعودك عليها لا يكون لك مشكلة في الرجوع، أليس كذلك؟ الجواب: ليس هناك مشكلة كبيرة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 54 الأدب والأدباء السؤال بالنسبة للأدب والأدباء، هل لديكم متابعات للساحات الأدبية، وما رؤيتكم للأدب الإسلامي؟ الجواب في الواقع هناك متابعة قد تكون محدودة، من خلال ما ينشر من كتب أو دواوين أو مقالات أو أشعار أو نحوها، في المجلات الإسلامية والمجلات المتداولة، أو في أشرطة من خلال أمسيات شعرية، أو دواوين ملقاة في أشرطة. وهناك بعض المتابعات فيما ينشر من نقد أو نظرات في الأدب أو دراسات أدبية، لكنها تبقى في إطار محدود؛ لعدم التفرغ وعدم التخصص. أما فيما يتعلق بالأدب الإسلامي؛ فلا شك أنه لون من ألوان الدعوة إلى الله عز وجل، بأسلوب يخاطب طبقة غير قليلة من الناس، وهو لا زال كأساليب الدعوة الأخرى، يحتاج إلى مزيد من التأصيل ومزيد من العناية، وتوسيع مجال مخاطبته لفئات المجتمع. ونسأل الله أن يجعل فيك يا دكتور عبد الرحمن، وفي أمثالكم خيراً وبركة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 55 حب الشيخ للشعر مع قصيدة من شعره السؤال يلاحظ كثرة إيراد الشيخ سلمان للشعر في ندواته ومحاضراته، فهل نعتبر ذلك حباً للشعر فقط، أم أن هناك تجارب في نقد الشعر وقرضه؟ الجواب في الواقع كلا الأمرين، فمن جهة محبة الشعر، فأعتقد أن حب الشعر أمر طبعي موجود عند أكثر الناس، والتلذذ بسماعه، خاصة إذا كان ذا معان قوية وجذابة ومؤثرة، ولذلك كنت أحفظ من صغري عشرات المقطوعات الشعرية بعضها طويل جداً قد يصل إلى ستين أو سبعين أو خمسين بيتاً، ولحفظها في الصغر صرت لا أنساها، وتأتي على لساني كثيراً، وأرى أن إيراد جميل الشعر وحكمه، أنه مما يجمل ويزين الدروس والمحاضرات والمجالس، ويتجاوب معه عدد غير قليل من المستمعين. السؤال: نسمع شيئاً من شعرك؟ الجواب: الشعر حقيقة استغنيت عنه بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام، فشغلت بروايات الحديث، وأرجو الله أن يكون الأمر كذلك، وأرجو أن أكون اشتغلت بكتاب الله تعالى عن الشعر. لكنني كنت أقول الشعر، وربما كانت الفترة الذهبية في ذلك هي المرحلة المتوسطة والثانوية، وإن كان هناك محاولات في المرحلة الابتدائية في الشعر بنوعيه، ومن القصائد التي أذكرها، قصيدة عنوانها: أمة الإسلام، وربما كانت على غرار قصيدة عمر أبو ريشة: أمتي هل لك بين الأمم، قلت في مطلعها: سبح الحق بتيار الدم واشتوى باللهب المضطرم قد عرفناه جمالاً ألقاً ساحر الأنفاس حلو النغم قد عرفناه وما زال وما ينبغي للحق غير الشمم ذلك الإيمان مصباح الدجى وعذاب الكافر المنهزم وضياء الله في الأرض فما غيره يبرئها من سقم عرف الله مطيع مخبت طاهر النفس رضي الشيم ليله محرابه منطقة الدمع مشكاة الظلام الأسحم وهداه الوحي أن شط بمن حوله الجهل ولثم الصنم أمة في الأرض لا يقهرها مجرم بل هي ذل المجرم لا تقل ذلت فما يصدق أن يستذل الفأر ليث الأجم وانتظر وثبتها في غدها انطلاقاً من هداها القيم انتظر وثبة جيل مؤمن طاهر النفس رضي الشيم يغسل الأرض من الكفر فقل ما يريد الناس غير المسلم زمزم فينا ولكن أين من يقنع الدنيا بجدوى زمزم الجزء: 47 ¦ الصفحة: 56 كتب ينصح بقراءتها السؤال ما الكتاب الذي حاز على إعجابك وتود أن يقرأه الشباب؟ الجواب الأسئلة عن الكتب من الأسئلة المحرجة، لكثرة الكتب، وكثرة الجيد منها، فيصبح الإنسان -أحياناً- كالذي يريد أن يفاضل بين أعزاء لديه، بين أولاده، كلما اتجه إلى واحد أدلى الآخر بحجته، ولكن من الكتب القديمة التي قرأتها واستفدت منها كثيراً كتاب: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وميزة هذا الكتاب أنه عني بسرد نصوص كثيرة جداً في باب العقائد، ولا شك أن النصوص في أبواب العقائد مهمة للقارئ، لربط القارئ بالنص من كتاب أو سنة. وهناك كتاب آخر: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للشيخ: أبي الحسن الندوي وهو أيضاً من الكتب التي قرأتها واستفدت منها كثيراً. وكتاب: خصائص التصور الإسلامي، لـ سيد قطب رحمه الله، أيضاً كتاب بديع، وفيه وقفات ولمحات مفيدة، وغيرها كثير. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 57 آخر كتاب قرأه الشيخ السؤال إذاً نقول آخر كتاب قرأه الشيخ سلمان العودة، وهل يمكن أن تلقي الضوء عليه؟ الجواب آخر كتاب قرأته، بل لعله من آخر ما قرأت كتاب اسمه: البعد الديني للسياسة الأمريكية، للدكتور يوسف الحسن، وهي أطروحة دكتوراة، وهذا كتاب في الواقع قيّم في بابه؛ لأنه يكشف عن الدوافع الدينية وراء السياسات الغربية، ويثبت بما لا يدع مجالاً للشك، بل بمنطق علمي قوي ورصين لمن يدعون إلى العلمانية في بلاد الإسلام، أنه حتى تلك الدول التي تتظاهر بالعلمانية أنها تتحرك بدوافع دينية خفية، هي وراء دعمها لإسرائيل، وهي وراء مواقفها من العرب والمسلمين، وهي وراء تصرفات كثيرة جداً في حياتها السياسية. وهذا الكتاب مليء بالنقول والنصوص والدراسات والتوثيقات، وهو يتحدث عن الحركة الأصولية المسيحية كما يسميها، أو اللوبي الصهيوني المسيحي في الولايات المتحدة. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 58 سماع الأشرطة، وأول من تأثر بهم الشيخ السؤال هل تسمعون أشرطة؟ الجواب نعم، على الأقل في السيارة أحياناً، ولعل من آخر ما سمعت من أشرطة هو للشيخ عبد الوهاب الناصر، مثل هتافات العيد، وغيبة الوعي. وكذلك شريط لأخي الشيخ عائض القرني، وهو بعنوان: واجب الأمة بعد كشف الغمة، أيضاً. السؤال: مَن مِن الدعاة يسمع الشيخ سلمان أشرطته، وبمن تأثرت في البداية؟ الجواب: بالنسبة للدعاة مثل ما ذكرت لك، غالب ما أسمع لهؤلاء وقد أسمع لغيرهم، فكل شريط جديد يصلني وأجد وقتاً لسماعه أستمع إليه. أما موضوع التأثر، بالمناسبة أذكر أن أول محاضرة ألقيتها -إن صح تسميتها محاضرة- كانت في المرحلة الثانوية، لا أدري بالضبط في أول أو ثاني ثانوي، وكانت المحاضرة عند أحد شيوخنا، الشيخ الدكتور: صالح الخزيم أستاذ في قسم الفقه في الجامعة الآن. فكأنه أحب أن أتعود على إلقاء المحاضرات، فاقترح أن أقوم بها بالنيابة عنه، وفعلاً ذهبت إلى ذلك المكان، ولم أكن أعرف نوعية الحضور، ولذلك أعددت محاضرة عنوانها: (الحضارة الغربية بين إفلاس الروح وطغيان المادة) . وجمعت فيها وثائق وحقائق وأرقاماً عن الفساد الأخلاقي والتأخر والانحراف، وأشياء كثيرة جداً في واقع الحضارة الغربية، فلما تقدمت وجدت أن الحضور كلهم أو غالبهم من الصبيان، وقد يكون في مقدمتهم مجموعة من أساتذتهم الكبار، لكنهم قلة، لكنني كنت مضطراً إلى إلقاء الكلام الذي أعددته، فألقيت المحاضرة وربما كان غالبهم يغط في نوم عميق. وبعدما انتهت المحاضرة؛ قام المقدم يختم ويشكرني وينتقد في نفس الوقت هذا الموضوع، الذي جعل الطلاب يشردون ولا يستمعون المحاضرة، وكان المفروض أن يكون الموضوع على مستوى الأطفال، ولم أكن أعرف أنهم أطفال. فالشيخ صالح الخزيم بارك الله فيه، لم يتحمل هذا الموقف، وقام وعلق على ذلك المعلق بكلام آخر، عز فيه الموقف ودافع عني بما فتح الله عليه في تلك الساعة، ولا زلت أذكر هذا الموقف. وأعتبر أن البداية كانت على يد الشيخ صالح بارك الله فيه. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 59 رسالة إلى العلماء والدعاة السؤال نريد من الشيخ سلمان أن يبعث بمجموعة رسائل، إلى: أولاً العلماء والدعاة. الجواب أما بالنسبة للعلماء، فالأمة أمانة في أيديهم، وكذلك الدعاة إلى الله عز وجل، وهم مسئولون عنها أمام الله تعالى حفظوا أم ضيعوا، وما أظنهم -إن شاء الله- إلا حافظين للأمانة، أسأل الله أن يعينهم على ذلك. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 60 رسالة إلى شباب الصحوة السؤال ثانياً: شباب الصحوة. الجواب أما حديثي ورسالتي إلى شباب الصحوة: فأولاً: سلامة القلوب، والبعد عن تلبيس الشيطان، وإثارة العداوة والبغضاء فيما بين المؤمنين. ثانياً: الروابط والوشائج والجسور مع المجتمع، فهي خير معبر لدعوتهم. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 61 رسالة إلى المرأة السؤال ثالثاً: رسالة إلى المرأة. الجواب القرار، القرار في بيتها، قال الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] صوني جمالك عنا إننا بشر من التراب وهذا الحسن روحاني أو فابتغي فلكاً تأوينه ملكاً لم يتخذ دركاً في العالم الثاني الجزء: 47 ¦ الصفحة: 62 رسالة إلى مسئول السؤال رسالة إلى مسئول. إذا كان الناس مسئولين عن أنفسهم، فأنت مسئول عن نفسك وعنهم، الله الله فيما استرعاك الله. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 63 برنامج الشيخ في القرآن الكريم السؤال برنامج الشيخ سلمان العودة في القرآن الكريم ومائدته؟ الجواب القرآن الكريم مأدبة الله عز وجل، والسلف رضي الله عنهم كانوا يحرصون على كثرة قراءة القرآن، ومع الكثرة كانوا يحرصون على نوعية وكيفية القراءة، وكيف يتأثرون به ويطبقونه عملياً، وقد غلب على المسلمين في هذه العصور الناحية الكمية على الناحية الكيفية، فأصبحوا يسمعون في أحاديث المساجد -مثلاً- أن فلاناً ختم خمسين وفلاناً ختم مائة مرة، لكن قلَّما يسمعون أحاديث وأخباراً وآثاراً وانفعال عن تأثر وأفعال أولئك القراء بما قرءوا، ولذلك كانت عادتهم دائماً السؤال عن كم، وليس السؤال عن كيف. أما فيما يتعلق بالعبد الضعيف، فهو مفرط بالكيف مفرط بالكم، وليس له إلا سعة رحمة الله تعالى. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 64 طريقة الشيخ في تربية أبنائه السؤال ما هي طريقة الشيخ سلمان في تربية أبنائه؟ الجواب هناك تقصير كبير في هذا الجانب، ولعل العذر الذي يتذرع به بعضنا وأنا منهم، هو الانشغال بأمور أخرى قد يرى كثير من الدعاة أن فائدتها أوسع وأعم، ومع ذلك فالإنسان يحرص على إيجاد جزء -ولو قليل- من الوقت يقضيه مع أبنائه، في توجيههم في بعض الأمور، بل وفي ممازحتهم، إذا أمكن صحبتهم في السيارة، أو في بعض الأسفار التي لا حرج من صحبتهم فيها؛ للتعويض عما يحدث من تقصير، وإيصال بعض الأشرطة المناسبة ليسمعوها، وربما يكررون سماعها فيحفظونها. أحياناً يكون هنالك بعض الحوافز على حفظ شيء، أو حل الواجب أو ما أشبه ذلك، وحفظهم عن الشارع بقدر المستطاع، وجعل علاقتهم بالمسجد وبالبيت فحسب، أو بصلات مع أناس يطمئن إليهم ويثق بهم الإنسان. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 65 اعتناء الداعية باللغة والأسلوب السؤال داعية يقدم ما لديه بأسلوب لا يعتني باختياره، وبلغة عربية فيها شيء من الخلل أو الضعف، ما رأيك في هذا؟ الجواب لا شك أن هذا قدم مادة صحيحة، ولكنها في طبق مكسور. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 66 برنامج مقترح للشاب السؤال نريد منك برنامجاً مقترحاً لشاب ملتزم؟ الجواب ليست المشكلة في ترتيب الوقت بالدقيقة أو بالساعة، فكم من إنسان يرتب وقته ولكنه لا يستمر على هذا الترتيب أكثر من أسبوع، إنما الشيء المهم هو أن يحدد الإنسان له أهدافاً لا بد من تحقيقها. فخلال هذا الأسبوع سوف أقرأ كتاب كذا وهو ثلاثمائة صفحة، وسوف أقرأ من القرآن كذا، وسوف أحفظ من القرآن كذا، وسوف أقوم بزيارة إلى بعض الدروس العلمية، وفي نهاية الأسبوع ماذا أنجزت من هذه الأهداف. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 67 مشاركة شعرية للدكتور عبد الرحمن العشماوي السؤال جزاكم الله خير يا شيخ سلمان وهنا نقف وقفة أخرى؛ ليختار لنا الشيخ سلمان -جزاه الله خيراً- مادة في هذه الوقفة؟ الجواب لعل مسك الختام قصيدة مختارة بصوت الأخ الكريم الدكتور عبد الرحمن العشماوي. الحقيقة أنا لم أكن جاهزاً بأوراق لألقي قصيدة، ولكنني أحفظ بعض القصائد، فعندي قصيدة عنوانها: وشم على ذراع بغداد. سأستجيب لدعوتك الكريمة، وألقي منها بعض الأبيات، وهي من آخر ما كتبت من القصائد، فأقول في مطلعها: بغداد بغداد هذا ما رأيناه وكم يكذِّب فينا ما سمعناه ما بال عينيك يا بغداد قد عميت عن ظالم صمتك المشئوم أغراه الحاضر المرُّ يا بغداد يؤلمني فأين ماضيك؟ أين العز والجاه؟! ما زال يروي لنا التأريخ قصته فكم حديث على شوق رويناه وكم حديث عن الأمجاد أسعدنا عشنا نردده حتى حفظناه وكم حديث عن الأحباب أطربنا وزادنا طرباً لما أعدناه بغداد يا لغة الإشراق في شفتي ويا غناءً عصامياً شدوناه وقع الحوافر يا بغداد أغنية ثراك ينشدها والرمل أفواه وحمحمات خيول النصر تطربني الحرب دائرة والناصر الله صهيلها في دروب الحق يملكني فكم أذوب به وجداً وأهواه وابن الوليد يروِّي الأرض من دمه والعين في رؤية الأحداث عيناه لم يستعر مقلة أخرى ولا شفة أخرى ولم تصغ للتضليل أذناه كيانك الضخم يا بغداد حصَّنه سيف المثنى ونور الحق جلاه كيانك الضخم بالإسلام قام ولم يقم على فكر زنديق ودعواه النور فوق ذراع الشمس صبَّحه والنور فوق ذراع الفجر مسَّاه بغداد هذا هو الزيف الرهيب وما أظن قومك إلا من ضحاياه نمضي ومن حولنا غابات أسئلة كثرت تكاد تذهلنا عمن قصدناه أين الكتائب والرايات خافقة والله أكبر لفظ جلَّ معناه وأين ربعي والإيمان يرفعه وأين رستم لم تحمله رجلاه أين الرشيد الذي ما كان يذكره نقفور إلا وتلقي السيف يمناه أين ابن حنبل في بغداد مجلسه يزهو فكم طالب للعلم يغشاه لو أبصرت مقلة المنصور ما صنعت بك الدعاوى لما سارت مطاياه ولو تأملك المأمون لاحترقت أوراق حكمته وانهد ركناه ولو درى دجْلة عن بعض من وقفوا على شواطئه ما سال مجراه بغداد ما بال عين الكرخ ترمقنا حيرى وعهدي بأن الكرخ تياه بغداد بغداد ما بال روح الجسْر قد فنيت فما ترى مقلتي إلا بقاياه أين الرصافة وابن الجهم ينشدها شعراً على مسمع التأريخ ألقاه بغداد لم نترك لأمتنا بابا ًمن النصح إلا قد طرقناه ولم ندع لغة في الشعر صادقة إلا ذكرنا بها حقاً وقلناه لكنها تصرف الوجه الجميل فوا بؤساه من غفلة المحبوب بؤساه لا فض فوك، بارك الله فيك. أيها الإخوة المستمعون، كان هذا اللقاء الذي استمتعنا به جميعاً مع فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة، الذي تعرفونه جميعاً من خلال ندواته ومحاضراته وإسهاماته. نسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنه، وأن يجعل أعمالنا وأقوالنا خالصة لوجهه الكريم. شكراً لله تعالى على أن هيَّأ لنا هذا اللقاء، وشكراً للشيخ سلمان على تحمله لنا في هذا اللقاء أيضاً، وشكراً لكم أيها الإخوة المستمعون على حسن إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 47 ¦ الصفحة: 68 دعوة للإنفاق تحدث الشيخ في هذا الدرس عن نماذج مشرقة من صور الإنفاق في الإسلام في العصر القديم والحديث، ووضح عدة طرق في الكتاب والسنة للحث على الصدقة والإنفاق، ثم ذكر عقوبة عدم الإنفاق، ثم ذكر أوجهاً كثيرة للإنفاق في الخير. وعقب بذكر حجج بعض الناس في عدم الإنفاق والرد عليها. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 1 سبب هذه الدعوة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده وسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فهذه دعوة للإنفاق. في الدرس الخامس والثمانين من سلسلة الدروس العلمية العامة المنعقدة في هذا البلد الطيب بريدة، في الجامع الكبير منها ليلة الإثنين العشرين من شهر شوال من سنة (1413هـ) . دعوة للإنفاق!! أولاً: لماذا هذه الدعوة؟ إنها دعوة أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه حيث صعد المنبر في مسجده وجامعه الكبير في المدينة المنورة كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم: {أن قوماً من مضر أتوا الرسول صلى الله عليه وسلم مجتابي النمار، متقلدي العباء والسيوف، وكانوا فقراء، فتمَّعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم، فقام، فأمر الناس بالصدقة، وقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال عليه الصلاة والسلام: ولو بشق تمرة} . إنها دعوة للإنفاق تبدأ من تلك الصيحة النبوية على أعواد منبره الشريف، وتصل إلى أذن كل مسلم يملك أن يساهم فيها، وإذا كانت تلك الدعوة التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم خاصةً بقدوم قومٍ من مضر كانوا فقراء جياع عراة، فإن المسلمين اليوم كلهم أصبحوا كأولئك النفر من مضر، فقد ألهبت ظهورهم سياط الجلادين، وأصمت آذانهم صرخات المستغيثين والمستنجدين، وآذاهم ألم الحر والبرد والجوع والعري، ولعبت بهم ألوان الأمراض والعلل، وقصرت بهم النفقة، فما استطاعوا من قيام وما كانوا منتصرين. نعم! لقد أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان فيه ينهى أشد النهي عن السؤال من غير ما حاجة، حتى قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه: {من سأل الناس تكثراً، فإنما يسأل جمراً، فليستقل، أو ليستكثر} . وفي الصحيحين من حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: {سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته، فأعطاني، ثم سألته- كما في بعض الروايات- الثالثة، فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم، إن هذا المال خضرٌ حلوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفسٍ، بورك له فيه، ومن أخذه بإسراف نفسٍ، لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع -وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه- واليد العليا خير من اليد السفلى -اليد العليا هي اليد المتصدقة المعطية الباذلة، والسفلى هي الآخذة الممتدة للسؤال والطلب، واليد العليا خير من اليد السفلى- قال حكيم: فقلت: يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يدعو حكيماً، فيعطيه العطاء الذي يستحقه، فيأبى حكيم أن يأخذه، ثم كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يدعو حكيماً، فيعطيه العطاء، فيأبى حكيم أن يأخذه، فيقول أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه: يا معشر المسلمين! إني أشهدكم على حكيم بن حزام أني أعطيه العطاء له من فيء المسلمين، فيأبى أن يأخذه} فما رزأ أحداً شيئاً حتى لقي الله عز وجل، ولذلك قال حكيم -كما في رواية في الحديث نفسه رواها أحمد في مسنده- أنه قال: {فما زال الله عز وجل يرزقنا حتى ما أعلم في الأنصار أهل بيت أكثر أموالاً منا} . إن مسألة الإنسان لنفسه معيبة ومذمومة خاصة حين يسأل تكثراً وعنده ما يغنيه، أما حث الإنسان الناس على الصدقة والبذل للمسلمين، فهي لون آخر محمود مأثور. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 2 أهمية هذه الدعوة ثانياً: إننا نؤكد ضرورة إطلاق هذا النداء في مثل هذا الوقت خاصةً أن حاجات المسلمين اليوم لا تجد من يسدها، أليس من المحزن أن تقوم مشاريع الجهاد -مثلاً- على التسول، أو الشحاذة كما يقال؟ أو أن تقوم مشاريع الدعوة إلى الله على مثل ذلك؟ أو مشاريع التعليم دون أن يكون هناك مصادر ثابتة تدر على مثل هذه الأعمال العظيمة الجليلة؟ إن الكنيسة تملك دولاً وأساطيل بحرية وجوية، وشركات كبرى، وميزانية ضخمة ليس فقط لحماية النصارى، بل لدعوة المسلمين وتنصيرهم، وإخراجهم عن دينهم، على حين لا يملك المسلمون من المؤسسات المتخصصة إلا أعداداً محدودة لا تبلغ بالقياس إلى شدة الحاجة شيئاً يذكر، خاصة وإحصائيات الأمم المتحدة تثبت أن أكثر من (70%) من المشردين واللآجئين والفقراء والأيتام هم من المسلمين. إن ميزانية التنصير قبل عامين بلغت [181] مليار دولار -وليس ريالاً- فقط لا غير، كما بلغ دخل الكنائس أكثر من [9. 5] بليون دولار، وهناك [163] بليون دولار لخدمة المشاريع النصرانية التي يسمونها مشاريع خيرية، وحققت الإرساليات النصرانية الأجنبية في أنحاء العالم دخلاً مقداره حوالي [9] بليون دولار. فهذه الأرقام الخيالية، الأرقام التي تسمى أرقاماً فلكية يملكها النصارى، لكن هل تعرفون كلكم إحصائية لعدد الأموال المخصصة للدعوة إلى الإسلام، أو لدعم الجهاد، أو لإطعام الجياع، أو لتعليم المسلمين دينهم؟ إن من المؤسف أن مثل هذا الرقم غير موجود أصلاً؛ لأنه لا يوجد أيضاً جهة مسئولة عن قضايا المسلمين، لا حكومة، ولا دولة، ولا مؤسسة، ولا غير ذلك، بل المسلمون لا بواكي لهم، وإنما يقتاتون على بعض المساهمات الخيرية الفردية التي لم تصل إلى مستوى العمل الجماعي المنظم. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 3 أهم الطرق التي وردت في الكتاب والسنة للحث على الإنفاق ثالثاً: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا} [الحديد:10] لقد جاءت الزكاة بمعناها الشرعي الخاص في أكثر من ثلاثين موضعاً في القرآن الكريم، وحث الله تعالى على الصدقة والإنفاق، وتنوعت في ذلك الطرائق، وأهم تلك الطرق التي رصدتها في القرآن والسنة في الحث على الإنفاق تقرب من عشرين طريقة، أسردها على عجالة كما يلي: الجزء: 48 ¦ الصفحة: 4 حفظ مال المتصدق الثامنة عشرة: حذَّر الله تعالى من البخل وعواقبه، وحذر المؤمنين من أن يستخلف غيرهم، فقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 5 الثبات على الدين التاسعة عشرة: هي سبب في حفظ الأولاد والذرية من بعدك بعدما تكون رفاتاً رميماً موسداً في قبرك: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] إنك تجد الكثيرين من التجار والأثرياء إذا ماتوا، اختلف أولادهم، وتصارموا فيما بينهم وتباعدوا وتقاطعوا وفرقوا وقسموا المال؛ بل ربما ترك المال، لأنهم اختلفوا عليه، وما ذلك -ربما والله أعلم- إلا بسبب التقصير في الإنفاق. العشرون: الصدقة من أسباب الثبات على الدين: {وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:265] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 6 النفقة طهارة للنفس الثانية عشرة: النفقة مضاعفة في أجرها وثوابها، قال الله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:276] وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد:18] وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة:261] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 7 عدم الإنفاق مهلكة الثالثة عشرة: ترك الإنفاق مهلكة في الدنيا والآخرة، فأنفقوا في سبيل الله، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 8 المال مال الله الرابعة عشرة: المال مال الله، وأنت فيه خليفة مستخلف فيه، أو وكيل، قال تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] وقال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 9 الإنفاق سبب لرحمة الله الخامسة عشرة: هي طهارة للنفس وزكاء لها، كما قال سبحانه وتعالى: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] وقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل:17] يعني: النار، {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:18] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 10 الإنفاق سبب للمغفرة السادسة عشرة: هي سبب لرحمة الله عز وجل للمتصدقين والمنفقين، قال جل وعلا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:156] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 11 عقوبة عدم الإنفاق السابعة عشرة: هي سبب للتكفير ومغفرة الذنوب، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة:271] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا معشر النساء! تصدقن ولو من حليكن} والحديث جاء أصله في الصحيحين في قصة خطبة العيد، وجاء -أيضاً- عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود كما عند الترمذي وأبي داود، وهو حديث حسن، وله شواهد. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 12 الله غني عنكم والصدقة قربة منه تعالى سابعاً: الله غني عنك، وإنما ابتلاك ليعلم -وهو أعلم في كل حال- أتشكر أم تكفر: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40] وقال الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد:10] . إن الله تعالى لو شاء، لأجرى الجبال ذهباً وفضةً مع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن به حاجة عليه الصلاة والسلام أن يربط على بطنه حجرين من الجوع يوم الأحزاب، ولكن هكذا الدنيا، هكذا أرادها الله عز وجل، والله تعالى قادر على أن يعطي جنده وأولياءه والمجاهدين في سبيله من نعيم الدنيا الشيء الكثير، ولكنها دار الابتلاء. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 13 النفقة قربة إلى الله ثامناً: النفقة قربى إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] الفريضة أولاً، وهي الزكاة، ثم النافلة، وربنا عز وجل يقول: {وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه} . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 14 النفقة سبب في دعاء الصالحين لك تاسعاً: هي سببٌ في دعاء الصالحين لك بالخير، ولهذا قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] فكان عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقة والزكاة، ثم يقول: {اللهم صلِّ على آل بني فلان، اللهم صلِّ على آل أبي أوفى} كما في الصحيح، وكذلك قال الله تعالى في الآية السابقة: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ} [التوبة:99] أي: دعواته لهم. إن المؤمنين جميعاً يدعون للمنفقين، بل وحتى الملائكة، فما من شمسٍ تطلع إلا وملكان يقولان: {اللهم أعط منفقاً خلفاً} وهكذا الصالحون من المؤمنين يدعون للمنفقين. وأقول أيها الأحبة: حق عليَّ وعليكم أن ندعو سراً وجهاراً حتى في صلاتنا وسجودنا للذين يساهمون في أعمال الخير، ويدعمون مشاريعها سواء عرفوا، أو لم يعرفوا، هذا بعض حقهم، وإذا كنت أنت عاجزاً عن الإنفاق، فادع لمن أنفقوا، فإنك لست عاجزاً عن الدعاء. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 15 فداء النفس من العذاب عاشراً: الصدقة فداء للنفس من عذاب الآخرة، فقد أخبر الله تعالى عن الكفار: أنه لو كانت لهم الدنيا ومثلها معها في الدار الآخرة، لافتدوا بها من سوء العذاب يوم القيامة، فلماذا لا يفتدي الإنسان نفسه باليسير؟ قال الله عز وجل: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31] ليس في ذلك اليوم بيع، ولا شراء، ولا صداقة، ولا علاقة، وإنما هي الحسنات والسيئات. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 16 الصدقة من علامات التقوى الحادية عشرة: الإنفاق علامة من علامات التقوى، قال تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:2-3] وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عمران:133-134] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 17 شرف المتصدق سادساً: الله عليم بما أنفقت ومُطِّلع عليه، وحسبك بذلك شرفاً ورفعة، قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273] وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة:270] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 18 الدعوة لسرعة الإنفاق أولاً: الدعوة إلى المسارعة إلى الإنفاق في زمن الحاجة والفقر والشدة، فهو خير من البذل زمن السعة والغنى. إن المسلمين اليوم جياع فقراء ضعفاء وهم غداً -بإذن الواحد الأحد- أقوياء أغنياء أعزاء غير محتاجين إلى أحدٍ من الناس، فالذين ينفقون زمن الفقر والحاجة قبل الفتح هم أعظم درجة، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] . إن الإسلام منصور، وراية الجهاد مرفوعة، فأدرك شرف المشاركة اليوم قبل أن يفوتك الفضل والنبل. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 19 ما نقص مال من صدقة ثانياً: النفقة مخلوفة عليك لا تضرك أبداً قطعاً ويقيناً، وعداً من عند من لا يخلف الميعاد: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] وفي الصحيح: {يا بن آدم أنفق، يُنفق عليك} . وأيضاً: في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما نقص مال من صدقة} . لقد حدثني غير واحد من الأثرياء والتجار، وأصحاب رءوس الأموال يقولون: والله نراها عياناً بأعيننا ونحسها بأيدنا ما أخرجنا شيئاً لله تعالى إلا أعطانا الله تعالى عنه عوضاً عاجلاً غير آجل ندرك أنه مقابل ما أنفقنا وتصدقنا. إذاً: أيقن بذلك، وسوف يخلف الله عليك في الدنيا قبل الآخرة بشرط اليقين والثقة بالله تعالى وحسن النية في العطاء، لا تعط وتقل: أريد عاجلاً في الدنيا، فهنا يدخل النية ما يشوبها، وتأتي الآية الكريمة: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [هود:15] أعط للآخرة وسوف تأتيك الدنيا تبعاً، والله تعالى لا يخلف الميعاد. عجباً لمن يعرف ذلك كله كيف يتراجع، أو يتردد في الإنفاق؟! ألا تريد أن تكون أنت صاحب الحديقة، {اسق حديقة فلان} -كما في صحيح مسلم- فقد جاءها مطر وسحاب مخصص وملك مبعوث لهذا الإنسان، فصاحب هذه حديقة ماذا كان يصنع؟ يرد الثلث فيها ويأكل الثلث ويتصدق بالثلث. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 20 الثواب من الله على المتصدقين ثالثاً: الأجر والثواب في الآخرة للمنفقين والمتصدقين المخلصين، فهي تجارة مضمونة، ولكن ليس فيها شائبة ربا، أو شبهة حرام: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنّاً وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:262] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 21 الصدقة دليل على البراءة من النفاق رابعاً: الصدقة دليل على البراءة من النفاق، وبرهان على الإيمان وصدق اليقين في القلب، قال الله تعالى عن المنافقين: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً} [النساء:39] . وقال عن المنافقين: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] . فهذا هو الحصار الاقتصادي الذي تواصى به المنافقون بالأمس في الضغط على المؤمنين، ومحاولة التضييق عليهم، وحرمانهم من الوظائف والأعمال والأموال والمرتبات، والتضييق عليهم في أرزاقهم وأموالهم حتى ينفضوا. لقد ظن هؤلاء أن اجتماع المؤمنين والمسلمين هو على المغنم، وعلى الدنيا، فاعتقدوا أن المال هو الذي يقدم ويؤخر، والله تعالى يقول: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] . فهم ما اجتمعوا على المال، ولا من أجله، ولذلك لن يفرقهم الجوع أبداً. لقد كان السجناء من المؤمنين والدعاة في بعض السجون يجوعون، ثم يعطى الواحد منهم قطعة من الشوكولاته تصله من بعض أقاربه بالتهريب وبطريقة سرية، فلا يأكلها، بل يعطيها إخوانه، ثم تدور على المجموعة حتى تصل إلى الأول الذي أخرجها طيبةً بها نفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري: {والصدقة برهان} أي: دليل على صحة وصدق إيمان المتصدق. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 22 فائدة الصدقة إنما تكون لنفس المتصدق خامساً: أنت تتصدق على نفسك، وليس على غيرك، فأكثر إن شئت، أو أقلل، قال الله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه، قالوا: يا رسول الله، كلنا ماله أحب إليه من مال وارثه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخَّر} . أنت حين تجمع المال وتضعه في الأرصدة، وقد بلغت الستين، أو الخمسين، أو السبعين، أو ما أشبه ذلك، هل تنتظر عمراً آخر تصرف فيه هذا المال؟، بل أنت حين تكون كبير السن عاجزاً وقليل الأكل، وقليل الشرب، قليل اللبس، وزاهداً في متاع الدنيا، ومع ذلك تمسك بهذه الأموال، فماذا تنتظر فيها؟ الجزء: 48 ¦ الصفحة: 23 آداب الإنفاق أولاً: لا منٌّ ولا أذى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى * قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً} [البقرة:264-263] . ثانياً: لا رياء ولا سمعة إن أظهرت الصدقة، وإنما تظهرها للقدوة الحسنة والسنة الحسنة، وإن أخفيتها، فالأصل هو الإخفاء، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] . ثالثاً: أن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، كما قال سبحانه وتعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} [البقرة:272] . رابعاً: لا تتصدق إلا بالطيب: {فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] . خامساً: لا تعد ما أخرجته -من الزكاة، أو الصدقة- مغرماً، بل هو مغنمٌ لك، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَماً} [التوبة:98] قال ابن قتيبة: أي غُرماً وخسارة، وقال غيره: يعدونه من التزام ما ليس بلازم، يقول: لماذا أتعب في جمع المال، ثم أخرجه في غير مصلحة دنيوية مشاهدة؟ فهو لا يرجو لذلك ثواباً، ولا جزاءً عند الله تعالى. سادساً: أن يخرج المال طيبةً به نفسه، ليس كارهاً له، ولهذا وصف الله تعالى المنافقين، فقال: {وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54] وأثنى على المؤمنين أنهم إن وجدوا مالاً تصدقوا، وإن لم يجدوا تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون. سابعاً: أن تتصدق في وقت صحتك وعافيتك وشبابك وحاجتك وخوفك من الفقر، كما قال عليه الصلاة والسلام: {أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تخاف الفقر وترجو الغنى} وهذا المعنى موجود في القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10] . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 24 عقوبات ترك الإنفاق إنها عقوبات كثيرة أهمها اثنتان: الأولى: الاستبدال، فإذا قصرتم، فعند الله تعالى خير منكم قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] . الثانية: يعاقب الله تعالى على ذلك، بهذا المال في الدنيا وفي الآخرة، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35] . وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في حديث طويل: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن صاحب الذهب والفضة الذي لا يُؤَّدي منها حقها، إذا كان يوم القيامة صُفِّحت له صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الخلائق، فيرى سبيله إما إلى جنة، وإما إلى نار} ومثله -أيضاً- صاحب الإبل والبقر والغنم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هؤلاء جميعاً. إذاً مالُك إن ادخرته ومنعت زكاته، ومنعت الصدقة، فإنك تعاقب به كما قال الله تعالى عن الكفار: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:55] فيعذب الإنسان بماله، يعذب بالخوف على المال، ويعذب بالانكسار الاقتصادي، ويعذب بالصفقات التي تذهب سُداً، يعذب بالخوف على المال، يعذب بالقلق والتوتر، وقلَّ أن تجد إنساناً غنياً ثرياً لا يخاف الله، ولا يُؤدي حق المال فإنك لو نظرت إليه لوجدت معه ألواناً وألواناً من العلاجات، يأخذ هذا في الصباح، وهذا في الظهر، وهذا لينام، وهذا ليستيقظ، وهذا من أجل أن يواصل العمل، فأي خير في مال لم ينفع صاحبه إلا بمثل ذلك. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 25 نماذج حية إن المتصدقين كثير، والمستجيبين لهذا النداء الرباني مِنْ فَجْرِ هذه الأمة، ومن فجر الإسلام إلى يومنا هذا هم جمعٌ غفيرٌ. فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يقول له النبي صلى الله عليه وسلم عندما تصدق مرة: {يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم الله ورسوله} . وهذا عثمان يجهز جيش العسرة فيخرج نوقاً بأحلاسها وأقتابها فيقول له صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم} . وهذا طلحة بن عبيد الله كان يُسمَّى طلحة الفياض، فهو أيضاً متصدق، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث فيها ضعفٌ بأنه طلحة الفياض، يوماً من الأيام نام طلحة رضي الله عنه وأرضاه عند زوجته وهي من نساء المؤمنين الفضليات، فتقلب على فراشه، فقالت له: [[يا طلحة ما بك؟ هل أنت شاك في أهلك، أو رابك منهم شيء؟ قال: كلا، فنعم حليلة الرجل المسلم أنتِ، قالت: فما بك؟ قال: أموال جاءتني من الشام، وكانت تعد بمئات الألوف، فقالت: فأين أنت من فقراء المهاجرين والأنصار؟ فأثنى عليها خيراً، ودعا لها، ثم جاء بالأواني، فملأها من الذهب والفضة وفرقها، فلم يصبح عنده شيء إلا أقل القليل، فلما أصبح، قالت له زوجته: لقد أعطيت الناس، فأين نحن من هذا المال؟ قال: لماذا لم تذكريني؟ فنظروا ما بقي، فإذا هو ألف دينار، فأعطاه زوجته]] وجاءه يوماً من الأيام رجل، فسأله برحم، فقال: [[والله إن هذه رحم ما سألني بها أحدٌ قبلك، هذه أرضٌ عندي قد سامها مني عثمان رضي الله عنه وأرضاه بثلاثمائة ألف دينار، فإن شئت أخذتها، وإن شئت أبيعها لك، ولك الثمن، فقال الأعرابي: لا، أريد الثمن، فباعها على عثمان، وأعطاه الثمن كاملاً غير منقوص]] . وهذا فياض آخر هو نور الدين، وفي قصته عجبٌ أي عجب، فهو صاحب الشام، الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الأتابك ليث الإسلام البطل الهمام، وقصصه كثيرة، وأمره عجيب، ولعلك أن تراجع سيرته، لكنني أطل على شيء يسير منها. كان بطلاً شجاعاً، وافر الهيبة، حسن الرمي، مليح الشكل، ذا تعبد وخوف وورع، وكان يتعرض للشهادة، -وهو ملك من ملوك المسلمين- ومرة سمعه كاتبه أبو اليسر يسأل الله أن يحشره من بطون السباع وحواصل الطيور. ماذا كان خبره؟ يقول الموفق عبد اللطيف: كان نور الدين لم ينشف له لبد من الجهاد، وكان يأكل من عمل يده ينسخ تارة- هذا ملك يكتب بيده ليبيع الكتب- ويعمل أغلافاً -أغلفة للكتب- تارة أخرى، ويلبس الصوف، ويلازم السجادة والمصحف، وكان حنفياً يراعي مذهب الشافعي ومالك، وكان ابنه الصالح إسماعيل من أحسن أهل زمانه. قال ابن الأثير: كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف إلا من ملك له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة، طلبت منه زوجته مالاً، فأعطاها ثلاثة دكاكين، فكأنها استقلتها -رأت أنها قليلة- فقال لها: ليس لي إلا هذا، وجميع ما بيدي من أموال المسلمين إنما أنا خازنه. وكان كثير التهجد، كثير العبادة، مخاطراً بنفسه في ذات الله تعالى، قال له قطب الدين النيسابوري يوماً من الأيام: بالله عليك يا أمير ألا تخاطر بنفسك، فإن أصبت في معركة، لا يبقى للمسلمين أحد إلا أخذه السيف، فقال: ومن أنا؟ من هو محمود حتى يقال فيه مثل هذا الكلام؟ حفظ الله البلاد قبلي فلا إله إلا هو. وكان ديناً تقياً، لا يرى بذل الأموال إلا في نفع، وما للشعراء عنده نفاق كما يقول الذهبي، وكان لهذا الرجل مجموعة من الأعمال خاصة في آخر عمره حيث أكثر من البر والأوقاف وعمارة المساجد، وأسقط كل ما فيه حرام، فما أبقى سوى الجزية على أهل الكتاب والخراج والعشر، وكتب في ذلك إلى جميع البلاد. وكان له رسم بنفقه خاصة في الشهر -من الجزية- يسيره. قال السبط ابن الجوزي: كانت له عجائب، وكان يخيط الكوافي ويعمل السكاكر، فيبعنها له سراً ويفطر وهو صائم على ثمنها، ويتصدق على الأرامل والأيتام والفقراء والمساكين. ومما يتعلق بذلك وهي فائدة ربما لا يكون لها علاقة بالموضوع، لكن للفائدة أن السبط ابن الجوزي ذكر أيضاً في تاريخ مرآة الزمان، قال: حكى لي نجم الدين بن سلار عن والده أن الفرنج لما نزلوا على دمياط، ما زال نور الدين عشرين يوماً يصوم ولا يفطر إلا على الماء، فضعف، وكاد أن يتلف، وكان مهيباً ما يقدر أحد أن يخاطبه في ذلك، فقال إمامه يحيى، لبعض جلسائه: أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: يا يحيى بشِّر نور الدين برحيل الفرنج عن دمياط، فقال الإمام يحيى: يا رسول الله، ربما لا يصدقني؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قل له بعلامة يوم حارم، وانتبه يحيى من نومه. فلما صلى نور الدين الصبح وشرع يدعو الله تعالى هابه الإمام أن يكلمه، فقال له نور الدين: يا يحيى تحدثني أنت، أو أحدثك أنا، فارتعد يحيى، وأعجم فلم يستطع الكلام، فقال له نور الدين: أنا أحدثك: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الليلة، وقال لك: كذا وكذا وكذا، قال يحيى: نعم. قال له يحيى: فبالله ما معنى قوله: بعلامة يوم حارم -ما هي هذه العلامة؟ - قال نور الدين: لما التقينا العدو، خفت على الإسلام، فانفردت ونزلت من فرسي، ومرغت وجهي على التراب، وقلت: يا سيدي من محمود الكلب؟! الدين دينك، والجند جندك، وهذا اليوم افعل ما يليق بكرمك- يخاطب رب العالمين- قال: فنصرنا الله تعالى عليهم، فهذا يوم حارم. فهذه نماذج سريعة من المتصدقين الكرماء الأجواد، ولا يعني ذلك أن الزمان قد انقضى عن أمثال هؤلاء، فهناك نماذج معاصرة كثيرة، وهناك رجال يتبرعون بعشرات الملايين، ويرى أحدهم أنه ما أخرج شيئاً في سبيل الله عز وجل، بل يدري أن ذلك بعض حق الله تعالى عليه في المال، أما الأغنياء، فكثير منهم على هذه الشاكلة يتصدقون وينفقون سراً وجهراً في سبيل الله عز وجل، ولا يتبعون ما أنفقوا مناً ولا أذى، فجزاهم الله خيراً، وأوسع الله لهم في أرزاقهم، وحتى الفقراء والمعوزون يتصدقون بالكثير، ولعلي ربما ذكرت لكم أمثلة كثيرة لا مانع أن أذكرها الآن للمناسبة. فهذه أرملة ذكرت خبرها جريدة الأنباء الكويتية تبرعت عن طريق جمعية إحياء التراث بقطعة ذهب صغيرة ربما لا تعادل خمسين ريالاً، فاشتراها أحد التجار بخمسة آلاف دينار كويتي، وتبرع بهذا المال لأعمال الخير. وصاحب الغترة -وما خبره عنكم ببعيد- لم يجد ما يتصدق به إلا غترته، فخلعها وتصدق بها فاشتريت بآلاف الريالات. وثالث تبرع بدمه في أحد المستشفيات، وأخذ هدية من المستشفى مقابل التبرع، فتبرع بها للبوسنة، وهو يقول: إذا لم نستطع أن نريق دماءنا في أرض المسلمين والإسلام هناك، فالأقل أن نتبرع بحقنة من دمنا لإخواننا المسلمين. وهذا طفل رابع يجمع التبرعات للمسلمين في الصومال والبوسنة، ولإطعام جائع، ولتفطير صائم، ولكسوة عاري، وقد سماه بعد الظرفاء شاحت للإسلام، وهذا الطفل قلَّ شهر أو أسبوع إلا ويأتيني بمبالغ قد تصل -أحياناً- إلى آلاف الريالات جمعها من قرش وريال وخمسة وعشرة. وهناك أخوات موفقات وإخوة موفقون من المدينة والرياض والخبر وجدة والقصيم وبعض دول الخليج قد تجمع المرأة من الأخوات الكريمات من راتبها وراتب زميلاتها في العمل مبلغاً طيباً، وتبعث به إلى مشروع هنا، أو مشروع هناك. ومن الطرائف المضحكة أن طفلاً صغيراً أعطى أحد الإخوة الشباب ريالين، وقال له: خذ هذه الريالين أحدهما للبوسنة والآخر للهرسك، وآخر نسي كلمة البوسنة والهرسك فلم يحفظها، فدفع عشرة ريالات، وقال: هذه للأوس والخزرج. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 26 جهد المقل أورق بخيرٍ تؤمل للجزيل فما ترجى الثمار إذا لم يورق العود إن الكريم ليخفي عنك عسرته حتى تراه غنياً وهو مجهود بث النوال ولا تمنعك قلته فكلما سد فقراً فهو محمود وللبخيل على أمواله عللٌ زرق العيون عليها أوجهٌ سود وقال آخر: أضاحك ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمحل جديب وما الخصب للأضياف أن تكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب إن الكثيرين يستقلون ما لديهم من المال فيمنعونه، والقليل خيرٌ من العدم، وفي الحديث: {لا تحقرنَّ جارةٌ لجارتها ولو فرسن شاةٍ} وفي حديث آخر: {ولو بظلف محرق} وفي حديث ثالث: {ولو بشق تمرة} إنه جهد المقل، وقد {سبق درهمٌ ألف درهم} بل الحرقة منك وفي قلبك تكفينا إذا لم تجد غيرها. والله مدح المؤمنين -أو بعضهم- من الفقراء والمعدمين بقوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} [التوبة:92] ولقد أثنى الله عليهم في القرآن بدموعهم التي أراقوها، لأنهم لم يجدوا ما ينفقون، فإن وجدت مالاً فتصدق، وإن لم تجد فتكفينا دموعك، فهي دموع صادقة إن شاء الله، وربما تدخل الجنة وسوف تجد هذه الدموع في ميزان حسناتك يوم القيامة. أيها الأخ الكريم: إنك تتعذر منا بأنه ليس عندك مال. لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وأنا لي معك حديثٌ في الأسبوع القادم، حديث ذو شجون، وقد جعلت عنوانه: دلوني على سوق المدينة، سوف أتحدث وأدلك على طرق كثر أنت غافلٌ عنها، وأزيل عنك الغشاوة في أمور كثيرة. إنه لا يجوز أبداً أن يكون أهل الإسلام وأولياؤه ودعاته وشباب الصحوة كلهم فقراء محتاجين، لقد رأيتك أيها الأخ الكريم مراراً، وأنت قادمٌ علي، فأيقنت أنك قادمٌ بعطاء سخي لإخوانك هنا أو هناك، فإذا بك تحمل أوراقاً تطلب فيها مساعدةً في سداد دين، أو تفريج كرب ألم بك، وأنت معذورٌ ربما، ولكن نريد منك أن تسعى إلى تغيير حالك وحال غيرك بقدر المستطاع. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 27 لمن نعطي؟ أولاً: المتسولون الذين يطرقون الأبواب، ويمرون في الشوارع، ويقفون أمام المصلين يكثر فيهم الكذب، وقد كشفنا وكشف غيرنا الكثير من ذلك، سواء كانوا يطلبون العطاء لأنفسهم، أو لأولادهم، أو لديات، أو كانوا ربما أحياناً قد يطلب الواحد منهم لمشروع، وبعد التحقق يبدو أن هناك خطأً، أو مبالغةً في الأمر، وقد يكون الموضوع مزوراً في بعض الأحيان، حتى بعض الأوراق والوثائق قد تكون مزورة أو قديمة، أو قد يكون كتب لهم رجل أحسن بهم الظن، وحملهم على ظاهرهم. إنه ينبغي لنا ألاَّ نعطي إلا بعد التثبت من حال الإنسان، ولو كان في بلد ناءٍ، خاصةً إذا كان يجمع لمشروع خيري -مدرسة، أو مركز، أو مسجد، أو ما شابه ذلك- حتى لو كان هذا المشروع في الصين، أو في الهند، أو في أفريقيا. إن من السهل أن تُجمع عشرة مشاريع، ثم يسافر شاب إلى الهند، أو إلى الصين، أو إلى أفريقيا بتذكرة لا تكلف أكثر من ستة آلاف ريال، ويتأكد من هذه المشاريع بنفسه، ثم يرجع بخبر جهينة الخبر اليقين. وقد يجمع في المساجد، أو في غير المساجد مبالغ طائلة قد قبض على بعض هؤلاء، ووجد معه مائة ألف ريال جمعها خلال أقل من أسبوع، وتبين أن مدعاه ليس بصحيح، ثم إن هذا لا يعني إهمال المشاريع الإسلامية بحجة عدم التثبت، فإن كلا طرفي قصد الأمور ذميم، فبعض الناس لا يُعطي بحجة الشك، وبعض الناس يُعطي بلا تثبت! لا، ولكن حينما تريد العطاء، فأعطه من تثق بهم أنهم يتثبتون ويطمئنون ويكونون وسطاء مأمونين يستطيعون أن يوصلوا هذه الأموال إلى مستحقيها. ثانياً: أصحاب العاهات، وبعض النساء، وبعض العاطلين مهمتهم الطواف والسؤال، ولا مانع أن تعطي هذا الإنسان مبلغاً يسيراً مجاملةً من مالك الخاص، أما أن تعطيه من حق الفقراء، ومن مال الله عز وجل، فلا وألف لا، لا تعطه من الزكاة، وأنت يغلب على ظنك أنه غير محتاج، وأنه يجمع أموالاً طائلة، وربما ملك ما لا تملكه أنت نفسك. ثالثاً: العوائد المألوفة، أنت معتاد أن تعطي بعض الجيران، وبعض الأقارب، وبعض المعارف كل سنة من الزكاة، وهم قد تغيَّرت أحوالهم، وسددت ديونهم، واستغنوا بغنى الله عز وجل، وتحسنت أوضاعهم، وتوظف أولادهم، فلا داعي لاستمرار هذا العطاء، بل يجب أن تقطعه إذا علمت أنهم استغنوا عنه، ولا يجوز لك أن تعطيهم مجاملة، وأنت تعلم أنهم غير محتاجين. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 28 أوجه الإنفاق أما أوجه الإنفاق فهي كثيرة: الجزء: 48 ¦ الصفحة: 29 بناء المساجد حادي عشر: المساجد: {ومن بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاةٍ، بنى الله له بيتاً في الجنة} فالمساجد في المناطق التي يحتاج إليها سواء في هذا البلد، أو في أي بلد إسلامي لا تقل أهمية المسجد عن غيره، لكن يجب أن تعرف ماذا سيكون مصير المسجد بعد البناء، وأن تعتدل في نفقته. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 30 صناديق الأسر ثاني عشر: صناديق الأسر: وهي مهمة جداً للتكافل الاجتماعي، والترابط الأسري، فإن بعض الأسر خاصة الأسر الكبيرة تجعل لها صندوقاً واشتراكاً شهرياً من جميع أفراد هذه الأسرة، ثم يكون هناك مجلس خاص يدير هذا الصندوق ويستثمره، فيعطي المحتاجين، والشباب الراغبين في الزواج، والفقراء، والأيتام، والأرامل، وأمثالهم، ومثل هذه الصناديق ظاهرة موجودة في هذه المنطقة بحمد الله عز وجل، وفي مناطق أخرى كثيرة، وينبغي السعي إلى تعميمها ونشرها، فإن فيها فوائد: فوائد دينية، وفوائد ترابط الأسرة، والغنى وعدم الحاجة، إضافة إلى مصالح أخرى كثيرة. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 31 إعانة من أراد الزواج رابعاً: من طرق الإنفاق، الشباب الراغبون في الزواج، فإنهم يحتاجون إلى إعفاف فروجهم، وغض أبصارهم، وبناء الأسرة السليمة التي تعبد الله تعالى وتوحده، وحبذا أن يكون ذلك بالقرض الحسن لتربيتهم على الاستغناء عن الناس، وعلى البحث عن الرزق الحلال، وعلى الاعتماد على الله عز وجل، ثم على أنفسهم، وفي ذلك فائدة تربوية عظيمة. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 32 المشاريع الاستثمارية الخيرية خامساً: المشاريع الاستثمارية الخيرية، وهي مهمة جداً، ومثلها الأوقاف التي توقف لصالح أعمال الخير من الأحياء، أو من الأموات، والتعجيل بها في حال الحياة أحسن وأفضل منها بعد الموت. إن الكثيرين يوصون بالثلث بعد الموت، وهذا في الأصل إنما هو صدقة من الله عز وجل، وإلا فالإنسان بعد موته يكون ماله لورثته، لكنك تدري أن كثيراً من الأموات ضاعت أوقافهم ووصاياهم واختلف فيها الأولاد، وتركوها، ولم تجد من يقوم بها، أو استلمتها بعض الجهات الرسمية، ولم يكن فيها كبير نفع. لكن لو أنك أوقفت شيئاً في حال حياتك على أعمال الخير والدعوة، وجعلته استثماراً يدر ويفيد سواء أكان أرضاً، أو عمارةً، أو محطةً، أو مشروعاً تجارياً، أو ما أشبه ذلك وكتبته لأعمال الخير، فإنك تقوم به في حال حياتك، ويكون بعد وفاتك معروفاً محدداً لا يختلف عليه أحد، وهذا عمل عظيم، لأنه يترتب عليه وجود أعمال استثمارية ثابتة ريعها معروف، ودخلها ثابت يصرف منه في أعمال البر. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 33 التعليم سادساً: التعليم: كبناء المدارس، والمعاهد، وإرسال المعلمين، وكفالتهم، وطباعة الكتب، وبناء الأربطة والمساكن للطلاب وللمدرسين وغيرهم، وإعداد خلوات تحفيظ القرآن الكريم، ويوجد ذلك في مناطق أفريقيا لذلك سواء في السودان، أو في الصومال، أو في غيرها من المناطق الإفريقية. ومن ذلك أيضاً تفريغ بعض النابغين من الطلبة، وإعدادهم إعداداً جيداً بصورة صحيحة ليتفرغ لطلب العلم بعيداً عن الاشتغال بالرزق والبحث عنه؛ ليتفرغوا لهذا العمل الجليل. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 34 الجمعيات الخيرية سابعاً: الجمعيات الخيرية سواء كانت جمعيات خيرية تخدم البلد، أو المنطقة، أو كانت جمعيات إسلامية عالمية تعمل على خدمة المسلمين في كل مكان، ويجب أن يتولى إدارة هذه الجمعيات كلها -بنوعيها- الأمناء الأخيار: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وحبذا أن يكون لكل داعية، أو مهتم، أو غني، أو عالم أن يكون له جمعية، بل أن يكون له شبكة من الجمعيات عبر العالم، لئلا تكون أعماله وبضاعته هي الكلام فحسب. فعليه أن يكون عنده نشاط للأيتام والأرامل، وآخر للتعليم -تعلم الدين- وثالث مركز للدعوة، ورابع مكتب للإعلام وهكذا يستثمر هذا العالم، أو الداعية، أو المهتم، يستثمر فرصته وعلاقاته في دعم هذه الجمعيات والإشراف عليها، ومن الضروري أن يكون هناك تنسيق بين هذه الجمعيات وتعاون على البر والتقوى، وعدم تضارب في الجهود، كما يجب عدم التسرع في إطلاق التهم على الآخرين بدون بينة، أو روية، أو تثبت أن أموالهم لا تثبت، أو أنها تضيع سدى. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 35 المبرات الخيرية ثامناً: المبرات الخيرية للأسر المحتاجة داخل المدن، أو القرى، أو المناطق النائية، بحيث توفر هذه المبرات الأموال، فتنفق على الأسر في السكن، وفي الطعام، وفي الشراب، وفي اللباس، وفي الغذاء، وفيما يحتاجون إليه، وينبغي أن يقوم على هذه المبرات العلماء وطلبة العلم، بحيث تكون مأمونة، ولا تكون فرصة لضعاف النفوس الذين يصطادون في الماء العكر، ويثرون على حساب الأيتام والأرامل والفقراء. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 36 المستودعات الخيرية تاسعاً: المستودعات الخيرية: كالمستودع الخيري الموجود، الذي يقوم عليه الشيخ صالح الهنيان جزاه الله خيراً، والتي تستقبل الأواني المنزلية والأثاث والطعام والأدوات الكهربائية وغيرها، وتصلح ما فسد منها، وتقوم عليها، ثم تعطيها المحتاجين. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 37 الفقراء والمساكين عاشراً: الفقراء والمساكين والأرامل والأيتام أينما كانوا، فإن لهم حقاً في أموال الأغنياء، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24-25] وقال: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] . أيها الأحبة: تردني أسئلة كثيرة من الناس رجالاً ونساءً: فلان حاله كذا، فهل نعطيه؟ وفلانة حالها كذا، هل نعطيها؟ ويتبين لي من تلك الأسئلة أن معظم الناس يعطون زكواتهم وصدقاتهم لأقوام ربما لا يستحقونها، أو هم في غنىً عنها، وأقل ما نقول: إن هناك من هو أحوج إليها منهم. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 38 الدعوة إلى الله ثانياً: الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بإقامة المراكز الإسلامية، أو طباعة الكتب، أو توزيع الأشرطة، أو كفالة الدعاة. إن كفالة داعيةٍ واحدٍ في الاتحاد السوفيتي لا يكلف شهرياً، أكثر من مائة ريال، إذاً تستطيع أن تكفل داعية سنة كاملة بألف ومائتي ريال فقط. إننا بذلك نستطيع أن نوفر آلاف الدعاة، ولا يكلفنا ذلك شيئاً كثيراً، وإنني أعجب أيها الإخوة، وحق لي أن أعجب أن يأتي تاجر محسن متصدق فيبني مسجداً، ويجعله فخماً ضخماً واسعاً مرتفع البناء ربما كلفه ثلاثة ملايين دولار مثلاً في البناء، ثم لا يوجد من يصلي في هذا المسجد، ولا من يؤم، ولا من يخطب، ولا من يعلم، وبناء المسجد شيء حسن، وسوف أذكره بعد قليل، ولكن لو كان هذا المال صرف كله، أو جله، أو بعضه لكفالة دعاة يقومون بتوعية الناس، وتصحيح عقائدهم، وإعادتهم إلى دينهم، وتعليمهم أحكام شريعة ربهم، لكان ذلك خيراً وأقوم. إن طباعة خمسين ألف نسخة من كتاب لا تكلف أكثر من عشرين ألف ريال، يستطيع خمسة أن يقوموا بمثل هذا العمل الجليل اليسير في نفس الوقت. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 39 الشعوب المنكوبة ثالثاً: الشعوب المنكوبة في العراق شعب يحاصر منذ أكثر من ثلاث سنوات لا يصل إليه من الطعام والشراب واللباس والكساء إلا أقل القليل، وأحلف بالله الذي لا يحلف إلا به لو كان شعب العراق نصرانياً، لتنادت أمم النصارى كلها لفك الحصار عنه، ولكن لأنه شعب في غالبيته أبيٌ مسلمٌ، فإن أمم الغرب كلها تتحالف على الحصار عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} . فكيف بإنسان؟! فكيف بمسلم؟! فكيف بشعب مسلم بأكمله يُحاصر حتى من قبل دول عربية إسلامية؟! إن هذه الصحيفة التي أدارتها الأمم المتحدة لحصار المسلمين في العراق هي صحيفة آثمة ظالمة، وواجب على المسلمين أن ينكروها ويرفضوها، وأن يتنادوا لنصرة إخوانهم ودعمهم بالمال والطعام والشراب والغذاء والكساء والدواء، وبالدعوة إلى الله تعالى، فإن إيصال الكتب ممكن، وإيصال الأشرطة وارد. بل إنني أقول لكم من معلومات مؤكدة -أيها الإخوة- إن عدداً من شباب الشيعة تحولوا إلى طريقة أهل السنة والجماعة وعلى الطريقة السلفية السليمة في مناطق الأهوار وفي غيرها، داخل العراق، بل وداخل إيران بواسطة جهود المخلصين والدعاة والكتب والأشرطة. فعلينا أن نكون عوناً للمسلمين وللدعوة في كل مكان. وفي مصر شعب بأكمله يُجّوَّع وذلك من أجل أن ينشغل بالبحث عن لقمة العيش، ويضيق عليه، ويُودع شبابه في غياهب السجون، فالمساجين يعدون بالآلاف، والقتلى يعدون بالمئات، ومع ذلك حصلت نكبات وزلازل وأزمات، فتجد أن هناك تبرعات كثيرة لا يصل الناس منها إلا أقل القليل، بل إن الجماعات الإسلامية التي كانت تدعم المسلمين في مصر قد حوربت، والذي ثبت عليه أنه يدعم ويوصل بعض الأموال قد سجن، وقد سجن أكثر من أربعين طبيباً، لأنهم ساعدوا المسلمين هناك. ولذلك أقول للإخوة: ادعموا إخوانكم المسلمين في كل مكان، ادعموا إخوانكم المسلمين في مصر، لكن حذار أن يكون الدعم عن الطرق الرسمية التي تصل إلى الحكومات، فإن الحكومات قد تتقوى بها على ضرب الإسلام، وعلى حصار المسلمين، وعلى قتل الأبرياء، وعلى إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، ولولا الحياء لذكرت لكم نماذج أحلف بالله لا تصدقون أنها تقع، لولا أنني قرأتها في صحف موثوقة مصرية مضبوطة عندي تدل على أن هناك خططاً مبيتةً لإشاعة الجريمة في الذين آمنوا، وقطع دابر العفاف في أوساط تلك الشعوب المؤمنة الأبية في مصر وفي غيرها. فعلينا أن ندعم المسلمين، ولكن بواسطة الطرق الخاصة التي تصل إليهم، ولهذا أقول للموظفين: إذا جاءك طلب المساعدة، فإياك إياك أن تبذل شيئاً تعين به على قتل مسلم، أو على التضييق عليه، أو على الترويج للسياحة، أو على إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، وإذا كنت تريد الدعم، فأنت تعرف سبله وطرقه وأبوابه التي تطمئن إلى أنها تصل إلى المحتاجين. وفي أفغانستان دولةٌ بأكملها عانت أربع عشرة سنة من ويلات الحرب، وهي الآن تعاني أيضاً من بقايا آثار الخلاف بين أصناف وطبقات المجاهدين، فهي محتاجةٌ إلى دعم الإخوة المؤمنين سواء عن طريق التعليم، أو عن طريق نشر الكتب، أو نشر الدعوة، أو عن طريق المساعدة، أو عن طريق مساعدة اللاجئين والمهاجرين، أو غير ذلك من الوسائل. وفي الجزائر أيضاً شعبٌ يموت جوعاً، خمسة عشر شخصاً يعيشون في غرفة واحدة، لا يجدون مأوى إلا غرفة واحدة حتى إنهم الآن بدءوا يسلكون أسلوب النوم بالتناوب إذ لا تتسع لهم، فينام خمسة الآن على حين يذهب الباقون يبحثون عن أي عمل آخر، ثم تأتي نوبة الآخرين ليقوم هؤلاء وينام الآخرون بدلاً عنهم. وفي طاجاكستان الأمر كما ذكرت، وفي البوسنة الأمر معروف، ودولة البوسنة والهرسك فيها مدن ومناطق محاصرة منذ ما يزيد على سنة، سراييفو، سربنيتشا، قورازدا، وغيرها مدن محاصرة على مدى أكثر من سنة لا يكاد يصل إليها إلا أقل القليل، فعلينا أن نهب لنصرتهم. وفي فلسطين شعب يجوع ويضيق عليه، ويمنع حتى من الأعمال التي يمارسها -وهي أعمال متواضعة- بين اليهود في داخل ما يسمى بدولة إسرائيل، فيحال بينه وبين العمل، ويبن رغيف الخبز، وبين العيشة التي يقوم بها أوده، فضلاً عن الذين أبعدوا من ديارهم بغير حقٍ إلا أن يقولوا: ربنا الله، فهم بأمس الحاجة إلى دعمكم وعونكم وتأييدكم، فأين أنتم من هذه الشعوب المنكوبة؟ إنني أعجب من أخ يقارن مصيبة فرد مهما عظمت وجلت بمصيبة شعب بأكمله يعاني مثل هذه الآلام. أيها الإخوة: إنني أُحذركم مرة أخرى من الطرق الرسمية التي تتولاها حكومات تلك الدول، فإنه لا ينفعنا أن نكتشف بعد عشرة سنوات، أو عشرين سنة أن هؤلاء كانوا خونة، وأنهم يحاكمون كما وقع في الجزائر حيث حُوُكِمَ بعض رءوس الفساد، واتهموا وثبت أنهم كانوا يسرقون الأموال، فماذا ينفعنا أن نكتشف ذلك بعدما ضاعت أموالنا؟ الجزء: 48 ¦ الصفحة: 40 الجهاد في سبيل الله أولها: الجهاد في سبيل الله، ومساعدة المجاهدين بالمال والسلاح وغير ذلك من الوسائل في كل مكان، وراية الجهاد اليوم مرفوعة في بلاد عديدة، ففي البوسنة مؤمنون يقاتلون عن دينهم وعن أرضهم وأعراضهم، وفي طاجاكستان أعداد من المؤمنين المجاهدين في الشعاب. وقد رأينا البارحة مندوباً منهم موثوقاً -إن شاء الله تعالى- يمثل الحزب الإسلامي الوحيد هناك، حزب النهضة، فيقول: عدد المجاهدين أكثر من مائة ألف مجاهد متحصنين في الجبال، وقد استطاعوا أن يردوا نصف تلك الدولة التي سقطت في أيدي الشيوعيين، بلد قتل فيها أكثر من مائتي ألف مسلم خلال ثلاثة أشهر، وفقد منها مائة ألف مسلم أيضاً، وشرِّد أكثر من مليوني مسلم حيث ذهب أكثرهم إلى الدول المجاورة ومنها أفغانستان المنهمكة والمنشغلة بهمومها الخاصة. شعب يقتل لماذا؟ لأنه أقرب الشعوب لآسيا الوسطى وإلى الإسلام، وأكثرها تديناً وصلاحاً، فلذلك رفعوا راية الجهاد، وهم أحوج ما يكونون إلى المال. وهناك في إرتيريا مؤمنون مجاهدون على الطريق الصحيح، ويحتاجون إلى الدعم بالمال، وهناك في الفلبين مسلمون يُقتلون، وقد هدمت قرى بأكملها، وقد اعتدى الجنود الحكوميون على أعراض المسلمات، فأصبحت المسلمات نهباً مباحاً، ففي الهند اعتدوا على المسلمات بالاغتصاب، وفي الفلبين، وفي البوسنة، وفي كشمير، والله تعالى وحده هو المستعان. وأقول: أيضاً في الجزائر عشرات الآلاف من الشباب الذين يدافعون عن دينهم، وعن أعراضهم، وعن تحكيم شريعة الله عز وجل، ويقاتلون أولياء العلمانية، وأولياء الاشتراكية، وأولياء الغرب، والجميع محتاجون إلى دعم إخوانهم المسلمين، ليس فقط لدعم الجهاد بنفسه، بل لحماية ظهور المجاهدين، ورعاية أسرهم، فإن أهل الفساد والريب يقولون: لا تنفقوا على هؤلاء، ويحاصرونهم، ويتابعون كل من يدخل إلى بيوتهم، أو يوصل إليهم خيراً، يريدونهم أن يموتوا فقراً وجوعاً وعرياً، وأن يحنوا رءوسهم بسبب الحاجة والفقر، فلابد من خلافتهم في أهلهم وأطفالهم وأولادهم بخير. إنني أعجب -أيها الإخوة- حين نسمع عن الشباب المجاهد في أفغانستان، وما يعانيه في بيشاور وغيرها، أولاً من الحصار الدولي التي تحكمه حامية راية الصليب أمريكا نسأل الله تعالى أن يُعجل بسقوطها وهلاكها وتمزقها. فهي تتصل الآن بقوة بالباكستان وتضغط عليها وتتحالف في ذلك مع مصر، فهناك ثلاثي -أمريكا ومصر وباكستان- للتضييق على المجاهدين في بيشاور، والقبض على المجاهدين. وقد قبض هناك على عشرات من الشباب، وأودعوا السجون، وهناك تخطيط للقبض على البقية الباقية، وإرسالهم إلى دولهم لتتولى محاكمتهم وسجنهم وتعذيبهم. فماذا كانت ذنوبهم؟ لقد كانوا بالأمس يُودَّعون من قبل دولهم بالحفاوة والتكريم، بل ويعطون تذاكر مخفضة، أما اليوم، فهم يؤتى بهم يقادون مكبلين بالأغلال والقيود ويودعون في السجون، ويعتبرون إرهابيين ومتطرفين، لقد كانت المهمة أن يقاتلوا الروس يوم كان الاتحاد السوفيتي عدواً لأمريكا، فكانت بعض الدول العربية تتعامل معهم على هذا الأساس. أما اليوم وقد سقط الاتحاد السوفيتي، فقد أصبح هؤلاء هم الخطر، وبدأت الدول تتآمر ضدهم، ثم إنهم يعانون حالاً من الجوع والفقر، وقلة ذات اليد، ويحتاجون إلى دعم إخوانهم المسلمين. إن الأمة التي تريد أن تكون مجاهدة حقاً عليها أن تحفظ للمجاهدين سابقتهم وفضلهم، وأن تقوم بحقهم عليها. نعم! إن المال لو وُفِّر لانتصر الجهاد في أكثر من موطن. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 41 حجج ضعيفة الجزء: 48 ¦ الصفحة: 42 دعوى عدم وصول الأموال إلى مستحقيها وبعض الإخوة يتعذرون ويقولون: إن هذه الأموال قد لا تصل إلى مستحقيها. وأقول: عندي لك جوابان سريعان: فأما أولهم: فعلى لسان الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل خرج بصدقته ليلة فوضعها في يد إنسان، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية! لأتصدقن الليلة، فخرج فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية وعلى سارق! لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته، فوضعها في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون تصدق الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد، على زانية وعلى سارق وعلى غني! فقيل له: إنه في الصدقة المتقبلة، أما الغني، فلعله أن يعتبر فينفق، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما السارق فلعله أن يستغني فيستعف عن سرقته} . وأمرٌ آخر: أن هناك طرقاً موثوقة تستطيع أن تطمئن بها إلى وصول المال إلى مستحقيه. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 43 عدم الإنفاق خوفاً من المسئولية الحجة الثالثة: البعض يحجمون عن الإنفاق خوفاً من المسئولية، ومن أن يحاسبوا من بعض الجهات، ومن بعض الدوائر: لماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا دعمت هؤلاء؟ ولماذا أنفقت هنا؟ ولماذا أنفقت هنا؟ وأقول: هناك أيضاً جوابان: أولها: قال الله جل وعز: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فيجب أن تخاف الله تعالى أن يحاسبك لماذا لم تدعم أولئك المحتاجين؟ ولماذا لم تساعد عبادي المجاهدين؟ ولماذا لم تتبرع لمشاريع الخير والدعوة؟ فيجب أن تخاف حساب الله قبل أن تخاف حساب المخلوقين. ثانياً: هناك طرقٌ مأمونة بحيث تستطيع أن توصل المال إلى وسيط تطمئن إليه وتثق به، دون أن يكون هناك أي وثيقة أو مستند رسمي. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 44 الإنفاق علىمن لا نعرف حاله فقد تقول لي: كيف نطعم المسلمين الذين تحدثت عنهم كثيراً، وهم في غالبهم منحرفون مقصرون، بعضهم لا يصلي، وبعضهم لا يعرف دينه، وبعضهم مسرف على نفسه، وبعضهم واقع في المعاصي، وسوف أجيبك بأربع نقاط على عجالة: أولاً: هم في الجملة مسلمون، ولهم عليك حق الأخوة الإسلامية ولو كانوا مقصرين، فأنت لا تستطيع أن تخرجهم في جملتهم عن مسمى الإسلام. ثانياً: إن أكمل وأحسن طريقة للدعوة إلى الله أن تشبعه وتطعمه وتعالجه وتساعده وتكسوه، ثم تقدم له الهداية والدعوة بعد ذلك، وليس صحيحاً أن تقوم بدعوته وهو على هذا الحال من الفقر والجوع وتقول عنه ما تقول. ثالثاً: أنت في سباق مع النصارى الذين لا يكفيهم أن يكون هذا المسلم مقصراً، أو مفرطاً، بل ولا يكفيهم أن يكون هذا المسلم مبتدعاً، أو ضالاً، بل يريدونه أن يكون نصرانياً، بل يريدونه أن يكون قسيساً داعية إلى الكفر. الأمر الرابع: إن المسئولية علينا جميعاً، فنحن مسئولون أيضاً كما نحن مسئولون عن فقرهم، نحن مسئولون عن جهلهم في الدين، وواجب علينا أن نحمل إليهم الدعوة إلى الله عز وجل، ونحرص على إيصالها إليهم بقدر المستطاع، ونحن كما صحنا بك إليك وصوتنا وطلبنا منك أن تبذل لهم الطعام والشراب والكساء، فنحن أيضاً قد دعوناك إلى بناء المسجد، وبناء المركز، وبناء المدرسة، وطباعة الكتاب، وطباعة الشريط. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 45 طرق وأساليب أولاً: عليك بالاعتدال عن الإنفاق على نفسك وأهلك وأولادك، وتوفير جزء ولو يسير من الدخل لتستفيد منه في الإنفاق. إنني أعرف أن أكثر الآباء قد يُعطي الطفل عشرة ريالات، أو يشتري له لعبة بمائة ريال، فإذا انكسرت اللعبة، قال للطفل: لا يهم، البقية في حياتك، ثم يشتري له غيرها، وفي المقابل لو أتاه فقير، أو مسكين، أو مشروع خيري، فإنه يتردد في إعطائه ولو أقل مبلغ من المال، وهذا من كيد الشيطان، فإنه لا تأتي الحسابات والتساؤلات والشكوك والظنون إلا في المجال الخيري الذي ينفعك في الدار الآخرة. ثانياً: نحتاج إلى ترك بعض المظاهر والعادات الأسرية والمدنية والقبلية، كارتفاع المهور في الزواج، وتضخيم المناسبات والمبالغة فيها، كما نحتاج أيضاً إلى الاقتصاد في الملبوسات والمصاغات، والأحذية الموجودة بكميات كثيرة لدى الرجال والنساء، فانظر في زوجتك -مثلاً- وفي نفسك كم يوجد عندكم من الذهب، كم الذي تلبسه زوجتك؟ وكم يوجد من الملابس لك ولها لا تلبسونها قط؟ وكم يوجد من الأشياء التي لا تحتاجونها وربما يكون فات وقتها؟ ولا مانع أن تشتري لنفسك ولولدك ولزوجك شيئاً جميلاً، والبس من غير إسراف، ولا مخيلة، ونوِّع، وتصدق أيضاً. كما أننا نحتاج إلى التبرع بالمواد العينية الفائضة عن حاجتك من غسالة، أو ثلاجة، أو فرش، أو ملابس، أو غيرها بشرط أن تكون نظيفة، أو صالحة للاستعمال، بل وحتى الأطعمة مطبوخة كانت، أو غير مطبوخة يجب إيصالها لمستحقيها، مع العناية بجودتها، وحسن مظهرها، وعدم وضع الأطعمة وتكويمها في الأماكن العامة والشوارع، بل ربما تكون أحياناً مختلطة مع القمامات والأوساخ. ثم هناك أمر ثالث: وهو اقتطاع جزءٍ ولو يسير من الراتب يكون على شكل اشتراك شهري للمعلم، أو المعلمة، أو الموظف، أو الموظفة، أو أي إنسان بحيث يخرجه شهرياً، وإنني أخاطب المرأة على وجه الخصوص، فأقول: المرأة غير مسئولة عن صرف شيء من المال في بيتها، بل ولا على نفسها، ولا على أولادها، حتى ملابسها، حتى حذائها، حتى طعامها على زوجها، أو أبيها فهو مطالب بتأمينه لها، فلماذا لا تدخر ذلك كله ليوم الحساب، أو تستثمره لأمر دنيوي، ويعلم الله تعالى من قلبها أنها تنوي أن تتصدق كلما رزقها الله تعالى؛ ليكون ذلك سبباً في سعة رزقها وحسن توفيقها في عاجل أمرها وآجله. رابعاً: إن وجود هذا الاشتراك الأسبوعي، أو الشهري، أو حتى السنوي في نشاط من النشاطات، أو عمل من الأعمال، أو جمعية، أمرٌ حسن؛ لأنه يعتاد الإنسان عليه، فلا يشق عليه إخراجه. وكذلك يعرف أن هناك دخلاً ثابتاً محسوباً يعتمد عليه ويحسب ضمن المبلغ الداخل، والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 46 حملات تبرع هناك حملات للتبرعات التي ينبغي أن نقوم بها في أي مكان، بين الزملاء، أو في المساجد، أو في الجوامع، أو في الجمع، أو في الأعياد، أو في رمضان، أو حتى في وقت استلام الراتب من كل الطلاب، أو الموظفين في أي دائرة، أو حتى في الأزمات التي تمر بالمسلمين، وليكن لك أنت شرف السبق إلى ذلك والمسارعة والمساهمة. مع أنه ينبغي علينا جميعاً حينما نبذل ونتبرع أن نراعي أهل الثقة والعدالة، وأن نتأكد من وصول الأمر إلى مستحقيه. ثم هناك نقطة إضافية وهي تخصيص جزء من عملك التجاري الاستثماري- كما أسلفت- فإذا كان عندك عشرة فروع لمتجرك فلماذا لا تخصص واحداً منها لمشاريع الخير؟ وجرِّب وقس وسوف تجد أن مالك يتضاعف بذلك، وخاصة حينما تتولى إدارته بنفسك وتنميه لوجه الله عز وجل، ثم هناك المشاريع الاستثمارية التي يقوم عليها بعض الأخيار لصالح الدعوة، وهذا واجب على الدعاة أن يقوموا به، وواجب على الاقتصاديين أن يفكروا جيداً في هذا الأمر ويعملوا له. إن الكثيرين قد يتساءلون عن مثل ذلك، إنها أموال تصرف في أعمال الخير في تجارة، في أرض، في مزرعة، في أي عمل آخر، ويكون هناك مجموعة من الأمناء القائمين على هذا المشروع بحيث يطمئن إلى استمراره وألاّ يكون مرهوناً بحياة إنسان، أو موته، وألاّ يكون فيه مجال لضياع الأموال، أو استغلالها من قبل بعض ضعفاء النفوس، وإن كانت مثل هذه الأمور مما لا ينبغي أن يطال بتفصيلها. وهناك مشروع صناديق الدعوة، وقد يكون هذا الصندوق في المسجد، أو في غرفة الصرف في الدوائر الحكومية، أو حتى في البيت لتبذل فيه المرأة، أو يضع فيه الطفل ما تيسر له، وفي خلال شهر، أو شهور يكون قد اجتمع فيه مبلغ كبير، وينبغي أن تفتح هذه الصناديق أولاً بأول ليأخذ ما فيها، ويمكن أن تفهم صناديق الدعوة بطريقة أشمل من ذلك بحيث تكون على تلك مؤسسة صغيرة لها إدارة، لها دخل ثابت وإيرادات، ولها مصروفات، ولها نشاطات، ولها حسابات. وهناك الزكاة وهي من أعظم مصادر المال وأهميتها، وضرورتها واضحة جداً، فينبغي أن توضع في موضعها المناسب، ولو أن أغنياء المسلمين أخرجوا زكاة أموالهم، لاستغنى المسلمون جميعاً، سواء كانوا من المجاهدين، أو من الفقراء، أو من المحتاجين، أو من الراغبين في الزواج، أو سواه. إن هناك من المسلمين من يملكون أموالاً هائلةً طائلةً زكاتها تدفن فقر المسلمين جميعاً، فلماذا لا يحاسب المسلم نفسه محاسبة الشريك الشحيح؟ بل وحتى يخرج احتياطاً لئلا يدخل شيء من مال الزكاة في ماله الخاص، بل إذا لزم الأمر، فلا مانع من تعجيل الزكاة إذا كان هناك مناسبة، فادع إلى تعجيلها، فقد روى الترمذي وأبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: {أن العباس سأل الرسول صلى الله عليه وسلم تعجيل زكاته قبل أن يحول الحول مسارعة إلى الخير، فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك} والحديث رواه أحمد أيضاً والدارقطني والحاكم، وفي سنده ضعف، ولكن له شواهد. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 47 دعوة للمشاركة الفعلية إني أدعو الجميع إلى المشاركة الفعلية، وأن يكون دعم البرامج الدعوية هدفاً لكل مسلم ذكراً، أو أنثى، مدرساً، أو مدرسةً، موظفاً، أو موظفةً، أو تاجراً، أو عاملاً، أو مزارعاً، أو صانعاً، أو طالباً، أو كبيراً، أو صغيراً، فإن الدعوة هي قضية الأمة كلها، كما إني أدعو الجميع أيضاً إلى الورع عن أخذ المال الذي يشك فيه، أو يظن أنه ليس أهلاً له، أو ليس محتاجاً إليه. فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أن الحسن رضي الله عنه وأرضاه أخذ تمرةً من تمر الصدقة وهو طفل صغير، فوضعها في فمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كخٍ كخ، ارم بها، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة} . وكذلك روى البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بتمرةٍ في الطريق، فقال: لولا أني أخاف أن تكون من الصدقة، لأكلتها} . وثمت حديث آخر أختم به رواه أبو داود والنسائي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار، قال: {أخبرني رجلان أنهما أتيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في حجة الوداع، وهو يقسم الصدقة، فسألاه منها، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم إليها النظر، وخفضه، فرآهما رجلين جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب} . والحديث صحيح، وقد روى أيضاً أبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمر وبلفظ آخر: {لا حظ فيها لغنيٍ، ولا لذي مرة} فإلى أولئك الذين يأخذون الأموال من الصدقات والزكوات وغيرها وهم أغنياء عليهم أن يتقوا الله عز وجل، ولا يأخذوا مالاً لا حق لهم فيه، وسوف أتحدث في حديث أكثر صراحة مع إخواني من شباب الصحوة سواء كانوا طلاباً، أو مدرسين، أو غير ذلك، سوف أتحدث إليهم كما أسلفت في الأسبوع القادم بحديث عنوانه: دلوني على سوق المدينة. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 48 الأسئلة الجزء: 48 ¦ الصفحة: 49 حث للمسلمين على التبرع السؤال ما رأيكم في التبرعات التي تجمع من قبل محطة تلفزيون MBC الشرق الأوسط لمسلمي البوسنة والهرسك؟ الجواب نعم، لقد قاموا بحملة بلغ مجموع ما جمعوا فيها سبعة عشر مليون دولار، يعني: حوالي خمسين مليون ريال سعودي، وذلك خلال أسبوع تقريباً، ويؤسفني أن أقول: إن المذيعين الذين كانوا يطلون على الشاشة، وينادون المسلمين ويتصايحون على أوضاعهم، كان كثيرٌ منهم رجالاً ونساءً هم من الموارنة من النصارى الذين يتباكون على المسلمين وإخوانهم هم الذين قتلوهم. وإنني أقول: إنه حقٌ علينا أن نكون أسرع إنفاقاً، وأكثر صدقة، فسبعة عشر مليون دولار جمعت في أسبوع، فلماذا لا يجمع الخطباء في المساجد أضعاف هذا المبلغ من المحسنين؟ إنني أعجب من محسن يعطي بعض المؤسسات الرسمية مجاملة، ويعطي بعض المجالات، وبعض الجمعيات التي يعلم أنها غير موثوقة، أو بعض الأندية، ثم يتراجع عن أعمال الخير، فإذا جاء العمل في سبيل وجه الله، الذي فيه الأجر، وفيه الثواب، وفيه السعادة في الدنيا والآخرة، وفيه صحة البدن، وفيه صلاح الولد، وفيه الغنى، تراجع، أو لم يعط إلا أقل القليل. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 50 تعليق على منشور نشر في جريدة الوطن الكويتية وهذا عبارة عن منشور نشر في جريدة الوطن الكويتية بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي السابق إلى الكويت، ولا شك أن بعض الإخوة من الكويت يقولون: إننا بحاجة إلى كلمة تلقونها بهذه المناسبة حيث ترون في هذا المنشور ما يندى له الجبين: العنوان: بسم الله الرحمن الرحيم. أهلاً بك يا جورج بوش، يقول: من أعماق أهل الكويت نقول: مرحباً بك يا ضيف الكويت العظيم وصحبك الكريم!! إن شعبنا الوفي على انتظار لتعبير صادق عن عرفانه وامتنانه لك يا جورج بوش وللشعب الأمريكي القدير. فقد كنت يا ضيفنا الكبير رمز شعبك العظيم وبقية الحلفاء الأوفياء والنصير الأول للكويت في محنتها، والمدافع الباسل عن حقها في الحرية والاستقلال. وأنت الذي صنع التحرير، وأعاد البسمة والأمل إلى كل الكويتيين، سيظل اسمك محفوراً في وجداننا، وسيبقى أثرك بيننا مدى الدهر، واحتفاء بهذه المناسبة الكبيرة تدعو اللجنة التحضيرية لجمعيات النفع العام جموع المواطنين والمؤسسات إلى المشاركة والمساهمة في مهرجان الوفاء كل وفق إمكانياته؛ للتعبير عن التقدير. ثم يقول هناك: الإعلانات الترحيبية في وسائل الإعلام أسوة بالمناسبات الوطنية. ثانياً: تشييد وتنصيب الشعارات واللافتات في الشوارع الرئيسية ترحيباً بالضيف الكبير. ثالثاً: تزيين المباني والمنازل والمقار بالأعلام والصور والإضاءة - صور من؟ صور جورج بوش فسوف يصبح وثناً تعلق صوره في الديوانيات والدوائر الحكومية. رابعاً: إعداد الشعارات والملصقات ورسوم الأطفال، واللوحات التعبيرية. خامساً: إرسال البرقيات والرسائل الترحيبية للضيف العظيم وفق ما سيعلن عنه لاحقاً. سادساً: التجمهر في الأماكن التي سيعلن عنها مع الأعلام والصور واللافتات والأطفال. فلنهب جميعاً صغاراً وكباراً شيباً وشباناً لنقدم عرفاننا لهذا الرجل العظيم، ولننشد: مرحباً بك يا جورج بوش على أرض الكويت الحرة. والتعليق على هذا المقال: أن مثل هذا التصرف، ومثل هذا الصنيع، دع عنك الجوانب الشرعية، ودع عنك الأثر العقائدي الذي سوف يحدثه ويحفره في عقول وقلوب الأطفال والصغار والسذج والبسطاء والجهلة، إن مثل هذه الشخصية الكافرة لم تتدخل في الكويت من أجل سواد عيوننا، ولا رغبة في تحريرنا، بل تدخلت من أجل أن يظل النفط يذهب إلى هناك، وتدخلت محافظة للمصالح الأمريكية، وهذا أمر معروف عند الجميع، فأي شيء فعلوه لنا عندما تدخلوا لمصالحهم الخاصة. إنهم ينظرون إلينا ونحن نعمل مثل هذه الأعمال -الصبيانية- ينظرون إلينا على أن هذه هي عقلية الرجل العربي البدوي المتخلف البسيط الساذج المغفل الذي يتصرف مع الأحداث وفق هذه النظرة البسيطة البعيدة عن الواقعية، والبعيدة عن الإدراك. ثم أي مصلحة سياسية لكم في مثل هذا العمل؟! إنكم تعرفون أن أمريكا أعلنت قبل عشرة أيام أن دول الخليج -السعودية والكويت- قد تنكرت للجميل الأمريكي الذي فعلته أمريكا حينما تدخلت في حرب الخليج، وأعلن ذلك من قبل جهات رسمية من قبل وزارة الخارجية في الولايات المتحدة. فهم يريدون منكم ليس أن تستقبلوا هذا الرجل، بل يريدون أن يظل نفطكم واقتصادكم، وأن تظل عملتكم وقفاً على الاقتصاد الأمريكي، يريدون منكم أن تدعموا أمريكا، وأن تحرروا اقتصادها، وأن تسارعوا إلى مد يد العون كلما دعتكم إلى ذلك أسوة باليابان، وأسوة بالدول الأخرى. فإذا قالت لكم أمريكا: ادعموا بوريس يلتسن في روسيا ضد القوميين المتشددين، قلتم: سمعنا وأطعنا. وإذا قالت لكم: ادعموا الشيوعيين الطاجيك ضد الديمقراطيين وضد الإسلاميين، قلتم: هانحن نسارع إلى ذلك، وإذا قالت لكم: ادعموا أي حزب سواء في فرنسا، أو في إسرائيل، أو في غيرها ضد حزب آخر، سارعتم إلى ذلك لتكونوا رهن إشارة المصالح الأمريكية ومراكز القرار في الكونجرس وفي مجلس الشيوخ، وفي غيرها. هذا هو ما يريدونه منكم، أما مثل هذه الصرخات، ومثل هذه التصرفات، ومثل هذه الحركات، فإنها لا تنم عن أكثر من عقلية ساذجة لا تقدم ولا تؤخر. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 51 تعليق على خبر نشر في جريدة تصدر في الأردن وهذا خبر نشر في جريدة تصدر في الأردن اسمها جريدة شيحان، يقول: هل ظهر المسيح في سماء الصومال؟ وقد قال هذا الخبر: لقد ذهب الأمريكان إلى الصومال وبدأت الألاعيب والصرعات التي تحاول التعتيم على الوجود الأمريكي في الصومال، وبدلاً من إغاثة الصوماليين الجياع بأكياس الطحين وما تيسر من أغذية أخذ الأمريكان معهم صرعاتهم المستحدثة بالكمبيوتر والتكنولوجيا المتطورة. ففي الأول من شباط الماضي هبت عاصفة رملية فوق العاصمة مقديشو، لكن هذه العاصفة فوق العاصمة، لم تكن كأي عاصفة أخرى حيث شكلت رمالها في سماء المدينة صورة للسيد المسيح عليه السلام، وهي صورة مطابقة تماماً للصورة التي تتضمنها الكتب الدينية النصرانية. ويبدو أن الصورة التي يفترض في ظهورها إحياء الأمل قد صممت خصيصاً لخدمة عملية إعادة الأمل الأمريكية في الصومال حيث ركع الجنود الأمريكان على الأرض، وبدأ بعضهم بالصلاة والبكاء فور رؤيتهم للصورة. والكثيرون يقولون: إن هذه الصورة نوع من الوهم صنعتها العاصفة، لكن البابا يوحنا بولس الثاني يقول: إن ظهور وجه السيد المسيح- كما يعبر، وهو على كل حال سيد عليه الصلاة والسلام، لكن ليس كما يعتقدون هم، فإنهم يعتقدون أنه رب وإله- يقول: إنه مؤشر له دلالات كثيرة للبشر. وقال أحد العاملين في الفاتيكان: نحن لا ننظر إلى هذا الموضوع باستخفاف، بل نأخذه على محمل الجد تماماً. وكان جندي مارينز أمريكي قد التقط صورة للوجه الذي ظهر في العاصفة ونُشرت الصورة في الصحف الغربية، وظهر واضحاً أن الصورة التي بلغ ارتفاعها حوالي 100 متر هي صورة مطابقاً لوجه السيد المسيح كما يعرفه أبناء النصارى في العالم. وبناءً على الأنباء الواردة من مقديشو، فقد أصدر البابا أمراً بتحري وتقصي الحقائق، وبعد ذلك بدأت الأخبار تتوالى عن معجزات كما يزعمون تحققت في الصومال بعد ظهور الصورة. ومنها على سبيل المثال: شفاء رجل من الروماتيزم، وشفاء رجل آخر من السرطان، أما أغلب الأخبار، فكانت عن رجل ميت استيقظ وعادت له الحياة أثناء الجنازة. ويقول مصدر في الفاتيكان: إن حوالي مائتي معجزة قد حدثت. هذا نموذج على ما يبدو لبداية حملة -ولا يزال الخبر للجريدة تنصيرية جديدة في الصومال، لكن هذه المرة مدعومة بأحدث ما توصلت إليه التكنولوجيا. إن هذه الصورة لا تعدو أن تكون لعبة، فهم حينما وجدت هذه العاصفة عملوا على تسليط بعض الأضواء وبعض الأنوار وتوجيهها إليها، فظهرت معالم هذه الصورة لخداع البسطاء والسذج الذين لا يدرون ماذا وراء الأكمة، ثم بدءوا يروجون مثل تلك الأخبار وتلك الدعايات، ويعطون بعض المرضى أموالاً مقابل أن يعترفوا أنهم كانوا مرضى، ثم شفوا وعوفوا ببركة النصارى الذين ينتشرون هناك. وهذا يؤكد ما هي الأهداف التي يسعى النصارى إلى تحقيقها في الصومال، أو في الخليج، أو في أي مكان من الأرض، وبالتالي هذا يؤكد على أهمية الدور الإسلامي في تنوير عقول المسلمين وحمايتهم من الخداع والتضليل النصراني الذي يستغل جهلهم وبساطتهم، ويستغل فقرهم، ويستغل مرضهم بتحويلهم من مسلمين إلى نصارى. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 52 تعليق على تعميم وزع على مدارس المملكة تعميم: هذا أيضاً عبارة عن تعميم وزع على جميع المدارس الحكومية، بل على جميع المدرسين، وربما لأول مرة، وخلاصة التعميم يتحدث عن موضوع المناهج الدراسية، وينفي ما نقله مجموعة من طلبة العلم والمشايخ، وعلى رأسهم فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي في أحد لقاءاته العلمية عن موضوع تعديل المناهج، ويقول: إن الحديث بتلك الطريقة قد أحدث بلبلة لدى من ينخدعون بالأحاديث المثيرة. وإذا أحسنَّا الظن بهذا المتحدث، فإنه على ما يبدو قد بنى معلوماته على مصادر غير موثوقة، وكان حرياً به أن يتصل بالمسئولين، ثم يقول: أولاً: المرحلة الابتدائية: لقد رأت الوزارة سيراً على سياستها أن في كتب المرحلة الابتدائية ما لا ينسجم مع مفردات المنهج، أو مع مدارك التلاميذ في هذه المرحلة، فقامت بتخفيض دروس بعض الكتب، أو بإعادة كتابتها بطريقة مختصرة خاصة الرياضيات والعلوم والجغرافيا والتاريخ وقواعد اللغة، وبذلك يتضح عدم صحة قول من قال بأن الرياضيات مثلاً قد ضخمت. والرياضيات لا شك أن الجميع يعلمون أنها ضخمة، وكلنا لنا أولاد في المدارس، فنعرف أن الطالب يحمل كتاب الرياضيات تعد صفحاته بالمئات على حين أن المقرر الديني يكون عبارة عن بضع صفحات. وقال في التقرير: لم يتم بعد تخفيض، أو تعديل شيء من كتب المواد الشرعية. وأنا سوف أقتصر في التعليق على هذه النقطة، فإن هذه الكلمة بالذات كلمة أمينة في التقرير، حيث يقول: لم يتم بعد تخفيض أو تعديل شيء من كتب المواد الشرعية، بل اقترح ذلك اقتراحاً، إن الكلام الذي تحدث به الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي كلامه هو عندي وعند الكثيرين ممن يطلعون على حقائق الأمور، ومن مصادر موثوقة أيضاً. لكن نحن جميعاً نعلم أنه فعلاً لم يتم هذا التعديل بعد، ولو تم التعديل لربما لم يكن للحديث كبير فائدة، وربما كان الحديث بعد فوات الأوان، ولذلك سارع الشيخ جزاه الله خيراً إلى سبق الأحداث بذلك الحديث حتى يحول بين هذا التعديل وبين أن يتحول إلى واقع وإلى كتب مطبوعة موزعة، فإن في تلك اللحظة سيصعب التراجع، وسيقال: هذه كتب طبعت، وطبعت بمئات الآلاف، ووزعت على المدارس واستلمها الطلاب، فتعديلها حينئذٍ صعب، وفيه أيضاً نوع من الإرباك، وقد يعطي الآخرين انطباعاً أن السياسة التعليمية غير منضبطة، وأنها مرتجلة إلى غير ذلك من الوسائل والحيل والعلل. إذاً كان هناك تعديل، وكان هناك تخطيط لأن يتم، بل لا أذيعكم سراً إذا قلت: إن الكتب التي جرى عليها التعديل بالقلم موجودة عندي وموجودة عند الشيخ سفر، وموجودة عند بعضكم، وقد تم التعديل عليها على أعلى المستويات في الوزارة، وحذف منها أشياء كثيرة وبعناية، وخفضت بشكل ملفت للأنظار، وحذف منها أشياء من الواضح أنها حذفت مسايرةً للسياسة لسياسة ما يسمى بالتطبيع والسلام مع العدو اليهودي في فلسطين-. بل وفي مقرر التاريخ والجغرافيا حذف أشياء حتى في الكتب المطبوعة التي تتعلق بالجهاد، أو تتعلق بفلسطين، أو تتعلق باغتصاب هذه الدولة وهذه الأرض المباركة من المسلمين على يد اليهود، هذا كله موجود، نعم لم يتحول ذلك بالضرورة إلى كتب مطبوعة، لأن ذلك أمر كان، ما زال خطة يسعى إليها، والحمد لله يعجبني في هذا التقرير أن يقولوا: إنهم ليس لديهم نية للتغيير. فنحن والحمد لله إذاً حصلنا على وعد، وبغض النظر عن أي شيء آخر، فنحن نرجو أن نكون حصلنا على وعد صريح استلمه كل مدرس من الوزارة بأنه ليس هناك أي حذف للمواد الشرعية، فعلينا أن نتمسك بهذا الوعد، وأن نحرص عليه، وأن نتابع الأمور بدقة وعناية، وأن نحرص على محاسبة جهات تعديل المناهج أولاً بأول على وفق الوعد الذي قطعوه على أنفسهم وعمموه وشهدوا به حينما وزعوا مثل هذا التعهد على كل مدرس وكل عامل في الوزارة. هذا هو الذي يهمني، أما أعراضنا، أو أشخاصنا، فلا يضيرنا أن يقول فيها أحد ما قال باجتهاد أو بغير اجتهاد، ونقول: فداء لدين الله عز وجل وشريعته وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنفسنا وأموالنا وأعراضنا وكل غالٍ ورخيصٍ مما نملك. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 53 الأفضل في إنفاق المال السؤال أيهما أفضل: إنفاق المال في الدعوة، أو في إطعام الفقراء؟ الجواب كل ذلك خير، والأفضل هو الأحوج. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 54 حكم بعض العبارات التي يطلقها بعض الناس للتهرب من الإنفاق السؤال ما رأيكم في بعض العبارات التي يطلقها بعض الناس وخاصة بعض من ينسبون إلى الخير عندما تدعوهم إلى الإنفاق، مثل: لا أرغب، أو هناك من هو أحق، أو هناك أولويات، أو التزامات كثيرة، أو المسألة كثرت، خاصة إذا أكثر الصلاة؟ الجواب هذا من الشيطان، فهذا الإنسان الذي يقول هناك أولويات ربما يكون لا يتصدق، أو الالتزامات كثيرة، هذا أيضاً ربما لم يقم ولا بشيء واحد منها، فنحن لا نفترض على الناس بالضرورة أن يتصدقوا عن طريقنا وبواسطتنا، لكننا ندعوهم عموماً إلى الإنفاق. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 55 حكم الإنفاق والصدقة لمن عليه دين السؤال يقول: هل يجب على الذي عليه دين الإنفاق؟ الجواب عليه أن يسعى في سداد دينه أولاً، ثم ينفق مما آتاه الله. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 56 توجيه لدعوة صاحب محل لبيع الأغاني السؤال يقول: تعلمون أن هناك إنساناً فتح محلاً لبيع الآلات الموسيقية والعود في هذا البلد، وقد خطب الشيخ محمد المحيسني عن هذا الموضوع، فأرجو حث الحضور على إنكار هذا المنكر؟ الجواب نعم، هذا مكان موجود في خلف العمارة المعروفة بعمارة البرج، وفيه بيع الأغاني والأشرطة المحرمة وبيع الآلات الموسيقية، فأنصح الإخوة أن يتصلوا بذلك الأخ الذي قام بهذا العمل، ويناصحوه في الله تعالى، ويصبروا عليه، ويوسعوا له الصدر بقدر المستطاع، ويكاثروه حتى يبلغوه النصيحة، فلعل الله تعالى أن يهديه وأن تكون سبباً في هدايته، أو أن يضيق ذرعاً، ثم يقوم ببيع هذا المحل والتخلص منه. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 57 ضرورة التحري عند إعطاء الصدقات والزكاة السؤال يوجد كثير من هيئات الإغاثة بمسميات مختلفة أيها يمكن الثقة بهم لمساهمة الناس بذلك لإيصالها إلى المحتاجين المحسنين الحقيقيين؟ الجواب ينبغي للإنسان أن يتحرى أن يوصل ماله إلى الجهات والمؤسسات والهيئات الإغاثية، والأشخاص الذين يطمئن إليهم ويثق بهم، ويغلب على ظنه وصول المال عن طريقهم. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 58 كيفية تنظيم جمع التبرعات السؤال يقول: تعلمون ما في الشباب من نشاط وحماس لا حدود له، وأحياناً أيضاً لا تنظيم له، فما هو دور الشباب الملتزم، وحتى غير الملتزم في تنظيم الإنفاق وجمعه من الأعيان؛ حتى يكون هذا العمل عملاً جماعياً لا حرياً -بمعنى الحرية-؟ الجواب هذا يمكن تنظيمه عن طريق أئمة المساجد والدعاة المعروفين والمحتسبين، بحيث أن يكون الإنسان إذا أراد جمع المال يجمعه عن طريق أحد الدعاة، أو أحد الخطباء، أو أحد المشايخ المعروفين حيث يكون هناك تفويض له: أولاً: حتى يكون له وجه أمام الناس. وثانياً: حتى يطمئن الناس إلى مثل هذا الإنسان، ويعطوه بعض المال. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 59 وساوس شيطانية السؤال يقول: كنت أنفق مالي ولو كان قليلاً، ولكن يداخلني الشيطان بأني أرجو من وراء هذا الإنفاق جزاء الدنيا العاجل، فهل يثيبني الله عز وجل عليه في الدار الآخرة؟ الجواب عليك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وألاَّ تتردد في الإنفاق، وحاول أن تصحح نيتك وتستعيذ بالله وتقول: {اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} . الجزء: 48 ¦ الصفحة: 60 العطية على شكل مكافأة السؤال يقول: بعض التجار يُعطي عماله في العيد مبالغ على شكل مكافأة ويحسبها زكاة، فهل هذا جائز؟ الجواب أما إن كان هؤلاء العمال فقراء محتاجين، فيجوز لهم أن يعطيهم من الزكاة شريطة ألاَّ يكون عطاؤه من الزكاة حماية لراتبه، أو حماية لماله، أما إن كانوا أغنياء، فلا يجوز. الجزء: 48 ¦ الصفحة: 61 دعاة في البيوت تحدث الشيخ عن أهمية البيوت وحاجة الإنسان إليها واهتمام الإسلام بها، وحرمة الدخول إليها بغير إذن وحرمة النظر إليها، والوصية بالجار، وجعل النافلة فيها، ثم تحدث عن أهمية الدعوة إلى البيوت وأنها أثر للصحوة الإسلامية. ثم تحدث عن ثلاثة واجبات في البيوت وهي: أولاً: القيام بمصالح الأهل وإثبات الشخصية. ثانياً: التوعية والإرشاد والتعليم. ثالثاً: المراقبة والمحاسبة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 1 أهمية البيت في الإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: لقد كنت ألاحظ وأنا في كلية الشريعة وأصول الدين في القصيم، نخبة من الطلاب هم من خيرة الطلاب، لا تفارق البسمة شفاههم، والسرور يبدو على محياهم، والحب يغمر قلوبهم، فكنت أجد هؤلاء الشباب حين أسأل عنهم في كثير من الأحيان من هذه المنطقة المباركة، وكنت أظن هؤلاء نخبة قد اختاروا هذا الطريق، فلما أتيت إلى هذه المنطقة هذا العام، وفي العام الماضي ومن قبله، وجدت أن هذا الأمر الذي لاحظته على أولئك النخبة من الشباب البررة الأخيار الأطهار، وجدته وضعاً عاماً لدى السالكين إلى الله، والمستقيمين على صراطه في هذه الأرض، فهنيئاً لهذه المنطقة بأهلها من المؤمنين الصادقين، المحبين للخير، المجتمعين عليه، الفرحين بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] . أحبتي! هذه المحاضرة عنوانها: (دعاة في البيوت) وأعتقد أن موضوع هذه المحاضرة من أخطر الموضوعات التي يجب أن يتحدث عنها الخطباء والمحاضرون، ويجب أن يستمع إليها الناس من كافة الطبقات، وذلك بسبب أن كل أسرة -في الدنيا كلها- لابد أن يكون لها بيت يئويها، وهذا البيت الذي تأوي إليه الأسرة يحوي جميع شرائح المجتمع، ففيه الأبوان، والأولاد، والصغار من الأطفال، وفيه الذكور وفيه الإناث، فهو عبارة عن مؤسسة متكاملة، وهذه المؤسسة في النهاية: هي التي تكِّون المجتمع الأكبر. ومن جهة أخرى، فإننا نجد أن كثيراً من المجتمعات، قد تفتقد بعض المؤسسات، فهناك مجتمعات -مثلاً- قد لا يوجد فيها مدارس، وهناك مجتمعات أخرى قد لا يوجد فيها أماكن العمل ومؤسسات العمل، وهناك مجتمعات أخرى قد لا تجد فيها الأصدقاء والقرناء، بل هناك مجتمعات كثيرة قد لا يوجد فيها حتى المسجد، وحتى المجتمعات الإسلامية مر عليها وقتٌ من الأوقات لم يكن يوجد فيها مساجد بصورة كافية، ففي مكة -مثلاً- لم يكن يوجد في أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة، إلا المسجد الحرام فقط، وكان تحت قبضة قريش وسطوتها، حتى كان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً محيطة بها، وكان المسلمون لا يستطيعون أن يؤدوا عباداتهم، ولا أن يقرءوا القرآن في ذلك المكان الطاهر الأمين المبارك. لكن البيت، هات لي منذ وجدت الدنيا إلى اليوم مجتمعاً لا توجد فيه البيوت التي تأوي إليها الأسر، بغض النظر عن كون هذا المجتمع مسلماً أو كافراً، غنياً أو فقيراً، كبيراً أو صغيراً، فالأسرة تأوي إلى بيت، والبيت موجود في كل مجتمع. ألا تعتقدون أن مؤسسة بهذا الانتشار، وبهذه السعة، وبهذا الشمول، جديرة وحقيقة منا بأن نخصص لها جزءاً من وقتنا للحديث عنها؟ بلى. نجد أن الإسلام منذ نزل كتابه الأول -القرآن الكريم- نجد أن قضية عناية الإسلام بالبيت كمؤسسة مثلاً، خذ على سبيل المثال بعض التشريعات الإسلامية المتعلقة بالبيت -ليس طبعاً هذا موضع الحديث لكن هذه أمثلة فقط لبيان أهمية البيت في الإسلام-: الجزء: 49 ¦ الصفحة: 2 تحريم دخول البيت إلا بإذن أهله مثلاً تحريم دخول المنزل إلا بإذن أهله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] معنى تستأنسوا: أي تستأذنوا، السلام عليكم، أأدخل؟ السلام عليكم، أأدخل؟ السلام عليكم أأدخل؟ فإن أذن لك وإلا فارجع، فلا يجوز للإنسان أن يدخل بيت أحد إلا بعد الاستئذان، فإن أذن له وإلا رجع، ومن أجل هذا فرض الاستئذان لحماية البيوت، وبيان كرامتها. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 3 تحريم النظر إلى البيوت بل الأمر أشد من ذلك، حتى مجرد النظر حرمه الإسلام، ففي يوم من الأيام، كما في الصحيح: {كان الرسول عليه الصلاة والسلام في غرفته، وكان معه مشط يمشط به رأسه عليه الصلاة والسلام، فنظر رجل من خلل الباب، نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فغضب عليه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال لو علمت أنك تنظر لضربت بها عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر} حتى عندما تجد الباب مفتوحاً، أو النافذة مفتوحة، أو يكون بيتك أرفع من بيت الجيران، يحرم عليك حينئذ أن تنظر في داخل البيت، لأن للبيوت كرامة وحرمه، حتى بمجرد النظر إليها، فإن هذا ممنوع، بل بلغ من عناية الإسلام بهذا الأمر، أنه لو أن إنساناً نظر في بيتك، وتيقنت هذا، ففقأت عينه، فعينه هدر، لا قيمة لها؛ لأنه قد أهدر كرامتها حين استخدمها فيما لا يجوز وما لا يسوغ، وقد سمح لبصره أن يتسلل إلى بيوت الآخرين، لأن بيوت الناس فيها عورات محفوظة مصونة، ومن أجل ذلك وضع الإسلام هذا السياج. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 4 حقوق الجيران قضية الجيران: التشريعات الإسلامية كثيرة في حقوق الجار، والجار هو جارك في المنزل الذي إلى جوارك، فله حقوق حتى قال الرسول عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيح: {مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} إلى هذا الحد كثرت الوصايا بالجار، حتى توقع الرسول عليه السلام أن الأمر يؤول إلى أن الجار سيرث مثلما يرث الأخ والابن، ومثلما يرث الزوج وترث الزوجة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 5 جعل النافلة في البيت ومن ذلك -أيضاً- تجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يأمر أصحابه ويأمر المؤمنين بأن يصلوا في بيوتهم -أحياناً- صلاة النافلة، ففي الصحيحين عن ابن عمر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً} يعني صلّ في البيت، حتى قال عليه الصلاة والسلام، في الحديث الآخر: {أفضل صلاة الرجل في بيته، إلا المكتوبة} فالنوافل يستحب أن يؤديها الإنسان في المنزل لأسباب: أولاً: أنه أبعد عن الرياء. ثانياً: حتى يراك أهل البيت فيقتدون بك في عملك، وعبادتك، كيف تصلي، وكيف تركع، وكيف تسجد. ثالثاً: وحتى تطرد الشياطين عن هذه المنازل؛ بذكر الله تعالى فيها، وإقام الصلاة، فإن هذه البيوت إذا أقيمت فيها الصلاة أصبحت تشبه المساجد، لكن إذا تركت الصلاة فيها، فإنها تصبح كالقبور التي لا تجوز الصلاة فيها، فتشبه القبور من هذه الناحية، فما بالك إذا تحولت البيوت إلى أماكن للفساد وللرذيلة وللانحلال وأصبح فيها قنوات كثيرة، ونوافذ كثيرة، توصل إلى البيت ورياح الفساد، رياح الانحلال، فحينئذٍ تصبح ليست كالقبور، فالقبور ليس فيها هذا، بل تصبح أشبه ما تكون بالمواخير، وأماكن الفساد، وبيوت الحرام. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 6 توجيه الدعوة إلى البيوت إخوتي الكرام: الإسلام جعل للبيوت هذه الكرامة، وهذه المكانة، ومن ذلك وجوب التوجه إلى البيوت بالدعوة إلى الله تعالى، ولو نجحنا في إقناع الناس بالاهتمام ببيوتهم، وتوجيه الدعوة إليها، فإننا سنجد أمراً عجيباً. إخوتي الكرام: إن أكبر دولة، وأقوى دولة، وأغنى دولة، لو أرادت أن تجند دعاة لأي مذهب أو لمبدأ الإسلام أو أي دين آخر، ولو مبدأ آخر، ممكن أن تجند ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف داعية، خذ على سبيل المثال: هذا البلد الذي نحن فيه الآن: لو أردنا تجنيد دعاة على أحسن الأحوال -وهذا أمر أعتبره ضرباً من الخيال لكن جدلاً- ممكن أن تجند ثلاثمائة داعية في هذا البلد، وهذا أمر كلكم توافقون على أنه ضرب من الوهم، لكن لنفرض هذا جدلاً، لكن ما الذي يحدث لو استطعنا أن نقنع كل شاب، وكل إنسان متدين، بأن يقوم بدور الدعوة في منزله؟ الذي يحدث أننا جندنا ألوفاً من الشباب، يقوموا بمهمة الدعوة، فهذا أمر، وهو بدون مرتب -أيضاً- بل أجر من الله تعالى. الأمر الآخر: لو أنك جندت دعاة يستطيعون أن يقتحموا البيوت، فالداعية يخاطب الناس في المسجد، أو في المركز، أو في النادي، لكن لا يستطيع أن يقتحم بيوت الناس ليخاطبهم وهم في قعر بيوتهم، ولو فرض جدلاً أن الداعية استطاع أن يقتحم بيوت الناس، فإنه لا يملك من وسائل التأثير والقوة ما يملكه الشاب، أو تملكه الفتاة في بيتها، ففي البيت أنت عنصر من عناصر تكوين المنزل، فهذا أبوك، وهذه أمك، وهذا أخوك، وهذه أختك، وهذه زوجتك، وهذا طفلك وولدك، فأنت ترتبط معهم بوشائج وروابط من ارتباط العائلة، والأسرة، والنسب، والمعرفة، والتاريخ، قوية وكبيرة تستطيع من خلالها أن تفعل في هذا البيت مالا يستطيع أن يفعله غيرك بحال من الأحوال. إخوتي الكرام: ومن يتصور أن أي مسلم في الدنيا، ينتظر أن يأتي داعية يدخل بيته؛ ليصلح أخته، أو زوجته، أو أمه، أو أباه، هذا لا يتصور بحال من الأحوال. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 7 الصحوة الإسلامية إخوتي الكرام: اليوم -ولله الحمد- نحن نجد إقبال الناس على الإسلام بشكل غريب، منقطع النظير، سرت له قلوب المؤمنين، وفرحت وأشرقت، وأصبح حديثاً على ألسنتهم، كمال قال الأول: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع فنحن كل ما تحدثنا عن قضية الصحوة، والإقبال على الإسلام نفرح؛ لأننا نتكلم عن واقع شاهدناه، نتكلم ونعلن انتصار الإسلام في هذا الزمان على يد أولئك القوم الذين آمنوا بربهم، وزادهم الله تعالى هدى، أما أعداء هذا الدين، وأعداء هذه الصحوة، فهم يتحدثون حديث المسعور: الذي فوجئ بما لم يكن له في حساب، حتى أصبحت مراكز القوة الغربية، تصدر التقارير بعد التقارير عن أخطار هذه الصحوة، وأهمية وكيفية مواجهتها. هذه الصحوة المباركة الكبيرة، لا شك أنك تجد لدى نفوس الكثير من شبابها آمال وتطلعات عريضة كبيرة، أي شاب تجده يقول: أطمع في انتصار الإسلام، وأن ترفع راية الإسلام خفاقة في كل الأرض، وأن يطرد اليهود من فلسطين، ومن أفغانستان، وأن تعود بلاد الإسلام المنكوبة المسلوبة، وأن نسر بتحكيم الإسلام في أنفسنا ودمائنا وأموالنا وأعراضنا، وأن يقوم الإسلام من جديد، كما قام أول مرة، ويكتسح الدول الكافرة، كما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه لا شك آمال، وطموحات، وتطلعات، عزيزة في نفس كل إنسان، ومهما كان الأمر لا تجد مسلماً إلا ويخطر في باله هذا الأمر، حتى كان أحد الشعراء يتكلم على لسان الجميع، حين قال، وهو يرى الظلمات تتكاثف من حول المسلمين: سنصدع هذا الليل يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كل داج وغاسق ونمضي على الأيام عزماً مسدداً ونبلغ ما نرجوه رغم العوائق ونصنع بالإسلام دنياً كريمة وننشر نور الله في كل شارق فهو يتكلم بلسان الجميع. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 8 البيت هو الخطوة الأولى لكن السؤال المهم: ما هي الخطوة الأولى لهذا الهدف الكبير؟ هدف بناء الإسلام، وإقامة الإسلام، ونشر الإسلام في الدنيا كلها، ما هي الخطوة الأولى؟ وهناك مثل صيني يقول: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فما هي الخطوة الواحدة؟ أقول: الخطوة الواحدة، بعد إيجاد الداعية: هي البيت، ومن المؤسف أن تجد بعض الشباب، وبعض الفتيات الذين يطمعون في تغيير الدنيا -كل الدنيا- عاجزين عن تغيير بيوتهم، فمن عجز عن حمل هذه الأمانة القليلة، كيف يستطيع أن يحمل الأمانة العظمى؟ هذا لا يكون. ولذلك نجد أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانت تنفعل نفوسهم بأحلام، وتطلعات انتصار الإسلام، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسلمان، وبلال، وعمار، وصهيب، يوم كانوا في مكة تحت التعذيب، والإيذاء، والتكذيب، والسخرية، كانوا يتوقعون ذلك اليوم الذي ترفع فيه كلمة لا إله إلا الله، ولذلك صبروا وصابروا؛ حتى رزقهم الله تعالى النصر، ومكَّن لهم في الأرض. فكانوا يعرفون أن انتصار الإسلام يمر من خلال بيوتهم، ولذلك خذ أبا بكر -مثلاً- أبو بكر من أولاده؟! أولاد أبي بكر في ضمن قافلة الإسلام، حيث كانوا من المؤمنين بالرسول صلى الله عليه وسلم، والمجاهدين في سبيل الله، وأنتم تعرفون دور أبنائه في قضية الهجرة وبناته أيضاً، وخذ عمر لما أسلم، عمر أولاده من أكبرهم، وأكثرهم شهرة؟ عبد الله بن عمر الذي رُشِّح للخلافة رضي الله عنه بعد عهد الخلفاء الراشدين، وعلي بن أبي طالب أولاده الحسن والحسين، وأمثالهم من المؤمنين الصالحين الذين أراقوا دمائهم طاهرة زكية؛ لترتفع لا إله إلا الله، وخذ الزبير من أولاده؟ عبد الله بن الزبير، وأمثاله من الرجال الصالحين الصادقين الذين تربوا على الإسلام، وضحوا في سبيل الإسلام، وهكذا بقية البيوت -بيوتات الصحابة- كان كل بيت محضن للتربية، كل واحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خرج لنا مجموعة من الشباب المؤمنين المجاهدين، ومن خلال هذه الأعداد التي تخرجت من البيوت تكون جيش الإسلام، وتحقق انتصار الإسلام، وجاء وعد الله تعالى بالنصر والتمكين. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 9 واجباتنا في البيوت أيها الأحبة: ثلاث واجبات أساسية أريد أن أقف عندها هي واجباتنا في البيوت. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 10 المراقبة والمحاسبة الخطوة الثالثة وهي خطيرة جداً، وهي: قضية المراقبة والمحاسبة، مراقبة أهل البيت ومحاسبتهم على الأخطاء، وأذكر أيها الإخوة إنساناً من أحد البلاد العربية، كان عمره ستين سنة، وكانت رتبته وكيل وزارة في بلده، يقول والدي حتى هذا السن يحاسبني على ذهابي وإيابي، فإذا أردت أن أخرج في غير وقت العمل كان يقول لي: -وأنا ابن خمسة وخمسين، أو ستين سنة، وكيل وزارة، كان أبوه يوقفه- ويقول له: إلى أين؟ فيقول: إلى المكان الفلاني، فإذا رجع متأخراً -مثلاً- سأل ما سر التأخر؟ من أين أتيت؟ يقول: كان يحاسبني وأنا بهذا المستوى، وفي هذا الموقع الوظيفي الهام. إذاً القضية ليست مربوطة بسن معين، أبداً. حتى كبير السن ممكن أن يساءل ويناقش، فأب عنده فتاة مزوجة، لا يقول: أنا زوجتها وهي الآن في عنق زوجها وفي ذمته، لا. بل يمكن أن يحاسبها ويسألها، فالرسول عليه الصلاة والسلام في يوم من الأيام، كما في سنن النسائي بسند -إن شاء الله- لا بأس به: {جاء من عند جنازة -دفن رجلاً من الأنصار- فأقبل فوجد ابنته فاطمة رضي الله عنها عند الباب -قابلها عند البيت، وفاطمة متزوجة، وفاطمة رضي الله عنها لا تحتاج إلى كلام، فهي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نساء أهل الجنة- فقال لها: من أين أقبلت؟ -من أين؟ هذا سؤال- قالت: يا رسول الله، أتيت من عند أهل هذا الميت، فعزيتهم بميتهم، قال عليه الصلاة والسلام: لعلك بلغت معهم الكدى -وصلت معهم إلى المقابر- قالت: لا يا رسول الله -معاذ الله- وقد سمعتك تذكر فيما تذكر، لا يمكن أن أذهب للمقبرة، وأنا سمعت الوعيد الشديد على المرأة التي تذهب إلى المقابر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: والله لو بلغت معهم الكدى ما رأيتِ الجنة حتى يراها جد أبيك} وجد أبيها كان كافراً، وهو عبد المطلب فالمهم: من أين أقبلت؟ ومرة أخرى: {جاء الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيت علي بن أبي طالب، ولم يجد علياً -والحديث في الصحيح- فوجد فاطمة، قال لها: أين ابن عمك؟ -أين علي؟ - قالت: يا رسول الله! كان بيني وبينه مغاضبة! مثلما يحدث بين أي رجل وزوجته، وهناك سوء تفاهم -فخرج مغضباً- وكان هذا وقت القيلولة، ولذلك الرسول يسأل أين علي؟ فحسب العادة الإنسان يكون موجوداً فيه في بيته فخرج الرسول عليه السلام يبحث عن علي فوجده مضطجعاً في المسجد، نائماً على جنبه، وقد انحسر الرداء عن جنبه، فنام على التراب، ولصق التراب بظهره وجنبه، فضربه الرسول عليه السلام وقال له: قم يا أبا تراب} فكان علي رضي الله عنه يفرح بهذا اللقب، ويفخر به، لأن الذي سماه به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعجب من ذلك وأغرب، في صحيح مسلم قصة عائشة رضي الله عنها: {في يوم من الأيام دخل الرسول عليه السلام في ليلة عائشة عليها في حجرتها، ووضع ثيابه ووضعت هي ثيابها -يعني يتهيئوا للنوم- ونامت رضي الله عنها ونام النبي صلى الله عليه وسلم إلى جوارها، حتى ظن أنها قد رقدت، فقام بهدوء صلى الله عليه وسلم، ولبس ثيابه ثم خرج -كانت عائشة لم تنم بعد، وإنما تظاهرت بالنوم، فلما رأته خرج، قالت: الآن ذهب إلى بعض أزواجه، أو بعض إمائه، فقامت ولبست ثيابها، وخرجت وراء الرسول عليه الصلاة والسلام -لكن من بعيد تلاحظه، وتمشي وراءه- فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام حتى وصل إلى البقيع، فوقف قليلاً ثم رجع، فلما رأته رجع أسرعت. قالت: فهرول فهرولت، فأحظر فأحظرت، فسبقته فدخلت -دخلت الحجرة- ثم تغطت بلحافها، وأغمضت عينيها -وشخرت وتظاهرت رضي الله عنها بأنها نائمة ومستغرقة في النوم- وجاء الرسول -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- وجلس إلى جوار حبيبته عائشة رضي الله عنها أمنا، فلحظها صلى الله عليه وسلم، ووجد أن نفسها سريع، فهي تتنفس بسرعة شأن الإنسان المتعب، قال: مالي أراك يا عائشة حشي الرابية؟ لماذا صدرك ملآن من الهواء؟ ففتحت عيناها، وقالت: لا شيء يا رسول الله! قال: لتخبرني أو ليخبرني اللطيف الخبير، قالت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، خرجت وراءك، قال: فأنت السواد الذي رأيته أمامي؟ قالت: نعم، فلكزها، قالت رضي الله عنها: فلكزني في صدري لكزة أوجعتني، فضربها، وقال: أخشيت أن يحيف الله عليك ورسوله، قالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله. قال: يا عائشة إن جبريل أتاني حين دخلت، ولم يكن ليدخل عليك، وقد وضعتِ ثيابك، فتكلم لي فخرجت إليه، فقال لي: إن الله تعالى يأمرك أن تستغفر لأهل البقيع، فخرجت واستغفرت لهم} . فانظر مساءلة الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عائشة، لماذا؟ أين كنت؟ ما الذي دفعك إلى الخروج؟ ثم انظر إنه يؤدبها، ويضربها في صدرها ضربة توجعها، لأن مثل هذا العمل لا يكون ولا يصير، ولـ عائشة رضي الله عنها أخبار عجيبة في هذا الباب. والمقصود من هذه القصص، أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحاسب زوجاته، ويحاسب بناته، ويحاسب الآخرين، ويأمر الناس أن يحاسبوا من تحت أيديهم على الحركات، والتصرفات، والذهاب، والإياب، وعلي كل شيء كبيراً كان أو صغيراً فهذا لا يمنع من المحاسبة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 11 التوعية والإرشاد والتعليم الخطوة الثانية وهي ضرورية -أيضاً- وهي: قضية التوعية والإرشاد والتعليم، فالرسول عليه السلام يقول: {الأقربون أولى بالمعروف} ولاشك أن التوعية والإرشاد من المعروف، والرسول عليه الصلاة والسلام وُجِه بقول الله عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فجمعهم {يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، وقال: أنقذوا أنفسكم من النار، لا أغني عنكم من الله شيئاً} فالأقربون أحق وأولى بأن توجه الدعوة إليهم، وغير صحيح أن تدعو البعيد وبيتك نفسه مليء بالمنحرفين والمنحرفات، وألوان الفساد وصوره. فلابد أن تبدأ بالبيت من خلال التوعية، والتوجيه، والتربية، والإرشاد، وفي ذلك صور منها: 1- التعليم: التعليم: اجعل عندك حلقة في التعليم في المنزل، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: {أن بعض النساء جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال -مجالسك كلها عامرة بالرجال- فاجعل لنا يوماً تأتينا فيه فتحدثنا، فواعدهن فقال: موعدكن بيت فلان، فجاء إليهن النبي صلى الله عليه وسلم، ووعظهن وذكرهن، وقال لهن: ما منكن من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد، فتحتسبهم إلا كانوا لها حجاباً من النار، فقالت امرأة: يا رسول الله! واثنان، قال: واثنان} وجاء في رواية أخرى: {أن امرأة قالت: وواحد، قال: وواحد} فالمهم في الحديث أن الرسول عليه السلام خصص للنساء يوماً معلوماً، والبخاري بوب على هذا الحديث: باب من جعل للنساء يوماً على حده، فهذا من ناحية. الناحية الأخرى: أنك تلاحظ في الكلام الذي قاله الرسول عليه الصلاة والسلام أنه تكلم مع النساء، ومع أهل البيت بالأمور التي يحتاجونها، إذن لابد أن تحرص على التوجيه والتربية في البيت، خاصة فيما يحتاجه أهل المنزل، وصور التربية كثيرة، ممكن أن تجعل في البيت مكتبة صغيرة فإذا كان عندك كتب ورسائل صغيرة للنساء والفتيات والأولاد، وعندك قصص للأطفال، وعندك مجلات مفيدة، وعندك بعض الكتب التاريخية، وبعض كتب الوعظ والإرشاد، فتجعلها في مكتبة صغيرة، وفي متناول أهل البيت، هيئ لهم أسباب الخير، وبجوار هذه المكتبة مكتبة أخرى صوتية، ومجموعة من الأشرطة المتعلقة بأهل البيت-مثلاً- فيها أشرطة للصغار وأناشيد وقصص وخطب مؤثرة ومواعظ ومحاضرات وأشياء تتعلق بأحكام العبادات أمور تخص المرأة، واجعلها -أيضاً- في متناول أهل المنزل، واجعل هناك برنامج للاستفادة من هذه المكتبة، ومن تلك الكتب. وفي نفس الوقت، لابد من أمر ثالث، من الضروري أن نفعله جميعاً أيها الإخوة وهو أن يقيم كل واحد منا في البيت درساً، ولو في الأسبوع مرة، إذن الأمر الثالث مع المكتبة الصوتية، ومع المكتبة الصغيرة، هو أن تجعل في البيت جلسة في الأسبوع -جلسة منوعة- للكبار وللصغار وهذه الجلسة تحتوي على، حفظ القرآن، حفظ حديث، مسابقة، شعر، أسئلة، تدريب على بعض العبادات، تنبيه على بعض الأخطاء، ترقيق وتحريك للقلوب، بحيث أنك تستطيع أن تؤثر في أهل البيت، وتعلمهم الضروريات. وكثيراً ما استشهد -أيها الإخوة- بقصة ذكرها لي بعض الشباب، يقول: عنده جدة عجوز كبيرة في السن، فيوم من الأيام -هذا الشاب- يقول: قلت لجدتي، -يقول في الحقيقة: أنا غافل لكن أحببت يوماً من الأيام أن أسأل- فقلت لها: يا جدة، إقرئي عليَّ بعض القرآن حتى أنظر إن كان عندك أخطاء أو لا، قالت: يا ولدي أنا لا أحفظ شيئاً من القرآن إلا سورة واحدة فقط، أقرأها في كل صلاة، والله عفو كريم، قال: إقرئيها، وظن أنها الفاتحة، يقول: فقالت لي: إن لله عباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا إليها فلما علموا أنها ليست لحي وطنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا تقول: والله أنا أحفظ هذه من مطوع من زمان، وأقرأها في كل صلاة، والله غفور رحيم، يا سبحان الله! إن هذا الوضع ليس بغريب، وجاءني شاب آخر حدثني عن زوجته، وقال: إنها لا تصلي، ولما أمرها بالصلاة، قالت له: أول مرة أسمع أن المرأة مطالبة بالصلاة، والذي نفهمه أن الدين للرجال، وما عمرنا سمعنا آية تخاطب النساء ولا حديث ولا عالم، ونحن نعرف أن الصلاة للرجال، والنساء ليس عليهن صلاة، وهذا واقع، وقد أعطيته بعض الأشرطة، وسمعت أنه تحسن حالها، وأصبحت تصلي مع المسلمين، وتصلي في رمضان مع الناس، فهذا واقع. وثالث حدثني عن أخته، وأنه مضى عليها وقت، وهي فتاة لا بأس بسنها، لا أقول: كبيرة لكنها امرأة، لم تكن تعلم بقضية البعث والنشور -لم تعلم- خاصة إذا كانت لم تدرس، ولم تتعلم شيئاً من ذلك، ربما تعرف الصلاة، وتعرف القراءة في الصلاة، وتصلي، لكن قضية بعث ونشور لم تعلم بها. إذاً هذه الجلسة المقترحة في البيت تعطيهم الضروريات من الدين وتفهمهم وتصحح الأخطاء الموجودة عندهم أياً كانوا، للكبار وللمتوسطين وللصغار وللذكور وللإناث، المهم أنها جلسة، ويكون فيها متعة، ويكون فيها طرافة، وفيها جاذبية، ويجعل الإنسان فيها أشياء من شأنها أن تشد الحضور، وتشد أهل البيت إلى الحضور إلى هذه الجلسة. 2- الأمر بالمعروف النهي عن المنكر: القضية الثانية التي من ضمن التعليم والتوجيه والتربية: قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالكلمة وبالإصلاح، وبالوعظ، ولذلك أنتم تعرفون قصة الرسول عليه السلام، كما في الصحيح: {أن الرسول عليه السلام مر على امرأة، وهي تبكي على قبر -تبكي عند قبر- فقال لها: يا هذه اتق الله واصبري، قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فذهب الرسول عليه السلام وتركها، قالوا لها: تعرفين من هذا؟ قالت: لا. قالوا: هذا رسول الله، فأصابها من ذلك هم شديد، وجاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام -فلم تجد عنده بوابين- قالت: يا رسول الله، لم أعرفك، سامحني، قال لها عليه الصلاة والسلام: إنما الصبر عند الصدمة الأول} فأمرها بالمعروف أولاً: بالصبر والتقوى، وأمرها ثانياً: بأنه كان يجب عليها أن تصبر عند الصدمة الأولى، حين سمعت بخبر موت ولدها. ومرة أخرى: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يد ابنتها مسكتان من ذهب -على بنتها ذهب- وهو حديث عمرو بن شعيب وسنده حسن، قال لها عليه الصلاة والسلام: {تؤدين زكاة هذا؟ قالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار؟ فخلعتها وألقتهما، وقالت: هما صدقة لله ولرسوله} . إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم كان يربي أصحابه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث إذا وجد أمراً مما ينكر أو يستنكر نبه عليه، من خلال الوعظ، والإرشاد، والتذكير بالله تعالى، لأن الموقف الآن ليس موقف القوة، واستخدام السلطة، بل الآن نحن في موقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتذكير بالله: {اتق الله، إنما الصبر عند الصدمة الأولى} والوعيد بالنار: {أيسرك أن يسورك الله بهما سوارين من نار} . إذاً نحن مطالبون بأن نحيي قلوب أهل البيت، ونربطها بالخوف من الله تعالى، والطمع في رضوانه وجنته، وهذا أمر مبني على تحريك الإيمان في النفوس. إذاً القضية الثانية هي قضية التربية، والتوجيه، والتوعية، في داخل المنزل، فالآن أمامنا شاب بنى له مكانة جيدة في البيت، فأصبح محترماً، خدوماً، يبذل من وقته لأهل البيت، ثانياً: قام بجهد في التربية، فجعل هناك نشاطاً داخل البيت، تدريس، تعليم، توجيه، إرشاد، فبعد ذلك تأتي الخطوة الثالثة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 12 القيام بمصالح أهل البيت أما الواجب الأول فهو: أن يحرص الشاب الداعية، بل والفتاة على أن يقوموا بمصالح أهل البيت، المصالح والاحتياجات الدنيوية، وذلك من أجل تحقيق مكاسب عديدة في نفس الوقت -فمثلاً- حين يوجد شاب صالح في البيت، لا يتصور أن يصبح هذا الشاب، إما مع مجموعة من زملائه ذاهباً أو آيباً في رحلة، أو في مركز، أو في حلقة علم، أو في مدرسة، وإما أن يكون في عمله الخاص يقرأ في كتاب، أو يحفظ، أو يسمع شريطاً، أو نائماً، وليس له دور في البيت، فمن يشتري الحاجيات، من يذهب بالأهل إلى هنا أو هناك من الأمور التي لا بد لهم منها؟ من يقوم بهذه الوليمة التي عندنا الليلة؟ من يستقبل الضيوف؟ من يودعهم؟ من يستقبل فلان في المطار؟ من يذهب بفلان للمطار؟ هذا الشاب يقول: والله ليس عندي وقت، وأنا مشغول!! فتخلى هذا الشاب عن دوره، وبالتالي جاء دور غيره، جاء دور الشاب المنحرف، فقد يكون هناك شاب آخر أخ له منحرف ينافسه، فأصبح هذا الشاب المنحرف هو الذي يقوم بكل الاحتياجات والمتطلبات، وبالتالي أصبح الشاب المنحرف هو القيم الحقيقي على البيت، وهو الشخصية المؤثرة، وهو الشخص المقبول، فكلامه مؤثر، وأمره نافذ، ونهيه مطاع، لا يعصى له أمر ولا إشارة، لأن له كلمة وله تأثير في البيت، لكن الشاب الطيب ليس له وزن؟ لأنه لا ينفعهم بشيء. وهذا واقع في عدد من البيوت، ولا أقول: إنه ظاهرة موجودة، لا؛ لكنه موجود إلى حد ما في عدد غير قليل من بيوت بعض الشباب الصالحين. وأحياناً: يكون الشاب الصالح ترك البيت ليس لأخ آخر، بل قد يكون تركه للسائق والخادم، فالسائق يذهب بالبنات إلى المدرسة، ويذهب بهن إلى السوق، وقد يجلس معهن في السيارة وفي السوق ساعات طويلة، وإلى المدرسة، ومن المدرسة، وإلى المطار ومن المطار، وإلى آخره، فيكون الشاب ترك حاجيات البيت ومتطلباته، ليس لأخ آخر قد يكون منحرفاً، أو فاسقاً، بل للخادم والسائق، ونحوهم فهذا من الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب الطيبين. 1- أعذار الشباب والفتيات: والذي يتوجب على الشاب أن يصون أهل بيته عن كثرة الذهاب، والإياب، بأن يقوم هو بقسط من هذا الواجب، خذ مثلاً: لهم حاجة في السوق، تذهب أنت لتأتي بهذه الحاجة، غير معقول أن تقول لأخواتك: لا أريد أن تذهبوا إلى السوق فإذا قالوا لك: لكن اذهب أنت لتأتي بحاجياتنا، يقول: لا والله أنا مشغول. فدعونا نحلل كلمة مشغول، فقد جاء إلىَّ أحد الشباب يشتكي إلى أمراً كهذا، فقلت له: بارك الله فيك، اعرض عليَّ وقتك، وما هو برنامجك؟ قال: من الساعة الثامنة إلى الثانية عشرة أجلس للقراءة في الكتب، قلت له: جيد؛ متي تصلي الفجر؟ قال: الساعة الرابعة. قلت: كم بين الساعة الرابعة والساعة الثامنة؟ أربع ساعات، ماذا تصنع بها؟! نائم على فراشك، هذا لا يكون، ليس البيت -بارك الله فيك- فندقاً تأوي إليه؛ لتنام وتأكل وتشرب، ثم تصبح إمبراطوراً يصدر الأوامر هنا وهناك: لا تخرجوا، لا تدخلوا، لا تذهبوا، وتريد أن تطاع، في الوقت الذي لم تقدم أنت فيه البديل الصالح، فإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، ومن ذلك أن تبذل من وقتك وجهدك ما يحقق لأهل البيت متطلباتهم، فتخصص جزءاً من وقتك للذهاب بالأهل إلى بعض الحاجيات، وأن تقوم بنفسك بتلبية بعض المطالب التي يحتاجون إليها، وبعض الشباب يعتبر هذا مضيعة للوقت. ونفس الكلام بالنسبة لبعض الأخوات الطيبات -بعض الفتيات المتدينات- تجد أنها إذا أتيتها في شغل البيت -أعمال البيت التي يحتاج إليها- لا تقوم بها، تقول: أنا والله مشغولة، وأريد أن أقرأ قرآن وأسبح وأهلل وأصلي لله عز وجل، وأحيناً تخرج في الدعوة إلى الله تبارك تعالى، وبالتالي تجد الفتاة تسأل كيف أؤثر في البيت؟! وكيف أعمل؟! البيت فيه تلفاز، وفيه فيديو، وفيه خادمة، وفيه سائق، وتأتي بالسلسلة، ويأتي الشاب -أيضاً- بسلسلة من المنكرات الموجودة في البيت، يتساءل كيف أقضي عليها؟! يا إخوة: القضاء على المنكرات وإصلاح أحوال البيوت، يبدأ أولاً: بأن يبني الشاب، وتبني الفتاة مكانته في المنزل، عن طريق الخدمات التي تقدمها شخصياً لأهل المنزل، فلا تكن صفراً على الشمال، فلا تعرف إلا في حالات معينة، بل أثبت وجودك وشخصيتك، من خلال القيام بالأعمال التي يحتاجون إليها، حتى الأعمال الدنيوية لابد أن تشارك فيها بصورة جيدة. 2- الهروب من واقع البيت: وبعض الشباب -بصراحة- وإذا أردنا أن نضع النقاط على الحروف، يعانون حالة هروب من المنزل، كيف حالة هروب؟! يعاني حالة هروب لأن هذا الشاب لما صحا واستقام وهداه الله عز وجل، وجد البيت مليء بكثيرٍ من المنكرات -كما أسلفت- فوجد أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً، ماذا أفعل؟ حاول ينتزع نفسه من هذا المنزل، أين تذهب بارك الله فيك؟ قال: إلى أفغانستان، وهذا جيد، فالجهاد في أفغانستان من أعظم صور الجهاد التي تحققت للمسلمين في هذا العصر، ويعجبني أن بعض الشباب في سؤال وجهوه لي بالأمس سموها أرض الكرامة، وهذا اسم أطلق على لسان عدد من الدعاة والمصلحين. وفعلاً، هي أرض الكرامة. أفغانستان رفعت رءوسنا عالية، وأفغانستان هي رقم واحد في تقديري في الجهاد الإسلامي، الحقيقي الذي حقق الله تعالى به للمسلمين ما لم يتحقق في غيره، وهذا لا جدال فيه، لكن فرق بين أن أذهب هارباً من وضع أعيشه في المنزل، وبين أن أذهب بطوعي واختياري. أحدهم يقول: عجزت عن أهل البيت، والله أنا أريد أن أخرج من المنزل، وأصدقكم الحديث، وبعض الشباب صارحوني بهذا، حتى إن أحدهم كتب لي رسالة طويلة، ومن ضمن الرسالة يقول لي بالحرف الواحد، بعدما ذكر مشكلة طويلة قال: وأقول لك بصراحة: لقد حاولت الانتحار!! هكذا يقول ولكن بصورة شرعية، كيف؟ حاولت أن أذهب إلى أفغانستان، وأنا لا أوافقه على هذا، فهذه شهادة في سبيل الله إن كتبت له، وقتل مقبلاً غير مدبر، وكانت نيته صالحة، فلا شك أنها -إن شاء الله- شهادة، نرجو له بها الخير والنجاة عند الله تعالى يوم القيامة، ونسأل الله أن يكتب للمسلمين في أفغانستان وغيرها النصر. لسنا مع مثل هذا الشاب، لكن أنا أحدثكم عن مشاعر بعض هؤلاء الشباب، ولذلك ربما بعضهم، عندما يذهب إلى هناك لا يقوم بالواجب المنتظر منه، لأنه لم يكن يقصد فعلاً أن يحقق للإسلام نصراً، وأن يشارك في الجهاد، وإنما كان قصده أن ينتزع نفسه من بيت لا يطيق البقاء فيه، وبعضهم قد يهرب بصورة أخرى، فينتقل ليدرس في بلد آخر، أو ينتقل ليسكن في بيت آخر، أو ما أشبه ذلك، والمهم أن بعض الشباب يعيشون حالة هروب -مما يدلك على أنه فعلاً مجرد هارب من البيت- وأنك قد تجد بعض الشباب يذهبون إلى أماكن كثيرة، بدون إذن أبويهم، بما في ذلك الذهاب للجهاد، وينسون حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الصحيح: {أحي والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد} والرجل الآخر كما في الحديث الصحيح أيضاً لما جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: {ألك أم؟ قال: نعم. قال: الزم قدمها فثم الجنة} فإذا كنا نريد الجنة، فمن أقرب الطرق إلى الجنة أن تلزم قدم الأم، ولذلك من القصص العجيبة -القصة ربما تعرفونها- رجل كان في عهد عمر رضي الله عنه خرج إلى الجهاد وترك والديه، وما كان لهم غيره، فخرج في الغزو، فكان أبوه يبكي الليل والنهار على ولده، وكان اسم الولد كِلاب، فكان يبكي الليل والنهار، ويقول: ألا من مبلغ عني كلابا كتاب الله لو عقل الكتابا تركت أباك مرعشة يداه وأمك لا تسيغ لها شرابا فكان عمر يسمعه مرة بعد أخرى، وفي أحد المرات هذا الرجل بدأ يتكلم على عمر نفسه ويقول: سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساط يعني سوف أشكو عمر إلى الله تعالى، لأنه كان سبباً في ذهاب ولدي مع الجيش، فدعاه عمر وهو يبكي، فقال له: ماذا؟ قال: ولدي خرج في الغزو وتركني كما ترى، فأرسل إليه عمر أن يأتي، ولما جاء هذا الشاب قدمه عمر لوالده، فبدأ الأب يشمه ويقبله ويبكي، فشاركهما عمر في البكاء رضي الله عنه وأرضاه، وقال له: لا تخرج من عند والديك ما داما حيين، ولا تخرج من المدينة ماداما حيين. إذاً: قضية الجهاد التي هي ذروة سنام الإسلام، الأصل أنها مرتبطة بأن يستأذن الإنسان من والديه، فإن لم يأذنا له فيحرم عليه الخروج، اللهم إلا في حالة واحدة فقط لا غير، وهي ما لو كان العدو على أطراف المدينة، وقيل: والله إذا لم تحرج أنت سوف يقتحم العدو المدينة، ويقتلك ويقتل والديك، فهنا نقول: اخرج ولو بدون إذنهم، أما حين يكون العدو بعيداً، فحتى لو كان الجهاد فرض عين، أرى أنه لا يمكن إلا أن يستأذن الأبوان في ذلك. وعلى كل حال القضية أن الإنسان أحياناً يعجز عن المجاهدة القريبة، ومن عجز عن مجاهدة الموقع القريب، فمن باب أولى أنه يعجز عن مجاهدة الموقع البعيد، فمن عجز أن يقوم بواجبه في المنزل، فهو أن يقوم بواجبه على مستوى الأمة الإسلامية كلها أعجز وأعجز. إذاً الواجب الأول باختصار: أن يثبت الشاب لنفسه شخصية، من خلال القيام باحتياجات الأهل، ويحرص على أن يبقى في المنزل مهما كانت العقبات والظروف، ويجاهد كما سيأتي بقدر المستطاع. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 13 أجهزة ووسائل تحيط بالبيت إخوتي الكرام: البيت اليوم تحيط به -في داخله، أو في خارجه- أجهزة ووسائل عديدة، تتطلب أن نلقي نظرة ولو سريعة عليها، وخذوا بعض الأمثلة، ولو كنت لا أستطيع أن أحيط بكل شيء. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 14 الهاتف جهاز ثالث، وهو من الخطورة بمكان وهو: قضية الهاتف، أي بيت اليوم، بل أي غرفة في بيت لا تخلو من هذا الهاتف، فكيف يستخدم هذا الهاتف؟ المؤسف -أيها الإخوة- أن عدداً ممن لا يخافون من الله عز وجل، قد يستخدمون هذا الهاتف بصورة سيئة، وليس سراً أن نقول: إن كل جريمة وأقول هذا الكلام من واقع معرفة ومن واقع سماع من بعض الإخوة العاملين في هذه المجالات -أن كل جريمة في المجتمع، فالهاتف وسيط فيها، في أحد مراحلها إما في البداية وإما في الوسط، أو في النهاية، وكل لقاء بين اثنين كان بدايته الهاتف، وكيف تم الأمر؟! الأمر في ذلك بسيط، شاب يعبث في الأرقام، ويتصل -أحياناً- يجد فتاة مثله ليس له ولا لها هدف، والهدف من ذلك هو قضاء وقت الفراغ، وهذه هي البداية، ولا يزال الأمر يتدرج من التسلية وقضاء وقت الفراغ، إلى اللقاء، وإلى معرفة الاسم، وإلى اللقاء مرة أخرى، إلى ارتكاب الحرام، كما قال الأول: نظرة فابتسامة فسلام فكلام فموعد فلقاء سلسلة يجر بعضها بعض. أحياناً قد يكون الشاب يعرف البيت لأنه بيت صديق، وأحد زملائه في هذا البيت، ويعرف أن في هذا البيت أخوات لصديقه، فيقوم يتصل أين فلان؟ فيقولون: غير موجود، فيقول: قولوا له فلان اتصل بك، وقد يعطي اسماً غير صحيح حتى يوجد نوعاً من الطمأنينة عند من يكلمهم، وبعد ذلك يتدرج في الحديث، متى يأتي؟ أين ذهب؟ ويسأل عن بعض أموره الخاصة، حتى يوجد أرضية مناسبة. وأقول لكم: أنا مطلع على بعض الأشياء من هذا القبيل، ورأيتها بعيني وأوقفت عليها بنفسي، ومن خلال تدرج وخداع، ولم يكن الأمر مقصوداً من الطرفين، لكن أحياناً يصل إلى نهاية بائسة، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فالهاتف من أخطر الأجهزة، وبعض الناس يقول لك: أنا ليس أمامي إلا أن أضع جهاز تصنت، وأشتري المسجل الذي يباع ويسجل المكالمات، بمجرد ما ترفع السماعة يتحرك جهاز التسجيل، فيقول أتصنت على المكالمات، وأنا لا أقول: إن هذا غير صحيح، لكن يمكن أن تستخدمه في وقت الحاجة، إذا وجد عندك قرائن قوية على أن هناك أمراً يدار في الخفاء، أما الأصل فليس كذلك، فالأصل هو أن تحرص على التربية والتوجيه، وعلى أن تراقب الجهاز مراقبة صحيحة، وعلى توجيه الإخوة والأخوات إلى الخطر الذي يداهمهم من خلال سوء استخدام هذا الجهاز. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 15 السوق ومن الوسائل التي أصبحت تساهم في ذلك: قضية السوق، واليوم أصبحت أسواقنا عامرة بكثير ممن يرتادونها من الفتيات، والبنين، والشباب، والرجال، وكثير من البيوت -مع الأسف- التي يوجد فيها عناصر صالحة، تجد أن المرأة سواء أكانت زوجة، أو أختاً، تذهب إلى السوق، وتطيل البقاء فيه، وتذهب اليوم لشراء حاجة، وتذهب غداً لتردها، وتذهب بعد غد لتشتري لبنت الجيران مثلها، وتذهب في اليوم الرابع لتشتري لصديقتها مثلها، وتذهب في اليوم الخامس، حتى أصبح الذهاب ديدناً وعادةً لا تستطيع أن تتخلى عنه، مع من تذهب؟! مع السائق، وقد تجلس في السوق ساعات طويلة، لا يدري صاحب البيت أين كان هذا الذهاب، هل كان فعلاً للسوق أم لغير السوق؟! ونحن نفترض السلامة في كثير من الحالات، لكن نضع -أيضاً- احتمال وجود حالات ليست كذلك، ولا يمكن أن تؤخذ على ظاهرها، فلابد من أن يضع الإنسان حماية، فأنا عندما أجد تردداً للسوق، فأولاً: ينبغي أن أباشر هذا العمل بنفسي، فإذا كان أهل البيت يجتاجون شيئاً آتي به، وإذا لم أستطع أذهب معهم، ولا مانع أن أضحي بالوقت من أجل الحفاظ، يا أخي حتى -والله- لو كانت بنتي، أو أختي، أو زوجتي أحميها حتى من النظرة الخاطفة النهمة المسعورة، حتى النظرة، ومن هو الذي لا ينظر؟ أحميها من الكلمة العابثة، حتى لو لم تستجب لها وما التفتت إليها، وأحميها من اليد الطائشة، أحميها من الذئاب المسعورة. وفي الواقع لو اطلع الإنسان -أحياناً- على بعض القضايا، وبعض الأعمال، وبعض الناس الذين تركوا البيع والشراء في هذه الأسواق، يقولون لي: لا يبيع ويشتري في أسواق النساء إلا مفتون، وهم يعممون هذا الكلام من واقع أنهم وجدوا واقعاً معيناً، ورأوا بأعينهم، ونحن لا نوافقهم على هذا التعميم ولاشك، لكنا نقول: ينبغي أن نضع في الاعتبار أن الإنسان بشر من لحم ومن دم، وإذا كان الإنسان الطيب الخير -أحياناً- قد يفتن، فما بالك بالإنسان الذي ليس كذلك، وليس عنده رادع قوي من إيمانه، ويرى المناظر والمشاهد صباحاً ومساءً، وقد يجد فئاة متطيبة، أو متبرجة، أو متزينة، تجذبه صورتها بأي شكل من الأشكال، فهنا الفتنة ممكنة وقريبة، فينبغي للإنسان أن يحرص على حماية أهل بيته من خلال مراقبة هذه الأجهزة، وغيرها من الأجهزة المؤثرة في المنزل. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 16 المدرسة المدرسة -مثلاً- فهذه فتاة تدرس في المدرسة، معنى ذلك أن البيت لا ينفرد بها، فهناك وسيلة أخرى، ومؤسسة أخرى، وهي المدرسة، من التي تدرسها في المدرسة؟ ماذا تتلقى؟ وما هو تأثير المدرسة عليها؟ فهذا أمر أنت لا تستطيع أن تعرفه إلا من خلال أن تفتح عينيك. فانظر ماذا ترجع به هذه الفتاة من المدرسة، هل ترجع بعلم صحيح، وبأخلاق عالية، وبخوف من الله، بدين، بإيمان، بيقظة، أم أنها تنقص يوماً بعد يوم؟ فمن غير المناسب، أن يُلقي الإنسان بفلذة كبده إلى مدرسة، ويقول: والله أنا وضعتها في أيدي أمينة، بل تأكد أن هذه الأيدي أمينة -فعلاً- قبل أن تطمئن إليها اطمئناناً كاملاً، وحتى حين تطمئن إليها لا تتخلى عن دورك أنت، فدورك مكمل لدور المدرسة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 17 الأصدقاء والصديقات أمر آخر، قضية الصديقات لهذه البنت، لها مجموعة صديقات في المدرسة وفي غيرها، وقد يحصل بينهن لقاءات، وفي بعض المدارس -كما علمت ذلك واطلعت عليه، وتأكدت منه- بل في أكثر المدارس يوجد نوع من الشلل، مجموعة فتيات، خمس أو عشر أقل أو أكثر، بينهن روابط عميقة، واتصالات دائمة، تناول الفطور -مثلاً- في الفسخ، في الدراسة، في المزح، في المخاطبات، في المراسلات مشتركة بين هذه المجموعة، قد تكون فتيات طيبات، وهذا -ولله الحمد- كثير ولا غبار عليه، لكن الذي أُحذِّر منه هو الأمر الآخر، قد تكون هذه المجموعة مجتمعة على قيادة فتاة غير مستقيمة فتجرهن إلى الهاوية. ويؤسفني -أيها الأحبة- أن أقول لكم: قد اطلعت بنفسي على أوراق مكتوبة من قبل هذه الفتيات، والله يندى لها الجبين، ولا يتصور إنسان -لم يكن يخطر في بالي وعقلي- أن فتيات في سن المرحلة المتوسطة يفكرن هذا التفكير، أو يصلن إلى هذا المستوى، لكن إذا وجد الإنسان ذلك ورآه بعينه، بدأ يفكر عن الأسباب، فتذكر أموراً كثيرة، والمقصود أن (90%) من هؤلاء الفتيات عندهن بساطة، وعلى الفطرة، وفيهن غرارة، وطيبة قلب، وسذاجة، وسماحة، لكن توجد واحدة يكون فيها شر، وفيها قوة شخصية، فتكون قائدة فتجر هذه المجموعة من الفتيات إلى المهاوي. ونفس الكلام يقال بالنسبة للشباب في مدارسهم، فيجرهم ذلك إلى الوقوع في الانحرافات، وتعاطي المخدرات، وعلى أقل تقدير: التدخين والفساد وترك الصلاة والسهر على الأرصفة، إلى غير ذلك من الصور والأشياء التي أنتم خبيرون بها. إذاً الأصدقاء من الأشياء التي ينبغي للإنسان أن يراقبها جيداً، فيعرف من الأصدقاء الذين يذهب معهم ولده، ومن الصديقات اللآتي ترتبط بهن بنته. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 18 خلاصة ما سبق إذاً أختم هذه المحاضرة بتلخيص لما ذكرته. البيت مهم، لو نجحنا في تجنيد الشباب ليكونوا دعاة في البيوت، لنجحنا في تجنيد ألوف مؤلفة، يستطيعون أن يدخلوا إلى أعماق البيوت، ويؤثروا فيها من الشباب ومن الفتيات. وسائل التغيير والإصلاح في المنزل: أولاً: أن يكون للشاب والفتاة شخصية قوية من خلال الخدمات، والإصلاحات، والمشاركات. ثانياً: من خلال قنوات التوجيه، والتوعية، والإرشاد، والتعليم. ثالثاً: من خلال الرقابة الصحيحة على المنزل وعلى من فيه. وأسأل الله عز وجل أن تكون هذه الكلمة أو المحاضرة، سبيلاً إلى أن يقف كل شاب منا ليؤدي الدور المطلوب منه من خلالها، فلا شك أنكم تعرفون أن المقصود من هذا الكلام هو أن نحققه عملياً، خاصة وأنتم تدركون أن البيوت اليوم لا أستبعد صحة أن نقول: إن كل بيت اليوم، فيه مؤامرة تدار بشكل أو بآخر، وكما قال الشاعر: مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماً من تراب فالمغني الذي يطل على بيتك، والراقصة، والمتحدث، والشريط، والكتاب، وديوان الشعر، والصورة، والمجلة، كلها وسائل تشترك في هذه المؤامرة التي تدار في جميع بيوتنا إلا ما رحم الله. فأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لأن نكون قائمين على بيوتنا كما يجب، مصلحين فيها، محققين للأمانة التي حملنا الله تبارك وتعالى إياها. وأستغفر الله تعالى لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده، ورسوله بنينا محمد وعلى آله، وأصحابه أجمعين. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 49 ¦ الصفحة: 20 حكم حضور حفلات الزواج السؤال ما حكم حضور حفلات الزواج لأننا نشعر بالخجل من ردهم، لأنهم من الجيران؟ الجواب هذه من القضايا فأحياناً شاب داعية، لا يحضر حفلة الزواج، ويريد أن يدعو ويغير الدنيا، فاحضر حفلة الزواج إلا إذا كان في حفلة الزواج منكر محرم لا تستطيع تغيره، أما إذا لم يكن فيها منكر ظاهر، والزواج يباح فيه الدف الذي يضرب من جهة واحدة إذا كان في وسط النساء، وليس فيه أشرطة أغاني مسجلة، أو الميكرفونات التي تذيع وما أشبه ذلك، فلا بأس أن يحضر الإنسان حينئذٍ، ولم يكن فيه تصوير، ولا غير ذلك من الاختلاط، والمنكرات، فيحضر، أو كان فيه منكر يستطيع أن يغيره، أو يقلل منه بقدر ما يستطيع فيحضر أيضاً، ويحرص ويحاول أن يكون له دور. وهذا مثال -أيها الإخوة- افترض أن هناك زواجاً عند الجيران أو عند بعض الأقرباء، فأنت قمت بدور كبير في موضوع الزواج، ذهبت وأتيت بعقود الكهرباء والمصابيح، وأتيت بالفرش، ووزعت الدعوات، وجهزت المكان، ثم شاركت في إعداد أمور كثيرة، ألا تعتقد حينئذ أنك لما تقول لهم: لا نريد الأغاني، أن يقولوا لك: سمعنا وأطعنا، لأنهم يقولون: نستحي منك، لأنك إنسان صنع لنا معروفاً، واشتغل معنا الأيام السابقة، فصعب أننا نخالف أمره، فتجد حينئذٍ عندما تأمر وتنهى أن لك موقعاً، ولك مقام يؤثر، أما حين تكون إنساناً أجنبياً، أول مرة تحضر، وفي طرف المجلس، فقد لا يقبلون منك، ونحن بحاجة إلى أن نهيئ الناس لقبول دعوتنا، والاستجابة لأوامرنا. وصلى الله على محمد وعلى آل محمد وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 21 الجهاد الأفغاني السؤال هذه أسئلة عن أفغانستان يقول: الجهاد في أفغانستان، وفي الفلبين، وفي فلسطين قبلة المسلمين الأولى فرض عين -الأخ أفتى بأنه فرض عين، وهذا حسب وجهة نظره- لأنه لا يزال العدو في بلاد المسلمين، وبذلك يجب على كل مسلم أن يخرج للجهاد دون إذن أبيه أو أمه، وهذا فيه إجابة لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وهذه فتوى الشيخ عبد العزيز بن باز؟ الجواب هذا الأخ وَهِمَ، فهذه ليست فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ولا غيره من علمائنا، بل علماؤنا في المملكة خاصة -حسب ما أعلم- متفقون على أنه لا يجوز الخروج للجهاد في أفغانستان، ولا في غيرها من بلاد المسلمين الآن، إلا بإذن الأبوين، وهذه فتوى ثابتة عنهم ومكتوبة في أوراق ومسموعة في أشرطة، وسمعتها منهم مشافهة أيضاً. أما مسألة أن الجهاد فرض عين، فهذه كلمة يجب التفصيل فيها، وأنا مع الأخ أن الجهاد فرض عين، لكن ما هو الجهاد الذي هو فرض عين؟ الجهاد بالاصطلاح الشرعي ففرض عين، فرض عين أن تجاهد نفسك في ذات الله تعالى، والمجاهد، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله} والمشاركة في الجهاد بأي صورة من الصور، مساعدة المسلمين، إعانتهم بالمال، والدعاء، بتبني قضيتهم إعلامياً، بالدفاع عنهم، بالمساعدة بالنفس، إن كنت تغني عنهم، هذا كله صحيح. ولذلك أقول أيها الإخوة: طبيب يريد أن يذهب للتمريض حبذا وحيَّ هلا، وينبغي أن يذهب عاجلاً، غير آجل. وإنسان خبير عسكري، يقول: أستطيع أن أنظم صفوف المجاهدين وأنفعهم، وربما أقوم بما لا يقوم به غيري، نقول له: هلم الليلة قبل الغد، داعية، معلم، طالب علم يقول: أريد أن أنشر بينهم الخير، والعلم، والاستقامة، والصلاح، وأصحح الأخطاء الموجودة عندهم، نقول: هلم الآن قبل فوات الأوان. لكن شاب قد لا يغني وقد لا ينفع، نقول: هل هناك فعلاً حاجه إليك أنت شخصياً في الجهاد؟! لا أعتقد أن هناك حاجة له، بل بالعكس أنا سمعت شفهياً من عدد من قادة الجهاد، أنهم يحتاجون إلى المال أكثر مما يحتاجون إلى الرجال، ويمكن قيمة التذكرة التي سوف تسافر بها تنفع أكثر، وأنت اجلس جاهد في موقعك، لأن الجهاد كما قال الأخ السائل: في جميع بلاد المسلمين، وهذه من بلاد المسلمين، وهناك بلاد للمسلمين كثيرة فيها لا أقول: كفار، بل فيها منافقون، يحاولون هدم الإسلام، ويحاولون تخريب البيوت، ويحاولون تلويث البيئة، ونشر الفساد، فهل ننتظر في كل بلد إسلامي حتى يحتله العدو، ويصبح مثل أفغانستان ثم نجاهد، لماذا لا نجاهد بالحماية وبالوقاية؟ وقاية بلاد المسلمين من أذى الأعداء الظاهرين، والمستترين، خاصة جهاد المنافقين، فحين نقول: الجهاد فرض عين، أقول: صحيح، لكن الجهاد بشكل أعم جهاد النفس، جهاد الكفار، جهاد المنافقين، هذا يعني في المجمل هو فرض عين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] . بل إن جهاد المنافقين -أحياناً- قد يكون أعظم وأخطر من جهاد الكفار، لأنه عدو مستتر يحتاج إلى قوة، ومقاومة، وكشف، وتعرية، أما الجهاد في أفغانستان، وفي الفلبين، وفي فلسطين، فنحمد الله تعالى، أن في هذه المواقع وفي غيرها رايات إسلامية مرفوعة، نعتقد -إن شاء الله- أنها رايات صادقة، ففي أفغانستان عدد من الأحزاب الإسلامية الموثوقة، وفي فلسطين عدد من الجهات الإسلامية، وفي الفلبين كذلك جهات إسلامية صادقة موثوقة، تتبنى الجهاد في سبيل الله، وتحيي ما اندرس من أمر الإسلام، لأن الناس يوماً من الأيام، كادوا أن ينسوا هذه الفريضة الغائبة والشعيرة العظيمة، فلما قام الجهاد في هذه المواقع ألهبت الحماس في نفوس المسلمين، وحركت الهمم، وبينت للناس أن الجهاد كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام: {الجهاد ماض إلى يوم القيامة} ولا يمكن أن يتوقف بحال من الأحوال، فجددوا ما اندرس من أمر هذا الدين، وأحيوا في نفوس المسلمين أهمية هذه الشعيرة، والشريعة، والفريضة، وكفاهم ذلك فخراً. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 22 جهاد الأعداء السؤال قلت إن الجهاد يكون بدون استئذان من الوالدين عندما يكون العدو في أطراف المدينة، فإذا كان المجاهدين يقاتلون العدو لمدة عشر سنوات، ولم يستطيعوا حتى الآن إقامة حكم الإسلام، فهل ننتظر أن يقوم أعداء الله باحتلال دول المسلمين دولة دولة، حتى يصلوا إلى المدينة التي أنا فيها، ليجدوها لقمة سهلة للقضاء عليها؟ الجواب أخشى أن هذا الذي يقع، إذا قلنا للناس: هاجروا إلى مكان كذا، فلو قلنا للشباب: هاجروا إلى أفغانستان، معناه: أنَّا وضعنا البيض -كما يقول المثل-: في سلة واحدة، فلو فرض أنه لم تنجح قضية المسلمين في أفغانستان، معناه أن بلاد المسلمين كلها صارت مجالاً مفتوحاً، فعندنا باب واحد انكسر ساح العدو إلى نهاية المطاف، لكن نحن نقول: لا. ضعوا أسواراً خلف أسوارٍ خلف أسوار، والعدو قوي أكثر مما نتصور، ومستميت أكثر مما نتصور، وموحد أكثر مما نتصور، ومخطط أكثر مما نتصور، ولذلك ضعوا أسواراً بعد أسوار بعد أسوار، واجعلوا الجهاد في كل بلد إسلامي، ولنعلم أن كل بلاد المسلمين مستهدفة، من عدو ظاهر أو مستتر كما ذكرت، فليس صحيحاً أن نفكر ونجعل في بؤرة الشعور عندنا موقع، وننسى مواقع أخرى، وأستغرب أن بعض الإخوة قد ينسون حتى الفلبين الآن، الفلبين -ممكن تذكر الأسئلة- لكن قل من يذهب إليها، فلسطين كذلك، خاصة في موضوع المساعدة والدعم المادي، ليس هناك مساعدة بدرجة كافية، صحيح أن أفغانستان لها ميزة، ميزتها أنها بلد مفتوح، بإمكان أي إنسان أن يذهب، والميزة الثانية: أن فيها راية إسلامية صافية ولله الحمد إلى حد بعيد، وقيادات جهادية موثوقة، فلذلك أقبل الناس عليها، ونحن ممن يشجع على ذلك على سبيل الإجمال، لكن بالصورة التي ذكرتها في إجابة السؤال السابق. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 23 أفضل أماكن الجهاد السؤال هذا يذكر ويقول: إني أحبك في الله، وأتابع محاضراتك عن طريق الأشرطة، زادنا الله وإياك علماً، ثم يقول: أزمعت الرحيل إلى أرض الجهاد برضى والدي، فأي الجهاد تنصحونني أن أنضم إليه هناك؟ الجواب في الواقع -إن شاء الله- أن هناك جهات عديدة كلها فيها خير وفيها بركة، ولا أستطيع أن أذكر لك جهة دون أخرى، فإن عدداً من الجهات الإسلامية -حسب ما وصلني من معلومات- موثوقة، يقوم عليها أناس -إن شاء الله- صالحون، وفيهم خير، وفيهم إيمان، وفيهم استقامة، وإن كان بعضها قد يفضل بعض من نواحي، فبعض الجهات قد تكون أصفى عقيدة، وأسلم منهجاً، وبعضها قد تكون أقوى تنظيماً وأدق وأبلغ نكاية في العدو، وبعضها قد تكون أنشط في مجال الدعوة إلى الله، لكل وجهة هو موليها، وفي كل خير، ونسأل الله تعال أن يرزقنا وإياك الشهادة في سبيله. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 24 عتاب للرجال من النساء السؤال هذه أسئلة من النساء تقول: كلمة للأزواج الذين ينشغلون عن زوجاتهم وأولادهم في الدعوة؟ الجواب وهذه مشكلة أيها الإخوة -كما أسلفت إليها- ربما تجد زوجة الواحد منا عليها نواقص كثيرة، في ملبسها، وفي علمها، وفي فهمها، وفي يقينها، وفي إيمانها، لأن الزوج مشغول، وفي الواقع أن للزوجة لشغلاً، فينبغي للإنسان أن يشتغل بأهله، مثلما يشتغل بغيرهم، يدعوهم إلى الله، يصلحهم، يعلمهم، يبين لهم ما يجب عليهم، وأنصح الأزواج أن يلتفتوا إلى زوجاتهم، ويجعلوا للزوجة -كما أسلفت- درس أسبوعي على الأقل، حفظ سورة من كتاب الله، حديث، شرح الحديث، مناقشة، بيان بعض الأحكام الشرعية. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 25 منكرات الأسواق السؤال أذهب إلى سوق النساء لحاجة هامة جداً، وقد تكون في الشهور العديدة مرة واحدة، وذلك لأنني أجد من المنكر ما يعلم به الله، فإذا ذهبت إلى هناك أتألم جداً لذلك المنكر الذي لا أستطيع أن أغير منه إلا اليسير، وقد أجد صعوبة لكثرته بين النساء والباعة هناك، فما هو المطلوب! هل أجعل إنكاري في القلب أم ماذا؟ وهل أحاسب على ما أجد، مما لا أستطيع فعله وتغييره، وما هو دورنا إزاء ذلك؟ الجواب بطبيعة الحال الأخت لم تذهب لتنكر، إنما ذهبت لقضاء حاجتها، ولو وقفت عند كل منكر ما استطاعت أن تقضي حاجة، لأن المنكرات كثيرة لا أقول: بعدد الأشخاص؛ بل تجد على الشخص الواحد عدة منكرات، فبعض المنكرات الظاهرة المعتادة بين الناس لا يلزم الأخت أن تغيرها، مادام لها غرض معين محدد تريد أن تقضيه، وتعود إلى منزلها، لكن لو رأت منكراًَ ظاهراً مستغرباً مثل رجل يخاطب امرأة بكلام لا يليق، أو امرأة بالغت في التبرج بصورة غير مألوفة، أو ما أشبه ذلك من المنكرات الشاذة، التي ينفرد بها أفراد رجال أو نساء، فحينئذٍ عليها أن تقوم بواجبها تجاه هذا المنكر، وكذلك إن استطاعت أن تغير بعض المنكرات القليلة بما لا يؤثر عليها، مثل: امرأة جلست بجوارها، فأعطتها كتاباً أو شريطاً، ونصحتها، وقالت لها كلمة طيبة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 26 حكم الأناشيد السؤال مجموعة أسئلة حول الأناشيد الإسلامية؟ الجواب الأناشيد الإسلامية أصح وأعدل الأقوال فيها، أنها شعر وكلام حسنها حسن، وقبيحها قبيح، ويوجد من الأناشيد الإسلامية أناشيد فيها -مثلاً- أمور محرمة، مثل الطبول، فهذه محرمة، أو يكون معنى الأنشودة -أحياناً- معنىً صوفياً، أو بدعياً، وأذكر أنني سمعت أنشودة، وكررتها حتى حفظت بعض أبياتها، وأذكر من الأبيات التي وردت في تلك الأنشودة يقول: أو سترت اسمكم غيرة هاأنا ألوث بالشعب والمنحنى فما في الغنى أحدٌ مثلكم وفي الفقر لا أحد مثلنا فأنتم هو الحق لا غيركم فيا ليت شعري أنا من أنا ففيها أبيات موحشة وأقل ما يقال فيها أنها ذات معان غامضة، وتقرب أن تكون من عبارات الصوفية واستعمالاتهم، فهذه ينبغي طرحها، وإبعادها -أحياناً وهو أمر مؤسف- ذكره لي بعض الشباب، توجد أناشيد بأصوات فتيات ولو صغيرات، فهذا لا يصلح -مثلاً- فتاة في سن الحادية عشرة والثانية عشرة تنشد، هذا لا يصلح، لأن صوتها، خاصة بإنشاد الشعر هذا مدعاة لفتنة كبيرة، أما إذا كان النشيد فيه معاني طيبة، إثارة حماس، دعوة إلى خير، تربية على الأخلاق الفاضلة، ويؤدى بأصوات قوية، بعيدة عن التكسر، والتثني، ومحاكاة أصوات وأنغام الفساق من المغنيين والمغنيات، فلا حرج في ذلك. لكن أنبه إلى محذور وهو بشرط ألَّا يغلب على الإنسان، لا يغلب عليك، فبعض الشباب يفطرون على أناشيد، ويتغدون على أناشيد، ويتعشون -أيضاً- على أناشيد، فهذا لا يصلح، ويجب عليه أن يغير الوجبات، ولذلك البخاري رحمه الله قال في صحيحه: باب من كان الغالب عليه الشعر، ثم ساق فيه حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً خير له من أن يمتلئ شعراً} وهذا إشارة إلى أنه يمتلئ جوفه، أي أصبح كل أكله أناشيد، حتى امتلئ بطنه منها، أما شخص يسمع أنشودة وهو في السيارة، أو في سفر، أو عمل، فأصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كانوا ينشدون ويرتجزون: لأن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المضلل لا يستوي من يعمر المساجدا يدأب فيها قائماً وقاعدا نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا إلى غير ذلك من الأناشيد التي كانوا يقولونها في أسفارها وفي قتالهم وفي أعمالهم، في بناء المسجد، وهذا كله ثابت في الصحيح، فلا حرج فيها ما لم تغلب على الإنسان، وما لم يكن فيها آلات محرمة، وما لم تكن معانيها -كما أسلفت- سيئة أو رديئة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 27 تعدد المناهج في الدعوة السؤال هذا يسأل عن قضية تعدد الأفكار والمناهج في الدعوة، وما السبيل إلى تلافيها؟ الجواب في الواقع أن الخلاف إذا كان داخل إطار أهل السنة والجماعة، والمنهج الصحيح، فالأمر فيه يسير، وينبغي أن نعود أنفسنا والناس على أن الخطب هين، ونحن نشترط شروط: أولها: أن تكون عقيدتك عقيدة أهل السنة والجماعة، فلا تأتنا ببدعة من بدع الصوفية، أو المعتزلة، أو الرافضة، أو الباطنية، أو غيرها، بل تلتزم بالمنهج الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توحيد الألوهية، والربوبية، والأسماء والصفات، وغير ذلك. الشرط الثاني: الانصياع للدليل الشرعي، فلا تقدم على كتاب الله، وسنة رسوله أحداً، فإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل: دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر فإذا جاءك قال الله، فلا تقل: قال الشافعي، قال مالك، قال أحمد، قال أبو حنيفة، فإذا قال الله، سقط كل قول عند قول الله تعالى، مع أنك تعلم أن هؤلاء الأئمة، وغيرهم ليسوا إلا مقتبسون من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مغترفون من بحره. وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفا من الديم فتعظم الأئمة، وتتبعهم، لكن بالدليل، إنما في البداية أنت موافق معنا على أنه إذا استبان الدليل، لم يكن لأحد أن يدعه لقول إنسان كائناً من كان، فهذا الشرط الثاني، فإذا وجد عندك هذان الأمران، فإنك من أهل السنة والجماعة، كيف تدعو إلى الله تعالى؟ تقول: أريد أن أُعلِّم الناس العلم الشرعي، لأن الناس في حاجة إليه، فجلست في المسجد حلقات بعد حلقات فهذا جيد وحسن، والناس في أمس الحاجة إلى هذا الأمر، لكن لا تخطئ من يشتغل في مجال آخر، فإنسان يشتغل بالوعظ، يقول: الناس ليس عليهم قصور من جهة العلم، وهكذا يتصور، والناس يعرفون أشياء كثيرة لكن ما عملوا بها، فيعرفون أن الربا حرام، ويأكلونه ليلاً ونهاراً، ويعرفون أن الغناء حرام ويستمعونه سراً وجهاراً، فالناس الناس بحاجة إلى أن نحرك قلوبهم بالإيمان، والناس بحاجة إلى سياط الوعظ، فمن هنا من سلك طريق الوعظ، فقل هذا جيد وحسن، فالناس محتاجون إليه. وشخص ثالث: قام بالتربية، قال: الوعظ والعلم كلها جيدة، لكن نحن بحاجة إلى شباب يتربون، ويطبخون على نار هادئة، حتى يكونوا جنوداً للإسلام، فاشتغل بتربية الشباب، وإعدادهم من خلال المدارس، والمراكز، وحلقات التعليم، وغيرها، فهذا كله جيد -أيضاً- وحسن، وبعض هذه الأمور يكمل بعضاً. والمهم -أيها الأحباب- ألَّا يكون بعضنا يشتغل ضد البعض الآخر، وألَّا تتناقص هذه الجهود، وأن تتكامل: {كلٌ ميسر لما خلق له} {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] فأنت على ثغرة أنا لا أستطيعها، وأنا على ثغرة أنت لا تستطيعها، ربما يكون العالم الشيخ في حلقته، لو وعظ ما حرك القلوب، وهذا ملاحظ، والواعظ لو تكلم في الفقهيات والشرعيات لأتى بالعجب العجاب، وهكذا كل إنسان يصلح في مكانه، وحسن في موقعه، فإذا خرج عن موقعه فسد وأفسد. إذاً لا ينبغي أن ينتقص بعضنا جهد بعض، أو يقلل منه. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 28 العلم الشرعي للداعية السؤال هل العلم الشرعي مهم للداعية قبل البدء في الدعوة؟ إذ يوجد بعض الإخوة -هداهم الله- يربون أفرادهم على الحماس، دون علم شرعي؟ الجواب هذه من القضايا التي يخفى أمرها على كثير من الشباب، فنحن نقول: العلم الشرعي شرط لئلا تدعو إلى شيء لا تعلمه، فغير صحيح أن تدعو إلى أمر وأنت لا تعلم هل هو مشروع أو غير مشروع، أهو حلال أم حرام، مستحب أم مكروه، فهذا لا يصلح، فلا تدعُ إلى أمر إلا وأنت تعرف أنه مطلوب، ولا تنهى عن منكر، إلا وأنت تعرف أنه منكر فعلاً، فمن أول وأهم شروط الداعية العلم بما يدعو إليه، لكن ليس شرطاً أنك لا تدعو إلا بعد أن تصبح علامة زمانه، وفريد عصره، ووحيد دهره، فهذا ليس شرطاً وهذا لا يمكن أن يكون لأحد، وقد لا يتيسر لك ولا لكثير من أمثالك، والرسول عليه السلام يقول: {بلغوا عني ولو آية} . فإذا عرفت شيئاً ادع إليه، لكن لا تدع إلى ما لم تعلم، فتقول: أنا داعية، فتصبح تتكلم في كل شيء، لأنه -مع الأسف- بعض الناس لا يفرقون، فيتكلم في كل شيء، فإن سألته في الفقه أجاب! وإن سألته في الحديث أجاب! وإن سألته في الشعر أجاب! وإن سألته في التوحيد أجاب! وإن سألته في الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة أو أوضاع العالم، كأنه موسوعة، وهذا لا يكون إلا لأفراد قلائل من الناس، وإنما ممكن أن أعد موضوعاً وأجهزه وألقيه أحسن ما يكون، ولكن حين تسألني عن موضوع آخر أقول: أنا لا أعلم، اسألوا أهل الذكر، واسأل العلماء، وإذا لم تستطع فأنا أسأل، وليس هناك حرج في هذا، أما أن أقول: لا أدعو إلا بعد أن أتعلم، فمتى أتعلم؟! وبالعكس أنا ألاحظ نقطة مهمة أيها الإخوة! وكنت أحذر منها بعض طلاب العلم، ورأيتهم وقعوا فيها، فالإنسان الذي يقول: أتفرغ لطلب العلم حتى أحصل منه على شيء كثير، وبعد فترة لما يكبر يكون قد تعود على معاشرة الكتب، ومجالستها، والعيش بينها، فلا يطيق فراقها، فإن قيل له: هذا درس، هذه محاضرة اعتذر منه، وإذا جُر بالقوة جاء للناس مرة فتكلم، فشعر بشيء في قلبه، وشعر بشيء من الوحشة من الناس، لأنه لم يتعود، قال: الكتب ممتازة، والكتب مريحة، ولذلك ربما يبدأ، ثم ينقطع لأنه لم يتعود على الدعوة، فمن المهم أن طالب العلم يتعود على الدعوة من خلال أنه إذا حصّل شيء يوصله للناس، وتعرفون أنتم موضوع الزكاة، فالآن عندما يكون عندك مبلغ من المال، نقول: أخرج زكاته، وعندك مقدار من العلم، فأخرج زكاته، لكن إذا كثر مالك فالزكاة المطلوبة منك أكثر، أي تتناسب طردياً مع كثرة المال الموجود عندك، أما إذا كنت ليس عندك نصاب فالزكاة ساقطة عنك، فإنسان يقول: لا أعرف شيئاً فهذا نقول له: لا تعلم إذاً فمن هو المسلم الذي لا يعرف شيئاً؟! فهذا يعرف الوضوء، يعرف الصلاة فعليه أن يعلمها. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 29 كسب بائع الدخان والجراك السؤال والده يبيع الدخان والجراك، وعنده محل مخصص لذلك، يقول: نصحته بعدم إقامة هذا المحل، وسألني بعض النقود لإعانته على إقامته، فرفضت طلبه؛ لأنه حرام، وبينت له هذا، بم تنصحني أن أفعل مع هذا الوالد؟ وهل يجوز أن آكل من أكل البيت، وهو مصدره من نقود من هذا المحل؟ الجواب الواقع، بالنسبة لمسألة الأكل من هذا البيت إن كان كسب الوالد كله من الجراك، فلا تأكل في هذا البيت، لأنه مال حرام، أما إن كان مال الوالد مختلط، بعضه من الجراك، وبعضه ورثه من جده، وبعضه من إيجار المحل الذي يؤجره، يعني مال مختلط بعضه حلال وبعضه حرام، فلا حرج أن تأكل منه، أما إعانته فلا تعينه على ذلك، لكن أنصحك بأن تقترح على الوالد -كن إنساناً عملياً- فاقترح على الوالد مشروع تجاري، وقل له: أنا مستعد أن أعمل معك في هذا المحل، وأساعدك بالمال، وبنفسي، وبكافة الاحتياجات والمتطلبات، بشرط أن تترك هذا الجراك الذي تبيع فيه، وأعتقد أن الوالد يفعل إن شاء الله تعالى. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 30 كيفية دعوة الزملاء السؤال هذا سؤال آخر حول كيفية التعامل مع الزملاء غير الملتزمين حيث يريد السائل دعوتهم؟ الجواب بالنسبة للزملاء: أولاً: نسأل: ما موقعك منهم؟ فالواقع أن هناك قضية وهي قضية الحب والإعجاب، ومن أعظم وسائل الدعوة المحبة، فإن الإنسان إذا أحبك أصبح مستعداً أن يبذل من أجلك الشيء الكثير، ومستعد أن يستمع إليك، وإذا أعجب بك، يعجب بما يأتي عن طريقك، ولذلك على الداعية أن يكون أريحياً، شهماً، قوياً، مقدماً في الأمور إن كان مع مجموعة من الزملاء -مثلاً- كان طالباً في المدرسة، فينبغي أن يكون مبرزاً قدر المستطاع، ومتقدم في دراسته، وإن كان موظفاً ينبغي أن يكون نموذجاً في الالتزام بالدوام، والقيام بالعمل، وخدمة الإخوان والزملاء، والإحسان إليهم، والخلق الفاضل معهم، وإن كان مع مجموعة في رحلة فيكون سباقاً في الخدمة، ومحاولة تسهيل المهمة لزملائه، وهكذا، ومن خلال هذه الوسائل يستطيع أن يكسب ثقتهم، ويضمن وجود نوع من التقبل عندهم، ثم يوجه إليهم الدعوة. من وسائل الدعوة وهي كثيرة: الشريط، حتى لو كنت لا تعرف الشخص، فدعك من كونهم زملاء يمكن تتدرج في دعوتهم، وافترض أنهم أناس لا تعرفهم، فقد لا تلتقي بهم يوماً من الدهر، فأعطه شريطاً إسلامي، أو أعطه كتاباً، إن لم ينفعه لم يضره، وافترض على أسوأ الأحوال أنه ألقى بالشريط، لم يسمعه، فيمكن يأخذه واحد آخر يسمعه، وإن لم يحصل هذا فما ضرك شيء، والمال الذي بذلته موفور ومحفوظ لك عند الله تعالى، فساهم في نشر الخير، كتاب، رسالة صغيرة، اتصال هاتفي، إهداء مجلة، كلمة طيبة، نصيحة، وسائل الدعوة كثيرة، المهم أن يوجد من بيننا وأناس تتحرق قلوبهم إلى إصلاح الناس، أناس يغلي في قلوبهم همُّ يجعلهم لا يهنئون بنومهم، ويقظتهم، وأكلهم، وشربهم، يدعوهم ويحفزهم إلى الدعوة إلى الله تعالى، يحرصون على كسب الناس يوماً بعد يوم، وجلبهم إلى طريق الخير، فإذا وجد هذا الهم في نفس الإنسان، فحينئذٍ سوف تكون الطرق كلها أمامه مفتوحة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 31 كيفية معالجة المنكرات في البيوت السؤال كيفية معالجة المنكرات في البيوت، وحكم العيش معها، مع المقابلة بالعناد، والاستهزاء -مثلاً- أنت قليل الحياء، وأنت كذا وأحدهم يسأل -مثلاً- عن الأغنية في التليفزيون، وكيفية إمكانية مواجهتها والتخلص منها، وكيفية إقناع الوالد بأخطاره ومضاره، لأنه أصبح بالنسبة لهم عادة، ونقاط توجيهية للتخلص من منكرات البيوت، فضلاً عن المنكرات التي تكون من خلال اجتماع الرجال، والنساء في مجلس واحد في المنزل، إلى غير ذلك؟ الجواب لاشك، أن هذه الأسئلة مندرجة تحت النقطة التي ذكرت، وهي قضية التوجيه أولاً، فيجب أن يكون التوجيه أولاً، لأنك في الغالب في البيت لا تملك سلطة، فنحن حين نقول للشاب: عندما تكون أنت بيت وتتزوج، وتسكن في بيت مستقل، هنا اصنع البيت على عينك وكما تشاء، فلا يدخل في البيت إلا ما تحب، وافعل في البيت كما تحب، لكن إذا كنت أنت عنصر في البيت، وقد تكون أصغر الأولاد، وقد تكون البنت أصغر البنات، ويريد أن يغير أشياء كثيرة ويصلح، هنا الأمر فيه شيء من الصعوبة، وإن كان ممكناً -والله- أيها الإخوة، وأعرف بيوتاً كثيرة تغيرت بسبب صلاح إحدى البنات، أو أحد الأولاد، وحدثني أحد الإخوة عن بيت وأشار إليه، كان فيه سائق وخادمة، حتى يقول لي: إنه كان السائق والعياذ بالله يلعب الكرة -كرة السلة- مع البنات في المنزل، وكان في البيت أجهزة فساد، وهدم، وتخريب، وكل ما يخطر على بالك، يقول: سبحان الله! الأب لا يعرف المسجد، وأحد الأولاد دخل في كلية الطب، فوفقه الله بقوم صالحين واهتدى، يقول: فبدأ يؤثر في بقية إخوته، ثم في بقية أخواته، حتى خرج السائق، وخرجت الخادمة، خرجت الأجهزة، وما هي إلا أشهر يسيرة، يقول: حتى لاحظت أن الأب بدأ يتردد على المسجد، ويصلي الصلوات الخمس في جماعة، وهناك بيوت كثيرة أعرفها من هذا النمط. فقضية الإصلاح ممكنة، لكن اصبر، ولا تتعجل الخطوات، لأنك لست سلطاناً تأمر فيطاع، أخرجوا الجهاز؟! فيخرج، لا. ليس ضروري، قد تجد نفسك محتاجاً إلى أن تعطي الأمر نفساً، وتصبر بعض الشيء، وتتريث، وتحاول أن تقنع الأهل بمفاسد التلفاز، وتقنع إخوانك الصغار وأخواتك، شيئاً فشيئاً حتى يقل الراغبون فيه، ويمكن إخراجه، إلا إذا كانت الظروف مواتية، مثل: أن تكون أنت الابن الأكبر، ولك مكانة، ولك تأثير، ولك قبول عند الوالد، فهنا لا مانع أن تستخدم مكانتك في ذلك، لكن الغالب أن كثيراً من الشباب موقعهم ضعيف، وقد يصعب عليهم أن يقوموا بهذا الأمر من أول وهلة، ويحتاج الشاب إلى صبر. أما موقف الشاب من المنكرات مثل: سماع الغناء، فالأصل أن الشاب ينبغي أن يحرص ألَّا يسمع الغناء، والغناء ليس هناك شك أنه محرم، وسماع الموسيقى حرام بإجماع العلماء أيضاً، لكن في حالة إذا لم تستطع، فما الحل؟ حتى لو فرض أنك دخلت المنزل أو خرجت وهناك موسيقى، أو غناء، وأنت لم تقصد أن تسمعه، فحينئذ أنت سامع، ولست مستمع، بمعنى أنه وصل إلى أذنك بغير اختيارك وبغير إرادتك، فلست آثماً لكن عليك أن تعمل على تغيير هذا المنكر بالوسائل التي أشرت إلى شيء منها سابقاً. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 32 الطريقة المثلى للتفقه في الدين تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس القيم عن أن الفقه هو طريق معرفة أحكام الله تعالى التي لا إيمان للفرد إلا بها والانقياد لها. وأبرز النعمة العظيمة من الله تعالى في هذا العصر الذي يشهد صحوة يتوجه شبابها للدليل ونبذ التعصب المذهبي الذي كان سائداً في قرون كثيرة مضت، ثم يذكر الخلاف بين العلماء وما الواجب على المسلم تجاهه، وحكم الاجتهاد والتقليد وأقوال العلماء فيه مع الترجيح، وذَكَر مسائل تتعلق به ثم محاذير في مجال التفقه للشباب، ثم أجاب عن مجموعة من الأسئلة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 1 الحاكمية لله وحده الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. أيها الإخوة والأخوات: إن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق الخلق، ولذلك فهو المستحق وحده لأن يعبد، فالذي له الخلق هو الذي له الأمر، ولذلك جمع الله بينهما في قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] فكما أن الله هو الخالق المتصرف في الأكوان، المقدر للأقدار، فهو -أيضاً- سبحانه المستحق للعبادة، المشرع لعباده. ولذلك فإنه لا يحق لأحدٍ أن يقبل ديناً من عند غير الله، وهذه القضية هي قضية أصولية جوهرية في الإسلام، فحق التشريع هو لله وحده، وهو الحاكم والحكم بين عباده، ومن قبل من غير الله ديناً أو شرعاً أو حكماً أو تحليلاً أو تحريماً؛ فقد اتخذ من هذا الذي تلقى عنه إلهاً من دون الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] ويبين سبحانه أن ما عدا الشريعة فهو الهوى، فيقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] وهذه القضية الواضحة هي جزء من معنى الإيمان بالله عز وجل وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وقد ذكر الله تعالى في كتابه صنفين من الناس:- الصنف الأول: هو صنف المنافقين، الذين لا يقبلون حكم الله ولا ينقادون له إلا حين يوافق أهواءهم، فيقبلونه ليس لأنه حكم الله، لكن لأنه يوافق الهوى، وقد ذمهم الله عز وجل بقوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُون * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:48-50] . الصنف الثاني: هم المؤمنون المسلمون، المستسلمون لله عز وجل، وهذا الاسم الذي يحملونه، الإسلام: يعني الانقياد والطواعية التامة لحكم الله ورسوله، سواء أوافق الهوى أم خالفه، وقد مدحهم الله عز وجل وأثنى عليهم بقوله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:51-52] . فالأمر بيّن واضح، المؤمن المسلم منقاد لحكم الله ورسوله، والذي يعترض على حكم الله أو يأباه أو يرفض الانصياع له فهو منافق وليس بمؤمن، ولذلك فإن المؤمن لا يحول بينه وبين امتثال حكم الله ورسوله، إلا أن يعرف هذا الحكم، فإذا عرفه انقاد له برغبة وقبول واستسلام، كما قال الله عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] لا يحول بين المسلم وبين تنفيذ الحكم الإلهي إلا معرفة هذا الحكم، فإذا عرفه استجاب له، سواء أعرف العلة من وراء ذلك أم لم يعرفها، وسواء أوافق هوى الناس أم لم يوافقه، وسواء أوافق هوى النفس أم لم يوافقه، فهذا حكم الله ينقاد له مسلماً بلا حرج. ولذلك فإن من المهم أن يعرف كل مسلم تحلى بهذه الصفة أن لله عز وجل في كل واقعة حكم، وهذه قاعدة أصولية مهمة، فما من قضية تقع إلا ولله ورسوله فيها حكم، إما تحليل أو تحريم أو كراهة أو استحباب أو إباحة، ولا تخلو قضية أو واقعة من حكم لله ورسوله. ولذلك فإن المسلم لا ينفك عن امتثال حكم الله ورسوله في كل واقعة تعرض له في حياته، والمسلم يستطيع معرفة حكم الله ورسوله، إما عن طريق البحث في الكتب والنظر في الأدلة والتوصل إلى هذا الحكم، إن كان أهلاً لذلك، أو عن طريق سؤال أهل العلم الذين أمر الله عز وجل من لا يعلم بسؤالهم، فقال: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] . الجزء: 50 ¦ الصفحة: 2 التفقه طريق معرفة أحكام الله ولذلك -أيضاً- أمر الله عز وجل المؤمنين أن يكون من بينهم من يتفقه في الدين، فقال سبحانه: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّين} [التوبة:122] لأنفسهم ولقومهم: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] وأثنى الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة على الفقه في الدين وعلى المتفقهين فيه، كما في الحديث المتفق عليه، عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} ولما سئل صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، من أكرم الناس؟ قال في آخر الحديث: {فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} والحديث -أيضاً- متفق عليه، ولاشك أن المقصود بالفقه في هذين الحديثين المعنى العام، الذي هو المعرفة بالدين، والمعرفة بالعقائد الصحيحة، والمعرفة بكتاب الله، والمعرفة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا سنتحدث في هذه المحاضرة عن المعنى الاصطلاحي الخاص للفقه في الدين، ونعني به معرفة الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه والمباح، من الأدلة الشرعية المعروفة، وليس المقصود بالحديث التفقه في الدين بمعناه العام. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 3 نعمة توجه الصحوة لطلب الدليل أيها الإخوة: إن من نعمة الله على هذه الأمة في هذا العصر خاصة، أن مَنّ الله عليها بوجود هذه الصحوة الإسلامية، التي عمت سائر البقاع، وسائر الأجناس وكافة الطبقات، فأصبحت تجد في المسلمين من كبارهم ومن شبابهم، من رجالهم ومن نسائهم، من أقبلوا على هذا الدين بصدق وإخلاص، ومن اتجهوا للتفقه في الدين، ومعرفة الأحكام، وهذه نعمه يمتن الله بها علينا في هذا العصر، حيث نرى بأعيننا إقبال الناس على الإسلام، ورغبتهم فيه، في حين أنه مر بالمسلمين -منذ وقت غير بعيد- زمان قلَّ فيه المقبلون على الخير، وضعف شأنهم، وحتى الذين كانوا مستقيمين لم يكن لدى أكثرهم وعي صحيح، ولا حرص قوي على التفقه في الدين، ومعرفة حكم الله ورسوله فيما يعرض لهم. ومن الجوانب الإيجابية المشرقة في هذه الصحوة الإسلامية، أنها صحوة تعتمد على البصيرة، وعلى الكتاب والسنة، وكم هو أمر طيب أن تجد كثيراً من الشباب ذكوراً وإناثاً يسألون عن حكم الله في مسألة ما، وما حكم كذا؟ ما حكم كذا؟ فإذا سمعوا ممن يفتيهم الحكم في هذه المسألة تحليلاً أو تحريماً، بادروا بأدب وحسن خلق واحترام وتلطف إلى السؤال عن الدليل الذي اعتمد عليه فيما أفتى به من تحليل أو تحريم، وهذا أمر كان معروفاً بين الصحابة والتابعين، حتى إن علياً رضي الله عنه، يقول -في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وغيره-: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بحديث استحلفته بالله، فإذا حلف لي صدقته} وهذا صحابي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فـ علي رضي الله عنه يقول له: احلف لي بالله أنك سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هكذا، فإذا حلف له صدقه، وما زال الصحابة والتابعون يسألون عن حجة من أفتى. إن من الجوانب المشرقة في الصحوة الإسلامية التي نعيشها اليوم، أن تعتمد على البحث عن الدليل وعن الحجة، التي يعتمد عليها المتكلم في حكم الله ورسوله، وهذا أمر طيب، فقد مر على المسلمين زمان طويل، ضعف فيه انتماؤهم للكتاب والسنة، وغلب عليهم التقليد الأعمى في كثير من الأحيان، بل وتعصبوا لآراء الرجال وأقوالهم، حتى إن أحد المنتسبين إلى المذاهب الإسلامية يقول: كل نص خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول! فهو يقول: إن كل آية أو حديث خالفت ما ذهب إليه إمامه فإن هذه الآية أو الحديث إما أنها منسوخة وإما أنها مؤولة، فأصبح يقدم كلام إمام على كلام الله ورسوله، بل ويقول أحدهم في كتاب له في التفسير، عند قول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:24] يقول: فلا يجوز الأخذ بما خالف أقوال الأئمة الأربعة وإن كان قول صحابة، وإن كان حديثاً، وإن كان آية قرآنية! وهذا الكلام يوجد في كتب توجد اليوم بين المسلمين في المكتبات، وقد أبدى كثير من العلماء امتعاضهم من هذا التعصب الممقوت الذي يرفضه الأئمة المتبعون ويأبونه ولا يقرونه، حتى قال أحد أئمة الأندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي يشكو ما وصل إليه قومه من التقليد وترك الدليل، يقول: عذيري من قوم يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فان عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله: فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك وأشهب وسحنون من أئمة المالكية. إن الأئمة -أيها الإخوة- المتبوعين وغيرهم من علماء السلف يرفضون مثل هذا اللون من التعصب الممقوت، ونحمد الله أن قلَّ التعصب أو اختفت هذه الظاهرة في كثير من البلاد الإسلامية، وأصبح كثير من المتفقهين وطلاب العلم يبحثون عن الدليل، فإذا صح الدليل آثروه على أقوال أئمتهم وعلى آراء الرجال. ولهذا فإنني آثرت أن أتحدث عن بعض القضايا المتعلقة بهذا الأسلوب، والواقع الذي تعيشه الصحوة الإسلامية، وهو أسلوب التفقه في الدين، وكيفية أخذ الحكم من القرآن والسنة، ومثل هذا الموضوع لا تفي فيه محاضرة، بل ولا محاضرات، وهو أمر يطول، لهذا فإنني سوف أقتصر على الحديث عن ثلاث نقاط:- الأولى: الحديث عن الاختلاف بين العلماء، والموقف الصحيح منه. والثانية: هي الحديث عن قضية الاجتهاد والتقليد. والنقطة الثالثة: هي الإشارة إلى بعض المحاذير والأخطاء التي يتخوف من وقوع بعض المتفقهين فيها. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 4 الخلاف بين العلماء ففيما يتعلق بالخلاف بين العلماء، يتبرم كثير من الناس من وجود هذا الخلاف ويضيقون به ذرعاً، سواء من العوام الذين لا يطيقون قضية: في المسألة أقوال، وإنما يريدون أن تقول لهم حلال أو حرام فقط، أو حتى من بعض الطلاب الذين يعتقدون أن بالإمكان جمع المسلمين كلهم على حكم واحد في كل مسألة، فيقول البعض: إن من الممكن أن نضع حداً للخلاف بين العلماء وبين المسلمين، وأن نجمع المسلمين على قول واحد في جميع المسائل. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 5 عدم إمكانية جمع المسلمين على مذهب واحد وأقول إن هذا القول مما يثير له العجب، وهو قول غير صحيح في نظري لأسباب:- أولاً: طبائع البشر تختلف وتتفاوت تفاوتاً عظيماً، سواء في ذلك العلماء أو غيرهم. ثانياً: الصحابة رضي الله عنهم، وهم أفضل البشر بعد الأنبياء علماً وعملاً وإخلاصاً وتجرداً، وأقواهم عقولاً، وأعلمهم باللغة، وأسلمهم فطرة، ومع ذلك اختلف الصحابة رضي الله عنهم في مسائل كثيرة جداً مبثوثة في كتب العلم، ثم إن الأسباب التي أدت إلى اختلاف العلماء في السابق هي موجودة اليوم، بل هي اليوم موجودة بصورة أعظم مما كانت موجودة في الماضي، وما يقوله البعض من أن العلم تيسر، والمطابع أصبحت تدفع بأعداد كبيرة من الكتب إلى آخره، هذا كله غير كافٍ في إثبات إمكانية جمع المسلمين على كلمة واحدة في كل مسألة. لذلك فإنني أقول: إن من المهم أن نعرف أن الخلاف بين العلماء أمر لابد منه -في الأصل- وعلينا ألا نتعب أنفسنا في التخلص من هذا الخلاف بالكلية، ورفضه نهائياً، أو دعوة الناس إلى أن نجمعهم على قول واحد في جميع المسائل الجزئية والفرعية، لكن الموقف الصحيح الذي يجب أن نتخذه من هذا الخلاف، هو الذي يجب أن نبحث فيه وندرسه بصورة صحيحة حتى يكون الخلاف بين العلماء إيجابياً مثمراً، وليس خلافاً ضاراً بالمسلمين. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 6 الموقف من خلاف العلماء فأولاً: يجب على المتفقه وطالب العلم أن يحرص على معرفة الخلاف بين العلماء في المسائل التي يبحثها ويريد أن يصل فيها إلى الحق، ولذلك من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه -كما يقول بعض السلف-. ويقول الإمام أيوب السختياني رحمه الله: أجسر الناس على الفتيا أقلهم معرفةً باختلاف العلماء، وأورع الناس عن الفتيا، أكثرهم وأعلمهم باختلاف العلماء، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعرف الخلاف يأخذ المسائل -أحياناً- بشيء من البساطة، دون أن يدرك الأقوال الأخرى، والأدلة التي تمسك بها هؤلاء الأقوام، فإذا اطلع على الخلاف أصبح متصوراً للموضوع كاملاً، وقادراً على أن يختار من بين هذه الآراء والأقوال ما يجده أسعد بالدليل وأقرب إلى الكتاب والسنة، فهذه قضية. القضية الثانية: أنه لا يجوز أن نختار من أقوال العلماء ما يعجبنا أو ما نشتهيه نفسياً دون دليل ودون تعليل، فبعضهم يعرض الأقوال في مسألة من المسائل، ثم يقول: أنا أميل إلى هذا القول، فتقول له: لماذا؟ هل معك حديث أو آية، أو تعليل صحيح، أو قياس؟ فيقول: لا، ولكنني أطمئن لهذا القول، وتطمئن إليه نفسي، واطمئنان النفس ليس من ضمن الأدلة الشرعية. ثالثاً: يجب عدم التشدد أو التشديد على المخالفين، بل التحلي بالحلم وسعة الصدر، ولذلك كثر عن السلف الثناء على الحلم ومدح أهله وبيان أنه قرين العلم، يقول عطاء -مثلاً-: ما أوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم، ويقول طاوس: ما حمل العلم بمثل جراب حلم، ويقول الشعبي: زين العلم حلم أهله، وهذه الآثار كلها رواها الدارمي في سننه. إذاً: فعلينا أن نتحلى بالحلم وسعة الصدر، ومادمنا نعرف أن الخلاف واقع، فليس من الصواب أن نحمل على المخالفين، ونتهمهم -دائماً- بأنهم غير متجردين، أو بأنهم متمسكين بآرائهم، لأنك إذا قلت عن أحد: إنه متمسك برأيه، وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، فإنه هو يقول عنك الكلام نفسه، فيقول: فلان متمسك برأيه وقد ناقشته في مسألة فلم يقبل، وليس قبول كلامك فيه بأولى من قبول كلامه فيك. رابعاً: ينبغي أن يعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله، ومن عدا ذلك فلا يمكن أن يسلم من الخطأ بصفة نهائية، وإذا كان الصحابة قد خطّأ بعضهم بعضاً في مسائل من العلم، فغيرهم من باب الأولى. وهناك أشياء من العلم يسميها العلماء المسائل الشاذة أو شواذ العلم، وكل عالم أو فقيه أو إمام تجد له مسألة أو مسألتين أو أكثر من ذلك خالف فيها جماهير العلماء، وخالف فيها الدليل الصحيح -أيضاً- لكن عن اجتهاد وحسن نية، وليس إعراضاً عن الحق، فعلى الإنسان أن يعرف هذه الشواذ من العلماء فيجتنبها؛ مهما يكن هذا الإمام أو العالم الذي وقع فيها، إماماً مشهوراً ومتبوعاً ومتفقاً على جلالته، فخطؤه لا ينقص من قدره، وإنما يثبت بشريته فحسب، وكما قيل:- ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه خامساً: يجب عدم التعصب للأشخاص أو الشيوخ، والدخول في معارك في تفضيل فلان على فلان، سواء من الأئمة الذين ماتوا وبقيت آثارهم ومذاهبهم، أو من العلماء الذين من الله على هذه الأمة بوجودهم اليوم، فلا نشتغل بأن فلاناً أفضل من فلان، ومذهبه أحسن من مذهبه وأقواله أصوب، ونثير معاركاً كلامية طويلة في هذا الباب، وأستأنس لهذه القضية بالقصة التي رواها الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: {كان رجل من اليهود يبيع سلعة في السوق، فأعطي بها ثمناً أقل مما يريد، فكأنه لم يرتضِ هذا الثمن، فقال: لا والذي فضل موسى على العالمين - يعني لا أبيع هذه السلعة- فتصدى له رجل من الأنصار فلطمه، وقال: تقول: والذي فضل موسى على العالمين، ومحمد صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب هذا اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشتكى إليه، وقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: إن فلاناً الأنصاري قد لطمني في وجهي، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأنصاري، وقال له: لم لطمته؟ قال: يا رسول الله إنه قال: والذي فضل موسى على العالمين، وأنت بين أظهرنا، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رؤي الغضب في وجهه، وقال: لا تفضلوني، لا تفضلوا بين الأنبياء، فإنني حين يصعق الناس ثم ينفخ في الصور أكون أول من يفيق -أو في أول من يفيق- فأنظر فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أأفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور} . وهذا الحديث يمكن أن نأخذ منه عدم الدخول في معارك في المفاضلة بين العلماء، خاصةً إذا كان ذلك يوهم تنقص بعضهم وازدرائه أو نسبتهم إلى شيء من الجهل أو الهوى أو ما شابه ذلك، أو يدعو إلى تفرق أو اختلاف. فهذه أهم القضايا التي يجب أن نضعها في اعتبارنا ونحن ننظر في الخلاف بين العلماء، ولا يجوز -أيها الإخوة- أن تكون هذه القضايا التي وسعت الصحابة والتابعين والمسلمين الأولين ميداناً للخصومة والتنافر والتنافس بين المسلمين. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 7 حكم الاجتهاد والتقليد ثم أنتقل إلى القضية الثانية، وهي الحديث عن موضوع الاجتهاد والتقليد، وهي قضية طويلة، وأقول بصورة موجزة: إن الناس فيها طرفان ووسط، فهناك طرف يقول: لا يجوز تقليد أحد من العلماء بحال من الأحوال، ويتزعم هذا القول الإمام أبو محمد بن حزم رحمه الله، حيث يقول في كتابه الإحكام في أصول الأحكام: التقليد حرام على العبد المجلوب من بلده، والعامي، والعذراء في خدرها، والراعي في شعب الجبال، كما هو حرام على العالم المتبحر بلا فرق، فهو يرى أن الأعرابي الراعي في غنمه، أو العبد المجلوب أو الفتاه العذراء التي لم تتلق شيئاً من العلم؛ هم والعالم على حد سواء يجب أن يجتهدوا ولا يقلدوا أحداً! وهذا القول واضح البطلان، ويكفى تصوره في إبطاله، لأنك لو تصورت المسلمين اليوم وهم كما تقول الإحصائيات، يربو عددهم على ثمانمائة مليون مثلاً، ولنفترض أنهم يمثلون عشر هذا العدد أو أقل، سيوجد عندنا ثمانمائة مليون عقل تجتهد في قضيه واحدة، فكم فسيوجد من الاجتهادات والشذوذات والانحرافات والمخالفات والفوضى التي لا أول لها ولا آخر، ثم ما قيمة العالم إذن إذا كان مطلوب من كل إنسان أن يجتهد؟ فما قيمة العالم المتميز بمعرفة الدليل، والحديث الصحيح، والحديث الضعيف إلى آَخره؟ ولنفترض -مثلاً- أن واحداً أو أكثر من هؤلاء الذين قلت: إنهم يجب عليهم أن يجتهدوا وألا يقلدوا أحداً، لنفترض أن منهم من قال: أنا اجتهدت، فوصل اجتهادي إلى نتيجة، وهي وجوب التقليد لي ومن كان على شاكلتي! فما موقفك حينئذ؟ فهو اجتهاد أمرت به فوصل إلى هذه النتيجة بطريقة صحيحة، وهذا يدل على فساد هذا القول. وهناك طرف آخر مقابل له، يقول: بأن باب الاجتهاد قد أغلق، وأنه لا يجوز للإنسان أن يجتهد في مسألة جزئية ولا غيرها، بل عليه أن يقلد إماماً من الأئمة، وألا يخرج عن قوله أبداً، وهذا القول -أيضاً- قول مرجوح لا دليل عليه، فإن الله عز وجل يسألنا يوم القيامة، فيقول: {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ولا يسألنا ماذا أجبتم فلاناً أو فلاناً؟ بل يسألنا ماذا أجبتم المرسلين؟ والقول الوسط في قضية الاجتهاد والتقليد، يتلخص في النقاط التالية:- الجزء: 50 ¦ الصفحة: 8 العامي حكمه التقليد والقضية السادسة في موضوع الاجتهاد والتقليد، هي: أن العامي حكمه التقليد أو فرضه التقليد، وقد حكى ابن قدامة رحمه الله هذا إجماعاً من أهل العلم، أن العامي حكمه وفرضه التقليد، وليس المقصود بالعامي فقط من لا يحسن القراءة والكتابة، فقد يكون العامي أستاذاً وعالماً في فن من الفنون، ومتخصصاً في قضية من القضايا، لكنه عامي في قضايا الشريعة لا يصدر فيها ولا يورد، ولا يعرف منها قليلاً ولا كثيراً فمثل هذا فرضه التقليد، ولكن عليه حين يقلد -سواء قلد إماماً من الأئمة الأربعة، أو قلد شيخاً من الشيوخ المعاصرين الذين حوله في مسألة من المسائل- عليه أن يتعود على سؤال العلماء عن الدليل حتى تكون عبادته لله تعالى على بصيرة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 9 الحذر من تقليد المعاصرين وهناك قضية خامسة أشير إليها، وهي أن بعض الذين ينبذون التقليد ونحن -بلا شك جميعاً- نحمد للإنسان، أن يقدم نصوص الكتاب والسنة على قول فلان وفلان، وكل إنسان في قلبه إيمان يفرح بذلك، لكن قد يترك الإنسان أحياناً تقليد الأئمة المتبوعين الكبار المشهود لهم بالفضل والعلم ويقلد من هو دونه بمراحل، فيكون كمن ترك البحر وذهب ليستقي من السواقي الصغيرة، فعلى الإنسان أن يدرك أن التقليد في كثير من الأحيان، يتسرب إليه بصورة خفية، وقد تجده يسمع قول الإمام أحمد أو مالك أو الشافعي أو أبي حنيفة فلا ينتبه له ولا يهش حين يسمعه، ولكن إذا سمع قول فلان، وخاصة إذا كان من الأئمة والعلماء المعاصرين، فإنه يقوم له ويقدره، ويقدمه على أقوال هؤلاء الأئمة، ولاشك أن الحق -أيضاً- لا يعرف قديماً وحديثاً، فقد يصيب المتأخر وقد يخطئ المتقدم، ونحن نجد أن الإمام في الصلاة يأتي آخر الناس فيتقدم عليهم. ولا غرابة أنه يوجد اليوم بين المسلمين من العلماء من لم يكن للمسلمين عهد بمثله منذ زمن، ولو أردنا أن نضرب أمثلة لذلك -مثلاً- لوجدنا أن سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله أو فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين أو فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أو غيرهم من العلماء -وهم بحمد الله كثير- هم أئمة أفذاذ، قد نقول: إنه يندر توفر مثل هؤلاء في وقت وزمان واحد، وأن الله قد امتن على هذه الأمة بوجودهم. لكن ينبغي أن ننتبه إلى أن الإنسان الحي تقبل أقواله وآراؤه وتعيش أكثر من الإنسان الميت، ويجد من وسائل الانتشار والتلاميذ الذين تلقوا عنه وأعجبوا بشخصيته وقوته وجر أته في الحق وفضله، من يغلب هذا عليهم فتصبح أقوال هذا الإمام عنده مقدمة، وهذا أمر قد يكون طبيعياً في بعض الأحيان، لكن على الإنسان ألا ينسى أنه إذا كان يحارب التقليد، فحينئذ عليه ألا يترك أو يحارب تقليد إمام متقدم ليقلد إماماً متأخراً، بل يأخذ الحق ممن جاء به. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 10 اتباع الأئمة مع معرفة الدليل أمر سائغ القضية الثانية: أن أتباع هؤلاء مع معرفة الدليل الذي ذهبوا إليه أمر سائغ ومشروع، ولا حرج على الإنسان في الانتساب إلى مذهب من هذه المذاهب، وكونه يعرف بأنه شافعي أو حنبلي أو مالكي أو حنفي، شريطة ألا يكون في هذا تعصب لما قال به هذا الإمام ولا تقديم لأقواله على الكتاب والسنة، ولا حط من قدر غيره من العلماء. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 11 وجوب اتباع الإنسان للدليل وإن خالف مذهبه شالقضية الثالثة: أنه حين يترجح لك أن الحق في هذه المسألة مخالف للمذهب الذي تنتسب إليه فإنه لا يجوز لك شرعاً أن تترك هذا الحق الذي عرفته من الكتاب والسنة لقول إمامك، بل يجب أن تنتقل من قول إمامك إلى قول ذلك الإمام، وأضرب لذلك مثلاً، القول بأن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء، هذا القول -هو فيما أعلم- من مفردات الإمام أحمد رحمه الله، لكن يشهد له الحديث الصحيح: {أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم توضئوا من لحوم الإبل} . إذاً: فلو كنت شافعياً، أو مالكياً لم يجز لي عند الله عز وجل أن أترك الحديث الصحيح لقول إمامي، لأن إمامي يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وهو لا يرضى بأن أترك الحديث الصحيح إلى قوله. رابعاً: فإن هذه القضية التي أشرت إليها وهي قضية اتباع الحق ولو خالف المذهب؛ قضية جوهرية وذلك لأنه شاع عند كثير من الناس، أن التمذهب يعني اقتصار الإنسان على قول إمام المذهب الذي ينتسب إليه، وصار من الصعب على كثير منهم أن يترك قول إمامه للآية أو الحديث الصحيح؛ وهذا خطر عظيم، والإنسان الذي يعرف الحق عياناً ظاهراً ثم يتركه لأنه مخالف لمذهبه يخشى عليه أن يكون ممن قال الله عز وجل فيهم أو في أمثالهم: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] وتفسير هذه الآية الذي لا إشكال فيه، هو ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم من حديث: {أليسوا يحلون لكم الحرام فتطيعوهم، ويحرمون عليكم الحلال فتطيعوهم، قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم} . الجزء: 50 ¦ الصفحة: 12 الحذر من الاعتداد بالنفس في الترجيح ولكن علينا -أيها الإخوة- أن نعرف قدر أنفسنا، وعلى كل إنسان منا أن يعرف قدر نفسه، وباعه في العلم، وقدر العلم الذي حصله، والمدة التي قضاها في طلب العلم، بحيث لا يكون عند الإنسان اعتداد مفرط بشخصيته، يدعوه إلى أن يطِّرح أقوال الأئمة بكل سهولة، وليست القضية أن يطرح قول إمامه فقط، بل قد يترك الإنسان قول جمهور العلماء، بل قول الأئمة الأربعة إلى قول مأثور عن إمام من الأئمة، بكل سهولة ويسر، وليس لأن الدليل واضح وبين؛ لأن الدليل لو كان واضحاً وبيناً لكان واضحاً لغيره من العلماء، ولكن لأن هذا الإنسان يوجد لديه اعتداد بنفسه، وخاصة حين يكون في فترة الشباب -وأرجو من إخواني الشباب ومن أخواتي ألا يؤاخذوني إذا قلت مثل هذا الكلام، فأنا واحد منهم. وأنا حين أقول ذلك أنتقد نفسي كما أنتقد غيري- إننا نحن الشباب في كثير من الأحيان، نميل إلى مخالفة المألوف والمعروف، ونميل إلى بعض الأقوال ولو لم يكن دليلها قوياً لمعنى قام في نفوسنا، ويعجبني في هذا المقام الكلمة التي ربت بها أمنا عائشة رضي الله عنها أحد الشباب الذين كانوا يتفقهون، وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، فقد كان من التابعين الذين يتلقون العلم عن الصحابة وعن أمهات المؤمنين، فكان يخالف في بعض المسائل، فسأل عائشة رضي الله عنها -كما يقول هو فيما رواه مالك في الموطأ والترمذي، أنه سال عائشة رضي الله عنها- فقال لها: يا أم المؤمنين متى يجب الغسل؟ وهو بهذا يتساءل عن قضية اختلف فيها الصحابة ومن بعدهم، هل يغتسل الرجل بالإنزال أو يغتسل بمجرد أن يجاوز الختان الختان؟ ولا شك أن القول الصحيح أن الرجل إذا جاوز ختانه ختان المرأة وجب عليه الغسل ولو لم ينزل، فقالت له عائشة رضي الله عنها تؤدبه: [[يا أبا سلمة إن مثلك كمثل الفروج -يعني الديك الصغير- سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها، ثم قالت له إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل]] وكثير منا نحن الشباب ذكوراً وإناثاً، يكون الواحد منا كمثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح بصياحها. ولذلك تجد الواحد منا -أحياناً- وهو لا يزال في بداية الطلب يبحث في مسألة فيقول: المسألة فيها أقوال كذا وكذا، وعندي أن الصواب كذا وكذا، وكلمة عندي من الكلمات التي لا يستعملها إلا العلماء أو الناس الذين لهم قدر. وكذلك تجد بعض الإخوة إذا ألف كتاباً أو رسالة أو تكلم يكتب في الصفحة الواحدة أو بين كل كلمة وأخرى: قلت، وقلت، وهذه الكلمة -أيضاً- لا ينبغي أن يستعملها إلا العلماء، وهكذا استعمال ضمائر المتكلمين، ونرى، ويظهر لنا، وما أشبه ذلك كل هذه الأشياء، وإن كانت أموراً شكلية، إلا أنها تدل على نوع من الاعتداد الزائد بالرأي وبالشخصية، وأرجو ألا يفهم كلامي هذا خطأ، فأنا لا أدعو إلى الجمود على قول معين -كما قلته صراحة- ولا إلى ترك الحق الظاهر، لأنه مخالف لقول الجمهور -مثلاً- كلا، وإنما أدعو إلى الاعتدال فلا نجمد عند تقليد إمام معين. كذلك لا تنعكس الأمور فيصبح الواحد منا وهو لم يحفظ الأربعين النووية -مثلاً- أو لم يحفظ من آيات الأحكام إلا القليل، أو لا يعرف في اللغة العربية إلا شيئاً يسيراً، يتصدى للكلام في المسائل العويصة ويفتي فيها، دون نظر في أقوال الأئمة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 13 حرص الأئمة الأربعة على اتباع الحق أولاً: هؤلاء الأئمة المتبوعون -وخاصة الأئمة الأربعة- كلهم حريصون على معرفة الحق واتباعه، وكلهم يأخذون بالقرآن والسنة، فإذا صح لديهم الحديث فهو مذهب الواحد منهم لا يقبل عنه بديلاً، وما أكرمهم الله عز وجل بما أكرمهم به من قبول المسلمين لهم عامة وخاصة، إلا لما وصلوا إليه من صدق الاتباع وتجنب الابتداع، فالذين يدعون إلى التعصب لإمام من الأئمة يجنون على الإمام نفسه، فقد تجد -مثلاً- من يقول لك: يجب اتباع الإمام أبي حنيفة فقط، لماذا؟ فيقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: سراج أمتي أبو حنيفة، وهذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يأتيك آخر فيقول لك: يجب اتباع الإمام مالك، تقول له: لماذا؟ فيقول لك: لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه الترمذي وأحمد وغيرهما: {يوشك الناس أن يضربوا أكباد الإبل فلا يجدون عالماً أعلم من عالم المدينة} وينزل هذا الحديث على الإمام مالك، ويبني عليه نتيجة غير صحيحة، وهي أنه يجب اتباعه، وقد يأتي ثالث فيقول لك: يجب اتباع الإمام الشافعي، تقول له: لماذا؟ يقول لك: لأن الإمام الشافعي قرشي والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث المتفق عليه: {الأئمة من قريش} ورابع يقول لك نتبع الإمام أحمد، وخامس وهكذا، فنقول هؤلاء الأئمة كلهم يقتبسون من مشكاة الكتاب والسنة، وأقوالهم على العين والرأس، لأننا نعتقد عقيدة في قلوبنا أنه لا أحد منهم يتعمد مخالفة ما صح لديه من مفهومات الكتاب والسنة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 14 محاذير في موضوع التفقه النقطة الثالثة والأخيرة في موضوع المحاضرة، هي الإشارة إلى بعض المحاذير التي يُخشى من وجودها في واقعنا اليوم:- الجزء: 50 ¦ الصفحة: 15 الفتيا المحذور الخامس: قد يقول البعض أنا لا أفتي، وإنما أنا أنقل فتاوى أهل العلم، وكثير من الناس يتساهلون في نقل الفتيا، حتى العوام أحياناً، تجده في المجلس يقول لك: أنا كنت في مجلس الشيخ فلان؛ فسئل عن كذا فقال كذا، وقد يتكلم في مسائل كثيرة، ولا شك أن نقل الفتيا، ليس مثل الفتيا نفسها، لكن هل كل إنسان يحق له أن ينقل الفتيا؟ أقول: لا، لا ينقل الفتيا إلا من فهمها فهماً جيداً أولاً، ثم من كان لدية القدرة على نقلها بصورة صحيحة، ثم من يوثق بأنه يملك قدراً من العلم يجعله يعرف الفرق بين الأشياء، ويدرك ما يؤثر في الحكم وما لا يؤثر، وما يغير معنى الكلام وما لا يغير. واليوم -أيضاً- أصبحت وسائل التوثيق موجودة، وبإمكانك أن تكتب هذه الفتيا على ورقة أو أن تسجلها في شريط، حتى تكون موثقة ومطمأناً إليها، فلو أحببت أن تنشرها للناس، فأطلع عليها هذا العالم الذي أفتى بها، وافترض أنك سألت عالماً عن مسألة، فأفتاك فيها بقول وقد يكون أفتاك بملابسات شخصية تعنيك أنت، وقد يكون تسامح في العبارة، فاكتب هذه الفتيا في ورقة واعرضها على الشيخ، وقد حصل أن أحد العلماء المشار إليهم بالبنان، كان يتكلم مع طلابه، وطلابه يسجلون ما يقول ويكتبون بعده، فلما عرضوه عليه، أصلح منه أشياء كثيرة، وعدل وزاد ونقص، وهذا أمر طبيعي ليس بالغريب، لكن يجب أن نفهمه حتى لا ننقل فتيا أحد إلا بعد التثبت منها. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 16 النوازل المحذور السادس والأخير: هناك نوازل وقضايا جديدة وجدت في واقع المسلمين اليوم في مجالات كثيرة، خاصة وعامة، على مستوى الفرد والمجتمع، فيما يتعلق بالمرأة وفيما يتعلق بالرجل، وهي أشياء كثيرة، وكل واحد منكم يعرف منها الكثير، وهذه النوازل الكلام فيها أصعب من الكلام في غيرها، بل إن بعض هذه النوازل من الصعوبة بحيث لو عرضت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر، وتجد بعض الإخوة، قد يتكلم فيها بكل يسر وسهولة وبساطة، ثم يقول: لا تعقدوا الأمور، ولا تحولوا بين الناس وبين دين الله، دعوا الناس ليأخذوا من القرآن والسنة بسهولة، ولا تضعوا هذه العراقيل أمامهم! فنقول: إن الله عز وجل قد يسر القرآن للذكر كما أخبر عز وجل، وصحيح أنه لا يجب المبالغة في وضع العقبات والعراقيل أو اشتراط الشروط المعينة في الإنسان الذي يريد أن يأخذ من القرآن والسنة، لكن من المعروف في كل مجال أن كل علم أو فن له أهله، فمثلاً الأطباء لا يرضون أن يتدخل مهندس فيتكلم في قضاياهم، ويعطى وصفات طبية -مثلاً- ويعتبرون هذا نوعاً من الخطأ، يعاقب عليه الفاعل والعكس كذلك. فما بال القضايا الشرعية هي التي أصبحت يتدخل فيها كل أحد، ونحن لا نمانع أن يتكلم الطبيب أو المهندس أو أي نوعية من الناس في قضايا الدين بعدما يتحقق فيه قدر معين من الشروط، ولابد من الاتفاق على هذه الشروط، أما أن يتكلم الإنسان في هذه الأمور دون أن يكون له فيها خلفية، فهذا يسيء أكثر مما يحسن، ويفسد أكثر مما يصلح. وأقول في الختام: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] . الجزء: 50 ¦ الصفحة: 17 الأخذ عن الشيوخ المحذور الرابع: هو اعتماد الإنسان على نفسه في تلقى العلم دون العناية بالأخذ عن الشيوخ. وقديماً قيل: من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، وكان يزيد بن هارون رحمه الله يحث الطلاب على حضور مجالس العلم والأخذ عن الشيوخ، ويقول: من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب، فبقدر تخلف الإنسان عن حضور مجالس العلم والأخذ من العلماء ينقص تلقيه، واليوم أصبحت الوسائل أكثر تيسيراً، فبإمكان الإنسان أن يحضر حلقات المشايخ والعلماء ودروسهم وغير ذلك. لكن قد يقول قائل: ربما لا يتيسر لي ذلك وقد يتساءل البعض بالنسبة إلى الأخوات الحريصات على التفقه. فأقول: إن الأمر قد أصبح ميسوراً أكثر من ذي قبل، وعلى سبيل المثال، نجد أن دروس العلماء والأئمة تسجل في أشرطة، وتنشر بين الناس في كل مكان، فتجد أشرطة للشيخ ابن باز والشيخ ابن جبرين والشيخ ابن عثيمين، والشيخ الألباني وغيرهم من أهل العلم وهذه الأشرطة متخصصة ومتسلسلة، وفى علوم شتي، فيأخذ الإنسان يمسك فناً من الفنون أو علماً من العلوم، ويسمع هذه الأشرطة ويتابع في الكتب التي تشرح، ويسجل كل ما أشكل عليه في ورقة ثم يسأل عنه، سواء بصفة مباشرة أم بواسطة التليفون، أم بغير ذلك، فقد أصبحت الوسائل اليوم ممكنة في الأخذ عن العلماء والاستفادة من علمهم أكثر من أي وقت مضى، وأنصح نفسي وإخواني وأخواتي بالحذر من الاعتماد على النفس في العلم، لأن الإنسان كلما ازداد علمه كلما ازداد علماً بجهله، كما يقول الشاعر:- وكلما أزددت علماً ازددت علماً بجهلي وهذا -والله- حق فكلما ازداد الإنسان اطلاعاً على العلم ومعرفة له كلما ازداد علمه بجهله، لأنه يدرك حينئذ أن العلم بحر، لا يدرك له ساحل، وأن ما حصله منه إنما هو شيء يسير بالقياس إلى ما يجهله، وهذا يجعله يتواضع ويدرك الحاجة الدائمة إلى الأخذ عن العلماء والتلقي عنهم والاستفادة منهم. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 18 الاستعجال في أخذ العلم المحذور الأول: بعض الإخوة والأخوات الحريصين على التفقه -زادني الله وإياهم علماً وفقهاً- يبلغ الحرص بهم أن الواحد منهم يتمنى أن يحتقب -يجمع- العلم ويجمعه كله في أقصر وقت ممكن، فتجده يجهد نفسه من جهة ويشغل نفسه بألوان كثيرة من العلم من جهة ثانية، وينسى قضية التدرج في العلم، وقد ذكر أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم عن بعض السلف أنهم قالوا: من أراد أن يحصل العلم في يوم وليلة فهو مجنون، وليس المقصود في يوم وليلة، أي في أربع وعشرين ساعة، بل المقصود الإشارة إلى قضية التدرج، وعامل الزمن، وأنك حين تتجه لطلب العلم الشرعي، يجب أن تدرك أنك محتاج إلى وقت طويل حتى تحصل على هذا العلم، قد تحصل على علم بمسألة معينة، لكن أن تحصل على علم واسع، وبمسائل شتى وفي فنون متعددة، فإنك تحتاج إلى وقت طويل. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 19 الحذر من التناحر في الخلاف المحذور الثاني: هو جعل الخلاف الفقهي سبباً للتناحر، بحيث أنني بحثت مسألة فوصلت فيها إلى حكم، وبحثت أنت مسألة فوصلت فيها إلى حكم آخر مخالف، فتجد أنه أصبح بيني وبينك خصومة وتناحر وتباعد أحياناً، وتحزب على هذا الأساس، ولذلك يأتي بعض الناس في الشق الآخر فيقول: يجب عدم طرق هذه الموضوعات، لماذا؟ قال: لأنها تثير الخلاف بين المسلمين، وتثير العداوة، فهذا خطأ. بل نقول: يجب طرق القضايا الفقهية والقضايا الفرعية وبحثها والحديث عنها ونشرها بين الناس، ولا يعني الاختلاف فيها بيني وبينك أنني أتخذ منك موقفاً لأنك خالفتني في مسألة أو لأنني خالفتك في مسألة، والناس يقولون كلمه حق: اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، وعوامل الأخوة والتقارب بين المسلمين أقوى بكثير من عوامل التباعد مع أن الاختلاف بمجرده ليس من عوامل التباعد. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 20 الجرأة على الفتوى المحذور الثالث: هو الجرأة على الفتوى. وأقول: يجب أن يفرق بين عمل الإنسان بالشيء لخاصة نفسه، وبين فتياه لغيره، فالإنسان قد يجد نفسه -أحياناً- مضطراً لأن يفتي لنفسه في مسألة من المسائل، ولو لم يكن أهلاً لذلك، لكن أن ينشر هذه الفتيا على الناس، بأي وسيلة من وسائل النشر، فهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأن الناس أصبحوا يتعبدون الله عز وجل بفتياه، وقد أشار إلى الفرق بين فتيا الإنسان لنفسه خاصة، وبين فتياه للناس عدد من الأئمة، منهم الإمام ابن عبد البر في كتابه جامع بيان العلم في الجزء الثاني الصفحة الثمانين. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 21 الأسئلة الجزء: 50 ¦ الصفحة: 22 النسبة إلى المشايخ السؤال ماذا تقول في الشباب الذين يسمون بالألبانيين وكذلك النساء؟ الجواب يسمون -كما يقول الأخ السائل- بالألبانيين، نسبة إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني حفظه الله، وهو من الأئمة والعلماء المعاصرين الذين خدموا السنة النبوية خدمة جليلة، ولا يبعد أن يصدق فيه قول بعض أهل العلم: أنه لا يعرف في زماننا هذا أحد خدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما خدمها الشيخ حفظه الله وأمد في عمره على عمل صالح وتقبل منا ومنه. وهؤلاء المنسوبين إلى الشيخ لا أعتقد أنهم يرضون بهذه النسبة أو يوافقون عليها، وإنما قد يسميهم بها غيرهم من الناس لملحظ لحظه، وهو أنهم يعتنون كثيراً بكتب الشيخ وبالأخذ عنه. وأقول: لا يجوز الانتساب لأي شخص معين حين يكون هذا الانتساب يعين التلقي عنه دون غيره أو التعصب له أو ما أشبه ذلك، وإن لم يكن هذا موجوداً لدى كثير من هؤلاء الشباب والأخوات، لكن من الحق أن أقول: إن الحي دائماً يملك من وسائل الانتشار أكثر من الميت، ولذلك يقول الشاعر:- والحي قد يغلب ألف ميت فمن هو الذي يمكن أن يقول أنه سيوجد على مدى التاريخ إمام كالإمام البخاري أو الإمام أبي حاتم الرازي أو أبي زرعة أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من الجهابذة، وقد أصبح كثير منا يسمع حكم الإمام أحمد أو الإمام البيهقي أو الإمام البخاري أو الدارقطني على الحديث مثلاً، فلا يعير هذا الحكم اهتماماً، فإذا سمع من يقول صححه فلان من العلماء المعاصرين اعتبر هذا أمراً نهائياً، وهذا إن وجد فهو يعتبر خطأ، وهؤلاء العلماء أنفسهم لا يرضون مثل ذلك؛ لأنهم من الفضل بحيث لا يقرون أن يقلدهم الناس ويتركوا غيرهم دون معرفة بالدليل، ويقول البعض: لأن هؤلاء المشايخ المعاصرين يذكرون الحديث ويفصلون القول فيه والتخريج، وأقول ارجع قليلاً إلى الوراء وانظر إلى إمام كالحافظ ابن حجر -مثلاً- في خدمته للسنة واستحضاره للأدلة، وجمعه للطرق فإنك تجده فذاً ولا يكاد يكون له نظير، واقرأ في فتح الباري، واقرأ في كتابه نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار، واقرأ في غيرها من الكتب فإنك تجد العلم الغزير -أيضاً- فكما يوجد عند العلماء المعاصرين فضائل هي -أيضاً- موجودة وأكثر منها عند المتقدمين. وأقول: يجب على كل طالب علم أن يوقر أهل العلم ويعظمهم ويثني عليهم ويعرف لهم قدرهم ويدافع عنهم ضد من قد ينال منهم، يستوي في ذلك الشيخ الألباني وغيره من العلماء، لكن لا يعني هذا أن يقصر الإنسان نفسه على التلقي على هذا الشيخ والتشبع بآرائه وشغل الحياة كلها بالدعوة إلى هذه الآراء والنقاش حولها وإقناع الناس بها، خاصة إذا كان هناك أراء فقهية، خولف فيها هذا العالم الجليل من قبل علماء آخرين أجلاء، سواء من العلماء الماضين أو من العلماء المعاصرين، وكل يؤخذ من قوله ويترك. ولكن أقول بالمناسبة يجب أن نحمي ظهور هؤلاء العلماء، لأننا نجد بعض أهل البدع وبعض المنحرفين وبعض الجهال قد ينالون من هؤلاء العلماء أو يطعنون فيهم أو يسبونهم والعياذ بالله فعلى المسلم أن يذب عن عرض أخيه، فضلاً عما إذا كان عالماً له منزلته ومكانته، ولحمه مسموم ولا يجوز النيل منه، فعلينا أن نحتسب عند الله حماية ظهور هؤلاء العلماء والدفاع عنهم، ومعرفة قدرهم دون أن يؤدي بنا ذلك إلى أن نرفعهم فوق رتبتهم حيث هم لا يريدون ذلك، وهو -أيضاً- أمر غير مطلوب شرعاً. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 23 استفت قلبك السؤال إنه لا يجوز أن يرتمي الشخص إلى ما ترتاح إليه النفس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {استفت نفسك ولو أفتاك الناس} ما معنى هذه العبارة؟ وما مدى صحة هذه العبارة؟ الجواب العبارة في حد ذاتها صحيحة، وكيف نسأل عن صحتها وقد قالها رسول الله صلى عليه وسلم؟ لكن لعل السائل يسأل عن صحة الحديث، فالحديث صحيح، لكن يجب أن نعرف معنى هذه العبارة، ومتى يحتاج إليها الإنسان. فإن الإنسان في كثير من الأحيان قد يعرف الحق فيتمحل الوسائل لترك الحق إلى الباطل؛ لأن الحق لا تأنس به نفسه والعكس، فقد يعرف الإنسان الباطل والخطأ فيتمحل الوسائل والتأويلات للوقوع في هذا الخطأ؛ لأنه مع أنه أمر يريده يعرف أنه في قرارة قلبه أن هذا الأمر خطأ. الأمر الثاني: إن الإنسان الذي رزق تقوى واستقامة ونقاء وصفاء في قلبه، بلا شك أن قلبه قابل للحق أكثر من ذلك الإنسان هو الذي مظلم القلب. الأمر الثالث: أن العلماء ومنهم ابن عبد البر ذكروا أنه قد يوجد حالة محدودة ونادرة وتعتبر استثناء من الأصل قد يلجأ الإنسان فيها لمثل هذا، وذلك متى؟ حين يبحث في المسألة ويجمع الأدلة، ويسأل الناس، ثم يقف مع ذلك كله غير قادر على الترجيح بواسطة الدليل فهذا منتهى قدرته، فحينئذٍ يمكن أن يلجأ إلى ما تطمئن إليه نفسه بعد ذلك. ولذلك تجد بعض العلماء الكبار المشار إليهم، يقول: والذي تطمئن إليه النفس، لكن اطمئنان نفسه ليس على سبيل التشهي والرغبة، بل لأنه من كثرة ممارسته لبحث النصوص، وكثرة سماعه لها ومعالجته لها، تكون لديه ملكة في ذلك، كما كان يوجد لدى بعض المحدثين ملكة يعرفون بها علل الحديث، ولو لم تكون العلل ظاهرة. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 24 التأثير النفسي على طلب العلم السؤال هل تأثر الحالة النفسية على طلب العلم، كأن يبحث الرجل مع أخ يحبه في الله، أو يبحث مع شخص يبغضه في الله؟ الجواب لا شك أن الحالة النفسية ذات تأثير كبير في تحصيل الإنسان وطلبه، ولذلك على الإنسان حين يطلب العلم أن يبحث على الوسائل المعينة المريحة لنفسه، كأن يبحث في جو مناسب، وفي جو هادى، وفي وسط قوم يحبهم، فيبحث وهو مرتاح، أما لو بحث وهو منفعل مثلاً، أو هو مشغول القلب في أمر من الأمور أو في وسط قوم يكره مجالستهم أو مثل ذلك، فهذا لا شك يؤثر في تحصيله. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 25 التفضيل بين العلماء السؤال هل يجوز التفاضل بين العلماء، كأن يقال: إن الشيخ فلان بن فلان، أفقه من الشيخ فلان بن فلان؟ الجواب الناس يتفاوتون، والله سبحانه وتعالى يقول بالنسبة لرسله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] فالتفاضل موجود بين الرسل عليهم الصلاة والسلام وبين الناس وبين العلماء، لكن لا يجوز أن يكون هذا التفاضل بين العلماء مدعاة للتحزب والتعصب، أو سبباً في معارك تثور بين أتباع هذا الإمام وأتباع هذا الإمام، وكل ينتصر لنفسه، أو أن تكون بقصد تنقص الشخص المفضول ونسبته إلى شيء من الخطأ أو التقصير أو ما أشبه ذلك. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 26 إشارة لبعض كتب الفقه السؤال أرجو الإشارة إلى بعض الكتب النافعة للتفقه في الدين وكذلك الأشرطة، وهل تنصح بسماع الأشرطة الخاصة بالأمور الفقهية من شيخ واحد أو من عدة مشايخ؟ الجواب بالنسبة للكتب المعينة على التفقه فكثيرة جداً، أذكر منها: كتاب لـ ابن عبد البر جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله، ويوجد كتاب للخطيب البغدادي رحمه الله اسمه الفقيه والمتفقه، ويوجد مجموعة من الكتب في آداب طالب العلم والمتعلم، مثل: تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة، ومثل تعليم المتعلم طرق التعلم للزرنوجي، ومثل الحث على طلب العلم للعسكري، ومثل كتاب منتهى الإرب للشوكاني، وغيرها من الكتب وأنصح الإخوة والأخوات الحريصين على التفقه، أن يقرءوا هذه الكتب ويستخرجوا منها الفوائد المتعلقة بطريقة التعلم ووسيلتها فهي كتب نفيسة. أما بالنسبة للتلقي عن الشيوخ، فأنصح نفسي وإخواني وأخواتي بأن يعدد الإنسان وينوع مشايخه الذين يتلقى عنهم، حتى يكون عارفاً بخلاف الناس، ويكون لديه قدرة على اختيار الأسلم والأقرب، وحتى يسلم من التعصب لشيخ معين أو لرأي معين، وحتى يكتشف ما قد يقع فيه شيخه من أخطاء. ولذلك قال أيوب رحمه الله كما في سنن الدارمي: إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 27 مشكلة ضعف الحفظ السؤال كثير من الأسئلة جاء على نمط السؤال التالي:- أنا أريد أن أكون من الداعيات إلى الله بما علمت من الحق، وأريد أن أساعد أخواتي المسلمات بمعرفتي فيه، ولما أرى، مما تقع فيه الفتاة الملتزمة، وقد بدأت أتعلم في مدرسة ولكني أشكو إلى الله تعالى قلة حفظي ونسياني كثيراً من الأحاديث النبوية والآيات القرآنية، وأيضاً لا أعرف كيف ومن أين أبدأ، وأي الأمور أهم بالنسبة لي، فهلاَّ ساعدتموني، جزاكم الله خيراً. الجواب لعل هذا السؤال ينم بلا شك عن حرص شديد على تحصيل العلم, وأعود فأقول: ربما يكون الاستعجال -أحياناً- سبباً في فوات بعض الخير على الإنسان، فعلى الشاب والشابة ألا يكونا عجولين بتحصيل العلم، وأن يحرصا على الأناة وطول النفس، ومع الزمان والدأب والإصرار يحصل المرء على خير كثير، ولو أن الإنسان كلما قرأ أو سمع حفظ لوجدت أن كثيراً ممن يوجدون اليوم بيننا جهابذة يفوقون غيرهم من العلماء السابقين لأنهم قرأوا وسمعوا الكثير، ولأنهم قرأوا ما كتبه أولئك وما كتبه من بعدهم، لكن كل الناس يقرأ فينسى، ثم يقرأ نفس المعلومة مرة ثانية فينساها ثم يقرؤها مرة ثالثة فترسخ في ذهنه، فالتكرار والبدء والإعادة هو سبب مهم جداً في الحفظ والاحتفاظ بالمعلومات. قضية ثانية وهي: أن الاستمرار في هذا الأمر والتدرب عليه يوسع عقل الإنسان ويقوي ذاكرته، وهذه القضية عرفها سلفنا الصالح، فيقول الزهري مثلاً: إن الإنسان ليطلب العلم، وقلبه كالشِّعب فما يزال يطلب العلم حتى يكون قلبه كالوادي، يعني أن الإنسان من استمراره في طلب العلم تتسع مداركه وتقوى ذاكرته، كما أن هذا الأمر قد عرفه التربويون المعاصرون وتحدثوا عنه، وهو أن الذاكرة تقوى بالتمرن والاستمرار والتدريب. فعلى الأخت أن تستمر في هذا الطريق، وأن تدرك أنها حتى لو انتهت أيامها وهي في هذا الوضع التي تتحدث عنه، فهي في جهاد، ومن الجميل أن يلقى الإنسان ربه على مثله إذا حسنت النية وحسن القصد، وإننا بالاستمرار والدأب نحصل على شيء كثير، لكن علينا أن نتجنب الاستعجال. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 28 ذم البغي في الخلاف السؤال يقول الله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران:19] يقول بعض الناس مستدلاً بهذه الآية لا ينبغي العلم والتعلم لأنه يوجب الخلاف بين الناس، فما رأي فضيلتكم في هذا؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب هل الله سبحانه وتعالى ينعي على أهل الكتاب الخلاف بسبب العلم؟ كلا، بل بسبب البغي، فهذه الآية دليل على تحريم البغي بين الناس، أما أن العلم جاءهم، فهذا وصف لإقامة الحجة عليهم، فالله عز وجل يقول لم يكن اختلافهم ناتجاً عن وجود الجهل، وإنما كان اختلافهم مع وجود العلم، إذاً فما السبب؟ السبب هو البغي. إذاً: فالجهل من أسباب الخلاف والبغي من أسباب الخلاف، أما العلم فإنه من أسباب جمع الكلمة، لأن العالم الحقيقي هو من يملك سعة في صدره، وفسحة في قلبه، وإدراك أن هذا الخلاف بين الناس ما دام منطلقاً من الكتاب والسنة، وما دام المخالف متبعاً لدليل فإنه يسعه ذلك، ولا ينبغي أن أتخذ منه موقفاً معادياً. الجزء: 50 ¦ الصفحة: 29 خطأ مشهور تحدث الدرس عن حكم بعض المسائل الشرعية وبعض الأخطاء والاعتقادات المشهورة عند بعض الناس مثل التهنئة بشهر رمضان وهذه عادة لا عبادة، واعتقاد المرأة عدم صحة الصيام إن حاضت بعد أذان المغرب مباشرة، وأحكام الفطر للمسافر، وذكر بعض المفطرات، وأهمية تبييت النية في الفرض، وحكم السواك والحجامة والدم الخارج من الجرح، وغيرها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 1 تصحيح الخطأ وإعلان الصواب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذي قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في هذه الليلة -وهي ليلة الأحد السابع من شهر رمضان، من هذا العام عام (1413هـ) - تكتمل اللقاءات المتفق على عقدها في هذا المجلس، وسوف ننتقل بعد غدٍ -إن شاء الله تعالى- إلى مسجد الشيخ عبد الله الجاسر لإكمال هذه الدروس في ليلة الثلاثاء، وقد كنت تحدثت في أول ليلة، كلمة قصيرة بعنوان: (كتب عليكم الصيام) وفي الليلة الثانية كانت رسالة إلى أحد الإخوة، وعنوان هذه الكلمة: (رسالة خاصة) أما اليوم الثالث، والرابع فكانت عن (جهاد المرأة) وفي الأمس جاءكم فضيلة الدكتور/ عبد الله بن حمود التويجري وفقه الله تعالى وجزاه الله تعالى خيراً. أما اليوم، فلي حديثٌ إليكم وإلى الأخوات الكريمات بعنوان: (خطأ مشهور) وفي بعض الأمثال يقول الناس: خطأ مشهور خير من صواب مغمور، يعني: خفيٌ مستور، والواقع أن هذا الكلام ليس بصحيح، بل إن الخطأ يجب تصحيحه، ولو كان مشهوراً، وكلما زادت شهرة الخطأ تعين إصلاحه وبيانه والتنبيه عليه، وهكذا بالنسبة للصواب والحق، فكلما كان خفياً كان إعلانه أوجب وألزم، ولهذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء، وقال في الحديث الذي رواه ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما وهو في صحيح مسلم وغيره: {فطوبى للغرباء} ووصف الغرباء -كما في بعض الآثار- بأنهم: {يصلحون إذا فسد الناس -أو يُصلحون ما أفسد الناس-} لأنهم ينشرون السنة إذا خفيت، ويحاربون البدعة إذا ظهرت، ويأمرون بالمعروف إذا ترك، وينهون عن المنكر إذا شهر وفُعل، وإذا كان هذا الكلام -خطأ مشهور خيرٌ من صواب مغمور- في الأمور اللغوية مثلاً، أو ما أشبه ذلك فالأمر أهون وأيسر، أما في المجالات الشرعية فإن الأمر يختلف، ومن هنا أحببت التنبيه للإخوة والأخوات على بعض الأحكام التي هي على ظهورها وشهرتها ومعرفتها إلا أنه يكثر اللبس فيها، والخطأ والسؤال عنها، مع أنها تكرر مرة بعد أخرى ويتكلم عنها المفتون والمرشدون، والمعلمون، والوعاظ والمتحدثون في المساجد، إلا أن الإنسان يكتشف أن المجتمع بحاجة إلى مزيدٍ من التوعية والإرشاد، ويا ليت وسائل الإعلام التي دخلت كل بيت جُندت لهذا الهدف؛ لتعليم الناس أمور دينهم وتوعيتهم بأحكام ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. إذاً: لفعلت خيراً كثيراً، ولكفَّت عن الناس شراً كثيراً، ولكفتهم مئونة عظيمة، ولكن إلى الله المشتكى، فإن وسائل الإعلام ليست إيجابية بل هي على النقيض من ذلك، فهي تعمل على هدم ما يبنيه المسجد وما يؤسسه الداعية وما يصنعه الكتاب أو الشريط وكما قيل: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم الجزء: 51 ¦ الصفحة: 2 مسائل يكثر اللبس فيها أيها الإخوة، وهذه المسائل: هي مسائل فقهية عملية، وقد اخترت منها ما يتعلق بالصيام على الأغلب، وسوف أكملها -إن شاء الله تعالى- فيما بعد، كما إنني لم أحرص على ترتيب هذه الأشياء بحسب الموضوعات، وإنما عملت على ذكرها كيفما اتفقت؛ ليكون ذلك أنشط للذهن حيث ينتقل من موضوعٍ إلى آخر. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 3 حكم استخدام حبوب منع الدورة الشهرية أو الحمل في رمضان سابعاً: ومن المسائل أيضا التي تحتاج إلى بيان، هو أن كثيرٌ من النساء تسأل عن حكم استخدام حبوب منع الدورة الشهرية أو حبوب منع الحمل في رمضان من أجل أن تواصل الصيام إلى نهاية الشهر، ومن أجل أن تصلي مع المسلمين، فما حكم تناول هذه الحبوب؟ أقول: الراجح -إن شاء الله تعالى- أنه يجوز للمرأة أن تتناول هذه الحبوب في ليل رمضان من أجل ألا تأتيها العادة الشهرية، حتى تصوم الشهر كله، وحتى تصلي مع المسلمين أو من أجل أن تعتمر إذا كانت ذاهبة إلى العمرة. فالراجح أن ذلك جائز إذا كان لا يضر بصحتها، وإذا تناولت المرأة هذه الحبوب، ثم توقف عنها الدم فلم يأتها، فحينئذٍ واجب عليها أن تصوم تلك الأيام، وأن تصلي وليس عليها قضاء؛ لأنها صامت، فكيف تقضي وقد صامت. وبعض النساء، بل كثير منهن تعتقد أنها تتناول هذه الحبوب من أجل الصلاة ثم تصوم؛ لأنه لم يأتها الدم ثم تقضي الصيام بعد ذلك، وتظن أن الصيام وقت عادتها مع أن الدم لم يأتها لا يجزئ، وهذا خطأ، إذاً ما دام أن العادة انقطعت عنها، وأدت الصوم في وقته المعتاد -في رمضان مع المسلمين- وهو صوم صحيح، فأي معنى لكون المرأة تقضي الصيام بعد ذلك في شوال أو في غيره من الشهور، فهذا خطأ. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 4 حكم صيام من به مرض لا يرجى برؤه ثامناً: وكذلك من المسائل: مسألة المريض الذي أصابه مرضٌ لا يُرجى برؤه، مثل ما يسمى بالجلطة -مثلاً- أو السرطان، أو التليف، أو ما أشبه ذلك من الأمراض الشديدة التي يغلب على من أصيب بها ألا يشفى أو يعافى منها، إلا في حالات نادرة، فما حكم هذا الإنسان وهو لا يستطيع الصيام، أو نصحه الأطباء بعدم الصيام؛ لأن الصوم يزيد في مرضه؟! فهذا الإنسان يفطر، ويطعم عن كل يوم مسكيناً، نصف صاعٍ من برٍ أو أرز أو نحوهما، سواء أطعم في اليوم نفسه، أو أطعم بعد انتهاء رمضان، وكل ذلك جائز، ولا يضره. ولا يضره -أيضاً- أن يكرر الإطعام لمساكين بأعيانهم، بمعنى أنه أطعم مجموعة من المساكين للأسبوع الأول، ثم في الأسبوع الثاني أعاد الصدقة والكفارة عليهم هم أيضاً، فهذا لا مانع منه ولا يضره، وليست مثل كفارة اليمين، فإن كفارة اليمين لابد فيها من إطعام عشرة مساكين، كما ذكر الله تعالى في كتابه: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] فبالنسبة لكفارة اليمين، لابد من إطعام عشرة مساكين، فلو أطعم تسعة، لم يكمل الكفارة بأكملها بل لا بد أن يبحث عن عاشر غيرهم ويطعمهم، أما بالنسبة لكفارة الصيام، فلو أعادها على مساكين، وكررها عليهم، فإن ذلك لا يضره شيئاً. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 5 حكم صيام من افتقد عقله تاسعاً: وأيضاً مما يتعلق بذلك لو كان هذا المريض أو الكبير قد فقد عقله، وأصبح في حالة الخرف والشيخوخة، وهو لا يدري، ولا يعرف الليل من النهار، بل يعود -أحياناً- أقل من الطفل الصغير فلا يعرف شيئاً مما حوله، فهو قد فقد عقله وانتهى وأصبح لا يمر به يوم وهو مالك عقله، فإن مثل هذا ليس عليه صيام، ولا كفارة، بل قد سقط عنه التكليف، فهو في حكم المجنون والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في السنن وهو حديث صحيح-: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصغير حتى يبلغ} فإن مثل هذا الإنسان المخرف ليس عليه صيامٌ ولا إطعام ولا على أهله ولا على أولاده شيءٌ من ذلك. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 6 مسألة كفارة اليمين عاشراً: وكذلك من المسائل: مسألة كفارة اليمين: كثير من الناس والنساء خاصة يعتقدون أن كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيام، حتى أن من النساء من تظن أنه لا يجزئ في كفارة اليمين إلا صيام ثلاثة أيام، وهذا خطأ، بل صيام ثلاثة أيام عن كفارة اليمين لا يجزئ إلا لمن عجز عما قبلها، وهذا حكم منصوص بالقرآن الكريم قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] فهذه الأشياء الثلاثة على التخيير إما أن تطعم عشرة مساكين فتعطي كل مسكين نصف صاع، وليكن معه شيءٌ من اللحم، أو تكسوهم، أو تعتق رقبة، فإذا عجزت عن هذه الثلاث، حينئذٍ تنتقل إلى الصيام، ولهذا قال: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة:89] أما من وجد واستطاع فواجب عليه الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة، ولو صام لم يجزئه الصيام. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 7 حكم التهنئة بشهر رمضان أولاً: من المسائل التي يكثر اللبس فيها: مسألة التهنئة بشهر رمضان، فإن بعض الناس -بل أكثر الناس- يهنئ بعضهم بعضاً، كأن يقولوا: مباركٌ عليكم الشهر، أو هنيئاً لكم، أو تقبل الله منا ومنكم، أو ما أشبه ذلك، وآخرون لا يفعلون ذلك، وفئة ثالثة قد تنكر على من فعله، فما هو الحكم في ذلك؟ لقد جاء في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يهنئ أصحابه بقدوم رمضان، ولكن هذا الحديث لا يصح. وجاء -أيضاً- عن السلف رضي الله عنهم أنهم كانوا يهنئ بعضهم بعضاً ستة أشهر على قدوم رمضان، ويعزي بعضهم بعضاً ستة أشهر على فواته، وهذا كذبٌ على السلف رضي الله عنهم، إذ لو فعلوا ذلك لاشتهر ونقل، ولم يكن هذا من عادتهم وديدنهم قطعاً. فما هو حكم التهنئة بشهر رمضان؟ الأظهر أن هذا من قبيل المباحات والعادات، فإذا هنأ الناس بعضهم بعضاً فلا حرج في ذلك، ومن هنأ فإنه يرد، فإذا قيل له: تقبل الله منا ومنكم، فإنه يدعو بنحو هذا الدعاء، أو يقول: نسأل الله لنا ولكم القبول، أو جعله الله علينا وعليكم شهر خيرٍ وبركة، أو ما أشبه ذلك من العبارات والألفاظ التي هي داخلةٌ في المباحات، فهي من العادات، وليست من العبادات، ولهذا لم يثبت في الشرع: أنه يستحب أن يهنئ الناس بعضهم بعضاً بقدوم رمضان، ولكنه أمرٌ مباح، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله تعالى إذا هنأه أحدٌ بالشهر رد عليه، وإلا لم يبتدئه هو بالتهنئة، وهكذا هو الحال، وهذا الأقرب والأوجه، والله تعالى أعلم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 8 لزوم الصيام قبل طلوع الفجر ثانياً: مسألة اللزوم للصيام قبل طلوع الفجر، فإن كثيراً من العوام يعتقدون أن الإنسان إذا نوى الصيام قبل طلوع الفجر، فإنه لا يجوز له أن يعود فيأكل، أو يشرب، ويسميه بعضهم: الاستعقاب، فإذا انتهى من الأكل شرب ماءً، ثم يبدأ الصيام والإمساك قبل الفجر، وبعد ذلك لو أعجبه طعامٌ، أو قدم له شيءٌ فإنه لا يأكل، ويقول: نويت، والصحيح: أنه لا ينبغي للإنسان أن ينوي الصيام إلا مع الفجر، فتأخير الصيام إلى طلوع الفجر هذا هو المشهور والمشروع، وهو السنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه مخالفة لأهل الكتاب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {فَصْل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور} لأن أهل الكتاب لا يتسحرون، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسحور، وهو: أن يأكل الإنسان الطعام في وقت السحر، ولو نوى الصيام قبل طلوع الفجر ثم أعجبه طعامٌ، أو شرابٌ، أو اشتهى شيئاً منه، فإن له أن يأكل ويشرب، كما قال الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فهذا مما ينبغي التنبه عليه. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 9 الإصابة بالحيض بعد غروب الشمس في رمضان ثالثاً: كثيرٌ من النساء تسأل عما إذا أصابها الحيض بعد غروب الشمس وبعد الإفطار وقبل أن تصلي المغرب، وتعتقد كثيرٌ كثيرٌ من النساء أنه إذا أصابها الحيض قبل صلاة المغرب، بل بعضهن تقول، قبل صلاة العشاء الأخير، فإنه لا يحسب لها صيام ذلك اليوم، وهذا خطأ أيضاً، فإن الصواب أن الإنسان إذا غربت عليه الشمس تم صومه ولا يضره ما حدث بعد ذلك، فالمرأة -مثلاً- لو أصابها الحيض بعد غروب الشمس حتى ولو قبل أن تفطر بلحظة واحدة فإن صومها صحيح، ويومها لها ولا قضاء عليها، هذا هو الصواب الذي لا شك فيه. أما ما شاع عند النساء أنها إذا حاضت قبل الإفطار، أو إذا حاضت قبل صلاة المغرب أو إذا حاضت قبل صلاة العشاء أو إذا حاضت قبل أن تفطر وبعد أن أذن المؤذن وغربت الشمس أن عليها أن تعيد صومها فهذا باطل، بل صومها صحيح ما دام أن الشمس غابت وهي طاهرة لم تحض. ومثل ذلك -أيضاً- أن كثيراً من النساء، خاصةً من كبيرات السن تظن أنه لا يجوز أن تصلي إلا إذا صلى الإمام في المسجد، سواء صلاة الفجر أو غيرها، فتعتقد كثيرٌ من النساء أنه لا يجزئها أن تصلي إلا بعد أن تصلي الجماعة في المسجد، والصواب أنه إذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] . وذكر النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن جبريل جاءه، فأمه -في مكة- في أول الوقت وفي آخره، والحديث صحيح، وكذلك صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في أول الوقت وفي آخره وبين لهم المواقيت بقوله وفعله، فإذا دخل الوقت جاز للإنسان أن يصلي. فالمرأة إذا أذن المؤذن لصلاة الفجر وكان مؤذناً مأموناً جاز لها أن تصلي الفجر، فتصلي الراتبة -راتبة الفجر- ركعتين، ثم تصلي بعد ذلك صلاة الفجر، سواء كان المسجد المجاور لها قد صلى الفجر، أو لم يصل، تأخر أو لم يتأخر، فلا علاقة لصلاة المرأة بصلاة المسجد المجاور لها ولا غيره. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 10 وقت الفطر للمسافر رابعاً: مسألة متى يفطر المسافر؟ وهذه يخطئ فيها كثيرون، أعني الذي ينوي السفر فهو مقيم ونوى السفر، فهذا لا يجوز له أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً، أما مجرد النية فلا تبيح له الفطر، ولهذا قال الله تعالى في شأن الصيام: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] فقوله: (أَوْ عَلَى سَفَرٍ) تدل على التمكن، أي أنه واقع في السفر، أو كأنه راكب للسفر، أي أنه مسافر فعلاً ومتمكن من السفر، فلا يجوز للإنسان أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً، أما مجرد النية في السفر فلا تبيح له أن يفطر، ولذلك كان العذر المبيح للفطر وللقصر بالنسبة للصلاة وللجمع ولسائر الرخص الشرعية هو السفر، وليس نية السفر، فمادام في بلده أو في بيته، فلا يجوز له أن يفطر، ولا أن يقصر الصلاة، ولا يجمع الصلاتين -أيضاً- حتى يسافر فعلاً. أما إذا كان الإنسان يريد أن يسافر في الطائرة -وهذا مما يكثر السؤال عنه- فإذا كان قد حجز على طائرة معينة -حجزاً مؤكداً للسفر- وكان المطار خارج البلد -كما هو الحال في القصيم أو في الرياض أو في غيرها من البلاد التي يكون المطار فيها خارج المدينة- فإنه إذا خرج من المدينة إلى المطار بنية السفر، وهو حاجز فإنه يجوز له أن يتمتع برخص السفر حينئذٍ: من الفطر والقصر وغير ذلك. أما إذا كان لم يحجز، وإنما ذهب لعله أن يجد رحلة يدركها فيسافر عليها، ويحتمل ألا يدرك، فإنه حينئذٍ لا يفطر ولا يقصر وليس مسافراً ما دام أن المطار ليس مسافة قصر، وجميع المطارات الموجودة في داخل هذه البلاد لا تعد مسافة قصر فإنها لا تتجاوز -في الأعم الأغلب- عشرين أو ثلاثين كيلو متراً والإنسان لا يذهب إليها بنية السفر إليها، ولكن يذهب بنية السفر منها إلى غيرها من البلاد. إذاً: الخلاصة فيما يتعلق بالمسافر على الطائرة: أنه إذا كان قد حجز على الطائرة، وكان المطار خارج المدينة، فإذا خرج عن المدينة جاز له أن يتمتع برخص السفر، أما إذا لم يحجز فإنه لا يفطر ولا يقصر، ولا يجمع؛ لاحتمال ألا يتمكن من السفر فيعود إلى بلده. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 11 حكم صوم من أدركه الفجر وهو جنب خامساً: -وهي مهمة أيضاً- من أدركه الفجر وهو جنب -من رجلٍ أو امرأة- قد يكون الرجل أو المرأة جنباً في الليل، ثم لا يغتسل إلا بعد طلوع الفجر، إما عمداً وإما نسياناً، وإما لأنه نام، ولم يستيقظ إلا بعد الفجر، فما حكم صومه؟ صومه صحيح، ولا يضره أن يكون أخر الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، وقد جاء في الصحيحين والسنن وموطأ مالك من حديث عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدركه الفجر وهو جنبٌ من جماع ثم يغتسل ويصوم} . إذاً لا يضر الإنسان -رجلاً كان أو امرأة- أن يؤخر الغسل إلى بعد طلوع الفجر ولو متعمداً، فإن هذا لا يضر ولا حرج فيه، ولا بأس عليه في ذلك وصومه صحيح. وهناك سؤالٌ تسأل عنه بعض النساء، تقول: إنها لم تغتسل من الجنابة إلا بعد طلوع الشمس فما حكم صومها؟ فنقول أيضاً: صومها صحيح؛ لأن الصوم لا علاقة له بالطهارة، فصومها صحيح ولو كانت جُنباً -ومن المعلوم أن الحائض والنفساء لا تصوم، فالحيض والنفاس من مفسدات الصيام، إنما لو كانت جنباً أو غير متوضئة- فإن هذا لا يؤثر في الصيام، ولكن يرد السؤال لماذا أخرتِ صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس؟ إن كان التأخير لعذر مثل أن تكون نامت من غير تفريط، ولم تستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فلا حرج عليها، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} وفي الحديث الأخر أيضاً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك -مرجعه من غزوة تبوك- أنه لم يستيقظ هو وأصحابه إلا من حر الشمس، ثم قال: {هذا مكانٌ قد حضرنا فيه الشيطان، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مؤذنه، فأذن بالرحيل، ثم توضأ وصلى بأصحابه بعد ما طلعت الشمس} . إذاً إن كان تأخير الصلاة إلى بعد طلوع الشمس لعذر كالنوم أو نحوه، فلا حرج في ذلك، أما إن كان التأخير لتفريط فهو ذنبٌ عظيم وخطرٌ جسيم، بل هو من كبائر الذنوب، أن يؤخر الإنسان الصلاة إلى أن يخرج وقتها، فعليه أن يصحح توبته حينئذٍ وألا يعود إلى مثلها: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:17] . والخلاصة أن الإنسان إذا أدركه الفجر وهو جنب فصومه صحيح، وعليه أن يغتسل للصلاة، أما الصوم فلا يضره ألا يكون وقع كله في حالة طهارة من الحدث الأكبر أو الأصغر، فالصوم لا تعلق له بالطهارة كما أسلفت. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 12 حكم الاحتلام في نهار رمضان سادساً: ومثل ذلك سؤالٌ يتكرر كثيراً، وهو أن البعض يقول: إنه يستيقظ وهو قد احتلم في نهار رمضان، فما حكم صومه؟ فأقول: الاحتلام -وهو أن يقع من الإنسان وهو نائم ما يوجب الغسل- ليس من مفسدات الصيام، ولا يضر الصيام أبداً، بل عليه أن يغتسل للصلاة، ولا يضر الصيام أن يكون وقع الاحتلام في نهار رمضان. فما يتناقله البعض أو يظنونه من أن الاحتلام من مفسدات الصيام فهذا باطل وخطأ. أما الذي هو من مفسدات الصيام، فهو الجماع في نهار رمضان، فإنه من مفسدات الصيام والمفطرات بالإجماع، كما قال الله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] يعني النساء: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة:187] فدل على أن المباشرة -وهي إتيان النساء- والأكل والشرب تفعل في الليل إلى أجلٍ، وهو أن يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم يمسك بعد ذلك عن هذه الأشياء وعن غيرها من المفطرات. ومثله -أيضاً- إذا عبث الإنسان بنفسه، فخرج منه المني في نهار رمضان بالاستمناء -أو ما يسمونه بالعادة السرية- سواء كان ذلك بيده أو بغير ذلك، فإن هذا من المفطرات؛ لأنه إخراجٌ للشهوة، والله تعالى يقول في الحديث القدسي عن الصائم: {يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي} فدل على أن الصائم واجب عليه أن يدع شهوته حال الصيام من أجل الله تعالى؛ طاعة لله تعالى وامتثالاً لأمره وتركاً لنهيه. فإذا استمنى الإنسان في نهار رمضان، فإنه يفطر بذلك وعليه القضاء، ولكن الصحيح أنه ليس عليه الكفارة، وإنما الكفارة على من جامع زوجته في نهار رمضان من غير عذر -أي ليس مسافراً مثلاً- وإنما جامعها وهو مقيمٌ فعليه حينئذٍ القضاء، والاستغفار، والكفارة، وعليه أن يمسك بقية يومه. ثم إني أنبه إلى أن العادة السرية مع أنها تفطِّر من فعلها في نهار رمضان إلا أنها من أعظم الأسباب والأفعال المؤثرة في شخصية الإنسان وفي تفكيره وفي حياته وفي سلوكه، فإن كثيراً من الشباب يصابون بألوانٍ من المشاكل النفسية والأمراض والأزمات والقلق والتوتر والخجل، بل والأمراض الجسدية كضعف البصر، والارتعاش في الأطراف، واحمرار الوجه بل والضعف الجنسي إلى غير ذلك من الأسباب والنتائج، كل ذلك من جراء الوقوع في هذه العادة السيئة، ومن جراء الإدمان عليها وكثرتها، والإنسان إذا وقع فيها ربما يصعب عليه الخلاص منها، وربما يتحول إلى مدمن، فعلى الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه، وأن يجاهد ما استطاع في ذلك بقدر ما يملك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول، كما في صحيح مسلم، من حديث عبد الله بن مسعود: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} فإذا كان العبد يفعل مثل هذا الفعل وهو صائم مع أن الصوم هو العلاج، فإن هذا هو من أعظم الأخطار. ومثل هذا الكلام، أعلم أن الكثير يشمئز من الحديث عنه، ولكنها مسائل لا بد منها، لأن الكثيرين يحتاجون إلى بيانها، والله تعالى لا يستحي من الحق. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 13 مسائل متنوعة الجزء: 51 ¦ الصفحة: 14 حكم تحليل الدم في نهار رمضان ومن ذلك أيضاً ما يسمى: بالتحليل -في هذا العصر- فإذا كان يمكن تأجيل التحليل إلى الليل -أعني تحليل الدم- فهو أولى من أجل براءة الذمة؛ لكن لو كان ذلك غير ممكن فحلل الإنسان الدم في نهار رمضان، فإن صومه صحيحٌ، ولا قضاء عليه ما دام لم يفطر، أما إن قيل له: لابد أن نأخذ الدم وأنت صائم ثم نأخذه وأنت مفطر؛ فحينئذٍ لا يجوز له أن يحلل في نهار رمضان، بل عليه أن يؤجل التحليل إلى الليل إلا أن يكون ذلك لازماً ولابد منه لضرورة؛ فحينئذٍ فإنه يحلل وعليه أن يقضي ذلك اليوم الذي أفطر فيه. هذا مع أن التحليل -في الغالب- دمٌ يسير لا يقاس بالحجامة التي يخرج بها من المريض دمٌ كثير. إذاً: الخلاصة في هذه المسألة: هو أن خروج الدم من الصائم بجرحٍ لا يؤثر في صيامه -إن شاء الله تعالى- أما الحجامة فمن أهل العلم من قال: إنها تفطر استدلالاً بحديث: {أفطر الحاجم والمحجوم} ، والجمهور قالوا: لا تفطر استدلالاً بحديث ابن عباس: {احتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم} وبحديث أبي سعيد: {أرخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم} أما بالنسبة للتحليل -تحليل الدم- فإنه لا يفطر وإن أمكن تأجيله إلى الليل فهو أحوط وأولى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 15 حكم الحجامة في نهار رمضان الرابعة عشرة: أما بالنسبة للحجامة: فقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحجامة تفطر الصائم، ونقل هذا عن جماعة من الصحابة وهو مذهب ابن عباس رضي الله عنه وغيره، وقال به الإمام أحمد رحمه الله، وجماعة من الأئمة والسلف، ومن أقوى أدلتهم قوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} وذهب جمهور أهل العلم وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وجماعة قبلهم من الصحابة والتابعين، منهم أبو سعيد الخدري رضي الله عنه وعبد الله بن مسعود وأم سلمة، وجماعة من التابعين كـ عروة بن الزبير وسعيد بن جبير والثوري وغيرهم، فإن هؤلاء يرون أن الحجامة لا تفطر الصائم، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: {أفطر الحاجم والمحجوم} منسوخ بأدلة كثيرة، قوية، منها الحديث الذي في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: {أحتجم النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم} ومثله حديث أبي سعيد الخدري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص في الحجامة للصائم} وقوله رضي الله عنه: أرخص في الحجامة دليلٌ على أن هذا الحكم كان قبله منع، فإن الرخصة تكون بعد عزيمة، وبعد منعٍ، فالظاهر -والله أعلم- أن الحجامة لا تفطر الصائم، وعلى الإنسان ألا يحتجم في نهار رمضان من أجل الخروج من الخلاف، وإبراء الذمة واطمئنان القلب، فإنه لا حرج عليه قط عند أحد من أهل العلم أن يؤخر الحجامة إن احتاج إليها إلى الليل. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 16 حكم خروج الدم من الجرح في نهار رمضان الثالثة عشرة: مسألة أن بعض الناس يظنون أن خروج الدم من الجرح، ولو كان دماً يسيراً يفسد الصيام، بل بعضهم يظن أنه إذا جرح ولو لم يخرج الدم، حتى ولم يجاوز موضع الجرح أن ذلك يفسد الصيام، وهذا أيضاً غير صحيحٍ، ولا دليل على ذلك، ولعل بعض الناس فهمو ذلك من مسألة الحجامة وقاسوه على ذلك، والأمر مختلف، فإن هذا الجرح اليسير الذي أصاب الإنسان هو عن غير تعمد، بل يكون جرحاً وقع عليه من غير قصد فلا يؤثر، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يتعلق بالقيء: {من استقاء عامداً فليقض، ومن ذرعه القيء فلا قضاء عليه} رواه أبو داود والترمذي وهو حديث صحيح كما قال ابن تيمية وبعض أهل العلم. إذاً إذا تعمد الإنسان القيء بيده أو بسم شيء أو بأي شيء وتعمد ذلك من أجل أن يقيء فعليه القضاء، أما من ذرعه القيء وأصابه من غير قصد، سواء كانت امرأة حاملة أو رجلاً أو غير ذلك، أو شم روائح من غير قصد، فحصل منه القيء، فهذا عليه أن يخرج ما في فمه، وصومه صحيح، وهكذا الحال بالنسبة للدم، فحتى على القول بأن الحجامة -وهي إخراج الدم عن طريق المحاجم- تفطر الصائم، فإن الجرح الذي يصيب الإنسان من غير قصد، ويكون الدم فيه يسيراً، وربما لا يتجاوز موضع الجرح، فإن ذلك لا يفطر الصائم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 17 حكم السواك في نهار رمضان الثانية عشرة: مسألة أن كثيرٌ من الناس يتجنبون السواك في نهار رمضان كله، وهذا خطأ، لأنه لا تعارض بين السواك والصيام، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيحين: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} والحديث الآخر: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع -أو عند- كل وضوء} ؛ فالصواب أنه يشرع للصائم أن يستاك كما يشرع لغيره. أما عند صلاة الفجر وصلاة الضحى وما أشبهه مما يكون في أول النهار فهو مشروع عند سائر أهل العلم، وكذلك عند الوضوء في أول النهار، وما أشبه ذلك مما يقع قبل الزوال. أما ما يقع بعد الزوال، فقد ذهب بعض أهل العلم أنه لا يشرع لحديث علي رضي الله عنه: {إذا صمتم فاستاكوا بالغداة، ولا تستاكوا بالعشي} أي: استاكوا في أول النهار، ولا تستاكوا في آخره، ولكن هذا الحديث -حديث علي - رضي الله عنه ضعيفٌ جداً، فقد رواه البيهقي، والدارقطني وغيرهما وسنده في غاية الضعف، فلا يحتج به، وقد عارضه حديث آخر وهو وإن كان ضعيفاً أيضاً إلا أنه خيرٌ من حديث علي رضي الله عنه، وهو: {رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم} ويُغني عن هذين الحديثين، قوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} {عند كل وضوء} فيدخل في ذلك الصلاة والوضوء للصائم وغير الصائم، وقبل الزوال وبعد الزوال، فيدخل في هذا الحديث السواك لصلاة الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء والوضوء لهذه الصلوات كلها. وكذلك يستحب للإنسان أن يستاك في مواضع أخرى، فإن المواضع التي يشرع للصائم، وللإنسان أن يستاك فيها ستة مواضع: 1- عند الصلاة: لقوله صلى الله عليه وسلم: {عند كل صلاة} . 2- عند الوضوء: لقوله صلى الله عليه وسلم: {عند كل وضوء} . 3- عند قراءة القرآن: وقد جاء في هذا أحاديث، عن علي رضي الله عنه وغيره: {إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك} وهذه الأحاديث لا يخلو شيء منها من مقال ففيها ضعف. 4- عند دخول المنزل: لما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أنها سُئلت بأي شيء يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته، قالت: بالسواك} 5- عند تغير رائحة الفم: لقوله صلى الله عليه وسلم، كما في سنن النسائي وغيره بسندٍ صحيح: {السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب} فقوله: مطهرة للفم دليلٌ على أن السواك يشرع لتطهير الفم وتنظيفه. 6- عند الاستيقاظ من النوم: لحديث حذيفة المتفق عليه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من النوم يشوص فاه بالسواك} . إذاً يشرع للإنسان أن يستاك في هذه المواضع الستة، سواء أكان صائماً أم غير صائم، أما ما يظنه بعض العلماء من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك} من أن الاستياك يعارض هذا الحديث فهذا ليس بجيد: 1- لأن الخلوف من المعدة، فهو رائحة تنبعث من المعدة؛ بسبب خلوها من الطعام، وليس من الفم، إذاً السواك لا يزيل الخلوف، ولا مدخل له فيه. 2- إن كثيراً من العلماء قالوا: إن هذه الرائحة هي عند الله تعالى أطيب من ريح المسك {لخلوف فم الصائم أطيب عند الله} بل جاء في بعض الأحاديث {يوم القيامة} . إذاً لا تعلق لذلك بأمور الحياة الدنيا، والسواك لا يضر ذلك، بل هو يزيد رائحة الفم عند الله تعالى طيباً إلى طيب، فإن السواك -أيضاً- مما يرضي الله عز وجل، وهو مما أمر الله تعالى به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما إذا بقي شيء في فم الإنسان من أثر السواك، فعليه حينئذٍ أن يزيله دون أن يفضي به إلى الوسوسة، فإن كثيراً من الناس يشقون على أنفسهم، ويبالغون ويشددون فيشدد الله عليهم، وربما يُبتلون بألوانٍ من البلايا والمصائب؛ بسبب مبالغتهم في ذلك، فيبالغ الواحد منهم -مثلاً- في إخراج بقايا السواك من فمه، أو يبالغ في إخراج بقايا الطعام بعد السحور من فمه، أو يبالغ حتى في إخراج الريق من فمه، فإذا تعقد ريقه حاول إخراجه، وشق على نفسه، وبعضهم يجد مشقة عظيمة في المضمضة والاستنشاق، وكل ذلك من الآصار والأغلال التي وضعها الله سبحانه وتعالى عن هذه الأمة، قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة:286] قال الله تعالى قد فعلت، فكل الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، قد وضعها الله تعالى عن هذه الأمة، فينبغي علينا -عباد الله- أن نيسر على أنفسنا وعلى غيرنا في هذه الأمور. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 18 حكم تبييت النية من الليل لصيام الفرض الحادية عشرة: أن بعض الناس يسمعون أنه لا بد من تبييت النية من الليل لصيام الفرض، وهذا صحيح، فإن صيام الفريضة كصوم رمضان والنذر والكفارة لا بد فيها من أن تبيت النية، أي لا بد للإنسان أن ينوي من الليل أنه سوف يصوم غداً، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى} والحديث الآخر في السنن وهو صحيح: {لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل} لكن البعض يعتقدون أن تبييت النية لا بد فيه أن يستيقظ قبل الفجر، فلو أن أحدهم نام في الساعة الثانية عشرة ليلاً، أو في الواحدة ليلاً ثم لم يستيقظ إلا بعد طلوع الفجر، ظن أنه لا يجزئه صيام ذلك اليوم، ويقول: لأنني لم أبيت الصيام من الليل، وينسى هؤلاء أو يجهلون أن الليل يدخل بغروب الشمس، هذه واحدة. ثم إن بعض هؤلاء يجهلون معنى تبييت النية، ويبالغون في ذلك، ويدخل عليهم الوسواس، والصواب أن المسلم الذي جرت عادته بصيام رمضان فهو لا يفطر منه شيئاً قط، يكفيه مجرد أن يخطر الصوم على باله، فإن هذا يعني أنه ناو للصيام، ومستحضر له ولم ينو الفطر ولا قطع الصوم، وإنما نوى الصيام لله تعالى، ومنذ دخول الشهر وهذه نيته، أما المبالغة في ذلك، والإسراف والوسوسة، فإنها من كيد الشيطان الذي ينبغي للإنسان أن يسعى في دفعه ما استطاع. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 19 دعوة تبرع للمسلمين في البوسنة الخامسة عشرة: -أيها الإخوة- هذه هي معظم المسائل المتعلقة بالأخطاء المشهورة بالنسبة للصائمين، وقبل أن أغادر هذا المكان أود أن أقول لكم: إننا سنعمل في كل ليلة على أن نجمع ما تيسر من أموال المسلمين لدعم أو مساعدة إخوانهم في كل مكان، وفي هذه الليلة سوف يتم الجمع بعد صلاة التراويح مباشرة لصالح إخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك وأرجو منكم أنتم -أيها الإخوة أو الأخوات- أن تبذلوا ما تجود به نفوسكم في هذا السبيل فإن الأمر عظيم والخطب جليل، والكارثة التي ألمت بالمسلمين هناك لا تكاد توصف. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 20 نداء إلى الرجال أما بالنسبة لكم أنتم أيها الرجال، فلتعلموا أن أمثالكم من الرجال الأشداء الأقوياء، هناك يتحرقون إلى قطعة سلاح يدافعون بها عن أنفسهم وعن أعراضهم وعن بلادهم فلا يستطيعون، وفي البوسنة والهرسك أكثر من مائة ألف شاب أقوياء، الواحد منهم لو أردت منه أن يهد جداراً لفعل، لكنه لا يملك قطعة سلاح يدافع بها عن نفسه، وربما لو تمكنوا من عشرات الملايين من الدولارات لاستطاعوا أن يحرروا كل شبرٍ من بلادهم، والله لتسألن عن هذا الأمر أيها الأحبة، فعليكم أن تقفوا مع إخوانكم في الدعم بقدر ما تستطيعون. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 21 نداء إلى النساء أما أنتن يا معشر النساء، فعليكن أن تتذكرن الكلام الذي قلناه مراراً بأن أكثر من مائة وعشرين ألف مسلمة قد انتهكت أعراضهن بالاغتصاب، بل أحياناً الاغتصاب الجماعي من هؤلاء الوحوش والخنازير، أعداء الإسلام من النصارى والصليبيين، أكثر من مائة وعشرين ألف فتاة، ما بين سن السادسة إلى السبعين من عمرها، منهن أكثر من ستين ألف حوامل، وإذا حملت المرأة احتجزوها في معسكرات، حتى لا تتمكن من إسقاط الحمل، فهم يريدون أن تلد وتنجب أولاداً من النصارى حتى يلاحقها الذل والعار حتى الموت، وبالأمس نشرت الصحف مجموعة صور لرجال ونساء عراة من المسلمين في معسكرات الصرب لم يبق من أحدهم إلا جلدٌ على عظم وهم يمشون مثل الكلاب على أقدامهم وعلى ركبهم وأيديهم مطأطئ الرءوس، ترهقهم الذلة وتغشاهم الكآبة، ووراءهم جنود الصرب وأسلحتهم مشهرة إلى رءوس المسلمين يطلبون منهم أن يزحفوا زحفاً طويلاً بهذه الطريقة، وعلى الجليد والثلج، وفي وسط المخاوف، وكل من أبدى تردداً أو عجزاً أو ضعفاً أو لم تحمله رجلاه، فإنهم يصوبون السلاح إلى رأسه. لقد تخلى العالم كله عنهم، وبقيتم أنتم يا أهل التوحيد، يا أهل لا إله إلا الله، فيجب عليكم أن تقفوا معهم، فاصدقوا الله. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 22 البذل بالمال في سبيل الله إنني أعجب، وحق لي أن أعجب! فنحن نطالبكم بالبذل، ثم ننظر ما هي حصيلة هذا الجمع في مسجد ضخمٍ كبيرٍ كهذا المسجد المبارك الذي يحضره ألوف، بل ربما عشرات الألوف، فإذا نظرنا وجدنا أربعين ألف ريال، سبحان الله! حتى الزكاة يجوز أن تدفعها لهؤلاء المسلمين، وفي النهاية أربعون ألف ريال!! ما الذي يجعل النصارى وهم أهل شرك وتثليث وإلحاد ولا يرجون من الله، ومع ذلك يجمعون مئات الملايين من الدولارات، وأنتم -أيها المسلمون- تتراجعون وتتأخرون؟! ما الذي يجعل النصارى وأولاد النصارى يأتون من روسيا لمساعدة إخوانهم من النصارى، وقبل أمس في الصحف أكثر من عشرة آلاف شاب أرثوذكسي من النصارى -من القوميين المتعصبين- الروس ينضمون إلى القتال في صفوف الصرب، ويشدون عزائم إخوانهم من أهل الكتاب. أما المسلمون فعدد المسلمين الذين يقاتلون هناك إلى جوار إخوانهم يقدر بالمئات، ونحن لا نطالبك الآن أن تجاهد بنفسك، إنما نطالبك بأن تجاهد بمالك، وما نريده منك سوى مائة ريال أو ألف ريال وإن كنا نقبل منك حتى الشيء اليسير، ولا تحقرن من المعروف شيئاً. وأنتِ أيتها المسلمة لا تحقري من المعروف شيئاً ولو من حليكن كما قال عليه الصلاة والسلام: {والمرء في ظل صدقته يوم القيامة} والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {سبق درهم ألف درهم} وإنما الأعمال بالنيات، ولو ريالاً فإن فيه خيراً كثيراً إن شاء الله. ونحن نطالب أهل الغنى والجدة واليسار أن يتقوا الله في إخوانهم، والله ثم والله لسوف تسألون عنهم، فهم يستصرخون بكم ويصيحون، والعالم الغربي الكافر يجد نفسه مضطراً إلى أن يظهر الغضب والانزعاج، ويقف ولو إعلامياً إلى جوار المسلمين، ثم يخذلهم إخوانهم المسلمون، وبعض الناس يقولون: المسألة طالت! فهل هي بأيدينا؟ فهذا أمرٌ عند الله تعالى ولو طالت، فنحن لا نطالبك -يا أخي- بشيء من نفسك: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] نحن نقول لك: أخرج الزكاة، فأنت تعطي زكاتك -أحياناً- لإنسان قد يكون محتاجاً، ولكن ما هي حاجته؟ بعضهم يشتري أشياء إضافية للمنزل، أو ما أشبه ذلك، وربما يكون عليه ديون قابلة للتأخير وربما يكون بعض الكماليات، وربما امرأة تشتري به ذهباً تتجمل به أو تجمل به بناتها، ولكن أمامك أناس يموتون جوعاً وعطشاً ومرضاً، في الصومال، وأمامك مصائب أمم بأكملها، وكوارث حلت بشعوب تقدر بملايين، أفلا تعي؟! أفلا تعقل؟! أفلا تدرك؟! أتقيس مأساة فرد بمأساة أمة؟! ومصاب بيت بمصاب شعبٍ بأكمله؟! فأطالبكم -أيها الإخوة المسلمون وأيتها الأخوات المؤمنات- مجدداً أن تصدقوا لله في هذه الليلة بالذات، ولعله ألا يخرج منكم -بإذن الله تعالى- أحد، إلا وقد غفر الله له بصدقة نوى بها وجه الله تعالى لا يعلم بها أحد، تصدق بصدقةٍ فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] وربما ينصر الله سبحانه وتعالى إخوانكم المسلمين بهذا المال، وؤأكد لكم أننا وغيرنا من الذين يجمعون التبرعات نستطيع بحمد الله تعالى أن نوصلها إلى المسلمين هناك حتى تسد فاقتهم وفقرهم، ويُشترى لهم بها الأطعمة، والحليب، والملابس، والأغذية والأكسية، والسلاح، وكل شيء ممكن بالمال، والمشكلة الوجيدة هي المال. ويا معشر النساء، أدعوكن إلى الصدقة، ولو من حليكن، وأنبه بعض الشباب أنه بمجرد صلاة الوتر، فعليهم أن يقفوا على الأبواب، ويحرصوا على جمع ما تجود به نفوس إخوانهم وأسأل الله بصفاته العليا، وبأسمائه الحسنى في هذه الساعة المباركة، وفي هذه الليلة المباركة لكل من تصدق وأنفق مما يستطيع ولو بالقليل؛ أن يجعل الله تعالى ذلك صحةً في بدنه، وطولاً في عمره، وسعةً في رزقه، وعافية في الدنيا، وعفواً في الآخرة، وصلاحاً في ولده، وسعادة في قلبه، ورفعة في درجاته، إنه على كل شيء قدير. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، ويسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى. اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. اللهم أصلحنا يا مصلح الصالحين، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وأصحابه كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 51 ¦ الصفحة: 24 الأكل مع أذان الفجر السؤال يقول: ما حكم الأكل مع أذان الفجر وما مقداره؟ الجواب بالنسبة للأكل فللإنسان أن يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر، فإن كان هناك مؤذن يؤذن على الوقت فإذا سمعت صوته في أول الأذان فعليك أن تمسك، أما إن كان المؤذنون يحتاطون ويبكرون دقيقة أو دقيقتين فعليك أن تأكل بمقدار هذه الدقيقة أو الدقيقتين. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 25 عشاء الوالدين في العشر السؤال ما رأيكم في عشاء الوالدين الذي يقام في العشر الأواخر؟ الجواب هذا ليس له أصلٌ، لكن الصدقة مشروعة عن الوالدين وغيرهم، وليس في الصدقة اختلاف كما قال بعض السلف، فبإمكان الإنسان أن يتصدق عن نفسه أو عن والديه بمالٍ أو طعامٍ أو عشاءٍ يعطيه الفقراء والمساكين أو ما أشبه ذلك. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 26 جمع التبرعات السؤال يقول: لو نبهت الإخوة الحضور بأن عليهم واجباً نحو إخوانهم فلو أن كل واحدٍ منهم قام في مسجد الحي الذي يسكن فيه وجمع التبرعات للمسلمين لحصل من ذلك خيرٌ كثير؟ الجواب هذا سبق وأن نوهت به، وأدعوك أنت -يا أخي- أن تكون من أول المبادرين إلى هذا العمل، فأنت -إن شاء الله تعالى- مشتركٌ في الأجر؛ لأنك دللت على خير والدال على الخير له مثل أجر فاعله، لكن عليك أيضاً أن تكون مسارعاً إلى الخيرات. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 27 حكم الإفطار في السفر بعد الصوم السؤال يقول: لقد ذهبت إلى الرياض وأنا صائم، وشق عليَّ ذلك اليوم، وبعد رجوعي شربت قليلاً من الشاي بسبب أثر الصداع في رأسي، فما رأيكم في صومي هذا؟ الجواب ما دام أنك كنت مسافراً فكان بإمكانك أن تفطر؛ فإن الله سبحان وتعالى قال: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] وما دمت قد أفطرت فعليك قضاء ذلك اليوم الذي أفطرته. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 28 حكم التسوك قبل قراءة القرآن السؤال ذكرتم أنه لم يصح في التسوك قبل قراءة القرآن حديث، فهل نحمل السواك عند القراءة على أنه من المستحبات وليس من السنن؟ الجواب جاء الترغيب به في مجموعة أحاديث، رأى بعض أهل العلم أن بعضها يقوي بعضاً ويشد بعضها بعضاً، ومنها حديث: {إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك} وعلى كل حال فالسواك من فضائل الأعمال ولا حرج أن يتسوك الإنسان قبل الصلاة. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 29 الجماع في صيام التطوع السؤال ما رأيكم في من جامع زوجته عالماً بصيامه، وهو في صيام تطوع غير رمضان كيوم الخميس والإثنين؟ الجواب من جامع زوجته في صوم تطوع فلا شيء عليه، فالمتطوع أمير نفسه، وليس عليه في ذلك شيء، وإن أحب أن يقضي بدله يوماً آخر -فيتطوع بيومٍ آخر- فهذا حسن، ولو لم يفعل فليس عليه شيء. أما من جامع زوجته في نهار رمضان فإنه قد آتى ذنباً عظيماً، وعليه أربعة أمور: 1- أن يمسك بقية اليوم؛ لأنه أفطر من غير عذر. 2- أن يتوب إلى الله عز وجل توبةً نصوحاً؛ فإن هذا من الكبائر. 3- أن يقضي يوماً مكانه كما ذهب إليه أكثر أهل العلم. 4- عليه الكفارة وهي: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، ولو أفطر فيهما يوماً واحداً من غير عذر لزمه أن يستأنف الشهرين من أولهما، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً، وهذه الكفارة على الترتيب على رأي جماهير أهل العلم خلافاً للإمام مالك. أما من كان صومه قضاءً لواجب، مثل إنسان قضى يوماً من رمضان في شوال، ثم أفطر فهذا آثم أيضاً؛ لأنه من شرع في أداء صوم الواجب ولو لم يكن من رمضان كالقضاء أو الكفارة أو النذر فإنه لا يجوز له أن يفطر في ذلك اليوم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 30 الذهاب إلى مكة للعوائل والخادمات السؤال هل تنصح بالذهاب إلى مكة بالعوائل، وما حكم ذهابهم مع الخادمة الكافرة؟ الجواب لا أنصح بذلك بالنسبة للعوائل، اللهم إلا أن يكون معهم من يحفظهم ويضبط أمورهم ويقضي حاجاتهم ويتابعهم جيداً، فإن أوضاع البلد الحرام في هذا الشهر لا تخفى على الكثيرين من اختلاط الشباب والفتيات وكثرتهم في الحرم وخارج الحرم وفي الأسواق وفي الأزقة، بل وفي الشقق والعمارات والفنادق وغيرها، وقد اطلعنا واطلع غيرنا من ذلك على أشياء كثيرة توجب على أولياء الأمور الذين يكون عندهم شباب مراهقون أو بنات مراهقات ألا يذهبوا بهم، اللهم إلا أن يكون الذهاب ليومٍ واحد يقضون فيه العمرة ويحققون فيه الفضيلة الواردة في صحيح البخاري: {عمرة في رمضان تعدل حجة معي} ثم يعودون، أما كونهم يقضون الشهر كله أو العشر الأواخر هناك ويترك الأب الحبل على الغارب لأولاده، فلا يدري أين ذهبوا ولا أين جاءوا؟ ويكون هناك تسوق في الشوارع، وذهاب وإياب ولقاءات وأعداد كبيرة عند الهواتف واتصالات ورسائل متبادلة وأمور كثيرة؛ فإن هذا لا شك ربما يكون الأمر فيه خلاف ما ذهب الإنسان إليه، ويكون كمن بنى قصراً وهدم مصراً. وكذلك بعض الشباب -وقد أعجبني بعضهم- حين رأى الأوضاع لم يُطِقْ صبراً فعاد؛ لأنه وجد هناك بعض المغريات والفتن. من اللاء لم يحججن يبغين حجةً ولكن ليقتلن البريء المغفلا أما الذهاب بالخادمة الكافرة فلا يجوز، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ويؤسفني أن بعض الإخوة يقول: أن قريبة له رأت امرأة في الحرم ولما أقيمت الصلاة، قالت للخادمة: قومي اخرجي، فقامت الخادمة وخرجت، فقالت لها: لماذا؟ قالت: لأنها كافرة، وأريد أن تخرج حتى تُقضى الصلاة، فلم يكتفوا بإدخالها مكة بل أدخلوها إلى المسجد الحرام، وهؤلاء ارتكبوا عدداً من ذنوب: أولها: استقدام امرأة بدون محرم. ثانياً: إدخال الكافرة إلى جزيرة العرب والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} {لأخرجنَّ اليهود والنصارى من جزيرة العرب} {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} . ثالثاً: أنهم أدخلوها مكة والله تعالى يقول: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة:28] ومكة كلها حرام. رابعاً: أنهم أدخلوها إلى المسجد نفسه، وهذه الأشياء كلها مما نهى الله تعالى عنها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 31 صلاة المسافر خلف المقيم السؤال يقول: أنا كنت مسافراً وجئت إلى مسجد أهله مقيمون، ووجدت الإمام في التشهد الأخير وعندما سلم قمت وصليت ركعتين فقط؟ الجواب لا، بل عليك ما دمت اقتديت بإمام مقيم أن تأتي بأربع ركعات؛ لقوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح {وما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا} وأنت فاتك أربع ركعات، ولذلك قال السائل لـ ابن عباس ماذا أكون بمكة إذا لم أصل مع الإمام؟ فقال: تصلي ركعتين فدل على أنه كان مستقراً عندهم أن المسافر إذا كان مع إمامٍ مقيم فإنه يصلي وراءه أربع ركعات في الرباعية ولا يقصر الصلاة معه، وهذا مذهب كثيرٍ من أهل العلم خلافاً للإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 32 الذهاب إلى الديار المقدسة السؤال يقول: من يذهب إلى الديار المقدسة وهو إمام، ويترك جماعة المسجد؟ الجواب عليه أن يحرص إن ذهب أن يجعل في المسجد من ينوب عنه ويقوم مقامه، وأنصح ألا يكثر الإخوة الذهاب، بل لو أن الإخوة جلسوا في بلادهم وذهب الواحد يوماً، ورجع لكان هذا أولى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 33 كلمة توجيهية السؤال يقول: مضى ثلث هذا الشهر تقريباً، ولا يزال بعض الناس على ما هم عليه من الذنوب والمعاصي وتضييع الوقت من غير فائدة، فهل من كلمة توجيهيه تهديها لهذه الفئة؟ الجواب أُذكر الإخوة بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- عن أبي موسى وغيره: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، صعد المنبر، وقال: آمين آمين آمين، قالوا: يا رسول الله، قلت آمين، قال: جاءني جبريل فقال من أدرك رمضان فلم يغفر له، فأبعده الله، قل: آمين، قلت: آمين} فما بالك بإنسان دعا عليه جبريل وآمن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يتب الإنسان في رمضان فمتى يتوب؟ إذا كنت -يا أخي- أيام ومواسم الطاعات وغيرها عندك سواء، فمتى يستيقظ قلبك؟! وإذا كنت يوم الجمعة تفكر بأن هذا اليوم يومٌ فاضل، وهو يوم فيه خلق آدم وفيه أهبط من الجنة وفيه تقوم الساعة وفيه وفيه وفيه ساعة تستجاب فيها الدعوة، وفيه تشرع كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تتذكر فقط أن يوم الجمعة يومٌ فيه إجازة وترتكب فيه بعض الذنوب والمعاصي التي لا ترضي الله، ومثل ذلك هذا الشهر الكريم لا تذكر من ذكرياته إلا أن الليل وقتٌ للعب الكرة سواءً في الملاعب أو مشاهدة اللاعبين على شاشة التلفاز، حيث لم تقصر رعاية الشباب فقد أعدت لشبابنا في هذا الشهر خمس عشرة مباراة طيلة خمسة عشر يوماً من أيام هذا الشهر!! وأما بالنسبة للشباب الذين لا يستطيعون الحضور فالحمد لله الوسائل والإمكانيات تتيح أن تُنقل لهم هذه المباريات حيةً على الهواء ليستمتعوا بمشاهدتها طيلة ليالي هذا الشهر الكريم!! أما في النهار فهم مشغولون بالدراسة أو بالعمل، ولك أن تتصور بقية اليوم، فمتى يجد الإنسان وقتاً لقراءة القرآن أو لذكر الله أو للتفكير في أمور الآخرة، أو حتى لمصلحته الدنيوية -الله المستعان-. أسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا شقياً ولا محروماً، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 34 طريقة إقناع الآخرين بالإنفاق السؤال أبي رجل ميسور، وأتاه الله تعالى مالاً، وأحب له ما أحبه لنفسي، فما هو السبيل الذي أستطيع أن أسلكه معه حتى يكثر من الصدقة والبذل في سبيل الله، ودعوة الناس إلى الخير؛ لأنه يقبض يده عن هذا الخير العظيم، وفقنا الله وإياكم إلى الخير؟ الجواب عليك أولاً بكثرة الدعاء له، ثم عليك أن تكلمه في ذلك بالكلمة الطيبة، وأن تكون عاملاً معه في عمله حتى يقتنع منك ويرتاح إليك ويقبل رأيك، ثم عليك أن تسلط عليه بعض الأخيار الذين يدخلون معه مدخلاً حسناً، ويقنعونه بعمل الصالحات. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 35 حكم من احتلم في نهار رمضان السؤال إنسان احتلم في نهار رمضان فهل يصح صومه أم لا؟ الجواب الاحتلام في نهار رمضان هو أن يرى الإنسان وهو نائم شيئاً، فتخرج منه شهوته، هذا الاحتلام لا يفطر الصائم، وعليه إذا استيقظ أن يغتسل، ولا شيء عليه. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 36 حكم الروائح الطيبة للصائم السؤال الروائح الطيبة هل تفطر، مثل دهن العود وغيره؟ الجواب الروائح الطيبة لا تفطر، فالرائحة ليست من المفطرات، لكن إذا كان لهذه الرائحة جرم مثل الدخان الذي يتصاعد من البخور، فعلى الإنسان ألا يقربها من أنفه أو يشمها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 37 حكم معاجين الأسنان للصائم السؤال ما حكم استخدام معاجين الأسنان للصائم؟ الجواب معاجين الأسنان -أيضاً- لا تفطر الصائم إذا اكتفى بأن يغسل بها فمه، وينظف بها أسنانه، وعليه بعد ذلك أن يخرجها من فمه، ولا يصل إلى حلقه شيءٌ منها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 38 الخشوع في الصلاة السؤال من يصلي خلف إمام جيد الصوت من أجل صوته، ويحاول أن يخشع في الصلاة، ولكنه يخشع قليلاً ثم ينصرف إلى الدنيا، فما رأيكم في ذلك؟ الجواب لا حرج للإنسان أن يذهب إلى مسجد يظنه أقرب إلى الخشوع، وليس عليه في ذلك شيء، بل يرجو أن يكون له في كل خطوة حسنة -إن شاء الله تعالى- كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم. أما بالنسبة للخشوع فأولاً الخشوع مما ينبغي أن يحرص عليه الإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] وذكر الله تعالى هذا في صفات المؤمنين: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] . ولكن ما هي الأسباب التي تمنعنا من الخشوع؟ لعل من أعظم الأسباب كثرة المعاصي، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14-15] فبعض الناس إذا اجتمع قلبه وقربت دمعته جاءه الشيطان يركض فصور أمام عينيه معصيته يوم كذا وكذا، فتفرق الخشوع من قلبه وزال عنه حتى أن عينه لا تبض بقطرة، فهذا من شؤم المعاصي والذنوب فعليك أن تقاومها وتحاربها، ثم إن الخشوع وحده لا يكفي، ولهذا الله سبحانه وتعالى ذكر وجوهاً خاشعة وقال: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:4-7] الخشوع لا بد معه من إيمان، ولا بد معه من اتباع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا بد معه من إحسان، ولابد معه من عمل حتى يكون هذا الخشوع مؤثراً. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 39 كثرة الخدم والسائقين السؤال يقول: ما رأيك في كثرة الخدم والخادمات والسائقين في هذا المجتمع وغيره، ومن الملاحظ أن هذا الأمر لم يعط حقه من التحذير، مع بيان أخطاره في المجتمع؟ الجواب نعم هذا خطر عظيم، وتأتينا اتصالات، وأخبار، وأسئلة فضيعة من الجرائم التي تقع داخل البيوت من كبار السن، ومن صغار السن من الرجال، ومن النساء بسبب كثرة الخدم والخادمات، ومجيء النساء بدون محارم، وعدم التوقي منهم وجعلهم في البيوت، وإطلاعهم على الأسرار، وسهولة اتصالاتهم الهاتفية، واستقبالهم لمن شاءوا، وخروجهم متى شاءوا، واختلاط الرجال بالنساء، وخلوتهم معهن، واختلاط النساء الخادمات بأهل المنزل، وتزينهن أحياناً، وقد تكون المرأة قد جاءت من مكان بعيد فمنذ سنوات وهي بعيدة عن زوجها أو غير متزوجة أحياناً وهي امرأة فيها ما في غيرها من النساء من الغريزة التي ركبت، وكذلك أهل المنزل قد يكون فيهم الشاب الأغرار، ويحصل من جراء ذلك خطرٌ شديد، ويتحمل وزر هذا الأمر وحوبه ومغبته بالدرجة الأولى من تسبب في ذلك، ومنهم أولياء أمور أمن أهل البيوت والآباء وسواهم ممن سهل هذه المهمة أو أذنوا بها أو سمحوا بوجودها أو ساعدوا عليها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 40 تهاون في الصلاة السؤال أنا أحب الشباب الملتزمين، ولكنني أتهاون في الصلاة كسلاً، وأريد أن أتوب وأرجع إلى عملي الصالح، ادع لي بالتوفيق والتوبة الصالحة؟ الجواب نسأل الله تعالى أن يوفقك، ويتوب الله علينا وعليك إنه على كل شيء قدير، ولكن مع ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ ربيعة بن مالك: {أعني على نفسك بكثرة السجود} فعليك أن توطن نفسك على العبادة وعلى الصلاة وعلى ثني ركبتك في المسجد، وعلى مصاحبة الناس الصالحين، وعليك أن تكثر أنت من دعوة الله تعالى، فإنه لن يدعو لك أحداً أنصح لك من نفسك، والله تعالى قال: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] فقبل أن تطلب من الناس أن يدعوا لك فعليك أن تدعو لنفسك دعاءً صالحاً، وإياك إياك أن تكون ممن ذكر الله تعالى فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49-50] فعليك أن تدعو أنت لنفسك وتصدق الله تعالى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 41 الجمع بلا خوف ولا مرض ولا سفر السؤال ما رأيك في الحديث الذي جاء في صحيح مسلم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الظهر مع العصر، وجمع المغرب مع العشاء، من غير عذر ولا مرض} ؟ الجواب الحديث ليس كذلك من غير عذرٍ ولكن فيه من غير خوفٍ وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه ولا سفر، وفي رواية ولا مرض، وسُئل ابن عباس رضي الله عنه قال: أراد أن لا يحرج أمته، فدل على أنه فعل ذلك لدفع الحرج عنهم، وجماهير أهل العلم على أنه لا يجوز جمع الصلاة إلى الأخرى إلا لحاجة أو عذرٍ، إما مرض أو سفر أو خوف أو ريح شديدة، أو ما أشبه ذلك من الأسباب المبيحة لجمع الصلاة إلى الصلاة الأخرى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 42 حرب على الله ورسوله السؤال هل صحيح ما يقال: أنه في بعض مساجد الرياض مكتوب كلامٌ فيه سب لله سبحانه وتعالى، وما الذي يجب أن يفعل تجاه هؤلاء؟ الجواب نعم هذا صحيح، وقد كتب به إليَّ بعض الشباب الذين أعرفهم وهم ثقاة، وشاهدوا هذه الكتابات بأعينهم، وفيها سبٌ لله رب العالمين في محاريب المساجد -والعياذ بالله تعالى- ويبدو أنها أكثر من مسجد، وهذه قد تكون حدثت من بعض الذين يحاربون الله ورسوله ويستفزون المسلمين ويحاولون أن يستثيروا مشاعرهم خاصة في هذا الشهر الكريم، وإذا كان هذا حدث من شخص مجهول وفي مكان خاص وهو لا شك من الأمور الفضيعة العظيمة التي تكاد السماوات أن تتفطر منها وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، وقد قال الله هذا فيمن ادعوا أن لله تعالى ولداً: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم:88-92] . أقول: إن الكلام الذي كتب أبشع وأفضع وأشنع مما قاله النصارى بحق رب العالمين، وأعظم وأطم مما قاله اليهود في حق رب العالمين، فإن لله وإنا إليه راجعون. ثم إني أقول: إن هناك أشياء كثيرة مما ينبغي للمسلمين أن يحتسبوا عليها -الآن- وأن يعلنوا إنكارها قبل أن يسلط الله عليهم ثم يدعونه فلا يستجيب لهم، فإن هذا الإعلام -الذي يغير أخلاق المسلمين وعقائدهم صباح مساء من خلال التلفاز والإذاعة والجريدة والمقالة، ويحارب الكلمة الهادفة الصادقة بكل وسيلة- من أعظم المنكرات التي يجب على كل مسلم أن يحتسب عليها. وكذلك الربا الذي شاع وانتشر في بلاد المسلمين وأصبحت بيوته أعظم البيوت، فقد أصبحت تناطح السحاب -أحياناً- بارتفاعها وقوتها، وكأنها قلاع أعدت لحرب الله تعالى ورسوله، ومع ذلك قلما نسمع خطبة تحذر من الربا أو درساً في النهي عنه أو بياناًَ يوجه المسلمين إلى تركه، وقلما نسمع صوتاً ناصحاً يطالب وبقوة بوجوب تحويل الاقتصاد إلى اقتصادٍ شرعي إسلامي لا شبهة فيه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278] إن كنتم مؤمنين: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] فأمةٌ يحاربها الله تعالى كيف تفلح؟ وكيف تنجح؟ كيف تستقيم اقتصادها؟ وكيف تنتصر على عدوها؟ وكيف تجتمع كلمتها؟ الجزء: 51 ¦ الصفحة: 43 حكم طاعة الوالدين في عدم الجهاد السؤال يقول: ما رأيكم في الذهاب إلى البوسنة والهرسك للجهاد، هل يستأذن الإنسان والديه علماً أنهما لن يوافقا على ذلك؟ لقد وجهت لكم السؤال أكثر من مرة إليكم- والسائل مسلم من مصر؟ الجواب لا يجوز الجهاد إلا بأذن الأبوين، وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً جاء من اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أحيٌ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد} وفي رواية: {أنه قال: يا رسول الله، جئت إليك من اليمن، فتركت أبواي يبكيان، قال: أرجع فأضحكهما كما أبكيتهما} وفي صحيح البخاري أيضاً: {أنه عليه الصلاة والسلام سُئِلَ عن أفضل الأعمال، قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم أيٌّ؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أيٌ؟ قال: الجهاد في سبيل الله} ولكن بإمكان الأخ أولاً: أن يذهب إلى هناك للدعوة وللتعليم، فإنه من أعظم ألوان الجهاد، وهم أحوج ما يكونون إلى من يعلمهم دين الله عز وجل، فقد خرجوا من جحيم الشيوعية الذي سيطر عليهم أكثر من أربعين سنة، كما أن بإمكان الأخ أن يجاهد معهم بالمال، وقد كتب بعض الإخوة ورقة يقول فيها: لو أن بعض الشباب قاموا بجمع التبرعات من أحيائهم، أو في مسجدهم، أو زملائهم في العمل، وأقول: إن هذه فكرة طيبة جداً، ولنفرض أن ألفاً من الإخوة الذين يستمعون هذا الكلام الآن، انتدب كل واحدٍ منهم نفسه لأن يجمع ما استطاع من التبرعات خلال هذا الشهر، إما من جماعة المسجد الذي يصلي فيه، أو من زملائه في العمل إذا أخذوا الراتب -إن كان ثمة راتب- أو من أقاربه، أو يذهب إلى بعض التجار ويطلب منهم حتى ولو كانوا لا يعرفونه فأقلهم سوف يعطيه ألف ريال -على الأقل- من باب المجاملة، فإذا كان ألف شاب جمعوا لنا كل واحدٍ منهم ألف ريال، فمعنى ذلك أننا جمعنا مليون ريال بكل سهولة ويسر، وعلى الإنسان أن لا يحقر من العمل الصالح شيئاً. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 44 طلب توجيه دعوة السؤال دعوة الإخوة في البلاد وما حولها لتأسيس مؤسسة لنشر جريدة إسلامية، وهل هذا مستحيل؟ الجواب في هذه البلاد أشك في إمكانية ذلك، ولكن هناك بلاد أخرى قد يكون أنسب لإصدار مطبوعة إسلامية، أو ما أشبه ذلك من الأعمال الإعلامية. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 45 كشف الحجاب السؤال أنا شاب مصري، ولي أخت في الجامعة تلبس الحجاب الشرعي، ولكن المسئولين في الجامعة يرفضون دخول المحجبات إلى الكلية إلا إذا كشفت وجهها إلى رجل الأمن الموجود على الباب، فماذا أفعل؟ الجواب كونها تكشف وجهها لرجل الأمن ثم تعيد غطاء الوجه، لا حرج عليها -إن شاء الله تعالى- في ذلك. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 46 البعد في الآمال السؤال إلى أي مدى نستطيع أن نذهب بآمالنا التي في انكشاف واقعنا المعاصر؟ الجواب عليك أن تذهب بأملك إلى غير حد؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: {أنا عند ظن عبدي بي} والله إننا نعلم أن المستقبل للإسلام كما نعلم أن دون غدٍ الليلة، وليس شرطاً أن نشهد هذا بأعيننا، ولكن علينا أن نباشر صنعه بأيدينا، وعلينا أن نعمل الأسباب، وبوادر نصر الإسلام تلوح ظاهرة في الأفق، خذ على سبيل المثال الجزائر: حاربوا الإسلام، وأدخلوا ثلاثين ألف في السجن، ومع ذلك هناك تقارير في الأيام القريبة للدول الغربية، تقول: على الدول الغربية أن تعرف كيف تتعامل مع الإسلام في الجزائر، لأن الإسلام هو الذي سوف يحكم في الجزائر طال الزمن أم قصر؟ وهناك عشرات الآلاف قد جندوا أنفسهم وهم في المدن، وبعضهم من العسكر، وبعضهم من غير العسكر، ويستعدون لمقاومة الأوضاع الفاسدة هناك، وبغض النظر عن النتائج التي تحصل من جراء مثل هذا العمل، وهل تؤدي إلى نتيجة أو لا تؤدي، إلا أننا نعلم في الجزائر ليس همَّاً لفئة محدودة من الشباب ولا لقلة قلية من العسكر، ولا لطائفة من العلماء، بل هو همٌ للشعب كله، وأكثر من 80% من الشعب ينادي بالإسلام، ويطالب بتحكيم الشريعة، فمن الذي يستطيع أن يقتل 80% من الشعب؟ فهذا محال، ومثل ذلك في اليمن الآن، ومثله في مصر فهم قد قتلوا المئات وسجنوا الآلاف في مصر، ومع ذلك الإسلام في ازدياد، والخير في قوة وفي نمو، والشباب الذين يودعون في غياهب السجون يهتفون للموت في سبيل الله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها وهم يريدون الموت، وعدوهم لا يمكن أن يفعل بهم أكثر من الموت. إذاً عليك أن تعرف أن الإسلام دين الله، إن الشيوعية سقطت في سبعين سنة، وأمس قرأت كلاماً لرجل غير مسلم، يقول: على أعداء الإسلام من الغربيين أن يعلموا أنه إذا سقطت الشيوعية في سبعين سنة فالإسلام لن يسقطه سبعين سنة، ولا سبعمائة سنة؛ لأن عمر الإسلام الذي جاء على يد محمد صلى الله عليه وسلم 1400سنة، أما الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء وهو التوحيد، فهو من عهد آدم عليه السلام إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فقد ذهبت أمم وقرون وأجيال وطغاة وعروش وبقي الإسلام: والحق منصورٌ وممتحن فلا تعجب فهذي سنة الرحمن والمهم هو أن تكون صادقاً، وعليك بالثبات، وعليك بالصبر، وعليك بالجهاد، وكن جندياً من جنود الإسلام، ونم قرير العين إن هذا الدين دين الله، وهذا ليس من شأني ولا شأنك، فإن هذا دين رب العالمين وسوف ينصر الله تعالى دينه، ومن حسن الظن بالله تعالى أن تعلم أن الأمر كذلك. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 47 حكم إقامة مراكز للتدريب على الجهاد السؤال يقول: حكم الجهاد في البوسنة وفي فلسطين، ولماذا لا تقام مراكز تدريب للشباب هنا؟ الجواب الله المستعان الله المستعان، الشباب لم يقم لهم مراكز تدريب، بل أقيم لهم -بارك الله فيك- مدرجات كرة تضيع أوقاتهم، أما حين يكون هذا الأمر متعسراً عليهم؛ لبعد المسافة، فقد وضعت لهم أجهزة التلفاز التي تنقل المباريات ليلياً في نهار رمضان حيةً على الهواء، حتى يلهوا الشباب في مثل هذه الأمور، فلا ينفعوا في دنياهم ولا في دينهم. ونسأل الله أن يعيننا ويبصرنا بهذه المخاطر التي تهددنا، حتى نستطيع أن نكون رجالاً على أقل تقدير يدافعون عن بلادهم، ودعك من البوسنة والهرسك أو غيرها، وكلها بلاد الإسلام، لكن كل بلاد الإسلام مهددة أيضاً، والواجب أن يكون المسلم عنده قوة يستطيع أن يدافع بها ولو عن بلده أو حتى عن بيته ومحارمه. فهذا هو الواجب على المسلمين -ومع الأسف- وأقول: هو موجود في كل بلاد الدنيا إلا في بلاد التوحيد وبلاد الإسلام، حتى إسرائيل تجند الشباب بالقوة، بل يؤسفنا أن نقول: حتى البنات يجندونهن، مع أنهم اليهود الجبناء الأنذال، لكنهم يشعرون بأنهم في حالة حرب مع المسلمين، ونحن لا نقول بتجنيد النساء؛ لأنه لا شك أن هذا خطرٌ كبيرٌ وعظيم، والذي يثير العجب والدهشة أن بعض الصحفيين يطالبون بتجنيد البنات، أو بفتح مجالات رياضية للبنات؛ لأن البنت قد تحتاج إليها في الدفاع عن الوطن، والآن الرجال أصحاب الشوارب لم يستطيعوا أن يفعلوا ذلك ولا فتحت لهم مثل هذه الأبواب ومثل هذه القنوات، ومثل هؤلاء لا يعرفون ولا حتى كيف يخادعون ولا حتى كيف يكذبون. لكني بالمناسبة أدعو الله أن ينصر المسلمين في البوسنة والهرسك إنه على كل شيءٍ قدير، وأسأله في هذه الساعة المباركة أن ينصر المسلمين في فلسطين وأن ينصر المسلمين في مصر وأن يفك أسرى المأسورين وأن يرحم موتاهم إنه على ما يشاء قدير، وأسأل الله تعالى أن ينصر الإسلام والمسلمين في تونس وفي الجزائر وفي اليمن، وفي أفغانستان وفي طاجكستان، وفي كل مكان إنه على كل شيءٍ قدير. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 48 حكم دعاء الاستفتاح لكل ركعة في التراويح السؤال هل يجب أن يقرأ المصلي دعاء الاستفتاح في بداية كل ركعة في صلاة التراويح؟ الجواب أجمع العلماء على أن دعاء الاستفتاح ليس بواجب، ولكنه سنة، فإن قرأ الإمام فاكتفي بالاستعاذة من الشيطان الرجيم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 49 حكم التسوك وقت العصر السؤال هل يجوز التسوك وقت العصر؟ الجواب نعم التسوك مشروع في كل وقت في الحالات المذكورة في الحديث، كالسواك عند الصلاة، أو عند دخول المنزل، أو ما أشبه، وهو ذلك مشروعٌ في كل وقت سواءً قبل الزوال أو بعده على الراجح من أقوال أهل العلم، وفي الحديث: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء} وفي الحديث الآخر: {لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} . الجزء: 51 ¦ الصفحة: 50 التقصير في العمرة السؤال اعتمرنا ومعنا فتاة عمرها أربع سنوات؛ لكن نسينا أن نقصر لها، فما هو الواجب علينا؟ الجواب الواجب أن تقصروا لها، والله أعلم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 51 صفوف النساء السؤال بالنسبة لصفوف النساء؟ الجواب ينبغي أن تسد، ويتم الصف الأول فالأول. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 52 الأطفال مع النساء في المساجد السؤال بعض النساء تكون في الصف الأول، ومعها طفل فيأخذ محلاً؟ الجواب ينبغي ألا يكون معها طفل بجانبها، وإن خافت عليه فتضعه أمامها، أو قريباً منها، وإن كثر أطفالها فالأولى أن تجلس في بيتها، وتصلي ما كتب الله لها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 53 طلب توجيه نصيحة للمدرسين السؤال أرجو توجيه كلمة للمدرسين، والمدرسات لاستغلال هذا الشهر بالقيام بواجبهم وبالدعوة داخل مدارسهم، فالنفوس قريبة من الخير. الجواب نعم هذه فرصة كبيرة، وعلى المدرسين والمدرسات مربي الأجيال أن يحرصوا على توجيه كلمات وعظ وإرشاد لفلذات الأكباد من البنين والبنات، وأن يذكروهم بالله تعالى، وينبهوهم على المخاطر التي تهددهم، مما يكيد لهم الشيطان -شيطان الجن- ومما يكيده لهم شياطين الإنس من المفسدين، سواء في وسائل الإعلام، أو عبر الهاتف، أو عبر الشريط، أو غير ذلك من وسائل الغناء والفساد والفجور وما أشبه ذلك. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 54 حبوب منع الحمل في نهار رمضان السؤال امرأة تستخدم حبوب منع الحمل، وإذا تركت الحبوب جاء الحيض، فهل إذا نسيت أن تأكل حبة ثم تذكرت في النهار، هل يجوز لها أن تأكل حبة؟ الجواب لا يجوز لها أن تأكل في النهار، ولو أكلت لأفطرت، لكن إذا جاءها الحيض الذي تعرفه فعليها أن تقضي ذلك اليوم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 55 طلب نصيحة السؤال أرجو توجيه أخي ونصحه، حيث أنه حضر في هذا المجلس، فهو سريع الغضب ويغضب لأتفه الأسباب، فيسب زوجته، ويشتمها ويعلو صوته، حتى يتلفظ بكلامٍ لا يقال للكفار، فضلاً عن المسلمين. الجواب {جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصني -كما في الصحيحين- قال: لا تغضب، فردد مراراً، قال: لا تغضب} فالغضب من الشيطان، وهو جمرة تتقد في قلب ابن آدم، فإذا غضب وهو قائم فليقعد، أو قاعد فعليه أن يضطجع وأن يتوضأ، فإن الوضوء يطرد الشيطان، ويسكن الغضب بإذن الله تعالى، وعلى الإنسان أن يدرب نفسه، فإنه ما أنزل الله من داءٍ إلا وأنزل له دواء، فدواء الغضب: هو تدريب النفس على ذلك، وأن يحرص الإنسان على ألا يتكلم في حال الغضب، بل أن ينصرف ويتجنب مؤثرات الغضب وأسبابه، فربما طلق الإنسان زوجته، بسبب الغضب، وربما شتم، وربما وقع في الكفر أحياناً والعياذ بالله والرسول عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً مغضباً، فقال: {إني لأعلم كلمة لو قالها هذا لذهب عنه ما يجد، فقال رجل: وما هي يا رسول الله؟ قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل: أتراني مجنوناً؟} أي: حتى أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وهذا كان من غضبه، فعلى الإنسان إذا غضب أن ييقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 56 دعاء الإفطار السؤال هل يصح أن يقول: اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت؟ الجواب هذا جاء في حديث، ولكن فيه ضعفٌ أما الثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، أنه كان يقول إذا أفطر: {الحمد لله، ذهب الظمأ وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} وإذا أراد أن يفطر قال {بسم الله} . الجزء: 51 ¦ الصفحة: 57 الرائحة في رمضان السؤال هل الرائحة تفطر الصائم؟ الجواب لا، الرائحة ليست من المفطرات. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 58 الصوم وإتيان المحرمات السؤال هل كل محرم يفطر الصيام كأكل الربا وشرب الدخان؟ الجواب أما أكل الربا أي: أخذ المال من الربا، فهذا محرم ومن الكبائر، ولكنه لا يفطر الصائم، أما شرب الدخان إذا شربه في نهار رمضان، فإنه يفطر، ولا شك في ذلك، ولا أعتقد أن ثمة خلاف بين أهل العلم في هذا، فشرب الدخان وتعاطيه في نهار رمضان من المفطرات، أما كونه يتعاطى الدخان في الليل فهذا محرم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 59 حكم من سافر ووصل بلده قبل الغروب السؤال إذا كان الرجل مسافراً ووصل إلى بلده قبل غروب الشمس، فهل يمسك أم لا؟ الجواب من أهل العلم من يقول يمسك؛ لأن سبب الفطر قد زال وهو السفر، والراجح أنه لا يلزمه الإمساك؛ لأن ذلك اليوم غير معتد به، ولكن عليه أن لا يعلن الفطر، خاصة لمن لا يعرف سبب فطره. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 60 حكم صلاة العصر بنية الظهر السؤال هل أصلي العصر بنية الظهر، ثم أقضي العصر، إذا تذكرت وقت العصر أني لم أصل الظهر؟ الجواب لو أتيت إلى الجماعة، وهم يصلون العصر، ثم تذكرت أنك نسيت صلاة الظهر، فحينئذٍ لك أن تدخل معهم، وتنويها الظهر، فإذا صلوا، فإنك تأتي بعد ذلك بصلاة العصر، ولا حرج عليك في ذلك إن شاء الله تعالى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 61 حكم صحة حديث {صوموا تصحوا} ؟ السؤال ما صحة حديث: {صوموا تصحوا} ؟ الجواب هذا الحديث ليس بصحيح، أما حديث: {الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة} فهو حديث صحيح. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 62 حكم مد الرجلين تجاه القبلة السؤال ما حكم مد الرجلين تجاه القبلة في الحرم وغيره؟ الجواب ليس في ذلك حرج فيما أعلم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 63 الدعاء بين باب الكعبة والحجر الأسود والملتزم السؤال هل يشرع بعد طواف العمرة أن يقف المعتمر بين باب الكعبة والحجر الأسود والملتزم، ويلصق صدره بالكعبة، ويدعو بما شاء، وأن له دعوة مستجابة؟ الجواب جاء ذلك في حديثين في سنن أبي داود، لا بأس في إسنادهم، فلا حرج على الإنسان، أن يجلس في الملتزم ويلصق صدره ورأسه ويديه، ويدعو الله بما أحب. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 64 الصيام في السفر السؤال ما رأيك في من يصوم في السفر، ويقول: لا توجد مشقة حتى أفطر؟ الجواب إذا لم يكن في السفر مشقة في رمضان، فالصوم أفضل من الفطر، وذلك لأن فيه تعجيلاً لبراءة الذمة، وفي الحديث المعروف حديث أبي الدرداء أنه كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في يومٍ شديد الحر وما فيهم صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو الدرداء. فالصوم في السفر، إن لم يكن فيه مشقة، هو أولى، وأحسن إن شاء الله تعالى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 65 قراءة القرآن وحفظه السؤال أنا -والحمد لله- معتاد أن أختم كتاب الله في سائر الشهور، لكن لم أحفظ منه إلا القليل، فأسأل عن الأفضل، هل أجعل ما خصصت من وقتٍ في اليوم للحفظ أم للقراءة، علماً بأن الوقت المخصص لذلك لا يزيد عن ساعتين؟ الجواب حبذا أن تجمع بين هذا وهذا، فتجعل لك ورداً من القراءة في رمضان لتختم القرآن مرة أو مرتين وتجعل لك وقتاً آخر لحفظ كتاب الله تعالى. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 66 انفجار في المصنع العالمي بنيويورك السؤال في هذا اليوم سمعت خبراً من إذاعة لندن يقول: أنه حدث انفجار مروع في المصنع التجاري العالمي في نيويورك وقد حدثت أضرار كبيرة في المبنى، وقد مات خمسة أشخاص، وأصيب ألف، وحدثت أضرار في السيارات؛ وقد تسبب هذا الحادث في ردة فعل قوية عند الرئيس؟ الجواب أخونا الشيخ: محمد دعا قبل أمس أن يسقط دولة الصليب أمريكا، وأقول: بإذن الله تعالى المسألة مسألة وقت، فقد قرأت تقريراً مُهماً قبل ثلاثة أيام أن عام 1995م يعني بعد سنتين هو عام تراجع، وانهيار أمريكا، وقرأت تقارير أخرى كثيرة -تعتبر طويلة النفس- تقول أنه عام 2000م أي بعد سبع سنوات: سوف تضطر أمريكا إلى أن تنام على بطنها -يعني تنهار- والاقتصاد الأمريكي يتراجع إلى الوراء، والمشكلات مزمنة، والعجز كبير والمصاعب جمة، وعلى المسلمين أن يصدقوا الله تعالى في جمع الكلمة، والدعوة إلى الله، ويدركوا أن وراثة الأرض لهم، كما وعد الله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] وهذا وعدٌ جازم قاطع، والمسألة عندنا مسألة وقت لا غير، وإذا لم يتحقق هذا بعد سنة فإنه سوف يتحقق بعد سنتين، أو عشراً أو ما شاء الله تعالى، فعلينا أن نصدق الله تعالى، وأن يعلم الله من أنفسنا أننا أهل لذلك؛ فإن الله تعالى قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:40-41] . الجزء: 51 ¦ الصفحة: 67 حكم إحرام الحائض والنفساء السؤال تقول: سمعت الجواب أن أحرم من حيث أحرم أهل البيت -تقول وهي حائض- فهل أجلس بملابسي بعد الإحرام علماً أني نفساء- أم أُغيّر ملابس الإحرام، أم أحرم بملابس أخرى بعد الاغتسال؟ الجواب بالنسبة للحائض والنفساء -سبق أن بينت- إذا وصلت إلى الميقات، فإنها تُحرم بالعمرة، ولكنها لا تطوف بالبيت حتى تطهر، فإذا طهرت اغتسلت وقضت عمرتها، ولا مانع أن تطوف بملابسها التي كانت فيها حال الحيض إذا كانت هذه الملابس طاهرة ولم يأتها شيءٌ من الدم، فإن جاءها شيءٌ من الدم غسلته ولبسته. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 68 إمكانية إيجاد أداة إعلامية إسلامية السؤال يقول: يتساءل قطاع عريض من الناس، عن إمكانية إيجاد أداة إعلامية إسلامية تكون محطة ثقة المسلمين، ومحل اعتبارهم، وهل ما يوجد اليوم بالساحة من بعض المجلات، والإصدارات الإسلامية التي فيها ما فيها يحقق هذه الأمنية، وإذا كان الجواب بالنفي، فما المخرج من دوامة كلامهم عن الأصوليين والمتطرفين والمتشددين وغيرها من المصطلحات الضالة المضللة؟ الجواب أقول لك: نحن سلبيون، نحن سلبيون حقيقة في أمور أقل من هذا، فالآن توجد إذاعات دولية وعالمية تعرض للبيع، ولو أن المسلمين أقوياء لاشتروها، واستطاعوا أن يخاطبوا العالم كله، بالدعوة إلى الإسلام ونشر القضايا، والأخبار الصحيحة، ولكن المسلمين مع ذلك لا يزالون دون المستوى المطلوب منهم، فهم يتساءلون لكن لا يفعلون، ويرون المنكر ثم يقولون: لماذا يحصل؟ فلماذا لم يتصلوا بمصدر المنكر! لقد نشرت جريدة اليوم -قبل أيام- قبل رمضان -وهي جريدة تُباع وتصدر وتطبع في هذه البلاد- صورة لامرأة عارية، كيوم ولدتها أمها، والإعلان موجود عندي، فماذا فعلت؟ هل اعتذرت الجريدة؟ مجرد اعتذار على بعض صفحاتها، هذا لم يحدث، لماذا؟ لأننا سلبيون -وذكرتُ لكم بالأمس- أن رئيس تحرير جريدة الندوة رجع إلى رئاسة الجريدة بعد أن طُرد منها، فهو طرد لتهدئة النفوس ثم رجع، فماذا صنعنا نحن، وقد طالبناكم مرات ومرات بمقاطعة خضراء الدمن الشرق الأوسط- والتركيز عليها بالذات حتى تفلح الحملة، وتؤدي ثمرتها، ومع ذلك لا زال هذا دون المستوى المطلوب، وفي كل يوم -دعونا نكون صرحاء- دعوناكم للتبرع لإخوانكم المسلمين، ومع ذلك التجاوب طيب ولا شك، ولكن أقل مما نريد منكم. إذاً لن تفلح قضايا المسلمين ما دامت قضايا يهتم بها أشخاص معدودون، حتى تصبح قضايا تعيش مع المسلمين جميعاً، وتنام معهم في فرشهم، وتستيقظ معهم وتأكل معهم وتشرب، حينئذٍ تنجح قضاياهم الجهادية والإعلامية وغيرها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 69 حكم الملابس التي عليها صور السؤال يقول: ما حكم شراء بعض الملابس للأطفال التي يكون عليها صور، علماً أن أكثر الملابس الموجودة في السوق عليها صور؟ الجواب هي -على كل حال- تعتبر مهانة، ولكني أنصح أن يحرص الإنسان على تجنب شراء مثل هذه الملابس التي عليها صور، فإذا اشتراها فليحاول أن يطمسها أو يضع عليها شيئاً، أو يقطع بعض هذه الصورة، أو على أقل تقدير أن يلونها بلون الثوب، بحيث لا تكون الصورة بلونٍ متميز. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 70 حكم بقايا الأطعمة السؤال ما حكم وضع بقايا الأطعمة في سلة مخصصة ومن ثم إعطائها لعامل النظافة أو وضعها عند الباب؟ الجواب بالنسبة لبقايا الأطعمة، إذا كانت بقايا تصلح للأكل، فينبغي أن يعطيها للمحتاجين إليها، أما إذا كانت لا تصلح، فأرى أن يضعها الإنسان في مكان طيب طاهر ليستفاد منها، ولو أن تكون علفاً للحيوانات. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 71 حكم التكفير عن عدة كفارات السؤال يقول: عليَّ كفارة أكثر من مرة، وأرسلت بعض النقود لإمام المسجد؛ لإفطار أكثر من ثلاثين صائم بنية الكفارة؟ الجواب إذا كان المقصود كفارة من الكفارات المعروفة، مثل كفارة عن صيام -مثلاً- أو عن يمين، فأرى أنه لا يكفي هذا، بل لا بد أن تطعم عشرة مساكين بالنسبة لكفارة اليمين، وهكذا كفارة الصيام تطعم عن كل يومٍ مسكيناً وذلك لأن الصائم قد لا يكون فقيراً، فقد يأكلها غنيٌ فلا تقع في محلها. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 72 الاحتلام في نهار رمضان وفوات الجماعة السؤال يقول: أنا من طلاب الجامعة الذين يبعدون عن بريدة مسافة مائتين وخمسين كيلو متر، وكما تعلمون أن هناك فتوى بقصر الصلاة، عند فوات الجماعة علينا، وقد نمت في هذا اليوم، وعندما استيقظت عند إقامة صلاة العصر، وجدت نفسي قد احتلمت، فلو أنني قمت، واغتسلت، فإنني لا ألحق صلاة الجماعة في المسجد من أجل ذلك. الجواب على كل حال سبق أن بينت أن الاحتلام لا يبطل الصيام، وما دمت صائماً فعليك أن تتم صومك، حتى الذين يفتون الطالب أنه مسافر، يرون أنه إذا لزم الصيام ونواه وجب عليه أن يتمه هذا مذهب كثير من أهل العلم، فمثل حالك عليك أن تتم صومك، والاحتلام لا يبطل الصوم، وأما بالنسبة للصلاة فإنك تغتسل وتصلي ولو كنت منفرداً. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 73 أسباب كثرة الخلافات في المجتمع وهناك نقطة صغيرة سأذكرها بإيجاز لأهميتها وهي: كثرة الشكوى هذه الأيام وفي كل وقت من كثرة الخلافات في المجتمع، فخلاف الزوج مع زوجته كثير، وخلاف الأبناء مع أبيهم، وخلاف الجيران مع جيرانهم، وخلاف الأقارب مع أقاربهم مع أن الإسلام هو الدين الذي جاء لربط أواصر الأخوة بين الناس، حتى الأبعدين فضلاً عن الأقربين، والشكاوى في هذا كثيرة جداً، وقد تأملت أسبابها، فوجدتها كثيرة، لكني سأذكر منها سببين للمناسبة: أولهما: كثرة الكلام في غير طائل، والقيل والقال، والغيبة، والنميمة ونقل الكلام بين الناس على جهة الإفساد، والله تعالى يقول: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فأكثر ما يوقع الشيطان العداوة والبغضاء بين المؤمنين بسبب الكلام، والقيل والقال، وما أشبه ذلك، فعلينا أن نتحرى الكلام الطيب وأن نحرص على أن لا ننقل من الكلام إلا أحسنه، فإن الناقل كالقائل. السبب الثاني: هو المعاصي، فإن المعاصي سبب في الافتراق وتغير القلوب واختلاف النفوس، قال لي إنسان -هذه الأيام-: إن صديقي فلاناً يشرب الخمر، قلت له: بئس العمل، فقد نهى الله عنه وتهدد فاعليه، فقال لي: إنه لا يكون أحسن لي ولا أطيب ولا أجمل خلقاً، ولا أرق قلباً منه حين يشربها، قلت له: صدق الله وكذبت أنت، يقول الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] فأثبت سبحانه أن الخمر والميسر من أسباب العداوة والبغضاء بين المؤمنين، وهكذا سائر المعاصي. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 74 حكم الصبغة السوداء للمرأة السؤال ما حكم استعمال المرأة للصبغة السوداء لكي تتجمل بها لزوجها؟ الجواب هناك حديث جاء عن جماعة من الصحابة: {غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد} ولهذا ذهب كثير من أهل العلم أنه لا يجوز للمرأة ولا للرجل أن يصبغ بالسواد، ولكن له أن يصبغ بغير ذلك. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 75 حكم ما نقل عن السلف بخصوص رمضان السؤال ما ينقل عن السلف من الدعاء ستة أشهر أن يبلغهم الله رمضان، وستة أشهر أن يتقبله منهم، ما صحة ذلك؟ الجواب لا أظن أن هذا يصح، والله تعالى أعلم. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 76 حكم خلوة المرأة بالسائق السؤال ما الحكم فيما قيل من أن السائق إذا كان محل ثقة فإنه يجوز أن تذهب المرأة معه إلى السوق، أو إلى داخل العمران؟ الجواب هذه من المشكلات التي عمت بها البلوى، فكثير من البيوت يكون فيها سائق وحده، ويجلس في البيت ويكون على مقربة من النساء، ويتعرف على أحوالهن، وقد يذهب بهن، وقد تتجمل له المرأة وتركب معه، وهي متطيبة وينفرد بها، وإلى غير ذلك من المفاسد، وبالمقابل هناك خادمة ينفرد بها الأولاد، ويكون من جراء ذلك مفاسد عظيمة، نطلع نحن وغيرنا على شيء كثير منها: {وما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فعلى الجميع الحذر من ذلك غاية الحذر. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 77 الصدقة بركة السؤال أخت تقول: أنا امرأة في الحرم تضايقت من المتسولين، وصرفت خمسين ريالاً منهم ووزعتها عليهم، ولم أتحرك من مكاني، هل عليَّ شيء؟ الجواب لا شيء في ذلك، بل أن الصدقة -إن شاء الله- مخلوفة، خاصة في هذا الشهر، وفي البلد الحرام، ولكن على الإنسان أن يتحرى أهل الحاجات. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 78 حكم ما يأخذه المواطن من الدولة السؤال ما حكم ما يأخذه المواطن من الدولة، هل أخذنا له جائز أم محرم؟ الجواب ما دام هذا الأخذ جاء لك وليس على حساب غيرك، فمجرد إنسان تقدم بمعروف، أو حتى وصله من غير طلب فلا حرج عليك من هذا، فإن كان من غير طلب فلا حرج عليك ألبتة بل له أن يأخذه، فإن كان محتاجاً فبإمكانه أن يصرفه في سبل الخير، أما إن كان نتيجة طلب فهو مباح -أيضاً- وإن كان الأفضل ألا يطلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ل حكيم بن حزام: {ما جاءك من هذا المال وأنت غير مستشرف فخذه، وما لا، فلا تتبعه نفسك} والحديث في الصحيحين، وأما إذا كان هذا المال تخصيصاً لك -مخصصات لك- وأنت لا تستحقها، وهناك من هو أحوج وأحق بها ومحرومٌ منها فحينئذٍ لا يسعك أن تأخذها، فإما أن تتركها وأما أن تأخذها وتصرفها لمن تعلم أنهم محتاجون. الجزء: 51 ¦ الصفحة: 79 وكن من الشاكرين تناول الشيخ -حفظه الله- قضية وجود الله وإحسانه إلى خلقه مؤمنهم وكافرهم، وأهمية الشكر ولزومه تجاه هذه النعم، ثم علق على أن الشكر المطلوب لا يعني حاجة الله إليه وإنما حاجة العبد إليه، وأن الإنسان لا يستطيع أن يؤدي شكر النعمة ولو عكف حياته كلها عبادةً وذكراً، ولا يكلفه الله من الأعمال إلا ما يطاق. ثم ختم حديثه بالتذكير بحاجة الإنسان إلى ربه وأن هناك شدائد لا مخرج منها إلا بالله. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 1 جود الله وعطاؤه يعم المؤمن والكافر الحمد لله الكريم الجواد، واسع الفضل، جزيل العطاء، القائل سبحانه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:39] . اللهم أنزل على هذا الجمع المبارك من بِرِّكَ وجودِكَ ورحمتِكَ يا حي يا قيوم، ما تبيض به وجوههم، وتشرح به صدورهم، وتنور به دروبهم، وتغنيهم به من الفقر، وترحمهم به يا حي يا قيوم، وتعزهم به من الذلة، اللهم اجعل هذا الجمع جمعاً مباركاً، اللهم اغفر لنا في ليلتنا أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين. أما بعد: من أسماء الله تبارك وتعالى الجواد، أي ذو الجود والكرم، فهو الذي يُعطي بغير حساب، ويُعطي من لا يستحق العطاء، حتى إنه جلَّ وعلا لم يقصر عطاؤه في هذه الدنيا على المؤمنين الصادقين القانتين فحسب؛ بل حتى الكفار يأكلون من رزقه، ويتنفسون الهواء الذي أعطاهم، ويشربون الماء الذي سقاهم، ويأكلون الطعام الذي سخر لهم، وهم يكفرون بالرحمن، فخيره إليهم نازل، وشرهم إليه صاعد، وفي الحديث القدسي يقول الله عز وجل: {إني والإنس والجن لفي نبأٍ عجيب، أخلقُ ويُعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إليهم نازل، وشرهم إلىَّ صاعد} ماذا قالوا؟ قالوا: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً} [مريم:88] وقالوا: إن له صاحبة من الجن وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73] وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] . بل بلغت الوقاحة بأقوام أن يقولوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37] ويقولوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] . وهذا كله لم يحل بينهم وبين رزق الله وعطائه، فهؤلاء الكافرون المعاندون المرتدَّون والملحدون، يأكلون مما رزق، ويشربون مما خلق، ويتنفسون هواءه، ويعيشون في كونه، يستظلون سماءه، ويجلسون على أرضه، وهذا من جميل عطائه. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 2 لزوم شكر الله على نعمه وعطائه وأقل ما يقوم به العبد في مقابل شكر هذا العطاء الكبير، هو أن يقول: شكراً يا ألله، فقد جرت العادة أن الإنسان يقول لأخيه الإنسان لو قدم له خدمة زهيدة بسيطة، كأن يركبه على سيارته، أو يقوم بمتابعة معاملةٍ تخصه، أو يرد عليه بكلمة؛ فإنه يقول له: شكراً، حتى لمن يؤدي له واجباً لابد من أدائه. فلو أن شخصاً استدان منك مبلغاً ثم رده عليك، لقلت له: شكراً حتى أصبحت هذه الكلمة عادةً مألوفةً عند الناس؛ فهذا الإله العظيم الذي هذا عطاؤه، وهذا فضله، وهذا منُّه، قلبك لا يخفق إلا بإذنه، وبصرك لا ينطلق إلا بإذنه، وسمعك لا يصيخ إلا بإذنه، ورجلك لا تمشي إلا بإذنه، ويدك لا تبطش إلا بإذنه، وفمك لا يمضغ إلا بإذنه، وكل جسمك إنما يتحرك بإذنه!! أليس حقاً عليك أن تقول له: شكراً يا رب؟! هذا الذي أعطاك ويرضى منك بهذه الكلمة، متى خرجت من قلبٍ صادق. وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها} فهذا يرضي الله تبارك وتعالى عنك. وهذه الكلمة التي تبذلها لكل إنسان ممن يستحق ومن لا يستحق، ألا ترى حقاً عليك أن تبذلها لهذا الخالق العظيم الحكيم المبدع العظيم، فتقول له وأنت تعفر وجهك بالتراب، وتقول له وأنت ساجد: شكراً لك يا رب على جميل عطائك، أصححت جسمي على حين أن المستشفيات ملأى بالمرضى، وأحييتني على حين أني قد سرت خلف أعدادٍ كبيرةٍ من الجنائز. وأودعتُهم إلى القبور، وعافيتني إذا ابتليت غيري، وأغنيتني إذ أفقرت غيري، ورزقتني سمعاً وبصراً وفؤاداً، وأنت خير الرازقين، فشكراً لك يا رب من أعماق قلبي، شكراً لك على هذا العطاء الذي لا ينتهي، وشكراً لك على هذه المنن التي لستُ لها بأهلٍ، ولكنك أنت يا رب أهل التقوى وأهل المغفرة. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126] فهذا أبونا وسيدنا -سيد الحنفاء إبراهيم عليه الصلاة والسلام- يدعو الله تعالى لهذا البلد، مكة وما حولها أن يجعلها الله بلداً آمناً وأن يرزق أهلها من الثمرات، ثم تذكر إبراهيم شرطاً فقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:126] أي: كأن إبراهيم دعا للمؤمنين بأن يرزقهم الله تعالى، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} [البقرة:126] يعني: الرزق ليس خاصاً بمن آمن بالله وعمل صالحاً، ولكن الرزق يأكل منه حتى الكافرون، فيغدق الله تبارك وتعالى عليهم النعم، ولكن يضطرهم بعد ذلك إلى عذاب النار وبئس المصير. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 3 الشكر يكون بالقلب واللسان فيا أخي المؤمن: من حقه تبارك وتعالى عليك أن تقول له: شكراً، كلمة مكونة من ثلاثة حروف أو أربعة، ومن حقه عليك أن تكون كلمة الشكر هذه من قلبك، وليس من أطراف لسانك، فإن الله عز وجل هو المطلع على خفايا القلوب، فلابد أن يتواطأ قلبك مع لسانك في شكر المنعم جل وعلا، فتقول له: شكراً بلسانك، وقلبك معترفٌ بأن هذه النعم من عنده. فلا تنسب النعم إلى غيره، وتقول: هذه النعمة من فلان أو من علَّان، أو تدعو لفلانٍ وعلانٍ فحسب مع أنهم ليسوا إلا أسباباً فقط. وهب أنك -ونسأل الله تعالى أن يشفيك ويعافيك وألا يصيبك بمكروه- أحسست بألمٍ ثم ذهبت إلى الطبيب، فعالجك وأبدى وسعه حتى شفاك الله على يديه. فتجد الكثيرين يكتبون كلمات العرفان لهذا الطبيب، وربما نشروها في المجلات والجرائد، أو لمن تعاون معهم، أو لمن تسبب في نقلهم إلى مستشفى من المستشفيات، أو لمن واساهم أو لغير ذلك، لكن ربما ينسى الكثيرون توجيه الشكر الخالص للمنعم الأول وهو الله جل وعلا. من الذي وجه قلوب الناس إليك حتى أعانوك وساعدوك؟! من الذي حرك همة الطبيب حتى عُني بك وأبدى وسعه في علاجك؟! من الذي جعل العلاج شافياً ونافعاً؟! وربما تناول إنسانٌ علاجاً فكان فيه حتفه، وكان سبب هلاكه، فمن الذي جعل هذا العلاج بلسماً وترياقاً شافيا لك من مرضك؟ إنه الله، فلابد أن توجه الشكر له أولاً قبل أن تشكر المخلوقين. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 4 كمال الشكر وحقيقته ثم من كمال شكرك له عز وجل أن تثني عليه بما هو أهله، فالله تعالى هو المستحق للحمد، وكل فضلٍ فهو به جدير، وكل نقصٍ فهو منزه عنه جل وعلا. إذاً تعبَّد له تعالى بكثرة الثناء عليه، وكثرة مدحه في الخلا وفي الملا، أعني في خلوتك وانفرادك عن الناس، وفي حضور الناس. يا أخي! تذكر، لو أن إنساناً من الناس صنع لك معروفاً، فإنك إذا كبر المجلس من حولك، قلت: فلان جزاه الله خيراً، والله ما قصر فعل معي كيت وكيت وإذا كان في المجلس أحدٌ يعرفه وتتوقع أنه سوف ينقل إليه الكلام، ويقول: فلانٌ قال فيك كذا وكذا، فإنك تبالغ في المدح، وتقول: لا أعلم أحداً له في عنقي مِنَّهً بعد الله عز وجل، وبعد رسله، وبعد الصالحين، وبعد والدي مثل فلان، فقد قدم لي من الخدمات كيت وكيت وكيت. ومن الجيد أن تفعل ذلك؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له، حتى تجدوا أنكم قد كافأتموه} فإذا كان هذا في شأن المخلوق، أليس الله من حقه علي وعليك أن نمدحه سبحانه، ونثني عليه، ونعطر مجالسنا بذكره، ونتلو آياته، وأسمائه الحسنى في الليل وفي النهار، وفي الغدو وفي البكور؟! يقول الله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر:22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر:23] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:24] سبحان الله! كل الكون يسبح الله تعالى، ويلهج بذكره، كما قال الله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] فكل شيء يسبح الله تعالى، حتى الجبال، قال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] فكانت الجبال تُسبِّح بتسبيح داود عليه الصلاة والسلام، فيسمع لها زجلٌُ بذكر الله تعالى، وتسبيحه، والطير تسبح الله تعالى وقد سُخرت لداود عليه السلام، فالإنسان فقط هو الذي يشذ أحياناً عن هذا الموكب فينحرف ويعصي، يقول ربنا عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور:41] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 5 لن تضر الله شيئاًَ إذا لم تسبح أفتحسب أنك تضر الله تعالى شيئاً إذا لم تسبح؟ إن الله عنده ملائكةٌ في السماوات يسبحونه. أتدري كم عدد الملائكة في السماء؟ الله أعلم. لكن خذ نموذجاً واحداً فقط: في السماء السابعة البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون فيه إلى يوم القيامة، كما في صحيح مسلم، فهم يدخلون مرةً واحدة فقط، يومياً سبعون ألف ملك، واحسب من بداية الدنيا إلى يوم القيامة، واضربها في سبعين ألف، فهؤلاء الملائكة الذين يدخلون البيت المعمور. وفي صحيح مسلم أيضاً عن أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطَّت السماء} والأطيط: هو أزيز الرحل بالراكب، فإذا ثقل عليها الحمل صار له أزيز من ثقل ما فوقه، كذلك السماء لها أزيز من ثقل من فوقها من الملائكة: {ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضعٌ جبهته لله عز وجل راكعُُ، أو ساجدُُ، أو قائم!!} أهل السماء الأولى يقولون: سبحان ذي الجبروت والملكوت! وأهل السماء الثانية يقولون: سبحان ذي الملك والملكوت، وأهل السماء الثالثة يقولون: سبحان الحي الذي لا يموت. وهكذا، خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل، هؤلاء ليس لهم وظيفة إلا التسبيح لله، وذكر الله، وتعظيم الله، والعبودية المطلقة لله تعالى، فماذا يضر إذا أنفلت إنسان من هذا الموكب وكفر بالله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] فمن الناس من يسبح الله عز وجل ويحمده ويشكره، فهذا مشى في هذا الموكب الكريم وأطاع الله تعالى، وآخرون لا يسبحون الله فحق عليهم العذاب وأهانهم رب العالمين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] فهل أنت تتعبد لربك بالثناء عليه؟ وهل أنت تعبد الله تعالى بمدحه والثناء عليه أم لا؟ فإذا قلت: الله غني، نعم هو غني سبحانه؛ لكن أنت المستفيد، فأنت المستفيد لأنك تؤدي بعض شكر نعمة الله، وتؤدي بعض الجميل، مع أنك لا تستطيع أن تقوم بأداء نعمة الله تعالى. والله لو ضللت عمرك كله من يوم أن وعيت إلى أن تموت وأنت في سجدةٍ واحدةٍ لله وفي صلاةٍ وذكرٍ وتسبيح فإن هذا لا يؤدي شيئاً يُذْكَر من شكر نعمة الله تعالى. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 6 إياك وكفران النعمة إن الله تعالى لا يكلفك إلا بما تستطيع، فهو يكلفك بكلمة شكر تقدمها للخالق المبدع العظيم جل وعلا، ويكلفك بأن يخفق قلبك بحبه، ويكلفك بأن توظف جوارحك في طاعته، فلا ترتكب معصية لله تعالى قط، خاصة وأنك إذ تعصي الله تعالى، فإنما تعصي الله بنعمته، فالذي يسرق يستخدم يده في السرقة، ويده إنما هي خلق الله ونعمة الله، والذي ينظر إلى الصور والأفلام، والمسلسلات الهابطة والمجلات الخليعة، أو يقرأ الكتب الإلحادية، إنما يستخدم عينه وهي نعمة الله، والذي يسمع ما يسخط الله تعالى من الفٌحش والبذاءة والسباب والشتام أو من كلام الكفر أو غير ذلك أو الغناء، إنما يسمعه بأُذنه وهي نعمة الله، والذي يشرب الحرام فيتناول المخدرات، أو المسكرات، أو حتى الدخان، إنما يستخدم فمه، وفمه نعمة الله، وهكذا لا تستطيع أصلاً أن تمارس أي عملٍ في الدنيا إلا بهذه النعم التي أعطاك، فهل من حقه عليك أن تعصيه باستخدام نعمته فيما لا يرضيه؟ وهل هذا شكر نعمة الله جل وعلا؟! {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 7 اعمل فالموت قادم جاء ملكُ الموت إلى موسى صلى الله عليه وسلم، فلما رآه موسى لطمه لطمة كما في صحيح البخاري، فرجع ملك الموت إلى ربه جلَّ وعلا، وقال: {يا ربِ، أتيتك من عند عبدٍ لا يريد الموت، فقال الله تعالى: اذهب إلى موسى فقل له: ضع يدك على متن ثور؛ فإن لك بكل ما غطت يدك -بكل شعرة- سنة، فرجع ملك الموت إلى موسى، وقال له: ربك يقول لك: كذا وكذا، فقال له موسى صلى الله عليه وسلم: ثم ماذا بعد هذا العمر الطويل؟ قال: ثم الموت، قال: فالآن} وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تكون جبانا فمادام أن الموت لابد منه، فالآن، ثم دعا ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة رميةً بحجر، فمات هناك!! فالموت هو أعظم الشدائد، حتى إن عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما في مستدرك الحاكم وغيره وسنده جيد- لما حضره الموت كان عنده ولده عبد الله فقال له: [[عمرو: بايع، قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أريد أن أشترط أن يغفر لي، قال: بايع فإن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها، والهجرة تجب ما قبلها -أو قال الحج- قال: فبايعته، فوقع حبه في قلبي، حتى إني ما كنت أستطيع أن أنظر إليه صلى الله عليه وسلم، إجلالاً وإعظاماً له، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها]] يعني تولى أمور الخلافة والمشاركة في أحوال القتال، والإمارة وغيرها من الأشياء التي يخاف من عواقبها، ولا يدري ما حاله فيها، إلى آخر الخبر. المهم أن حالة الموت وساعة الصفر كما يقال: من أحرج المواقف، فمن هو الذي سوف يسعفك؟ يقول الله في القرآن الكريم: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83-87] . فهذا تحدٍ، إذا كنتم لا تؤمنون بالجزاء والحساب، وتظنون أنكم لن تدانوا ولن تحاسبوا يوم القيامة، فارجعوا الروح إلى الجسد، فارجعوها إن كنتم صادقين، وهيهات!! فالله وحده هو الذي يمكن أن يسعفك وينقذك، فيلطف بك، ويرأف بك في هذا الموقف العسير، وينزل عليك من السكينة والجود ما يجعلك تموت وأنت قرير العين، وفرح بلقاء الله: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} فالمؤمن يموت بعرق الجبين، ويموت وهو يتهلل، ويقول كما قال بلال: غداً ألقى الأحبة محمداً وصحبه ويموت وهو يقول كما قال حذيفة وغيره: [[أعوذ بالله من يوم صبيحته إلى النار، لا أفلح من ندم. الحمد لله الذي سبق بي الفتنة]] . فيحمد الله أن توفاه قبل أن يفتن في دينه، ويموت وهو يقول كما قال بعض المحتضرين، وقد أخبروه بأنه قد يُئس من شفائه وعلاجه، فقال أبياتاً يودع بها من حوله، ويذكر بها ربه، ويشكره على نعمائه وجوده وكرمه، وهي أبياتُُ طويلة منها قوله: أهاجك الوجد أم شاقتك آثارُ كانت مغاني نعم الأهل والدارُ وما لعينك تبكي حرقةً وأسىً وما لقلبك قد ضجت به النارُ هيهات يا صاحبي آسى على زمنٍ ساد العبيد به واقتيد أحرارُ أو أذرفُ الدمع في حبٍ يفاركني أو في اللذائد والآمال تنهارُ أَمَتُّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر صرارُ وبعت لله دنياً لا يسود بها حقُ ولا قادها في الحكم أبرارُ وإنما جزعي في صبيةٍ درجو غُفلٍ عن الشر لم توقد لهم نارُ قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم للمكرمات فلا ظلمُُ ولا عارُ واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكَفَّارُ بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدارُ تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزارُ وأنتمُ يا أُهيل الحي صبيتكم أمانةٌُ عندكم هل يهمل الجارُ فيموت وهو يحمد الله، وهو يشكر الله، أهذا خيرٌ أم من يموت والعياذ بالله على شر حال، كما قيل: إن أحدهم حين حضرته الوفاة قال لأخيه: هات لي المصحف، وكان رجلاً مسرفاً على نفسه، شديد الوقيعة في الدين وأهله، ضالاً منحرفاً، ففرح أخوه، وقال: لعله أن يتوب، فأسرع وأحضر له المصحف، فلما أعطاه المصحف، قال: هذا هو المصحف، قال: نعم: قال: أشهدك أني كافر بهذا الكتاب، ثم لفظ روحه والعياذ بالله فجلس أخوه شهوراً وهو مريضٌ وما به مرض؛ مما علم من سوء حال وخاتمة أخيه نسأل الله السلامة والعافية. فأنت مقبلٌُ على شدائد في الحياة ولابد، وأنت محتاج فيها إلى الرب الرحيم الكريم الجواد، فأكثر من ذكره، وأكثر من شكره، وأكثر من الثناء عليه، وحَمْدِه ومدحه، واعتبر أن من أعظم القربات التي تتقرب بها إلى الرب جل وعلا هي ترديد أسمائه الحسنى وصفاته العليا والثناء عليه والغضب له، فتغضب له أشد مما تغضب لنفسك؛ فلو أن أحداً سبك أو شتمك، فإنك ستغضب له أشد مما تغضب لقبيلتك؛ لو أن إنساناً نال من قبيلتك وعشيرتك، وتغضب له أشد مما تغضب لبلدك لو أن أحداً تكلم في بلدك. فأسأل الله جل وعلا أن يجعلني وإياكم ممن يحبهم ويحبونه، وأسأل الله تعالى أن يشرح قلوبنا جميعاً بذكره وشكره. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم اجعلنا ممن يذكرونك كثيراً، ويسبحونك كثيراً، إنك كنت بنا بصيراً. اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، آمنا بالله وتوكلنا على الله، وفوضنا أمورنا إلى الله، لا إله إلا الله. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. والحمد لله رب العالمين. نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، ونسأله بمنه وكرمه ألا يرد هذه الدعوات الحارة، وهذه الصرخات المؤمنة، ونسأله سبحانه أن يفتح لها أبواب السماء، وأن يستجيب لنا، إنه على كل شيء قدير، وهو بالإجابة جدير، وهو القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 8 أطِعِ الله وأنت المستفيد فأنت المستفيد إذ تذكر ربك، وأنت المستفيد إذ تشكره، وأنت المستفيد إذ تعظمه، فيشرق قلبك بحبه، وينشرح صدرك، وتأنس نفسك، فإن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته أهرول} فالله تعالى لك بكل خيرٍ أسرع، والمصطفى عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد وسنده صحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا غلام، إني أعلمك كلمات -ومنها- تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة} فأنت مقبل على شدائد، شدائد لا يعلمها إلا الله، والآن نحن مجموعة في هذا المسجد -والغيب لله- لو كشف لنا سجل مستقبلنا ماذا سنرى؟! سنرى من كُتب عليه أن يموت بمرض خطير، وسنرى من بين سجلاتنا من كتب عليه أن يموت بحادث سيارة، وسنرى من بين سجلاتنا من كتب عليه أنه سيموت خلال أشهر، وسنرى من كتب عليه أنه سيموت خلال سنوات، وسنرى أموراً كثيرة؛ لكن الله من حكمته ستر الغيب: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] فهذه شدائد أنت محتاج فيها من يأخذ بيدك، ومن ينقذك فلا تستسلم لليأس مثلاً، ولا يصيبك همُُ وغمٌ وحزنُُ وكآبة فأنت محتاج إلى الله تعالى في كل حال، وخاصةً في أزمنة الشدائد، وهب أنك عشت حياتك في سرور لا ينتهي، ونعيم لا يوصف، وقرة عينٍ لا تكاد تخطر على بال، فإن الموت لك بالمرصاد، وهو آتٍ لا محالة. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 9 الأسئلة الجزء: 52 ¦ الصفحة: 10 أجهزة التسجيل وبر الوالدين السؤال إن أبي قد منع دخول الأشرطة الإسلامية؛ لأنه يراها كأشرطة الغناء، وقد منع -أيضاً- الاستماع إلى إذاعة القرآن الكريم وذلك بالدعاء والحرج، بل منع جهاز المسجل والراديو الذي لا يُسمع به عندنا غير ما ذكرت، وذلك لحجة أن هذا يضر الأبناء والبنات ويفسدهم، وأنا لا أستغني عن ذلك لا عن الأشرطة ولا عن إذاعة القرآن، ولا أستطيع ترك ذلك لما أجد من مشقة عظيمة، ولا أستطيع السماع خارج المنزل، فأرجو نصيحة أبي، وهل أخرج المسجل والراديو والأشرطة لأنه قد حرِّج ودعا عليَّ، فماذا أفعلُ إذاً؟ الجواب في الواقع أن جهاز التسجيل الآن، وما يُستخدم فيه من أشرطة إسلامية من أشرطة القرآن الكريم، وأشرطة المواعظ والخطب والدروس والمحاضرات وغيرها، مما لا يُستغنى عنه بحالٍ من الأحوال، وقد أجمعت الأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها على فائدة هذا الجهاز وأهميته؛ إذا استخدم في مثل هذه الأمور، فلن يكون أبوك على صوابٍ إذ منع مثل هذا خاصة مع وجودك أنت في البيت، وأنت -إن شاء الله- شابٌ صالح، فحقٌ على أبيك أن يدع الأمر لك، في وجود جهاز التسجيل في البيت وكذلك جهاز الراديو إذا كان لا يُسمع فيه إلاَّ ما يرضي الله: من القرآن الكريم، وفتاوى العلماء، وغير ذلك. وينبغي لأبيك أن يراجع نفسه بأن يعلم أن هذا الجهاز سواء الراديو، أو المسجل يظهر فيه العلماء، وعلى رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، ومن قبل ذلك الشيخ عبد الله بن حميد، وجميع علماء المسلمين بدون استثناء، فلن يكون هناك مسوغ بأن يسلك منهجاً غير مسلك العلماء، فإنهم هم الأسوة والقدوة، وإذا أصر على موقفه، فمن حقك أن يوجد هذا الجهاز في بيتك دون علمه وأن تسمعه فيما لا يؤذي أباك ولا يضايقه، ولا حرج عليك في ذلك -إن شاء الله- ما دمت باراً بأبيك قائماً بحقه. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 11 العناية بالعقيدة السؤال لقد استفدنا من هذا الحديث الذي كان قبل الصلاة فائدة عظيمة، فحبذا لو ركَّز العلماء على هذه العقيدة التي هي السبيل إلى الصراط المستقيم؟ الجواب أرجو الله أن تعالى أن يكون الأمر كما ذكرت، وأن يكون الجميع قد استفادوا ويستفيدون، فإن العبرة هي بثمرة القول، لا بحسنه في ذاته أو بكونه حقاً في ذاته، والتركيز على هذه العقيدة وإحياء القلوب بها، هو من أهم الأشياء التي ينبغي أن يُعنى بها العلماء والدعاة إلى الله تعالى. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 12 معدل القراءة للقرآن في شهر رمضان السؤال ما هو المعدل المتوازن لختم القرآن في هذا الشهر المبارك؟ الجواب كل إنسان بحسب وسعه وطاقته، وقد نقل عن السلف في ذلك أشياء متنوعة، فمنهم من كان يختم في يوم، ومنهم من كان يختمُ في يومين، ومنهم من كان يختمُ في ثلاث، ولكن جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {ما عقل من ختم في أقل من ثلاث} وأمر عبد الله بن عمرو بن العاص أن يختم القرآن في أسبوع، وهذا في أيام السنة كلها، فعلى الإنسان أن يقرأ في أوقات فراغه كلها، ولا يكن همه أن يختم فحسب، وليكن همه أن يحرك قلبه بالقرآن، وهمه أن يحيي موات نفسه بذكر الله تعالى، وأن يتدبر القرآن؛ فإن القرآن إنما نزل كما قال تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ولهذا كونه يقف عند معاني القرآن، ويردد الآيات، ويتأثر بها، ويخشع ويتخشع ويبكي ويتباكى، فإن هذا خيرٌ من كونه يهذّ القرآن هذّاً كهذّ الشعر، وينثره كنثر الدقل، لا يقف عند آياته ولا عند معانيه، فعلى الإنسان أن يكثر من تلاوة القرآن وأن يحرك قلبه به، ثم ما تيسر من الختم بعد ذلك فحسن، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن كله مرات في هذا الشهر ويختمه، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري أنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل سنة مرة في رمضان، فلما كان العام الذي مات فيه وقبض صلى الله عليه وسلم، عرضه على جبريل مرتين، يعني يقرؤه من أوله إلى آخره، ليعرف الناسخ والمنسوخ وما استقر عليه الأمر بعد ذلك، ويكون هذا جُزءاً من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فعلى الإنسان أن يحرص على ختم القرآن؛ مع حرصه على تدبر معانيه وعبره وآياته. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 13 حكم من أتى عليه رمضان وعليه صيام من رمضان السابق السؤال من عليه الصيام من رمضان الماضي وأتى رمضان الثاني ولم يقضه فما الحكم؟ الجواب أولاً: عليه القضاء، ولا يجوز له أن يؤخر قضاء رمضان الفائت إلى ما بعد رمضان الثاني إلا لعذر، كأن يكون مريضاً أو يشق عليه القضاء، أو عليه قضاءٌ كثير أو ما شابه ذلك، ولا يستطيع أداءه، فإن جاء رمضان الآخر ولم يقض، فعليه أيضاً القضاء، وقال كثير من الفقهاء: عليه مع القضاء أن يُطعم عن كل يومٍ مسكيناً. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 14 قسوة الوالدين على أبنائهم السؤال أنا شابٌ نشأت بين والديّ، ووجدت منهما -سامحهم الله- الشيء الكثير من عدم المبالاة بي، وإهانتي، وعدم إعتبارهم لي، ولا زلت على ذلك، وأنا الآن متزوج، فبماذا توصونني تجاه ذلك، مع أن الإهانة من أبي خاصة ما زالت توجه إليَّ أمام زوجتي؟ الجواب حقيقة هذا خطأ، فبعض الآباء لا يرى لولده قيمة ولا قدراً، وهذا خطأٌ كبير، حتى ابنك الصغير يجب أن تعلم أن من أهم وسائل تربيته هو أن تحترمه وتقدره ولا تهينه خاصةً أمام الناس، وتضع له شخصية، فتستشيره في بعض الأمور، خاصة في الأمور التي تخصه هو، حتى لو ذهبت لتشتري لولدك لعبة، فمن المصلحة أن تجعل له قدراً من الاختيار، فتقول له: هذه اللعبة من صفتها كذا، وقيمتها كذا، وهذه من صفتها كذا، وقيمتها كذا، وتجعله يختار، لأنه يخرج بذلك إنساناً قوي الشخصية، له ذاتية وله اعتبار، وأيضاً يخرج محباً ومقدراً لك. أما إذا سحقت ولدك ولم تجعل له قيمة ولا وزناً؛ فإنه يكبر وهو يشعر بالهضم والضيم، ولا يستطيع أن يستقل بنفسه بأمرٍ من الأمور، فإذا كبر الولد وأصبح متزوجاً فلا يحق لوالده إهانته بحالٍ من الأحوال، لا أمام زوجته ولا أمام الناس، بل ولا حتى على انفراد، فينصح الآباء أن يتجنبوا ذلك، وأن يتقوا الله تعالى، في مثل هذه الأمور؛ فإن هذا لا يحل لهم. أما بالنسبة لك أنت أيها الولد، فما عليك إلا الصبر الجميل، وأن تدرك أن بِرَّك بأبيك يقتضي حلمك عنه، وصبرك عليه، وتحملك ما يبدر منه، وأنت تقابل ذلك بأن تقول له: سمعاً وطاعة، ولبيك وجزاك الله خيراً، وأحسن الله إليك، وأن لا تواجه ما يفعله أبوك بقسوةٍ أو شدة أو غضب، فإذا خلوت بأهلك أو زوجتك؛ أخبرتها بأن هذا الأمر من والدك أمرُُ لا بد منه؛ لأنه شديد الغضب أو سريع الانفعال، وأنه لا يصبر وأنه يندم بعد ذلك، ولكنه لا يستطيع أن يكف، فتعتذر لوالدك أمام زوجتك أو أمام من أهانك أمامه، فإن خلوت بوالدك فنبهته لذلك بالكلمة الطيبة كان ذلك منك حسن، وعليك على كل حال أن تدرك أن صبرك على والدك سوف تجد بإذن الله تعالى عاقبته في أولادك، فتجد أن الله تعالى يسخرهم لك، ويلين قلوبهم لك، ويحببهم إليك ويرزقهم برك. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 15 الطرق الموصلة إلى التوكل السؤال التوكل صفة مطلوبة في المسلم، فما هي الطرق الموصلة إلى هذه الصفة؟ الجواب من أهم الطرق الموصلة إلى التوكل، أن تكثر من ذكر الله تعالى ومعرفة أسمائه وصفاته، فإن من عرف الله تعالى حق المعرفة، توكل عليه، ولهذا كان أكثر الناس توكلاً على الله تعالى هم الرسل والأنبياء؛ لأنهم يعلمون أن مقادير الأمور كلها بيد الله، فهو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، وهو القابض، الباسط، الخافض، الرافع، النافع، الضار، المعطي، المانع، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} . الأمر الثاني: أن تعلم أن الأسباب كلها ما هي إلا وسائل يجري الله تعالى قدره من خلالها، فالأسباب لا تنفع ولا تضر، وإنما هي وسائل يجري الله تعالى القدر من خلالها، فالعلاج الذي تتناوله، بل حتى الطعام الذي تأكله والشراب الذي تشربه، كل هذه الأمور إنما هي وسائل أجرى الله تعالى النتيجة عليها، ولو شاء الله تعالى لجعلها عكس ما تريد. فعليك أن تكثر من ذكر الله، وتفويض الأمور إلى الله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه كما في حديث البراء بن عازب في صحيح البخاري يقول: {اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت} وقال الله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] وكان من الدعاء الذي يقرؤه المسلم في كل صلاة، بل في كل ركعة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] لا نعبد إلا أنت ولا نستعين بغيرك، فاعبده وتوكل عليه. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 16 حكم الفصل بصلاة النافلة بين فريضة حُمعت مع أخرى السؤال إذا كنت مسافراً، وصليت في مسجد في الطريق جماعة صلاة الظهر، وأريد أن أصلي العصر قصراً، وحضرت جنازة، فهل أصلي العصر أو أصلي على الجنازة قبله؟ الجواب إذا كانت الجنازة تفوت فعليك أن تصلي على الجنازة ثم تصلي العصر بعد ذلك، وهذا الفاصل لا يضر. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 17 السواك أثناء الخطبة السؤال ما حكم السواك والإمام يخطب؟ الجواب لا ينبغي للإنسان في حالة الخطبة أن يتشاغل عن الخطبة بشيء لا بسواكٍ ولا بغيره، والسواك له مواضع، فمن مواضع السواك: عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند دخول المسجد، وعند دخول البيت، وعند الاستيقاظ من النوم، وكذلك عند تغير رائحة الفم، فهذه هي مواضع السواك، وينبغي أن يعلم أن السواك مشروعٌ في رمضان وفي غيره، قبل الزوال وبعده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {لولا أن أشق على أمتي، لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وفي الحديث الآخر: {عند كل وضوء} . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 18 حكم تركيب اللولب لمنع الحمل السؤال حكم تركيب اللولب للمرأة، وقد سمعنا من بعض النساء أنه يؤخر العادة الشهرية يوماً أو يومين فتترك الصلاة؟ الجواب إذا احتاجت المرأة إلى منع الحمل لظروف صحية؛ فإن لها أن تمنع ذلك بأي وسيلة من الوسائل التي لا تضر بصحتها، ثم بعد ذلك إذا نزلت عليها العادة المعروفة -دم الحيض المعروف- فعليها أن تترك الصيام أو الصلاة، فإذا ارتفعت العادة وارتفع الدم المعروف -دم الحيض- كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {دم الحيض أسودُ يعرف} فهو أسود ذو رائحه منتنة تصاحبه آلام في العادة، وإذا وجد في العادة توقفت، وإذا ارتفعت العادة فإنها تصوم وتصلي، وبعض النساء تقول: إنها لو استخدمت حبوباً أو غيرها لمنع العادة؛ ثم امتنعت العادة وصامت تظن أن عليها قضاء تلك الأيام، وهذا خطأُُ ليس بصحيح، بل متى صامت المرأة فصومها صحيح، مادام أن العادة لم تنزل معها. أسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا، إنه على كل شيءٍ قدير. وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 19 كيف نتحرر من الأوهام الأوهام التي تداهم الإنسان وتشغله كثيرة فما هي الأوهام؟ وما حقيقتها؟ وكيف تنشأ؟ وما علاقة الدنيا والموت والآخرة، وفوات المصالح الدنيوية وغرور الإنسان، ما علاقة ذلك بالأوهام؟ هذا ما أجاب عليه الشيخ حفظه الله، مدعماً ذلك بالشرح والتفصيل وضرب الأمثلة، فجزاه الله خيراً. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 1 مرض الأوهام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على عبدك وحبيبك وخليلك وخيرتك من خلقك نبينا محمد، صلاةً وسلاماً دائمين إلى يوم الدين. أما بعد: هذه الليلة هيل ليلة الإثنين، الرابع من ربيع الثاني من عام (1411هـ) وقم الدرس (24) من الدروس العلمية العامة، عنوان هذه المحاضرة: كيف نتحرر من الأوهام؟ (كيف نتحرر من الأوهام؟) الجزء: 53 ¦ الصفحة: 2 الإنسان والأوهام لا شك أن الإنسان تصيبه كثير من الأوهام، وهذا الوهم الذي تتحدث عنه الأخت هو وهم الخوف الزائد التي أحست به، والأوهام كثيرة؛ بل إنني تأملت حالي وحياتي وحال الناس؛ فوجدت أن غالب أمرنا يدور على أوهامٍ في أوهام، وأننا نقتات الأوهام بكرة وعشياً في كثير من الأمور، بل لا أبالغ إذا قلت أن تأثير الأوهام في حياتنا أكبر بكثير من تأثير الحقائق، ولذلك لا تطمعوا أن أستقصي هذه الأوهام وآتي عليها في مثل هذه المحاضرة؛ فإنها أكبر بكثير من ذلك؛ لكنني سوف أتحدث عن أهم هذه الأوهام. كثيراً ما يشكو الناس من الأمراض؛ سواء أكانت هذه الأمراض أمراضاً بدنية أم كانت أمراضاً قلبية، أي: من ضعف الإيمان، وضعف اليقين، وضعف التوكل، ومن الشهوة، ومن الشبهة … إلخ. وأعتقد أن هذه الأمراض التي يشتكي الناس منها نصفها أمراضٌ حقيقية أو أقل من ذلك، والنصف من ذلك -بل يزيد- هي عبارة عن أمراض وهمية، فالوهم ذاته مرض أكبر وأعظم من الأمراض التي نشتكي منها. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 3 الموت بالأوهام ويقال في القصة أو في الأسطورة: إن الوباء -أي المرض أو الطاعون- مر برجل! فقال له الرجل: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: ذاهب إلى قرية كذا وكذا، لأهلك خمسة آلاف رجل قد أمرت بإهلاكهم، وفعلاً انتشر الطاعون في تلك القرية، ولكن مات خمسون ألفاً بدلاً من خمسة آلاف، ثم رجع الوباء فمر بالرجل، فقال له: من أين أتيت؟ قال: من قرية كذا وكذا، قال: إنك كذبتني! أخبرتني أنك سوف تقتل خمسة آلاف، والواقع أنك قتلت خمسين ألفاً، فقال له الوباء: كلا! أنا قتلت خمسة آلاف، أما الباقون فقد قتلهم الوهم، أي: من شدة الخوف من هذا المرض، توهموا أنهم أصيبوا بجرثومته، فما زالت بهم الأوهام حتى جعلتهم على فرشهم، وأودت بهم إلى مراقدهم وإلى قبورهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 4 رسالة حين أعلنت هذا العنوان لم أكن أدري أن معي ورقة فيها سؤال مطول من إحدى الأخوات رائدات هذه الحلقة، تقول فيها ما خلاصته: أنها تحس بخوفٍ شديد بعد الأحداث التي حصلت في الكويت، وما تلاها من تطورات. وتقول: بأنها تشعر بذلك وهي في صلاتها: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:97-99] تقول: إنها خائفة! تتذكر هذه الآيات وهي نائمة فتهب من فراشها مذعورةً فزعة، وتضطرب أعصابها، وتحس في قلبها خفقاناً شديداً لا يهدأ إلا حين تقوم فتتوضأ وتصلي وتدعو الله عز وجل. وتقول الأخت الكريمة: إن ما يزيد من خوفها وقلقها وتعجبها؛ عندما ترى النساء مشغولاتٍ بالتفصيل والخياطة والتجميل وغير مباليات، بل يصرح بعضهن بأنهن يشعرن بالأمان، ليس النساء العاديات، بل وكثيراً من المتدينات والصالحات اللاتي تعقد عليهن الخناصر. وتتساءل عن معنى خوفها هذا! هل هو خوفٌ زائد لضعف الإيمان، وضعف التوكل على الله عز وجل؛ أم ما معناه؟ ثم تذكر في آخر رسالتها: أنها بعد سماعها لمحاضرة (نظرة في أحاديث الفتن) هدأ حالها وأصبحت تحس بتفاؤل شديد، وسرورٍ ورجاءٍ عظيم، وبدأت تفكر في طموحات واسعة، لكن كان هذا لفترة قصيرة، ثم عاودها الخوف وتختم رسالتها وتقول: أفتوني في أمري، إني أراكم إن شاء الله من المحسنين!. لم أكن أدري أن هذه الرسالة من ضمن هذه الأسئلة! حين أعلنت عن العنوان وهو (كيف نتحرر من الأوهام؟!) ولا شك أن هذه الرسالة داخلة في موضوع محاضرة هذه الليلة، وسوف نتحدث أو نتعرض لجانب من هذا الموضوع. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 5 كيف ينشأ الوهم وما حقيقته أيها الأحبة: باختصار شديد: الوهم ينشأ من وضعنا للأشياء في غير موضعها، حين نصغِّر الكبير ونكبِّر الصغير؛ فحينئذٍ يتولد لدينا الوهم، وأضرب لكم بعض الأمثلة المادية القريبة: الشمس -مثلاً- جرمٌ هائل، ولما تقرأ كلام العلماء في جرم الشمس وحجمها وثقلها تتعجب أشد العجب! وتقول: سبحان الله العظيم! وتبارك الله أحسن الخالقين! لكن حين تأتي إلى إنسان شابٍ صغير أو طفلٍ ثم تريه الشمس وهي في رابعة النهار وفي كبد السماء، وتشير إليها؛ ثم تشير في مقابل ذلك إلى شيءٍ آخر قريب من عينيك وليكن -مثلاً- برجاً ضخماً، فتقول له: أيهما أكبر؟! بكل تأكيد هذا الصغير سوف يقول لك: إن البرج أكبر؛ مع أن هذه حقيقة مضحكة في نظر الناس؛ لأنه لا مقارنة بينهما، لكن لأن هذا الصبي الصغير لا يعرف حجم الشمس ولا يعرف أنها بعيدة عنه جداً، تصور أنه البرج -أكبر منها لأنه أقرب من الشمس- فهذا وهم في نفس الصغير! فكيف نشأ؟! نشأ لأنه وضع الأشياء في غير موضعها، فكبرَّ الصغير -وهو البرج- وتصور أنه كبير، وصغَّر الكبير -وهو الشمس- فتصور أن الشمس صغيرة لصغر عقله، وقد نضحك نحن من هذا المثال؛ لكننا نمارس هذا المثال على نطاق أوسع، وفي مجالات أخرى. مثال آخر -وهو مثال مادي-: لو أتيت بورقة صغيرة ووضعتها قريباً من عينيك؛ لوجدت أنها تحجب عنك الدنيا كلها! الدنيا بسعتها وعرضها احتجبت وراء قصاصة من الورق بحجم راحة اليد! وذلك لأنك قربتها من عينيك فكبرت وغطت، أما الدنيا فكانت وراء ذلك، فهذا أيضاً وهم يحجب عن الإنسان رؤية الأشياء على حقيقتها. وهكذا الأشياء المعنوية؛ خذ -مثلاً- قضية الموت؛ فالموت يحجبه عن كثير من الناس الوهم، لأن الموت يتصور الإنسان أنه بعيد، فينظر إليه نظرة صغيرة ولا يعطيه ما يستحق من التفكير، ولا ما يستحق من الاستعداد؛ وتكبر في عينه أشياء قريبة جداً، ولو تصور الموت؛ لتغير الميزان عنده. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 6 الموت الموت ولذلك عند الموت -مثلاً- يصحو الإنسان على الحقائق ليجد أنه في هذه الدنيا كان يركض مغمض العينين ولا يدري ما أمامه، ولا يدري أن أمامه عن قريب حفرة سوف يقع فيها، فإذا وقع في هذه الحفرة صحا، وهي الموت، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:16-22] . مثلاً: أنت في هذه الدنيا عندك موازين: مصالح، وأشياء تحبها، وأمور تبغضها، أناس تصادقهم، ناس تعاديهم، أشياء تفعلها، أشياء تتركها، وعندك أشياء كثيرة في هذه الدنيا، ولو سألناك على أي أساس هذه الأشياء؟! لماذا تحب فلان وتبغض فلان؟ لماذا تفعل هذه الأشياء وتترك هذه الأشياء الأخرى؟ قد تجد أنها لمصالح دنيوية. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 7 سبب الوهم قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38-39] إذاً ما سبب هذه القضية، وهذا الوهم الكبير الذي يحصل؟ سببه الغفلة والإغراق في الأشياء المادية التي يراها الإنسان، بمعنى أن الإنسان أعطاه الله عز وجل حواس، مثل: السمع والبصر واليد وغيرها، وأعطاه عقل فالإنسان يستخدم الحواس فيرى ويسمع فتؤثر فيه؛ لكنه لا يستخدم العقل، مع أن كثيراً من الأشياء التي مطلوب من الإنسان أن يفكر فيها؛ لا تدرك بالحواس، فمثلاً الجنة والنار لا تدرك بالحواس، وعذاب القبر لا يدرك أيضاً بالحواس، وقد تدرك آثار بعض ذلك؛ فيحتاج الإنسان إلى أن يحرك عقله، ويستخدم ما وهبه الله عز وجل ويتفكر؛ ولذلك أثنى الله عز وجل على الذي يتفكرون، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين قام كما في صحيح البخاري وغيره، ففي إحدى الليالي: قام صلى الله عليه وسلم من نومه في آخر الليل، فتوضأ من شن قربة كانت معلقة، ثم نظر إلى السماء ثم قرأ الآيات العشر الأواخر من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:190-192] . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 8 حقيقة الدنيا وأيضاً الدنيا قريبة عندنا؛ فحجبت عنا الآخرة؛ فالدنيا بالنسبة لنا -مثلما ذكرت- كالبرج الضخم عند الطفل، فالدنيا لأنها قريبة منا ونحن نعيش فيها؛ حجبت عنا الآخرة؛ فأصبحنا مشغولين مشغوفين بالدنيا ومصالحها وحقائقها، ومشغولين بها عن الدار الآخرة وما فيها، مع أنه لا مقارنة بين الدنيا والآخرة وكما قال عز وجل: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] وفي صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بأنعم رجلٍ من أهل الدنيا، وهو من أهل النار، فيصبغ في العذاب صبغة، ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ويؤتى بأشد أهل الدنيا بؤساً من أهل الجنة، فيغمس بالنعيم غمسة، فيقال له: يابن آدم هل رأيت شراً قط؟ هل مر بك بؤسٌ قط -أو شدة قط-؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت شراً قط، وما مر بي بؤسٌ قط} . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 9 الموت والهم عند الإنسان لو أتيناك وأنت على فراش الموت، وسألناك: هل أمورك السابقة ما زالت كما هي؟ هل الناس الذين كنت تحبهم لا زلت تحبهم؟ لقلت: لا والله! الآن أبغضهم وأتخلى عنهم! لماذا؟ لأنهم لم ينفعوك، وهل الدنيا التي كنت تحبها وتركض وراءها لازلت كذلك تحيها؟ لقلت: لا والله! {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] أي تخلى عنك. إذاً: عند الموت تتغير الحقائق كثيراً في ذهن الإنسان، لكن بعد فوات الأوان! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 10 الموت قد يصبح وهما ً وهذا الموت الذي نغفل عنه، هو الآخر قد يصبح وهماً من الأوهام أحياناً، بمعنى: أن بعض الناس يخاف من الموت إلى حد أن الخوف نفسه أصبح وهماً، فيتوهم الموت في كل لحظة وقيام وقعود فإذا كان الإنسان صالحاً؛ ترك العمل الصالح بسبب غلبة الخوف على قلبه، وإذا كان ضعيف الإيمان؛ ترك كثيراً من الأمور والمواقف من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله والدعوة -خوفاً من الموت؛ بل قد يترك بعضهم الأسفار في حج أو عمرة أو أيَّ خيرٍ خوفاً من الموت؛ وإن كان في الدنيا فقد يصاب بالأمراض، وقد رأيت عدداً من الناس يعانون من وهم الموت؛ حتى إن أحدهم كان يقول لي: أنه لا يستطيع أن يمر من عند المقبرة، فهو يعمل في مكان معين والمقبرة في طريقه، فيذهب إلى مكان بعيد، أي: يسلك طريقاً بعيده حتى يتحاشى أن يمر بالمقبرة في طريقه، لأنه يقول: إذا مررت من عند المقبرة تنغص عليَّ يومي وأصبح لا أستطيع أن أصنع شيئاً، ويقول: كلما قمت بعمل؛ أتخيل أنني لا أتمه إلا وأموت، فإني وأنا داخل عليك الآن أشكو إليك حالي، تجد أنني أفكر فيما إذا مت الآن سوف تكون -الأخ يعنيني محرجاً، كيف سوف يتصرف؟ وكيف يمكن أن أبلغ أهله؟ وكيف يمكن أن أتخلص من الموقف؟ وما أشبه ذلك فيقول: يهيمن عليه خوف الموت إلى حد أنه أصبح - وهذا نوعٌ من الوسوسة - الخوف من الموت وهماً كبيراً يغطي على عين الإنسان. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 11 من فوائد معرفة حقيقة الموت والتصور الصحيح لهذه القضية: هو أن يدرك الإنسان أن الموت أمرٌ عاديٌ جداً، فالموت هو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم أصلاً، سواء الذي يخاف من الموت أشد الخوف حتى أنه وصل إلى درجة الوسوسة؛ أو ذلك الإنسان الذي دفعه الخوف إلى ترك الجهر بكلمة الحق، أو ترك الأمر المعروف والنهي عن المنكر، أو ترك الجهاد في سبيل الله؛ فكل هؤلاء لم يضعوا الموت في موضعه الطبيعي ولم يعرفوا الموت حق المعرفة. فالموت هو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم، بل هو ولادة أخرى، كما أنك ولدت أول مرة من بطن أمك؛ كذلك تولد مرة أخرى بالموت، وتنتقل إلى عالم آخر؛ ولذلك يقول الشاعر وهو يتكلم عن أحد الموتى: تمخضت المنون له بيومٍ أتى ولكل حاملة تمام يعني: كأنه قال: إن المنون -وهو الموت- مخاض، يعني: ولادة أخرى للإنسان؛ ولذلك يقول بعض الحكماء: إن الإنسان في الدنيا مثل الفرخ في البيضة، فكما أن اكتمال نمو الفرخ وبلوغه -كماله المقدر له- يكون بانكسار هذه البيضة وخروجه منها، فكذلك الإنسان خروجه من هذه الدنيا -خاصةً الإنسان المؤمن- هو نوعٌ من الكمال له:- أولاً: لخروجه على الإيمان -هذا إذا خرج مؤمناً -وتجاوزه الخطر، وتجاوز القنطرة. ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت كانت فاطمة رضي الله عنها تقول: {واكرب أبتاه، وترى النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه الكرب ويتغشاه، ويتفصد جبينه عن العرق، فتقول: واكرب أبتاه، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} أي: آخر ما عليه، واليوم يقضي محمد صلى الله عليه وسلم آخر ما عليه، فهذه الكربات هي آخر عهده بكل الآلام وبكل الأحزان وبكل ما يكرهه الإنسان بعدها يفضي إلى نعيم دائم لا تَحوَّل عنه ولا زوال، فهذا كمال للإنسان. كما أن الإنسان المؤمن عند انتقاله إلى الدار الآخرة هو كمال أيضاً؛ لأنه ينتقل إلى رضوان الله تعالى وجنته ونعيمه، وهذا لا شك ما لا يحصله الإنسان، ولا يدركه في هذه الدنيا. كما أنه كمال من وجه ثالث؛ فإن الإنسان في هذه الدار هي دار التي الأحزان والأكدار: جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفرٌ من الأسفار فالدنيا جبلت على كدر، ففيها الموت وفيها الآلام وفيها الأحزان وفيها المخاوف، وفيها الهموم، وفيها وفيها لكن! إذا انتهى الإنسان وأفضى إلى الدار الآخرة ترك ذلك كله وراء ظهره. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 12 تصور الموت وقت المعصية وتصور -أخي الكريم- أن الإنسان وهو يواقع معصية: من نظرة حرام، أو شهوة حرام، أو كلمة حرام، أو ما أشبه ذلك، لو تصور نفسه في تلك اللحظة وهو يعاني سكرات الموت؛ هل كان يفعل تلك المعصية؟ كلا، ولو فعلها هل كان يتلذذ بها؟ كلا، لم يكن ليتلذذ بها، بل كان الموت ينغص عليه كل لذة، كيف لا! ونحن نجد أن الموت ينغص على الإنسان اللذات المباحة، فضلاً عن اللذات المحرمة، فضح الموت الدنيا، فلم يبق فيها لذي عقلٍ فضلاً ولا مكانة!! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 13 من آثار الجهل بحقيقة الموت فلو أن الإنسان تذكر هذه الحقيقة؛ لاعتدلت في ذهنه موازين كثيرة؛ لكن القضية أنه استبعد هذا أتم الاستبعاد، فتولد عن ذلك أمراضٌ كثيرة، منها: الانقطاع عن الله عز وجل، وضياع الإنسان في أودية الدنيا؛ ومنها إغراق الإنسان في الشكليات، فصار مأسوراً بالملابس، بالسيارة، بالزوجة، بالبيت، بالمظهر، بالوظيفة، بالسمعة، بالأمور الشكلية التي ليست مقصودة أصلاً للإنسان في الدار الآخرة؛ وإن كانت قد تكون مطية إذا أحسن فيها النية. ومن الآثار السيئة لذلك: أن الإنسان أصبح يحسن القبيح، ويزين في عينه الحسن، كما قال الشاعر: زُين في عينك القبيح كما زُين في عين غيرك الحسن يقضي على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن وقال الله تعالى -وقوله أبلغ وأصدق-: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:14-16] وقال تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 14 إفاقة المحتضر والإمام ابن الجوزي رحمه الله في كتاب صيد الخاطر له كلمة جميلة، وضع لها المحقق عنواناً: إفاقة المحتضر، والمحتضر هو الذي نزل به الموت، يقول رحمه الله: أظرف الأشياء وأعجب الأشياء! إفاقة المحتضر عند موته، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف، ويقلق قلقاً لا يُحد، ويتلهف على زمانه الماضي، ويود لو ترك للتدارك، أي: لو من أن يتدارك ما مضى، ويصدق توبته على مقدار يقينه بالموت، ويكاد يقتل نفسه قبل موتها من الغم والأسف، يقول: ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية؛ لحصل كل مقصود من العمل بالتقوى، فالعاقل من مثل تلك الساعة -التي سوف يلقاها عند موته- وعمل بمقتضى ذلك، فإن لم يتهيأ له تصوير ذلك على حقيقته؛ تحايل على أن يتصوره على قدر إمكانه، كما روي عن حبيب العجمي أنه كان إذا أصبح يقول لامرأته: إن مت اليوم ففلان يغلسني، وفلان يحملني، فهو يتصور الأمر كأنه قريب، ولم يجعل هاجس الموت آخر ما يخطر في باله. وذُكر رجل، بالغيبة عند معروف -وهو أحد الزهاد المعروفين- فقال معروف للمتحدث: اذكر القطن إذا وضع على عينيك. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 15 كارهوا الموت ولذلك لا يكره الموت إلا أحد رجلين: الجزء: 53 ¦ الصفحة: 16 الإنسان المذنب العاصي النوع الثاني ممن يكرهون الموت: هو الإنسان المذنب العاصي -مثلي ومثلك- ممن يخاف من ذنوبه، فهو يخاف أن يلقى الله عز وجل، وليس له وجهٌ يواجه به رب العالمين، فكيف يلقى الله وقد بارزه بالذنوب والمعاصي، وخيره إليه نازل وشره إليه صاعد؟! فيخجل العبد من ربه، ويتمنى أن يمد الله تعالى في أجله لعله يعمل صالحاً، ولعله يجدد توبة، ولعله يكفر عما سلف من ذنوبه ومعاصيه. ولذلك الإمام الشافعي ويذكر أنه لما حضرته الوفاة، والإمام الشافعي شاعر كما هو معروف، وهو القائل: ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد فلما تلفت ونظر قال: ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابدٌ فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه يفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل مد ظلامه على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفي ما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول حبيبي أنت سؤلي وموئلي كفى بك وللراجين سؤلاً ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني ولا زلت مناناً عليّ ومنعما عسى من له الإحسان يجبر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما فهذا النمط الآخر ممن يكرهون الموت: من قدموا ذنوباً وسيئات يخافون أن يلقوا الله تبارك وتعالى بها. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 17 إنسان لا يؤمن بالدار الآخرة إما إنسان لا يؤمن بالدار الآخرة، كافر والعياذ بالله، فيرى أنَّ قصاراة هذه الدار الدنيا، ولسان حاله كما يقول أحد الزنادقة: خذ من الدنيا بحظ قبل أن تنقل عنها فهي دارٌ لست تلقى بعدها أطيب منها فهل هذا الكلام صحيح أم خاطئ؟ ليس بالضرورة أن يكون خطأ، فقد يكون صحيحاً بالنسبة له هو؛ لأنه إذا لم يكن تاب من هذا الكلام فهو من الكفار، والكفار عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا؛ فالكافر قطعاً لن يلقى بهذه الدنيا داراً أطيب منها، كيف وهو ينقل من نعيمه وملذاته وبيته وقصوره وجماله وزيناته وأمواله؛ ينقل إلى العذاب والعياذ بالله؛ وينقل إلى سخط الله عز وجل، وينقل إلى الملائكة الذين يضربونه في قبره بمطرقة من حديد فيصيح صيحة يسمعه كل شيءٍ إلا الجن والإنس -كما في حديث البراء وهو حديث صحيح- فصحيح أن الدنيا للكافر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} . ويروى أن الـ حافظ ابن حجر رحمه الله -ذكر في ترجمته- أنه مر بموكب -وابن حجر كان إماماً جهبذاً، له مكانه وفضله -فكان يمشي معه الناس في السوق- فمر في موكب حسن برجلٍ من اليهود في مهنة رديئة -كأن يكون مثلاً: يمسح الأحذية أو غير ذلك - فوقف هذا الرجل الكافر للإمام الـ حافظ ابن حجر وقال له: أريد أن أسألك سؤالاً، قال ما لديك؟ قال: أليس رسولكم -ونقول نحن صلى الله عليه وسلم- يقول: {الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر} قال: بلى، قال: لكن أنت الآن في جنة وأنا في سجن؛ فكيف يحصل هذا؟! قال: نعم، أنت الآن وإن كنت في سجن إلا أنك إذا نسبنا ما أنت فيه وقارناه بما أنت صائر إليه في الدار الآخرة إذا ما لم تكن أسلمت فهو يعتبر جنة؛ وكذلك أنا؛ إذا وفقني الله عز وجل وسددني وثبتني ومت على الإسلام والإيمان، فما أنا فيه بالقياس إلى ما أنا صائر إليه من النعيم المقيم هو يعتبر سجناً، فأسلم هذا اليهودي، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. ولذلك فإن الكافر يريد أن يأخذ مثلما سمعتم في البيت السابق الذي يقول: خذ من الدنيا بحظٍ قبل أن تنقل عنها أي: يريد أن يأخذ من هذا النعيم؛ لأنه ليس عنده إلا فترة واحدة، فقط وهي الدنيا، فيأخذ منها بقدر ما يستطيع، فهو يملئ فرجه وبطنه ويده من الشهوات بقدر ما يستطيع. ولذلك عمر الخيام وهو أحد شعراء الفرس المشهور بالخمريات وشعر الغزل، والعكوف على الشهوات، له قصيدة -ضمن الرباعيات المشهورة له- يخاطب ساقيه أو منادمه فيقول: أفق وصب الخمر أنعم بها … إلى أن يقول في البيت الذي بعده: وُروِّ أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من شربها يعني: عجل اسقني الخمر قبل الموت. إذاً: الكافر هذه فلسفته وهذا مذهبه، يقول: عجل واشرب من الخمر وارتكب من الحرام، واملأ نفسك من الملذات؟ لأنه ليس عندك إلا فترة واحدة؟! أما المؤمن فعنده منطق آخر مختلف تماماً، فهو يقول: وارد في حسابي جداً أنني أُؤجل كثيراً من أعمالي الصالحة للدار الآخرة؛ وهذا وارد جداً في الحساب، خاصة إذا كانت هذه الأعمال محرمة أو كانت مما يعوق عن الله عز وجل؛ فإن الإنسان يؤجلها؛ ولذلك قد يخرج الإنسان المال وهو يحبه، كما قال عز وجل: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} [الإنسان:8] . ولذلك روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قصة طويلة؛ وهي المعروفة بقصة سرية القراء الذين بعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى بعض أحياءٍ من العرب، وهم سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان معهم حرام بن ملحان خال أنس بن مالك فلما جاءوا إلى القوم الذين بعثوا إليهم، وقف حرام بن ملحان يدعوهم إلى الله عز وجل، ويبلغهم رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأشاروا إلى رجلٍ منهم -واحدٌ من هؤلاء الكفار المشركين المدعوين- قيل إنه عامر بن الطفيل وقيل إنه جبار بن سلمى، فجاء إلى حرام بن ملحان وطعنه بالرمح حتى أنفذه، أي: طعنه في بطنه حتى خرج الرمح من ظهره، ففار الدم بغزارة فماذا صنع حرام بن ملحان؟ والآن أنت أمام إنسان تخلى عن أمر دنيوي، تخلى عن الدنيا كلها، فهل بكى على ما خلف من الزوجة والأولاد وعلى العبيد وعلى الدنيا وعلى المزارع والبساتين؟ كلا، لم يحصل هذا، إنما استقبل الدم الذي يفور من بطنه بغزارة، حتى امتلأت يده، ثم رشق الدم على رأسه، ووجه وصدره وقال: [[الله أكبر! فزت ورب الكعبة]] وهذا عجيب! فزت ورب الكعبة، ثم مالوا على البقية وقتلوهم، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم قرآناً نسخ بعد ذلك، وهو: {أن بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا} فكان الرجل القاتل يتعجب من هذا المؤمن! الذي يقتل الآن، ويقول: فزت ورب الكعبة، عجيب! فهل تعتقد أنه يمثل؟! هذا ليس موقف تمثيل، بل هذا موقف يصدق فيه الكاذب، ويؤمن فيه الكافر؛ فهو موقف جدِّ لا هزل فيه، والرجل يقول الحقيقة: [[فزت ورب الكعبة]] ولابد أنه رأى بعينه وامتلأ اليقين بقلبه، فصار يقول: فزت ورب الكعبة. إذاً: المؤمن عنده منطق آخر ومقياس آخر غير مقياس أهل الدنيا؛ وهذا المقياس يقول: من الممكن جداً أن يتخلى الإنسان المؤمن عن كثيرٍ من أمور الحياة الدنيا رغبة في الله تعالى والدار الآخرة. وهذا النوع الأول من الذين يخافون من الموت: وهو الذي لا يؤمن بالدار الآخرة، فيريد أن يبقى أكبر مدة ممكنة في الدنيا، حتى يستمتع بلذاتها. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 18 حال الصالحين مع الموت ونظرتهم له أما الصالحون فهم بضد ذلك: الجزء: 53 ¦ الصفحة: 19 التحرر من وهم الموت كما أن هذه النظرة إلى الموت أكسبت المؤمنين الشجاعة في مواقفهم؛ لأنه ليست الشجاعة في الحروب فقط، فالشجاعة تكون أيضاً في المواقف، فما هو الذي يمنعني ويمنعك من أن نقول كلمة الحق ونصدع بها ونجهر بها؟ إنه الخوف؛ ورأس الخوف من الموت، لكن حين يتحرر الإنسان من الخوف، وعلى رأس ذلك الخوف من الموت؛ تزول عنده المخاوف والأوهام فيصبح هذا الإنسان يتعامل مع الحقائق؛ فهو يقول كلمة الحق ولا يبالي؛ لأنه يعرف أن الموت سوف يأتي في الوقت المكتوب -لا يتقدم ولا يتأخر- فلا يرهبه؛ فحينئذٍ: تجد أنه إذا اقتنع بأن من المصلحة أن يقول الحق: قاله ولا يبالي ولا يخاف. والأمثلة على الصدق والقوة في الحق بسبب التحرر من الدنيا كثيرة، ولعل ما ذكرته لكم في المجلس السابق من قصص العز بن عبد السلام رحمه الله! هي أنموذج للتحرر من الموت الذي جعل العلماء ينطلقون من هذه الأوهام ويتخلصون منها، فيكون الواحد منهم شجاعاً في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم. يقول الإمام ابن حزم رحمه الله! وهو أحد العلماء المشهورين بالنطق بكلمة الحق والجهر بها، يقول: قالوا تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنُ وأنني مولعٌ بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضو على صم الحصى كمداً من مات من غيظهم منهم له كفن ولما أحرقوا كتبه رحمه الله -كما ذكرت هذا في غير هذه المناسبة، فقد أحرقوا كتبه من باب الغضب عليه، والحقد والكراهية- تحداهم! ولاحظ التحرر من الأوهام، وهذا وهم آخر، وهم الخوف على الكتب، والخوف على العلم، الخوف على المنصب، والخوف على المكانة، هذا وهم تحرر منه ابن حزم فكان يقول: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدرِي يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أنزل ويدفن في قبريِ دعوني من إحراق رقٍ وكاغدٍ وقولوا بعلمٍ كي يرى الناس من يدريِ وإلا فعودوا في الكتاتيب بدأةً فكم دون ما تبغون لله من ستر كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر إذاً: قضية التحرر من الموت هو سر الشجاعة التي يتميز بها المسلم، سواء كانت الشجاعة في ميدان المعارك أو الشجاعة في كلمة الحق. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 20 المجاهدين والموت وقد قرأت في سير بعض المجاهدين المتأخرين في كتاب لـ حافظ وهبه عن تاريخ الجزيرة العربية، يذكر أن بعض المعروفين بالإخوان الذين قاتلوا مع الملك عبد العزيز وكان منهم شجعان وأقوياء؛ فيقول: إن شخصاً منهم أتى إلى الشيخ، وهو موجود في المسجد -ولاحظ الصدق في البساطة، والوضوح بدون تكلف- والشيخ عنده عصا كانوا يسمونها المشعاب -فقال له: يا شيخ أنا منافق وبكى، قال: ما الذي بك؟ قال: نعم أنا منافق! إني إذا خضت المعركة أشعر بشيء من الرهبة في قلبي، وقد يمر في خاطري ذكر زوجتي وذكر ولدي، وأنا في صلب المعركة، وهذا لا يليق بالمؤمن، وهذا لا يليق بالمسلم، فأخبره الشيخ وقال له: يا ولدي، بارك الله فيك وثبتك الله، هذا أمر طبيعي، وهذا أمر جبلي، وذكره بـ عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وكيف أنه في معركة مؤتة مرت في خاطره هذه الأشياء فتأخر بعض التأخر، فقال: يا نفس، إلى أي شيءٍ تتوقين؟ تتوقين إلى زوجتي، فهي طالق إلى عبيدي؛ فهم أحرار إلى مالي فهو صدقة لله عز وجل؛ ثم خاض المعركة وقاتل حتى قتل، وما زال يذكر له من هذه القصص ويورد عليه، فلما انتهى قال له هذا الرجل ببساطته وصدقه وإخلاصه: والله الذي لا إله إلا هو ما أخرج من عندك حتى تخرج النفاق من قلبي بعصاك هذه، فهو يطلب منه أن يؤدبه حتى يخرج هذا النفاق من قلبي ما هو هذا النفاق؟ النفاق أنه يحس بشيء من الرهبة، أو يتذكر شيئاً من الدنيا. فهذا المنطق في فهم الموت أكسب المؤمنين شجاعة لا توصف؛ وما أخبار المجاهدين الأفغان عنا ببعيد، وكيف أنهم شباب أحياناً وقد اطلعت على كثير منهم ورأيت أسماءهم وسمعت بهم ورأيت منهم الكثير، تجد شاباً ما طرَّ شاربه، فهو في أعمار أولادنا! يخجل الإنسان من هؤلاء، فتجد الواحد منهم يترك دنياه ويذهب ليبحث عن الشهادة، وبغض عن رأيي الخاص في هذه القضية، وهل هناك تشجيع قوي للجهاد في أفغانستان، أم لا؛ فهذه قضية أخرى ليس لها مجال الآن؛ لأني تكلمت عنها وسأتحدث عنها -إن شاء الله-. لكن أقول: إن مجرد كون هذا الشعور القوي عند هذا الشاب -يبحث عن القتل في سبيل- فهذا شعور كبير يستحق الإشادة. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 21 الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا محمد صلى الله عليه وسلم تاج الصالحين وإمامهم وخيرهم وبرهم وأفضلهم -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- روى الإمام أحمد في مسنده بسندٍ صحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد معركة أحد التفت إلى أصحابه -وهم مجندلون في التراب، شهداء عند الله عز وجل- فقال صلى الله عليه وسلم: وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} فيتمنى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قُتل شهيداً في تلك المعركة مع هؤلاء الشهداء في معركة أحد. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 22 ابن مسعود وهذا ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، يقول أنه حين خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أبصر ناراً في طرف العسكر في إحدى الليالي؛ قال: {فذهبت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وإذا معهم جنازة رجلٍ من المؤمنين المسلمين، هو عبد الله ذو البجادين قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره ووسده بيده، ثم واره وأهال عليه التراب، ثم قال: االلهم إني أمسيت راضياً عنه فارض عنه، فقال عبد الله بن مسعود: يا ليتني كنت صاحب الحفرة} . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 23 علي بن أبي طالب وهذا علي بن أبي طالب، البطل الشجاع الذي لم يكن الموت عنده يساوي شيئاً ولا يخافه ولا يرهبه، لسان حاله يقول كما قال الشاعر: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطفِ وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف فهو يقول خشية الموت عندي نكتة باردة، وأنا لا أخاف الموت! فخشية الموت عندي أبرد الطرف. وكان رضي الله عنه يقول: [[والله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع عليَّ الموت]] وكان يخوض المعركة ويضرب بسيفه حتى ينكسر وهو يقول: أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر وانظر كيف هي الحكمة! وانظر الفهم! وانظر الإدراك! وانظر كيف تحولت المعاني من كلام يقال على لسانه إلى واقع يحكم حياته! يقول علي رضي الله عنه: أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يعني: متى أفر من الموت؟ والآن أنا مقبل على معركة، فهل يحق لي أن أخاف من الموت؟ يقول: لا يحق لي أن أخاف! لماذا؟ لأنه إن كان مقدوراً عليه أن يموت فسيموت ولو بغير المعركة، وإذا كان المقدور أن ينجو فإنه لن يموت بسبب دخوله المعركة: أي يوميَّ من الأيام أفر؟ يوم لا قُدّر أم يوم قدّر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجي الحذر ولذلك مما يتعلق بسيرته رضي الله عنه وأرضاه: أنه كان رضي الله عنه كما جاء في روايات عديدة يخبر أنه مقتول، وأنه يعرف قاتله، وليس بالضرورة أنه يعرفه باسمه، لكن يدري أنه مقتول، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تخبرنا من سيقتلك فنقتله؟ فالإمام رضي الله عنه بحكمته وإدراكه وذكائه قال: إذاً تقتلون غير قاتلي، فكر فما هو معنى هذا الكلام؟! معناه أن من هو مكتوب له أنه يقتلني سيقتلني. إذاً: لا يمكن أن يقتل قبل أن يقتلني، فهو لا بد أن يقتلني، فلو قتلتم أحداً لكان هذا الذي قتلتموه ليس هو الذي كتب وله أنه سيقتلني؛ لأنه مكتوب عند الله أن الذي سيقتل علي بن أبي طالب رضي الله عنه هو عبد الرحمن بن ملجم فلابد أن يقتله عبد الرحمن بن ملجم، ولو قتلتم رجلاً آخر، فلن يكون هو قاتل علي [[إذاً: تقتلون غير قاتلي]] . قال تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:51-52] فهذا المنطق في فهم الموت؛ أكسب المؤمنين على مدار التاريخ شجاعة في الحروب. وقوة، حتى كان الواحد منهم يخوض المعركة ويتعرض للموت، وليست مسألة أنه يخاف ولا يتعرض للموت، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف خير الناس وأفضلهم: {رجلٌ مؤمن على متن فرسه يقوده في سبيل الله يبتغي الموت أو القتل مظانه} أي: إن هذا الرجل يبحث عن الموت، وليس هو خائفاً أو تغلب على الخوف، بل هو يبحث عن الموت. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 24 وهم الفوت وهم آخر غير الموت، ورأيت أن أسميه: وهم الفوت، وأعني بالفوات: خشية الإنسان فوات المصالح الدنيوية واللذات الدنيوية، وأن يبتلى بضدها من المصائب والنكبات، كالخشية -مثلاً- على المال والرزق أو الخشية على الأهل، والخشية على الولد، أو الخشية على سائر اللذات الدنيوية من المآكل والمشارب والمناكح والمراكب، ومثله الخشية على الحرية، وهذه من أعظم الأشياء التي يخاف منها الإنسان، فهو يخاف من أن يحبس، فبعض الناس يعتبر الحبس موتاً آخر. ولما سجن الأديب المعروف العقاد -سجن تسعة أشهر- ثم أخرج من السجن، قال قصيدة طويلة جميلة، من ضمنها يقول: وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد وانظر ومنطق الحكماء!: والحقيقة هذا الكلام -بغض النظر عن مصداقيته- كلام يقول الجميع أنه صدق، فهو سجن تسعة أشهر ثم خرج، فماذا يقول؟ وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد أي: إن العاقل يولد كل يوم، يعني: بالخبرة والتجربة والمعرفة، وأما الجاهل الغبي فيموت في اليوم الواحد مرات. إذاً: الإنسان عنده وهم آخر غير وهم الموت؛ وهو وهم الفوت: فوات المصلحة، فوات الدنيا، فوات الرزق، فوات المال، فوات الأولاد، فوات الأهل، فوات اللذة، فوات السيارة، فوات المراكب الدنيوية؛ وهذا هو الذي يمنع الإنسان من البذل والمجاهدة في سبيل الله، فكم من واحدٍ يقعد عن الجهاد! لماذا؟ لأنه خائف على أولاده، ولعلكم جميعاً تذكرون ذلك الشاعر الذي يقول: لولا بنيات، وهو يقصد بناته الصغار: لولا بنيات كزغب القطا ردَّدن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض فهل تعتقد أن المجاهدين الصادقين لا يحبون أولادهم؟ والله إن الواحد منهم يضم ولده على صدره حتى يكاد أن يكسر أضلاعه؛ من شدة شوقه وحبه له وحنانه وعطفه عليه، ويكفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المجاهدين، وإمام المتعبدين، يذهب إلى ابنه إبراهيم وهو عند أبي سيف القيم كما في صحيح البخاري، حيث كانت زوجة أبي سيف ترضع إبراهيم -كانت حاضنة ومرضعة لـ إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما مرض إبراهيم؛ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه إلى أبي سيف فتعجل بعض الناس وتقدم وقالوا لـ أبي سيف: الرسول صلى الله عليه وسلم قادم -أي: استعد- ليطفئ الكير حتى يزول الدخان، ويستعد لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحمله وشمه وقبله. ثم بعد ذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم وهو يجود بنفسه -أي: يموت- فضمه النبي صلى الله عليه وسلم إليه وبكى ودمعت عيناه؛ فتعجب الصحابة، وقالوا: هذا وأنت رسول الله!! هذا أنت يا رسول الله تبكي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه} والحديث الآخر: {إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} . وقال صلى الله عليه وسلم: {إن له مرضعاً تكمل رضاعه في الجنة} وكذلك عمر: جاءه مرةً عيينة بن حصن أو غيره فوجد أنه يقبل الصبيان -وعمر هو أمير المؤمنين- يضم هذا ويشم هذا ويحمل هذا ويضع هذا! وهذا حصل للرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقال له الرجل: أتقبلون صبيانكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لا يرحم لا يرحم} وعمر أجابه بنحو ذلك. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 25 أمثلة على الفوت وأضرب لكم -مثلاً- والأمثلة في موضوع الفوت، في الواقع تطول جداً لكن أمثلة سريعة. خذ مثلاً نعيم الدنيا وقارنه بنعيم الجنة، إن نعيم الدنيا معروف، ويكفيك أن الله عز وجل كتب الفضيحة على الدنيا بحيث أن كل لذة في الدنيا فهي مشوبة بأمر يكرهه الناس، فلو نظرت -مثلاً- إلى الطعام! متى يكون الطعام لذيذا؟ إذا شعرت بالجوع، إذاً ألم الجوع يسبق لذة الطعام، وكذلك الطعام إذا ذكر الإنسان إلى ماذا يصير! فيجد أنه يصير إلى ما هو معروف فيكرهه، ويدرك أن لذات الدنيا مشوبة ومطوقة ومنغصة بأمور يمقتها الإنسان ويكرهها. ونفس الكلام يمكن أن نقوله: عن لذة النكاح -وهي أعظم لذات هذه الدنيا- فيجد الإنسان أن هذه اللذة فيها من القبح والكراهة شيءٌ قد يمتعض منه الإنسان ويكرهه، ولولا أن النفس والجبلة قد جبلت عليه، وهي حكمة من الله عز وجل لاستمرار النسل والتوالد إلى أن يشاء الله عز وجل. أما الآخرة: فأمرٌ آخر وراء ذلك، فليس فيها جوع ولا عطش ولا كدر ولا غم ولا هم ولا حزن، وإليك هذه الأمثلة. في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه يقول: [[غاب عمي أنس بن النضر عن معركة بدر فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتالهم، ليرنَّ الله ماذا أصنع، وهاب أن يقول غيرها -أي: ما استطاع أن يقول غير هذه الكلمة- قال: فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون -انهزموا- قام أنس بن النضر فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المؤمنين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم استقبل المشركين يضربهم بسيفه ويقاتلهم قتالاً شديداً، فلقيه سعد بن عبادة فقال يا سعد، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد]] فهو يحلف بالله أنه وجد ريحها، وحاشاه أن يكذب. يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والمؤمنون الذين كانوا يقاتلون في الأزمنة الأخيرة كانوا يقولون بلهجتهم العامية: هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها فكانوا يحسون بريح الجنة فيقولون: هبت ريح الجنة، وكان يقول: [[الجنة ورب النضر! إني لأجد ريحها من دون أحد]] والله الذي لا إله إلا هو إنه لصادق. والقضية ليست تخييل ولا رسم ولا تصوير، فالرجل لشدة شوقه إلى الجنة شم ريحها في أنفه؛ فاشتاق إليها وأسرع إليها، وصار يقاتل المشركين حتى قتل، وبعد المعركة بحثوا عنه، فما عرفه أحد إلا أخته، يقول أنس: [[فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين طعنة بسيف أو رمية بسهم أو ضربة برمح، ووجدناه قد قتل ومَثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته عرفته ببنانه، قال: فكنا نظن فيه وفي أمثاله نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]] ] وخذ -يا أخي الكريم- هذا المثال الآن: أنس بن النضر كبرت عنده الحقائق وصغرت عنده الأوهام، فحقيقة الجنة كبرت عنده حتى أصبحت حقيقة حسية يشمها بإحدى الحواس الخمس التي أعطاه الله عز وجل وهي الشم، وصغرت عنده الدنيا حتى أصبح يطؤها بقدمه ولا يلتفت إليها. فهنا تحرر هذا الرجل من الوهم -وهم التعلق بالدنيا- وكيف لا يكون كذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خيرٌ مما تطلع عليه الشمس وتغرب} ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري أيضاً: {لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها} أٌف وتُفٍ على لذات الدنيا ونعيمها وبهرجها بالقياس إلى هذه الجنة!! فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكن ما هو الجاري؟ وما هو الحاصل بالنسبة لنا؟ الحاصل: أن لذات الدنيا كبرت في قلوبنا، فأصبحنا نتفنن -مثلاً- بالمطاعم والمشارب والملابس والقصور والسيارات والنساء، وأغرقنا في هذا الأمر حتى غلب علينا، وبالمقابل صغرت عندنا الحقائق الكبيرة -حقائق الجنة ونعيمها- حتى أصبحنا لا نتذكرها إلا في المناسبات، من رمضان إلى رمضان، أو بمناسبات الوعظ والتذكير يتذكر الإنسان هذا الأمر، وقد يبكي بعض الصالحين ثم يغادر ذلك وينساه، ويعود إلى ما كان عليه في دنياه، وهنا الخطأ فيجب أن نعيد الأمور إلى نصابها. وخذ مثلاً نساء الجنة من الحور مع نساء الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث من قرأه وتأمله؛ يعجب له أشد العجب، والحديث رواه البخاري - يقول صلى الله عليه وسلم: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الدنيا لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً} الله أكبر! وهذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فهي تضيء ما بين المشرق والمغرب ولملأته ريحاً من طيب ريحها، وقارن هذه بأجمل نساء الدنيا وأعطر نساء الدنيا، وهل هناك وجه للمقارنة؟! هل يقارن الذهب بالخزف؟ هيهات هيهات، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها} . إذاً: فأعد الحساب يا أخي الحبيب: {ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} أي: خمارها إن صح التعبير كما نسميه في هذه الدنيا. إذاً: امرأة من نساء أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها!! أفلا ما تستحق هذه الدنيا أن نقول لها: بئس لك متى ما كنتِ عائقاً في الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة؟! بلى والله. فيا أخي: أعد النظر في هذا الحديث، واقرأ وتأمل فإن هذا هو كلام الصادق المصدق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها} . ونعود -أيضاً- إلى ابن الجوزي رحمه الله! وننقل لكم النقل الثالث والأخير، يقول -أيضاً- في صيد الخاطر: والله إني لأتخايل دخول الجنة، ودوام الإقامة فيها من غير مرضٍ ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ؛ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص، في نعيمٍ متجدد في كل لحظة؛ بل في زيادة لا تتناهى، فأطيش يقول رحمه الله: فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه، فوا عجباً من مضيع لحظةٍ يقع فيها، فتسبيحة يغرس لها في الجنة نخلة أكلها دائمٌ وظلها، فيا أيها الخائف من فوت ذلك، شجَّع قلبك بالرجاء، ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية. فما هي الأشياء التي -ونحن نتحدث عن وهم اللذة الدنيوية- نتحسر على قوتها أيها الإخوة؟ نحن بحاجة إلى أن نكون صرحاء مع أنفسنا. نحن غالباً ما نتحسر على فوات الدنيا: فوات المنصب أو الشهادة أو الوظيفة أو الزوجة أو ما أشبه ذلك، وهذا غالب حديث الناس، فهم يتحسرون على فوات أمورهم في الدنيا لماذا؟ لأنه كبر عندهم الصغير وهي الدنيا -وقد تقدم- وصغر عندهم الكبير وهي الآخرة، فتولد عندهم من ذلك وهمٌ عظيم. أما الصالحون والعارفون فكانت حسرتهم على فوات الخير -فمثلاً- من التابعين من كان يتحسر على فوات صحبته صلى الله عليه وسلم كما كانوا يقولون لـ حذيفة رضي الله عنه: [[والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أكتافنا]] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر بعض من يأتون بعده، وأن الواحد منهم يتمنى أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولو وُتر أهله وماله، يعني: يتمنى أن يخسر ويفقد الدنيا بمقابل أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتمنون صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا الصالحون حتى اليوم. وأسألكم بالله! هل هناك واحد منا جلس يوماً من الأيام حزيناً فلو سئل ما سبب حزنك؟ لقال: حزنت لأنني حرمت من رؤية وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحرمت من سماع كلامه وحديثه، وحرمت من الجلوس إليه، وحرمت من الصلاة وراءه؟! فهل هناك أحد منا مرَّ في خاطره هذا الشعور؟! اصدقونا فوالله إن كنتم مثلي فلا أظن أحدكم كذلك، فينبغي أن نعيد الحساب إذاً. مثلاً: كانوا يتحسرون على فوات -المشاهد تقدم سمعتم قبل قليل- فـ أنس بن النضر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، يعني: معركة بدر غاب عن هذا المشهد وعن هذا الموقف العظيم -معركة بدر- فيفكر بعملٍ صالح في معركة أحد، فهو يتحسر على فوات ذلك، ويتحسرون على فوات بيعة العقبة، وعلى فوات بيعة الرضوان، وعلى فوات المشاهد العظيمة والمناسبات الكبيرة، وهم يتحسرون -أيضاً- على فوات الشهادة، فكان الواحد منهم يذم نفسه ويوبخها على أنه ما رزق الشهادة، ويقول مخاطباً نفسه: [[لو كان لكِ عند الله تعالى قدر؛ لرزقك الشهادة في سبيله]] أما نحن فحسراتنا على هذه الدنيا الفانية. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 26 علاج وهم الفوت ولما كان كل الناس يحبون أولادهم ويتعلقون بهم، لكن لم يكن هذا ليمنعهم من البذل والمجاهدة في سبيل الله عز وجل. فكيف نعالج التعلق بالدنيا؟! سواء كان التعلق بالزوجة، فيخاف الإنسان على زوجته أحياناً، أو يخاف على فوات اللذات، ويخاف على الرزق -كما ذكرت- يخاف على أهله، يخاف أن يحرم من هذه الأشياء؛ بل يخاف من أن يأتيه أشد منها وعكسها من المصائب الدنيوية -من الفقر والذل والهوان وما أشبه ذلك- كالجوع أو الخوف، فيخاف من هذه الأمور؛ فما هو العلاج؟ العلاج هو: أولاً: أن تتصور الأمور الدنيوية على حقيقتها، وتعرض عن الشكليات، فإياك والتعلق بالشكليات! وخذ مثلاً الحياة: كيف تقاس الحياة؟ وهل تقاس الحياة بعدد الأيام والليالي؟ أي: فلان عاش مائة وعشرين سنة فمعنى ذلك أنه انتهى من الحياة بشكلٍ جيد وأخذ حقه وافياً، والآخر الذي عاش أربعين أو خمسين سنة فهذا مسكين! ولم يعش شيئاً؟ كلا، فالحياة لا تقاس بالمدد والأعمار! فكم من الناس عاش أربعين سنة، لكن لما مات كانت الدنيا كلها قد انتفعت به؛ فأصبح كما يقال: ملء سمع الدنيا وبصرها، وقد تجد شاباً مات في الثلاثين أو بعد الثلاثين بقليل، ومع ذلك هو باقٍ بين الناس بالذكر الحسن؛ وبالمؤلفات النافعة، بالعلم، بالدعوة، بالمواقف المذكورة المشكورة المشهورة، بالجهاد، بالمنهج الذي خطه ورسمه للناس، المهم أنه باق بين الناس وإن كان في قبره:- يا رب حيٌ رخام القبر مسكنه ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا إذاً: الحياة لا تقاس بالأيام والليالي، بل تقاس بالآثار، ولذلك أوجه إليك سؤالاً وأرجو -إن شاء الله- أنه من قلبٍ خالص، وأن توجه هذا السؤال إلى نفسك؛ بل هما سؤالان: السؤال الأول: اسأل نفسك: كم عمرك؟ السؤال الثاني: ماذا قدمت في هذا العمر الذي مضى؟ قد يكون عمرك أربعين أو خمسة وأربعين، فمعناه: أن زهرة عمرك انتهت، قوة الشباب وأريحيته، وتوقده، وحيويته، ونشاطه انتهت أو كادت، فتدارك ما بقي من عمرك، بارك الله فيك! والرسول صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة ورواه البخاري عن أنس يقول: {من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه} . فالمقياس في بسط الرزق ليس هو كثرة المال، والمقياس في طول العمر ليس هو كثرة الأيام والليالي، فكم من إنسان كان ماله وبالاً عليه. وأنا -والله- مرة من المرات زرت واحداً من كبار الأثرياء أصحاب رءوس الأموال، الذين يعدون على الأصابع؛ فوجدت هذا الرجل في حالة يرثى لها! في همٍ وغم لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد فقد وعيه وعقله وأصبح كأنه صبيٌ صغير، فقال لي: هلمَّ معي أريك بيتي -بيت سكنه منذ عشرات السنين- فصار يذهب بي إلى هذه الغرفة وتلك الغرفة، ويتذكر ذكريات الطفولة والصبا، وأيامه في صغره، وأعماله وعمله … الخ، فقلت سبحان الله! رجع الإنسان كما كان؛ كأن فترة الدنيا هذه كلها قد انتهت وشُطِّب عليها؛ فسار الإنسان في آخر عمره لا يتذكر إلا أيامه الأولى، أيام شظف العيش، وأيام الجوع، وأيام الفقر، وأيام الكد والكدح، فماذا نفع المال، وماذا نفع هذا الإنسان؟! لا شيء. إذاً: ليس المقياس كثرة المال؛ بل كثير من أصحاب رءوس الأموال هم رواد المصحات النفسية، فهم يعيشون من الأمراض والأحزان والمخاوف شيءٌ لا يوصف أبداً، ولا أحد يتصوره، كذلك بالنسبة للدنيا ليس المقياس هو كثرة الأيام والسنين؛ بل المقياس هو مدى ما فعله الإنسان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه} . الإيمان بالقدر: ثانياً: العلاج الثاني: هو أن يعرف الإنسان أن المقدور كائن، فإذا كان الله عز وجل كتب لك في هذه الدنيا شيئاً من ألوان المسرات الدنيوية، فسوف يصيبك مهما كان، حتى لو تركته فإنه يلحقك، وكم من إنسان سواء من السابقين أو اللاحقين كان يدفع الدنيا عنه بالراحتين وباليد ثم تلحقه الدنيا. فـ عبد الله بن المبارك هل كان يبحث عن الدنيا؟ أبداً كان يركلها بقدمه وتقبل عليه؛ وفي مقابل ذلك: كم من إنسان يواصل كلال الليل بكلال النهار، ويتعب ويكدح من أجل الحصول على الدنيا وما حصل عليها؛ فالأسباب مشروعة فعلاً؛ لكن المقسوم سيقع لك. الاهتمام بالآخرة والعمل لها:- ثالثاً: العلاج الثالث هو: أن يوسع الإنسان نظرته بحيث يضم الآخرة إلى الدنيا -كما ذكرت في مطلع الحديث- فيفكر بالآخرة كما يفكر بالدنيا، فلا ينتهي نظره عند تسرب العمر، بل يمتد إلى الدار الآخرة وما فيها. وهاهنا أنقل لكم كلاماً للإمام ابن الجوزي رحمه الله! في كتاب صيد الخاطر وضع له المحقق عنواناً، يقول: لا ينبغي الحزن للموت، يقول: هو يتكلم عن نفسه: ما زلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أنظر -أو أتذكر- إلى بلى الأبدان في القبور إلا وأحزن لذلك حزناً شديداً. يقول: فمرت بي أحاديث كانت تمر بي ولا أتفكر فيها، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما نفس المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرده الله عز وجل إلى جسده يوم يبعثه} -يعلق أي يأكل من شجر الجنة فهذه روح المؤمن- يقول: فرأيت أن الرجل إذا ارتحل إلى الدار الآخرة فإنما يرتحل إلى الراحة، وأن هذا البدن ليس بشيء؛ لأنه مركب تفكك وفسد، وسيبنى بناءً جديداً يوم البعث، فلا ينبغي أن يتفكر الإنسان في بلاه ولتسكن نفسه إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة، فلا يبقى كبير حزنٍ للإنسان، وإن اللقاء للأحباب في الدار الآخرة عن قريب، وإنما يبقى الأسف -عند من يتأسفون على موت الأحباب والأصحاب- لتعلق الخلق بالصور، فلا يرى الإنسان إلا جسداً مستحسناً جميلاً قد نقض فيحزن لذلك، والجسد ليس هو الآدمي وإنما هو مَرْكب الآدمي، وإنما الآدمي حقيقة هو الروح، فالأرواح لا ينالها البلى والأبدان ليست بشيء. هكذا يقول رحمه الله وهو منطقٌ حسن من هذا الرجل العارف البصير رحمه الله! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 27 مقارنة بين الحرمان الدنيوي والحرمان الأخروي وفي مقابل قضية اللذات الدنيوية مع لذات الآخرة نقارن، العكس أيضاً، وهي الحرمان الدنيوي مع حرمان الأخروي. فبعض الصالحين بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ أي: لما ذكرت عنده النار، فقيل: لِمَ تبكي؟ قال: والله لو أخبرني الله عز وجل أنه سوف يسجنني في حمام لكان هذا أمر عظيم؛ فكيف وقد أخبرت أني إذا عصيت سوف أسجن في النار؟ وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه وفي صحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عما أعد الله تعالى لأهل النار فيها، من الأمور التي يطول العجب منها، وأعظم ذلك: حرمانهم من رؤية الله تعالى والجنة والخير وإقامتهم الدائمة الأبدية في هذا العذاب الذي لا ينقطع، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الموت يكون في يوم القيامة بصورة كبشٍ أملح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة؛ أتعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار؛ أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم! هذا الموت قال: فيذبح في قنطرة بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة؛ لا موت، ويا أهل النار؛ لا موت، كلٌ خالد فيما هو فيه، فيزداد أهل الجنة سروراً إلى سرورهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم} . ويقول الله عز وجل في قضية الجهاد: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81-82] فقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا} [التوبة:81] إلى قوله {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] ما هو الجواب؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:82] . إذاً: هل قارن هؤلاء بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ فهم فعلاً تخلصوا من الحر ولم يخرجوا في الغزو فسلموا، فهم جلسوا تحت المكيفات وفي الظل الظليل وفي الهواء البارد، في مزارعهم وفي ثمارهم، ولم يخرجوا في الحر، فسلموا من هذا الخطر القريب الصغير، وهو خطر الحر الدنيوي لكنهم وقعوا في الحر الأعظم، وهو نار جهنم، {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:82] فلو كان عندهم فقهٌ وعقلٌ وعلم لتحملوا الحر الدنيوي في سبيل النجاة من الحر الأخروي. وكذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم -في الحديث الآخر لما ذكر المرور بين يدي المصلي، أي: الذي يمر بين يدي المصلي- قال: {لو يعلم المار بين يدي المصلي، ماذا عليه -أي: من الإثم- لكان يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه} يعني: أنت مررت بين يدي المصلي الآن، وقطعت صلاته، وإذا قيل لك لماذا مررت بين يديه؟ تقول: أنا مستعجل ولم أستطع أن أنتظر حتى يكمل الصلاة، فيقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم: لو تعلم العقوبة لكان لك أن تنتظر أربعين سنة واقفاً خيراً من أن تمر بين يديه؛ لكن الإنسان غفل عن العذاب الأخروي وفطن للعذاب الدنيوي وهو تأخره عن عمله أو طول انتظاره أو وقوفه في الشمس؛ فاختلت الموازين عنده. ولعل من الأشياء التي يكثر الناس من الحديث عنها اليوم هي قضية الأسلحة الكيماوية، فقد أصبحت خطراً كبيراً والكثير منا قد يكون لأول مرة يسمع بهذا الكلام في مناسبة الأحداث الأخيرة، فإن هناك أسلحة كيماوية كثير من الناس لأول مرة يعرفونها أو يسمعون بها أو يسمعون الحديث عن خطرها وآثارها المدمرة، فأصبحت شبحاً مزعجاً لكثيرٍ من الناس، حتى أصبحت بعض النصائح والتوصيات تقول للناس: لا فائدة، لا بد من الموت، وعليك الاستسلام والانتظار حتى يأتيك الموت. فهذا الخطر كبر في أعين الناس، وربما قد يمنع بعض الناس من الجهاد في سبيل الله. وافترض أنه كان هناك جهاد في سبيل الله، فأراد أن يجاهد وخشي من هذه الأشياء، فقد لا يجاهد في سبيل الله؛ لماذا؟ لأنه خائف، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح: {لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم} أي: ودخان جهنم ولا شك لا يقارن بأسلحة الدنيا مهما كان الأمر، فإذا أردت النجاة من هذا الدخان في جهنم؛ فعليك أن تبتغي الموت أو القتل مظانه، وأن تسعى إلى أن تعفر وجهك وأنفك بالغبار في سبيل الله عز وجل، وإن ترتب على ذلك مفاسد لك بالنسبة للدنيا، من مرض أو موت أو ما أشبه ذلك، فهذه في الحقيقة مصلحة وليست مفسدة. وأنا الآن تحدثت لكم عن السبيل إلى التخلص من وهم الفوت -وهم الخوف من فوات المصالح الدنيوية- فذكرت أولاً: تصور هذه الأشياء على حقيقتها؛ ثم ذكرت معرفة أن قدر الله كائن، ثم ذكرت ساعة النظرة: بحيث ينظر الإنسان إلى الدنيا وإلى الآخرة معاً. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 28 معرفة أن النقص مركب في الدنيا النقطة الرابعة هي: أن يعلم الإنسان أن النقص مركبٌ في الدنيا، سواءً بطاعة أو بمعصية، أي: هناك تعب للإنسان، والشقي والسعيد كلهم يتعبون، يقول صلى الله عليه وسلم: {كل الناس يغدو} أي: كل الناس يتعبون ويجهدون، ولا يوجد أحد مرتاح في هذه الدنيا. كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن فالمؤمن يشكو والكافر يشكو، فقد يكون المؤمن فقيراً قد يكون غنياً، وكذلك الكافر وقد يكون المؤمن صحيحاً وقد يكون مريضاً، وكذلك الكافر، وقد يكون المؤمن قوياً وقد يكون ضعيفاً، وكذلك الكافر. إذاً: هذه الدنيا مركبة على النقص، وحتى الإنسان حين يتجه إلى أموره الدنيوية فإنه يتعرض لنقص، إما من مرضٍ أو فقرٍ أو مصائب أو أحزان أو غير ذلك؛ لكن تعب السعيد شيءٌ آخر ولا أريد أن أتحدث عنه فسبق وأن تكلمت عن تعب السعداء وتعب الأشقياء؛ لكن أضرب لكم أمثلة سريعة تناسب المقام يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح: {لا يجد الشهيد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من القرصة} أي: قرصة العقرب، وأمرها سهل. إذاً: الموت مكتوب على الجميع، وكل الناس يتألمون من الموت، لكن الشهيد مع أن له عند الله الكرامة العظيمة حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {للشهيد عند الله سبحانه وتعالى ست خصال -وذكر- أنه يغفر له مع أول قطرة من دمه، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين، ويشفع … } إلى آخر ما قاله صلى الله عليه وسلم ومع ذلك فموته في الدنيا ليس موت تعب، بل كما يجد أحدكم من القرصة. وقد تسمع بمغنٍ أو فنان أو خبيث من خبثاء الدنيا، جلس أياماً في فراش الموت يعاني من الآلام والمصائب والمصاعب المبرحة ما أن لو وضعت على جبل لانهد وتفتت والعياذ بالله " {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:85]-نسأل الله العفو والعافية- فهذا نموذج. نموذج ثانٍ: {مرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بامرأة -كما في الصحيح- وهي تبكي على قبر -أي: عند قبر ولدٍ لها مات- فقال لها صلى الله عليه وسلم: اتقِي الله واصبري، فما عرفت المرأة الرسول صلى الله عليه وسلم- فقالت: إليك عني -ابتعد عني- فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، ثم قيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءت عنده فلم تجد عنده بوابين، فقالت: يا رسول الله، لم أعرفك، واعتذرت إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى} فكل المصائب وكل الأحزان عند الصدمة الأولى. يا أخي الحبيب -مثلاً- أنت لم تتعود على الشيء، ولذلك تخاف منه، لكن الخوف بحد ذاته هو الخطر وإلا لو أزلت هذا الخطر وهذا الخوف؛ لتبين لك أن الأمور أقل مما تتصور. فمثلاً: كثير من الناس يكرهون أن يتكلم الناس فيه، فهو حساس، ولا يجب أن يسمع أي كلمة نقد، ولذلك تجد أن الإنسان دائماً حذر يأتي من هنا ومن هنا يحب أنه لا يسمع أي ملاحظة؛ وهذا مستحيل، فالناس: أولاً: لا بد أن يتكلموا فيه، فليس هناك أحد من البشر المخلوقين يرضى الناس كلهم عنه، كما سبق أن تكلمت في محاضرة: المستقبل للإسلام. إذاً: لا يمكن أن ترضي الناس كلهم، فهذه واحدة. الثانية: أنك إذا جعلت همك هو إرضاء الله عز وجل، وتحري الصواب؛ فبعد ذلك يمكن أن أول مرة تسمع فيها كلمة نقد تجرحك؛ لكن عندما تسمعها مرة ثانية وثالثة، ورابعة وخامسة وعاشرة؛ يصبح الأمر عندك طبيعياً؛ فيصبح الذي يقول لك: أخطأت ولماذا وماذا، مثل الذي يقول لك: أحسنت وجزاك الله خيراً، فيكون الأمر عندك سيان، فهذا أمر يعطيه الله العبد وهو الصبر عند الصدمة الأولى. إذاً: إذا أردت -مثلاً- أن تعود نفسك على أي أمر من الأمور، فابدأ بالصبر عند الصدمة الأولى، فمثال هذا الكلام ينطبق على كل شيء. مثلاً: الآن أنت شاب تريد أن تتدرب على الكلام أمام الناس فيكون عليك الصبر عند الصدمة الأولى، فأنت أول مرة سوف تجد صعوبة في الكلام وستجد أنك مضطرب، ويمكن أن يضيع نصف الكلام الذي سوف تقوله؛ لكن إذا وقفت ثم استمريت في الحديث؛ بعد ذلك تجد في المرة الثانية أن الأمر عندك هين، كما يقولون بالنسبة للسباحة، فلكي يتعلم الإنسان السباحة؛ يحتاج إلى أن يجزم أول مرة بعد ذلك يهون الأمر لديه، فكل الأمور الشرعية الجهاد في سبيل الله، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الاتصال بالناس، الدعوة إلى الله، الوقوف أمام الناس، الكتابة، الخطابة إلى غير ذلك، كل الأشياء الصبر فيها عند الصدمة الأولى، فأزل هذا الوهم -وهم الخوف- الذي يمنعك، ثم بعد ذلك ستجد الأمور سهلة -بإذن الله تعالى- أكثر مما تتصور. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 29 وهم انتظار المحنة وانتظار المحنة أحياناً أعظم من وقوعها، فمثلاً واحد -الآن- ينتظر ضربة، تجد أنه يعيش في آلام شديدة، وكل يوم ينتظر وينتظر، لكن إذا وقعت المحنة؛ كانت هينة أخف مما كان يخشاه ويحذره. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 30 وهم الشعور بالعجز ومن الأوهام التي تكبر في أعيننا: وهم الشعور بالعجز، بحيث أن كثيراً منا يخيل إليه أنه لا يقدر على شيء، فيقول: أنا لا يسمع لي، والأبواب مقفلة، ولا أستطيع أن أصنع شيئاً البتة -نحن نتحدث أنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً للإسلام وللدين وللدعوة- فكثير من الناس هذا منطقهم، وكم من الأسئلة جاءتني: أنا لا ستطيع أن أصنع شيئاً من قال ذلك يا أخي؟! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 31 الثقة بما منحك الله إذاً: لابد ن الثقة بما منحك الله عز وجل من قدرة، فلست أنت أضعف الناس، ويجب ألا تصدق أنك لا تستطيع أن تعمل شيئاً، فالمريض الذي يحمل بالنقالة من غرفة إلى أخرى يستطيع أن يصنع الكثير متى كان صاحب همة عالية، لكن أنت إنما أوتيت من قبل ضعف همتك، وقلة طموحك، فأصبح ليس لديك رغبة لتصنع شيئاً، ثم تبحث عن عذر، ثم تقول: إنني عاجز، فلابد أيضاً من التجربة والتدرج في العمل الذي تريده، تدرج شيئاً فشيئاً وجرب الأمور حتى تأخذ نفسك على العمل وتعتاد. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 32 الدعاء وأخيراً: لا بد من الدعاء. فالدعاء قد يجري الله عز وجل به للعبد ما لا يخطر له على بال، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس في الصحيحين يقول: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} أي: لصدق اليقين، فلماذا أقسم على الله؟ أقسم على الله لأنه قام في قلبه من شدة التوكل على الله، وشدة الثقة واليقين بوعد الله عز وجل أن أصبح الأمر كالمشاهدة، فأصبح يحلف على الله أن يفعل كذا، فيحصل ذلك فعلاً، كأن ينزل مطراً فينزل المطر: {إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره} وللسلف قصص ربما لو جمعناها لكانت درساً مستقلاً في هذا الباب، فادع الله عز وجل، وجأر إلى الله بالدعاء، وثق بأن الله تعالى يستجيب لمن دعاه. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 33 طول الأمل يزيد العجز ومما يدخل في موضوع العجز: تعليق الإنسان على المستقبل، فإذا طلبت منه أن يفعل شيئاً قال لك: الآن لا أستطيع، لكن -إن شاء الله- في المستقبل إذا كبرنا؛ وطالب العلم يقول: إذا تعلمت، وطالب الجامعة يقول: إذا تخرجت، والآخر يقول: إذا انتهى سكني فأنا منشغل في بناء قصر؛ فإذا انتهى بناؤه -إن شاء الله- تفرغت، فإذا انتهى من القصر بدأ ينشغل بالبستان، فإذا انتهى البستان؛ بدأ بمشروع، وهكذا ينتقل من عقبة إلى عقبة أو من عقبة إلى عائق آخر، وهذا طول الأمل الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر عنه عليه الصلاة والسلام فقال: {إن ابن آدم يكبر وتكبر معه خصلتان: حب الدنيا وطول الأمل} مع أن المستقبل قد لا يجيء فقد تموت هذا أولاً. والثانية: حتى لو جاء المستقبل، فالمستقبل يحمل معه مشاغله ومشاكله وعوائقه. فلذلك أنصح إخواني في الله: أنه لا أحد يعلق على المستقبل، اترك المستقبل لله عز وجل، والذي تستطيع أن تعمله؛ اعمله الآن، والذي لا تستطيع أن تعمله؛ دعه وقل: إن أمكنني الله منه فعلته:- وخذ لك منك على مهلةٍ ومقبل عيشك لم يدبر وخف هجمة لا تقيل العثار وتطوي الورود على المصدر ومثل لنفسك أيُّ الرعيل يضمك في ساحة المحشر الجزء: 53 ¦ الصفحة: 34 اليقين يقتل العجز وقد أعجبني أن أسوق لكم هذه القصة، وهي رواية إسرائيلية، لكن فيها لمحة حسنة جميلة أحببت أن ألفت لها نظر أحبابي: والقصة رواها ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين يقول بكر بن عبد الله المزني وهو من التابعين: [[إن الحواريين فقدوا عيسى عليه السلام -فقدوا نبيهم- فذهبوا يبحثون عنه، فجاءوا إلى شاطئ البحر فوجدوه في البحر والموج يرفعه تارة -أي: يمشي على البحر- ويضعه مرة أخرى، وعليه إزارٌ ورداء، فأقبل نحوهم، فلما اقترب منهم قال له أحد الحواريين -ولعله من أفضلهم-: ألا أجيء إليك يا نبي الله، أأخوض البحر إليك؟ قال: نعم تعال، فوضع الرجل الحواري رجله اليمنى في البحر، فلما وضع اليسرى قال: غرقت غرقت يا نبي الله، فمد يده عيسى عليه السلام إليه وقال: أرني يدك يا قصير الإيمان، أي: أعطني يدك يا قصير الإيمان. لو أن لابن آدم من اليقين قدر شعيرة لمشى على الماء]] . وقد يقول قائل: لماذا تذكر هذه القصة؟ أولاً: القصة صحت أو لم تصح فهذا موضوع آخر، وهي رواية إسرائيلية ذكرها بكر بن عبد الله المزني وهو تابعي -كما ذكرت لكم- لكن السلف لم يجدوا حرجاً من سياق بعض الإسرائيليات التي لا يكون فيها غرابة ولا نكارة؛ لأن معجزات الأنبياء أو بالأصح لأن آيات الأنبياء حق، فالنبي قد يمشي على الماء، وقد يُخضع الله له من نواميس الكون الشيء الكثير، فليس في القصة غرابة ولا نكارة، وإنما مقصودي بها أن كثيراً من الناس شدة خوفهم تمنعهم من أن يعملوا أي شيء، وبالتالي يحسون بالعجز كما أحس هذا الرجل حين وضع رجله في الماء فأحس أنه يغرق، فقال: غرقت يا نبي الله، لكن لو كان عند الإنسان توكل على الله عز وجل وثقة به؛ لربما استطاع أن يتغلب على كثير من العقبات ولا يشعر بالغرق! إذاً: لابد من اليقين، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم من ضمن ما كان يدعو به في مجلسه، أنه كان يقول: {اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا} فقد يبدأ الإنسان بمشاريع أو يفكر على الأقل بمشاريع خيرية كثيرة، مشروع كتاب، مشروع درس، مشروع إصلاح، أمر بالمعروف، نهي عن منكر، تكوين حلقة علمية، أي عمل يمكن أن يخطر في بال أحدنا، فما هو المانع الذي يمنعه من ذلك؟ إنه الخوف من أنه سوف يفشل في هذا العمل، فلا بد من اليقين، والحديث الذي ذكرته: {اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك} رواه الترمذي وحسنه ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 35 وهم "أنا" غرور الإنسان الجزء: 53 ¦ الصفحة: 36 علاج الاستكبار والغرور فهذا الإنسان وأيّ إنسان يقع عنده الاستكبار والغرور، كيف يعالج هذا الاستكبار؟ التذكير بالله: أولاً: يعالج بتذكيره بالله عز وجل؛ لأن الإنسان المستكبر إنما استكبر في نفسه حين غفل عن ربه فوقع في القضية التي ذكرتها لكم في البداية، فهو قد كبر في عينه الصغير وصغر في عينه الكبير، فنفسه الصغيرة كبرت حتى صارت الأنا ملء الدنيا عنده، والله جل جلاله بعظمته وكبريائه صغر في عينه حتى لا يلتفت إليه ولا يخافه ولا يرجوه، فهنا حصل الوهم عند الإنسان، ولذلك تجد عند الإنسان من الوهم بقدر ذلك، فأحياناً قد تجد إنساناً طيباً مسلماً قد يشعر أو يحس أو يسمع بانتقاص الدين أو سب المؤمنين أو سب الرسل أو حتى سب الله عز وجل، فلا يغضب ولا يثور؛ لكن لو سمع أحداً يسبه لغضب وزمجر وأرغى وأزبد وقام ليدافع عن نفسه، فعلامَ يدل هذا؟ يدل على الأنا؛ وأن عندك قدر من الأنا، فهو وإن لم يصل إلى حد الشرك؛ لكنه وهم يجب أن تنتصر عليه بحيث يكون غضبك لله ورسوله ودينه؛ أعظم بكثير من غضبك لنفسك. وأنا أدعوكم مرة أخرى -يا أحبابي- إلى أن تطبقوا هذا المعيار على أنفسكم، هل فعلاً نحن نغضب لله ولرسوله مثلما نغضب لأنفسنا؟ فإذا قيل لك: إن المكان الفلاني فيه معصية أو في البلد الفلاني ترتكب فيه معصية؛ فانظر وراقب ما هي المشاعر التي تثور في قلبك؟! ثم إذا قيل لك: إن بعض الجيران قد أعطى ولدك كفاً بغير حق، فانظر ما هو الشعور الذي يثور في نفسك؟! ومثال آخر: قيل لك: إن هناك كاتباً أو شاعراً في أقصى الدنيا ألف كتاباً يسخر فيه من الأنبياء والمرسلين فانظر ماذا يكون رد فعلك؟! ولو قيل لك: إن آخراً ألف كتاباً يهجوك ويسبك ويشتمك وينسبك إلى أن فيك كيت وكيت من النقائص، فماذا يكون رد فعلك؟! قارن بين الحالتين حتى تعرف: هل كبر الله جل وعلا في عينك أم كبرت في عينك نفسك، فكبر في عينك الصغير وصغر في عينك الكبير. فلا بد أن يعرف الإنسان ربه جل وعلا حق معرفته بقدر ما يطيق، وأن يتعرف إلى الله تعالى بأسمائه وصفاته وآياته وسننه وأفعاله جل وعلا. تسليط الدنيا على ابن آدم: والأمر الآخر الذي يعيد الإنسان إلى الاعتدال ومعرفة نفسه: عبر الحياة ومآسيها، أن الله تعالى سلط الدنيا على بني آدم، فهؤلاء الذين يكبرون في عيون أنفسهم ويستكبرون سرعان ما يصغرون حتى يصيرون أصغر من النمل، سبحان الله! كتب الله أن يفتضحوا في الدنيا قبل الآخرة! ولنفرض أنه سليم من الأمراض ولا يسلم، وسلم من الآفات والفقر والجوع لكن الموعد عند الموت، فيصبح هذا الإنسان المستكبر أحقر من ذبابة، فـ أمية بن أبي الصلت كان مستكبراً، حتى أنه من استكباره رفض الانصياع للرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به؛ انظر ماذا كان حاله عند الموت؟! عند الموت أصبح يتقلب ويقول -كأنه يخاطب الملائكة-: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما ثم قال: ليتني كنت قبل ما قد بدا لي في رءوس الجبال أرعى الوعولا كل عيش وإن تطاول دهراُ صائر مرة إلى أن يزولا وكذلك الملوك والسلاطين والخلفاء الكبار، حين نزل بهم الموت كان الواحد منهم يتمنى أنه كان فقيراً لا يعرف؛ لأنه ذهب صفو الدنيا -بالنسبة لهم- وبقي لهم الكدر في الدنيا وفي الآخرة. فالذين يدركون تحول هذه الحياة وسرعة انتقالها؛ لا بد أن يدركوا أنهم أضعف من أن يكبروا في عين أنفسهم، وأن الإنسان لا حول له ولا قوة إلا بالله. أحبتي الكرام: -كما أسلفت لكم- الأوهام كثيرة: وهم الدنيا، وهم الموت، وهم الخوف، من المخلوقين، وهم اللذة، وهم الشعور بالعجز، وهم استكبار الإنسان، كل هذه الأوهام عندنا قدر منها، سواء قل أو كثر. فأدعو الإخوة إلى أن يراجعوا أنفسهم ويكونوا صرحاء للغاية لعل الله عز وجل أن ينقذنا من هذه الأوهام؛ لنعيش في دنيا الحقائق. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 37 وهم الأنا يؤدي إلى الكفر ومن الأوهام: وهم الأنا، والأنا: أعني به غرور الإنسان، فمع أن الإنسان ضعيف بكل معاني الضعف، فكثيراً ما ينتابه الغرور، فيعظم ذاته والعياذ بالله إلى درجة الكفر بالله تعالى، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:11-12] فهذا الشيطان ماذا قال؟ وكفر إبليس من أين جاء؟ جاء من قوله: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فأنا هذه هي التي كفر بها إبليس. وهذا فرعون رأس الطغاة يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} قال سبحانه: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف:50-53] . وهذا قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ * فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:76-79] إنما أوتيته على علمٍ من عندي، فهو يرى أنه بجدارته ومواهبه أستحق ما أعطاه الله عز وجل. وبعدهم طاغية هذه الأمة الذي أنزل الله تعالى فيه قوله: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً * أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً * فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً * يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْداً * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم:77-86] أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدا، إنه العاص بن وائل لما جاءه خباب يتقاضاه -كما في صحيح البخاري-دين له عنده، فقال أعطني الدين، قال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد، قال: لا أكفر حتى يميتك الله ثم يبعثك، قال: فدعني حتى أموت وأبعث فسوف أوتى مالاً وولداً فأقضيك، فأنزل الله قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} فما هي المسوغات أن يؤتى مالاً وولداً؟ وما هي الجدارة التي استحق بها هذا الأجر؟ قال تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:11-16] وقال تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:38-39] أي: أنت تعرف من أين خلقت؟! فليس هناك مسوغات لدخول الجنة إلا العمل الصالح، فإذا خسرت العمل الصالح فأنت من أهل النار، إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] . إذاً: تعظيم الذات -الأنا- قد توصل الإنسان والعياذ بالله إلى درجة الكفر، وأحد الشعراء المعاصرين، بالمناسبة أحد الإخوة وجه لي سؤالاً وأذكره لأن له مناسبة، يقول: كيف تستشهد ببيت عمر الخيام، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من أنشدكم شعراً في المسجد فقولوا له: فض الله فاك} مع أن البيت فاحش؟ وأقول: الحديث الذي استشهد به الأخ لا يصح، بل كان الصحابة رضي الله عنهم كـ حسان وكعب وعبد الله بن رواحة ينشدون الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يقول: {زد أو هيه} وأحياناً يقول: {اهجمهم وروح القدس معك -أو جبريل يؤيدك-} فالحديث الذي استشهد به الأخ لا يصح. واسمحوا لي أن استشهد لكم ببيتين لهذا الخبيث المخبث نزار قباني وإنما أتيت به بمناسبة الأنا -عبادة الأنا- والشرك بالله عز وجل عن طريق عبادة الذات، يقول بلسانه: مارست ألف عبادة وعبادة فوجدت أفضلها عبادة ذاتي والواقع أنني أشهد بالله العظيم أن هذا الكافر العنيد ما مارس أي عبادة إلا عبادة ذاته وعبادة الشهوة، وعبادة المرأة التي يوم كان المسلمون يقولون: نشهد أن لا إله إلا الله، كان هو يقول للمرأة: أشهدُ ألا امرأةً إلا أنتِ، كما أخرج كتاباً بهذا اللفظ، فالرجل لم يكن يعبد إلا نفسه وشهوته، فعبادته لذاته هي الأولى والأخيرة، وإنما صرحت بكفره؛ لأنه ثبت عندي؛ لأنه قال ما قد ذكرت لكم، وقال أبشع وأفضع وأشنع منه، ولست أحفظ من شعره كثيراً؛ لكنني أذكر أنه نسب إلى الله تعالى من النقائص والعيوب في شعره -كالملل والعجز والضعف وغير ذلك- ما يكفر به قولاً واحداً عند جميع المسلمين إلا أن يتداركه الله بتوبة ويسلم من جديد؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، والإنسان ما دامت روحه في جسده فقد يتوب، فيتوب الله عليه مرة أخرى، ويقول هذا المستكبر: أنا أرفض الإحسان من يد خالقي قد يأخذ الإحسان شكلاً مفجعا فانظر كيف عبادة الأنا والعياذ بالله، ويا سبحان الله! وتبارك الله! وما أحلم الله! يعني: السمع والبصر والفؤاد والجسم والبدن والهواء والأكل والشرب والحنان والعطاء والصحة والعافية والرزق، ممن أتت بهذا المسكين؟ {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] ومع ذلك يرفض الإحسان، فتبارك الله ما أحلمه!! الجزء: 53 ¦ الصفحة: 38 الأسئلة الجزء: 53 ¦ الصفحة: 39 بلية النظر إلى الحرام السؤال يقول: أنا شاب ابتليت بالنظر، وعندي وهم لا أدري هل هو وهم أم حقيقة، وهو أني لا أستطيع التخلص منه؟ الجواب لا بل تستطيع أن تتخلص من هذا النظر؛ لكن لا شك أن النظر يحتاج إلى مجاهدة، وفي نفسي أن أخصص له درساً إن شاء الله تعالى. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 40 حسن الخاتمة السؤال يقول: أسأل الله تعالى لنا ولكم ولجميع إخواننا الحاضرين أن يحسن لنا خواتيمنا ووالدينا وذوي أرحامنا خاصة، وجميع المسلمين عامة آمين اللهم آمين. بعد أن تحدثت عن الأوهام حول الموت، فما هي الأشياء الأساسية التي نتشبث بها حتى يدركنا الموت ونحن على حالة طيبة؟ الجواب تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وحالة الموت هي حالة شدة، والأشياء التي تتشبث بها أنك تتعرف على الله في الرخاء بالبحث عن مرضاته. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 41 فضل سورة الملك وأسباب عذاب القبر السؤال ما هي أسباب عذاب القبر الحقيقية، وهل صحيح أن من قرأ سورة الملك قبل النوم وقي من عذاب القبر؟ الجواب نعم صحيح أن من قرأ سورة الملك قبل أن ينام فإنها المنجية: {سورة من كتاب الله، ثلاثون آية ما زالت بصاحبها حتى أنجته من عذاب القبر} وهي سورة تبارك الذي بيده الملك. أما أسباب عذاب القبر فكثيرة: منها: الغيبة والنميمة. ومنها: أن الإنسان لا يستنزه ولا يستبرئ من البول. ومنها: أن الإنسان لا يتعلم الدين وهذا من أعظم الأسباب المجهولة عندنا، أن الإنسان يؤخذ الدين بالوراثة والتقليد ولا يخصص وقتاً لتعلم الدين، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الاختبار في القبر، فقال: {أما الكافر والمنافق فيقول: هه هه لا أدري! كنت أقول ما يقوله الناس} . إذاً: هو يردد كلاماً يقوله الناس ولم يأخذ الدين بالدراسة، وعن العلم والعلماء والكتب، إنما أخذه بالتقليد والوراثة فقط. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 42 الخشوع في الصلاة السؤال إني شاب -لله الحمد- محافظ على الصلاة مع الجماعة في كل وقت، كما أنني بعض الأيام أقوم الليل وأصوم الست من شوال، ويوم عرفة، وعاشوراء؛ ولكن عندما أقوم إلى الصلاة أحاول أن أخشع، ولكني أخرج من الصلاة وأفكر في أمور كثيرة ثم أتعوذ من الشيطان وأتفل ثلاثاً وأعود مرة أخرى وهكذا؟ الجواب تكلمت عن الخشوع في الصلاة في دروس بلوغ المرام في الأسابيع الثلاثة الماضية فبإمكان الأخ الكريم أن يراجعها. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 43 أبيات جميلة السؤال ما رأيك في هذه الأبيات، وهل من الحسن التمثل بها خصوصاً في هذه الأحداث؟ وربك ما أخشى من الموت إنه طريقٌ وكل الناس في الدرب سائر وربك ما أخشى من الحرب إنها سجال فمحظوظ بهن وعاثر وربك ما أخشى من الفقر إنه بتدبير من تهفو إليه المشاعر ولكنني أخشى من الغفلة التي تموت بها عند الخطوب الضمائر أخاف علينا من خطوبٍ كثيرة تزلزلنا والقلب في الغي فاجر أقول لقومي لا تسوقوا ركابكم إلى غير دين الله فالموج هادر ولا تيئسوا ما خاب أصحاب ملة إذا ما تواصوا بينهم وتآزروا الجواب في الواقع الأبيات جميلة وحلوة! وأنا أبدي إعجابي أولاً بالأخ الكريم الذي يبدو لي أنه كتب الأبيات من الذاكرة؛ لأن فيها بعض الملاحظات اليسيرة التي عدلتها، وقبل ذلك: إعجابي بالشاعر الكبير الدكتور/ عبد الرحمن العشماوي؛ ومن هذا الموقع أقول جزاك الله خيراً يا عبد الرحمن العشماوي. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 44 التوبة والابتلاء كفارة للذنوب السؤال كنت جاهلاً ففعلت معصية فأنزل الله بي عقوبته، وهي مرض، والآن تبت إلى الله عز وجل، فهل هذه كفارة؟ الجواب نرجو الله عز وجل أن يكون كفارة ما دمت تبت إلى الله عز وجل، فلا شك أن العبد إذا تاب تاب الله عليه، وهذا المرض الذي ابتليت به إذا صبرت عليه أجرت عليه أيضاً. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 45 وجوب الإنصات لقراءة القرآن السؤال إذا قرأت مع الشريط وأنا أقصد المراجعة؛ فما الحكم؟ الجواب ينبغي لمن سمع القرآن أن ينصت. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 46 حكم ركعتي تحية المسجد السؤال يدخل بعض الإخوان إلى المسجد قبل الأذان فيجلس دون أداء تحية المسجد بحجة وقت النهي. فما الحكم؟ الجواب الأمر في ذلك واسع، فإن صلى ركعتي تحية المسجد فهذا حسن وجيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وإن ترك بحجة أنه وقت نهي؛ فلا حرج عليه في ذلك؛ لأنه لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وإن كنت أرى أن يصلي ركعتين. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 47 حكم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية السؤال الذي لا يستطيع أن يقرأ سورة الفاتحة في الصلاة الجهرية لأنه يرددها حتى يركع الإمام وفي بعض الأحيان لا يتمها؟ الجواب إذا كان الإمام لا يسكت لقراءة الفاتحة؛ فلا أرى أنه يجب على المأموم أن يقرأها. وأترك بقية الأسئلة إلى أسئلة أخرى عندي -إن شاء الله- سأجيب عليها. ولا أترك شيئاً منها بإذن الله تعالى إلا ما كان مكرراً أو لا داعي له. سبحانك وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 48 الموقف من العقاد ومؤلفاته السؤال هل تنصح بقراءة مؤلفات العقاد؟ الجواب استشهدت ببعض أبيات العقاد، والعقاد له كتب طيبة ومفيدة، فهو أديب معروف، لكن لا شك من حيث الوضوح في تصوراته الإسلامية وفهمه للإسلام نظر، أي: لا تؤخذ من العقاد، إنما يستفاد منه في مجاله وفنه. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 49 الاهتمام بالصلاة على النبي السؤال إذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم تسرع بها حتى -أحياناً- تخل بها ولا نسمع منها إلا السين والصاد، وكأنه شيءٌ ثانويٌ تريد أن تتخلص منه؟ الجواب صحيح أنك مصيب فيما ذكرت، وكنت ممن يحذر من هذا؛ لكني -أحياناً- عندما أشعر بضيق الوقت وكثرة الموضوع الذي أريد أن أتحدث إليه؛ يغلبني ذلك، فأسأل الله أن يعفو عني، وجزاك الله خيراً. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 50 صلة الرحم سبب في طول الأجل السؤال ذكرت حديث: {من أحب أن يبسط الله له في رزقه وينسأ له في أثره الخ} والآجال مقدرة عند الله عز وجل قبل أن يولد الإنسان؟ الجواب نعم مقدرة؛ لكن لا مانع من أن يكون قد قُدر لهذا الإنسان طول الأجل؛ لأن الله تعالى كتب أنه يصل رحمه، فكان هذا سبباً لزيادة عمره. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 51 مواضيع رفع السبابة في الصلاة السؤال ما هي مواضع رفع السبابة في الصلاة؟ الجواب مواضع رفع السبابة في الصلاة: عند الدعاء في التشهد الأول والأخير، فإذا قلت السلام عليك أيها النبي السلام علينا أشهد أن لا إله إلا الله، اللهم صلِّ على محمد، اللهم بارك على محمد، فكل ذلك ترفع فيه السبابة. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 52 الحث على صيام الإثنين السؤال أرجو أن تحث وتذكر أن غداً الاثنين لمن أراد أن يصوم، وأنت تعلم ما ورد عنه؟ الجواب وإنما قرأت هذا؛ لأنه سبق أكثر من مرة جاءتني ورقه مثل هذه وأعرضت عنها؛ لأن الناس يعرفون الأيام، وإنما تكررت فذكرتها، والأخ إنما ذكرها يرجو أن يكون شريكاً في الأجر. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 53 أدعية تصرف الوهم السؤال هل هناك أدعية أو آيات تبعد الإنسان من الأوهام والخوف؟ الجواب أقول: نعم، وهذا ما فاتني أن أذكره لضيق الوقت، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا خاف من قوم قال: {اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم} . الجزء: 53 ¦ الصفحة: 54 خطورة النظر إلى الحرام السؤال أحسب نفسي ملتزماً ودائماً مع الشباب المستقيمين، وأدعو الله عز وجل مع مجموعة من شباب المرحلة المتوسطة والحمد لله أسير معهم على أحسن وجه، وكذلك لي لقاء مع طلبة الجامعة، لكن المشكلة أنني في الآونة الأخيرة -منذ سنة ونصف- وأنا مشغول بالنظر الحرام في المجلات والصور الجميلة التي دخلت علينا ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأنا في الحقيقة ضعف إيماني بالله كثيراً مع أني أحفظ كثيراً من آيات الله عز وجل، لكني كلما تذكرت المجلات ذهبت واشتريت بعضاً منها … الخ، لكني أخشى أن أفتضح أو ألقى الله عز وجل بحالة ليست مرضية؟ الجواب نعم يخاف عليك ذلك في الواقع:- كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر فأحذر يا أخي: يقول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وجاهد ثم جاهد واقرأ كتاب الجواب الكافي في من سأل عن الجواب الشاف للإمام ابن قيم الجوزية. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 55 كراهية الموت خوفاً من السكرات السؤال ما رأيك فيمن يكره الموت، لا حباً في الدنيا ولكن خوفاً من سكراته؟ الجواب إذا تذكر هذا، فعليه أن يتذكر ما بعد ذلك، فإن كان من الصالحين؛ فإنه يصير بعد ذلك إلى مغفرة من الله ورضوان. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 56 وهم اليأس من الفوز بالجنة السؤال يقول: أنا شاب يصيبني الوهم بأنني لن أفوز بالجنة، فلذلك أقلل وأتقاعس عن الأعمال الصالحة؟ الجواب لا، بالعكس! الوهم الذي يصيبك، يجب أن يكون حادياً لك إلى أن تضاعف من أعمالك الصالحة. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 57 وهم الخواء والخوف من غير المسلمين السؤال يقول: من الأوهام: عقدة الخواء والاعتقاد بأن الأجانب دائماً متفوقون على المسلمين؟ الجواب نعم هذه لا شك أنها من الأخطاء والمفاهيم السائدة عند المسلمين، وسببها هو التخلف الذي يعانيه المسلمون في كثيرٍ من المجالات، ونرجو من الله عز وجل أن يرفع عن المسلمين هذه الضوائق التي يعيشونها، وأن يكتب لهم العز والنصر في التمكين في الدنيا، حتى يزول هذا الوهم عن الشباب، ولن يكتب الله عز وجل النصر والتمكين حتى يزول هذا الوهم من نفوسهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 58 شمول أجر استماع المحاضرة للجميع السؤال الجالسون في الشارع، يستمعون للمحاضرة أيعتبرون من الذين تحفهم الملائكة، حيث أن الذي في الشارع يسمع الصوت واضحاً والجو بارد؟ ويقول: لماذا لا يفرش السطح حتى يجلس فيه بعض الإخوة بدلاً من الشارع؟ الجواب الحقيقة يؤسفني جداً أن يجلس الإخوة في الشارع، وهذه قضية لا بد أن تحل بإذن الله تعالى ونرجو الله أن تحفهم الملائكة، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 59 مخطط البعث العراقي السؤال يقول: أحد الشباب: أحد الإخوة تكلم عن مخططات حزب البعث العراقي في هذا البلد قبل سنة، ويقول الأخ: إنني كنت حاضراً في ذلك المجلس؟ الجواب هذا صحيح، قد كنت حاضراً في أحد المجالس، وكان معنا أخونا الكريم الشيخ/ أسامة بن لادن، فتكلم عن خطر العراق ومخططه للغزو، وكان هذا قبل سنة، فما ذكره لك السائل صحيح. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 60 مكانة الإمام الشافعي السؤال يقول: ذكرت الإمام الشافعي في قسم العصاة فهل ذلك موافق لسيرته وصلاحه، مع أننا لا ندعي له العصمة ولكن يحتاج السامعون لتصحيح ذلك؟ الجواب ليس الشافعي من قسم العصاة وحاشاه من ذلك؛ بل هو من نبلاء هذه الأمة وعبادها وصالحيها وأئمتها، لكنه هو نفسه يرى لنفسه ذلك وهذا من تواضعه -كما أسلفت- وله أبياتٌ من الشعر يقول: أحب الصالحين ولست منهم وأرجو أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة فرد عليه الإمام أحمد كما يقول بعضهم ببيتين يقول: تحب الصالحين وأنت منهم وترجو أن تنال بهم شفاعة وتكره من بضاعته المعاصي وقاك الله من تلك البضاعة الجزء: 53 ¦ الصفحة: 61 قواعد في توحيد الكلمة من الملاحظ في ساحة العمل الإسلامي أنه يهدم بعضه بعضاً، وأن كثيراًً من الدعاة في دوامة الفرقة والاختلاف، ومن أهم أسباب ذلك غياب فقه الشمولية وضيق الأفق والانتصار للنفس والتعصب للرأي والتقليد الأعمى للمشايخ والزعماء وغياب فقه الأولويات، وفقه الموازنة بين المصالح والمفاسد، وقد ذكر الشيخ عشر قواعد، جدير بالدعاة أن يلتزموا بها حتى تتكامل الجهود من أجل إعلاء كلمة الله في الأرض. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 1 أهمية توحيد الكلمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله عليه صلواته وسلامه. أما بعد: فيا أيها الإخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. كنت وعدتكم في المجلس السابق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة حول: توحيد كلمة المسلمين، أو الدعاة على وجه الخصوص، وأرجو أن أفي بما وعدت الآن بحسب ما يتسع له الوقت، فسوف تكون كلمتي بعنوان (قواعد في توحيد الكلمة) . وحقيقة لا أكتمكم حديثاً أني ما أجهدت نفسي في بحث هذا الموضوع وإعداده، كما نوهت بذلك مراراً، وأنا حين أقول ذلك أريد أن يكون هذا عذراً لديكم ولدى من قد يسمع هذا الحديث، فيما قد يراه من نقص أو خلل أو عدم اكتمال أو استطراد أحياناً؛ لأن الجلسات نريد أن تكون فيها نوع من الأخوة والمؤانسة والاسترسال في الحديث، بعيداً عن روتين الدرس أو المحاضرة وما فيه -أحياناً- من استمرارية معينة ورتابة في بعض الموضوعات. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 2 مشكلة ضيق الأفق ليست القضية قضية جدل ومناظرة فقط، بل نحن نتكلم باسم الله وباسم الدين وباسم القرآن وباسم السنة وباسم الحديث، ولذلك لا نريد من أحد أن يخالفنا لأننا نزعم أننا نمثل الكلمة المقدسة، وهذا يقع في أذهان الكثيرين نتيجة ضيق الأفق وتحجير المفاهيم وإعجابهم بما عندهم من العلم، كما قال تعالى: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر:83] وكما قال صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي برأيه} . فنتيجة لذلك لم يعد لدينا إمكانية أن نتحمل وجهة نظر أخرى، فعندنا شيء من الأحادية في الرأي وضيق الفهم، والمشكل أيها الأحبة -وأقولها بمرارة وصراحة- أننا -أحياناً- نظرياً قد نقول خلاف ذلك! وطالما سمعت من بعضهم وهو يقول: من خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه أقرب إليك ممن وافقك بغير دليل؛ لأن هذا الذي خالفك إنما خالفك للدليل، ويجب أن تكون العلاقة بينكم أمتن. وهذا كلام نظري جميل، لكن دعنا ننظر في واقعنا العملي، وفي تعاملنا مع من خالفونا، فتجدني أنا ذلك الذي أردد دائماً وأبداً قضية الحوار والنقد البناء، وتقبل وجهات النظر المختلفة، وعدم إلزام الناس بالرأي الواحد، وجعل الناس يعيشون في بحبوحة الشريعة التي فتحها الله سبحانه وتعالى لهم، فأنا لا أحجر واسعاً، وأنا لا أفرض رأيي بثقله وبشريته وخصوصيته على النص الشرعي، أنا ذلك الذي يقول هذا الكلام تجدني أغظب بمجرد أن أرى شخصاً اختلف معي، وترتفع درجة الحرارة عندي، وتختلف نبرة الكلام، ويتغير مجرى الحديث، وتحتد اللهجة، ويبدأ القصف والقصف المضاد. فهذا -أحياناً- يرجع إلى نوع من التربية الخاطئة على مستوى المجتمع وعلى مستوى الحلقة العلمية أو الارتباط بالعالم وعلى مستوى الدعوة أو الارتباط بمجموعة من مجموعات الدعوة وحتى على مستوى الأسرة والأب، نوع من التربية التي جعلت الثمرة -حقيقة- ثمرة مرة. وأنا أقول: إن هذا الأمر عام في طلبة العلم وغيرهم، ولكنني رأيت في بعض طلبة العلم حاجة إلى التنبيه على مثل هذا الأمر أكثر من غيرهم، فهم الأليق بأن يكونوا أوسع الناس أفقاً، وأبعد الناس نظراً، وأكبر الناس عقولاً، وأصبغ الناس، وأحلمهم، وأرحم الناس بالناس، والمنتظر منهم ومن غيرهم أن من أساء إليك أن تحسن إليه، ومن أخطأ في حقك أن تصيب في حقه، وألا تقابل الإساءة بالإساءة، بل تقابل الإساءة بالإحسان، وتعفو وتصفح وتلتزم بالأفق الأوسع الأمثل الذي ذكره الله عز وجل {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34-35] . أقول أيها الأحبة: طالما سمعت من كثير من الإخوة الأحباب كلاماً قد يكون له تأثير في القلب، أقله تحزين النفس وانقباض الضمير وشيء من التوتر والقلق، ولكن العبد يحاول أن يلجم نفسه بلجام الإعراض والصبر، لماذا؟ لأن أقل ما نضحي به هو أن نضحي بشيء من أعصابنا، من أجل ألا يرانا الناس وقد تماسكنا بالتلابيب مع رجل من أهل الإسلام، ومن أجل ألا يقول قائل: لماذا أنت مختلف مع فلان؟ نعم، قد يختلف معي أي إنسان، وذلك من حقه، لكن لن تجدني -إن شاء الله- مختلفاً مع أحد، بمعنى أن لي منه موقفاً مبدئياً في كل ما يصدر منه، بل أحاول -أو يجب أن أحاول- أن يكون موقفي من الجميع، ماداموا إخوة في الإسلام والعقيدة الواحدة والمنهج الواحد والكتاب الواحد والسنة الواحدة والطريق الواحد في الجملة، أن يكون الأمر كما قال القائل: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلف جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا وما أسهل وأجمل أن نتلفظ بهذه الكلمات الجميلة المعسولة الحلوة! وما أمر وأقسى أن نجرب ولو موقفاً واحداً فقط، تخلينا فيه عن انتصار لأنفسنا أو ثأر لشخوصنا أو غضب لذواتنا في سبيل الله عز وجل، وحرصاً على وحدة كلمة المسلمين! فبمجرد ما يواجه الواحد منا موقفاً عملياً تقع القضية التي طالما تكلمت عنها أمامكم، وهي قضية أن الواحد يقول: ليس المقصود أنا، بل المقصود المنهج، والمقصود الدعوة، والمقصود الدين، ولذلك يجب ألا أسكت، ويحب أن أرد؛ لأن القضية لا تستهدف فلاناً، وإنما القضية قضية دين الله. وهكذا ألبسنا أنفسنا لبوس أننا نمثل دين الله تبارك وتعالى، وأن من تناولنا فكأنما أساء إلى الدين، والواقع أن ذلك ليس بصحيح فيمكن أن يختلف معك شخص في قضية أو قضايا قليلة أو كثيرة من منطلقات شرعية أو عقلية، وما زال الناس يختلفون، ويرد بعضهم على بعض دون أن يفضي الأمر إلى تشاتم أو تراشق بالسباب أو تبادل تهم أو طعون. فالمقصود أن جزءاً كبيراً جداً من المجهود الإسلامي يضيع في مهارشات بين الدعاة، ولا أقول: لا ثمرة لها، بل نتيجتها عكسية؛ لأن الشرخ الذي يحدثه اختلاف الدعاة فيما بينهم عند العامة والخاصة، وعند خصوم الإسلام من العلمانيين وغيرهم، هذا الشرخ ليس من السهل أن ينمحي أو يزال والناس إذا رأوا رجلاً خارجاً من الصف وآخر داخلاً فيه فإنهم لا يقولون: هذا خرج وهذا دخل، بل يقولون: الصف معوج، وخاصة إذا كانوا أهل غرض وأهل هوى، وما بالك بإنسان حديث عهد باستقامة والتزام، فوجد أن هذا الإنسان -مثلاً- يمثل رمزاً للخير والدعوة والاستقامة والصلاح، وقد يكون هو سبباً في هدايته ولو كان عنده خطأ أو تقصير أو مخالفات، لكنه فتح عيونه على الخير بواسطة فلان، ثم وجد أن فلاناً تتناوشه السهام والطعون والكلام، فهو بين أمرين: إما أن يدخل في هذه المعمعة، فهذه مشكلة؛ لأنه حديث عهد وطري العود، وإما أن يسمع هذا الكلام ولا يرد عليه، فقد يورث هذا الكلام عنده شيئاً من الشك في الرمز الذي فتح عيونه على الخير عن طريقة، فيكون ذلك سبباً في فساده وانحرافه وبعده عن الدين، وهكذا أصبحنا والعياذ بالله نخرب بيوتنا بأيدينا في بعض الأحيان، وأعيذ بالله كل مؤمن أن يكون هذا حاله، كما أني لا أحب أن يفهم من كلامي التعميم أو أن هذا حال كثيرين، بل هذا حال مجموعة قليلة بلا شك، ولكن مع ذلك أرى أنه ينبغي ألا نفرِّط حتى في القليل، حتى جهد الواحد منا يجب ألا يضيع. إذاً: من أجل إنتاجية أكبر، ومن أجل فائدة أعظم للأمة، ومن أجل أن تكون جهود الدعاة كلها تتجه في الاتجاه الصحيح صوب التغيير للأفضل والأسلم، أطرح عشر قواعد لن يكون الوقت مسعفاً بالكلام عنها تفصيلاً، لكني سأذكرها إجمالاً إن شاء الله، أرجو أن يتسع الوقت لها، وكما ذكرت لكم فهذه القواعد كل ما فعلته فيها أنني دونتها من طرف الذهن ليس على سبيل الاستيعاب ولا على سبيل الاستقراء لكل القواعد، بل هناك مئات القواعد التي يمكن أن تذكر في هذا لكن هذه من طرف الذهن. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 3 مساوئ الفرقة أقول بكل تأكيد: لو نظرنا في أولياء الإسلام وأنصاره، من دعاة أو مصلحين أو فقهاء أو علماء أو عامة، لوجدنا أنهم يشكلون نسبة عالية جداً في كل المجتمعات الإسلامية، وأجزم -دون تردد- أنه لا يوجد أي دين أو نحلة أو مذهب يملك من حيث الطاقة البشرية ما يملكه الإسلام، ليس في هذه البلاد فحسب، بل في بلاد المسلمين في كل مكان، ومع ذلك أكاد أجزم -إن لم يكن في كل البلاد ففي معظم بلاد العالم الإسلامي- أن المنتسبين إلى الدعوة والعلم، وأن أولياء الإسلام هم من أقل الناس إنتاجية وثمرة في ميدان الواقع، ولعل أهم سبب يعزى إليه هذا الخلل الكبير في العطاء والإنتاج والبذل هو التشرذم والتشتت وتفكك الجهود، الذي يجعل جزءاً غير قليل من الطاقة الإسلامية -أحياناً- يضيع في تدمير بعضه بعضاً. فعلى سبيل المثال: إذا ألَّفت أنت كتاباً، وألَّفت أنا كتاباً في الرد على ذلك الكتاب، وأنت طبعت من كتابك عشرين ألف نسخة، وأنا لكي أضمن لكتابي أن يكون انتشاره أوسع طبعت أربعين ألف نسخة، وبذلت جاهي لدى المحسنين والمصلحين وفي دور النشر وغيرها من أجل تسهيل مهمة طباعة الكتاب وبيعه بأرخص الأثمان أو حتى توزيعه بالمجان. إذاً: ستون ألف نسخة من كتاب كان يمكن أن يكون كتاباً مفيداً نافعاً يصبُّ في مصلحة الإسلام والمسلمين، فنتيجة ستين ألف نسخة من هذه الكتب، وما ترتب عليها من ضياع أموال، وأخطر من قضية ضياع الأموال ضياع الأوقات، لا يمكن أن يقول قائل: إن النتيجة صفر! بل أقل من الصفر وتحت الصفر! لماذا؟ لأن الثمرة التي يخرج بها معظم الناس؛ أن هؤلاء المتدينين دائماً يتهارشون فيما بينهم، وعندهم شهوة المخاصمة، فإذا لم يجد أحداً يخاصمه فإنه يخاصم نفسه في المرآة، لماذا؟ لأنه لابد أن يجادل أحداً، ولا بد -أيضاً- أن يخرج هو المنتصر والغالب والفائز. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 4 تكامل الجهود الدعوية القاعدة الأولى: ما يمكن أن نسميها بقاعدة الخطوط المتوازية. أي: ليس بالضرورة أن يكون الدعاة كلهم على قلب رجل واحد، أو يكون اجتهادهم متطابقاً، أو يكونوا قوالب مصبوبة متساوية في الطول والعرض والارتفاع، فهذا ليس لازماً، بل يمكن أن نفهم بعض جهود الدعاة تشكل خطوطاً متوازية لا تلتقي، ولكنها لا تتعارض ولا يطأ بعضها بعضاً، فإذا افتراضنا مثلاً أنك تقوم أنت بمجهود وأنا أقوم بمجهود آخر، أنت تقوم بفرض كفاية، وأنا أقوم بفرض كفاية آخر، والناس يحتاجون إلى كل ألوان الخير في المجتمع، حتى أمور الدنيا فإن الناس يحتاجون إلى ألوان من الخير، يحتاجون إلى النجار، ويحتاجون إلى الطبيب، ويحتاجون إلى المهندس، ويحتاجون إلى البقال، ويحتاجون إلى البائع، كما يحتاجون إلى البلدي الذي يقوم بتنظيف الشارع، وكل مهمة لا تقضي على المهمة الأخرى، فمهمة المسئول الكبير -على أهميتها- لا تغني عن مهمة الموظف الصغير، ولو بقيت القاذورات في الشوارع أسبوعاً لضاق الناس بها ذرعاً ولما استطاعوا أن يهنئوا بحياتهم. إذاً: ضع في اعتبارك أنك قائم بجهد الدعوة مهم أو أهم أو أقل أهمية، وأن غيرك يقوم بجهد آخر، فاجعل ما تقوم به أنت موازياً لما يقوم به هو، وليس شرطاً أن تقر كل ما قام به أو توافقه على مجهوده، لكن اعتبر أنه يسد فراغاً ضعيفاً، وأنت تسد فراغاً قوياً مثلاً، فدع هذا الإنسان وما اختطه لنفسه، وقد يتبين أن الخير والبركة في شيء آخر خلاف ما كنت تظن. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 5 كل يعمل في مجاله فأنت مثلاً متحمس لقضية قد ملأت عليك عقلك وجوارحك، واستولت على اهتمامك؛ لأنك ولدت معها، وعشت معها، ونشأت عليها، وسمعت شيوخك يؤكدون عليها، ولذلك أعطيتها اهتمامك، وبارك الله فيك وفي مجهودك، لكن قد يكون غيرك يبذل مجهوداً آخر لا يستغني عنه الناس، فالناس محتاجون إلى العلم الشرعي، لكن وجود العلم الشرعي، ووجود طلبة مختصين فيه لا يغنينا عن وجود واعظين في المساجد يرققون قلوب الناس، ووجود هؤلاء لا يغني عن وجود معنيين بالإحسان إلى الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والراغبين في الزواج وغيرهم، وهؤلاء وأولئك لا يغنون أبداً عن وجود الصحفي أو السياسي المسلم الذي يعرف الأحوال والأحداث والأخبار ويتابعها ويحللها، ويربط بعضها ببعض، ويربي الناس على إدراكها ومعرفة مقاصدها، وهؤلاء كلهم جميعاً لا يغني أحد منهم عن وجود المعلمين في المدارس، أو وجود الموجهين، أو وجود حلق تحفيظ القرآن الكريم، أو وجود المراكز الصيفية، أو وجود الدورات العلمية، أو وجود الجولات الوعظية إلى آلاف الأمثلة في المجالات الدعوية المختلفة، فلماذا لا يكمل بعضها بعضاً؟! وإذا لم اقتنع بشيء فعلي ألا أعمله، لكن ليس شرطاً للعمل المثمر أن يمر عبر قناعتي العقلية، فيمكن أن يكون عملاً مثمراً وأنا لم أقتنع به، وقد أكتشف بعد حين أن قناعتي كانت في غير محلها، أو حتى قد أموت بقناعتي غير عابئ بهذا الموضوع، لكن الناس المنصفين يعلمون أن هذا الأمر له ثمرة وله إيجابية، والعدل قد يدل على ذلك، وقد تكلم الإمام ابن تيمية كثيراً عن جهود بعض المتصوفة في دعوة غير المسلمين إلى الإسلام. ولأن يدخل الإنسان الإسلام على يد صوفي، ويصبح مسلماً مبتدعاً أحب إلينا من أن يبقى كافراً، وإلا فما هو رأيكم؟ إنها ولا شك معادلة لا تحتاج إلى تأمل، أي: إن استطعنا أن ندعوه ونهديه إلى الإسلام الصحيح السليم البعيد عن الشوائب والمخالفات والمغالطات والانحرافات فهذا هو المتعين، لكن أحياناً لا تستطيع ذلك ولا تملك الكفاءات له، بل قد تجد الجهل يعم حتى في أوساط المتعلمين في دول ومدن وأوضاع كثيرة، فتأتي القضية أن الجود من الموجود، ولأن يذهب داعية مسلم ولكن عنده تخليط وشوائب، فيهدي الله على يده يهوداً أو نصارى ويصبحوا مسلمين ولو على شاكلته وطريقته خير من أن يبقوا على كفرهم، وهذا لا يشك فيه عاقل. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 6 حسن الظن والاحتياط في الحكم القاعدة الثانية: (التفريق بين الدعوة وبين الحكم على الناس) . بمعنى أنك فيما يتعلق ببيان الحق إذا سئلت عنه، سواء شفوياً أو كتابياً، في كتاب أو مقالة أو مناسبة أو أخرى؛ فإن الإنسان ينبغي أن يذكر الحق بأحسن ما يجد من العبارات وبأفضل ما يجد من الأساليب، ويسوق الأدلة ويحشد ما لديه من الوسائل للإقناع بهذا الحق الذي يعتقده هو، واضعاً في اعتباره أنه قد يوجد من يخالفه في هذه المسألة، إن كانت مسألة قابلة للاجتهاد، ويكون عنده أدلة وتأويلات فيما ذَكَر، فهذا شيء، لكن هذا غير الانشغال بالحكم على الناس، فليس كل من وقع في خطأ يكون قاصداً الوقوع في هذا الخطأ أو متعمداً أن ينسب إليه، حتى إن الإنسان قد يقع في الكفر ولا يقال له كافر، وقد يقع في البدعة ولا يقال له مبتدع، وقد يقع في المعصية ولا يقال له فاسق، ففرق بين الوقوع في الشيء وبين نسبة الإنسان لهذا الشيء، فقد يقع الإنسان في البدعة متأولاً مجتهداً. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 7 التدرج في المجال الدعوي أما إذا كان المجال مجال دعوة، فعليك حينئذ بالوضوح وبالصراحة وبوضع النقاط على الحروف وبيان الحق، مع ملاحظة أن التدرج مطلوب حتى في ميدان الدعوة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ معاذ بن جبل، كما في حديث ابن عباس في الصحيحين: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؛ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} إلى آخر الحديث. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 8 درء التهمة عن العلماء أمر مطلوب شرعا ً إذاً: هناك فرق بين الدعوة وبين الحكم على الآخرين، فأنت عندما تصير إلى موضوع الحكم لا يضرك أبداً أن تحتاط، فأنت تعتبر نفسك كالقاضي، والقاضي يجب أن ينظر في الأدلة والقرائن والدعوى ونقض الدعوى، ويتأمل ويجتهد ويتحرى حتى لا يصدر حكماً خاطئاً، وإذا وجدت مندوحة عن وصف الشخص -مثلاً- بالكفر أو بالفسق أو بالبدعة وهي شرعية بلا تكلف، تعين عليك سلوكها، لأن مهمتي ومهمتك ليست هي نبز الناس بالألقاب وتوزيع المعايير عليهم واتهامهم بشتى التهم، وكأني أريد أن أثبت لنفسي البراءة من خلال الطعن في الآخرين، فهذا من أخطر ما يمكن أن يكون. وبدون شك أنه يسرنا جميعاً أن يكون الناس أخياراً، ويسرنا أن يكون الناس صالحين وأهل تقوى وأهل سنة، فأي ضرر عليك وعليه إذا صار الناس على الخير؟! هل من جيبي أعطيتهم شيئاً؟! وإذا دخل الناس الجنة هل هم سيأخذون مالي أو مال أبي أو جدي؟! كلا، بل كما قال الله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] . إذاً: ينبغي أن يكون عندي هذه البحبوحة وهذه السعة وهذه الرحمة للناس، وهذه الفرحة بكل خير يصيبونه، والحزن لكل شر يقعون فيه، والحدب على إصلاحهم والتحري لهم؛ وفرق بين أن تكون مهمتي كأنني مقاتل في ميدان، أريد ألا يدخله أحد غيري أنا ومن يقع عليهم الاختيار، وبين كوني إنساناً يهمه أن يدعو الناس بكل ما أوتي من قوة إلى هذا الباب، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس:25] . فعلى الإنسان أن يحرص -فيما يتعلق بالحكم على الناس- ألا يتسرع بالحكم، وألا يعمم الأحكام، وألا يتكلم على الأشخاص بقدر المستطاع. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 9 الاختلاف في مسألة لا يكون سبيلاً إلى العداوة وعلى سبيل المثال: يوجد من المشايخ في هذا العصر من يعتبر أن وضع اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع بدعة، ويوجد من العلماء في هذا العصر ومن قبل من يرى أن وضع اليمنى على اليسرى بعد القيام من الركوع أنه هو السنة، ويستدلون بحديث سهل بن سعد في البخاري: {كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على اليسرى في الصلاة} ويقول: من المعروف أن هذا في القيام، سواء قبل الركوع أو بعده، فهل أستطيع أن أصف من فعل هذا أو ذاك بأنه مبتدع؛ لأنه خالف السنة في نظري؟ لا يمكن؛ لأن هذه مسألة فيها اختلاف. حتى لو فرض جدلاً أني رجحت أحد الأمرين، فهذا لا يعني وصم الآخر بأنه مبتدع، بل حتى لا نوافق أصلاً على وصف العمل بأنه بدعة، لكن من باب التسليم والتوضيح بهذا المثال فقط، وقد يقع الإنسان في شيء نقر بأن هذا العمل بدعة أو مخالف للسنة، لكن لا يوصف الشخص بأنه مبتدع، بل قد يقع في الكفر ولا يوصف بأنه كافر إلا بعد وجود الشروط وزوال الموانع من هذا الإنسان، فقد يكون جاهلاً ومثله يُجْهل، وقد يكون متأولاً، أو قد يكون قاصداً شيئاً آخر غير ما ظننت؛ أنا ظننت أنه يسخر بالدين، ولما سألته تبين أنه يقصد معنى آخر لا علاقة له بهذا الباب إطلاقاً. وقد يكون يسخر ولكن في حالة غياب عقله وإدراكه عنه، أو غلبه نوع من المواجيد عنده جعلته يقول ذلك. حتى إني رأيت أن الإمام الذهبي رحمة الله عليه في مواضع كثيرة، يتأول لكلمات واضحة وضوح الشمس، أنها نقض لأصول الشريعة، حتى إنه -أحياناً- يتأول أنه ربما أن الإنسان قال هذه الكلمة في حالة غياب عقله، من أجل ألاَّ يصفه -مثلاً- بالكفر، لماذا؟ لأن أهل السنة هم أرحم الناس بالناس. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 10 لا إنكار في المسائل الاجتهادية القاعدة الثالثة: يمكن أن نعبر عنها بقاعدة: (لك الغنم وليس عليك الغرم) . فإذا قام شخص بمجهود في الدعوة، أنت لك رأي غير موافق في هذا المجهود، فلماذا لا تتذرع بالصمت؟ هل هناك نص شرعي يلزمك بأن تعطي رأيك في كل مسألة وأن تعلن موقفك، وهل أنت جهة رسمية لا بد أن تعلن موقفك في كل قضية؟! لا، إذا اقتنعت بهذا الجهد فحبذا وساعد وأعن وأيد، وإذا لم تقنع فإنه يسعك الصمت، فإن كان هذا الجهد خيراً ونافعاً أصابك منه شيء، وإن كانت الأخرى فليس عليك غرم؛ لأنك لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن ينسب إليك بحال من الأحوال، والنبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى نوع من هذا المعنى أو هذه الحكمة قال: {يا ويح قريش! لقد حمشتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟! فإن انتصرت فعزي عزهم، وإن كانت الأخرى فقد كفوني بغيرهم} بمعني اترك المعركة يديرها غيرك، وأنت لست ملزماً بأن تتخذ موقفاً من كل قضية. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 11 من محاسن الوفاق بين الدعاة وهذا سوف يعفينا من مشاكل كثيرة جداً؛ لأننا نجد -كما ذكرت- أحياناً المجهود الإسلامي يحطم بمجهود إسلامي مماثل، ونجد أحياناً أن العدو لا يحتاج إلى أن يبذل شيئاً، العدو يكفيه أن يقف متفرجاً؛ لأن المحاولة التي قمت بها أنت أحبطتها أنا، وبذلك لم يحتج العدو إلى أن يبذل مجهوداً لإيقافي عند حدي أو إيقافك عند حدك؛ لأن المعركة التي دارت بيني وبينك أعفت خصمنا المشترك من أن يقوم بأي جهد. وليس شرطاً كما يتوقع البعض أن العدو دائماً خلف ما يقع بين المسلمين! فالآن -مع الأسف- إذا وقع شيء، قال بعض الشباب: هذه مؤامرة من العدو! وهذه خطة دولية مثل الذي يجري في أفغانستان مثلاً أو غيرها، وقد يكون هناك أصابع خفية دولية أحياناً، لكن في أحيان كثيرة بسبب غفلة المسلمين وسطحية تفكيرهم وضيق أفقهم وعدم قدرتهم على تقدير المواقف بشكل صحيح، وعدم قدرتهم على أخذ زمام المبادرة، وعدم قدرتهم على الحوار الموضوعي يجعلهم هذا أحياناً يتصرفون بالنيابة عن عدوهم وخصمهم من حيث لا يريدون ولا يشعرون، والعدو يؤيد هذا العمل ويشجعه. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 12 مثال للتعامل مع المخالفين في مسألة اجتهادية مثال: قد يوجد جهاد إسلامي في بلد ما، فإذا كان عندك وضوح وقناعة بأن تؤيد هذا الجهاد، فواجب عليك نصر المسلمين؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالتناصر بين المسلمين، فقال: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وإذا استنصرك فانصره} وقال: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً} . لكن افرض أن عندك تردداً في هذا الموضوع، ولست متأكداً من استخدامهم للوسائل الشرعية، ولست متأكداً أن تكون النتيجة النصر، فحينئذ ربما يأتي شخص ليشن هجوماً حرب بيانات ويقول: هؤلاء طائشون، خوارج، متسرعون، جهلة، أغبياء، حمقى إلى آخر العبارات. فهذا نتيجته -وهي أقل نتيجة- إيغار الصدور والطعن في الظهور. فدع هؤلاء القوم ما داموا لم يستشيروك، والحمد لله أنت قد كفيت، دع هؤلاء وما اجتهدوا فيه، فإن وفقهم الله تعالى وحقق النصر على أيديهم فنصرهم نصر لك؛ لأنه لا تعنيك قضيتك الشخصية بقدر ما يعنيك أمر الإسلام، وإن كانت الأخرى فأنت لست مسئولاً عن هذا العمل، ولن تكون محاسباً عليه، ولن تكون مسئولاً عنه بحال من الأحوال ما دمت لم تشارك فيه برأي أو قول أو فعل. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 13 تقدير الظروف المحيطة ومقدار الوسع القاعدة الرابعة: (تجنب أسلوب طرح الأسئلة) . فأسلوب طرح الأسئلة هو في نظري أسلوب قاتل في الدعوة. مثال: أنت داعية مجتهد -جزاك الله خيراً- ذهبت إلى بلد من البلاد الإسلامية، فوجدت أن الناس هناك جهلة وبحاجة إلى التعليم، فأقمت مدرسة، لكنك وجدت مبنى ليس كما تحب فهو أقل مما تريد، وليس فيه فصل بين أقسام الرجال والنساء، وأتيت تبحث عن مدير فوجدت مديراً (50%) مما تريد، فهو أقل بكثير مما تريد، ثم بحثت عن المدرسين فجاءك المدير ببعض المدرسين، ومن هنا ومن هنا أوجدتم مجموعة مدرسين: المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع! فإذا أتيت للمناهج الدراسية لم تجد مناهج على ما تريد لا كتب ولا مطبوعات ولا أشياء، فأتيت من هنا ومن هنا بمناهج ليست هي التي تتمنى، ولكن قلت: الجود من الموجود. فأتيت أنا -وكأني عنترة بن شداد كما يقال- زائراً إلى هذا البلد، ومنطلقي منطلق الوصاية على الدين، وعلى الدعوة، وعلى المؤسسات والمشاريع، وأتيت بورقة وقلم وبدأت أدون الملاحظات: لماذا المدير كذا؟ ولماذا المنهج كذا؟ ولماذا المبنى كذا؟ ولماذا هؤلاء المدرسون والطلاب شأنهم كذا؟ قلت أنت: يا أخي تعال استلم المدرسة بارك الله فيك! واعمل فيها ما شئت! واختر لها المدير الذي تريد والمدرسين والمناهج والطلاب والمبنى، وتحت يدك من المال كذا وكذا، فإنك تجد أن هذا الإنسان يقف مكتوف الأيدي ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، لأن هذا هو المتاح وهذا هو الممكن. وأنا أعتقد أن هذا من أسباب الخلاف أحياناً، فأنت عندما تنظر لهذا الواقع فإنك تنسب أخطاء هذا الواقع لي، أخطاء المدرسة ومديرها ومدرسيها وطلابها ومبانيها ومؤسساتها ومناهجها، والواقع أنني أنا أوافقك على نفس الملاحظات، لكن هذا الممكن؛ ولأن نعمل وفق المتاح ووفق الممكن أفضل من ألا نعمل. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 14 الأوضاع اليمنية وهذا ينطبق على أعمال كثيرة، وأقرب مثال على ذلك الأحداث في اليمن، وقد انتهت الأحداث في اليمن والحمد لله على أمور طيبة، هي ما كان يتمناه معظم أولياء الإسلام الذي يعرفون حقيقة الأوضاع الجارية في اليمن، لكن كانت الأسئلة تطرح: لماذا يحدث كذا؟ ولماذا يسكتون عن هذا الإنسان؟ ولماذا يتعاملون مع هذا الحزب؟ ولماذا يتكلم فلان؟ ولماذا يصرح عن الله؟ ولماذا يكون كذا وكذا؟ الجزء: 54 ¦ الصفحة: 15 القصور البشري يا أخي لا تتصور أبداً أن هناك نشاطاً في الدنيا حتى ولو كان صغيراً يتطابق مع ما نريده له في الواقع. دعنا نعود إلى مثال المدرسة، عندما ترسم المدرسة حبراً على ورق أو تضع لها -كما يقولون- صورة هيكلية شكلية، فإن الواقع الحقيقي لهذه المدرسة لا يمكن أن يتطابق مع ما رسمته في ذهنك أو على الورقة أو كصورة مصغرة، بل سيكون مختلفاً كثيراً أو قليلاً عن ذلك، فكيف لو كانت القضية قضية مؤسسة أو وزارة؟! فكيف إذا كانت القضية قضية دولة وأمة بأكملها؟! لا بد أن الأمور تأتي بالتدريج، ولا يمكن تصور دولة الخلافة الراشدة -مثلاً- سنرسم لها مخططاً نظرياً على الورق، ثم تطبق عملياً اعتباراً من الساعة السابعة صباحاً، فهذه خيالات، أما الذي يعيش الواقع فإنه يدري أن المسلمين ينتقلون بين الضعف والقوة والنصر والهزيمة والغنى والفقر والعلم والجهل والمجاهدة والصبر والمصابرة، حتى يأذن الله تعالى بالنصر لمن يشاء، بعد جهود وخطط ومحاولات وتقديم وتأخير. إذاً: مسألة طرح الأسئلة مسألة سهلة، لكن الواقع العملي ومعايشته هو الأمر المرير الذي يحتاج إلى خبرة ودراية ومعايشة. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 16 لا إلزام برأي في المسائل الاجتهادية القاعدة الخامسة: (لسنا أوصياء على الدعوة أو الصحوة) . فالدين دين الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والله تعالى تكفل بحفظ القرآن وحفظ أهله؛ ولهذا جاء الوعد النبوي الصحيح المتواتر بالطائفة المنصورة المجاهدة في سبيل الله إلى قيام الساعة، فهذا وعد رباني، وأنا وأنت لسنا أوصياء على الدعوة أو الصحوة؛ فلماذا تجد أننا أحياناً نتكلم كما لو كنا أوصياء؟! لا نريد من أحد أن يتحدث أو يعمل إلا وفق قناعاتنا وآرائنا واجتهاداتنا، وقد نتكلم فنؤيد هذا ونعارض هذا ونمدح هذا ونذم ذاك، ونتكلم عن قضية الصحوة والدعوة على سبيل الخائف الحذر منها، مع أن الواقع أن الدعوة دين الله ودعوة الله، وهو المتكفل بنصرها، وأنا وأنت لسنا إلا بشراً ينبغي أن نبذل بعض الجهود، لكن علينا أن نكون متواضعين فيما يتعلق بتقدير حجم أنفسنا وشخوصنا وعقولنا، بحيث لا نظن أننا أوصياء على هذه الدعوة، ونعتبر أن الشيء الذي لا يمر عبر قناعتنا يحب ألا يكون. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن نتخلى عن الدعوة، بل يجب أن نبذل قصارى جهدنا في الدعوة، نعم تبذل قصارى جهدك، لكن دع الآخرين أيضاً يبذلون قصارى جهدهم، وجهدك يكمل جهدهم، فإن لم يكن مكملاً لجهدهم فعلى أقل تقدير ألا يكون معطلاً أو معارضاً لجهدهم. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 17 تبادل الود بدلاً من تبادل الاتهام القاعدة السادسة: (تبادل حسن الظن وتبادل الملفات) . لقيت مجموعات من الدعاة فوجدت أن كل واحد يتكلم عن الآخر أو عن الآخرين ويقول: عندي ملفات، فقلت: أي ملفات تعني؟ قال: ملفات الملاحظات والأخطاء والتجاوزات! يا أخي ليست هذه من سمات الأخوة ولا من شيم الأحرار والرجال أهل المروءة والكرم، أن أكون أنا مراقباً عليك وأخطط وأسجل وأدون! يا ليتنا نستطيع أن نصنع هذا مع أعدائنا وخصومنا، فنستدرك خططهم وأعمالهم وأساليبهم، فنحن يجب ألا نسلك أسلوب الملفات والملفات المضادة؛ بمعنى أن كل فئة أو مجموعة أو جماعة تحاول أن تحتفظ بملفات عن أخطاء الآخرين وتجاوزاتهم في المركز الفلاني، وفي المدرسة الفلانية، وفي المسجد الفلاني، والشخص الفلاني، والمؤسسة الفلانية، والوظيفة الفلانية، والوزارة الفلانية، والعمل الفلاني، وهذا قال وهذا فعل وهذا فُصل وهذا لم يفصل وهذا أدخل وهذا أخرج وهذا قيل فيه كذا وهذا ضُرب وهذا لم يضرب. ويمكن أن نستخدم أسلوب التفويت، وأسلوب الدفع بالتي هي أحسن كما أرشد الله إليه، أسلوب أخذ العفو، وأسلوب الإعراض، أسلوب {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وإذا لم نستخدم هذا الأسلوب مع إخواننا في الدعوة ومع إخواننا في الدين ومع أحبتنا، فبالله عليكم مع من سنستخدم هذا؟! الجزء: 54 ¦ الصفحة: 18 مفارقة غريبة ولقد لاحظت في نفسي شيئاً وأتمنى ألا يكون موجوداً في الآخرين: أن الواحد منا أحياناً إذا جاءه إنسان عليه سيماء الانحراف، قام له وهش وبش وهل ورحب وابتسم في وجهه، وأعطاه قدراً كبيراً، لماذا؟ قال: لأني أريد أن أتألف قلبه على الخير، وأريد أن يأخذ انطباعاً طيباً عن المتدينين وهذا جميل! فإذا جاء أخوك الذي هو -ظاهراً على الأقل- أقرب إليك وأصدق معك، فقد لا يفعل الإنسان ذلك ولا بعضه، بل قد يكفهر في وجهه، وقد لا يقابله بمثل بذلك، وهذا من حيث الأصل قد يوجد ما يسوغه، لكن على الإنسان أن يحرص -خاصة في هذا الزمن الذي كثرت فيه الاختلافات والظنون المتبادلة وامتلأت القلوب بالتغاير- على الإنسان أن يحرص على تأليف قلوب الأخيار قبل غيرهم. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 19 الحرص على الأخوة هو العبادة الحقيقية فأنا أقول: ينبغي أن نفوت، وينبغي ألا نثأر لأنفسنا أو نغضب لذواتنا قدر المستطاع، وعلينا أن نتحمل ما قد يصدر من إخواننا، ووالله ما أحلاها أن يتحمل الإنسان جرعة غضب أو غيظ أو أذى لقيه من أخيه! وهذه يا أخي هي العبادة الحقيقية، هذه -والله- هي الدرجات العلى في الجنة، وقد يكون الإنسان صاحب عبادة أو صلاة أو صيام، لكن لا يكون عنده من هذا شيء، فلا يخرج بطائل كبير، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث المتفق عليه: {ليس الشديد بالصرعة! إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} ويقول عليه السلام كما في حديث معاذ بن أنس الجهني -وهو في السنن بإسناد صحيح- يقول: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه، دعاه الله على رءوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} . الجزء: 54 ¦ الصفحة: 20 الوسطية والاعتدال بين التهويل والتهوين القاعدة السابعة: (الاعتدال في التفكير) . لقد رأيت أن كثيراً من الخلاف بين الأخيار سببه اختلاف التفكير، ولا أشك أبداً أن أنماط التفكير وأساليب التفكير والنظر في الأمور عندنا قد أدركها -كما يقول محمد إقبال - خمول كبير: أرى التفكير أدركه خمول ولم تعد العزائم في اشتعال فالتفكير عندنا -في كثير من الأحيان- تفكير ناقص محصور، ينظر من زاوية ضيقة متأثراً بالواقع ومقلداً، وليت القضية اقتصرت على أن هذه نظرتي! لا، بل تعدى الأمر إلى أنني أحاول أن أفرض هذه النظرة على الآخرين! ونرجع إلى قضية الوصاية على الدعوة، فإذا كان هذا تفكيري، وهذا مستوى نظري، وذا مبلغي من العلم، ومع هذا أنا اعتقد نفسي وصياً على الدعوة، فكيف تتصور دعوةً ومثلي وصي عليها؟! فلا بد من الاعتدال في التفكير، وأضرب لكم بعض الأمثلة: الجزء: 54 ¦ الصفحة: 21 عدم المبالغة في النتائج وأيضاً من أخطائنا في التفكير -وهذا باب آخر لكن لأن له علاقة بالاختلاف الذي يقع أحياناً بسبب اختلاف المواقف الفكرية- من ذلك: المبالغة في النتائج والإلزام بما لم يلزم؛ فتجدنا أحياناً إذا حصل شيء يتعلق بالدعوة رتبنا عليه نتائج عظيمة؛ مثلاً: إذا خطب فلان خطبة معينة، وقد يكون صريحاً في هذه الخطبة، ووضع النقاط على الحروف، تجد أننا هولنا وقلنا: الصحوة وهذا يضر الأمة ويضر الدعوة وستقع فتن ومشاكل وقيل وقال! يا أخي سبحان الله! من أين نحن خرجنا؟! ومن أين هذا الكلام؟! ومتى يقال؟ ومن يقوله. ؟ وهل هذا الكلام صحيح؟ والناس بمجرد أن تعتاد آذانهم سماع نوع معين من الكلام يصبح الأمر عادياً بالنسبة لهم؟ ولا يحدث الأثر الذي أنت تظنه في مثل هذا الباب. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 22 معالجة الخلاف والثقة بالناس ولا بد أن أضرب لك مثالاً الآن بجوارنا ما يسمى بدولة إسرائيل دولة مسخ، جاء اليهود من روسيا ومن أمريكا ومن بريطانيا ومن بولندا ومن اليمن ومن بلاد المغرب ومن أفريقيا ومن كل مكان، واليهود متناقضون، عناصر مختلفة، أجناس مختلفة، وعقليات مختلفة، ومذاهب مختلفة، وقد أقاموا أحزاباً سياسيةً أيضاً مختلفة، هذا يميني، وهذا يساري، وهذا متطرف، وهذا معتدل، وهذا كذا، وهذا من حزب العمال، وهذا من الليكود، هذا كله موجود وتعرفونه أنتم، ومع ذلك تعرفون أيضاً أنه يوجد عندهم حرية مطلقة في الكلمة، فلك أن تنشئ صحيفة، وقل ما شئت، واخطب كيف تشاء، وتكلم كيف تشاء، واعلن واصرخ، المهم لا تمد يدك فقط، والباقي قل ما شئت ما دامت المسألة كلاماً. بالله عليكم الآن ألا يوجد استقرار نسبي كبير في إسرائيل تفتقر إليه معظم الدول المجاورة؟ أقول بكل يقين: بلى! والعالم الغربي ينظر إلى إسرائيل على أنها نموذج للحضارة والديمقراطية في المنطقة، لكن نظرة الغرب لا شك أنها منحازة بسبب عدائهم للمسلمين، لكن أيضاً هذه النظرة لم تنشأ من فراغ. بالعكس، الناس إذا وعوا وفتحوا ونظروا وعرفوا فإنك تضمنهم في هذه الحالة؛ لأن الخراج بالضمان، إن تعود الناس على معرفة الأمور على حقيقتها وجدت رجالاً إذا احتجتهم فزعوا معك، وإذا استفرغتهم أعانوك وأغاثوك، وأما إذا ربيت قطيعاً من الغنم فقد يهجم الذئب عليه ويأكله، وتصيح ثم تصيح ثم تصيح، ولا يغيثك أحد؛ لأنك هكذا اخترت لنفسك، فهذه الشعوب التي هجنت ودجنت وصودرت شخصياتهم، واعتبروا أنه لا يجب أن يعرفوا شيئاً، وأنهم ليسوا على مستوى أن يدركوا شيئاً، ولا أن يسمعوا شيئاً ولا ولا إلى آخر قاموس الهجاء الذي حاولنا أن نخص به الأمة الإسلامية من بين أمم الأرض كلها، وهذا ولَّد أن هؤلاء القوم إذا استنجد بهم إنسان في حالة شديدة لا يستجيبون له لأسباب منها: أولاً: أنهم ربوا على هذا الأمر. ثانياً: أنهم يقولون: أنت كنت بالأمس تقول فينا كذا وكذا، ونحن كما تقول لا يمكن أن نفزع أو نقوم معك، مع أنه ما من مجتمع أو أمة أو دولة إلا وهي معرضة لأخطار في الداخل وفي الخارج، والخطر لا يخص شخصاً، فالعقوبة إذا نزلت عمت الصالح والطالح، ثم يبعثون على نياتهم، ولذلك جاء في الوعيد للمجاهرة بالمعصية الشيء الكثير؛ لأن المجاهرة بالمعاصي هي ثمرة تخدير مشاعر الأمة ومنعها من الاحتساب الذي يقضي على المنكرات ويزيلها. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 23 أهمية الاقتراب من الواقع ومن ذلك -مثلاً- أنك تجد عندنا تحفظاً مغالىً فيه في تقويم كثير من الأعمال والأمور، فإن الإنسان العاقل الحكيم يستطيع أن يحكم على الأشياء من منطلق نتائجها ومن منطلق المعلومات التي توصل إليها، ومن منطلق أنها أفضل مما ما هو أسوأ منها، أو أنها قد تفضي إلى نتيجة إيجابية جيدة أو ما أشبه ذلك. لكن الإنسان الذي يعيش في جو مغلق، همه أن يعيش فقط مع الكتاب أو يعيش مع الحلقة العلمية، وليس في قلبه هَم لنصر الدين، وهم التمكين للإسلام، وهم التعاطف مع الأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، وهم إعادة القوة والعزة والوحدة للمسلمين في كل مكان، فالإنسان الذي لا يحمل هذه الهموم تكون نظرته نظرةً منغلقة ومحدودة؛ لأنه لا يعتبر نفسه معنياً بالموضوع، ولا يعتبر أن حكمه ذو بال على القضية، بخلاف ما لو أحس بأنه بجزء من هذه الأمة، وأن ما يعنيها يعنيه، فبدون شك أنه سيكون أكثر تحرزاً وانفتاحاً ويقظةً وأكثر مشاركةً. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 24 النظر إلى جوانب الخير من أخطائنا في التفكير: شدة الخوف التي تجعل كل شيء ننظر فيه للجانب السلبي فقط، فننظر إلى أي حدث جديد بخوف، فنخاف من كذا ونخشى من كذا؛ ولذلك حرمنا حتى من الفرح بالخير الذي قد يحصل للمسلمين، والخير الجزئي يمكن أن يقع، وأي تحول يمكن أن يكون لصالح الإسلام نسبياً وجزئياً ولو لم يكن (100%) يفترض أن نفرح، وعلى أقل تقدير نعطي أنفسنا فرصة للفرح في ذات الله عز وجل، أما الإنسان الذي يكون دائماً عنده تخوف وينظر للجانب السلبي، ويتوقع مؤامرة وراء كل شيء، فإن هذا الإنسان لا يستفيد من الأحداث، ولا يشارك فيها ولا ينتفع بها، وأيضاً حتى الفرح لا يفرح بها، والأمثلة على ذلك كثيرة. على سبيل المثال: سقطت الشيوعية في أكثر من بلد، فقد يكون المسلم في البلد التي سقطت فيه الشيوعية مغلول اليد لا يصنع شيئاً ولا يبادر، لماذا؟ وهذه آخرها في عدن، لما سقطت الشيوعية كان يأتيني بعض الشباب من هناك ويقولون: نحن خائفون! خائفون من ماذا؟ قال: نخشى أن هذه مصيدة وخطة من أجل أن يظهر الشباب المسلم، فيتم القضاء عليهم! صحيح أن الإنسان يحب أن يفكر، لكن أيضاً لم تفترض دائماً أن العقل والذكاء والدهاء هو وقف على العلمانيين وعلى الشيوعيين وعلى أعداء الدين وعلى الكفار وأن المسلم ليس له عقل؟! يا أخي: المسلم له عقل كغيره، وإضافة إلى ذلك فالمسلم عقله زكي مزكى بنور القرآن ونور السنة ونور الاستبصار ونور التفرس والتوسم، وحديث {اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله} هذا عند الترمذي، وعلمي أنه لا يصح فهو حديث ضعيف، ولكن معناه في الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] والفراسة كانت موجودة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في عمر: {لأن يكون في أمتي محدثون فـ عمر} فالمؤمن عنده إضافة إلى العقل الذي عند غيره، وعنده هذه الفراسة وهذا الإلهام، عنده تزكية القرآن، فلماذا نتصور دائماً أننا ضحية خطط الآخرين ومؤامراتهم، وأن كل ما نفعله هو أن نتقوقع على أنفسنا ونتقرفص، ولا نشارك بشيء، ولا نفرح بشيء، ولا نقدم على شيء؟! لماذا؟ لأننا متخوفون أن يكون خلف القضية مؤامرة! وبهذه بالطريقة هذه سوف تقوقع نفسك! نعم، قد تسلم لكن السلامة بحد ذاتها ليست مطلوبة، فأنت تسافر وفي السفر مخاطرة، وتركب الطائرة والأمر كذلك، وتفتح محلاً تجارياً فقد يفشل وتركبك الديون، نعم يجب أن تحتاط وتفكر تفكيراً صحيحاً في مثل هذه الأمور، فإذا كانت نسبة الخطر (1. 5%) فلا تقم لها وزناً؛ لأن هذا خطر موجود في كل الدنيا، والواحد يمكن أن يأتيه الموت ويرحل أيضاً. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 25 مساوئ التقليد القاعدة الثامنة: (نبذ التقليد والتعصب) . فإن من أهم أسباب الخلاف والفرقة التعصب والتقليد للشيخ والفقيه والمعلم أو للجماعة التي قد ينتمي إليها الإنسان أو للداعية الذي قد يجلس إليه أو يجتمع إليه والذي ندعو إليه دائماً وأبداً أن نقول: يا أحبة افتحوا نوافذ عقولكم، دعوا الهواء الطلق يهب عليها، واقرءوا بعيونكم، واسمعوا بآذانكم، وفكروا بعقولكم، ثم اجتهدوا في الحكم، واحرصوا قدر المستطاع على العدل والاعتدال والإنصاف والتوسط، وسوف يوفقكم الله عز وجل، وإذا أخطأ الإنسان فلن يكون خطؤه بعيداً. أما أن تكون القضية تقليداً، وقد رضي الإنسان منا عن نفسه وعقله بأن يقلد فلاناً، فإذا قال: شرقوا شرقنا أو غربوا غربنا، كما قال الشاعر الجاهلي: وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم أو أنني غير مهتدي هذا ليس بصحيح وهذا منهج الجاهلية. أما منهج الإسلام فإنه منهج المسئولية الفردية، ومنهج المحاسبة الذاتية، كما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فالله تعالى ما أعطاك العقل وهو يريد منك أن تقلد في دين الله تعالى الرجال. نعم اقرأ وتعلم واستفد من العلماء ومن الدعاة ومن الناس، لكن -يا أخي- من الذي رهن عقلك لزيد وعبيد؟! ومن الذي جعل رأيك يدور مع فلان حيث دار،. ولو أننا نبذنا التعصب والتقليد لانتهى جزء كبير جداً من الخلاف بين المسلمين ومن التباعد والتباغض بينهم، لأن هذا سيجعل الخلاف أقل مهما كان قد يكون الخلاف بيني وبينك حينئذ في مسألة أو مسألتين، لكن إذا كانت القضية قضية تعصب فسوف يكون الخلاف بيني وبينك خلاف منهج كما يقال، فكل ما يقوله فلان عندك صواب وأنا كل ما يقوله فلان عندي صواب، ولذلك تكون الشقة بيني وبينك بعيدة، لأنها سوف تنتظم مئات المسائل. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 26 التنسيق بين الدعاة القاعدة التاسعة: (الإصرار على قدر من التنسيق بين الدعاة) : لا يكفينا أن يعيش الدعاة في خطوط متوازية كما قلنا، بل ينبغي أن يكون هناك قدر من التنسيق بينهم: التنسيق في الجهود، القيام بأعمال مشتركة، سواء في تجارة أو دعوة أو في تعليم أو في جهود إغاثية وإنسانية أو في أي عمل يمكن أن يحتاج الناس إليه، إضافة إلى ضرورة أن يكون هناك لقاءات وزيارات. يا أخي أنت -أحياناً- تسمع عن إنسان فتسيء الظن به؛ لأنك سمعت كلاماً موحشاً، لكن إذا لقيته وحادثته وجلست إليه، ورأيت واقعه ومحياه وسيماه وكلامه بخلاف ما كنت تظن، وتبين أن الكلام الكثير الذي رُكن بعقلك وشحنت به نفسك أنه لم يكن له رصيد، قد يكون كلام رجل ساء ظنه به واجتهد، وقد يكون شخصاً مغرضاً أراد الحيلولة بينك وبينه، فلماذا لا نحرص على الاتصال والتنسيق بين الدعاة، واللقاءات بين الكبار والصغار في المنسبات المختلفة؟ ولماذا نجعل أن لقاء الدعاة فيما بينهم مرهوناً بالأزمات والمشكلات؟ فإذا حصلت حادثة أو نكبة أو طارئة أو مصيبة أو كارثة قلنا: تعالوا؟ لماذا نحن متفرقون؟ لماذا لا يرى بعضنا بعضاً؟ فينا كيت وكيت وكيت، فهذا الكلام لماذا لا يخرج إلا الآن؟! الجزء: 54 ¦ الصفحة: 27 الموازنة بين خصوم السنة وترتيب العداوات القاعدة العاشرة والأخيرة: إن كنت مصراً على أن هناك طائفة من دعاة الإسلام هم أعداء لك، فنحن نقول لك: على أقل تقدير رتب العداوات، هل تعتبر أنهم أشد عداوة لك من اليهود أو من النصارى أو من المشركين أو من المنافقين؟ يقيناً لا تعتقد ذلك، إذاً أجل عداوتهم، وإذا انتهيت من عداوة اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، وأهل المخالفة الأصلية للدين، وأهل البدع الغليظة المعلنة الظاهرة الذين اجتمعوا وتحالفوا وتآلفوا عليها، وما بقي إلا عداوة أخيك الذي هو أخوك في الدين، وأخوك في المنهج، وأخوك في الطريقة، وأخوك في الكتاب، وأخوك في السنة، وإنما الفرق بينك وبينه في نظرة أو في جزئية أو في موقف أو في اجتهاد، فإذا لم يبق إلا عداوة هذا، فالله يقويك ويثيبك. فإذا كنت مصراً على العداوة فعلى أقل تقدير رتب العداوة، واجعل العداوة تتأخر بعض الشيء، واجعل جل همك في محاربة من لا شك في خطرهم على الإسلام، فأخوك هذا قد يوجد من يشك في خطره، وأنا من طبيعة الحال ممن يشك في خطري، لأن المسلم الصادق لا خطر منه على الإسلام -إن شاء الله تعالى- لكن ذلك اليهودي أو النصراني أو المنافق أو الفاجر المحارب المعلن بالعداوة والبدعة والبغضاء لا شك أن خطره على الإسلام كبير، ومتفق على خطورته، فلماذا لا نبدأ بالمتفق عليه ونترك المختلف فيه إلى إشعار آخر؟! جزاكم الله خيراً، ووفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، وتوفانا الله وإياكم على الإسلام، وجمعنا على كلمة التقوى والبر، ووحد قلوبنا على ما يحب ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على إمامنا وسيدنا وقدوتنا سيد الدعاة وقدوة الهداة محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 54 ¦ الصفحة: 28 تقويم رجال الإسلام في العصر الحاضر حول مكانة العلماء وأنهم الخلوف العدول الذين يحمي الله بهم الدين بدأ الشيخ محاضرته؛ مبيناً الاختلاف الحاصل في تقويم الناس، ونشأة علم الجرح والتعديل الناتج عن ضرورة وجود الصالح وغيره في الأمة، وعرج على مظاهر تعامل شباب الصحوة مع الأسماء البارزة علمياً ودعوياً وجهادياً في الأمة، ونبه إلى مناهج الاعتدال في هذه المسألة. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 1 أهمية وجود العلماء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. إخوتي الكرام، عنوان هذه المحاضرة هو: (ملاحظات حول تقويم رجال الإسلام في هذا العصر) . والمقصود بتقويم الرجال هو بيان قيمتهم ومقدارهم, وقد يستعمل بعض الناس لهذا المعنى كلمة تقييم، ولكن بعض اللغويين يرون أن هذه الكلمة خطأ، وأن الصواب هو التقويم، وهذا هو المطرد مع القواعد. المهم أن ندرك أن الله عز وجل قيض لهذا الدين في كل عصر من يقوم به, ووعد بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله، يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] وهذا وعد قائم إلى قيام الساعة؛ ليظهره على الدين كله, وظهور دين الإسلام على الأديان كلها يشمل عدة أمور، منها: الظهور بالحجة والبيان, بحيث يوجد من الدعاة والعلماء والمصلحين والأئمة من يرفعون شأن الإسلام بالكلمة والكتاب والخطبة والموقف وغير ذلك. ويشمل الظهور أيضاً: قمة الظهور، وهي الانتصار الكامل لهذا الدين على الأديان كلها، وقد ورد في حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الله يقيض لهذا الدين من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين} وهذا الحديث قد ورد عن عدد من الصحابة كـ أبي هريرة , ومعاذ بن جبل , وابن مسعود , وأسامة بن زيد , وورد مرسلاً عن بعض التابعين, وقد رواه الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وفي شرف أصحاب الحديث، وخرج الطبراني بعض طرقه، وكذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل وغيرهم. واختلف العلماء في صحته، فصححه بعضهم كالإمام أحمد وابن عبد البر وضعفه آخرون كـ العراقي. والحديث وإن كان ضعيفاً في جميع طرقه, إلا أن معناه صحيح بلا شك، وإنما اخترته لمباشرته في التعبير عن هذا المعنى, وأن الله عز وجل يختار في كل جيل من يحملون هذا العلم والدين، ممن يتميزون بالعدالة والفهم والإنصاف, فيدفعون عن الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وهذا الوعد القائم هو لا يزال يجري اليوم، وإلى أن يشاء الله سوف يستمر وجود هذه الحقيقة التي وعد الله بها. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 2 الاختلاف في تقويم الرجال وأمام هذا العدد الكبير من العلماء والدعاة والمصلحين, الذين نجدهم اليوم في واقع الأمة الإسلامية؛ نجد أن الآراء تختلف في كثير من الشخصيات الإسلامية ما بين مادح وقادح, ومؤيد ومعارض, وما بين إنسان ينظر إلى شخصية ما, بأن هذا الشخص هو مجدد هذا القرن, بل مجدد القرون السبعة الماضية, بل مجدد القرون العشرة الماضية. وقد قيل هذا الكلام عن أحد الشخصيات الإسلامية المعاصرة، وبإزاء ذلك قد تسمع عن الشخصية نفسها كلامًا, بأن هذا الرجل لم يذق طعم الإيمان, ولا وجد نور الإسلام في قلبه. فإزاء هذا التباين البعيد في تقويم الشخصيات الإسلامية؛ لابد من الإشارة بادئ ذي بدء إلى أننا ورثنا نحن المسلمين ضمن ما ورثناه من تراث هذا الدين القيم: منهج العدل والإنصاف في الحكم على الناس, فيقول الله عز وجل في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135] فيأمرنا بالعدل والإنصاف, وتحري الحق, ولو على أنفسنا أو والدينا أو أقاربنا, ويقول سبحانه في سور المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] . فكما أنه يأمرنا في الآية الأولى بالاعتدال والعدل حتى مع أنفسنا, أو والدينا وأقربينا, بحيث نقول الحق عليهم -وإن كان عليهم- كذلك يأمرنا في الآية الثانية: بأن لا يحملنا بغض قوم أو عداوتهم على أن نجحف في حقهم, بل لابد من العدل حتى مع العداوة والشنآن. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 3 دوام وجود الصالح وغيره في الأمة تعلمون -أيها الإخوة- أن ضراوة الحرب على الإسلام في هذا العصر؛ أشد منها في أي عصر مضى, وقد نكص كثير من المسلمين عن هذا الدين، وتحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان أنه قال: {وستلحق طوائف من أمتي بالمشركين وستعبد طوائف من هذه الأمة الأوثان} فتحقق هذا الوعد، ولحقت طوائف من هذه الأمة بالمشركين لحوقًا حقيقيًا أو لحوقاً معنويًا، وعبدت طوائف من هذه الأمة الأوثان عبادةً حقيقية، كمن يطوفون بالقبور، ويسألون أهلها، ويرجون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، وشفاء المرضى، ويصلون إلى هذه القبور. أو من يعبدون أصنامًا أخرى، كالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله عز وجل، والمستوردة من الشرق أو من الغرب، أو الأنظمة والنظريات الإلحادية, والمبادئ الهدامة المختلفة. وإزاء هذا الوضع نجد أن الله تعالى وعد أنه حين يوجد هذا فإنه يوجد في مقابله أمر آخر، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِم} [المائدة:54] ويقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] . ففي هاتين الآيتين إشارة إلى أنه إذا وجد في الأمة من ينكص عن الإسلام, أو يتراجع عن الجهاد، أو عن البذل والإنفاق في سبيل الله, فإن الله وعد بأنه سيأتي في ذلك الوقت بقوم يجاهدون في سبيل الله, وينفقون ولا يبخلون, ولا يكونون كهؤلاء الناكثين الناكصين. ولذلك ذكر الخطيب البغدادي عن أحمد بن سنان: أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام, وقد دخل المسجد؛ فرأى في المسجد حلقتين في إحداهما الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة, وفي الأخرى أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أحمد بن أبي دؤاد ومن معه من أهل الاعتزال، وأشار إليهم وقال: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وأشار إلى الإمام أحمد ومن معه. فهذه القضية ظاهرة، فمتى ما وجد التراجع، والردة الكلية أو الجزئية عن الإسلام فإنه ويوجد في مقابل ذلك من الرجال الأفذاذ من يقيمون راية الدين, وهذا موجود في هذه العصور المتأخرة, وموجود في عصرنا الذي نعيش فيه. صحيح أن النوعية تقل، فنحن لو قسنا رجال الإسلام في هذا العصر, برجال الإسلام في العصور الأولى, لربما وجدنا أنهم أقل منهم بكثير، ولا شك في ذلك, فكلما تقادم العهد كلما ضعفت نوعية الرجال القائمين بشأن الإسلام، وهذه سنة لله في خلقه. لكننا نقول مع ذلك: رجال الإسلام -في الجملة- هم خير من على ظهر الأرض في هذا اليوم؛ وحملة راية الإسلام من العلماء والدعاة والمصلحين على ما فيهم من نقص أو تقصير أو مداهنة أو إيثار للراحة أو ما أشبه ذلك من العيوب التي يرميهم بها كثير من الناس, نقول: هم على ما فيهم خير أهل الأرض. وفي هذه المناسبة اتذكر أيضًا الكلمة التي رواها عمر بن حفص عن أبيه أنه قيل له: ألم تر إلى أهل الحديث كيف تغيروا وكيف فسدوا؟ فقال: هم على ما هم خيار القبائل, فرجال الحديث على رغم ما أصابهم من ضعف أو تغير أو اختلاف هم خيار القبائل, وإن كان فيهم عيب ففي غيرهم عيوب. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 4 علم الجرح والتعديل وهذا المنهج لم يكن منهجًا نظريًا -فقط- في آيات القرآن الكريم, أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام, بل إنه طبق عمليًا, ولعل أبرز صورة طبق فيها هذا المنهج؛ هي ما يعرف بعلم الجرح والتعديل, فقد ورث المسلمون تراجماً لأعداد كبيرة من الرواة ربما يزيدون على عشرات الآلاف من رواة الحديث, وكان الأئمة يتكلمون في كثير من هؤلاء جرحًا أو تعديلاً, وأنت لو نظرت في منهج هؤلاء الأئمة في الجرح والتعديل؛ لوجدت العجب العجاب, ويكفي أن أشير -مثلاً- إلى أن علماء الجرح والتعديل كانوا يوثقون بعض الرجال على رغم أنهم أهل بدع وضلال, كما قال بعضهم عن أحد هؤلاء، قال: فلان ثقة في الحديث رافضي خبيث، وبغض النظر عن كون هذه الكلمة لا تليق بالرجل الذي قيلت فيه؛ فإن المقصود أن هؤلاء العلماء كانوا مع رأيهم أن فلانًا فيه انحراف في جانب معين؛ لم يمنعهم هذا الانحراف من أن يبينوا ما فيه من مزية في الجانب الآخر. ولذلك وثَّقوا عددًا غير قليل من أهل البدع, مع بيان بدعتهم، فهذا جانب العدل والإنصاف حتى مع من يكون بيننا وبينه اختلاف, وحتى مع من ننكر عليه كثيرًا من البدع والانحرافات الموجودة عنده, فلا يجعلنا ذلك ننسى فضائلهم وحسناتهم. وفي مقابل ذلك, نجد أن علماء الجرح والتعديل كانوا يذكرون الجرح ولو كان في أقرب قريب. ولعل من أجلى الصور في ذلك ما ذكره العلماء عن علي بن المديني - علي بن عبد الله بن أبي نجيح السعدي المعروف بـ علي بن المديني - فقد سئل علي بن المديني عن أبيه، ما تقول في فلان؟ فقال: سلوا عنه غيري, قالوا: إنما نسألك أنت, قال: أما إذ أبيتم فإنه الدين، هو ضعيف, فهو حاول أن يدفع هذه الكلمة وأن يجعل غيره يقولها، فلما أصروا عليه, قال في أبيه كلمة الحق: أبي ضعيف في الحديث فلا تأخذوا عنه. هذا المنهج العادل عند علماء الجرح والتعديل يجعلهم يوثّقون الخصم إذا كان أهلاً للتوثيق من حيث الرواية، ويضعفون أقرب قريب. ومن باب أولى أنهم كانوا يضعِّفون من كان يوافقهم في المنهج، فقد يضعفون رجالاً من أهل السنة, سواءً تضعيفًا مطلقًا, أو تضعيفًا مقيدًا, كما قيل في نُعيم بن حماد وابن بطة وغيرهما، إلا أنهم من أئمة أهل السنة المشهورين. فهذا المنهج -أيها الإخوة- نريد أن نعمل على تطبيقه على رجال الإسلام في هذا العصر, مع الإشارة إلى بعض الأخطاء التي تقع من كثير ممن يتحدثون عن هؤلاء الرجال إشارة مختصرة بقدر ما يسمح به الوقت. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 5 من رجالات هذا العصر أيها الإخوة: رجالات الإسلام في هذا العصر هم في ميادين شتى, فأنت إذا نظرت -مثلاً- إلى ميدان الدعوة إلى الله, وجدت رجالًا عرفوا بالدعوة وأثروا في مجتمعاتهم أبلغ تأثير, ولعل من الأسماء البارزة والمشهورة أمثال الشيخ حسن البنا , أو أبي الأعلى المودودي , أو غيرهم من المصلحين, وإذا نظرت إلى مجال الأدب, وإذا نظرت إلى مجال الفكر, وجدت أمثال الأستاذ سيد قطب , ومحمد قطب , وغيرهم من الكتاب المشهورين. وكذلك كتابات الشيخ أبي الأعلى المودودي , وأبي الحسن الندوي وغيرهم, وإذا نظرت إلى مجال العلم الشرعي والفقه والفتيا والحديث؛ وجدت -أيضاً- علماء أفذاذاً في هذه الجزيرة وفي غيرها. ولعل من الأحياء الذين يشاد بذكرهم أمثال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في مجال الحديث وإحياء السنة, والشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، وكذلك لا تُنكر جهود آخرين من غير هذه البلاد, كما نجد بحوثاً للدكتور مصطفى الزرقا والدكتور يوسف القرضاوي وغيرهم. وإذا نظرت إلى مجال الجهاد وجدت شخصيات بارزة في الجهاد, ولعل الجهاد الأفغاني على الساحة هو أبرز ما يلفت الأنظار، فأنت تجد أمثال عبد رب الرسول سياف , أو برهان الدين رباني , أو حكمتيار , أو من تبنوا مسألة الجهاد كـ عبد الله عزام , وغيرهم. وإذا نظرت أيضًا إلى مجال الخطابة والوعظ, لا يغيب عن بالك أمثال عبد الحميد كشك , وأحمد القطان , وإبراهيم عزت وغيرهم. والأسماء كثيرة وليس المقصود في هذه الجلسة أن أسرد الأسماء، وإنما اخترت أسماء يكثر الكلام حول عدد منهم, حتى يكون الكلام الذي سأقوله أكثر واقعية وارتباطًا بالحياة التي نعيشها. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 6 تعامل شباب الصحوة مع الأسماء المشهورة وأمام هذه الأسماء: نتأمل في نظرة شباب الصحوة الإسلامية إلى هذه الشخصيات, وكيف يقومونهم، وكيف ينظرون إليهم, فنجد أن هناك ثلاث ملاحظات يجب أن توضع في الاعتبار: الجزء: 55 ¦ الصفحة: 7 تعميم المعرفة الملاحظة الثالثة والأخيرة في هذا المجال: ولا أكتمكم بأن هذه الملاحظة وإن كانت هي الأخيرة إلا أنها في نظري مهمة, لأنها ملاحظة تتعلق بواقع الدعوة الإسلامية اليوم، وطريقة الشباب في اتباع الرجال, وإن شئت فقل في تقليدهم, وذلك أننا نجد -كما ذكرت في مقدمة حديثي- عددًا كبيرًا من الشخصيات الإسلامية موزعة في تخصصات شتى, فأنت تجد فلانًا في مجال الفقه, وآخر في مجال الحديث, وثالث في مجال الدعوة, ورابع في مجال الوعظ, وخامس في مجال الجهاد, وسادس في مجال الإصلاح الاجتماعي, وسابع في مجال الآداب والشعر, وهكذا. فكثير من الشباب اليوم تضطرب في أيديهم الموازين، وحين يرون شخصًا قد أبدع ونبغ في مجال، يعتقدون أنه نبغ في كل مجال, فيتحول الخطيب في ذهنهم إلى فقيه ومحدث وإمام وداعية ومرجع في كل شيء, ويتحول الفقيه إلى إنسان يستشار في القضايا الاجتماعية والقضايا الدعوية وربما قضايا سياسية وأدبية وغيرها, وهذا ينافي وضع الشخص في موضعه المناسب, فأنت قد تجد إنسانًا لو سألته عن مسألة في الفقه لوجدته بحرًا لا ينضب, فهو يذكر لك الأقوال والأدلة ويحكم على الأحاديث, ويرجح فتصدر عنه وقد قنعت ورويت, لكن لو سألته عن قضية أخرى بعيدة عن تخصصه لوجدته أشبه بالعامي فيها. وقد تجد شخصًا آخر يتقن فن الخطابة, فهو يجيد الوقوف أمام الناس والتحدث إليهم بطلاقة وإثارة عواطفهم, ويتكلم بحماس وعاطفة وصدق -إن شاء الله- ويؤثر, وهذا شيء طيب، والمسلم يجب أن يستفيد من هذا وهذا, لكن هذا الخطيب لا يعني أنه تحول بقدرة قادر إلى فقيه ومحدث وإمام ومفتٍ وكل شيء, بل ضع الشخص المناسب في المكان المناسب, فهذا خطيب لا بأس أن تستفيد به في أسلوب الخطابة, وطريقة الخطابة, وبعض الموضوعات التي يناسب الحديث عنها, وما أشبه ذلك. ثم إذا عرضت لك مسألة فقهية تستفيد ممن هو أهل لها من العلماء والفقهاء والمفتين، وإذا أشكل عليك حديث تستفيد ممن هم أهل تخصص في هذا المجال, فإذا كانت القضية دعوية: استفدت ممن له خبرة في مجال الدعوة, وهكذا يمكن أن تستفيد أيها الشاب ويستفيد المسلمون جميعًا من هذه الشخصيات الإسلامية في كل مجال, دون أن نرفع الشخص عن قدره. ومما يدلك على أن كثيرًا من الشباب تغيب عنهم هذه القضية؛ أننا نجد في واقعنا أن المتحدث -المحاضر- حين ينتهي من محاضرته، وأنا حين أنتهي الآن من هذه المحاضرة لو كتب لكم أن تستعرضوا هذه الأسئلة التي يستعرضها الأخ الآن, لوجدتم أن هناك من يسأل عن موضوع طبي, وهناك آخر يسأل عن موضوع اقتصادي يتعلق بقضايا البنوك، وهناك ثالث يسأل عن مشكلة اجتماعية, ورابع يسأل عن قضية تاريخية, وخامس يسأل عن مسألة أدبية, وهكذا، فلماذا تغيب قضية التخصص في أذهاننا فنعتبر أن من تحدث في موضوع يمكنه أن يتحدث في كل موضوع؟ وهذا الخطأ -أيها الإخوة- يزداد الأمر فيه، حتى أنك تجد أحيانًا أننا قد نسند هذه القضايا إلى أشخاص ليس لهم علاقة بهذا المجال بالكلية؛ سوى أنهم اشتهروا في مجال معين, وقد أضرب مثالاً لذلك. فقد يبرز شخص -مثلاً- في جودته في قراءة القرآن, وهو ذو صوت عذب في القراءة, وهذه لا شك ميزة يمتن الله بها على من يشاء من عباده, لكن كون هذا الشخص مجيدًا لقراءة القرآن مثلًا لا يعني أنه فقيه أو داعية, فتجد أن كثيرًا من الشباب لا ينظر إلى الشخص إلا نظرة كلية، إما أن يعطوه (100%) أو يعطوه صفراً, فإذا برز في مجال اعتبروه بارزاً في كل مجال, وهذا الخطأ ينعكس -أيها الشباب- في كثير من الأحيان بالصورة التالية: فنحن ننظر إلى هذا الشخص الذي برز على أنه كل شيء -وخذوا في أذهانكم أي شخصية من الشخصيات المعروفة في المجتمع- وهذا الشخص أصبحنا ننظر إليه على أنه بارز في كل شيء وفي كل مجال, ويمكن أن يتحدث في كل موضوع, ثم بعد فترة وخاصة حين نكبر وتكبر عقولنا ونطلع, نكتشف أن هذا الشخص قد أخطأ في مسألة, أو أن هذا الشخص عنده نوع من الضعف في تخصص من التخصصات, فتجد أننا كما أننا بالأمس أخطأنا فرفعنا هذا الشخص فوق منزلته, تجدنا اليوم نخطئ مرة أخرى فنحط من قدر هذا الشخص وننسى فضائله لأننا اكتشفنا أن عنده خطأ. وأعرف بعض الشباب يقدرون أحد الشيوخ، وهو أهل للتقدير والفضل في علمه وورعه وتقواه ومنزلته وجهاده في سبيل الله -أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكى على الله أحدًا- فينظرون إلى هذا الشيخ على أنه قدوة ومثل أعلى في كل مجال, ثم بعد فترة يكتشف بعض هؤلاء الشباب من قربهم من هذا الشيخ واحتكاكهم به أن هذا الشيخ عنده نقص في مجال من المجالات، فقد لا يكون في ميدان مواجهة الواقع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالدرجة المطلوبة؛ لأنه مشغول بقضايا علمية وفقهية, عن معرفة ما يجري في الواقع, فحين يكتشف هؤلاء الشباب هذه الثغرة الطبيعية, ينعكس الميزان في نفوسهم فيسقط هذا الشيخ من عيونهم, وهذا خطأ ولّده الخطأ الأول. ولذلك ينبغي علينا جميعًا أن نضع الأشخاص في مواضعهم الطبيعية، كل في مجاله, فهذا بارز في الخطابة, وهذا بارز في الفتيا والفقه والعلم الشرعي, وهذا بارز في الحديث, وهذا بارز في الدعوة, وهكذا، حتى إذا وجدنا عند أحد منهم نقصاً في مجال غير مجاله, اعتبرنا أن هذا الأمر طبيعي؛ لأنه النقص الذي يعتري البشر. وأريد أن أتحفظ على فهم قد يسبق إلى ذهن البعض وهو أننا نقول: إن الدين والعلم الشرعي مهيمن على جميع هذه الأشياء, وهذا لا شك فيه، فالعلم الشرعي مهيمن على كل الأمور, وهو الميزان, لكن هناك قضايا ليست في أمور الحلال والحرام والأحكام, وإنما هي قضايا تتعلق أحياناً بالواقع, وأحياناً بالأدب والشعر, وأحياناً بقضايا تاريخية, وأحياناً بأمور خطابية, وأحياناً بوسائل من وسائل الدعوة التي الأصل فيها الإباحة, فمثل هذه الأمور ينبغي أن نراعي فيها جانب التخصص. هذه أبرز ثلاث نقاط، أحببت أن ألفت نظر إخوتي الشباب إليها, وهم ينظرون إلى من هم في موضع الأسوة والقدوة. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 8 تقديس الأشخاص الملاحظة الثانية هي: ملاحظة على النقيض من الملاحظة الأولى, فإننا نجد في المقابل أن هناك من يعظم الأشخاص ويقدسهم ويستبسل في الدفاع عنهم, حتى إنه لا يكاد يعترف لهم بخطأ مهما كان, وصحيح أن الجميع متفقون نظريًا على أنهم ليسوا بمعصومين، فكل واحد يريد أن يدافع عن شخص دفاعًا مستميتًا غير موضوعي, يقدم لدفاعه بقوله: إنني أعترف أن هذا الرجل غير معصوم من الخطأ بل هو كغيره عرضة للخطأ, لكنه حين يبدأ في مناقشة ما نسب إلى مثل هذا الرجل من أخطاء يفند جميع هذه الأخطاء ولا يعترف بواحد منها, فيخرج في النهاية وقد برّأ هذا الرجل من جميع الأخطاء والعيوب وإن كان يعترف نظريًا بأنه غير معصوم, وهذا الأسلوب غالبًا ما يصدر عن عصبية، إما عصبية حزبية كما هي الحال بالنسبة للأفراد الذين قد ينتسبون إلى هذا الخط الذي يمثله هذا الداعية أو ذاك, أو عصبية مذهبية، أو عصبية مشيخية, بسبب التلقي عن هذا الشيخ, وهذه العصبية ترى في الاعتراف بخطأ الشيخ قدحًا فيه, وحطاً من قدره, وهذا أيضًا يوجد في بعض ما كتب عن الأشخاص الذين مثلت بهم سابقًا. فأنت حين تقرأ عن بعض ما كتب عن حسن البنا رحمه الله وخاصة ما كتبه عنه سعيد حوى في عدد من كتبه, تجد المبالغة في ذلك, وتفنيد الأخطاء, وتأويل الكلام, وصرفه عما يدل عليه, بل ربما يتبنى الإنسان قولاً خاطئاً ويقول به حتى يوافق هذا الرجل عليه، لئلا ينسب إليه خطأ وقع فيه, وقل مثل ذلك في بعض ما كتب عن الأستاذ سيد قطب رحمه الله. ونحن نشهد الله عز وجل على محبة هؤلاء الرجال جميعًا, وتقدير ما قاموا به من جهود وبلاء في خدمة الإسلام, والدفاع عنه, وأنهم كانوا على ثغرات من ثغرات هذا الدين ينافحون عنه, على أن لا يؤتى الإسلام من قبلهم: وآثارهم تنبيك عن أخبارهم حتى كأنك بالعيان تراها لكن هذا الحب لا يمنع -أبدًا- من ذكر أخطاء وقعوا فيها. ثم أرأيت لو أن إنسانًا اعترف بأن حسن البنا أو سيد قطب أو المودودي أو الألباني أو فلان أو غيرهم وقعوا في خطأ, أو خطأين, أو عشرة أخطاء, أو عشرين خطأ, كان ماذا؟ ومن ذا الذي تُرضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه فمن نبل المرء وكماله أن تكون أخطاؤه معدودة, وبصفة خاصة حين تكون الأخطاء لا تتعلق بالجانب الاعتقادي. والحقيقة أن الأخطاء الفقهية -أيها الإخوة- قابلة للنقاش؛ لأن الأمر فيها يدور على راجح ومرجوح, أو -على أشد الأمور- يدور على خطأ وصواب, وكذلك قضايا الاجتهاد في أمور الدعوة ومواجهة الواقع هي مسائل الأمر فيها يسير, لأن القضايا الاجتهادية للعقول فيها مدار كبير, ومراعاة المصلحة فيها مطلوبة, لكن الأخطاء العقائدية يجب العناية بإبرازها وإظهارها, والتنبيه عليها، وإن استدعى الأمر أن يذكر الشخص الذي صدر منه الخطأ فلا بأس بذلك. فنقول -مثلاً- إن الإمام حسن البنا مثلاً في كتاب العقائد قال: كذا، وهذا يخالف ما عليه السلف، حيث قال بالتفويض في موضوع الأسماء والصفات مثلاً, أو أن الأستاذ سيد قطب في ظلال القرآن أوَّل عددًا من الأسماء وعدداً من الصفات, وهذا يرجع إلى الملاحظة الأولى: أننا لا نعتبر هذا مدخلاً للحط من قدر الشخص, فنقول: هذا رجل قال كفرًا وهذا جهمي, وهذا معطل, هذا كذا, لكن ننبه على الأخطاء مهما كانت، خاصة إذا كانت تتعلق بجانب العقيدة, ونبين المنهج الصحيح الذي يعتقده أهل السنة والجماعة -المنهج السلفي- في هذه القضايا, مع حفظ أقدار الرجال, فهذا لا بد منه. وذلك لأن قضايا العقيدة ليست قضايا راجح ومرجوح, أو خطأ وصواب, بل هي قضايا حق وباطل, أو هدى وضلال, فهذه القضية تقابل القضية الأولى. إذاً: علينا أن ننظر بميزان معتدل. والكلام النظري -أيها الإخوة- فيه يسر لكن التطبيق العملي صعب, فأنت حين تقع على خطأ، وتجد أن هذا المصنف قد تحمس له وساق الأدلة وسردها, تشعر أنك أمام خطأ وانحراف، فتجد أنك عندما تبين الخطأ قد تجحف وتظلم هذا الرجل. وعلى العكس من ذلك حين يشرب قلبك هوى رجل من الرجال وتحبه وتحسن الظن به, فإنك لا تجد في قلبك مكانًا لتقبل أي خطأ ينسب إليه, فتعويد الإنسان نفسه وتدريبها على الاعتدال والإنصاف عمليًا هو من الأمور العزيزة التي يجب على الداعية وطالب العلم والشاب المسلم أن يربي ويوطن نفسه عليها. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 9 انتقاص الأشخاص الملاحظة الأولى: هي ضرورة الاعتدال في تقويم هؤلاء الأشخاص, فإنه ليس أحد منهم ولا من غيرهم إلا وفيه نقص, وليس من العدل أن تُعنى ببيان المثالب وجوانب النقص والعيب الموجودة فيهم, وتغفل عن الفضائل والحسنات الموجودة فيهم؛ لأن العناية بمثالب هؤلاء القوم ونقائصهم هو منهج صادر عن انحراف في نفسية الذي ينتقدهم، فإذا رأيت إنساناً يكثر من نقد الناس ويركز على مثالبهم, فيجب أن تعرف أن هذا الأسلوب يرجع إلى نوع من الكبر الموجود في نفسه؛ لأن الشخص المتكبر غالباً يريد أن يضع من أقدار الأشخاص المشهورين, حتى يتفرد هو بالشهرة والكمال, فتكون لديه شهوة الحط من أقدار الرجال، فلان فيه كذا, وفلان كذا, أو فلان قال في الكتاب الفلاني كذا, أو فلان له موقف كذا, ويا ليته يذكر الحسنات، لا, إنما يُعنى بذكر المثالب والأخطاء، هذا لو فرض جدلاً أنها مثالب وأخطاء, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، قالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا, فقال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بطر الحق، وغمط الناس} بطر الحق، يعني: رده، وغمط الناس، يعني: بخسهم أشياءهم. فالإنسان المتكبر يبخس الناس حقوقهم وأشياءهم, وينظر بعين واحدة لا ترى إلا الأخطاء, بل إنه يرى الحسنات نفسها أخطاءً، وحينئذٍ يصدق عليه قول الشاعر: إذا محاسني اللاتي أُدل بها كانت عيوبًا فقل لي كيف أعتذر وعلى سبيل المثال: لو نظرنا إلى شخصية الشيخ الألباني في هذا العصر, لوجدنا أن للشيخ جهودًا كبيرة في خدمة السنة النبوية, وتقريبها بين أيدي الناس, وتنقيتها من الشوائب: من الأحاديث الموضوعة والضعيفة, وغيرها. وكتبه لا تخلو منها مكتبة, فللرجل جهود تذكر فتشكر, فضلاً عن جهوده في نشر السنة العملية بين الناس, وتربية الشباب عليها, وهذا عمل لا شك أنه عمل مشكور, وكثير من الناس يتجاهلون هذه الجوانب الإيجابية في شخصية الشيخ, وينظرون نظرة ناقصة إلى بعض الأخطاء التي لا يخلو منها بشر. مثلاً: ينظرون إلى جانب الحدة في الشيخ؛ وكون الشيخ حادًا حين يقوم الأشخاص والأعمال والكتب, فهو في مقدمة كثير من كتبه قد يتناول بعض ما صدر من كتب أو تحقيقات, ويعلق عليها تعليقات قد تكون شديدة اللهجة أحيانًا, صحيح أن الأولى في هذه التعليقات والتعقيبات أن يكون بأسلوب أكثر هدوءًا, وأكثر لطافة، لكن لماذا يبرز هذا العيب، ويغطي على حسنات الرجل وفضائله؟ بل إنك تجد من الناس من يحول بعض فضائل الرجل إلى عيوب, كمن يطعن في الرجل -مثلاً- بعنايته بدراسة الأسانيد والأحاديث وتصحيحها وتضعيفها, والكلام في الرجال، ويعتبر أن هذا من إضاعة الوقت والعمر بلا طائل. وخذ نموذجًا آخر: الشيخ حسن البنا رحمه الله، رجل داعية أثر في المجتمع المصري تأثيرًا كبيرًا, وقُتل -كما نحسبه إن شاء الله- في سبيل الله تعالى، وترك آثارًا طيبة بكل حال, سواء آثاراً عملية أو ما كتب في عدد من الموضوعات. فهذا الرجل تجد أن كثيرًا من الناس ينظرون إليه نظرة معينة فيها كثير من التنقص، والإشارة إلى ضعف علم هذا الرجل مثلاً, وأنه لا يتقن فن الحديث, لماذا؟ لأنه نقل تخريجاً لأحد الأحاديث من العراقي أو من غيره, أو ذكر حديثًا في المسند أو في غيره ولم يتعقبه ولم يتكلم فيه, بل وقد ينتقد لأنه اجتهد في عدد من المسائل الدعوية والواقعية؛ اجتهادًا قابلاً للنقاش والأخذ والرد, وقد تجد من ينتقد الرجل لأنه تكلم في عدد من مسائل الاعتقاد كلامًا يخالف ما عليه منهج السلف الصالح. والذي يجب أن يعلم هو أن الحق أغلى في نفوسنا جميعًا من الرجال, فنحن لا يجوز أن نجامل أحدًا من أجل أنه فلان, أو فلان، على حساب الحق, وحين يخطئ فلان أو فلان لا يُجامل، والمقصود -الآن- الإشارة إلى أن هذا الخطأ يجب أن يوضع في إطاره الصحيح, فلا يسقط الرجل، بالكلية بل يقال أخطأ في كذا، ويبقى للرجل منزلته وكرامته وبلاؤه في الإسلام. ومن الأمثلة أيضاً: ما يكتب ويقال عن الشيخ أبي الأعلى المودودي من أن فيه نظرًا لكلامه في عدد من المسائل الإعتقادية والدعوية والفقهية، كلاماً فيه شيء من الخطأ, وفيه أشياء هي من الأمور الاجتهادية القابلة للنقاش, لكن تجد في بعض الكتابات التي صدرت عنه نوعًا من الإجحاف في حقه. فهذه النظرة التي لا ترى إلا جانب الخطأ يجب أن يتقيها الشباب المسلم, ويدرك أننا لو عممنا هذا المنهج لما بقي لنا أحد, فإننا لو نظرنا حتى في رجالات الإسلام السابقين المرموقين لوجدنا أنهم تعقبوا في أشياء عديدة. فمثلاً لو نظرت إلى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لوجدت له كثيرًا من الاجتهادات الفقهية والأصولية والعملية, خالفه فيها غيره، وقد يكون الحق معه وقد يكون الحق معهم في مسائل معينة, وفي مسائل يُجزم بأن الحق مع غيره ولو كانت يسيرة أو قليلة, فهذا لا يغض من قدر الرجل وقيمته عند أهل الإسلام وأهل السنة والجماعة. ولو نظرت إلى الإمام الذهبي وقرأت في كتبه لوجدت أن له مواقفاً منتقدة هنا وهناك, ولو نظرت إلى الإمام النووي , وابن حجر وغيرهم, لوجدت أنه لا أحد يسلم من خطأ ولو يسير, وهذه حكمة لله عز وجل, أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه, وأبى الله أن تكون العصمة إلا لرسله, وكون الشخص يعد له خطأ أو خطآن لا يعني سقوط شخصيته أو انتهاء دوره, فهذه ملاحظة. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 55 ¦ الصفحة: 11 الجمع بين طلب العلم والدعوة السؤال يقول السائل: كثير من الشباب يقول: إن طريق الدعوة يبعدني عن طريق طلب العلم, فكيف ترد على هؤلاء، وما هي الطريقة في التوفيق بين طلب العلم والدعوة إلى الله جل وعلا؟ الجواب كثير من الشباب يوجد عندهم نوع من عدم التوازن, وقد كنت قبل قليل مثلت بمثال يتعلق بتقويم الأشخاص؛ وهو أنك تجد شابًا يرفع شخصًا فوق منزلته, فإذا اكتشف عنده خطأ حطه دون منزلته, والخطأ نفسه يتكرر في ميادين أخرى، ففي مجال التوفيق -مثلاً- بين طلب العلم الشرعي والدعوة, تجد شابًا منهمكًا في موضوع الدعوة إلى الله والذهاب والإياب ومتحمسًا لهذا الموضوع على حساب الجوانب الأخرى، ولو نظرت إلى عبادته لوجدت أنه آخر من يأتي إلى المسجد -مثلاً- لصلاة الجماعة، وغالبًا ما يقضي الصلوات، ولو نظرت إلى جوانب علمه الشرعي تجده لا يعرف شيئًا من العلوم الشرعية, ربما حتى ما يعرفه أقرانه وأمثاله قد لا يعرفه, فهو لا يكاد يقرأ, لماذا؟ لأنه ليس لديه وقت، فهذه الصورة ينتبه إليها الشاب وبعد فترة يريد أن يستدرك الخطأ فيقع في خطأ آخر، وهو أن يرمي بقضية الدعوة إلى الله جانباً ويتجه بكليته إلى العلم الشرعي, ولا تستبعد أنه ينتبه بعد فترة أنه انشغل بالعلم الشرعي والأقوال والردود وقال فلان ورد عليه وكذا وكذا, وأنه نسي جانب العبادة التي فيها ترقيق للقلوب, وتليين لها, وتقريب إلى الله عز وجل, فربما ألقى بجانب العلم الشرعي واتجه إلى التعبد. وهكذا يظل الشاب طيلة عمره في ردود فعل لأخطاء سابقة, والذي ينبغي للشاب -أولاً- أن يضبط نفسه على وضع معتدل, فيعطي كل ذي حق حقه, أعط الدعوة إلى الله حقها, وأعط أهلك في البيت حقهم, وأعط طلب العلم حقه, وأعط نفسك حقها, وأعط كل ذي حق حقه, فهذا أولاً وهذا نوع من الوقاية. لكن حين يكتشف الشاب خطأً وقع منه فالعلاج ليس أن ينتقل إلى الطرف الآخر، فبدلاً من أن تكون مهملاً للعلم تتحول إلى أن تكون مهملاً للدعوة, لا, بل حاول أن تستدرك العلم بصورة تدريجية وهادئة, وينبغي أن تعلم أن العلم الشرعي لا يحصل بين يوم وليلة, وكلما قرأ الإنسان في العلم أدرك أن الأمر يتطلب جهداً ووقتاً, فعامل الوقت مهم في هذا الجانب، فإذا انتبهت لنوع من التقصير تتداركه بصورة معتدلة، ولا تفرِّط في الجانب الآخر. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 12 اتباع جرح العلماء في بعضهم السؤال هل يجوز جرح أحد من العلماء لسبب أننا سمعنا عالماً آخر من العلماء يجرحه؟ الجواب الشاب أو طالب العلم المبتدئ أسوء ما يعمله أن ينصب من نفسه حكمًا بين هؤلاء الأئمة والعلماء, لكن هذا لا يمنع أن يقلد أحدهم, إذا كان ليس أهلاً لأن يجتهد في المسألة, ويرجح بفهمه وعلمه, فلا مانع أنه يقلد أحد هذين العالمين, أما أن ينحي على العالم الآخر, أو يجرح فيه لأنه سمع عالماً آخر يقول فيه قولًا فهذا لا يجوز؛ لأنه لا يحق له أن يجعل من نفسه حكمًا بين هؤلاء, وكما قال ابن دقيق العيد وغيره: إن أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، فعلى الإنسان أن يقي نفسه الوقوع في هذه الحفرة, وخاصة أعراض العلماء، كما قال فيهم ابن عساكر: إن لحومهم مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة, ولا يجوز أن ننزع ثقة المجتمع بالعلماء, فلو افترضنا أن في المجتمع عالمين انتقد أحدهما الآخر في مسألة, فرد عليه الآخر فتحول طلاب العلم إلى أحزاب، منهم من يؤيد هذا العالم, ومنهم من يؤيد ذاك, وأصبحوا حريصين على أن يسمعوا المجتمع صوتهم، وكل فئة حريصة على أن تسمع المجتمع صوتها, فالنتيجة التي حصلنا عليها هي أننا أفقدنا الناس الثقة بالعلماء، وهذا ليس لصالح أهل الإسلام, لأنه ما من عالم يذهب سواء بالموت أو بسقوط مكانته, إلا ويحل محله إما جاهل, أو مبتدع, أو ضال يصد عن سبيل الله عز وجل. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 13 حول كتاب المورد الزلال السؤال ألَّف أحد طلبة العلم كتاباً في تقويم تفسير أحد العلماء الذين قدموا أنفسهم في سبيل الله، وعنونه بالمورد الزلال إلى آخر العنوان, فما رأي فضيلتكم في تقويم هذا المؤلف, هل حالفه الصواب أم جانبه؟ أرجو الإجابة على ذلك؛ لأن وجهات نظر كثير من طلبة العلم, اختلفوا حوله, بين مؤيد ومعارض, نرجو الإجابة الشافية؟ الجواب من الملحوظات أن كثيرًا من الناس يشغلون أنفسهم بمثل هذه القضايا عما هو أهم منها, فقد تجد إنسانًا لا يعرف من القضايا الشرعية -معرفة جيدة- إلا القضايا التي يجري حولها الخلاف, لأنه يهتم بذلك ويحب أن يعرف ماذا قال فلان, وماذا قال فلان, وكيف رد عليه, وكيف أجاب، إلى آخره. ولذلك فإنني أقول: إن على الإنسان أن يأخذ مثل هذه القضايا بشيء من السعة ويتقبل ما فيها من صواب, ويرد ما فيها من خطأ, دون أن يحدث من جراء ذلك قضية كبيرة تشغل الناس فترة من الوقت. أما فيما يتعلق بالمؤلف الذي أشار إليه السائل، فإنني قد قرأته, وخلاصة ما يمكن أن أقوله في هذا الكتاب: أن ما فيه من ملاحظات ينقسم إلى أقسام, فهناك ملاحظات غير قليلة حالف الصواب فيها صاحب المورد الزلال رحمه الله, وخاصة القضايا الإعتقادية، فهو في غالبها قد أصاب. النوع الثاني من الملاحظات: ملاحظات سببها عدم فهم المؤلف لمقصود صاحب الكتاب الأصلي, فرد على ما ظهر له من العبارة, والعبارة تدل على شيء آخر غير ما أراده تمامًا. القسم الثالث من الملاحظات: هي عبارة عن ملاحظات ليست علمية, وإنما هي قضايا انطلق فيها من رؤية خاصة أو نظرة معينة, ورد على المؤلف فيها، وبعضها قد يكون من القضايا القابلة للاجتهاد, فبعضها مسائل فقهية مثلًا قابلة للأخذ والرد, لأن قضايا الفقه لا تستلزم الرد على مؤلف؛ لأنه -مثلاً- خالف المذهب، فهذه قضية أخرى, وإن كان سيداً رحمه الله ليس من الناس الذين تخصصوا في مجال الفقه, فهو غالباً ينقل من كتب، كما ينقل من ابن كثير أو من الجصاص أو من غيرهم. وفي الكتاب قضايا كثيرة، مثل القضايا الفلكية التي تحدث عنها، كما قد أشار سيد رحمه الله إلى قضية دوران الأرض, أو بعض المعلومات الفلكية التي نقلها من مصادر متخصصة, وغير ذلك, فهذا تقويم عام، والأمثلة لا يتسع المجال لسردها, وإلا فلدي أمثلة على كل نوع مما ذكرت. أما أسلوب الكتاب فلعله كان يحتاج إلى شيء من الليونة واللطف, أكثر مما هو عليه, خاصة وأننا نعلم أن سيداً رحمه الله -فيما نظن والله تعالى أعلم- أنه كان يبحث عن الحق ولو أخطأ, ثم إن الرجل له أتباع في أماكن كثيرة, حين يجدون الأسلوب فيه شيء من الشدة؛ ربما يدفعهم هذا إلى نوع من العصبية فيردون الحق، ونحن لا يهمنا أن نسقط قيمة الشخص, بل نحن يهمنا أن نبين للناس الخطأ لئلا يغتروا به, ولذلك وقع هذا في أكثر من مكان، وصار كثير من الناس الذين كان ينبغي أن يقرءوا الكتاب ويأخذوا ما فيه من الحق, صاروا ينبذون الكتاب ويحاربونه, لماذا؟ لأنهم يرون أن فيه بعض العبارات التي لا تناسب, والتي كان الأولى ألا توجد. على كل حال نحن نعتقد في مؤلف الكتاب أنه ذو نية حسنة, وهو قد قدم إلى ما عمل، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر له ويتجاوز عنا وعنه, وأن يرفع درجاته في المهديين، وأن يعفو عن جميع علماء المسلمين ما قد يكون قد حدث منهم من خطأ أو تقصير, وهو مغمور في جانب فضائلهم وحسناتهم. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 14 الارتباط بالمربي السؤال هناك أشخاص في مجال الدعوة يرتبطون بمن هم أعلى منهم بالمستوى والسبق إلى الهداية، بحيث يربطون إيمانهم بهؤلاء الأشخاص, ويأخذون منهم عن طريق القدوة الجوانب الإيمانية والسلبية كذلك, فما رأيكم في هذا الأمر؟ الجواب أما استفادة الإنسان ممن سبقه فهو أمر طبيعي, حتى في الأمور المشروعة أصلاً، وقد سبق أن تحدثت عن هذه النقطة في إحدى المناسبات, ولا أريد أن أعيد ما قلت، ولكن أذكِّر فقط بما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه قوم من مضر مجتابي النمار، يظهر عليهم العري والفقر والجوع، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة وحث عليها, فتصدق الناس، منهم من تصدق بمد أو صاع أو ثوب أو صبرة أو غير ذلك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن رأى هذا: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} فهذه إشارة إلى أن أصل الصدقة مشروع، لكن حين يبادر رجل فيتصدق فإنه يحرك أريحية الناس إلى الصدقة فيقتدون به في التصدق, ليس من أجل أنه تصدق، ولكنه هو نبههم إلى هذا الأمر. وكان العلماء والسلف يأخذون العلم عن شيوخهم، بل كانوا يذمون من لم يأخذ عن شيخ, ولذلك قيل: لا يؤخذ العلم عن صُحفي ولا القرآن عن مُصحَفي، وقيل: من كان شيخه كتابه غلب خطؤه صوابه، لكن هذا التتلمذ سواء كان في مجال علم شرعي, أو في مجال دعوة, ينبغي ألا يلغي شخصية الشاب بحيث يذوب في شخصية شيخه ويفنى فيها، ويصبح مجرد ظل يبرر كلام شيخه ويقرره ويدافع عن أخطائه كما سبق, بل يكون فيه نوع من الاقتداء في الأعمال الخيرة, ونوع من الاستشارة فيما يشكل عليه, ونوع من الأدب والاحترام, ونوع من شكوى إذا كان لديه هموم, لكن حين يجد عليه أخطاء أو ملاحظات عليه أن يتقيها هو في نفسه, فتكون رؤيته هذه الأشياء عند شيخه دافعًا له لأن يتقيها, ثم إن أمكن على أن ينبهه إلى هذه الأشياء بالأسلوب الملائم كان ذلك متعينًا عليه. الجزء: 55 ¦ الصفحة: 15 الولاء والبراء تعرض الشيخ لقضية الولاء والبراء، مبيناً لصور الولاء والبراء. وذكر صوراً من ولاء وبراء الأنبياء مما ورد في القرآن الكريم، كما ذكر أنواع الموالاة المحرمة في الشريعة الإسلامية. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 1 الرابط الذي يجمع أهل الإيمان هو تقوى الله إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] . أيها الإخوة الكرام: أيها الشباب المؤمن! لا يعرف تاريخ الدين الصحيح في هذه الدنيا إلا نوعاً واحداً فقط من الاجتماع, وهو الاجتماع على طاعة الله عز وجل, فمنذ أول نبي بعثه الله عز وجل إلى أهل هذه الأرض -وهو آدم عليه الصلاة والسلام, فقد كان نبياً مكلماً، مروراً بنوح عليه الصلاة والسلام، وانتهاءً بمحمد صلى الله عليهم جميعاً وسلم, كان الرابط الوحيد الذي يجمع أهل الإيمان هو الاجتماع على تقوى الله وطاعته. وبهذا الرابط كانت تتحطم كل الروابط الأخرى, فرابطة الأرض والرقعة الجغرافية تذوب وتنتهي، فيجتمع الرجل من المشرق مع الرجل من المغرب على أمر هذا الدين, وأيضاً رابطة العرق والنسب تضمحل وتذوب، فيجتمع العربي مع الفارسي والرومي والحبشي في نسيج واحد متلاحم، وهم يرفعون راية واحدة, وتضمحل وتذوب جميع الفوارق: فوارق الجنس، واللون، والطبقة، وكل الفوارق التي عرفتها البشرية. وفي مقابل ذلك تنتهي كل الأشياء التي تعارف الناس عليها إذا انتفت رابطة الدين, فمثلاً قد يحارب الأخ أخاه، وقد يحارب الأب ابنه, وقد يحارب القريب قريبه, وقد يتخلى الزوج عن زوجه، إذا انحلت هذه العقدة، وهذه الرابطة -رابطة الإيمان-. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 2 الولاء عند العرب والعربي بطبيعته عنده ولاء للنسب وللقبيلة, ولعلكم جميعاً تحفظون أبيات الشاعر المعروف الذي يقول: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغدِ فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غوايتهم وأنني غير مهتدِ وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشدِ فهل عرفتم من هو هذا الشاعر؟! إنه دريد بن الصمة. فكانت هذه هي فلسفة العربي أياً كانت, حيث كان يذوب في القبيلة وينصهر فيها, يدافع عن مصالحها، ويتبنى قضاياها حقاً كانت أم باطلاً!! لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً فهذا الشاعر يمدح قبيلة؛ بأنهم إذا سمعوا واحداً من قبيلتهم يستغيث بهم، ويطلب منهم النجدة، لا يسألونه برهاناً على ما يقول, بل يهبون لسلاحهم وينصرونه بحق أو بباطل! ومن أمثالهم في الجاهلية، كانوا يقولون: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, وكانوا يطلقونه بالمعنى الجاهلي بمعنى: انصر أخاك على حق أو باطل. فلما جاء الإسلام قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث أنس قال: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً, قال: يا رسول الله! هذا أنصره إذا كان مظلوماً، لكن إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: تحجزه وتمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره} . فهذا العربي الذي كانت هذه فلسفته في الحياة، لما جاء الإسلام انصهروا كلهم في مجتمع المدينة المنورة حتى آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم, فجعل كل واحد من المهاجرين ينزل عند واحد من الأنصار, حتى إنه ما نزل رجل من المهاجرين على رجل من الأنصار إلا بقرعة, من شدة المشاحة فيما بينهم حيث كان عدد المهاجرين أقل فكل واحد من الأنصار يقول: هذا يكون عندي! الجزء: 56 ¦ الصفحة: 3 من صور الولاء الحقيقي في الإسلام ولعل من أرقى وأعظم صور الولاء الحقيقي للإسلام وأهل الإسلام: القصة التي رواها البخاري، قصة سعد بن الربيع رضي الله عنه, وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمن بن عوف، فقال له سعد بن الربيع: [[خذ نصف مالي لك، وكان عنده زوجتين فقال: اختر إحدى زوجتي -أجملهما- وانظر إليها، فإذا أعجبتك أطلقها، فإذا اعتددت فتزوجها -إلى هذا الحد-! فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، ولكن دلوني على سوق المدينة]] . فكانوا رجالاً عمليين، وأصحاب قدرة في مجال التجارة, فدلُّوه على السوق, فبعد أيام تزوج رضي الله عنه من حر ماله. فكان ذلك المجتمع نموذجاً للولاء الحقيقي لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. وما لي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهبُ بأي كتاب أم بأية سنة ترى حبهم عاراً عليّ وتحسبُ وفي مقابل ذلك تجد الصورة الأخرى أيضاً موجودة في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, فمثلاً لا أريد أن أستشهد بالقصة المشهورة: قصة أبي عبيدة عامر بن الجراح أنه قتل والده في معركة بدر, لأن هذه القصة ليست صحيحة, كما ذكر ذلك النووي وغيره من أهل العلم، أنه ليس لها إسناد يثبت, لكن لسنا بحاجة إلى قصة ليست صحيحة, فعندنا العشرات من القصص والأخبار المؤكدة التي كان المسلم يتبرأ فيها من أقرب الناس إليه, فزوجته -مثلاً- إذا أصرت على الكفر طلقها, وكان يغادر بلده ويترك أمه وأباه, مثلما فعل سعد بن أبي وقاص، ومصعب بن عمير وp=1000033>عمر بن الخطاب، وأبو بكر وغيرهم، وما هم إلا مجرد نماذج تؤكد المعنى العام. كم أبٍ حارب في الله ابنه وأخ حارب في الله أخاه!! قال بعضهم لأبيه: بعدما أسلم يا أبتي! والله إني كنت أراك في المعركة فأصد عنك، لا أريد أن أواجهك بشيء تكرهه, قال أبوه: أما أنا فوالله لو رأيتك لعلوتك بالسيف! ولا يمكن أن أعرض عنك أو أن أصد عنك. إذاً: الولاء والبراء جانبان متلازمان, أو كما يقال: وجهان لعملة واحدة, وهما ظاهران في قضية التوحيد, فشهادة التوحيد -شهادة أن لا إله إلا الله- كما يقول العلماء: نفي وإثبات, ففيها الشق الأول نفي، والشق الثاني إثبات, فهي نفي للألوهية عن كل أحد، وإثباتها لله عز وجل, فهي نفي عن كل أحد غير الله. وكذلك العقيدة ولاء وبراء، براءة من كل أحد إلا الذين يوافقون الإنسان على نفس الطريق، ويقفون معه على ذات الأرض التي يقف عليها، ويلتزمون بالعقيدة والمنهج الذي يلتزم به. فلا بد من الأمرين معاً، ولا يتصور في الإسلام شخص يحمل مشاعر إسلامية، ويؤدي النسك والعبادات، ثم بعد ذلك يكون ولاؤه لغير المؤمنين! فهذا لا يتصور بحال من الأحوال، ولذلك يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي الذي رواه البخاري {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي أعلنته بأني محارب له. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 4 الولاء والبراء عند الأنبياء وتاريخ النبوات وأتباع الأنبياء حافل بالأمرين, فلو تأملت في القرآن الكريم تجد قصة نوح وابنه، قال تعالى: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:45-46] وفي قراءة (إنه عَمِل غيرَ صالح) إذاً الجواب إن ولدك الذي خرج من صلبك قطعاً ولا شك ولا ريب -فليس المقصود نفي أبوته له- إنه ليس من أهلك، لماذا؟ إنه عمل غير صالح, لأن عمله عمل غير صالح, فلما زالت رابطة الدين وانحلت ذهبت معها كل الروابط والعلاقات الأخرى. وكذلك نوح عليه السلام مع زوجته، قال الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] , بالرغم من أن نوحاً عليه السلام كان يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] بل نستطيع أن نفهم من هذا النص، من دعاء نوح عليه السلام, أن والد نوح وأمه كانا مسلمين, ولو لم يكونا كذلك لعاتبه الله على الدعاء لهما بالمغفرة، كما عاتب إبراهيم عليه الصلاة والسلام، كما سوف يأتي. وإبراهيم عليه السلام كانت فيه أسوة حسنة للذين آمنوا، قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] فتبرءوا من قومهم، مع أنهم في وطن واحد ومن أصل واحد، والنسب واحد، والرقعة الجغرافية واحدة، وقد يكون نظام الحكم الذي يظلهم في ذلك الوقت واحداً، ومع ذلك كما قال تعالى: {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الممتحنة:4] وقالوها بلهجة واضحة ليس فيها غموض ولا لف ولا دوران: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] . الجزء: 56 ¦ الصفحة: 5 ليس في الإسلام وحدة وطنية إذاً: مسألة المصلحة الوطنية، والوحدة الوطنية ليس لها وجود في الإسلام, والوحدة وحدة على الدين والعبادة فقط, ولهذا يقول إبراهيم ومن معه لقومهم: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] والغريب في قوم يقرءون هذا القرآن، وأنزلت عليهم هذه الآيات وهذه الحجج، ثم تجد أنهم يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. فنسمع ولا أقول من عامة الناس، فقد جرت العادة -دائماً أو غالباً- أن العامة قد تضيع كثير من المفاهيم عندهم، وقد تلتبس كثير من الأمور، خاصة إذا قلّ العلم والعلماء، وشغلوا بأمور جانبيه عن القضايا الأصلية التي ينبغي أن يقرروها. لكن من المؤسف كل الأسف إذا فسد الملح، كما كان يقول عبد الله بن المبارك: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد أي: الطعام يصلحه الملح، لكن إذا فسد الملح نفسه فماذا يصلح الملح؟!! لا شيء يصلحه. فالمصيبة إذا كان بعض الدعاة -أحياناً- أو أقول بلهجة أصح: المنتسبين إلى الدعوة، قد يضيع عندهم هذا المفهوم، فتجد من بينهم من ينادي بما يسميه بالوحدة الوطنية، التي تجمع الشيوعي إلى جوار المسلم، إلى جوار القومي، إلى جوار النصراني، إلى جوار اليهودي، والراية التي تظللهم هي الوحدة الوطنية كما يقولون. فيرددون: جمع ولمّ شمل الوطن الواحد. ودعك الآن من الحكام الذين يرفعون هذه الراية؛ لأن الحاكم الذي يرفع هذه الراية هو أصلاً يريد أن تستتب الأمور له، وتجتمع الأمة عليه, ولا يهم بعد ذلك إذا كان يحكم، يهودياً أو نصرانياً أو مسلماً أو غير ذلك! بل يهمه أن يدوم له السلطان، لكن الأمر المؤسف أن يقع الداعية في هذا الأمر, فنسمع من بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية، مناداة بالوحدة الوطنية، على أنهم يسمعون صباح مساء قول الله عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] . إن من أطرف وأعجب ما قرأت: أن أحد الكتاب يتحدث عن الوحدة الوطنية، ويحاول أن يلتمس لها مبرراً أو مسوغاً في الإسلام, فبماذا استدل؟! استدل بقصة موسى وهارون: {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93-94] وهذا موسى يخاطب هارون عليه السلام, قال هارون كما قال الله تعالى: {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] فيقول: هذا دليل على مراعاة الوحدة الوطنية! ولا أدري كيف غاب عنه وعن وعيه أن يستدل بمعنى فهمه فهماً غير صحيح في كلام هارون, وينسى أن يستدل بكلام واضح صحيح، لا يختلف على معناه من كلام موسى عليه السلام. المهم أن هذا موقف إبراهيم عليه السلام من قومه, بل إن والد إبراهيم آزر كان الموقف معه واضحاً: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام:74] والله تعالى عاتب إبراهيم على دعائه لوالده, فإبراهيم دعا لأبيه قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] فعاتبه الله عز وجل على هذا الدعاء، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يلقى إبراهيم أباه يوم القيامة، وعليه قترة وغبرة تغشى وجهه, فيقول له: يا أبتي ألم آمرك فعصيتني؟ يقول: يا ولدي! اليوم لا أعصيك, فيأتي إبراهيم ربه عز وجل يشفع لوالده, ويقول: يارب! إنك وعدتني ألاَّ تخزيني -بناءً على أن الله تعالى أجاب دعاءه يوم قال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} [الشعراء:87-88]- وأي خزي أخزى من قذف أبي في النار, فيقول الله عز وجل له: يا إبراهيم! إني حرمت الجنة على الكافرين، ولكن انظر، فينظر إلى أعلى فينفخ الله عز وجل والده حيواناً قبيح الخلقة، سيء الشكل متلطخاً، فإذا نظر إليه إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعد مسخ صورته قذره واستبشعه وطابت نفسه. فيؤخذ بقوائمه فيلقى في نار جنهم} . الجزء: 56 ¦ الصفحة: 6 قضية الدين والإيمان ليس فيها أوساط حلول فقضية الإيمان لا يوجد فيها أوساط حلول وليس فيها مجاملات، وليس فيها التقاء في وسط الطريق، فليست المسألة مسألة سلعة بينك وبين شخص آخر, تسومها بمبلغ من المال، وهو يطلب مبلغاً آخر، ثم تتفقان على مبلغ وسط بينكما. إن قضية الدين والإيمان ليس فيها أوساط حلول, إنما هي قضية واضحة لا تجوز المداهنة ولا المداراة أو المماراة فيها. وحين تنتقل إلى سيد المرسلين وخاتمهم، نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تجد العجب العجاب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، بغض النظر عن مواقفه الشخصية -وهي كثيرة- في براءته من أقاربه إذ كانوا غير مؤمنين, كما قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري قال: {إن آل بني فلان -يصف قوماً من أقربائه من قريش- ليسوا بأوليائي وإنما وليي الله وصالح المؤمنين} فيتبرأ عليه الصلاة والسلام من أقرب الناس إليه لأنهم غير مؤمنين, وفي مقابل ذلك كان صلى الله عليه وسلم يدني ويقرب من كان مؤمناً، مهما كان نسبه أو بلده أو لونه, فكان في خاصة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بلال، وصهيب، وعمار وأشباههم وأمثالهم من المؤمنين الصادقين. ولكن الأمر الذي ينبغي التوقف عنده هو قضية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تمكَّن من أمر لم يذكر عن كثير من الأنبياء، وهو أن الله مكّنه من إقامة دولة قوية تحكم بالإسلام في المدينة المنورة, وقوام هذه الدولة كان من المهاجرين والأنصار, فالمهاجرون من قريش من مكة، والأنصار من المدينة. وكانوا يخشون أن تثور العداوات والحروب فيما بينهم, والأنصار أنفسهم -في المدينة- كانوا منقسمين على أنفسهم قبل الإسلام, ودارت معارك ضارية لعل من أشهرها يوم بعاث، وهو يوم تاريخي مشهور بين الأوس والخزرج، وقد سالت فيه الدماء، وتطايرت فيه الرءوس، ولمعت فيه السيوف, وكانت ذكرياته مرة، حتى إن اليهود كانوا إذا أرادوا أن يثيروا الأحقاد بين المسلمين، أمروا أن ينشد ببعض أناشيد وأشعار يوم بعاث، فيثور الأنصار -الأوس والخزرج- إلى سلاحهم من شدة الغليان والغضب. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 7 التطبيقات العملية للولاء والبراء التطبيقات العملية المعاصرة لهذا الموضوع الخطير كثيرة، والحديث النظري عن الموضوع أيضاً يطول, ولا أريد أن أسترسل في ذكر الأحاديث والقصص والآيات في موضوع الولاء والبراء، لأنها معروفة للجميع, ولا أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة هذه الأشياء التي أرجو أنها مستقرة في نفوس الجميع، فإن القرآن الكريم لم يعن بشيء بعد تقرير التوحيد عنايته بإثبات قضية الولاء بين المؤمنين, كما في سورة آل عمران، وسورة المائدة، وسورة التوبة، وسورة هود وغيرها من الآيات, وكذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] ووصف الله عز وجل من يخالف ذلك أنه من الضالين الظالمين المنحرفين عن سواء السبيل. والتطبيقات العملية المعاصرة لهذا الموضوع كثيرة، ولعلي أشير إلى شيء منها. فمن أهم القضايا التي يجب الوقوف عندها هي قضية الولاء السياسي والفكري للكفار الذي أصبح يخيم على واقع المسلمين، ويتمثل هذا الولاء في أمور كثيرة لعل من أبرزها: الجزء: 56 ¦ الصفحة: 8 الولاء الفكري للأعداء من صور الولاء أيضاً: الولاء الفكري للكافر, والولاء الفكري يأخذ صوراً شتى: الصورة الأولى: عدم وصف غير المسلمين بالكفار: لعل من مظاهر هذا الولاء الفكري أننا أصبحنا نسمع نغمة غريبة وخطيرة في نفس الوقت، تنادي: يا إخواننا! لا داعي لِمثل هذه العبارات القاسية!! كيف تصفون الغرب بالكافر! وتصفون الأمريكي بالكافر! أو الفرنسي بالكافر! أو اليهودي بالكافر! أو النصراني بالكافر! فتجدهم يقولون: هذا لا يصح! وهذا لفظ غير حضاري. وهذا الكلام لا يقوله دهماء الناس, بل إنني -في الواقع- قرأت في كتب ومقالات لناس يسمون بمفكرين إسلاميين -إن صح التعبير-! وأذكر كاتباً كتب كتاباً كاملاً عن هذه القضية، ويدافع فيه عن اليهود والنصارى، بل كُتبٌ في الواقع, ومنها كتاب اسمه: تجديد المجتمع العربي وهو ليس صريحاً في هذا الكلام، لكن من قرأه يحس بهذه النغمة، وهناك ناس أكثر صراحة ممن ينتسبون إلى العلم، نادوا بهذا الأمر يوماً من الأيام. وفوق هذا وذاك كتبت عدد من المجلات، أذكر منها مجلة العربي، فقد تبنت هذا الموضوع بشكل قوي، وكتب فيها عدد من الكُتَّاب، أذكر منهم فهمي هويدي وغيره, فتجدهم يتحدثون عن -ما يسمونه- المسلمين والآخرين, ويقولون: أديسون هوالذي اخترع أريت الكهرباء التي في بيتك، فكيف نقول أنه كافر؟! وأيضاً الميكرفون الذي نتكلم فيه -الآن- من صنعهم فكيف تحكم بأنهم كفار؟! وهذا غريب جداً! وكيف اضطربت المفاهيم إلى هذا الحد؟! فهذه القضية قضية دين، وهذه من القضايا التي يسميها أهل العلم: من المعلوم من الدين بالضرورة, وهي قضايا أجمعت الأمة عليها، وبدهيات ومُسَلَّمات، والشك فيها يعني الشك في الإيمان. بمعنى أن كل إنسان يشك في كفر اليهود أو كفر النصارى أو في كفر المشركين؛ أنه يشك في قضايا بدهية مسلمة، ولا أتصور إنساناً مسلماً يقع منه هذا الأمر؛ لأن القضية واضحة ومحسومة في القرآن الكريم وليست هي مسألة للاجتهاد, فالمخالفة في قضايا جزئية وفي مسائل فرعية تُتحمل, لكن المخالفة في قضية جوهرية أصلية في صلب الدين لا يتصور هذا في أي حال من الأحوال!. وقضية الإسلام والكفر قضية واضحة جداً، ولماذا أنت تدعو إلى الإسلام ما دام أنك ترى أن اليهودية حق والنصرانية حق، والمشركون على حق، إذاً اترك الأمة على ما هي عليه, ولا داعي لأن تقوم بدعوة إلى الإسلام! وكأن بعضهم يقول: إن الحق نسبي، وهذا هو مؤدى كلام صاحب كتاب: تجديد المجتمع العربي، وصاحبه هو زكي نجيب محمود , فمفهوم الكلام أن القضايا هذه نسبية، فالإسلام حق بالنسبة لك واليهودية حق بالنسبة لأصحابها، والنصرانية حق بالنسبة لأصحابها. إذاً: إذا كان الإسلام -وهو حق- حَكَمَ على الديانات السابقة بأنها ديانات منسوخة، وأن هذا الدين بعث مهيمناً على الديانات السابقة وناسخاً لها, وأن الأنبياء لا يسعهم -لو وُجدوا- إلا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم, وأن الله تعالى لا يقبل من الناس إلا هذا الإسلام الذي بعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم, فإن إقرارك بأن الإسلام حق يعود على كلامك بالإبطال من الأصل, لأن الإسلام الذي تعترف به أنه حق وتؤمن به، يقول لك: إن تلك الديانات باطلة، فإما أن تقر بأن كلام المسلمين هنا حق, فترجع عن قولك, وإما أن تكفر بالإسلام والعياذ بالله، وبناءً على ذلك لك أن تقول ما شئت: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} . فهذا نوع من الولاء الفكري للغرب الذي جعلنا أسرى له، حتى تخجل من إطلاق لفظ الكفر عليهم, فقد نسميه الغرب المستعمر، أو الغرب الصليبي، أما كلمة كافر فإنها أصبحت ثقيلة على نفوس الكثيرين, ويستحون من إطلاقها. والله تعالى قد أطلقها في كتابه على طوائف من الناس, بل لو حسبت كم مرة ورد لفظ الكفر والكافرين والكفار لوجدت مئات المواضع, وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة كلها، فما معنى أن نستحي اليوم من استخدام هذا المصطلح الشرعي، الذي ذكره الله تعالى في كتابه، وذكره الرسول عليه الصلاة والسلام؟! الصورة الثانية: تبني الأفكار الغربية في بلاد المسلمين: ومن الولاء الفكري للغرب أننا نجد من يتبنى الأفكار الغربية في بلاد المسلمين, ويتبنى نظريات الغرب أياً كانت في أي مجال, كالنظريات الاقتصادية، فإنك تجد الدراسات الاقتصادية في العالم الإسلامي كله بلا استثناء؛ دراسات مبنية على الدراسات الغربية, فلا يوجد -في حدود علمي- دراسات اقتصادية علمية صحيحة تدرس للناس في أي جامعة من الجامعات, وهناك أقسام تسمى بأقسام الاقتصاد الإسلامي، لكن حتى هذه الأقسام -أحياناً- تجد نفسها مضطرة إلى أن تدرس الاقتصاد الغربي؛ لأنه لا يوجد أحياناً المادة الكافية! ولكن المهم أن هناك من يتبنى هذا الاتجاه، ويتحمس في ربط اقتصاد المسلمين بالاقتصاد الغربي, بحيث أصبح مستقراً في أذهان المسلمين أنه لا يُتصور اقتصاد إلا بالربا, وإذا ألغيت البنوك الربوية فإنه لا يكون هناك اقتصاد! فالكثير من الناس لا يتصور وجود اقتصاد إلا قائماً على أساس البنوك الربوية, وهذا -مع الأسف- من ضغط الواقع على المسلمين وشدة تأثيره عليهم. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 9 تعريجٌ على مفاهيم العلمانية وتجد الأحزاب العلمانية، التي تنادي بفصل الدين -لا أقول عن الدولة، أو السياسة فحسب, بل تنادي بفصل الدين- عن الحياة, فتجدهم يقولون: إن الدين ليس له علاقة بالفن, ولا علاقة له بالإعلام, ولا علاقة له بقضايا المرأة, ولا علاقة له بالاقتصاد, ولا علاقة له بالسياسة, الدين فقط علاقة بين العبد وربه! وهذا مفهوم كنسي نصراني معروف، وهو أن المسلم يصلي في المسجد -لا مانع- أو في الزاوية أو في المعبد أو في الكنيسة، وكل إنسان بحسبه, لكن يبقى الدين فيما سوى ذلك موضوعاً على الرف, ولا يستفتى في أي شأن من شئون الحياة! ومن الطريف أني أذكر تصريحاً لبعض رموز العلمانية في إحدى الدول الإسلامية، كان يقول: "إن الدين أشرف وأعظم وأنظف وأنقى من أن نقحمه في السياسة". إذاً: هو حرص على بقاء الدين، لكيلا يصبح الدين ملوثاً بألاعيب السياسة وأحاديثها ومكرها, فأحب أن يكون الدين بعيداً حتى يبقى نظيفاً, فلا تصيبه الأوساخ السياسية الماكرة الخبيثة! فيقول: الدين أنقى وأنظف وأعظم وأطهر من أن نقحمه في السياسة فنلوثه بذلك, فيبقى الدين للجميع! ولعل الكثير سمع مقولة: (الدين لله والوطن للجميع) ومعنى ذلك أن القضية قضية وحدة على أساس الوطن. والدين مُبْعدٌ، ولا علاقة له بهذه القضايا السياسية, أو القضايا الاجتماعية, وهذه أيضاً نظرة كنسية واضحة. والأحزاب العلمانية، والحكومات العلمانية في العالم الإسلامي ظاهرة ولا تحتاج إلى بيان, وقلت في بعض المناسبات: إننا نحصي عدداً من البلاد الإسلامية سقطت في أيدي الكفار الصرحاء، مثلاً: أفغانستان سقطت في أيدي الشيوعيين, وكذلك الأندلس من قبل, وهناك فلسطين سقطت في أيدي اليهود, وهناك بعض الدول الإفريقية سقطت في يد النصارى, وقد تكون أربع أو خمس دول إسلامية سقط في أيدي الكفار الصرحاء المعلنين. لكن هل نستطيع أن نحصي كم من دولة إسلامية سقطت في أيدي المنافقين، المستسمين بالعلمانيين؟! لا نحصي، ويكفي أن تعرف أن أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، تُحكم بما يسمى بالبانتيلا، الذي ينادي بوحدة الأديان، وأن المسلم لا يسمح له أصلاً في جمعية، أو مؤسسة أو جامعة أو غير ذلك إلا بشرط أن يقر بهذا النظام، الذي يعترف بوجود اليهود، ووجود النصارى, ووجود البوذيين، والباطنيين، وجميع الطوائف، وأن هؤلاء إخوة في وحدة وطنية منسجمة، لا يكدّر صفوها مكدّر, وهذا شرط لكل إنسان يعمل. وتجد أن أجهزة الإعلام قد يعطون المسلمين -الذين يشكلون أحياناً مائة وأربعين أو مائة وثلاثين مليوناً، نصف ساعة في ليلة الجمعة, ويعطون النصارى نصف ساعة في ليلة الأحد, ويعطون الباطنيين نصف ساعة في يوم الثلاثاء وهكذا! ثم تكون العطلة في يوم الأحد، فهذه الجماهير المهدرة لماذا؟! إنه لا يمكن تفسير ذلك إلا بالولاء للمستعمر، الذي خرج بجنوده وأسلحته، وأبقى من يكون أكثر إخلاصاً له من أبناء البلاد الأصليين, وهذا يذكرني بقول أحد المستشرقين حيث كان يقول: إن شجرة الإسلام لا تجتث إلا بغصن من غصونها. والنظريات الغربية التي غزت المسلمين اليوم، سواء في واقعهم العملي أو في جامعاتهم أو في عقولهم وأدمغتهم كثير، ولو ذهبنا نستطرد في الحديث عنها لاحتجنا إلى وقت طويل ولم نصنع شيئاً. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 10 وجود الأحزاب العلمانية أيضاً من صور الولاء السياسي للكفار: أن تجد من بين المسلمين أنظمة أو أحزاباً أو تجمعات أو أفراداً يسعون في مصلحة العدو الكافر, ويسهرون على تحقيق مطامحه ومطامعه, ويكونون وكلاء بالنيابة عنهم في كل أمر من أمور الحياة، فهم أكثر إخلاصاً له من أبنائه وأبناء بلده, فهم يستميتون في الدفاع عن مصالحه، وتحقيق مآربه وأهدافه! لماذا؟! لأنهم قد ربطوا مصيرهم به، وأدركوا أنه لا بقاء ولا قيام لهم إلا حينما يكون راضياً عنهم ومقراً لما هم عليه، ولهذا أخلصوا بالولاء له على حساب الأمم الإسلامية, فأصبح كثير من هؤلاء يسعون في المجتمع المسلم بالفساد ويسومون المسلمين سوء العذاب, ويقومون بالكثير من الأعمال والتصرفات والخطط والإجراءات، ويرفعون كثيراً من الشعارات، التي لا تستفيد الأمة منها شيئاً قط إلا التمزق والتفكك والخلاف والضياع، وهم لم يقصدوا أصلاً أن يحققوا مصلحة للأمة، إنما قصدوا أن يثبتوا ويعربوا عن ولائهم الصريح القوي لهذا الكافر الذي ربطوا أنفسهم به. ومع الأسف الشديد أن تنطلي هذه الأمور على كثير من المسلمين, وتلتبس عليهم الحقائق, فيصبح التمييز بين الحق والباطل في هذا الأمر ضعيفاً عند كثير من الناس, حتى من المصلين! ومن رواد المساجد ودعك من غيرهم، فتضطرب عندهم هذه الأمور وتلتبس حتى لا يميز أحدهم بين حق وباطل! الجزء: 56 ¦ الصفحة: 11 تحكيم القوانين الوضعية أولاً: قضية الحكم بالقوانين الغربية, وتحكيم غير شريعة الله عز وجل هو بحد ذاته ردة وكفر أصلاً, كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] وقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] , فهو بذاته كفر، لكن -أيضاً- كونه يؤخذ من الغرب أو الشرق، من أمريكا، أو فرنسا، أو بريطانيا، أو من غيرهم من أمم الكفر, ويستوردون منهم الأنظمة التي تسير شئون الحياة، وتهيمن على أمور المجتمع، في اقتصاده واجتماعه وسياسته وأخلاقياته وأدبه وفنه وإعلامه إلى غير ذلك, فإنه يضاف إلى كونه حكماً بغير ما أنزل الله أنه يكون ولاء لأعداء الله عز وجل، وهذا من أكثر صور الولاء وضوحاً وصراحة. فكون الإنسان يعرض عن شريعة الله عز وجل الواضحة البينة، ويلتمس منهجاً في أنظمة الشرق والغرب، هذه ردةٌ -لا شك فيها- عن الإسلام. بل أقول: ردة بإجماع العلماء، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في كتاب البداية والنهاية, حين تكلم عن الياسق الذي هو نظام جنكيز خان , قال: من حكم بغير ما أنزل الله من الشرائع المنسوخة المنزلة على الأنبياء والمرسلين فهو كافر فكيف من حكم بغير ذلك مما وضعه الناس؟! فهذا كافر بلا شك في كفره بإجماع المسلمين. فهذه صورة صارخة من صور الولاء, ولا أعتقد أننا نحتاج أن نتلمس هذه القضية، فإن المسلمين -الآن- أصحبوا يحكمون في أكثر مجالات الحياة وجوانبها بغير شريعة الله عز وجل, بل بأنظمة ما أنزل الله بها من سلطان: بأنظمة الشرق والغرب، والأنظمة الديوثية، التي تبيح هتك الأعراض ونهب الأموال, وتلغي أحكام الله عز وجل وتستدرك على الله تعالى في عباده, وهذه لا شك أنها نوع تأليه لهؤلاء، كما قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهِ} [الشورى:21] وقال تعالى: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] . فالله عز وجل لم يشرك أحداً في حكمه, ولم يجعل لأحد أن يعبد من دونه, وفي قراءة ثابتة: {وَلا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] فهو نهي للمسلم أن يشرك في الحكم أحداً مع الله عز وجل، أو أن يعبد في الحكم أحداً من دون الله تعالى. ولا أجد داعياً لأن نسمي هذا توحيد الحاكمية, كما أطلقه عليه بعض المفسرين المعاصرين، كالأستاذ سيد قطب رحمه الله, وتبعه على ذلك جماعة كبيرة من الكتاب والمفكرين, حيث سموا هذا اللون من الألوهية توحيد الحاكمية. والواقع أنه جزء من توحيد الألوهية، الذي يتضمن إفراد الله تعالى بالعبادة, لأن من أطاع غير الله في تحليل حرام أو تحريم حلال، أو وضع شريعة، فقد اتخذه إلهاً من دون الله عز وجل، كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] . الجزء: 56 ¦ الصفحة: 12 حكم مساكنة الكفار ومعايشتهم ومن صور الولاء الموجود في بلاد المسلمين وفي واقعهم: قضية مساكنة الكفار ومعايشتهم. وهذه قضية تعانونها في هذه البلاد، خاصة منكم المقيمين إقامة دائمة, والأصل أن المسلم يسعى لأن يقيم مجتمعاً مسلماً, لأنك إذا وجدت داخل مجتمع، فمن المعروف أنك تدعم هذا المجتمع بوجودك شئت أم أبيت, فالسلعة التي تشتريها من البقالة هي دعم لهذا المجتمع, والدولار الذي تدفعه هو دعم لهذا المجتمع, والغرفة التي تسكنها هي دعم لهذا المجتمع, والسيارة التي تستخدمها هي دعم لهذا المجتمع, والعمل الذي تقوم به هو دعم لهذا المجتمع، لماذا؟ لأن المجتمع عبارة عن مجموعة أفراد، فلو تَخَلَّوا عن المجتمع لذهب المجتمع. إذاً: وجودك أصلاً في مجتمع ما، هو عبارة عن دعم وتقوية وتعزيز لوجود هذا المجتمع، سواء في الجوانب الاقتصادية أو السياسية أو الاجتماعية أو غيرها. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 13 عداوة الكفار للمسلمين ثابتة أم مؤقتة؟ وهناك سؤال، وأظن أنه يحسم الموضوع: هل عداوة الكفار للإسلام عداوة أصيلة مستحتمة ثابتة, أم هي عداوة قابلة لأن تزول وتنتهي؟!! فإذا كنا نقول: إن عدواتهم يمكن أن تنتهي فلا يوجد مانع من أن نناقش القضية هل الجهاد هجومي أم دفاعي؟!. أما إذا أيقنا -وهذا طبيعي- ولا أعتقد أن أحداً يجادل في ذلك، وكيف نجادل في الحقائق؟ وكيف نغالط أنفسنا؟! وكيف نغمض أعيننا عن الواقع المشهود والتاريخ المعروف، والأمور تتكشف يوماً بعد يوم عن عداوة هؤلاء الكفار للإسلام وللمسلمين؟! إنَّ الكافر -جنس الكافر- حتى إذا لم يدن بدين فإن عداوته للإسلام قائمة, مع أنهم يتفاوتون، فالوثني في اليابان ليست عداوته كعداوة اليهودي أو النصراني وهذا صحيح! لكن يبقى أنهم كلهم أعداء, وقد يتحالفون -كما هو الواقع- ضد الخطر الإسلامي. وأعود إلى القضية الأصلية؛ قضية البقاء بين أظهر المشركين فأرى أنه لا يجوز لمسلم أن يقيم بين المشركين إلا لضرورة, كمثل ذهاب شخص للعلاج، أو أمر لا بد منه, أو إذا كان إنساناً مهاجراً مطروداً من بلده ولم يجد بلداً يؤويه إلا هذه البلاد؛ لما فيها من بعض الحرية, أو حاجة مثل دراسة أو مصلحة معينة، كدراسة يحتاج إليها المسلمون ولا توجد في بلاد الإسلام, ومصلحة معينة للدعوة إلى الله عز وجل، كمعرفة أحوالهم وأخبارهم، واستكشاف أمورهم وخططهم, فالمهم أنه جاء لمصلحة معينة. وأذكر أنني كنت في مجلس مع بعض الإخوة المقيمين, فبدءوا يتكلمون عن قضية أنهم مضطرون للبقاء! فقلت: المضطر للبقاء هذا أمر آخر, لكن نحن نتحدث عمن يبقى باختياره ومن دون مصلحة, فقام أحدهم وقد تحمس للموضوع فقال: يا إخواني! لماذا نغالط أنفسنا, قولوا لي -بالله عليكم- من منكم الذي خرج من السجن وهرب إلى هنا؟! وهل أحد منكم هارب من السجن إلى هذه البلاد؟! فضحكوا كلهم، فليس هناك أحد!! وأحياناً قد يوجد أفراد وقد يوجد أعداد، وقد يوجد أحياناً شعوب, مثل بعض الشعوب التي تعيش هجرة جماعية، وهذا لا نجادل فيه، وهو أمر واقع, لكن يبقى أن هناك حالات كثيرة، فقد يأتي الإنسان إلى هذه البلاد التي فيها فرص الاستثمار الاقتصادي، وكونه يأتي للتجارة ويعود فهذا أمر آخر, لكن أن يأتي ويقيم هنا لمجرد التجارة فإن هذا لا يصلح، أو يأتي ليقيم لأن البلاد تعجبه -طبيعة البلاد أو أي أمر من الأمور- فهذا لا يجوز, لكن حتى الذي يقيم لضرورة تجد آثاراً وبصمات واضحة من هذا المجتمع عليه, فكيف بالذي يقيم باختياره! فهو أصلاً مهزوم، لأنه لم يأت إلى هذه البلاد إلا عاشقاً لها, ومعجباً بأهلها, ومستميتاً مولعاً بحبها مغرماً بها!! ومن عادة الإنسان أن يحب وطنه، وهذه فطرة عند الإنسان. والشعراء يتغنون بحب أوطانهم: وحبب أوطان الشباب إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا فحب الإنسان إلى بلده الذي هو فيه فطرة, خاصة إذا كان البلد فيه خير وبقايا وآثار من الإسلام. فهذه القضية ينبغي أن توضع في الاعتبار، وفي إطارها الطبيعي, وقد قلت: لا يجوز إلا لحالات معينة، كمصلحة ظاهرة، أو حاجة لا بد منها، أو ضرورة لا بد منها, ففي مثل هذا الحال لا حرج إن شاء الله. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 14 المجتمع المسلم مجتمع متميز لقد نادى الإسلام بإيجاد مجتمع متميز, وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالهجرة, وفي القرآن الكريم تجد أن الله عز وجل في أكثر من موضع ذكر ثلاثة أمور، مركب بعضها على بعض: الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، وذلك في أكثر من موضع: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [الأنفال:72] فبعدما يوجد الإيمان يلزم أن يدعوك ويحدوك هذا الإيمان إلى أن تهاجر إلى حيث يقام مجتمع مسلم، وهذا المجتمع يحمل على عاتقه مسألة الجهاد: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:72] فهي أمور مركبة بعضها على بعض. حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين -بريء من كل مسلم يدخل في الإسلام ثم يظل مع المشركين ولا يهاجر -قالوا: ولم يا رسول الله؟ قال: لا ترائى ناراهما} . يعني: أبعد عن المجرم حتى أنك لا ترى ناره لو أوقدها, وهو لا يرى نارك لو أوقدتها من شدة بعدك عنه. فهذه قضية مهمة جداً. وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره عن سمرة بن جندب، يقول صلى الله عليه وسلم: {من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله} . وكلمة جامع تحتمل معنين: المعنى الأول: أنه اجتمع معه في مكان، وعايشه، وعاشره، وساكنه، فإنه مثله. المعنى الثاني: هو الزواج, والمعنى المعروف للجماع هو الزواج من المشركة، وأنه لا يجوز، ويستثنى من ذلك الزواج بالكتابية، كما هو معروف، مع أنه أمر غير محمود العواقب, وله سلبيات خطيرة بعيدة المدى. والمهم أن بقاء المسلم بين أظهر المشركين خطر كبير, وليس صحيحاً أنك تتمتع بالحرية في هذه البلاد, هناك حرية نسبية بلا شك ولا مجادلة في الحقائق، ولا نغالط أنفسنا, لكن ينبغي أن نفتح أعيننا أيضاً على قضية الدين, فكثير من الأحيان عندما تجلس إلى الإخوة الذين يدرسون في بلاد غير إسلامية مثلاً، تجد أنه يضطر إلى أمور معينة، كصعوبة مراعاة أوقات الصلوات، وأنه لا يستطيع أن يصليها في أوقاتها, وتجده يشتكي لك من قضايا التأمين وأنه مضطر إلى ذلك، وتجده يشتكي من قضايا الاختلاء بالنساء، ومن قضايا مصافحة النساء، ومن قضايا النظر إلى النساء، وألوف القضايا التي يشتكي منها. وهذه القضايا هل تدل على أن هناك حريات؟ في الواقع لا, وهذه تدل على أن المسلم لا يستمتع بالحرية الحقيقية, لأن المسلم حريته الحقيقية هو المكان الذي يعبد الله فيه, ليست الحرية فقط أن تتكلم. يا أخي! أصحاب الكهف ماذا قالوا؟! كما قال الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:16] والكهف أضيق مكان في الدنيا، ومع ذلك قالوا: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] . سبحان الله! ينشر معناه شيء واسع وكبير, وهو كهف ضيق لا يكاد يتسع إلا لهم، لكن يشعرون فيه برحمة الله عز وجل؛ لأنهم يتمكنون فيه من عبادة الله تعالى. ومع ذلك فإن هذه الحرية التي تمنح للمسلمين نحن نعلم يقيناً أنها حرية ما دام الإسلام لم يتحول في هذه البلاد إلى خطر يهدد المصالح اليهودية والنصرانية, وإلا سيحرك الجميع كلهم ضد الإسلام, ولعلكم الآن بدأتم تحسون بشيء من المكر اليهودي في هذه البلاد ضد العرب المسلمين, وضد المسلمين بشكل عام. وفي فرنسا أيضاً أصبح هناك أحزاب، ترتفع أسهمها يوماً بعد يوم, وهذه الأحزاب أهم ما تنادي به هو التخلص من الأجنبي, ومعروف من هو الأجنبي! ولقد رأيت صور زعيم هذا الحزب تملأ الشوارع، وأخبرني الشباب الصالحون هناك أن مؤيدي هذا الحزب يزدادون يوماً بعد يوم, وقضية الفتيات المغربيات معروفة ولا أحتاج إلى الوقوف عندها. إذاً: هي حريات نسبية، وهي حريات مؤقتة, ويوم أن يصبح الإسلام قوة تُخاف، ويحسب لها حساب في البلاد غير الإسلامية, لن يترددوا أبداً في مقاومة أي وجود إسلامي حقيقي بكل ضراوة, وهذه قضية أود أن أقف عليها ولكن يؤسفني أن الوقت لا يتسع لها, مع أنه سبق لي أن تكلمت عنها تفصيلاً في محاضرة بعنوان: حي على الجهاد. وهي أنَّ عِدَاء الكافر للمسلم عِدَاء ليس فيه حيلة، ولا تتصور أن هذا العِدَاء سوف ينتهي يوماً من الأيام, ولا تتصور أن هذا الكافر سوف يتخلى عن دينه، أو يتخلى عن عداوته لك, فإن عدواته لك مغروسة ولا بد. ولهذا أتعجب أشد العجب من بعض الأطروحات الفقهية، التي يطرحها بعض فضلاء الصحوة الإسلامية والتي تتعلق بهذا الجانب، فتجده ينزل آيات وأحاديث في الحث على الجهاد. إنّ هذا ضعف وهزيمة, وقد قرأت كتباً كثيرة، وقرأت أطروحات فقهية عديدة في هذا المجال! فتجد أنها تطرح قضية الجهاد بضعف, والواقع أننا يجب أن نأصل القضية. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 15 التشبه بالمشركين من صور الولاء: التشبه بالمشركين. والله عز وجل قد حذر فقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد:16] الكاف في (كالذين) للتشبيه: {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فالتشبه بالمشركين أياً كانوا لا يجوز في أي أمر من الأمور, إلا اقتباس العلم، والتقدم الصناعي، وأخذ التقنية عنهم، والمعلومات المفيدة، فهذا لا يدخل في التشبه, وإذا دخل في التشبه فهو جائز بأدلة خاصة، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ حفر الخندق عن فارس, وكما أنه صلى الله عليه وسلم استفاد من بعض الملاحظات الموجودة في مجتمع فارس والروم, كما قال صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {لقد هممت أن أنهى عن الغيل -وهو وطء المرأة وهي ترضع- ثم رأيت أن فارس والروم يصنعون ذلك فلا يضرهم} فاستفاد النبي صلى الله عليه وسلم من تجربة موجودة عند فارس والروم. فهذه قضية لا حرج فيها، ولا غبار عليها, بل بالعكس أن الحكمة ضالة المؤمن، يبحث عنها في أي مكان ويأخذها, ونحن أولى بهذا منهم، ومع هذا فهذه بضاعتنا ردت إلينا, وهذا تراثنا، وهذا تاريخ الأمة وحضارتها، الغرب وطورها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه, فنحن أحق بها وأهلها. لكن التشبه بالغرب في كل شيء، كالهدي الظاهر، في اللباس, وفي الزي, وفي تسريحة الشعر, وفي طريقة الحديث, وفي طريقة الحياة, وفي طريقة إحياء المناسبات, وفي كل الأمور الخاصة بهم. والتشبه ضابطه: هو تقليد الآخرين فيما هو من خصائصهم بمعنى أن هناك أموراً مشاعة في الشعوب، لا تخص شعباً ولا أمة دون أخرى، بل هي مشتركة عند الجميع، هذه لا يدخل فيها التشبه, لكن التشبه يطلق على الأمور التي هي خصائص شعب من الشعوب، بمعنى أنك إذا رأيت الأمر تقول: هذه العادة يفعلها الكفار أو اليهود أو النصارى! فيكون خاصية تميزهم عن غيرهم، فالتشبه بهم في هذه الخصائص التي تميزهم عن غيرهم لا يجوز، وهو نوع من الولاء لهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر، الذي رواه أبو داود وأحمد، وغيرهما، وسنده جيد: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم} . فالمسلم مستقل، وقد يكون العمل في الأصل مباحاً، لكن لما صار من خصائص المشركين أصبح حراماً؛ لأن الذي يقلده في هذا الأمر يعيش هزيمة داخلية وهزيمة قلبية وهزيمة فكرية, وبالتالي أصبح يقلد هؤلاء ويأخذ ما عندهم, والأصل أن المسلم قدوة، يأخذ عنه الآخرون، فكيف يرضى الأستاذ المعلم أن يصبح مقلداً تابعاً ذليلاً لغيره؟! الجزء: 56 ¦ الصفحة: 16 الأسئلة الجزء: 56 ¦ الصفحة: 17 حكم الاستعانة بالقوات الأجنبية وتأييد صدام السؤال الاستعانة بالقوات الأجنبية في الخليج, كذلك في الذين أيدوا صدام حسين , هل لكم التوضيح بين الفرق بين الولاء والاستعانة؟ الجواب الفرق بين الولاء والاستعانة: أولاً: هناك من أهل العلم من لا يرى جواز الاستعانة مطلقاً, احتجاجاًَ بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم، للذي قال له: {آتي وأقاتل معك, قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا, قال: ارجع فلن أستعين بمشرك} , لكن هذا رأيٌ لبعض العلماء، وليس إجماعاً. والاستعانة تتلخص في استخدام الكافر في مجال محدود، وغرض محدود, وبصورة تضمن ألا يكون لهذا الكافر تأثير في القرار. مثلاً: كون الكفار -كما ذكر بعض الفقهاء- يكونون خدماً في الجيش، أو مساعدين، أو حتى في سلاح معين, مثل بعض الأسلحة التي ليست من الأهمية بمكان, فيكون لهم وجود فيها فقط, أي: وجود ثانوي، ووجود مساند أو مساعد، وليس وجوداً أصلياً جوهرياً أساسياً وقد تكون الاستعانة في غير الحرب فتكون الاستعانة في أي أمر من الأمور, فتستخدمهم -مثلاً- في تصنيع أمر من الأمور, وفي إصلاح قضية أو بناء أو عمارة وفي أي أمر من الأمور الدنيوية العادية المحدودة المؤقتة، فأنت تستخدمه فيها ثم تنتهي مهمته عند هذا الحد. فهذه الاستعانة لا شيء فيها, لكن الاستعانة في مجال الحرب، قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم: {ارجع فلن أستعين بمشرك} ولهذا ذهب بعض الفقهاء إلى تحريم ذلك مطلقاً. والذين أباحوه أجازوه بشروط, وهي شروط قوية جداً: منها: ألا تكون القيادة بأيديهم, وألا يكون القرار لهم, وهذا ظاهر. ومنها أيضاً: أن يكونوا مأمونين، ولا يخاف من خيانتهم أو غدرهم، وهذا قد يوجد بالنسبة لبعض الكفار مثل عبد الله بن أريقط الذي استأجره النبي صلى الله عليه وسلم ليدله على الطريق من مكة إلى المدينة, فقد استأجره عليه الصلاة والسلام, لأنه أن عبد الله بن أريقط لا يمكن أن يخبر المشركين بهذا الخبر, لأنه رجل أمين، فهو تحكمه أخلاقيات معينة، وقد يكون بينه وبين أبي بكر أو غيره علاقة ومودة في الجاهلية، ولذلك اطمأن إلى أنه سيحفظ له هذا السر فكونك تستأجر مشركين، سواء جواسيس أو مخبرين أو إلخ لا بأس في ذلك, إذا كنت واثقاً منهم, حتى لو لم تثق منهم وتوفرت بقية الشروط، وكان دوره ضعيفاً حتى إذا اكتشفت خيانته لا تهتم به، لا يؤثر شيئاً, أو لا تعتمد عليه أصلاً، فتستخدمه وتستفيد منه ولا تعتمد عليه. ومن الشروط التي ذكروها: أن يسعى المسلم للاستغناء عنهم بما يستطيع بمعنى أنه إذا وجدت ضرورة للاستعانة فافعل، لكن بشرط أنك تسعى جاهداً إلى أن تزيل هذه الحاجة والاستغناء عن هذا الكافر, وأوصل بعض العلماء وبعض الأصوليين الذين كتبوا في هذا الموضوع شروط الاستعانة بالكافر إلى سبعة شروط -وهؤلاء هم الذين أباحوها- تضمن أن تكون الاستعانة لصالح الإسلام والمسلمين. أما قضية حاكم العراق فلا شك أن من ضعف الولاء أن يصفق له بعض المنكوبين والمحسوبين على الدعوة الإسلامية, وهذه في الواقع غيبوبة، وغفلة عن الواقع وعن التاريخ, إذ كيف يُنسى تاريخ معين، ونتصور أن الأمور تنتهي بهذه البساطة, فإذا كانت المسألة مسألة كلام فهذا يعني أننا سنضيع فعلاً مرات ومرات، أي أن كل من أحسن لنا الكلام وأحسن لنا القول صدقناه! فمن خطط الكافر -أحياناً- أن يعلن الإسلام ليجر الناس إليه, فإن بعض الذين غزوا بلاد المسلمين من المستعمرين أعلنوا الإسلام، وإن نابليون لما جاء إلى مصر, ذكر الجبرتي أو غيره أنه أعلن الإسلام, وكان يكتب رسائل من عبد الله نابليون إلى من يراه من المسلمين!! أفكلما رفع لنا إنسان شعاراً ركبنا خلفه؟! فقضية ولاء القلوب وقضية التأييد، هذه مواقف شرعية ينبغي أن تكون مبنية على وعي وإدراك، وعلى منطلقات أساسية, فأنت مسلم عملة عجيبة نادرة مهمة، لا تضيع بهذه الطريقة! يوم هنا ويوم هناك! أو تتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار! ومن الطرائف -ولعلي أشير إلى هذا في الندوة القادمة- أني التقيت يوماً من الأيام بداعية من أكبر الدعاة, وكان وقتها معجباً بحاكم العراق، وجلست معه جلسة طويلة امتدت ساعات, أحاول إقناعه بأن الرجل علماني وبعثي محارب للإسلام وللمسلمين, وتاريخه يشهد بذلك, والكلام ينبغي ألا يخدعنا، ونحن لا نغلق باب التوبة, لكن الذين كانت جرائمهم تدمير الأمة لا تكون توبته إلا بالإصلاح والبيان، إصلاح ما أفسدوه وأن يبينوا ذلك ويعلنوه, أما كون الواحد يبكي، يقول: لما ذكرت له مأساة حماس دمعت عيناه, فهذه دموع التماسيح يا أخي!! المهم لما جلسنا جلسة طويلة، حتى أنه صار شيء من القناعة في هذا الموضوع, كأنه اقتنع بذلك, وبعد حصول الأحداث الأخيرة, سمعت هذا الداعية يتكلم عن النصارى بمثل الكلام الذي كان يتكلم فيه، أو قريباً من الكلام الذي كان يتكلم فيه عن حاكم العراق, وإن هؤلاء ليس لهم هدف في الإسلام, ولا يريدون الإسلام، ولا يعنيهم الإسلام، ولا يهمهم ارتفع الصليب أو ارتفع الهلال، كما يقول!! إنما يهمهم مصالحهم!! فما هذا الكلام؟! كيف نصدقك والقرآن الكريم ناطق بين أظهرنا؟! قال سبحانه وتعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال: {وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا} [البقرة:135] , وهناك آيات كثيرة، فكيف نتجاهل هذه النصوص القرآنية! وهذا المعلم البارز الواضح، ونأتي لمجرد أفكار وخواطر وظنون وتصورات؟! يا أخي! الكافر ليس بالضرورة أن يكون متديناً بدين ومتحمساً له حتى يكون عدواً لك أيها المسلم! أيها المسلمون! يجب أن نتصور أن كل الأمم والشعوب ليس بالضرورة أن كل فرد يحمل نفس الحماس! وخذ المسلمين على سبيل المثال: هل تتصور أنه لن يقوم للإسلام قائمة إلا إذا كانت كل الأمة التي تصل الآن إلى مليار، واعية مدركة فاهمة؟ لا تتصور هذا! فإذا وُجِدت قيادات قوية ناضجة واعية التفت الأمة حولها, وقد يكون فيهم وفيهم!! فاليهود لهم قيادات والباقون أتباع, وإذا حركت القيادات مشاعرهم تجاه قضية حرب تحركوا خلفها وكذلك النصارى لهم قيادات, والناس في الغالب مقلدون، حتى أنت يا أخي! لو فكرنا في نصف عملك -حتى لا نكون متشائمين، أو يصير عندك إحباط- لوجدناه تقليداًَ, كيف تفصل ثوبك؟ وكيف تبني البيت؟ وكيف تلبس؟ وكيف تختار أمورك؟ وكيف تدرس؟ وكيف وكيف. ؟!! فتجد أنك في معظم أعمالك هذه وجَدْتَ طريقاً مسلوكاً فَسَلَكْتَ مثلما سلك الآخرون ولم تبدع! فغالبية الناس يقلدون, وجد لهم رءوس خطوا لهم الطريق فمشوا خلفهم. فلا تتصور حين نقول: إن النصارى أعداء، وحين تأتي -مثلاً- إلى المواطن العادي في أمريكا تتحدث معه، تجد أنه لا يعادي الإسلام, تقول: هذا كلام صحيح ليس عندهم عداوة!! يا أخي! هذا المواطن العادي! وهذه النقطة لا تلتفت إليها، لأنه جزء من مجتمع تحركه قيادات، سواء قيادات سياسية، أو قيادات دينية, وتوجهه للجهة التي تريدها! وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. الجزء: 56 ¦ الصفحة: 18 تحالفات الإسلاميين في المجالس النيابية السؤال يا شيخ: إني أحبك في الله، وضح لنا جزاك الله خيراً: تحالفات الإسلاميين في المجالس النيابية, ما هي تطبيقات الولاء والبراء في هذا الأمر؟ الواقع أيها الإخوة مع أنني أبادلكم هذا الشعور بالمحبة، وأسأل الله عز وجل أن يجعل محبتنا فيه، وألا يكون الحب مجرد عاطفة وجدانية ترق بها قلوبنا، وإن كان هذا من سعادة الدنيا أيضاً، إلا أننا ينبغي أن نترجم هذه المحبة بين المؤمنين إلى نوع من الولاء والذي تحدثت عنه؛ الولاء للإسلام وأهل الإسلام والأخوة في الله عز وجل، بكثرة الاجتماعات، والتواصل والتزاور والتناصح والتناصر في كل مجال من المجالات، بحيث يحقق قوله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} . تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبع ولو بردى أنت لخطب أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع وقال شاعر آخر: ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطان مجنحة تسمو بروحي فوق العالم الفاني وليس طرطوس مهما لج لي دمها أدنى إلى القلب من فاسٍ وتطوان دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها أعظم بأحمد من هادٍ ومن باني يحب أن نتناصر في الإسلام -أيها الإخوة- بوضوح، إذا اضطهد يهودي في أي مكان من الدنيا ضج اليهود في كل مكان ولا يظهر في أجهزة الإعلام أن اليهود تحركوا، بل يظهر أن الأمم وأن الشعوب تحركت، فاليهود من شدة مكرهم وتخطيطهم استطاعوا أن يتغلغلوا وأن يتخلخلوا تلك الشعوب، فيحركوها لصالح القضايا التي يريدون، فإذا ضويق يهودي في الشرق أو في الغرب تحرك اليهود له وأجلبوا، ولذلك لما حصل في روسيا ما حصل، لما كانت القضية تخص النصارى ضجت الأمم الغربية النصرانية وتحركت ونددت، لكن لما ضرب المسلمون لم يتحرك لهم أحد، ولم يرتفع لهم رأس، ولم ينصرهم أحد بكلمة، فيجب أن نتناصر فيما بيننا بقدر ما نستطيع. فنتناصر بالكلمة؛ لأن الذي يلقي خطبة في المؤتمر أو في أي مناسبة أو مسجد أو مناسبة معينة، تجمع أناساً صالحين، يلقي خطبة يعبر فيها عن شعوره تجاه أمرٍ من الأمور هذا نوع من المناصرة، والذي يكتب في جريدة مهما كانت هذه الجريدة هذا نوع من المناصرة، والذي يرسل رسالة هذا نوع من المناصرة. يا أخي تأييدك لأخيك بكلمة هذا نوع من المناصرة، كونك تقول لأخيك: أصبت، هذه مناصرة له، وإذا أخطأ تقول: أخطأت، هذه مناصرة له. يجب أن نحول مشاعر الحب من مجرد مشاعر عاطفية تلتهب في قلوبنا إلى واقع عملي نتعبد الله تعالى من خلاله. أما السؤال في الواقع أنه يوجد قضايا ومستجدات كثيرة، أتمنى أن يوجد مجمع علمي شرعي حر نزيه، يدرس هذه القضايا، ويخرج برأي واحد. أما الجواب على السؤال: فإن دخول الصالحين في المجالس النيابية يحتاج إلى أن يدرس, وأنا لا أعترض عليه, وليس لي رأي معارض الآن، لكن أقول: يجب أن يُدرس: فهل هو يوافق قضية الولاء والبراء أم لا يوافقها؟ لأن هذا الكلام مطروح الآن، ففي تلك المجالس قَسَمٌ على خدمة أنظمة غير شرعية, فبعضهم يجد في هذا حرجاً, وفي الواقع وجهة نظري الشخصية الخاصة أنني أقول: قد يكون الدخول في تلك المجالس -أحياناً- فيه تحقيق لبعض المصالح، ودفع بعض المفاسد, ولا يلزم أن يدخل ويشارك فيه كل المؤمنين والصالحين، لكن لا يمنع أن يدعى من يكون فيه خير، أو من يكون أقرب إلى تحقيق الخير ودفع الشر، ممن يكون مرشحاً لبعض المواقع من قبل الصالحين. والتحالفات يجري فيها نفس الكلام، فأحياناً قد يتحالفون مع أنظمة ومع أحزاب قد تكون كافرة، كالأحزاب البعثية، والأحزاب الشيوعية -وقد حصل هذا- والأحزاب الناصرية, فهذه مصيبة كبرى ففي الواقع إننا بهذا نلبس الحق بالباطل, والآن نحن في مرحلة دعوة، ولسنا في مرحلة دولة, ويهمنا جداً أن يعرف الناس بالضبط ماذا نريد, وماذا نأمل؟! هل نريد أن يقول الناس عن الدعاة: إنهم طلاب حكم؟! وأنهم يريدون المنصب والكرسي بأي ثمن؟ ويتذرعون إليه بكل وسيلة؟ لا نريد هذا. بل نريد أن يعلم الناس أننا دعاة إلى دين الله عز وجل, ودين الله عز وجل كامل شامل, فليس هو ديناً في المسجد فقط، بل هو دين الحياة كلها, لكن كوننا نسلك -أحياناً- طرقاً ملتوية، ونتحالف مع أناس نحن خصوم لهم ونحاربهم, ونحن ما أتينا إلى هذه المواقع إلا لمواجهتهم, ففي نظري أنَّ هذا غير صحيح، وأنه يوجد التباساً في نفوس كثير من الناس, حتى لا يصبح لديهم تمييز، وهذه قضية مهمة جداً. وأذكر قصة طريفة: أحد الملوك أجبر الناس على أكل لحم الخنزير, ومن لم يأكل لحم الخنزير فسيقتله, فأتي بعالم مسلم من أجل أن يأكل لحم الخنزير, لكن الطباخ الذي يطبخ رثى لحال هذا العالم ورق له وأشفق عليه، فطبخ له جدياً وقدمه له، وقال له سراً: هذا جدي -لحم مباح- كل منه ولا تتردد، فلما أُتي به أمام الناس، وقدم له اللحم أبى أن يأكله, فرفع السيف فأبى أن يأكله! قال له الطباخ: كيف؟! قال: لا آكل، لأنه ولو كنت أعلم أنه حلال، إلا أن الناس سيتصورون أني آكل لحم الخنزير!! إن الذين يحملون راية الدعوة كالشامة وسط الناس, وهم دعاة تلتف الناس من حولهم، وتنظر إليهم، وتحسب تحركاتهم وتصرفاتهم، فيجب أن نضع في الاعتبار جيداً ألا نحطم العلاقة بيننا وبين الأمة بسبب من الأسباب. وإن خسرت كرسياً أو مقعداً في البرلمان أو غيره، فهذا يذهب ويأتي, لكن لا تخسر الأمة، واحذر أن تخسر الأمة! الجزء: 56 ¦ الصفحة: 19 الشريط الإسلامي ما له وما عليه تحدث الشيخ عن أهمية مناقشة هذا الموضوع، ثم تحدث عن ميزات الشريط الإسلامي وعن العوائق التي تعوق انتشاره وتأثيره ثم أفاض في ذكر السلبيات التي تؤخذ على الشريط الإسلامي ذاكراً المقترحات التي من خلالها يمكن استخدام الشريط لوسيلة دعوية، ثم تطرق إلى ما قامت به بعض الصحف من هجوم على الشريط الإسلامي مفنداً له وراداً عليه. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 1 أسباب الحديث عن الشريط الإسلامي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، الذي دعا إلى خير منهج وأقوم سبيل, وجاهد في الله تعالى حتى جاءه اليقين من ربه, اللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته. أما بعد أيها الأحبة في هذه الليلة المباركة، وهي ليلة اليوم الأول من الشهر السادس لعام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة, نبقى مع الدرس الرابع والثلاثين، وهو درس استثنائي كما علمتم، وعنوان هذا الدرس: (الشريط الإسلامي ما له وما عليه) . وسأتحدث عن هذا الموضوع الكبير المهم في عدة نقاط, أبدؤها بالكلام عن أسباب طرح هذا الموضوع، ثم أذكر ميزات الشريط ، وأسباب انتشاره، ثم المعوقات, وننتقل بعد ذلك إلى السلبيات والمآخذ، وأنتهي إلى المقترحات، وأخيراً وقفة مع يوميات. فأما فيما يتعلق بالنقطة الأولى وهي أسباب الحديث عن هذا الموضوع، فلعل الأسباب ظاهرة في ذهن كل امرئ منكم، فإن ثمة أسباباً كثيرة تدعو إلى طرح هذا الموضوع, منها: أولاً: الهجوم على الشريط الإسلامي, فإننا منذ زمن ليس بالبعيد بدأنا نسمع هجوماً ضارياً على الأشرطة الإسلامية وعلى ما يسمى بالكاسيت وتجارة الكاسيت, عبر أجهزة كثيرة، منها: الصحافة التي سخرت أقلام عدد من كتابها لطرق مثل هذه الموضوعات والحديث عنها بطريقة أو بأخرى. ثانياً: انتشار الشريط والحاجة إلى ترشيده؛ فإن الأشرطة اليوم أصبحت هي أوسع وسائل الدعوة انتشاراً، أوسع من الكتاب، وأوسع من المجلة، وأوسع من غيرها, ولا يكاد يوجد إنسان إلا ولديه مجموعة أشرطة قلَّت أو كثرت، ولا بد أنه استمع شريطاً ما، ثم مهما كان مستواه من حيث السن أو العلم أو العمل والوظيفة أو نوعية الثقافة, أو ما أشبه ذلك. ثالثاً: أهمية التعاون بين العلماء والدعاة وبين القائمين على محلات التسجيلات، وكذلك بين الرواد الذين يقتنون هذه الأشرطة ويسمعونها، التعاون في اختيار الموضوعات المهمة مثلاً, والتعاون في توفير المادة التي يحتاج إليها في طرق الموضوع, والتعاون في تصحيح ما قد يحدث من أخطاء أو ملاحظات مما لابد للبشر أن يقع فيه. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 2 ميزات الشريط أما ما يتعلق بميزات الشريط، فلا شك أن للشريط ميزات كبيرة، منها: 1- سهولة الاستفادة منه, فإن الإنسان يستطيع أن يستمع إلى الشريط وهو قائم، أو وهو قاعد أو نائم, أو ماشٍ في سيارته، وبكل وضع، وبكل حال؛ ولذلك فإن الاستفادة من الشريط أصبحت كبيرة. 2- سرعة الانتشار، يكفي أن تعلم أن أحد محلات التسجيل الإسلامية يوجد عنده من الأشرطة المتداولة أكثر من تسعة آلاف وخمسمائة شريط, يباع من هذه الأشرطة شهرياً ما يزيد عن ستين ألفَ شريطٍ, وهذه لا شك أرقام قد تكون خيالية بالنسبة لتصور بعض الناس, ويكفي أن تعلم أن هناك شريطاً واحداً، وهو شريط: هاذم اللذات، ولا بد أن أكثركم سمعوه, هذا الشريط بيع منه في محل واحد أكثر من ثلاثين ألف نسخة, وفي المملكة كلها ربما بيع من هذا الشريط ما يربو على مائتي ألف نسخة, ولعله ضرب رقماً قياسياً في سرعة الانتشار وكثرة الانتشار, مع أن المحلات -محلات التسجيلات الإسلامية- هي الأخرى أصبحت -ولله الحمد- في ازدياد وانتشار, ففي الرياض -مثلاً- يوجد ما بين ستين محلاً إلى سبعين محلاً للتسجيل, بل ربما تزيد على ذلك, وفي القصيم يبلغ عدد محلات التسجيلات ما يقارب الثلاثين, ولا تستغرب هذا الرقم أو تعتبر أنه كبير، فهو رقم متواضع, لكن بالقياس إلى الواقع يعتبر رقماً جيداً، وإلا فلو قارنته -مثلاً- بمحلات التسجيل الأخرى -تسجيلات الأغاني- لوجدت أن عدد محلات الأغاني حسب بعض المصادر يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة محل, وهذا رقم لا شك كبير, ولكنها ولله الحمد آخذة في التناقص والانتهاء، وهي تتساقط كأوراق الخريف, وأغلق كثير منها بأسباب مختلفة، وبيع كثير منها، وحول عدد منها أيضاً إلى محلات لتسجيل المواد والأشرطة الإسلامية, وهذه أيضاً نعمة من نعم الله عز وجل. وهذا يؤكد أن الشريط سريع الانتشار, وأنه قوي التأثير فعلاً. 3- تغطية كافة الطبقات من المجتمع، الرجل الكبير السن يجد ما يناسبه, والمرأة تجد ما يناسبها, بل الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب يستطيع أن يستمع إلى الشريط وينتفع به, وإنني أتذكر أنني أحياناً أدخل على نساء مسنات، وربما تكون الواحدة منهن في آخر عمرها، وعلى كبر سنها تجد أن عندها أشرطة لبعض العلماء والمشايخ وأشرطة القرآن والحديث والوعظ وما أشبه ذلك, فهي تستفيد منها وتنتفع بها, فهو يخاطب كافة الطبقات, فقد تجد أن هناك أشرطة تخاطب الطفل، ويمكن أن تستفيد الأسر من هذا النوع من الأشرطة وتقتنيها، وتجعل أطفالها يتربون على مواد مفيدة ونافعة. 4- قوة التأثير, وذلك سواء بالصوت والعبارة أو الأسلوب أو غير ذلك, فإن الذي يستمع للشريط كأنه يستمع إلى شخص يتحدث, يستمع إلى العبارات، يستمع إلى مخارج الحروف, يستمع إلى العاطفة, يستمع إلى الأسلوب، يستمع إلى التأثير، وكأنه يستمع إلى خفقات قلب المتحدث, فيتأثر وينفعل معه, ويحزن لحزنه، وقد يبكي, لكن الذي يقرأ كتاباً أصم ربما لا يشعر بمدى تأثر المؤلف بما يقول ويكتب, وهذه ميزة خاصة للشريط, ولذلك يقول بعضهم: الشريط إذا فرغته تحول إلى مادة أخرى غير مؤثرة, لكن إذا استمعت إليه كما هو وبإلقاء محدثه يكون له من التأثير الشيء الكبير. 5- التنوع, فنحن لدينا الآن -مثلاً- في محلات التسجيل دروس مختلفة, وهذه الدروس منها دروس في العقيدة، وهي كثيرة، سواء في كتب معينة كالعقيدة الواسطية أو الطحاوية أو غيرها, ودروس فقهية، ودروس حديثية، ودروس في التفسير، وكذلك اللغة والنحو، ودروس في الأصول, وهذه أشياء كثيرة، وربما كان في فهارس التسجيلات التي صدرت -وهي كثيرة- ما يعطي قائمة ببعض هذه, فضلاً عن المحاضرات، فضلاً عن الندوات والأمسيات الشعرية والقصائد والكتب والإصدارات والمناقشات, وقبل ذلك كله الأشرطة المتعلقة بتسجيل القرآن الكريم, سواء لقراء معروفين أو التسجيل من صلاة التراويح والقيام في شهر رمضان المبارك لأئمة الحرم وأئمة مشهورين, من هذا البلد ومن غيره من البلاد الأخرى, فهي تتميز بالتنوع وتغطية موضوعات شتى ومجالات مختلفة. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 3 أسباب انتشار الشريط لانتشار الشريط أو عدم انتشاره أسباب منها: أولاً: سمعة المتحدث؛ فإن كثيرا ًمن الناس يقتنون الشريط بالنظر إلى المتحدث أو الملقي, خاصة إذا كان من العلماء المشهورين، من أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو فضيلة الإمام المحدث محمد ناصر الدين الألباني , أو فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين , أو أمثالهم من كبار العلماء أو الخطباء المشهورين الذين يتحدثون بقوة ووضوح وقدرة ويهتمون, فتجد أن كثيراً من الناس يقتنون أشرطة هؤلاء ويتابعونها أولاً بأول، خاصة إذا كانت تصدر على شكل سلسلة لشرح كتاب أو ما أشبه ذلك. ثانياً: جودة المادة وارتباطها بحدث معين؛ فإن الناس إذا وجدوا مادة قد أجاد فيها من أعدها, واهتم بها وجمع المعلومات الكافية، فإنهم يقبلون عليها، وكذلك إذا كانت المادة متعلقة بحدث معين, وعلى سبيل المثال: الأحداث التي وقعت في الخليج وما تلاها من أحداث متسلسلة جَرَّت الناس إلى سماع ما يقوله المتحدثون والعلماء والخطباء, ومتابعة ذلك؛ فإن جودة المادة وارتباطها بحدث من الأحداث من أسباب انتشارها والإقبال عليها. ثالثاً: طرافة الموضوع؛ فإن الإنسان حينما يجد إعلاناً في محل التسجيل عن موضوع ما, يجد في نفسه تطلعاً إلى سماع هذا الموضوع, ومعرفة ماذا قال المتحدث فيه، حتى ولو لم يكن يعرف المتحدث, ولا يدري هل أجاد أو لم يجد لكن الموضوع بحد ذاته جذاب, وهذا يدل على أهمية اختيار الموضوعات التي يتحدث عنها الناس. رابعاً: الدعاية للشريط؛ فبعض التسجيلات -مثلاً- تتقن فن الدعاية لأشرطة معينة, وإبرازها للرواد، وجعلهم يفكرون ويقبلون عليها -وهذا لا شك سواء في محل التشكيل أو في غيره- يصنع إقبالاً على الشريط. خامساً: الأسلوب الذي طرق به المتحدث موضوعه وطريقة الإلقاء, مثل الإكثار من القصص والشواهد والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والأحداث التاريخية والأبيات الشعرية وما أشبه ذلك, فضلاً عن الحماس الذي يتميز به المتحدث. المهم أن الأسلوب بشكل عام من أقوى الوسائل لإقبال الناس على الأشرطة, فإذا كان المتحدث يتميز بأسلوب قوي، فإن هذا من أسباب ودواعي الإقبال على ما يطرح. سادساً وأخيراً: عناصر التشويق والإخراج, فإذا تمكن المتحدث أو تمكنت محلات التسجيل من إخراج الشريط إخراجاً جيداً, والاهتمام بعناصر التشويق في بداية الشريط ونهايته، فإنها تستطيع بذلك أن تكسب عدداً آخر من المستمعين إلى هذه المادة. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 4 المعوقات التي تحول دون انتشار الشريط الإسلامي وهناك مقابل ذلك معوقات تحول دون انتشار الأشرطة، وهي كثيرة جداً من هذه المعوقات: 1- الأعداء الخارجيون الذين يحاولون أن يخيفوا الناس من الشريط, ويحملون الشريط ما لا يحتمل, حتى إنهم يصورون الشريط كأنه مادة متفجرة قابلة للانفجار، كما فعلوا في صورهم وكاريكاتيراتهم ودراساتهم, بل إنهم يعقدون الجلسات في أماكن عليا وفي مؤسسات إدارية وسياسية كبرى, ليتحدثوا عن الشريط، ويحاولون أن ينفخوا في هذا الأمر، ليثيروا مخاوف الآخرين من مثل هذه المادة, هذه من المعوقات التي يترتب عليها ما بعدها من التخوف من الشريط، وبالتالي الوقوف في وجهه أو الحيلولة دون انتشاره أو عدم الإذن به وترخيصه, أو ما أشبه ذلك من العقبات التي تحول دون انتشار الشريط. 2- بعض الصحافة والعلمانيين الذين يشنون حملات كبيرة على الشريط الإسلامي، كما سوف أشير إلى ذلك فيما بعد. 3- بعض الجهات والأطراف التي يتوقف على دورها وموقفها انتشار الشريط وتداوله بين أيدي الناس أو عدم انتشاره، وامتناع الناس من شرائه أو تداوله, إضافة إلى أنها تتحكم وتؤثر في فتح المحلات الجديدة وفي عدم ذلك, أو فتح فروع جديدة للمحلات أو تحويل المحلات التي تباع فيها أشرطة الأغاني إلى محلات إسلامية، فبقدر ما يكون التجاوب في هذه المجالات بقدر ما يكون انتشار الشريط أو عدم انتشاره. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 5 إيجابيات الشريط الإسلامي أما إيجابيات الشريط فهي كثيرة جداً، ولا أعتقد أني بحاجة إلى أن أتحدث عن فوائد الشريط وإيجابياته؛ فإن هذا مما يعلمه الخاص والعام, ويكفي لنعرف إيجابيات الشريط أن ندرك هذا السعار العجيب الذي أصاب أعداء الدين والدعوة من انتشار الشريط الإسلامي؛ فإنهم ما أصابهم هذا الذي أصابهم إلا حين رأوا انتشار الشريط وفاعليته وتأثيره, ودخوله في كل بيت وكل عقل وكل سيارة، وتأثر الناس به بكافة طوائفهم وطبقاتهم ومستوياتهم العلمية ومستوياتهم في السن وفي الوظيفة وفي غير ذلك. فالشريط كما أسلفت وسيلة من أقوى وأكثر وسائل الدعوة تأثيراً وانتشاراً ورواجاً، وكم من إنسان سلك هدايته بتوفيق الله عز وجل ثم بسبب الشريط الذي استمع إليه, فكان السبب في تغيير خط حياته ومساره من الضلال إلى الهدى, ومن الظلام إلى النور, ومن الغواية إلى الرشد, وهذه نعم كبيرة جداً. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 6 السلبيات التي تؤخذ على الشريط الاسلامي أما الجانب الذي أود أن أقف عنده الآن، فهو بعض السلبيات التي قد تؤخذ على الشريط الإسلامي, ونحن بحمد الله تعالى -أقول عن نفسي وعن غيري من دعاة الإسلام- نرجو أن نكون ممن يتسع صدره للأخذ والعطاء والمناقشة والتصحيح، وهذا أمر طبيعي؛ لأن الإسلام عودنا ذلك, ولهذا لا حرج ولا عيب أن نلاحظ على أنفسنا وأن نعيب أنفسنا وإخواننا بأمور نرجو التخلص منها, ولكن الذي نعيبه على الجميع دائماً وأبداً هو حملات التشهير، وحملات النقد وحملات التجريح والظلم والتهجم الذي ليس له أساس من العقل ولا من العدل ولا من الحكمة ولا من الموضوعية, ومن أناس يدعون مثل ذلك. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 7 معالجة السلبيات في التسجيلات أما بالنسبة للمقترحات فأهم المقترحات، في نظري هي: أولاً: ضرورة نقل مناهج الدراسة إلى أشرطة, سواء مناهج قرآن كريم أو مناهج المواد الأخرى للطلاب في الابتدائي والمتوسطة وغيرها, بحيث تكون في متناول الطلاب بنين وبنات … وهذا مفيد. ثانياً: وجود برامج متخصصة لطبقة معينة من المجتمع, مثل برامج للعوام، برامج للأطفال، برامج للمرأة، برامج للمثقفين، برامج للشباب إلى غير ذلك, وهناك بداية جيدة، ولكن تحتاج إلى تخطيط وترتيب أكثر. ثالثاً: اقتراح موضوعات يحتاجها الناس كما أشرت إلى ذلك، وينبغي أن يوجد هناك رابطة بين المتحدث وبين السامع، وذلك بالاقتراح والتجاوب. رابعاً: تطوير الناحية الفنية في الشريط والإعداد، وهذه ناحية مهمة, فمن المزعج أن يسمع الإنسان شريطاً مشوشاً أو مرتبكاً أو فيه معانٍ متداخلة وأصوات غريبة وما أشبه ذلك, فلذلك لا بد من العناية بها من الناحية الفنية وجودة الإخراج، وبعض المحلات خطت خطوات في هذا المجال. خامساً: من المقترحات تخفيض السعر بقدر الإمكان, فالناس كما ذكرت في ظروفهم الاقتصادية يهتمون بالسعر. سادساً: تغطية المناطق بالمندوبين الذي يتابعون ما يجد. سابعاً: العناية بنوعية الشريط؛ فإن بعض محلات التسجيل قد تسجل على أشرطة غير جيدة, سريعة التآكل والانتهاء، فلا يستفيد منها الناس، ولا يستطيعون الاحتفاظ بها. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 8 سلبيات محلات التسجيلات النوع الثاني من السلبيات: سلبيات في محلات التسجيلات، فمنها: أولاً: تغيير الأسماء أحياناً؛ فإنك قد تجد المحاضر أو الشريط الواحد يحمل أكثر من اسم, أسماء متعددة؛ وذلك لأن الإخوة يضعون عناوين الأشرطة باجتهادهم هم, والمراجع قد يأتي يأخذ الشريط هذا ويظنه جديداً، فإذا استمعه يجد أنه قد اشتراه من قبل, لكن الاسم تغير, وهذه قضية أمانة ينبغي أن يراعى فيها الدقة؛ بحيث يوضع العنوان الذي اختاره المتحدث له. ثانياً: عدم التركيز على الدروس العلمية؛ فإن العناية بالدروس العلمية وتقديمها للناس ومحاولة نشرها بين الشباب والدعاية لها مهمة؛ لأن الدروس العلمية لا شك هي الباقية بخلاف كثير من الأشياء الوقتية التي قد تنتهي وتزول. ثالثاً: عدم المبادرة في طلب الحديث أو المشاركة في مناسبات معينة, فكثير من التسجيلات ربما يكون دورهم هو التسجيل فقط والنشر, لكن لا مانع -بحكم أنهم يحتكون بالناس ويدركون أن هناك موضوعات ينبغي أن يكون الحديث عنها, وتحتاج إلى طَرْق أن يقدمها للمتحدثين من المشايخ والعلماء على أن هذه الأشياء يكثر السؤال عنها, وأن كثيراً من الناس يأتي للمحل يقول: هل عندك أشرطة حول موضوع كذا؟ أو ما أشبه ذلك, وكذلك إصدار موضوعات من قبل أنفسهم، فهو أمر حسن. رابعاً: عدم التعارف بين أصحاب التسجيلات، وهذا من السلبيات التي تؤخذ, فينبغي أن يكون بينهم تعارف وتنسيق في أمور كثيرة، وتبادل الخبرات والمعلومات، وتعاون بما يخدم المصلحة العامة، فإن الذي أعلم من أصحاب هذه التسجيلات أن كلهم أو جلهم على الأقل ممن يحمل هم الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولذلك فإنني أقول: إن الاهتمام بموضوع الشريط والعناية به وعقد الندوات أو حلقات للنقاش لمثل هذا الموضوع بين المختصين هو من أهم الأمور. خامساً: عدم متابعة الجديد والإعلان عنه, فإنك قد تجد في بعض المحلات عدم معرفة بالجديد من الأشرطة. سادساً: ارتفاع السعر أحياناً، كما يشكو من ذلك بعض الإخوة, وخاصة أن الناس اليوم يتساءلون ويراقبون ويراعون قضية السعر والمال, بسبب ظروفهم المادية بلا شك, فكل شيء يؤثر فيهم؛ ولذلك كلما أمكن أن يكون السعر منخفضاً كان هذا أكثر تأثيراً في انتشار المادة والانتفاع والإقبال عليها. والاحتساب بالدعوة إلى الله عز وجل يجب أن يكونه وارداً، أنا لا أقول: إن أصحاب التسجيلات أصحاب أهداف مادية كما يقول بعض الصحفيين، حاشاهم من ذلك! وإن كنا لا نقول: كلهم على قلب رجل واحد أيضاً, لكن أعرف من أصحاب التسجيلات من يبيع بسعر مخفض، وهذه محمدة, وأعرف من يوزع نسخاً مجانية كثيرة، وهذه أيضاً تشكر لهم, وأعرف من يقومون بمشاريع تعاونية خيرية، وأعرف من يقومون بنسخ مواد مفيدة على بعض الأشرطة السيئة بالمجان، في هذا البلد وفي الرياض وفي أماكن أخرى. على كل حال هذه الأشياء من السلبيات يتحملها الإخوة؛ لأن المقصود منها التوجيه ولفت النظر لبعض هذه الأمور. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 9 معالجة هذه المآخذ أما العلاج من هذه الأشياء فهو: يتمثل في جهد فردي للإنسان، وهو أن يهتم بما يقدم ويضبط ويتعود، وكذلك في جهد علمي من المحلات التي تقوم ببيع الأشرطة الإسلامية, بإيجاد لجان محكمة متخصصة واستشارة العارفين في ذلك, أي: كيف نستطيع أن نضبط هذه السلبيات من المتحدثين؟ أولاً: المتحدث مطلوب منه أن يهتم بما يخصه، وأن يقدم للناس مادة جيدة بقدر المستطاع وبقدر الوقت. ثانياً: بالنسبة لمحلات التسجيل يا حبذا أن يكون لها لجان متخصصة محكمة، تراعي وتراقب هذه المواد؛ بحيث أنها تعتني بها، وتحاول أن تصححها بقدر المستطاع أو تستبعد ما لا يصلح منها أو تراجع صاحب التسجيل أو تستشير العارفين بهذه الأمور. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 10 المآخذ على المتحدثين بالنسبة للمتحدثين الذين يلقون دروساً ومحاضرات هناك بعض السلبيات منها: أولاً: الإلقاء كما هو معروف يعتريه شيء من التوسع في العبارة أو عجلة أو جهل, ولذلك تأتي أهمية المراجعة؛ فإن الذي يتكلم ليس كالذي يقرأ من ورقة، قد يحصل له سهو، أو غفلة أو عبارة لم يرد أن يقولها فقالها، أو توسع في الأسلوب, ففهمه الناس على غير وجهه, ولذلك فإن من المهم أن يكون هناك مراجعة مستمرة. وإنه ليطيب لي أن أذكر في هذه المناسبة أنني بإذن الله تعالى سوف أجعل من ضمن الدروس العلمية العامة التي ألقيها في هذا المكان سلسلة من الدروس اسمها: المراجعات, وهذه الدروس سوف أخصصها -إن شاء الله- لبعض الملاحظات والأخطاء التي وقعت مني، سواء اكتشفتها بنفسي من خلال سماع الشريط أو راسلني بها بعض الإخوة جزاهم الله عني خيراً, وسأتحدث عنها في مناسبتها وأبين ما فيها, سواء كان خطأً علمياً أو خطأً في الأسلوب. وأذكر في هذه المناسبة أن عدداً من الإخوة كتبوا إليّ فيما يتعلق بشريط: جلسة على الرصيف, ونبهت على ذلك، ولكن لا مانع من الإعادة للأهمية أنه عندما تحدثت عن المجاهرين بالمعاصي وعن الأغاني، وذكرت طبقة من المغنين لا كرامة لهم، وأشرت إلى مجاهرتهم بالمعصية, وتحدثت عن قضية الكفر، وأن مثل هؤلاء مخلدون في النار, ففهم بعض الإخوة خلاف ما أريد، وسواء كان الخطأ مني في العبارة وعدم ضبطها أو كان الخطأ مشتركاً مني ومن الإخوة أو منهم, المهم أنني أود أن أشير كما أشرت في المجلس السابق إلى أنني أعني أولئك الذين يستخفون بالمعاصي التي يفعلونها, ويستخفون بحدود الله عز وجل وحرماته, ولا شك أن الاستخفاف من المكفرات التي تدل على أن فاعل المعصية لا يؤمن بتحريمها, وكنت أقصد بالضبط نوعاً من المغنين, كتبوا أغاني ونطقوا بها وسجلوها على أشرطة يتداولها الشباب, وهذه الأغاني يفتخرون فيها بالجريمة, ويفخرون بها، ويعيبون من لا يفعلها, ويتباهون بأنهم غرروا بالفتيات والشباب، وفعلوا معهم الجرائم والموبقات, ويتمنون على الله عز وجل أن يكون الناس كلهم فجرةً ومرتكبي فواحش وما أشبه ذلك من الكلام البذيء الوقح الذي أعوذ بالله أن يقال في مثل هذا المكان، والذي يدل أن قائله لا يؤمن أبداً بقوله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] هذا هو مقصودي فقط، أما مجرد المجاهرة بالمعصية، فلا شك أنه لا يعتبر كفراً، فهذه من القضايا المعروفة. ثانياً: الخطأ؛ فهو من طبيعة الإنسان، وبسبب سعة انتشار الشريط وكثافة التوزيع كما أشرت إلى بعض الأرقام في ذلك, فإن حجم الخطأ يكون أكبر, فإن الإنسان إذا أخطأ في مجلس من عشرة، فسوف يكون الأمر يسيراً, لكن إذا أخطأ في شريط قد يتداوله الألوف بل عشرات الألوف أحياناً, فمعنى ذلك أن حجم الخطأ يكبر، ويحتاج إلى تصحيح, ولذلك أقول: لا بد أن يكون الحل بأحد أمور: الأول: إما أن يكون ما يلقيه الإنسان مكتوباً, بحيث يقرؤه من ورقة، خاصة إذا كان مهماً. الثاني: وإما أن يضبط الحديث بعناصر، يتدرج بها واحداً بعد آخر. الثالث: التدرب على التريث في الحديث وعدم الاستعجال، خاصة في المسائل العلمية والعقدية والقضايا الحساسة التي قد يترتب على الخطأ فيها آثار بعيدة. الرابع: المراجعة، فإن كل عالم أو طالب علم لا مانع أن يصدر بين الحين والآخر شريطاً بعنوان: المراجعات, أو بعنوان آخر يكتب فيه النقاط التي ينبه عليها, كما يقع ذلك للعلماء في كل زمان وفي كل مكان. ثالثاً: التكرار؛ فإن كل شيء الآن أصبح يسجل كما تلاحظون، حتى إن بعض العلماء إذا قام من بيته إلى المسجد أو من المسجد إلى بيته أو خرج إلى السوق, فإنه يكون معه طلبة يسجلون ما يقول وهو في الطريق, وأصبح كل شيء يسجل، وبناءً على ذلك أصبح هناك تكرار كبير في أشياء كثيرة؛ لأن الإنسان ليس لديه وقت للتحضير دائماً, وليس التسجيل مقصوراً على مجرد دروس ومحاضرات يعدها الإنسان, بل أصبح يسجل من الإنسان كل شيء, ولذلك أرى أن الحل يتلخص في إحدى النقطتين: إما التجديد وإعطاء المستمعين حقهم, بحيث يتعب الإنسان فيما يقدم للناس, ويعد ويفرغ وقته لهذا الأمر, فإذا استمع إليه الناس, قالوا: إن هذا الإنسان يحترم مستمعيه فعلاً فقد قدم لهم شيئاً, فإذا لم يستطع ذلك لغلبة المشاغل وضيق الوقت، فلا بد من عدم التسجيل, وأن يكون التسجيل لأشياء مخصوصة فقط, والأمور الأخرى لا يأذن الإنسان بتسجيلها, اللهم إلا في نوعية خاصة من العلماء كمن ذكرت أسماءهم من قبل؛ فإن أمثال هؤلاء من العلماء ربما الفتوى مطلوب تسجيلها, مهما كان وقت الفتوى وزمانها ومكانها, لكن البقية يكفي أن يسجل لهم دروس أو محاضرات أعدها وتعب في إعدادها وفي تحضيرها ضماناً لعدم التكرار. رابعاً: عدم الاهتمام -أحياناً- بالتأصيل, فإن المتحدث قد يتحدث في عموميات كثيرة جداً، ولا يهتم بوضع الأصول والضوابط والمنطلقات التي يستطيع الناس أن يضبطوها ويفهموها ويستفيدوا منها. خامساً: عدم مراعاة واقع الناس أحياناً في اختيار الموضوع وعدم التفاعل مع الأحداث, فقد تجد أن الناس مشغولون في حديث أو حدث ما, والحديث في مجال آخر! فعلى سبيل المثال لما وقعت أحداث الكويت -مثلاً- وأحداث الخليج بعدها, وهي أحداث حية ومتفاعلة في نفوس الناس كلهم، فقد تأتي إلى خطيب وهو يتحدث في موضع بعيد كل البعد عن هذه القضايا, فالناس يفكرون في أمر، وهو يتحدث في أمر آخر, وهذا لا شك ليس من الحكمة في شيء؛ فإن الحكمة أن يتحدث الناس عن الموضوع الذي يشغل بال المستمعين ليوجههم إلى الطريقة المناسبة والحل الشرعي لمثل هذه القضايا التي تهمهم. سادساً: عدم التحضير للموضوع -أحياناً- من حيث المعلومات والإحصائيات والحقائق والنصوص وغيرها, وقد يكون الموضوع أمراً مهماً، لكن ليس فيه مادة علمية جيدة قد تعب صاحبها في إعدادها وتحضيرها. سابعاً: ومن ذلك الأخطاء في اللغة العربية من جهة طبيعية؛ لأن المتحدث قد تسبق إليه كلمة عامية أو خطأ في اللغة العربية رفع المنصوب أو نصب المرفوع أو ما أشبه ذلك, فهذا أمر طبيعي، ولكن ينبغي أن يراعيها الإنسان بقدر المستطاع, أما ما يتعلق باللهجة العامية، فأرى أنه لا بأس أحياناً أن الإنسان لإزالة الملل والسأم عن الناس قد يأتي بمثل عامي أو كلمة عامية بسبب السرعة أو ما شابه ذلك, وهذا معروف عند السلف، فقد كانوا يستخدمون بعض ذلك، ولا حرج إن شاء الله. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 11 وقفة مع بعض اليوميات آخر نقطة في الجعبة فهي وقفة مع بعض اليوميات: الجزء: 57 ¦ الصفحة: 12 الهجوم على الشريط بحجة الخوف من الثورات أولاً: الهجوم الغربي الكاسح على الشريط لم يعد سراً؛ فهناك جلسات كبيرة في دوائرهم الكبرى السياسية والإعلامية للكلام عما يسمى بمعركة الشريط, والهدف من ذلك تهويل الأمر وإثارة المخاوف من هذه الأشرطة؛ ولذلك تجدهم -كما قرأت في صحفهم واستمعت إلى أخبارهم- يربطونها بثورة إيران وما جرى فيها, وهم بذلك خبثاء بلا حدود؛ لأنهم يتجاهلون، ولا أقول: يجهلون، ولكنهم يتجاهلون عمداً الفوارق الأساسية بين البلاد, فبين هذه البلاد المباركة الآمنة الطيبة وتلك البلاد المليئة بالفتن فرق كبير لا يجهله أحد، سواء من الناحية الاعتقادية أو غيرها؛ فأولئك قوم من الشيعة الرافضة لهم اعتقاد خاص، ولهم مبدأ خاص، ولهم أسلوب خاص في معاملة بعضهم لبعض, وفي معاملة مجتمعهم وفي نظرهم للأمور, وفي هذه البلاد يخيم بحمد الله تعالى مذهب أهل السنة والجماعة بل العقيدة السلفية الصحيحة وآثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- باقية معروفة. أما من الناحية العلمية فالفرق كبير جداً بين البلدين، فهاهنا العلم بحمد الله يمد رواقه ويضرب، وهناك ليس لديهم علم، إنما لديهم علماء يتبعون، وليسوا علماء بل علماء ضلالة، فالعامة تتبعهم دون روية ودون تبصر ودون تفكير قل مثل ذلك في الناحية الاجتماعية وتركيبة الناس وواقع الناس, إضافة إلى النواحي التاريخية، كل هذه الفوارق المؤثرة الكبيرة يتجاهلها أولئك حين يربطون هذه الأوضاع بما يجري أو ما جرى في تلك البلاد، ويهولون الأمر ويضخمونه من أجل تخويف الناس من هذه الأشرطة. إيران بلد القلاقل وبلد الثورات وبلد الاضطرابات، وهي من بلاد المشرق, التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: {هناك الزلازل والفتن حيث يطلع قرن الشيطان} . أما هذه البلاد فهي بلاد الحرم الآمن: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3] بلاد رعاة الغنم حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن السكينة والهدوء عندهم، وهم أصحاب الصدق والوضوح والصلاح والاستقامة وتوافق ظاهرهم مع باطنهم, فمن يقيس هذا على ذاك كمن يقيس الخمر على اللبن، كما يقول بعض الإخوة, وهي (شنشنة نعرفها من أخزم) فإن هذه الدوائر تهدف إلى استعداء القادرين على الإسلام وأهله، واختلاق أوهام كبيرة في النفوس لا حقيقة لها, وهذا ليس بغريب، ولكن الغريب أن يتلقف بعض الموتورين هذه الأفكار الغربية الأجنبية, ويأخذونها معلبة وينشروها بأسمائهم دون أن يذكروا المصادر التي نقلوا منها وأخذوا عنها, ولو على الأقل من باب الأمانة العلمية. فمن زمن حين ثارت قضية الحداثة نُشِرَ في جريدة اليوم في عددها رقم خمسة آلاف وثلاثمائة وتسعة وتسعين مقال بعنوان: فوضى الكاسيت، وتحدث المتحدث في هذا المقال، فجمع بين جلسات الطرب وجلسات الوعظ على حد سواء, وقارن الأغاني الغربية بالخطب العصماء على حد تعبيره, وأبدى امتعاضه من الرواج الكبير التي تلقاه الأشرطة الدينية كما يقول, وذكر أنها أصبحت نوعاً من التجارة الرابحة لدى الباعة الذين لا يريدون خيراً من وراء تسويق هذه الأشرطة كما يقول، وإنما هي متاجرة بالدين لا تليق بمسلم, ووصف المتحدثين بتلك الأشرطة بأنهم لا يعلم إلا الله مدى تمكنهم من الحديث والطرح الجاد لصالح الإسلام والمسلمين, فهو ينتقد أصحاب التسجيلات، وينتقد بعد ذلك الذين يتحدثون في تلك الأشرطة الدينية والخطب العصماء كما يسميها, ووصف ما يجري بأنه نوع من العبث, وأنه خطر داهم لا يمكن الاستهانة به, بل لا بد من التعامل معه بحزم حفاظاً على ماذا؟ ليس حفاظاً على سمعته الشخصية ولا على مكتسباته الحداثية، وإنما يقول: حفاظاً على نقاء الدين الإسلامي الحنيف, تبارك الله! هذه الغيرة الكبيرة ما عهدناها إلا حين جاءت قضية الشريط الإسلامي! حفاظاً على نقاء الدين الإسلامي الحنيف وصيانة للمجتمع من عوامل الانشقاق, إذا تسربت إليه بذور الشر وعوامل الانشقاق! الذين يبثون لانشقاق في المجتمع هم الذين يدعون إلى التوحيد وإلى الصلاة والزكاة والصوم والحج, وهم الذين يحاربون النحل الضالة من العلمانية والحداثية وغيرها, أما أصحاب الحداثة الذين ينشرون سمومهم في هذا المجتمع، ويبثون أوبئتهم، ويدسون رءوسهم في كل مكان، ويدسون أنوفهم في كل مكان, فهؤلاء هم دعاة الوحدة الوطنية أجاركم الله! يقول: لا بد من صيانة المجتمع من بذور الشك التي تنشر على أيدي أولئك الذين يفترون على الله الكذب, وهو لم يحدد من هم , فهذا الكلام نفسه ينطبق على حد زعمه على كل من يتكلم في هذه الأشرطة التي تحدث عنها. عجباً ما هذا الفزع؟! ما هذه الغيرة العجيبة على الدين وأهله؟! أين هذه الغيرة من تلك الأشرطة التي تتاجر بالعفاف كما أشرت قبل قليل؟! وتبيع الرذيلة عياناً بياناً وتفتك بالشباب؟! وأصحابها منك قاب قوسين أو أدنى؟! وما هذا الاطلاع على دخائل القلوب وما تكنه النفوس والضمائر؟! حين تصف هؤلاء بأنهم يتاجرون بالدين وأنهم وأنهم؟! ثم أين الثقة بالمجتمع؟! لقد عهدناكم تقولون: إن المجتمع محل ثقة, وإننا نريد أن تتاح الفرصة لكل أحد أن يطرح ما عنده من أفكار ومذاهب ونظريات, هكذا تقولون! والمجتمع محل ثقة، لا مانع من طرح كل شيء ليأخذ ما يريد بحرية، ويترك ما يريد بحرية، ولا بد من إتاحة الفرصة لما تسمونه أنتم بالرأي الآخر, فأين هذه الثقة التي كنتم تمنحونها المجتمع؟! لماذا سحبتموها من المجتمع؟! ووصفتم المجتمع بأنه كما يقول كاتب المقال: بأنه من العامة الذين يصدقون كل ما يسمعون؟! لماذا لا تقول أيضاً: إن هؤلاء العامة الذين يصدقون كل ما يسمعون يجب حمايتهم من الحداثة؟! ويجب حمايتهم أيضاً من العلمانية؟! ويجب حمايتهم من الفكر الدخيل الذي يأتي على شكل قصة أو قصيدة أو شعر أو مقالة؟! ويجب حمايتهم من دعاة التخريب والتغريب بل من دعاة الاستعمار الذين يمدحون الاستعمار على صفحات جرائدنا ومجلاتنا؟! ويقولون: إن هذا الاستعمار وإن أخذ أموالنا إلا أنه نَوَّرَ عقولنا وأفكارنا … إلى هذا الحد! ولماذا لا تطالب بحماية الناس من تلك الأفكار والمبادئ التي غزت كثيراً من شبابنا ومثقفينا، وجعلتهم يرددون نظريات الغرب, وتحليلاته دون تعديل يذكر؟! لماذا تغفل عن هذا كله؟! وتجعل همك حول هذه الأشرطة؟! ثم هل أنت على درجة تستطيع أن تقول على هؤلاء: إنهم يفترون على الله الكذب؟ إن كنت عالماً جليلاً فقيهاً نبيلاً تربيت في حلقات العلم, وأخذت من العلم الشرعي بنصيب، وأذنت لك الأمة، فنعم من حقك أن تحكم على أحد أنه يفتري على الله الكذب, أما أن تصف أناساً هم بلا شك أقدر منك في مجال الشرعيات وأدرى منك في هذه الأمور بمثل هذه التهمة، فذلك كما يقول المثل العربي: رمتني بدائها وانسلت، فهذا هو العجب العجاب! وكتب آخر في جريدة عكاظ "باتجاه المطر"، وأشار إلى قضية مهمة, يقول: إن كثيراً منهم معزول, ويتحدث عن نفسه أنه وجد نفسه معزولاً حتى من أقرب الناس إليه, حتى زوجته وبنته وولده؛ حيث يتهمونه بالزندقة والمروق من الدين, لماذا؟ لأن هناك أشرطة تحدثت عن الفاسدين والمفسدين والعلمانيين والحداثيين وغيرهم, وهذا يؤكد فعلاً أن المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع متدين, وقد سبق أن ذكرت في بعض المناسبات أن الإنسان المنحرف يجد نفسه معزولاً محصوراً حتى بين أقرب الناس إليه, وهذا مصداق ما كنت ذكرته, فهو يقول: إن الزوجة والتلاميذ والأولاد والجيران والأقارب والمعارف كلهم أصبحوا ينظرون إليه شزراً، وكأنه ملحد أو كأنه زنديق. وسبب ذلك ما هو؟ يقول كاتب المقال: إن سبب ذلك صكوك النار التي منحها البعض له ولأمثاله من الذين يفكرون بشكل مغاير للسائد, يفكرون بطريقة مخالفة لما عليه المجتمع، ولذلك يزعم أن هؤلاء أعطوه صكاً إلى النار. ولا شك أن هذا من تهويلهم ومبالغتهم وبعدهم عن الأمانة العلمية؛ فإن صكوك الجنة وصكوك النار هذه لدى النصارى, ونحن المسلمين هاتوا لنا رجلاً واحداً حكم عليه بأنه كافر, هاتوا لنا عالماً أو طالب علم أو داعية أو سمى شخصاً وقال: فلان كافر, أين هذا؟ كونك تقول: هذا العمل كفر, فهذا شيء, وكوني أحكم على الشخص أنه كافر، فهذا شيء آخر, أنا قد أقول مثلاً: إن هذا القول كفر, وأقول ذلك إذا كان القول كفراً، لكن لا يلزم أن أحكم على كل من قاله بأنه كافر؛ لأنه قد يكون قاله جاهلاً أو قد يكون تراجع عن ذلك وتاب منه, وهناك احتمالات كثيرة تمنعني من أن أصدر حكماً عليه شخصياً , لكن يمكنني أن أحكم على الفئة نفسه بذلك، وهم لا يميزون بين هذا وذاك. وهو وغيره لا يدرون الفرق بينهما؛ ولذلك يتحاملون على طلبة العلم والدعاة والعلماء بمثل هذا الكلام الذي ذكرته, ولذلك يصيح مثل هذا الإنسان يقول: أنقذونا قبل أن تصل النار إلى رءوسنا. ويكتب ويقول: لماذا يأتي المتحدث في شريط؟ لماذا لا يأتي في النور ويتكلم أمام الجميع؟! فأقول: سبحان الله! هل تركتم مجالاًَ لأحد يتحدث؟! لقد أمسكتم بخناق الصحف ووسائل الإعلام, فأصبحتم لا تأذنون غالباً إلا بالمادة التي تخدمكم، وتئدون وتحاربون كل صوت حر نزيه يفضح ما أنتم فيه أو يخالف ما أنتم فيه, فلا تنشرون من ذلك إلا النزر اليسير. أما الصوت الذي يؤيدكم ويوافق ما أنتم عليه، فإنكم تلمعونه وتنشرونه, وإن كان ضعيفاً صححتموه، وبالغتم في نشره ونفختم فيه حتى يصبح ذا شأن, فلم تدعوا مجالاً لأحد ليتكلم، ولم يبق للدعاة إلى الله عز وجل إلا المسجد والمنبر والمنصة وما يتبع ذلك من هذا الشريط الذي يعبرون فيه عن الرأي الصحيح, ومع ذلك انزعجوا وصاروا يشنون مثل هذه الحملات التي أشرت إلى شيء منها. وزعم الكاتب أن الزمن هو الوحيد القادر على فرز الجيد من الرديء من الأفكار, وهذا زعم غريب؛ فالزمن لا يأتي بفرز الجيد من الرديء! وهانحن بعد مرور مئات السنين بل آلاف السنين, نجد الجدل يحتدم بين نظريات فلسفية قيلت منذ قرون طويلة؛ فالزمن لا يحسم شيئاً, وكون الشيء وقع وتحقق في مجتمع الناس لا يصيره صحيحاً مشهوراً، وقد يقع أمر وينتشر بين الناس ويروج ويكون خطأً, ويكون هناك صواب مغمور, فليس الزمن وحده الكفيل -كما تزعم- أبداً. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 13 التعليق على مقال بعنوان: "يوميات كاسيت" وأخيراً طالعتنا صحيفة الكويت بمقال بعنوان: يوميات كاسيت، ففي يوم السبت تكلمت عن شريط أحد العلماء المحدثين المعروفين, وعلق كاتب المقال بقوله: نتمنى من بعض علمائنا الكرام أن يبقوا في مجال تخصصهم وألا يزجوا بأنفسهم في بحار السياسة, وهم لا يحسنون السباحة فيها, حتى لا يغرقوا ويغرقوا شبابنا الحائر معهم. ويقول: وقديماً قال فقيه ألمعيٌ: بين أصحابنا من أرجو بركته ولا أقبل شهادته, قلت: -والكلام لصاحب المقال- في أمور السياسة, أي لا يقبل شهادته في الأمور السياسية. فيا عجباً! متى كان الفصل بين الدين والسياسة؟! ومنهج من هذا؟! هل عندنا علماء نرجو بركتهم, ونقبل عنهم الحلال والحرام، ونأخذ منهم الحديث والعلم, ولا نقبل كلامهم في أمور السياسة؟! وهل أمور السياسة بمعزل عن الدين؟! هل هناك سياسة وهناك دين وهما طرفان متنافران؟! أم أن السياسة والاقتصاد والاجتماع والفن والآداب والإعلام وكل أمور المجتمع يجب أن تخضع للإسلام؟ لا شك أن الجواب هو الثاني, ولا نعرف في دين الإسلام فرقاً بين شيء اسمه السياسة وشيء اسمه الدين, وما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس قضاياهم السياسية التي هي من أهم القضايا التي يحتاجون إليها, والتي تتعلق بمصالح الأمة العامة؟! هل تريد أن يبقى العالم محصوراً فقط في أحكام الذبائح والصيد والنسك والحيض والنفاس والوضوء والغسل ومسح الخفين ويترك قضايا الأمة لغيره, ممن لم يتذوقوا طعم العلم الشرعي؟! ولم يعرفوا ببلائهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل؟! ولا شهدت لهم الأمة بالجهاد في ميدان دعوتها وإعادتها إلى الطريق المستقيم؟! هل تريد هذا؟!! هيهات! ألا تدري أنك بكلامك هذا قد أسقطت مجموعة هائلة من فتاوى وبيانات هيئة كبار العلماء في هذه البلاد, وهي فتاوى وبيانات تتعلق بأمور سياسية بجميع المقاييس, وأسندت الأمر في هذه الفتاوى بعد أن أسقطتها عنهم إلى من تنوبهم أنت, وتقبل شهادتهم. إنك تطالب باحترام التخصص كما هو ظاهر من عباراتك, وهذا إجمالاً ممكن ومعقول, لكن لننظر هل هذه القاعدة عامة لكل الناس؟! أم أنك مستثنىً من هذه القاعدة؟! ولك الحق في طرح أي موضوع بدون استثناء؟! ما بالك خضت في قضايا مشرقة وأخرى مغرّبة؟! فأنت مرة اقتصادي ماهر ومحلل في مسائل التنمية تكتب كما في بحث أو مقال: أوهام وأضغاث أحلام في ملحمة التنمية، وذلك في مجلة الاقتصاد والإدارة, وتكتب بحثاً بعنوان: التنمية وجهاً لوجه، وهو كتاب مطبوع في سلسلة إصدارات تهامة. ومرة أخرى أنت خبير في الصناعة والتخطيط الصناعي تكتب بحثاً بعنوان: "الجبيل وينبع كيف ولماذا؟ " وهو موجود في وزارة التخطيط بالرياض, وتكتب بحثاً آخر بعنوان: "الصناعة في الخليج آفاق جديدة"، وهو عبارة عن محاضرة صغيرة ألقيتها في جمعية المهندسين البحرينية, ومرة تكتب في الصحة والخدمات الصحية, حيث نشرت لك مقالة بعنوان: نحو خدمة صحية أفضل، ومرة أنت خبير في السياسة والعلاقات الدولية حيث دراساتك -رسالة الماجستير والدكتوراه- ومن ذلك مقال نشر بعنوان: "نظرية العلاقات الدولية هانس جي ونقاده" وحتى إنك ذكرت في مقابلة في المجلة العربية في هذا الشهر: أن المصلحة الوطنية -وهذا مما يتعلق بالخبرة والسياسة الدولية- تقتضي أنك عندما تكون حليفاً لدولة ما أن تعتبر كل ما يدور بداخل هذه الدولة خيراً كان أو شراً من شئونها الداخلية، أي من حقك أن تعقد حلفاً مع دولة مهما كان فساد هذه الدولة الداخلي, ولا يعنيك شأنها الداخلي, بمعنى أنك حين قلت قصيدة تمجد فيها صمود العراق في وجه إيران, يوم كانت العراق تحارب إيران حسب تصريحك أنت في العدد نفسه: مصيب ولست بنادم على القصيدة، أي من حقك -مثلاً- أن تتجاهل جرائم صدام حسين مع المسلمين الأكراد والسنة في العراق, ومجازره البشعة ضد العلماء في بلده وضد الدعاة, واستئصاله لشأفتهم, وقضاءه المبرم عليهم, وأن تعتبر هذا أمراً داخلياً لا شأن لك به، مادامت مصلحتك الوطنية تقتضي أن تكون حليفاً له, هذا معنى كلامك ومضمون حديثك, وهو جزء مما تتحدث فيه عن العلاقات الدولية والخبرة السياسية! ومرة أخرى أنت مؤرخ تنقل في مجلة اليمامة العدد 684 ورقة عائلية من تاريخ الطبري, لتستنج منها أن عمر رضي الله عنه يدعو زوجته إلى تناول طعام الغداء مع ضيف جاء إلى عمر من أحد البلاد, وأن الذي منع المرأة من ذلك فرفضت القدوم أنها ساخطة على عمر , وإلا كانت جاءت تأكل مع الضيف, ولماذا هي ساخطة؟! سخطت لأن عمر لم يشتر لها ملابس جميلة, كملابس فلانة وفلانة من نظيراتها, ثم عقبت على مقالك هذا بالهجوم على السادة الكرام الذين يتصورون أن المرأة مخلوق من الدرجة الثانية, وربما من الدرجة العاشرة، ولم تبين بالضبط من تعني بالسادة الكرام, فربما نكون نحن جميعاً من أولئك السادة الكرام! ومرة أنت مفسر ومحدث تنقل عن الطبري في تفسيره أقوالاً منكرة غريبة, وآثاراً مرفوضة, وتتجاهل كلام ابن كثير في نكارتها، وتتجاهل العقل الذي يرفضها وينكرها, وتتجاهل أن إسنادها مظلم كالليل، وتُمَكِّن لهذه الروايات لتستدل على بعض نظراتك التي تتعلق بالأوضاع السياسية في منطقة الخليج وما حولها! ومرة أنت باحث اجتماعي كما في كتابتك: "قضية القضايا وبقية القضايا"، حيث تحدثت عن التغيير الاجتماعي، وكيف يتم هذا التغيير، وأنه من خلال التغيير الاجتماعي يمكن أن تحسم قضايا كثيرة في المجتمع, كما حُسمت أمور سابقة, كقضية اللاسلكي -مثلاً- أو تعليم المرأة أو عمل المرأة أو قضية التلفاز أو غيرها, وأنه يجب أن يتم الحوار حول القضايا المفتوحة في جو هادئ, بعيداً عن التشنج والانفعال واستعداء السلطة على الرأي الآخر, وبعيداً عن الاتهامات التي تلقى جزافاً وبلا مبالاة, ولا أدري ما دمت تحذر من الاستعداء -استعداء السلطة على الرأي الآخر- ماذا كنت تعني بالضبط بقولك في يوميات كاسيت: أيتصور بعضنا جهاز الكاسيت معركة باردة؟! أي أن الجواب عندك أنها معركة ساخنة، فخذوا حذركم. ومرة أخرى أنت كاتب أصولي في أصول الفقه, تكتب عن آداب الاجتهاد والاختلاف في الإسلام, كما في اليمامة، وتنقل عن ابن القيم رحمه الله، والإمام مالك رحمه الله، والإمام الشاطبي رحمه الله, وقد عددت في هذا الكلام نقولاً كثيرة, بل إن الكلام كله نقول، وختمت القول بقولك: ترى متى يتعلم المسلمون المعاصرون من أسلافهم العظام شيئاً من أدب الاجتهاد وأدب الاختلاف. ونحن نوافق على أنه يجب أن نتعلم من أسلافنا كل شيء، وليس فقط أدب الاجتهاد والاختلاف, لكن لا أدري أين ذهبت هذه الآداب في مقالة الشريط؟! حيث برزت الاتهامات بالكذب والاختلاف, فظهر أنك تتهم بعض المتحدثين بأن هناك أشياء وقصصاً يروونها لا وجود لها إلا في خيالهم, ومعنى ذلك أنهم تخيلوا شيئاً واختلقوه، ورسموا منه قصة موضوعة وسردوا حكايات لا وجود لها إلا في خيالهم, ولا أدري لماذا التدخل في توزيع التخصصات والاستغناء عن خدمات العلماء, إنك تلمح بأن بعض المتحدثين في تلك الأشرطة أنهم كإذاعة بغداد، أو أنهم أخذوا عنها بعض ما يتكلمون فيه عن مخاطر وجود المرأة الأجنبية مجندة كانت أو غير مجندة على هذه البلاد وأخلاقياتها, وأن همهم إثارة البسطاء واستفزازهم بقصص خيالية, فهذا الكلام يصدق على الممثلين، ويصدق على الفنانين، ويصدق على المشتغلين بالإعلام، ويصدق على بعض الأدباء والشعراء الذين همهم إثارة البسطاء واستفزازهم, أما العلماء فإنهم يتكلمون عن حقائق ووقائع، وإن كانت لا تعجبك على كل حال, أين الأسلوب العلمي؟! أين الهدوء الذي تدعو إليه؟!. وقد تحركت عاصفة جديدة في هذا الكلام، ولكنها عاصفة من نوع آخر غير العواصف التي تعودناها منك، في جريدة: الشرق الأوسط. ومرة أخرى تتحول إلى مفتٍ يفتي في الجليل والحقير, ففي مقابلة مع عكاظ يفتي بالموسيقى، ويفتي بكشف المرأة لوجهها, ويقول: هاتوا لي دليلاً من الكتاب والسنة على تحريم قيادة المرأة للسيارة, والكلام المطروح حتى الآن غير مقنع عن هذا الموضوع. وقد تجرأت أكثر وأكثر, حين كتبت في جريدة المسلمون في عدد هذا الأسبوع عنوان: "حد القذف: هل يشترط التصريح أم يكفي فيه اللتميح؟ " وهذا تدخل في أعمال القضاة, تحدث عن القذف وأنه حرام في الكتاب والسنة, وساق الأدلة على تحريمها، وأنا ألخص لكم الفائدة حتى تنتفعوا بها, ثم ذكر أن ألفاظه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: صريح, كناية, وتعريض. فما بقي لنا -بارك الله فيك وأصلحك الله- إذا وصلت لهذه القضية؟! ما بقي لنا؟! السياسية: لا تتكلموا فيها, والاقتصاد: ليس من شئونكم, والصناعة والصحة والإعلام, والآن جئت في تخصصنا أيضاً، في موضع القذف، وفي قضايا فقهية, تتحدث عن الأدلة، وتنقل وتقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام، وساق خلاف العلماء حول الكنايات والتعريض, كقول القائل لامرأة: يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة! ونقل مذهب الأحناف من كتاب سماه الميسور للسرخسي، هكذا في المطبوع، ويمكن أنه خطأ مطبعي أو أنه ليس من كاتب المقال, ولكن نشرت باسمه, ولا أستطيع أن أتكلم إلا بعد التثبت, قد يحصل شيء أو اعتذار عن هذا, على أي حال لا أعرف كتاباً بهذا الاسم, وكتاب المبسوط للسرخسي هو المقصود على كل حال. ونقل من كتاب آخر اسمه: الفقه على المذاهب الأربعة، وهذا الكتاب يقول بعض علمائنا المعاصرين: إنه يجب إحراقه؛ لأنه كتاب غير موثق ولا يعتمد, ومع ذلك نقل مذاهب الفقهاء من هذا الكتاب, وعقب بقوله: فأعجب من نفر يدعون الغيرة على الأعراض، وهم يستخدمون ألفاظاً يستحق قائلها الحد أو التعزير، ومعروف من يقصد بذلك, ولا أدري بالضبط هل سمع هو أو سمع غيره شخصاً معيناً يرمي أحداً أو يقذفه بالفاحشة. أصل القضية أن الكلام في حد القذف يفتقر إلى أن يكون أمامنا شخص قاذف فلان بن فلان قذف, بعد ذلك تبحث هل قذف بعبارة صريحة أم كناية أو تعريض، وهل يستحق الحد أو التعزير، أو هو مخطئ أم مصيب، هذا موضوع آخر, لكن الآن ليس أمامنا شخص الجزء: 57 ¦ الصفحة: 14 الأسئلة الجزء: 57 ¦ الصفحة: 15 التسجيلات الإسلامية والاهتمام بالناشئين السؤال من المآخذ على محلات التسجيل عدم الاهتمام بالناشئ لتوفير الشريط الملائم الخالي من الشوائب، والذي ينمي العقيدة في نفوسهم, فجل الأشرطة الموجودة لا تفي بالغرض، لأنها مستوردة من بعض الدول التي لا تراعي لا سلامة العقيدة ولا تراعي عادات هذا البلد؟ الجواب هذا صحيح, وهي من أهم المطالب التي يطالب بها الإخوة أصحاب التسجيلات, أن يعملوا على إيجاد إصدارات خاصة بالطفل، تراعي السن وتراعي صفاء العقيدة. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 16 حكم استخدام الشريط كوسيلة دعوية السؤال استعمال الشريط الإسلامي، هناك من يدعي أنه لا يصلح ولا يوجد دليل لذلك؟ الجواب في الواقع أنه لم يقل أحد من أهل العلم بذلك, بل الأمة كلها مجمعة على جواز استخدامه والانتفاع به، بل هو من أهم الوسائل وأعظم طرق التوثيق؛ فإن الشريط أكثر توثيقاً من الكتاب, من حيث أن الشريط من صوت المتحدث, وقد يختلق كتاب وينسب إلى شخص, لكن الشريط بصوت المتحدث بحيث أنه يسلم من الاختلاق والتزوير. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 17 حكم تحويل أشرطة الأغاني إلى مادة إسلامية السؤال كثير من الشباب يعودون إلى الله، لكن عندهم أشرطة غناء، فيتحيرون في التصرف فيها, وقد تكون كثيرة تصل إلى المائتين أحياناً, هل ترون مسح الغناء وتبديله بمادة إسلامية؟ الجواب نعم, وهناك محلات -كما قلت- تقوم مجاناً بهذا. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 18 حكم استخدام الأشياء الفنية في الشريط الإسلامي السؤال كثير من الناس يرى أن استخدام الأشياء الفنية تلاعب بالشريط الإسلامي, كاستخدام الصدى أو استخدام أصوات مستعارة كأصوات الحروب أو سيارات الإسعاف أو الطيور أو المياه مما يناسب الحدث؟! الجواب كل شيء في وقته وفي مناسبته, هو مناسب في مجال، وغير مناسب في مجال آخر, كونك تأتي في درس علمي -مثلاً- أو محاضرة جادة، وتطرح مثل هذا، فهذا لا يناسب, لكن إذا كان موضوع الشريط يناسب، وإن كان الشريط يخص شخصاً معيناً فلا بد من استئذانه في هذا أيضاً. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 19 حكم الأناشيد الإسلامية السؤال ما حكم الأناشيد الإسلامية التي تنشر في محلات بيع الأشرطة؟ الجواب سبق أن بينت رأيي في الأناشيد, وأنها تجوز بثلاثة قيود: 1- أن تكون سالمة من المعاني الرديئة, سواء المعاني الشركية أم غيرها. 2- أن تكون سالمة من الدفوف والطبول ونحوها. 3- ألا تغلب على الإنسان وتكون هي جل همه. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 20 حقوق الملكية للأشرطة السؤال بعض المحلات تكتب حقوق الطبع محفوظة على الأشرطة؟ فما رأيكم في ذلك؟ الجواب أقول في نظري وهو نظر قاصر لا شك: إنه ينبغي التفريق بين نوعين من الأشرطة، فهناك نوع قام المحل بإعداده وإنتاجه، وتعب فيه وضحى فيه بأموال وأوقات، واستقدم -مثلاً- مشايخ ودعاة، وقام بإعداده حيث أصبح إصداراً، فهذا من حقه أن يملك شيئاً يجعله يستمر في هذا الطريق. وهناك نوع آخر من الأشرطة سجله كما سجله غيره , فهذا ليس من حقه بحال من الأحوال أن يفرض عليه حقوقاً. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 21 ما لا يصلح للنشر من الأشرطة السؤال ظاهرة وجود أشرطة غير صالحة للنشر؟ الجواب هذا صحيح، وقد تكلمت عنه, وينبغي أن يعالج على كافة المستويات. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 22 كيفية استخدام الشريط في الدعوة السؤال كيف أجعل الشريط الإسلامي وسيلة دعوة؟ الجواب عن طريق الانتقاء والنشر, نحن بحاجة إلى أن نتضافر لنشر الشريط كلنا, كل واحد منا -مثلاً- في حيّه، يتولى الحي بالنيابة عن الجميع يقوم بنشر الشريط في الحي, وآخر في المدرسة يقوم بنشره, وثالث وسط العائلة التي ينتسب إليها, والرابع في مسجده, وخامس وسادس بحيث تتضافر جميعاً في نقل الشريط الإسلامي المفيد النافع حتى يسمعه كل إنسان، ونحن نثق بالناس أنهم يسمعون، فإذا سمعوا شيئاً مفيداً تقبلوه وأخذوه, وإن سمعوا شيئاً فيه خطأ ردوه. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 23 حفظ الأشرطة السؤال أنا شاب أحفظ الأشرطة التي تعجبني, فما رأيك في فعلي؟ الجواب إن كنت تقصد بحفظها أنك تحفظها عن ظهر قلب, فهذا شيء جيد، أعطاك الله ذاكرة بهذا الأمر, أما أنك تقصد بحفظها في أدراج ودواليب فهو أيضاً أمر آخر حسن, وحتى الأشرطة كلها ما دامت أشرطة إسلامية فحفظها حسن. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 24 توزيع الأشرطة على الشباب السؤال بمناسبة قرب عطلة الربيع أرجو حث الإخوة على تكثيف توزيع الأشرطة في البر بين الشباب, خاصة وأن معظمهم لديه فراغ كبير فهو يستمع، وبإذن الله يحد ذلك من خطر زلاتهم؟ الجواب هذا مطلب جيد, وكان هناك معي رقعة أخرى تطلب نحو ذلك, وينبغي أن يكون هناك حرص على جمع التبرعات أحياناً لشراء كميات كبيرة من الأشرطة وتوزيعها على الشباب وعلى غيرهم, وهذا -كما هو مجرب- من أعظم وسائل الدعوة، ومن دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 25 حكم صرف الزكاة في نسخ الأشرطة السؤال ما رأيكم فيمن يجمع بعض الزكوات وينسخ منها أشرطة؟ الجواب لا أرى ذلك, لا أرى أن الزكاة تصرف في نسخ الأشرطة وبيعها. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 26 مقترحات لاستخدام الشريط كوسيلة دعوية السؤال ما هي الأمور التي ينصح الشباب بتنفيذها بشأن الدعوة عن طريق الشريط؟ الجواب أولاً: اختيار الشريط, لأن كثيراً من الأشرطة تكون مناسبة لفئة معينة أو طبقة معينة, فيحتاج أولا ً: أن يختار الشريط المناسب. ثانياً: أن ينسخ من هذا الشريط كميات كبيرة. ثالثاً: أن يتضافر جهد الشباب في هذا المجال, مثل جمع التبرعات من جهة, مثل جمع الأشرطة التي فيها أغانٍ وتحويلها إلى أشرطة مفيدة، واحتساب ذلك عند الله عز وجل. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 27 عوائق في طريق الأشرطة الإسلامية السؤال هناك نظام أو أنظمة تنص على عدم بيع التسجيلات والأشرطة إلا في محلات معينة، فما هو تعليقكم على ذلك؟ الجواب هذه فعلاً من المشكلات, الآن نحن ندخل أماكن كثيرة في كثير من البلاد، فنجد أن البقالة تبيع أشرطة الأغاني وتبيع أشرطة الفيديو, ورأيت هذا بنفسي في أماكن كثيرة, فهناك بقالات كثيرة أو ما يسمونه بالسوبر ماركت, وتبيع جرائد ومجلات وبعض الكتيبات, لكن الشريط الإسلامي يلاحظ أن هناك حرباً عليه, حتى إن بعضهم يلاحقون من يبيعه ملاحقة لا هوادة فيها, وكأنهم يلاحقون مجرماً من المجرمين, وقد رأيتهم بعيني في بعض الأماكن بطريقة غير صحيحة, ويمنعون ذلك ويتابعون من يبيع مثل هذه الأشياء. وفي الواقع إما أن يطبق النظام على الجميع، والمساواة في هذا الأمر على ما فيها عدالة, وإما أن يكون من حق صاحب أي محل أن يبيع الشريط, ما دام الشريط مرخصاً ومأذوناً فيه؛ كما أن الآخر يبيع أغاني, وكما أن الثالث يبيع جرائد ومجلات، والرابع والخامس. ولا شك أن هذه الأشياء أولى بأن نتحمس ونسعى إلى الترخيص والنشر فيها من غيرها, وينبغي إذا رأينا أو لاحظنا من أحد القائمين على الأمر التقصير أن نكلمه، فإن استجاب وإلا كلمنا من فوقه، ورفعنا الأمر؛ لأن بعض هؤلاء قد يستغلون بعض الفرص للحيلولة دون انتشار الشريط, وقد يحققون أهواء في نفوسهم وأشياء في ضمائرهم وقلوبهم الله تعالى أعلم بها. ولا شك أن المؤمن الذي يرغب في نشر الخير, يسره انتشار الشريط والله الذي لا إله إلا هو، بغض النظر عنمن يتكلم، وبغض النظر عن الموضوع, مادام الشريط يتكلم في قضية مفيدة للناس فلينتشر, وإن كان فيه خطأ, فالخطأ يعدل ويصحح، والناس على مستوى أن يفهموا ويدركوا ويميزوا، وهذا أمر جربته بنفسي تأتيني من الإخوة رسائل كثيرة تدل على النضج والفهم والوعي والقدرة على الإدراك، وأنهم يستطيعون أن يميزوا بين الخطأ والصواب، وأن يضبطوا العبارة، وأن يستدركوا على المتحدث الذي قد يأخذه الحماس أو الاندفاع أو السرعة في الحديث، فيخفى عليه بعض ذلك. وفي نهاية هذا اللقاء الطيب المبارك أدعو الله تعالى وأتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا, وهو الله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد, وهو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور العزيز الحكيم, الذي عودنا كل خير أن يعمنا جميعاً برحمته وتوفيقه وهداه. اللهم ارحمنا برحمتك وأنت أرحم الراحمين. اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف الغنى, اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, اللهم اهد ضال المسلمين، وردهم إليك رداً جميلاً يا أرحم الراحمين, اللهم اهدهم أجمعين, اللهم اهدنا ولا تضلنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، ووفقنا لما تحب وترضى من الاعتقاد والقول والعمل يا رب العالمين. اللهم اجعلنا لك ذاكرين، لك شاكرين، لك أوابين، بك مستعينين، عليك متوكلين يا أرحم الراحمين. اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم عاف مبتلاهم، اللهم صحح أبدانهم، اللهم نور عقولهم، اللهم أصلح قلوبهم، اللهم كثر أموالهم، اللهم حسن أخلاقهم، اللهم اهدهم لما تحبه وترضى يا رب العالمين. اللهم وفق شبابنا وفتياتنا إلى ما تحب وترضى، اللهم أنجحهم في دراستهم يا حي يا قيوم, اللهم وفقهم في اختباراتهم وامتحاناتهم, اللهم أعنهم، اللهم أصلحهم، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجعلهم قرة أعين لآبائهم وأمهاتهم يا حي يا قيوم، واجعلهم قرة عين للإسلام والمسلمين في كل مكان يا حي يا قيوم. اللهم اهدنا إليك، اللهم لا تفضحنا في الأرض ولا يوم العرض لا إله إلا أنت, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 28 الأسماء والكنى والألقاب (الكنى) تكلم الشيخ في هذا الدرس -تكملة للدرس الماضي- عن الكنية وأحكامها، فقد استهل الدرس بتعريف الكنية، مبيناً الكنى المكروهة التي كرهها الشرع، وذكر أسماء من كناهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين حكم التكني بأبي القاسم، وذكر اختلاف العلماء، ثم رجح أن ذلك جائز بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر كنى الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ختم الدرس بذكر بعض الأحكام المتعلقة بالكنية. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 1 تعليقات على موضوع (الأسماء) الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: هذه هي الحلقة الرابعة من سلسلة الدروس العلمية العامة، تنعقد في ليلة الإثنين، الثامن من شهر شعبان لعام (1410 هـ) . وفي بداية هذه الحلقة، أود أن أؤكد على بعض التعليقات التي لها تعلق بموضوع الدرس الماضي، وقد تحدثت في الدرس الماضي عن موضوع الأسماء، وبينت معنى الاسم، وما يحمد من الأسماء وما يذم منها، ثم تكلمت عن بعض أحكامها، وأشير -الآن- إلى بعض التعليقات الخفيفة. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 2 أخطاء وبدع في موضوع التسمية أسردها باختصار: نسبة المجهول إلى من رباه: فمن الأخطاء أن بعض الناس ينسبون المجهول إلى من رباه، فإذا وجدوا رجلاً منبوذاً، أو فتاة منبوذة، أي مجهول الأبوين، ولا يدرى من أهله حيث أنهم وجدوه في مسجد -مثلاً- أو في غيره، أو أخذوه من الجهات الرسمية، فإنهم ينسبونه إليهم، فيكون اسمه ابن فلان، وفلان أبوه وفلانة أمه، وأحياناً يسجل هذا في الأوراق الرسمية، عن طريق الجهل من الأبوين، وخاصة الأب، فتعرف البنت بأنها ابنة فلان، أو يعرف الولد بأنه ولد فلان، وهو ليس أبوه الحقيقي، وإنما هو الذي رباه، وقد يكون أباً له من الرضاعة، وهذا لا يجوز، لأن الله عز وجل يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] فإذا لم نعلم من أبوه، فإننا نسميه باسم عام كعبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الكريم، وما أشبه ذلك، دون أن ينسب إلى شخص معين، لأن هذه النسبة لا تجوز، وهي خلاف ما ذكر الله عز وجل في كتابه، وأمر به: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] ثم قال: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب:5] أي: فلا تنسبوهم إلى أحد منكم، فهذا من الأخطاء التي تقع كثيراً. وقد أبطل الإسلام نظام التبني الذي كان موجوداً في الجاهلية، فقد كانوا في الجاهلية إذا وجد رجل رجلاً، فإنه ينسبه إلى نفسه، كما كان زيد بن حارثة يسمى في الجاهلية زيد بن محمد، لأنه أسر في معركة فكان رقيقاً عند الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان أبوه يبحث عنه، ويبكي الليل والنهار على ولده، حتى كان يقول في ضمن كلامه وشعره، كان يقول: بكيت على زيد ولم أدرِ ما فعل أحي فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل أغالك سهل الأرض أم غالك الجبل تذكرنيه الشمس عند طلوعها وتعرض ذكراه إذا غربها أفل وإن هبت الأرياح هيَّجن ذكره فيا طول ما حزني عليه وما وجل ثم وجده عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما جاءوا إليه، خيره الرسول عليه الصلاة والسلام، إن شاء جلس عنده، وإن شاء لحق بأبيه وعمه، فقال: ما أنا بالذي يختار عليك أحداً، وهذا قبل النبوة. وذلك لما رأى من حسن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرج به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش، وقال: {يا معشر قريش! أشهدكم أن هذا ابني أرثه ويرثني} فكان يسمى في الجاهلية زيد بن محمد، ثم جاء الإسلام: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وأبطل الإسلام نظام التبني وألغاه بالكلية. ومن الأخطاء التي تقع في التسميات: أن بعضهم ينسبون الولد إلى غير أبيه لسبب أو لآخر، فمن ذلك مثلاً: أن بعضهم قد يخترعون اسماً آخر للولد، فقد يسمي الولد نفسه باسم آخر غير اسمه مع اسمه الأول، فيقول: أنا فلان بن فلان، إضافة إلى اسمه الأصلي، فنسب نفسه إلى غير أبيه، وهذا لا يجوز. وأحياناً إذا ولد لرجل ولا، سماه باسم مركب كامل، كما يروى في الطرائف والنوادر يقال: إن رجلاً ولد له ولد، فقيل له: ماذا نسميه؟ قال: سموه عمر بن عبد العزيز، فإنه بلغني أنه كان رجلاً صالحاً، وهذا موجود، ويذكر لي أحد الشباب؛ أن رجلاً كان في هذه البلاد، فأحسن إليه رجل له اسم معين، لنفترض أن اسمه عبد الرحمن المحسن ما دام أنه أحسن، فتوفي هذا الرجل، ثم وُلد للآخر ولد، فلا زال يذكر إحسان صاحبه القديم، فلما جاءه ولد سماه عبد الرحمن المحسن، مع أن (أل) هذه عندنا بمعنى (ابن) أو تقوم مقام (آل) فلا ينبغي أن يسمي ولده باسم كامل؛ لأنه يترتب على هذا أن يكون نسبه إلى غير أبيه. وأحياناً قد يكون الولد قد تربى عند أخواله، إما لأن أمه مطلقة، أو ما أشبه ذلك، فينسب إلى أخواله، وهو ابن ابنتهم، ويشتهر هذا حتى لا يعرف إلا به حتى عند أهله، ولا شك أن ابن البنت ليس ابناً لجده من الأم، كما قال الأول: بنونا بنو أبنائنا وبناتنا بنوهن أبناء الرجال الأباعد فلا يجوز أن ينسب ابن البنت إلى جده من أمه، وإن كان تربى عندهم، أو رضع عندهم، أو ما أشبه ذلك. وأحياناً الأجانب ينسبون الزوجة إلى زوجها، وهذا تقليد غربي عند الكفار -النصارى- لأنهم كانوا لا يرون للمرأة قيمة، وكانوا يحتقرون المرأة ويزدرونها، ولا يرون لها قيمة ولا شخصية، ولذلك كانوا ينسبونها إلى زوجها، فإذا تزوجت نسبت إلى زوجها أياً كان، وألحقت بالعائلة التي منها الزوج، وهذا تقليد غربي سرى إلى المسلمين، حتى نجد كثيراً من أمصار المسلمين، سواء من علية القوم أم من سَقَطهم، إذا تزوج الرجل امرأة فإنها تنسب إليه، وكثيراً ما تقرءون هذا في الصحف والمجلات وغيرها، فينسبون المرأة لزوجها وهذا لا يجوز؛ لأن الله عز وجل يقول كما سبق: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] . حذفة كلمة ابن من الاسم: ومن الأخطاء التي تقع في موضوع التسمية: أن بعضهم يحذفون كلمة (ابن) من الاسم، وهذا كثير جداً، فبدلاً من أن يقول: محمد بن عبد الله، يقول: محمد عبد الله، محمد صالح علي إبراهيم، أحمد محمد، وهذه مشكلة من الناحية اللغوية ومن الناحية الشرعية، وأنا لا أستطيع أن أقول: إن هذا العمل محرم، وسبق أن المجامع اللغوية درست هذا الأمر، ولم تخرج فيه بنتيجة واضحة وحاسمة، ولكن ليس هناك شك أن الشرع كان على ما هو دارج ومعروف في لغة العرب وفي القرآن والسنة، كانت تسمى الأسماء بغير هذا، كما في قوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [التحريم:12] وكذلك في مواضع كثيرة، وفي السنة النبوية من ذلك شيء كثير. فهذا هو الذي كان معروفاً عند العرب، وهو الذي جاءت به السنة، وجاء به القرآن الكريم، وهو أن الإنسان يقال له: ابن فلان، محمد بن علي مثلاً، وليس محمد علي، وحذف (ابن) هنا يُوجد لبساً، لأنه قد يوهم الناس بأن محمداً هو علي، فعندما تقول: محمد علي، فقد يوهم الناس بأن له اسمان مثلاً محمد، وعلي، والواقع أن محمداً اسمه، وعلياً اسم أبيه. فحذف (ابن) هذه -أيضاً- من العادات الأجنبية، وعادة غربية، كما ذكرت دراسة نشرت في المجلة العربية، ومن قبل نشرت في مجلة العرب، وأذكر أنهم ذكروا أن هذه العادة أو هذه الطريقة في النسب، موجودة عند الغربيين، وسرت إلى المسلمين من أعدائهم، فينبغي التعود والتعويد على أن يذكر (ابن) في الاسم فيقال محمد بن عبد الله، وما أشبه ذلك. وأيضاً من الأخطاء التي نقع فيها خاصة في هذه البلاد: هي إضافة كلمة (أل) في الإسم فتجد مثلاً: اسم فلان محمد العبد الله أو العبد الرحمن، و (أل) فيما يبدو لي أنها مخففة من (آل) من آل عبد الله، أو آل عبد الرحمن، لكنها أحياناً توقع في لبس شديد، خاصة في هذين الاسمين: عبد الله وعبد الرحمن؛ لأنك إذا قلت: العبد الله أو العبد الرحمن قد يوهم -أيضاً- أن العبد هو الله، أو العبد هو الرحمن، وهذا قطعاً ليس مقصوداً لكنه يوهم، وفيه سوء أدب مع اسم الله تعالى، ولذلك ينبغي اتقاء ذلك، وكثيراً ما نجد في اللوحات واللافتات، التي تعلق على الدكاكين والأسواق وغيرها، بهذه الصورة العبد الله العبد الرحمن، وهذا أيضاً من الأشياء التي ينبغي أن تتقى، فيقال: ابن عبد الله، أو آل عبد الرحمن. بعض العادات البدعية في التسمية: ومن الطرائف المنكرة في موضوع التسمية؛ أن بعض البلاد وخاصة في مصر في الصعيد -عندهم عادة في التسمية غريبة، وهي أنه إذا ولد الولد عندهم، فإنهم يوقدون سبع شمعات، ويسمون كل شمعة باسم، الشمعة الأولى -مثلاً- اسمها محمد، والثانية علي، والثالثة: صالح، والرابعة: إبراهيم، والخامسة: أحمد، والسادسة: خالد، والسابعة: سليمان -فرضاً- ثم ينتظرون حتى تطفأ جميع الشمعات، فينظرون آخر شمعة انطفأت، فيسمون الولد باسم الشمعة هذه، فإذا كانت آخر شمعة انطفأت هي التي أطلقوا عليها اسم أحمد فإنهم يسموا الولد باسم أحمد، وهم بذلك يتفاءلون بأنه سوف يطول عمره كما طال عمر تلك الشمعة فلم تنطفئ. وهذه بدعة لا إشكال فيها، وهي من الخرافات التي جاء الدين بالقضاء عليها والنهي عنها. وكذلك من البدع الموجودة في عدد من الأمصار الإسلامية: أنهم يجعلون للرجل أو للمرأة اسمين، أحدهما ظاهر والآخر خفي، ويعتقدون بذلك معتقدات، فبعضهم يظنون أن هذا ينجيه من المرض، وبعضهم يقول: إنه يقيه من العين، وبعضهم يقول: إنه يقيه من الجن، وكأنهم يعتقدون بوجود لبس عند الجن أو عند العائن فلا يعرف ماذا يعين، والجني لا يعرف ماذا يصيب؛ لأن الرجل له اسمان، اسم ظاهر معلن ينادى به واسم خفي. وكذلك أحياناً يسمون الذكر باسم الأنثى، فمثلاً بعض الآباء -وهذا موجود عندنا في بعض البيئات، خاصة التي يغلب عليها الجهل- كلما ولد له ولد ذكر مات، فأحياناً يولد له ولد ذكر، فيسميه باسم أنثى، بل يسميه باسم: بنية، فيكون اسمه: بنية هكذا، وهذا الأب يفعل ذلك من أجل أنه لا يموت؛ لأنه تعود أنه كلما جاءه ذكر مات، والإناث يعشن لا يمتن، فسمى الولد باسم أنثى حتى يعيش، وهذه مغالطة صريحة؛ لأن الأمور كلها أقدار بيد الجبار جل وعلا، والاسم لا يقدم ولا يؤخر في الأمر شيئاً، والمقدر سيكون والمكتوب سيجري، سواء سميته أم لم تسمه. وكذلك بعضهم -وهذه عادة يهودية- لكنها انتشرت عند بعض المسلمين- يغيرون اسم المريض، فإذا كان اسم المريض أحمد ثم مرض، ففي أثناء مرضه يغيرون اسمه إلى صالح أو علي، من أجل أن لا يموت، لأنهم يقولون: قد يكون ملك الموت مكلف بقبض روح أحمد، فإذا غير اسمه لم يقبضه، هذا -ولله الحمد- نحن نضحك منه؛ لأنه أمر بالغ في الجهل مبلغاً عظيماً، لكنه موجود، وهي عادة في الأصل يهودية ثم انتقلت وسرت عدواها إلى بعض البيئات الإسلامية، التي يكون فيها أقليات أو طوائف يهودية، ولا يبعد هذا عن اليهود، بالنسبة لهم فإنه ليس غريباً، لأن اليهود إذا كانوا نسبوا ل الجزء: 58 ¦ الصفحة: 3 أسماء مذمومة تسبق الإشارة إليها أولاً: هناك نوعان من الأسماء المذمومة، لم تسبق الإشارة إليه فيما مضي، على رغم اشتهارها وانتشارها، وهي: 1- الأسماء الأجنبية: النوع الأول: الأسماء الأجنبية، كأسماء اليهود -مثلاً- أو أسماء النصارى، أو الشيوعيين، أو الكفار على مختلف طوائفهم وأصنافهم، فإن من المعلوم أن لكل طائفة ولكل أمة ولكل ملة أسماء، فاليهود مثلاً يتميزون بأسماء مثل: (ديفيد) و (باروخ) و (إيلي) و (عزرا) و (ناحوم) وما أشبه ذلك من الأسماء اليهودية، وكذلك النصارى لهم أسماء يتميزون بها مثل: (جورج) و (ميشيل) و (بطرس) و (بولس) و (يوحنا) وغيرها من الأسماء النصرانية المعروفة التي انتشرت عند النصارى سواءً من النصارى، العرب أم من النصارى غير العرب، فهذه الأسماء لا يجوز أن يسمى بها أحد من المسلمين قط. ومثلها الأسماء التي عُرفت بأشخاص من أئمة الكفر كالشيوعيين مثل: (لينين) أو (ماركس) أو (إنجلز) أو غيرها، فهذه الأسماء فضلاً عن أنها أجنبية هي أسماء لأناس من أئمة الكفر، فلا يجوز لمسلم أن يسمي ولده بمثل هذه الأسماء؛ لأن هذا من باب التشبه بالكفار، ومن بابٍ آخر فهو فألٌ سيئ، وشؤمٌ على من تسمى بها، فلا يجوز لأحد أن يسمي بها. ومما ينتشر في مجتمعنا تسمية البنات بالأسماء الأجنبية، التي لا هي معروفة بلغة العرب، ولا هي أسماء تاريخية ولا شرعية، ولا موجودة أصلاً في مجتمعنا، وإنما استوردت من الكفار معلبة وأطلقت على بعض البريئات فكانت شؤماً عليهن وعلى من سماهن، كما نجد -مثلاً- كثيراً من الناس يسمي ابنته: (يارا) ، فهذا الاسم ليس له معنى في اللغة العربية وهو اسم أجنبي، فلا يجوز تسمية أحد من الذكور ولا من الإناث بمثل هذه الأسماء، ومثله اسم (ريانا) وأحياناً تجد فتاة مسلمة تسمى (فكتوريا) ، وهذه كلها أسماء لنساء من أهل الكتاب، أو أحياناً من الفراعنة، كما نجد بعضهم يسمى (كليوباترا) وفيما أحسب وأعتقد أن هذا اسم فرعوني. فعلى أية حال، الأسماء الأجنبية سواء كانت من أسماء اليهود، أم من أسماء النصارى، أو الشيوعيين، أو الوثنيين من أعداء الدين، فإنه يحرم التسمي بها لوجوه: أولاً: إن هذا تشبه، والتشبه حرام أو أقل أحواله أنه حرام. ثانياً: إن هذا فأل سيء فيمن سمى بذلك أو من سمي به. والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعجبه الفأل الحسن. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 4 التسمي بأسماء آيات القرآن أو سوره النوع الثاني من الأسماء التي ينهى عن التسمي بها. أن يتسمى بعض الناس بأسماء آيات أو سور القرآن الكريم، أو بعض الأذكار. فقد رأيت مرةً رجلاً اسمه: (سبحان الله) ومثل هذا مدعاة إلى أن يهان الذكر بسبب هذا الرجل، فإذا سبه أحد أو شتمه أو تكلم فيه، فإنه يأتي بلفظ: سبحان الله في هذا الموضع، وهذا يتنافى مع الأدب الواجب مع الله تعالى وآياته ورسله وكتابه، ومع الذكر أياً كان الذكر. فمثلاً: التسمي بسبحان الله، أو بالحمد لله، أو بأمر الله، أو بأسماء سور القرآن، مثل (طسم) أو (يس) أو بعضهم طه، وما أشبه ذلك، وقد ظن بعض العوام أن هذه أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا وإن ذكره بعض المصنفين الذين بالغوا في حشد أسماء للرسول عليه الصلاة والسلام، أوصلها بعضهم إلى مئات، إلا أنه لا دليل عليها، ولهذا قال الإمام ابن القيم: إن هذا لا يعرف بحديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف، ولا أثر موصول، ولا مقطوع، أن مثل هذه أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هي من الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: (الم) (وحم) (والر) وما أشبه ذلك، فهي حروف مقطعة في أوائل السور تكلم المفسرون حولها. المقصود أنها ليست أسماء للرسول صلى الله عليه وسلم، والتسمي بها مدعاة لتعرضها أيضاً للإهانة والسب والشتم وسوء الأدب -كما سلف- فلا ينبغي التسمي بمثل هذه الأسماء، ولذلك ورد عن الإمام مالك رحمه الله نص على كراهية التسمي بـ (يس) ، فهذا هو الأمر الأول، وهو يتعلق بإضافة قسمين من الأسماء المكروهة الممنوعة. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 5 مفهوم الكنية وأصل اشتقاقها أما ما يختص بهذا الدرس فإنه يتعلق بالكنى، والكنى لها شأن عجيب، وهي من الموضوعات الممتعة والطريفة، وفيها أشياء مفيدة. فالكنية مأخوذة من الكناية، وهي: التعريض بالشيء دون التصريح باسمه، فعادة الناس أنهم قد يعرضون بالشيء، ولا يصرحون بذكر اسمه، فهذا يسمى كناية أو كنية، فالكنية مشتقة من الكناية. والكنية معروفة عند العرب، حتى كان العرب يكنون الصبي من يوم أن يولد، فيسمونه ويكنونه في نفس الوقت، بخلاف العجم والفرس، فإنهم كانوا لا يستخدمون الكنية بل يستخدمون اللقب، كما سيأتي في موضوع الألقاب. وكانت العرب تتيمن بتكنية الولد تفاؤلاً بأنه سيطول عمره حتى يتزوج وينجب ويسمي، وهذا فأل حسن، وورد الشرع به، فهو محمود، كما أنهم كانوا يقولون: كنوا أولادكم -أو بادروا أولادكم بالكنى- حتى لا تغلب عليهم الألقاب، لأنهم يرون أن الإنسان إن لم يكنى، فإنه قد يلقب، وهذا موجود الآن في كثير من مجتمعاتنا، لا تكاد تجد صغيراً ولا كبيراً إلا له لقب، واللقب: هو شئ يعتبر به، ويكون غالباً من الألقاب المذمومة غير المحمودة، فالكنية هي البديل الشرعي لهذه الألقاب المكروهة التي يتداولها الناس، خاصة في البيئات والمجتمعات الريفية -في القرى والأرياف والمدن الصغيرة- حيث يكثر التلقيب بالأسماء المكروهة، والكنية هي البديل الشرعي، كأبي فلان أو ما أشبه ذلك. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 6 الكنى المكروهة النقطة الثانية: هي موضوع ذكر الكنى المكروهة، أو التي ورد النهي عنها. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 7 التكني بأبي الكلام وعند الإخوان الهنود من المسلمين كنية غريبة، فهم يقولون: أبو الكلام، وهذه الكنية مشكلة وفي الواقع أنا لم أتثبت منها تماماً، لكنها مشكلة، لأن بعضهم يتسمى بعبد الكلام، ومنهم من يكون أبو الكلام، ومن مشاهيرهم: أبو الكلام آزاد، وهذا معلم ورجل مشهور عندهم، يسمونه أبو الكلام آزاد فإن كانوا يقصدون بالكلام أنه اسم يطلقونه على الله جل وعلا فهذا لا يجوز، لأن الكلام ليس من أسماء الله وصحيح أن الله تعالى من صفته الكلام، لكن ليس اسمه الكلام، فالكلام صفه له جل وعلا، وليست اسماً، فإن كان هذا قصدهم فلا يجوز أن يقال لأحد عندهم: إنه أبو الكلام، وهذا لا يجوز إن كان قصدهم ما ذكرت، فيتثبت من ذلك. وإنما أوجد اللبس عندي -كما ذكرت- أن بعضهم يسمى بعبد الكلام. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 8 الكنى التي فيها تعريض للإهانة وكذلك من الكنى المكروهة والممنوعة ما كان فيه تعريض للإهانة كما سبق في الأسماء، كأن يسمى باسم سورة من السور، أو باسم ذكر من الأذكار، وفي كتب الأدب والطرائف أشياء من هذا القبيل، أنا أذكرها لأمرين: الأمر الأول: لكي لا يكنى الإنسان بكنية تكون مدعاة إلى إهانة شيء من الذكر. الأمر الآخر: الإشارة إلى أن من أهل الأدب والطرف، من يكون عندهم شيء من المجانة والاستخفاف، فيتوسعون في رواية الحكايات والقصص والطرائف والنكت المتعلقة بالقرآن الكريم، أو بالسنة النبوية، أو بالله جل وعلا، أو بالرسل، وهذا لا يجوز، لأن القرآن لم ينزل ليكون نكتة يتداولها الأدباء والشعراء، وهذا الموضوع -موضوع النكت والطرائف إن شاء الله- سوف أفرد له جلسة خاصة؛ لأتحدث عن ما يسوغ له وما لا يسوغ، والآداب العامة المتعلقة به، وأذكر أمثلة مما يصلح وما لا يصلح. فأقول: في بعض كتب الأدب ككتاب نثر الدر والعقد الفريد وغيرها، يقول: إن رجلاً قيل له: ما كنيتك؟ فقال: كنيتي أبو عبد رب السماوات والأرض إن كنتم موقنين. فقال له رجل: حياك الله يا نصف القرآن. فهذا فيه: أولاً: هم يسوقون مثل هذه الأشياء للتندر، والتندر بالآيات القرآنية لا يجوز، وربما أن الناس إذا سمعوا نكته تتعلق بآية -أحياناً- أنها تسرع إليهم النكتة أكثر مما يسرع إليهم التأثر بالآية، أو الخشوع عندها، أوتدبر معانيها. وذكروا من هذا أشياء كثيرة، لا أرى أنه يصلح أو يسوغ أن أستطرد في ذكرها، إنما قصدت مجرد المثال. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 9 الكنى المخالفة للشرع وللواقع ومن الكنى المكروهة أو الممنوعة: الكنى المخالفة للواقع أو المخالفة للشرع، فقد ذكر ابن قتيبة وابن عبد ربه في العقد الفريد وغيرهما: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، سمع رجلاً ينادي رجلاً آخر يقول له: يا أبا العقلين! فقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: لو كان عاقلاً لكفاه أحدهما، فهذا خلاف الواقع، وخلاف ما دلت عليه نصوص الشريعة، فلا ينبغي أن يكنى أحد باسم مخالف للواقع، أو مخالف للشرع. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 10 التكني بأبي عيسى ومن الكنى التي نقل النهي عنها: كنية: أبو عيسى. فقد روى أبو داود والبيهقي بسند حسن، عن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن عمر كان له ابن يكنى بأبي عيسى، فضربه عمر وغير كنيته، وكذلك كان للمغيرة كنيتان: أبو عيسى وأبو عبد الله، فقال له عمر: ألا يكفيك أن تكنى بـ أبي عبد الله؟ قال المغيرة: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كناني بـ أبي عيسى، فقال عمر رضي الله عنه: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وإنا بعدُ في جلحتنا -بفتح الجيم وسكون اللام وفتح الحاء المهملة- والمقصود بالجَلْحَة: الرأس، واحدة الجلاح وهي الرءوس، كأن عمر يقول: نحن في عداد أمثالنا ونظرائنا وأشباهنا، ولا ندري ما يصنع بنا، ونهاه عمر أن يكنى بـ أبي عيسى، فلم يزل يكنى بـ أبي عبد الله حتى مات رضي الله عنه وأرضاه. لكن العبرة في الواقع بفعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فما دام أن الرسول عليه الصلاة والسلام كنى المغيرة بـ أبي عيسى، وثبت هذا، فنقول: إن الواقع أن كنية أبي عيسى لا بأس بها، وقد تكنى بها طائفة كثيرة من أهل العلم، من أشهرهم: الإمام أبو عيسى محمد بن سورة الترمذي صاحب السنن، فإنه يكنى بـ أبي عيسى. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 11 ذكر من كناهم الرسول صلى الله عليه وسلم النقطة الثانية في موضوع الكنى: ذكر من كناه الرسول صلى الله عليه وسلم: أولاً: الرسول صلى الله عليه وسلم كنى المغيرة بن شعبة بـ أبي عيسى -كما سبق-. ثانياً: الرسول صلى الله عليه وسلم كنى أبا الحسين علي بن أبي طالب،كناه بـ أبي تراب، كما في صحيح البخاري، ومسلم، عن أبي العباس سهل بن سعد رضي الله عنه: [[أن رجلاً جاءه، فقال: ألا تسمع ماذا يقول أمير المدينة على المنبر في علي بن أبي طالب؟ قال: وماذا يقول؟ قال: يقول: أبو تراب - أي يعير علياً أنه أبو تراب وكان هذا في عهد بني أمية؛ لأنهم كانوا على علي رضي الله عنه، حتى كانوا يسبونه أحياناً على المنابر، ومن ذلك أنهم يلقبونه بـ أبي تراب على سبيل الحط من شأنه، غفر الله لهم ورضي الله عنه -فضحك سهل بن سعد، وقال: والله ما كناه بهذا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان له كنية أحب إليه من أبي تراب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى ابنته فاطمة رضي الله عنها زوج علي، فقال لها: أين ابن عمك؟ قالت: يا رسول الله! كان بيني وبينه شيء فغاضبني - غضب منها فخرج، وكان من عادته أن يخرج لئلا يتكلم عليها بسوء رضي الله عنه وأرضاه، لما يعلم من شدة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لها، ومكانتها عنده فذهب ونام في المسجد، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي وهو نائم في المسجد، وقد انحسر رداؤه عن ظهره، فأصابه التراب، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم- بأبي هو وأمي- يقعد علياً ويحث التراب عن ظهره، ويقول: قم أبا تراب، قم أبا تراب]] فكان علي يفرح بهذه الكنية، ويفتخر بها، وإن لم تكن تدل على مدح وإنما هي كنية من واقع حاله، لكنه كان يفرح بها، لأنها من الكبير للصغير، لأنها من الرسول صلى الله عليه وسلم، والشيء إذا جاءك ممن تحب صار عزيزاً عليك، ولو لم يكن ذا قيمة، فالأمر اعتباري. فالرسول صلى الله عليه وسلم كنى علياً بـ أبي تراب فكان علي رضي الله عنه يحب هذه الكنية. فهذه من الكنى التي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه، وأما تعيير بني أمية لعلي بهذا، فهذا لا يضره، فهو كما عير أهل الشام عبد الله بن الزبير، حين قالوا له: يا ابن ذات النطاقين، فضحكت أسماء، وقالت له: وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: هم يعيرونك بأنك ابن ذات النطاقين، وذات النطاقين هي أسماء وإنما سميت بذلك؛ لأنها في الهجرة شقت نطاقها، وهو الذي تعتجر به المرأة وتتحزم به، فجعلت نصفه لفم القربة، وتحزمت بالنصف الآخر -تمنطقت بالنصف الآخر- فسميت بـ ذات النطاقين، فهذا مفخرة لها ومدح لها ومدح لابنها، وهو أن يقال له: يا ابن ذات النطاقين. وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها فقالت له أمه ذلك، فهذا كتعيير بني أمية لـ علي بن أبي طالب بقولهم: أبا تراب. ومن الكنى التي أطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أطلق على عائشة أم عبد الله، فقد روى أبو داود بسند صحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت له: {يا رسول الله! كل صواحبي لهن كنى، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تكني بابنك عبد الله بن الزبير} وهو ابن أختها، فصارت تكنى أم عبد الله، وهذه كنية أمنا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أم عبد الله على عبد الله بن الزبير، وذهب بعضهم إلى أنه كان لها سقط سمي عبد الله، وهذا لا يصح، بل الصحيح أنها كنيت بذلك، ذهاباً إلى ابنها عبد الله بن الزبير فهو ابنها باعتباره من المؤمنين، وهو ابن أختها أيضاً. ومن الكنى التي أطلقها الرسول عليه الصلاة والسلام أبو شريح لـ أبي الحكم، حيث كانت كنيته أبا الحكم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {ألك ولد؟ قال: نعم، قال: من أكبرهم؟ فقال: شريح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنت أبو شريح} . ومن الكنى التي أطلقها النبي صلى الله عليه وسلم: أبو عبد الرحمن، فإنه كنى ابن مسعود. بـ أبي عبد الرحمن، كما رواه الطبراني بسند صحيح، عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: {إن النبي صلى الله عليه وسلم كناني بـ أبي عبد الرحمن قبل أن يولد لي} فهذه من الكنى المستحبة، والتي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود. ومنها أيضاً إن صحت كنية أبي رقاد -والرقاد هو النوم- فقد ورد عند الواقدي، والواقدي متكلم فيه، بل هو متروك، وإن كان عالماً بحراً في السير خاصة، لكن ذكر الواقدي: أن في غزوة الخندق -الأحزاب- أن زيد بن ثابت كان يحمل التراب، فأصابه نعاس فنام، فجاء رجل من الأنصار اسمه عمارة بن حزم، فأخذ سلاحه على سبيل الممازحة والمداعبة، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: {يا أبا رقاد، نمت فذهب سلاحك} ومن يومئذٍ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الرجل متاع أخيه جاداً ولا هازلاً، فإن ذلك يحزنه. فلو صحت هذه الرواية لكانت كنية أبي رقاد من الكنى التي أطلقها النبي عليه الصلاة والسلام، على سبيل المداعبة لـ زيد رضي الله عنه وأرضاه، وزيد -كما يقول أهل السير-: كان فكهاً في بيته، وقوراً في مجلسه، فإذا جلس في بيته كان صاحب دعابة ومزاح ومضاحكة لأهله وأولاده وجلسائه، وإذا كان في مجلسه كان وقوراً جليلاً فخماً في عين من حوله. ومن الكنى التي أطلقها الرسول صلى الله عليه وسلم -إن صح أيضاً- كنية أبي هر ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: {قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا هر} وقد روى البغوي بسند ضعيف، أن أبا هريرة قال: {سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن وكناني أبا هريرة} ولكن هذا ضعيف، والأصح ما رواه الترمذي بسند حسن أن أبا هريرة قال: [[إنما سميت أبو هريرة؛ لأني كنت أرعى لأهلي، وكان معي هرة صغيرة، فكنت أضعها في شجرة في الليل، فإذا كان النهار ذهبت بها معي، وربما وضعتها في كمي فسماني الناس أبا هريرة]] ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا هر، فـ أبو هريرة رضي الله عنه كان يقول -كما روى البغوي أيضاً بسند جيد- كان يقول: [[لا تسموني أبا هريرة لكن سموني: أبا هر، فإن الذكر خير من الأنثى، وليس الذكر كالأنثى، وإن أبا هر هو الاسم الذي ناداني به ودعاني به رسول الله صلى الله عليه وسلم]] . فهذه بعض الكنى التي أطلقها الرسول عليه الصلاة والسلام على بعض أصحابه. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 12 حكم التكني بأبي القاسم النقطة الرابعة: كنية أبي قاسم، وهذا كثير اليوم بل إننا نجد عوائل أحياناً اسمهم أبو القاسم، أو بالقاسم، أو ما أشبه ذلك، فما حكم هذه الكنية؟ جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم، عن أنس رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في طريق مع بعض أصحابه، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! لست أعنيك، إنما أعني رجلاً آخر، فقال عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} . وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} ومن هناك اختلف الناس في التكني بكنية أبا القاسم هل يجوز أو لا يجوز؟ الجزء: 58 ¦ الصفحة: 13 القول الراجح والذي يظهر أن القول بمنع ذلك وتحريمه فيه بُعدٌ مع ثبوت النصوص بالإذن بذلك بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ثبوته عن جماعة من الصحابة، واشتهاره في علماء الأمصار كما ذكره عياض. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 14 المذهب الثاني ومن أهل العلم من منع الجمع بينهما، أي: لا مانع أن يكون اسمه محمداً، لكن لا تكون كنيتة أبا القاسم. أو تكون كنيته أبا القاسم، لكن لا يسمى بمحمد، أما الجمع بينهما، بأن يوجد شخص اسمه محمد وكنيته أبو القاسم فهذا يقولون: لا يجوز، وهذا قاله بعض الشافعية كـ الرافعي، قال: هذا يشبه أن يكون هو الأصح، لأن الناس من عهد النبوة إلى اليوم لم يزالوا يستخدمون ذلك بلا نكير، فقال الرافعي وغيره: إنه إنما يمنع من الجمع بينهما. ومن الأدلة التي استدلوا بها على ذلك: ما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حديث حسن، وابن حبان أيضاً وصححه، عن جابر رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من تسم باسمي فلا يتكن بكنيتي، ومن تكن بكنيتي فلا يتسم باسمي} فهذا الحديث الذي حسنه الترمذي وصححه ابن حبان، يدل على النهي عن الجمع بينهما، وأنه لا بأس بأن يكنى أبا القاسم لكن لا يسمى محمداً، أو يسمى محمداً لكن لا يكنى أبا القاسم، وأن النهي منصب على الجمع بينهما، وقد جاء عن أبي هريرة نحو هذا الحديث أيضاً. ورواه الطبراني من حديث محمد بن فضالة: {أن أمه ذهبت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ولادته بأسبوعين، فمسح الرسول صلى الله عليه وسلم على رأسه، وسماه محمداً وقال: لا تكنوه أبا القاسم -أو لا تكنوه بكنيتي-} . الجزء: 58 ¦ الصفحة: 15 المذهب الثالث وهو مذهب الإمام مالك، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء من السلف والخلف: أن النهي عن التكني بأبي القاسم خاص في حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فإنه لا بأس أن يكنى الإنسان أبا القاسم سواءً كان اسمه محمداً، أو لم يكن اسمه محمداً. واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة وقوية أيضاً منها: أولاً: السبب السابق في حديث أنس في قصة الأنصاري الذي قال: {يا أبا القاسم، فقال: لا أعنيك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي} فدل على أن هذا لئلا يلتبس الأمر، فيظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه المقصود فيكون في ذلك نوعاً من المشقة عليه. ثانياً: وكذلك مما استدلوا به ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: {أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني ولدت ولداً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، وبلغني أنك تكره ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما الذي أحل اسمي وحرَّم كنيتي، أو حرم كنيتي وأحل اسمي والحديث فيه ضعف لأن فيه محمد بن عمران الحجبي وهو مجهول؛ لكن له شاهد رواه البخاري في التاريخ الكبير وأبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح، عن علي رضي الله عنه أنه قال: {يا رسول الله! أرأيت إن ولد لي بعدك غلام، هل أسميه محمداً وأكنيه أبا القاسم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم} والحديث صححه الحاكم وابن التركماني والترمذي وغيرهم، وسنده جيد، وهو حجة في هذا الباب. حيث أن علياً رضي الله عنه قال: {يا رسول الله، أرأيت إن ولد لي بعدك ولد -أي بعد وفاتك -هل أسميه محمداً وأكنيه أبا القاسم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد لـ علي ولد من زوجته التي من بني حنيفة فسماه محمداً} وهو المعروف بـ محمد بن الحنفية، هو محمد بن علي بن أبي طالب، لكن أمه هي الحنفية، وكان يكنى بـ أبي القاسم، فهذا دليل. والحديث جاء أيضاً له رواية أخرى عن ابن عساكر قال ابن حجر في فتح الباري: سندها قوي، وهي تدل على جواز ذلك بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام. والإمام مالك كان له ولد اسمه محمد وكنيته أبو القاسم، فقالوا له: يا إمام كيف يكون لك ولد اسمه محمد وكنيته أبو القاسم؟ فقال: ما أنا كنيته لكن أهله كنوه، ولا أرى بذلك بأساً، ولم أسمع في النهي عن ذلك شيئاً، وحمل الإمام مالك النهي عن التكني بأبي القاسم على أن ذلك كان خاصاً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: ومما يدل على قوة هذا القول: أن جماعة كثيرة من الصحابة كان لهم أولاد أسماؤهم محمد وكُناهم أبو القاسم، من ذلك: طلحة بن عبيد الله كان له ولد اسمه محمد بن طلحة، وهو رجل فاضل، وعابد من العباد الزهاد، حتى كان يسمى بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته، وقد حفر السجود في جبهته، وأثر فيه، وكان عابداً قتل في المعارك بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، واختلفوا فيمن قتله قيل: قتله رجل من بني أسد، وكان يمدحه فيقول في مدحه: وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما يرى الناس مسلم شككت إليه بالرماح قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم رضي الله عن محمد بن طلحة، لما جاء هذا الرجل ليطعنه، لم يرد أن يدافع عن نفسه، ويحتمل أنه كان مع أبيه فلم يرد أن يدافع عن نفسه، واستشار عائشة، فقالت له: كن كخير بني آدم، إن مد إليك ليقتلك فلا تقتله أنت، فسكت محمد بن طلحة ولم يدافع عن نفسه فلما أهوى إليه هذا الرجل بالرمح ذكره بالقرآن، ذكره بـ" حم" وذكره بالله جل وعلا فهذا الرجل أقدم وقتل وقال: يذكرني (حم) والرمح شاجر فهلا تلى (حم) قبل التقدم أي لو أنه فعل ذلك لما قتلته، فـ محمدٌ السجاد رضي الله عنه -وقد ذكر هذه القصة الحاكم في المستدرك- كان يكنى بـ أبي القاسم واسمه محمد، وجماعة آخرون من الصحابة، منهم محمد بن عبد الرحمن بن عوف، ومنهم محمد بن أبي بكر، وكنيته أبو القاسم أيضاً كما هو معروف ومشهور، ومنهم أيضاً محمد بن الأشعث وغيرهم كثير. فالمهم أن ذلك كان معروفاً في الصحابة، حيث كان يسمي الواحد منهم ولده بمحمد ويكنيه بأبي القاسم. وكذلك سعد بن أبي وقاص، وجعفر بن أبي طالب، كان لهم أولاد أسماؤهم محمد وكناهم أبو القاسم، وحاطب بن أبي بلتعة وغيرهم، هذا يدل على أن هذا الأمر كان شائعاً عند الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض أهل العلم إلى كراهية ذلك دون تحريمه. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 16 المذهب الأول من أهل العلم من ذهب إلى منع التكني بأبي القاسم مطلقاً، حيث قالوا: لا يجوز أن يكنى أحد بلفظ أبي القاسم مطلقاً، سواءً كان اسمه محمد أو غير محمد، وسواء كان ذلك في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أم بعد وفاته، وهذا مذهب الشافعي والظاهرية، بل بالغ الظاهرية فقالوا: لا يجوز لأحد أن يسمي ولده القاسم خشية أن يكنى أو ينادي به، ومن أدلتهم على ذلك -إضافة لما سبق- هو: ما رواه البخاري ومسلم عن جابر: {أن رجلاً من الأنصار ولد له ولد فسماه القاسم، فقال الصحابة -الأنصار- له: لا نسميك أبا القاسم، ولا نقرك بذلك عيناً -لا نقر عينك بذلك، ولا نفرحك به، ولا نكنيك بكنية الرسول صلى الله عليه وسلم- فذهب ذلك الأنصاري بابنه -يحمله على كتفه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: سم ولدك عبد الرحمن} فسماه عبد الرحمن، قالوا: فدل على منع التكني بأبي القاسم مطلقاً، وكذلك كان ابن سيرين يكره ذلك، ونقله البيهقي عن طاووس وغيره. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 17 كنى الرسول صلى الله عليه وسلم النقطة الخامسة: الكنى التي كانت تطلق على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأعظم وأشهر وأعرف كنى النبي عليه الصلاة والسلام هي: أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، وهذه الكنية المشهورة التي كان يعرف بها حتى كان بعض الصحابة يقول: حدثني أبو القاسم، كما قال أبو هريرة رضي الله عنه: حدثني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، قال: {تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي} وكما قال أبو هريرة للرجل الذي خرج: [[أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم]] ولما جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا له: بارك الله عليك يا أبا القاسم. فهذه هي أشهر كنى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. ومن كناه: أنه كان يكنى بأبي إبراهيم، وكان له ولد يسمى إبراهيم -كما سبق في الدرس الماضي- وقد جاء عند البيهقي وغيره من طرق: {أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم} . وذكر بعضهم أن من الكنى التي تطلق على النبي صلى الله عليه وسلم: أبو المؤمنين، وذلك لأن أُبيَّ بن كعب وابن عباس ومجاهد وعكرمة وغيرهم، كانوا يقرءون: [[النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ)) [الأحزاب:6] وهو أب لهم]] هكذا كانت القراءة عند من ذكرت، كما ذكرها جماعة من العلماء، كما في الدر المنثور وغيره، (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) وليس المقصود قطعاً أبوة النسب، فهذا منفي بقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب:40] وإنما المقصود بالأبوة: أبوة العطف والرحمة والشفقة والفضل له صلى الله عليه وسلم على أمته، وهذه على أية حال لا تصح أن تكون كنية، إنما كنيته المعروفة صلى الله عليه وسلم: أبو القاسم. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 18 أحكام تتعلق بالكنية الجزء: 58 ¦ الصفحة: 19 جواز تكنية المشرك ومن الأحكام المتعلقة بالكنية أيضاً: أنه يجوز تكنية المشرك، كما قال تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] . وكما في صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما جاء إلى المدينة، ركب على حماره في ملأ من أصحابه وذهب في شوارع المدينة، فمر بملأ من الأنصار فيهم المؤمنون، كـ عبد الله بن رواحة، وفيهم المشركون والمنافقون، وفيهم اليهود، فلما غشيتهم عجاجة الدابة؛ نزل الرسول صلى الله عليه وسلم، وسلم عليهم ودعاهم إلى الله عز وجل، فقام عبد الله بن أبي بن سلول، وقال: يا هذا، ما أحسن ما تقول إن كان حقاً- قبح الله عبد الله بن أبي، يقول: ما أحسن ما تقول إن كان حقاً، وهذا تحصيل حاصل: إن كان حقاً فهو حسن، لكن هو خبيث لا يريد أن يقول إنه حق، أو حسن، لكن يقول: إن كان صحيحاً فهو صحيح- فلا تغشانا في مجالسنا، من أرادك أتاك وأنت في مكانك. فقال عبد الله بن رواحة: بل اغشنا يا رسول الله، فتنازع القوم واختلفوا حتى كادوا أن يقتتلوا، ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهم وهدأهم وسكن ثائرتهم، ثم ذهب إلى سعد بن عبادة، فقال له: ألم تسمع ما قال أبو حُباب؟ -وهذا هو الشاهد- أي عبد الله بن أبي بن سلول المنافق، فقال: ماذا قال يا رسول الله؟ فأخبره بالخبر، فقال: ارفق به يا رسول الله، فو الله لقد جاء الله بهذا الخير الذي أنزل عليك، والحق الذي أنزل عليك، وإن أهل هذه المدينة-أي: المدينة قد أطبقوا وأجمعوا على عبد الله بن أبي بن سلول أن يسودوه ونظموا له الخرز ويعصبوه بعصابة -أي يجعلوه ملكاً عليهم- فلما رد الله ذلك بالحق الذي أنزل عليك شرق به} والعياذ بالله. فانظر كيف الحسد، فهو حسد الرسول عليه الصلاة والسلام، وأصابته غيرة شديدة أنه زال الملك الذي كان يتربص وينتظر ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يقبل هذا الحق، بل سار يظهر الإسلام ويبطن الكفر بعدما أعز الله الإسلام، فرفق النبي صلى الله عليه وسلم به، والشاهد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كناه بـ أبي الحباب. وتكنية المشرك تكون في ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا اشتهر وعرف بذلك، كما كنى الله تعالى في القرآن الكريم أبا لهب {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1] فقيل: سُمي أبا لهب لأنه كان جميل الوجه، يتلهب وجهه حسناً وجمالاً، وتناسب هذا مع قوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد:3] . ومثله أيضاً: أبو طالب فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كناه أبا طالب كما في الحديث المتفق عليه عن العباس قال: {يا رسول الله! هل نفعت أبا طالب بشيء؟ فإنه كان يحوطك ويحميك ويدفع عنك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم هو في ضحضاح من نار -أي شيء قليل من النار وفي رواية-: تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منها دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، ولا يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، قال صلى الله عليه وسلم: ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} فكناه أبا طالب لأنه معروف مشهور بذلك. الحالة الثانية: التي يكنى بها المشرك والكافر: إذا كان في ذلك تأليف لقلبه، أو قلب من حوله، كما كنى الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول بـ أبي الحباب؛ لأن القوم كانوا يحبونه ويعظمونه، ولم يكتشفوا حاله، وربما في أول الإسلام كان له مكانة عندهم قبل أن يسلم أيضاً، وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام امتنع من قتله تأليفاً لقلوب المؤمنين، فما بالك بأن يلقبه الرسول عليه الصلاة والسلام أو يكنيه أو ما أشبه ذلك. الحالة الثالثة: التي يكنى بها الكافر: إذا كانت الكنية كنية ذم وحط من قدره، كما يقال -مثلاً- أبو جهل فإن تكنيته بالجهل ذم وحط من قدره ولا بأس بها. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 20 التكني بالبنت وكذلك من الأحكام المتعلقة بالكنى هو جواز التكني بالبنت، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في الإصابة وغيره، لأسماء طائفة كثيرةٍ جداً من الصحابة، عرفوا بأسماء بناتهم -كنوا ببناتهم- لعل من أشهرهم: أبو رقية وهو تميم بن أوس الداري وهو أول من قصَّ في عهد عمر، فكان يجلس إلى الناس ويذكر لهم القصص ويعظهم، وكان نصرانياً فأسلم، وله من المناقب: أن الرسول صلى الله عليه وسلم روى عنه -كما في صحيح مسلم- قصة الجساسة حيث صعد عليه الصلاة والسلام على المنبر وقال: {إن تميماً حدثني وذكر قصة الجساسة} وهي قصة طويلة مشهورة، رواها النبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الداري، ومن فضائل تميم هذا رضي الله عنه: أنه كان عابداً زاهداً طويل القيام بالليل، وقد ذكر مسروق بسند صحيح أنه جاء يوماً إلى مكة -إلى الكعبة- فقال له رجل من أهل مكة: هذا مقام فلان، أي: أن تميم بن أوس الداري كان يقوم في هذا المكان ليلة كاملة بآية من كتاب الله تعالى ويرددها ويبكي، وهي قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] . فكان يقرأ هذه الآية ويرددها ويبكي حتى الصباح، وله فضائل كثيرة مذكورة في موضعها. وممن كني بابنته: أبو لبابة، وأبو أروى، وأبو أسماء، وأبو هند، وأبو أمامة، وأبو جميلة، وأبو صفية وهو مهاجري مولى لرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك أبو هند كان حجاماً لبني بياضة، ومثله أبو طيبة وكان حجاماً، حجم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو مولى لـ محيصة بن مسعود. وهذه الأسماء، يحتمل أن تكون أسماء لرجال، فقد يسمى الرجل بأسماء، وقد يسمى الرجل بهند، لكن الغالب عليها أنها أسماء إناث، فدل على أنه لا بأس بأن يكنى الرجل باسم ابنته، أو باسم أنثى على سبيل الإجمال. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 21 جواز كون الكنية هي الاسم وأحياناً قد تكون الكنية هي الاسم، وليس للرجل اسم، من ذلك: أبو عمير في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، وكان لي أخٌ اسمه أبو عمير، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتينا في بيتنا فيضاحكه ويمازحه ويلاعبه، فجاء يوم من الأيام وأبو عمير قد خثرت نفسه وخارت وضعفت، فقال عليه الصلاة والسلام: ما شأن أبي عمير؟ قالت أمه - أم سليم -: يا رسول الله! قد مات النغير -النغر: العصفور الذي كان يلعب به مات- فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وضاحكه وداعبه، وقال له: يا أبا عمير: ما فعل النغير؟ فقال: مات يا رسول الله} وكان حزيناً لموت عصفوره، وهذه القصة طريفة، فيها فوائد وأوابد وعجائب، حتى ذكر فيها ابن القاص الشافعي أكثر من ستين فائدة، فقال: قد يظن البعض أنه ليس لها فائدة، بل لها أكثر من ستين فائدة فقهية وأدبية وغيرها، واستطرد في ذكر الفوائد، ثم قال: ومن لطائف فوائد هذه القصة: أن العلماء يختلفون في استنباط الفوائد والعبر منها كما يقول الله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} [الرعد:4] هكذا يقول ابن القاص أي: هي قصة واحدة، لكن العلماء يتفاوتون في الاستخراج والاستنباط منها. وقد ذكرها الحافظ ابن حجر، ثم أضاف إليها فوائد أخرى كثيرة، ومن الطرائف المتعلقة بهذه القصة ما رواه الحاكم في علوم الحديث عن أبي حاتم الرازي الإمام المشهور المعروف، أنه قال: جزى الله أخانا صالح بن محمد كل خير -وصالح بن محمد هذا كان يلقب بـ جزرة عند المحدثين، وسيأتي إن شاء الله في الألقاب، وجزرة هذا من الألقاب التي اشتهر بها وعرف بها- فيقول أبو حاتم: جزى الله أخانا صالح بن محمد جزرة كل خير، فإنه لا يزال يباسطنا حاضراً وغائباً. أي يمازحهم ويضحكهم فيما لا إثم فيه. يقول: إنه لما مات الذهلي أقاموا شيخاً يحدثهم ويروي لهم الحديث، وكان هذا الشيخ اسمه مَحمِش، بفتح الميم الأولى وكسر الميم الثانية -هكذا ضبطها العلماء كـ ابن حجر وغيره- فيقول: إن هذا الشيخ روى لهم حديث أنس في قصة أبي عمير وأخطأ فيه في عدة مواضع منها أنه كان يقول: فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: {يا أبا عمير ما فعل البعير} فصحف في الموضعين. الموضوع الأول: الاسم، ففتح العين، بدلاً من عُمير جعلها عَمير، والموضع الثاني: اسم الطائر، فبدلاً من النغير -النغر العصفور المعروف- سماه البعير، وهذا ليس له علاقة بالموضوع من قريب ولا من بعيد. وهو دليل على جواز تكنية الإنسان قبل أن يولد له، وهو لايزال صبياً -كما سبق- وقد روى الحاكم وغيره بسند صحيح، وأحمد من حديث صهيب أن عمر قال له: [[مالك تكنى أبا يحيى وليس لك ولد، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني أبا يحيى]] . الجزء: 58 ¦ الصفحة: 22 جواز التكني بأكثر من كنية النقطة السادسة: هي أحكام تتعلق بالكنية: من الأحكام: أنه يجوز أن يكنى الرجل أو المرأة بأكثر من كنية، فمثلاً علي رضي الله عنه كانت كنيته أبا الحسن وأبا تراب. يقول الشاعر: وكان لنا أبو حسن علي أباً براً ونحن له بنينا فهذه أيضاً بنوة وليست هي البنوة الحقيقية، إنما هي بنوة التقدير والإجلال له رضي الله عنه. وكذلك كنيته أبو تراب، كما سبق في حديث سهل بن سعد، ومثله النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم كثير. فلا مانع من أن يجمع الإنسان بين كنيتين. وكذلك لا مانع من أن يكنى الإنسان بغير ابنه الأكبر، فيكنى بالأوسط أو الأصغر، إذا لم يكن في ذلك غضاضة، بل لا مانع من أن يكنى الإنسان بغير أبنائه. فمثلاً أبو موسى الأشعري، أكبر أولاده سماه النبي صلى الله عليه وسلم إبراهيم، كما في الحديث المتفق عليه، ومع ذلك اسمه أبو موسى، وليس أبا إبراهيم، فلا مانع من أن يكنى الإنسان بغير ولده، بل هذا كثيرٌ جداً، وأبو بكر -مثلاً- هل له ولد اسمه بكر؟ كلا، وعمر ما هي كنيته؟ أبو حفص فهل له ولد اسمه حفص؟ كلا، وأبو قحافة والد أبي بكر ليس له ولد اسمه قحافة، أبو ذر ليس له ولد اسمه ذر، وإنما هذه كنى عرفت واشتهرت وتناقلها الناس، ومثله أبو سلمة ليس له ولد اسمه سلمة، وأبو سليمان خالد بن الوليد أيضاً، إنما المقصود بالكنية المدح والتفخيم والإجلال للإنسان، كما يقول الأول: أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقب فاللقب فيه سبة وعار وذمة غالباً، أما الكنية فهي مدح وتفخيم، ولذلك تعداد وتكثير الكنى للإنسان أمر محمود وحسن ولا شئ فيه بل هو قد يكون من باب التفخيم للمكنى. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 23 أخطاء تقع في الكنى أخيراً: أخطاء يقع فيها الناس في الكنية: يشتهر عند العامة أنهم يذكرون الله تعالى -أحياناً- فيقولون: أبا الأفراج، فهذا موجود، حتى إن الشاعر المشهور من هذه البلاد العوني، في قصيدته المشهورة استخدم هذه العبارة يقول فيها: وانظر بعينك يا أبا الأفراج حالي فرد غريب والمصافي ذليلة وهذا لا يجوز بلا شك، فلا يجوز -بلا إشكال- وصف الله تعالى بأنه أبو كذا، وإن لم يكن المقصود الأبوة، ولكنه لا يجوز وهو محرم، لسوء الأدب فيه مع الله تعالى، ولأنه لا يجوز أن يوصف الله تعالى أو يسمى إلا بما ثبت في الكتاب والسنة، والعامة أحياناً يقولون مثلاً: فلان ضربته حتى قال يا أبا الأفراج، أو فلان نزل عنده ضيف وأطال عنده حتى قال: يا أبا الأفراج، وهذا بعتبر عندهم نداء، أي أن هذا الإنسان تطاول مكث الضيوف عنده فصار يدعو الله تعالى بالفرج، ويجوز أن يقولوا يا ذا الأفراج بالذال، لأن الله تعالى هو الذي يفرج عن عباده كرباتهم. وكذلك من الأخطاء: أن بعضهم يكنون بكنى أهل الجاهلية، ولو على سبيل المزاح، فقد بلغني أن بعض الشباب -مثلاً- يسمي أحدهم الآخر أبا جهل على سبيل الممازحة والدعابة والنكتة، فهذا أيضاً لا يجوز، فهو حرام أن يسمى به أو يقبل ذلك، سواء كان هازلاً أم جاداً. ومن الأخطاء: أن بعضهم يسمون الولد اسماً ممنوعاً أو مكروها، ثم يتكنون به -كما سبق في باب الأسماء الممنوعة والمكروهة- فيقال في الكنية ما يقال في الاسم. وبذلك نكون قد أتينا على أهم الكلام الذي يمكن أن يقال في موضوع الأسماء والكنى. ويبقى -إن شاء الله- الدرس الأخير في باب الأسماء والكنى وأخصصه للألقاب، وسيكون -إن شاء الله- درساً فيه فوائد كثيرة حول الألقاب الشائعة عند الناس وفي التاريخ، ألقاب الكبار سواء من العلماء أم الزعماء أم غيرهما، وبيان بعض الطرائف المتعلقة بذلك، وما يحل وما لا يحل من التلقيب. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 24 الأسئلة الجزء: 58 ¦ الصفحة: 25 صحة ثبوت تسمية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة بهذه الكنية؟ السؤال قلت عن كنية أبا هر: إن صحت، ثم قلت إنها في صحيح البخاري فهل في صحة ما في البخاري شك؟ الجواب كلا، ليس فيما في صحيح البخاري شك، لكن الذي شككت فيه أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كناه أبا هريرة، فإن الأصح في الرواية أن الذي كناه أبو هريرة هم أهله قبل الإسلام، لأنه كان يحمل هرة في كمه أثناء ما كان يرعى الغنم، أما الرسول عليه السلام فإنه قلب الكنية من أبي هريرة إلى أبي هر، وليس قلبها دائماً وإنما سماه في تلك المناسبة. ولهذا أبو هريرة كان يقول: [[لا تقولوا لي أبا هريرة قولوا لي أبا هر، وليس الذكر بالأنثى وهذه الكنية التي سماني بها رسول الله صلى الله عليه وسلم]] فهذا ما قصدته بالشك. أما في صحيح البخاري فكله صحيح. هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 26 حقيقة طول آدم عليه السلام السؤال هل صحيح ما ورد أن أبا البشر آدم عليه السلام، أول ما خلقه الله كان رأسه يعانق السماء الدنيا، وكان يسمع تسبيح الملائكة؟ الجواب كلا، بل الوارد في الصحيحين أن آدم عليه السلام كان طوله في السماء ستون ذراعاً، هذا هو الثابت في الصحيحين. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 27 حكم التسمي باسم دانة السؤال ما حكم التسمي بأسماء غريبة مثل دانة؟ الجواب دانة -فيما أعلم- هذا نوع من الأشياء التي توجد في البحار -معادن توجد في البحار- فلا بأس به. أما لارا اسم أجنبي وقد سبق الكلام في الأسماء الأجنبية. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 28 حكم التسمي بشادي وأنغام السؤال ما حكم التسمي بشادي وأنغام؟ الجواب أقول عن نفسي -لا أقول عن دين الله أو شرع الله -إنني أكرهها، لأنها تتعلق بأمور لها تعلق بالفن والغناء، لأن الشادي هو المغني أوالمتغني، وكذلك الأنغام معروفة، فلذلك ليس من الفأل الحسن أن يسمى الإنسان بنيه بمثل ذلك. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 29 لماذا لم يغير الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه إلى عبد الله أو عبد الرحمن؟ السؤال أضع بين يديك هذين السؤالين وهما عن الدرس السابق: الأول: لاشك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أحرص الأمة على الكمال، فإذا كان اسم عبد الله، وعبد الرحمن أفضل الأسماء عند الله، فلماذا لم يغير اسمه إلى أحدهما، وهو الذي غير أسماء كثير من الصحابة؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه محمد في التوراة والانجيل وعند الأمم السابقة، وبشر به النبيون هكذا، قال الله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وموجود حتى في بعض نسخ الإنجيل الموجودة اليوم -كإنجيل برنابا - ذكر اسم الرسول صلى الله عليه وسلم. فالله تبارك وتعالى لحكمة يعلمها اختار له هذا الاسم وسماه به، ولذلك كان عدد من العرب يسمون أولادهم باسم محمد رجاء أن يكونوا أنبياء، وكذلك أمية بن أبي الصلت سمى نفسه بمحمد رجاء أن يكون هو النبي، فلذلك لم يغير الرسول صلى الله عليه وسلم اسمه. وقد يكون هناك أيضاً علل وأسباب أخرى. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 30 كثرة من اسمه محمد الثاني: من يتصفح سير الصحابة يجد قليلين من يتسمون بمحمد؟ الجواب أما هذه فلا، ولو تصفحت -مثلاً- سير الصحابة وارجع في ذلك إلى كتاب الإصابة لـ ابن حجر، أو أسد الغابة أو الاستيعاب أو غيرها، تجد أن عدداً من اسمهم محمد من الصحابة كثير، ولعلي أشرت إلى بعضهم فيما سبق. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 31 حكم التكني بأصغر الأبناء السؤال هل يكنى بأصغر الأبناء؟ الجواب نعم يكنى بأصغر الأبناء. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 32 حكم نداء الزوجة بغير اسمها السؤال الأخ يقول: حفظكم الله وأحسن لنا ولكم الختام -اللهم آمين، وهذه دعوة حسنة- يقول: ما حكم من سمى زوجته بغير اسمها، مثل قول بعضهم: يا هيه؟ الجواب هذا ليس اسماً إنما هو نداء مثل يا فلانة أو يا هذه، فلا بأس بذلك. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 33 حكم التسمي بصالح وإيمان وصلاح وآية الله السؤال يقول ما حكم التسمي بالأسماء التالية: صالح، إيمان، صلاح، آية الله؟ الجواب أما صالح فحسن، وأما إيمان وصلاح، فأرى فيهما ما سبق. أما آية الله، فأقول: هذا لا ينبغي، لأن أقل ما يقال فيه: أن فيه مضاهاة للرافضة أعداء الله. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 34 حكم التعبيد بأسماء لم تثبت لله السؤال ما فيه تعبيد لأسماء لم تثبت لله، مثل عبد الفرد وعبد الساتر؟ الجواب لا يجوز التعبيد، أو التسمي بأسماء لم تثبت لله جل وعلا فيما أعلم. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 35 حكم تغيير الاسم الحسن السؤال ما رأيك في تغيير أسماء حسنة مثل: عصام وأمين وأيمن؛ لكنها قليلة الورود في هذا المجتمع خصوصاً إذا تضايق الشخص من اسمه؟ الجواب الأسماء القليلة تنتشر وتشتهر بعد فترة عند الناس، ولذلك تغيير الاسم فيه مشقة وفيه كلفة وله تكاليف، فما دام الاسم حسناً أرى ألا يغير. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 36 حكم تغيير الاسم السؤال هل يجوز للإنسان أن يغير اسمه إلى اسم آخر استقباحاً لاسمه، لأنه قد يستاء عند النطق باسمه، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب نعم يجوز للإنسان أن يغير اسمه إلى اسم آخر، لكن هنا أنبه على ضرورة إرضاء الوالدين في ذلك، وألَّا يفعل الإنسان هذا فيكون فيه مسخطة لوالديه، اللهم إلا أن يكون الاسم قبيحاً، وفي الواقع أنني سمعت أسماءً لبعض الشباب، فيها قبح، فقد يسمون باسم ذئب من الذئاب فيكون اسماً بشعاً، أو يسمونه اسماً منسوباً إلى بعض الملل الضالة والنحل الكافرة، أو ما أشبه ذلك، وربما يكون السبب في ذلك: أنه يأتيهم رجل يكون من أهل تلك النحلة فيكون طبيباً أو غير ذلك، فيعجبهم وهم لا يدرون ما هو، فيسمون الولد باسمه، ويكون اسمه اسماً بشعاً أو محرماً، فإذا كان الاسم محرماً يجب تغييره وإن سخط الوالد. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 37 كيف نفسر نسب عيسى إلى أمه السؤال يقول الله تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] ويقول: {وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة:78] فما الجمع بين ذلك؟ الجواب عيسى عليه السلام -كما نعلم- ولد من أم بلا أب، إنما قال الله تعالى له: كن فكان، كما ورد في القرآن الكريم من أن أمه حملت به من غير أب، والنصوص في ذلك كثيرة في مواضع منها في سورة آل عمران، ومريم، وغيرها، فلذلك نسب إلى أمه. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 38 التكني بأكبر الأبناء السؤال هناك أحد طلبة العلم يكنى: بأبي محمد، علماً بأن ابنه الكبير اسمه أحمد، وهذا الشخص إذا نودي بأبي أحمد يغضب، ولو كني بأبي محمد فربما أثر على نفسية ابنه، فما الحكم؟ الجواب يكنى بالاسم الذي يريد؛ لأن الكنية ملك للأب، فإذا كان يريد أن يكنى بأبي محمد فينبغي أن يكنى بهذا، وإن كان يريد أن يكنى بأبي أحمد فيكنى بهذا. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 39 المزاح بالألقاب السؤال نحن شباب ملتزم -ولله الحمد- لكن يحصل بيننا أن نطلق على بعضنا ألقاباً مضحكة على سبيل المزح، لكن من تطلق عليه لا يرضى بها لكننا نقولها له، فهل في ذلك حرج مع أنها على سبيل المزاح؟ الجواب إذا كان لا يرضى بها، فلا يجوز أن تقال له ولو كانت على سبيل المزاح بل يشترط رضاه في ذلك. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 40 حكم التكني بأسماء المجاهدين السؤال ما حكم التكني بأسماء رجال الجهاد مثل أبو سياف وغيره؟ الجواب نعم لا بأس بذلك. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 41 حديث: {لعن الله من انتسب إلى غير أبيه} السؤال ما درجة هذا الحديث: {لعن الله من انتسب إلى غير أبيه} ؟ الجواب الحديث في الصحيح لكن ليس بهذا اللفظ، والذي أذكر أنه في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {كفرٌ بالمرء تبرؤه من نسب وإن دق} . الجزء: 58 ¦ الصفحة: 42 التسمي بسور القرآن مثل: محمد السؤال ذكرتم أنه لا يجوز تسمية الشخص بأسماء سور القرآن، فما رأيك باسم محمد وصالح ونحو ذلك مما هو متوفر في القرآن الكريم؟ الجواب هل تعرف من القرآن سورة اسمها سورة صالح؟ كلا، أما محمد فنعم، ولكن سميت سورة محمد بهذا الاسم لذكر اسم الرسول عليه الصلاة والسلام فيها، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد:2] ولم يسم الرسول عليه الصلاة والسلام باسم السورة، فالاسم قبل نزول السورة، حيث كان اسمه عليه الصلاة والسلام محمد، وكان معروفاً عند العرب في الجاهلية. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 43 حكم التكني بأبي لوط السؤال ما رأيكم فيمن تكنى بأبي لوط؟ الجواب لوط كما تعرفون نبي من أنبياء الله، وقد ذكره الله تعالى في كتابه، والتكني بأبي لوط لا بأس بذلك، ووجد في التاريخ من تكنى بذلك، ولا أعلم فيه جرجاً. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 44 الأسماء التي غيرها الرسول صلى الله عليه وسلم السؤال ذكرتم أن الرسول عليه السلام غير بعض الأسماء لأن فيها تزكية، وفي المقابل غير بعض الأسماء الغير حسنة إلى أسماء فيها تزكية، فكيف نجمع بين ذلك؟ الجواب الأسماء الجديدة التي أحدثها الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيها تزكية دينية بالبر وما أشبه ذلك، وقد يكون فيها تفاؤل ولكن ليس فيها تزكية. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 45 حكم التسمي باسم الأب السؤال ظاهرة منتشرة خاصة في هذه المنطقة، وهي أن الإنسان لا يسمى باسم أبيه، وخاصة إذا كان الأب حياً، بل إن بعضهم ينكر ذلك ويتكلم فيه؟ الجواب أسلفت أنه لا بأس أن يسمي الرجل ولده باسمه هو، أو يسميه باسم أبيه، والناس بعضهم يعتبر أن من البر أن تسمي ولدك باسم الأب، وبعضهم يعتبر أنه لا ينبغي أن تسمي الابن باسم أبيه، ويقول: إن هذا مدعاة لأن يموت، وهذا لاشك أنه أيضاً من البدع والخرافات الباطلة. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 46 حكم نشر التسمي باسم معاوية السؤال يقول ما رأيكم فيمن سن سنةً حسنة بأن سمى ابنه معاوية، حتى يكثر هذا الاسم ويزداد، حيث يكون على النقيض مما تفعلهالشيعة الرافضة، وأنت تعلم أن هذا الاسم مهجور وقليل، فأرجو بيان وجهة نظرك حيال هذا الرأي؟ الجواب الحقيقة أن معاوية كما تعلمون، هو أمير المؤمنين وسيد من سادات المسلمين، وصحابي من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، ووصاه، وكان يكتب الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خال المؤمنين فهو أخو أم حبيبة، وله فضائل عظيمة منها: الحلم، ومنها السؤدد، ومنها توسيع رقعة الإسلام، إلى غير ذلك، ولذلك فإن التسمي باسم معاوية كالتسمي بأسماء بقية الصحابة والصالحين من الأمور الحسنة، ومما يزيده استحباباً -ما أشار إليه الأخ- أن الرافضة يشتمون معاوية رضي الله عنه، ويحطون من قدره، ففي هذا مضادة ومناوأة لهم، وقد كان السلف يستحبون الأمور التي تكون فيها مخالفة لأهل البدعة، كما استحبوا -مثلاً- المسح على الخفين مخالفة للرافضة واستحبوا أشياء كثيرة لمخالفة ومنابذة أهل البدعة. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 47 كراهية عمر للتسمي بأسماء الأنبياء السؤال ما هو وجه اعتراض عمر رضي الله عنه على التكني بأبي عيسى، وما وجه إنكاره وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب عمر رضي الله عنه، سبق أنه كان يرى منع التسمي بأسماء الأنبياء، ولذلك منع ابنه أن يُسمي محمداً، ومنع هذا أن يُكنى بـ أبي عيسى، وهذا مذهب خاص لـ عمر رضي الله عنه، والجماهير على خلافه، بل التسمي بأسماء الأنبياء مستحب. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 48 حكم التسمي بـ (يس) وتغييره السؤال في بيتنا اسم: يس، فهل نمنع أهلنا من هذا الاسم أم نغيره أفيدونا؟ جزاكم الله خيراً. الجواب في الواقع أنه إذا كان الإنسان يريد أن يبتدئ اسماً فنقول له الأفضل ألَّا تسمي: يس، أو طه، أو حم، أو ما أشبه ذلك، أو سبحان الله، أو تبارك الله كما سلف؛ لكن إذا كان الاسم موجود ومدون في الأوراق الرسمية والدواوين، ففي تغييره صعوبة، فلذلك لا أرى أن يتعجل الإنسان في التغيير؛ لأني لا أستطيع أن أقول: إن هذا الاسم محرم جزماً، فأنا أقول: إنه مكروه وممنوع لما فيه من احتمال التعرض للآيات بالإهانة، لكن إذا كان واقعاً موجوداً فإنه يتريث فيه ويتثبت، وإذا ثبت تحريمه يغير. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 49 حكم التكني بأكبر الأولاد السؤال حين كنى النبي صلى الله عليه وسلم أبا شريح، فهل هذا يعني أن التسمي بأكبر الأبناء فضيلة، كما هو عند بعض الناس؟ الجواب لا يلزم ذلك، إنما الرسول صلى الله عليه وسلم سماه بديلاً عن الاسم الذي ذكر، والتسمي بالأكبر هو الأصل المعروف، لأن التسمي بمن دونه قد يكون أحياناً فيه نوع من ضعة قدر الأكبر، أو كان يحدث في نفسه شيئاً: لماذا تتجاوزه، لماذا تتركه إلى غيره، ولذلك نجد بعض الآباء إذا غضب على ابنه الكبير لا يكنى به ويكنى بمن هو دونه. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 50 حكم التسمي ببعض كلمات القرآن السؤال هناك من الناس من يختار لابنه أو ابنته اسماً من كلمات القرآن الكريم، مثل: أبرار أو أفنان، فما حكم ذلك؟ الجواب لا أعلم في هذا حرجاً. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 51 حكم تصغير اسم الله السؤال ما حكم تصغير اسم الله، مثل عبد العزيز يقال عُزيز، وعبد الرحمن يقال دحيم؟ الجواب بالمناسبة هناك جماعة من المحدثين عرفوا بهذا الاسم: دحيم وأذكر منهم: عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي أبو زرعة الدمشقي، وهو إمام حافظ مصنف مشهور، فكان يسمى بـ دحيم، وجماعة مثله كان اسمهم عبد الرحمن فكانوا يلقبون بدحيم، والأولى أن يقال عبد الرحمن وعبد العزيز. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 52 حكم التسمي بعبد المطلب السؤال ماذا نقول في قول النبي عليه السلام: {أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب} مع أنك قلت: لا يجوز اسم عبد المطلب؟ الجواب اسم عبد المطلب تعبيد لغير الله، ولذلك الظاهر أنه لا يجوز. أما حكاية ما مضى فلا بأس في ذلك، فأنت لو قلنا لك: ما نسب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ تقول هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، فهذا اسمه، فالحكاية لأمر قد مضى لا بأس بها لكن الابتداء هو الذي لا يجوز. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 53 حكم التسمي بأسماء جديدة السؤال ما حكم تسمية أسماء مستجدة لم تسبق أن سُمي بها، وتكون غير مخالفة للشرع واللغة؟ الجواب لا بأس بذلك. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 54 لا يلزم أن تكون الكنية على أسماء الصحابة والتابعين السؤال هل الكنية ملزمة أن تكون على أسماء الصحابة والتابعين؟ الجواب ليست ملزمة، بل أي كنية تكنى بها الإنسان إذا لم تكن تكون ممنوعة فهي جائزة، وينبغي أن نشيع الكنى بين الناس ونتداولها حتى الصبيان الصغار ينبغي أن يكنوا، وكان هذا معروفاً عند الصحابة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} والمرأة ولدت ولداً فقالت: يا رسول الله، سميته باسمك وكنيته بكنيتك، فكانوا يسمون ويكنون في نفس الوقت. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 55 حكم التكني بأسماء الصحابة السؤال ما حكم التكني بأسماء بعض الصحابة، مثل أبو ياسر وأبو حذيفة؟ الجواب هذا حسن جداً. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 56 حكم التسمي باسم إيمان وهدى السؤال ما رأيك باسم إيمان وهدى ونحوها؟ الجواب اسم إيمان وهدى ونحوها ليس محرماً، لكن يقال فيه مثل ما يقال في الأسماء التي همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي عنها؛ لأنه يقال: هل هناك إيمان؟ فيقال: لا، هل هناك هدى؟ فيقال: لا، فهو مكروه لكنه ليس بحرام، ولذلك أقول كما سبق من كان عنده ابنة يريد أن يسميها إيمان أو هدى، نقول له: الأفضل ألا تسميها، لكن إذا كانت ابنه سميت وكتبت هكذا في الأوراق الرسمية كلها، فإن التغيير فيه صعوبة أحياناً. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 57 أعذار العلماء الاختلاف سنة من سنن الله في الناس، فهو لابد واقع، وقد حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم، ثم من بعدهم من العلماء والأئمة. ورغم أن نصوص الشريعة واضحة في كثير من الأحكام والمسائل، إلا أن العذر حاصل للعلماء فيما اختلفوا فيه، فربما لم يصل لأحدهم حديث وصل للآخر، أو وصل ولم يثبت عنده، أو ثبتت صحته ولم تثبت دلالته، وقد تتدخل عوامل أخرى كالنسيان ودعوى ثبوت النسخ أو عدمه. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 1 سبب طرح موضوع: أعذار العلماء الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هناك موضوع بل موضوعات مهمة جداً لطالب العلم، فأبدأ -إن شاء الله- من هذه الليلة بالعرض أو التعرض لهذه الموضوعات ولو بشيء من الاختصار، لعل أن يكون فيها فائدة ونفع -إن شاء الله- وهناك موضوعان متقابلان مهمان، سيكون الحديث عنهما بإذنه تعالى لأسابيع عديدة، الأول منهما: أعذار أهل العلم في ترك العمل بسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم -أعذار العلماء في ترك العمل بحديث من الأحاديث أو سنة من السنن- ويدخل فيه الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين أهل العلم، ويقابله موضوع آخر يمكن أن أختار له عنواناً حول مثالب الطلاب، وهو إشارة إلى آفات طالب العلم التي تعترضه ويلزم التنبيه عليها للحذر منها، ومن هذه الليلة إن شاء الله يكون البدء بالموضوع الأول وهو: الأسباب التي تجعل بعض أهل العلم يتركون العمل بحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. والذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع ما أراه في واقع كثير من طلبة العلم في هذا العصر من الجرأة على العلماء، ورميهم -أحياناً- بالألفاظ القاسية الشديدة، التي لا تتناسب مع مقدارهم ومكانتهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل. وعلى سبيل المثال بين يدي الآن كتاب يقول فيه مؤلفه في مقدمته: وإنه من المؤسف المحزن أن من الناس من يدينون بأديان أئمة مذاهبهم، ومشايخ طرقهم، ثم يقول: ألا فليعلموا أنه لا دين إلا دين الكتاب والسنة، وأئمة المذاهب يأخذون من التوراة والإنجيل أو من أين؟! ثم يقول: وأن التقليد الأعمى من غير دليل كفر بالله العظيم، ولقد آن الأوان لكي نحطم هالات التقديس وتيجان الربوبية التي وضعت فوق رءوس أئمة المذاهب ومشايخ الطرق -ومما يلفت النظر أنه جمع بين أئمة المذاهب ومشايخ الطرق وشتان بينهما- ثم يقول في صلب الكتاب وهو يتعقب الشيخ الألباني في أحد المسائل حين تكلم الشيخ عن موضوع الإيمان واختلاف الناس في مسماه قال -تعقيباً على قول الشيخ الألباني: إن العلماء اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً- قال هذا المتعقب: إن اختلاف الناس في مسألة من المسائل يرجع إلى أنهم لم يدينوا بدين الكتاب والسنة، وإنما دانوا بأديان أئمتهم ومشايخهم، فلا بد من الاختلاف حتماً، أما دين الله -دين الكتاب والسنة- فليس فيه ذرة اختلاف قطعاً ويقيناً، يقول الحق تبارك وتعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ثم يقول: فعلمنا يقيناًَ أن الذي من عند غير الله فيه اختلافاً كثيراً -كذا كتبها ملحونةً فهو لا يفرق بين المبتدأ والخبر، والفاعل والمفعول- وعلمنا يقيناً أن الذي من عند الله وحده ليس فيه ذرة اختلاف، ثم قال: وأهدي إلى القارئ الكريم بحثٌ -الصواب (بحثاً) لأنه مفعول به منصوب، بحثاً- من دين الكتاب والسنة لمسمى الإيمان والإسلام، ثم جاء بما فهمه هو من النصوص واعتبره هو دين الكتاب والسنة. ومثل هذا كثير في هذا العصر، أصبحت تجد كثيراً من الناس يتجرءون على الأئمة والطعن فيهم، وأنهم لم يختلفوا إلا لأنهم لم يدينوا بدين الكتاب والسنة، وهذا يوجب أن نعرف وخاصة ونحن ندرس -بحمد الله- مسائل على ضوء الكتاب والسنة، ونعرض فيها لأقوال الأئمة المتبوعين وغيرهم، فلا بد أن نعرف ما هي الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف هؤلاء الأئمة أو تركهم لعمل بحديث من الأحاديث. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 2 أسباب ترك إمام من الأئمة لحديث من الأحاديث فهناك أربعة أسباب، لا يخرج عنها حالة واحدة من حالات ترك إمام من الأئمة لحديث من الأحاديث، يعني لا يمكن لإمام من الأئمة المتبوعين الذين أجلتهم الأمة وعرفوا بالذكر الحسن أن يتركوا سنن النبي صلى الله عليه وسلم إلا لأحد أربعة أسباب فلننتبه لها: السبب الأول: أن لا تبلغه هذه السنة، أي لم تصل إليه، وهذا ما سأتعرض له الآن. السبب الثاني: أن تبلغه ولا يعتقد أنها تدل على هذا الحكم، أي أن يبلغه الحديث لكن لا يعتقد أنه يدل على الحكم الذي قيل أنه تركه، ويمر علينا من هذا أشياء كثيرة في الدروس، يصل إليه الحديث لكن لا يوافق هذا الإمام على أن هذا الحديث يدل على ما تقولون. السبب الثالث: أن يبلغه الحديث، ولكنه ينساه، في وقت من الأوقات أو على الدوام، فيفتي بخلافه. السبب الرابع: أن يبلغه الحديث ويحفظه ولا ينساه ويعتقد دلالته على الحكم المطلوب، لكنه يعتقد أنه منسوخ بدليل آخر، فهذه أربعة أسباب كبرى، كل اختلاف لظواهر القرآن والسنة عند أي إمام من الأئمة المعتبرين لا يخرج عن أحد هذه الأسباب الأربعة البتة، وسنعرض لكل سبب في وقت خاص إن شاء الله. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 3 اعتقاد عدم دلالة النص على المقصود العذر الثالث: أن يبلغه الحديث لكن يعتقد عدم دلالته على المقصود، وهذا أوسع الأبواب وأوسع الأعذار، أن يكون العالم يعتقد عدم دلالة الحديث على المقصود، وأن الشارع لا يريد ما فهمته من هذا النص واحتججت به عليه، وإنما يريد معنى آخر يعينه هذا العالم، وهذا الباب واسع جداً وأكثر كلام أهل العلم واعتذاراتهم تدخل فيه، ولأنه ليس المقصود من هذه الدروس وسوف نتحدث عنه فيما بعد في الكلام على آداب الطلاب ومثالبهم؛ فإنني أختصر الكلام في هذا الأمر، فأقول: إن عدم اعتقاد العالم أن هذا الحديث قصد به كذا وكذا يرجع إلى أحد أمرين: الأمر الأول: يرجع إلى مخالفة هذا العالم في قضية أصولية، ويُفهم هذا المعنى من خلال الأمثلة التالية: فقد يكون العالم يخالف أو له رأي في قضية من القضايا الأصولية، وهذه القضية أثرت في موقفه من هذا النص، فمثلاً العلماء يختلفون كثيراً في مسائل الأصول ومن ذلك اختلافهم في الدلالات، فقد اختلفوا في ما يسمى بمفهوم المخالفة، ودلالة مفهوم المخالفة هل يعمل بها، تصح أم لا، والمقصود بمفهوم المخالفة -كما سبق في مواضع عديدة- هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، يعني إذا نطق الشارع بتحريم أمرٍ وسماه أثبتنا للمسكوت عنه نقيض هذا الحكم، ودلالات مفهوم المخالفة كثيرة عند العلماء من أشهرها عند الأصوليين ما يسمونه بدلالة الحصر، فمثلاً في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد -في قصة طويلة- قال: {إنما التصفيق للنساء} إنما هي أداة حصر، دل هذا الحديث على أن التصفيق للنساء، ودلالته على هذا الحكم، هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ بالمنطوق، لأن نص الحديث إن التصفيق إنما هو للنساء، لكنه يدل بمفهومه على إثبات نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه، فبالنسبة للرجال هل يحسن أو يشرع لهم التصفيق؟ لا، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حصر التصفيق للنساء في الصلاة؛ فدل على أنه يثبت للرجال حكم آخر، أو أن حكم المسكوت عنه وهو التصفيق للرجل له نقيض حكم المنطوق، وعُلِمَ من نصوص أخرى أن الرجل يسبح، بل من نفس الحديث لكن من غير هذا الموضع، فهذه دلالة الحصر، أو مفهوم الحصر. كذلك من دلالات المفهوم التي يذكرها الأصوليون دلالة الصفة، فمثلاً: إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {في السائمة زكاة} كما في كتاب عمر في الترمذي وعند أبي داود وفي الموطأ؛ أنه في السائمة من الغنم أنه إذا كانت من الأربعين إلى مائة وعشرين شاة، فكونه وصفها بأنها سائمة، هذا وصف دل بمنطوقه على أن السائمة التي ترعى من الغنم إذا بلغت هذا النصاب ففيها زكاة، لكن دل بمفهوم المخالفة لهذه الصفة على أن غير السائمة كالمعلفة ليس فيها زكاة، هذا يسمى مفهوم الصفة، ومن الأمثلة من القرآن الكريم الاستدلال بقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:21] فإن البعض قد يحتج بأن وصفه خمر الجنة بأنه طهور يدل بمفهوم المخالفة على العكس، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون النقيض هو النجاسة قد يكون النقيض هو النجاسة؛ لأنه وقد يكون عدم الطهورية، وقد يكون وصف الخمر في الجنة بأنها شراب طهور أي طيبة مباركة بخلاف خمر الدنيا فهي خبيثة محرمة، على كل حال فإنه يصلح مثالاً لمفهوم الصفة. ومن دلالات المفهوم عند الأصوليين دلالة اللقب، وذلك كما في حديث عبادة عند مسلم: {الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلى آخر الحديث، فقوله الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلى آخر الأصناف الستة دل عند من يقول بمفهوم اللقب؛ على أن الحكم لا يجري فيما عدا هذه الأصناف، الربا لا يجري فيما عدا هذه الأصناف المنصوص عليها، وهذا مذهب ضعيف، وجمهور العلماء على خلافه كما قد يمر -إن شاء الله- في أيام ودروس مقبلة، ومثل له بعضهم أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الماء من الماء} وهذا الحديث منسوخ، والمقصود أن الإنسان لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل، فدل هذا الحديث بمفهوم اللقب على أن غير الإنزال لا يوجب الغسل، لكن هذا منسوخ بالحديث المتفق عليه: {إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل} زاد مسلم {وإن لم ينزل} فهذا مفهوم اللقب. من مفهومات المخالفة عند الأصوليين مفهوم الغاية، وهي أن يقيد الشرع شيئاً بغاية، مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة:187] فأباح الأكل والشرب إلى غاية معينة؛ وهي أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ومثاله من السنة، أيضاً ورد في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المرأة لا تحل لزوجها الأول حتى تذوق العسيل} أي لا يكفي مجرد العقد والدخول -مثلاً- حتى يجامعها، فقيد الحكم بغاية فدل على أنه قبل حصول هذه الغاية لا يوجد الحكم، فلو فرض أن رجلاً عقد على امرأة مطلقة بائنة هل تحل بمجرد هذا العقد لزوجها الأول؟ لا، إذن يثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق، هذا مفهوم الغاية. من المفاهيم عن الأصوليين مفهوم الشرط وهو أن يعلق الشرع الحكم على شرط، وأمثلته كثيرة جداً منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ابن عباس: {إذا دبغ الإهاب فقد طهر} فهذا شرط، يعني أنه علق الطهارة على الدبغ، فدل على إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ودل الحديث بنصه (بمنطوقه) أن الإهاب إذا دبغ طهر، لكن بمفهومه على أن ما لم يدبغ فإنه نجس، هذه خمسة أنواع من دلالة المخالفة. والنوع السادس والأخير هو مفهوم العدد أن ومثال مفهوم العدد حديث ابن عمر: {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} الحديث رواه الأربعة عن ابن عمر، فالحديث قيد الماء بالقلتين، فنص الحديث على أن الماء إذا كان قلتين لم يحمل الخبث لكن دل بمفهومه على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، وقد سبق الحديث على هذه المسألة وأن هذا المفهوم عارض بمنطوقه. وكل ما سبق من الأمثلة المقصود منه بيان معنى هذا المفهوم وهذه الدلالة، إذاً عندنا ستة أنواع تسمى دلالات أو مفهوم المخالفة، قد يكون مفهوم المخالفة مفهوم حصر، وقد يكون مفهوم صفة، وقد يكون مفهوم لقب، وقد يكون مفهوم غاية، وقد يكون مفهوم شرط، وقد يكون مفهوم عدد، وكل هذه الأنواع اختلف فيها أهل العلم، فبعض أهل العلم أبطل دلالة مفهوم المخالفة بالكلية، ككثير من الحنفية والظاهرية ذهبوا إلى أن جميع هذه الدلالات لا يؤخذ بها، وإنما يؤخذ بما نص عليه الشارع، أما ما سكت عنه الشارع فإنه يؤخذ حكمه إما من نصوص أخرى أو يبقى على الأصل فقد يكون الإباحة -مثلاً- أو قد يكون الحل أو ما أشبه ذلك، فمن العلماء -علماء الأصول- من نازع في دلالة المفهوم، ومنهم من نازع في بعض الدلالات، لكن جمهور العلماء على قبول أو الأخذ بدلالة المفهوم. المقصود من ذلك أن العالم الذي لا يقول بدلالة المفهوم -مثلاً- قد يخالف مفهوم نص من النصوص، فليست مخالفته حينئذ في أنه لا يحترم النص، لكن لأنه لا يرى أن هذا المفهوم لازم له في الشرع، وهذا قد يجعله يترك كثيراً مما تفهمه أنت من النصوص أنه يدل بمفهومه على كذا، هو لا يدل عنده على ما ذكرت، هذا مثال للقضايا الأصولية التي يكون الاختلاف فيها مؤدياً إلى الاختلاف في كثير من المسائل الفقهية. المثال الثاني: هو اختلاف علماء الأصول في الأمر وماذا يقصد، والأمر عند الأصوليين: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77-78] فهذه كلها أوامر: اركعوا واسجدوا، من أعلى إلى أدنى، هذا هو الأمر، اختلف علماء الأصول في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، ماذا يقصد؟ قد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للوجوب، وقد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للاستحباب أو للإباحة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فالصيد ليس واجباً أو مستحباً لكنه مباح، إنما لأنه منع في حال الإحرام؛ بين الله عز وجل أن الإنسان إذا حل من إحرامه حل له أن يصطاد. إذاً: الأمر المجرد عن القرائن علام يدل؟ اختلف العلماء واختلف الأصوليون، ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الأمر يقتضي الوجوب، الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يوجد قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب فهو واجب، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] فهدد المخالفين للأمر بالفتنة أو العذب الأليم، ومنها قول موسى عليه السلام لهارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93] قال الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيته ومنها -وهي ومن أقواها- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك} هل السواك مستحب؟ نعم مستحب بإجماع أهل العلم، ومع ذلك هو غير مأمور به بمعنى الإيجاب، بدليل قوله: {لولا أن أشق لأمرت} فدل على أنه ما أمر خشية المشقة، والمقصود أنه لم يأمرهم أمر إيجاب، كما أن قوله: {لولا أن أشق} دليل على أن المقصود أمر الإيجاب لأن المستحب ليس فيه مشقة، بحيث أن الإنسان في سعة في أن يفعله أو أن لا يفعله، هذا من أقوى الأدلة على أن الأمر للوجوب، والأدلة على ذلك كثيرة ولذلك كان القول بأن الأمر للوجوب قولاً قوياً راجحاً. ومن العلماء والأصوليين من ذهبوا إلى الجزء: 59 ¦ الصفحة: 4 اختلاف العلماء في النسخ العذر الرابع والأخير والذي نختم به هذا الدرس المتعلق بأعذار أهل العلم في الاختلاف وترك العمل بسنة من السنن، هو أن يعتقد أنه منسوخ، والنسخ كما عرفه الأصوليون: هو نسخ حكم شرعي بحكم آخر متراخٍ عنه، أي متأخر عنه، وعرفه بعضهم بأنه نسخ دليل حكم شرعي أو لفظي، يدخل فيه ما كان منسوخ اللفظ وما كان منسوخ التلاوة، والعلماء مختلفون جداً في النسخ، وإن كان أهل السنة قاطبة يثبتون النسخ إلا من شذ منهم، ولكنهم مختلفون جداً في تطبيقه، فمنهم من يتوسع في النسخ ويقول بنسخ أشياء كثيرة من القرآن والسنة، ومنهم من يضيق دائرة النسخ. والكلام في النسخ وشروطه يطول؛ ولكن باختصار أقول: من المعلوم أنه لا ينبغي القول بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً؛ لأن النسخ يعني إبطال دليل شرعي ومفهومه، وأن يكون هذا الدليل -آية أو حديثاً في حكم ما- لم يرد في دلالته على هذا الشيء، فلا ينبغي أن يقال بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً، إضافة إلى شروط أخرى مثل أن يعلم المتقدم والمتأخر، وأن لا يمكن الجمع، أو أن يكون النسخ ثبت بالنص كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها} فهذا النسخ ثبت بالنص. العلماء يختلفون في نسخ بعض النصوص لبعض، ولذلك قد يترتب على ذلك في كثير من الأحيان اختلافهم في حكم شرعي وأضرب لذلك مثلاً واحداً: ورد في حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من مس ذكره فليتوضأ} والحديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري: هو أصح شيء في الباب، وصححه كثير من أهل العلم، والحديث دليل بظاهره على أن من مس ذكره وجب عليه الوضوء، لأن الأمر كما سبق يقتضي الوجوب إذا كان مجرداً عن القرائن فهذا حديث، يقابله حديث آخر وهو حديث طلق بن عدي في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: {هل يتوضأ من مس الذكر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا. إنما هو بضعة منك} والحديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان وقال بعض أهل العلم: إنه أحسن من حديث بسرة، فمن العلماء من يقول بأن حديث بسرة الأول ناسخ لحديث طلق بن عدي، لماذا هو ناسخ؟ قالوا: لأنه متأخر، لأن بسرة تأخر إسلامها، بخلاف طلق بن عدي فهو متقدم الإسلام، واحتج بعضهم على تأخر حديث بسرة وأنه ناسخ فعلاً بما ذكره عدد من أهل العلم منهم ابن حزم: أن حديث بسرة ناقل عن الأصل، أما حديث طلق بن عدي فهو مبق عن الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، ومعنى هذا الكلام أنه إذا ورد في المسألة دليلان أحدهما موافق للأصل، لأنه لو لم يرد نص شرعي لمس الذكر، لو لم يرد دليل فما حكم مس الذكر؟ هل ينقض الوضوء؟ لا، لو لم يرد دليل أصلاً لما كان مس الذكر ناقضاً، فالآن عندنا حديثان أحدهما موافق لهذا الأصل وهو حديث طلق بن عدي لأنه قال: {إنما هو بضعة منك} فهذا الحديث مبقٍ لمس الذكر على الأصل أنه لا ينقض الوضوء، وعلله بعلة وهو أنه بضعة منك فهو كيدك أو رجلك أو أي جزء من جسمك. والحديث الثاني حديث بسرة ناقل عن الأصل قال: {من مس ذكره فليتوضأ} فجاء بحكم جديد ما كان ليفهم إلا من النص الشرعي، وهذا مأخذ قوي فيما يظهر، لأنه يدل على تأخر حديث بسرة، أرأيتم هل يتوقع مثلاً أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مجلس من المجالس: من مس ذكره فليتوضأ، ثم يأتي رجل منهم فيقول يا رسول الله إني مسست ذكري فهل أتوضأ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك، هل يتوقع هذا؟! هذا بعيد، هذا لا يتصور. لكن العكس ممكن بأن يقول رجل: يا رسول الله، مسست ذكري فهل أتوضأ؟ قال له: لا تتوضأ؛ لأنه بضعة منك، فأجابه وأفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الوضوء بناء على الأصل، ولذلك علل بأنه بضعة منك فالأصل أنه لا يجب على الإنسان الوضوء من مس أي جزء من أجزاء جسمه إلا إذا ورد دليل، ثم تجدد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم حكم وعلم بأن مس الذكر ينقض الوضوء فأخبر به أصحابه بأن من مس ذكره فعليه الوضوء، فهذا دليل على أن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن عدي متقدم، ولذلك رجح جمع من أهل العلم وجوب الوضوء من مس الذكر، وليس المجال الآن مجال تفصيل هذه المسألة، إنما هو الإشارة إلى أن النسخ والقول به سبب لاختلاف أهل العلم في كثير من المسائل، فقد تجد إنساناً مثلاً لا يتوضأ من مس الذكر فلا تعيبه حينئذ؛ لأنه اعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وقد تجد آخراً يتوضأ ويقول بوجوب الوضوء، فأيضاً لا تلومه لأنه يعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري إنه أصح حديث في الباب. وينبغي ويجب أن لا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، وإن كان لا يمانع أن يكون هناك نقاش أو جدل بالتي هي أحسن ومفاوضة ومدارسة في هذه الأمور، هذا لا بأس به بل هو مطلوب، لأنه يساعد على الوصول إلى الحق، لكن الشيء المعيب هو أن تكون هذه الأشياء مدعاة إلى الخصومة والبغضاء والوقيعة والسب وما أشبه ذلك من الأمور التي حرمها الله ونهى عنها، فلا يجوز أن تقع بسبب هذه الأشياء التي هي معتمد فيها على أصول أو على أدلة شرعية. نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وبإذنه تعالى نبدأ بالجزء الثاني وهو المهم وهو المقصود أصلاً من هذه الدروس، وهو الكلام عن المثالب والمعايب التي يقع فيها طالب العلم وإنما المقصود بالإشارة إليها التنبيه على وجوب اجتنابها، والله أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 5 عدم اعتقاد ثبوت الحديث هناك جانب آخر نكمله باختصار وهو أن السنة أو الحديث قد يصل إلى هذا العالم، لكن لا يعتقد أنه صحيح، يصل إليه مع اعتقاد ضعفه، بمعنى أنه لا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، إما لأنه لم يسمع به أصلاً أو لأنه سمع به لكن من وجه لا يثبت عنده، ومن المعلوم لديكم أن شروط الحديث الصحيح خمسة: الشرط الأول: عدالة الراوي. والشرط الثاني: ضبطه. والشرط الثالث: اتصال الإسناد. والشرط الرابع: السلامة من الشذوذ. والشرط الخامس: السلامة من العلة القادحة. فهذه خمسة شروط يتوقف عليها تصحيح الحديث، بل ومن العلماء من يضيف شروطاً أخرى ككون الراوي فقيهاً وكونه عالماً، وكونه مشهوراً بحمل العلم، وما أشبه ذلك، وكل شرط من هذه الشروط أهل ومحل لأن يختلف فيه أهل العلم، فإن ما يوجد -مثلاً- بين علماء الجرح والتعديل من الاتفاق والاختلاف، مثل ما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، فهم يختلفون في توثيق الراوي، ويختلفون في لقائه لشيخه، ويختلفون في العلل، ويختلفون في الاتصال والانقطاع، ويختلفون في الوصل والإرسال، ويختلفون في الشذوذ وعدمه، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصر، ولم أر داعياً لذكر أمثلة لكثرتها أولاً، ولأنه يمر خلال هذه الدروس أمثلة كثيرة جداً، ولو أردنا أن نمثل بأمثلة مما سبق، لوجدنا أن هناك مما اختلف فيه العلماء بسبب اختلافهم في توثيق الراوي أو تضعيفه، وهناك حديث اختلفوا فيه لاختلافهم في اتصال إسناده أو انقطاعه، وهناك ما اختلفوا فيه لاختلافهم في شذوذه أو عدمه، أو اختلافهم في وجود علة فيه من اضطراب، أو إرسال خفي أو نحو ذلك. فإذا كانت هذه الاختلافات كلها موجودة، ورأيت إماماً ترك العمل بحديث ما، ولو كان صحيحاً في ما اطلعت عليه أنت، فتذكر أن هذا العالم المجتهد قد يرى هذا الحديث ضعيفاً، فحينئذ لا يلزمه أن يقول بموجبه، ولا أن يعمل به، بل يلزمه ألا يعمل به إن وجد أولى منه، من حديث آخر أو ظاهر آية أو قياس جلي أو ما أشبه ذلك مما قد يرجحه بعضهم على الحديث الضعيف، هذا الجانب الأول أو العذر الأول للعلماء في ترك العمل بسنة من السنن، وهو ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه السنة أو هذا الحديث، إما لأنه لم يبلغه أصلاً وإما أنه لم يصح عنده من وجه صحيح، والله أعلم. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 6 نسيان الإمام للحديث العذر الثاني: أن يبلغه ولكن ينساه، وهذا ما سأتحدث عنه الآن -إن شاء الله- وبقية الأعذار تأتي إن وفق الله وأعان في الأيام القادمة. فما يتعلق بالنسيان فهو أمر جبلي طبيعي في البشر، لا ينفك منه إنسان مهما كانت منزلته، ومهما كان علمه وحفظه، والنسيان على نوعين: النوع الأول: نسيان مطلق كامل، بمعنى أن ينسى الإنسان الشيء فيذكر به فلا يذكره، وهذا غير ممكن في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن الله عز وجل فيما يتعلق بالرسالة والتبليغ والوحي، إلا أن يكون في مجال النسخ، أن ينسخ شيء فيحتمل أن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] وكما في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] أما أن ينسى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من أمور التشريع والوحي فيذكر به ولا يذكره، فهذا غير ممكن في شأن النصوص المحكمة، ولكنه ممكن في حق غيره من البشر أياً كانوا من الصحابة فمن دونهم. أما النوع الثاني: فهو أن ينسى الإنسان شيئاً فإذا ذكر به تذكر، وهذا جائز حتى في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ في المسجد في الليل، فقال: رحم الله فلاناً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دلت رواية البخاري على أن فلاناً هذا هو عباد، يعني عباد بن بشر الصحابي الجليل المشهور، وفي رواية أنه عبد الله بن زيد، وكونه عباد أقوى لأنها في البخاري، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم نسي آية فلما سمع عباداً يقرؤها تذكرها صلى الله عليه وسلم. ثم من بعده من الصحابة والتابعين وسائر علماء الإسلام يعرض لهم من النسيان من النوع الأول والنوع الثاني، وسأذكر الآن بعض الأمثلة التي فيها ذكر نسيان من بعض الصحابة أو غيرهم، سواء ذُكِّروا فتذكروا أم ذكروا فلم يتذكروا، من غير تمييز بين هذا وذاك. فمن الروايات الصحيحة المتفق عليها عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر -رجل مسافر تصيبه الجنابة وليس معه ماء كيف يصنع؟! - فقال عمر رضي الله عنه: لا يصلي حتى يغتسل، فقال له عمار بن ياسر رضي الله عنه: أتذكر يا أمير المؤمنين يوم كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا، فأما أنا فتمرغت بالتراب تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، وضرب بكفيه الأرض، لوجهه ويديه، فقال عمر: اتق الله يا عمار، قال عمار: إن شئت لم أحدث به يا أمير المؤمنين، قال عمر رضي الله عنه: بل نوليك من ذلك ما توليت، يعني أذن له أن يحدث به ويتحمل مسئولية هذا الخبر الذي نسيه عمر رضي الله عنه ولم يذكره. وأبلغ من ذلك ما ورد عند أبي يعلى وسعيد بن منصور أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر يوماً فقال: أيها الناس، لا تغالوا في صُدق النساء، فإني لا أعلم رجلاً زاد في الصداق على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددته، وكان مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ثنتي عشرة أوقية ونشاً ونصفاً، فقامت امرأة وقالت: لم يا أمير المؤمنين؟ ثم تلت قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:20] فسكت عمر رضي الله عنه، ورجع إلى قولها، وهذا الإسناد فيه مجانب بن سعيد وفيه لين، ولكن ورد الحديث من طرق عديدة في مصنف عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي، وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب، وفي غيرها من الكتب، فالظاهر أن الرواية قوية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور وقال: بسند جيد، وفي بعضها أن عمر لما ذكرت المرأة الآية، قال: أخطأ رجل وأصابت امرأة، أو أخطأ عمر وأصابت امرأة، ورجع على نفسه باللوم: أن كل الناس أفقه منك يا عمر، وهذا دأب المؤمن يزدري نفسه ويهضمها ولا يرفعها فوق قدرها، فها أنت ترى أن عمر رضي الله عنه نسي هذه الآية وما تدل عليه من أنه يجوز أن يكون المهر قنطاراً {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] ثم ذكرته هذه المرأة فتذكر. بل لماذا نذهب بعيداً ونحن نجد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطبقوا على نسيان مفهوم قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] بعد أن دهشوا لموته صلى الله عليه وسلم، حتى قام عمر وهو من أقوى الناس وأثبتهم وأجلدهم، يقول: إن قوماً زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ويصفهم بالنفاق، وأنه سوف يأتي ويقطع رقابهم، فلما صعد أبو بكر وتلى هذه الآية تناقلها الناس حتى كأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وصارت تتلى في كل بيت كأنها نزلت الساعة. ومما يذكر من نسيان بعض الصحابة ما رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما أن الزبير رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: {هل تحب علياً؟ قال: وما لي لا أحبه يا رسول الله، وهو ابن عمي وابن خالي وأخي في ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والله لتقاتلنه وأنت له ظالم} فلما كانت يوم الجمل والتقى الزبير وعلي قال علي للزبير: أما تذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؟ فقال الزبير: بلى ولكني نسيت، ثم لوى عنق راحلته وشق الصفوف وخرج من المعركة، وذهب حتى نزل في وادٍ يقال له وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له عمر بن جرموز فقتله غيلة، واحتز رأسه -والله حسيبه- ثم جاء برأسه إلى علي بن أبي طالب واستأذن عليه فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بشر قاتل ابن صفية بالنار} يعني قاتل الزبير، والمقصود برواية البيهقي والحاكم وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم للزبير: {إنك تقاتله وأنت له ظالم} فلما ذكره بها علي ٌ تذكر وعمل بمضمونها، وهكذا من بعد الصحابة من أهل العلم كانوا كثيراً ما يعرض لهم النسيان. ولذلك صنف أهل العلم كتباً خاصة بهذا الباب، فصنف الإمام الدارقطني كتاباً أو جزءاً فيمن حدث ونسي، ثم تبعه على ذلك الإمام الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المشهور بـ الخطيب البغدادي، فصنف جزءاً فيمن حدث ونسي، وتبعهم السيوطي فلخص كتاب الخطيب البغدادي في جزءٍٍ سماه تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي، وذكر فيه ما يربوا على ثلاثين حالة حدث فيها أهل العلم الثقات بأحاديث ثم نسوها. ومن الطريف أنهم ينسونها أحياناً، فيقول من روى عنه إنك حدثتني بهذا، فيبدأ الشيخ يروي عن فلان أنني حدثته عن فلان، ومن ذلك ما رواه سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل} والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن الحديث فلم يعرفه. ومن ذلك أيضاً ما رواه ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} والحديث أيضاً رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال العلماء: فنسي سهيل بن أبي صالح هذا الحديث، فكان يقول: حدثني ربيعة بن عبد الرحمن، -الذي أخذ عنه هذا الحديث- أنني حدثته عن أبي عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} وقد ذهب أكثر أهل العلماء من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين إلى أنه تقبل هذه الرواية وإن نسيها صاحبها ما دام الراوي عنه ثقة، وذهب بعض الأحناف إلى عدم قبولها، ولذلك ضعفوا الحديث الأول وأجازوا أو أجاز كثير منهم أن تنكح المرأة البالغة العاقلة نفسها، ولكن الصحيح أنه يقبل إذا كان الراوي ثقة إذا كان الذي أخذ عن هذا الرجل الذي نسي ثقة. والمقصود أن النسيان يعرض لابن آدم، وقد يتذكر وقد لا يتذكر، فقد ينسى إمام من الأئمة أو عالم من العلماء آية قرآنية أو حديثاً نبوياً فيقول بخلاف ما يدل عليه، فإن ذكر وكان الحديث ظاهراً أو كان الدليل آية قرآنية تذكر ورجع كما رأيتم، وقد يذكر فلا يتذكر، ويبقى على نسيانه سواء لعلة ظهرت له كما حصل لبعضهم، أو لأنه شرد من ذهنه هذا الحديث ولم يستطع أ الجزء: 59 ¦ الصفحة: 7 عدم بلوغ جميع الأحاديث لأي إنسان وسنبدأ الآن بالسبب الأول، وهو: ألا يبلغه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكون في المجلس وعنده بعض أصحابه، فيتكلم بالحكم أو الحديث أو تحصل الواقعة، فينقلها هؤلاء الصحابة لغيرهم ولمن بعدهم من التابعين، وينقلها التابعون لتابعيهم حتى تصل إلينا، ثم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس آخر، عنده قوم آخرون من الصحابة ما حضروا المشهد الأول فيتكلم بكلام آخر، وتحصل واقعة أخرى فينقلها هؤلاء الحضور إلى غيرهم وإلى من بعدهم حتى تصل إلى الأمة، فنجزم إجمالاً بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي يحتاجها المسلمون في الشرع والأحكام والحلال والحرام محفوظة مضبوطة بالجملة، لكن لا يلزم أن تكون عند كل واحد من الأئمة، بل من اعتقد أن إماماً من الأئمة قد أحاط بالسنة كلها فقد أخطأ خطأً شنيعاً، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفذ "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": من اعتقد أن إماماً من الأئمة قد أحاط بالسنة كلها فقد أخطأ خطأً شنيعاً؛ لأن دواوين السنة متفرقة، وقلما تجتمع عند شخص بعينه، وحتى لو افترض اجتماعها عنده، لا يعني أنه أحاط بها، بل قد يكون فيها ما لا يعلم هذا الإمام. ولنلق نظرة سريعة على أعلم الناس وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى أعلم الصحابة وهم الخلفاء الأربعة، فبالنظر سنجد أن هؤلاء الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم قد فاتهم شيء من السنة، كان عند غيرهم ممن هو أقل منهم علماً وأقل ملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم. فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي كان ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول -كما في الصحيح-: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر فكانا ملازمين له صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، وبالذات أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك جاءت إليه الجدة تسأله نصيبها من الميراث وهي أم الأم وفي رواية أم الأب، فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لك شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس. فصعد أبو بكر رضي الله عنه على المنبر، وسأل الصحابة إن كان أحد منهم يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في ميراث الجدة شيئاً، فقام المغيرة بن شعبة فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك أحد؟ فقام محمد بن مسلمة فشهد على ذلك، فأعطاها أبو بكر السدس، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والإمام أحمد، وهو من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر رضي الله عنه، وقبيصة من التابعين لم يلق أبا بكر رضي الله عنه، فروايته عنه مرسلة، فالحديث على هذا مرسل ولكنه يعتضد بالإجماع على الأخذ به، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي أن الصحابة والتابعين اتفقوا على أن نصيب الجدة السدس، فهذا أبو بكر رضي الله عنه خفي عليه ميراث الجدة حتى أخبره من هو أقل منه علماً وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة، وكذلك وردت هذه السنة عن عمران بن حصين رضي الله عنه. ثم انظر إلى الخليفة الثاني وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد طالت مدة خلافته فكثرت فتاواه رضي الله عنه، وهو من فقهاء الصحابة المعدودين ولذلك نقل عنه أشياء كثيرة حفيت عليه فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أشهرها ما في الصحيحين أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر بن الخطاب في بيته، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فكان عمر مشغولاً ببعض شأنه وربما كان يريد أن يؤدب أبا موسى لأن أبا موسى كان والياً على الكوفة وكان عمر يريد أن يبين له أن حجز الناس في الأبواب وحجبهم أمر ثقيل وشاق على النفوس، فاستأذن أبو موسى مرة ثانية، وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، فسكت عمر، فاستأذن مرة ثالثة، وقال: السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فانتهى شغل عمر وانتبه، وقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: بلى، قال: علي به، فنظروا فإذا هو قد ذهب، فجاءوا به إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال: ألم أكن أسمع صوتك تستأذن بالباب؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فقال عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت أو لأودعنك، فـ عمر رضي الله عنه كان يشدد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتثبت الناس في التنقل والرواية، لذلك ضرب المثل بـ أبي موسى؛ لأنه يعرف أن أبا موسى لا يمكن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أراد أن ينبه الناس إلى أنه هكذا سنفعل، فمن كان غير متثبت فعليه أن لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أبو موسى من عنده مذعوراً فزعاً، فمر على نفر من الأنصار جلوساً، فقال لهم: هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الاستئذان ثلاثاً، فتضاحك القوم، فقال لهم: يأتيكم أخوكم فزعاً مذعوراً فتتضاحكوا، فسألوه ما شأنه فأخبرهم، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فذهب إلى عمر رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وفي صحيح مسلم أن أبياً جلس مع أبي موسى عند المنبر فقال عمر لمن حوله: إن وجد أبو موسى أحداً يشهد له فستجدونه عند المنبر، وإن لم يجد فلن تجدوه، فلما أقبل عمر وجد أبا موسى وأبياً عند المنبر، فقال لـ أبي موسى أوجدت أحداً؟ قال: نعم، هذا أبي بن كعب، فقال: ما تقول يا أبا المنذر؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ثم قال أبي بن كعب: يا ابن الخطاب لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما سمعت أمراً فأردت أن أتثبت. فهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو في سعة علمه، وجلالة قدره، وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في الأحاديث الصحاح، حتى أنه ذكر في الحديث الصحيح: {أنه رأى الناس وعليهم قمص، منهم من يبلغ الثدي، ومنهم من دون ذلك، وعلى عمر بن الخطاب قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} وفي الحديث الآخر، قال: {أوتيت بلبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} فرجل بهذه المنزلة وبهذه المثابة، ومع ذلك يتعلم سنة الاستئذان ثلاثاً ممن هم دونه في العلم، كـ أبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد الخدري، ونحوهم. وحادثة أخرى لـ عمر رضي الله عنه وهي أنه لما ذهب إلى الشام ونزل بسرف وهي بلدة على أطراف الجزيرة بحدود الشام، سمع بأن الطاعون قد أصاب أهل الشام وانتشر فيهم، فتحير في ذلك رضي الله عنه فجاء بالمهاجرين الأولين فاستشارهم، فأشاروا عليه برأي ولم يذكروا له سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أحضر الأنصار واستشارهم فأشاروا عليه برأي، ثم أحضر مسلمة الفتح واستشارهم فأشاروا عليه برأي وكان عبد الرحمن بن عوف غائباً في بعض شأنه، فلما جاء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: {إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها؛ فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرضٍ؛ فلا تقدموا عليه} ففرح بذلك عمر وسر ورجع، فهذه السنة خفيت على عمر رضي الله عنه، بل وعلى جمهور المهاجرين وسائر المسلمين، وحفظها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولـ عمر قصص عديدة غير هذه. فإذا انتقلت إلى الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وجدت أنه لم يعلم بأن المرأة المتوفى عنها تعتد في بيتها، حتى أخبرته بذلك الفريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد الخدري أخبرته بقصتها وأنه توفى عنها زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه. فإذا انتقلت إلى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجدته وابن عباس رضي الله عنهما يقولان: بأن المتوفى عنها وهي حامل تعتد أطول الأجلين من الحمل أو من أربعة أشهر وعشراً، مع أن في الصحيحين وغيرهما من حديث سبيعة الأسلمية حين توفي عنها زوجها سعد بن خولة فوضعت فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خرجت من عدتها بذلك. فإذا كان هذا هو الشأن في الصحابة بل في الخلفاء الراشدين؛ فغيرهم من العلماء من باب أولى أنه قد يفوت الواحد منهم شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يشترط أن يكون محيطاً بالسنة كلها، فإن هذا لو قيل لكان معناه أنه لا مجتهد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من الصحابة، لأن الجزء: 59 ¦ الصفحة: 8 مفهوم التجديد في الإسلام تحتوي المادة على أهمية الموضوع ومعنى التجديد عند المسلمين والمستغربين، ثم بين من هو المجدد وما هي الشروط التي لا بد أن تتوفر في المجدد. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 1 أهمية موضوع التجديد الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا الموضوع هو موضوع مهم وخطير في واقع المسلمين اليوم، ألا وهو: موضوع التجديد، وأهمية هذا الموضوع تأتي من جوانب عديدة. فأولاً: التجديد هو: القدر الإلهي القادم لا محالة الذي تنتظره وتتطلع إليه نفوس المؤمنين، بعدما أجهدها السير في الطريق. ثانياً: إن التجديد أصبح ادعاؤه مَزْلقاً، سبَّب لكثيرٍ من الناس ألواناً من الانحراف في فهم الإسلام أو تطبيقه باسم التجديد المزعوم. إخوتي الكرام: أجزم أن الوقت المخصص لهذه المحاضرة وهو ساعة، إضافة إلى نصف ساعة للأسئلة غير كافٍ نهائياً للحديث عن هذا الموضوع الخطير، ولذلك فإنني منذ البداية سأحرص على التركيز على جوانب أرى أن إبرازها مهم في الموضوع، وربما لا أقف عند أمور مفيدة من الناحية العلمية لكن الأمر بالنسبة لها هين ويسير. فالتجديد سنة إلهية شرعية في هذا الدين، وهو ملائم جداً ومناسب لما هو معلوم من أن الله تعالى ختم الأنبياء والمرسلين بمحمد صلى الله عليه وسلم: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] فالعلماء الذين يجددون الدين لهذه الأمة هم -إن صح التعبير- نواب وخلفاء وورثة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، يقومون بدعوة الناس إليه وحثهم عليه، ولذلك يقول أحد العلماء المعاصرين المهتدين: إن العلماء في هذه الأمة هم كالأنبياء في بني إسرائيل، وهذا الكلام -في نظري- صحيح، وهو أن العلماء في أمة محمد صلى الله عليه وسلم هم كبعض أنبياء بني إسرائيل من الذين لم يكونوا رسلاً يأتون برسالات جديدة، وإنما يجددون شريعة النبي السابق لهم، فعوض الله هذه الأمة ببعثة المجددين على رأس كل مائة سنة ليُحْيُوا ما اندرس من أمر هذا الدين. وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر، فقال في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود والحاكم والبيهقي وغيرهم: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدد لها دينها} . والحديث أولاً: لا إشكال في تقويته وصحته، وقد صححه العلماء، كـ ابن حجر والسيوطي والسخاوي والمناوي والحاكم، وغيرهم، بل قال السيوطي: اتفق العلماء والحفاظ على تصحيحه، وفعلاً بعد بحثٍ وتَحَرٍّ لم أقف على عالم واحد تكلم في صحة هذا الحديث أو إسناده، بل إن من غرائب الأمور أنه حتى أولئك الذي يرفضون كثيراً من السنة ويشككون في أحاديث الآحاد، ويقفون من الهدي النبوي موقفاً أقرب إلى العداء والرفض، حتى هؤلاء يدندنون بهذا الحديث ويقولون به، وذلك ليس لوجه الله، وإنما لحاجة في نفس يعقوب قضاها، والمهم أن الحديث متفق على صحته على ما ذكره الإمام السيوطي، وكذلك بحثتُ فلم أجد أحداً ضعَّف هذا الحديث في مصادر كثيرة جداً من مصادر السنة النبوية. ثم أنتقل إلى نقطة ثانية بعد هذا المقدمة والتمهيد المختصر، فأقول: ما هو جوهر التجديد؟ أي بالضبط: ما المقصود بالتجديد؟ وما جوهره؟ الجزء: 60 ¦ الصفحة: 2 الجانب الأول من جوانب التجديد ومن خلال هذا العنوان يبدو أن التجديد المنتظر والمطلوب يتلخص في ثلاثة أمور: الأمر الأول: هو: إحياء الفهم الصحيح للإسلام، ونفي جميع الأشياء التي دخلت على الإسلام من تأثيرات الفلاسفة أو الصوفية أو غيرها، أو من تأثيرات البيئة والواقع الذي يعيشه الناس، فهذا الإحياء للفهم الصحيح للإسلام هو من أهم مهمات المجددين، ونحن نعرف جميعاً أنه قد دخل في فهم - لا أقول في الإسلام -الناس للإسلام تأثيرات غريبة جداً، وأصبحت تقرأ في بعض الكتب أشياء لا تفرق بينها وبين ما عند اليهود والنصارى والبوذيين والمجوس والوثنيين وغيرهم، وهي باسم الإسلام تُرتَكَب. وأذكر -على سبيل المثال- أنني قرأت في كتاب: الطبقات للشعراني بعض القصص والأخبار في منتهى الغرابة؛ حتى أنهم ذكروا من طرائفها -فنحن إذا كنا نسمع بصكوك الغفران عند النصارى فعند الصوفية ما هو أشنع منها، وإن لم يكن على المستوى العام-: أن النقشبندي شيخ الطريقة الصوفية كان قد أراد أن يشتري من إنسان بستاناً، فاشترط عليه صاحب البستان أن يكون الثمن قصراً في الجنة، -لا يريد ثمناً في الدنيا- فوافق شيخ الطريقة على ذلك، وكتب صكاً أو عقداً -وهو مكتوب معروف-: هذا ما باع فلان بن فلان على الشيخ النقشبندي، باع لي بستانه الواقع في مكان كذا، بقصر أو ببستان في الجنة، يُحد شرقاً: بجنة عدْن، وغرباً: بجنة الفردوس، وشمالاً: بجنة المأوى، وجنوباً: بجنة النعيم، وهذا موجود بهذه الصورة. ومن الطريف أيضاً أنهم يقولون: لما مات هذا الرجل البائع رآه رجل في المنام وهو يقرأ هذه الآية: {لقَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} [الأعراف:44] . ويذكر عن أحمد البدوي -المسمى بالسيد-: وهم يقولون: أنه خاتم الأولياء، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، هكذا تقول الصوفية- فيذكرون عن البدوي هذا، أن الله تعالى قال له: سلني يا عبدي -حيث جعل الله له ثلاث دعوات مستجابات، كما جعل للنبي صلى الله عليه وسلم- يقول: سألتُ الله ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة -وهذا تركيب؛ لأن هناك حديث بهذا اللفظ- فأما التي أعطاه الله تعالى هو أنه سأل الله تعالى أن يغفر لكل من كان اسمه أحمد، فأعطاه الله ذلك، وسأله أن يختم به الأولياء؛ فأعطاه ذلك، وسأله أن يدخله النار!! فمنعه ذلك، نعم، منعه ذلك، وقال: لأنه لو دخلها لَتَمَرَّغ فيها ولتحولت إلى حشيش أخضر، أي لو دخل النار لتحولت إلى حشيش أخضر. وهذا ليس فيه فرق -في اعتقادي- عما هو موجود عند الديانات الوثنية والخرافية والمحرفة، لكن ميزة الإسلام أن هناك مرجعاً يمكن التحاكم إليه ونبذ ما يخالفه، وهو: القرآن والسنة، بخلاف الديانات الأخرى، فقد التبس فيها الحق بالباطل على وجه لا يمكن فيه التمييز. إضافةً إلى أننا نعلم أن كثيراً من الناس يستقون فهمهم للإسلام من الواقع، ويعتبرون أن الواقع مصدر الإلهام في فهم الإسلام، أيَّاً كان هذا الواقع. وأتعجب أن الدكتور: حسن حنفي، وهو من أدعياء التجديد، وله كتاب اسمه: التراث والتجديد، يحاول أن يقرر أن الميزان في معرفة الأشياء الصحيحة من الخاطئة هو الواقع، فكل شيء يثبت في الواقع أنه مفيد فهو صحيح، وكل شيء يثبت في الواقع أنه غير مفيد فهو غير صحيح، يعني: ليس مهماً أن يكون الأمر مشروعاً أو غير مشروع، لكن المهم أن يكون الأمر مفيداً في الواقع، فإذا كانت -مثلاً- الاشتراكية أمراً مفيداً في الواقع، أو من خلال تطبيقها تبين أن فيها -مثلاً- تحريك لطبقة معينة من الناس، وتوزيع عادل -على حد زعمه- للثروة فهي تعتبر تجديداً، وأدهى وأمر من ذلك أن هذا الرجل تكلم عن قضية ما يسمى في التاريخ الإسلامي: بوحدة الوجود، وهي فكرة صوفية تدعي أن الخالق والمخلوق شيء واحد. الرب عبد والعبد رب يا ليت شعري من المكلف ومعروفة أبيات ابن الفارض في هذا الباب وغير ابن الفارض. فوحدة الوجود هذه عقيدة صوفية إلحادية، يقول حسن حنفي: إن هذه العقيدة قد تكون في الماضي غير مناسبة وغير صحيحة لضررها، لكنها في العصر الحاضر هي عين الصواب، وهي التجديد، -لماذا؟ - قال: لأن القول بوحدة الوجود يعطي الإنسان قيمته وماهيته، في الوقت الذي سُحِق الإنسان فيه، وضاعت كرامته، وأُهْدِرت شخصيته، وأصبح مجرد تابع ذليل خانع، فالقول بأن المخلوق والخالق شيء واحد يعيد للإنسان نوعاً من أهميته وشخصيته واستقلاليته! إذاًَ ليس المقياس في رفض فكرة ما أو قبولها أن الشرع يرفضها أو يقبلها عند هؤلاء، بل يقيسون الأمر بمدى نفعها في الواقع، فإذا كان الأمر مفيداً في الواقع فهو من التجديد، وإذا كان الأمر غير مفيد في الواقع -في تقييمهم ونظرهم- فهو ليس من التجديد. ونعلم أن الخضوع لسياسة الأمر الواقع -على سبيل العموم- اليوم أصبح أمراًَ يهيمن على كثير من مُفَكِّري الإسلام وعلمائه، يعني: الحضارة الغربية اليوم هي الحضارة المسيطرة الغازية، وهي تبسط أجنحتها الغربية والشرقية، وتبسط أجنحتها على الدنيا كلها. والشعوب الإسلامية تُصَنَّف فيما يُسمى بدول العالم الثالث، أي: العالم المتخلف، الفقير الجاهل المريض، وبالتالي صار كثير من المسلمين ينظرون إلى الكفار نظرة إعجاب وتقدير، بل إن كلمة: الكفار أصبحت ثقيلة على النفوس، وكثير منا يستثقل إطلاق كلمة: كفار عليهم، مع أنها هي الكلمة الواردة في القرآن وفي السنة، وهي أمر طبيعي، لكن كثيراً منا يمكن أن يعبر بأي لفظ، لكن يستحي من أن يطلق عليهم أنهم كفار، أو يحكم عليهم بما حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فكثير من هؤلاء المسلمين بل وربما الدعاة أصابتهم هزيمة داخلية، وصاروا يعيشون ما يسمى: بسياسة الأمر الواقع، فهم يقولون: لا معنى أن نظل ومتشبثين ومتمسكين بأمور معينة، على رغم أن الواقع قد رفض هذه الأشياء. إذاً فالجانب الأول من جوانب التجديد: هو: إحياء الفهم الصحيح للإسلام، بنبذ جميع التأثيرات الصوفية والفلسفية والخرافية والبيئية التي دخلت في الإسلام، وبعدم إخضاع فهم الإسلام للواقع الذي يعيشه الناس ويتغير من بلد إلى آخر ومن وقت إلى آخر. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 3 التجديد في العلوم الإسلامية ويدخل في هذا التجديد أيضاً: التجديد في العلوم الإسلامية. خذ على سبيل المثال: التجديد في علم التفسير، فما أحوجنا إلى كتاب في التفسير يفسر كلام الله تعالى بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أُمِرَ وكُلِّفَ ببيان القرآن الكريم، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] وفي الآية الأخرى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] فالرسول صلى الله عليه وسلم مكلف بالبيان، وفي سورة آل عمران يقول الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فلاحظ هذه المهمات الثلاث للرسول عليه الصلاة والسلام: أولاً: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] وهذا هو البلاغ اللفظي الذي قام به الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث كان يتلو القرآن على الناس، ولا يترك منه حرفاً واحداً؛ حتى الآيات التي نزلت في معاتبة الرسول عليه الصلاة والسلام في بعض المواقف، كان يتلوها على الناس عليه الصلاة والسلام، فيقف أمام الناس ويقول لهم -مثلاً-: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] فينقل الآيات التي فيها عتاب له صلى الله عليه وسلم، كما ينقل الآيات التي فيها مديح وثناء عليه، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ؛ لأن مهمته صلى الله عليه وسلم هي البلاغ. هذا هو معنى قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] . ثم ننتقل إلى مرحلة أخرى في الآية: {وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] والتزكية هي: تربيتهم. إذاًَ لم تكن مهمته فقط مهمة علمية محضة، مثلما يظن بعض الناس، فيقول: أنا مهمتي أن أقول للناس هذا حلال وهذا حرام، وبعد ذلك يفعلوا ما يشاءون، لا، بل كانت مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام فوق ذلك، ويزكيهم، بمعنى: أنه يربيهم على الالتزام الصحيح والتطبيق العملي للقرآن الكريم، ولذلك صار النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تطبيقاً وترجمة عملية للقرآن الكريم؛ حتى قالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم لما سألها هشام بن سعد عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: [[هل تقرأ القرآن؟ قال: نعم، قالت: كان خُلُقَه القرآن]] وكذلك جابر بن عبد الله كما في صحيح مسلم في حديثه الطويل في الحج، يقول: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو أعلم به منا، فما عمل من شيء عملنا مثله]] فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزكي الناس بالقرآن الكريم قولاً وفعلاً: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] . ثم المرحلة الثالثة: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] فما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناه يقرأ عليهم الكتاب؟ لا، فهذه قد مرَّ ذكرها: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] . إذاً تعليم الكتاب غير تلاوة الكتاب، فيعلمهم الكتاب معناه: يشرح لهم القرآن الكريم، ولذلك لا شك في أنه ما من آية تحتاج إلى إيضاح إلا وبينها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله أو بفعله، وقد عنِي العلماء بجمع هذا التفسير في كتب كثيرة، بعضها مخطوط، وبعضها مفقود، وبعضها مطبوع، ولو راجعتَ كتاب: الدر المنثور للسيوطي، لوجدته جمع طائفة كبيرة جداً من هذه الأحاديث، ولو راجعت الجزء الثاني من جامع الأصول لوجدتَ معظم الجزء مخصصاً لكتاب التفسير، ونقل التفسير النبوي للقرآن الكريم. إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم بيَّن كل ما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، وهذا الأمر في غاية الخطورة؛ لأمور: إننا -الآن- نجد طوائف كثيرة من المنتسبين إلى الإسلام -وليسوا بمسلمين- أصبحوا يرفضون السنة كلها، ففي شبه القارة الهندية جماعات يُسَمَّوْن بالقرآنيين، أو بأهل القرآن، وهذه الجماعات ترفض السنة النبوية كلها، وتعتمد فقط على القرآن الكريم، ومع الأسف قرأتُ قبل أشهر كتاباً اسمه: القرآنيون وشبهاتهم حول السنة، وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى بالمملكة، والكتاب قيِّم وأشيد به وأنصح بقراءته للمهتم بهذا الموضوع، لكن مما أحزنني: أن الكاتب ذكر في إحدى الهوامش أن بعض زعماء القرآنيين قد تزوج بالأمريكية المسلمة مريم جميل، وهي امرأة لها تاريخ مشرق، ومن خلال مراسلاتها مع أبي الأعلى المودودي يبدو أن المرأة كانت تحمل هَمَّ الإسلام، وكانت تلتزم بالفهم الصحيح للدين، حتى في بداية التزامها بالإسلام، فإن كان هذا الخبر مؤكداً فهو يستحق الحزن فعلاً، ولعله أن يكون في الأمر ما فيه. والمهم هو أننا نعلم أن هناك من يؤمن بالقرآن ويرفض السنة، كما أننا نعلم في المقابل أن كثيراً من الذين يؤمنون بالسنة أصبحوا يحاولون أن يرفضوا كثيراً من الأحاديث الواردة مما لا يتفق مع أهوائهم وأمزجتهم. فنحن بهذا العمل الذي نقوم به -تفسير القرآن بالسنة النبوية- نربط بين المصدرين، نربط القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن؛ بحيث لا يمكن أن ينفك أحدهما عن الآخر، على الأقل في أذهان جماهير المسلمين، فنقول لمن يؤمن بالقرآن: لا بد أن تؤمن بالسنة، لأن القرآن أحال إلى السنة، ونقول لمن يؤمن بالقرآن -أيضاً- ويرفض بعض السنة: هذه السنة التي ترفضها هي بيان لهذا القرآن الذي تقبله، ولذلك فإن من المهم جداً أن يتجه بعض طلبة العلم كنوعٍ من أنواع التجديد، إلى مشروعٍ من مشاريع التجديد إلى تفسير القرآن الكريم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لا بد من استبعاد ما لا يتفق مع الأصول الشرعية المقررة، والدلالات اللغوية الصحيحة من التفاسير التي سادت بين الناس، وكثيراً ما تقرأ -وخاصة في هذا العصر- ألواناً من التفسير ليس لها علاقة بالآية، يعني: يُسَرِّح المفسر أو الكاتب طرفَه وفكرَه وخيالَه، ثم يكتب ما شاء له قلمُه أن يكتب، ويسمي هذه الكتابة تفسيراً، ويعتبر أنها شرحٌ للقرآن الكريم، وهذا لا شك أنه مَزَلَّّةُ أقدام. ومَثَلٌ آخرُ في مجال العلوم الإسلامية، في مجال الحديث والفقه: مسألة التجديد في دراسة أسانيد السنة النبوية، أي: تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وهذه في أمس الحاجة إلى تجديد، وأعلم أن هناك علماء لهم جهود، ولعل من أبرز من نشاهده في هذا المجال: الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني، فهو مِن أحسن مَن خدم السنة في هذا العصر، وليس هو الوحيد في هذا الباب، بل يوجد من علماء شبه القارة الهندية، ومن علماء مصر كالشيخ: أحمد محمد شاكر، ومن علماء المملكة كسماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز، ومن بعض الشباب الذين يهتمون بالسنة ولهم جهود طيبة، لكن مع ذلك -في اعتقادي- أننا بحاجة إلى التجديد في مجال دراسة أسانيد السنة، فبعض الشباب مثلاً: ظنوا أن دراسة الأسانيد وتصحيح الأحاديث مسألة آلية، يأتي بكتاب: تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر الذي حكم فيه على الرواة إجمالاً، ويأتي بالرجال ويفتح التقريب، ويقول: الرجال ثقات؛ إذاً الإسناد صحيح، أو يعتمد على تصحيح الألباني أو غيره على حديثٍ ما، ويعتبر أنه مُتَعَبَّد بهذا الشيء، وقد ينتقد من يخالفه، وهذه لا شك تحتاج إلى إبعاد هذه المفاهيم عن نفوس الناس. فنحن إذا كنا لا نقبل من الفرد أن يقلد إماماً قديماً في تصحيح الأحاديث وتضعيفها ويعرض عما عداه، فكيف بإمام معاصر! هو أولى أن لا يقبل حكمه على غيره، وليس من المقبول ما ذكره أحدهم في ترجمة الشيخ الألباني حفظه الله أنه قال: إن الألباني معاصر واطلع على ما كتبه السابقون، وبذلك عرف أسانيد وطرق لم يعرفها غيره فجاء حكمه شاملاً، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا أحد يمكن أن يدعي أن علم السنة النبوية محفوظ عند شخص واحد أبداً، والألباني في الوقت الذي يتعقب هو غيرَه من العلماء، يتعقبُه غيرُه، فهو بشر كغيره، صحيحٌ أنه أفضل من كثير من معاصريه؛ لكن ليس معنى ذلك أن العلم توقف عند الشيخ الألباني. إذاً نحن بحاجة إلى عشرات الرجال من أمثال الشيخ الألباني، والشيخ أحمد شاكر وسواهم، يهتمون بدراسة الأسانيد ومعرفتها معرفة صحيحة. وهناك أمر آخر: وهو مسألة نقد المتون، لأنه أحياناً قد يكون السند ظاهره سليم ليس فيه آفة أو علة توجب ردَّه، لكن المتن فيه علة، وهذه أيضاً مشكلة؛ لأن الكلام هذا هو حقٌّ في ذاته؛ لكن أحياناً يكون حقاً يراد به باطل، ولعلكم تذكرون أن الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله يتكئ كثيراً على هذه القضية في رد كثير من الأحاديث، بحجة: أن هذا المتن فيه علة فيرده، وقد أكثر من هذا الأمر، وكانت العلة في الغالب -عنده- هي مجرد أن الحديث لا يقنعه هو، حتى أنني سمعت في شريط ما يناقش طالباً جزائرياً في رسالة ماجستير في حديث أن والدي النبي صلى الله عليه وسلم في النار، فقال: أنا أرفض هذا الحديث لأنه يعارض القرآن، وكل حديث يعارض القرآن -يقول بلهجته-: حُطُّهُ تحتَ رجليك!! فهكذا يقول وهي كلمة بلا شك ثقيلة وصعبة، لكن حدثت منه وهي خطأ كبير لا شك. والمقصود أن الشيخ كان يتكئ على قضية أن الحديث في متنه علة. ومن الطرائف: أنه بعد فترة من الزوبعة التي أثارتها هذه ا الجزء: 60 ¦ الصفحة: 4 الجانب الثاني من جوانب التجديد: تطبيق الإسلام في الواقع الجانب الثاني الذي يشمله موضوع التجديد هو: تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وهذا يشمل جوانب عديدة -أيضاً- منها: الجزء: 60 ¦ الصفحة: 5 التجديد في ميدان الدعوة وهناك جانب آخر من جوانب التجديد في تطبيق الإسلام، وهو: التجديد في ميدان الدعوة إلى الله تعالى، والتجديد في وسائل الدعوة. والدعوة إلى الله الأصل فيها الإباحة، بمعنى: أن أي وسيلة جديدة يتَفَتَّق عنها العصر الحاضر أو العصور القادمة إذا لم تكن محرمة -لم يقم الدليل على تحريمها- فالأصل جواز استخدامها في الدعوة إلى الله تعالى، ولا يشترط في الوسيلة أن تكون توقيفية، بمعنى: أن تكون منقولة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد استخدم المسلمون في الدعوة وأمور الإسلام وسائل لم تكن موجودة في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام: كتدوين الدواوين، وتنظيم الجند، وقضايا بيت المال، وقضايا الكتب، وغيرها من الأمور والوسائل التي جدَّت في عصور متأخرة؛ فأخذها المسلمون عن الأمم الأخرى وانتفعوا بها، فالأصل في الوسائل الإباحة. ولا شك أن العصر الحاضر تَفَتَّقَ عن وسائل كثيرة للدعوة إلى الله تعالى، ومما يُعاب على الدعاة أنهم ما زالوا جامدين على وسائل قديمة، ولم يفكروا في الاستفادة من الوسائل الجديدة في الدعوة إلى الله، ولعلَّ أبرز مثال هو وسائل الإعلام: فسائل الإعلام أصبحت تصوغ عقول الناس وحياتهم وأفكارهم في كل مكان؛ لكن آخر مَن يهتم بوسائل الإعلام هم الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وإذا اهتموا بها اهتموا بها بطريقة غير صحيحة -في كثير من الأحيان- وغير مجدية، بل ربما يكون ضررها أكثر من نفعها. وقضية الإدارة -مثلاً-: كثير من أعمالِ المسلمين ومراكزِهم وجهودِهم ومؤسساتِهم مَبْنِيَّة على نوعٍ من الفوضى والارتجال، ولم تستفِد من الطرق والنظريات الجديدة في الإدارة، فهناك طرق تطورت الآن تطوراً مذهلاً وهائلاً، وأصبح بالإمكان الاستفادة من الوقت، وضبط الوقت، وحفظ الوقت، وطرد إدارة أعداد هائلة من الناس بسبب كمية قليلة بطرق معينة. فنحن نحتاج إلى الاستفادة من هذه الوسائل، وقل مثل ذلك في وسائل كثيرة جداً في هذا العصر. ومن الأشياء المهمة أيضاً في قضية تجديد الإسلام ووسائل الدعوة، هي: موضوع مخاطبة الجماهير، فقد آن الأوان ألا تكون الدعوة إلى الإسلام وقفاً على دعوة الشباب والطلاب وغيرهم، لا، بل نحتاج الآن إلى مخاطبة جماهير الناس؛ لأن الجماهير اليوم مستهدفون من أعداء الإسلام، ولعلكم جميعاً تسمعون عما يسمى بالبث المباشر، الذي تخطط له الدول الأوروبية والغربية والشرقية عبر الأقمار الصناعية، بحيث تسقط آلاف البرامج على البلاد الإسلامية ليتلقاها الناس في قعر بيوتهم، وهذا غزو خطير: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} [الأحزاب:10] وفعلاً هذا هو الواقع، فأعداء الإسلام يخاطبون جمهور المسلمين اليوم، والضالون والمنحرفون من المسلمين وأصحاب المناهج المنحرفة اليوم يخاطبون جمهور المسلمين. وأيضاً الدعاة بحاجة إلى أن يخاطبوا جمهور المسلمين، وأن نبسط العلم للناس، ونسهله لهم، وأن نحاول أن نخاطب أكبر طبقة ممكنة من الناس من خلال الوسائل المتاحة. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 6 الصدع بالحق أولاً: قضية الصدع بالحق، فإذا كان بعض العلماء عدّوا أبا بكر رضي الله عنه على رأس وقائمة المجددين، فإنني أعتبر أن من أعظم المهمات والأعمال التجديدية التي قام بها أبو بكر رضي الله عنه هو موقفه يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر لم يأتِ بشيء من عنده، وكل ما في الأمر أن الناس أمام هذه النازلة الخطيرة، وهي: موت الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فزعوا وصدموا بالأمر الذي لم يكونوا يتوقعونه، فصاروا يضربون أخماساً بأسداس، حتى قام عمر وقال: [[إن ناساً يزعمون أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مات، لا والله ما مات، وإنما ذهب كما ذهب موسى، وسوف يعود فيقطع رقاب قوم زعموا أنه مات]] فماذا صنع أبو بكر؟ إن أبا بكر ما زاد على أنه صدع بالحق في هذا الموقف، فصعد المنبر، وقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت، ثم تلا قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] فيقول: سبحان الله! ما إن سمع الناس هذه الآية حتى كأنهم يسمعونها لأول مرة، فصاروا يتناقلونها ويقرءونها في بيوتهم]] . فآية طالما قرءوها في القرآن الكريم، وطالما تلوها، وطالما سمعوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لما ساقها أبو بكر رضي الله عنه في موقعها الصحيح، وفي موضعها الطبيعي؛ كانت هي المهمة التجديدية والعمل التجديدي العظيم الذي قام به أبو بكر أول ما قام، فاقتنع الناس بها، وردَّ الناسَ بها إلى جادة الصواب. إذاً نحن بحاجة إلى موقف كموقف أبي بكر، لسنا بحاجة إلى شخص يخترع من عنده أشياء ويمليها على الناس على أنها دين، فهذا النوع ليس تجديداً، بل هذا مسخ للدين، فنحن بحاجة إلى من يستطيع أن يستخرج من الدين المعاني الصحيحة، ويتلوها على الناس بأدلتها، حتى إذا سمعها الناس، قالوا: سبحان الله! هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم يشهد لما قال. إذاً لا بد من أن نطرح الإسلام بقوة -وهذه قضية مهمة أيها الشباب- ولا بد أن نتحدث عن الإسلام بقوة وصراحة، وقضية المجاملة والمناورة والمداورة في أمور الدين يجب أن تكون بعيدة عنا، وكل ما كان حديثنا عن الإسلام صريحاً كان أدعى إلى قبول الناس، يعني: ليس من أسباب قبول الناس للدين أن نحاول أن نلطف لهم الحكم الشرعي بالطريقة التي تتناسب مع واقعهم، أو نختار من الأقوال ما يتناسب مع ظروفهم بحجة أننا نريد أن ننقلهم إلى الإسلام؛ لأننا في النهاية سنجد أننا قلنا لهؤلاء الناس: الإسلام لا يكلفكم شيئاً، والإسلام يتناسب مع أوضاعكم. وهؤلاء سيقولون: إذاً لسنا بحاجة إلى الإسلام. فنحن بحاجة إلى أن نقول -مثلاً- للأمريكان والأوروبيين والروس وغيرهم: إن الإسلام شيء آخر مختلف تماماً عما تعرفون وتعيشون، إن الإسلام يرفع أوضاعكم الاجتماعية، وأوضاعكم السياسية، وأوضاعكم الاقتصادية، والإسلام يقوم على هذه الأسس الواضحة الصريحة، وبالتالي: إن قبلوا فهذا دين الله تعالى، وإن رفضوا فنحن لسنا مكلفين بهدايتهم، كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] . أما قضية المجاملة ومحاولة تلطيف الأمور، ومحاولة جمع كلمة الناس بدعوتهم إلى الإسلام بهذه الأساليب؛ فهي تهدم ولا تخدم، وتفسد ولا تصلح، وهذه قضية يجب أن تكون واضحة، وقد جربنا أنه حتى في مجال المسلمين أنفسهم، إذا وجدت إنساناً عاصياً، وقد كنت أعجب من ذلك، فإنه وكان في أذهان كثير منا أن الشاب المنحرف الذي تربى على مشاهدة التلفاز، والكرة، وقراءة القصص الغرامية، وتضييع وقته في أمور لا قيمة لها، أن هذا لا سبيل إلى هدايته إلا بأن ينقل إلى جو قريب من جوه، نثل جو الأناشيد الإسلامية، وجو لعب الكرة، وجو الرحلات، وجو المتعة، وشيئاً فشيئاً يُجَر، وأنا لا أقول في هذا الطريق شيئاً، لكنني أقول: وجدنا بالتجربة أن هناك ناساً كانوا في قمة الانحراف، ثم اطَّلَعوا فجأة على جو متمسك جداً وليس لديه استعداد أن يتنازل لهؤلاء عن أدنى شيء، فسبحان الله! بين عشية وضحاها انقلبوا رأساً على عقب. فأحياناً المواقف الصارمة القوية الواضحة تدعو الناس إلى القبول أكثر مما تدعوهم قضايا المداهنة والمجاملة، فلا يجوز أن نتدسس بالإسلام، ولا نجامل الناس فيه، وهذا من الاعتزاز بهذا الدين، وهو أن نعرض الإسلام للناس بهذه الطريقة، وأنا لا أقول: أن نكون جفاة غلاظاً، نواجه الناس في وجوههم دائماً بما يكرهون. لا لكني أقول: أننا حين نتحدث عن الإسلام يجب أن نكون على درجة قوية من الأمانة، ونشعر بأننا نوقع عن رب العالمين، فلا نقول شيئاً من عند أنفسنا، بل نحن نملي على الناس دين الله وشرعه، وليس من حقنا أن نحول دينه أو نزيد أو ننقص. وإذا وجد في واقعنا أمر استقر الناس عليه، هل يصلح أن نجاملهم في هذا الأمر أيضاً ونحاول أن نبحث عن معاذير؟! -مثلاً- الربا أصبح اليوم وضعاً مستقراً في بلاد المسلمين، وبيوت الربا تناطح السحاب. أيضاً والغناء، والموسيقى، والتصوير -وهي أشياء لا يحلها الشرع- أصبحت واقعة قائمة في بلاد المسلمين، فهل معنى كون الأمر مستقراً أن نعطيه حكماً شرعياً وأنه حلال؟! أبداً، فنحن يجب أن نقول: هذا حلال إذا كان حلالاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقول: هذا حرام إذا كان حراماً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عجزنا نحن عن التطبيق أو ضعفنا أو ضغطتنا أوضاع معينة، فقد يستطيع الجيل الذي بعدنا، لكن علينا نحن أن نحافظ على قداسة الحكم الشرعي. ولعلي أضرب لكم مثلاً من الأمثلة السياسية التي يتحدث بها الناس اليوم: إن اليهود احتلوا فلسطين، ويملكون قوة وإمكانية هائلة، فهل يعني هذا أن فلسطين تحولت إلى دولة لليهود؟! وأننا -خضوعاً للأمر الواقع- يجب أن نقول: ليس بالإمكان الرجوع إلىما كان، وهذه بلادهم، وينبغي أن نتركها لهم، ونشتغل بإصلاح بلادنا خضوعاً للأمر الواقع؟ كلا، بل علينا أن نقول: فلسطين بلد إسلامي، واليهود طارئون عليها، وإذا عجزنا نحن -الجيل الحالي- عن إنقاذ فلسطين من أيديهم، فقد يستطيع الجيل الذي يأتي بعدنا، أولادُنا أو مَن بعدَهم، وعلى الأقل مهمتنا نحن أن نحافظ على الحق المجرد ولو بصورة نظرية. إذاً يجب أن لا نُخضِع الحق للواقع، بل علينا أن نكون واضحين، لا نلف ولا ندور في عرض قضية الإسلام على الناس، سواء كانوا مسلمين عُصاة أم كفاراً. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 7 الجانب الثالث في جوانب التجديد: الشمولية والتكامل الجانب الثالث في التجديد وهو جانب مكمل، هو: جانب الشمولية والتكامل، فمثلاً: الجزء: 60 ¦ الصفحة: 8 في المجال العملي وكذلك التكامل في المجال العملي: -مثلاً- وأنتم تعرفون أن الخلاف بين الدعاة على أشده، ووعدتكم أنه إذا أتيحت لي فرصة أن أتحدث عن هذا الموضوع، لكن أشير الآن باختصار أن هناك من الدعاة من يهتم بالإصلاح الاجتماعي، مثلاً: إقامة جمعيات خيرية، ومدارس، ورعاية الأيتام، ومساعدة المحتاجين والإحسان إليهم، وما شابه هذا، فهذه لا شك أنها أعمال طيبة وعظيمة وهي من صميم الدين. وطائفة أخرى من الناس تجدها تهتم بالجانب السياسي -مثلاً- وتتحدث عن قضية تطبيق الإسلام في واقع السياسات، وضرورة فرض الإسلام على الواقع، وفهم الواقع، وضرورة المناورات السياسية، والنزول للميدان، والتركيز على ما يسمى بقضية الحاكمية. وطائفة ثالثة تجدها تهتم بقضية التعبد، وتطبيق السنة، وكيف يستطيع الإنسان أن يصلي كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي، أو يصوم كما كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وهذه الأمور -مع الأسف الشديد أيها الإخوة- أصبحت الآن كأنها أضداد ينقض بعضُها بعضاً، وكل واحد يعمل عملاً ينتقد الآخرين، فهذا ينتقد هذا بأنه إنسان له أغراض سياسية، ويعتبر هذا مَسَبَّةً له، وهذا ينتقد إنساناً بأنه مشغول بقضايا العبادة، وكيف تركع؟ وكيف تسجد؟ ويترك السياسة للضالين والمنحرفين! وذلك يقول: أنا مشغول مع الفقراء واليتامى والموتى، وتكفين الموت وغسل الموتى؛ ليترك الأحياء، وهكذا كل إنسان أصبح ينتقد العمل الذي يقوم به الآخر، لكن الإسلام أشمل من ذلك كله، وهذه الأعمال كلها يمكن أن تندرج تحت الإسلام؛ بشرط أن تكون أعمالهم يكمل بعضُها بعضاً، ولا ينقض بعضها بعضاً، وليس هذا ينتقد ما قام به هذا، بل على الإنسان أن يفهم أن هذا الدين شامل، يريد من المسلم أن يقوم بهذه الأشياء كلها، وكل إنسان ناجح في تخصصه ومجاله الذي يثمر فيه، وما يتناسب مع طبيعته ومواهبه وإمكانياته وظروفه، وفي كلٍ خير إن شاء الله. ولكن بشرط أن نعلم أن هناك القضايا العامة التي لا بد من أن تكون موجودة عند الجميع، مثل: قضية العقيدة الصحيحة، فهي لا بد أن تكون قاسماً مشتركاً عند الجميع، والعلم بفرض العين -كيف تصلي؟ كيف تصوم؟ فهذا فرض عين، يجب أن يعلمه الجميع- ثم بعد ذلك أنا أتخصص في دراسة السنة، ومعرفة التفاصيل، ودعوة الناس إليها، وأنت تتخصص في رعاية الأيتام وكفالتهم، وثالث يتخصص في بناء المساجد، ورابع يتخصص في أمور من هذا القبيل، والأمر في ذلك واسع، وقل مثل ذلك في قضية الجهاد، والجهاد اليوم هَمٌّ من أكبر الهموم التي يعانيها المسلمون، فقد تجدُ أن المسألة صارت على طرفي نقيض، إما أن نخرج جميعاً للجهاد، وإما أن نثبط المجاهدين ونحط من عزيمتهم وقدرهم، فالجهاد باب من أبواب الجنة، بل إن فيها مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام. ومن أنواع التجديد العملي: التجديد في ميدان الجهاد، ولا شك أن للمجاهدين الأفغان قصب السبق في هذا الميدان، فقد ظل المسلمون فترة منذ سقوط الحكم العثماني وهم لا يسمعون بقضية الجهاد، اللهم إلا أن يكون دفاعاً عن النفس في حدود ضيقة جداً، بل إن قادة الجهاد بحركتهم المباركة رفعت رءوس المسلمين، ونفخت الكرامة والعزة والحماس في الشعوب الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فأصبحنا نسمع تحركات في فلسطين، وفي اليمن الجنوبي، وفي إريتريا، وفي الفلبين، وفي مناطق كثيرة جداً، حيث انتعش الناس وتحركوا لقضية الجهاد في سبيل الله، فهذه قضية مهمة، ولا يعني ذلك أنه عندما أكون مؤيداً للجهاد أنه من الضروري أن أذهب للجهاد، أو أعتبر أن الجهاد هو المقياس الصحيح وأن كل الناس من الضروري أن تكون مجاهدة، فنحن بحاجة إلى مجاهدين، وهذا صحيح، لكن لا يعني التقليل من جانب المتخصصين في العلم الشرعي، فالعلم الشرعي من أعظم أنواع الجهاد، والدعوة إلى الله تعالى من أعظم أنواع الجهاد، ومقارعة العلمانيين الشيوعيين في بلاد الإسلام من أعظم أنواع الجهاد، فالجهاد ليس ميداناً واحداً فحسب. وقد ذكرت آنفاً الأمر الثالث: وهو الشمول والتكامل في الجانب العلمي، وأخذ العلوم كلها، وفي الجانب العملي القيام بالأعمال كلها، فليس بالضرورة أن شخصاً واحد يقوم بالأشياء كلها، لكن المهم أن يكون عنده تصور صحيح؛ حتى يعذر الناس فيما يعملون، وتكون هذه قاعدة لتوحيد وجمع كلمة المسلمين. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 9 الانحرافات في فهم الشمولية والجانب الآخر الذي أرى أنه مهم في موضوع الشمولية: هو ضرورة تغيير طريقة التفكير عند كثير من الشباب، فطريقة التفكير عند كثير من الشباب فيها أخطاء كثيرة، ومن هذه الأخطاء والانحرافات في تفكير بعض الشباب: تركيز اهتماماتهم على أمور جزئية حتى تشغل كل أوقاتهم، فكل وقته -مثلاً- أصبح مشغولاً بالحديث في المجالس الخاصة والعامة حول عشر مسائل هي كل ما لديه. أما القضايا الكبرى الأصولية والمصيرية، وقضايا الأمة قد انشغل عنها الكثير منا بجزئيات وفرعيات لا يجب الاشتغال بها عن غيرها، فهذا من الخطأ في التفكير، والمصيبة أنه ليس خطأً فردياً، بل هو خطأٌ شامل، ومن خلال تطوافي على كثير من الشباب في عدد من البلاد الإسلامية ساءني جداً أن هذا الأمر موجود، وأن الاهتمامات قاصرة ومحصورة في قضايا جزئية تُعد على رءوس الأصابع، وما عدا ذلك ليس له في عقول كثير من الشباب أي موقع، وهذا خطر كبير، حتى قضايا العقيدة، وقضايا الأصول، وقضايا المنهج ليست معروفة. وانحراف آخر في تفكير بعض الشباب يخل بالنظرة الشمولية التكاملية المعتدلة: وهو أن الشباب لا يعرفون أنصاف الحلول، فإما أن يعطوا الشيء: (100%) أو يعطوه: صِفْر%. فإذا تكلموا عن شخص، إما أن يرفعوه فوق الثريا، أو يهبطوه تحت الثرى، فهم لا يقفون به عند حده الصحيح المعتدل. وإذا تكلموا عن عمل من الأعمال، إما أن يكون هذا العمل عملاً كاملاً، أو لا شيء. وإذا تكلموا عن كتاب من الكتب، إما أن يحولوا هذا الكتاب إلى كتاب شعوذة وخرافة، وإما أن يحولوه إلى كتاب أشبه بالكتاب المقدس، وهذا كله انحراف في التفكير، والغالب أن هذه الأمور التي يختلف فيها الناس أن الحق فيها هو الوسط التفصيل، وأن هذا الشخص الذي يختلف الناس حوله بين مُفْرِط ومُفَرِّط، له فضائل وحسنات، وله عيوب وسيئات، وهذا العمل الذي يختلف الناس فيه، سواءً كان جهاداً أو مشروعاً أو مؤسسة أو دعوة فيه فضائل وحسنات، وله أخطاء وسيئات، وهذا الكتاب الذي يختلفون حوله له إيجابيات، وله أخطاء وسيئات. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 10 الشمولية والتكامل في مجال العلم الشرعي في مجال العلم الشرعي: تجد من الشباب اليوم وفي الماضي مَن يُهدرون الفقه المذهبي -فقه المذاهب- ويرون أن هذا الفقه لا قيمة له ولا ثمرة، وأنه مجرد ترف، فيهدرون هذا الأمر ويهملونه، في حين أنك تجد طوائف من الناس يهدرون ما هو أعظم وأجل وهو السنة النبوية، ويعتبرون أن الاشتغال بهذه السنة لا قيمة له، وأن الأولى بالإنسان أن لا يشتغل بها ما دام ليس عالماً؛ لأن هذه السنة قد تفهمه أشياء غريبة، وربما يأتينا من يقول: لا تشتغل بالقرآن، وأذكر أن أحد الفقهاء -ولا أريد أن أذكره- قال في كتاب مطبوع في تفسير القرآن الكريم -في تفسير سورة الكهف- عند تفسير قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً} [الكهف:23] {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:24] قال: إن ظواهر القرآن الكريم تقتضي الكفر المحض!! أي: ظاهر القرآن الكريم كفر! أعوذ بالله من ذلك! إذا كان كلام الله ظاهره كفر، وكلام الرسول ظاهره كفر، إذاً ماذا بقي لنا؟! ومن أين نأخذ ديننا؟ إذاً هناك من يهدر أقوال أهل العلم، وهناك من يهدر ما هو أعظم وأجل منه، وهي السنة النبوية، وقد تجد من يُهدر الأخذ من القرآن الكريم، ويعتبر أن قراءة القرآن الكريم هي لمجرد البركة، ولا شك أن هذا كله خطأ، وأن المطلوب أن نهتم بالقرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارها مصادر للتشريع، ونهتم بأقوال أهل العلم باعتبارهم من السلف -من الصحابة والتابعين والسلف- وباعتبارها مشيرة ومبينة لمعاني كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهم إنما يبينون ويشرحون القرآن الكريم. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 11 في مجال العلوم المادية وأيضاً تجد من الشباب من يُهدرون العلوم المادية، والعلوم الإنسانية مثل: علم التربية، والاجتماع، وعلم النفس، والعلوم الطبيعية والبشرية: كالطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها من ألوان العلوم التي يحتاجها المسلمون في حياتهم، ويحتاجونها في نهضتهم، ليس فقط من أجل أن نقول للناس: انظروا من الممكن أن يكون الشخص متخصصاً في الطب وهو متدين، أو متخصصاً في الفيزياء وهو متدين، فهذا أمر مطلوب وليس فيه إشكال لكن نحن الآن نتطلع إلى نهضة إسلامية شاملة في جميع المجالات، ونتطلع إلى بناء حياة إسلامية كاملة، وهذه الحياة -بلا شك- تحتاج بالدرجة الأولى إلى الفقهاء والعلماء الذين يصوغون مناهج الناس على ضوء الكتاب والسنة، وتحتاج أيضاً إلى الطبيب المسلم، بل الفقيه نفسه يحيل إلى الطبيب في كثير من قضاياه، ويأخذ بقوله في كثير من المسائل، ويحيل إلى غيره في التخصصات الأخرى، فنحن بحاجة إلى جميع التخصصات المباحة التي يحتاجها الناس في أمور حياتهم، ولا يكفي الناس شيءٌ من ذلك بل لابد من الشمول والتكامل فيها. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 12 حقيقة المجدد وشروطه من هو المجدد؟ وما هي شروطه؟ وهذه قضية مهمة جداً، يقول السيوطي في ألفيته المشهورة: وكونه فرداً هو المشهور قد نطق الحديث والجمهور فهو يرجح أن المجدد فرد واحد، ويزعم أن هذا مذهب الجمهور، وأعتقد أن نسبة الأمر إلى الجمهور فيه نظر، فإن أكثر أهل العلم الذين اطلعتُ على أقوالهم: كالحافظ ابن حجر وابن الأثير والذهبي والمناوي وغيرهم، يذكرون أن الأولى هو أن التجديد ليس مهمة فرد بل مهمة طائفة من الأمة، ومما يرجح ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث رواه واحدٌ وعشرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة} فهذه الطائفة المنصورة هي المجددة، وهي التي تقوم بمهمة التجديد، وذَكَرَ المنصورة، بأنهم قائمون بأمر الله، وهذا هو التجديد. إذاً التجديد مهمة طائفة وليست مهمة فرد، خاصة في هذا العصر؛ لأننا نعرف أن الأمة كثرت وتوزعت من جهة، ومن جهة أخرى: أن المفاسد والانحرافات عمَّت وطمَّت، ومن جهة ثالثة: فإن المجددين نوعيتهم قلَّت، فمن لنا بمثل: الشافعي، أو عمر بن عبد العزيز، أو أحمد بن حنبل، أو ابن تيمية -والله المستعان- فلذلك القول الصحيح -خاصة في العصور المتأخرة-: أن التجديد مهمة طائفة منوعة، وليست مهمة فرد واحد، لكن لا يمنع أن هذه الطائفة لها رموز وقيادات وزعامات بارزة، وهذه الزعامات البارزة توجَد في كل عصر -لا شك- لكن يشترط لها شروط، وهذه الشروط هي: الجزء: 60 ¦ الصفحة: 13 أن يكون المجدد إماما ً ويقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] والإمامة ليست بالأمر الهين، بل هي مهمة المجددين: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] . إذاً لا بد من الصبر حتى ينال الإنسانُ الإمامة: الصبر على طول الطريق، وعلى كثرة المخالف، وعلى المشاكل، وعلى الفتن، وعلى البلوى. ولا بد من اليقين الراسخ، الذي لا يتزعزع مع وجود المضايقات والمخالفات الكثيرة، ولذلك يقول سفيان: [[بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين]] . إذاً: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] . وأخيراً أقول -كما قال الإمام مالك، وعبد الرحمن بن مهدي، وغيرهما-: [[لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم]] . فمن خصائص الأئمة: أن يتجنبوا شذوذات العلماء، يقولون: هذه شذوذات، يُلْتَمَسُ العذرُ لأصحابها، لكن لا يُتابَعون عليها، فالذي يَتْبَع الشذوذات، وينتقي من هنا ومن هنا ومن هنا، ويَختار ما يَتَرَخَّصُ به، هذا لا يمكن أن يكون إماماً في العلم. وأرجو الله تعالى أن تكونوا قد استفدتم من هذه الكلمات. وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 14 أن يكون المجدد من العلماء ولذلك يقول السيوطي في: ألفيته: لأنَّهُ في رأسِ كُلِّ مائةِ يَبْعَثُ رَبُّنا لِهَذِي الأُمَّةِ -مَنَّاً عليها عالِمَاً يُجَدِّدُ دِيْنَ الْهُدى؛ لأنهُ مُجْتَهِدُ ثم قال في وقته: يُشارُ بالعلم إلى مَقامِهِ ويَنْشُرُ السُّنَّةَ في كلامِهِ وأن يكون جامعاً لكُلِّ فَن وأن يَعُمَّ عِلْمُه أهلَ الزَّمَن إذاً لا بد أن يكون المجدد عالماً، وليس بالضرورة أن يكون-كما يقول السيوطي -: عالماً بكل فن، فإن هذا أمر قد يكون متعذراً، لكن في نظري أن القضية الأساسية التي نشترطها في الزعماء الذين يقومون بمهمة التجديد: أن يكون عندهم استيعاب للعلوم الشرعية، أي: بمعنى أنه يستوعب ثم يبني على ما استوعب، فيكون عنده فهمٌ، حيث يكون قد دَرَسَ الفقه -مثلاً- ودرس العقيدة الصحيحة، ودرس الحديث النبوي دراسة متأنية بطيئة، ثم بعد ذلك بنى عليها آراءه الجديدة التي تُعْتَبَرُ داخلة في إطار التجديد. وخذوا على سبيل المثال: الإمام الشافعي، ما هو العمل التجديدي الذي قام به الشافعي حتى اعتُبِرَ أنه من أول المجددين؟ -هو ثاني المجددين عند كثير من العلماء- أعظم عمل قام به الشافعي: هو تصنيفه لكتاب: الرسالة، والرسالة في أصول الفقه: وهو طرائق الاستدلال من الكتاب والسنة. ميزة الشافعي في هذا الكتاب: أنه هضم العلم السابق، واستقرأ الكتاب والسنة وطرائق العلماء، ثم وضع الأسس والأصول التي يُبنى عليها فهم الكتاب والسنة. إذاً: الشافعي هضم علم السابقين، أو أسس علم السابقين، ثم بنى عليه عملاً تجديدياً جليلاً وهو: تأليفه لكتاب: الرسالة، الذي يضبط طرق الاستدلال بالكتاب والسنة، فـ الشافعي ما جاء من فراغ، أو درس الفلسفة وقام يُنَزِّلها على الكتاب والسنة، ويحاكم الكتاب والسنة إلى أصولها، بل استقْرَأَ واستوعبَ العلم الشرعي، ثم أفرزَ عملاً تجديدياً. وخُذ مثالاً آخر: وهو ابن تيمية رحمه الله، وهو من أئمة المجددين، فـ ابن تيمية كانت العلوم كلها كأنها بين يديه، يأخذ منها ما يشاء، ويَدَع ما يشاء، وإذا تكلم ابن تيمية عن أي قضية فقهية فإنه يحكي رأي كل مذهب من المذاهب وكأنه من أصحاب المذهب، فإذا قال: مذهب أبي حنيفة كذا فإنه يتكلم وكأنه حنفي، وإذا قال: مذهب الشافعي كذا فإنه يتكلم وكأنه شافعي، وهكذا، وكل مَن يقرأ كتب ابن تيمية يشهد شهادة حق وصدق بأن الرجل استطاع أن يهضم كثيراً من العلوم الضرورية التي سبقه إليها العلماء من قبله، ثم يبني ويستخرج من خلال هذا الكم الهائل الغزير من العلوم آراء وقواعداً وأسساً تجديدية ربما لم يُسْبَق إليها من قبل، ولذلك كان ابن تيمية معلماً بارزاً في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العلم الشرعي. إذاً لا بد أن يتصدى للتجديد من يكون -إن صح التعبير- قد طُبِخَ على نارٍ هادئة، ولا يكون إنساناً حطاباً، ثقافته ثقافة صحفيين، قرأ من هنا كتاباً، ومن هنا فصلاً، وسمع هنا محاضرة، ودرس في المدرسة الفلانية أشياء يسيرة، ثم خُيِّل إليه أنه يستطيع أن يجدد ويأتي بآراء؛ لأنه في هذه الحالة سيفسد أكثر مما يصلح، وسوف يخالف الأصول والقواعد والمنطلقات المتفق عليها، وهو يظن أنه يأتي بعمل لم يُسْبَق إليه، خاصة إذا وجد لديه شيءٌ من الجرأة والشجاعة وعدم التورع الذي يمنعه عن الإقدام في مثل هذه الأمور. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 15 أن يكون المجدد من الطائفة المنصورة وهذا معروف مما سبق؛ لأنه إذا كانت الطائفة المنصورة هي المجددة، فمعنى ذلك أن الزعامة، أي: الذي يكون أبرز من غيره في مهمة التجديد لا بد أن يكون من هذه الطائفة المنصورة، ولذلك فإن الذين يُحْسَبون من أهل البدع لا يمكن أن يقوموا بمهمة التجديد في حالٍ من الأحوال، ويجدر التنبيه إلى أنه في هذا العصر قامت حركات قوية تنادي بتجديد منحرف، وأشرت قبل قليل إلى حسن حنفي، وكتابه: التراث والتجديد، وليست القضية قضية حسن حنفي، بل هي قضية اتجاه شامل واسع، فمثلاً: زكي نجيب محمود، الفيلسوف المصري المعروف، صاحب مجموعة كبيرة من المؤلفات، على رأسها: كتاب: تجديد الفكر العربي، وكذلك عبد الله العروي، وغيرهم يحاولون أن يطرحوا قضية التجديد من منطلقاتهم الخاصة، والتجديد عندهم هو: إخضاع الإسلام للعقل والواقع، وهذا هو معناه عندهم باختصار شديد. إذاً لا بد أن يكون المجدد من الطائفة المنصورة. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 16 الأسئلة الجزء: 60 ¦ الصفحة: 17 حقيقة التعارض بين القرآن والسنة السؤال ذكرتم أن قول الغزالي: إذا وجد حديث يُعارض القرآن إلخ، قلتم: أن هذا خطأ كبير، والمطلوب من فضيلتكم: ماذا لو وُجد حديثٌ فعلاً يعارض القرآن؟ هل نأخذ بقول الغزالي؟ أم ماذا نفعل؟ الجواب السؤال أصلاً: هل يمكن أن يوجد حديث يعارض القرآن؟ بمعنى: هل الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أنه يخالف القرآن؟ لا يمكن، ولذلك من المصائب افتعال الخصومة بين القرآن والسنة، وهذه هي كارثة في العصر الحاضر، ثم هذا الحديث، مِن أي وجه عرفنا أنه يخالف القرآن، إذا قلنا أنه فعلاً يخالف القرآن فنحن نجزم بأنه لم يقله الرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه ليس بحديث، وبالتالي: لا كلامَ في هذا، ولا أحد يخالف فيه، لكنه يخالف في فهمه للقرآن، فأنت فهمت القرآن على وجه معين، وفهمت الحديث على وجه معين، ثم افترضت خصومة بينهما، وبالتالي رفضت الحديث -مثلاً- فأنت تنازع: أولاً: في فهمك للقرآن، قد يكون فهمك للآية غلط. ثانياً: في فهمك للحديث، لأنه قد يكون فهمك للحديث غلط. ثالثاً: في إيجاد التعارض بينهما. وخذ مثالاً: حديث أن والد النبي صلى الله عليه وسلم. في النار، فهذا الحديث في صحيح مسلم، وأنا لا يهمني أن أذكر هذا الحديث في مناسبة أو لا أذكره كمثال لكن الآن أذكره، فقد ردَّه بعضهم بأنه مخالف للقرآن، كيف هو مخالفٌ للقرآن؟ قال: لأن الله تعالى يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] إذاً هذا الحديث يعارض القرآن، فنقول له: هل تعرف أن فيه معارضة؟ لو كان في القرآن نص -ويجب علينا أن نلاحظ حتى لا ننساق أحياناً وراء بعض الشبهات- لو كان في القرآن نص يقول: والد الرسول صلى الله عليه وسلم في الجنة، ثم جاء الحديث يقول: والد الرسول في النار، فهذا صحيح أنه يكون معارضاً للقرآن، أمَّا أن نأتي بآية عامة ونعارض بها نصاً خاصاً، فهذا في الواقع ليس معارضة؛ لأن هذا النوع معروف عند، الأصوليين فهناك نص عام وخاص: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] لكن هذا نص خاص، وهو النصَّ على أن والد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل نصَّ الرسول صلى الله عليه وسلم على جماعة من أهل الجاهلية أنهم في النار. ثم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] من قال لنا: أن والد الرسول عليه السلام لم تبلغه الدعوة؟ أما كان النصارى موجودين؟ أما كان الحنفاء موجودين في مكة نفسها؟ كـ أمية بن أبي الصلت، وكثير من الشعراء الحنفاء، وزيد بن عمر بن نفيل، وغيرهم؟ كانوا موجودين في مكة، ويتحنفون ويدعون الناس، ويتهمون قريشاً بالجاهلية، وكان زيد بن عمر بن نفيل يقف أمام الكعبة، ويقول بأعلى صوته: [[والله يا معشر قريش ما منكم أحد على دين إبراهيم غيري]] ويقولها بأعلى صوته، وكان يحي الموؤدة، وكان لا يأكل ما ذُبح على النُّصُب، فمن قال: بأنه لم تكن هناك شريعة ولا دين؟ وأنه لم يكن عالماً بذلك؟ الجزء: 60 ¦ الصفحة: 18 التجديد عند حسن الترابي والغنوشي السؤال ما هو تقييمك لدعوة حسن الترابي لتجديد أصول الفقه، ودعوة الغنوشي للتجديد؟ الجواب الحقيقة: الحديث في هذا الموضوع يتطلب أمرين: أولاً: الوقت. ثانياً: يتطلب إلماماً كاملاً، وأنا -حقيقة- قرأت كتاب الترابي حول تجديد أصول الفقه الإسلامي، وقرأت بعض مصنفاته، وكذلك اطلعت على بعض آراء الغنوشي في هذا الباب، وعلى سبيل الإجمال يبدو لي أن الرجلين أقرب إلى أن يُصَنَّفا ضمن المدرسة التجديدية العقلانية، فهذه عبارة على سبيل الإجمال، والتفصيل يحتاج إلى مجال. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 19 علاقة السياسة بالدين السؤال يقول: ذكرتَ بعض الأفهام الغريبة التي دخلت على المسلمين وهي بحاجة إلى توضيح، أفلا تعتقد أن من بين هذه الأفهام: حصر مفهوم الدين في الشعائر أو الأخلاق، وتفريغ المفهوم السياسي للإسلام من عقول المسلمين؟ فما نصيحتكم في مجال الفهم والعمل السياسي، خاصة في مثل واقعنا المعاصر؟ الجواب تقريباً أشرتُ إلى النقطة هذه لَمَّا تكلمت عن الجانب الثالث في جوانب التجديد، وهو: الشمولية والتكامل، سواء في فهم الإسلام أم في تطبيقه، ونحن نعيب على بعض الناس الذين يعتبرون الحديث في قضايا أمور السياسة، وواقع الناس، ومشكلات وأعمال الحكام، يعتبرون هذا الأمر أمراً محظوراً، والمتحدث فيه كأنه يتحدث في أشياء محرمة. فالدين جاء ليحكم الحياة، وتأثير الحكام على واقع الناس كثيرٌ، ولا أحد يجادل فيه، فأنا وأنتَ نؤثر على فرد أو فردين أو ثلاثة، لكن الله يَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن، والوسائل التي تمتلكها السلطات في هذا العصر وسائل جبارة وكبيرة وتساهم مساهمة كبيرة في صياغة حياة الناس وعقولهم وتفكيرهم، فالحقيقة إهمال هذا الجانب، والغفلة عنه، والاشتغال بغيره يعتبر نقصاً أو تقصيراً، لكن الذين يشتغلون به ينبغي ألا يلوموا أو يعاتبوا مَن يَرونه مشتغلاً بجانب آخر، بل ينبغي أن يكون هناك نوع من التكامل في العمل والدعوة إلى الله تعالى. هذا، والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 20 بين شيخ الإسلام بن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب السؤال يقول: نسمع الآن من يدَّعون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مجدد، في الوقت الذي يقولون فيه أن شيخ الإسلام المجاهد ابن تيمية لم يكن مجدداً، مع العلم أنه يعتبر البحر الذي تتلمذ على يديه الكثير من العلماء، فنريد توضيحاً لذلك، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب لا شك أنه قام بعمل تجديدي عظيم، وعمله عملي وعلمي في نفس الوقت، لكن جهوده العملمة أوسع وأكبر، فقد عني بتغيير الواقع على ضوء الإسلام، وحاجتنا في هذا العصر إلى الأمرين معاً، ولكن دائماً الحاجة العلمية العملية كبيرة جداً؛ لأنك قد تجد علماء لكن لا يعملون، فهم يعيشون بعيدين عن الإصلاح، وقد انزوَوا في زوايا معينة وتركوا أمر الناس للناس، فعمل الشيخ محمد بن عبد الوهاب -بلغة العصر- يُعتبَر انقلاباً في تاريخ الجزيرة العربية، فقد نقل عباد القبور والأشجار والأحجار إلى موحدين مؤمنين صالحين مجاهدين، بل إن حركة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم تقتصر على الجزيرة، بل امتدت آثارها إلى السودان، ونيجيريا، والشام، ومصر، وتركيا، والهند، ولذلك يوجد مجددون آخرون في كثير من هذه البلاد، مثلاً: في الهند: نذير حسين، حيث كان معاصراً للشيخ محمد بن عبد الوهاب -فيما أحسب وأعتقد- وهو من المجددين الذين أحيوا الإسلام والسنة في شبة القارة الهندية، وكذلك جاء بعده علماء آخرون، أذكر منهم: محمد بشير السهسواني، صاحب كتاب: صيانة الإنسان، وفي الشام: جماعة من العلماء، وفي العراق: الآلوسي، وغيره، وفي مصر، وفي جميع البلاد، شخصيات تأثرت إلى حد كبير بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب. وابن تيمية -رحمه الله- أنا أعتبر أنه من المجددين، بل هو من أكبر المجددين، ومن هو الذي نفى أن يكون شيخ الإسلام ابن تيمية مجدداً؟ نعم، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب استفاد كثيراً من علم شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا ظاهر جداً لمن يقرأ كتبه ومؤلفاته، مثل كتاب: التوحيد، ومسائل الجاهلية، وغيرها من الكتب التي خلفها، رحمة الله عليهم أجمعين. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 21 حكم التفسير العلمي للقرآن الكريم السؤال إلى أي مدى نستطيع الأخذ بالتفسير العلمي للقرآن الكريم؟ وما هي محاذير الأخذ بهذا النوع من التفسير؟ الجواب التفسير العلمي -الحقيقة- كنت أود الإشارة إليه، لكن لا أدري هل نسيت؟ أم العجلة أخذتني في ذلك؟ فقضية التفسير العلمي، أو ما يسمى بالإعجاز في القرآن، قضية تحتاج إلى اعتدال؛ لأننا نلحظ من الناس من يرفض هذا الإعجاز، ويقول: هذا تلاعب بالقرآن الكريم، ومن الناس من يقبل على علاته ويتوسع فيه. وأذكر على سبيل المثال ولعلكم جميعاً تعرفون رشاد خليفة، وهو موجود في هذه البلاد، وأول ما ظهر اسمه كان يتحدث عن قضية الإعجاز العددي في القرآن الكريم، وأذكر أنه نُشِر في عدد من صحفنا أن هناك معجزة عصرية للقرآن الكريم سوف تُنشَر على كتب وأشرطة، وأن الناس ينبغي أن يساهموا فيها لخدمة القرآن الكريم، وأذكر أن الإعلان هذا مضمونه: إن هذه المعجزة سوف تضطر الناس كلهم إلى الإسلام، يعني: كان فتحاً عظيماً، وكما يقال: تمخض الجبل فولد فأراً، بل ما هو دون الفأر، لأن رشاد خليفة هذا جاءتني رسالة من أحد الشباب قبل زمن فيها مجموعة منشورات، يدَّعي الرجل فيها النبوة، على حسب ما هو موجود في الأوراق، ويقول: إنه نبي، والدليل على أنه نبي: أنه وُلد في: (19/نوفمبر) وحروف بسم الله الرحمن الرحيم (19) حرف، وكذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] . فقلت لبعض الشباب: لماذا لا يكون هذا دليلاً على أنه من أهل النار؟! لأن الله تعالى يقول: (عليها) يعني: النار، (تسعة عشر) ونحن لا نحكم على الرجل لأنه قد يتوب فيتوب الله عليه، لكن أقول: إن دعواه النبوة بهذا من السخف بمكان، وليس دعوى النبوة بأولى من دعوى بأنه من أهل النار؛ لهذا الدليل نفسه، لكن بالتأكيد ستجد من يتبعه ويطيعه، فهذا لون من دعوى الإعجاز ينبغي نبذه، كذلك بعض الناس يحملون معاني القرآن على نظريات لم تتقرر بعد، وقد يأتون بنظرية لا زالت موضع أخذ ورد بين العلماء، ويُنَزِّلون الآيات القرآنية عليها، فهذا غلط أيضاً؛ لأننا نعرض القرآن بذلك للتناقض أو الرد، وهناك علماء آخرون يحمِّلون الآية أكثر مما تحتمل، ويَلْوُون عنق الآية حتى تنسجم مع اختراع واكتشاف علمي. وأقول: نحن لسنا بحاجة إلى كل هذا، وصحيح أننا نجزم بأن في القرآن الكريم إعجاز، وأن هذا الإعجاز من حُجَّة الله على عباده في هذا العصر، ولذلك -الحقيقة- أنا أشكر للذين يقومون بجهود في مجال الإعجاز، خاصةً إذا كانوا من المعتدلين، الذين يرجعون إلى كتب التفسير ويطمئنون إلى المعنى الصحيح من الآية، ولا يتكلمون إلا في قضايا علمية مقررة، فأشكر لهم هذا، وأعتبر أن هذا من حجة الله على العباد في هذا العصر؛ لأنه يزيدهم إيماناً، كما أسلم عدد غير قليل من الأطباء وغيرهم في مؤتمرات عُقدت في المملكة وفي غيرها من بلاد العالم. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 22 حقيقة المدرسة العقلية السؤال إلى أي مدى نستطيع أن نأخذ بالمدرسة العقلية في التفسير؟ وما هي المحاذير الواجب تلافيها في هذا الجانب؟ الجواب أولاً: بعض الإخوة ينتقدون لماذا يقال: المدرسة العقلية، وأقول لهم: لا مشاحة في الاصطلاح؛ لأننا حين نقول: العقلية لا نقصد أنهم مدرسة عقلية وغيرهم بلا عقول، لا، إنما المدرسة العقلية تقال في مقابل المدرسة العقلية النقلية أو النقلية العقلية، فنحن لا نهدر العقول لكن نقول: لا بد من الأخذ بالمنقول والمعقول، ونجزم بأن صحيح المنقول وصريح المعقول لا يمكن أن يختلفا، كما أننا حين نسمي ناساً بالقرآنيين، لا يعني أن غيرهم لا يؤمن بالقرآن، بل هم القرآنيين فقط، وهم يقابلون الذي يؤمنون بالقرآن والسنة، فلا إشكال في هذا الاصطلاح. أما فيما يتعلق بالمدرسة العقلية: فإن المدرسة العقلية متأثرة إلى حد بعيد بمدرسة المعتزلة، بل هي امتداد لها في عدد من المسائل، وبعض العقلانيين المعاصرين يصرحون بأنهم معتزلة، وأنهم يؤيدون مذهب المعتزلة، كما يصرح بذلك حسن حنفي -مثلاً- في الكتاب الذي أشرتُ إليه، وكما يصرح به حسني زينة في كتابه: العقل عند المعتزلة، وآخرون لا يستطيعون أن يقولوا هذا بهذه الصراحة؛ لكن بصمات المعتزلة عليهم ظاهرة، حتى الشيخ الغزالي غفر الله لنا وله في مقابلة مع جريدة المساء المصرية قال: أنا تأثرت بكثير من العلماء، وذكر منهم: القاضي عبد الجبار، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة مشهور، وذكر غيره من علماء أهل السنة وغيرهم. فعلى العموم نقول: المدرسة العقلية كمنهج، يجب محاربته؛ لأنه يقوم على أسس غير صحيحة، لكن الحق في الجزئيات يؤخذ ممن جاء به بغض النظر عمن يكون، ففي التفاصيل قد يكون هذا العالم أصاب في مسألة وأخطأ في مسائل، لكن من حيث المنهج يجب محاربته. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 23 ضرورة التجديد السؤال ألا ترون أن التجديد ضروري في الآونة الأخيرة، خاصة في فقه المعاملات، وأخص بالذكر فقه الزكاة، وفقه الربا؟ الجواب التجديد اليوم ضروري في كل مجال، وليس فقط في فقه المعاملات، بل التجديد ضروري في حياة المسلمين، وفي واقع المسلمين، لكن التجديد اليوم أعتقد أنه مهمة أعسر من أي وقت مضى؛ لأن المسلمين الآن يستيقظون بعد سبات طويل، ويستيقظون وقد أحاط بهم الأعداء من كل جانب، ويستيقظون وقد غُزوا في عُقر دارهم، فالمسلمون اليوم بحاجة ماسة إلى التجديد في جميع المجالات بدون استثناء، وبحاجة -كما يقول التعبير العصري- إلى كوادر مدربة في جميع المجالات، في العلوم الشرعية، وفي العلوم الدنيوية، وفي العمل، وفي الجهاد، وفي الإدارة، وفي جميع مجالات الحياة بدون استثناء. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 24 مفهوم تقنين الشريعة السؤال نسمع كثيراً عن النداء إلى تقنين الشريعة، ما المقصود بهذا؟ وما رأي الإسلام فيه؟ الجواب المقصود بتقنين الشريعة: تحويل الأحكام إلى قوانين، أي: على شكل قوانين ومواد مضبوطة. وهذا التقنين الذي يبدو لي فيه أن الشريعة لا تتحمل مثل هذا التقنين؛ لأننا نعرف ونعلم أن الأقوال الفقهية تختلف، وسبق ذكر موضوع الخلاف، والأدلة في ذلك، فالتقنين سيكون على أي مذهب؟ وعلى أي اختيار؟ ومن هو الذي يقوم بهذا العمل؟ فالقضية تحف فيها أمور كثيرة جداً، والدعوة هذه ينظر إليها عددٌ من الناس بعين الريبة. الجزء: 60 ¦ الصفحة: 25 طائفة من الحيل النفسية الإنسان ضعيف، والنفس أمارة بالسوء، والدعوة جهاد وبلاء، وتربية الرجال أثقل من نقل مثاقيل الجبال، وتجاه ذلك تحاول النفس أن تتخلى عن مسئوليتها يساعدها في ذلك الشيطان، وفي هذا الدرس علاج لطائفة من الحيل التي تتذرع بها النفس. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 1 الأمة الغائبة والحيل النفسية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحمد الله تعالى أن جمعنا بعد هذا الانقطاع الذي طال بعض الشيء، فالحمد لله تعالى حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، ونشكره على آلائه التي لا تعد ولا تحصى، ونسأله تعالى أن يستعملنا وإياكم في طاعته إنه على كل شيء قدير أما بعد: فهذا الدرس هو الثاني والسبعون، في هذه الليلة ليلة الإثنين التاسع من شهر ربيع الأول، من سنة (1413هـ) ، وعنوان هذا الدرس: (طائفةٌ من الحيل النفسية) وقد سبق أن تحدثت إليكم في هذا الموضع، عن (الأمة الغائبة) وكان خلاصة تلك المحاضرة أن الأمة الإسلامية تعيش حالة غياب. ولا أعني بالغياب -كما تبادر إلى ذهن بعض الأخوات المتسرعات- أننا نحكم على هذه الأمة بالكفر -مثلاً- معاذ الله من ذلك، فإننا نرجو أن نكون من أبعد الناس عن هذا، والأصل فيمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة أنه مسلم، إلا إذا ارتكب ناقضاً من نواقض الإسلام التي تخرجه عن الملة بيقين لاشك فيه، وإلا فإننا نبقى على استصحاب الأصل في إسلامه، وإنما أردت بمحاضرة (الأمة الغائبة) بوضوحٍ تام، أن نقول: إن الأمة لا تقوم بدورها الواجب في نشر الإسلام، والدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومقارعة الظلم الذي يقع عليها أو على غيرها، بل إن أغلب هذه الأمة يتذرعون بالحيل المختلفة، ويقعدون عن القيام بما أوجب الله عليهم، فليس مقصدنا بالغياب أنه لا يوجد في الأرض أمةٌ مسلمة. كيف ونحن نقرأ صباح مساء قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وهذا حديث متواتر. إذاً مقصدنا بوضوح أن الأمة لا تقوم بدورها كما يجب، وتقع الأحداث الكثيرة دون أن تؤدي الأمة واجبها، بل -أحياناً- دون أن تقوم الأمة بالتعبير عن رأيها ولو بالكلام فحسب، فالأمر كما قيل: ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ وكانت محاضرة (الأمة الغائبة) أشبه ما تكون بالمقدمة لموضوع الحيل النفسية، ثم وفق الله تعالى أن ألقيت محاضرة بمدينة الطائف، كان عنوانها (الحيل النفسية) وعرضت فيها للعديد من تلك الحيل، وسوف أستكملها في هذه الجلسة -إن شاء الله تعالى- بشيءٍ من الاختصار، لأننا بحاجة ماسة الآن إلى الوقت، وسأتحدث إليكم في هذه الكلمة عن أربع نقاط: الجزء: 61 ¦ الصفحة: 2 مقدمة عن دور الفرد في الدعوة أحبتي! إن مما يشغل البال كثيراً في هذا الزمان ويقلق الإنسان؛ أننا نجد أن هذا العدد الكبير من الأمة يعيش حالة انكماش وانقباض عن أداء الدور المنوط به شرعاً، والكثيرون يعتمدون على غيرهم، ويلقون باللآئمة على سواهم، فبعضهم يحتج بالزمان، وقد رد عليهم الشاعر، فقال: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرمٍ ولو نطق الزمانُ بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئبٍ ويأكلُ بعضنا بعضاً عِيانا وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى يُؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار} وقال أيضاً: {لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} أي: أن الدهر مخلوق لله تعالى وهو الذي يدبره ويصرفه كيف يشاء. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 3 التقاعس عن الدعوة وتعليقها بأفراد فالكثيرون يحتجون بالزمان والأوضاع، أو يحتجون بأن فلاناً وفلاناً قاموا بالواجب، ويتعللون بذلك عن القيام بواجبهم هم، ونحن على قناعةٍ تامة، أن أمر الدعوة إلى الله وأمر الدين إذا كان منوطاً بأشخاص يعدون على الأصابع، فإن معنى ذلك أنه عرضةُُ لخطرٍ شديد، فهؤلاء الأشخاص قد يموتون، وقد يعجزون ويهرمون، وقد يحال بينهم وبين ما يريدون القيام به من الكلام أو المحاضرة أو الدرس أو الدعوة، وقد يعرض لهم ما يعرض للبشر من الخطأ، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون} فالعالم قد يخطئ، والداعية قد يخطئ أيضاً، والإنسان مهما بلغ من التحري والدقة يظل بشراً، وأبونا آدم عليه الصلاة والسلام ورثنا نحن منه جبلة البشرية، وطبيعة الإنسانية التي هي عرضةٌ للخطأ، قال تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] . تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ إذاً الإنسانُ يخطئ، فإذا نحن علقنا أمر الإسلام على فلان العالم، أو الداعية، أو المجاهد؛ فمعنى ذلك أننا جعلنا أمرنا مرهوناً بأشخاص يعرض لهم ما يعرض لغيرهم من البشر، وبدون شك فإن السهام إذا تكاثرت على موقع واحد، فإنها تؤثر فيه على المدى الطويل، فهذا سهمٌ يصيب، وهذا سهمٌ يوشك أن يصيب، وهذا سهمٌ يدمي، وهذا سهمٌ قد يصل إلى القلب وإلى السويداء، وبالتالي يتوقف العمل وتتوقف الدعوة إلى الله تعالى. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 4 الدعوة واجب الجميع إذاً يجب أن ندرك -أيها الإخوة- جميعاً أن أمر الدعوة إلى الله، وأمر الإسلام، والعلم الشرعي، والجهاد، وأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكل أمور الدين، أنها لا تستقر وتستقيم ويضمن لها بإذن الله تعالى الدوام والحفظ ومقارعة كيد الأعداء، إلاَّ إذا كانت هماً لأعداد غفيرة من الأمة، فإن أقوى القُوى وأعتاها وأشدها حينئذٍ تقف عاجزة. ونحن نجد أنه عبر التاريخ القريب لهذه الأمة، يوم كانت الدعوة هماً لأفراد قلائل، تمكن خصوم الإسلام من إيقافهم، أو مضايقتهم، أو إحراجهم، أو محاصرتهم، أو حتى من اغتيالهم، وبذلك توقفت وتراجعت مسيرة الدعوة الإسلامية سنين إلى الوراء، وربما عشرات السنين؛ لكن لما صار الإسلام هماً لشعبٍ كامل في الجزائر مثلاً، أو في السودان، أو في أفغانستان، أو في بعض البلاد؛ وجدنا أن قوى دولية ضخمة وهائلة، تقف عاجزةً أمامها، فقد وقفت الشيوعية عاجزة أمام أعدادٍ قليلة من المسلمين في أفغانستان لا يملكون -بعد الإيمان بالله تعالى- إلا أسلحةً متواضعة، ثم سقطت الشيوعية وظل الإسلام قائماً في أفغانستان. واليوم يقف رابع أقوى جيش في العالم في يوغسلافيا عاجزاً عن مزيدٍ من التقدم في بلاد البوسنة والهرسك مع أنهم لا يملكون إلا أسلحة متواضعة، لأن هذا الهم أصبح هماً شعبياً. إذاً القضية التي تشغل بالي وبال غيري وإخواني من الدعاة إلى الله تعالى، أننا نقول: إلى متى تظلون أو يظل بعض الإخوة متفرجين؟ يروون أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فعل كذا، ويشكرون فلاناً، ويدعون لفلان، وينتقدون فلاناً، ثم يقف دورهم عند هذا الحد، لماذا لا ينزل الجميع إلى الساحة ويشاركون الجميع بإمكانيتهم، كلٌ بحسب ما أعطاه الله تعالى؟! {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] . الجزء: 61 ¦ الصفحة: 5 المساهمة بما يستطيع ولهذا تلاحظون دائماً أننا ندندن حول مسألة المشاركة، لأننا لا يعجبنا أن تكون المشاركة مجرد حضور محاضرات أو دروس، هؤلاء الحضور سرعان ما ينفضون أو ينشغلون بهمومهم، أو تتوقف المحاضرة لإجازةٍ أو لسببٍ آخر فينتهي هؤلاء، لا ثم لا! نحن نريد أن يكون هؤلاء دعاةً إلى الله تعالى كل بحسب إمكانياته، وبحسب ما أعطاه الله عز وجل بحيث لا يتوقفون أبداً. ولهذا ننادي بالمساهمة والمشاركة ونعرض لها، وندعو إليها، ولعل من آخر المحاضرات التي كنت ألقيتها هنا محاضرة: عنوانها: (تسع وخمسون طريقة لمقاومة التنصير) وقلتُ: إني أبقيت رقماً فارغاً حتى يشارك عدد من الإخوة في مثل هذا العمل، والحمد لله وجدت مشاركة طيبة تبشر بخير، فوجدت أن بعض الإخوة في التسجيلات في الرياض -وأقول: جزاهم الله خيراً- جعلوا هذه الخطط التسع والخمسين في ورقة باختصار، ووضعوا أمامها خانات ليسجل كل إنسان أمام الطريقة التي يستطيع أن يساهم فيها علامة معينة، ووجدتُ أن بعض الإخوة اختصروا هذه الطرق في أوراق مختصرة في نحو عشر صفحات، ونشروها وإن كنت لا أعلم بذلك، لكن وصلني هذا وسرني لأنه نوع من المشاركة. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 6 نموذج لمساهمة في الدعوة وأعرض أيضاً نموذجاً لمجموعة كبيرة من الرسائل والاتصالات وصلتني، وهذا النموذج من إحدى الأخوات في قطر، وقالت: إنني تعجبت أنك لم تذكر نشاط المنصرين في قطر، فهل هذا دليلُُ على أنه لا يوجد لهم نشاط أم هو نشاط سري؟ وأقول: كلا! لهم نشاط، وهو نشاط علني أيضاً، لكن ربما لم يصلني عدد كبير من الوثائق، وربما ضاق الوقت عن ذكر شيء منها. وذكرت الأخت أنها لما استمعت إلى الأشرطة، قامت بالآتي: أولاً: استمعتُ إلى الأشرطة. ثانياً: تبنيتُ القضية مناقشةً مع الأخوات، أو توزيع الأشرطة، أو كتابة موضوع عن التنصير في بعض المجلات أو الجرائد. ثالثاً: لأنني مازلتُ متفرغة نوعاً ما، تعاقدت مع مُدرسةٍ لمعرفة بعض المصطلحات، وبعض الكلمات الإنجليزية التي أحتاجها. رابعاً: قمتُ بأخذ أرقام البريد لبعض الجهات المهمة كالوزارات، مثل وزارة التربية والتعليم، وزارة النقل والمواصلات، والمستشفيات الحكومية، والفنادق، والجرائد، ثم قمت بتسجيل عشرين نسخة من وسائل المنصرين، وعشرين نسخة من تسع وخمسين طريقة، ووضعتُ كل شريطين في مغلف، مصحوبة برسالة مناصحة ومناشدة، ثم بعثت بها إلى عشرين جهة، ما بين وزارة ومؤسسة وهيئة، وبعثت الأخت بنموذج من الرسالة التي بعثت بها. خامساً: المراسلة. سادساً: الدعاء للمسلمين، والدعاء على النصارى. هذا الأمر هو نموذج للمشاركة، وكل ما نريده وكل ما يهمنا هو أن يكون الجميع مشاركين في قضية الإسلام، وفي الدعوة إلى الله، وتبني مثل هذه القضايا. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 7 نظرة حول موضوع: طائفة من الحيل النفسية الجزء: 61 ¦ الصفحة: 8 أمور تعصم من النفس والشيطان ينبغي أن نعتبر هذه الحيل حيلاً نفسيةً شيطانية، وأن ندرك أن النفس والشيطان والهوى كلها ضد هذا الإنسان، ولا عصمة له من كيد الشيطان ومن وسوسة النفس وقبولها إلا بأمور: الأمر الأول: الإيمان بالله تعالى والاعتصام به والتوكل عليه، فإن العبد يقول دائماً وأبداً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) فلا تحول من المعصية إلى الطاعة، ومن العجز إلى القوة، ومن الضعف والخور إلى القوة في الخير، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الكفر أيضاً إلى الإيمان لا قيام للعبد بذلك كله إلاَّ بعون الله تعالى، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] . فلابد من الإيمان بالله، والتوكل عليه، وسؤاله والاعتماد عليه، وأن يعرف العبد أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بنفسه إلاَّ بقوة الله. إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده الأمر الثاني: الطاعة. فإن القلب إذا كان مليئاً بالطاعات، سواءً كانت طاعات قلبية، مثل محبة الله والتوكل عليه والإيمان به، ومحبة الخير، وما أشبه ذلك من أعمال القلوب، أو كانت أعمال بدنية، كالقراءة والصلاة والذكر والتسبيح والتحميد والتهليل والبر والإحسان والصدقة والصيام وغير ذلك، إذا كانت حياة الإنسان مليئة بهذه الطاعات، كان الشيطان من الإنسان أبعد، وإذا قلَّت الطاعة وكثرت المعصية، كان هذا مرتعاً خصباً للشيطان. فالإنسان مثل البيت، إذا دخل الشيطان إلى البيت فوجد ذكر الله، ووجد التسبيح والتحميد وقراءة القرآن، قال لأصحابه: "لا مبيت لكم ولا عشاء" وهرب. وإذا دخل البيت فوجد فيه المعاصي، ووجد فيه الغناء، والمنكرات، ووجد أنه لا يذكر الله تعالى فيه؛ قال لمن معه من جنوده: "أدركتم المبيت والعشاء" وجلس، فأضل أهل البيت وأغواهم، فينبغي على العبد أن يحصن نفسه بالطاعات الظاهرة والباطنة. الأمر الثالث -الذي يحول دون التأثر بهذه الحيل النفسية والشيطانية-: اعتدال الإنسان في نظرته، وآرائه، ومزاجه، وعلمه، وعمله. فإن العبد إذا كان معتدلاً عُصِمَ بإذن الله تعالى، والاعتدال خيرٌ كله، وهو من القصد الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة: {والقصد القصد تبلغوا} . أما إذا كان الإنسان بعيداً عن العدل والاعتدال، وعنده نوعٌ من الغلو أو الإفراط، أو الشذوذ في أقواله، أو آرائه، أو أعماله، فإن ذلك يغريه -غالباً- بأن يقع ضحية الحيل النفسية، ويجره الشيطان بسببها. الأمر الرابع: كثرة التجربة في مجال الخير، فإن من جرَّب عرف، وكثير من الناس يتوقفون بأسباب ضعف التجربة، فيظن الأمر صعباً، ولو جرب لأدرك أنه أقل مما كان يخاف، فإذا أُذِنَ للعبدِ بِأن يجرب ويقوم بالأعمال ويؤدي ما يستطيع، فإنه ينتقل -بإذن الله- من نصرٍ إلى نصر، ومن تجربةٍ إلى تجربة أخرى أحسن منها. الأمر الخامس: السلامة من الآفات والأمراض الظاهرة والباطنة فإن أمراض القلوب من الحقد والحسد والبغضاء والتعاظم والعجب والكبر وسواها؛ تصيب الإنسان كثيراً ببعض الحيل النفسية، وتجعله عرضة لوسوسة الشيطان وكيده، ومثله -أيضاً- الأمراض البدنية، فإنها إذا أبطأت بالإنسان كثيراً ما تؤثر في نفسه، وتسبب اعتلالاً في مزاجه ونقصاً في أحكامه. فعلى العبدِ أن يدرك ذلك كله، وأن يعتصم بالله، ويكثر من الاستعاذة بالله تعالى من الشيطان الرجيم على كل حال. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 9 دور الشيطان في الحيل النفسية النقطة الثانية التي سأقف عندها هي: نظرة في العنوان. كنت أعلنت عن الدرس يوماً من الأيام بعنوان: (العوائق النفسية) ثم بدلته إلى (الحيل النفسية) والعوائق والحيل قريب من قريب، ثم خطر في بالي خاطر فقال لي: وأين الشيطان الذي ذكر الله تعالى أنه مسلط على ابن آدم، والذي توعد الإنسان فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] وقال {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر:40] وفي آية أخرى: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ؟! فخطر في بالي أن تسميتنا لهذا الأمر بالحيل النفسية أو بالعوائق النفسية أمرٌ يحتاج إلى مراجعة، وكان الأولى أن نسميه الحيل الشيطانية، أو العوائق الشيطانية، لأنه وإن كانت من داخل النفس إلا أن للشيطان فيها نصيباً كبيراً، فإنها غالباً من كيد الشيطان أو وسوسته، والنفس قبلت هذا الكيد وتأثرت به؛ فتحول إلى حيلةٍ يقنع الإنسان بها نفسه، وينبغي أن نجعل للشيطان حينئذٍ دوراً ولا نغفل دور النفس، لأن من الحيل -أيضاً- أن نلقي باللائمة على الشيطان ونتخلى عن أنفسنا في قبول كيد الشيطان والتأثر بوسوسته، مع أن الشيطان نفسه يقول يوم القيامة كما ذكر الله عز وجل {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم:22] . إذاً الشيطان يقول: (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ونقول النفوس: ملومة، والشيطان ملوم أيضاً، فهو أغوى وكاد ووسوس، والنفوس قبلت هذا الوسواس، لأنها نفوسٌ ضعيفة أمارة بالسوء أو نفوسٌ لوامة. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 10 من الحيل: التواضع الوهمي النقطة الثالثة: عرض سريعٌ لما سبق قد عرضتُ فيما سبق لأربع حيل نفسية أذكرها الآن باختصار: الحيلة الأولى: التواضع الوهمي، أما التواضع الحقيقي فمطلوب، وتسميته تواضعاً تيسيراً وإلاَّ فهو في الواقع ليس تواضعاً، فإن أكبر الناس علماً أو عملاً أو تجارة لو عرف قدر نفسه لاحتقرها وازدراها، لكن ينبغي للإنسان أن يتواضع لله تعالى. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 11 التواضع لا يمنع من العمل والأداء التواضع لا يمنع من العمل والأداء: فهذا التواضع لم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يجاهد، ويدير الجيوش، ويعلم الناس العلم ويصالح ويحارب ويسالم ويدعو ويخطب ويأمر وينهى، ويقوم بكل الواجبات الشرعية، فأنت تجد مثلاً ابن عباس رضي الله عنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان متواضعاً شديد التواضع، كثير البكاء من خشية الله تعالى، حتى قيل: إنه رضي الله عنه عميت عيناه من كثرة البكاء. وكان يقول: إن يأخذ الله من عينيَّ نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نورُ ومع ذلك كان يقول عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:7] يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وكذلك عند قوله تعالى في قصة أهل الكهف: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] يقول رضي الله عنه: [[أنا من القليل الذين يعلمونهم]] كما نقل عنه غير واحد من المفسرين. فهذا التواضع لم يمنعه من أن يعلم الناس ويبين ما يعرف، بل هذا نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام، وهو المتواضع العارف بحق الله تعالى ومع ما ذكر الله تعالى عنه وشكره لنعم الله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101] . مع ذلك كان يقول كما ذكر الله تعالى عنه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] . فأعْرَب وأعلن أنه يستطيعُ أن يقوم بأمر الوزارة في حكومة العزيز، وما ذلك رغبةً منه في المنصب ولا طمعاً في الدنيا، لكن من أجل أن يخدم دينه وعقيدته ورسالته التي بعث بها. وهكذا عثمان بن أبي العاص قال: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال: أنت إمامهم} . ومثله ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول كلاماً عن نفسه قوياً جزلاً عظيماً، كان يقول: من قام بأمر الإسلام غيري؟! ومن الذي رفع رايته؟ وإنما قال ذلك لما هضم بعض الناس حقه، واتهموه بما هو منه براء، ومن قبل ذكر الله تعالى عن المتقين أنهم كانوا يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . إذاً نريد منك أولاً ألا يكون تواضعك وهضمك لنفسك، ومعرفتك بقدر نفسك، حائلاً دون قيامك بالواجبات، وأن تقول عند المُلمات: أنا لها أنا لها. وكما قيل: وتزعم أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالم الأكبرُ. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 12 التواضع مطلوب ولكن في حدوده التواضع مطلوب ولكن في حدوده: وهذا التواضع لا يجوز أن يؤدي إلى ألا يرى الإنسان نفسه أهلاً لشيء، ولا قادراً على أن يفعل شيئاً من أعمال الخير، وليست المشكلة فقط بمجرد الشعور الموجود عند بعض الناس حين يقول: الله يرحم الحال، والله المستعان، وأنا لستُ أهلاً لشيء، وأنا إنسان ضعيف، هذا كله كلام جميل ولا بأس به، المشكلة أن يتحول هذا إلى مبدأٍ مستقر يحكم تصرفات الإنسان، ويحكم مواقفه، فإذا قلتَ له: يا أخي درِّس قال: الله المستعان أنا لا أصلح للتدريس إذاً علِّم القرآن. قال: أنا أحتاج إلى من يعلمني. إذاً اخطُب. قال: أنا لا أستطيع أن أجمع كلمتين إحداهما إلى الأخرى. إذاً ماذا تستطيع أن تعمل؟ تحول هذا التواضع إلى غِلٍّ وقيدٍ يقيد الإنسان ويقعده عن الأعمال الصالحة، وهذا نوعٌ من إنكار نعمة الله تعالى قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83] . فأول مراحل شكر النعمة أن تعرف النعمة فتشكر الله تعالى عليها عارفاً بها، فإن الله تعالى قد أعطاك الكثير، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8-10] فلماذا تجحد نعمة الله تعالى عليك ولا تقوم بشكرها؟. أنت تجد أن هدي السلف رضي الله عنهم بل الأنبياء كان غير هذا!! فالأنبياء وأتباعهم كانوا لا يرون لأنفسهم فضلاً، وإنما يرون الفضل لله عز وجل، ويزدرون أنفسهم ويتواضعون لله تعالى، بل إن النبي صلى عليه وسلم لما دخل مكة فاتحاً دخلها متواضعاً متذللاً متضرعاً، حتى طأطأ رأسه عليه الصلاة والسلام، مع أن هذا في موقع النصر. وكذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم السحاب، خرج فزعاً يخشى أن يكون عذاباً، ومثله لما حصل الخسوف والكسوف خاف صلى الله عليه وسلم وخرج يجر إزاره ثم صلى بالناس، وخشي أن يكون عقوبةً تنزل بالمسلمين. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 13 من الحيل: الخوف الوهمي الحيلة الشيطانية الثانية: الخوف الوهمي عند كثير من الناس فقد لعب الخوف بالكثيرين فأصبحت تفرح إذا وجدت رجلاً شجاعاً، لأنك قلَّما تقع عينك إلا على الجبناء الذين يخاف الواحد منهم من ظِله، ويفرق من كل شيء، ويحسب كل صيحة عليه، وهذا والعياذ بالله من علامات ضعف الإيمان، ونبات النفاق في القلب، فإن الله تعالى قال عن المنافقين: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون:4] . الجزء: 61 ¦ الصفحة: 14 الشجاعة في الحق والتحرر من الأوهام الشجاعة في الحق والتحرر من الأوهام: على الإنسان أن يكون قوياً شجاعاً في الحق وفي أمر الدين، لا يخاف في الله تعالى لومة لائم، وقد كان مما بايع عبادة بن الصامت وأصحابه -كما في الصحيحين- رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه: {وأنْ نقول بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله تعالى لومة لائم} . فالكثيرون يضخمون أعداءهم ويضخمون أجهزة الأمن، وبعض الذين يقرءون الكتب عن المخابرات العالمية الأمريكية وغير الأمريكية، أصبح الواحد منهم يعيش على خوف، وينام عليه ويصحو عليه، الخوف من أجهزة الأمن ومن رجال المباحث والمخابرات وغير ذلك، مع أن هؤلاء بشر يضعفون وينسون، ويقصرون، والكثير من هؤلاء مجرد موظفين لا يعنيهم إلاَّ أمر وظائفهم، وليس أمر هؤلاء بغالب أمر الله تعالى، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . فينبغي للمؤمن والداعية خاصة وطالب العلم؛ أن يتحرر من الأوهام والمخاوف، والأشباح التي تلاحقه، وأن يتحرك باعتدالٍ وتعقل. والكثيرون أيضاً يعيشون عقدة المؤامرة، فكل شئٍ يشاهدونه في حياتهم يعتقدون أن وراءه مؤامرة من أعداء الإسلام أو من خصوم الدين، حتى ولو كان الأمر ليس كذلك، وقد بالغ البعض في هذا، والبعض الآخر بالغوا في التهويل، ونحن دائماً ندعو إلى التوسط، فأعداء الإسلام يحيكون المؤامرات العظام، ويخططون ويكيدون ولا شك في هذا؛ لكن لا يعني هذا أن كل شئ بأيديهم ومن تحت تصرفهم وأنهم يملكون كل شيء. كُنا نتوقع أن الاتحاد السوفيتي قوةٌ لا تقهر، وأنه باقٍ إلى مئات السنين، فإذا بأمر الله تعالى يطيح به بين عشية وضحاها، فلماذا لا نأخذ العبرة من ذلك؟ واليوم الناس كثيراً ما يتوقعون أن أمريكا قوةٌ ضاربة، والذين يتابعون أخبار الاقتصاد اليوم مثلاً، يدركون أن الاقتصاد في أمريكا -بل في أوروبا كلها- يعيش أزمات متلاحقة، وأن من أقل الأسواق الآن استثماراً وانتفاعاً الأسواق الأمريكية التي كانت محط أنظار المستثمرين بالأمس. فأمر الله تعالى غالب، وسنة الله تعالى ماضية، وينبغي ألا نقلل ونهون من شأن هؤلاء، وأيضاً ينبغي ألا نضخم أمرهم وأن نعتقد أن وراء كل شيء مؤامرة. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 15 تضييع الفرص بسبب الخوف الوهمي تضييع الفرص بسبب الخوف الوهمي:- الكثيرون لا يستفيدون من بعض الفرص، وبعض الإمكانيات والمكاسب؛ بحجة أننا نخاف أن وراءها مؤامرة، وأن تجر أرجلنا إلى أمرٍ لا نحيط به ولا ندركه. مثال ذلك: الخوف من الفشل، فلا يفعل الإنسان شيئاً، لا يخطب لأنه يقول: أخاف أن أخطئ ولا يؤم الناس لأنه يقول: أخاف أن أسهو في الصلاة كثيراً، ولا يمارس أو يقوم بأي عمل لأنه يقول: أخاف أن أخطئ فيه. ثم ماذا إذا فشلت؟ الفشل هو طريق النجاح، والخطأ هو طريق الصواب، والذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل فيخطئ ثم يخطئ ثم يخطئ ولكن صوابه أكثر من خطئه ولذلك الناس يلتمسون العذر لفلان إذا أخطأ لأن حسناته كثيرة، والماء إذا بلغ قلتين لا يحمل الخبث، لكن إن كان فلان لا يعمل شيئاً ثم أخطأ لا يحتملون هذا منه؛ لأنهم يقولون: أين أعماله المقابلة لهذا الخطأ الذي وقع فيه؟ ومثل ذلك: الخوف من النقد والخوف من النصيحة، فتجد الكثير من الناس إذا قدَّمت له نصيحة كأنه ملدوغ. يكون ماذا يا أخي إذا نصحت؟! أنت بشر، وأنت اليوم حي وغداً ميت، ومن رحمة الله تعالى عليك أن يقيض لك من يقول: يا أخي! جزاك الله خيراً لقد أخطأت، لكن ينبغي أن يكون ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب المناسب. أما الخوف من النصيحة والجزع منها، والنقد لمن ينصح أو من يوجه؛ فإن هذا في الواقع دليلٌ على الخذلان على مستوى الأفراد والجماعات، والدول، فإن النصيحة مما يفرح بها. ولقد شكا الشاعر قديماً فقال: وكم مرةً أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصّحُ وإذا رأيت الأمة تجزع من النصيحة، وتسب الناصحين وتنقدهم وتعيرهم وتشتمهم وتشكك في نواياهم ومقاصدهم وتتهمهم؛ فثق أن هذه الأمة قد تُودع منها؛ لأن الأخطاء سوف تكثر وتتراكم ولا أحد ينصح أو يجرؤ على النصيحة لماذا؟ لأنه بمجرد أن ينصح سوف يشار إليه بالأصابع، ويقال: أنت تريد كذا وقصدك كذا، وغرضك كذا، وفعلت كذا، حتى لا يقوم أحدٌ بأمرٍ بمعروف ولا نهيٍ عن منكر، ونحن على ثقة أن الأمة -بحمد الله- لا تخلو من الناصحين، ولكن يُؤسفنا أن يكون بعض الأفراد أو الأمم أو الجماعات -أحياناً- ممن ينطبق عليهم قول الله عز وجل: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] . الجزء: 61 ¦ الصفحة: 16 الإيمان بالقدر والشجاعة في الحق الإيمان بالقدر والشجاعة في الحق:- وما ذلك إلا بسب الخوف الوهمي، وإلاَّ فلو أننا فتحنا النوافذ للنصائح الصادقة المخلصة؛ لكان ذلك تعاوناً على البر والتقوى، كما أمر الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وكان ذلك تآزراً وسبباً لزوال الأخطاء واضمحلالها ووجود الخير، وكون الأمة كلها يداً واحدةً على من ناوأها أو عاداها. فينبغي أن نُعظِّم أمر الله عز وجل، وأن يعيش الواحد منا لعقيدة ومبدأ ويموت من أجلها، فيكون الله تعالى في قلبه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، ويفقه معنى كونه يقف في الصلاة ويقول: الله أكبر، فإنَّ هذا يعني أن الإنسان يعظم أمر الله ويهون ما سواه. وينبغي أن يؤمن الإنسان بالقضاء والقدر، قال تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فكل ما سوف يجري عليك هو مكتوب، ولن يخطئ الإنسان ما كتب له. قال الشاعر: اعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا وقال آخر: فليس لأمرٍ قدر الله جمعه مشتٌّ ولا ما فرق الله جامعُ وبناءً عليه ينبغي أن تتحرر من المخاوف والأوهام. أصحاب المخاوف والأوهام -أحياناً- لا يكتفون بمجرد القعود عن العمل خوفاً وجبناً وهلعاً، بل هم قاعدون -أحياناً- للتشفي والنكاية فيمن اجتهدوا فعملوا، أخطئوا أم أصابوا، فلان لو فعل كذا لكان كذا، ولو لم يفعل لكان كذا، ومن قبل ذكر الله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] وقال: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] . وعلمنا المصطفي صلى الله عليه وسلم ألا يقول أحدنا: {لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان} وهكذا فإنها حيلٌ نفسية، وشيطانية، لو لو الكثيرون قعدوا عن الدعوة، والعمل، والجهاد وطلب العلم النافع، لماذا؟ لأن كلمة "لو" أحبطتهم وثبطتهم، لأنه ما من إنسان إلا ويجتهد فيخطئ تارة ويصيب تارة. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 17 من الحيل: الكمال الوهمي الحيلة الثالثة: تطلب الكمال المطلق مع عدم السعي في تحصيله. وهو الكمال الوهمي، لأن الإنسان -فرداً أو جماعة أو دولة- لا يخلو من أخطاء مهما بالغ في تحصيل الكمال، فالذين يريدون -مثلاً- أن تكون هناك دعوة إسلامية ناضجة سليمة (100%) هؤلاء يطلبون أمراً قد يكون تحقيقه صعباً ويتطلب جهوداً كبيرة، فلماذا أقعد وأنتظر دعوة كاملة؟! أو يطلبون -مثلاً- علماً غزيراً كبيراً حتى يقوموا بالدعوة إلى الله، هؤلاء يتطلبون كمالاً لا يحصلون عليه، أو إنسان -مثلاً- لا يقوم بالدرس أو بالمحاضرة، لماذا؟ لأنه يتطلب جمهوراً غفيراً يحضر له! هذا ليس بصحيح؛ لأنه كما يقول المثل الصيني: (رحلة ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة) . فالدعوة الناضجة، أو الدولة الكاملة، أو الحضور الكبير، أو العلم الغزير أو غيره، كل ذلك يتطلب أن تبدأ أنت بذاتك، وأقصدك بعينك، أن تبدأ أنت بالخطوة الأولى إلى مجلس علم، أو دعوة، أو جهاد، أو إصلاح، أو نفقة في سبيل الله، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة التي هي في متناول يدك. وأحياناً يقعد الانتقاد بمثل هؤلاء عن العمل بحجة أن هذا العمل فيه نقص، وذاك العمل فيه نقص، وذاك فيه نقص. ونحن نقول: النقد بذاته إيجابية، فمن الأعمال التي نُطالبك بالمشاركة فيها أن تنتقد نقداً حراً بناءً، وينبغي -أيضاً- مع النقد أن تعلم أن وجود العيب والخطأ لا يمنعك من المشاركة أبداً، وأنا أقول لك عن نفسي: أنا أشارك في أعمال أعلم أنها ليست على الكمال، فيما أرى، ولكن الكمال عزيز ونادر، ولو أن الإنسان لا يشارك في عمل ولا في خير إلا بعد أن يقتنع تماماً أنه ناضج (100%) وصالح (100%) ؛ لما عمل الإنسان خيراً قط، وإنما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في نصيحته العظيمة الغالية، التي رواها لنا البخاري عن أبي هريرة {سددوا وقاربوا وأبشروا} فينبغي أن تقبل المكاسب الجزئية، وتؤمن بأن الإنسان يعمل بحسب ما يستطيع، ويتعامل مع الواقع الذي يعيش فيه. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 19 من الحيل: القناعة الوهمية الحيلة الرابعة: القناعة الوهمية، وإحساس البعض بأنه قد أدَّى ما عليه، وأنه لا مجال لطلب الزيادة أو تغيير الأحوال أو ما أشبه ذلك، فأنت تجد الكثيرين من أصحاب ثلاثين سنة وما فوق -ولعل أكثركم وأكثر المستمعين من هذه الطبقة- استقرت أحوالهم على أمور معينة، فإن جئته من الناحية الوظيفية وجدته قانعاً بوظيفته لا يطلب تغييراً جوهرياً فيها، وإن جئت من الناحية العائلية وجدته قد استقر أمره ولا يطلب أي تغيير، وإن جئت من الناحية التجارية وجدت أنه قد استقرت أموره المادية على مستوى معين لا يطلب فيه تغييراً، وهذا كله لا يعنينا، لأننا لا ندعوكم إلى التزود من الدنيا، وإنما ندعوكم إلى التزود من الآخرة، وإذا كانت الدنيا سبيلاً وذريعة إلى الآخرة، فتزود من الدنيا لأنها سبيل إلى الآخرة. الذي ندعوك إليه هو أن تكون دائماً وأبداً متطلعاً في المجالات الشرعية العلمية والدعوية والجهادية وغيرها، وأن تكون متطلعاً نحو الكمال وألَّا ترضى بالواقع الذي تعيشه، ولا يكفينا أن تقول: أنا غير راضٍ بهذا الواقع. بل نريد منك أن تسعى خطوة تدل على أنك تسعى في تغيير هذا الواقع. هذا على المستوى الفردي، لكن على المستوى الاجتماعي أيضاً، لا أعتقد أن واحداً منكم اليوم إلا وقد سمع تلك الكلمة التي كثيراً ما تردد تزكية لمجتمعنا، الكثيرون يقولون: الحمد لله؛ مجتمعنا اليوم أفضل من المجتمعات الأخرى. ويقصدون أن المجتمع في هذه البلاد أفضل من المجتمعات الأخرى، ولو نظرنا إلى الدول المجاورة، ولو نظرنا ولو نظرنا هذه التزكية لأفرادنا ولجماعاتنا ولمجتمعاتنا هي نوعٌ من الرضا بالواقع وتسويغ القعود، والواقع أننا ينبغي أن نقف بعض الشيء عند هذه التزكية. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 20 معيار الحكم على المجتمعات ومشكلة التغير ما هو المعيار في الحكم على المجتمعات؟ هل هو الدول المجاورة أو القريبة أو البعيدة، أم هو الكتاب والسنة؟ لا شك أنه الكتاب والسنة، إذاً علينا أن نقيس أمر مجتمعنا على ما هو واجب في شريعة الله تعالى وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فنعرف كم نحن بعيدون عما هو واجب شرعاً؛ لنسعى ونبذل جهدنا في الوصول إلى ما هو واجب شرعاً، فإن أبيت هذا المقياس ولا أظنك تأبى وأنت إن شاء الله وقَّافٌ عند حدود الله؛ لكن إن أبيت قلنا لك: إذاً بدلاً من أن نقيس بغيرنا، لماذا لا نقيس المجتمع بما كان عليه المجتمع نفسه قبل عشر سنوات أو عشرين سنة؟ لندرك كم من رياح الفساد والانحلال والتغيير الخطير، هبت على هذا المجتمع وغيرته، وكم دخل هذا المجتمع من ألوان الانحراف التي لم يكن للناس بها عهد، وأصبحوا اليوم يألفونها ويستسيغونها، وقد كانت بالأمس منكرةً أشد الإنكار، ولا أريد أن أضرب الأمثلة، لأن هناك بعض الأمثلة قد تكون مثار عجب ودهشة عند الكثيرين، حتى في أشياء صغيرة جداً. فالتدخين كمنكر محرم، قبل سنوات كان وجود إنسان يدخن في الأسواق أمراً مذهلاً مدهشاً، أما اليوم فقد أصبحت ترى الإنسان يدخن وربما لا تنكر عليه؛ لأنك تقول: انتشر هذا المنكر بصورة جعلتني لا أستطيع أن أنكر على كل من رأيت، ولو أردت أن أنكر لم أستطع أن أقوم بعمل من الأعمال الدنيوية ولا الشرعية؛ لأن هذا الأمر أصبح فاشياً منتشراً مشتهراً. هذا مثل واحد قليل من عشرات بل مئات بل آلاف الأمثلة التي تدل على أن المجتمع أصبح يتغير، وأنا أقول لكم -أيها الإخوة- كلمة مختصرة: ليست المشكلة عندي في تغير المجتمع هي فقط مشكلة أن المجتمع أصبح مجتمعاً مدخناً في قاعدة عريضة من رجاله! ليست هذه هي المشكلة فقط، بل هناك ما هو أخطر من التدخين وهي المخدرات بأنواعها، وليست المشكلة عندي هي المخدرات فقط! وليست المشكلة هي كون الكثير من الناس أصبحوا يقضون أوقاتاً طويلة أمام التلفاز أو أمام أشرطة الفيديو. هذه كلها مشكلات، لكن المشكلة الأكبر عندي أن عقليات هذا المجتمع قد تغيرت كثيراً، وأن قلوب الكثيرين قد تغيرت، وربما كانت أجهزة الإعلام من إذاعة وتلفزة وفيديو وصحافة ومقالات وكتب وغيرها، ربما كانت هي أحد الروافد التي ساهمت في تغيير عقول وقلوب أبناء هذا المجتمع!! وهذا التغير خطيرٌ جداً، والكثيرون لا يدركونه، فمثلاً: أي جهة قامت برصد تأثير أجهزة الإعلام على بناتنا؟! أعلم يقيناً أنه ليست هناك جهة قامت بهذا مطلقاً، لكن أنت -مثلاً- عندما تقرأ مقالاً لبنت في جريدة، أو تشاهد ظاهرة شاذة في مجتمعنا، في الشارع، أو في الطائرة، أو في متجر، أو في أي مكان، أو تسمع ظواهر في المدارس، أو في الأسواق، أو ترى أو تقرأ لبعض الكاتبات، أو تشاهد كما سوف أشير إلى قطرة من بحر في آخر هذه الكلمة، فإنك تندهش وتقول: من أين جاء هذا؟ أنا أقول لك: إن هناك جهاتٍ تسعى إلى أن يغير المجتمع من الداخل، أن تتغير العقول والقلوب والأخلاقيات؛ بحيث يصبح الفرد في المجتمع متذمراً من هذه القيود -التي يسميها قيوداً وهي أوامر شرعية- متبرماً منها مستثقلاً لها، وهناك جهات كثيرة تسعى إلى أن تكون البنت متضايقة من الحجاب الشرعي بكامل الزي متبرمةً منه، وهي تلبسه لأنه قانون، لكنها تتطلع إلى أن يأتي اليوم الذي يسمح القانون والنظام بإزالته لتقوم بإزالته! وهذا أمرٌ في غاية الخطورة، إذا كانت عقول الناس وقلوبهم ضد ما هو مستقر ومألوف ومعروف في المجتمع من دين الله تعالى وشرعه. ومثل ذلك الشاب الذي تغير قلبه، وأصبح يتطلع إلى أن يأتي اليوم الذي يرى فيه ألوان الانحراف موجودة بمتناول يده وقال: لقد سئم الهوى في البيد قيس وملَّ من الشكايةِ والعذابِ يُحاول أن يُباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجابِ فحينئذٍ ستجد مجتمعاً يتطلع إلى تغيير الأنظمة والقوانين التي تحكمه، وما أسهل أن تتغير إذا كانت إرادة الناس ورغبة جمهورهم بهذا الاتجاه! وهذا هو الأمر الخطير الذي يسعى إليه الكثيرون. فينبغي أن ندرك أن هذه التزكية لمجتمعنا تحتاج إلى أن نعيد النظر فيها، وأن ندرس حال مجتمعنا اليوم، مقارنة بما كان عليه مجتمعنا قبل عشر سنوات أو عشرين سنة. والذي يشاهد الأوضاع التي نعيشها الآن، يعلم أنه إذا دام هذا ولم يحدث له تغيير؛ فإن الأمور قد تكون أسوأ بكثير مما عليه مجتمعات أخرى كثيرة. فإننا نعلم -مثلاً- أن تيار الانحلال في مصر أو في بلاد الشام أو غيرها، لم يكن ليصل إلى ما وصل إليه اليوم بين يوم وليلة، بل قطع شوطاً خلال عشرين أو ثلاثين سنة، ولكنه بدأ بداية مبكرة، أما في بعض المواقع والمظاهر والأمور، فإن الإنسان يخاف ويخشى -إذا رأى سرعة التغيير- يخشى أن نختصر نحن المسافات، فما قطعه غيرنا في عشرين سنة ربما نحاول نحن أن نقطعه في خمس أو أربع سنوات. قال الشاعر: هذا الزمان الذي كنا نُحدثه في قول عمرو وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يُفرح بمولودِ أما ما سوف أقوله لكم اليوم، وهو نصيب هذه الليلة، فإنني أسوقه لكم أيضاً باختصار: الجزء: 61 ¦ الصفحة: 21 من الحيل: الإلقاء بالمسئولية على الآخرين فأحياناً نحن نلقي بالمسئولية على الشيطان ونتبرأ من معاصينا، والشيطان لاشك له دورٌ في إضلال الإنسان، ولكن كما قال الله تعالىحاكياً عن إبليس عندما يتكلم في الآخرة: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] فينبغي أن ندرك أن كيد الشيطان ما كان ليبلغ مداه وتأثيره لولا أنه وجد قلوباً أصغت إليه واستجابت له، ونفوساً قابلةً لأن تزرع فيها جراثيم الغواية والفساد، وهذا الشيطان نفسه وجد أقواماً عصوه وخالفوا أمره، فتحرروا من كيده وتلبيسه، حتى وصل الحال أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له في شأن شيطانه قال: {إن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير} . أسلوب التلاوم: من تحميل المسئولية للآخرين: أسلوب التلاوم. وكون بعضنا يلوم بعضاً مبناه سوء الظن بالناس، لماذا ألومك؟ ألومك لأنني أعتقد أنك ما صنعت شيئاً، وأنت لماذا تلومني؟ تلومني لأنك تعتقد أنني مقصر! إذاً التلاوم هو نوع من تحميل المسئولية للآخرين، والفرار بالنفس، وأنت تجد أحياناً أن القائد يلوم الناس، فيتغنى ويقول: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقتُ ولكن الرماح أجرتِ ويقول: أضاعوني وأي فتىً أضاعوا ليومِ كريهةٍ وسدادِ ثَغْرِ أما المقود فإنه يتغنىَّ ويقول: تاه الدليلُ فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيع الرَّكب أشباحٌ وأشباهُ تاه الدليلُ فلا تعجب إذا انحرفوا عن الصراطِ لِذات الشرك عُزَّاهُ تاه الدليلُ فلا تعجب إذا تركوا قصد السبيلِ وحادوا عن سجاياهُ والواقع أنه ينبغي أن يكون كل فرد منا قائداً قوياً عزيزاً منيعاً، يملك من الثقة بالله تعالى ثم الثقة بمواهبه وإمكانياته وطاقاته، وما أعطاه الله عز وجل ما يجعله يقول: أنا لها. ويتصدى للمهمات والملمات، خاصةً أننا في أزمنة قد اختلط الأمر فيها. فأنت تعرف -إن كنت من قراء السيرة- أن المسلمين خاضوا معركة مؤتة، وكانوا قليلاً بالقياس إلى جيش الروم الذي يقدر بمئات الألوف، والمسلمون كان عددهم آلافاً معدودةً محدودة، وفي بلاد غريبة، فواجه المسلمون معركة شرسة، واختلط الأمر وقتل القادة الثلاثة واحداً بعد الآخر، فاضطرب أمر المسلمين، ولم يكن لهم قائد، وكاد المسلمون أن يمنوا بهزيمة تأتي عليهم من آخرهم، مثل هذا الموقف يتطلب مبادرة شخصية، يتطلب واحداً يتخلص من كل الظروف النفسية، وكل المخاوف والأوهام ويتقدم، وفعلاً قام رجل من أهل بدر مجاهد -جزاه الله خيراً ورضي الله عنه- اسمه ثابت بن أقرم العجلاني، فتصدى للراية وحملها وقال: أيها المسلمون إليَّ إليَّ. فاجتمع المسلمون حوله والتفوا وتوحدوا، فقال: اختاروا من بينكم قائداً. قالوا: أنت لنا قائد. قال: لا، أنا لست لها، أنا لا أستحق هذا، إنما أخذت الراية حتى تجتمعوا على رجلٍ واحد، فتشاور المسلمون واتفقوا على خالد بن الوليد، فحينئذٍ استطاع خالد أن يحول نصر الروم -بإذن الله تعالى- إلى هزيمة، وأن يحول هزيمة المسلمين إلى انتصار، كما حقق ذلك الأستاذ محمد الصادق عرجون في كتابه القيم خالد بن الوليد. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال: {أخذ الراية سيف من سيوف الله تعالى ففتح له} المهم أن ثابت بن أقرم أخذ زمام المبادرة، هو لا يرى نفسه كفئاً للقيادة -أيضاً- وهو متواضع، لكن هذا التواضع لم يمنعه أن يمسك بالقيادة ويمسك بالراية، ولما اجتمع المسلمون وأنقذ الموقف قال: اختاروا من بينكم واحداً، فلما اختاروا خالداً سلم الراية إليه، ونحن اليوم أشبه ما نكون بحال المسلمين في معركة مؤتة، نحتاج إلى أن يكون كل فردٍ منا ثابتاً كـ ثابت بن أقرم العجلاني رضي الله عنه. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 22 الاحتجاج بكثرة الدعاة وبالعجز والبعض يعتقدون أن الساحة مليئة، وأن غيرهم قد قام بالواجب فيقول: الفقهاء والعلماء -بحمد الله- والدعاة كثير، وفيهم الكفاية وليس لنا مجال. وأقول: أخشى أن مثل هذا الإنسان يأتي يوم القيامة مقبلاً ليدخل الجنة، فإذا رآها خيل إليه أنها ملأى فرجع وقال: رب وجدتها ملأى، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد الناس يفعل ذلك يوم القيامة {فيقول الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة فإن لك الدنيا وعشرة أمثال الدنيا} فالمقصود أنه لا ينبغي لك أن تعتقد أن الساحة ملأى، بل الساحة فارغة تصفق، وهي أحوج ما تكون إليك، وأرجو أن تكون أنت الفارس القادم الذي يملأ فراغ هذه الساحة. أمرٌ آخر: أنت مطالب -حتى ولو كانت الساحة ملأى- بأن تقوم بواجبك، فالله تعالى يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] ويقول سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] . فما أعطاك الله ابتلاء واختبار، أتقوم به وتشكر أم تكون الأخرى؟ وكذلك قال الله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء:13] وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته} والحديث في الصحيحين، وفي الحديث الآخر عند الترمذي وسنده حسن إن شاء الله: {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع} الحديث. عليك أن تعتمد -إذاً- على إمكانياتك، وطاقاتك، وعلى ما أعطاك الله، وأن تقدم للناس نموذجاً عملياً بدلاً من أن تتكلم بلسانك، ولا يكلفك الله تعالى إلا ما أعطاك، قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] . والعجيب أيها الإخوة أن الكثيرين يحتجون بهذه الآية لأنفسهم ولا يحتجون بها على أنفسهم! فإذا قلت لفلان: يا فلان! ارفع هذا الكوب، قال لك: أنا لا أستطيع، والله تعالى يقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] ونسي أنه يستطيع أن يقول: نعم أستطيع أن أرفعه، وهذا في وسعي والله تعالى كلفني وسعي. فنحن لأننا لا نحب العمل -بل نحب القعود- نحتج بهذه الآية على ترك العمل ونقول: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وننسى أن هذه الآية من أعظم الآيات في تكليف الإنسان؛ لأن الآية نصها: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] لكن مفهومها: أن الله تعالى يكلف الإنسان كل وسعه وكل طاقته وكل جهده الذي يستطيع، فما بالك تأخذ بها في الترك ولا تأخذ بها في الفعل؟! لماذا تكون ورعاً -أيضاً- في ترك الأشياء ولا تكون ورعاً في فعل الأشياء؟! مثلاً: شك الإنسان في هذا الماء أنه قد يكون مكروهاً، فقال: أتركه على سبيل الورع، فهذا جيد، لكن إنسان آخر شك في أن هذا العمل قد يكون واجباً عليه، ربما تكون الإمامة -مثلاً- في حقك واجبة، أو الخطابة، أو التعليم، أو الدعوة، أو الأمر، أو النهي، أو النفقة، قد تكون واجبة، فلماذا لا تقول: من باب الورع أن أفعل هذه الأشياء خشية أن تكون واجبةً عليك؟! أو خشية أن تكون مستحبة في حقك؟! الجزء: 61 ¦ الصفحة: 23 الاحتجاج بالقدر الكثيرون يحتجون بالقضاء والقدر، وكأنهم يتصورون -والعياذ بالله وأستغفر الله- أن القدر أمرٌ اعتباطي، وينسون أن الله تعالى أحكم الحاكمين فهو الحكيمُ في فعله سبحانه، فإذا ضل فلان فما ضل إلا لأنه أهلٌ للضلال، وإذا اهتدى فلان فبرحمة الله تعالى وفضله، والله تعالى لا يظلم أحداً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] والإنسان له يدٌ فيما يعمل، وأنت ترى أنه يريد الشيء فيعمله فله إرادة، والله تعالى يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير:28] . فالإنسان له إرادة ومشيئة، وإن كانت داخلةٌ ضمن إرادة الله تعالى ومشيئته فلا يفعل الإنسان شيئاً خلاف مشيئة الله تعالى، ولكننا نجدُ بضرورة الواقع أن الإنسان يختار الشيء من أمر دينه فيفعله، ويختار الشيء من أمر دنياه فيفعله، ويترك ذاك بمحض رغبته، وأنه ليس هناك قوةٌ تفرض عليه بالقهر والجبر ما يفعل أو ما يقول أو ما يترك. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 24 الاحتجاج بالعدو وأحياناً نحتج بالعدو، فنقول الاستعمار، والصهيونية والصليبية واليهود والنصارى والمنافقون هم الذين فعلوا وفعلوا وفعلوا، ونسى قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] . لقد استطاع ثلاث مائة وبضعة عشر رجلاً أن ينتصروا على قوى الأرض كلها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة الفاصلة بين التوحيد والشرك معركة بدر، ويستطيع مثل هذا العدد أو أقل منه أو أكثر -بإذن الله تعالى- أن يسجلوا أروع الملاحم للإسلام، في الأقوال والأعمال والدعوة والجهاد، متى أخلصوا لله تعالى، والله تعالى يقول: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] . وقد كنا نتوقع أن قوة أعداء الإسلام شيءٌ عظيم وكبير، وأن المسلمين بعيدون كل البعد عن مواجهة تلك القوة، وعن الانتصار عليها، أما اليوم فإنني أقول أيضاً: أصبحنا ندرك أن الأمر أهون مما كنا نتصور، وأن تلك القوى الكافرة يصيبها الله بالداء والبلاء من داخلها، ويسلط عليها جراثيم الفساد من ذاتها، وربما لا تحتاج إلى كبير جهد من المسلمين لو أنهم صدقوا الله تعالى ووضعوا أقدامهم في الطريق الصحيح وجدّوا واجتهدوا، ومع ذلك قوة العدو لا يستهان بها. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 25 إلقاء المسئولية على الحكام والعلماء أحياناً نضع المسئولية على الحكام، أو على العلماء والدعاة، أو طبقة معينة من المجتمع، وأنا أقول مسئولية الحكام ليست كمسئولية آحاد الناس، ومسئولية العلماء ليست كمسئولية العامة، ومسئولية الدعاة ليست كمسئولية غيرهم، ولكن ينبغي -مع ذلك- أن نُدرك أن مسئولية الفرد العادي كبيرة، وأنه يستطيع أن يفعل الكثير، سواءً في تعزيز من يريد الإصلاح، فيقف إلى جانب العالم والداعية يؤازره ويشد على يده، ويقويه ويساعده في تحقيق مهمته، أو يقف ضد من يريد الإفساد، ونحن نعلم أن كثيراً من الخُطط تنهار بسبب أن الشعوب لا تقبل بها؛ فتضمحل وتزول، وأن كثيراً من الخطط تنجح بسبب تقبل الناس لها ودعوتهم إليها وقناعتهم بها. إذاً قبول الناس بشيء أو رفضهم له من أعظم أسباب نجاحه أو فشله، فلا ينبغي أن نلقي باللائمة على جهة معينة أو فرد معين، لاحاكماً ولا عالماً ولا داعية، وإن كنا لا نبرئ هؤلاء أبداً من المسئولية، بل نقول: إن مسئوليتهم أكبر وأعظم من مسئولية أفراد الناس، لكن هذا لا يعني أنهم هم المسئولون فقط، وأن بقية الناس لا شأن لهم، بل هم -كما يُقال- أصفار على الشمال. كلا وألف كلا! كل واحدٍ منا هو -على الأقل- واحد صحيح، وأنت تعرف لو لم يوجد الناس ماذا يصنع العالم؟ من يُعلِّمُ إذا لم يجد تلاميذ يأخذون عنه؟ والداعية إذا لم يجد المدعوين من يدعو؟ ومن يخاطب؟ وهكذا الحاكم إذا لم توجد الرعية من يحكم؟ ولهذا يذكر في القصص -كما سبق أن ذكرنا- أنه لما أراد العز بن عبد السلام أن يخرج من مصر مغضباً ومغاضباً، لما خرج على حماره المتواضع ومعه زوجته وأثاثه البسيط، خرج شعب مصر كلهم وراءه، فذهب من ذهب إلى السلطان المملوكي، وقال له: لقد انجفل الناس، وخرجوا وراء العز بن عبد السلام. فدعوه واسترضوه حتى أقنعوه بالبقاء وحققوا له ما يريد. أنت تجد في كتب الأدب النقد للناس، وبعضهم يقول: ذهب الناس وبقي النسناس، وفي كتاب الإمام الخطابي العزلة، وفي كتاب العقد الفريد وفي غيرها، تجد كلاماً كثيراً في ذم الناس، ونقدهم وعيبهم وشتمهم وسبهم، لكن من هم الناس؟ هذا المؤلف للكتاب أليس هو من الناس؟ هو واحد منهم، فالمبالغة في ذم الناس وعيبهم أمرٌ لا يسوغ، خاصةً وأن الإنسان إذا تكلم فيهم بهذه الطريقة كأنه يُخرج نفسه من بينهم، ولماذا لا تتصور نفسك واحداً منهم؟ أم أن الأمر في حقنا أننا أصبحنا الآن كل همنا أن نتخلص من المسئولية، حتى شاع في المثل أن بعضنا يقول: المشاكل التي نعيشها اليوم، هي من صنع الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل القادم، أما نحن فمجرد متفرجين. أيضاً هناك بعض الإخوة ينتظرون مفاجآت قدرية، أو مفاجآت يصنعها الآخرون لنا، فالبعض لا يصنع شيئاً، ولا يظن أن تتغير أوضاع المسلمين لماذا؟ قال: لا تتغير هذه الأوضاع إلاَّ أن يأتي الله تعالى بعيسى أو بالمهدي عليهما السلام. ونحن نؤمن عقيدةً بأن المهدي سوف يخرج في آخر الزمان، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة تزيد على الثلاثين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الأحاديث الواردة في أمر المهدي بلغت مبلغ التواتر، كما ذكر ذلك غير واحد. كذلك نؤمن بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سوف ينزل في آخر الزمان، ويصلي مع المسلمين، ويشاركهم في حروبهم ومعاركهم، وهذا أمرٌ أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاء به القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] وقال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] . وأخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة، ساق طائفة منها الحافظ ابن كثير في تفسيره، فنحن نؤمن بهذا ونؤمن بذاك، لكننا نؤمن -أيضاً- وندين الله بأن الله تعالى لم يتعبدنا أبداً أن نقعد ونترك العمل والجهاد في انتظار مجيء المهدي أو مجيء عيسى، ولو أن المهدي أو عيسى جاء إلى أمة محطمة مهزومة ما استطاع أن يصنع شيئاً، ولكن إرادة الله تعالى وحكمته أن يأتي المهدي ويأتي عيسى إلى أمةٍ قد تخلصت من العجز، والضعف، والهوان، والجبن، وجاهدت في سبيل الله وحققت بعض الانتصارات، فيقودونها في معركتها إلى مزيد من العز ومزيد من النصر ومزيدٍ من التمكين. ولو أن قائداً عظيماً ولد اليوم بيننا، أظن أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بمثل هذه الرمم الهامدة الجامدة، التي أصبحت عاجزةً عن أن تصنع شيئاً لنفسها أو دينها أو كرامتها أو أعراضها. والبعض ينتظر أن أمم الكفر تعلنها حرباً ضروساً ضاريةً ضد المسلمين لتستثير مشاعر المسلمين العادية، ونحن نقول: نعم، الحروب التي توجه اليوم ضد الإسلام والمسلمين سوف تُساهم في تعميق الوعي، وتعميق الانتماء لهذا الدين، وجمع كلمة المسلمين على أمر سواء، ولا شك في ذلك، لكن لا أعتقد أنه يجوز أو يسوغ لنا شرعاً أن ننتظر أن يهجم علينا العدو حتى نوحد صفنا، وحتى نقوم بواجبنا، كلاَّ! فإن العدو استطاع أن يبلغ منا مبلغاً عظيماً اليوم؛ لأننا لسنا على مستوى المواجهة، فعلينا أن نتقي الله تعالى، وأن ندرك أنه يكفينا ما نواجهه الآن من التحديات على كافة المستويات، لنقوم بإعداد أنفسنا إعداداً جيداً لمواجهة الواقع. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 26 من الحيل:التسويف الحيلة السادسة: التسويف قال بعض السلف: أنذرتكم سوف. وقال الله تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:14] وقال سبحانه: {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد:14] . ولو أن الإنسان تصور أنه يموت غداً، وأرجو أن تضع في اعتبارك هذه النقطة، تصور أنك ستموت غداً، ستجد أن تفكيرك تغير وقناعتك تغيرت، وأن هناك أعمالاً كثيرة تعملها الآن ستشعر أنه لا وقت لها ولا مجال لها، وأن هناك أعمالاً كثيرة لا تعملها سوف تبادر إلى فعلها. ومن التسويف أيضاً: الاعتماد على العائق الوحيد، فتجد الإنسان يؤجل العمل، فمثلاً يقول: لن أعمل هذا الشيء حتى أتخرج من المدرسة، فإذا تخرج من المدرسة قال: سأعمله بعد أن أتزوج، فإذا تزوج قال: بعد أن أبني بيتاً، فإذا بنى البيت قال: بعد أن أقيم المؤسسة، فإذا أقام المؤسسة قال: بعد أن يأتيني الأولاد. وهكذا، والله سبحانه وتعالى نهى عن التسويف، وبيَّن عاقبته، فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون:10] وقال سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [المؤمنون:99] . الجزء: 61 ¦ الصفحة: 27 من الحيل: اليأس الحيلة السابعة: اليأس. اليأس من إصلاح الناس، أو من تمكين هذا الدين، أو من قبول التوبة بالنسبة لإنسان واقع في ذنب، أو غير ذلك، وهذا اليأس غالباً ما يكون سببه أن الإنسان يتطلب الكمال المطلق، ولا يقدر المكاسب الجزئية، فيقع نتيجةً لذلك في القنوط ويستيئس ويدع العمل، واليأس موتٌ لا عمل معه، وإنما يكون العمل مع الأمل، ولذلك يقول الشاعر: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل من أسباب اليأس: سوء فهم الأدلة الشرعية، فبعضهم يطبقون الأدلة الشرعية الواردة تطبيقاً غير صحيح، فمثلاً الأدلة الواردة في فساد الزمان، يطبقونها على حالهم، ويستنتجون أن المؤدى أنه لن يتغير هذا الواقع، ولو أنهم نظروا للأدلة الأخرى التي تدل على أن التمكين للإسلام يكون في آخر الزمان، وقد ذكرتها تفصيلاً في درس المستقبل للإسلام بما لا يدعو لإعادتها الآن؛ لأدركوا أنه لا مجال لليأس لا من الناحية الشرعية ولا غير ذلك. وكذلك قد يفهم النصوص الواردة في ذم بعض المعاصي أنها تسبب له اليأس من قبول التوبة، وينسى النصوص الأخرى الواردة في قبول التوبة، حتى ممن فعل المعاصي والجرائم والموبقات، حتى الشرك بالله تعالى إذا تاب العبد منه تاب الله تعالى عليه. من أسباب اليأس: سوء فهم الواقع أحياناً، فإن البعض إذا رأى هذا الواقع وتمكين الشرك وأهله والكفر واليهود والنصارى، أصابه من جراء ذلك قنوطٌ، والواقع مليء بالمبشرات التي تدل أيضاً على أن نصر الله تعالى قريبٌ كما وعد الله تعالى، قال الشاعر: أشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلجِ قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] فينبغي أن ندرك أن وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر والتمكين حاصلٌ لا محالة، وأن المبشرات بحمد الله تعالى كثيرة لمن تأمل الواقع العالمي اليوم. واليأس داءٌ قاتل بلا شك؛ قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] وقال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . الجزء: 61 ¦ الصفحة: 28 من الحيل: التهويل والتهوين الحيلة الثامنة: هي تعظيم الأمر أو تهوينه. بمعنى أن الإنسان -أحياناً- يبالغ في تضخيم المشكلة حتى كأنه لا حل لها، وبناءً عليه لا داعي أن نعمل لأن هذه المشكلة فوق الحل، أو يبالغ في تهوينها حتى كأنها لا تحتاج إلى حل ولا إلى علاج لأنها هينةٌ سهلة، وهذا نتيجة لعدم استقرار الجانب النفسي عند الإنسان، وعدم توازنه أو اعتداله في الحكم على الأشياء. فمثلاً: إنسان يتشاءم من الواقع تشاؤماً كبيراً، ويركز دائماً على الجانب السلبي، ويبالغ دائماً وأبداً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول -كما في صحيح مسلم-: {من قال: هلك الناس، فهو أهلكهم} أي: أن الإنسان الذي لا ينظر إلاَّ إلى الجانب السلبي المظلم المعتم في حياة الناس يتشاءم من الواقع، وبناءً عليه يرى أنه لا يستطع أن يعمل شيئاً، ولا أن يصلح. أو على النقيض من ذلك؛ يبالغ في تزكية الواقع، وأن الأمر كله خير، والناس مقبلون على خير، والحمد لله لا يوجد منكرات، فهو لا يريد أن يعمل، فإما أن يكون الواقع أسود بحيث لا أستطيع أن أصلحه، وإما أن يكون الواقع مشرفاً بحيث لا يحتاج مني إلى جهد، والمقصود أنني أتهرب من الإصلاح. أحياناً يتصور الإنسان أنه ليس أمامه أي عقبة، ولهذا يتحرك ببساطة وعفوية، ولا يقدر حجم مؤامرات الأعداء، وهذا لاشك نقص وتسهيل وتهوين للأمر. أو يضخم هذه العقبات ويبالغ فيها، حتى يتصور أنه لا يستطيع أن يقتحمها ولا أن يتجاوزها، ولا أن يعمل في ظل وجودها. فهناك عقبات كبرى وحواجز ضخمة، حواجز رسمية، وحواجز اجتماعية، ونفسية، وتجارية، المال لا يتوفر مثلاً، والرخصة لا تتوفر، والمجتمع لا يتقبل هذا الشيء، إلى غير ذلك من الأمور التي يتوهمها الإنسان قبل أن يعمل، ولو أنه بدأ العمل لتبخرت هذه الحواجز واحداً بعد الآخر، أنت تقول لإنسان أحياناً: يا أخي! قل كلمة الحق. يقول لك: الله المستعان! نحن لا نملك إلا الكلام، الكلام لا يغير من واقع الأمر شيئاً، ولا ينفع، لماذا يكون الكلام بيدي والمدفع بيد عدوي؟ وبذلك يهون من شأن الكلمة، وهذا خطأ، فربما تناقشه وتتحدث معه؛ وبعد قليل يتحول هذا الإنسان حتى تصبح الكلمة عنده هي كل شئ، ويصبح لا يملك شيئاً آخر غير الكلمة، فهو ينتقل من طرف إلى طرف ومن نقيض إلى نقيض. وبعض الناس يقول: العمل الذي يتم فيه التغيير لا أملكه أنا، أما ما أملكه فهو لا يفيد شيئاً، إذاً هذا العمل يساوي أنني سوف أقعد وأستيئس وأدع العمل. وهذا يشبه ما كان عليه أهل الجاهلية الأولى، فإن ابن عبد ياليل لما جاءه النبي صلى الله عليه وسلم في الطائف ودعاه إلى الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لي أن أكلمك، إن كنت رسول الله حقاً فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت تكذب على الله تعالى فلا ينبغي أن أكلم من يكذب على الله تعالى. ابن عبد ياليل مريض، بل قلبه ميت لأنه كافر، ولا يريد أن يسمع دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع لنفسه معادلة، أنك أحد رجلين: إما أن تكون رسولاً حقاً فأنت حينئذٍ أعظم من أن أخاطبك، وإما أن تكون تكذب على الله فلا ينبغي لي أن أكلمك. إذاً هو أنجى نفسه من مهمة سماع الدعوة وسماع الخير، وما نفعه ذلك فهو في نار جهنم يتجلجل فيها خالداً مخلداً فيها أبداً، وما نفعه هذا العذر الواهي الكاذب الذي يخادع به نفسه. وينبغي للمؤمن ألا ينجر إلى مثل ذلك، فليس هناك مشكلة إلاَّ ولها حلٌ بإذن الله تعالى، لكن علينا أن نبحث عن المفاتيح ونتدرج ونعمل الأسباب ونبذل المستطاع، ونستعين بالله تعالى، والله تعالى يقول: {لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] الجزء: 61 ¦ الصفحة: 29 الأسئلة الجزء: 61 ¦ الصفحة: 30 أخبار عن المرأة في الصحافة هاهنا مجموعة من الأوراق في الواقع مُؤسفة ومؤذية وصلتني حول أوضاع المرأة في بلادنا، أحدها: ورقة نشرت في جريدة عكاظ في 20/53 عنوانها أدب المرأة أو أنوثة الذاكرة. وهذه المقالة تتكلم عن ازدراء المرأة، وأن النظرة التي يرى البعض من خلالها أدب المرأة نظرة تنقص وازدراء، ويقول: إن المتابع والقارئ لنتاج المرأة سوف يلحظ أن أدب العاطفة هو الأدب المهيمن على جُل ما تكتبه، وفي سياق ما تكتسبه المرأة في بلادنا، كان اسماً يمكن اعتباره اسماً أدبياً رفيعاً على مستوى الإبداع، وربما كان على أصابع اليد أو أقل؛ إنه كلام العطف والأكثر عطفاً على أدب العاطفة، إنه الانحياز لقلم الزوج، لا الانحياز لقلم الذي يكتب، إنه الإنحياز للسطح، لا الانحياز للعمق، لا أقوال المغلفة، لا الكلام والدلالة والرمز، إنه انحياز لا يرتقي إلى الإبداع، ولكنه يحاول الانهيار بما ينتمي إلى هذا الإبداع، وما يشبه حجاب المعرفة الحقيقية والنقد الصادق على أدب هو نفسه حجاب على العقل وعلى الوجدان، إنها أنوثة الذاكرة، هذا هو أدب المرأة في بلادنا. إذاً هناك محاولة لإخراج المرأة. على نطاقٍ آخر، مجلة الوسط التي اُفتتح لها مركز في جدة نشرت في العدد 35 مقالاً عنوانه: المرأة السعودية تدخل عالم الرياضة "البولينج" وقالت: في خطوة هي الأولى من نوعها بالنسبة إلى المرأة والطفل السعوديين، جرى أخيراً افتتاح قسم خاص لرياضة البولينج، في مركز بولينج جدة، حيث بدأ المركز بإقامة دورات نسائية خاصة تشترك فيها السيدات، وهو ينوي إقامة دورات خاصة للأطفال، ورصدت جوائز قيمة، وقد تولت الشركات الأجنبية العاملة في مدينة جدة إقامة دوري خاص بزوجات العاملين في هذه الشركة وأطفالهم كخطوة أولى، وتؤكد الشركة على إدارة المركز خلال الفترة التي خصصت للنشاطات النسائية، إلى آخر ما في هذا المقال. ولا شك أن هذه خطوة يعني إعلانها أمراً خطيراً، وإلا فقد رأيت بعيني مجموعة من النوادي موجودة في جدة وفي الرياض وفي غيرها مخصصة للنساء. وعلى صعيدٍ آخر نشرت جريدة عرب نيوز وهي جريدة سعودية، هذا الإعلان في عددها (306) يوم الاثنين الماضي الموافق 2/4: مطلوب ناطقة باللغة العربية، مُساعدة مشرف مدير، مطلوبة لمرقص فخم (قاعة باليه) مخصصة للرقص، بالإنجليزي بالي روم، أي قاعة باليه مخصصة للرقص، والباليه نوع من الرقص معروف، وفيه نوع من اللباس الضيق الذي يلتصق بالجسم، ويصف الأعضاء بدقة، وهذا المرقص موجود في جدة، والمتقدمة يجب أن تكون ذات شخصية مرحة وذكية، ولديها القدرة على إدارة الموظفين، ومتمكنة في حقل العلاقات العامة، وفرصة التدريب متاحة للشخص المناسب، وهناك شروط وظيفية الرجاء الاتصال بالهاتف، وجميع المكالمات ستعامل بكامل الثقة. فمن المؤسف جداً أن تُعلن مثل هذه الأشياء. أيها الإخوة: إنها ليست أسراراً نبوح بها، إنما هي أمورٌ علنية تنشر في الصحف ويبث لها دعاية، وهذا أيضاً في جريدة الرياض في عدد الجمعة الماضي: وظائف شاغرة للسعوديات فقط، شركة وطنية تعلن عن حاجتها للوظائف التالية: أولاً مدرسة علوم. ثانياً: سكرتيرة، يشترط توفر دبلوم سكرتارية، خبرة ثلاث سنوات، لغة إنجليزية كتابة وتحدث، خبرة في مجال الحاسب الآلي. ثالثاً: مُساعدة مديرة مؤهل ثانوي، سبق أن عملت في مدارس ثانوية أو مراكز تدريب، الراتب مغري وهناك امتيازات أخرى، فمن تجد في نفسها الكفاءة فعليها تقديم الطلبات التالية، هذه شركة المناهل في شارع العليا ?الرياض. أخيراً هذه مجلة عالم الرياضة، في مقال مؤذٍ عنوانه أنثى لو سمحتم. نشرته بنت البلد، وإن كانت بنت البلد، فهي بنت البلد في لغتها ولسانها، ولكنها ممسوخة الظاهر والباطن بالتأكيد، لأن هذا المقال مقال رديء جداً، ولو قرأته لكم لخرجتم بصورة غير التي دخلتم بها، ولكني أترك كثيراً مما قالت، كل المقال دعوة للفتاة إلى المشاركة في الرياضة، وسخرية بالذين يرون أن المرأة ينبغي ألا تشارك في المجالات الرياضية، وتقول: فرحت عندما شاهدت أنثى تكتب عن الرياضة، قلت: إنها قوية وقادمة من المطبخ بقوة، إلا أنها انتكست وأصابها الصمت، فمنار الرياض النصراوية الزرقاء غابت من وراء غياب أنثى النصر، تعلق وتقول: أكاد أجزم أنها "انتحرت" بفعل قلم رجالي، أصابها في الدماغ. أنا يؤذيني أخلاقياً أن أشرح لكم كلامها، لكني سأعيده وأعطيك فرصة تفكر فيه، ماذا تقصد بلفظ "انتحرت" بفعل قلم رجالي أصابها في الدماغ؟ ماذا يعني الانتحار؟ المنتحر دائماً تنزف منه الدماء. علقت على مجموعة من القضايا تقول: عقدة البنت داهمت أكثر من صحفي حال نزول مقاله الثاني، سألوا رئيس التحرير هل بالفعل أنا بنت البلد؟ وأنكروا أن أكون أنثى، وانقسموا نصفين، بعضهم يقول: أنثى وبعضهم يقول ذكر. وعلقت أيضاً تقول: عنادٌُ أنثوي. يقولون: إن الأديبات نوع غريب من العشب ترفضه البادية وأن التي تكتب الشِّعر ليست سوى غانية وأضحك عن كل ما قيل عني. وأرفض أفكار عصر التنك. ومنطق عصر التنك وأبقى أغنى على قمةٍ عالية وأعرف أن الرعود ستمضي وأن الزوابع تمضي وأن الخفافيش تمضي وأعرف أنهمُ زائلون وأني أنا الباقية! لكي لا تعتقدوا أني أنا الفانية. هذا مقطع من شعر أنثى اسمها: سعاد الصباح. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 31 خبر من الصومال هذا خبر جاءنا من الصومال، من مُدير مكتب الهيئة في الصومال وجيبوتي يقول: لقد تابعنا بقلق ما يمكن وصفه بتغلغل إعلامي إسرائيلي وصهيوني، والسيطرة على وسائل الإعلام في الصومال من قبل جهات معادية للأمة العربية والإسلامية، وإليك بعض الشواهد: أولاً: تقوم بعض الجرائد المحلية في الصومال بحملة مكثفة ومتعمدة للإساءة إلى الدول العربية والإسلامية، واتهامها بإهمال الصومال، والذي تربطه مع المسلمين أواصر العقيدة والأخوة، في مقال نشرته جريدة الاتحاد في مقديشو، نقلاً عن جريدة إسرائيلية اسمها شمعون جازيت تقول: إن الشعوب العربية تُهمل وتبغض الشعب الصومالي وتحتقره، وإلا ما تركته على هذا الوضع المحزن والمأساوي، فأين الأخوة الإسلامية التي يدَّعيها ويتشدق بها هؤلاء العرب؟ ثانياً: لقد نادى الغرب بضرورة الوقوف بجانب الصومال، وإرسال آلاف الأطنان من الأغذية والأدوية، مما سوف يزيد من صحة ما يقال عن إهمال المسلمين لإخوانهم الصوماليين. ثالثاً: إن هذا الإعلام المعادي للإسلام يهدف إلى خلق جوٍ من البغض والشحناء والكراهية عند الشعب الصومالي لكل ما هو عربي أو إسلامي، وربط هذه الكراهية بالدين الإسلامي الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم ويبدو أن هناك مخططاً لعزل الصومال عن العالم العربي والإسلامي. أقول -أيها الإخوة- تعليقاً على ذلك: إن ما يقوله الأخ عبد الرحمن القائدي عن هذا هو بعض الحقيقة، وأما الحقيقة كاملةً فإن الصومال يُستهدف الآن بحملة تنصيرية لتحويلها من دولة إسلامية إلى دولة نصرانية، والإغاثة جزء من ذلك، ونقل أطفال المسلمين واستقبالهم في بلاد الغرب جزءٌ آخر من ذلك، بل إنه يؤسفني أن أقول: إن بعض إعانات المسلمين التي جمعت في هذا البلد قد دفعت إلى الأمم المتحدة، وإلى وكالة غوث اللاجئين، ويقوم بتوزيع تلك الإعانات -أحياناً- أُناس من النصارى، ومن جمعيات إنجيلية نصرانية معروفة، وهذا أمرٌ محزن، فحتى إعانات المسلمين لا تصل إليهم على أنها إعانات المسلمين، بل تصل إليهم أحياناً كثيرة على أنها من الأمم المتحدة. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 32 أخبار مشجعة تبعث الأمل وحتى لا نعيش في ظلمات اليأس، فإني أذكر لكم هذه المجموعة السريعة من الأخبار المشجعة: في مدينة برتشكو حطم اللواء المسلم رقم 108 كتيبة كاملة من الصرب في قرية بوكفيك بعد أن هاجمت المليشيات الصربية هذه المدينة وضواحيها، هذا ما صرح به قائد اللواء البطل واسمه فريد، واستعانت القوات الصربية بالطائرات التي ألقت قنابل الدمار التي راح ضحيتها حوالي مائتين وخمسين شخصاً بين جريح وقتيل، وما زال العدو مستمراً بالهجوم في محاولة فاشلة منه، لفتح الطريق إلى صربيا. ومن ناحيةٍ أخرى قامت القوات المسلحة البوسنية بهجوم قوي واسع النطاق على قرية بوكفيك معقل القوات المعادية، وتمكنوا من تحرير القرية وتدمير كتيبة كاملة مجموع أفرادها من الصرب حوالي خمسمائة جندي، فذهبوا بين قتيل وجريح، وتم أسر باقي أفراد الكتيبة، واستولت القوات المسلمة على كمية كبيرة من الأسلحة ومدافع الهاون، ومضادات الطائرات، بفضل الله تعالى. وفي بيهاتش أيضاً انهزم العدو هزيمة ساحقة، حيث تصدت القوات البوسنية لجميع محاولاته التي استهدفت اقتحام خط الدفاع، وفي هجوم مضاد استطاعت القوات البوسنية حماية القرية، وتقدمت حوالي اثنين كيلومتر، ومن ناحية أخرى تخوض القوات البوسنية معارك ضارية بالموشات والمدفعية مع المليشيات الصربية التي تكبدت خسائر مادية كبيرة، قتل أكثر من مائة جندي صربي، وتم الاستيلاء على كمية كبيرة من الأسلحة، وعلى إثر هذه الهزيمة قامت الطائرات الصربية بقصف مواقع القوات البوسنية والأحياء المدنية، وأسفر القصف عن قتل خمسة مقاتلين وجرح خمس وستين آخرين. وهناك مجموعة أخبار أخرى مشجعة، إلا أن الوضع في العاصمة سراييفو وضعٌ صعب، حيث تواجه حملةً شديدة في الأيام الأخيرة، ونسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا المسلمين. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 33 أخبار عن البوسنة والهرسك هاهنا مجموعة من الأخبار المتعلقة بإخواننا في البوسنة والهرسك، ولا شك أن الكثيرين يتطلعون إلى معرفة ذلك: أولاً: هذا تقرير مرعب عن مسألة اغتصاب الفتيات المسلمات هناك، وقد كتبت صحيفة نيوز بي في عددها الصادر في 23 أغسطس، الموافق 24 صفر تقريباً من هذا العام، كتبت تقريراً عن خطة مرعبة ومحزنة لاغتصاب الفتيات المسلمات في البوسنة، وهذه ترجمة لبعض محتويات هذا التقرير: فتاة عمرها 23 سنة هي واحدة من عشرين فتاة تم اغتصابهن واستجوبتهن الصحيفة تقول: إن الشاب الذي اغتصبها قال: لدينا أوامر بأن نغتصب الفتيات، وقال إنه يخجل أن يكون صربياً، وأضاف إن كل ما يجري هو جرائم حرب. فتاة أخرى اسمها حافظة عمرها 23 سنة تقول: حاولت كف الجندي الذي اغتصبها، وكانت تبكي له وترجوه وتتوسل إليه، وقالت له: إن لك أماً ولك أختاً وأنثى في أسرتك، ولكنه لزم الصمت ولم يشأ أن ينطق، ثم قال لها: يجب عليَّ أن أفعل، ولكنها لم تستطع منعه، هذا الحادث شمل أربعين فتاة من بريزوفو وهي مدينة صغيرة على نهر سافا اقتحمها الصرب، وقبضوا على جميع المدنيين وأرسلوهم إلى الموت بعد أن قسموهم وفقاً للسن والجنس. سينادا عمرها 17 سنة، تريد أن يعرف العالم حقيقة ما يجري لكل الأمهات ولكل النساء، وقد كتبت تصريحاً بخط يدها وسلمته لرئيس أطباء النساء، ورجت أن يسلمه وقالت: لا أريد أن يتعرض لهذه المحنة أحد، فهي أسوأ عقوبة في العالم. إن حادث هذه المدينة، ليس إلاَّ واحداً من عدد من المؤشرات، التي تثبت حملة اغتصاب منظمة، ارتكبت أثناء غزو الصرب للمسلمين في البوسنة، ففي مقابلات منفصلة قالت أربع من النساء الشابات من قرية "لبلجي" القريبة من "زفونيك: إن أسراهم من الصرب اعتقلوهن في وكر دعارة، حيث تناوب ثلاثة رجال أو أكثر على اغتصابهن كل ليلة لمدة عشر ليالٍ. وتقول جمعية للنساء البوسنيات: إن أكثر من عشرة آلاف فتاة بوسنية، هن رهن الاعتقال في معسكرات الصرب، يتكرر اغتصابهن على أيدي جنود الصرب. وهناك أسلوب آخر وهو: اغتصاب النساء الحوامل ومتوسطات العمر، تقول الدكتورة مالكة رئيسة فريق طبيبات النساء: إنهن فحصن 25 من 40 ضحية في "بريزوفو، وأنها على قناعةٍ هي وزميلاتها بأن الهدف من الاغتصاب هو إذلال المرأة المسلمة، والإساءة إليها، وتحطيم شخصيتها، والتسبب في إحداث صدمةٍ لها، وتضيف قائلةً: إن هؤلاء النسوة تم اغتصابهن ليس استجابة لغريزة انجذاب الذكر نحو المرأة، ولكن الهدف الحرب، وقالت: أعتقد أن هناك أوامر للجنود بهذه الاعتداءات ضد الفتيات، وضربت لذلك مثلاً بأن بعض الفتيات أخذن إلى أحد المنازل ولم يعتد عليهن أحد، وإنما أمرن أن يقلن للآخرين بأنهن اغتصبن. لقد بدأت حملة الاغتصاب الجماعي كما تقول الضحايا في يوم 17 يونيو الماضي، حيث تجمع الجنود الصرب وهم يرتدون ملابس الجيش وطوقوا المسلمين للقيام بما يسمونه التطهير، فحملوا الرجال بين 16 وستين سنة في باصات وأرسلوا بهم إلى التحقيق في معسكر لوجا للاعتقال، حيث تم ذبح (90%) منهم حسب ما أفاد أحد الناجين لمحرر هذه الصحيفة، ثم حملوا قرابة ألف امرأة وطفل وعجوز في ثمان باصات، وطافوا بهم في الأرياف لمدة يومين، وكانوا يهددون النساء بالسلاح لمدة أربعة أيام بلا طعام ولا ماء، وكان الجنود الصرب الناجون العائدون من المعارك يهاجمون الباصات كل ليلة، ويصطحبون الفتيات والنساء إلى مواقع مجهولة، وهم يهددونهن بالخناجر، وفي صباح اليوم التالي يقذفون بهن، وقد تمزقت ثيابهن، وغطاهن الدم. وأخيراً وصلت مجموعة إلى مدينة كابار، حيث قام خمسون من الصرب المجندين أتباع أحد مجرمي الحرب هناك فسرقوا ما لدى الأمهات وفصلوهن عن البنات بالقوة، وحملت الأمهات بالباصات وألقين في منطقة حربية، بينما أودعت الفتيات في مخزن للأثاث، وهناك قام الرجال وأكثرهم قد أعفوا لحاهم على طريقة الفرقة الصربية الإرهابية في الحرب العالمية الثانية المعروفة باسم: ستليك، فاختاروا بعض الفتيات، واعتدوا عليهن في مجموعات تتألف كل منها من عشر فتيات، تقول خيرية وعمرها 21 سنة: إنها سألت المغتصب: لماذا تفعلون ذلك؟ فقال: لأنكن فتيات مسلمات وغير ذلك. وعندما وصلت الأمهات إلى تولزا، وقد روعهن فقد بناتهن، وأعيتهن الرحلة المضنية التي شملت رحلة على الأقدام بطول اثنى عشر ميلاً، وسط منطقة حربية على طريق تحفه جثث الموتى، ثم وصلت البنات بعد ذلك بأربعة أيام، بعد أن اضطررن للسير وسط طريق مزروع بالألغام، وسقط ضحيته عدد من كبار السن، وكانت الفتيات في حالة إعياء شديد، وصدمة كما يذكر الأطباء. ومعظمهن -على حد قول بعض الأطباء اللواتي قمن بفحصهن- يعانين من إصابات معدية في أعضائهن التناسلية، وذلك من جراء تعرضهن للاغتصاب المتواصل، وجميع النساء التي قامت هذه الصحيفة باستجوابهن وعددهن عشرين، أفدنَ أن مغتصبيهن من الصرب كانوا يغتصبونهن بطريقة بشعة. إن صحة أولئك الفتيات لا تشكل إلا جزءاً من مأساة كل واحدة منهن، لأن كل فتاة منهن قد فقدت أباها وأخاها، وبعضهن ليس لها مكان تأوي إليه، والاغتصاب زعزع الثقة بالنفس، وكانت كل واحدةٍ منهن تجهش بالبكاء وهي تتحدث إلى محرر هذه الصحيفة. وتقول إحدى الدكتورات: إن مأساة هؤلاء لم تنته، لأن كثيراً منهن يُحتمل أنها حامل، وسيتقدم لهن المستشفى بعقاقير لإحداث الإجهاض، إلاَّ أن أعظم الضرر يتمثل في الإحساس بالعار، فهؤلاء الفتيات من الأرياف التي تحظر فيها العلاقات الجنسية، وكانت الفتيات جميعاً عذارى أبكاراً، ومن ثم يعتقد معظمهن أن حياتها قد دمرت، تقول ميرة: وعمرها 25 سنة: إننا نشعر جميعاً أننا فقدنا بالاغتصاب كل شئ. وهذه صادقة عمرها 20 سنة تقول: إنها احتقرت الرجل الذي اغتصبها لأنه لم يشعر بما تحس به، إنها وحشية وهمجية، فقد أحست بالعار لأنها فتاة شريفة عذراء، وتقول ميرة: وعمرها 17 سنة: إن مغتصبها هددها بقنبلة يدوية، وضعها في يده وقال: إن جميع الصرب طيبون، وإنه هو صربيٌ طيب، قال لها: إذا لم توافقي فسوف يقتلنا بالقنبلة، وقد اغتصبها، ولم يعتذر بل قال: إنه يجب عليه أن يفعل ذلك، وأضاف بأن هذا خيرٌ لها من أن يعتدي عليها أتباع مجرم الحرب سيسلي، حيث يقوم عشرة رجال باغتصاب امرأة واحدة. كما أن مجموعة كبيرة من الحوامل اللواتي اغتصبن أحسسن بالضياع وطلبنَ أن يتم الإجهاض، تقول الدكتورة إكريت مارت: إن إحدى الممرضات من مدينة بريزوفو فقدت أمها وأباها وزوجها وطفلها البالغ من العمر أربع سنوات أمام عينيها، وقالت إن الجنود الصرب، قرروا عدم قتلها، بل أحضروها إلى مستشفاهم العسكري، حيث خدمتهم يومياً بالنهار، وبالليل جرى اغتصابها؛ لقد أصبحت مريضةً يائسة، وقالت: إنها حامل من شهرين، ولكن ذلك لم يمنع هؤلاء من الاعتداء عليها. وبالنسبة لشابات مدينة بريزوفو، فإنه يتناوبهن شعورٌ بالعار والغضب، وتعتبر حملة الاغتصاب هذه أول حملة من نوعها في تاريخ البوسنة، وتتمنى ضحايا الاغتصاب أن يغادرن البوسنة إلى أي مكان آخر، وحين يغادرنها فإنهن لا يردن العودة إليها مرةً أخرى. يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً كأنها في مجال السبق عقبانُ وحاملين سيوف الهند مرهفةً كأنها في ظلام النقع نيرانُ وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عزٌ وسلطانُ أعندكم نبأٌ من أهل بوسنة فقد جرى بحديث القومِ ركبانُ كم يستغيثُ بنا المستضعفون وهم أسرى وجرحى فما يهتزُ إنسانُ ماذا التقاطع في الإسلام بينكمُ وأنتمُ يا عباد اللهِ إخوانُ ألا نفوسٌ أبياتٌ لها هممٌ أما على الخير أنصارٌ وأعوانُ يا من لذلة قومٍ بعد عِزتهمُ أحال حالهمُ كفرٌ وطُغيانُ بالأمسِ كانوا ملوكاً في منازلهم اليوم هم في بلاد الكفر عبدانُ فلو تراهم حيارى لا دليل لهم ليهمُ من ثياب الذُلِّ ألوانُ ولو رأيت بكاهم في قيودِهمُ هالك الأمر واستهوتك أحزانُ يا رب أمٍ وطفلٍ حيل بينهما ما تفرق أرواحٌ وأبدانُ وَطَفْلَةٍ ما رأتها الشمس إذ برزت أنما هي ياقوتٌ ومرجانُ يقودها العِلج للمكروه باكيةً العين دامعةٌ والقلبُ حيرانُ لمثل هذا يذوبُ القلب من كمدٍ إن كان في القلبِِ إسلامٌ وإيمانُ هل للجهاد بها من طالبٍ فلقد تزخرفت جنة المأوى لها شانُ وأشرف الحور والولدان من غُرفٍ فازت لعمري بهذا الخيرِ شجعانُ الجزء: 61 ¦ الصفحة: 34 الوثائق المزورة السؤال أحببت إخباركم أنه سوف يصل عبر الفاكس بعض المعلومات والوثائق المزورة، آمل الانتباه لها؟ الجواب وأنا أشكر هذا الأخ على هذه النصيحة، ولكنني أتعجب لماذا لم يكتب الأخ اسمه؟! حتى أستطيع أن أتثبت من صحة هذا الكلام الذي قاله، ربما كان الأخ محتسباً، يظن أن كل ورقةٍ تأتيني أنني أعتبرها وأعدها وثيقةً مهمة وأقدمها للناس، والواقع أن الأمر بخلاف ذلك، وأن هناك وثائق كثيرة تأتيني -لا أقول: إنها مزورة- ولكن لا أملك دليلاً على صدقها فأتوقف فيها، وهناك وثائق أخرى منذ فترة تصل، ويشك الإنسان فيها ويبحث ويتحرى، فيجد -بحمد الله- أنها غير صحيحة، فينبغي للأخ ولغيره ألا يظن أننا ممن يقبل كل ما جاء من الغث والسمين بل نحن نُميز، وقد يأتينا -أحياناً- وثيقة مترجمة، فلا نعتمد على الترجمة حتى نبعثها إلى من نثق به نحن ليترجمها، إذا تأكد من صحتها وصدقها وصوابها، وأحياناً تأتي وثيقة منسوبة إلى جهة معينة مع أن الوثيقة صحيحة، لكننا لم نتأكد أنها منسوبة إلى تلك الجهة، فلا نتسرع في ذلك كله. وبناءً عليه أقول لكم: لقد سبق أن ذكرت لكم وثائق كثيرة مما يتعلق بالتنصير وغيره، فليطمئن الإخوة إلى أنني لم أذكر أي وثيقة إلاَّ وأنا على أتم الاستعداد لتثبيتها، والتحقق منها بصورة قاطعة، ليس عليَّ فيها أدنى تقصيرٍ أو مسئولية، ولو أردتم أن أذكر لكم كل الوثائق التي جاءتني لكان الأمر أهول وأعظم مما تتصورون. الجزء: 61 ¦ الصفحة: 35 صناعة الموت إن الموت والحياة متلازمان، فإذا وجد أحدهما وجد الآخر، ومن المعلوم أن لكل منهما عشاقاً وطلاباً، فللحياة عشاقها الذين يخلدون إليها وإلى زخرفها، وكذلك للموت عشاق يطلبونه بل ويسعون إليه بكل ما يستطيعون، فالكافر يخاف الموت ويرهبه، والمؤمن يحب الموت في سبيل الله تعالى، فعشاق الموت هم المؤمنون الصادقون الموقنون بما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين في الجنة، لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن صناعة الموت وأن هناك رجالاً يصنعون الموت بأيديهم صنعهم الإسلام، ثم ذكر لماذا العداوة ضد الإسلام والمسلمين؟ ثم تكلم عن كتاب يسمى (يوم الله) وذكر طرفاً من معركة هرمجدون مع اليهود، وأنه لا سبيل إلى الصلح معهم، ثم ذكر نماذج من صناع الموت، وختم الدرس برسائل إلى صناع الموت. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 1 الموت والحياة صنوان متلازمان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. رقم هذا الدرس حسب عهدة الإخوة الحاضرين "95" من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تنعقد في هذا المسجد، جامع الذياب ببريدة، وهو ينعقد في هذه الليلة، ليلة الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من الهجرة، وفي ليلة الإثنين كما هو المعتاد، عنوان هذا الدرس: صناعة الموت. واعجباً لك يا سلمان! لقد حدثتنا قبل عن صناعة الحياة، وفقهنا وفهمنا أن صناعة الحياة تعني أن يشارك الإنسان في كل مجالٍ من مجالاتها، بصناعتها وإقامتها على شريعة الله جل وعلا، فما بال صناعة الموت إذاً؟! لقد حدثتنا قبل أسبوعٍ أيضاً، عن عشاق الحياة، عشاق زينتها وبهرجها وجمالها الزاخر المليء الأخاذ، أفترى للموت عشاقاً أيضاً يجب أن يتحدث عنهم؟! أيها الإخوة الأحبة الكرام! وأيها الأخوات الكريماتُ الحبيبات إلى آبائهن وأمهاتهن وأزواجهن، الكافات العافات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته أما بعد: فإن الموت والحياة أخوان صنوان نظيران متشابهان قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] ولا يتقن صناعة أحدهما إلا من يتقن صناعة الآخر، فالذي يصنع الحياة الكريمة هو الذي يختار الميتة الشريفة، وما أذل الناس وخفض رقابهم إلا حب الحياة والرغبة فيها دون قيدٍ أو شرط، قال الله تعالى عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] حياة هكذا!! أياً كانت، حتى ولو كانت حياة الذل، والفقر، والهوان، والضعف، والخمول!! المهم عندهم أن يظلوا أحياءً {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] والتنكير هاهنا في كلمة "حياة" هو للتحقير. ومن الطرائف التي تساق في هذا المجال: أنني سمعتُ زعيماً لمنظمةٍ يعدونها منظمة للتحرير، تحرير الأرض، وتحرير الإنسان، سمعته يقول في إذاعة كبرى، في يوم من الأيام، وهو يمدح المؤمنين والمجاهدين، والصابرين، وأنهم يحبون الموت كما تحبون الحياة، فيقول: قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] يظن أن هذه الآية مدح، ولم يدرِ أنها ذم، ويظنها في المؤمنين، وما درى أنها في بني إسرائيل اليهود!! الجزء: 62 ¦ الصفحة: 2 الموت في نظر المسلم له معنى آخر أما حين تنظر إلى المسلمين، فإنك تجد فيهم عرفاً متوارثاً منذ عصر الرسالة، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو إن المسلم يعلم أن الحياة ليست هي كل شيء؛ حتى ذلك المسلم العادي، غير المتعلم، ولا الداعية، ولا المجاهد، هو يعرف أن ثمة حياة آخرة يؤمن بها، ويعتقد أنه سينتقل إليها، ويؤمل في ربٍ رحيم، ولهذا فالموت عنده له معنىً آخر، مختلف عن الموت في نظر الكفار الذين يرون الموت فناءً محققاً، وعدماً محضاً، ونهايةً لا حياة بعدها ولا وجود. أما المسلم المجاهد الباحث عن الموت، فهو لونٌ آخر، يرى أن الموت هو الحياة، قال الله تعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] . لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا وإن نصب المنايا حولنا أسوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدر الأقدارا ورءوسنا يا رب فوق أكُفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا كم زلزل الصخر الأشم وما وهى من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ لو أن آساد العرين تفزعت لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ توحيدك الأعلى جعلنا نقشه نوراً تضيء بصبحه الأزمانُ إنك تتعجب أشد العجب من أعدادٍ من المسلمين الموجودين اليوم، على سبيل المثال في الصومال جياع، عراة، عطاش، فقراء، محرومون من أبسط معاني الحياة الكريمة السعيدة، فيقومون في الشوارع، يرفعون الأوراق واللافتات، ويتجمهرون، ويقولون للغربي الكافر القادم إلى بلادهم: ارحلوا عن بلادنا، لا نريدكم، فيمطرونهم بالنيران والرصاص، ويسقطون منهم أكثر من عشرين قتيلاً في تجمهرٍ واحد، دون أن يكون المسلمون يحملون ولا حتى العصي أو العيدان، ثم تظن أن ذلك سوف يجعلهم يأوون إلى بيوتهم، ويختفون في أماكنهم ومعاقلهم وغرفهم، فإذا بهم يكررون العملية كل يوم، ويتزايد عددهم، ويرتفع صوتهم، وإذا بوسائل الإعلام العالمية تنقل هذه الرسالة إلى العالم الغربي، الذي ما زال يصم أذنيه عن صراخ المسلمين وصياحهم، وندائهم، واحتجاجهم!! إن العالم اليوم بهذه الطرق يضطر المسلمين اضطراراً إلى البحث عن الشيء الذي كان يجب أن يختاروه اختيارياً، إنه يضطرهم إلى صناعة الموت، ويجعل منهم مقاتلين أشداء أشاوس. نعم! هذا الدين أثبت خلوده وتاريخيته وبقاءه، غزته أممٌ كثيرة، فذهبت وبقي الإسلام، فقد جاء التتار بجيوشهم المتوحشة، وسمع صوت صياحهم من آفاقٍ بعيدة، فإذا بهم يجتاحون بلاد الإسلام، وإذا بالأنهار تجري أحياناً حمراء من دماء المسلمين، وأحياناً أخرى زرقاء من كتبهم التي أغرقوها في الأنهار، ثم ينتصر الإسلام، ويتحول التتار إلى مسلمين، وإذا بك اليوم تسمع جمهوريةً من بقايا الاتحاد السوفيتي، يسمونها تتارستان، وقد قرأت مقابلةً مع بعض شخصياتها، فإذا بهم يعلنون أنهم لا يعتزون إلا بالإسلام، هذه تتارستان هي منطلق التتار الذين وطئوا بغداد وبلاد الإسلام والشام، وفعلوا الأفاعيل وسفكوا دماء المسلمين، هاهي اليوم لا تفتخر إلا بالإسلام، ولا تعتز إلا به. بغت أممُ التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأمانِ إنه الدين الخالد، الذي يملك عناصر البقاء، فإذا قاومه قوم انهزموا، وبقي الإسلام. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 3 خوف الكافر من الموت الكافر يخاف الموت ويرهبه، ولهذا يفشل الكافر في صناعة الحياة الحقيقية، ترى اليوم اليهود، كيف يذعرون لما يحدث لعددٍ بسيطٍ من جنودهم وأفرادهم على أيدي شباب المسلمين ربما كانوا صغاراً دون الخامسة عشرة، فيجن جنونهم، ويمطروا بلاد الإسلام بوابل النيران أياماً متتالية، خوفاً على حفنةٍ قليلة من جنودهم، لأن قتل واحد يرهب منهم ألوفاً بل عشرات الألوف، لماذا؟ لأنهم كما وصفهم ربهم العليم بهم فقال: {أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] . وترى أيضاً، كيف أن الأمريكان والأوروبيين والكفار بصفةٍ عامة يعتبرون قتل واحد منهم، أو سجن أعدادٍ قليلة، قضية كبرى!! ويثيرون من أجلها أعظم المعارك؛ المعارك السياسية والإعلامية، ويتدخلون، وتؤثر في قراراتهم الكبرى، من أجل حفنة من جنودهم يحاصرون في الصومال، أو يقتلون في البوسنة، أو يتعرض لهم هنا أو هناك. هذا أمرٌ لا يلامون عليه، نعم إنه دليلُ من جهة -ولا ننكر هذا- دليلٌ على أن للفرد عندهم قيمةً ومعنىً، وأن حكوماتهم تظهر من خلال ذلك، وفاءها والتزامها بالعقد والعهد والميثاق والبيعة التي عقدتها بينها وبين رعيتها، فتقول لشعوبها: نحن نهتم بكم، ونحرص على حياتكم، ونضحي من أجل أفرادٍ قلائل منكم، حرصاً على حياتهم، أو حريتهم، أو سعادتهم، أو رفاهيتهم، فلا يلامون على ذلك، ولا يعاتبون عليه، بل هم من خلاله يظهرون الالتزام بذلك العقد بين حكوماتهم وبين شعوبهم، لكن هناك في المقابل الرعب، والتعلق بالحياة، الذي حصرهم بين أربعة جدران. من بين الملايين، بل من بين مئات الملايين، الذين يعيشون في تلك البلاد لا يبعد أن تجد أفراداً يعدون على الأصابع مغامرين، فهم يشقون عنان الفضاء في رحلة ما يسمونها بغزو الكواكب. غزو الكواكب كشف العلم ظاهره والله يعلم ما أخفوا وما كتموا أو قد تجد من بين هؤلاء: المغامر الذي يمخر عباب الماء، أو يغوص فيه، طمعاً في مغنم، أو طمعاً في شهرة، أو طمعاً في خلودٍ دنيوي عابر، أن يتكلم عنه الإعلام، أو يخلد ذكره التاريخ، أو ينصبوا له نصباً أو تذكاراً أو تمثالاً في ساحة أو ميدانٍ عام، يوجد آحاد وأفراد من هؤلاء، أما هذه الملايين، ومئات الملايين من أفرادهم، فكلهم يركضون وراء الحياة، وراء الحطام، كلهم حريصون عليها. إن الرجل الغربي اليوم يرى الدنيا ويرى فيها كل شيء، فإذا فقدها، فقد ينتحر، لماذا؟ إذا خسر صفقة تجارية، أو خانته عشيقته، أو فقد أملاً من آماله، فإن أقرب حل لديه هو الانتحار، والانتحار نفسه دليل الفشل، ودليل على عدم القدرة على مواجهة المشكلات، وعدم القدرة على عدم التكيف مع الحياة وظروفها المتجددة، وإلا فكيف يفسر أنه اليوم يتم علاج عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان من جراء معارك، كمعارك الخليج، ما خاضوا فيه حرباً حقيقية؟! ولا لاقوا مقاتلين ولا جنداً؟! وإنما كانوا يقاتلون من وراء جدر، ويقاتلون من خلال التقنية، ومن خلال الآلية العسكرية الضخمة التي جلبوها وتترسوا وراءها، فيكف كان الحال لو واجهوا حرباً؟! أم كيف تكون الحال لو واجهوا قوماً مؤمنين مسلمين يبحثون عن الموت كما يبحث أولئك عن الحياة؟! إنهم تعبوا على حياتهم، وتأنقوا فيها، فلا يحبون مغادرتها وتركها، ولهذا يسارعون في التمتع واللذة، حتى منذ طفولتهم. تحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- كيف أنه رأى صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت أمها تدربها على فنون اللذة الجسدية، فنون الجنس والغرام والحب، وكان هناك رجل يسألها، ويقول: ألا ترين أن هذه الطفلة ما زالت صغيرةً غريرة؟ فقالت له: إن الحياة قصيرة، وليس هناك وقتٌ ولا متسع لنصرف شيئاً في الطفولة، وشيئاً في الشيخوخة والهرم، فلا بد أن نستثمر الحياة ونتمتع بها. كيف يستثمرونها؟ في اللذات العابرة، والشهوات الجسمانية الحيوانية، حتى الأطفال يُربَّون على ممارسة الجنس والشراب وألوان النعيم المغرق؛ لأن الدنيا غاية همهم، ومنتهى آمالهم، وآخر طموحهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 4 الأحداث تصنع الأمم ما هو الشيء الذي يمكن في نظرك أن يخرج هذه الأمة التي تملك هذا الكنز الثمين، وهذا الدين العظيم الذي يمكن أن يخرجها من جهلها إلى نور العلم والمعرفة الشرعية؟ قد تقول: الدروس والمحاضرات وأقول: نعم، لكنها لا تكفي. ما هو الشيء الذي يمكن أن يخرج الأمة من تخلفها السياسي وتبعيتها الاقتصادية، وهوانها العسكري إلى المسابقة والمنافسة في ميدان الحياة العامر الكبير؟ قد تقول: اجتلاب التصنيع والتقنية وتخريج الخبراء والمختصين، أقول لك: نعم، لكن هذا لا يكفي. ما هو الشيء الذي يمكن أن يوحد الأمة، ويجمع شملها بعد الشتات والفرقة وانفصام بعضها من بعض، فيمكن أن يوحدها إلى أمةٍ واحدة، يشعر بعضها بهموم بعض وآلام بعض، وإذا حاربت حاربت جميعاً، وإذا سالمت سالمت جميعاً؟ أعتقد أن الخطب والمحاضرات والدروس يمكن أن تساهم، لكنها لا تصنع ذلك، بل حتى جهود الدعاة منفردة، مهما عظمت وكبرت وتوسعت، لا يمكن أن تؤثر إلا في رقعة محدودة من الأمة. إذاً ما الذي يمكن أن يحدث ويغير؟ لابد من الأحداث، الأحداث التي قد يصنعها العدو، ولكنها تصهر الأمة، وتذيب خبثها، وتكشف طيبها، وتعرفها عدوها من صديقها، وتجمع شمل المخلصين الغيورين المنافحين عن حوزة الإسلام، وبلاده، وبيضته وأهله. إن العالم الإسلامي اليوم -أقولها لك بصراحة ولكل صديقٍ أو عدو- العالم الإسلامي اليوم يتحول إلى معمل زاخر لإعداد المقاتلين، من لم يقاتل عقيدةً وحماساً وفي سبيل الله، فإنك تجد أنه يقاتل أحياناً اضطراراً؛ لأنه ليس أمامه إلا هذا السبيل، وهو يقول: وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العار أن تموت جباناً أو يقول: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركبوها الجزء: 62 ¦ الصفحة: 5 البوسنة أقرب مثال مثلاً: ماذا كان لدى المسلمين في البوسنة من الإسلام؟! هل كانوا عارفين بدينهم؟! هل كانوا متحمسين له؟! هل كانوا فقهاء فيه فضلاً عن أن يكونوا متطرفين كما يقال؟! كلا، بل كان مجتمعهم يقوم على أساسٍ علماني، وكان الاختلاط شائعاً، وكان ترك الصلاة معروفاً، وكان شرب الخمر متوارثاً، وكان المسلمون يعيشون في ظل تجهيل طويل، حينما سيطرت عليهم الشيوعية، حتى لا يعرفون، ولا يعرفهم إخوانهم، وأكثرهم لم يكونوا يعرفون من الإسلام إلا أن آباءهم وأجدادهم كانوا مسلمين، وأنهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن هذه المساجد والمنائر والمنابر والمكتبات تراثٌ إسلامي ينتسبون له، ويتعصبون إليه تعصباً غامضاً غير معروف، هذا كل ما بقي من أثر الإسلام في البوسنة والهرسك، فهل شفع لهم هذا؟ لم يشفع لهم، بل هم اليوم أكثر الشعوب تعرضاً للسحق والإبادة، بل ولم يشفع لهم أن يكونوا قطعة من أوروبا، المزهوة بحضارتها، المتبجحة بحقوق الإنسان كما يزعمون هذا حدث، فماذا كانت النتيجة؟ هذا الحدث العظيم وهذا التحدي الكبير للمسلمين في البوسنة والهرسك دعاهم إلى أن يبحثوا عن أصولهم وعن جذورهم، وأن يرجعوا إلى دينهم، فولد هذا رواد المساجد، وفتيات الحجاب، وأطفال تحفيظ القرآن، وشباب المعسكرات، وسوف يحدث على المدى البعيد آثاراً عميقةً لدى المسلمين، وسوف يعطيهم من المفاهيم والقناعات والأصول الصحيحة ما لا يمكن أن يحصلوا عليه، إلا بمثل هذا الطريق. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 6 لماذا الإسلام هو المحارب سؤالٌ ثانٍ: ماذا يملك المسلمون اليوم من الإمكانيات التي ترشحهم ليكونوا هم العدو المنصب لأمريكا وأوروبا والغرب بصفةٍ عامة، بل والشرق أيضاً؟ حتى غدت الحرب على الإسلام قاسماً مشتركاً لدى كل أمم الأرض وحكوماتها ودولها، ماذا يملك المسلمون؟ هل يملكون القوة؟ هل يملكون السلاح؟ هل يملكون الوحدة؟ هل يملكون الاقتصاد؟ هل يملكون المواقف السياسية؟ هل يملكون المؤسسات؟ كلا. إذاً لماذا الغرب يتحول من عداوة الشيوعية إلى عداوة الإسلام؟ أو من العداوة اللاسامية وحربها، إلى العداوة للإسلامية؟! وأعني بذلك ألوان الحروب، سواء كانت الحروب المكشوفة المعلنة، كما في يوغسلافيا، وكشمير والفلبين والهند، وطاجكستان، وفلسطين، وجميع البلاد التي تعاني من حربٍ ضارية مباشرة شرسة على المسلمين، أم تلك الحروب التي تتولاها بالوكالة عن القوى الأممية حكوماتٌ محلية كما في عدد من الدول العربية والإسلامية، ماذا يملك المسلمون حتى يواجهوا مثل هذه الحرب الضروس الشرسة؟! الجزء: 62 ¦ الصفحة: 7 العجب من ضرب دول إسلامية لا تحكم بالإسلام نحن نعتقد أن كثيراً من الدول التي تعرضت للضربات من الغرب هي دولٌ لم تكن تحكم بالإسلام يقيناً، سواء هناك في ذلك الصومال، أو ليبيا، أو العراق، أو غيرها من الدول التي طالتها يد الغرب، وأن العلمانيين كانوا هم المسيطرين فيها، إذاً لماذا يضربهم الغرب؟ أقول وأعتقد: أن الغرب لا يثق بمن ينتسب إلى هذه البلاد وإلى هذه الأمة وإلى أبوين مسلمين، حتى ولو كان علمانياً، حتى ولو قدم لهم فروض الولاء والطاعة، حتى ولو كان شديد الولاء لهم، حتى ولو كان خادماً لمصالحهم، إلا أنهم يستخدمونه ولا يثقون به طرفة عين، وعلى أقل تقدير، فهم يعتقدون أنه على المدى البعيد من الممكن أن يكون المستقبل للإسلام، وأن هؤلاء قومٌ تخطتهم الأحداث، وتعداهم التاريخ، إنهم يرون أنه يجب أن تظل البلاد الإسلامية محرومة، متخلفة، حتى لو سيطر عليها العلمانيون. ما الذي يبيح لدولةٍ كدولة اليهود المسماة بإسرائيل امتلاك السلاح النووي؟ حتى لا يجرؤ مدير الطاقة النووية على مجرد الحديث عن هذا الموضوع، وقد قرأت مقابلةً معه، فتكلم عن دول كثيرة ولما سئل عن دولة ما يسمى بإسرائيل، اعتذر عن الجواب، في حين يحرم المسلمون من ذلك كله، بل يحرمون من امتلاك التقنية العادية أو تصنيع السلاح التقليدي. نعم نحن لا نلقي بأخطائنا على عدونا، ولا ننتظر من عدونا أن ينسى تاريخه وخلفيته الدينية والعقائدية، وندري أن المسلمين لو صدقوا الله تعالى وأخلصوا، لاستطاعوا أن يصنعوا كل ما يحتاجونه، وأن يطوعوا ناصية التقنية لهم، وأن يستوردوا كافة السلاح، خاصة في ظل عالمٍ يبحث اليوم عن النفط وعن المال وعن الاقتصاد بكل وسيلة، ويخطط لامتلاك موطئ قدمٍ في البلاد الثرية الغنية، لكننا لا نشك أيضاً، أن الغرب يحاول أن يجعل من هذه المهمة مهمةً صعبةً للغاية. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 8 لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين غير المسلمين ثم لنفترض أن كل ما يقال عن المتطرفين -كما زعموا- صحيح، وأنا أستعمل عباراتهم، وأن المتطرفين أخطئوا، وأنهم فعلوا، وأنهم وراء أحداث نيويورك وغيرها، وأحداث لندن وسواها، بل وأنهم كما قال أحد الشعراء: والله لولا خشية العذالِ لقلت أنتم سبب الزلزالِ لنفترض أن ما تقوله أجهزة الإعلام العربية وتروجه -ومن ورائها الإعلام العالمي- عن المسلمين وعن الأصوليين وعن المتطرفين -كما يعبرون- لنفرض أنه صحيح، لماذا يغض العالم الطرف عن المتطرفين الصرب الذين أحرقوا دولةً بأكملها، وهجروا وقتلوا أكثر من مليوني مسلم، واغتصبوا النساء؟! ولماذا يتكلم العالم بلسانهم؟ فمرة يعتبر هؤلاء مجرمي حرب، ويطالب بمحاكمتهم أمام محكمة دولية، وإذا به يستقبلهم بالأحضان في جنيف، ويعقد معهم المؤتمرات، من أجل إيقاف الحرب وتسوية الأمر سلمياً بينهم وبين المسلمين؟! لماذا يتفاوض العالم مع من يعتبر أنهم مجرمو حرب. قد قتلوا شعباً بأكمله، وفعلوا الأفاعيل التي يراها العالم كله، ويشاهدها ويتفرج عليها، لكنه لا يحرك ساكناً. ثم لماذا تسكت الشعوب؟! إننا نعلم أنه لو قتل عشرون أمريكياً في الصومال، لقامت المظاهرات في طول أمريكا وعرضها ضد هذا العمل، فلماذا يسكت ذلك الشعب أمام قتل مئات الآلاف، وتشريد الملايين، وأمام تلك المجازر الوحشية التي يراها صباح مساء في وسائل الإعلام التي تفننت في نقل الصورة؟! ومع ذلك يبدو أن الرأي العام العالمي يمارس صمتاً رهيباً، ولا يقوم بأي دور، وأنه يشارك في الجريمة، لأنه ألقي في روعة أن هؤلاء مسلمون، وأن قتلهم لا يغير في واقع الحال شيئاً. لماذا يغض العالم الطرف عن متطرفي الهندوس وجرائمهم البشعة. وجرائم الهند في كشمير، بل ويطالب العالم باكستان بأن تتخلى عن دعم المسلمين المستضعفين في كشمير المحتلة؟! حتى العالم العربي والإسلامي يستقبل الهندوس ويوظفهم، ويمنحهم الأعطيات والعلاوات والمرتبات، ويمكنهم من تنظيم خلاياهم السرية وجمع أموالهم الطائلة، لدعم إخوانهم الكفار هناك وقتل المسلمين عياناً في وضح النهار. سؤال رابع وخامس وسادس ما الذي يجعل التنفيذ دائماً يسبق التهديد إذا كانت القضية تتعلق بمسلمين، سواء في الصومال أو في ليبيا أو في غيرها؟! وإذا تعلقت القضية بالصرب مثلاً، أصبحت -كما يقول المثل العربي- تسمع جعجةً ولا ترى طحناً! فهناك التهديد والوعيد من الأمم المتحدة ثم من أمينها، ثم من هذا الحلف ثم من ذاك، ثم من هذه الدولة الكبرى ثم من تلك، وأخيراً تمخض الجمل فلم يلد شيئاً، وأصبحوا يعربون أن هناك بوادر انفراج وتجاوباً مع المطالب الدولية، وأنه على فرض أن هناك تدخلاً فسوف يكون بطيئاً ومدروساً، ويضع كل الاحتمالات في الاعتبار، لضمان أمن وسلامة جنود الأمم المتحدة وغيرها، فهناك اللهجة ترتفع وتنخفض، والتهديد بعد التهديد، وأخيراً: تهدأ الأمور ويستقر الحال!! الجزء: 62 ¦ الصفحة: 9 الحرب ضد من يسمونهم بالمتطرفين المسلمين سؤال ثالث: ما الذي جعل العالم كله بحكوماته وأجهزته الأممية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ووسائل إعلامه، يشن حرباً على من يسميهم بالمتطرفين الإسلاميين، ويصورهم وراء كل حدث، وكل جريمة، وكل تفجير، وكل اغتيال، وكل انفجار، وينسج خيوط الأوهام حول هؤلاء، حتى إنك ترى شيخاً ضريراً كبيراً مريضاً، كالشيخ عمر عبد الرحمن، يقدمه الإعلام العالمي على أنه كالأخطبوط، أصابعه تمتد وراء كل حدث، وكل تفجير، وكل جماعة تجاهد أو تقاتل، وكل فئة، وكل تحرك إسلامي. العالم بالأمس كان يسخر منا معشر المسلمين، ويقول: أنتم مصابون بعقدة المؤامرة، فتتصورون أن وراء كل حدث مؤامرة، وأن وراء كل شيء مؤامرة، وأن مؤامرات العدو تلاحقكم في كل مكان، وكانوا يقولون لنا: هذه أوهام تعشعش في عقولكم وقلوبكم، ولا رصيد لها من الواقع، فما بالهم اليوم أصيبوا بعقدة المؤامرة، حتى أصبحوا يرون مؤامرة متطرفة أصولية إسلامية وراء كل حدث؟! فإذا لم يجدوا حدثاً اختلقوه، فقد وجدوا مجموعة من الشباب يتدربون على كيفية القتال من أجل أن يذهبوا إلى البوسنة والهرسك في نيويورك، وكانوا يصورون أعمالهم على أشرطة الفيديو، لأنهم يقومون بعمل غير مخالف للقانون، وإذا بهم تحفهم أجهزة الأمن وتعتقلهم، وتقدمهم في وسائل الإعلام كبش فداء، وتصورهم للشعوب الغربية والشرقية على أنهم حلقة أخرى من سلسلة المتطرفين الذين يوشكون أن يفجروا العالم بأكمله كما يزعمون. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 10 كتاب يوم الله يوم الله هذا عنوان كتاب يتحدث عن الحركات الأصولية المعاصرة، سواء الحركات الإسلامية أو اليهودية أو النصرانية، مؤلف الكتاب اسمه جيل كيفي، ومترجمه اسمه: نصير مروة، وهو واحد من عشرات الكتب، التي ترصد ما يسمى بالحركات الأصولية الدينية، وعنوان الكتاب: يوم الله يومئ ويشير إلى فكرة مشتركة موجودة عند كل أمم الأرض الكتابية، المسلمين واليهود والنصارى، وهي أن العالم اليوم يستقطب ويتجمع، ويتمحور حول مسألة الدين. الأحزاب الدينية المسيحية مثلاً في ألمانيا، أو في فرنسا، أو في بريطانيا، بدأت تكسب أصواتاً جديدة من الناخبين يوماً بعد يوم، وبدأت تكسب مواقع ومساحات جديدة على حساب الأحزاب الاشتراكية والعلمانية والتوجهات القومية الدينية في روسيا تتزايد وتتنامى باطراد، وتكسب الشارع يوماً فيوماً، والأحزاب اليهودية المتطرفة دخلت ما يسمى بالكنيست اليهودي، وشاركت في الحكومة، ولها مواقفها القوية الصلبة الواضحة المنسجمة مع عقائدها ودينها، والشعوب الإسلامية أيضاً بدأت تصحو، تصحو على ضربات الغزاة ومطارقهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 11 المعركة الفاصلة هرمجدون ربما يقول البعض: -وهو مما أقوله أيضاً- إن معظم المعارك التي نسمعها اليوم في العالم كله هي ذات طابعٍ ديني قومي. نحن نعلم أنه ليس لدى المتقاتلين -سواء كانوا من المسلمين أم من غيرهم- ليس لديهم الوعي الحقيقي بدينهم، لكنهم يدافعون من منطق الحمية، أو العصبية، أو القومية. وبإمكانك أن تسمع أية نشرة للأنباء في أية إذاعة عالمية، ثم احسب كم عدد الأخبار المتعلقة بالمسلمين، أو المتعلقة بحروب إسلامية، أو المتعلقة بمشكلات في بلاد الإسلام. إن ذلك كله لا يعدو أن يكون تحضيراً وتمهيداً للمعركة الكبرى الفاصلة التي يسميها اليهود والنصارى معركة هرمجدون. اليهود والنصارى تعمل هذه المعركة في عقولهم، وفي سياستهم، وفي قراراتهم، وتؤثر فيهم سواء بصفة مباشرة شعورية أم لا شعورية، إنها المعركة بين قوى الخير وقوى الشر، هكذا يعبر اليهود والنصارى، وأين؟ في فلسطين وبين من ومن؟ بين المسلمين من جهة، وبين اليهود والنصارى من جهةٍ أخرى. قوى الخير في نظرهم اليهود والنصارى، وقوى الشر المسلمون، والغلبة عندهم لقوى الخير، أي: لهم. ونحن نقول: نعم الغلبة لقوى الخير، ولكن قوى الخير هي القوى الإسلامية التي تملك الرصيد الرباني، تملك كتاب الله تعالى المنزل المحكم، وتملك الحق الذي جاء به النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام. إذاً هذا المعنى: المعركة الفاصلة -معركة هرمجدون- هذا المعنى مشترك بين الأمم الثلاث كلها، والنصر فيها هو للمسلمين دون شك، على أعدائهم من اليهود والنصارى، حتى عملية السلام التي يتحدثون عنها اليوم هي جزء من تلك الحرب. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 12 الحرب ليست في ميدان القتال فحسب إن الحرب ذات أبعاد مختلفة، ليست حرباً في ميدان القتال والمعركة وكما يتصور البعض، كما كانت الحرب في الماضي، فالحرب في كل ميدان ولها صور عديدة. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 13 الحرب الإعلامية من صور الحرب أيضاً الحرب الإعلامية التي تستهدف تغيير عقول الناس وقلوبهم، ومحو الكراهية لليهود من قلوب المسلمين، ليصوروا لهم أنهم جميعاً يمكن أن يتحالفوا على عملٍ واحدٍ مشترك، أو محاولة تحييد الشعوب الإسلامية وعزلها عن دينها، وعن تاريخها، وعن لغتها، وعن قرآنها، حتى يتمكنوا من الهيمنة عليها وقيادتها كما تقاد الخراف. وهي أيضاً حرب مياه تستهدف تحويل مجاري الأنهار المهمة في بلاد الشام وغيرها لصالح اليهود، وجعل المسلمين في قبضتهم وتحت تصرفهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 14 الحرب الاقتصادية ومن صورها الحرب الاقتصادية التي يحاول اليهود من خلالها الهيمنة على اقتصاد المسلمين، وفتح المجالات للأموال الإسلامية حتى تصب في بنوك اليهود وجيوبهم، ولهذا هم يطرحون الثلاثية المعروفة: أموال الخليج، وأيدي مصر، وخبرة اليهود، تتظافر من أجل إيجاد اقتصاد شرق أوسطي موحد ومتكامل، هم لا ينظرون إلى إسلام وكفر، يريدون أن يمحوا طابع الإسلام حتى يخلو لهم المجال ليستثمروا هذا العالم، ويحلبوا لبنه وعسله. وبداية الاستثمار قد وقعت فعلاً، فقد أعلن تجار العرب عن مشروع استثماري سياحي، عبارة عن فنادق وغيرها فيما يسمى بدولة إسرائيل. ومن ذلك أيضاً الدعوة إلى رفع المقاطعة عن الشركات اليهودية، أو الشركات التي تتعامل مع اليهود، ليست دولة إسرائيل هي التي تطالب بذلك فحسب، بل العالم الغربي كله ورعاة السلام يطالبون بهذا الأمر، ويضغطون على الدول العربية والإسلامية والخليجية من أجله، لأن المصلحة الغربية واليهودية مصلحة مشتركة، وهم يريدون أن يصب الاقتصاد العربي أيضاً في مصلحة اليهود. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 15 الصلح مع اليهود بعض الصلحاء يفتون بأن الصلح جائز مع إسرائيل، لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مصالحة مع اليهود ومع غيرهم، سبحان الله! الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، هل القضية الآن عبارة عن قضية صلح حقيقي، وأننا كنا في حالة حربٍ معهم، ثم وضعت الحرب أوزارها، واتفقنا على أن نكتب كتاباً بيننا وبينهم ألا يقاتل بعضنا بعضاً لمدة خمس سنين أو عشر أو عشرين سنة؟ هل الأمر كذلك؟! هل هذا هو التكييف أو التوصيف الفقهي للقضية؟ كلا! المسألة مسألة تطبيع للعلاقة مع اليهود في المجالات العقائدية أولاً، وأول ذلك إلغاء الجهاد في سبيل الله تعالى ورفضه، وعدم الإيمان به، وكتابة عهود ومواثيق تقتضي من المسلمين أنهم لا يؤمنون بالجهاد، وأنهم لن يقوموا بالجهاد يوماً من الأيام ضد اليهود، وكذلك لا يحاربون اليهود، ولا يعتبرونهم مغتصبين لهذه البلاد، فضلاًُ عن أنها تنتقل من ذلك إلى تغيير العقليات الإسلامية، وإلى تغيير الإعلام، وإلى الغزو الثقافي والعلمي والأمني والعسكري والمادي وغير ذلك، فكيف نتصور أن هذا صلحٌ مع اليهود؟! إنها عملية تطويع كاملة للشرق الإسلامي، ليكون ألعوبة في يد هذه الدولة الأممية التي من ورائها تتحرك وتكيد أمريكا وغيرها من دول الغرب. وآخر مثال على ذلك: خبرٌ سمعناه البارحة، يقول لك: سوريا وإسرائيل على وشك توقيع اتفاقية نهائية للسلام المطلق، تقتضي هذه الاتفاقية، أن تتخلى دولة إسرائيل عن هضبة الجولان بالكامل، في مقابل أن توقع معها سوريا اتفاقية سلام مطلقة شاملة، تمتد بين سنتين إلى خمس عشرة سنة، أي يتم تنفيذها خلال مدة أقصاها خمس عشرة سنة، وخلال هذه المدة تكون العلاقات كلها قد تطبعت بين البلدين إذا تم ذلك بشكل كامل، سواء العلاقات السياسية والاقتصادية أو العسكرية والأمنية أو غير ذلك، إذاً فالقضية ليست صلحاً كما يتصور بعض البسطاء، أو بعض الصالحين، إنما هي قضية تطبيعٍ كامل. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 16 غداً ينطق الحجر أمام هذا الوضع الذي هو عملية السلام، ندرك أن اليهود يخططون لمعركة هرمجدون، وأن النصارى يتحالفون معهم بمقتضى المعركة، والمسلمون كذلك، وعند المسلمين نص يؤكد لهم حتى قبل أن يجئ اليهود إلى فلسطين بمئات السنين، أن اليهود سوف يأتون إلى فلسطين، وسوف يحتلونها، وسوف يقاتلهم المسلمون فيها حتى ينطق الشجر والحجر. لقد بدأ الحجر الآن! الحجر الآن هو عبارة عن مقلاع في يد الطفل الفلسطيني، يشج به رأس اليهودي، أو يقتله، أو يؤذيه، أو يخيفه، وقد أثرت الانتفاضة على الميزانية اليهودية تأثيراً عظيماً، وعلى العقلية، وأربكت كثيراً من خططهم، وهذه بدايةٌ لتحرك الحجر، اليوم الحجر في يد المسلم، وغداً الحجر ينطق للمسلم ويقول: يا عبد الله يا مسلم، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 17 قتال اليهود لابد منه وعند المسلمين نص أيضاً يقول لهم: {سوف تقاتلون اليهود على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} والراوي كان يقول: والله ما كنتُ أدري ما هو نهر الأردن يومئذٍ بالذات، وهو حديث رواه البزار وغيره، وحسن إسناده جماعة من أهل العلم، كـ الهيثمي والغماري وغيرهما. إذاً الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم عن غيب أطلعه الله عليه. وبناءً عليه نعلم أن كل الخطط والمؤامرات سوف تتوقف، وأن المسلمين سيقاتلون اليهود، ولن تتوسع دولتهم المسماه بإسرائيل أكثر مما هي عليه الآن بشكلٍ كبير. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 18 الفرص أمام المسلمين للتعبئة والاستعداد يظن البعض من المسلمين اليوم أن المسلمين دخلوا نفقاً مظلماً، وأن النجاة يمكن أن تتم، ولكن بواسطةٍ قدرٍ إلهيٍ محض، لا يد للبشر فيه بحال من الأحوال، وهذا خطأ، فكل مشكلة تحمل في طياتها بذور الحل، والعالم اليوم يتمخض عن فرص عظيمة للمسلمين، يمكن استثمارها كأحسن ما يكون الاستثمار. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 19 إشاعة روح الجهاد مثلاً: أمام المسلمين إشاعة روح الجهاد والتعبئة العامة للأمة، ورفع معنويات الشباب في هذا الميدان، الجهاد بكل معانيه وكل ميادينه، الجهاد السياسي، الجهاد الاقتصادي، الجهاد العسكري، الجهاد العلمي، الجهاد التصنيعي، كل هذه الميادين ميادين جهاد، ينبغي أن تدرب الأمة عليها، وأن تبعد الأمة عن روح الترف والخمول والقعود، الذي خدر مشاعرها، ودمر طاقاتهات. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 20 مقاطعة العدو أمام المسلمين اليوم إمكانية مقاطعة العدو، مقاطعةً سياسية، أو اقتصادية، والإضراب عن بضائعه ومقتنيايته وتصنيعه، والحرص على الضغط عليهم بكل وسيلة، وهم يملكون من ذلك الكثير. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 21 البناء الحضاري والاقتصادي أمام المسلمين البناء الحضاري والاقتصادي، وما ماليزيا كدولة إسلامية، إلا نموذج لدولة آلت على نفسها أنها عام 2020م سوف تكون دولةً صناعيةً عظمى، ووضعت خطةً طموحةً لذلك، سوف أتحدث عنها في إحدى المناسبات. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 22 استثمار التناقضات بين الخصوم أمام المسلمين استثمار التناقضات الموجودة في معسكر الخصوم، وهناك تناقضات صارخة بين الصين وأمريكا، بين أوروبا وأمريكا، بين الشرق والغرب، بين بعض هذه الدول وبعض، يمكن أن يستثمرها المسلمون لصالحهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 23 الجهاد في سبيل الله إن الجهاد في سبيل الله هو الحتم المقدور على هذه الأمة وإلا فهو الهلاك، فإذا تخلت الأمة عن الجهاد، وقعدت عنه، ضربها الله تعالى بالذل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا تركتم الجهاد، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} أي حتى تعلنوا الجهاد في سبيل الله تعالى، وتتمسكوا بشريعة نبيكم محمد صلى الله عليه وآله وسلم. حمل رجلٌ من المجاهدين بالقسطنطينية على صف العدو، حتى خرق العدو بقوة، وكان معهم أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال أناسٌ من الناس: ما لهذا الرجل ألقى بيده إلى التهلكة، فسمعهم أبو أيوب، فقال لهم: [[كلا والله، نحن أعلم بهذه الآية، قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] لقد نزلت فينا معشر الأنصار، صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهدنا معه المشاهد ونصرناه، فلما فشا الإسلام وظهر، اجتمعنا معشر الأنصار، فقال بعضنا لبعضٍ: إن الله تعالى أكرمنا بصحبة نبيه ونصرة دينه، فلما فشا الإسلام وكثر أهله، وكنا قد آثرناه على أموالنا وأهلينا وزروعنا وأولادنا، لو رجعنا -بعد ما وضعت الحرب أوزارها- إلى أهلينا وأموالنا، فأصلحنا ذلك، وأقمنا فيه، وتركنا الجهاد، فأنزل الله جل وعلا قوله: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195]] ] . إذاً الإلقاء باليد إلى التهلكة هو ترك الجهاد، سواء كان جهاداً بالمال أم بالنفس أم باللسان أم بكل وسيلة ممكنة، فالتهلكة هي في الإقامة بالأهل والأولاد والمال، وترك الجهاد، والحديث رواه الترمذي، وأبو داود، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، والذهبي، وغيرهما. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 24 الشهادة في سبيل الله أمنية ما هي الحيلة في قومٍ يرون أن أقسى عقابٍ تخافونه، هو أقصى أملٍ ينتظرونه؟ الناس يخوفون بالموت، يقال: إن لم تفعل تقتل، أما هؤلاء فغاية ما يتمنونه أن يقتلوا، إن الشهادة في سبيل الله أمنية، ليست هروباً من التكاليف، ولا فراراً من الحياة، ولا تخلصاً من المشكلات، ولكن الشهادة التزام بأقصى درجات التتكاليف الشرعية، وهو الجهاد في سبيل الله، ذروة سنام الإسلام، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام. إن الشهيد يسقي شجرة الحياة بالدماء، الدماء التي تشخب من جرحه، وتخرج من أوداجه، فتزهر شجرة الحياة بإذن الله وتثمر وتنمو. من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجومِ مناراً كنا جِبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بِحَارا بمعابد الإفرنجِ كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا الجزء: 62 ¦ الصفحة: 25 دار الشهداء في صحيح البخاري، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأيت الليلة رجلين أتياني فصعدا بي إلى شجرة، وأدخلاني داراً هي أحسن وأفضل، ولم أرَ داراً قط أحسن منها، فقلت ما هذه الدار؟ قالا: أما هذه الدار، فدار الشهداء} . {للشهيد عند الله ست خصال: يغفر له مع أول قطرة من دمه} أي شهيدٍ هذا؟ هل هو شهيد الحب؟! شهيد التراب والوطن؟! شهيد زيتون يافا وبرتقال حيفا؟! شهيد الكرسي؟! شهيد الشهرة الجندي المجهول؟! كلا! إنه الشهيد الذي يقاتل في سبيل الله، كما نطق الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} . {يغفر له مع أول قطرة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج باثنتين وسبعين من الحور العين} اذهبوا يا أهل الماديات، اذهبوا يا أهل الشهوات، تمتعوا بدنياكم ونسائكم، تمتعوا بلحظاتكم العابرة، أما الشهداء الحقيقيون، فينتظرهم اثنتان وسبعون امرأة من الحور العين، يرى مخ ساق إحداهن من وراء اللحم!! {ويأمن من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر يوم القيامة، ويوضع على رأسه تاج الوقار} ليس تاجاً دنيوياً ولا مادياً، ولا صولجاناً ولا طيلساناً، إنما هو تاج الوقار في الدار الآخرة: {الياقوتة الواحدة فيه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته} . سبعون ممن ربوه على الجهاد والشهادة، وعلموه أناشيدها، وقرءوا عليه آياتها وأحاديثها، وربوه على معاني الفداء والبطولة، ثم صبروا عليه وصابروا، وخلفوه في أهله بخير. هذا حديثٌ رواه الترمذي، وقال: حسنٌ صحيح غريب، ورواه ابن ماجة وأحمد من حديث المقدام بن معد يكرب، وله شاهدٍ من حديثٍ قيس الجذامي، وإسناده صحيح، فالشهادة هدفٌ عظيم، كلمة تملأ الفم. حممة الدوسي رحمه الله غزا مع أبي موسى الأشعري إلى أصبهان، فقام في الليل وصاح: [[اللهم إن حممة يحب لقاءك، اللهم إن كان صادقاً في ذلك، فاعزم له بصدقه واقتله، وإن كاذباً فاحمله على ذلك، وإن كان كارهاً له، اللهم لا ترجعني من سفري]] قال: فأخذه شيء في بطنه فمات! بأصبهان، فقام قائد الجيش أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول للجنود: [[يا أيها الناس إنه والله ما سمعنا من نبيكم، ولا بلغ علمنا إلا أن حممة شهيدٌ في سبيل الله تعالى]] . بات عتبة بن أبان البصري، عند رباح القيسي، قال: فسمعته في الليل ساجداً يبكي ويقول: اللهم احشر عتبة من حواصل الطير وبطون السباع. ولكن قبري بطن نسرٍ مقيله بجو السماء في نسورٍ عواكف خرج ابن المبارك إلى الشام غازياً في سبيل الله تعالى، فلما رأى ما فيه القوم من التعبد والغزو والجهاد وارتفاع المعنويات والإيمان، وكل يوم بعث أو سرية أو قتال، التفت إلى من حوله، وقد أخذته نشوة ووجد وعجب، ودهشة لهذا الحال الجديد، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، على أعمارٍ أفنيناها وأيامٍ قطعناها في علم الخلية والبرية، وتركنا أبواب الجنة مفتوحة هاهنا. يقول: ضيعت كثيراً من عمري في بعض مسائل الفقه، وطولت فيها، وتركت الجهاد في سبيل الله تعالى. وهذا لا يعني التهوين من أمر العلم الشرعي، بل هو لونٌ من الجهاد، ولكنها -كما ذكرت- نشوة أخذت هذا الإمام المجاهد، وقد رأى هذا الباب العظيم من أبواب الجنة، وقد كتب بعد ذلك إلى الفضيل بن عياض المتعبد في الحرم، يعاتبه ويقول: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعبُ من كان يخضب خده بدموعهِ فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ أو كان يُتعِبُ خيله في باطلٍ فخيولنا يوم الصبيحة تتعبُ ريح العبير لكم ونحن عبيرُنا رهج السنابك والغبار الأطيبُ ولقد أتانا من مقال نبينا قولٌ صحيحٌ صادقٌ لا يكذبُ لا يجمعان غبار خيل الله في أنف امرئٍ ودخان نارٍ تَلْهَبُ الجزء: 62 ¦ الصفحة: 26 موت الشهيد حياة للأمة وكما أن موت الشهيد حياةٌ له، كما نطق القرآن قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] فكذلك موت الشهيد حياةٌٌ للأمة من بعده، فأولئك الأبطال العظماء الذين استرخصوا الحياة واستهانوها في سبيل الله تعالى، هم الذين بنوا الأمجاد، وسطروا صفحات التاريخ، قال أبو بكر رضي الله عنه لجنود المؤمنين: [[اطلبوا الموت توهب لكم الحياة]] وقال لـ مسيلمة ومن معه: [[لأحاربنكم بقومٍ يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة]] وإذا انكفأ الدنيويون والماديون اليوم على اللذة والشهوة والجنس والكرسي، تسامى هؤلاء إلى العلا، واستنشقوا عبير الجنة، كما قال أنس بن النضر: [[الجنة ورب أنس بن النضر، إني لأجد ريحها من دون أحد]] ثم صاح صائحهم: فيا ربِّ إن حانت وفاتي فلا تكُن على شرجعٍ يُعلى بخُضرِ المطارفِ ولكن أحن يومي سعيداً بعصبةٍ يصابون في فجٍ من الأرض خائفِ عصائب من شيبان ألَّف بينهم تُقى الله نزالون عند التزاحفِ إذا فارقوا دنياهمُ فارقوا الأذى وصاروا إلى موعودِ ما في المصاحفِ الجزء: 62 ¦ الصفحة: 27 فرق بين هذه الشهادة وبين شهادة الماديين والشهوانيين فأين هذا من أوضار الماديين والشهوانيين الذين يعتبرون أن الشهادة في سبيل المادة أو الشهوة هي كل شيء؟! حتى يقول قائلهم، وهو من يسمى بـ العندليب الأسمر يقول: يا ولدي قد مات شهيداً من مات فداءً للمحبوب وقد قرأتُ قبل أيام قصيدةً لشاعرٍ من شعراء الشهوة واللذة شهير معروف، هو نزار قباني، في قصيدته "الأندلسي الأخير" يقول: أتخبط على رمال حبكِ كثورٍ أسبانيٍ يعرف سلفاً أنه مقتول كما يعرف أن جسده سوف يلف بالعلم الوطني ويحمل على عربة مدفع ويدفن في مقابر الشهداء -إنهم شهداء، لكن في سبيل ماذا؟ - يقول: أتخبط تحت شمس عينيك نازفاً من كل أطرافي عارياً إلا من قميص كبريائي الاستشهاد بين ذراعي امرأةٍ جميلة هو ذروة الشهادة أدخل الملعب وأنا أعرف أنني لن أخرج منها إلا مضرجاً بالكحل والأساور وحرير مراوح الأندلسيات الشهادة في سبيل الشعر والنساء لا تقلقني فهناك دائماً ثمنٌ لكل شيء ثمنٌ للمرأة التي نحبها ثمنٌ للقصيدة التي نكتبها ثمنٌ للعطر الذي نتوضأ به أنا وحدي تحت سماء عينيك الصافيتين كسماء البحر الأبيض المتوسط أواجه وجهك الجميل وموت الجميل فرحٌ لا ضفاف له وأتلقى مبتسماً طعنات أنوثك القادمة من الجهات الأربع. أنا نزار قباني البدوي والحضاري اليميني والماركسي الواقعي والصوفي الجنسي والعذري الأصولي والانقلابي العربي واللاعربي!! إذا كان هؤلاء يموتون في سبيل الشهوة، في سبيل اللذة، في أحضان امرأة، من أجل مادة، من أجل لحظة عابرة، من أجل قرش أو ريال، من أجل كرسي، من أجل مغنم، فلماذا لا يموت المؤمنون في سبيل مثلٍ أعلى يؤمنون به ويعتقدونه، ويرون أنه سبيلهم إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض؟! كما قال ذلك الأول المجاهد: {قوموا إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض} . الجزء: 62 ¦ الصفحة: 28 عدم الإيمان بالجهاد ردة عن الدين إن إلغاء الجهاد في سبيل الله تعالى ورفضه رفضاً اعتقادياً وعدم الإيمان به ردة عن الدين، وخروج من الملة، لأن الله تعالى فرض الجهاد بآيات محكمات صريحات، وأحاديث متواترات، وأعلنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يقوم للدين قائمة إلا بالجهاد في سبيل الله، وهذا الشرط هو من شروط التطبيع مع اليهود -كما أسلفت- وإلاَّ فأي معنى للاعتراف، وتبادل السفراء والمصالح، وتوقيع المعاهدات على عدم الاعتداء توقيعاً مطلقاً، لا يلتزم بوقتٍ أو زمن، ولا بظرفٍ أو حال، وما ذلك إلا لأنهم يعلمون أنه لا خطر عليهم من الذين يناضلون من وراء المكاتب الفخمة والكراسي الوثيرة، وإنما الخطر عليهم من أولئك الذين يبحثون عن الموت، ويطلبون القتل والشهادة بكل سبيل. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 29 السيف هو الحل إن أبشع لقب يمكن أن يطلق على المسلم اليوم أنه إرهابي، أو أنه ممن يستخدمون العنف أو التحريض، وهذه الألفاظ كلها ألفاظٌ شرعية قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ترهبون! وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التوبة:73] وقال سبحانه لنبيه: {وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] وقال: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65] ولن يغسل العار عن المسلمين إلا القوة التي تخيف العدو وترهبه، كما قال الأول: سأغسل عني العار بالسيفِ جالباً عليَّ قضاء الله ما كان جالبا وقال عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي -وتنسب هذه القصيدة أيضاً للسموأل بن عاديا - قال: تُعيرنا أنَّا قليلٌ عديدنا فقُلتُ لها إنَّ الكِرام قليلُ وما ضرنا أنَّا قليلٌ وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليلُ وما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا بابٌ تسامى للعُلا وكهولُ وإنا لقومٌ لا نرى القتل سبةً إذا ما رأته عامرٌ وسلولُ يقرب حُب الموت آجالنا لنا كرهه آجالُهم فتطولُ وما مات منَّا ميتٌ حتف أنفِه ولا طل منَّا حيثُ كان قتيلُ تسيل على حدِّ الظباة نُفُوسَنا وليست على غير الظباة تسيلٌ إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قئولٌ لِما قالَ الكرامُ فعولُ وأسيافُنا في كل شرقٍ ومغربٍ لها مِن قِراع الدارعينَ فلول الجزء: 62 ¦ الصفحة: 30 الصبر عند الصدمة الأولى روى أنس في المتفق عليه أن الصادق المصدوق -بأبي هو وبأمي- صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الصبر عند الصدمة الأولى} كل المصائب انتظارها أشد من وقوعها، فإذا نزلت نزل معها التخفيف والصبر والتثبيت لمن عرف الله تعالى وآمن به، وأشد المصائب الموت، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجد الشهيد من ألم الموت، إلا كما يجد أحدكم من القرصة} أما الآخرون فيعانون ويتألمون ويتحشرجون ويطيلون، أما الشهيد فيموت في لحظة، ولا يجد من ألم الموت إلا كما يجد أحدكم من القرصة. إذا غامرت في شرف مروم فلا تقنع بما دون النجوم فطعن الموت في أمرٍ حقيرٍ كطعن الموت في أمرٍ عظيم الجزء: 62 ¦ الصفحة: 31 ضعف الإيمان بالقضاء والقدر إن ضعف الإيمان بالقضاء والقدر جعل المؤمنين يقعون نهباً للأسباب والمخاوف والأوهام التي تسيطر على نفوسهم، حتى تشبه بعضهم بالمنافقين الذين يحسبون كل صيحةٍ عليهم، فتجد المؤمن يمشي مشيةً غير عادية، لأنه يتلفت دائماً إلى الوراء، يخاف ويرهب، يخاف من عدوه، ولذلك يكون سيره غير معتدلٍ ولا سليم. وكذلك ضعف الاحتساب والثقة فيما عند الله تعالى، جعل أحدهم لا يتحمل أي شيء، حتى الشوكة يشاكها أو الكلمة الخشنة، أو ما فوق ذلك لا يتحمله، مع أن الأذاياء والبلايا أمرٌ لا بد منه، قال الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا} [العنكبوت:2] وقال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [البقرة:214] إلى نصوصٍ أخرى كثيرة، ليس هذا الموضع موضع بسطها. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 32 الألم يزول بالتكرار والممارسة أيها الأحبة: إن كل الأذاياء والبلايا تزول بالتكرار والممارسة، فإذا كان الشهيد -كما ذكرت لكم قبل قليل- لا يجد من ألم الموت إلا كما يجد من ألم القرصة، فما بالك بما دونه. خذ على سبيل المثال: الوالد الذي تعود أن يضرب ولده، أول مرة قد يؤثر الضرب، لكنه مع الوقت يتحول هذا الأمر إلى شيء لا يؤثر في الولد ولا يخيفه، لأنه اعتاد عليه، فلم يعد يفعل فيه فعلاً، ووجد أن الضرب ليس كما كان يخافه، لكن لو كان الأب يستخدم التهديد بالضرب فقط، لربما أصاب الولد رعب شديد من هذا الضرب الذي يسمعه، ويهدد به دون أن يذوقه أو يجد ألمه. ومثل ذلك أيضاً: الكلام فإن بعض الناس يظن أن أية كلمة توجه إليه أو طعن أو سب أو اتهام، أنه سوف يقلقله ويسهره ويظنيه ويخيفه ويحزنه، ويمنعه من التمتع بحياته، أو القيام بأعماله، لكنه إذا وجد ذلك ثم وجد، ثم تكسرت النصال على النصال، أصبح الإنسان يمتلك قوةً وصبراً غريباً، فلا يؤثر فيه الكلام، ويستوي عنده أن تمدحه أو تذمه، المهم أن تقول كلاماً صحيحاً مفيداً، أما مسألة الجوانب الشخصية، فإنها تنمحي وتزول بالممارسة، وكثرة المعايشة والإحساس بهذه الأشياء. السجن. أول مرة يسجن الإنسان أو يهدد بالسجن، قد يخيفه ذلك، حتى إن بعض أهل التقصير، أو بعض الشباب المفرطين، لو أنهم سجنوا لربما وجدوا أن السجن لا يستدعي أن يتركوا أقل الأشياء، حتى التفحيط أو التطعيس، لا يستدعي أن يترك من أجل السجن، لأنهم جربوا أن السجن ليس بالأمر الذي كانوا يرهبونه ويخافونه، لكن لو كان الأمر يقتصر على مجرد التهديد والتخويف، لربما كان وقعه في النفس أعظم. المقصود من هذا الكلام أن هناك جانباً نفسياً، وهو أن الإنسان قد يخاف الشيء إذا سمع به، لكنه لو عاناه وعايشه ووجده، لأحس أن الأمر أقل مما كان يخاف ويتوقع، والأمور يهون بعضها بعضاً. أخي: كم رأيت ممن لاقى في سبيل المخدرات مثلاً، أو الفجور أو السرقة من الضرب والسجن والتشهير والتعذيب، بل ومن القتل، ومع ذلك فهم لا يزدادون إلا كثرةً وتوسعاً وتنامياً، فكيف تظن أن حملة الشريعة، وحماة العقيدة، وأهل الدين والتوحيد، والذين يطمحون إلى جنةٍ عرضها السموات والأرض، أن تخيفهم مثل هذه الأساليب، أو تحد من عزمهم، أو تقلل من عزتهم. دخل الإمام أحمد رضي الله عنه السجن فضرب، فجاءه رجلٌ كان في السجن، وكان لصاً سارقاً، فقال له: يا أحمد، أنا والله ضربت في السرقة أكثر من أربعمائة سوط، وأنت تُضربُ في سبيل الله، وإنما هو السوط الأول والثاني ثم لا تحس بشيءٍ بعد ذلك، قال الإمام أحمد رحمه الله: فقوى هذا الرجل قلبي. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 33 كل شيء بقضاء وقدر لقد تمنى الرسول -وهو الرسول صلى الله عليه وسلم- الشهادة في سبيل الله، فقال وقد غادر أصحابه صرعى مجندلين يوم أحد تحت الجبل، قال عليه الصلاة والسلام: {والله لوددتُ أني غودرتُ مع أصحابي بحصن الجبل} وفي الصحيحين {لوددت أني أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} إنه لا يموت أحدٌ قبل أجله قط، فالأجل جنة حصينة للإنسان، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] {وسألت أم حبيبة: اللهم متعني بزوجي رسول الله، وأبي أبي سفيان، وأخي معاوية، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لقد سألت الله تعالى لآجالٍ مضروبة} وقال علي رضي الله عنه، وهو يخوض المعركة أي يومٍ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر يقول: أنا بين خيارين، إما أن يكون أجلي قد حضر فلا ينفع الحذر، وإنما يكون أجلي لم يحضر فلا تضرني الشجاعة. وهذا قطري بن الفجاءة، يوقفك على هذا المعنى العظيم بأبياتٍ شهيرة مؤثرة، يخاطب نفسه: أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تُراعي فإنك لو سألت بقاء يومٍ على الأجل الذي لكِ لم تطاعي فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ وما ثوب البقاء بثوبِ عزٍ ويطوى عن أخي الخنع اليراعِ ومن لا يغتبط يسأم ويهرم وتسلمه المنون إلى انقطاعِ وما للمرء خيرٌ في حياةٍ إذا ما عد من سقط المتاعِ إذا كانت حياة ذل وهوان وتأخر وجهل وضعة فليس للمرء فيها خيرٌ. جاءت امرأةٌ للحجاج فقال لها: لأذبحن ابنك، وظن أنه بذلك يهددها، قالت له بلهجة المؤمن الواثق: إن لم تذبحه مات. وجاء رجلٌ آخر، فقال له الحجاج: والله لأحصدنكم حصداً، قال الرجل للحجاج: أتحداك، أنت تحصد والله تعالى يزرع، ماذا تفعل يد الحجاج، إذا كان رب العالمين هو الزارع. إن الإيمان بالقضاء والقدر، ومعرفة أن كل شيء مكتوب عند الله تعالى في لوحٍ محفوظ، لا يتقدم ولا يتأخر ولا يزيد ولا ينقص، إنه يمنح المؤمن ثقةً وصبراً وثباتاً واستقراراً في قلبه، فلا تخيفه الأشياء، والزعازع، والعواصف، والأحداث، والنكبات، والمصائب، كلا! لأنه يعلم أن كل شيءٍ مقدورٌ مكتوب، طعن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال: [[وكان أمر الله قدراً مقدوراً]] . الجزء: 62 ¦ الصفحة: 34 صناع الموت لقد كان المسلمون هم صناع الموت عبر العصور وهذه نماذج من بطولاتهم: الجزء: 62 ¦ الصفحة: 35 عز الدين القسام هذا الرجل المجاهد في فلسطين، والذي ما زال المجاهدون في فلسطين يفتخرون باسمه، وينتسبون إليه، وكتائب عز الدين القسام، هي الجناح العسكري لحركة حماس، تذيق اليهود ألوان الذل والنكال، وتشرد بهم من خلفهم. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 36 الحركات الجهادية في أفغانستان الحركات الجهادية في أفغانستان وفي غيرها، ألقت في قلوب الأعداء الرعب، حتى إن رئيس وزراء بريطانيا في رسالته الشهيرة التي تسربت ونشرت في الصحف العربية والدولية، يقول: لا نريد أن نعطي المسلمين السلاح في البوسنة والهرسك، لماذا؟ قال: حتى لا تتكرر تجربة أفغانستان. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 37 أبو محمد البطال كانت نساء الروم إذا صاح ولدها، تقول له: اسكت، وإلا أتيتك بـ البطال يأخذك، لأن البطال كان شبحاً مخيفاً، خرج -كما يقول ابن كثير في البداية والنهاية في سرية، فقال لهم لما دخلوا القرية: انتظروا عند مدخل القرية حتى أذهب بنفسي، فذهب في الليل، وتسلل في شوارع القرية، فرأى نوراً فأنصت، فإذا طفلٌ يصيح، وإذا أمه تقوله له: اسكت، وإلا دفعتك للبطال، فلم يسكت الطفل، فقالت الأم: خذه يا بطال، فدخل البطال وأخذ الصبي! الجزء: 62 ¦ الصفحة: 38 ابن قادوس أبو عبد الله يقال له: ابن قادوس، هذا الرجل كان رمزاً للبطولة والشجاعة، مخيفاً لأعداء الإسلام، فكان من شجاعته وحسن بلائه أن النصراني إذا سقى فرسه الماء، فأبت أن تشرب، يقول للفرس: مالك؟! هل رأيت ابن قادوس في الماء؟! لأنه حتى خيولهم وفرسانهم تخافه وترهبه. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 39 خالد بن الوليد خالد بن الوليد رضي الله عنه كان خالد نموذجاً في الشجاعة والصبر يقول: ما ليلةٌ تهدى إليَّ فيها عروس أنا لها محب، بأحب إليَّ من ليلةٍ شديدة البرد أصبح فيها العدو في سريةٍ من المهاجرين. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 40 عمر المختار عمر المختار المجاهد في بلاد ليبيا ضد إيطاليا والمستعمرين النصارى الكافرين، ثم ظفروا به دون أن يشعروا، فلما طلبوا منه التحقيق، قال لهم: نعم، كل ذلك فعلته، قاتلتكم وضاربتكم وقتلت منكم، وكان يتكلم بشجاعة وبأسٍ وقوة، ثم قتلوه وعلقوه على مشنقة، فرثاه الشاعر وقال: نصبوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء يا ويلهم نصبوا مناراً من دمٍ يوحي إلى جيل الغدِ البغضاء ما ضر لو جعلوا العلاقة في غدٍ بين الشعوب مودةً وإخاء الله المستعان! يجعلون العلاقة بين الشعوب مودةً وإخاءً هيهات! العلاقة علاقة تنافر وصراع محتدم في كل الميادين، بين كل هذه الفئات، وهذا هو التاريخ يشهد بذلك. كان يقول رحمه الله: لن يستريح الإيطاليون حتى يواروا لحيتي في التراب. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 41 البراء بن مالك وأعظم من ذلك ما فعله البراء بن مالك رضي الله عنه يوم اليمامة، فإنه احتمل في ترسٍ على الرماح، وألقوه على العدو في حديقتهم حديقة الموت، فقاتل وحده، وقتل منهم عشرة، وفتح الباب، وجرح يومئذٍ بضعاً وثمانين جرحاً، ولم ينكر عليه أحدٌ من الصحابة، بل رأوا هذه مغامرة محمودة في سبيل الله تعالى. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 42 طارق بن زياد ذكر الطرطوشي في كتاب سراج الملوك، والقرطبي في التاريخ أن طارق بن زياد، رحمه الله دخل الأندلس في ألفٍ وسبعمائة رجل، وكان ملك تلك البلاد غائباً عن لوذريق، فقاتلهم ثلاثة أيام، ثم كتب إلى رئيسه: أن قوماً وصلوا إليا، ما أعلم أمن الأرض هم أم من السماء؟! وقد قاتلناهم ولا طاقة لنا بهم، فأدركنا بنفسك، فبعث إليه تسعين ألف فارس، وهم ألفٌ وسبعمائة في الأصل، فقاتلوهم ثلاثة أيام، واشتد بالمسلمين البلاء. فقال طارق رحمه الله ورضي الله عنه: إنه لا ملجأ لكم غير سيوفكم، أين تذهبون وأنتم في وسط بلادهم، والبحر من ورائكم محيط بكم؟ وأنا فاعل شيئاً، إما النصر أو الموت! قالوا: فما هو؟ قال: أقصد طاغيتهم ورئيسهم، فإذا حملت فاحملوا بأجمعكم معي، ففعلوا ذلك، فقتل اللوذريق وجمعٌ كبيرٌ من أصحابه، وهزمهم الله تعالى، وتبعهم المسلمون ثلاثة أيام، يقتلونهم قتلاً ذريعاً، ولم يقتل من المسلمين إلا نفر يسير. وبعث طارق رضي الله عنه، برأس اللوذريق إلى موسى بن نصير، في أفريقيا، فبعث بها موسى إلى الوليد بن عبد الملك، بدمشق، ثم سار طارق إلى طليطلة، وسار مغيث الرومي مولى الوليد إلى قرطبة، ففتحوهما، ووجدوا ذخائر وأموالاً عظيمةً لا تحصى. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 43 ألب أرسلان ومن العجيب أيضاً والطريف: أن ألب أرسلان، واسمه محمد بن داود، وقد قتل سنة خمس وستين وثلاثمائة من الهجرة، أنه فعل كما فعل طارق، على ما ذكره الطرطوشي والقرطبي، أنه خرج ملك الروم من القسطنطينية في نحو ستمائة ألف من المتطوعين الروم وغيرهم، فكانوا لا يدركهم الطرف، ولا يحصيهم العد، بل كتائب متواصلة، وعساكر متزاحمة، وكراديس يتلو بعضها بعضاً، كالجبال الشوامخ، لا يراهم أحدٌ إلا أصيب بالرعب والفزع، وقد قسموا البلاد بينهم، هذا له هذه الدولة وذلك له ذلك القطر وهكذا، فأخلّوا بالبلاد، ودخلوها من كل وادِ. وكان الملك ألب أرسلان التركي، كان سلطان العراق والعجم يومئذٍ، وقد جمع وجوه مملكته، وقال لهم: قد علمتم ما نزل بالمسلمين، فما رأيكم؟ قالوا: رأينا لرأيك تبعٌ، وهذه الجموع لا قبل لأحد بها، قال: فأين المفر؟ لم يبقَ إلا الموت، فموتوا كراماً، قالوا: أما إذا سمحت نفسك بذلك، فنفوسنا لك الفداء، وقال لهم: نلقاهم في أول البلاد، فخرج في عشرين ألفاً من الشجعان المنتخبين المختارين، الذين يمكن أن نعبر عنهم أنهم يشبهون ما يسمى: بقوات الكومندوز الآن، فلما سار مرحلة، عرض العسكر فوجدهم خمسة عشر ألفاً، ورجع خمسة آلاف، ثم سار مرحلة ثانية، فلما عرض العسكر، إذا هم اثنا عشر ألفاً، قد تسرب منهم ثلاثة آلاف -كما في قصة طالوت وجالوت. فلما واجههم عند الصباح، رأى ما أذهل العقول وحير الألباب، وكان المسلمون كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، وقال: إني هممت ألا أقاتلهم إلا بعد الزوال، قالوا: ولمَ؟ قال: لأن هذه الساعة لا يبقى على وجه الأرض مسلم إلا دعا لنا بالنصر، وكان ذلك يوم الجمعة، قالوا: افعل رحمك الله، فلما زالت الشمس صلى، وقال: ليودع كل واحدٍ منكم صاحبه، وليكتب وصيته، ففعلوا ذلك، فقال: إني عازم على أن أحمل، فاحملوا معي، وافعلوا كما أفعل فاصطف المشركون عشرين صفاً، كل صفٍ لا يرى طرفه، ثم قال ألب أرسلان: بسم الله، وعلى بركة الله، احملوا معي، ولا يضرب أحدٌ منكم بسيفه حتى أفعل، فحمل وحملوا معه مرةً واحدة، فخرقوا صفوف المشركين، وكسروا صفوفهم، وأحاطوا بملكهم، وانتهوا إلى سرادقه، وهو لا يدري ولا يظن أن أحداً يصل إليه، فما شعر حتى قبضوا عليه. لقد حددوا الهدف، وتحملوا في سبيل ذلك التضحية، فأمسكوا بالملك وقبضوا عليه، ثم قتلوا رجلاً منهم، وعلقوا رأسه على الرمح، وصاحوا قتل الملك، فلما رأى الروم ذلك، ولوا منهزمين لا يلوون على شيء، وحكم المسلمون فيهم السيف أياماً، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، ولم ينج منهم إلا شريدٌ أو طريدٌ أو أسير، وجلس ألب أرسلان على كرسي الملك، في مضربه وفي سرادقه وعلى فراشه، وأكل من طعامه ولبس من ثيابه، ثم أحضر له الملك بين يديه، وفي عنقه حبل يجر به، قال: ما كنت صانعاً لو ظفرت بي؟ قال: أو تشك أني كنتُ قاتلك حينئذٍ؟ قال له ألب أرسلان: أنت أقل في عيني من أن أقتلك، اذهبوا فبيعوه، لأنه كان أسيراً، فطافوا به على جميع العسكر، والحبل في عنقه، وينادى عليه: من يشتري؟ فلا أحد يسومه، ولا ينادى عليه بالدرهم ولا بالفلس، ولا يشتريه أحد، حتى انتهوا إلى آخر العسكر، فإذا رجلٌ معه كلب، فقال: إن بعتموني بهذا الكلب اشتريته فأخذوه وأخذوا الكلب، وأتوا بها إلى ألب أرسلان، وأخبروه بما صنع، فقال: الكلب خيرٌ منه، لأنه ينفع وهذا لا ينفع، خذوا الكلب وادفعوا له هذا الكلب، ثم بعد ذلك أمر بإطلاقه، وأن يجعل الكلب قرينه. قد يقول البعض لم هذا؟ فأقول: ما رأيك لو ظفر المسلمون بـ رادوفان كرادينش، أو أمثاله ممن فعلوا الأفاعيل بالمسلمين، هل يصلح لهم إلا مثل هذه المعاملة، وأن يهانوا ويذلوا ويذاقوا ألوان الهوان، على أذيتهم للمسلمين. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 44 أنس بن النضر قال أنس بن النضر: وقد ذكرت خبره قبل قليل -[[الجنة ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد]] قال سعد ٌ: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدناه قد قتل، ووجدنا به بضعةً وثمانين ضربةً بسيف، أو طعنةً برمح، أو رميةً بسهم، ووجدناه قد مُثِّل به، فما عرفه أحدٌ إلا أخته ببنانه، قال أنس: فكنا نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه، قال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] . الجزء: 62 ¦ الصفحة: 45 بسر بن أرطأة روى أبو الحجاج المزي الحافظ الشهير وغيره، بأسانيد عن إسماعيل بن عياش، عن أبي بكر بن أبي مريم، عن العلاء بن سفيان، قال: غزا بسر بن أرطأه الروم، فجعلت ساقته لا تزال تصاب، كلما بعث أحداً أصيب، فيكمن لهم الكمين فيصاب، فلما رأى ذلك تخلف في مائة من جيشه، فانفرد يوماً في بعض أودية الروم، فإذا براذين مربوطة، نحو ثلاثين برذوناً، وإذا الكنيسة في جانبهم، فيها فرسان تلك البراذين قد تخفوا، وكانوا يعقبونه في ساقته، فنزل عن فرسه فربطه، ثم دخل الكنيسة، فأغلق الباب على نفسه وعليهم، ثم جعلت الروم تتعجب من هذا الفعل، فما استقلوا إلى رماحهم ووصلوا إليها، حتى كان قد قتل منهم ثلاثة، ففقده أصحابه، فطلبوه وبحثوا عنه، فأتوا فعرفوا فرسه، ثم سمعوا الجلبة في الكنيسة، فإذا بابها مغلق، فقلعوا بعض السقف ونزلوا عليهم، وإذا بسر رضي الله عنه ممسكٌ بطائفة من أمعائه في يده، حيث طعنوه في بطنه، وإذا السيف باليد الأخرى، فلما تمكن أصحابه من الكنيسة سقط مغشياً عليه، فأقبلوا عليهم، فأسروا منهم من أسروا، وقتلوا من قتلوا، فأقبلت عليهم النصارى، فقالت: ننشدكم الله، من هذا الرجل؟ قالوا: هذا بسر بن أرطأة قالوا: والله ما ولدت النساء مثله، فعمدوا إلى أمعائه، فردوها في جوفه، لم ينخرط منها شيء، ثم عصبوه وحملوه وعالجوه حتى عوفي. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 46 رسائل إلى صناع الموت الجزء: 62 ¦ الصفحة: 47 ثالثاً: التحرر من سيطرة الحرب النفسية لابد من التحرر من سيطرة الحرب النفسية التي يشنها أعداء الإسلام، ليصوروا لك أن الطرق كلها مسدودة، وأن الأبواب كلها مغلقة، وأنه لم يعد أمام المسلمين إلا الاستسلام، كلا! والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] . المقاييس المادية وحدها لا تكفي، يقول أحد الإخوة في سؤال بعث به إليَّ: كيف يمكن أن يقاتل المسلمون وهم قلة وعدوهم كثير؟ يا أخي: لو أردنا أن نجعل المقاييس المادية دائماً هي الفيصل لنا، لم نصنع شيئاً قط، حتى الدعوة، لو نظرنا في مجال الدعوة، لوجدنا إن إمكانيات المسلمين قليلة، وفي مجال الاقتصاد، وفي المجالات العسكرية أيضاً. إنه يجب أن نعلم أن المسلمين يقاتلون بقوة الله سبحانه وتعالى، الذي يمدهم بالنصر، وينزل عليهم الملائكة، ويمنحهم الصبر متى صدقوا وأخلصوا وجاهدوا في سبيله، ثم إن عليهم مع ذلك أن يبذلوا وسعهم، ويتخذوا كافة الأسباب، ويعدوا العدة، كما أمر الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] قد يقول البعض: أقل عدة نستطيعها تكفي، الجواب لا. يجب أن نعد العدة التي تصدق قول ربنا تبارك وتعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60] لا بد أن يعد المسلمون العدة التي ترهب عدوهم وتخيفهم، حتى من وراء البحار والأمصار والأقطار. نعم الرسول يقول: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} العدو الآن يرهب المسلمين ويخافهم ويقلق منهم، وينصبهم عدواً مختاراً مستقبلياً، والمسلمون أهلٌ لهذه المواقف، وأهلٌ لهذه العداوة، لكن عليهم أن يجمعوا أمرهم، وأن يوحدوا صفهم، ويتحرروا من سيطرة الحرب النفسية، ويدركوا أنهم يستطيعون أن يعملوا حتى من حيث العدد. يا أخي! الآن الإحصائية تقول: المسلمون مليار إنسان، لو فرضنا أنه صح وصفا لنا من هذا الرقم (10%) أو حتى (1%) يكفينا من المسلمين الصادقين. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 48 رابعاً: ضرورة استنفار الطاقات البشرية هذا العدد الكبير الذي يشكل خمس الكرة الأرضية من المسلمين يجب أن يحرر، يجب ألا نسمح لمسلم أن يظل حيادياً في المعركة الكبرى مع الكفر، المعركة الفاصلة بين الإسلام وخصومه من اليهود والنصارى ومن يقف في صفهم؛ يجب ألا نسمح لمسلم أن يظل محايداً، أو معتزلاً، أو بعيداً، أو منفصلاً، يجب أن نجر المسلمين بكافة الطرق والأسباب إلى أن يعوا دينهم، ويتحمسوا له، ويدركوا خطط الأعداء، ويشاركوا في معركة الإسلام الكبرى. استنفار الطاقات البشرية بالدعم المادي، وبالتبرع، وبالدعاء، وبتبني القضايا إعلامياً، وبالنزول للميدان، وبالمشاركة، وبالدعوة، وبأي سبيل يمكن أن يساهم فيه الإنسان. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 49 خامساً: ضرورة التعبئة العامة للمسلمين إن هناك قنواتٍ كثيرة تساهم في تخدير المسلمين وشغلهم عن معاركهم الحقيقية، فالكرة تساهم في ذلك، والتلفاز يساهم في ذلك، والإعلام يحاول أن يشغل الناس عن معركتهم الحقيقية، فيجب أن يكون في المقابل تعبئة عامة، يتولاها رجال الإسلام ودعاته، وخطباء المساجد، وأهل العلم، وأهل الدعوة، وأهل الإصلاح من خلال المنابر، ومن خلال الصحف والمجلات، والكتب، والأشرطة، والدروس والمجالس، أن يتولوا تدريس الناس كتاب الجهاد، وآيات الجهاد، وأحاديث الجهاد، وأحكام الجهاد، وآداب الجهاد، وأن ينفخوا في نفوسهم روح الشجاعة والكرامة، والجهاد ليس معناه الجهاد بالسيف فحسب، الجهاد يكون بالقرآن، الجهاد بالعلم، الجهاد بالدعوة، الجهاد بالأمر بالمعروف، والجهاد بالسيف هو ذروة سنام الإسلام. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 50 سادساً: ضرورة الترفع عن الأحقاد والمصالح الشخصية والضغائن الذاتية فالجهاد كله ثأر، ولكن لله تعالى، وغضب ولكن لدينه. سأثأر لكن لربٍ ودين وأمضي على سنتي في يقين فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين فلا يجوز أبداً، أن يتلطخ بشيء من أوضار الدنيا، أو مقاصدها، أو حظوظها، فإن ذلك مما يقلل شأنه ويذهب ثمرته. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 51 سابعاً: ضرورة اليقظة إنكم صناع الموت، فلا يجوز أن يتحول الموت إلى نومٍ عميق. جاء معاوية بن خديج رضي الله عنه، يبشر عمر بفتح بلاد الإسكندرية، في وقت القيلولة، فهم أن يطرق الباب، ثم تركه وذهب إلى المسجد، فعلم عمر رضي الله عنه فقال أين معاوية؟ ألم أسمع أنه قدم؟ قالوا: بلى هو في المسجد قال: علي به مالك يـ ابن خديج؟ قال: يا أمير المؤمنين، ظننت أنك قائل أي ظننت أنك نائم، فضحك عمر وقال: هيهات! إن نمت بالنهار ضيعت رعيتي، وإن نمتُ في الليل ضيعت نفسي. لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه هم يكاد حشاه يحطم الضلعا إن النوم أخو الموت، فعليك يا صانع الموت أن تتحلى باليقظة، حتى تكون صانعاً حقيقياً، عليك أن تتحلى باليقظة، فتدري ماذا يخطط لك أعداؤك، وماذا يريدون، إنهم كما -كان يقول عز الدين القسام رحمه الله تعالى في خطبته الشهيرة-: "يريدون أن يأخذوا منك دينك ومالك وعرضك وبلدك ويجعلوك بلا شيء، أسيراً بين أيديهم، خادماً ذليلاً مطيعاً لهم، فعليك أن تغضب لربك ودينك، فإن لم تفعل فعليك أن تغضب لأمتك ولنفسك ولمستقبلك، ولتاريخك. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 52 أولاً: نزع فتيل الخوف قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] انزع فتيل الوهم من عقلك وقلبك، انزل للميدان لتكتشف الحقيقة، أنك تستطيع أن تصنع الكثير، وأن الخوف سترٌ رقيق، إذا خرقه الإنسان لم يعد يخافُ إلا الله جل وعلا، وما أذل الناس ومنعهم من العمل الجاد والدعوة والجهاد والصبر إلا الخوف. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 53 ثانياً: وحدة الصف قال الله جل وتعالى للمقاتلين: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] فلا يغوينكم الشيطان، فيشعركم بأن التفرق لا بد منه، وأن الاجتماع مستحيل، وأن الآراء شتى، إنه يجرح القلب كثيراً أن تسمع -مثلاً- أن المسلمين في كشمير، يقاتلون تحت أكثر من أربعين حزباً إسلامياً، بلدٌ إسلاميٌ قليل صغير محدود، يواجه دولة كبرى كالهند، سكانها بمئات الملايين، تملك السلاح النووي، وتملك الدعم الدولي، ومع ذلك لم يفلح المسلمون أن يوحدوا صفهم وكلمتهم على قيادةٍ واحدةٍ راشدة، تقودهم إلى بر الأمان والنجاح والنصر. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 54 قضية الاختلاط هاهنا قضية، حدثني عنها كثير من الإخوة خلال هذه الأسبوع والذي قبله، وهي قضية محلية، لكن لا بأس أن نشير إليها، وهي قضية تواجد أعداد كبيرة من النساء والأسر والعوائل على الخط الدائري الشرقي تحت الأضواء والأنوار، وبصورة متزاحمة، بعضهم قريبٌ من بعض، ويوجد كثير من الشباب والفتيات، وقد يحصل ألوان من الاختلاط والمخالفات التي تحتاج إلى تنبيه وإلى تحرك. هذا الأمر أتاني من عدد من الإخوة الذين رأوه عياناً وشاهدوه، بل ذهبتُ بنفسي، وشاهدتُ جزءاً من ذلك كما ذكروا ووصفوا، يتطلب منا تحركاً سريعاً على كافة المستويات: أولاً: أدعو الإخوة الشباب إلى أن يذهبوا إلى ذلك المكان مجموعات، اثنين وثلاثة، ويمروا على الناس، فيسلموا عليهم، ويوزعوا عليهم الكتب والأشرطة، أحياناً لا يحتاج الأمر إلى كلام، ذلك الإنسان الذي قد حرك الجهاز على أغنية لا يحتاج إلى أن تقول له: وقف الأغنية، بمجرد أن تسلم عليه وتعطيه شريطاً أو كتاباً سوف يعرف الرسالة ويدرك ويستحي ويقدر، وثق ثقة تامة أنه سوف يستبدل شريط الغناء بالشريط الذي أعطيته ووضعته في يده، وقد لا يحتاج الأمر إلى أكثر من ذلك، ثم إن وجود هذا العنصر من الشباب المتدين سوف يكون ضمانة وحماية من أن يتطور الأمر إلى صورة أشد مما هو عليه في واقع الحال الآن ثم القيام بإنكار المنكرات التي يظهر للإنسان أنها، لا تزال مع محاولة استخدام الأساليب الهادئة والبعيدة عن الإثارة، فإذا تكرر المنكر، فيمكن أن يسعى الإنسان في إزالته بقدر المستطاع. ثانياً: على الإخوة القائمين في الهيئات، أن يكون لهم وجود ولو رمزياً في هذه المواقع، حتى يُطمأن، إلى أنه لا توجد منكرات علانية، ولا يلزم أن يباشروا مع الشباب بصورة دائمة. ثالثاً: على أولياء الأمور الذين يذهبون إلى هناك أن يختاروا لأهلهم المكان المناسب، ليس ضرورياً أن يذهب الإنسان إلى مكان مزدحم فيه الشباب المراهقون، وفيه الأصوات، وفيه العلاقات، وقد يذهب الأب وينشغل، أو يكون بعيداً، وتبقى البنات، ويحدث من جراء ذلك اختلاط وعلاقات وتبادل أوراق ورسائل وغير ذلك، وربما يكون همسٌ وكلامٌ وحديث وأمور يجر إليها الشيطان، ومع ثقتنا بالشباب، فإننا لا نثق بالشيطان الذي يؤزهم ويحرضهم. رابعاً: على الدعاة والخطباء معالجة هذا الأمر وغيره، مثلما يجري في الحديقة المجاورة للمركز الحضاري، حيث يوجد لون من الاختلاط، يحتاج إلى عناية وإلى أن يذهب الشباب، حتى لو ذهب الشاب بزوجته محجبة ومصونة، ومعها بعض الأشرطة وبعض الكتيبات، فوزعت ودعت وأمرت ونهت؛ لأننا جربنا أن الشكوى لا تفيد ولا تجدي في كثير من الأحيان، وربما تبوء بالفشل، وربما يكون هناك اعتبارات كثيرة. إذاً ينبغي أن ننزل إلى الميدان كما ذكرنا، ونساهم في إنكار المنكر، وبصورة مباشرة، وبطريقة لبقة تجعلنا نكسب أمرين معاً، نكسب الناس بحسن ظنهم وحسن تصورهم، ونكسب إزالة المنكر، وأعتقد أن بعض هذه الأشياء تنفع حتى في إزالة المنكرات العامة والقضاء عليها. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين. الجزء: 62 ¦ الصفحة: 55 حديث الهجرة تحدث الشيخ عن قصة الهجرة (الحدث الكبير) مبتدئاً بهجرته عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر الصديق، وتحول دار الهجرة إلى المدينة بدلاً عن الحبشة، وترك الرسول صلى الله عليه وسلم لأرضه ووطنه مكرها، ثم تعرض لانتصار الدعوة وطول عمرها وقوتها على مر الزمن، وأن الإسلام يصلح للناس كافة وله مستقبل زاهر، ثم تكلم عن قصة ذات النطاقين، والزواج بعائشة، وحرص الصديق على بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم حياً، وامتلاك الدعاة للعمال، ودور المرأة في الدعوة، ثم تحدث عن الدين والأرض وأن الوطنية تكون للأرض التي يسود فيها الإسلام، وتعرض لأهمية السياحة للدعوة، ثم تطرق إلى دليل الهجرة وأهمية اختيار الأقل عداوة عند الضرورة، وتعليم المسلمين حتى يكون منهم خبراء في كل المجالات، ثم تكلم عن الجنة وازدراء كل شيء من أجلها، ثم نبه على أهمية النية الصالحة، وتوجيه الدعوة إلى كل الناس، وشمولية الإسلام. وختم بذكر التاريخ الهجري. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 1 الشوق إلى التذاكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أيها الأحبة الكرام: هذه الكلمة، تنعقد في الجامع الكبير بينبع في هذه الليلة -ليلة الثلاثاء- الثالث والعشرين من شهر الله المحرم من سنة 1414هـ وهي بعنوان حديث الهجرة. أيها الإخوة: جئت إليكم تحفزني الأشواق إلى اللقاء بكم واللقاء بأهل هذا البلد الكريم شيوخاً، وشباباً، والتمتع برؤيتهم، ومجالستهم، ومؤانستهم، والحديث إليهم، لم آتكم متحدثاً أيها الأحبة، ولا لأقول لكم كلاماً تسمعونه لأول مرة، فإن ما عندي بضاعة مزجاة، ولكنني أتيت معبراً عن أطيب المشاعر تجاهكم. إنها ليلة من الأنس فاضت بمعاني الإخاء بين القلوب والتقت أعين على غير ميعاد كلقيا الحبيب وجه الحبيب فلكم أجمل التحية مني وسلام لكل عبد منيب ينبع المجد من عيون تروي ظمأ الأرض بالندى والطيوب إن حديثي إليكم ينتظم عدة موضوعات. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 2 جلالة الهجرة النبوية ثانياً: الحدث الكبير: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40] . هذا الموكب المتواضع، الذي لا يزيد على ثلاثة أفراد، أحدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والثاني صاحبه في الغار، الذي خلد الله ذكره، ورفع قدره، فأشار إليه في القرآن {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ} [التوبة:40] . والثالث: دليلهم عبد الله بن أريقط، هذا الموكب المتواضع، قد وقف التاريخ كله مشدوهاً، متجهاً، قبالة هذا الموكب، يرقبه، وينظره، ويسجل أحداثه لحظة فلحظة، وساعة فساعة، إنه موكب كبير مهيب، لقد نسي الناس كل الأحداث الكبرى، والمعاصرة لذلك الحدث، فنسوا المعارك الطاحنة، ونسوا الدول الكبيرة، ونسوا التغيرات الجذرية التي طرأت على أمم الأرض، وحضارتها، ليرقبوا ويدوّنوا ويسجّلوا في ذاكرتهم هذا الحدث، وهذا الخبر، خبر ذلك الشريد الطريد الذي غادر مكة فغير التاريخ بإذن الله العزيز الحكيم. يا طريداً ملأ الدنيا اسمه وغدا لحناً على كل الشفاه وغدت سيرته أنشودة يتلقاها رواة عن رواه ليت شعري هل درى من طاردوا عابدو اللات وأتباع مناه هل درت من طاردته أنها أمة معبودها شاهت وشاه طاردت في الغار من بوأها سؤدداً لا يبلغ النجم مداه طاردت في البيد من شاد لها دينه في الأرض جاهاً أي جاه سؤدد عالي الذرا ما ساده قيصر يوماً ولا كسرى بناه إن حديث القرآن عن الهجرة، جاء على لب القصة وأصلها، واستوعب أحداثها بهذه الكلمات اليسيرة، وهذه الآية التي ذكرت خبره صلى الله عليه وسلم منذ أن آذن الله تعالى بنصره، فأخرجه الذين كفروا، نعم أخرجوه لينصره الله عز وجل إلى أن أوى إلى الذين آووه ونصروه، فقالوا: تعال يا رسول الله إلى حيث العزة والمنعة. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 3 رواية الإمام البخاري لحادث الهجرة وكل روايات السيرة النبوية، وأحداثها، وقصصها، لا تعدو أن تكون تفصيلاً لما أجمل في القرآن الكريم، ولهذا فلا حرج علي وأنا أحدثكم اليوم خبر ذلك الموكب الكريم العظيم، لنقف ملياً عند دروسه، وعبره، وأحداثه، فلنستمع إلى رواية واحدة فقط -رواية الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه لهذا الحدث: {عن عائشة رضي الله عنها قالت أم المؤمنين: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة، وعشياً فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، فلقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في أرض الله، وأعبد ربي عز وجل، قال له ابن الدغنة: يا أبا بكر إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق -رجل بهذه الصفات لا يخرج من بلده، ولا ينبغي أن يخرج، وأمة تلفظ أمثال هؤلاء الكبراء، الفضلاء، أهل التقوى، والعلم، والمجد، والإيثار، أمة قد تودِّع منها، ولهذا أدرك هذا الجاهلي بحسه أن مثل ذلك غلط، لا يجوز أن يكون، فمثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج- ارجع واعبد ربك ببلدك، وأنا لك جار، أحميك ممن أراد بك سوءاً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف في أشراف قريش وفي نواديهم يقول لهم: إن أبا بكر لا يخرج! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! أنا له جار، فلم تكذب قريش بجواره، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره -فليصل في بيته- ويقرأ ما شاء من القرآن، ولكن لا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا} . لقد رجعت قريش خطوة واحدة إلى الوراء، وقالوا: نقبل الآن مضطرين أن يسلم أبو بكر، وأن يظل مقيماً في قريش، ولكننا لا نريده أن يدعو إلى دينه، ولا أن يستعلن به، والخوف ما هو؟ الفتنة (نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا) فقال ذلك ابن الدغنة لـ أبي بكر رضى الله عنه {فلبث أبو بكر مستخفياً يعبد ربه عز وجل في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير بيته، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً في فناء الدار بالساحة المحيطة بمنزله، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن ويجهر به، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك عينه إذا قرأ القرآن} كأنما كانت قريش تقرأ الذي سيقع ويحدث فعلاً، كان الناس ينقذفون إلى أبي بكر، لأن لهذا القرآن سلطاناً على القلوب، ولأن لدعوة الحق سلطاناً على النفوس، والفطرة تستجيب لها، وتتجاوب معها، فحصل ما خافوا وخشوا، ولذلك أفزعهم هذا: {فذهبوا إلى ابن الدغنة، وقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد تجاوز ذلك، وابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا على نسائنا وأبنائنا فانهه عن ذلك، فإن أحب أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فاسأله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: لقد علمت الذي عاقدت لك عليه -أنت تعرف يا أبا بكر ما هو العقد والعهد الذي بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فقال له: أبو بكر -رضى الله عنه-: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كان مقيماً بمكة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: إني رأيت دار هجرتكم -وقد يكون رآها في المنام، عليه الصلاة والسلام، أو في غير ذلك -هي أرض ذات نخل بين لا بتين} أي: حرتين وهي الحجارة السود التي تحيط بالمدينة فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة الصحابة الذين كانوا هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- للرحيل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {على رسلك -انتظر- فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم. قال: فحبس أبو بكر نفسه على ذلك، حتى يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- وهو علف معروف للمواشي، أربعة أشهر وهو يعلفها} . قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: {فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، -إذاً في الأمر جديد- فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ -أي: ما جاء بك إلا أمر- قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: أخرج مَن عندك -مَن عنده من زوجته وبناته وأولاده- فقال له: إنما هم أهلك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله -أتأذن لي أن أصحبك، وأرافقك في هذا المسير قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم} . وهنا يقول ابن إسحاق: قالت عائشة رضي الله عنها: {فوالله ما علمت أن أحداً كان يبكي من غلبة الفرح إلا يومئذٍ} فإن أبا بكر رضي الله عنه بكى من غلبة الفرح عليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأنه سوف يصحبه في رحلة المخاطر حيث العالم كله يحاربهم، ويرميهم عن قوس واحدة، وحيث تضع قريش جائزة ضخمة لمن يأتي برءوسهم، أو يأتي بهم أحياءً أو أمواتاً. {الصحبة يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. آخذها بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن جهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بـ ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكانوا فيه ثلاثة أيام يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي: ذكي حاذق فطن- فيدلج من عندهما بالليل في السحر آخر الليل، فيصبح مع قريش بمكة، كما لو كان قد بات بمكة ليلته كلها، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا رجع وأخبرهما به، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر غنمهما، ثم يريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو اللبن- ويخبرهما عبد الله بن أبي بكر بالخبر، وتمشي الغنم على جرته فتمحوها، ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط وكان هادياً، خريتاً -أي: بصيراً بالطريق- وقد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد أمناه، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فلما أصبحوا الليلة الثالثة، انطلق معهما عامر هو والدليل فأخذ بهم طريق الساحل} حتى وصلوا إلى المدينة. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 4 النقلة البعيدة لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة البلد التي نشأ فيها، وأحبها، وعرف فضلها، ولذلك خرج عليه الصلاة والسلام وقلبه يلتفت إلى تلك البقاع الطيبة الطاهرة، فلما غادرها وقف بالحزورة، وهو مكان قريب من البيت العتيق، ثم التفت إلى مكة، وقال: {والله إنك لخير بلاد الله، وأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} والحديث رواه الترمذي والحاكم وغيرهما عن عبد الله بن عدي بن الحمراء، وقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه وهو حديث صحيح. يخرج النبي صلى الله عليه وسلم فيطيب الرب عز وجل قلبه، ويدله على أنه خرج من مكة اليوم شريداً طريداً، وسوف يعود إليها غداً فاتحاً منصوراً مظفراً: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] قال المفسرون: في هذه الآية بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يعود إلى مكة قاهراً لأعدائه، منتصراً عليهم، وهذا قول الأكثرين كما قال القرطبي: وهو مذهب جابر، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وغيرهم من المفسرين {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] أي: مرجعك إلى مكة مرة أخرى، كما خرجت منها، وقيل المعنى: لرادك إلى الجنة، وقيل المعنى: لمتوفيك بعدما تستوفي عمرك في هذه الدنيا. خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة مكرهاً، بسبب الحصار على دعوته، وبسبب المضايقة لأصحابه، وعاد إليها بعد ثمان سنوات فحسب، عاد إليها في كتيبة خضراء من المهاجرين والأنصار، لا يرى منهم إلا حدق العيون، يُفَدُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، وآبائهم، وأمهاتهم: كذبتم وبيت الله نُبزى محمداً ولما نقاتل دونه ونناضل ونسلمه حتى نصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل نعم جاء نصر الله والفتح، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يدخلون في دين الله أفواجاً، كما وعد ربه عز وجل وفي هذا وقفة: الجزء: 63 ¦ الصفحة: 5 بشائر النصر تبرق يوم الأحزاب ومثل هذا تماماً ما حدث يوم الأحزاب، حين جاءت الأحزاب من كل مكان، وتحالفت كل القوى العظمى في ذلك الوقت على المسلمين. والمسلمون كانوا قلة في المدينة، وحوصروا حصاراً اقتصادياً وعسكرياً، وظن الناس بالله الظنون، وارتاب المنافقون، حتى قال قائلهم: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب في قضاء حاجته، ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر. وهنا تأتي البشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة، وبرقت قال: أضيئت لي قصور بصرى، وقصور صنعاء، فأخبر أصحابه أن آية النصر تتجلى في هذا الموقف الذي تحالف الناس فيه ضد الدعوة، إنهم لم يتحالفوا ضدها إلا لأنها تملك القوة، وتملك التهديد، وتملك المستقبل، ثم جاء الوعد من الرب عز وجل: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] . إن الحاجة ماسة في أوقات الضعف -ضعف المسلمين- وتكالب أعدائهم عليهم، ووجود ألوان مما يظنه الناس هزائم تعانيها الأمة الإسلامية في أكثر من موقع، إنهم أحوج ما يكونون إلى تأكيد ثقتهم بوعد ربهم، ويكفي أن تتلى عليهم آيات الله عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] . الجزء: 63 ¦ الصفحة: 6 عمر الإسلام أما هذا الدين فقد مضى عليه اليوم ألف وأربعمائة سنة، وعدد المتحمسين لهذا الدين في ازدياد، انظر إلى عدد رواد المساجد، تجد أن العدد يزداد يوماً بعد يوم، بل انظر إلى عدد الذين يدخلون في الدين، تجد قبائل بأكملها من الوثنيين، أو النصارى، في أفريقيا، وإندونيسيا، أو غيرها من بلاد الله تدخل في دين الله عز وجل ليس فقط أولئك الذين لا يملكون العلم هم الذين يدخلون في الدين، بل حتى في أرقى مراكز العلم، في أوروبا، وفي أمريكا، أطباء، وعلماء، وخبراء، وساسة، على أعلى المستويات، يعلنون دخولهم في الدين. وسفير ألمانيا في بلاد المغرب، خير مثال على ذلك (هوفمان) الذي أخرج كتابه الجديد الشهير: الإسلام هو البديل، والذي تكلم فيه عن انهيار الحضارة الغربية، وقدم فيها النموذج الإسلامي، كبديل عن تلك الحضارة الزائلة الآيلة للانهيار. ومثله عدد من سفراء الدول الغربية، وعدد من رجالتها، وساستها، وعلمائها، وخبرائها، يعلنون دخولهم في هذا الدين، إذ أن هذا الدين هو دين الله عز وجل وهذا سر المعجزة، فهو يصلح للأعرابي في صحرائه، كما يصلح للطبيب في مختبره أو عيادته، كما يصلح للسياسي في أروقته، كما يصلح للرجل في معمله، كما يصلح للمرأة في عقر دارها، إنه الدين الذي يلائم عقول الجميع ونظراتهم، ويلبي كل مطالبهم الفطرية الجبلية. إن أولئك الفتية الذين تخرجوا على يد النبي صلى الله عليه وسلم، وخرجوا من صحرائهم لأول مرة، لا يزالون معلماً تتخرج على ضوئه الأجيال بعد الأجيال، لقد جعل منهم الوحي رجالاً خير من عرف الناس، ومشى الدين فيهم مشي العافية في المريض المضنى المقعد، وفي لمحة بصر تحولوا من رعاة الشاء والغنم، إلى قادة العصور وسادة الأمم، تحولوا إلى فرسان النهار رهبان الليل، تسمع بالليل بكاءهم بالقرآن كدوي النحل، وتسمع بالنهار صليل سيوفهم، كما قال الشاعر: مشى الوحي فيهم مشية البرء في الضنى فأي فتى من سحره غير طافح فطاروا إلى الدنيا بدين محمد وقد فتحوا الدنيا كلمحة لامح كأن الرياح الذاريات مطيهم يلفون وجه الأرض لف الوشائح تجوز بهم رمضاء كل تنوفة سوابح خيل تهتدي بسوابح ففي كل بر منهم زحفُ زاحفِ وفي كل يمٍّ منهم سبحُ سابح كأن دوي النحل مثل دويهم إذا ارتفعت أصواتهم بالفواتح يجول بهم إسلامهم كل جولة ويلقي بهم إيمانهم في الطوائح فما الموت في الإيمان مرٌ مذاقه ولا الحتف في الإسلام صعب الجوائح فقادوا على أرماحهم كل مصعب وراضوا على أسيافهم كل جامح فلا قيصر يزهو على الشام تاجه ولا تاج كسرى كالنجوم اللوامح تناثرت التيجان تحت خيولهم وأهوى على أقدامهم كل طامع فأين عيون الحق تشهد أمة تئن أنين الطير من كل ذابح تعالت فطاحت فاستكانت فأصبحت لإذلالها يلهو بها كل مازح فلا ملكها في الأرض مشتبك العرى ولا عيشها في الناس عيش الصحائح على مثلها من ذلة بعد عزة تفيض جفون بالدموع السوافح فهل صيحة في العرب تبعث ملكهم ألا ربما هبوا لصيحة صائح إن هذه المسافة التاريخية الهائلة التي قطعها الإسلام وهو يكتسب في كل يوم مواقع جديدة، وانتصارات جديدة، على رغم الضعف الذي ألم بأهله، وحملته، إن ذلك كفيل بأن يطمئن القلوب، ويهدئ النفوس، ويقطع للناس جميعاً أن المستقبل لهذا الدين اليوم، كما كان له المستقبل بالأمس، وأن كلمة الله تعالى ماضية على الناس في هذا الزمان، كما هي ماضية في كل زمان، وأن الله تعالى قال في محكم التنزيل: {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور:55] . الجزء: 63 ¦ الصفحة: 7 قصة سراقة بن مالك في الهجرة ودلالتها إن مما يجدر ذكره ما رواه سفيان عن أبي موسى عن الحسن، وهو حديث مرسل، وقد ذكره الحافظ ابن عبد البر، وابن حجر وغيرهما من أهل السير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لحقه سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، يبحث عن أعطية قريش وهديتها لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فساخت قوائم فرسه في الأرض، فبعد ذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد طلب كتاب الأمان: كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟! فقال سراقة: كسرى بن هرمز؟! قال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم كسرى بن هرمز -وحدث هذا فعلاً- فجاءت التيجان إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أين سراقة؟ فجيء به، فأخذ التاج بيده، وألبسه سراقة، وقال: الحمد لله الذي سلبها كسرى بن هرمز، وألبسها أعرابياً من بني مدلج} إنها أحلام الأمس، ولكنها حقائق اليوم وقد جاءت القصة في الأصل في صحيح البخاري: {أن سراقة طلب من النبي صلى الله عليه وسلم كتاب أمان فكتبه له} . إنها الثقة بالله عز وجل ووعده بمستقبل هذا الدين في غمرة الأحداث، وفي أشد الأوقات، وأعظم الأزمات، فقد كان الناس يعتقدون أنه ربما يقبض على هذا النبي الكريم في أي مكان، وينتهي تاريخ الدين، ولكن الأمر عند الله تعالى كان على غير ذلك. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 8 صمود الإسلام أمام المحن إن دعوة الإسلام دعوة تاريخية، عمرها طويل، ولم يكن انتصارها ذلك الانتصار الموقوت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، بل انتصار الأبد وانتصار الدهر، وعلى رغم مضي ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة على دعوة الإسلام، على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنها تظل طيلة هذه السنين قائمة، قوية، تصارع العوادي، وتقاوم الأحداث. وهاهو الإسلام اليوم في قلب أوروبا، يقض مضاجع الغربيين، فيتواطئون ضد حفنة من أبناء الإسلام في أرض البوسنة، ويسلمونهم إلى عدوهم بلا سلاح، على رغم أن وسائل الإعلام الغربية كلها: مسموعها، ومرئيها، تعرض صباح مساء، لتلك الجرائم البشعة، وهذه المآسي المفجعة، وهذه الوجوه التي قد أمضتها الجراح والآلام، مآسي الكبار، مآسي العجزة، والشيوخ، والنساء، والأطفال، مآسي الجوع، والفقر، والمرض، ومع ذلك كله يتواطأ هؤلاء ضد حفنة من أبناء الإسلام، وأوليائه، لماذ1؟! إنهم لا يتآمرون ويتحالفون إلا على الأقوياء، أما الضعاف فيمكن هزيمتهم بأقل من ذلك، نعم يكفي قوة للإسلام أن بلداً نائياً كذلك البلد، لم يكن جمهور الناس يعرفون أن فيها مسلمين أصلاً، ولا يدرون أن فيها مساجد تاريخية أعمارها أحياناً تزيد على ستمائة أو سبعمائة سنة، وأن فيها ملايين من أهل لا إله إلا الله، وإن كان حيل بينهم وبين معرفة حقيقتها في كثير من الوقت. يكفي في قوة الإسلام أن قوماً كهؤلاء عزلاً من كل سلاح، يظلون على ما يزيد على عشرين شهراً يقاومون رابع جيش في العالم، مدججاً بأقوى الأسلحة، وهم يواجهون الرصاص بصدور عارية، ويصبرون على رغم اللأواء التي لم يكن أحد يتوقع أن يصبروا عليها شهراً، أو بضعة أسابيع. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 9 الإسلام في الجمهوريات السوفيتية وها هو الإسلام في جمهوريات آسيا الوسطى اليوم ينبعث من وسط الركام، بعد أن ظن الظانون أنه قد انطمس وانتهى، وإذا المسلمون في طاجكستان، أو أوزبكستان، أو سمرقند، أو بخارا، أو وادي أفرغانة، وفي تلك المدن التي عرفها التاريخ، وخرجت أكابر العلماء، في الحديث والتفسير، والفقه، واللغة، والبلاغة، وغيرها، إذا بتلك البلاد التي تحن من جديد إلى دينها، وترجع إلى أصولها، وإذا بالمآذن ترتفع في سمائها، وإذا بصوت التكبير يعلو في أجوائها، وإذا بالحجرات السرية تستطيع بضعفها أن تقاوم كيد الشيوعية الذي استمر أكثر من سبعين سنة. نعم. لقد حفظت تلك الحجرات للشباب إيمانهم، وعقيدتهم، بل ولغتهم، والبارحة كان معي أحد الشباب من مدينة سمرقند، فإذا به يتكلم العربية بطلاقة، وهو حديث عهد بهذه البلاد، فسألته كيف عرفت اللغة العربية؟ قال: تعرفتها وتعلمتها من شيخي الذي كان يدرسني في الحجرات، وكم لبثت في الحجرات؟ قال: أكثر من ثلاث سنوات. نعم. لقد درس العقيدة الصحيحة، من كتب السلف، ودرس الفقه، ودرس اللغة العربية، ودرس أصول الإسلام، في الحجرات، التي ربما يظل الطالب فيها ثلاث سنوات، دون انقطاع وسط ركام من المخاوف، من أجهزة المخابرات الـ K. G. B التي تملك أكثر من ثلاثة ملايين عنصر من أولئك الرجال، الذين دربوا على أنه لا كرامة لأحد، وأنهم مستعدون أن يبطشوا بأقرب قريب، ومع ذلك ظل الإسلام يتأبى على محاولات الصهر والإزالة والسحق، فإذا أتيحت له أية فرصة ظهر من جديد أقوى ما كان. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 10 عمر الدعوات الباطلة إن أعمار الحركات الأيدلوجية البشرية الأرضية، أو الدعوات العلمانية، التي يختلقها الناس، مهما طالت فهي قصيرة، فالشيوعية -مثلاً- لم تزد في عمرها على سبعين سنة، ولم يشفع لها أن تكون تملك ما يزيد على ثلاثمائة ألف رأس نووي، أو ثلاثة ملايين عنصر أمني، أو أكثر من هذا العدد من رجال الجيش، أو تملك الأجهزة المتطورة في مجال التسليح وغيره، لم يشفع لها ذلك كله، لأنها، كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار. أما الرأسمالية وريثة الشيوعية، والتي أخذت تركتها من بعدها، والتي تهيمن على العالم الغربي، فهي تعاني اليوم من الأزمات والأعراض نفسها، أزمات الاقتصاد التي سقطت بسببها الشيوعية، تنتقل اليوم إلى الغرب، في أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، والصين، واليابان، وغيرها، فهي تعاني من أعراض الكساد، والتضخم، والبطالة، وغير ذلك من الأمراض التي تفتك بها، وتوشك أن تكشف عوارها. فكل الدعوات البشرية العلمانية، والشيوعية، والرأسمالية، والقومية، والاشتراكية، كلها دعوات بشرية لا تملك أنبياء، ولا تملك أولياء، ولا تملك عمراً، تقاتل عشر سنوات، أو عشرين، أو أقل من مائة سنة، ولكنها بعد ذلك تنتهي، وتنمحي، وتنقل إلى مزبلة التاريخ. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 11 دور الصدِّّيق وأهل بيته في الهجرة بيت الصديق: إنه بيت أبي بكر رضي الله عنه فهو، وزوجه، وولده، ذكورهم وإناثهم، كلهم مجاهدون في الدعوة، مستميتون في حماية النبي عليه صلوات الله تعالى وتسليمه. روى أحمد والحاكم وابن إسحاق بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: {لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج معه أبو بكر، احتمل أبو بكر ماله كله، وكان ماله ستة آلاف دينار، فأخذه أبو بكر رضي الله عنه كله، فدخل عليهم أبو قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه وكان شيخاً كبيراً فقد بصره من العمى فدخل عليهم، وقال لهم: والله إني لأرى أبا بكر قد فجعكم بماله، كما فجعكم بنفسه -فذهب بنفسه وذهب بما يملك من المال، وهو يتوجع ويتألم من هذه الحال- فقالت له أسماء: كلا يا أبت! لقد ترك لنا أبو بكر خيراً كثيراً، فقال: أريني، فأخذت أحجاراً ووضعتها في الكوة، ووضعت عليها ثوباً، وأمسكت بيده وقالت: انظر، فلما لمس هذه الحجارة ظنها ذهباً وفضة قد تركها أبو بكر لأولاده، فقال: لئن كان ترك لكم ذلك فقد ترك لكم خيراً كثيراً} نعم هذه الروح التضامنية من أسماء رضي الله عنها تريد أن تطيب خاطر جدها، وتقنعه بأن والدها ترك خيراً كثيراً، فتلجأ إلى هذه الحيلة، وهذه التورية، التي ظن بها أنه قد ترك لهم ذهباً وفضة وإنما ترك لهم الله ورسوله. أسماء نفسها كانت تسمى ذات النطاقين، وقد عُير بها عبد الله بن الزبير فقال: وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها كيف تعير بأنك ابن ذات النطاقين؟ أتدري لم سميت بهذا الاسم؟ لأنها لم تجد شيئاً تشد به سفرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا نطاقها التي تتحزم به، فشقته إلى نصفين، تمنطقت بأحدهما وشدت السفرة بالآخر فسميت بهذا الاسم. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 12 إخلاص النية ثامناً: الهجرة والنية: ربطت السنة النبوية بين النية والهجرة: {إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ} وهو متفق عليه من حديث عمر، وكذلك الحديث الآخر حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} ذهبت الهجرة، وبقيت النية، وبقى الجهاد، وهذا دليل على أهمية النية فيما يعمل وفيما يترك. أما فيما يعمل فإن الإنسان بحاجة إلى أن يصحح نيته وقصده في عبادته، وفي دعوته، وفي جهاده، وفي هجرته، وفي كل عمل، فإنما الأعمال بالنيات، ومن هاجر للدنيا، أو للمرأة، أو للمغنم، أو للوظيفة، أو للشهرة، فليس له من ذلك كله إلا ما نال من حطام الدنيا وعاجلها. أهمية النية فيما عجز عنه الإنسان، فإذا عجزت عن شيء فليعلم الله تعالى من قبلك أنك تنوي القيام به متى قدرت على ذلك، وأنك تشتاق إليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من لم يغز أو يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق} إذا لم تستطع أن تجاهد، فليمر الجهاد على قلبك أو خاطرك وضميرك، ولتشتق إلى الجهاد، وتتطلع إليه، ولتنوِ أن تقوم به يوماً من الدهر إذا تيسرت الأسباب وفتحت الأبواب: يا راحلين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر نكابده ومن أقام على عذر كمن راحا إن العبد قد يبلغ بنيته وقصده وسلامة قلبه درجة الصائم القائم، والهجرة أيضاً باقية إلى قيام الساعة، وإنما الهجرة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنها مضت، هي تلك الهجرة الفاضلة التي يسمي بها أصحابها فيقال: المهاجرون والأنصار، أما الهجرة فإنها لا تنقطع حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو، ما دام العدو يقاتل، ما قوتل الكفار، كما جاء في أحاديث عدة صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 13 المدينة تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم تاسعاً: مشهد من المدينة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وفرح الناس به رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، وطفقوا يتحدثون في البيوت وفي الشوارع: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء من فالمدينة كل شيء، ولما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظلم من المدينة كل شيء. نعم قدم النبي صلى الله عليه وسلم فتسامع الناس به، وخرج عبد الله بن سلام وكان يهودياً فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الناس فقال: {فلما استثبت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: يا أيها الناس! أطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} . هاهنا عبر، أولاً: (عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) ما أحوجنا إلى الداعية الذي يتفق ظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، ويصدق الله تعالى في قوله وفعله، فإذا رآه الناس أشاروا بأيديهم، وعرفوا وقرءوا بعيونهم أن وجه هذا الإنسان ليس بوجه كذاب، ليس من أهل الدنيا، وليس من أهل العاجل، وليس من المزورين وليس من الممثلين، وإنما هو صاحب كلمة وصاحب دعوة يتحرك بها قلبه فيفيض بها لسانه، وها هنا تكون الاستجابة ويكون القبول. ثانياً: الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس كلهم، المدينة فيها اليهود ثلاث قبائل، ولابد من دعوتهم، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستجيب منهم من يستجيب ويرفض أكثرهم، ولكن كان عبد الله بن سلام ممن أسلم، وذكره الله تعالى في كتابه أنه الرجل من بني إسرائيل الذي آمن وشهد على مثله، كما في بعض الروايات وأقوال كثيرٍ من المفسرين، وأسلم غيره من اليهود أيضاً، وكفر أكثرهم، لكن منهم من أسلم. فنأخذ من ذلك أن المجموعات التي توجد في أوساط المسلمين، يجب توجيه الدعوة إليهم، يوجد النصارى، ويوجد الهندوس، ويوجد اليهود، ويوجد أصناف الكفار، هذا من جهة؛ كما أنه يوجد من بين المسلمين أنفسهم أهل البدع، يوجد الشيعة الرافضة، ويوجد الإسماعيلية، ويوجد الصوفية، وتوجد طوائف كثيرة، ومن المؤسف جداً أنه يشيع في بعض الأوساط أنه لا فائدة في هؤلاء، لا يسلمون فيدخلوا في الدين، وكذلك أهل البدع لا يعودون إلى السنة. وهذه في الواقع إشاعة خطيرة، لأنها تخدم أولئك القوم أكثر مما تخدم مذهب الحق، بل يجب أن يكون عند صاحب مذهب الحق ثقة بما يحمل، وما يدعو إليه، وأنه لا أحد يجوز أن تحجب عنه الدعوة، بل يجب أن يدعى كل أحد بقدر المستطاع، فإن استجاب فالحمد لله، وإن لم يستجب فقد قامت الحجة عليه. يجب أن تدعوا هؤلاء جميعاً خاصة أولئك الذين يملكون اللغة، ويستطيعون أن يخاطبوهم، وخاصة أيضاً أولئك الذين يعايشونهم في أعمالهم، ومقار وظائفهم، وصناعتهم، وأسواقهم، وغير ذلك، وأيضاً تلك المراكز والمكاتب التي تحمل على عاتقها دعوة الجاليات إلى الإسلام. أما أهل البدع بين المسلمين، فيجب أيضاً توجيه الدعوة إليهم، ويجب أن تكون دعوة بصبر، وسعة بال، وطول نفس، وهدوء في الكلمة، وصبر عليهم، لأن هؤلاء القوم قد يكونون تشبعوا من معلومات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، وامتلأت عقولهم بمفاهيم مضللة، وسلطت عليهم أجهزة إعلامية كثيرة، فأنت بحاجة إلى أن تنقض هذا شيئاً فشيئاً، ولو أنك اتخذت موقفاً صارماً من البداية، لكنت بذلك تصدق ما قاله عنك الأعداء، وتؤكد لهؤلاء أن من الضروري أن يبتعدوا عن الإسلام، وألا يقبلوه بحال، إذاً فليكن تسللك إلى قلوبهم بصبر ولطف، وأدب، وتواضع، وطول نفس، ومالا يتم اليوم يمكن أن يتم غداً، وإذا لم تستطع أن تنقلهم من دينهم إلى الإسلام، فلا أقل من أن تشككهم في دينهم، وقد يأتي يومٌ لداعية آخر فيحقق ما عجزت عنه أنت، وإذا لم يكن هذا فلا أقل من أن تقلل حماسهم فيضعف ويفتر، ويتحولوا من دعاة متحمسين إلى أفراد عاديين، وهذا أيضاً هو مكسب نسبي ينبغي أن تراعيه. إنه ليس هناك خدمة لأهل تلك الأديان أعظم من أن يشيع بين المسلمين وطلبة العلم والدعاة أن هذه الفئة من الكفار، أو أن هذه الفئة من المبتدعة، لا يقبلون الحق، ولا يذعنون له، إذاً لا أمل في دعوتهم. وقفة ثالثة مع حديث عبد الله بن سلام، وهي أن مبادئ الإسلام العظيمة هي مبادئ شمولية، وكما هي شمولية في المدعويين هي أيضاً شمولية في حقيقة الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هاجر ليقيم دولة، وهاجر ليرفع راية الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهاجر ليجمع كلمة المسلمين على الحق، وجعل المدينة منطلقاً وعاصمة للإسلام، وفي الوقت نفسه هذا لم يلهه أو ينسه صلى الله عليه وسلم وحاشاه في أول كلمة أو خطبة عن أن يأمر الناس بإطعام الطعام، والإحسان إلى الآخرين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الأقارب والجيران، وغيرهم والصلاة بالليل والناس نيام؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وبين الله جل وتعالى. فينبغي أن نقدم للناس دعوة الإسلام بشمولها، بكمالها، ومن الخطورة بمكان أن نقدم للناس جزءاً من الدين على أنه هو الدين كله، فنقدم لهم مثلاً برنامجاً سياسياً وإسلامياً على أن هذا هو الإسلام كله، وهذا خطأ، أو نقدم لهم برنامجاً أخلاقياً فنحدثهم عن صلة الرحم، أو حقوق الجار، أو بر الوالدين، ونصور لهم أن هذا هو الدين كله، ونسلخ من الإسلام تلك المعاني العظيمة الكلية الشمولية، لسبب أو لآخر. إن دين الله عز وجل كل لا يتجزأ، ولا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يقدموا الدين للناس كاملاً غير منقوص، وهذا لا يمنع بحال أن تتخصص فئة منهم في شيء، ويتخصص غيرهم في غيره. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 14 سلعة الله غالية سابعاً سلعة الله غالية: لقد عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك: إن كنت تريد ملكا ملكناك، ولكنه صلى الله عليه وسلم رفض؛ لأنه لم يكن طالب ملك، وإلا لقبل عرض قريش، واستطاع بحنكته، وحكمته، وأخلاقه عليه الصلاة والسلام توجيه قبائل العرب، وتوحيدها تحت لوائه، لكنه لم يكن مصلحاً قومياً، ولا زعيماً دنيوياً، ولا حاكماً وطنياً، وإنما كان رسول رب العالمين. إن أصحاب العقائد، وأهل المثل، ورجال القيم، ورجال الدعوة، يزدرون حطام الدنيا، ومتاعها، وينظرون نظرة شفقة ورثاء، لأولئك الذين يلهثون ورائها، نعم هم جبلوا كغيرهم على ما زين للناس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] ولكنهم يأسرهم هذا بهذا الحب، بل آثروا الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، وهذا واحد منهم يهم بالجهاد فتمسك به زوجه: إلى من تتركنا؟ أين تذهب وتدعنا؟ فيقول: يا بنت عمي كتاب الله أخرجني كرهاً وهل أمنعن الله ما فعلا فإن رجعت فرب الكون يرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني أو ضارعاً من ضنى لم يستطع حولاً أنا لست بأعرج ولا أعمى ولا مريض حتى أعذر بل أنا قادر، فلابد أن أخرج، فإن ذهبت فابتغي بدلاً عني، وإن بقيت فهذا من الله عز وجل، نعم! إن أهل الدين وأهل الدعوة لا ينظرون إلى الدنيا إلا كما ينظرون إلى الفراش الذي يجلسون عليه أو كما ينظرون إلى الدآبة التي يركبونها، فهم يستخدمونها ولا يخدمونها، أصغر ما يكون في عيونهم المال، والجاه، والشهرة، والسلطة، والمنصب، والكرسي، كلها لا تعد بالنظر إليهم شيئاً. وقف الإمام ابن تيمية -رحمه الله- أمام حاكم من الحكام، وشي به إليه وقيل له: إن ابن تيمية ينافسك على الملك، وإنه يخطط لقلب نظام الحكم، فقال له ابن تيمية: أنا أريد ملكك، والله إن ملكك وملك التتر لا يساوي عندي فلساً، أنا رجل ملة ولست رجل دولة! نعم! العالم والداعية متوج بتاج لا يقبل العزل أبداً، ولايته ربانية لا تقبل العزل، فهو مبلغ وموقع عن رب العالمين، كما ذكر الإمام ابن القيم، ومترجم عن الله تعالى كما ذكر القرافي وغيره، ومفتٍ يتكلم بالكتاب والسنة، والناس يطيعونه من هذا المنطلق، فولايته ولاية شرعية لا تقبل العزل، ولا الإقصاء، ولا الإبعاد، ولا التغيير، ولا التبديل، وهو يرضى بهذا، فلا ينظر إلى متاع الدنيا إلا نظرة ازدراء واحتقار. أما مرضى القلوب الذين تعلقوا بالدنيا، واتخذوا من الدين أو من الدعوة، أو من التمسح بالإسلام، ذريعة إلى مثل هذا، فهم لا شك فئة لا يخلو منها زمان ولا مكان، ولكن الحق أبلج، والباطل لجلج، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأمر الله تعالى غالب، فإن الله تعالى لا يكتب البقاء والاستمرار والفضل، إلا لمن يعلم أنهم لذلك أهل، أما الذين يريدون الدنيا فقد يعطيهم الله تعالى بعض ما يريدون في الدنيا، ثم يكون مصيرهم النار: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] . لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وحيداً شريداً، لأنه يعرض عقيدة التوحيد: {يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} لم يكن بينه وبينهم إلا هذا الأمر، ما قال لهم يوماً من الأيام: إني أريد دنياكم، أو أريد أموالكم، أو أريد شيئاً من هذا، إنما دعاهم إلى كلمة واحدة، وإنما هم لفوا وداروا وأجرموا، وقالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] محمد يقول شيئاً ويريد غيره، يريد السلطة، ويريد الملك: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] وكما قال فرعون من قبل عن موسى وهارون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] إنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة، كلمة التوحيد، وكان يبحث عمن يقبلها، وحتى أولئك الذين عرضها عليهم ما عرضها ملفوفة بطابع الدنيا، ما قال لهم: اقبلوا الدين وسوف تنصرون وتصبحون سادة وملوكاًً وأعزة! لا، وإنما قال لهم: اقبلوا الدين ولكم الجنة، بايعهم على هذا فقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل. وإنما جاء الوعد وعداً عاماً لا يخص أولئك الأفراد الذين بايعوا، ولا يخص تلك الطائفة بعينها وذاتها، وقد مات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مات، ولم يأخذ من أجره شيئاً كما مات مصعب بن عمير لم يأخذ من أجره شيئاً، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه، إلا قميصاً إذا وضعوه على رأسه ظهرت رجلاه، وإذا وضعوه على رجليه ظهر رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يضعوا على رجليه من الإذخر! الجزء: 63 ¦ الصفحة: 15 تأهيل الخبرات الإسلامية والاستعانة بالكفار بشروط سادساً: من هو الدليل؟ نعم: إن دليل الهجرة هو عبد الله بن أريقط كما أسلفت، وكان على دين أهل الجاهلية، ولا أشك أنه لو كان ثمة مسلم عارف بالطريق، بصيرٌ به، ملائم للمهمة، لاختاره النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما اختاره لأنه كما ذكرت الرواية (خريت) بصيرٌ بالطريق، ومع ذلك كان رجلاً مأموناً أمنه الرسول صلى الله عليه وسلم عن خبرة ودراية وممارسة، وعرف أنه لا يفشي سراً، ولا يخضع للترهيب والترغيب، ولا يستجيب لتلك الأعطيات التي وضعتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دلالات لابد من مراعاتها: أولها: أن الكفار وإن كانوا في الجملة أعداء لنا كما ذكر الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إلا أنهم مع ذلك يتفاوتون في حجم عداوتهم، وقد يوجد من بينهم أفراد، أو جماعات قليلة، أو جمعيات، أو فئات خاصة، لا تحمل في ذاتها حقداً معيناً على الإسلام والمسلمين، بل قد تكون متعاطفة مع الإسلام، أو مستعدة لسماع الدعوة أو قبول كلمة الحق، ومن هؤلاء من يسلم بعد حين كما نعرفه في أعداد غفيرة ممن أسلموا ونشرت قصصهم في كتب عدة منها كتاب: رجال ونساء أسلموا، وكتاب: لماذا أسلمنا، وكتاب لماذا أسلم هؤلاء؟ ومنها مجموعة من الرسائل المختلفة في هذا الجانب. نعم يوجد من الكفار من لا يحمل حقداً على الإسلام، ومن يكون لديه استعداد لقبول الدعوة، ولهذا يجب أن نختار عند الضرورة من بين الكفار، فنختار إذا اضطررنا للتعامل معهم، أخفهم عداوة، وأقلهم شراً، وأبعدهم عن التعصب لدينه أو الحقد والعداوة على الإسلام والمسلمين. إنني أعلم أن من بين المسلمين من رؤساء الشركات وغيرها، من يأتون بهندوس متعصبين معروفين في البلاد التي جاءوا منها بالحقد على المسلمين، أو إقامة المعابد والكنائس لأهل دينهم، أو جمع التبرعات أو تنظيم صفوف الهندوس، ومع ذلك يؤتى بهم إلى بلاد المسلمين، ويمكنون من أموال المسلمين، وقد يوضع تحت أحدهم عدد كبير من العاملين يكونون تحت سيطرته وتصرفه. إنه لابد عند الضرورة القصوى، حينما نجد أننا أمام أحوال لابد منها، في حاجة إلى خبرات غير المسلمين، أن نختار الأقل عداوة، وأن نعمل أيضاً في المقابل على أن نستغل التناقضات الموجودة بين الكفار، وأن نضرب بعضهم ببعض، وأن نقيم سوق المنافسة فيما بينهم على أسواقنا، ومصانعنا، وبضائعنا، وفرصنا، سواء كانت فرصاً اقتصادية، أم خبرات، أم غير ذلك من ألوان الأعمال والمجالات التي نقول أحياناً: إننا محتاجون فيها إلى هؤلاء. ثم إنه لا بأس أن نستفيد من بعضهم في هذه الحدود فيما لا يمكن أن نجده عند غيرهم، هذا من جانب، ومن جانب آخر: فإن هذا يؤكد على أهمية تحصيل الخبرة عند المسلمين، فما الذي أحوجنا إلى الخبير الكافر أياً كانت خبراته، زراعية اقتصادية سياسية إدارية اجتماعية علمية في أي مجال من المجالات؟ إن الذي أحوجنا إلى خبرته هو فقد الخبرة عند المسلمين، ولذلك لابد من بناء الخبرة الإسلامية، لابد من العمل على إيجاد تصنيع إسلامي يخرج من بلاد المسلمين، ينبت في بلاد المسلمين، لا يحتاجون فيه إلى أعدائهم، ومن الخطورة بمكان، أن ننقل الخبراء فنظل جهالاً محتاجين إليهم، بل أخطر من ذلك، أن ننقل المصانع بأكملها، وبعمالها، وموظفيها، وخبرائها، وإداريها، فلا نكون إلا كأننا استأجرناها لتكون فقط في بلاد المسلمين، فلابد من بناء التصنيع المسلم، ولابد أن يحمل أهل الخبرة على عواتقهم السعي إلى كسب هذه العلوم، ونقلها إلى بلاد المسلمين وتطويرها، ومثل ذلك يقال في كل مجالات الحياة. وهذا يتطلب أمرين: الأول: الدراسة لو احتجنا إلى دراستها في بعض مراكز علمهم أو جامعاتهم. الأمر الثاني: هو الخبرة العملية، فإن هناك ألواناً من أمور الحياة لا يمكن أن تنفع فيها الخبرة النظرية، بل لابد من الخبرة العملية، وكيف يمكن تحصيل هذه الخبرة؟ لا يمكن تحصيلها إلا من خلال التجارب الواقعية. فالمسلمون محتاجون يقيناً إلى أن ينزلوا للميدان، فيتعلموا فن الإدارة عملياً، وفن الاقتصاد عملياً، والتصنيع عملياً، وفن إدارة الأفراد عملياً، ويتعلموا طريقة كل عمل من الأعمال التي يحتاجها الناس بصورة عملية. إننا كثيراً ما نطرح أن الإسلام هو الحل، وهذا صحيح، فالإسلام هو الحل، لكننا نعلم أن هذا الإسلام هو حل بواسطة أوليائه الذين يقدمونه للناس، ولو شاء الله تعالى لأنزل ملائكة، ولكنه أراد بحكمته عز وجل أن يقوم البشر بهذه المهمة. إذاً فالإسلام هو الحل من خلال الخبرة العملية وإنني لأعجب أشد العجب من مسلمين يحولون بين من يريد أن يكسب الخبرة وبين مواقعه العملية التي من خلالها يكتسب الخبرة، ولو ظل الإنسان مائة سنة يدرب على طرق الإدارة نظرياً فقط ما استطاع أن ينجح فيها عملياً، فلابد أن ينزل لميدان العمل حتى يكسب الخبرة. ومع الأسف أقول: يوجد في بعض بلاد الإسلام، حفنة قليلة من البعثيين، ومع ذلك يستطيعون أن يديروا دولة بأكملها لو أتيحت لهم الفرصة، فإذا دخلوا ميدان الانتخابات كما يقال، فازوا بأربعة مقاعد أو خمسة، وبالمقابل قد يوجد أعداد غفيرة من المسلمين والمتعاطفين مع الإسلام يعدون بالملايين؛ وإذا خاضوا الانتخابات ربما ظفروا بمقاعد كثيرة، وأنتم تعلمون سلفاً أن جبهة كجبهة الإنقاذ فازت بأكثر من ثمانين بالمائة من الأصوات، ومع ذلك يأتي السؤال إلى أي مدى يملك أولياء الإسلام الخبرة العملية التي تضمن بإذن الله تعالى نجاحهم في محك الاختبار؟! إنه من الخطورة بمكان أن يجرب الناس أولياء الإسلام في ميدان من الميادين، فيدركوا أنهم فشلوا، فشلوا في إنعاش الاقتصاد مثلاً، أو فشلوا في القضاء على البطالة، أو فشلوا في تطوير التعليم، أو فشلوا في أي جانب من الجوانب التي تتعلق بواقع الناس وحياتهم، وحينئذٍ ستكون فرصة لأعداء هذا الدين ليقولوا للناس: إن هؤلاء القوم لا يملكون إلا الشعارات والألفاظ، أما الواقع العملي فليسوا منه في شيء. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 16 تعلق الداعية بدينه وأرضه خامساً: الدين والأرض: إن الهجرة هي مهاجرة الأرض التي أقام فيها الإنسان، ونشأ فيها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة: {إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله} فإن من طبيعة الإنسان أن يحب بلده ووطنه ويرتبط به، فذكريات الطفولة، والصبا، والأقارب، والعلاقات، والتاريخ، كله في هذا البلد الذي عاش فيه الإنسان، ولذلك هو نقطة ضعف يأتي منها الشيطان إلى الإنسان، وطالما تحدث أولئك الأدباء والشعراء عن ارتباطهم بوطنهم ارتباطاً قد يصل أحياناً إلى درجة العبودية: وحبب أوطان الشباب إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهود الصبا فيها فحنو لذلكا بل يقول شاعر مسلم: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا نعم هذا الشاعر اسمه أحمد، وهو يعلن محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمتدح المسلمين، ولكن يصل به التقليد الجاهلي إلى حد أن يخاطب وطنه أنه يدير وجهه إليه قبل أن يديره إلى البيت العتيق، نعم إن محبة الوطن نقطة ضعف أحياناً يستغلها الشيطان، فهو يأتي إلى الإنسان بعدما أسلم وهم بالهجرة، كما في حديث صبرة بن الفاكة، وهو عند النسائي وأحمد وسنده صحيح: {يأتيه الشيطان فهو يقول له: تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس تقيده بالحبل} يقول: المهاجر مأسور لا أقارب له، ولا علاقات، ولا صداقات، ولا مبني ولا سكن، ولا وظيفة، ولا مرتب، ولا تاريخ، فهو منبت الجذور منقطع، لا علاقة بذلك البلد الذي هاجر إليه، فكيف تهاجر لتكون مثل الفرس المربوط بحبل لا يستطيع أن ينفلت منه؟! {أما المؤمن فيعصي الشيطان ويهاجر إلى الله عز وجل، فإذا هاجر ومات في الطريق، كان حقاً على الله عز وجل أن يرضيه} قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:58-59] . لقد أراد رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر، فمنعه أهله، وحبسوه، فمرض واشتد به المرض، فأشفق عليه أهله، وقالوا له: ماذا تريد؟ تريد طعاماً، شراباً، طبيباً؟ ولكنه لا يستطيع الكلام ولكنه يشير بيده صوب المدينة وهو بمكة، أو يشير برأسه صوب المدينة، يقول: لا أريد شيئاً، كل مطلبي أن تأذنوا لي أن أخرج للوجه الذي أردت، فقد اختصرت الهموم عنده كلها في هم واحد، وهو الدعوة إلى الله وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله تعالى، فأشفق عليه أهله فأخرجوه من مكة، فلما كان بعد مكة على مسافة بضعة أمتار، قبضت روحه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة. نعم إن النعرة الجاهلية قد تسمي التعلق بالوطن وطنية، وهو شعار خادع طالما رفعه كثير من العلمانيين ليخدعوا به الناس، ويصوروا لهم أنهم هم أولياء الوطن، وهم المدافعون عن حقوق الوطن، وهم الحريصون على مستقبل الوطن، وهم الذين يعملون على وحدة الصف، واستقرار الاقتصاد، وعلى حفظ كل مكتسبات بلادهم، يصورون هذا الأمر خلال قصائدهم، وكتبهم، وشعاراتهم البراقة التي يرفعونها بمناسبة وبغير مناسبة. أما المفهوم الشرعي الصحيح للوطنية، فهو أن الإنسان لا يلام على محبة بلده، فهذه أمور فطرية طبيعية، لا تحمد ولا تذم بذاتها، وحديث: "حب الوطن من الإيمان" الذي يردده البعض هو ليس بحديث في الحقيقة، وإنما يظنه البعض حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والواقع أنه لا أصل له، أما الوطن فيحبه الإنسان لهذا الاعتبار، ولكن وطن المسلم الحقيقي هو الذي يهيمن عليه الإسلام، ولو حالت الحدود الجغرافية، أو السياسية، أو الطبيعية، إذ لا يعتبر الإنسان وطنه الذي ولد فيه، أو عاش فيه، وإن كان محارباً للدين، أو بعيداً عن الشريعة، ولهذا يهاجر المسلمون حتى من مكة نفسها إلى الحبشة، إلى الطائف، إلى المدينة، إلى كل بلد في الدنيا، يهاجرون ويبحثون عن النصرة والإيواء، ويبحثون عن مكسب لهذه الدعوة ولهذا الدين. الجهاد الذي يرفع، ليس ذوداً عن تراب الوطن، فإن تراب الوطن لا يجوز أن يتخذ وثناً يتعبد ويمسح كما قال قائلهم: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا كلا! إنه قد يكون الوطن وثناً يعبد من دون الله عز وجل أحياناً، حينما يختصر الإنسان أهدافه بالدنيا في هذا الوطن، لا يهمه أن تكون راية هذا الوطن علمانية، أو قومية، أو اشتراكية، أو بعثية، المهم عنده هو التراب، ماذا صنع الذين يقاتلون من أجل زيتون يافا، وماذا صنع أولئك الذين يقاتلون من أجل تراب صحرائهم؟! وماذا صنع أولئك الذين يمتدحون بتاريخ جاهلي في عهد الإغريق، أو الآشوريين، أو الفينيقيين، أو الرومان، أو غيرهم؟! إنهم لم يصنعوا لأوطانهم أي مكسب حقيقي، الجهاد إنما يكون في سبيل الله عز وجل، والوطن الذي يقاتل دونه المسلم ويحرص عليه هو الوطن الذي تقام فيه شريعة الله، ويرفع فيه نداء الأذان، وتقام فيه المساجد، ويتواصى الناس فيه بالحق، وبالصبر، وتقوم فيه الدعوة إلى الله عز وجل، وتقوم العلاقة بين أفراده على أساس الدين الذي وحد أهله وجمع كلمتهم. إن الارتباط بالأرض والتعلق بها، لا يبيح للإنسان أبداً أن يترك السياحة في سبيل الله، السياحة للجهاد: {سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله} السياحة للدعوة. أيها الأحبة: نعلم جميعاً أن هناك من يجلس في بلد غربي، كأمريكا، أو بريطانيا -مثلاً- أكثر من اثنى عشرة سنة، حتى يحصل على شهادة الماجستير، ثم الدكتوراه، في أي تخصص، وهذا قد يكون حاجة للمسلمين في بلادهم في أي بلد كان، وقد يكون ضرورة لا مخلص منها بسبب تفريط المسلمين في تحصيل العلوم، وإقامة المراكز العلمية، والجامعات التي تستقبل المواهب والطلاب وتخرجهم، ونعلم أنه قد يوجد في تلك البلاد وغيرها من استقر استقراراً أبدياً بقصد التجارة؛ لأن فرص التجارة أعظم وأوسع من فرص التجارة في بلاده الأصلية، ونعلم أن هناك من يجثو عشر سنوات أو أكثر في تلك البلاد لأنه يقتعد وظيفةً تقتضي بقاءه هناك، كل هذا يُفعل، فهل تعلمون أن هناك من جلس مثل هذه السنوات أو أقل منها أو أكثر في بلد حتى ولو كان بلداً إسلامياً، ولكن غير البلد الذي نشأ فيه، وقامت فيه علاقاته وارتباطاته هل تعلمون من جلس مثل هذه المدة بهدف الدعوة إلى الله عز وجل؟! بل أقول أهون من ذلك: كم عدد الذين يبدون استعدادهم لقضاء عشرة أيام فقط في الإجازة في أي بلد إسلامي من أجل الدعوة إلى الله؟ أو من أجل التطبيب والعلاج؟ أو من أجل الإغاثة الإنسانية؟ أو من أجل لون من ألوان المساعدة المادية أو المعنوية للمسلمين المنكوبين في أي بلد كان فوق أي أرض وتحت أي سماء؟ بل أتنازل أكثر من ذلك وأسأل: كم عدد الذين يبدون استعدادهم لقضاء عشرة أيام في جولة وعظية داخل بلدهم؟ يخرجون فيها عن حدود إقليمهم، أو منطقتهم، ليقوموا بالدعوة ويزوروا طلبة العلم، ويجلسوا إلى القضاة، ويرتادوا المساجد والمراكز، وحلق العلم، ويجلسوا إلى أهل الخير، وينشروا الكتاب، ويوزعوا الشريط، ويقولوا كلمة الحق، ويأمروا الناس بالمعروف وينهوا الناس عن المنكر؟ كم عدد المستعدين لأن يقوموا بجهد كهذا عشرة أيام فقط خلال إجازة طويلة؟ إننا نستقبل اليوم هذه الإجازة، وأنا أقرأ اليوم وأتصفح الجرائد، فإذا بنا نقرأ إعلانات كثيرة عن فرص تعلنها مدن ترفيهية، أو شركات، أو وكالات سفر، أو غيرها تعلنها لإتاحة الفرصة لسفر الصغار، والكبار، والأطفال، والأسر والعوائل، إلى مركز الترفيه في فرنسا، أو غيرها من بلاد الغرب، أو حتى من بلاد العرب والمسلمين، وأن هناك كافة التسهيلات لمثل هذا العمل، حتى إنه يوجد فنادق في بريطانيا وغيرها مخصصة لاستقبال الأطفال، حتى يتمكن أهلهم من وضعهم في تلك الفنادق، ثم ينطلقون على راحتهم حيث شاءوا بعيداً عن صخب الأطفال وضجيجهم، ثم يستقبل هؤلاء الأطفال منصرون يعلمونهم اللغة، ويربونهم على غير دين الإسلام. نعلم أن هناك تسهيلات كثيرة لمثل هذا العمل، ونعلم يقيناً أن هناك من أبناء المسلمين من ينخدع بهذه الدعايات، أو يستجيبون لها فهل يستجيب الخيرون والصلحاء للدعوات إلى القيام بجهد مقابل هدفه الدعوة إلى الله، هدفه الإصلاح، هدفه محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أبناء المجتمع؟! الجزء: 63 ¦ الصفحة: 17 رابطة الصحبة في طريق الدعوة إنها دلالة كبيرة على أهمية العاطفة القلبية في الدعوة إلى الله عز وجل؛ فالدعوة، والعلاقة بين الدعاة والمدعوين، بل بين الدعاة بعضهم بعضاً، ليست علاقة رسمية وظيفية، بل هي علاقة ود وحب متبادل، علاقة قلوب يهفو بعضها إلى بعض، ويحن بعضها إلى بعض، ويرتبط بعضها ببعض، بأوثق الروابط، وأعظم العلائق، إنها علاقة الحب في الله عز وجل ورابطة الصحبة في طريق الدعوة إليه، ولهذا بكى أبو بكر رضي الله عنه في مواقع عدة، منها بكاؤه لما علم أنه سيظفر بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الطريق الخطر. وظل أبو بكر طيلة عمره وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحب له، حتى أحبه أكثر من نفسه، وأهله، وولده، ووالده، والناس أجمعين، ولقد جاء أبو بكر بعدما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصيب أعظم مصابه، فرفع الثوب عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قبله بين عينيه وبكى، وقال: (طبت حياً وميتاً بأبي أنت وأمي يا رسول الله) صلى الله عليه وسلم. لقد تحدث القرآن الكريم عن شعور أبي بكر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] إذاً ما هو الشعور الذي كان يصاحب أبا بكر، ويُحتاج إلى دفعه؟ إنه ليس شعوراً بالخوف على نفسه، أو أن يقع في أيدي الطلب، كلا! إنما هو شعور الحزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الدعوة التي يحملها، ولهذا طمأنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) فدين الله تعالى منصور، ودعوته قائمة، والمستقبل بإذنه تعالى مضمون، ولهذا يا أبا بكر، ويا كل داعية إلى دين الله عز وجل بصدق! لا تحزن، فالدين دين الله عز وجل والدعوة دعوته، وهو المتكفل بها سبحانه، وما علي وعليك إلا أن نبذل من جهدنا، وعرقنا، ووقتنا، وسهرنا، وما لنا، وكل ما نملك لهذا الدين، حتى نكون من جند الله المخلصين. ولقد توج أبو بكر رضي الله عنه هذه العلاقة العاطفية الحميمة العميقة، توجها بتزويج عائشة رضي الله عنها من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد خطبها إليه النبي صلى الله عليه وسلم فتعجب أبو بكر وقال: إنما أنا أخوك} كما في صحيح البخاري، وكأني بـ أبي بكر رضي الله عنه يرى أن علاقة الود، والمحبة، وعمق الصلة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى من كل روابط الدنيا، ومن كل العلاقات التي يعرفها الناس من القرابة، أو النسب، أو الزواج، أو الصهر، أو نحو ذلك، فيقول له: {إنما أنا أخوك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت أخي في دين الله تعالى وكتابه، وهي لي حلال، فتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم} هذه واحدة. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 18 أهمية تأمين الداعية لبيته إن ذلك دليل على أهمية تأمين البيت في الدعوة، بالقيام على الأهل، والأقارب، كما أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] إن هذا القيام حتى على الوالد، على الزوج، على الأخ، على الأخت، على الابن، على القريب، على كل ذي نسب، أو سبب، أو قرب، أو جوار، هذا القيام ليس بممارسة التسلط بغير حق، كلا! بل بالصبر عليهم، والجهد لهم، وأداء الحقوق الشرعية الواجبة لهم، من بر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان إلى الزوج، والعطف على الصغير، والرحمة له، والإحسان إلى الكبير، والعناية بالأولاد، بتربيتهم ورعايتهم وتوجيههم، وبذل المعروف لهم، وبذلك يستطيع الإنسان أن يقوم بواجبه لدعوتهم. أما أن يكون علقم مع أقاربه فهو لا يصبر على والديه، بل يتذمر منهما، ويرفع صوته عليهما، أو لا يصبر على زوجته، بل قد يثور عليها لسبب أو لغير سبب، ويزمجر، وقد يغضب عليها، أو يهجرها، وربما ألقى عليها يمين الطلاق بمثل تلك الأسباب، وربما اعتدى على أولاده، فهو يعاملهم بقسوة ويغلظ لهم في القول والفعل، ولا يصبر على أي خطأ يبدر منهم، لا شك أن هؤلاء ليسوا من الأخيار، لأن الأقربين أولى بالمعروف، وإذا كنت تملك خلقاً جميلاً مع البعيد، فأولى أن تتحلى بهذا الخلق مع القريب، وليست القضية قضية مجاملة، أو تزين وتصنع للناس، بقدر ما هو أدب شرعي ربانا الله تعالى عليه، وأوجب علينا أن نحرص على أداء الحق لكل ذي حق، ولا شك أن حق القريب أباً، أو أخاً، أو زوجةً، أو أختاً، أو ابناً، أنه أعظم وأشمل من حق البعيد. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 19 أهمية المال للدعوة ثالثاً: دليل على أهمية جمع المال، وتثميره، وإنفاقه أو إنفاق بعضه في سبيل الله عز وجل إنه ليس ضربة لازب أن يكون أولياء الدعوة وأهل الخير والصلاح ورواد المساجد وعمار حلق الذكر، أن يكونوا دائماً من الفقراء المحاويج، ولو أن المسلمين في أي مكان من الأرض، الذين يجاهدون في إقامة دينهم، وإحياء شريعة ربهم، ومنازلة عدوهم، لو أنهم كانوا يمسكون بأزمة الاقتصاد، أو يملكون الشركات الكبرى، أو حتى بعضها، أو يستحوذون على رؤوس الأموال، لما استطاع أحد أن يقف في طريقهم، لأنه لا أحد يقبل أن يهاجر التجار، أو تهاجر رؤوس الأموال، أو تقوض الشركات التي منها يأكل الناس، ومنها يلبسون، ومنها يركبون، وهي قوام حياتهم وعيشهم، إذاً لو أن المسلمين أمسكوا بأزمة الاقتصاد في بلادهم، لما استطاع أحد أياً كان، أن يقف في وجوههم، فهل نعي ذلك جيداً؟! إن ذلك يبدو من الموقف الذي وقفه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقد كان غنياً، ثرياً، تاجراً شهيراً في قريش، كما يبدو من وجه آخر من تلك الأعطية القرشية الجزلة التي وضعتها قريش لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. لقد أدركوا فعلاً أهمية المال أيضاً في شراء الضمائر، وتغيير العقول والقلوب، ومحاولة صد الناس عن الإسلام. وقد قال المنافقون: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] . إن المنافق فاسد الطبع، خرب الضمير، ضيق الأفق، فهو ينظر إلى الدنيا كلها بل إلى الحياة من منظار المادة والدرهم والدينار، فيظن أن الشح على المؤمنين، أو أن ترك الإنفاق عليهم، أو أن حرمانهم من الطعام والشراب والكساء، يعني أن ينفضوا عن دعوتهم، أو يتخلوا عنها، لأن المنافق ينظر إلى الحياة بعين طبعه، فالمال عنده كل شيء، وهو سر الوجود، وسر العظمة، وسر القوة، وهو يعتقد أن الناس يجتمعون على الريال، وينصرفون من أجله. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 20 دور المرأة في الدعوة رابعاً: دليل على عظم دور المرأة في الدعوة، إن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها ذات النطاقين، هي نموذج للفتاة الملتزمة، التي تسارع إلى الإيمان، حتى يستقر الإيمان في قلبها، ثم لا ترضى أن تقعد في بيتها بعيداً عن المشاركة في الدعوة، والقيام بالتكاليف الشرعية التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله، ويقتضيها العمل لهذا الدين، بل تنطلق لتقوم بتلك المهمة التي لا يستطيع أن يقوم بها الرجال، إما لأنها مهمة نسائية، وإما لأن المرأة أقدر على القيام بها، وإما لغير ذلك من الأسباب، وكم قامت امرأة بأعمال جليلة لا يطيقها أشداء الرجال! إننا اليوم -أيها الإخوة وأيتها الأخوات- أمام أعداد متزايدة من الفتيات المتدينات الصالحات، تسمع بأخبارهن المشجعة المفرحة في المدارس، أو تسمع بها في البيوت، أو تسمع بها في الوظائف، أو تسمع بها في قطاع من القطاعات الاجتماعية، وأنت تجد على هذه الفتاه سيما الالتزام، فهي محجبة أفضل ما يكون الحجاب، بعيدة عن مزاحمة الرجال ومخالطتهم، تغض بصرها، وتخفض صوتها، وتبتعد عن الخضوع بالقول، أو عما حرم الله عز وجل وتجانب السوء. ولكن السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا بجد، وينبغي أن تطرحه الأخوات على أنفسهن: هو إلى أي مدى تقوم هذه الفتاة بدورها المنشود في نشر الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ في التعاطي مع قضايا الجهاد في سبيل الله؟ ومع قضايا العلم الشرعي؟ ومع قضايا المعرفة الدينية؟ ومع النشاط الإسلامي بكل صوره وأشكاله؟ إلى أي مدى استطاعت الفتاة أن تصل إلى مجتمعها، وتحدث بنات جنسها بهمومها الشرعية؟ إلى أي مدى استطاعت أن تساهم بمالها، وهي التي تملك المال، والمرتب الذي لا تطالب شرعاً بإنفاق أي قدر منه مهما قل؟ إلى أي حد استطاعت أن تساهم بجهدها، أو كلمتها، أو حتى بقلمها، في الكتابة، والتعليم، والمراسلة، والنصح على أي مستوى كان، أو بعلمها، وعقلها، وخبرتها، وما تملك، أو بمالها في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل؟ إن ذلك جزء من التكليف الشرعي الذي لابد للأخوات المؤمنات أن يقمن به، لأن هذا الدين يقوم على أكتاف الجميع. ولقد خلق الله تعالى الناس من ذكر وأنثى، وكانت الدعوة تقوم على الرجل والمرأة، فإذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيع أحد قط أن ينسى دور خديجة وهي أول بشر يلقاه بعدما نزل عليه الوحي، فتثبت قلبه وتقول: [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]] ثم تذهب به إلى ورقة بن نوفل. ولا أحد يذكر الهجرة إلا ويذكر أسماء بنت أبي بكر، ولا أحد يتحدث عن حياة النبي صلى الله عليه وسلم وتاريخه، وسيرته، إلا ويذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي ارتبطت برسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الارتباط، وصحبته في حله وترحاله. إنها دعوة إلى فتيات الإسلام والمسلمين، دعوة إلى المتدينات، دعوة إلى الصالحات، أن يقمن بالدور المنشود المنتظر في نشر الدعوة إلى الله تعالى، وفي إحياء العلم الشرعي بين النساء، وفي المشاركة في قضايا الجهاد بكافة المستويات، الجهاد باللسان، الجهاد بالقلم، الجهاد بالكلمة، الجهاد بالمال، الجهاد حتى بالنفس، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث أنس وهو صحيح: {جاهدوا المشركين بأنفسكم وأموالكم وألسنتكم} . الجزء: 63 ¦ الصفحة: 21 مسألة التاريخ الهجري وهي قضية ضاق عنها الوقت، نعم اتفق المسلمون على التاريخ اعتباراً من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد جدال بينهم، وكان إجماع الرأي عليه طيلة عصور التاريخ، فما عرف المسلمون إلا التاريخ الهجري، الذي يبدأ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وقد هاجر عليه الصلاة والسلام في اليوم الأول من ربيع الأول، ووصل المدينة في اليوم الثاني عشر كما هو معروف عند جمهور أهل السير، ولكن المسلمين بدءوا العام من شهر المحرم لأنه أول السنة. واليوم نجد أن هناك محاولات كثيرة لتقويض هذا الاتفاق والإجماع، وتحويل المسلمين في معظم بلادهم إلى التاريخ الميلادي، حتى أصبح بعضهم لا يعرفون الشهور الهجرية القمرية، ولا يعرفون التاريخ الهجري، وهذا خطر عظيم، لأنه يفصل المسلمين عن تاريخهم وأحداثهم، ويحول بينهم وبين معرفة الأحكام الشرعية المبنية على هذا التاريخ الإسلامي العريق. إنه تاريخ له جذوره، يربط المسلمين بحدث عظيم مهم، واستبداله بذلك التاريخ الميلادي هو اتباع لآثار أهل الكتاب من النصارى، مع أنه من المستحيل أن يستطيعوا أن يثبتوا ذلك التاريخ الميلادي، ونحن نعلم أن النصارى يحتفلون بميلادهم، ويقيمون له الأعياد في كل مكان، واعتماد المسلمين لهذا التاريخ قد يقتضي أن يدخلوا جحر الضب وراء النصارى، ويحتفلوا بعيد الميلاد كما احتفل أولئك، ويتقمصوا آثارهم. ولا شك أن هذه القضية قد تبدو في نظر البعض قضية شكلية أو مظهرية، ولكن هذه الأشياء المظهرية تؤثر حتى في القلب، فالملابس التي يلبسها الإنسان، والزي الذي يعتمده، والشكل الذي يكون عليه، واللغة التي يتكلمها، لا شك تؤثر في عقله، ووجدانه، وضميره، وهذه قضية معروفة نفسياً، واجتماعياً والحمد لله رب العالمين. الجزء: 63 ¦ الصفحة: 22 الأسماء والكنى والألقاب (الأسماء) إن الاسم من ضروريات الحياة، بل لا أحد على وجه الأرض إلا وله اسم حتى غير الكائنات الحية، إذاً فهو أمر ضروري لابد منه، وما دام الاسم بهذه الأهمية فإننا نجد ديننا الإسلامي قد أهتم به وبأحكامه، وهذا ما سنجده جلياً في هذا الدرس، حيث بين الشيخ حفظه الله تعالى أهمية الاسم ومنزلته، وذكر كذلك أحكامه من حيث تنوعه الى أسماء محمودة وأسماء مذمومة، وذكر القبيح، وأن الاسم حق للأبوين، ووقت التسمية وغير ذلك. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 1 مراجع في باب الأسماء والكنى والألقاب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وكانوا به يعدلون. أما بعد … ففي هذا اليوم الأحد، ليلة الإثنين، الأول من شهر شعبان لعام 1410هـ، ينعقد هذا المجلس وهو الثالث ضمن مجالس الدروس العامة، التي بدأت قبل أسبوعين أو ثلاثة وقد تحدثت في الأسبوعين الماضيين عن موضوع: "الرؤيا والأحلام" وما يتعلق بهما من الأحكام. فإن موضوع هذه الليلة -أيها الأحبة- هو موضوع جديد ولعله لا يخلو من بعض الطرافة، وهو موضوع: الأسماء والكنى والألقاب، وسأبدأ به هذه الليلة، وأتمه بما يأتي إن شاء الله تعالى. فبناءً على الطلب السابق، في ذكر مراجع البحث والكتب التي تعين الباحث فيه، أذكر بعض هذه المراجع وإن كانت مراجعه كثيرة، لكن منها كتاب زاد المعاد لـ ابن القيم، في أول الجزء الثاني، ومنها: كتاب إعلام الموقعين له، في الجزء الثالث، ومنها كتاب: تحفة المودود في أحكام المولود لـ ابن القيم أيضاً، ومنها كتاب اسمه الجوائز والصلات لـ نور الدين بن الشيخ صديق حسن خان العالم الهندي الشهير. ومنها كتاب امتاع الأسماع للمقريزي، حيث ذكر فيها الأسماء المتعلقة بالرسول عليه الصلاة والسلام، ذكر أسماءه وأسماء أولاده، وأسماء ما له من الإبل والخيل وغيرها، ومثله كتاب تخريج الدلالات السمعية للخزاعي، وكتاب التراتيب الإدارية للكتاني، كلها اعتنت بذكر الأسماء المتعلقة بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك كتاب تهذيب الأسماء واللغات للنووي، وهو في أجزاء وخاصة الجزء الأول والثاني منه فهو يتعلق بالأسماء. ومنها كتاب أدب الكاتب للإمام محمد بن مسلم بن قتيبة الدينوري، ومنها كتاب جامع الأصول في الجزء الأول، حيث عقد فصلاً عن الأسماء والكنى، ونقل فيما جاء عن الرسول عليه الصلاة والسلام في الكتب الستة، ومنها كتاب الأدب المفرد للبخاري، وكذلك كتاب الأدب في صحيح البخاري، وشرحه في فتح الباري، وهو يقع في الجزء العاشر من الطبعة السلفية. ومنها كتاب معاصر اسمه أسماء الناس لـ عباس كاظم مراد، وهو كاتب أو باحث عراقي. وهناك كتب أخرى كثيرة جداً في الأدب واللغة وغيرها لا أطيل بذكرها. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 2 تعريف الاسم وأصل اشتقاقه انتقل إلى المسألة الأخرى وهي: الدخول في الموضوع، فأقول الاسم: هو لفظ موضوع لتعيين المسمى وتمييزه عن غيره، أياً كان ذلك المسمى، وأهل النحو يقولون في تعريف الاسم: هو ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمان، لا بماضٍ، ولا بمضارع، ولا بمستقبل، أي هو مادل على معنى في نفسه غير مقترن بغيره. وقد اختلف النحاة اختلافات كثيرة في أصل اشتقاق الاسم، من أين اشتق؟ وهذا اختلاف لا يعنينا كثيراً، فمنهم من يقول: إنه مشتق من الوسم لأنه علامة على صاحبه يميزه عن غيره، وإلى هذا ذهب الكوفيون، في حين يذهب البصريون إلى أنه مشتق من السمو والعلو والارتفاع، ولعل الأول أقرب، على كل حال هذا الموضوع لا يعنينا كثيراً، لكن الذي يعنينا هو: ما هو الفرق بين الاسم، واللقب، والكنية. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 3 الفرق بين الاسم واللقب والكنية فالاسم الذي يطلق على الإنسان أحياناً قد يدل على مدح أو ذم له، مثل أن تقول: الطويل، أو القصير، أو ما أشبه ذلك، فإن دل على مدح أو ذم فهذا هو اللقب، وأحياناً لا يدل على مدح ولا على ذم في أصل وضعه، وإذا لم يكن كذلك فإما أن يكون مصدراً بأب أو ابن أو أم أو نحوها، مثل أبو فلان، أو ابن فلان، أو أم فلان، ونحوها مثل كلمة ذو فلان أو صاحب، فهذا يكون كنية، وإلا فهو الاسم، فالاسم مثل محمد وعلي وصالح وأحمد فهذه الأعلام كلها عموماً تدخل في الأسماء على سبيل الإجمال. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 4 أهمية موضوع الأسماء والكنى والألقاب أما بالنسبة فيما فيما يتعلق بأهمية الاسم، أو أهمية طرق هذا الموضوع، فلا شك أنه مهم من نواحٍ عديدة: أولاً: هو أمر يحتاجه إليه الجميع فما من إنسان إلا وله اسم، بل يتعدى الأمر إلى جميع الأشياء، فجميع الأشياء لها اسم، حتى البقاع والحيوانات وغيرها، لها أسماء تميزها عن غيرها، ولا يغني عن هذا الاسم شيء آخر، لا يغني عنه وصف، ولا يغني عنه رقم، ولا شيء من ذلك. وهذا من حكمة الله تعالى، فإنك فمثلاً إذا كنت تعرف شخصاً اسمه صالح، فقلت مثلاً: من فعل لك هذا؟ قال لك رجل: فعله صالح، بمجرد أن تسمع هذا اللفظ صالح، يقفز إلى ذهنك وفهمك شخص متكامل، فتتذكر صفة هذا الشخص وعمله وأخلاقه ومكانه، وغير ذلك من الأشياء. فالاسم إذاً أمر ضروري لكل أحد ولا يغني عنه شيء، ولهذا كل شيء له اسم. ثانياً: كثرة الأخطاء الشائعة عند الناس في موضوع التسمية، سواءً الأخطاء الشرعية، مثل تسمية أولادهم وبناتهم بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان، أسماء محرمة، أو على الأقل مكروهة، وأحياناً أخطاء اجتماعية تضر بالولد، وأحياناً أخطاء لغوية لا تتناسب مع أصل الوضع اللغوي، ومع اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 5 لكل إنسان نصيب من اسمه والأسماء مؤثرة على أصحابها، فالاسم يؤثر على المسمى، والشخص إذا سمي باسم، أو لقب بلقب، فإن هذا الاسم أو اللقب غالباً ما يكون لصاحبه منه نصيب، ولذلك قال الشاعر: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه لو فكرت في لقبه وبعضهم يروي البيت: وقلما أبصرت عيناك ذا لقب إلا ومعناه في اسم منه أو لقب كل شخص له اسم أو لقب يكون غالباً له من اسمه نصيب، وقد أطال ابن القيم رحمه الله في ذكر هذا في مواضع، منها ما أشرت إليه في زاد المعاد، ومنها في تحفة المودود وغيرها من الكتب، فأشار إلى ارتباط الاسم بالمسمى، وأن له به علاقة كبيرة. وخاصة إذا عقل هذا الإنسان ووعى، وعرف دلالة الاسم، وأيضاً بصفة خاصة: إذا كان الناس يعلقون على هذا الإنسان من خلال اسمه. وأضرب لكم -أيها الإخوة- قصة واقعية، رأيتها بعيني: في إحدى المناسبات كنا مع مجموعة من الطلاب، وكان فيهم طالب كثير المزاح، وكأن في عقله شيء من الخفة والطيش، فسألت عنه، فقال لي أحد الأساتذة الذين يعرفونه: إن هذا الرجل كان رجلاً شاباً عاقلاً، لا يؤخذ عليه شيء، ليس عليه مغمز ولا مطعن في عقله، ولا فهمه، ولا ذكائه، لكنه في إحدى المرات قام بتمثيل دور في مسرحية من التمثيليات التي تقوم أحياناً في المدارس، فكان هذا الدور الذي قام بتمثيله دوراً هازلاً، دور إنسان مضحك، أو منكت، أو ما أشبه ذلك. فلما انتهى، وكان نجح في أداء هذا الدور، بدأ الطلاب، وزملاؤه وأصدقاؤه لا يسمونه إلا بالاسم الذي تسمى به في المسرحية، وتركوا اسمه الصحيح، حتى تقمص شخصية هذا الدور الذي قام به، وأصبح كأنه دائماً في حالة تمثيل، فهذا يدلك على ارتباط الاسم بالمسمى، وتأثيره فيه، وأهمية العناية بموضوع الأسماء. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 6 الأسماء دليل على مستوى كل مجتمع كذلك فإن هذه الأسماء التي يطلقها الناس، غالباً ما تدل على المستوى الذي يعيشه المجتمع، فكل مرحلة من مراحل التاريخ لها أسماء، وكل حالة من الأحوال لها أسماء، أحياناً تأتي في بعض المجتمعات -مثلاً- فتجد أنه انتشر عندهم أسماء شرعية، مثل عبد الله، أو عبد الرحمن، أو أسماء الأنبياء، وغير ذلك، فهذه دليل على مستوى الوعي. والفهم عند الناس، وقوة التزامهم بالدين وحرصهم عليه. وأحياناً تأتي إلى مجتمع، فتجد أنه تشيع فيه أسماء أجنبية وأسماء غربية مستوردة، سواء أسماء الرجال أو النساء، فهذا دليل على أن هذا المجتمع مجتمعٌ ضعيفٌ، مقلد، فقد هويته وشخصيته، وأصبح يأخذ حتى الأسماء من غيره. أحياناً تجد مجتمعاً شاعت فيه الأسماء الفنية، مثل أسماء المغنين والمغنيات، كما حدث في بلاد الأندلس سابقاً، وكما يحدث في كثير من بلاد العالم الإسلامي اليوم، هذا يدل على أن ذلك المجتمع مجتمع هازل غير جاد، وأن الأشخاص المعظمين في المجتمع هم أهل الطرب والغناء والعبث واللهو. تنتقل إلى مجتمع رابع، فتجد أن الأسماء التي فيه أسماء عسكرية، أو أسماء سياسية، أو غير ذلك، فالأسماء التي تنتشر في مجتمع من المجتمعات -غالباً- تدل على مستوى ذلك المجتمع. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 7 الاسم ضرورة لابد منه وأخيراً فإن الإنسان، والفرد، والجماعة، يعتزون بالاسم الذي يلقبون به، ولو كان هذا الاسم غير جيد، أو غير حسن. ولهذا يذكر الجاحظ في كتاب الحيوان، يقول: "كان عندي حارس اسمه أبو خزيمة، وكان أعجمياً، وفيه لكنة لا يتكلم العربية إلا بصعوبة، فيقول: كان اسمه أبو خزيمة، وهذا اسم حسن، فكنت طالما أتعجب من أين جاءه هذا الاسم؟! جاء أبو خزيمة، راح أبو خزيمة، قال: فيوماً من الأيام، طرأ في بالي أن أسأله عن ذلك، فقلت له: هل لك أبٌ أوجدٌّ يسمى خزيمة؟ قال: لا، قلت له: هل لك قريب يسمى خزيمة؟ قال: لا، قلت: ألك ولد يسمى خزيمة؟ قال: لا، قلت: أفي القرية رجل صالح اسمه خزيمة، قال: لا، قلت: فمن أين أخذت هذا الاسم؟ قال: هكذا جاءني، أنا لا أدري من أين جاءني الاسم، لكنني تسميت به. فقال له الجاحظ على سبيل الاختبار: فخذ هذا الدينار ودع عنك هذه الكنية، فقال: لا والله ولا بالدنيا وما فيها، لا أترك هذا الكنية ولو أعطيتني الدنيا وما فيها". هذا الرجل ما اشترى الكنية بثمن، لكنه عُرف بها، وأصبحت تدل عليه، وتسمى بها، فكانت عنده غالية وثمينة. فعلى كل حال فإن الاسم ضرورة لا بد منه، ولذلك عند علماء الحديث إذا لم يكن الراوي مسمى فهو مجهول، فإذا جاء في إسناد الحديث: حدثنا رجلٌ، أو حدثنا فلان عن رجلٍ، فإنهم يسمونه: مبهم، وهذا في الأصل إذا لم يعرف ولم يحدد فهو مجهول، وحتى لو قالوا محمد، ولم يعرف أي محمد هذا، فهذا يسمى: مهمل، ولا بد من تحديده وتمييزه ليعرف أثقة هو أم غير ثقة. يذكر عن أبي عبيد، الإمام اللغوي رحمه الله، أنه كان في مجلس، فسأله رجل: أتعرف اسم فلان؟ قال: لا، فقام أحد الجالسين، فقال: بلى والله، أنا أعلم الناس به، قيل: فما اسمه؟ قال: اسمه خداش، أو خراش، أو شيء آخر، لا يعرف اسمه بالضبط، فقال له أبو عبيد رحمه الله: نعم والله ما عرفت عن هذا الرجل، ما دام لا تعرف الاسم، إما خداش أو خراش أو شيء آخر، فكأنك لم تعرفه إذاً. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 8 الأسماء المحمودة أنتقل -أيها الإخوة- إلى النقطة الثانية: وهي من النقاط المهمة في البحث، وهي: الحديث عن الأسماء المحمودة، فهناك أسماء محمودة، وهناك أسماء مذمومة فسأتحدث عنهما معاً. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 9 أفضل الأسماء أكثر أهل العلم -الجمهور- على أن التسمي بعبد الله وعبد الرحمن أفضل، وبذلك نطق الحديث الصحيح في مسلم: {أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن} وقد ذهب بعض أهل العلم، إلى أن التسمي بأسماء الأنبياء أفضل، وممن ذهب إلى ذلك -كما سلف قبل قليل- سعيد بن المسيب فإنه كان أحب الأسماء إليه: أسماء الأنبياء، ونقل عن بعضهم كراهية التسمي بأسماء الأنبياء، صح هذا عن عمر رضي الله عنه، أنه أرسل ينهاهم أن يسموا بأسماء الأنبياء، وذلك لأن عمر رضي الله عنه قال: [[تسمونهم بأسماء الأنبياء ثم تلعنونهم!]] وفى رواية أن عمر كان له ولد اسمه (محمد) فسمع رجلاً يسبه ويشتمه فغير اسمه، وقال: [[يسب بك رسول الله صلى الله عليه وسلم!]] . بل جاء هذا في حديث مرفوع، رواه البزار وأبو يعلى، لكن سنده لين ولا يصح، أن النبي عليه الصلاة السلام قال: {تسمونهم بأسماء الأنبياء أو تسمونهم محمداً ثم تلعنونهم!} فذهب بعض أهل العلم إلى كراهية التسمي بأسماء الأنبياء صيانة لأسماء الأنبياء عن أن يقع لعن أو شتم عليها، لكن هذا قول مرجوح، والصحيح ما سبق من أنه يشرع التسمي بأسماء الأنبياء. وقد ورد أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه -الصحابي الجليل المبشر بالجنة- كان له عشرة من الولد كل واحد منهم اسمه اسم نبي، في حين أن الزبير رضي الله عنه كان له عشرة كل واحد منهم اسمه اسم شهيد، فقال طلحة للزبير: [[قد سبقتك، أسماء أولادي أسماء الأنبياء، قال الزبير: بل أنا سبقتك، قال: كيف؟! قال: لأنني سميت أولادي بأسماء الشهداء؛ فأنا أطمع أن يكونوا شهداء، أما أنت فلا تطمع أن يكون بنوك أنبياء، فسكت طلحة رضي الله عنه]] . الجزء: 64 ¦ الصفحة: 10 هل الفضيلة تشمل غيرهما من الأسماء المعبدة وفي صحيح مسلم {أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن} . إذاً من الأسماء الفاضلة عبد الله -كما سبق- وعبد الرحمن، فهل يشمل هذا الحكم غيرهما من الأسماء المعبدة، مثل عبد الكريم، عبد العزيز، عبد الجليل، عبد القوي، عبد المتين، أم لا يشمل؟ القرطبي رحمه الله، صاحب المفهم في شرح صحيح مسلم، ذكر أنه يشمل غيرهما، فكل ما عبد فإنه فاضل، وقال ذلك لأن في عبد الله -مثلاً- أو عبد الرحمن، أو حتى عبد الكريم، وعبد العزيز، أولاً: فيها تسمية الله عز وجل، بأسمائه الحسنى، مثل الكريم، العزيز، الجليل، الغفور، الرحيم. وثانياً: أن في كلمة (عبد) : فيها وصف العبد المخلوق بما هو له أهل، من الذل والعبودية، وإضافة العبد إلى الله إضافة حقيقية، فهي قضية صادقة من جميع وجوهها. ولهذا ذهب القرطبي إلى أن من الأسماء الفاضلة -أيضاً- كل اسم مبدوء بـ (عبد) مثل: عبد العزيز وعبد الكريم، وما شابهها. وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يكون غيرهما في الفضل بمنزلتهما، وذلك لأن اسم (الله) واسم (الرحمن) لهما ميزات، ومن ميزاتهما: أنه لم يرد في القرآن إضافة (عبد) إلى غيرهما، فقد ورد في القرآن إضافة (عبد) إلى الله كما في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] . كذلك ورد إضافة (عبد) إلى (الرحمن) وفي أي موضع؟ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63] وكذلك قال الله عز وجل -وهذا يؤيد ما سبق-: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الإسراء:110] فذكر لفظ (الله) أو (الرحمن) ، وكذلك ذكر بعض أهل العلم أنه لم يتسم أحد بهذين الإسمين الشريفين العظيمين من المخلوقين، فلم يتسم أحد باسم (الله) ، ولا باسم (الرحمن) ، بخلاف بقية الأسماء فهناك من تسمى به، فمثلاً (الرحيم) ، هناك من تسمى بـ (الملك الرحيم) ، وكذلك (القاهر) ، وغيرها من أسماء الله تسمى بها بعض الملوك، وبعض السلاطين، وبعض الحكام بل وغيرهم. أما (الله (و (الرحمن) ، فلم يتسم بهما أحد، إلا أن مسيلمة كان يسمي نفسه في الجاهلية (رحمان اليمامة) ، لكن هذه نسبة إضافية، فهو اسم مضاف، فهو ادعى لنفسه أنه رحمان لليمامة وليس الرحمن بإطلاق، وكذلك أحد الشعراء مدح رجلاً بقوله: وأنت غيث الورى لا زلت رحمان قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وهذا غلو في الكفر حيث وصفه بأنه رحمان"، ثم إن الرجل هذا لم يسم نفسه بهذا الاسم، بل وصفه هذا الشاعر الملحد فلا عبرة في ذلك. ويبقى الكلام الذي ذكره أهل العلم أنه لم يتسم أحد باسم (الله) ولا باسم (الرحمن) كلام صحيح، فـ (الله) و (الرحمن) ، لم يتسم بهما أحد من بني الإنسان، ولذلك فليس غيرهما بمنزلتهما، وإن كان ورد في ذلك أحاديث في أن كل ما عبد فهو فاضل لكن لا يصح من ذلك شيء، أما حديث {خير الأسماء ما حمد وعبد} فهذا الحديث لا أصل له كما ذكر ذلك جماعة من أهل الحديث، وإن كان شائعاً على الألسنة، فهو حديث موضوع، لا أصل له. لكن روى الطبراني في معجمه عن ابن مسعود رضي الله عنه، وعن أبي زهير الثقفي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا سميتم فعبدوا} أي: اجعلوا الاسم مبدوءاً بعبد الله، وكذلك اللفظ الآخر لفظ ابن مسعود: {خير الأسماء ما تعبد به} وفي سند هذا الحديث محمد بن محصن، وهو ضعيف جداً بل متروك، فالحديث أيضاً شبه موضوع، وإن كان الحافظ ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ذكر الحديثين، وقال: وفي سندهما ضعف. والواقع أن الحديثين سندهما إن لم يكن ضعيفاً جداً فهو شبه موضوع، فلا حجة بهما، فلا يصح في التعبيد مطلقاً حديث، لكن لا شك أن الأسماء المبدوءة بـ (عبد) ، كعبد الله، عبد الرحمن والتي فيها تعبيد لله تعالى أنها أسماء معانيها حسنة وصحيحة، فهي فاضلة بهذا الاعتبار، أما من خصوص ورود شيء عن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك فلا يصح شيء من ذلك. النوع الثاني من الأسماء الفاضلة: أسماء الأنبياء: وقد روى مسلم في صحيحه عن المغيرة بن شعبة، في تفسير قوله تعالى: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وكانوا يسموا بأسماء أنبيائهم} أي أن بني إسرائيل يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم. وكذلك روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن سعيد بن المسيب، أنه كان أحب الأسماء إليه أسماء الأنبياء، ولعل المقصود بأحب الأسماء إليه يعني إلى سعيد بن المسيب، وليس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك ورد الأمر بهذا -الأمر بالتسمي بأسماء الأنبياء- من حديث وهب الجشمي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا بأسماء الأنبياء} والحديث رواه أبو داود والنسائي وفيه عقيل بن شبيب وهو مجهول؛ فالحديث ضعيف، لكن يشهد له ما سبق: حديث المغيرة وما سيأتي. فالخلاصة: أن التسمي بأسماء الأنبياء فاضل، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من الصحابة بأسماء الأنبياء، هذه بعض أسمائهم: فممن سماهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى إبراهيم، كما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي موسى الأشعري أنه قال: {ولد لي غلام، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فدعا له، وحنكه، وسماه: إبراهيم p} . وقد جاء أيضاً أن إبراهيم هذا كان من أكثر أبي موسى براً بأبيه. وكذلك في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أنس: {ولد لي الليلة غلامٌ فسميته باسم أبي إبراهيم} أي ابنه صلى الله عليه وسلم إبراهيم، وكان من مارية القبطية، وقد فرح به النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطاه أبا سيف القين الحداد، رجل حداد كانت عنده امرأة، كانت حاضنة لـ إبراهيم عليه السلام، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشتكي وجعاً، ذهب إلى بيت أبي سيف القين، ودخل وكان بيته مملوءاً بالدخان حتى أخذ -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- أخذ ابنه إبراهيم وهو في النزع، فضمه صلى الله عليه وسلم إلى صدره وبكى، فقال له بعض أصحابه: هذا وأنت رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: {إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} . فحزن صلى الله عليه وسلم لموته حزناً شديداً، وقال: {إن له ضئراً تكمل رضاعه في الجنة} وقد ورد في فضل إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة جداً، حتى ورد في آثار عديدة أنه لو عاش لكان نبياً، وهذا المعنى أنكره ابن عبد البر، ثم النووي إنكاراً شديداً وقالوا: هذا هجوم على الغيب بما لا علم به، ودعوى باطلة جائرة، حتى قال ابن عبد البر: لو كان كل ابن نبي يكون نبياً لكان الناس كلهم أنبياء؛ لأنهم أبناء لآدم عليه الصلاة والسلام. لكن رد هذا الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: "إنه ليس بلازم، لكن هذا خبر عن إبراهيم بالذات ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو خبر معلق بأنه لو عاش، وقد قضى الله تعالى وقدر ألا يعيش إبراهيم، بل مات وهو في الثدي وهو لا يزال غلاماً رضيعاً. كذلك من الأسماء التي سمى بها الرسول، أو أمر بها اسم (محمد) ، وهو اسم نبينا وسيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين عليه الصلاة والسلام، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا باسمي ولا تكتنوا بكنيتي} . وكذلك روى الشيخان عن أنس بن مالك نحوه، أنه قال عليه الصلاة والسلام: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} . وسيأتي الكلام إن شاء الله في الدرس القادم عن موضوع الكنية، كنية (أبى القاسم) ، وهل تجوز أم لا تجوز، ولكن المقصود من هذا الحديث التسمي باسم (محمد) ، وأنه من الأسماء المشروعة، المستحبة، المستحسنة حيث أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {تسموا باسمي} وهذا أمر يدل على الفضل وقطعاً لا يدل على الوجوب. وهنا أشير إلى حديث موضوع وهو ما رواه أبو نعيم في الحلية، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال -عن الله جل وعلا- أن الله تبارك وتعالى قال: وعزتي وجلالي -مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم- لا أعذب أحداً تسمى باسمك بالنار. وهذا الحديث موضوع لعنة الله على واضعه ومختلقه، فإنه مفترٍ أفاك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان اسمه (محمد) ، وكان عدواً للإسلام والمسلمين! من الذين طغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، فهذا افتراء ليس على الرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل على رب العالمين، فعلى واضعه ومختلقه من الله ما يستحق. ويستغرب من بعض أهل العلم -غفر الله لنا ولهم- أن يسوقوا هذا الحديث دون أن يعقبوا عليه ببيان أنه حديث مختلق موضوع، كما فعل جماعة من المصنفين المشهورين. من الأسماء التي سمى بها الرسول صلى الله عليه وسلم (يوسف) ، على النبي يوسف عليه الصلاة والسلام، فقد روى يوسف بن عبد الله بن سلام رضي الله عنهما كما في كتاب الأدب الجزء: 64 ¦ الصفحة: 11 استحباب التسمي بـ (عبد الله وعبد الرحمن) من الأسماء التي يشرع التسمي بها: عبد الله، وعبد الرحمن، فقد جاء في صحيح مسلم عن جابر: أن رجلاً من الأنصار سمى ابنه القاسم، فقال له الأنصار: والله لا نسميك يا (أبا القاسم) ولا نُقِرك عيناً، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اسم ابنك عبد الرحمن} فسمى ابن هذا الأنصاري عبد الرحمن. وكذلك جاء في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [[أول مولود ولد في المدينة عبد الله بن الزبير، وفرح به المسلمون فرحاً شديداً، لأن اليهود أشاعوا أن المسلمين لا يولد لهم، وأنهم قد سحروا، فلما قدمت أسماء المدينة وكانت متماً - يعني في آخر مدة حملها- فولدت عبد الله بن الزبير، ففرحوا به فرحاً شديداً وجيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحنكه -يعني مضغ التمر ووضعه فوق حنكه- ودعا له وسماه عبد الله]] . وكذلك جاء في الصحيحين، من حديث أنس في القصة المشهورة: {أن أبا طلحة كان له ولد يشتكي -مريض- ثم إنه توفي فلما جاء أبو طلحة إلى أم سليم، قال لها: كيف الصبي؟ قالت: هو أسكن ما كان، -أي هادئ وساكن الآن- فقربت له عشاءً فأكل، ثم تزينت له أحسن ما كانت تتزين، فأصاب منها -جامعها في تلك الليلة- فلما فرغ قالت له: واروا الصبي، وفي رواية عند مسلم أنها قالت له: يا أبا طلحة أرأيت لو أنك استعرت من جيرانك متاعاً فأخذوه، هل تجد في نفسك شيئاً؟ قال: لا، فقالت له: إن ابنك قد قبض، فقال: بعدما تلطخت أخبرتيني! فأخذوا الصبي وواروه، أي: غسلوه، وصلوا عليه ثم دفنوه. فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالخبر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أصبت منها الليلة شيئاً، أو أعرستم الليلة؟ فقال: نعم، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة، فحملت، ثم ولدت غلاماً، فلما ولدته قالت: لا تصنعوا به شيئاً حتى تذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمله أنس ومعه شيء من تمر، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية عند مسلم: أنه عليه الصلاة السلام كان قادم من سفر، فدخل المدينة قبل أبي طلحة وأم سليم، فدخلوا بهذا الصبي إليه، فقال: أمعه شيء؟ قال: نعم، شيء من تمر، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذه التمرات ومضغها، ثم وضعها في فم الصبي، فبدأ الصبي يتلمض لما وجد التمر كما في رواية مسلم - فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: حب الأنصار للتمر -لأن هذا الغلام أنصاري رضي الله عنه- وفي رواية: حب الأنصار التمر -وحبهم يعني حبيبهم، فيكون مبتدأ خبره التمر، أي التمر حبيب الأنصار- ثم سماه عليه الصلاة والسلام عبد الله، فكان أكثر أولاد أبي طلحة براً بأبيه، وكان حافظاً للقرآن فقيهاً} فتسميته عليه السلام له كما سمى من قبله؛ دليل على فضيلة هذا الاسم. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 12 اختيار الاسم الحسن فبما يتعلق بالأسماء المحمودة: لا شك أنه ينبغي اختيار الاسم الحسن، الذي له دلالة محمودة ومستحسنة وفيه خير، وفيه تفاؤل، وفيه إفراح للمنادى به، خلافاً لما يفعله كثير من الناس، قد يسمون أبناءهم مثلاً باسم أبيه، أو جده، أو عائلته، ولو كان اسماً غير جيد، وبعضهم يسمي ابنه باسم المكان الذي ولد فيه مثلاً، أو يسمي باسم حيوان، أو وحش، أو سبع، وهذه كلها أشياء غير مستحسنة، فينبغي اختيار الاسم الحسن. ولذلك روى أبو داود عن أبي الدرداء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فاحسنوا أسماءكم} والحديث صححه ابن حبان، وقال الإمام ابن القيم في تحفة المودود: سنده جيد، وقال مرة أخرى في موضوع ثانٍ: سنده حسن وقال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات، إلا أن فيه انقطاعاً، فإن عبد الله بن أبي زكريا الراوي عن أبي الدرداء رضي الله عنه لم يدرك أبا الدرداء، فالحديث في سنده ضعف، لكن معناه صحيح. أما الأمر بإحسان الأسماء فسيأتي مزيد بسطٍ لذلك. أما قضية أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم فهذا هو الصحيح أيضاً، ولهذا جاء في صحيح البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ينصب لكل غادر لواءٌ عند استه يوم القيامة يقال: هذه غدرة فلان ابن فلان} . فدل على أن الإنسان يوم القيامة ينادى باسمه واسم أبيه. وقد عقد الإمام البخاري لهذا الحديث عنواناً أو ترجمةً عنونها بباب: أن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، خلافاً لما رواه الطبراني، عن أبي أمامة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا دفنتم الرجل في قبره، فليقم أحدكم على رأسه وليقل: يا فلان ابن فلانة، وليسمه باسم أمه، فليقل ذلك ثلاثاً، فإنه يقول: أرشدني رحمك الله، وإن الناس يوم القيامة يدعون بأسمائهم وأسماء أمهاتهم} فإن هذا الحديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال فيه الإمام ابن القيم في تحفة المودود قال: إنه ضعيف باتفاق أهل العلم، فكونه يدعى باسمه واسم أمه هذا لا يصح، والصواب ما في الصحيحين أنه يدعى باسمه واسم أبيه. فقوله عليه السلام: {إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم} هذا صحيح لا إشكال فيه وإن كان الحديث فيه ضعف، وكذلك قوله: {احسنوا أسماءكم} صحيح وله شواهد كثيرة. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 13 الأسماء المذمومة القسم الثالث: هو الأسماء المذمومة:- ولا شك أن اختيار الأسماء -كما سلف- أمر مطلوب، والبعد عن الأسماء المذمومة كذلك، بل إذا ورد اسم مذموم فإنه يشرع قلبه وتغييره إلى اسم حسن محمود، ولذلك جاء عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الأسماء القبيحة} والحديث رواه الترمذي وفيه عمر بن علي المقدمي، وهو مدلس وقد عنعن في هذا الحديث، فهو حديث ضعيف، لكن معناه صحيح ويشهد له واقع الحال، فإنه ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير أسماء جماعة من الناس، وسأذكر أسماء بعض هؤلاء الذين غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم بعد قليل. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 14 أسماء الله تعالى السابع مما يحرم التسمي به: أسماء الله تعالى المحضة. كما سلف فيما يتعلق بالله أو الرحمن، ومثله لا يجوز التسمي بـ (الأحد) ، أو (الصمد) ، أو (الخالق) ، أو (الرازق) ، فإن هذه أسماء الله تبارك وتعالى، لا يجوز لأحد أن ينتحلها، أو يدعي شيئاً منها لا يجوز ذلك بلا إشكال، وأما الأسماء غير المختصة بالله تعالى فإنه لا بأس بالوصف بها، كأن تقول فلان (سميع) ، أو مررت بفلان (السميع) ، وتعني أنه يسمع، أو رأيت فلاناً (البصير) وتعني أنه يبصر. فإن كانت بدون (أل) ، فلا أرى حرجاً في التسمي بها، كأن يسمى الولد -مثلاً- (سميع) ، أو (بصير) ، أو (حكيم) مثلا، لا أرى ما يدل على المنع من ذلك؛ لأنه هنا يكون وصفاً له أو يكون اسماً، لكنه ليس بـ (أل) التي تدل على استغراق جميع المحامد والصفة، فإذا كان الاسم على اسم من أسماء الله؛ فإنه لا يجوز. ولذلك جاء في الحديث الصحيح: {أن رجلاً قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان قومه يسمونه بـ أبي الحكم، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: ما اسمك؟ قال: اسمي هانئ، قال له: كم لك من الولد؟ قال: لي فلان، ومسلم، وشريح، قال: من أكبرهم؟ قال: أكبرهم شريح، قال: أنت أبو شريح -وفيه أنه سأله النبي صلى الله عليه وسلم: لماذا يسمونك بـ أبي الحكم وليس من ولدك أحد اسمه الحكم؟ قال: لأنهم كانوا إذا اختلفوا في أمرا أتوا إلي فأحكم بينهم؛ فيرضون بحكومتي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أحسن هذا} يعني هذا الفعل، لكن غير اسمه إلى أبي شريح والحديث جاء عن شريح بن هانيء ابن هذا الرجل، في أبي داود والنسائي، وهو بسند صحيح. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 15 أسماء الملائكة القسم الثامن: مما يكره التسمي به: أسماء الملائكة، وقد جاء عن الإمام مالك رحمه الله، أنه يكره التسمي بأسماء الملائكة مطلقاً، وجاء عن غيره الإذن والترخيص بذلك، ولكن مما لاشك فيه أن تسمية النساء بأسماء الملائكة حرام أما يوجد الآن في بعض المسلمين من اسمه (جبريل) مثلاً هذا لا نستطيع أن نقول: إنه ممنوع؛ لأنه لا يصح دليل على منعه، وإن نقل عن مالك رحمه الله كراهية ذلك، لكن لا يصح دليل على منعه أو كراهيته فيما أعلم. أما تسمية النساء بأسماء الملائكة فهو محرم؛ لأن في ذلك مضاهاة للمشركين الذين يعدون الملائكة إناثاً، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف:19] . وأذكر أن بعض الناس يسمي بنته (ملاك) -بفتح الميم أو كسرها- والذي أعلم أن كلمة (مَلاك) أو (مِلاك) تطلق على (الملك) ، فمعنى - (مَلاك) أو (مِلاك) - معناها ملك، وإذا صح هذا فإن تسمية الأنثى بهذا الاسم لا يجوز لأنه مضاهاة لاعتقاد المشركين، وقد روي في ذلك حديث رواه البخاري في تاريخه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تسموا بأسماء الأنبياء ولا تسموا بأسماء الملائكة} وقال البخاري: في إسناده نظر، وهذه الكلمة في إسناده نظر لا يستخدمها البخاري إلا في الحديث الذي يكون ضعيفاً جداً، فالحديث لا يصح. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 16 أسماء الشياطين القسم الخامس الذي لا يجوز التسمي به: أسماء الشياطين وذلك كـ (الأجدع) ، فقد ورد أن مسروقاً لما قدم على عمر قال له: ما اسمك؟ قال: مسروق، قال: ابن من؟ قال: ابن الأجدع؛ قال له عمر: (الأجدع) شيطان، وكذلك (خنزب) هذا اسم شيطان، و (الولهان) اسم شيطان، فلا يجوز التسمي بأسماء الشياطين. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 17 أسماء الفراعنة الفراعنة مثل: فرعون وهامان وقارون، فإنه لا يجوز التسمي بها، ولا شك أنكم تعلمون أن في المسلمين من يتسمى بفرعون فهذا لا يجوز وهو محرم، وأما الوليد فقد وردت أحاديث كثيرة، ذكر بعضها في مسند الإمام أحمد، وبعضها عند الطبراني وغيره، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {اتخذتم الوليد حناناً} أي: تسمون به، ونهى أن يسمى الوليد وقال: {سيظهر في أمتي رجلٌ يقال له: الوليد هو أشر على أمتي من فرعون على قومه} أو ما أشبه ذلك، والأحاديث في هذا الباب كلها معلولة لا يصح منها شيء، وقد تكلم عنها الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وفي كتابه القول المسدد في الذب عن المسند وحاول تقويتها لكنها ضعيفة. ولذلك الإمام البخاري رحمه الله، لقوة فقهه وسعة علمه، عقد في صحيحه باباً فقال: باب تسمية الوليد، وذكر فيه حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو في صلاته بعد ما يرفع رأسه من الركوع، ويقول: {اللهم انج الوليد بن الوليد، وسلمة بن الربيعة، وعياش بن هشام، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف} فأخذ البخاري من كون اسمه الوليد بن الوليد، ومع ذلك لم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم اسمه، بل دعا له بقوله اللهم انج الوليد بن الوليد، وقد هاجر الوليد هذا إلى المدينة، ولم يغير عليه الصلاة السلام اسمه، ولما قتل كان اسمه الوليد، ولذلك كانت أم سلمة تبكيه، وتقول: يا عين فابكي للوليد بن الوليد بن المغيرة كان الوليد بن الوليد أبا الوليد فتى العشيرة فأيضاً كان يكنى بـ أبي الوليد، واسمه الوليد وأبوه الوليد، فلو ولد له ولد لكان ولده الوليد بن الوليد بن الوليد، فدل على أن الصحيح أنه لا بأس بتسمية (الوليد) أو (وليد) بدون أل أيضاً. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 18 الاسم الذي فيه تعبيد لغير الله القسم الرابع: مما يمنع من تسميته: الأسماء التي فيها تعبيد لغير الله، وقد نقل الإمام ابن حزم اتفاق العلماء على منع وتحريم تسمية أحد بـ (عبد) لغير الله تعالى، أما مثل (عبد العزى) ، و (عبد هبل) ، فهذا لا إشكال فيه لأنها أصنام، لكن أيضاً لو كانت أسماء تعبيد لأشخاص مثل (عبد عمرو) -مثلاً- فهذا لا يجوز، أو (عبد الكعبة) وهذا موجود مع الأسف في المسلمين من يسمون (عبد الكعبة) ، وبعضهم يسمي (عبد الرسول) ، و (عبد الرسول) هذا مشتهر جداً عند أهل السنة. أما عند الشيعة الرافضة، فإنهم يسمون بـ (عبد الحسين) ، و (عبد علي) ، و (عبد الرضا) ، وما أشبه ذلك من الأسماء التي فيها تعبيد لغير الله، ولكن لا يستغرب من الشيعة؛ فإنهم يعبدون غير الله فعلاً، وهم يطوفون حول القبور والمزارات، في حين أن المساجد عندهم مهجورة، لكن الذي يستغرب من أهل السنة؛ أن يسمي أحد منهم ابنه بـ (عبد الكعبة) ، أو (عبد الرسول) أو ما أشبه ذلك، فإن التعبيد لغير الله لا يجوز اتفاقاً، وكذلك (عبد المطلب) أيضاً موجود عند المسلمين فـ (المطلب) اسم رجل، فالأصح أنه لا يجوز التسمي بـ (عبد المطلب) ؛ لأنه تعبيد لغير الله تعالى. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 19 التسمية بالاسم المشئوم والكاذب هناك بعض الأسماء التي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن التسمي بها، منها: اسم أفلح، ويسار، وصدقه، ونجيح، ونافع، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لقد هممت أن أنهى أن يسمى أفلح، ويسار، ونجيح، ونافع، فإنه يقال: أثم هو؟ فيقول: لا} أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن ينهى عن هذه الأسماء، لأن الإنسان إذا سأل هل يوجد أفلح؟ هل يوجد ناجح أو نجيح أو نافع؟ فيقال: لا، فيكون في الجواب على ذلك بشاعة، وربما يؤدي إلى تشاؤم بعض الناس من هذا الجواب وتطيرهم، والطيرة كانت موجودة في العرب ومشهورة. وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه نهى -في حديث جابر قال: {هممت أن أنهي} - لكن في حديث سمرة أنه نهى وهو أيضاً في صحيح مسلم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تسمِّ غلامك رباحاً، ولا يساراً، ولا نجيحاً} وعلل عليه الصلاة والسلام بالعلة السابقة، فدل على أنه نهى عن ذلك صلى الله عليه وسلم. والصحيح في هذا الأمر أنه نهى عليه الصلاة والسلام لكن الأمر الذي قال: {هممت أن أنهى} أي: هممت أن أنهى نهي تحريم، فإن أهل العلم يقولون: إن النهي في هذه الأسماء ليس للتحريم بل هو للكراهة فحسب، وهم عليه الصلاة السلام أن يحرم هذه الأسماء، ثم لم يفعل كما ذكر ذلك جابر أنه مات وهو قد سكت عنها، فلم ينه عنها، كما في صحيح مسلم. وقد قال الإمام ابن القيم في تحفة المودود، قال: إنه يدخل في معنى هذه الأسماء ما كان مثلها، مثل: (مبارك) -مثلاً- و (خير) ، وما أشبهها، فإنه يقال هل يوجد مبارك؟ فيقال: لا، هل يوجد خير؟ فيقال: لا، لا يوجد خير! فيكون في الجواب بشاعة، وربما تطير منه بعض الناس، لكن النهي -كما أسلفت- نهي كراهة، وإلا فكثير من أسماء الناس الموجودة اليوم يوجد فيها هذا المعنى، بل الأسماء الموجودة حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كثير منها فيه هذا المعنى، ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أن النهي للكراهة. إذاً النوع الأول من الذي ينهى عن التسمي به: الاسم الذي يكون فيه تطير أو تشاؤم إذا أجيب به. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 20 الاسم الذي يكون فيه تزكية لصاحبه النوع الثاني: هو الاسم الذي يكون فيه تزكية لصاحبه، فقد ثبت في صحيح البخاري وصحيح مسلم، عن أبي هريرة أن زينب بنت أبي سلمة كان اسمها (برة) أي من البر، فقال الناس: تزكي نفسها! فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها، وسماها زينب، وكذلك جاء في صحيح مسلم، عن زينب نفسها، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم، أي نهى أن تسمى امرأة (ببرة) ؛ لئلا يقال: إنها تزكي نفسها. وعن ابن عباس كما في صحيح مسلم أن جويرية بنت الحارث كان أسمها أيضاً (برة) فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها إلى جويرية، وهناك نساء أخريات كان اسم كل واحدة منهن (برة) ، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم إلى اسم آخر، إما زينب، أو جويرية أو ما أشبه ذلك. فالأسماء التي فيها تزكية -أيضاً- مكروهة، وهذه الأسماء كثيرة مثل (ناسكة) مثلاً، أو (عابدة) ، أو (زاهدة) ، أو (جاهدة) ، أو ما أشبه ذلك من الأسماء، وهي موجودة في أحوال الناس، فنقول هذه الأسماء مكروهة، لكنها لا شك ليست محرمة؛ لأنه لم يرد دليل صريح على تحريمها. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 21 ما فيه معنى مكروه النوع الثالث: من الأسماء المنهي عنها، هي: الأسماء التي يكون فيها معنى مكروه، وذلك مثل الأسماء القبيحة، وقد جاء في الحديث الصحيح عن أسامة بن أخدري، أن رجلاً قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عبد له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للعبد -المولى-: ما اسمك؟ قال: اسمي أصرم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {لا، بل أنت زرعة} والحديث رواه أبو داود وسنده صحيح، وذلك لأن أصرم مشتق من الصرم وهو القطع، فهو معنى رديء يوحي بانقطاع هذا الإنسان وعدم وجود نسل له وما أشبه ذلك، فغير اسمه إلى اسم حسن جميل، وهو زرعة، مشتق من الزراعة والحرث وما أشبه ذلك. وكذلك في صحيح مسلم عن ابن عمر، أن بنتاً لـ عمر كان اسمها عاصية، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها جميلة، وذلك لأن اسم عاصية فيه قبح وكراهة، فغير النبي صلى الله عليه وسلم هذا الاسم. وقد غير عليه الصلاة والسلام أسماء جماعة من الصحابة كان اسمهم (العاصي) منهم عبد الله بن عمر كان اسمه العاصي، وكذلك عبد الله بن عمرو بن العاص، وكذلك عبد الله بن الحارث كان اسمه (العاصي) ، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم إلى (عبد الله) . وكذلك رجل آخر كان اسمه العاصي بن الأسود، فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه إلى مطيع بن الأسود وهو والد عبد الله بن مطيع القائد المعروف، فغير النبي عليه الصلاة والسلام اسم (عاصي) أو (عاص) إلى (مطيع) ، أو إلى (عبد الله) تغييراً للاسم القبيح إلى ضده، إلى اسم حسن، كما غير عليه السلام أسماء كثيرة جداً كما ذكر ذلك أبو داود. قال أبو داود في سننه: {وقد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة، كـ (العاصي) و (عزيز) و (غراب) و (شهاب) و (حباب) و (الحكم) و (حرب) و (المضطجع) و (عفرة) وسماه بأسماء حسنة جميلة} فمثلاً اسم أبي الحكم غير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه من أبي الحكم إلى أبي شريح، كما في الحديث الصحيح الآتي. (المضطجع) غير اسمه إلى (المنبعث) ، عفرة هذا اسم أرض، غير اسمه النبي صلى الله عليه وسلم. كذلك (شعب) وكان اسمه (شعب الضلالة) ، فغيره النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه سماه (شعب الهدى) ، أو (شعب الهدي) أو ما أشبه ذلك. بل كان جماعة من الناس يسمون بنو الزينة، أي: أن هذا الاسم يدل على أنهم من زنى، فغير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم، وسماهم (بنو الرشدة) ، يعني أنهم من نكاح صحيح لا من سفاح حرام، إلى غير ذلك من الأشياء التي غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماءهم. وهذا يدل على أن الاسم القبيح الذي يدل على معنى رديء؛ ينبغي أن يغير، وبعض العوام يعتقدون أن التغيير لا يكون إلا بأن يذبح الإنسان شيئاً إذا غير اسمه، وهذا مجرد إشاعة انتشرت عند العامة، لا أعلم لها أصلاً في الشرع، ولا أعلم أحداً قال بها من أهل العلم، فيغير الاسم القبيح إلى اسم حسن، دون أن يترتب على ذلك طلب فدية، ولا كفارة ولا شيء من ذلك، ولم يرد في شيء من النصوص السابقة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك. هذه الأسماء التي غيرها النبي عليه الصلاة والسلام، إنما غيرها فراراً وكراهيةً من معانيها الرديئة؛ لما سبق من ارتباط الاسم بالمسمى، ولذلك جاء في الحديث الصحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: -كما في صحيح البخاري وصحيح مسلم: {أسلم سالمها الله، هذه قبيلة أسلم، وغفار غفر الله لها، وعصية عصت الله ورسوله} فانظر كيف ناسب صلى الله عليه وسلم بين أسماء هذه القبائل وبين أحوالها، فأسلم قد أسلم كثير منهم، فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمسالمة، وكذلك غفار دعا لها بالمغفرة، أما عصية فهم الذين غدروا بأصحابه وقتلوا منهم؛ فدعا عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: {عصت الله ورسوله} . ومن طريف ما يحكى في التفاؤل بالأسماء الحسنة، وكان عليه السلام يعجبه ذلك، وفي ذلك قصص كثيرة، لم أشأ أن أستدل بأشياء من القصص المروية عن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنني أود أن أقتصر فيما يتعلق بالرسول عليه الصلاة والسلام على ما صح وثبت بسند صحيح، لكن أذكر بعض الروايات المتعلقة بغيره باختصار: فمما يحكى من ذلك أن حليمة السعدية؛ التي أرضعت الرسول صلى الله عليه وسلم، جاءت إلى مكة لطلب الرضاعة، فلما وقفت على عبد المطلب قالوا: من أنتِ؟ قالت: أنا حليمة، قالوا: ممن أنت؟ قالت: من بني سعد، فقال عبد المطلب: حلم وسعد ما أحسن هذان! في هذين غناء الدهر، ودفع إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك يحكى أن الحسين بن علي رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب إلى كربلاء، ونزل بها سأل عن اسمها، فقيل له: هذه كربلاء، فقال: فيها كرب وفيها بلاء، وفيها حصل فعلاً المقتلة العظيمة، حيث قتل رضي الله عنه وطائفة كبيرة من جنده الذين كانوا معه، فهذا أيضاً يدل على ضرورة تغيير الأسماء السيئة إلى أسماء حسنة تدل على معانٍ جملية. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 22 الأحكام المتعلقة بالتسمية النقطة الرابعة والأخيرة في هذا الموضوع هي: الأحكام المتعلقة بالتسمية. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 23 ضرورة تغيير الاسم القبيح فأول حكم من الأحكام -وقد أسلفته- وهو ضرورة تغيير الاسم القبيح، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء جماعة من الصحابة ومما غيره كما ذكر ابن المنذر أن علياً رضي الله عنه أتاه بابنه الحسن فقال له: هذا اسمه (حرب) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلا بل اسمه الحسن} فلما ولد الحسين سماه علي رضي الله عنه (حرباً) ، فلما جيء به قال النبي صلى الله عليه وسلم ما اسم ابني هذا؟ قالوا: اسمه (حرب) ، قال: {كلا هو الحسين} ثم أتاه بابنه الثالث فقال ما اسمه؟ قال: (حرب) ، قال: {كلا بل هو محسن} وقد غير النبي أسماء كثيرة كما أسلف. وأيضاً غير أسماء المواقع، ولعل من أشهر ما غيره المدينة، فإنها كانت تعرف في الجاهلية بيثرب فسماها النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولذلك روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي حميد الساعدي، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم من تبوك قال: {هذه المدينة وهم يقولون يثرب} وكذلك روى النسائي بسند صحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت بقرية تأكل القرى يقولون يثرب وهي المدينة تنفي الرجال أو تنفي خبث الرجال كما ينفى الكير خبث الحديد} ولم يحك الله تعالى لفظ يثرب إلا عن المنافقين: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب:13] ولذلك فإن تسمية المدينة بيثرب هو مكروه كراهية شديدة، على ما هو الراجح. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 24 الاسم للأبوين الأمر الثاني المتعلق بالأحكام: أن الاسم حقٌ للأبوين: الأب والأم، وإذا تشاحا فيه واختلفا، فإن المقدم في ذلك الأب لأن النسب إليه، فهو يقال فيه فلان ابن فلان، كما أن الأحاديث السابقة كلها كان الذي يتولى التسمية فيها هو الأب -كما سلف- لكن إن أمكن التفاهم بين الزوجين فهو الأفضل، فبعض الزوجين يتواضعون على أن الرجل يسمي الأولاد الذكور، والأم تسمي البنات، فهذا حسن إذا اتفق، أو يكون بينهما مفاهمة ومناقشة، حتى يتفقا على الاسم المناسب للجميع. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 25 جواز التسمي بأكثر من اسم النقطة الثالثة في الأحكام: أنه يجوز للإنسان أن يسمي نفسه بأكثر من اسم، وإن كان هذا خلاف الأولى، ولذلك جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن جبير بن مطعم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لي خمسة أسماء، أنا أحمد، ومحمد، والحاشر، والعاقب، والماحي والحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، والعاقب الذي ليس بعده نبي، والماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر} . وقد ذكر ابن فارس رحمه الله، أن للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين اسماً، فالتسمي بأكثر من اسم لا بأس به، وإن كان خلاف الأولى. لكن أريد أن أنبه إلى نقطة: وهي أن بعض الشباب -خاصة الذين يذهبون للجهاد في بعض المواقع الإسلامية- أخبروني أنهم يسمون أنفسهم بأسماء أخرى منتحلة كاملة، مثل: أحدهم سمى نفسه: مصعب بن عمير، وهو في الواقع اسمه (محمد بن علي) مثلاً، أو صالح بن إبراهيم، فهذا لا يجوز؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] . فكون الإنسان يسمي نفسه (ابن كذا) ، ويذكر اسماً ليس لأبيه هذا حرام، اللهم إلا أن ينتسب إلى جده مثلاً، أو إلى أحد أجداده، أو إلى قبيلته فهذا لا بأس، أما أن ينتحل لنفسه اسماً ولأبيه اسماً، فيسمى نفسه مثلاً أسامة بن زيد، أو مصعب بن عمير، أو عمر بن الخطاب، وليس اسمه كذلك، فإن هذا حرام لا يجوز؛ لأن الله تعالى يقول: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب:5] . الجزء: 64 ¦ الصفحة: 26 وقت التسمية النقطة الرابعة والأخيرة في موضوع الأحكام: متى تكون التسمية؟ أو في أي يوم؟ قيل: إنه يستحب التسمية في اليوم السابع، وقد جاء في هذا ثلاثة أحاديث أو أكثر، أحدها: حديث سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم سابعه ويسمى} والحديث رواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة وسنده جيد لأن الحسن البصري صرح بسماعه لهذا الحديث من سمرة بن جندب فأمن انقطاعه، وقد ذكر أهل العلم: النسائي وغيره أن الحسن سمع من سمرة بن جندب ثلاثة أحاديث هذا أحدها. الثاني حديث عبد الله بن عمر {أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتسمية المولود يوم سابعه} والحديث رواه الترمذي وسنده ضعيف، والثالث حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأظنه عند ابن المنذر قال: {أمرنا بتسمية المولود يوم سابعه} . هذا هو القول الأول. وقال آخرون: بل يسمى في اليوم الثالث، وجاء هذا عن ثابت عن أنس رضي الله عنه أنه يسمى في اليوم الثالث. والقول الثالث: أنه يسمى من حين يولد، قال البيهقي رحمه الله: وهذا أصح، أنه يسمى من حين يولد، وذلك لأن جميع القصص السابقة -وهي كثيرة- وردت فيها التسمية حين ولادته، مثل ابن الرسول عليه الصلاة والسلام إبراهيم، سماه حين ولد، وإبراهيم بن أبي يوسف، سماه لما جاء به ليحكنه، والتحنيك يكون بعد ولادته مباشرة، وقبل أن يدخل جوفه شيء أبداً، لا لبن ولا غيره، وكذلك عبد الله بن الزبير سماه عليه الصلاة والسلام، وابن الأنصاري، وغيرهم كثير ممن سماهم النبي صلى الله عليه وسلم. أولاده أيضاً، الحسن، والحسين، ومحسن -إذا صحت- سماهم عليه الصلاة والسلام حين ولادتهم، فأكثر ما ورد من النصوص أن التسمية كانت حين الولادة، ولذلك فإن الأقرب -والله أعلم- ما قاله ابن القيم رحمه الله حين قال: والأمر في ذلك كله واسع، فإن سمى في اليوم الأول أو الثالث أو السابع. وكأن الأحاديث التي فيها التسمية بالسابع تحتمل في نظري على أنه ينبغي أن لا يتعدى بالتسمية اليوم السابع. أي: يسميه حين يولد، فإن لم يفعل سماه إلى اليوم الثالث، فإن لم يفعل سماه إلى اليوم السابع، ولا ينبغي أن يتعدى به اليوم السابع، هذا استحباباً، ولو تعدى لم يكن في ذلك حرجٌ. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 64 ¦ الصفحة: 27 حقيقة التطرف تحتوي هذه المادة على المعنى اللغوي والاصطلاحي للغلو، وكيف سخرته دول الغرب في هدم الدين، ثم بين حقيقة التطرف، والأسباب التي تمنع المسلمين من الغلو. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 1 قصيدة في مدح الشيخ: سلمان قصيدة في مدح الشيخ سلمان: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد: يا قائد الركب لي في ركبكم أمل أنزل بربك من في القلب قد نزلوا انزل بربك من في القلب مسكنهم وبالفؤاد لهم في ساحه نزل أنزل بربك من دموا مدامعنا شوقاً إليهمفما جفّت لنا مقل أنزل بربك من أبقوا لنا طللاً نشكو إليه النوى حتى اشتكى الطلل أنخ بربك ركباً كنت آمله عودي علينا فديت النفس يا إبل رحماك يا ركب بي فإنني رجل لم يشجه قط ذكر الدار والغزل ولست صباً يذيب الهجر أضلعه أو أنني من كئوس الوصل أنثمل وما سبتني دنيا لا بقاء لها أو دل غانية أو أعين نجل كلا! فديتك إن القلب يسكنه أهل الفضيلة إن قالوا وإن فعلوا فمنهم شيخنا سلمان من فخرت به الشباب وخافت رأيه الدول ومن أقر له بالفضل معترفاً رجال أمته شاب ومكتمل قد أنحلت جسمه بالهمّ أمته فعاد كالسيف يحدو عزمه الأمل في أن يعيد إلى الإسلام عزته ما زاره كلل أو شابه ملل تبدو على وجهه آثار فكرته هم على ظهره من فوقه ثقل فلم ير الشيخ ضحاكاً ولا هزلاً كيف السرور وقلب الشيخ يشتعل وهمه الدين والإسلام دعوته عدوه الكفر والخذلان والكسل بيضٌ فعائله جدٌ عزائمه كثرٌ فضائله لم تحصها جمل أخلاقه كرم أفعاله ورع حياته عمل في إثره عمل نهاره دعوة وعظ وتبصرة وليله دمعة لله تنهمل إنا رجالك يا سلمان فامض بنا أنى أردت فأنت القدوة المثل إنا رجالك مهما قال حاسدكم إنا رجالك لو سبوا ولو عذلوا إنا رجالك لو قالوا زبانية أو ذاك منحرف أو ذاك معتدل هذي مجالسهم غرقى بخمرهم هذي سجونهم قد عمها الوجل هذي صحائفهم ملأى بوحلهم هذي منابرهم فليعتل السفل إنا لنا خطنا نمشي عليه كما للكافرين صنوف الزيغ والسبل متطرفون نعم لله خالقنا وكذا أصولية بالله تتصل إنا اهتدينا بنور الله خالقنا فكيف يصرفنا عن نوره هبل عذراً فديتك إني قد مدحتكم حقاً وصدقاً وإني منكم خجل فخذ بفضلك ترباً واحث في وجهي فالترب من يدكم يا شيخنا حلل الجزء: 65 ¦ الصفحة: 2 سبب اختيار موضوع حقيقة التطرف إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أيها الإخوة مضى ذلك اليوم يوم عاشوراء, المبارك الذي كان يوماً من أيام الله تعالى, حيث نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فرعون وقومه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] ونسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن صامه وتقبل منه صيامه, إنه على كل شيء قدير. في هذه الليلة -ليلة الحادي عشر من شهر الله المحرم من سنة (1413هـ) - ينعقد هذا المجلس المبارك في هذا المسجد في حي الإسكان بمدينة جدة, وقد طلب إليّ المقدم -غفر الله له- بعدما قرأ قصيدته أن أحثو في وجهه التراب, من قبِلَ أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، ولكن عذري أنه لا يوجد هاهنا تراب, والواجب يسقط مع العجز, ولكنني أحثو في وجهه وفي وجوهكم دعوات أسأل الله تعالى ألا يحجبها. فأقول: اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من ناوءنا, ووفقنا لما يرضيك عنا, اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا, وظاهرنا وباطننا, اللهم تولَّ أمرنا, اللهم اهدنا سبل السلام، وأخرجنا من الظلمات إلى النور, اللهم إنا نسألك إيماناً صادقاً وعلماً نافعاً, وعملاً صالحاً متقبلاً, ورزقاً حلالاً واسعاً. ثم أقول: كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[اللهم اجعلني خيراًَ مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] فإنني لا أقر ما ذكره المقدم ولا أوافق عليه, وقد طلبت منه وهمست إليه حذف بعض الأبيات على الأقل, لكنه اعتذر وأصر، فإنه مسئول عما قال, وأقول: هذا وإن كنت أعلم أن مدحه ومدح غيره لا ينفعني شيئاً ولا يضرني شيئاً أيضاً, فأما إنه لا ينفعني فإنما الإنسان بعمله, وأما إنه لا يضرني -إن شاء الله- فإنني أعلم في نفسي من الجهل والنقص والظلم ما جعلني لا ألتفت إلى ما يقوله عني الآخرون, -ولله الحمد- فلا أخشى على نفسي من شيء، وأنا أعلم أن فيها من المعايب ما لا تعلمون وما لا يعلمون, ويكفيني أني أعلم أن الذي مدحني لو علم من نفسي ما أعلم منها لما قال الذي قال, ولكنه قال ما قال أخذاً بالظاهر, والله تعالى يغفر لي وله. أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة هو: حقيقة التطرف، ولقد عولج هذا الموضوع كثيراً بأسماء شتى، سواء في محاضرات أم دروس, أم في كتب قديمة أو جديدة, ولعلي أذكر من الكتب القديمة التي عالجت جانباً من هذا الموضوع, كتاب الإمام الشيخ ابن تيمية رحمه الله: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، فقد عالج فصولاً من ذلك في غلو اليهود والنصارى وغلو هذه الأمة. أما من المعاصرين فإنني أشيد بكتاب ضخم صدر أخيراً بعنوان: الغلو في الدين في حياة المسلمين المعاصرة، للأستاذ عبد الرحمن اللويحق , وهذا الكتاب هو بحق من أنفس وأحسن وأجمع ما كتب في موضوع الغلو, وسأتحدث في هذا الموضوع في نحو ست نقاط. لماذا نناقش هذا الموضوع؟ وما مناسبة طرحه في هذه الظروف بالذات؟ الجزء: 65 ¦ الصفحة: 3 تجدد حدوثه ثالثاً: أن هذا الموضوع يتجدد عرضه مع كل حدث, فمثلاً عند مقتل الرئيس المصري السابق طرحت قضية ما يسمى بالتطرف على أوسع نطاق, ثم سكتت قليلاً, ثم في أحداث أفغانستان طرحت, في سقوط الاتحاد السوفيتي طرحت, في أحداث الخليج طرحت, في قيام الانقلاب لثورة الانقاذ في السودان طرحت, في أحداث الجزائر وهكذا أصبحت تطرح بكل مناسبة, ويتسامع الناس بهذا, وربما يكون الكثير من عامة الناس يأخذون معلوماتهم عن هذا الموضوع من خلال أجهزة الإعلام. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 4 الخوض فيه بغير علم ثانياً: هذا الموضوع تناوله الكثير, تحدث عنه الغرب الكافر، وأطلق مصطلح: الأصولية، وتحدث عنه العلمانيون عبر أجهزة الإعلام من صحافة وغيرها, وأطلقوا مصطلح: التطرف, وتحدث عنه غير المتخصصين سواء كانوا في المراكز العلمية أم في أجهزة الإعلام أم في غيرها, فوجب على حملة العلم الشرعي أن يتناولوا هذا الموضوع أيضاً. ولعلي أذكر لكم نموذجاً واحداً فقط ممن يتحدثون في مثل هذه الأمور, قبل يومين قرأت في جريدة الحياة, مقابلة مع إحدى المغنيات الشهيرات وهي في فرنسا, تتجول في مسارحها ونواديها للتحكيم في بعض المسابقات الفنية, فسألوها أخيراً عن أنه هناك بعض الفنانات والممثلات يعتزلن الغناء والتمثيل والفن باعتقاد أنه محرم؟ فقالت هي: أبداً الفن ليس بحرام، وعمره ما كان حراماً! فهذه فتوى نشرت بالخط العريض، تدل على أنه تكلم في مثل هذه الأمور كل واحد, وحق على أهل الإسلام وحملة الدعوة أن يتكلموا عنه. أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس الجزء: 65 ¦ الصفحة: 5 الغلو واقع لا شك فيه فأقول: أولاً: لأن الغلو أو ما يسمونه بالتطرف أحياناً هو واقع لا شك فيه, ولا يمكن تجاهله، وليس يجوز أن يكون انزعاجنا هو من الحديث عن الأخطاء أو المشاكل بل يجب أن يكون انزعاجنا من وجود الأخطاء, أو من وجود المشاكل في المجتمع المسلم, ولهذا لست أرى حرجاً قط في نقد مظاهر الانحراف في المجتمع الإسلامي, بل وفي نقدها علانية وأمام المسلمين خاصتهم وعامتهم, وفي الحديث الذي رواه مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة} والنصيحة تقتضي أن يصارح بعضنا بعضاً بأخطائنا وعيوبنا, سواء كانت أخطاء الخاصة أم أخطاء العامة, اللهم إلا أن تكون تلك الأخطاء أخطاء شخصية فحينئذٍ ينبغي أن تكون النصيحة فيها بينك ويبن الشخص الذي صدر منه الخطأ. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 6 الحديث عن مصطلح التطرف مصطلح, التطرف: كلمة وردت في العنوان, وهذا في الواقع مصطلح صحفي, وإن كان صحيحاً من حيث اللغة, وهو يعني أخذ الشيء بالطرف, لكنه ليس من الألفاظ الشرعية, فهو لم يرد في القرآن ولا في السنة النبوية, وإنما هو مصطلح صحفي، أكثر من يستخدمه العلمانيون غالباً, دون أن يلتزموا بالموضوعية في هذا المصطلح, فهم لم يحددوا أولاً ما هو التطرف؟ وما معنى التطرف؟! بل ولا يريدون أن يحددوا له معنىً, ويريدون أن يبقى لفظ التطرف لفظاً غامضاً سيالاً فضفاضاً، يحاولون إلصاقه في خصومهم، سواء كانت خصومة سياسية، أو فكرية، أو شرعية، أو دينية، أو حتى خصومة شخصية أحياناً, وهم أيضاً لا يريدون أن يكون لهذا المصطلح معنىً خاص حتى يسهل عليهم تقليبه كيف شاءوا. فهم اليوم يَصِفُون به هذه الجهة, وغداً يَصِفُون به تلك الجهة, واليوم يصفون هؤلاء بالتطرف وغداً يبعدونه عنهم ويصفونهم بالاعتدال, لماذا؟! لأن لفظ التطرف لفظ غامض فضفاض في استخدامه. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 7 أصل مصطلح الأصولية أما الغرب فإنه يستخدم بدلاً من لفظ التطرف لفظ الأصولية, وهو في الأصل مصطلح نصراني يطلق على أحد المجموعات النصرانية, التي تلتزم بحرفية الكتاب المقدس عندهم التزاماً صارماً, وقد نشأت في ظروف وأوضاع خاصة, وقد حاول هؤلاء أن يبحثوا عن أوجه شبه بين هذه الفئة من النصارى وبين دعاة الإسلام أو بعضهم, ومن ثم نقلوا المصطلح إلى الشرق, وهو مصطلح غربي له ظروفه وملابساته الخاصة, وإن كانت الصحف العلمانية لا تتورع عن شيء في بث أحقادها, فإنها تستخدم كل مصطلح وتعده وسيلة أو سلاحاً ضد دعاة الإسلام. وقد أصدر سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز بياناً منذ زمن نشر في الصحف, يحذر فيه من هذا المصطلح، ويبين ما يقصد به, ويدعو إلى تجنبه وإلى العدل في الأقوال والأفعال. إذاً قد يطلق لفظ التطرف وقد يطلق لفظ الأصولية وكلها كلمات باطلة أريد بها باطل. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 8 توظيف مصطلح التطرف ففي نظر هؤلاء -مثلاً- يمكن يوظف مصطلح التطرف أحياناً في مواجهة المواقف السياسية, فالذين ينتقدون الصلح مع إسرائيل هم متطرفون, ولذلك وجدنا مجلة الوطن العربي تنبز منظمة حماس الإسلامية الفلسطينية، تنبزها بأنها منظمة متطرفة, لماذا؟! لأن موقفها من قضية السلام موقف واضح وصريح، فهي ترفضه وتعتبر أن المشاركة في مؤتمر السلام خيانة لقضية الأمة الإسلامية. وبالأمس القريب كانت منظمة حماس عند هؤلاء وغيرهم رمزاً من رموز المقاومة الوطنية الناضجة, التي تقاوم الاحتلال الصهيوني الغاشم, هكذا كانت عباراتهم, فبين عشية وضحاها تحولت من منظمة وطنية ومنظمة مقاومة تحولت إلى منظمة متطرفة. وهكذا يبرز جانب التحالف الجديد بين العلمانيين الذين كانوا بالأمس في موقف المعارضة في الغالب فتحولوا اليوم أمام خطر ما يسمونه هم وغيرهم بالتطرف الديني, تحولوا إلى موقف التحالف مع القوى الأخرى, مع السلطات ومع الغرب ومع غيرهم, وسأزيد هذه النقطة وضوحاً في النقطة التي بعدها. ً فقد يوظف التطرف أحياناً أو ما يسمى بذلك في مواجهة بعض المواقف السياسية. وأحياناً يوظف في مواجهة بعض المواقف السلوكية, ففي نظر العلمانيين مثلاً من الصحفيين وغيرهم, الذي يلتزم بالسنة في صلاته وفي لباسه، في تجنبه للمحرمات وفي حجاب زوجته، في سواكه، في تجنبه للربا، في تجنبه للفحش، في تجنبه للغناء هذا يعتبر عندهم محسوباً على المتطرفين, وكثيراًَ ما ترسم الكاركاتيرات في الصحف السافرة عن أصحاب اللحى الطويلة وأصحاب الثياب القصيرة, فكأن هذا عندهم هو رمز التطرف, فمثلاً في جريدة صوت الكويت, لا حياها الله, رسمت في أحد أعدادها رجلاً له لحية كبيرة، وكأنها كيس كبير يحمله, وهذه اللحية مرسومة على شكل مسدسات, إشارة إلى أنه إنسان إرهابي, وفي يده جريدة تعلن اغتيال رئيس المجلس الأعلى في الجزائر بوضياف، وهذا الرجل يقول: اللهم احمنا من الإرهاب، فهذه سخرية؛ وفي عدد آخر من الجريدة نفسها صورت إنساناً كثيف الحاجبين جداً, وشاربه محلوق, ولحيته ضخمة طويلة تصل إلى نصف الساق تقريباً, وثوبه قصير, وفي يده مسبحة, وهذه المسبحة عبارة عن عقود من القنابل, تصوّر! فترتسم في ذهن السذج والبسطاء والمغفلين هذه الصورة بالإرهاب والتطرف والعنف وبرفض الحوار, دون أن يتحدثوا، ودون أن يستخدموا أسلوب النقاش الهادئ العلمي الموضوعي الذي يتحدثون عنه, لكن من خلال صورة بذيئة, غير مؤدبة، وهذا غريب! وبطبيعة الحال فإن الموسومين بما يسمونه بالتطرف لا شك أن منهم من يلتزم بالمظاهر الإسلامية, فيعفي لحيته أو يقصر ثوبه لكننا نعرف الخلفية التي يستخدمها أولئك الصحفيون وهم يتحدثون أو يرسمون, ونحن لا نعرفها من باب الرجم بالغيب فالغيب لله, ولكن نعرفها من مواقف أخرى واتجاهات ومناهج يحاولون أن يجروا كل دعاة الإسلام لتصنيفهم تحت عنوان التطرف! ومن ثم يحذرون المجتمعات من خطورتهم, فمثلاً جريدة الشرق الأوسط ومع الأسف أنها محسوبة على هذه البلاد, تعتبر الجبهة الإسلامية في الجزائر أصوليين متطرفين, وأهل السودان أصوليين متطرفين, وأهل اليمن أصوليين متطرفين, وأهل الأردن أصوليين متطرفين, بل وكثيراً من أهل هذا البلد أصوليين متطرفين, وحزب النهضة في تونس أصوليين متطرفين, في نظر جريدة الشرق الأوسط, ولهذا قال أحد الكاتبين في جريدة المدينة: إن الشرق الأوسط صورت ما يسمى بالجماعات الإسلامية كلها, وكأننا نعيش في غابة من الوحوش! لا هم لها إلا القتل والتفجير والحرب والتدمير وغير ذلك. وأقول: هذا الوصف الذي أطلقته خضراء الدمن على الجماعات الإسلامية وعلى دعاة الإسلام لم تظفر به كل المجتمعات البشرية, حتى اليهود لم تصف مجتمعاتهم بذلك, بل وصفت مجتمعات اليهود بأن فيها صقوراً وحمائم, وأن فيها معتدلين, وأن فيها منادين للسلام, ولم تصف الصرب الذين دمروا المسلمين في البوسنة والهرسك، لم تصفهم بهذا الوصف قط, ولم تصف الصليبيين في العالم بذلك, ولا الشيعة ولا حزب البعث ولا غيرها. وقد حشرت في هذا تناقضات تمتد ما بين النواب الأردنيين الذين دخلوا البرلمان الحكومي, والجبهة القومية في السودان, التي يقول " مورفي " وهو مراسل إحدى الصحف الأمريكية في الشرق الأوسط عن أحد زعماء الجبهة في السودان: إنه منظر إسلامي فذ, لكنه أصولي يعرف جيداً كيف يستغل الظروف ويستخدمها لصالحه، وهو قادر على التأقلم مع الواقع, ويرضى بمهادنة الأنظمة بدون أن يتخلى عن مطالبه، ولاحظوا الألفاظ, ثم يقول: إن الترابي -وهو المقصود بالحديث السابق- بدأ يعلم تلاميذه شكلاً آخر من أصولية الإسلام, يمكنهم من التعايش مع الآخرين والتأقلم مع المتغيرات, والتطورات, ويجنبهم العزلة في الوقت الذي يلتزمون بالخطوط العريضة في أفكارهم. أولاً: لا أحد يستطيع أن يمدح الترابي ولا غيره بأفضل من هذا الكلام, بأنه محافظ على أصوله ومبادئه، ومع ذلك عنده قدرة على التأقلم مع الظروف والمتغيرات ومع الآخرين, وأسلوب الحوار والنقاش الهادف, هذا أولاً. ثانياً: هذه شهادة من رجل نصراني غربي يحمل في الغالب عداوة النصارى للمسلمين, ومع ذلك وصف الرجل أنه يتأقلم مع الظروف, وأنه يحسن معايشة الأوضاع، فكيف تأتي صحف كالشرق الأوسط أو غيرها, لتصفهم بالتطرف والأصولية. كما حشرت الشرق التجمع اليمني بقيادة الشيخ عبد المجيد الزنداني ضمن المتطرفين, واعتبرت أن التجمعات والمخيمات التربوية العلمية التي تقام في اليمن مراكز لتخريج المتطرفين, وتدريب الإرهابيين, دون أن تقدم على ذلك دليلاً واحداً, ونسيت هذه الجريدة أنها تتكلم عن واقع لا يبعد عنا سوى كيلوا مترات قليلة، وأن التحقق من هذه الأقوال والأخبار أمر ميسور, لكن في حمى العداوة الشخصية والسياسية نسيت كل شيء وأصبحت تتكلم في مثل هذا الأسلوب. كما شمل هذا اللفظ حزب النهضة التونسي, وهو من أكثر الاتجاهات الإسلامية تسامحاً, بل ورخاوة في أفكاره ومصطلحاته وفي علاقاته. أما الجماعات الإسلامية في مصر, فحدث ولا حرج, بل حتى المجاهدين الأفغان صنفوا الآن ضمن المتطرفين, وخرجت علينا مطبوعات عدة تحذر منهم, ومن الشباب العربي المسلم العائد من هناك, أصوات تحذر من هؤلاء، لم نسمعها يوماً من الأيام تحذر من الشباب العائد من بانكوك ومن يحمل جرثومة الإيدز, في صحف محلية في هذا البلد, ومع الأسف أن يتورط في هذا الأمر مطبوعات وصحف محلية كان يجب عليها على الأقل أن تجامل العلم وأهل العلم في هذه البلاد التي هي محط أنظار المسلمين في كل مكان. فمقصودي من هذا الاسترسال أن أقول: إن هذه الصحف وهذه الوجوه لا تتحدث عن فئة بعينها, لا, ولكنها تتذرع بالحديث عن التطرف لشفاء غليلها، والتنفيس عن أحقادها وعداوتها من حملة رسالة الإسلام, حتى ولو كانوا معتدلين، بل حتى لو كانوا مفرطين متساهلين. وقد يوظف لفظ التطرف أحياناً في مواجهة مواقف سياسية أو سلوكية، وقد يوظف أحياناً في مواقف عقائدية مبدئية, فمثلاً الذي يطلق على النصارى لفظ كفار يعتبر عند بعضهم متطرفاً, والذي يتحدث عن الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية يعتبر متطرفاً, لماذا؟! لأن هؤلاء يقولون الإسلام لم يطبق أبداً, حتى في عهد الخلفاء الراشدين, وهذا كلام فرج فودة , في كتابه: الحقيقة الغائبة، الذي دفع حياته ثمناً لهذا الكتاب, يقول ما معناه: إن الإسلام حلم وخيال, ولم يطبق على محك الواقع يوماً من الدهر, وذلك فالذين ينادون بالحكم الإسلامي, وتطبيق الشريعة الإسلامية هم من المتطرفين, والذي يدعو إلى مخالفة المشركين في هديهم وسلوكهم وأعمالهم وأعيادهم هو من المتطرفين, والذي ينادي بتصحيح عقائد المسلمين وأحوالهم وأخلاقهم على ضوء الكتاب والسنة هو من المتطرفين, وهو من الذين يدعون إلى الحجر على العقول وتعطيلها. إحدى الصحف -مثلاً- نشرت أيضاً كاركاتيراً هو عبارة عن صورة لرجل ملتحٍ وضع خده على يده يفكر, فبصر به أحد أقاربه ممن يسمونه بالمتطرفين, فجاء إلى أمير الجماعة -كما يقولون- يقول له: إن فلاناً قد وضع خده على يده -بمعنى أنه قد بدأ يفكر- ومن فكر كفر، فأنا أقترح تصفيته جسدياً -يعني قتله- وهم بذلك يريدون أن يرسلوا إلى القارئ والمشاهد رسالة وهي أن هؤلاء لا يفكرون ويحجرون على العقول, وأنهم يتعاملون دائماً وأبداً مع خصومهم بأسلوب القتل والإرهاب والتصفية الجسدية. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 9 المعنى الشرعي للتطرف المعنى الشرعي في مقابل هذا وذاك, هو لفظ: الغلو، وقد جاء هذا اللفظ في كتاب الله عز وجل في مواضع كثيرة قال الله عز وجل: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171] , وقال: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77] كما جاء هذا في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً, ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنه لما جمع للنبي صلى الله عليه وسلم جمرات, أمره أن يلقط له حصىً صغاراً وقال: {بمثل هؤلاء فارموا، وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين} , والحديث رواه أحمد والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة وابن تيمية والنووي والألباني وغيرهم. ولذلك فالواجب والأفضل استخدام المصطلحات الشرعية, وتجنب المصطلحات الغربية أو المصطلحات العلمانية المحدثة, التي أصبح لها جرس ورنين في آذان مستمعيها, وأصبح لها انطباع في عقولهم يصعب التخلص منه, ومع ذلك فإنه ليس لها معنىً خاصاً يمكن فهمه ومعرفته. وهذا لا يعني -أيضاً- أن استخدام المصطلح الشرعي ينهي المشكلة, فنحن نجد أن هناك من يرمي بالغلو أقواماً ما جاوزوا الحد ولا تعدوا الحق, بمجرد مخالفته لهم في المنهج أو في الطريقة, أو جهلاً منه بما هم عليه, أو حسداً من عند نفسه, أو لأي سبب آخر, ومن أمثلة ذلك مثلاً ما نعلمه جميعاً عن خصوم الدعوة الإسلامية السلفية في هذه البلاد حيث يطلقون عليها لفظ الأصولية ولفظ التطرف وغير ذلك من الألفاظ, وهم ما فتئوا ينبزونها بالألقاب بدون علم ولا هدىً ولا كتاب منير. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 10 أنواع الغلو والغلو نوعان: 1- غلو اعتقادي: كغلو النصارى بعيسى عليه السلام, أو غلو الرافضة في علي والأئمة الاثني عشر, أو غلو الخوارج في تكفير أهل الإسلام بالمعاصي والذنوب كبيرها وصغيرها, ومن الغلو أيضاً في الاعتقاد ما أشار إليه الشاطبي وهو الغلو في بعض الفروع في تنزيلها منزلة الأصول. إذ أن المعارضة الحاصلة بذلك للشرع مماثلة للمعارضة الحاصلة للشرع بأمر كلي. 2- الغلو العملي: وهو المتعلق بالأمور العملية التفصيلية من قول اللسان أو عمل الجوارح, مما لا يكون فرعاً عن عقيدة فاسدة, ومن أصح الأمثلة على ذلك رمي الجمار بالحصى الكبيرة مثلاً, فإن النبي صلى الله عليه وسلم عدّه غلواً كما في حديث ابن عباس السابق, فهذا غلو عملي لا يترتب عليه اعتقاد, ومثله المبالغة في العبادة كما يحدث عند بعض الفرق مثل الصوفية التي تبالغ في العبادة، وتزيد فيها عما شرع الله عز وجل، كوصال الصوم أبداً، وقيام الليل كله وما أشبه ذلك. ولا شك أن الغلو الاعتقادي هو الأخطر, لأنه هو النقطة التي تشعبت عندها الفرق المختلفة في الإسلام وبزغت عندها الأهواء، واختلفت عندها العقول والقلوب, ثم سلت السيوف ثم سالت الدماء. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 11 معنى الغلو ومعنى الغلو: هو مجاوزة الحد. والحد: هو النص الشرعي من كلام الله عز وجل أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم, والواجب على المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله تعالى كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وإذا بحث المسلم مسألة وجب عليه أن يجمع النصوص القرآنية والنصوص النبوية فيها, ويؤلف بينها على وجه لا يضرب بعضها ببعض, ولا يأخذ نصاً ويهمل آخر, أما الغلاة فيضربون بعض النصوص ببعض, أو يقتطعون نصاً يلائم غلوهم ويسكتون عما عداه. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 12 أسباب الغلو وهذا موضوع مهم جداً, وهذه ظاهرة ليست جديدة بل هي موجودة منذ ما يزيد على ألف وثلاثمائة سنة, فلنبحث ما هي أسباب هذا الغلو أو التطرف كما يسمونه: الجزء: 65 ¦ الصفحة: 13 من أسباب الغلو: أحوال المجمتع أحوال المجتمع فمن الخطأ الكبير أن نعتقد أن المتطرف شجرة نبتت في الصحراء, وهذا خطأ, بل هو فرع عن شجرة وهو جزء من مجتمع عاش فيه, ولهذا المجتمع في نفسه وتفكيره وعقله أعظم الأثر, فمثلاً التطرف في الانحراف يؤدي إلى تطرف مقابل سواء الانحراف الفكري أو الانحراف العملي, ولذلك فالذين يجرون المجتمعات الإسلامية إلى الفساد والانحلال الخلقي هم في الحقيقة من المتسببين لحصول الغلو, وإن أعلنوا الحرب عليه وعلى ما يسمونه بالتطرف, إلا أنهم من أول المتسببين فيه. فمظاهر الرذيلة في المدرسة والجامعة والشارع والشاطئ والمتجر والحديقة والشاشة والإذاعة وغير ذلك, إذا أقرها المجتمع وسكت عنها، فإنه يجب عليه أن يستعد للتعامل مع أنماط كثيرة من الغلو, هذا إذا كان دور المجتمع هو فقط السكوت عنها, فما بالك إذا كان دور المجتمع بكليته هو تشجيع مظاهر الانحراف ودعمها, وحمايتها, وحراستها, وتبنيها, سيكون الأمر ولا شك أخطر. وقل مثل ذلك في الأوضاع الثقافية والإعلامية كمحاصرة فكرة من الأفكار, أو إغلاق منافذ التعبير والكلام أمامها، سواء الصحيفة أو الإذاعة أو التلفاز أو غير ذلك, فهذا سبب لأن تتبلور لدى هذه المجموعة فكرة الغلو أحياناً أو على الأقل فكرة المواجهة والسعي لإثبات الذات. ومن الغريب جداً أن الإعلام العربي خاصة, يتهم من يسميهم بالمتطرفين بأنهم لا يتسامحون مع غيرهم, أو أنهم يسعون لإسكات الأصوات الأخرى التي تخالفهم, مع أننا نعلم أن هؤلاء الناس لا يملكون شيئاً أصلاً, لا يملكون أجهزة الإعلام، ولا يملكون الصحافة، ولا يملكون المنابر، بل الكثير منهم لا يملك حق الاجتماع بعشرة أو أقل من هذا العدد, فكيف يقال: إنهم يغلقون منافذ التعبير عند غيرهم, والواقع أن هذا الإعلام المهيمن هو الذي أصبح حكراً باتجاه معين أو مذهب خاص, أو طائفة محدودة وأصبح يبخل على الآخرين ببضعة أسطر أو ببضع دقائق فضلاً عن أن يساويهم بغيرهم في كافة الأجهزة الإعلامية. لقد صودرت الآراء النزيهة المعتدلة, فضلاً عن الآراء الغالية أو المتطرفة، ومثل هذا الوضع لابد أن يولد آلافاً من الأمراض في المجتمعات. أحد الدعاة المعروفين اعتذرت صحف دولة بأكملها عن نشر بعض مقالات له, مهما كان مضمون هذه المقالات بسيطاً وعادياً وبعيداً عن الإثارة, المهم ما دامت المقالات باسم فلان فإن نشرها متعذر, وهذا إن كان سياسة عامة فهو مشكلة كبيرة, وإن كان اتفاقاً أو أمراً حصل بالاتفاق وبالصدفة فهو مشكلة أكبر إذْ أنه يدل على أن المتنفذين في الصحافة وأجهزة الإعلام العربية هم نسخة مكررة عن بعضهم. وقل مثل ذلك بالنسبة للأوضاع السياسية، فإن الكبت والتسلط والقهر لا يمكن أن يؤدي إلى قتل إنسانية الشعوب, والقضاء على كرامتها، لا, ولكنه يؤدي مع الزمن إلى أن تفقد الثقة بقياداتها, ثم تعمل في الاتجاه المضاد, وتعتبر هذه القيادات ضد مصالح الأمة, وأنها عقبة في سبيل الإنجاز لا بد من تجاوزها, ومن تناقضات الإعلام هنا أيضاً أن يستنكر الإعلام عمليات الاغتيال, التي تمارسها بعض الجماعات الإسلامية أو تنسب إليها أحياناً, ويعتبر أن هذه العمليات جرائم نكراء على حين أنه لا يستنكر الاغتيالات العلنية التي تمارسها الكثير من الأنظمة ضد أفراد بل ضد جماعات بل ضد شعوب بأكملها, هذه تونس كنموذج يوجد في سجونها ما يزيد على ثلاثين ألفاً يعانون ألواناً من مصادرة الإنسانية، جعلت منظمة حقوق الإنسان وهي منظمة دولية غربية ليست إسلامية, بل نصرانية, جعلت هذه المنظمة تصدر تقريراً مزعجاً مخيفاً عن حقوق الإنسان المسلم في سجون تونس, الرجال والنساء, ليس هذا فحسب, بل أصبح الإنسان العادي في الشارع مُصادر الكرامة, مناهج التعليم يُبعد منها كل ما يتعلق بالإسلام, الإعلام يحارب الإسلام صباح مساء, حتى أنه لأول مرة تخرج مسرحيات محلية في هذا البلد المنكوب فيها لقطات عارية, متكررة, تتاجر بالجنس وإثارة الغرائز، والبلد بلد الزيتونة وبلد الجهاد والمجاهدين أصبح يقدم نفسه للعالم الغربي والعالم الإسلامي بهذه الصورة, ولم نجد من تلك الصحف استهجاناً لهذا العمل الذي هو اغتيال لشعب بأكمله, أو اغتيال مجموعات كبيرة من الناس, فضلاً عن اغتيال جماعات أو أفراد. إنني أقول: أحكام الإعدام التي تسمعون ونسمع عنها نوعان: 1- حكم بالإعدام يتخذ القرار فيه من المسجد, وينفذ بطريقة سرية, وهذا لا شك يستهدف بعض الرموز المنحرفة فكرياً, كما حصل لـ فرج فودة مثلاً، أو بعض الشخصيات السياسية أو غيرها كما تعرفون في مصر والجزائر وسواها, هذا سواء كان الذين اتخذوه من أفراد الجماعات الإسلامية أو غيرهم, إلا أنه يمثل جانباً, كان على تلك الصحف وهي تعرضه أن تعرض النوع الثاني من أحكام الإعدام, وهو: 2- أحكام الإعدام التي تتخذ قراراتها في محاكم صورية -مدنية أو عسكرية- وتنفذ بطريقة علنية, والعجيب أنه يستنكر الأول ولا يستنكر الثاني, وكلهم بشر، تعجب مثلاً عندما قتل ضابط أمن في مصر، فكتبت الصحف المصرية كثيراً عن هذا الضابط، وتكلمت عن زوجته التي كانت تنتظره بفارغ الصبر, وتكلمت عن أطفاله الذين يقلبون عيونهم ببراءة ويقولون: أين بابا؟ متى يأتي بابا؟! فتذرف عيون أمهم دمعات حارة ساخنة, ترحمت الصحف على هذا الضابط، وتكلمت عنه وحركت المشاعر في اتجاهه, وأنا أقول: حسناً هذا الذي قلتم وهذا الذي فعلتم، ولكن أولئك الذين قتلهم هذا الضابط أو غيره، أو سجنهم وأهدر إنسانيتهم وكرامتهم في السجون والمعتقلات, أليسوا بشراً؟ أليس لهم زوجات ينتظرنهم وراء الأبواب؟ ألم تُسكب دموع كثيرة في انتظار مجيئهم الذي لم يحدث؟ أليس لهم أطفال في عيونهم براءة يتلفتون يمنة ويسرة ويقولون أين بابا؟ متى يأتي بابا؟! أليس وراءهم قلوب تحن إليهم وتشتاق للقياهم وتحزن لفقدهم, ما بال هؤلاء يكيلون بمكيالين؟! هل يعتبرون هؤلاء من غير المجتمع من غير الأمة أليسوا بشراً؟ على الأقل يعترفون لهم بالإنسانية والبشرية. إننا لو أجزنا للصحافة أن تستنكر الاغتيالات التي تتخذ قراراتها أحياناً في المساجد, فإننا نوجب عليها أيضاً أن تستنكر الاغتيالات التي تتخذ قراراتها محاكم أو مجالس نيابية أو وزارية أو سواها. إذاً فالأوضاع السياسية من أسباب الغلو. وقل مثل ذلك في الأوضاع الاقتصادية, كالاستئثار بالثروات والمؤسسات والشركات, ووجود طبقات محرومة من الناس تعيش دون مستوى الفقر, إلى مستوى الإعدام, لا تجد لقمة العيش ولا تملك شيئاً قط مع أن مصدر الثراء لأولئك الأثرياء ليس هو الكسب الحلال المشروع, وليس هو العمل المنتج، بل هي الطرق غير المشروعة، كالرشوة أو المحسوبية، أو استغلال النفوذ، أو غير ذلك, أما سوى هؤلاء فلا يمكن أن يحصل على المال إلا عن طريق التسول وإراقة ماء الوجه وإهدار إنسانيته وكرامته, ولا حاجة لأن أضرب مثلاً بعيداً فأنتم الآن تسمعون أخبار الفضائح في الجزائر -إذا تخاصم اللصان ظهر المسروق- وأصبح كل طرف يلقي باللائمة على الآخر, ويقول: فلان سرق كذا، وفلان سرق كذا , وأصبحت الأرقام تقدر بمئات الملايين من الدولارات في بلد فقير, يعيش العشرة منهم أحياناً في غرفة واحدة, يسكنون فيها ولا يجدون غيرها, وعشرات الآلاف من الشباب يتسكعون في الشوارع بلا عمل, حتى الإعانات التي ذهبت إليهم هناك من دول عديدة غربية وشرقية, لا يزال الشك يساور الكثيرين كيف صرفت تلك الإعانات، وما هو مصيرها. هذه الأحوال كلها فضلاً عن غياب دور العلماء, وتردي الأمة في التبعية الفكرية والسياسية والعسكرية للغرب, وتسخير أجهزة الإعلام لتغيير هوية الأمة ومسخ عقولها وتبديل دينها, بما في ذلك السخرية بالدين والسخرية بالمتدينين, وتقديم النماذج المنحرفة من الفنانين وغيرهم، على أنهم هم المثل العليا التي يجب على الجيل أن يقلدها ويترسم خطاها, كل هذه الأحوال والأوضاع هي البيئة المناسبة لنمو الغلو، أو ما يسمى بالأصولية أو بالتطرف، أو سمّه ما شئت. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 14 من أسباب الغلو: الهوى الهوى المؤدي إلى تعسف التأويل ورد النصوص, وقد يكون الهوى لغرض دنيوي من طلب الرياسة -مثلاً- أو الشهرة أو نحوه, وقد يكون الهوى لأن البدعة والانحراف والباطل سبق إلى قلب الإنسان وإلى عقله واستقر فيه, وتعمقت جذوره ورسخت, وكما قيل: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فيعز على الإنسان حينئذٍ أن يتخلى عنه، ويقر على نفسه أنه كان متحمساً للباطل مناوئاً للحق, فيتشبث بخطئه ويلتمس له الأدلة من هنا وهناك, وقد يكون الهوى لأن هذا الإنسان الغالي ذو نفسية مريضة معتلة منحرفة، فتميل إلى الحدة والعنف والعسف في مواقفها وآرائها، وتنظر دائماً للجانب السلبي والجانب المظلم في الآخرين, وقد يشعر صاحبها بالعلو والفوقية وغير ذلك, دون أن يدرك ذلك من نفسه أو يقر أو يعترف به، وقد يحس بأنه أتيح له في وقت يسير وفي وقت مبكر من العلم والفهم والإدراك ما لم يتح لغيره في أزمنة طويلة, ومن هنا تتبخر الثقة في العلماء المعروفين، والدعاة المشهورين، ويستقل الإنسان بنفسه وبرأيه، فينتج عن ذلك الشذوذ والمواقف والتصورات والتصرفات. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 15 من أسباب الغلو: الجهل الجهل بعدم معرفة حكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ثم يندفع الإنسان وراء عاطفته وقد يكون هذا الإنسان غيوراً وقد يكون معظماً للحرمات، وقد يكون شديد الخوف من الله عز وجل, فإذا رأى إنساناً يعمل معصية ولو كانت معصية صغيرة, لم يطق أولم يتصور أن يكون هذا الإنسان مسلماً أو مغفوراً له أو من أهل الجنة, لشدة غيرته فأداه ذلك إلى لون من ألوان الغلو. أو يكون عنده محبة لرجل صالح مثلاً, وأصل هذه المحبة مشروعة ولكنَّ هذه المحبة بسبب الجهل زادت وطغت حتى وصلت إلى درجة الغلو في هذا الإنسان ورفعه فوق منزلته. والجهل يزول بالعلم, ولهذا كان كثير من الخوارج الأُول يرجعون عن بدعتهم بالمناظرة, بل رجع منهم على يد عبد الله بن عباس رضي الله عنه لما أرسله علي بن أبي طالب للمناقشة والمناظرة، رجع منهم في مجلس واحد أكثر من أربعة آلاف إنسان, وهكذا في عهد عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد رضي الله عنه, نوقشوا فرجع منهم ما يزيد على ألفي إنسان في مجلس واحد, ولهذا الجهل في الواقع من أسهل الأسباب؛ لأنه سرعان ما يزول بالعلم والتعليم, وقد يكون الجهل جهلاً بالدليل لعدم الاطلاع عليه, أو عدم معرفته له، أو أنه لم يطلع على هذه الآية أو هذا الحديث, وقد يكون جهلاً بطرق الاستنباط, أو جهلاً باللغة العربية مثلاً، أو جهلاً بطرق استنباط الحكم من هذا الدليل آية كانت أو حديثاً نبوياً. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 16 كيف يمكن القضاء على الغلو؟ الجزء: 65 ¦ الصفحة: 17 التطرف الحقيقي إن التطرف الحقيقي هو تطرف الأحزاب العلمانية, والحكومات التي جعلت كل إمكانيات الأمة وممتلكاتها رهن إشارتها, وذريعة لتحقيق مصالحها الخاصة، وحاربت كل من لا يذعن لها, أو يسير في ركابها, خاصة ونحن نعلم أن الأمة تملك الكثير من الإمكانيات التي كانت تستطيع أن تكون بها كما أراد الله عز وجل: {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] . الجزء: 65 ¦ الصفحة: 18 القضاء على الدين مستحيل وهاهنا أسئلة يجب أن نجيب عليها: أولاً: هل يمكن القضاء على الغلو أو حتى على الجماعات الإسلامية وعلى الدعوة الإسلامية, الغلاة فيها والمعتدلين وغيرهم, هل يمكن القضاء عليهم بالسجن وبالرصاص والمقاصل والمجازر؟ الجواب كلا, فهذا في النهاية اعتقاد وفكر, وعلى قاعدة الإعلام نفسه فالفكر إنما يحارب بالفكر, لا يحارب بالرصاصة وإنما يحارب بالحجة, والحجة تقاد بالحجة. هذا أولاً. ثانياً: إننا سبق أن قلنا: إن الغلو هو نتاج الضغط والإرهاب والتعسف, إذاً فالضغط والإرهاب والتعسف لا يزيده إلا مضاءً وقوة وإصراراً، وهذا التعسف هو المسوغ الذي يحرق حجج المعتدلين, فالمعتدل يوماً بعد يوم يفقد مواقعه, لأنه يجد من شراسة الخصومة من قبل المتنفذين والقسوة وإغلاق المنافذ في وجه الدعوة, ما يكون مسوغاً وحجةً في رصيد أولئك الغلاة. فلماذا تصر كثير من الحكومات على مواجهة ما تسميه بالتطرف، بل على مواجهة الإسلام والدعوة الإسلامية الصحيحة النظيفة بالإرهاب والمداهمة والسجون والمعتقلات؟ لماذا كان جزاء صاحب كتاب معالم في الطريق وفي ظلال القرآن هو السجن ثم الإعدام؟! هل أن كتاب معالم في الطريق يعلم القارئ كيفية صناعة القنبلة اليدوية؟ كلا, هل هو يعلم الإنسان كيف ينظم مسيرة في الشارع؟ كلا, هل هو يدرب الناس على حرب الشوارع؟ كلا, بل هو يرسم منهجاً للدعوة وما فيه إلا الحجة, فلماذا يكون جزاء هذا الكتاب الإعدام؟ وأين الذين يدافعون عن فرج فودة , صاحب كتاب الحقيقة الغائبة؟ لماذا لم يدافعوا عن سيد قطب -رحمه الله- حينما أعدم؟ {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] . أين حقوق الإنسان؟ من ثلاثين ألف سجين في الجزائر, وثلاثين ألف سجين في تونس, ومثله في مصر, يعيشون أوضاع مأساوية, حتى بلغ الحال أن بعضهم في مصر يحقنون بجرثومة الإيدز, بعض المعتقلين والعياذ بالله إن المسلم في نظر هؤلاء ليس إنساناً؟ أقول لكم أيها الإخوة: إنه طريق فاشل, وهاهي الأنظمة على مدى خمسين عاماً أو أكثر تحارب الدعوة الإسلامية بالقوة والتعسف, فهل كانت الدعوة فيما تعرفون أنتم وتحسبون أقوى وأشد وأنضج منها اليوم؟ كلا, إن الذي يقرأ عن المعتقلات التي عملها جمال عبد الناصر في مصر, وزج فيها بعشرات الآلاف في السجون الحربية وغيرها, وفي أوضاع سيئة للغاية, ثم علق على المشانق أعداداً كبيرة منهم, الذي يقرأ تلك الأخبار خاصة في ذلك الوقت يخيل إليه أنه لن تقوم للإسلام في مصر قائمة, وهاهي مصر بذاتها اليوم تستعيد عافيتها بإذن الله, ويملأ شبابها المتدين وفتياتها المتدينات يملئون جامعاتها ومدارسها ومعاهدها ومساجدها وأحيائها ومؤسساتها, بل وسجونها, وهاهي أجهزة الأمن لا تجد نفسها في وضع أسوأ مما تجده عليه الآن, ليس في صعيد مصر فحسب, ولا في القاهرة بل في كل مكان, إن ضحايا أسلوب التصعيد والمواجهة القاسية الضارية, هم رجال السلطة أكثر مما هم دعاة الإسلام, أو حتى الغلاة من دعاة الإسلام. ولقد استطاعت اليد الخفية أن تغتال السادات , وتغتال بو ضياف، وتغتال أعداداً غفيرة من الضباط وكبار المسئولين، ولا يدري إلا الله ماذا تكون عليه الأوضاع غداً وبعد غد, فهل يقبل ناصح لهذه الأمة أن تستمر هذه الطريقة للمواجهة مع رجال الإسلام ودعاته؟ بل حتى مع الغلاة من الدعاة؟ إننا نعلم أن في إسرائيل أحزاباً أصولية متطرفة متشددة, فماذا فعلت إسرائيل تجاه هذه الأحزاب؟ هاأنتم تسمعون أنها الآن تشارك في الحكم في ائتلافها مع حزب العمل الجديد الذي فاز في الانتخابات, وتصل إلى الحكومة, فلماذا لا يقتدون بهم في هذا؟ كنا نقرأ -ونحن صغار- أن القتل والتضييق والسجن والمداهمة لا يقضي على الدعوة بل يقويها ويرسخ جذورها, ويؤلب حولها الأنصار ويكثر حولها الأتباع. وأصدقكم القول -أيها الإخوة- كنت آنذاك وأنا صغير أشعر في دخيلة نفسي -أحياناً- أن هذا الكلام ترضية للنفس, أو خداع للذات، أو التسلية الوهمية, أما الآن فنحن نرى ما نرى في المغرب ومصر والشام بل والعراق وقد جاءت أخبار تدل على أن الصحوة حتى في العراق على قدم وساق، وإن لم تكن ظاهرة للعيان بسبب التعسف والكبت, ولكنها قوية جداً {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود:122] وبمجرد أن تنقشع هذه السحابة، وتعطى الدعوة الإسلامية نفساً ولو يسيراً حيث تتنفس الصعداء وتظهر على السطح ويبين للناس كم كان عمقها ورسوخها وامتدادها ومقاومتها لرياح الحرب والقتل والتغيير والتدمير والمداهمة. أما الآن ونحن نرى ما نرى، فقد آمنَّا فعلاً أن هذا الكلام حق, وأن العقائد لا يمكن أن تحارب بالقتل, ولا بالسجن ولا بالمصادرة ولا بكبت الحريات ولا بتكميم الأفواه, وقد رأينا الشباب وهم في السجون يرددون آيات القرآن الكريم, ويهتفون وينادون ويتمنون الشهادة في سبيل الله عز وجل, ويرددون أبياتاً من الشعر الحماسي المؤثر الذي يشتاقون فيه للموت في سبيل الله, أي حيلة في إنسان أغلى شيء هو أن يموت في سبيل الله, فأنت حين تقتله تهدي إليه هدية كبيرة. فلماذا تظل هذه الأجهزة الأمنية والسياسية في العالم العربي والإسلامي مصرة على هذا الخطأ الكبير في مواجهتها مع الإسلام كله المعتدلين من الدعاة وغير المعتدلين, ومع ذلك فإن هذا الأمر، وهو أمر بقاء الحق ورسوخه واستقراره أمر ثابت في القرآن الكريم وهو ديدن المؤمنين كلما ازدادت المحن، أو ادلهمت الخطوب، قال الله عز وجل: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] وأصحاب الأخدود حُرِّقوا في النار، ومع ذلك صبروا وهم يرون إخوانهم يشوون وتحرق أجسادهم بالنار فصبروا في سبيل الله عز وجل، حتى أنزل الله تعالى فيهم هذه السورة العظيمة؛ ليكونوا عبرة للمؤمنين عبر العصور. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 19 لا بد من التفريق بين التطرف في الدين والتطرف الغربي الأمر الأول: ينبغي أن يكون واضحاً لديكم الآن، وهو أننا نفرق بين أمرين: الغلو الذي هو غلو فعلاً في الدين ومجاوزة للحد وانحراف عن سواء السبيل, كغلو جماعة التكفير والهجرة الموجودة في مصر على قلة في الجزائر وبعض البلاد الأخرى, فهذا لا شك أنه غلو وانحراف. الأمر الثاني: ما تسميه أجهزة الإعلام غربيها وشرقيها, غلواً أو تطرفاً أو أصولية أو غير ذلك, وهو في الواقع ليس شيئاً من ذلك, وإنما هو دعوة إلى الله وإلى دينه وإلى تحكيم شريعته وإلى العمل بالكتاب والسنة, فنحن نفرق بين هذا وذاك. ونقول: إن الغلو موجود في كل زمان وفي كل الأديان, وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الخوارج لا ينقطعون، بل كلما انقرض منهم قرن ظهر قرن آخر إلى آخر الزمان. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 20 وسائل محاربة الغلو سؤال آخر: هل يحارب الغلو بالتجاهل؟ الجواب أيضاً كلا, لقد سبق أن بينت أن للغلو أسبابه التي لا بد من إزالتها , ولذلك فلا بد من: الجزء: 65 ¦ الصفحة: 21 مناقشة الأفكار والحجج والشبهات فهذه الأسباب الخمسة لا بد منها في مقاومة ما يسمى بالغلو. ثم يأتي بعد ذلك السبب السادس والأخير وهو أنه لا مانع من مناقشة الأفكار والحجج والشبهات التي يتذرع بها هؤلاء، وتفنيدها والرد عليها، وتطعيم الناس ضدها, لئلا يغتروا بها، فنحن نقول: فعلاً إن الغلو هو الآخر خطر على الإسلام, كما أن التفريط خطر. ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم الجزء: 65 ¦ الصفحة: 22 العدل ضرورة العدل, وإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم, سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً مالية أو كانت شخصية أو سياسية أو غير ذلك, فإن المجتمعات لا يمكن أن تقوم على الظلم أبداً, والله تعالى ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة, ولا ينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة, ومن الظلم سرقة أقوات الناس وأموالهم, ومن الظلم بل من أبشع الظلم أخذ الناس بما لم يفعلوا, ومن الظلم حبس الناس بالتهمة والظنة, ومن الظلم سرقة نتائج الانتخابات في البلاد الإسلامية, كما حصل في الجزائر, ثم يقولون: حصل التطرف، وحصل العنف، وحصلت الاغتيالات, في حين يسكتون عن إهدار رأي ثمانين بالمائة من الشعب الجزائري المسلم, وأخشى أن يكرروا هذه العملية نفسها في بلاد أخرى كاليمن التي هي مقبلة على انتخابات بعد فترة قليلة, ونسأل الله تعالى أن لا يكون ذلك, وأن يكون أشغل هؤلاء بأنفسهم, فمصر التي دعمت الجزائر برجال الأمن والشرطة, هي الآن مشغولة بمشاكلها الداخلية وقلاقلها عن غيرها أو علها كذلك. ومن الظلم -أيضاً- التفاوت الشديد بين الناس في كل شيء, في أرزاقهم وأموالهم ومرافدهم وغير ذلك, فالله تعالى يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, وإذا أردنا للمجتمعات الإسلامية أن تكون مجتمعات مستقرة منتجة متآلفة فعلينا أن نقيمها على أساس العدل. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 23 حماية الآداب والأخلاق ضرورة إصلاح الأوضاع الشرعية والأخلاقية في المجتمعات الإسلامية، وحمايتها من الانحلال الخلقي، وإيجاد ودعم المؤسسات الإصلاحية القائمة على حماية الآداب والأخلاق, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, إنه كما يوجد جهاز مختص لمكافحة المخدرات, يجب أن توجد أجهزة قوية وممكنة وذات صلاحية واسعة في مكافحة ألوان الجرائم التي لا يقرها الشرع, وأول ما يجب أن يساند هذه الجهات هو القانون نفسه أو النظام، فلا معنى لوجود جهاز لمكافحة الرذيلة والبغاء في بلد يسمح قانونه بالزنا ويسكت عنه وهكذا. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 24 ربط مناهج التعليم بالدين ضرورة ضبط مناهج التعليم، وربطها بدين هذه الأمة وتاريخها وحاضرها ومستقبلها, حتى يتخرج جيل مؤمن يعرف دينه, تقول التقارير الأمنية: إن تكثيف المواد الدينية هو الذي يولد المتطرفين, وتدريس التاريخ الإسلامي والجهاد يولد روح الفداء في نفوس الشباب, والواقع أن تكثيف المواد الشرعية والإسلامية هو ينتج العلم الصحيح, الواقي من الانحراف , أما أولئك الذين يظنون أنهم سيحولون بين الأمة ودينها وبين الأمة ولغتها, وبين الأمة وتاريخها, فهم مغرقون في الوهم, فالإسلام قادم لا محالة, وإذا كانوا يحاربون الإسلام فليبشروا بالخيبة والهزيمة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 25 تمكين العلماء تمكين العلماء الربانيين من القيام بواجبهم, وفتح الآفاق لكلمتهم, والسماح بمرورها إعلامياً، وتسخير إمكانيات الأمة كلها لهذا الغرض, إن العالم الشرعي يجب أن يشكل مرجعية حقيقية للجميع, الحاكم والمحكوم على حد سواء, ولا يجوز أن تكون المنابر الدينية حكراً على فئة من الهتافين المصفقين من أمثال بعض المفتين الرسميين, سئل مفتي مصر في جريدة صوت الكويت قبل أيام عن التطرف والنصارى، وكان من ضمن ما قال بالحرف الواحد: أما كون بعض الكتب السماوية حرفت أو بدلت أو غيرت فتلك قضية يسأل عنها أصحابها, وجميع الأديان تتفق في الأصول, سبحان الله!! أولاً: عندما يقول: "إن الأديان تتفق في الأصول" هل هو يقصد الأصول التي عليها أهل الأديان اليوم، أم الأصول المنزلة؟ فالأصول المنزلة هي التوحيد, لكن أهل الأديان اليوم من اليهود والنصارى وغيرهم أهل شرك ووثنية, فكيف يقول: إن الأصول متفقة هكذا على الإجمال؟! ثانياً: حينما يقول في الجواب على تحريف الكتب السماوية: "هذه قضية يسأل عنها أصحابها" يعني: يريدنا أن نذهب إلى البابا شنودة , ونسأله: هل الكتاب المقدس عندكم محرف أم لا؟! ونذهب إلى رابين أو غيره ونسأله: هل الكتاب المقدس عندكم محرف أم لا؟ كيف يقول هذا؟!! ألا يوجد عندنا دين وجواب للمسلمين؟ ألا يوجد عندنا نحن المسلمين الجواب لهذه المسألة؟ مفتي أكبر بلد إسلامي يهرب من الإجابة بمثل هذه الطريقة الملبسة!!! في روز اليوسف -أيضاً- تجري حوارات مع من تسميهم بمفكرات الإسلام, مرة -وهذا مثال- أجرت حواراً مع عميدة كلية التربية بجامعة الأزهر, فتقول هذه العميدة في حوار طويل: حتى في عصر النبوة كانت هناك سلبيات, في المجتمعات المغلقة وجد اللقطاء أمام المسافر, هذا كلام يقال في سبيل تبرير وتسويغ الفساد الموجود, هذا مثل إنسان يأتي لشخص غارق في الرذيلة، ماله من الربا، فاجر لا يصلي، عاق لوالديه، عاصٍ، مؤذٍ لجيرانه، شارب للخمر، مدمن للمخدرات, فتأتيه وتقول له: يا أخي أنت عليك أخطاء، وعليك ملاحظات, تب إلى الله عز وجل, يقول لك: يا أخي كل إنسان فيه عيوب والكمال لله عز وجل. تقول أيضاً: الجماعات الإسلامية ابتلاء من الله, لم أجد في المنقبات من تحفظ القرآن الكريم, ثم هجوماً ساخراً على الإمام ابن تيمية أنه حاد ومتشدد وإلى غير ذلك. فنقول: يجب أن يمكن العلماء الربانيين من القيام بواجبهم ودورهم بفتح الآفاق أمام كلمتهم, ومع ذلك فإنه يجب أن يقال للعلماء والدعاة أيضاً: قوموا أنتم بواجبكم وخاطبوا جمهور الأمة, وأدوا دوركم دون أن تنتظروا من أحد أن يأذن لكم بذلك أو يأمركم به. إن المناصب الرسمية الدينية أصبحت وقفاً في أكثر من بلد إسلامي على فئات معلومة ممن يجيدون فن المداهنة والتلبيس, وأصبح هؤلاء في زعم الأنظمة هم الناطقين الرسميين للإسلام والمسلمين, مع أنه لا دور لهم إلا مسألتان: الأولى: إعلان دخول رمضان وخروجه. الثانية: الهجوم على من يسمونهم بالمتطرفين. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 26 العمل على إيجاد القنوات الإسلامية ثانياً: لابد من إيجاد القنوات العلمية والدعوية والإعلامية التي يمكن للدعاة إلى الله عز وجل من خلالها عرض الصورة الصحيحة للإسلام, وتنقيته من الدخائل عليه, وتعريف الناس بدينهم الحق, وإثبات أن هذه الدولة أو تلك ليست ضد الإسلام ولا ضد الدعوة, أما مجرد الخطب الرنانة التي ينقضها الواقع فإنها لن تغير شيئاً, حتى الاتجاهات التي يصاحبها نوع من الحدة أو الشدة, يجب أن تحاور وتناقش في الهواء الطلق، وليس من وراء القضبان, وإذا لم تعرف الدعوة الإسلامية الصحيحة الناضجة من الكتاب والسنة فإن البديل عن ذلك أمران: أولاً- شيوع المنكر الفكري والخلقي بلا نكير, وهذا يؤدي إلى التطرف كما سبق. ثانياً- الدعوات المنحرفة التي ستجد آذاناً صاغية, فإن الناس إذا لم يعرفوا الحق تشاغلوا بالباطل. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 27 تنقية أجهزة الإعلام لا بد من تنقية أجهزة الإعلام من كل ما يخالف الإسلام, عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً, ولا بد من منع ضحايا الفكر المنحرف من التسلل للإعلام, ومنع المساس بالدين وأهله في تلك الأجهزة. إن مما يؤسف له أن الإعلام العربي يتحدث عن الدعوة الإسلامية باسم التطرف أو الأصولية, فيتخلى عن الموضوعية تماماً, ويتناقض وينحاز, فلا يعرض إلا رأياً واحداًَ, ولا يعرض إلا جانباً من الحقيقة, مثلاً مقتل فرج فودة يسمونه مصادرة للفكر, وجريمة, مع أنني أقول: أي فكر يحمله فرج فودة؟ وماذا يقول؟ يقول: أفتخر بأنني أول إنسان عارض تطبيق الشريعة الإسلامية يوم لم يكن يعارض ذلك أحد, ويقول: سبق أنني قلت لك يا وزير الصحة، عليك أن تعالج الوضع عن طريق الزيادة في المهدئات الجنسية, يعني: ما يسميهم بالمتطرفين أو الشباب المتدين هم ضحايا الكبت الجنسي, هل هذا حوار؟ هل هذه حجة؟ هل هذا تعقل؟ ثم جاء إلى تاريخ الإسلام من عهد الخلفاء الراشدين إلى اليوم, وبالساطور يضربه يمنة ويسرة, حتى لم يبق فيه لبنة على أخرى, أو عضواً على آخر, هل هذا فكر؟! لكن مع ذلك قاموا وقعدوا لماذا يقتل فرج فودة؟ ونحن نقول: حسناً، نردد لماذا يقتل فرج فودة؟ لكن لماذا يقتل ألوف من المسلمين والدعاة وطلبة العلم؟ هل صار الأمر عندكم كما قيل: قتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر لماذا تكيلون بمكيالين؟ الإعلام العربي كله صحافته وإذاعاته وتلفزته, هل رأيتموه عرض يوماً من الأيام وجهة نظر جماعة من الجماعات الإسلامية؟! كلا, إنما الإعلام العربي كله دائماً وأبداً في حالة حماس لحملات إعلامية, اليوم نحن ضدكم وغداً أنتم ضدنا, وبعد غد نحن وأنتم ضد فلان وهكذا , عمل كعمل الأطفال سواء بسواء. يؤسفني أن أقول: إن هيئة الإذاعة البريطانية وهي الأخرى أيضاً ليست موضوعية أو منصفة إلى ذاك الحد، ولكنها بلا شك أفضل كثيراً من الإعلام العربي, هيئة الإذاعة البريطانية أجرت مقابلة مع أحد زعماء الجماعة الإسلامية في مصر, وسجلت أجوبتهم وآراءهم وبثتها للناس, ثم بعد ذلك بفترة أجرت مقابلة سمعتها مع زعيم الأقباط البابا شنودة , حول التطرف وقضايا أخرى, أما الإعلام العربي فهو لا يجرؤ على ذلك, ولا يملك عرض وجهة النظر بحال من الأحوال, إنه لا يعرض إلا وجهة نظر واحدة وضعيفة أيضاً, وأما وجهات النظر الأخرى فهو لا يجرؤ على عرضها أبداً. فلا بد من تنقية أجهزة الإعلام، وصياغتها إسلامياً؛ لتكون رافداً من روافد الدعوة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة الجزء: 65 ¦ الصفحة: 29 وسائل الإعلام وجرأتها على الإسلام السؤال يقول: نعاني نحن شباب هذا البلد الكثير من وسائل الإعلام، وخاصة الصحف والمجلات، وهي تصور المسلمين في كل مكان بالتطرف، بل إنها تدعي أن المسلمين هم وراء كل مصيبة، فأنا أرى أن التطرف بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى ينطبق على كل من يستهزئ بالشباب المسلم، وخاصة كما سبق أن ذكرت من جرائد ومجلات، أرجو توجيه كلمة بهذا الشأن؟ الجواب هذا الأمر ليس خاصاً بهذا البلد بل هو عام، الأمر الذي يخص هذا البلد بالذات، هو البث التلفزيوني، والذي أعلم أن هذا البلد يستقبل القناة المصرية الفضائية، وقناة MBC تلفزيون الشرق الأوسط فضلاً عن أننا رأينا في كثير من المحلات والمباني أقراصاً ضخمة لاستقبال قنوات أخرى غير هذه القنوات، كقنوات فرنسية أو روسية أو أمريكية وغير ذلك. وهذا خطر داهم جداً في هذا البلد، لا شك أنه سيساهم في تحلل الأخلاق، وتغير المفاهيم وتبدلها، ولذلك يجب أن يقوم الأخيار بحملة توعية جادة وقوية في هذا الباب، ويتصلوا بمن وجدوا عليه مثل هذا، وينصحوه ويبذلوا جهدهم في هذا السبيل. كما إن علينا دائماً وأبداً أن نضاعف الدعوة، ففي النهاية قد لا نفلح في منع هذا المنكر مثلاً، ولكن قيامنا بجهد كبير في الدعوة إلى الله وتكثيف الدروس والمحاضرات والكتب والأشرطة وغزو الناس في بيوتهم ومجالسهم ومنتدياتهم وأماكنهم وكورنيشاتهم وغيرها. ومحاولة توظيف كل شاب في الدعوة إلى الله عز وجل بقدر ما يستطيع، وبقدر ما يطيق هذا أمر واجب، {تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة ولو بكلمة طيبة} . الجزء: 65 ¦ الصفحة: 30 لحوم العلماء مسمومة السؤال هناك من الشباب من يحتقر العلماء في هذه البلاد، ويعتبرهم مداهنين وأصحاب مناصب فقط، وليس عندهم غيرة على هذا الدين، حتى أن منهم من يلمز الشيخ ابن باز بأنه يركب سيارة فيها هاتف، فما نصيحتك لهم؟ الجواب والله هؤلاء -بصراحة- فارغون، وأنا والله أحلف ولا أستثني في هذه الساعة المباركة أن ابن باز من أولياء الله، رجل والرجال قليل، جيل، أمة في رجل، لو تحدثت عن فضائل هذا الرجل الإمام لطال المقام. ولكنى أعد بأنني سوف اخصص محاضرة عنه، وليس تخصيص المحاضرة فقط لأن أذكر ترجمته، لكن من خلال معايشتي للشيخ ومجالستي له وقربي منه وصحبتي له في زيارات كثيرة له جداً في الرياض ومكة والطائف لمست أشياء ينبغي أن تقال للناس. في سلوك الشيخ، في خلقه، في أدبه، في فقهه، في علمه، في دعوته، وأرى ديناً أن الشيخ قدوة يحتذى به في أخلاقه، وفى علمه، وفي عمله، وفى سلوكه، وفي فقهه، نسأل الله تعالى أن يمد في عمره على عمل صالح. ومثله في علماء هذا البلد ودعاتها والحمد لله تعالى كثير. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 31 مراكز النساء الخيرية ودعوى الفساد السؤال أمر جديد وهو وجود مراكز للنساء، وقد كثر الكلام عليها، وقال بعض الإخوة: إن هذا سبب لوقوع الفساد، فما هو رأيك في هذه المراكز، وهل ندخل أخواتنا في هذه المراكز مع العلم أن جمعية القرآن الكريم هي القائمة عليها وتوجد فيها بعض المواد العلمية فما رأيكم في ذلك؟ الجواب يا أخي على الأقل في بلد مثل بلدكم أنا أرى أنه لا بأس في وجودها، وأنها تُدعم وتُشجع ويحرص على ضبطها والاستفادة منها، وتغليب جانب المخاوف دائماً، واحتمالات السلبيات؛ لن يجعلنا نقوم بأي عمل من الأعمال الخيرية. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 32 نصيحة عن المراكز الصيفية السؤال هل تنصحون الشباب بالالتحاق في المراكز التي تقام في صيف كل عام؟ وما رأيكم في بعض الشباب الملتزمين الذين يحاولون صرف الشباب عن المراكز بشتى الطرق، ومنها تمزيق الإعلانات التي توزع وتدعو الشباب إلى الالتحاق بالمراكز؟ الجواب المراكز الصيفية هي أحد أوجه النشاط الخيري، وفيها خير، والكمال ليس موجوداً في المراكز الصيفية، فأنا أنصح الشباب أن يشتركوا في أعمال الخير، من كان منهم يستفيد من المراكز الصيفية أنصحه أن يشترك في المراكز، سواء مشرفاً أو طالباً أو مشاركاً أو رائداً أو إنساناً عادياً، يجد أنه يستفيد منها وهي التي تناسبه، ومن رأى أنه يستطيع أن يستفيد أكثر من المراكز من حلقات العلم ودروس العلماء ودورات تقام للدعاة وغير ذلك أو جولات وعظية أو ما أشبه ذلك، مما يرى أنه أجدى وأنفع له، فلا حرج ولا داعي أن تكون هذه الأعمال يهدم بعضها بعضاً، وأعتقد أن الساحة تتسع للجميع، وتحتاج للجميع أيضاً. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 33 مع بداية الالتزام السؤال أنا شاب التزمت قريباً بالدين، وأصبحت أطبق السنة، ولا أشاهد التلفاز، ولا أجلس مع أهلي إذا كانوا يشاهدونه، وأبي دائماً يرميني بالتطرف والتزمَّت والتشدد، فأنا أعيش في حيرة كيف أعالج ذلك؟ الجواب لا بد من الاتكاء على الجانب الأخلاقي، عليك أن تكون شديد التمسك بالأخلاق مع أهلك ابتسامة وحلم وسعة صدر، وتحمل منهم ما يقولون، وعاملهم بالتي هي أحسن، وقم بحقوقهم هذا أولاً. ثانياً: احرص على أن تقوم في البيت بدورك خير قيام، إذا احتاجوا شراء شيء للمنزل، حاجيات مناسبة من المناسبات أو أي أمر من الأمور، لا تكن آخر من يشارك، كن في المقدمة وفي الطليعة، وستجد أنهم يخجلون وتموت الكلمات في أفواههم ولا يستطيعون أن يتكلموا فيك وأنت بهذه المكانة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 34 حكم مشاهدة التلفاز السؤال هل مشاهدة التلفزيون والمسلسلات حرام، وإذا كان خروجه من البيت يغضب الأولاد فهل أرضي الأولاد؟ الجواب أنا أقول إذا أمكن إخراج التلفاز من البيت فينبغي أن تخرجه، خاصة ونحن الآن أصبحنا نتكلم عن البث المباشر على أنه حقيقة على الأبواب. فإذا لم يمكن إخراجه فعليك أن تشغل الأهل عنه بقدر ما تستطيع، بحيث لا يكون لديهم وقت لمشاهدة التلفاز، أو يكون عندهم قناعة قلبية وعقلية بأن التلفاز خطر وضرر ينبغى ألا يلتفت إليه أو يستمع إليه. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 35 حكم مس عورة الطفل السؤال يقول: هل مس عورة الطفل ينقض الوضوء، فأنا أتحرج كثيراً حينما أحمل إخوتي الصغار، وأنا على وضوء، فنرجو الإفادة؟ الجواب في الأصل أن مسألة مس الفرج قبلاً أو دبراً، فرج الإنسان أو غيره، فيها قولان لأهل العلم، أرجحهما عندي أنه ناقض للوضوء؛ لما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من مس ذكره فليتوضأ} وهذا مذهب كثير من أهل العلم. وقد بسطت هذا في شرح بلوغ المرام. ولكن بالنسبة للطفل الصغير الذي تغسله أمه، وتحتاج إلى مس عورته باستمرار، فهذا أميل إلى أنه لا ينقض الوضوء لسببين: أولاً: كونه صغيراً، وكثير من الفقهاء يرون أن الصغير ليست له عورة. وثانياً: لشدة الحاجة إلى ذلك، وعموم البلوى به، وقد أفتى بهذا جماعة من العلماء. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 36 حكم الزيادة في العمولة السؤال يوجد عند بعض الناس سلع معينة يتاجرون فيها، وقيمة الواحدة خمسة آلاف ريال، وأنا أذهب لمن يحتاجون، وأقول لهم: هذه السلعة عندي بعشرة آلاف ريال فآخذها منهم وأعطيها لأصحاب السلعة وآخذ السلعة لهم وآخذ الزيادة؟ الجواب أولاً: هذا ليس من النصيحة. ثانيا: كونك تأخذ خمسة آلاف ريال لمجرد كونك وسيطاً هذا فيه إجحاف كبير، في حين أن صاحب السلعة نفسه يأخذ خمسة آلاف ريال، والعادة أن قيمة السمسرة أو العمالة أو ما يسمى بالسعي تكون نسبة محدودة جداً ومتراضى عليها بين الأفراد. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 37 معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إفلح وأبيه إن صدق) السؤال معلوم أن الحلف بغير الله تعالى شرك أصغر، ولكن ماذا قصد النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أفلح وأبيه وإن صدق} ؟ الجواب هذا الحديث في صحيح مسلم، وقد تكلم العلماء فيه كثيراً، منهم من قال: إنه قبل النهي وهو منسوخ، ومنهم من قال: إن الحديث تحرف، ومنهم من حكم على هذا اللفظ بالشذوذ إلى أقوال أخرى تبحث في مظانها. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 38 مشكلة خاصة السؤال يقول: أنا شاب ملتزم ولا أزكي نفسي، وكنت من المجاهدين في أفغانستان، وعدت من هناك وأنا أعيش في فراغ، بحثت عن عمل في البلاد العربية ولم أجد، وأنا في ضيق لأني من إحدى الدول المجاورة، وبسبب تصرفات البعض فقد دفعنا الثمن لموقف بلدي، والآن عرض على أن أذهب إلى أمريكا عند إحدى قريباتي من المحرمات علي، وهى بدون محرم للوقوف بجانبها لإكمال دراستها وأخرج مما أنا فيه، فما رأي الشرع في السفر إلى الدول الكافرة في ظل وضعي هذا؟ الجواب هذا وضعك وضع شخصي، ولذلك أقترح أن تتصل مباشرة لشرح ظروفك، ومعرفة الجواب على مثل هذا السؤال. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 39 مقترح لإصدار مجلة إسلامية السؤال لماذا لا تفكرون مع غيركم من العلماء الأفاضل وهم نخبة بحمد لله بإصدار جريدة أو مجلة تعنى بالأخبار الإسلامية وتحليل الأحداث، والرد والدفاع عن قضايا المسلمين؟ أرجو دراسة هذا في هذه الأيام، حيث قد لا يجد المسلم مصدراً سليماً واضحاً للأخبار والإعلام؛ فتختلط علينا الأمور وترسخ في أذهاننا مفاهيم وأحداث غير صحيحة؟ الجواب هذا الاقتراح يتكرر، وأعد الأخ أن يكون هذا الموضوع محل دراسة من قبل العلماء والدعاة إن شاء الله. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 40 أخبار الانتخابات في اليمن السؤال ما هي أخبار الانتخابات في اليمن؟ الجواب كما أسلفت هي على الأبواب، ولا شك أنه إذا جرت الانتخابات بصورة طبيعية فالنصر لحملة رسالة الإسلام ودعاته. ولكن يخشى أن يوجد عراقيل وعقبات، فالغرب ليس من السهل عليه أن يقبل بوجود تواجد إسلامي في مثل هذا البلد العريق، وهو يشكل عمقاً ليس بالبسيط في هذه الجزيرة، وطبعاً الغرب لا يقبل وجود الإسلام في أي مكان آخر لا في الجزيرة ولا في غيرها. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 41 تصحيح مفهوم التطرف السؤال يقول: الالتزام بالسنة الظاهرة خاصة اللحية، والثياب إلى نصف الساق، والسواك والعمامة، يطلق عليها تطرف نرجو تصحيح هذا المفهوم؟ الجواب أولاً العمامة ليست من السنة، والعمامة من العادات وهذا هو أرجح أقوال أهل العلم، ولا يصح في العمامة حديث، ولكن ما يتعلق في اللحية والثياب وتقصيرها، وكذلك السواك، فهذا كله من السنة، وكون بعض الناس يعتبر هذا من التطرف هذا -مما أسلفته- من المفاهيم الخاطئة التي يستغلها البعض إما جهلاً منهم وإما هوى. والمفروض أن نعلمهم هذه السنن ونخبرهم وندعوهم إليها بأقوالنا وأعمالنا. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 42 حكم النقاب السؤال يقول: أرجو توجيه كلمة إلى أخواتنا النساء الملتزمات، خصوصاً وأن هناك تجاوزات نلاحظها عليهن من انتشار النقاب الذي بدأ يكبر تدريجياً، وأيضاً ظهور القدمين واليدين بدون ساتر، والحجة أحياناً تكون: أنه بسبب الحر! الجواب بالنسبة للنقاب -تغطية الوجه وإظهار العينين- النبي صلى الله علية وسلم قال: {لا تنقب المحرمة ولا تلبس القفازين} فدل على أن لبس النقاب في غير وقت الإحرام جائز. لكن -أرجو أن لا يغفل عن ما بعد لكن- المقصود بالنقاب: هو فتحة تبصر المرآة من خلالها الطريق، فتفتح لعينها بقدر ما ترى الطريق أمامها. أما ما نراه الآن في كثير من النساء، فإننا نجد أن الحجاب قد أصبح زينة في نفسه، وأصبح هو الآخر وسيلة للإغراء، فتفتح المرأة عينيها وما جاورهما وما فوقهما وجزء من خديها، حتى يصبح الحجاب شكلاً مثيراً أكثر مما هو ساتر لها، والله عز وجل أمر المؤمنات بقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] فلتضرب المرأة المسلمة بخمارها من رأسها على جيبها وعلى صدرها. فإن كانت مكتفية مستغنية عن النقاب فهو أولى، ولا تخرج شيئاً من وجهها قط، فإن احتاجت لضعف بصرها أو لظروف خاصة مثلاً أن تفتح لإحدى عينيها أو لعينيها فلتفتح بقدر ما تحتاج، ولا ينبغى أن يكون هذا مجالاً للحيلة، فالحيلة غير واردة في الدين. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 43 حكم قيام الليل كله السؤال لقد قلت إن قيام الليل كله من الغلو، وقد كان من الصالحين من يقوم الليل كله، وكان الإمام أحمد رحمة الله يصلى ثلاثمائة ركعة في الليلة، أرجو أن توضح ذلك؟ الجواب هذا فيه نظر، كون الإمام أحمد يصلى ثلاثمائة ركعة، تصحيح هذا عن الإمام أحمد فيه نظر، ولا أظنه صح عنه، فالإمام أحمد من أكثر الناس اتباعاً للرسول صلى الله علية وسلم، الذي لم يكن يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، ومن البعيد أن يصلي الإمام أحمد أو غيره ثلاثمائة ركعة. أما من الصالحين من يقوم الليل كله، فقد يقوم الليل أحياناً كله، أما قيام بعض الليل فمشروع لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:1-4] . لكن قيام الليل كله من أوله إلى آخره لم يكن يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، وهو ليس من السنة، بل السنة أن ينام الإنسان من الليل سدسه أو ثلثه أو نحو ذلك، فمن حافظ على قيام الليل كله، وحافظ على الصيام في النهار مع الوصال أحياناً، فهذا لا شك أن فيه نوعاً من الغلو. وقد جاء في الحديث الذي رواه ابن خزيمة وغيره أن النبي صلى الله علية قال: {من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم} وهكذا، والحديث فيه كلام طويل، ولكن إن صح فهو دليل على النهى عن صيام الدهر كله، فما بالك بالوصال، وهو أن يصوم الإنسان الليل أيضاً، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 44 طرق تعين على ترك التلفاز السؤال يقول: أريد أن ترشدني إلى طريقة أستطيع أن أُشغل بها إخوتي عن التلفاز، حيث أن الله تعالى قد امتن عليهم بتركه والله يسر ذلك بمنه وكرمه، لكنهم يعودون إليه في الإجازة؟ الجواب يا أخي أشغلهم بأمور، اجعل لهم درساً في البيت، أخرج بهم معك بالسيارة في بعض النزهات والزيارات، اجعل لهم مسابقات ثقافية، وأعطهم بعض الكتيبات والكتب والقصص، وأعطهم بعض الأشرطة، حفظهم بعض الآيات من القرآن، والأحاديث وبعض الأشعار، دربهم على العبادات. اعمل لهم برامج مفيدة حتى في داخل المنزل، ولا بأس أن تحضر بعض الألعاب المباحة لهم يقضون بها بعض الوقت ويزيلون بها الملل. ومن ذلك بعض برامج الكمبيوتر المفيدة التي تنمي عقولهم وأذهانهم وقرائحهم، كبرامج شرعية أو لغوية ورياضية أو غير ذلك. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 45 مشكلة الاختبارات في أوقات الصلوات السؤال لدينا مشكلة نحن طلبة الجامعة وفي أن الامتحانات تبدأ من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الواحدة، ولذلك يؤذن بدخول صلاة الظهر وتقام الصلاة ولا زال الطلبة في صالة الامتحانات، فما رأى الشرع في هذه؟ وما الحل؟ الجواب على كل حال من المعلوم أن وقت الظهر يمتد من دخول وقت الزوال إلى وقت صلاة العصر. ولكن ينبغي على من يكون في داخل البلد أن يصلي مع الجماعة، فإذا أمكن أن تغير برنامج وأنظمة الجامعة فهذا هو المتعين ليصلي الطلاب مع غيرهم من المسلمين في الوقت نفسه. فإذا تعذر ذلك لظروف خاصة، أو لم تستجب لهم الجامعة لسبب أو لآخر، فإنني أرى أنهم يسعهم إذا خرجوا أن يصلوا جماعة أو بعضهم. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 46 طلب نصيحة السؤال أرجو تقديم نصيحة إلى بعض إخواننا الشباب في جدة، وإننا نريد ونحب لهم الخير، ونحب أن نراهم كسائر الشباب المتمسك بدينه في أنحاء المملكة، خاصة ونحن نرى بعضهم قد انغمس في الملذات؟ الجواب في الواقع هذا موضوع يدعوني إلى أن أوجه نصيحة لكم أنتم أيها الإخوة الحضور. الآن على بعد كيلو مترات منا حيث الكورنيش مثلاً، أو في بعض الأماكن، خاصة في هذه الليلة يوجد أعداد غفيرة من الشباب والأسر والعوائل والرجال والنساء. أقول: من يأتي إلى مثل هذا المسجد يخيل إليه أن البلد كلهم على هذه الشاكلة، وأن الناس كلهم أخيار، لكن من يذهب إلى هناك تنعكس الصورة في عينيه تماماً، وفى رأسه تماماً. والسؤال: أين نحن من هؤلاء؟ وأين نحن من المجتمع؟ ولماذا نترك المجتمع للتلفاز والأغنية والمجلة والعنصر الغريب ووسائل الفساد والشيطان والنفس الأمارة بالسوء؟ أدعو الإخوة إلى الدخول مع هؤلاء الشباب والتأثير عليهم، وتوزيع الكتب والأشرطة وتوزيع الابتسامات، جلسة خمس دقائق أو نصيحة وأنت ماشٍ لا يضر، خالطوهم بأجسامكم وعاملوهم بالخلق الفاضل، وادعوهم إلى الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدى الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} . الجزء: 65 ¦ الصفحة: 47 مشروع تزويج الشاب السؤال نرجوا أن تنوه بالمشروع الخيري لتزويج الشباب؟ الجواب هذه ورقة تتعلق بالمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج، ولا شك أن هذا المشروع هو أحد الوسائل لإعفاف الشباب. فلا شك أن الكثيرين من الشباب إذا وجدوا طريق الحلال فلن يتجهوا إلى الحرام، ولكن أيضاً هناك عقبات كثيرة أمامهم أولها وأهمها: المال، ووجود مجموعة من الإخوة لمسنا جهدهم ونحن هناك في الواقع من كثرة من يأتيني من الشباب قد قدم جهداً كبيراً جداً ومشكوراً، ويستحقون أن نقول لهم جميعاً: جزاكم الله خيراً، وليس هذا فقط، بل وأن نساعدهم. أناس بذلوا أوقاتهم وأبدوا استعدادهم لأن يقدموا على هذا المشروع، ويتصلوا بالشباب ويساعدوهم، وينظموا مثل هذا العمل ويرتبوه، ولم يبق لنا دور إلا أن ندعو الله عز وجل لهم بالتوفيق على ما فعلوا وقدموا للمجتمع ونساعدهم بما نستطيع من المال، فأنا أدعو الإخوة لذلك. وكذلك مشروع مكافحة التدخين الذي يتكلم عن أضرار التدخين وهو أيضاً مشروع طيب، وقد وصلتنا بعض نشراته هناك. وأرسل لي بعض الشباب أوراقاً تخصهم وتتعلق بنشاطهم، وهو نشاط قيم أدعو الإخوة إلى دعم هذا المشروع ومساعدته. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 48 ظاهرة الإطالة في الحديث عبر الهاتف السؤال يقول: هناك ظاهرة فشت في صفوف الملتزمات وهى قضاء ساعات طويلة في التحدث في الهاتف مع المعارف والأخوات سواء للدعوة أو لغيرها يومياً فما حكم الشرع في ذلك؟ الجواب الحديث في الهاتف مثل الحديث في غير الهاتف، والإطالة في الحديث من غير فائدة ضرر، وكل كلام ابن آدم عليه لا له، إلا ذكر الله وما والاه، أو تسبيح، أو تحميد، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر أو ما أشبه ذلك. وعلى كل حال لا بأس أن يتكلم الإنسان مع أقربائه ويتبسط معهم، أو معارفه، أو جيرانه فيما يخصه. لكن الاسترسال والإطالة يورث ترهل الأعصاب، وضياع الوقت، وأنا أستغرب من بعض الإخوة أو بعض الأخوات يقولون: أصبحت المكالمات المحلية مجاناً فلا ضرر من أن نتكلم. لا بأس، لكن هل الوقت أصبح مجاناً، ثم أمر آخر وهو أن الملك يكتب، إذا كان موظف الهاتف لا يكتب والكمبيوتر لا يكتب، فالملك يكتب عليك {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] الجزء: 65 ¦ الصفحة: 49 حكم التعامل مع الجرائد الهابطة السؤال ما رأيكم فيمن يتعامل مع تلك الجرائد والصحف التي ذكرتموها؛ بشرائها؟ الجواب أرى خاصة مثل الصحف التي ذكرت كالصحف الكويتية مثل: جريدة صوت الكويت بالذات، وكذلك جريدة الشرق الأوسط، وبعض الصحف التي تعلن حربها على الإسلام وتجاهر بذلك، لا شك بعض الشر أهون من بعض. أرى أن تقاطع ولا تباع ولا تطبع ولا تشترى ولا تروج، وأن نقوم جميعاً بالدعوة إلى مشاركتنا في هذا العمل. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 50 حكم الجهاد بدون إذن الوالدين السؤال إني أريد أن أجاهد في سبيل الله، ولكن لي والدة ووالد يرفضان أن أجاهد، فما العمل مع العلم بأنني أريد الجهاد؟ الجواب هل لك والدان؟ تقول: نعم. ففيهما فجاهد، كما قال الرسول صلى الله علية وسلم، وعليك مع ذلك أن تسعى إلى طلب العلم الشرعي وتحصيله والقيام بالجهاد والدعوة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 51 أخبار المجاهدين الأفغان عند دخولهم كابول السؤال يقول: كنا ننتظر أشرطتك، ودروس الشيخ الحوالي بفارغ الصبر؛ لنسمع الحقائق عند دخول المجاهدين إلى كابول، وكم كان لمحاضرة الشيخ ناصر العمر في الدرس الأخير من صدىً عند الناس، وعندما سمعوا تلك الحقائق عن المجاهدين الذين سمعوا عنهم في الإعلام قاطبة، ولكن بشكل مخالف تماماً لما بينه الشيخ!! الجواب على كل حال أنا تكلمت عن المجاهدين الأفغان في شريط قديماً بعنوان: الله أكبر سقطت كابول، وكذلك تحدثت عن هذا الموضوع عبر خمسة دروس تقريباً متواصلة من الدروس العلمية، أخصص في بداية كل درس دقائق للحديث عن المستجدات والتطورات عن الوضع في كابول. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 52 اقتراح لإنشاء إذاعة إسلامية السؤال يقول: ألا يمكن أن تتحول هذه الجهود إلى إذاعة إسلامية حتى يسمع المسلمون أخبارهم وأخبار إخوانهم والعالم من حولهم بدون تزييف أو مجادلة أو مجاملة؟ الجواب في الواقع أتمنى أن المسلمين يملكون صحفاً، الآن هل يوجد جريدة؟ دعك من الإذاعة، فكِّر في جريدة، هل يوجد جريدة على مستوى العالم مستقلة تعرض أخبار المسلمين وأحوالهم بموضوعية، دون أن تمارس عليها أي جهة أي نوع من الضغط؟! أقول بكل تأكيد لا يوجد. صحيح أنه يوجد مجلات إسلامية، ويوجد جرائد ذات طابع إسلامي هذا لا إشكال فيه. لكن جريدة إسلامية تكتب بدون أن يوجد عليها ضغط من أحد، هذا لا يوجد، فأتمنى أن ينبري بعض الدعاة في إعداد هذه الجريدة ولو في أي بلد من العالم. ليس المقصود أن تكون هذه الجريدة ضد فلان أو ضد فلان، المقصود أن تكون هذه الجريدة تكتب بوضوح ويطمئن الناس إليها أنها لا تكتب إلا الحق، ما يوافق الكتاب والسنة، ولا تجامل أحداً، وتنصر المظلوم في كل مكان، وأنها تنشر العلم الشرعي الصحيح، وتنقل الأخبار الأمينة الدقيقة، ولو وجد هذا فسوف تصبح ظاهرة عالمية ليست بالبسيطة؛ لأنه الآن ملاحظ أن الصحف إذا تخلَّى الأخيار عن شراء صحيفة ما فإنها تسقط. ولذلك شكرنا الأخيار قبل أشهر لما سقطت جريدة الصباحية، لأنهم كانوا سبباً في ذلك لمقاطعتها، ودعوناهم إلى مقاطعة أختها خضراء الدمن -الشرق الأوسط- لأنها من أسوأ الصحف، وأشدها على الإسلام والمسلمين والدعاة. وأنا أكرر هذا الطلب الآن، وهذا الطلب قيل بحضرة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، والمرجو من سماحته أنه سيكتب إن شاء الله دعوة للمسلمين في هذا الصدد، لتجنب مثل هذه الجريدة وغيرها، ما دامت على مثل هذا المنهج وبمثل هذه الطريقة. فأنا أدعوكم -أيها الإخوة- إلى مقاطعة جريدة الشرق الأوسط، خاصة وأن هذه الجريدة من الناحية الفنية والإخبارية ليست لها قيمة تذكر. فأي جريدة أخرى تقوم مقامها، وتغني عنها، بل وأفضل منها، في حين أنها هي تخلط بين الخصومات السياسية والدينية وبين المعلومات والأخبار. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 53 استعداد للمشاركة السؤال يقول: إذا كان الأمر سببه الناحية المادية، فلك علينا عهد أن نقطع لك من رواتبنا المبلغ الذي يكفى لوجود مثل هذه الإذاعة؟ الجواب على كل حال أشكرك على هذا الاقتراح، وأدعو الإخوة إلى أن يستخدموا عقولهم وتفكيرهم في مثل هذه المشاريع والأعمال لعل الله تعالى أن يجعل لهم خيراً وينفع بها. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 54 حكم السفر إلى بلاد الكفر لزيارة الأهل السؤال يقول: ما حكم من يسافر إلى الخارج بقصد زيارة الأهل في بلد غير إسلامي؟ ولا يوجد فيها الحجاب، مع أننا نعرف الحجاب، ولكننا لا نقدر أن نستعمله هناك؟ الجواب ليس هناك بلد فيما أعلم لا يستطيع الإنسان فيه أن يستخدم الحجاب، رأينا المسلمات محجبات في أمريكا وفى فرنسا وفى بريطانيا وفى تركيا بل محجبات موجودات في إسرائيل، وفى كل بلد عربي وغير عربي. فبإمكان المرأة المسلمة أن تتحجب في كل مكان، ولا يضرها أن ينظر الناس إليها، ولا يضرها أن ترمقها الأعين لتكن عزيزة بدينها. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 55 مأساة البوسنة والهرسك السؤال ما هو تصوركم لأبعاد المأساة الأليمة والفجيعة العظيمة التي حلت وألمت بإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك, على ضوء آخر التطورات والأحداث, فماذا يعني تدخل الدول الأوروبية رغم كفرها وإلحادها لحل المشكلة كما يزعمون؟ والله أسأل أن يوفقكم لما يحبه ويرضاه من القول والعمل. الجواب الحقيقة أن قضية البوسنة والهرسك من القضايا الخطيرة والكبيرة, وتحدثنا فيها في مناسبات خاصة، وقد أقمت ندوة فيها مع أحد الدكاترة الذين ذهبوا إلى هناك من أصحابنا ورجع وعرض بعض المشاهدات والمرئيات بعنوان: " مشاهدات في يوغسلافيا، وهي فيما أعلم أن هذه الندوة موجودة في الأسواق. ولكنني أقول على أي حال قضية البوسنة قضية خطيرة للغرب وللشرق. أما بالنسبة للغرب: فهو ينظر إلى أنها في قلب أوروبا، وتعتبر أكبر تجمع إسلامي في أوروبا -ستة ملايين- وكانوا ضعف هذا العدد إبان الحرب العالمية، ولكن أبيد منهم عدد كبير أثناء الحرب، ولم يعلم بهم أحد أما اليوم فهم يقتلون فعلاً ولكن على مرأى ومسمع من العالم كله. وفي هذا الحدث أمور غريبة وهي: أولاً: منذ شهور طويلة والدبابات والطائرات تقصف مدينة سراييفو التاريخية الجميلة حتى حولت مساجدها ومآذنها وبيوتها ومصانعها إلى حرائق. ويقول لي أحد الإخوة: لا تجد بناية واحدة سليمة، بل كثير من البيوت أصبحت غير قابلة للترميم أصلاً، وثلاثة شهور والناس يعيشون في المخابئ حتى نفدت كل المؤن والذخائر، وكل الأطعمة، وأصبح الناس مهددين بالموت جوعاً رجالاً ونساءً وأطفالاً ومع ذلك القصف متواصل، ممن؟ هو من الصرب. هل صحيح أن العالم يرفض؟ أمريكا تدخلت في ساعات في بعض المواقع، وقالت كلمات واضحة، ونحن نجد أنها لم تستخدم أسلوب التهديد بشكل صريح افعل وإلا. فلماذا لم تسلك الأسلوب نفسه مع الصرب، لو كانوا صادقين في مقاومة هذا الذي يحصل؟ ولكنهم يعطون الصرب الآن فرصة، ويقولون لهم: عجلوا وأسرعوا في القضاء على المسلمين في البوسنة والهرسك، أسرعوا بتدمير هذه الدولة، وفعلاً فإن كل الحديث الغربي منصب على شيء واحد فقط وهو الإعانات الإنسانية، فرنسا -مثلاً- أكثر المتحمسين لهذا الموضوع، إلى الآن كل نشاطاتها وتصريحاتها مقصورة على الجانب الإنساني، جانب الإغاثة، وهكذا ألمانيا. أمر آخر هناك، الآن بوادر مخيفة، الكروات هم الآخرون نصارى، الآن أعلنوا عن دولة مستقلة لهم داخل البوسنة والهرسك، يعني اقتطعوا جزءاً من الأرض التي يملكها ويحكمها المسلمون الآن، اقتطعوها واستقلوا بها في دولة كرواتية بوسنوية نصرانية. ويقول كثير من المراقبين: إذا قامت هذه الدولة فعلاً واستقرت، فإنها تهدد وجود البوسنة والهرسك -الدولة الإسلامية- تهديداً مباشراً ويصعب تصور وجود دولة البوسنة والهرسك المستقلة في ظل مثل هذا الوضع. خاصة وأن هناك أخباراً قديمة عن وجود نوع من التحالف بين الكروات والصرب ضد المسلمين، ولو تحالف الكروات والصرب وأعلنوا ذلك ضد المسلمين لكانت كارثة كبيرة. فالآن أكبر إيجابية في الواقع هي أن الكروات يساعدون المسلمين، وعن طريقهم تنتقل الأسلحة، وينتقل الذين يزورون تلك المناطق إلى غير ذلك. والغرب يخاف من شيء كبير في يوغسلافيا -في البوسنة والهرسك- وفي غيرها، يخاف من قضية ظهور الجهاد الإسلامي، ولذلك هناك خبر صغير نشر وأُثير وهو وجود شاب عربي قتل هناك، هذا الخبر على رغم من أنه فردي ومحدود إلا أن له تأثيراً كبيراً في الأوساط الغربية، فضلاً عن أنني سمعت أن هناك مراكز للشباب العرب لمشاركة إخوانهم في الدفاع عن أنفسهم، لماذا؟ هم ليسوا بحاجة إلى الرجال ولكن من الناحية المعنوية، لرفع معنوياتهم، فالغرب يخشى أن تتحول البوسنة والهرسك إلى أفغانستان أخرى. وهنا تكمن الخطورة لأنها بلد جبلي فعلاً وصالحة لمثل هذا الشيء. الأمر الثاني: أنها في قلب أوروبا، وقد تكون هذه شرارة لحروب صليبية متواصلة، كما يوجد في الجمهوريات التي خرجت عن الاتحاد السوفيتي الآن احتكاكات كثيرة وفي بلاد شتى. فالغرب يتخوف الآن من ظهور قضية الجهاد في سبيل الله، ومما أبشركم به أن المسلمين هناك في البوسنة والهرسك على الرغم من أنهم كانوا مجهولين وبيننا وبينهم -نحن المسلمين في المشرق والمغرب هنا في البلاد العربية والإسلامية- مسافات بعيدة، حتى أن أكثرنا لم يكن يعرف هؤلاء المسلمين ولا يدري بوجودهم قط، إلا بعد الأحداث بزمان طويل، ومع ذلك الآن بدءوا يعودون إلى دينهم وبدءوا يصححون أوضاعهم، حتى يقول لي كثير من الإخوان الذين ذهبوا إلى هناك والتقينا بهم، يقول: الآن بدءوا يتكلمون عن قضية الجهاد، ويستشعرون معنى الشهادة في سبيل الله، وظهرت في قلوبهم قضية الحماس للدين، وبدأت مسألة العداوة للنصارى. وظهرت أيضاً الأخلاقيات الإسلامية مثل الالتزام بالحجاب، ومثل ترك التدخين، ومثل المحافظة على الصلوات إلى غير ذلك. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 56 حكم المشاركة في الصحف السؤال رجل يكتب في صفحة الشعر الشعبي في إحدى الصحف، ويأخذ على ذلك راتباً شهرياً, وقد حاول أن يغير بعض أغراض الشعر إلى ما يخدم الدعوة إلى الله تلميحاً، ويستشهد برأي أحد الدعاة في الشعر, فشطب رئيس التحرير المقال, فهل يستمر في هذه الصحيفة بنية محاولة نشر الخير ولو بعد حين أو يتركها؟ الجواب شطب هذا المقال يذكرني بخبر نشر في إحدى الصحف المحلية, وقرأته, وقد ذكر اسم أحد الدعاة ضمن الخبر, أن فلاناً قام وألقى كلمة في حفل من الاحتفالات فنشر الخبر بكامله إلا الكلام المتعلق بذلك الداعية فقد حذف!! أما محاولة نشر الخير فلا شك أنه من استطاع أن ينشر الخير بأي أسلوب أو أي طريقة فلا بأس بذلك, إلا إن كان يرى أن هذه الجريدة بابها مغلق أمام الخير، فعليه أن يتركها إلى غيرها وإلى أسلوب آخر. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 57 حكم المشاركة في النوادي الرياضية السؤال هل يحق لي المساهمة في إنشاء نادي رياضي, علماً بأن نشاطه هو كرة القدم وبعض النشاطات الثقافية المحدودة, حيث يحتج القائمون عليه, بأنه يمنع الشباب مما هو أسوأ من الرياضة, ويلحون على ذلك, وإلا اعتبرت بخيلاً؟ الجواب إذا كان هذا النادي فيه خير، والقائمون عليه أخيار، ولهم نشاطات طيبة وما أشبه ذلك فلا حرج من المساهمة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 58 طلب مقدم للشيخ طلب: أرجو أن تسمح لي يا شيخ بهذه الكلمة، وهي أننا نشكو إلى الله من قلة زيارتكم لنا، فنحن في هذه الليلة نطلب منكم أن تتكرموا بزيارة كل شهر أو شهرين, هذا مطلب أرجوه ويرجوه جميع من في المسجد إن شاء الله؟ الرد: قبل قليل كنت أتكلم عن قضية الديكتاتورية والتسلط, وأنا اعتقد يا أخي أنك تمارس الآن -مع المعذرة- نوعاً من ذلك, فكونك ترجو فهذا صحيح, ولكن جميع من في المسجد لا يمكن الجزم بذلك، إلا إذا كنت قد وزعت ورقة عليهم, ثم جمعت الاستبيانات, ثم خرجت فيها بنتيجة أن الحضور (100%) يطالبون بحضوري دائماًَ, حينئذٍ كنت أقبل منك, على كل حال أنا لا أدخل في هل النتيجة صحيحة أو خطأ, الطريقة خطأ وليست سليمة, يعني قولك: جميع من في المسجد، هذا شيء لا نعلمه، وأمره إلى الله, لكن لو قلت: جل من في المسجد لكان أجود، وعلى كل حال أنا أقدر لكم جميعاً حفاوتكم وأعلم فرحكم بهذا اللقاء الذي أرجو أن يكون مباركاً, والشهود على ذلك عندي وفي صدري. وأسأل الله أن يجمعني وإياكم في الجنة, كما إنني أعدكم إن شاء الله بتكرار هذه الزيارة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 59 كيفية قضاء الإجازة الصيفية السؤال يقول: إن الإجازة الصيفية جاءت، وهناك شباب هداهم الله إلى طاعته وأصلحهم, فما رأيك في الإجازة وما يمكن أن نفعل فيها؟ الجواب أذكر أنه سبق لي أن ألقيت درساً بعنوان: حول الإجازة، فمن الممكن مراجعة ذلك, لكن ينبغي أن تُستفاد في القراءة, والرحلات المفيدة, وحضور مجالس العلم, وحفظ كتاب الله تعالى إن أمكن, والمشاركة في النشاطات الخيرية كالمراكز الصيفية مثلاً, أو الرحلات المفيدة، أو الجولات الوعظية التي تنظمها مراكز الدعوة, أو غير ذلك من الأعمال النافعة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 60 تصحيح لفهم مسألة الاغتيالات السؤال هل نفهم من كلامك أنك تؤيد ما يفعله المسلمون في معركة المواجهة؟ أم أن الأمر غير ذلك؟ الجواب إذا كان الأخ يقصد أنني أؤيد مسألة الاغتيال, فلا، لم أقل هذا لا نصاً ولا ضمناً, وليس في كلامي أنني أؤيد الاغتيالات؛ لأنني أرى أن هذا الأمر ليس مناسباً, ولا يخدم قضية الدعوة في الواقع، خاصة في مثل هذه الأوضاع التي تعيشها مصر, ولكنني قصدت أمراً واحداً فقط، وهو أني أقول: إن الإعلام الذي يستنكر الاغتيالات التي يقوم بها أفراد من الجماعات الإسلامية, لم يقم بالدور نفسه في استنكار الاغتيالات التي توجه لأفراد الجماعات الإسلامية. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 61 نصيحة لشباب المراكز السؤال نطلب نصيحة لشباب المراكز ومن يقوم عليها؟ الجواب أنصحهم بتقوى الله في هؤلاء الشباب الذين استرعاهم الله عليهم, وأن يبذلوا جهداً في تربيتهم, وإعدادهم وإصلاحهم, وأن يحرصوا على حمايتهم من الأفكار المنحرفة, والأخلاق المنحرفة, وبنائهم بناءً قوياً ليصبحوا رجالاً أقوياء, ويحرصوا على تزويدهم بالعلم الشرعي الصحيح, وتربيتهم تربية إسلامية سليمة. الجزء: 65 ¦ الصفحة: 62 أيتها المرأة احفظي قلبك وجوارحك تحدث الشيخ -حفظه الله تعالى- في هذه المحاضرة عن وجوب تعلق قلب الإنسان بالله وحده، وخص النساء بهذا الموضوع ذاكراً لهن أوجهاً من تعلق بعض النساء بغير الله مثل اللباس والموضة والزينة، ومثل تعلق المرأة بامرأة مثلها أو برجل سواء كان زوجها بدرجة لا يقبلها الشرع، أو برجل أجنبي كما قد يحصل لبعض ضعيفات الدين، وذكر أيضاً التعلق بالوظيفة والمال، ثم ذكر الآثار التي ترى في المرأة التي يكون قلبها متعلقاً بالله عز وجل، ثم أجاب على طائفة من أسئلة النساء. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 1 وجوب تعلق القلب بالله وحده إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فلما هممت بإلقاء هذه الكلمة وإعدادها تحيرت في الموضوع الذي يناسبها، لأنها لا تتكرر إلا بين الحين والحين، والموضوعات التي تحتاج إلى إيضاح وبيان كثيرة، ثم رأيت أن أجعل مدار هذه الكلمة على موضوع واحد تتفرع عنه جميع الموضوعات الأخرى؛ ألا وهو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} والحديث متفق عليه. أيتها الأخوات: إن هذه المضغة، القطعة من اللحم المسماة بالقلب عليها مدار كل شيء، فهي بالنسبة للجسد ملكه، وما الأعضاء والجوارح من السمع، والبصر، والأيدي، والأرجل، واللسان، وغيرها؛ إلا جنود تحت خدمة هذا السيد المطاع الذي هو القلب، فإذا كان القلب صالحاً فإنه يأمر جنوده بكل أمر صالح، فلا ينظر الإنسان إلا إلى حلال، ولا يسمع إلا الخير، ولا يمشي إلا إلى خير، ولا يأخذ إلا خيراً، وإذا كان هذا السيد المطاع الذي هو القلب فاسداً فإنه يأمر جنوده التي هي الأعضاء بالشر والفساد، فلا يرتاح الإنسان إلا إلى النظر للحرام، وسماع المحرم، والمشي إلى الحرام، وأخذ الحرام، وإعطاء الحرام، فالقلب يملي على جوارح الإنسان جميع الأعمال، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عن هذه المضغة: {إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله} . أيتها الأخوات: أحياناً يكون مظهر الإنسان مظهراً غير إسلامي -مثلاً- تكون المرأة قد لبست ثياباً ضيقة، أو غير ساترة، أو ثياباً فيها تشبه بلباس الكافرات، أو ثياباً محرم لبسها، أو استعطرت في حضرة رجال أجانب، أو تسمع الغناء المحرم، أو تغتاب الناس وتنتهك أعراضهم، فإذا وجدت من يلومها ويعاتبها ويقول اتركي هذه الأشياء، قالت: التقوى هاهنا -وتشير إلى صدرها- وتنسى أن التقوى لو كانت فعلاً هاهنا لظهرت آثارها على الجوارح، لأن القلب إذا صلح صلح الجسد كله. إذاً: فإننا حين نرى مظهر الإنسان مظهراً سيئاً منحرفاً نستنتج من ذلك أن القلب إما ميت، أو مريض، والعكس بالعكس إذا كان مظهر الإنسان مظهراً حسناً فإننا نستنتج من ذلك أن القلب فيه حياة وفيه نور. القلب لا بد له من تعلق لأن الله تبارك وتعالى حين خلق القلب جعله مستودعاً للمشاعر من الحب، والبغض، والرحمة، والحسد، والحقد، وغيرها من المشاعر الطيبة أو المشاعر الخبيثة. فلا بد أن يكون هذا القلب مملوءاً بشيء، إما بخير، أو بشر، لا بد أن يتعلق القلب بشيء ولننظر الآن في أنواع الأشياء التي يمكن أن يتعلق بها القلب ونطبقها على واقع حياتنا التي نعيشها في هذا العصر. قد يتعلق قلب الإنسان رجلاً كان أو امرأة بالدنيا وزخارفها، ويمتلئ بمحبة هذه الدار والحرص على الاستمتاع الكامل بها، وهذه ليست من صفات المؤمنين، يقول الله عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:15-16] ويقول جل وعلا: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الذين يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] فاستحباب الحياة الدنيا، وإيثارها على الآخرة ليست من صفات المؤمنين، ويقول سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] . وفيما يتعلق بالمرأة خاصة فقد حدث أن كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه يطالبنه بالنفقة على رغم قلة ذات اليد وشظف العيش في ذلك العصر، حتى ضاق من ذلك صدر النبي صلى الله عليه وسلم ونزل قول الله تعالى مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب:28] فالمرأة التي غاية تعلقها هي الحياة الدنيا وزينتها لا تصلح أن تكون زوجاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عقب على ذلك بقوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] وهكذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً ممن أرادن الله ورسوله والدار الآخرة، ولذلك اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الدنيا وما فيها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 2 تعلق المرأة باللباس والزينة إن كثيراً من النساء اليوم قد تعلقت قلوبهن بالدنيا وزخارفها، فأصبحت المرأة مفتونة -مثلاً- بملاحقة الموضات في الملابس والأزياء التي تصدرها بيوت الأزياء في العالم، وتعمل من وراء نشرها على تخريب أخلاق الناس، وإفساد مجتمعاتهم، وسلب أموالهم أيضاً، وغالب بيوت الأزياء يمتلكها أناس من اليهود المشهورين بالإفساد، والابتزاز، والتخريب، والحقد على الأمم والشعوب كلها وعلى الأمة الإسلامية بشكل خاص. ومع هذا فانظري أيتها المسلمة كيف إقبال فتيات المسلمين اليوم على هذه الأزياء والموضات، انظري كيف إقبالهن على تلك المجلات التي ليس لها هدف إلا اطلاع المرأة على أحدث الأزياء والموضات التي تصدر في أوروبا، أو أمريكا أو غيرها من بلدان العالم، أو في بعض البلاد الإسلامية أيضاً، انظري كيف صار افتتان كثير من الفتيات بتسريحات الشعر، وصرف قدر كبير جداً من الوقت في تصفيف الشعر وتلميعه وترتيبه وتقصيصه، ومتابعة أحدث التسريحات في ذلك، والتي أصبحت هي الأخرى لها كتب ومجلات خاصة تعلم الناس وتعلم النساء ما يتعلق بذلك، وأصبحت المسلمة تحاكي الكافرات في تسريحات شعورهن. فإن كانت الموضة تقصير الشعر سارعت المسلمة إلى تقصيص شعرها حتى لا يبقى منه إلا القليل، وإن كانت الموضة إطالته لبست شعوراً مستعارة تطيل شعرها، وإن كان تسريحه أو تصفيفه بطريقة معينة في أعلى الرأس أو في أدناه أو في أسفله؛ سارعت المرأة إلى هذا أو ذاك مسارعة الذي لا هم له إلا الزينة فقط، وليس من شك أن الزينة جزء من حياة المرأة، وأعني بالذات المرأة المتزوجة، لكن المشكلة تكمن في هذا الموضوع في عدة أمور: الأول: في كون هذا الأمر يأخذ من وقت المرأة أكثره، حتى إنه يصبح لا هم لها إلا أن تلبس ثوباً وتخلع آخر، وقد تستغني عن عدد كبير من الملابس لأن الموضة تعدتها، وتسرح شعرها بطريقة ثم تعدل إلى طريقة أخرى، وتصبغه اليوم بصبغ ثم تعمل على تلافي هذا الصبغ بصبغة أخرى حسب ما تمليه أوضاع المجتمعات الكافرة التي أصبح المسلمون يتلقون عنها، كذلك تفتتن المرأة بالسكن الجميل وبالسيارة الجميلة لزوجها، وبغير ذلك من المظاهر الدنيوية. وفي هذا يجب أن نعلم أن الله تعالى أباح لنا حداً من هذا، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] وفي صحيح مسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقام رجل فقال: يا رسول الله إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق -أي رده- وغمط الناس -أي احتقارهم وازدراؤهم-} فينبغي أن نفرق بين عناية المرأة وخاصة المتزوجة بقدر من التجمل لزوجها وكسب رضاه، ومساعدته على غض بصره وإعفاف فرجه، وبين المبالغة في هذا الأمر مبالغة تصل إلى حد الإسراف، فالإسراف في كل شيء مكروه وممنوع، حتى في أمور الخير، فما بالك بالأمور العادية، إن الإسراف فيها قد يتحول إلى نوع من العبودية لهذه الأشياء. الأمر الآخر: أن كثيراً من النساء تستخدم هذه المظاهر وهذه الزينة أمام الآخرين، إما من النساء الأخريات، أو من الرجال، أما أمام النساء فغرضها أنها تجعل مجتمعات النساء سواء في الزواجات، أو في الاجتماعات العائلية، أو حتى في المدارس، أو في غيرها؛ تجعلها ميداناً للتنافس والسباق التجاري في هذه الأشياء، وتوجد القدوة للأخريات ببعض الأعمال التي قد لا تكون سائغة ولا مستحسنة من جهة الشرع، وأما إن كانت أمام رجال أجانب فهذه الأمور كلها تدخل في باب التحريم لما فيها من الإثارة وبعث الفتنة في صدور الرجال، فالمرأة تفتتن بهم وتفتنهم أيضاً. وهذا كله من آثار تعلق القلب بهذه الدنيا، لأن الله تعالى وعدنا بجنة عرضها السماوات والأرض، وفيها من ألوان النعيم للرجل والمرأة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فالمرأة المؤمنة بهذه الجنة والتي تعلم أن مصير المؤمنين بعد موتهم إليها -بإذن الله تعالى- لا تبالغ في الاستمتاع بزينة الحياة الدنيا، وهي تتذكر قول الله عز وجل للكافرين يوم القيامة وهو يحشرهم إلى النار ويوبخهم بقوله: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأحقاف:20] وقد ورد عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه وهو من كبار الصحابة ومن أثريائهم أنه قدمت له وليمة من الطعام في أحد الأيام، فلما هم بأكلها فكر قليلاً ثم تنحى وبدأ يبكي، فجاءوا إليه وقالوا: -رحمك الله- ما يبكيك؟ فذكر رضي الله عنه حاله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من الفقر، وشظف العيش، ثم ما صاروا إليه من الغنى، والترف، والتوسع في المأكولات، والمشروبات، والملبوسات وغيرها، ثم قال: أخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا. ومن هذا الباب -أيضاً- أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء} فما معنى هذا الحديث؟ ليس معناه والله أعلم أن الكافر له سبعة أمعاء في بطنه، والمؤمن له معي واحد، بل الخلقة هي في الغالب واحدة، والإنسان قد يكون اليوم كافراً وغداً يكون مسلماً، ولا يلزم من ذلك أن تتغير خلقته، وتختلف أمعاؤه بدلاً من كونها سبعة أصبحت واحده، وإنما المعنى -والله تعالى أعلم- أن المؤمن يقتصر في مأكله فيأكل بقدر لأن ما هو فيه من أمور الدين، والإيمان، والعبادة، والإقبال على الله، والطمع في الآخرة، يجعل اهتمامه بالأكل في حدود معينة. أما الكافر فكل همه هذه الدنيا، ولذلك يأكل بنهم، ويشرب بنهم، ويقضي شهواته بنهم، لأن الفرصة الوحيدة التي يستمتع بها هي هذه الدنيا ولا فرصة له بعدها، فينبغي للمسلمة أن تحفظ قلبها من التعلق بالدنيا وزخارفها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 3 التعلق بالمخلوقات الجزء: 66 ¦ الصفحة: 4 تعلق المرأة برجل وقد يكون التعلق بإنسان آخر من الجنس الآخر، كأن تتعلق المرأة بزوجها -مثلاً- تعلقاً يصل إلى حد الاستعباد، بحيث يؤثر هذا التعلق على سلوك المرأة حتى تؤثر مرضاة زوجها على مرضاة ربها، وحتى تطيع زوجها في معصية الله عز وجل، من الأمثلة على ذلك أن الزوج قد يكون مبتلىً بسماع الغناء، فالمرأة لشدة تعلقها بزوجها أصبحت توافقه على هذا المنكر، ولا تعترض عليه، وقد يكون مبتلى بمشاهدة الأفلام والتمثيليات التي تنافي الأخلاق، وتنافي الدين، ويُعرض فيها من المشاهد ما يخل بالمروءة، ويخل بالدين، ويخل بالحياء، قليلاً كان أو كثيراً، فنجد أن المرأة توافق زوجها على هذا الأمر، بل إنها قد تعينه على ذلك بمساعدته على تسجيل هذه الأمور، أو تصويرها، أو عرضها، أو ما شابه ذلك. ونحن نجد أن الله سبحانه وتعالى ضرب لنا المثل بـ امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فهي امرأة لكن الله عز وجل رزقها من قوة الشخصية، وقوة الإيمان، وقوة التوكل على الله، والثقة به، ما جعلها تحتقر فرعون وما هو فيه من النعيم والترف، لما ترى عليه من الكفر بالله عز وجل والطغيان، فترفع يديها وهي في قلب هذا القصر العامر لتقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] فهي لا تريد بيت فرعون هذا؛ إنما تريد بيتاً في الجنة، {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم:11] لم تغتر بمظاهر الدنيا، وزينتها الموجودة في هذا القصر، بل تطلعت إلى ما عند الله عز وجل وهي بذلك تضرب المثل لكل امرأة مؤمنة ألا يكون تعلقها بزوجها سبباً في انحرافها، أو معصيتها لله عز وجل. وقد يؤدي هذا التعلق بالزوج إلى الانشغال عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن ذكر الله عز وجل فتجد أن قلب المرأة مشغول بهذا الهم حتى وهي تصلي وتركع وتسجد وهذا نوع من استعباد القلب لغير الله عز وجل. ويزيد الأمر خطورة وفظاعة حين يكون تعلقاً برجل أجنبي، ومع الأسف أجدني مضطراً إلى الحديث عن هذا الأمر وإن كان غريباً على مجتمعاتنا -ولله الحمد- أو على ما يظهر للناس من مجتمعاتنا، لأن كثيراً من الأفلام والمسرحيات التي تعرض نسمع أنها تدور دائماً حول قضايا الحب وتعلق المرأة بالرجل، وكيف تمت هذه العلاقة، وقد يكون الفيلم من أوله إلى آخره أو المسرحية يدور حول هذا، وهذا يفسد من يشاهده -ولعل من يستمعون إلى هذا الحديث لا يكون منهم من يشاهد مثل هذه الأمور- يربي من يشاهده على التقليد لهذه الأشياء، وسلوك نفس المسلك الذي شاهده في هذه التمثيلية أو هذا الفيلم. فالتعلق بأولئك هو خطر على القلب، وخطر على دين الإنسان، وخطر على دنياه أيضاً، ومن تعلق بشيء فهو يوكل إليه، ومن تعلق بشيء فهو عبد له، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار} وعلى هذا -أيضاً- أقول تعس من الرجال من هو عبد للمرأة، الذي استعبدته شهوته، تعس عبد الشهوة، تعس عبد الوظيفة. ونقول للنساء تعست عابدة الشهوة، وتعست عابدة أو أمة الرجل، وتعست عبدة الدنيا، أو أمتها التي لا تعلق لها إلا بها، فمن تعلق قلبه بشيء من هذه الأشياء فهو عبد له. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 5 تعلق المرأة بالمرأة من أنواع الأشياء التي قد يتعلق بها القلب تعلق قلب المخلوق بمخلوق مثله، -مثلاً- قد تتعلق أو يتعلق قلب المرأة بامرأة أخرى مثلها، فنجد أن بعض النساء إذا كان بينهن اجتماعات متواصلة في المدارس، والجامعات، وفي العلاقات العائلية، من كثرة الاحتكاك يوجد نوع من الروابط والمودة القلبية بين بعض النساء وبعض، فتجد أن فلانة أصبحت تعيش مع فلانة طيلة وقتها، وتجالسها باستمرار، وتقلدها في حركاتها، وفي مشيتها، وفي طريقة حديثها، وفي أسلوبها، وفي كل شيء؛ حتى في ملابسها، في الخير وفي الشر على سبيل الإعجاب بها، حتى تصبح كأنها نسخة منها؛ تقلدها في كل أمورها ولو لفترة معينة، فإن كانت هذه المرأة صالحة فربما كان هذا سبباً في كونها تقلدها في بعض أمور الخير، وإن كانت ضد ذلك فإنها تقلدها فيما كانت عليه، وهذا التعلق القلبي -أيضاً- هو نوع من تعلق القلب بغير الله عز وجل بدليل أنه قد يجر المرأة -إذا تعلقت بامرأة أخرى مثلها- يجرها إلى تقليدها حتى في الأمور المحرمة، وإلى عدم سماع أي نقد أو ملاحظة عليها، فهي لا ترى فيها إلا الحسنات، لا ترى فيها عيوباً فهذا يجب الحذر منه. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 6 التعلق بالوظيفة من أنواع التعلق -تعلق القلب بغير الله- تعلق القلب بالوظيفة الدنيوية، بحيث تصبح هذه الوظيفة هي هم الإنسان، من أجلها يسعى سواء كانت هذه الوظيفة وظيفة إدارية أم تعليمية أم غيرها، فكثير من الناس اليوم تعلقوا بهذه الوظائف، وأصبح عملهم من أجلها، حتى إنك تجد أن الإنسان -أحياناً- وهو في عمل شريف كالتدريس، أو التوجيه، وقد تكون المرأة معلمة، أو موجهة -وهذه الرسالة رسالة التعليم والتوجيه هي أشرف رسالة في الحياة، والمعلم إذا كان يعلم طلابه الدين والشرع بطريقة صحيحة، فهو من ورثة الأنبياء، لأن الرسل بعثوا ليعلمون الناس، ويرشدونهم، ويدرسونهم- تجدين أن المُدرسة أو الموجهة أو الموظفة تشعر بأنها تؤدي وظيفة وليست تؤدي رسالة، ولست بهذا أقصد التعميم، وإنما أقصد أن من تعلق قلبه بالوظيفة كان كذلك، وإلا فإن ما نسمعه عن كثير من العاملات في هذا المجال مما يبشر بخير كثير إن شاء الله. فالمرأة المتعلقة بالوظيفة والتي تشعر أن تدريسها هو مجرد وظيفة تأخذ عليها الراتب، لا تكون قدوة حسنة لطالباتها، ولذلك قد تدرس مواداً دينية -مثلاً- وتبين للطالبات اللباس وكيف يجب أن يكون من حيث الستر والسعة، كونه فضفاضاً غير ضيق، وعدم الطيب، وطريقة اللباس، وطريقة الشعر وغيرها، وهي مخالفة لهذه الأشياء كلها وحينئذٍ يصدق عليها قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] ولله در القائل في مثل هذا الصنف: يا واعظ الناس قد أصبحت متهماً إذ عبت منهم أموراً أنت تأتيها أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهداً والموبقات لعمري أنت جانيها ويقول أبو الأسود الدؤلي في قصيدة له: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يُقبل إن وعظت ويُقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيم فعلى الأخت المسلمة -مدرسة كانت أو موجهة أو مديرة- أن تحرص على أن تكون هذه الوظيفة مجرد وسيلة للإصلاح، وخدمة الإسلام والمسلمين، وتربية النشء تربية إسلامية صحيحة، وهذا هو ما نظنه بالأخوات أو بكثير من الأخوات العاملات في هذا المجال. إن تعلق قلب الإنسان بالوظيفة يجعله يحرص على الوصول إليها بأي وسيلة ومن ذلك -مثلاً- أن كثيراً من الطالبات لأن قلبها متعلق بمسألة النجاح في الامتحان، ومن ثم التخرج والالتحاق بمعهد أو كلية ونيل الوظيفة أو الشهادة، إن الطالبة لا تبالي بأي وسيلة نجحت، وكثيراً ما نسمع شكاوى من المعلمات وغيرهن من كثرة محاولة بعض الطالبات للغش والتزوير في الامتحانات، وهذا عمل لا شك أنه محرم، وفي الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من غشنا فليس منا} وهذا دليل على أن الغش كبيرة من كبائر الذنوب أياً كان هذا الغش، سواء في البيع، أم في الشراء، أم في المعاملة، أم في الامتحان، أم في أداء الواجبات، أم في غيرها، فالغش بجميع أنواعه محرم في الإسلام، {ومن غش فليس منا} كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا وعيد شديد يدل على أن الغش من كبائر الذنوب. وما يدفع الطالبة إلى الوقوع في الغش، والتزوير، والتلاعب، إلا لأن الهم أصبح هو النجاح لا غير ونيل الشهادة، ثم الوظيفة، أما لو كانت تشعر بأنها تتعلم لتكوّن شخصيتها، وتتعلم دينها، وتعرف واجباتها، فإنها تدرك أن الغش حينئذٍ لا ينفعها في هذا المجال، بل يضرها، وهو بالتالي يخرج لنا في المستقبل معلمة تخرجت بالغش، ومديرة تخرجت بالغش، وموجهة تخرجت بالغش، وقل مثل ذلك في جميع الأعمال الدنيوية في مجال الرجال، أو في مجال النساء. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 7 معانٍ لابد من جمعها في القلب هذه أمثلة من تعلق قلب الإنسان بغير الله وأما الأمر المطلوب فهو أن يتعلق قلب العبد بالله عز وجل وأن يكون رضا الله تعالى هو أسمى مطلوب في قلب المؤمن، وأن يكون حبه أعظم حب في قلبه، ورجاؤه أعظم رجاء، وخوفه أعظم خوف، لا بد أن تجمع في قلبك ثلاثة معانٍ: أولاً: حب الله تعالى، والله سبحانه هو الذي أنعم على العبد بجميع النعم، فهو المستحق لالحب استحقاقاً كاملاً. الأمر الثاني: الخوف من الله، لأن الله تعالى قوي شديد العقاب، والمعصية مهما صغرت فأنت لا تنظر إلى صغر المعصية، لكن انظر إلى عظم من عصيت وهو الله تبارك وتعالى، فحري بالعبد أن يخاف الله تعالى. ولذلك لو عذب الله تبارك وتعالى أهل أرضه وأهل سماواته لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، يقول الشاعر في وصف الله عز وجل: ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن نُعِّموا فبفضله أو عُذِّبوا فبعدله وهو الكريم الواسع والأمر الثالث: هو الرجاء في الله تعالى بحيث يجمع الإنسان بين حب الله وخوفه ورجائه. وهذه الأمور الثلاثة لا بد منها، وقد سمعت كثيراً من الشكاوى من بعض النسوة الطيبات في غلبة الخوف على قلوبهن، بحيث تكون المرأة قلقة فزعة مذعورة خائفة أبداً، خائفة من الموت، خائفة من العذاب، خائفة من سوء الخاتمة، كثيرة الخوف، فيغلب عليها هذا الخوف حتى يكدر عليها حياتها، وعبادتها، وقد يفضي بها إلى أنواع من الوسوسة والتنطع المفرط، وهذا يكون بسبب أن المرأة تقرأ كثيراً من الكتب، وتسمع كثيراً من الأشرطة التي تركز على جانب الخوف، فينبغي للمرأة أيضاً أن تقرأ في جانب الرجاء، تقرأ في القرآن الكريم، وتقرأ من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الأحاديث التي فيها التخويف والترهيب، وأيضاً الأحاديث التي فيها الرجاء والترغيب حتى يكون عندها توازن واعتدال بين هذه الأشياء. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 8 من آثار تعلق القلب بالله الجزء: 66 ¦ الصفحة: 9 عدم التنطع في الدين وأخيراً فإن من آثار التعلق بالله عز وجل الاعتدال وعدم التنطع في الدين، فإن بعض الناس حين يقبل إلى الله تعالى يغلو في ذلك، ويصاب بأنواع من الوساوس سواء في الطهارة، أم في الصلاة، أم في المعاملة، أم في غير ذلك، وأيضاً الشكاوى كثيرة في هذا الجانب من النساء ومن الرجال، وإن كنت أعتقد أنها في النساء أكثر، فتجد بعض النساء تتعب في الوضوء، ثم تتعب عند التكبير، ثم تتعب في الصلاة، وقد يدخل عليها وقت صلاة العصر -مثلاً- وهي ما صلت الظهر -مع حرصها- بسبب الوسوسة. وعلى المرأة المسلمة أن تدرك أن الله تعالى يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وإذا عجز الإنسان عن شيء فإنه يسقط عنه وينتقل إلى ما يستطيعه منه، فإذا عجز عن الصلاة قائماً صلى قاعداً، وإذا عجز عن الصلاة قاعداً صلى على جنبه، وإذا عجز عن الطهارة بالماء تطهر بالتيمم -مثلاً- وقل مثل ذلك في سائر الواجبات الأخرى؛ إذا عجز عن شيء انتقل إلى بدله: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وعلينا ألا نبغض إلى أنفسنا عبادة الله عز وجل بالتنطع في بعض هذه الأمور، والاستجابة لوساوس الشيطان. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 10 العناية بطلب العلم من آثار التعلق بالله تعالى: العناية بطلب العلم النافع من الكتاب والسنة، فإن القرآن حياة للقلوب، يحيي القلوب كما يحيي المطر الأرض إذا نزل عليها؛ اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، فعلى المرأة المسلمة أن تقبل على قراءة القرآن، وحفظه، ومدارسته، ودراسة السنة النبوية والعلم الشرعي، لتعرف ما لا بد لها من معرفته من أمور الدين، وتكون ممن يعبدوا الله تعالى على بصيرة، ولا تشتغل عن ذلك بقراءة الروايات الساقطة، مثل روايات الفتيات، أو الانشغال بقراءة المجلات التي تنشر من المقالات والقصص والأشعار ما لا خير فيه. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 11 العناية بالدعوة من آثار التعلق بالله تبارك وتعالى العناية بالدعوة إلى الله في الوسط الذي تعيش فيه المسلمة، سواء كانت مدرسة تدعو إلى الله في مدرستها أم موجهة تدعو إلى الله من خلال تأثيرها على المدرسات وغيرهن، أم من خلال الدعوة إلى الله في بيتها وبين أقاربها، أم من خلال المجتمعات العائلية في العزائم، والأعراس، وحفلات الزواج وغيرها، أم من خلال بعض الفرص التي تتاح لها كالمشاركة في دروس القرآن الكريم، والمحاضرات الخاصة بالنساء، وما شابه ذلك من النشاطات التي ينبغي دعمها وتشجيعها من قبل الأخوات المسلمات، والحرص على الاستفادة منها في الدعوة إلى الله عز وجل ونشر العلم النافع، ونشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، ونشر كل ما يدعو إلى الخير ويحذر من الشر. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 12 اتباع نساء السلف ومن آثار التعلق بالله تبارك وتعالى عناية المرأة باتباع ما كان عليه نساء السلف من أمهات المؤمنين ونساء الصحابة: كـ عائشة، وخديجة، وفاطمة، ورقية، وزينب، وأسماء، وغيرهن من المؤمنات الأول، وعدم تقليد النساء الكافرات، فإن من أحبت أن تحشر مع عائشة، وأسماء، وخديجة، وحفصة، وفاطمة، فيجب عليها أن تقتدي بهن، ومن أحبت أن تحشر مع فلانة وفلانة من المغنيات، والممثلات، وعارضات الأزياء، والنساء اللاتي يظهرن في الإعلانات، والمجلات، وغيرها؛ من أحبت أن تحشر معهن فلتتشبه بهن، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر: {من تشبه بقوم فهو منهم} . الجزء: 66 ¦ الصفحة: 13 التستر الكامل ومن آثار تعلقها بالله تعالى أن تحرص على التستر الكامل في جميع بدنها إذا كانت ستخرج من بيتها بحيث يراها الرجال، وفي سنن الترمذي وصحيح ابن خزيمة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {المرأة عورة} وهذا حديث عام أخذ منه بعض أهل العلم أن المرأة كلها عورة، بحيث ينبغي لها ألا تظهر كفيها ولا قدميها ولا شيئاً من بدنها، فما بالك بكثير من النساء وهن يظهرن الأكف وبعض الذراع والقدم وربما بعض الساق، وأحياناً يظهر النحر وبعض الرقبة وبعض الشعر، وكثير من النساء يقللن من الحجاب شيئاً فشيئاً، لا شك أن هذا أمر لا يجوز، وهو مؤذن بأن هذه المرأة التي تقلل من حجابها شيئاً فشيئاً قد تصير إلى أمور لا يرضاها الله تبارك تعالى لها في الوقوع في معصيته، وإيقاع الناس -أيضاً- في تلك المعصية. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 14 حرص المرأة على لزوم بيتها ومن آثار تعلق القلب بالله تبارك تعالى حرص المرأة على لزوم بيتها، والاشتغال بشئونها الخاصة وشئون زوجها، بحيث لا تخرج إلا لمصلحة أو حاجة، فأما المصلحة فكأن تخرج لِتَعَلُّمٍ في مدرسة أو غيرها أو لتعليم، أو لموعظة، أو لدعوة إلى الله تبارك وتعالى أو لغير ذلك. وأما الحاجة فكأن تخرج لحاجاتها التي لا بد لها منها، ولا يمكن أن يقوم بها غيرها عنها، وحينئذٍ تكون في خروجها متسترة متحفظة لا تتبرج بالزينة، ولا تلبس الثياب الجذابة المثيرة الملفتة للنظر، ولا تكثر من الكلام والمماكسة والأخذ والعطاء مع الرجال لغير أمر يدعو إلى ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة لما صفق الرجال قال لهم: {إنما التصفيق للنساء، وأما الرجل فإنه إذا نابه شيء في الصلاة يقول: سبحان الله} وإنما أمرت المرأة بالتصفيق إذا احتاجت إليه، إذا نابها شيء، لأن صوت المرأة مما لا ينبغي أن يرتفع إلا لحاجة، كأن تكون سائلة، أو مستفتية، أو متكلمة في أمور تحتاجها، أما الاستطراد في الحديث والضحك وكثرة الكلام والخضوع بالقول فهذه من الأمور التي لا تجوز، ولا يسوغ للمرأة المسلمة أن تفعله مع رجال أجانب. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 15 حياة المرأة كلها تكون موافقة لمحبة الله ورضاه من آثار تعلق القلب بالله تعالى: أن تكون الحياة كلها على وفق ما يحبه الله ويرضاه، وسوف أضرب لذلك عدداً من الأمثلة التي توخيت في اختيارها أن تكون منطلقة من واقع كثير من النساء، فمن تعلق قلبها بالله عز وجل التزمت بأداء العبادات أداءً شرعياً في الوقت، من الصلاة، والصيام، والحج، وغيرها. وكثيراً من النساء تجد عندهن تقصيراً في هذه الأمور، قد تؤخر المرأة الصلاة لأدنى سبب، وربما لغير سبب، إما لأنها ذهبت إلى حفلة زواج، أو لأنها جلست تسمر مع بعض قريباتها أو صديقاتها، أو تشتغل ببعض شئونها وواجباتها، أو لأنها نامت فلم تستيقظ، ويتكرر هذا الأمر فتخل المرأة بأداء صلاة العشاء الآخرة، وبأداء صلاة الفجر، وكذلك صلاة العصر لهذه الأسباب، مع ما ورد من التحذير من ذلك، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} أما صلاة العصر فقد صح أنها هي الصلاة الوسطى التي خصها الله عز وجل بقوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] . الجزء: 66 ¦ الصفحة: 16 الفرار من الله إليه إن طاعة الله عز وجل وتعلق القلب به يترتب عليه ثقة المرأة والرجل بالله، وركونهما إليه، بحيث يكون فرارهما من الله إلى الله، كما قال الله عز وجل: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] وقال عن المؤمنين: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك، لا أحصي ثناء عليك} فالإنسان إنما يفر من الله إلى الله، من خاف من الله فعليه أن يفر إلى الله، لأن الله عز وجل لا مهرب منه: وكيف يفر العبد عنه بذنبه إذا كان تطوى في يديه المراحل إذا كان الإنسان لو خاف من أمير أو حاكم فإنه لا يستطيع الفرار منه لقوة قبضته وسلطانه، فما بالك أيتها المسلمة إذا خاف العبد من الله عز وجل وخاف من بأسه، وسطوته، ونقمته، وعقوبته، أين يفر؟ لا يفر إلا أن يلقي بنفسه بين يدي الله تعالى، ويمرغ جبهته في التراب ويبكي ويخشع لله عز وجل ويسأل الله بصدق أن يرحمه، وأن يثبت قلبه على الدين، وأن يعلمه ما ينفعه في دينه ودنياه، وأن يقيه شر نفسه، وأن يقيه عذاب جهنم وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات، وغيرها من فتن الدنيا والدين. هذا ما أحببت أن أشير إليه، وأرجو الله تعالى أن ينفع بهذه الكلمات من قالها ومن سمعها إنه قريب مجيب، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 66 ¦ الصفحة: 18 إلقاء السلام على الأجانب السؤال ما حكم قول السلام عليكم ورحمة الله عند الرجال الأجانب كسائق الأوتوبيس؟ الجواب لا أرى مثل هذا، لما في ذلك من خوف الفتنة خاصة في هذا الزمان، وخاصة بالنسبة لمن تواجههم المرأة باستمرار، كسائق أو غيره فإن إلقاء السلام كاملاً ومع ما في طبيعة صوت المرأة من الرقة والليونة يلحظ أنه يكون فيه تحريك لقلوب بعض الضعفاء فلا أرى مثل هذا. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 19 الذهاب إلى الحفلات المحتوية على غناء السؤال ما حكم الذهاب إلى حفلات العرس وفيها طبل وغناء؟ الجواب في حفلات العرس، رخص لنا نحن المسلمين بشيء واحد وهو الدف، الدف هو الشيء الذي يضرب من جهة واحدة والجهة الأخرى لا يمكن الضرب عليها، فهذا يسمى الدف، وقد رخص فيه في العرس، فإن كانت حفلة العرس فيها هذا الدف وفيها غناء بأصوات جوارٍ، أو نساء لكن لا يسمعهن رجال، بحيث يكون الصوت في مكان معزول ولا ترتفع الأصوات فهذا جائز، أما إن كان فيه طبول وغناء وأصوات مرتفعة وهرج ومرج وقد يكون غناء بمسجل فهذا لا يجوز. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 20 الغش في مادة اللغة الإنجليزية السؤال يقولون إن الغش في مادة الإنجليزي جائز؟ الجواب لا، هذا يخالف، فالغش كما أسلفت محرم بكل صوره، فأنت -مثلاً- لا يجوز أن تغش الكافر، وكذلك لا يجوز أن تغش في أي مادة وأنت مطالب وأنتِ مطالبة بضبطها وحفظها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 21 التحدث بين المخطوبين السؤال ما حكم مخاطبة الخطيب لخطيبته لأخذ رأيها في مسألة الزواج، يعني على الهاتف؟ الجواب إذا كان هذا بعد أن حصل موضوع الخطبة، ولم يبق إلا بعض استفسارات عند المرأة تريد أن تسأل عنها وتستوثق منها، فهذا لا بأس به، لكن ما دام لم يحصل العقد فإنها تعتبر أجنبية عنه فتتكلم معه بصوت عادي بعيد عن الخضوع بالقول وبقدر ما تحتاج، فلا تتوسع في الكلام بغير طائل وإن حصل الاستغناء عن ذلك بأن يقوم وليها أو أخوها بالسؤال عن بعض ما يشكل فهذا يكون أسلم وأفضل. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 22 رؤيا الأنبياء في المنام السؤال ما حكم رؤيا نبي من الأنبياء في المنام؟ الجواب إذا رأى المسلم النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء في المنام على هيئته المعروفة المحفوظة في كتب السنة فهذه رؤيا حق وهي خير -إن شاء الله- للرائي، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {من رآني في المنام فقد رآني حقاً فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي} لكن ينبغي أن يفرق بين ما إذا رأى فعلاً صورة النبي صلى الله عليه وسلم المعروفة؛ أو رأى صورة ليست صورة النبي صلى الله عليه وسلم، وألقي في روعه في المنام أنها صورة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو رأيت صورة تعتقد في المنام أنها صورة النبي عليه الصلاة والسلام وهي صورة على صاحبها أثر معصية، أو وصف مخالف لما عهد عن النبي عليه الصلاة والسلام فحينئذٍ لا يكون هو النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 23 عدم التكلم إذا رأى النبي باطل لا أصل له السؤال بعض الناس يزعمون أنه إذا رأى النبي عليه ألا يتكلم ثلاثة أيام؟ الجواب هذا باطل لا أصل له. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 24 حلق الحاجبين السؤال حكم حلق الحاجبين؟ الجواب لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن النامصة والمتنمصة. أسأل الله أن يوفقنا وإياكم للامتثال بالعمل بما علمنا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 25 مشاهدة المباريات في التلفاز السؤال مشاهدة المباريات في التلفاز؟ الجواب مشاهدة المباريات في التلفاز فيها إضاعة للوقت، وفيها شد للأعصاب، وفيها إشغال للمرأة بأمور ليست من الأمور التي خلقت لها، ولا تحتاج إليها في حياتها الدنيا، ولا في قبرها، ولا عند بعثها، ولا في حسابها، وفيها مدعاة إلى تعلق القلب بهذه الكرة، فإننا نشاهد اليوم أن تعلق القلب بالرياضة من أشد أنواع التعلق، حتى إن هناك من يموت في سبيل الكرة، وقد قرأت يوماً في جريدة الجزيرة مقالاً عنوانه "من ضحايا الكرة" ذكروا فيه عدداً من الناس الذين ماتوا في سبيل الرياضة على مدرجات الملاعب، أو حتى وهم يشاهدون المباريات على شاشات التلفاز، فهذا يدل على مدى تعلق القلب بالكرة، وأن الحب والبغض، والولاء والبراء، والفرح والسخط، أصبح من أجلها عند كثير من الناس، ولذلك فإن مشاهدة الرجل أو الشاب لهذه الأشياء أمر فيه نظر وفيه ضرر، فما بالك باشتغال المرأة بهذا العبث الذي لا طائل تحته. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 26 كشف وجه المرأة للضرورة السؤال كشف الوجه للضرورة؟ الجواب كشف الوجه للضرورة جائز إذا اضطرت المرأة إلى كشف وجهها للضرورة، لعلاج أو غيره، فإن ذلك جائز. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 27 غسل دم الحيض عن الثوب السؤال يقول بعض الناس إن المرأة إذا ارتدت ثوباً أثناء الدورة الشهرية، أو أي ملابس حتى العباءة لا بد من غسلها بعد الاغتسال حتى ولو لم يكن عليها دم؟ الجواب هذا قول باطل ولا أصل له، ونساء المؤمنين كن يصلين في الثوب الذي يحضن فيه، ولم يكن للمرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا طهرت نظرت إن كان فيه شيء من الدم فتغسله، كما في حديث عائشة: فقالت بريقها هكذا، فمصعته أو قصعته بظفرها، وصلت فيه. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 28 مجلات الأزياء التي بدون صور السؤال ما حكم استعمال مجلات الأزياء التي لا يوجد فيها صور لأشخاص؟ الجواب مجلات الأزياء أنواع، فهناك مجلات فيها صور وصور مثيرة، وفيها أزياء محرمة لأنها قصيرة، ولأنها أزياء من أزياء الكفار التي ما عرفها المسلمون في تاريخهم ولا في واقعهم اليوم في البيئات المسلمة، فهذه لا يجوز شراؤها، ولا اقتناؤها، ولا خياطة أزياء على نمطها، أما إن كانت أزياء فقط بدون صور نساء وهي أزياء فيها ستر ومراعاة للضوابط الشرعية في اللباس، فلا بأس بها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 29 قضاء الصلوات الفائتة السؤال لقد فاتتني صلوات كثيرة لدرجة أنني لا أحصيها، وقد وعدت ربي أن أؤديها كلها لكنني دائماً أؤجل فما الحكم؟ الجواب ما أدري ما سبب فوات هذه الصلوات، فإن كان سبب فواتها أن المرأة تركتها متعمدة حتى خرج وقتها يعني كانت تاركة للصلاة -مثلاً- لمدة سنة أو سنتين ثم تابت، فحينئذٍ لا قضاء عليها، بل عليها أن تتوب إلى الله عز وجل مما مضى ولا تعود لمثل هذا العمل وهذه الخطيئة، وتوبتها أعظم من أن تكفر بإعادة الصلوات، أما إن كان فواتها لعذر، فإن المرأة تقضيها بحسب استطاعتها، وإذا لم تستطع أن تحصيها فإنها تقدر عدد هذه الصلوات على سبيل الظن الغالب وتصلي. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 30 التعطر خارج البيت السؤال هل العطور محرمة؟ الجواب أما العطور يعني التطيب عند الرجال الأجانب أو لمن سوف تمر بهم فلا شك في تحريمه، وفي حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي وهو حديث حسن أنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} يعني كذا أي زانية، وهذا دليل على التحريم. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 31 طاعة الوالدين في المحرم السؤال أرغمني والدي على تسجيل بعض الأفلام وإذا لم أطعه فإنه يغضب؟ الجواب إذا كانت هذه الأفلام تحتوي على محرم -وهذا هو الغالب- فلا يجوز طاعة الوالد في ذلك، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وينبغي أن تتلطف الفتاة في معاملة والدها وإقناعه والاعتذار منه، فإن غضب فحينئذ غضبه في غير محله، وموقف الفتاة مشروع، لكنني أنصح مرة أخرى بالتلطف واستخدام الحكمة، والأسلوب اللين، والبعد عن الإثارة، واستخدام القسوة، خاصة مع الوالدين. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 32 تسجيل القرآن على أشرطة الغناء السؤال ما الحكم إذا أخذت الأشرطة من إخوتي ويوجد بها أغاني فأقوم بتسجيل القرآن عليها؟ الجواب عمل مشروع، وطيب، لأن هذه الأشرطة لو أتلفت ما دام فيها أغاني كان ذلك حسن، فإذا سجل عليها القرآن كان هذا حفظاً للمال والاستفادة منها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 33 إظهار وجه المرأة بدون زينة السؤال ما حكم إظهار الوجه بدون زينة؟ الجواب إظهار الوجه بدون زينة للنساء أو للمحارم جائز، أما للرجال الأجانب عن المرأة فهو لا يجوز. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 34 زكاة الذهب الملبوس السؤال ما حكم زكاة الذهب الملبوس، الحلي الذي تستخدمه المرأة هل فيه زكاة أم لا؟ الجواب في المسألة قولان لأهل العلم مشهوران، أحدهما القول: بأنه لا زكاة فيه، وهذا قول أكثر أهل العلم، والقول الثاني: أن فيه زكاة إذا بلغ نصاباً، ونصاب الذهب تقريباً إحدى عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنية فيما أذكر، والأولى بالمرأة أن تزكي حليها إذا بلغ نصاباً، لما ورد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم: رأى امرأة مع ابنتها وفي يدها مسكتان من ذهب، فقال: أتؤدين زكاة هذا؟ فقالت: لا. قال: أيسرك أن يسورك الله بهما سواران من نار؟ فألقتهما وقالت: هما صدقة لله ورسوله، والحديث قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 35 صلاة التسابيح السؤال ما هي صلاة التسبيح وهل هي صحيحة؟ الجواب صلاة التسبيح هي صلاة وردت عن العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {ألا أحبوك} ثم ذكر له صلاة فيها قراءة سور معينة، وتسبيح معين، خلاف الصلاة المعهودة، وقد اختلف العلماء في تصحيحها أو تضعيفها، ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره أن الأحاديث فيها لا تثبت، وخاصة لمخالفتها لهيئات الصلاة المعروفة. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 36 سماع الأغاني السؤال سماع الأغاني بغرض التسلية ما حكمه؟ الجواب لا يجوز، وفي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف} والحر يعني الزنى، والحرير معروف، والمعازف هي آلات الغناء، فقوله: يستحلون؛ دليل على أنه محرم من استحله عوقب، لذلك ذكر في آخر الحديث أن الله تعالى يخسف بهم، ويحول آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة، والأغاني المعروفة اليوم كلها محرمة لأن فيها موسيقى، والموسيقى من أنواع المعازف المحرمة، ولأن هذه الأغاني تتردد بين الحب، والغرام، والعشق، وغير ذلك من المعاني الفاسدة، فهي محرمة لهذا ولذاك. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 37 عمليات التجميل السؤال ما حكم عمليات التجميل الضرورية؟ الجواب أما التجميل بالأشياء العادية مثل الكحل وبعض المساحيق الطاهرة فهو جائز، أما عمليات التجميل فلا أعلم في حكمها شيئاً، وأظن أن السؤال يعني العمليات الجراحية التي يقصد بها التجميل. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 38 كشف وجه المرأة في خارج البلاد السؤال هل يجوز كشف الوجه مع التحجب في خارج البلاد إذا خرجت المرأة للضرورة، مثلاً امرأة خرجت للسفر للعلاج إلى أي بلد من بلدان العالم، هل يجوز لها كشف الوجه؟ الجواب إذا علم أن كشف الوجه حرام فالحرام لا يكون حلالاً في بلد من البلدان. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 39 التحذير من بعض التسريحات السؤال أرجو منك التوسع في ذكر بعض التسريحات التي تقوم بها بعض النساء؟ الجواب الحقيقة هذا ليس من اختصاصي وأنتن أدرى بهذا، ولكن أقول: أن كل تسريحة عُلم أنها جاءت من قبل الكفار وانتشرت بيننا على أنها من عاداتهم، فلا يجوز للمسلمة أن تعملها، والنساء في كل وقت ينتشر عندهن أنواع من التسريحات يسمينها بأسماء؛ إما بحسب شكل التسريحة، أو بحسب المرأة التي نشرتها بين الناس وعرفت بها، فهذه تُتَجَنَّب، سواء كانت تسريحات نقلت عن الكفار والكافرات أم عن الفساق والفاسقات مثل الممثلات والمغنيات وغيرهن. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 40 الصلاة بالخفين على الزرع السؤال ما حكم صلاة المرأة في مكان به زرع وهو مكان طاهر بخفيها؟ الجواب الصلاة في هذا المكان جائزة ما دام طاهراً، فكل مكان طاهر فالصلاة فيه جائزة، والصلاة بالخفين -أيضاً- جائزة ولا شيء فيها. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 41 المساعدة في رفع الظلم السؤال ما حكم السكوت على الظلم مع المعرفة بالحقيقة؟ الجواب السكوت على الظلم لا يجوز، وفي حديث البراء بن عازب يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، منها: نصرة المظلوم، وفي حديث آخر يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا قدست أمة لا يأخذ للضعيف فيها حقه غير متعتع} وفي حديث ثالث: {انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، قال: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال: تمنعه عن الظلم فإن ذلك نصره} وكلها أحاديث صحاح، فإذا عرفت -مثلاً- مدرّسة، أو طالبة، أن زميلة لها وقع عليها ظلم، ونسب إليها عمل ما قامت به، أو ظن بها ظن سوء، أو عوملت معاملة ما تستحقها، فإنها يجب عليها أن ترفع الظلم بقدر ما تستطيع، فتكلم الإنسان الذي ظلمها أن فلانة لم يحصل منها هذا الشيء بل حصل من غيرها، أو تكلمها بالحقيقة التي تعلمها، فإن استطاعت رفع الظلم بهذا فبها وإلا فترفعه بما استطاعت من الوسائل الأخرى. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 42 كلام المرأة مع الأجانب السؤال لقد قلت: إن صوت المرأة عورة، فما الحكم في إظهار صوتها للرجال؟ الجواب لم أقل: إن صوت المرأة عورة، هذا اللفظ لم أقله، إنما ذكرت أنه لا يحسن بالمرأة أن تتوسع في الكلام والأخذ والعطاء مع الرجال الأجانب لغير حاجة، كما إذا كانت -مثلاً- في بيع أو شراء، أو أحاديث ليس من ورائها مصلحة، أما محادثة المرأة للرجل في شأن سؤال أو جواب على سؤال أو فتيا أو سؤال عن أمر تحتاجه أو بيع أو شراء من الأمور التي تحتاجها، فهذا كله جائز، وكان معروفاً في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم فكم من امرأة سألت الرسول عليه الصلاة والسلام وسألت غيره من الصحابة كـ أبي بكر وعمر وغيرهما، وهذا أمر معروف في كتب السنة، ولا إشكال فيه، إنما المنهي عنه هو الاسترسال في الحديث بما لا جدوى منه، أو الخضوع في القول بالتثني وتكسير الكلام وإرخائه بطريقة لا حاجة إليها، بل على المرأة أن تتكلم بصوت عادي بعيد عن الخضوع ولا يكون فيه أدنى إثارة. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 43 فساد القلب بالتعلق بالمخلوقات السؤال بالنسبة إلى قضية المحبة تكلمت عنها وأشرت إلى أنواع منها؛ وأن من هذه المحبة ما يكون سبباً في فساد قلب هذا المحب وانحرافه، لكن كون المرأة تعجب بفلان لأنه رجل شريف -كما يقول السؤال- ومتدين؛ ولا يترتب على هذا الأمر شيء محظور شرعي؟ الجواب أقول: من جهةٍ إن أصل هذا الأمر لم يكن ليقع إلا بسبب تفريط من المرأة، مثل كونها نظرت نظرة غير مشروعة، أو كررت هذا النظر، أو سماع صوت، أو ما أشبه ذلك، فتعلق قلبها، وعلى من يبتلى بذلك أن يعالج نفسه ولا يتساهل في هذا الأمر، لأن الأمر قد يبدأ هيناً وسهلاً ثم يتوسع ويمتد ويكون -كما ذكرت- سبباً في فساد دين المرء ودنياه، أما فساد الدين فبتعلق القلب بغير الله، وأما فساد الدنيا فبأن لا يحصل للإنسان ما يريد، فتكون حياته شقاء وتعاسة في غير جدوى. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 44 آخر وقت العشاء السؤال متى يكون آخر وقت لصلاة العشاء؟ الجواب وقت صلاة العشاء الآخرة التي نسميها بصلاة الأخير يمتد إلى نصف الليل، وتأخيرها إلى ثلث الليل أفضل، وإلى نصف الليل جائز؛ على المشهور من أقوال أهل العلم، وهذا الوقت يختلف من فصل إلى آخر، وبإمكان كل إنسان أن يعرفه في الوقت الذي يريد بأن يقسم الليل إلى نصفين، فنصفه الأول هو وقت لصلاة العشاء. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 45 طاعة من يأمر بتأخير الصلاة السؤال ما حكم طاعة المعلمة في منعنا عن الصلاة؟ وما الحكم إذا انتهى الوقت المحدد للصلاة ولم أصل؟ وذلك في حالتين: الأولى: إذا كان وقت الصلاة المحدد لنا قصيراً؟ الثانية: إذا كانت المعلمة التي سبقتها قد أطالت في درسها ومضى شيء من الوقت المحدد للصلاة؟ الجواب بالنسبة للصلاة هي من الواجبات التي فرضها الله تعالى على كل إنسان في حال الحضر، والسفر، والخوف، والأمن، حتى إن الله تعالى أمر المؤمنين بإقامة الصلاة في وقت الخوف والقتال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} [النساء:102] إلى آخر الآية، حتى في حال الحرب والقتال والخوف تقام الصلاة، فما بالكِ إذا كانت المسألة مسألة درس، أو محاضرة، أو شغل، فالصلاة مقدمة على جميع هذه الأشياء. ولذلك يجب تخصيص وقت كاف للصلاة، ومراعاة ألا يبخس هذا الوقت بألا تطيل المعلمة درسها الذي يسبق وقت الصلاة فتأخذ شيئاً من وقت الصلاة، ولا تتقدم المدرسة الأخرى في الدرس بحيث تأخذ من آخر وقت الصلاة، وإذا حصل ضرورة لمثل هذا الأمر فينبغي مراعاتها -مثلاً- لو تأخرت مدرسة في درسها لضرورة فلم تخرج الطالبات إلا بعد مضي جزء من وقت الصلاة فاضطررن إلى التأخر في المصلى بعض الوقت عن الدرس الذي يليه، فتراعي المعلمة هذا الظرف، وتقبل هذا العذر من الطالبات. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 46 صبغة الشعر والطهارة السؤال هل جميع أنواع صبغات الشعر تبطل الطهارة؟ الجواب الذي أعلمه أن جميع أنواع صبغات الشعر المعروفة لا تبطل الطهارة، فإن مبطلات الطهارة معروفة وليس هذا منها، وإنما الكلام عنها في مجالات أخرى من حيث كونها تجوز أو لا تجوز، أما إبطالها للطهارة فهي لا تبطل الطهارة. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 47 حجاب الطالبة في المدرسة السؤال وهذا سؤال عن الكشف أو التحجب للأستاذة في المدارس، أو الجامعات؟ الجواب من الطبيعي أنه ما دامت الأستاذة امرأة أن تكشف الطالبة لها، هذا أمر طبيعي تكشف وجهها -مثلاً- أو شعرها أو ما أشبه ذلك أو كفيها أو ذراعيها أو بعضها. كل هذا لا بأس به، لكن على الطالبة في الأصل أن تكون ملتزمة باللباس الشرعي، لأنها ليست فقط سوف تتعامل مع الأستاذة، هي سوف تخرج من البيت إلى الشارع، وتركب الأوتوبيس، وتنزل من الأوتوبيس إلى المدرسة، وقد تمر من عند رجال، من عند موظف في المدرسة أو غير ذلك، ولذلك يجب عليها تجنب الملابس غير الساترة، وتجنب الطيب وجميع المحظورات. الجزء: 66 ¦ الصفحة: 48 المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل قضية فلسطين هي قضية الأمة بأسرها، ولذلك فقد طرح الشيخ حفظه الله هذا الموضوع، حتى يعي المسلم الوضع الحقيقي الذي تعيشه الأمة، وكيفية مواجهة أعداء الإسلام؛ وليس لزرع الخوف من اليهود والنصارى. فتكلم الشيخ عن السلام مع اليهود وأوهامه، وبيَّن أن اليهود والنصارى هم كتلة واحدة ضد الإسلام، ويجب على الأمة مواجهة ذلك بالجهاد والعودة إلى الإسلام، ثم بين أن السلام مع اليهود لا يخدم الإسلام إنما يخدم اليهود، ثم خلص الشيخ إلى عدة حلول للخروج من الأزمة، ثم وضح النظرة الشرعية للسلام مع اليهود، وبشر بأن المستقبل والنصر للإسلام وأن هذا وعد الله وسيتحقق عاجلاً أو آجلاً بإذن الله. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 1 غياب الأمة عن قضاياها إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وبعد هذا الدرس الثاني والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين 28 من شهر ربيع الثاني. من سنة (1412هـ) . عنوان هذا الدرس: المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل؛ وأحد الإخوة يقترح أن يكون العنوان: المعركة الفاصلة مع يهود، أو مع اليهود ولا حرج في ذلك. يتحدث العالم اليوم -أيها الإخوة- عن جهود السلام في أسبانيا في مدريد، وهذا الحدث العالمي الكبير، هو حديث الصحافة والإعلام في مشارق الأرض ومغاربها، سواء الصحافة الغربية، أو الشرقية العربية، أو اليهودية، أو غيرها، وفيما العالم كله يتحدث عن هذا الأمر الجديد … يتساءل البعض ويقول: ما جدوى طرح هذه الموضوعات في مثل هذه المجالس، ومن قبل الدعاة إلى الله عز وجل؟! وإنني ليطول بي العجب وأقول في نفسي هل كتب على هذه الأمة المسلمة -التي كان المفترض أن تكون هي الشهيد على الناس قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] . وفي الحديث الصحيح، أنهم يشهدون على الأمم يوم القيامة -حتى الأمم التي سبقتهم- بشهادة الله عز وجل في كتابه- هذه الأمة هل كُتِبَ عليها في مثل هذا الوقت بالذات، أن تستمرئ ذلك الغياب المذهل عن الساحة، وأن تستحسن عزلتها وتقوقعها … -لا أقول: على الأحداث العالمية، فنحن لا نتكلم الآن عن مؤتمر السلام في يوغسلافيا، وإنما عن عزلة هذه الأمة عن أحداث تتعلق بها هي … لا تتعلق بغيرها، وقضايا تخصها، فالكلام إنما هو عن مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي. وأقول: العربي؛ لأن الإسلام لم يدخل في حقيقة الأمر، لا في حرب، ولا في سلم، فالإسلام معزول عن هذه المعارك؛ وإنما المعركة العسكرية دخلناها باسم العروبة، وفصلنا وعزلنا مئات الملايين من المسلمين المتعاطفين مع قضية الإسلام في فلسطين؛ والسلام ندخله باسم العروبة أيضاً فالإسلام معزول في الحقيقة عن الحرب، كما هو معزول عن السلام، ولهذا لا تتعجب حينما استخدم في أثناء هذه الكلمة أو هذا الدرس لفظ العرب، ولا أستخدم لفظ الإسلام؛ لأننا نريد أن نسمي الأشياء بحقيقتها. فالإسلام معزول عن المعركة، سواء كانت معركة في ميدان الصراع والقتال، أم كانت معركة من وراء الطاولات وفي مجال المناورات السياسية الدبلوماسية؟!! الجزء: 67 ¦ الصفحة: 2 لابد من كلمة الحق إن كلمة الحق الواضحة النيرة -أيها الأحبة- يجب أن تقال في كل مكان وفي كل مجال، فالرسل عليهم صلوات الله وسلامه عليهم جاءوا بالكلمة: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] . جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لا يملكون الأسلحة ولا يملكون القوة الضاربة، وإنما كانوا يملكون هذه الكلمة يقولونها للناس، ثم يعتصمون بالله عز وجل الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، والذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له: كن فيكون، وبهذه الكلمة: انتصر الرسل عليهم الصلاة والسلام، ولم يكن يمنع نبياً من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم ألا يستجيب له أحد أن يقول هذه الكلمة، وأن يبعث بهذه الكلمة، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: {أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأمم، ورأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي وليس معه أحد} فالنبي حين يصدع بهذه الكلمة: لا تعبدوا إلا الله، اعبدوا الله ما لكم من إله غيره! هو يحقق هذا الانتصار -بغض النظر عن مدى تجاوب الآخرين معه أو رفضهم لما يدعو إليه- لأن مجرد إعلان كلمة التوحيد، هو انتصار لهذا النبي الكريم عليه الصلاة والسلام. ومع ذلك فإننا نقول: إن كلمة الحق لن تضيع، ويكفي أن تكون شاهداً تاريخياً، على أن المسلمين والعلماء والدعاة إلى الله عز وجل رفضوا الخيانة على حين استمرأها غيرهم من الزعماء الكبار وأقروها وسعوا إليها وسافروا إليها، وأنهم رفضوا مؤامرات الاستسلام على حين تلطخ غيرهم من الزعماء والقادة والساسة بهذه المؤامرات، وأنهم بذلوا ما يملكون من الوسائل وهم لم يكونوا يملكون إلا الكلمة يطلقونها حرة واضحة صريحة -على حين كان غيرهم يملك أكثر من ذلك، فما بذل منه قليلاً ولا كثيراً إلا الخطب الرنانة، وقد أشبعوا المسلمين من هذه الخطب وحرروا بلاد الإسلام بهذه الخطب الرنانة! سقوا فلسطين أحلاماً منومةً وأطعموها سخيف القول والخطبا عاشوا على هامش الأحداث ما انتفضوا للأرض منهوبةً والعرض مغتصبا وخلفوا القدس في الأوحال عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبا الجزء: 67 ¦ الصفحة: 3 الاستغراب لحال هذه الأمة هل كتب على هذه الأمة أن تستمرئ هذا الغياب المذهل، وأن تتلذذ بهذا الاعتزال الغريب، لا عن قضايا العالم بل عن قضاياها الخاصة. إنني أستغرب هذه المصادرة الرخيصة لعقل الإنسان المسلم ولتفكيره؛ مما شل فعالية المسلم في هذه الأحداث، فأصبح مستكثراً عليك أيها المسلم أن تبدي رأيك فقط في قضية من القضايا، فضلاً أن يكون لك رأي في حصول هذا الأمر أو عدم حصوله، وأصبح الإنسان العادي من أمة الإسلام في مشرق الأرض ومغربها يستكثر على نفسه أن يتكلم في مثل هذه القضايا ويرى أنها قضايا لا تعنيه في قليل ولا في كثير، وأحسن الناس من يقول: إن حديثي في مثل هذه الأمور، لا يقدم ولا يؤخر، وإنه لا يأتي بجديد. إن قضيه كقضية السلام تكلم فيها الجميع بدون استثناء، حتى المتطرفون من اليهود في إسرائيل المسمون بالأصوليين -مثل حركة … غوش أمونيم وغيرها من الأحزاب الأصولية المتطرفة- تكلموا بلهجة واضحة صريحة عن رأيهم في السلام، وأنهم يرفضون السلام مع الأمة العربية؛ بل مع العالم كله، لأن هذه أرض اليهود -في نظرهم وزعمهم- ويجب أن تظل أرضهم فهم يطالبون ببسط سلطة اليهود على مزيد من هذه الأراضي، ولم يقتصر تعبيرهم عن السلام على مجرد الكلام أو على مجرد الكتابة، بل تعدى ذلك إلى قيامهم بمظاهرات في شوارع اليهود -في شوارع فلسطين- يتكلمون فيها ويعربون فيها عن اعتراضهم على مشاركة إسرائيل في جهود السلام. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 4 ضرورة طرح قضايا الأمة قد يستغرب بعض منا أن نطرح هذه القضية أو غيرها، من طلبة العلم والدعاة إلى الله عز وجل من يعتقد أنه لا جدوى من وراء ذلك؟! إننا ينبغي أن نضع الأمور في إطارها الصحيح، فالذين يتحدثون -مثلاً- عن السلام، أو عن مؤتمر أو مؤامرات مدريد للسلام العربي الإسرائيلي كما يسمونه، ليس بالضرورة أن هذا يعني: أنهم سيوقفون هذه المؤامرات، أو سوف يمنعون استمرارها أو سوف يعرقلون هذه الجهود التي تتبناها زعيمة العالم الحر -كما يسمونها- وزعيمة التنصير وأمريكا التي أصبحت تمسك بخناق العالم بقدر ما تستطيع، فليس بالضرورة أن من يتحدثون سوف يوقفون مثل هذا السيل الكاسح أو مثل هذا التيار الجارف، أنهم سوف يقفون في وجه الشرق والغرب وهم لا يملكون وسائل تمكنهم من ذلك فلا يعني الحديث عن هذا الموضوع الوقوف أمام تلك المؤامرات، وأمام أمريكا، وأمام حلفاء أمريكا من العرب، وأمام إسرائيل، لا! لكننا نعتقد أن من حق الأمة الإسلامية أن تعرف على أقل تقدير أن تعرف ما هو السلاح الذي سوف تقتل به، أن تعرف بأي سكين سوف تذبح؟ فهذا أقل حق لهذه الضحية التي بين أيديهم! فهذه المؤامرات لا بد من معرفتها ومعرفة أبعادها، ومعرفة من هم أطرافها؟ ومعرفة من يكون وراءها؟ وذلك حتى تعرف الأمة بأي سلاح يحاول عدوها قتلها، وحتى تعرف الأمة أيضاً من هو عدوها من صديقها. فمنهم عدوٌ كاشرٌ عن عدائه ومنهم عدو في ثياب الأصادقِ ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارقِ الجزء: 67 ¦ الصفحة: 5 التغيرات التي يشهدها العالم إن هذا العقد الذي نعيش فيه يشهد متغيرات دولية كبيرة جداً، ومن المؤسف جداً أن المسلمين أيضاً معزولون عن هذه المتغيرات، لا يدركونها ولا يتابعونها ولا يقدرون حجمها وخطورتها؛ فإن جهود السلام الأمريكي الآن الذي يديرونه مع العرب وإسرائيل، إنما يكون في ظل انتهاء الحرب الباردة بين الشرق والغرب، بين العالم الرأسمالي والعالم الشيوعي … هذه الحرب التي دامت أكثر من خمسٍ وأربعين سنةً. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 6 انفراد أمريكا بالهيمنة العالمية وفي ظل هذه الحرب حصلت أمورٌ كثيرة، ولكن كان هناك هدوء شهدته أوروبا وغيرها، بسبب ما يسمى بالردع النووي وتخوف كل طرف من الطرف الآخر، وسقطت الشيوعية الآن كأيديولوجية مناوئة للغرب، واستفردت أمريكا بالهيمنة العالمية، وبالتالي: استخدمت أمريكا المنظمات الدولية لتحقيق مصالحها الذاتية الشخصية كهيئة الأمم المتحدة وغيرها، وأبرزت أمريكا ما يسمونه بالنظام الدولي الجديد -الذي بشر به الزعيم الأمريكي الذي أسمته بعض الصحف: رئيس العالم وزعيم العالم- بشر بما يسميه بالنظام الدولي الجديد منذ زمن ليس بالقليل، في السابق كان هناك سباق على التسلح بين روسيا وأمريكا على حساب التنمية الاقتصادية وعلى حساب التنمية الاجتماعية وعلى حساب توفير المعيشة للناس؛ وكان السلام -كما ذكرت قبل قليل- قائم على توازن الرعب بين القوة الشرقية والقوة الغربية، فإن ما يسمى بالردع النووي؛ جعل كلاً من الطرفين أمريكا وروسيا في السابق تدركان في حال حصول حرب نووية فلن يكون فيها رابح وخاسر، بل سوف يكون كلاهما خاسراً. وهذا تقديرهم وظنهم على كل حال. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 7 وجود تحالفات جديدة نقطة ثالثة: أن العالم الثالث، والعالم الرابع -أيضاً- وهما العالم الإسلامي والعالم العربي، وما حولهما من الدول الفقيرة، ممن يسمونه بالعالم الثالث -لم تكن تشمله- مظلة الحلفين العالميين آنذاك، ولذلك كانا مجالاً للتنافس الشديد بين روسيا وأمريكا، وكان فيه مناطق كثيرة ملتهبة تكون نتيجة الصراع ونتيجة حروب تدار بالوكالة بين أمريكا وروسيا وضحية هذه الحروب هم من شعوب المسلمين ومن شعوب العرب الذين يقاتلون بالوكالة عن أمريكا أو يقاتلون بالوكالة عن روسيا. وقد أدى ذلك الصراع أو الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا في السابق إلى شل ما يسمى بهيئة الأمم المتحدة عن فعاليتها وتأثيرها؛ بسبب أنه نشأ في أثنائها تحالفات بين روسيا ودول عدم الانحياز من جهة وبين أمريكا وحلفائها من جهة أخرى، أما الآن فبعدما سقطت الشيوعية وتفككت الإمبراطورية الروسية فإننا أمام قوة عالمية الآن واحدة هي التي تهيمن على معظم العالم الموجود الآن وهو قطب عالمي واحد، وهذا بلا شك لفترة معينة، وإلا فنحن نعلم ونجزم بأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} . إذا تم شيءٌ بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم كما أننا نعلم أن الله عز وجل جعل قوام هذه الدنيا على أساس وجود المداولة قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . وعلى أساس مبدأ الصراع، أو كما سماه الله تعالى في القرآن الكريم الدفع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] . فمبدأ الدفع أو مبدأ الصراع بين القوى المختلفة، فيه بقاء للحياة؛ حتى الحرب نفسها فيها بقاء للحياة: والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم فالحروب الإسلامية التي شنها المسلمون أيام العز وأيام النصر وأيام التمكين، كانت ظلاً ينبت الخضرة وينبت النماء والخير والإيمان وينبت الطاعة لله عز وجل -في ظل تلك الحروب- فكانت حروباً لفتح القلوب قبل فتح البلاد. فالمقصود أن الله تعالى وضع من سنن هذا الكون مبدأ الدفع، أي دفع الناس بعضهم ببعض ومبدأ مداولة الناس فيما بينهم وتلك الأيام نداولها بين الناس ينال هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء؛ فلا نتصور أبداً أن الغرب الرأسمالي أو أن أمريكا أو غيرها سوف تتفرد بالهيمنة على العالم إلا خلال سنوات يسيرة أو عقود قليلة، وهذا أمر لا يعتبر بالمقياس العام شيئاً، فإن الإنسان وإن كان ينظر إلى الأيام والساعات والشهور والسنوات، إلا أن الأمر أبعد من ذلك، فعشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في حياة الأمم والشعوب؛ لا تعد شيئاً وأنت الآن تنظر إلى روسيا وقد عاشت عشرات السنين وتجد أنها أصبحت حطاماً متفتتاً فلا تعد هذه السنين؛ الطويلة التي عاشتها في ظل قهرها للإيمان وقهرها للعقول، وللقلوب، وللفطرة لا تعد هذه الأيام وهذه السنوات بل عشرات السنين، لا تكاد تعدها شيئاً يذكر، وهذه من طبيعة الإنسان، فيرى الواقعة القائمة عليه سرمداً لا يزول. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 8 ملامح النظام الدولي الجديد يقول ابن برجنسكي -وهو مستشار للأمن القومي سابقاً في أمريكا-: "إن أفول نجم الاتحاد السوفيتي معناه تفرد الولايات المتحدة بمركز الدولة العظمى ذات المسئوليات العالمية، وإن أوروبا ستكون في أحسن الأحوال قوةً اقتصادية، ولن تتحول اليابان إلى قوة سياسية عسكرية إلا بعد مضي بعد الوقت وهكذا ستبقى الولايات المتحدة القوة العالمية الوحيدة". يبرز تساؤل بعد هذا كله، وبعد غياب الاتحاد السوفيتي كقوة معطلة أو معادلة لدفاعات أمريكا … كيف سيكون الوضع الدولي في مثل هذا النظام الدولي الجديد، كما يسمونه؟ هناك تخوف جديد أن يتحول الصراع الذي كان قائماً بين أمريكا وروسيا إلى مجابهة بين الشمال والجنوب، بين الأغنياء والفقراء، أو قل بلهجة أخرى بين العالم الثالث الذي غالبه من المسلمين، وبين العالم الغني الغربي القوي، الذي غالبه أيضاً عالم نصراني أو عالم يهودي؛ وبذلك سينظم السوفيت إذا حصل هذا إلى -عالم الأغنياء- إلى عالم الغرب، وأذكر بالتقرير الذي سبق أن تلوته عليكم في درس بعنوان " خلل في التفكير " والذي سطر أن هناك تخوفاً في بعض الدول الغربية، فإنهم كانوا في الماضي يقولون: الروس قادمون! أما الآن فقد عدلوا هذا الشعار وصاروا يقولون: المسلمون قادمون، ويجب أن نتوحد -نحن- مع الروس في مواجهة المد الإسلامي أو المد الأصولي المتعاظم والمتزايد يوماً بعد يوم! إن الإسلام -أيها الإخوة- على رغم أنه يبدوا لنا أنه ليس له قوه تدعمه وتحميه … إلا أنه في نظر الغربيين الآن قوة هائلة مذهلة، وكأنهم اكتشفوا الإسلام من جديد فأصبحت الدوائر الغربية تعقد الجلسات والمؤتمرات، والمناقشات الطويلة، لمعرفة مدى تأثير الإسلام في المسلمين وكيفية مواجهته، وذلك لأنهم أدركوا أن الإسلام قوة متمكنة ليس في العالم الإسلامي فقط، وليس عن طريق بعض الجماعات الإسلامية التي قد يرتضون منهجها أو لا يرتضونه، ويعتبرونها جماعات متطرفة في نظرهم؛ ليس هذا فقط- بل حتى من خلال الأعداد الكبيرة من المسلمين الذين يعيشون في الغرب، وقد يكون كثير منهم من العمال أو غير المثقفين؛ ومع ذلك تجدهم متمسكين بدينهم -إلى حد ما- فحرصهم على تربية أولادهم على هذا الدين، وحرصهم على نشر دينهم في أوساط الآخرين؛ يُعدُّ أمراً مذهلاً في نظر الغرب. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 9 نظام الأمن الجماعي إن من أبرز الملامح التي سوف يشهدها النظام الدولي الجديد؛ ما يسمى بنظام الأمن الجماعي، وذلك بقيادة الولايات المتحدة فقد صارت ذات دور فعال، حيث أرادت الدول الكبرى لها ذلك؛ فأمريكا مصممة -مثلاً- على حسم قضايا الصراع الدولي، خاصة تلك القضايا التي يهمها أن تحسم؛ وإلا فمن المعلوم أن أمريكا ذات ميزانين ومكيالين فهي تستطيع أن تتدخل -مثلاً- كما تدخلت في بنما أو غرينادا أو غيرها بدون أن يعترض عليها أحد، أو يحتج عليها أحد؛ لكنها في نفس الوقت تستخدم قوتها وتستخدم وسائلها -ومنها الأمم المتحدة- في منع أي تشابك أو تماس أو اضطراب تعتقد هي أنه ليس في مصلحتها، إنها تخشى من ولادة دول ذات طابع إسلامي، هذا أشد ما يخيف أمريكا. ولهذا كان من أكثر الأشياء عناية الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي ومنطقة فلسطين وأفغانستان، فهذه المنطقة تعتبر في أولويات الاهتمامات الغربية؛ فأما فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي: فهاهو مؤتمر مدريد قد انعقدت المرحلة الأولى من جلساته، وفي انتظار مراحل تالية، هاهو الآن قد تبلور من خلال جولات طويلة متكررة لوزير الخارجية الأمريكي. وأما فيما يتعلق بقضية أفغانستان؛ فإني أود أن أشير إليها ولو إشارة عابرة، لأن أمريكا مصممة على حل قضية أفغانستان بحلٍ سلمي، وعلى نزع البندقية من أيدي المجاهدين وبدون شك وبكل تأكيد فإنها سوف تحرص على منع كل صور الدعم للمجاهدين الأفغان، وسوف تحرص على وضع العراقيل والعقبات أمامهم وسوف تفوض بعض الدول الغربية والإسلامية والعربية أيضاً للقيام بهذا الدور ولا تستبعد أن يكون لإيران -مثلاً- دور كبير في قضية أفغانستان، خاصة مع وجود بعض المنظمات الشيعية التي ليس لها تأثير في الجهاد فتحرص على إبراز هذه المنظمات وعلى وجود حلول سلمية. وقد انعقد في إيران مؤتمرٌ للقضية الأفغانية وتكلموا عن أحد قادة المجاهدين الذي يتميز بالقوة ويعتبرون أنه يعتبر متشدداً أو أصولياً، ودعوا إلى محاولة اغتياله كما سيروا وفداً إلى موسكو للمفاوضة، وقد صرح مسئول كبير في دولة مجاورة لأفغانستان بأن المجاهدين الأفغان عليهم أن يوقفوا القتال، وأن يفكروا جدياً في الجلوس على مائدة المفاوضات مع الحكومة الشيوعية العميلة في أفغانستان. إذاً ضع في اعتبارك أن في قضية أفغانستان هناك مؤامرة دولية لحلها وإنهائها، وسرقة جهود أكثر من اثنتي عشرة سنة بذلها المسلمون، وإهداراً لهذه الدماء الغزيرة التي ضحى بها المسلمون على مدى هذا الزمن الطويل، وإهداراً لهذه الأموال الطائلة التي ذهبت إلى هناك، لماذا؟! لأن الهدف الذي تريده أمريكا لأفغانستان هو: أن تتحول إلى دولة علمانية، ولا تقبل -بحال من الأحوال- أن يستولي المجاهدون المسلمون عليها مهما كانت الأحوال، ومهما كان بينهم من التناقضات، ومهما كان فيهم من الضعف؛ بل ومهما كان عندهم من الخطأ لا يمكن أن تقبل بوجود حكومة إسلامية في أفغانستان. فقضية أفغانستان من القضايا التي ينبغي أن نتوقع ونتتبع ونظن أنها ستكون في طريقها إلى الحل السلمي وسيكون هناك ضغوط كثيرة من دول مجاورة لأفغانستان وغير مجاورة، وغربية أيضاً لإنهاء هذا الوضع. فالقضية الأولى في النظام الدولي الجديد -كما يسمونه- بقضية النظام الأمن الجماعي، وتهدئه المناطق الملتهبة والقضاء على مثل تلك الخلافات التي لا تطمئن لها أمريكا أو لا ترتاح إليها، ولا تعتقد أنها مثمرة بالنسبة لمصالحها. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 10 الحد من التسلح العربي والإسلامي ومن ملامح ذلك النظام: الحد من التسلح وخاصة التسلح العربي والإسلامي، ولذلك جاء الحصار على السلاح لدى المسلمين فقط والمضايقة والضغوط، أما إسرائيل فلا ضير عليها ولا تثريب، فليس سراً أن إسرائيل تمتلك الآن أكثر من مائة قنبلة نووية -وهذا وفقاً لعددٍ من التقارير وبعض التقارير، تقول -إنها أكثر من مائتي قنبلة نووية- وتملك من مراكز الدراسة والتخطيط والإعداد الشيء الكثير وليس هناك أي تحفظ واضح من أمريكا على مثل هذه النشاطات الغريبة في مجال التسلح النووي لدى إسرائيل، وليس سراً أن إسرائيل تملك ثالث سلاح طيران في العالم؛ فهي تحتل المرتبة الثالثة في سلاح الطيران في العالم، ولديها قوة غريبة جداً -وسيأتي ذكر شيءٍ منها بعد قليل، ونجد أن الغرب يساهم في دعم إسرائيل في هذه المجالات، وهناك جهود مشتركة إسرائيلية أمريكية لتطوير عدد من الطائرات، وعدد من الصواريخ ومنها صواريخ مضادة للصواريخ. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 11 الديمقراطية ومن ملامح النظام الدولي الجديد: الديمقراطية، وذلك أنهم يريدون أن يصوروا هذا النظام على أن الصراع فيه هو صراع بين الديمقراطيات الغنية الشمالية الغربية، وبين الديكتاتوريات الجنوبية الفقيرة. ومن مظاهر الديمقراطيات بطبيعة الحال: السماح للأحزاب السياسية أن توجد وتمارس حرياتها، وتقدم برامجها في كل مكان -بغض النظر عن أديان هذه الأحزاب ومعتقداتها- وهذا أمرٌ تحمله أمريكا على عاتقها وتحاول أن تفرضه بكل ما تستطيع من قوة على بلاد المسلمين. ومن ديمقراطيتها: السماح بالاتجاهات الفكرية المختلفة وألا يُضَايَق أحدٌ في فكره؛ فأمريكا ومَنْ وراءها -حلفاءها في النظام الدولي الجديد- يسعون إلى إعطاء أصحاب الاتجاهات الفكرية المنحرفة كالعلمانيين والملحدين، وأنواع الفلسفات المادية المنحرفة، إعطائها الحرية لأن تقول وتعبر عن نفسها من خلال الكتاب والمجلة والمقال والمحاضرة والدرس والمناقشة وغير ذلك في أي بلد -من غير تحفظ- وتعتبر هذا جزءاً من حقوق الإنسان في حرية التعبير؛ وينبغي أن يلاحظ أنهم حين يتكلمون عن قضية حرية التعبير وحرية التفكير أيضاً: أنهم قد يدخلون فيها أحياناً الدفاع عن بعض الحقوق الإسلامية؛ فأنت تجد بعض المؤسسات الغربية تدافع عن حقوق المسلمين فتدافع -مثلاً- عن العلماء، وتدافع عن الدعاة تدافع عما تسميهم رجال الدين، لكن هذا كله جزء قليل، بالقياس على العمل الكثير الذي تقوم به هي في الدفاع عن أصحاب الاتجاهات التي توافق الغرب وتلبي مطامحه ومطامعه. فإننا نجد أن أمريكا والغرب يبارك ضرب التيارات الإسلامية في كل البلاد العربية والإسلامية، ويعتبر هذا عربوناً على قوة تلك الدول وصدقها في ولائها، وقد حصل هذا في مصر، وحصل في سوريا، والجزائر، وتونس، وحصل في العديد من البلاد، لا أقول بصمت من الغرب! بل بتأييد ودعم، وإن الغرب يعتبر هذا هو آية صدق تلك الحكومات في ولائها وإخلاصها وقوتها، كما أن الغرب يسعى من خلال فرض ما يسمى بالديمقراطية: إلى حرية التدين -يعني: أن يتدين الإنسان بأي دين، الإسلام، أو اليهودية، أو النصرانية، أو اللادينية. حرية التدين! وهم بطبيعة الحال لا يقبلون بالإسلام ديناً بالمعنى الصحيح! لكنهم قد يتظاهرون فيقبلون بعض العبادات وبعض الأشياء التي لا تضربهم ولا تؤثر على مصالحهم؛ لكنهم يريدون من وراء ذلك إتاحة الفرصة لأي إنسان أن يتنصر أو يلحد، دون أن يكون عليه ضغوط معينة؛ بل إن هناك محاولات لتغيير أنظمة بعض الدول؛ لتسمح لمواطنيها أن يتدينوا بأي دين شاءوا. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 12 الآثار السلبية لهذا النظام لاشك أن هذا النظام الدولي الجديد له آثار سلبية، لعلي أكتفي بالإشارة -لضيق الوقت- إلى قضية واحدة من آثار هذا النظام الدولي الجديد وهي: قضية الهجرة اليهودية إلى إسرائيل. فإن سقوط الشيوعية في روسيا، وتفكك الإمبراطورية الروسية؛ أعطى فرصة ذهبية لهجرة اليهود السوفيت إلى إسرائيل. فصاروا يهاجرون بأعداد هائلة إليها، -طبعاً بمباركة من روسيا وبدعم من أمريكا اللتان توافقان على مساعدة إسرائيل مساعدات كبيرة جداً؛ لاستيعاب هؤلاء المهاجرين وفق شروط معينة، مع ذلك لا يزال الغموض والالتباس الذي يهيمن ويدخل في كثير من جوانب هذا النظام؛ لكنني أبرزت بعض ملامحه. وهناك ملامح اقتصادية أيضاً، تتمثل في النظام الاقتصادي الحر الذي يقوم عليه الغرب (النظام الرأسمالي) . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 13 انخراط العالم الإسلامي في النظام الدولي الجديد أن انخراط العالم الإسلامي في هذا النظام، النظام الدولي الجديد له جانبان، وهذه بالطبع قضية خطيرة جداً؛ لأنها تمس صلب الاعتقاد. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 14 التعامل مع الأوضاع الدولية بوعي وذكاء فهناك جانب: أن المسلمين بحاجة إلى معرفة الأوضاع الدولية القائمة، وأن يستخدموها ويتعاملوا معها بوعي -وهذا مطلوب- وبدون شك أن المسلمين يجب أن يعرفوا الأوضاع القائمة في الشرق والغرب، وأن يتعاملوا مع هذه الأوضاع بوعي وذكاء وإدراك، فتجاهل الأوضاع الموجودة في العالم لا أعتقد أنه يغنينا فتيلاً أو ينفعنا شيئاً، فلا أحد يطالب بتجاهل هذا الوضع مع أنني أقول: إن هذا الوضع يجب ألا نتعامل معه على أنه وضع قائم سرمد لا يزول، فنحن على يقين أن العقود القادمة حبلى بقوىً جديدة ستنافس أمريكا على سلطتها واستفرادها، فقد تبرز أوروبا الموحدة كقوة، أو تبرز اليابان، أو تبرز الصين، أو تبرز قوى عديدة تنافس أمريكا على هذا الموقع … وقد ينتفع المسلمون بذلك لو كانوا على مستوى الأحداث، ويستطيعون أن يستغلوا التناقضات الموجودة بين الدول الغربية، فهذا الجانب لا أحد يعترض عليه. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 15 عدم الانصهار ضمن هذا النظام لكننا نود أن ننبه إلى القضية الأخرى -الخطيرة والحساسة- وهي: أن كثيرين أصبحوا يطلبون من المسلمين أن ينصهروا في ضمن هذا النظام، وألا يظلوا متميزين باستقلاليتهم كمسلمين بعيدين عن هذا النظام، أو هذا التيار الجديد، فهم يطالبون بأن يتخلى المسلمون عن مميزاتهم وخصائصهم، ويقبلوا أن يكونوا جزءاً من ذلك النظام الدولي، حتى إنني قرأت في بعض الصحف المصرية مقالاً عنوانه: خرافة أعداء الإسلام، يعني: أنه يقول: لم يعد هناك شيءٌ اسمه: أعداء للإسلام، ولم يعد هناك صراع بين الإسلام وبين خصومه؛ وإنما القضية قضية مصالح متبادلة بين الشرق والغرب … فهذه قضية خطيرة جداً لأنها تريد أن تنزع فتيل التميز الإسلامي … تنزع من قلب المسلم العداوة للكافر، لليهودي، للنصراني، للشيوعي، للملحد … في الوقت الذي يحتفظ فيه اليهودي، والنصراني، والشيوعي بعداوته للمسلم. هناك أصوات كثيرة -الآن- تحاول أن تلغي -مثلاً- الجهاد، وتعتبر الجهاد هذا مرحلة تاريخية مضت وانتهت، وعلينا أن نتعامل مع الواقع القائم ولا نتكلم عن الماضي، فعقارب الساعة -كما يقولون- لا ترجع إلى الوراء … ونحن نقول: مسألة الجهاد عقيدة … مسألة الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام؛ وشريعةٌ من أنكرها أو كذبها فهو كافر بالله العظيم؛ لأنها من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة. لكن مسألة: يقوم الجهاد أو لا يقوم؛ متى؟ وأين؟ فهذه قضية أخرى. مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -مثلاً- هذه شعيرة من شعائر الإسلام، ومن يجادل في أصلها أو يشك فيها يكفر؛ لأن هذه القضية معلومة من الدين بالضرورة، وأدلتها قطعية من الكتاب والسنة؛ لكنهم يقولون: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا في الماضي، أما الآن فعندنا حرية الفرد، حرية التعبير، حرية الاعتقاد، حرية التصرف. ما شأنك وشأن الآخرين ليس لك بهم علاقة، حتى ابنك أو ابنتك يريدون ألا يتدخل فيه الإنسان، تحت مظلة الحرية الشخصية، وهذا جزء من النظام الدولي الجديد الجانب الاجتماعي في ذلك النظام جانب الحرية الأخلاقية، بأن يفعل الإنسان ما يشاء دون رقيب أو حسيب عليه. وأما قضية التميز العقدي فتعني: وجود عقيدة عند المسلم تميزه وتجعله يفهم الأمور كلها على ضوء كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم دون أن يجد شيئاً مشكلاً عليه، فالإسلام للمسلم كل القضايا بدون استثناء: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] . وما ترك النبي صلى الله عليه وسلم طائراً يطير بجناحيه إلا وبين لنا منه علماً فكل القضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية وغيرها، في الإسلام حكم لها، أولئك يريدون أن يسحب المسلم هذا التميز في الاعتقاد، وهذا التميز العملي، وهذا التميز الاجتماعي، ويكون جزءاً من نظام غربي دولي جديد، ليس فيه نمط لحضارة أخرى حضارة إسلامية، لا، بل نمط للحضارة الغربية فقط. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 16 العلاقة بين الغرب واليهود والإسلام نقطة أخرى: قضية الغرب، واليهود، والإسلام. ومن الأشياء الطريفة أنني قرأت في مجلة، اسمها مجلة الشراع، يقول أحد الوزراء اللبنانيين: إن حافظ الأسد لما التقى بوزير الخارجية الأمريكي بيكر قال له: إذا لم يتم السلام في المنطقة العربية؛ فمن الممكن جداً أن تقابلني في المرة القادمة فتجدني قد أطلقت لحيتي! هذه إشارة إلى أن الجميع يدركون أن أعظم خطر يخيف الغرب ويهدده: هو الإسلام؛ ولذلك حتى حافظ الأسد يقول: إنه يمكنني أن أطلق لحيتي إذا لم تحققوا لنا السلام … يعني -طبعاً أن إطلاق اللحية هذا رمز معناه: أنه سوف يطلق حرية التدين -مثلاً- فسوف يسمح للناس أن يعبدوا ربهم، ويمارسوا دينهم ويدعو إلى ربهم والغرب يدري أن رجوع الأمة الإسلامية إلى دينها، رجوعها إلى أصالتها، رجوعها إلى ربها، هو أعظم خطر يمكن أن يواجهه الغرب؛ ولذلك يتحالف مع هؤلاء الزعماء من أجل الحيلولة بين الأمة وبين العودة إلى دينها، وبين التزامها بكتاب ربها وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 17 التحالف بين الغرب واليهود إن هناك تحالفاً مكشوفاً بين الغرب وبين اليهود، بين الغرب القوي المدجج النصراني، وبين اليهودية العالمية متمثلة في الكيان اليهودي في فلسطين فقبل أن توجد إسرائيل، كان الغرب الصليبي يشعر بضرورة أن يوجد هذه الدولة، وقد عَقَدَ في أوائل العشرينات مؤتمراً أوربياً: ضم نخبةً من المفكرين والسياسيين الغربيين برئاسة وزير خارجية إنجلترا وقال هذا الوزير -في خطاب الافتتاح-: " إن الحضارة الأوروبية مهددة بالانحلال والفناء والواجب يقتضي ويحتم علينا أن نبحث في هذا المؤتمر عن وسيلة فعالة تحول دون انهيار تلك الحضارة، وقد توصل المؤتمر بعد دراسات كثيرة إلى خطة تقضي بالعمل المشترك على منع أي اتحاد أو اتفاق بين دول الشرق الأوسط -كما يسمونها- قال وذلك لأنها تشكل الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا " فالوسيلة لذلك هي منع توحدهم؛ لأنهم يشكلون وحدة في الحقيقة، وحدة من حيث الدين، وحدة من كل النواحي؛ فالوسيلة الفعالة لمنع اجتماع المسلمين في نظر ذلك المؤتمر هي: إنشاء قومية غريبة في المنطقة -قوميه معادية للسكان في شرق قناة السويس -وقد وضع خبراء الدول الكبرى -بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، والبرتغال، وأسبانيا، وإيطاليا- وضعوا تقريراً جاء فيه: " إن الخطر على الغرب يكمن في البحر المتوسط، فهو حلقة الوصل بين الشرق والغرب". الجزء: 67 ¦ الصفحة: 18 إسرائيل راعية المصالح الغربية فإسرائيل مدينة لهم قبل وجودها، فهم أصحاب فكرة وجود هذه الدولة، وبعد أن وجدت وقامت على قدميها؛ فهي مدينة -على الدوام- في اقتصادها، مدينة في وجودها مدينه في دعمها، باختصار شديد: الغرب حليف تاريخي لإسرائيل من الناحية الدينية، ومن الناحية المصلحية ومن الناحية السياسية، فالغرب ينظر إلى إسرائيل على أنها هي قاعدة العالم الحر ونموذج الديمقراطية، وإن شئت قلت بأسلوب آخر: إن إسرائيل هي النموذج للنظام الدولي الجديد الذي تريد أمريكا أن تفرضه في المنطقة؛ بل في العالم؛ فهي دولة ديمقراطية -كما يقول الغرب- وهي كذلك دولة تحترم حرية الفرد، تعطيه حرية التعبير -مثلاً-، هي آخر المميزات التي يتكلمون بها عن أن إسرائيل توفرها لشعبها، وإسرائيل نفسها تقول هذا الكلام حتى إن إسرائيل مع الأسف تقول للعرب: نحن لم نفعل بالفلسطينيين الموجودين تحت دولتنا مثلما فعلتم أنتم معهم في عدد من البلاد العربية المجاورة، إننا كنا أرفق وألطف بالفلسطينيين منكم أيها العرب. فإسرائيل تفتخر أمام العرب، وأمام العالم بأنها نموذج -كما تزعم، وما تقوله فيه جزء كبير من الحقيقة- نموذج للديمقراطية الغربية أي: ديمقراطية على النمط وعلى النظام الغربي، فتتظاهر بحفظ حقوق الإنسان خاصة -بطبيعة الحال- الإنسان اليهودي، أما الإنسان العربي: فالأمر يختلف؛ ولكنهم حتى مع الإنسان العربي يتحايلون بطرق ذكية. على سبيل المثال: قبل وقت ليس بالبعيد قام مجموعة من المستوطنين وهجموا ليلاً على بعض البيوت والأحياء في القدس الشرقية، وأخرجوا أهلها منها واحتلوها، فصار نقاش في بعض الدوائر الإسرائيلية حول هذا العمل، فقام بعض الوزراء الإسرائيليين وقال بصراحة: أعترض على الطريقة التي تم بها إخراج العرب! لماذا يلجئون إلى ظلام الليل؟ ولماذا لم يخرجوهم في وضح النهار؟! إذاً: هو لا يعترض على إخراج المسلمين من بيوتهم؛ لكنه يعترض لماذا تخرجونهم بالليل؟! وما هو الداعي للتستر بالليل؟! لماذا لم تخرجوهم في وضح النهار، ثم قال: لماذا؟ لأنكم تملكون مستندات ووثائق أن هذه أرضكم، نعم! المستندات عندهم والكلام فيها يطول المقصود أنهم يحاولون أن يظهروا بمظهر أنهم قاعدة للعالم الحر، وقاعدة لتطبيق النظام الدولي الجديد الذي تنادي به أمريكا. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 19 عقيدة الغرب في اليهود وأما من الناحية الدينية؛ فإن الغرب عندهم عقيدة -والغرب نصراني كما تعلمون- عندهم عقيدة بأنه لن ينزل المسيح إلا بعد أن تقوم مملكة، يسمونها مملكة الله في أرض يهوذا في فلسطين، وهناك معلومات غريبة ودقيقة جداً ذكرها الدكتور خالد الحسن في كتابه: البعد الديني في السياسة الأمريكية، وتحدث بمعلومات خطيرة مذهلة عن عقيدة النصارى في أمريكا وغيرها منها أنه لا بد من قيام دولة إسرائيل التي يسمونها مملكة الله في فلسطين، وأنه بعد قيام تلك الدولة سوف تحصل معركة يسمونها هرمجدون، وبعد ذلك سوف ينزل المسيح -هكذا عقيدتهم- وإذا نزل المسيح يعتقد الغرب أن اليهود سوف يتحولون آلياً إلى نصارى سوف يتنصرون. ولذلك يقول: لا تعجل عليهم الآن، دعهم وما هم فيه؛ لأن نزول المسيح كفيل بتحويلهم إلى نصارى، فعندهم عقيدة دينية خلفية، تجعل أمريكا تدعم إسرائيل بلا حدود ولا قيود. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 20 الضغط اليهودي في الغرب وهناك قضية اللوبي الصهيوني، جماعات الضغط اليهودية في أمريكا -وهي جماعات كثيرة جداً وعلى كافة المستويات، وبعض رؤساء هؤلاء الجماعات يملكون ويأخذون مرتبات تفوق مرتب رئيس أمريكا نفسه! وهذه الجماعات مهمتها تبني مواقف إسرائيل في القضايا، والضغط على كل المؤسسات الغربية والأمريكية لدعم إسرائيل، سواء أكان دعماً معنوياً في المحافل الدولية أم دعماً مادياً، ومع ذلك كله؛ فإن الغرب يعتبر نفسه مستفيداً من وجود إسرائيل، لأنها آمنة على مصالحه في المنطقة. فإذا كنا نعلم جميعاً أن منطقة العالم الإسلامي، منطقة في غاية الخطورة والأهمية بالنسبة للغرب، خاصةً حين نعلم أنها تحتوي على معظم الموارد والثروات، والمعادن التي يحتاجها الغرب في حضارته وصناعته، بل وفي حياته اليومية الفردية، فإن الغرب لا يمكن أن يثق بالعرب والمسلمين، مهما قدموا فروض الطاعة والولاء، ومهما ظهر منهم من الإخلاص، إلا أنه لا يأمل أن يظهروا يوماً من الأيام أو يتبدلوا، فهو يحس أن الوضع المستقر -أمنياً وسياسياً- وغير قلق، غير قابل للتذبذب؛ لأنه وضع يعتبره الغرب قائم على أسس ديمقراطية إنه وضع إسرائيل، ولذلك يعتبر الغرب إسرائيل هي الحليف التاريخي في تلك المنطقة، وهكذا صار الغرب حليفاً لإسرائيل، وإسرائيل حليفة للغرب. فالحقيقة حين تكون أمريكا قائمةً -مثلاً- بجهود السلام، فلا يمكن أن يتصور أنها وسيط معتدل أو وسيط منصف؛ لأنها وسيط غير محايد ولا نظيف ولا نزيه، بل هي مسئولة عن كل التقدم الذي أحرزته إسرائيل في كافة المجالات السياسية والعسكرية، وفي مجال الحروب، واحتلال الأراضي وغيرها، وليس سراً أن يقال: إنه بعد أن احتلت إسرائيل هضبة الجولان لم توافق أمريكا على إدانتها في المحافل الدولية، بل أرسل الرئيس الأمريكي لإسرائيل خطاباً فيه اعتراف بضم الجولان إلى إسرائيل، وهذه من القضايا الشائكة أمام ما يسمى بمؤتمر مدريد. الكونجرس كما تعرفون هو من أعلى السلطات في أمريكا، ليس غريبا أن تعلم أن سبعة وثلاثين من أعضائه هم من اليهود، وباقي أعضائه هم من المتعاطفين مع اليهود أو من الذين يدفع لهم اليهود آلاف الدولارات للعمل في مصلحتهم، وأي عضو في الكونجرس لا يخدم مصالح اليهود؛ تتم الإطاحة به عند الانتخابات؛ وذلك بشراء الأصوات المؤيدة له بملايين الدولارات، كما حصل ذلك مثلاً لعضو الكونجرس الأمريكي ول فندلي، الذي خدم اثنتين وعشرين سنة، وبعد ذلك تم عزله ثم ألف كتاباً عنوانه: من يجرؤ على الكلام، تكلم فيه عما يسمى باللوبي الصهيوني، أو جماعات الضغط في أمريكا، وهي ليست كلها يهودية، فهناك جماعات ضغط صهيونية، وهناك جماعات ضغط نصرانية مسيحية يسمونها أصولية وهي -أيضاً- متعاطفة مع اليهود، وتحمل العقيدة التي أسلفت الحديث عنها. في أمريكا يوجد ستة ملايين يهودي يسيطرون فيها، على أشياء كثيرة، فكثير من الصحف يهودية، بعض الصحف اشتراها أغنياء اليهود. الأمم المتحدة التي تدعي حفظ السلام العالمي، يمثل فيها اليهود (60%) من الموظفين والمستشارين، ولهذا تسعى إلى حفظ المصالح اليهودية في شتى أقطار العالم. أما مجلس الأمن، فإن معظم مندوبي الدول الأعضاء فيه من اليهود، راجع في ذلك كتاب النفوذ اليهودي لـ فؤاد الرفاعي. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 21 عداوة الغرب واليهود للإسلام أما الغرب فعداوته للإسلام ظاهره مكشوفة، فعداوة النصارى معلنة، والحروب الطاحنة بين المسلمين وبين النصارى يحفل بها التاريخ، وما الحروب الصليبية الكثيرة، بل الحملات الصليبية التي استمرت مئات السنين إلا نموذج للكيد النصراني الصليبي الحاقد على الإسلام؛ ولا زالت النصرانية بجيوشها وأعدادها وقوتها، لا زالت هي أوسع خطر يهدد الإسلام؛ لكثافتها وكثرة عددها، أما بالنسبة لليهودية: فهي بلا شك أكثر ضراوة من حيث العداوة كما قال عز وجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] . فهي أضر في العداوة وأقسى وأشد، ولكن اليهودية محدودة القوة، ومحدودة العدد، ولذلك فإنها لا تسلك مسلك المواجهة الصريحة المباشرة مع المسلمين، بل تلجأ إلى أساليب الحيلة والدهاء، والكيد من وراء الظهور. فهم يستخدمون -مثلاً- عملاءهم في صنائعهم في العالم الإسلامي -لا أقول اليوم فقط، بل منذ فجر التاريخ- فكم خربوا في بلاد الإسلام ومجتمعات الإسلام من خلال يهود يتظاهرون بالإسلام، ثم ينشرون العقائد الباطلة، أو يخربون بين المسلمين، أو يحدثون بينهم الفتن. ولعل عبد الله بن سبأ اليهودي الذي أعلن أو تظاهر بالإسلام، نموذج للكيد والدس اليهودي الذي يبرز في كل زمان. خرجوا يقطرون سماً زعافاً ومن ابن السوداء فيهم أمير ومع ابن السوداء يرميك رامٍ غادر من بنيك فظ كفورُ ابن السوداء ليس رجلاً انتهى ومضى ودفن لا، فـ ابن السوداء يبرز عليك في كل زمان وفي كل مكان بأقنعة شتى وألوان شتى، فقد يكون ابن السوداء، وقد يكون ابن البيضاء في أحيانٍ كثيرة؛ وليس المهم لونه ولا جنسيته ولا وطنه، المهم أنه يخدم مخططات اليهود، ويعمل بتعاليمهم وينفذ ما يخدم مصالحهم من خلال الكيد الخفي المدروس، لا من خلال الحرب المعلنة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 22 اليهود والسلام نقطة ثالثة ننتقل إليها وهي اليهود والسلام: يتساءل البعض عن مدى استعداد اليهود من السلام وموقف اليهود للسلام، وهل عند اليهود استعداد لعودة الفلسطينيين إلى أرضهم؟ هذه قضية تبدو من خلال بعض التصريحات، وبعض الأقوال لزعماء يهود قدماء ومعاصرين وكأن إسرائيل تدعو فعلاً إلى سلام؛ لكن هذا السلام الذي تدعو إليه إسرائيل، سلام يقوم على الاعتراف بالأمر الواقع، سلام يتمثل في وجود إسرائيل على الأرض العربية في فلسطين، ولا يمكن أن يدخل ذلك في منهج المفاوضات؛ إنها ترى أن على العرب أن يعترفوا بهذا الوجود، وأنه وجود شرعي قانونيٌ، وقد عبر زعماء إسرائيل كما ذكرت -عن ذلك في أكثر من مناسبة، منهم زعماء قدماء، ومنهم زعماء حاليون. فـ ابن غوريون -مثلاً- عام (1957م) تكلم أو سُئل عن عودة قسم من الفلسطينيين العرب إلى أرضهم، فأجاب: إن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الوراء، إن إسرائيل لا يمكن أن تقبل أياً من اللاجئين، إن الحل العادل الوحيد الممكن هو في إسكانهم في المناطق الخالية من السكان، الغنية بثرواتها الطبيعية في سوريا، والعراق وغيرها يقول: لا يمكن أن يعودوا، أما مائير فقد أعلنت أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام (1960م) أن إسرائيل تعلن -بكل صراحة وبساطة- أنها لا يمكن أن تسمح بعودة أي لاجئ إلى أراضيها. أما آشكول الذي خلف ابن غوريون على أساس أنه يرغب في السلام مع العرب، وأنه معتدل لا يحب الحرب فقد أعلن أن إسكان اللاجئين في البلاد العربية هو الحل الوحيد الذي يتفق مع مصالحهم الأساسية ومع الواقع وكذلك مع مصالحنا، يعني مع مصالح إسرائيل، مع مصالح اليهود، وقال: إنه لم تحل مشكلة لاجئين كبيرة في التاريخ الحديث بإعادتهم إلى مواطنهم الأصلية، لم يحصل ولا مرة واحدة أن اللاجئين حلت مشكلتهم بأن عادوا إلى موطنهم الأصلي، بل يمكن أن يبحث لهم عن مكان آخر خالٍ وملائم ليقوموا هم بتعميره، ويكون بذلك يعيشون في راحة واطمئنان. فإسرائيل ترفض أي تعديل في حدودها مع الدول العربية، ويقول أحد المراسلين -نقلاً عن أحد المسئولين اليهود-: إنه على استعداد لمقابلة أي مسئول عربي في أي مكان وفي أي وقت، ولكنه يؤكد -في الوقت ذاته- أنه لن يتنازل عن إصبع واحد من أرض إسرائيل، ولن يسمح للاجئ واحدٍ بالعودة إلى أرضه، نقلاً عن مجلة اللوموند الفرنسية. ولذلك من البديهي أن إسرائيل ترفض أن تبحث موضوع احتلال القدس، وتصر على أنها أرض إسرائيلية؛ بل إنها عاصمة إسرائيل إلى الأبد، وقد رفضت قرار هيئة الأمم المتحدة التي أصدرته عام (1967م) بل تطالب بحقوق كاملة في المرور عبر قناة السويس، كما تطالب بإنهاء المقاطعة الاقتصادية العربية، وتوسيع حدودها التي كانت لها عام (1967م) . إن إسرائيل تريد سلاماً وفق شروطها هي؛ فهي على استعداد دائم للسلام! ولكنها لم تقدم أي تنازلات مهما كان نوعها، وقد تأكدت هذه الاتجاهات مؤخراً في إسرائيل وصار الخلاف بين إسرائيل على التكتيك -كما سوف يأتي بعد قليل- فإسرائيل تسعى إلى اكتشاف سبيل يمكن ألا يؤدي إلى توتر في المنطقة، يعني: من أجل السلام، فإن إسرائيل لا ترى أن تتخلى هي عن شبر من الأرض الإسلامية أو تستقبل أي لاجئٍ يعود إلى أرضه … كلا! لا هذا ولا ذاك، وترى أن ما يمكن أن يساهم في إحلال السلام، وإحلال السلام بالطريقة الإسرائيلية في امتلاك قوة رادعة عند اليهود. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 23 شروط اليهود للسلام نعود إلى السؤال لماذا جاء شامير إلى مدريد؟؟! أولاً: جاء وسط ضمانات أمريكية تصل إلى سبعة عشر ضمانة لإسرائيل -ولم تعد هذه الضمانات سراً، فقد أعلنت، وإليك هذه الضمانات التي قدمتها أمريكا لإسرائيل، وقد كشفها وزير الخارجية الإسرائيلي نفسه، وأوضح أن رسالة الضمانات تتضمن سبع عشرة نقطة، وليست الصيغة النهائية أيضاً، فقد يطالب اليهود بالمزيد، وأعلن في ختام اجتماع اللجنة: علينا أيضاً العمل على تحسين بعض النقاط. أما النقاط السبع عشرة فهي كما يلي: 1- الهدف الأساسي للمفاوضات: هو إرساء سلام حقيقي وتوقيع اتفاق سلام، وإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها، إذاً: انتظر وجود السفارات الإسرائيلية في العواصم العربية كلها! 2- لن يكون لمؤتمر السلام سلطة فرض وجهة نظره على الأطراف، أي: لن يفرض مؤتمر السلام على إسرائيل شيئاً لا تريده، إنما هو لمجرد المفاوضة والحديث، وإن شئت فقل يكفي من مؤتمر السلام أنه اعتراف من الأطراف العربية بإسرائيل، ووجودها وحقها في الوجود، وغير ذلك. 3- المفاوضات بين الأطراف ستكون مباشرة بدون وسيط. 4- الولايات المتحدة لا تدعم فكرة الربط بين المفاوضات المختلفة -الإسرائيلية السورية، أو الإسرائيلية الأردنية، أو الإسرائيلية الفلسطينية. 5- إن أي طرف لن يجبر على التفاوض مع من لا يرغب في التفاوض معه، أي: أنه من الممكن أن تتفاوض إسرائيل مثلاً مع أي طرف عربي ترى مصلحتها في التفاوض معه لكنها ترفض التفاوض مع طرف آخر لأنه متعنت، أو لا ترغب التفاوض معه. 6- لا تعتزم الولايات المتحدة إجبار إسرائيل على التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية. 7- إن الفلسطينيين المشاركين في مؤتمر السلام سيكونون من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. 8- الولايات المتحدة لا تؤيد قيام دولة فلسطينية مستقلة. 9- لإسرائيل الحق في تفسير قراري مجلس الأمن رقم (242-338) كما تريد. 10- لإسرائيل الحق بحدود آمنة تضمن أمنها. 11- ستعمل الولايات المتحدة على بسط السلام في الشرق الأوسط. 12- ستستمر الولايات المتحدة في العمل لإلغاء المقاطعة العربية لإسرائيل، أي مقاطعة العرب للاقتصاد الإسرائيلي مثلاً: المقاطعة الثقافية، المقاطعة السياحية … إلى آخره. 13- إلغاء قرار الأمم المتحدة الذي يعتبر الصهيونية، شكلاً من أشكال العنصرية. 14- خلال المؤتمر ستقوم الولايات المتحدة بإجراء مشاورات مع إسرائيل، أولاً بأول. 15- تجدد الولايات المتحدة اعترافها المعلن عام (1975م) والذي اعتبرت فيه أن للجولان دوراً استراتيجياً، وهذه الكلمة فيها غموض، إلا أنها تذكير بالجولان أي: أنها لا تعترض على ضم إسرائيل للجولان إلى أراضيها. أيضاً من الضمانات الأمريكية لإسرائيل: 16- أن الولايات المتحدة الأمريكية مستعدة لضمان الحدود المستقبلية بين إسرائيل وسوريا، ولإسرائيل الحق بحدود شمالية آمنة في حالة الانسحاب من لبنان. 17- أخيراً الولايات المتحدة تضمن أمن إسرائيل. هذه بعض الضمانات التي جاء بها اليهود إلى مؤتمر مدريد للسلام، فلا غرابة حينئذٍ بأن يأتوا. لكن كيف تستقبل إسرائيل مثل هذه المؤتمرات؟ الجزء: 67 ¦ الصفحة: 24 طريقة إسرائيل في استقبال مؤتمرات السلام في كل مرة وفي هذه المرة أيضاً، تستقبل إسرائيل مؤتمرات السلام ودعاوى السلام العريضة، بدعم التسليح واستقطاب الخبرات النادرة من أنحاء العالم، وفي هذه المرة يتزامن السلام مع قدوم أعداد هائلة من المهاجرين اليهود من روسيا، ومن الاتحاد السوفيتي وفيهم أعداد غير قليلة يمتلكون خبرات نادرة، وتستقبل إسرائيل مؤتمرات السلام بزيادة نفقات الحرب، وفي هذه المرة بالذات زادت من اعتماد وزارة الدفاع بمبلغ مائتي مليون دولار، ولذلك قالت إحدى الصحف الفرنسية: " إن إسرائيل قد اقتربت من مؤتمر السلام ويدها على الزناد ". أولاً: إسرائيل تعلم أن المفاوض من مركز قوة غير المفاوض من مركز ضعف. ثانياً: إن إسرائيل تعتبر السلام سلاماً هشاً لكسب الوقت فقط، وينبغي أن تعمل بشكل دائم ومستمر على تسليح نفسها لمواجهة عدوها، بل لبسط نفوذها وتحقيق حلمها فيما يسمى بإسرائيل الكبرى. ثالثاً: تستقبل مؤتمرات السلام بالتوسع في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي العربية وتهجير اليهود من أنحاء العالم إلى إسرائيل، بحيث تصبح المطالبة -في ظل تلك الظروف- بالأراضي المحتلة عام (1967م) -كما يطلبون الآن- أمراً مستحيلاً، لأنها تبني فيها المستوطنات بشكل غريب، وتسكن فيها اليهود الذين يهاجرون، وبالتالي سوف يزيد عدد اليهود بنسبة كبيرة وتصبح المطالبة بهذه الأرض فيما بعد أمراً مستحيلاً أو شبه مستحيل. إسرائيل تتميز بنظرة عميقة في هذا الجانب، تدرك أن السلام أمر مؤقت، وأنه لكسب الوقت كما ذكرت، ولذلك يقول رئيس الأركان الإسرائيلي: " إن الأحداث في الاتحاد السوفيتي تثبت أن الاستقرار العالمي هش جداً، ويمكن أن يتبدل في أي وقت، وإذا كان خطر الحرب أصبح مستبعداً الآن في المدى المباشر؛ فإن حرب الخليج برهنت على أنه لا بد لدولة كإسرائيل أن تستعد لما يقع على المدى المتوسط أو على المدى البعيد، وذلك لأن ظروفاً بالغة التعقيد يمكن أن تنشأ فجأة ". هذه نظرتهم! توقع تغير الأحداث تغير الظروف المفاجئة بأحداث جديدة، واحتمال بروز قوى لم تكن واردة في الحساب، وظروف معقدة؛ ولذلك هم يرون أن الخيار الوحيد أمامهم: هو المزيد من التسليح؛ ولذلك يعكف اليهود على المطالبة والعمل على تحقيق أمرين: الأمر الأول: توفير قمر صناعي يهودي خاص؛ للتجسس واستكشاف كل ما يجري حول إسرائيل في المنطقة العربية، وهم في مجال إيجاد هذا القمر. الأمر الثاني: إنتاج صواريخ -كما ذكرت قبل قليل- يسمونها (صواريخ آرو) مضادة للصواريخ أيضاً، وذلك في وقت قصير وبالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، وخلال ذلك تقوم إسرائيل ببعض المناورات في موضوع السلام وتبتز من خلالها الغرب، والشرق، والعرب، بمزيد من التنازلات وهي تعلم أن الأمر مجرد كسب الوقت، ولعلكم سمعتم وتسمعون أن إسرائيل منذ فترة تطالب أمريكا بعشرة بلايين دولار؛ لاستيعاب المهاجرين السوفيت الذين قدموا إلى إسرائيل- كمساعدة إنسانية، ولما حجبها الرئيس الأمريكي بعض الشيء، لمصالح شخصية تتعلق بموقفه وبقضايا ليس العرب منها بقليل ولا كثير ولا قبيل ولا دبير قال أحد المسئولين اليهود: لا نقبل ولا نعتقد أبداً أن عدم بناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي يدعم السلام، لا، بل يقول العكس، توطين اليهود وبناء المستوطنات في الضفة الغربية وقطاع غزة هو الذي يساهم في عملية السلام ويدعمها. وسوف تعرف كيف يكون هذا داعماً لقضية السلام، وبلا شك أن الموضوع طويل، وبقي فيه قضايا كبيرة ومهمة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 25 الطريقة المثلى للسلام عند اليهود يرى اليهود أن الطريقة المثلى للسلام هو أن يمتلكوا هم قوة رادعة كافية في منطقة الشرق الأوسط! ولذلك رفعوا شعار: "السلاح لإسرائيل" السلاح الذي يسعى إلى السلام، ويدافع عنه، وهو -السلام- يكون في وجود إسرائيل قوية يدعمها جيش حسن التجهيز، وذلك يستدعي أن يكون السعي للتفوق العسكري على العرب، هو أهم قضية في حياة إسرائيل. إن السلام النسبي الذي يخيم على الشرق الأوسط في السنوات العشر الأخيرة، يقولون: نتيجة مباشرة لقوة إسرائيل العسكرية؛ وذلك لأن هدف المعارك التي تخوضها وقت السلم هو تثبيت السلام! وفي تسويغ إسرائيل للاعتداءات التي تشنها على العرب؛ تدعي إسرائيل أن هذه الحوادث تؤكد وجوب التقدم لإحلال السلام في المنطقة! فاليهود لهم طريقة خاصة في السلام، وهذه الطريقة هي أن يمتلك اليهود قوة ضاربة تكون ردعاً للعرب وللمسلمين، بحيث لا يفكرون باستنقاذ شيء من حقوقهم التي أخذها اليهود، بل لا يفكرون في مقاومة إسرائيل حينما تلتهم دفعات جديدة من الأراضي الإسلامية؛ ولذلك لا تستغرب أن إسرائيل رغم أنها دولة محدودة الرقعة، محدودة العدد من حيث السكان، لا تستغرب أبداً أن مجتمع إسرائيل كله يعتبر جيشاً لها، فقد جندت كل مواطن إسرائيلي، ودربته من سنتين إلى ثلاث سنوات، وهي قادرة -بمقاييسها البشرية- خلال ثمانٍ وأربعين ساعة، على حشد أربعمائة ألف جندي لمواجهة أي خطر يهددها! صحيح أنها لا تحتفظ بجيش كبير، بل تعمل بنواة صغيرة من القوات؛ ولكنها تعزز الأكبر من قواتها في الاحتياط، الذي يساعده على ذلك، سهولة المواصلات وتوفر وسائل النقل، فهي تستطيع -بتقديراتها البشرية- أن تحشد هذا العدد الهائل من الجنود وإيصالهم إلى ميدان المعركة خلال ثمانٍ وأربعين ساعة؛ بل هي الدولة الوحيدة في العالم التي تستطيع أن تجمع قواتها الاحتياطية في غضون أربعٍ وعشرين ساعة ثم تنقلها إلى الجبهة في غضون ثمانٍ وأربعين ساعة، فهناك مبدأ، أو مبادئ يسمونها مبادئ ابن غوريون يقول: إن إعداد جيش قوي لإسرائيل، ضروري، ليس فقط للانتصار على العرب، فهذا أمر مفروغ منه. لكن للانتصار السريع وبأقل قدر ممكن من الضحايا اليهود، يقول: لا يوجد لدينا وقت، التاريخ يسبقنا، علينا أن نعمل بسرعة، ولذلك لا تستغرب أيضاً أنه في عام (1985م) -وأعتبر التواريخ بالميلادي؛ لأنه يصعب عليَّ تحويلها إلى الهجري، والمراجع تذكر هذا التاريخ الميلادي- في عام (1985م) كان السلاح الجوي الإسرائيلي يملك سبعمائة طائرة، أكثر من (50%) منها صنع إسرائيلي، وربما زادت النسبة الآن إلى أكثر من (85%) منها يعني: أن (85%) منها، من سلاح الجوي الإسرائيلي -تقريباً- صناعة يهودية، وأما عدد الطائرات فلا أعرف رقماً دقيقاً لذلك، ففي عام (1980م) وصلت مبيعات السلاح الإسرائيلي الخارجية، إلى أربعمائة مليون دولار -هذا خبر قبل أكثر من عشر سنوات- أربعمائة مليون دولار هذه مبيعات السلاح الإسرائيلي إلى الخارج! إذاً فإسرائيل أصبحت ترسانة أسلحة، وأصبحت تصدر الأسلحة إلى الخارج وتدعم الكثير من الدول في إفر يقيا وفي غير إفريقيا. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 26 نظرة اليهود للسلام فلماذا جاء شامير إلى مدريد ما دامت القضية هكذا؟ أولاً: من الأشياء الطريفة أن يأتي إلى ذلك المؤتمر، ثم يلقي كلمته، وبعد أن يلقي كلمته، ينصرف من المؤتمر لأن غداً يوم العطلة المقدس عند اليهود، يوم السبت، فهو لا يستطيع البقاء ولابد أن يذهب هناك، فهناك طقوس دينية لا بد أن يمارسها؛ إنها ضربة على الوجوه لمن جاءوا يحملون أسماءً عربية، لأن بداية المؤتمر كان في يوم الجمعة، ولم يتحرك هؤلاء وأنى لهم أن يتحركوا، وكيف يفكرون أن يتحركوا ويؤدوا شعائر صلاة الجمعة، على حين أن ذلك الرجل اليهودي أعطاهم ضربة على وجوههم حينما غادر المؤتمر من أجل أن يذهب إلى دولته في إسرائيل ليؤدي شعائر يوم السبت. المؤتمر عقد في أسبانيا البلد الذي شهد يوماً من الأيام الفتح الإسلامي، ثم شهد خروج المسلمين من تلك البلد الواسعة التي كانت تسمى بالأندلس، ولا أدري! هل كان على سبيل المصادفة أن يعقد مؤتمر السلام العربي الإسرائيلي في أسبانيا؛ أم إن الغرب اختار ذلك الموقع بعناية؛ ليؤكد على أن المسلمين سوف يسلمون فلسطين وما حولها بوثيقة الذل والهوان كما سلموا من قبل وثيقة الذل والهوان، ووقعوا عليها في الأندلس، فالأمران متشابهان؟! خلت فلسطين من أبنائها النجب وأقفرت من بني أبنائها الشهبِ طارت على الشاطئ الخالي حمائمه وأقلعت سفن الإسلام والعربِ يا أخت أندلس صبراً وتضحيةً وطول صبرٍ على الأرزاء والنوبِ ذهبت في لجة الأيام ضائعة ضياع أندلس من قبل في الحقبِ وطوحت ببنيك الصيد نازلةٌ بمثلها أمة الإسلام لم تصبِ أيضاً من الغريب، ولا أدري! هل كان -هذا أيضاً- مصادفة أن الشهر والعام الذي عقد فيه ذلك المؤتمر يوافق تماماً الشهر والعام الذي عقد فيه الاجتماع بين النصارى وبين أبي عبد الله الملك الخائن في الأندلس الذي وقع وثيقة الذل والهوان والاستسلام، لقاء الاحتفاظ بمميزاته وخصائصه الشخصية ومصالحه الذاتية، ففي عام (1491م) ، وفي شهر نوفمبر وقعت وثيقة تسليم الأندلس للنصارى، وفي عام (1991م) وفي نوفمبر أيضاً، بدأ مؤتمر مدريد للسلام بين العرب واليهود. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 27 القصد من طرح هذا الموضوع بقي الحديث عن مكاسب اليهود من خلال مؤامرة أو مؤتمر السلام، وبقي فيه: الحديث عن العرب ومواقفهم ومكاسبهم، أو خساراتهم، وبقي فيه الحديث عن آثار كامب ديفيد الذي عقد كسلام منفرد بين مصر وإسرائيل، وما جرى في مصر من جراء اليهود فيها، من آثار اقتصادية وآثار أخلاقية، وآثار أمنيه، المهم آثار التطبيع الأخلاقية والثقافية وغيرها، وبقي الكلام عن حجج المطالبين بالصلح مع إسرائيل، وبقي: الكلام عن الحكم الشرعي في مثل هذه الأمور. وأخيراً بقي الكلام: عن قضية أعتبر أن من المهم أن أشير إليها الآن ولو إشارة عابرة؛ لأنه جاءني سؤال يتعلق بها، ألا وهي قضية: أننا حين نتكلم مثل هذا الكلام؛ فإننا لا نعني أبداً أن نملأ قلوب الناس بالخوف من شيء اسمه اليهود؛ بل على النقيض من ذلك، فعلى رغم هذه القوة التي حصلوا عليها بحبل من الناس، كما قال الله عز وجل: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس ِ} [آل عمران:112] وعلى رغم ذلك فإن ربنا عز وجل يقول في محكم تنزيله: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] . فهم قوم جبناء فرارون مختلفون فيما بينهم، تحسبهم جميعاً كما قال الله عز وجل في كتابه: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] . ونحن أيضاً مع ثقتنا بهذه النفسية التي يعيشها اليهودي؛ فإننا ندري أن هذه الفترة التي يعيشونها فترة مؤقتة، وأن هذا الدعم الذي يمدهم من الغرب آيل إلى انقطاع. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 28 الأمة تملك الكثير الأمة الإسلامية تملك من وسائل القوة في مواردها وخيراتها وأرضها وفي أعدادها البشرية الهائلة وفي إمكانياتها، وفي إيمانها بربها وفي التضحية والفداء الموجود عند المسلم الذي يسير إلى القتال وهو يفرح ويقول: واهاً لريح الجنة يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها هذا لا يملكه لا يهودي ولا نصراني ولا غيره إلا المسلم الذي يقاتل ورائحة الجنة في أنفه المسلم الذي يخوض المعركة وهو يتمنى أن يقتل في سبيل الله عز وجل وأن يراق دمه حتى يكون من الشهداء عند الله تعالى. فالأمة الإسلامية تملك إمكانيات هائلة لا أقول: تملك إمكانيات لمواجهة إسرائيل، ولا أقول: الأمة الإسلامية تملك إمكانيات هائلة لمواجهة الغرب النصراني ومواجهة إسرائيل ومواجهة كل القوى الكافرة؛ صحيح نحن لسنا نعيش أحلاماً ولا نعتقد أن الأمة بوضعها الحالي تملك ذلك، فهي تملكها من حيث القوة، لكنها بحاجة إلى أن تملك العقول المفكرة تملك القلوب المؤمنة التي عرفت ربها فعبدته، آلت على نفسها ألا تعبد إلا الله ولا تتوكل إلا على الله ولا تسأل وتدعو إلا الله عز وجل فعم القلوب والعقول والنفوس التي عرفت طريق العزة والكرامة، إذا توحدت -هذه الأمة- على كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا نبذت الفرقة والخلاف فيما بينها على قضايا فرعية جزئية أو أحياناً على قضايا لا قيمة لها البتة، وإذا بدأت الأمة تعمل عملاً جاداً لتثبت وجودها لتبدأ من جديد لتسلك الطريق، فليس في عقول المسلمين عجز أو نقص! صحيح أن اليهود شعب يملكون من وسائل التفكير والعبقرية ما لا يملكه غيرهم! فهم قد يملكون عبقرية الهدم والتدمير أما المسلمون العرب، وغيرهم من المسلمين فإنهم يملكون عبقرية البناء عبقرية إمكانية الحصول على الأسرار الصناعية من الغرب والشرق، والابتكار في ذات الوقت، ويملكون الموارد الطبيعية كما أسلفت، ويملكون الثروة البشرية. ويملكون قبل هذا كله وبعده هذا الدين الذي لو رجعوا إليه وصدقوا تعاملهم معه، وعرفوا الله تعالى من قلوبهم الصدق والإخلاص فلن يتخلى الله تعالى عنهم، ونحن مع هذا نملك شيئاً آخر لابد أن نشير إليه وإن كنت أتحدث عنه بشيء من التفصيل -نملك وعداً ممن لا يخلف الميعاد من ربنا عز وجل، على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، بأن لهذه الأمة جولة قادمة منتصرة تواجه فيها اليهود، وتكون أمة صادقة. ولذلك يسخر الله تعالى لها حتى الجمادات فتنظم إلى موكب المقاتلين، فيتحدث الحجر والشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، ونملك -أيضاً- وعداً: أن إسرائيل مهما تغطرست، ومهما عاشت أحلام ما يسمى بإسرائيل الكبرى إلا أن الحدود التي ستظل عليها إسرائيل -والله تعالى أعلم بما يقع- لن تكون بعيدة عما يكون عليها الآن؛ فقد جاء في حديث: {أنكم تقاتلون المشركين على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} على نهر الأردن. إذاً أحلام إسرائيل التوسعية من البحر إلى النهر، ومطامحها ومطامعها، سوف تصطدم بعقبة القضاء والقدر، والله تعالى لا راد لأمره ولا معقب لحكمه، ونحن نقول هذا ثقة بالله عز وجل وتوكلاً عليه وإيماناً به، ولا أعتقد أن مسلماً يعرف الله تعالى ويحبه ويثق به يمكن أن يخاف من إخوان القردة والخنازير أو يرهبهم، وهو يعلم أن الله تعالى ينصره متى كان ناصراً لله تعالى في ذات نفسه متى ما كان مخلصاً لله عز وجل مؤمناً به متوكلاً عليه واثقاً به مقدماً لأمر الله تعالى على كل شيء، بل إن من المفسرين من فسر بعض الآيات القرآنية على ضوء هذا في قوله عز وجل: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيرا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً} [الإسراء:4-7] . فقال أكثر المفسرين: إن كلا الوعدين قد مضى وسبق في التاريخ لكن الله تعالى قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} [الإسراء:8] . فقوله: وإن عدتم عدنا مشيراً أن وعد الله عز وجل على بني إسرائيل في الكتاب مرتين؛ يمكن أن يتكرر مرة ثالثة ورابعة متى عادوا إلى ما كانوا عليه. جدد رجالك أيها الإسلام فالمسلمون بعصرنا أقزام تركوا الهدى واستبدلوه ضلالة حادوا وضلوا والقلوب ظلام ركضوا وراء زخارف براقة وتنازعوا الدنيا كما الأنعام أين الذين على الذرى رفعوا اللوا باسم الإله فأشرق الإظلام فتحوا البلاد شمالها وجنوبها شرقاً وغرباً والدنا أنغام فاستعبدوهم واستباحوا فكرهم فالغرب يخدع والشعوب نيام والمسلمون الراقدون كأنهم موتى بأجداث صداها الهام لكنهم نفضوا السبات تنبهوا يا ويح يقظتهم هي الأحلام قومي انظري يا أمتي درب الهدى جنباته ملء العيون رغام ضلت قوافلك التي سيرتها واثاقلت من خزيها الأقدام يا أمتي زاد البلاء عروبة قومية قد صاغها أقزام يا حسرة يا قدسنا ضاع الرجا ترثيك لبنان كذاك الشام لن ينصر الله الذين تخاذلوا لا ينصرون ولو عدت أيام الجزء: 67 ¦ الصفحة: 29 إسرائيل تحصد ميداليات مؤتمر السلام لقد حقق اليهود مكاسب كبرى في كل عملية سلام يحاولها العرب، وأبرز هذه المكاسب ما يلي: الجزء: 67 ¦ الصفحة: 30 تمزيق العرب إلى دويلات صغيرة مفككة هناك مكاسب أخرى كثيرة لا يمكن حصرها لإسرائيل، وفي المقابل خسائر عربية منها -مثلاً- دخول كل دولة من الدول -على حدة- ومفاوضتها لإسرائيل دون الدول الأخرى؛ وبكل تأكيد فإن هذا التمزق الذي حصل، لن يتمكن العرب معه من استرجاع هويتهم الجماعية بعد المؤتمر، فقد دخلوا المؤتمر كدولة مستقلة -كل دولة لا علاقة لها بالأخرى- واستطاعت إسرائيل أن تقنع أمريكا بشيءٍ كهذا، بعد أن كان العرب منذ زمان يتكلمون عن الحلول الانفرادية، وأنها مرفوضة؛ قبلوا وجلسوا على مائدة المفاوضات مع إسرائيل على انفراد؛ فذابت بذلك شخصيتهم الجماعية. ونحن نتكلم عنهم كما يتكلمون هم عن أنفسهم باعتبارهم عرباً، لأنه كما سبق وأسلفت: الإسلام لم يدخل المعركة لا هنا ولا هناك، لذلك ينبغي أن نعرف أن إسرائيل تحرص على تفتيت الدول العربية -أكثر مما هي عليه الآن- إلى دويلات صغيرة، وقد جاءت تقارير عديدة تؤكد ذلك، أقرأ عليكم مقالاً في غاية الغرابة للدكتور عبد الله بن فهد النفيسي، تعجبت وذهلت بعد أن قرأته! وإن كنت لا أستطيع أن أقرأ عليكم الموضوع كاملاً لحساسيته؛ لكني أقرأ ما يتعلق بهذا الموضوع منه يقول: " إسرائيل والخليج على صهوة الكلمة " هذا المقال أعتقد أنه سنة ألف وأربعمائة وستة يقول موسى شاريت -رئيس وزراء إسرائيل الأسبق- في مذكراته: " أنه لكي تبقى إسرائيل لابد من تحقيق هدفين هامين: أولهما: أن تصبح إسرائيل قوة إقليمية مهيمنة، تتمتع دائماً بالتفوق العسكري على العرب. وثانيهما: أن تفرض إسرائيل تقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة ". لقد كتب شاريت هذا الكلام في الخمسينات، ومن يتفحص واقع الصراع العربي الإسرائيلي؛ لا يحتاج إلى كثير ذكاء لكي يعرف أن إسرائيل نجحت في تحقيق الهدف الأول نجاحاً واضحاً، وأنها مستمرة في تحقيق الهدف الثاني لقد صرح شاريت وكذلك بن غوريون وطرحوا عدة أفكار لتحقيق الخطوة الثانية -أي تقسيم المنطقة الإسلامية إلى دويلات صغيرة ضعيفة ومفككة- تارة تحت شعار طائفي أو عرقي أو غير ذلك، فلقد طرحوا آراء لتقسيم لبنان، وسوريا، والعراق والأردن ومصر … إلخ. إذاً: هم يعتبرون من أهم مكاسبهم تمزيق العرب إلى دويلات صغيرة مفككة ومشتتة، بل ومتناحرة فيما بينها، وتمزيق المسلمين كذلك، وإيجاد التناقضات بينهم. وهذا ما حصل في المؤتمر فقد دخلت كل دولة من الدول العربية على حدة، وكانت إسرائيل غير ملزمة أن تتفاوض مع الجميع، فتتفاوض مع من تريد وترفض مفاوضة من لا تريد، فمن الممكن جداً أن ترفض مفاوضة الفلسطينيين -مثلاً- أو السوريين أو أي طائفة أو دولة لا ترضى بالمفاوضة معها. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 31 إسرائيل تنظم وتدير شئون العرب كما أن من الخسائر: أن إسرائيل بدت وكأنها هي التي تنظم المؤتمر، وتدير شئون العرب فيه، فهي التي تحدد الوفد الفلسطيني -مثلاً- وترفض أن يكون لهم انتماء إلى منظمة التحرير أو غيرها، وأن يكونوا ممثلين لكل طبقات الفلسطينيين، كما رفضت واشنطن التمثيل المستقل للفلسطينيين، بناءً على طلب إسرائيل، كما رفضت أيضاً إدراج موضوع القدس ضمن القضايا المطروحة. كما رفضت الاعتراف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، كما رفضت أمريكا مطالبة إسرائيل بتجميد عمليات الاستيطان، التي مازالت قائمة على قدم وساق، حتى أنه أصدر أحد الوزراء الإسرائيليين بياناً يقول: هناك حملة اليوم لا مثيل لها -في الاستيطان منذ عام ثمانية وأربعين، لأول مرة هذه الحملة الضارية من الاستيطان اليهودي، لإثبات أقدام اليهود وترسيخها في البلاد التي احتلوها. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 32 الوقت ليس في صالح العرب كذلك من الخسائر: أن العرب عرفوا ويعرفون أن الوقت ليس في صالحهم، فحتى لو فرض وجود سلام مؤقت، فإنه ليس في صالح العرب، وذلك أن إسرائيل قد جندت كل استخباراتها، وكل وسائلها وإمكاناتها لسرقة الأسرار العسكرية والحربية والاقتصادية من أنحاء العالم، وكل يوم يزيدها رسوخاً وثباتاً وعمقاً. أما بالنسبة للعرب فهم على النقيض من ذلك، وهم يحاولون أن يلتقطوا أنفاسهم، حتى يضمنوا للمواطن شيئاً من لقمة العيش التي حرمها في أكثر من بلد، وأصبح يلهث ليله ونهاره بحثاً عنها. فمن الناحية العسكرية مثلاً -خلال هذه المفاوضات- استطاعت إسرائيل أن تخترق المجال الجوي، لعدد من الدول العربية عدة مرات، وهذا الاختراق له دلالاته؛ فهو إشارة إلى الذراع الطويلة القوية لإسرائيل، وتهديد العرب، وإشعارهم بأن إسرائيل تتفاوض معهم من موقع قوة، وهو -أيضاً- رسالة إلى أمريكا تقول لها: إن إسرائيل تستطيع أن تستغني عنكم، وليست بحاجة إليكم حتى تدافعوا عنها، فهي قادرة على أن تدافع عن نفسها. وكذلك الحال بالنسبة للنواحي العسكرية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية والأمنية في البلاد الإسلامية والعربية، فإن الوقت فيها يتراجع في حين تحكم إسرائيل قبضتها لضبط أمورها والقضاء على كل التحديات العسكرية والأمنية التي تواجهها داخل إسرائيل. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 33 إسرائيل هي الرابح الأول والأكبر من المؤتمر كما أن من الخسائر الواضحة والفادحة: أنه في الوقت الذي اعترف فيه العرب بالوجود الإسرائيلي وجلسوا على طاولة المفاوضات وقدموا هذه القائمة الطويلة من التنازلات؛ فإن من المعروف أن هذا المؤتمر أشبه ما يكون بندوة حوار ومناقشة، إذ ليس له حق بإصدار قرارات أو تصويت أو فرض الحلول المعينة على أحد أطراف النزاع، وبذلك نعلم أن إسرائيل قد حصدت كما يقال ميداليات السلام في هذا المؤتمر وذهبت بها، وأنها حتى على فرض تقديم تنازلات شكلية فهي الرابح الأول والأكبر في مثل ذلك! الجزء: 67 ¦ الصفحة: 34 إزالة المقاطعة السياسية والثقافية والحدودية ومن مكاسب إسرائيل واليهود: إزالة المقاطعة السياسية والثقافية والحدودية مع العرب، وهذه المقاطعة تؤثر سلبياً في صعوبة نقل السلع الإسرائيلية؛ لأنها لا يمكن أن تنقل عبر البَر بسبب المحاصرة العربية، ويمكن أن تنقل جواً وبصعوبة وهذا يجعل الأسعار مرتفعة ويجعل السلع الإسرائيلية في الأسواق العالمية غير قادرة على المنافسة، وبالتالي يصيب هذا -كما أسلفت- الاقتصاد اليهودي بشيء من الكساد، فإذا زالت هذه المقاطعة أمكن إسرائيل أن تنقل بضائعها عبر البَر وعبر الأراضي العربية، لا، بل أمكن إسرائيل أن تنقل بضائعها إلى البلاد العربية نفسها، بحيث تكون الأسواق العربية مفتوحة على مصراعيها للبضائع والمنتجات والصناعات الإسرائيلية. إن منع التواصل بين العرب والمسلمين وبين اليهود في هذه الرقعة يضر بإسرائيل كثيراً فهم حريصون أشد الحرص على فتح الحدود، ليذهب اليهود إلى البلاد العربية، والعرب والمسلمون يأتون إلى إسرائيل دون أي تحفظ. ومن الأمور التي قد تكون يسيرة جداً وبسيطة لكنها ملفتة -أيضاً- أن هناك كتاباً عالمياً للطيران، هذا الكتاب يتحدث عن بطاقات الطيران وعن التذاكر وغيرها، وكيف يمكن استرجاعها إلخ، لكنه في إحدى البطاقات -وهو موجود في كل بلاد العالم بما في ذلك البلاد العربية، ومتداول- يصور لك -مثلاً- تذكرة طيران … اسم الراكب ديفيد ليفي، وتحته: لا يمكن استرجاع قيمة هذه التذكرة إلا في إسرائيل. قد يتصور أن هذا الأمر غير مقصود، ولكن هؤلاء القوم يخططون حتى للأشياء التي تظن أنها تافهة وبسيطة، وقد رأيت هذا الكتاب وهذه التذكرة بعيني. إن إسرائيل تريد أن تكون حدودها مفتوحة للمسلمين، وحدود البلاد العربية والإسلامية مفتوحة لها، وهذا يفسر لك حرص إسرائيل على عقد المؤتمر أو بعض جلساته -كما يقولون- هم في الشرق الأوسط، عقد بعض المفاوضات في الشرق الأوسط، لماذا؟ لأن من أهم مقاصدهم: أنهم يريدون أن يأتي العرب إلى إسرائيل، أو حتى أن يذهب اليهود إلى أي بلد عربي آخر -إلى الأردن مثلاً، أو إلى لبنان أو إلى سوريا، أو إلى أي بلد عربي آخر- حتى يعقدوا المفاوضات هناك، لأن اليهود يعتبرون من أهم مكاسبهم أن العرب لا بد أن يتعاملوا مع إسرائيل معاملة طبيعية معترف بها، بعيداً عن تجنبها أو مقاطعها. ولذلك حرصوا على عقد المفاوضات مع إحدى البلاد العربية -حتى لو في غير إسرائيل- لأنهم يعتبرون هذا تمهيداً لكسر هذه الحواجز الحدودية، وقد دعا بيريز في مقالته عن آفاق التعاون الإقليمي، دعا إلى تعاون بين دول المنطقة العربية وغير العربية، وقال: " إن هذا التعاون يمكن أن يقوم على المعرفة وعلى المهارة البشرية اليهودية، وعلى النفط والسوق العربيتين وعلى المياه التركية، فهذا هو التكامل " وأحياناً يقولون: بالنسبة للأعداد البشرية، فالعمالة تؤخذ من البلاد العربية والخبرة من اليهود ورءوس الأموال -أيضاً- من العرب، وهذه نظرة عنصرية قومية بلا شك تستهدف الاستحواذ على الثروة النفطية وعلى الطاقات الإسلامية، وكأن المسلمين ليسوا مؤهلين الآن ولا مستقبلاً للإفادة من هذه الطاقة، فيحتاجون أن يتولى اليهود بمعرفتهم ومهاراتهم -فيما يزعم- الانتفاع بها. ومن أهم نتائج ذلك -كما هو ظاهر- غزو الأسواق بالمنتجات اليهودية، التي كانت تقاطع بالأمس، وفتح الطريق أمام علاقات دبلوماسية مع اليهود، وإقامة سفارات أو قنصليات -كما هو مطروح- في البلاد العربية وهو جزء مما يسمى بالتطبيع، وسوف أتحدث عن موضوع التطبيع لخطورته وسعته في درس مستقل بإذن الله تعالى، لأنه من أهم القضايا التي تبنى على عملية السلام. كذلك فتح الباب أمام السواح اليهود ليأتوا إلى البلاد العربية، بل وأن من حقهم أن يزوروا حتى الأماكن الدينية والأثرية والتاريخية، على حد سواء مع العرب ومع المسلمين، وهذه من بنود الصلح الذي عقد في مؤتمر كامب ديفيد كما سوف أشير إلى ذلك بعد قليل. أما التعامل الثقافي، فجانب مهم من جوانب التطبيع، وخلاصته إنهاء حالة العداء مع اليهود. ولعل العناق الحار الذي رُئي وشوهد في أكثر من مكان، بين الوفد الإسرائيلي وبين مجموعات من الوفود العربية، والابتسامات العريضة التي كست وجوه بعض العرب، كانت عريضة بعرض المصيبة التي أصابت الأمة الإسلامية، لا باليهود، فليس غريباً أن يحارب اليهود أمة الإسلام، وليس غريباً أن يكيدوا لها ولكن بعرض المصيبة التي أصابت المسلمين من هؤلاء الذين ذهبوا إلى مدريد وصافحوا وعانقوا الوفد الإسرائيلي، واتفقوا معه على بيع أرض المسلمين، {بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] . وبيعت بلاد العرب بالثمن البخس لبعضهمُ درهم ولآخرٍ كرسي الجزء: 67 ¦ الصفحة: 35 قضية حرب المياه من الأشياء التي كسبتها واستفادت منها إسرائيل: قضية حرب المياه، وذلك أن إسرائيل تخطط للمستقبل القريب والبعيد، ومن المعروف أنها الآن تستهلك من المياه خمسة أضعاف ما يستهلكه العرب كلهم مجتمعين. وإنما غزت إسرائيل لبنان إلا للسيطرة على منابع بعض الأنهار، كنهر الليطاني والحصباني والوزاني وغيرها، حتى إن بعضهم يقول: إن إسرائيل من الممكن أن ترفع شعار الماء مقابل السلام؛ لأنها تعتبر أن الماء شريان حيوي هام … ومن المعروف أنه لا حياة إلا بالماء، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] فالماء أمر ضروري، كضرورة الهواء لوجود الإنسان. ولذلك تمكن الإسرائيليون من سرقة مليون وثلاثمائة ألف متر مكعب من مياه الأنهار العربية، بالإضافة إلى مائتي مليون متر مكعب من المياه الجوفية بطريقتهم الخاصة. ومما يتوقعه -والعلم عند الله- بعض الباحثين أنه في القرن القادم سوف يتعرض 1200 مليون إنسان للعطش بسبب نقص المياه، وغالبية هؤلاء الناس هم في الشرق الأوسط -أي: في البلاد العربية وفى إسرائيل أيضاً- ولعله من المعروف أنه ينعقد في تركيا مؤتمر اسمه: مؤتمر مياه السلام؛ وهذا المؤتمر يهدف إلى استثمار مياه الأنهار الرئيسية في الشرق الأوسط، وكثير من هذه الأنهار تنبع من بلاد أخرى غالبها تحت قبضة الدول الغربية ويدور في فلكها. فتركيا -مثلاً- ينبع منها عدة أنهار هي التي تسقي البلاد العربية، وقد عقد هذا المؤتمر وجاء فيه: أن من الممكن أن تستثمر تركيا مياه الفرات، وتتحكم فيها وتبيعها إلى إسرائيل بكميات هائلة مقابل شيء آخر، وقد عرضت تركيا بيع هذه المياه على العرب مقابل النفط، وهى تعتبر المياه أهم من النفط، لأن النفط يمكن الاستغناء عنه بحال لكن الماء لا يمكن الاستغناء عنه وهذه الفرصة -فرصة بيع المياه التركية إلى إسرائيل- لو حصلت! لكانت مناسبة لدمج إسرائيل من الناحية الاقتصادية بالمنطقة العربية، عن طريق التعاون البريُ، كما يقال في قضية مصيرية كقضية استثمار المياه، كما تم التعاون من قبل في موضوع يعتبر بريئاً في نظرهم، وهو ما يسمى: موضوع "حماية البيئة". فإذا عرفنا -أيها الأحبة- أن العرب يعانون نقصاً في المياه بمقدار (44%) وأنه يتحكم في منابع المياه دول أخرى، عرفنا أن إسرائيل تتحكم في جزء كبير من الموارد المائية العربية، وأنها تخطط للهيمنة على مواقع المياه في البلاد العربية. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 36 كسر العزلة العالمية بين إسرائيل وبين بلاد العالم المكسب الثاني: هو كسر العزلة العالمية بين إسرائيل وبين عدد من بلاد العالم، مثلاً: روسيا وأوروبا كان هناك عزلة اقتصادية وعلمية بينها وبين إسرائيل؛ لكن الآن! هناك زيارات متبادلة بين المجموعة الأوروبية وبين إسرائيل، بعد أن كان جزءاً من الرأي العام الأوربي قد نبذ إسرائيل قبل أزمة الخليج، وذلك يعكس اتساع مجال التعاون بين الجانبين الإسرائيلي والأوروبي، والآفاق العريضة لتطويره في الأعوام المقبلة، إذ أن إسرائيل مرشحة لعضوية النادي الاقتصادي الأوربي، كما أننا نعلم جميعاً أن من ضمن التنازلات: أنها دشنت وأيدت قيام أكبر حركة تهجير لليهود السوفيت إلى إسرائيل حتى الآن، وبذلك كسرت إسرائيل طوق العزلة العالمية التي كانت تضرب عليها في عدد من بلاد العالم. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 37 تحريك الركود الاقتصادي لإسرائيل المكسب الثالث: هو تحريك الركود الاقتصادي الذي تعاني منه إسرائيل، وكان يهدد اقتصادها في كل لحظة ويوم، وهذا الركود الاقتصادي بطبيعة الحال -في إسرائيل- يؤثر على التسلح، خاصة ونحن نعلم أن سعر الأسلحة المتطورة قد ارتفع كثيراً، وأصبح من الصعب على إسرائيل توفيره في ظل ظروف الركود الاقتصادي الذي كانت تعيشه. ومن المعلوم أنه لكي يُضمن نجاح اقتصادي، ولكي يُضمن تقدم اقتصادي؛ لا بد من وجود استقرار سياسي، أي أن رءوس الأموال لا يمكن أن تهاجر من العالم إلى إسرائيل، وهى بلد قلق مضطرب يمكن أن يتغير أو تشن عليه حرب في أي لحظة فالناس لكي يستثمروا في إسرائيل، ولكي يحولوا رأس مالهم إلى إسرائيل، لا بد أن يضمنوا وجود قدر من الاستقرار السياسي والأمن الاقتصادي فيها؛ لتوظيف رءوس أموالهم التي يمكن أن تهاجر إلى إسرائيل، وهذا ما حصل ويحصل فعلاً، ولهذا لا غرابة أن تتحدث بعض الأنباء -التي نتمنى ألا تكون صحيحة- عن أن هناك شركات ومؤسسات عربية أبدت استعدادها لمنح بعض القروض لشركات يهودية من أجل تيسير وتوفير نفقات هجرة اليهود السوفيت، واليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل. إذاً حتى من العرب هناك من الأثرياء -الذين لا دين لهم ولا شهامة فيهم- من الممكن أن يفكروا تحويل رءوس أموالهم إلى الاستثمار في إسرائيل، ودعم مشاريع التهجير والتوطين في إسرائيل ذاتها، وهذه من أعظم المكاسب التي سوف تحصل عليها إسرائيل، خاصة ونحن نعلم -أيضاً- أن في ظل الهجرة اليهودية المكثفة إلى إسرائيل، لو وجد المهاجرون ظروفاً اقتصادية صعبة فمن الممكن أن يرجعوا، ويكون هناك ما يسمى بهجرة معاكسة أي خروج اليهود من إسرائيل إلى المكان الذي هاجروا منه. فإذا استقر الوضع اقتصادياً؛ كان هذا هو البيئة المناسبة لاستقبالهم واستقرارهم فيها؛ ولهذا لا تستغربوا إذا نادى شمعون بيريز وهو زعيم حزب العمل، إذا نادى بإمكانية أن يتخلى اليهود عن غزة، وأن يتخلوا عن بعض أراضي الضفة الغربية المكتظة بالعرب، لكي تدرج في اتحاد فدرالي أردني فلسطيني، وهذه فكرته! لماذا؟ قال: نحن نتخلى عن بعض حقوقنا ولكننا نكون بذلك قد أدينا واجباً تاريخياً تجاه أنفسنا. ستحافظ إسرائيل -كما يقول- على نقائها العرقي وهويتها الدينية من هؤلاء الدخلاء - ضع كلمة "الدخلاء" بين قوسين -فهو يعتبر العرب المسلمين دخلاء من الناحية العرقية ومن الناحية الدينية في مثل جو إسرائيل وبيئتها، ولذلك إذا تخلى عن هذه الأرض التي تكون فيها كثافة إسلامية وعربية؛ يكون قد تخلص من هؤلاء الدخلاء الذين يشكلون شيئاً غير مرضٍ، وغير مرغوب في النقاء العنصري الإسرائيلي -كما يزعم ويريد- وفى نفس الوقت فإنها تفتح أمام إسرائيل الأبواب المغلقة، وبذلك تستطيع إسرائيل كما يقول هو: أن تحكم العرب جميعاً وليس فلسطين وحدها. فالفرق بين زعماء إسرائيل -طبعاً هناك نظرة أخرى لبعض زعماء إسرائيل الذين يطالبون بعدم التخلي عن شبر واحد أو إصبع واحد من أرض فلسطين- ولكن الفرق بين هؤلاء وأولئك كما عبر أحدهم بقوله: الفرق بين زعماء إسرائيل هو فرق بين زعامتين زعامة عجولة متسرعة تريد أكل العرب والمسلمين بيدها وبسرعة، وزعامة أخرى متأنية بطيئة حكيمة، تريد أكل العرب والمسلمين بالشوكة والملعقة، وإلا هم متفقون على الأكل، لكن مختلفون على طريقة الأكل، فهناك من يطالب بأكلهم باليدين والتهامهم بسرعة وهناك من يقول: لا، نأكلهم بالتقسيط وبالشوكة والملعقة!! فمثلاً إسحاق شامير مثل الذي يريد أن يلتهمهم بكلتا يديه؛ لذلك لما استقبل المهاجرين السوفيت قال في لحظة من لحظات التجلي العاطفي الانفعالي وهو يرى جموع اليهود تفد إلى إسرائيل، فأصابه بذلك فرح غامر وسرور لا حدود له، فانطلق يتحدث على سجيته بعيداً عن الأساليب الدبلوماسية الرسمية يقول -وهو يخاطب المهاجرين: إن إسرائيل الكبرى من البحر إلى النهر هي حلمي وعقيدتي شخصياً، وبدون هذا الكيان لن تكتمل الهجرة ولا الصعود إلى أرض الميعاد، ولا أمن الإسرائيليين وسلامتهم. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 38 اعتراف العرب بإسرائيل المكسب الأول: هو الاعتراف الواضح المطلق بإسرائيل وحقها في الوجود، ولذلك يقول: بيريز في مقابلة مع جريدة الأهرام المصرية، عقب بداية مفاوضات السلام يقول: " العالم العربي قريب جداً من الاعتراف بإسرائيل، مما لا يعني فقط إنجاز السلام، بل شروق مرحلة جديدة أيضاً ". فمن مكاسب إسرائيل اعتراف العرب الواضح المطلق بإسرائيل، وحقها في الوجود، بل إنهم أصبحوا يعترفون بأن إسرائيل لها حقوق تاريخية في فلسطين، كما صرح بذلك الوفد المصري، بمعنى: أنهم لم يعودوا يقولون الآن، أن إسرائيل واقع لا مفر من الاعتراف به والتعامل معه، وقد فرضت نفسها بالقوة، كلا! بل أصبحوا يقولون: إن لليهود حقاً في أرض فلسطين، ويجب الاعتراف لهم بهذا الحق وإقرارهم عليه، والإذن ببقائهم وإعطائهم مطلق الاعتراف بالوجود في هذه البقعة والرقعة من الأرض، وسأتحدث عن هذه القضية إشارة بعد قليل. ولذلك يقول أحد المؤلفين -تعليقاً على هذه القضية-: " إن إجبار العرب على الصلح مع إسرائيل، هو هدف حيوي من أهداف السياسة الإسرائيلية، لا بد لها من السعي إلى تحقيقه، إذا أرادت التخلص من الوضع الشاذ، الذي يستحوذ عليها منذ مولدها عام (1948م) إلى الآن " يقول: إن إسرائيل لا تستطيع أن تعيش إلى الأبد مع جيران يعادونها ويرفضون الاعتراف بها، ويقاطعونها مقاطعة سياسية واقتصادية، مقاطعة لا هوادة فيها، ويهددون كيانها ويتربصون بها الدوائر، والنتيجة الوحيدة للوضع الشاذ لإسرائيل هي حرب مستديمة لا تتوقف فترة معينة، إلا لتنشب من جديد في فترة أخرى، والحرب تكلف إسرائيل نفقات ضخمة، وخسائر جسيمة في الأموال والأرواح، وهذا الأمر لا تطيقه إسرائيل إلى الأبد بحال من الأحوال. لذا حرص عقلاء اليهود حرصاً بالغاً على بقاء اليهود في الماضي مشتتين في أقطار الدنيا، وعلى عدم تجمعهم في فلسطين، لأن بقاءهم في بلاد كثيرة يقيهم من الفناء الذي يتعرضون له إذا تجمعوا في بلد واحد، ولأن العرب والمسلمين إذا ناموا ساعة، فلن يناموا إلى قيام الساعة! فإذا وجد العرب طريقهم وساروا عليه، فإنهم سيقضون على إسرائيل عاجلاً أو آجلاً. لقد توقع زعماء الصهاينة أن العرب سيرضخون للأمر الواقع بعد قيام إسرائيل عام (1948م) وسيعترفون بها، ولكن الحوادث أثبتت عكس ذلك، فإن حقد العرب والمسلمين المقدس -كما يقول المؤلف-: ازداد مع الأيام على إسرائيل شدة وإضراماً، وإن المسئولين العرب أول من يعرف استحالة الاعتراف بإسرائيل أو مصالحتها من قبل الشعوب، والذي يقدم على الاعتراف بها أو مصالحتها بين هؤلاء المسئولين، يخسر مكانته بين شعبه، وبين العرب والمسلمين، ثم يخسر سلطانه وحياته أيضاً لذلك لن يعترف المسلمون بإسرائيل مختارين أبداً، ولكي تجبر إسرائيل العرب على الصلح معها والاعتراف بكيانها لجأت إلى وسائل العنف، فاعتدت على الدول العربية العديد من المرات. إلى آخر ما في هذا المصدر. المقصود -على كل حال- إن من أهم وأعظم مكاسب إسرائيل: هو اعتراف العرب بها، وإقرارهم بوجودها، وأن لها الحق في أن تقيم في أرض فلسطين، وأن تنادي اليهود من كل مكان في الدنيا حتى يهاجروا إلى هذه البقعة والرقعة من الأرض الإسلامية. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 39 حجج المنادين بالسلام هناك بعض الناس يتحدثون عن ضغوط الواقع ويقولون: أنتم تتكلمون عن أمور بعيدة وقضايا خيالية، فكيف تستطيعون، وكيف تقولون: إن العرب والمسلمين يستطيعون مواجهة إسرائيل؟! ربما يكون السلام هو أفضل حل الآن، وربما يكون غياب العرب والمسلمين عن هذا المؤتمر خسارة لا تعوض لها، فلماذا لا يذهبون إلى مؤتمر السلام -وهم على فرض أنهم لم يكسبوا شيئاً- فنقول: أما الخسارة فقد تبين أنهم قد خسروا أشياء كثيرة، وسوف أتحدث أيضاً -كما أسلفت في موضوع التطبيع- عن مزيد من الخسائر الهائلة العقلية والأخلاقية والعلمية والاجتماعية، التي خسروها ويخسرونها، لكننا سوف نعالج بعض الحجج التي يطرحونها:- الجزء: 67 ¦ الصفحة: 40 هل السلام يقوي العرب على حرب إسرائيل؟! الحجة الثانية: يزعم البعض أن السلام ليس منزلاً من السماء، وأنه إذا تقوى العرب يستطيعون أن يحاربوا إسرائيل، فلا مانع أن يعقدوا الآن سلاماً وبعد ذلك يحاربون إسرائيل وهذا شيء عجاب! لأنني أقول: ليس هناك ما يدعو لاستعداد وأن يتقوى العرب إذا عقدوا معاهدة الصلح والسلام مع إسرائيل، إننا نعلم أن العرب خلال أكثر من خمسٍ وأربعين سنة كانوا في حالة حرب مع إسرائيل، وخاضوا فيها عدة معارك حامية الوطيس، ولا يزالوا يعتبرون إلى الآن في حالة حرب، قبل المفاوضات؛ مع ذلك لم يتقووا على الرغم أن الإمكانية في الماضي على التقوِّي والتسليح أكثر منها في الحاضر، فكانت إمكانية حصول العرب على السلاح -مثلاً- في ظل ما يسمى بالحرب الباردة بين روسيا وأمريكا، كانت إمكانية حصول المسلمين على السلاح أو العرب أقوى. أما الآن فبعد أن زال التوازن الدولي وسقطت الإمبراطورية السوفيتية؛ صار الحصول على السلاح أصعب، وفي نفس الوقت لم يعد العرب يشعرون بأهمية كبيرة للحصول على السلاح؛ لأنهم قد عقدوا معاهدة سلام مع إسرائيل، فكيف يظن الآن أنهم سوف يتقوون بعد ما أبرموا تلك الاتفاقيات؟! ثم إن السلام يعني أن يتحالف اليهود مع شركائهم في مقاومة أي توجهٍ إسلامي في البلاد العربية، والقضاء على ذلك، وهذا هدف مشترك للجميع! فلا يتصور أبداً أن العرب سوف يحصلون على السلام أو إنهم سوف يعملون على أن يتفقوا في ظل مثل هذه الظروف، كما أننا نعلم أن بعض المتحدثين عن السلام والمطالبين به يقولون: إن السلام فرصة للإنفاق على ما يسمونه بالتنمية، يقولون: إننا نريد أن نقلل من نفقات الدفاع والتسليح، لماذا؟ قالوا: نريد أن ننفق على التنمية نريد للناس أن يأكلوا الخبز والعيش، فقد ماتوا؛ لذلك عقدنا السلام حتى نقلل من نفقات التسليح ونوجهها إلى التنمية! فإذا كان الأمر كذلك فكيف نظن أن السلام -كما قالوا قبل قليل- فرصة للتقوي على العدو، إذا كانوا يعتبرونه فرصةً لتقليل التسليح؟! ولعله ليس سراً أن تعلموا أن شروط بوش بعد حرب الخليج في نزع السلاح من دول الشرق الأوسط، أن هذه الشروط لا تمس إسرائيل من قريب ولا من بعيد، لأنها لا تتحدث عن الأسلحة المتطورة التي يملكها اليهود، وإنما تتحدث عن الأسلحة التي يحاول العرب -أحياناً- أن يمتلكوها؛ فشروطه تزيد الضعيف ضعفاً ولكنها تسمح لإسرائيل أن تكسب مزيداً من الأسلحة النووية، وما يسمى بأسلحة الدمار الشامل. إذاً: هناك تناقضات بين من يطالبون بالسلام من أجل التسليح، وفى نفس الوقت يطالبون به لمزيد من الإنفاق ما يسمونه بالتنمية، كما أن هناك من يقولون: إن لإسرائيل حقاً تاريخياً في البقاء في هذه الأرض , إن لليهود حقاً تاريخياً للبقاء في أرض فلسطين. وأقول: أولاً: الوجود في فلسطين هو لأتباع الأنبياء الصادقين، سواء كانوا أتباعاً لموسى أو لداود أو لسليمان أو لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فليست القضية هي قضية يهود؛ وإنما قضية أتباع الأنبياء والرسل؛ ولهذا قال موسى عليه الصلاة والسلام لقومه: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] إذاً: ليست العاقبة لليهود باعتبارهم جنساً معيناً أو عرقاً معيناً، أو في عروقهم دم، لا! فالعاقبة للمتقين، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده، يورثها المتقين كما هو ظاهر هذه الآية ونصها وروحها. إذاً: فلسطين وغيرها من البلاد هي لله يورثها من يشاء من عباده، وهى وراثة للمؤمنين المسلمين الصادقين كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] . أمر آخر إن بقاء مجموعات وحفنات من أهل الكتاب من اليهود أو النصارى أو غيرهم، تحت ظل حكم إسلامي في أرض هم مقيمون فيها أصلاً، هذا أمر ممكن وقد جاء النبي إلى المدينة وفيها يهود فأقرهم بمقتضى معاهدة أبرمها معهم، كما هو معروف في السيرة وله دلائل تشهد على ثبوته وصحته. فمن الممكن أن يقر المسلمون وجود حفنات من اليهود أو النصارى، تحت ظل حكم إسلامي وفق الشروط الشرعية، كالشروط العمرية وغيرها، -وهذا تكلم عنه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تفصيلاً في كتابه أحكام أهل الذمة أما أن يكون الحكم لليهود وأن يكونوا في حالة حرب مع المسلمين أيضاً؛ فإن هذا لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال. نقطة ثالثة: إذا كان الأمر كذلك وكانت المسألة مطالبة بحقوق تاريخية؛ فمعنى ذلك أنه يجب على الشعب الأمريكي الذي يدعم إسرائيل الآن بلا حدود، ويتفانى في خدمتها؛ يجب على الشعب الأمريكي إن يخلي الولايات المتحدة الأمريكية، ويذهب إلى أماكن وجوده الأصلية في أسبانيا وبريطانيا وألمانيا وغيرها، ويترك أمريكا للهنود الحمر، وغيرهم ممن كانوا مقيمين فيها أصلاً؛ وعلى ذلك يجب إعادة خريطة العالم من جديد؛ إلى ما كان عليه قبل ألف سنة أو قبل عشرة آلاف سنة!! الجزء: 67 ¦ الصفحة: 41 إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني الحجة الأولى: معاناة الشعب الفلسطيني المشرد، الذي قد أوذي واضطهد من قِبَلِ الأصدقاء قَبْلَ الأعداء، وصارت له مجازر في البلاد الإسلامية، وصار ضحية هجمات شرسة من هذا الحاكم أو من ذاك؛ فيقولون: هذه المعاناة الطويلة إلى متى تستمر؟! وهل تريدون من هذا الشعب أن يظل مشرداً بلا وطن ولا مأوى؟! متى يعود هذا الشعب إلى أرضه وإلى بلاده، وإلى شجره وإلى المكان الذي ولد فيه؟! و السؤال هل سيحل المؤتمر هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني؟! من قال: إن هذا المؤتمر سوف يحل هذه المعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، حتى على فرض وجود دولة فلسطينية، تحت المظلة الإسرائيلية؟! فمن قال: إن هذا يعني أن الشعب الفلسطيني قد انتهت معاناته وآلامة؟! لماذا لا نكون صرحاء؟! ألا نعلم أن الشعوب الإسلامية، أكثرها تعاني من الاضطهاد والمضايقات، حتى دون أن تطرد من بلادها؟ فكم لقيت الشعوب التي زج بها في غياهب السجون؟! وكم لقيت الشعوب التي يؤخذ أبناؤها ولا تدري إلى أين، ولا تعرف ما مصيرهم؟! وكم حوربت الشعوب في أرزاقها؟! وكم منعت عنها أقواتها؟! وكم ضويقت؟! وكم كتمت أنفاسها، حتى وهي شعوب تعيش في بلادها، وفي أرض ميلادها وبين أهلها وأولادها؟! وتعيش تحت ظل شجرها، ونخيلها وتينها وزيتونها وغير ذلك! ونحن نعرف أن عدداً من الدول العربية تصدر تقارير، تدل على أن الشعوب التي تعيش تحت ظل ذلك القهر تعيش ذلك الوضع! نستطيع أن نقول: إن الفلسطينيين في إسرائيل ربما يكونون أخف وأهون حالاً منه، مع الأسف الشديد!! إذاً: فليست القضية قضية الشعب الفلسطيني فقط، بل هي قضية الأمة الإسلامية في أكثر بقاعها، حيث تواجه من ألوان المضايقات والاضطهاد -في أقواتها وأرزاقها- وقبل ذلك في دينها أيضاً تواجه الشيء الكثير! فالمعاناة واحدة والهم واحد وكما قيل: بكيت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق كلنا في الهم مسلمون. ثم لنفترض أن الشعب الفلسطيني يعيش معاناةً لا يعيشها غيره من الشعوب العالمية والعربية والإسلامية أهذا هو الحل العاجل الذي ينتظرونه ويتربصونه، الذي يتمثل بوجود دولة مسخ لهم تحت مظلة إسرائيل، دولة منزوعة السلاح دولة في أي صورة من الصور هذا الحل العاجل الضعيف هل هو الحل العاجل الصحيح؟! أم أن صبر هؤلاء -على معاناتهم وتحملهم لما يقاسونه الآن، ولما تحملوه طيلة خمسةٍ وأربعين سنة، وتحملهم ذلك مزيداً من السنوات ربما يكون سبباً في حل بعيد، لكنه حل جذري وحل قوي، يضمن الحقوق الكاملة، ليس للشعب الفلسطيني فقط، بل للمسلمين في كل مكان. إن هناك شعوباً كثيرةً تعاني من الاضطهاد، فشعب إسرائيل نفسه -قبل قيام دولة إسرائيل- كان شعباً مضطهداً في كل مكان، وكانوا أقليات مشردة ولعلكم تعرفون ما لقيه اليهود على سبيل المثال في ألمانيا الهتلرية، حيث لقوا من ألوان الاضطهاد ما يكون أشبه بالأساطير، وهناك وثائق تدل على أنه حصل شيءٌ من ذلك، صحيح قد يكون ضُخِّم لمصالح إسرائيلية، لكن حصل من ذلك الشيء الكثير، وحوربوا في بريطانيا نفسها وأمريكا وفي أكثر من مكان، وكانوا ينظر إليهم نظرة ازدراء واحتقار. ومن عمق المأساة والمعاناة التي واجهها شعب اليهود، انبثق الحل، وأدركوا أنه لابد من وجود دولة تحميهم وتدافع عن حقوقهم، فقد ظلوا في التيه زماناً طويلاً ثم تجمعوا في فلسطين. فلا مانع أن نقول: إن عمق المأساة والمعاناة التي يعانيها الشعب الفلسطيني، أو الشعب المسلم في أي بلد مسلم آخر كالعراق -مثلاً- أو ليبيا أو غيرها من البلاد التي بالغوا في اضطهاد المسلمين ومضايقتهم، وأن هذا الاضطهاد قد يكون بداية الحل، لأنه أقرب ما يكون الفجر عندما يشتد الظلام: اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج الجزء: 67 ¦ الصفحة: 42 رفع معاناة الفلسطينيين مقابل ماذا؟؟ هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الشعب الفلسطيني على فرض أنه سوف يزول -فعلاً- في مقابل فتح أسواقنا الإسلامية والعربية لبضائع إسرائيل، وتيسير السبل للتعاون والتكامل الاقتصادي بين إسرائيل وبين جيرانها من العرب؟! هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، مقابل فتح السفارات في جميع البلاد العربية، -ومن المعروف أن تلك السفارات ستكون أوكار التجسس الإسرائيلي على الشعوب الإسلامية، وعلى العلماء وعلى الدعاة وعلى الحركات الإسلامية في كل بلد عربي وإسلامي؟! هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، مقابل استقبال آلاف السائحين المخربين المصابين بأمراض الإيدز وغيرها، من الأمراض الجنسية ونقلهم هذه اللوثات إلى البلاد العربية والإسلامية؟! هل ترانا نسمح بزوال ذلك مقابل انتشار عملية التزوير وترويج المخدرات، التي كانت في عام (1988م) (76%) منها في مصر، وتتم على أيدي يهود جاءوا تحت مظلة السياحة. هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين مقابل ضياع شبابنا؟! ففي عام (1990م) صدر قرار عالٍ رفيع المستوى، يؤكد أن الموساد -وهو المخابرات الإسرائيلية- وراء كل المخططات التي تهدف إلى تدمير الشباب المصري، وقال: إن السواح كثيراً ما يقيمون في فنادق متواضعة من الدرجة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة، أو فوق غرف أسطح المنازل أو في ضيافة الشباب العزاب، وخاصة حين يكون مع السواح الإسرائيليين نساء وفتيات، وارتفع عدد المدمنين في مصر إلى أكثر من مليوني مدمن، وأرجع التقرير ذلك إلى النشاط اليهودي؛ هذا فضلاً عن ترويج الأفلام والكتب التي تنشر اليأس والقنوط بين الناس، وتجعل إسرائيل واقعاً لا سبيل لإزالته، وتدعو إلى الرذيلة، وإلى التحلل من القيم الدينية والأخلاقية تحت ستار الحرية والترويح عن النفس. هل ترانا سنسمح بزوال التشريد والتطريد عن الشعب الفلسطيني؛ مقابل أن تسعى إسرائيل لتدمير طاقات البلاد الإسلامية والقضاء على مواردها الاقتصادية والزراعية وغيرها، كما حصل في مصر مثلاً؛ فقد عثرت أجهزة الشرطة على مئات الأطنان من البذور والأسمدة والمخصبات الفاسدة والملوثة بالمكروبات، وعثروا على مئات الطرود من الطيور وخلايا النحل المصابة بالأمراض؛ كما أكدت التقارير التي أجرتها السلطات المصرية تسرب شحنات كثيرة من الأغذية الملوثة بالإشعاع النووي، والتي جاءت إلى مصر عن طريق بعض الشركات الإسرائيلية أو الشركات المتعاونة مع إسرائيل؟! وهل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، في مقابل تحريم التعرض لليهود -في البلاد الإسلامية- في أي برامج إعلامية، أو فصل مدرسي أو مسجد أو منبر، بل حتى الآيات التي تتحدث عن اليهود تمنع قراءتها في الإذاعة والتلفاز، بحجة أنها تسيء إلى العلاقات مع اليهود -وربما يقال يوم من الأيام مع الأشقاء- فطالما تقدمت السفارة الإسرائيلية باحتجاجات لوزارة الخارجية المصرية على شيء من هذا القبيل، أنه قرئت آيات شديدة على بني إسرائيل؟! هل ترانا نسمح بزوال التشريد والتطريد عن الفلسطينيين، في مقابل إعطاء الفرصة لليهود وللإعلام اليهودي بمزيد من التحريض؛ تحريض المتنفذين في البلاد العربية الإسلامية وعلى الدعوة الإسلامية، وعلى رجالها وعلى العلماء، وعلى الدعاة والمصلحين، بمعنى آخر: يقول مسئول مصري كبير -عندما التقى بمسئول ونظير له من الاتحاد السوفيتي- " من أهم القضايا التي تم الاتفاق عليها، وضع خطة لمواجهة المد الأصولي " -هذا بين مصر وبين الاتحاد السوفيتي- وفي نفس الموضوع زار الاتحاد السوفيتي وزير حج وأوقاف ما، ونشر في مجلة تصدر عن وزارة الحج والأوقاف ذاتها تقول: " إن من القضايا التي تم دراستها، سبل القضاء على الأصوليين وعلى التطرف الديني ". إذاً الدول العربية تتحادث مع روسيا الملحدة في كيفية مقاومة التيار الديني -سَمَّه التيار الأصولي، سمّه التطرف، سمّه العنف، سمّه ما شئت- فهل يتكرر هذا مع إسرائيل، وتصبح إسرائيل هي الذراع الأخرى لبعض البلاد التي تحارب الإسلام باسم محاربة العنف، ومقاومة المد الأصولي وغير ذلك؟! هل تعلن إسرائيل تحالفها مع بعض تلك الأنظمة، بمقاومة التيار الديني؟ يقول بعض الصحفيين الإسرائيليين: " عشرات الشباب المصريين الذين كانوا يرتدون الجنز، أصبحوا يرتدون الجلاليب الآن، ويقضون أوقاتهم في المساجد، فيما احتجبت فتيات مصر الجميلات، وأصبحن يرتدين الملابس المحتشمة ". إذاً هم من خلال صحافتهم وإعلامهم يحرضون الحكومات -وهي لا تحتاج إلى تحريض- على أي حركة أو نشاط إسلامي في داخل بلادهم. هل ترانا نسمح بزوال التشريد عن الفلسطينيين، في مقابل السماح للثقافة الإسرائيلية أن تنتشر في عقولنا وفي بلادنا وبيوتنا وإعلامنا -كتب وأفلام ودوريات وموسوعات وبرامج إذاعية وتلفازية- فذلك نتيجة طبيعية جداً للتعاون الثقافي بين إسرائيل وبين جاراتها، ومشاركة إسرائيل في معارض الكتب التي أقيمت في مصر، هي أبلغ شاهد على ذلك. أم ترانا نسمح بذلك؟! في مقابل تحقيق حرية التنقل لمواطني وسيارات الدول الأخرى والدخول من قبل كل من الطرفين إلى الطرف الآخر، حتى إلى الأماكن ذات القيمة والتاريخية، دون أي تميز كما ذكرت قبل قليل، أي أنهم لا يريدون أن يدخلوا إلى المساجد، من باب السياحة، بل يعتبرون هذه مناطق دينية من حق اليهودي أن يدخلها كما يدخلها المسلم. وأن نسمح لسفن اليهود بالمرور من المياه الإقليمية طبقاً لما يسمى بالقانون أو قواعد القانون الدولي كما هو من ضمن مطالب إسرائيل، ومن ضمن اتفاقياتها مع مصر، كما يزعم البعض. فهذه القضية الأولى يقولون ذلك من أجل إزالة معاناة الشعب الفلسطيني؛ ونحن نقول: المعاناة أكبر من ذلك وحلها لن يتم من خلال مؤتمر السلام، والقضية أننا سوف ندفع خسائر كبيرة حتى لو افترضنا إن معاناة الشعب الفلسطيني سوف تزول بالكلية، لا يتصور عاقل أننا سوف نقبل بذلك، مقابل أن تنتقل المعاناة إلى الشعوب الإسلامية بأسرها. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 43 ما هو المخرج؟ وما هو الحل؟ يتساءل كثيرون ويقولون: صحيح أن السلام فيه وفيه؛ لكن نحن لا نجد أمامنا مخرجاً عن هذا السلام وفى الواقع أنني ذكرت عدداً من الحلول السريعة، وأيضاً سوف ألقيها بسرعة مراعاة لضيق الوقت؛ وهذه الحلول سوف تلاحظون أنها غير مرتبة، ولكنها بلا شك تعبر عن جانب من الحل الذي يجب أن يفكر فيه المسلمون الآن، وبعد الآن. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 44 ضرورة التوعية العامة من الحلول -أيضاً- وهي مهمة: ضرورة التوعية العامة وبكافة الوسائل على كافة المستويات: الطلاب والعامة والخاصة والشباب والأطفال، وبكافة الوسائل الممكنة: بالكتاب والشريط والمقالة والمحاضرة والدرس والخطبة والندوة والأمسية والقصيدة بالقصة بالكلمة حتى بالحديث الشخصي، التوعية العامة في قضية السلام ومدلولات السلام ومخاطر السلام وما وراء السلام وحقيقة العداء مع اليهود وترسيخ عقيدة البراءة من المشركين، التي جاء بها الإسلام، والبراءة من أهل الكتاب، في نفوس جميع المسلمين، من الناشئة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، فلابد من عقد لقاءات وندوات ومحاضرات ودروس وخطب، وبرامج مكثفة لهذا الغرض. ولذلك يتساءل البعض يقول: ماذا نصنع؟! هل نذهب لنقيم حرباً؟! لا يا أخي! لماذا نحن نتكلم في وادٍ، وأنت في وادٍ آخر؟ أو بعض الناس يقول: ما الداعي أن تثير هذا الموضوع وتتكلم؛ ما لنا حل ولا بأيدينا حل؟ يا أخي: على أقل تقدير أن يكون بيدك أن تكون واعياً، أن تعرف أنت حقيقة الوضع، فمصيبتنا فيك الآن، وليست مصيبتنا في أولئك الذين ذهبوا إلى مدريد أو غيرهم فأولئك قد غسلنا أيدينا منهم منذ زمن، وعرفنا ما عندهم وماذا وراءهم، لكن بقيت أنت! أصبحت في بعض الحالات مؤيداً أو على الأقل أصبحت في غشش لا تدري حقيقة الأمر، وهذه مصيبة! هذه كارثة! فنحن نريد منك أن تكون ذا عقل واع بما يراد وما يدار، هذا من ناحية؛ الناحية الأخرى، أن تفرغ هذه العلوم وهذا الوعي وهذا الإدراك، أن تفرغه فيمن حولك بكافة الوسائل؛ حتى تكون الأمة واعية؛ لأنه إذا كانت الأمة تعتقد أن مؤتمر السلام هو نهاية المطاف، وأنه إبداع لا يمكن أن تتصوره معنى ذلك أن الأمة بلغت قمة المجد وقمة التقدم، وأنه عليها أن تتوقف عند مؤتمر السلام. لكن إذا شعرت الأمة أن مؤتمر السلام، هو حصيلة سنوات من الهزيمة والإحباط، والذل والتسلط والقهر الذي عاشه الشعب الفلسطيني، وعاشته معه شعوب عربية وإسلامية أخرى، أدركت أن هذا خطأ، هو سلسلة من أخطاء كثيرة صحيح أنا وأنت لن نوقف مؤتمر السلام، وصحيح أننا لن نوقف مؤامرة قد لا نستطيع أن نوقفها؛ وإن كان المؤمن عنده ثقة بأنه يستطيع أن يعمل الكثير، ولا يتهرب من المسئولية ويقول: المسئولية مسئولية غيري علي كل حال هذا نظرة سريعة، والوقت لا يتسع للإفاضة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 45 العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية ومن الحلول: العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية في جوانبها المختلفة، دعمها من الناحية الشرعية والأخلاقية، ورفع الروح المعنوية، وتربيتهم على الفضائل، وإحياء الشوق في قلوبهم إلى الجهاد والشهادة في سبيل الله عز وجل، وحمايتهم من تيار الرذيلة الذي يجتاحهم الآن؛ فإننا نلاحظ أن المتدين يلاحق في أكثر من جيش، ويحاصر وترسل له التهديدات وقد يفصل، ونجد أن الجندي العادي يخضع لألوان من الإفساد الفكري والخلقي، وتهيأ له أسباب الرذيلة من الخمور والدعارة وغيرها، بكافه الوسائل؛ ولعل إدخال بعض الجيوش العربية عنصر المرأة في مجال الجيش وفى مجال الشرطة وغيرها، هو تمهيد لما يسمونه ترفيه بريء من خلال الجيش نفسه! فمن المعروف ما هي مهمة تلك النوعيات من النساء التي تساهم في الجيوش! كما إننا نجد كثيراً من هذه الشعوب وهذه الجيوش تتعرض لغسيل مخ، بحيث يصبح كل ما في عقله: هو الدفاع عن منجزات الحزب، أو منجزات الزعيم أو ما أشبه ذلك، وربما لا يدري أصلاً لماذا يقاتل؟! بل ربما تصير القضية عند كثير منهم قضية وظيفة وقضية أكل عيش فقط -وهذا هو الأغلب- فصار عندهم شعور بعدم المبالاة، شعور باليأس من جميع الشعارات، فكل الأقوال التي يسمعونها، وكل الكلمات التي تردد أمامهم صارت في أذهانهم لا قيمة لها، وصاروا يعتقدون أن الجميع مهرجون ومطبلون ومزمرون، وأنك يجب أن تكون واحداً من هؤلاء ولا غير، وأن الدنيا لا يمكن أن تتغير بك أنت بمفردك. فلابد إذاً من العناية بدعم الجيوش العربية والإسلامية:- أولاً: من الناحية الشرعية والأخلاقية ورفع الروح المعنوية وتحديد الهدف، الذي يقاتلون من أجله، وهو حماية الدين، وحماية الأرض الإسلامية. الناحية الثانية: تكثيف عددهم بما يكفي لسد حاجة الأمة في الدفاع عن نفسها، والاستغناء عن عدوها والقدرة على مقاومة العدو، أو رده أو ردعه. إن المسلمين كثير، ولو أن كل مسلم وجه نفخة لإسرائيل لطارت في الهواء! ولو أن كل مسلم بصق على إسرائيل لأغرقوها! ولكننا نجد أن المسلم لا يملك حتى نفخة يوجهها إلى إسرائيل، ولذلك تقول بعض الدراسات، وبعض القواعد العسكرية، تقول: إن (10%) من تعداد كل أمة قادرة على حمل السلاح، وإذا تصورنا أن العرب يتوقع في القرن القادم أن يكون عددهم أكثر من (250 مليوناً) -هؤلاء العرب فقط- أما المسلمون فإحصائياتهم تقول إنهم ألف ملبون -هذا حسب الإحصائيات الرسمية- ومعنى ذلك أنه باستطاعة العرب -الآن وعددهم مائتا مليون- حشد عشرين مليون مقاتل، وفى المستقبل باستطاعتهم حشد (45 مليون) مقاتل، أما المسلمون فباستطاعتهم حشد أكثر من (70 مليون) مقاتل للحرب، ونفوس اليهود اليوم لا تزيد عن مليونين ونصف أو ثلاثة ملايين، فأين تصبح إسرائيل لو صدق المسلمون ما عاهدوا الله عليه؟! النقطة الثالثة: فيما يتعلق بإعداد الجيوش العربية والإسلامية: هو أن يعرف الجندي موقعه، ويعرف أين يوجه البندقية؛ وذلك أنه يجب أن يوجه بندقيتة إلى عدوه وليس إلى صدور مواطنيه؛ فإن الجيش لا يستخدم للتهديد في النزول في الأسواق والشوارع -مثلا- لقمع المظاهرات وأعمال العنف؛ ولكنه يستخدم لحماية الحدود من المغيرين الكافرين، وحفظ المكتسبات الإسلامية، وحماية الحرمات والدفاع عن الأعراض. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 46 تحديد اتجاه الفلسطينيين وموقعهم من الحلول أن يعرف الفلسطينيون موقفهم -فهم أصحاب القضية الرئيسيون، وأن يحددوا اتجاهاتهم، وألا يسمحوا لزعامتهم المضللة أن تجعلهم ألعوبة في يد الحكام- فإذا أراد هذا الحاكم الانشقاق انشقوا، وإذا أراد الوحدة تصالحوا وتعانقوا؛ يوماً يذبحهم هذا، ويوماً يذبحهم ذاك -فلا يقبلون إلا أن يكون الإسلام هويتهم ومنهجهم وأصلهم ومنطلقهم، يربون عليه أبناءهم، يغرسونه في نفوس الناشئة، ويغرسون فيها نفوس التضحية والفداء والبذل، ويعمقون روح العداوة للكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، وما لا يتم الآن يمكن أن يتم بعد عشرين سنه أو ثلاثين سنة؛ فمعركتنا مع عدونا ليست معركة اليوم، بل هي معركة الأمس ومعركة اليوم ومعركة الغد، فكم من الشعوب اضطهدت وشردت وطُرِدَتْ، ومع ذلك استطاعت أن تبني نفسها بناءً صحيحاً؛ فمن كهف الاضطهاد والتشريد، يولد التحدي، التحدي الذي يفجر الإبداع يفجر التخطيط. فهناك مسئولية كبيرة على الشعب الفلسطيني، وخاصة على الواعين المسلمين اليقظين فيه، أن يعملوا عملاً جاداً على إعادة هذا الشعب إلى دينه، وتصحيح عقيدته، وجمع كلمتهم على الهدى، والحق والتوحيد، وأن يعرفوا أن كل الأبواب موصدة أمامهم، إلا باب الإيمان والرجوع إلى الله تعالى، والتجمع لا على أساس شعار طائفي، أو يساري أو علماني أو غير ذلك، وإنما على أساس إسلامي رباني، فإذا فعلوا ذلك فإن الأرض لله تعالى يورثها من يشاء من عباده، ونقول كما قال موسى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] . 10-5 ضرورة التوعية العامة:- من الحلول أيضاً وهي مهمة: ضرورة التوعية العامة على كافة المستويات، وبكافة الوسائل على كافة المستويات: الطلاب العامة الخاصة الشباب الأطفال، وبكافة الوسائل الممكنة: بالكتاب بالشريط بالمقالة بالمحاضرة بالدرس بالخطبة بالندوة بالأمسية بالقصيدة بالقصة بالكلمة حتى بالحديث الشخصي، التوعية العامة في قضية السلام ومدلولات السلام ومخاطر السلام وما وراء السلام وحقيقة العداء مع اليهود وترسيخ عقيدة البراءة من المشتركين، التي جاء بها الإسلام، والبراءة من أهل الكتاب، في نفوس جميع المسلمين، من الناشئة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، فلابد من عقد لقاءات وندوات ومحاضرات ودروس وخطب، وبرامج مكثفة لهذا الغرض. ولذلك يتساءل البعض يقول: ماذا نصنع؟! هل نذهب لنقيم حرباً؟! لا يا أخي! لماذا نحن نتكلم في وادٍ؟ وأنت في وادٍ آخر، أو بعض الناس يقول: ما الداعي أن تثير هذا الموضوع وتتكلم؛ ما لنا حل ولا بأيدينا حل؟ يا أخي: على أقل تقدير أن يكون بيدك أن تكون واعياً، أن تعرف أنت حقيقة الوضع، فمصيبتنا فيك الآن، وليست مصيبتنا في أولئك الذين ذهبوا إلى مدريد أو غيرهم فأولئك قد غسلنا أيدينا منهم منذ زمن، وعرفنا ما عندهم وماذا ورائهم، لكن بقيت أنت! أصبحت في بعض الحالات مؤيداً أو على الأقل أصبحت في غشش لا تدري حقيقة الأمر، وهذه مصيبة! هذه كارثة! فنحن نريد منك أن تكون ذا عقل واع بما يراد وما يدار، هذا من ناحية؛ الناحية الأخرى، أن تفرغ هذه العلوم وهذا الوعي وهذا الإدراك، أن تفرغه فيمن حولك بكافة الوسائل؛ حتى تكون الأمة واعية؛ لأنه يا أخي: إذا كانت الأمة تعتقد أن مؤتمر السلام هو نهاية المطاف، وأنه إبداع لا يمكن أن تتصوره معنى ذلك أن الأمة بلغت قمة المجد وقمة التقدم، وأنه عليها أن تتوقف عند مؤتمر السلام، لكن إذا شعرت الأمة أن مؤتمر السلام، هو حصيلة سنوات من الهزيمة والإحباط، والذل والتسلط والقهر الذي عاشه الشعب الفلسطيني، وعاشته معه شعوب عربية وإسلامية؛ أخرى أدركت أن هذا الخطأ، هو سلسلة من أخطاء كثيرة صحيح أنا وأنت لن نوقف مؤتمر السلام، وصحيح أننا لن نوقف مؤامرة قد لا نستطيع أن نوقفها؛ وإن كان المؤمن عنده ثقة بأنه يستطيع أن يعمل الكثير، لكن إلا يتهرب من المسئولية ويقول: المسئولية مسئولية غيري علي كل حال هذا نظرة سريعة، والوقت لا يتسع للإفاضة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 47 إيقاف سياسة التضليل الإعلامي ومن الحلول: إيقاف سياسة التضليل الإعلامي؛ التي مسخت عقول الناس، وجعلتهم لا يعتقدون إلا ما يعتقده الزعيم المناضل، أو الرئيس الملهم، وجعلتهم صورة طبق الأصل بعضهم لبعض، فهم نسخ مكررة ولكنها أيضاً مزورة، ليس لديها إبداع ولا تفوق ولا تصميم ولا أمل ولا طموح فماذا تعتقد في إنسان صودر منه أعز ما يملك -صودر عقله- كيف سيفكر؟! كيف سينظر للأمور؟! لقد أوجدت هذه الأجهزة عند الناس شعوراً عميقاً بالإحباط وخيبة الأمل واليأس القاتل المدمر. إنه لابد من إعادة الثقة إلى الشعوب ومكاشفتها بالحقائق، وجعل الصورة واضحة أمامها , ونحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المؤيد بالوحي من السماء والذي يستحيل أن يحصل زعيم في الدنيا سابقاً أو لاحقاً على ما كان يمنحه المسلمون لرسول الله من الحب والإكبار والثقة وغير ذلك أو يدانيه أو يقاربه؛ ومع ذلك نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبين الحقائق واضحة لأصحابه، ويشاورهم فيها كما استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في صلح الحديبية، وقال في معركة أحد {أشيروا عليَّ أيها الناس} وكما شاورهم حين استشار الأنصار السعدين وغيرهم، وفي قضية الأحزاب لما أراد أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة, ولم يكن أحد أكثر مشاورة من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وبلا شك أن مشاورته عليه الصلاة والسلام، لم تكن مشاورة في جو تعتيم وتضليل وتغييب الحقائق، لا، بل كانت في جو كشف كامل للحقائق، كان يقول: لهم هذا هو الواقع وهذه هي الحقيقة، وماذا ترون؟ أرأيت إذا وجدت أُمَّةً عندها استعداد أن تموت حفاظاً على حياضها وذوداً عن دينها وحمايةً لأعراضها، وفرحاً بالموت في سبيل عقيدتها، لماذا تحول بينها وبين الموت؟! إذا كنت تعتقد أن ميدان المعركة ليس هو الآن، وأنه غير مناسب؛ فهلم إلى ميدان الجهاد في مجال الصناعة في مجال العلم، في مجال السياسة، في الميدان الاجتماعي، في ميدان الإعداد العسكري. هلم إلى تحريك هذه الشعوب لتشارك في الإعداد في هذه الميادين , هل نحن صادقون فيما ندعيه من أننا عاجزون؟! هل حاولنا الخروج من هذا النفق؟! هل بدأنا؟! بل هل سمحنا لأصحاب الهمم العالية -أصحاب الطموح، أصحاب المواهب، أصحاب الإمكانيات- هل سمحنا لهم أن يقدموا خدماتهم وإمكانياتهم؟! هل هو سر أيها الأحبة؟! إنه ليس سراً فهو يكتب في الصحف؛ بل في عشرات الكتب! إن من أعظم المآسي التي تشهدها الساحة العربية والإسلامية اليوم … ما يسمى بهجرة العقول العربية إلى بلاد الغرب، التي تتحدث عنها المجامع العلمية، والنشرات، هجرة العقل الإسلامي، حيث لا يجد المناخ المناسب في تلك البلاد، فيهاجر إلى هناك ويصب في بحر يخدم المصالح الغربية. فمتى نغري هذه العقول الفذة النادرة العبقرية متى نغريها بالعودة إلى قواعدها سالمة؟ ومتى نؤويها؟ ومتى نوفر لها البيئة المناسبة والمناخ المناسب، سواء من الناحية المادية أو الإغراء المادي، أو من الناحية المعنوية والحفاظ على كرامتهم وحقوقهم الإسلامية والإنسانية؟!! الجزء: 67 ¦ الصفحة: 48 عدم محاربة الشعوب الإسلامية في أرزاقها من الحلول أيضاً: ألا تحارب الشعوب الإسلامية في أرزاقها أيضاً، فإن الفقر كاد أن يكون كفراً كما جاء في المثل -وإن تجويع الشعوب العربية والإسلامية يحولها إلى أنعام، همها السعي وراء لقمة العيش؛ فهي كالقطعان التي لا تبحث إلا عن المرعى، ولقد اعتمد كثير من المتنفذين على شعوب المسلمين، وخاصة في البلاد الفقيرة على سياسة التجويع والإفقار، وتعقيد سبل البحث عن الوظيفة أو البحث حتى عن الخبز، وهذه الطوابير المتراصة الطويلة التي لا ترى طرفها في بعض البلاد -تستهلك أوقات المواطنين وتشغلهم بالهم القريب عن الهم البعيد والهموم الأخرى، فهو لا يهتم بتعليم دينه في كثير من الأحيان، ولا يعرف عقيدته، لا يهتم بأخلاقه وأخلاق بيته وأسرته وذويه، ولا يهتم بهموم أمته لأنه مشغول بالهم القريب الذي هو فطري في الأصل هم الطعام والشراب، هم فطري لا يلام الإنسان بالاهتمام به، لذلك كان من مهمات الحاكم في الإسلام، توفير القوت والطعام والشراب والكساء والغذاء للإنسان حتى يعبد الله تعالى في جو هادئ، حتى يعرف مسئوليته والواجب عليه. أما أن تجوعه وتفقره ثم تطالبه بعد ذلك؛ فهذا لا يمكن أن يكون! على كل حال ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكننا حين نحول الإنسان إلى باحث عن الوظيفة أو عن القرش أو عن لقمة الخبز نكون قد مسخنا إنسانيته وأهدرنا كرامته، وقضينا على كل معاني الرجولة والإباء والشهامة فيه، ومن قبل عرف المنافقون ذلك فكانوا يقولون، كما حكى الله تعالى عنهم: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون:7] فيعرفون أو يظنون أن الشح في الإنفاق، سبب في الانفضاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما علموا أن خزائن السماوات والأرض لله، وأنهم إن أمسكوا هم، فإن الله تعالى يبسط يده على عباده المخلصين الصادقين، ويرزقهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه ابن عمر: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة، حتى يعبد الله وحده ولا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظل رمحي، وجُعِل الذل والصغار على من خالف أمري} . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 49 تخلي الحكومات بين شعوبها وبين الإسلام من الحلول: أن تخلي الحكومات بين شعوبها وبين الإسلام، فتوقف الحرب على شعائر الدين وعقائده وأخلاقه وقيمه الاجتماعية وقيمه الاقتصادية وقيمه السياسية، وتسمح للناس بالتدين وممارسة التدين، كما إننا نجد كثيراً من هذه الحكومات سمحت للفساد بشتى صوره وألوانه بالانتشار، فبيعت الخمور على الأرصفة، وقد حدثني ثقة جاء من بلد عربي قال: والله رأيت أنواع الخمور تباع على الرصيف، وهناك من يعلن عنها بأنواعها وبأسمائها، أي بيعت علانية. وكما مورست الدعارة علناً في أكثر من بلد عربي وإسلامي، تارة باسم الفن وتارة باسم الرقص وتارة باسم الحرية الشخصية، وتارة باسم الاختلاط، وتارة باسم الترفيه، وتارة باسم السياحة؛ بل وأحياناً باسم التعليم! نحن نريد من هذه الحكومات التي أذنت لألوان الفساد وصوره أن تنتشر، وحاربت وضيقت حتى على خطيب الجمعة فقد حدثني الشخص الذي ذكرت لكم قبل قليل يقول: جاء الخطيب في يوم الجمعة وكان يلبس لباس الجنز، حليق اللحية والشارب، لا يعرف الآية من الحديث، وهو الذي يتكلم مع الناس ويعلمهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تناقض مريع خطير! فنحن نريد بدلاً من عقد الصلح مع إسرائيل، أن تعقد هذه الدول والحكومات صلحاً مع شعوبها، تسمح بموجبه بممارسة شعائر الدين علانية دون ضغط أو إكراه, فيسمح لمن يريد أن يصلي أن يصلي، ويسمح لمن يريد أن يعفي لحيته أن يعفيها، ويسمح لمن يريد الحج بأن يحج، ويسمح لمن يريد أن يحفظ الناس القرآن ويعلمهم القرآن في المساجد أن يفعل دون أن يتعرض للمحاكمة، والإيقاف والاستجواب والمساءلة، بحجة أنه يخشى من انتمائه إلى بعض الجماعات الإرهابية، أو التيارات الأصولية المتطرفة. إن الله عز وجل إنما شرع الجهاد أصلاً حتى لا يضغط على الناس أو يضايقوا في دينهم، يقول الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] فالقتال شرع من أجل رفع الفتنة عن الناس في دينهم، حتى لا يضيق عليهم في دينهم، ولا يحاربون في دينهم ولا يجبروا أو يكرهوا على ترك الدين، أو اعتناق دين آخر , ونحن نجد أن هذه الفتنة الآن قائمة في عدد من البلاد الإسلامية بدرجة أو بأخرى؛ وأن الإنسان لا يستطيع أن يتدين تديناً كاملاً، وطالما جاءتنا أسئلة كثيرة تقول: أنا إنسان أريد أن أذهب إلى بلدي، هل يجوز لي أن أحلق لحيتي؟ أقول: لماذا؟ قال: لأنه منذ أن تدخل في المطار سوف تتعرض لسلسلة من المساءلات والاستجوابات، وربما الإيقاف وربما السجن أياماً للتأكد من هويتك ومن أنت. وما انتماؤك! وما سر إعفائك للحيتك! إلى غير ذلك. إذاً: نريد عقد صلح بين هذه الحكومات وبين شعوبها، تسمح بمقتضاه وتخلي بين شعوبها وبين أن تتدين بالإسلام، خاصة ونحن نعلم أن هذا هو أكثر ما يزعج الغرب، وقد قرأت عليكم في المجلس السابق، مقالاً يهدد فيه أحد الرؤساء -إذا لم يتحقق السلام- بأن يطلق العرب لحاهم. نقطة أخرى: أن توجه الجهود، وما أكثرها من جهود؛ جهود ضخمة في أكثر من بلد عربي -كما أسلفت لكم قبل قليل، لملاحقة الناس ومحاربتهم في أرزاقهم وكتم أنفاسهم، والتصنت عليهم إلى غير ذلك- نريد أن توجه جهود تلك الاستخبارات المدججة القوية، وأجهزة الأمن المتزايدة المتعاظمة يوماً بعد يوم، والتي تشكل عبئاً على ميزانيات تلك الدول، وهي في الغالب دول فقيرة، ويجهد الإنسان فيها في تحقيق قوته اليومي وقوت أولاده، وربما ترى طوابير طويلة من الناس؛ نريد أن توجه تلك الأجهزة إلى الحصول على أسرار التسليح وخفاياه، والحصول على التكنولوجيا المتطورة، كما فعلت إسرائيل تماماً، فلم تكن مهمة الموساد -وهو جهاز الاستخبارات الإسرائيلي- لم تكن مهمته -مثلاً- مضايقة المواطن أو المستوطن الإسرائيلي، أو ملاحقته أو مصادرة رسائله، أو عد الكلمات عليه أبداً؛ بل كانت مهمته خدمة المصالح القريبة والبعيدة لليهود، وتنفيذ العمليات الداخلية والخارجية التي يعتقد اليهود أنها في صالحهم. على سبيل المثال: قبل أيام قليلة وخلال أسبوع، ذكرت إذاعة صوت أمريكا أن هناك انتقادات في ألمانيا، لأن المخابرات هناك باعت أسلحة سرية متطورة لإسرائيل، والجدل هناك لا يتعلق بالبيع لإسرائيل، فهو يقول عملية عادية، وهو تعاون بين دولتين صديقتين فلا مانع أن يباع لإسرائيل أسلحة متطورة؛ لكن الانتقاد جاء لأن هذه الصفقة تمت دون علم كبار المسئولين في تلك الدولة بهذه الصفقة؛ ومع أن قانون ألمانيا يحظر بيع السلاح على المناطق الملتهبة، مناطق الأزمات، ومنها منطقة الشرق الأوسط؛ لكنهم يقولون: لا مانع من بيع السلاح لإسرائيل، لكن تحت سمع وبصر المسئولين في تلك الدولة وعلى كل حال فإن إسرائيل لم تصل إلى هذا المستوى من التصنيع والتطور؛ إلا بجهود ضخمة سرية بواسطة أجهزة مخابراتها وأمنها، للحصول على التسليح وتجنيد أعداد هائلة من الناس؛ لتحقيق مصالح إسرائيل، سواء من اليهود أو من غير اليهود. فلماذا لا توجه تلك القوى التي فيها تعتبر بعض الدول العربية، أنها قد تملك أقوى سلاح استخبارات في المنطقة، لماذا لا توجه القوى إلى الحصول على أسرار التسليح، وسرقتها وتجنيد أفراد من العرب أو المسلمين أو من غيرهم، للحصول على ذلك؛ حتى يتمكن العرب من الوصول إلى ما يريدون، ويتمكن المسلمون من مواجهة إسرائيل بنفس السلاح الذي تملكه. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 50 نظرة شرعية في وجوب الجهاد وتحريم الصلح مع اليهود النقطة الرابعة: نظرة شرعية. يتساءل كثيرون عن حكم الشرع في هذا المؤتمر، أو في الصلح مع إسرائيل عموماً! لقد عقدت مؤتمرات إسلامية كثيرة في القاهرة ومكة وعمان، سنة 1968م، وعقد مؤتمر إسلامي في ماليزيا كوالالمبور، بعد سنة، وقد شهدت هذه المؤتمرات قسماً من علماء المسلمين، وأعلنت الجهاد بإجماع آراء العلماء الذين شهدوا هذه المؤتمرات، والذين لم يشهدوها -مثلاً- تقول بعض المؤتمرات: " إن أسباب وجود الجهاد التي حددها القرآن الكريم قد أصبحت كلها متوافرة في عدوان اليهود، بما كان من اعتداء على أرض العرب والمسلمين، وانتهاك لحرمات الدين في أقدس شعائره وأماكنه، وبما كان من إخراج المسلمين والعرب من ديارهم، وبما كان من قسوة ووحشية من تقتيل المستضعفين، من الشيوخ والأطفال، لذلك كله صار الجهاد بالمال والنفس فرضاً في عنق كل مسلم يقوم به على قدر وسعه وطاقته مهما بعدت الديار، ومعنى ذلك أن الجهاد أصبح أمانة في عنق كل مسلم ومسلمة، لا يتخلف عن تحمل أعبائه المادية والمعنوية أحد، إلا ويخشى عليه أن يكون منافقاً وأن يعاقب بأشد العقاب قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] ". إذاً: هذا المؤتمر أو تلك المؤتمرات تطالب بالجهاد، الجهاد لا حمل السلاح فقط! لا! بل نريد جهاداً من منطلق الإعداد، الإعداد المعنوي، إعداد الأمة على الأقل من الناحية العقائدية، لقد نسيت الأمة عداوتها لليهود، كيف نتكلم نحن، وبأي عقلية نتحدث، وبأي منطق! فالآن الأمة نسيت حتى عداوتها لليهود، فنحن نقول: لقد طوَّفتُ في الآفاق حتى رضيتُ من الغنيمة بالإياب يكفينا أن نحافظ على إشعار الأمة بأن اليهود أعداء لها، اليوم وأمس وغداً، وأنهم سوف يحاربونها؛ فيا ليت أجهزة الإعلام العربية تقوم بهذا الدور فقط! يكفينا هذا منها! الجزء: 67 ¦ الصفحة: 51 شروط الهدنة مع الأعداء يتكلم الكثير عن الهدنة وشروط الهدنة وما يتعلق بها، من الناحية الفقهية، وأقول: يجوز للمسلمين عقد الهدنة مع عدو يحتاجون إلى الهدنة والمصالحة معه بأربعة شروط: الشرط الأول: أن يكون الذي يعقد الهدنة هو الإمام أو نائبه -الإمام الذي اختاره المسلمون وعينوه لهم، أو نائبه وهو راضٍ، يحكم بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو ممثل حقيقي للمسلمين؛ وهذا الذي يحق له أن يعقد الهدنة. الشرط الثاني: أن تكون الهدنة لمصلحة المسلمين كالعجز عن القتال -مثلاً- أما إذا كان المقصود من الهدنة -مثلاً- مصلحة الكفار، كما هو الحال بالنسبة لهذه الهدنة؛ فهي في مصلحة الكفار -وليست هدنة في الحقيقة- وإنما تسميتها هدنة في الواقع أنه قلب للحقائق؛ لكن عموماً إذا كانت لمصلحه الكفار؛ فلا يجوز؛ كما أنها إذا كانت لمصلحة أطراف أخرى يخافون على أنفسهم، أو على أموالهم أو على كراسيهم ومناصبهم، فإنها لا تكون حينئذٍ هدنة صحيحة. الشرط الثالث: أن تكون مدتها محددة بزمن، حتى قال كثير من الفقهاء، لا يجوز عقد الهدنة أكثر من عشر سنوات؛ لأنها أقصى مدة عقد النبي صلى الله عليه وسلم فيها صلحاً مع قريش في الحديبية؛ أما الذي يجري الآن، فإننا نغالط أنفسنا كثيراً إذا قلنا هذا صلح أو هذه هدنة! إن هذا نزع للعداوة أصلاً من قلوب المسلمين، فهل نحن في حرب مع اليهود الآن؟! هل نحن في معركة؟! منذ زمن طويل، منذ أكثر من خمس عشرة سنة، ما قامت معركة حقيقية مع اليهود، إلا ما يقوم به اليهود من جولات آمنة على الأجواء العربية، ويهاجمون لبنان أو غيرها متى شاءوا؛ وأما هم فإنهم بمنجاة منا ولم يتعرض لهم أحد، قد يتسلل جندي فيقتل من هنا أو من هناك، هذا كل ما يفعل الآن. فنحن لسنا في حالة حرب حقيقية مع اليهود؛ حتى يُطالب بمصالحة معهم، ثم هذا الذي يتم الآن هو عبارة عن نوع من الاعتراف الحقيقي بالوجود الدائم لليهود، وأنهم جزءٌ من هذه المنطقة، وأن لهم الحق في البقاء فيها، وأنهم ينبغي أن يكونوا مع العرب ومع المسلمين تكاملاً ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إلى غير ذلك، نغالط أنفسنا إذا تصورنا غير هذا، ولذلك قال العلماء: إن عقد هدنة مطلقة يعني: إلغاء الجهاد وأقول: أي إلغاءٍ للجهاد أعظم من هذا، ونحن نعلم أن مواثيق الأمم المتحدة تقتضي عدم اعتداء أي دولة على حدود جيرانها، وأن هذا الاعتداء يعتبر تعدياً تتدخل بمقتضاه الدول الأخرى الكبرى وغيرها لمنع هذا الاعتداء، فهذا إلغاء واضح للجهاد، والتوقيع عليه إقرار بإبطال الجهاد، ونحن لا نقول للناس: جاهدوا الآن وهم لا يملكون الجهاد؛ لكن نقول: لا يجوز لمسلم أن يعترف بأن الجهاد باطل الآن أو منسوخ، وإذا ظن إنسان أن الجهاد منسوخ أو أنه لا جهاد في الإسلام، فإنه يكون كافراً بذلك؛ لأن الجهاد من الشرائع الظاهرة المستقرة المتواترة، التي دلت عليها نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة من الخلف والسلف، فعقد صلح دائمٍٍ، يعني إلغاء الجهاد، وإذا تصورنا أن العدو الوحيد الآن: هو إسرائيل كما يتصورون ويعبرون فإذا جلسنا معها على مائدة المفاوضات والسلام، فمعنى ذلك كأنه لا قتال، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: كذبوا، كما في الحديث الصحيح، الآن جاء دور القتال ولا يزال الله عز وجل يزيغ قلوب أقوام للطائفة المنصورة ويرزقهم منهم، لكن هكذا هم يزعمون وهم يتصورون. إذاً: الشرط الثالث أن تكون الهدنة محدودة بزمن معين. الشرط الرابع: أن يخلوا عقد الهدنة من شرط فاسد، وذلك كشرط معاونة الكفار على إخوانه المسلمين، وهذا لعله أن يكون موجوداً في عدد من المهادنات والمصالحات، التي تعقد اليوم وأمس وغداً، ويحتج البعض بصلح الحديبية، إلا أنه في صلح الحديبية جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة أصلاً، وعقد صلحاً مع المشركين لمدة معينة، لا تتجاوز عشر سنوات، ويحتج بعضهم باليهود أيضاً، والرسول هو الذي جاء إلى المدينة وهاجر إليها والإسلام كان ناشئاً فيها، واليهود يدّعون ويزعمون أنهم أصحاب حق أصلي في الحارات والأحياء التي يسكنونها؛ فبمقتضاه عقد النبي صلى الله عليه وسلم معاهدة مع اليهود، كان الحاكم فيها هو النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اليهود مطالبين بموجبها أن يرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أي شجار يحدث بينهم، ومطالبين بموجبها بالدفاع عن المدينة ضد أي اعتداء فلما خانوا أجلاهم الرسول من المدينة. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 52 فتوى تحريم الصلح مع اليهود كما أن هناك فتوى متأخرة من علماء المسلمين بتحريم التنازل عن أي جزء من أرض فلسطين، فعلماء المسلمين أفتوا بعدم جواز الصلح مع اليهود، في حالة اغتصابهم أي شبر من أرض المسلمين، من تلك الفتاوى، -مثلاً- فتوى علماء فلسطين صدرت عن المؤتمر الأول، المنعقد في القدس عام (1935م) ، وفتوى الشيخ محمد رشيد رضا في السنة نفسها. فتوى رئيس جمعية العلماء المركزية في الهند في نفس السنة. وفتوى علماء نجد عام (1937م) ، وفتوى علماء العراق بنفس العام، ونداء علماء الأزهر بتحريم الصلح مع اليهود ووجوب الجهاد عام (1965م) فتوى شيخ الأزهر ومفتي الديار المصرية حسن مأمون، وفتوى علماء المؤتمر الدولي الإسلامي في باكستان عام (1968م) ، وفتوى لجنة الفتوى بالأزهر عام (1979م) ، والفتوى التي صدرت عام (1989م) والتي أُورد شيئاً منها والتي جاءت في رد عن سؤال يخص التنازل عن أي جزء من فلسطين، وقد نشرت في جمعية الإصلاح بالكويت في كتاب صدر عنها في يناير عام (1990م) ، وقد وقع على هذه الفتوى أكثر من (60) عالماً من علماء المسلمين، في الفترة الممتدة من (1988م) إلى (1989م) . والخلاصة يقول: " نحن الموقعين على هذه الوثيقة نعلن للمسلمين- في هذه الظروف الصعبة- أن اليهود أشد الناس عداوةً للذين آمنوا، اغتصبوا فلسطين ودنسوا مقدساتها ولن يقر لهم قرار حتى يقضوا على دين المسلمين وينهوا وجودهم، ونحن نعلن بما أخذ الله علينا من عهد وميثاق في بيان الحق، أن الجهاد هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتراف لليهود بشبر من أرض فلسطين، وليس لشخص أو جهة أن يقر اليهود على أرض فلسطين، أو يتنازل لهم عن أي جزء منهما أو يعترف لهم بأي حق فيها. إن هذا الاعتراف خيانة لله وللرسول، وللأمانة التي وكل للمسلمين المحافظة عليها، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:27] وأي خيانة أكبر من بيع مقدسات المسلمين، والتنازل عن بلاد المسلمين إلى أعداء الله ورسوله والمؤمنين … إلى آخر الفتوى ". الجزء: 67 ¦ الصفحة: 53 ابن باز والسلام يشيع بعضهم عن الشيخ عبد العزيز بن باز إشاعات غير واضحة في موضوع السلام، وقد أحببت قضاءً على هذه الشائعات أن أشير إلى نقطتين: النقطة الأولى: هذه كلمة نقلتها بحروفها من فتاوى سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز سئل: كيف السبيل، وما هو المصير في القضية الفلسطينية التي تزداد مع الوقت تعقيداً وضراوة؟ فقال: إن المسلم ليتألم كثيراً، ويأسف جدا من تدهور القضية الفلسطينية من وضع سيئ إلى وضع أسوأ منه، وتزداد تعقيداً مع الأيام حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، في الآونة الأخيرة، بسبب اختلاف الدول المتجاورة وعدم صمودها صفاً واحداً ضد أعدائها، وعدم التزامها بحكم الإسلام الذي علق عليه الله النصر ووعد أهله بالاستخلاف والتمكين في الأرض، وذلك ينذر بالخطر العظيم والعاقبة الوخيمة، إذا لم تسارع الدول المجاورة إلى توحيد صفوفها من جديد، والتزام حكم الإسلام تجاه هذه القضية، التي تهمهم وتهم العالم الإسلامي كله؛ ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد: أن القضية الفلسطينية قضية إسلامية أولاً وأخيراً. ولكن أعداء الإسلام بذلوا جهوداً جبارة لإبعادها عن الخط الإسلامي، وإفهام المسلمين من غير العرب أنها قضية عربية، ولا شأن لغير العرب بها -ويبدو أنهم نجحوا إلى حد ما في ذلك- ولذا فإنني أرى أنه لا يمكن الوصول إلى حل في تلك القضية، إلا باعتبار القضية إسلامية، وبالتكاتف بين المسلمين لإنقاذها، وجهاد اليهود جهاداً إسلامياً، حتى تعود الأرض إلى أهلها، وحتى يعود شذاذ اليهود إلى بلادهم التي جاءوا منها، ويبقى اليهود الأصليون في بلادهم تحت حكم الإسلام، لا حكم الشيوعية ولا العلمانية، وبذلك ينتصر الحق ويخذل الباطل، ويعود أهل الأرض إلى أرضهم علي حكم الإسلام، لا حكم غيره، والله الموفق. النقطة الأخرى: سئل الشيخ حفظه الله عن هذه المسائل في أكثر من مناسبة، وأجاب بما حضره، ولكنه قال في آخر الشريط: " إنني لا أسمح -فيما معناه - إنني لا أسمح بنقل أي كلام أو فتوى أو غير ذلك إلا بعد عرضها علي، وموافقتي عليها وتوقيعي عليها، لأن الكلام الشفهي يعتريه الزيادة والنقص، وربما يفهم خطأ إلى غير ذلك " ولذلك لم يأذن الشيخ أن ينشر أي شيء عنه، إلا بعد ما يعرض عليه ويوقع عليه بالموافقة والتصحيح، ولذلك فإنه لا ينبغي لأحد أن يتسرع في نشر شيء عن العلماء، إلا بعد أن يتأكد ويتثبت ويسجل توقيعهم بأسمائهم على موافقتهم على ذلك. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 54 بشائر المستقبل قضيه المستقبل: يسألني بعض الإخوة أحياناً يقولون: سمة التفاؤل موجودة في أكثر من محاضرة أو أكثر من درس، فهل هذه السمة هي لغرض تربوي لرفع معنويات الناس؟ أم هي قناعة؟ وإذا كانت قناعة، فما مصدرها؟ أقول: هي قناعة راسخة، مصدرها أمور: الجزء: 67 ¦ الصفحة: 55 النظر في السنن الكونية والنواميس الإلهية الثالث: النظر في السنن الكونية والنواميس الكونية. فالله تعالى يقول كما سلف: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ويقول جل وعز: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لما سُبقت العضباء ناقته قال عليه الصلاة والسلام: {حق على الله تعالى ألا يرتفع شيء إلا وضعه} . إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم الجزء: 67 ¦ الصفحة: 56 تأكيد انتصار الإسلام بالنصوص الشرعية وهي كثيرة ذكرتها في شريط (مستقبل الإسلام) لكن على سبيل المثال: الجولة مع اليهود، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين، وحديث أبي هريرة {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا يهود، حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي تعالى فاقتله} . فلا داعي أن نضرب ونرجم بالغيب بعد كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، {والله الذي لا إله غيره ما كذبنا ولا كذبنا} هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلام. وقال سبحانه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] وجاء في رواية أخرى للحديث السابق ذكرتها مرات وكرات {على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} . وهذه راوية إسنادها لا بأس به وفيه ضعف يسير لكن حسنها جماعة من أهل العلم، والواقع يصدقه ويشهد على ثبوته، ولو جاء راوٍ آخر ضعيف يشهد للحديث لحسناه؛ كيف وقد جاء الواقع الماثل الآن يؤكد ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم! فقبل ذلك حينما دونت الكتب، وألفت، لم يكن لليهود وجود يذكر في فلسطين، ولم يكونوا قريبين من نهر الأردن، لكنهم وُجدوا بعد ذلك في هذا الزمن بالذات، وقد ظن بعض الإخوة أنني قلت: إن اليهود ولن يتعدوا إطارهم الآن. وأنا أقول أرجو الله تعالى ألا يتجاوزوا نطاقهم الحالي، -وأظن أنهم لن يذهبوا عنه بعيداً- لكن هذا بلا شك ليس قطعاً؛ وإنما هو ظن غالب فقد يتوسع اليهود، ثم ينكمشون بعد ذلك، وقد يكون الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، معركة تأتي اليوم أو غداً، بعد عشر سنين أو خمسين سنة الله تعالى أعلم بمراد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم. ومن دلالات المعركة أمور: أولاً: هذه المعركة حق، وكل من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلم أنها واقعة لا محالة -على رغم كل العقبات وكل الظلمات وكل الحواجز- هذا غيب أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. ثانياً: هذا لا يعني أبداً القعود وترك الأمر، بحجة أن المعركة قادمة والنصر قادم، لا، فالنصر ليس هبة للقاعدين والكسالى، النصر هبة من الله عز وجل للمجاهدين وللمضحين وللصابرين وللمرابطين كما ذكر سبحانه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] . ثالثاً: هذه المعركة لا تعني ألا نهتم بما يجري الآن ولا نكترث له ونقول: دعهم يفعلون ما يشاءون، لا! لأن الاهتمام بالواقع هو جبلة طبيعية عند الإنسان، وخذ مثالاً: الرسول كان موعوداً بالنصر، حتى إنه في مكة -كما في صحيح البخاري- كان يقول لأصحابه: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} ومع ذلك في معركة بدر لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قوة العدو وبأسه وكثرته، وقلة أصحابه؛ أصابه ما أصابه، فرفع يديه إلى السماء، ودعا الله عز وجل وخشع وابتهل، وقال: {اللهم إن تهلك هذه العصابة، لا تعبد بعد اليوم} . هذه طبيعة الإنسان، أنه يهتم بواقعه ويتابعه؛ فالاهتمام به جبلة، وهو أيضاً مطلوب. والاهتمام بأمر المسلمين مطلب يدل على التعاطف، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: {مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} ويقول: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 57 معرفة الخصم النقطة الخامسة: خصمنا من هو؟ الآن الخصم المواجه المباشر كثير، لاشك منه؛ لكن من هم خصومنا الآن؟ اليهود انظر ماذا يقول الله عز وجل عن اليهود: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112] ضربت {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] ويقول سبحانه: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] . لقد عاشوا زمناً طويلاً تحت ظل البطش والإرهاب في أكثر من بلد، وهم الآن يتحركون بالعقلية ذاتها، عقلية اليهودي المضطهد، عقلية بالغة في التخوف من كل شيء، وهذا يبدو للناس أنه مكر ودهاء عند اليهود، والواقع أن عقلية الشعور بالاضطهاد تجعل اليهود دائماً خائفين -حتى وهم متمكنون الآن- شعور التوتر شعور القلق شعور عدم الاستقرار الأمني، عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فالذي يقدم خدمة جليلة لهم، هم الذين ذهبوا إلى مؤتمر السلام، عندما يسحبون هذا القلق من نفسية اليهود، ويجعلونهم يعيشون بعقلية ونفسية مرتاحة آمنة مطمئنة، فكم يجني هؤلاء الذين يمنحون إسرائيل السلام والاستقرار! كم يقدمون من خير لها وكم يخدمونها!! إن اليهود طائفة محصورة محدودة، غير قابلة للنماء والزيادة؛ لأنهم لا يقبلون أحداً ينضم إليهم، وهذه بحد ذاتها معضلة كبرى، خاصة اليهود الذين يواجهون الشعوب الإسلامية، -فيجب أن نعرف أن اليهود يعيشون في وسط إسلامي، يتزايد بشكل غريب جداً، وكثافة عددية هائلة، فتعدد الزوجات -مثلاً- وكثرة النسل، هذه كلها أشياء جاء الدين بالحث عليها، ولذلك نجد المسلمين والعرب يتزايدون بكميات هائلة، لا يقاس بها أي شعب آخر. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 58 النظر في التاريخ وتقلباته أول مصادر هذه القناعة هو: النظر في التاريخ وتقلباته. فالتاريخ -كما يقال- يعيد نفسه والله تعالى يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . الجزء: 67 ¦ الصفحة: 59 النظر في الواقع الثاني هو: النظر في الواقع. فنحن نرى انهيار المعسكر الشيوعي ماثلاً أمامنا على رغم قوته الضاربة لأكثر من سبعين سنة، وبذلك يمكن انهيار المعسكر الرأسمالي الغربي أحياناً بآفة أخرى، ومن طبيعة الإنسان أيضا أنه يرى الواقع الذي يعيشه، سرمداً لا يزول، فقد نسينا الآن سقوط الشيوعية، وبدأنا نتصور أن العالم الرأسمالي الغربي باقٍ لن يزول، وهذا خطأ كبير. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 60 مشاركات الجزء: 67 ¦ الصفحة: 61 قصيدة بنت الأفلاج هذه إحدى الأخوات التي سمت نفسها بنت الأفلاج، كتبت لي بالبريد هذه القصيدة أقرؤها من باب مشاركة الجنس الآخر، والتعبير عن المسلمين، وكلهم فيهم خير، وكلهم يرفضون مثل هذه الأشياء التي لم يؤخذ رأيهم فيها أصلاً، تقول: يا سائلي عن همومي لا تساءلني دعني أفكر في همي الذي أجدُ ليلي طويل وأوراقي مبعثرة والنفس في قلق والقلب يتقدُ ما بال أمتنا في اللهو غارقة وقومنا عن بلوغ المجد قد قعدوا أهواك يا أمة الإسلام فاستمعي لما أقول ويا قوماه فاحتشدوا إني أخاطب أهل العلم في بلدي جزاكم الله خيراً أيها الأُسد أنتم دعاة الهدى والحق لا تهنوا في دعوة الناس كل الناس واجتهدوا أوتيتم العلم إن العلم مكرمة فلا تضنوا بما أعطاكم الصمد ادعوا إلى الله في سر وفي علن وحدثونا بأخبار لها سند قولوا لنا عن رواة كلهم ثقة ماذا جرى يوم بدر الخير ما أحد وحدثوا عن صلاح الدين عن رجل يمسي ويصبح بالأحزان يتقد حتى أعد لطرد الكفر محتزماً بالعزم والجيش جيش الحق قد حشدوا فسار بالنصر والخيرات يحملها والناس لله شكراً جلهم سجدوا فهل ترى أمتي عن مثله عقمت فإننا اليوم للأبطال نفتقد إلا أمانٍ على بعد تلوح لنا حتى دنت وبها الأضواء تتقد فإذ هي الصحوة الكبرى مباركة فالأرض في بهجة والناس قد سعدوا الجزء: 67 ¦ الصفحة: 62 قصيدة عن الشباب الضائع وإنما قرأت هذه المساهمة وتلك؛ لما فيها من معان حلوة جميلة، وإن كانت أحياناً قد تحتاج إلى لفظ أقوى. أخيراً هذا أخ كتب يقول: مسافة للجرح بين البلوت ومؤامرة السلام، كلام طويل بعد كلام يقول: هناك قضية غير قضية السلام وهي قضية الشباب الضائع. تعددت يا بني قومي مصائبنا وأَقفلت بابنا المفتوح إقفالاً كنا نعالج جرحاً واحداً فغدت جراحنا اليوم ألواناً وأشكالاً هذه من جراحنا، كم ترتسم في وجهنا علامات التعجب، مخبئة وراءها علامات الاستفهام، فتحتار الحيرة في عيوني، وتتشوش الأصوات في مسمعي، عندما أسمع أو أرى أو أقرأ أن مسلماً في هذه الأوقات الحرجة من عمر أمتنا، يشكو من الفراغ في هذا الوقت الذي أصبح المسلمون فيه بأمس الحاجة إلى الدقيقة، ليدفعوا عجلة الحياة لصالحهم، إن بعضاً من شباب أمتي -الكلام لا يزال للأخ الشاب المشارك وهو المسئول عن هذا الكلام أيضاً- يقول: إن بعضاً من شباب أمتي من أحفاد أبي بكر وعمر وعقبة وابن الوليد أمسوا يعيشون عيشة لاهية حرة، يحيون حياة من لا يعرف نبياً، ولا يؤمن برسالة ولا وحي ولا يرجو حساباً ولا يخشى معاداً، نعم وربي! إنهم يعيشون بعيداً، هم في وادٍ ودينهم وواقعهم في وادٍ آخر. وأقول للأخ الكريم: لعلك قسوت على كثير من هؤلاء الشباب، فلعل في قلوبهم إيمان وإشراق، ولكنه غطي بالمعاصي وبالذنوب، بالتضليل الإعلامي، وبقرناء السوء وبغفلة الدعاة والمعلمين والداعيات والمعلمات والمصلحين والمصلحات، ولعل هذه صيحة لنا جميعاً أن نقوم بواجبنا بنفض الغبار عن قلوب شبابنا. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 63 قصيدة وقفة على أبواب مدريد هذه بعث بها إليَّ، وأرسلها عبد الفاكس الشاعر عبد الرحمن العشماوي يقول: وقفة على أبواب مدريد: عذراً رُبى المجد إن القوم قد هانوا وإنهم في أيادي المعتدي لانوا عذراً فما ردهم عما يحاك لهم وعي ولا ردهم دين وقرآن عذراً فأروقة الأحزان حافلة وساحة الفرح المقتول قيعان عذراً فبحر المآسي لم يزل لجباً يموج في مائه قرش وحيتان عذراً فإن بلاد العرب لاهيةً تضج في صدرها عبس وذبيان أما ترين روابي الشعر هامدة فمالها اليوم أوراق وأغصان قصيدتي ذبلت مما يداهمها من الجفاف، وطرف الشعر سهران تنكبتها غيوم اللحن ما ابتهجت خصباً ولا استبشرت بالغيث أفنان ولوحة الصمت فيها ألف دائرة مرسومة ما لها في الفن ميزان ما لامستها يد بالرسم ماهرة ولا سقاها شراب الحبر فنان رأيت فيها خطوطاً لا حدود لها وليس يفهمها إنس ولا جان رأيت في بعضها رأساً أشبهه بحية شدها للخلف ثعبان رأيت غصناً من الزيتون تأكله رصاصة ووراء الغصن كاهان من حوله أحرف عبرية نقشت وليس فيها من الألغاز تبيان كان الغبار يواريها وحين جلا بدا لعيني شامير وديان ولاح في مداها وجه أندلس جبينه لسباق الحزن ميدان يا وجه أندلس في أفقنا سحب من الدخان وفي الأدغال بركان طارت إليك وفود العرب في فمها بوق وبين يديها الطبل رنان شامير يسخر منهم من تطلعهم إلى السراب ألا فَلْيَرْو ظمآن لو أبصرتهم عيون الداخل أمتلأت قذى وأغضت على الأشواك أجفان ولو رأى طارق تلك الوجوه لما عصاه سيف ولا عاقته أكفان كأنني بقلاع المجد قد وجمت لما أتاها بروح الذل عربان يا بؤسها أمة يسعى بحاجتها لص وبائع أفيون وسجان تُدعى إلى الملتقى باسم السلام ولم يرفع لها بين أهل الملتقى شان يقام حفل لها من حر ثروتها ولم يقدم لها في الحفل فنجان يا بؤسها أمة في الحرب خاسرةٌ ولا يفارقها في السلم خسران إن حاربت شربت كأس الهزيمة في ذلٍ وإن فاوضت فالذل ألوان أنى تقوم لها في الكون قائمة وقلبها غارق في الوهم حيران يا من رحلتم إلى مدريد قربتكم مخروقة وجراب الخصم ملآن بشراكم اليوم إسرائيل راضية عنكم وفي قلبها شكر وعرفان بشراكم اليوم أمريكا تبجلكم وفي يدي روسيا فل وريحان أما فلسطين والأقصى وأمتكم فما لها عندكم قدر ولا شان يا من رحلتم إلى مدريد أمتكم بريئة وادعاء السلم بهتان هناك مشاركة أيضا من الأخ عبد الرحمن البورنو بعث بها إلى، بارك الله فيه يقول: كيف يعود للقدس أمانه، هذه -أيضاً- لـ عبد الرحمن البورنو. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 64 مشاركات أخرى أمامي مشاركات الآن جاءتني من عدد من الإخوة وهي عبارة عن قصائد، تعبر عن مواقفهم من خلال هذا الحدث الكبير، فهذه قصيدة للدكتور أحمد بن عثمان التويجري عنوانها: صيحة الجامع الكبير. يقول: كان الجامع الكبير في قرطبة معقلاً من معاقل الإسلام العظيمة، وصرحاً من صروح الحضارة وقلَّ أن شهد التاريخ له مثيلاً، في محرابه صلى الفاتحون، وفي ساحاته تكونت حلقات الأئمة الأعلام من أمثال: أبي محمد بن حزم، وابن رشد، والشاطبي، وابن النفيس، والزهراوي، منذ خمسة قرون وهو يطل كل صباح ومساء عبر الوادي الكبير الذي يشق قرطبة يسأل الطير والنسيم والأنجم عن أحبابه -الذين هجروه وبالأمس- خُبر أن جماعةً من الأعراب في طريقها إلى مدريد فاشرأب عنقه ثم كانت هذه القصيدة يقول بين قوسين: مع الاعتذار الشديد لأعضاء الوفود فليسوا مقصودين بذواتهم: أرقُ وليلي مذ فجعت طويلُ أيلام في حمل الهوى متبول ما زلت أرقب في شذاك أحبتي فمتى سيشفى يا نسيم غليل أشقاني المحراب يسأل عنهم مذ فارقوا والمنبر المثكول والمصحف المطوي يسأل عنهم قد شاقه الترتيل والتأويل من هؤلاء القادمون أعقبة والمجد فوق ركابه محمول أم طارق ٌ تشكو القوارب بأسه والفتح في عزماته موصول من هؤلاء القادمون؟ جلودهم سمر ولكن في القلوب شهول لم يستقلوا الصافنات وإنما ركبوا بغالاً سعيهن ثقيل وتجردوا من كل أبيض صارم للمجد فيه تلألؤ وصليل جاءوا إلى مدريد بئس مجيئهم لا السعي محمود ولا مأمول جاءوا إلى مدريد كل عتادهم قول يفوح مهانة وطبول جاءوا إلى مدريد في أعناقهم شرف العروبة ويحهم مقتول يا أيها الأقصى الأبي وقد علا فوق المآذن غاصب ودخيل يا أيها الأقصى الأبي وقد جرى خلف الأعادي خائن وعميل من هؤلاء القادمون قلوبهم شتى تكاد من النفاق تزول جاءوا وخلفهم الكرامة تشتكي وبكل نادٍ وحشة وذهول جاءوا وخلفهم العروبة قطعت مزقاً وجنب المسلمين ذليل جاءوا يسوقهم الأعادي عنوة فهم لهم بين الأنام ذيول جاءوا ويا بئس المجيء كأنهم حمر تساق إلى الردى وعجول إني لأنكر هؤلاء فما هموا قومي وما أنا منهم منسول أنا من كرام العالمين صحائفي بيض ومجدي في الأنام أثيل أنا من كرام العالمين وإن جثا فوقي الصليب ومنبري مكبول قومي هم التاريخ في أعتابهم صنع الفخار وكوّن التبجيل ركبوا المنايا يوم عزت أنفسٌ فجرت بهم نوق لها وخيول وتقاسموا الدنيا فتوح شهادة وفتوح هدي ساحهن عقول لم يهتكوا عرضاً ولا أزرى بهم دنس يشين فعالهم وغلول كانوا الفضيلة في ذرى عليائها كانوا المكارم والزمان بخيل كانوا العدالة شرعهً مهدية كانوا التقى مذ أحكم التنزيل كانوا الهداية للأنام فكلهم للعالمين مبلغ ورسول أنا من أولئك يا زمان وإن غدت بيني وبينهمُ رُبى وسهول أنا منهمُ مهما تطاول بعدنا وبدا لنا بعد الرحيل رحيل أنا منهمُ ولسوف يجمع شملنا حبٌ تجذر في القلوب أصيل حبٌ تكفكف وجده غرناطة وتذوب من لوعاته إشبيل حبٌ على الإيمان شاد بناؤه جذلٌ بكل المكرمات نبيل أنا منهم ولسوف يأتي طارق ولسوف تدحر للعداة فلول ولسوف تعلو في المآذن صيحة ويجلجل التكبير والتهليل فاختر لنفسك ما تشاء فإنه يوم سيأتي يا زمان جليل بطبيعة الحال الدكتور لما قال: كانوا المكارم والزمان بخيل، يعني أنه في وقت لم يكن فيه مكارم، وإلا فمن المعروف أن الزمن ليس إلا ظرفاً للحادثات يكتب الله فيه ما يشاء وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} . وهذا أخ آخر ذكر قصيدة للأستاذ عبد الرحمن العشماوي: يطلب مني أن ألقيها، وأعتقد أن الدكتور عبد الرحمن ألقاها، لكن لا مانع أن أقرأها استجابة لرغبة الأخ ورغبة في المشاركة: تقول أما تحب لنا السلاما أما ترجو لأمتك الوئاما ينادى للسلام وأنت تشكو كأنك قد تعشقت الخصاما يمد الغرب كفاً من وئام وأنت ترى عداوته لزاما تمهل يا حبيب القلب إني أخاف عليك بعد المدح ذاما فديتك يا منى قلبي فإني عرفت بك المحبة والغراما وأبصرت الرضا وجهي وشعري وقد ألبسته منك الوساما فديتك لا تظني أن قلبي عن الشوق المبرح قد تعامى ولكن الهموم إذا أحاطت بقلب أحدثت فيه اضطراما لو اجتمع العباد بكل أرض علي وصوبوا نحوي السهاما فلن يصلوا إلي بدون أمر يقدره الذي يغني الأناما أقلي اللوم والعتبى فإني أرى تفريق أمتنا حراما لقد أسرجت من حبي جواداً لأمتنا وألقيت الخصاما غرست لها ميادين القوافي وفي شعري نصبت لها الخياما إلى أن يقول: وما أخشى الهزائم في حروب فرب هزيمة أحيت ركاما أخاف من الهزيمة في نفوس لئلا يمسك الباغي الزماما إلى آخر ما ذكر في هذه القصيدة الجميلة جزى الله خيراً الدكتور/ أحمد على هذه المشاركة. وفي الختام: أسأل الله تعالى أن يجمعنا على خير وبركة، وأن يوفقنا إلى ما يحب ويرضى، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنه على كل شيء قدير. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 67 ¦ الصفحة: 65 المراجعات - 1 - تحدث الشيخ حفظه الله عن أسباب وأهمية طرح مثل هذا الموضوع خاصة، ثم عرض بعض ضوابط النقد التي ينبغي التقيد بها، وأن الخطأ واردٌ من كل بني آدم ولا يُعصم منه أحد. وتطرق بعد ذلك لبعض المراجعات التي وردت إليه مما أخطأ هو فيه أو كان يظن أنه أخطأ فيه. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 1 أسباب طرح موضوع المراجعات إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فكان حق هذا المجلس أن يكون هو المجلس (109) من أمالي شرح بلوغ المرام، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على التمام، ولكني رأيت لاعتبارات خاصة أن ألحق هذا الدرس بسلسة الدروس العلمية العامة بحيث يكون رقمه (43) وهو ينعقد في هذه الليلة الأربعاء (30/ من شهر ربيع الثاني/ من سنة 1412هـ) ، وذلك بعنوان "المراجعات" وكان حقه أيضاً أن يكون في ليلة الإثنين كالمعتاد، ولكننا لاستغراقنا في هذا الأسبوع والأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- في الحديث عن قضية اليهود، وموقفهم من الإسلام، وما يتعلق بها، رأيت أن تأخير هذا الموضوع قد لا يكون مناسباً، وقد حاك في نفسي أن أتحدث به إليكم أيها الأحبة في هذه الليلة، فلترفع الأقلام إذاً، ولتطوى الصحف. وإني لأعتذر إليكم أيها الأحبة الطلاب على مثل هذا الخلل الذي لم يكن معتاداً إلا لظرف خاص -كما أسلفت-. والمراجعات فكرة قديمة طرحتها أكثر من مرة، أنني سوف أقدم بين الحين والآخر مجموعة من الأخطاء، والملاحظات، والأوهام، والاجتهادات، التي تبين لي أنني لم أكن فيها على حق، وأن أقدمها إليكم حال ما تتوفر عندي، وذلك لاعتبارات عدة منها: الجزء: 68 ¦ الصفحة: 2 التبرؤ من الأخطاء أولاً: تبرأً وتنصلاً من عهدة كلام يكون الإنسان قاله أو أداه، ثم تبين له خطأه، فيحب أن يُعذر ويبين أن هذا الكلام الذي قاله ليس بصواب، وأنه يبرأ من تبعاته وعهدته ولا يرتضيه، وهذا هو المسلك الواجب على كل مسلم، أو طالب علم، تجاه ما يصدر منه من قول، أو فعل، مقروءً، أو مكتوباً، أو غير ذلك. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 3 ظهور الأخطاء عن طريق الآخرين وأمر آخر يدعو إلى طرح مثل هذه المراجعات بين الحين والآخر، وهو: أن الإنسان قلما يكتشف خطأه بنفسه، وإنما يساعده على اكتشاف خطئه الآخرون، من الأعداء، أو من الأصدقاء! فأما الأصدقاء فهم كالمرآة يكتشف الإنسان فيها نفسه، ومحاسنه، وعيوبه، ولذلك قال القائل: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات العين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فصديقك كالمرآة، وقد جاء في حديث فيه نظر: {المؤمن مرآة أخيه} . أما الأعداء فهم يجهدون في البحث عن العيوب والزلاَّت، ويظنون أنهم بذلك يحطون من قدر الإنسان، وهم في الحقيقة يرفعون منزلته، لأنهم يساعدونه على معرفة أخطائه وعيوبه، ويعينونه على التخلص منها، ولذلك دعا لهم الشاعر الحكيم فقال: عداتي لهم فضلٌ عليَّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الآعادي هُمُ بحثوا عن سوءتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعالي وما رأيك بإناء يتظافر على غسله وتنظيفه العدو والصديق، والمحب والمبغض؟! لا بد أنه سينظف بإذن الله ويتطهر يوماً من الأيام. ومن حق هؤلاء وأولئك أن تشعرهم بالامتنان على ما يفعلون، وذلك من خلال مثل هذه المجالس التي يتاح لك فيها أن تقول: نبهني أخٌ كريمٌ محب على أنني أخطأت في مسألة كذا، وأنا أستغفر الله تعالى وأتوب إليه، فيتشجع هذا الأخ على أن يعاود مراسلتك، أو مهاتفتك، أو مشافهتك بما يجد عليك من خطأ؛ لأنه رأى أنك تجاوبت معه، وأنك ممنون مسرور من ذلك الخطأ الذي نبهك عليه، أو من ذلك التنبيه الذي نبهك عليه، ولذلك كانت هذه المراجعات أيضاً. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 4 بيان أن كشف الأخطاء ليس عيبا ً أمر ثالث: أن دعاة الإسلام، وطلبة العلم هم أحوج الناس أن يكشفوا للناس قدرتهم على البوح بأخطائهم، والاعتراف بزلاتهم وسقطاتهم، وأنهم لا يرون في هذا عيباً ولا عاراً ولا حرجاً، فعلم الله أنني لا أجد في نفسي حرجاً أن أقول: إنني أخطأت في مسألة كذا، وفي مسألة كذا، وفي مسألة كذا، متى ما تبين للإنسان الخطأ بدليله، والصواب بدليله. صحيح أن هذا لا يعني أن الإنسان سيلغي شخصيته، ويوافق الآخرين على ما يقولون أو ما يرونه؛ فهذا أمر ليس مشروعاً بحال من الأحوال، ولا يجوز للإنسان أن يعترف بشيء أنه خطأ وهو يرى أنه صواب. لكن متى ما تبين أنه على خطأ؛ فإنه لا يجد في نفسه أدنى حرج -بحمد لله- أن يقول: هذا خطأ، أستغفر الله وأتوب إليه، وجزى الله من نبهني عليه خيراً. وذلك أننا جميعاً بشر، ويجب أن نعرف أن الخطأ من طبيعة البشر، وهي صفة ملازمة لهم مهما كانوا، فضلاً عن أن الناس العاديين تكثر أخطاؤهم، خاصة مع كثرة ما يتحدثون به في الدروس، والمحاضرات، والمجالس، وغيرها فاحتمال الخطأ منهم وارد بل هو كثير. وجزى الله جل جلاله كل خير من أعانني على معرفة خطأ، أو التعرف عليه، أو دلني عليه، وإنني أدعو الله له الآن، وحق له علي أن أدعو الله له بظهر الغيب. أقول هذا وأنا في انتظار كل ما يأتيني منكم أيها الإخوة سواء عن طريق المراسلة، أو عن طريق الهاتف، أو عن طريق المشافهة، من الأخطاء التي ترونها، وأعتقد أن هذا دليل على أننا بدأنا نسلك الطريق الصحيح؛ لأن الأمة ما ضلت وزلت وهلكت، إلا يوم أسلمت قيادتها لأفراد في كل مجالات الحياة، فصارت مثلاً تنظر إلى شخص تقدره من الناحية العلمية فلا تقبل إلا قوله، ولا ترتضي إلا رأيه، ولا تقبل عليه اعتراضاً، ولو كان هذا الاعتراض مصيباً. والواقع أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا في الذروة من العلم، والعمل، والصدق، والاجتهاد، والتجرد، وصحة القلب والعقل، وسلامة الرأي، ومع ذلك خَطَّأ بعضهم بعضاً في مسائل، وخالف بعضهم بعضاً في مسائل كثيرة جداً، وردَّ بعضهم على بعض، ولم يكن ذلك تنقصاً لمن أخطأ، ولا تضليلاً له، ولا تبديعاً، ولا تفسيقاً، ولا تكفيراً، بل هذا خطأ وقع فيه فلان يصحح له، وهذا صواب من فلان، وكما قال الإمام الشافعي رحمه الله: " قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب". وطالما رجع أهل العلم في مسائل بعد مناظرات إلى ما ذهب إليه مناظرهم وخصمهم. فنسأل الله تعالى أن يوفق الجميع إلى معرفة الحق واتباعه، وأن يكون الحق رائدهم، وطلبهم، وبغيتهم، لا يقدمون عليه شيئاً، لا نفساً، ولا أهلاً، ولا مالاً، ولا بلداً، ولا شيئاً، إنما يعشقون الحق، فمتى ما ظفروا به فرحوا، فظهر الفرح والبشر في وجوههم، وعلى قسماتهم، وفي محياهم، فطاروا به وتحدثوا به، كالإنسان الذي ظفر بشيءٍ نادر ثمين، فهو لا يستطيع أن يخفي فرحته، بل كالطفل الذي يظهر بشيءٍ يحبه فيتحدث بوضوح، وبانبساط، وباسترسال عن فرحه الغامر بهذا الشيء الذي ظفر به! ينبغي أن نفرح بالحق متى عرفناه، ولا نجامل في هذا الفرح أو نستره، بل نعلنه لأنه من نعمة الله تعالى التي تحدث بها {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] . أيها الأحبة وبعد هذا التمهيد لا أزعم أنني سوف أقدم لكم الآن كبير شيء من الملاحظات، أو المراجعات، أو التصحيحات، وذلك بأنني أعدكم إن شاء الله وعداً أرجو أن لا أخلفه أنه خلال شهرين سوف أقدم لكم الحلقة الثانية من المراجعات، وسوف تكون مخصصة لذكر ما وقفت عليه، أو نبهت إليه من اجتهادات لم يحالفها الصواب، أو أحاديث استشهدت بها وليست صحيحة إما أن تكون ضعيفة أو غير ذلك، أو أقوال، أو أشياء أرى أن من الضروري التنبيه عليها. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 5 مقدمات لابد منها لكنني الآن سوف أقدم لكم مقدمات ضرورية بمثل موضوع المراجعات، مقدمات لا بد منها، لأنني لاحظت على بعض الإخوة الذين يقدمون ملاحظات، أو اعتراضات، أنه قد تغيب عن بعضهم، ولا أقول: عن كلهم، لأن منهم قسم كبير -كما أسلفت قبل قليل- أصابوا كبد الحقيقة وعين الصواب، ولكن منهم قسماً قد تغيب عنهم بعض الأمور التي سوف أسردها الآن، فيفهمون الكلام على غير وجهه، أو يذهبون به إلى غير مذهبه، والله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 6 ضرورة عدم بتر الكلام نعم، لا بد من التنبيه إلى وهي ضرورة عدم بتر الكلام، وهذه المسألة هي على طريقة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] فإن بعضهم يبتر كلامك، وينقل منه شيئاً، ويغر به الآخرين، ويضلهم بذلك، ويوهمهم أنك قلت: كذا وكذا، وأنت لم تقل، ولو نقل الكلام كله من أوله إلى آخره، بسياقه، وبجملته، لما كان له أن يُفهم الناس غير ما فهم -غير ما قصدت- ولكنه نقل بعض الكلام ثم أضاف إليه من عنده شيئاً كثيراً، يوهم الناس أنك تقصد كذا، وتعني كذا، وتريد كذا، وأن مرادك كذا، ونيتك كذا، ومقصودك وما في قلبك كيت وكيت! وهذا غير سائغ وليس من الإنصاف في شيء، فإننا نجد السلف رضي الله عنهم ينقلون البدعة ويشرحونها ثم يردون عليها. وإني أجد كلاماً كثيراً في كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- خاصة، وفي كلام ابن القيم رحمه الله أيضاً، أنه قد ينقل في صفحات كلام القوم، بل قد يعقد مناظرة بين صاحب مذهب وصاحب مذهب آخر، فيستعرض المذهب الأول في صفحات وهو يقول: قال الأول، ثم إذا انتهى رجع وقال: قال الثاني، وأتى على كل ما ذكره الأول بالنقض، والتغيير، والرد. فلو أنَّ إنساناً نقل الكلام الأول وقال: هذا كلام ابن القيم، أو نقل الكلام الثاني وقال: هذا كلام ابن القيم لكان مخطئاً في ذلك خطأً عظيماً. والذي ينبغي للإنسان أن يتقي الله تعالى، فلا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا ينقل كلام الناس على وفق ما يريد وما يشتهي! وإني ذاكر لكم الآن مثالاً واحداً سئلت عنه في أكثر من مناسبة، منها مناسبة لعلكم جميعاً اطلعتم عليها، سألني عنه أخي الكريم الأستاذ الشاعر: عبد الرحمن العشماوي في المقابلة التي أجراها معي، ونشرت بعنوان (على طريق الدعوة) فقد ذكر لي أن بعض الناس يقولون عني أني سئلت منذ زمن، في أول أحداث الخليج في العام الماضي عن الحرب، فقلت: إنها لن تقوم حرب، وأبشر بطول سلامة، فتعجبت من ذلك! ولم أكن حين سألني هذا السؤال متذكراً كل ما قلت، فذكرت الجواب الذي سمعتموه، وهو جواب صحيح على كل حال. ولكنني بعد ذلك رجعت إلى الكلام الذي قلته، وكتبته في هذه الورقة، كتبت السؤال والجواب، حتى تفهموا وتعلموا كم يجني الناس على الكلام الذي ينقلونه، وتعرفون مصداق ما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها مع أنه كلام مسجل في شريط سمعه الداني والقاصي، الخاص والعام، ومع ذلك يقع اللبس! وأنا أقرأ عليكم الآن نص السؤال، ونص الجواب. السؤال ماذا يكون علينا إذا قامت الحرب على العراق؟ هل نذهب إلى الجبهة ونترك النساء والأطفال، ونذهب إلى الحرب إذا لزم الأمر؟ الجواب الذي أعتقده، أن الحرب مع العراق -والله تعالى أعلم- لن تقوم بشكل حرب مع العراق، لأن قوى الدول الغربية أحضرت أسلحة وقوىً هائلة تستخدم لأول مرة في العالم، وهذه القوى أحضرت من أجل ألا تكون حرب بين أمريكا والعراق، وإنما من أجل أن تضرب أمريكا ضربتها على العراق، وتنهي وجوده خلال 7دقائق -كما تقول التقارير- أي: تنهي قوته خلال 7دقائق، ولا يكون هناك حاجة للحرب أصلاً، هذه خطتهم، وهذا تفكيرهم، وعلى حسب إمكانياتهم، فإن هذا الأمر ليس مستبعداً، ويكفي أن عندهم من الطائرات ما يسمونها: بطائرات الشبح، التي خلال حركة بسيطة -وهي لا يمكن أن تكشف بالرادار- تستطيع أن تدمر وسائل الاتصالات بالدولة المحاربة، من الهاتف، والخطوط، والكهرباء، وغيرها، وبذلك تنشل حركة الدولة ويسهل القضاء عليها. فلا أعتقد أن هناك حرب حقيقية نحتاج أن نجند أنفسنا في هذه الحرب، لكن المؤمن يجند نفسه في كل وقت، لأن الخطر ليس معناه خطر العراق فحسب، فإذا ذهب العراق ذهب الخطر، لكن قد يكون الخطر من النصارى أنفسهم، من اليهود، لماذا نستبعد هذا؟! فالمؤمن يجب أن يستعد ويتدرب على التسلح، ويربي نفسه تربية عسكرية. أما هذا السؤال فإني أقول: أبشر بطول سلامة إن شاء الله! انتهى الكلام. مقصودي من هذا الكلام أن أقول: ظاهر من السؤال ومن الجواب، إذا فهمناه بالصيغة التي ذكرته لكم قبل قليل، أن السائل يتساءل هل يذهب هو ويترك أطفاله وزوجته في البيت، بدون أحد يقوم عليهم؟ لأنه تصور أنه سوف تقوم حرب تحتاج إلى استنفار، وإلى تجنيد الأمة بكاملها، وإلى أن يخرج الرجل ويترك أهل بيته ويترك أطفاله، ويترك عمله. فكان الجواب: أبشر بطول سلامة إن شاء الله، لن يحتاج إلى مثل هذا الأمر، لماذا؟ لأن هناك قوى كبيرة، وكثيرة مدججة، ستجعل إمكانية القضاء على قوة العدو -وهو العراق آنذاك- أمراً لا يحتاج معه إلى حرب بالمعنى الصحيح، بقدر ما هي ضربة موجعة تنهي قوة العدو. وهذا الكلام نستطيع أن نقول: إنه بهذا الإجمال هو الذي حصل فعلاً. وأما مسألة أنه لن تقوم حرب، أو لن يكون هناك حرب أصلاً، فلا أذكر أني قلت ذلك، وهذا هو الموضع الوحيد الذي اعتمد عليه البعض في ما ذكر. ثم لنفترض أنني أو أن غيري من الدعاة قال: إنه يتوقع ألا تقوم حرب، ثم حصل الأمر خلاف ما ظن وخلاف ما توقع، فماذا كان يعني هذا؟ نحن نعلم أن كثيراً من التحاليل الغربية، بل (60%) منها كانت تتوقع أن لا تقوم حرب، والمحللون أناس مختصون، وعلى أرقى المستويات، وبعضهم في مواقع المسئولية. وقد قرأت لوزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي آنذاك، بالخط العريض، أنه لن تقوم الحرب، وهو رجل في موقع المسئولية في دولة كبرى، فضلاً عن المحلليين الذين توقعوا ذلك وهم كثير، فماذا يضير هذا! بل قرأنا جميعاً في صحيفة سيارة لكاتب وأديب معروف، وهو يشغل منصباً دبلوماسياً أيضاً في بلد ما، أنه قال بالخط العريض، أنه لن تقوم حرب، وأنه سينسحب العراق في اللحظات الأخيرة، واضطر بعدما قامت الحرب إلى أن يكتب في الصحيفة اعتذاراً عن ذلك، وبياناً أنه أخطأ في التوقع، ولن يكون له بد في أن يكتب اعتذاراً لأن الكلام كتب في الجريدة ولا يمكن أن يتناساه أو يتجاهله. فماذا كان بعد هذا؟ ولماذا تكون الكلمات التي يقولها الدعاة هي التي في المحك؟ صحيح أننا نفرح باهتمام الناس بكلام طلبة العلم والدعاة، وعنايتهم به، لكن أيضاً ينبغي أن يفهم هذا الكلام في إطاره العام، وأن يوضع في موضعه، فهذا ظن إنما ظننت ظناً، حتى الذي توقع أن لا تقوم الحرب يقول: إنما ظننت ظناً. وَهم ليس بنص، ولا مبني على نص، وإنما هو احتمال وتوقع قابل للخطأ وللصواب، وأثبتت الأيام أنه غير صحيح وأنه خطأ. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 7 ضوابط النقد عند السبكي ومما يلتحق بالكلام الذي ذكره الإمام ابن القيم قبل قليل، كلام آخر جميل ذكره السبكي في كتابه قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين يقول: " كثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب -يعني الكتاب الذي وجدت فيه هذه الكلمة- يغير على الكتاب والمؤلف، ومن عاشره، ومن استن بسنته. قال: " مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان هذا الرجل ثقة ومشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتابته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي: التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله ". فهذه نقطة هامة: أن يفهم الكلام على عمومه، وعلى ظاهره، وعلى ما يقتضيه السياق العام، وعلى ما تدل عليه القرائن، وعلى ما عهد من قائله، دون أن تؤخذ الكلمات أو الحروف، ويجعل لها مفهوماً، ومنطوقاً، ودلالات ظاهرة وغير ظاهرة، ومعاني إلى ما سوى ذلك، فضلاً عن أن يدخل الإنسان إلى محاكمة ما في القلوب، فدع القلوب لربها جل وعلا، فهو الذي سوف يوقف العباد بين يديه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] ويحاسبهم على الظاهر والباطن، والسر والعلانية. فهذه نقطة، ولذلك أقول: إن الكلمات التي قد تكون أحياناً في دروسٍ، أو محاضرات، أو غيرها؛ ينبغي أن يفطن فيها إلى ذلك، ويعرف: أنه حتى جهابذة أهل العلم في هذا العصر، وفي كل عصر، يعلمون أن الخطأ في اللفظ وارد؛ سواء كان خطأً نحوياً، أم خطأً لغوياً، أم خطأً علمياً، لكن المعنى واضح، ومراد المتكلم واضح، لكنه أبدل كلمة بكلمة، وهذا كثير جداً لا يأتي عليه الحصر، في كلامي وفي كلام غيري. ولعلي أذكر لكم أن سماحة الوالد الإمام الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله قال قبل فترة في محاضرة في الرياض، حينما سئل بعض الأسئلة، سئل عن إيراد الحديث الضعيف في المواعظ والرقائق قال ما نصه، وقد نقلت هذا من الشريط وأنا حين أنقل ذلك أرى أنه كلام للشيخ ولغيره يقول -سماحته-: " قبل الإجابة على الأسئلة أخبر الجميع أنني لا أسمح لأحد أن يكتب المحاضرة التي صدرت مني، هذه أو غيرها، أو ينشرها، إلا بعد عرضها علي، لأن النقل من الأشرطة قد يقع فيه بعض الأخطاء، فلا أسمح لأحد أن يطبعها، أو ينشرها في الصحف، إلا بعد عرضها علي لتصحيح بعض الأخطاء، ثم السماح بنشرها، فهذه وغيرها من المحاضرات، لأن بعض الناس قد ينشرون عني، أو عن غيري، بعض المحاضرات، يكون فيها أخطاء مطبعية، أم أخطاء ما فهمها من الشريط، فأرجو من جميع إخواني ألا ينشروا عني شيئاً، من محاضرة، أو تعليق على الندوة في جامع الملك خالد، أو غير ذلك مما يؤخذ من الأشرطة، إلا بعد عرضه عليَّ مكتوباً حتى يصحح، ثم ينشر بعد ذلك سواء كان مستقلاً، أو في الصحف " انتهى كلامه. وصحيح نحن لن ننشر كلام الشيخ الآن، وإنما نقلته وقرأته عليكم فأنتم تسمعونه الآن كما يمكن أن تسمعوه في الشريط الذي تكلم فيه الشيخ، لتعلموا أن كل إنسان يعلم أن الحديث الشفهي قد لا يكون منضبطاً دقيقاً بالحروف والألفاظ، ولذلك جرت العادة أن كل كلام قبل أن يطبع، أو ينشر، بل حتى مذكرات بلوغ المرام، أنتم تعلمون جميعاً أنه حين لم يتح لي الوقت لمراجعتها، وتصحيحها أولاً بأول، وكلت إلى مجموعة من خيرة الطلاب أن يقوموا بمراجعتها وقراءتها، ومراجعتي فيما يشكل عليهم منها، حتى نصححه جميعاً، فهذه مسألة. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 8 الأخذ بالظاهر وترك النيات والمقاصد النقطة الأخرى: ولعلي أشرت إلى شيء منها، ولكن لا بأس أن أوردها مستقلة، هي: أن الواجب على طلبة العلم والمتحدثين، والدعاة إلى الله تعالى، وعلى سائر الناس، بل الواجب للمسلم على أخيه، أياً كان هذا المسلم، طالب علم أو غيره، داعية أو غير داعية، الواجب للمسلم على أخيه أن يأخذ الظاهر ويترك النية والمقصد إلى الله عز وجل، فلا يفسر كلامه إلا بظاهره، ويترك ما في القلب، وماذا يريد هذا الإنسان وما وراء الألفاظ، وما وراء العبارات. وإنني أجد نفسي مضطراً أن أقول لكم ما أعلمه من نفسي: إني لا أعلم من نفسي الآن أنني أسعى في نصرة مذهب فقهي معين، على مذهب فقهي آخر، ولا اتجاه دعوي معين على اتجاه دعوي آخر، ولا شخص، ولا بلد، ولا طائفة، ولا غير ذلك. وإنما يشهد الله أن الذي أعلمه من نفسي أنني عاشق للحق، متى ما عرفته فرحت به، وقلت به، ودعوت إليه، وأنني لا أسعى في قول، ولا فعل، لا في مجلس عام، ولا في خاص إلى نصرة مذهب، أو فريق، أو طائفة، أو شخص على آخر. إنما أسعى إلى نصرة الحق الذي أعلمه، وكوني أخطأت في معرفة الحق، هذا وارد، بل هو واقع، وإن لم أستطع أن أحدد متى وأين أخطأت، إلا بتوفيق من الله تعالى، أو بمساعدة من إخواني، إلا أنني أعلم على سبيل العموم والإجمال أن هذا واقع لا شك فيه، بل هو كثير، ونسأل الله تعالى أن يعيننا على معرفة الحق واتباعه، ومعرفة الباطل واجتنابه. هذا ما أعلمه من نفسي، ومع ذلك فقد يكون في القلب مسارد، وخفايا، وأسرار، وأمور، حتى الإنسان قد لا يكتشفها من نفسه، لكن الإنسان إذا لم يألُ نصحاً، وبذل وسعه فإنه {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] . الجزء: 68 ¦ الصفحة: 9 أهمية الفهم العلمي الموضوعي أهمية الفهم العلمي الموضوعي للكلام الذي تسمعه، في عمومه وفي جملته، فافهم الكلام فهماً موضوعياً علمياً، وإياك أن تبني على الكلام قصوراً من الظنون، والتوقعات، والاحتمالات وغير ذلك، فإن هذا سبب في عدم الانتفاع بالعلم، وفي إيذاء الآخرين، والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي ذر لما قال له: {يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قال: قلت: يا رسول الله! أي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً، وأنفسها عند أهلها قلت يا رسول الله: فإن لم أفعل، قال: تعين صانعاً، أو تصنع لأخرق. قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك} إن لم تنفع فلا أَقَلَّ من أن لا تضر، ولا تؤذي الناس بالظنون، والأوهام، والاحتمالات، وما أشبه ذلك من الأمور التي هي تضرك أنت قبل أن تضر غيرك، بل قد لا تضر غيرك بحال من الأحوال إلا أذى. فينبغي ألا تحمل من الكلام ما لا يدل عليه، فإن هذا داء طالما شكا منه أهل العلم، وإنني أعجب أن أقرأ كلاماً للشاطبي في كتابه القيم العظيم الاعتصام نقله، ثم نقل كلاماً آخر يشبهه للإمام ابن بطة -رحمة الله على الجميع- يقول بعد كلام طويل " وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة -يقوله الشاطبي - وذكرهم فيها محدث، لم يكن عليه من تقدم. وتارة أُحْمَلُ على التزام الحرج، والتنطع في الدين -يعني: أنه ينسب إلى هذا- وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم، لا أتعداه، وهم يتعدونه، ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذاً في المذهب الملتزم، أو في غيره، وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك وللمسألة بسط في كتاب الموافقات ". على كل حال لا يلزم أن يكون ما يذكره الشاطبي من هذه المسائل موافقاً عليه، لكني أذكر الكلام للغرض الذي تعرفونه، ولا داعي لأن نتعقب كلامه في موضوعات لا تتعلق بالهدف المقصود. قال: "وتارة نُسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أنني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين بزعمهم في هداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا أنفسهم إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم. وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناءً منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها، وهي الناجية، ما عليه العموم ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان، وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا عليَّ في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال ". " فكنت على حالة تشبه حالة الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي وسفري وفي حضري، مع الأقربين مني والأبعدين، والعارفين والمنكرين، فإني وجدت في مكة وخراسان وغيرهما من الأماكن، أكثر من لقيت بها، موافقاً، أو مخالفاً، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، تصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما أقول، وأجزت له ذلك، كما يفعله أهل هذا الزمان، سماني موافقاً -إذا وافقته على كل اجتهاداته وآرائه، خطئها وصوابها، قال: هذا موافق، وهذا جيد، هذا معنى كلامه: سماني موافقاً- وإن وقفت في حرف من قوله، أو في شيء من فعله، سماني مخالفاً. وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجياً، وإن قرأت عليه حديثاً في التوحيد سماني مشبهاً، وإن كان في الرؤية سماني سالمياً، وإن كان في الإيمان سماني مرجئاً، وإن كان في الأعمال سماني قدرياً، وإن كان في المعرفة سماني كرامياً، وإن كانت في فضائل أبي بكر وعمر سماني ناصبياً، وإن كان في فضائل أهل البيت سماني رافضياً، وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما سماني ظاهرياً، وإن أجبت بغيرهما سماني باطنياً، وإن أجبت بتأويل سماني أشعرياً، وإن جحدتهما سماني معتزلياً، وإن كانت السنن مثل القراءة -كأنه يعني: القراءة في الصلاة، الجهر أو نحو ذلك- سماني شافعياً، وإن كان في القنوت سماني حنفياً، وإن كان في القرآن سماني حنبلياً، وإن ذكرت رجحان ما ذهب إليه كل واحد من الأخيار إذ ليس في الحكم والحديث محاباة، قالوا: طعن في تزكيتهم. ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرءون عليَّ من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسماء، ومهما وافقتُ بعضهم عادني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئاً، وإني مستمسك بالكتاب والسنة، وأستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم ". ما أعجب ما يقوله ابن بطة! كأنه يتكلم عن أهل زماننا ما عندهم إلا حكم بالجملة، ما عندهم حكم بالتقسيط. ليس عندهم حكم على المسألة، إنما عندهم حكم على قائلها، وعلى معتقدها، وعلى من ذهب إليها، وعلى وعلى نسأل الله العفو والعافية والمسامحة! قال الإمام الشاطبي رحمه الله: " هذا تمام الحكاية ". فكأنه رحمه الله تكلم على لسان الجميع، فقلما تجد عالماً مشهوراً، أو فاضلاً مذكوراً، إلا وقد نُبز بهذه الأمور، أو بعضها، لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل إن سبب الخروج عن السنة الجهل بها والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف، فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة أنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه، والتقبيح لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب، فهذه مسألة أخرى ينبغي التفطن لها. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 10 صحة الفهم وحسن القصد النقطة الأولى: كيف تستطيع أن تفهم الكلام؟ إن الكلام الذي يقوله زيد أو عبيد من الناس، ينبغي أن يفهم في إطاره العام، فالكلام خاصة حين يكون شفهياً، قد يعتريه زيادة أو نقص، وقد تدخل كلمة بدلاً من أخرى، وقد يسارع الإنسان إلى قول وهو يعني قولاً آخر، هذا من طبيعة الإنسان البشر، أنه يقع منه مثل ذلك، خاصة إذا كان يتكلم بكلام شفهي بخلاف أن يكون مكتوباً. والحقيقة أني أحرص على أن أكتب ما أقول في حالات كثيرة جداً، لكن هذا لا يتسنى في حالات أخرى كثيرة بسبب ضيق الوقت، وعدم سعة المجال للكتابة، كما لا يسعنا بسبب صعوبة القراءة، وأنها قد تورث عند المستمعين تثاقلاً ومللاً، إلى غير ذلك، فيلجأ الإنسان إلى كتابة نقاط، أو عناصر، أو عموميات، ويشرحها في ما بين ذلك. فربما وقع الإنسان في ما وقع فيه، ولذلك كان أهل العلم من السابقين واللاحقين حين يريدون أن يفهموا كلام فلان وعلان، لا يراعون حروفه وألفاظه، لأن حروف وألفاظ البشر ليست وحياً، ليست كلام المعصوم عليه الصلاة والسلام، الذي يكون له منطوق ومفهوم، وله دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام، وينبغي أن يأخذ كله بالاعتبار! لا. هذا كلام إنسان يفهم في إطاره العام، يفهم في عمومه، يأخذ منه الفحوى والمقصود، ولا تتوقف عند حروف، أو ألفاظ، أو كلمات معينة. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 11 ضوابط النقد عند ابن القيم ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين (1-220) كلاماً مهماً، بهذا الصدد، يقول: " صحة الفهم، وحسن المقصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عباده، بل ما أعطي عبداً عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما، بل هما ساقا الإسلام وقيامه عليهما، وبه يأمن العبد طريق المغضوب عليهم، الذين فسد قصدهم، وطريق الضالين الذين فسدت فهومهم -إذاً لاحظ: حسن القصد، وحسن الفهم-: ويصير من المنعم عليهم الذين حسنت أفهامهم وقصودهم وهم أهل الصراط المستقيم الذين أُمِرْنَا أن نسأل الله أن يهدينا طريقهم في كل صلاة. وقال: والعلم بمراد المتكلم -وهذا هو الشاهد- يعرف تارة من عموم لفظه، وتارة من عموم علته، والحوالة على الأول -يعني على اللفظ- أوضح لأرباب الألفاظ -المعنيين بالألفاظ- والحوالة على الثاني -يعني المعنى- أوضح لأرباب المعاني، والفهم، والتدبر، وقد يعرض لكل من الفريقين ما يخل بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصير بها عن عمومها، وهضمها تارة، أو تحميلها فوق ما أريد بها تارة، ويعرض لأرباب المعاني نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ، فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين، انتهى كلامه. إذاً: يغلط الناس على المتكلمين أحياناً بأسباب منها: الأول: أنهم يعتنون باللفظ لا بالمعنى، والذي ينبغي أن يعتني الإنسان بالمعنى ولا يتوقف عند الحروف والألفاظ متى ما كانت محتملة. الأمر الثاني: أنهم قد يقعدون ويقصرون بهذه الألفاظ عن عمومها، ويهضمونها عن ما تدل عليه، وعن ما يراد لها. الأمر الثالث: أنهم قد يحملونها فوق ما تحتمل، وفوق ما تريد، ويفهمون من الكلمات فوق معانيها، فيجعلون للكلام منطوقاً ومفهوماً، ودلالة تضمن، ودلالة اقتضاء، ودلالة كذا، بل أكثر من هذا كله أنهم يجعلون كلمات ما وراء الكلمات، ويفهمون ما وراء السطور، وما وراء الحروف، وما بين السطور، وما أمامها، وما خلفها، ويضيفون إلى كلام المتكلم أنه يقصد كذا، ويريد كذا ويعني كذا. وكلمة يقصد، ويريد، ويعني، ليست من المتكلم إنما هي من المتلقي، ولا يجوز أبداً أن يُحمل المتكلم وزر المتلقي، دع ما في قلوب العباد لله عز وجل، فإن الله عز وجل لم يتح لأحد من البشر أن يعرف ماذا في قلوب العباد، إلا إذا باحت ألسنتهم، أما دخائل القلوب فإنه لا يعملها إلا الله عز وجل. ولا ينبغي للعبد أن يسترسل مع نفسه في تصور ما في قلوب الآخرين، فربما يخطئ، وربما تظلم، وربما تظن بإنسان ظناً وهو غير ذلك، فأولى بك ثم أولى أن تتقي الله عز وجل وأن تبتعد عن محاكمة قلوب الناس. فليس هناك نظام في الدنيا، من الأنظمة البشرية، ولا أَذِنَ دين من الأديان السماوية أن نحاكم ما في قلوب الناس، حتى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، كانوا يأخذون الناس بظواهرهم ويكلون سرائرهم إلى الله عز وجل. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 12 ضرورة الدفاع عن النفس قد يضطر الإنسان -أيها الأحبة- إلى الدفاع عن نفسه، حين يكون ثمة أمر يقتضي ذلك. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 13 الدفاع عن النفس عند الأئمة وأنتم تعلمون أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حصلت في زمنه أمور اضطرته أن يقول كما في صحيح البخاري أنه قال رضي الله عنه حين حوصر: [[أنشدكم الله -ولا أنشد إلا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حفر بئر رومة فله الجنة فحفرتها! ألستم تعلمون أنه قال: من جهز جيش العسرة فله الجنة، فجهزته!]] فصدقوه رضي الله عنهم وأرضاهم ورضي الله عنه لما قال. وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو الإمام العالم الفذ، لما ضايقوه، وآذوه، ونسبوا إليه ما هو منه براء، ونسبوه إلى مخالفة السنة، ومخالفة الجماعة، وسب الأئمة، والخروج عليهم، وغير ذلك، اضطر إلى أن يقول كلاماً كثيراً، حتى أنني أتعجب كلما قرأت هذه الكلمة التي قالها! وهو يتكلم عن عقيدته العقيدة الواسطية يقول: " قلت قبل حضورها كلاماً، قد بعد عهدي به، وغضبت غضباً شديداً! لكن أذكر أني قلت: إن أقواماً كذبوا علي، وقالوا للسلطان أشياء، وتكلمت بكلام احتجت إليه، مثل أن قلت: من قام بالإسلام أوقات الحاجة غيري، ومن الذي أوضح دلائله وبينه؟! وجاهد أعداءه، وأقامه لما مات، حين تخلى عنه كل أحد، ولا أحد ينطق بحجته، ولا أحد يجاهد عنه؟! وقمت مظهراً حجته، مجاهداً عنه، مرغباً فيه. فإذا كان هؤلاء يطمعون في الكلام فيَّ فكيف يصنعون بغيري؟! ولو أن يهودياً طلب من السلطان الإنصاف لوجب عليه أن ينصفه، وأنا قد أعفو عن حقي وقد لا أعفو، بل قد أطلب الإنصاف، وأن يحضر هؤلاء الذين يكذبون ليوقفوا على افترائهم، وقلت كلاماً أطول من هذا الجنس، لكن بعد عهدي به، فأشار الأمير إلى كاتب الدرج محي الدين أن يكتب ذلك ". وقلت أيضاً: [[كل من خالفني في شيء مما كتبته فأنا أعلم بمذهبه منه، ولا أدري هل قلت هذا قبل حضوري أو بعده! لكنني قلت أيضاً بعد حضورها وقراءتها: ما ذكرت فيها فصلاً إلا وفيه مخالفاً من المنتسبين إلى القبلة، وكل جملة فيها خلاف لطائفة من الطوائف، ثم أرسلت من أحضرها، ومعها كراريس بخطي من المنزل، فحضرت العقيدة الواسطية]] . فقد يحتاج الإنسان أن يقول كلاماً لا يخطر بباله، لكن بياناً لمن طلبه الحق، ومراده الصدق، وكشفاً للتلبيس عند بعض أصحاب القلوب الصحيحة. نقطة أخرى أيضاً: هناك الحاسدون والحاقدون هؤلاء لا كلام لي معهم، ولا ينتظروا يوماً من الأيام أي رد عليهم، فالموقف معهم أكبر، وأشمل، وأخطر من أن يتصوروا أنه يحل بكلمة، أو بجلسة، إنه أخطر بكثير مما يظنون ويتصورون، لكنه ليس هنا إنما هو في موقف آخر، وفي مجلس آخر، وفي دار أخرى. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 14 الخطأ وارد الخطأ وارد، ومن المناقشة ينبثق النور -كما يقال- والمناقشة العلمية الهادئة الرزينة لا يضيق بها أحد، بل نحن من دعاتها، والمراجعة الدائمة، والنقد الدائم، لوجه الله تعالى لا لغرض من أغراض الدنيا، هو من مقاصدنا. وقد كنت وعدتكم منذ زمن بدرس عنوانه: (النقد البناء وأهميته) أو نحو هذا، وسوف أطرحه إن شاء الله بعد أسابيع، ضمن سلسلة الدروس العلمية العامة، لأنني مؤمن أن النقد ضرورة للأفراد والجماعات والأمم، وأن الذين يخافون النقد، أو يهابونه، هم يكرسون أخطاءهم بأنفسهم، ويخدمون أعداءهم من حيث لا يشعرون، وأن الأمة لن تخرج من مذلتها، وهوانها، وأخطائها، إلا إذا آمنت بضرورة النقد، واقتنعت به، وتعاملت معه بغير حساسية، ولا تضايق، ولا انزعاج، بل أقل شيء أن لا تضيق به، وأحسن شيء أن تفرح بالنقد البناء، وتسر به، وتسرع إليه. وأنا -والله- من عشاق هذا، وأتطلع إلى اليوم الذي تصبح الأمة فيه تفرح بأن تنقد، أو على الأقل لا تضيق بالنقد، ولا تنزعج منه، بل تتقبله بصدر رحب، وإذا لم ننتقد أنفسنا فسوف ينتقدنا عدونا. فبضاعتنا اليوم هي للناس كلهم، بضاعتنا معلنة بالمزاد العلني؛ كتاب، أو شريط، أو مقالة، أو محاضرة، أو درس، أو فعل، أو تصرف، أو قرار، أو أي شيء، هي للناس كلهم فإذا لم ينتقدك العدو فتقبل من انتقاد الصديق، وإذا لم ينتقدك الصديق انتقدك العدو، وإذا لم تقبل من صديقك معناه أنك فتحت الباب على مصراعيه لعدوك، حتى يتشفى منك ويشهر بك! الجزء: 68 ¦ الصفحة: 15 صور من النقد أيها الأحبة: أذكر لكم بعض الأمثلة، وأختم بها هذا المجلس، الذي أسأل الله تعالى أن يكون مجلس خير وبركة، وأن يفهم هو الآخر على وجهه، فلا تأتي فيه كلمة يقصد، ويعني، ويريد هناك أمثلة، من الأمثلة: الجزء: 68 ¦ الصفحة: 16 حول صفات الداعية مثال آخر: قبل أسابيع تكلمت في درس عن (صناعة الحياة) وأطنبت في ذكر الأخلاق التي ينبغي للشاب الداعية أن يتحلى بها مع أهله وجيرانه وزملائه والناس والمجتمع؛ لأن هذا من أهم أسباب قبول الدعوة، وهذا الكلام إذا فهم على وجهه كلام لا غبار عليه. الآن أنت عندما تريد أن تتكلم عن صفات الداعية، ماذا سوف تفعل؟ سوف تحشد كل ما في رأسك من الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الداعية، بمعنى أنك سوف تذكر الصورة المثالية التي يتحلى بها الداعية، وهذا يعني أن لا أحد يدعو إلا إذا تحلى بهذه الصفات كلها! ما أحد قال هذا، لا. لكن أنت تذكر كل الصفات على سبيل الاستقصاء ومع ذلك يدعو الإنسان ولو أخل ببعض هذه الصفات، فكذلك ما قلته لا يعني أنني أقول: لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، ولا تغير، ولا، ولا، إلا إذا كنت بهذه المنزلة، لا، غَيَّر بقدر ما تستطيع. لكن إذا سألتنا عن الأسلوب الأمثل، والطريق الذي نعتقد أنه أكثر جدوى، وأعظم نفعاً ووقعاً، فهو ذاك الذي شرحناه ووصفناه، ولا يعني أن الإنسان لا يأمر ولا ينهى ولا يدعو إلا إذا كان بهذه المثابة، بل يأمر وينهى بقدر ما يستطيع حتى ولو لم يستجب له فإنه يأمر وينهى، فليتفطن لذلك. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 17 الإغراق في الجزئيات مثال ثالث: قبل أسابيع أيضاً تكلمت في موضوع (الإغراق في الجزئيات) وموضوع الإغراق في الجزئيات هو موضوع يشغل بالي، ولا أداري في ذلك، وأنا أدين الله تعالى بأن الإغراق في الجزئيات داء في الأمة كلها، على كافة المستويات، أنها تشتغل في كثير من الأحيان بجزئيات معينة عن ما هو أهم منها، بل قد تشتغل أحياناً بأمور لا داعي للاشتغال بها، وأحياناً تشتغل بأمور ينبغي الاشتغال بها، لكنها تغرق في ذلك، ولذلك عبرت بلفظ الإغراق، الذي يدل على أنني أدعو إلى الاعتدال والتوسط في ذلك. وقد فهم منه بعض الإخوة خلاف ما أردت! مثلاً: هل يعني حديثي عن بعض الجزئيات، أو ذكري لبعض الأمثلة، أنني أقصد بحديثي هذا فئة معينة، أو أستهدف طائفة معينة، أبرء إلى الله عز وجل من ذلك، ويشهد الله على ما في قلبي، أنه لم يكن في ذهني -وأنا أتحدث- فئة معينة، ولا طائفة معينة، ولا بلد معين، ولا إقليماً، ولا شيئاً، وإنما كنت ولا زلت أشعر أن هذا داء عند العام والخاص، وعند طلاب العلم، وعند الدعاة، وعند الجماعات الإسلامية، وعند الناس كلهم إلا من رحم الله، ولا أقول بأفرادهم لكن في مجمل المجتمع أنه موجود. ولو استصحبت هذا، وتأملت الناس، لوجدت ذلك جلياً، أحياناً أقوم بفرز بعض الأسئلة التي تأتيني في المحاضرة، فأجد أن أكثر من (90%) من الأسئلة تدور حول قضايا جزئية، إذاً أين الاهتمام بالقضايا الكلية؟! هل معنى ذلك أن الناس فهموا هذه الكليات؛ كليات العقيدة مثلاً، أصول الدين، معانيه العظام، هل فهموها حتى لا يسألوا عنها؟! معرفة سبل المجرمين وأعداء الدين، مقاومتهم، حربهم، هل المعنى أنهم فهموا ذلك كله، فلم يعودوا يسألون عنه؟! كلا. بل ربما يكون الغالب أنهم غفلوا عنه فلم يكن لهم في حساب أو في اعتبار! إن حديثي في الإغراق في الجزئيات لا يعني كان من الأحوال إهمال طلب العلم الشرعي، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه، كيف أدعو في محاضرة إلى إهمال طلب العلم الشرعي، وأنتم أيها الإخوة! شهود أن هذا المجلس العامر الذي يرتاده ما يزيد على 1500 بحمد لله من طلبة العلم، وهذا الدرس الآن هو رقم (109) ومنذ أوله إلى الآن وهو حديث عن مسائل العلم الشرعي، هدفه تعلم الحديث، وطالما قلنا: فلان ضعيف، وفلان حسن الحديث، وفلان صدوق، وفلان ثقة، وهذا الحديث حسن، وهذا ضعيف، وهذا له شاهد، والمسألة كذا، وقيل كذا، والراجح كذا، وبحثنا حتى المسائل التي ربما مثلت بها في الشريط المشار إليه بحثنا كثيراً منها في نفس هذه الدروس. وربما استغرقت أحياناً درساً كاملاً في مسألة واحدة، مثل مسألة الصلاة في النعلين، أو مسالة وضع اليدين على الصدر في الصلاة، تستغرق درساً كاملاً نذكر كل أدلتها، وكل الأقوال فيها، والراجح في ما يظهر، ليس هذا يعني ترك العلم الشرعي وعدم طلبه! وكيف أدعو إلى ترك العلم الشرعي وهو بضاعتنا؟! وأنتم أيضاً بحمد لله تعرفون، وهذا مما قلت: إن الإنسان قد يضطر إلى أن يقوله: إننا منذ أكثر من ست سنين نعقد درساً يومياً بعد صلاة الفجر، لا هم لنا فيه إلا دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب العقيدة مثلاً كالأصول الثلاثة، القواعد الأربع وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية، وكتب المصطلح، وكتب أهل العلم كزاد المعاد وغيرها، وهذه بضاعتنا، وإذا انفض الناس عن طلب العلم الشرعي، فسينفضون -في جملة من يفضون عنه- سينفضون عنا أيضاً، فكيف يتصور هذا وثمة محاضرات كثيرة ألقيتها في مناسبات شتى، تدور حول حث الشباب، وشباب الصحوة، والناس عامة، على طلب العلم الشرعي! منها: محاضرة "العلم يقتضي العمل" و"الطريقة المثلى للتفقه في الدين" و"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" و"من وسائل التعلم" و"مزالق في طريق الطلب" إلى غير ذلك. فهذا ليس وارداً، ونحن نعتقد أنه لا قوام، ولا قيام، ولا صلاح للأمة، وللدعوة، إلا بطلب العلم الشرعي الذي يصحح مسيرتها. ولا يعني الحديث في هذه المسائل عدم العمل بالسنة مثلاً، وكيف ونحن نتعلم السنة، ونعلمها، ونعمل بها، وماذا يفعل واحد منا إذا صلى، أو صام، أو حج، أو فعل شيئاً؟! إلا أن يفعل هذه السنن التي يتعلمها ويُعلمها، ولا مانع أبداً أن تبحث هذه السنة، وتعرف الراجح والمرجوح، ولكن لا يعني هذا أن هذه السنة صارت هي كل همك، فلا تتكلم إلا بها، ولا تبحث إلا عنها، ومعظم مجالسك وأحاديثك واهتماماتك تدور حولها، أو حول مسألة أو مسألتين تشبهها! وكيف يظن ذلك؟! وفي مناسبات عدة تكلمت عن السنة، وحاولت أن أدافع عنها، ومحاضرة في "أحاديث موضوعة متداولة"، ومحاضرة في "كيف ننشر السنة"، "صفة الصلاة وحكمها" هذا شريط تكلمت فيه عن هذه السنن، "الدفاع عن السنة"، "التفسير النبوي للقرآن الكريم" وغير ذلك، وكتاب حوار هادئ مع الغزالي حافل بمثل هذه المسائل وهذه المباحث. لماذا لا تفهم الكلام على ضوء ما تعلمه من المتحدث؟! كيف تفهم أن طرق مثل هذه المسائل يعني: أننا ندعوك إلى الاشتغال بالواقع؟! لا يا أخي! نحن لا نقول: اشتغل بالواقع، قلنا: اشتغل بالدين عافاك الله! ما تكلمت قلت: اتركوا العلم، وتعالوا انزلوا للواقع، نحن نقول: ابحثوا مسائل العقيدة، وأصول الدين، وقضاياه الكلية، وكذلك قضايا الواقع هي جزء منها أيضاً. نحن لا ندعو إلى الغفلة عن الواقع، ولا يمكن تطبيق الدين إلا بفهم الواقع، حتى تنزل الدين عليه، وتعرف أن هذا خطأ وهذا صواب، وهذا حق وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وهذه من الأحكام الوضعية التي ينبغي أن يعلمها الناس، بل نحن ندعو إلى فهم أصول الدين وكلياته، ومقاصده العظام، وندعو أيضاً إلى بحث هذه المسائل الفرعية، والاهتمام بها، لكن دون إغراق. فأنصفونا بارك الله فيكم! وكيف يظن أننا نتغافل، أو نتجاهل -مثلاً- عن قضية العقيدة، وقد ذكرت لكم قبل قليل أنني شرحت منها عدداً من الكتب، وعدداً من المتون كالقواعد الأربع، والأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وفي النية شرح أشياء أخرى، وثمة محاضرات كثيرة في العقيدة، "أصول الإيمان"، "أسباب تقوية الإيمان"، "غنى الخالق"، "الرضا بالله"، "من ألوان الشرك"، "مفهوم الشهادتين"، " "أفحكم الجاهلية يبغون"، "الخصائص السلوكية للفرقة الناجية"، "خصائص الطائفة المنصورة". أم كيف يظن -مثلاً- أننا ندعو إلى ترك دراسة علم المصطلح، وهو جزء من بضاعتنا التي نهتم بها، وقد وفقنا الله تعالى إلى شرح "نخبة الفكر" للإمام الحافظ ابن حجر، وقطعنا فيها شوطاً بعيداً، وبقي منه جزء يسير، وثمة محاضرات أيضاً في المصطلح، كـ"طرق التخريج" وهي ثلاثة أشرطة إلى غير ذلك. فلا يعني هذا إلى بحث المسائل المذكورة، ولا عدم الاشتغال بها، إنما يعني: عدم الإغراق فيها، كما أنني أود أن أشير إلى أن كثيراً من الأجزاء الحديثية، التي ألفت في مسائل أشرت إليها في المحاضرة السابقة، أنها عندي وأستفيد منها بحمد لله، وأشكر الله تعالى، ثم أشكر من ألفوها، فقد وفروا على طلبة العلم جهداً كبيراً، ومن يستطع -مثلاً- أن يتجاهل حين يبحث مسألة من تلك المسائل الأجزاء الحديثية النفيسة، التي كتبتها براعة العالم الفاضل الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، في قوة بحثه، وسلاسة عبارته، ومكانة أسلوبه، وسعة علمه. وإنني لا أمر بمسألة أبحثها، وأعلم له فيها كتاباً، إلا رجعت إليه، أفدت من عنده، سواء أشرت إلى ذلك كما حصل في مواضع أم لم أشر إليه. وكذلك كُتُب أخينا الشيخ فريح البهلال له عدد من الأجزاء الحديثية المفيدة، وعدد كبير لا أحصيهم، ولا يأتي عليهم الحصر من إخواننا، من هنا، ومن الكويت، ومن مصر، ومن سواها، كتبوا أجزاءً حديثية في مسائل كثيرة، في زكاة الحلي مثلاً، في صفة الصلاة، في وضع اليدين، كلنا نستفيد منها، ونتعبد الله بقراءتها ودراستها، ونشهد الله على محبة الذين كتبوها، وعلى شكرهم على ما يسروا لنا من العلم. ففرق بين الاستفادة من هذه الأشياء، وبين كوننا نجعل هذه المسائل المطروحة هي كل همنا، وهي سبب الاجتماع بيننا أو التفرق، وهي الفيصل. حتى ربما قال إنسان: أشهد الله على بغض فلان، لأنه خالفه في مسألة! والله فلان ربما أني أبغضه في الله، وربما أشن عليه الحرب، لماذا؟ لأنه خالفه في مسألة أو مسائل، متى كان هذا؟! على كل حال الأمثلة التي ذكرتها هنا، أو ذكرتها في تلك المحاضرة، أو في غيرها، ليست مقصودة لذاتها، احذف الأمثلة، الأمثلة لا تعنينا، لأن الاهتمام بالأمثلة من الإغراق في الجزئيات أيضاً. خذ القاعدة العامة وهي: أننا ندعو الأمة أن تهتم بالكليات أكثر من الجزئيات، ولا تغفل الجزئيات. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 18 الفرق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة السؤال سألني بعض الإخوة عن الفرق بين الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وقالوا: إنك فرقت في عدد من محاضراتك وكتبك بينهما. فهل من دليل على التفريق بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة؟ الجواب أقول أولاً: لنفترض أن ما قلته خطأ، وأن الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة من غير فرق بينهما. فهذا الاجتهاد مني إن كان خطأ فأنا أستغفر الله عز وجل منه وأتوب إليه، وأبرأ إلى الله تعالى من كل ما لا يوافق الكتاب والسنة، علمت ذلك أم لم أعلمه. وهذا الخطأ لا يخل بأصل الاعتقاد والحمد لله، ولا يخرج الإنسان من مسمى أهل السنة والجماعة، ولا يترتب عليه شيء. إنسان اجتهد فأخطأ، وإن شاء الله أنه باجتهاده لم يقصد إلا الصواب. أما كلمة يقصد، ويعني، ويريد، فهذه نرجو أن نتفق على استبعادها، ونتركها للدار الآخرة، ونتركها لرب العالمين. ومع ذلك أقول: لم أكن فيما أعتقد، وفيما أعلم، لم أكن أول من قال بذلك، بل الذي أظنه أن التفريق بينهما شائع معروف، وخذ على سبيل ذلك أمثلة: في صحيح البخاري في حديث الطائفة المنصورة لما تكلم معاوية رضي الله عنه مع أهل الشام في ذكر الطائفة المنصورة إنه: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين} قام مالك بن يخامر -من التابعين- فقال: [[إنه سمع معاذاً يقول وهم بالشام، فقال معاوية رضي الله عنه: هذا مالك بن يخامر وبه النسمة، يقول: إنه سمع معاذاً يقول: وهم بالشام]] . قوله: وهم بالشام من المقصود؟ أليس المقصود الطائفة المنصورة؟! نعم. المقصود الطائفة المنصورة. إذاًَ: معاذ بن جبل ينقل أنهم بالشام، وينقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. مالك بن يخامر يقول: وهم بالشام، معاوية رضي الله عنه لما احتج بهذا الحديث، ماذا كان يعني؟! كان يعني أن أهل الشام الذين كانوا معه هم الطائفة المنصورة في مقابل من؟! في مقابل أهل العراق؛ علي رضي الله عنه ومن معه بالعراق. فهل تظنون بـ معاوية رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يعتقد أن علياً ومن معه، من الفرق الضالة الهالكة أهل النار!؟ حاشاه وحاشاه، وإنما كان يقول: نحن المنصورون وهم لن ينصروا. وهكذا كان، لقد نصر أهل الشام كما هو معروف وآلت الدولة إلى بني أمية، فكانوا كما ذهب إليه معاوية رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا هم المنصورين في تلك الفترة. ولا يعني أنهم أولى بالحق من غيرهم، بل كان علياً -رضي الله تعالى عنه- ومن معه أولى بالحق من جوانب كثيرة. لكن لله في خلقه شئون وحكم، والأمر لله من قبل ومن بعد. فهذا أمر ظاهر أن معاوية رضي الله عنه لم يكن يريد أن يقول: إن علياً وأهله ومن معه وأهل العراق أنهم فرقة ضالة، وأنهم من أهل النار، وإنما كان الأولى أن يظن أنه كان يقول: إن الله سوف ينصر أهل الشام. وقد استدل بعضهم بقول الله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء:33] على انتصار أهل الشام وغلبتهم، وذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وقرره في مواضع فيما لا مزيد عليه. شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تكلم في هذه المسألة، وأشار إلى هذا المعنى، بكلام ظاهره أنه فعلاً يرى أن الفرقة الناجية شيء والطائفة المنصورة شيء آخر. فالفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، الذين التزموا العقيدة الصحيحة حين انحرف أهل البدع عنها وضلوا فهم ناجون. أما الطائفة المنصورة فهي فئة جادلت، وحاربت وقاتلت. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم نص في الحديث -ونحن ينبغي أن نكون من أهل الحديث- أن الطائفة المنصورة يقاتلون أو لا؟ ما قال: يقاتلون. والنصر يحصل لمن؟ يحصل للمقاتلين، لكن الذين ما قاتلوا، الذين تركوا القتال وقعدوا عنه، أو اعتزلوا باجتهاد منهم، أو لسبب أو لآخر، أو اشتغلوا بأي أمر من الأمور، وهم على عقيدة صحيحة، ومن أهل السنة والجماعة، لكنهم لم يقاتلوا، يجدر أن لا يكونوا من الطائفة المنصورة، وإن كانوا من الفرقة الناجية. أرأيت إنساناً سليم الاعتقاد، صحيح العقل، صحيح العبادة، نقي السريرة، على مذهب أهل السنة في كل شيء، لكنه رأى فساد الزمان فقال: أنا أرى أن أعتزل الناس وأتركهم! فاعتزل في شعب من الشعاب، يعبد ربه ويدع الناس من شره، هل تستطيع أن تقول: إن هذا من الطائفة المنصورة؟! لا تستطيع، لأنه لا يقاتل، ولا يقاوم أصلاً، حتى يتحقق له النصر، لكنك تستطيع أن تقول: إنه من الفرقة الناجية؛ لأنه لم يأت بما يخشى أن يعوقه عن النجاة، وعندي على ذلك بعض الأدلة: منها أن الأصل أنه إذا اختلف الاسم؛ اختلف المسمى، فالرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الطائفة المنصورة باسمها، وذكر في الحديث الآخر {أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة} فإذا اختلف الاسم دل على اختلاف المسمى، والقول بتوحد المسمى مع اختلاف الاسم يحتاج إلى دليل ظاهر، خاصة وهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا اختلف الاسم، واختلف الوصف، فهنا النجاة، وهنا النصر، وهناك سماها فرقة وهنا سماها طائفة، والطائفة في الغالب أقل من الفرقة عدداً. هناك كلام يطول، لكن هذا بعض ما حضرني، ومع ذلك لست أقول: إن هذا الكلام اجتهاد يجب على الجميع اتباعه، أنا مطمئن قلبي بذلك، وعندي أدلة من القرآن والسنة، وقد بسطتها أو شيئاً منها في كتاب صفة الغرباء لكن يمكن أن يكون اجتهاد في غير محله، ليس في الأمر ما يستدعي أن س يضخم هذا الأمر. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 68 ¦ الصفحة: 20 الإعلام يغزو بلاد الإسلام السؤال سأبذل وسعي والله المستعان! كنت في طريقي إلى الدرس هذه الليلة، وبالتحديد قبل ثلث ساعة، أو نصف ساعة وأدرت مفتاح الراديو وإذا بأخبار لندن وكل أخبارها سوء، كان الخبر يدور حول إبرام عقد بين هيئة الإذاعة البريطانية وتلفزيون البحرين وذلك بشأن بثها الجديد الخاص بهيئة الإذاعة البريطانية، ويقول: إنَّ بإمكان كل من في دولة البحرين وما جاورها أن يلتقط البث الذي يستمر 18ساعة يومياً، ابتداءً من السنة الميلادية الجديدة في منتصف شهر نوفمبر، وكل هذا الإفساد لأبناء المسلمين، والله المستعان! ويقول: الحمد لله لقد قطعت عليهم الطريق إن شاء الله للدخول إلى بيتنا العزيز، وقد نفذنا حكم الإعدام على التلفاز فجر يوم الأحد الماضي (27/4) وذلك بإجماع عائلي، وبالتحديد بمعدل (9990 من 10000) -هذه معدلات الانتخابات والحمد لله- فهل آن للجميع التنبه قبل الغرق، هذا ما نرجو من الله، وأخيراً دعواتكم لنا ولجميع المسلمين. الجواب جزاك الله خيراً. هذا من الاهتمام بأمور المسلمين، وبالأمس أعطاني أحد الشباب قصاصة من مجلة اليمامة، يعتبون فيها على بعض الذين يبيعون الدش الذي يستقبل البث، يقولون: يباع أحياناً بـ (100000) وهذا سعر غالي، وهو يباع في الدول المجاورة بـ (20000) وبـ (25000) وبأقل من ذلك، ولا ندري من هي الجهة المسئولة عن هذه التجارة، حتى نرفع إليها الشكوى. وقبل أسبوعين ذكرت لكم في بعض الدروس إعلان في بعض الجرائد المحلية، عن بيع جهاز صغير صنع خصيصاً لاستقبال هذه الأمور. المسلمون بشكل عام يواجهون غزواً مركزاً وقوياً، وبعض الإخوة من طيبة قلوبهم يقول: لا تقرءوا مثل هذه الأشياء ولا تخبروا الناس بها. الناس عارفون، الذين يقرءون الجريدة أحياناً مئات الألوف، وحتى لو لم ينشر في الجريدة، فهذا أمر معروف في كل مكان، وإذا ما عرفوا اليوم عرفوا غداً، وإذا ما عرفوا الساعة عرفوا العام القادم. لكن الشيء المهم هو أن نعرف نحن في أي أرضية نتحرك، وما هو العدو الذي نواجهه؟! وما هي الجهة التي ينبغي أن نصب تركيزنا عليها، ونبذل وسعنا في محاربتها، وحماية المجتمع والأمة منها؟! لأن هناك بلا شك خطة قوية لإغراق المجتمع، وأقول: بالذات في هذه البيئات التي لا زالت محافظة أكثر من غيرها. إغراق المجتمع في ألوان من المشاهدات، والمسموعات، والمطبوعات، التي سوف تغير عقليات الناس زيادة على ما هم عليه. نسأل الله أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يكفينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، وأن يهدي قلوبنا، ويصلح نياتنا، وذرياتنا، وسرائرنا، وظاهرنا وباطننا، إنه على كل شيء قدير، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى. اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك. اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 21 مسألة تكفير مرتكب الكبيرة السؤال أنا عاشق للحق، في أحد الأيام جلست مع بعض الإخوة الجزائريين فقالوا: إن الشيخ سلمان يكفر مرتكب الكبيرة، فقلت: كيف ذلك؟! فجاءوا بكلام غريب، وبعد التتبع عرفت أنهم أخذوا قطعة من كلامك في شريط "جلسة على الرصيف"؟ الجواب جزاك الله خيراً، على كل حال، والمهم أن هذا جيد، مسألة: تكفير مرتكب الكبيرة. ماذا يحتاج منك حتى تعرف عقيدتي في مرتكب الكبيرة؟ لا يحتاج أنك تلتقط كلمة من شريط، فهذه قضية واضحة، يمكن أن تفهم من عموميات الكلام، وكما ذكرت لكم سبق أنه شرحت كتباً بأكملها، وجاءت محاضرات كثيرة، وهناك محاضرة عنوانها "مفهوم لا إله إلا الله" تكلمت فيها عن هذه المسألة. كما أني رددت على الخوارج في مواضع لا تحصى كثرة، ومنها محاضرات عنوانها الصحوة بين الإفراط والتفريط" أو"الشباب بين الإفراط والتفريط"، "الصحوة ما لها وما عليها"، "ترشيد الصحوة" إلى آخر ذلك. تكلمنا على الخوارج بالاسم، فما تحتاج حتى تعرف عقيدة فلان في الخوارج، أن تلتقط كلمة يمكن ألا تكون العبارة فيها محبوكة مسبوكة، إلا إن كنت صاحب هوى! أما الكلمة التي في الشريط، فيكفيك أنك ترجع إلى الكتاب، لأنه كما قلت لكم قبل قليل، الشريط يحول إلى كتاب فيصحح، وتحبك عبارته، بما لا يتسنى للمتكلم الذي قد لا يتفطن أحياناً لما يقول. فارجع إلى الكتاب، لأن الشريط تحول إلى كتاب، وانظر تلك العبارة، كيف بينتها وأشرت إلى أن مقصودي الذين يستخفون بأحكام الله عز وجل، ويفتخرون، لأن الكلام كان عن مغني معين، وكنت أقصد في جلسة على الرصيف في الشريط، كنت أقصد مغنياً معروفاً لا داعي لذكر اسمه، له أشرطة متداولة، هذه الأشرطة وقفت عليها، فرغها لي بعض الشباب في أوراق، ووجدته يفتخر بالزنا، ويعير من لا يزني، ويسخر به، ويتمنى أن تمطر السماء مجرمين ولوطية والعياذ بالله! وأن وأن، ويبين كيف غرر بفتاة، وكيف جرها، وكيف وكيف! بكلام يعلم يقيناًَ ممن قرأ ذلك الكلام، أو سمعه، يعلم أن هذا الإنسان لا يعتبر الزنا فاحشة كما ذكر الله تعالى، ولا يؤمن، وإنما يعتبره رجولة، وفتوة وكمالاً، وينتقص من لا يفعله! ونحن نعلم أن الأنبياء، والصالحين، وغيرهم، كلهم على هذا منتقصين عند هذا الإنسان؛ لأنهم أطهار نزيهون عن مثل ذلك! فكان هذا مقصودي، فلا شك أنه قد تكون العبارة ليست محبوكة مسبوكة بشكل واضح، والمعنى واضح إذا فهمته بالكلام الذي ذكرناه قبل قليل، على طريقة ابن القيم التي أشار إليها. لكن مع ذلك جاء الكتاب، والكتاب لعلني أقول: طبع منه بحمد لله أكثر من (250. 000) نسخة، ووزعت في كل مكان. فلم يكن هناك مجال للاتهام، إلا إنسان يريد التشويه ونقول: سامحه الله، ولكن لا بد من بيان الحق لمن أحب أن يعرفه، أما من أحب أن يبقى على ما هو عليه فهو وما يشاء. الجزء: 68 ¦ الصفحة: 22 الحصن الحصين من الشيطان الرجيم الشباب فترة القوة والعطاء، هو وقت بناء الدين في النفس والتربية في كل شأن من شئون الحياء، وقد فرض الغرب رؤيته الخاصة على التقدم التقني والتجريبي، وحيث لا مبدأ أخلاقياً عنده؛ فقد تأثرت البلاد الآخذة منه، فلابد من توعية الشباب ونصيحتهم ودلالتهم على طريق المسلمين حتى لا يجرفهم التيار. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 1 تسخير الكفار شتى الوسائل لخدمة أغراضهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أيها الأحبة الشباب: إن جلوسي مع أمثالكم يطيب، وما ذاك إلا لأن الإنسان يشعر وهو يتحدث إليكم أنه يقدم إلى أمته شيئاً قد ينفع، أو أنه يدفع عنها ضراً قد يصيبها في صميمها. وأعتقد أنكم أصبحتم تدركون جيداً -الآن- أننا أمام عدوٍ كشَّر عن أنيابه، مدجج بأحدث السلاح، وهو عدو يملك الحضارة؛ وبالتالي أصبح يهيمن على الدنيا إلا ما شاء الله، وسخر كل المنجزات وكل الإبداعات وكل العلوم؛ سخرها لمسخ هوية المسلم، وسحق بقايا الإسلام. فمثلاً: سخر الإعلام الذي جعل العالم كله قريةً واحدة فتقال الكلمة في المغرب؛ فتسمع في المشرق، ويحدث الحدث هنا؛ فيرى في كل أنحاء الدنيا في اللحظة التي حدث فيها. وسخر العدو الكافر الكاسر هذا الإعلام لتضليل المسلمين، وتغيير عقولهم، ومسخ أخلاقهم، التلفاز -مثلاً- نموذج، والإذاعات نموذج، وأفلام الفيديو نموذج، والمجلة الخليعة نموذج، وشريط الغناء الماجن نموذج، وآخر ذلك ما يسمى بالبث المباشر الذي أصبح بعض بني قومنا يستقبلونه بكل ترحاب، وإنه لعجبٌ من العجب. هل رأيتم إنساناً يستقبل عدوه بالأحضان، ويفتح له ذراعيه، ويضحك في وجهه، ويفتح له البوابة على مصراعيها، ويقول له: تفضل؟! هذا هو والله ما يحدث تماماً. من هؤلاء الذين تشاهدهم في التلفاز أو في المجلة أو في الشريط؟ أليسوا يهوداً، ونصارى، ووثنيين، أي: أنهم بشكل عام من أهل النار، وأي مرض لقلبك أمرض من أن تفتح عينيك لمشاهدة أهل النار، فمشاهدة الأخيار؛ تقربك إلى الله عز وجل وتذكرك به، تدعوك إلى الإيمان، فكذلك مشاهدة وجوه الكافرين تدعوك إلى النار. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 2 العبر من قصة جريج العابد ألم تعرف قصة جريج العابد؟ لما كان في صومعته يصلي فنادته أمه وهو يصلي، فتردد وقال: يا رب، أمي أو صلاتي؟! أي: هل أجيب أمي أم أستمر في صلاتي، فترك أمه وظل يصلي، فنادته مرة أخرى، ومرة ثالثة، فغضبت عليه وقالت له: -وهذا هو أسوأ دعاء يمكن أن تدعو به على ولدها- قالت: لا أماتك الله حتى يريك وجوه المومسات! والمومسات هن الزانيات اللاتي يتعاطين البغاء والفجور. فقط دعت عليه أن يريه الله وجوه المومسات، وهذا أسوأ دعاء، وأعظم عقوبة يمكن أن توجهه إليه، وكانت هناك امرأة بغي من بني إسرائيل فأعطاها بعضهم مالاً على أن تفتن جريجاً، فجاءت إليه فلم تظفر منه بشيء، حيث إنه أعرض عنها وأقبل على صلاته، فذهبت إلى الراعي الذي يرعى الغنم، ومكنته من نفسها، فزنى بها، وحملت، فجاءت إليهم وقالت: هذا من جريج، قد زنى بي جريج وأنا حملت منه! فجاءوا إليه وكانت صومعته من طين فهدموها وجرجروه، وقالوا: انزل يا خبيث! أنت تتظاهر بالدين وأنت كذاب، فعلت الفاحشة في هذه المرأة، وهذا الولد منك، فبهت جريج لبعده عن هذه الأمور، ودعا الله تعالى أن ينقذه من هذه الدعوى الكاذبة، فأقبل على الغلام، وقال له: يا غلام، يا باقوس، من أبوك؟ يصرخ بهذه الكلمة لأنه ينادي الله الذي لا يتخلى عن الصادقين أبداً، فأنطق الله هذا الغلام وقال: أبي هو الراعي، فاندهش الناس، لأنهم علموا أن جريجاً أبرأ وأطهر من السحابة في سمائها، واندهشوا لأنهم علموا أن له من المنزلة والمكانة عند الله ما جعل هذه الكرامة تتحقق له فينطق الطفل الرضيع ببراءته، واندهشوا لأنهم قد عرفوا أنهم قد اتهموه وآذوه وظلموه، فأقبلوا إليه يضمونه ويقبلونه، ويقولون له: نبني لك صومعة من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت؛ لأن أهل العبادة وأهل الآخرة لا تهمهم المظاهر! فالمهم في القصة أنهم لما جرجروه وجاءوا به من الصومعة، ومشوا به في أحد الشوارع؛ فالتفت -حانت منه التفاتة- وإذا به يجد لوحاتِ وبيوتَ وأماكنَ البغاء -هذا يوجد حتى مع الأسف في بلاد إسلامية، لكن في بلاد الغرب معروف، أماكن خاصة للفساد- فلما التفت وجد البغاء، ووجد البغايا على الأبواب يعرضن أنفسهن، فضحك ضحكة مشوبة بالدموع؛ لأنه تذكر دعوة والدته وأنها هي التي جرته إلى هذا المكان، حتى يرى وجوه البغايا ووجوه المومسات، ثم استغفر الله تعالى. ففي هذه القصة عبر، من هذه العبر: الجزء: 69 ¦ الصفحة: 3 خوف الأطهار السابقين من مجرد النظر إلى الفاجرات انظر إلى هؤلاء الأطهار -من بني إسرائيل- كيف كان مجرد النظر إلى وجه المرأة الفاجرة يؤذي قلوبهم، وكان أقصى ما تدعو به المرأة على ولدها أن يرى وجوه المومسات، وقارن هذا بأناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أصبحوا بمحض اختيارهم وطوع إرادتهم يتمتعون بالنظر لا إلى وجوه المومسات فقط، بل إلى ما هو أكثر وأعظم وأفضع من ذلك!! وانظر كيف انكسر الحاجز الآن؟! فهل أنت تشعر يا أخي وأنت ترى الكافر، سواء وأنت تراه على الشاشة أم تراه على الطبيعة، أياً كان هذا الكافر ولو كان خبيراً كبيراً، ولو كان دكتوراً ولو أخصائياً؛ ولو كان بروفيسوراً أو لو كان أي شيء آخر، هل نسيت أنه كافر؟! أم أنك أصبحت تستحي أن تطلق هذه العبارة، كأنه عيب أنك تقول: كافر، بل هو كافر بالتأكيد، وإذا كان غير مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولا متبع لشريعته فهو حطب جهنم، والله عز وجل يقول: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وقال في الآية الأخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] وقال في الآية الثالثة: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] متى يقول هذا؟ يقول هذا حينما يقال للحيوانات في الدار الآخرة: كوني تراباً، فيتمنى أنه لو كان حيواناً ليقال له كن تراباً. كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا الجزء: 69 ¦ الصفحة: 4 الإعراض عن زينة الدنيا والتغلب على النفس في قصة جريج -التي أسلفتها لكم قبل قليل- أمر الإعراض عن زينة الحياة الدنيا، من الحرام، أو من الحلال الذي قد يجر إلى الحرام، فأنت ترى جريجاً هذا، من أي شيء خلق؟ من تراب ومن طين، مثله مثلي ومثلك، فالطبيعة واحدة، والطبيعة التي خلق منها الأبرار الأطهار حتى الأنبياء خلقوا من طين من تراب، والصحابة والفضلاء والزهاد والعباد، وأهل الفردوس الأعلى وأهل الجنة كلهم مخلوقون من تراب، فإن أباهم آدم خلق من تراب: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران:59] . فالعواطف واحدة، والمشاعر واحدة، والغرائز موجودة، فـ جريج أو غير جريج إذا رأى ما يثير تثور أعصابه، وتثور عواطفه وغريزته، فليس هو حجراً أصمَّ لا؛ ولكنه في مقابل ذلك يجد من وازع الإيمان ما يردعه ويمنعه، ولهذا قال الله عز وجل في وصف أهل الجنة: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] إذاً: فالهوى موجود في النفس، ولكنه ينهى نفسه عن ذلك ويدافعها ويستعيذ بالله عز وجل. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 5 قصة يوسف يوسف عليه الصلاة والسلام، شاب قوي في بلدٍ غريب، ليس له أهل، ولا أب، ولا أم، ولا زوجة، ولا قريب! وأيضاً هو في أي مكان؟ في قصر الملك! وتصور ماذا يوجد في قصر الملك من الفتن والمغريات والزخارف ومن الزينة الدنيوية والإغراءات؟! وحدث ولا حرج! وهو شابٌ في غاية الوسامة والجمال، أعطي شطر الحسن، يتعرض للإغراء على يد من؟! ليس على يد الخادمة أو على يد الممرضة، إنما على يد امرأة العزيز نفسه، زوجة رئيس الوزراء، قتغلق الأبواب، وليس هناك خوف من العقوبة، وتقول له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] تعال، أنا مستعدة وهي امرأة جميلة وهذا واضح لأن العزيز لن يتزوج إلا امرأة في غاية الجمال، وسيبحث عن أجمل النساء، وتتهدده إذا لم ينفذ بالعقوبة: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] . فهناك تحديات عديدة، وإغراءات لا نهاية لها، ومع ذلك يعرض عنها ويشيح عنها بوجهه ويقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} [يوسف:23-25] انظر الآية: (واستبقا الباب) وتصور يوسف وهو يركض هارباً والمرأة تركض وراءه أيهما يصل أولاً، حتى يدخل العزيز إلى آخر القصة المعروفة. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 6 الخطر الذي يواجه الشباب العاملين في المجال الصحي أعتقد أيها الشباب أن أخطر شيء يواجهكم الآن هو المغريات وفتن الشهوات، فأنت الآن تضع قدمك في بداية طريق نهايته معروفة، نهايته المستشفى أو المستوصف، والواحد منا حين يزور المستشفى لحاجة لابد منها -للمرض- يشعر بالضيق حتى يخرج منها مع أن بقاءه فيه لحظات معدودة، أو ساعة أو ساعتين؛ لما يرى فيها من المظاهر التي لا تسر من اختلاط الرجال بالنساء، ووجود الممرضات بأبهى زينة، وبملابس تحدد وتحجم الجسم، والعطور تفوح، والشعور والنحور مكشوفة، والمكياج على الوجه، والضحكات تتعالى في الفضاء، والابتسامات توزع بالمجان يمنة ويسرة، وربما تعتقد الممرضة أن هذا جزء من عملها وما يقتضيه واجبها! وفوق هذا كله قد تكون الممرضة في حالاتٍ كثيرة غير مسلمة أصلاً، بمعنى أنه ليس عندها دين يردعها أو يمنعها، وفوق هذا وذاك هي في بلدٍ غريب، وليس عندها زوج، أضف إلى هذا كله أن غير المسلمات قد أتين من بلاد لا يرون أصلاً في هذه الأمور والعلاقات المحرمة -عندنا- لا يرون فيها هم بأساً، فبلادهم في الغالب بلاد إباحية. وبالمقابل أنت شاب في سن المراهقة، وهيجان الغريزة، وقوة الشباب، وقد تكون أيضاً غير متزوج وأنت تعيش في مثل هذا الجو، فلو أردنا أن ننظر للقضية بالمقياس العادي، القضية هذه مثلما لو قلت: (بترول) ووُضِعت بجواره نار فإن النتيجة معروفة وهي الحريق، فهذا هو الأصل، وقد يقول قائل: أنت ما زدت على أن وصفت لنا الأمر الواقع، فأقول: نعم، أحياناً قدرتك على تصور ما أنت مقبلٌ عليه والواقع الذي تعيشه تعنيك على البحث عن الحل. طبعاً هناك فئة من الناس قد يكون أصل توجهه إلى هذا العمل رغبة في مثل هذه الأجواء والفئات، وهذا لا شك جر نفسه إلى أمر خطير، ونحن نقول: أعظم ما عليك هو سلامة نفسك، والبحث عن النجاة، فسعيك في نجاة نفسك وفكاكها وخلاصها أعظم من كل شيء، وهب أنك عشت فقيراً، أو هب أنك مت جوعاً أيضاً، ما يضيرك شيء لأنك إن مت وأنت مؤمن فأنت إلى الجنة، وماذا يضير الإنسان أن يكون عاش عشرة أو عشرين سنة في تعب وشقاء إذا كان مآله إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. إذاً: أهم ما عليك هو السعي لنجاة نفسك وخلاصها، لكن قد يأتي الإنسان لهذا العمل لغرضٍ آخر، قد يكون جاء لغرض شرعي، وهذا وارد؛ فمن الممكن أن يقول قائل: أنا أتيت لأن هذا المجال مهم وحيوي وحساس ولابد للمجتمع منه، فأنا أتيت لأسد هذا الفراغ بدلاً من غيري وأحاول أن أصلح بقدر ما أستطيع وآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأحافظ على أعراض المسلمين وعلى نسائهم وعلى أمورهم وأنصح لهم؛ ولا شك أن هذا الكلام معقول ومنطقي، فنحن ماذا ننتظر -مثلاً- من بوذي، أو هندوسي، أو نصراني، أو يهودي إذا كان هو يقوم بترتيبات لإجراء عمليات على مسلم أو مسلمة، أقل شيء أنه يكون متهاوناً وغير مبال، وقد يدخل الرجل أو قد تدخل المرأة في المستشفى -كما تعرفون قصصاً وأخباراً من هذا القبيل- سليماً معافى، وتكون هناك عملية عادية، فنتيجة الإهمال أو نتيجة عمل مقصود أيضاً قد يتسبب في وفاته، فإذا كان غير مسلم فماذا تنتظر من عدو دينك إلا هذا؟! وقد يكون مجيء الإنسان لمثل هذه المجالات أيضاً لا لهذا ولا ذاك، فيقول: أنا لم آت لغرض سيئ والحمد لله، وفي نفس الوقت لم آت لغرض صالح وهو أني أريد خدمة ديني والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمحافظة على أعراض المسلمين، إنما أتيت للمعاهد الصحية أو للمجال الصحي لمجرد أنه مجال وظيفي متاح لي، وقد لا أجد مجالاً آخر مثله، بمثل هذا المستوى الدراسي، وبمثل هذا العطاء، وبمثل هذا الخير، وبمثل هذا المستوى الوظيفي؛ فأقبلت عليه من هذا المنطلق. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 7 أمور لا بد منها لتحصين النفس ولمثل هؤلاء الإخوة لابد للإنسان أن يحصن نفسه بأمور: الجزء: 69 ¦ الصفحة: 8 الإقبال على العبادة الأمر الأول: عبادة الله تعالى والإقبال عليه بالمحافظة على الصلوات وقراءة القرآن والذكر والاستغفار وغير ذلك، هذه أولاً صيانة لك، فربما يهم الإنسان بسوء فيحفظه الله بسبب ذكر أو صلاة، وأنت قبل قليل سمعت قصة يوسف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فقد همَّ رجل وهناك إنسان همَّ أن يسافر إلى بلاد الكفر مع مجموعة من الفاسدين من أصدقائه وقرناء السوء، وكان قصده أن يقع في الفساد والرذيلة، ولكن الرجل كان عنده بعض الخير والصلاح والاستقامة ومحافظاً على الصلوات، فعصمه الله تعالى بصلاته وذكره؛ ففاتته الطائرة ولم يذهب إلى هناك، وتاب بعد ذلك فلم يعد. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 9 الحرص على بر الوالدين الأمر الثاني: الحرص على بر الوالدين وطاعتهما، فربما ينجيك الله تعالى من الشر والسوء بسبب دعوة صالحة من أبويك، ودائماً وأبداً افعل الأسباب المادية واجعل دعاء الوالدين زاداً لك، فالأم العجوز -التي خلفتها في المنزل- احرص على إرضائها بقدر ما تستطيع، وقبِّل رأسها عند الدخول وعند الخروج، واجعلها دائماً في رضىً عنك بطيب الكلام، وتقديم ما تستطيع لها وخدمتها وطاعتها وإرضائها ولو سهرت الليل من أجل ذلك فليس بكثير أبداً، بحيث تزودك بالدعوات حتى حين تخرج إلى عملك ودراستك وأنت مسرور القلب، لأن آخر ما سمعت من البيت وأنت خارج دعوات الوالدة: يا ولدي، يحفظك الله، يساعدك الله، يبارك الله في عمرك، يردك لي سالماً، وما أشبه ذلك من الكلمات التي ترن في أذنك وتسعد قلبك؛ وقد تكون مستجابة عند ربك. وقبل قليل أنت رأيت دعاء أم جريج وكيف أجابها الله على ولدها، فقد أجابها الله على ولدها وهو العابد الذي كان مشغولاً عن إجابتها بالصلاة! فماذا رأيك أنت لو دعت عليك أمك أنت؛ وأنت قد رفضت إجابة طلبها ليس لأنك مشغول بالصلاة أو بالقرآن؛ وإنما مشغول مع شلة من الأصدقاء الذين تقضي معهم الوقت وقد لا يكونون صالحين أحياناً، أو أنك تريد أن تذهب إلى عملك وتعرف أنت أنه لا يرضي الله، أو لأنك جالس أمام التلفاز تشاهد مسلسلاً -مثلاً- أو تستمع إلى أغنية! أليس هذا أولى بالقبول لو دعت عليك أمك؟! فحاذر دعوة الوالد أو الوالدة! فإن دعاء الوالد على ولده أو لولده لا يرد. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 10 التمسك بالصحبة الصالحة الأمر الثالث: تشبث وتمسك بالأصدقاء الصالحين، ابحث عنهم حيث كانوا: في حلقة المسجد، أو في المكتبة، أو في الدرس، أو في المعهد نفسه، أو في الحارة، المهم ابحث عن الأخيار حيث كانوا وتمسك بهم بكلتا يديك، ولا تفارقهم أبداً حتى لو أساءوا إليك، ولو قسوا عليك، ولو جفوا في معاملتك، قل لهم: أنا أريدكم لنفسي ولا أبحث عنكم من أجل المتعة، فالمتعة لو أردتها لوجدتها عند غيركم، إنما أبحث عنكم لأنني أعتقد أن نجاتي مرهونة بصحبتي لكم، فأنا أعيش في بيئة غير صالحة، وطبيعة عملي طبيعة تدعو إلى التحلل، وتدعو إلى الوقوع في الحرام، وأقل ما تدعوني إليه أن تقع عيني على حرام، أو تستمع أذني إلى حرام، أو تتحرك يدي إلى حرام، أو تمشي قدمي إلى حرام. وكل هذا صنفه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كلمة خطيرة جداً: الزنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع} سواء سمعاً مباشراً؛ أم تسمع كلاماً يحرك مشاعرك فيها، كلمات غرام وغزل أو عبر الهاتف: {واليد تزني وزناها البطش} فمصافحتك لامرأة أجنبية، وضعك يدك على كتفكها أو ظهرها أو على ساعدها أو بأي صورة من الصور، هذا من الزنا: {والرجل تزني وزناها المشي} فالمشي إلى الحرام، عندما تذهب إلى مكان لا لتقوم بعمل، ولا لتخدم أمتك ودينك وأهل بلدك، ولا من أجل الرزق المباح، وإنما تذهب إلى عمل وكل ما في مخيلتك هذه المغريات التي تنتظرك، فهذه الخطوات معدودة في الزنا. إذاً: كل عضو من الأعضاء يزني، فمثلاً: الشفتان تزنيان وزناهما القبلة الحرام، واللسان يزني وزناه الكلام المعسول، وعبارات الغزل والغرام التي يتعاطاها بعض الشباب بعفوية ولا مبالاة، ولا يدرون أن في هذا العطب والهلاك لهم في الدنيا والآخرة: {والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} ولاحظ الحديث: {كتب على ابن آدم حظه} . إذاً: أنا أريد أن أنبهك مرة أخرى إلى قضية وهي: أنت -إن كنت تعرف من نفسك أخطاء وانحرافات- فأنت وذاك الإنسان التقي النقي الطاهر العابد، كلاكما من طينة واحدة، وكلكم من بني آدم وكلكم ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا} أنت وهو، ولكن الفرق أنك استجبت لدواعي الهوى ونوازع الشهوة، أما هو فأعرض وأبى واستعاذ بالله عز وجل؛ فأعاذه الله! فالمقصود أن عليك التشبث بأصدقائك الصالحين الطيبين وتتمسك بهم، ولو ركلوك بأقدامهم! وتقول لهم: أنا في بيئة لا تعينني على الخير والصلاح، فإن تخليت عنكم أو تخليتم عني، فإن معناه أنني كالغريق الذي كانت يده تمسك بحبل النجاة فانفلتت يده من هذا الحبل وهو لا يجيد السباحة، كيف ترى يكون مصيره؟! الغرق ولابد، فلابد من صحبة الأخيار والبحث عنهم. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 11 مجاهدة النفس دائما ً الأمر الرابع: أنه لابد من مجاهدة النفس في كل لحظة، ففي كل ساعة أنت في جهاد والشيطان يدعوك، فإذا نظرت إلى المرأة قال لك الرسول صلى الله عليه وسلم: {اصرف بصرك؛ فإن لك الأولى وليست لك الثانية} النظرة الأولى -النظرة العفوية- التي كانت بغير قصد، لكن النظرة الثانية: لا، ومن قبل قال لك الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] . وقال لك الشيطان: كرر، انظر هذا الجمال لا يفوتك، وهذه فرصة! فأيهما تطيع: الله أم الشيطان؟! فهي مسألة تحدٍ بينك وبين الشيطان، وهي مفرق طريق ولها ما بعدها، فإذا أدمنت النظر؛ تحول النظر عندك إلى طبيعة لا تستطيع أن تنفك عنها، وهذه قضية انتبه لها جيداً، فلو أنك قاومت النظر انتهى ما بعده، لكن إذا استسلمت للنظر؛ فإنه يجرك إلى التلذذ بالجمال، والجمال أغراك، والقلب تمنى، والشيطان يدعو وينادي، والغريزة موجودة، وإمكانية وقوع الحرام ممكنة، فهلك الإنسان وأهلك. ولا تقل: مرة وأتوب. يقول بعض السلف: من يُسوِّف في فعل المعصية وترك الطاعة؛ مثل إنسان خرج من بيته إلى المسجد، فوجد شجرة مغروسة في الطريق -في طريق الناس شوك- فأراد أن يقتلع هذه الشجرة، حاول بيده فلم يستطع؛ فتركها، وقال: أعود إليها بعد سنة، ونسي أنه بعد سنة هذه الشجرة زادت قوة ورسوخاً، وضربت جذورها في التربة، وبسقت أغصانها وفروعها، فأصبحت أصعب على الاقتلاع منها أول ما حاول أول مرة، وكذلك هو ضعفت قواه وانهدت، سنة مضت من عمره فأصبح أضعف من يوم أن حاول اقتلاعها أول مرة. فإذا عجزت الآن عن مقاومة نفسك عن النظر أو ما هو أشد من النظر؛ فلا تطمع أنك تستطيع بعد مضي زمن طويل؛ لأن قوتك ضعفت، وقد تعود جسمك وألف على هذا الشيء. والمؤسف أنه حتى اللذة الدنيوية تفقدها، فتفطّن لهذا! هل تحسب أن الذين يرتكبون الحرام يتلذذون به؟ لا والله، لكن أصبح إدماناً؛ كما يقول الشاعر الجاهل عن الخمر: وكأسٍ شربت على لذةٍ وأخرى تداويت منها بها فالكأس الأولى شربها فعلاً للذة، لكن الكأس الثانية شربها فقط من أجل الإدمان، وليتداوى بها من الكأس الأولى. فالله يعلم أن الأبرار الأعفاء البعيدين عن الحرام؛ يجدون من اللذة في الحلال ما لا يجده أفجر الناس في الحرام؛ لأنه افتتن وأصبح لا يشبع، مثل الماء الذي ورد إلى صحراء، لا يشبع أبداً؛ لو جيء له بنساء الدنيا كلهن؛ ما شبع، ولا وجد اللذة التي يريد، لكنه يريد ذلك الحرام والعياذ بالله؛ فإنه قد انفتق قلبه وافتتن؛ فلا يهنأ بعيش، ولكنه مدمنٌ على هذه الأمور لا يعرض عنها، وخسر دينه، وخسر أخلاقه، وخسر حتى صحته. وأنتم تدركون الآن أن أعظم مرض يهدد العالم هو مرض (الإيدز) ، وأن ضحاياه بالملايين أو مئات الملايين، والذين توجد فيهم الجرثومة -وقد انكشفوا- أيضاً أضعاف أضعاف هذا العدد، فأمريكا -مثلاً- فيها أعداد غفيرة جداً، وأعظم مكان يوجد فيه هذا المرض هو في بانكوك وما حولها في جنوب شرق آسيا؛ حيث السياحة، والسياحة العربية على وجه الخصوص، والسياحة الخليجية بصفة أخص، وحيث تجد شباباً -أحياناً- من هذه البلاد وغيرها في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة يذهبون إلى هناك، يقعون ضحايا الشذوذ الجنسي والمخدرات وعصابات الإجرام وغير ذلك، ويرجعون أو لا يرجعون أحياناً، لكن إن رجعوا؛ رجعوا بلا دين، بلا أخلاق، بلا صحة، بلا مال، بلا شرف، بلا رجولة، بلا شيء، فأعلى نسبة في الإيدز هي هناك، ولكن السلطات هناك تتستر على هذه النسبة؛ لأنها لا تريد أن يقل عدد السواح، فلا تعطي الأرقام الحقيقية، لكن منظمات الصحة والمعاهد المختصة تؤكد أن أعلى نسبة للإيدز هناك، وفي مستشفياتنا هنا أعداد، والعجب كيف نتستر على هذه الأرقام؟! كيف نتستر عليها؟! يجب أن يعلم الناس أن هذا المرض لا يبالي بأحد، ولا يسأل المرض ما هي جنسيتك؟! ولا ما هي ديانتك؟! ولا من أي بلد أنت؟! ولا يبالي المرض إذا كانت ظروفك لا تسمح كخشية الفضيحة والأسرة والعائلة والأقارب والجيران، فهو لا يبالي بهذا كله، وكل هذا يهدد المخالفين لأمر الله عز وجل. فاستجمع قواك، وتذكر أن طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لك، وأن القضية إنما هي على الضربة الأولى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الصبر عند الصدمة الأولى} إن الذي استسلم للشيطان وانقاد، فإنه يجد صعوبة، ومع ذلك نحن لا نغلق الأبواب، فمن الممكن أن الإنسان حينما جرب وذاق ألم العذاب بالمعصية؛ فإن هذا قد يكون من أسباب توبته إلى الله عز وجل وإقلاعه عما هو فيه، لأنه ربما أغراه قرناء السوء، وربما جره الشيطان، ولكنه لما ذاق عرف وجرب فتاب إلى الله عز وجل، وباب التوبة مفتوح. وفي حديث صفوان بن عسال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن للتوبة قبل المغرب باباً مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} فمن تاب تاب الله عليه، {والله تعالى يبسط يده في الليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} ويقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] . الجزء: 69 ¦ الصفحة: 12 الأسئلة . الجزء: 69 ¦ الصفحة: 13 النظر إلى النساء في العمل السؤال عندما نشارك النساء في العمل فسوف نضطر لرؤيتهن وهن كاشفات، فما هي نصيحتكم لنا؟ الجواب نصيحتي أن لا تنظر نظر تلذذ وتشهٍ، وأن تكون نظرتك إذا احتجت إليها نظرة عادية، فإن الإنسان مع كثرة الإمساس والاحتكاك قد تقل عنده دوافع النظر المتعمد المغرض، فعليك أن يكون نظرك الذي تحتاج إليه بطبيعة عملك نظراً عادياً بعيداً عن النظر الحرام، لأن القضية في القلب، والذي يحاسبك هو الله، وهو الذي يعرف دوافع النظرة. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 14 رأي الشيخ في دخول المعاهد الصحية السؤال بعد كل هذه التصورات: هل أنت مؤيدٌ لدخول المعهد الصحي أم لا؟ نرجو ذكر الأسباب في الحالتين. الجواب أولاً: هذا سؤالٌ شجاع وطيب، ويجب أن يطرح لأن التستر على أمورنا لا أعتقد أنه يحلها، وخلاصة رأيي بالنسبة للدخول في المعهد أني لا آمر به مطلقاً ولا أنهى عنه مطلقاً، بل أقول: هذا يختلف من شخص لآخر، فهناك شاب -مثلاً- أنا أثق بقدرته على المقاومة والصبر، وقوة إيمانه وصبره -وإن كان المعصوم من عصمه الله- ودوافعه للذهاب إلى هذا العمل دوافع نبيلة، كخدمة للأمة، ومن باب إصلاح أوضاع المستشفيات، ومن باب القيام بخطوة عملية في التصحيح الذي نطالب به على كافة المجالات. فنحن نطالب بإصلاح أوضاع المستشفى، فإذا لم يوجد الممرض المؤمن لن تصلح الأوضاع بطبيعة الحال، وإذا لم يوجد الطبيب المؤمن لن تصلح الأوضاع، وإذا لم يوجد الإداري المؤمن لن تصلح الأوضاع، وإذا لم يوجد المدير العام المؤمن لن تصلح الأوضاع، ومجرد الكلام والنقد والإنكار لا يصحح الأوضاع، فهي خطوة عملية لتصحيح الوضع، فمن كانت دوافعه من هذا القبيل، وأيضاً غرضه المحافظة على أعراض المؤمنات والمسلمات وصيانتهن، فهذه دوافع نبيلة، وأعتقد أن ذهابه حينئذٍ مما يشجع عليه. وقد يكون هناك شاب آخر دوافعه ليست كذلك، كل ما يغريه هو العيش في مثل تلك الأجواء المختلطة؛ أو حتى قد يكون شاباً لا يريد هذا ولا ذاك، لكنه يعرف أنه إن ذهب إلى هناك أنه ضعيف المقاومة، قليل الصبر، وأنه يقول: لعلي أستقيم وأصلح وأنا بعيد فكيف إذا اقتربت! فهذا نقول له صريحة: أنج بنفسك، وباب الرزق واسع. إذاً: نفصل بين شخص وآخر. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 15 أخبار المجاهدين في أفغانستان والبوسنة والهرسك السؤال أرجو من سماحتك أن تخبرنا عن أحوال الجهاد في أفغانستان والبوسنة والهرسك، وما هي آخر الأخبار عنهم؟ الجواب أفغانستان -والحمد لله- تعرفون أنهم حققوا نصراً بفضل الله، وتهاوت معاقل الشيوعية في أفغانستان بعد رمضان، وشكل المجاهدون حكومة ليست هي الحكومة المرضية، لكنها حكومة مؤقتة لشهرين، ذهب أكثرها وبقي القليل منها؛ ونحن في انتظار تسلم الأستاذ برهان الدين رباني رئيس الجمعية الإسلامية للحكومة باعتباره الرئيس المنتخب للدولة، وتسلم الحزب الإسلامي برئاسة حكمتيار لرئاسة الوزراء وهو المرشح لها، وتسلم الوزراء المرشحين لمناصبهم، وأعتقد أن أفغانستان في هذا الوضع دولة إسلامية، ووجودها مزعج جداً للغرب، وهذا يؤكد لنا أن الغرب مهما أجلبت قوته فهو أعجز من أن يفرض إرادته على الشعوب الجادة، فهو يحارب وبشراسة كل وجود إسلامي على المستوى الحكومي، ومع ذلك فشل في أفغانستان، وفشل في السودان على رغم أنه يعلنها صريحة أنه يحاول إسقاط تلك الحكومات، ولكنه فشل حتى أن هذه الأحداث كأنها تقول لنا: إن الغرب مهما كانوا يملكون من الأسلحة النووية والقوة الاقتصادية والسياسية وغيرها؛ إلا أن الله تعالى يوهن كيدهم ويحبط مكرهم ويجعل الدائرة عليهم. أما بالنسبة للبوسنة والهرسك فلازالت الأخبار متتابعة في ضربات موجعة للمسلمين، مجازر لا يستطيع الإنسان أن يتكلم عنها، ويشعر بانكسار في القلب، وماذا تأخذ وماذا تترك. أنا يومياً تأتيني عشرات الأوراق يومياً عن آخر التطورات في البوسنة والهرسك، آخر التطورات هي أخبار الأمس وأخبار اليوم وهي أخبار الغد وأخبار بعد الغد: قَتْل أعداد غفيرة من المسلمين، سفك دمائهم، ذبحهم كما تذبح الشياة، تدمير منازلهم، حرق بيوتهم، تدمير للمساجد، احتلال، ضرب بالمدافع … إلى غير ذلك، البارحة ضربت سراييفو بالمدافع ولعلكم سمعتم عما يسمى بالحصار الذي تريد أن تفرضه الأمم المتحدة على الصرب، ولأن الأمم المتحدة كافرة وهي في الواقع ألعوبة في يد الولايات المتحدة الأمريكية العدو الأكبر للمسلمين، فالأمم المتحدة أعطت الصرب فرصة فيها الكفاية، قالت لهم: عجلوا بسرعة واضربوا واحتلوا البلاد، جلسوا يوماً، أسبوعاً، شهراً، يظنون أن المسلمين من السهل اجتياحهم، والأمور تحدث والعالم يصيح، فما استطاع الصرب أن يفعلوا هذا، ووجدوا مقاومة لأن المسلمين -الحمد لله- في هذه البلاد وفي غيرها دعموا إخوانهم بالمال وبالسلاح وبغير ذلك. وأنا أقول لكم إن مبالغ طيبة جداً قدمتها الشعوب الإسلامية لهم، وأعلم أن هناك مبالغ كبيرة إليهم ذهبت لم تتبرع بها الحكومات، فوجدوا دعماً من إخوانهم المسلمين، فقووا جانبهم وقاوموا وصبروا، ومع ذلك يقولون: نحن أقوياء، فقط أعطونا السلاح، فأبطأت عملية الاحتلال لبلادهم. فوجدت الأمم المتحدة وأمريكا نفسها أمام فضيحة؛ أنه إذا ظللتم متفرجين فإن العالم بدأ ينكشف الأمر له يوماً بعد يوم، وهناك دول متعاطفة مع البوسنة والهرسك لأسباب مختلفة مثل ألمانيا وغيرها، فارتفعت اللهجة وصار هناك نقد شديد على هذا الخبيث النصراني بطرس غالي، وعلى أمريكا وعلى الغرب الذي وقف موقف المتفرج، فخشي الغرب أن تنكشف اللعبة وأنها حرب صليبية ضد الإسلام، وصار الناس يقولون: لماذا الغرب يتدخل هنا وهناك ولا يتدخل في البوسنة والهرسك؟! فالغرب أتقن اللعبة، لعبة سماها الحصار، حصار اقتصادي، حصار بترولي، عدم إشراك صربيا في مباريات الكرة كأن صربيا إذا لم تشارك سوف تنهزم وتضطر للانسحاب من سراييفو، لماذا؟ لأنهم منعوا فريقهم من المشاركة في الدوري الذي يقام في أسبانيا، مع أنهم يعرفون أن بلاد الصرب فيها اكتفاء ذاتي في أكثر الأشياء! وقد سمعت أحد التقارير، يقول: إن هذا الحصار الاقتصادي لن يظهر له أثر يذكر إلا بعد شهور، وهذا الأثر قد يكون بسيطاً، وقد لا يكون الحصار محكماً، ومن الممكن أن يستطيع الغرب أن يسرب إلى تلك البلاد ما يريد، خاصةً وأن هناك تعاطفاً من قبل الجمهوريات السوفييتية مع صربيا. ولذلك فإن ذلك الحصار غير مرشح للنجاح أبداً، وهو فرصة جديدة للصرب، يقول لهم: أسرعوا بالضرب واحتلوا تلك البلاد حتى تنتهي الأزمة. فالغرب الكافر يد واحدة ضد الإسلام والمسلمين، ولذلك إخوانك لا يستغنون عن القرش والريال الذي تدفعه أنت، فكن وسيطاً لدعوة الناس بالتبرع لهؤلاء المسلمين ولو بشيءٍ يسير فاليسير مع اليسير كثير، وقبل أيام أخبرني أحد المشايخ بقصة طريفة، يقول لي: طرق عليَّ الباب في البيت إنسان، فخرجت، فوجدت طفلاً صغيراً عمره يقارب إحدى عشرة سنة، وكان معه اثنان وستون ريالاً في جيبه، فقال لي: هل تعرف أحداً يجمع أموالاً للمسلمين في يوغسلافيا؟ يقول: فتبسمت، وقلت: نعم، أنا أجمع لها، يقول: فأخذ الريالين وضعهما في جيبه وأعطاني الستين، وقال: هذه أوصلها للمسلمين في يوغسلافيا. فقضية يهتم بها أطفال المسلمين هي -إن شاء الله- قضية إلى نجاح بإذن الله تعالى. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 16 المحافظة على التوبة السؤال أنا شاب حاولت كثيراً أن أتوب ولكني لا أستمر في هذا الطريق، أرجو منكم إرشادي. الجواب لا مانع من تكرار التوبة، فمن الممكن أن تتوب ولو عصيت غداً، ولو عصيت بعد غد تتوب، ولو عصيت مائة مرة تتوب، وكثير من الشباب يكون عنده معصية كالعادة السرية -مثلاً- فيكون يفعلها اليوم ثم يشعر بالندم فيتوب، وبعد فترة تتجدد عنده دوافع الغريزة فيفعلها مرة أخرى فيتوب، وهكذا. وهاهنا أنبه إلى عدة أمور: الأمر الأول: لو تكرر منكم الذنب كرر التوبة، ولا مانع ولو مائة مرة فلا تقل لا داعي أن أتوب لأني أعرف أني سأنقض، لا، ليس شرطاً، فقد تموت قبل أن تفعل مرة أخرى، فلتمت على توبة، ولا تعتقد أنك إذا فعلت الذنب مرة ثانية أن الذنوب السابقة التي تبت منها تعاد عليك، لا، الله إذا أعطاك شيئاً لا يرجع فيه سبحانه، فهو لا يعود فيه، فالله كريم إذا أعطاك شيئاً لا يعود فيه، فالذنوب التي تبت منها سابقاً لا تكتب عليك، لكن يكتب عليك الذنب الأخير تب منه وامسحه عنك أيضاً بإذن الله تعالى، هذا أولاً. الأمر الثاني: إياك أن تنذر نذراً على نفسك لتجبر نفسك على ترك الذنب، فبعض الناس -مثلاً- من أجل أن يجبر نفسه على ترك المعصية؛ يستعمل أسلوب النذر، فيقول: عليَّ نذر إن فعلت هذا الذنب أن أصوم ستة أشهر -مثلاً- وفي النهاية عندما تغلبه الشهوة يغيب عنه كل شيء ويفع مرة أخرى، فيكون قد أوقع نفسه في حرج آخر، وجر نفسه إلى معصية أخرى، وهي أنه ألزم نفسه بالنذر ولم يفعل. لا تفعل هذا أو تقول: أعاهد الله فهذا خطأ، قل: أستغفر الله، وأتوب إلى الله، وأرجو الله ألا أعود وأستغفر الله عز وجل. وأسأل الله أن يعينك على نفسك. الأمر الثالث: إياك إياك! أن يكون وقوعك في هذا الذنب سبباً في تركك للطاعات، فبعض الشباب -مثلاً- يكون مع أناس صالحين يقرأ القرآن فيتصور نفسه وهو بينهم، ثم يتخيل نفسه وهو يفعل هذه العادة، فيشعر باستقذار لنفسه وتوبيخ وأنه ليس جديراً بالبقاء مع هؤلاء الطيبين الصالحين، وبالتالي يقول له الشيطان: لا تجلس معهم لأنك منافق، فيخرج من بينهم، وإذا خرج من بينهم تفرد به الشيطان، ففعل به الأفاعيل وعبث به كما يحلو له. لا. بل عليك أن تجلس معهم، وأنت -إن شاء الله- طيب وطاهر ولو وقع منك هذا الذنب، فتب منه غداً أو بعد غد أو يسامحك الله أو يعاقبك الله عليه ثم يكون مصيرك إلى الجنة -إن شاء الله- لأنك من أهل التوحيد والإيمان والصلاة، لكن لا تترك الأخيار؛ لأنك إن تركتهم زدت الطين بلة -كما يقال- وأضفت إلى العلة علة، فكن معهم، وربما تُرْحَم بسبب صحبتك لهم، وما من إنسان إلا وعليه ذنوب ومعاصٍ. الأمر الرابع: فكر بالأسباب التي تدعوك إلى تكرار المعصية: كمشاهدة حرام، الذهاب إلى الأسواق -مثلاً- صحبة الأشرار، سماع الغناء، السفر، أي شيء تجده هو السبب في وقوع المعصية؛ اخرج منه، ولذلك تعرفون قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، ثم جاء إلى راهب فسأله هل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله وأكمل به المائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على عالم، فقال: هل لي من توبة؟ قال: نعم، ولكن لا تعد إلى أرضك فإنها أرض سوء انتبه إلى السبب، لماذا هذا الرجل كرر المعصية وكل يوم يقتل؟ لأنه في بلد يغري بالقتل. وعلى سبيل المثال: هذا الرجل مشغول بالجريمة فكل أصدقائه وأقاربه دائماً وأبداً يثنون عليه بالفروسية لأنه بطل، فهو يسمع عبارات الإعجاب من المجتمع الذي حوله، فيغريه بالفساد، فلو أراد أن يترك ويتأخر لدفعوه هم بالقوة إلى الأمام، تماماً كما تجد كثيراً من الشباب، مثلاً: شاب مغنٍ يحب أن يترك الغناء، لكن التصفيق وعبارات الإعجاب هذه تمنعه من الترك، ويستحي من الأصدقاء والمعجبين والذين يراسلونه ويتصلون به. حتى إني أعرف واحداً يعيش أزمات نفسية ويتمنى أن يترك هذا الأمر، ولكنه يدفع دفعاً بواسطة المعجبين. وأيضاً تعرفون قصة محمد عبده وكيف كان يتوب ويعلن توبته ويتكلم في الصحف، وقد قرأت له مقابلة في جريدة المدينة عجيبة للغاية؛ حتى تكلم عن كلام العلماء في الموسيقى في تحريمها ومنعها، وكانت مقابلة في غاية الصراحة، وقابلت الرجل في مكة وكان تظهر على وجهه آثار الخير. إذاً: انظر السبب الذي يجرك جراً ويدعوك إلى الوقوع في الذنب فاعمل على تجنب هذا السبب، وعليك بكثرة الاستغفار، فالمؤمن واهٍ راقع، يشق ويرقع، فأكثر من الاستغفار. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 17 حكم أشرطة الفيديو التعليمية المحتوية على محظورات السؤال ما رأي فضيلتكم في استخدام أشرطة الفيديو التعليمية التي يظهر فيها أمثلة وتطبيقات على جميع الأعمار والأجناس وفيها أشياء محرمة؟ الجواب قلت لكم قبل قليل إن الحضارة بيد العدو الكافر، ولهذا أدخل قناعاته، وأدخل أفكاره في كل شيء، فهذه الوسائل التعليمية كان من الممكن أن يعدها المسلم لتكون وسائل نافعة ناضجة وبعيدة عن ما حرم الله، تجد السلاح -مثلاً- كان من الممكن أن يخترعه المسلم فيكون سلاحاً لإعلاء كلمة الله، وإحقاق الحق، وإبطال الباطل، وحماية المستضعفين، لكن تولاه الكافر فجعله وسيلة للهدم والتدمير والقضاء على كل معالم الإنسانية والأخلاق والأديان، فهذه الوسائل -وسائل الإيضاح والوسائل التعليمية- تدخل في حكم غيرها، فمشاهدة صورة المرأة المتبرجة حرام، سواء كان على الطبيعة أم بالتلفاز، وسماع الغناء والموسيقى حرام سواء كانا من شريط الفيديو أم من غيره، وفي هذا الإطار عليك أن تحكم على أية وسيلة إن سلمت من مثل هذه الأمور؛ فلا مانع من استخدامها. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 18 إجراء الرجال لعمليات النساء السؤال ما حكم من يعمل عملية من الرجال على نساء في مجال الطب أو العكس؟ الجواب أنتم بطبيعة الحال طلاب في مجال التدريب، وهذا غير إجراء العملية، فبالنسبة للعمليات التي تجرى على نساء الأصل أن تتولاها نساء، وهنا نرجع لنقول: إن الحضارة في يد العدو الكافر. ولذلك أبرز هذه الجوانب: قضية الاختلاط بين الجنسين حيث ركزها ودعمها، لأنه لا يفرق بين الرجل والمرأة، لكن في الإسلام فرق، فالأصل في المجتمعات الإسلامية أن يتولى تطبيب النساء نساء؛ ويتولى تطبيب الرجال رجال، لكن الآن تجد حتى في مستشفياتنا -مع الأسف- تجد أن الرجل قد يعالج النساء، وتجد أن المرأة تعالج الرجال، فهذا انتكاس في المفاهيم وتقليد أعمى للغرب. وإلا فالأصل أن أي عملية على امرأة الأصل أن تتولاها وتقوم بها نساء، حتى ولو كن من غير المسلمات -إذا لزم الأمر- ولا يجوز أن يتولى رجل عملية على امرأة إلا بقدر الضرورة إذا لم توجد امرأة تتولى هذا الأمر ولابد من إجرائها، فهنا يلجأ لجوءاً إلى الطبيب وفي أضيق نطاق، لكن هنا وفي الحالة هذه لا يجوز أن يكون أمام المرأة مجموعة من الطلبة يتدربون أو يتفرجون لينظروا كيف يتم إجراء العملية كنموذج تطبيقي أو عملي لأنه لا حاجة لهذا، فمن الممكن أن يتم هذا على رجال. الجزء: 69 ¦ الصفحة: 19 التوازن في حياة المسلم تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن التوازن فبدأ بمقدمة عنه مؤكداً على اختلاف كفاءات الناس، وأن التوازن هو استغلال كفاءات كل الناس في المجتمع، وعرج الشيخ على مسألة ضرورة إدارك خصائص الأفراد في أي مسألة ومنها طلب العلم، وما هي طرق معرفة المواهب والكفاءات، ثم أجاب على بعض الأسئلة حول الموضوع. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 1 مقدمة عن التوازن إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن دعا بدعوته، واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد: أيها الإخوة: في مثل هذا الجو المناسب يطيب الحديث حيث يجتمع الإنسان بإخوانٍ له في الله يتحدث إليهم عن قضية مهمة من قضايا بناء الشخصية الإسلامية. أيها الإخوة: إن الموضوع كما سمعتم يتعلق بالحديث عن التوازن في حياة المسلم؛ والمقصود بالتوازن هو: أن تتكون شخصية الإنسان المسلم تكوناً معتدلاً سليماً، بحيث لا يطغى فيها جانب على حساب جانب آخر، ولا يغفل فيها جانب بسبب الاهتمام الزائد بجوانب أخرى غيره، هذا هو التوازن في حياة وشخصية الفرد. ومثله التوازن في بناء المجتمع؛ بحيث يتكون المجتمع المسلم من مجموعة من الأفراد المتوازنين الذين يلبون جميع الاحتياجات التي يحتاج إليها المجتمع المسلم. وأنت إذا تأملت واقع الناس وشخصياتهم في القديم والحديث، وجدت أن هناك حقيقة يكاد أن يتفق عليها الناس كلهم، وهي حقيقة تكلم عنها العلماء المسلمون في القديم وفي الحديث، وتكلم عنها علماء النفس، والتربية، والطب وغيرهم. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 2 اختلاف كفاءات الناس وخلاصة هذه الحقيقة هي: أن الأفراد يختلفون فيما بينهم، ويتفاوتون تفاوتاً يقل أو يكثر لكنه لا يغيب؛ بمعنى أنك لا تجد اثنين من الناس متماثلين في كل شيء، قد تجد فردين متشابهين، أو متقاربين سواء في نواحيهم الأخلاقية، أو العقلية، أو الجسمية، أو غيرها. لكن أن تجد شخصين متماثلين متفقين فهذا نادر أو غير موجود، وهذا الأمر هو لحكمة أرادها الله تبارك وتعالى، فإن المجتمع -أي مجتمع سواء المجتمع المسلم، أو المجتمعات الكافرة- لكي يقوم هو بحاجة إلى مجموعة من الكفاءات المتفاوته، كما أن أي مجتمع بحاجة إلى القادة والزعماء، هو أيضاً بحاجة إلى الأطباء، وبحاجة إلى العلماء، وبحاجة إلى المهندسين، وبحاجة إلى الخبراء في كافة مجالات الحياة، بل وبحاجة إلى الخدم وإلى غيرهم من أصحاب الحرف والمهن العادية، بل والوضيعة في نظر الناس، والتي لا بد للناس منها. فكل حرفة يحتاجها الناس تجد من يرغب فيها ويميل إليها، وبمجموع هذه الأشياء يتكون المجتمع، ولا يمكن أن نقول: إن مجتمعاً ما مكون من مجموعة من الشعراء أو الأدباء؛ فإن الشعراء والأدباء يحسنون صناعة الكلام وتنميقه وضبط الأوزان والقوافي، ويحسنون الحديث عن المشاهد الجميلة والمشاعر الرقيقة, لكنهم لا يحسنون الصناعات مثلاً، ولا يتقنون الفنون العسكرية ولا غيرها، وهكذا سائر التخصصات، أو الميول الأخرى في الحياة. وهذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن بالنا، ونحن نتحدث عن التوازن في حياة الفرد المسلم وفي حياة المجتمع المسلم، وإذا كانت هذه الحقيقة بدهية ومُسَلَّمة، فإننا نطل إطلالة سريعة على ذلك المجتمع الإسلامي الفريد الذي تربى على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، مجتمع الصحابة رضي الله عنهم؛ المجتمع الذي أراد الله عز وجل أن يكون منارة سامقة مرتفعة على التاريخ يتطلع إليها الناس في كل زمان وفي كل مكان. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 3 التوازن في مجتمع الصحابة وهذه التجربة، أو هذا الأنموذج المتمثل في مجتمع الصحابة لا نطمع أن يتحقق مرة أخرى بنفس المستوى الراقي من الإيمان والعلم والعمل، فهو مجتمع لا يتكرر، لكن يُطمع أن يكون هذا المجتمع قدوة مثلى لكل مجتمع ولكل فرد مسلم يدعو إلى الله عزوجل على مدار التاريخ، وهذه حقيقة مهمة جداً في حياتنا يمكن أن نكتشف بها الخطأ من الصواب في كل وضع يعيشه المسلمون لأنه كما قيل: الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فأنت بالمقايسة تستطيع أن تعرف الخطأ من الصواب، بل وتستطيع أن تعرف مقدار الخطأ، وأضرب لهذه القضية المهمة مثلاً أرى أنه من الأهمية بمكان: قد يظن بعض المسلمين في يوم من الأيام أنهم حققوا لأنفسهم مستوىً من الإيمان عظيماً وكبيراً من خلال حياتهم الاجتماعية؛ فمثلاً يقول بعض المسلمين عن مجتمعات، أو تجمعات تقام في أماكن مختلفة من العالم، يقولون: إن هذه التجمعات التي يلتقي فيها أحياناً ملايين البشر، ومع ذلك لا يقع بينهم شيء من الخصومة، ولا شيء من المشاجرة، ولا شيء من الاختلاف، ولا تسمع اثنين يتلاحيان في أية قضية من القضايا؛ لا في قضية علمية، ولا عملية، ولا حول أمر من الأمور، فهل هذه الصورة التي يتحدث عنها البعض هل هي صورة مثالية وصحيحة أم لا؟ الذي أعتقده أن هذه الصورة وإن كانت بادي الرأي صورةً محببةً إلى النفس إلا أن عليها مآخذ عديدة، لماذا؟ لأنك حين تقرأ في سيرة الجيل الأول؛ الذي اتفق على أنه هو المثل الأعلى لكل مجتمع وتجمع ينشأ بعد ذلك، تجد أنه حصل بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شجار وخصومة في أشياء كثيرة، وتجد أنه حصل بينهم تنافس في أشياء عديدة سواء في أمور الدين والعبادة، أو حتى في بعض الأمور الدنيوية، وتجد أنهم قد يزدحمون في أمور معينة، وقد يتشاحون فيها، وقد ترتفع أصواتهم، بل وقد ترتفع الأصوات في المسجد أحياناً، وهذا كله ثابت في أحاديث صحاح، بل إن هذا الوضع وضع متواتر، ولو قرأت في أي كتاب من كتب السنة كـ البخاري أو مسلم مثلاً، أو غيرهما، أو في سير الصحابة لوجدت أن هذا الوضع يتكرر باستمرار. فالصحابة يختلفون في قضية من القضايا، ويغضب بعضهم على بعض، ويعاتب بعضهم بعضاً، وترتفع أصواتهم، وهذا كله وضع طبعيٌ جبليٌ ليس بالغريب. فأنت حين تجد وضعاً آخر في يوم من الأيام ليست فيه هذه الظاهرة، بل هو وضع لا يختلف فيه اثنان: لا يتلاحيان، لا يختصمان، لا يتشاجران، لا يغضب فيه واحد على الآخر إطلاقاً، تجد أن هذا الوضع في حاجة إلى مراجعة، لأننا قد نأخذ من الإسلام، أو نستبعد من الإسلام قضايا أساسية؛ لأنها مصدر خصومة بين الناس، أو بين المنتسبين إلى الإسلام، فإذا استبعدنا هذه القضايا أفلحنا فعلاً في جمع كلمة الناس، لكن ليس على الصورة الكاملة للإسلام، وإنما على صورة ناقصة قد تعجب الإنسان من حيث جودتها، لكن البصير يدرك أنها صورة ناقصة. المقصود من هذا المثال هو: تقرير القاعدة السابقة، وهي: أن المجتمع الأول؛ مجتمع الصحابة رضي الله عنهم هو الصورة المثلى والقدوة العليا التي يجب أن نقيس عليها كل وضع، وتجمع، ومجتمع، فنعرف مدى استقامته أو انحرافه، ونعرف مقدار هذا الانحراف بهذا القياس، وهذه القضية المهمة نطبقها في الموضوع الذي نتحدث عنه الآن، وهو موضوع التوازن في حياة الفرد وفي حياة المجتمع. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 4 القدر المشترك في مجتمع الصحابة إنك حين تنظر في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم؛ تجد أولاً: أن الصحابة قد التزموا جميعاً بقدر معين موجود لدى كل فرد منهم سواء في العلم أو في العمل، فما من الصحابة أحد إلا وهو حريص على تعلم العلوم الشرعية التي يحتاج إليها في خاصة نفسه، أو من تحت يده؛ من أهله، وأولاده، ومواليه، وخدمه، وغير ذلك. وما من الصحابة أحد إلا وتجده حريصاً على تعلم ما يحتاج إليه من العلوم التي تحقق شيئاً من الأشياء التي يمارسها في حياته؛ فإن كان تاجراً وجدته خبيراً بأحكام البيع والشراء وأحكام الزكاة ونحوها، وإن كان مزارعاً وجدته خبيراً بأحكام الزراعة والمزارعة وسواها، وإن كان مشتغلاً بالجهاد وجدته خبيراً بأحكام الجهاد والقتال والاسترقاق وغير ذلك وهكذا. ثم تجد كل فرد منهم محققاً قدراً من العمل سواء بالعبادة أو بالدعوة أو بغير ذلك. فلا تجد أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يغمص أو ينتقص بشيء من الإخلال بالواجبات الشرعية، أو التقصير فيها إلا ما لا بد من وقوعه من البشر من حوادث فردية معينة. فإذا انتقلت إلى جانب العقيدة وجدت أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم -بلا استثناء- قد التزموا بعقيدة واحدة صحيحة ناصعة نقية لم يأخذوها بالوراثة؛ لأنهم إنما ورثوا عن المجتمع الجاهلي ما رباهم الإسلام على التخلي عنه والحذر منه، حتى إنهم كانوا يستوحشون من كل شيء وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم حتى يأتي القرآن، أو يأتي الحديث ليبين لهم أنه لا جناح عليهم ولا حرج عليهم في ذلك، كما تحرجوا مثلاً: من الطواف بين الصفا والمروة؛ لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية حتى نزل القرآن بذلك. ولا تجد أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بقي على معتقد موروث من مورثات الجاهلية، بل تحرروا منها بالكلية، وخلعوها على عتبة الإسلام، وتلقوا العقيدة الصحيحة نقيةً صافيةً من فم محمد عليه الصلاة والسلام، ولم يحصل أن وقع أحد منهم ببدعة اعتقادية على الإطلاق، ولا ببدعة عملية أيضاً. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 5 التفاوت بين الأفراد في مجتمع الصحابة إذاً: فهناك قدر مشترك من العلم والعمل موجود لدى كل فرد من أفراد ذلك المجتمع الأول، فإذا انتقلت إلى المجتمع بكليته وجدت أنه فيما عدا هذا القدر المشترك، فإنه يوجد لكل واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ميزة وخصيصة برز فيها هو وطائفة معه وقد لا توجد في فرد أو أفراد آخرين. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 6 أمثلة من تخصصات الصحابة وعلى سبيل التمثيل وليس الحصر، انظر مثلاً: إلى ما تحلى به معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان فقهياً من فقهاء الصحابة ورد فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عنه: {إنه يتقدم العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة مقدار رمية سهم. والحديث ورد عند ابن سعد عن محمد بن كعب، والحسن البصري مرسلاً مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وورد عند ابن سعد وابن عساكر موقوفاً على عمر بن الخطاب من قوله، وورد عند الحاكم موقوفاً على أنس بن مالك؛ وهو صحيح بمجموع طرقه. ومثل معاذ رضي الله عنه عبد الله بن مسعود، فقد قال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[إن ابن مسعود كنيفٌ ملئ علماً]] والكنيف: تصغير كَنف، والكنف: هو الجانب، أو الناحية، أو تصغير كِنف بكسر الكاف، وهي: المزادة التي يضع فيها الراعي متاعه. والمقصود أن عمر عبر عن ابن مسعود بأنه: [[كنيف ملء علماً]] وهذه الرواية رواها الإمام أحمد في فضائل الصحابة، والطبراني في الكبير، وأبو نعيم وغيرهم. فهذا معاذ، وهذا ابن مسعود ومعهم غيرهم من الصحابة تميزوا بالعناية بالعلم والاهتمام بالتفقه في الدين. لكنك حين تنتقل مثلاً: إلى خالد بن الوليد، تجد خالداً رضي الله عنه لم يشتهر في حمل العلم والفقه بمثل ما اشتهر به معاذ، أو ابن مسعود، أو غيرهما من فقهاء الصحابة. وإنما اشتهر خالد رضي الله عنه بإتقان فنون الحرب والفروسية والكر والفر، حتى أصبح هذا هو ديدنه، وأصبح يجد لذته وسعادته وقرة عينه في معاناة هذا اللون من الجهاد الذي يشق على كثير من النفوس، ولذلك كان رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[ما ليلة تهدى إلىَّ فيها عروسٌ أنا لها محب، أو أبشر فيها بغلام، بأحب إلىَّ من ليلة شديدة الجليد أصبح فيها العدو في سرية من المهاجرين]] الله أكبر! يجد من اللذة في هذا الجو البارد شديد البرودة، والمخيف، في سرية من المهاجرين يصبحون العدو، وقد أصابهم من الخوف والبرد ما أصابهم، يجد من اللذة في معاناة ومقاساة هذا العمل الصعب على النفوس بحكم الجبلة والطبيعة ما لا يجده في ليلة تهدى إليه فيها عروس، أو يبشر فيها بغلام. وهذه الكلمة من أبي سليمان رضي الله عنه رواها عنه أيضاً الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة"، وأبو يعلى، وابن حبان، وابن عساكر وغيرهم، وإسنادها صحيح. وحينما تنتقل إلى أنموذج ثالث، تجد مثلاً: أبا ذر الغفاري رضي الله عنه؛ وأبو ذر لم يعرف عنه مزيد عناية بالعلم أكثر من غيره، ولا مزيد اهتمام بشأن الجهاد أكثر من غيره من بقية الصحابة، إنما الناحية التي برز فيها وعرف بها هي قضية الزهد والورع، والحث على التقلل من الدنيا والتزود للآخرة، وله في هذه القضية مذهب خاص معروف، ولا حاجة إلى الإطالة بذكره. وتجد من الصحابة غير هؤلاء من لهم اهتمامات أخرى غير ما سبق، وهذه المزايا التي تميز بها الصحابة رضي الله عنهم، أو مجموعات من الصحابة تميزوا بها، وتميزت كل طائفة منهم بما لا يتميز به غيرهم هي راجعة إلى خصائص موجودة في أصل التركيب، وأصل الفطرة عند هؤلاء القوم، فـ خالد رضي الله عنه جبل على الشجاعة. وابن مسعود رضي الله عنه منح من قوة الذاكرة، وقوة الاستنباط، والتجلد في طلب العلم ما ليس لغيره وهكذا. فإذاً من مجموع هذه الخصائص يتكون المجتمع المسلم، وهذا أمر لا بد من مراعاته. وهذه الصورة المثالية الموجودة في مجتمع الصحابة، يجب أن نعمل على أن نتمثلها في واقعنا اليوم، ونحن نسعى إلى تكوين المجتمع المسلم الصحيح الذي يتأسى بمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، فندرك أنه لا بد أولاً: أن يلتزم كل فرد منا بقدر معين من الخصائص والصفات، يكون هذا القدر مشتركاً بين جميع الأفراد، فكل فرد لا بد أن يتعلم من العلم الشرعي ما يحتاج إليه في حياته العملية، وكل فرد لا بد أن يعرف العقيدة الصحيحة، ليس عن طريق التقليد والوراثة، بل عن طريق التلقي ومعرفة الدليل، وكل فرد لا بد أن يلتزم بقدر من العمل، والعبادة، والقيام بما لا بد له منه في ذلك. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 7 وجوب إدراك خصائص الأفراد ثم بعد ذلك يتفاوت الأفراد، فيوجد منهم من يشعر بميل مثلاً: إلى الالتزام بطلب العلم الشرعي؛ لأنه يحس أن هذا هو الأمر الذي خلق له، والذي يستطيع أن يبرز وينتج فيه أكثر من غيره؛ حيث يملك أداته، فيتجه إلى هذا العلم، ويحقق فيه فعلاً من النتائج الشيء الكثير، وتجد إنساناً آخر يحس أنه لم يخلق لهذا، وأنه يمكن أن يحقق لنفسه وللمسلمين في مجال تعلم الطب ما لا يحقق في غيره. وثالثاً: يشعر أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم الهندسة ما لا يحقق في غيره. ورابعاً: يجد أنه يمكن أن يحقق في مجال تعلم صناعة من الصناعات، أو حرفة من الحرف، أو مهنة من المهن التي لا تحصر ما لا يحقق في غير هذا المجال. فعلى الإنسان أن ينظر في المجال الذي يحس أن نفسه إليه أميل، وطبعه به ألصق؛ فيعمل على التوجه إلى هذا المجال لينجح فيه ويخدم نفسه، ويخدم المسلمين من خلاله ما لم يكن هذا المجال مجالاً غير مشروع. وهذه القضية وإن كان علماء التربية اليوم يتحدثون عنها إلا أننا لسنا بحاجة لأن ننقل كلامهم، كيف ونحن نجد من نصوص علمائنا السابقين ما يغنينا عن ذلك؟! فهذا الإمام ابن القيم رحمه الله يقول: في كتابه أحكام المولود وهو يتحدث عن الأطفال وتعليمهم، يقول رحمه الله: ومما ينبغي أن يعتمد حال الصبي وما هو مستعد له من الأعمال، ومهيء له منها مما كان مأذوناً فيه شرعاً، فيعلم أنه مخلوق له، فلا يحمله على غيره؛ أي: أن المربي يجب أن يتأمل حال المربِّى، وما هو مهيء له بأصل الخلقة والجبلة والطبيعة، فيوجهه إلى ذلك، ولا يحمله على غيره. يقول: فإنه إن حمل على غير ما هو مستعد له لم يفلح فيه، وفاته ما هو مهيء له، فإذا رآه حسن الفهم، صحيح الإدراك، جيد الحفظ واعياً؛ فهذه من علامات قبوله وتهيئه للعلم، وإن رآه بخلاف ذلك من كل وجه، وهو مستعد للفروسية وأسبابها من الركوب والرمي واللعب بالرمح، وأنه لا نفاذ له في العلم، ولم يخلق له، مكنه من أسباب الفروسية والتمرن عليها، فإنه أنفع له وللمسلمين، وإن رآه بخلاف ذلك، وأنه لم يخلق له ورأى عينه مفتوحة إلى صنعة من الصنائع، ورآه مستعداً لها، قابلاً لها، وهى صناعة مباحة نافعة للناس، فليمكنه منها، وهذا كله بعد تعليمه ما يحتاج إليه في دينه. فـ ابن القيم رحمه الله أشار إلى القدر الذي لا بد منه لكل إنسان؛ وهو تعليمه ما يحتاج إليه في دينه؛ ثم أشار بعد ذلك إلى أن الأولى بالإنسان أن ينظر سواء في نفسه، أو في من يربي، فيما هو مستعد له فطرة وخلقة، فيوجهه إلى ذلك، فإنه إن وجهه إلى غيره، لم يفلح فيما وجه إليه، وخسر الشيء الذي كان مستعداً إليه أصلاً، لأنه لم يشتغل به. وهذا ملمح مهم جداً في قضية التوازن. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 8 التوازن في طلب العلم وحين تنظر إلى جانب معين من جوانب التوازن، وهو مثلاً جانب العلم: لنفترض أنك بعد أن تأملت نفسك، وفكرت في الخصائص والمواهب التي منحكها الله عز وجل، وجدت أنك تميل إلى تعلم العلوم الشرعية وتحصيلها، وهذا الأمر لا شك أمر مهم جداً، ولا غنى للمسلمين عنه في حال من الأحوال، فحينئذٍ ستجد نفسك أمام عدد كبير من العلوم، أمام تعلم التفسير المتعلق بكتاب الله -وكتاب الله هو أشرف الكتب وأعظمها- والمسلم بحاجة إلى معرفته قبل معرفة غيره، وهذا يدعوك إلى العناية بالتفسير، فإذا التفت إلى جانب آخر وجدت أن السنة تفسر القرآن، وتبين مجمله، وتقيد مطلقه، وتخصص عامه، فأنت إذاً بحاجة إلى معرفة السنة حتى تفهم القرآن فهماً صحيحاً. فإذا نظرت إلى جانب آخر: وجدت أن علم العقائد، علم أصول، وأن أي علم قبل هذا العلم لا يكفي، وأن الإنسان إذا فسدت عقيدته لم ينفعه بعد ذلك ما حصل من العلوم. وهكذا كل علم يدلي بحجته تجد أنك تحكم له، وتقول: هذا العلم أولى من غيره، ولذلك تجد أن بعض الطلبة يتنقل بين هذه العلوم بطريقة مترددة غير مطردة ولا مستقرة، فهو اليوم متجه إلى تعلم التفسير، ثم تلقاه بعد شهر أو شهرين قد ترك الكتب التي بدأها والبرنامج الذي ألزم نفسه فيه بتعلم التفسير، واتجه إلى حفظ السنة، فتلقاه بعد سنة وقد قطع هذا العمل على نفسه، وقال: لا بد أن أتعلم العقيدة فهي أساس كل شيء، فلا يكاد أن يبدأ بتعلم العقيدة حتى ينتقل منها إلى الفقه، وهو يقول: إن الفقه علم عملي والناس محتاجون إليه في كل حركة وفي كل سكنة، ولا بد من تعلم هذا العلم لسد حاجة الناس. بل أعجب من ذلك أنك تجد بعض الشباب يتجه إلى طلب علم من العلوم، فيلقاه بعض من حوله فيسأله سؤالاً يتعلق بعلم آخر، فيجد نفسه حائراً أمام السؤال الذي وجه إليه لا يستطيع الإجابة عليه، فهذا السؤال وهذه الحيرة أملت عليه الاتجاه إلى العلم الذي يتعلق بهذا السؤال؛ فإذا كان السؤال فقهياً مثلاً، اتجه إلى الفقه لأنه شعر من خلال عجزه عن الإجابة عن هذا السؤال؛ بضرورة تعلم الأحكام التفصيلية بأدلتها. فإذا بدأ وُجه إليه سؤال آخر وثالث وهكذا، فيكون الإنسان متردداً لا يكاد يستقر على حال، بسبب ضعف انتباه الإنسان لنفسه، وضعف ضبطه للطريقة الصحيحة التي يجب أن يتعلم بها، وبسبب عدم وجود المربي أو الموجه الذي ينتفع الإنسان بخبرته ومعرفته في هذا المجال. ولذلك قال علماؤنا السابقون: إن الإنسان إذا وجد في نفسه ميلاً إلى علم من العلوم ينبغي له أن يركز على هذا العلم الذي شعر بأنه يميل إليه، ولو كان هذا العلم مفضولاً، فمثلاً: لو افترض أنك تجد في نفسك ميلاً إلى علم التاريخ، وأنك تبدع فيه أكثر من غيره، فإنك حينئذٍ ينبغي بعد أن تتعلم من علوم الشرع ما لا بد لك منه أن تركز على تعلم علم التاريخ، وأن تخدم الإسلام من خلال هذا العلم. فتبين مثلاً: المرويات الباطلة التي دسها الرافضة وغيرهم من أعداء الإسلام في كتب التاريخ، وشوهوا بها سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل شوهوا بها التأريخ الإسلامي، وخاصة القرون المفضلة، وجعلوا من هذه المرويات المدسوسة مطية للمستشرقين وغيرهم من أعداء في الإسلام الذين طعنوا الإسلام، ورموه من خلال هذه الكتب التي جمعت الغث والسمين، ومن خلال هذه الروايات التي دسها الرافضة وغيرهم من الزنادقة. فأنت مؤرخ تخدم الإسلام من خلال تمحيص التاريخ الإسلامي، وأنت تخدم الإسلام من خلال دراستك للتاريخ دراسة صحيحة، وبيانك للصور المشرقة التي رسمها المسلمون الأولون، حتى ينسج المسلمون على منوالها، فيعرفوا التصرف الصحيح فيمتثلوه، ويعرفوا التجربة التي تبين عدم صحتها فيجتنبوها. ولذلك قال الشاعر: ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره وما يمكن أن يقال في التاريخ يمكن أن يقال في أي علم آخر. ولذلك قال الإمام ابن حزم رحمه الله في كتابه الذي سماه الأخلاق والسير في مداواة النفوس: من مال بطبعه إلى علم ما ولو كان أدنى من غيره، فلا يشغلها بسواه، فيكون كغارس النارجيل في الأندلس، وكغارس الزيتون في الهند، وهذا كله لا ينجب. فحين تغرس نوعاً من الشجر في بلد لا تصلح تربته، أو لا يصلح جوُّه لهذا النبات، أو لهذه الشجرة فإنه يموت، فتخسر الشجرة، وتخسر الجهد الذي بذلته والوقت والأرض. وهكذا من وجه نفسه إلى علم لا يحسنه يتعب كثيراً، ولا يحصل فيه إلا القليل، بل إنني أقول: إن الأمر يتعدى ذلك. فإن كثيراً ممن يسيئون إلى العلم الشرعي، ويخطئون من حيث أرادوا الصواب، ويسيئون من حيث أرادوا الإحسان: هم من أقحموا أنفسهم في هذه المجالات، وهم لا يملكون أداتها ولا آلتها، ولم يخلق لها، فجاءوا من الآراء والنظرات والأقوال بالشيء الغريب الذي لم يسبقوا إليه. وتجد كثيراً من الشباب خاصة في بداية الطلب وفي غمرة الحماس قد يأتون بآراء وأقوال في منتهى الغرابة، وقد يصدر منهم أيضاً من التصرفات والمواقف الشيء الكثير، ولا حاجة لضرب الأمثلة لذلك، فهي معروفة لدى كثير منكم. أيها الإخوة: إننا حين ندرك المواهب التي وهبنا الله عز وجل إياها، والأشياء التي نستطيع أن نفلح فيها أكثر من غيرها، فإننا بذلك نوفر على أنفسنا جهداً وعناءً كبيراً، ونقدم للدين الذي نحبه ونحب أن نضحي في سبيله شيئاً كثيراً، وفي نفس الوقت نكون قد تناوبنا القيام بفروض الكفايات التي أوجبها الله علينا. فإن تعلم هذه العلوم فيما عدا العلم الذي يخص الشخص هو من باب فروض الكفايات، حتى علوم الصناعات التي يحتاجها المسلمون في حياتهم العملية هي فرض كفاية. وكذلك تعلم العلوم الزائدة التي يحتاجها الناس، فإذا قام كل واحد منا بالتعرف على العلم الذي يحسنه، ووجه همه إليه، أو التعرف على الشيء الذي يناسبه ولو لم يكن علماً، ووجه همه إليه، فإننا سنجد في النهاية أننا بمجموعنا أفلحنا في تكوين مجتمع إسلامي متكامل، يتناوب أفراده القيام بفروض الكفاية، ولا يوجد فرد في غير محله، فكل فرد في موقعه الطبيعي. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 9 طريقة معرفة المواهب ولا شك أن الإنسان قد يقول: كيف لي أن أعرف الموهبة التي يمكن أن أجيد فيها؟ وهذا فعلاً لا يتحقق في كثير من الأحيان إلا بنوع من الانتباه والتجربة. ففي بعض الأحيان تجد مواهب الإنسان بارزة وأنها متجهة إلى شيء معين، وهذا لا إشكال فيه، لكن في أحيان أخرى تكون هذه المواهب خفية تحتاج إلى صقل وإلى تجربة واستشارة، ومع التجربة والانتباه والاستشارة أيضاً يصل الإنسان إلى الموقع الطبيعي المناسب. ويجب علينا أن ندرك أن الله عز وجل حين قسم بيننا هذه المواهب وهذه الملكات، أراد منا أن نستثمرها في طاعته وفيما يرضيه؛ ولذلك حين نهدرها أو نضيعها، نكون قد ظلمنا أنفسنا، وتعرضنا لسخط الله عز وجل وعقابه. وانظر إلى قول الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] وتأمل هذه الآية: أولاً: {جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام:165] فنحن مستخلفون في هذه الأرض ومطالبون بعمارتها، كما قال: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] فنحن مطالبون بعمارتها بشرع الله ومنهجه، ومطالبون بإقامة دين الله عز وجل فيها بكل جوانبه، ودين الله لا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فنحن مطالبون بجميع ذلك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} [الأنعام:165] ثم قال سبحانه: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام:165] . إذاً: فالناس درجات متفاوتة، منهم من جمع من الفضل والخير أنواعاً كثيرة، ومنهم دون ذلك، ومنهم الفاضل في مجال، ومنهم الفاضل في مجال آخر، منهم العالم، ومنهم العابد، ومنهم المجاهد، وهذه درجات متفاوتة وأنواع من الفضل {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] . إذاً: هذا الفضل سواء كان فضلاً موهوباً، أو فضلاً مكتسباً، هو ابتلاء واختبار {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] من هو الذي ينجح في هذا الابتلاء، فيقوم بما أوجب الله عليه بتوجيه المواهب الفطرية توجيهاً صحيحاً يخدم الإسلام، وبالاستفادة مما اكتسبه في طاعة الله تعالى ومرضاته؟ ومن هو الذي يخفق في هذا الامتحان، فيوجه مواهبه توجيهاً غير صحيح، أو يوجه ما اكتسبه في معصية الله أو في الإثم، أو في أشياء لا فائدة منها؟ ثم ختم الآية بالإشارة إلى العقاب، وإلى مغفرة الله تعالى ورحمته، وهذا دليل جلي واضح على أنه ينبغي للشاب المسلم أن يستثمر طاقاته ومواهبه في خدمة الإسلام، ويدرك أن كل طاقة عنده مهما تكن بسيطة، ينبغي أن توجه توجيهاً صحيحاً. أيها الإخوة: إن من الخطأ أن يكون الشاب في بناء شخصيته متذبذباً، منتقلاً من طرف إلى طرف، بل ينبغي له أن يرسم لنفسه منهجاً متوازناً معتدلاً، يجمع بين العلم والعبادة والعمل، ثم يحرص على البروز أكثر وأكثر في المجال الذي يحسن فيه. هذا ما أردت أن أتحدث إليكم فيه في هذه الساعة القصيرة. وفي الختام أتوجه إلى الله تعالى وأسأله أن يوفقني وإياكم للاستفادة مما وهبنا في طاعته، وأن يجعلني وإياكم ممن صرفوا جميع إمكانياتهم في سبيل الله تعالى، وألا يجعل حظنا هو الكلام أو الاستماع. وأصلي وأسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 70 ¦ الصفحة: 11 طريقة قراءة المعوذات عند النوم السؤال ما هي صفة العمل بالحديث الذي فيه قراءة المعوذات عند النوم، ثم النفث في اليدين والمسح على الجبهة، وكذلك صفة طرد الوسواس في الصلاة؟ الجواب صفة قراءة هذه السور -كما في الصحيح- أن الإنسان يأوي إلى فراشه، ويجمع كفيه، كما يفعل في حال الدعاء، ثم يقرأ سورة الإخلاص والمعوذتين، ثم ينفث في يديه، ثم يمسح بهما جسده، يبدأ بهما من رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل هذا ثلاث مرات. أما طرد الوسواس من الصلاة: فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن الشيطان إذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التثويب أقبل، حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر، فإذا حال بينه وبين صلاته، فليتعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وعلى الإنسان أن يحرص على استحضار قلبه في الصلاة، وتأمل معنى ما يقرأ من الأدعية والأذكار. وعليه أن ينوع في هذه الأدعية، كما ينوع في صفات الصلاة الواردة حتى لا يعتاد على قراءة سور معلومة. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 12 العلوم الإنسانية السؤال ماذا عسانا أن نقول لطلاب العلوم الشرعية وهم ينظرون إلى طلاب العلوم الاجتماعية -مثلاً- نظرة وتقصير؟ وكيف نبين لهؤلاء أهمية هذه العلوم بالنسبة للأمة الإسلامية؟ الجواب المشكلة -أيها الإخوة- أن كثيراً منَّ الشباب الذين من الله عليهم بالاستقامة لديهم منطق معين، يقول: العمر ثمين، والأيام محدودة، ولا يوجد وقت لغير طلب علوم الشريعة، حتى إن الواحد منهم لو اهتدى وهو في عرض الطريق -في السنة الثانية، أو الثالثة، أو الرابعة أحياناً- في إحدى الكليات غير الشرعية -إن صح هذا التعبير- لوجدته يقطع دراسته، ويبدأ من جديد في دراسة شرعية. ولذلك ترتب على هذا الأمر أن كثيراً من الكليات التي لا تدرس العلوم الشرعية، تكاد تخلو من العنصر الطيب، مع أن بعض هذه الكليات تدرس علوماً مهمة جداً، والمتخصصون في هذه العلوم إن كانوا منحرفين، فإنهم يهددون المجتمع المسلم. فما رأيك مثلاً: في من يدرسون علم الاجتماع، أو علم التربية؛ أن هؤلاء سوف يكون لهم دور كبير جداً في توجيه التعليم، ومناهج التعليم، وترتيب العملية التربوية في البلاد الإسلامية، فإذا كانوا تربوا على أفكار الغربيين، وتشبعوا بها، وليس لديهم لا سلوك إسلامي، ولا علم شرعي؛ فحينئذٍ سوف يكون دورهم دوراً خطيراً. ولذلك فإن الشباب الذين يتخرجون من المدارس الثانوية -مثلاً- بحاجة إلى القدوة، بحاجة إلى من يعطيهم قدوة حسنة، فيكون وهو -مثلاً- في كلية علمية أو في كلية نظرية تدرس علوماً ليست من العلوم الشرعية؛ في كلية التاريخ، أو الاجتماع، أو التربية، أو غيرها، ويكون مع ذلك لديه علم شرعي طيب، ولديه سلوك إسلامي، ولديه غيرة على الدين، حتى يضرب لهم المثل والقدوة الحسنة في ذلك، ويزيل هذه النظرة التي تحدث عنها السائل. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 13 حكم الشرب قائماً والنوم على البطن السؤال هل يجوز النوم على البطن، وكذلك الشرب والشخص قائم؟ الجواب بالنسبة للشرب قائماً، ورد النهي عنه في أحاديث صحيحة في مسلم وغيره، بل ورد الأمر لمن شرب قائماً أن يقيء، وفي حديث صحيح أنه قال: {هل تحب أن يشرب معك الهر؟ قال: لا، قال: فقد شرب معك من هو شر منه، الشيطان} لكن حمل العلماء هذا النهي على كراهة التنزيه، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب واقفاً في حالاتٍ عديدة. أما الاضطجاع على البطن: فهي ضجعة يبغضها الله عز وجل، وهي مكروهة. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 14 الخلاف والانتماء السؤال لا يخفى عليكم كثرة الطوائف في المجتمع المسلم اليوم، فهل ترون أن الانتماء إلى أحدها يخل بالتوازن، وهل يمكن الانتماء إليها مع التوازن في ذلك؟ الجواب أقول: إن مما يجب أن نفقهه -أيها الإخوة- أن الاختلاف بين المسلمين أمر لا مفر منه، ومنذ أن كسر الباب، انفتح باب الفتنة على المسلمين ودب الخلاف بينهم. وإنك حين تستعين بالقاعدة التي ذكرتها في أول الحديث، وهي قاعدة: عرض الأشياء على مجتمع الصحابة، تجد أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قد اختلفوا في العديد من الأمور، وعلى سبيل المثال: اختلفوا في مسائل فقهية كثيرة: في المواريث، وفي التيمم، وفي الطهارة، وفي الصلاة، وفي الزكاة، وفي الصيام، وفي الحج، وفي سائر أبواب العلم، بل واختلفوا في أشياء عملية اجتهادية اختلافاً بيناً، فاختلفوا في مواقفهم، وحين تنظر في موقف الصحابة من الفتنة التي حصلت، تجد أنهم اختلفوا في ذلك، فمنهم من كان في صف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومنهم من كان في صفوف أهل الشام مع معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ومنهم من رأى أن الموقف الأجدر به هو العزلة، فاعتزل كما فعل سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وأهبان بن صيفي، ومحمد بن مسلمة وغيرهم كثير. إذاً: فالاختلاف بين المسلمين سواء في الأشياء الشرعية، أو في المواقف العملية الاجتهادية، أمر طبعي. لكن أنبه في هذا الباب إلى عدة ملاحظات مهمة: الملاحظة الأولى: أننا يجب أن نتفق جميعاً ولا نختلف على أن يكون مَردّ كل اختلاف يشجر بيننا إلى كتاب الله تعالى، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وهذه قضية أساسية ومهمة. الملاحظة الأخرى: أن المخالفين أو المبتعدين عن المنهج الصحيح أنواع: فمنهم من يخالف ما ترى أنت أنه المنهج الصحيح لاجتهاد قام عنده ووجد لديه دليله، وهو أهل لأن يسلك هذا المسلك، ويجتهد هذا الاجتهاد، وتعرف منه الصدق والإخلاص فيما يسلك، ومثل هذا ينبغي التلطف معه، ومناصحته بالأسلوب الحسن الطيب، فإن بقي على ما هو عليه ولم يقتنع بما لديك، فعليك أن تقوم بحقوق وواجبات الأخوة نحوه. وهناك نوع آخر ممن انحرفوا عن المنهج الصحيح لغرض، كهوى قام في نفوسهم، أو لجهل أو لأي سبب من الأسباب التي لا تسوغ لهم هذا الأمر أو هذا الموقف، ومثل هؤلاء -أيضاً- يجب مناصحتهم، وحثهم على التخلي عما وقعوا فيه من خطأ أو انحراف، ودعوتهم إلى المنهج الصحيح، فإن أصر على ما هو عليه كان الواجب على الإنسان أن يظهر مخالفته له وتميزه عنه بمنهجه، حتى يكون الآخرون على بينة من الأمر، ولا تختلط الأمور والمواقف عليهم. أما انتساب الإنسان إلى مجموعة من الدعاة، تعينه على الخير وترشده إليه، ويتعاون معهم على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان، وينسق معهم، أو يصرف من خلالهم جهده وطاقته -إن كان هذا هو المقصود- وكان هؤلاء القوم أهل سنة واتباع، وإنما اجتمعوا على كتاب الله وسنة رسوله، لا على ما تهواه نفوسهم، ولا على الاتباع لشخص، أو شيخ، أو مذهب غير صحيح، فلا أرى في هذا حرجاً والله أعلم. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 15 موسوعية السلف السؤال فضيلة الشيخ: أنت تعرف حماس بعض الشباب في طلب العلم، ولهم من السلف الصالح أسوة حسنة؛ وذلك أن السلف رحمهم الله لا يقتصرون على علم واحد، بل نجد الواحد منهم موسوعة في كثير من العلوم، فما تعليق فضيلتكم؟ الجواب لي عدة تعليقات على هذا السؤال: أولاً: حين يوجد الفرد ذو العقلية الممتازة الجبارة الذي يمكن بالمتابعة والتحصيل أن يكون موسوعة كما عبر الأخ، فألف حبذا! ولا يزال المسلمون يتطلعون منذ قرون إلى شخصية كشخصية شيخ الإسلام ابن تيمية، فهو ليس موسوعة في مجال العلم فقط، بل حين تنتقل إلى المجالات العملية تجد أن الرجل لم يقصر نفسه على تعلم العلم الشرعي بأنواعه وفنونه، بل تعدى ذلك إلى الجهاد ومحاربة أهل البدع، وقتالهم، ومناصحة السلاطين، والقيام بالحسبة عليهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك من جوانب شخصيته الفذة رحمه الله. ومثل هذه الشخصيات شخصيات نادرة لا يوجد منها أحياناً في أكثر من قرن إلا عدد قليل، أما كون الإنسان لديه إلمام طيب بمجموعة من العلوم الشرعية، فهذا ممكن في حالات كثيرة، ولا بأس به، بل هو مطلوب، وأشرت إلى أن الإنسان لا يمكن أن يكون مبرزاً في علم شرعي وهو يجهل بقية العلوم. فالقضية أن وجود هذه العقليات التي أشار إليها الأخ هو أمر قليل، فهذا جانب. ثانياً: أن موضوع التخصص لا بد منه خاصة في هذا الوقت. فمثلاً: لو نظرت إلى جانب معرفة الأحكام الشرعية؛ لوجدت أن المسلمين يعانون مشكلات عويصة وصعبة مما يسمى بالنوازل، تحتاج إلى مجتهدين من الطراز الأول حتى يتكلموا فيها ويبينوا للناس شأنها، سواء في المجال الطبي، أو في مجال المال والمصارف، أو في غيرها من أمور الحياة التي استجدت، وهي تفني أعمار مجموعة من العلماء وليس واحداً. ففي نظري مع أنه لا بد للإنسان أن يحيط بمجموعة من العلوم الشرعية، ويفهم فيها بشكل جيد إلا أن التخصص لا بد منه. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 16 اختيار التخصص السؤال فضيلة الشيخ، أنا أميل إلى العلوم الشرعية، ولكن لا أدري وفي أية مادة أطلب؛ علم الحديث، أو العقيدة، أو الفقه، علماً أنها مفرقة في الكليات حسب التخصص، وشكراً؟ الجواب ذكرت أن الإنسان قد يقف حائراً في حالات كثيرة لا يستطيع أن يحدد بالضبط المجال الذي يمكن أن ينفع فيه أكثر، ولذلك فإن الإنسان ينبغي له أن يحرص على أن يأخذ أصول العلوم في البداية ويتأملها، حتى يكون لنفسه خلفية علمية جيدة؛ لأن الإنسان لا يمكن أن يجيد في فن -خاصة الشريعة- وهو يجهل بقية الفنون جهلاً تاماً، ولا يمكن أن يستطيع الاستفادة من دليل واحد، وهو يجهل أدلة كثيرة في نفس الباب. وهذه القضية المهمة أشار إليها الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه العظيم الرسالة في أصول الفقه، ففهم الإنسان للصورة العامة للشرع ضروري. ولذلك ينبغي أن يحرص على أن يلم بأصول العلوم الشرعية ما دام متجهاً لطلب العلم الشرعي، ومن خلال هذا الإلمام أيضاً يمكن أن يعرف المجال أو العلم الذي تميل إليه نفسه أكثر، ومع ذلك فقد يتجه الإنسان إلى كلية من الكليات، ويجد فيها أكثر من علم، فليست الكلية محصورة في علم واحد، فأنت لو درست مثلاً في كلية الشريعة ستجد دراسة التوحيد والعقيدة، إلى جوار أصول الفقه، والفقه، والفرائض، والتفسير وهكذا. ولو درست في كلية أصول الدين لوجدت العلوم نفسها، أو قريباً منها وهكذا. ولكن بعد أن يتخرج الإنسان من هذه الكلية، عليه أن يركز جهده في العلم الذي أحس بميل إليه أكثر من غيره. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 17 قاعدة الميول السؤال فضيلة الشيخ: أخذت من مجمل ما تفضلت به وأتحفت، أن كل عبد تام العقل والصحة لا بد أن يكون له ميول إلى شيء معين. ألا ترى أن في هذا الحكم شيئاً من المبالغة؟ الجواب لا أعتقد أن ما تفضلت به في السؤال ورد في المحاضرة بنفس الدرجة من الوضوح، فإن الشيء الذي ذكرته هو أن كل إنسان يختلف عن الآخر، وهذا أمر لا شك في ثبوته، والواقع المحسوس يشهد به. أما أن يكون لكل فرد نوع من التميز فهذا أمر غالب، وأغلبي وموجود. ولكن قد تجد من الأفراد من ليس لديهم بروز واضح، بل بروزهم يسير، وقد لا يمكن التنبه له. وقد تجد هذا الفرد لم يحرص على تنمية هذا الشيء الفطري المركوز فيه، فضمر هذا الأمر واختفى، ويحتمل أن يوجد أفراد يهتمون بعدد من الأشياء بصفة متساوية، وليس في هذا استحالة أو استبعاد. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 18 تعليق على لفظة: إني أحبك في الله السؤال فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله، ما الذي يحكم الإنسان في تصرفاته: ضميره أم نفسه، نرجو الإيضاح، وجزاك الله خيراً؟ الجواب أحبك الله الذي أحببتني فيه! وبمناسبة ذكر الأخ لهذه الكلمة فلي رأي أو وجهة نظر في هذا الموضوع، أرجو أن يتحملها الأخ لأن المقصود فيها الفائدة. كثيراً ما نسمع عن بعض المحاضرين، أو طلاب العلم، أو المشايخ من يذكر لهم أنه يحبهم لله، وهذا لا شك بشير خير لمن أحب هؤلاء، ولست منهم، لكنني أرى أن الأولى والأفضل أن يصارح الإنسان من يحبه في الله مواجهةً، كفاحاً بينه وبينه. لأنك حين تتأمل الأحاديث الواردة في موضوع الحب في الله وهي صحيحة، تجد أن فيها ذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال: إني أحب فلاناً، بأن يعلمه، قال: {اذهب فأعلمه} كما في أبي داود وغيره، وكونه عليه الصلاة والسلام أمر هذا الرجل أن يذهب ويعلم أخاه بأنه يحبه، لو تساءلنا عن الفائدة من ذلك والغرض والحكمة منه لوجدناها ظاهرة؛ لأن هذا مما يعمق الروابط بين المسلمين، وهو يتحقق بصفة أقوى إذا كان المتحابان متعارفين. فأنا مثلاً: إذا أحببتك في الله آتيك وجهاً لوجه، وأشعرك بذلك، لأن هذا سوف يجعلك تبادلني نفس الشعور. وحينما يقول لك شخص: إني أحبك في الله، تشعر بأن قلبك يحبه؛ لأن الأرواح كما في الصحيح: {جنود مجندة} والعوام يقولون: (القلوب شواهد) وقولهم صحيح. فما من شخص تشعر نحوه بعاطفة حب صحيحة مستقرة ثابتة إلا وتجد عنده مثل ذلك، أو يوجد عنده مثل ذلك ولو بعدك، فإذا صارحت الإنسان بأنك تحبه في الله كان هذا أبلغ في تعميق الروابط بين المسلمين. أما السؤال: فلا أفهم ما يقصد الأخ بالفرق بين النفس وبين الضمير، ولكنني أقول: إن الإنسان ينبغي أن يحكم عقله في الأشياء التي تحتاج إلى نظر وتأمل وتفكر وتتدبر. ويجب أن يتأمل الأشياء التي ترتاح إليها نفسه. الجزء: 70 ¦ الصفحة: 19 اللهم بلغت اللهم فاشهد هذه ندوة تحدث فيها المشايخ عن مأساة البوسنة والهرسك وما يجري لهم هناك من النصارى الذين يحيطون بهم من كل جانب، وعن وجوب النصرة لهم، وذكروا معلومات عن المسلمين هناك وما يتهددهم من الأخطار ثم تحدثوا عن وسائل النصرة لهم وعن بوارق الأمل وبشائر النصر، ودار الحديث عن وجوب دفع التبرعات والتحقق من وصولها، وختمت الندوة بذكر أهداف النصارى. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 1 مأساة البوسنة والهرسك الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا وعلى آله وصحبه وسلم. {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:2-7] أيها الإخوة الكرام! أيها المسلمون الأحباء! نحمد الله سبحانه وتعالى أن منّ علينا بالإسلام، ونشكره سبحانه وتعالى أن ألف بين قلوبنا فهو سبحانه وتعالى وحده قادر على ذلك لا غيره. أيها الأحبة إن ما يجري ويحدث اليوم في جمهورية البوسنة والهرسك، وفي إقليم السنجق، وفي إقليم كوسوفو ليس بغريب ولا عجيب لذوي العقول والنُهى؛ فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] . الجزء: 71 ¦ الصفحة: 2 خطر المجاعة أيها الإخوة الكرام: ستة ملايين مسلم هناك على حافة المجاعة! ستة ملايين مسلم في خطر الإبادة الجماعية! والضحايا كثيرون، ولا تلتفتوا كثيراً إلى ما ينشر في وسائل الإعلام الغربية والجرائد التي تقرءونها فإنها تنقل فقط ما تذيعه الجرائد ووكالات الأنباء الغربية، إن الضحايا هناك أكثر بكثير مما يعلن ويشاع، فهم يتكلمون عن ستمائة قتيل خلال الشهر الماضي، ولكن من بين المسلمين القتلى أكثر من عشرة آلاف قتيل، هذا في شهر واحد! أما الجرحى -فحدث ولا حرج- فلا أحد الآن يعد الجرحى، ولا توجد هناك أدوية، والمدن حتى بما فيها العاصمة نفسها محاصرة لا يأتيها شيء، ولا يخرج منها شيء بسبب الحصار المضروب عليها، والجمهورية نفسها ضرب عليها الحصار. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 3 وسائل النصرة فإذا فكرتم، وأردتم التفكير في مساعدة إخوانكم هناك: فأولاً: ابدءوا بالدعاء، فإن الله سبحانه وتعالى هو أقدر القادرين، وهو الذي يستطيع أن يفرج عن أمة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يستطيع أن يوجد السبل، ويستطيع أن يفرج الكرب: اللهم فرج عن إخواننا، هذا هو الدعاء. ثانياً: إن هناك طريقاً لمساعدة المسلمين الآن، فقد فكرت القيادة في جمهورية البوسنة والهرسك أن تأتيها المساعدات عن طريق كرواتيا، وهي كذلك دولة نصرانية كاثوليكية، وطبعاً هذه المساعدات عن طريق كرواتيا مراقبة ومشروطة، وفي كثير من الأحيان صعبة جداً، رغم ما بيننا وبينهم من تحالف ضد عدو مشترك ألا وهو الصرب، إلا أن الكفر ملة واحدة، وأخشى ما نخشاه أن يغدر بنا الكرواتيون، وهم: أخبث من هؤلاء الصرب الذين يكرهون جهراً، ولا يجاملون ولا ينافقون، بينما الكرواتيون يكرهون سراً، ويمكرون ليل نهار، وأخشى أن يغدروا بنا وقد غدروا، فلعلكم سمعتم أن هناك اتفاقاً ليس سرياً بل علنياً حدث في إحدى المدن النمساوية اتفق فيه الجانبان: الصربي والكرواتي على تقسيم جمهورية البوسنة والهرسك. فالأوروبيون اعترفوا بنا، وهم الآن تحت رعايتهم يجري هذا الاتفاق ويحصل، فمن للمسلم هناك غيركم أيها الأحباب؟! نحن في ابتلاء، وأخشى أنكم هنا أنتم في ابتلاء أعظم من ابتلائنا، فالابتلاء في الضراء قد يعرف الناس أن يخرجوا منه بنجاح وإيجابية، أما الابتلاء في السراء فإن الإنسان قد يظن بنفسه خيراً، وقد يتكاسل، وقد ينسى، وقد يعجب بنفسه، وقد لا يفعل ما يجب أن يفعله، فهذا هو -والله- عين الابتلاء، هو ابتلاء لنا وابتلاء لكم. أيها الإخوة الكرام: إن المآسي كثيرة! فالحرمات تنتهك، والمسلمات تنتهك أعراضهن. إن المساجد تدنس وتدمر، والمدن بمن فيها من الناس والبيوت والممتلكات تدمر، وتزاح عن الخرائط، والصرب يريدون أن يسيطروا على البوسنة والهرسك، ويخضعوها لحكمهم وسيطرتهم، ويضموها إلى جمهورية صربيا الكبرى، ويطردوا المسلمين، ويطهروا المنطقة من المسلمين إن استطاعوا، فهم يحاولون وهذا حلمهم، ولكنه لن يتحقق بإذن الله تعالى والله سبحانه وتعالى قادر على نصرة المسلمين هناك، ولو كانوا كالسفينة في البحر اللجي. إن الإخوان هناك لا يفكرون إلا في المسلمين، ويناشدون العالم الإسلامي؛ لأنهم يعرفون أن العالم النصراني هو عالم كافر غادر حاقد، فهم يستصرخون، ويطلبون التدخل العسكري من الامبراطورية الجاهلية التي أوشكت على السقوط، ومن أوروبا الجاهلية فهم يطلبون منهم التدخل العسكري، وفي حقيقة الأمر هم يطلبون من العالم الإسلامي في رسالة غير مباشرة أن يتحرك ويتدخل عسكرياً أو بالنفس والمال، هذه هي الحقيقة. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 4 عدد المسلمين أيها الإخوة: ربما تحبون أن تعرفوا بعض النبذ عن المسلمين؛ إنهم هناك أكثر من ستة ملايين مسلم في يوغسلافيا نصفهم في جمهورية البوسنة والهرسكتقريباً. وجمهورية البوسنة والهرسك أكبر من لبنان خمس مرات، وقد أعلنت استقلالها، ثم اعُترف بها دولياً، وبعد الاعتراف بها، هوجمت من قبل دولة نصرانية صربية أرثوذكس حاقدة على الإسلام والمسلمين، يريدون ألا تكون للمسلمين قائمة، ويريدون ألا تكون للمسلمين دولة، ولكن -ولله الحمد- نحن اخترنا طريقاً صعباً ألا وهو الاستقلال والحرية، ولا يمكن أن ننال استقلالنا وحريتنا إلا بالدماء، وإلا بالشهادة والتضحيات، وهذا هو السبيل الصحيح. أما لو حصلنا عليه دون عناء، فالله أعلم بمدى استمراريته، ومدى مكوثه في الأرض. إن الذي ينال بالجد والجهد والدماء والجهاد يكون بعد ذلك عزيزاً وغالياً، ولذلك يحرص الناس عليه ويعرفون قدره. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 5 إحاطة النصارى بالمسلمين في البلقان ونحن المسلمين في تلك البقاع نعيش كجزيرة في بحر نصراني صليبي ليس لنا إلا الله سبحانه وتعالى، وقد بذلت محاولات كثيرة جداً لمحو هويتنا، وتبد يد شملنا وإبادتنا وإبعادنا عن تلك المنطقة، ولكن الله سبحانه وتعالى وحده هو الذي سلم. وهذا الذي يحدث اليوم ليس أول مرة يحدث في التاريخ فقد جرت هناك محاولات عديدة لإبادة المسلمين، وإبعادهم، ولكنهم يكيدون كيداً، وربنا سبحانه وتعالى يقول: {وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:17] . ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزق إخواننا، وأن يمد إليهم بالأسباب. أيها الإخوة الكرام! مآسي المسلمين هناك كثيرة، ولكن ليس هذا وقت البكاء. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 6 مآسٍ ونكبات أخي الكريم! هل سمعت بالطفل يذبح أمام أبيه؟! هل سمعت بالعالم يشنق في محرابه؟! هل سمعت بالمرأة الحامل يبقر بطنها ويوضع فيه قطة حية، وتترك لتنزف حتى تموت؟! هل سمعت باغتصاب الحرائر؟! هل سمعت بتدنيس المساجد؟! هل سمعت بإبادة الشعوب؟! هل سمعت وهل سمعت؟! أين الأخوة الإسلامية التي جمعت قلوب المسلمين في كل مكان؟! أين الجهاد؟! أين الفداء؟! وأين الإباء؟! أين الشهادة وأين الكرامة؟! أين أنت؟! وأين أنا؟! البوسنة والهرسك، والسنجق، وكوسوفوجروح غائرة في جسد الأمة الإسلامية، ستة ملايين مسلم مهددون بالإبادة، يقفون عزلاً أمام الحقد الصربي الصليبي الذي لا يعرف للأخلاق قيمة، ولا يضع للإنسانية قدراً، هناك تنتهك الحرمات، ويستباح الآمنون، فمن لهم بعد الله؟! أخي هل تراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح فمن للضحايا يواسي الجراح ويرفع راياتها من جديد فلسنا بطير مهيض الجناح ولن نستذل ولن نستباح فامدد يديك إلى يداي واصرخ معي: وا إسلاماه!! الجزء: 71 ¦ الصفحة: 7 وجوب النصرة إخوتي الكرام! حديثي إليكم بلا عنوان ولا تقديم، ولا أدري من أين أبدأ؟! ولعل فيما ذكرت كفاية فينبغي أن نكثر من العمل، ونقلل من الحديث حتى نكون رجالاً حقاً، والله سبحانه وتعالى لعله بحكمته اختارنا لأن نكون شهداء على الناس، شهداء بشهادتنا، وشهداء بجهادنا، وشهداء بالصبر وتحمل الأذى وغير ذلك، فالله سبحانه وتعالى يختار، ويفعل ما يريد. والله سبحانه وتعالى كأنه يريد توحيد هذه الأمة؛ لأن الأمة الإسلامية جسد واحد، قال صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى} ورغم ما يعوق توحيد الأمة المسلمة من الترسبات الفكرية وغيرها من الاعتبارات، إلا أن الله سبحانه وتعالى متم نوره ولو كره الكافرون. أيها الإخوة: لقد قلت في بداية حديثي ليس هذا وقت بكاء، ولا صياح، إنما هو وقتٌ يريد الله سبحانه وتعالى منّا شيئاً نفعله، ونجِّد في سبيله، ونجاهد ونجتهد، فقد ولى دهر السبات والنوم والكسل، وجاء وقت الجد، والحمد لله أن الذي حدث ويحدث هناك في البوسنة للمسلمين، حدث وبدأ بعد انتصار المجاهدين الأفغان، فهي إشارة واضحة من السماء أن الله سبحانه وتعالى لن يتخلى عن هذه الأمة، إنما هو الذي يريد لها خيراً، ويريد لها التوحيد والنصر والعزة والتمكين ولكن المسلمين لا يريدون ذلك بسبب جهلهم، أو بسبب ضعفهم، أو بسبب من الأسباب. أيها الإخوة! ليس للمسلمين طريق للعزة إلا طريق الجهاد في سبيل الله، فربما بعض الناس بعدما انتصر المجاهدون الأفغان قالوا: الحمد لله! لعلنا نستريح قليلاً، ولعل الدماء تتوقف. ولكني أقول: إن الأنبياء جاهدوا في سبيل الله، وأوذوا في سبيل الله، واستشهد كثير من خير أمة أخرجت للناس، استشهدوا في سبيل الله، وسفكت دماؤهم، وجاهدوا في سبيل الله، وعانوا وأوذوا وأخرجوا، أفنريد نحن اليوم أن نستريح، وربنا سبحانه وتعالى يريد لنا الخير في الجهاد؟! إن هذا الجرح الذي فتح في البوسنة في وسط أوروبا لهو جرح عميق، ولكن الله سبحانه وتعالى أدرى بخلقه، وأدرى بشئون عباده، فكأنه سبحانه وتعالى يريد لهذه الأمة أن تستيقظ وتتحرك، وأن تفطن لما يحاك بها حتى تنهض وتقوم، وتسرع في إنقاذ المسلمين ونصرتهم، ومد يد العون إليهم كما أمر الله سبحانه وتعالى وكما يريد، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] . الجزء: 71 ¦ الصفحة: 8 بوارق الأمل من الإيجابيات التي أستطيع أن أذكرها بإيجاز: أولاً: أن كل ما يجري ويحدث الآن هناك بدأ بعد انتصار المجاهدين الأفغان. ثانياً: إن الجمهورية -جمهورية البوسنة والهرسك- حصلت على قيادة مسلمة واعية ولله الحمد، وهذه إيجابية كبيرة، ولم نكن نظن أن المسلمين هناك سوف يحصلون عليها، فإن الذي يقود المسلمين الآن هو الرئيس علي عزت، ونائبه عمر بهمن، والدكتور سليمان أوقلتن زعيم مسلمي السنجق، وغيرهم من القادة -قادة الحزب المسلمين- إنهم لخير ناس عرفناهم في تلك البلاد، وإنهم أناس جربتهم الحياة، فهم قد دخلوا السجون، واختبروا، وأوذوا في سبيل الله، كل ذلك من أجل وبسبب الإسلام، فالرئيس علي نفسه قضى في السجون تسع سنين، وعمر بهمن قضى في السجون سبع عشرة سنة، إنها ليست مدرسة بل هي مدارس، إنها لحياة طويلة في مدرسة خاصة، وليت بعض الناس يمرون بها حتى يعرفوا قدرها ومكانتها! إنها مدرسة خاصة، ومفيدة، وقد دخلها من هم خير منهم، دخلها الأنبياء، دخلها يوسف عليه السلام وغيره، نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخواننا. ثالثاً: أيضاً من الإيجابيات التي أريد أن أذكرها، قد بدأت الأحداث، أن العالم النصراني بدأ يتفكك والحمد لله، نحن من تلك البلاد خير من يعرف هذا، فإن النصارى الآن بدءوا يتفككون، وبدأ هناك صراع خفي، -وإن شاء الله- وسوف يكون ظاهراً لكم أيضاً. إن العالم النصراني انقسم إلى ثلاثة أقسام: 1-النصارى الكاثوليك: 2-النصارى الأرثوذكس. 3- النصارى البروتستانت- هذه الطوائف الثلاثة- الآن كل واحدة منها تكيد للأخرى، وتفكر في كيف السبيل وخداعها. أيها الإخوة: نحن نعرف جيداً أن العالم النصراني مهما تظاهر بالوحدة والتماسك وغير ذلك، فإنه عالم هش سرعان ما يسقط، وسرعان ما تظهر السلبيات الموجودة فيه ولله الحمد، فالقادة الأرثوذكس اجتمع قسسهم الدينيون، فوجدوا بعد مؤتمر طويل، ومباحثات عميقة أن ألد أعدائهم هم الكاثوليك" الحمد لله رب العالمين" وهم يبطشون بنا، ويقولون: إن ألدّ أعدائنا هم الكاثوليك، فانظروا الروس هم أرثوذكس، والصرب أيضاً كذلك، وهم يعذبون المسلمين ويذيقونهم عذاباً أليماً، الروس في أفغانستان، والصرب في البوسنة، والسنجق في كوسوفو، وهذه جراحات المسلمين مع الأرثوذكس، ولكنهم يقولون: إن أعداءنا الأولين هم من الكاثوليك. فمعنى هذا أن المسلمين -إن شاء الله- إذا كانوا عقلاء وفطنوا، يستطيعون أن يعمقوا هذه الخلافات بينهم، ويستطيعون أن يستثمروها لصالح الإسلام والمسلمين بإذن الله تعالى، العالم النصراني. والله إني أبشركم أنهم في سبيل التفكك والزوال، والمسلمون في سبيل الوحدة تحت راية الإسلام، وتحت راية الجهاد -إن شاء الله-. أيها الإخوة: لا أريد أن أطيل عليكم، أختصر حديثي إليكم بما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وقبل الختام يوجد أشرطة ننصح بسماعها وهى: "محنة المسلمين في البوسنة والهرسك" للشيخ عبد الوهاب الطريري شفاه الله وعافاه، والثاني: "من يحمل هم الإسلام" و"من للمسلمين" و"ثمرات الأوراق" لفضيلة الشيخ سلمان العودة، وشريط "القابضون على الجمر"، و"من يوقف أنهار الدماء" للشيخ سعد البريك، وشريط "يا عالم استفق" للشيخ طلال الدوسري وغيرها من الأشرطة. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 9 بشائر النصر يتساءل كثير من الناس: أين هؤلاء المسلمون؟ فهم ستة ملايين! أليس لهم وجود؟! أليس لهم أي قوة؟! أليس لهم أي! تحرك؟ الجزء: 71 ¦ الصفحة: 10 تنظيم صفوف المسلمين فأقول: أعود في النهاية وأبشر: إن المسلمين تنظموا إلى حد كبير في هذه الأيام، وبدءوا يخططون لفك الحصار عن العاصمة وعن المطار، وأن معنوياتهم مرتفعة جداً، وكنت أقول لهم سابقاً: إن هذه عبرة يجب أن نعتبر بها، وأن نربي الجيل القديم على الجهاد، وعلى كلمة التوحيد، وعلى الولاء والبراء، وعلى البغض لهؤلاء النصارى أعداء الله سبحانه وتعالى، فكان كثير من المسلمين يقولون: ليسوا كلهم من هذا الشكل، لكن بعد هذه الأحداث هم أنفسهم يقولون ما نقول، وبالأمس في مكالمة هاتفية، يقول أحد المسئولين هناك: صارت المعايشة السلمية مع هؤلاء مستحيلة، فلا يمكن أن نسامحهم لما فعلوه هذه الأيام بالمسلمين. فأقول: كل هذه تبشر بالخير، إلا أنهم بحاجة شديدة جداً إلى المساعدات، نرجو من الله سبحانه وتعالىأن تفتح هذه الطرق قريباً، وأن تصل إليهم مساعدات مباشرة، إضافة إلى أن هناك أكثر من مائة وخمسين ألف مهاجر في جمهورية كرواتيا، وفي داخل البوسنة، وفي النمسا، وألمانيا، كل هؤلاء يحتاجون مبالغ كبيرة جداً لإعاشتهم، ولإسعافهم، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت وينصر المسلمين في كل مكان، وأن ينصر إخواننا في جمهورية البوسنة والهرسك، وأن يجعلهم مشعل نور وهداية لأوروبا كلها. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 11 انضمام بعض قادة الجيش للمسلمين وتذكر الأخبار الأخيرة أن أحد القادة المشهورين، كان في الجيش السابق، وهو مسلم في الأصل وقد رجع إلى الإسلام، وانضم إلى جيش المسلمين، وبدأ في هذه الأيام يقود العلميات دون أي تنسيق حتى مع القيادة العليا؛ لأن الرئيس علي ومن معه إلى الآن يرون أن المفاوضات هي الطريقة المثلى لتحول هذا الجيش من الجيش العدواني الذي يعتدي علينا إلى جيش مسلم يأتمر بأوامر الحكومة البوسنية، وللمسلمين فيه اليد الطولى. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 12 تفكك جيش الكفر وفي نفس الوقت هذا الجيش -بحمد الله سبحانه وتعالى- بدأ يتفكك وينحل، حيث تخلت عنه صربيا الأم، وقالت: إنها ليست مسئولة عما يجري ويحدث في البوسنة، وعينوا شخصيات أخرى في الجيش اليوغسلافي الجديد، إلا أنه في الحقيقة أنهم أرادوا بهذه الطريقة أن يقووا الصرب في داخل البوسنة، فتركوا لهم هذا الجيش تحت تصرف الصرب المدنيين والعصابات الموجودة في داخل البوسنة، وفي نفس الوقت قالوا: الضباط الكبار الذين كانون يعملون باسم جيشنا السابق قد أطحنا بهم، وذهبوا عن مسرح الأحداث، فيريدون بذلك تزيين الوجه أمام العالم الغربي، ويقولون: هؤلاء قد عوقبوا، وأزيلوا عن مناصبهم، فحكومتنا جديدة وتتبنى العلاقات الحسنة مع الجميع. لكن هذا الجيش الذي بقي في داخل البوسنة، وهذا هو العقبة الكبرى أمام؛ لأنهم مسيطرون على أكثر الطرق، هذا الجيش بدأت هناك معارك بين أنفسهم، لأن كثيراً من الضباط الجدد يستسلمون لحفنة من المجرمين الصرب الذين يقتلون ويذبحون ناساً أبرياء حتى من الصرب أنفسهم، فاستثقلوا هذا الشيء ولم يرتضوه، وأرادوا أن يستسلموا إلى حكومة البوسنة ويأتمروا بأوامرها، وعدد آخر من الضباط عارض ذلك، فصارت اشتباكات، وبالأمس وصل تقرير يقول: إنه في أحد المعسكرات في العاصمة فقط قتل منهم ثمانون شخصاً في معارك بينهم نتيجة الخلافات التي حصلت. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 13 تأسيس جيش للمسلمين فإني أبشركم بأن الأخبار هذه الأيام رغم ما سمعنا في اليوم والأمس من المؤامرة الجديدة عليهم من قبل الصرب والكروات، فإن هناك أخباراً أتت تبشر بالخير وتستمر بإذن الله سبحانه وتعالى، فقد بدأ المسلمون بالهجوم قبل أسبوع تقريباً لأول مرة طيلة هذه الفترة، بعد أن كانوا يتجنبون الصدام مع الجيش، جيش الدولة يوغسلافيا القديمة، وكانوا يرون من المصلحة ألا يصطدموا بهم، فنتيجة الحصار الذي فرض على جميع المدن، ملوا الجلوس في الملاجئ من القصف المستمر من بعيد، فالمسلمون هناك أسسوا جيشاً، وقد وصل عددهم إلى تسعين ألف مقاتل، إلا أن هذا الجيش غير مجهز، وليس عندهم سلاح، فيضربهم العدو الصربي من بعيد بالمدافع الثقيلة وغيرها، في حين أنهم لا يملكون إلا الأسلحة الخفيفة، ويستطيعون المواجهة المباشرة فقط. فبفضل الله سبحانه وتعالى من أول الأحداث كل معركة حصلت عن قرب في مواجهة مجابهة بين النصارى والمسلمين انتصر فيها المسلمون، لكننا رأينا حتى المجموعة الأوروبية وغيرها من المؤسسات أو الهيئات العاملة في الساحة، سرعان ما يتدخلون في المفاوضات وغيرها، ويهدئون المسلمين، وينتهز النصارى الفرصة ويرجعون إلى مواقعهم وغيرها. ولقد اتصلت مراراً في الأيام الأخيرة بالداخل، وكلمت أشخاصاً مختلفين، منهم مسئولون في الحزب وقادة في هذه العمليات، فيقولون: إن أكبر الخطر الذي يواجههم -الآن- هو الجوع والأوبئة نتيجة الحصار المفروض عليهم، إلا أن هناك عدداً من القادة المسلمين بدءوا يهاجمون قوافل الجند، وعلى معسكراتهم واستولوا في الثلاثة الأيام الأخيرة على كمية من الأسلحة الثقيلة في العاصمة نفسها، كما استطاعوا أن يصدوا الهجمات الصليبية عن أكثر من ثلاثة مدن وقرى مختلفة إسلامية. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 14 التبرعات نشكر الأخوين على هذا البيان المفيد في هذا الموضوع المهم. وأقول لكم جميعاً: إن هذه القضية هي قضيتنا وقضية المسلمين في كل مكان، وإننا يجب أن نلقي بثقلنا في هذا الأمر. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 15 وصول التبرعات إلى المجاهدين والكثيرون يقولون: هل يصل المال؟ نعم يصل المال، والكثيرون يقولون: هل من المناسب أن نتبرع ونصرف أموالنا إلى هذا المصرف؟ أقول: نعم، أنت الآن أمام شعب مسلم يباد، ليس هو الذي بدأ المعركة، بل هو شعب فرضت عليه المعركة، فهو يريد لقمة العيش، ويريد البندقية التي يقاتل بها عدوه. يا أخي! كل الناس مأمورون بالدفاع عن أنفسهم، حتى ولو كان لا يملك إلا العصا أو البندقية ليدافع بها عن نفسه، وأخوه المسلم مطالب بأن يهيئ له هذا الأسلوب الذي يستطيع به أن يدافع عن نفسه. وكثيرون لو دفع الواحد منهم مبلغاً يسيراً، يريد أن يرى نتيجته قيام دول إسلامية في بلد ما!! لا يا أخي! ليس بلازم هذا! وهناك من ينفقون أنفسهم وأرواحهم، ويضحون بها في ميادين المعارك ويستبسلون، وهناك من يتخلى الواحد منهم عن راحته، فكونك تعطي بعض المال الذي أعطاك الله تعالى إنما هو بعض شكر الله على نعمته، وقيام ببعض حقه. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 16 وجوب دفع التبرعات فأنا أقول لكم -أيها الإخوة- الآن وبعد الآن: ما دفعتموه في الأمس واليوم وقبله لا يكفي منكم أبداً، ويجب أن تدفعوا المزيد والمزيد، ويجب أن يدفع الإنسان وهو يشعر أنه يدفع عن نفسه، وأنه يتصدق عن نفسه، وأنه ينفق لنفسه، ولنفسه يريد الخير، وأنه إذا استدعى أمر الإسلام ومصلحة الإسلام وحماية المسلمين أن يتخلى الإنسان عن بعض ثوبه الذي يلبس أو نعله أو غترته، فإنه يفعل: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] فإياكم إياكم أن تهون نفوسكم أو تضعف، أو تتخلوا عن إخوانكم! فوالله الذي لا إله غيره من لا يشعر بجراح وهموم إخوانه، ويتعاطف معهم، ولا يتعاون معهم، فوالله إنه سوف يبتلى ويصاب هو يوماً من الأيام، وسوف يقول: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض! فالنصارى لا يقفون عند حد، ومطامحهم لا تنتهي، بل أقول: هذه البلاد هي من أعظم وأهم ما تشرئب إليه نفوسهم، حيث إنها بلاد الإسلام ومنطلق الإسلام من جهة، وهى أيضاً بلاد حباها الله تعالى من الخيرات والبركات ما ليس في غيرها، فادفع عن نفسك أولاً أيها المسلم بأن تنفق في سبيل الله عز وجل، وإياك والشح والبخل! فإن الله تعالى ينزع بركة مالك، وقد يذهب مالك في صفقة تجارية أو مصيبة أو جائحة، لكن ادفع طائعاً مختاراً، وليس غريباً أن يتخلى الإنسان عن بعض حاجاته الضرورية إذا لم يكن يملك غيرها،،وليس غريباً أن يقسم الإنسان طعامه وغداءه وعشاءه ليعطي إخوانه المسلمين بعضه، وليس غريباً أن يتصدق الطفل الصغير بالريال الذي أعطاه إياه أبوه حتى يشتري به من البوفية المدرسية. وإذا فعلنا هذا انتصر الإسلام، لكن إذا أصبحنا مجرد متفرجين، نقول: المسلمون هناك فيهم وفيهم، والمسلمون في هذا البلد فيهم وفيهم، وفي هذا البلد انتصروا، وفي هذا البلد انهزموا، ولا نملك إلا مجرد الحديث؛ بل -أحياناً- الحديث الذي ينم عن تنقص، ونحن نقول: إن المسلمين مقصرون في كل مكان، لكن يا أخي، المسلمون -الآن- يطلبون منك لقمة العيش، وشربة الماء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن امرأة دخلت الجنة في كلب سقته، فشكر الله لها فغفر الله لها} . فما بالك بالإنسان، أي إنسان أن تطعمه أو تكسوه؟! فما بالك بالمسلم الذي تقوم بينك وبينه روابط الدين والأخوة والعقيدة والإيمان، وبينك وبينه حبلٌ متصل من الله جل وعلا؟ وهو مثلك ينطق بلا إله إلا الله، وإنما أُبيد ليس لعرقه ولا لجنسه، إنما أبيد لأنه يحمل هذه الكلمة، كلمة لا إله إلا الله، فأصبح الصرب يتنافسون في: من يشرب دم المسلم؟ ويسعون إلى إبادة هذا التجمع الإسلامي في أوروبا، والقضاء عليه قضاءً مبرماً. فالله الله أيها الإخوة! من يملك يدفع، ومن لا يجد الآن فليدفع غداً وبعد غد، والحاجة قائمة، ونحن وغيرنا من الإخوة هنا وفي كل بلد نستقبل التبرعات، وستصل بإذن الله تعالى إلى أهلها ومستحقيها: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272] . أسأل الله تعالى أن يكفينا وإياكم شح أنفسنا، وأن يجعل ما أنفقناه لنا وأن يخلفه علينا بخير، وأسأله -جل وعلا- أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، كما أسأله سبحانه بأسمائه وصفاته أن يبرم لهذه الأمة أمراً ينصر به مجاهدوها في كل مكان، ويخذل به من حار بها وناوأها، وأسأله أن يولي على المسلمين خيارهم، ويكفيهم شر شرارهم، وأسأله أن يرينا في النصارى، واليهود من عجائب قدرته ما تقر به عيوننا، إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 71 ¦ الصفحة: 17 حي على الجهاد تحدث الدرس عن معنى الجهاد وأهميته وبقائه إلى يوم القيامة، وعن الطائفة المنصورة، ثم ذكر أدلة على سعة مفهوم الجهاد وأنه أقسام باعتبارات عدة منها أقسامه باعتبار من يقع عليهم وأقسامه باعتبار الآلة باليد وبالمال، وأقسامه من حيث المرحلية: كَفُّ، وإِذْنٌ، وقتال المقاتل، وقتال المشركين كافة، وأقسامه باعتبار الحكم: فرض كفاية إلا إذا أغار العدو أو أمر السلطان تعين على من عَيَّن السلطان، ثم ذكر واقع الأمة اليوم وتركها للجهاد وسقوط الخلافة وأثره في الجهاد، ثم ختم بأنه لا بد من إقامة حركة إسلامية جهادية. ثم أجاب على الأسئلة. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 1 الاستعداد للجهاد الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: سمعتم عنوان هذه المحاضرة أيها الأحبة وهو (حي على الجهاد) فما أدري: هل أنتم مستعدون للجهاد؟ من قال حي على الجهاد تجبه صيحات الدماء لو كنت أشلاء ممزقة بأنحاء الفضاء لم آل جهداً في كفاح مناصب الدين العداء وإذا كنتم مستعدين، فلابد أن نطبق معكم ميزان يوشع بن نون عليه الصلاة والسلام. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 2 مدلول كلمة الجهاد أحبتي الكرام: الجهاد بحد ذاته كلمه ذات مدلول عميق، وهي من الشعائر العظيمة التي جاء بها دين الإسلام، ولو رجعنا يسيراً الى المعنى والمدلول اللغوي لكلمة (جهاد) لوجدنا أنها مشتقة أصلاً من كلمة (جهد) ، و (جهد) تدل على بذل الجهد، واستفراغ الوسع والطاقة في أمر من الأمور، فأنت تقول: فلاناً أجهد فلاناً يعني اتعبه، وفلان اجتهد في كذا يعني بذل جهده وغايته، فإذا أضفنا إلى أصل معنى كلمة (جهد) لفظ (الجهاد) أو (المجاهدة) الذي يدل على مفاعلة بين طرفين، بأن يبذل شخص جهده ضدك وأنت تبذل جهدك ضده، هذه مثل المقاتلة، فرق بين أن تقول: فلان قتل فلاناً، أو فلان قاتل فلاناً، وفقتله يمكن أن تكون بمعنى أن يجده نائماً -مثلاً- فقتله بالسيف، لكن عندما تقول: قاتله، معناه أن هذا كان معه سيف، وهذا كان معه سيف، فالتقيا، ومازال كل واحد منهما يكر ويفر ويميل يمنة ويسرة على الآخر حتى أمكن منه فقتله. إذاً (جاهد) تدل على أن هناك طرفاً آخر يقاتل المسلمين، ويؤذيهم، ويحاربهم، والمسلمون مطالبون بأن يواجهوا هذا بالجهاد، مثل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] فقوله (اصبروا) يدل على أن الإنسان يصبر على ما يناله، وما يصيبه، لكن لما قال: {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] معناه أنه لا يكفي الصبر، بل لابد من المصابرة، بمعنى أنكم ستلقون أعداء يصبرون كما تصبرون، فصابروا، أي: اصبروا صبراً فوق صبرهم. قيل لبعض الشجعان في الجاهلية، وأظنه عنترة بن شداد قيل له: كيف كنت شجاعاً باسلاً؟ وكان عنترة عبداً ليس له قيمة، وفي يوم من الأيام أغار الجيش على قومه، فأمره سيده بأن يوقد النيران ويقاتل، فإن انتصر فهو حر، وهكذا، المهم قيل له: بماذا صرت شجاعاً يشار إليك بالبنان؟ قال: إنني أجد من الألم كما يجد غيري، ولكنني في كل لحظة أصبر نفسي، وأقول: أنتظر ربما تكون هذه اللحظة هي اللحظة التي ينهزم فيها عدوك، فأنتظر لحظة، وهكذا أصبر نفسي حتى يعلن عدوي هزيمته وانتصر أنا، وإلا فأنا أجد من الألم ومس العذاب مثلما يجد غيري. ولذلك كان من حكمة الله أنه جعل اسم هذا الأمر الذي شرعه لنا من قتال الأعداء وغيره، جعل اسمه (الجهاد) حتى تكون الكلمة بحد ذاتها معبرة، حتى لو لم ترد نصوص صريحة في هذا الباب فإن مجرد هذه الكلمة -كلمة (الجهاد) - ذات دلالات عميقة، كما سيتضح من خلال هذا الحديث العابر. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 3 جعل الدنيا تحت القدمين مع استخدامها روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني رجل بنى أو ملك بضع امرأة ولما يدخل بها -يعني رجل عقد على امرأة ولما يتزوجها بعد هذا ينسحب-، ولا رجل اشترى إبلاً أو غنماً وهو ينتظر ولادها ونتاجها، ولا رجل بنى بيتاً ولما يرفع سقفه، فانفض عنه جمع غفير من هؤلاء. ثم مضى بمن بقي من الجيش، فلما اقترب من القرية التي كان يريد أن يغزوها كان عند صلاة العصر، فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، -يعني جزءاً من الوقت تتوقف الشمس- أو تعود له حتى ينتهي من قتال هذه القرية. فحبسها الله تبارك وتعالى حتى غزا هذه القرية، وانتصر على أهلها، ثم جمعوا الغنائم في صعيد، -وكان من عادة الأمم السابقة أنهم إذا غنموا غنيمة لا يصيبونها، بل يجعلونها في صعيد، فتأتي نار من السماء فتحرقها- فلما وضعوا هذه الغنائم في الصعيد، انتظروا أن تأتي النار، فجاءت النار ولم تحرقها. فقال لقومه: فيكم غلول، -فيكم من أخذ من الغنيمة شيئاً-. ليبايعني من كل قبيلة رجل، فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يده بيد رجل، فقال: فيكم الغلول -في قبيلتك الغلول- لتبايعني قبيلتك رجلاً رجلاً، فبايعته القبيلة رجلاً رجلاً، فلصقت يده بيد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول ائتوا به، فذهبوا وأحضروا له مثل قرن الثور من الذهب -قد أخذوه وغلوه- فأخذه ووضعه في الغنيمة، ثم جاءت النار من السماء فأحرقتها} . من كان سيستجيب لنداء (حي على الجهاد) فإنه يحتاج إلى أن يجعل الدنيا تحت قدميه، لا مانع أن يستخدمها، لكن لا يكون عبداً وخادماً لها، وفرق بين من يخدمها، وبين من يستخدمها. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 4 ثبات الجهاد واستمراره ومن أعظم الدلالات التي يدل عليها هذا الاسم الكريم المبارك لهذه الشعيرة العظيمة الجهاد: قضية ثبات الجهاد، ودوامه، واستمراره، وهذه قضيه أعتبر أنها من أعظم وأخطر القضايا التي تحتاج أن نبرزها في هذا العصر، وعندنا نصوص كثيرة، -فضلاً عن مدلول كلمة الجهاد نفسها، التي تدل على دوام المجاهدة، ومقاتلة الأعداء إلى قيام الساعة- فعندنا نصوص نبوية صريحة تدل على ثبات الجهاد، وبقائه إلى يوم القيامة، أذكر منها بعض الأمثلة:- الجزء: 72 ¦ الصفحة: 5 حديث (الخيل في نواصيها الخير) ومن الأحاديث الدالة أيضاً على بقاء الجهاد إلى قيام الساعة، قوله صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} كما رواه الشيخان، عن ابن عمر، وروياه -أيضاً- عن عروة بن أبي الجعد البارقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم} . ولماذا كانت الخيل بهذه المثابة؟ لأنه معقود في نواصيها الأجر والمغنم، والمغنم: هو ثمرة من ثمرات الجهاد، وكذلك الأجر: إنما هو ثمرة من ثمرات الجهاد، والخيل: إنما هي آلة من آلات الجهاد أو كانت آلة من آلات الجهاد فيما مضى، في عهود قتال المسلمين الأولين كانت الخيل من أعظم وسائل الجهاد. كذلك في الحروب المستقبلية التي تكون قبل قيام الساعة، والملاحم الكبرى التي حدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم تستخدم فيها الخيول، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قتال المسلمين مع الروم في دمشق، وفتحهم للقسطنطينية، قبل خروج الدجال، والملاحم الكبرى التي ورد الخبر عنها، فيها ذكر الخيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الفوارس الذين يقاتلون، قال: {إني لأعرف أسماءهم، وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير الفوارس على وجه الأرض يومئذ أو من خير فوارس الأرض يومئذ} فذكر صلى الله عليه وسلم الخيول، وأنه معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. إذاً، قتال الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الأولين كان بالخيول، والملاحم الكبرى التي قبل قيام الساعة ستكون بالخيول، وهذا لا يلزم أن يكون الجهاد بالخيل دائماً: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] فليس صحيحاً أن عدونا يواجهنا بالصاروخ، والمدفعية، والدبابة، وغيرها من وسائل الحرب المتقدمة، ونحن نواجهه بالسيف، والخنجر، والخيل، كلا، بل نعد له القوة التي تتناسب مع القوة التي يواجهنا، ويحاربنا بها. حديث: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} حديث متواتر، رواه أكثر من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحاديث بعضهم في الصحيحين وغيرهما -كما ذكرت- حديث ابن عمر، وعروة بن أبي الجعد البارقي. ويقول الإمام أحمد، كما ذكر الترمذي: "فقه هذا الحديث أن الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر إلى يوم القيامة". والبخاري -أيضاً- بوب على هذا الحديث في صحيحه، "باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر". فالإمام أحمد، والبخاري، والترمذي، والبيهقي، وغيرهم من العلماء، فهموا أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، لأنه إنما كانت الخيل كذلك للحاجة إليها في الجهاد، فمعنى هذا أن الجهاد باقٍ إلى قيام الساعة. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 6 حديث (ولكن جهاد ونية) صنف ثان من الأدلة التي تدل على بقاء الجهاد، واستمراره، ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} . فقوله عليه الصلاة والسلام: {لا هجرة بعد الفتح} أي: أن الهجرة من مكة إلى المدينة بعد فتح مكة صارت غير واجبة، لأن مكة صارت دار إسلام بفتحها، فلم يعد واجباً على أهل مكة أن يغادروها إلى المدينة، بل يبقوا في مكة. {ولكن جهاد ونية} وما بعد (لكن) مغاير لما قبلها في الحكم، فلما بين صلى الله عليه وسلم بأنه لا هجرة بعد الفتح، بين أن الأمر الباقي قبل الفتح وبعد الفتح: هو الجهاد في سبيل الله والنية. فدل الحديث على أن الجهاد باق، باق من ناحية الشرع -كما أسلفت- وباق من ناحية الواقع، كما أن الهجرة نسخ وجوبها من حيث الشرع، ونسخ وقوعها من حيث التاريخ، فإننا نعلم أن المؤرخين إذا قالوا: إن فلاناً من المهاجرين، مثلاً: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبو عبيدة إلى غير ذلك، يقولون: هؤلاء من المهاجرين، هل معنى ذلك أنهم هاجروا قبل فتح مكة. ولذلك قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] فإذا قيل: فلانٌ مهاجري، فالمقصود: أنه هاجر قبل فتح مكة، أما بعد فتح مكة فليس هناك هجرة، ومن خرج من مكة إلى المدينة لا يسمى مهاجراً حينئذٍ. إذاً قوله: {لا هجرة بعد الفتح} يعني: لا هجرة شرعية من مكة، ولا هجرة واقعية أيضاً، ولكن الجهاد باق شرعاً، وكذلك هو باق من حيث الواقع، لا يمكن أن تفقده الأمة في عصر من العصور. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 7 حديث الطائفة المنصورة من الأمثلة لهذه النصوص: الأحاديث المتواترة الواردة في شأن الطائفة المنصورة، فقد ورد عن أكثر من عشرين صحابياً، أن النبي صلى الله عليه وسلم بشر بوجود طائفة منصورة باقية إلى قيام الساعة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ضمن هذه الأحاديث، في مهمات الطائفة المنصورة أنهم يقاتلون أعداءهم، ظاهرين على من ناوأهم. بل ورد في بعض الأحاديث الواردة، كما في حديث النواس بن سمعان وغيره: {أن أناساً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله، أذال الناس الخيل، ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد -أي أنه في بعض المعارك لما حصلت هدنة بين المسلمين والكفار، المسلمون وضعوا السلاح، وأذالوا الخيول وآذلوها أي: وتركوها، وأهملوها، وقالوا: لا جهاد، انتهى الجهاد- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبوا! الآن جاء القتال -أي من الآن بدء القتال- ولا يزال الله عز وجل يزيغ قلوب أقوام، ويرزقهم منهم إلى قيام الساعة} . إذاً فالأحاديث الواردة في الطائفة المنصورة الباقية إلى قيام الساعة، وهي أحاديث متواترة، قطعية الثبوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤكد أن شعيرة الجهاد، شعيرة محكمة، باقية إلى قيام الساعة، أي: أن الجهاد مستمر شرعاً، وواقعاً. أما من ناحية الشرع، فإن من المعلوم بالضرورة في دين الإسلام، أن الجهاد شعيرة وشريعة، أي لا يمكن أن يأتي شخص ويقول: الجهاد منسوخ، هل يمكن أن يقول أحد: إن الجهاد منسوخ -مثلاً- بآيات الصبر؟ لا يقول أحد ذلك، قد يقول العكس إن آيات الصبر منسوخة بالجهاد وآيات السيف، وهناك من يقول: ليس هناك نسخ، بل هذه في حين، وهذه في حين آخر، لكن لم يوجد ولن يوجد -بإذن الله تعالى- من يقول: إن الجهاد منسوخ ولو قال مسلم ذلك، لكان كافراً مرتداً عن دين الله سبحانه وتعالى. فقضيه الإقرار بشرعية الجهاد، هذه قضية مفروغ منها في الدين، ومسلمة، وهي من القضايا المعلومة من الدين بالضرورة، لو أنكرها إنسان لكان يُعلم في ذلك، فإن أصر، فإنه يكون مرتداً، فيقتل مرتداً، فهذا من حيث الشرع هو ثابت، لكن أيضاً من حيث الواقع، حديث الطائفة المنصورة يؤكد أن الجهاد باق، فليس الجهاد أمراً وقتياً كان موجوداً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي زمن الخلفاء الراشدين، ثم انتهى، كلا، بل هو باق إلى قيام الساعة. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 8 معاني ودلالات بقاء الجهاد هذه القضية نأخذ منها معاني ودلالات كثيرة فإننا فهمنا من مجموع هذه الأحاديث ومن غيرها ومن أصل كلمة الجهاد، أن الجهاد باق إلى قيام الساعة، نأخذ من ذلك عدة أمور: الجزء: 72 ¦ الصفحة: 9 الإسلام لا ينتصر بالدعوة السلمية إذاً: من السذاجة بمكان، أن نتصور أن الطبيعة التي حكاها الله عز وجل عن الكفار، واليهود والنصارى والمشركين في القرآن الكريم، أنها يمكن أن تتغير ويمكن في يوم من الأيام، أن نفرض الإسلام عليهم، عن طريق السِلْم، والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والبرلمان، والمجالس، ثم إذا بهم بقدرةِ قادر يتحولون إلى مسلمين! هذه سذاجة وبلاهة يطول منها العجب!! ولست أعجب أن تنطلي على سذج ومغفلين، ولكنني والله أعجب أن تنطلي على مفكرين، ويقال لهم فقهاء، ويكتبونها في كتب وتنشر في دوريات، ونشرات، وقد آلمني هذا جداً. إن طبيعة الكفر -أيها الأحباب- واحدة، فالكفر الذي واجهه الأنبياء هو الكفر الذي نواجهه الآن {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] فإذا قامت للإسلام دعوة حقيقية، ورفعت راية الجهاد في سبيل الله، والدعوة الصادقة إلى الله عز وجل، إن كانت صادقة فإن الله سبحانه وتعالى يقول: بأنه لا بد وأن يكون لها أعداء من المجرمين، وهؤلاء الأعداء بطبيعة الحال لا أعتقد، ولا يعتقد معي عاقل، ولا مجنون أنهم سوف يقفون مكتوفي الأيدي، هؤلاء الأعداء شأنهم كما ذكر الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . فهم يمكرون، ويكيدون، ويتآمرون، ويخططون، ولم يجلسوا، بل على العكس نحن الجالسون، أما هم لا يزالون يكيدون مع أن المسلمين شبه نائمين، إلا أن أعداءهم يكيدون لهم كيداً، خشية أن يستيقظوا من غفوتهم ونومهم، فما بالك لو استيفظ المسلمون فعلاً، واستردوا بعض عافيتهم، لوجدنا العداوة الصريحة المعلنة، ووالله إن كل هذه العبارات التي أصبحوا يدندنون بها الآن، ويرددونها في أجهزتهم، وصحافتهم: قضية حقوق الإنسان، وحرية الإنسان، وكرامة الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة، ومثل هذه العبارات الرنانة، هذه -والله- كلها حبر على ورق، والدليل على ذلك أنه لم يلتزم بهذه القضايا إلا المسلمون. الآن قضية ميثاق الأمم المتحدة الذي يمنع الجهاد، ويحرمه -ومع الأسف- يوقّع عليه المسلمون، وهو يعتبر أن الجهاد نوع من القرصنة الإقليمية، والاعتداء على حقوق الآخرين، وأن المنازعات بين الدول يحب أن تحل بالطُرق السِلْمِية، لأن النزاع يهدد الأمن والسلام والدوليين كما يقولون. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 10 الإسلام دين الجهاد إن الذين التزموا بالامتناع عن الجهاد، والقتال، بل وحتى الدفاع عن أنفسهم هم المسلمون فحسب، أما الدول الكافرة ومن يدور في فلكها، وأعداء الإسلام، واليهود وغيرهم، فإنهم يمارسون ما يريدون في قضية قتال الأمم المسلمة، ونهب أراضيها، والاعتداء عليها، ويعلنون ذلك صراحة، وما تفعله إسرائيل مثلاً أمر لا يحتاج إلى بيان، بكل بساطة في رحلة آمنة هادئة. الطيارات الإسرائيلية تضرب العراق، ثم تذهب مرة أخرى، لتضرب في تونس، ثم تضرب في لبنان، وقد تهدد أي بلد عربي بكل سهولة، ويعتبرونها رحلة للمتعة، هذا لا يستنكرونه ولا يستغربونه، ولا يرون فيه بأساً، لماذا؟ لأن الذين قاموا به ليسوا من المسلمين، ولا يُعْتَبرُ هذا إخلال بمواثيق الأمم المتحدة في نظرهم وفي مقاييسهم. فرنسا حين تخوفت من انتصار الإسلام في الجزائر، هدد رئيس الدولة بأنه في حال انتصار الإسلام في الجزائر، أن فرنسا قد تتدخل بصورة مباشرة. أين مواثيق الأمم المتحدة، وحقوق الإنسان، والحدود الدولية، وعدم التدخل في شئون الآخرين، أين هذا كله؟! الآن في السودان حيث يُوجد حكم يُعلن بعض الجوانب الإسلامية، ويخشون أن يكون هذا الحكم له جذور إسلامية، أصبحنا نجد حرباً عالمية معلنة على هذه الدولة، أين حقوق الإنسان؟! وأين مواثيق الأمم المتحدة؟! وأين قضية عدم التدخل في شئون الآخرين؟! كل ذلك ذهب أدراج الرياح، هذا خاص بالمسلمين. إذاً: من السذاجة أن نتصور أن الإسلام ينتصر، وينتشر عن طريق الدعوة السلمية فقط، الدعوة السلمية لا بد منها، وهذا صحيح، وحتى في القتال فإن المسلم مطالب بأن يدعو هؤلاء إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، كما في حديث بريدة في صحيح مسلم: {إذا لقيت عدوك من المشركين، فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن ما أجابوك، فاقبل منهم، وكف عنهم وذكر الإسلام، ثم الجزية، ثم القتال} . فنحن نقول: لسنا نقاتل الناس حتى ننهب أموالهم، لا، بل نحن ندعوهم حتى يكونوا مسلمين، نعرض عليهم الإسلام، لكن نعلم من دين الله وشرعه، ونعلم من حقائق التاريخ وتجارب الواقع أن هذا الدين لا يمكن أن يستقر أمره إلا عن طريق الطائفة المنصورة التي تحمل راية الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 11 لا بد من قتال الكفار وأهله أودُّ أن أشير إلى استدراك أخشى أن يفهم من كلامي، حين تحدثت عن قضية البرلمانات، والمجالس، وغيرها، يوجد في بعض البلاد الإسلامية برلمانات، ومجالس أمه، ومجالس نيابية، وما أشبه ذلك، ويكثر السؤال عنها يجوز، أو لا يجوز؟ أود أن أقول: إنني لا أقصد مثل هذا النوع، ولا أتحدث عنه لا تحريماً ولا تحليلاً، هذه قضية يبحثها المختصون، ويقولون فيها رأيهم وكلمتهم، لكن أقصد أن هذا الأسلوب حتى حين نقول أنه يجوز، ليس المعنى أننا نعتمد هذا الأسلوب للدعوة إلى الله عز وجل ونعتقد أن هذا الأسلوب يغني عن القتال، أريد أن أؤكد أن أعداء الله عز وجل وهو أصناف من اليهود، والنصارى والمشركين، والشيوعيين، والوثنيين، إلى غيرهم، كل هؤلاء لا يمكن إلا أن يقاتلونا، حتى وإن لم نقاتلهم فإنهم سوف يقاتلوننا، فلابد من الجهاد في سبيل الله عز وجل، هذه قضية مهمة وإن كانت نظرية إلى حدما، ولكن أحببت أن أتحدث عنها؛ لأني لا حظت فيها انحرافاً كبيراً وخطيراً عند كثير من الشباب، وفي كثير من الكتب والداراسات. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 12 الولاء والبراء عند عوام المسلمين أقول أيها الأحبة: حتى لو أنك أتيت إلى جمهور المسلمين -اذهب إلى أي بلد إسلامي- إلى الجمهور فقط، لا تذهب إلى العلماء، والفقهاء، والمختصين، اذهب إلى العامة -العوام- اجلس معهم، انظر إلى كثير من هؤلاء، قل لهم: ما رأيكم في النصارى؟ ما رأيكم في اليهود؟ ما رأيكم في الشيوعيين؟ تجد كثيراً من عوام المسلمين اليوم، أصبحوا يجهلون وجوب عداوة الكفار والبراءة منهم، والولاء والبراء لا يعرفونه. بل قد تجد المسلم يعيش إلى جنب اليهودي، وإلى جنب النصراني، والمشرك، والشيوعي، سواء بسواء، وتحت سقف واحد، يأكلون طعاماً واحداً، ويشربون ماءً واحداً، وبينهم من الألفة والمودة الشيء العظيم، كأنهم إخوة، حتى عوام المسلمين اليوم ضاعت منهم معاني الولاء والبراء، وفقدوا إحساسهم بالتميز بالدين، فلا عبرة بكون عوام النصارى -مثلاً- في أمريكا، وأوروبا وغيرها، أصحبوا لا يحملون عداوة صارخة واضحة للمسلمين، هذا صحيح، فقد يوجد في طبقات منهم، لكن العبرة بأمور: أولها: أن هناك قيادات مستفيدة، تحرك هؤلاء الناس، مثلما كان القسس والرهبان يحرضون أوروبا، أيام الحروب الصليبية، ويحركونها لتأتي لغزو المسلمين، كذلك يوجد في كل عصر، وفي كل زمان، وفي كل مكان زعماء دينيون، وزعماء سياسيون، وزعماء اجتماعيون، إذا جاء وقت الحاجة حركوا عواطف الناس، وحرضوهم وجمعوهم على العداء، والكراهية، والبغضاء للمؤمنين والمسلمين، هذا جانب. الجانب الثاني: أن هؤلاء الدهماء والعوام من الناس، وإن كان عداؤهم وبغضهم للإسلام مستخفياً، إلا أنه قابل للتحريك في أي وقت. ولذلك قد تجد -بالنسبة للمسلمين- مسلماً لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج البيت الحرام، وليس عنده خوف من الله عز وجل، لكن لو حصلت حرب بين قبيلة من المسلمين الذين يعيش بينهم، وبين قبيلة أخرى من الكفار، تجده يخوض المعركة مع قومه من المسلمين، إما بالحمية، وإما بالعصبية لقومه، من هذا الباب وليس من باب العصبية لله ورسوله، ولذلك {جاء رجل يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} . أحياناً إنسان تحركه الحمية لقومه والعصبية لدينه وإن لم يكون متمسكاً بهذا الدين، فهكذا بالنسبة لأولئك النصارى، واليهود، وإن كان بغضهم للإسلام مستتراً، مستخفياً، إلا أنه قابل للتحريك والإثارة في أي وقت من الأوقات. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 13 العداء للإسلام يبرز في كل وقت فمن البلاهة والسذاجة بمكان، أن نتصور أن هؤلاء سيصبحون غنيمة باردة للمسلمين، بل نحن نجد أن العداء للإسلام يبرز في كل وقت، وفي كل مناسبة، يبرز بشكل واضح، ما هو الذي حرك فرنسا كلها؟! من أجل ثلاث فتيات مغربيات أردن دخول المدرسة بحجاب، وهو نوع من الحجاب الشرعي، وليس فيه غطاء الوجه. لكن حجاب بغطاء الشعر، فرفض مدير المدرسة، وتطورت القضية إلى مدير التعليم، ثم إلى وزير المعارف، ثم إلى مجلس الوزراء، ثم إلى رئيس الدولة، وصارت قضية صحفية، بدأت ولم تنته، وفي النهاية لم تمكّن هؤلاء الفتيات من دخول المدرسة بالحجاب الشرعي، إما أن تخلع الحجاب، وتكشف عن شعرها، وإما أن تحرم من دخول المدرسة، واضطرت هؤلاء الفتيات الثلاث إلى أن يدخلن المدرسة، ويخلعن الحجاب عن شعرهن، ما هو الذي حرك فرنسا الدولة الصليبية من أقصاها إلى أقصاها! كانوا يقولون: إن فرنسا أم الحرية، وفرنسا بلد، العري فيها مباح، حتى في أجهزة إعلامهم، وفي أسواقهم، وفي كل مكان تواجه المرأة العارية، البلد الذي يبيح حرية التعري، أصبح يغضب ويثور وتتحرك أجهزته كلها: الإعلامية، والإدارية، من أجل ثلاث فتيات أردن دخول المدرسة بغطاء الرأس، لماذا كل هذا؟! ما هو الذي جعل بريطانيا تتحرك، وتثور من أجل قضية سلمان رشدي وهو شخص واحد وليس قضية سياسية، ولا يمثل جهة سياسية، لكن لأنه تحدى مشاعر المسلمين، وأهانهم، وانتهك حرمات الأنبياء والمرسلين، وأساء إلى الصحابة، وإلى أمهات المؤمنين، وجرح شعور كل مسلم، أثاروا هذه القضية على أوسع نطاق، وجعلوها ضربة لازمة على المسلمين، وتحركت أجهزة كثيرة: سياسية، وصحفية، واستغلت هذا الحادث أبشع استغلال. ما هو الذي يجعل روسيا -الآن- تعامل الجمهوريات النصرانية معاملة، وتعامل الجمهوريات الإسلامية معاملة أخرى؟! فالجمهوريات النصرانية، يأتي رئيس الدولة ويقال له نرحب بك كرئيس دولة صديقة، ويجلس للمحاورة والمشاورة والمداورة معهم. ثم الدول الغربية كلها تقف إلى صفها، وتهدد روسيا إذا استخدمت القوة في حقها، في حين أن حركة المسلمين تسحق بالقوة والدبابات، ولا أحد يتحرك، لقد عامل الروس النصارى معاملة غير معاملة المسلمين، والقوة الغربية كلها تحركت من أجل النصارى، ولم تتحرك من أجل المسلمين، بل هي تساند هذه الخطوات. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 14 طبيعة الكفر واحدة أول هذه الأمور: أن طبيعة الكفر واحدة، فالكفر الذي واجهه موسى عليه السلام، والذي كانت لهجته {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] وكانت لهجته {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] وكانت لهجته {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] هذا الكفر: هو الذي واجهه إبراهيم عليه السلام، والذي كان قومه، يقولون: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات:97] هذا الكفر هو الكفر الذي واجهه عيسى عليه السلام، وهو الكفر الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] . هذا حكم إلهي على الكافرين، ويقول جل وعلا: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ولو أسرد لكم الآيات القرآنية التي تبين طبيعة الكفر؛ لانتهى المجلس قبل أن نكمل هذه الآيات. قد يتخيل بعضكم أن هذه قضيه بديهية، وهي كذلك قضية بديهية، لكن المؤسف أننا في هذا العصر أصبحنا بحاجة إلى التركيز على البديهيات، حتى يفهمها الناس ولا يقبلوا فيها أي تراجع. وقد وقع في يدي عدد من الكتب التي كتبها -مع الأسف- بعض الفقهاء، وبعض المفكرين المعاصرين، فوجدت أنهم يطرحون قضية الجهاد طرحاً ميتاً متماوتاً، مخذولاً مهزوماً، يقول لك: الأصل المسالمة مع الكفار، والأصل أننا ندعو وننشر الإسلام بالحكمة، والموعظة الحسنة، وبالسلم، وبالدعوة السلمية، أصبح كثير -لا أقول من عامة المسلمين بل من دعاة الإسلام في هذا العصر- يتصورون أنه من الممكن عن طريق الدعوة السلمية، والوسائل السلمية، أن أمريكا تسلم، ثم بريطانيا، ثم فرنسا، ثم ألمانيا، ثم روسيا. والحمد الله رب العالمين، وتنتهي هذه القضية، ولا نحتاج إلى رفع راية الجهاد، ولا نحتاج إلى حمل السيوف للقتال، يتصور بعض البله والمغفلين مثل هذا الأمر، والواقع أن الذي يقرأ القرآن الكريم قراءة واعية، لا يحتاج إلى كلام، ولا إلى بيان خلاف ذلك، مثل من يتصورون -أيضاً- أنه قد يوجد في كل بلد من بلدان العالم أحزاب تنادي بالإسلام، ثم تطرح برنامجها في الإصلاح الزراعي، وبرنامجها في الإصلاح الإداري، وبرنامجها في الإصلاح السياسي، وبرنامجها في الإصلاح الاقتصادي، ثم تستقطب الناس شيئاً فشيئاً، ثم تطرح نفسها بالترخيص الرسمي لها، فتدخل البرلمانات والمجالس النيابية، وغير ذلك، وتبدأ شيئاً فشيئاً تطرح الإسلام، حتى تفرض الإسلام من خلال المجالس النيابية، ومن خلال القنوات الرسمية -كما يقولون- وبهذا نستطيع -كما يتصورون- أن نفرض الإسلام على أمريكا، وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وغيرها من بلاد العالم. هذا في الواقع سذاجة كبيرة، وقد لاحظتها ولمستها على بعض الذين يعايشون الكفار في أوروبا، وأمريكا، يقولون هؤلاء الكفار سذج، ما عندهم شيء، وليس عندهم عداء صريح للإسلام. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 15 ضيق مفهوم الجهاد عند الناس في موضوع الجهاد، وحي على الجهاد، قضية أخرى، حين يسمع بعض الشباب هذا العنوان، (حي على الجهاد) يتصورون أن المقصود الجهاد في أي بلد؟ في أفغانستان، وهذا يؤكد أنه حصل في مفهوم الجهاد ضعف وتحجر، مثلما حصل في مفاهيم الإسلام الأخرى، فعندما تأتي إلى مفهوم العبادة تجد انحرافاً في مفهوم العبادة، بحيث ضيقوها وصاروا يظنون أن العبادة: هي الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج فقط، مع أن المفهوم أوسع من ذلك. وهناك مفاهيم كثيرة في الإسلام تجدها ضيقت، كذلك مفهوم الجهاد أصبح كثيرٌ من الناس يظنون أن الجهاد هو القتال، مع أن القتال صورة واحدة فقط من صور الجهاد، ثم تحجر الجهاد -فجأه- فأصبح الجهاد في مفهوم كثير من الشباب هو الجهاد في أفغانستان لا غير، وهذا غلط كبير، تجد أحياناً يرد سؤال يقول: ما حكم الجهاد؟ السائل يريد أن يقول ماذا ترى في الجهاد في أفغانستان، هل هو فرض عين، أم فرض كفاية؟ وفي ذهنه أن الجهاد يعني: الجهاد في أفغانستان، أو فلان ذهب للجهاد يعني الجهاد في أفغانستان، وهذا خطأ وخطر يجب استدراكه، الجهاد أوسع من ذلك بكثير، ولنستمع إلى هذه النصوص: الجزء: 72 ¦ الصفحة: 16 المعركة الخارجية خذ مثلاً آخر -ولم أرد إلا التمثيل فقط بأحاديث في صلب الموضوع-: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {جاهدوا المشركين بأموالكم، وأنفسكم، وألسنتكم} وهذا الحديث، رواه أبو داود والنسائي والحاكم وصححه الحاكم والذهبي والنووي وغيرهم من أهل العلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بجهاد المشركين بالمال، وبالنفس، وباللسان. إذاً، الجهاد مفهومه أوسع مما يتصور الكثيرون. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 17 المعركة الداخلية عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: {ألا أخبركم بالمؤمن، قالوا: بلى يا رسول الله، قال المؤمن: من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم، ألا أخبركم بالمجاهد، قالوا: بلى يا رسول الله، قال المجاهد: من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب} وحديث فضالة هذا رواه الإمام أحمد في مسنده وسنده صحيح: {المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله تعالى} فهذا نوع من الجهاد، وإنما بينه النبي صلى الله عليه وسلم، وحصر وقصر الجهاد فيه، في هذا الحديث، لعظمتة وأهميته، ولأن جهاد الأعداء يفتقر إلى جهاد النفس، فالذي ينهزم في معركته الداخلية مع نفسه؛ ينهزم في معركته الكبرى مع العدو. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 18 أقسام الجهاد ولذلك أشير إشارة سريعة -بقدر ما يتسع الوقت- إلى قضية أقسام الجهاد حتى ندرك أن الجهاد شامل -كما ذكرت- فالعلماء أحياناً يقسمون الجهاد بحسب من يقع عليه الجهاد، فيقولون مثلاً: الجزء: 72 ¦ الصفحة: 19 أقسام الجهاد من حيث المرحلية أما من حيث الناحية المرحلية فقد مر بأربع مراحل: المرحلة الأولى: {كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء:77] . المرحلة الثانية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39] . المرحلة الثالثة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة:190] . المرحلة الرابعة: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36] . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 20 أقسام الجهاد باعتبار الحكم أما باعتبار الحكم الثابت المستقر فإنه متى كان المسلمون مستطيعين، فإن الجهاد واجب عليهم، والدليل على وجوبه - وهو من أقوى الأدلة- وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {من لم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو؛ مات على شعبة من نفاق} . إذاً: كل مسلم لا بد أن يغزو أو يحدث نفسه بالغزو، والغزو معناه واسع، ليس معناه أن تحمل متاعك وتقول: توكلنا على الله، نعم، هذا من الغزو، لكن الجهاد في سبيل الله مجاله -كما أسلفت- واسع. لكن ليس معنى ذلك أنه فرض عين، لا، إنما هو فرض كفاية، والدليل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] معنى الآية أي: ما كان المؤمنون ليخرجوا إلى الغزو والجهاد كلهم أجمعون، وَيَدعُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلا، لكن يخرج من كل فرقة منهم طائفة، ويبقى بقية يتفقهون في الدين، ويتعلمونه، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون، هذا أحد المعاني في الآية. إذاً يخرج جماعة إلى الجهاد وجماعة يخرجون لتعلم العلم الشرعي. ومع الأسف، أصبح بعض الشباب يهونون من العلم الشرعي، يقولون: نخرج للجهاد، وبعضهم يهونون من أمر الجهاد، يقولون: نخرج للدعوة، ومن الطرائف: يقول لي أحد الشباب: أن جماعة من الدعاة إلى الله تعالى، ذهبوا إلى المجاهدين الأفغان: عبد رب الرسول سياف، وحكمتيار، ورباني وغيرهم، وألقوا مواعظ عليهم، وقالوا: نريد منكم أن تخرجوا في سبيل الله، قالوا: ونحن ماذا نفعل؟! أنحن نجلس نلعب الورق! أونأكل الفصفص! أو ماذا نفعل؟! ماذا يكون الجهاد إن لم يكون هو العمل الذي نحن فيه؟! فالمشكله أن كل إنسان أخذ بجزء وغفل عن الجزء الآخر، فهذا من التحجيم والتحجير لمفهوم الجهاد -كما أسلفت-. من الأدلة -أيضاً- على أن الجهاد ليس فرض عين، وإنما هو فرض على العموم، على الكفاية، حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم قال عليه الصلاة والسلام: {يخرج من كل رجلين رجل، والأجر بينهما} فلو كان الجهاد واجباً على كل فرد لم يكفِ أحدهما عن الآخر، لكنه يتعين في حالات: منها: عند النفير، إذا عين الإمام أشخاصاً، أو أمة، أو فئة، أو طائفة، فطلب منهم النفير؛ فيجب على من عينه الإمام أن يخرج لقوله عليه الصلاة والسلام: {وإذا استنفرتم؛ فانفروا} . ومنها: إذا هاجم العدو بلداً؛ وجب على أهل ذلك البلد دفعه. ومنها: إذا حضر الإنسان الجيش عند القتال وتلاحم الصفان والتقى الجيشان؛ فلا يجوز الفرار حينئذٍ لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] . ففي هذه الحالات الثلاث يصبح الجهاد فرض عين على من تعين عليه، وليس على جميع الناس. وأستبعد -والله تعالى أعلم- أن توجد حالة يكون فيها الجهاد فرض عينٍ على أعيان وأفراد الأمة كلها، فلا أعتقد أن هذا يقع في حال من الأحوال. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 21 أقسام الجهاد باعتبار الآلة هناك تقسيم آخر للجهاد، وهو تقسيم الجهاد باعتبار الآلة، هناك جهاد اليد، وجهاد اليد: يكون بحمل السيف، أوالبندقية، أو المدفعية، أو الرشاش أو غيرها، وهناك أيضاً جهاد اللسان: يكون بالكلمة الطيبة، بالنصيحة، بالدعوة، بالأمر بالمعروف، بالنهي عن المنكر، بالإصلاح، بالتوجيه، بقدر ما يستطيع الإنسان، وهناك الجهاد بالمال. أ/ دعم الجهاد بالمال: ومع الأسف حين نقول الجهاد بالمال ماذا يفهم الإنسان؟! يفهم الجهاد بالمال أنه يدفع تبرعات للمجاهدين، وهذه صورة لا أقلل من شأنها، يجب دفع الزكاة وغيرها للمجاهدين في أفغانستان، والمجاهدين في كل مكان، ويجب دعمهم، وحين يصاب المسلمون المجاهدون في أفغانستان، أو غيرها بهزيمة، بسبب قلة ما في اليد، فإننا جميعاً --ممن يستطيع- مؤاخذون بهذا الأمر ومطالبون به، والآن من أخطر القضايا التي تهدد المجاهدين في أفغانستان قضية المجاعة، أصبح المجاهدون في بعض المناطق يلقون سلاحهم ويستسلمون لأنهم لم يجدوا لقمة العيش التي يأكلونها، -ومع الأسف- تجد كثيراً منا يتقلبون في ألوان النعيم، لو حسبنا وجبة -الطعام الغذاء والعشاء التي تقدم لنا- تجد أن الوجبة لا تقل عن عشرة أنواع، أو خمسة عشر نوعاً، وقد نلقي بها في الزبالة إذا انتهينا منها، وفي بعض المناسبات يحمل الطعام الكثير، ويلقي به أكواماً في الشوارع، أو في البيارات، في الوقت الذي هناك الكثير من المسلمين المجاهدين، من الذين يقاتلون بالنيابة عنا، يموتون جوعاً. ولذلك أقول: من أعظم ألوان الجهاد الجهاد بالمال، ومن الجهاد بالمال، أن تدفع المال للمجاهدين في أفغانستان، أو فلسطين، أو في الفلبين، أو في غيرها، متى وجدت السبيل الذي تطمئن إن شاء الله إلى أنه يوصل المال فعلاً إلى هؤلاء، لكن، ليس هذا هو المجال فقط. ب/ دعم المشاريع الإسلامية: إلا تعلم أخي الكريم، أنه يوجد لا أقل مئات، ولا أقول ألوف، بل ربما أقول: عشرات الألوف وقد وقفت بنفسي على أشياء كثيرة، من هذا القبيل، من المشاريع الإسلامية العظيمة، لا يحول بينها وبين أن تقوم وتثمر وتؤدي دورها إلا قلة المال، كم من مدرسة في العالم الإسلامي، وفي الجاليات الإسلامية، في البلاد الغربية تحتاج إلى الدعم المالي، وكم من مؤسسة، وكم من جمعية، تستطيع أن تقوم بدور جبار، وهيئة الإغاثة الإسلامية لها جهود مشكورة في هذا المجال، لكن لازالت الجهود أقل مما يجب بكثير، يقولون أحياناً أعطونا فقط مناهج دراسية، ولا نريد مناهج لكل طالب، نريد نسخة واحدة فقط، يتداولها الأساتذة، وعند الحاجة نصورها للطلاب، وبكل أسف أذكر لكم قصه عجيبة: في أحد البلاد، أعتقد أنه في بلد غربي، في فرنسا، طلب مجموعة من المسلمين كتاباً، وما هذا الكتاب؟! إنه كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فجاءوا إلى عدد من الذين يمثلون المسلمين هناك، في السفارات التي تمثل البلاد الإسلامية، قالوا: نريد كتب، قالوا ماذا تريدون؟ قالوا: نريد كتاب التوحيد. قالوا: ندرس الموضوع إن شاء الله، المهم شهر أو شهرين أو ثلاثة لم يجيء الكتاب، في يوم من الأيام كان هؤلاء المسلمون جالسون في مدرستهم، أو في مؤسستهم، فأتاهم جماعة من الشيعة، وقالوا لهم: نحن إخوانكم وعرضوا عليهم المساعدة، جاءوا إليهم، وقالوا: عندنا استعداد أن ندعمكم، ونمدكم بما تريدون، وكذا، وكذا. قالوا: نريد كتب، قالوا: أي كتب. قالوا: من ضمنها كتاب التوحيد. قالوا: موجود عندنا حتى كتاب التوحيد يوزعونه ذراً للرماد في العيون، فأتوهم بكميات كبيرة من كتاب التوحيد. وقالوا: هذه هدية منا، طبعاً بعد كتاب التوحيد ليس هناك مانع غداً يأتون لهم بكتاب تحرير الوسيلة، وبعد غد كتاب الكافي، وبعده، وهكذا يعطونهم الكتب السيئة، فيهدمون ما بنوا، المهم يريدون مدخلاً إلى هؤلاء القوم، -فمع الأسف- نشكو إلى الله ضعف التقي وجور الفاجر. وأقول لبعض الإخوة، في بعض المناسبات، بكل أسف الإحصاءات الرسمية تقول: إن عدد المسلمين، كم يا إخوة؟ ألف مليون -مليار- ألف مليون مسلم، لو تصورنا ألف مليون مسلم، نريد من كل واحد منهم ريالاً واحداً فقط، نريد حملة تبرعات -ريالاً واحداً- معناه في حملة واحدة، بكل سهولة تجمَّع عندنا ألف مليون ريال، هذه تقيم مشاريع وهائلة جبارة، وريال ماذا يضر الواحد منا، يعطي طفله عشرة ريالات ولا يلتفت، خمسين ريال ولا يلتفت، إذا صاح سكته بخمسين ريال، ريال واحد ما يضر! لكن المشكلة، مشكلة السلبية من جهة، ومن جهة أخرى ضيق الأفق، فنحن نتصور أن الجهاد بالمال محصور في أمور معينة لا يتعداها. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 22 أقسام الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد الجهاد ينقسم باعتبار من يقع عليهم الجهاد إلى أقسام: أولاً: جهاد النفس: بتعلم العلم، والعمل به، والدعوة إليه، والصبر على ذلك، أربع مراحل: العلم، ثم العمل، ثم الدعوة، ثم الصبر، وكل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى تربية، وجهود، هذا نوع. النوع الثاني: جهاد الشيطان: بعصيان وسوسته، ومخالفة أمره. النوع الثالث: جهاد الكفار، وهذا ظاهر. النوع الرابع: جهاد الفساق والظالمين: وهذا يكون بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله عز وجل فهو نوع من الجهاد. النوع الخامس: جهاد المنافقين: وهذا يكون بكشف ألاعيبهم، وفضحهم وبيان مؤامراتهم؛ لأنهم يبغون في المسلمين غائلة السوء، ويخططون، ويتآمرون للقضاء على الإسلام، فلابد من جهاد المنافقين فهذه نماذج من أنواع الجهاد باعتبار من يقع عليه. فهل يصح أن نتجاهل جهاد المنافقين، ونتفطن إلى جهاد الكفار؟ مع أن جهاد الكفار هو في موقع واحد أو موقعين أو ثلاثة، لكن جهاد المنافقين في كل مكان، أستطيع أن أقول لكم: لا يكاد يوجد في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، لا بلد، ولا مدينة، ولا قرية، بل ربما أحياناً ولا مؤسسة، إلا ويوجد فيها منافقون يسعون لتوجيه هذا البلد، أو هذه الدولة، أو تلك المؤسسة، أو المدرسة إلى الوجهة التي تخدم أغراضهم، فيخططون، ويتآمرون، وهذا أمر ملموس، فمن لهؤلاء المنافقين، كيف نتجاهل هذه الثغرات المفتوحة في كل مكان؟! مثلاً: جهاد المنافقين من خلال أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي، فإنهم أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي فيها جهاد الكفار وفيها جهاد النافقين، نستطيع أن نقول ذلك، فجهاد الكفار من أبرز صوره -مثلاً- ما يمكن أن يسمى اليوم -بما يعبرون عنه- بالبث المباشر؛ لأنه عبارة عن بث من قبل الدول الكافرة إلى البلاد الإسلامية، فهو يعني جهد إعلامي من الكفار يحتاج إلى مقابلة من المسلمين، لكن هذا الجهد حتى الآن لم يحدث بصورة واضحة، صحيح إنه يقال أنه يوجد في بعض دول المغرب العربي، لكنه لا يزال حتى الآن خوف وقلق أكثر منه حقيقة واقعية، إنما الحقيقة الواقعة منذ عشرات السنين هي أن المنافقين في كثير من بلاد العالم الإسلامي، استطاعوا أن يتسللوا إلى أجهزة الإعلام، ويجعلوا منها أبواقاً لحرب الإسلام، كم من مسرحية -مثلا- قدموها للاستهزاء بالمشايخ والعلماء، أو ما يسمونهم بالملالي جمع ملا، ورجال الدين كما يعبرون، وتصويرهم بأنهم عبارة عن مجموعة من الدراويش، والجهلة، والأغبياء، وفي نفس الوقت يقدمون الفنانين، والمطربين، وأهل الرياضة، وغيرهم على أنهم هم القدوة، وهم الأبطال، الذين يقتدي بهم الجيل. وكم من منافق تسلل من خلال هذه الأجهزة، ليسمع المسلمين والمسلمات كلام الفحش، والزور، والخنا، ويربي شباب المسلمين وفتياتهم على عبارات العشق والغرام، وبحيث يصبح لا هَمّ لهم، إلا ترديد مثل هذه الكلمات، والحديث عن قضية اللقاء، وحسرة الوداع، وصفات المحبوبة، وكيفية اللقاء بها، وإلى غير ذلك، حتى مسخوا الأنظمة الموجودة في بلاد المسلمين، وغيروا أوضاع المسلمين، وقلبوها رأساً على عقب. أصبح في كثير من البلاد لا مانع للمرأة أن تخرج بمفردها، وتسافر بمفردها، أو تخرج مع رجل أجنبي، وتكشف شعرها، أو جزءاً من بدنها، أصبح هذا أمراً عادياً، وقد رأيناه في بلاد المسلمين، وقد رأيت بعيني في بلد إسلامي هائل، فيه أكثر من مائه مليون مسلم، الولد يلبس بنطلوناً تحت الكعب، والبنت تلبس ثوباً إلى الركبة، هذا لباس رسمي يذهبون به إلى المدرسة، عدا الأشياء العادية، العجب من هذا اللباس الرسمي فالولد يذهب إلى المدرسة بالبنطلون تحت الكعب، والبنت تلبس ثوباً إلى الركبة، فإن كانت من الورعات، أو كانت من بنات الناس الذين يقال إنهم من أهل الخير، فتنزل الثوب إلى نصف الساق، هذا رأيناه بأعيننا في بلاد الإسلام، مئات الملايين تربت على هذه التقاليد والأخلاق. إذاً: من لهؤلاء المنافقين الذين تسللوا إلى كل بيت، وإلى كل عقل ومخ، وإلى كل قلب، وإلى كل أسرة، وإلى كل مكان؟! من لهم؟! أين نحن؟! كيف نتفطن إلى قضية جهاد الكفار عن طريق -مثلاً- ما يسمى بالبث المباشر، ونغفل أو ننسى قضية جهاد المنافقين والفاسقين الذين هم منذ سنين طويلة يهيمنون على مثل هذه الأجهزة في بلاد الإسلام، ويبثون منها، ومن خلالها ما شاءوا. ومن الغريب والطريف أن بعض الحلول لما يسمى بالبث المباشر أنه تربط القنوات العربية بعضها ببعض، بحيث تصبح القنوات العربية، كلها يمكن أن يتاح للإنسان أن يشاهدها في كل مكان، والواقع أن كثيراً من القنوات العربية فيها أسوأ مما في البث المباشر، لماذا؟ لأنه إن أتينا في مجال الصورة -مثلاً- وهي من أخطر الأشياء لأن الشباب يفتتن بها، فالواقع أن الإنسان إذا رأى صورة امرأة بلباس النوم أحياناً، فقد تكون الإثارة أكثر من لو رأى امرأة عارية، فالخطر لا يقل، وإن أتينا من حيث مسخ التقاليد الإسلامية، فهو موجود، وإن أتينا من حيث الشبهة فهي موجودة. على كل حال، فأنا لا أقلل من خطورة البث المباشر، وليس هو موضوع المحاضرة، لكن قصدي أن أقول: إنه -أحياناً- نحن نتفطن إلى خطر، ونغفل عن خطر آخر لا يقل عنه، أو نتنبه إلى أمر ونغفل عن أمر لا يقل عنه، فمثلاً نتفطن لقضية جهاد الكفار في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في إرتيريا، أو في الفلبين، وهذا واجب لا يشكك فيه أحد، لكن -أيضاً- يجب أن نتفطن إلى جهاد المنافقين الذين يوجدون في كل زاوية وشارع، وفي كل بيت ومدرسة إلا من رحم الله، نتفطن لجهاد المنافقين، نتفطن للفاسقين، فهذه ألوان من أنواع الجهاد باعتبار من يقع عليهم الجهاد. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 23 واقع الأمة مع الجهاد في سبيل الله أريد أن أشير في النهاية إلى قضية تتعلق بواقع الأمة في موضوع الجهاد في سبيل الله، واقع الأمة تركت الجهاد تشريعاً وتنفيذاً، إذا كنت قلت لكم: إن الجهاد باق من حيث الشرع، وباق من حيث الواقع العام، فإن الأمة في هذا الوقت بالذات، تركت الجهاد من حيث الشرع، والتشريع، والتنفيذ. أما من حيث التشريع، فإن الأمة وقَّعت كما ذكرت ميثاق الأمم المتحدة الذي يلغي الجهاد ويعتبر الجهاد جريمة، فكأن المسلمين عطلوا الجهاد تشريعاً، ولا أعتقد أن مسلماً يكذب بوجوبه، لأنه يرتد حينئذٍ، لكن المهم أنهم وقّعوا على هذا الأمر، واعترفوا به على الأقل علانية. أما من حيث التنفيذ، فإن المسلمين قد آل بهم الضعف، والقلة، والذلة، وغلبة العدو، إلى الحد الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثين عظيمين جليلين. أولهما: حديث ابن عمر رضي الله عنه وهو صحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، واتبعتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} لاحظ الحديث {تبايعتم بالعينة} يعني: الربا. وهذا تعبير نبوي، معناه تعاملتم بالربا، وتحدث ما شئت عن قيام الاقتصاد في البلاد الإسلامية كلها على الربا، هذه واحدة، {ورضيتم بالزرع} الزرع أيضاً نموذج ومثال للدنيا والتعلق بالدنيا، ليس ضرورياً الزرع فقط، الذي يرضى بالزرع، أو يرضى بالتجارة فقط، أو يرضى بالمنصب والوظيفة، {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] {وتركتم الجهاد} تركتموه قولاً وعملاً. أما قولاً: فحين وافقتم الأمم الكافرة على ميثاقها الظالم الجائر الذي يعتبر الجهاد جريمة، وأنه يعرّض السلام والأمن الدوليين للخطر، وتركتم الجهاد حين ألقيتم السلاح، وقلتم لا جهاد، واشتغلتم بالدنيا، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم. وقد يقول قائل: أين الأحاديث الدالة على أن الجهاد باق، مع أنه في حديث ابن عمر ذكر أنهم تركوا الجهاد، فنقول: حتى حديث ابن عمر ذكر أن الجهاد باق؛ لأن قوله: {لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} يدل على أن هذه الحالة من الذل لن تستمر، بل سوف يعقبها رجوع إلى الدين، بما في ذلك إحياء لشعيرة الجهاد، ومن الجهاد: القتال في سبيل الله سبحانه وتعالى. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 24 تداعي الأمم على أمة الإسلام الحديث الثاني: -وهو أعظم وأوضح من هذا الحديث- حديث ثوبان رضي الله عنه الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، وهو حديث صحيح، وله شاهد عن أبي هريرة رواه أحمد بسند جيد، كما يقول الهيثمي، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم من كل أفق، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها" -تداعى: يدعوا بعضهم بعضاً، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، لاحظ! الطعام في قصعة وكل واحد يدعو الثاني- قالوا: أمن قلة بنا يومئذ يا رسول الله؟ -نحن قليل- قال: لا، بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل -الغثاء: هو الذي يكون فوق السيل فإذا جرى الوادي يكون فوقه الغثاء الأبيض الذي هو: عبارة عن زبد وأشياء جرفها الماء معه وهي أمور تطير فقاعات، لا فائدة منها، غثاء كغثاء السيل، يعني: قيمة الفرد ضاعت، مثلما قلنا ألف مليون إذا كنا نريد منهم ألف مليون ريال لم تحصل، غثاء كغثاء السيل- ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم -لا يخافكم- وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت} والجهاد لا يقوم إلا على التضحية والبسالة، والذي يحمل روحه على راحته: ماضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف أو الآخر المقاتل الذي يقول: وإني لمقتاد جوادي وقاذف به وبنفسي العام إحدى المقاذف لأكسب أجراً أو أءول إلى غنى من الله يكفيني عداة الخلائف فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجعٍ يعلى بدكن المطارف ولكن أحن يومي شهيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله نزَّالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم وفارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف فإذا زالت من المؤمنين روح البذل والفداء والتضحية، وتعلقوا بالدنيا؛ فلا يوجد عندهم جهاد. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 25 مراحل تداعي الأمم على أمة الإسلام قف عند حديث ثوبان يقول: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم} أريد أن أسأل الإخوة: هل وجد هذا العصر الذي أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم الآن أو لا يزال غير موجود؟ يقول: {يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها} يدعو بعضهم بعضاً، أعتقد أن هذا كان في وقت مضى، أما الآن فنحن في وضع أسوأ مما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن المسلمين مروا بمراحل: المرحلة الأولى: بعدما سقطت الخلافة الإسلامية -الخلافة العثمانية- أصبحت البلاد الإسلامية لقمة سائغة في أيدي الأعداء، فأول الأمر كان الأعداء قد اختلفوا في قسمة التركة، وتنازعوا، ثم بعد ذلك تصالحوا، ووجد ما يسمى باقتسام مناطق النفوذ، الآن انتهت قضية التداعي على القصعة، وعرف كل إنسان منهم نصيبه، عرفت الدول نصيبها من البلاد الإسلامية، وأخذته غنيمة باردة. فنحن الآن في مرحلة ما بعد التداعي -إن صح التعبير- ولكننا -كما قال المثل: (اشتدي أزمة تنفرجي) في قمة الظلام يولد الفجر، وفي حلكة الظلام يولد الفجر، فإذا وصلت الأمور إلى نهايتها وإلى غايتها، فهنا البشير لبداية النصر، قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] استبطئوه {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 26 الواجب علينا وأخيراً: الواجب وما أكبر هذا الواجب: الواجب حركة إسلامية جهادية في كل صعيد، عدونا حاربنا بالمرض، فنحن نحتاج إلى حركة جهادية تسعى إلى إعادة الصحة والقوة إلى المسلمين، وحتى حين يكونون ضعفاء {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله} حتى حين نكون ضعفاء، حاربنا العدو بالجهل. فنحن بحاجة إلى حركة تعليمية واسعة النطاق، ترفع الأمية والجهل عن المسلمين، عدونا حاربنا بالفقر، فنحن بحاجة إلى حركة اقتصادية صحيحة سليمة تسعى إلى توفير المال بأيدي المسلمين من خلال الطرق والوسائل الشرعية، ثم نحن بحاجة إلى حركة جهادية تقاتل الكفار على الثغور، في فلسطين، وفي أفغانستان، وفي كل بلد يهيمن عليه الكفار، وترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله. نحن بحاجة إلى حركة جهادية شرعية تنشر العلم الشرعي، والفقه، والمعرفة، وهي الضمانة لكل التحركات السابقة، تضمن ألا تنحرف ذات اليمين، أو ذات الشمال، ثم مع ذلك نحن بحاجة -كما أسلفت- إلى حركة جهادية، إعلامية، تصنع الإعلام الإسلامي الذي يكون بديلاً عن الإعلام المنحل، وهذا يحتاج إلى أمم من الناس. القضية في الواقع -أيها الإخوة- ليست قضية يسيرة -كما يبدو لنا- أحياناً نقول مجرد مجموعة في بلد من البلدان النائية تقوم بحركة ثم تدعم ثم تقوم دولة الإسلام، ثم يهاجر إليها المسلمون، ثم تبدأ تتوسع، هذا تصور فيه سذاجة، فيه غفلة، نحن بحاجة إلى حركة جهادية في كل بلد، وفي كل مجال، وعلى كل صعيد، ونحن بحاجة إلى جهد كل مسلم، كل مسلم يجب أن يكون إيجابياً، مرحلة الغثائية يجب أن نتعداها، كن إيجابياً فعالاً مؤثراً بقدر ما تستطيع. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 72 ¦ الصفحة: 28 لمن المهابة؟ السؤال هل المهابة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم أم هي عامة في الأمة؟ الجواب لا، بل المهابة على الراجح عامة لعامة الأمة، وفي ذلك سبعة أدلة أو أكثر، ذكرتها في محاضرة (خصائص هذه الأمة) . الجزء: 72 ¦ الصفحة: 29 كتاب في (حي على الجهاد) السؤال يقول: حبذا لو يصدر كتاب يبين معنى (حي على الجهاد) حتى تعم الفائدة؟ الجواب الآن الموضوع في محاضرة، فكيف يكون هذا العنوان في كتاب كامل؟ إلا إن كان الأخ يقصد هذا الموضوع. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 30 الطريقة المناسبة في طرح فكرة الجهاد السؤال ذكرت أن بعض العلماء والمفكرين يطرحون فكرة الجهاد طرحاً ميتاً، ويقولون: لا بد من نشر الإسلام بالدعوة الحسنة، وعارضت ذلك، فما هو رأيك بالطريقة المناسبة؟ الجواب في الواقع أنا لا أعارض نشر الإسلام بالطريقة الحسنة، لكن أعارض كلمة (فقط) هذه بين قوسين، هذه (فقط) التي أعترض عليها، نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة كلنا مسلمون به ولكن الذي أعارضه (فقط) . أقول: لابد من نشر الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، ولا بد أن نعلم أن الحكمة والموعظة الحسنة لا تكفي وحدها، وأننا إذا كنا جادين في حمل الإسلام، وإقامته فإننا محتاجون إلى أن ننشر الإسلام بالقوة أيضاً، هذا رأيي وليس رأيي وحدي، بل هذا الذي نفهمه من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وكلام أهل العلم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 31 معنى حديث (من مات ولم يغز) السؤال ما معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالجهاد؛ مات على شعبة من نفاق} وما صحة الحديث؟ الجواب الحديث ذكرته بأنه رواه مسلم، أما معنى الحديث فهو واضح، (يغزو) أي: يذهب للغزو، أو (يحدث نفسه بالغزو) -يهم به أو ينوي أنه سيغزو في يوم من الأيام- وورد في الحديث الثالث من حديث أبي أمامة، وهو صحيح أيضاً: {أو يخلف غازياً في أهله بخير} أي: يساعد غازياً، يساعده بالمال، جهز غازياً، اخلف غازياً في أهله، وهكذا. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 32 الذهاب للجهاد في أفغانستان السؤال كثر السؤال عن الجهاد في أفغانستان هل يجب علينا؟ وهل يجب استئذان الوالدين؟ وأيهما أفضل الجهاد بالدعوة هنا، أم نسافر هناك؟ الجواب أما مسالة استئذان الوالدين، فلا شك أنه يجب استئذان الوالدين، ولا يجب أن نكون فيه على خلاف، أما مسألة هل تجلس هنا أم تذهب إلى هناك. فأقول: يختلف الأمر: إن كان لك بلاء هنا كأن تكون داعية مفيداً هنا؛ فاجلس هنا، أما إن كان لك بلاء هناك -أنت متخصص في الأمور العسكرية- عندك خبرات قد لا توجد عند غيرك، فاذهب إلى هناك، أو كنت إنساناً داعية وليس لك هنا قيمة. ولكن تقول: هناك أريد أن أنشر الدعوة بينهم، والتوحيد، والعلم الصحيح، فهذا شيء طيب وجيد، أو طبيب تذهب لتعالج، أو ممرض للتمريض، أيضاً هذا جيد تذهب ولو شهراً، أو شهرين هناك، وإلا فابق هنا، وجاهد ما تستطيع، ونحن يجب أن لا نعتقد أن هناك مجالاً واحداً تنصب فيه جهود المسلمين، فلا نضع البيض في سلة واحدة، يمكن تسقط هذه السلة فيتكسر البيض كله، لا، بل نعمل على كل الثغرات، وفي كل المجالات، ونسأل الله أن ينصر الإسلام في أفغانستان، وفي كل مكان. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 33 جهاد العلمانيين السؤال ألا ترى أن جهاد العلمانيين وأصحاب الدعوات الهدامة وإفشال مخططاتهم، وخداعهم للناس نوع من الجهاد؟ الجواب أما بالنسبة للعلمانيين فإنهم من المنافقين، حتى في كثير من البلاد التي تسمح لهم بأن يقولوا كلمتهم، الآن اصبحوا يتمسحون بالإسلام، لما لاحظوا قضية الصحوة والحركة تجاه الإسلام، حتى الذين كانوا بالأمس يلتفون باليسار، ويتكلمون عن اليسارية وعن الشيوعية، وأسماء كثيرة لامعة، وأعرف كثيراً منهم أصبحوا الآن يقولون: نريد الإسلام، لماذا؟ وذلك قد يكون إما على سبيل ركوب الموجة وهذا هو الغالب، وقد يكون منهم -كما حدث للبعض- من تغير فكره، لكن الغالب أنه على سبيل ركوب الموجة، فهم منافقون لا يجاهرون بقضية حرب الإسلام، فهم من المنافقين الذين يجب كشف مخططاتهم. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 34 الجهاد والفترة المكية السؤال هناك من يقول إن الإسلام اليوم يشبه الفترة المكية الآن، ليس فيه جهاد وإنما إعداد ودعوة فقط؟ الجواب أما بالنسبة لقضية الجهاد. فأقول: ليست القضية أنها فترة مكية أو فترة مدنية، الجهاد فيما يظهر لي ليس فيه ناسخ ومنسوخ في القيام بالجهاد أو عدمه، بل هذا يرتبط بقوة المسلمين، فإذا وجد عند المسلمين قوة وجب عليهم أن يجاهدوا، إذا ضعفوا قد يضطرون إلى أن يصالحوا العدو، أو يتركوا الجهاد، لأن هذا نوع من الإلقاء باليد إلى التهلكة إذا كانوا يقاتلون وهم ضعفاء سواء في عددهم أو في عدتهم. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 35 صحة حديث: (رجعنا من الجهاد الأصغر) السؤال حديث: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} ؟ الجواب هذا حديث رواه البيهقي وهو حديث واهٍ لا يصح. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 36 دعم الانتفاضة السؤال ما رأيكم في الانتفاضة الفلسطينية من ناحية الجهاد الإسلامي؟ وهل ندعمها مادياً حيث تدور شكوك حول وصول بعض الإعانات إليها؟ الجواب مسألة الدعم للانتفاضة الفلسطينية، فالانتفاضة يبدو لي أنها حركة قهر، انتفاضة شعب بأكمله، لكن يوجد قطاع عريض من هذه الانتفاضة يدعمه ويقوم عليه المسلمون، وما حركة حماس التي تسمعون عنها إلا نموذج للجهاد الإسلامي، والجهاد في سبيل الله، وهي حركة إسلامية، أما قضية الدعم المالي فمتى شعر الإنسان بأنه يستطيع أن يدعمهم مادياً دعمهم، لكن لا تدعم غيرهم، ادعمهم هم. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 37 توجيهات للخارجين إلى الجهاد السؤال توجيهات لمن أراد الخروج للجهاد؟ الجواب من أهم التوجيهات: أن تفقه نفسك في الجهاد، افهم فقه الدعوة، وفقه الجهاد، فمن المؤسف والمحزن أن يصبح المجاهدون في بعض الثغور بأمس الحاجة إلى التربية والتفقيه والتوعية والتعليم والتوجيه، وقد يرجع بعضهم بغير الوجه الذي ذهب به، فَتَعَلَّم وتَحَصَّن بالعلم الشرعي الصحيح والفقه الصحيح، وبعد ذلك اذهب للجهاد، وأحسن النية، وتحلل من الحقوق التي عليك، واستأذن والديك. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 38 الجهاد بدون إذن الوالدين السؤال هذا يسأل عن الشاب إذا ذهب بدون إذن والديه، فهل يُغفر له معصيته لوالديه؟ الجواب علىكل حال لا يجوز له أن يذهب، وإن ذهب فهو عاصٍ، وهو تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 39 جهاد المنافقين والفساق السؤال ما نصيحتك تجاه جهاد المنافقين والفساق، وما أحسن وأفضل الطرق في جهادهم؟ الجواب أحسن الطرق في جهادهم النزول للساحة وللميدان، انه عن المنكر، مر بالمعروف، ادع إلى ربك، اصبر، وستجد أنهم هم الذين يتحرشون بك، ثم عندما نقول انزل إلى الميدان، هذا الميدان نفسه يفرض عليك شيئاً، كم من صحيفة ومجلة تنزل للسوق، كم من كتاب ينزل للسوق فيه منكر، وقد قرأت في مرة من المرات كتاباً يباع بـ مكة، فيه إلحاد ينكر وجود الله، وقد اشتريته بحر مالي يقول: حدثوني هل للورى من إله راحمٍ مثل زعمهم أواهٍ يخلق الخلق باسماً ويواسيهم ويرنو لهم بعطف الإله إنني لم أجده بهذه الدنيا فهل خلف أختها من إله لقد اشتريت هذا الكتاب من مكة المكرمة. وقرأت مرة كتاباً كتبه رجل من هذه البلاد، يتكلم بكل وقاحة عن قضايا الجنس واللواط، وكلام سخيف يليق بأمثاله، ومطبوع هنا ويباع، وقد كتبت عنهما إلى الجهات المختصة، فكم تقرأ من كتاب، أو من جريدة، أو تسمع من إذاعة، وبغيرها كلاماً باطلاً أو منكراً، فما دورك؟! هل تكتفي بقولك: الله المستعان! هذا لا يكفي بل قولك (الله المستعان) يعني أنك تطلب العون من الله، بل اكتب، راسل، اتصل، تكلم، مر بالمعروف، انه عن المنكر، اذهب بنفسك أحياناً، وبأسلوب حسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، اجعل أسوأ كلامك آخره هذا من جهاد المنافقين. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 40 حكم استخدام الفيديو في الدعوة السؤال هذا يسأل عن استخدام الفيديو كوسيلة من وسائل الدعوة، تسجيل المحاضرات، والأمسيات وغيرها وعرضها على الطلاب الناشئين؟ الجواب أنا أدعو إلى الإستفادة من جميع وسائل الإعلام الممكنة في الدعوة إلى الله عز وجل، لكن هذا الاستخدام يجب أن يكون استخداماً واعياً، حين تجد إنساناً ليس في بيته فيديو -مثلاً- لا أعتقد أنني بحاجة إلى أن أقنعه أن يشتري فيديو من أجل أن يشاهد بعض الأفلام، لماذا؟ لأن عدد الأفلام العلمية والإسلامية مهما كثرت فإنها قليلة، أربعين أو خمسين، لو سمعها أو رآها في شهر، أو شهرين ثم ماذا بعد؟! لكن الأفلام المنحرفة بالألوف والملايين في كل مكان، هذه ناحية. الناحية الأخرى: لماذا نواجه القوة بضعف، والتقدم بجهل، والعلم بوسائل بدائية، الآن قضية التصوير أصبحت فناً عند الأعداء، والألوان والجذب والإثارة أصبح فناً متخصصاً له رواده، وأصبحوا يملكون جذب المشاهد بمئات الوسائل، فهل يُعقل أن نقابل ذلك بواعظ يتحدث في شريط؟! في العام الماضي ألح أحد الشباب أن يسجل أشرطة فيديو لي، فأعتذرت له كل الإعتذار، وقلت له: أنا لست مقتنعاً بالنسبة لي من ذلك، لماذا؟ لأنها هذه ليست الوسيلة التي نواجه بها الأعداء، إذا كنت ستفعل، فلا بد أن تنتج إنتاجاً يكون على مستوى إنتاج الخصوم، ينافسه ويجذب إليه الأنظار ويؤثر مثلما يؤثر هو. الجزء: 72 ¦ الصفحة: 41 يا أيها الإنسان لقد كثر التشدق بحقوق الإنسان في الغرب، مع أنهم لا يعرفون الإنسانية، ولا يقيمون لها وزناً وحقوق الإنسان حقيقة موجودة في دين الإسلام، تجد ما ذكر واضحاً مفصلاً مع الأمثلة في هذا الدرس. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 1 الإنسان في القرآن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أحبتي الكرام! يقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما بعث رحمةً للناس كلهم، وجاء بالهدى والنور المستقيم، وبعث بالشريعة السمحة العادلة التي ليس فيها ظلم ولا جور ولا حيف على أحد، فقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم بغاية العدل، وغاية الرحمة، وغاية التكريم لهذا الإنسان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] . لقد جاء ذكر الإنسان في القرآن الكريم بلفظ الإنسان في نحو خمسة وستين موضعاً، ذكر الله عز وجل فيها أشياء كثيرة تتعلق بالإنسان، منها: بدء خلق الإنسان، وكيف خلق، وممّ خلق، وعلى أي صفة خلق، والمراحل والأحوال التي يتقلب فيها، والمآل الذي يصير إليه، والحالات التي يكون عليها، والإنسان حين يكون مستقيماً وحين يكون منحرفاً، حين يكون غنياً وحين يكون فقيراً، حين يكون صحيحاً وحين يكون عليلاً، حين يكون مؤمناً وحين يكون كافراً في الدنيا والآخرة، الرجل والمرأة، الكبير والصغير، المأمور والأمير، الحاكم والمحكوم. حتى إنك إذا نظرت في القرآن الكريم تكاد بأن تجزم أن القرآن كله إنما جاء يعالج قضية الإنسان، الطريق الصحيح الذي يسلكه الإنسان، والطريق المعوجة التي يُحذَّر الإنسان منها، إلى غير ذلك، وليست العبرة فقط بآيات ذكر فيها لفظ الإنسان مثل {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الإنسان:1] (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ) {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] بل إن الأمر أوسع من ذلك، فأنت تجد الكلام على الإنسان وأصله في أشياء كثيرة. مثلاً قصة آدم عليه الصلاة والسلام، وكيف خلقه الله عز وجل، وأسكنه الجنة، وأسجد له ملائكته قال الله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] أي شيء أعظم في تكريم الإنسان، ورفع الإنسان؛ وبيان مقام الإنسان؟ من أن الله عز وجل يخلق آدم أبا البشر بيده؟ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله تعالى خلق آدم بيده، وخلق جنة عدن بيده، وكتب التوراة بيده} فخلق الله تعالى آدم بيده من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر:29] نفخ فيه هذه الروح التي بها صار إنساناً، ثم أسجد له ملائكته، أشرف مخلوقاته أسجدهم لآدم عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) . مع أن الملائكة كانوا يقولون حين قال الله عز وجل لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] قالوا مستغربين متسائلين، وهم يعلمون أن الله تعالى أعلم وأحكم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] لأن الملائكة جبلوا على الخير {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] . فخلق الله عز وجل هذا الإنسان، وأسجد له ملائكته -لآدم عليه الصلاة والسلام- ونفخ فيه من روحه، وجعل الكرامة في بنيه من بعده، ولذلك كم خوطب الإنسان بقوله تعالى: يا بني آدم كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} [الأعراف:27] حتى قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] . فالعقيدة الإسلامية في الإنسان أنه مخلوق مستقل، أول واحد في السلالة هو آدم عليه الصلاة والسلام، ثم تسلسل بنوه من بعده، وليس كما تقول النظريات الغربية الكافرة الملحدة في تطور الإنسان، وأنه كان في الأصل من جنس أو نوع آخر. وتطور حتى صار إنساناً، الإنسان أصلاً خلق إنساناً متميزاً، ولذلك ينظر الإسلام للإنسان هذه النظرة، أنه مخلوق على هذه الصفة {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] تكريم لهذا الإنسان، ثم تجد في القرآن الكريم أيضاً خطاباً من الله عز وجل للناس بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة:21] وما الناس إلا أفراد، إنسان وإنسان وإنسان فالمجموع أناس، وكم في القرآن الكريم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] كذلك (يَا عِبَادِيَ) في القرآن الكريم والسنة النبوية. حتى قال الله عز وجل في حديث أبي ذر وهو في صحيح مسلم في الحديث القدسي أن الله عز وجل يقول: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا، يا عبادي! كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعكم، يا عبادي! كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم الخ} . يخاطب الله عز وجل عباده ويتحبب إليهم، ويتودد إليهم، مع أنه تعالى غني عنهم، ولو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منهم ما نقص ذلك من ملك الله تعالى شيئاً، ولا ضر الله عز وجل شيئاً قال الله: {وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً} [آل عمران:144] . ومع ذلك يخاطبهم عز وجل هكذا، حتى قال الإمام الفضيل بن عياض معبراً عن شعوره العظيم الكبير، وهو يسمع ويقرأ في القرآن الكريم، أن رب العالمين، الغني، الواجد، الماجد، القوي، العزيز، يخاطبه يا عبادي! فيقول: ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا كدت أن أضع رجلي على الثريا، لماذا؟! لأنه يملك أموالاً طائلة! أو لأنه يتربع على عرش أو كرسي، أو لأنه يتمتع بالسمعة والجاه! كلا! بل: دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا هل تشعر أخي الحبيب بهذا الشعور الذي شعر به الفضيل، وهو يقرأ هذه الآية أو يسمعها؟ الجزء: 73 ¦ الصفحة: 2 سر تكريم الإنسان ما سر تكريم الله لهذا الإنسان؟ هل سره لأن هذا الإنسان يتمتع بجسد قوي؟ كلا! فإن الفيل والأسد أكثر قوة من الإنسان وأشد منه، ولذلك فليس صحيحاً أن تكريم الإنسان يعود إلى الاهتمام بجسده، أو العناية بصحته، أو العناية بقوته، أو حفظه مما يضر ببدنه أو يقتله، كل هذا لا بأس به، بل هو مطلوب أن يعتني الإنسان بالصحة، وبالبدن، وبالتغذية، ويعتني بالحماية من كل ما يضر الإنسان هذا كله جاء الدين بطلبه، ولا شك في هذا، لكن تجد من آثار ذلك، أن الناس أصبحت العناية عندهم بأجسادهم حتى كأن سر إنسانية الإنسان في جسده! الجزء: 73 ¦ الصفحة: 3 الإيمان سر التكريم إن الإيمان الذي يتميز به الإنسان هو سر تكريمه، فهل حرصك وحفاظك على الإيمان في نفسك وأهلك، وولدك كحرصك على حمايتهم من الأمراض والأوبئة، أو كحرصك على توفير المطاعم والمشارب والمآكل والملابس لهم؟ هذا سؤال يطرح نفسه عليك أخي الكريم! خرجت يوماً من الأيام في أحد الأمسيات؛ فوجدت أن الشوارع خالية في الوقت الذي كان كثير من الناس يتخوفون من مثل هذه الأشياء، فسألت نفسي: أين الأطفال الذين كانوا يؤذون الناس في الشوارع؟ أين الفرق الذي كانت تلعب الكرة؟ أين المجموعات التي كانت تكون على جنبات الطريق يمنة ويسرة؟ أين الشلل التي كانت تقضي أوقاتاً طويلة في لهو ولعب وكلام لا فائدة من ورائه؟ لقد ذهبوا، كيف ذهبوا؟! ذهبوا لأن الآباء والأبناء -وبصفة عامة- المجتمع بكافة مؤسساته بدءاً من المؤسسات العليا التي تمارس التوجيه أو التثقيف -كما يقولون- مؤسسات إعلامية، توجيهية تعليمية، ومروراً بالبيت، وانتهاءً بالفرد العادي، أصبح عندهم شعور أن هناك خطراً ينبغي أن يتقوه، ولذلك لجئوا إلى بيوتهم وابتعدوا عن منطقة هذا الخطر. لكن أين كان هذا الأمر من القضايا الأخرى؟ لأنه يمكن أن يبقى الإنسان حياً ولكنه بدون صلاح، بدون استقامة، فتكون حياته وبالاً عليه. أيها الإخوة: إن الله تعالى حين تكلم عن الإنسان قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4-6] . فالإنسان إذا انحرف وضل، تحول من كونه إنساناً مكرماً عزيزاً إلى كونه أحط حتى من البهائم، كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] . فالإنسان إذا كان سر تكريمه هو التكليف، ومطالبته بالعبودية، ومنحه هذا العقل، إذا أهدر هذه الأشياء وضيعها، وأقبل على دنياه ونسي آخرته؛ أصبحت البهائم أعلى منزلة منه، لماذا؟ لأنها لم تكلف بهذه الأشياء، ولذلك يوم القيامة يقال للبهائم: {كوني تراباً} لكن الكافر يتمنى أن يكون كذلك {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً} [النبأ:40] فلا يستطيع ذلك ولا يملكه ولا يحصل له. كفى بك داءً أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا حين تتنقل إلى سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ تنظر كيف تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإنسان، وبين كرامة الإنسان ومنزلته، والكلام في السنة النبوية أيضاً يطول، وأعتقد أنه من الصعب جداً حصر الأحاديث التي تحدث النبي صلى الله عليه وسلم وتكلم فيها عن الإنسان، فهذا باب واسع جداً، لكن تجد على سبيل المثال من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام التي جاءت بلفظ الإنسان: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة، في رواية مسلم، والحديث أصله متفق عليه، لكن في رواية مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل إنسانٍ تلده أمه على الفطرة} وكذلك قال عليه الصلاة والسلام، فيما رواه الترمذي: {كل إنسان مكتوب عمره بين عينيه} أي ما قدر له من العمر والأجل. ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الشيطان: {وأنه يأتي حتى يخطر بين الإنسان وبين نفسه، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر} وفي حديث أبي داود يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان ركب على ثلاثمائة وستين مفصلاً، وكل مفصل من هذه المفاصل عليه صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما العبد من الضحى} ركعتا الضحى تجزئان عن ثلاثمائة وستين صدقة مطلوبة منك يومياً. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الجنازة: {وأنه يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعه لصعق} والحديث ذكره البخاري في كتاب الجنائز. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 4 مبالغة في الاعتناء بالجسد وعلى سبيل المثال: انظر إلى الناس حين يشتغلون بالرياضة، وألوان الألعاب الرياضية، إنهم حينئذ إذا كانت القضية قضية بدن فقط؛ كأنما يربون عجولاً آدمية. يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان ليست إنسانيتك لأنك صاحب جسم كبير أو قوي، فهناك في الحيوانات التي لم تتمتع بالإنسانية ما هو أقوى منك، وأعظم جسداً منك، تجد أن الناس يهتمون بقضية الجسم الاهتمام الكبير، يهتمون بأنواع التغذية، وربما تجد أقل إنسان عنده معرفة أو ثقافة اليوم يستطيع أن يعدد لك أنواع الأطعمة، والأطعمة التي فيها فيتامينات، والأطعمة التي فيها بروتينات، والأطعمة التي فيها دهنيات، ويعرف الأطعمة التي تصلح لهذه الطبقة، والأطعمة التي تصلح لطبقة أخرى، ويعرف الأطعمة تصلح للشتاء، والأطعمة التي تصلح للصيف، وأصبح الناس مختصين. ثم تنتقل إلى قضية الطبخ، تجد الطبخ أصبح فناً مستقلاً فيه كتب خاصة، بل فيه مدارس ومعاهد مهمتها تعويد الناس على الطبخ، وتطور الأمر حتى أصبح في بعض المستوصفات جناح خاص لتعويد ربات البيوت -كما يقولون- على فنون الطبخ الصحيح. ننتقل الى الحلويات بأنواعها، والاهتمامات الزائدة بها: حلويات لكل المناسبات. فهذا اهتمام بالجسم، ليس اهتماماً عادياً، بل اهتمام تحول إلى نوع من العناية الزائدة بالجسم، حتى كأن إنسانية الإنسان في جسده، ثم إذا شعر الإنسان أن هناك خطراً يهدد جسده؛ أصبحت تجد هذا الهم الكبير، ولعل أقرب مثال نضربه ما نعانيه ويعانيه الناس اليوم من قضية المخاوف من الغازات السامة، من الكيماويات وغيرها التي يخشى الناس أن تنزل بهم، أو تحل قريباً من ذلك. فأصبح الإنسان يعتني عناية كبيرة بتسديد الثقوب والنوافد، بالورق اللاصق وأنواع الشمع والصمغ والستائر وغيرها، ويستخدم كافة الاحتياطات التي فيها وقاية وحماية للإنسان. أيضاً ليس لنا اعتراض على هذا الأمر، إلا إذا تعدى، حتى أنه حصل حالات وفاة، وأخرج أناس بوسائل الدفاع المدني بسبب سوء استخدامهم لهذه الطرائق. فالأمر إذا تعدى حده انقلب إلى ضده، يهرب من الموت ويقع في الموت، سبحان الله! {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] إنسان بالغ في إغلاق النوافذ، وتسديد الثغرات والفتحات في البيت ونام، فكانت هذه النومة هي النومة الأخيرة في الدنيا، ما جاءه الموت عن طريق الغاز السام الذي كان يخشاه، إنما جاءه الموت عن طريق شدة الحذر من هذا الغاز السام الذي كان يخشاه. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 5 الاعتناء بالروح أولى من الجسد هل نطمع منك -يا أخي الكريم- أن يكون إغلاقك لمنافذ الفساد عن بيتك كإغلاقك لمنافذ دخول الهواء إلى بيتك؟ هل استطعت -فعلاً- أن تغلق منافذ الفساد التي تبث الفساد إلى بيتك عبر الشاشة، أو عبر الكلمة المسموعة، أو عبر ورق الجريدة أو المجلة، أو عبر الكتاب، أو الشريط، أو الاتصالات التي يجريها الأولاد أو تجريها البنات؟! هذا السؤال يجب أن نطرحه؛ لأننا إذا كنا نعتقد أن تكريم الإنسان ليس في بدنه؛ فلا بد أن نطرح هذا السؤال، ليس تكريمك لبدنك بحيث يكون الاهتمام منصباً على البدن، إنما التكريم -تكريم الإنسان- لأن الله عز وجل نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وميزه بهذا العقل، وكلفه بحمل الرسالة، بحمل الدين، والاعتقاد الصحيح، والدعوة إلى الله عز وجل، وعبادة الله تعالى، فتكريم الإنسان هو بعبادته. ولذلك أعظم وأشرف لفظ يمكن أن ينادى به إنسان هو أن يقال له: يا مؤمن! أو (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كما كان يقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا؛ فأرعها سمعك، فإنها إما خير تؤمر به، أو شر تنهى عنه]] . الجزء: 73 ¦ الصفحة: 6 الإنسان في دين الإسلام إذاً الإنسان مخلوق مكرم مميز، خلقه الله عز وجل، وأسجد له ملائكته، وميزه بالعقل والتكليف، وطالبه بالعبودية له، وجعل لهذا الإنسان حقوقاً لا بد من رعايتها، ولذلك لا يمكن أن تجد مذهباً أو ديناً في الدنيا ضمن وكفل حقوق الإنسان مثل الإسلام، لماذا؟ لأن نظرة الإسلام إلى الإنسان نظرة صحيحة، أما النظم والمذاهب والأديان الأرضية الأخرى المنحرفة، فهي -أصلاً- تنظر إلى الإنسان نظرة فاسدة. مثل الذين يعتبرون أن أصل الإنسان حيواناً تطور، وتسلسل في الرقي حتى صار إنساناً، فمثل هؤلاء ينظرون إلى الإنسان نظرة حيوانية، ولهذا يهمهم من الإنسان الجانب الجسدي، تغذية الإنسان، متعته الجنسية، متعته في الأكل والشرب، الأشياء المادية، أما الجانب الأخلاقي، والجانب التعبدي، والإيماني، فلا يعنيهم في الإنسان، وانظر في الحضارة الغربية اليوم، الغرب يعتني بالإنسان في الجوانب البدنية، لكنه ضيع الإنسان تماماً في النواحي الأخلاقية، والروحية الإيمانية، ولهذا ضجوا وصاحوا، يقولون: إن الإنسان في الغرب جسدٌ بلا روح، وإن الحضارة الغربية أشبعت الإنسان وأروته بالماء والطعام والشراب، ولكن الظمأ العاطفي، الحاجة إلى الإيمان، الحاجة إلى التدين، هذه الحضارة فشلت في إشباعها عند الإنسان. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 7 للإنسان حقوق وعليه واجبات أما الإسلام فإنه يعتبر أن قضية حفظ حقوق الإنسان جزءٌ من الدين، صحيح أن الإنسان يجب أن يعرف حقوقه ليطالب بها في حالة وجود من يمنعه بعض هذه الحقوق، فالإنسان يجب أن يعرف ما له من الحقوق، كما يعرف ماذا عليه من الواجبات، بمعنى: أن الدين جاء ليقول لك: أيها الإنسان، هذا مكانك في الإسلام، مثل ما أنك مطالب بأشياء تجاه زوجتك، وتجاه أولادك، وتجاه جيرانك، وتجاه مجتمعك، تجاه الدولة التي تعيش فيها، وتجاه القريب، والبعيد. كذلك أنت لك حقوق على هؤلاء، فلك حقوق على زوجتك، ولك حقوق على ولدك، ولك حقوق على والدك، ولك حقوق على جارك، ولك حقوق على المسئول عنك، ولك حقوق على الدولة التي تعيش فيها، وكما أنت تؤدي الحقوق التي عليك، يجب أن تأخذ الحقوق التي لك، فالأمور هذه متلازمة. وليس صحيحاً أن ينظر الناس نظرة واحدة فقط، كل الكلام الذي نسمعه -تقريباً أو غالباً- يتكلم عن شيء واحد، وهي الحقوق والواجبات التي عليك أن تؤديها، لكن الأشياء التي لك وينبغي أن تطالب بها وتأخذها، هذه قل من يتحدث عنها، ولذلك ضمر الإنسان، وقلَّت قيمته، وفقد أهميته، وأصبح يعتبر أن أي شيء يعطى له من حقوقه يعتبره هدية ثمينة، ومكرمة غالية، وإحساناً كبيراً، وفضلاً لا حق له فيه أصلاً، وهذا خطأ كبير. أذكر أني قرأت كتاباً يتكلم عن وضع إحدى الدول قبل عشرات السنين، وكان فيها من يسمونه بالإمام، إمام جبار وظالم، كان يبخس الناس أشياءهم، ويعتدي على حقوقهم، وكانوا يعيشون في حالة من الفقر وشظف العيش، حتى إن الأطفال يأتون إلى المدرسة وهم أشباه العراة لا يكادون يجدون ما يستر عوراتهم، فجاء مدرس من المدرسين، وكان يجلس مع ذلك الذي يسمونه إماماً، فاقترح عليه لو وزع على الأطفال ملابس يستر بها سوءاتهم وعوراتهم، ويتقون بها من أذى الحر والقر، فتكرم وجاد وأعطاه ثوباً ثوباً، بعد أن مضت سنة جاء هذا الأستاذ نفسه، واقترح عليه مرة أخرى، وقال: أنت أعطيتهم العام الماضي وشكروا لك، ودعوا لك، وأثنوا عليك، وذكر أشياء، لكن لو أنك كررت هذه فإن نفوسهم قد تطلعت إليه، واشتاقت أن تعود بما أعطيتهم في العام الماضي في مثل مكانك، فقال: لا يمكن هذا أن يكون؛ لأنني إن أعطيتهم هذا العام مثل ما أعطيتهم العام الماضي ظنوا أن هذا حق من حقوقهم، ففي العام القادم لو لم أعطهم فيمكن أن يطالبوني به، وأنا لا أريد أن يفهم أحد أن عليَّ له حق من الحقوق، إنما يفهم أن ما أطيه هو فضل وتكرم وجود، إن أعطيته شكر وإن منعته رضي وصبر ودعا، واعتبر أن الأمر مني وإلي. إذاً من الخطأ الكبير أن أتكلم عن الحقوق على الإنسان، ولا أتكلم عن الحقوق التي للإنسان، فإن الإنسان -بمقتضى كونه إنساناً كرمه الله عز وجل- ينبغي أن يعرف ماذا عليه من الواجبات فيؤديها، وفي المقابل ينبغي أن يعرف ماذا له من الحقوق فيطالب بها في حالة تأخرها أو تخلفها، لأن المشكلة عندنا ليست مشكلة الإنسان بذاته كفرد، إنما المشكلة مشكلة أمة، عندما تتصور أن فرداً واحداً كما في الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح لما قال: {اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك} هذا صحيح لا إشكال فيه، لكن لو تصورت أمة كاملة وتسلب حقوقها، تسلب كرامتها ومكانتها، تسلب ما أعطاها الله عز وجل إياه بنص الكتاب ونص السنة، فإن معنى ذلك أن هذه الأمة كلها قد فقدت معنى إنسانيتها، ومعنى كونها أمة كلفها الله عز وجل بواجبات وأشياء لا تستطيع أن تقوم بها، لأنها جُردت من إنسانيتها حين سلبت هذه الحقوق التي هي لها في أصل الشرع. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 8 دعوى الغرب في حقوق الإنسان كاذبة فكل ألوان العبودية لغير الله عز وجل مرفوضة في الإسلام، وهذا الأمر وأعني به، وأن الرسل جاءوا لتحرير الإنسان وجعله إنساناً يتمتع بالكرامة والحقوق التي وهبه الله تعالى إياها، ليس هذا أمراً يأخذه الإنسان عن طريق المطالبات والمظاهرات والاحتجاجات، كما هي الحال بالنسبة للنظام الغربي، والدول الغربية، فالدول الغربية حصل فيها الإنسان على بعض حقوقه، بل أصبحت -مع الأسف الشديد- الدول الغربية تتغنى بما يسمونه حقوق الإنسان، ومنظمة حقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة الذي يحترم حقوق الإنسان -كما يزعمون- ومعاهدات الدول الغربية التي تكفل حقوق الرجل، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، ومن هذا المنطلق أنشئوا المؤسسات، والجمعيات، والمعاهدات الطويلة العريضة التي يزعمون أنهم يكفلون بها حقوق الإنسان. وليس الكلام الآن عن نظرتهم، إنما المقصود: متى ما وصل الغربيون إلى هذا الوضع الذي يزعمون به أنهم كرموا الإنسان وحفظوا حقوقه؟ وصلوا بعد أزمنة طويلة جداً من اضطهاد الإنسان واحتقار الإنسان، وبعدما صارت مظاهرات ومطالبات، وجهود، وأشياء كثيرة، وعاشوا قروناً طويلة وهم يئنون تحت ضغوط الاضطهاد بكافة صوره وألوانه وأشكاله، سواء الاضطهاد من حكامهم وملوكهم وسلاطينهم، أو الاضطهاد من رجال الكنيسة الذين كانوا يحكمونهم باسم الدين ظلماً وزوراً وبهتاناً، أو الاضطهاد بأي صورة من الصور، وفي الأخير وصلوا إلى ما يعتبرونه حقوق الإنسان. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 9 دعوة الرسل جاءت لتحرير الإنسان لقد بين الله عز وجل في مواضع كثيرة؛ أن الرسل عليهم الصلاة والسلام إنما جاءوا لتحرير الإنسان، جاءوا لتحرير الإنسان من ألوان العبودية لغير الله عز وجل، سواءً كانت العبودية لطاغوت يحكم الناس بغير شريعة الله عز وجل، ويفرض على الناس من ألوان التسلط والإذلال ما لا طاقة لهم به، أو كانت العبودية لملك، أو كانت العبودية لمال، أو كانت العبودية لجاه، أو كانت لزوجة، أي لون من ألوان العبودية والذل؛ جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحرير الإنسان من هذه العبودية. حتى العبودية للعادة، التي يحكمها الناس فيما يخالف شرع الله عز وجل، ويعتبرون أن العادة تقود الإنسان إلى أشياء كثيرة، وربما إذا طولبوا بشيء، قالوا: ما سمعنا بهذا. أي: أن العادات المألوفة في مجتمعنا تخالف هذا الأمر، كما قال المشركون الأولون؛ حينما جاءهم الرسل عليهم الصلاة والسلام: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] . لقد جاء الرسل لتحرير الإنسان من جميع ألوان العبودية والتسلط، وجاءوا لتكريمه، كما قال الله عز وجل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] حتى العبودية لملائكة -مثلاً- أو لرسل؛ جاءت الديانات السماوية لرفض هذه العبودية، ولذلك نعى الله تعالى على النصارى عبوديتهم لعيسى عليه الصلاة والسلام، حيث زعموا أنه إله من دون الله أو رب، ولهذا قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] . الجزء: 73 ¦ الصفحة: 10 حفظ الضرورات الخمس لقد جاء الشرع لحفظ كرامة الإنسان، ومنع التسلط عليه، وتحريره من ألوان العبودية لغير الله، وهذا قريب مما يعبر عنه الفقهاء والأصوليون بقولهم: إن الدين جاء لحفظ الضرورات الخمس، ما هي الضرورات الخمس التي يدور الدين كله على حفظها؟ الضرورات الخمس هي: حفظ الدين، والعقل، والنفس، والعرض، والمال، فلعلنا نذكر الأربع الأولى منها، كالتالي: الجزء: 73 ¦ الصفحة: 11 ثانياً: حفظ العقل جاءت الشرائع -ثانياً- لحفظ العقل، الذي به مُيّز الإنسان وكُرّم، ولذلك إذا فقد الإنسان عقله وأصبح في عداد المجانين لم يلتفت إليه أحد، ولم يكن له شأن ولا قيمة، وأصبح أضحوكة للناس يتندرون به وبأحواله. فالشرائع جاءت لحفظ العقل من التضليل وممارسة الكذب على عقول الناس، فإن كثيراً من الأمم تمارس التضليل على عقول أفرادها، تضلل العقول، وتملي عليهم، وتستخدم المثل الذي يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، فكثرة ترداد الكذب تفرض على عقول الناس تصديقهم، حتى ينخدع الناس بهذا الأمر. ولعل أقرب مثال لممارسة الكذب والتزوير: أنك تجد أجهزة الإعلام في كثير من بلاد العالم الشرقية والغربية، لا أقول العالم الإسلامي فقط، بل حتى بلاد الغرب الذين يدعون الحرية في إعلامهم، تجد أن أجهزة الإعلام في الواقع تمارس تضليلاً على شعوبها. فمثلاً: في الغرب يدعون أنهم ديمقراطية -كما يقولون- أي أن الأفراد لهم مكانة ولهم قيمة ولهم اختيار، وكل شيء عندهم بالترشيح والانتخاب، هل هذا فعلاً صحيح بهذه الصورة التي يتصورها الآخرون؟ لا أنكر الحقائق وأن هناك أشياء كثيرة من ذلك، ولكن أيضاً هناك جانب آخر وهو أن الإعلام يمارس ديكتاتورية من نوع آخر، فيفرض على الناس القناعة بأشخاص معينين، أو بآراء معينة. ولذلك تجد أن الإعلام؟ من جهة يعطي الناس معلومات كاذبة تؤثر في عقولهم، ومن جهة أخرى يرسل من يحاولون أن يستقرئوا الرأي العام. خذ مثالاً: قضية الحرب، إذا أرادوا أن يقيموا حرباً أو صلحاً، هم من جهة يسلطون إعلامهم للتأثير في عقول الناس بحيث يتقبلون الأمر الذي يختارونهم، ومن جهة أخرى يجعلون هناك معاهد ومدارس ومراكز تحاول أن تنظر ما هي وجهة نظر الناس، فتخرج لك نتيجة أن (80%) يريدون كذا، و (90%) يريدون كذا، وهذا في الواقع صحيح أنه وجهة نظر الناس، لكن وجهة نظر ليست بريئة، وإنما هي وجهة نظر أناس سلط عليهم نوع من التضليل والتغيير، وفرض رأي بطريقة هادئة، ليست بالطريقة البدائية التي تستخدم في البلاد الأخرى، طريقة القوة والقسر والإكراه والطريقة المكشوفة، حتى الكذب له أصول، فالذين يكذبون كذباً أبله، ينكشفون أمام الناس ويتعرون ويصبح كذبهم يزيد سقوطهم عند الناس، لكن الذين يكذبون كذباً منظماً مدروساً محبوكاً يستطيعون أن يضلوا الناس لفترة معينة. إذاً الدين جاء لحماية العقل من التضليل، ومن التزوير بكافة صوره وأشكاله، كما جاء لحماية العقل من الضلال في نظريات فلسفية ومذاهب منحرفة ضالة قد لا يستطيع الإنسان أن يميزها، كما جاء لحفظ العقل من الضياع عن طريق المسكر، ولهذا حرم الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم كل أكل أو شرب يعود على العقل بالضياع، المخدرات، والخمر، والحشيش، والأفيون وغيرها، وذلك لأغراض، منها حفظ عقل الإنسان، لإن هذا العقل جوهرة ثمينة يجب أن تحفظ وتصان ويستفاد منها فيما ينفع الإنسان ويعود على الفرد والأمة بالمنفعة العاجلة والآجلة. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 12 ثالثاً: حفظ النفس الضرورة الثالثة التي جاء الدين لحفظها هي: حفظ النفس: حفظ الإنسان من أن يقتل مثلاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه البخاري وغيره: {أن من قُتل دون نفسه فهو شهيد} فإن قاتلك إنسان أو هددك فقتلته دون نفسك في النار، والمقتولُ دفاعاً عن نفسه شهيد. فمن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه ضد من أراد قتله، أو حتى من أراد إصابته بجراح أو غيرها، ومن هذا المنطلق أيضاً الإذن بالقتال، يقول الله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] فلما قتلوا هؤلاء المؤمنين وعذبوهم بالنار، قال الله عز وجل: (قُتِلَ) أي لعن وطرد من رحمة الله، وخلد في العذاب المهين أصحابُ الأخدود الذين تسببوا في قتل وإزهاق أرواح المؤمنين. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 13 رابعاً: حفظ العرض من الضرورات التي جاء الدين بحفظها أيضاً العرض: وذلك من التعرض له بما يخدشه أو يسيء إليه، ومن هذا المنطلق أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قتل دون عرضه فهو شهيد} سواء حماية العرض من الانتهاك بارتكاب الفواحش بأنواعها، أم حماية العرض من السب، والشتم، والثلب، والغيبة، والنميمة، والقالة بغير حق فكل هذه الأشياء يتعلق بها ضمانات وأحكام جاء بها الإسلام لحماية أعراض الناس، ليبقى لكل إنسان سمعة مصونة، وعرضٌ محفوظ لا يحق لأحد أن يتعرض له بشيء. أما في الغرب عند الكفار فكلمة "عرض" ليست موجودة في لغتهم، بمعنى أنه لا يوجد ترجمة تقابل كلمة عرض في اللغة الإنجليزية مثلاً، ولذلك ليس عندهم قيمة للأعراض. عمر رضي الله عنه يقول في منشورة إلى الناس -وهذا في الأمصار-[[أيها الناس! إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم -الأمراء الذين أبعثهم إليكم ما بعثتهم ليضربوا أبشاركم- ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم دينكم ويقسموا فيكم فيئكم]] مهمة عمالي الذين أرسلهم إليكم، ليست ليضربوا الناس ويعتدوا عليهم، ويستغلوا صلاحياتهم ومواقعهم في إيذاء الناس والاعتداء عليهم، ولا لينهبوا أموال الناس باسم المصلحة العامة، وإنما مهمتهم تتلخص في تعليم الناس الدين، لإنهم كانوا فعلاً علماء، وكان عمر يختار العلماء، فبعثهم ليعلموا الناس دينهم ويقسموا في الناس فيئهم، يقسموا المال وليس ليأخذوه من الناس. إذاً عمر يعلم الناس مالهم؛ حتى يطالبوا به، والذي يريد أن يتنازل بعد أن يعرف فهذا شيء آخر. قصة من تاريخ السلف على حفظ العرض:- ربعي بن عامر رضي الله عنه، رسول المسلمين إلى رستم، رجل بسيط متواضع لا يملك شيئاً، ما درس في جامعة، ولا في مدرسة، لكنه تعلم في أعظم مدرسة، مدرسة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وتربى في هذه الصحراء التي ولدت كبار العباقرة والعظماء والعلماء؛ بعدما استضاءت واستنارت بنور الإسلام. عندما يدخل على رستم، يسأله رستم: ما الذي جاء بكم؟ أنتم كنتم في الصحراء زمناً طويلاً، نبعث لكم بين الحين والآخر شيئاً من الأموال، والأقوات، والأطعمة، والأكسية فتسكتون إلى مثلها، فما الذي جاء بكم؟ فقال له: [[إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد]] إخاً هم أولاً: تحرروا من العبودية للعبيد، بكل ألوان العبودية، تتحرروا -مثلاً- من الحب للمال، الذي يجعل الإنسان عبداً لمن يملك المال، وتحرروا من الخوف من الموت الذي يجعل الإنسان يخشى الموت، فيسكت عن كلمة الحق، أو يجامل، أو يطأطئ رأسه، تحرروا من حب الدنيا بألوانها وصورها، ولما تحرروا من العبودية لغير الله عز وجل بكافة صورها، خرجوا إلى الآخرين ليخرجوهم، كما يقول ربعي: [[لنخرج من شاء الله من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] . إذاً هذه المبادئ التي يقاتل المسلمون من أجلها: أولاً: تحرير الإنسان في الأرض كلها من العبودية لغير الله عز وجل. ثانياً: إخراج الإنسان من ضيق الأفق إلى سعة الأفق، لإن الإنسان الكافر، وافترض أنك أمام عالم كبير في مجال من المجالات الدنيوية، أو فيلسوف شهير، أو عبقري خطير، ومع ذلك إذا كان غير مؤمن فهذا الإنسان تجد أن تفكيره لا يتجاوز حدود هذه الدنيا، لا يتجاوز حدود عقله المحدود، والعقل ما لم يستنر بنور الوحي فهو وبال على صاحبه، يجره إلى المهالك، ويصور له أنه يعرف كل شيء، ويقدر على كل شيء، ويحيط بكل شيء. فلذلك يخرج الإنسان من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فإن كل شيء سوى الإسلام هو ظلم وجور. أبو ذر الغفاري رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، اختصم يوماً من الأيام هو ورجل من الصحابة، لعله بلال أو غيره. رجل أسود حبشي، فقال له: يا ابن السوداء! يعيره أبو ذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم، جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، فمن جعل الله تعالى أخاه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا يحمله ما لا يطيق، فإن حملتموهم فأعينوهم} . إذاً حتى الذين كانوا عبيداً أرقاء حفظ الإسلام كرامتهم، فعاتب النبي صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل أبا ذر، الذي ما أقلت الغبراء، ولا أظلت الخضراء أصدق لهجة منه، ولا أنصح منه، ولا أزهد في الدنيا منه، قال له: {إنك امرؤ فيك جاهلية} فما وجد أبو ذر رضي الله عنه، سبيلاً لاستخراج الجاهلية من قلبه، إلا أن نام على الأرض وجعل خده على التراب، وقال: [[والله لا أقوم حتى تأتي فتطأ على خدي]] ليأتِ ابن السوداء ويطأ على خدي، حتى تخرج هذه الجاهلية من قلبي، هل ترى أبا ذر رضي الله عنه، أو أحداً من المؤمنين يعود لمثلها، وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر هذا من الجاهلية؟ لأنه لا فضل لأسود على أبيض ولا لأبيض على أسود ولا للون على لون، إنما {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . وهذا جبلة بن الأيهم ملك من ملوك العرب من ملوك غسان، أسلم وجاء يطوف بالكعبة، وهو لا يزال يحتفظ بذكريات الأبهة والفخفخة التي كان يعيش فيها في الماضي، فكان يطوف في الكعبة، والمسلمون سواسية كأسنان المشط، ليس بينهم فرق ولا تفاضل إلا بتقوى الله عز وجل، حتى أتقاهم فضله عند الله تعالى، أما عند الناس فقد يقدرونه ويجلونه، لكن يبقى أنه كغيره. فـ جبلة هذا كان يطوف بالبيت، فمر به أعرابي ووطأ على إزاره، فربما انحسر إزار هذا الرجل الملك الغساني، فأقبل على الأعرابي فضربه وهشم أنفه، ذهب الأعرابي ودماؤه تسيل إلى أمير المؤمنين الفاروق عمر، فقال له: من فعل بك هذا؟ قال: جبلة بن الأيهم، فدعاه عمر وقال: لماذا تفعل به هذا؟ قال له: إنه وطئ إزاري. قال: القصاص، تسامحه يا أعرابي؟ قال: لا أسامحه. قال جبلة: أنا ملك وهو سوقة، أي: هذا مسكين هذا إنسان من الطبقة الرابعة أو الخامسة، وأنا ملك فلا تقتص مني. قال: إن الإسلام قد سوى بينكما فانتظر جبلة، ويذكر في بعض الروايات أنه هرب وارتد عن الإسلام وذهب إلى بلاد الفرس أو الروم، ثم بعد ذلك كان يتأسف على ما مضى منه، ويتمنى لو صبر على القصاص والتزم بهذا الدين الذي دخل فيه يوماً من الأيام. فالمقصود أن الإنسان مكرم في الإسلام عملياً وليس نظرياً فقط، الإنسان كائن مكرم محترم مقدر لا تُمس كرامته بسوء، ليس من حق أحد أن يعتدي عليه، أو يسيء إليه بقول ولا بفعل ومن هذا المنطلق منطلق الحفظ، مثلاً: قضية القذف يأتي إنسان إلى آخر فيقذفه؛ فمن حقه أن يطالب القضاء الشرعي أن يقيم على القاذف الحد، ويجلد ثمانين جلدة مقابل كلمة خرجت من فمه تسيء إلى إنسان وهي بغير حق. وعلى مدار التاريخ قد وجد في المسلمين عصورٌ ضعف فيها تقديرهم لكرامة الإنسان وحق الإنسان، ووجد من يعتدي على الإنسان، على ماله، أو عرضه، على كرامته، أو حقه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على حقه في الدعوة إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك وجد من يدافع عن هذا الإنسان، ويطالب بإعطائه حقه الذي شرعه الله له عز وجل. مثلاً: شيخ الإسلام ابن تيمية، لعله من الرموز الكبيرة الذين كان لهم دور كبير اقرأ كلام ابن تيمية رحمة الله تعالى عليه في كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، اقرأ كتابه في المظالم المشتركة، وكذلك فتاويه وغيرها، كيف تجد أن شيخ الإسلام -رحمه الله- كان من أعظم الهموم التي تشغل باله مصالح الناس خاصتهم وعامتهم، وكان منتصباً لخدمتهم، والسهر على مصالحهم ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، بلسانه وقلمه كما قال عنه بعض واصفيه ومؤرخيه. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 14 أولاً: حفظ الدين الشرائع جاءت لحفظ الدين من أن يمس بسوء، أي حماية دين وإيمان الإنسان من كل أمر يمكن أن يعكر صفوه، أو يزيله ويفقد إياه بالكلية، ومن منطلق حفظ الدين، حفظ الإنسان عن الشهوات، التي يمكن أن تصد الإنسان عن سبيل الله، الشهوات التي تقابل الإنسان في البيت، أو في الشارع، أو المدرسة، أو البر، أو البحر، أو الشاشة، أو في أي موقع. فالدين جاء لحفظ الإنسان عن هذه الشهوات؛ بحيث يبقى الإنسان يمتلك أعصاباً هادئة، ويمتلك جواً يتيح له فرصة التدين، لأن أكثر الناس تديناً، لو سلطت عليه من وسائل الانحراف والتضليل الشيء الكثير، ربما يتأثر أو يضعف، وقد ينحرف. حفظ الدين من الشبهات: ومن حفظ الدين أيضاً: حفظ الإنسان من الشبهات، التي قد تضله أو تشكك في عقله، أو تصده عن سبيل الله عز وجل، وليس صحيحاً أن الناس كلهم يملكون عقولاً كبيرة يستطيعون أن يميزوا بها بين الحق والباطل، أكثر الناس من العامة- وإن كانوا يملكون شهادات أحياناً- لكن لا يملكون القدرة على التمييز، فليس صحيحاً أن أجعل الكتاب المنحرف -مثلاً- أو الشريط، أو الجريدة، أو أي وسيلة من الوسائل التي تنشر الشهوات والشبهات عند الناس وأقول: إن الناس يملكون التمييز. ولذلك دعهم يقرءون ما شاءوا، ويسمعون ما شاءوا، وأتح الفرصة للدعوات المختلفة، وكل إنسان يدعو إلى مذهبه، كما نجد في بعض الدول الإسلامية -مثلاً- تجد أنهم قد يتيحون فرصة حتى للدعوات الشيوعية رسمياً أن تثبت وجودها، وأن تدعو إلى مبدئها، ويقولون: على الناس أن يختاروا ما شاءوا. الناس أكثرهم لا يستطيعون أن يميزوا الحق من الباطل؛ إلا عن طريق أناس ناصحين صادقين يوجهونهم إلى الطريق المستقيم، والدين جاء لحماية عقول الناس من هذه الشهوات والشبهات التي تصدهم عن سبيل الله عز وجل. ومن حفظ الدين -أيضاً- حفظ الدين عن الفتن، الفتنة التي تصد الإنسان عن دينه، كما قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39] ما هي الفتنة؟ إن الفتنة هي أن يكون على الإنسان ضغط يمنعه من التدين، يضغط عليه بالتضييق، أو بالإكراه، أو المحاصرة، أو السجن والتعذيب، أو بالقتل، حتى يضطر الإنسان إلى أن يتخلى عن دينه، فجاء الدين وشرع الله عز وجل الجهاد في سبيله لرفع الفتنة عن الناس، (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) أي: لا يفتن الناس عن دينهم، ولا يواجه المسلمون في بلاد العالم من الاضطهاد والتضييق ما يجعل الواحد منهم يستخفي بإيمانه، ويستتر بدينه، وقد يخرج من دينه بسبب هذا الضغط والتضييق الذي يواجهه. الأمر ممارسة شعائر الدين:- ومن حفظ الدين أيضاً: الأمر والتوجيه بممارسة جميع شعائر الدين، فالدين جاء لينظم حياة الإنسان، من يوم يولد ويسجل له اسم، فالدين يشارك في اختيار الاسم، ولهذا جاء في الإسلام كيفية اختيار الاسم، والأسماء الفاضلة، والأسماء المفضولة، والأسماء المكروهة، والأسماء المحرمة، وإلى أن ينتهي الإنسان ويدفن في قبره، طريقة دفن الإنسان في قبره -أيضاً- جاء الدين بتنظيمها، وكيف يدفن، وما هي الطريقة المشروعة، والطريقة الممنوعة، والسنة والبدعة في هذا الأمر؟ إذاً من الميلاد إلى القبر؛ كل ذلك جاء الدين بتنظيمه على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، فمن حفظ دين الإنسان: تمكينه من أن يمارس تطبيق شعائر دينه بكل تشجيع ودعم له أن يعبد الله، كيف يعبد الله؟ -مع الأسف- أن كثيراً من المسلمين تحول معنى العبادة في نفوسهم إلى معنى العبادة عند الديانات الأخرى، النصرانية -مثلاً- يعبدون الله يوم الأحد، وبقية أيام الأسبوع يعبدون البنك، واليهودية يعبدون الله -بزعمهم- يوم السبت، وبقية أيام الأسبوع يعبدون العجل أو يعبدون الدنيا والذهب. وقد قال أحد الصحفيين الغربيين: إن الإنجليز يعبدون الله يوم الأحد، ويعبدون بنك إنجلترا في بقية أيام الأسبوع، وهم في الواقع لا يعبدون الله لا في يوم الأحد ولا في غيره لكن هم يزعمون ذلك. أما الإسلام فقد جعل العبودية أمراً موجوداً عند الإنسان في كل أحواله قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162-163] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالإنسان يتقلب في عبادة الله عز وجل في كل أحواله وتقلباته، وظروفه، وكل حالة من الحالات التي يمر بها الإنسان لها عبادة تناسبها. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:- ومن كرامة الإنسان: ومن حقوق الإنسان التي يجب أن تصان أن يمكَّن من تحقيق هذه العبودية كما يريد الله عز وجل، خذ على سبيل المثال: الدعوة إلى الله جزء من العبادة، وليس صحيحاً أن المسلم مطلوب منه أن يؤدي الفروض الخمسة في البيت أو في المسجد، ثم يدع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! يدع أمر الناس للناس، ويترك الناس يضل منهم من ضل ويهتدي من اهتدى! ليس صحيحاً هذا أبداً، بل إن الإسلام جعل من أعظم الواجبات على المسلم أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى، فكل أمر يحول بين الإنسان وبين تطبيق الدعوة، والقيام بالدعوة، ومخاطبة الناس بالدعوة؛ هو يعتبر تعطيلاً لحقوق الإنسان، واعتداءً على كرامة ابن آدم التي خصه الله تعالى بها وميزه بها. الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الغرب يقولون: حرية إبداء الرأي، وهم يتغنون بحرية إبداء الرأي، أو حرية الكلمة التي تضمن للإنسان أن يعبر عن رأيه بأي وسيلة، بكتاب أو بجلسة، أو حديث أو شريط أو غيرها، فهذا هو عند الغربيين. أما في الإسلام فحرية الكلمة يقوم مقامها في الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا حق، لا أقول حق لك، بل هو حق عليك وهو حق لك في نفس الوقت، فهو واجب عليك، ولذلك الله عز وجل إنما ميزنا بهذا فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] . فلا أقول: حرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو حق على كل إنسان، وهو حق له أيضاً على مجتمعه وأمته ومن حوله؛ أن تكون كل الوسائل، وكل الظروف، وكل الاحتياطات متاحة، ليس للحيلولة بين الإنسان وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنع الإنسان من ذلك، واعتبار أن هذا تعدٍ على حرية الآخرين، وعلى حقوق الآخرين، وعلى صلاحيات الناس، ومضايقة لهم، وإنما تقول له: إن من واجبك أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لأنك إذا سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فشأنك كشأن أصحاب السفينة، الذين يرون واحداً منهم يخرق في السفينة بيده أو بمسحاته أو بآلته، ثم يتركونه ويقولون: هذه حريته، مع أن هذا الخرق -إن حصل فعلاً- معناه أن الماء أغرق السفينة ومن فيها. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ من أهم الحقوق التي أناطها الله تعالى بالفرد والمجتمع والأمة، وجعلها حقاً عليهم، وفي نفس الوقت ضمن للفرد أنه يملك هذا الحق، ولهذا كانوا يقولونها لكبار الصحابة رضي الله عنهم، دون أن يجدوا في هذا حرجاً أو غضاضة، كان الواحد منهم يقف أمام أمير المؤمنين الذي تدين له الأمة المسلمة في شرقها وغربها، فيأمره بالمعروف الذي يظنه، وينهاه عن المنكر الذي يظنه، وليست القضية حتماً أن هذا معروف فعلاً أو منكر، لكن هذا الذي ظهر له. وكم من مرة وقف فيها عمر رضي الله عنه على المنبر، يقول: [[يا أيها الإنسان! اسمعوا وأطيعوا، فيقوم له رجل ويقول: لا سمع ولا طاعة. فيقول: ولم يرحمك الله؟ قال: لأنك أعطيتنا ثوباً ثوباً، وأخذت أنت ثوبين، فقال عمر: أين عبد الله بن عمر؟ قال: هأنذا، قال: أخبرهم. قال: لا والله ما أخذ أبي إلا ثوباً واحداً، لكنني أعطيته الثوب الآخر -لأن عمر كان رجلاً بديناً جسيماً لا يكفيه ثوب واحد- قال: الآن نسمع ونطيع]] . وفي مرة أخرى يقف عمر ويقول: [[أيها الناس! أرأيتم لو قلت برأسي إلى الدنيا هكذا ماذا كنتم تصنعون؟ فقام إليه رجل وقال: كنا نقول لك بسيوفنا هكذا. فقال: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من لو مال عمر لَقَوَّمه بسيفه]] ليس هذا بغريب؛ لأن عمر، وأبا بكر، وعثمان، وعلي، وأصل نظام الإسلام ما جعل هذا التنظير للمجتمع، وما منح الحاكم هذه الحقوق وجعل الرعية تتبعه وتسمع له وتطيع؛ إلا لأنه قيم عنها في حفظ حقوقها. ولذلك انظر الخطبة التي ابتدأ بها أبو بكر رضي الله عنه خلافته: [[أيها الناس! القوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- والضعيف فيكم قوي حتى آخذ الحق له إن شاء الله]] وفعلاً طبق رضي الله عنه وأرضاه هذا المبدأ. إذاً قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الكبير والصغير، وعلى جميع الطبقات، وفي جميع الظروف والأحوال، هي من الحقوق المنوطة بالفرد، التي لا يسع مسلماً يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر، ويخاف الله تعالى ويرجوه أن يقصر فيها، ولا يسع أحداً -كائناً من كان- أن يحول بين الإنسان وبين ممارسة هذا الحق أو الواجب الذي كلفه الله تعالى به. الشرائع جاءت لحفظ الدين، وهذه هي الضرورة الأولى، لأنه لا قيمة للإنسان بلا دين، وكما يقول محمد إقبال رحمه الله: إذا الإيمان ضاع فلا أمان ولا دنيا لمن لم يحي دينا ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا فالبهيمة خير من الإنسان بلا دين، ولذلك جاءت الشرائع لحفظ الدين. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 15 إهدار حقوق الإنسان هدم للأمم إهدار حقوق الإنسان هدم للأمم:- أيها الإخوة: إن إهدار حقوق الإنسان في أي أمة وفي أي مجتمع؛ هو هدم للأمة وعزل لها عن مهمتها التي خلقت لها، وفي كثير من البلاد يعيش المسلم وضعاً لا يتناسب مع إنسانيته، فضلاً عن دينه وعن إيمانه، يطارد في طعامه وشرابه وعرضه وأمنه، ولا يأمن على نفسه، وذلك كله يتم أحياناً تحت شعارات براقة طالما سمعناها في الشرق والغرب، شعارات الحرية والأمن والعدالة، والديمقراطية وغيرها. على حين أن دين الإسلام جاء بأفضل النظم وأعظم التشريعات، التي تحفظ حقوق الإنسان في الصغير والكبير، حتى أن الله عز وجل قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6] وحتى إن الإسلام لا يجيز الإكراه بحال من الأحوال، فكل تصرفات المكره تعتبر باطلة، كما قال الله عز وجل: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106] فكل تصرفات المكره تعتبر باطلة لاغية لا قيمة لها ولا اعتبار، وذلك لأن القسر والعسر والإكراه والإلزام لا يغير قناعة الإنسان، ولا يغير الشيء المستقر الموجود في عقله، وإنما يجعل الإنسان مزدوجاً، له شيء ظاهر رسمي معلن، وله شيء باطن خفي مستتر، فهو -ظاهراً- يوافق هذا الذي يكرهه، شخصاً كان أو مجتمعاً أو وضعاً من الأوضاع، وفي الباطن لا يمكن أن تتغير قناعته ووجهات نظره الموجودة فيه. وفي النهاية إذا وجد مثل هذا الوضع الذي يكره الإنسان ويقسره على ما لا يريد، وما لا يعتقد، وما لا يؤمن به، فإما أن يسقط الإنسان وينتهي؛ لأنه إنسان مزدوج يعيش بشخصيتين، شخصية ظاهرة، وشخصية مستترة، شخصية معلنة، وشخصية خفية، فيفقد قيمته ومكانته وإنسانيته. وماذا تتصور في الأمة إذا فقد الإنسان فيها قيمته؟ هذا الإنسان الذي فقد قيمته لن ينفع في أمر ديني، ولا في أمر دنيوي، ولن يدفع عدواً، ولن يجاهد، ولن يقاتل ولن يأخذ بحق، ولن يكون هذا الإنسان الذي فقد إنسانيته إلا كَلاّ على مولاه، أينما توجهه لا يأتي بخير. إذاً لا تتصور أنك سوف تهدر كرامة الإنسان وإنسانيته، ثم تحتاجه في يوم من الأيام فتقول له: الآن حتى إنني قرأت في بعض الكتب أن هناك كثيراً من الأرقاء -ولاحظ العجب العجاب- في بعض الدول أرقاء كثيرون اعتقوا جملة واحدة، فهؤلاء الأرقاء الذين اعتقوا ماذا كان شأنهم؟ هل ترى أن هذا الإنسان فرح بالعتق وتطلع إلى نسيم الحرية، وطلع يستمتع بحريته، رجعوا إلى الذين حرروهم وقالوا: جزاكم الله خيراً، إن قبلتمونا عبيداً نكون تحت تصرفكم وتسلطكم فنحن نكون لكم من الشاكرين؛ لأنهم ما تعودوا إلا على جو العبودية والذل، والأمر والنهي، كالطفل الذي تعود عند والده أن يأمره وينهاه، خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف در يميناً در شمالاً، هذا الطفل تعوَّد أن أباه يعطيه أوامر في كل حركة، لا يسمح الوالد لولده أن يتصرف أي تصرف إلا بعدما يأمره بذلك! لذلك تعطلت عقلية الطفل ومواهبه وأصبح ينتظر، وربما لو تصرف أي تصرف -مهما كان تافهاً- يصاب بهلع وفزع ورعب، لماذا؟ لأنه يمكن أن يكون التصرف خطأ فيغضب عليه والده وقد يعاقبه على هذا التصرف. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 16 نظرة عامة إلى حقوق الإنسان في الغرب إخوتي الأكارم، أختصر ما بقي من الموضوع لعله أن يكون هناك وقت لبعض الأسئلة، فأقول: الأمر الذي ذكرته لعله هو السبب فيما نشاهده في العالم الشرقي، والمعسكر الشرقي، حيث عاشوا طويلاً يحكمون الناس بالحديد والنار، والقوة والتسلط، صادروا أموال الناس -مثلاً- باسم التأميم، ومنع الملكية الفردية، صادروا عقول الناس وحرياتهم باسم نظام الحزب الواحد، وفرض الشيوعية، صادروا كل شيء، وفي النهاية سقط هذا المعسكر وصارت دوله تتساقط كأنها حبات أرز أو خرز انقطع نظامها فواحدة على إثر الأخرى، لأنهم على رغم حكمهم عشرات السنين ما استطاعوا أن يغيروا قناعة الإنسان أبداً، ولا أن يغيروا طبيعة الإنسان وفطرته الذي فطره الله تعالى عليها. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 17 حقوق العمال عاشوا ألواناً من التغيير لحقوق الإنسان والإغارة عليها، منها ما عاشوه سابقاً فيما يسمونه بالإقطاع، ووجود رب الأرض الذي يملك الأرض وما فيها من الأقنان والعبيد وهم يباعون مع الأرض بكميات كبيرة، على اعتقاد أن أصل هؤلاء خلقوا عبيداً لا حيلة فيهم، ولا يمكن تغيير ما خلقوا عليه، ووجدوا أيضاً إيذاناً آخر للإنسان من خلال ما يسمونه رب العمل، فكان رب العمل يملك أعداداً كبيرة من العمال، والذي يهمه هو زيادة الإنتاج، وجودة الإنتاج، ولو على حساب صحة العامل، ولو على حساب كرامته وعافيته، بل ولو على حساب حياته أحياناً، دون أن يكون للعامل أي ضمانات أو حقوق. أما نظرة الإسلام للعامل -كما أشرت قبل قليل- حتى العبد الرقيق الذي يعمل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إخوانكم جعلهم الله تعالى تحت أيديكم، تطعمه مما تطعم، وتلبسه مما تلبس، ولا تكلفه ما لا يطيق} لكن مع ذلك إن كثيراً من المسلمين اليوم أخلوا بهذه الحقوق، فأصبحنا نجد كثيراً من العمال في بلاد المسلمين يعيشون ألواناً من إهدار الإنسانية، تجد بعض العمال كأنهم مجموعة حيوانات في زريبة، بل يسكنون أحياناً في صنادق وغرف وأماكن، ربما لو كان عند الإنسان حيوانات ما رضي أن تسكن فيها، معرضة للبرد وللمطر، ومعرضة لكل شيء، وبصورة لا تليق بكرامة الإنسان وآدميته. هذا فضلاً عن منعهم رواتبهم أحياناً، فضلاً عن الإساءة إليهم بالقول أو بالفعل، أو طردهم، أو بخس حقوقهم، أو ظلمهم بأي شكل من الأشكال، والباب واسع جداً لمن أراد أن يتلاعب أو يعبث، فمهما كان هناك من الأنظمة، ومهما كان هناك من المتابعات والملاحقات، إلا أن من أراد أن يعبث ويسيء ويأخذ حق هذا العامل؛ فإنه يستطيع بوسائل كثيرة يمليها عليه الشيطان، وتمليها عليه نفسه الأمارة بالسوء. وهذا -أيها الإخوة- من الظلم الفادح الذي قد يكون سبباً في الهلاك، وسبباً في تعذيب الله عز وجل للأمم، فيجب أن ينتهي هذا الظلم، وأن تعرف أن هذا العامل الذي يكون تحت تصرفك هو أخوك المسلم، بل أقول: حتى لو كان العامل غير مسلم فالظلم لا يجوز، حتى الكافر لا يجوز ظلمه، إن كان كافراً ينبغي أن تستبدل به مسلماً، لكن حتى الكافر لا يجوز أن تظلمه، قال الله كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} . كما عاشت الأمم الغربية من التسلط؛ أن هؤلاء العمال المضطهدين في الدول الغربية والشرقية، لما تحركوا وقاموا بما يسمى بالبروليتاريا، أو ما يسمى بثورة الشيوعية في روسيا، باسم العمال حكم القياصرة الجدد الشيوعيون، بدلاً من كون الإنسان كان إنساناً مسلوب الحقوق، أهدروه وسلبوا إنسانيته وألغوها منه، باسم العدل والاشتراكية العلمية، وإلغاء الملكية الفردية وغير ذلك. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 18 حكم الكنيسة "الثيوقراطية" كما أن من التسلط الذي عاشه الغربيون والشرقيون أيضاً: تسلط ما يسمونه بالحكم الديني أو الحكم الثيوقراطي، أو حكم الكنيسة، فكان ما يسمونهم برجال الدين النصراني، يحكمون الناس باسم الإله، ويزعمون أن الحاكم منهم هو ظل الله في الأرض، ولذلك فالذي يعترض عليه إنما يعترض على الله عز وجل، وعلى قضاء الله تعالى وقدره، فكانوا يسومون الناس سوء العذاب، فضلاً عن أنه بلغ الحال بهم إلى أنهم كانوا يمنحون الناس صكوك الغفران في الجنة، وإقطاعات في الجنة، وآخرون قد يمنحون إلى النار، أي تصرفوا في الدنيا، ولما انتهت الأراضي، والأموال، والمزارع رجعوا يستدينون إلى الدار الآخرة، وعبثوا بالدين. أما الإسلام فليس فيه شيء اسمه رجال دين، أو حكم ثيوقراطي، المسلمون يحكمون بكتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الكبير والصغير في ذلك سواء، والحكم لله عز وجل ليس من حق أحد أن يشرع أو ينظم أو يسن قانوناً شرعياً في أمر ديني؛ لأن الله جعل هذا في كتابه وفي سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، والعالم إنما مهمته أن يبلغ الناس شريعة الله تعالى، وتخصص أن يشرح للناس ما لا يعرفون، ولهذا حتى التقليد للعالم ليس فرضاً، قد تكون طالب علم فتستقل بمعرفة النصوص بنفسك، والعامي ليس مطالب أن يقلد فرداً بعينه، أو إماماً بعينه، بل يقلد من يثق بدينه، وعلمه في أمور الدين، ويسأله أيضاً عن الدليل إن استطاع أن يفهم الدليل. إذاً الإسلام عمل على تحريك عقول الناس، وجعل كل إنسان مشارك، وما ذلك إلا لإثارة إنسانية الإنسان، والحفاظ على كرامته، وألا يتحول الناس إلى أرقام بلا رصيد، أصفار على الشمال، مجرد أتباع موافقين يقالُ لهم فيؤمِّنون، ويملي عليهم فيوافقون. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 19 التمييز العنصري ومما عاشه الغرب ما يسمى بالتمييز العنصري كاليهود -كما ذكرت لكم- والأمريكان -أيضاً- يعتقدون أن الشعب الأمريكي هو الشعب الذي اختاره الله لتحضير العالم، ومن هذا المنطلق ينظرون إلى الناس كالنمل أو الذر الصغير أمام هؤلاء العمالقة الكبار، في نظرهم وفي تصورهم، وتصور الغرب بشكل عام. قضية التمييز العنصري بين الأبيض والأسود، ولذلك تجدون أن أكثر الذين يسلمون في الغرب هم من السود، لأنهم يواجهون اضطهاداً كبيراً، وقد رأيتهم وسمعنا من أخبارهم الشيء الكثير، أقول: بالملايين في أكثر دول العالم تقدماً ينامون على الأرصفة، لا يجدون بيتاً يأوون إليه، ويأكلون طعامهم من القمامة، تجد شيخاً كبير السن منحني الظهر يبحث في القمامة لعله يجد قشرة موز أو كسرة تفاح يأكلها ويسد بها رمقه. وإلى وقت قريب كانوا يكتبون على مطاعمهم: ممنوع دخول السود والكلاب، فهم ينظرون هذه النظرة العنصرية التي هي نظرة منحرفة -أصلاً- تُنِمُّ عن مدى ما في عقولهم من الانحلال، لأننا نجد أن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . حتى أن من العجيب أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ بلال العبد الأسود الحبشي، كما في صحيح البخاري: {يا بلال أخبرني بأرجى عمل عملته في الإسلام، فإني سمعت دف نعليك أمامي في الجنة بلال العبد الأسود الحبشي يدخل أمام النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، قال: والله يا رسول الله! لا شيء، إلا أنني ما توضأت وضوءاً في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الوضوء ما شاء الله تعالى} سنة الوضوء كلما توضأ صلى ركعتين أو ما شاء الله تعالى، فكان هذا سبباً في تقدمه إلى باب الجنة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء فإن يكن لهم من أصلهم نسب يفاخرون به فالطين والماء كلنا نشترك في هذا النسب. إذاً الإنسان في الإسلام له كرامة، وله حقوق يجب أن يعلمها، وأن يطلبها ويحفظها، وعليه واجبات يجب أن يعلمها وأن يؤديها. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 20 التمايز الطبقي الدول البعيدة عن هدي الإسلام، عاشت ألواناً من الاضطهاد عبر التاريخ بسبب نظرتها إلى الإنسان، وأن الإنسان متفاوت في أصل الخلقة، فعند الأمم الأخرى أن الناس ما خلقوا خلقه واحدة، إنما الناس عندهم على نوعين: هناك أشراف كبار عظماء خلقوا خلقة معينة، وأناس خلقوا عبيداً أذلاء وهذه النظرة موجودة عند اليهود مثلاً، كما يعبرون عن ذلك بنظرية شعب الله المختار، فاليهود يرون أنهم هم شعب الله المختار ويقولون كما يملي عليهم تلمودهم وكتبهم التي يزعمون أنها مقدسة: إن الأمميين -ويقصدون الأمم الأخرى من غير اليهود- ما هم إلا حمير خلقوا ليركبهم شعب الله المختار، وكلما نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، وهذا النظرية هي التي تحكم دولة إسرائيل الآن. وفي بعض البلاد كانوا يعتقدون أن عندهم طبقة الأشراف والسادة يجري في عروقهم دم أزرق مقدس، ولذلك لا ينالهم سوء، ولا تقام عليهم حدود، ولا يؤخذ منهم حق، ولا ينال منهم شيء، بل لا يملك أحد أن يجلس مع واحد منهم، حتى إنه في بعض تشريعات بعض الهنود وغيرهم؛ أنه لو جلس واحد منهم مع البرهمي فإنه يكوى، لماذا يجلس مع هذا الإنسان الذي له شرفه وله مكانته؟ وكذلك النظرية الغربية قامت على هذا المبدأ نفسه، حتى إن نظرية أفلاطون، أو جمهورية أفلاطون - كما يقولون- مبنية على أساس أن الناس ليست خلقتهم واحدة، بل خلقوا متفاوتين، خلقوا سادةً وعبيداً. والحضارة الغربية اليوم أخذت من التراث الروماني واليوناني التي تميز بعض الناس عن بعض، ولذلك نظرتهم للمسلم اليوم متميزة، قد تقول: أين هذه النظرة؟ أولاً: النظرة عندهم للسود معروفة، لكن نظرتهم للمسلم بالدرجة الأولى متميزة جداً، يعتبرون من يسمونه بالمسلم، أو المتخلف، أو الفرد من العالم الثالث، أو الفقير، أو ما أشبه ذلك له نظره معينة، دمه رخيص مثل ماء البحر، يموت منهم عشرة، أو مائة، أو ألف، عشرة آلاف لا يهمهم ذلك، لك لو أُخذ غربي أو أمريكي رهينة أو رهينتين تقوم الدنيا كلها ولا تقعد من أجل هؤلاء. بل حتى جنس النصراني يغالون فيه، ولذلك تشاهدون غضب الغرب على الشرق -روسيا- في تصرفها بقتل أربعة أو خمسة في جمهوريات البلطيق، يقتل من المسلمين ألوف فما يتحرك أحد، كما قيل: بالأمس مات لوممبا فانبرت رسل تبكي وتحكي ودمع العين هتان واليوم لا شاعر يحكي ولا صحف تبكي ولا مرسلات عندها شان حتى إن بعضهم ذكروا نكتة طريفة عن بعض الذين كانوا يستعمرون الدول الأفريقية التي كان فيها المسلمون، فهم يعتبرون أنفسهم في جميع الظروف أناساً متنورين، ومتمدنين ومتحضرين، والمسلم يعتبرونه متخلفاً مهما كان وضعه، فهم كانوا يقتلون المسلمين بأسلحتهم فأراد أحدهم أن يقتل مسلماً من المسلمين، فتمكن هذا المسلم أن يعضه، فعضه قبل أن يقتله، فيروي القصة لأحد زملائه، يقول: تصور كم هو متوحش هذا المسلم! إنه عضني حين أردت قتله، أي: أن عضة المسلم هذه وحشية، لكن قتله هو شيء حسن، لأنه نابع من الحضارة والتقدم والمدنية، هكذا يصورون، وهذا هو المنطق الذي يحكمهم، إن لم يحكمهم كأفراد؛ فإنه يحكم دولهم وأممهم بشكل ظاهر للعيان. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 21 الأسئلة الجزء: 73 ¦ الصفحة: 22 التوبة من المعاصي السؤال أنا امرأة مسلمة أخاف الله كثيراً؛ لكني عصبية إلى أبعد الحدود، وعندما أغضب لا أدري عن نفسي ماذا أقول؟ وأتفوه بكلمات أعرف أنها حرام، ولكني بعدما أهدأ أحاسب نفسي وأستغفر الله كثيراً، وأكفر عن ذلك بالصلاة والصوم، لكنني لا أعرف أن الله تعالى يغفر لي ويقبل استغفاري أم لا؟ الجواب ينبغي أن تعملي على ضبط نفسك بقدر المستطاع، والرسول عليه الصلاة والسلام {جاءه رجل فقال له: يا رسول الله! أوصني؟ قال له: لا تغضب فردد مراراً قال: لا تغضب} وبين في بعض الأحاديث طرق علاج الغضب: {إن كان قائماً قعد، وإن كان قاعداً اضطجع، ويذهب ليتوضأ؛ فإن الغضب جمرة تغلي في قلب ابن آدم ويطفئها الوضوء} فيتوضأ الإنسان. ومن أعظم الوسائل: أن العبد إذا رأى شيئاً يثيره ويسبب الغضب يبتعد عنه، يتركه أصلاً، أي أن أحسن حل هو أن تتجنب الشيء الذي يثير غضبك بقدر المستطاع، وإذا رأيت أن مبادئ الغضب وجدت، فانسحب حتى لو تركت بعض الأشياء التي هي حق لك. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم دمر أعداء الدين، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه. اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم، يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث! ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، ولا تفضحنا بعيوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، اللهم اكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم ارفع راية الجهاد في سبيلك، اللهم أقم علم الجهاد، اللهم اقمع أهل الزيغ والفساد، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نعترف إليك بضعفنا وعجزنا وظلمنا يا حي يا قيوم! فتقبل منا دعاءنا. اللهم جاهد عنا من لا نقوى على جهاده، اللهم إنهم إن أعجزونا لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، لا إله إلا أنت ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا، واستجب لنا يا حي يا قيوم! اللهم إنك أمرت بالدعاء، ووعدت بالإجابة، وأنت لا تخلف الميعاد. اللهم يا رب هذا الدعاء فإنا ننتظر منك الإجابة، اللهم أجب دعاءنا، اللهم لا تخيب رجاءنا، اللهم أحينا حياة السعداء، وأمتنا ميتة الشهداء، اللهم أصلحنا أجمعين وذرارينا يا حي يا قيوم! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 23 العقل العربي والعقل الغربي السؤال قلتم في إحدى محاضراتكم: إن عقل المسلم العربي يفوق عقل الرجل الغربي، مع أننا نرى الواقع يخالف ذلك ظاهراً، فنرى التطور الحضاري عندهم بخلاف بلاد المسلمين، أرجو التوضيح فقد اختلط علي الأمر؟ الجواب التطور ليس مرهوناً فقط بقضية العقل، التطور مرهون بمجموعة معطيات إذا توفرت لأمة حصل لها التطور المادي، والتقدم التقني العلمي، والحقيقة لا أستطيع أن أقول: إن عقلية المسلم العربي على طول الطريق أحسن من عقلية الرجل الغربي، أو أن هناك شعباًً أكثر تقدماً عقلياً من شعب، لكن هناك مؤثرات تجعل هذا الكلام له ما يصدقه، مثلاً: طبيعة التفكير. فمثلاً المسلم العربي أو المسلم بشكل عام؛ تجد أن تفكيره منصباً في الأشياء العملية المثمرة، بخلاف كثير من الغربيين فإن تفكيرهم يضيع في أشياء نظرية وفلسفات وأمور جدلية وخيالية لا تعود عليهم بثمرة إلا ضياع الوقت، ولذلك تجد إغراقهم في النزعة الفلسفية منذ عهود اليونان والرومان. أمر آخر يا أخي: لماذا تجعل فترة معينة أو زمناًَ معيناً هو المقياس؟ إذا كان ولا بد؛ فلا بأس أن تقارن واقع الأمة المسلمة بواقع الغربيين منذ زمن طويل، منذ وجدت الأمة المسلمة إلى اليوم، ستجد أن المسلمين ظلوا أعزه كرماء أقوياء ما يزيد على ألف سنة، والغرب خلال هذه المدة كلها كانوا يعيشون فيما يسمونه بالعصور الوسطى، عصور التخلف، والضلال والجهل والجاهلية. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 24 حكم مشاهدة الحرب في التلفاز السؤال سؤال عن مشاهدة الأحداث الحربية عبر الشاشة؟ الجواب أقول: إن مما يؤسف له أن كثيراً من الناس ممن سلم الله تعالى بيوتهم من هذا الوباء المدمر، أدخلوه إلى بيوتهم بمناسبة الأحداث وهذا خطأ، لأن الأصل أن المؤمن في مثل هذه الأحداث يتوب إلى الله تعالى مما عنده من الذنوب والمعاصي ويقلع عنها، ويطهر بيته من وسائل التخريب والهدم والفساد، ولا يجرها إلى بيته، والإنسان إذا جرها إلى نفسه فهذا لا يستطيع أن يتخلص منها في أي وقت من الأوقات، ولا أن يتحكم فيها، فعلى الأب أن يتقي الله عز وجل، وكل شيء له بديل، يستطيع أن يستفيد ويحصل على ما يريد دون حاجة إليه. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 25 الموافقة على من يريد الزواج السؤال تقدم لبنتي رجل وعنده مبادئ الالتزام بالدين هل أوافق أم لا؟ الجواب ما دام أنه رجل متدين، وأخلاقه طيبة فقد جاء في الحديث: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه} لكن لا توافق إلا إذا وافقت البنت؛ لأن هذا من حق الفتاة، وما دمنا نتكلم في حقوق الإنسان، فالمرأة لها حقوق كبيرة، الفتاة تملك بضعها على الأقل، ليس من حقك أن توافق بنفسك أو ترفض، إذا أعجبك الرجل تعرض على الفتاة أنه تقدم رجل شأنه وصفته كذا، ووظيفته كذا، ودينه -إن شاء الله- صالح على حسب ما تعلم، وأخلاقه طيبة، ثم تنصحها بما تريد، لكن ليس من حقك أن تفرض عليها شيئاً. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 26 الموقف الصحيح من أحداث الحرب السؤال ما هو الموقف الذي يجب أن يقفه الشاب في مثل هذه الأحداث، والذي تبرأ به ذمته أمام الله عز وجل؟ الجواب أولاً: لا بد من الصبر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] . ثانياً: لا بد من الاجتهاد وبذل الوسع فيما يطيقه الإنسان من الأسباب، سواءً الأسباب الشرعية أم الأسباب المادية، ولعل من ذلك: الدعاء، والإقبال على الله تعالى بالدعاء الدائم، والصدق في الدعاء، واللهج إلى الله تعالى بالدعوات الجوامع، تدعو بجوامع الدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو، سواء في القنوت أم في غيره، وفي سرك وفي جهرك وعلانيتك، وترغب إلى الله تعالى بإهلاك أعداء الإسلام أين كانوا وأياً كانوا، ظهروا أم استتروا، قربوا أم بعدوا. ومن الأشياء المطلوبة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من الأشياء المطلوبة: رفع الظلم عن المظلومين، فهذه من أسباب رفع البلاء، ومن الأسباب أيضاً: إعانة الفقراء والضعفاء في كل حي؛ أن نتواصى بهم، كل جماعة مسجد يعرفون من حولهم من الفقراء والمحتاجين والأرامل والأيتام، ويساعدونهم بكل ما يستطيعون، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {أبغوني ضعفاءكم، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم بدعائهم واستغفارهم} ومن أحسنتم إليه تقولون له: ادعُ للمسلمين، بالنصر والتمكين، وأن يكفيهم الله شر عدوهم، وأن يحفظ لهم بلادهم، وأمنهم، ودينهم، وكرامتهم، وأن يذل أعداءهم، وأن ينزل على أعدائهم بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين، وأن يهلك الظالمين بالظالمين، يخرج المسلمين من بينهم سالمين، وما أشبه ذلك من الأدعية. كذلك من المطلوب من الناس: التوكل على الله عز وجل، ومراجعة إيمانهم الصحيح في هذا الأمر، وكذلك الإيمان بالقضاء والقدر. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 27 السفر إلى أرض الرباط "أفغانستان" السؤال ما رأيكم في الذهاب إلى أفغانستان للإعداد والجهاد، وبعد موافقة الوالدين؟ الجواب نعم هذا أمر طيب، والذهاب إلى أفغانستان أو إلى أي مكان يتاح للإنسان فيه فرصة تدريب جيد ناجح، يحيي في الإنسان عوامل الرجولة والإنسانية والكرامة، ويدربه على الأشياء التي أصبحت ضرورة لكل إنسان فهذا أمر طيب وينبغي على الإنسان أن يسعى إلى تحصيله. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 28 الخروج من البلد التي فيها حرب خوفا ً السؤال هناك من خرجوا من بعض المناطق المخوفة، ما رأيك في ذلك؟ الجواب إذا لم يكن لبقائهم هناك من أثر أو دور، فلا حرج في خروجهم لأن هذا ليس فراراً من الزحف، هم ليسوا أمام زحف يواجهونه، الزحف شيءٌ آخر، هؤلاء أناس مقيمون في بلد فخرجوا إلى بلد آخر أكثر أمناً، لا حرج عليهم في ذلك. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 29 سؤال عن حديث السؤال ما هو فقه حديث: {إن الله ينصر هذا الدين بالرجل الفاجر} ؟ الجواب هذا الحديث له قصة: رجل كان مع النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح، والحديث في البخاري ومسلم، من رواية سهل بن سعد وغيره {أنه كان مع النبي صلى الله عليه سلم في غزوة خيبر، فكان رجل يضرب يمنة ويسرة، شجاع لا يدع للمشركين شاذة ولا فاذه إلا أقبل عليها يضربها بسيفه، فأخبر الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو في النار، فكاد بعض المسلمين أن يرتاب، فقال رجل: أنا صاحبه أبداً، لحق به ينظر ماذا يكون، فأصاب هذا الرجل جرح، فاتكأ على ذباب سيفه، ووضعه في صدره واتكأ عليه حتى خرج من ظهره ومات، فجاء الرجل وقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار أصابه كذا وكذا، قال النبي صلى الله عليه سلم: يا فلان ناد في الناس إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر} . الجزء: 73 ¦ الصفحة: 30 أخذ الحق بالقوة السؤال إذا كانت هذه هي قيمة الإنسان وعظمة حقوقه، فهل من الشرع أن المسلم إذا رأى شيئاً من حقوقه نقص يأخذه بالقوة؟ مثال: مكان لبيع الدخان وسط الحارة، ولم يتم منع ذلك، فهل من حق جماعة المسجد في تلك الحارة أن يتخذوا قراراً في منع هذا المنكر؟ الجواب هذا الأمر لو أذنا بأن يأخذوا حقهم بالقوة منه، من شأنه أن يفتح باباً لضرر كبير، ويدعو إلى ارتكاب مخالفات كثيرة، وقد يكون سبباً لفتنة في المجتمع لا تنتهي، لأن الناس إذا فتح لهم باب -كما هو معروف- قد يندفعون في هذا أكثر مما هو مطلوب، لكن هناك حل أفضل من هذا؛ تستطيعون أن تأخذوا حقكم منه باللين وهو المناصحة، فإذا لم تجد هذه المناصحة؛ فأنتم يا من هممتم بهذا العمل عليكم أن تقاطعوا هذا المحل، وما رأيك في دكان في حارة من الحارات -مثلاً- إذا قاطعه أهل الحي فلا يشترون منه، واتفقوا وتواصوا فيما بينهم، وتواطئوا على هذا الأمر، لأنه يبيع الدخان، أو المجلات السيئة أو ما شابهه ذلك؟ لاشك أنه مضطر إلى أن يترك هذا العمل المحرم، لأنه أصلاً إنما جاء به للكسب، فما دام كسبه يقتضي ترك هذا الحرام سيتركه. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 31 تكريم الإنسان على غيره السؤال ما سبب تكريم الله عز وجل للإنسان، وتفضيله على جميع المخلوقات، مع العلم أن الملائكة أكثر منه تسبيحاً وذكراً واستغفاراً لله عز وجل؟ الجواب على كل حال لا أريد أن أدخل في مسألة المفاضلة هل الإنسان أفضل أم الملائكة أفضل؟ فهذا موضوع آخر، لكن، سبب تكريم الله للإنسان وتفضيله على كثير ممن خلق، هو ما ذكرته أن الله تعالى ميزه بالعلم والعقل والتكليف، وأمره بالعبادة. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 32 التوكل مع بذل الأسباب السؤال هل من تكريم بني آدم ابتلاؤهم بمثل هذه الأحداث؟ وما هو المحذور في اتخاذ الأسباب مع العلم أنها لا تنافي التوكل؟ الجواب أنا لا أقول: إن هناك محذوراً في اتخاذ الأسباب، وقد تكلمت في غير هذه المناسبة عن موضوع اتخاذ الأسباب، وأنه لا حرج فيه، ولا يمنع أحد منه، إلا أنه لا يطلب من الإنسان أن يتعدى هذا الأمر إلى درجة المبالغة، التي قد تجعل السبب يعود على الإنسان بالتلف، أو تضيع وسائل أخرى، كما أننا نطالب الإنسان، كما أنه يتخذ الأسباب للوقاية المادية، كذلك يجب أن يتخذ الأسباب للوقاية الشرعية. كما تقي أطفالك -مثلاً- من الشارع في مثل هذه الظروف، تقيهم من الشارع في مثل ظروف أخرى، فكثير من الآباء لو يقال له: لا تخرج أولادك إلى الشارع، احفظهم في البيت قال: والله عجزت عنه، لكن في مثل هذه الظروف لما شعر بخطر؛ عرف كيف يحفظهم، استطاع أن يقنعهم، ويجلس معهم جلسات يبين لهم خطر الغاز، وقد يأتي لهم بصور -وهذه تزعجهم كثيراً- تدل على من أصابتهم الكيماويات، حتى وجد في نفسية الطفل قناعة أنه لا يخرج. فيا أخي الحبيب: نريد منك كذلك في القضايا الشرعية أن تمارس نفس الأسلوب. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 33 المطالبة بحق الإعداد للجهاد السؤال ذكرت أن الإنسان له حقوق يجب أن يطالب بها، فهل ترى المطالبة بالإعداد الصحيح للجهاد، حيث إن كثيراً من المؤمنين أصبحوا عالة على غيرهم، وصاروا ضحية أعدائهم ومهزلة للآخرين؟ أرجو التوجيه. الجواب لا شك أن الإعداد من أهم الأشياء التي تضمن بها الأمة والأمم قوتها ومكانتها وحفظها، والحق إذا لم تحفظه القوة فإنه ضائع. فما هو إلا السيف أو حد مرهف تقيم ضباه أخدع كل مائل فهذا دواء الداء من كل عاقل وهذا دواء الداء من كل جاهل فلا بد للحق أن تحرسه القوة. الجزء: 73 ¦ الصفحة: 34 يا أهل الجزيرة الجزيرة مهبط الإسلام، وهو فخرها، ولكن قد يضعف ذلك بسبب التأثر بالثقافة الغربية وهنا تذكير لأهل الجزيرة بخصائصهم، ونداء لهم للرجوع إلى ما فضلهم الله به، وهو كذلك نداء لكل أهل الإسلام. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 1 الخطاب الإسلامي وشموليته لكل الناس إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، نبينا وحبيبنا وإمامنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعليكم أجمعين. ثم أسلم عليكم جميعاً بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحيا الله وجوهكم بالسلام، وأكرم وفادتكم يوم تفدون عليه في ذلك الموقف العظيم. أيها الإخوة: كنت وما زلت حريصاً على أن يكون هذا اللقاء بعيداً عن أي روتين أو إلزام لي أو لكم، ومن هذا المنطلق كنت أحرص على ألا أجهز موضوعاً وأتعب في أعداده وتحضيره، كي لا أشق على نفسي أولاً، وحتى تعذروني من أي تقصير في إعداد الموضوع، أو تقديمه، أو استكمال جوانبه ثانياً، ولكني وجدت أن حضوركم وحرصكم وإلحاحكم وتكاثركم، -كثركم الله وبارك فيكم- يضغط علي شيئاً فشيئاً، ومع أني ما زلت متمسكاً برأيي إلا أنني وجدت أن البحث عن موضوع يلائم طرحه أنه يشغل ذهني جزءاً غير قليل من الأسبوع. فطيلة هذا الأسبوع كنت متردداً بين عدد من الموضوعات كلها مهم وجدير، وكل واحد منها يدلي بحجته ليكون هو الأولى بالتقديم، وكان في ذهني أن أحدثكم هذه الليلة عن موضوع بعنوان (العُقد) وكنت سأتحدث فيه عن بعض ما أعتبره عُقَداً في التفكير تؤثر علينا من حيث نشعر أولا نشعر، مثل عقدة المؤامرة، ومثل عقدة الاستعلاء والفوقية، وسجلت رءوس أقلام في وريقة صغيرة معي، ثم وجدت أنه منذ أمس هجم علي موضوع هجوماً شديداً، وأحاط بي من كل جانب. ووجدت نفسي منساقاً إلى أن أحدثكم عنه حديثاً عابراً، والموضوع الذي هجم علي عنوانه هو (يا أهل الجزيرة!) وأنتم تعرفون أنه أيام الغزو العراقي، وأحداث الكويت، وأحداث الخليج، كان هناك محاضرة ضمن سلسلة الدروس العلمية التي كنت ألقيها، كان عنوانها (يا أهل الكويت!) يعالج جراحهم، ويحاول أن يستفيد من الحدث لصالح الاستقامة والالتزام بشريعة الله تعالى وتصحيح الأوضاع والأخطاء التي لا بد أنها أفرزت ذلك الواقع الذي عشناه. ثم بعد ذلك ربما بسنوات ألقيت درساً آخر ضمن الدروس العلمية كان عنوانه (يا أهيل الحرم!) وكان يتحدث عن بعض القضايا، لكن على سبيل الخصوص بمناسبة الحج، فكان له طابع الخصوصية. أما اليوم فالموضوع الذي هجم عليّ أحدثكم عنه هو (يا أهل الجزيرة!) وأنتم على فضلكم إن شاء الله، وجلالة أقداركم عند الله بحوله وقوته إلا أنكم حفنة قليلة من أهل الجزيرة، فأحدث أهل الجزيرة من خلال حديثي إياكم، وأحدث العرب والمسلمين قريبهم وبعيدهم من خلال هذا العنوان. إذ ليس في الإسلام عنصريات، ولا إقليميات، ولا تميز، فالمسلم بعيداً كان أو قريباً، من الجزيرة، أو من الشام، أو من العراق، أو من مصر، من بلاد العرب، أو العجم، أو الفرس، أو من أي أرض كان، المسلم الحق هو أخونا، وتعليم الله تعالى لنا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] . ما بيننا عربٌ ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذباب تطايروا عميا وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا وفوق إيران في الهند في روسيا وتركيا آسيا ستصهل فوقها خيلي وأحطم القيد الحديديا إذاً: الإسلام ليس له لون خاص، ولا عرق خاص، ولا جنسية خاصة، بل هو الدين الذي ذابت فيه جميع الفروق، وتكوَّن ذلك المجتمع المسلم ولو نظرت قائمة بأسماء الأوائل من أبطال الإسلام لوجدت فيهم العربي، والرومي، والكردي، والحبشي، ومن كل الأجناس والألوان، لأنه أنزل يوم أنزل رحمة للعالمين. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 2 خصوصية المخاطبين أمر سائغ لكن لا يمنع أن نحدث أهل الجزيرة العربية اليوم حديثاً يخصهم، والله تعالى خاطب رسوله صلى الله عليه وسلم خطابا ًخاصاً في القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الطلاق:1] مع أن المقصود الأمة كلها من ورائه، كما في قوله عز وجل مثلاً: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] فاستفتح بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم خاطب الأمة كلها بقوله: (إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ) ومثله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:1] إلى غير ذلك من المواضع. ويحضرني في هذا المقام قصة عبد الله بن سلام رضي الله عنه، اليهودي الذي أسلم، وقال الله فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] لما اعتدى الناس في عهد عثمان رضي الله عنه على أمير المؤمنين، ونشأت بينهم ناشئة الفرقة والفتنة، والاختلاف والتباغض، رأى بوادر هذه الفتنة، فقام على قدمه، كما في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد وعهدي به قديم، وإسناده فيما أذكر صحيح، وقال: [[يا أهل المدينة: لإن أحدثتم فيها حدثاً لا تساكنكم فيها الملائكة أبداً]] . الجزء: 74 ¦ الصفحة: 3 خصوصية الجزيرة العربية وفضلها من هذا المنطلق أحدثكم يا أهل الجزيرة! وأذكركم بأول وأعظم النعم، وهي أن الله تعالى اختص أرضكم وبلادكم لينزل في أرضها القرآن، ويبعث في أرضها الرسول عليه الصلاة والسلام، فأرض مكة والمدينة وطئتها أقدام النبي المختار عليه الصلاة والسلام، وشهدت تحركاته، وتحركات أصحابه، وأزواجه، وأتباعه، في مكة أولاً، ثم في المدينة، ثم في أنحاء الجزيرة كلها. وحين تقرءون تاريخ الإسلام تجدون تلك الأسماء العظيمة الخالدة، بل حين تقرءون القرآن، وتقرءون السنة تجدون هذه الأسماء اللامعة، مكة المكرمة مثلاً: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:3] {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران:96] {بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح:24] . وهكذا في السنة النبوية تجدون في حديث النبي صلى الله عليه وسلم قائمة طويلة بأسماء تلك البقاع التي شرفها الله تعالى واختارها، أما في السيرة فطول الجزيرة وعرضها كان ميداناً لحركة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولعلكم تعرفون أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى بعث بعثاً إلى تبوك، بل إلى مؤتة من أرض الشام، فشملت تحركات الجيش النبوي، والأمة المختارة أنحاء الجزيرة كلها، شرقاً وغرباً، وشمالاً وجنوباً. وانطلقت من تلك المدينة جحافل الإسلام تدمر الظلام وتنشر النور. لا تجدون في تاريخ الإسلام، ولا في كتاب الإسلام، ولا في السنة النبوية ذكراً لتلك العواصم الكبرى التي نسمعها اليوم في نشرات الأخبار، ونتداولها ويعرفها الكبار والصغار، والجهال والأميون وغيرهم، لا تجدون فيها ذكراً لواشنطن، أو لندن، أو باريس، أو موسكو، أو غيرها من العواصم التي أصبحت اليوم كما قال الشاعر: نسجوه في بلدٍ يشع حضارةً وتضاء منه مشاعل العرفان أو هكذا زعموا وجيء به إلى بلدي الجريح على يد الأعوان بلاد ودول وأقاليم ومدن، يسمونها مدناً متحضرة، وهي كذلك من بعض الجوانب، فنحن لا نغالط الحقيقة، لكننا نعتبر قمة الحضارة هو التدين الصحيح المعصوم الذي جاء في القرآن الكريم، وكل حضارة تخطئ ذلك، فإنها تتخبط في دياجير الظلمات، قد تحصل على علوم دنيوية، وقد تغزو الفضاء، وقد تحتل وتستعمر رقاعاً واسعة من الأرض، وقد تصل إلى أسرار خطيرة في العلوم، وتفجر الذرة، وتكتشف أدق التفاصيل، كل ذلك قد تفعله، لكنها تفشل في معرفة قيمة الإنسان. وكل حضارة ليس للإنسان فيها قيمة حقيقة؛ فإنها ليست بحضارة، فليست الحضارة هي البناء، ولا العمران، ولا التقدم العلمي والتكنولوجي فحسب، وإنما أساس الحضارة هو احترام الإنسان، وإعطاء الإنسان قيمته، وشرفه، ومكانته، وهذا لا يتم حقيقة إلا بالدين، وإلا بالإسلام الذي جعله الله تعالى خاتماً للأديان، وجعل رسالة نبيه عليه الصلاة والسلام خاتمة للرسالات كلها قال الله تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] . نعم! البلاد التي حفل بها القرآن والحديث وأخبار السيرة هي هذه البلاد التي خصها الله واصطفاها، وفي مثلها وقريب منها يقول دعبل الخزاعي في قصيدته المشهورة في آل البيت: مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصاتِ وقد كان منهم بالحجاز وأهلها مغاوير نحارون في السنوات إذا فخروا يوماً أتوا بمحمدٍ وجبريل والقرآن ذي السورات فليس فخرهم بآباء وأجداد هم حطب جهنم، ولا فخرهم بالدرهم، والريال، والدولار، ولا فخرهم بالمكانة الدنيوية، وإنما إذا افتخر وأتى كل أناس بساداتهم وأبطالهم وتاريخهم، أتينا نحن بذكر محمد صلى الله عليه وسلم، وذكر جبريل عليه السلام، وذكر القرآن الذي قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44] . ملامك في أهل الجزيرة إنهم أحباي ما عاشوا وأهل ثقات تخيرتهم رشداً لأمري إنهم على كل حال خيرة الخيرات فيا رب زدني في يقيني بصيرة وزد حبهم يا رب في حسناتي وإنما عنيت من أهل الجزيرة أهل "لا إله إلا الله" أهل التوحيد، الذين ولدوا عليه، وعاشوا في ظلاله، ويموتون في سبيله. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 4 واجب الدعوة على أهل الجزيرة أيها الأحبة: يا أهل الجزيرة! فضلكم الله تعالى بهذا الوحي الذي أنزله على بلادكم، فهل غزوتم عالمكم اليوم بالقرآن؟ إننا نجد أن أمريكا -مثلاً- كدولة كبيرة ممكنة تحاول أن تغزو العالم بثقافتها من خلال شريط الفيديو، أو البث الإعلامي، أو المجلة، أو الكتاب، والوسائل الكثيرة التي يستخدمونها الآن، حتى إن الدول الغربية نفسها تعلن حالة الطوارئ -كما يقال- خوفاً من الثقافة الأمريكية. في فرنسا -مثلاً- يخافون من الثقافة الأمريكية، وفي روسيا يخافون منها، بل وحتى في بريطانيا يخافون من الغزو الثقافي الأمريكي، الذي يغزو مسارحهم، ويغزو شاشاتهم، ويغزو عقولهم في النهاية. وهم ماذا يملكون! فرنسا -مثلاً- على أي شيء تخاف من الثقافة الأمريكية؟! كل ما تملكه أو أكثر ما يميز الثقافة الفرنسية، والإعلام الفرنسي والتاريخ الفرنسي -وخاصة الحديث- أن يفتخروا بأشياء على أقل تقدير أن من بينها العري، فيرون المحافظة على تاريخهم، وخصوصياتهم، وتراثهم حتى ولو كانت هي العري! فضلاً عن التراث، فضلاً عن اللغة، فضلاً عما يعتبرونه هم أمجاداً أو ثورات مختلفة قدموها لشعوبهم أو للبشرية. حتى العري في إعلامهم، وفي مجلاتهم، وفي مسلسلاتهم، يعتبرونه ميزة، وخصوصية لأمتهم يجب أن يحافظوا عليها في سبيل الغزو الأمريكي. وفي ظل ذلك: أفيجدر بمن يقولون: إنهم يملكون سر الحياة، وسر الوجود، وسر الحقيقة، وهو كذلك، هذا القرآن الكريم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أفيجدر بهم أن يبيعوا ما لديهم بثمن بخس؟! وأن يتخلوا عن علمهم، ودينهم، وثقافتهم، وحضارتهم، وتاريخهم، وتراثهم العظيم، وتميزهم، وأن يتقبلوا ما يأتيهم من أمم الشرق والغرب، فيفتحوا له نوافذ البلاد، ونوافذ الشاشات، ونوافذ الإعلام، وبالتالي يفتحون له نوافذ العقول، حتى تتشكل القلوب والعقول على ذلك؟! وسلمني أمس أحد الشباب مجموعة من اللقطات التي صورها من بعض الشوارع في الرياض، فأجد فيها كلمات إنجليزية، وكلمات عربية، كلها ذات بعد ثقافي غربي، تنطلق من مسلسلات غربية، أو من برامج غربية، أو من أبطال -كما يسمونهم في بعض الأفلام- يشاهدونهم، أو من تاريخ وثقافة غريبة وأجنبية، فإذا كان الشاب المراهق الذي هو في الشارع ليس لديه ثقافة ولا خلفية، ولم يدرس هناك، ولم يتخرج من جامعاتهم إذا كانت هذه ثقافته التي يفرغها في مجلته أو صحيفته التي هي عبارة عن سور في الشارع، أو في دورة مياه -أكرمكم الله- أو ما شابه ذلك، فما بالك بمن يعكفون على مثل هذه الثقافة، ويتلقون ويأخذون عنها؟! أمة هذا تراثها، وهذا تاريخها، وهذا قرآنها، لماذا تتخلى عن ذلك وتذهب لتأخذ فكر الشرق والغرب، وثقافة الأمريكان أو غيرهم؟! بل وتتخلى عن رسالتها التي ميزها الله تبارك وتعالى بها؟! فأي شيء هذا يا أهل الجزيرة؟! جزيرة العرب! جزيرة الإسلام! جزيرة الأمجاد! جزيرة الحضارات! {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] . الجزء: 74 ¦ الصفحة: 5 عواقب التفكك الطبقي الكبير في المجتمع ثم يا أهل الجزيرة! يا أهل الخيرات والبركات! يا من أنعم الله تعالى عليهم بنعمة المال! أتظنون أن وجود الثراء الفاحش بينكم إلى جوار الفقر المدقع، مما يرضي الله تعالى، أليس هذا من أعظم المنكرات؟ بلى، إن ذلك خلل اجتماعي كبير، وأخشى أن يورث هذا الأحقاد والضغائن في داخلكم وفيما بينكم. فإن الإنسان المحروم الذي يرى غيره يتمتع بالخيرات، والثروات، والأموال، والدور، والقصور، والسيارات الفارهة، وكل التسهيلات، ثم يرى نفسه محروماً من ذلك كله، قطعاً لا شك فيه أنه سيتولد لديه الحقد، ووالله! لو كان مؤمناً تقياً لكان الغالب أن يحدث منه ذلك، فكيف والإيمان ضعيف عند عامة الناس اليوم، ولا يوجد من الوسائل ما فيه تقوية لإيمان الناس؟! فإذاً: هذا الخلل الاجتماعي، وهذا التفاوت الطبقي الكبير، لا شك أن عواقبه وخيمة، وينبغي أن نعلم أن هذا من أسباب العقاب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في صحيح البخاري: {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} فيجب أن نعلم أن من معنى الحديث أننا قد نمنع الرزق والنصر والأمن، ونحرم من الخيرات بضعفائنا أيضاً، بسبب دعائهم على من تسبب في حرمانهم مما يستحقون من مال، أو وظيفة، أو منصب، أو أي تسهيل كانوا به جديرين وله مستحقين. يا أهل الجزيرة! هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، يقول الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] أي: وأهلكنا أهلها (بئر معطلة) لأن أهلها أهلكوا (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أهلك الله تعالى من فيه، وأبقى القصر علامةً وآيةً على ما أجرى الله تعالى لأهل هذا القصر الظالمي أنفسهم (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي: أهلك الله أهله، فهو خاوٍ على عروشه ليس فيه ديَّار ولا سائل ولا مجيب. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] أين الذين يسمعون؟! ثم ممن يسمعون؟! أين الذين يعقلون؟! ويتأملون؟ ويدركون أن هذا ليس كلاماً فارغاً، هذه سنن الله تبارك وتعالى جارية عليك وعلى غيرك، شئت أم أبيت، اليوم أو غداً، ولا تقل: لماذا أبطأنا؟ لم نرَ شيئاً، والأمور طيبة؟! لا! لأن الله تعالى استدرك هذا المعنى الذي قد يخطر في بالك، وذكره تعالى في نفس السياق {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:46-48] . فذكر الله تعالى الظلم في البداية (أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وقال في الأخير: (أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وبين الله تعالى أن الظلم هو سبب خراب الدول والمجتمعات، وتدمير البلاد، والقضاء عليها، والظلم يورث الأحقاد والبغضاء والتشتت واختلاف العقول والقلوب. وبالتالي يصبح المجتمع وإن كان في ظاهره مجتمعاً واحداً؛ إلا أنه في حقيقته أهواء شتى، واتجاهات مختلفة متصارعة متضاربة، يغذيها الظلم، ويؤججها الحقد الناتج عن التميز الطبقي، والخلل الاجتماعي، الذي يجعل طبقات من المجتمع تنعم بالخيرات، والأموال، والبركات، والتسهيلات، والفرص، والوظائف، وطبقات أخرى كثيرة جداً محرومة من ذلك كله، وهو جزء من استحقاقها. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 6 أحسنوا كما أحسن الله إليكم لقد ذقتم يا أهل الجزيرة يوماً من الأيام طعم الجوع والخوف، ثم فجر الله تعالى في أعماق بلادكم هذا الذهب الأسود السيال النفط الذي به دخلتم العالم، لم يكن العالم يعرف شيئاً عن هذه البلاد، ولا عن بلاد الخليج، ولا عن كثير من الدول العربية والإسلامية، يوم كانت دولاً عربية وإسلامية فحسب، وإنما عرفها من خلال هذه الثروة التي فجرها الله تعالى في أعماقها، وقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم {أذ أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} ولذلك يجب أن نقف عند هذه النقطة. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 7 ارتباط الجزيرة بالمسلمين إن العالم الإسلامي يعيش في كثير من دوله حالات ما دون الفقر، وما دون الإعدام، في بنغلادش مثلاً، أو في الصومال، أو في السودان، أو في عموم القارة الأفريقية، وخاصة الدول الإسلامية منها، يعيشون مستوى ودون مستوى الإعواز، ودون مستوى الفقر، دون مستوى الإعدام، أوضاع لا تكاد تخطر لأحد على بال!! وهؤلاء هم سندكم وعضدكم بعد الله عز وجل، ومن قبلُ وصل خيركم إلى غيركم، واستمتع بما أنتم فيه، وتنعم به كثير من الأبعدين حتى من عدوكم، من شيوعيين شرقيين أو غربيين أو علمانيين أو سواهم، فلماذا يخطئ خيركم إخوانكم المسلمين، سواء أكانوا من أقاربكم الموجودين بقربكم، والذين تحدثت عن نموذج منهم قبل قليل، أم من إخوانكم المسلمين الموجودين في القارة الأفريقية أو الأسيوية أو غيرها؟! أتريدون أن يكون أمركم كما قال الأول: كتاركة بيضها بالعراء وملحفة بيض أخرى جناحا يقولون: إن النعامة أحياناً تترك البيض الذي لها، وتأتي إلى بيض نعامة أخرى لتضع جناحها عليه، فتعير بذلك. هل تريدون أن تكونوا جزيرة في بحر يُكِنُّ لها الكراهية والعداء؟ فحيثما تلتفت وجدت مجروحاً منا، هذا أسأنا إليه، وهذا حاربناه، وهذا حرمناه، وهذا تدخلنا في خصوصياته، وهذا وقفنا ضده، وهذا وهذا، هل تريدون أن يتحول العالم العربي والإسلامي من حولكم إلى بحر متلاطم يُكِنّ لكم الكراهية والعداء؟! إن هذا شر لكم ولهم، فهو قطيعة بين أهل الإسلام، وأهل الكلمة الواحدة، وأهل لا إله إلا الله، ولا شك أن الذي فقد الأمل بالمسلمين سيبحث عن غيرهم. وقبل أيام جاءتني رسالة مطولة من أمريكا تتكلم على سبيل المثال عن واقع الأكراد، وخاصة الذي يقيمون هناك، وقل مثلهم بالنسبة للمهاجرين من عراقيين، أو صوماليين، أو غيرهم، ممن اضطرتهم ظروف العيش، أو ظروف الحرب، أو غيرها، إلى السفر إلى هناك، فوجدوا عند النصارى مع الأسف الشديد التكريم، والاحترام لإنسانيتهم، بل والاحترام لدينهم على الأقل ظاهراً، وإعادتهم إلى محاكم إسلامية تحكم في شئونهم الخاصة، وإلى مراكز إسلامية تتولى مشكلاتهم، ويعطونهم ما يسمى ببدل البطالة، ويعطونهم الجنسيات في أحيان كثيرة، ويحترمون متخصصيهم ومثقفيهم والأكاديميين منهم، فيجعلونهم في الرتب التي يستحقونها، ثم يعملون على دعوتهم إلى النصرانية، وخاصة دعوة الصغار من خلال الإغراء والهدية والجائزة والأمور المادية والرفاهية التي يغدقونها عليهم. فشر للمسلمين أن يختلفوا ويتباغضوا فيما بينهم، وهو شر لكم أنتم أيضاً من بينهم، لأن المسلم إذا ألمت به ملمة، أو نزلت به نازلة، فإنما يستصرخ إخوانه المسلمين، أما أعداؤه من الكفار، أياً كانت ألوانهم، وجنسياتهم وبلادهم، وأياً كانت الأسباب التي يمتون بها إليك، فإن هؤلاء الأعداء وإن ظهروا بجلود لينة، إلا أن قلوبهم قلوب الذئاب. فهم أعداؤكم حقيقة ولو تظاهروا بالصداقة لكم، ولو كتموا هذه العداوة وقتاً من الأوقات، وإذا جد الجد، ظهرت حقائقهم: إن الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطبُ فلا تغتروا بعدوكم ولو أظهر لكم ما أظهر، واعلموا أن سندكم وعضدكم وعونكم بعد رب العالمين إنما هم إخوانكم المسلمون، سواء أكانوا بين أظهركم من أهل هذه البلاد، أم كانوا نازلين عليكم من بلاد أخرى، أم كانوا مسلمين في ديارهم، فصححوا ما بينكم وبينهم، ووثقوا معهم العلائق، واربطوا معهم الروابط، وأزيلوا ما في قلوبهم من الضغائن والإحن والبغضاء، وأشعروهم أنكم إخوانهم، وأنه عفا الله عما سلف، وأنتم أولاد اليوم، وتوبوا إلى الله تعالى من كل عمل، أو قولٍ، أو فعل، أو تصرف، أو قرار أورثكم بغض إخوانكم المسلمين الأقربين منهم والأبعدين. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 8 التفكك الاجتماعي في الجزيرة أليس غريباً يا أهل القرآن! ويا حملة الرسالة! ويا ورثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في علمه ودينه وشريعته، أن يكون الدين الذي نزل بمكة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير:27] أن يكون على مسافة كيلو مترات يسيرة من مكة نفسها، وبعد مضي ألف وأربعمائة سنة، وفي عصر التطور الإعلامي، وانفجار الاتصالات أن يوجد على مسافة كيلو مترات من مكة، من البلد الأمين من لا يفقهون من أمر دينهم شيئاً قل أو كثر؟! حتى حدثنا من زاروهم وجلسوا معهم من الدعاة، أنهم لا يتقنون سورة الفاتحة، ولا أن يصلوا، أما عن أوضاعهم المادية فحدث ولا حرج، لا تظن أنهم يعيشون في بيوت من الخشب -مثلاً- أو في منازل من الطين مهدمة، أو حتى في ظلال من الشجر، كل ذلك ليس موجوداً، وإنما الذي تعتبر حياته حياة جيدة، هو من يملك برميلين يضع فوقهما شيئاً يظلله، وبناته وزوجته وأطفاله من أذى الحر، فأين هداية القرآن عن ذلك؟ الذين يفترض أن يحملوا نور الهداية، ومشعل الهداية، والعدالة الاجتماعية، والإنصاف والتكريم، أن يحملوه إلى الشرق وإلى الغرب وإلى أمم الدنيا كلها، ما بالهم قعدوا وأقبلوا على قضيتهم الخاصة الشخصية، بل حتى لم يحسنوا الدفاع عن قضيتهم الشخصية، وتركوا دين الله تعالى، تركوه لمن؟ من سيدافع عن دين الله؟! ومن سيحمله؟! ومن سيدعو إليه؟! ومن سيبصر الناس به؟! هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى جواب. ويا أهل الجزيرة العربية! أرجو ألا تجرحكم هذه الكلمات، فوالله الذي لا إله غيره إنها ليست كلمات متشفٍ، ولا مبغض، ولا كاره، وإنما كلمات من يحب لكم الخير، ويفرح لكم به، ويكره لكم الشر، ويخاف عليكم منه، فنحن نرى هذه النعم التي أنعم الله بها علينا، ونخشى أن يأتي اليوم الذي نتذكرها فيه باعتبارها تاريخاً مضى، لأننا عندما نقرأ القرآن ونجد السنن الإلهية الموجودة فيه، نعرف أن السنن هذه لم يأت فيها نص في القرآن ولا في الحديث يستثني أمة من الأمم، ولا شعباً، ولا دولة، ولا قبيلة من قانون ومن طائلة السنن والنواميس الإلهية الموجودة في القرآن. فالذي حق على بني إسرائيل، وعلى الأمم السابقة كلها من آدم عليه السلام، إلى عهد محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعد ذلك إلى يومنا هذا، لماذا لا يصيبنا؟ ولماذا نتوقع دائماً وأبداً أن ما نعيشه سرمدٌ لا يزول؟! لماذا لا نستحضر احتمال أن نفقد هذه النعم كلها أو جلها؟! خاصة ونحن نسمع الآن الكلام الكثير، والتقارير التي لم تعد سراً، بل أصبحت حديث وسائل الإعلام الغربية والشرقية، العربية والأجنبية عن الأزمة الاقتصادية التي تضرب بخناقها على العالم، وعلى الدول النامية، وعلى وجه الخصوص على دول الخليج والجزيرة العربية. والمديونية الضخمة التي قد تختلف المؤسسات في تقدير أرقامها، لكنها لا تختلف في وجودها وضخامتها، أفلا يكفي هذا مؤشراً يهز عقولنا ورءوسنا، ويعيدنا إلى صوابنا، ويذكرنا بأن هذه بداية وليست نهاية، وأن هذا لون من ألوان التحذير الإلهي، الذي إذا لم نستجب له، ونصغ إليه، فإن له ما بعد؟! فالسنة ماضية والناموس الإلهي الذي حق على الأمم كلها والله لا يستثنينا من ذلك أبداً!. يا أهل الجزيرة العربية! أتوقف هنا لأقول كلمة، وأنا أخشى أن أؤذيكم ببعض كلماتي، أو أجرح مشاعركم بهذا، وقد قلت لكم ما قلت، الله تعالى يقول على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86] . والله إن دعاة الإسلام هم من أكثر الناس حرصاً على بلاد الإسلام، وعلى هذه البلاد، أن يصيبها سوء أو مكروه، وعلى أهل هذه البلاد الطيبين المباركين، أن يبتلوا بفقر، أو جوع، أو حرمان، أو خوف بسبب التقصير في أمر الله عز وجل، والبطء في القيام بشريعته عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي ما تركه قوم إلا أحلوا بأنفسهم البوار. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 9 عتاب يا أهل الجزيرة يا أهل الجزيرة! لننظر في حياتنا، ولا أقول في حياتكم، لأني أخاطبكم وأنا واحد منكم، لننظر في حياتنا المساجد موجودة، والمصاحف موجودة وحتى مطبوعة في هذه البلاد ذاتها، لكن أليس من الصد عن سبيل الله تعالى أن يكون عامة الناس في بلاد الدنيا كلها يعرفون الإسلام من خلال الرجل العربي الذي يلبس الثياب العربية، أو ما يسمونه بالثياب الخليجية. فبمجرد ما يشاهدون في التلفاز أو في الجريدة، أو حتى في الشارع، رجلاً يلبس ثوباً عربياً، فضلاً عن أن يلبس غترةً، فإنهم يعتبرون هذا رمز الإسلام، وهو عندهم تلقائياً -ولا تؤاخذوني- رمز التخلف والجهل والإرهاب والعنف والضعف بكل صوره وأشكاله، اللهم إلا أن يكون الجانب المتعلق بالعلاقة مع الأنثى، فهم يعتبرونه في هذا الجانب بالذات رمز القوة والقدرة، فهو الذي يتعاطى مع عدد من النساء ليس فقط بالحلال، في نظر هؤلاء الغربيين، بل وفيما فوق ذلك، وهذا كله بدون شك نتيجة تأثير الإعلام الغربي، لكن هل نستطيع أن نخرج أنفسنا من مسئولية ذلك؟ كلا! فنحن جزءٌ من واقع مرير، يساهم بالصد عن سبيل الله عز وجل. وكما تشعر أنت بالخوف بمجرد أن ترى أسداً أو ذئباً، فإن كبارهم وجهالهم وأطفالهم ونساءهم يشعرون بالخوف والرعب بمجرد أن يشاهدوا هذه الصورة، هكذا رسم إعلامهم، وهكذا ساهمنا نحن سواء من خلال سكوتنا، أو من خلال عدم قدرتنا على تقديم الصورة الإسلامية الصحيحة لهم، أو عدم قدرتنا على تمثل الإسلام في واقع حياتنا، فلماذا نلوم الآخرين دائماً ولا نلوم أنفسنا؟ لا تلوموا الصورة يا أهل الجزيرة! فالحقيقة أحق باللوم! هل واقعنا يحكي الإسلام، أو يمثل الإسلام بجملته وتفصيله، أفراداً وجماعات، دولاً وحكومات؟! أقول بملء فمي: لا. ولا أعتقد أن أحداً في الدنيا كلها يمكن أن يخالف في ذلك. يا أهل الجزيرة العربية! يا أهل جزيرة الإسلام! أين هداية القرآن الذي تحملونه، ونزل بلغتكم وفي أرضكم، وبه تفتخرون، وإليه ترجعون فيما تزعمون؟! أين هداية القرآن عن علاقاتنا الاجتماعية التي أصابها خلل كبير، فلم تعد رابطة الإيمان هي الرابطة الحقيقية بيننا؟! بل عملت روابط أخرى كثيرة منها: رابطة النسب، أو القبيلة، أو الأسرة، أو المكانة، ولكن رابطة الإسلام ربما كانت من آخر ما نفكر فيه أحياناً. أين هداية القرآن عن علاقاتنا الخارجية مع غيرنا من الناس، أعداءً كانوا أو أصدقاء، مسلمين أو كفاراً، قريبين أو بعيدين؟ كيف اختلت هذه العلاقات؟ فجعلنا العدو صديقاً، والصديق عدواً، وقربنا البعيد، وأبعدنا القريب، واختلت عندنا الموازين، حتى أصبحنا نخشى ألا نجد يوماً من الأيام من يغضب لغضبنا، أو يرضى لرضانا، أو يستجيب لصيحتنا، أو يتعاطف مع مصابنا؟! أين هداية القرآن عن الإعلام الذي افترضوا فيه أن يكون الصدق بعينه، وأن يكون توجيهاً للعقول والقلوب، وتنويراً للأبصار، وحفظاً للأمم؟! فما بالنا أصبحنا نتلمس الصدق والحقيقة في إعلام بعيد، يكون في لندن، أو واشنطن، أو حتى في إسرائيل؟! لكن لا تكاد تجد من يثق بالإعلام العربي في تناوله للأحداث، فضلاً عن قدرته على صياغة العقول والقلوب والمجتمعات صياغة حقيقية!! أين هداية القرآن عن الاقتصاد؟ وهو -أعني القرآن- الكتاب الذي جاء بإعلان الحرب الصريحة على الربا. يا أهل الجزيرة العربية! هذا قرآنكم، وقرآن المسلمين يخاطبكم بالآية الكبيرة البينة، والحجة الواضحة على من كانوا قبلكم: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً * وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:160-161] الظلم يضرب بجرانه في كل مكان، والصد عن سبيل الله من خلال أحوالنا، وأقوالنا، وسلوكنا الشخصي الفردي، والاجتماعي العام والخاص {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء:161] . من هو الذي لم يأكل من أموال الناس شيئاً بالباطل، أو لم يتدنس جوفه أو جيبه بالربا، والله تعالى ذكر أنه عاقب الذين هادوا، بأن حرمهم شرعاً من طيبات كانت حلالاً لهم بهذه الذنوب، أفلا يحرمنا الله تعالى قضاءً وقدراً -فإن شرع الله لا يتغير- من بعض ما أنعم به علينا بسبب هذه الذنوب؟! {وَضَرَبَ اللَّهُ مثلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] . الجزء: 74 ¦ الصفحة: 10 الإيمان رابطة الجزيرة وتاريخها يا أهل الجزيرة: أنتم إنما جمعكم الله تعالى بالإيمان، وإلا فأنتم قبائل شتى، ومناطق مختلفة، ومفاهيم متفاوتة، ومذاهب غير متفقة أيضاً، ولكن الله ألف بينكم بالإيمان لا غير، كما قال الله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63] فالمال وحده لا يكفي، وهاهي الشيوعية أممت رءوس الأموال، ومع ذلك وجدت الأحقاد، فالمال وحده لا يكفي، ولكن لا شك أن التميز الطبقي والتفاوت من أسباب تغاير القلوب، واختلاف النفوس وانتشار الأحقاد: {والظلم ظلمات يوم القيامة} كما أن الظلم ظلمات في الدنيا -أيضاً- على أصحابه. إنما المال وحده لا يكفي فطالما سكت ناس؛ لأنهم كانوا يأخذون أموالاً، ويقبضون ثمناً معلوماً، فلما شح هذا الذي يأخذون، تكلموا بأعلى أصواتهم، وقالوا ما يعلمون وما لا يعلمون. إذاً {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال:63] فالله تعالى ألف بينكم يا أهل الجزيرة، كما ألف بين كل المؤمنين بالإيمان، وباتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذه العقيدة التي أخرجكم الله تعالى بها من الظلمات إلى النور، وإلا فأي تاريخ للعرب قبل الإسلام؟ ليس لهم تاريخ يذكر! اللهم إلا إذا اجتهد أحدهم ودرس وقال: يوم ذي قار! أجل، وبعدها ماذا عندكم؟! انتصرتم نصراً مؤقتاً، لكن ما هو الهدف الذي كنتم تقاتلون من أجله؟! ما هي العقيدة التي كنتم تحاربون في سبيلها؟ أبداً! كان أفضل العرب أتباعاً لفارس والروم، المناذرة والغساسنة، فلما جاء الإسلام بدأ تاريخ العرب والمسلمين، كما قال القائل: تاريخنا من رسول الله مبدؤه وماسواه فلا عز ولا شان وقال آخر: إذا قامت الدنيا تعد مفاخراً فتاريخنا الوضاح من بدر ابتدا ويبقى صدى بدر يرن بأفقنا هتافاً على سمع الزمان مرددا بلاد أعزتها سيوف محمد فما عذرها ألا تعز محمداً تاريخكم كله هو تاريخ الإسلام، تاريخ التوحيد، تاريخ الاتباع لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبغير هذا الدين يصبح الأعرابي هو ذلك الذي يتبع اليرابيع يبحث عنها في الصحراء! الشمس والحر والحرب والقتال والتشتت، وكما قال القطامي: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال بادية ترانا إلى قوله: وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا تاريخ العرب بدون إسلام لا شيء، نعم أنها أمة تملك الاستعداد، ولذلك اختارها الله عز وجل، لكن يجب أن نعلم أن الله تعالى إنما جمعنا بالإيمان، ووحدنا بالتقوى، وألف بيننا بهذه العقيدة الذي أخرجنا الله تعالى بها من الظلمات إلى النور، فتمزيق الإيمان هو تمزيق لوحدة الجزيرة العربية، فهي مناطق، وقبائل، ومذاهب، وطبقات لا يوحدها إلا الإسلام والإيمان، وإلا السلطة التي تسهر على حماية الإسلام والإيمان، سواء في التعامل مع الناس، مع القريب، أو مع البعيد، مع المسلم، أو مع الكافر في مجال الاقتصاد أو السياسة أو التعليم أو الإعلام، أو غير ذلك. إذاً فيجب أن ننبذ كل الفروق الطبقية، والأسرية، والمناطقية، والقبلية، وأن نعتصم بوحدة الإسلام فحسب، وألا نتعامل مع الناس، على أساس أن هذا من قبيلة كذا، أو من أسرة كذا، أو من المنطقة الفلانية، فليس عندنا نجد والحجاز، ولا عندنا قبيلة كذا أو قبيلة كذا، ولا عندنا شمال وجنوب، وإنما عندنا أمة وحدها الله تعالى، فالأجدر بها هو الأكفأ، والقاعدة التي يجب أن تحكم في كل شيء: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] . أما أن تشعر فئة، أو قبيلة، أو منطقة أو فرداً أو قريباً، أو بعيداً، بأن الوظيفة لغيره، أو أن المال لسواه، أو أن التسهيلات ليست من حقه، أو أن الفرص مما لا يخصه ولا يملكه، فإن هذا شر مستطير، وهو ظلم كبير، يشترك فيه كل من ساهم فيه صغيراً كان أو كبيرا، ممن يتعامل مع الناس على أساس عنصري أو طبقي أو قبلي أو مناطقي، بل يجب أن نتعامل مع الناس جميعاً على أساس الكفاءة. ولقد جالست كثيرين جداً، فوجدت في القلوب أشياء وأشياء، بل ربما تجد ذلك الذي ظفر بشيء كثير من المال، أو الوظيفة، أو الرتبة، أو المنزلة، ربما تجده ساخطاً أيضاً، لأن الأمور نسبية، فهو ينظر ويجد من هو أفضل منه، ولذلك لا يرضى أحد، كما قال الله تعالى: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] لكن بالعدل يرضى الجميع، والعدل أساس الملك، والظلم سبب خراب الدول والأمم والمجتمعات وبوارها. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 11 الإسلام والعدالة الاجتماعية الإسلام أيها الأحبة: هو سعادة يعيشها المرء من خلال الانضباط السلوكي العام في المجتمع على طاعة الله تعالى، حيث تخيم عليه السكينة، والطمأنينة، وتزول عناصر الإثارة والتهييج، ويجد الإنسان سبل الإشباع الحلال، ومن وجد الحلال فلا حاجة به إلى الحرام. الإسلام عدالة يتساوى فيها الجميع في الحقوق والواجبات، فابن القبطي وابن عمرو بن العاص كلهم في ميزان العدالة سواء، والظلم حرام حتى لو وقع على كافر فضلاً عن مسلم، فالإسلام عدالة يتساوى فيها الجميع، ويجب أن تحقق للإنسان مطالبه الضرورية، فالإنسان يحتاج -مثلاً- إلى بيت، يجب أن يوفر له بيت، والإنسان يحتاج زوجة، فيجب أن توفر له زوجة، ويعان على التزوج، والإنسان يحتاج وظيفة، فيجب أن توجد له وظيفة، يعمل فيها ويسترزق من خلالها، والإنسان يحتاج إلى رزق له ولمن يعول، فيجب أن يحقق له ذلك. وقد كان المسلمون في عهد التطبيق الحقيقي الكلي للإسلام يذهبون للإنسان بحقه من الطعام والشراب واللحم وكل ما يحتاجه بالتوزيع بين المسلمين كلهم، فهذا جزء من الإسلام لا يجوز الغفلة عنه. يظن البعض أن العدالة الاجتماعية في الشيوعية -مثلاً- أو يظن آخرون أن العدالة الاجتماعية في ظل الأنظمة الغربية الرأسمالية -وأنا لست أنكر أن الأنظمة الغربية حققت قدراً من ذلك لا شك فيه- لكننا نعلم أن العدالة الاجتماعية التي جاء بها الإسلام تتضاءل عندها كل ألوان ما يسمى بالعدالة الاجتماعية شرقيةً كانت أو غربيةً، فهي عدالة صارمة لا تميز أحداً، ولا تخص أحداً كبر أم صغر، ارتفع أم نزل، شريفاً أم وضيعاً. هي عدالة صارمة؛ لأنها جاءت بالنصوص الشرعية القطعية في القرآن والحديث، حتى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأذن للإنسان أي إنسان أن يقتص منه بذاته، كما فعل مع سواد بن غزية ومع غيره، وحتى كان النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده خلفاؤه وأصحابه يقيمون ميزان القسط والعدل على كل إنسان، بغض النظر عن منزلته الدينية، وبغض النظر عن منزلته الاجتماعية، وبغض النظر عن نسبه، وبغض النظر عن ماله، وأنتم تعرفون قصة جبلة بن الأيهم الذي كان يطوف فوطئ رجلٌ إزاره فلطمه، فطالب عمر أن يقتص من جبلة بن الأيهم الرجل الشريف الكبير الأمير، ويلطم ذلك الأعرابي وجهه، مثلما لطم هو وجه الأعرابي! لأنها عدالة صارمة حاسمة، لا مجال فيها للعبث والتلاعب والمجاملات والمحسوبيات والخصوصيات، وشريعة الله لا يجوز أن تخضع لأهواء البشر، ولا يجوز أن ندخل فيها الاستثناءات التي تجعلها ظلاً باهتاً، وكلاماً موجوداً في الصحف، وموجوداً في الكتب، لكنه غير موجود في واقع الناس بحال من الأحوال، هذا لا يجوز. على أقل تقدير يجب أن تعلن كلمة الله، ويجب أن يصدع بكلمة الحق، ويجب أن يبين للناس أن الإسلام هو الدين الكامل في أموره كلها، في عقيدته، وعباداته، وأخلاقه، وأموره الاجتماعية، والمالية، والإعلامية وفي غيرها يجب أن يعلم الناس كلمة الحق على أقل تقدير لئلا يظنوا بالدين الظنون، ولئلا يتحول الناس إلى القناعة بعدالة شرقية أو غربية، ويظنوا أنها هي الحل لمشكلاتهم. الإسلام دين يحفظ كرامة الفرد والمجتمع، سواء أكان رجلاً فهو محفوظ الحقوق، أم امرأة فهي محفوظة الحقوق أيضاً، وكل ممارسة خاطئة سواءً أتعلقت بالرجال أم بالنساء، فالإسلام منها بريء، ولو كان المسلمون هم الذين يمارسونها ويفعلونها، بل ولو وجد من يبحث عن مسوغ لها بأثر وجده هنا أو هناك، أو آية أو حديث لوى عنقه، وفهمه على غير وجهه، ليسوغ به باطلاً قائماً يضغط على الناس، فيبحثون عما يسوغه. إن دين الله تعالى بريء من أهواء البشر، والإسلام كرامة تحفظ حقوق الفرد والمجتمع، فلا عدوان على خصوصية الإنسان كائناً من كان، ولا امتهان لكرامته، ولا ظلم ولا هضم، ولا يحق لأحد أن يوقف إنساناً بغير حق، ولا أن يسائله إلا بنص، ولا أن يقتحم عليه بيته، ولا أن يتلصص على خصوصياته ومحادثاته ومراسلاته واتصالاته، إلا وفق شريعة الله تبارك وتعالى، فالإسلام حفظٌ لكرامة الإنسان، وكل ممارسة أو تطبيق أو تنفيذ يخالف ذلك ولو باسم الإسلام، فإن الإسلام لا يرضى ذلك ولا يقره. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 12 الإصلاح مسئولية الجميع يا أهل الجزيرة! كلكم مسئولون عن الإصلاح، فالإصلاح ليس مسئولية العلماء مثلاً، أو الدعاة فحسب كلا! والإسلام كما تعرفون ليس فيه كهنوت، ولا رجال دين، وليس صحيحاً أن كلمة الحق، أو أن الأمر بالمعروف، أو أن المطالبة بالإصلاح، ليس صحيحاً أن هذا الأمر حكرٌ على الشرعيين، كلا! بل الرجل العامي قد يقول كلمة الحق، ويأمر بمعروف، وينهى عن منكر، فضلاً عن أن يكون متعلماً، سواء أكان إعلامياً، أم في مجال التعليم، أم في مجال المال والاقتصاد، أم في مجال الزراعة، أم في مجال الصناعة، إن الجميع مطالبون بالإصلاح. وليس الإصلاح الذي ننشده هو إصلاح الناس في مجال عباداتهم وشعائرهم التعبدية فحسب، بمعنى إصلاح الناس في المساجد، إن هذا مطلوب ويقوم به العلماء الشرعيون أو كثير منهم، لكن أيضاً المطلوب الإصلاح في مجال المال، والإصلاح في مجال العدالة الاجتماعية، المطلوب الإصلاح في مجال الإعلام، والإصلاح في مجال التعليم، والإصلاح في مجال الزراعة وتصحيح الأخطاء الذي ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الناس، طحنتهم الديون والمشاكل والصعوبات التي يلاقونها، والمطلوب التصحيح في مجال التصنيع الذي لا زال المسلمون فيه لا أقول صفراً لكنهم قريب من ذلك. فالمطلوب إصلاح شمولي يستهدف الأمة في كل مجالاتها ومناحي حياتها، ومن الخطأ أن نظن أن الذين يتكلمون باسم الدين مثلاً، أو باسم الإسلام، أو الدعاة أنهم يملكون ذلك! لا! هم يملكون أن يفتوا بما يصلح أو لا يصح من ذلك، أما مجال التجديد، وتقديم المشورة والنصيحة والوصول إلى المستوى المطلوب، فهذا إنما تقوم به الكوادر المتخصصة من أبناء الأمة المخلصين، أياً كانت مواقعهم، في مجال تخصصاتهم وعلومهم، فلا تظنوا أبداً أن مسئولية البلد، أو مسئولية المجتمع هي في أعناق العلماء فقط، أو في أعناق الدعاة الذين يتكلمون في المجال الشرعي فقط، أو في أعناق خريجي كليات الشريعة، أو حملة الماجستير والدكتوراه في الشريعة، لا، إصلاح البلاد مهمة الكوادر المختلفة في مجال تخصصاتها، والشرعيون جزءٌ من هؤلاء، وكلمة الحق ليست حكراً على فئة بعينها، وواجب الشهادة على الأوضاع بالحق لا بالهوى، هو مسئوليتنا جميعاً. أيها الأحبة إن الإسلام ليس مجرد نواه أو محرمات، لقد ظن البعض مع الأسف الشديد أن الدعوة هي أن نقول للناس لا يصلح! وكثير من الناس يظنون أن قضية الدعوة هي أن يقال لهم: هذا حرام، التدخين حرام، وشرب الخمر حرام، ومشاهدة الصور العارية حرام، والدشوش حرام، وتكلم دعاة الإسلام وعلماء الإسلام كثيراً في هذا الجانب، حتى ذهبت الظنون كل مذهب بالبعض، وظنوا أن القضية هي قضية أن الإسلام خطوط حمراء، وضع خطوطاً حمراء للناس، فهذا فهم خاطئ! صحيح أن الإسلام جاء بالأوامر وجاء بالنواهي، وفي الإسلام محرمات لا يجوز لأحد أن يقع فيها، ولكن حين يقع فيها الإنسان على سبيل الخصوص بصفته الشخصية، ولم يرتكب الشرك والكفر، فأمره حينئذٍ إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، كما قال الله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً} [النساء:31] وكما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فيمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: أنه يدخل الجنة فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق؟! قال: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق؟! قال عليه الصلاة والسلام: وإن زنى وإن سرق -ثلاث مرات- على رغم أنف أبي ذر} . الجزء: 74 ¦ الصفحة: 13 إحياء رابطة الإسلام إننا برابطة الإسلام يجب أن نتواصل فيما بيننا، ونتحادث ونتشاور، ونتزاور، ونتجالس، فإن المجالس الطيبة قلت أو كثرت، اتسعت أو ضاقت، يجب أن تقوم، وأن نتدارس فيها أحوالنا وأمورنا، ونتعارف فيما بيننا كما أمرنا الله تعالى {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13] لنكتشف الخير الموجود في النفوس، ونكتشف الخطأ الموجود فنصححه، ويزيل بعضنا ما في نفوس البعض الآخر، ونتعاون جميعاً على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان. إنه في الظلام توجد أشياء كثيرة وكثيرة لا تزول بالسكوت عنها، ولا يزيدها الزمن إلا اتساعاً وخطورةً، ولكن بالمجالسة، والمحادثة، والكلام، والنقاش، والحوار، تزول أشياء كثيرة من النفوس، وتصفو القلوب وتتوحد على الطاعة والبر والتقوى. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 14 كثرة طرق الخير المفتوحة لأبناء الجزيرة العربية يا أهل الجزيرة العربية! إن العالم يتعطش إلى ما عندكم من الهداية والنور، فأين أنتم من ذلك؟ أين مؤسساتكم الإعلامية التي تقدم الإسلام للناس؟ أين استخدامكم لتقنية العصر في نشر الشريعة التي ائتمنكم الله تعالى عليها، والترويج للعقيدة التي لا يملكها أحدٌ في الدنيا إلا المسلمون؟ أين ما وهبكم الله تعالى من الثروات والخيرات أين أنتم عن تثميرها فيما يحب الله ويرضى من المجالات الخيرة دنيوية كانت أو أخروية؟ فإن مجال الاستثمار واسع كبير، فهناك الاستثمار في الدعوة، والاستثمار في الإعلام، والاستثمار في التعليم -وهو نافع في الدارين- والاستثمار في الإغاثة، والاستثمار في المجالات الإنسانية. بل أين حدبكم على إخوانكم المسلمين الضعفاء، والفقراء والمحتاجين، والأرامل، والشباب الراغبين في التزويج، وأصحاب الديون، ومن طحنتهم المشكلات والكوارث؟ أين أنتم عن إخوانكم؟ وأخاطب على سبيل الخصوص أهل القدرة، وأهل التنفذ، وأهل الغنى، وأهل الثراء، فإن لله تعالى حقوقاً كبيرة فيما أخذوا، والله تعالى سائلهم عن ذلك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. يا شباب الجزيرة العربية! يا نور الدنيا! يا بهجة الأيام! يا أمل المسلمين المشرق في مشارق الأرض ومغاربها! أين أنتم من ميدان الدعوة الواسع الرحب؟ أين أنتم عن الشعوب الإسلامية التي انفتحت عليكم، وبسطت ذراعيها تقول لكم: هلموا، تعالوا، لكن برفق وطواعية وهدوء وسعة بال، قدموا لنا هداية الله، هداية السماء، هداية القرآن؟ أين أنتم عن الثكالى والأيامى واليتامى والأرامل، الذين يستنجدون بكم ويستصرخون، في البوسنة، وفي الصومال، وفي طاجكستان وفي كل مكان؟ يا شباب الجزيرة المتوقد القوي الطموح! أين أنتم عن ميادين الجهاد في سبيل الله؟ تقدمون أرواحكم رخيصة ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى هذه ميادين الجهاد قد فتحت لكم أبوابها في بلاد كثيرة، فسارعوا إليها، فإن الجنة يوجد ريحها من دون تلك الديار يا شباب الجزيرة العربية! أين وحدتكم؟ أين كلمتكم الواحدة؟ أين قلوبكم المتآلفة؟ أين أفكاركم النيرة المتطلعة؟ أين انتظاركم لنصر الله تعالى وإعزاز الدين وتمكين المسلمين؟ يا شباب الجزيرة: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً} [التوبة:38-39] . يا شباب الجزيرة! اتقوا الله تعالى في دينكم وفي أمتكم، أفلحوا في تقديم الإسلام للناس بصورة صحيحة، حسنوا أخلاقكم، ابتسموا في وجوه الآخرين، تلطفوا معهم، اصبروا، حاوروهم بهدوء، لا تتعجلوا، لا ترفعوا أصواتكم، تجنبوا الغضب والانفعال والاتهام ورمي الآخرين بما هم منه براء، واحرصوا أن تكونوا صورة مشرقة للدين الذي تحملون، والعقيدة التي تعتقدون. يا أهل الجزيرة! ويا شباب الجزيرة! ويا رجال الجزيرة! إنني أقول لكم: إنه ليس من المصلحة في شيء أن يظلم بعضكم بعضاً، أو يخطئ بعضكم على بعض، أو يعتدي بعضكم على بعض. إن الأساليب الشديدة لا تثمر إلا شدة، وإن الناس يحتاجون إلى الحوار الهادئ، وإلى النقاش، وإلى الصبر، وإلى طول البال، وإلى سعة الأفق. فأسال الله تعالى أن يعيد لأهل هذه البلاد ما كانوا عليه أيام العز من الرفعة والتمكين، وأن يوحد كلمتهم على الحق، فلا يكون بينهم من يعتزي بعزاء الجاهلية، لا إلى قبيلة، ولا إلى منطقة، ولا إلى طبقة، ولا إلى أسرة، وإنما وحدهم الإيمان والتقوى، وأما النسب فهو للتعريف فحسب (لِتَعَارَفُوا) . وأسأل الله تعالى أن يكتب على أيدي أبناء هذه الجزيرة خيراً كثيراً، وأن تتحسن الصورة المشوشة التي يحملها عنهم الكثيرون من الكفار، بل والكثيرون من المسلمين أيضاً. فربما ظن الكثيرون أنكم مستكثرون بما عندكم من المال، أو مغترون بذلك، أو أنكم تشعرون بالرفعة والفوقية، ولم أشأ أن أتحدث عن هذه النقطة لأنها مجال الحديث ضمن الموضوع الذي وعدتكم فيه في البدايةن وهو موضوع: العُقَد. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 74 ¦ الصفحة: 16 حديث التعزي بالجاهلية السؤال كتاب الإمام ابن تيمية المسمى بالسياسة الشرعية ذكر حديث: {من تعزى بعزاء الجاهلية} أرجو إلقاء الضوء عليه، ودرجته؟ وأيضاً وجدت في فتاوى ابن تيمية ذكر النفط فما رأيكم في هذا؟ الجواب النفط كان يطلق على بعض السوائل لكن ليس بالمفهوم المعاصر، وأما الحديث فمعناه واضح، وهو النهي عن التعزي أو الانتساب أو الافتخار أو التناصر بعزاء الجاهلية وموروثاتها، وأن من قال ذلك يجب أن يرد عليه، وينكر عليه ما قال. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 17 اعتقال بعض المشايخ السؤال سائل يسأل عن بعض الأخبار عن اعتقال بعض الإخوة، ويشير إلى اعتقال الدكتور عبد الله بن حامد الحامد أستاذ الأدب العربي وتاريخه، وإلى اعتقال الدكتور محسن العواجي؟ الجواب هذا الخبر وصلني اليوم، وبلا شك أن هذا مما يحزننا، لأننا لمن نكن نحب أن يتعرض أبناء البلاد المخلصين والدعاة الصادقين لمثل ذلك، لكن نقول طريق الدعوة، وطريق الإصلاح طويل، والصعوبات فيه موجودة، وعلينا أن نتوقع مثل ذلك، وهذا لا يعني إقرار ما حدث بل تجب المناصحة، ويجب الاتصال، وعندي يقين أن مثل هذه الأشياء لن تطول، وأن هذا الاعتقال لعله يكون توقيفاً قصير الأجل، وليس اعتقالا ًيطول، وإلا فستكون بلا شك مصيبة كبيرة على الجهود التي تبذل للتصحيح والإصلاح. هذا وأسأل الله تعالى أن يفك أسر الجميع، وأن يهدي الجميع لما يحب ويرضى، وأن يصلح المسلمين جميعاً حكاماً ومحكومين، علماء وعامة، رجالاً ونساءً، وأن يهديهم لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بأيديهم إلى جادة الحق والصواب، وأن يرفع درجات الحاضرين عنده يوم القيامة، وأن يجعلنا وإياهم من أهل الله، ومن أهل الجنة، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يصلح نياتنا وذرياتنا وأقوالنا وأعمالنا وسرنا وعلانيتنا وظاهرنا وباطننا إنه على كل شيء قدير. أسال الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألاّ يجعل منا ولا معنا ولا فينا شقياً ولا محروماً. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 18 مؤتمر الإسكان والتنمية السؤال يقول: توقعت أن تتكلم في هذا اليوم عن المؤتمر الذي عقد في مصر؟ الجواب مؤتمر الإسكان والتنمية مؤتمر خطير، ولم أتكلم عنه، لأن الكلام عنه اليوم مبذول بسبب تداخلات السياسة، وبسبب المشاكل الموجودة، فأصبح الكلام عنه سهلاً ميسوراً، والصحافة تتكلم عنه، وكثير من الكتاب كتبوا عنه ذلك في صحف حتى غير إسلامية كتابات جيدة، وبالمناسبة أذكر الإخوة أن ثمة شريطاً طيباً جداً للدكتور ناصر العمر عنوانه: "مؤتمر الإسكان الرأي الآخر" فألفت نظر الإخوة الشباب إلى ذلك الشريط. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 19 أهداف مؤتمر الإسكان والتنمية السؤال عن مؤتمر الإسكان والتنمية، ووثيقة المؤتمر التي تشتمل على أمور إباحية، كالشذوذ الجنسي، والعلاقات الجنسية قبل الزواج، وتأخير الزواج، والإجهاض، وتحديد النسل، هذه أمور معروفة، لكن ما هدف المؤتمر؟ ولماذا أقامته أمريكا؟ الجواب المؤتمر أقامته الأمم المتحدة، وأمريكا هي المنفذ الفعلي، والمؤتمر له أهداف منها: نشر الرذيلة والإباحية، ومنها تقليل عدد المسلمين، لأن عدد المسلمين رقم مخيف جداً حتى في بلاد الغرب، وهم بإحصائية يجدون أنه -كما يقولون- الهرم مقلوب، ففي البلاد الإسلامية القاعدة عريضة جداً من الشباب والأطفال، والقمة من الكبار أقل. ولذلك في بلادهم ظاهرة موجودة فهي مجتمعات شابت وهرمت، حتى من حيث الأرقام لما تحدّد عدد الشيوخ بالنسبة لعدد الشباب، وبالنسبة لعدد الأطفال، في حين تأتي للمسلمين حتى من الذين يقيمون في بلاد الغرب تجد أنهم يتكاثرون بشكل كبير، ولذلك في فرنسا -مثلاً- وفي كل البلدان يضعون هناك مبلغاً ضخماً للإنجاب، تجد الذين يظفرون بهذا المبلغ هم المسلمون، أما غيرهم فلا يحصلون عليه لأنهم لا يريدون التكاثر. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 20 خصائص العرب والجزيرة العربية السؤال هل هناك خصوصية للعرب حيث نزل القرآن بلغتهم، وكانت الرسالة منبعها من جزيرتهم؟ الجواب هذا باب طويل، معظم الذين كتبوا في السيرة النبوية، يبدءون الكتابة في السيرة بالكلام عن العرب، ولماذا اختار الله العرب والجزيرة العربية. الجزء: 74 ¦ الصفحة: 21 هكذا صلى الأنبياء من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان بأن بسط إليه يده ليقبل منه ذكره وشكره وسؤاله وعبادته، وأنه سبحانه وتعالى يجيب الإنسان إن سأله وأعظم مظاهر العبادة الدعاء، والصلاة من دعاء المسألة وهي سنة الأنبياء جميعاً وهي أول ما يعرض على الله يوم القيامة، وفاعلها على خير عظيم، وهي له شهادة وبركة ونور وطمأنينة وزلفى إلى الله، ولصلاة الأنبياء كيفيات قلبية باطنة وطاهرة بسنن وفرائض وواجبات، وكل هذه يجب تعلمه ومعرفته، ليحصل التقرب إلى الله عز وجل. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 1 تمهيد حول نعمة الصلاة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. (هكذا صلى الأنبياء) هذا هو عنوان هذا الدرس، ورقمه واحد وسبعون، وهو ينعقد هذه الليلة بالرياض في ليلة الإثنين العاشر من شهر ربيع الأول من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة. لقد سبق أن تحدثت تحت عنوان: هكذا عَلَّمَ الأنبياء، وكان حديثاً عن دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلى ماذا دعو، وبماذا أمروا، وكيف ووجهوا، وماذا كانت عاقبة دعوتهم وعاقبة من ناوأهم وحاربهم، أما اليوم فنحن ننتقل إلى أعظم عمل بعد التوحيد كلف به الأنبياء، وهو الصلاة، فإنها من خير أعمالكم، وهي خير موضوع كما قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلهذا لا غرابة أن يخصص لها حديث، ويدندن حولها المتكلمون، لأنها معراج للقلب والروح إلى بارئها جل وعلا. أولاً تمهيد: إن من عظيم نعمته تعالى وهو الأحد الصمد، أن يجود في عليائه على ذلك العبد الفقير، فيبسط يده إليه، ويأذن له بذكره وشكره وعبادته وسؤاله، كما قال الله تعالى: {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] فإن مجرد إذنه لنا بأن نذكره وندعوه هو نعمة عظمى، فكيف وقد أمرنا بذلك وأوجبه علينا وجعل لنا عليه الأجر العظيم؟! إنه سبحانه يفتح أبوابه لعباده دون أن يجعل بينهم وبينه وسيطاً: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] وهما دعاءان: الأول: دعاء عبادة، كالصلاة والقرآن والذكر والتسبيح، فهذا دعاء عبادة له تعالى. أما الدعاء الثاني فهو: دعاء مسألة، أي أن تسأل الله تعالى وترجوه فيما تريد وتحب من خير الدنيا والآخرة. وذكره تعالى هو في حقيقته دعاء، لأنك إن أثنيت عليه تعالى بأسمائه وصفاته، فأنت تتعرض له بالسؤال، فإذا قلت اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فكأنك تقول: اللهم لا مانع لما أعطيت فأعطني، ولا معطي لما منعت، فلا تمنع عني فضلك، ولا تحرمني بذنوبي، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، فأغنني بفضلك يا رب عمن سواك. أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباءُ إذا أثنى عليك العبد يوماً كفاه من تعرضه الثناءُ إنه ينزل في ثلث الليل الآخر، فيقول لعباده: هل من سائل؟ هل من داع؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟ لا تسألن بني آدم حاجةً وسل الذي أبوابه لا تحجبُ الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يغضبُ: {يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا بن آدم إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة} اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وصلنا ولا تقطعنا، وجد علينا بكريم نوالك وتتابع إفضالك، اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، اللهم زَكِّ أقوالنا وأعمالنا، وعقولنا وقلوبنا، واهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم لو عذبتنا لفعلت وأنت غير ظالم لنا، ولو رحمتنا كانت رحمتك خيراً من أعمالنا، فيا من لا يعاجل بالعقوبة، ألهمنا حسن التوبة إليك، وجميل التوكل عليك، وعظيم الزلفى لديك، نحن بك وإليك، تباركت وتعاليت. اللهم إنا نناجيك بقلوب أرهقتها الذنوب، وندعوك وقد علمت ما فرط منا مما وسعه حلمك، وستره عفوك، وغمره برك، فيا أهل المغفرة اغفر لنا، ويا أهل التقوى استعملنا في طاعتك، ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، سبحانك وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 2 صفات وأسماء وفضائل هذه الصلاة شأنها عظيم، ولماذا أتكلم أنا أو يتكلم غيري وقد تكلم الرب جل وعلا؟! ولماذا يتحدث الإنسان وقد تحدث سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم فيبن ما في هذه الصلاة من الأسرار والمعاني الكبار؟! فالصلاة عهد، قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:86-87] . وقال صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فمن حُرِم الصلاة فقد حُرِم الشفاعة يوم الحساب. والصلاة عبادة تصل العبد بربه تعالى، فتجعل هذا العبد الضعيف الفقير الفاني المخلوق من تراب الأرض تجعله عظيماً، لأنه موصول بالله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] . وهي إيمان، وكل الأعمال بلا إيمان لا قيمة لها ولا ثمرة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة في البيت الحرام. ولهذا أيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك الصلاة كفر، فقال كما في صحيح مسلم: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} وتركها أيضاً نفاق، كما في قوله: عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} . والصلاة توبة قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وقال في الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] . والصلاة ذكر لله تعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: لتذكرني بها. والصلاة طمأنينة للقلب، وسكينة للنفس، وهناء للروح، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] . وفي حديث متفق عليه: {أن أسيد بن حضير قام يصلي من الليل فقرأ من سورة البقرة أو من سورة الكهف -اختلفت الرواية- فرأى بين السماء والأرض أمثال القناديل، فجالت الفرس حتى خشي على ولده، فهدأ وسكن في قراءته، فعاد فعادت، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يـ ابن حضير تلك السكينة تنزلت للقرآن، تلك الملائكة ولو قرأت لأصبحت يتراءاها الناس بين السماء والأرض} . والصلاة شكر: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] وكان عبداً شكوراً بكثرة الصلاة، ولهذا لما قالت عائشة كما في الصحيحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أطال الصلاة حتى تفطرت قدماه: {تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: يا عائشة! أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} . والصلاة عون للعبد على ما يعانيه ويواجهه من المشكلات في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] فالذين يواجهون مشاكل الدنيا وصعوباتها ويتصدون لجلائل الأعمال، خاصة من أهل العلم وأهل الدعوة وأهل الجهاد، الذين يلقون التعب في هذه الدار، ويواجهون من المشاكل الصغيرة والكبيرة، ويحط الناس بهم كل قضاياهم وكل مشكلاتهم، لا بد أن يستعينوا على ذلك بالصلاة، وإلا عجزوا وانقطعوا، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الفجر، ثم يجلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار ويرتفع، ثم يصلي ركعتين، ثم يقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قدماي. والصلاة مناجاة لله تعالى وبين يديه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إذا قام العبد في الصلاة فإنه يناجي ربه} ثم نهى صلى الله عليه وسلم أن يبصق العبد بين يديه أو عن يمينه، ولكن من تحت قدميه أو عن شماله. والذي يناجي ربه تعالى أنى له أن يقبل على غيره، أو ينصرف عنه، أو يجعل بصره يلتفت يمنة ويسرة، والله تعالى قبالة وجهه. والصلاة زلفى إلى الرب تبارك وتعالى، فإن العبد بعيد عن الله إن غفل عن ذكره، فكلما ذكر الله وصلى اقترب من الله تعالى، وقال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] ثم قال في آخر السورة: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] اقترب إلى الله تعالى بالسجود له. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِن أن يستجاب لكم} . والصلاة كفارة، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فالعبد يحترق بالذنوب والمعاصي: هذه نظرة حرام، وهذه كلمة ما حسب لها حساباً، وهذه خطوة إلى معصية، وهذه يد تمتد إلى ما لا يرضي الله، فإذا جاءت الصلاة كَفَّر العبد بها عن ذنوبه وخطاياه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن العبد يغفر له ما بين الصلاتين ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله} ولما جاءه الرجل يشتكي ذنباً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر لك} {وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: الصلاة بنهر غمر جارٍ بباب أحدكم يغتسل منه العبد كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والذنوب} . والصلاة عصمة من الشيطان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} . وهي نور، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: {والصلاة نور} . وهي شغل أي شغل، ولهذا في حديث ابن مسعود: {إن في الصلاة لشغلاً} أي: عن أمور الدنيا، بل حتى عن أمور من غير الصلاة مما لا يتعلق بها، فإذا أقبل العبد على صلاته ينبغي أن يفرغ قلبه من جميع الشئون والهموم، ويقبل عليها بقلب حاضر ولسان ذاكر. وهي أيضاً حقن لدم الإنسان، ولهذا لما وقف الرجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال: {اعدل يا محمد، وفي رواية أنه قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فاستأذن رجل من الصحابة في قتله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي} فاعتبر أن صلاته تعصم دمه من أن يقتل، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكام الجور وحكام السوء، قال بعض الصحابة: {يا رسول الله، أفلا ننابذهم ونقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا} . وهي ناهية عن الفحشاء والمنكر: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] بل هي أفضل الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سئل كما في الصحيح: {أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها} . وهي شعار الإخاء والحب والمودة بين المصلين المترددين على المساجد، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المملوك: {مملوكك كافيك، فإذا صلى فهو أخوك، فإذا صلى فهو أخوك} أي أن العبد الذي تستخدمه إذا أدى الصلاة فهو أخوك، فعليك أن تحسن معاملته وتبتعد عن إيذائه بالقول أو بالفعل. بل هي وصية الله تعالى لأفضل خلقه، للرسل عليهم الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:30-ُ31] . وبالتالي فإن الرسل نقلوا هذه الوصية لمن وراءهم من أهليهم وأقوامهم وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وفي الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فزار البقيع، فسلم على أهل البقيع، ثم صلى، وقال: إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من يوقظ صواحب الحجرات؟ -يعني أزواجه رضي الله عنهن- من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة} وكان يقول في مرض موته الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} . كل هذا شأن الصلاة، فهل ترى هذه المعاني العظيمة، وهذه الدلالات الربانية، وهذه الأوصاف النبوية؛ هل هي تصدق على كل صلاة أم تصدق على تلك الصلاة التي أمر الله بها ورسوله؟ لا شك أنه كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، حتى المنافقون كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وربما تأخروا عن بعض الصلوات كصلاة العشاء وصلاة الفجر، ولكنهم ربما شهدوها، وبالتأكيد هم يشهدون غيرها، وكثير من الجزء: 75 ¦ الصفحة: 3 الأنبياء والصلاة كل الأنبياء بعثوا بالصلاة، ولهذا لو تأملت هديهم لوجدت الصلاة مذكورة في سيرة كل نبي، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] ثم قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] . إذاً: فالأنبياء بعثوا بالصلاة، وإذا قرءوا القرآن خروا ساجدين وخاشعين باكين لله تعالى، أما الذين من بعدهم ممن غيروا وبدلوا وخالفوا هديهم، فقد اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، وقال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92] . وكأن صلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت متقاربة في شكلها وهيئتها ومظهرها ومخبرها وسرها وجوهرها، ففي حديث ابن عباس وابن عمر -وهما حديثان صحيحان- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنا -معاشر الأنبياء- أمرنا أن نعجل إفطارنا، ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة} فهؤلاء الأنبياء كلهم أمروا أن يقفوا في الصلاة خاشعين لله تعالى، مخبتين بين يديه، منكسرين إليه، واضعاً أحدهم يده اليمنى على يده اليسرى على جزء من بدنه في صلاته، على صدره أو غيره، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء جميعاً. ووضع اليد على اليد في الصلاة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى درجة المتواتر الذي ثبت ثبوتاً قطعياً، وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان: {يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة} وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد: {كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة} وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مررت على موسى وهو يصلي في قبره} وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {أفضل الصلاة صلاة داود} وذكر عليه الصلاة والسلام أنه لما أسري به إلى بيت المقدس، جمع له الأنبياء هناك، فصلى بهم إماماً وهم يصلون بصلاته، ولا شك -والله تعالى أعلم- أن هؤلاء المأمومين من أنبياء الله ورسله كانوا يقتدون بإمام الأئمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا كبر كبروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا قام قاموا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قعد قعدوا، وإذا سلم سلموا من ورائه صلى الله عليه وعليهم جميعاً وسلم. فهذا ما يقتضيه الشرع في اقتداء المأموم بالإمام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه} فكيف تظنون هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام صلوا خلف إمامهم نبينا محمد، إلا أن يكونوا يصلون بصلاته حذو القذة بالقذة، ويتبعونه في كل أفعاله عليه الصلاة والسلام. وفي آخر الزمان ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن عيسى ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيصلي الفجر مع المسلمين يقتدي بإمامهم، ويقول: {أنتم أئمة بعضكم لبعض تكرمة الله تعالى لهذه الأمة} ولا شك أن عيسى حين يصلي سوف يقتدي بسنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، إذ أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم الساعة، وهي حق واجب على كل الناس الذين يأتون من بعده. فبذلك تعلم أن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا بالصلاة، وأُمروا بها، وأمروا بها غيرهم، وأن صفة الصلاة عند الأنبياء جميعاً -والله تبارك وتعالى أعلم- متقاربة. بل حتى الملائكة يصلون، ولهم صلوات كصلاة المسلمين: قيام وركوع وسجود، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نزل جبريل فأمني فصليت معه} وفي الحديث الذي رواه أهل السنن: {أن جبريل أتى في اليوم الأول، فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، في أول الوقت، وفي اليوم التالي نزل عليه السلام فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، في آخر الوقت، وقال له: الصلاة بين هذين الوقتين} وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟! قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف} . وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أبي ذر وغيره أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها من موضع شبر إلا وفيها ملك واضع جبهته ساجد لله تعالى يسبح الله تعالى بحمده، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى} قال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وهم الملائكة، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 4 أسباب الخشوع وللخشوع أسباب لا بد من تحصيلها: الأول: تفريغ القلب، فصاحب القلب المشغول بهموم الدنيا المملوء بمشاغلها المستغرق في قضاياها، أنى له أن يجد في وقته خانة فارغة يملؤها بشأن الصلاة، فالصلاة تحتاج إلى القلب، فإذا احتاج العبد قلبه في الصلاة وجده ملآناً مشغولاً بهموم الدنيا، فلا يفرغ للصلاة، فلا بد أن يكون في قلب الإنسان خانات فارغة دائماً وأبداً لأمر الآخرة ولأمر الدين، لا يسمح أن تملأ بشيء دنيوي قط. الثاني: التبكير إلى المساجد، وإحسان الطهور، والتنفل قبل الصلوات، وقراءة ما تيسر من القرآن، فإن هذا يفرغ القلب ويجرده من الشواغل، ويهيئه للإقبال على الله تبارك وتعالى، ولهذا شرعت السنن الرواتب: أربع قبل الظهر أو ركعتان، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر، وبين كل أذانين صلاة: ركعتان قبل العصر بين الأذان والإقامة، وركعتان قبل المغرب بين الأذان والإقامة، وركعتان قبل العشاء بين الأذان والإقامة، حتى يتفرغ القلب ويتجرد للإقبال على الفريضة. الثالث: الإقبال على الصلاة بقراءتها وذكرها ودعائها، فيتأمل العبد ماذا يقرأ في صلاته، وبماذا يدعو، أما أن يدعو وقلبه في واد آخر فهذا بعيد من الإجابة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة وابن عمر وهو حديث حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} فلا بد أن يقبل العبد على ربه ويدعوه، وإذا قرأ القرآن أن يعرف ماذا يقرأ، وإذا ذكر الله يعرف ماذا يقول، وإذا ذكر فقال: الله أكبر أو سمع الله لمن حمده، أو غير ذلك، عرف معنى ما يدعو به. الرابع: ألا يصلي العبد وذهنه مشغول، فينتظر قضاء الصلاة حتى يذهب إلى حاجته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان} وذلك لأن النفس إذا استشرفت إلى شيء من أمر الدنيا طعاماً أو شراباً أو عملاً أو خبراً أو غير ذلك، فإن العبد يصلي وهو ينتظر قضاء الصلاة لينظر هذا العمل، وينبغي أن يخلص من عمل الدنيا، ويقبل على الصلاة بقلب حاضر متفرغ، ولهذا وصف الله تعالى الصالحين بالمحافظة على الصلوات، وهذا يشمل المحافظة على الوقت والطهور وأعمال الصلاة والخشوع وغير ذلك، وبضدهم ذكر المنافقين، فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وذكر المشركين، فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] وذكر المرائين فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] . إن الصلاة عبادة محضة، ليس لها مُرتَّبات وليس فيها فوائد دنيوية، ولا داعي أن نقول للناس: إن العبد إذا صلى كسب رياضة وصحة، واستقام حاله، وتخلص من بعض الأمراض إلى غير ذلك؛ فالعبد لا يأتي إلى المساجد ليكسب مالاً أو ليكسب صحة، ولا ليكسب ثروةً أو ليكسب جاهاً أو ليكسب مكانةً اجتماعية، إنما يمشي هذه الخطوات إلى الله تعالى ليضع جبهته في التراب لربه جل وعلا، ويقول: سبحانك وبحمدك، أنا عبدك وبين يديك، أعترف بذنبي، وأعترف لك بكل معاني الكمال والجمال فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. فليس في الصلاة كبير ولا صغير، ولا مأمور وأمير، ولا غني وفقير، بل الجميع فيها سواسية، أقدامهم سواء، وأكتافهم سواء، وجباههم كلهم في التراب معفرة لرب الأرباب. إذاً: هذه هي الكيفية الأولى والعظمى وهي الكيفية الباطنة لصلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الواحد منهم إذا قام إلى صلاته أقبل على ربه أشد الإقبال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] عبء الدعوة ومسئولياتها وتكاليفها وهمومها وتبعاتها لا يقوم لها إلا من استعان بالله تعالى، وعبد الله تعالى وذكر الله وصلى، ولهذا قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 5 الكيفية الباطنة لصلاة الأنبياء وصلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها كيفيتان: الكيفية الأولى: الكيفية الباطنة، وهي كمال الذل والخشوع لله تعالى، وصدق التعبد والإقبال عليه، والانقطاع إليه عمن سواه، ولهذا قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] وقد قام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة تامة حتى أصبح يقرأ آية واحدة من كتاب الله تعالى يرددها ويبكي، كما في حديث أبي ذر عند النسائي وغيره وهو قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فالخشوع سر الصلاة ولبها وجوهرها وثمرتها، ولا شك أن من الخشوع قدراً واجباً، يأثم المرء بتركه والتفريط فيه، كما في حديث أبي قتادة الذي رواه أحمد والدارمي والحاكم وصححه -وسنده جيد- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها} . ولا شك أن السرقة حرام، بل هي من كبائر الذنوب، فكون النبي صلى الله عليه وسلم وصف ذلك الذي لا يتم خشوع الصلاة ولا ركوعها ولا سجودها بأنه قد سرق، بل عد سرقته أسوأ سرقة، وعده هو أسوأ الناس سرقة، أن هذا دليل على أن من إتمام الركوع والخشوع والصلاة قدراً واجباً لا تتم الصلاة إلا به، ويأثم الإنسان بتركه والتفريط فيه، ولا شك أن الخشوع من أعمال القلب، وأعمال القلب هي الأصل لأعمال الجوارح، وفي الصحيحين من حديث النعمان: {إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} . فالأصل في أعمال الجوارح أعمال القلب، فإذا صلح القلب وأعماله صلحت أعمال الجوارح، وإذا فسد القلب فسدت أعمال الجوارح، والناس يتنافسون في أعمال الجوارح، فربما تنافسوا في التبكير إلى الصلاة، وفي الخشوع الظاهر في الصلاة، وفي تطبيق السنن الواردة في الصلاة، ربما تنافسوا في تطويل الصلاة، وهذا كله حسن وجيد ومشروع: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وهو خير من التنافس في الدنيا أو الأموال أو الأولاد أو في الرياسات أو في غير ذلك، ولكن أعظم من هذا التنافس على الأمور الظاهرة أن يتنافس الناس على الأمور الباطنة -أعمال القلوب- ولكنهم لا يتنافسون فيها، لأنها ليست مما تراه العين أو تسمعه الأذن أو تمسه اليد؛ فهي سر لا يعلمه إلا العالم بالأسرار وبالخفيات، وهو الله تبارك وتعالى، فلا يتسابق الناس إليه كما يتسابقون إلى الأمور الظاهرة. فالمقصود الأعظم للصلاة يحصل بخشوع القلب وانكساره وإقباله على عبادته، وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله} يا سبحان الله! أي خير نريد بعد هذا؟! كفارة لما قبلها من الذنوب، وهي لا تستغرق منك أكثر من عشر دقائق، والمقصود الذنوب الصغائر شريطة أن تحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {في الصلاة تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع، وتقنع يديك، وتقول: يا اللهم يا اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج فهي خداج} وفي صحيح البخاري أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ولا سجودكم} . والخشوع علم، ولا غرابة أن يتسابق الطلاب إلى حضور المجالس التي فيها علم لبعض الأحكام، لكن كم رأينا ممن يتسابقون إلى المجالس التي فيها علم القلوب، كعلم الخشوع أو علم اليقين أو علم الإقبال على الله والمعرفة به ومحبته وغير ذلك، الخشوع علم لأنه علم بالله وأسمائه وصفاته ومعرفة لعظيم قدره، حتى لا يكون في صدرك شيء أكبر وأعظم من الله تعالى، ولهذا تستفتح الصلاة لتقول: الله أكبر، وغير الخاشع يعد من الجاهلين وقد قال شداد بن أوس وهو صحابي لـ جبير بن نفير: [[أتدري ما ذهاب العلم؟ قال: لا، قال: ذهاب العلم ذهاب أوعيته وهم العلماء، قال له: هل تدري أي العلم يرفع أولاً؟ قال: لا أدري، قال: أول علم يرفع من الناس علم الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده والدارمي وأهل السنن وهو حديث صحيح. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 6 صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم أما الكيفية الثانية: فهي الكيفية الظاهرة، والمقصود بها أعمال الصلاة وأقوالها، وهذه أمرها كبير وطويل، ولكنني أختصر شيئاً منها في هذه الدقائق، وسوف أتجاوز كثيراً من الأشياء المعروفة المتداولة التي لا إشكال فيها حفظاً للوقت: الجزء: 75 ¦ الصفحة: 7 الأدعية والأذكار دبر كل الصلوات الخامس عشر: الأدعية والأذكار في أدبار الصلوات المكتوبات: {كان صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته قال قبل أن يلتفت إلى الناس: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، ثم التفت إلى الناس وقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ثلاث مرات} وفي المغرب والفجر كان يقولها عشراً، وكان يجهر بها صلى الله عليه وسلم، إلى أدعية وأذكار أخرى كان يقولها منها: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} {اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} {اللهم إني أعوذ بك من الجبن} إلى غير ذلك من الأدعية والأذكار، وكذلك كان يقرأ آية الكرسي دبر كل صلاة، وسورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] دبر كل صلاة مكتوبة. وينبغي أن يراعى في مسألة الجهر والإسرار أمور: منها: ألا يكون الجهر شديداً بحيث يؤذي من حوله ومن وراءه، بل يجهر جهراً معتدلاً حتى تختلط الأصوات ويضيع بعضها في بعض، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أهل السنن وسنده صحيح: {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض} ففي المسجد ذاكرون، وفيه من يقضون الصلاة، فينبغي أن يجهر الإنسان بقدر لا يسمعه من حوله، فيكون للجهر دوي لا يتميز، فلا يؤذي بذلك أحداً، ويكون فيه تعليم للجاهل، ورفع للذكر، وطرد للشيطان، واتباع لسنة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 8 التسبيح والدعاء وقت القراءة في الصلاة الرابع عشر: هل يشرع للإنسان أن يسبح الله تعالى ويسأله ويستعيذ إذا سمع من الإمام آيات فيها سؤال أو استعاذة أو تسبيح؟ هل يشرع له أن يقول: سبحانه، إذا جاء ذكر الله تعالى، أو يسأل الله الجنة إذا جاء ذكر الجنة، أو يستعيذ من النار إذا جاء ذكر النار؟ ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في صلاة الليل، كما في حديث حذيفة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة والنساء وآل عمران، لا يمر بآية فيها تسبيح إلا سبح، ولا تعوذ إلا استعاذ، ولا سؤال إلا سأل، ومثله حديث عوف بن مالك الأشجعي كما روى موسى بن أبي عائشة قال: {كان رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فوق سطح بيته، فكان إذا قرأ قول الله تعالى في آخر سورة القيامة: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:40] قال: سبحانك فبلى، سبحانك فبلى، فسأله، فقال: سمعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم} والحديث رواه أبو داود وسنده جيد. وفي المسألة أقوال، قيل: يكره ذلك مطلقاً في الفريضة والنافلة، وقيل هو مشروع مطلقاً، والاعتدال أن ذلك مشروع في النافلة لثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جائز في الفريضة أيضاً فلا دليل على منعه، والأصل أن ما جاز في النفل جاز في الفرض إلا أن يدل الدليل على غير ذلك، فقد ثبت عن بعض الصحابة أنهم كانوا يسبحون الله تعالى ويسألونه ويستعيذون به في الفريضة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 9 التشهد الأول والأخير الحادي عشر: التشهد الأول والجلوس له، وهو واجب، وقال أكثر أهل العلم: هو سنة، ويقرأ في هذا التشهد بالتحيات، وإن صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا التشهد أحياناً فحسن؛ لثبوته عن بعض الصحابة، هذا بالنسبة للتشهد الأول، أما التشهد الأخير فهو ركن، ولا بد فيه من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم. ويدعو في التشهد الأخير بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، ومن الأدعية الواردة كما في الصحيحين: {أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال} بل قال بعض أهل العلم: هذا الدعاء واجب، وأمر طاوس ابنه لما ترك هذا الدعاء أن يعيد صلاته، ومن الدعاء الوارد: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} ومنه أيضاً: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} ومنه: {اللهم اغفر لي ما قد مت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت؛ أنت المقدم، وأنت المؤخر لا إله إلا أنت} إلى غير ذلك من الأدعية، فالتشهد الأخير من مواضع الدعاء. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 10 جلسات الصلاة الثاني عشر: أما الجلسات في الصلاة فهي نوعان: النوع الأول الافتراش: وهو أن يقعد على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وهذا يكون في القعدة بين السجدتين، ويكون في التشهد الأول أيضاً، ويكون أيضاً في التشهد الأخير في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد، كصلاة الفجر أو النافلة ونحوها. أما الجلسة الثانية فهي التورك: ويقصد به أن يفضي الإنسان بمقعدته إلى الأرض ويجعل قدميه عن يمينه، فينصب اليمنى ويجعل اليسرى مفروشة تحتها أو يجعل اليسرى بين فخذه وساقه أو غير ذلك، وهذه القعدة وهي التورك إنما تفعل في التشهد الأخير في الصلاة التي يكون فيها تشهدان، كصلاة المغرب أو العشاء أو الظهر أو العصر، وقيل: بل يفترش في كل تشهد، وقيل: بل يتورك في كل تشهد، والاعتدال أنه يتورك في التشهد الأخير من الصلاة الثلاثية والرباعية، ويفترش في التشهد الأول، ويفترش أيضاً في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 11 تنوع بعض الألفاظ والأدعية الثالث عشر: هناك صفات متنوعة في بعض الأعمال في الصلاة، مثل الاستفتاح، فينبغي أن ينوع العبد، فيستفتح مرة بدعاء ومرة بدعاء آخر، حتى لا يكون ذلك على سبيل العادة، فيفعله دون أن يتأمله أو يتدبره أو ينتبه إليه، ومثله أيضاً أدعية الركوع والسجود، ومثله أنواع التشهدات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، كتشهد ابن مسعود: {التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله} أو تشهد ابن عباس: {التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله} أو تشهد عائشة أو تشهد عمر أو تشهد أبي موسى أو غيره. ومثله أيضاً الجهر بالبسملة والإسرار بها، فقد جاء في بعض الأحاديث وهي صحيحة -وهو مذهب كثير من أهل العلم- أنه يجهر بالبسملة أي الإمام في الصلاة الجهرية من سورة الفاتحة، وقال آخرون: بل يسر بها، والأفضل كما رجح الإمام ابن القيم وغيره أن الغالب أنه يسر بها، ولكنه يجهر بها أحياناً كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم. ومثله أيضاً التسليم، فقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم مرة فقال: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} ومرة أخرى قال: {السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، السلام عليكم ورحمة الله} والغالب أنه كان يقول: {السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله} وربما قال: {السلام عليكم، السلام عليكم} وكل ذلك جائز، ويتم به الانصراف من الصلاة، وأكثر ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم: {السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله} ومما ينبغي أن يعلم أن الواجب هو التسليمة الأولى فقط، أما التسليمة الثانية فهي سنة، ونقل ابن المنذر إجماع العلماء على عدم وجوبها. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 12 الجلوس بين السجدتين تاسعاً: يرفع من سجوده، ويجلس بين السجدتين، ويضع يديه على ركبتيه أو على فخذيه ويدعو بما ورد، وقد ورد في هذا الموضع عشرة ألفاظ يدعو بها أو ببعضها: (رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني وانصرني وأجبرني وارفعني واعف عني) وقد جاء أيضاً ولا حرج أن يقول ذلك كله: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص:24] . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 13 جلسة الاستراحة عاشراً: يسجد السجدة الأخرى أو الثانية كالسجدة الأولى، ثم يقوم بعد السجدة الثانية إلى الركعة الثانية، وإن جلس قبل أن يقوم للركعة الثانية جلسة خفيفة فهذا حسن، وهذه الجلسة تعرف عند الفقهاء بجلسة الاستراحة، وقد جاء فيها أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها حديث مالك بن الحويرث في صحيح البخاري: {أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته -في وتر، أي: إذا انتهى من الركعة الأولى أو انتهى من الركعة الثالثة- لم ينهض حتى يستوي قاعداً} وهذا الحديث حديث مالك بن الحويرث هو أشهر حديث في الباب كما قال الحافظ ابن حجر، ومن ميزاته أنه لم يرد إلا على هذه الصورة، فكل أحاديث مالك بن الحويرث فيها ذكر هذه الجلسة الخفيفة بعد الركعة الأولى وبعد الركعة الثالثة، وقد جاء أيضاً حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: {ثم يرفع من السجود ثم يقول: الله أكبر ثم يثني رجله فيقعد عليها معتدلاً} وهذا اللفظ رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، وحديث أبي حميد جاء فيه رواية أخرى سكت عن جلسة الاستراحة، وجاء في رواية ثالثة نفى أن يكون جلس، قال: {ثم يقوم ولا يتورك} ومثله أيضاً في حديث أبي هريرة في قصة المسيء صلاته وأن النبي صلى الله عليه وسلم جلس تلك الجلسة، وقد رواه البخاري بالأوجه الثلاثة، فمرة ذكر هذه الجلسة الخفيفة، ومرة سكت عنها، ومرة ذكر ما يدل على أنه تركها، ومثله أيضاً حديث رفاعة بن رافع في قصة المسيء صلاته. وقد اختلف أهل العلم كثيراً، فقال بعضهم: من السنة أن تجلس هذه الجلسة الخفيفة، وقال بعضهم: مكروه، وقال بعضهم: يفعلها للحاجة، والأولى والأقرب والله أعلم أن يفعلها تارة ويتركها تارة جمعاً بين النصوص، وهذا ما كان يفعله الإمام أحمد، كما في كتاب: مسائل الإمام أحمد لـ ابن هانئ فإنه قال: كان يفعلها مرة، ويتركها مرة، وفي ذلك جمع بين الأقوال، ولو حافظ الإنسان على هذه الجلسة لم يكن عليه من حرج أو بأس إذا اعتقد سنيتها، لأن أمامه أدلة قوية، وأمامه علماء جهابذة عظام قالوا بمشروعية هذه الجلسة في كل حال وعلى الإطلاق. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 14 السجود والذكر فيه ثامناً: يهوي الإنسان بعد ذلك ساجداً، وهل يقدم في السجود يديه أو ركبتيه؟ في ذلك خلاف طويل بين أهل العلم، وقد نقل الإمام ابن تيمية رحمه الله الإجماع على أن صلاة من قدم يديه أو ركبتيه صحيحة، وإنما الخلاف في الأولى والأفضل من ذلك، إذن ينبغي أيضاً أن نعطي هذه المسألة قدرها، فلا نعظمها ونضخمها، ونجعلها مجالاً للخصومات والعداوات والقيل والقال واختلاف القلوب، بل نبحثها بحثاً علمياً هادئاً رزيناً بعيداً عن التشنج والانفعال والإثارة، فنقول: من أهل العلم من قال: السنة أن يقدم الإنسان ركبتيه ثم يديه ثم جبهته بهذا الترتيب، وهذا الذي رجحه الإمام ابن القيم، ورجحه جماعة من علمائنا المعاصرين كسماحة الشيخ ابن باز وسماحة الشيخ محمد بن العثيمين وغيرهم من أهل العلم. ومن أهل العلم من قال: السنة أن يقدم الإنسان يديه ثم ركبتيه إذا هوى إلى السجود، وكأن هذا أشبه وأقرب إلى السنة -أن يقدم الإنسان يديه ثم ركبتيه- وفي حديث أبي هريرة: {إذا سجد أحدكم، فلا يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه} ومثله حديث ابن عمر بمعناه، وهو أصح من حديث وائل بن حجر الذي ذكر تقديم الركبتين قبل اليدين. وعلى كل حال فسواء قدم الإنسان يديه أو قدم ركبتيه، فإنه ينبغي ألا يتشبه بالحيوانات في هذا الهوي، فإن الإنسان إذا انحط بجملته وكليته مرة واحدة كان متشبهاً ببروك البعير، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: {لا يبرك كما يبرك البعير} والتشبه بالحيوانات مذموم خاصة في الصلاة، فعلى الإنسان إن هوى بركبتيه أن ينزل تدريجياً، وإن هوى بيديه أيضاً أن ينزل تدريجياً. ويقول: وعليه في سجوده أن يباعد جسمه بعضه عن بعض، فيباعد بطنه عن فخذيه، وفخذيه عن ساقيه، ويرفع ذراعيه ليعطي كل عضو حقه من السجود. ويقول في ذلك السجود: سبحان ربي الأعلى، والواجب مرة واحدة، وما زاد فهو من الكمال والفضل، ولما نزلت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اجعلوها في سجودكم} ويستحب له أن يكثر من الدعاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِنٌ أن يستجاب لكم} ومن الدعاء المشروع أن يقول: {سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي} وكذلك: {سبوح قدوس رب الملائكة والروح} وكذلك: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، يا مصرف القلوب صرف قلبي على طاعتك} . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 15 الركوع والذكر فيه سادساً: يركع الإنسان، ويحني ظهره، ويجعل رأسه مساوياً لظهره، كما قالت عائشة: {إذا ركع لم يرفع رأسه، ولم يصوبه ولكن بين ذلك، وكان لو صب على ظهره الماء لاستقر} من تساويه واعتداله، ورأسه كذلك كان مساوياً لظهره عليه الصلاة والسلام، وكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظيم. أما الوجوب فمرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] قال: {اجعلوها في ركوعكم} وهذا يتحقق بمرة واحدة، وأما أدنى الكمال فكما قال الفقهاء: ثلاثاً، ويدعو في الركوع أيضاً بما ورد، وكان من دعائه صلى الله عليه وسلم في ركوعه كما في حديث عائشة المتفق عليه: {سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي} إلى غير ذلك من الأدعية. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 16 الرفع منه والذكر فيه سابعاً: يرفع رأسه ويقول: سمع الله لمن حمده إن كان إماماً أو منفرداً، أما المأموم فلا يقولها، بل يكتفي بقول: (ربنا ولك الحمد) وهذا الدعاء يشترك فيه الإمام والمأموم والمنفرد، فيقولون جميعاً: ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، ملء السماء والأرض وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فما معنى هذا الدعاء؟ (ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماء وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد) معناه: هذا الحمد الذي نحمدك يا رب هو حمد كثير طيب لا ينتهي أبداً، يملأ السموات ويملأ الأرضين ويملأ غيرها مما تشاء يا رب. ثم قال: (أهل الثناء والمجد) يا ربنا أنت أهل الثناء والمجد، (أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد) كلنا عبيد لك، وأفضل وأعظم كلمة قالها عبد هي: (اللهم لا مانع لما أعطيت) فهذه أعظم كلمة قالها العبد وأحق كلمة قالها عبد (اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد) فذو الحظ والغنى، وذو الملك والسلطان، وذو المال والثراء، وذو الصحة والقوة لا ينفعه منك ذلك، إنما ينفعه عمله الصالح، أما جده وحظه الدنيوي فلا ينفعه. فليس لأمر قدر الله جمعه مشت ولا ما فرق الله جامعُ فالعبد الذي يقول هذا أَنَّى له أن يطأطئ رأسه لغير الله، أو يذل لسواه، أو يطلب الدنيا ويختلها بالدين، أو يضعف ويخاف من الطواغيت وأعداء الله وأعداء رسوله عليه الصلاة والسلام، إن المؤمن الذي يقول هذا الدعاء بقلب حاضر سيمتلئ قلبه ثقةً بالله وتوكلاً عليه، وشجاعةً وجرأةً وقوةً وإعراضاً عن الدنيا، وهكذا كانت مثل هذه العبادات والأذكار والصلوات تخرج الناس خلقاً آخر غير ما عهد الناس، فكان الواحد منهم يهجم على الموت يبحث عنه ويطلبه في مظانه رجاء أن يكتب الله تعالى له أجر الشهداء في سبيله. أما المسلم اليوم فإنه يقول هذا الدعاء، ثم يمد يده طلباً للدنيا، ويقول هذا الدعاء، ثم يخاف من القوى العظمى -كما تسمى- أو يخاف من رجال الأمن، أو يخاف من الدول، أو يخاف من أعدائه وخصومه، أو يخاف من الجن -كما نجد عند الكثيرين- أو يخاف من الشياطين، أنى لإنسان يقول بلسانه وقلبه يواطئ لسانه: لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد، أن يطلب الدنيا من غير الله تعالى، أو يقف بباب غير باب الله تعالى! وهذا الموضع -موضع القيام من الركوع- هو موضع قنوت ودعاء، فهو أحد المواضع التي يشرع فيها الدعاء في الركعة الأخيرة من الوتر وكذلك في غير الوتر في الصلوات في النوازل والمصائب العامة التي تنزل بالمسلمين، ويمكن للإنسان أن يقنت ولو سراً منفرداً أو غير منفرد، فيطيل الوقوف كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل ويدعو الله تعالى بما أحب من خير الدنيا والآخرة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 17 قراءة سورة بعد الفاتحة خامساً: ويقرأ بعد الفاتحة سورةً، استحباباً لا وجوباً في الركعتين الأوليين من الصلاة الرباعية ومن الصلاة الثلاثية، ففي الفجر يقرأ بطوال المفصل، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في الفجر بسورة السجدة، وهل أتى على الإنسان، وقرأ بسورة ق وقرأ إذا الشمس كورت، وغالب ما يقرأ من ستين إلى المائة يقسمها بين الركعتين. أما في الظهر فإنها أقل من الفجر، ولكنها أطول من العصر، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ أحياناً في الظهر بطوال المفصل، فقرأ بالذاريات، بل قرأ في الظهر بلقمان، فثبت هذا عنه عليه الصلاة والسلام، والغالب أنه يقرأ قراءة أقل من صلاة الفجر وأطول من صلاة العصر، أما في العصر فيقرأ بأواسط المفصل كسورة النبأ والمطففين والتكوير والبروج ونحوها، أما المغرب فيقرأ أحياناً بالقصار كما في حديث سليمان بن يسار {أنه كان يقرأ بقصار المفصل، وقال أبو هريرة: أذكرني هذا صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم} . ومثله حديث الصنابحي وقد ذكر أنه صلى خلف أبي بكر بالمدينة وذكر أنه وكان يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد قرأ صلى الله عليه وسلم في المغرب بغير ذلك، فقرأ بالطور مرة، وقرأ بسورة المرسلات، بل قرأ بسورة الأعراف طولى الطوليين في مرة أو أكثر من ذلك، أما في العشاء فهو يقرأ فيها كالعصر بأواسط المفصل، وقد قرأ عليه الصلاة والسلام في العشاء: إذا السماء انشقت ذات مرة، وسجد فيها، وكذلك في الصحيحين من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ معاذ بن جبل: {أفتان أنت يا معاذ -لما أطال القراءة- اقرأ "بالشمس وضحاها"، "والليل إذا يغشى"، و"سبح باسم ربك الأعلى"} هذا ما يتعلق بما يقرأه الإنسان. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 18 حكم قراءة الفاتحة للمأموم والإمام والمنفرد المسألة الرابعة: قراءة الفاتحة، وهي ركن للإمام والمنفرد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} أما المأموم فإن كان الإمام يسكت قرأ الفاتحة، وإلا سكت المأموم وتكفيه قراءة إمامه إن شاء الله تعالى، وفي ذلك أقوال كثيرة هذا أصحها وأرجحها فيما ظهر لي، ولذلك أدلة؛ من أعظمها قول ربنا تعالى في القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] . قال بعض المفسرين: أجمع العلماء على أن ذلك في الصلاة، فإذا كان الإجماع على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، فكيف نستثني منها الحالة الوحيدة التي يمكن أن يقرأ فيها الإمام والمأموم، وهي ألا يسكت الإمام بعد قراءة الفاتحة؟! فإذا لم يسكت الإمام فعليك أن تسمع وتطيع لما قال الله، فتسكت رجاء أن تدخل في رحمة الله تعالى. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأئمة: {يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فعليهم ولكم} فقوله: (يصلون لكم) دليل على أن قراءة الإمام قراءة لمن وراءه، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا} فقوله: {وإذا قرأ فأنصتوا} بعد ما بين ما يقول الإمام، بين ما يقول المأموم، فإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، قال المأموم: ربنا ولك الحمد، وإذا ركع الإمام ركع المأموم، فبين ما يجب عليهم جميعاً، وهو الركوع -مثلاً- والوقوف والسجود وغير ذلك. وبين ما يجب على الإمام دون المأموم، وهو قول: سمع الله لمن حمده، وبين ما يجب على المأموم مع الإمام، وهو قول: ربنا ولك الحمد، ثم قال: {وإذا قرأ فأنصتوا} فدل على أن المأموم مطالب بالإنصات متى شرع إمامه في القراءة حتى لو لم يتمكن من قراءة الفاتحة، وقد جاء في ذلك حديث: {من كان له إمام فقراءته له قراءة} وهذا الحديث جاء عن أنس بن مالك وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عمر وجابر وغيرهم وصححه جماعة من أهل العلم، كالإمام البوصيري والإمام شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن المعاصرين الشيخ الألباني وغيرهم، وضعفه آخرون. وعلى كل حال فإنه لم يثبت قطعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسكت وهو إمام، حتى يتمكن من وراءه من القراءة، ولو كانت قراءة الفاتحة واجبة على المأموم، لسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتمكن المأموم من قراءتها، وقد قال عليه الصلاة والسلام يوماً بعدما انصرف من صلاة الفجر، قال: {ما لي أنازع القرآن؟! لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، فنهاهم قال الزهري: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر فيه النبي صلى الله عليه وسلم بالقراءة} . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 19 وضع اليد اليمنى على اليسرى على الصدر ثالثاً: يضع يده اليمنى على يده اليسرى كما سبق، وهذا يكاد يكون اتفاقاً بين أهل العلم وخالف في ذلك القليل، ثم يضع يديه على صدره، لحديث وائل بن حجر قال: {صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فوضع يده اليمنى على اليسرى على صدره} والحديث رواه ابن خزيمة وفي سنده ضعف، ولكن له شاهد آخر مرسل صحيح، عن طاوس قال في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم: {أنه كان يضع يده اليمنى على اليسرى، ثم يشد بينهما على صدره} والحديث هذا رواه أبو داود وهو مرسل صحيح، وبه يتقوى حديث وائل بن حجر رضي الله عنه. وهناك أقوال: بعضهم يقول: يرسل يديه، وبعضهم يقول: يضعهما فوق السرة، وبعضهم يقول: يضعهما تحت السرة، وأود أن أقول: إن الأمر في ذلك كله واسع، فأما السنة فلا شك أن السنة وضع اليمنى على اليسرى، وليست إرسال اليدين، ثم إن وضعهما على صدره أو تحت الصدر قليلاً أو فوق السرة أو تحت السرة فذلك كله واسع، والأولى أن يضعهما فوق الصدر. إنما ينبغي ألا تكون هذه المسألة من المعضلات، وألا تكون مثاراً للجدل والإشكال والقيل والقال، وينبغي أن يكون فيها تعاذر وتناصح وتغافر، فلو خالفتني في هذه المسألة فلا حرج عليك إن شاء الله، وأرجو ألا تؤاخذني إن خالفتك أيضاً، فإن الصلاة -كما أسلفت- عبادة المقصود فيها ما يقرب إلى الله تعالى، وليس المقصود فيها الجدل والقيل والقال وارتفاع الأصوات واختلاف القلوب، ولأن نضع أيدينا مختلفين، فهذا وضعهما على صدره، وهذا وضعهما فوق سرته، وهذا وضعهما تحت سرته، مع اتفاق القلوب وسلامتها والنصح للمسلمين لهو خير عند الله تعالى من أن نفعل غير ذلك، وتكون القلوب مختلفة متناحرة مليئة بالبغضاء لإخوانك المسلمين. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 20 تكبيرة الإحرام أولاً: يرفع العبد يديه في مبدأ الصلاة، ويقول: الله أكبر، وهذه تكبيرة الإحرام، وبها يدخل الإنسان في الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم} فإذا كبر دخل في الصلاة وأحرم بها، فأصبح محرماً عليه أن يأكل أو يشرب أو يتكلم أو ينصرف عن القبلة أو يعاني أي عمل من أعمال الدنيا التي تتنافى مع الصلاة. وهذه التكبيرة ركن من أركان الصلاة، وينبغي أن يرفع يديه مع التكبير، يرفعهما إلى منكبيه -كما جاء في بعض الأحاديث- أو إلى أطراف أذنيه، كما جاء في أحاديث أخرى، ورفعهما إلى المنكبين هو مذهب الجمهور، وأكثر الأحاديث عليه، ولو رفعهما إلى أطراف الأذنين فلا حرج، فقد جاء في أحاديث أخرى، وتوسط بعض أهل العلم فقال: يكون أسفل اليد إلى المنكب، وأطراف الأصابع إلى فروع الأذنين. وهذا الرفع مسنون عند تكبيرة الإحرام، كما هو مسنون أيضاً عند تكبيرة الركوع، وعند الرفع من الركوع، وهو أن يقول: سمع الله لمن حمده ويرفع يديه، كما هو مسنون في موضع رابع عندما يقوم من التشهد الأول، فهذه أربعة مواضع، ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر وغيره أنه يشرع للإنسان أن يرفع يديه فيها مع التكبير أو مع التسميع، وهو سنة على كل حال، كما هو مذهب الجماهير من العلماء بما في ذلك الأئمة الأربعة، رفع اليدين عند التكبير والركوع والرفع من الركوع والقيام من التشهد الأول هو سنة وليس بواجب، كما هو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 21 دعاء الاستفتاح ثانياً: بعد التكبير يستفتح العبد، وهو سنة وليس بواجب عند جميع أهل العلم، وأي دعاء ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز أن يستفتح به العبد، مثلاً: {سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك} هذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما في صحيح مسلم وغيره، وجهر به عمر وعلمه الناس، ورجحه الإمام ابن القيم من نحو عشرة أوجه، واختاره الإمام أحمد، وفي كتاب التوحيد لـ ابن مندة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أحب الكلام إلى الله: سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك} وسند الحديث جيد. وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه عليه السلام كان يستفتح فيقول: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} وإن دعا بغير ذلك من الاستفتاحات الواردة، وهي نحو أربعة عشر استفتاحاً، فلا بأس بذلك، ولو جمع بين استفتاحين لم يكن عليه في ذلك إن شاء الله حرج كما رجحه الإمام ابن تيمية رحمه الله، ثم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 22 آداب ومناقب أتجاوز بعض الأشياء الباقية وانتقل إلى النقطة الرابعة وهي آداب ومناقب: أولاً: المصلي يجب أن يكون قدوة في عمله وقوله وسلوكه، فأولئك المترددون على المساجد هم رمز للهداية، ورمز للتقوى، ورمز للدين والطاعة، فينبغي أن يكون من تعظيمهم لقدر الصلاة أن يحرصوا على أن يكونوا قدوة في أعمالهم وأقوالهم لئلا يؤخذ عليهم شيء. ثانياً: ينبغي احترام المساجد بتنظيفها وتطييبها وتطهيرها وحفظها وصيانتها، قال الله عز وجل: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] وحماية المساجد من كل ما يتنافى مع العبادة، مثل البيع والشراء فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، بل أمر أن يقال لمن يبيع ويشتري: {لا أربح الله تجارتك} . ومثله الشعر، فتناشد الأشعار بأن يكون المسجد كأنه منتدى أدبي أو أمسية شعرية للقيل والقال، والأشعار والرد، وأما قراءة الأبيات لمناسبة، فهذا لا بأس به. ومثله أيضاً رفع الأصوات في المساجد والجدل العقيم، ومثله وضع الصور والرسومات الملفتة للمصلي خاصة في جهة القبلة، لأنها تشغل المصلي، وربما أخذت شيئاً من وقته، ولهذا إذا كان في قبلة المصلي ما يشغل بصره أو في جهة نظره في موضع قيامه وفي موضع سجوده فإنه لا بأس حينئذ لهذا العارض الطارئ أن يغمض عينيه إن كان يحتاج إلى ذلك، وإلا فالأصل ألا يغمض الإنسان عينيه، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يغمض عينيه في الصلاة. ثالثاً: ينبغي للمتردد على المسجد أن يحترم إخوانه من المصلين، بحسن معاملتهم، والهشاشة والبشاشة في وجوههم، والبسمة لهم والسؤال عن أحوالهم، وتجنب ما يحرجهم أو يعنتهم أو يشق عليهم، فقد كان هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] . ومن ذلك أيضاً تجنب أن يطيل الإنسان الصلاة طولاً يشق على من وراءه، أو يطيل القراءة طولاً يشق على من وراءه، وقد عاتب النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وقال له: {أفتان أنت يا معاذ} وخاصة في صلاة الفريضة لأنها واجبة على الجميع، أما النافلة كما هي الحال في صلاة التراويح والقيام في رمضان فالأمر أوسع؛ لأن النافلة بإمكان الإنسان الذي يشق عليه ذلك كالكبير والمريض وغيرهم، أن يقعد، وبإمكانه أن يصلي ما كتب الله له، ثم يدع ما لا يطيق، ومثله أيضاً مراعاة المصلين في أسلوب الوعظ والحديث، بحيث يتلطف معهم، ويحرص على التسلل إلى قلوبهم بالكلمة الهادئة الهادفة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 23 تحذيرات نبوية خامساً: تحذيرات نبوية: التحذير الأول: ترك الصلاة: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وقال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب بعضهم إلى أن من ترك الصلاة كفر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وقال بعضهم: هو كفر أصغر، والأقرب ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، ونسبه إلى جماعة من العلماء: أن تارك الصلاة إن تركها بالكلية، لا يصلي ليلاً ولا نهاراً، لا مع الجماعة ولا في بيته، لا في رمضان ولا في غيره، لا جمعة ولا جماعة، فهو كافر، أما إن كان يصلي ويترك ويصلي أحياناً وقد ينشغل، فهذا على خطر عظيم، وقد أتى باباً من أبواب الكبائر، ويخشى أن يختم له بسوء، وقد يجره ذلك إلى ما هو أعظم منه، لكن لا يحكم عليه بالردة والخروج من الإسلام. التحذير الثاني: ترك الجماعة، فإن الجماعة واجبة، أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} وقال عليه الصلاة والسلام: {صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين -وفي رواية- بخمس وعشرين درجة} إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أنه يلزم الإنسان أن يصلي مع الجماعة إذا كان صحيحاً مقيماً معافىً. التحذير الثالث: من التساهل بالطهور، فإن المتساهل على خطر عظيم، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسن الإنسان وضوءه لصلاته. التحذير الرابع: من عدم متابعة الإمام، بحيث يسابقه الإنسان، فيرفع قبله، أو يسجد قبله، أو يوافقه أحياناً، فيرفع معه أو يسجد معه، مع العلم بأنه لم يسلم إلا بعد سلام الإمام، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن المسابقة، وحذر منها أشد التحذير، وفي حديث البراء بن عازب -في الصحيح- قال: {كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كنا وراءه، لم يحن أحد منا ظهره حتى تقع جبهته صلى الله عليه وسلم على الأرض، ثم يخر أحدنا بعد ذلك ساجداً} فلا تنتقل إلى الركن إلا بعد أن يتم انتقال الإمام إليه، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كما في حديث أنس {أيها الناس إنما أنا إمامكم؛ فلا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالقيام ولا بالانصراف فإني أراكم أمامي ومن خلفي} وفي حديث أبي هريرة أيضاً وهو في الصحيح: {أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار} وهذا من التشديد والوعيد على من فعل ذلك. التحذير الخامس: من رفع البصر إلى السماء، خاصة حال الدعاء، وفي جميع الصلاة فإنه محرم، وفي حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو لا ترجع إليهم أبصارهم} . التحذير السادس: من مسح الحصى والأرض والتراب باليد، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {إن كنت ولا بد فاعلا فواحدة} وقال في حديث آخر: {واحدة أو دع} . الجزء: 75 ¦ الصفحة: 24 الأسئلة الجزء: 75 ¦ الصفحة: 25 عدم اتفاق الأنبياء في أحكام الصلاة السؤال قرأت في كتاب عن توحيد الله تعالى، فقال: كل الأعمال لم تتوحد بين الأنبياء، وإنما كلهم أمروا بالتوحيد، وضرب لذلك مثلاً بالصلاة، فقال: لم تفرض على كل الأنبياء، بينما الأنبياء أمروا بالتوحيد، فهل كلامه صحيح؟ الجواب الظاهر أن الصلاة مفروضة على الأنبياء جميعاً، لظاهر النصوص التي ذكرتها، ولكن لا يلزم أن يكون الأنبياء متفقين في جميع تفاصيل أحكام الصلاة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 26 كيفية التعامل مع شخص في البيت لا يصلي السؤال أعيش في بيت يوجد فيه شخص لا يصلي، ويصعب التعامل معه، وتوجد والدتي، ولا ترضى بخروجي من البيت، فما هي الوسيلة المثلى التي أستطيع بواسطتها دعوته؟ الجواب ينبغي أن تبذل الأسباب المعروفة في دعوة هذا الإنسان إلى الصلاة، ولا تيئس منه، فإنني وجدت الكثيرين يريدون أن يستجاب لهم من أول وهلة، فنحن نجد أن الرسل والأنبياء دعوا قومهم وصبروا عليهم، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] فلعل نصر الله تعالى يأتيك من خلال هداية أخيك على يدك: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم} فاصبر عليه وادعُ له، وحاول أن تبذل ما تستطيع، فإذا أيست من هدايته، فعليك بمقاطعته، إذا كنت لا تستطيع أن تكون في بيت آخر غير البيت الذي هو فيه. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 27 حكم الوسوسة في النجاسة السؤال عندما يتوضأ الإنسان ويصيب جسمه نجاسة من رشق الماء أو غير ذلك، هل ينجس بذلك أم لا؟ الجواب إن كان يعلم يقيناً أن هذه نجاسة فلا شك، أما ما يقع لكثير من الموسوسين الذين إذا أصابهم ماء في دورة المياه قال: هذا لا بد أصابته نجاسة، فهؤلاء لا يلتفت إليهم، والأصل في الأشياء الطهارة، وخاصة أن دورات المياه اليوم لا يبقى فيها شيء من النجاسة، بل تزول حالاً بالماء، فلا تكون هذه الدورة حينئذ نجسة، ولا يكون الماء الذي يرشق على الإنسان من خلال هذه الدورة نجساً إلا إذا علم يقيناً قطعياً لا شك عنده فيه أنه نجس. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 28 أحد أدلة كفر تارك الصلاة السؤال قال صلى الله عليه وسلم في أئمة الجور: {لا. ما أقاموا فيكم الصلاة} وقال: {إلا أن تروا كفراً بواحاً} هل يعد هذا من الأدلة على كفر تارك الصلاة؟ الجواب هذا أحد الأدلة التي استدل بها من قال بكفر تارك الصلاة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 29 من أحكام سجود السهو السؤال سجود السهو متى يكون قبل السلام؟ ومتى يكون بعده؟ وهل يكون السجود بعد الصلاة واجباً أم للأفضلية؟ الجواب أما أنه واجب فليس بواجب، فلو سجد كل سجود السهو قبل السلام فلا حرج في ذلك، كما هو رأي جماهير أهل العلم، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى، أما متى يكون السجود قبل السلام، فإنه يكون قبل السلام إذا سجد للسهو عن نقص، كما لو نسي التشهد الأول -مثلاً- أو نسي سبحان ربي الأعلى أو نسي سبحان ربي العظيم، فإنه يسجد للسهو قبل السلام، لحديث عبد الله بن مالك بن بحينة وهو في الصحيح. أما متى يكون بعد السلام، فإنه يكون بعد السلام إذا سجد عن زيادة، مثلاً لو صلى خمساً أو جلس للتشهد الأول يظنه التشهد الأخير، ثم نبهوه بعد ذلك، فقام وأطال في الصلاة، أو صلى عن ركعتين وسلم، ثم تنبه فأتى بالركعتين الباقيتين، فهذا يكون زيادة؛ لأن التشهد الطويل والسلام في صلب الصلاة تعتبر زيادة، فحينئذ يسجد للسهو بعد السلام، أما إن شك في الصلاة فإنه يكون له حالان: الحال الأولى: أن يترجح عنده أحد الطرفين، فشك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، ورجح أن الصلاة حينئذ ثلاث، فإنه يأتي بالرابعة ويسجد للسهو بعد السلام. الحال الثانية: فهي أن يشك ولا يترجح له شيء، لا يدري هل هي ثلاث أم أربع، فحينئذ يأخذ بالأقل، فيعتبرها ثلاثاً، ويسجد للسهو قبل السلام. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 30 واجب أئمة المساجد مع تاركي الصلاة في منطقتهم السؤال كثير من الأئمة لا يتابعون المتخلفين عن الصلاة، مع أن بعضهم لا يصلي أبداً، وبعضهم يصلي وقتاً واحداً في اليوم، فما واجب الأئمة هؤلاء؟ الجواب ينبغي -ليس على الأئمة فقط بل على أهل الحي- أن يكون في كل حي مجموعة من الناس محتسبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا رأوا في الحي رجلاً لا يصلي زاروه في بيته أول مرة، وسألوه عن أحواله وأوضاعه، وقالوا: أنت جارنا، ونحب أن نتعرف عليك وتتعرف علينا، فبعض الناس يستحي من مجرد الزيارة فيصلي، فالحمد لله، وإذا لم يجد هذا زاروه مرة أخرى، وأعطوه كتيباً عن الصلاة وأهميتها أو شريطاً، فإن نفع فالحمد لله، وإذا لم يجد زاروه مرة ثالثة، وتكلموا معه بوضوح عن الصلاة، وما يجب عليه تجاهها، فإن استجاب وإلا ألحوا عليه، فإذا أيسوا منه ضغطوا عليه، إما أن يصلي وإما أن يفارقهم. فمثلاً: لو وجدوا إنساناً يشكون في أمره أن عنده منكرات أو معاصي كمن يبيع أو يتعاطى مخدرات، أو أنه يتوارد عليه أناس مشبوهون، أو أنه إنسان مفسد أو أنه مخل بالأمن أو أي شيء آخر من الأمور التي يخشون منها، فينبغي أن يكون هؤلاء قائمين بمهمة الاحتساب في حيهم وما حوله، ويكون الإمام أو المؤذن أو طالب العلم الموجود في المسجد مسئولاً عن مثل هذا العمل. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 31 حول صحة حديث: (من لم تنهه صلاته عن الفحشاء) السؤال ما صحة الحديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء لم يزد بها من الله إلا بعدا} ؟ الجواب هذا الحديث لا يصح -والله أعلم- مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكنه جاء من قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 32 ركعتا بعد الظهر من السنن الرواتب السؤال يقول: لم تذكر ركعتين بعد الظهر! الجواب نعم، ركعتان قبل الظهر وركعتان بعدها، هذا في السنن الرواتب. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 33 حكم قضاء السنن والرواتب السؤال يقول النبي صلى الله عليه وسلم ما معناه، إن الإنسان إذا فاتته صلاة فإنه يصليها متى ذكرها، فهل السنن الرواتب تدخل في ذلك؟ الجواب السنن والرواتب إن كان الإنسان تركها ناسياً أو مشغولاً فهي تدخل فيها: {من نام عن صلاة أو نسيها} أما إن تركها تفريطاً وإهمالاً، فمن أهل العلم من يقول: لا يصليها إذا تركها إهمالاً وتفريطاً، ومنهم من يقول يصليها متى وجد لذلك نشاطاً. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 34 كيفية استحضار الخشوع السؤال أنا شاب محب للخير، وأحضر المحاضرة، وأحافظ على شعائر الدين، ولكني مبتلى بعدم الخشوع في الصلاة، وكذلك النوم عن صلاة الفجر مع وضع المنبه، فما نصيحتك لي؟ الجواب ينبغي أن تبذل الأسباب في ذلك، أما فيما يتعلق بالخشوع، فعليك أن تكثر من التبكير إلى الصلوات، والسنن الرواتب وقراءة القرآن وسؤال الله تعالى أن يرزقك قلباً خاشعاً، فإن هذا من عند الله تعالى يهبه من يشاء، وتلح في ذلك، وتجاهد نفسك ولا تيئس، ولو لم تذكر الخشوع إلا وأنت في آخر الصلاة، فلا تقل: هذه الصلاة مضت، وقد أخشع في التي بعدها، بل حاول أن تستجمع قلبك في أي وقت من الصلاة، ولو كنت في التشهد الأخير. أما ما يتعلق بصلاة الفجر، فاتخذ الأسباب الكافية، وبكر في النوم، وحاول أن تجعل هناك منبهاً أو تجعل هناك من يوقظك من أهلك، وابذل وسعك في ذلك، وتذكر أنه لو كان عندك موعد في الخطوط في رحلة بالطائرة قبل الفجر أو مع الفجر كيف تكون أعصابك متوترة مستعدة، فربما تصحو بالليل عدة مرات خشية أن يفوتك الحجز، فكذلك ينبغي أن يكون قدر الصلاة في قلبك. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 35 قضاء الركعة التي لم يقرأ فيها بالفاتحة السؤال من لم يقرأ الفاتحة سواء كانت الصلاة سرية أم جهرية فهل يأتي بركعة أم ماذا؟ الجواب إذا كان الإمام ترك قراءة الفاتحة فلا شك أن عليه أن يعيد الركعة، ومثله أيضاً المنفرد. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 36 حكم صلاة التوبة السؤال هل يوجد صلاة للتوبة؟ الجواب نعم يوجد للحديث الذي ذكره علي رضي الله عنه وهو صحيح ورواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، أنه قال: {كنت إذا حدثني أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر -وصدق أبو بكر - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يذنب ذنباً، فيتوضأ، ويصلي ركعتين، ويستغفر الله تعالى إلا غفر له} فهذه صلاة التوبة. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 37 الصلاة في القبر من خصائص الأنبياء السؤال لقد ذكرت في بداية الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بموسى عليه السلام وهو يصلي في قبره، فهل هناك أعمال في الحياة البرزخية، أم أن هذا من خصائص الأنبياء؟ الجواب كلا، بل هذا من خصائص الأنبياء. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 38 بيان السنن الرواتب ذكر بعض الإخوة أنني قلت فيما يتعلق بصلاة المغرب: إنه يقرأ غالباً بطوال المفصل، والواضح من السياق أنني أقول: يقرأ في المغرب غالباً بقصار المفصل، وقد يقرأ بأطول منها، بل قد يقرأ بسور طوال كما قرأ بطولى الطوليين، هذا فيما يتعلق بالمغرب، أما ما يتعلق بالسنن الرواتب فأعيدها تأكيداً، لها وتذكيراً بها لعدم وجود فرصة لتفصيلها: أولاً: ركعتان قبل الظهر -وقال بعض العلماء: أربع ركعات قبل الظهر- وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، فهذه عشر ركعات أو ثنتا عشرة ركعة، وهناك غيرها من النوافل كالركعات قبل العصر أربعاً، وركعتين بين الأذان والإقامة، وصلاة الضحى أربع أو ست أو ثمان، وقال بعضهم: إلى اثنتي عشرة ركعة، ومثل الوتر يوتر بواحدة وهذا أقله، أو ثلاث أو خمس أو سبع أو تسع أو إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة وهو أكثر ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو زاد عن ذلك إلى ما كتب الله تعالى له، فلا حرج عليه في ذلك كله، المهم في صلاة الليل أن يسلم من كل ركعتين: {صلاة الليل مثنى مثنى} إلى غير ذلك من النوافل. الجزء: 75 ¦ الصفحة: 39 من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين الفقه هو العلم. ولكن للتفقه طرق، وأساليب متعددة، ولكل طريقة مزايا، كما أنها قد تؤدي إلى شيء من السلبية، وهنا تجد كلاماً واضحاً، وإرشادات نافعة حول الفقه والتفقه. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 1 قصور في الفهم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: أيها الإخوة: كثير من الشباب المتجه إلى الله تعالى في هذا العصر، أصبح هم طلب العلم الشرعي من أكبر الهموم لديهم، وأصبحوا يتطلعون إلى أن يعرفوا حكم الله ورسوله فيما ينزل بهم من نوازل، ومنهم من يتطلع إلى أن يكون فقيهاً أو عالماً أو مفتياً، ينفع الله به الأمة ويجلو به الظلمة. ولذلك أصبحت كثيراً ما تسمع أسئلةً حول رغبة بعض الشباب عن جوانب من الخير، كالدعوة إلى الله تعالى، والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والعبادة؛ بحجة الانقطاع إلى العلم والإقبال عليه، وهذا الفهم هو نابع من قصور في معرفة معنى العلم، في القرآن والسنة وعند السلف الصالح، فلم يكن معنى العلم عند سلف الأمة هو معرفة الأحكام الشرعية التفصيلية معرفة مجردة فحسب، وإن كان هذا جزءاً من العلم، وكان مفهوم العلم عندهم مفهوماً واسعاً، يشمل المعرفة العقلية لهذه العلوم بألوانها، من معرفة الأحكام الشرعية والعقائد وغيرها، ثم يشمل تطبيق هذه العلوم في الواقع، وظهور آثار هذا العلم بأعمال القلوب، من الحب والخشية والإنابة والخوف ونحوها، وبأعمال اللسان، من الذكر والتسبيح والدعاء والتعليم ونحوها، وبأعمال الجوارح، كالعبادة والجهاد وسواه، فكان هذا المفهوم متكاملاً عند السلف الصالح. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 2 المقصود الأعظم من وجود الإنسان هو: العلم العمل أيها الإخوة: طلب العلم بألوانه والعمل به هو المقصود الأعظم من وجود الإنسان، بما في ذلك طلب الفقه، وأعني بالفقه المعنى الاصطلاحي، الذي يُعبر عنه بأنه: معرفة الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية أي: معرفة الحلال والحرام والمستحب والمكروه، والمباح بأدلتها، فهذا هو المعنى الاصطلاحي للفقه، طلب هذا العلم وتحصيله بأدلته هو أيضاً من العلم، لا نقول: إنه العلم كله، ولكنه من العلم. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 3 العلم ليس الفقه فحسب وهذا ما يجب أن ينتبه له الشاب، وهو أن العلم في الإسلام ليس مجرد معرفة الأحكام الفقهية التفصيلية، وما ورد من الحث على العلم فهو يشمل ألوان العلوم مع التطبيق العملي، أرأيت قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] هل المقصود بالفقه في هذه الآية {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] هو فقط معرفة الحلال والحرام؟ كلا! لأن معرفة الحلال والحرام ليست هي التي يتم بها الإنذار، بل الإنذار يتم بالتخويف من الله تعالى والتذكير بأيامه، والوعد بالجنة والوعيد بالنار، وما أشبه ذلك، فهذا هو الذي يكون فيه الإنذار أكثر من غيره، وفي الآية قال الله: {لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] فأنت -مثلاً- لو أتيت لإنسان غير مسلم وقلت له: إن حكم الإسلام كذا، وهذا حلال وهذا حرام، قد لا ينفعه ذلك، بل في غالب الأحيان لو أتيت لإنسان عاص، وقلت له: إن الحكم كذا والحكم كذا مجرداً، فقد يستجيب، والغالب أنه لا يستجيب، إلا إذا جعلت هذا الحكم ضمن مؤثرات عديدة، خوفته بالله وذكرته به، وبينت له مغبة عمله، وإلا فقد يكون عارفاً بالحكم -أصلاً- ومع ذلك يعاند ويعصي على بينة. وهكذا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فليس المعنى في هذا الحديث: أن يفقهه في الدين، أي: أن يجعله عالماً بالحلال والحرام فقط، كلا! بل المعنى أشمل من ذلك، فالمعنى أن من أراد الله به خيراً جعله عالماً في الدين، عالماً بالله تعالى، وعالماً بالعقيدة الصحيحة، وعالماً بالحلال والحرام أيضاً، ومتأثراً في قلبه بهذا العلم ومطبقاً في جوارحه، وإلا فإن من علم العلم الشرعي من الفقه وغيره، ثم لم يعمل به ولم يدع إليه، فهذا لا يقال إنه أراد الله به خيراً، لأن علمه أصبح حجة عليه لا حجة له. وهكذا الحديث المتفق عليه، لما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أكرم الناس قال: {الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} أي إذا حصَّلوا الفقه، الذي هو العلم بالله وشرعه، علماً يورث تأثر القلب وانصياع الجوارح للعمل، ولذلك فإننا ينبغي أن ننتبه لهذا المفهوم، وألاَّ يكون توجهنا ورغبتنا في العلم هي رغبة في كسب إقبال الناس، لأن الشاب حين يرى إقبال الناس على المفتي وكثرة حاجتهم إليه، يخطر في باله أن يكون كذلك ليصرف به وجوه الناس إليه، وهذا والعياذ بالله من المقاصد الخطرة في طلب العلم، التي بين الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أرادها فجزاؤه النار حيث قال صلى الله عليه وسلم: {من تعلم هذا العلم ليباهي به السفهاء أو يماري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه، فالنار النار} وفي الحديث الآخر: {من تعلم علماً مما يتبغي به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا لدنيا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} والحديث عند أبي داود وغيره بإسناد صحيح. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 4 طرق تلقي الأحكام الشرعية حول هذا اللون من العلم أشير إلى بعض القضايا، وإن كان المجال لا يتسع لكل ما يتعلق بذلك، فأشير أولاً: إلى طرق التعلم أو الفقه في الدين، طرق معرفة الأحكام الشرعية، وهناك أكثر من طريقة لتلقي هذه الأحكام. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 5 الدراسة اللامذهبية أما الطريقة الثانية: فهي أن يبدأ طالب العلم أو المتفقه بدراسة المسائل الفقهية أصلاً، ليس على وفق مذهب معين، بل يبدأ في الدراسة منذ أول تفقهه عاملًا على البحث عن الترجيح، وهذا قد يكون باعتماد كتب فقهية أو حديثية. ففيما يتعلق بالكتب الفقهية، هناك كتب مما يمكن أن يسمى بالفقه المقارن، بمعنى أن مؤلف هذا الكتاب يذكر القول وما يقابله، ويقارن بين الأقوال ويصل إلى نتيجة، دون أن يصل إلى مذهب معين، وقد لا يلتزم بالمقارنة؛ لكن يعتمد ذكر المسائل على القول الذي يعتقد أنه الراجح مع دليلها. ومن أمثلة هذه الكتب: كتاب فقه السنة لـ سيد سابق، وهو يصلح أن يعتبر من الفقه المقارن إلى حد، ومن أمثلة الكتب التي تعتمد على ذكر القول الراجح بدليله -القول الراجح لدى المؤلف- كتاب الدرر البهية والدراري المضية للشوكاني، والروضة الندية لـ صديق حسن خان، وإن كانت لا تستوعب جميع المسائل الفقهية. فقد يبدأ الطالب بقراءة هذه الكتب، أو يبدأ بقراءة كتب حديثية وليست فقهية، من الكتب التي عنيت بشرح أحاديث الأحكام. فإن العلماء منذ القديم عنوا بالتصنيف في أحاديث الأحكام، فصنف فيها -مثلاً- الإمام المجد ابن تيمية -جد شيخ الإسلام - كتاباً سماه المنتقى من أحاديث المصطفى، وصنف الإمام المقدسي كتابعمدة الأحكام وصنف الحافظ ابن حجر كتاب بلوغ المرام. وهناك كتب أخرى غير هذه الكتب، ولكنها قد تكون أقل شهرة منها. وهذه الكتب التي جمعت أحاديث الأحكام، عُني العلماء -أيضاً- بشرحها، ومن أشهر شروح هذه الكتب، ولعله -والله أعلم- أفضل كتاب مطبوع في شرح أحاديث الأحكام، كتاب نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار للإمام الشوكاني، شرح فيه المنتقى لـ ابن تيمية الجد رحمه الله، وهناك شروح لكتب أخرى، كسبل السلام والبدر التمام شرح بلوغ المرام، ولكتاب عمدة الأحكام عدد من الشروح القديمة والحديثة، من أبسطها وأوضحها: تيسير العلام للشيخ ابن بسام وغيره. أقول: قد يبدأ الطالب بقراءة هذه الشروح قراءة متأنية، ويتيح لنفسه فرصة معرفة الأقوال المتنوعة في المسألة والأدلة لكل فريق، وما رجحه المصنف أو يمكن أن يرجحه هو أو غيره، فهذه طريقة لا تعتمد مذهباً فقهياً لكنها تعتمد على المقارنة والبحث الراجح، وهذه الطريقة -أيضاً- كالأولى، لها إيجابيات ولها سلبيات. أ/ إيجابيات هذه الطريقة: فمن إيجابيات هذه الطريقة: تدريب الطالب على النظر المتوازن، فتعطيه فرصة النظر في الأقوال كلها، والترجيح بينها، نظرة فيها نوع من التوازن، وتقويم أدلة كل فريق. ومن إيجابيتها: أنها تربي في الشباب قدراً -إن صح التعبير- من الاستقلالية وعدم التعصب لشيخ معين، أو كتاب معين، أو مذهب معين، أو قول معين. ومن إيجابياتها: تدريب الطالب على المرونة في التفكير وسعة الأفق، بمعنى أن الإنسان الذي لا يعرف إلا قولاً واحداً تجد أنه ينكر كل ماعداه، وليس لديه -أحياناً- استعداد أصلاً أن يناقش، لكن إذا عرف الطالب الأقوال، وأن كل قول له ما يؤيده من الأدلة، سواءً كانت قوية أو ضعيفة، فإن هذا يعطيه قدرة على تحمل الآراء الأخرى وتفهمها، والمرونة في التعامل مع من يقول بها، دون حرج أو تبرم أو ضيق. ومن إيجابياتها: كسب الوقت، لأن العمر قصير، والشاب إذا قرأ كتاباً مرة قراءة متأنية قد لا يعود إليه، خاصةً في هذا العصر الذي ضعفت فيه الهمم وانشغل الإنسان فيه بأشياء كثيرة جداً، قد يكون العلم الشرعي هو أحدها في بعض الأحيان. ب/ سلبيات هذه الطريقة: ولهذه الطريقة أيضاً سلبيات، من سلبياتها: أن الشاب إذا كان مبتدأً، غالباً يكون غير مؤهل لقراءة الأقوال المتعارضة والأدلة واختيار القول الراجح، لأن هذا يتطلب وجود خلفية علمية عنده، ووجود معرفة بالأصول بصفة عامة، ووجود إلمام مجمل بعدد من العلوم، وهذا قد لا يتيسر للطالب في بداية التفقه. فيكون اختيار الطالب حينئذٍ لقول من الأقوال ليس لقوة هذا القول، لكن لسبب آخر، أحياناً قد يكون لغرابته، لأن بعض الناس يولع بالغرائب، فالقول الشاذ يجد له أنصاراً في بعض الأحيان. وقد يكون قبول الشاب لقول من الأقوال ليس لأنه راجح وصواب، لكن لأن أحد العلماء أيد هذا القول وتحمس له وعرضه بصورة قوية، كما تجد -مثلاً- بعض الشباب حين يقرءون للإمام ابن حزم في المحلى أو غيره؛ فلأن الإمام أبا محمد -رحمه الله- يطرح آراءه بقوة وبحماس، ويرد على المخالفين بقوة أيضاً، وقد يقسو عليهم أو يشتد، فيصبح القارئ الذي لا زال في بداية الطلب أسيراً لهذا المصنف فيتقبل آراءه لهذا السبب. وقد يكون ترجيحه لقول من الأقوال اغتراراً ببعض الظواهر، مع الغفلة عن أمور أخرى قد تكون أقوى في الدلالة منها، فهذه سلبية. السلبية الثانية: أن الشاب في مثل هذه المرحلة إذا بدأ هذه البداية؛ قد يصبح لديه ولدى غيره من بني جنسه، نوعاً ممكن أن نسميه -تجوزاً- بالفوضى التشريعية، بمعنى: أن يصبح كثير من الشباب -وإن كانوا في مقتبل العمر وبداية الطريق- لديهم جرأة على الكلام عن الحلال والحرام، والخلاف والقيل والقال في هذه الأمور، وهذا يحدث نوعاً من الفوضى بينهم وفي المجتمع، خاصة لدى العامة الذين تعلموا أن يأخذوا الأحكام من العلماء المعروفين، ولا تتسع عقولهم. لأن المسألة فيها أقوال كثيرة، وفيها راجح ومرجوح وشيء من هذا القبيل، إنما تتسع نفوسهم لأن يقول لهم الشيخ بكل حزم وقوة: حلال أو حرام، افعل أو لا تفعل، فيمتثل وهو طيب الخاطر. ولذلك من مخاطر هذه الطريقة: أنها قد توجد عند الناس نوعاً من الفوضى والتوسع في هذا المجال، وعدم وجود ضوابط يركن إليها. فهذه بعض سلبيات هذه الطريقة، وهذه أيضاً بعض إيجابيتها. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 6 البدء بالتفقه مذهبيا ً الطريقة الأولى من هذه الطرق: هي أن يبدأ الشاب أو طالب العلم، بالتفقه وفق مذهب من المذاهب المتبوعة، كالمذهب الحنبلي أو الشافعي أو المالكي أو الحنفي، أو غيرها من المذاهب التي هي مذاهب لأهل السنة والجماعة، فيأخذ الأحكام الشرعية أو يدرسها في كتاب من الكتب على مذهب من المذاهب. فمثلاً: في مثل بيئتنا ومجتمعنا، يتجه الطالب في بداية التفقه إلى دراسة الأحكام على ضوء مذهب الإمام أحمد، ويختار في ذلك كتاباً من الكتب المختصرة، أو المتوسطة، ككتاب الروض المربع -مثلا- أو كتاب منار السبيل، أو كتاب العدة للمقدسي، أو حتى كتاب الكافي لـ ابن قدامة، ويدرس الأحكام الشرعية التفصيلية في هذا الكتاب من أولها إلى آخرها، وليس قراءة وإنما يدرس هذه الأشياء دراسة. وبذلك يكون حصل على رأي المذهب في هذه لمسائل التي درسها، على حسب ما ترجح لصاحب الكتاب أنه هو المذهب، وبذلك يكون لنفسه خلفية علمية شاملة في طريقة الاستنباط والأصول العامة، والقواعد التي بنى عليها الأصحاب اختياراتهم وآراءهم الفقهية. ثم بعد ذلك يبدأ في تمحيص المسائل بصفة تدريجية، سواءً بالتسلسل، أو كلما عرضت له مسألة واحتاجها درس هذه المسالة دراسة أوسع، دراسة مقارنة بمعنى أنه يدرس هذه المسألة بأدلتها ليتوصل فيها إلى القول الراجح، ولو كان هذا القول -مثلاً- قولاً ضعيفاً في المذهب، لكنه هو الراجح عند أكثر العلماء أو عند المحققين، أو لم يكن قولاً في المذهب لكنه قول آخر في مذاهب أخرى. وتكون هذه مرحلة ثانية، وهذه الطريقة لها فوائد وإيجابيات، ولها سلبيات. أ/ الإيجابيات لهذه الطريقة: فمن فوائد هذه الطريقة: أنها تكون لطالب العلم خلفية في معظم المسائل الفقهية وغالبها مما بحثها الفقهاء، وتجعله على اطلاع على أقوال أئمة المذهب في هذه المسائل، ثم إنها تجعل الشاب أمام قول محدد لا يحتاج إلى أن يتيه بين أقوال متباعدة أو متضاربة، وقد يقع عنده حيرة واضطراب، فهو أمام قول واحد -غالباً- أو أكثر من قول، لكنها في الغالب تعتمد على قول واحد، أو تنتهي إلى ترجيح قول واحد. ب/ سلبيات هذه الطريقة: ولهذه الطريقة في المقابل بعض السلبيات، من أبرز هذه السلبيات: أن طالب العلم حين يفتح بصره على كتاب من هذه الكتب، ثم يفهم جميع ما فيه، معتقداً أن هذا هو الفقه الذي يتعلمه، ويمتلئ قلبه وعقله به، ولو سئل لأجاب بما علم، وإذا عرضت له مشكلة عالجها على وفق ما فهم وهكذا، حتى يتعصب -أحياناً- لهذه المسائل، ولو علم أو ظهر له أن هناك دليلاً يرجح له خلاف ما درس؛ لما كان لديه قوة وشجاعة في الانصياع للدليل وترك ما علم، على حد قول الشاعر:- أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا فهذه سلبية قد تقع للبعض وليس لكل طالب، فإن بعض الطلاب إذا كان لديه وعي وبصيرة ويقظة، فهذا أمر آخر لعله تأتي الإشارة إليه. ومن سلبيات هذه الطريقة: أنها توجد عند طالب العلم شيئاً من الركون إلى ما درس، بمعنى أنه إذا قرأ رأي الأصحاب في هذه المسائل وهو أمر جاهز يسير نسبياً؛ ركن إليه وأصبح ليس لديه تطلع إلى مزيد من البحث والتحصيل، وتمحيص هذه المسائل والوصول إلى نتائج أصح، فيركن إلى ما علم. ومن سلبيات هذه الطريقة: أنها تجعل المتفقهة سريع التنقل في الآراء، فإن سلم من التعصب فإنه سيكون سريع التنقل، لأنه اليوم يفتي بما درس، ثم غداً يبحث فيجد أن الأمر خلافه فيتغير رأيه في هذه المسألة. فهذه إيجابيات هذه الطريقة وهذه سلبياتها، وهي طريقة البدء أولاً بكتاب على ضوء مذهب معين أياً كان هذا المذهب، وقد مثلت بالمذهب الحنبلي، ويمكن أن يقال هذا في المذهب الشافعي -مثلاً- في دراسة المهذب أو غيره، وفي المالكي في دراسة الكافي أو غيره، وفي الحنفي في دراسة الدرّ المختار أو غيره، أو أي كتاب آخر يمكن أن يقال فيه ما يقال في هذا المذهب. ثم تأتي المرحلة الثانية في هذه الطريقة، وهي أن يبدأ لطالب بالتمحيص بعد أن يكون قد أنهى دراسة المسائل على ضوء مذهب معين. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 7 المزاوجة بين الطريقتين قد يقول قائل: أنت الآن عرضت علينا طريقتين، وكل طريقة قلت لها إيجابيات وسلبيات، فما الجدوى؟ وما هو الحل؟ أما الجدوى، فإنني أقول: إن كل طريقة من الطريقتين، لو سلكها إنسان عارفاً بإيجابيتها وسلبياتها ولديه تأهيل، فيمكن أن تكون طريقة صحيحة، بمعنى: أن الطالب الذي عنده قدر من التمكن، لو بدأ بدراسة الأقوال على ضوء مذهب معين بادئ ذي بدء، ثم انتقل بعد ذلك إلى التمحيص، أو أنه بعد أن صار عنده نوع من التمكن -أيضاً- بدأ بدراسة هذه المسائل بالطريقة المقارنة، كلا الأمرين حسن ولا بأس به، لأنه بالدرجة الأولى تعود السلبيات -غالباً- إلى الشخص وإمكانياته، فكل شخص له ما يناسبه، وكون الإنسان يدرك السلبيات والإيجابيات؛ هذا يعينه على أن يتقي السلبيات ويستفيد من الإيجابيات. أما الحل الذي قد يكون مناسباً ووسطاً: فهو أن يعمل طالب العلم على المزاوجة بين هاتين الطريقتين، بمعنى: أن يحرص الطالب في دراسة المسائل على أن يدرسها -مثلاً- دراسة من الكتب المقارنة، كنيل الأوطار -كما مثلت- أو غيره، على أن يُعنى بكتب الفقه، بحيث يقرأ في كل مسألة ماذا قال الفقهاء فيها، يقرأ في كتاب المغني -مثلاً- أو حاشية ابن قاسم، أو الكافي أو أي كتاب آخر، ويعرف الأقوال ويطلع أيضاً على الكتب الأخرى، لأن هذا يوجد عنده نوعاً من الاعتدال. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 8 أصناف الشباب المتفقهين من الملاحظ في واقع الشباب المتفقهين أنهم على أصناف: الصنف الأول: منهم من يتفقه على مذهب معين، فتجد أنه يزدري ولا يقيم وزناً لمن يتفقهون تفقها مقارناً، أو يحرصون على معرفة القول بدليله أياً كان، لأنه يعتبر أن هؤلاء سيضيعون عمرهم بلا طائل، وأن الطريقة السليمة هي أن تتلقى المذهب عن الشيخ وينتهي الأمر. الصنف الثاني: أن بعض الشباب المتحمسين بالغوا في نبذ كتب المذاهب، واعتمدوا على الكتب الحديثية التي تعرض الأقوال بأدلتها، ولم يقيموا وزناً لكتب المذاهب، فصاروا يعتبرون أن من تفقهه على مذهب معين، أنه ما حصل على علم شرعي، وأنه مجرد مقلد، إلى آخر ما يمكن أن يقال، فهذان طرفان. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 9 الاعتدال مع الطرفين والتوسط أن يقال: إن عند كل طرف من الطرفين حق وخير، فالمذاهب الفقهية لا شك أن فيها خير كثير، وهي جهود أئمة علماء مجتهدين، أطبقت الأمة على فضلهم واتباعهم والاعتراف بهم، وشأن العامي -أياً كان العامي، ولو كان دكتوراً إذا كان عامياً في العلوم الشرعية- أن يقلد هؤلاء العلماء أحياءً كانوا أو أمواتاً. وكذلك الكتب المقارنة التي تذكر الأقوال بأدلتها، فيها خير كثير من جهة أن الحق -كما هو معروف ومتفق عليه عند جميع أهل الإسلام- ليس محصوراً في مذهب معين، لا الحنبلي ولا الحنفي ولا المالكي ولا الشافعي، بل كل مذهب من هذه المذاهب فيه أقوال راجحة، وأقوال مرجوحة. فالمزاوجة بين هاتين الطريقتين تجعل طالب العلم أقرب إلى الاعتدال والتوازن، والاطلاع على هذه الكتب وتلك والاستفادة مما في النوعين. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 10 الوسائل المعينة على التفقه النقطة الثانية التي أحب أن أشير إليها هي: الوسائل التي يستعين بها الطالب على التفقه، وهي كثيرة، أذكر منها أربعاً: الجزء: 76 ¦ الصفحة: 11 من وسائل التفقه: التتلمذ المباشر الوسيلة الثالثة: هي وسيلة التتلمذ المباشر: أعني ألا يعتمد الطالب على نفسه فقط، بل يحرص على أن يتتلمذ على الشيوخ، سواء من حلقات العلم أو من المحاضرات أو الأشرطة أو غيرها، ومن التتلمذ المهم أن يراجع الطالب الشيخ كلما أشكل عليه أمر، ويعرض عليه كل نتيجة توصل إليها، فلا يستبد بالآراء ويستقل بنفسه، فهو ضعيف مهما كان، ولا يمكن أن تهمل خبرة علماء قضوا أعمارهم في التحصيل والدرس والترجيح، وأدركوا من أسلوب التعامل مع النصوص ما لم يدرك الطالب المبتدئ. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 12 من وسائل التفقه: البحث الوسيلة الرابعة هي البحث: والبحث ضروري لكل طالب، فلا يكفي أن تقرأ، فلابد أن يتدرب الطالب على البحث بعد معرفة الشروط الأساسية للبحث، يحرص على أن يأخذ مسائل ويبحثها من خلال مراجع معتمدة بحثاً علمياً دقيقاً؛ ليتعلم أسلوب الكتابة والترجيح وكيفية الجمع بين الأقوال وصياغتها، ثم يجب أن يعرض هذا البحث الذي عمله على شيخ أو أستاذ يصححه له، ويراجعه، ويبين له الأخطاء، وليست مهمة هذا الشيخ أو الأستاذ أن يقول لك: هذا البحث ممتاز، وقد بلغ الغاية وإن وصلت فيه إلى ما لم تستطعه الأوائل، فهذا نوع من إثارة الغرور في نفس الطالب، لا يفعله الأستاذ الناصح، بل مهمة الأستاذ وإن أثني عليك وطيب خاطرك أن يبين لك في المقابل مثالب هذا البحث، ومآخذ هذا البحث وعيوبه، ويرشدك إلى ما هو الأفضل والأسلم فيه. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 13 من وسائل التفقه: الحفظ الوسيلة الأولى منها هي: الحفظ. والحفظ كان السلف يعنون به عناية كبيرة منذ الصغر، حفظ القرآن الكريم، ثم حفظ السنة أو بعضها، وحفظ بعض المتون، ولا زال علمائنا حتى اليوم يعتبرون أن من أساسيات طالب العلم أن يكون لديه بعض المحفوظات من المتون المهمة، ولا يغني عن الحفظ وجود وسائل معاصرة وتسهيلات معينة، فإنه لا يغني عن الحفظ، صحيح أن الحفظ لم يعد بنفس الصورة، لكن لا لازال الحفظ مهماً وأساسياً لطالب العلم، فعلى طالب العلم أن يحفظ بعض المتون ولو صغرت، أحياناً قد تجد متناً أو منظومات في الفقه أو الحديث، هل تعلمون أن الصنعاني نظم بلوغ المرام، وهذا النظم قد يكون بذاك المتانة، لأن طبيعة نظم الأحاديث، يعني فيه شيء من العسر، لكن المقصود أن كل علم من العلوم فيه متون مختصرة منثورة أو منظومة، متن في المصطلح في الفرائض في اللغة العربية، هذه المتون ليست كبيرة ولا مكلفة، ولو استطاع كل طالب أن يحفظ في إجازة من الإجازات متن في الأصول أيضاً، يكون صفحات معدودة، لحصَّل من وراء ذلك خيراً كثيراً، وأصبح يثبت علمه، والواقع أن الأشياء التي يحفظها الإنسان في صغره تبقى معه، ولهذا فمن الخير توجيه طلاب العلم في صغر سنهم إلى حفظ بعض هذه المتون، بل إن العوام في مجتمعنا إلى وقت قريب، كان العامي يعتبر أن حفظ الأصول الثلاثة، وآداب المشي إلى الصلاة من الأمور المهمة، وكان عامة الناس في المسجد يجلسون إلى الإمام ويقرءون عليه هذه المتون، فالحفظ أمر مهم. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 14 من وسائل التفقه: القراءة والوسيلة الثانية: هي وسيلة القراءة، والطالب الذي لا يقرأ لا يحصل على علم، ولابد أن يكون للطالب طُولَعَة، يعني لديه نهم ورغبة شخصية في القراءة, بحيث أنه يستغل ويهتبل كل فرصة ممكنة له في القراءة، وليست القراءة قراءة الخطافين الذي يقرأ من كل كتاب عشر صفحات أو عشرين صفحة ثم يغادره إلى غيره، بل لابد أن تكون قراءة متأنية مركزة، وقد قيل: أن تقرأ كتاباً واحداً ثلاث مرات خير من أن تقرأ ثلاث كتب مرة واحدة، فمن المهم أن يكون لطالب العلم قراءة مستمرة، في كتب مختارة في أنواع العلوم. وفيما يتعلق بالقراءة: من المفيد أن يسجل طالب العلم الشوارد، التي يقف عليها أثناء قراءته، أثناء قراءتك لكتاب ما قد تجد فوائد ملتقطة هنا وهناك، ربما تتعب في البحث عنها فلا تجدها، وبالمصادفة وقفت عليها دون قصد في كتاب من الكتب، فحينئذ يحسن بك أن تعتمد التسجيل، فتجعل الصفحات الأولى من الكتاب -الصفحات البيضاء- مكان تسجل فيه الفوائد التي تلتقطها أثناء القراءة أين كانت، وترجع إليها بين حين وآخر، وقد جربت هذه الطريقة في عدد من الكتب فوجدتها في غاية النفع لطالب العلم. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 15 نقاط تتعارض مع التفقه السليم أخيراً: أشير إلى نقاط تتعارض مع التفقه السليم؛ الذي ينبغي أن يحرص عليه كل طالب علم، فهي سلبيات أو مثالب يحسن للطالب الناصح لنفسه أن يتجنبها، من ذلك: الجزء: 76 ¦ الصفحة: 16 التجرؤ على العلماء أخيراً من المثالب التي ينبغي أن تتقى: أن بعض الشباب حين يطلع على الأقوال المختلفة والأدلة، ينظر إلى ظواهر بعض النصوص نظرة مباشرة وبسيطة فيخيل إليه أن من خالفوا ذلك الظاهر قد أخطأوا وانصرفوا عن دلالة هذا الحديث، فيتجرأ على العلماء سواء منهم العلماء السابقين أو اللاحقين، فتجده يستعمل أحياناً عبارات لا تتناسب مع مكانة هؤلاء العلماء، أخطأ فلان في هذه المسالة، قد يقول طالب مبتدئ أخطأ الإمام أحمد في هذه المسألة، أخطأ مالك -مثلاً- فيها، حتى لو أديت المعنى بغير هذا الأسلوب فالعبارة غير مناسبة، بل قد تجد بعض الطلاب المبتدئين يقول: وشذ فلان من العلماء في هذا القول، وهذا ليس مناسباً أن تنسب هذا إلى علماء أفذاذ أطبقت الأمة على تلقي علمهم والأخذ عنهم واتباعهم، فينبغي للطالب أن يحرص على معرفة أقدار هؤلاء العلماء، وتعظيمهم، والانتفاع بهم، وعلى أن يمكن ثقة الناس بهم، لا أن ينزعها منهم، وهو في الواقع لن ينزعها بل سوف ينزع ثقة الناس منه هو، حين يتعرض لهؤلاء العلماء، لأننا نشهد لله أن هؤلاء العلماء الذين اتفقت الأمة على اتباعهم في الجملة كالأئمة الأربعة، والثوري والطبري والأوزاعي وأشباههم، أن هؤلاء العلماء ما كانوا يريدون إلا الحق، ويكفي أن تعرفوا القصة التي ذكرها الرازي وغيره عن الإمام الشافعي أنه ذكر حديثاً قال: ثم ذكر حديثاً في مسألة وكان عنده أحد تلاميذه فقال الشافعي: إن هذا الحديث صحيح فقال التلميذ: أتقول به يا إمام؟ أي: أتقول بمضمونه، فغضب الشافعي واحمر وجهه، ونفض يده على تلميذه، وقال: رأيتني خارجاً من كنيسة؟ هل رأيت في وسطي زناراً؟ يعني رأيت علىَّ علامات اليهود أو النصارى، حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح ولا أقول به، والأمر أنهم كلهم يأخذون هذه الأحكام والآراء من الكتاب والسنة، لكن أبى الله أن تكون العصمة إلا لرسوله وأنبيائه، فعلينا أن نعرف لهم قدرهم ونبجلهم ونعظمهم ولا يلزم من ذلك، أن نأخذ أو نقلد إماماً منهم في كل مسألة إلا أن يكون الإنسان عامياً، فالعامي مذهبه مذهب مفتيه، ولا بأس أن يقلد أحد العلماء أمواتاً كانوا أو أحياءً هذا ما أردت بيانه، وأسأل الله لي ولكم التوفيق والفقه في الدين، وأن يرزقنا العلم النافع والعلم الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه اللهم صلِّ وسلم على عبد ورسولك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 17 الولوع بالغرائب من العيوب والمثالب التي ينبغي أن يتقيها طالب العلم: ولع البعض بالغرائب. فبعض الشباب حين يبدأ في الطلب يصبح لديه رغبة في أن يكون عنده تميز يميزه عن الآخرين، أو اطلاع على مسألة ليست عند غيره، هذا أمر فطري عند كثير من الناس، ولذلك كان بعض طلاب الحديث -في الماضي- يولعون بالغرائب، يولعون بالأحاديث الغريبة التي لا توجد إلا عندهم ولو كانت ضعيفة أو موضوعة، المهم أن يكون الحديث غريباً غير موجود عند جميع الرواة. ولذلك كان أبو يوسف يقول: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب. هذه الصورة قد توجد بأسلوب آخر عند بعض المبتدئين في التفقه، فيكون لديه رغبة في وجود مسائل فقهية ينفرد بها عن غيره في الاطلاع، وهذه المسائل قد يكون قال بها بعض العلماء لا شك، ولا يلزم أن يكون ابتكر هذا القول من عند نفسه، لكن العالم الذي قال بهذه المسألة معذور، لأنه عالم متبحر، ومن حقه حينئذٍ أن ينفرد بقول أو بمسألة أو مسألتين، من الطبيعي أن يكون للفقيه مسائل انفرد بها، وهذا يصنف فيه كتب أحياناً، ولو بحثت في العلماء المشهورين لوجدت كل عالم انفرد بمسائل، لكن الطالب المبتدئ ليس معذوراً أن يأخذ زلة هذا العالم فيتبناها، أو هذا القول الذي انفرد به. ومن ذلك أنك تجد -مثلاً- بعض الشباب، قد يسمعون قولاً لأحد العلماء في تحريم الذهب المحلق على النساء، مع أن هذا القول قد حكى عدد من العلماء، كـ البيهقي وابن تيمية وابن حجر وغيرهم، الإجماع على خلافه، لكن لبعض العلماء قول آخر في ذلك، هذا العالم هو معذور في تبني هذا القول، لأنه يرى ذلك، لكن طالب العلم المبتدئ كونه يأخذ هذا القول ويتبناه ويدافع عنه وينشره غير معذور. وكذلك بعض طلاب العلم والمتفقهين قد يسمعون أن هناك قولاً بأن الاعتكاف في غير المساجد الثلاثة لا يشرع ولا يجوز، أو أن الزيادة على خمس تسليمات في التراويح لا يجوز، فيأخذون هذه الأقوال مع أنها أقوال -في نظري- أقرب إلى الشذوذ، وأعود فأقول: العالم الذي قال بها هو معذور بذاته، لأنه عالم متبحر ومتمكن، ولديه علم واطلاع وتمحيص، وهو لم يأتِ ببدع من القول، لكن المبتدئ لا ينبغي له أن يكون حريصاً على تتبع الزلات، فقد قال بعض السلف: من حرص على تتبع زلات العلماء اجتمع فيه الشر كله. وهذا صحيح، فلو أن كل عالم أخذت منه زلاته لاجتمع فيك الشر كله. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 18 الاعتناء بالجزئيات مع التقصير في المهمات إن كثيراً من الطلاب في هذا العصر، وهذا أمر مشهود يعنون عناية بالغة جداً ببعض الجزئيات، ويشغلون أنفسهم وغيرهم ووقتهم وجهدهم فيها، وهذه الجزئيات فرق بين أن نقول للناس: هذه -كما يقول البعض- قشور، اتركوها، لا تشغلوا أنفسكم بها، فهذا لا نقوله، ومعاذ الله من ذلك، فليس في الدين قشر ولب، لكن أيضاً لابد أن نعرف أن الدين فيه أصول وفروع، وفيه أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وهناك أشياء كليه وجزئية، وفي أشياء تقدم على غيرها، فكون طالب العلم -مثلاً- بداية طلبه للعلم هو أن يشغل نفسه-مثلا- بالإصبع في الصلاة يعني في التشهد وبين السجدتين، كيف يحرك؟ فتجد بعض طلاب العلم يحركونه باستمرار، ثم تجد آخرين لا يحركونه أبداً بل يتركونه، تجد نوعاً ثالثاً يرفعونه بصفة مستمرة ولا ينزلونه أبداً، فئة رابعة يحركونه مع حنيه شيئاً ما، فئة خامسة -وهذا حدثني فيه أحد الإخوان أنه رأى أحد المبتدئين في العلم يفعله- يحرك إصبعه بصفة كأنه يرسم دائرة، وحين سأله عن حجته في هذا الفعل قال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحلق إصبعه، فهو يظن أن التحليق أنه يرسم حلقة بإصبعه هكذا والواقع أن تحليق إصبعه، أنه كان يضع الإبهام مع الوسطى هكذا، هذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ولا شك أن هذا الشاب حين أرشده إلى الحق قبله منه، وهذا أمر حسن بلا شك، هذه المسألة لا باس أن يعرف الطالب فيها ما هو الحق، لكن أن يكتب عشرات البحوث في هذه المسألة ما بين كتب مطبوعة، وبحوث منشورة في عدد من المجلات الإسلامية، وبحوث لم تنشر، وربما تسيطر على وقت الشباب في عدة جلسات، في حين أنك قد تناقش بعض هؤلاء الإخوة في مسائل أصولية، وفي قضايا مهمة وكبرى فتجد أن كثيراً منهم لا يفقهون فيها شيئاً، هذا مثال. من الأمثلة جلسة الاستراحة كثيراًَ ما يشغل الشباب أنفسهم ببحث هذه المسألة، نظراً لكثرة الاختلاف فيها وشدته، ومن الأمثلة تقديم اليدين والركبتين في حالة السجود، هذه الأمثلة والمسائل نقول: لا شك أن فيها خطأ وصواب، وفيها راجح ومرجوح ولا بأس، بل ينبغي لطالب العلم أن يبحث عن الراجح بدليل هذا كله لا غبار عليه، لكن أن يصبح حظنا من الفقه هو أن نأخذ هذه المسائل التي هي معترك الأقران، ونشغل بها وقتنا وعمرنا وكتبنا ومجلاتنا ومجالسنا، فهذا ليس من الحكمة ولا من العدل، بل العدل يقتضي والحكمة أن تضع الأمور في مواضعها، وهذه الأمور الأمر فيها واسع، ولا ينبغي أن نشدد فيها على الناس، جلس الإنسان جلسة الاستراحة أو ما جلس فهو سنة، وإن ما جلس فهو ترك سنة، قد لا يعتقد أنها سنة، بل قد يعتقد أنها مكروهة كما هو مذهب بعض الفقهاء فتركها، فالأمر في ذلك واسع، ولا ينبغي أن نضيق على الناس في هذه الأمور، ومن فوائد -كما ذكرت قبل قليل- من فوائد الإطلاع على الأقوال المختلفة أن يصبح لدى المتفقهة قدراً من المرونة في التعامل مع الناس، وتقدير آرائهم ومواقفهم المخالفة له. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 76 ¦ الصفحة: 20 الخلافات بين الفقهاء السؤال نلاحظ خلافات بين العلماء بالمناهج الفقهية، فكيف يوفق المسلم بين هذه الأشياء؟ الجواب الاختلاف من شأن البشر، ولو شاء الله عز وجل لأنزل شريعته وجعل ضمن البيان الذي كلف به الرسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الشريعة؛ أن يقوم بتفصيل كل ما يمكن أن يختلف الناس عليه على مر العصور، لكن حكمته سبحانه اقتضت غير ذلك، فأنزل الوحي قرآناً وسنة، وجعل أهل العلم يستنبطون ويقتبسون من هذه النصوص، بما جدَّ ويَجِدّ من أحداث ووقائع، وبذلك يقع الاختلاف، في ثبوت النصوص أو عدم ثبوتها، ثم يقع الاختلاف في دلالتها على المقصود، وفي نسخها أو عدم نسخها، إلى غير ذلك، ولهذا أقول: من واجبنا أيها الشباب ألا نضيق ذرعاً باختلاف أهل العلم مادام في إطار الشرع، ولم يخرج عن أصول أهل السنة والجماعة إلى تفريط أو إفراط، يجب ألا نضيق ذرعاً بذلك، وإن اختلف العالم مع العالم فإن هذا اختلاف طبيعي، ومن الطريف أن بعض الشباب في إحدى الكليات كانوا يقولون: إن مدرس الفقه يأتينا في المحاضرات الأولى -مثلاً- فيشرح لنا أبواب المياه على ضوء المذهب، وقد يكون المدرس مالكياً أو حنفياً أو شافعياً فيرجح مذهبه فنخرج برأي، فيأتي في المحاضرة الثانية مدرس الحديث ويعرض لنا المسألة ويخرج لنا برأي آخر، ألا يوجد حل لهذا الاضطراب والتناقض الذي نعيشه؟ فقلت لبعض الإخوة: دعوا مدرس الفقه ومدرس الحديث جانباً، وافترضوا جدلاً أن الذي يدرسكم الفقه -مثلاً- هو أبو حنيفة نفسه، وليس تابعاً من أتباعه، وأن الذي يدرسكم الحديث هو مالك أو أحمد رحمهما الله، وأن الذي يدرسكم الأصول هو الشافعي -مثلاً- جدلاً، ألا يقع الاختلاف؟ سيقع، بل هو واقع. إذاً: لا ينبغي أن نضيق ذرعاً بوجود الاختلاف، بل الشيء الذي نحرص عليه هو أن نربي أنفسنا ونربي المجتمع كله على الطريقة الصحيحة في التعامل مع اختلاف العلماء، وهذا ينبغي أن يركز عليه سواء من قبل العلماء أو من قبل طلاب العلم أو غيرهم؛ أن نربي الناس على الطريقة الصحيحة في التعامل مع اختلاف العلماء؛ أن لا نضرب أقوال العلماء بعضهم ببعض، ولا نعارض هذه الأقوال بعضها ببعض، نعلِّم الناس أنك أنت أحد رجلين إما أن تكون طالب علم ولديك إمكانية الترجيح بين الأقوال فالمجال أمامك مفتوح، أو أن تكون عامياً فتختار من هؤلاء العلماء الأوثق لديك علماً وديناً وورعاً وتقلده وانتهى الأمر، ولا نسمح أن يكون الخلاف ميداناً للطعن في أهل العلم من قبل بعض أهل الفساق والسفهاء، بل ربما اتخذوه ذريعة والعياذ بالله إلى الطعن في الدين في بعض الأحيان، هذا الخلاف لابد منه ولا يلام العلماء في ذلك. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 21 من أسباب الخشوع في الصلاة السؤال ما هي الأمور التي تؤدي إلى الشواغل في الصلاة؟ الجواب هذا السؤال أجبني عن الموضوع -على كل حال- لكن كل لأمور منها أمور داخلية وهو أن يحرص الإنسان على تفريغ قلبه من الشواغل والإقبال على الصلاة بقلبه، وهناك أمور خارجية، وهي أن يحرص الإنسان على إبعاد ما يشغله في الصلاة من صوت، أو منظر، أو شغل، أو كونه حاقناً، أو حاقباً، أو ما أشبه ذلك، حتى يتفرغ للصلاة ويقبل عليها، والله أعلم سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 22 حكم من لم يتفقه في الدين السؤال هل من لم يتفقه في الدين يعني أن الله يريد به شراً؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على الفقه والمتفقهين في هذا الحديث: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} ومعنى ذلك: أن من أعرض عن الدين لا يعلمه، ولا يتعلمه فهو على شفا هلكة، لأن هذا من سمات الكافرين، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف:3] فالإنسان المعرض عن الدين بالكلية، لا يتفقه لا بالعقائد، ولا في الأحكام، ولا فيما يحتاج إليه من أمور دنياه، لا شك أنه على شفا هلكة، كيف يعبد الله وهو لا يعرف الطريق إليه؟ كيف يعبد الله ولا يعرفه، أيضاً هذا لا يمكن، هناك واجب عيني على كل إنسان وذلك يتمثل في معرفة العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومعرفة الأحكام التي يحتاج إليها في واقع حياته، هذا لا بد منه. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 23 الدعوة هل تشغل عن العلم السؤال يتوهم بعض الشباب أن العمل للدعوة، يشغلهم عن طلب العلم الشرعي، فنرجو التوجيه حيال هذا الأمر؟ الجواب هذه الأمور كلها تتكامل، وينبغي للإنسان أن يقوم بهذه الأمور جنباً إلى جنب، ويحرص على التوازن فيها. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 24 التفقه فمن يشتغل بالعلوم الطبيعية السؤال لقد ذكرت طريقة التفقه في الدين، وأرى أن الطريقة التي ذكرتها أنها تناسب كثيراً من تفرغ تفرغاً تاماً للعلم الشرعي، سواء بالالتحاق بالكليات الشرعية أو ملازمة العلماء، ولكن ما هي الطريقة المناسبة لمن يتجه في دراسته إلى العلوم الطبيعية؟ مع أنها تأخذ وقتاً طويلاً من وقت الإنسان؟ الجواب لا شك أن الحديث هو موجه الآن أصالةً لمن يريد أن يتفقه في الدين، وقضية التفرغ، قضية نسبية قد يكون متفرغاً، وقد يكون شخصاً ذا مواهب وقدرات غير عادية ولو لم يكن متفرغاً، لكن الإنسان المشغول بأمور أخرى وعلوم أخرى مما يحتاج المسلمون، أو من طلب المعاش، أو بنحو ذلك، هذا الإنسان عليه أن يُعنى بمعرفة الأحكام التي تخصه، عليه أن يُعنى بمعرفة الأحكام التي تخصه في مجال عمله، فإن كان طبيباً أو مهندساً أو غير ذلك حرص على معرفة ما يحتاجه في عمله الذي يزاوله في واقع الحياة. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 25 الفتوى من غير أهلها السؤال ما رأيك فيمن يفتي بمسألة واضحة جداً، ولكنه ليس من أهل الفتوى؟ الجواب الوضوح يختلف، إذا كانت المسألة واضحة يعرف هو دليلها، فينبغي أن ينبه عليها إذا وجد من يخطئ فيها، وعلى سبيل المثال وجوب صلاة الجماعة، كل إنسان في هذا المجتمع يعرف أن صلاة الجماعة واجبة، فلو وُجِدَ إنسان مقصر فيها، فليبين له أن صلاة الجماعة واجبه وتركها معصية، ويذكر له آية أو حديثاً وما أشبه ذلك فهو مطلوب منه، كذلك إذا كان الإنسان يريد أن ينقل فتوى عن أحد العلماء، ففرق بين الإفتاء وبين نقل الفتوى، فقد ينقل إنسان عن فلان إذا كان ضبط الفتيا التي سمعها من هذا العالم، وهو يعرف الفروق وما يؤثر في الحكم ومالا يؤثر، ومتأكد منها، فلا بأس أن ينقلها لمن احتاج إليها، أما إن شك فيها، أو كان لا يعرف أحياناً الفروق بين المسائل -مثلاً- قد تشبه مسألة أخرى، فعليه حينئذٍ أن يقي نفسه ويتوقف سواء عن القول على رسول الله بغير علم، أو على التّقّول على أهل العلم بلا تثبيت. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 26 كتاب المازني في أصول الفقه السؤال نرجو توضيح كتاب المازني في أصول الفقه للمبتدئ؟ الجواب في أصول الفقه كتب كثيرة جداً، منها كتاب للأشقر اسمه الواضح في أصول الفقه وهو كتاب أسلوبه بسيط ومفيد وهو للمبتدئين، كما ذكر مؤلفه، فهذا الكتاب نافع، هناك كتاب آخر أكثر دقة وأكثر اختصاراً، بل ويناسب أن يحفظه الطالب، هو كتاب الوصول إلى علم الأصول للشيخ محمد بن صالح العثيمين، فهذا الكتاب مختصر ومفيد أيضاً، وهناك كتب أخرى -كما ذكرت- فيها جوانب طيبة وبحوث طيبة لكن لا تخلو من أخطاء، هناك كتاب لـ عبد الوهاب خلاف اسمه علم أصول الفقه، فيه مباحث مفيدة ونافعة ومبسطة، ولكن فيه عيوب وأخطاء، وأنبه عليها حتى إذا قرأه الطالب انتبه لها: أن المؤلف -غفر الله لنا وله- كان يعقد باستمرار مقارنات بين الشريعة وبين القانون الوضعي المطبق، وقد يقول: إن الشريعة وافقت القانون أو ما أشبه ذلك، وهذا مما لا يسوغ ولا ينبغي، فنحن ينبغي أن نرفع الشريعة ونجلها التي هي شريعة رب العالمين، عن أن نقارنها بحثالات أذهان أولئك القوم. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 27 كيفية حب القراءة السؤال ما هي الطريقة التي بها يمكن حب القراءة؟ لأن البعض لديه رغبة أكيدة في العلم، إلا أنه يجد في نفسه مللاً بمزاولة القراءة، مع العلم أن لديه كثيراً من الكتب؟ الجواب كثرة الكتب لا تخرج عالماً، ولو كان العلم بالكتب لكان الوراقون وأصحاب المكتبات أعلم الناس، وحب الاطلاع والقراءة غريزة يمكن أن ينميها الإنسان، وعلى الإنسان أن يستعين بوسائل تعينه على القراءة، مثل أن يقرأ مع غيره، وأن يتابع مع شيخ، سواءً في حلقة الدرس أو من خلال أشرطة، وأن يحرص على البداءة بالكتب الواضحة، وهذه وسائل قد تعينه وغيرها أيضاً. الجزء: 76 ¦ الصفحة: 28 صفات الداعية إن الدعوة إلى الله هي من أفضل الأعمال والواجبات، وهي مهمة الأنبياء والرسل، وهي من أفضل مقامات العبودية كما قال ابن القيم، ولا يقوم بها إلا من وفقه الله تعالى لذلك، فحري بالداعية إلى الله أن يتصف بالأخلاق الحسنة حتى يقبل الناس دعوته، ويسمعون لما يقول، فيا ترى ما هي صفات الداعية؟ هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر جملة من الصفات التي ينبغي للداعية أن يتصف بها، كالإخلاص، والعلم الشرعي، والصدق، والعدل، والحكمة، والصبر. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 1 الدعوة إلى الله مهمة الأنبياء والمرسلين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن الدعوة إلى الله عز وجل هي مهمة الأنبياء والمرسلين ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فالدعوة إلى الله جل وعلا، هي أعظم ميزة أو صفة يمكن أن يتميز بها الإنسان، وعلى مدى العصور السابقة كلها، كان الله عز وجل يقيض لهذه الدعوة من يحملها، من العلماء العادلين، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين} وقد جاء هذا الحديث من طرق عديدة، وحسنه بعض أهل العلم. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 2 على الداعية أن يتصف بالصفات الحميدة وفي هذا العصر الذي نعيش فيه؛ نسمع ونرى كثيراً من الناس، من العلماء والشباب وغيرهم، ممن يحملون هم الدعوة إلى الله عز وجل، ويصنفون أنفسهم في قائمة الدعاة إلى الله تعالى، ولا شك أن هذا الانتساب انتساب شريف، يجب أن نزكيه بتصحيح هذه النسبة وتحقيقها، بحيث تكون اسماً على مسمى، ويكون المنتسب إليها جديراً بالتحلي بها وتمثيلها أمام الناس تمثيلاً صحيحاً، وكل خلق حميد يطلب من المسلم أن يتحلى به؛ فإنه مطلوب من الداعية -بصفة خاصة- أن يتحلى به، فحين نقول مثلاً: إنه مطلوب من كل مسلم أن يكون كريماً جواداً سمحاً؛ فمن باب أولى أن يكون الداعية كذلك، وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم أكمل خصال الكرم والجود، فكان جواداً في ماله وعلمه وجاهه، لا يُسأل صلى الله عليه وسلم شيئاً إلا أعطاه إياه، حتى إنه يعطي غنماً بين جبلين، ويعطي مائة من الإبل، وكان الرجل يذهب إلى قومه ويقول: يا قوم أسلموا، فوالله لقد جئتكم من عند رجل يعطي عطاء من لا يخشى الفقر. إذاً فكل خصلة طيبة مطلوبة في المسلم؛ فهي مطلوبة في الداعية من باب الأولى. والكلام على الخصال والأخلاق الحميدة المطلوبة من المسلم أمر يطول، لكنني سأقف الآن على بعض الخصال المطلوبة من الداعية بصفة خاصة، وهي خصال معينة لا بد أن يتنبه لها الداعية أكثر من غيره؛ لأن فقدها في الداعي قد يجعل النتائج عكسية، ويجعله بدلاً أن يكون داعية إلى الله، يقول للناس: هلموا إلى الله والدار الآخرة، يجعله يحذر الناس من سلوك هذا الطريق بفعله وواقعه، وإن كان يدعوهن إليه بلسانه وقوله! الجزء: 77 ¦ الصفحة: 3 الإخلاص لله عز وجل أول خصلة لا بد من الإشادة بها هي: الإخلاص لله جل وعلا. ولذلك يقول الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] فالدعوة إلى الله عبادة، وكل عبادة لابد فيها من الإخلاص، قال الله جل وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] . الجزء: 77 ¦ الصفحة: 4 معنى الإخلاص والإخلاص معناه: أن يقصد الإنسان في عمله وجه الله تبارك وتعالى والدار الآخرة، فلا يقصد من وراء دعوته طمعاً دنيوياً، ولا يقصد من دعوته سمعة ولا جاهاً ولا منصباً، ولا لفت أنظار الناس إليه وتكثير الأتباع، وغير ذلك من المقاصد الدنيوية، التي قد تخطر في بال الداعية إلى الله جل وعلا. وقد يقول القائل: وماذا يقصد الداعية إلى الله إلا الإخلاص ورجاء ما عند الله؟! فأقول: كلا! فلا نظن أبداً أن الخطر الوحيد الذي يهدد الداعية، هو أن يكون قاصداً للدنيا وقاصداً للمال، هذا خطر، ولكن هناك ما هو أشد خطورة منه، فإن كثيراً من الناس ربما يكون الحصول على الثناء الحسن والمديح من الناس؛ أغلى عنده من الذهب والفضة، ومستعد أن يضحي بالأموال الطائلة من أجل السمعة الحسنة. فالداعية قد يكون مهدداً بأن يكون قصده كسب ثناء الناس ومديحهم. وهناك مقصد آخر قد يلقي به الشيطان في نفس الداعية، وهو تكثير الأتباع، والتكاثر بالأتباع، وكثيراً ما كان بعض الناس يفتخر بأنه يحضر مجلسه ألف أو ألفان من الناس! ويحضر درسه المئات أو الآلاف من الطلاب! ويحضر خطبته جماهير غفيرة تكتظ بهم المقاعد والمواقع! فينبغي أن يتنبه الداعية إلى أن يكون دافعه إلى الدعوة هو ابتغاء ما عند الله تعالى، لا أكثر من ذلك ولا غير، لا يريد دنيا ولا منصباً، ولا مكانة عند الناس، ولا مديحاً منهم، ولا تكثيراً للأتباع والتفاخر بذلك، بل هو يقصد أن يقوم بمهمة، يشعر بأن الله تعالى أو جبها عليه وألزمه بها، فهو أجير ينفذ ما أمره الله تعالى به. ولا شك أن الداعية يفرح بكثرة من يستجيب له، وهذا أمر طبيعي، ويحزن حين يرى إعراض الناس، لكن انظر؛ هل أنت تفرح بكثرة الناس حول داعية آخر؟ إن كان كذلك فحسن، وهذا يدل على الإخلاص، أما إن كنت تحزن، وتتمنى أن يكون حضورهم عندك وقبولهم لك، وإنصاتهم لما تقول وسماعهم لما تأمر، فحينئذٍ عليك أن تتهم نيتك، وتسارع إلى تجديد قصدك، قبل أن يفوت الفوت ولا ينفع حينئذٍ ندم. والإخلاص لابد منه -كذلك- في العلم والتعليم، وهو جزء لا يتجزأ من الدعوة، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم وغيرهما بسند على شرط الشيخين -كما يقول الحاكم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله يريد به عرضاً الدنيا، لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} وفي الحديث الآخر، من حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أول من تسعر بهم النار، وهم ثلاثة منهم: {رجل عالم قارئ جيء به، فعرفه الله جل وعلا نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت فيك العلم وعلمته} هذا رجل كان في الدنيا علماً يشار إليه بالبنان، وهو أيضاً ممن لم يكتم علمه، بل علمه وبذله في المساجد والمداس والحلق وغيرها، {فقال: يا رب، تعلمت فيك العلم وعلمته. قال الله جل وعلا: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو قارئ فقد قيل. ثم أمر به فسحب على وجه وألقي في النار} . فينبغي على الداعية أن يصحح مقصده، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] [يوسف:108] فجعل أول شرط من شروط الداعية: أن تكون دعوته إلى الله. هل تعلم أن الإنسان -أحياناً- يدعو إلى نفسه؟ ويعجبني في هذا المقام أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، كان يمشي يوماً في المسجد الحرام، فمر برجل يقص -والقُصَّاص نوع من الوعاظ، كانوا يجلسون فيتحدثون ويذكرون القصص، فيلتف الناس حولهم- فقال رجل لـ عبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، أتدري ما يقول هذا؟ قال: نعم، يقول: انظروا إلىَّ انظروا إلىَّ. فابن عمر لا يعنيه ما يقول هذا القاص، قد يكون يتلو آية أو حديثاً، أو يقرر حكماً شرعياً، أو يقول كلاماً ليس خطأ، لكن ابن عمر رضى الله عنه، شعر من حال هذا القاص وصفته وهيأته، أن حاله أقرب إلى الرياء منها إلى الإخلاص، فقال: إن هذا القاص يقول: انظروا إلي انظروا إلي، كأن القضية قضية إثبات وجود. فالأمر خطير ومصيبة؛ أن يصبح الداعية -أحياناً- مثل الشمعة التي تضيء للناس وتحرق نفسها، قد ينتفع الناس بعلمك ودعوتك، ويدخلون بذلك الجنة، ويكون سبباً لدخول صاحبه النار، أي أن هذا العلم الذي استنار الناس به ودخلوا به الجنة، قد يدخل به صاحبه النار؛ لأن الناس أخذوه بصدق وجد وعملوا به؛ فدخلوا الجنة، وصاحبه أخذه برياء أو سمعة فدخل به النار. وحين نقول: الداعي إلى الله، نقصد كل من يدعو إلى الله في أمر عظيم أو يسير، لأن الدعوة ليست حكراً على طبقة معينة، أو على طائفة معينة، فكل إنسان يعلم شيئاً من الخير؛ يجب أن يدعو إليه بقدر ما يستطيع- فيا أيها الداعي إلى الله، صحح نيتك فيما تعمل وتدعو إليه، حتى يكون عملك لك لا عليك. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 5 العلم الشرعي الشرط الثاني أو الصفة الثانية من صفات الداعية -بعد أن يتحقق عنده الإخلاص-: أن ينطلق ليتعلم حدود ما أنزل الله على رسوله. اسمع ماذا يقول الله جل وعلا: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] الاهتمام بالدعوة، هو مهمة طائفة من الناس من المؤمنين يتخصصون لهذا الأمر، لإنذار قومهم، فينفروا في طلب العلم {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة:122] فينبغي لطائفة الدعاة إلى الله تعالى، أن ينفروا للتفقه في الدين، فلا بد من العلم بجميع أنواعه وألوانه، والعلم ليس علم اللسان فقط، بل علم اللسان وعلم القلب، علم القلب الذي يورث الخشية من الله عز وجل، والخوف منه، والعمل الصالح، ولذلك يقول الفضيل بن عياض رحمه الله: عالم عامل معلم، يدعى كبيراً في ملكوت السماوات. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 6 طلب العلم يعصم الداعية من الانحراف في مسألة الولاء والبراء من الانحرافات المنهجية، أو من الأمثلة التي قد يقع فيها الداعية بسبب ضعف العلم الشرعي: ألا يفهم الداعية مسألة الولاء والبراء على أصولها الصحيحة، فبعض الدعاة -مثلاً- تجد ولاءهم وبراءهم، ليس ولاءً وبراءً محرراً في الله تعالى، بل هو -وأحياناً- ولاءٌ على اللافتات والرايات والحزبيات والتجمعات، وليس في الله جل وعلا، وهذا خطر عظيم، ربما يبغض الداعية إنساناً شديد الإيمان بالله ورسوله شديد الحب لهم، كثير الجهاد والعمل والدعوة إلى الله، لأنه ليس من طائفته، وقد يحب إنساناً آخر دونه بمراحل، وربما يوجد عنده عيوب وأخطاء، لسبب أنه من فئته أو من أصحابه، وهذا خطر عظيم! وربما نستطيع أن نشبهه بما كان يوجد في الماضي، من الحزبية والتعصب للمذاهب الفقهية، فكان -مثلاً- المتعصب لإمام من الأئمة، كـ الشافعي أو أبي حنيفة، ربما يقع في حق عالم من العلماء جليل القدر؛ لأنه يتبع إماماً آخر، وكم لقي ابن تيمية وابن القيم وغيرهم من العلماء، من العنت والحرب؛ بسبب أنهم يخالفون هؤلاء في مذهبهم، مع أننا نعلم أن ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من العلماء المحققين رحمهم الله أجمعين لم يكونوا يتعصبون إلا للحق، لكنهم ابتلوا بمتعصبين، يوالون ويعادون في أمور ما أنزل الله بها من سلطان. واليوم نجد كثيراً من الدعاة ابتلوا بهذا الأمر؛ فتجد الداعية إذا ذكرت له فلاناً: أشاح بوجهه وأعرض، وربما أظهر من حركات شفتيه ويديه وهيئته ما يدل على الامتعار، وحين تستغرب فتبحث عن السبب؛ تجد أن هذا الداعية ليس من أصحابه ولا من فئته، ولذلك اتخذ منه هذا الموقف. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 7 العلم الشرعي يكسب الداعية التوازن في فكره ومنهجه من أمثلة الانحرافات المنهجية التي قد يقع فيها الداعية بسبب ضعف العلم الشرعي: تضخيم بعض القضايا على حساب قضايا أخرى، وقد تكون أحياناً قضايا فقهية، والاختلاف في القضايا الفقهية موجود من عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا يضر مادام هو مبني على الدليل الشرعي، لكن بعض الناس قد يجعلون من الاختلاف في قضية فقهية، مدخلاً للولاء والبراء، فيتولى فلاناً لأنه يوافقه في هذه المسألة الفقهية، ويعادي فلاناً لأنه يخالفه في تلك المسألة الفقهية. وقد يكون الاختلاف في قضية اجتهادية في الدعوة، فقد تتخذ أنت أسلوباً في الدعوة إلى الله جل وعلا، قد لا يعجبه، مثلاً: أن تستخدم -لا أقول في الدعوة، لكن من ضمن الأعمال والأشياء التي تقوم بها- أنك أحياناً قد تنشد أناشيد معينة فيها معانٍ إسلامية، وهذه الأناشيد هناك من قد يقف منها موقفاً، ويرى أنها لا تجوز. وتبقى في إطار القضية الفقهية، فنقول: إن من العلماء الكبار، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، من أفتى بأن هذه كما قالت عائشة رضى الله عنها، لما سئلت عن الشعر، ما هو؟ قالت: هو كلام حسنه حسن، وقبيحه قبيح. وكذلك الأناشيد، هي كلام حسنها حسن وقبيحها قبيح، فوفق ضوابط معينة لا إشكال فيها، مثل: السلامة من استخدام الآلات الموسيقية، أو الطبل أو الدف أو غيرها، والسلامة من المعاني السيئة، فبعض الأناشيد الإسلامية الموجودة في الأشرطة، يكون فيها معانٍ صوفية أو شركية أو غيرها، وأيضاً: البعد عن الإكثار من هذه الأشياء، بحيث لا تغلب على الإنسان؛ لأن بعض الشباب يفطرون على الأناشيد ويتغدون أناشيد، ويتعشون أناشيد وينامون أيضاً على الأناشيد!! وهذا ليس سليماً، فالإسراف مرفوض في كل شيء، فالمفروض أن لا تتعدى هذه الأناشيد قدرها، بحيث أنها تزيل السأم والملل في سفر أو إقامة أو غير ذلك فقط، ففي هذا الإطار لا أشكال فيها، لكن هناك من قد يقول لك: أنا لا أرى جواز هذه الأناشيد، ولا إشكال أيضاً فمادام أنك فلا تراها لا تستخدمها أنت، إنما هل ينبغي أن تتخذ موقفاً من فلان؛ لأنه لا يوافقك في هذا الرأي؟! هذه قضية فرعية، ولك اجتهادك فيها، لكن لا ينبغي أن تكون هذه المسألة مدار الولاء والبراء والحب والبغض، وهي قضية -كما ذكرت فرعية. فالعلم الشرعي الصحيح والفقه العميق، يحمي الإنسان من تضخيم بعض القضايا الفرعية، أو التهوين من بعض القضايا الكلية. ففي مقابل ذلك؛ تجد بعض الدعاة ربما لا يقبل الحديث في قضايا أصولية مهمة، يقول: هذه تفرق الشمل لو سمع أحداً يتكلم -مثلاً- عن توحيد العبادة، وضرورة إفراد الله جل وعلا بالعبادة، وتحريم عبادة غير الله، وأن ذلك من الشرك الأكبر، الذي بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام لتحذير الناس منه ونهيهم عنه. وبالتالي الكلام عن القبوريين، الذين يطوفون بالقبور ويسألون أصحابها، ويدعونهم وينذرون لهم وما أشبه ذلك، وأن هذا شرك بالله جل وعلا، قال: يا أخي اترك هذا الكلام، هذا يفرق الصفوف!! أو سمع آخر يتحدث عن الرافضة -مثلاً- وخطرهم على الإسلام وانحرافهم، قال: دع هذا الكلام، فإنه يفرق الصفوف! إذاً: هناك من يهون بعض القضايا الكبيرة بحجة جمع الصفوف، وهناك من يعظم بعض القضايا الجزئية، فيوالي أو يعادي عليها، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم، والعلم الشرعي الصحيح يعصم الإنسان -بأذن الله- من الوقوع في هذا الخطأ أو ذاك. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 8 طلب العلم الشرعي يعصم الداعية من الانحراف في منهج الدعوة كذلك طلب العلم الشرعي يجعل الداعية بعيداً عن الانحراف في منهج الدعوة. والانحراف في منهج الدعوة يتمثل في صور كثيرة، منها -على سبيل المثال-: أن يشتغل الداعية بالتجميع العاطفي، الذي سرعان ما يتبخر ويزول. فبعض الدعاة -مثلاً- همه أن يجمع أكبر عدد ممكن من الناس، وليس همه أن يربيهم على الإسلام الصحيح، وأن يخرج رجالاً يعبدون الله على بصيرة، ويدعون إليه ويجاهدون في سبيله، وإنما همه أن يجتمع حوله عدد كبير من الناس، ولو كانت مستوياتهم ضعيفة، فيثير في نفوسهم الحماس فيقول لهم: قضايا المسلمين في بلد كذا، والمسلمون يقتلون في بلد كذا، فيثير عندهم الحماس للإسلام، وهو حماس مبهم غامض!! ولست أدعو إلى تجاهل قضايا المسلمين، أو الغفلة عن مشاكلهم، كلا! بل ينبغي أن يكون المسلمون كما وصفهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كالجسد الواحد إذا اشتكي منهم عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى. تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد أصبع ولو بردى أنت لخطبٍ أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع فالمسلمون أمة واحدة يألم أقصاها لأدناها، ولكن ينبغي -مع ذلك- ألا يكون هدف الداعي هو فقط إثارة حماس الناس وعواطفهم لقضايا المسلمين؛ لأن هذا الحماس سرعان ما يخبو ويفتر بعدما يتجاوز الإنسان فترة معينة من عمره، ويتحول الإنسان إلى تاجر وموظف، أو أي شيء آخر، لكنه ليس داعية إلى الله -جل وعلا- وهذا هو السر في أنك تجد بعض الناس في فترة من فترات عمره، متألقاً مشرقاً كداعية، لكن بعد فترة سرعان ما يخبو ويذبل، لأنه ما قام على أصول صحيحة وثابتة من العلم الشرعي الصحيح، بل كان مجرد حماس فتر بعد ما تقدمت به السن. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 9 العلم الشرعي يعصم الداعية من الانحراف السلوكي كذلك العلم الشرعي يعصم صاحبه من الانحراف السلوكي، وقد تجد بعض الدعاة منظرين أو نظريين، قد يتحدث الواحد منهم -مثلاً- عن الإسلام وقضايا الإسلام وشئون المسلمين ومشاكل الأمة الإسلامية، وقضايا كثيرة قد يتحدث عنها بكلامٍ جيد، لكن حين تنظر في سلوك هذا الداعية؛ لا تجد سلوك الإسلام كاملاً متمكناً فيه، قد تجد أن هذا الداعية يمشي وهو مسبل ثوبه، حالق لشعر وجهه، تارك للصلاة مع الجماعة، أو مقصر في ذلك، وأنا لا أقول: إن هذه الأشياء لا يمكن أن تقع من مسلم، كلا بل قد يقع المسلم في بعض هذه المعاصي، وهو يعلم أنها معاصٍ أو لا يعلم، لكن المصيبة كل المصيبة، أن تقع من داعية يدعو إلى الله جل وعلا، فهنا لا يمكن أن يُتسامح بحال من الأحوال في داعية إلى الله تعالى يقع في مثل هذه الأمور، لأن الناس يقتدون به في مثل هذا الأمر، ويعتبرون أن ما يفعله حجة -على الأقل- على سبيل التسامح والتساعد، ومن المعروف أن الناس إذا وجدوا أن العالم أو الداعية يقع في أمر؛ فإنهم يلتمسون في ذلك العذر ويتوسعون فيه، ويقولون: لو أن هذا الأمر ممنوعا لما وقع فيه فلان وفلان وفلان! فلا يمكن أن يقول جمهور الناس: إن هذا الإنسان أخطأ، بل بالعكس، جمهور الناس يفرحون بخطأ هذا الداعية أو العالم ليقتدوا به، ولذلك قيل: إذا زل العالِم زلَّ بزلته عالَم. وكان عمر رضي الله عنه يقول لـ زياد بن حدير: [[أتدري ما يهدم الإسلام؟ قال: لا. قال: يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] فزلة العالم تساهم في هدم الإسلام، ولذلك كثير من الناس اليوم حين تقول له: يا أخي، هذا العمل محرم، والدليل قول الله تعالى وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لك: يا أخي، لو كان حراماً ما فعله فلان وما فعله فلان، فيحتج عليك بفعل فلان وفلان من الناس، ولذلك قال بعض أهل العلم: إن علماء السوء وقفوا في طريق الجنة، يدعون الناس إلى الجنة بأقوالهم ويحذرونهم منها بأفعالهم، فهم قطاع طريق في الواقع وليسو أدلاء، وهذا أمر مشهود، فكم حال خطأ العالم أو الداعية بين الناس وبين ترك المعصية، تأتي إلى إنسان مثلاً يشرب الدخان، فتقول له: يا أخي، التدخين حرام ثبت طبياً ضرره وكل ما ثبت ضرره فهو حرام، ولا ضرر ولا ضرار، وفيه إتلاف للمال، وفيه وفيه، فيقول: يا أخي، هناك عالم في بلد كذا يشرب الدخان، وقد رأيته بعيني، وتأتي إلى آخر فتقول: يا أخي، الغناء فيه من النصوص والوعيد كذا وكذا، وقد أجمعت الأمة على تحريمه فيقول لك: يا أخي، أنا سمعت بأذني العالم فلان يفتي بأن الغناء حلال!! وهكذا تجد أن الناس يلتقطون أي زلة أو غلطة من داعية أو عالم فيتشبثون بها، وهذا لا شك أنه خطأ، بل العكس، إن الإنسان الذي يأخذ زلات العلماء؛ يجتمع فيه الشر كله، فمنهج هؤلاء العامة ليس سليماً، لكن نحن نقول: الداعي إلى الله جل وعلا وطالب العلم، ينبغي أن يكون مستقيماً في سلوكه، فلا يدع للناس فرصة ليتشبثوا بخطأ وقع فيه، حتى لو كان أمراً مباحاً قد يتوسع الناس فيه، فينبغي للداعية أن يتجنب هذا الأمر المباح، حين يكون أمام العامة على الأقل؛ لئلا يعطي للناس فرصة للوقوع في الحرام، بحجة أن فلان فعل ذلك، فطلب العلم الشرعي يعصم الداعية بإذن الله من الوقوع في الانحراف السلوكي. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 10 طلب العلم يحفظ الداعية من الانحراف العقدي إن طلب العلم الشرعي الصحيح، هو ضمانة تحفظ الدعية بإذن الله عز وجل من ألوان الانحراف، وإن من ألوان الانحراف الذي قد يقع للداعية: الانحراف في معتقده، ونحن نجد على مدار التاريخ؛ أن هناك دعاة لكن إلى ضلاله، ومن أمثلة ذلك: انحراف الخوارج، الذين كانوا يكفرون المسلم بالمعصية، ويقابله انحراف المرجئة، الذين كانوا يقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة، كذلك لا يضر مع الإيمان معصية، وكلاهما غلوّ وانحراف، ونحن نجد حتى في واقع الدعاة في هذا العصر، في بعض البلاد الإسلامية، هذا الانحراف أو ذاك موجود، والسبب هو فقدان العلم الشرعي، فتكون علوم الإنسان في الدعوة، مبنية على اجتهاد شخصي وعلى ميزاته، فإذا وُجد إنسان حاد المزاج، حاد الطبع شديد الانفعال قوي الغيرة، ثم شاهد الانحرافات والمعاصي والأخطاء، قام وقال: هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وربما أطلق عليهم ألفاظ الكفر دون تبصر أو تثبت، فهذا انحراف، فما الذي يعصم الإنسان من الوقوع في هذا الانحراف؟ يعصمه بإذن الله جل وعلا العلم، فالعلم نور في قلب الإنسان. كذلك الانحراف في الوقوع في التجهم أو الاعتزال أو التأويل أو التحريف أو التبديل، إنما العاصم من ذلك -بإذن الله جل وعل- هو العلم الشرعي. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 11 أنواع الناس في العلم والعمل وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أنواع الناس وطبقاتهم، ففي حديث أبي موسى الأشعري المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً} انظر هذا المثل النبوي، فالإسلام أصوله وفروعه مثل المطر الذي نزل على أرض، والأرض ليست سواء، والبقاع تختلف، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأرض أنواعاً، ذكر منها طائفة طيبة قبلت الماء، إذ هي أرض خصبة عندما نزل الماء عليها شربته وقبلته؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، فهذا مثل للإنسان الذي تعلم العلم وشربه وامتلأ به قلبه، وخشعت به جوارحه؛ فأثمر العمل والدعوة و الصدق والإخلاص، هذه طائفة، وهذا هو ما يجب أن يكون عليه الداعية. وهناك أرض أخرى عندما نزل عليها المطر كانت أرضاً تمسك الماء لكن لا تنبت الكلأ والعشب، فنفع الله بها الناس حيث شربوا منها وسقوا وزرعوا، فهذا مثل إنسان تعلم العلم وحفظه، لكن لم يستفد منه الفائدة المطلوبة، فالناس ينتفعون بما عنده من العلم لكن هو لم ينتفع، فهو مثل الأرض التي حفظت الماء، لكن ما شربت الماء ولا أنبتت العشب. القسم الثالث أو الطائفة الثالثة: أرض قيعان، لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، إذا ما جاءها ماء شربته ثم لم تنبت شيئاً، فلا هي أمسكت الماء لينتفع به الناس، ولا هي عندما شربت الماء أنبتت العشب، فما استفاد الناس منها لا عشباً كلأً ولا ماءً تحفظه، فهذا مثل إنسان لا تعلم ولا عمل ولا دعا. فانظر يا عبد الله، في أي هذا الطبقات أو الطوائف أنت، ولا شك أن الجدير بكل داعية؛ أن يجعل نفسه من الطبقة الأولى، التي انتفعت بما أنزل الله على رسوله من الهدى والعلم، فعلمت وعملت ودعت إلى ذلك. ولذلك نجد في الآية الكريمة التي تلوتها شرط البصيرة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فلابد من البصيرة فيما تدعو إليه. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 12 الصدق الخصلة الثالثة أو الشرط الثالث من شروط الداعية هو: الصدق. وأول ما يتبادر من كلمة الصدق، هو الصدق في اللسان، ولكن الواقع أن الصدق يكون في القلب قبل أن يكون في اللسان، ولذلك يقول الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] فحقيقة الصدق هي الإخلاص التام في القلب، ومنه يفيض الصدق على الجوارح كلها، فتكون أقوال الإنسان وأفعاله كلها تنطق بالصدق. ومسألة الصدق قضية كبيرة ومهمة جداً، ويعجبني الحديث الذي رواه الترمذي وهو حديث صحيح، عن عبد الله بن سلام رضى الله عنه، وكان يهودياً فأسلم، قال: {لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وتحدث الناس به وسمعت بمجيئه ذهبت إليه، قال: فاستثبت في وجهه أي نظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم نظرة عميقة ومتأنية، واسمع رأي عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فمن خلال نظرة واحدة فقط على وجه الداعية، خرج بها عبد الله بن سلام رضي الله عنه، بنتيجة كبيرة جداًً قال: فلما نظرت في وجهه؛ عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: أيها الناس، أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام} . وتدبر قوله: فلما نظرت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، كم من الدعاة اليوم من إذا نظرت إلى وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب؟ وكيف يكون هذا؟ هذا يكون عن طريق ممارسة الصدق في الأقوال والأعمال، واتخاذه ديدناً للإنسان، حتى يتحول إلى خلق وسجيه لا يحيد الإنسان عنها بحال من الأحوال، حتى يألف الناس هذا الأمر منه، وتصبح أساريره تنطق بهذا. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 13 الوضوح في القول كثير من الدعاة إلى الله عز وجل وطلاب العلم، توسعوا في مسألة التأويل في العبارات والأقوال، واتخاذ ما يسمونه بالمداراة والتورية وغيرها، حتى وقع الناس منهم في الإبهام والإيهام، وصار الناس لا يثقون لهم بقول ولا كلام. أحياناً الداعية لا يكذب كذباً صريحاً يؤخذ عليه لكن يستخدم التورية والتأويل، لكن الناس من كثرة ما استخدم هذا الإنسان التورية والتأويل؛ صاروا لا يثقون فيه لأنهم اكتشفوا أنه لا يعطي الحقيقة. الفقهاء أحياناً يتكلمون عن التورية وأساليبها، ومتي يفعلها الإنسان وما أشبه ذلك، لكن كون التورية والتأويل ديدناً عند الداعية، بحيث إن كثيراً من أموره مبنية على التأويل والتورية! هذا أسلوب تربوي خاطئ، أولاً: لأنه يربي من حوله على عدم الوضوح وعدم الصدق، ثم إنه يورث الناس عدم الثقة بهذا الداعية وبما يقول، حتى لو صدقهم ما صدقوه حينئذٍ. وعدم الوضوح في الأفعال، لا يقل خطورة عن عدم الوضوح في الأقوال، فالداعية مطالب بالصدق في أفعاله، وقد يقول الإنسان: كيف يكون الصدق في الأفعال؟ فنقول: نعم، يكون الصدق في الأفعال، ولعل من الأمثلة على الصدق في الأفعال: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم عند النسائي وغيره وفي سنده مقال، في قصة الرجل الذي أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وهو ابن أبي السرح، وكان أخاً لـ عثمان بن عفان رضي الله عنه لأمه، فلما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، جاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يلتمس له الأمان، فكان الصحابة جالسين حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء به عثمان قال: {يا رسول الله! هذا ابن أبي السرح وهو يلتمس الأمان، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم بعض الوقت ثم أمنه، فلما انصرف، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ألا قام رجل منكم حين سكتّ فعلاه بالسيف فقتله؟ فقالوا: يا رسول الله، هلا أومأت إلينا، إشارة خفية منك يا رسول الله، ولو بطرف العين، كافية لأن نقوم بهذا العمل فتقول الرواية: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين} هذا هو الوضوح، فالداعية إلى الله جل وعلا، يجب أن يترسم خطى النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوح والصدق، في أقواله وأعماله. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 14 العدل الخصلة الرابعة: هي العدل. والعدل بمعناه العام، يشمل عدل الإنسان مع نفسه ومع غيره، مع العدو والصديق، والقريب والبعيد، وفي عبادته وسلوكه وغير ذلك، وبالعدل قامت السماوات والأرض، كما نطق بها اليهود شهادة لما رأوا عدل النبي صلى الله عليه وسلم. والعدل يكون في أمور كثيرة جداً: الجزء: 77 ¦ الصفحة: 15 الاعتدال في الحكم على الأشياء وإن من العدل: الاعتدال في الحكم على الأشياء والأشخاص والكتب والمجلات والجرائد والأعمال والمؤسسات وغيرها، كل شيء تريد أن تتكلم منه، أو تحكم عليه؛ لا بد أن تراعي العدل، فإذا كان فيه الصواب، تقول الصواب فيه، أو كان فيه الخطأن فتبين الخطأ، ولا يحملك كون الخطأ يغلب على هذا الكتاب -مثلاً- أو على هذا الشخص، لا يمنعك هذا أن تذكر ما فيه من الصواب، والعكس بالعكس: لا يمنعك كون الصواب غالباً أن تذكر ما فيه من خطأ. وكثيراً ما يخل الداعية بخلق العدل، فمثلاً حين يريد الداعية أن يتحدث عن شخص قريب محبوب لديه، شيخ أو أستاذ أو معلم أو مربٍ، تجد هذا الداعية يتكلم عن هذا الإنسان، كما لو كان يتكلم عن أحد الخلفاء الراشدين، أو العشرة المبشرين بالجنة، أو على الأقل أصحاب بدر، فتجده يضفي عليه من الخصال فوق ما يستحق، لأنه يتكلم بلسان المحب الذي لا يرى إلا المحاسن، وكما يقال: وعين الرضى عن كل عيب كليلة فهذا ليس من العدل، ولو كان شخصاً فاضلاً، ولو كنت معجباً به، فعليك أن تقتصد في الثناء على هذا الإنسان، فلا تعطه فوق منزلته؛ لأن إعطاءك له فوق منزلته، هو باب من أبواب الغلو في الصالحين. ومما ينافي العدل: كذلك ألا يعدل الداعية في الحكم على البعيد، الذي لا يوافقه في مشربه ومسلكه ومنهجه، أو حزبه أو طائفته أو فئته، فينسى فضائله، حتى لو كان هذا الإنسان له فضائل مشهورة مذكورة، فإنه قد ينساها أو يتجاهلها، ويؤكد فقط على الجانب المظلم، بل ربما تتحول الحسنات عنده إلى عيوب؛ لأنه يتحدث بعين السخط، وعين السخط كما قيل: ولكن عين السخط تبدي والمساويا فهنا لابد من العدل، وأن تذكر ما في هذا الإنسان من فضائل مهما كان، والواقع أن الإنسان حين يستخدم العدل هنا، يربي الناس على هذا المنهج أولاً، ثم يكسب ثقة الناس؛ لأن الناس أصبحت تعرف أن فلاناً حين يتحدث، لا يتحدث عن هوى أو شهوة أو غرض شخصي، إنما هو إنسان يضع الحق نصب عينيه، ويحكم على الناس بقدر ما وسعه اجتهاده، لا يحابي أحداً فيعطيه فوق قدره، ولا ينتقص أحداً دون منزلته، فقد يخطئ بلا شك؛ لأن البشر غير معصوم من الخطأ، لكن هو في الجملة معتدل في منهجه، وقد يخطئ، فلا يسلم من الخطأ أحد في هذا الباب ولا في غيره. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 16 الحكمة الشرط الخامس أو الصفة الخامسة من صفات الداعية هي: الحكمة. والعلماء يعرفون الحكمة بأنها: وضع الشيء في موضعه، وفضلها عظيم، ويكفيك قول الله جل وعلا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] فالحكمة خير كثير كما ذكر الله جل وعلا، وقد أمر الله الداعية أن يدعو بالحكمة فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] . والحكمة لها صور شتى، منها -مثلاً- مخاطبة الإنسان بما يناسبه، فالناس طبقات شتى، وكل فئة من الناس يناسبهم أسلوب معين، فأنت حين تتحدث مع العامي تحتاج إلى أسلوب خاص، وحين تتحدث مع طالب العلم تحتاج إلى أسلوب آخر، وحين تتحدث مع إنسان مثقف تحتاج إلى أسلوب ثالث، وحين تتحدث مع عمال تحتاج إلى أسلوب رابع، وحين تتحدث مع زملاء تحتاج إلى أسلوب، وحين تتحدث مع من هم دونك تحتاج إلى أسلوب، أو مع من هم فوقك تحتاج إلى أسلوب. فمن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فتخاطب كل إنسان بما يناسبه، فلو حدثت العالم -مثلاً- بما تخاطب به العامي لكان هذا خطأ، ولو خاطبت العامة بما تخاطب به طلاب العلم لربما كان هذا لهم فتنة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]] وجاء في الأثر: [[ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة]] . ومن صور الحكمة: عدم التعجل والاندفاع وراء الطيش والحماس غير المتزن، وقد ذكر لنا الله جل وعلا في كتابه نموذجاً لذلك، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] . جاء في حديث ابن عباس في السنن، وهو حديث صحيح، أن هذه الآية نزلت في قوم في مكة، والمسلمون مضايقون مضطهدون، كانوا يقولون: لو قاتلنا، لو جاهدنا، لو حملنا السلاح ضد الأعداء، فقيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة، فلما فرض عليهم القتال ووجب عليهم؛ نكص بعضهم وتراجعوا، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، وإذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، فالمطلوب من الداعي الحكمة والاتزان وعدم التعجل، والتدرج في الأمور، فما يكون صواباً في حال قد يكون خطأ في حال آخر. ومن صور الحكمة: عدم الإقدام على عمل ضرره أكبر من نفعه، أو حتى ضرره مساوٍ لنفعه؛ لأنك تعمل، والعمل لا شك أنه مجهول، فحين تكتشف أن هذا العمل الذي تعمله ضاع قد تتركه، حتى حين تكتشف أن ضرره مساوٍ لنفعه حينئذٍ تتركه؛ لأنه لا داعي لأن أتعب نفسي فيه، وأنا أعرف أن الضرر مساوٍ للمصلحة. فمن الحكمة عدم الإقدام على عمل كهذا، وذلك كما إذا وجدت إنساناً على معصية، وتعرف أنك لو نهيته عنها، لوقع في معصية أخرى مساوية لتلك المعصية. ومن صور الحكمة: تقديم الأهم على المهم، وتقديم المهم على ما دونه، حين تتعارض وتتزاحم الواجبات. فإذا كان عندك مجموعة واجبات كثيرة، لا تستطيع أن تقوم بها كلها دفعة واحدة، فعليك أن ترتب الواجبات فتبدأ بالأهم، وافترض أن عندك إنسان عليه مجموعة من الأخطاء والمعاصي، فهو تارك للصلاة، وفي نفس الوقت يشرب الخمر ويسمع الغناء، وأنت ترى أنه ليس من المصلحة أن تقول له: يا فلان، إن ترك الصلاة وشرب الخمر وسماع الغناء هذه كلها معاصٍ وكذا وكذا فمن المصلحة أن تبدأ مع هذا الإنسان بالتدرج، وما الإنسان خاصة إذا كان جاراً لك، فعندك وقت طويل معه، فمن الحكمة أن تبدأ معه في مسألة الصلاة فتدعوه إلى الصلاة، وتبين له خطورة تركها، وتحثه عليها حتى يستجيب لك، ثم تنتقل إلى المعصية الأخرى، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله} لأن مسألة التوحيد هي أهم ما يدعى إليه: {فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} إذاً لا بد من التدرج في الدعوة ومراعاة الأهم ثم المهم. من صور الحكمة: مراعاة الرفق، والله عز وجل حين بعث موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ولذلك يقال: إن أحد الدعاة المتعجلين دخل على أحد الخلفاء، وتكلم عليه بكلام قاس شديد، فكان الخليفة أفقه من هذا الإنسان، فقال له: قف، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأمره بالرفق والقول اللين، بعث الله موسى إلى فرعون وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] وموسى خير منك وفرعون شر مني، فلا داعي لأن تقسو علي وتغلظ لي في المقال. فمراعاة الرفق والأناة والحلم وسعة الصدر على المدعوين، من أهم صور الحكمة المطلوبة من الداعية. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 17 الصبر أخيراً من شروط الداعية وخصاله: الصبر. والصبر هو حبس النفس على ما تكره كما عرفه أهل العلم، فلا بد للداعية من الصبر، ولذلك قال الله جل وعلا في صفة المفلحين الرابحين: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] فلا بد من الصبر للداعية، أولاً: الصبر على الإسلام نفسه، من الإيمان والعمل الصالح وما يتبعهما، فلا بد من الصبر على ذلك. وثانياً: لا بد من الصبر على الصبر، بمعني أن الداعية قد يصبر وقتاً من الأوقات، ولكنه يمل بعد ذلك ويترك الصبر، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، يقول عليه الصلاة والسلام: {ومن يتصبر يصبره الله} فقد يكون من شأن الإنسان العجلة وعدم الصبر، لكن إذا تكلف الصبر رزقه الله الصبر، حتى يصبح سجية له، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر، فهو خير وأوسع من المال ومن الثروة ومن الجاه، ومن الزوجة الجميلة، ومن النصر الرفيع ومن كل شيء، وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر. فسبحان الله! كم من إنسان يبدأ بعمل طيب، لكنه يعجز فينقطع في عرض الطريق، لماذا؟ لأن ما عنده صبر، وكم من داعية يواجه بالإيذاء والتكذيب وبالسخرية، فيترك الدعوة إلى الله جل وعلا؟ لأنه لم يتميز بالصبر، ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم -أيضاً- في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عمر وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} . فالداعية بالذات يحتاج إلى الصبر، يقول الله جل وعلا: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] سيجد الداعية من يشكك في نيته، لماذا؟ لأن الأنبياء وجدوا من يشكك في نياتهم قال تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] موسى وهارون قال عنهما فرعون: إنهما يريدان الكبرياء في الأرض! قال تعالى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] إذاً لهم مقاصد سياسية على حد تعبير المعاصرين! هكذا يزعم فرعون، فيجد الداعية من يشكك في نيته فلا يحزن، وسيجد الداعية من يرفض قبول دعوته فعليه أن يصبر، وسيجد الداعية من يترك الميدان، ممن حوله من الدعاة الذين كان يأمل فيهم، فوجد أنهم ضعفوا وتخلوا، فيجب أن يصبر، وسيجد الداعية أن هناك من أقرانه وزملائه من يؤذيه وينال منه، وهذا من أشق الأمور على النفس، ولذلك يقول القائل: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند فأنت لا تستغرب أن ينال منك عدوك؛ لأنه عدو، بل إن الغريب لو لم ينل منك، إنما تستغرب أن ينال منك أخوك وصديقك وقريبك ومرافقك، لكن ليجعل الداعية شعاره حين يسمع مثل ذلك قول كُثَيِّر: هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر لـ عزة من أعراضنا ما استحلت إذاً سيلقى الداعي أذى كثيراً، حتى إنك قد تلقى الأذى من أهل بيتك، من زوجتك ومن أولادك ومن جيرانك، فلا بد من التحلي بالصبر والنهاية للصابرين، جعلني الله وإياكم منهم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 77 ¦ الصفحة: 19 الإكثار من سماع الأناشيد السؤال كنت أكثر ما أسمع من الأشرطة هي الأناشيد، فهل في ذلك شيء؟ الجواب أرى أن لا تكثر من سماع الأناشيد، فالأناشيد -كما ذكرت- ينبغي إذا استخدمها الإنسان، أنه يستخدمها على أنها مثل الملح، تستخدم لإزالة السأم والملل، أما الإكثار منها فهو مذموم، ولذلك بوب البخاري فقال: باب من كان الغالب عليه الشعر، ثم ساق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً وصديداً؛ خير له من أن يمتلئ شعراً} فكأنه حمل الحديث على الإكثار من ذلك، وأن يكون هو الغالب على الإنسان. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 20 استخدام جميع وسائل الدعوة السؤال لماذا لا يستخدم الدعاة المسلمون الوسائل الحديثة، كالإذاعة والصحافة وغيرها لتوجيه المسلمين؟ الجواب مطلوب من الداعية أن يستخدم كل وسيلة مباحة للدعوة إلى الله، وإيصال صوت الحق إلى جمهور الناس. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 21 لابد من موافقة الفعل للقول السؤال ماذا نقول لداعية لا يترك يوماً إلا وقد شرب الدخان؟ الجواب نقول له: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم أسأل الله أن يتقبل مني ومنكم، وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وأن يجعل ما نستقبل من أيامنا خيراً مما نستدبر، وأن يتوب علينا ويغفر لنا خطأنا وزللنا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 22 الأخ الذي لا يصلي السؤال لي أخ لا يصلي أبداً، وإذا نصحته أخذ يتكلم علي بكلام بذيء فماذا أفعل به؟ الجواب إذا استفرغت الوسائل والأسباب في دعوة أخيك، وأتيته من كل طريق تستطيعها فيئست منه، فأرى أن تقاطع أخاك ولا تكلمه ولا تؤاكله ولا تشاربه ولا تجالسه. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 23 بعض وسائل الدعوة السؤال نحن شباب نريد أن نطبق الدعوة إلى الله عز وجل هنا في هذا البلد، فهل أذهب بنفسي إلى الشخص الذي أريد دعوته وأدعوه عندي في بيتي؟ أم أذهب إليه في بيته وأدعوه، أم نذهب نحن مجموعة من الشباب إليه في بيته، أم نذهب في رحلة، فأيها أفضل؟ الجواب كل ذلك طيب، وهذه الأمور تختلف بحسب حال المدعو، فبعض الناس من الأفضل أن تزوره في بيته، وبعض الناس من الأفضل أن تدعوه إلى بيتك، وبعض الناس تدعوه بمفرده، وبعض الناس تدعوه إلى مجموعة من زملائك، وبعض الناس من المناسب أن تخرج معه مع مجموعة من زملائك في رحلة، وبعضهم تدعوه إلى حلقة تحفيظ قرآن، أو حلقة علمية أو ما أشبه ذلك، فكل إنسان له ما يناسبه، وهذه الأمور ليس فيها حَجر ما دامت وسائل مباحة. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 24 حب المدح على فعل الخير السؤال يقول إنني عندما أفعل خيراً أحب المديح عليه؟ الجواب إذا كان فعل الإنسان للخير لوجه الله، لكنه فرح بما يسمع من مديح الناس فلا بأس، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال كما في صحيح مسلم: {تلك عاجل بشرى المؤمن} أما إن كان يفعل الخير من أجل أن يمدحه الناس عليه، فهذا من الرياء وعليه أن يتجنبه. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 25 اختلاف العلماء السؤال إذا اختلف العلماء فكيف نعمل في ذلك؟ الجواب إذا اختلف العلماء -فكما أسلفت قبل قليل- هل أنت طالب علم أو عامي مقلد؟ إن كنت عامياً فانظر أفضل العلماء في نظرك فقلده في هذا الأمر، أفضلهم علماً وعملاً وديناً، وإن كنت طالب علم، فقارن بين هذه الأقوال من حيث الدليل والأقرب إلى الصواب، وخذ بما تراه أنه أقرب إلى الصواب، أما الأخذ بالتشهي فليس صحيحاً. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 26 وسوسة الشيطان بأن الإنسان مراء ٍ السؤال يقول أنا شاب تطوعت، ولكني أحس أن التطوع رياء، أرشدوني إلى طريق الخير؟ الجواب تطوعت أي سلكت طريق الاستقامة، وهذا ليس تطوعاً في الحقيقة بل هو واجب، لأن الاستقامة على دين الله وعلى الخير وتجنب المحرمات، هذه من الواجبات وليست من التطوع، أما هذا الإحساس فقد يكون من الشيطان؛ لأنه يريد أن تعود إلى ما كنت عليه، فيخيل إليك أن ما تفعله هو من الرياء، فعليك أن لا تلتفت إلى هذا الشعور، بل استمر في عمل الخير. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 27 وصايا على طريق الدعوة السؤال هذا الأخ يريد أن يكون داعية إلى الله، على الرغم من أن عمره لم يتجاوز خمس عشرة سنة، فأوصني ما هو الواجب عليَّ فعله فإنني في حيرة من أمري؟ الجواب أولاً: أحمد الله جل وعلا، مضى وقت من الأوقات، كنا نجد شباب هذه الأمة وهم في سن الخامسة عشرة، إذا سألت الواحد منهم: ماذا تتمنى أن تكون؟ يقول: أتمنى أن أكون مثل اللاعب فلان، أو مثل الممثل فلان، أو مثل المغني فلان، والحمد لله اليوم الأمة صحت ووعت، وأصبح الشاب وهو في سن الخامسة عشرة، يتمني أن يكون داعية أو عالماً فهذه بداية طيبة، وعليك أن تبدأ الخطوات، فسنك يؤهلك لذلك، عليك أن تتعلم وتحرص على القراءة بِنَهَم، وتجالس العلماء، وتحفظ القرآن، وتحرص على أن تتدرب على الكلام والإلقاء أمام الناس والحديث، وحسن الخلق، فتربي نفسك على الأخلاق الفاضلة، واستمر على هذا الطموح، وادع إلى الله تعالى بقدر ما تستطيع بين أقرانك وزملائك، والله تعالى يتولانا ويتولاك. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 28 اليأس من استجابة المدعوين السؤال إذا دعوت الناس ولم يسمعوني فهل أترك هذه الدعوة؟ الجواب لا تترك هذه الدعوة؛ لأنه يكفيك أن تدعو، وهذه عبادة قمت بها وأجرت عليها، والرسول عليه الصلاة والسلام أخبر في حديث ابن عباس: {أنه يوم القيامة يأتي النبي وليس معه أحد} فلست خيراً من أنبياء الله ورسله، فمنهم من يأتي وليس معه أحد، فأنت رابح على كل حال، ثم إن كون الناس لم يستجيبوا لك الآن، يستجيبوا لك بعد ذلك، لأن من المعروف أن الناس يقبلون الحق -ولله الحمد- في هذا العصر، حتى الكفار إذا دُعوا تجد كثيراً منهم يسلمون، فالمسلمون من باب الأولى، فكونك دعوت ولم يستجب لك لا يدعوك إلى أن تترك الدعوة، بل فكر في نفسك، هل فيك عيب أو تقصير أو عدم استخدام للأسلوب المناسب، أو عدم التحلي بالخصال المطلوبة؟ فاعمل على تحقيق هذه الأشياء واستمر في دعوتك. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 29 الداعية لا يقتصر على العلوم الشرعية السؤال هل كل داعية إلى الله يقتصر على العلوم الشرعية أم لا؟ الجواب ليس كل داعية إلى الله مطلوب أن يقتصر على العلوم الشرعية، بل مطلوب من الدعاة إلى الله جل وعلا، أن يتعلموا سائر العلوم التي تحتاجها الأمة، فجميل أن يوجد من بين الدعاة إلى الله جل وعلا، الطبيب والمهندس والطيار والإداري والموظف والخبير، وفي أي شأن من شئون الحياة، وهذا يعطي صورة على أن الإسلام دين ينظم جميع شئون الحياة، وأنه سبب في تقدم المسلمين وحيازتهم على العلوم في جميع المجالات، لكن الداعية -أيضاً بشكل عام- حتى حين يكون طبيباً أو مهندساً، لا بد أن يكون عنده قدر من العلم الشرعي، خاصة فيما يدعو إليه، وفي الأمور التي يجب عليه تعلمها. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 30 الأخذ برأي الألباني في التصحيح والتضعيف السؤال ما رأيك في تصحيح فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني وتضعيفه؟ الجواب لا شك أن الشيخ الألباني من كبار علماء السنة في هذا العصر؛ إن لم يكن أكبر علماء السنة في هذا العصر، وهذا لا يعني أن تقلده في كل ما صحح أو ضعف، فهو كغيره من العلماء يخطئ ويصيب، فكما ذكرت إن كنت مقلداً وتقول: الألباني اطلع على ما لا يطلع عليه غيره؛ فلا تثريب عليك في ذلك، وإلا فالأولى أن تقارن حكمه بحكم غيره من العلماء الذين سبقوه، أو حتى عاصروه وهم كثير، وتخرج من ذلك بنتيجة صحيحة. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 31 واجبنا نحو من يدعو بغير علم السؤال هناك بعض الناس يدعون على غير علم فيضلون، فما واجبنا نحن؟ الجواب واجبك أن تدعو إلى الله تعالى على بصيرة، وكذلك أن تنبه هؤلاء إلى أنه ينبغي لهم أن يتعلموا ما تصح به دعوتهم. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 32 بعض شروط الداعية السؤال ما هي الشروط التي يجب أن يفعلها الداعية قبل أن يدعو؟ الجواب الشروط أن يكون مخلصاً عالماً بما يدعو إليه، وينبغي أن يعمل بما يدعو الناس إليه؛ لئلا يكون من الناس الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 33 حكم التهاون عن صلاة الجماعة السؤال ما حكم من قصَّر في أداء الصلاة في المسجد؟ الجواب صلاة الجماعة واجبة، وذهب بعض أهل العلم إلى أن صلاة الجماعة شرط لصحة الصلاة، لا تصح الصلاة إلا بها، وهذا الذي ذكره صاحب الاختيارات الفقهية عن شيخ الإسلام ابن تيمية، لكن الصحيح أن صلاة الجماعة واجبة، فتاركها آثم. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 34 الغيرة من الدعاة الآخرين السؤال أنا شاب فتح الله على قلبي، ومضيت أدعو إلى الله، فهدى الله أشخاصاً على يدي، وعندما أرى شخصاً من الذين كنت سبباً في هدايتهم بعد الله مع شخص آخر، أغار عليه؟ الجواب هذا سؤال مهم ويشكر كاتبه على هذا؛ لأن كون الإنسان دائما يراقب نفسه، هذا من أهم الأشياء التي تمنع الإنسان -بإذن الله- من الوقوع في الخطأ، ولذلك الله عز وجل قال: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] النفس اللوامة: هي التي تلوم صاحبها على النظرة، وعلى الخطوة، وعلى الأكلة، وعلى كل شيء، بل على الخطرة التي تخطر بالقلب، والغيرة هذه من الأخطاء، فلا تغار، بل يجب عليك إذا رأيته يسير مع شخص آخر مستقيم أن تفرح بذلك، وتقاوم هذه الرغبة التي تجدها في نفسك، وإذا وجدت فرصة أن تأمره بأن يذهب مع فلان أو يأتي مع فلان فافعل، حتى تزيل ذلك، وكما أسلفت قبل قليل، فالأخلاق إذا تصنعها الإنسان وعمل على تحقيقها فإنه يكتسبها، الأخلاق يمكن أن تكتسب، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ومن يتصبر يصبره الله ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله} . الجزء: 77 ¦ الصفحة: 35 سبب انقطاع الدروس السؤال بعض الدروس والحلقات تبدأ في فترة من الزمن ثم تنقطع، فما هو السبب في ذلك؟ الجواب الأسباب كثيرة فقد يكون التخطيط لهذا الدرس أو الحلقة غير جيد، كأن وضع في مسجد غير مناسب، ليس فيه جمهور من الطلاب، أو طاقة الحي لا تحتمل هذا الدرس مثلاً، وقد يكون السبب راجعاً إلى المدرس، بحيث لم يقم بالواجب عليه وبالتالي تسلل الطلاب لواذاً، وقد يكون السبب راجعاً إلى منهج الدرس، فقد يأخذ الأستاذ الطلاب بمنهج ثقيل يصعب عليهم الالتزام به، وقد يرجع السبب إلى الطلاب. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 36 ضرورة معرفة الحديث الصحيح من غيره للداعية السؤال هل يجب على الداعية معرفة صحة الحديث من عدمه؟ الجواب يجب على الداعية معرفة صحة الحديث الذي يستشهد به؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من تحدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين} فلا ينبغي للإنسان أن يستشهد بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا وهو يعلم أنه ثابت صحيح أو حسن. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 37 حكم أخذ تضعيف الأحاديث من عالم بعينه السؤال ما الحكم إذا ضعف عالم حديثاً، هل نأخذ به، أم هناك شروط أخرى؟ الجواب إذا ضعف عالم معتبر حديثاً، فأنت إما أن تكون مقلداً أو تكون طالب علم، فإن كنت مقلداً لك الحق أن تأخذ كلام هذا العالم فلا تعمل بهذا الحديث، لكن إن كنت طالب علم فابحث، فيمكن أن تجد عالماً آخر يصحح هذا الحديث. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 38 سبب الانتكاس بعد الهداية السؤال يوجد بعض الشباب يهديه الله ويكون من الطيبين، ولكن ما يلبث إلا مدة ثم يعود ويكره الحلقات والدروس والعلم، فما هو السبب؟ الجواب قد يكون السبب راجعاً إلى أن هذا الشاب له قرناء سيئون، أغروه بالفساد وحاولوا أن يجروه عن طريق الهداية، وقد يكون بسبب زملائه الطيبين، كأن يحدث منهم تقصير أو خطأ أو سوء معاملة نفرت هذا الشاب، أو يحملوا هذا الشاب ما لا يحتمل فأحياناً إذا استقام هذا الشاب، ربما يكلفه زملاؤه بحفظ شيء من القرآن وشيء من السنة، ويثقلون عليه بالجد فيثقل عليه الأمر، فيترك طريق الخير، فعلى الشباب الصالحين إذا اهتدى إنسان أن يأخذوه شيئاً فشيئاً، ولا يثقلوا عليه بالعلم والحفظ في سورة قد تنفره، ويرصوا على معاملته بالخلق الحسن، وإن رأوا منه خطأ عالجوه بطريقة هادئة، ويعملوا على ربطه بمجموعة من الأصدقاء، يستغني بهم عن الأصدقاء السيئين، وحتى لو وقع منه الانحراف لا ييئسوا منه، بل عليهم أن يكرروا معه مرة أخرى، ويحرصوا على كسبه بالأسلوب الحسن، وإن أمكن أن يذهب إليه بعض الأصدقاء الذين يثق بهم، ويسألونه عن سبب تركه لهذه الحلقات والدروس، فهذا أمر حسن. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 39 تأخير صلاة العصر عن وقتها السؤال هل يجوز جمع صلاة العصر مع صلاة المغرب، إذا تأخرت عن الصلاة لعذر، أم أصلي العصر في اليوم الثاني؟ الجواب من المعروف أن صلاة العصر تجمع مع ما قبلها إذا كان هناك حاجة إلى ذلك، كما إذا كان مسافراً أو مريضاً محتاجاً للجمع، فإنه يجمع الظهر مع العصر جمع تقديم أو تأخير، إما في وقت الظهر أو في وقت العصر بحسب ما يتيسر له، وكذلك يجوز له أن يجمع المغرب مع العشاء، إذا احتاج إلى ذلك لسفر أو مرض يحتاج معه إلى الجمع أو نحو ذلك، يجمع المغرب مع العشاء في وقت إحداهما، إما في وقت المغرب أو في وقت العشاء بحسب ما تيسر له، أما الفجر فإنها لا تجمع وإنما تصلى في وقتها، أما صلاة العصر فإنه يحرم تأخيرها عن وقتها، لكن لو فرض أن إنساناً أخرها لعذر، مثل أن يكون نائماً ولم يجد من يوقظه، حتى غابت الشمس وخرج وقت العصر، فحينئذٍ يصليها متى استيقظ، أو كان ناسياً للصلاة، فإنه يصليها متى ذكرها ولو بعد غروب الشمس، ولو بعد صلاة المغرب أو العشاء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك} . الجزء: 77 ¦ الصفحة: 40 إنكار المنكر السؤال هناك كثير من المنكرات، ولكن قد نقول: إن الحكمة أن لا ينكر المنكر إذا وجدته، فما توجيهكم في ذلك؟ الجواب إنكار المنكر مطلوب، وهو فرض كفاية كما هو رأي الجمهور، فلا أحد يمنع منه، لكن إذا تعارض عندك عدة منكرات ورأيت أن من المصلحة ألا تنكرها دفعة واحدة، فعليك أن تبدأ بالأهم ثم المهم. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 41 أخطاء الغزالي في كتابه: السنة النبوية السؤال هل في كتب الشيخ الغزالي ما يخرجه من الإسلام؟ ونرى بعض العلماء يبقى فترة من الزمن على ثقة من الناس وعلى ما يحبون، وما هي إلا لحظات حتى يظهر على الملأ ببعض المؤلفات التي تخالف السنة النبوية؟ وهل بلغ الغزالي ردك عليه؟ وهل تاب مما قال في كتبه؟ وما توجيهك لعوام البشر الذين يؤيدونه فيما قال، لا على أن ما قاله صحيح، لكن لأنه حاز على بعض الجوائز العالمية، فهل يعني عصمته؟ أرجو التوجيه حيال ذلك، على أنه لا يلزم من هذا التأييد على الخطأ؟ الجواب أما ما كتبه الغزالي، فقد كتب كلاماً كثيراً فيه مخالفات صريحة للكتاب والسنة وأخطاء، وقد تحدثت عنها في مجموعة من المحاضرات والدروس، ثم في كتاب طبع بعنوان: "حوار هادئ مع الغزالي" وبإمكان الأخ السائل الرجوع إلى الكتاب، وأما فيما يتعلق ببلوغه فقد بلغته الأشرطة، وأرجو أن تكون هي وغيرها مما كتبه العلماء، سبباً في تراجع الشيخ الغزالي عن آرائه التي قال بها. أما سبب كون بعض العلماء أو بعض الدعاة يكسب ثقة الناس، ثم يخرج عليهم بآراء غريبة، فهذه لها أسباب عديدة منها: أن الناس -أحياناً- لا يقرءون، فيعطون العالم أو الداعية الثقة بسرعة، وهذا بسبب عدم القراءة، وهذا عيب موجود فينا، وهو عيب كبير جداً فكثيراً ما نثق بإنسان ثقة إجمالية؛ لأننا نسمعه في الإذاعة أو في التلفاز أو في الكتب، أو نسمع أنه داعية ذهب أو راح، أو اتخذ موقفاً طيباً فنعطيه ثقة مجملة، لكن لا نقرأ! وإذا قرأنا نقرأ بإعجاب، والقراءة بإعجاب تجعل الإنسان لا ينتبه للأخطاء، أنا لا أقول اقرأ قراءة الذي يبحث عن الخطأ، لكن اقرأ وأنت مفتح الذهن، بحيث تقول: للخطأ خطأ وللصواب صواب، ولذلك كثير من الأشياء التي قال بها الغزالي في كتابه الأخير: السنة النبوية، هي موجودة في بعض كتبه القديمة، لكن الناس لم يقرءوها، ولذلك فوجئوا بها؛ لأن هذا الكتاب انتشر ونشر في جريدة الشرق الأوسط، وقد يكون هناك أسباب أخرى، أما بالنسبة للناس، فالناس ما أمروا باتباع فلان ولا فلان، فإن الله عز وجل يسألنا يوم القيامة: ماذا أجبتم المرسلين؟ فليس يعفيك أمام الله جل وعلا أن تقول: قلدت فلاناً وتابعت فلاناً، وأنت تعرف أن فلاناً مخطئ فيما ذهب إليه، وأن العلماء ردوا عليه وبينوا خطأه. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 42 أمر الجار بالصلاة السؤال هناك جيران للمسجد لا يصلون، فقلت لهم أكثر من مرة: صلوا، وإن أحببتم أن أطرق عليكم الباب في صلاة الفجر فلا مانع، فلم يقبلوا ذلك، فما هو الحل؟ وهل يلحقني من ذنوبهم شيء؟ الجواب الواقع أن الجار له حق على جاره، فينبغي أن ينصحه بقدر ما يستطيع، فما قمت به من دعوتهم إلى الصلاة حسن، وعليك أن تكرر الأمر وليس مجرد كلمة، بل ادخل عندهم في البيت، وتكلم معهم حول مسألة الصلاة في المسجد ووجوبها، واطلب منهم أن يصلوا، وإذا لم يفعلوا كرر الأمر عليهم مرة أخرى، وأحسن إليهم ماداموا جيراناً، أحسن إليهم بالهدية، الهدية للأولاد وما أشبه ذلك، فربما تكون هذه الهدية سبباً في قبولهم لما تقول، فإذا يئست من قبولهم، فإن كنت ترى أن في إبلاغ الجهة المختصة، هيئة الأمر بالمعروف فائدة؛ فعليك أن تفعل ذلك. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 43 حكم القول في كتاب الله بدون علم السؤال ما رأيك في رجل يعلم الناس وليس بعالم، ويفسر آيات من القرآن، برغم أن معنى الآيات ليس كما فسرها، هل عليه شيء أم لا؟ الجواب إن علَّم الناس ما لم يعلم أو فسر القرآن برأيه، فهو آثم وقد أخطأ ولو أصاب، وليتبوأ مقعده من النار، والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فالمتكلف في الشرعيات لا يجوز له أن يتكلم إلا بعلم ودليل. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 44 بعض الكتب في السيرة النبوية ِ السؤال يقول: أنا أريد أن أنمي ثقافتي في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته وعلماء السلف، لآخذ العبرة منهم وأرتقي بنفسي، فما هي الكتب التي تنصحني بها مع ذكر المؤلفين؟ الجواب فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فالناس في السيرة عيال على ابن إسحاق، فسيرة ابن إسحاق، التي أخذها عنه ابن هشام هي أوفى وأوسع ما كتب في السيرة، وهي مطبوعة في أربعة مجلدات، ولكنها ليست سيرة موثقة توثيقاً تاماً، بل فيها الأخبار المعضلة والمنقطعة وغيرها، ولذلك هناك كتاب آخر في السيرة لـ ابن كثير، هو جزء من البداية والنهاية، لكنه مطبوع مستقلاً باسم "السيرة النبوية" بعناية مصطفى عبد الواحد في أربعة مجلدات، وابن كثير إمام محدث، ولذلك ظهرت بضاعته الحديثية في هذا الكتاب، فهو من الناحية التوثيقية أفضل من كتاب سيرة ابن هشام، وهناك كتب كثيرة في السيرة، فهناك: تهذيب سيرة ابن هشام، وهناك الفصول في اختصار سيرة الرسول لـ ابن كثير وغير هذه الكتب. وأما ما يتعلق بسيرة الصحابة وعلماء السلف، فلعل من أوفى وأوسع المصادر في ذلك كتاب: سير أعلام النبلاء للذهبي وهو كتاب ضخم جداً، ولذلك قد يصعب على الشاب المبتدئ أن يقرأ فيه، لكن يمكن أن يقرأ -مثلاً- كتاب الإصابة لـ ابن حجر، وهو كتاب أيضاً يعتبر ضخماً، فإن أحب الشاب أن يقرأ في ذلك كتاباً مختصراً، فيمكن أن يقرأ أي كتاب من الكتب المعاصرة، التي ذكرت طرفاً أو نتفاً من سير الصحابة، ككتاب صور من حياة الصحابة وصور من حياة التابعين وغيرها. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 45 الكلام في الناس بغير علم السؤال بماذا ترد على من يحكم على بعض الدعاة بغير علم، فيحكم عليهم بأشياء مخلة بالدين، ويشوه صور بعض الدعاة وينفر منهم ويحذر؟ الجواب الواقع أن السؤال عام، فنحن نقول: الكلام في الناس بغير علم، سواءً أكانوا من الدعاة أم من العلماء أم من غيرهم لا يجوز، فالقول في الناس بغير علم حرام، ولا ينبغي للإنسان أن يتكلم في فلان وفلان، ويشوه صورتهم وسمعتهم عند الناس بغير حق، لكن إذا وجد إنسان عنده خطأ اشتهر عنه وتداوله الناس وتناقلوه، فينبغي لأهل العلم أن يتحدثوا عن هذا الخطأ ويبينوه حتى يحذره الناس الجزء: 77 ¦ الصفحة: 46 واجب الداعية نحو من هم تحت يده السؤال ما هي أهم الأمور التي يبدأ الداعية إلى الله بعملها فيما تحت يده؟ الجواب من تحت يده، هذه تشمل أنواعاً، فمن تحت يد الداعية قد يكونون أهل بيته، وهؤلاء لهم حقوق، وقد يكونون طلاباً في حلقة أو درس، يريد الداعية أن يربيهم على العلم والمعرفة، وعلى كل حال، فهؤلاء وأولئك ينبغي على الداعية إلى الله جل وعلا؛ أن يربيهم على المعرفة الصحيحة بالإسلام والعمل بأحكامه، وينبغي للداعية أن يربيهم بقوله وفعله، فحسن الخلق يبلغ به العبد درجة الصائم القائم، وهو من أهم المداخل التي تجعل الداعية مقبولاً عند من يدعوهم إلى الله تعالى. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 47 الجمع بين العلم والدعوة السؤال أيهما أفضل الانعزال لطلب العلم ثم الدعوة، أو الدعوة على علم بسيط؟ الجواب الإنسان ينبغي أن يجمع بين الأمرين فيدعو ويتعلم، ولننظر كيف كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ينفذون هذا الأمر، والذي أعلمه من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه؛ أن الواحد منهم كان يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيجلس في المجلس ويسمع إلى أحاديث ومواعظ وتوجيهات وآيات، ثم ينطلق إلى قومه فيدعوهم إلى الله تعالى، وقد تسلم القبيلة بأكملها على يده، وقد يجلس أياماً أو ليالي ثم ينطلق داعية، فليس من شرط الداعية أن يكون عالماً ملماً بجميع العلوم، لكن ينبغي أن يكون عنده علم شرعي يؤهله للدعوة، فلا يدعو إلى ما لا يعلم، كما أن على الداعية وهو يدعو، أن يتزود من العلم يوماً بعد يوم، أما كون بعض الدعاة ينطلق في الدعوة، وكل وقته في الدعوة، ليس عنده وقت للعلم، فحين تقول له: يا أخي، أنت مضيع لنفسك، الناس تعلمت وعرفت، وأصبحت تعرف الحلال والحرام، والحديث الصحيح من الحديث الضعيف وتقرأ، وأنت تعلم ذلك، يقول: أنا مشغول بالدعوة إلى الله تعالى! إذاً: أنت تدعو إلى ماذا؟ ربما تدعو إلى أمر قد لا تعرفه، قد تدعو إلى بدعة وأنت تظنها سنة، إلى خطأ وأنت تظنه صواباً، قد تخطِّئ عملاً وهو صواب، فلا ينبغي للداعية أن يدعو إلى شيء إلا وهو يعلمه، فيدعو إلى الله على بصيرة، كما أنه لا يجدر بالداعية أن يضيع وقته كله في الدعوة على حساب طلب العلم الشرعي، بل يعتدل في ذلك، ولذلك ذكرت قبل قليل أن من شروط الداعية: العدل في المنهج والسلوك، فيعتدل الداعية، يأخذ العلم بقدر ويدعو إلى الله بقدر. الجزء: 77 ¦ الصفحة: 48 صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة كم تعرضت المرأة -ولا تزال- للمؤامرات الشرسة التي تستهدفها وتستهدف فساد المجتمع كله من فسادها، ولهذا كان من واجب الدعاة أن يولوا المرأة اهتماماً خاصاً. وهذا الدرس يوضح لنا أحوال المرأة في الجاهلية المعاصرة، ويقارن هذه المعاناة بما تتمتع به المرأة من الحقوق وما تعيشه من حياة كريمة في ظل الإسلام. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 1 المخرج من الأزمات التي تمر بها الأمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ,ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فلا شك أنكم جئتم وأنتم تقرءون عنوان هذه المحاضرة، ألا وهو الحديث عن (صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة) وفي بادي الرأي فإن الموضوع قد يكون بعيداً عن القضية التي تناولها أخي أبو محمد جزاه الله خيراً، ألا وهي الأحداث الأخيرة التي نعيش آلامها وهمومها ومخاوفها جميعاً، ولكنه يمت إليه بسبب أي سبب، ألا وهو الحديث عن أن مصائب الأمة وآلامها ونكباتها الذي هو أثر من آثار بعدها عن هدي الله عز وجل في جميع شؤون حياتها، وأثر من آثار اعتمادها على الأمم الأخرى في سائر شؤونها، حيث أصبحنا نستورد منهم كل شيء , وأصبحنا نعتمد عليهم في كل شيء، ونأخذ منهم كثيراً من العادات والأخلاق والنظرات والأفكار والسلع والبضائع إلى آخره، وكما يقول المثل: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض. فإنما أصابت الأمة هذه الضربات الموجعة، ومزقتها هذه الشعارات الجاهلية البراقة يوم اختفت القيادات الشرعية الصادقة، فأصبحت الأمة نهباً لأصوات شتى، هي في ظاهرها أصوات مخلصة، وفي حقيقتها يسمع العاقل منها فحيح الأفاعي، وأصبحت الأمة نهباً لشعارات شتى، هي في ظاهرها شعارات براقة جميلة أخَّاذة، وفي حقيقتها الموت الزؤام، ولذلك فلا غرابة أن يكون نداؤنا وإلحاحنا وإصرارنا في مثل هذه الأحداث، على أن نقول: ليس المخرج من مثل هذه الأحداث هو انفعال مؤقت نعيشه بسبب أزمة طارئة، ولا غليان حادث أو عارض بسبب الأخبار التي نسمعها في كل ساعة وفي كل حين كلا! المخرج من هذه الأحداث -بل ومما ينتظر الأمة من الأحداث مما هو أشد وأعظم- هو أن تستعصم بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم في الكبير والصغير من أمورها، والجليل والخطير، وألا ترضى عن شريعة الله تبارك وتعالى بدلاً. بل أقول: العاصم -بإذن الله تعالى- أن تحمل الأمة -وأخص شبابها وفتياتها- همّ إعادة الحضارة الإسلامية إلى الوجود بجميع جوانبها؛ لتكون بديلاً عن الحضارات الزائفة التي تهيمن على البشرية في مشارق الأرض ومغاربها. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 2 دواعي الحديث عن المرأة في الجاهلية المعاصرة وقد يتساءل بعض الإخوة وبعض الأخوات عن سِرِّ طرحي لهذا الموضوع: "صور من حياة المرأة في الجاهلية المعاصرة". الجزء: 78 ¦ الصفحة: 3 مواجهة دعاة التغريب والحاجة أيضاً ماسة لطرح هذا الموضوع -ثالثاً- من أجل مواجهة دعاة التغريب الذين يريدون أن تكون المرأة أَمَة (قَيْنة) يعبثون بها، ويستمتعون بها كيف شاءوا، ثم يلقون بها كما يلقي أحدهم بأعقاب السيجارة في القمامة، فكذلك يريدون أن يستمتعوا بهذه المرأة. وأذكر أنني قرأت في بعض المجلات كلمة لفتاة من إحدى دول المغرب العربي، تذكر كيف أنها وقعت ضحية لجماعة من الشيوعيين الذين خدعوها بالشعارات البراقة، باسم البروليتاريا، وحقوق العمال، والأخوة الأيديولوجية وغير ذلك من الشعارات حتى عبثوا بها وأهدروا كرامتها، واستلوا منها أنوثتها، ثم ألقوا بها جثة بعد أن عبثوا بحسدها، فشعرت بالخطورة، وحينئذ لم يفدها هذا الأمر إلا أن تعلن توبتها ورفضها لهؤلاء، بل أعلنت في الصحف أنها سوف تنتقم من هذا المجتمع، ومن مثل تلك الشخصيات التي قادتها إلى هذه الهوة السحيقة. فنحن حين نبطل الأصل الذي يتمسك به دعاة التغريب، نستطيع أن نبطل الفرع، ونقول لهم: قد تبين زيف الحضارة التي تنادون بها وتدعون إليها، فعليكم أن تسكتوا وتدخلوا في جحوركم، أو تسلموا وتؤمنوا وتعودوا إلى ربكم. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 4 طمأنة قلوب المؤمنين والمؤمنات وأخيراً فإن طرح مثل هذا الموضوع هو سبب تطمئن به قلوب المؤمنين والمؤمنات، على أنه مهما كثرت الشعارات والانحرافات، وكثر في أوساط الفتيات: التقليد والتشبث بعادات الأمم الأخرى وأخلاقها وأزيائها وتسريحاتها وأخلاقها ومُثلها، إلا أن مثل هذه الأمة لا بد أن تعود إلى أصالتها. يحدثني أحد الشباب -وهو ثقة- أنه ذهب إلى بريطانيا يدرس فيها، وأقام هناك عند أسرة أو عائلة مكونة من امرأة عجوز كبيرة السن وزوج، ومجموعة من الفتيات خارج البيت يزرن أمهن بين الفينة والأخرى، فيقول لي: إنه كان يتحدث مع هذه المرأة عن الإسلام، وعن أخلاقيات الإسلام، وعن مثل الإسلام وقيمه، فكانت تقول له: إن هذه الصورة التي تتحدث عنها صورة رائعة، وأننا نفتقدها في بلادنا، فيقول لي هذا الشاب ذهبت تودعني إلى المطار لما أردت أن أسافر، وكانت تتحدث معي بلهجة حزينة، وتكاد أن تبكي؛ لأنها فقدت الحنان، وتشعر أن زوجها يريد أن يتخلى عنها، لأنه شاب وهي أكبر منه سناً، وبناتها يركضن وراء الحياة بعيداً عنها، وتتمنى أن تعيش في بلاد الإسلام، فقالت: نحن لن نراكَ بعد الآن؟ فقال لها مازحاً: لقد ذكرتِ لي أنك إذا مت فإنك تريدين أن تحرق جثتك، فإذا مت فأنا سوف آتي لأشارك في مراسم العزاء، وأشارك في حرق هذه الجثة، وهو يضحك عليها، فيقول: فدمعت عيناها، وقالت لي: أريد أن أعيش في مثل مجتمعكم ولو سنة واحدة، ثم أحرقوني بعد ذلك! وتقول: والله إن خمسة وخمسين سنة قضيتها، ومع ذلك إنني أشعر أنني لم أدخل إلى الحياة حتى الآن! صيحات الخطر تتعالى في بلاد الغرب، والنذر تتوالى عندهم، والدراسات تعلن النفير وأن حضارة الغرب آيلة إلى الفناء والسقوط، ولذلك فإن البديل هو الإسلام، فلتطمئن نفوس المؤمنين والمؤمنات، وليعلموا أن هذة الأمة -أمة الإسلام- لا بد لها من الرجوع إلى دينها والعودة إلى مصادرها الحقيقية، ومظاهر ذلك ظاهرة الآن. فنحن الآن نجد كثيراً من الفتيات والحمد لله قد عدن إلى الالتزام في عاداتهن وفي أزيائهن وأخلاقهن وأفكارهن، وهذه بوادر نرجو أن تكون بداية لعودة حقيقية عامة شاملة عند بنات هذا الجيل إلى دين الله وشرعه. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 5 بيان عظمة الإسلام فأقول: أتحدث -أولاً- عن هذا الموضوع لأجلَّي جانباً من عظمة الإسلام في أحكامه وتشريعاته فيما يتعلق بحياة المرأة الخاصة وعلاقتها بالمجتمع من حولها، وكما يقول الشاعر: والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فإنما عرف الناس فضل النور، حين خيم عليهم الظلام، ولا يعرف قيمة العافية إلا من عانى المرض، ولا يدرك شأن الإسلام إلا من عرف الجاهلية، هذا أولاً. ثم إننا ندرك من خلال ذلك عظمة الإسلام في تلك التشريعات، على سبيل المثال، وفيما يتعلق بموضوع المحاضرة، كيف أن الإسلام جاء بالتشريع الذي يسد من خلاله منافذ الحرام، فيأمر المرأة بالحجاب، وينهاها عن التبرج، ويأمرها بالقرار في البيوت، والبعد عن مخالطة الرجال أو مزاحمتهم، فنجد الإسلام وهو يسد المنافذ المحرمة، ثم يفتح المنافذ المباحة بالزواج الشرعي: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] وبذلك يقيم حياة اجتماعية سليمة، يجد الرجل فيها أن اتجاهه منصب إلى وجهة واحدة في بيته وفي منزله، فلا تتوزع طاقاته وقوته نهباً لمظاهر يراها في المجتمع وانحرافات وأشياء تثيره، وقد تكون سبباً في بعده وفي عزوفه عما أحل الله تعالى له. وفي مقابل ذلك فإننا نجد الغرب باسم الحرية الشخصية المزعومة، استجاز التعري وافتضاح المرأة في قارعة الطريق، وفي الشارع، وفي أماكن اللهو، وفي أجهزة الإعلام، فهانت المرأة: أماً وأختاً وقريبة، وكذلك عزف عنها الزوج؛ لأن الرجل يجد في المجتمع من المظاهر الجذابة، ومن الصور الجميلة في كثير من الأحيان ما لا يجده في منزله ومع أهله، وهكذا ساهمت هذه الحرية الشخصية المزعومة في تدمير البيوت، وكانت سبباً في اضطراب الأوضاع الاجتماعية وشيوع الرذائل، وعلى رأسها جريمة الزنا وما يتبعه من فساد عريض في أمور الاجتماع والصحة والاقتصاد وغيرها. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 6 مواجهة التقليد سبب آخر يستدعي طرح هذا الموضوع، ألا وهو مواجهة التقليد الذي أصبح سارياً في مجتمعنا عبر الشاشة وعبر المشاهدة الشخصية المباشرة، فلا شك أن مجتمعنا لم يعد الآن جزيرة معزولة في هذه الدنيا، بل أصبحت الفتاة ترى في الشاشة صوراً كثيرة، وقد تسافر مع أهلها، أو مع زوجها إلى بلاد غربية، فكثيراً ما نقتبس تلك العادات والأخلاق والتقاليد، حيث أصبحت الموضات التي تنتشر عند فتياتنا هي الموضات الغربية، وتسريحات الشعر منقولة عن فرنسا أو غيرها، والأخلاق هي الأخلاق، بل حتى أمورنا الخاصة، أصبحنا نستحلي ونستملح ونستطيب ما جاءنا من عند أعدائنا. وأذكر أن إحدى الأخوات المهتديات تقول: إنها كانت تحتفظ في زمن جاهليتها وضلالها بألبوم فيه أكوام وأعداد من الصور لـ ديانا ولـ تشارلز ولبقية الفئة، التي أصبحت كثير من فتياتنا تتعلق بهم وتتابع أخبارهم، وقد تعرف الفتاة -أو يعرف الفتى- من أخبار هؤلاء التائهين الضائعين الضالين الحائرين ما لا يعرفه عن أخبار الصحابة والتابعين، وما لا يعرفه عن أخبار آبائه وأجداده، بل وما لا يعرفه عن أخبار علمائه الذين يعيشون في عصره وفي وقته! وقد سئل أحدهم عن جماعة من العلماء المعاصرين المرموقين في هذه الجزيرة، فكان يقول: من فلان؟ من هو فلان؟ وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من أنكرت والعجم َأتَذَكَّر أني قرأت كتاباً هو عبارة عن مراسلة تخص امرأة أمريكية مهتدية، كانت يهودية ثم أسلمت، ولا تزال تعيش على قيد الحياة في بلاد الهند، اسمها بعد إسلامها مريم جميل، وكانت تراسل وتكاتب الشيخ الداعية أبا الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، أمير الجماعة الإسلامية في باكستان، ففي هذا الكتاب صورة عجيبة عن الرفض الفطري عند تلك المرأة لهذه العادات والتقاليد الموجودة في الغرب، فكانت تكتب له قبل أن تسلم عن امتعاضها وانزعاجها من مبالغة الغرب في العناية بالملابس والثياب والأزياء، وتفننهم في إظهار زينة المرأة بكافة الصور والأشكال، وتلاعبهم بجسد المرأة حيث جعلوه سلعة تباع وتشترى وتروج البضائع من خلالها، وتستغل أبشع استغلال في الإعلانات عبر التلفزيون وغيره، فكانت -وهي المرأة الكافرة وقتها- تعرب عن امتعاضها من هذه الصورة التي تستغل المرأة من خلالها، وكان ذلك من أسباب رفضها لدينها وحضارتها الغربية، وإقبالها على الإسلام، حيث آمنت وأسلمت، وأصبحت في عصمة أحد الدعاة المسلمين في الباكستان كما أسلفت. والمؤسف -أيها الإخوة- أن يقوم إعلامنا بدور فعال في نقل تعاسة الغرب إلى عقول أبنائنا وبناتنا، فإن كثيراً من الشباب يعكفون على الشاشة، وربما يقضون أمامها وقتاً طويلاً، ومن خلال هذه المشاهد التي تعرض في قنوات التلفاز، يقتبسون أشكالهم وأزياءهم وتسريحاتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم، حتى أفلحت أجهزة الإعلام في قلب مجتمعنا، وجعل ما كان ممقوتاً مذموماً بالأمس مستحسناً لدى كثير من الشباب اليوم، وأوجد التناقض في نفوس الشباب والفتيات، فالفتاة التي تقرأ -مثلاً- في مدارسها وفي مقرراتها أن المرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها، وأنه يجب أن تستر جسدها كله عن الرجال الأجانب، وألا تختلط بهم، وألا تخلو مع غير ذي محرم، أصبحت تشاهد في التلفاز امرأة مثلها وقد نشرت شعرها وكشفت صدرها وذراعيها وساقيها، وأصبحت تضاحك رجالاً أجانب وتمازحهم وتركب معهم، وتذهب وتجيء، وتخلو وتختلط، ويحدث ما هو أكثر من ذلك من الصور التي لا تحتاج مني إلى تفصيل وبيان. ومن الطبيعي لفتاة مراهقة -مثلاً- لم تجد التوجيه السليم أن تنطبع في ذهنها هذه الصورة، وأن تعمل على تطبيقها في حياتها العملية، أو تتطلع إلى ذلك إذا لم يتح لها المجتمع أن تطبقها. على أننا نجد أن إعلام الغرب على ما فيه، إذا أردنا أن نقارنه بالإعلام الموجه الهادف في البلاد الإسلامية، لوجدنا أن إعلام الغرب أهون من الإعلام الموجود في بلاد الإسلام؛ وذلك بسبب أن إعلام الغرب يحكي واقعهم الاجتماعي، ولا تكاد تجد في إعلامهم صورة بعيدة عما هو واقع في مجتمعهم، بل ربما نقول العكس أنك تجد في مجتمعاتهم صوراً لا تنشر في إعلامهم أحياناً، فإعلامهم هين بالقياس إلى مجتمعهم، وليس يسعى إلى جر مجتمعهم إلى هوة سحيقة أسوأ مما هم فيه. أما الإعلام في البلاد الإسلامية فهو على النقيض من ذلك، فهو مسلط على شعوب مؤمنة، الإسلام دينها وعقيدتها، والشريعة منهجها، والحشمة ديدنها وميراثها، فيتسلط هذا الإعلام ليخرج العذراء من خدرها، ويلقي بها في قارعة الطريق، يتسلط على عقول فتياتنا، حتى يقنع الفتاة بأن هذه الأشياء أفكار قديمة، وأنها يجب أن تواكب العصر، وتتحرر مما يسميه بالتقاليد القديمة، وهذا صحيح أنه قد لا يقال بهذه الحروف، لكنه يقال بلغة هي أفصح من هذه الحروف، ألا وهي لغة الصورة المعبرة، التي يكون تأثيرها أحسن من خطبة أو كلمة تقال أو تسمع. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 7 صور من المجتمعات المعاصرة أريد أن أتحدث عن صور عديدة -بشيء من الاختصار- مع المقارنة مع أخلاقيات الإسلام وقيمه، وواقع الأمة الإسلامية خاصة في العصور الزاهية: الجزء: 78 ¦ الصفحة: 8 القصور الشديد في تربية الأطفال أنتقل إلى نقطة أخيرة وهي ما يتعلق بتربية الأطفال، قصة تقول: أن امرأة في مدينة شيكاغو -وهي مدينة معروفة بالجريمة- جردت أطفالها الخمسة الذين كانوا يتراوحون ما بين سنة إلى خمس سنوات، جردتهم من ملابسهم، وبدأت تضربهم وتكوي أبدانهم بأعقاب السجائر، وتعذبهم وتغلق عليهم الأبواب، وتجيعهم يوماً كاملاً، فبصر بهم رجل من الجيران، فجاء وأنقذهم، وبعدما سألوهم، تبين لهم أنهم طيلة ذلك اليوم لم يأكل الواحد منهم إلا بيضة واحدة، وأنهم تعرضوا لألوان من الضرب على يد أمهم. وفي مدينة أوكلند أيضاً بكاليفورنيا، يقول: يوجد أكثر من أربعة ملايين طفل، يقضون أكثر من ثلاث ساعات في البيوت بمفردهم، وأعمارهم تتراوح ما بين ثلاث سنوات إلى سبع سنوات، يأتي من المدرسة قبل مجيء أبيه وأمه من العمل بأربع ساعات فيجلس في البيت، خاصة في أوقات الشتاء والبيت ظلام، والرياح تعصف، والأمطار تهطل، والمخاوف تحيط به من كل جانب، وهو طفل عمره أربع سنوات جالس في البيت لوحده. وهل أتاك نبأ أطفال المفاتيح؟ وما أدراك ما أطفال المفاتيح؟! دهشت إحدى المعلمات حين وجدت أن أربعة وعشرين من بين ثمانية وعشرين من طلابها هم من أطفال المفاتيح! بمعنى أن الطفل بحكم أنه يخرج من البيت قبل والديه ويدخل قبلهما لا بد أن يكون معه مفتاح، يفتح البيت ويدخل، ويغلق على نفسه، ويجلس ساعات طويلة بانتظار مجيء أمه أو مجيء أبيه، وهذا يجعله عرضة للوقوع في الجرائم: جرائم الخطف، السرقة، المخدرات، احتمال الحرائق في البيوت حتى بلغ الحال في كثير من هؤلاء الصبيان، أن الواحد يغلق على نفسه دورة المياه حتى يأتي أهله، إذا نام فإنه يعيش في أحلام مزعجة، وبالتالي هذا الطفل حينما يكبر يقوم بسداد الديون لوالديه! فحين تنتقل إلى كبار السن تجد أن مصيرهم إلى دُور العجزة، وقد رأينا كثيراً من هذه الدور يرقد فيها الكثير من الكبار، أحسنهم حالاً يبتسم ويفتخر، حين يقول لك: إن ولدي بار بي أشد البر، فتقول له: كيف؟ فبقول: والله يزورني في العيد (عيد الكريسمس) -كما يسمونه- يزوره مرة في السنة! وآخر تعلو وجهه ابتسامة حين يتحدث عن ولده أيضاً بكل فخر؛ لأن ولده أرسل له بطاقة معايدة، وهذا ما زاره، بل أرسل له بطاقة معايدة في العيد فقط! وثالث يمكن أن يتصل به في الهاتف، وكفاه ذلك. وفي مدينة، سان فرانسيسكو، رجل عمره خمسة وأربعين سنة، عاش على مدى خمس سنوات كلها يقضيها في الشارع، معه حقيبة فيها فراش للنوم، يقول: أما طعامي فإني آخذه من صناديق القمامة! وهذه لا تظنوها مبالغات، والله لقد رأيناهم! وقرأنا في الإحصائيات أنه يوجد في ولاية أكثر من خمسة ملايين يعيشون على الأرصفة من دون مأوى، ورأينا كثيراً من هؤلاء يتسولون في الشوارع، تعطيه قرشاً أو قريباً من ذلك، وبعضهم يفتش القمامة لعله يجد شيئاً يأكله! هذا في أرقى بلاد العالم تقدماً ورقياً وحضارة! إنهم يسددون الديون التي أخذوها من أطفالهم حين أهملوهم وتركوهم، هذا الرجل الذي تحدثت عنه هو واحد من أربعة آلاف رجل في مثل هذه المدينة. وفي مقابل ذلك تجد العناية بالحيوانات -الكلاب والقطط- بشكل غريب، بل العناية بالدمى -التماثيل- بصورة أحياناً تدعو إلى الضحك: جلسات نفسية لهذه الدمى، مستشفيات خاصة، وعلاج وتجميل وترميم، وأشياء غريبة. وفي مدينة من مدن أمريكا، قال لي بعض الشباب: لو ذهبنا لمشاهدة بعض مستشفيات الحيوانات! حتى نرى جزءاً مما أنعم الله به علينا من نعمة الإسلام والعقل، فقلت له: هلم، فذهب بي إلى مستشفى، وجدنا على مدخل هذا المستشفى المجلات الكثيرة المتخصصة في قضية الكلاب وأمراضها وعلاجها وكيفية التغذية، إلى غير ذلك، ثم جاء الطبيب المختص، وأخذ يذهب بنا إلى المستشفى ويشرح لنا: هذه الغرفة خاصة للعمليات، وهذه غرفة للمرضى، وهذه غرفة الطبيب، وهذه غرفة الأشعة، وهذا المختبر، وهذه غرف للترقيد، ووجدنا بعض النزلاء، حتى وجدنا أن امرأة كبيرة السن قد انحنى ظهرها، وهي تقوم بخدمة الكلاب، بالكنس والتنظيف وتقديم وجبات الطعام، وغير ذلك من الأشياء. وأحياناً تدخل إلى الفندق، فتجد أن الكلب جالس على الكرسي، وأمامه الطاولة وأن الرجل صاحبه أو المرأة يأتي بالصينية عليها الطعام ويقدمها له، وأما الكلب فهو جالس يشاهد الشاشة، أصبح الرجل وأصبحت المرأة مجرد خدم لمثل هذه الحيوانات من القطط أو الكلاب أو غيرها! وسألتهم: هل هذا هو المستشفى الوحيد؟ وكانت تلك المدنية مدينة صغيرة جداً، سكانها لا يتجاوزون عشرين ألفاً، أو ثلاثين ألفاً، فقالوا لي: هذا المستشفى رقم عشرة! مدينة كهذه المدينة فيها عشرة مستشفيات مخصصة للكلاب! لكن كبار السن لهم دار واحدة للعجزة، يحشرون فيها حشراً ويهملون، حتى أولادهم هم أول من يتخلى عنهم! وهذا جانب يكشف نعمة الله بالإسلام علينا، وأننا يجب ألا ننخدع ببهرج الحضارة الغربية، فإنها تعيش أسوأ ظروفها، ولست أقصد أن كل ما عندهم شر أو سيء أو مذموم، كلا! لكن المؤسف أننا أصبحنا نحاول أن نأخذ منهم أسوأ ما عندهم، ونقلدهم في هذه الأمور المنحطة من أخلاقيات أو تقاليد أو عادات، أو تسريحات، أو أمور سيئة، أما القضايا الحيوية المهمة: قضايا العلم، قضايا الصناعة، قضايا الدقة، العناية بالإحصائيات، التقدم العلمي في كافة مجالاته، التنظيم، التخطيط، فكل هذه الأمور قد لا نفكر بأن نأخذها عنهم، فكثير من المسلمين أصبحوا يأخذون من عند هؤلاء القوم أسوأ ما عندهم، ويقلدونهم فيها، ويغضون الطرف عن الأشياء الحسنة التي يمكن أن تؤخذ، -كما قيل-: الحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها فهو أحق بها. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 9 الامتناع عن تعدد الزوجات صورة خامسة: تتعلق بتعدد الزوجات، وتعدد الزوجات عندهم ممنوع تماماً، ويستحيل أن تجد رجل هناك معه زوجتان، لكن لا غرابة أن تجد رجلاً يقيم العلاقة مع مئات من النساء، فتعدد الزوجات ممنوع لكن تعدد الخليلات والعشيقات أمر مباح! ومع الأسف أن هذا اللوثة انتشرت في عدد من البلاد الإسلامية. حدثنا الشيخ يوسف القرضاوي، قال: حدثنا الشيخ عبد الحليم محمود -شيخ الجامع الأزهر سابقاً- قال: إنه زار أحد البلاد الإسلامية، ورأى فيها من قريب قصة طريفة وقعت، أنَّ رجلاً ثارت بينه وبين صديق له خصومة، فقال له صديقه: والله لأفضحنك وأوقعنك في فخ لا مخرج لك منه، قال: ما تصنع؟ قال: سوف أبلغ الجهات المختصة بأنك متزوج من اثنتين وفعلاً معه زوجتان، كل واحدة في بيت، يتردد على هذه يوماً وعلى هذه يوماً، فذهب هذا -الذي كان صديقاً له- إلى الشرطة وأبلغهم أن فلاناً مرتكب لجريمة ألا وهي أنه متزوج باثنتين، فراقبوه فترة، وفعلاً وجدوه يتردد على بيتين، فقبضوه متلبساً بالجرم المشهود، وبدءوا معه محضر التحقيق، لكن الرجل كان ذكياً وقد أعد للأمر عدته، فقال: لا! أنتم غلطتم علي، هذه زوجة فعلاً ولي منها أولاد، لكن هذه ليست زوجة وإنما هي صديقة، أقمت معها علاقة صداقة، فقالوا له: نحن آسفون ونعتذر! وأخرجوه وودعوه بكثير من الحفاوة والاعتذار إليه، فمادامت القضية قضية صداقة، فالحقيقة أننا أخطأنا، وما كنا نتصور هذا الأمر، والواقع أن فلاناً ضللنا وخدعنا إلى هذا الحد!! وهذه بلاد كان الإسلام يحكمها في يوم من الأيام! على مستوى الإعلام في البلاد الإسلامية كلها، نلاحظ قضية حرب التعدد بشكل عجيب، كما في المسلسلات الهادفة، فكل مسلسل يعرض أن تعدد الزوجات لا بد أن ينتهي بالفشل، وهروب الزوج، ومشكلات لا أول لها ولا آخر، وتشتت الأولاد وضياع الأسرة. القصص المتداولة في المجتمع عن أن فلاناً تزوج اثنتين وما عدل، وهجر الأولى أو فعل بالأولى كذا، أو غير ذلك من القصص الذي يتداولها الناس إلى آخره. أنا لا أنكر أن بعض ذلك حق، لكن أصل الزواج نفسه فيه مشاكل، فلو نظرت في حياة أي زوجين في الدنيا، لا بد أن تجد بينهم قدراً من المشكلات، وليس هناك زوجان يعيشان حياة هانئة (100%) فأصل الزواج لا يخلو من مشاكل، وإنما الزواج الذي نستطيع أن نقول: إنه سعيد أو ناجح، هو الذي يكون الغالب عليه الراحة نسبة (60%) أو (70%) هذا زواج ناجح، وإلا فهناك مشكلات معينة، فلا تكون المشكلة سبباً في أن الواحد يقول: ما أريد أن أتزوج! لأن فلاناً معه مشكلة مع زوجته أدت إلى الطلاق، كذلك لا ينبغي أن نقول: نحن نحارب تعدد الزوجات لأنه يوجد واحد عدد فما عدل -مثلاً- أو ظلم الأولى أو شرد الأولاد أو غير ذلك. وعلى كل حال فإن الإحصائيات الغربية تقول: في أمريكا -مثلاً-، في بعض الولايات، نسبة عدد النساء إلى عدد الرجال نسبة (119) إلى (100) أي أن لكل مائة رجل مائة وتسعة عشرة امرأة، ومعنى ذلك بعملية حسابية في تلك الولاية لا بد من أحد أمرين: إما أن تبقى تسعة عشر امرأة بدون زوج، وإما أن يتزوجها رجل آخر، بحيث بصبح عنده زوجتان، وفي ولايات أخرى، أذكر منها ولاية مررت بها اسمها ولاية بسبرج، في هذه الولاية نسبة النساء إلى الرجال (160) إلى (100) يعني كل مائة رجل يقابلها مائة وستون امرأة، وهنا ندرك أنه لا بد من التعدد أو الضياع لهؤلاء النسوة. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 10 الاختلاط الاختلاط بطبيعة الحال موجود عندهم في كل مكان: في العمل، في السوق، في السيارة، في القطار، في المدرسة ولكنهم مع ذلك بدءوا يدركون الآثار الاجتماعية والتعليمية والأخلاقية الضارة للاختلاط، فيسعون إلى إيجاد أماكن خاصة بالنساء، في مقابلها أماكن خاصة بالرجال. على سبيل المثال في مدينة كولومبيا في أمريكا، زرناها وهي في ولاية نيزوري، فوجدنا فيها جامعة عريقة كبيرة خاصة بالفتيات لا يدخلها الرجال في مجال الدراسة، وسألت بعض الشباب، فقال لي: إنه يوجد في أمريكا ما يزيد عن سبعين جامعة على هذا النمط، جامعات خاصة للبنات. هذا في الوقت الذي نجد فيه كثيراً من البلاد الإسلامية تخلو من إيجاد جامعات خاصة للبنات! ومثلما أوجدوا جامعات خاصة للبنات، فقد قرأت في الأخبار أنهم في ألمانيا أوجدوا فنادقاً مخصصة للنساء، وفي أكثر من بلد من البلدان الأوروبية أوجدوا مستشفيات ومستوصفات مخصصة للنساء، يعالج فيها النساء، أو تكون خاصة بمراجعة النساء فحسب. ومع الأسف أنه في بعض البلاد الإسلامية التي تستطيع أن تفعل الكثير، يحتج بعض المسؤولين فيها؛ بأنه لا يمكن إيجاد مستشفى خاص بالنساء، لماذا لا يمكن إيجاد مستشفى للنساء؟ هل بسبب العجز المالي؟! المجتمع كله ينادي بذلك، المجتمع يتطلع إلى حماية النساء ووقايتهن من بعض الأوضاع السيئة في بعض المستشفيات، ثم نتعلل بذلك، بل أين أصحاب الأموال والاستثمارات الضخمة، عن إيجاد مستشفيات مخصصة للنساء، يأمن فيها المؤمنون على عوراتهم، على زوجاتهم، على بناتهم؟ إن هذا من الميادين التي هي من أعظم الثغرات الموجودة في مجتمعاتنا. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 11 الطلاق في مجتمعاتنا في مجتمعاتنا اليوم أيها الإخوة: لا شك أن نسبة الطلاق ارتفعت لكن مهما كان الأمر، فإن الفرق كبير مقارنة بأحوال الغرب، فالنسبة عندنا ترتفع لكنها لا تزال أدنى بكثير من هذه النسب الموجودة ببلاد الغرب وبمراحل، وإن كانت الأسباب هي هي، تنوعت الأسباب والموت واحد، فإن أسباب الطلاق في مجتمعاتنا تمت بسبب إلى أسباب الطلاق إلى مجتمعهم: فالرجل الذي يكثر من النظر إلى النساء ذاهبات وآيبات، فإنه يصبح عنده تذوق لجمال النساء وطولهن وقصرهن وأشكالهن وهيئاتهن، يبدأ بعد ذلك سلسلة من المقارنة بين من يرى من النساء وبين زوجته، وهي مقارنات غير صحيحة؛ لأن الرجل قد يرى من المرأة جوانب تعجبه، ولا يدرك الجوانب التي لا ترضيه، حتى أن من الطريف أن رجلاً معروفاً كان يكثر من النظر إلى النساء، وإن كان رجلاً عفيفاً في فرجه، لكنه يطلق بصره، ففي يوم من الأيام رأى في الشارع امرأة فتعلق قلبه بها فرجع إلى بيته، وهو حزين مهموم ضيق الصدر، فلما قدمت له زوجته الغداء، رأت عليه آثار الهم، فبدأت تسأله لكن لم يجبها، فأصرت عليه، فلما رأى إصرارها أخبرها بالأمر، وقال: إنني نظرت إلى امرأة، فتعلق قلبي بها وهذا هو السبب، فضحكت في وجهه، وقالت: والله! أنا تلك المرأة؛ لأنني أعرف أنك تنظر إلى النساء، وأن الشيطان يزين لك صورة المرأة الأجنبية البعيدة بخلاف المرأة المتاحة التي هي في إمكانك وفي متناولك، فتنكرتُ وتلبستُ بثياب جميلة، وعرضت لك حتى يكون في هذا لك درس أي درس! فطموح النظر من أسباب الطلاق. كذلك فقدان العلاقة الزوجية العاطفية الوجدانية هو من أسباب الطلاق أيضاً، فإن الزواج عقد مقدس، وهو رباط بين قلبين قبل أن يكون رباطاً بين الجسدين. ومنها أيضاً عدم الثقة بالمرأة، أو عدم ثقة المرأة بزوجها هو من أسباب الطلاق، المشاكل العادية الصغيرة من أهم أسباب الطلاق، وقليل من حالات الطلاق يكون بسبب مشكلة مزمنة، تتطور وتمتد وتكبر، لكن معظم حالات الطلاق تكون نتيجة مشكلات صغيرة جداً، تكثر ثم تكثر ثم تتراكم، حتى تكون النهاية هي كسر العلاقة الزوجية. الأعصاب المشدودة عند الزوج، وكونه متهيئا لأن يُطْلِقَ بكلمة "طالق" في كل وقت، هذا أيضاً من أسباب الطلاق، ولذلك من المفروض في الإنسان أن يحكم نفسه بالحكمة والصبر. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 12 الإسلام يحترم المرأة إننا نجد في الإسلام أن المرأة تجلس متربعة على عرش بيتها، تقوم على رعاية أسرتها وأولادها، والرجل يقوم بخدمتها ويذهب ليكدح في الليل والنهار، ويتعب ويعرق من أجل أن يحصل لقمة العيش لها وله ولأولادهما، وهذه في الواقع درجة من رعاية المرأة لا توجد في أي دين آخر ولا في أي مذهب، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم وغيره، أنه قال: {دينار تنفقه في سبيل الله، ودينار تتصدق به على مسكين، ودينار تعتق به رقبة، ودينار تعطيه زوجتك، أو تنفق منه على زوجتك: أفضلها الدينار الذي تنفق منه على زوجتك} فاعتبر النبي صلى الله عليه وسلم النفقة على الزوجة جزءاً من واجب الرجل، واعتبرها قربة وطاعة لله عز وجل يثاب عليها، وفي الحديث الآخر لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النفقة، قال: {حتى اللقمة يضعها الرجل في فيِّ امرأته صدقة} والحديث له معنيان: المعنى الأول: أن الرجل يكدح من أجل لقمة العيش التي يقدمها لزوجته، ويتعب، وفي النهاية يستلم الراتب، فيشتري به حاجيات ومتطلبات للبيت، أو للمرأة خاصة أو للأطفال، والمرأة حتى لو كانت امرأة عاملة: مدرسة أو مربية أو غير ذلك، فإن الزوج لا يمكن أن يطالبها -إلزاماً- بأن تنفق على البيت أو على شيء منه، بل كثير من الرجال يأنف أن تنفق الزوجة على البيت، حتى ولو أرادت هي بذلك فإنه يمنعها، ويقول: لا أريد شيئاً من هذا المال، فهو لك أنفقيه أو تبرعي به. أما تكاليف البيت وما يتعلق به فإنها إلي. فالجانب الأول: لقمة تضعها في فيِّ امرأتك وأنت تذهب وتكدح للإنفاق على البيت. الجانب الثاني: وقد أشار إليه بعض الشراح، قالوا: هذا تعبير من الرسول صلى الله وعليه وسلم عن شدة حفاوة الرجل بزوجته، حتى إنه أحياناً قد يصنع لها الطعام، وقد يقدم لها اللقمة، ويضعها في فمها فعلاً، وهذه صورة المقصود من ورائها التعبير عن شدة الروابط بين الزوجين إلى هذا الحد الذي يضع الرجل اللقمة في فم امرأته. وهذا ليس بغريب! فقد كان بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين أزواجه -خاصة عائشة رضي الله عنها- من العلاقة الحميمة والود الغامر الشيء العظيم الذي لا يكاد يوصف أو يذكر، أما هناك -عند الغرب- فإن هذا التكافل الموجود في الإسلام غير موجود عندهم، فإن كل شيء بمقابل، ولعل من الطريف أن نعلم أنه حتى الموت بمقابل، لا تعتقد أنك تستطيع أن تموت بالمجان، كلا! فإن تكلفة الموت حسب إحصائيات دقيقة ألفين ومائتين وخمسة وثمانين دولار، هذه تكلفة الموت أما مجموعة التكاليف بما فيها الكفن والدفن والقبر، لأنه لا بد أن تشتري القبر الذي سوف تدفن فيه، وهذه ليست بنكت، هذه حقائق، مجموع تكلفة الإنسان تتراوح بحسب الطبقة -إن كان غنياً أو فقيراً- تتراوح ما بين ستة آلالف إلى عشرة آلاف دولار! يموت الإنسان بستة آلاف إلى عشرة آلاف دولار، فكل شيء عندهم بمقابل، ليس عندهم شيء يدخل في باب التبرع أو الإحسان أو الإنفاق أو الاحتساب لله تعالى، فهم قوم ماديون بكل ما تحمله الكلمة من معنى. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 13 ارتفاع نسبة الطلاق الصورة الرابعة: وهي الطلاق، في عام (1900م) كان الطلاق (10%) قفزت النسبة في عام (1948م) لتصبح (40%) أما الآن فنسبة الطلاق في أمريكا تتجاوز (70%) من الزيجات تنتهي بالفشل والطلاق، والأسباب معروفة: منها: الخيانة الزوجية، وقد ذكرت لكم سلفاً أن نسبتها (75%) للمتزوجات، أيضاً: التكاليف الباهظة في وقت ليس لدى الرجل استعداد لتحمل أية مسؤولية لا عن الزوجة ولا عن الأطفال، فهو يريد أن يستمتع بالمرأة، لكن لا يريد أن تنجب، وإذا أنجبت لا يعترف بهذا الولد، ولا ينفق عليه. من الأسباب أيضاً: العمل: فالرجل يعمل والمرأة تعمل، وبالتالي ليس بينهما علاقة زوجية حقيقية. كذلك من الأسباب: استرجال المرأة بحيث أن الرجل لا يستمتع بها، وأذكر أن رجلاً أمريكياً أسلم، وكان عنده زوجة أمريكية، فعاش معها صعوبات شديدة، وفي النهاية آل الآمر إلى الطلاق، والطلاق عن طريق المحكمة طبعاًً، ثم ذهب هذا الرجل المسلم يبحث عن زوجة بديلة، فتزوج امرأة مسلمة من جنوب شرق آسيا، ولما تزوجها قال: والله العظيم أصبحت أحس كأن المرأة الأولى التي عشت معها رجل تماماً، ولم أعرف معنى المرأة إلا الآن، وأدركت الآن كيف تكون المرأة، أي بما فيها من تذلل للرجل، وتواضع له، وخدمة وتحبب وتقرب إليه. وهذه هي الميزة التي تميز المرأة، وكلما كانت المرأة كذلك كان هذا أدل على كمالها، فإن كمال المرأة في هذا الضعف التي تتميز به عن الرجل، وليس كمال المرأة في استرجالها وتقمصها لأخلاق الرجال وصفاتهم، ولذلك كان العرب يعيبون المرأة بكونها امرأة مسترجلة. ومن الأسباب أيضاً: ضعف الحوافز، فما الذي يغري الرجل أن يبقى مع المرأة، مادام يجد المرأة في كل مكان، ويستطيع أن يرضي غريزته بأحسن منها وبأجمل منها، وبأعداد كبيرة من النساء، وبنفس الوقت هو ليس لديه معاني أخلاقية ولا مثل يرعاها، فما الذي يغريه أن يبقى تحت سقف واحد مع امرأة؟ بل يؤول الأمر أجياناً كثيرة إلى الطلاق، ولأن الطلاق قد يكون فيه صعوبة، يؤول الأمر إلى أن الرجل يضرب المرأة ضرباً مبرحاً، حتى تطالب هي بالطلاق، ومن النساء من تموت تحت الضرب، وقد يعمد الرجل إلى قتل امرأته أو إحراقها حتى يتخلص منها، وفي هذا معلومات وقصص وإحصائيات تثير العجب وتدعو إلى الذهول! الجزء: 78 ¦ الصفحة: 14 عمل المرأة الصورة الثالثة: قضية عمل المرأة، المرأة في بلاد الغرب تضيع في دخان المصانع، وتعمل ليل نهار، وتعودت على حمل الأثقال، وعلى القيام بالأعمال الشاقة التي لا يعانيها إلا كبار الرجال، ومع ذلك كله فإنها لا تأخذ من الراتب إلا نسبة (60%) من راتب الرجل! لماذا تعمل المرأة في بلاد الغرب؟ الأمر الأول: تعمل لتثبت شخصيتها، وإن لم تكن بحاجة لذلك لكن يهمها أن تثبت شخصيتها، وهذا من أثر شعورها بأن الرجل متقدم عليها، فهي تحرص على أن تثبت شخصيتها. ولذلك يقول بعض المفكرين: هل من قبيل المصادفة أن تصبح المرأة -حتى لو سلمنا لدعاة التغريب- مغلوبة مهضومة على مدار التاريخ، هل من قبيل المصادفة أنه على مدار التاريخ المرأة دائماً هي المغلوبة؟ لماذا لم نجد في عصر من العصور أو في مجتمع من المجتمعات أن الرجل أصبح مستضعفاً مغلوباً، وأن المرأة قد بخست الرجل حقوقه ومنعته بعض ميزاته وصلاحياته؟ فهذا دليل على أن المرأة خلقت لمهمات معينة، والرجل خلق لمهمات أخرى. الأمر الثاني: الذي يدعو المرأة إلى العمل في بلاد الغرب هو: الحرص على الأمن، أحد الشباب يسأل موظفة في مطار نيويورك تعمل أحياناً إلى أربعة عشر ساعة في اليوم والليلة، فيقول لها: هل أنت مرتاحة في هذا العمل؟ تقول له: هذا العمل أفضل لي من غيره، وإن لم أكن مرتاحة فيه، ثم يقول لها: ما وجه ارتياحك لهذا العمل أو تفضيلك له؟ تقول: أهم شيء عندي هو أنني أقضي جزءاً من وقتي خلال هذا العمل، فأتخلص من الفراغ، الأمر الثاني: أنني خلال قيامي بهذا العمل، أحتك بالناس، وهذا يسألني، وهذا أقوم له بعمل معين، فهو أفضل من الانفراد، جانب ثالث: وهو المهم، أنني أشعر من خلال قيامي بالعمل بشيء من الأمن، فإنني إذا خرجت إلى المجتمع، تخطفتني العصابات اللصوص والمغتصبون وغيرهم، فهي تخاف، أما داخل المطار، فهي تحس بشيء من الأمن، ولذلك تفضل هذا العمل. الأمر الثالث: أن المرأة لا بد أن تقوم بواجباتها، وتنفق على نفسها، فالرجل يخدم نفسه، والمرأة تخدم نفسها، خلافاً لما نجده في الإسلام. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 15 الإسلام والعلاقة الزوجية من هنا ندرك جانباً من حكمة الإسلام في حجاب المرأة وسد المنافذ المحرمة -كما أسلفت- الأمر الذي يقوي العلاقات والروابط بين الزوجين، حتى يصبح الرجل عند المرأة ذا مكانة كبيرة، وكذلك المرأة، إلى حد أنه ورد -كما في سنن ابن ماجة وغيره- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن للرجل من المرأة شعبة ليست لأحد} أي أن للرجل عند المرأة مكانة ليست لأحد غيره، حتى أخوها ليس في مكانة زوجها، وإنما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك {حينما قبل لـ حمنة بنت جحش: احتسبي عند الله أخاكِ، فإنه قد قتل، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم قيل لها: احتسبي عند الله زوجك، قالت: واحزناه! وولولت تبكي رضي الله عنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن للرجل من المرأة شعبة ليست لأحد} فالعلاقة حميمة قوية وطيدة؛ لأن الإسلام قصر الرجل على المرأة، والمرأة على الرجل. ومن أبرز المميزات التي توصف بها النساء أنهن قاصرات، أي قصرن طرفهن على أزواجهن، فأصبحن لا يطمحن إلى غيره، وكذلك الرجل قصر طرفه وهمه على ما أحل الله تبارك وتعالى له , وأعرض عما حرم الله، فكان هذا سبب في قوة الارتباط وشدته. ولذلك ورد في صحيح مسلم حديث فيه عبرة، عن جابر رضي الله عنه {أن النبي صلى الله وعليه وسلم خرج في يوم من الأيام فرأى امرأة في السوق فأعجبته، فدخل عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فجاء إلى زينب بنت جحش وهي تشتغل في جلد تصلحه، فدعاها وقضى صلى الله وعليه وسلم حاجته منها، ثم خرج وقال لأصحابه: إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان، فإذا رأى أحدكم امرأة فأعجبته، فليأت أهله فإن ذلك يرد ما في نفسه} . إنه صلى الله وعليه وسلم بذلك يشير إلى أن المرأة بطبيعتها ذات إشارة للرجل، فمشاهدة صورة المرأة بالنسبة للرجل بحد ذاته فيه إثارة حتى ولو كانت محجبة، فكيف إذا كان عندها شيء من السفور أو التبرج أو التعطر أو التغنج أو محاولة العبث بمشاعر الرجال، فحينئذٍ يكون الحل الشرعي هو أن الإنسان يذهب إلى ما أحل الله تبارك وتعالى له: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6] . ففرق أي فرق بين من يرى صورة المرأة، فيركض وراءها، ولا يبالي أذلك حلالاً أم حراماً، وبين إنسان إذا رأى أي أمر يثيره، ويهيج غريزته وعاطفته، فإنه يذهب إلى أهله ويتذكر أن الله سد عليه باب الزنا، وفتح له باب النكاح الشرعي. ومن جانب آخر أوصى الإسلام الرجل بالمرأة كما أوصى المرأة بالرجل، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: {استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها} وفي الحديث الآخر: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر، استوصوا بالنساء} يعني اقبلوا وصيتي فيهن، وأوصوا بعضكم بعضاً بهن، فإنهن بحاجة إلى الوصاية. وحين يشبه الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة بالضلع، فإن هذا من وضوح الإسلام وصراحته في تصوير طبائع النفوس البشرية، فإن هذا يجعل الرجل يدرك أن الحياة الزوجية لا بد فيها من تنغيص، وتكدير، وأن المرأة لا يمكن أن تأتي له على ما يريد، كما أنه هو لا يمكن أن يأتي لها على كل ما تريد، فلا بد أن يقدم هو بعض التنازلات، وتقدم هي بعض التنازلات، حتى تستقر الحياة الزوجية، وتخف فيها المشكلات، وكما نقل الإمام ابن قتيبة، عن بعض الشعراء قولهم في وصف المرأة: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا أن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الهوى أليس غريباً ضعفها واقتدارها يعني بذلك أن المرأة فيها ضعف من جانب، وهو أنها خلقت من ضلع أعوج، أو هي كالضلع كما ورد في بعض الأحاديث، وبالمقابل فيها قوة من جانب آخر، قدرة على احتواء الرجل وعلى غلبته، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم من إحداكن} يغلبن الرجال فهن أغلب، وهذا جانب قوة. أتجمع ضعفاً واقتداراً على الهوى أليس غريباً ضعفها واقتدارها الجزء: 78 ¦ الصفحة: 16 آثار الزنا وآثار الزنا معروفة، ويكفي فيها انتشار الأمراض، الهربس وهو مرض مستعصي على العلاج، ومن أسوأ آثاره أنه سبب رئيسي للإصابة بسرطان الرحم. الإيدز وهو الذي ينتشر الآن بصورة وبائية فتاكة لا يمكن مواجهتها، وهو مرض فقدان المناعة، ويكفي أن تعلموا أن أكثر من (90%) -عموماً- مصابون بأمراض جنسية! ولو لم تكن كهذه الأمراض الخطيرة. ومن الأمور الغريبة أن المصابين أو المصابات بالذات بمرض الإيدز يحرصن على الانتقام من الرجال، قرأت قصة في أحد الكتب، يقول: إن رجلاً عربياً من الأثرياء، أصحاب الجيوب المليئة، ذهب إلى زيارة أحد الدول الأوروبية، فلما دخل المطعم وجد في أول المقاعد امرأة جميلة جالسة، وبجوارها حقيبتها ومعها كلبها، فنظر وتقدم إليها وصافحها، وسألها: هل يمكن أن يقدم لها شيئاً من الطعام أو غيره؟ فوافقت فأحضر لها الطعام والشراب وغير ذلك، ثم اقترح عليها أن تذهب معه إلى غرفته في الفندق، فوافقت أيضاًَ، وباتت معه تلك الليلة، وارتكب معها ما حرم الله عز وجل ثم نام، فلما استيقظ في الصباح، لم يجد المرأة إلى جواره، فقام مسرعاً يبحث عنها في الغرفة فلم يجدها، فخرج خارج الغرفة في السيب فلم يجدها أيضاً، فدخل وهو حزين كئيب، فأراد أن يغسل يديه ووجهه في دورة المياه، فلما دخل وجد زجاجة المغسلة مكتو ب عليها بقلم الروج، "مرحباً بك عضواً جديداً في نادي الإيدز". فهذه المرأة مصابة بالإيدز، ومن المعروف أنه ينتقل عن طرق عديدة منها المعاشرة الجنسية، فهي تصطاد الرجال بهذه الطريقة لتوقعهم في شراك هذا المرض الخطير الفتاك، ثم تعبث بهم وتشمت بهم، وتنتقم منهم بهذه الطريقة الرهيبة. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 17 انهيار العلاقات الزوجية جانب آخر فيما يتعلق بصور من الحضارة الغربية، موضوع العلاقات الزوجية، بعد أن تظفر الفتاة بالزوج، بعد جهد جهيد، ما الذي يحدث؟ يحدث أن هذه العلاقة سرعان ما تضعف وتزول، وذلك لأسباب:- منها: أن الرجل يجد المرأة على قارعة الطريق مهيأة له، فيبدأ بالمقارنة، ولا بد أن يجد له في السوق أو في الشارع أو في ميدان عمله امرأة تكون أحسن من زوجته، فيصرف النظر عن زوجته، ويصبح لا يطيق البقاء معها. ومن جانب آخر: المرأة مسترجلة، المرأة في كثير من الأحيان أخذت عادات الرجل وأخذت أخلاقه، فأصبحت كأنها رجل آخر تقوم مقام الندية له، ففقد المجتمع التكافل، ولذلك تجد حين يذهب الرجل وزوجته إلى المطعم، ويأتون بالطعام -لأنهم في الغالب لا يأكلون في البيوت بل يأكلون في المطعم- تجد الرجل يدفع عن نفسه، والمرأة تدفع عن نفسها، وكل واحد يدفع قيمة الطعام الذي أكله! فغير واردٍ في الحسبان أن الرجل يدفع عن زوجته أو العكس، بل كل واحد مسؤول عن نفسه. الرجل حينما يستقدم ضيوفاً في بيته، فليس من عاداتهم أن المرأة تقوم بالطبخ للضيوف، لا! بل هو يطبخ لضيوفه، وهي إذا استقدمت ضيوفاً تطبخ لضيوفها أيضاً، لا تكلف زوجها أن يقوم بالنيابة عنها، وكل واحد مسؤول عن أموره الخاصة، وليس هناك أي مسؤولية أو قوامة، بل العلاقة بين الزوج وزوجته علاقة آلية بحتة. يقول مدير البعثات المصرية في فترة من الفترات في أمريكا: إنه دعي إلى حفلة من الحفلات هناك، وصادف أن زوجته كانت مريضة في تلك الليلة، فاتصل بالمسؤولين عن تنظيم الحفلة، وقال لهم: لا أستطيع حضور الحفلة؛ لأن زوجتي مريضة، ولا أريد أن أحضر، فقالت له -التي تنظم الحفلة-: لا بد أن تحضر أنت ولو بدون زوجتك، وقد كان حظنا سعيداً -تقول- لأن هناك امرأة سوف تحضر إلى الحفلة قد مات زوجها اليوم، فمن حسن الحظ أن تحضر أنت حتى تكون رفيقاً لها! أي أن هناك امرأة مات زوجها الآن، وفي المساء سوف تحضر حفلة، وكل ما في الأمر أنها تجد رجلاً آخر يكون رفيقاً لها خلال هذا الاحتفال!! فأين الروابط العميقة التي تربط بين الزوجين؟! وأين العلاقات التاريخية العميقة؟! أين العلاقات التي تمتد من الدنيا إلى الآخرة؟! حتى إن الزوج الذي هو زوج لامرأته في الدنيا هو زوج لها في الجنة إذا كانوا من أهل الجنة، فهي علاقة راسخة تتجاوز حدود الدنيا إلى الآخرة، وعلاقة عميقة، أما هؤلاء فهي علاقة آلية شكلية بحتة، المرأة يموت زوجها في الصباح، وفي المساء تذهب لتحضر احتفالاً من الاحتفالات. وحدثنا الشيخ الإمام الأستاذ سيد قطب رحمه الله وجادة في كتابه: أمريكا التي رأيت، يقول: إنه ذهب إلى امرأة أمريكية فجلس عندها، فوجدها تتحدث مع زميلة لها، وهو ما سمع أول القصة، لكن سمع آخرها، فسمعها تقول لها: من حسن حظي أنني كنت مُؤمِّنَةٌ على حياته -أي سجلته في شركة التأمين- ولذلك لم يكلفني علاجه حين المرض إلا تكلفة زهيدة جداً من خلال الهلال الأزرق -كما يسمونه- فكانت التكلفة بسيطة جداً وكذلك لما مات كانت تكاليف الدفن وغيرها بسيطة، لأن الشركة المؤمنة قامت بهذه التكاليف، قال: ثم ابتسمت ضاحكة، وخرجت بكل برودة، فيقول سيد رحمه الله: لم يخطر على ذهني إلا أنها تتحدث عن كلبها، لأنها تتكلم بصورة باردة لا مبالاة فيها، فسألت المرأة الأمريكية: عن ماذا تتحدث صديقتك؟ قالت: إنها تتحدث عن زوجها الذي مات منذ ثلاثة أيام، كل ما في الأمر أنها ما تكلفت في تكاليف العلاج ولا في تكاليف دفنه، والأمر بالنسبة لها أمر هين جداً. هذه العلاقة الجافة الآلية الباردة هي سبب للسفاح، والسفاح أيضاً -وهو الزنا- سبب لها، فحسب الإحصائيات والمعلومات الموثقة المؤكدة، أن (100%) من النساء هناك قبل الزواج يمارسن الزنا بدون أية صعوبة في ذلك، بل إننا نجد أنهم في عاداتهم وتقاليدهم، ليس عندهم وفي قاموسهم معنى لكلمة العرض أو الشرف التي يفتخر بها المسلم، بل يفتخر بها الإنسان السوي، فهذه الكلمة ليس لها وجود في قواميسهم، لا يقابلها كلمة تترجم إلى معانيها، وهذه قضية قديمة عند الرومان والإفرنج، فإننا كنا نسمع الأمهات -كما ذكر لي أحد الخبراء- تدعو على طفلها أحياناً إذا بال وتقول له: عطاك الإفرنج! فما هو الإفرنج؟ يقول: الإفرنج هذا عبارة عن مرض من الأمراض الجنسية، وهو مرض الزهري تقريباً، فكانت الأم تدعو على ولدها بهذا المرض، وإنما سمي بالإفرنج، لأن الإفرنج لما جاءوا إلى البلاد الإسلامية كان هذا المرض متفشياً فيهم؛ لأن الزنا عندهم مستباح منذ عهود قديمة، فهي كما يقال: شنشنة أعرفها من أخزم. أما بعد الزواج، فقد تقل نسبة الخيانة عندهن إلى (75%) وهذا أيضاً حسب إحصائيات ومصادر رسمية موثقة عندهم. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 18 هدي الإسلام في مقابل ذلك، ننظر في هدي الإسلام فنجد عائشة رضي الله عنها تقول كما في صحيح مسلم: {تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بنت ست سنين، أي عقد عليها وهي بنت ست سنين، ودخل عليَّ وأنا بنت تسع سنين} تقول: {قدمنا المدينة، فأصابتني الحمى فامرق شعري -تمزق شعرها- فتركتها أمها - أم رومان - حتى نبت شعرها ووفى جميمة -كثر شعرها شيئاً ما- قالت: فما راعني إلا وأمي تصرخ بي، وأنا ألعب مع بنات في أرجوحة -هذه أم المؤمنين تلعب وعمرها تسع سنوات في أرجوحة مع مجموعة من زميلاتها، فأمها - أم رومان - تصرخ بها: يا عائشة -فتأتي إليها تقول: فلما أتيت إليها- وأنا لا أدري ما تريد- أخذتني، فإذا بنسوة من الأنصار، فأسلمتني إليهن، فأصلحن من شأني -غسلن شعرها ورأسها ومشطنها وسرحنها وألبسنها- ثم قلن لي: على اليمن والبركة وعلى خير طائر، فلم أرع إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلمنني إليه في الضحى} فهذه أم المؤمنين تتزوج وعمرها تسع سنوات، وكانت خير زوجة لخير زوج صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها. في مجال الفتيات يأمر النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أولياء الأمور: {إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، إلا تفعلو تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} فيأمر الفتاة وولي أمرها أن يكون مقياسهم وهو من يرضى دينه وأمانته فيزوج، وهذا فيه أمر بالتزويج بمعنى عدم تأخير الزواج، وفيه أمر أن يكون المقياس في اختيار الزوج هو من يرضى دينه وترضى أمانته. وفي مجال الرجال يأتي عبد الرحمن بن عوف في يوم من الأيام إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وعليه أثر صفرة، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم -أي ما شأنك؟! - فيقول: تزوجت يا رسول الله} لقد مكث في المدينة أياماً يضارب في السوق، لأنه تاجر يتقن فن التجارة، ثم يكسب المال ويتزوج بعد ذلك فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: {ما هذا؟ - لأنه وجد الطيب- قال: تزوجت يا رسول الله، قال: ما أصدقتها؟ قال: وزن نواة من ذهب، قال عليه الصلاة والسلام: بارك الله لك! أولم ولو بشاة} أي اصنع وليمة، فخلال أيام يتزوج عبد الرحمن بن عوف! جاءت امرأة في يوم من الأيام -كما في الصحيحين أيضاً من حديث سهل بن سعد - إلى رسول الله صلى الله وعليه وسلم، وقالت: {يا رسول الله! جئت أهب نفسي لك، فصعد فيها النظر وصوبه -نظر إليها، فكأنها لم ترقه صلى الله عليه وسلم! لأن الجمال بطبيعة الإنسان مطلوب- فقال رجل: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، قال: التمس -اذهب وابحث عن مهر- التمس ولو خاتماً من حديد، فما وجد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم أحفظ سورة البقرة وآل عمران وسورة كذا وسورة كذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زوجتكها بما معك من القرآن} أي: تعلمها هذه السورة وتحفظها إياها، وهذا مهرها الذي تدفعه لها. إذاً حتى هذا الرجل عندما قال له: {التمس، قال: ما عندي إلا إزاري -أي ما عنده إلا ثوبه، يريد أن يعطيه مهراً للمرأة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أعطيتها إزارك بقيت لا إزار لك فما تصنع بإزارك، إن لبسَتْه لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء} . إذاً الرجل يشعر بأهمية الزواج والمبادرة فيه إلى حد أنه مستعد أن يتخلى عن نصف إزاره كمهر للزواج، فأين هذا من كثير من الشباب الذين يماطلون في قضية الزواج بكافة الحجج التي هي في كثير من الأحيان قد تكون أوهاماً أكثر مما تكون حقائق؟! يريد أن يتخرج، ثم يبني بيتاً، ثم يكون له محل يضمن له إيراداً طيباً، ثم بعد ذلك يبدأ بالبحث عن المرأة التي قد تستغرق سنوات، وهكذا الفتاة، تقع عندها في كثير من الأحوال نفس التصورات، تنتظر مرة بعد أخرى، تريد أن تتخرج، ثم تريد أن تعمل، وهكذا يتقدم السن بالشباب والفتيات دون زواج. أما أولياء الأمور فأمرهم شأن آخر، ويعجبني ما قرأته في بعض كتب الأدب، يقولون: إن علياً رضي الله عنه لما ماتت زوجه فاطمة رضي الله عنها اليوم، تزوج في الليل، فقيل له: كيف تزوجت؟! قال: خشيت أن ألقى الله وأنا عزباً!، يشعر أنه وهو يتزوج يقوم بعبادة لله عز وجل، ويمارس شعيرة مقدسة، وليست مجرد قضاء الوطر أو الشهوة الجسدية فحسب. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 19 العزوف عن الزواج الصورة الأولى: تتعلق بظاهرة العزوبة عند الغربيين: فقد دلت الإحصائيات على أنه في عام (1980) ميلادية، كان هناك أكثر من (50%) من الفتيات ما بين سن عشرين إلى خمسة وعشرين سنة، وهن عازبات غير متزوجات، وارتفعت هذه النسبة عام (1984) ميلادية لتصبح (56%) أما الآن فالنسبة أكثر من (70%) بالمائة منهن! وخلال زيارتي لإحدى تلك البلاد، يقول لي أحد الشباب: إن إحدى الفتيات الغربيات الأمريكيات تقول له: إننا نعيش أزمة حقيقية، فالفتاة ليس من السهل أن تحصل على زوج صدقني! إنني عرضت نفسي على أحد الشباب هناك، فكان يقول لها: عندي إحدى عشرة فتاة موجودات في القائمة وأنت رقم اثنى عشر في القائمة، بعد تصفية إحدى عشرة فتاة، إذا ما صلح لي واحدة منهن فيمكن أن يأتي الدور عليك! فهذا الشاب يعبث بكرامة تلك الفتيات، ويأخذ أعز ما لديهن، ثم يلقي بهن ويذهب إلى أخريات، وهكذا دون حسيب أو رقيب أو مسؤولية معينة تمنعه من مثل هذه العمل، والفتاة ترضى أن تكون رقم اثنى عشر على رأس قائمة عند شاب، وتنتظر هذا الانتظار الطويل، حتى تحصل على زوج، وسوف نعرف كيف تكون حياتها مع هذا الزوج، على فرض أنها حصلت عليه. حين نقارن هذا الوضع بوضعنا الحالي نجد أنه بدأ يتسرب إلى بلاد المسلمين، فأصبحت كثير من الفتيات تعيش عزوفاً عن الزواج لأي سبب من الأسباب، ولست هنا أُحَمِّل الفتيات المسئولية الكاملة، ولكنني أقول الجميع مسئولون، فأولياء الأمور مسئولون، والشباب مسئولون، والفتيات أيضاً يتحملن جزءاً من المسئولية في مسألة تأخر الزواج والعزوف عنه. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 78 ¦ الصفحة: 21 دور الشباب السؤال ما هو دور الشباب الملتزم تجاه هذا الحادث الذي حل هذه الأيام بالأمة؟ الجواب في الواقع أن جزءاً من الدور تبين سابقاً، أن يقوم الإخوة الشباب بصفة خاصة وغيرهم من المسلمين بنجدة إخوانهم ويهبوا لنصرتهم وغوثهم ومساعدتهم بما يحتاجون إليه من الأموال أو غيرها، ومساعدتهم بالتوجيه والإرشاد، فإن الطرق يكون حينئذ والحديد ساخن، والتقبل أكبر وأكثر، وهذا جزء كبير من الواجب. الواجب الثاني: هو الصبر، فإن الله تعالى تعبدنا بالصبر، وجعله صفة من أخص وأعظم صفات المؤمنين، وأمرنا بأن نتواصى به قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فإن المؤمن يجب ألا تستفزه الأحداث، ولا تخرجه عن طوره، ولا تجعله يتصرف بلا وعي، بل ينبغي أن يصبر ويتريث حتى تنكشف له الأمور، ويقدم على بصيرة، أو يحجم على بصيرة، وينتظر حتى تنجلي عما تنجلي عنه. الأمر الثالث: هو الدعاء، فإن الدعاء من أعظم الأسلحة: أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجل وللأجل انقضاء فالدعاء سلاح من أعظم الأسلحة، وينبغي أن نتترس به ونتدرع به، فيقوم العبد لله عز وجل ويبكي بين يديه، ويدعو الله بتفريج كروب المكروبين ونصر المسلمين، ورفع راية الدين، ودحر المعتدين، وأن يعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويكون صادقاً في دعائه مع الله تعالى، فهذا من أعظم الأسلحة التي ينبغي للمؤمن أن يقوم ويتعبد بها. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 22 أعمال الإغاثة السؤال هل التطوع في أعمال الإغاثة والمساعدة يعتبر من الجهاد في سبيل الله؟ الجواب لا شك أن المؤمنين كما أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر} وهم: {كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً} فالمؤمن يحزن لحزن أخيه ويفرح لفرحه، ويقوم بما يستطيع من مساعدته سواء بنفسه أو بماله أو بجاهه أو بما يملك، ولذلك {من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن يسر على معسر يسر الله عليه، ومن ستر مسلماً ستره الله، ومن أعان مسلماً أعانه الله تعالى} . فالمؤمن يحس بآلام إخوانه المؤمنين، وأنه حين يغيث ملهوفاً أو منكوباً، فإنه ليس يقدم تطوعاً كما عبر الأخ السائل، بل يقوم بواجب، كما أنه لو حدث له مثل هذا الموقف، لكان بحاجة إلى من يساعده في ذلك. وحين يحتاج الناس إلى من يطعمهم؛ يجب على المسلمين أن يطعموهم، وحين يحتاجون إلى من يكسوهم؛ يجب على المسلمين أن يكسوهم، وحين يحتاجون إلى من يساعدهم؛ تجب مساعدتهم. حتى قال بعض أهل العلم: إن الإنسان لو لم يعط حقه؛ أخذه بالقوة. واستدلوا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لما سألوه وقالوا: {يا رسول الله! إنا ننزل على أقوام فلا يأمرون لنا بما ينبغي للضيف -ما يعطوننا القرى والضيافة اللازمة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا نزلتم على أقوام فأعطوكم ما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يعطوكم ما ينبغي للضيف فخذوا منهم} أي تأخذون منهم ما تحتاجونه مما هو واجب لكم عليهم، ما دمتم محتاجين إلى ذلك أو مضطرين إليه. فأقول: ليس تطوعاً أن تبذل من مالك لإخوانك، أو أن تقوم بأعمال الإغاثة أو المساعدة، بل ليس تطوعاً أيضاً أن تقوم بالتوجيه والإرشاد، وتبصير هؤلاء الإخوة وتسكينهم وتذكيرهم بأن الأيام دول كما قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ومحاولة تعزية من أصيب بشيء أو فقد شيئاً، هذا كله جزء من الواجب الملقى على عواتقنا. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 23 ما تكشفه المرأة أمام المحارم السؤال ما هي حدود ما يمكن أن تكشفه المرأة أمام محارمها، وما يجب عليها ستره أمامهم؟ الجواب المشهور عند الفقهاء أن ما تكشفه المرأة أمام محارمها، هو ما جرت العادة بكشفه، كشعرها وأطرف ذارعيها وأطراف ساقيها، وما أشبه ذلك. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 24 واجب المرأة في تغيير المنكر وحكم مشاركتها في الإعلام السؤال ما هو الواجب على المرأة في تغيير المنكر؟ وهل لها أن تدخل في قنوات إعلامية لإحداث التغيير؟ الجواب واجب المرأة في تغيير المنكر هو واجب الرجل، وكل في مجاله، فالمرأة تغير المنكر بوسائلها المتاحة في مجتمعاتها النسائية، كما أن الرجل يغير في مجالاته وفي مجتمعات الرجال، والمرأة تستطيع من ذلك في مجالها ما لا يستطيعه الرجل، وأما قضية الدخول في مجالات الإعلام، فإنني لا أرى ذلك مناسباً في مثل مجتمعاتنا الإسلامية، لأن الأصل في المرأة التستر والبعد عن التعرض للعيون، أو فيما يتعلق بصوتها أيضاً، فإن في صوت المرأة -كما هو معروف- من الفتنة والإثارة الشيء الكثير، وكون المرأة مثلاً تتكلم في الإذاعة، فيسمع صوتها الملايين، لا أعتقد أن هذا سائغاً، أو صالحاً، أو أنه وسيلة في الدعوة إلى الله عز وجل، فهذه الأمور تترك للرجال يعانونها ويقومون بها، أما المرأة فتبقى في مجالاتها الأخرى: تغير المنكر في بيتها، في مدرستها، في اجتماعها النسوي، في حفل الزواج في وسط النساء، مع أقاربها، مع بنات جنسها، وتدعو إلى الله تعالى بقدر ما تستطيع. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 25 موقفنا أمام الأحداث السؤال لاحظنا تضعضع الناس تجاه الأحداث الجديدة، فهل هذا هو الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، وما السبيل إلى عافية الأمة من ذلك؟ الجواب هذا جزء من الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه فسره بقوله: {حب الدنيا وكراهية الموت} ؛ فإنه لا يصاب بالتزعزع والوهن إلا الإنسان المتعلق بالدنيا ومادياتها، الذي يخاف من الموت، ويكرهه، ويريد أن يستمتع بهذه الحياة، أما المؤمن الذي استعد لبذل روحه في سبيل الله عز وجل، وقال كما قال الأول: ما ضٍ وأعرف ما دربي وما هدفي والموت يرقص لي في كل منعطف وما أبالي به حتى أحاذره فخشية الموت عندي أبرد الطرف أما المؤمن الذي يقول:- وإني لمقتاد جوادي كقاذف به وبنفسي العام إحدى المقاذف فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يُعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف المؤمن الذي هذا منطقه وهذا سبيله من ماذا يخاف؟ أشد ما يتصور هو الموت، وهذا هو أمنيته وغايته، فلم يعد يخاف من شيء إلا من الله عز وجل، ولذلك يفرح المؤمن بالشهادة في سبيل الله عز وجل، أما حين يرى هذه المصائب والابتلاءات التي تنزل بالمسلمين، فلا شك أن الحزن لذلك جزء من الدين، والتأسف والتأسي لما حدث جزء من الأخوة الإيمانية التي ربطت بين أتباع "لا إله إلا الله، محمد رسول الله" وأهلها. ولكن فرق بين ذلك وبين الشعور بالخوف والضياع والحيرة التي أصبحت تلف كثيراً من الناس، فقدان التوكل على الله عز وجل، حتى إن بعض الناس والعياذ بالله أصبحوا كأنهم لا يثقون إلا بالماديات، ولا يتعلقون إلا بالأسباب الدنيوية، فأصبحت تجد الإنسان يركض كالمسعور فيما يتعلق بأموره الخاصة، يوفر السلع الاستهلاكية في البيت بشكل مثير للانتباه ويدخر من القوت ما يكفي لسنوات، يحول أمواله بعملة أخرى، أو يحولها إلى سبائك من الذهب، وبعضهم غادروا بأهلهم وبأنفسهم إلى بلاد أخرى، وهذه في الواقع ليست صفات المؤمنين، بل المؤمنون كما حكى الله عنهم: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] . أما المنافقون فقالوا كما حكى الله عنهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وكانوا يقولون: محمد يعدكم كنوز كسرى وقيصر وأحدكم لا يستطيع أن يذهب لقضاء حاجته، فالقوة والكثرة والضجيج لا يمكن أن تؤثر في المؤمن، بل يقول -كما هو منطق الأنبياء عليهم السلام- مثل ما قال نوح: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ} [يونس:71] ومثل ما قال صالح: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] . كما أنه يجب ألا نجعل أنفسنا نهباً لهذه الشائعات المغرضة، والتهويل التي أصبحت الإذاعات تملأ بها أسماعنا، وتهز بها قلوبنا، بل ينبغي للإنسان أن يعتصم بالعقل والعلم، ويعتصم بالله عز وجل قبل ذلك، ويجعل في قلبه من الطمأنينة والسكينة والأنس بالله عز وجل والاطمئنان إليه ما يكون خير رفيق له، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب فقال: {إذا أويت إلى فراشك، فقل: اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك, وألجأت ظهري إليك، وأسلمت نفسي إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى لي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت} فعبر بكل معاني التوكل على الله والتفويض إليه، والثقة به، ولا شك أن من كان هكذا اعتقاده بالله عز وجل، فلا بد أن يضع الله تعالى في قلبه السكينة والطمأنينة، ولذلك تجد المؤمن لو سلب كل نعمة؛ لكان من إيمانه بالله في أعظم نعمة، وتجد المؤمن وهو في قلب الأحداث والمصائب والنكبات؛ يعيش حالة من الهدوء وسكينة الأعصاب، وراحة الضمير، يتعجب منها الجميع، فمثل هذه الأحداث لا شك أنها محك: يتبين من خلالها قوة الإيمان وضعفه، فإذا ظهر للإنسان ضعف إيمانه من خلال موقفه المتزعزع من مثل هذه الأحداث، فعليه أن يبادر في تجديد إيمانه وتعميق ثقته بالله عز وجل. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 26 ملابس الأطفال السؤال هناك سؤال يتلخص في صعوبة الحصول على الملابس الجاهزة للأطفال، حيث إن الملابس المتوفرة في الأسواق ليست مناسبة لأطفال المسلمين؟ الجواب أولاً: هذا يدعونا إلى أن نسأل أنفسنا: لماذا؟ هذا يخضع لقانون العرض والطلب، فلأن هذه الملابس الجاهزة يريد أكثر الناس لها صفة معينة، المصانع تصنع على حسب ما يريد المشتري، وحين يعلمون أننا نريد نوعاً معيناً من الملابس، ولو كان فضفاضاً ساتراً، فإنهم لا بد أن يصنعوه، ولو من زاوية المصلحة المادية البحتة لهم. ثانياً: يمكن أن تعمل المرأة تحويراً في هذه الملابس، بحيث تكون مناسبة وملائمة. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 27 خدمة المرأة لزوجها السؤال ذكرت شيئاً من صور التعامل بين الزوجين في الغرب، فما رأيكم فيمن يقول: إن خدمة المرأة لزوجها ليس بواجب شرعي عليها؟ الجواب نحن نرجو ألا نلجأ في قضية البت في قضية الواجب، أو ليس بواجب؛ لأنه إذا وصلت القضية إلى قضية مشاحة فهذه مشكلة، فإن الأصل أن الزوجة التي تحس بالعلاقة الزوجية الصادقة مع زوجها تريد أن تخدمه ولو رأت غيرها يقوم بخدمته، لغارت من ذلك وامتعضت منه، فهي تريد أن تباشر شئونه بنفسها، وتعتبر هذا جزءاً من واجبها ومهمتها مع زوجها، هذا من جانب. ومن جانب آخر فإن الزوج أيضاً هو الآخر يتواضع مع زوجته، ولا بأس أن يشاركها في بعض أعمالها على سبيل المباسطة والبعد عن التكلف والكبرياء. وقد صح أن عائشة رضي الله عنها {سُئلت: كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا سمع المؤذن خرج إلى الصلاة} وهذا رسول الله صلى الله وعليه وسلم على رغم مشاغله الكثيرة المنوطة به، يتفرغ أحياناً ليباسط زوجته في بعض أعمالها، فأقول: ليس هناك ما يدعو إلى أن يبتَّ في القضية وأن تقول الزوجة: إنني لا أعمل أي عمل إلا إذا كان هذا واجباً عليّ! ليس هناك ما يدعو إلى هذا. الجزء: 78 ¦ الصفحة: 28 الحلال البغيض إن الله تعالى شرع لعباده الزواج، لحكمة بالغة عظيمة، وفي مقابل ذلك شرع لهم الطلاق، حتى تسير الحياة الزوجية بدون ما يكدر صفوها أو يغيرها، فإذا رأى الزوجان أن لا سبيل إلى بقاء الزواج بينهما؛ لأمور لا يمكن بقاؤه معها، رجعا إلى حل هذه العقد الزوجية بالطلاق، فالطلاق أحياناً يكون هو الحل للمشكلات الزوجية، وليس ذلك باطراد، بل لابد من أخذ جميع الحلول المناسبة حتى يكون الطلاق هو الأخير، ولذلك فقد تحدث الشيخ حفظه الله عن حكم الطلاق في الإسلام، وأنه قد يكون خيراً للمرأة والرجل، وذكر حال المرأة قبل الإسلام، وذكر تنظيم الإسلام للحياة الزوجية، ثم ذكر أسباب الطلاق مع علاج كل سبب بشيء من التفصيل. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 1 أبغض الحلال إلى الله الطلاق حمداً لله تعالى حمداً، وشكراً لله تعالى شكراً، هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره، ونخلع ونترك من يفجره، ونصلي ونسلم على نبيه ومصطفاه، وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله، وصحبه ومن والاه. أما بعد: عباد الله، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فهذا الدرس هو الستون من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تلقى بالجامع الكبير ببريدة، يلقى في هذه الليلة- ليلة الإثنين- السادس عشر من شهر ذي القعدة، من سنة (1412هـ) عنوانه: (الحلال البغيض) . ترامى إلى مسمعي صوتها المتهدج الباكي، الذي تقطعه الأنات والزفرات، وظللت فترة طويلة أستنطقها فلا أفهم ما تقول، وبعد جهد جهيد علمت أنها مطلقة تسأل عن بعض ما تعاني، ليست هذه حالة فردية ولكنها تتكرر كثيراً، ولا يملك الإنسان أمامها حين لا يعرف التفاصيل والأسباب إلا أن يشارك هذه المرأة الحزينة آلامها وعذابها، وهو يتذكر ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه أبو داود، وابن ماجة، والبيهقي، والحاكم، وغيرهم، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق} . وهذا الحديث روي مرفوعاً متصل الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وروي مرسلاً، والصواب أنه مرسل عن محارب بن دثار، لا يذكر فيه ابن عمر رضي الله عنه، وهذا ما رجحه جماعة من أئمة الحديث، كـ أبي حاتم الرازي، والدارقطني، والبيهقي، والخطابي، والمنذري، والألباني، وغيرهم، ولكن يغني عن هذا الحديث في تقبيح الطلاق وتشنيعه من غير سبب ولا حاجة ما رواه مسلم في صحيحه، في كتاب صفة المنافقين وأحكامهم، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، فيجيء أحدهم -أي: من جنود إبليس- فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول له: ما صنعت شيئاً، ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت -وفي رواية- فيلتزمه} أي: يضمه إليه ويعانقه. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 2 الطلاق ليس شراً محضاً على المرأة وعلى كل حال، فالطلاق ليس بالضرورة شراً محضاً على المرأة، بل قد يكون خيراً لها وللرجل في حالات كثيرة، وقد يكون نجاةً لها من وضع اجتماعي لا تطيق الصبر عليه، أو من زوج ظالم لا يحترم لها حقاً، ولا يرعى لها حرمةً ولا كرامةً، أو من زوج فاجر لا يخاف الله تعالى ولا يرجوه، فجواره شؤمٌ، وفراقه خير وبر، أو حتى من زوج كتب الله بغضه في قلبها؛ فهي لا تطيقه بحال من الأحوال. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم، عن ثوبان رضي الله عنه وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة طلبت الطلاق، أو سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة} ولا شك أن هذا الحديث صريح في تحريم أن تسأل المرأة زوجها أن يطلقها من غير سبب، ولا شك أن بغض المرأة زوجها بغضاً يحول بينها وبين القيام بحقوقه، والوفاء بحاجاته الشرعية، أن هذا سبب وجيه لطلب الطلاق. ولهذا لما اختلعت حبيبة بنت سهل الأنصارية من زوجها ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، وقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله ما أعيب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر في الإسلام -وكانت تبغضه- فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بطلاقها، وقال: خذ الحديقة وطلقها تطليقة} وكان رجلاً ذميماً، ولكنه كان خطيباً مفوهاً جهير الصوت، وكان من نجباء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، شهد معركة أحد وبيعة الرضوان {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] . ولما قدم وفد تميم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، افتخروا بأمور، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {قم فأجبهم} . فقام وتكلم بكلام قوي، فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال بنو تميم: والله لخطيبه أحسن من خطيبنا، وشاعره -يعنون حسان بن ثابت - أحسن من شاعرنا، وقد استشهد هذا الرجل النبيل الفاضل، في معركة اليمامة، في قصة طويلة عجيبة ذكرها أهل السير المهم أن زوجته طلبت منه المخالعة وردت إليه ما أعطاها، وأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقصته مع زوجته قصة صحيحة، رواها مالك وأبو داود والنسائي وغيرهم، وإسنادها صحيح. ومن هنا ندرك الخطأ الذي يقع فيه البعض، حين يقول مثلاً: الطلاق ظلم للمرأة، بل إنني أعرف حالات كثيرة، أصبح الطلاق فيها مطلباً ملحاً تحاوله المرأة، ولكن يحول بينها وبينه رجل ظالم متلاعب محتال، يلعب بها يمنة ويسرة ويحتال عليها، فلا تستطيع أن تثبت عند القاضي ما يدعوه إلى إلزام زوجها بالطلاق، مع أن المرأة مستعدة أن تفتدي نفسها من زوجها بالغالي والنفيس، وكما قيل: كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا الجزء: 79 ¦ الصفحة: 3 الطلاق في غير الإسلام الطلاق قرين النكاح منذ أول البشرية: ولهذا يقول فولتير: إن الطلاق وجد في العالم مع الزواج في زمن واحد تقريباً، غير أني أظن أن الزواج أقدم من الطلاق ببضعة أسابيع، بمعنى أن الرجل ناقش زوجته بعد أسبوعين من الزواج، ثم ضربها في الأسبوع الثالث، ثم طلقها في الأسبوع الرابع. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 4 حال المرأة قبل الإسلام وعلى كل حال، ففي كثير من الجاهليات كان الطلاق مشروعاً بلا عَدد ولا عُدد، فيطلق الرجل زوجته ثلاثاً وعشراً ومائة، ودون أن يكون لذلك عدة في التفريق بين الأزواج المتعاقبين. ففي جاهلية العرب -مثلاً- عرف الناس العضل، وهو: أن الزوج بعد ما يطلق الزوجة، قد يعضلها ويمنعها من الزواج بغيره، ولهذا نهى الله تعالى عن ذلك، وقال: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة:232] فقد يعضلها قريبها أو أبوها أو أخوها، وحتى الزوج أحياناً قد يمنعها، فلا تنكح من بعده إلا بإذنه. وكذلك التعليق: أن يعلق الرجل المرأة، فليست بالزوجة، وليست بالمطلقة، وهذا أيضاً مما نهى الله عنه ورسوله، فقال تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] وجاء له ذكر في القصة المعروفة، في حديث أم زرع، فكانت إحداهن - وهن إحدى عشرة امرأة اجتمعن فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً- والحديث في صحيح البخاري، فكانت إحداهن تقول: زوجي العشنق، إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، فهي لا مخرج لها من أحد هذين الأمرين. ومثله أيضاً الظهار، كان معروفاً في الجاهلية، يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، ولما حدث هذا في الإسلام، وسألت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {ما أراك إلا قد حرمت عليه، فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] } ثم بين الله تعالى كفارة الظهار المعروفة في القرآن. ومثله الإرث أيضاً، فكان الرجل يرث المرأة، يرثها كما يورث المتاع، ويضع عليها إن أعجبته رداءه أو ثوبه، فتكون له، ولا تملك أن تنكح غيره. ومن طرائف أخبار أهل الجاهلية، بل أخبار أهل الإسلام الذين تأثروا بالجاهلية وورثوا بعض عاداتهم، ولم يستقيموا على أمر الإسلام، من طرائفهم في الطلاق -أمر عجيب في التلاعب به وإيقاعه لأدنى سبب- ما قاله الأصمعي لـ هارون الرشيد: إن رجلاً من العرب طلق خمس نسوة في مجلس واحد. فضحك الرشيد، وقال له: كيف وإنما ينكح الرجل في الإسلام أربع نسوة لا خمساً؟ فقال له الأصمعي: كان رجلاً أحمق فدخل على نسائه، أربع نسوة، وهن متلاحيات فيما بينهن -بينهن خصومة وجدل وقيل وقال وارتفاع الأصوات- فنظر إلى إحداهن، وقال: والله ما أظن هذا الأمر إلا من قبلك يا فلانة، اذهبي فأنت طالق! فقامت إحداهن، وقالت: والله لقد عجلت عليها بالطلاق يا فلان، فلو أدبتها بغيره لكان حقيقاً لك ذلك. فقال: وأنت طالق أيضاً! فقالت الثالثة: قبحك الله! لقد كانتا محسنتين إليك مفضلتين عليك. فقال: وأنت أيضاً أيها المعددة أياديهما طالق!. فقامت الرابعة، وقالت: ضاق صدرك عن نسائك إلا بالطلاق. قال: وأنت تبع لهن! وكانت جارة من جاراته تسمع هذا الخبر وتسمع الأمر، فلما سمعت طلاقه لزوجاته الأربع، أشرفت عليه من طرف الدار، وقالت له: والله لقد شهد العرب عليك وعلى قومك بالضعف؛ لما عرفوا عليك وعنك من العجلة وسوء الخلق. وقال: وأنت أيضاً أيها المؤبنة المؤنبة المتكلفة، أنت طالق إن أجاز زوجك هذا. فناداه زوجها من أقصى الدار يقول: قد أجزت! قد أجزت! وطلق رجل زوجته بعد خمسين سنة، وهذا ممن تأثروا بآثار الجاهلية. فقالت له: أبعد خمسين سنة تطلقني؟ فقال: والله ما أعيب عليك إلا هذا! أي: ما طلقها إلا لطول مكثها معه. يريد الفتى طول السلامة جاهداً فكيف ترى طول السلامة يفعل الجزء: 79 ¦ الصفحة: 5 نظام الإسلام في المعاملة الزوجية ولما جاء الإسلام حفظ حقوق المرأة، ونظم العلاقة بين الزوجين، ووضع الضوابط الكثيرة لاستمرار الحياة الزوجية: الجزء: 79 ¦ الصفحة: 6 الطلاق في كثير من البلاد ليس بيد الرجل وفي كثير من البلاد لا أقول البلاد الغربية؛ بل حتى الإسلامية قد حرموا الطلاق ومنعوه، وجعلوا الطلاق إلى القاضي، فلا يملك الرجل إيقاع الطلاق إلا عند القاضي، بعد ما يثبت أن هناك ما يدعو إليه، وهذا الأمر يفضي إلى المضارة والمضايقة والمكايدة بين الزوجين، فالمرأة قد تضايق الزوج وتكايده، والزوج أيضاً يضايق المرأة ويكايدها، بل يصل الأمر في كثير من الأحيان إلى الضرب، بل إلى القتل، وعندي كثير من القصاصات الصحفية في بلاد الغرب، بل في بلاد العرب في مصر وفي غيرها، تتكلم عن رجال قتلوا أزواجهم، أو عن نساء قتلن أزواجهن؛ لأنه لم يكن هناك حل لفصم عرى الزوجية إلا القتل! ولعله من المعروف الموافق للفطرة وللشريعة أيضاً، أن يكون الطلاق بيد من بيده عقدة النكاح وهو الرجل، فهو الطالب أصلاً، وهو الخاطب، وهو الباذل، وهو المنفق؛ ولذلك كان أمر الطلاق إليه في شريعة الله عز وجل، قال الحسن بن علي بن الحسين لزوجته يوماً من الأيام، وهي عائشة بنت طلحة، قال لها: [[أمرك بيدك. -أي إن شئت أن تطلقي فاطلقي- فقالت له: قد كان أمري بيدك عشرين سنة، فأحسنت حفظه، فلماذا أضيعه الآن إن وضعته بيدي ساعة من نهار؟ أنا قد صرفته إليك الآن وأرجعته إليك]] فأعجب بهذا العمل وأمسكها، وكان قد سخط عليها. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 7 التسامح بين الزوجين أولاً: شرع الإسلام التسامح بين الزوجين، وتغافل كل منهما عما قد يبدر الآخر في حالة الغضب أو الانفعال أو غير ذلك، حتى قال أبو الدرداء رضي الله عنه، وهو نموذج لمن تأدبوا بأدب الإسلام وتخلقوا بخلقه، وتربوا على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أصحاب محمد عليه الصلاة السلام - أبطالاً في المعارك فقط، بل كانوا أبطالاً في كل حال، حتى إن الواحد منهم في معاملته مع أزواجه، كان نموذجاً للكمال والمروءة والرجولة وجميل الخصال، فـ أبو الدرداء يقول لزوجته: [[إذا رأيتني قد غضبت فترضيني، وإذا رأيتك أنا قد غضبت فإنني أترضاك، وإن لم نفعل فإننا لا نصطحب]] فقال الزهري تعليقاً على هذا الخبر: وهكذا تكون الإخوان، تتحمل مني في حال الغضب، وأتحمل منك في حال الغضب. وهذا ما شرعه الله تعالى في قوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:229] فإن الإمساك بمعروف: هو الإحسان إلى المرأة، بتحمل ما قد يبدر منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} فقد تجد فيها نقصاً في جانب، يسدد في جانب آخر، أو تجد منها خلة في وقت، ولكن تجد منها في وقت آخر ما يغطي على هذا ويمسحه ويزيله. ومن أروع وأجمل النماذج في الإمساك بمعروف والتسامح بين الزوجين، ما جاء في قصة أم زرع، التي ذكرتها قبل قليل، وقد روتها عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم، فعقب عليها عليه الصلاة والسلام بقوله لـ عائشة {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع، غير أني لا أطلق} جاء هذا في رواية. فكيف كان أبو زرع لـ أم زرع؟ وكيف كانت هي له؟ تقول أم زرع -وهي المرأة الحادية عشرة من ذلك المؤتمر الذي عقد في الجاهلية -تقول في صفة زوجها وقد بدأت به وبحالها معه. فقالت: {أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي، وجدني في أهل غنيمة بشق -أي أهلها كانوا فقراء معزولين- فجعلني في أهل صهيل وأطيط ودائس ومنق- أي خيل وجمال وإبل وزرع وغير ذلك -فعنده أقول فلا أقبح- أي لا يقول: كلامك هذا غير جيد أو يرده عليها، بل يحسن لها ما تقول- أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبح، وأشرب فأتقمح، وآكل فأتمنح} فهو أعطاها كل ما تريد، من المأكل والمشرب، والراحة في بيتها، وتطييب خاطرها بالقول والفعل. لما ذكرت معاملتها له، وكلامها هذا بعد ما طلقها، قالت: أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟! عكومها رداح، وبيتها فساح، ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟! منامه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة، بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟! طوع أبيها وطوع أمها، وغيظ جارتها، وملء إهابها -تصفها بالكمال في خلقها وجسمها وطاعتها لوالديها- جارية أبي زرع -خادمته- فما جارية أبي زرع قالت: لا تنقث ميرتنا تنقيثا، ولا تبث حديثنا تبثيثا ولا تملأ بيتنا تعثيثا، أي نظيفة وخدومة وأمينة على السر وعلى الكلام وعلى متاع البيت، حتى ذكرت ضيف أبي زرع، وهذا كلام امرأة تحب زوجها وتعلقت به، ولذلك فهي تثني عليه وعلى أمه وعلى ولده وعلى بنته وعلى خادمه وعلى ضيفه وعلى كل شيء. ثم ذكرت أن أبا زرع هذا، خرج يوماً والأوطاب تمخض، فرأى امرأة فأعجبته، فطلق أم زرع ونكحها، ثم تزوجت أم زرع بعده رجلاً آخر، فأعطاها من كل شيء من المال وغيره، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك. أي أعطيهم، قالت: فوالله لو جمعت كل ما أعطاني، ما بلغ إناءً من آنية أبي زرع، لأنه كما قيل: نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ما الحب إلا للحبيب الأول كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل فالرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ عائشة: {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} أي: أنه صلى الله عليه وسلم، كان يسارع فيما تحب عائشة رضي الله عنها وتهوى، وكان يُسأل: من أحب الناس إليك؟ فيقول: {عائشة. فيقال: ومن الرجال؟ فيقول: أبوها} فلم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم بأساً أن يبوح بمحبته لـ عائشة، ولم ير بأساً بذكرها واسمها، مع أن كثيراً من الناس يرون الآن أن ذكر اسم الزوجة عيب وعار يستحى منه، وأن البوح بمحبتها ومكانتها في القلب هو عيب وعار آخر، وهذا ليس من أمر الإسلام. وعلى كل حال؛ فقد شرع الإسلام التسامح بين الزوجين: أولاً: وعظ المرأة وتذكيرها. ثانياً: شرع الإسلام للزوج حين يرى من زوجته مالا يحب ولا يرضى، أن يعظها بالقرآن والحديث والتذكير، وبالأمر وبالنهي، وغير ذلك مما يكون فيه أمر لها وتذكير لها بما يجب عليها، كما قال الله تعالى: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34] ، فإن أجدى الوعظ كفى، وإن لم يجدِ الوعظ، فإنه يمكن أن ينتقل بعد ذلك إلى الهجر، يهجرها في المضجع ويعرض عنها، فإن لم يجدِ، فإنه يضربها ضرباً غير مبرح، كما أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإن لم يجدِ ذلك، فإنه يمكن أن ينتقل إلى قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] . إذاً يجب عدم إدخال أي طرف آخر، إلا حينما يتعذر الإصلاح عن طريق الزوجين فقط، فإذا لم يجدِ الإصلاح بينهما عن طريق المناقشة، أو عن طريق الوعظ، أو عن طريق الهجر، أو عن طريق الضرب الغير مبرح، فحينئذٍ يمكن أن يدخلا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وإذا أراد هذان الحكمان الإصلاح وفق الله بينهما قال تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] ولذلك يبقى الطلاق هو آخر الحلول، وآخر الدواء الكي. وليس الطلاق كلمة تقال في لحظة انفعال أو غضب، فهذا لا يفعله عقلاء الرجال، ولكنه قرار مدروس محكم، يتخذه الزوج، بل ربما يتخذه الزوجان بالاشتراك بعد طول دراسة وتأني، ولهذا حرم الله تعالى -مثلاً- طلاق الحائض، وحرم أيضاً طلاق المرأة إذا كانت في طهر جامعها فيه، فلا يحل للرجل أن يطلق امرأته إلا في طهر لم يجامعها فيه، وهنا لا يكون الرجل طلقها في ساعة انفعال، بل انتظر حتى تطهر -مثلاً- إن كانت حائضاً، أو حتى تحيض ثم تطهر إن كان جامعها في ذلك الطهر، ثم هو في الطهر قد يكون متطلعاً إليها، مشتاقاً إلى معاشرتها، فلا يوقع الطلاق حينئذٍ، وهنا يكون الطلاق حلاً لمشكلة قائمة، لا صبر لهما أو لأحدهما عليها. قال الأصمعي: كنت أغدو إلى رجل من الأعراب؛ أقتبس منه بعض الغريب، وأسأله عن بعض الكلمات التي لا أعرف معناها، قال: وكان كثيراً ما يذكر عندي أمامة وهو اسم زوجته، فدخلت عليه مرات فوجدته لا يذكرها، فقلت له: رأيتك لا تذكر أمامة، فأنشأ يقول: ظعنت أمامة بالطلاقِ ونجوت من غل الوثاقِ بانت فلم يألم لها قلبي ولم تدمع مآق ودواء ما لا تشتهيه النفس تعجيل الفراق والعيش ليس يطيب بين اثنين من غير اتفاق لو لم أُرَحْ بفراقها لأرحت نفسي بالإباق أي: لو لم أطلقها؛ لهربت من البلاد؛ لأن الحياة بينهما كانت أمراً صعب الاحتمال. ومما يذكر في أخبار العجم: أن رجلاً منهم يقال له بولس طلق زوجته، وأراد بعض أصدقائه رده عن ذلك، وأثنوا عليها بأنها امرأة جميلة عاقلة ولود، فقال لهم: حذائي جديد، جيد الصنع، ومع ذلك فأنا مضطر إلى تغييره، ليس هناك أحد سواي يعلم أين يؤلمني بغض النظر عن هذه الكلمة، لأنها كلمة من رجل جاهلي، فلهذا لا غرابة أن يشبه المرأة بالحذاء، ولكنه أشار إلى معنى قد يوجد عند الكثيرين، وهو أنه يقول: هناك مشكلة قائمة بيني وبين زوجتي، هذه المشكلة من الصعب أن يدركها الناس؛ لأنها قضية دقيقة خفية، لا أحد يعرف من أين يأتيني الألم! الجزء: 79 ¦ الصفحة: 8 الطلاق في غير الإسلام والطلاق من حيث حكمه في الإسلام، تجري عليه الأحكام الخمسة. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 9 الطلاق المندوب أما الطلاق المندوب، أي: المستحب، فكأن لا تكون الزوجة طيبة الخلق عفيفة، أو يخافا ألا يقيما حدود الله. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 10 الطلاق المباح أما الطلاق المباح، فهو عند الحاجة؛ لسوء العشرة أو للتضرر بذلك. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 11 الطلاق المكروه أما الطلاق المكروه، فهو: ما كان لغير سبب، مع استقامة الحال، وحسن الأمور، وطيب العلاقة بينهما فلا شك أن هذا مكروه، ولا أدل على كراهيته من فرح الشيطان به كما سبق، وكما أسلفت في تلك الطرفة، أن رجلاً طلق امرأته بعد خمسين سنة، فقالت له: أبعد صحبة خمسين سنة؟ فقال: والله ما لك عندنا ذنب غير هذا! ولا شك أن هذا ليس من الوفاء، وليس من شيم الرجال، فجدير بالرجل أن يحفظ مكانة زوجته وقدرها ولو كبر سنها، فإن المرأة بعد هذا السن الطويل، يكفيها أن تكون في البيت أماً أو حتى جدة؛ يؤخذ رأيها في المنزل، وتصبح بالخير وتمسى به، وتسمع من طيب الكلام وجميل الحديث ما يحفظ لها كرامتها وإنسانيتها، ويجعلها تعيش في عز وأمن وكرامة، وهذا هو اللائق بالبيوت التي بنيت على كلمة الله عز وجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في خطبة الوداع: {اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم -أي: أسيرات - أخذتموهن بكلمة الله، واستحللتم فروجهن بشريعة الله} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 12 الطلاق الواجب أما الطلاق الواجب: فهو في مثل ما ذكر بعض الفقهاء، إذا حكم الحكمان كما قال تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ورأيا أن الحياة بينهما مستحيلة، وأنها ضارة لهما شرعاً وديناً، أو حتى دنيا، فحكما بالفراق. ومثله المولي كما يقول تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فلو حلف ألا يأتي امرأته، ثم أصر على ذلك، ورفض فيئة إليها بعد التربص أربعة أشهر؛ فإنه يجب عليه حينئذ أن يطلقها. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 13 الطلاق المحرم فهو أحياناً حرام لا يجوز، وهو وذلك مثل الطلاق البدعي؛ أن يطلقها وهي حائض، وهذا لا يجوز، أو يطلقها في طهر قد جامعها فيه أيضاً فهذا لا يجوز. أما إن كانت حاملاً فإنه يجوز له أن يطلقها بكل حال. ومثله أيضاً: أن يجمع للمرأة عدة طلقات، يطلقها مرتين أو ثلاثاً في مجلس واحد أو في طهر واحد، فهذا لا يجوز، ولذلك يقال: إن رجلاً من الأعراب جاء إلى ابن عباس فقال له: إني طلقت -وكان غاضباً يتطاير الشرر من عينيه- فقال له: إني طلقت امرأتي مائة طلقة، فماذا ترى يا ابن عباس؟ فرأى ابن عباس أن هذا الرجل غاضب، وأنه يخشى منه شراً، فقال له: عندي لك رأي. قال: ما هو؟ قال: أنا أسامحك عن سبع وتسعين طلقة، واذهب إلى غيري ليفتيك في أمر الثلاث الباقيات، وما ذلك إلا لأن السبع والتسعين أصلاً هي عبث ولغو لا قيمة لها، فحلله منها ابن عباس جزاه الله خيراً، أما الثلاث الباقيات التي عليها الكلام، فقال له: اذهب إلى غيري. وقيل لـ ابن عباس أيضاً: ما تقول في رجل طلق امرأته عدد نجوم السماء؟ فقال: يكفيه من ذلك عدد كواكب الجوزاء، قال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أي: الطلقة الأولى طلقة رجعية، والطلقة الثانية رجعية، ثم بعد ذلك ما هناك إلا أن يمسكها بإحسان ومعروف، أو يسرحها بإحسان ومعروف أيضاً، (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وهذه هي الطلقة الثالثة، ولما طلق عبد الله بن عمر رضي الله عنه زوجته وهي حائض؛ أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه- وأمره أن يراجعها، ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن بدا له بعد ذلك أن يطلقها فليطلقها في طهر لم يجامعها فيه. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 14 لماذا يقع الطلاق؟ ثم ننتقل إلى السؤال الكبير المهم: لماذا يقع الطلاق؟ الجزء: 79 ¦ الصفحة: 15 مفاسد هذا الاعتقاد وأقول: إن هذه الحقيقة المرة لا بد أن يسمعها الجميع؛ لأن اعتقاد السحر والجن والعين لا ينتهي عند مجرد الاعتقاد، بل يترتب عليه عدد من المفاسد العظيمة، فمن المفاسد التي تترتب عليه: الأمر الأول: ظلم الناس. فيقولون: سحرتها فلانة، ويسمون امرأة بعينها، أو يقولون: أصابتها فلانة بعينها، جارتها أو قريبتها أو زميلتها؛ لأنها غبطتها على ما رأت، أو فلان عانها أو سحرها، لأنه خطبها فرفضت فهذا من الظلم، والله تعالى لا يحب الظالمين، وهو من الظلم لعباد الله. الأمر الثاني: إتيان الكهنة والعرافين؛ وكثير من الناس خاصة النساء، تذهب إلى الكهنة والعرافين؛ إما ليصرفوا قلب زوجها إليها، أو لتعرف ماذا أصابها، وفي صحيح مسلم عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أتى عرافاً، فسأله عن شيء، لم تقبل له صلاة أربعين ليلة} من أتى عرافاً، أي: رجل أو امرأة، فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة. هذا ولو لم يصدقه، أما من أتاه فصدقه بما يقول، فوعيده أعظم من ذلك. ولذلك روى أصحاب السنن، وأحمد، والحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم} . وفي رواية: {فقد برئَ مما أُنزِلَ على محمد صلى الله عليه وسلم} . والعراف هو: الذي يدعي معرفة علم الغيب، فيقول: فلانة أصابتها فلانة، وفلانة وضع لها سحر في مكان كذا إلى غير ذلك. وبالمناسبة: لابد من إعلان الحرب على السحرة والعرافين والكهنة الموجودين اليوم في مجتمعنا، ويتصل كثيرون فيخبرون عنهم، ولا بد من فضح هؤلاء، ورفع أمرهم إلى أهل العلم والدعاة والمشايخ، فإن أمكن الاستعانة بالجهات الرسمية في إيقافهم عند حدهم، ومنعهم من العبث بالمجتمع، ونهب أموال الناس بالباطل فُعِلَ، وإن لم يمكن، فعلى أقل تقدير أن يفضحوا، ويبين أمرهم للناس ليتجنبوهم. الأمر الثالث: من مفاسد الاعتقاد بأن ما حصل بين الزوجين سببه العين أو السحر مثلاً: ضياع المال؛ فإن كثيرين ممن يدعون القراءة على الجن ويأخذون أموالاً، ثبت أنهم كذبة متأكلون، يضحكون على عقول السذج والمغفلين، ويدَّعي الواحد أن هذا فيه جني، وأن الجني تكلم على لسانه وهو كاذب، أقول: ثبت لي هذا في عدد من هؤلاء، وليس هذا في الجميع، فلا شك أن هناك من أهل الخير والعلم والذكر والإيمان من قد يقرأ على المصروع، وقد ينطق الجني على ما هو معروف، لكن إثبات حالة من هذه الحالات أمر يحتاج إلى تثبت وتيقن، بل بعض هؤلاء يأكلون أموال الناس بالباطل، أما السحرة فحدث ولا حرج، فقد يطلب من الإنسان خمسة آلاف ريال، أو عشرة آلاف ريال قبل أي شيء. الأمر الرابع: أن هذا يجعل الزوجين يعرضان عن الأسباب الحقيقية، فقد يكون سبب ما جرى تقصيراً من أحد الزوجين، فلا ينشط لدفع هذا التقصير، ولا لمعرفة السبب الحقيقي وإزالته؛ لأنه اعتقد واعتمد على أن الأمر لا يعدو أن يكون جناً أو سحراً أو عيناً أو ما أشبه ذلك، ثم إنه ليس من مصلحة الزوجين أن يعقدوا المسألة بهذه الطريقة، ويجعلوها بهذه الصعوبة، فيقول: القضية سحر أو جن. هذا تعقيد وتصعيب للأمر، ولو قلنا: إن القضية لا تعدو أن تكون سوء تفاهم بين الزوجين، لأمكن حله عن طريق بعض التعليمات والتوجيهات وبعض النصائح، وغير ذلك من الأمور التي ربما يمر شيء منها. فعلى كل حال لو فرض أن الأمر وصل إلى ما وصل إليه، فيجب على الإنسان أن يؤمن بأن الخير فيما يختاره الله تعالى له قال الله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] ولا يليق بالمسلم ولا بالمسلمة أن يذهب إلى أحد لكي يضيع دينه في سبيل عرض من الدنيا قليل. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 16 عزو الطلاق إلى أسباب غامضة كالعين والسحر ويميل الكثيرون في موضوع الطلاق إلى تفسيره بالأسباب الغامضة، ويربطون الحدث بها، فمثلاً أكثر من رأيت وسمعت من الأزواج المطلقين والزوجات المطلقات، أكثر من سمعت يعزون أيّ تغيير في الحياة الزوجية، أو عزوف من أحد الزوجين عن الآخر أو فراق، يعزونه إلى أحد ثلاثة أسباب: إما الجن أو العين أو السحر. وهم بهذا يهربون من تحمل المسؤولية، ويقنعون أنفسهم بأنه لا يد لهم فيما جرى، وأن ما جرى محض قضاء وقدر، ليس لهم فيه حيلة ولا اختيار ولا سبب. ولا شك أن المسلم يؤمن بقضاء الله وقدره، فالإيمان بالقضاء والقدر هو من أركان الإيمان، والمسلم أيضاً يؤمن بالجن، بل ويؤمن بأن الجني قد يتلبس بالإنسي، وهذا جاء في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فأثبت المس في القرآن. ويؤمن المؤمن- أيضاً- بالعين، وقد جاء في القرآن: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم:51] قال بعض أهل العلم: أي بالعين، وفي الحديث الصحيح: {العين حق، ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين} وقال عليه الصلاة والسلام: {إنها تُورد الجمل القدر، وتورد الرجل القبر} . فالعين حق، وكذلك يؤمن المسلم بالسحر، وأنه يقع ويؤثر كما ذكر الله تعالى في القرآن، ولكن الحكم بأن فلاناً وفلانة فيهما عين، أو بأن فلاناً أصابه سحر، أو فلانة أصابها مس، هذا أمر يحتاج إلى تثبت وتأكد، وأقول: اطلعت على حالات كثيرة، يدعي أصحابها الجن، وتبين لي خلافها. اتصل بي إنسان يوماً من الأيام، فادعى أنه أصابه مس من الجن بالهاتف، فما زلت معه حتى اقتنع هو فعلاً بأن القضية لا تعدو أن تكون نوعاً من التمثيل. فتاة أيضاً تشعر بأن أهلها معرضون عنها، لا يعطونها قدراً من الاهتمام، فتتظاهر بأنها مصروعة أو ممسوسة، حتى تلفت نظرهم إليها؛ ليقبلوا عليها ويهتموا بها، وقد يكون لسبب آخر. وأيضاً كثيرون يدعون أن ما أصابهم سحر، وأنا أعلم أن ما أصابهم ليس كذلك، وإنما هو بأسباب أخرى، إما عدم وفاق بين الزوجين، أو لعدم محبة، أو لغير ذلك من الأسباب. فلا ينبغي أن نصدق من أول وهلة، أن ما بين الزوجين هو سحر أو جن أو عين أو غير ذلك، بل ينبغي أن ندرك أن هناك أسباباً كثيرة، غالباً ما تكون من عدم وفاق بين الزوجين، أو تكون خطأً من أحدهما تجاه الآخر، أو تكون انصرافاً في قلب المرأة عن الزوج، أو في قلب الزوج عن المرأة، وقد لا يبين هذا من أول الأمر، فأيام الزواج الأولى كافية في الحكم، فقد تظن الزوجة أن الزوج يحبها وليس كذلك، ثم بعد فترة يتغير الحال. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 17 قد يقع لأسباب تافهة في كثير من الأحيان تكون الأسباب تافهة، بل في غمرة الغضب والانفعال تنفلت الأعصاب، خاصة حين يكون الزوج عصبياً لا يملك نفسه، وتكون المرأة أيضاً لا تحسن سياسة الزوج، فربما طلقها -مثلاً- لأنها لم تحسن طهي الطعام؛ أو لأنها أحرقت الثوب حين كوته؛ أو لأنها تأخرت في إيقاظه عن الدوام أو لغير ذلك. وهذا طلاق يتبعه غالباً الأسف والندم القاتل، فيذهب المطلق عند أبواب العلماء، يلف يمنة ويسرة، ويلتمس المعاذير ويبحث عن مخرج له، فمرة يقول: طلقتها وهي حائض؛ لأنه عصبي، فيقول: أنا طلقت زوجتي عدة طلقات، لكن مرة وهي حائض، ومرة طلقتها في طهر جامعتها فيه، ومرة جمعت لها طلقتين أو ثلاثاً في كلمة واحدةً، ومرة جعلته طلاقاً معلقاً، فقلت: إن خرجت فأنت طالق فخرجت، أو إن ذهبت إلى أهلك فأنت طالق فذهبت إلى غير ذلك. ومما يذكر ويحكى: أن الفرزدق كان عنده امرأة يحبها اسمها نوار، فطلقها فندم على ذلك ندماً شديداً، فأنشأ يقول: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت روضتي فخرجت منها كآدم حين أخرجه الضرار فأصبحت الغداة ألوم نفسي بأمر ليس لي فيه اختيار ثم أراد الفرزدق زوجته، فذهب إلى ابن الزبير يريد أن يراجع زوجته وذهب إلى ولده حمزة؛ ليشفع له عند أبيه، وذهبت نوار إلى زوجة عبد الله بن الزبير تقول لها: بلغي زوجك بأني لا أريد الفرزدق فلا يحاول؛ إنني لا أريده؛ لأنه رجل فيه كذا وكذا، فكان كل ما صنعه حمزة نهاراً من إقناع والده بالشفاعة؛ نقضته زوجته ليلاً، حتى غلبت المرأة، وقرر ابن الزبير أن لا يعود الفرزدق إلى زوجته، فقال الفرزدق يهجو عبد الله بن الزبير ويخاطبه: أما البنون فلم تُقْبَل شفاعتهم وشُفِّعَت بنت مظعون ابن زبانا ليس الشفيع الذي يأتيك متزراً إلى آخر البيت. المهم أن ابن الزبير قال للمرأة: إن هذا رجل شاعر، فإني أخاف أن يهجوني، فلو رجعت إليه، فقبلت الرجوع إليه، ثم طلقها مرة أخرى، وأشهد على هذا الحسن البصري وطلاب حلقته، فجاء وهم جالسون فقال: اشهدوا أني قد طلقت زوجتي نواراً، فشهدوا عليه، ثم ندم بعد ذلك. وهكذا يطلق يوماً ثم يندم يوماً آخر، ولهذا كانت العرب تذم الإنسان المزواج أو الذواق المطلاق، بل جاء في هذا حديث -لكنه لا يصح، في ذم الذواق المطلاق أو المزواج المطلاق، يتزوج بكرةً ويطلق مساء. إن من الثابت أن الأسباب التافهة المتكررة، هي التي تقوض الحياة الزوجية غالباً، وتجعل استمرارها أشبه بالمستحيل، وتقضي على كل معاني السعادة، فما إن يتذكر الرجل زوجته -مثلاً- وهو غائب عنها أو بعيد، حتى تقفز إلى ذهنه مجموعة من الصور والمشاكسات والمشاكل، وفي النهاية تعطي هذه المشاكل الطرفين قناعةً بأن الطلاق هو الحل، أما المشاكل الكبيرة والمشاكل العويصة المزمنة، فهي أقل تأثيراً وأقل ضحايا. فغالب الأسباب هي أسباب صغيرة، ولكنها كثيرة تتكرر يومياً، ولهذا يتعجب الكثيرون، لماذا طلق فلان فلانة مع أنه ما حصل شيء؟! هو يحبها، وما نعرف منهم شيئاً!! أمور بسيطة تافهة، ولكن هذه الأمور البسيطة التافهة كثرت، وكما قيل: إن السيل من نقط، حتى آلت إلى مثل هذا الأمر. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 18 أسباب الطلاق هناك أسباب حقيقية وكثيرة للطلاق منها: الجزء: 79 ¦ الصفحة: 19 المعصية سبب في الطلاق من أسباب الطلاق أيضاً: المعصية، وكم من زوجة تركت زوجها لأنه لا يصلي، أو يتعاطى المخدرات، أو يحمل أفكاراً فاسدة، أو يسافر إلى الخارج للفساد، أو يتعامل بالربا وما حرم الله عز وجل أو غير ذلك، وكم من طلاق كان سببه كثرة سفر الزوجين إلى الخارج، مرة لقضاء شهر العسل، ومرة لقضاء الإجازة، وثالثة ورابعة! أو كان الطلاق نظراً لاحتواء البيت على ما حرم الله عز وجل، كمشاهدة التلفاز، وما يعرض فيه من مشاهد مؤذية فاسدة، أصبحت يوماً بعد يوم تتردى وتنهار، ويعرض فيها ما يهدم الدين والأخلاق، أو مشاهدة أشرطة الفيديو أيضاً التي أصبحت الجهات المراقبة لها تتسامح فيها أكثر وأكثر؛ فيعرض فيها كل شيء، اللهم إلا الفاحشة، أما مشاهدة ما سوى ذلك فهو أمر موجود. فكيف ترى في بيت تعرض على شاشاته في كل غرفة من غرفه مشاهد تحكي أوضاع المجتمعات الغربية، وما فيها من تقهقر وانحلال وإباحية وفساد؟! فالرجال والنساء بعضهم مع بعض يرقصون أو يتعاطون الخمور، وقد بدت السيقان والأفخاذ والأذرع والصدور والنحور والشعور وغير ذلك! كيف ترى هذا البيت الذي يُعصى الله تعالى في كل زاوية من زواياه، وفي كل ركن من أركانه، أنه يقوم على أساس صحيح سليم؟! أو بيت آخر تصدح فيه كلمات الغناء الماجن الخليع، كيف تقوم له قائمة؟! أو بيت يعج بالخدم والسائقين، ممن ليس لهم حاجة في المنزل، وممن ليس عليهم رقابة، وليس لهم أدنى قدر من التربية. ، فمثل هذه المعاصي في كثير من الأحيان هي من أسباب الطلاق. ومثله أيضاً ما يحدث في الزواج، سواءً في ليلة الزواج من مخالفات شرعية، كالاختلاط، والأغاني المحرمة، والتصوير وسوى ذلك، أو حتى قبل الزواج. ومن ذلك: الإسراف في المهور، وهذه القضية لا أدري متى تنتهي، إنها ما زالت عقبة تحول بين كثير من الناس وبين إعفاف فروجهم بما أحل الله عز وجل، وقد نهى عنها عمر رضي الله عنه كما في سنن أبي داود وغيره: [[لا تغالوا في صدق النساء]] والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {أكثرهن بركة أيسرهن مؤنة} فينبغي أن نحمل على عواتقنا تيسير مؤنة الزواج بقدر المستطاع، وليست القضية منافرة أو مفاخرة أو مباهاة بمقدار المهر الذي دفعه فلان! فإذا كنا نعرف جميعاً حجم المشكلة الاقتصادية التي يعانيها الشباب الآن، وهو يجلس إلى الثانية والعشرين من عمره، وهو طالب في الجامعة، وبعد ما يتخرج قد يجد صعوبة في التوظف في حالات كثيرة، وإن توظف قبل ذلك، توظف بمرتب لا يكفيه، فمتى يتمكن من توفير المهر، الذي قد يصل إلى أربعين أو خمسين أو ستين ألف ريال؟ ثم إذا وفر المهر، فمتى يوفر المنزل؟ ولو كانت شقة صغيرة؟ ومتى يتمكن من تأثيثه؟ إلى غير ذلك من التكاليف الباهظة الصعبة، التي أصبحت تثقل كواهل الشباب، وإن كنا نشكر -بهذه المناسبة- اللجان التي قامت على مساعدة الشباب الراغبين في الزواج، سواءً في هذا البلد أو في الرياض أو في جدة أو في غيرها. ومن ذلك -مما يتعلق بقضية المعصية-: الغفلة عن ذكر الله تعالى في كل حال، ذكر الله تعالى عند الدخول على المرأة، وعند دخول المنزل، وعند معاشرتها، وعند الصباح، وعند المساء وغير ذلك؛ فإن ذكر الله تعالى يحفظ العبد بإذن الله عز وجل من كيد وشر شياطين الجن والإنس. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 20 سوء التربية من أسباب الطلاق: سوء التربية؛ ومن أمثلة سوء التربية: الدلال الزائد للبنت قبل الزواج، وعدم تعويدها على تحمل مسؤولية الزوج أو مسؤولية المنزل، خاصة حين تكون وحيدة أبويها، فيراعون ظروفها، وأنها الآن مشغولة بالدراسة أو مشغولة بغير ذلك، أو لا يريدون أن تتحمل أية مشقة، فيكون نتيجة ذلك أنها تكون غير قادرة على المشاركة في إقامة الحياة الزوجية. ومن سوء التربية: ترك الولد أو البنت للتلفاز والصحيفة، فتجد البنت -مثلاً- تقرأ مجلة سيدتي أو حواء أو الحسناء أو الشرقية ولا تعرف من ذلك إلا هذه الصحف والمجلات التي تغريها بكل نقيصة. فمثلاً: تقرأ في مجلة سيدتي: أول امرأة عربية تدير المؤتمرات! أو تقرأ: أول فتاة خليجية برتبة ملازم شرطة! فتأخذ من هذا أنه ينبغي أن يكون لها شخصيتها، ولها قوامتها، ولها سيطرتها، وأنه ينبغي أن تفرض شخصيتها على الرجل ولا تطيعه! ولذلك كان من أهم مهمات هذه المجلات، التي هي منابر هدم وتخريب وأحياناً ضرار، من أهم مهماتها: إغراء المرأة بأن تحارب من حولها، فهي تشجعها على رفع قوامة الرجل -مثلاً- حتى كتبت مرة إحدى المستغربات المسترجلات في صحيفة سعودية، تقول: الرجال يقولون: الرجال قوامون على النساء! فجعلته من كلام الرجال! الرجال يقولون: المرأة ناقصة عقل ودين. فجعلت كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً للرجال! أو تصور هذه الصحف الحياة العائلية للبنت على أنها ميدان حرب، وأنها يجب أن تخوض معركة مع زوجها، وتخوض معركة أخرى مع أبيها الذي يبتزها، وتخوض معركة ثالثة مع أخيها الذي أخذ الصلاحيات، وأصبح هو يخرج ويلعب ويسرح ويمرح، ويمنعها من الخروج في زعمهم، ومعركة رابعة وخامسة وسادسة فعبأوا هذه البنت، وحاولوا أن تكون قنبلة تحارب المجتمع وتسعى إلى تدميره. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 21 أسباب أخرى وأخيراً: فإن هناك أسباباً وهمية؛ مثل أن بعضهم قد يشك في زوجته، خاصة لو لم ير في ليلة الزواج ما يدل دلالة قاطعة على بكارتها، وينسى أن هذا الأمر ليس أمراً قاطعاً ضرورياً لكل امرأة، وقد يكون هناك أسباب وجيهة، وقد يكون هناك أمور لا يدري بها، وقد يكون عنده هو شيء من عدم الخبرة في مثل هذه الأمور، فتسرعه في إلقاء لفظة الطلاق، دون تبصر، ودون تثبت، ودون تأني، هو بلا شك غير محمود. وبعضهم أصلاً يشك ويوسوس في الطلاق، فهو لا يقبل من المرأة أي شيء، ويظن فيها بكل قول أو فعل أو حركة أو اتصال أو مكالمة، فبعض الناس يوسوسون في مثل هذا الأمر، ولا شك أن هذا ليس من شيم الرجال ولا من مكارم الأخلاق. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 22 تدخل الآخرين في الحياة الزوجية من أسباب الطلاق وهو من الأسباب المهمة: تدخل الآخرين في الحياة الزوجية. يروى أن أحد الصحابة رضي الله عنه، رأى من زوجة ابنه أمراً يكرهه، فأمره أن يطلقها، فطلقها الولد وهو حزين، فسمعه أبوه يوماً وهو يقول: فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تطلق فرق له وأمره أن يراجعها. وهذا أيضاً من مثالية أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وتقديرهم لظروف الآخرين، ظروفهم النفسية، ظروف التعلق القلبي والمحبة والارتياح مع المرأة، حتى لو كان الأب يجد فيها بعض ما لا يحب منها، أو كانت الأم كذلك. إن تدخل أهل الزوج -مثلاً- في الحياة الزوجية مع ولدهم؛ يعكر صفاء حياتهم، وكذلك تدخل أهل الزوجة يزيد الأمور تعقيداً، ولا داعي لأن أذكر صور التدخل بينهما، فهي ذات أشكال وصور كثيرة، ولكنها غالباً ما تتم على شكل وصايا من أم الزوجة لابنتها، تظن أنها تستطيع أن تستحوذ بها على الزوج وتكسب منه كل شيء، أما أم الزوج، فإنها تشعر في كثير من الأحيان، بأن بنت الناس هذه المرأة الغريبة الجديدة، قد اختطفت ولدها وفلذة كبدها من يدها، ولذلك فهي تعتبر أنه لا بد من الحيلولة دون ذلك، وعلى هذه الرحى تنطحن العلاقة الزوجية. وحكمة الزوجين وتفهمهما، من الممكن أن تضع حداً لتدخل أهل الزوج أو أهل الزوجة، فمن الممكن ألا يطلع الزوج أهله ولا الزوجة أهلها على ما يجري أولاً، ثم إذا علموا؛ فينبغي أن يعالج الأمر بالحكمة، ويعتبر أنه يمكن أن يواجههم بالكلام الطيب، فيقول: إن شاء الله يكون خيراً، وسوف ترضى وما أشبه ذلك، ولكن يبقى أنه يدرك أن الحياة الزوجية تخصه هو دون غيره، وهو الذي تولى عقدة النكاح وأمر الزواج. ومن واجب أهل الزوجين: الكف عن التدخل في خصوصيات الآخرين، وألا يكونوا سبباً في تدمير حياة ابنهم أو حياة ابنتهم، فمثلاً إذا تم الطلاق، فمتى سيتزوج الولد؟ بعد زمان طويل، نظراً لأن تكاليف الزواج كثيرة جداً. أما الفتاة فأمرها أصعب، فإن المرأة المطلقة عندنا، أصبح الكثيرون ينظرون إليها نظرة ريبة، لماذا طلقت؟ قد تكون غير صالحة للحياة الزوجية. وربما يتأخر زواجها، أو على الأقل لا يأتيها من هو كفء وملائم لها، فيتزوجها إنسان ليس مناسباً لها في كثير من الأحيان. وعلى أي حال، فإن الطلاق مصيبة في حق الزوج وفي حق الزوجة، ولذلك ينبغي ألا يسعى أهل الطرفين إلى إيقاع هذه المصيبة عليهما. أما التدخل من الأباعد، سواء أكانوا من الجيران أم الأصدقاء أم حتى من غيرهم، فهو مشكلة أخرى، تأخذ أيضاً طابع النصيحة، أو طابع التثبت من خبر سمعناه، سمعنا يا فلانة أن فلاناً فعل كذا أو قال كذا، أو يا فلان سمعنا أن فلانة اتصلت، أو قالت، أو خرجت، أو دخلت، أو فعلت. ولذلك ينصح الزوجان بعدم إفشاء أسرار الحياة الزوجية مهما كانت، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح- نهى الرجال والنساء عن ذلك، وكذلك ينصح الزوجان بأن يتفاهما على كل الأمور بينهما، ويجعلا تدخل الآخرين على أضيق نطاق، ولا يسمحا لأحد أن يتدخل في هذه الأمور الواقعة بينهما. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 23 عدم أخذ رأي الطرف المهم من الزواج من الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب أو بعض الأسر: عدم أخذ رأي الطرف المهم في الزواج؛ فربما يزوج الولد دون أن يؤخذ رأيه، يقول له أبوه: هذه بنت عمك، لا بد أن تتزوجها، وإذا لم تتزوجها فأنا لا يمكن أن أكلمك أو أقبل منك شيئاً وإلى غير ذلك، أو -وهذا كثير بالنسبة للبنت- ربما يعطي الأب البنت لولد أخيه أو قريبه دون أن تدري، وهذا لا يجوز، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيح: {لا تنكح البكر حتى تستأمر} أي: تستأذن، فلا بد أن يستأذنها أبوها، وإذنها أن تصمت على أقل تقدير، فإن وافقت وقالت: نعم. فهذا لا شك أنه نور على نور، أما أن يزوجها الأب دون علمها، ودون أن يأخذ إذنها وموافقتها، فهذا ظلم لها، وهو لا يجوز، كما قرره أهل العلم، ومن أفضل من قرر ذلك: الإمام ابن القيم في زاد المعاد. وكثير من الأسر يقولون: فلانة لفلان، هذا معروف منذ الطفولة، وكأنه قرار نافذ لا يمكن أن يرد، حتى لو كانت هي لا تقبل به. وبعض الأسر لا يزوجون إلا من الأسرة نفسها، وكأنهم من آل بيت النبوة، حتى آل بيت النبوة ليس لهم ميزة خاصة، لكن أحياناً أسر وقبائل وعوائل عادية، ومع ذلك يقولون: لا نزوج فلاناً! صحيح أنه رجل له مكانته وله فضله وجاهه وليس فيه شيء، إلا أنه من قبيلة أخرى، أما فيما يتعلق بالقبائل والشعوب، فهذا أمر آخر، والله المستعان! الجزء: 79 ¦ الصفحة: 24 المثالية عند الزوجين ومن أسباب الطلاق أيضاً: المثالية عند الزوجين؛ بحيث ينتظر كل واحد منهما من الآخر أن يقدم له كل شيء، على حين أنه هو لا يملك أن يبادله المثل، والحديث يقول فيه الرسول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم وهي نصيحة عظيمة ثمينة: {وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه} فينبغي أن يتصور الإنسان أخطاءه هو، حتى يقدر أخطاء زوجته، ويتصور نقصه هو حتى يستطيع أن يهضم نقصها، فإن نظرت فوجدت فيها شيئاً من النقص في الجمال، فتذكر أنك أنت لست من الجمال في تلك الدرجة التي توصف وتذكر، وإن وجدت في زوجتك شيئاً من التقصير معك؛ فتذكر أيضاً أنك مقصر معها، وإن وجدت في زوجتك شيئاً من الجفاء فتذكر أنك أنت الآخر عندك شيء من الجفاء والقسوة، وإن وجدت أن فيها تقصيراً في عبادتها، فتذكر أنك أنت الآخر مقصر ولو أنك قمت عليها وعلمتها لتعلمت وتفهمت، فإن كنت أنت الزبير فانتظر أسماء، وهكذا. أما أن يكون الواحد منا يتجاهل عيوبه وأخطاءه وزلاته ونقائصه وتقصيره، ويريد أن تكون زوجته مثالية، في جمالها ودينها وخلقها وعقلها ومنطقها وعبادتها وعلمها وذكائها، فهذا لا يكون. قال رجل لآخر: ابحث لي عن زوجة. قال: ما صفاتها؟ قال: أن تكون جميلة دينة صينة عاقلة طويلة بيضاء حسناء خلوقة فصيحة. فقال: قد وجدتها قد وجدتها! عليك بقيام الليل وصيام النهار، فهذه من الحور العين، لعل الله أن يبلغكها في الجنة! 1- المقارنات: من المثالية: المقارنات، وطالما دمرت المقارنات البيوت، المقارنة مع الآخرين والأخريات، فمثلاً الزوج يقارن زوجته في شكلها بالأخريات، وربما وقعت عينه على امرأة، إما من غير قصد وإما لمعصية أنه عصى الله ونظر إلى مالا يحل، فنظر إلى امرأة في السوق، أو على شاشة التلفاز أو بما بلي به الناس من الأفلام التي دمرت أخلاقهم وعقولهم وبيوتهم وأسرهم، أو على صدر مجلة أو صحيفة، فأصبح يقارن زوجته بهذه، فيجد زوجته دونها، ولذلك يعزف عنها ويعرض عنها، يقارنها في الأخلاق، ويرى أن زملاءه وأصدقاءه إذا جلسوا وتحدثوا، فربما تكلم واحد منهم عن زوجته، فذكر شيئاً من جميل خلقها على سبيل قصة ذكرها أو حادثة أو مناسبة، فأصبح دائماً وأبداً يعقد آلاف المقارنات بين زوجته وبين ما يسمعه من صديقه فلان وزميله علان، وبينما رأى في المكان الفلاني وما سمع هنا وهناك، وبالتالي كل يوم يمر يزيده قناعة بأنه مهضوم الحق، وأن زوجته ليست هي المناسبة لمستواه وقدره ومقامه. وكذلك الزوجة تجلس مع زميلتها، فتجد أن واحدة منهن تقول: زوجي أعطاني كذا، فتقول في قلبها: أنا زوجي ما أعطاني. وتقول الثانية: زوجي أعطاني كذا، فتقول: مع الأسف زوجي لا هذا ولا ذاك، والثالثة تقول: زوجي خرج بي إلى السوق، وزوجي سافر بي. فتقول في قلبها: أنا مسكينة قعيدة البيت، لا أخرج من البيت أبداً! وهكذا كلما سمعت من زميلاتها بدأت تقارنه بنفسها، وتنسى أنها هي قد تكذب -أيضاً- على زميلاتها، وربما يكون كلامهن معها هو الآخر كذب، فإن هذه المرأة التي تقول في نفسها: زوجي ما أعطاني شيئاً، ولكنها تقول لزميلاتها: والله أنا زوجي لم يقصر معي؛ بل اشترى لي من الذهب كذا، وسافر بي إلى كذا، وخرج بي إلى كذا، وقال لي كذا، وتتشبع بما لم تعط، وربما يكون ما قالته هي لهن -وهو كذب- سبباً في مقارنات يعقدنها مع أزواجهن. فقد تكون كل واحدة من هؤلاء النسوة تكذب على الأخريات، وهذا الكذب قد يكون سبباً في تدمير البيوت، لأن المقارنة هنا، تبدأ، فتقارن الزوجة بين زوجها وبين أزواج زميلاتها أو صديقاتها أو حتى أخواتها، فزوج فلانة فعل كذا، وأتى بكذا، وقال كذا. فتبدأ المقارنة في الشكل -كما قلت- أو المقارنة في الأخلاق، أو المقارنة حتى في نمط الحياة القائمة بينهما، كل اثنين عبارة عن شركة بينهما نمط خاص من الحياة، لا ينبغي أن يقارن بينه وبين غيره، أي أن شخصية فلان لا يمكن أن تقارن بفلان، وهكذا المرأة كل واحدة لها شخصيتها المميزة عن غيرها. والمقارنة أيضاً تكون في سيطرة الرجل على زوجته أو تسامحه معها، أنا -مثلاً- رجل متسامح مع زوجتي، فإذا جلست مع زملائي؛ اكتشفت أن فلاناً رجل قوي الشخصية شديد القوامة على زوجته، فترتب على هذا أني أشعر بالهضم! ولذلك أقول: إن زوجتي قد تسلطت علي، وأخذت مني حقوقاً إلى غير ذلك، فلا بد أن أثبت شخصيتي أمامها!! فتجد أن الرجل يثور، ويريد أن يستعيد كرامته المسلوبة وشخصيته وقوامته، وربما كان ذلك سبباً في حصول الطلاق، والعكس مع أنه من الممكن أن توجد حياة زوجية بين رجلين، ويكون الزوج متسامحاً مع زوجته، والتسامح لا يعني ضعف الشخصية بحال من الأحوال، ومن الممكن أن يعيش الزوجان حياةً سعيدةً، ويكون الزوج قوي الشخصية نافذ الأمر على زوجته، وقد تطبعت هي على هذا الأمر وألفته وتقبلته بقبول حسن، ولا ينبغي أن يقارن الإنسان بين هاتين الحياتين أو هاتين الصورتين. وعلى أي حال، فإنه ينبغي أن يعلم أنه لا تخلو حياة زوجية من مشكلات، فلا ينبغي أن نكون مثاليين في تصورنا للحياة، اللهم إلا حياة الشيوخ المسنين، التي لم يبق منها شيء إلا صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير، أما هذه المشاكل الصغيرة أو المشاكسات الصغيرة، فهي كما قال بعضهم: هي نوع من البهارات التي تجدد الحياة الزوجية، متى كانت هذه المشاكل بالقدر المعتدل، ولم تترك آثاراً بعيدة المدى في نفس أحد الزوجين. 2- قضية الحب التي غرسها الإعلام: من المثالية أيضاً: التعويل على قضية الحب التي غرسها الإعلام الفاسد في النفوس، من خلال المسلسلات وغيرها؛ فكثيرون يبنون حياتهم الزوجية على أحلام الحب الخيالية المثالية، وينسون الفرق بين امرأة للحظة أو لساعة أو لليلة فيما حرم الله عز وجل، وبين امرأة للعمر كله، بل للدنيا والآخرة فيما يحبه الله تعالى ويرضاه. وكثير من الشباب والفتيات يتحدثون عن مبدأ الحب قبل الزواج الذي، تلقوه من خلال المعلم الفاسد المنحرف الذي يسمى التلفاز، ومن خلال شريط الفيديو، ومن خلال المجلة الهابطة، ومن خلال القرين السيئ أو القرينة السيئة، فتلقوا مبدأ الحب قبل الزواج، ولا شك أن الكثيرين منكم سمعوا وقرءوا ما كتبته -مثلاً- كريمة شاهين، في مجلة سيدتي، أو سمعوا أو قرءوا ما كتب في روايات عبير وغيرها، التي تباع -لا أقول في المكتبات- بل تباع في البقالات، وقل شاب يقرأ إلا وقد اطلع على مثل هذه الأمور، واعتبر أن ما فيها هو المثل الأعلى لحياته!! وأود أن أشير بهذه المناسبة، إلى أن الإعلام يقدم لنا نماذج من الفنانين والممثلين والفنانات وغيرهم، هذه النماذج كلها نماذج فاشلة على كافة المستويات، هي من أقل النماذج نجاحاً حتى في حياتها الزوجية، وليس من الأسرار أن نقول إن الممثلين والممثلات والفنانين، أغلبهم فاشلون في حياتهم الزوجية، ولم يكد ينجح أحد منهم في إقامة حياة سعيدة، إلا بعد ما اعتزل الفن وتاب إلى الله تعالى؛ فكيف يُقتدى بهم وهذه أحوالهم؟ فضلاً عن انحرافهم عن طريق الله تعالى ومخالفتهم لأمر الله عز وجل، لكن حتى في دنياهم وحتى فيما يظن أنهم ناجحون فيه هم في الحقيقة فاشلون مخفقون، ولعل من أسباب اشتغالهم بمثل هذه الأمور أنهم فشلوا في حياتهم الخاصة، فتلهوا بمثل هذه الأمور العامة. 3- استحضار الصور الجميلة: من المثالية أيضاً: استحضار الصور الجميلة التي تراها العين -كما ذكرت قبل قليل- وينسى هؤلاء أن صناع السينما من اليهود الذين يهدفون إلى تدمير الحياة الاجتماعية في بلاد المسلمين خاصة، ينتقون أجمل الصور ويقدمونها للناس؛ للإغراء والفتنة والإثارة وتدمير البيوت، ولذلك لا غرابة أن يكون أهم أهداف دعاة الإسلام هو ترسيخ دعائم الحياة الزوجية الاجتماعية، ومنابذة ومخالفة الفكر والمكر اليهودي ومن ورائه الفكر والمكر العلماني، الذي يتسلل من خلال الإعلام الفاسد في بلاد الإسلام. 4- وجود علاقة سابقة بين الزوجين: ومن المثالية: وجود علاقة سابقة بين الزوجين، يحكمها التصنع والتَّعَمُّل والمجاملة، سواء علاقة عبر الهاتف أو حتى أكثر من ذلك، فلا تصمد هذه الصورة الخيالية المليئة بالمجاملة والمليئة بالمثالية، لا تصمد على محك الواقع، وقد يشك أحدهم -أيضاً- في الآخر بعد الزواج، أنه يحدث منه خيانة، كلما رأى الزوج زوجته تتصل بالهاتف، أو وجد مكالمات طويلة أصابته الشكوك والظنون. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 25 عدم مراعاة التكافؤ بين الزوجين من الأخطاء التي يقع فيها الشباب أحياناً: عدم مراعاة التكافؤ والتناسب بين الزوجين أي: عدم مراعاة المستوى بينهما، فمثلاً: المستوى العقلي، كون المرأة على مستوى والرجل على مستوى آخر، فقد يكون هو ذكياً جداً وهي دون ذلك، عندها بساطة أو سطحية، أو العكس فقد تكون المرأة ذكية جداً والرجل مغفل يؤخذ ما معه، فهذا لا شك من أسباب عدم الوئام بين الزوجين. ومثله المستوى الاجتماعي، كون المرأة من مستوى وهو من مستوى آخر، فهي من طبقة عالية ذات مكانة وينظر إليها في المجتمع، وهو من طبقة متوسطة الحال، أو فقيرة أو بعيدة أو ضعيفة، وكذلك المستوى الاقتصادي المادي، ومثله المستوى النفسي والخلقي، وهذا كثيراً ما يغيب عن الناس. فأحياناً قد يكون سبب الفراق وعدم الوئام بين الزوجين أن الطِّبَاع لم تتفق، أي ما تراكبت طباع الزوج مع طباع الزوجة، فالتصرفات التي تفعلها لا تعجبه وليس فيها خطأ، و0التصرفات التي يفعلها هو لا تعجبها، وبالتالي دائماً هي تنتقده وهو ينتقدها، مع أنه ليس هناك شيء واضح، لكن ليس هناك اتفاق وانسجام في الطباع، وهذا يمكن أن يعرفه الإنسان من السؤال عن أمها وأخوالها، وكما يقول العوام في أمثالهم: قبل أن تضمها اسأل عن أمها. وكذلك معرفة إخوانها، ومدى إمكانية انسجامه معهم، والسؤال عن أخلاقها هي أيضاً وطبيعتها، وهل هي امرأة اجتماعية أو انعزالية، وهل هي محبوبة، إلى غير ذلك من الأخلاق التي يمكن معرفتها من خلال السؤال عن أحوالها. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 26 عدم الدقة في التحري قبل الزواج ولعل هذا من أكبر وأخطر الأسباب، فبعض الشباب الذين يقدمون على الزواج، يركزون على جانب واحد فقط كالجمال مثلاً، فيبحث عن الجميلة، ويركز على الصفات الجسمية، ولكنه يغفل عن الجوانب الأخرى، فبعد ما يتزوج قد يجد الجمال، لكن الجمال من الممكن أن يذبل خلال شهر أو شهرين أو حتى سنة، ثم تظهر بعض السلبيات الأخرى التي تجعل الحياة مستحيلة، فأي قيمة لجمال يصاحبه غرور؟ أي قيمة لجمال ليس معه عفة؟ وأي قيمة لجمال ليس معه تربية حسنة؟ وبعض الشباب يقول: أبحث عن ذات الدين، ولا شك أن هذا هو ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: {فاظفر بذات الدين تربت يداك!} ولكن مع ذات الدين، لا بد أن يكون الإنسان معتدلاً في بحثه؛ لأن بعضهم قد يبحث عن ذات الدين فيسئ إليها، فبعد ما يتزوجها وهي ذات دين، ربما تصوم النهار وتقوم الليل، وبعد ذلك يقول: والله لم أحبها، لماذا يا فلان؟ قال: لأنها امرأة ليس فيها أي قدر من الجمال، مواصفات الجمال معدومة فيها. أي فأنت هنا لم تحسن إليها بل أسأت إليها، والرسول عليه السلام طلب منك أن تبحث عن ذات الدين لتحسن إليها، وربما تدخل بها الجنة، أما أن تبحث عنها حتى تؤذيها وتضايقها في البيت، وتضطهدها وتظلمها، وربما تقبحها في شكلها أو أمام الآخرين فهذا لا يسوغ، دعها عند أهلها يرزقها الله تعالى من هو خير منك، وقد يرزقك الله تعالى من هو خير منها. فعلى كل حال، ينبغي أن يراعي الإنسان الموضوعية والاتزان والشمول عند البحث، فلا يركز على جانب واحد فقط، فإذا وجده بحث عن الجوانب الأخرى التي ربما فقدها. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 27 عدم النظر إلى المخطوبة من الأسباب: عدم النظر إلى المخطوبة؛ فإن كثيرين لا ينظرون إلى المرأة قبل أن يتزوجوها، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالنظر إلى المخطوبة، أمر المغيرة وغيره كما في الصحيح وقال: {انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً} وقال عليه الصلاة والسلام: {إذا ألقى الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فلينظر إليها، فإنه أحرى أن يؤدم بينهما- أو فإن استطاع- أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل} وكل هذه أحاديث صحاح، وأَمرُ الرسول صلى الله عليه وسلم كله بركة، وإن غضب الناس، فربما من أول نظرة، يشعر الإنسان بأنه لا يحب هذه المرأة، فلا يسيء إليها ويهضمها ويظلمها، بل يدعها عند أهلها ويبحث عن غيرها، وهي أيضاً ربما تجد غيره أفضل منه. بعض الناس أيضاً ينظر نظرة لا تنفع ولا تسمن ولا تغني؛ لأنها نظرة خاطفة، أو نظرة عابرة، لا تدل ولا تفيد شيئاً، أو ينظر بعدما تم كل شيء، وهذه النظرة أيضاً لا تنفع؛ لأنه لو وجد في نفسه عدم قبول، فإنه لا يستطيع أن ينسحب، وقد تم كل شيء. بعضهم قد يكتفي بوصف الأهل، فهذه الأم -مثلاً- ذهبت لتنظر إلى بنت فلان، وقد تكون فتاة ذكية خلوقة طيبة خدومة، فلما دخلت هذه المرأة الضيفة وهي لا تعرفها، أقبلت إليها وحملت عباءتها، ورحبت بها وأجلستها، وقدمت لها القهوة والشاي، فأعجبت المرأة بها، فلما رجعت أصبحت تصفها لولدها وصفاً؛ لأنها لم ترَ منها إلا المحاسن، حيث أعجبت بخلقها وأدبها وتلطفها وخدمتها، ثم يأتي الولد، فلا يجد الوصف الذي وصفته أمه أو أخته أو قريبته، والحل بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أن ينظر إليها. والنظر يعطي الإنسان مسؤولية، لأنه لا يمكن أن يقول: ما وجدت الجمال. ! فسيقال له: أنت نظرت بعينك، لم يكن هناك وصف ولا وسيط ولا شيء، نظرت بعينك وعينك لا تخونك! وبعض الشباب -مثلاً- ليس لديه قدرة على تصور الأمر، ربما قبل الزواج تفكيره محدود، فالتفكير الوحيد عنده هو أن يفكر في امرأة تعفه لا غير، أو ينظر نظرة مثالية في بناء بيت الزوجية والعلاقة التي يمكن أن تقوم بينه وبين الفتاة، ولهذا لا يكترث كثيراً لمعرفة المواصفات في شريكة العمر ورفيقة الدرب، ولذلك نحن نلوم الشباب على تأخير الزواج لما في ذلك من المضار والمفاسد، ولكننا لا نلومهم أبداً إذا كان تأخيرهم بسبب مزيد من البحث والتحري؛ لئلا تظلم نفسك أو تظلم غيرك، فكون الإنسان تأخر وهو يبحث، ولكن يقول: ما وجدت المرأة المناسبة. شريطة أن تكون الشروط معتدلة، هذا لا يلام، أما كونه يقدم إقداماً عشوائياً، فهذا لا شك ضرر عليه وعلى الفتاة وعلى المجتمع. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة الجزء: 79 ¦ الصفحة: 29 جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة في أفغانستان السؤال هذا أخ يسأل عما سبق أن تكلمت فيه في إحدى المحاضرات عن المجاهدين الأفغان، ويقول: إنك تكلمت عن الحزب الإسلامي وعن الأحزاب الأخرى، ولم تتكلم عن جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، وعن الشيخ سميع الله، يقول: إنك تركته لأنه ليس له جبهة ذات تنظيم معترف بها من قبل الأحزاب الأخرى، مع أنها إحدى الجماعات الإسلامية، التي أبلت بلاءً حسناً في معاركها مع الشيوعية، وهي أول جماعة حوربت من أجل دينها وعقيدتها إلى غير ذلك؟ الجواب أقول: الذي أذكر أنني تكلمت عن هذه الجماعة، بل دعوت الإخوة السامعين إلى ضرورة محادثة الإخوة في أفغانستان من قادة الجهاد، إلى إشراك هذه الجماعة في أية حكومة تقوم هناك، وأننا لا ينبغي أن نرمي بثقلها في هذا الجانب، وأقول: جماعة الدعوة إلى الكتاب والسنة، هي إحدى الجماعات المجاهدة الداعية إلى الكتاب والسنة في أفغانستان، ولها جهود جهادية وعلمية مشكورة معروفة، وقد سبق أن تكلمت عنها في: (خلل في التفكير) وإنما تكلمت على ضوء الواقع القائم هناك، باعتبار أكثر الأطراف تردداً وأكثرها تأثيراً، وإلا فهذه الجماعة بلا شك مما ينبغي أن نقوم جميعاً بدعمها، ومطالبة الإخوة قادة الأحزاب الإسلامية بإشراكها في الحكومة القائمة. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 30 البث المباشر وصلتني عدد من الأوراق، تتحدث عن مسألة البث المباشر، وهو أحد الأخطار الداهمة الآن، فقد أصبحنا نرى ونشاهد في عدد من المدن في هذه البلاد، تلك الأقراص التي تستقبل القنوات الفضائية العالمية، وأصبحنا نقرأ في الصحف دعايات لها، وعلى سبيل المثال: هذه إعلانات وزعت على بعض المساكن، فهذا إعلان وزع في جدة، عن أمر يتعلق بالاشتراك في أشرطة الفيديو، اشتراك شهري في إحدى المحلات، ومدة الفيلم محدودة وقصيرة، مقارنة بمدة البحث عن المحطات الفضائية، بالإضافة إلى البرامج الثقافية والتعليمية الغير متوفرة في الفيديو، فيدعون -بناءً عليه- إلى الاشتراك أو تركيب هذه الإيريلات، التي تستقبل القنوات المصرية، أو قناة تلفزيون الشرق الأوسط MBC أو القناة الأمريكية، أو حتى القنوات الفرنسية أو غيرها. وهذا أيضاً مثله عرض خاص من أحدى المؤسسات، عن رغبتها في بث القنوات الفضائية، القناة المصرية والـ MBC وغيرها، مقابل رسوم اشتراك، قدرها مائة ريال فقط للشهر الواحد، وهناك مغريات كثيرة، ما عليك إلا الاتصال والاستفسار. ومئات الأوراق في الحقيقة من هذا القبيل، سبق أن جاءتني في أوقات شتى، وهذا خطر ينبغي أن يقوم أهل العلم والدعوة إلى الله -بل عامة الناس- بمحاربته، بل بلغني أن بعض أصحاب محلات صناعة الألمنيوم، يقومون بصناعة هذه الأقراص وإعدادها وتجهيزها وتركيبها، وبعضهم يعلنون أن لديهم مهندسين مختصين وفنيين، يمكن أن يقوموا بمثل هذه العمل. ونحن نقول -حتى أرد على اعتراض البعض الذين استغربوا مثل هذه الحملة- أقول: نحن لا نشك أنه تأتي في مثل هذه القنوات أخبار، وتأتي أحياناً أخبار مصورة، ويأتي أخبار قد لا يمكن أن تصل عن غير طريقها، لكن كم عدد الذين يهتمون ويتحمسون لمثل هذه الأمور، من الناحية الأخبارية والناحية العلمية والتثقيفية ومتابعة ما يجد؟ أقول: إنه في مجتمعنا عدد قليل؛ لأن مجتمعنا -مع الأسف الشديد- لا يزال أقل بكثير مما هو مطلوب في حجم المتابعة والاهتمام بأمور المسلمين، فضلاً عن أن يكون مهتماً بالأحوال العالمية. وإنما نجد الكثيرين من أفراد المجتمع، قد يكون لديهم -خاصة من الشباب المراهقين- اهتمام أكثر بمشاهدة ما يعرض، مما يخل بالدين والأخلاق والحياء، ومما لا يمكن مشاهدته في التلفزيون أو في أشرطة الفيديو، فما هو الشيء الذي لا يعرض في التلفزيون أو لا يعرض في أشرطة الفيديو؟ إذا كنا نعلم يقيناً وقطعاً أنه في التلفزيون يعرض، وفي أشرطة الفيديو أيضاً يعرض -وبدون مبالغة- امرأة ليس عليها ما يسترها إلا ما يستر سوءتها فقط، وربما ظهر أحياناً على الشاشة رجل كما ولدته أمه، وهو يركض على مرأى من الناس كلهم. إذا كان هذا يعرض -أحياناً- وفي أشرطة الفيديو يعرض الشيء الكثير من ذلك، من الرقص ومن الفساد، بل ومن شرب الخمور وغيرها، فلم يبق إلا ما هو أشد وأنكى من ذلك، ونحن نربي ونشفق على قلوب شبابنا وفتياتنا أن يسمروا عيونهم بمثل هذه الشاشات، التي لن يجني من ورائها إلا الشر للأمة والمجتمع. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 31 أخبار الجهاد في أفغانستان السؤال هذه أسئلة كثيرة تتحدث عن آخر ما حدث للمجاهدين في أفغانستان؟ الجواب هناك أخبار تدل على أن هناك حاجة كبيرة إلى الدعوة الإصلاحية، خاصة بعد ما هدأت الأمور بعض الشيء، فلا بد من القيام بإرسال الكتب والنشرات والأشرطة، والمشاركة في الدعوة هناك من خلال الوسائل الممكنة، كالإذاعات المرئية والمسموعة وغيرها، وتوزيع الكتب وغير ذلك، كما أن هناك تنبيهاً: إلى أن هناك وجوداً للشيعة في بعض المناطق، والشيعة يسيطرون على مناطق فيها صواريخ اسكود قريبة من كابول، ومنطقة مدخل هو عبارة عن جسر وبجانبه مسجد، وقد اتخذوا المنارة نقطة للسيطرة على هذا الجسر، ويوجد بأيديهم مناطق أخرى أيضاً، ولكن مما يذكر أن هذه المنصات التي يسيطرون عليها، يقول أفراد الحزب الإسلامي: إنهم قد نزعوا صواعقها؛ ولذلك فإنهم لا يمكن أن يستخدموها. أيضاً هناك اعتراف دولي بالحكومة القائمة -كما هو معروف- اعترف بها ما يزيد على مائة دولة، وأفغانستان الآن تمر بمرحلة حساسة، ويجب أن يتميز المجاهدون هناك والمسلمون في كل مكان، بقدر كبير من الحرص واليقظة على حفظ الجهاد وقبض ثمراته، ومنع الغرب أو الشرق أو إيران أو غيرها من التدخل. يقول بعض الإخوة من الشباب: ذهبنا إلى كابول مع وفد المجاهدين، وكان الوفد تقريباً ألفاً ومائتي سيارة، وكذلك معهم بعض المهاجرين، ورافق الوفد الشيخ عبد رب الرسول سياف، وبرهان الدين رباني، وعدد كبير من القادة، وبعد يومين وصل أحد القادة أيضاً. ويقول الأخ أيضاً، وهذا حصل قبل فترة، وحصل بعده أيضاً بعض الأخبار التي تقول: إنهم دخلوا إلى مكتب وزير الأمن الذي انتحر سابقاً في مكتبه، وأنه ما زال دمه موجوداً على سجاد المكتب، ووجدوا أوراقاً على مكتبه، وأوراقاً تخص بعض المشايخ الذين كان لهم دور في الجهاد، وملفات الأسرى العرب، وكذلك ملفات سرية، تدل على تورط كثير من الدول العربية وغيرها في قضية أفغانستان، وكذلك إيران والهند وغيرها، وبدأ الإخوة بترجمتها من اللغة الفارسية إلى العربية، حتى يعلم الجميع أن العالم كله قد اجتمع ضد هذه الدولة الإسلامية الوليدة، وأجمع على ألا تقوم لها قائمة، إلا أن الله تعالى غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وبدأت أيضاً سلطات المجاهدين هناك، بفرض الحجاب عبر الإذاعة والتلفزيون، ومنع تداول المشروبات الكحولية التي كانت تغص بها أسواق كابول، وأمروا بنزع التماثيل والصور الكبرى لقادة الشيوعيين، واستبدالها ببعض المناظر المباحة -كما يقول- واحتلت الدبابات والمدرعات مواقعها داخل مفارق الطرق في كابول، وأعيد الموظفون إلى أعمالهم، وفتحت المدارس من جديد، وعادت الحياة إلى طبيعتها، وقد تقابل الشيخ رباني وسياف مع حكمتيار، وكتبوا بعض الاتفاقيات من أجل موضوع المليشيات الجوزجانية، وضرورة إخراجها إلى الشمال. على كل حال أقول: هذه من أخطر القضايا، قضية المليشيات؛ فإنها ما زالت عقبة خطيرة في أفغانستان وفي كابول بالذات، لأن لها وجوداً كبيراً، ولا زال وجودها ربما في كابول أكثر بكثير من وجود المجاهدين، وقد بلغني أخبار أخيرة، بأنهم يهددون بأن يكون لهم مجال ووزن وقيمة، وكذلك من المخاطر -كما قلت سابقاً- وجود بعض المتنفذين في السلطة، ممن لا يوثق بعقائدهم ولا بانتمائهم ولا بولائهم، بل هم أصحاب وجوه غربية وعقائد صوفية. ورد خبر قبل أيام: صرح شقيق أحمد مسعود، صرح قائلاً: إن الخيار العسكري بين الجمعية والحزب لم يبق له أثر، وحل محله التفاهم السياسي والاتجاه الايجابي وطريق التحسن -ولله الحمد- كما يقول الخبر، وعلى كل حال هذه أخبار نرجو الله أن تكون دقيقة، ومع ذلك ما زلنا ندعو إلى مزيد من بذل الجهود، في جمع كلمة المجاهدين وإبعاد أي شبح للمواجهة فيما بينهم. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 32 خبر عن البوسنة والهرسك هذا يقول: هجوم صربي شامل على سراييفو، ودمرت مساجد ومنشآت إسلامية، والمجموعة العربية طالبت عقد جلسة طارئة لمجلس الأمن، وهناك أخبار مزعجة جداً، لكن الوقت يضيق عن قراءتها، وقد نشر في بعض الصحف يوم الجمعة 13/ ذي القعدة. وكذلك هذا خبر في جريدة الوطن العربي، يقول: تنسيق أمني تونسي مصري جزائري؛ توقعاً لعودة ثمانية آلاف أصولي، استعدوا! المتطرفون عائدون من أفغانستان، وألف أصولي إلى مصر في طريق العودة، وشبكة أصولية عالمية على الأرض الأفغانية بقيادة الترابي وأحمد الخميني، طهران كانت محطة إرسال للمتطوعين، والخرطوم محطة استقبال. هذه المجلة البائسة التائهة الضائعة، قد فقدت قراءها، حيث فقدت مصداقيتها وأصبحت مجرد إذاعة لبعض الأنظمة المعروفة، ولا هم لها إلا السخرية بالمتدينين واتهامهم بشتى التهم، حتى إنها أحياناً -وقد رأيت هذا بعيني- صورت مجموعة يقرءون القرآن في حلقة. وقالت: المتطرفون يجمعون الصبية الحسان لماذا؟ فكأنها تتهمهم بشتى الأمور، أما هؤلاء الذين قضوا حياتهم في أماكن الفساد ومواكير الانحلال والإباحية، فإنهم لا تدب إليهم أية تهمة فيما يظنون ويزعمون!! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، اللهم أصلح سرنا، وعلانيتنا، وظاهرنا، وباطننا. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 33 غلاء المهور السؤال يتكلم عن قضية غلاء المهور وما يتعلق به؟ الجواب غلاء المهور له سلبيات كثيرة. منها: تأخير الزواج، وكثرة العوانس في البيوت، ويترتب على ذلك الاتصالات الهاتفية، ويترتب عليها الخروج إلى الأسواق، ويترتب عليها ارتكاب الفواحش والعلاقات المحرمة بين الجنسين، ويترتب عليها تأخير النسل والإنجاب، وتأخير إقامة البيوت والأسر، ويترتب عليها أن الزوج يصبح متحاملاً على زوجته، ودائماً وأبداً يشعر في قلبه أنه تكلف من أجلها، وركبته الديون، وأراق ماء وجهه في طلب الإعانات إلى غير ذلك، فهو ينتظر منها أن تكون على مستوى معين، قد لا يمكن أن تكون عليه. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 34 الاحتفالات النسائية وخطرها هذه بعض الموضوعات وبعض الأوراق التي وصلتني، منها هذه الورقة، تكلم فيها الأخ عن احتفال أقيم في الرياض، في الأسبوع الماضي في فندق الأنتركنتنتل، وبدأ من الساعة التاسعة إلى الساعة الرابعة فجراً، حفل غنائي نسائي وهو للبنات، وجرت فيه بعض الرقصات والغناء النسائي، مع أنه ورد منع من تعليم البنات كما يقول، ولكن لم يكن هناك امتثال، مع الالتماس من المسؤولين في الهيئات على مثل هذا الأمر، وتدخل بعض المشايخ!! ولا شك أن مثل هذه المهازل التي تتكرر في مجتمعنا، يجب أن يوضع لها حد، وأن يكون لأهل الخير والعلم والدعوة والإيمان جهاد في مقاومة هذا الفساد الذي يراد بالمرأة في مجتمعنا على أكثر من مستوى. ومما وصلني أيضاً -وهو يتعلق بهذا الأمر- أن هناك أخباراً عن إقامة حفل أيضاً في حي السفارات بعد فترة، وهي أيضاً لطالبات الكلية التطبيقية التابعة لجامعة الملك سعود، وقد كتب لي مجموعة من الإخوة عن ذلك، وندعو الإخوة الذين كتبوا، والمشايخ الذين أرسلوا، أن يبعثوا بالإعلانات والوثائق والأوراق التي تتعلق بهذا الأمر، إلى المشايخ وطلبة العلم والدعاة؛ ليمكن إنكار هذا المنكر بالطرق الممكنة، فإن هذا من المنكر الذي يحب علينا جميعاً عامة وخاصة، علماء وطلبة علم ودعاة، أن نساهم في إنكاره، فإنه مما لا يحبه الله تعالى ولا يرضاه، وهو مما يكون سبباً في دمار البيوت وخرابها وفسادها. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 35 الطلاق ليس عيباً في المرأة السؤال كثير من الناس يظنون أن أية امرأة مطلقة فإنها لم تطلق إلا لعيب فيها، فتبقى أمداً طويلاً بلا زوج بسبب هذه النظرة؛ فما رأيكم؟ الجواب هذا ليس بصحيح، قد يكون العيب في الزوج نفسه، قد يكون الزوج مطلاقاً، وقد يكون عصبياً، وقد يكون الزوج لم يقبل هذه المرأة لا لعيب فيها؛ لكن لأنه لم يكتب بينه وبينها وفاق وانسجام، وقد يكون الأمر فعلاً من الزوجة، لتقصير حصل منها، وكل ذلك وارد، ولهذا أقول للزوج والزوجة: كون فلان طلق، فهذا لا يدعو إلى رفضه، والآن هناك دراسة على مجتمع القصيم، تقول: هناك (22%) من الأسر تقريباً، لا تزوج الولد أو الشاب الذي سبق أن طلق بغض النظر عن الأسباب، وأما بالنسبة للفتاة التي طلقت، فهناك أكثر من (76%) لا يقبلون الزواج منها لأي سبب من الأسباب، وأرى أن الأمرين كلاهما خطأ. فبالنسبة للزوج الذي طلق، يحب أن أعرف ما هي الأسباب، فإن وجدت أنه رجل انفعالي وعصبي ويطلق، وكلمة الطلاق عنده هكذا، فهذا لا يستحق أن أعطيه ابنتي؛ لأنه ليس على مستوى المسؤولية! لكن إن وجدته رجلاً متعقلاً ديناً حكيماً، ولكنه لم يكتب بينه وبين زوجته وفاق، لأسباب معروفة، وطلقها بستر وصيانة، وبعد اتفاق بينهما وما أشبه ذلك. فهذا ما الذي يمنع من تزويجه؟ ومثله البنت أيضاً، فإذا عرفت أن هذه الفتاة طلقت لريبة، هذا أمر! لكن إذا عرف أن طلاقها كان بسبب من الزوج، أو ظلم لها أو تقصير، أو غير ذلك، أو تعجل، أو لأن الرجل مثلاً شكاك أو كثير الظن أو غير ذلك، فهذا لا يعيب المرأة في شيء، ويجب أن نعلم أن أكثر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم -بل كلهن- تزوجهن عليه الصلاة والسلام ثيبات، إلا عائشة لم يتزوج بكراً غيرها، ولهذا أيضاً كانت هي أحب نسائه إليه. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 36 النظر إلى المخطوبة السؤال البعض يقول: إذا تركت الخاطب ينظر، فإذا لم تعجبه ابنتي ربما ينشر ويذيع بأنها كذا وكذا؟ الجواب على كل حال. هذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام وخبره ونصحه، وينبغي أن يتخذ في ذلك من الاحتياطات ما يضمن ألا يقع هذا المحذور الذي تخافه. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 37 امرأة لا تنجب الأولاد السؤال هناك امرأة ذهبت إلى مستشفى الولادة والأطفال، وهي تصرخ لدى المسؤولين، وتقول: هناك تقرير بأني لا أنجب، وهددني زوجي بالطلاق، وأنا عندي أولاد، ويريد أن يستقدم زوجة من الخارج؟ الجواب الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر} فبقاء هذه المرأة عنده قد يرزق بسببها، وقد ينصر بسببها، وقد يعافى بسببها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري في صحيحه} . فلعل هذه المرأة امرأة صالحة، يكون وجودها خيراً وبركة على زوجها، حتى وإن كانت لا تنجب، ثم إن هذه التقارير غير مؤكدة ولا يقينية، قد يكون الأمر بخلاف ما قالوا، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول -أيضاً- في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وهو صحيح: {إني أحرج حق الضعيفين: اليتيم والمرأة} . الجزء: 79 ¦ الصفحة: 38 مشكلة الأم والزوجة السؤال يقول: أمي شديدة الغيرة من زوجتي، فمهما فعلت مع أمي فأنا مقصر، فكيف توجهني؟ مع أن هذه الظاهرة متفشية، والوالدة مكثرة من القيل والقال وكثرة الشكاية؟ الجواب هذه فعلاً مشكلة، الأم لها حق قال الله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23] وعلى الولد أن يكون لبقاً حين تعامله مع زوجته، خاصة حين يكون أمام أمه، فلا يشعرها بأنه يفضلها عليها أو يعطيها أي شيء، بل يشعر أمه بأن القرار الأخير لها، وإن كان الأمر في الواقع ليس كذلك، فكثير من الآباء والأمهات، يكفيهم أن يقول الولد لهم: لبيكَ! وسيكون ما ترضى، وبإذن الله لن يقع شيء يسخطك، ولن يكون إلا ما يرضيك وما أشبه ذلك، ثم هو يتصرف بما يراه مناسباً بطريقة لبقة، وكما يقولون: الكلام اللين يغلب الحق البين. ثم إن كثيراً من الأسر في كثير من البلاد، جرت العادة أن الولد يستقل في بيت بمجرد ما يتزوج، خاصة حين يكون أهله ليسوا في حاجة إليه، كأن يكون هناك أولاد لهم غيره، أو هم بجواره، أو هم مشتغلون عنه، وهذا في نظري -إذا لم يكن ثمة حاجة وهذا الأمر جيد؛ لأنه يجعل للزوجين كمال الاستمتاع بينهما وعدم وجود تدخل، وكذلك يضمن أن تكون العلاقة بين المرأة وبين أم زوجها، وبينها وبين أهلها أيضاً علاقة طيبة وحسنة وحميدة؛ لأن مبناها على الزيارة والمجاملة والترحيب والتحية وغير ذلك، أما إذا وجد حاجة من الأهل للولد أو لزوجته، من خدمة المنزل، أو أنهم لا يستغنون عنه، أو لا يوجد غيره أو غير ذلك من الأسباب، فهذا يقدر بقدره. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 39 التدخل في خصوصيات الآخرين السؤال ما رأيكم في كثير من الرجال والنساء الذين يتكلمون في الأزواج، وهل طلق فلان أو راجع، ولماذا؟ إلى غير ذلك من الأسئلة. أرجو وعظ هؤلاء؟ الجواب نعم، هذه من مشكلاتنا الاجتماعية، التدخل في خصوصيات الآخرين، وهي تنم عن الفراغ الذي يعانيه المجتمع، فليس عندنا موضوعات ذات بال نتكلم فيها ونناقشها؛ ولهذا نملأ وقتنا وأحاديثنا ومجالسنا بالكلام عن فلان وفلانة، وهل تزوجت أو طلقت؟ وماذا حصل؟ وما هي الأسباب؟ ويبدأ الناس يفيضون ويتحدثون ويشيعون الإشاعات والقالات، التي هي في كثير من الأحيان ليس لها أصل. الجزء: 79 ¦ الصفحة: 40 المستضعفون المستضعفون في هذا الزمان كثير ينادون! يصرخون! يتوجعون! ولكن من المجيب؟! فإذا نظرت المرأة في بيت زوجها، والعمال في أيدي كافليهم، والأولاد الصغار تحت رعاية أبويهم؛ فإنك تجد الاستضعاف وصل إلى منتهاه. حول هذا الحديث تكلم الشيخ حفظه الله ورعاه. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 1 علاقة الدين بحماية المستضعفين الحمد لله تعالى حمداً، والشكر لله تعالى شكراً، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. حديثي إليكم في هذه الليلة: ليلة الثلاثاء 14 من شهر رمضان، هو: عن المستضعفين. فلقد جاء الدين بحماية المستضعفين من سائر الأجناس والألوان والطبقات وهم أولئك الذين لا يجدون سلطة تحميهم، وليس لهم قوة تنفع أو تدفع إلا قوة الله تبارك وتعالى، ولهذا قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75] فالقتال في سبيل الله عز وجل يهدف إلى حماية المستضعفين من بطش الجبارين والمستكبرين وإحقاق الحق لهم، وحماية حقوقهم المشروعة. ويقول الله عز وجل في موضع آخر: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} [النساء:97-99] فجعل الله عز وجل الضعف في الإنسان رجلاً أو امرأةً كبيراً أو صغيراً سبباً من أسباب الرخصة والتوسعة عليه. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 2 الضعفاء هم أتباع الأنبياء وكذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء الضعفاء هم أتباع الأنبياء، وأن أكثر أتباع الأنبياء منهم، فأي نبي يبعث إنما يتبعه ضعفاء الناس، ومن ذلك النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن عباس قال: {فضعفاء الناس اتبعوه أم كبراؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم} وقال عليه الصلاة والسلام: {ابغوني ضعفاءكم، فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم بدعائهم واستغفارهم} فالضعيف يدعو فيستجاب له، ويستغفر فيغفر له، ويستنصر فينصر، لأنه صاحب قلب منكسر، وصاحب عين دامعة، وصاحب نفس بعيدة عن التكلف، وبعيدة عن الغلو، وبعيدة عن الكبرياء والتعاظم والجبروت والغرور الذي يصيب أهل المنازل العالية من الدنيا عادة، فالضعيف سالم ناجٍ من هذه الأشياء إلا ما ندر، ولهذا ذكر النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الأحاديث ثلاثة أنواع ممن لا يكلمهم الله، وذكر منهم: {عائل مستكبر} ومعنى عائل أي: فقير، ومع ذلك مستكبر، لأن الفقر يناسبه عادة التواضع، فإذا صار مع فقره مستكبراً، دل هذا على فساد في طبعه، ورداءة في خُلقه، ولهذا كان من أهل النار والعياذ بالله تعالى. وقد عاقب الله عز وجل بني إسرائيل -كما في الحديث الصحيح- بالهلاك؛ لأنهم كانوا يعاملون الضعيف معاملة، ويعاملون القوي معاملة أخرى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف قطعوه، وإذا سرق فيهم الشريف، تركوه، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} . الجزء: 80 ¦ الصفحة: 3 الضعفاء أقرب الناس إلى الخير والضعفاء -أيها الأحبة- هم غالباً أقرب إلى الخير، وأقرب إلى الله تعالى زلفى، وأقرب إلى اتباع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: بلى، فقال صلى الله عليه وسلم: كل ضعيف متضعف ذي طمرين لا يؤبه له} كما في سنن ابن ماجة ومسند الإمام أحمد، ومعنى كل ضعيف متضعف ذي طمرين أي: ثوبين باليين خلقين لا يؤبه له. وكذلك قال في الحديث والآخر -حديث عياض بن حمار، وهو في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد- قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وأهل الجنة ثلاثة: -وذكر منهم- ضعيف متضعف لو أقسم على الله تعالى لأبره} أي: فيه ضعف ومسكنة وتواضع وبعد عن الأبهة والخيلاء والغطرسة والكبرياء التي هي شأن المستكبرين في هذه الدنيا، والذين هم وقود النار يوم القيامة: {يحشر المستكبرون يوم القيامة أمثال الذر، يطؤهم الناس، ثم يوضعون في سجين} والعياذ بالله تعالى. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 4 مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم للضعفاء ولهذا تجد أن النبي صلى الله عليه وسلم راعى الضعفاء في مسائل كثيرة جداً يصعب حصرها، وراعى أيضاً حالة الضعف في الإنسان، فالمسافر مثلاً: له رخص؛ لأنه ضعيف، أو يعرض له الضعف، والمريض له رخص؛ لأنه ضعيف، ويحتاج إلى تخفيف في الصوم والصلاة والطهارة وغيرها، والصغير له رخص، واليتيم وغير ذلك من الأحكام الكثيرة. ومنها على سبيل المثال: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخَّر صلاة العشاء يوماً من الأيام إلى نحو منتصف الليل، ثم جاء وصلى بالناس، ثم قال عليه الصلاة والسلام: {لولا ضعف الضعيف لأخرتها إلى هذه الساعة} فبين أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة العشاء في أول وقتها مراعاةً للضعفاء، من أجل أن يمكنوا الصلاة ويدركوها دون أن يشق عليهم ذلك، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود. ولما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الإمام بالتخفيف في الصلاة إذا كان يصلي بالناس، علل ذلك بأن وراءه الكبير والضعيف، كما في رواية البخاري وغيره، فالضعيف سواء أكان شيخاً كبيراً أم مريضاً أم نحو ذلك ممن يشق عليه طول القيام وطول الصلاة، فلذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتخفيف من أجلهم. وكذلك أيضاً ما يتعلق بالدفع من مزدلفة، فإنه صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء من النساء والصبيان ومن معهم -ومن في حكمهم- في الدفع مبكراً بعد مغيب القمر من مزدلفة وذلك مراعاة لضعفهم وحاجتهم إلى هذا التخفيف. وهذا الباب واسع جداً في ذكر ما شرع الله تعالى من أنواع التخفيف والتوسعة على الناس مراعاةً لضعف الضعيف وحاجات المحتاج، ومراعاة للكبير وللضعيف والصغير والمرأة ونحو ذلك. والضعف سبب لكثير من الأحكام التي شرعها الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة مراعاةً لحاجتها. ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر المغانم في الأمم السابقة بيَّن أنه كانت تنزل نار من السماء فتحرقها -تحرق الغنائم- فلما رأى الله تعالى ضعف هذه الأمة، طيبها لها وأحلها، قال عليه الصلاة والسلام: {وذلك أن الله رأى ضعفنا وعجزنا، فطيبها لنا} كما في الحديث المتفق عليه، ولهذا أحلت هذه المغانم لهذه الأمة، ولم تكن تحل لأحد من الأمم قبلها. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 5 المستضعفون في هذا الزمان إذاً: من خلال هذه النصوص السريعة يتبين لنا أن الدين جاء بحماية المستضعفين، والدفاع عن حقوقهم، وما زال المسلمون عبر التاريخ يعتبرون ردءاً دون الاعتداء على الضعفاء حتى إن المسلمين قد يخوضون معارك ضارية يهدفون من ورائها إلى حماية المستضعفين، فماذا نجد اليوم؟ ماذا نجد في مجتمع المسلمين؟ بل ماذا نجد في المجتمع القريب منا؟ نجد انتهاك حقوق الضعفاء على أشده، وهذا باب يطول، ولكنني سوف أعرض لكم بعض النماذج. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 6 الأمَّة و الأمة تعتبر مستضعفة بالقياس على من ولاه الله أمرها من الحكام والمسئولين الذي أمر الأمة بأيديهم، فإذا رفقوا بها، وأحسنوا رعايتها، وقاموا بحقوقها، وراعوا حاجاتها، وحافظوا على كرامتها وإنسانيتها وحقوقها، آجرهم الله تعالى على ذلك، وبارك لهم في أمرهم وأمنهم، ونفع بهم، ورزقهم المحبة والقبول، فتجد الألسنة كلها ثناءً عليهم ومدحاً لهم ودعاءً لهم. وإذا كان الأمر على نقيض ذلك من المشقة على الأمة وإيذائها وإثقالها بالضرائب والرسوم، وكثرة الضغط عليها، ومصادرة حريتها وتخويفها وترويعها وإشغالها بما لا حاجة لها به، والتضييق عليها في دينها أيضاً، والتأثير على أخلاقها، وعلى أديانها، وعلى أعراضها، ونقل الفساد إليها، والتضييق عليها في اقتصادها وفي تجارتها، وفي أرزاقها إلى غير ذلك، فإن هذا من المشقة التي تسبب غضب الله تعالى ومقته لهؤلاء، وتجعل قلوب الناس تنكرهم وتبغضهم، فتكون الألسنة كلها ذماً لهم وتوبيخاً ونقداً ودعاءً عليهم، وهذا هو ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: {أنتم شهود الله في أرضه، هذا أثنيتم عليه خيراً، فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً، فوجبت له النار} والحديث متفق عليه، ويقول صلى الله عليه وسلم: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به} فدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم مستجابة في حق كل من رفق بالأمة أن يرفق الله تعالى به ويحفظه، وفي حق كل من شق على الأمة وضايقها في دينها ودنياها وأمنها واقتصادها وإعلامها وغير ذلك، أن الله تعالى يشق عليه، ويسلط عليه. الضعفاء كثيرون، بل الأمة كلها في حالة استضعاف وأقولها بالخط العريض: الأمة كلها في حالة استضعاف، ولكن الضعف درجات، فعلينا أن نتقي الله تعالى في الضعفاء الذين تحت أيدينا حتى يهيئ الله لنا من يتقي الله تعالى فينا، ونحن ندعو في دعاء القنوت: اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا. أنت خف من الله تعالى في من هو تحت يدك، فارحمهم حتى لا يسلط الله عليك من لا يخافه فيك. أما إن اعتديت على الضعفاء الذين تحت يدك، فسوف يسلط الله سبحانه وتعالى عليك من لا يخافه ولا يرحمك. وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظنا وإياكم من كل سوء ومكروه إنه على كل شيء قدير. اللهم أعزنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك يا حي يا قيوم، اللهم اغفر لنا في ليلتنا هذه أجمعين، وهب المسيئين منا للمحسنين، ووفقنا لما تحب وترضى أجمعين، اللهم وفقنا أن نرفق ونلطف بالضعفاء الذين تحت أيدينا، اللهم وفقنا أن نقوم بحقوق رعايانا، اللهم وفقنا أن نقوم بحقوق رعايانا سواء كانت حقوق دينية أو حقوق دنيوية إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين , والحمد لله رب العالمين. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 7 من الضعفاء الأولاد الصنف الثالث من الضعفاء هم: الأولاد من الذكور والإناث من الصغار؛ فما أحوجهم إلى ابتسامة من أبيهم، ضحكة، مزحة معهم، وقت ولو عشر دقائق، أو ربع ساعة يتحدث معهم، ويبادلهم الحديث، وقد ينشغل الأب في أعمال: في مزارع أو في تجارات، أو غير ذلك، ولا يراه الأبناء إلا قليلاً، وإذا رأوه كان مشغولاً بأمور كثيرة، ونفسيته غير مرتاحة، ولهذا لا يهنئون به ولا يرتاحون. وهم أقل الناس انتفاعاً به واستفادةً منه وإقبالاً عليه، فلا علاقة بينه وبينهم، ولا عاطفة، ولا ود، ولا حب، حتى إنه لو قبَّل أحدهم، لاستنكر هذا واستغربه، واعتبر هذا أمراً غير مألوف، وأنه خارق للعادة، لأنه لم يجر به إلف. وهو لا يأكل معهم، ولا يشرب معهم، ولا يشتري لهم ما يحتاجون، ولا ييسر لهم الأسباب التي يقضون بها أوقات فراغهم، ولا يراعيهم في دينهم، ولا يعلمهم، ولا يربيهم، ولا يحافظ عليهم، بل- كما ذكرت- قد ترك لهم هذا الجهاز. واعتبر أن أهم ميزة في التلفاز أنه يبعد الأطفال عنا، فهؤلاء الأطفال يشاهدون ما يسمى بأفلام الكرتون أو الصور المتحركة وعيونهم مسمرة فيه، ولا يدري الأب ماذا يواجهون، وماذا يشاهدون، وماذا يتلقون، والمهم عنده أنهم قد سكتوا، وأنهم لا يحدثون ضجيجاً في البيت، ولا صخباً، ولا إزعاجاً، ولا يخربون الأثاث والمتاع وغير ذلك، ولا يؤذون والدتهم إذا كانت في المطبخ أو غير ذلك، فهذا هو كل ما ينظر إليه الوالد من التلفاز، أما تأثير هذا على عقولهم، وأخلاقياتهم، ولغتهم، وشخصياتهم، فهذا هو آخر ما يخطر في باله وهذا من الظلم. ومن الظلم أيضاً: أن يقصر الأب في نفقة أولاده: في طعامهم، في شرابهم، في ملابسهم، في أحذيتهم، وفيما يحتاجون، ومن الظلم أيضاً - كما ذكرت- ألا يجعل لهم وقتاً يجلس معهم فيه، ويبادلهم فيه المشاعر، ويقوم بحق الأبوة والتربية الواجبة في عنقه، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} فأنت راعٍ في بيتك، ومسئول عن رعيتك. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 8 من الضعفاء العمال والصنف الثاني من المستضعفين هم: العمال. والعمال يعانون في مجتمعنا الأمرين، وتصل إليَّ شكاوى مكتوبة وشكاوى هاتفية، يعجب الإنسان من أن رجلاً يؤمن بالله يبلغ به الجشع والطمع والحرص إلى هذا الحد، ومن الناس من يأتي بالعمال، ثم يسرحهم وهو لا يعرف عنهم شيئاً إلا أنه يطالبهم في رأس كل شهر أن يحضروا له خراجاً معلوماً يثقل به ظهورهم وكواهلهم، ربما يصل أحياناً إلى ألف ريال، أو ثمانمائة ريال، أو سبعمائة ريال، فيجهد العامل ويتعب، وقد لا يحصل العامل إلا على ألف ومائتي ريال مثلاً، أو ألف وثلاثمائة، فيأتي لرب العمل النائم المتكئ على أريكته، فيعطيه سبعمائة أو ثمانمائة، ويأخذ هو الذي جهد وعرق جبينه أربعمائة ريال أو ثلاثمائة ريال، فلا يدري أيستخدمها في سكن أم في لباس أم في طعام أم يرسلها لولده، أم ماذا يصنع بها؟ خاصة وأن كثيراً من هؤلاء العمال أصلاً لا يأتي إلا وقد أخذ منه المكتب أو الجهة التي أتت به من هناك، مبلغاً ضخماً بحجة أنه سوف يأتي إلى هذا البلد الرغيد، ويسدد هذا المبلغ سريعاً، فقد يأخذون منه هناك خمسين ألف ريال، أو مائة ألف ريال، ويقولون له: أنت تذهب إلى بلاد غنية، وهناك السكن موفر، وهناك إعاشة، وهناك نقل، وهناك تكييف، والعمل في اليوم ست أو سبع ساعات، والخميس والجمعة إجازة، وكذا وكذا، ويجعلون له الدنيا -كما يقال- ورقاً بلا شوك، ويسلتون عرق جبين هذا المسكين. فإذا جاء هنا صدم بالواقع، فبعضهم لا يجد عملاً، فيضطر إلى أن يرجع، وقد يرجع على حسابه لأنه لم يكمل المدة، وقد أثقل ظهره الديون التي أضيفت على الفقر الذي كان يظن أنه سوف يزول بمجيئه إلى هذه البلاد، وبعضهم يجلس هنا، ولكنه يجلس يسام ألوان الهوان والخسف، وتسرق جهوده من قبل رب العمل الذي أخذ منه عن طريق النسبة شيئاً ضخماً كبيراً، وبعضهم يماطل ولا يعطيه الراتب، وقد يكون هناك شركات تمر سنة، أو سنتان لم يعطوا العامل مرتباً واحداً. بعضهم -والله- يبكون بكاء الأطفال بل بعضهم يبلغ به الوقاحة أنه يطلب من العامل أن يوقع على ورق أبيض، فيقول: وقع على هذه الأوراق فيوقع، من أجل ماذا؟ من أجل أن هذا العامل لو اشتكى إلى بعض الجهات كمكتب العمل أو غيره، فيكتب هذا الرجل في الورقة أي شيء يريده، ويقول: إن العامل قد وقع على هذا العقد، والحقيقة أن العامل قد وقع على ورقة بيضاء بسبب الضغط والإكراه، وهذه حالات -أيضاً- كثيرة تصلنا، وتصل شكاوى من هذا القبيل من عدد من العمال أنهم يوقعون على بياض، فلا عناية، ولا رعاية، ولا إعاشة، ولا سكن، ولا خدمة، ولا تكييف، ولا مرتب، وفوق هذا كله يفتقد حتى الخلق الحسن، فلا يخاطب العامل إلا بأبشع الألفاظ، وأحط الألقاب، ويعير ويسب ويغلظ له في القول، ويحتقر، ويزدرى. فيا أخي: إن هذا العامل إنسان مثلك، خاصة إذا كان مسلماً فله مزيد من الحقوق. وكنا نطمع أن هذا العامل إذا جاء إلى هذا البلد، تحفظ له حقوقه، وتصان على المستوى الرسمي والشعبي، ويحفظ له قدره، وتحفظ له إنسانيته، وثقوا ثقة كاملة بأنه بقدر ما تؤذون عمالكم يسلط الله عليكم من يؤذيكم، وهذا أمر مشاهد للعيان، فكل إنسان يظلم يبتلى كما قيل: وما من يد إلا يد الله فوقها ولا ظالمٌ إلا سبيلى بأظلم فهذا الظالم يبتلى بمن يظلمه، ويسومه الخسف، ويعتدي على حقوقه، ويصادر كرامته وحريته مثلما فعل هو بالآخرين، فالظلم من الذنوب التي يعجل الله بعقابها في الدنيا قبل الآخرة، وهو من حقوق العباد، والظالم ينتظر دعوة المظلوم التي يرفعها الله تعالى فوق الغمام، ويقول: {وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين} . تنام عيناك والمظلوم منتبهٌ يدعو عليك وعين الله لم تنمِ وكنا ننتظر أن هذا العامل إذا جاء، يجد البيئة الإسلامية، ويُعلَّم الدين، ويُعَلَّم العقيدة الصحيحة، ويُعّلَّم العبادة الصحيحة، ويُذَكَّر بالله تعالى، فلا يخرج من هذا البلد ما دام مسلماً إلا وقد تشبع بالفهم الصحيح للإسلام، وامتلأ قلبه حباً لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، ثم حباً للمؤمنين في هذا البلد، ورغبةً في الخير، وإذا رجع إلى بلده، كان مشعلاً للنور والإضاءة والهداية والدعوة، لكن الواقع الآن بالعكس. فإن كان العامل كافراً، رجع كما كان أو أشد، سيئ الظن بأهل هذا البلد، فيرجع وقد أخذ صورة سيئة عنهم، وعن أخلاقهم، وعن معاملاتهم، وعن أمورهم، وعن وعن إلخ، وإن كان مسلماً رجع يشتم وينتقد، ولقد رأينا عمالاً في بلادهم وسمعنا أخباراً كثيرة، بل لا أبالغ حين أقول: إن صحفهم في بلادهم تنشر فضائح كثيرة عن مشاكل العمال ومشاكل المستقدمين والخادمات وغير ذلك في هذه البلاد، مما يحصل لهم من أمور حتى إنه في بعض البلاد الآسيوية كادوا أن يصدروا قراراً بمنع إرسال العمالة إلى هذه البلاد نظراً لما لوحظ من سوء المعاملة والقسوة والظلم ومصادرة الحقوق وعدم إيصال مرتباتهم إليهم، فأي أخلاق هذه؟! وأي صورة قدمناها لهؤلاء الذين يعيشون بين أظهرنا؟! والحقيقة أن هذا شيء مخزٍ وتأخر وضياع أن يجلس العامل الكافر في هذه البلاد أربع، أو خمس أو عشر سنوات ثم يرجع ولم يعرف الإسلام، أو يأتي العامل المسلم إلى هذه البلاد، ويرجع كما كان أو أسوأ، بل إن كثيراً من الناس يأتي بالعمال ويتركهم ولا يدري ماذا فعلوا، وقد يتورطون في قضايا مخدرات، وفي جرائم، وفي بيع الخمور، وفي أمور كثيرة؛ خاصة أن الكثير منهم لا يجدون مرتباً، فيضطرون إلى البحث عن الكسب الحرام. فلنتق الله تعالى في هؤلاء الضعفاء، ولنعلم أنه إن لم تكن الجهات الرسمية -مكتب العمل أو غيره- تستطيع أن تكتشف الألاعيب التي يصنعها أرباب العمل، فإن الله تعالى لا تخفى عليه خافية: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] وسوف ينتقم من كل من تعدى أو ظلم، أو أخذ مالاً بغير حق، أو سرق جهد أحد، أو اعتدى على أحد في نفس أو عرض أو مال، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع! قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج، ولكن يأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار} . فهذا الأوضاع مؤسفة جداً، حيث توجد هذه الآلاف المؤلفة، بل مئات الألوف، حتى إنك في بعض الأحياء وفي بعض الشوارع تستغرب الوجه العربي فيها، فأمرك كما قال المتنبي: ملاعب جنةٍ لو سار فيها سليمان لسار بترجمان ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان ومع ذلك يرجع هؤلاء كما جاءوا بل أسوأ، فيرجعون بانطباع سيء عن هذه البلاد وأهلها، وهذا الانطباع هم يحسبونه على الإسلام، ويظنون أن هذه من تعاليم الدين، وأن هذه ثمرة الإسلام، لأنهم قد لا يقتنعون بالكلام النظري عن أن الإسلام دين حق، ويأمر والعدل، ويأمر بالإحسان، ويأمر بالرفق بالضعيف، فهذا كله قد لا يفهمونه ولا يفقهونه؛ بل قد لا يسمعونه أصلاً، لكنهم أخذوا انطباعاً سيئاً عن التطبيق العملي الفاسد الذي يوجد لدى كثيرين ممن أتوا بهؤلاء العمال لحاجة ولغير حاجة. ومع الأسف ليس هناك ضوابط حقيقية لاستقدام العمال والخدم والخادمات، وهناك أمور ومشاكل وفضائح روائحها تزكم الأنوف. فإذا قرأت في الصحف فإنك تجد فيها إعلانات عن استعداد لإرسال الخادمات إلى كل البيوت، وهن خادمات يشتغلن باليوم، فهل هي خادمة أم هي شيء آخر للترويح والتسلية والترفيه؟ هذا الله أعلم به. وبعض الخادمات يقع عليهن انتهاك الأعراض في البيوت، فالبيت فيه شاب في مقتبل السن، ممتلئ قوة وشباباً وحيوية، وفيه هذه الخادمة وقد تكون شابة غير متزوجة، وقد تكون مسلمة، وقد لا تكون مسلمة -الله أعلم بحالها- فيخرج أهل البيت ويتركونها في البيت، بل أعلم حالات أنهم يخرجون ويتركونها مع هذا الشاب، بل أعلم حالات أن هذه المرأة كان لها زوج في بلدها وتوفي، فأصبحت تتزين وتتجمل وتتطيب كأحسن ما تستعد المرأة لزوجها، ثم يلتقي بها شاب في هذا المنزل على مرأى ومسمع من أبيه وأمه وأخيه وصاحبته وبنيه ولا أحد ينكر ولا يستنكر هذا والعياذ بالله. فضلاً عن الاغتصاب الذي يقع في كثير من البيوت كالاعتداء على أعراض الخادمات بالقوة من قبل صاحب البيت، أو من قبل أحد الأولاد إلى غير ذلك، فضلاً عن أن كثيراً من البيوت قد يوجد فيها مصانع للخمور يقوم بها الخدم، وكذلك كثير من المزارع، وقد تكون الخادمة أحياناً جعلت من هذا البيت وكراً للدعارة دون علم. فإحدى الخادمات -مرة من المرات- كان يأتيها رجل ويدخل عندها، وهي تقول: هذا أخي، فمنع أهل البيت دخوله، فجاءت وبكت عند الأم العجوز، وقالت: منعوا أخي وكذا، فقالت العجوز: هذا مفتاح الدور الأرضي- ما يسمى بالبدروم- فإذا جاء افتحي له واجلسي معه، ولا يدري أحد بذلك، وهي تظنه أخاها، وتبين بعد زمن طويل أن هذا المكان تحول إلى وكر للفساد والرذيلة والدعارة، وأن هذه المرأة أصبح يأتيها أعداد وألوان وأصناف من هؤلاء الخدم والعمال ليس لها بهم علاقة إلا العلاقة الحرام والعياذ بالله. والكلام الذي نقوله عن القسم الأول -عن المرأة- نقوله أيضاً عن العامل ذكراً كان أو أنثى. أولاً: لماذا استقدمت هذا العامل؟ هل لحق أم لباطل؟ هل لحاجة أم لغير حاجة؟ هل الأمة تحتاج هذا أم أنه عبء على البلاد في اقتصادها وفي أخلاقها وفي أمنها وفي كل شيء؟ ثانياً: هل اخترت المسلم عندما استقدمته أو أنك اخترت الأرخص أو الذي تعتقد أنه أنفع لك بغض النظر عن ديانته؟ ثم لما أتيت به، هل قمت بحقوقه الدينية من تعليمه الإسلام، وتربيته على الأخلاق، وإعطائه الكتب بلغته، وإعطائه ما يمكن أن يساعده في تعلم الإسلام والصلاة وغير ذلك، أم قصرت في حقه؟ ثم هل راقبته في عمله أم لم تراقبه؟ هل تورط في أمور محرمة: أعمال غش، خيانة، فواحش، خمور، دعارة، معاكسات هاتفية غير ذلك، أم أنك تراقبه وهو في مرأى منك؟ ثم هل قمت بحقو الجزء: 80 ¦ الصفحة: 9 من الضعفاء المرأة فمن الضعفاء المرأة، فالمرأة في مقام الضعف بالنسبة للرجل: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] وكثير من النساء هن في موقع قعائد البيوت، ورهائن الجدران، لا يخرجن منها إلا لحاجة لابد منها، أو لضرورة لا مخلص عنها، فتكون تحت هيمنة الرجل وسيطرته وقوامته وظله، فماذا نرى؟ نجد أن الرجل يؤذي المرأة، ويغلظ لها في القول أحياناً، ويقسو عليها ويظلمها، بل قد يضربها، ويكثر من هجرها في الفراش، ويقبح لها في القول، ويمنعها من حقوقها الواجبة لها، ويحرمها من كثير مما تحتاج. وربما احتاجت المرأة إلى أن تذهب إلى المستشفى، فيمنعها من ذلك، ولو كان بها داء عضال، أو مرض مزمن، أو شيء لا تستطيع أن تصبر عليه إلا أنه يمنعها من ذلك، فإذا أصرت وألحت، وبخها برديء القول، وقبيح الكلام، وهددها بألوان التهديد، فلا يرى لها قدراً ولا قيمة، وكأنه يعاملها بما كانت تعاملها به الجاهلية الأولى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ} [النحل:58-59] فهو إن أمسكها أمسكها على هون في بيته مذلاً لها، مقصراً بحقوقها، مؤذياً لها بالقول والفعل، معتدياً عليها، مانعاً عليها ما يجب، هذا فضلاً عن أن الأكثرية من الناس يمنعون المرأة مما يحتاج إليه الإنسان العادي. فالإنسان العادي يحتاج إلى قدر من الفسحة، وإلى قدر من التوسعة، وإلى قدر من التلطف خاصة في المناسبات كالأعياد، وبعض الفرص وغيرها، فتجد أن كثيراً من النساء في البيوت يشتكين مر الشكوى، وقد قال سيدنا ونبينا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم: {لا تضربوا إماء الله} فنهى عن ضرب النساء، وهذا إيماء إلى النهي عن كل ألوان الإيذاء والاعتداء على حقوق المرأة، فإذا كنت تظن أن المرأة ليس لها من يدافع عنها، أو أنها لا تستطيع؛ لأنها إن اشتكت إلى أهلها، هددتها أنت بالويل والثبور وعظائم الأمور، فإما أن تسكت وتصبر على الذل والهوان، وإما أن تشتكي، ويكون هذا سبباً في طلاقها، فإذا كنت تظن أن المرأة في موطن الضعف، وأنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً، فتذكر أن الله تعالى هو الذي يدافع عن حقها، وأن المظلوم الضعيف الذي لا يوجد من يدافع عنه في هذه الدنيا يدافع الله تعالى عنه. وقد يبتليك الله تعالى بعقوبة في دنياك: ضيقاً في رزقك، أو مرضاً في بدنك، أو ضيقاً في صدرك ونفسك، أو رداً لعملك، أو عقوبة في الآخرة -وهي أشد وأنكل- بسبب هذه الضعيفة التي أمسكتها في بيتك على هون، وآذيتها وصادرت حقوقها، واعتديت على إنسانيتها وكرامتها ومكانتها. فيا أخي المسلم: اتق الله في هذه المرأة التي ولاك الله أمرها، وقد أخذ الله عليك العهد إما إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان، فإما أن تمسكها بالمعروف، وتحفظ لها حقها، وإما أن تسرحها بإحسان معززة مكرمة. أما إمساك مع الذل والهوان، فهذا ما لم يأذن به الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تضربوا إماء الله فجاءه عمر، وقال: يا رسول الله، ذئرن النساء} أي: كثير من النساء قد اشتكين وارتفعت نفوسهن على الرجال؛ لأنه كما هو مطلوب أن الرجل لا يظلم المرأة، كذلك أيضاً مطلوب أن المرأة لا تظلم الرجل، وكما أن هناك -الآن- جمعيات في الغرب للدفاع عن حقوق المرأة كما يزعمون، فهناك أيضاً عندهم جمعيات جديدة للدفاع عن حقوق الرجل، لأن المرأة قد تعتدي على الرحل أحياناً، وفي إحدى الصحف المحلية -لا بارك الله في تلك الصحيفة- نشرت يوماً من الأيام مقالاً عريضاً: عشر وسائل لقتل الرجال، أعطت المرأة التي تريد قتل زوجها، عشر نصائح تستطيع أن تتوصل بها إلى قتل زوجها. فـ عمر جاء يقول: {يا رسول الله! ذئرن النساء، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم للرجل بأن يؤدب زوجته فيما لا يضر بها، فرجعت النساء تشتكي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد طاف ببيت آل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم} فالرجل الذي عصاه في يده، ولا يضع عصاه عن عاتقه، ضراب للنساء، هذا ليس محموداً، ولهذا لما استشارت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة في رجل خطبها، قال لها: {أما فلان فضَّراب للنساء} وفي رواية: {أما فلان فإنه لا يضع عصاه عن عاتقه} أي: من كثرة ضرب النساء، وقيل: لأنه ذو أسفار، فنهاها النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاحه والزواج منه، لأن فيه هذه الآفة، وفيه هذا العيب، فليس من الرجولة ولا من المروءة أن تظن -كما يقول بعضهم- أن الأنثى لابد من إذلالها، ولابد من كذا، ولابد من كذا، فتجده يعلق العصا في البيت ليضرب بها زوجه، وقد يضربها لسبب أو لغير سبب، وقد يعتدي عليها بكلام هو أشد من لسع السياط، فيؤذيها في نفسها، ويحقرها، ويسب شكلها، وقد يسب أباها وأمها. بل تشتكي بعض النساء فتقول: إن زوجها إذا غضب عليها - والعياذ بالله - يشتم العاشر من أجدادها، ولا يترك كلمة بذاءة إلا ألحقها بها، وكثير منهم ربما يطلق عليها التهديد بالطلاق لأدنى سبب، وكلما حصل شيء هدد بالطلاق، أو حلف بالطلاق، أو قال: إن كذا فأنت طالق، وإن ذهبت فأنت طالق، وإن دخلت فأنت طالق، وإن خرجت فأنت طالق! حتى أصبح الطلاق - والعياذ بالله - ملعبة في ألسنة كثير من الناس، وقد يسمع الجيران صراخ الرجل على زوجته، وضجيجه ووعيده، ويراه الأطفال، وهو بهذه الصورة كأنه سبع ضار، وقد احمرت أوداجه، وخرجت عيونه، وارتفع نبضه، وارتفع صوته، وفقد صوابه، فيتعجبون أن أباهم يكون بهذه الصورة التي لم يألفوها ولم يعرفوها، فيتعود الأطفال حينئذٍ على إهانة أمهم؛ لأنهم رأوا الأب يهينها، فيشجعهم ذلك على إهانتها، ويحتقرونها، ولا يعرفون لها فضلاً، وينشئون على العقوق بها؛ فتكون الأم تصطلي بنيران عدة، من جهة نار الزوج الذي لا يعرف لها قدراً، ولا يقيم لها وزناً، ومن جهة أخرى: نار الأطفال الذين تعودوا على انتهاك حقوقها، والإيذاء لها، والاعتداء عليها، وربما لا تجد مصدراً تشتكي إليه، فلا تجد أباً يمكن أن يسمع كلامها، أو أخاً تشتكي إليه، ولو شكت إلى أهلها فربما طلقها الزوج، أو ما أشبه ذلك. فليعلم المسلم خاصة أن الله تعالى بالمرصاد لكل الظالمين، ومن أظلم الظالمين رجل ملكه الله تعالى امرأة، فكانت عانيةً عنده، وأسيرةً في يده؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله في النساء، فإنهن عوان عندكم} أي: كالأسيرات في بيوتكم وتحت ملككم، فكان يجب على الرجل أن يتقي الله تعالى في هذه المرأة، فلا يظلمها، بل يعرف لها حقها، فأنصح الإخوة أن يراجعوا هذا الباب، وألا يستجيبوا لنزوات النفس، ودوافع الهوى، وأن يعرفوا أن للمرأة حقاً. وأنا أعرف أن كثيراً من النساء يصبن بألوان من الآفات والأمراض الظاهرة والخفية، وما ذلك إلا بسبب كثرة اعتداء الرجل عليها، وإهانته لها، وبخسه لحقها، فهو لا يمكنها من السفر، ولا من الذهاب، ولا من الإياب، ولا يسافر بها، ولا تشارك المسلمين في أعمال، ولا في عبادات، ولا في صلوات، ولا تستطيع أن تخرج أحياناً إلى جيرانها، ولا يخرج بها إلى السوق لقضاء حقوقها الضرورية، ولا يذهب هو أيضاً لقضاء هذه الحقوق، ولا يوكل من يقوم بها، ولا يأتي بها، ولا يأذن لها أن تتصل بأحد، ولو بالهاتف إلا قليلاً، وقد يتجمع هذا الشر كله في بيت واحد عند بعض الناس، وأعرف نماذج من هذا النوع، وليس هذا مبالغة، وقد يكون هذا الشر مفرقاً في بيوت كثيرة، فعلى الإنسان أن يعرف أنه موقوف بين يدي الله: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] ومما سوف تسأل عنه: ماذا قدمت لأهلك؟ وماذا صنعت لهم؟ وإن من الظلم -أيها الإخوة- بل من أظلم الظلم للزوجة والأولاد أن يهمل الإنسان رعايتهم، ويهمل القيام على شئونهم الدينية، فلا ينصح لهم، ولا يذكرهم بالله، ولا يأمرهم بالمعروف، ولا ينهاهم عن المنكر، بل غايته أنه أحضر لهم أحياناً وسائل الإفساد من تلفزة، وربما فيديو أحياناً، وأشرطة الأغاني والمجلات الخليعة للزوجة وللأولاد وللبنات وغير ذلك، وترك لهم الحبل على الغارب في هذا البيت، وقد يكون في البيت خدم وسائق غير مسلمين وغير ذلك، والأب لا يدري، وآخر من يعلم، وقد منحهم ثقة مفرطة، وترك أمرهم، وهذا لاشك أنه من الظلم، لأنهم بحاجة إلى رعايتهم في أمور دينهم كما هم بحاجة إلى رعايتهم في أمور دنياهم. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 80 ¦ الصفحة: 11 حكم توبة العلماني السؤال ما رأيك في توبة العلماني، هل تقبل منه توبته أم لا؟ الجواب نعم، إذا تاب إلى الله تعالى توبة صادقة نصوحاً، وأظهر الإيمان، وبدأ يكتب عن الدين، وينتقد المفسدين، فمن تاب تاب الله عليه، والله تعالى يتوب على الكافر، ويتوب على الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، ويتوب على المشرك، فكل من تاب تاب الله عليه. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 12 بعض المفطرات في نهار رمضان السؤال يقول: دخل والدي المستشفى في نهار رمضان، وقد كشفوا عليه بالمنظار بحيث أدخلوا لياً عن طريق الفم إلى المعدة علماً أنهم لم يضعوا في المعدة أي مواد مفطرة، وإنما ذلك للكشف مع أنه لم ينزل قيء، فهل هذا مفطر؟ الجواب ما دام أنه دخل عن طريق الحلق ووصل إلى المعدة -أرى أنه لا يستخدم مثل هذا في نهار رمضان أبداً- فأرى لوالدك أن يقضي يوماً بدله، والله تعالى أعلم. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 13 أهمية إقامة الصلاة في الميكرفون السؤال هذا يسأل عن الإقامة بالميكرفون، ويقول: إنها تسبب تهاون الناس وتأخرهم؟ الجواب هي قد تسبب تهاون بعض الناس، لكنها قد تسبب أيضاً إسراع بعض من الكسالى الذين ربما تفوتهم بعض الصلاة، فأرى أنه لا بأس أن يقيم الإنسان في الميكرفون حتى ينبه من حوله إلى الإسراع والمبادرة إلى الصلاة. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 14 صلاة التراويح تعادل قيام ليلة السؤال هل يكفي أن يصلي الإنسان التراويح حتى يحصل على أجر قيام ليلة؟ الجواب نعم، إن شاء الله تعالى. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 15 حكم حضور الدروس وترك إمامة المسجد السؤال ما رأيكم في مؤذن في مسجد يوكل من ينوب في بعض الأحيان، وذلك ليحضر مثل هذا الدرس؟ الجواب إذا كان التوكيل في حالات قليلة لحاجة ومصلحة ظاهرة، فلا حرج في ذلك إن شاء الله. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 16 توجيه لشاب السؤال أرجو أن توجه لي كلمة لعل الله أن يهديني بها، وكذلك إخواني الذين هم مثلي؟ الجواب أدعو هؤلاء الإخوة إلى الإدمان على حضور الدروس العلمية والمحاضرات، وكذلك سماع الأشرطة وقراءة بعض الكتيبات اليسيرة، لعلهم يجدون فيها ما يقوي إيمانهم، ويبعدهم عن مثل هذه الأشياء التي ما يزالون يقيمون عليها. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 17 التوبة والندم من المعاصي السؤال كنت غير ملتزم، لكن ليس بأنني فعلت شيئاً من الكبائر، ولكني كنت أتكلم بالكلام السيئ نظراً لأني كنت أرافق بعض الشباب الغير ملتزمين، وأنا الآن التزمت والحمد لله، لكن الشيطان يلاحقني في كل مكان حتى كأنه يكلمني، ويقول لي: إنك تذهب إلى المسجد للرياء والسمعة، فلا أدري هل تقبل توبتي؟ الجواب نعم، من تاب تاب الله عليه، وعليك إن كنت ظلمت أحداً، أو تكلمت في عرضه، أن تكثر من الاستغفار له، وأن تكثر من الكلام الطيب الذي يكفر الله تعالى به عنك، مثل: ذكر الله، وخاصة كلمة لا إله إلا الله، فإنها أفضل الذكر، وأفضل الكلام، والإكثار من قراءة القرآن، والاستغفار، والله تعالى غفور رحيم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74] . الجزء: 80 ¦ الصفحة: 18 كيفية الإحرام من الميقات السؤال من أي المواقيت يحرم من يريد العمرة، لكنه وصل إلى جدة قبل أن يحرم؟ وهل تسن ركعتا تحية المسجد في الحرم قبل أداء العمرة أم أنه يجب الشروع في العمرة دون حاجة إلى السنة؟ الجواب لا تسن، لأن الطواف هو تحية للمسجد، وبعد الطواف سوف يصلي ركعتين، فلا حاجة أن يصلي ركعتين تحية للحرم ما دام أنه يريد أداء العمرة، أما من ذهب إلى جدة، فعليه أن يحرم إذا حاذى الميقات سواء كان في الطائرة أو في غيرها، وفي الطائرة يعلنون عن قرب الميقات، فيقولون: بقيت ربع ساعة أو عشر دقائق على الميقات، فعليه أن يحرم، أما إن وصل إلى جدة، فعليه أن يخرج إلى الميقات، وهو رابغ، أو ما يحاذيه. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 19 حكم خروج النساء إلى الأسواق السؤال ستبدأ إجازة المدارس بعد يومين، ستخرج جماعات من النساء إلى الأسواق ليلاً كالعادة في كل سنة من هذا الشهر المبارك، فأرجو توجيه كلمة للنساء ولأولياء الأمور توضحون فيها المخاطر الناتجة عن التسوق ليلاً؟ الجواب نعم، خروج النساء إلى السوق ينبغي أن يقيد بالحاجة، فلا تخرج المرأة إلا لحاجة، أما إن كان خروجها لمجرد التسوق، أو الفسحة، أو قضاء وقت الفراغ، فهذا مذموم. ثانياً: إذا خرجت، فينبغي أن يخرج معها وليها، وأي عيب أن يخرج معها، فيحفظها، ويكون قريباً منها، ويكون في ذلك بعد عن أن تنهبها عيون الذئاب الجائعة، أو تمتد إليها ألسنتهم أو أيديهم بالسوء؟! وإذا أمكن أن يقوم الرجل بقضاء حاجات أهله بنفسه، فإن ذلك أحوط وأولى، وإذا قُدِّر أن الرجل خرج بأهله إلى السوق، فينبغي أن تخرج المرأة بعيدةً عن الطيب، بعيدةً عن لبس الملابس الجميلة، أو المثيرة، أو الجذابة في شكلها وهيئتها، أو الملابس الضيقة، بل تلبس ملابس فضفاضة، وملابس غير ملفتة للنظر، وبعيدة عن الطيب. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 20 من هم مساكين الحرم؟ السؤال من هم مساكين الحرم؟ وهل كل من يتسول في الحرم يعتبر من مساكينه، أقصد المساكين الذين تجب لهم الفدية؟ الجواب هم من وجدوا في الحرم سواء من أهل الحرم، أو من الطارئين عليه من غيره ممن يظهر عليهم الفقر والمسكنة. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 21 حكم وضع الحذاء والطفل أمام المصلي السؤال هناك أمور تعملها بعض النساء ونود أن نسأل عنها: تستقبل الأحذية بحيث تضعها أمامها، أو أن تضع طفلها النائم أمامها. الجواب الأولى أن تضع الحذاء وراءها، أو بين قدميها، أو أن تصلي وهي لابسة الحذاء أيضاً إن كان هذا لا يؤذي من حولها. وكذلك وضع طفلها النائم، فتضعه في المكان الذي تطمئن إليه فيه، ويكون بعيداً عن إيذاء الآخرين، وإذا أمكن أن يكون طفلها لا يأتي معها أصلاً بأن أمكن أن يبقى في بيتها، ويوجد من يقوم عليه، كان هذا أولى، وإن بقيت هي مع أطفالها في البيت وصلت ما كتب لها، فهذا خير. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 22 حكم لبس القفاز في الصلاة السؤال ما حكم لبس القفاز أثناء الصلاة؟ الجواب لبس القفاز أثناء الصلاة جائز. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 23 حكم متابعة الإمام السؤال ما حكم إطالة السجود بعد الإمام للدعاء؟ الجواب ينبغي أن تنهض مع الإمام أو بعده بيسير. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 24 حكم المداومة على صلاة القنوت السؤال ما حكم المداومة على صلاة القنوت من غير رمضان؟ الجواب إذا كان السؤال عن الوتر فنعم، فالوتر مشروع في كل وقت. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 25 حكم تقبيل الأيدي بعد الدعاء السؤال ما حكم تقبيل الأيدي بعد الدعاء؟ الجواب تقبيل الأيدي بعد الدعاء ليس له أصل قط. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 26 حكم البكاء في الصلاة السؤال ما حكم رفع الصوت بالبكاء أثناء الدعاء؟ الجواب إذا غلبها البكاء، ولم تستطع كتمه، فلا شيء عليها، فإن استطاعت، فعليها أن تكتمه ما استطاعت. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 27 حكم الوفاء بالنذر السؤال امرأة نذرت أنها إذا نزلت بيتاً ملكاً فسوف تقوم ببناء مسجد في منزلها، ونذرت أن تقوم الليل، فوضعت المسجد، وصلت به أياماً ثم تركته وهي تقوم الليل أحياناً؟ الجواب عليها أن تقوم الليل دائماً ما دامت قد أنها نذرت ذلك، ولو أن تقوم بثلاث ركعات من الوتر كما نذرت والتزمت بذلك. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 28 الإحسان إلى الجيران السؤال عندنا جيران لنا إذا فضلت فضلة من طعامهم، أتوا بها، ونحن والحمد لله لسنا بحاجة إليها، فهل لنا ردها أم لا؟ أفتونا الجواب إن قلتم: ليس لنا بها حاجة ليبحثوا عمن هو أحق بها وأحوج فلا حرج، وإن أخذتموها وأعطيتموها من يحتاجها، فلا حرج أيضاً، وقد يكون هذا أولى من أجل جبر خواطرهم. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 29 شرود الفكر في الصلاة السؤال يقول: إني شاب أحب الدين والمتدينين، ولكن قلبي قاسٍ، وإذا صليت وجدت فكري شارداً، وتنتهي الصلاة، ولا أفقه شيئاً منها؟ الجواب ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت، وإن العبد لينتهي من صلاته -كما في الحديث الذي في السنن وهو صحيح- ما كتب له إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها سبعها ثمنها تسعها عشرها، فعليه أن يستحضر قلبه في الصلاة ما استطاع، ويدافع وسواس الشيطان، ويقبل على صلاته، ويبكر إليها، ويحسن الطهور، ويصلي إن استطاع، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويبعد الشواغل عن قلبه، ويحرص على الإقبال على العبادة في كل وقت، وما دام يحب الدين والمتدينين، فهو إن شاء الله تعالى إلى خير. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 30 الدعوة إلى الله في الأسواق والأرصفة السؤال يقول: ما رأيكم بتوجيهنا نحن الشباب لنقوم هذه الليلة بجولات هادفة لدعوة إخواننا أهل الأرصفة والشوارع إلى الله انطلاقاً من هذا المسجد بعد التراويح، أليس هذا العمل جيداً؟ وإذا كان كذلك، فلماذا أنتم لا تقومون بتكوين جماعات تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأنتم القادة ونحن العاملون؟ الجواب سبق أن دعوت الإخوة في مسجد المحيسني في درس بعنوان: خمسة مقترحات، إلى مثل هذا العمل، وليس في هذه الليلة فقط، بل في كل ليلة فيقوم الإخوة مثنى وثلاث ورباع أيضاً بجولات على إخوانهم في الشوارع والأرصفة. فعلى الإخوة أن يرتادوا هذه الأماكن وغيرها؛ وعليهم أن يرودو هؤلاء الشباب، ولا يطيلوا البقاء عندهم، فيثقلون عليهم، ولتكن الجلسة خمس دقائق، فيها بسمة طيبة، وكلمة طيبة، ودعوة إلى الله، وكتاب، وشريط، ودعوة إلى مشاركتنا في الصلاة في المسجد، وتذكير لهم بإخوانهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي تحرك قلوبهم، وأن تحسنوا الظن بهم، ففطرهم سليمة، وفيهم خير كثير. وأنا أدعو الإخوة في هذه الليلة بالذات -ما دام أن الأخ طلب- أن يخرجوا في هذه الليلة إلى هذه الأماكن -أماكن تجمع الشباب- ويزوروهم ويتحدثوا معهم، ويبلغوهم سلامنا، وسلام إخوانهم في هذا المسجد، ودعاءنا لهم بأن الله تعالى يبارك لهم في أوقاتهم وشبابهم، ويحفظهم في أنفسهم، وفي دينهم، وفي عقولهم، وفي أموالهم، وفي أعراضهم، ويقيهم شر عدوهم، فيبلغوهم سلامنا ودعاءنا، ويتكلموا معهم بالكلام الطيب المفيد. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 31 حكم أخذ المصاحف من المساجد السؤال ما حكم أخذ القرآن من المسجد؟ وهل في ذلك إثم مع أنني كنت قد أخذته؟ الجواب إذا كان هذا المصحف وقفاً في المسجد، فلا ينبغي إخراجه، ومن أخرجه فعليه أن يعيده إلى المسجد. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 32 حكم رفع الصوت بالقرآن السؤال يقول: لقد ذكرت في كتابك وقفات للصائم -صفحة (40) في الوقفة العاشرة- أن رفع الأصوات عند قراءة القرآن ليس من سمت المؤمنين بل هو منكر، فما هو حد رفع الصوت؟ والذي دعانا لذلك أننا فهمنا أننا لا نرفع أصواتنا مطلقاً، فإن كان كذلك، فاعلم أن في هذا مشقة على من تعود رفع الصوت، وكذلك بعدم رفع الصوت سوف يكون بعض الناس كسولاً؟ الجواب لم أقل هذا الكلام الذي نقلته عني في الكتاب، وإنما خلاصة الكلام الذي ذكرته أنه إن كانت الأصوات متداخلة بحيث لا يشوش بعضها على بعض، ومستوى رفع الصوت واحد تقريباً، وكل إنسان يقرأ وهو مرتاح لا يشوش عليه من حوله، فهذا لا بأس به، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعرف منازل الأشعريين إذا نزلوا بالليل، وإن لم أكن رأيت منازلهم في النهار من أصواتهم بالقرآن} . وإنما الذي نهيت عنه هو أن بعض الناس يرفع صوته بالقرآن رفعاً بليغاً بحيث يكون مخالفاً للأصوات الأخرى المختلطة، فيشوش بذلك على من حوله، أو يكون منفرداً، فيرفع صوته رفعاً بليغاً أيضاً، فيشوش على الآخرين الذين يقرءون خفية، أو يقرءون بصوت غير مرتفع، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الذي رواه أصحاب السنن وسنده صحيح: {كلكم يناجي ربه، فلا يجهر بعضكم على بعض} أي: لا يشوش بعضكم على بعض. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 33 كيفية صلاة الاستخارة السؤال يقول: أرجو أن تجيب على هذا السؤال، دعاء الاستخارة من السنن التي يجهلها بعض المسلمين، وأنا من ضمنهم، وأرجو أن تبين لنا الصفة الشرعية، وهل يؤتى بالدعاء قبل أن يعزم الإنسان على الأمر، أم هل يقال بعد العزم؟ الجواب أما دعاء الاستخارة، فقد رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، فيقول: إذا هم أحدكم بالأمر، فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويسمي حاجته- خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك، فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به} . هذا هو الدعاء، وهو مشروع في الأمور التي يتردد فيها الإنسان، ولا يتبين له فيها وجه الخير، فيطلب من الله تعالى أن يوفقه لما هو الخير، وهذه الصلاة تصلى في أي وقت، اللهم إلا في أوقات الكراهة -لا تصلى في وقت الكراهة- إلا إذا احتاج إلى ذلك، كأن يكون كان هناك أمر يفوت، مثلاً يكون هذا الأمر ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ولو لم يحسمه قبل طلوع الشمس، فإنه يفوت، فمن الممكن في هذه الحالة أن يصلي بعد الفجر، أما إن كان في الأمر فسحة، فيؤجل الصلاة إلى وقت ليس من أوقات النهي التي ينهى عن الصلاة فيها، ثم يصلي هاتين الركعتين، ثم يدعو هذا الدعاء. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 34 كيفية قضاء الصلاة الفائتة السؤال هذا أخ بعد السلام والدعاء يقول: هل توجد صلاة كفارة عن الصلوات التي فاتت المسلم في عمره؟ وما هي كيفيتها؟ وهل ورد في ذلك حديث صحيح؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب من ترك الصلاة، فعليه أن يصليها إن كان نام عنها أو نسيها، فيصليها إذا ذكرها أو إذا استيقظ، وجمهور أهل العلم يرون أنه يصلي ما ترك من الصلوات لأي سبب تركها، فقضاء الصلاة هو بأن يصليها كما هي: إن كانت رباعية صلاها أربعاً، وإن كانت ثلاثية صلاها ثلاثاً، وإن كانت ثنائية صلاها اثنتين. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 35 تشجيع الشباب على فعل الخير السؤال يقول: السلام عليكم ورحمة الله، نداء عاجل وبعد: لقد تحدثت الليلة الماضية عن قضية في غاية الأهمية، وهي العشق، وعالجت القضية معالجة شافية، ولكن حبذا لو رفعت اللبس الذي حصل عند بعض الشباب مما جعلهم يحجمون عن أفعال الخير، ولا يستثمرون الفرص المتاحة أمامهم من تعلق بعض الشباب بهم، واستغلال ذلك بالنصح والإرشاد إلى الطريق المستقيم، وتوزيع الشريط الإسلامي إلى آخره، فهؤلاء الشباب يعملون لهدف نشر الخير، والأخذ على أيدي الشباب، فحبذا لو فصلت في ذلك، ووجهت هؤلاء الشباب العاملين إلى الخير الوجهة السليمة، وشجعتهم على ذلك، وجزاك الله خيراً. الجواب نعم، نشجعهم على فعل الخير، وما من خصلة من الخصال إلا ولإبليس فيها غايتان: إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط، فكما أننا لا نأذن للإنسان ولا نبيح له أن يعمل عمله رياءً وسمعةً، كذلك لا نجيز له أن يترك العمل الصالح خوف الرياء والسمعة. وأيضاً كما أننا لا نبيح للإنسان أن يتسامح في هذه الأمور، ويطلق بصره، أو يتيح للناس فرصة وقوعهم في مثل هذا الأمر، كذلك ليس من الحق ولا من العدل أن يترك الإنسان عمل الخير خشية الوقوع في هذه الأمور، أو أن يجر الناس إلى مثل ذلك فلا إفراط ولا تفريط، وعلى الإنسان أن يفعل الأسباب، ويتقي الله تعالى ما استطاع. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 36 أحوال إخواننا المسلمين في الجزائر السؤال نرجو منك أن تخبرنا عن أحوال إخواننا المسلمين في الجزائر، فنحن متعطشون لأخبارهم أيما تعطش، فنرجو منك أن توجز لنا أخبارهم. الجواب آخر خبر وصل إليّ اليوم، فقد وصل إليّ ورقتان فيهما وثيقتان تدلان على أن المحفل الماسوني في الشرق الأوسط قد رفع رئيس تلك الدولة، ورفع وزير الدفاع خالد نزار من المرتبة الثامنة والعشرين في المحفل الماسوني إلى المرتبة الثانية والثلاثين، وقد وصل إليّ الشهادتان اللتان فيهما بيان ذلك، ويبدو أنهما نشرتا في بعض الصحف التركية، وفيهما بعض الترجمة العربية، فهذا آخر ما وصل إليّ من الأخبار، وهناك أخبار متداولة يسمعها الناس جميعاً. ونسأل الله تعالى أن يعز الإسلام في ذلك البلد وفي كل بلد. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 37 حكم صبغ الشعر السؤال ما حكم صبغ الشعر بغير اللون الأسود، بقصد الزينة لا بقصد التشبه بالكفار؟ الجواب إذا اجتنبت المرأة السواد، فلا عليها أن تصبغ شعرها، لكن لا ينبغي أن يكون صبغ شعرها ديدناً لها كل يوم تحدث له لوناً جديداً وتلونه بألوان شتى، وتحاكي في ذلك الصبغات الموجودة عند نساء الكفار. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 38 حكم وضع الحناء للمرأة السؤال ما حكم عدم وضع الحناء في اليدين؟ وحكم الحديث الذي ينسب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام والذي فيه أن امرأة توفيت وليس في يديها حناء، عند ذلك قال عليه الصلاة والسلام: انظروا إن كان في يدها حناء أم لا، ليرى إن كانت لم تضع الحناء لم يصل عليها. الجواب هذا ليس بصحيح، ووضع الحناء أمر جائز، وهو من جملة الزينة. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 39 أهمية الثبات على الالتزام السؤال يقول: الرجاء التنبيه على أهمية الثبات على الهدى والالتزام، وعلى أهمية الرفقة الصالحة، والحذر الشديد من الرفقة السيئة خصوصاً الشباب الصغار الملتزمين، كيف لا وكثير من الشباب تجده ملتزماً، ثم يستخفه الشباب المنحرف، ومن ثم يبتلى مثلهم، فالرجاء التنبيه على أهمية الثبات، وسؤال الله عز وجل الثبات، وابسطوا لنا الجواب وفقكم الله الكريم الوهاب. الجواب لا شك أن الثبات على أمر الهداية لا يقل أهمية عن الهدى والهداية بذاتها، فإن الإنسان قد يعرف طريق الهداية، ثم ينحرف - والعياذ بالله- فيجعل الله صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء، فلا يقل أهمية عن الحصول على الهداية ثبات الإنسان عليها، وقد قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] . فعلى العبد أن يتقي الله تعالى، ويسأل الله تعالى الثبات بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويسعى إلى الحصول على وسائل الثبات، والتي من أهمها أن يعلم أن الأمر كله بيد الله، وأنه ليس بيده شيء، وأنه لم يحصل على الهداية بقوته وحوله، وإنما بحول الله تعالى وقوته، فعليه أن يكثر من سؤال الله تعالى، وعليه أن يكثر من الاستغفار، وعليه أن يعلم أنه ليس بيده شيء إلا أن يوفقه الله تعالى لذلك، كما أن عليه أن يكثر من الأعمال الصالحة، فهي مثل الأشجار التي يغرسها الإنسان في التربة حتى تضمن عدم انتقالها، أو ذهاب الريح بها إلى موضع آخر، فصحبة الأخيار من أهم وسائل الثبات. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 40 حكم الإعجاب بالعمل الصالح السؤال في كثير من الأحيان عندما أعمل عملاًً من الأعمال كالصلاة والصيام وغير ذلك، يدخلني الإعجاب بعملي، فهل هذا محمود أم مذموم؟ وإذا كان مذموماً، فأرجو أن ترشدوني إلى الطريق الصحيح لتجنب هذا. الجواب أما العمل الصالح بذاته كالصوم والصلاة فهو محمود لا شك، وأما الإعجاب فلا شك أنه مذموم، فالعجب بهذا العمل مذموم، وكيف تعجب بهذا العمل والله تعالى هو الذي قد وفقك إليه، وحرك همتك له، ورزقك الإقبال عليه، وهو الذي خلق كل الجوارح التي استخدمتها في هذا العمل، وهو الذي خلق القلب الذي اتجه إلى هذا العمل، وهو الذي خلق اللسان الذي ذكر قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] وهو الذي أبعدك عن الأعمال السيئة، ووفقك للأعمال الصالحة، فكل ذلك منه وكرمه، وينبغي للعبد ألاَّ يعجب بعمل عمله. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 41 حكم قراءة الفاتحة للمأموم في الصلاة الجهرية السؤال ما هو القول الراجح في قراءة الفاتحة في التراويح، علماً أن الإمام لا يسكت؟ الجواب لا يلزمك أن تقرأ الفاتحة على القول الراجح من أقوال أهل العلم، بل قراءة الإمام تكفي من خلفه، فإن سكت قرءوا، وإن قرأ أنصتوا، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإذا قرأ - أي: الإمام- فأنصتوا} قال الإمام مسلم: وهذا حديث صحيح. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 42 صحة حديث: من صام يوماً في سبيل الله السؤال ما صحة حديث: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بينه وبين النار سبعين خريفاً} ؟ الجواب الحديث هو: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} والحديث في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري. الجزء: 80 ¦ الصفحة: 43 القيام في صلاة الليل السؤال إذا جلس المأموم حتى يركع الإمام في التراويح، فهل يعد ممن قام ليله؟ الجواب إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف كتب له ذلك، فإن صلى قائماً كتب له الأجر كاملاً، وإن صلى قاعداً، فله نصف أجر، كما جاء في الحديث: {صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم} . الجزء: 80 ¦ الصفحة: 44 تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة تحدث الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن مسألة حماية الله تعالى لعبده إذا عرفه في الرخاء، فبدأ ببيان حقيقة الدنيا ، وفقر الإنسان الفطري، وذكر نماذج من حفظ الله للغرباء، وعرف معنى التعرف على الله في الرخاء، ضارباً بعض الأمثلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعض صحابته، وقصة فرعون الذي لم يعرف الله في الرخاء، فلم ينجه في الشدة. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الدنيا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده رسوله. أيها الإخوة: إن الله تبارك وتعالى بين لنا في القرآن الكريم أعظم بيان وأوضحه حقيقة هذه الحياة الدنيا، فقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} [الكهف:45] وقال سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} [يونس:24] وقال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] . وبيَّن ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته أوضح بيان، فقال عليه الصلاة والسلام: {مالي وللدنيا، ما أنا والدنيا إلا كراكب استظل تحت ظل شجرة ثم قام وتركها} إن هذه الدنيا كما رُوي عن عيسى عليه السلام: [[إنما هي قنطرة يجب على الإنسان أن يعبرها ولا يَعمُرها]] فهذه الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها، أما الدار التي فيها القرار فهي الدار الآخرة: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64] . الجزء: 81 ¦ الصفحة: 2 الإنسان فقير بطبعه ولذلك فإن هذا الإنسان في هذه الدار إنما هو فقير بطبعه، كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:17] فالإنسان فقير مهما يكن جمع من الأموال ومهما يكن له من الأولاد، ومهما يكن له من السلطان؛ فهو فقير لأن المال يزول، والولد يموت، والسلطان يزول، ويبقى الإنسان ضعيفاً محتاجاً، وحتى مع بقاء المال والجاه والسلطان والولد يبقى الإنسان فقيراً محتاجاً إلى الله عز وجل. وأنتم تعرفون في حياتكم العملية كثيراً من الناس حتى مع غناهم ومع سلطانهم ومع كثرة أموالهم وأولادهم تجدونهم يصابون -مثلاً- بالقلق النفسي أو بغيره من الأمراض فتتحول حياتهم إلى جحيم لا يطاق، ويتمنى الواحد منهم أن يتخلى عن كل ما يملك في سبيل تحصيل السعادة التي فقدها، وهذا يبين لك أن الغنى ليس في المال والولد وغيره، وإنما الغنى في القلب، وأن العبد فقير في جميع الأحوال محتاج إلى الله عز وجل ثم هو مع هذا كله؛ حتى ولو فرض بقاء المال والولد والسلطان وحتى لو فرض وجود السعادة في قلبه؛ هو فقيرٌ في هذه الحال، ولا أدل على فقره من أنه يبقى خائفاً من هذا الموت المحتوم المقدور عليه، فهو يترقبه بكرة وعشياً، وهذا الموت هو سلطان جعله الله على رقبة كل مخلوق حتى الرسل والملائكة، فجميع المخلوقين يموتون ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. ولذلك فالإنسان يحس دائماً وأبداً بالخوف والقلق من هذه الأعراض التي تنهشه أو تتناوشه، ثم من هذا الموت الذي لا بد له منه، ولذلك روى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً مربعاً، وخط في وسطه خطاً خارجاً منه، وخط خطوطاً صغاراً إلى هذا الخط الطويل من جهته التي في الوسط -في وسط المربع- ثم قال صلى الله عليه وسلم: هذا الإنسان -هذا الخط الطويل الخارج من المربع هو الإنسان- وهذا أجله محيط به، وهذه الخطط الصغار هي الأعراض، إن أخطأه هذا نهشه هذا} . إذاً: فالإنسان معرض لهذه الأعراض من الأمراض والمصائب والنكبات والفقر وغيرها؛ فإن سلم من هذا أصابه هذا ولابد، لأن الدنيا دار أقدار، ولا بد فيها من المصائب لكل إنسان، ثم بعد هذه الأعراض كلها يأتي هذا الموت الذي يقطع على الإنسان آماله وطموحاته وتطلعاته. هذا هو الإنسان، وإذا كنا جميعاً ندرك حقيقة هذا الأمر وحقيقة هذه الدنيا، فإننا نجد كثيراً من الناس، بل أكثرهم يعيشون دنياهم في خوفٍ وقلق، فلو نظرنا -مثلاً- إلى غير المسلمين بكافة أنواعهم لوجدنا أنهم يعيشون في حالة خوفٍ دائم لا يهنأ لهم ضمير ولا يرتاح لهم بال؛ خوفاً من هذه المصائب والكوارث، ثم خوفاً من هذا الموت الذي يدركون أنه ملاقيهم لا محالة. ولذلك تجدون الكافرين يشعرون بأن هذا الكون كله عدوٌ لهم، وهم حين يتجهون فيه إلى العلم الذي يكتشفون فيه أسرار الكون؛ يتجهون من منطلق شعورهم بأن هذا الكون عدوٌ لهم فيحاولون اكتشافه، ويسمون هذه الاكتشافات قهراً للطبيعة؛ لأنهم يظنون ويدركون أن الطبيعة عدو لهم. أما المؤمن فإنه يدرك مع هذا الخوف الذي يصيب قلبه ويعرض له أحياناً أن الملجأ من الله عز وجل هو إليه؛ كما قال الله عز وجل في شأن الثلاثة الذين خلفوا: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] ويقول سبحانه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ) [الذاريات:50] . فالإنسان إذا خاف من شيء فر منه، إلا المسلم فإنه إذا خاف من الله عز وجل فر إليه، ولذلك يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبد الذي يخاف من المصائب، ويخاف من الأمراض، ويخاف من الأعراض، ويخاف من الموت، ويخاف مما بعد الموت، وما بعد الموت أشد من الموت وإن كان الموت أشد مما قبله، المؤمن الذي يخاف من ذلك كله لا مهرب له ولا مفر إلا عبر طريق واحد؛ وهو أن يتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء ليعرفه الله عز وجل في حال الشدة. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في النصيحة التي وجهها لحبر الأمة عبد الله بن عباس كما يرويها ابن عباس نفسه رضي الله عنه يقول: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك -وفي رواية تجده أمامك- تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في مسنده. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 3 بيان الغرباء ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن الغرباء الذين تعرفوا إلى الله في الرخاء؛ وسلكوا سبيل الاستقامة والصلاح، ورضوا بالله عز وجل وإن سخط الناس، واستقاموا على طريق الإسلام والسنة؛ إن هؤلاء القوم لهم طوبى، وطوبى كما عرفها العلماء: هي الخير الكثير الطيب؛ والجزاء الحسن في الدنيا والآخرة، فهو وعدٌ من الله عز وجل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بالخير الكثير الطيب للغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويُصلحون ما أفسد الناس، وهم قومٌ صالحون قليلون في قوم سوءٍ كثيرون من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم. وهذا الوعد الذي جاء على لسان محمد صلى الله عليه وسلم شهد الواقع والتاريخ بصدقه، فإننا نجد الغرباء الأولين الذين بدأ الإسلام على أيديهم أول مرة؛ نجد أن الله عز وجل كتب لهم من الخير الكثير ما يعرفه الخاص والعام، فهم حين كانوا في مكة والناس حولهم مشركون كثيرون وهم مسلمون قليلون؛ والناس يعادونهم ويرمونهم عن قوس واحدة، نجد أن الله عز وجل يقيض لهم من يحميهم وينصرهم. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 4 السلف الصالح ثم إن الغرباء بعد ذلك على مدار التاريخ يلقون من العناية والتكريم ما لا يخطر على بال، وأضرب لكم مثلاً واحداً بما لقيه رجل من الغرباء ألا وهو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي كان إماماً في العلم والعمل والدعوة والجهاد، فقد ذكر مترجموه من سيرته: أن قازان ملك التتر لما جاء بجيشه وجنده إلى بلاد الإسلام، وعسكر قريباً من دمشق وأراد أن يغير عليها، ذهب العلماء إليه ومعهم شيخ الإسلام ابن تيمية، فلما دخلوا عليه قام شيخ الإسلام وتكلم أمامه بكلام شديد، وقال له: "يا قازان إن أجدادك الكفار المشركين لم يصيبوا المسلمين من الضر والضرر والأذى مثلما حاولت أنت، مع أنهم كانوا مشركين وأنت تدعي أنك مسلم" فقال له قازان: أيها الشيخ ادعُ لي فرفع شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يديه وقال: "اللهم إن كان عبدك هذا جاء مجاهداً في سبيلك لنصرة دينك وإعلاء كلمتك فأيده وانصره، وإن جاء محاداً لك مؤذياً لعبادك المؤمنين فأهلكه واقض عليه وعلى جنده"، وظل شيخ الإسلام يدعو على هذا الطاغية، وهذا الطاغية قد رفع يديه إلى السماء يؤمن على دعاء شيخ الإسلام، ثم خرج شيخ الإسلام مع العلماء من عنده، فقال العلماء له: إننا لا نريد أن نصحبك؛ لأننا لا نأمن أن يرسل إليك هذه الطاغية في الطريق من يقتلك، فقال الشيخ: وأنا لا أريد أن أصحبكم، فذهب هو في طريق وذهب بقيتهم في طريقٍ آخر، أما هو رحمه الله فلم يصل إلى بيته في دمشق إلا في وسط كوكبة من الجنود الذين ذهبوا من جيش التتر ليحرسوه، أما بقيتهم فإن أحدهم يقول: أما نحن فسلط علينا مجموعة من العيارين فشلحونا وآذونا وأخذوا ما بأيدينا. فهذا أيضا نموذج من الخير الطيب والجزاء الحسن في الدنيا الذي أعده الله تعالى للغرباء. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 5 أول الغرباء ولا أدل على ذلك مما ورد في الرواية الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى ابن إسحاق وغيره- عن عبد الله بن عمرو بن العاص: {أن المشركين اجتمعوا في الحجر فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من شأن محمد؛ إنه قد سب آلهتنا وفرق جماعتنا وشتم أجدادنا وعاب ديننا، لقد صبرنا منه على أمر عظيم، فبينما هم كذلك إذ دخل النبي صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت، حتى إذا مر بهم قالوا له بعض القول وغمزوه به؛ فنظر إليهم ثم مضى وتركهم. حتى إذا مر بهم مرة أخرى قالوا له مثلما قالوا في المرة الأولى، فمضى صلى الله عليه وسلم وتركهم، حتى إذا كانوا في المرة الثالثة قالوا له مثلما قالوا في المرة الثانية، فأقبل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: تسمعون يا معشر قريش، والله لقد جئتكم بالذبح، قال عبد الله: فأخذت القوم كلمته، فوالله ما منهم رجل إلا وكأنما على رأسه طائرٌ واقع، حتى إن أشدهم أذية له ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم! انصرف راشداً، فوالله ما كنت جهولاً} . الجزء: 81 ¦ الصفحة: 6 الصحابة في مكة وهكذا أصحابه رضي الله عنهم قيض الله لهم من يحميهم ومن يجيرهم ومن يعتق عبيدهم حتى أذن الله عز وجل لهم بالهجرة إلى الحبشة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره بسند صحيح قال لهم أو أمرهم بالهجرة إلى الحبشة، وأخبرهم بأن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، فخرجوا فلقوا من جوار النجاشي وعطفه وبره بهم ما أنساهم جور قريش وظلمها وإيذاءها. فلما سمعت قريش بما لقوه في الحبشة أرسلت إليهم من يحاول أن يغير من رأي ملك الحبشة فيهم، ولكن هذين الرسولين باءا بالخيبة والفشل، وقال النجاشي للمسلمين: [[اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي -يعني آمنون- من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم]] وبقي المسلون في الحبشة في خير دار عند خير جار، ثم قيض الله عز وجل لهم بعد ذلك من إسلام الأنصار واستقبالهم وإيوائهم ما لا يخفى على أحد، وكان هذا جزءاً من الخير الكثير الطيب الذي وعد النبي صلى الله عليه وسلم الغرباء في هذا الحديث. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 7 معنى التعرف إلى الله في الرخاء أيها الإخوة: إن العبد الذي يشعر بالخوف ويحتاج إلى الأمن في هذه الدار، ويدرك أنه لا مفر من الله عز وجل إلا إليه؛ يحتاج إلى أن يكون من الغرباء الذين تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء فعرفهم في الشدة، فيا ترى ما معنى التعرف إلى الله عز وجل في الرخاء؟ إن التعرف إلى الله يشمل ثلاثة أمور: أولاً: التعرف إلى الله عز وجل بالإقرار به والإيمان به ومعرفة أنه لا يتصرف في هذه الأكوان ولا يديرها إلا الله عز وجل، وبهذا يخرج الدهريون والشيوعيون والملحدون والصوفيون وغيرهم ممن لا يؤمن بالله أو ممن يعتقد أن هناك مدبراً للكون مع الله عز وجل. ثانياً: التوجه إلى الله عز وجل بالعبادة وصرف كل أنواعها إليه سبحانه لا إلى غيره، فلا يبقى الإنسان بدون معبود كما هو شأن كثيرٍ من الضالين والمنحرفين الذين لا يجدون شيئاً يعبدونه، حيث لم تتوجه قلوبهم إلى عبادة الله عز وجل، فمنهم من يعبد الدنيا، ومنهم من يعبد الكرة، ومنهم من يعبد معشوقته، ومنهم من يعبد المال، ومنهم من يعبد غيرها من الأشياء التي لا يدركون أنهم قد عبدوها وهم في الحقيقة قد عبدوها وتألهت قلوبهم إليها. فلا بد من العبادة، ثم لا بد من العبادة لله عز وجل وحده لا إلى غيره، وهذا هو معنى التوحيد، وهو معنى كلمه لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل، ويخرج بهذا من لا يدركون أنهم عابدون، كما يخرج به من يعبدون غير الله كمن يعبدون الملائكة أو يعبدون الأنبياء أو يعبدون الأولياء أو يعبدون غيرهم من المقربين أو سواهم، فلا بد من التقرب إلى الله عز وجل، والتعرف إليه بالأعمال الصالحة، وكلما زادت عبادة الإنسان وكثرت أعماله الصالحة كان أكثر تعرفاً إلى الله عز وجل، وأكثر قرباً منه، وضمن أن يكون الله عز وجل في الشدائد معه في الدنيا والآخرة. ثالثاً: التعرف إلى الله بأسمائه وصفاته، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر} والله عز وجل له أسماء كثيرة غير محصورة، ولذلك فإن الدعاء المأثور كما نردده في دعاء القنوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة الطويل أنه صلى الله عليه وسلم: {يخر ساجداً تحت العرش فيفتح الله عليه فيحمده بمحامد يعلمه إياها ذلك الوقت؛ لا يعلمها الآن} أي: وقت حياته صلى الله عليه وسلم. فأسماء الله لا يحصيها إلا الله ولكن من هذه الأسماء تسعة وتسعون اسماً لها خاصية هي أن من أحصاها دخل الجنة، فلننظر ما معنى الإحصاء؟ إن الإحصاء يشمل أموراً عديدة: - يشمل أن تعرف هذه الأسماء، فمن كان لا يعرف هذه الأسماء فهو لم يحصها، فعليك أن تبحث عن كتاب من الكتب التي عنيت بإحصاء أسماء الله الحسنى وتحفظ هذه الأسماء عن ظهر قلب. - ثم عليك أن تعرف ما معنى هذه الأسماء، فإن لكل اسم منها معنىً مراداً منها تدل عليه لغة العرب، فعليك أن تتعرف على هذا المعنى. - ثم إن كل اسم منها يدل على صفة من صفات الله عز وجل، فعليك أن تتعرف على الصفة التي يدل عليها هذا الاسم. ثم عليك أن تُقرِّ بهذه الأسماء وبالصفات التي دلت عليها. ثم عليك أن تمرر هذه المعاني على قلبك وتحرص على تذكرها بكرة وعشياً، وتعمل بمقتضاها من فعل الطاعات وترك المعاصي. فإذا فعلت ذلك فإنك حينئذ قد أحصيت هذه الأسماء وقد فزت بالبشارة النبوية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها دخل الجنة} . إذاً: التعرف إلى الله عز وجل يكون بثلاثة أمور: أولاً: بالإقرار به وتوحيده. ثانياً: بصرف العبادة إليه والتقرب إليه بالأعمال الصالحة. ثالثاً: بمعرفة أسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها من فعل الطاعة وترك المعصية. فإذا تعرفت إلى الله عز وجل بهذه الأشياء في حال الرخاء، كان الله عز وجل لك في الشدة، سواء الشدائد التي تعرض لك في الدنيا من الفقر أو المرض أو غيرها، أو في الشدة التي تعرض لك لا محالة عند نزول الموت، أو في الشدة التي تعرض لك في قبرك أو في الشدائد التي تواجهك بعد اليوم في يوم القيامة. وهذا وعد صادق من الله عز وجل على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. فأولاً: الإنسان يحتاج إلى الثبات على دينه، وإلى أن يكون الله عز وجل موفقاً له في ذلك ليحفظه من الشهوات ومن الشبهات. فإذا عرفت الله عز وجل في الرخاء عرفك فيما يعرض لك في شئون دينك، فحفظك من الشبهات التي قد تصدك عن سبيل الله، ولذلك يذكر الله عز وجل في كتابه قصة ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] . وإنك تجد كثيراً من الناس تعرض لهم في فترة من فترات عمرهم -خاصةً في فترة الشباب- بعض الشبهات والوساوس التي تتعلق بالألوهية أو بالنبوة أو بغيرها من قضايا الاعتقاد، فإذا كان الواحد منهم صادقاً في اللجوء إلى الله عز وجل فسرعان ما تزول هذه الشبهة وتغادر قلبه، حتى ولو لم يقرأ في الكتب ولو لم يجد حلاً لما أشكل عليه من القضايا والمشكلات والشبهات، وإنما يدفع الله عز وجل عنه التفكير في هذا الأمر ويغادره إلى غير رجعة ويصبح مطمئن القلب بالإيمان. وتجد آخرين مهما أوتوا من العقل والعلم؛ ومهما قرءوا وسمعوا تجدهم يعانون من ألوان الشبهات بسبب ضعف يقينهم، وضعفت عبادتهم، وضعف تعرفهم إلى الله عز وجل في الرخاء فلم يتعرف عليهم في الشدة. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 8 أمثلة لتعرف الله إلى عبده في الشدة وقد يعرض للإنسان فتنة في دينه أيضاً، فيحتاج إلى أن يكون الله عز وجل معه، وأنتم تسمعون قصة يوسف عليه السلام وما عرض له من امرأة العزيز حين تزينت؛ وقالت: هيت لك، وكان في حكم الرقيق في بيت الملك، وهذه سيدته تدعوه إلى المعصية، بل وتهدده إن لم يفعل بالسجن أو الصغار، فهذا موقف شدة، ولأن يوسف قد تعرف إلى الله عز وجل في الرخاء، فإن الله تعالى يتعرف إليه في هذه الشدة، فيقول: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] . وكذلك قد يعرض للإنسان مصيبة في شأن دنياه كما عرض لإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، فقال الله عز وجل: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] وهذا كما قال أحد الشعراء: خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم فهذا الأمر هو سنة الله عز وجل في أنبيائه وفى أتباعه، فإذا صدقوا في التقرب إليه والتعرف عليه كان الله عز وجل لهم في حال الشدة. وإنني أضرب لكم في نهاية هذه الكلمة مثلين متقابلين يبينان الفرق بين من تقرب إلى الله وبين من تنكر لله عز وجل: المثل الأول: هو ما حكاه الله عز وجل من قصة يونس عليه السلام: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات:140-141] حين أداروا القرعة فوقعت على يونس -عليه السلام- فألقوه في اليم فالتقمه الحوت وهو مليم، يقول الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] فإنه لما قال: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] قال الله عز وجل: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ} [الأنبياء:88] ثم بين تعالى أن هذا ليس خاصاً بيونس بل هو عام لكل من تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء فقال: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:88] . الجزء: 81 ¦ الصفحة: 9 مثل لمن لم يعرف الله في الرخاء وانظر إلى المثل الآخر المقابل لذلك، وهو مثل فرعون حين أطبق عليه البحر وأدركه الغرق، فحينئذ أدرك فرعون أنه هالك لا محالة، وأدرك أن ما كان له من المال والولد والسلطان والخدم لم يعد ينفعه، فقال: {قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال ذلك بعد فوات الأوان، فجاءه الجواب {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91-92] . وفى الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه وقال: حديث حسن صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يقول: كيف لو رأيتني يا محمد وأنا آخذ من حالِّ البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة} وفعلاً بين الله عز وجل مصيره يوم القيامة، فقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود:98] وبين مصيره في حياة البرزخ ويوم القيامة في آية أخرى، فقال: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:45-46] . فيا أيها المسلم، يا أيها العبد الذي يدرك لا محالة أنه معرض لكثير من المصائب والنكبات في نفسه وفى ماله وفى ولده، ومعرض لأن تصيبه مصيبة الموت في كل لحظة، خذ بوصية الصادق المصدوق، الناصح الأمين صلى الله عليه وسلم، فتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء ليعرفك في حال الشدة. أما إذا لم تفعل فإن الله عز وجل يتركك حتى لا يبالي في أي واد هلكت، وحينئذ لا ينفعك أن تجأر إليه إذا نزلت بك الشدة وألمت بك المصيبة. اللهم اجعلنا ممن تعرف إليك في حال الرخاء فتعرفت إليه في حال الشدة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 10 الأسئلة الجزء: 81 ¦ الصفحة: 11 كيفية مدافعة الرياء السؤال الأخير: إني أحب أن أطبق جميع ما أمرني الله سبحانه وتعالى به، وأفعل ذلك على قدر استطاعتي والحمد لله، ولكني أخاف أن يحبط الله عملي؛ لأني أحب أن يعرف الناس ذلك، فأخاف أن يكون ذلك من باب الرياء، أرشدوني إلى حل يخلصني من ذلك؟ الجواب الحل يتمثل في عدة أمور: الأمر الأول: أن يحرص الأخ السائل وغيره على التعرف إلى الله عز وجل حق المعرفة؛ لأنه حينئذٍ سيدرك من عظمة الله عز وجل ما يجعله يحتقر العمل للمخلوقين، ويدرك أن العمل ينبغي ألا يقصد به غير هذا العظيم سبحانه وتعالى، وهذا يحتاج إلى مجاهدة وطول تأمل وتفكر في معاني الأسماء والصفات كما سبق. الأمر الآخر: أن يحرص على كثرة الدعاء بأن يرزقه الله عز وجل النية الصالحة ويحفظه من الرياء. الأمر الثالث: أن يحرص على إخفاء عمله ما استطاع، فإذا ظهر هذا العمل دون إرادته ففرح بذلك، فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تلك عاجل بشرى المؤمن} لما سئل عن الرجل يعمل العمل فيعرف ويذكر بذلك، فقال: {تلك عاجل بشرى المؤمن} فاحرص على إخفاء العمل، فإذا ظهر العمل دون علمك ففرحت بذلك فلا شيء فيه. الأمر الرابع: أن تحرص على مجاهدة نفسك في النية حتى في الأمور الظاهرة؛ لأنني لا أرى أن يترك الإنسان بعض الأعمال التي يعلمها الناس خوف الرياء كإمامة المسجد -مثلاً- أو النصيحة والموعظة أو غيرها من الأمور فيقول أخاف من الرياء، بل عليه أن يؤدي ما يستطيع من هذه الأعمال ويحرص على مجاهدة نفسه، وهذا نوع من الجهاد العملي؛ لأن الإنسان الذي عنده مراقبة ويخاف من الرياء فهذا دليل على وجود شيء من الإيمان في قلبه، فإذا استمر هذا الإيمان وحرص على تنميته فإنه -إن شاء الله- إلى خير، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 12 إجابة المضطر السؤال كيف الجمع بين عنوان المحاضرة وقوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] ؟ الجواب لعل هذه الآية أو معناها جزءٌ مما تهدف إليه المحاضرة -في الجملة- فإن المضطر هو في حال شدة، فإن كان قد تعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء؛ فإن الله تعالى يتعرف إليه في حال الشدة كما وعد، كما إن هذا لا يعني حجر رحمة الله عز وجل، فرحمة الله واسعة وقد يجيب الله عز وجل المضطر إذا دعاه، لعلمه سبحانه بما قام في قلب هذا الداعي من الضعف والانكسار والتذلل والتعبد لله عز وجل فيجيبه سبحانه وتعالى. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 13 حكم مذاكرة الدروس في الاعتكاف السؤال أنا أريد الاعتكاف في العشر الأواخر لكن عندي امتحان بعد العيد فكيف أصنع؟ هل يجوز أن أحمل دروسي معي حيث محل اعتكافي وأكون بين مذاكرة دروسي وبين العبادة؟ وهل يخل ذلك بشروط الاعتكاف، أفيدونا جزاكم الله خيرا؟ الجواب لا بأس بمذاكرة الدروس في حال الاعتكاف؛ لأنها لا تخل بالاعتكاف، وإن كان الإنسان في حال اعتكافه الأصل تفرغه لطاعة الله عز وجل وذكره، ولكن هذه الدروس إن كانت نية الدارس فيها صالحة فهي -إن شاء الله- جزءٌ من التقرب إلى الله عز وجل، وإلا فإن الإنسان يشتغل بها حيناً ويشتغل بعبادة الله وقراءة القرآن أحياناً أخرى حال اعتكافه. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 14 حكم خروج المرأة إلى المسجد مع غير محرمها السؤال ما هي نصيحتكم لأخواتنا المسلمات وبالأخص فئة قليلة -ولله الحمد- من اللاتي يعنيهن السؤال، والسؤال يقول: ما حكم المرأة التي تأتي إلى المسجد مع غير محرمها وبعضهن تكون مع سائق كافر أو تكون مع محرمها ولكنها سافرة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب أما بالنسبة لركوب المرأة مع غير محرمها وخاصة وأنها قد جاءت إلى المسجد، فهذا أمر عجيب؛ لأن المسلمة الحريصة على قيام رمضان وعلى سماع القرآن، فالأصل فيها أن تحرص على طاعة الله عز وجل وتجنب معصيته في كل أمرٍ من الأمور، ولهذا فإنه لا ينبغي لها أن تركب بصحبة سائقٍ وليس معها محرم، كما إنه لا ينبغي للمرأة المسلمة أن تخرج سافرة ولا متعطرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على قوم ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} وبين في الرواية الأخرى معنى قوله فهي كذا وكذا: {فهي زانية} والحديث صحيح، وفي الحديث الآخر الصحيح أيضاً: {ثلاثة لا يُسأل عنهم: رجل عصى إمامه وخرج عن الطاعة، وعبد أبق من مواليه، وامرأة خرج عنها زوجها فتبرجت بعده فلا تسأل عنهم} يعني من شدة ما ينتظرهم من العذاب، وكذلك صح عنه صلى الله عليه وسلم: {نهيه عن الدخول على النساء والخلوة بهن فقال رجل: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} فينبغي للمرأة المسلمة أن تحرص على تعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، وتعليمها وعلى التزامها، وخاصة أولئك الأخوات اللاتي يأتين إلى المسجد لمشاركة المسلمين في الصلاة مما يدل على حرصهن -إن شاء الله- على الخير. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 15 حكم لفظ: صديق الله السؤال درسنا في المدرسة موضوعاً عنوانه كيف يكون الإنسان صديقاً لله، وجوابه هو بالعبادة والتقرب إليه بالطاعات، ولكن هل يجوز هذا التعبير كتعبير فقط؟ الجواب والله في هذا التعبير نظر؛ لأن الصداقة جرى بين الناس في تعريفها معنى معين، ولا أعلم أن هذا المعنى ورد في القرآن أو في السنة، فعلينا إذا أردنا أن نذكر الله عز وجل أو أسمائه أو صفاته أو شيئاً يتعلق به سبحانه أن نقتصر في ذلك على الوارد، وألا نسمي الله عز وجل بأسماء لم ترد أو نصفه بصفات لم ترد، ولو كان معناها صحيحاً ووارداً. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 16 علاج ضعف الإيمان السؤال قبل الأخير: فضيلة الشيخ: يتعرض الإنسان لفترات فتور في إيمانه، فلا يحس بما كان يحس به من قبل في بداية هدايته عند تلاوة القرآن وذكر الموت، فكيف يعالج الإنسان هذا الفتور؟ وما وسائل تقوية الإيمان، جزاكم الله خيراً؟ الجواب أما وسائل تقوية الإيمان فمرت الإشارة العابرة إلى ذلك. أما ما يعرض للإنسان من فتور، فإنني أقول: إنه قد يكون طبيعياً في بعض الحالات، فإن الإنسان إذا اهتدى إلى الله عز وجل وتنسك وأقبل على العبادة؛ يكون في أول أمره متحمساً وشديد الحرص، ثم مع الزمن والاستمرار قد يعرض له بعض الفتور في العبادة؛ وقد لا يجد بعض ما كان يجده من اللذة في أول الأمر، فأقول: إن كل عابد له شِرَّة وله فترة -كما في الحديث الصحيح- فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فالمقصود أن يكون العابد في حالي شرته وفترته، يعني: في حال قوته وضعفه، ألا تخرجه الشدة إلى بدعة وألا يخرجه الفتور إلى تقصير وإخلال بالعبادة، وعليه أن يحرص على أن يرفع نفسه دائماً، فإن الخطر كل الخطر هو أن يرضى الإنسان بالوضع الذي يعيشه، ويقنع بما هو فيه؛ لأنه حينئذ سيبدأ بالهبوط دون أن يشعر. أما حين يحرص الإنسان دائماً على الارتفاع ويجعل له مثلاً أعلى وقدوة بالسلف الصالح، ويحرص على أن يزيد من العبادة بين وقت وآخر فهو حينئذٍ -إن شاء الله- إلى خير ولو حصل له حالات فتور في بعض الوقت. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 17 الأيام دول السؤال تعرض علينا شبهة شيطانية، وهي: أننا في زمن رخاء فلن تأتينا فيه الشدة، فكيف السبيل إلى دفعها؟ الجواب إذا كنا في زمن رخاء فعلينا أن نستغل هذا الرخاء ونستفيد منه حتى يدفع الله عز وجل عنا الشدة، ولا شك أن الرخاء يختلف في الفرد عنه في الأمة، فبالنسبة للأفراد: منهم من هو في حال رخاء، ومنهم من هو في حال شدة، أما بالنسبة للأمة فالناس في هذا البلد لا شك أنهم في حال رخاء وسعة من العيش وبحبوحة من الرزق، ولكنهم في بلدان أخرى هم في حال شدة، فالمسلمون -مثلاً- في أفغانستان لا شك أنهم في حال شدة، والمسلمون في كثير من بلدان الشام كفلسطين ولبنان وغيرها وفي كثير من بقاع الأرض هم في حال شدة وقد سُلط عليهم الأعداء، وهذا يجعلك أيها المسلم تتذكر أن الرخاء لا يدوم، فكما أن رخاء الفرد يتغير فالغني يفتقر والصحيح يمرض، فكذلك رخاء الأمم لا يدوم فإن الأيام دول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فعلينا أن نتعرف إلى الله عز وجل في حال الرخاء فننفق ما وهبنا الله عز وجل من الأموال؛ وندرك أنها ليست لنا وإنما نحن مستخلفون فيها، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] وعلينا أن نستفيد مما أعطانا الله عز وجل في هذه الحال وننفقه في طاعة الله حتى نكون ممن تعرف إلى الله في الرخاء ليعرفنا في الشدة، وييسر لنا أسباب دفعها، وإلا فإن الله عز وجل إذا تخلى عن فرد أو أمة وإن كان بأيديهم أسباب ووسائل كثيرة فهم إلى هزيمة وبوار ودمار. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 18 معاني الرخاء والشدة السؤال أرجو من سماحتكم التفضل بتعريفنا عن معنى الرخاء والشدة، جزاكم الله خيراً؟ الجواب لعله اتضح من خلال الكلمة معنى الرخاء، والشده والرخاء حالة السعة التي تكون في هذه الدنيا للإنسان من توسيع عليه في المال والولد ومن غير ذلك من ألوان النعيم الدنيوي. وأما الشدة فهي ضد ذلك مما يعرض له من الأعراض والمصائب والنكبات، وقد يدخل في الشدة أيضاً ما يعرض للإنسان في شأن دينه من الشدائد، كما أسلفت من الشبهات أو من الشهوات، ويدخل في الشدة شدة الموت، وشدة القبر، كما يدخل فيه الشدائد التي تعرض للإنسان في يوم القيامة. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 19 حفظ الله دائما ً السؤال ما السبيل إلى تقوية الصلة بالله عز وجل؟ وكيف يمكن للإنسان أن يحفظ الله عز وجل دائماً وأبداً؟ الجواب السبيل هو المجاهدة، فالله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وكل إنسان يعرف كثيراً من أسباب الطاعات المقربة إلى الله عز وجل الموصلة إلى رضاه، من الصلاة والصيام والزكاة والصدقات وكثرة النوافل وقراءة القرآن وصلة الرحم وكثرة الدعاء وغيرها مما لا يتسع المجال لذكرها. كل إنسان يعرف أشياءً كثيرة من هذا الباب، ولكن السائل وغيره كثيراً ما يتساءلون عن السبيل الذي يجعل الإنسان يستمر على هذه الأشياء. فأقول: إن الشيء الغالي النفيس لا يأتي إلا بتعب حتى أمور الدنيا الغالية النفيسة لا تأتي إلا بشيءٍ من التعب، ولو نظر الواحد منا في حياته لوجد أنه إذا اقتنع بأمر وأراده بذل في سبيله الكثير من الوقت والجهد حتى يصل إليه، وكذلك الحال في شأن الدين فإذا كنت مؤمناً -وأنت بحمد الله مؤمن بالله واليوم الآخر، وبأن الذي يرضي الله يحظى بالسعادة في الدنيا وفي القبر وفي الآخرة، وهي سعادة لا يمكن وصفها بحال من الأحوال- فاعلم أن تحصيل ذلك يحتاج إلى شيءٍ من التعب، وإلى شيءٍ من المجاهدة، فقد تجاهد نفسك وتعمل الطاعات ثم يحصل لك شيء من الضعف أو التردد أو التأخر. فحينئذٍ عليك أن تخرج نفسك من هذا مرة أخرى وتجرها من هذا الأمر الذي صارت إليه، وتجاهدها حتى تصل إلى وضع أحسن مما كنت قبل ذلك، وهكذا مع القناعة التامة بأن الله عز وجل وعد كل من جاهد فيه أن يوصله إلى ما يريد من الخير والحق، فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] وأكد الله عز وجل هذا بأكثر من مؤكد أكده باللام والنون: (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) فلا بد من الإيمان بهذا وأنه وعد حق وصدق قطعه الله عز وجل على نفسه، فجاهد تجد الهداية. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 20 نسيان القرآن السؤال فضيلة الشيخ، إنني أحفظ القرآن ليس الكثير ولكن بعض السور الطوال، ولكن بعد يوم أو يومين أنسى ما حفظته، فبماذا تنصحوني لمتابعة الحفظ، جزاكم الله خيراً؟ الجواب أولاً لا شك أن حفظ القرآن فضيلة ومزية ينبغي أن نحرص عليها ونتنافس فيها، يقول الله عز وجل عن هذا القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فحفظ القرآن ثروة عظيمة للإنسان، وعلى الذي يحفظ القرآن أن يحرص على تعاهده، وأن يجعل لنفسه برنامجاً مستمراً يتعاهد فيه هذا القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً أو تفصياً من الإبل في عُقلها} فعلى الإنسان أن يحرص على الحفظ واستكماله، وأن يحرص على تعاهد ما حفظ بالصلاة وغيرها حتى يستمر معه، ولا ينبغي أن يقول: إنني أنسى ما حفظت ولذلك لن استمر في الحفظ، فهذا الكلام في نظري غير صحيح، بل عليه أن يحفظ ويواصل الحفظ ويحرص على تعاهد ما حفظ، ويتوكل على الله عز وجل ومن يتوكل على الله فهو حسبه. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 21 زمن الغرباء السؤال فضيلة الشيخ: هل نستطيع أن نقول: إن هذا العصر هو الذي ينطبق عليه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: {طوبى للغرباء} أم لا؟ الجواب هذا الحديث ليس خاصاً بعصر معين، فطوبى للغرباء في كل زمان وفي كل مكان، وقد توجد الغربة في مكان دون مكان، فيصبح المسلمون غرباء في بلد ويصبحون أعزة في بلدٍ آخر، وقد تكون الغربة في المكان الواحد، وأيضاً في زمان دون زمان فيصبح المسلمون غرباء اليوم في هذا البلد مثلاً؛ ثم يكتب الله عز وجل لهم النصر والتمكين فتزول غربتهم عنهم في هذا البلد ويصبحون غرباء في بلد آخر وهكذا. أما الزمن الذي تستحكم فيه غربة الإسلام استحكاماً تاماً فهو في آخر الزمان بعد عهود عيسى والمهدي عليهما السلام، بدليل ما روى ابن ماجة وغيره بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صلاة ولا صيام ولا صدقة ولا نسك، وليسري على كتاب الله عز وجل في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية، ويبقى الرجل الكبير والشيخ والعجوز يقولون: لا إله إلا الله، أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها} فحديث حذيفة هذا يدل على أن استحكام الغربة هو في آخر الزمان، أما اليوم فالمسلمون في زمن غربة ولكن ليس زمن استحكام الغربة. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 22 عمارة الدنيا السؤال فضيلة الشيخ قلت: إن عيسى عليه السلام قال: [[الدنيا كالقنطرة اعبروها ولا تعمروها]] ما معنى ذلك؟ الجواب معناه: أنه يقرر ويقول: إن الدنيا كالجسر والمعبر الذي يمضي عليه الإنسان إلى غيره، فالإنسان لا يقيم الأبنية على الجسور والقناطر والمعابر وإنما يمضي عليها إلى غيرها، فهو يقرر أن الدنيا جسر إلى الآخرة؛ ومعبر وقنطرة إليها وإلى حياة البرزخ، فعلى الإنسان أن يعبرها ويمضي عليها ويحرص على تقديم الأعمال الصالحة فيها وألا يشتغل بعمارتها والمبالغة في ذلك بحيث يخرجه هذا الأمر عما خلق له، أما عمارة الدنيا من حيث الأصل فهو جزءٌ من العبادة، فالله عز وجل يقول: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] والإنسان مطلوب منه أن يقوم بشئونه في هذه الدنيا، وأن ينفق على نفسه وعلى من ولاه الله أمره، وأن يقيم بناء دولة الإسلام إلى غير ذلك من الأمور التي لابد منها، وإنما المقصود الاشتغال بفضول الدنيا والتوسع فيها بما لا حاجة له في الدار الآخرة. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 23 خروج المتصوفة من الإسلام السؤال ذكرت أن الصوفيين خرجوا من الإيمان لعدم اعتقادهم تصرف الله المطلق في الأكوان، فهل كل الصوفية على هذا النمط، مع العلم أن هناك فرقاً بين المتقدمين منهم والمتأخرين، وحبذا لو وضحتم هذا الأمر، ووضحهم أيضاً، رأيكم في التعميم عند الكلام على المتصوفة، دون تفريق بين شدة البدعة -كالبدع الكفرية مثلاً أو قلتها، جزاكم الله خيراً؟ الجواب أما الصوفية الذين ذكرت أنهم خرجوا من الإيمان بالأمر الأول وهو المتعلق بالإقرار بالله عز وجل وتوحيده، فهم من وصفتهم بأنهم يقولون: بوجود متصرف مع الله عز وجل، فمن الصوفية من يزعم أن من الأقطاب أو الأوتاد أو غيرهم من له مشاركة في التصرف في شئون الكون، وهذا أمر ثابت بالنسبة لبعضهم، فمن كان منهم على مثل ما ذكرت فهو داخل في هذا الأمر. أما عموم الصوفية فهم لا شك أنهم أنواع وأقسام ويتفاوتون في حجم شدة البدعة أو ضعفها، فمنهم من تصل به البدعة إلى الكفر كهؤلاء القوم، وكالصوفية القائلين بوحدة الوجود مثلاً، ومنهم دون ذلك، وإن كان التصوف في جملته دخيلاً على الإسلام من حيث الاصطلاح في رأى كثير من الباحثين. الجزء: 81 ¦ الصفحة: 24 مؤاخاة المهاجرين والأنصار السؤال المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، ألا تلاحظ أن كثيراً من العلماء والمحاضرين والمؤلفين يمرون عليها مروراً عابراً لا توقف فيه ولا استقصاء ولا استنباط، بينما هي مدرسة يستنتج منها إضاءات لطريق العلاقات الاجتماعية والحياة الاقتصادية، فهل بالإمكان إيضاح الأسس الاقتصادية والتعاونية لحياة المهاجرين والأنصار؟ وهل حياة المسلمين اليوم مثل حياتهم رضي الله عنهم أجمعين؟ الجواب بالنسبة لموضوع المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار فمن المعلوم أن البيئة العربية التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم كانت بيئة قبلية، فكانوا يتناصرون ويتفاخرون على أساس القبيلة، فيقول قائلهم: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان المؤمنون به من قبائل شتى بل كان منهم العربي، وغير العربي فكان يوجد في أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مثلاً سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي، إضافةً إلى أتباعه من العرب وهم كثير. ولذلك ذكر كثير من العلماء والأئمة أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين بعض أصحابه في مكة كما في مستدرك الحاكم وغيره، وورد في ذلك روايات عديدة وإن كان علماء آخرون ينكرون هذه المؤاخاة قبل الهجرة. فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة نزلوا على الأوس والخزرج، وكان الأوس والخزرج أيضا بينهم من العداوة والبغضاء والحروب المدمرة ما حفل بذكره التاريخ، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم كلمتهم عليه وألف بينهم فأصبحوا بنعمة الله عز وجل إخواناً، فاستقبلوا المهاجرين أفضل استقبال وفرحوا بهم وتنافسوا في ضيافتهم حتى أنه لم ينزل مهاجريٌ على أنصاري إلا بقرعة، وقد بلغ حد الإيثار بينهم؛ ما ورد في القصة الصحيحة أن سعد بن الربيع يقول لـ عبد الرحمن بن عوف وكان أخاه: [[انظر أي زوجتي أفضل فأطلقها حتى تعتد فتتزوجها وخذ من مالي ما شئت، فيقول له: بارك الله لك في أهلك ومالك]] . وقد ذكر الله عز وجل لهم هذا الجميل فقال: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] فإذا استطاع المسلم في هذا الزمان وفى كل زمان أن يتخلص من شح نفسه؛ ومن حب المال ومن حب الدنيا وأن يؤثر أخاه على نفسه فإنه حينئذ يكون قد تشبه بهؤلاء القوم الصالحين فيحشر معهم، كما في الحديث الصحيح الذي رواه أبو يعلى وأحمد وغيرهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو معهم} . الجزء: 81 ¦ الصفحة: 25 سلطان العلماء العز بن عبد السلام شخصية بارزة على مر التاريخ الإسلامي، نال شهرته لأنه رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، ينكر المنكر علانية وسراً على الملوك والأمراء، أحبه العامة وهابه الخاصة، ترأس عدة مناصب فكان أكبر منها، لا يداهن ولا يحابي أحداً، أخلص عمله لله فأعانه الله ووقاه، كان رحمه الله متصفاً بصفات شخصية، أنكر المنكر بلسانه ويده، وفي هذا الدرس سرد للمواقف البطولية له بغرض الاقتداء والعبرة لا لتسلية وإطراب الآذان السامعة، تأمل ثم تفكر وتشبه فإن التشبيه بالكرام فلاح. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 1 بين يدي الدرس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة: هذا هو الدرس الثالث والعشرون، في ليلة الإثنين السادس والعشرين، من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) وعنوان هذا الدرس هو: (سلطان العلماء) . لا تنتظروا مني -أيها الإخوة- أن أتحدث لكم عن تفصيلات عن حياة العز بن عبد السلام، أنه ولد في عام (577هـ) أو توفي في عام (660هـ) أو عاش في الشام، أو مات في مصر. فإن هذه التفاصيل محلها كتب التراجم والتاريخ وهي لا تعنينا في كثير ولا قليل، فضلاً عن أن هذه المعلومات متوفرة بشكل واضح في مصادر ترجمة الإمام العز بن عبد السلام، ككتب طبقات الشافعية للسبكي، والأسنوي وابن قاضي شهبة، وبعض الرسائل الجامعية التي قدمت عن حياة هذا العالم الجليل. والتي كتبها مجموعة من الباحثين كـ عبد العظيم فوده، والدكتور عبد الله الوهيبي، وعلي الفقير، وسيد رضوان الندوي، وغيرهم. إذاً: ليست مهمتي في هذه الجلسة أن أتحدث لكم عن ترجمة العز بن عبد السلام الملقب بـ سلطان العلماء، كلا، وإنما أريد أن أقف عند جوانب ووقفات مهمة في حياة هذا الرجل، وقد تتساءلون: لماذا أتحدث عن ترجمة هذا الإمام؟ فأقول: إن التاريخ يعيد نفسه، فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم، والمواقف المنتظرة من رجال اليوم، هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس، والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه. إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعبٌ ملكناه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثبٍ فساءل الصرح أين العز والجاه؟! وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرسٌ كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه الله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه واسترشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه يجب أن نعود إلى ماضينا، إلى تاريخنا نستلهم منه الدرس والعبرة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 2 حجته في الإنكار العلني لم يكن العز بن عبد السلام يرى مانعاً شرعياً من ذلك، بل بالعكس كتب العز بن عبد السلام لأحد الأمراء، لما كتب إليه أحد الأمراء خطاباً شديد اللهجة يعاتبه على بعض الأمور ويقول تكلمت في أمور لا داعي لها وكان يجب أن لا تتحدث فيها، وفرض عليه الإقامة الجبرية في بيته وعاقبه بعقوبات. فقال له العز بن عبد السلام: كل ما فعلتَ لا يضيرني، بل هو أمر كنت أتمناه منذ زمان، وأما قولك بأن كلامي يثير الفتنة فأنا ما تكلمت إلا بالحق، ورد البدع لا يثير الفتن، إنما الذي يثير الفتن هو السكوت على البدع وجحد الحق وكتمانه. العز بن عبد السلام رحمه الله كان ينطلق من مبدأ صريح، وموقف واضح عبّر عنه في خطابه الذي أشرت إليه قبل قليل، فقال لهذا الأمير الذي عاتبه: "ثم إننا بعد ذلك نزعم أننا من جملة حزب الله عز وجل وأنصار دينه وجنده، والجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي" هكذا يقول العز بن عبد السلام "الجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي". إذاً ليس صحيحاً أن الإنسان يدعي أنه جندي من جنود الله عز وجل، مجاهد في سبيل الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر ثم لا يخاطر بنفسه في هذا السبيل ولو مرة واحدة، هذا لا يكون أبداً، الذي يريد السلامة لا يكون جندياً، ولا يلبس لباس الجند، ولا يحمل البندقية؛ بل يجلس في بيته، هذه هي طريقة العز بن عبد السلام رضي الله عنه. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 3 فوائد الإنكار العلني كان الشيخ يدرك أن في ذلك الإنكار العلني وقول كلمة الحق والصدع بها، فوائد عديدة ومن أهمها: أولا: أن العالم يعذر ويعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يطع؛ فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس أن يقولوا: داهن، ونافق، وسكت عن الحق، لا، بل يعرفون أنه قال بملء فيه ولكن لم يستجب له فحينئذٍ هو معذور في ذلك. وقد مررت بعددٍ من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض بل وفي غيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، فوجدت أنهم يعتبون كثيراً على علماء الأمة أنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق. إذاً: العالم إذا قالها صريحة واضحة؛ فإنه يكون في ذلك العذر له عند الناس. ومن فوائد ذلك -أيضاً- التفاف العامة حول هذا العالم إذا رأوه يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنهم إذا رأوا ذلك التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الود، ووفوا معه، لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذا عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع، ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله عز وجل. فمن أجل ذلك يحيطون به، ويفدونه بأرواحهم ومهجهم، ويبذلون من أجله وفي سبيل الحفاظ على مكانته كل غالٍ ونفيس، بخلاف ما إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، وينفضون من حوله، فيبقى العالم منفرداً ليس معه أتباع، ولا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد. ومن فوائد إنكار العالم بهذه الطريقة: أنه يشجع الآخرين على الإنكار، فإن كثيراً من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب الأولى، وإذا سكت طالب العلم فكذلك. فكان العز بن عبد السلام رضي الله عنه ورحمه الله حين يصدع بها عالية مدوية على أعواد المنابر وفي ملأٍ من الناس، كان يفتح الطريق للآخرين ويقودهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يهابوا ولا يخافوا في الله لومة لائم. ومن الفوائد: قبول الحق، فإن الحق إذا قيل علناً، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، من قبل عالم موثوق معروف بصدقه وإخلاصه وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً كان إعلانه بذلك سبباً في قبول الحق الذي قال به والإذعان له. ومن أهم فوائد ذلك: رفع مستوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحكم بيني وبين خصمي، فأنا قلت الحق وأنتم اسمعوا، فيرتفع مستوى الأمة حينئذٍ، وتصبح أمة مؤثرة قوية، كل فرد منها له قيمته، وله مكانته ورأيه، وله كلمته، وليسوا مجرد أتباع يؤمِّنون ويؤيدون ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركون بالرأي والمشورة، لا، بل أصبحت أمة قوية لها ثقل ولها مكان. وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأمرهم، ونهيهم، وصدعهم بالحق؛ وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، لا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع والناس همج والناس فيهم، وفيهم، لا، كانوا يعلنونها للناس ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 4 أبرز الجوانب في شخصيته ومن أبرز الجوانب التي أود أن أتحدث فيها عن شخصية هذا الرجل: هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد جدد السلطان العز بن عبد السلام الإنكار العلني على السلاطين والأمراء، فكان ينكر عليهم علناً وأمام العامة، وأحياناً من على أعواد المنابر ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا هو الهدي والسمت الذي كان موجوداً عند الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. فمثلاً لما جاء مروان بن الحكم وغير بعض سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم خطبة العيد على الصلاة ثم خطب على المنبر، قام أبو سعيد الخدري وأنكر عليه، وكذلك قام رجل آخر فيما بعد وأنكر، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، بل إن الرجل وقف للأمير وجره بثوبه وقال له: خطبت قبل الصلاة وكانت الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك. وهكذا كان عمر رضي الله عنه يقف على المنبر، فيأمر وينهى، فيقوم إليه الرجل فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويحتج عليه وهو على المنبر، فجدد العز بن عبد السلام هذا الهدي والسمت الذي كان معروفاً عند الصحابة والتابعين والأئمة المهديين فكان ينكر على هؤلاء العلية من القوم، على السلاطين وغيرهم علانية، ولم يكن يعتقد أن في هذا ضرراً أو إثارة فتنة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 5 لماذا لقب بسلطان العلماء؟ لقب الشيخ بهذا اللقب الذي اخترته عنواناً لهذه المحاضرة (سلطان العلماء) من قبل أحد تلاميذه، وهو الشيخ المعروف الإمام ابن دقيق العيد، ولهذا اللقب سرٌ معروف يتضح من خلال هذه المحاضرة. وخلاصته أن العز بن عبد السلام كان محتسباً على عِلْية القوم من الأمراء والسلاطين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان ذا قوة وسطوة وهيبة تذل عندها كل القوى، وتضعف عندها كل الإمكانيات. والشيخ الإمام العز بن عبد السلام عاش في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولةً قوية، ولكن في آخر عصرها تنافسوا على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضاً، حتى اضطر بعضهم إلى أن يتحالف مع الصليبين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه، وبني عمه، أو يستعين بهؤلاء النصارى الصليبيين في قتالهم وفتح بلادهم. ثم كان في آخر دولتهم أن حكمت امرأة ولأول مرة في تاريخ الإسلام تملك المسلمين امرأة كانت تسمى شجرة الدر، وحيث أنها لما مات زوجها أخفت خبر وفاته وعينت رجلاً يحكم بالاسم، وكانت هي تدير الأمور، وظلت على هذا الحال ثلاثة أشهر تقريباً حتى امتعض الناس من هذا الأمر وغضبوا، ثم تنازلت هي عن الأمر وعاد الحق إلى نصابه. وهذه من الأشياء التي يتمسك بها بعض الذين يحاولون أن يقولوا: إن المرأة يمكن أن تتولى السلطة والحكم في بلاد الإسلام، يحتجون بأنه على مدى أربعة عشر قرناً حكمت امرأة ثلاثة أشهر، ولا أدري كيف يحتجون بثلاثة أشهر ولا يحتجون ببقية القرون كلها، التي لم يحدث فيها ولا من قبيل المصادفة أن امرأة حكمت، ولم يحدث فيها مرة واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة -مثلاً- في أحد الغزوات أو السرايا أنه كان يجعل امرأة تكون نائباً عنه في المدينة المنورة؟! والمهم أن هذا هو حال دولة بني أيوب. بعد ذلك آل الأمر إلى ما يسمى بالمماليك، وكانوا من الأتراك وغيرهم وكانوا عبيداً مماليك للحكام، ثم قفزوا على السلطة وحكموا فيها فترة من الزمن، وقد عاصر الإمام السلطان العز بن عبد السلام - سلطان العلماء - عاصر بداية وجود هذه الدولة وعاش فترة فيها. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 6 أمثلة للإنكار العلني عنده ومن هذه الطريقة كان له مواقف في غاية العجب، وهذه المواقف لولا أنها مسطرة ومكتوبة لقلنا إنها خيال من الخيال لكنها مكتوبة، والذين كتبوها من العلماء الذين عاصروه وعاشروه وعاشوا معه، فأذكر لكم بعض هذه المواقف العجيبة: الجزء: 82 ¦ الصفحة: 7 بيعه للمماليك الأمراء موقف ثالث أعجب من الموقفين السابقين كليهما: كان الذي يحكم مصر -كما ذكرت سابقاً- المماليك، وقد بايعوا أمراء العباسيين لما خرجوا في آخر الأمر، لكن كانت الحكومة الحقيقية بيد المماليك، أي أن نائب السلطنة كان مملوكياً وكذلك أمراء الجيش والمسئولون كلهم مماليك، في الأصل أرقاء، وكانوا يسمون العز بن عبد السلام قاضي القضاة -يعني أكبر القضاة- وإن كان كثير من أهل العلم أنكروا هذه الكلمة. المهم أنه كان كبير القضاة بمصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء لواحد من هؤلاء المماليك يراها لا تصلح فيبطلها؛ لأن هذا عبد مملوك حتى لو كان أميراً كبيراً عندهم أو قائداً في الجيش، فيرده ويقول له: يجب أن يُحَرر فيباع أولاً، وبعد ذلك يصح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد. لهذا فإنهم تضايقوا من هذا العمل، وجاءوا إليه يقولون له: ماذا تصنع بنا؟ قال: أريد أن أبيعكم، فغضبوا أشد الغضب، ورفعوا أمره إلى السلطان، فغضب السلطان وقال: هذا أمرٌ لا يعنيه، هذا يتدخل فيما لا يعنيه -وهذه كلمة قديمة تستخدم: هذا يتدخل فيما لا يعنيه- فلما سمع العز بن عبد السلام هذه الكلمة، تصرف تصرفاً بسيطاً لكنه مهم، فقام وعزل نفسه من القضاء. إذاً: من أهم جوانب قوة العز بن عبد السلام أنه كان أكبر من المناصب، وأكبر من الوظائف، وأكبر من الأسماء، ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها، بل كان يستمد قوته من إيمانه بالله عز وجل، ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق، ثم من هذه الأمة التي أعطته مهجها وأرواحها. وأصبح العز بن عبد السلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودرته، وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته، فلذلك عزل نفسه من القضاء؛ لأن كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي، والعالِم يحكم فيها بحكم الله ورسوله. ثم قام بتصرف آخر مشابه، وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشترى حمارين، وضع الأثاث والأمتعة -البسيطة- في حمار، وركّب زوجته وطفله على الحمار الآخر وأمسك رسن الحمار، ومشى باسم الله. فإلى أين هذا الموكب البسيط المتواضع؟ إنه يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الأصلي، يرجع إلى الشام، وليس في الأمر ما يدعو إلى أن يذكر. إنها قصة عادية رجل ركب حمارين ومشى لكن ما الذي حدث؟! لقد خرجت الأمة كلها وراء العز بن عبد السلام، حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال، وحتى الذين لا يؤبه لهم، هكذا تقول الرواية: أي النجارون، الصائغون، والصباغون، والكناسون وكل أصحاب الحرف والمهن الشريفة والوضيعة من الأمة خرجت وراء العز بن عبد السلام في موكب مهيبٍ رهيب. فجاء الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمهم إذا خرج العز بن عبد السلام وخرجت الأمة كلها وراءه؟! ما بقي لك أحد، قد ذهب ملكك، فأسرع الملك الصالح أيوب إلى العز وركض يدرك هذا الموكب، ويسترضيه، ويقول له: ارجع ولك ما تريد، قال: لا أرجع أبداً إلا إذا وافقت على ما طلبت: أن نبيع هؤلاء المماليك، قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء. فرجع العز بن عبد السلام، وبدأ المماليك يحاولون به: أمعقول يبيعنا؟! أمعقول أن مسئولاً كبيراً في دولة المماليك يعلن عليه بالأسواق بالمزاد العلني: من يشتري؟ من يشتري؟ لا يمكن هذا! فغضبوا حتى قام نائب السلطنة وهو واحد منهم وذهب وقال: لا بد من تصفية جسدية، لا يوجد حل إلا أننا نقتل هذا الرجل؛ لأنه أصبح غصة في حلوقنا فلابد من قتله. فذهب نائب السلطنة -وهو مملوكي وهو أول من سوف يحرج عليه في المزاد العلني- ذهب ومعه مجموعة من الأمراء ثم طرق باب العز بن عبد السلام وكانت سيوفهم مصلتة يريد أن يقتله فخرج ولد العز بن عبد السلام واسمه عبد اللطيف، فلما رأى ما رأى -موقف مهيب مخيف- رجع إلى والده، وقال: يا والدي انج بنفسك، الموت، الموت، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر: كيت، وكيت، فقال العز بن عبد السلام لولده: يا ولدي والله! إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله عز وجل. ثم خرج مسرعاً فما لبس ثياباً ولا شيئاً؛ لأنه يخشى أن تفوته هذه الفرصة خرج مسرعاً إلى نائب السلطنة فلما رآه يبست أطرافه وتجمد! وأصابته حالة عصبية من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب، وسقط السيف من يده، واصفر وجهه، وبدأ يضطرب، وسكت قليلاً، ثم تراد إليه نَفَسُه، فبكى وقال: يا إمام، حدِّث، ماذا تعمل؟ قال: أبيعكم. قال: تحرج علينا؟ قال: نعم، قال: تقبض الثمن؟ قال: نعم، قال: أين تضعه؟ قال: في مصالح المسلمين العامة، في بيت المال أضعه، فطلب منه الدعاء، لقد بكى بين يديه وطلب منه الدعاء له، ثم انصرف. لقد فعلها العز بن عبد السلام رضي الله عنه، فقام وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعد أن يوصله إلى أعلى الأسعار، لا يبيعه تحلة للقسم، لا، بل يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني مثل البائع الشحيح، فلا يبيع الأمير إلا بعدما يستوفي قيمته. وهذه القصة حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأنها لم تحدث في تاريخ البشرية كلها، وأعتقد أن هذا صحيح، طيلة تاريخ البشرية في جميع الأمم، إذا أتوا يفاخرونا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام، هاتوا لنا عالماً يقف مثل هذا الموقف! أو شخصية فكرية في الأمم كلها يقف مثل هذا الموقف! وتاريخ الإسلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام رضي الله عنه وأرضاه. وقد سجل هذا الموقف بقلمه البارع وأدبه الرفيع الأديب مصطفى صادق الرفاعي رحمه الله في كتابه وحي القلم تحت عنوان (أمراء للبيع) وألف أحد المعاصرين كتاباً سماه العز بن عبد السلام بائع الملوك. هذا جانب، إذاً، العز بن عبد السلام كان شجاعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق، وكان يرى أن يقول ذلك علانية وصراحة ولا يداهن ولا يخاف في الله لومة لائم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 8 موقفه مع نجم الدين أيوب خرج العز بن عبد السلام -كما ذكرت لكم- إلى مصر واستقبله نجم الدين أيوب وأحسن استقباله وجعله في مناصب ومسئوليات كبيرة في الدولة. وكان المتوقع أن العز بن عبد السلام يقول: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظاً على مصالح المسلمين، وأن لا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب في مصر مع أنه رجل عفيف وشريف، إلا أنه كان رجلاً جباراً مستبداً شديد الهيبة، حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم بحضرته أبداً، ولا يشفع في أحد، ولا يتكلم إلا جواباً لسؤال لشدة هيبته. حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائماً نقول -ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب -: ما نخرج من المجلس إلا إلى السجن؛ لأنه رجل مهيب وإذا سجن إنساناً نسيه، ولا أحد يستطيع أن يكلمه فيه أو يذكره به، وكان حوله الخدم، والحشم، والأعوان، والشرط. رجل له هيلمان، وسلطة، وصولجان، وخوف، وذعر في نفوس الناس، والخاص والعام، فماذا كان موقف العز بن عبد السلام مع هذا الرجل؟ كان له موقف في غاية الطرافة: في يوم العيد خرج الموكب، موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة والشرطة مصطفون على جوانب الطريق والأمراء، وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فكان له هيبة وأبهة والسيوف مصلتة. فوقف العز بن عبد السلام وقال: يا أيوب! -يخاطب الحاكم- يا أيوب التفت إليه الحاكم مذهولاً من الذي يخاطبه باسمه الصريح، هكذا بلا مقدمات: يا أيوب فالتفت إليه، فقال له: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر فأبحتَ الخمور. فقال: ويحدث هذا في مصر؟ قال: نعم، في مكان كذا، وكذا، حانة يباع فيها الخمر، فقال: يا سيدي! هذه من عهد أبي أنا ما فعلت هذا، فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذن أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] فقال: لا، أعوذ بالله وأصدر أمراً مرسوماً بإبطالها فوراً ومنع بيع الخمور في مصر. موقف عجيب وانتهى الموقف، ورجع العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى مجلسه يعلم الطلاب ويدرسهم، وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة قبل أن يعلمهم الحلال والحرام، ويعلمهم الغيرة على الدين مثلما يعلمهم الأحكام، لأنه لا قيمة لطالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث، ومع ذلك غيرته ميتة على الإسلام، لا يغضب لله ورسوله، لا يتمعر وجهه إذا ما رأى المنكر، لا يتطلع إلى منازل الصديقين والشهداء، ما قيمة هذا العلم؟! فرجع العز بن عبد السلام إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه، يقال له الباجي، يسأل، فيقول: يا سيدي، كيف الحال؟ قال: بخيرٍ والحمد لله، قال: كيف فعلت مع السلطان؟ قال: يا ولدي، رأيت السلطان في أبهة ومنظر ومظهر فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فأردت أن أهينه. إذاً: العز بن عبد السلام كان يربي السلطان، كان العز يستطيع أن يقول للحاكم بأذنه: في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، لكن لماذا أعلن هذا الأمر على الناس؟ إنه يريد أن يربي السلطان، فهو يريد إنكار منكرين في وقت واحد، المنكر الأول -وهو صغير بالنسبة للثاني-: الحانة التي يباع فيها الخمر، ويمكن أن تزال ببساطة. لكن المنكر الثاني الأكبر هو: هذا الغرور، وهذه الأبهة، وهذا الطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم، فأراد أن يقمعه ويقعده ويزيله، قال: فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فقال له الباجي (تلميذه) : يا إمام، أما خفت؟ قال: لا والله يا ولدي، استحضرت عظمة الله عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط. إلى هذا الحد! يا سبحان الله! لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط! هل يأمر؟ هل ينهي؟ لا، ولذلك أقول: كان العز بن عبد السلام رضي الله عنه يتخذ هذه المواقف لأغراض عديدة منها -كما سيأتي- تربية الناس على مثل هذه المواقف وأن يجر الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 9 إنكاره على الملك إسماعيل لتحالفه مع النصارى لما كان العز بن عبد السلام في دمشق كان الحاكم في دمشق رجلاً يقال له الملك الصالح إسماعيل من بني أيوب، فولى العز بن عبد السلام خطابة الجامع الأموي. وبعد فترة حصل أن الملك الصالح إسماعيل حالف النصارى الصليبيين أعداء الله ورسله، وسلّم لهم بعض الحصون كقلعة الشقيق وصيدا وبعض الحصون وبعض المدن، أعطاها لهم من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب بمصر. فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الخياني المتآمر الموالي لأعداء الله ورسله لم يصبر، فصعد على المنبر وتكلم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة بعد ما كان اعتاد أن يدعو له، وختم الخطبة بقوله: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ثم نزل، وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضباً شديداً، وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة. بعد ذلك خرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس فصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة والتقى بأمراء النصارى قريباً من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من خاصته وبطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام ولاطفه ولاينه بالكلام الحسن واطلب منه لعلك تأتي به معك إلي ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه. فذهب الرسول إلى العز بن عبد السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتي وتقبل يد السلطان لا غير، فكل ما في الأمر أن تأتي إلى الملك الصالح إسماعيل وتقبل يده، وتعود إلى ما كنت عليه ونزيدك مناصب جديدة. فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: يا مسكين! والله ما أرضى أن الملك الصالح إسماعيل يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده! يا قوم، أنا في وادِ وأنتم في وادٍ آخر، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: إذن نسجنك، فمعي أمر إذا لم تمتثل أن تسجن، فقال: افعلوا ما بدا لكم. فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ القرآن في هذه الخيمة، وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد مجلساً أو مؤتمراً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، وكانوا قريبين من العز بن عبد السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر قساوسة المسلمين، -يريد أن يفتخر عندهم بهذا العمل- سجناه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين، فماذا قال له ملوك النصارى؟ -لقد ظن أنهم سوف يشكرونه على هذا العمل- لكنهم قالوا له: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها. أي لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة؛ لغسلنا رجليه وشربنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، فجاءته جنود المصريين وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام. هذا موقف صدع به العز بن عبد السلام -رحمه الله- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، لكن رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب خاصةً أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها وتجولوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين. ولذلك وجه إليه استفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح إلى النصارى؟ فأفتى رضي الله عنه بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز، لأنك تعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 10 تغيير المنكر بنفسه الجانب الثاني: أن الأمر تعدى عند العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى أنه كان يتولى بنفسه تغيير المنكرات، كما سبق ذكر شيء من ذلك. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 11 إنكاره المنكر على أحد وزراء الدولة ومن أطرف المواقف التي تذكر في هذا الجانب أنه قال له تلاميذه يوماً من الأيام: إن وزيراً كبيراً في دولة المماليك بنى في مكان كذا وكذا داراً -يسمونه في ذلك العصر- طبل خانة، وهو مكان مخصص للغناء والرقص والموسيقي والفساد، وكان هذا المكان بقرب أحد المساجد. ومن هنا نلاحظ كيف أن الأمة كانت تواصل العلماء، فتخبرهم بما يجري وما يقع؛ لأن العالم ليس كالشمس يشرق على هذه الدنيا كلها، بل يحتاج من تلاميذه وممن حوله أن يقولوا له: حصل كذا وحصل كذا، بحيث أن الأمة كلها تمد جسورها مع العالم، فجاءوا وقالوا له: الأمر كيت وكيت، فتأكد لديه الخبر، فجمع أولاده وبعض تلاميذه، وذهب إلى هذا المكان الذي يسمونه طبل خانة، ثم أخذ الفأس وبدأ باسم الله وهدمه هو من معه حتى سووه بالأرض. فهل اكتفى بهدم هذا المنكر وإزالته؟ لا، فالرجل طموح، فقد قام وأصدر بياناً أو قراراً بأن الوزير هذا ساقط العدالة فلا أحد يقبل شهادته ولا يقبل منه أي خبر من الأخبار، وأعلنه للناس فسرعان ما تناقلت الأمة هذا الخبر عن العز بن عبد السلام. وكانوا يظنون أن الخبر محصور في مصر فقط، لكن تعجبوا أشد العجب وعظمت مصيبتهم حينما حصلت القصة التالية: أرسل ملك مصر إلى الخليفة العباسي رسالة بواسطة أحد الأشخاص، رسالة شفهية، فلما وصلت الرسالة إلى الخليفة العباسي، قال للرسول من أين سمعت هذه الرسالة؟ هل سمعتها من ملك مصر مباشرة. قال: لا، سمعتها من فلان -يعني الوزير الذي أسقط العز بن عبد السلام عدالته-. فقال الخليفة: ارجع فلن أقبل هذا الخبر حتى تأتيني به من حاكم مصر مباشرة، فرجع الرسول وقال لهم: القصة كيت، وكيت، فعرفوا أن الأمة كلها فعلاً مع العز بن عبد السلام. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 12 لماذا أنكر المنكر بيده نلاحظ -أيها الإخوة- من هذه القصة أمرين: أولا: أن العز بن عبد السلام كان يتولى بنفسه -أحياناً- مباشرة تغيير المنكر باليد، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً؛ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} والعز كان يستطيع أن يغير بيده، فتغييره رضي الله عنه باليد يعتبر موقفاً وسطاً بين صورتين تقعان في كل زمان ومكان: الصورة الأولى: صورة بعض المتعجلين الذين يتولون تغيير المنكرات بأيديهم، لكنهم ليس لديهم قوة ولا مكانه بحيث أن تغييرهم للمنكر قد يعود بنتائج سلبية، وهذا ما نلاحظه في هذا العصر، في كثيرٍ من البلدان يكون تغيير المنكر باليد -بإتلافه، أو إحراقه، أو هدمه، أو منع وقوعه- سبباً في مضاعفة المنكر. وبمقابل ذلك وهي الصورة الثانية، التي يكون فيها التهاون والسكوت، فموقف العز موقف متميز عن بعض طلبة العلم والمحسوبين على الدعوة وعلى الخير ممن إذا رأى المنكر طأطأ رأسه، وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، وربما في المرة الثانية لا يأتي من عند هذا المكان حتى لا يرى المنكر! فنقول: لا، لا يصلح الهروب من المنكرات، فهروبك من المنكر لا يعني أن المنكر قد زال، وقولك: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا طيب وذكر لله عز وجل، لكن يجب أن تشفع ذلك وتؤيده بموقف إيجابي فعال، تعمل فيه على إزالة المنكر، فكان موقف العز بن عبد السلام موقفاً وسطاً، فهو رجل متمكن له قوة وقدرة استطاع بها أن يغير المنكر بيده، فهذا جانب. الجانب الثاني: أن الذي جعل العز بن عبد السلام رضي الله عنه يقف هذا الموقف هو أن الأمة كلها وراءه، ولذلك لما أصدر القرار بإسقاط عدالة هذا الرجل، لم يعد أحد يقبل منه أي قول، ويمكن أن زوجته لو رجع إليها في البيت ليخبرها بخبر، لقالت له: ما أقبل منك هذا الكلام لأنه قد أسقط عدالتك العز بن عبد السلام! إذا كانت الأمة فعلاً ملتفة حول علمائها وقاداتها الشرعيين فإنها تكتسب بهم قوة، وتكسبهم قوة أما هم فإن الواحد منهم يستطيع أن يأمر وينهى، لأن وراءه حشد من الأمة، إذا غضب غضبت له ألوف وألوف، ومن جهة أخرى، أن الأمة تتقوى بهم؛ لأن هؤلاء العلماء ما اكتسبوا مكانتهم إلا لأنهم كانوا هم المدافعين الحقيقيين عن مصالح الأمة، كما سوف أبين ذلك بعد قليل. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 13 مكانته لدى الأمة عامها وخاصها جانب آخر في حياة العز بن عبد السلام يحتاج أن نقف عنده، ألا وهو: مكانة العالم لدى الأمة عامها وخاصها، وأعني بعامة الأمة: جماهير الأمة، وأما الخاصة: فهم علية القوم، من سلاطينها ومسئوليها وحكامها، كيف كانت مكانة العز بن عبد السلام وغيره من العلماء عند هؤلاء العامة؟ أولاً: مما لا شك فيه أن العالم حلقة وصل بين العامة والخاصة، بين الحاكم والمحكوم، لماذا؟ لأن الحاكم يحتاج إليه، لتأييد مواقفه، وكسب الناس، ولذلك كان أول ما يتولى الحاكم المملوكي أو غيره أول من يبايعه العز بن عبد السلام، ثم بعد ذلك يبايعه الوزراء، ثم الناس، فكان الحاكم يدري أنه يحكم أمة مسلمة، تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنه لا يستطيع أن يستقر ويضمن هذه الأمة، إلا إذا حكمها بكتاب ربها وسنة نبيها، وأرضى الواسطة بينه وبين هذه الأمة وهم العلماء. فكان العالِم يحتاجه الحاكم، وفي نفس الوقت تحتاجه الرعية؛ لأن الرعية لها حاجات ومطالب وآراء واجتهادات لا يمكن أن يوصلوها بأنفسهم، فكانوا يحتاجون إلى العالم حتى يوصل هذه الأمور إلى من فوقه، فهو حلقة وصل رابطة واسطة بين الأمة وبين حكامها ومسئوليها. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 14 معايشته للواقع جعل الأمة ترتبط به الجانب الثالث الذي جعل الأمة ترتبط بـ العز بن عبد السلام هو: قضية معايشته الواقع، فما كان يعيش في برج عاجي -كما يقولون- معزول عن هموم الأمة، ومشاكلها، وأوضاعها، بل كان يعيش مشاكل الأمة الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، أولاً بأول. وخذ على سبيل المثال فضلاً عن المواقف التي ذكرتُ وهي كافية، لكن خذ جانباً آخر وهو الكتب التي كتبها العز بن عبد السلام، صحيح أن العز بن عبد السلام له كتب في الفقه والحديث والأصول والتفسير وغيرها. لكن مع ذلك لاحظ بعض الكتب التالية للعز بن عبد السلام: كتاب اسمه الفتن والبلايا والمحن والرزايا يتكلم فيه عن المصائب والصبر عليها وما أشبه ذلك، وهذا له علاقة كبيرة بالمصائب والمشاكل التي كانت تعيشها الأمة، وله كتاب اسمه ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام. وقد ألف هذا الكتاب لما اجتاح الصليبيون بلاد الشام، وبدءوا يحاربون المسلمين، ففزع كثيرٌ من المسلمين، وبدءوا يفرون إلى الأمصار الأخرى ويهربون، فكتب هذا الكتاب ليثبت المسلمين ويحاول أن يجعلهم يقيمون في بلاد الشام ولا يخرجون منها، بل على العكس فقد حث المسلمين في الأمصار الأخرى أن يحرصوا على الانتقال إلى الشام وسكناها ومدافعة الأعداء فيها. وله كتاب اسمه أحكام الجهاد تكلم فيه عن الجهاد وأحكامه وما يتعلق به وفضله، إضافة إلى أنه -هو نفسه- كان يقوم بالجهاد مباشرة ويشارك فيه، حتى إنه في أحد المرات لما غزا التتار بلاد مصر وخاف الحاكم منهم، جاء العز بن عبد السلام إلى الحاكم -وهم في رمضان- وقال له: لماذا أنت جالس إلى الآن؟! لماذا تجلس ولا تحارب هؤلاء القوم؟! قال له: هل تضمن لي على الله النصر؟ قال له: نعم، أضمن لك على الله النصر، قم فقاتل، فقام وقاتل وكان العز بن عبد السلام في جيشه يثبت الناس، ويرفع معنوياتهم، ويقويهم، ويلهب حماسهم حتى كانت الدائرة على الأعداء وانتصر المسلمون. وللعز بن عبد السلام كتب في الفتاوى يفتي بها للأسئلة التي ترد من كل مكان وهي مرتبطة ارتباطاً كبيراً بالواقع الذي كان يعيشه. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 15 مدافعته عن مصالح الأمة كان العالم في ذلك الوقت -خاصةً العز بن عبد السلام - مدافعاً عن مصالح الأمة سواء في أمورها الخاصة أم العامة. ولعل من أبرز الصور التي تتجلى فيها مدافعته عن مصالح الأمة: الناحية الاقتصادية، وقد سبق القول بأن الاقتصاد من الأمور التي يشترك الناس كلهم في الغضب لها أو الرضا لها، فإذا مست الجوانب الاقتصادية في حياة الناس؛ سخطوا، وإذا أرضوا بالمال؛ رضوا كلهم؛ طيبهم وفاجرهم. ولذلك كان العز وغيره من العلماء يحرصون على حماية مصالح الناس، ومن المؤكد أن العز بن عبد السلام لم تكن عنده امتيازات شخصية، ولا كان عنده رواتب فخمة، ولا كان عنده قصور ولا شيء في هذا، بل -كما ذكرت سابقاً- كان الموكب الذي أراد أن يخرج به من مصر عبارة عن حمارين، وكان أثاثه كله يوجد في هاتين المزادتين. فمرة من المرات لما كان في دمشق حدثت مشاكل وزوبعة، وأخذ ورد، وكان بسبب ذلك انخفاض في الأسعار وأصبحت البساتين تباع بأسعار زهيدة، فقالت له زوجته بعد أن باعت مصاغها وحليها: خذ، اشتر لنا بستاناً نصطافُ فيه، نخرج في الصيف نجلس فيه، فأخذ الحلي وذهب وباعها ثم وجد الناس محتاجين فتصدق بها، ورجع إلى البيت، فقالت له زوجته: اشتريت بستاناً؟ قال: نعم، اشتريت لك بستاناً ولكن في الجنة، قد رأيت الناس محتاجين ففرقت هذا المال فيهم، فقالت له: جزاك الله خيراً. إذاً، الأمة عرفت أنه رجل يبذل ماله ويحرص على قضاء حقوق المحتاجين ولو من مال ومصاغ زوجته، فهذا يستحق أن تقف الأمة وراءه، وهذا في أموره الخاصة، وإن كانت أموراً بسيطة لأن العالم عادةً ليس عنده أموال يوزعها، وليس هو موزع أموال، العالِم في تاريخ الأمة كلها ما كان يوزع أموالاً إلا في حالات نادرة، إنما يوزع الهداية بين الناس، هداية الدلالة والإرشاد. والمواقف العامة هي الأخطر، فقد كان العز بن عبد السلام مدافعاً عن مصالح الناس الاقتصادية والمالية يدافع عن جيوبهم، يمنع ظلمهم والاعتداء على حقوقهم، وخذ هذا المثال: الجزء: 82 ¦ الصفحة: 16 بعض مواقفه الدفاعية عن مصالح العامة عندما أراد حاكم مصر -المظفر قطز أن يقاتل التتار رأى أن أموال الخزينة لا تكفي، فلابد أن يأخذ من الناس، فجمع العلماء وقال لهم: ما رأيكم نريد أن نأخذ من الناس أموالاً نستعين بها في تجهيز الجيش، والسلاح، ودفع رواتب الجند، وما أشبه ذلك من المصالح التي لا بد منها. ونحن نواجه عدواً اجتاح بلاد العراق والشام ووصل إلينا، وقد تنتهي دولة الإسلام على يديه فلا بد من المقاومة، فقد يوافق بعضهم في مثل هذه الظروف وهم يواجهون الخطر والعدو. لكن العز بن عبد السلام لم يوافق، وقال له: هذا لا يمكن، إلا بعد أن نأخذ كل ما عندكم أنتم وبقية سلاطين المماليك وأمرائهم، فكل ما عندكم من الخوائص المذهبة، والآلات النفيسة، والأموال الطائلة، والامتيازات والاختصاصات حتى لا يصبح مع الواحد منكم إلا ثيابه ومركوبه، فرسه وسلاحه وثيابه، فإذا كفت أموالكم فالحمد لله رب العالمين وإذا لم تكف فحينئذٍ ننتقل إلى أن نأخذ من أموال الناس، فوافق قطز مضطراً على هذا العرض وجمع أموال المماليك وأمراء المماليك فكفت وزادت على الكفاية. هذا الموقف تتناقله الأمة، وتشعر من ورائه بأن الذي حفظ أموالها وحماها من أن تظلم أو يؤخذ مالها بغير حق هو العز بن عبد السلام، فتفي له بهذه المواقف، وتدرك أن هؤلاء العلماء هم الذين يستحقون أن تقف الأمة وراءهم. فهذا مثال يكشف عن قدرة العز بن عبد السلام على ما يمكن أن نعبر عنه بقيادة الناس وقيادة الأمة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 17 بذله للعلم مكنه من قيادة الأمة جانب آخر أيضاً مكنه من قيادة الأمة، وهو: أن العز بن عبد السلام رضي الله عنه كان باذلاً لعلمه، ليس مجرد موسوعة علمية لا يحصل علمه إلا إذا فتح درساً أو سُئل، بل كان دائماً يبذل العلم، ولذلك من الأشياء الملفتة للنظر أنه حتى الملوك في ذلك العصر كانوا ذوي علم رفيع وثقافة عالية. فعلى سبيل المثال كان منهم غيورون على الإسلام يدركون أن الإسلام يحارب من الشرق بالتتار ومن الغرب بالصليبيين، وأنه لابد من حماية هذا الإسلام والدفاع عنه، وكانوا يدافعون عن الإسلام بكل ما يملكون. وكان منهم أناس يمكن أن نصفهم بأنهم من العلماء، بنوا المدارس، وأقاموا الإسكانات للطلاب، والأوقاف، والمكتبات، والجامعات، والمدارس التي كانوا يسمونها مدارس الحديث ودور الحديث والفقه وغيرها، وحرصوا على تنمية القدرة العلمية للأمة، وكان منهم علماء نور الدين كان متبحراً في العلم حتى أنه ألف كتاباً في الجهاد، وبعده صلاح الدين، فقد كان حافظاً للقرآن، ويحفظ مع القرآن كتاب التنبيه في الفقه الشافعي ويحفظ أيضاً ديوان الحماسة، هذا صلاح الدين! وكان في كل مجلس يحضر الفقهاء والمحدثين والمؤرخين ويقرءون عليه القرآن والفقه والحديث والتاريخ وغير ذلك. الملك الكامل كان عالماً أخرج أربعين حديثاً صنفها في كتاب بإسناده، وله تعليقات على صحيح مسلم. فإذا كان حال علية القوم فمن دونهم كذلك، فكان العلم مبذولاً وكان الذي يتولى هذه الحركة العلمية هم العلماء، وهذا يكشف لنا عن سر وهو أن بضاعة العلم رائجة. ولذلك الذين يملكون هذه البضاعة وهم العلماء لهم رواج، ولهم مكانة، ولهم ثقل في الأمة، أما إذا كانت الأمة يخيم عليها الجهل، فيصبح العالِم هنا -كما يقولون- مثل الريحانة في وسط النتن، لا يعرف الناس ما عنده، ولذلك لا يهتمون له، ولا يسعون إليه، ولا يقدرونه، لأنهم لا يعرفون البضاعة التي عنده. أرأيت لو أن مجموعة من الناس، جهلة، بدائيين لا يعرفون شيئاً فجاءوا إلى رجل عنده ذهب وهم جياع مثلاً فقال لهم: عندي ذهب، فإنهم لن يلتفتوا إلى هذا الذهب، فهو والبعر عندهم سواء، لا يعرفون قيمته! فهكذا الأمة إذا عاشت بجهل فإنها لا تقدر العالم ولا تعرف بضاعته، لذا فمن أعظم الوسائل لربط العالم بالأمة وربط الأمة بالعالم: نشر العلم والقعود للتدريس، والإفتاء، والتعليم، وأن تكون الأمة كلها في حركة لا تتوقف. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 18 تضامن العلماء ومواقفهم الشجاعة وسيلة إلى الإنكار العلني نقطة رابعة: أن العلماء كانوا متضامنين، فما كان العلماء - مثلاً - يقفون عند العز بن عبد السلام ويقولون: هذا سرق الأضواء! وهذا فعل، وهذا فعل وما أبقى لنا شيئاً! كلا، لقد كان العلماء يداً واحدة، خاصةً العلماء العاملين. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 19 لفتتان مهمتان في حياته وأخيراً: فإنني أختم الحديث عن العز بن عبد السلام رضي الله عنه بلفتتين مهمتين في حياته، وهاتان اللفتتان ليس لهما علاقة ظاهرة بالموضوع الأصلي إلا أنهما عبارة عن قصتين مهمتين من المصلحة أن يسمعهما من يسمع ترجمة العز بن عبد السلام وما يتعلق بمواقفه البطولية الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الموقف الأول: كيف طلب العلم؟ كان جاهلاً أول أمره وكبر سنه وهو لم يتعلم -وهذا عبرة لبعض الذين كبروا ولم يتعلموا- وفي أحد الأيام كان نائماً في الكلاسة -وهي زاوية في الجامع الأموي بدمشق- لأنه كان في سكن للطلاب حينذاك وللناس عموماً، فكان نائماً والليلة شديدة البرد فاحتلم في تلك الليلة واستيقظ فذهب بسرعة وكان ثمة بركة في طرف المسجد شديدة البرودة حتى ربما أنها متجمدة، فخلع ثيابه ونزل في تلك البركة واغتسل في ماء بارد ثم خرج حتى كاد أن يغمى عليه وذهب ونام مرة ثانية، ثم احتلم مرة أخرى أيضاً فاستيقظ. حتى ذكر ابن السبكي القصة هذه عن والده يقول: ما أدري حصلت له القضية مرتين أو ثلاث، في ليلة واحدة، وفي كل مرة كان يذهب إلى هذا المكان البارد ثم يلقي بنفسه فيه حتى أنه قال أغمي عليه في المرة الثانية أو الثالثة أغمي من شدة البرد، فاستيقظ بعد ذلك وجلس حتى طلع الفجر، بعد ذلك قيل أنه أغفى إغفاءة بسيطة وسمع واحداً يقول له في النوم: هل تريد العلم أو العمل؟ فقال: لا، أريد العلم؛ لأن العلم يقود إلى العمل. فلما أصبح الصباح أخذ كتاب التنبيه في فقه الشافعي، واعتكف عليه حتى حفظه ثم بعد ذلك ظل يطلب العلم حتى أصبح -كما يقول السبكي - أعلم أهل زمانه، وكان كثير التعبد لله جل وعلا، فهذا درس فيه عبرة وفيه عجب. الموقف الثاني: وإذا كان الموقف الأول يتعلق ببداية طلبه للعلم وبداية حياته العلمية، فإن الموقف الثاني يتعلق بنهاية حياته، ففي نهاية حياته، لما حضرته الوفاة، وقرُب موته جاءه السلطان بيبرس وكان يحبه، حتى إنه لما مات قال السلطان بيبرس: لا إله إلا الله ما اتفق موت الشيخ إلا في زمني وفي عهدي -يعني: هذا ليس بخير أن يموت الشيخ في زمني- جاءه في مرض موته وقال له: المناصب التي أنت فيها عين أولادك -وكان عنده أكثر من ولد من أشهرهم عبد اللطيف طالب علم مترجم له- يقول: عَيَّن المناصب لأولادك، فلان في القضاء، وهذا في المدرسة التي تدرس فيها، والثالث فقال: ما فيهم من يصلح -المسألة ليست مجاملات ولا تتم الأمور بهذه الطريقة فأولادي ما فيهم من يصلح- وإنما أعين فلاناً -وذكر رجلاً بعيداً أجنبياً- وقال: إنه هو الذي يصلح وهو الجدير بمثل هذه المناصب. أيها الأحبة: إنما قصدت من عرض سيرة العز بن عبد السلام ليس المتعة فقط ولا الرواية التاريخية، إنما قصدت أمراً آخر وهو أن الأمة إذا ندَر الرجال في واقعها دائماً تلتفت إلى الوراء، تلتفت إلى الماضي، تبحث عن هؤلاء الرجال، وهذه الأمة ما عقمت أرحام النساء أن تخرج لنا رجالاً من أمثال العز بن عبد السلام وغيره؛ بل ومن هم أفضل منه -بإذن الله تعالى- لكن على الأمة أن تعي دورها، وتبدأ بإعداد نفسها لمثل هذه المواقف الرجولية الصلبة التي هي أحوج ما تكون إليها، فإن الأمة مقبلة على تاريخٍ طويل، الله أعلم بما يلقاها فيه من الفتن، والمحن، والشدائد، وهي أحوج ما تكون إلى الرجال الذين يكونون كالقمر في الليلة الظلماء. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 20 التزام العالم بالمواقف البطولية خير معلم موقف آخر: ولعله قبل الأخير، وهو أن الأمة خاصة في أزمنة الفتن والضعف كهذا الضعف الذي نعيشه الآن وكالضعف الذي كان في زمن العز بن عبد السلام حيث تسلط عليها التتار من جهة، والصليبيون من جهة، والضعف الداخلي من جهة ثالثة، والتفرق والتمزق إلى غير ذلك؛ كانت تعيش وضعاً شبيهاً نوعاً ما بالوضع الذي نعيشه الآن، فكان السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي يحمل الراية؟ الأمة كلها في حيرة تريد أحدا يحمل الراية ويقول: أنا لها، حتى تسير الأمة كلها، ويسير العلماء، وطلاب العلم والدعاة وراءه. إن العز بن عبد السلام رضى الله عنه تربى على يد علماء فيهم قوة مثل فخر الدين بن عساكر الذي كان في دمشق وألزموه بالقضاء، فرفض القضاء ثم وليه بعد جهد جهيد، ولم يدم فيه، وكان هذا الرجل قوياً في الحق حتى إنه أنكر على حاكم دمشق أنه كان يضمن الناس الخمر والمكوس التي يتلفونها، فإذا أتلفوها طلب منهم الضمان فأنكر عليه ابن عساكر هذا الأمر، فهذا من شيوخ العز بن عبد السلام. ومن شيوخه أيضاً رجل اسمه عبد الصمد الحرستاني وهذا أيضاً ألزم بالقضاء، فلما ألزموه به صار فيه على طريقة السلف الصالح على الجادة، وفي إحدى المرات كان في مجلس القضاء فجاءه خصمان، فأحدهما قدم له ورقة خطاب، فأخذ الخطاب وجعله في الدرج، ثم قال: ماذا عندك، وأنت ماذا عندك، فسمع كلام الخصوم، ثم بعد ذلك حكم لهذا، ثم فض الخطاب، فلما فض الخطاب قرأه وإذا هو خطاب من الحاكم يشفع فيه لهذا الرجل الذي حُكم عليه أن حاول أن تنظر في أمره وأن تجعل الحق معه، فألقى بالكتاب في القمامة، وقال: قد غلب كتاب الله كتاب هذا الرجل، حكمت قبل بالحق ولا أحكم بالباطل بمجرد أنه أتاني خطاب من السلطان! فذهب هذا الرجل إلى الحاكم يظن أنه سينتصر له، وقال له: حصل كذا، وكذا، فقال: صدق، كتاب الله مقدم على كتابي. فما دام حكم بالشرع بالكتاب والسنة، فهل يرجع عن الكتاب والسنة لكتابي؟! هو صادق فيما قال. فكان هذا من شيوخ العز بن عبد السلام وعلى يد هؤلاء العلماء تعلم العز بن عبد السلام دروس القوة، والشجاعة، والغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن بعد العز بن عبد السلام تلقى على يديه رجال من أمثال ابن دقيق العيد مثلاً، فقد عزل نفسه من القضاء مرات فكل ما حصلت مشكلة يعزل نفسه عن القضاء، ويقول: ما لي به حاجة، أنتم ألزمتموني به ولا أحتاجه، ثم يعزل نفسه عن القضاء، وقد حصل لـ ابن دقيق العيد موقف مشابه لموقف شيخه العز بن عبد السلام، فإن السلطان محمد بن قلاوون أراد أن يجمع المال لحرب التتار من الناس ولو بالقرض مثلما فعل قطز من قبل. فجمع العلماء، فقال له ابن دقيق العيد: لا يمكن أن تأخذ الأموال من الناس إلا بعد أن تجمع الأموال من السلاطين، والأمراء، ومن حريمهم، حتى قال له: إن منكم -من أمرائكم- من جهز بنته لتزف إلى زوجها وعمل في حفلها الجواهر، واللآلي، والحلي الفاخرة، وجعل معها الأواني من الذهب والفضة، وإن منكم من رصع مداس زوجته بالجوهر، فإذا أتيتم بهذه الأموال ولم تكف فبعد ذلك ننتقل إلى أموال الرعية. فهو موقف مشابه يذكرنا بموقف العز بن عبد السلام. إذاً القضية -أيها الأحبة- قضية تربية، العز تلقى هذه الشجاعة والقوة في الحق من مثل ابن عساكر وعبد الصمد الحرستاني وأدى الأمانة إلى من بعده كـ ابن دقيق العيد وغيره من التلاميذ. وهكذا أقول: يجب على طلبة العلم والمعلمين اليوم ألا يحرصوا على حشو أذهان التلاميذ بالمعلومات الجافة فقط، تجد الطالب أحياناً يستطيع أن يحفظ متناً أو يقول لك حكماً أو يذكر خلافاً أو ما أشبه ذلك، لكن ليس لديه غيرة، لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا يعد نفسه حتى يكون قائداً للأمة، رضي من الغنيمة بالإياب، هذا لا يصلح أبداً، ينبغي أن يكون العالم مدرسة تخرج تلاميذ فيهم التكامل، فيهم العلم الشرعي المبني على الدليل، فيهم العمل، الصدق، الإخلاص، العبادة بحيث أن الأمة تلتف من ورائهم، والأمة أحوج ما تكون لمثل هؤلاء؛ لأن الأمة اليوم في مشارق الأرض ومغاربها قد التفت حول العلمانيين، واليساريين، والمنحرفين، والضالين، لماذا؟ لأنهم خدعوا الأمة، قالوا: نحن ندافع عن حقوق الناس. فالشيوعيون -مثلاً- يدعون أنهم يحفظون أموال الأمة ويدافعون عن حقوق ما يسمونهم بالكادحين، فالشيوعيون مذهبهم نظرياً أن الحكم للكادحين، للعمال الذين يسمونهم بطبقة البروليتاريا، وهذه دعاوى عريضة باطلة لكن هكذا خدعوا الناس، ولذلك قال زعيمهم ماركس: يا عمال العالم اتحدوا. الشيعة أيضاً خدعوا الأمة بمثل هذه الدعاوى الباطلة ولذلك كانوا يدعون أنهم يحافظون على حقوق من يسمونهم بالمستضعفين، ويحاربون قوى الاستكبار العالمي وغير ذلك من هذه العبارات والمصطلحات الكاذبة التي ضللوا بها الأمة، وقل مثل ذلك في العلمانيين وغيرهم، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى طلبة العلم الذين تلتف حولهم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 21 الاحترام المتبادل ولذلك على سبيل المثال: لما خرج العز بن عبد السلام من الشام إلى مصر كان المفتي في مصر هو الإمام عبد العظيم المنذري وكان هو المفتى والعالم المبجل فيها، فلما جاء العز بن عبد السلام قال الإمام المنذري: قد كنت أُفتي يوم لم يكن الإمام العز موجوداً، أما الآن فإن منصب الإفتاء متعين عليه ورفض أن يفتي، من جاءه قال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام، وهذه القضية لا شك أنها ترفع من قيمته. أيضاً مرة أخرى لما غضب عليه أحد أمراء الشام ومنعه من التدريس والخروج وفرض عليه الإقامة الجبرية، ذهب أحد الفقهاء الأحناف وكان فقيهاً مهيباً، فوقف عند الباب على حماره، فقال الحاكم: دعوه يدخل، فلما دخل قام إليه وأنزله بنفسه، وقدمه، وقدره، وأبى أن يأكل إلا بعده، فقال له: ما الذي جاء بالشيخ؟ قال: ما الذي حدث بينك وبين الإمام العز بن عبد السلام. قال: كذا، وكذا، وذكر القضية. فقال هذا الفقيه: والله لو كان العز بن عبد السلام في الصين أو الهند لكان جديراً بك أن تسعى في أن يحضر إليك فإنه شرفٌ لك أن تملك أمة فيها مثل العز بن عبد السلام، فينبغي أن تسترضيه، فوافق على ذلك، وأرضى العز بن عبد السلام، وجعله في مقام رفيع. فتضامن العلماء يكسبهم مقاماً قوياً، ويجعل يدهم واحدة، وكلمتهم واحدة، أما إذا اختلفوا فإن بعضهم يضرب بعضاً، وقديماً قال رجل لأولاده: كونوا جميعاً يا بني إذا اعتدى خطبٌ ولا تتفرقوا آحادا تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا وإذا افترقن تكسرت أفرادا وقد استفاد الشيعة من هذا الأمر، فأذكر أنني قرأت منذ زمن في ترجمة الهالك الخميني أنه غضب عليه حاكم إيران في وقته لمواقفه، وحاول أن يصدر قراراً بإعدامه وقتله، فماذا فعل رجالات الشيعة في إيران؟ لقد اجتمعوا سريعاً وأصدروا قراراً بترقية الخميني إلى مرتبة آية الله. وهذه مرتبة دينية عندهم لآياتهم وزعمائهم الدينيين ومراجعهم العلميين، ومن وصل إلى هذه المرتبة فإنه لا يمكن أن يكون في حقه إعدام ولا حكم من هذا القبيل، فرفعوه بذلك، ومنعوا الحاكم من أن يقتله، فاستغلوا قضية التضامن فيما بينهم على ما هم عليه من باطل وفساد في منع أي ظلم أو اعتداء لأحد منهم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 22 الأسئلة الجزء: 82 ¦ الصفحة: 23 ذكر بعض العلماء أشباه العز بن عبد السلام السؤال هل هناك علماء في مثل صولة وجولة العز بن عبد السلام على الباطل؟ وهل هناك شباب في مثل هذا أو لهم مواقف عظيمة تدل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ الجواب نعم لعل شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يشبه العز بن عبد السلام أو يضارعه أو يفوقه في مثل هذه المواقف البطولية، وسوف أخصص محاضرة عن شيخ الإسلام ابن تيمية ومواقفه الشجاعة في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد تكون المحاضرة الثالثة أو بعدها بقليل -إن شاء الله-. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 24 صوفية العز بن عبد السلام السؤال ما صحة قول من قال: إن العز بن عبد السلام فيه نزعة صوفية في عقيدته؟ الجواب أما مسألة فيه نزعة صوفية، نعم فيه نزعة صوفية، لكنها صوفية أقرب إلى الاعتدال فكأن العز بن عبد السلام -رضي الله عنه ورحمه الله- كان يحسن الظن بالصوفية ويحضر بعض مجالسهم ويسمع إليهم وكان يتكلم في كتبه عما يسمى بالحقيقة والشريعة، وإن كان يقول: إن الحقيقة خاضعة للشريعة وقد أنكر على الصوفية الغلاة بعض انحرافاتهم وضلالاتهم في عدد من كتبه، وكان عنده تصوف لكنه فيه نوع من الاعتدال وإرجاع التصوف للكتاب والسنة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 25 حكم تقليد العالم أو القارئ في صوته السؤال يقول: هل يجوز للإنسان أن يقلد صوت شيخ من المشايخ، وذلك إما على سبيل الإعجاب بذلك الشيخ أو الإعجاب بنفس نغمة صوته؟ الجواب إذا كان التقليد ليس على سبيل السخرية فهو جائز، لكن مما أستسمجه أن يقلد صوته بطريقة دائمة، بصورة تدل على أنه يقلده، بمعنى أن التقليد نوعان: فأحياناً يكون التقليد عفوياً أي: أنك من كثرة ما سمعت لهذا العالم أو لهذا القارئ -مثلاً- تسرب إليك صوته فأصبحت تقلده بدون أن تقصد، فهذا لا حرج فيه -إن شاء الله- لكن بعض الناس يتعمد أن يقلد شخصاً ما أو قد ينتقل من شخص إلى آخر في أصواته أو قراءته أو ما أشبه ذلك فهذا مما لا أرى أنه مناسب. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 26 إنكار المنكر لا يتعارض مع واقع الأمة السؤال كان هناك مدرس يسبل ثيابه، وبعد ذلك نصحته، وعندما أتى في محاضرته الثانية ألقى محاضرة يقول فيها: إنه لا يأخذ من طالبه النصيحة، وأن العالم يمر بمرحلة خطيرة وينبغي أن نغض الطرف عن بعض الأخطاء، ويقول: هذه شكليات وينبغي أن نهتم بالجوهر؟ الجواب في الواقع أن العالم يمر بمرحلة خطيرة هذا صحيح، وأحياناً إذا رأيت وسمعت قلت: سبحان الله! هذه بداية الفتن والملاحم التي يخشى أن يكون لها ما بعدها على مستوى الأمة وعلى مستوى العالم، فالعالم يمر بمرحلة خطرة هذا صحيح، لكن هذه المرحلة الخطيرة لا تمنع الإنسان أن يهتم بالأمور الأخرى كأمور الحلال والحرام، وينبه على هذا المنكر أياً كان هذا المنكر، ولا يأخذ منك التنبيه على إنكار الإسبال -مثلاً- دقيقة واحدة، ولن تضيع وقتك كله في هذا الموضوع. ويمكن أن تشتغل بقضايا الأمة ومشاكلها؛ لأن الذي يستنكره كثيرون هو أن بعض الناس أصبح لا هم لهم إلا بعض المنكرات الموجودة في المجتمع مثل إسبال الثياب -مثلاً- أو حلق اللحى، أو التدخين، لا يتكلمون إلا فيها، ولا شك أن من قصر كلامه على هذه الأمور فهو مخطئ، بل ينبغي أن يتكلم في هذه الأمور ويتكلم في غيرها مما هو أهم منها. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 27 تحريم مصافحة النساء الأجنبيات السؤال ما حكم مصافحة النساء الأجنبيات خاصة إذا مدّت إحداهن يدها إليّ؟ الجواب لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية، لما رواه الطبراني وغيره بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لئن يطعن في رأس أحدكم بمخيط من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأةً لا تحل له} . الجزء: 82 ¦ الصفحة: 28 ضابط الشرك بالله السؤال متى يكون اقتراف الذنوب من الشرك؟ الجواب إذا عبد الإنسان غير الله، سجد لغير الله أو عبد غير الله فهذا يكون من الشرك، وكذلك إذا استحل محرماً معلوم تحريمه من الدين بالضرورة فهو كذلك، وإلا فالذنوب لا يكفر بها صاحبها كما قال الإمام الطحاوي: وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لا يخلدون في النار، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن كانوا غير تائبين بعد أن لاقوا الله عارفين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 29 حكم قول رضى الله عنه لغير الصحابي السؤال سبق أن نهيت أن يقال لغير الصحابة: رضي الله عنه وأنت تطلق للعز بن عبد السلام عبارة رضي الله عنه حبذا لو أفدتنا أفادك الله، ورعاك؟ الجواب أما مسألة رضي الله عنه فما أعتقد أنني نهيت عنها، قلت: إن هذا الشعار أكثر ما يستخدم للصحابة رضي الله عنهم ولو استخدم في حق غيرهم ممن بعدهم فلا حرج في ذلك، لكنه شعار يطلق غالباً على الصحابة رضي الله عنهم. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 30 حكم قولك عن فلان إنه غني عن التعريف السؤال إنك قلت في المجلس السابق عن أحد العلماء: إنه غنيٌّ عن التعريف وسمعت من أحد المشايخ أن "غني عن التعريف" ليست إلا لله سبحانه وتعالى؟ الجواب "غنيٌّ عن التعريف" المقصود بها أنه معروفٌ عند السامعين لا يحتاج إلى أن أقول: إنه ولد عام كذا، ودرس كذا، وتخرج، وتوظف في الوظيفة الفلانية، ولا أجد في هذه الكلمة -إن شاء الله تعالى- حرجاً. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 31 الإنسان هو الذي يرفع نفسه وهو الذي ينزلها السؤال هذا شاب ملتزم، ويريد أن يبدأ بالدعوة إلى الله تعالى، فيريد أن يبدأ بأهله ولكن ليس له قيمة عندهم، فبماذا تنصحه؟ الجواب أنصحك أن تسعى إلى أن توجد لنفسك قيمة، فمثل ما طالبنا العلماء والأئمة أن يكون للعالِم قيمة عند الأمة حتى يغير المنكر، كذلك أنت في البيت لن تستطيع أن تغير إلا إذا كان لك في البيت قيمة، وكيف يكون لك قيمة في البيت؟ أن تكون إنساناً فعالاً مؤثراً، فلا يصح أن يكون الإنسان مقصراً في حقوق الأهل في البيت، ثم يريد أن يغير، إذا كان للأهل مشوار فاذهب بهم أنت، أو احتاج الأهل شيئاً من السوق فأحضره أنت، أو عند الأهل مناسبة أو وليمة فحاول أن تكون أنت القائم عليها، أو زواج فتكون أنت المشارك فيه، بعد ذلك ثق ثقة تامة أن الأهل سوف يطيعونك فيما تأمرهم به وتنهاهم عنه. اجعل في البيت مكتبة صوتية، هاتِ لها بعض الأشرطة المختارة، ومكتبة صغيرة فيها بعض الكتب الصغيرة المناسبة للأطفال والنساء والشباب واجعلها في متناول أيديهم، يسمعون متى شاءوا. وإذا استطعت أن تجعل في البيت حلقة علمية ولو بعد حين، يلتقون فيها، يقرءون آية من كتاب الله، أو حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبياتاً من الحكمة، أو أحكاماً شرعية، كصفة الصلاة، وما أشبه ذلك، وهكذا شيئاً فشيئاً، لكن لا تتعجل الأحداث. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 32 واجبات طالب العلم في إنكار المنكر السؤال يقول: بعد ما سمعنا عن العز بن عبد السلام الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، ماذا يجب علينا -كشباب ملتزمين- نحو هذه المنكرات في هذا العصر؟ الجواب في الواقع أنه يسرني مثل هذا السؤال، وقد تكرر، لماذا؟ لأن المقصود أصلاً من طرح مثل هذه الموضوعات هو أن يثار مثل هذا السؤال في أذهاننا، وهذه بداية العافية، وبداية الشفاء، أن يثار عندنا مثل هذا السؤال ما هو الواجب علينا؟ وأقول الواجب علينا أمور: أولها: أن ندعم مكانة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بكل وسيلة، ومن دعمهم أن نرفع مقامهم عند الناس، أرأيتم -أيها الإخوة- إذا دخل العالم في مجلس أو مناسبة ثم رأى عامة الناس ممن قد لا يعرفون هذا العالم -مثلاً- رأوا الحفاوة والتكريم والتفاف الطلاب حوله والسؤال وما أشبه ذلك، فإن الناس يخضعون لقوله ويسمعون له ويطيعونه ويقدرونه، لكن إذا كان العالم يضيع في الدهماء، وقد يضرب كتفه كتف آخر، ولعله لا يقول: السلام عليكم، أو كيف حالك يا فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يصلح. والواجب الثاني: أن تراسل العلماء بما ترى من المنكرات، وقد سبق أن ذكرت في بعض المحاضرات طريقة يسلكها بعض الدعاة -وهي طريقة جيدة- فيوم من الأيام فتحت صندوق البريد، فوجدت فيه قُصاصة من جريدة مكتوباً فيها رسالة مختصرة صغيرة بحجم هذه الورقة مثلاً: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه القُصاصة من جريدة كذا، نُشرت يوم كذا، وفيها ما ترى، نرجو أن تقوموا بواجبكم في هذا المجال. أنا متأكد أن الذي أرسل هذه القصاصة أرسلها على الأقل بخمسين أو مائة ممن يعرف ومن السهل أن يعرفهم ويراسلهم وبناءً على هذه القصاصة التي وصلتهم سوف يقومون بدورهم وأقل شيء أن أحدهم رفع سماعة الهاتف -مثلاً- على صاحب المنكر، وقال: يا أخي قرأنا في الجريدة كذا، وكذا، وجزاك الله خيراً نرجو أن تراعوا هذه الأمور أنه لا يجوز، وفي القرآن كذا، وفي السنة كذا، ومشاعر الناس، وما أشبه ذلك. فيحاول أن يؤثر فيه، فإذا حصلت عدة اتصالات على صاحب المنكر أو وسائل أخرى في التغيير فإن هذه لا بد أن تحدث صدى كبيراً، فأقل شيء يجب عليك هو أن يكون دورك الإعلام بوقوع المنكر بطريقة مؤكدة إلى من تعتقد أنهم سوف يقومون بالاحتساب. واجبك الثالث: هو أن تحتسب بنفسك إذا استطعت، ما الذي يمنعك؟ فلا أحد يمنع أبداً أن ينكر الإنسان المنكر كبيراً أو صغيراً بالأسلوب الحسن، فتقول: حصل كذا وهذا لا يجوز ثم ماذا يضرك؟ لا يضرك شيء أبداً -إن شاء الله- حتى لو فرض أنه ما قبل منك، أو سخر منك، أو استهزأ بك، أو ضرك في نفسك ومالك أو أهلك، فلا يضير هذا، فهو في سبيل الله. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 33 لا تعارض بين من ينكر المنكر سراً أو جهراً السؤال يقول: ذكرت في أحد الدروس أننا يجب أن لا نقول: إن علماءنا في عصرنا هذا مقصرون ولا يغيرون المنكر، بل ربما أنهم يناصحون الأمراء وغيرهم بأمور لا نعرفها، ويتركون أشياء بسيطة في مقابل أمور عظام، ولكن في كلامكم ما يتناقض مع ما سبق. الجواب لا، في الواقع ليس في كلامي ما يتناقض، في اعتقادي أن العالِم قد يُنكر بالطريقة التي يراها وهو عند الله تعالى معذور، إذا اجتهد وعلم الله تعالى أنه مجتهد، وليس هدفه إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحجة، فأنكر بطريقة سرية أو علنية فإنه معذور عند الله تعالى وعند خلقه، فليس صحيحاً، أنني أقول: إن العالم مقصر أو قاعد لأنني لم أعلم بإنكاره، قد يكون أنكر وما علمت، وهذه من الأعذار التي يجب أن نلتمسها للعلماء، لكن مع ذلك لست أرى مانعاً أن يكون في الأمة هؤلاء وهؤلاء، وأن يكون في الأمة من ينكر المنكر علانية ويقيم الحجة ليقطع دابر مثل هذا الكلام الذي قد يقال، وقد يقوله أناس لا يستأذنوننا أن يقولوه، ويقولوه وإن كرهناه وإن لم نرضه، لكن يقوله الناس، فالناس لا تستطيع أن تضع في أفواههم أقفالاً فلا تتكلم إلا بما نريد، قد يقولون كلاماً -وليس بحق- أن العالم -مثلاً- لا يُنكر. وقد واجهت شيئاً من ذلك في بعض البلاد -كما أشرت إليه- وبذلت جهدي في إيضاح وجهة نظر بعض علمائنا الذين أعلم أنهم مخلصون وجادون كسماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن باز، وأن الواحد إذا بذل جهده واستفرغ وسعه فإنه معذور، ولا نشك أنهم مخلصون يبذلون ما يستطيعون، وكون الواحد يقول: إني فعلت كذا، وفعلت كذا، وفعلت كذا، هذا لا يراه هو. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 34 ليبدأ كل فرد بما يستطيع عمله وليرشد الآخرين إلى ما لا يستطيع السؤال يقول: لماذا لا نرى أي كتاب مخالف للبدعة ويوضح ذلك في مجلاتنا ووسائل إعلامنا؟ فهذا تقصير واضح: فما الجواب على ذلك؟ الجواب هناك كتابات -في الواقع- موجودة في بعض الصحف وفي بعض المجلات وفي بعض وسائل الإعلام، أما أنها غير كافية فأنا معك أنها غير كافية، ولكن نحن نقول -أيها الأحبة- بالمناسبة باختصار، سبق أن تكلمت في محاضرة عنوانها "نحن المسئولون" وأنا أدعو الأخ السائل إلى مراجعتها، فلا يوجد داع أن نلقي باللوم على العلماء فقط، لماذا لا يفعلون؟ أنت لماذا لا تفعل؟! لماذا لا تكتب للصحف؟! لماذا لا تكتب للمسئولين؟ لماذا لا تخاطبهم؟ لماذا لا تبذل الوسع في تغيير المنكر بقدر ما تستطيع؟ هذا واجب علينا جميعاً، الأمة الآن في بداية يقظة، وبدأت الحياة تدب فيها، فلا يمكن أن الأمة تستطيع أن تسد كل الثغرات في وقت واحد، فلو أتيت للاقتصاد -مثلاً- تجد سؤالاً يطرح لماذا لا يتحقق اقتصاد إسلامي؟! لماذا لا توجد دراسات اقتصادية؟! لماذا لا توجد بنوك شرعية؟! لماذا لا توجد مؤسسات إسلامية؟! مثلاً، تنتقل إلى الإعلام تجد نفس المشكلة، تنتقل إلى التعليم تجد نفس المشكلة، إذن الأمة في بداية يقظة ونحن بحاجة إلى تضافر الجهود وبحاجة إلى أن هذا السؤال يتحول من: لماذا لا يصنع العلماء كذا؟ إلى سؤال يوجهه الأخ الحبيب الكريم لنفسه: لماذا لا أصنع أنا هذا الأمر بدلاً من أن أقول لماذا فلان لم يفعل؟ أسأل نفسي! ولذلك من أعظم خصائص الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله والتي تعجبني أنك إذا أتيته وأخبرته بمنكر وقع لا يقول: يجب على العلماء أن يفعلوا كذا، ويجب على فلان أن يفعل كذا، أبداً بل يقول: نحاول، ونبذل الجهد، ونكتب، ونتصل، ونعمل ما يلزم، وإن شاء الله لا يحصل إلا الخير، لكن تأتي للبعض فيقولون: يجب على العلماء أن يفعلوا، ويجب على المسئولين، ويجب على طلبة العلم، فنوزع الواجبات ونخرج نحن خارج الدائرة، هذا لا يصلح! الجزء: 82 ¦ الصفحة: 35 حكم توزيع أوراق دعائية لكتابة الأسئلة عليها السؤال الأوراق التي توزع في المسجد تكتب عليها الأسئلة أوراق دعائية المقصود بها بث الدعاية. الجواب لا بأس بهذا -إن شاء الله- ما دام الذي يوزع الأوراق -جزاه الله خيراً- خدمنا بهذا، فلا حرج في هذا -إن شاء الله- أو يحضر الأخ السائل أوراقاً، لكن بشرط أن الأخ لا يحضر أوراقاً دعائية أيضاً. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 36 بعض مؤلفات العز بن عبد السلام السؤال هل ألف العز بن عبد السلام شيئاً من الكتب تنصح باقتنائها، حقق لنا ما نصبو إليه من عزة ورفعة تحت ظل الإسلام الحنيف؟ الجواب نعم حقق وكتب العز بن عبد السلام كتباً كثيرة جداً تقارب الأربعين كتاباً، منها كتاب التفسير ومنها كتب في أصول الفقه >قواعد الأحكام، ومنها كتب منوعة: منها كتب في مقاصد الصلاة، في مقاصد الصيام، وكتب في الجهاد، وأشرت إلى شيء من ذلك، ومنها كتاب في مشكل القرآن، وكتابان في التفسير إلى غير ذلك. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 37 كتاب وحي القلم مفيد لمن يفهمه السؤال يقول: ما رأيك في كتاب وحي القلم؟ الجواب وحي القلم كتاب أدب في ثلاثة مجلدات، للأديب العربي مصطفى صادق الرافعي، وهو كتاب جيد وإن كان مستوى أسلوبه رفيعاً، قد لا يتقنه ولا يستطيع أن يفهمه كل إنسان، لكن الذي لديه تمكن في الأدب واللغة يستفيد من الكتاب. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 38 كتب تتحدث عن سيرة العز بن عبد السلام السؤال ما أحسن كتاب في سيرة العز بن عبد السلام؟ الجواب هناك كتب كثيرة جداً في هذا الموضوع، وقد أشرت في مطلع المحاضرة إلى كتب طبقات الشافعية وبعض الرسائل الجامعية، ولعل أفضل كتاب في سيرة العز بن عبد السلام كتاب اسمه العز بن عبد السلام ومنهجه في التفسير للدكتور عبد الله الوهيبي. هذا في مطلعه حوالي 100 صفحة ترجمة جيدة للعز بن عبد السلام، وكتاب لـ سليم الهلالي اسمه صفحات مطوية من حياة العز بن عبد السلام وهي ليست صفحات مطوية، بل صفحات مكشوفة لكنه وقف وقفات جميلة مع ترجمة العز بن عبد السلام وبأسلوب جيد. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 39 نماذج الأولين إنما تذكر للعبرة والقدوة السؤال يقول: ذكرت نماذج للعز بن عبد السلام تبين قوته في الحق، ولا شك أن كل إنسان يريد أن يكون مثله. الجواب نعم هذا الذي أريد أن يثور في نفوسنا أننا نحاول أن نربط أنفسنا بتاريخنا وبماضينا، وندرك أن هذه القصص والمواقف لا تقال لمجرد التسلية والمتعة التاريخية، وإنما تقال للعبرة والقدوة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 40 أسباب التفاف الناس حول العالم السؤال يقول: إن العز بن عبد السلام كان الناس كلهم معه، ولكن المسلم اليوم والداعية قد لا يجد من يؤيده إلا القليل من الناس! الجواب هذا من جهة صحيح، ولذلك أقول كما قال الشاعر لما نسبوه إلى الجبن وأن موقفه كان موقفاً غير شجاع في المعركة قال: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرّتِ أي لو أن من خلفي رجال شجعان أقوياء؛ لتشجعت، لكن الذين خلفي كانوا نساءً وأشباه رجال، ولذلك انسحبت من المعركة، هذا معنى كلام الشاعر، لكن نأتي للسؤال: لماذا لا تقف الأمة مع العالِم الآن؟ صحيح، نحن نقول: يجب أن تقف الأمة معك -أيها الداعية، أيها المصلح- إنما يجب أن تسأل نفسك السؤال: لماذا لم يحصل هذا؟ فليس صحيحاً أن نلقي بالمسئولية على الآخرين -دائماً- ونخرج نحن أبرياء، لا، ينبغي أن نسأل أنفسنا: ما هو السبب في انفصال الأمة في كثير من الأمصار والأقطار عن علمائها؟ والأسباب واضحة فلا بد للعالم أن يكون مع الأمة، وأن يكون الدفاع عن مصالح الأمة هو همه الأكبر، فـ ابن تيمية رحمه الله، لماذا كان بتلك المكانة؟ لأنه كما يقول الذهبي في ترجمته، أما العامة فكان منتصباً لخدمتهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، يحاول أن يقضي حقوق الناس، ويدافع عن مصالحٍ يحميهم، وبذلك تحس الأمة فعلاً بأهمية هؤلاء الناس؛ لأن الناس -مهما كان الأمر- مرتبطون بدنياهم، هذا جانب. والجانب الآخر: الاستعلاء عن الدنيا بالكلية ومحاولة التخلي عن الدنيا، حتى يدرك الناس أن هذا العالم إنما يريد الله والدار الآخرة لا يريد علواً في الأرض ولا فساداً. الجانب الثالث: المواقف الشجاعة، فالناس يعجبون بالشجاع، والسيف البتار يثني عليه الجميع، والرجل للمواقف القوية وكلمة الحق، والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يتناقل الناس أحاديثه وأخباره. ولذلك قيل قديماً: إن الناس قلوبهم مع علماء الحق ولو كانت سيوفهم مع أمراء الباطل، أي ولو بالقوة قاتل مع فلان إلا أن قلبه مع العالِم، والأمة مهما كان الأمر لا قوام لها إلا بعلمائها. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 41 احترام العلماء وتبجيلهم مدعاة لاجتماع العامة والخاصة حولهم السؤال يقول: ذكرت أنه يجب على الأمة عامتها وخاصتها أن تلتف حول العلماء، نرجو توضيح ذلك بإعطاء صور وأمثلة لذلك لأنه قد يخفى على أغلب الحاضرين ما المقصود بالالتفاف؟ وما هي ضوابطه، ومتطلباته، وأسسه التي يجب أن تسير الأمة حول علمائها؟ الجواب أعني بالالتفاف: أن الأمة يجب أن تعتبر أن العلماء الشرعيين هم لبها، وروحها، وقيادتها، ويكون ذلك: بتعظيم العلماء، وتقديرهم، ومنع النيل منهم، منع الاعتداء عليهم، أو ظلمهم، أو التنقص من حقهم، وحفظ مكانتهم وقدرهم، وأن يعرف القريب والبعيد أننا نحترم علماءنا. بل إنني أدعو -وخاصةً طلبة العلم- إلى أن نشعر الناس بتقديرنا لبعضنا البعض، وتقدير طلبة العلم بعضهم لبعض، وتقديرهم العلماء ولو بصورة أكثر مما هو الواقع، بمعنى أنه إذا كان معي أحد من طلبة العلم، وعندي عامة، أو جهلة، أو فساق فأقدم هذا الزميل -مثلاً- أو القريب أقدمه وأفضله وأجعله يبدأ بالحديث قبلي، ويدخل قبلي، ويخرج قبلي بحيث يشعرون هم بالاحترام؛ لأن الأمة إذا وجدت طلبة العلم يحترمون العلماء؛ احترمتهم. ولذلك من الأخطار أن طالب العلم -أحياناً- قد يزدري العالم لخطأ وقع فيه، ومن الذي لا يخطئ خطأ أو عشرة أو عشرين أو خمسين؟! ولو أن كل عالم أخطأ رفضناه وتركناه وتخلينا عنه لما بقي أحد، بل إذا أخطأ العالم التمس له عذراً لعله أُتي من قبل اجتهاده أو غفلته عن جانبٍ من الأمور أو ما أشبه ذلك. وعلى كل حال فهو معذور إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، فلا ترفض العالم لمجرد أنه أخطأ خطأ أو خطأين، ولا تسمح بأن ينال من قدر العالم، أحياناً يقال في مجلس هذا العالم: الدنيا في يده، له أموال، وله كذا، وله كذا، ويكذب عليه. وقد حضرت مجالس يتكلمون فيها عن بعض العلماء أن عندهم، وعندهم، وأعرف أن هؤلاء العلماء عليهم ديون! وأحدهم وهو من أكبر علماء المملكة يستدين إلى الراتب -تصوروا هذا الأمر- لأحواله وأموره وحاجاته، فإذا جاء الراتب سدد الديون التي عليه، وأحياناً يُنال من العالم أنه يخالف ما يقول، حتى إن أحدهم قال: إن العالم الفلاني الذي يقول كذا، ويقول كذا ويحارب الاختلاط -في المستشفيات وفي المدارس وفي الجامعات وفي غيرها- بنته تدرس في بلد كذا وكذا في جامعة مختلطة، يدرس فيها الشباب والبنات سوياً، فقال له أحد الحضور: أنت تكذب فإن هذا العالم أصلاً عقيم لم يولد له أولاد ولا بنات. وأحياناً ينال من العالم بأنه لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وأنت لا تعلم، قد يكون هذا العالم يأمر وينهى لكن بينه وبين صاحب المنكر، لم ير مصلحة لإعلام ذلك على الناس، وبغض النظر عن هذا الاجتهاد؛ إلا أننا نقول: ينبغي أن تبحث له عن عذر، وألا تسمح لا لنفسك ولا لغيرك بالنيل من العلماء، بل ينبغي لكل فرد من أفراد الأمة أن يعتبر أن من أعظم مهماته حماية أعراض العلماء. كم هو والله مؤسف أنه أحياناً في بيئات دينية صالحة يأتي ذكر فاسق من الفساق، معروف بعدائه للإسلام، فتجد الثناء عليه: بأنه إداري ناجح، يهتم بأمور الناس، وهو أديب، وشاعر، ومصلح، وهكذا يلقون عليه من الألقاب ما لا يستحق، فإذا جاء ذكر عالم جليل -وهذا والله يجرح الفؤاد- وجدت هذا يتهمه بشيء وهذا يقول فيه شيئاً، وهذا ينال منه، وهذا يلمزه، وهذا على أحسن الأحوال يسكت، فهذا لا يصلح، فينبغي أن يكون كل فرد من الأمة من أهم مهماته حماية أعراض العلماء، ليس فقط حماية أعراضهم؛ لأن هذا واجب عليك تجاه كل إنسان. لكن نريد أكبر من هذا، نريد مع حماية أعراضهم: الثناء عليهم، وتبجيلهم، وحفظ مقامهم، وتقديرهم، يا أخي ما الذي يمنع الأمة أن تشعر كل الناس أن علماءنا يبجلون، ويقدمون، لا أتكلم بين يديه إلا بأدب، ولا أخاطبه بأي لهجة لا تناسب، ولا أرفع صوتي بين يديه، ولا أسير أمامه، ولا أتقدمه بفعل، وأحاول أن أخدمه بقدر ما أستطيع ولو رفض ذلك وكان لا يريده، لأنه ليس المقصود أن نعطي نحن الناس مكاناً لا يستحقونه، لكن مقصودنا أن نربط الأمة بقياداتها الحقيقية، وأن لا نسمح بتسلل الخفافيش إلى هذه المواقع المهمة في الأمة. الجزء: 82 ¦ الصفحة: 42 شروط الدعوة إن اختلاف أساليب الدعوة وطرقها لا يعني اختلاف الدعوة أو المنهج. ولذلك فإن الشيخ تكلم في هذا الدرس عن عدة محاور لتوضيح ماهية الدعوة إلى الله، وخلص إلى أن للدعوة حقيقة وخصائص تتميز بها، وبين أن الدعوة في الأمة كالروح في الجسد، ثم بين الشيخ كذلك بعض الأساليب في الدعوة موضحاً أن الدعوة لا تجدي نفعاً ما لم تكن خالصة لله تعالى، وكذلك وضح الشيخ حقيقة مهمة وهي: أن الدعوة واضحة ولها أهداف ومعالم، وأن فشل الدعاة لا يعني فشل الدعوة لأن نجاحها مضمون بإذن الله، ثم نصح الدعاة بالرفق والدعوة إلى الله على بصيرة. وعرج على مقتطفات من كتاب الدعوة إلى الإصلاح، وتكلم فيه عن الإجازة وكيفية استغلالها، ثم تكلم عن أخبار البوسنة والهرسك وختم الدرس بالأسئلة. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الدعوة إلى الله إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته: ثم أيها الإخوة: هذا هو الدرس الواحد بعد التسعين من سلسلة الدروس العلمية العامة يستأنف في هذه الليلة المباركة إن شاء الله، ليلة الإثنين آخر المحرم (29 / 1414 هـ) وقد حدث انقطاع في الفترة الماضية بسبب الحج، ثم الاستعداد للامتحانات، وها نحن نستأنف بحمد الله تعالى في مطلع هذه الإجازة، وإنني في مستهل هذا اللقاء المبارك أزجي الشكر والدعاء للقائمين على هذا المسجد، على مجهودهم وعنايتهم وما جرى فيه من التعديلات والإصلاحات، جعل الله تعالى ذلك في ميزان الجميع. ثم إن بعض الإخوة، يحرصون على معرفة بعض الدروس والمحاضرات السابقة، فأحب أن أقول: إنه في تلك الفترة لم يكن ثمة درس أو محاضرة للأسباب السابقة، اللهم إلا في الأسبوع الماضي، حيث قامت محاضرة بعنوان: (حديث الهجرة) وكان ذلك في مدينة ينبع ليلة الثلاثاء السابق. أما حديث هذه الليلة فهو بعنوان: (شروط الدعوة) . الجزء: 83 ¦ الصفحة: 2 أولاً: ما هي الدعوة؟ قال الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] من هذه الآية الكريمة؛ يتضح أن الدعوة هي حث الناس كافة على الرجوع إلى الله تعالى، وطاعة شريعته واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام. وحين نتحدث عن الدعوة، وهي بهذا شريعة ربانية يجب ألا نتحدث بشيءٍ من عند أنفسنا؛ بل من دلائل الوحي وإرشاداته وتوجيهاته، وحين أقول: شروط الدعوة؛ فإنني لا أعني بها ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يتبادر إلى الذهن، حينما نقول مثلاً: شروط الصلاة أو شروط الوضوء، أو شروط الإيمان، أو ما شابه ذلك، كلا! بل أعني بها المعنى اللغوي. فالشرط في اللغة: هو العلامة، كما ذكر ذلك ابن فارس في المعجم وغيره من اللغويين. إنها معالم يهتدي بها الداعون وحسب، وليس المعنى ألا يدعو الإنسان إلا وقد تكاملت فيه الشروط والأوصاف. فلو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد عليه الصلاة والسلام. هذه الكلمات التي أقولها لكم اليوم -أيها الإخوة- لم أنقلها من كتاب، ولم ألتقطها من دراسة، وإنما مرجعها أحد شيئين: إما القرآن الكريم، أو سيرة النبي عليه الصلاة والسلام وأقواله وأفعاله. وهي استنباط اجتهادي قابل للخطأ والصواب، فما كان فيه من صواب فمن الله تعالى، وله الحمد والشكر وهو لذلك أهل، وما كان فيها من خطأٍ فمني ومن الشيطان، والله تعالى ورسوله من ذلك بريئان. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 3 خصائص الدعوة إلى الله ثانياً: خصائص الدعوة. من الآية الكريمة السابقة؛ تبدو خصائص الدعوة التي سوف نتفيء ظلها الآن، ونتحدث عنها. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 4 عموم الدعوة إلى الله الخصيصة الثالثة: العموم. فليست دعوة للنخبة من المثقفين والمتعلمين، ولا لكبراء القوم وعليتهم، ولا للعرب، وليست الدعوة لفترة معينة أو جيل خاص؛ بل هي دعوة للأبد، لكل الناس، فلا يجوز أن نستثني من الدعوة أحداً، ولا أن نجاري بعض العادات الاجتماعية أو الموروثات العقلية، التي توهمك أن هناك من لا حاجة لدعوته؛ لأنه لا أمل في هدايتهم، فالله تعالى يهدي من يشاء، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن عز وجل. لقد أسلم عمر، الذي كان يتربص بالرسول صلى الله عليه وسلم ويعد العدة لقتله، فلما قرب من الصفا صفا. توجه الدعوة للنصارى بالأسلوب الشرعي، وتوجه الدعوة لليهود، مع ما عرف عنهم من خبث الطباع والتلون على الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وتوجه الدعوة للغارقين في الشهوات، فربما هداهم الله سبحانه وتعالى، وتوجه الدعوة للمنحرفين عن السنة توجه الدعوة للإسماعيلية، وتوجه للصوفية، وتوجه للشيعة وسائر الفرق. وأقول على سبيل المثال: الكتب التي تنتقد مذهب الشيعة الجعفرية الإمامية، كثيرة جداً ولا حرج في ذلك؛ فهذه بحوث علمية روعي فيها العدل والإنصاف؛ لكن كم من الكتب وكم من الأشرطة التي تخاطب هؤلاء بالدعوة، بالأسلوب العلمي الشرعي، وتدلهم على ما في المذهب مما يخالف القرآن ويخالف العقل، ويخالف ما تقتضيه الفطرة السليمة؟! كم يوجد من المواد التي تخاطبهم بالدعوة الصريحة الصادقة الناصحة، التي تريد لهم الهداية إلى الحق، والرجوع إلى السنة والوصول إلى الصواب؟! إنه ليس هناك خدمة يقدمها أحد لمثل هؤلاء؛ أعظم من أن يشيع أنه لا أمل في هدايتهم، وأنه لا ينبغي الاشتغال بدعوتهم. إن عموم الدعوة وشمولها أمر مسلم من الناحية النظرية؛ ولكني أسائل نفسي وأسائلكم: من منا يقوم بتأدية ذلك عملياً؟ وكم بذلنا من الجهد لذلك؟! إنني أستطيع أن أقول -وعن معرفة-: إن الدعوة إلى الله لا تزال محصورة بين فئة من الشباب الدارسين، الذين تظهر عليهم سمات الصلاح وقابلية الخير، أما هذا المجتمع الواسع العريض، برجاله ونسائه وأطفاله وتجاره، وفقرائه بموظفيه الكبار والمتوسطين، وبطبقاته الاجتماعية المختلفة والمتفاوتة، بعوامه وفلاحيه؛ بل بمنحرفيه وشارديه، وبأقاليمه التي يفصل بعضها عن بعض حدود المكان، وحدود التقاليد والعادات والموروثات التاريخية والحساسيات السابقة؛ إن هذا المجتمع لا يزال بمنأى عن الدعوة الصادقة التي تكسر الحواجز والجدران، وتصل إلى كل العقول والقلوب، وتخاطب الناس بالأسلوب الحسن المثالي. فأسألكم أيها الأخيار أيها الأحبة أيها الدعاة: متى تتحول هذه النظرية المسلمة بعمومية الدعوة وشموليتها إلى واقع عملي؟ ومتى نفلح في تكسير الحواجز بيننا وبين الناس؟ الجزء: 83 ¦ الصفحة: 5 البصيرة في الدعوة إلى الله الخصيصة الرابعة: البصيرة، قال الله تعالى: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] فهي ليست دعوةً عامية، ولا نعرة جاهلية، ولا تقليداً لفلان وفلان، بل هي دعوة مستبصرة؛ شعارها قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وفيصلها: الحجة القاطعة اليقينية البينة. وهي بصيرة في كل شيء؛ بصيرة في حقيقة الدعوة، فيعلم الإنسان إلى ماذا يدعو، وماذا يريد من الناس. وبصيرة بطريقة الدعوة ومعرفة ما يحل وما لا يحل، وسلوك السبيل الأقوم لتحصيل المراد، وإدراك العوائق والعقبات التي تعترض سبيل الداعية؛ ليتسلح لها وستعد ولا يفجأ بها. وبصيرة بحال المدعوين، تعين على تلمس أسباب هدايتهم، وبصيرة بأعداء الدعوة؛ ليكون الداعي منهم على حذر، وبصيرة بالنفس؛ ليعرف الداعي مقصده ونيته ودافعه؛ فلا يلتبس عليه الأمر، ولا تتداخل عنده المقاصد ولا يغالطه الشيطان فيزين له القبيح، أو يقبح له الحسن، ويغيريه بالتعصب والغضب والحمية للنفس أو للمذهب أو للطائفة أو للجماعة أو للإقليم أو للشيخ أو لغير ذلك. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 6 إخلاص الدعوة لله عز وجل الخصيصة الثانية: أن الدعوة دعوة لله تعالى، كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} [يوسف:108] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال: {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} [الحج:67] . إنها دعوة تتبرأ من وصمة الدعوة القومية، أو الإقليمية أو المحلية، ليست دعوة إلى مذهب خاص، ولا إلى هدف دنيوي، بل هدفها واضح، دعوة إلى الله تعالى، فهي دعوته وهي بضاعته سبحانه وتعالى وسلعته؛ أما الداعية فهو دلَّال يعلن على تلك السلعة، وليس مالكاً لها، ينادي عليها وله -فقط- السعي والسمسرة؛ هذا إن صدق وأخلص. فهذا هو الداعية الأول محمد صلى الله عليه وسلم يُخاطب في القرآن الكريم، ومن ورائه كل داعية مخلص في الدنيا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويقال له كما قال الله عز وجل: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188] وكما قال سبحانه: {قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الجن:22] وكما قال أيضاً: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس:49] ويخاطب بقول الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68] . فبكى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت هذه الآية بالتهديد والوعيد بالعذاب العظيم، ويخاطب بقوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] ويخاطب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الأحزاب:1] ويخاطب بقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} * {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1-2] لأنه صلى الله عليه وسلم عبس وتولى أي: أعرض {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلَّا} [عبس:2-10] ويُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم بقول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] . هكذا يُخاطب النبي صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على أصحابه، وتسطر في المصحف لتتلى إلى يوم القيامة: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] . وكان من دعائه الذي عَلَّمَه صلى الله عليه وسلم أصحابه، كما في الصحيحين: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً -وفي رواية: كبيراً- وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} مغفرة من عندك ليس لي فيها يد ولا استحقاق إلا محض فضلك وإنعامك ونوالك. وهكذا ورث هذا السمت العظيم، ورثه وارثوا الدعوة عبر العصور؛ فكانوا في غاية التواضع لله تعالى والانكسار له؛ لا تختلط بدعوتهم شائبة من طمع شخصي، بل هم عبيد متواضعون، كلما زاد قبول دعوتهم زادوا انكساراً وتواضعاً وذلاً لله تعالى، وهذا نموذج لهم: الإمام ابن القيم رحمة الله تعالى عليه ذكر صاحب الوافي وصاحب الدرر الكامنة، وغيرهما من بديع شعره وعظيم نظمه في الضراعة لله تعالى والتواضع وهضم النفس، وقال الصفديp: أنشدني إياها ابن القيم من لفظه لنفسه، هو قائلها، وحقيقةً فكل داعية -شاعراً كان أو غير شاعر- ينبغي أن يقول هذه الكلمات؛ تعبيراً عن نفسه قبل أن تكون تعبيراً عن الإمام ابن القيم رحمه الله: بني أبي بكر كثير ذنوبه فليس على من نال من عرضه إثم بني أبي بكر جهول بنفسه جهول بأمر الله أنى له العلم بني أبي بكر غدا متصدراً يعلم علماً وهو ليس له علم بني أبي بكر غدا متمنياً وصال المعالي والذنوب له هم بني أبي بكر يروم ترقياً إلى جنة المأوى وليس له عزم بني أبي بكر يرى العزم في الذي يزول ويفنى والذي تركه غنم بني أبي بكر لقد خاب سعيه إذا لم يكن في الصالحات له سهم بني أبي بكر كما قال ربه هلوع كنود وصفه الجهل والظلم بني أبي بكر وأمثاله غدا بفتواهم هذي الخليقة تأتم وليس لهم في العلم باع ولا التقى ولا الزهد والدنيا لديهم هي الهم فوالله لو أن الصحابة شاهدوا أفاضلهم قالوا هم الصم والبكم ماذا تظن؟ هل تعتقد أن ابن القيم قال خلاف ما يدور في قلبه؟ كلا والله! بل كان صادقاً مع نفسه، يتحدث عن حقيقة مشاعره، وإن كنا نحن نرى له من العلم والفضل والجلالة والإمامة ما لا يرى هو لنفسه. إنها الصورة التي يجب أن يقولها كل صادق عن نفسه، فلا تغره المظاهر والظواهر عما يعلم من حقيقة ذاته، ولا يجعل شخصه مقياساً، من أحبه ووافقه فهو على هدى وصواب، ومن خالفه أو نافسه فهو بضد ذلك. إن الدعاة وطلبة العلم هم أولى الناس وأحراهم بالبراءة من الحظوظ الشخصية بالكلية، يكفيهم ما عند الله تعالى؛ هذا إن كانوا صادقين. أما إن كانوا كاذبين؛ فما يصيبهم في الدنيا -مهما عظم- هو أقل مما يستحقون، والله تعالى هو المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الدعوة -أيها الأحبة- ليست حظوظا شخصية، ولا مكاسب آنية، والذي يريد الدنيا وجاهها وزخرفها وزينتها ومناصبها وبهارجها فليختر طريق الدنيا، إذ الدنيا والآخرة ضرتان، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:29] . وهذه الخصيصة يتفرع عنها ملاحظات: الأولى: هدف الدعوة يجب أن يكون واضحاً. إن الدعوة لها هدف واضح المعالم، بينٌ لا خفاء فيه ولا غموض. فبعض الناس تعلم أنه يعيش بلا هدف، فإذا أراد أن يعير شخصاً قال: فلان له أهداف وهذه نفسها كلمات السابقين {أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] أي إن الباطن غير الظاهر. والآخرون يقولون: يجب عدم خلط الدعوة بالسياسة، والدعوة ليس لها أهداف سياسية وهذا مقبول. نعم مقبول أن يُسمع من العلمانيين، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعضه، أو يكفرون بالكتاب كله؛ لكن لا يتصور صدوره من مسلم يؤمن بشمولية الإسلام، ويعترف بفرضية الجهاد، ويقر بضرورة الحكم بشريعة الله تعالى، ويعلم أنه لا إله إلا الله، ولا معبود بحق سواه: {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] ويكفر بالطاغوت -كل الطاغوت- ومن الطاغوت: الحكم بغير شريعة الله تعالى. إذاً: فالدعوة الربانية في أي مكان أو بلد وجدت، وبأي صوت سمعت، وبأي أسلوب صيغت؛ هي دعوة ذات أهداف، وأهدافها شاملة للحياة كلها: في الاعتقاد والتشريع، والاجتماع والاقتصاد، والسياسة والتعليم والإعلام، وكل شيء، قال الله سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89] . إن دعوة محمد صلى الله عليه وسلم كانت واضحة الأهداف شاملة المقاصد؛ حتى يوم كانت في مكة محصورة بين جدرانها وحدودها هي لم تكن دعوةً ذات مطامع شخصية ولا مطامع ذاتية؛ لكنها لم تأت أبداً لتتوارى في جانب -فقط- من جوانب الحياة، ولا لتعالج جزءاً من أجزاء الوجود؛ لا لتعالج الأمن المتردي -مثلاً- في الجزيرة، ولا لتحل بعض المشكلات الاجتماعية؛ بل جاءت منذ أولها وبدايتها لتتدخل في كل شيء، وتنظم كل شيء، وترد كل شيء إلى الله والرسول صلى الله عليه وسلم {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] . وإن أي خطة تريد أن تستأثر بجزء من الحياة -مهم أو غير مهم- وتعتبره حراماً على الدعوة لا يجوز القرب منه؛ فهي محاولة لسلب الدعوة مضمونها الشرعي، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ويقول سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ الجزء: 83 ¦ الصفحة: 7 الدعوة في الناس كالروح في البدن إن الدعوة نقلة روح تسري في البدن، فيتبعها قلق وهم وتوتر وحركة وانزعاج في نفوس المدعوين وهذا يتفرع عنه عدة ملاحظات: الملاحظة الأولى: أن الداعية قلِقٌ لحال الناس، من غير يأس ولا قنوط، فهو لا يهدأ ولا يستقر. فمن جالسه أعداه، وصار يقلق لنفسه ويهتم لها؛ ولهذا قيل للحسن البصري رحمه الله تعالى: [[إنا نجالس أقواماً يخوفوننا. قال: لأن تجالس أقواماً يخوفونك حتى تبلغ المأمن؛ خيرٌ من أن تجالس أقواماً يؤمنونك حتى تبلغ المخاف]] ولو رأى لقيط بن يعمر الإيادي حال الداعية الصادق وحرصه على الناس؛ لعلم أنه أحق بقوله إذ يقول: لا منزفاً إن رخاء العيش داخله ولا إذا عض مكروه به خشع مسهد النوم تعنيه أموركم يروم منها إلى الأعداء مطلعا ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره يكون متبِعا طوراً ومتبَعا لا يطعم النوم إلا ريث يحفزه هم تكاد حشاه تحطم الضلعا حتى استمرت على شزر مريرته مستحكم الرأي لا قحماً ولا جزعاً الملاحظة الثانية: إن الطريق -طريق الدعوة والإيمان- يحفل بالمتراجعين والمتلونين والناكصين والناكثين والمترددين، فهذا النائم الذي أغراه وثير الفراش، واستغرق في حلم لذيذ؛ تأتيه يد تهزه وتقول له: استيقظ، كم سيكره هذه اليد، ويتمنى لو أسلمته لنومه الهادئ، وخلت بينه وبين إخلاده الهنيء؟! البعض يوقظه أبوه أو أمه ولهم عنده أرفع المكانة؛ فيصرخ في وجوههم بعنف ويتصرف بعصبية، وهكذا حال بعض المدعوين مع من يدعونهم، وآخرون قد يقومون من نومهم ويعركون عيونهم ويقتربون من أنبوب الماء؛ فإذا وجدوا أدنى مسوغ إلى معاودة النوم فعلوا. فقد يقول: بقي من الوقت خمس دقائق أو عشر، وقد يقول: دورة المياه مشغولة، أو الرقيب قد ذهب؛ فيرجع أدراجه، ويعود إلى فراشه. إنها حال بعض المدعوين الذين يحملهم الحنين إلى الماضي، إلى معاودة ما كانوا عليه؛ وهذا حال دعاة ومدعوين آخرين، وما أجمل بالداعي أن يصبر على ضعف الناس وتراجعهم، وأن يطيل النفس معهم، وألا يحملهم على ما لا تطيقه إمكانياتهم وطبائعهم! قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو داع يصدع بين أظهر قريش بمكة، قال له: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] قال الإمام الطبري رحمه الله: "اختلف أهل التأويل في ذلك: فمنهم من قال: خذ العفو من أخلاق الناس، وخذ الفضل وما لا يجهدهم. ومنهم من قال: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] أي: الفضل الزائد من أموال الناس. ومنهم من قال: بل ذلك أمر من الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالعفو عن المشركين، وترك الغلظة عليهم قبل أن يفرض عليهم القتال. قال رحمه الله: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: خذ العفو من أخلاق الناس واترك الغلظة عليهم. ثم قال: أمر الله بذلك نبيه في شأن المشركين، ولا دلالة على أن ذلك منسوخ، وإنما هو في حق من لم يؤمر بقتاله من المشركين؛ إذ لا يجب استعمال الشدة والغلظة في حق جميعهم". هذا معنى ما قاله رحمه الله. إن العفو هو ما جاء بلا مشقة ولا عسر ولا تكلف، فالتيسير والسماحة والصبر والتغاظي؛ هي من المروءات التي يجب أن يلتزمها الداعية، والتي لا نجاح له إلا بها. فأنت حينما توقظ نائماً؛ حبذا أن تأتيه بلطف، وتحركه بهدوء وتصبر عليه ما دام النوم يثقل جفنه، وأنت ليس لك عليه سلطان، فإذا عاد ونام؛ فتلطف معه وعد إليه مرة أخرى، ولا يغلب جهله حلمك بحال من الأحوال!. الملاحظة الثالثة: ومما يتعلق بهذا: أن مهمة الداعية ليست تبكيت الناس بالضرورة ولا تقريعهم، ولا يلزم أن يبدأ بعيبهم وذمهم؛ لأنه بهذا قد يثير حمية الانتصار لأنفسهم، أو لعاداتهم ومذاهبهم، وأقوالهم، ويعين الشيطان عليهم؛. وهذا مما تختلف فيه الأحوال، فمن الناس من يعرف أنه مخطئ، وأن ما يفعله ضلال أو معصية أو مخالفة، وأنه منحرف عن سواء القصد، فهذا تبدأ معه من حيث انتهى، وتبين له عواقب ما هو فيه، وأسباب الخروج منه، وتعينه على نفسه بكافة الوسائل. مثال: شارب الخمر يعلم أنه حرام، وأن الله تعالى قال: {فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] وأن العربي في جاهليته كان يسميها الإثم. سقوني الإثم ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور وأن العربي العاقل كان يتجنب الخمر؛ لأنها تذهب بلبه وعقله وتجعله كالصبيان أو كالمجانين. إذاً هو يعرف أنها حرام، وأنها إثم وزور، وأنها معصية لله عز وجل؛ وإنما غلبه هواه أو عادته أو شهوته أو إغراء قرناء السوء؛ فحينئذ هو قطع مرحلة، وعليك أن تأخذه من هذا؛ لتحمله على ترك هذا الحرام ومجانبته والعياذ بالله من شرها وإثمها. ومن الناس من يظن نفسه على صواب، وقد امتلأ قلبه وعقله بتصويب ما هو عليه؛ إما لأنه أُشرب الهوى وهو لا يدري، وإما أنه يقلد من هو أكبر منه وأعلم وأوسع، أو لغير ذلك من الأسباب، وبعضهم قد يتعصب لاسم أو لشيخ أو لمذهب أو لطريقة، وهو لا يعرف حقيقة هذا المذهب، ولا ماذا عليه ذلك الشيخ، وإنما أمرٌ ورثه. فمثل هذا قد ينفع فيه بيان الحق، فيكشف بنفسه زيف الباطل ولو لم تشر إليه بإصبعك. مثال: أعلم أن جماعات كثيرة من شباب طائفة الإسماعيلية ذكوراً وإناثاً، يزيد عددهم على أربعمائة أو خمسمائة، كل هؤلاء قد تسننوا وتركوا مذهبهم الفاسد. وأعتقد أن المذهب الإسماعيلي -حيث كان- يعاني في هذا الزمان انهياراً يهدد باندراس المذهب وانقراضه، والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً. تتساقط من هذا المذهب لا أقول: لبنات بل جدران ولوائح بأكملها، هذا مع الخلاف العميق الذي يعيشونه اليوم، ويعيشونه عبر التاريخ بعد وفاة كل زعيم من زعمائهم، أو مبايع من أئمتهم المتبوعين -كما يحدث الآن تماماً- والملاحظ أن أتباع المذهب الإسماعيلي يغلب عليهم الجهل بالمذهب؛ فالعصبية لهذا المذهب تثور حين تبدأ أن تعرفه بمذهبه، وتقول له: هل أنت إسماعيلي مثلاً؟ إذاً: مذهبكم يقول كذا ويقول كذا فتعلمه من المذهب ما لم يكن يعلم، وربما أشرب حب التعصب؛ فأخذ هذه الأشياء التي تقول واعتقدها وآمن بها تكبراً وعناداً وهوىً. إذاً فمن المناسب ألا تفعل ذلك، بل تبين له الحق وتعظم الله تعالى في عينه، وتذكر أسماءه وصفاته؛ وتبين له مكانة الرسل عليهم السلام، وتعرفه بالإيمان والإسلام، وذلك هو المدخل الملائم، فإذا عرف الحق؛ انكشف له زيف الباطل وبان له عواره. وهذا -بلا شك- لا يعارض نقد المذهب علانية على المستوى العلمي والمستوى العام، إذ نقد المذهب ينفع طائفة أخرى ممن يعرفون المذهب ويبحثون عن الحق حيثما كان. إننا نريد نمطاً من الدعاة يتسلل إلى قلوب الناس وإلى عقولهم، ويدخل إليهم دخول الهواء البارد العليل، يلفح وجوههم برفق وسكينة، ويعمل على إيصال الحق كاملاً غير منقوص، دون أن يتعمد إثارة مشاعر الرفض أو الكراهية، أو استنفار عوامل التعصب والحمية الجاهلية عند المدعوين. الملاحظة الرابعة: إن طريق الدعوة مليء بالصعاب، قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] وفي صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود وصحيح ابن حبان واللفظ له، عن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: {أتينا النبي صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا وقد لقينا من المشركين شدة: يا رسول الله، ألا تدعو لنا؟ فجلس مغضباً محمراً وجهه، فقال: إن من كان قبلكم ليُسأل الكلمة فما يعطيها -رجل من المؤمنين يعذب على كلمة سوء أو باطل أن يقولها؛ فيرفض ويصر ولا يعطيهم تلك الكلمة- فيوضع عليه المنشار فيشق باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وإن كان أحدهم ليمشط ما دون عظامه من لحم أو عصب بأمشاط الحديد ما يصرفه ذلك عن دينه، ولكنكم تعجلون، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه} . السؤال هذا الخبر: هل هو خاص بمن كانوا قبلنا من الأمم السالفة؟ كلا! وكيف يكون خاصاً وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم به خباباً وأصحابه، وهم يلقون عنت قريش وأذاها؛ ليصطبروا ويعتبروا. هل هو خاص بالصحابة رضي الله عنهم؟ كلا! ولم يكن خاصاً بهم، فرسالته صلى الله عليه وسلم للعالمين، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وكما أن هذا البلاء يتعرض له كل داعية، فكذلك الوعد الرباني بالتمكين؛ حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت من المشرق إلى المغرب ومن الشمال إلى الجنوب؛ هو قرينه وملازمه، فالعبد لا يُمَكَّنْ حتى يبتلى، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والخراج بالضمان} شرط بشرط، فمن وفى بشرطه؛ وفى الله تعالى له بوعده، وأنجز له ما وعد. إذاً: فما هو الصبر؟ إنه ثلاث مسائل: أولها: ألا يشك ولا يرتاب في الحق الذي يحمل. ثانيها: أن يرضى لله تعالى ويسلم، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] فيرضى بقضاء الله تعالى وقدره. الثالثة: ألا يوافق المبطلين على مذاهبهم وما هم عليه من الزيف والضلال. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 8 تغيير حال المدعوين الخصيصة الأولى: أن الدعوة انتقال بالمدعوين من حال إلى حال؛ من الكفر إلى الإسلام، أو من الضلال إلى الهدى، أو من المعصية إلى الطاعة، أو من الغفلة والرقود إلى التيقظ والانتباه. فالداعية كالسليم. يقول العرب: السليم لا ينام ولا ينيم، أي الملدوغ لا ينام ولا يدع أحداً ينام من صياحه وأنينه. فالداعية لا ينام ولا ينيم، قد غلبه هم الدعوة وأقلقه، وهذا القلق الذي يحدث للداعية -حرصاً على الناس- يصيب الآخرين، فيحدث عندهم قلق، والقلق الذي يحدثه الداعية في نفس المدعو؛ هو سبب من أسباب القبول والتصحيح، فالإنسان الراضي المطمئن بحاله، القانع بما هو عليه؛ قد لا يُطمع في انتقاله ولا قبوله، وأول مراحل قبول الدعوة هو تذمر الإنسان مما هو عليه، وتطلعه إلى حال أفضل وأحسن. مثال: الكافر الموسع عليه في الدنيا، الراضي بحياته، المعرض عن التفكير؛ هو بعيد عن الهداية، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:8] . مثال آخر: النصراني الذي بدأ يضيق ذرعاً بتناقضات النصرانية المحرفة واختلافاتها، ويتبرم من تصرفات رجال الكنيسة وأَلاَعيبهم، ويتقلب على فراشه فلا ينام، لأنه يشعر أنه ليس على شيء؛ هذا مرشح للهداية وقبول الحق بإذن العزيز الحميد، وهذا القلق والتوتر هو أول آية وعلامة على قبول الهداية والتطلع إليها والشغف بها. وإذا كان الكفر موتاً ونوماً وعمىً؛ فإن الإيمان حياة ويقظة وإبصار. قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23] وفي صحيحي البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت} وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالذاكر ربه هو المؤمن، وهو المسلم المطيع القائم القانت الذاكر، والغافل الذي لا يذكر ربه؛ هو الكافر أو المنافق أو المعرض أو البعيد عن الهداية. إن دبيب الروح في الجسد الخاوي؛ يحدث الارتعاش والانتعاش والتوتر، كما أن خروج الروح من الجسد يستتبع الآلام العظام والكربات الجسام، هذا يقع في عالم الماديات كما يقع في عالم المعنويات. في مستدرك الحاكم وصحيح ابن حبان بسند على شرط الإمام مسلم، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لما نفخ الله الروح في آدم، فبلغ الروح رأسه، عطس فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال له ربه تبارك وتعالى: يرحمك الله} وهذا الحديث له شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه، عند الترمذي والحاكم وغيرهما، وقال الترمذي: حديث حسن غريب. لماذا عطس؟ لأن الروح بلغت رأسه، والعطاس له معنى، فدبيب الروح -دبيب الحياة في الجسد- يحدث في الجسد زلزالاً قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في زاد المعاد ما معناه: "العطاس زلزلة البدن، وهي كزلزلة الأرض؛ ولهذا شرع التشميت أو التسميت للعاطس، أن يقال له: يرحمك الله". {وإذا عطس فحمد الله فشمته أو فسمته} ما معنى التشميت أو التسميت؟ أي دعوة إلى رجوع هذا الإنسان إلى حالته من الدعة والسكون؛ فإن العطاس -كما يقول ابن القيم - يحدث في الأعضاء حركةً وانزعاجاً. والعرب تعتقد أن العطاس أمان من الموت للصبي بإذن الله تعالى؛ ولهذا تقول امرأة عن ولدها: أخذته بالفطسة، بالتثاؤب والعطسة؛ ويعتقد العوام أن الصبي إذا عطس ما فطس، أي: ما مات، وفطس أي: مات، وهذه لغة عربية صحيحة. إذاً: العطاس زلزال للبدن، ومن أسبابه تغلغل الروح وتخلخلها في البدن. قد تخللت مسلك الروح مني ولذ سمي الخليل خليلا فدخول الروح يحدث حركة وانزعاجاً، وكذلك دخول روح الإيمان أو روح البحث عن الحق، أو روح حب الخير، وحب الرجوع إلى الله تعالى والرغبة في التوبة؛ هي تحدث في العقل والبدن والقلب زلزالاً يقلق الإنسان، حتى يجد مستقره في الهداية بين صفوف التائبين، وبالمقابل: فإن خروج الروح ومغادرتها البدن يحدث أشد من ذلك وأعظم، وقد روت عائشة رضي الله عنها، كما في الصحيحين قصة موت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: {إن من نعم الله علي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري؛ وأن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته، ثم قالت: وكان بين يديه صلى الله عليه وسلم ركوة فيها ماء -إناء فيه ماء- فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بها وجهه ويقول: لا إله إلا الله. إن للموت سكرات. ثم نصب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى، في الرفيق الأعلى حتى قبض صلى الله عليه وسلم فمالت يده} وفي رواية لها رضي الله عنها قالت: {والله ما أغبط أحداً بهون موت بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم! وكان صلى الله عليه وسلم يطرح خميصة على وجهه، فإذا اغتم كشفها عن وجهه} إنها معاناة خروج الروح من البدن، وما يستتبع ذلك من الآلام. وإذا كان هذا وذاك في دخول الروح وخروجها من الجسد فإن المادة واحدة، ولذلك يشعر الذين بدأ الإيمان يدب في قلوبهم، وبدأت التوبة تحادث عقولهم وأرواحهم؛ يشعرون بتلك الحركة وذاك الانزعاج، ويسرعون إلى الخير وقائلهم يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] كما يشعر أولئك الذين سلبوا الإيمان، أو سلبوا جزءاً منه، فنقص إيمانهم وقل يقينهم؛ يشعرون بهم عظيم وشقاء مرير؛ لأن الإيمان روح، قال الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] . ولهذا لما جاء الملك بالوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ غطه وضغطه حتى بلغ منه الجهد، ثم أرسله وقال: اقرأ فعل ذلك ثلاثاً، ولما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خديجة؛ رجع متغيراً منتقع اللون، يقول: {زملوني دثروني، يا خديجة! لقد خشيت على نفسي} . الجزء: 83 ¦ الصفحة: 9 من كتاب (الدعوة إلى الإصلاح) أخيراً أيها الأحبة: هذه هي الاجتهادات التي أردت أن أعرضها لكم على ضوء الآية الكريمة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] . وإنني بعد أن سطرت هذا الكلام؛ وقفت على كتاب صغير وهو رسالة مطبوعة في عشرات الصفحات، وهي بعنوان: الدعوة إلى الإصلاح للشيخ الفاضل العلامة/ محمد الخضر حسين، وهي رسالة مفيدة حافلة بجليل المعاني؛ فأليها ألفت الأنظار، وأرجو من الإخوة أن يقرؤوها؛ لتكمل لهم ما يكون من نقص في هذا الموضوع. ثم بعد ذلك أنتقل إلى بعض التعليقات والموضوعات التي نقضي بها ما بقي من الوقت. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 10 الإجازة الصيفية وكيفية استغلالها النقطة الأولى: الإجازة الصيفية وقد طرقت أبوابنا؛ بل مضى منها جزء. وحول الإجازة أقول باختصار: الإعلانات. إعلانات السفر تملء صحفنا ومجلاتنا إعلانات السفر للكبار والصغار، والهدايا والجوائز والأسر؛ بل وحتى الأطفال! وكثير من وكالات السفر تقدم الخدمات والتسهيلات للرحلات التي تعلنها وبأسعار مخفضة إلى بلاد الغرب، وأحيانا إلى بعض المواقع التي يغلب على من يذهبون إليها؛ أنهم يذهبون لأغراض شهوانية دنيئة رديئة، وهذا مما يجب إنكاره، ودعوة هؤلاء إلى أن يتقوا الله تعالى في أولاد المسلمين وبناتهم. وبالمقابل وفي الوقت الذي نجد فيه الكثير من الناس يحزمون حقائبهم ويشدون أمتعتهم للسفر إلى بلاد بعيدة حواجز اللغة تحول بينهم وبينها، وربما لأول مرة يطرقونها، بلاد مخالفة لهم في العادات وفي التقاليد، وقبل ذلك في الدين، ويجدون فيها صعوبات جمة، يتجشمون الصعاب كلها من أجل شيء يسمونه السياحة، أو المتعة أو اللذة أو الخبرة التي يحصلون عليها -كما زعموا. إني أسأل -وموضوعنا اليوم هو موضوع الدعوة-: كم من الناس -من الدعاة وطلبة العلم والأخيار- قد حزموا أمتعتهم ليقوموا بجولات وأسفار ورحلات، لكن لهدف مختلف؟ لهدف الدعوة إلى الله، وأن يصلحوا من أمر الناس ما فسد؟ سواء أكانت تلك الجولات على مستوى المنطقة؛ فإن في هذه المنطقة -على سبيل المثال: منطقة القصيم- مئات القرى النائية، التي أهلها بأمس الحاجة، وأحياناً يكونون بأمس الشوق والرغبة؛ إلى من يدعوهم أو يسمعهم الخير أو يعلمهم ما جهلوا من الأحكام. كم يوجد من الحملات والجولات التي تستهدف زيارة الناس على مستوى البلاد كلها؟ فيذهبون إلى مناطق الشمال أو الجنوب، أو إلى المنطقة الشرقية، أو إلى أنحاء المنطقة الوسطى، ويزورون الناس في قراهم ومدنهم ومراكزهم وأماكنهم، ويخطبون فيهم، ويتحدثون معهم، ويوزعون الكتب والأشرطة، ويدعونهم إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة. إن مثل هذه المهمة النبيلة الجليلة؛ مما ينبغي أن نتنادى إليها ونتداعى، ونحن نستقدم أيام الإجازة الصيفية، وينبغي أن يكون لكل واحد منا شرف المشاركة. ولو أن يكون لك أسبوعاً واحداً في الإجازة. قد تقول: أنا موظف! فحتى ولو كنت موظفاً، خذ إجازةً في هذه الإجازة؛ لأنك أصلاً ستأخذ الإجازة حتى تذهب بأولادك -على أحسن الأحوال- تذهب بهم إلى زيارة أقارب، وربما يكون بعض الفضلاء يذهب بهم إلى البيت العتيق في عمرة، أو يذهب بهم إلى بعض البلاد في السياحة. فلماذا لا تأخذ إجازة أخرى تجعل هدفها الدعوة، أو المشاركة للدعاة؟ بل وأوسع من ذلك، نحتاج إلى من ينتدبون أنفسهم ليكونوا سفراء ورسلاً يذهبون إلى أنحاء العالم الإسلامي للدعوة إلى الله بلاد بأكملها قد يكون سكانها مائة مليون، قرأت أن سكان بنجلاديش مائة مليون؛ فعجبت لذلك! لأني أول مرة أقرأ هذا الخبر. وسكان إندونيسيا أكثر من مائة وخمسين مليون. وقل مثل ذلك في بلاد كبيرة، كباكستان أو نيجيريا أو غيرها من الدول الآسيوية أو الأفريقية، التي يكون -أحياناً- سكانها مسلمون (100%) حسب الرقم الجغرافي؛ ومع ذلك كم مرة زرناهم؟! وكم مرة واصلناهم بالدعوة؟! وكم مرة أوصلنا إليهم العلم والهداية؟ أو طبعنا كتباً بلغاتهم أو أشرطة بلغاتهم؟ أو ذهبنا إليهم ووقفنا في صفهم وعالجنا مرضاهم، ودعونا وشاركنا في أعمال إغاثة إنسانية؟! إن هذا جزء من الواجب الذي ينبغي أن يقوم به كل فرد منا بحسبه. 1- كثرة الزواجات في الإجازة: جانب آخر يتعلق بالإجازة: موضوع الزواجات. وهي تكثر في الإجازة ولا شك، ويحتاج الكلام عن الزواجات إلى حديث طويل، وأحيل إلى شريط: تنبيه الناس على ما يقع في بعض الأعراس، لكني أشير إلى ملاحظات مهمة: أولها: هناك ظاهرة جميلة بدأت تبرز اليوم، وهي أن عدداً غير قليل من حفلات العرس يقام في بيوت أهل العروسين، أو يقام في استراحات خاصة بهم أو مستعارة من بعض أقاربهم أو معارفهم، أو تقام في ساحة عامة في الحي تستخدم في مثل هذه المصالح العامة للناس، وهذا أمر جيد جداً؛ لأنه يغني عن القصور وما فيها -أحياناً- من الترف والبذخ، وما يصاحب حفلات الزواج في القصور من المفاسد التي لا تخفى في بعض الأحيان -ليس في كل الأحيان- كما إنه يتيح للحضور ولأهل العروسين أن يستثمروا حفلهم في النافع المفيد، من الكلمات الوعظية والتوجيهات والإرشادات، والقيام بالأعمال التي يتطلع الناس إليها، وقد اعتادوها وألفوها. الملاحظة الثانية: أن بعض الأعراس ترسل فيها دعوة العرس أو البطاقة، عبارة عن شريط من الأشرطة الخيرة، يحمل هداية أو دعوة أو إرشاداً أو توجيهاً، وهذا أيضاً تقليد حسن جميل، فربما لو حسبت تكاليف الشريط لم تجد كبير فرق عن بطاقة الدعوة، وحتى لو زاد أو طبعت عليه الدعوة، إلا أن في هذا الشريط هديةٌ وخيرٌ وبرٌ وحفظٌ له، وكثير من البطاقات لا يستجاب لها أو تهان، وقد يكون فيها ذكر الله عز وجل، فينبغي أن يشاع هذا وينشر بين الناس. 2- الدروس العلمية أثناء الإجازة: النقطة الثالثة المتعلقة بالإجازة هي: الدروس العلمية. وأحب أن أقول: إن مما يسر ويفرح ويبهج النفس؛ أن تقام دروس ودورات مكثفة في أنحاء البلاد، في هذه الإجازة؛ لاغتنام أوقات الشباب في النافع المفيد، وقد أخذت هذه المنطقة -بحمد الله تعالى- بحظ وافر، فأزجي الشكر للقائمين على مكاتب الدعوة الذين أقاموا تلك الدورات وأعلنوا عنها؛ أنها دورات مكثفة، وأعرف منها في هذا البلد دورتين: إحداهما تقام في هذا المسجد يومياً، دروس بعد الفجر وقبل الظهر وبعد الظهر وبعد العصر وبعد المغرب، وهي دروس في الحديث وفي الفقه وفي المصطلح وفي التفسير وفي العقيدة، تبدأ من أول الكتب وفي نية الإخوة المشايخ أن ينهوا تلك الكتب؛ ليستفيد الطلاب المبتدءون خلال هذه الإجازة، وأن يختموا مجموعة من المتون المفيدة. أما الدورة الثانية، فهي في جامع الجاسر، وهي -أيضاً- بعد الفجر وقبل الظهر وبعده وبعد العصر وبعد المغرب، ويشارك فيها كوكبة من طلبة العلم، وهي لطلاب هذه البلاد وللوافدين عليها من البلاد الأخرى. فأدعو الإخوة إلى أن يحرصوا على حضورها والمشاركة فيها، ويدعو الآخرين إليها. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 11 أخبار من البوسنة والهرسك النقطة الثانية: أخبار من البوسنة والهرسك. أولاً: هذه قصيدة أقرؤها أولاً، ثم أفاجئكم بذكر قائلها: أيها المسلمون لستم من الغرب بحال تستوجبون احتراما إنما أنتم لدى الغرب قوم خُلِقوا عن سوى الشرور نياما فإذا ما وسعتم الناس حلماً عده الغرب شرة وعُراما وإذا ما ملأتم الأرض عدلاً عد جوراً أو مفخراً عدَّ ذاما وإذا ما افترى عليكم عدو أيدوه وصدقوا الأوهاما وإذا ما جنى عليكم أناس سكتوا عنهم ومروا كراما كم بأرض البلقان منكم قتيل وأيامى مضاعة ويتامى نشر الظالمون في الأرض منهم جثثاً تملأ الفضاء وهاما لو أتينا تلك البلاد رأينا الـ يوم منهم جماجماً وعظاما ما نظا في الدفاع عنهم بنو العـ رب حساماً ولا أحاروا كلاماً إن تكن هذه السياسة عدلاً فإلى الظلم نشتكي الآلاما رحم الله أمةً أصبح الغر ب يرى كل ذنبها الإسلاما هذا الكلام تعليق على أوضاع البوسنة والهرسك، تعليق على الحملة الغربية الشرسة ضد المسلمين، واتهامهم بالتطرف والإرهاب، وإلصاق كل عيب بهم؛ وإنما عيبهم الحقيقي أنهم مسلمون. بقي أن تعرفوا أن قائل هذه القصيدة ليس شاعراً إسلامياً وليس من الأحياء؛ وإنما هو الشاعر العراقي المعروف: معروف الرصافي، وهي موجودة في ديوانه. أما فيما يتعلق بأخبار البوسنة والهرسك، فأبشركم بكل خير إن شاء الله تعالى. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 12 وضوح التواطؤ الدولي أولاً: التواطؤ الدولي ظاهر ومكشوف، والأمم كلها قد أطبقت على منع المسلمين من امتلاك السلاح ليدافعوا عن أنفسهم، وقد نشرت الصحف الغربية كلها، ونشرت مجلة المجتمع، ووصل إلينا خطاب من رئيس الوزراء البريطاني جون ميجر إلى وزير دفاعه يؤكد له ضرورة حرمان المسلمين من حق الدفاع عن النفس، ومنعهم من أن يحصلوا على السلاح، وقال: إننا لا نريد أن تتكرر تجربة أفغانستان في أوروبا، وإن هذا السلاح الذي يحصل عليه المسلمون هناك؛ سيكون سلاحاً يستخدمونه في إقامة دولة أصولية، وعلينا أن نقضي على المسلمين قضاءً مبرماً، ولا نسمح لهم بالوجود. وكان ذلك الخطاب ينضح بالحقد والكراهية للإسلام والمسلمين، وهذا الخطاب قد نشر في أكثر من مجلة فلا داعي إلى قراءته. وبلا شك أن الأمم كلها قد تخلت عن المسلمين وأسلمتهم، في الوقت الذي لا زالت صحائفها وشاشاتها وأخبارها تنشر يوماً بعد يوم، بالصوت والصورة؛ أخبار المآسي التي يشهدها المسلمون، من الموت والجوع والعطش والفقر والحرمان، والقتل والتشريد والاغتصاب وغير ذلك؛ ومع ذلك كله: انقطع التيار الكهربائي عن سراييفو لمدة ثلاثة أسابيع، وانقطع عنها الماء؛ حتى إن الرجل الواحد يمضي في اليوم -في النهار- أكثر من عشر ساعات؛ ليحصل على قارورة من الماء بوزن هذا الكأس، وهي تعادل أقل من ربع ما يكفيه في المقياس العادي. ويوماً من الأيام سقطت قذيفة على مجموعة يبحثون عن الماء فقتلت منهم عشرة. وظل المسلمون ثلاثة أسابيع بلا كهرباء، وهدد المسلمون بأن يموت أكثر من ثلاثين ألفاً منهم؛ بسبب فقدان الماء وانتشار أمراض التيفود وغيرها. بعد ذلك ظن المسلمون الظنون، وأحلف لكم بالله إنني كنت أرى أخبارهم فأشيح عنها بعيني؛ لئلا أقرأ ما يحزنني ويشق عليّ؛ في الوقت الذي يشعر الإنسان -أحياناً- بأنه أشبه ما يكون بمكتوف الأيدي، فإذا بنعم ربنا سبحانه وتعالى تتوالى، فيمطر عليهم ربنا الماء من السماء {وَيُنزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ} [الأنفال:11] فتنزل السماء خيراتها وبركاتها، وتمطر سراييفو أياماً، ويعود التيار الكهربائي، وتعود أيضاً شبكات المياه إلى وضعها الطبيعي. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 13 بشارات ثانيا: قرأت في جريدة الرياض قبل أيام؛ خبراً بالخط العريض يقول: طائرات مجهولة تقصف مواقع الصرب، ثم ذكر الخبر أن مصادر صربية قالت: إن طائرات مجهولة لم يكتشفها الرادار ولم يعلمهم بها؛ مصبوغة باللون الأبيض، لا يعرفون من أين جاءت، ولا كيف حلقت؛ أنها حلقت في بعض مواقعهم وأمطرتهم؛ ولكن قنابل وشظايا ونيران، ثم غادرت سليمة ولا يعرف أيضاً إلى أين توجهت! ويقول الخبر: ومن المعلوم أن المسلمين لا يملكون أية طائرات حربية؛ إنما كل ما يملكونه هو تلك الطائرات التي تستخدم في رش المبيدات على المزارع. فمن أين جاءت هذه الطائرات؟! إنها ولا شك مدد من رب العالمين، من أين؟! لا ندري من أين؟! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] قد تكون مدداً من السماء، وقد تكون مدداً من هنا أوهناك؛ المهم أنها من رب العالمين، في الوقت الذي يحكم العالم الحصار على المسلمين في البوسنة؛ لئلا تصل إليهم ولا بندقية ولا رصاصة؛ ومع ذلك فإن الله تعالى ليس بغافل عما يعملون. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 14 انتصارات كاسحة أمر ثالث: انتصارات كاسحة حققها المسلمون اليوم أقرأ خبراً: أن مدينة من أعظم مدن الكروات قد سقطت في أيدي المسلمين، وغادرها أكثر من ستة آلاف كرواتي إلى مدن أخرى. وكذلك مناطق الجنوب كلها تكاد أن تكون سقطت في أيدي المسلمين وسيطروا عليها، مدينة مستاأعظم مدينة في الهرسك وهي العاصمة، سيطر عليها المسلمون بالكلية تقريباً، وطردوا الكروات منها، وأقاموا الخط الذي يربطها بسراييفو، وهو خط مفتوح يسيطر عليه المسلمون تماماً. وكذلك مدينة ترافنك ومدينة نوفي ترافنك، وغيرها من المدن التي كانت بأيدي الكروات، أو بعضها في أيدي الصرب وبعضها مشترك؛ مع ذلك سيطر عليها المسلمون، وقاموا بمجهود كبير في ذلك. واستطاع المسلمون في معركة واحدة وخلال وقت ليس بالطويل، أن يحطموا أكثر من اثنتي عشرة دبابة للصرب، وكذلك استطاعوا أن يقتلوا مئات الكروات في معارك بينهم. ومن أكبر الدلائل على شعور الصرب والكروات بالهزيمة: تصريحات رئيس كل من الصرب والكروات في البوسنة، في فينا قبل ثلاثة أيام تقريباً: أنهم مستعدون لإعطاء المسلمين حوالي (30%) من الأرض، وهي أكثر بكثير -يقولون- من التي يمكن أن يحصل عليها المسلمون عن طريق القتال، وهذا التصريح تكرر منهم مراراً! ومن الأخبار الطريفة: أن المسلمين احتلوا مدينة فيها مزرعة ضخمة جداً، فوجدوا في هذه المزرعة حوالي ألف خنزير، ولا شك أن هذه ثروة في نظر الكروات والصرب لا تقدر بثمن؛ فأجروا مفاوضة مع الصرب على أن يبادلوهم هذه الخنازير بصفقة أسلحة -أعتقد أنها مجموعة من الدبابات لعلها: عشرين دبابة أو أقل أو أكثر من ذلك- فوافق الصرب على هذا، وقال المسلمون للصرب: لا نستطيع أن نأتيكم بهذه الخنازير؛ لأننا إذا أتينا نكون في مرمى قذائف الكروات؛ فنريد أن توجهوا مدفعيتكم إليهم وتضربوهم؛ لتأمنوا لنا الطريق. ففعل الصرب! وبدءوا يضربون مواقع الكروات؛ ليؤمنوا الطريق للمسلمين، حتى جاءوا وتم هذا التبادل، ثم رجعوا سالمين!!! الجزء: 83 ¦ الصفحة: 15 تقييم للوضع في البوسنة والهرسك وعلى كل حال؛ فإن لي تعليقاً أخيراً في موضوع البوسنة والهرسك، وهو يتمثل في النقطة التالية: لو أننا نفكر في قضية البوسنة الآن، كما لو كانت تحدث اليوم؛ لقال الكثيرون: إن هذا انتحار وهذه مغامرة غير مأمونة العواقب، وقضية القضاء على المسلمين في البوسنة لا تستوعب أو لا تستدعي أكثر من أسبوع أو أسبوعين على أكثر تقدير، لماذا؟ لأنهم أقلية ودولة ناشئة بلا جيش، ولا طائرات، ولا سلاح، وفي وسط بحر كافر نصراني، ويجاورهم الصرب رابع أقوى جيش في العالم، والصرب معروفون تاريخياً بالقسوة والقوة والشدة والبأس والنجدة في الحروب، وإلى جوارهم الكروات، وهم أيضاً كفار نصارى والأمم الغربية وأوروبا كلها؛ لا يمكن أن ترضى بإقامة دولة إسلامية، أو حتى دولة للمسلمين في وسط أوروبا؛ تهددهم وتقض مضاجعهم؛ ولذلك فإن التفكير المنهزم سيقول: لا داعي لأن يقوم المسلمون بأي شيء، وعليهم أن يستسلموا ويتخلوا حتى ولو ذبحوا ذبح الشياة في بيوتهم وحصونهم ومزارعهم. أما أن تتصوروا أن المسلمين سيغضبون لإخوانهم؛ فهذا وهم! هكذا سيقول المنهزمون! لماذا؟ قالوا: لأن المسلمين مشغولون بأنفسهم، وكل أمة مشغولة بنفسها، وجراحاتهم كثيرة، ولا زالوا دون المستوى المطلوب في التجاوب مع قضايا المسلمين ومع همومهم. أقول: هذا حديث النفس حين تشف عن بشريتي وتعود بعد ثوانِ:وتقول لي إن الحياة لغاية أسمى من التصفيق للطغيان أما الواقع فقد أثبت خلاف ذلك، وأثبت أن المسلمين في البوسنة والهرسك أقوياء، وأن العالم الإسلامي بدأ يصحو ويستيقظ، ولعلي أقول لكم: اجتمع بعض الرسميين المسلمين في الباكستان قبل أسبوع، وأعلنوا أنهم مستعدون لإرسال أكثر من عشرين ألف جندي مسلم إلى البوسنة والهرسك، وبعد ذلك -بيوم واحد فقط- تغيرت اللهجة في أوروبا وكانوا يهددون بسحب قوات الأمم المتحدة من البوسنة فعدلوا عن ذلك، وبدءوا يرسلون قوافل الإغاثة، وبدءوا يتنادون لعمل جاد لحماية المسلمين من عدوان الصرب والكروات عليهم، وبدأت على الأقل اللهجة الرسمية في أوروبا تأخذ مجرى آخر إنهم يخافون أشد الخوف أن يتحرر هذا المارد المسلم من قيوده وأغلاله، وأن يستخدم قواته وإمكانياته مهما ضعفت؛ وحينئذ لن يقوم للغرب قائمة! أقول: إن العالم الإسلامي فيه خير كثير، وخاصة على المستوى الشعبي. إنني أعرف -أيها الإخوة- أن واحداً من إخواننا من الدعاة إلى الله تعالى؛ جمع للمسلمين في البوسنة والهرسك ما يقارب ثلاثين مليون ريال، وهذا الرقم ليس بالسهل، فلو تصورنا أن عشرة دعاة في هذه البلاد المباركة فعلوا مثل ذلك؛ لكان معنى ذلك أنه تم جمع ما يزيد على ثلاثمائة مليون ريال؛ فإذا تصورنا في بلاد الخليج الغنية الثرية التي أنعم الله عليها بالنفط، وفي العالم الإسلامي كله، لو تصورنا أن مائة داعية جمع كل واحد منهم مثل ذلك، ماذا تكون النتيجة؟! ثلاث مليارات من الريالات لصالح المسلمين في البوسنة، وهذا الرقم الخيالي هو عملياً ممكن وليس بالصعب -حسب ما ذكرت- ولو تحقق هذا الرقم، لكان المسلمون أكثر تقدماً وانتصاراً مما هم عليه الآن. وإنني أقول بالتأكيد: هذه الانتصارات التي يشهدها المسلمون في البوسنة، ونسمع اليوم بعضاً منها؛ هي -بفضل الله تعالى- ثمرة جهودكم أنتم، وأموالكم أنتم، ومشاركتكم أنتم، وثق ثقة تامة أن الريال أو العشرة أو المائة التي بذلتها وبعثت بها؛ أن الله تعالى قد بارك فيها ونفع، وأنها قد وصلت وبلغت محلها، وأن دعوات المسلمين تنطلق لهم وهم في الثغور، والخنادق، تحت أزيز الرصاص، وتحت وطأة الهجوم العدواني المسلح، وهم في ساعة يرجى فيها الإجابة، يدعون لكل من وقف معهم في محنتهم، ودعوتهم يرجى ألا ترد، فأنتم جزءٌ غير قليل من المشاركين مع إخوانهم في تلك المحنة التاريخية، التي ربما أقول: لم يشهد لها تاريخ أوروبا مثيلاً؛ بل ربما لم يشهد لها التاريخ كله مثيلاً. وأرجو أن يكون هذا حافزاً للهمم وتحريكاً لها، وشحذاً لأن يساهم الإخوة بمزيد من التبرع ومزيد من المشاركة، وألا يكلُّوا ولا يملُّوا فإن العدو قوي وشرس وشديد، والخطر عظيم، وينبغي أن نحرص على المحافظة على هذه المكتسبات وعلى هذه الانتصارات. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 16 قراءة لمقابلة مع الشيخ ابن عثيمين هذه مقابلة أحببت أن أشرككم معي فيها، وقد نشرت في جريدة المسلمون في عدد (437) وهي مقابلة مع الشيخ محمد بن صالح العثيمين، وأقرأ أجزاءً من هذه المقابلة؛ لما فيها من فائدة، وفيها إجابة على بعض الأسئلة التي قرأتها وبعث بها بعض الإخوة. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 17 وسائل الدعوة السؤال هل وسائل الدعوة إلى الله تعالى اجتهادية أم توقيفية؟ الجواب لا شك أن وسائل الدعوة يقصد بها الوصول إلى الحق، وأعظم ما يدعى به الخلق وأنفعه وأكمله: كتاب الله وما صح من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن بعض الناس يفعل أشياء لا يريد أن تكون وسيلة للدعوة، ولكن يريد أن يتألف بها القلوب حتى لا ينفر الشباب. فمثلاً: يجعل من وسائل التأليف اللعب بالكرة على وجه يكون مبنياً على الحشمة وعلى البعد عن السفاهة، بحيث يكون اللاعبون لا يقصدون إلا الرياضة وتنشيط الجسم مع الستر الكامل، واجتناب اللغو والسب والشتم وما أشبه ذلك، فهو يقول: أنا لا أريد بهذه أن تكون وسيلة دعوة؛ فأنا أعلم أن الوسائل: كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لكن أنا أريد التأليف لكي لا ينفر الناس عن الحضور إلي، وما أشبه ذلك. فلا أرى في ذلك بأساً، ولا أسميها وسائل دعوة؛ ولكني أسميها: وسائل تأليف القلوب، أي: تأليف القلوب على الدعوة. انتهى كلام الشيخ وهذا منهاجه. أسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، وأن ينزل علينا من رحماته وبركاته إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 18 حكم التسرع في التكفير والتفسيق والتبديع السؤال ما رأيكم فيمن يتسرع من الشباب أو غيرهم، في التبديع والتفسيق والتكفير؟ الجواب هذا حرام لا يجوز، فكما أن التسرع في التحليل والتحريم حرام؛ فإن التسرع في التبديع والتفسيق والتكفير حرام أيضاً؛ فحذار أن يقول المسلم على الله ما لا يعلم؛ فإن الله حرم ذلك، قال سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] . والحكم بتكفير الشخص يتعلق فيه أمران لابد منهما:- الأول: أن نعرف أن الأدلة دلت على أن هذا الذي كفرناه من أجله كُفْر، وكم من الأشياء يظن الإنسان أنها كفر وهي ليست كفراً. فلابد أن نعلم أن الأدلة دلت على أن هذا الفعل أو هذا القول كفر. الثاني: أن نعلم أن هذا القائل لهذه المقالة، أو الفاعل لهذا الفعل، لا يعذر بقوله ولا بفعله؛ لأنه قد يقول الإنسان مقالة الكفر فيكون معذوراً إما بجهله وإما بتأويل وإما بحال طرأت عليه، كغضب شديد، أو فرح شديد أو ما أشبه ذلك، ولا تكون الكلمة في حقه كفراً إلى آخر الجواب. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 19 نصيحة لمن يتتبع هفوات العلماء وزلاتهم السؤال ماذا تقولون لمن يتتبعون أخطاء العلماء وسيئاتهم، ثم يبرزونها ويسكتون عن حسناتهم؛ بدعوى أن هذه الأخطاء في باب العقيدة؟ الجواب هذا خطأ، فالعقيدة كغيرها من حيث إنه قد يقع فيها الخطأ، أفلم يعلم هؤلاء أن العلماء قد اختلفوا في أبدية النار، هل هي مؤبدة أو غير مؤبدة؟ وهؤلاء من السلف والخلف، وقد اختلفوا في شيء من العقيدة؛ فهل نظهر سيئاتهم؟!. وكذلك الصراط الذي يوضع على جهنم: هل هو صراط طريق كغيره من الطرق، أو هو أدق من الشعرة وأحد من السيف؟ الذي يوزن يوم القيامة: هل هي الأعمال أم صاحب العمل أم صحائف الأعمال؟ هل رأى الرسول صلى الله عليه وسلم ربه أم لم يره؟ هل تعاد الروح إلى البدن فيكون العذاب على البدن والروح، أو على الروح وحدها في القبر بعد الدفن؟. كل هذه مسائل في العقيدة واختلف فيها العلماء؛ فهل نظهر سيئاتهم أو نرفضهم؟! الجزء: 83 ¦ الصفحة: 20 العدل في التقييم السؤال ما رأيكم فيمن أراد أن يقيم شخصاً ولا يذكر ما لديه من خير؛ بل يذكر مساوءه فقط؟ الجواب هذا من الإجحاف والجور؛ لأن الله عز وجل يقول في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فنهى الله سبحانه وتعالى أن يحملنا بغض قوم على عدم العدل، بل أمرنا أن نقول العدل، وقد أقر الله تعالى الحق الذي صدر من المشركين، وأقر النبي صلى الله عليه وسلم الحق الذي صدر من اليهود قال الله تعالى: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] فكان الجواب {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} [الأعراف:28] فأبطل قولهم: {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف:28] لأنه باطل، وسكت عن قولهم: وجدنا عليها آبائنا؛ لأنه حق. وجاء حبر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنا نجد في التوراة أن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع -وذكر بقية الحديث- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقاً لقول الحبر وقرأ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر:67] فأقر اليهودي على قول الحق وهو يهودي! فالواجب على من أراد تقييم شخص تقييماً كاملاً -إذا دعت الحاجة- أن يذكر مساوءه ومحاسنه، وإذا كان ممن عرف بالنصح للمسلمين؛ أن يعتذر عما صدر منه من المساوئ، فمثلاً: نحن نرى من العلماء -كـ ابن حجر والنووي وغيرهم- من لهم أخطاء في العقيدة؛ لكنها أخطاء نعلم علم اليقين -فيما نعرف من أحوالهم- أنها صدرت عن اجتهاد، فمثلاً: نجدهم يؤولون قوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر:22] إلى آخر ما ذكره الشيخ. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 21 كيفية التعامل مع أخطاء العلماء وكتبهم السؤال هناك ظاهرة غريبة بين بعض الشباب، وهي أنهم يحرقون كتاب في ظلال القرآن وكذلك كتب ابن حجر مثل فتح الباري وكتب النووي لقولهم: إن لهؤلاء أخطاء في العقيدة؟ الجواب قد يوجد من الناس من هو أحمق، لا يزن بالقسطاس المستقيم، ولا يعرف للعلماء حقهم، ولا يعرف المصالح أو المنافع التي حصلت من هذا العالم؛ فإذا زل في زلة جعل كل شيء خطأ، فيكون هذا الرجل أشبه ما يكون بمن تحسن إليه مدى الدهر، فإذا أسأت إليه مرة قال: ما رأيت منك خيراً قط. فالإنسان العاقل يجب أن يعرف للإنسان حقه، أما أن يحرق كتاب فتح الباري فإنا نسأل الله العافية، كأنه أحرق سنة النبي صلى الله عليه وسلم وكلام العلماء، وأحرق هذا الكنز الثمين للأمة الإسلامية فعلى من فعل مثل ذلك أن يتوب إلى الله تعالى مما صنع، وأن يستغفر الله عز وجل، وإذا كان أحرق كتاباً لغيره فعليه ضمانه، وإن كان كتابه فالخسارة عليه، وكذلك الأمر في الظلال؛ فهو لا شك فيه أخطاء وفيه كلام صحيح؛ فلو أنه تتبع الأخطاء التي يرى أنها أخطاء -كما فعل الشيخ عبد الله الدويش ونبه عليها- وأبقى الكتاب ينتفع بما فيه من الخير، ويحذر مما فيه من شر؛ لكان أولى. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 22 كتاب الظلال وعقيدة وحدة الوجود السؤال ما رأيكم في كتاب الظلال لـ سيد قطب، فبعض الناس يدعي أن في هذا الكتاب عقيدة وحدة الوجود؟ الجواب هذه دعوى أن في الكتاب عقيدة وحدة الوجود؛ لأن هذا لو ثبت؛ لكان من أعظم الكفر؛ لكن نقول لهذا القائل المدعي: هات البينة على ما قلت؛ أن هذا الكتاب فيه القول بوحدة الوجود أو تقريرها. والكتاب على كل حال فيه مباحث جيدة، وقد قرأت بعض المآخذ عليه من بعض العلماء الأفاضل، وهو لا يخلو من أخطاء كأي عمل من أعمال ابن آدم، فقد قال ابن رجب رحمه الله وهو من تلاميذ ابن القيم قال في القواعد الفقهية: يأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، فمن يسلم من الخطأ؟ كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون الرجاعون إلى الحق، والكتاب فيه صواب وفيه خطأ، فنقبل الصواب ونرد الخطأ. الجزء: 83 ¦ الصفحة: 23 صفات الله عز وجل تحدث الشيخ -شارحاً للعقيدة الواسطية- عن صفة الرؤية وعن آثار الإيمان بأن الله يرى، ثم فسر الآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال، ومثل بقصة عيسى واليهود وقصة صالح وقومه، ثم شرح معاني العفو والمغفرة والقدرة والرحمة، وتكلم عن صفة العزة والبركة، ثم شرع في ذكر ما تنزه عنه الله تبارك وتعالى. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 1 صفة الرؤية الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى اللهم وسلم وبارك على عبده ورسوله خاتم النبيين وآله وصحبه والتابعين. قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] وقوله: {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين:35] وقوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقوله: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35] . في هذه الآيات الكريمات استرسل المصنف رحمه الله تعالى في ذكر الآيات المتعلقة بالرؤية وإثبات الرؤية لله عز وجل والبصر، وأن من أسمائه السميع البصير، ثم عقبها بالآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال وما أشبه ذلك. فمن الآيات المتعلقة بالرؤية قوله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] وهذه الآية في سورة العلق، وهي خطاب لـ أبي جهل وأمثاله من المشركين، الذين كانوا يمنعون المؤمنين من الصلاة وينهونهم عنها ويتهددونهم بها. فقال الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9-14] . وهذا تهديد ظاهر؛ لأن ذكر الرؤية في هذا السياق يوحي بما بعدها من الأخذ بالعذاب في العاجل والآجل، فإن إخبار الكافر أو المنافق بأن الله تعالى يراه، هو تهديد له، أي: إن ما تعمله هو مرئي لنا وأنك محاسب عليه، كما أن إخبار المؤمن أو المجاهد بأن الله تعالى يراه؛ هو تأييد له بأن الله تعالى معه ويراه ومناصره ومجازيه على عمله، فقوله عز وجل لـ أبي جهل هنا: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14] . أي: يرى ما يعمل من الاستهزاء بالمؤمنين ومحاربتهم ونهيهم عن الصلاة واضطهادهم على فعلها، وأنه عز وجل سوف يأخذه بهذا العمل؛ ولهذا ختم السورة بقوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَة * فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق:15-18] . الجزء: 84 ¦ الصفحة: 2 انكشاف الخلق لله قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] هذه الآية من سورة التوبة وهي خطاب للمنافقين، الذين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] فيقول: وقل اعْمَلُوا أي: اعملوا ما شئتم، وعلى أنه خطاب للمنافقين، فهذا الأمر أمر تهديد ووعيد، كما في قوله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وكقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} . فيقول الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فأما رؤية الله عز وجل للعمل، فهي متحققة حال وقوعه، فإنه يقع برؤية من الله عز وجل، ويراه سبحانه حال وقوعه، هذا فضلاً عن علمه بهذا العمل قبل وقوعه، وعلمه به علم تحقق وقوعه بعدما يقع، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يكشف له صنيع هؤلاء، ويريه عملهم ويفضحهم. وكذلك رؤية المؤمنين لهم في الدنيا بأن يعرفهم الله عز وجل على أعمال هؤلاء المنافقين، وقد يكشف لهم ما خفي من أمرهم؛ كما يحدث كثيراً أن الإنسان قد يستخفي بعمله حيناً من الدهر، ثم يفضحه الله في عقر داره. ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وقد جاء في حديث مرفوع وفيه ضعف: {ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه} وهذا مشاهد، فكم من إنسان يخادع ويتستر، لكن الله عز وجل يكشفه للمؤمنين، ويظهر حقيقة عمله، فهذا تحقق رؤية المؤمنين لهذا العمل في الدنيا. وأما في البرزخ فقد جاء في آثار أيضاً فيها نظر؛ أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات. وأما في الآخرة: فالأمر حينئذ لا خفاء فيه ولا شك قال الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فإن العبد يومئذ مكشوف، وكل شيء منه مكشوف، بدءاً ببدنه الذي لا يستره ساتر كما قال صلى الله عليه وسلم: {تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً} وكما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] . فهو مكشوف الجسد مكشوف السريرة: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] مكشوف الماضي كله {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:12-13] . فيراه الناس ويسمعون ماذا عمل وماذا أخذ وماذا ترك، وأنه شقي أو سعيد، اللهم إلا المؤمن التائب؛ فإن الله تعالى يستره بذنبه حتى إذا وافى يوم القيامة قال الله عز وجل له: كما في حديث النجوى -حديث ابن عمر - {فعلت كذا فعلت كذا، قال: يا رب سترتها عليَّ في الدنيا فاغفرها لي، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه! وأما الكافر أو المنافق فكما أخبر تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيكون في ذلك فضيحة لهم وكشف لما كانوا يكنون في الدنيا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105] . الجزء: 84 ¦ الصفحة: 3 آثار الإيمان برؤية الله للعبد وهذا كما سبق في الآية قبلها؛ أن ذكر الرؤية في الخطاب مع المؤمنين هو نوع من التأييد والتطمين لهم، فإنه عز وجل يراك حين تقوم، تراوح بين قدميك بقيامك وركوعك وسجودك ودعائك وتضرعك. فأنت بمرأى من الله عز وجل؛ ولذلك يكون المؤمن مرتاح النفس عارفاً عالماً أن عمله لا يضيع؛ فإن العبد إذا علم أنه مراقب من قبل الله عز وجل، وأن عمله يَرى من الله تعالى سره ذلك، وهذا من طبيعة البشر؛ أنه إذا رأى من يكبره كشيخه أو والده أو من كلفه بعمل معين، وأمره أن يقوم به على الوجه الأكمل، ثم رأى أنه يطلع على عمله ويتابعه عليه وهو مخلص في ذلك سره هذا، كما هو معروف من طبيعة الإنسان، وجاءت الأديان مؤيدة لهذا الأمر، كون العبد يعمل العمل الصالح فيسره أن يُحمد به، فتلك عاجل بشرى المؤمن. فكيف إذا علم أن الله عز وجل هو المطلع عليه؟! فلهذا سلى وعزى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى فقال له: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:217-218] والله عز وجل يرى نبيه في كل وقت، يراه حين يقوم، وحين ينام أيضاً، وفي الليل، وفي النهار، ويراه في كل حال، ولكنه خص هذا الوقت -وقت القيام- للسبب الذي ذكرت، وهو أن العبد محتاج فيه إلى الصبر والتثبيت؛ فلذلك ذكره الله عز وجل بأنه يراه. وهذه الرؤية لها ما بعدها، فهو يحب هذا العمل منك ويشكره لك ويثيبك عليه؛ فلهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم ما ذكرته عائشة كما في الصحيح: {أنه قام حتى تفطرت قدماه صلى الله عليه وسلم، فقالت له: يا رسول الله! تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر. فقال عليه الصلاة والسلام:- أفلا أكون عبداً شكوراً} . ولهذا لما عَرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان كما في حديث جبريل المشهور قال: {أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} أي: أنت بين أمرين: أن تعبد الله كأنك تراه وتنظر إليه، فحينئذٍ تصلح من عبادتك وتحسن من حالك ولا تألو ولا تمل، لكن إن لم يصل لك هذا ولم تستطعه؛ فإنه يراك أي: تذكرَّ أن الله عز وجل يراك، وتذكر العبد لرؤية الله عز وجل تحدث نشاط القلب واندفاع الهمة والدأب على العبادة والجلد عليها، فهذا من معاني قوله عز وجل: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:218-220] . وفي الآية إثبات الرؤية لله جل وعلا وأنه يرى كل شيء، ولا يحجب رؤيته شيء من ظلام أو سهل أو جبل أو بر أو بحر أو غيره، وفيها أن من أسمائه عز وجل: السميع العليم. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 4 عظمة بصر الله وفي الآية إثبات الرؤية لله عز وجل، وأنه يرى كل مرئي سبحانه، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم {: إن الله تعالى لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه} فهو عز وجل يرى كل شيء، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة السوداء في ظلمة الليل، لا يحجب بصره جبل ولا مرتفع ولا منحدر ولا شيء، بل الخلق كلهم بمرأى منه عز وجل: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8] . وهذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالتوكل عليه، فيقول: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220] فأمر الله عز وجل نبيه بالتوكل عليه وحده دون سواه والانقطاع إليه، ووصف عز وجل نفسه بقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [الشعراء:218] أي: حين تقوم ليلك للعبادة والتهجد، فالله تعالى يراك. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 5 الآيات المتعلقة بالكيد والمكر والمحال انتقل المصنف رحمه الله إلى نوع آخر من الآيات الكريمات المتعلقة بالمكر والكيد والمحال، والمحال: اختلفت عبارة السلف في تعريفه، فقال بعضهم: البطش، وقال بعضهم: الكيد والمكر، وهذا هو المتبادر، أي: شديد المكر والكيد بأعدائه. ومكره عز وجل وكيده بأعدائه يأخذ صوراً شتى؛ فإنه عز وجل يوصف بهذا وصفاً مقيداً لا وصفاً مطلقاً، مثل المحال والكيد والمكر، فهذه يوصف الله تعالى بها وصفاً مقيداً، فيقال: يمكر بأعدائه، أو يمكر بمن يمكر به، أو يمكر بمن يمكر بالمؤمنين، وما أشبه هذا، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً؛ لأن هذا ليس من الأسماء الحسنى، ولا من الصفات العلى التي يوصف بها بإطلاق، كالكرم والقوة والعزة وما أشبه ذلك، بل هذا يحمد في حال ويذم في حال؛ ولهذا لا يوصف الله عز وجل به على سبيل الإطلاق، وليس من الأسماء الحسنى. وكذلك لا يشتق له عز وجل منها اسم ولا صفة مطلقاً، فلا يقال من أسمائه الماكر مثلاً ولا الكائد، بل حتى الأشياء التي ليست مدحاً محضاً ولم ترد في الكتاب والسنة، فإنه لا يسمى بها، فلم يرد -مثلاً- في أسمائه عز وجل أنه المتكلم ولم يرد في أسمائه المريد، وإن كان متكلماً يتكلم متى شاء عز وجل بما شاء، وإن كان فعالاً لما يريد، يريد ما شاء ويفعل ما يريد، ولكنه لم يرد وصفه بذلك في الكتاب والسنة. وأشد من ذلك: الكيد والمحال والمكر، فإن الله عز وجل لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وكذلك لا يشتق له منها اسم، فلا تقول من أسمائه الماكر أو الكائد؛ لأن المكر منه حسن وقبيح، ومنه محمود ومنه مذموم، فأما المكر بالماكرين من الكافرين والمستهزئين والفجار وأشباههم فهو محمود، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن نفسه، وأما ما سوى ذلك فهو مذموم. ولهذا لم يرد المكر والكيد وما أشبههما في الكتاب إلا مقيدة، ولهذا قال الله عز وجل هاهنا: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] في سياق صنيعه عز وجل بأعدائه وأعداء رسله، أي أنه شديد المكر والكيد بهم. ومن مكره بهم جل وعلا وكيده لهم: أنه يستدرجهم قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] ويملي لهم {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] حتى إذا أخذهم أخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وكما قال: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} وكما قال سبحانه في غير موضع: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183] وكما قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، التي ذكر الله عز وجل فيها أنواعاً من كيده ومكره بأعدائه ومحاله بهم، أنه يماحلهم ويمكر ويكيد بهم عز وجل؛ لكفرهم وعتوهم وفسادهم ومناوءتهم لأنبيائه ورسله والصالحين من عباده. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 6 قصة صالح وقومه قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] أيضاً لها سياق، وهو في قصة قوم صالح: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49] أي: نقتله ونقتل أهله في الليل بياتاً {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49] أي: ليس عندنا خبر عن الموضوع. هذه خطة وهذا مكر البشر الضعيف الهزيل، يستسهل بالأمر فيفضحه الله عز وجل، يخطط لشيء فيحبط الله خطته وما سعى إليه. فهذا مكرهم؛ أنهم يقتلونه ثم ينكرون ذلك، فقال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] مكرهم كبير، لكن مكر رب العالمين أكبر {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:51-52] . هذا هو الفرق بين مكر الله ومكر العباد هم قد خططوا واجتمعوا بالليل سراً وتقاولوا واتفقوا على قتل النبي وقتل من معه وإنكار ذلك وجحوده، لكنه ما تم ولم يستمر، انظر كيف كان عاقبة مكرهم! لكن مكر رب العالمين ظهرت آثاره: أنا دمرناهم وقومهم أجمعين. ولذلك قد يخطط العبد الخطط، وقد كتب الله عز وجل أن يقبض روحه قبل أن توضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وقد تخطط أمة من الأمم وقد كتب الله عليها الانهيار قبل أن تحقق ما تريد، وقد يشتغل قوم وقد كتب الله لهم الخسف أو الزلزال أو المسخ أو الريح العاصف أو الطوفان أو الفيضان أو الغرق وهم لا يشعرون قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] . فالخلاصة: أن معنى هذه الآيات كما في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل:50] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ) [آل عمران:54] ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] أن الله عز وجل يوصف بالمكر وصفاً مقيداً، أنه يمكر بأعدائه، يمكر بالماكرين، يمكر بالكافرين، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً. وكذلك قوله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] ومثله قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] فهو يثبت الكيد لله عز وجل بمن يكيد لرسله وأنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده. ويكيد أيضاً للصالحين، بمعنى: أنه يصنع لهم صنعاً خفياً مما تكون فيه نجاتهم. ولعل من الآيات التي ذكرتْ ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] فإن الكيد هو التدبير اللطيف الخفي، الذي قد لا يدركه الإنسان، فكذلك الله تعالى كاد ليوسف، بمعنى: أنه كاد كيداً له لمصلحته ولخيره، فكان يقع ليوسف عليه السلام كثير من الأمور التي يظنها الناس شراً، مثل ترك إخوته وإلقائهم له في الجب، ومضايقته وبيعه، وكونه في قصر العزيز، ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وسجنه إلى غير ذلك، ثم تبين أن هذا كله كان من تدبير الله عز وجل التدبير اللطيف الخفي ليوسف عليه الصلاة والسلام. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 7 عظات وعبر وفي الآية عبرة وأي عبرة أيها الإخوة! أن أعداء الدين يخططون ولا يألون جهداً؛ لأن المكر بالنسبة لهم دقة التخطيط، فيخططون وينتبهون لكل دقيق وجليل، ويضعون أعينهم ويرتبون، ويحسبون لكل شيء حسابه، هذا مكرهم هم، مكر البشر مكر الإنسان، مكر الليل والنهار، ولكن قارن مكرهم بمكر رب العالمين: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] . والآية التي قبلها في المكر: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] فهؤلاء مكروا، والله عز وجل مكر بهم، كما قال الله عز وجل: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:46] مكرهم ليس بالسهل بل هو عظيم! ونحن نرى اليوم مكر الكافرين وكيدهم، شيء تشيب منه الرءوس، يشتغلون وَيَصِلُون الليل بالنهار؛ في التخطيط للمسلمين والإيقاع بهم وحصرهم وأخذهم في الضحى من النهار، وهكذا خيل إليهم وظنوا أن الأمور قد استحكمت بأيديهم، وأنه لا أحد ينافسهم ولا يهيجهم ولا يغير من سلطانهم، لكنهم نسوا الأمر الثاني. أما نحن المؤمنين فلا يمكن أن ننسى هذا، وإلا فسوف نفضي إلى اليأس، لا ننسى {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] ولا ننسى {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] فالقرب من الكفار واليهود والنصارى لا يعتقدون قضية مكر رب العالمين. بل هم يعتقدون أن كل الأمور بأيديهم، وأن القوة بأيديهم والتخطيط لهم، وأجهزة أمنهم ومخابراتهم وقواهم ومباحثهم وجهودهم ودراساتهم ومراكز أبحاثهم مهيمنة، وأن الأمر قد استوثق في أيديهم واستتب لهم، لماذا؟ لأنهم كما أخبر الله عز وجل لا يشعرون. ولذلك موسى عليه الصلاة والسلام تربى في بيت فرعون، فهذا من عدم شعورهم؛ لأن فرعون يمكر بالمؤمنين، ويقتل بني إسرائيل ويستحيي نساءهم، كما هو معروف، فهذا هو مكره، وهو مكر البشر الضعيف الهزيل، لكن مكر رب العالمين عظيم فقد كتب الله هلاك فرعون على يد موسى الذي تربى في حجره، وعلى يد زوجته، وفي قصره، ويأكل من نعمه: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] . فالمؤمن دائماً يضع هذا في حسابه؛ لأن حسابات البشر تخطئ، وتنتبه لأمر وتنسى مائة، والله عز وجل هو الرقيب والمحيط المطلع على كل شيء ولهذا يضيع مكرهم أدراج الرياح، ويحبط الله عز وجل صنيعهم وما يسعون ويخططون له. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 8 قصة عيسى واليهود قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] هذا جاء في سياق اليهود وكيدهم بعيسى عليه الصلاة والسلام، وذلك -كما هو معروف في الروايات الإسرائيلية- أنهم أرادوا قتل عيسى عليه الصلاة والسلام، فدخل بيتاً فدخل وراءه أحد الخونة من أتباعه ليدل اليهود عليه، فرفع الله عيسى إليه فلم يجده هذا الرجل، ثم ألقى الله شبه عيسى على ذلك الرجل من أتباعه، فخرج فقال: ما وجدت في البيت أحداً، فشبه لهم فظنوه عيسى فقتلوه. فلاحظ أولاً كيف وقى الله عز وجل نبيه ورسوله من كيدهم بل رفعه الله إليه، كما قال عز وجل عن اليهود {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:157-158] وقال في الآية الأخرى: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] فألقي الشبه على ذلك الرجل فقتلوه. فانظر كيف وقى الله نبيه منهم، وانظر كيف مكر الله عز وجل بهذا الخائن، فألقى عليه شبه عيسى، فدارت الدائرة عليه ووقع السيف في رقبته، فظن اليهود أنهم قتلوا عيسى. ولذلك ينزل عيسى عليه السلام في آخر الزمان حكماً عدلاً فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، وتخرج خيراتها الأرض في زمنه. وخروج عيسى عليه السلام متواتر في الآيات والأحاديث، وذكره الله تعالى في مواضع من كتابه كما في قوله: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] وفي قراءة {وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] بفتح العين واللام في كلمة (لَعَلَمٌ) وكما في قوله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] . وأما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها حديث في الصحيحين، وساق ابن كثير في سورة المائدة طائفة كثيرة منها، وهي أحاديث تبلغ مبلغ التواتر؛ ولذلك كان الإيمان بنزوله من أصول عقائد أهل السنة والجماعة. وكأن نزوله عليه الصلاة والسلام -والله تعالى أعلم- مربوط بخدعة أخرى من خدع اليهود مثل التي حصلت أول مرة حين رفع، فإن رفعه كان مكراً من الله عز وجل باليهود والنصارى الذين أرادوا قتله، فكذلك نزوله هو أيضاً مكر بهم. ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يحصل بين عيسى وبين الدجال، والدجال هو زعيم من زعماء اليهود، يتبعه سبعون ألفاً من يهود أصبهان عليهم الطيالسة، ويسيح في الأرض، ويتبعه الفساق والكفار والمنافقون من كل مكان. فبعد حيلة من حيل اليهود وارتفاع من شأنهم؛ ينزل عيسى مرة أخرى ليقطع الله به دابرهم ودابر إخوانهم من النصارى، والأمر أقرب ما يكون، فهذا معنى قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] . الجزء: 84 ¦ الصفحة: 9 العفو والقدرة والمغفرة قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149] في هذه الآيات الكريمات التي سردها المصنف رحمه الله تعالى، لا يزال في مجال إثبات مجموعة من صفات الله تعالى وأسمائه الحسنى اللائقة بعظمته وجلاله، مثل صفة العفو والقدرة والعزة والجلال ونحوها مما جاء إثباته في القرآن الكريم. وقد ساق رحمه الله تعالى هذه الآية: {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} [النساء:149] فالمعنى: أن الله عز وجل يوصي عباده في هذه الآية العظيمة بالعفو عند المقدرة، وهذا من فضائل الصالحين وأصحاب المروءة، أنهم يعفون عند قدرتهم على الشيء، فإذا أساء إليهم أحد بقول أو فعل مروا به مرور الكرام وأعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين. ولم يؤاخذوهم بما صدر منهم من قول أو فعل؛ إيثاراً للصبر ولما عند الله عز وجل؛ فإنهم يعلمون أن ما عند الله عز وجل خير وأبقى. ولذلك لا يستجيبون لدوافع النفس التي تدعو إلى الغضب للذات والانتصار للنفس، بل تجد أحدهم يغضب لله عز وجل، فإذا انتهكت حرمات الله غضب وزمجر وانتصر لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام، لكن إذا تعرض له أحد بشخصه بقول أو فعل، فإنه يمر به مرور الكرام ولا يلتفت إليه ولا يغضب له، على النقيض من حال كثير من الناس في هذا الوقت -نسأل الله العفو والمسامحة- فإن أكثرهم يغضب لنفسه أكثر مما يغضب لربه ودينه، فإذا سمع من ينال منه أو يشتمه أو يسبه، أو يتكلم في نسبه أو أحد أقاربه أو أسرته أو عائلته، غضب غضباً لا يقوم له شيء، واستخدم وسائل الإنكار الثلاث: اليد واللسان والقلب بحسب الإمكان! لكن قد يسمع هذا الشخص أو غيره يسب الله تعالى، أو يسب رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يسب الإسلام، فلا يغضب كغضبه ذاك، ولا يستخدم وسائل الإنكار كما استخدمها في المرة الأولى. ولا شك أن الجدير بالمسلم أن يكون غضبه لله عز وجل لا لنفسه، فيؤثر الإعراض عمن تعرض لذاته أو شخصه ما لم يكن في ذلك مذلة للإسلام، ولكنه لا يطيق الصبر والسكوت على من يتعرضون لدينه، فالله عز وجل يوصي عباده بالصبر والإعراض والعفو عن السوء الذي يصيبهم من الناس، ويختم الآية بذكر اسمين من أسمائه عز وجل وهما: العفو، والقدير. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 10 تعريف الغفور والغفور: مأخوذ من الغفر، وهو يأتي في اللغة أيضاً بمعنى الستر والتغطية، فكونه عز وجل غفور، من دلالاته ومعانيه أنه يستر ذنوب عباده ويمحوها عنهم، فلا يؤاخذهم بها في الدنيا، ولا يعذبهم بها في الآخرة، ولا يفضحهم بها على رءوس الخلائق، ولهذا كان من المناسب جداً في الدعاء؛ أن العبد إذا أراد أن يدعو بمحو ذنوبه أن ينادي الله تعالى باسمه الغفور، فيقول: يا غفورُ اغفرلي. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 11 تعريف الرحيم وأما الرحيم: فهو اسمه جل وعلا وهو من صفة الرحمة، والرحمة صفة له تليق بجلاله، وليست هذه الصفة ولا غيرها مما يشابه حال المخلوقين أو يماثلهم، فإن الرحمة في المخلوق ضعف وانكسار ورقة قلب، أما الرحمة منه جل وعلا فهي صفة تليق بجلاله، بمقتضاها يعفو عن المخطئين، ويرحم عباده ويتجاوز عنهم ويدخلهم جنته، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؛ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} فهم يدخلون الجنة برحمته جل وعلا، والله غفور رحيم. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 12 تعريف العفو والعفو: هو في الأصل من عفا يعفو، وهو يعني عند العرب زوال الشيء، كما يقال: عفت الديار، أي: زالت عن أماكنها وتهدمت ولم تبق على حالها. والمقصود به في حق الله جل وعلا: أنه يسامح عباده، ولا يؤاخذهم بما يصدر منهم، بل يعاملهم برحمته وفضله، فمن أسمائه (العَفُوُّ) لمن يستحق العفو. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 13 طلب المؤمنين: العفو من الله ولذلك كان العفو من أعظم مطالب المؤمنين، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو ويأمر أصحابه أن يدعوا بذلك. فكان يسأل الله تعالى العفو والعافية، كما في دعائه عليه الصلاة والسلام المحفوظ: {اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي} وكما كان في وصيته لـ عائشة رضي الله عنها لما سألته: {إن علمتُ ليلةَ القدر أي ليلة هي، ما أقول؟ قال: قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} . وقد ذكر الله تعالى العفو في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم، وأنه يعفو عن عباده، وعفا عن طائفة كبيرة منهم ممن تاب إليه وأناب، وأن العفو من صفاته والعَفُوَّ من أسمائه. وأما القدرة فلعله سبق الإشارة إليها، وأن من أسمائه (القدير) والقدرة من صفاته فهو على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . والمعنى: أن الله تعالى مع قدرته -وهو السر في جمع الاسمين والله أعلم- أن الله مع قدرته على أخذ الظالمين والانتصار منهم وإنزال العقوبة بهم إلا أنه لا يعاجلهم بالعقوبة بل يمهلهم، وقد يعفو عنهم أو عن بعضهم، يعفو عمن يشاء والعفو عنهم برحمته وفضله جل وعلا، ففي هذه الآيات إثبات صفة العفو والقدرة وإثبات اسم (العفو) و (القدير) . الجزء: 84 ¦ الصفحة: 14 قصة أبي بكر مع مسطح وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] وهذه الآية هي في سورة النور، وقد نزلت في سياق حديث الإفك وما تلاه من آثار، حيث إن أبا بكر رضي الله عنه، كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته وهجرته وفقره، فكان قد ضمه إليه ينفق عليه، فلما صار حديث الإفك وكان مسطح ممن وقع فيه وأشاعه وأذاعه وتكلم فيه، فلما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها؛ حلف أبو بكر رضي الله عنه أنه لا ينفق على مسطح بن أثاثة شيئاً، فأنزل الله تعالى قوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُواْ الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} [النور:22] . وقوله: "ولا يأتل" أي: لا يحلف، وأولوا الفضل والسعة أي: أولوا المال الوفير والفضل الواسع والكرم والجود، وعلى رأسهم الصديق أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فإن الله أثنى عليه في غير موضع، منها هذا الموضع، ومنها قوله عز وجل في آخر سورة الليل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19-21] . حتى ذكر بعض المفسرين الإجماع على أن هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه، فأثنى الله تعالى عليه بأنه من أولي الفضل والسعة، ونهاه وأمثاله من الفضلاء الذين وسع الله عليهم أن يحلفوا على ألا يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله، أي: كـ مسطح بن أثاثة وغيره، وفي هذا دليل كبير على أن الإنسان لا ينبغي له أن يبخس أحداً حقه لخطأ وقع فيه. ولهذا وصف الله عز وجل هؤلاء بأنهم من المهاجرين في سبيل الله، فلم تحبط هجرتهم لأن بعضهم وقع فيما وقع فيه من حديث الإفك أو غيره، بل وصفهم الله تعالى في القرآن بأنهم من المهاجرين في سبيل الله وأمر بالعفو عنهم، وباب التوبة مفتوح لهم ولغيرهم. فهكذا الداعية وطالب العلم يحرص أبداً على أن ينزل الناس منازلهم، وألا يكون مثل صاحب جور، إن مدح أسرف وإن ذم أسرف، وإن حصل من أحد زلة أنسته كل محاسنه، كلا! بل يحرص على أن يكون صاحب ميزان وقسطاس مستقيم، يعرف للناس حقوقهم، وإن زل منهم من زل أو أخطأ من أخطأ، إلا أنه يضع كل شيء في موضعه، فلا يحمله الغضب من خطأ فلان على أن يظلمه أو يجور عليه، فينسى فضائله ومحاسنه وأعماله، وهذا كثير جداً في القرآن الكريم لو ذهبنا نستقصيه. وأمر عز وجل بالعفو والصفح: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور:22] أي: ينسوا ما صدر منهم أو يتناسوا ما صدر منهم من خطأ ويصفحوا عنهم فيه ويسامحوهم، وحرض الله عز وجل على ذلك أتم التحريض بقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ولهذا لما سمع أبو بكر رضي الله عنه قال: [[بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي]] . وأعاد ما كان ينفق على مسطح رضي الله عنهم أجمعين، وذلك لقوة الحث والتحضيض في هذه الآية على الإنفاق في سبيل الله بقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] ومن الذي لا يحب أن يغفر الله له؟ إذاً فليسامح الناس عما صدر منهم في حقه وليعف عنهم ويصفح. {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] فهذه من أسمائه عز وجل. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 15 صفة العزة وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] في هذه الآية إثبات صفة العزة له سبحانه وتعالى، والاسم منها العزيز، وهو من أسمائه الحسنى أيضاً الثابتة في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم قال تعالى: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3] كما أن الصفة نفسها بلفظ العزة ثابتة في مواضع عدة في الكتاب والسنة منها هذه الآية: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] . وهذه الآية جاءت في مجال كشف المنافقين كـ عبد الله بن أبي بن سلول وغيره، ممن قالوا في غزوة بني المصطلق: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فعدوا أنفسهم أعزة وعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه أذلاء، وهددوا بإخراجهم من المدينة، فقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] فالعزة هي من الله تعالى وإليه، فهو العزيز، ومن لاذ بجانبه فهو العزيز أيضاً، ولهذا قال: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [يونس:65] . وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أصابه وجع فليضع يده على موضع الوجع، وليقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر} وهذا في الصحيح، وكذلك من دعائه صلى الله عليه وسلم: {أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون، أعوذ بعزتك أن تضلني} ومثل ذلك كثير معروف، فالعزة من صفاته، والعزيز من أسمائه. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 16 معاني العزة والعزة تحتمل عدة معاني: منها الغلبة، تقول: عز فلان فلاناً، أي: غلبه، سواء أكانت الغلبة بالحجة أم كانت الغلبة بالقوة، ولعل منه قوله تعالى على لسان دواد عليه السلام: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] فقوله: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] أي: غلبني بالحجة، فالغلبة من معاني العزة. ومن معاني العزة: القوة والصلابة، كما يقول العرب: هذه الأرض عزاز -وهذا مستخدم حتى عند العامة- أي: أرض قوية صلبة، وليست أرضاً رمليةً رخوةً، فمن معاني العزة: القوة. ومن معاني العزة: العلو، سواء أكان علو القدر أم علو القهر أم علو الذات، وكل هذه ثابتة لله تعالى. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 17 عزة المؤمنين ومن عزته جل وعلا يستمد المؤمنون عزتهم، فالعزة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ ولهذا لا تجد المؤمن الصادق إلا عزيزاً بإيمانه، حتى لو كان فقيراً أو ضعيفاً في نفسه، وما تلك المواقف الشجاعة القوية المحفوظة للمؤمنين من العلماء والمجاهدين والدعاة المخلصين؛ إلا آيةٌ على عزتهم، وأنهم يقولون: هذا الرأس الذي يطأطئ لله رب العالمين لا يمكن أن يطأطئ لغيره بحال من الأحوال، وهذا القلب الذي يتعبد لله لا يمكن أن يدين بالعبودية لغيره، وهذا اللسان الذي يلهج بذكره تعالى لا يمكن أن يستخدم في القيل والقال، والإطراء الذي لا حاجة إليه، والمبالغات التي تمتعر منها النفوس السليمة. وهكذا يكون المؤمن عزيزاً في قوله وفعله ومواقفه؛ عزةً لا تجعله ذليلاً مهيناً، وهي عزة أيضاً معتدلة لا تفضي بالمؤمن إلى نوع من العلو والاستكبار والتعاظم، بل هو متواضع في نفسه، ولكنه إذا أريد على إذلال نفسه أو إهانتها؛ فإنه يغضب ويزمجر كما يزمجر الأسد، ولا يرضى لنفسه الدنية في دينه، حتى ولو كان فقيراً، ولو كان ضعيفاً، ولو كان معدماً لا يملك شيئاً، ولو كان أسيراً، ولو كان مهزوماً، ولو كان مريضاً؛ فإن العزة جزء من دينه لا يتجزأ. ومن يوم أن فقد المسلمون هذا الشعور بالعزة، أصبحت أمم الأرض كلها تعبث بهم كما تشاء، فلا بد من بعث العزة في نفوس المؤمنين وإثارة الحمية الدينية في قلوبهم. وقوله عن إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] هذه كالآيات التي قبلها في إثبات العزة والاعتراف بها حتى على لسان عدو الله إبليس؛ فإنه أقسم بعزة الله جل وعلا على ما أراد {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] ففيه إثبات العزة لله عز وجل والاعتراف بها، حتى على لسان مردة الشياطين وعلى رأسهم إبليس اللعين. وبالمناسبة: فإن القسم بالله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته جائز، فيجوز أن يقسم الإنسان بعزة الله تعالى على شيء، فيقول: بلى وعزة ربنا، أو لا وعزة ربنا، أو ما أشبه ذلك، أو بغيرها من أسمائه أو صفاته. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 18 صفة البركة وقوله تعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:78] تبارك: مأخوذ من البرَكََة، و (البركة) هي الخير الكثير الثابت المستقر، ومنه قالت العرب للماء الكثير المجتمع: البِرْكَة؛ لأنه ماء مستقر في مكانه لا يتجاوزه، فالبَرَكَة هي الخير الكثير الثابت المستقر، ومنه يقال برك البعير إذا استقر في مكانه وقعد، وهذا اللفظ في قوله: "تبارك" لم يأت إلا في حق الله تبارك وتعالى، كما في قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الملك:1] {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:78] {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزخرف:85] وفي مواضع كثيرة جداً في القرآن الكريم. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 19 اختصاص "تبارك" بالله ولذلك نص جماعة من أهل العلم كما ذكر ابن القيم رحمه الله في "بدائع الفوائد": أنه لا يجوز إطلاق هذا اللفظ على غير الله جل وعلا، فلا يجوز أن تقول مثلاً: تبارك فلان، ولا يجوز أن تقول: تباركت الدار، وإن كان هذا موجوداً عند العامة، فإذا جاءهم أحد في البيت قال أحدهم: البيت يتبارك بدخولك يا فلان، أو السيارة تباركت بركوبك فيها، من باب الكلام الطيب والمجاملات -لا أقول أنه طيب لأنه ممنوع- لكن من باب المجاملات التي يتداولونها فيما بينهم، وإذا كثر الشيء عندهم وطال، قالوا: تبارك هذا الشيء من الطعام أو غيره، وقالوا: هذا الطعام -ما شاء الله- تبارك. وأصلاً تبارك؛ تعني أن البركة من عنده هو، أما إذا كانت البركة من غيره -كما هي الحال بالنسبة للطعام أو الدار أو السيارة أو سواها- فإنه لا يقال: تبارك، ولكن يقال: بورك فيه: لأن البركة ليست من عنده وإنما هي من عند الله تعالى، ولهذا لا يقال: تبارك الشيء، إنما يقال: {تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] . وقوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:78] هذا ثناء على الله تعالى وعلى اسمه الكريم بالجلال والعظمة والكبرياء والإكرام، الذي هو تنزهه جل وعلا عن كل صفة من صفات النقص والعيب، أو تكريمه تعالى للطائعين في الدنيا بالسعادة، وفي الآخرة برضوانه والجنة، فهو عز وجل كريم، ومن صفاته الكرم والإكرام أيضاً، فهو يكرم عباده دنياً وأخرى متى أطاعوه والتزموا أمره. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 20 ما تنزه الله عنه وقوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] هنا بدأ المصنف رحمه الله في ذكر بعض الأشياء المنفية عن الله تعالى، والتي يسميها العلماء: السلوب، أي: جمع سلب، والسلب: هو النفي الذي هو ضد الإثبات، ولهذا من أهل البدع من لا يصفون الله تعالى إلا بالسلوب، أي: بالنفي، نفي النقائص، فلا يثبتون شيئاً إنما ينفون النقص، فيقولون: إنه تعالى ليس كذا وليس كذا ولا شك أن الأصل الإثبات وليس النفي، وإنما يكون النفي لأسباب معلومة: كما إذا تبادر إلى ذهن بعض الناس معنى غير لائق فإنه ينفى، أو ادعى آخرون صفة نقص لله جل وعلا فإنها تنفى؛ ولهذا جاء النفي في مواضع معلومة محددة لسبب معلوم محدد أيضاً. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 21 نفي السمي عن الله ومن ذلك قوله جل وعلا: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وهذه الآية في سورة مريم، وفيها أمر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بأن يعبد ربه ويصبر على عبادته: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] ثم قال: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وهذا سؤال واستفهام، ما هو المقصود من هذا الاستفهام؟ المقصود منه الإنكار، فهو استفهام إنكاري، استفهام بمعنى النفي أي: لا سمي له. والسمي يحتمل أكثر من معنى، فيحتمل أن يكون المقصود: أنه ليس له من يماثله في اسمه حقيقة، وهذا لا شك فيها؛ فإن الله تعالى له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وإن وجد من المخلوقين من يسمى ببعض أسمائه جل وعلا؛ فإن الفرق بين الاسمين مما لا يحتاج إلى بيان، فهو كالفرق بين المخلوق والخالق، ليس بينهما تماثل ولا تقارب إلا في أصل المعنى. فمثلاً: إذا وصف العبد بالكرم، ووصف الله تعالى بالكرم، فالعبد قد يوصف بأنه كريم فيقال: فلان كريم، والله تعالى كريم، فأي تماثل أو تشابه بين هاتين الصفتين، أما كرم العبد فهو أنه قد يعطي من ماله، وهذا المال الذي عنده إنما هو في الحقيقة من مال الله قال الله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ} [النور:33] وقد يعطي الدرهم أو الدرهمين أو الدينار أو الدينارين، فإن كان بالغاً في الكرم مبلغه تخلى عن ماله، وهذا لا يحصل إلا للنوادر الذين يتحدث عنهم في التاريخ. أما الله جل وعلا فإن كرمه شامل للدارين، وكل كرم في المخلوقين فهو من كرمه سبحانه وتعالى، فإنه هو الذي جَبَلَ عباده على هذه الصفات، وهو الذي أعطاهم ما يجودون به على الناس. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 84 ¦ الصفحة: 22 رسالة من وراء القضبان الإصلاح قضية أمة بأكملها لا فئة معينة أو أفراد مخصوصين، والعلماء هم من ينادي بالإصلاح ولكن قد يسجنون بسبب ذلك، وهذه رسالة إلى الأمة من وراء القضبان تبين القضية وتجلي متعلقاتها، وما هو الغرض منها. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 1 طريق الدعوة إن الحمد لله، نحمده ونستعينة ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد: فهذه رسالة من وراء القضبان لكل من يريد أن يعرف قضية الدعاة والدعوة إلى الله عز وجل. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 2 حملة اعتقالات للدعاة أيها الأحبة: لقد حدثت -كما تسامع الكثيرون- حملات متعددة من الاعتقالات كان آخرها في غضون هذا الأسبوع شملت مجموعة من الدكاترة والمشايخ والفضلاء، كان من آخرهم فضيلة الشيخ الدكتور سفر بن عبد الرحمن الحوالي، وفضيلة الدكتور عبد الله بن حامد الحامد، والدكتور محسن العواجي، وغيرهم من طلبة العلم والشباب، وقد أكون فرداً صغيراً ضمن هذه القافلة المباركة إن شاء الله تعالى. وحقيقة يعلم الله أني لا أكره مشاركتهم ولا مشاركة غيرهم في هذا الشرف الذي نتوج به رءوسنا وجباهنا؛ لأنني كلما اعتقل شاب من أبناء هذه البلاد المباركة صغيراً أو كبيراً بغير جرمٍ اقترفه، أو ذنب فعله، شعرت وأنا عاجز عن أن أعمل له شيئاً -لأنه ليس هناك مجال للصوت ولا للكلام- شعرت بتوبيخ يجعلني أتمنى أن يكون الأمر علي دون أن يكون على غيري، وأكون في موقف المتفرج عليهم. ولذلك فإن مثل هذا العمل يدفع عني وعن أمثالي من الإخوة الدعاة والمصلحين إحراجاً كبيراً نواجهه أمام جموع الشباب وغيرهم ممن قد يظنون أننا نتخلى عن قضيتهم، أو أنهم يذهبون بها ويتلقون بعض الأذى، أما نحن فآمنون سالمون في أولادنا وأهلنا، فنحن نقول لهم: نحن معكم في السراء والضراء، ويجب أن نكون قبلكم في كل أمر تتعرضون له أو يتعرض له غيركم، هذا فضلاً عما يعلمه الجميع من أنه منذ فترة ليست بالقصيرة كنا تحت طائلة من الإجراءات الظالمة التي شملت الفصل عن الأعمال، والمنع من الدروس والمحاضرات والخطب والندوات والتسجيلات، وغيرها من الأشياء التي هي مجال الدعوة إلى الله تعالى ووسيلة مخاطبة الناس بما يعتقد الإنسان ويدين. إن مثل هذه الأشياء التي حدثت كلها لا نعدها شيئاً يذكر بالقياس إلى هذا الطريق الذي سلكناه، والكثير من الإخوة يقدمون أحياناً لوناً من التعزية أو التصبير أو التثبيت، وقد جاءني مرة أحد الشباب من إحدى المناطق -ربما قطع أكثر من خمسمائة كيلو متر- وقال لي: ما أتيت إلا لأقرأ عليك حديث ابن عباس رضي الله عنه: {يا غلام! إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا استعنت فاستعن بالله، وإذا سألت فاسأل الله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ثم خرج من عندي ومضى لحال سبيله، ولقد كان لهذه الكلمات وقع عظيم حتى كأني أسمعها لأول مرة؛ لأنني سمعتها من إنسان مخلص يتكلم قلبه قبل أن يبين لسانه. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 3 استصغار البلاء واستعظام الحيلولة دون الدعوة ولكنني أقول لجميع هؤلاء الإخوة: ماذا لقينا أصلاً حتى يطلب منا أن نصبر أو نحتسب؟ فالواقع أن كل ما حصل مهما كان في نظر الناس كبيراً فإنه لا يعنينا في جانبه الشخصي، فلا يعنينا -مثلاً- أن يقطع راتب الإنسان لأن الرزق من عند الله تعالى، ولا يعنينا أن يمنع الإنسان من العمل فإن مجال الدعوة إلى الله واسع رحب لا يتوقف على مجال بعينه ولا على طريق بذاته، اللهم -لا شك- أن الحيلولة بين الإنسان وبين الدعوة، بين الإنسان ومخاطبة الأمة بما يعتقد في قلبه وما يدين، أن الإنسان يرى أن ترك ذلك وأن السكوت عليه خيانة للأمانة التي حملها، بل وخيانة للأمة التي تنتظر من دعاتها، بل من جميع أفرادها حتى ولو كانوا أفراداً عاديين؛ أن يقولوا كلمة الحق، وأن يصدقوا الله تعالى ويبصروا الناس بما يعرفون، كل بحسب وسعه لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها. فلا شك أن الحيلولة بين الإنسان والدعوة هو أمر خطير، ولا يمكن السكوت عنه، أو الصبر عليه، أما ما عدا ذلك فهو هين يسير، ماذا خسرنا باستثناء قضية الدعوة؟ في الواقع أن الإنسان ما خسر إلا كما قال لي أحد الإخوة: حبوب البندول التي كان يتعاطاها بسبب تعب العمل وعنائه ولأوائه، ثم بعد ذلك ارتاح، فإن كان من أهل العبادة فبعد صلاة الفجر قراءة قرآن حتى ترتفع الشمس، ثم صلاة ركعتين، ثم يقبل على أمر الدنيا، وهذا هو الذي كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن بعده الدعاة حتى كان ابن تيمية يفعل ذلك ويقول: هذه ضحوتي لو لم أتغدها لم تحملني قواي أو لم تحملني رجلاي، فإن لم يكن منهم وكان من البطالين الكسالى فبعد صلاة الفجر يقبل على عمل، أو راحة، أو ما أشبه ذلك من الأمور، ثم إن الإنسان يرى من الناس من الحفاوة، إن ذهب إلى سوقٍ أو مطارٍ أو مدرسةٍ أو مؤسسةٍ شيئاً يخشى أن يكون أجره عُجِّل له في هذه الدنيا، وألا يكون له عند الله شيء، ويخشى أن يكون هذا من الاستدراج، ويشهد الله تعالى أننا نخشى من ذلك على أنفسنا لما نراه من حرص الإخوان والأحبة بل وسائر الناس على تقديم ما يستطيعون؛ مع أننا نعتقد وندين على أننا لا نستحق ذلك ولا شيئاً منه. المقصود أننا لم نخسر شيئاً من أمر يتعلق بالدنيا حتى يأتينا من الإخوة -أحياناً- نوع من التسلية أو نوع من العزاء، وإن كان الصبر مأمور به على كل حال. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 4 حديث إلى الجمهور بعض الإخوة حدثوني حديث المشفق الخائف بعد ما عرفوا أني أستقبل الضيوف في أوقات الصلوات في مسجدي، وفي يوم الخميس ليلة الجمعة من كل أسبوع ما لم أكن مسافراً أو مشغولاً، ويتجمع عندي أعداد الشباب من مناطق مختلفة يزيدون أو ينقصون، ومن الطبيعي حين يجلسون يستمعون فإننا لن نتحدث بلغة الإشارات أو بلغة الصمت، بل سأتحدث ويسمعون، وسأجيب حين يسألون، هذا أمر طبيعي وحق مكفول لكل إنسان -لا أقول لي- في شرائع السماء كلها، بل وفي قوانين الأرض أيضاً، مع أن المرجع هو إلى شريعة الله تعالى الخاتمة المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم، فعدد من الإخوة كانوا مشفقين علي، ويقولون: نخشى أن ينالك من ذلك ضرر. وأقول للإخوة الآن علانية كما كنت أقول لهم سراً من قبل حين يسألونني: إن تعرض الإنسان للسجن فهذا أمر طبيعي، فوالله يوم أوقفت عن الدروس والمحاضرات كنت قبل الإيقاف أحدث الإخوة بأنه أمر طبيعي أن يوقف الإنسان وإن لم يكن شرعياً ولا مقبولاً؛ لكن من الطبيعي أن يتعرض أي داعية أو مصلح أنا أو الشيخ سفر أو غيرنا من الدعاة -نسأل الله أن يجعلنا كذلك- أن يتعرض لمثل هذه الأمور. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 5 وضع الداعية للأذى في اعتباره قبل وقوعه ولا زلت أقول بعد ما حصلت هذه الجلسات في المنزل: إنني كنت واضعاً في اعتباري أنه ربما يترتب على ذلك ما يترتب عليه من آثار، أي قيمة وأي معنىً لوجود الإنسان إذا كان من غير رسالة يحملها ويؤديها؟! هب أنك حر طليق تأكل وتشرب وتنام وتذهب وتجيء لكنك لا تقوم بأداء المسئولية العلمية والشرعية والاجتماعية التي تشعر أن الله تعالى حملكها ووضعها على عاتقك بحسب ما أعطاك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] . إذاً ليس في الأمر غرابة، والسجن أمر طبيعي مألوف، ويجب أن نضع في اعتبارنا -يا كل المخلصين، ويا كل الصادقين، ويا كل دعاة الإصلاح، سواء أسرَّوا أو أعلنوا- يجب أن نضع في اعتبارنا أن الفساد المتجذر في مجتمعنا وفي جميع مجتمعات المسلمين بنسب متفاوتة؛ فساد يضرب برواقه على كل مجالات الحياة بدون استثناء، فساد في مجال التعبد، وفي مجال الأخلاق، وفي مجال السلوك، وفي المعاملات، فساد في الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم. إن هذا الفساد الشامل يتطلب إصلاحاً كاملاً، ومن الخطأ أن نتصور أن الإصلاح سيتم عن طريق مجرد الكلام، أو مجرد أن نحمل قلوباً طيبة، أو تصورات سليمة فقط دون أن نتحمل في سبيل الكلمة التي قلناها أو التصور الذي حملناه ولو بعض الأذى والعناء! إن هذا الفساد الموجود -والذي لا يشك فيه أحد على الإطلاق وإن اختلفت الطرق في إصلاحه- له أنصار كثيرون، وله متحمسون، وسدنة، وله أرباب من البشر يرون بقاءهم في بقائه، ووجودهم بوجوده، وأن زواله كشف لهم، ولذلك فهم ضد كل مصلح يسعون إلى التأليب عليه ويحاربونه بكل وسعهم، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فهذه سنة الله تعالى. أقول: لا غرابة وإن كانوا ملومين لمخالفتهم شريعة الله ومخالفتهم للحق والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] وكذلك يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] . إذاً الصراع صراع بين الحق والباطل، بين الإصلاح والفساد، بين الهدى والضلال، بين العدل والظلم، وهو صراع أزلي، ولابد أن نوقن ونعتقد بأن أي داعية إصلاح يحتاج إلى أن يبرهن على صدقه وإخلاصه، وأنه لا يريد مطمعاً دنيوياً، وأنه صادق في دعوته، وأنه مستعد أن يبذل ويضحي في سبيلها، لا بد أن يبذل ما يكون عربوناً وبرهاناً للناس فيكون ذلك شاهد عدل على ما سمعوه بآذانهم. ربما يسمع الناس كلاماً معسولاً جميلاً في الأشرطة والمحاضرات والدروس، أو في البرامج أو الندوات وغيرها، وربما يكون الكلام بحد ذاته حلواً مؤثراً مقبولاً؛ لكن ما هو البرهان على أن هذا المتكلم صادق فيما يقول؟ وما هو البرهان على أنه مخلص؟ وما هو البرهان على أنه متجرد عن الهوى؟ وما هو البرهان على أنه بقدر الكلام الذي يقوله؟ البرهان هو أن يعزز قوله بفعله، وأن يصبر ويصابر، وأن يتحمل مسئولية الكلمة التي قالها مهما كلفه ذلك من تضحيات، فينبغي أن نضع ذلك في بالنا، وما لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتصور أبداً أن يقع إصلاح أو تعديل حقيقي. إننا نعلم جميعاً أن إصلاح خلل جزئي في مكان معين: في مدرسةٍ، أو شخص غير كفء، أو في أي وضع من الأوضاع مهما كان يسيراً، هذا الإصلاح يتطلب مجهوداً ضخماً، وقد ينجح وقد لا ينجح، فكيف نتصور أن إصلاح الأمة كلها في مجالاتها وأنشطتها المختلفة أنه لن يكلفنا أكثر من كلمة نقولها، أو ورقة نكتبها، أو برنامج نقدمه، أو شريط نسجله، هذا لا يمكن أن يكون. ثم إننا نعلم جميعاً أن الغش والفساد محرم في كتاب الله تعالى وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في أصغر الأمور، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يبيع تمراً فلما قلبه وجد أن أسفل التمر قد أصابه الماء، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا} كما في صحيح مسلم، فإذا كان الغش في زنبيل من التمر أو غيره حرام، بل يصل إلى أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله بأنه يخرج من سيماء المؤمنين وعلاماتهم وأوصافهم، فما بالك إذا بدأت الأمة كلها تمارس الغش في مؤسساتها ومجالاتها المختلفة وجوانبها! فحينئذٍ يكون السكوت عن ذلك نكولاً عن الحق، وتراجعاً وضعفاً وخوراً، ولا يمكن أن ينجو من العذاب قوم هذا شأنهم، إلا أن يصدعوا بالحق، ويصيحوا في الناس، فحينئذٍ تكون النجاة بإذن الله تعالى للجميع، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فإذا كنا مصلحين نجونا من عذاب الله تعالى، وإلا ألم بنا العذاب وحلت بنا الكارثة. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 6 الدعوة لله لا طلب الدنيا أيها الأحبة: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] ماذا يريد الدعاة؟ هل طلبوا مالاً، أو منصباً، أو وظيفة، أو رتبة؟ كلا والله! وإنني أقول والأمر يستدعي أن يقال هذا الكلام، وهو في نفوسنا يجمجم منذ زمن بعيد؛ لكن آن الأوان أن يقال: والله إن هذه الأشياء كلها ليس لها عندنا من وزن ولا قيمة، وليست في برنامجنا أو اعتبارنا ولا في ميزاننا كأشخاص، فلا يعنينا هذا الأمر قط، ولو أراده إنسان لعرف أن الطريق إليه سهل، فليس هو مكلفاً أو مؤذياً، بل الأمر كما قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان:57] {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} [الأنعام:90] فنحن ندعو إلى إصلاح أحوال الناس كلها، وإلى إتاحة المجال للدعوة إلى الله تعالى، والكلمة الحرة الصادقة المنضبطة بضابط الشرع، يقولها داعية، أو خطيب، أو إعلامي صحفي، أو كاتب، أو شاعر، أو ناثر، أو معلم، أو موظف، ندعو إلى أن يتمكن الناس من التعبير عن الحق الذي يعتقدونه، والمشاركة في الإصلاح لهذه الأمة التي تحيط بها الأخطار والفتن من كل جانب. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 7 الغرض الإصلاح لاحظ النفس، والحرية حق الجميع فالدعاة إلى الله تعالى يبرءون من جميع المصالح والحظوظ الشخصية، بل هم يتنازلون عن حقوقهم الخاصة من مرتبات أو أعمال أو أموال أو وظائف، فإنهم لا يطالبون بها ولا يرون أنها بالنسبة لهم قضية تستحق أن يثار حولها كلام طويل، وليس يضيرهم ولا يزعجهم هذا، وليست قضيتهم أن يوجد من يعتدي عليهم أو من يؤذيهم أو يسجنهم أو يتجسس عليهم أو يطاردهم، هذه أيضاً ليست هي قضية الدعاة أبداً. إنما الدعاة يطالبون بقضية تخص الأمة والبلاد من شرقها إلى غربها، تخص المنطقة الجنوبية وتخص المنطقة الشمالية، وكما تخص المنطقة الشرقية كما تخص المنطقة الغربية، وتخص المنطقة الوسطى، بل إنها تخص هذه البلاد وتعم كل مسلم يعنيه أمر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها. فالقضية هي قضية الامتثال لشريعة الله تعالى التي جاءت بالعدل وجاءت بالمساواة، وجاءت برفع الظلم، وجاءت بتحقيق المطالب الإنسانية، وجاءت بحفظ كرامة الإنسان وحقه، فلا يُعتدى عليه ولا يظلم ولا يبخس حقه، ولا يهضم، ولا يتجسس عليه، ولا يوقف بغير بينة وبغير نص، ولا يحقق معه إلا بنص، ولا يحق لأحد أن يتجسس عليه أو يتلصص على مكالماته، أو خصوصياته أو مراسلاته، أو محادثاته، إلى غير ذلك، ليس الدعاة بل الأمة كلها، كل إنسان مسلم ومواطن من المسلمين له هذا الحق. ولذلك فليست قضية الدعاة قضية شخصية وإنما هي قضية تهم الأمة كلها من أولها إلى آخرها، أما الدعاة فقد آن الأوان ليعلنوها للناس كلمة صريحة، العدو والصديق القريب والبعيد الحاكم والمحكوم من يعرفهم ومن لا يعرفهم: لا نسألكم عليه من أجر، لا نسألكم عليه مالاً. إن رأيتمونا يوماً من الأيام طلاب جاه، أو طلاب شهرة، أو طلاب منصب، أو طلاب مال، أو طلاب وظيفة، فاحثوا في وجوهنا التراب، واعتبروا هذا آية على عدم مصداقية ما ندعو إليه، نحن دعاة حق نرى أنه يجب أن يدعو إليه الجميع، ويجب أن يلتف عليه الجميع، ويجب ألا تسقط هذه الراية بحال من الأحوال، لأنها الراية التي تسعى إلى إعادة الحقوق إلى أهلها، سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً معنوية، مثل كون الإنسان يعرف ما يخصه، هو فرد من الأمة له الحق أن يعرف لماذا حصل كذا، ولماذا اتخذت الأمة هذا الموقف، ولماذا حاربت هذا، ولماذا سالمت هذا، ولماذا عادت هذا، وما هي الأشياء التي ستفعلها، هو فرد من الأمة من حقه أن يعرف ما يخصه، ولا يجوز أبداً أن يعتم عليه، أو يضلل، أو يعمى؛ بحيث يعتبر أنه قاصر العقل، والفكر، ليس على مستوى أن يدرك أو يفهم، ولهذا ينبغي أن تكون الأمور في ظنهم أسراراً وطلاسم لا يعرفها إلا نفر قليل، أما الباقون فمن حقهم أن يقرءوا -مثلاً- في الجرائد أو يسمعوا من الإذاعة، وما قرأوا أو سمعوا، فليعتبروا أن هذا هو الكلام الذي يجب أن يقوله حتى لو لم يؤمنوا به ولو لم يصدقوه، ويجب أن يرددوه ويجيبوا به. إذاً أين عقول الأمة؟ أين أفكار الأمة؟ أين المختصون؟ بل أين الآلاف المؤلفة من الدكاترة والفضلاء والأساتذة وطلاب الجامعات والمتخرجين الذين بذلت أموال طائلة من أجل إعدادهم وتعليمهم وتخريجهم؟ فما معنى -بعد ذلك- أن يحازوا ويحصروا ويقال لهم: إن عقولكم في إجازة مفتوحة، ليس من حقكم أن تفهموا، ولا أن تسألوا، وتناقشوا، وتشاركوا، ولا أن تشيروا، هذه مصادرة لحقوق معنوية كبيرة للأمة لأن الإنسان إنسانيته ليست بجسمه، كما قال القائل: أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان وقول الله أبلغ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] . الجزء: 85 ¦ الصفحة: 8 المشاركة حق كل فرد وليس الصواب حكراً على أحد فالله تعالى كرم الإنسان بالعقل، فلماذا نجعل هذا العقل في إجازة مفتوحة؟ ونفترض أن جماهير الناس ليست على مستوى أن تفهم الأحداث، ولا أن تشارك فيها أو أن تشير!! من أين جاء هذا المعنى الغريب عن الأمة التي رباها النبي صلى الله عليه وسلم على المشاركة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصعد على المنبر فيتحدث مع الناس في أي قضية من القضايا، يصعد المنبر -مثلاً- فيتكلم في حادثة الإفك، يصعد المنبر ويقول: أشيروا عليَّ أيها الناس، في قضية بدر أو أحد، في المعارك التي تخوضها الأمة، في المواقف المختلفة، حتى في قضية توزيع المال، عندما يتكلم الناس يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: {يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟! ألم أجدكم ضلالاً} إلى آخر الحديث المعروف وهو في الصحيحين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه من بعده وخلفاؤه الراشدون، والخلفاء المسلمون يعتبرون الأمة مسئولة معهم كما يحتاجونها في حال الشدة، فلذلك كانوا يشركونها في مثل هذه الأمور ولا يصادرون رأيها أو قناعتها. نعم لا بد من ضوابط لذلك، ولا بد من قنوات؛ لكن أين هذه القنوات، وأين هذه الضوابط، وأين هذه الفرص التي تجعل للناس على الأقل ولو قلنا لنخبة من الناس مجالاً أن يعبروا عن رأي أو اجتهاد قد ينفع الله به، وقد يكون سبباً في دفع أذى أو ضر عن البلاد والعباد؟! إن الله تعالى لم يجعل الصواب حكراً على فئة بعينها ولا شخص بذاته، حتى ولو كان عالماً جليلاً، أو ذكياً نبيلاً، أو عبقرياً فذاً، أو شهيراً خطيراً، فإنه قد يوجد الحق والرأي السداد عند عامة الناس فضلاً عن خاصتهم. إذاً هذه الحقوق التي يمكن أن نعبر عنها بالحقوق المعنوية إضافة إلى الحقوق المادية التي يتكلم الناس كلهم عنها من تجار ومزارعين ومتوسطين، وموظفين وغير هم ممن حرموا كثيراً من حقوقهم، أو سدت في وجههم أبواب الوظيفة، أو سدت في وجههم أبواب العمل الحر الذي يسددون به ديونهم، أو ينفقون به على أزواجهم وأولادهم، أو على الأقل ينفذون به ما أباح الله تعالى وأحل لهم: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] فلماذا يمنعون هؤلاء من ذلك في الوقت الذي تجد الكثير منهم قد يجدون أنفسهم محتاجين أو مضطرين فيما يعتقدون إلى أن يستدينوا من البنوك بفوائد ربوية، والله تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] لكنهم يرون أنه ليس لهم مخرج إلا ذلك، والواقع أن المخارج المباحة كثيرة. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 9 الأخطار المحيطة بالأمة تقتضي الإفصاح والإصلاح إنه لم يعد يخفى على أحد أن مجتمعنا هاهنا ومجتمعات المسلمين عامة أصبحت جزيرة في بحر متلاطم، فالأخطار كبيرة جداً، واليوم كنت أقرأ في بعض الجرائد أن الرئيس الأمريكي يستقبل من يسميهم ببذور السلام، وهم مجموعة من أطفال وصبيان العرب واليهود يزيدون على مائة أخذوا في جولة طويلة في أمريكا، يربون على مسخ جميع ألوان التميز والاستقلال والاعتقاد والانتماء؛ ليكونوا قوماً -فيما يعتقدون ويعلنون- ليس بينهم عداوة كما يزعمون ويعبرون، هم بذور السلام، وسيكون العداء بينهم قي المستقبل -كما يعبر الرئيس الأمريكي- مجرد ذكرى قديمة نسوها ومضت عليها الأيام والليالي، هذا جانب. جانب محاولة تحويل المنطقة إلى سوق للبضائع اليهودية مثلاً، سواء أكانت هذه البضائع بضائع فكرية ثقافية، أم إعلامية، أم أمنية، أم تجارية، أم غير ذلك. جانب تحويل بلاد المسلمين إلى مجرد أتباع ضعفاء لا يعلم بهم، ولا يقام لهم وزن في هذا المعسكر أو ذاك، لهذه الدولة أو تلك. جانب تحويل المسلمين وجعلهم عبارة عن قطيع يساق إلى مرعاه، ولا يدري إلى أين يسافر، وليس من حق الواحد أن يعبر ولا أن يتكلم ولا أن يبدي رأيه، بل عليه أن يبصم على كل شيء، ويؤيد كل شيء، ويوافق على كل شيء، وألا يعترض، وإلا فإنه يكون حينئذٍ قد وضع نفسه تحت طائلة العقاب والتأديب والتشهير والأذية وتسلط الأجهزة الأمنية إلى غير ذلك مما هو معروف. وهذا الطريق صد عن سبيل الإصلاح، ويراد به وضع العراقيل والعقبات أمام أي إصلاح؛ سواء أكان إصلاح فرد أم تيار بحيث إن الناس يرون أن الطريق صعب وشاق ويرجعون -كما يقال- وأول الدرج، من أول السلم. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 10 الكبت للحريات وتكميم الأفواه يتحول حقدا ً إذاً المهمة هي مهمة إصلاح أوضاع الناس، حتى أوضاع الناس الدنيوية، فالكثيرون يتحدثون في مجالسهم وخصوصياتهم عما يشعرون به من فقدان العدل الاجتماعي، ومن سحق كثير من الطبقات، وأنهم لا يجدون حقوقهم في المال العام، في الوظائف، وفي المخصصات، ولا يجدون حقوقهم في الفرص التي هي في الأصل حقوق مشتركة للأمة يتساوى فيها الجميع، يشتكي من ذلك المزارع، ويشتكي منه الموظف الصغير والمتوسط، ويشتكي منه الطلاب، والمتخرجون، ويشتكي منه ألوان وأصناف من الناس، وكثير من رجال البادية، وكثير من أهل المناطق المختلفة المتباينة وغيرهم، فالجميع يتحدثون عن ذلك. فبالله! من هو المستفيد من أن تظل هذه الأشياء مجرد مشاعر دفينة في النفوس تتحول إلى أحقاد بغضاء وتدمير للمجتمع، دون أن تعطى فرصة على الأقل للتنفيس؟! ماذا يضرك أن تعطي الناس مجالاً للتنفيس عما في نفوسهم؟ ربما شعر لو تحدث أنه وضع عن ظهره حملاً ثقيلاً وعبئاً جليلاً ينوء به، وما يضيرك أن يتحدث عنك الناس؟ بل ماذا يضير أن يتحدثوا ويأخذ من كلامهم النافع المفيد ليكون نبراساً؟ فإننا لا نعتقد أن أحداً يملك أن يصلح الأمة وهي فاسدة أو نائمة، بل ولا أحد يستطيع ذلك لو أراده، فضلاً عن أنه لا يمكن أن يريده إلا دعاة الإصلاح الذين يشهد الناس لهم بذلك، أما مجرد أن أدعي -أنا أو غيري- ذلك، فهذه دعوى لا تصدق ولا تكذب إلا من خلال الواقع الذي يمكن أن يحكم لها أو عليها. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 11 الدين شامل للحياة لا خاص بالمسجد على كل حال، هذا الموضوع، باختصار شديد هو قضية الدعاة، قضية الإصلاح بمعناه الشامل، الإصلاح الشرعي الديني والدنيوي، نحن نعتبر الإصلاح الدنيوي جزءاً من الإصلاح الديني، فالدين ما جاء ليحكم المسجد فقط، بل الدين جاء ليعلمنا أن الاقتصاد ينبغي أن يكون بصورة معينة، وأن المال ينبغي أن يوظف بطريقة صحيحة، وأن الصناعة ينبغي أن يبرز فيها المسلمون، والإعلام، والتعليم، والحياة الاجتماعية أيضاً. فالدين جاء ليحكم الحياة، وليعلم الإنسان من يوم يولد كيف يسمي، بل قبل ذلك عملية اللقاء والاتصال بين الزوجين كيف تتم من أجل ضمان صلاح المولود كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى علمه كيف يوسد الإنسان في قبره، وأيضاً جاء الدين بتحديد الطريقة في الدفن، وما بين ذلك من حياة الفرد رجل أو امرأة كبير أو صغير أب أو أم، في المجالات الاجتماعية على مستوى الأسرة، وعلى مستوى البلد والمدينة، وعلى مستوى الجماعة، والطائفة، وعلى مستوى الدولة، والأمة: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9] . إذاً هداية القرآن جاءت لتهيمن على الحياة، لا ليفتتح البرنامج بالقرآن ويختم به فحسب، ولا من أجل أن نزين به مكتباتنا، أو نزين به مساجدنا، ولا من أجل أن نقرأه فحسب -وإن كان ذلك مطلوباً- لكن جاء حتى نتمثل هدايته تميزاً لأمتنا بكل مجالات الحياة يوم أن تفاخر الأمم بأديانها ومذاهبها وكتبها وتراثها، فإن تاريخنا هو هذا القرآن الذي أنزله الله تعالى رحمة وشفاء وهدى ونوراً وبياناً لنا، فأعرضنا عنه أيما إعراض، واكتفينا بتلاوته إن تلوناه، كما قال الإمام الحسن البصري رحمه الله: [[نزل القرآن ليعملوا به فاتخذوا تلاوته عملاً]] . الجزء: 85 ¦ الصفحة: 12 الإصلاح صعب والخطأ وارد نعم. نحن ندري أن الإصلاح يحول دون شهوات الكثيرين من الناس، وأن طريق الإصلاح ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق مفروش بالأشواك والمتاعب؛ لكن لماذا تلومون قوماً اختاروا هذا الطريق ورأوا أن يسلكوه، وسألوا الله تعالى أن يثبتهم عليه حتى النهاية، وهم يحرصون على الاعتدال قدر المستطاع، ومراعاة الحكمة والقول الحسن بقدر ما يملكون، ولا يعصمون أنفسهم، ولا يبرئون أنفسهم من أن يكونوا كغيرهم عرضة للاجتهاد الذي يخطئ ويصيب في قول أو فعل، ورحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا، بل حتى العدو إذا أهدى عيباً فيجب أن نفرح به وكما قيل: عداتي لهم فضل عليّ ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هم بحثوا عن سوءتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا وأقول: إن مهمة الإصلاح ليست وقفاً على الدعاة الشرعيين! بل يجب أن يكون الإصلاح شأننا جميعاً: أساتذة الجامعات المختصون سواءً أكانوا اقتصاديين، أم تربويين، أم في مجال الفيزياء، أم في مجال الكيمياء، أم في مجال الطب، أم في مجال الهندسة، أم في مجال التصنيع، أم في أي جانب من جوانب الحياة، إعلاميين أو تعليميين أو معلمين أو غير ذلك، يجب أن ندري أن الإصلاح مهمة الجميع ومسئولية الجميع، ومجالات الحياة المتنوعة وميدانها الفسيح يتطلب كوادر ضخمة من أبناء الأمة المخلصين، الذين يملكون التصور السليم لسبل الإصلاح، ويملكون العزيمة والإرادة القوية لتنفيذ هذا التصور بقدر المستطاع وبقدر ما تسمح به الظروف. أيها الإخوة: ليس عندنا سر ولا أمر خفي، بل كل ما لدينا قلناه في الأشرطة وتحدثنا فيه على الملأ علانية، وهذا هو سبب ما قد نجده ونلقاه من مضايقات؛ لأننا قلنا ما نعتقد. نعم. حاولنا أن نتلطف في الأسلوب، ونهذب العبارة، ولا نهجم على الموضوع بشكل مباشر وفق اجتهادنا الخاص؛ لكننا قلنا كثيراً مما نحب أن نقول، ومما نعتقد أنه يجب أن يقال، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 13 انفتاح العالم ثقافياً ونحن أولى أيها الإخوة: إنني أتعجب من حالنا وحال الناس في هذا الزمان، العالم اليوم كله مفتوح ثقافياً، والحادثة تجري في الشرق فتسمع في الغرب، يعطس الرجل في واشنطن فيشمته آخر في موسكو، فالعالم قرية واحدة -كما يقال. الاتصال: أصبح هناك ثورة في الاتصالات، فلماذا -والعالم مفتوح ثقافياً- نقف نحن في مكاننا، وكأننا لم نستفد من حركة التاريخ ومن التغيرات الجذرية والجوهرية التي وقعت في العالم كله، لقد انتهى عالم بأكمله في امبراطورية الاتحاد السوفيتي البائدة، كان يقوم على الكبت والإرهاب وحكم الـKGB، وعلى إلغاء الدساتير، وتعطيل جميع الأمور باعتبار أن الحزب الواحد تتلخص فيه الحياة كلها. لقد انتهى ذلك العالم ومضى إلى غير رجعة، ودول العالم كلها اليوم أصبحت تتفاخر في كسب رضا شعوبها، وكسب قناعتهم، وأنها تحقق لهم مطالبهم وتحادثهم بشكل واضح وصريح، ويرى هؤلاء أن من حق الأمة عليهم أن تتحدث عن بياناتهم حتى إنني أقرأ هذا اليوم في الجريدة خبراً أن رئيس فرنسا صحته تتدهور وحتى الآن لم يصدر تقريراً ومن المتوقع أن يصدر تقريراً في تاريخ كذا وكذا، فهذا تقريراً للأمة عن قضية صحة الرئيس للأمة، وهي قضية شخصية وإن كان لها أبعاد، يرون أنفسهم ملزمين أن يصدروا تقريراً له، قدر لا بأس به من المصداقية للأمة، وأن لا تحجب الحقائق عنهم بحال من الأحوال، فضلاً عن الانفتاح الذي نشهده قريباً وبعيداً منا، فلماذا نظل نحن وكأننا ضد حركة التاريخ وضد طبائع الأشياء؟ لماذا نجعل الحياة أسراراً غامضة لا يفهمها الناس مع أنها في الواقع أمور بسيطة ويسيرة؟ نعم. قد يكون هناك أمور خاصة لا يفهمها كل أحد، وهذا شيء طبيعي، حتى في مجال العلوم الشرعية؛ لكن لا يمنع أن نبسط ونسهل بعض العلوم ليفهمها عامة الناس، فلا بد من تعليم الأمة الأحكام الضرورية التي لا بد أن تفهمها، وقل مثل ذلك في جوانب الحياة الأخرى. فاليوم التعليم نفسه قد يعطي الطالب مبادئ عامة، حتى لو كان طالباً متخصصاً قد يعطى مبادئ عامة في كل العلوم الأخرى باعتبار أن هذا قدر لا بد منه، فلماذا لا نعتبر حتى في الأمور العملية والواقعية، وأوضاعنا المالية، وعلاقاتنا وخصوصياتنا وأمورنا وحاضرنا، ومستقبلنا، والتحديات التي تواجهنا؟ لماذا هذه الأشياء لا تسهل وتبسط ليكون للناس قدر منها ليفهموه، فيستطيعوا أن يتجاوبوا معه، ويشاركوا فيه، ويدركوا أن قضاياهم مطروحة، وبشكل واضح؟ الجزء: 85 ¦ الصفحة: 14 ماذا نريد وبماذا اتهمنا؟ هذا سؤال لابد أنه سيطرح، وسيتساءل عنه الكثيرون، فأقول لكل من يسأل: والله الذي لا إله غيره، إنني لا أعلم تهمة إلا أننا نتحدث وفق القناعات الشرعية المتكونة لدينا بالصورة التي لا بد أن أكثر أو كل من سمع هذا الشريط ربما سمع شيئاً منها قل أو كثر نتحدث في توجيه الأمة، وقضاياها، ونحاول أن نكون مدافعين بقدر ما نستطيع، نعم. أصواتنا ضعيفة، وكلماتنا قليلة، لكن نحاول أن نكون مدافعين عن بعض حقوق الأمة، ونحاول أن نصحح ما يمكن تصحيحه، وأن ندافع عقاب الله وعذابه الذي لا بد أن ينزل بهذه الأمة إذا لم تستدرك نفسها وتصحح أوضاعها، لأن هذا هو الناموس، والسنة الإلهية. والعذاب الإلهي ليس شرطاً أن يكون ناراً تنزل من السماء، أو بركاناً يخرج من الأرض، بل قد يكون أزمة اقتصادية تخنقنا، وأنتم تسمعون التقارير في الشرق والغرب الآن عن الأوضاع المتردية لدول الخليج واقتصادها، وربما يتضرر الصغار قبل الكبار. قد يكون العذاب الإلهي أن يلبسنا الله شيعاً ويذيق بعضنا بأس بعض، فيسلط بعضنا على بعض، فنعود كما كنا أمماً وشعوباً وأحزاباً بدلاً من أن تتعارف وتتآلف وتتآخى في إخاء الدين والإيمان والإسلام؛ وتتحول إلى أمم يحارب بعضها بعضاً، ويبغض بعضها بعضاً. وقد يكون العقاب الإلهي شيئاً آخر لا يخطر في بالنا الآن ولا نتصوره، لكن قد يسلط الله علينا عدواً من سوى أنفسنا يأخذ بعض ما في أيدينا -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- إذا وقعت المنكرات والمعاصي ولم يوجد من ينكرها أو يغيرها. إن المنكرات المعلنة لا بد أن تنكر بصوت جهوري علناً؛ حتى يعلم الناس أن الدين لا يرضى ذلك ولا يقره، وأن أهل الدين لا يتحملون مسئولية هذه الأشياء، ولا يتحملون مسئولية الظلم الذين يقع -مثلاً- أياً كان مصدره أو أياً كان موقعه، ولا يتحملون مسئولية مصادرة حقوقهم الخاصة، ومسئولية الحيلولة بينهم وبين مالهم من الفرص والوظائف والأعمال والحقوق، فلابد أن يكون الإنكار علانية في هذه الأمور المعروفة المشهورة التي لا تخفى على أحد كائناً من كان. ولذلك لما استدعينا إلى وزارة الداخلية قبل سنة، أنا وفضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي وكتبنا خطاباً للشيخ عبد العزيز بن باز، لم يكن هناك من أمر يوجه إلينا، إلا أننا تكلمنا مرة عن الربا وأنكرناه، وتكلمنا مرة عن السلام مع اليهود واستنكرناه، وتكلمنا مرة عن بعض المظالم الاجتماعية الموجودة وأنكرناها، ومرة عن تسلط بعض الأجهزة على الناس وأنكرناها، وعن حقوق المسلمين وما لهم، وأنه لا يجوز ترويعهم ولا أذيتهم، وما أشبه ذلك من الأمور التي جاء بها الدين ولا ينكرها أحد من العقلاء، هذا هو ما اتهمنا به. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 15 أصحاب التشويشات يبقى أن هناك من قد يكون لهم تهويشات أو تشويشات لأنني أعتقد أن هناك من سيقولها، ولا أرى مانعاً أن أشير إليها، فإن هناك من يريد أن تظل الأمة في صمت تام، فإذا تكلم أحد قال: هذا يريد سلطة، أو يريد منصباً، أو حكماً، وليس هذا أمراً جديداً: {أتواصوا به} فهذا أمراً قديم: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] ففرعون قال مثل هذا لموسى: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] وقريش قالت هذا للرسول صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] . إذاً كل داعٍ من السهل أن يتهم، والتهم جاهزة معلبة، فهذا يُتهم وأنا أتُهم والثاني والثالث، والأمر طريق مفتوح، ليس هناك رقيب على أفواه الناس، وفي مثل هذا المجال الأمر واسع، ولكن يبقى السؤال إذا كان هؤلاء يقولون شيئاً فليعلنوه للناس، أعندهم أدلة أو وثائق؟ أعندهم شيء يدل على أن لنا من ذلك أكثر من دعوة الإصلاح؟ وأكثر من محاولة تعديل العوج الذي يشتد ويتفاقم في الأمة؟ إذا كان شيء من ذلك فنحن نطلب أن يبين للأمة ليعرفه الخاص والعام، ويكون الناس على بصيرة من أمرهم. أيها الإخوة: ليعلم الجميع ممن يستمع إلى هذه الكلمة أننا -أستغفر الله ثم أستميح إخواني من دعاة الإسلام عذراً إذا تكلمت بلسانهم في هذه الفقرة- أننا معاشر دعاة الإسلام، دعاة أمن وسلام، الأمن فالسلام والخير والرفاهية التي يتبحبح فيها المسلمون لنا فيها سند، ومتى وجدت فنحن بعض المستفيدين منها، فلا يسرنا أبداً أن تتحول بلاد المسلمين كلها ولا هذه البلاد إلى بلاد فتن وحروب، ولا أن يختل فيها الأمن، ولا أن تزول وحدتها، بل نحن دعاة أمن ووحدة واستقرار وسلام ولا يحق لأحد مهما كان أن يدَّعي أنه أحرص على الأمن والوحدة والسلام من دعاة الإصلاح، نعم قد يختلف الأسلوب، فنحن من أسلوبنا وطريقتنا وعقيدتنا أنه من أجل المحافظة على أي نعمة أو خير حبانا الله به، ومن أجل طلب المزيد، ومن أجل مدافعة عقاب الله؛ يجب أن نكون جميعاً أيدياً تغسل هذا المجتمع، وتصحح أوضاعه، وتستدرك عليه أولاً بأول، تنكر المنكر في وقته ولو أدَّى الأمر إلى بعض الضغوط، والاستمرار والإصرار والصبر والمصابرة حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، وحتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. نعم، نعتقد أن هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره لحفظ أمن هذه البلاد وحفظ استقرارها ووحدتها، أليس الجميع مؤمنين بالقرآن يرتضونه حكماً بينهم؟! إذاً فلنسمع: يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:62-63] فنصت الآية على أن الله تعالى هو الذي ألف بين المؤمنين بالإيمان، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه يقال له: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] فنقول لكل إنسان، ولكل تاجر أو ثري، ولكل عالم وحاكم، كما قال الله لرسوله: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63] إنما تؤلف قلوب الناس بالعدل، والإيمان، وتؤلف قلوب الناس بالصدق، حفظ حقوقهم، مشاورتهم، وتؤلف قلوب الناس بالصبر عليهم وحسن التعامل معهم. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 16 فوائد السجن ومسئولية كل فرد أما السجن فلا يعنيني في قريب أو بعيد، فأمره سهل وأتذكر قول الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يشعر الإنسان كأنه يزور بلداً لأول مرة، وبلد تزوره لأول مرة فيه العجائب والغرائب والمفاجآت، والأمور التي تستفيد منها وتضيفها إلى معلوماتك، فتجدد إيمانك وعقلك، ويقينك، فرصة أن تهرب من زحام الناس وكثرتهم وحطمتهم وأسئلتهم، أن تهرب وقتاً اضطرارياً تخلو فيه بنفسك، ثم تخلو بربك، وتجرب نفسك، وصبرك وعبادتك، وإيمانك وقربك من الله وصدقك، وقدرتك على تحمل تبعة ما تدَّعيه أو تقوله من إصلاح أو تغيير في أحوال الناس، فهو جزء من الطريق، بل له فوائد كثيرة جداً، فهو ضريبة الحق، والسنن الجارية على من كان قبلنا، وهو الطريق إلى تصحيح الأوضاع ولا شك في ذلك، بل إنني أطمع وأرجو أن يكون ذلك تفجيراً للطاقات الكامنة في الأمة، لأننا نحتاج إلى أعداد غفيرة من الدعاة والمصلحين والمجاهدين في هذا السبيل، من الذين يصبرون ويصابرون ويرابطون ويراقبون الله لعلهم يظفرون بالفلاح في الدنيا وفي الآخرة. الأمة تحتاج إلى أعداد كبيرة، ونريد أن تخرج هذه المواهب، وأولئك الرجال، وأن يقوموا بدعوتهم ويصححوا أوضاعهم، ويجتهدوا في الإصلاح بقدر ما يستطيعون. فالقضية ليست قضية شخص بعينه فلان أو علان عالم أو داعية أو مسئول، بل القضية قضية الأمة بكاملها. فيا رجال الأمة! يا دعاة الأمة! يا شباب الأمة! يا خبراء الأمة! أياً كنتم وأياً كانت مستوياتكم، كلكم جميعاً مطالبون أن تكونوا دعاة إصلاح، ودعاة تغيير نحو الأفضل، وتصحيح لكل فاسد، واحتساب على جميع ألوان المخالفات الشرعية، سواء أكانت مخالفات تتعلق بعلاقة الناس مع ربهم، أم علاقة بعضهم ببعض حكاماً أم محكومين، كباراً أم صغاراً، رجالاً أم نساء. يجب أن تتفجر طاقات الأمة ومواهبها، وينبغي أن يخرج للأمة رجالها، فالله تعالى لم يجعل دينه رهناً لأحد، حتى شخص محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] أما من دونه من الناس حتى لو كانوا علماء أو كباراً، فالأمر لا يتعلق بهم، أما أمثالنا فضعفاء لا نقدم ولا نؤخر لكنها كلمة استدعاها المقام، فهذا الحدث وقبله أحداث كثيرة وبعده؛ تؤكد المعنى الذي لا زلنا ندندن حوله منذ سنوات وهو أن مهمة الإصلاح ينبغي أن لا تكون مرهونة بأفراد يذهبون أو يجيئون يثبتون أولا يثبتون يصبرون أو لا يصبرون يحيون أو يموتون يخطئون أو يصيبون، بل مهمة الإصلاح ينبغي أن تكون الأمة كلها قيّمة عليها، حتى هذا المصلح إذا أخطأ يحب أن تعترض عليه الأمة وتصحح له خطأه، فلا أحد عندنا معصوم، ولا أحد مقدم من البشر خلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى، أما الأمة فلا ينبغي أن ترهن نفسها في شخص بعينه، والأمة -والحمد لله- موجودة وحية، ولهذا ينبغي أن تمارس مهماتها وأدوارها وأعمالها وصلاحياتها دون أن ترهن نفسها لرأي فلان أو علان، أو لقول زيد أو عبيد من الناس، فهو يعبر عن رأيه وقد يكون خطأ أو صواباً، مجتهداً أو غير مجتهد، لكن ليست الأمة ملزمة بهذه الآراء، كل إنسان ينبغي أن يجتهد ويسعى في الإصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله تعالى بقدر ما يستطيع، وهو مسئول بحسب إمكانيته واجتهاده، وبحسب ما أراه الله تعالى. نعم. كم في السجن من نِعَمْ، ومن مواهب، وكم فيه من بركات وخيرات -نسأل الله تعالى بحوله وقوته وقدرته وعظمته وجلاله وكرمه أن لا يحرمنا منها-. نعم. ليست العبرة بكبر المساحة أو صغرها، أو التكييف أو المأكل والمشرب، أو نوع المعاملة، بل العبرة بإفاضة الله الخير عليك، فإن أهل الكهف كانوا في كهفهم، ومع ذلك يقولون: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] تصور هذا الكهف الصغير تنتشر فيه رحمة الله تعالى، والنشر يدل على معنى واسع مع أنه في كهف ضيق، لكن بركة الله تعالى لا حد لها، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء -نسأل الله أن يشملنا بعفوه ورحمته- إذاً المسألة مسألة دين ودعوة، واعتقالنا جزء من مشكلة ضخمة هي -أولاً- مشكلة جميع المعتقلين منذ سنين طويلة، فإنه ليس أحد يعتقل بموجب نص صريح يبيح اعتقاله، بل لا أبالغ إن قلت: إن كثيراً من المعتقلين قد يدخل ويخرج وهو لا يدري لماذا دخل ولا لماذا خرج!! أما الناس فمن باب أولى أيضاً ألا يدروا لماذا دخل فلان ولا كيف خرج. فهذه قضية يجب أن يكون لها حل، وإن كان الجانب الشخصي فيها -كما ذكرت- لا يعنيني على كل حال، فالأمر أيضاً أوسع من ذلك، والمسألة مسألة دين، ودعوة، وإصلاح المجتمع بكل جوانبه -كما سبق أن تحدثت وأطلت- هذه بعض المعالم والأفكار والخواطر التي جالت في ذهني فأحببت أن أفيضها لإخواني، قد ينقصها الترتيب والإعداد، لكنني أحببت أن أبوح بها أمانة أرسلها إلى كل من يريد أن يعرف هذه القضية، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخير الدنيا والآخرة، وأن يجعل ما كتب لنا خيراً في الدارين إنه على كل شيء قدير. ولا يفوتني قبل أن أنهي هذه الكلمة أن أوصي جميع إخواني الذين يستمعون إلى هذا الكلام بالدعاء الصادق المخلص لإخوانهم، وأنا من إخوانهم أيضاً، فأوصيهم بالدعاء لشخصي الضعيف، ولكل إخوانهم في الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 17 الأمن والاقتصاد مطلب آخر: قضية الأمن، الأمن مطلب شرعي واجتماعي لكل الأمم الشعوب، بل الإنسان مفطور على طلب الأمن، بل حتى الحيوان، والله تعالى يقول: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3-4] . إذاً الأمن من الخوف إنما يكون بالإيمان، ولهذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الراكب يسير من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، وذلك إذا استقر أمر الدين، وأطاع الناس شريعة الله تعالى وانصاعوا لها. والاستقرار الاقتصادي، والبحبوحة الاقتصادية، وثراء المال لا يأتي من النفط فحسب أو من الثروات المادية فحسب وإن كانت هي المصادر المباشرة، لكن إذا لم نتصور الإيمان، والنزاهة، والعدالة، فقد يتحول المال أو تتحول الثروات إلى باب للمنافسة وللأحقاد، وباب للتباغض التباعد، ولهذا قال الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش:3-4] والله الذي لا إله غيره إنه لا استقرار لهذه البلاد، ولا وحدة لها، ولا سلامة لها من عقاب الله تعالى ومن عذابه ولا لأي بلد إسلامي إلا بالانصياع لشريعة الله والرجوع إلى الكتاب والسنة، والله تعالى يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وكل من لا ينصاع لأمر الله والرسول ولحكم الشريعة فليس بمسلم، وكل المسلمين يقولون على الأقل بألسنتهم أنهم يقبلون حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم عند التنازع: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فلماذا لا نرد إلى القرآن؟! لماذا لا نرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى كلام أهل العلم المعتمد في كل ما شجر بيننا من القضايا؟! لماذا نجعل القضية ظنوناً واتهاماتٍ ورمياً بالغيب من مكان بعيد؟! ألسنا أمة واحدة؟! ألسنا نعلم اليوم أن الأيدي تمد لليهود للسلام معهم، وأصبح من لا يؤيد قضية السلام متطرفاً أصولياً يجب محاربته عند الكثيرين؟! أليست الأيدي تمد للشيوعيين؟ أليست الأيدي تمد للنصارى؟ أليست الأيدي تمد إلى العلمانيين؟! أليست الأيدي تمد إلى كل فئات الدنيا؟! ويرى أن من الأصلح والأنسب أن يكون هناك نوع من الحوار والانسجام، فلماذا نحاور أنفسنا أولاً؟! لماذا لا نتحدث مع أنفسنا أولاً قبل أن نتحدث مع غيرنا؟ إنه لا معنى أن نحادث البعيدين في حين أن المجتمع لم يستطع أن يحادث نفسه بشكل صحيح، ولا أن يرد إلى الله وإلى الرسول كما هو مقتضى عقيدته ومقتضى إيمانه، ومقتضى شريعته التي يتمدح بها صباح مساء. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 18 قصيدة الحامد (منعوا الكلام) وقبل أن أترك المجال أحب أن أشرك الإخوة معي في هذه القصيدة التي قالها الدكتور عبد الله بن حامد الحامد، بعد سجنه؛ لأنها تعبر عن جانب من المعنى الذي أريده، عنوانها: (منعوا الكلام) منعوا الكتابة والكلام فاصمت وقل للصمت عاش إن اللسان إذا سعى في النار يشوى كالفراش فاجعل لسانك أرنباً متدثراً جوف الخياش فالرأي صار رذيلة تخفى وتلقى في القشاش إن الكلام جريمة ياويل مرتكب النقاش فإذا تنفس شاعر كالقدر فوق النار جاش وإذا تجرأ عالم أو كاتب قطعوا المعاش ورموه في سجن البلا وكأنه بعض الخشاش ما بين إبرة عقرب أو حية ذات انتهاش لبس القيود أساوراً وخلاخلاً يا للرياش من دون حكم محاكمٍ هل ينتف الطير المراش لو أن محكمة جرت علناً قضت ألا يناش السجن للعلماء أم للمجرمين به افتراش الموت حل بأمتي كبِّر وقل للموت عاش من سوف يوقظ أمة تبني على الريح العشاش؟ قد خدرت إحساسها تدهى فلا تبدي اندهاش ضاعت إذا علماؤها ملئوا الزنازن كالكباش أفلا كلامٌ ثاقبٌ لمثقفٍ لله خاش ليس المعافى أطرشاً خبز العلوم له معاش أو منكراً في قلبه قد كح في جيب القماش بلسانه أقفاله شدت وبعينه والأذن شاش إن المعافى سالمٌ في يوم غاشيةٍ وغاش فالعلم ليس سلالماً للرزق أو لبس الرياش فالعلم ليس كُتيّباً يزهو بمتن أو حواش العلم تضحية إذا شغل المداهن بالمعاش من يبغ نصحاً للورى بسط على الحسك الفراش يا من يروم نمونا لسنا قطيعاً من مواش تنموا بنفط إن جرى أو من حبوب في خياش إن الهواء نمونا برئاتنا منه انتعاش بصحافة وخطابة تجلو الطريق لكل ماش فاسكب لنا حرية إنا إلى الشورى عطاش من يعطها فهو الذي للدين والأمجاد حاش ما نال قوم عزةً والرأي فيهم ذو ارتعاش قولوا لمن قطع المعاش الله قد رزق الخشاش إن الحياة مبادئ ما عاش من عبد المعاش قولوا لمن قطع المعاش احذر خديعة كل واش قد رام كل مثقفٍ هدباً بأطراف القماش قد ظن كل نصيحةٍ غشاً به ذو الحقد جاش إن الكلام جهادنا والرأي للشوك انتقاش وكلامنا رأي بدا لا بالشقاق ولا الهراش فإذا بدا لك صائباً فاكسبه فهو لكم رياش وإذا بدا لك مخطئاً عالجه في مشفى النقاش فالرأي يَعْنُفُ في الدجى والنور للعنف انكماش عذراً إذا صف الهوى قد لامس الجرح المُعاش أنا لن أقول قصيدة أرجو بها وصل المعاش لكن أروم نصيحةً للطيبين بها انتعاش الجزء: 85 ¦ الصفحة: 19 الخاتمة وختاماً أحب أن أختم بقضيتين مهمتين: الجزء: 85 ¦ الصفحة: 20 الإصلاح عام لكل بلد إسلامي القضية الثانية: أن مهمة الإصلاح التي نستهدفها ويجب أن يستهدفها جميع المخلصين، ليست مقصورة على بلد بعينه ولا على مجال بخصوصه، بل ينبغي أن نستهدف العمل على إصلاح الأمة في كل مكان بقدر المستطاع، سواء في الجوانب العلمية، أو في الجوانب العملية. هذه المهمة ينبغي أن ينتدب لها أقوام من بيننا نذروا أنفسهم لهذه المهمة وصبروا عليها، ونحن نعتقد أن جزءً من مسئوليتنا يتمثل في مخاطبة الأمة كلها، بقضاياها العامة، والوقوف مع المسلمين في ملماتهم ومصائبهم ونكباتهم، وتعريف إخوانهم المسلمين بقضاياهم، والعمل على إحياء معاني الأخوة الدينية بين المسلمين، وإزالة جميع المظاهر السيئة من حياتهم أو تفكيرهم. هذا هدف عام، وهو يتطلب حضوراً علمياً حقيقياً في نوادي المسلمين وأماكنهم وتجمعاتهم وعقولهم بقدر المستطاع، وبقدر ما تسمح به الآلة الإعلامية التي يملكها دعاة الإسلام اليوم. نحن نعيش مع إخواننا المسلمين في الصومال أو البوسنة أو طاجكستان أو مصر أو بلاد الشاموفلسطين وغيرها كأننا معهم لحظة لحظة، وساعة ساعة، ونعتبر أن هذا جزء من مسئوليتنا، وأنه خيانة للأخوة الدينية أن نتخلى عنهم أو نتركهم ونسلمهم لعدوهم، أو نهمل شئونهم وقضاياهم، وإذا لم نستطع أن نمد لهم يد العون، فلا أقل من أن نلقي الضوء على قضيتهم، أو نتحدث عنهم ولو بكلمة طيبة تداوي جراحهم، وتهدئ مشاعرهم، وتشعرهم بأن هناك من إخوانهم المسلمين من على الأقل يسمع صياحهم ويتأثر بذلك، ويحزن لهم، ويعبر عن شعوره تجاه قضاياهم وأزماتهم ومشكلاتهم. وبحمد الله تعالى تحقق من ذلك شيء كثير، ونحمد الله عليه، ونسأله المزيد من فضله، كما أسأل الله تعالى أن يأتي اليوم الذي يتمكن فيه دعاة الإسلام من أن يزوروا إخوانهم ويجلسوا بين أظهرهم، ويحادثوهم ويتعرفوا على مشكلاتهم عن كثب فيساعدوهم في حلها مساعدة مباشرة حتى تتحقق الأخوة الدينية الشرعية بين المسلمين في كل مكان، كما قال الله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ} [التوبة:71] نسأل الله تعالى أن يجعلنا من هؤلاء. إذاً ليست قضيتنا محلية أو خاصة، أو إقليمية، بل قضيتنا هي قضية كل مسلم في الصين أو السند أو الهند أو كشمير أو في بنجلادش أو الأكراد أو العراق أو تركيا أو الجزائر أو تونس أو مصر أو فلسطين أو بلاد الشام أو بلاد أفغانستان أو طاجكستان أو قضية المسلمين في أوروبا أو أمريكا أو في روسيا أو في أي مكان من الأرض، فمفهوم الوطن عندنا شمل واتسع: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيانِ وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطانِ فقضيتنا قضية الإسلام والمسلمين في كل مكان، وينبغي أن تزول فكرة الحواجز والحدود والسدود والموانع التي جعلت المسلم لا ينتصر لأخيه أو لا يسمع صوته، أو لا يستجيب ولا يتجاوب معه، أو لا ينصره ظالماً أو مظلوماً كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا فقضيتنا كبيرة، وهذا الأمر الذي قد يدار أحياناً هو شيء يسير بالنسبة لما نتعاطاه، ولما ننظر إليه، فنحن ننظر للخريطة الإسلامية، بشكلها الشامل فنشعر بأن الأمر يتطلب إنقاذاً مباشراً. هناك حرائق تشب في كل مكان تتطلب إطفاءً، وينبغي أن يتصدى لها ولو نفر قليل بقدر الإمكان، وإن كنا نعرف أن هذه الأمور قد تكون أكبر مني ومنك، ولكن مع ذلك يبارك الله في الجهد اليسير، والله تعالى لا يكلفنا إلا ما نستطيعه، فقضيتنا ليست قضية دولة أو بلد أو وطن أو منطقة، مع أن هذا البلد من لب بلاد المسلمين، وهو بلد تشرئب إليه أعناق المسلمين في كل مكان ويتطلعون إليه، ولعل من هذا المنطلق ما يحظى به صوت الدعوة من تقبل واستجابة من المسلمين في بلاد كثيرة من بلاد المسلمين ومن غيرها، وأسأل الله تعالى أن يجعل ذلك العمل خالصاً لوجه الكريم، وأن يأذن بتوحيد كلمة المسلمين على الحق وأن يزول ما بينهم من تباعد أو تطاحن أو تباغض، ويعودوا كما أمرهم الله تعالى أمة واحدة، متعاونة على البر والتقوى، ما يصيب قريبها يصيب بعيدها، والألم الذي ينزل بمسلم عادي في أي بلد يشعر به أخوه المسلم مهما شطت به الديار ونأى به المزار، لا تحول المسافات المكانية ولا الزمانية دون إحساسه بآلام إخوانه المسلمين ونصره لهم، إن كان نصراً في الكلمة، أو في الوقوف معهم، أو بتبني قضيتهم، أو بالدفاع عن مشروعه، أو بأي أمر يحتاجه هو، ونستطيع نحن أن نؤديه عنه، فقضيتنا هي قضية كل مسلم على ظهر الأرض. هذا، وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يذل الشرك والمشركين وأن يدمر أعداء الدين، وأن ينصر من يعلم أنه على الحق ويثبته ويهديه، ويكتب له القبول، وأن يهدي من يعلَم عنه خلاف ذلك إلى الحق، ويرده إليه رداً جميلاً، وأن يقصم كل من يعلَم منه العناد والإصرار والمحاربة لدينه وشريعته ونبيه عليه الصلاة والسلام، وأن يهدي ضال المسلمين إنه على كل شيء قدير. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وإلى لقاء إن شاء الله قريب غير بعيد. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 21 مصادرة الرأي بسبب القلاقل والقضية قضية أمة أولاهما: إننا نجد في بلاد إسلامية كثيرة مشاكل لها أول وليس لها آخر، في مصر، والجزائر، وأفغانستان، وطاجكستان، وفي بلاد إسلامية أخرى قدر من ذلك يقل منها أو يكثر، فيا ترى ما هو الأمر الذي أودى بالأمور إلى ذلك الحال الحضيض الذي أصبح عسر العلاج؟! إننا لا نشك أن البداية كانت مصادرة الرأي، نعم. حصلت أخطاء بلا شك، وأخطاء متبادلة، ولا شك أن الأصل ينبغي أن يلام، ولا يجوز أن نلوم الصورة فقط، قد تجد تعجلاً هنا، وقد تقول طيشاً هناك، وقد تقول شباب ولم يدرس لم يتعلم، لكن يجب أن تعلم أن أي مجتمع لا يرسي دعائمه على العدل، وعلى حرية الكلمة المضبوطة بضابط الشرع، وعلى الإنصاف والصدق، والصراحة، أنه معرض لهزات عنيفة!! وهاهنا أقول: لا يجوز لأحد ما يقع في بلد أو آخر، ليقول: إن هؤلاء يريدون أن يجروا البلاد إلى مثل ما هو موجود هنا أو هناك، كلا. فنحن نخشى على البلاد من ذلك المصير، ونعلم أنه إذا لم تتدارك الأمور فإن عقاب الله نازل، قد ينزل عقاب الله تعالى بأيدي أعدائنا، وقد يكون بأيدي أصدقائنا، فإن الأمور إذا خرجت عن نطاق السيطرة يصبح إعادتها إلى ما كانت عليه حلماً بعيد المنال. فيجب أن ندرك جميعاً أن هناك قضية هي قضية الأمة، وقد يتصور الكثيرون أن ما نعيشه الآن وضع مستقر وثابت، ولكن يجب أن نعلم أن عقاب الله إذا نزل قد يفاجئ الكثيرين أيضاً، فعلينا أن ندرك أنه لا ضمان لما نعيشه إلا بدعوة الإصلاح الجهورية التي تعطي للإنسان حقه، وتحفظ للمرء المسلم كرامته، وتعيد الأمور إلى نصابها، وتراعي المتغيرات الكثيرة المحلية والدولية، وبغير ذلك فإننا نخشى أن نعود كما كنا أمماً وشعوباً وأحزاباً وقبائل يحارب بعضها بعضاً ويقاتل بعضها بعضاً. ووالله إن الإنسان ليخشى أشد الخشية على هذا البلد من المصير الذي آلت إليه الأمور في بلاد أخرى كثيرة وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح هذه كلمتي، والأمر كما قال شعيب عليه السلام: {ومَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88] إذاً أولنا وآخرنا، وبدؤنا ونهايتنا، ومطلبنا يتلخص في إصلاح أوضاع الناس، أما الدعاة بذاتهم فلا يضيرهم حتى لو نالهم ضر أو أذى أو حرموا فهذا الأمر سهل ويسير، بل إنهم لا يجدون حرجاً في أن يتنازلوا عن كل هذه الأمور الجانبية والشخصية، أنفسنا وأعمارنا وأموالنا وكل ما نملك فداء لدين الله، فداء لدعوة الإصلاح. الجزء: 85 ¦ الصفحة: 22 خمسة مقترحات تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس المبارك عن خمسة مقترحات طرحها للدعاة إلى الله ليقوموا بتنفيذها في شهر رمضان وما بعده، وهي تعالج مشكلات واقعة في المجتمع المسلم، وتعتبر معادلة جادة لإخراج الأمة من هذا السبات العميق الذي هي فيه. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 1 الخروج في مجموعات إلى الأسواق اللهم إنا نحمدك ونشكرك، ونثني عليك الخير كله، أنت أهل التقوى وأهل المغفرة، بلغتنا رمضان، ورزقتنا الصيام والقيام، وأنعمت علينا بنعمك العظيمة وآلائك الجسيمة. فلك الحمد ولك الشكر حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما تحب وترضى. ونسألك أن تتم علينا نعمتك بمزيد من الهداية والتوفيق، وبمزيد من الصدق والإخلاص، وأن ترزقنا القبول في كل ما نعمل إنك على كل شيء قدير. أما بعد: فهذه آخر ليلة أتحدث إليكم في هذا المسجد، في ليلة الأربعاء الثامن من شهر رمضان لعام (1412هـ) وقد سبق أن ذكرت لكم بالأمس أن موضوع حديثي إليكم الليلة سيكون بعنوان: (خمسة مقترحات) وقد سألني بعض الإخوة عن عناوين الدروس الماضية. فأقول: الدروس الماضية تندرج تحت مسمى: دروس رمضان، وفي الليلة الأولى التي كنت بها في هذا المسجد: ليلة السبت الرابع من شهر رمضان كان عنوان تلك الكلمة: (وكن من الشاكرين) وفي ليلة الأحد الخامس من رمضان كان عنوان الكلمة: (ألوان من الجود) وفي ليلة الإثنين السادس من رمضان كان عنوان الكلمة: (فقد آذنته بالحرب) وفي ليلة الثلاثاء السابع من هذا الشهر كان عنوان الكلمة وهي البارحة: (حديث إلى معتمر) وفي الليلة القابلة سوف أتحدث في مسجدي المجاور لبيتي، وفي الليلة التي تليها وهي ليلة الجمعة عندي محاضرة في مدينة الرس وسأبدأ اعتباراً من ليلة السبت القادم -إن شاء الله تعالى- بإلقاء هذه الكلمات في نفس الموعد في مسجد الجاسر في جنوب البلد. أيها الأحبة لدي في هذه الليلة خمسة مقترحات، أسال الله تعالى أن ينفعني وإياكم بها. الأول: تحدثت إليكم البارحة عن بعض ما يجرى في بيت الله الحرام، وفي المسجد الآمن في مكة المكرمة من جراء كثرة القادمين عليه، والازدحام الموجود فيه، وما يحتاج الناس فيه دائماً وأبداً إلى التذكير، وإنني أتقدم باقتراح يتعلق بهذا الموضوع ألا وهو: أن يأخذ الأخيار الطيبون أصحاب الوجوه المسفرة، وأصحاب المظهر الحسن، على عواتقهم مهمة قضاء بعض الوقت في جولات في الأسواق العامة، وأماكن التجمعات. جولات ليس لها هدف ولا غرض إلا السلام؛ ونشر السلام مطلب شرعي وقد كان ابن عمر رضى الله عنه يخرج إلى السوق لا يبيع ولا يشترى، وإنما يسلم على الناس، ويعتبر هذا قربة إلى الله تعالى، فيكفيك من خروجك إلى الأسواق أن تسلم على الغادين والرائحين والقاعدين، هذا أمر. الأمر الثاني: إن وجود الأخيار في مثل تلك الأماكن هو بإذن الله تعالى صمام أمان، وعنصر وقاية، يحمي كثيراً من الناس وخاصة النساء من اعتداءات المعتدين، وحركات المشبوهين، ويحول بينهم وبين ما يشتهون، فتكون بإذن الله تعالى مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، فإن رأيت على أحد ما يريب فلا بد من كلمة هادئة تنصحه بها، تأمره بمعروف، أو تنهاه عن منكر، أو تذكره بأمر غفل عنه. ولو أن الخيرين أخذوا على عاتقهم مثل هذا ولو لبعض الوقت، خاصة في الليل، وتجولوا ولا يذهبون فرادى لأن الشيطان قريب من الواحد وهو من الاثنين أبعد؛ بل يذهبون مثنى وثلاث ورباع، فيسلمون، ويصافحون، ويلاحظون، فإن وجدوا أمراً فيه شبهة ظاهرة، تكلموا بالخير وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. وقد جُرب هذا في أعوام مضت فكان فيه خير كثير ووجدت من ورائه ثمار عظيمة. فأريد منكم -أيها الإخوة- أن تأخذوا على عواتقكم هذه المهمة، وأن تبلغوها إلى غيركم من الناس أيضاً. ونحن لا نطلب من أحد أن يحمل العصي، ولا نطلب من أحد أن يمشى في الأسواق بوجوه مكفهرة، وجباه عابسة مقطبة، ولا نريد من أحد أن يتلفظ بالكلمات النابية والعبارات الخشنة، كل هذا لا نريده، بل نريد إنساناً يخرج مع فئة من إخوانه وأصحابه يسلمون على الناس، ويهشون لهم ويبشون، ويصافحونهم، ويذكرونهم، ويأمرونهم وينهونهم، فإن رأوا ما يريب تكلموا بالكلمة الطيبة، وأمروا ونهوا بالحكمة والموعظة الحسنة. وهذا الأمر لا يحتاج إلى إذن من أحد، ولا إلى ترخيص من جهة، ولن يعاتبك عليه أحد، ولن يلومك عليه أحد؛ لأن الأسواق طرق مباحة للناس كلهم، لا يمنع منها أحد، ولا يحجب عنها قادم. فأنت كغيرك، وكل ما نريده منك هو ما ذكرنا، فإن وجودك في مثل هذه الأماكن بحد ذاته هو خير كثير، وحماية لأعراض المسلمات، وحماية للشباب -أيضاً- من تلاعب الشيطان بهم، وحتى تطمئن أنت ولا تخشى على نفسك من نظرات تند منك، فإننا ننصحك بأن يكون معك بعض أصحابك وإخوانك وأحبابك يشاطرونك هذا الهم، ويحملون معك هذا الحمل. هذا هو كل ما نريد منك أولاً وأخيراً، وإنا نظنك -إن شاء الله- من الفاعلين، ولكن لا يكفينا هذا منك حتى تبلغه إلى غيرك -أيضاً- من المعتمرين والزائرين وأن تنصحهم بأن يفعلوا مثل هذا، وإنما نخص بذلك من هم أهل دين، وتقوى، وورع، وخير، وأهل ثقة بالله عز وجل واطمئنان إلى أنفسهم. أما من يعلم من نفسه الضعف، والتقهقر، وتسلط الشيطان عليه، وتلاعب الشهوات به، فهذا نقول له: السلامة لا يعدلها شيء، والزم بيتك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك، وكف شرك عن الناس؛ فإنها صدقة منك على نفسك. لكن الناس درجاتٌ، ومنازل، وكل إنسان يعلم موقعه ومقامه. هذا هو الاقتراح الأول، ولا أطيل لأن الاقتراحات خمسة، والوقت قصير، وينبغي ألا يأخذ كل اقتراح أكثر من خمس دقائق على حسب تقسيم الوقت. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 2 دعوة الشباب اللاهين الملاحظة الثانية: وقد جاءتني فيها عدة أسئلة وعدة أوراق ورقاع، وهو أننا في العام الماضي- ولعلكم تذكرون هذا جميعاً- بعد ما وفق الله تعالى وألقيت عدة دروس حول الشباب، كان أولها: (هكذا يصنع الفراغ) ثم درساً آخر بعنوان: (مسئوليتنا عن انحراف الشباب) ثم درساً ثالثاً بعنوان: (جلسة على الرصيف) وقد تحول إلى كتاب طبع منه بحمد الله كميات كبيرة، وأرجو أن يكون الله نفع به. وجدنا أن عدداً من الإخوة قد أقبلوا على دعوة إخوانهم إلى الله، وقامت بعض المخيمات وبعض الجهود وتوزع بعض الشباب، ولكن هذا النشاط يحتاج إلى تذكير بين أونة وأخرى. ففي شهر رمضان يحصل تجمعات للشباب، سواء في الشارع الأصفر، أو الأبيض، أو الأخضر، أو في غيرها، أو في أماكن، يسمونه بالتفحيط أو غيرها، فضلاً عن الأماكن الأخرى التي يتجمع فيها إخواننا من الشباب للعب الكرة وإقامة ما يسمونه بدوري المباريات في كرة القدم وفي غيرها، وبعض الجهات التي تقوم بتنظيم هذه الأشياء؛ جهات لا يطمأن إليها، ويُخشى من مغبة تنظيمها لمثل هذا؛ لأنها ليست جهات رسمية مأمونة معلومة، ولكنها اجتهادات فردية قد لا تكون مأمونة العواقب ولا مضمونه. وهؤلاء الشباب المتواجدون في الشوارع يشاهدون التلفاز، أو يتحدثون، أو يشربون الشاي، أو يقومون بلعب الكرة، فيهم خير كثير، وعندهم فطرة نقية سليمة بحمد الله. ولكن مع ذلك هم أحوج ما يكونون إلى دعوة من الذين أسبق منهم في الخير، وأرسخ منهم قدماً، وقد كتب إليَّ أحد الإخوة رقعه من هذا المسجد قبل ليلتين، يقول: إنه صلى إلى جانبه شاب قد لا يدل مظهره على الخير والاستقامة، ولكنه رأى أنه لما صلى صلاة الوتر وقنت الإمام أن هذا الشاب يُؤمَّن ويدعو وهو يبكى ويجهش بالبكاء ودموعه تنحدر على خديه، ثم لما انتهت الصلاة جاء يسلم هنا ويصافح المتحدث والإمام والشباب الذين في هذا الموقع، ثم يتجاوز المكان وعلى وجهه ابتسامة عريضة، ابتسامة الفرح والرضا والسرور. إذاً: هؤلاء الشباب فيهم خير كثير، والفطرة عندهم سليمة، ولكن عليها بعض الغبار يحتاج إلى أن ننفضه ونزيله بما نستطيع، فمن منكم -أيها الإخوة- ينتدب، ونحن نطالبكم جميعاً، وخاصة من أعطاهم الله تعالى شيئاً من الهداية؛ يجب أن يدفعوا زكاة هذه الهداية بدعوة غيرهم، فتزورون إخوانكم بتلك الأماكن التي ذكرت وفي غيرها، زيارة المحب الناصح الشفيق، دون أن تطيلوا عليهم بجلسة تثقل، وإنما عشر دقائق، أو خمس دقائق يصحبها ابتسامة عريضة تعبر عن قلب لا يحمل لهم إلا الحب والإشفاق، وكلمة طيبة تدل على أنك ذو خلق فاضل، وكما قال عبد الله بن المبارك: " حسن الخلق شيء هين: وجه طلق، وكلام لين". فاذهب إلى هؤلاء بالوجه الطلق، والكلام اللين، والابتسامة الصادقة، وإن كان معك كتاب، أو شريط فحبذا، وإن لم يكن هذا ولا ذاك، فلا يعدم منك كلمة لا تزيد على خمس دقائق، تذكرهم فيها بأواصر الحب والإخوة بينك وبينهم. فهذا مما نريده من نشاطات الدعاة إلى الله تعالى في هذا الشهر المبارك؛ الذي تضاعف فيه الحسنات، وتكفر فيه السيئات، وتقال فيه العثرات، وتقبل فيه التوبات، وتقترب فيه النفوس من ربها، وتصفد فيه الشياطين ومردة الجن. أفلا نستغل الفرصة! فالشيطان مقيد الآن، فلماذا لا نقوم بحملة على من حاول الشيطان أن يعتقلهم، أو يغتال إيمانهم، لننقذهم من أسره وقيوده، ونجرهم من جديد إلى المسجد والمحاضرة والكلمة والشريط والكتاب وندعوهم إلى الله تعالى؟ وهذا لا يشترط فيه أن تكون خريج كلية شرعية، ولا حاصلاً على رسالة عليا، وإنما يشترط فيه أن تكون ذا خلق فاضل، وأن يكون عندك كلمة طيبه تقدمها لإخوانك. فإن وجدت قبولاً فبها، وإن لم تجد قبولاً فاعتذر منهم وانصرف، وإياك أن تسخط عليهم، أو تقسوا عليهم، فقد يأتيهم غيرك ممن هو أوسع منك صدراً، أو أحلم منك؛ فينفعهم الله تبارك وتعالى به. فهذا هو الاقتراح الثاني. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 3 توزيع الكتيب والشريط على الناس الاقتراح الثالث: إننا نعلم أن رمضان من خيره وفضله؛ أن المساجد تزدحم بالمصلين من الرجال والنساء، وممن لا يرتادون المساجد في الأوقات العادية ولكنهم في رمضان يتغلبون على دوافع الضعف فيقبلون على المساجد، والمرأة قد لا تأتي إلى المسجد أصلاً إلا في رمضان. و السؤال ماذا صنعنا لرواد المساجد في شهر رمضان من الرجال والنساء؟ أليست هذه فرصة ثمينة لأن يقوم المحسنون والخيرون والقادرون بتوزيع الكتب والأشرطة على هؤلاء لعل الله تعالى أن ينفعهم بها؟! وهي كتب طبعت هنا، وكتبت هنا، فهي كتب موثوقة، وكتب توزع في كل مكان، وطبعها المحسنون، ولا يتطلب الأمر إلا وجود ذوي طاقات يأخذون هذه الكتب ليوزعوها على المصلين في المساجد، أو يأخذوا تلك الأشرطة؛ وهي أيضاً أشرطة ألقيت في مساجد هذه البلاد، وبيعت في محلات تسجيلاتها، ورخصت من جهاتها الرسمية، وطبعت على نفقات بعض الأخيار والمحسنين، فلم يبق إلا قوم من ذوي الطاقات يأخذون هذه الأشرطة ويوزعونها، أو يوصلونها بطرقهم الخاصة إلى أماكن تجمعات النساء في المساجد. إن من الخير الكبير أن يصل الكتاب الإسلامي إلى أعماق البيوت، وأن يصل الشريط -خاصة- إلى أعماق البيوت؛ فتسمعه المرأة الكبيرة المسنة، ويسمعه الشيخ الهرم، ويسمعه الشاب التائه، وتسمعه الفتاة المراهقة، فيستفيدون منه جميعاً، وينفعهم الله تبارك وتعالى به، ويكتب لك أنت أجر؛ لأنك كنت الوسيط الذي أوصل إليهم هذا الخير الكثير. فأنا أدعو الإخوة من القادرين، وأدعو الشباب، وأدعو الجميع إلى تبني هذا المشروع. كل إنسان بما يستطيع، هذا تاجر يساهم بماله، وهذا صاحب إمكانيات يدعم ويقوم بتسجيل هذه الأشياء، وهذا يقوم بتوزيعها، وهذا يرسلها إلى المساجد، وكل إنسان يقوم بجزء من هذا العمل حتى نتمكن من إيصال الخير إلى جميع الناس. ونحمد الله تعالى على هذه الفرص التي أعطانا الله تبارك وتعالى إياها فينبغي ألا نضيعها بحال من الأحوال: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} . فمجتمع المسلمين كله مجتمع فعال إيجابي بنّاء ذو كفاءة وإنتاجية، من استطاع أن يتكلم تكلم، ومن استطاع أن يدعو دعا، ومن لا يستطيع أن يتكلم مع العامة فإنه يتكلم مع الخاصة، مع فئات محدودة من الشباب، ومن لم يستطع هذا ولا ذاك فإن دوره ينتقل إلى دعوة الناس وإلى سماع المتكلم، أو إلى سماع الشريط، أو قراءة الكتاب، وبذلك نستطيع أن نكون كما قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] لابد أن نكون متعاونين على البر والتقوى، متآمرين بالمعروف ومتناهين عن المنكر، كما قال عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وكما قال سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] . وأدعو أيضاً الأخوات المؤمنات إلى أن يقمن بدورهن في هذا المجال، فالمرأة أقدر على إيصال هذا الخير إلى بنات جنسها؛ فهي تستطيع أن تدعو بنات جنسها، وتدعو الفتيات خاصة في رمضان إلى الله تعالى، وإلى حضور مجالس الذكر، والصلاة مع المسلمين رجاء بركتهم وقبول دعوتهم ونزول رحمة تعمها معهن، وتوصل إلى أختها كتاباً، أو شريطاً، أو نصيحة مكتوبة، أو مشافهة، أو من خلال الهاتف فتقوم بدورها في الدعوة إلى الله تعالى. والدين ما نزل للرجال خاصة، بل الدين نزل إلى الرجل والمرأة على حد سواء، والأصل أن كل تكليف كلف به الرجل كلفت به المرأة؛ فالرجل يدعو والمرأة تدعو، والرجل يأمر والمرأة تأمر، والرجل ينهى والمرأة تنهى، ويصلي وتصلي، وهكذا كل عمل كلف به الرجل فالأصل أن المرأة تشترك معه فيه إلا ما دل الدليل على استثنائه. فندعو أخواتنا من المؤمنات والداعيات وطالبات العلم ومن يكون لديها ولو شيئاً من الخير أن يحرصن على إيصال هذا وإفاضته إلى الآخرين. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 4 جمع التبرعات للمسلمين الاقتراح الرابع: هو جمع التبرعات للمسلمين في كل مكان، والمسلمون يعيشون آلاماً وجراحاً الله تبارك وتعالى أعلم بها، ونسأل الله تبارك وتعالى ألا يكون هذا الوضع السيء الذي يعيشه المسلمون مدعاة إلى تسلل اليأس إلى قلوبنا، نسأل الله أن يرزقنا الثقة بوعده وبنصره، وأن يرزقنا الجهاد لإخراج المسلمين مما هم فيه. فالمسلمون الآن يعيشون أزمات الجوع والعطش والفقر والعري، وقبل أن آتيكم في هذا المكان جاءني مجموعة من الإخوة يتحدثون عن أوضاع المسلمين في بعض البلاد، ومعهم من الكتب والمشاهد ما تنفطر له القلوب؛ منها اغتصاب النساء في كل مكان، وتهديم البيوت وإحراقها، إحراق المزارع، وهدم المساجد على المصلين أحياناً، وضرب المسلمين؛ بل إنه يبلغ بهم الأمر إذا أرادوا من مسلم أن يعترف بأمر يريدونه فإنهم يخلعون ملابسه ويجلسونه على الجمر -والعياذ بالله! - حتى يعترف لهم بما يريدونه حقاً أو باطلاً. ويعمدون إلى كبار السن من العجائز -رجالاً ونساءً- ويعاملونهم بألوان من الأذى لا يعلمها إلا الله، وربما جاءوا بشيخ أعمى هرم كبير السن، ليس له إلا ولد واحد في سن السابعة عشر، أو الثامنة عشر، فيصبون البنزين على ولده ثم يحرقونه في الحال. وهذه ليست مبالغات ولا تهاويل، بل هذه تقع على مسافات ليست بعيدة من بلادنا، في أكثر من مكان وفي أكثر من بلد، ولو ذهبت أسترسل في هذا الحديث لخرج بنا الموضوع إلى حديث آخر، وقد تحدثنا سلفاً وفي مناسبات، وتحدث غيرنا عن أوضاع مريرة يعيشها المسلمون في كل مكان. واعلم -أيها المسلم- أن الذي تغذى بغيرك يتمنى أن يتعشى بك، وإذا لم تنصر إخوانك فثق أنك قد تستنصرهم وتحتاج إليهم في يوم من الأيام فلا ينصرونك، ولا تغتر بما أنت فيه فالدهر دول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . والملك بيد الله، يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، فربما افتقر الغني، وربما اغتنى الفقير وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يعيل. فالأمر بيد الله، والرزق بيد الله، والقوة من الله، والغنى من الله، فاشكر الله تعالى أيها المسلم، والذي نقترحه عليك ونراه حقاً عليك أن تضع لك على المدى البعيد حصالة للنقود تضع فيها مما أعطاك الله تعالى شيئاً من المال تخصصه للمسلمين، أو للأعمال الخيرية كتحفيظ القران -مثلاً- أو نشر الكتاب الإسلامي، أو نشر الشريط الإسلامي، أو مساعدة الفقراء وما أكثرهم في هذا المجتمع، وفي غيره من المجتمعات هم أكثر وأكثر، المهم لو خصصت من راتبك شهرياً -كما اقترح أحد الإخوة عليَّ في رسالة- مائتي ريال في الشهر جعلت منها خمسين ريالاً للمسلمين في أنحاء العالم، وخمسين ريالاً لتحفيظ القران، وخمسين ريالاً لطباعة الكتاب والشريط الإسلامي، وخمسين ريالاً للفقراء والمحتاجين، كم سوف ينفع الله سبحانه وتعالى بهذا المبلغ الزهيد، وكم سوف يدفع الله تعالى به عنك أنت من ألوان البلاء والمحن؟! ولعل من أهم ما يستدفع بالصدقة ميتة السوء التي يخشى كل مؤمن منها، فربما دفعها الله عنك بفضل صدقة يسيرة تنفع غيرك ولا تضرك، فالاقتراح الآن أن يأخذ كل شخص على عاتقه أن يجعل من مرتبه ولو شيئاً يسيراً ولو رمزياً. وإذا قال القائل: أنا مرتبي زهيد، نقول: ادفع ولو مبلغاً زهيداً، المهم أن تعود نفسك مبدأ الجود والعطاء في سبيل الله، ومبدأ المشاركة؛ لأنك أنت الآن إذا صرت تسمع أن المسلمين يواجهون كيت وكيت من المشاكل والمصائب والهموم، فلابد أن في قلبك حسرة ماذا صنعت لهؤلاء وماذا قدمت لهم؟! أنت تسأل نفسك، فإذا كانت النتيجة أنك ما قدمت شيئاً فسوف تشعر بأنك منسلخ عنهم غير إيجابي ومتفاعل، لا تشعر بمشاعر الأخوة الإيمانية معهم، وهذا لاشك يضر بك كثيراً، لكن إذا شعرت بأنك قدمت ما تستطيع ولو شيئاً يسيراً، ولو بشق تمرة؛ شق تمرة هو صدقة منك على نفسك أولاً وعلى غيرك ثانياً. فندعو إخواننا المسلمين إلى أن يلتزموا بمثل هذا البرنامج على مدى العام، وبشكل خاص في شهر رمضان؛ فإنه هو شهر الطاعة، وهو شهر الكرم والجود، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فكان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] . فأنا أدعوكم -أيها الإخوة- إلى مناصرة إخوانكم المسلمين بما تستطيعون، يقول بعض الناس: هؤلاء المسلمون مقصرون في دينهم، وبعضهم عندهم انحرافات، وبعضهم عندهم بدع، ونحن لا نزكي هؤلاء، وهذه الانحرافات والبدع موجودة عندهم وعند غيرهم، والتقصير موجود هنا كما هو موجود هناك، ولكن السؤال أولاً: هل هم مسلمون أم كفار؟ إذا كانوا مسلمين فدعمهم عليك حق ولو كانوا مقصرين، وهم مسلمون ولا شك، هذا أمر. والأمر الثاني: أنه يفترض أنك داعية، فليس الحل هو أن تتركهم يموتون جوعاً وعطشاً، وتقول: هم مقصرون. بل الحل أن تذهب لتغيثهم وتسقيهم وتطعمهم وتطببهم -إن استطعت- وتعمل ما تستطيع وتحمل مع ذلك كله الدعوة إلى الله تعالى، والدعوة إلى الالتزام بالحق؛ ودعوتهم إلى العمل بالكتاب والسنة، وتصحيح الأخطاء الموجودة عندهم سواء كانت أخطاء في العقائد، أم في الأعمال، أم في السلوك، أم في غير ذلك. أما كوننا نتفرج ونسلمهم إلى النصارى؛ يعبثون بعقائدهم، ويعبثون بأخلاقهم، ويقدمون لهم الخدمات. فهذا والله أمر عجيب! وإذا تخلينا فسوف يزيدون عما هم فيه بعداً وانحرافاً، بل قد يحصل وحصل هذا فعلاً أن هناك قرى أحياناً بأكملها -وإن كان هذا بحمد الله ليس كثيراً لكنه موجود- قد تتحول من الإسلام إلى النصرانية. لا إعجاباً بالنصرانية؛ فالنصرانية دين أهله تخلو عنه، ولكن جوعاً وعطشاً، وإذا كان لا يأتي الطعام والشراب والكساء والعلاج إلا من خلال اعتناقهم للنصرانية فهم اعتنقوها وهم يشعرون بأنه ليس أمامهم إلا هذا الطريق وأن الأبواب كلها أُغلقت إلا هذا الباب فسلكوه غير مختارين، فأين المسلمون؟! أين أنتم يا عباد الله؟ وأتمنى أن أتعرف حقيقة: هل قلوبكم تحزن لأحوال هؤلاء المسلمين؟! وهل مشاعركم تضطرب لهم؟! هل دموعكم تنهل من أجلهم أم أنكم تشعرون أن هذا الحديث عن شيء آخر لا يعنيكم؟ وقد تعتبرون أن من إضاعة الوقت الحديث عن مثل هذه الأمور، فأرجو أن لا يكون أعداؤنا -أعداء الإسلام- أفلحوا في تمزيقنا إرباً إرباً، وإيجاد الحدود بيننا. فلا يوجد في الإسلام حدود جغرافية؛ هذا بلد وهذا بلد، بل الإسلام لا يعرف هذا، فأهل لا إله إلا الله محمد رسول الله كلهم أمة واحدة ليس بينهم حدود ولا سدود. وطني عظيم لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا في إندونيسيا في إيران في الهند في روسيا وتركيا آسيا ستصهل فوقها خيلي وسأحطم القيد الحديديا فلا توجد فوارق في الإسلام، فكونك تشعر أن هذا بلد وهذا بلد هذا شيء آخر، لكن الإسلام ليس فيه تفرقة والمسلمون كلهم أمة واحدة، يد على من سواهم، يحزن بعضهم لبعض. تذوب حشاشات العواصم حسرة إذا دميت في كف بغداد إصبع ولو أن بردى أنتَّ لخطب أصابها لسالت بوادي النيل للنيل أدمع أرأيتم ما يجري في العراق الآن؟ نحن نعرف أي حكومة تحكم في العراق من قبل أن تحصل منها أحداث الغزو السابقة، فهي حكومة بعثية علمانية أخذت على عاتقها حرب الدين، وهذا أمر معروف مسلم، لكن شعب العراق شعب مسلم وغالبيتهم من أهل السنة أيضاً، وفيهم الأكراد؛ والأكراد في الأصل كلهم من السنة، وهم الآن يعيشون الآن تحت وطأة الحصار الاقتصادي، بل إن العراق نفسه يمارس حصاراً آخر على الأكراد، فصاروا يعيشون أحوالاً أشبه بالخيال، ولم يعودوا يتحدثون عن أكل اللحم، فهذا أصبح الآن في عداد الأمور الماضية والتاريخ الغابر، فإنهم تمر عليهم السنة ما أكلوه، لكن القضية في الضروريات التي لا تقوم الحياة إلا بها. وبلاد الإسلام كلها تعاني من مثل هذه الأمور كما تعاني من داء آخر وهو تسلط الطغاة من البعثيين والعلمانيين والمنافقين وغيرهم الذين يهمهم البقاء في كراسيهم ولو مات الشعب كله عن آخره. فأتساءل أيها الأحبة: هل قلوبنا تخفق لهؤلاء المسلمين؟! هل نحزن لهم على الأقل؟! وهل نشعر ولو للحظات بالمآسي التي يواجهون؟! أم إننا نأكل حتى نشبع، ونشرب حتى نروى، وننام حتى تهدأ أعصابنا، ونرتاح ثم نقوم وكأن شيئاً لم يكن، وكأن الدنيا كلها رغد من العيش، وأمن وأمان لأهل الإسلام في كل مكان، على أقل تقدير -يا أخي- إذا كنت لا تستطيع أن تساعد، فاحزن لهؤلاء, وارث لأحوالهم، وشاركهم همومهم بقلبك؛ وهذا حزن محمود وإن لم نقل أنك تتعبد به، لكنه حزن محمود، فحزنك لما يصيب الإسلام والمسلمين هو حزن محمود يدل على أن في قلبك حرارة وإيمان، وكونك تسمع بالمصائب والنكبات التي تنزل بإخوانك ثم لا يتحرك في جسدك شعرة؛ هذا دليل على أن في قلبك خواءً، وخموداً، وهموداً، وجموداً وأنك لا تشعر بأحوال المسلمين هنا وهناك. مرة أخرى أدعوكم يا أهل لا إله إلا الله! أدعوكم يا من أنعم الله عليكم! أدعوكم يا رواد المساجد في هذا الشهر المبارك! إلى أن تتقوا الله تعالى في أنفسكم قبل أن تتقوا الله تعالى في إخوانكم المشردين، والمطرودين، والمهاجرين، واللاجئين الذين غالبيتهم من المسلمين. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 5 إيجاد البديل عن أجهزة التلفاز في البيوت والاقتراح الخامس والأخير: كثير من البيوت تشتكي من وجود أجهزة إعلام فيها كالتلفاز، والصحف، والمجلات، وربما الفيديو في كثير من الأحيان، وكثير من البيوت أيضاً بدأت تصحو على هذا الخطر وتدرك مغبة وجود مثل هذه الأشياء في متناول الشباب والفتيات -خاصة المراهقين-. وقد تفلح بعض البيوت في إخراج هذه الأجهزة والتخلص منها، وهذا أمر حسن طيب لا شك فيه، ولكن بيوتاً أخرى ما زالت تبحث عن حل، ونحن نقول: إن من طبيعة النفوس ألا تترك شيئاً إلا لشيء، فلا بد أن نسعى دائماً وأبداً إلى إيجاد البديل؛ على سبيل المثال حين يكون عندك في البيت أطفال صغار من البنين والبنات تعودوا أن يجلسوا أمام ما يسمى بأفلام كرتون، أو غيرها من الأفلام المخصصة، أو الرسوم المتحركة أو سواها، وبذلك ينشغلون عن أهلهم، فلا يؤذون الوالدة، ولا يسببون إزعاجاً، ولا يتلفون الأثاث، ولا يعملون صراخاً في البيت؛ لأنهم جالسون مسمرون أمام ذلك الجهاز يشاهدونه فلا يحدثون شيئاً، فأنت بجهودك الطيبة قمت وأخرجت هذا الجهاز من المنزل وقد أحسنت صنعاً. لكن ما الذي حصل؟ حصل أن هؤلاء الصغار صاروا يعيشون فراغاً، ليس لديهم وقت مشغول، فبدءوا يضربون هذا، ويكسرون هذا، ويحرقون هناك، وهذا باب كسروه، وهذا إناء حطموه، وهذا زجاج نثروه، حتى إن أهل البيت يتضايقون منهم، فربما تقوم الأم ولو كانت أحياناً فيها خير، تنادي وتقول: هاتوا لهم أي شيء يشغلهم عني، فهم أشغلونا ولم يتركوا لنا وقت لنعمل في المنزل، وما نصلحه نحن في يوم يفسدونه هم في ساعة، هذه الأطعمة نثروها هنا، وهذا السجاد قد أصابوه بما أصابوه به من المياه وغيرها، وهذه الجدران قد كتبوا عليها، وهذه المياه قد نثروها، وهاهنا أشياء كثيرة. وبالتالي ربما تضغط الأم، أو يضغط الأب على الأولاد من أجل إعادة جهاز التلفاز إلى البيت لإشغال الأطفال، هذا أقل عذر ممكن أن يقال، والسبب هو: أنك اعتبرت أن مهمتك تنتهي بإخراج الجهاز، ونسيت أن مهمتك في الواقع تبدأ بعد إخراج الجهاز. لأنهم أصبحوا يعيشون فراغاً الآن، فماذا أنت صانع لهم؟! هل خرجت بهم معك في السيارة في نزهة ولو بسيطة، ليس شرطاً أن تخرج بهم إلى البر البعيد، ولو ذهبت لمدة ساعة على سيارتك تريهم أماكن في البلد؛ وهذا المكان الفلاني وهذه الجهة الفلانية وهذا كذا وهذه المؤسسة الفلانية وتجعلهم يطلعون على بعض المعالم العادية في البلد لكان هذا عملاً طيباً، لو ذهبت بهم خارج البلد لمسافة كيلو متر واحد أو اثنين كيلو متر ولعبت معهم لعباً خفيفاً سريعاً كان هذا أمراً طيباً تشغل به بعض وقتهم، لو جعلت لهم درساً في المنزل لكان هذا الدرس بديلاً مناسباًَ، تجمع فيه الشباب الصغار من البنين والبنات وتجعل في الدرس آية من القرآن، وحديثاً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وقصة، وأنشودة، ومسابقة فيها جوائز، ومنافسة فيما بينهم، وتدريب على بعض العبادات: كيف تتوضأ؟ كيف تصلي؟ وأشياء تناسب عقول الأطفال، وتربيهم تربية سليمة وتملأ عليهم الفراغ الذي وجد عندهم بعد ما أخرجت هذه الأجهزة المدمرة من البيوت، لكان هذا أيضاً من الحلول، وهناك حلول أخرى أيضاً مثل وجود الألعاب، فهناك ألعاب مباحة تناسب الأطفال وهي كثيرة جداً، وأنت الآن في عصر تغيرت أوضاع الناس فيه إلى حد كبير، وما كان في الأمس ليس ضرورياً أصبح اليوم ضرورياً بالنسبة للكثيرين. فينبغي أن تتفطن لذلك، فإيجاد بعض الألعاب للصغار في المنزل يتسلون بها شريطة ألا تكون ضارة بهم ولا تحدث لهم أثاراً جسمية، أو ما أشبه ذلك هذا أمر طيب، وفيه تسلية لهم وإشعار بأن هذا جائزة لهم أو هدية، وإشعار بأنك مهتم بأمرهم بحيث يحبونك ويمدحونك. ومع الأسف إن بعض الشباب الصغار إذا كان في البيت شاب متدين قد يقولون: نحن لا نحب فلاناً، وقد يحدث ذلك، لماذا لا تحب فلاناً؟ قال: لأنه أخرج من عندنا التلفاز ولم يأتنا بشيء. لكن لو أنك كنت تقدم لهم بعض الأشياء، وربما إذا أتيت في بعض الأحيان اشتريت لهم بعضاً من الحلوى، أو الكاكاو، أو غيرها أو خرجت بهم يوماً من الأيام، واشتريت لهم بعض اللعب، لا بد أنهم سوف يحبونك ويطيعونك ويعتبرونك مثلاً أعلى ويقدرونك، وهذا أمر مطلوب وهو من أهم وسائل القبول. ومن ضمن الأشياء التي قد تعين على حل هذا الأمر: استخدام بعض أجهزة الكمبيوتر التي فيها برامج مفيدة: بعضها برامج مسابقات أو برامج علمية أو تربوية أو تدريس، أو غيرها من الأشياء المباحة العادية فهذه البرامج مع أنها ليست باهظة الثمن إلا أنها من الممكن أن تكون بديلاً عن جهاز التلفاز، وتشغل الأطفال عنه ولو لبعض الوقت، خاصة إذا وجد في البيت من يتابع مثل هذا الأمر، ويشتري لهم الجديد، ويقوم بعملية تبادل مع الآخرين الذين قد يوجد عندهم برامج أخرى. وأخيراً: فإن من الأشياء التي ينبغي أن يتفطن لها: إيجاد مكتبة صغيرة في البيت؛ مكتبة منزلية وهذه المكتبة تحتوي على مجموعة من الرسائل الصغيرة التي تخاطب المرأة المسلمة، أو تخاطب الطفل المسلم، مجموعة من القصص، وأحاديث مختارة، وأناشيد إسلامية، إضافة إلى مجموعة أخرى من الأشرطة الإسلامية- الأشرطة المتعلقة بالمرأة المسلمة، وأشرطة للأطفال، وأيضاً بعض الأناشيد الإسلامية التي ليس فيها محظور، وبعض المسابقات ولا مانع أن يكون فيها بعض الطرائف والأشياء التي تناسب عامة الناس. وبالنسبة للكتب فقد اقترح عليَّ بعض الإخوة أن أقدم لكم مجموعة من أسماء الكتب ولكن في الواقع أن وقتي لم يسمح بكتابة هذه الكتب والأشرطة، فمبدئياً أرشح لكم فيما يتعلق بالكتب؛ الكتب والرسائل التي أصدرتها دار الوطن، فإن هذه الكتب والرسائل كلها كتب ورسائل مختارة صغيرة وهي منوعة فيها كتب خاصة بالمرأة والفتاوى، وفيها كتب للشباب، وكتب للمجتمع، وفيها ألوان من الفواكه العلمية التي يمكن الاستفادة منها. أما بالنسبة للأشرطة فأيضاً يوجد لدى أصحاب محلات التسجيلات قوائم بالأشرطة المخصصة للمرأة، فمن الممكن للشاب أو للأب أو للولي أو للمرأة أن تطلبها وترسل أحداً لاستلامها ثم تختار منها ما يناسبها وتضعها في المنزل، وبعد فترة يتم تجديد هذه المكتبة بإضافة كتب وأشرطة جديدة مما جد في الساحة إليها مع العناية بها. وأرجو أن تلقى هذه الاقتراحات -إن شاء الله- منكم قبولاً حسناً، وأن تحسنوا ضيافتها، وكما أحسنتم الاستماع إليها فإني أطمع منكم أيها الأحبة أن تحسنوا تطبيقها والعمل بها. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 6 الأسئلة الجزء: 86 ¦ الصفحة: 7 الدعاء للأخ بالهداية السؤال لي أخ متزوج يتساهل في الصلاة حتى في رمضان، ويتثاقل عن صلاة الفجر ونحن في هذا الشهر الكريم الذي يصلي فيه أصحاب التخلف، بل الأدهى والأمر أنه ينام عن كثير من الصلوات، ويؤخر صلاة العصر والمغرب في هذا اليوم، فأشكو إلى الله وأطلب أن تدعو لأخي بالهداية. الجواب أسأل الله تعالى أن يهدي أخاك إلى سواء السبيل، ويرزقه الإقبال على عبادته وتعظيم حرمات الله تعالى وشعائره التي من أهمها الصلاة مع الجماعة. وعليك أن توصل إليه بعض الأشرطة والكتب التي تتكلم عن موضوع الصلاة وأهميتها وخطر التكاسل فيها. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 8 الأكل بعد أذان صلاة الفجر في رمضان السؤال أنا شاب أسأل عن صحة صيام هذا اليوم، حيث إنني لم أستيقظ للسحور إلا مع أذان الفجر الآخر، وبدأت آكل حتى انتهى مؤذننا من الأذان، وقد تساهلت حتى أكلت بعد انتهائه من الأذان، وما دعاني لهذا إلا أنني منذ بدايتي في الأكل وأنا أقول لنفسي أنني على استعداد لقضاء الصيام؟ الجواب لا يجوز هذا، حتى لو كنت على استعداد، وعليك أن تقضي هذا اليوم. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 9 الزكاة عن الراتب إذا بلغ نصابا ً السؤال أنا موظف في إحدى الدوائر منذ أربع سنوات، ولم أزكِ على ما أخذته من الراتب، رغم عدم وجودها لدي، ولم أقبضها لأحد فماذا أفعل؟ الجواب عليك أن تزكي كل السنوات الماضية، إذا كان بلغ عندك النصاب. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 10 شغل الفراغ بذكر الله السؤال شاب يبلغ من العمر (25عاماً) ، يحدث أحياناً لي أوهام؛ ويخيل إليَّ أني أصاب بمرض ما، أو أخاف من الموت، مع أني ولله الحمد أؤدي ما علي من فرائض. فبماذا تنصحني؟ الجواب أنصحك: بكثرة ذكر الله، والتوكل عليه، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن تشغل نفسك بصالح الأعمال؛ لئلا يبقى عندك وقت فراغ يشغله الشيطان بهذه الوساوس التي تشغلك. مع أن تذكر الموت إذا كان بحدود معتدلة فهو خير، ولكن إذا بلغ وزاد وصار مخاوفاً وأوهاماً فإنه يضر بالإنسان. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 11 حكم القراءة مع الإمام السؤال ما رأيك في بعض المصلين الذين يتابعون -مع الإمام وهو يقرأ- في مصحف، وبعضهم يقرأ مع الإمام بصوت رفيع؟ الجواب هذا لا ينبغي، بل ينبغي له أن يسكت: ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)) [الأعراف:204] . الجزء: 86 ¦ الصفحة: 12 حكم الذهاب للعمرة لأئمة المساجد السؤال بعض الأئمة يذهبون إلى العمرة، ويتركون الجماعة، ولا يترك من يصلي بدلاً عنه، فهل هو مأجور في ذلك، أو يجلس عند جماعته؟ الجواب لو ذهب يوماً أو يومين فإنه لا حرج عليه، فيحصل على أجر عمرة وكذلك يهتم بجماعته. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 13 التنبيه على بعض المخالفات في المساجد السؤال يوجد من رواد هذا المسجد وغيره بعض المخالفات، فنرجو التوجيه، كالتدخين، وقصر ثياب المرأة، وطول ثوب الرجل، حتى أني رأيت امرأة ثوبها قصير مرتفع عن الكعب أربعة أصابع، كذلك تخفيف الغدفة؟ الجواب أولاً: ننصحك ألا تنظر، امرأة ثوبها قصير، وهذه ثوبها طويل، وهذه غدفتها خفيفة، وهذه طويلة، نعم. إن كانت النظرة الأولى فقد عفى الله عنك ولكن ليست لك الثانية. ثانياً: ننصح الإخوة والأخوات بأن يراقبو الله تعالى، فهم الآن أصبحوا في موضع القدوة لرواد المساجد. وينبغي على الرجال والنساء أن يلتزموا بأوامر الله تعالى في الأمور الظاهرة كأمور الثياب، والهدي الظاهر، وكذلك في الأمور الباطنة المتعلقة بأعمال القلوب. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 14 استغلال وقت فراغ العامل في القراءة السؤال هل يجوز للمسلم الموظف أن يقرأ القرآن، أو الكتب النافعة، أو ما عمت به البلوى من الجرائد والمجلات داخل مكتبه الرسمي في دائرة عمله، علماً بأنه قائم بعمله؟ الجواب إذا وجد وقت فراغ لا يتعلق بالعمل، فلا داعي لأن يضيع وقته هكذا بمجرد الجلوس، بل ينبغي أن يستفيد من وقته بقراءة القرآن، أو التسبيح، أو الذكر، أو ما شابه ذلك، على ألا يخل هذا بعمله. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 15 تحية المسجد بعد الوتر السؤال إذا أدى المسلم صلاة العشاء والتراويح والوتر في المسجد مع الإمام، وبعد خروجه سمع في المسجد المجاور صوت محاضر وذهب ليستمع إليه، فهل يؤدي تحية المسجد؟ الجواب نعم. يؤدي تحية المسجد، ولو كان هذا بعد الوتر. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 16 الترديد بعد المؤذن في الحيعلتين السؤال إذا سمع المسلم المؤذن وهو داخل المسجد ينتظر الصلاة فهل يقول عند حي على الصلاة، أو حي على الفلاح: لا حول ولا قوة إلا بالله؟ الجواب نعم. يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 17 إخراج الزكاة مواداً غذائية للفقراء السؤال هل يجوز إخراج الزكاة مواداً غذائية، وإذا عرفت أنهم محتاجون إلى هذه الأغذية؟ الجواب إذا وكلك الفقراء لتشتري لهم بالزكاة غذاءً فلا بأس بذلك. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 18 حكم العمل في الأجهزة الإعلامية السؤال يقول: ركزت في الدروس الماضية على وسائل الإعلام، ومنها الصحف المحلية وكونها تبث السموم، فهل تعتبر جريدة عكاظ منها، مع أنها تولي اهتماماً بالفكر الإسلامي، وقد خصصت ملحقاً أسبوعياً يُعنى بالأمة الإسلامية، وتحول إلى شبه يومي في رمضان المبارك؟ وسؤال آخر له صلة بما قبله: بماذا تنصحون الأخيار الذين يعملون في وسائل الأعلام؟ هل يتركونها لغير الأخيار؟ أم يجتهدون في نشر وإذاعة كل ما هو مفيد على قدر اجتهادهم؟ وهل يؤجر من يعمل في حقل التوعية الدينية في الصحف أم إنه يأثم بانتمائه لهذه الوسائل الفاسدة؟ الجواب بينت أنه إذا كانت نيته صالحة وقصده حسن وله تأثير؛ فإن بقاءه خير من تركه، وهو -إن شاء الله تبارك وتعالى- مأجورٌ على عمله. وكلامي ليس شاملاً في الصحف كلها؛ فالصحف فيها بعض الخير، وهناك صحف قد تكون تهتم ببعض الأمور أكثر من غيرها، وبعض الشر أهون من بعض. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 19 حكم استبدال الذهب بذهب السؤال ما حكم استبدال الذهب المستعمل بذهب آخر جديد على أن يقوم المشتري بدفع الفرق بين سعريهما بحيث يصبح الذهب القديم كجزء من سعر الآخر الجديد؟ الجواب الذهب كما هو معروف من الأصناف الربوية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء} فيشترط في بيع الذهب بالذهب شرطان: الأول: التساوي؛ يعني في المقدار. الثاني: التقابض؛ أن تأخذه بيد وتعطي باليد الأخرى. وما عدا ذلك فهو ممنوع، ويكون داخلاً في الربا. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 20 حكم الصدقة عن الوالدين الميتين السؤال ما حكم ما يعمله بعض العوائل بجمع الأقارب للعشاء، ويسمونه عشاء الوالدين؟ الجواب الصدقة على الميت لا بأس بها، لكن تكون الصدقة للفقراء والمحتاجين والمساكين. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 21 مدة الاعتكاف السؤال هل الاعتكاف مدة محدودة، وما هي أقل مدته؟ الجواب ليس له مدة محدودة، لكن اعتكاف الإنسان ساعة، أو أقل في المسجد هذا لم يرد. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 22 حكم مرور أحد بين الصفوف السؤال ما رأيكم في الذين يمرون بين الصفوف والناس في الصلاة هل هم يقطعون الصلاة؟ الجواب إذا كان الناس وراء الإمام فلا يقطع صلاتهم مرور أحد بين أيديهم. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 23 المقصود بانصراف الإمام السؤال ما المقصود بانصراف الإمام في قوله: (حتى ينصرف) ؟ الجواب أي حتى ينتهي من صلاته. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 24 حكم صرف الزكاة لمشاريع الزواج السؤال لاحظت يا شيخ! أنكم ذكرتم اقتراحاً لجمع الصدقات لجهات، وقد نسيت جهة بحاجة ماسة إلى الصدقة ألا وهي لجنة مساعدة ترغيب الزواج، فأرجو الجمع لها وحث الإخوة على مساعدتها؟ الجواب هي أيضاً أحد مصارف الزكاة والمال، فينبغي صرف بعض المال إليها. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 25 حكم الزكاة في الأمانات السؤال عندي لأخي في حسابي في البنك مبلغ وقدره (19000) ريال، وقد زكيت عليه العام، فهل أزكي عليه هذه السنة؟ حيث أن أخي لا يوجد عنده غير هذا المبلغ، وهو لا يعمل الآن، وهو ممن تدفع لهم الزكاة، فنرجو الإفادة؟ الجواب هذا المبلغ لأخيك حسب ما يظهر أنه أمانة عندك فالزكاة فيه واجبة. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 26 حكم الأكل وقت أذان فجر رمضان السؤال قامت والدتي مع الأذان، وأكلت قليلاً من التمر وشربت قليلاً من الماء، فما حكم صيامها؟ الجواب إن كان أكلها هذا بعد طلوع الفجر فعليها أن تعيد ذلك اليوم. وأما إن كان قبل طلوع الفجر فصومها صحيح. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 27 حكم تزويج الأب لأحد أبنائه دون غيره السؤال هل يجوز أن يزوجني أبي على نفقته خاصة مع أنه لم يزوج إخوتي الأكبر مني؟ الجواب إذا كان إخوتك قد استغنوا، أو وافقوا على ذلك، فلا بأس أن يزوجك والدك. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 28 تزويج الصالح ولو كان غير غني السؤال جاءنا خطيب يريد الزواج بأختي وعندما أبديت رأيي، قال أبي: اسكت هذا راتبه قليل لا يتعدى (3000) ريال، مع أنه شاب ملتزم، فما هو العمل؟ الجواب يا أخي! (3000) ريال خير كثير من يحصل عليه اليوم؟ أنا جاءني واحد يقول: أريد أن أتوظف ولو بـ (600) ريال، المهم أنفق على نفسي وأمي التي ليس لها بعد الله غيري. فمبلغ (3000) ريال خير كثير، والله عز وجل يقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] ولذلك من أراد الغنى فعليه بالتزويج، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} . الجزء: 86 ¦ الصفحة: 29 حكم مساعدة الوالد لولده في الزواج السؤال أبلغ من العمر 27 سنة وأريد أن أتزوج، لكن أبي يقول لي: إذا أردت أن تتزوج فاجمع المال، وأنا لن أدفع ريال واحداً، فهل الواجب في الشرع أن أبي هو المسئول عن زواجي؟ الجواب إذا كنت لا تستطيع أن توفر المهر؛ فعلى والدك أن يساعدك في تزويجك، وهذا جزء من قيامه عليك، ومن النفقة الواجبة عليه. أما إذا كان والدك غير مستطيع، أو كنت أنت مستطيعاً، فلا شك أنك أولى حينئذٍ بأن تزوج نفسك. فإن عجزت أنت، وعجز والدك، فالحمد لله أعمال الخير موجودة واللجنة لمساعدة المتزوجين هنا قائمة، وفي رئاستها الشيخ عبد الرحمن العجلان رئيس المحاكم -حفظه الله- ومجموعة من العلماء والمشايخ: الشيخ صالح الهنيان وغيرهم، بإمكانك أن تأتي بتزكيات من بعض طلبة العلم أو من حولك لأخذ المساعدة. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 30 حكم مسح الوجه بعد الدعاء السؤال هل يشرع رفع اليدين في الدعاء بعد صلاة النافلة، ومسح الوجه بها؟ الجواب لا. فرفع اليدين وخاصة المحافظة على ذلك بعد النافلة أو بعد الفريضة ليس بمشروع، وإن فعله بعد النافلة أحياناً فينبغي أن لا يحافظ عليه. أما مسح الوجه باليدين بعد الدعاء، فهذا اختلفوا فيه: من أهل العلم من صحح الحديث: كـ الترمذي وابن حجر رحمهما الله ومنهم من ضعف الحديث كـ ابن تيمية وهو أقوى، لأن الحديث ليس بقوي، وبناء عليه نقول: الأولى ألا يمسح الإنسان وجهه بيديه بعد الدعاء، لكن لو فعل لا ننكر عليه ولا نقول: هذا بدعة. ما دام جاء فيه حديث صححه بعض أهل العلم فلا ننكر عليه. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 31 حكم غسل الجمعة السؤال هل غسل الجمعة واجب؟ الجواب غسل الجمعة ليس بواجب، وإنما هو سنة، وفي الحديث عن سمرة {من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل} . الجزء: 86 ¦ الصفحة: 32 حول صحة حديث: تباركوا بالنواصي والبقاع السؤال يشتهر على ألسنة الناس: {تباركوا بالنواصي والبقاع} هل هذا الحديث له أصل؟ الجواب لا. ليس له أصل. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 33 حكم الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأوسط السؤال هل تشرع الصلاة الإبراهيمية في التشهد الأول، يعني: اللهم صلِّ على محمد؟ الجواب نعم. تشرع أحياناً، وقد ثبت هذا عن بعض الصحابة كـ أبي بكر وغيره، أنه كان يفعلها أحياناً. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 34 صفة السلام على النبي في التشهد السؤال هل صفة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم بالتشهد تكون بلفظ المخاطب: السلام عليك أيها النبي، أم بلفظ الغائب: السلام على النبي؟ الجواب كل ذلك حسنٌ، إن قال: السلام عليك أيها النبي، فهذا المشهور من حديث عائشة وابن عباس وعمر وابن عمرو وأبي موسى الأشعري وابن مسعود أيضاً. وإن قال: السلام على النبي؛ فلا حرج أيضاً فهذا قد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 35 التخلص من أسهم الشركات والبنوك السؤال لدي أسهم في شركة صافولا، وقد اكتتبت في البنك الأهلي، وقد شرح الله صدري في هذا الشهر المبارك، وأريد أن أتخلص منها فهل أبيعها، أو آخذ رأس مالي؟ الجواب الحمد لله، ونسأل الله عز وجل أن يثبتك بقوله الثابت، ويبارك لك في رزقك، وأهلك ومالك وولدك، أما ما يتعلق بالأسهم الموجودة لديك فلا أرى أمامك حلاً إلا بيعها؛ لأن هذا هو الحل الوحيد. لكن إذا بعتها فما يتعلق بأسهم البنك فعليك أن تتخلص من جميع الأرباح مطلقاً وجوباً. أما شركة صافولا فإن تخلصت من الربح كله فحسن، أو تتخلص من نصفه، أو نحو ذلك. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 36 حكم قراءة الفاتحة للمأموم السؤال يقول هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ الجواب الذي أراه في الصلاة الجهرية، أنه لا يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، فإن سكت الإمام قرأ، أما إن كان الإمام لا يسكت بعد الفاتحة بل يشرع في السورة فعليه أن يسكت هو، امتثالاً لأمر الله جل وعلا: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] والحديث في مسلم: {وإذا قرأ فأنصتوا} وقال عنه الإمام مسلم: إنه حديث صحيح. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 37 حكم ترك الوتر مع الإمام في التراويح السؤال ما حكم من يقوم بعد سلام الإمام من الوتر فيأتي بركعة ويوتر في آخر الليل؟ الجواب الأولى أن ينصرف مع الإمام، وفي السنن من حديث أبي ذر: {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة} فهذا فيه خير كثير، وبإمكانه بعد ذلك أن يقرأ ما تيسر له من القرآن، ولو قام في آخر الليل من دون ترتيب فصلى ما تيسر له فلا حرج عليه أيضاً. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 38 العمل للدين مسئولية الجميع السؤال من يعمل لهذا الدين؟ هذه الكلمة طالما ذكرتها لإخوانٍ لي في الله تقاعسوا عن العمل في الدعوة إلى الله، ولكنهم جلسوا لطلب العلم فقط بحجة كثرة الفتن وانتشارها، ما رأيك في هذا العمل؟ وهل كثرة الفتن مسوغ لترك الدعوة؟ الجواب كثرة الفتن مسوغ لكثرة الدعوة إلى الله لمقاومة هذه الفتن، وطلب العلم جزء من الدعوة إلى الله تعالى؛ لأننا نريد داعية إلى الله تعالى يكون قد تزود بالعلم النافع فيدعو إلى الله تعالى على علم وبصيرة. والأمة كما تحتاج إلى الدعوة والعلماء تحتاج كذلك إلى طلبة العلم، وكلٌ على ثغرة من ثغور الإسلام ينبغي أن يحفظها لا يؤتى من قبلها. والداعية ينبغي أن يكون لديه من العلم ما يحفظه من الخطأ. وطالب العلم ينبغي أن يكون لديه من الدعوة ما يجعل علمه حجة له، ويجعل خيره يتعدى إلى غيره. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 39 حكم العقيقة عمن مات السؤال امرأة تسأل عن أولادها، توفوا وهم صغار، هل يلزمها أن تتمم لهم؟ الجواب التميمية أو العقيقة سنة، عن المولود الذكر شاتان، وعن الجارية -البنت- شاة واحدة، إذا ولد وهو حي. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 40 حكم أرباح بيع الأسهم السؤال لعلك لم تفهم سؤالي بالأمس. وهأنذا أجدده ثانياً، فأقول: إني اشتريت أسهماً من شركات عدة -المواشي والنقل البحري- وبعد مدة بعت هذه الأسهم بربح، فما حكم ربح البيع؟ وليس ربح الأسهم؟ الجواب أفيدك يا أخي أنني قد فهمت سؤالك بالأمس وهو سؤالك اليوم، وجوابي لك بالأمس هو جوابي لك اليوم، أن هذا الربح الذي أخذته سواء كان من ربح بيع الأسهم، أم من ربح الأسهم نفسها، أنك تنصح بالتخلص من نصفه في أعمال الخير. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 41 تأجير البيت للفساق السؤال يوجد كثير من الناس يؤجرون بيوتهم لأشخاص لا يصلون في المساجد، وبعضهم يؤجر مؤسسات فيها مجموعة كبيرة لا يصلون مع أنه يدعي أنه من أهل الدين؟ الجواب إذا كان الإنسان لديه بيت، فينبغي ألا يؤجره إلا على من يعلم أنه من أهل الخير والصلاح، أما أن يؤجر بيته لمن يستعين به على معصية فهذا لا ينبغي. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 42 حكم الحلف بالله السؤال هذا يسأل عن الحلف بكلمات الله؟ الجواب بالنسبة للحلف بكلمات الله -والمقصود بها الكلمات الشرعية- فهو جائز، لأن كلام الله تعالى هو أحد صفاته، والحلف بالله تعالى، أو أسمائه، أو صفاته جائز. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 43 حكم قص الشعر للمرأة السؤال أرجو بيان المسألة في تحريم أو جواز قص الشعر للمرأة، وما هي أوجه الحلال والحرام في هذا؟ الجواب إن كان القص على صورة تسريحة معروفة أنها من خصائص نساء الكفار التي يعرفن بها، فإذا رأيت امرأة تقص هذه القصة تظن أنها يهودية أو نصرانية فهو لا يجوز. وإن كان القص أيضاً على سبيل التشبه بالرجل بحيث تبالغ في قصه، وإنهاكه حتى كأنها رجل، فهذا أيضاً لا يجوز، لأن التشبه بالرجال وبالكفار ممنوع. أما إن لم تكن على هذا السبيل ولا ذاك، فهذا -إن شاء الله تعالى- جائز، خاصة إن كان للتجمل للزوج وفي صحيح مسلم من حديث عائشة {أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة} . الجزء: 86 ¦ الصفحة: 44 حكم ترك الوالدين بإذنهما لعمل الخير السؤال إحدى الأخوات تقول: لي زميلةٌ أحثها على دخول المركز الصيفي لتحفيظ القرآن، لكنها ترفض معللة ذلك أنها لن تدخل حتى لا تترك والدتها بالمنزل وهي تخجل من تركها، وخصوصاً في العطلة، علماً أن والدتها راضية بدخولها وأنا أعلم بصدقها في ذلك إن شاء الله؟ فهل أصر على الإلحاح عليها بالدخول أم إنني أصبح مانعاً لها من البر بوالدتها؟ الجواب لا شك أن تركها لوالدتها ما دامت ليست بحاجتها، وما دامت ذاهبة إلى حفظ القرآن ودراسته لا يعتبر من العقوق في شيء، فلا بأس أن تلحي عليها وتبيني لها أنها على خير إن شاء الله حتى ذهابها فيه بر لوالدتها؛ لأن الإنسان إذا حفظ القرآن نال والداه بذلك أجراً إن كانا ممن أعاناه عليه. الجزء: 86 ¦ الصفحة: 45 الحيل النفسية كثيرة هي حيل الشيطان التي يقذفها في نفوس الناس ليصرفهم عن الأعمال الصالحة المقربة من الله عز وجل، وهذه الحيل هي طريقة العاجز والكسول، فمن التواضع الكاذب واحتقار النفس الزائد عن اللزوم، مروراً بالخوف بأنواعه الكثيرة والعديدة، وتعريجا على حيلة طلب الكمال وعدم السعي له، وحيلة القناعة الزائدة بما هو حاصل، إضافة لحيلة إلقاء المسئولية على الغير، وانتهاء بحيل أخرى، يتلاعب الشيطان بالإنسان أيما تلاعب. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 1 بيان منهج المحاضرة إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فشكراً للمركز الصيفي بجامعة أم القرى بالطائف على تنظيمه لهذه المحاضرة وحرصه عليها -وجزى الله تعالى- القائمين على هذا المركز خير الجزاء، على جهدهم ومشاركتهم وتبنيهم لهذه المحاضرة في مركزهم. وهذه ليلة الجمعة التاسع من شهر صفر، من عام (1413هـ) والعنوان كما علمتم: "الحيل النفسية" وأود أن أقول للإخوة في البداية إن هذا الموضوع: استكمال لموضوع كنت قد بدأته من قبل، وخرج بعنوان: (الأمة الغائبة) . ولعل هذا الموضوع هو تشخيص لبعض أسباب غياب الأمة، وهو أيضاً مثل سابقه، فهو عبارة عن مطالبة بالمشاركة، أي لون من ألوان المشاركة في الدعوة إلى الله عز وجل، إذ نحن لا نشترط حين نطالبك أنت بشخصك وعينك، أيها القاعد بين أيدينا! لا نشترط لمشاركتك في العلم والدعوة والإصلاح والأمر بالمعروف شكلاً معيناً، ولا مقداراً معيناً، ولا حجماً معيناً، لكن نطلب منك مطلق المشاركة بقدر ما تستطيع، لأننا نعلم: أولاً: أنك تقدر فإن الله تعالى خلقك إنساناً، وكلمة إنسان بذاتها قبل الدخول في أي لفظ شرعي يقول أهل اللغة: هي مشتقة من النوس، ناس ينوس إذا تحرك، إذن أنت متحرك بطبيعتك، وفعال بطبيعتك، فأنت تستطيع أن تصنع الكثير، فنحن نطالبك أولاً بهذا. ثانياً: لا نشترط قدراً معيناً، لأننا نعلم أن الناس ليسوا نسخة واحدة طبق الأصل بعضهم من بعض، كلا! فالذي في كبينة القيادة هو شخص واحد، أو اثنان، والبقية هم أفراد. لقد حرصت أيها الإخوة في هذه المحاضرة على الوضوح والمباشرة وعدم التعقيد العلمي، لأن المخاطب بهذه الكلمات ليسوا هم النخبة أو علية القوم من المثقفين والخاصة والدعاة، كلا! بل نريد أن نخاطب بهذه الكلمات كل إنسان مسلم، بغض النظر عن مستواه العلمي والثقافي، وعن عمره وعن أي شيء آخر، ولذلك فلا غرابة أن أحرص على توضيح العبارات وبسطها والبعد عن أي لون من ألوان الترتيب العلمي، الذي قد يصعب ويشق على الناس فهمه. ومن قبل كان ابن قتيبة رحمه الله يقول في بعض كتبه: " ينبغي أن يكون الخطيب متخير اللفظ، قليل اللحظ، لا يحرص على تدقيق العبارة ولا على تخصيص المعاني " أي: أنه يذكر معان مجملة عامة يسهل على كل إنسان فهمها، وليس فيها من الغموض والدقة أي مقدار، ومن بعده كان الإمام الشاطبي يقول: " إن السلف رحمهم الله تعالى كان الواحد منهم لا يهتم بالألفاظ، بل يلقي الكلام على عواهنه وكيفما اتفق، متى ما علم أن هذا الكلام يؤدي المعنى المقصود، ويصل إلى ذهن السامع ويبلغ المعنى الشرعي ". إذاً: لندرك أننا في هذه الجلسة لا يعنينا تزويق الألفاظ ولا تصفيف العبارات، ولا الترتيب العلمي والموضوعي، بقدر ما أمامنا من الحيل النفسية التي نتستر بها أحياناً، وينبغي أن نكتشفها ونفضح أنفسنا أمامها، ونضع أنفسنا أمام الحقيقة وجهاً لوجه، ولا نبقي عذراً لمعتذر ينبغي أن يقوم بعمل في سبيل الله عز وجل. إذاً: فلا تنتظر مني استكمالاً للموضوع ولاتطويلاً فيه، ولا تنظيراً؛ بل ولا حسن ترتيب، وحسبي أن تفهم الكلام الذي أقوله، وتوقن بأنه حق وأنه ينبغي أن نعالجه. وبادئ ذي بدء نلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن العجز واستعاذ منه، فقال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم وهو حديث طويل: {احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز} فهذا نهي: (ولا تعجز) ، فاحتفظ بكلمة العجز، حتى نفكر بعد قليل ما هو العجز. ثم تنتقل فتجد أن من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم الذي ثبت عن جماعة من الصحابة مثل أنس بن مالك أو غيره أنه كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ من العجز: {أعوذ بك من العجز} والحديث جاء عن أنس وزيد بن أرقم وهو في الصحيح وغيره، وتجد في القرآن الكريم كلمة العجز موجودة في مواضع منها: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة:31] فهنا يبرز أمامك العجز. فالعجز إذن مرض سببه الغفلة، وعدم الاهتداء، حتى إن هذا الإنسان لم يكن عاجزاً عن أن يحفر الأرض ليدفن أخاه الذي قتله، ولكنه غفل عن هذا المعنى ولم يتفطن له حتى رأى الغراب يبحث في الأرض، فاستيقظ وتنبه، ولام نفسه أن يكون الغراب معلماً له، ويسبقه إلى هذه القضية، فيحفر في الأرض فقال: {يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} [المائدة:31] . ولذلك قد نكتشف أن العجز هو صفة ملازمة للمعتدين أحياناً، لأن هذا الإنسان كان معتدياً، فالاعتداء غلّف قلبه، وغطى على فطرته حتى لم يتفطن إلى مسألة أن يحفر الأرض ليدفن أخاه. فالزيادة، أو النقص، أو التفريط كل هذه الأشياء تكون سبباً في ابتلاء الإنسان بالعجز والقعود عن العمل، ولذلك وصف الله المنافقين الذين تخلفوا أنه أراد سبحانه أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وبما كسبت أيديهم، وكذلك بعض المؤمنين الذين هربوا وتولوا من المعركة، قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران:155] {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] . فالإنسان يتعلم حتى من الحيوان، وأنت تعرف قصة الإنسان الذي أراد أن يتعلم النحو، حتى تروى هذه القصة عن سيبويه أو غيره، ففشل مرة أو مرتين وثلاثاً، فبعد ذلك رأى نملة تصعد وكلما صعدت تسقط ثم تكرر المحاولة، فتلقن من ذلك درساً أنه يجب أن يحاول ويكرر المحاولة فيستفيد حتى من الحيوان، أو الطير، أو غيره. وهذا العجز الوارد في الشرع هو ما يمكن أن نعبر عنه -أحياناً- بالعوائق النفسية أو الحيل النفسية، وهو داء في القلب أو في النفس، لكن قد لا يصل إلى حد الضرورة كما قد يفهم البعض أن صاحبه مريض مرضاً نفسياً، أو مجنون لا، لكن عنده نوع من الخلل، وأنت تلاحظ الفرق بين إنسان سوي النفس، سليم القلب، ملتزم بالكتاب والسنة، كثير الإقبال عليهما، شديد التوكل على الله، فتجد أن موازينه وحساباته مضبوطة، وآخر: أعماله النفسية كلها غير طبيعية، بل هي مصابة بالخلل بسبب نوع من عدم الاعتدال عنده، فتجد مثلاً قضية الإدراك غير منضبطة، لا يدرك الأمور إدراكاً صحيحاً ولا يتصورها تصوراً صحيحاً، ولا يتذكرها، ولا يتخيلها بشكل صحيح، فهو يدركها على غير صورتها؛ ولذلك يخطئ الحسابات -كما سيأتي أمثله لذلك بعد قليل- وبالتالي تجد أن هذا الإنسان لا يعمل. وأحياناً تجد إنساناً قاعدة لا يعمل، ولو قلت له لماذا لقال: عسى الله أن يهديني! فأنا قادر ومستطيع، فلا يخدع نفسه أو يضحك عليها، لكن آخر تجد أنك إذا حادثته لماذا لا تقدم شيئاً؟ بدأ يفلسف هذا العجز، ويظهره بصورة العقل أحياناً، أو بصورة الفهم، أو الحكمة، أو حتى بصورة الشرع، كما سوف يبدو لك، فما هي هذه الأعذار التي نتستر وراءها -أحياناً- حتى نترك العمل؟ وقبل أن أذكرها أود أن أقول لك شيئاً؛ حتى تدرك هل أنت تعيش نوعاً من الحيل النفسية أو لا؟ تصور -وأنت قاعد بين يدي الآن- هل تشعر أن الكلام هذا موجه لك مباشرة أو تشعر أنه يعني أناساً آخرين غيرك؟ فإن كنت تتصور أن الكلام موجه لك أنت بالذات دون غيرك، فهذا دليل على نوع من الوضوح والصراحة مع نفسك، لكن إن كنت تشعر أن المخاطبين أناس موجودون في كوكب آخر، فيجب أن تتنبه إلى أن هذه هي بداية الحيل النفسية، أنك تجعل الكلام يزل عن يمينك وشمالك ولا يصيبك. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 2 حيلة التواضع الكاذب وأول هذه الحيل هو: التواضع الوهمي الكاذب، فيرى الإنسان أنه ليس أهلاً لشيء، لا لعمل، ولا لوظيفة، ولا لشهادة، ولا لإمامة، ولا لخطابة، ولا لدعوة، ولا لتصدر، لا لإدارة ولا لشيء، يقول: أنا أعرف نفسي، لا تظن أني متواضع، لا، هذه الحقيقة ولو تعرف ما في نفسي من العيوب لعذرتني، وأدركت أنني لا أقول إلا الحقيقة، فدعني وما أنا فيه، وعبثاً تحاول إخراج بعض هؤلاء الناس من تواضعهم الوهمي الذي أصبح يحول بينهم وبين أي عمل. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 3 مثال معاصر أضرب لكم مثالاً يسيراً، وإنما اخترته لكثرة تكرره، فقد رأيت الكثيرين من الشباب وهم أئمة مساجد، وأساتذة مدرسين في حلقات، ومشرفين على نشاطات خيرية، تجد الواحد منهم يتبرم من عمله، ويتضايق، ويهم بالترك حتى كأنه عصفور في قفص، وقد التقيت بالكثيرين منهم، فأسأله لماذا، يقول: عندي عيوب، عندي أخطاء، أنا لا أستحق هذا العمل! وبعد ما أحدثه واكتشف ما في نفسه، أكتشف -مثلاً- أن هذا الإنسان مبتلى بما يسمى بالعادة السرية، صحيح هذا خطأ، وينبغي أن تبذل جهدك في الخلاص منه، ولو لم يكن من سيئاته إلا ما أوجده في قلبك من الضيق والتبرم والحسرة والشقاء والخجل لكفى. ولكن هذا الذنب -حتى مع القول بتحريمه، وهو قول كثير من أهل العلم وإن لم يقولوا: بأنه من كبائر الذنوب، بل هو من صغائرها- هل يوجب ترك الإمامة والدعوة وترك الخطابة، والتعليم والتوجيه؟! بل ربما يغفر لك بسبب إنسان علمته، أو دعوته أو وجهته، أو ركعة ركعتها، أو صلاة صليتها بالمسلمين، وهذا ضرره قاصر على نفسك لا يتعدى إلى غيرك. فأعمال الخير التي تقوم بها أنت نفعها متعدٍ إلى الأمة كلها، فلا يخدعنك الشيطان، ويجرك من الأعمال الصالحة بهذه الحجة الواهية، ثم بعد ذلك لا أنت تركت المعصية أو الذنب الذي أنت واقع فيه، ولا أنت قمت بهذه الأعمال الصالحة التي تقاوم الإثم والسيئة. والله عز وجل يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} . إذن لا بد من النزول إلى الميدان، ولا بد من المشاركة في الأعمال، ولا بد من التوكل على الله عز وجل، ولا بد من العلم الصحيح الذي يضيء للإنسان الطريق الصحيح، ويبين له ما يأخذ وما يدع، ولا بد من أن يهتم الإنسان بأمر نفسه ودعوته، فيهتم بموضوع القدوة، ويهتم -أيضاً- بموضوع الدعوة، فإذا أراد أن يقوم بالأعمال الصالحة، فإنه يحرص على إتقانها وأدائها. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 4 الرغبة في العمل الديني مطلب شرعي عثمان بن أبي العاص كما في الصحيح يقول: {يا رسول الله اجعلني إمام قومي!! قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} فـ عثمان بن أبي العاص لم يمنعه تواضعه وهضم نفسه من أن يطلب عملا دينياً، والإمامة ليست عملاً دنيوياً وإلا والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنا لا نولي هذا الأمر من طلبه} لكنه ديني، ولهذا وصف الله تعالى المتقين كلهم بأنهم عباد الرحمن وبأنهم يقولون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . فلم يطلبوا أن يكونوا من المتقين فقط، بل طلبوا أن يكونوا أئمة للمتقين، فليسوا أئمة للمؤمنين أو للمسلمين فقط؛ بل للمتقين. ولا شك أنه من الغبن أن يقول العبد في سجوده: واجعلنا للمتقين إماماً، ثم يطلب منه أن يتولى أمر ثلاثة في دعوة، أو إصلاح، أو قيادة، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، ثم ينفض ثوبه ويتنصل ويقول: لا أستطيع! لا أستطيع! لأن مقتضى الشرع أن الدعاء يتطلب العمل الصالح، فإذا قلت: واجعلنا للمتقين إماماً فينبغي أن تسعى إلى تحقيق الإمامة في الدين، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] ولما قال ربيعة بن مالك الأسلمي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة، قال: أعني بكثرة السجود} فإذا دعوت بشيء فعزز دعاءك بفعل الأسباب. وكما قال عمر رضي الله عنه: [[اخلط مع دعاء العجوز شيئاً من القطران]] كانوا يقولون: إذا أصاب إبل الصدقة الجرب، يقولون نذهب إلى عجوز هناك لتدعو فيشفيها الله تعالى، فقال عمر: لا، بأس! هذا جيد، اذهبوا إلى العجوز تدعو، وهاتوا القطران -وهو نوع من العلاج- فاطلوا به هذا الجرب فيزول بإذن الله تعالى، فالسبب لا بد من فعله، والدعاء سبب، وفعل العمل الصالح من السجود أو السعي إلى الإمامة في الدين بالصبر والتقوى واليقين هو أيضاً مطلوب. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 5 الاعتذار بالمعصية وأحياناً تجد أن المعصية أو النقص أو التقصير تتسبب للإنسان في ترك العمل الصالح، وكأنه يظن أنه لا يعمل للخير إلا الكاملون أما الناقصون فلا يعملون، مع أنك لو نظرت إلى النص الشرعي لوجدت غير هذا، يا فلان لماذا لا تدعوإلى الله؟ قال: الله المستعان! روائح ذنوبي فاحت، وأنا أستحي أن أقف أمام الناس، وأستحي من الله تعالى، وأخجل أن أعظ الناس، وأنا أحتاج إلى من يعظني. يا أخي! عندك الآن مال فهل تزكيه؟ فيقول: نعم أزكيه؛ لأنه بلغ النصاب، فنقول: المال إذا بلغ النصاب وجب عليك تزكيته، ألم تعلم أن العلم عليه زكاة أيضاً؟ مع أن العلم ليس له نصاب. فالرسول صلى الله عليه وسلم بين النصاب في الأموال الزكوية ولكن بالنسبة للعلم فإنه قال: {بلغوا عني ولو آية} كما في الصحيح، آية واحدة فقط، أو حديثاً. وقال صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرأً سمع منا حديثاً فبلغه} فنصاب العلم آية واحدة أو حديث واحد! وهل من المسلمين كلهم من لا يحفظ آية أو حديثاً، فينبغي أن تتفطن أن كل قدر من العلم ولو قل عندك، عليه زكاة وأن تقصيرك أنت بفعل المعصية ليس موجباً بل ولا مبيحاً لترك النهي عنها وتقصيرك بترك الطاعة ليس موجباً بل ولا مبيحاً بترك الأمر بها، بمعنى يجب أن تأمر بالمعروف ولو كنت تاركاً له، ويجب أن تنهى عن المنكر ولو كنت واقعاً فيه: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد ولا شك في هذا؛ بل يكاد أن يكون إجماعاً لأهل العلم، إذ كونك تركت المعروف بنفسك هذا خطأ فلا تعالجه بخطأ آخر وهو أنك -أيضاً- لا تأمر به، وكونك فعلت المنكر فهذا خطأ، لكن تعالج هذا الخطأ بخطأ آخر وهو أنك لا تنهى عن المنكر. أضرب لك مثالاً: أنت -وحاشاك- مبتلى بشرب الدخان؛ لأنك نشأت في بيئة لم تعودك على ترك هذا، فأخذته بالتقليد والعادة، وأصبح صعباً عليك بسبب الإدمان تركه، فتزوجت ورزقت بأولاد، فوجدت ابن عشر سنوات من أبنائك يدخن، فهل تقول حينئذٍ: لا أنهاه لأني مدخن؟ قطعاً لا، بل ستقول: سأمنعه، وستتخذ من كونك مدخناً حجة لك، وستقول: يا ولدي أنا جربت قبلك، وابتليت بهذا الداء الذي أتمنى أن أخرج من مالي وأتركه، ولكن عجزت، فأنت الآن ما دمت في بداية الطريق، ابتعد عن هذا الشيء. فتستفيد من الخطأ الذي وقعت فيه في نهي الناس، مع أنك مطالب بترك المعصية، ومطالب بفعل الطاعة، لكن ليس من شروط الأمر بالمعروف أن تكون فاعلاً له، ولا من شروط النهي عن المنكر أن تكون تاركاً له. أما قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] فهذا نعم، ولا شك أنه يوبخ؛ لأن الآمر للناس عالم وكان المفروض أن يكون أول الممتثلين، كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] ولكن كونك قصرت في هذا لا يبيح لك أن تقصر في الثاني. ومثل ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كما في حديث أسامة في صحيح البخاري: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} . فنقول: هل هذا دخل النار؛ لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ كلا! الأمر بالمعروف والنهي عن المكر بالنية الصالحة عمل صالح يدخل الجنة ويباعد عن النار، وإنما دخل النار؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف؛ أو لأنه كان يأمر وينهى على سبيل النفاق والخداع والتغرير، لا على سبيل الصدق والإخلاص والعمل الصالح. والإنسان الإيجابي الفعال له منطق آخر، تجده يلقي درساً عن قيام الليل ويرغب الناس فيه، فإذا قالت له زوجته -التي تعرف أنه لا يقوم الليل- أو قال له زميله - الذي يعرف أنه لا يقوم الليل- يا فلان تحث الناس على قيام الليل وأنت منجعف على فراشك تتقلب! ألا تخاف الله؟! ألا تستحي؟! حاولَ أن يقوم، وبذل جهده، لكنه يقول في نفسه: ربما قام أحد هؤلاء الناس الذين سمعوا موعظتي فدعا الله تعالى، فكنت أنا شريكاً له في الأجر؛ لأنه قام بسبب موعظتي، وربما أشركني في دعوة صالحة، والدال على الخير كفاعله. وفي حديث أبي هريرة عند مسلم: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه} . وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها} فيأخذ الأمر من هذا المنطلق. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 6 تحديد المشكلة وليست المشكلة في وجود الشعور نفسه، كون الإنسان يتكلم عن نفسه بازدراء، أو باحتقار، أو يهضم نفسه، أو يوبخها- هذا لا شيء فيه بل هو أمر فطري، بل المؤمن الصادق هو كذلك، لا يصاب بعجب، ولا غرور، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه كما في الصحيح [إن المؤمن يرى ذنوبه مثل جبل على رأسه يخشى أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على وجهه، فقال به هكذا بيده فطار] . إذن لا نعيب عليك أن توبخ نفسك، ولا أن تزدريها، ولا أن تحتقرها، فهذا لا شيء فيه، ولكن المشكلة أن يتحول هذا الشعور عندك إلى منهج يحكم كل تصرفاتك وأعمالك، فإذا قلنا لك: يا فلان تول أمر المسجد وصلِّ بالناس! أو درّس، أو اشغل هذه الوظيفة المهمة، أو ألف كتاباً، أو ألق محاضرة، أو درساً، أو مر بالمعروف وانه عن المنكر هززت رأسك، وقلت الله المستعان! "لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني" فتحول هذا الشعور إلى عائق وحائل يمنع الإنسان من العمل، وأنت تجد أن كلام السلف يدل على أن المشكلة ليست في وجود هذا الشعور والكلام، لكن المشكلة أن يتحول إلى ذريعة لترك العمل الصالح، مثلاً أبو الوفاء بن عقيل، صاحب كتاب الفنون في ثمانمائة مجلد، وهو من أذكياء العالم، له كلام عجيب في توبيخ نفسه، نقله ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر وقال ابن الجوزي بعدما وبخ نفسه وذمها وعاتبها قال: وقد رأيت الإمام أبو الوفاء بن عقيل ناح على نفسه نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فنقلتها هاهنا، ماذا قال أبو الوفاء بن عقيل؟ قال كلاماً طويلاً مقصده أن أبا الوفاء بن عقيل يخاطب نفسه ويقول: يا نفس ماذا استفدت من عمرك الطويل؟ استفدت أن يقال لك: إنك إنسان مناظر قوي الحجة لا غير، وعما قليل تترك ذلك بالموت، بل وحتى في حياتك لو برز للناس شخص أو شاب أقوى منك عبارة، لربما موهوا له بالقول، وركضوا وراءه وتركوك، فماذا انتفعت من قول الناس لك يا مناظر؟ وأنت تعلم ما في نفسك وما في قلبك، ثم قال: " والله ما أعلم في نفسي حسنة أستطيع أن أسأل الله بها، فأقول: اللهم إني أسألك كذا بكذا، وعما قليل أموت، فيقول الناس: مات الرجل الصالح العالم الورع التقي، ووالله لو علموا حقيقتي ما دفنوني " وكلام من هذا القبيل طويل. ثم قال: " والله لأنادين على نفسي وأفضحها لعل الله تعالى أن يرحمني بذلك " ولعل الكثير منكم يحفظ نونيه القحطاني: والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقاني ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوان إلى آخر قصيدته. لكن السؤال أن أبا الوفاء بن عقيل وابن الجوزي والقحطاني ومن قبلهم؛ حتى الصحابة رضي الله عنهم، لهم كلام كثير في ازدراء النفس، فهل هذا الشعور بالنفس جعلهم لا يعملون ولا يجاهدون، ولا يأمرون بالمعروف، ولا ينهون عن المنكر؟ لا! أبو بكر هو الخليفة، وأمور المسلمين كلها في عنقه، ومع ذلك وكثيراً ما يوبخ نفسه، فإذا مدحوه قال: [[اللهم اغفر لي مالا يعلمون واجعلني خيراً مما يظنون]] وكثيراً ما كان أبو بكر رضي الله عنه يقبل على نفسه يوبخها ويذمها. ومثله عمر الخليفة وتعرف ماذا فعل عمر؟ رجل إيجابي من الدرجة الأولى، ومع ذلك كان يقول: [[بخٍ بخٍ يـ ابن الخطاب! بالأمس ترعى غنم الخطاب واليوم أمير المؤمنين! والله لتتقين الله أو ليعذبنك]] . إذاً فرق بين شعورك بالازدراء والاحتقار لنفسك الذي هو خير وضمانة عن العجب والاغترار، وعن حبوط العمل وعن الكبر وعن الغطرسة وعن رد الحق، فرق بين هذا وبين هذا الاحتقار للنفس الذي هو مدخل من مداخل الشيطان يجعلك لا تقوم بأي عمل صالح، ولا تمارس أي دور. وكلام أبي الوفاء بن عقيل وابن الجوزي والقحطاني، ومن قبلهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لم يمنع آخرين من أن يتكلموا مما وهبهم الله من الخير والنعم، لأن النعمة يجب أن تشكر، وأول مراحل الشكر للنعمة هو أن تعرف النعمة، قال الله عز وجل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل:83] فأول مراحل شكر النعمة المعرفة، فإذا كان الله قد أعطاك مواهب فلا بد أن تعرف هذه المواهب، حتى تشكرها، ولو جحدتها لكنت منكراً لنعمة الله عليك. فهذا يوسف عليه السلام نبي الله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] فما منعه أن يطالب بأن يكون على خزائن الأرض لأنه يعلم أن الله تعالى قد اختصه بهذه المزايا، بن عباس يقول: [[أنا من الراسخين في العلم في قوله تعالى: ((وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)) [آل عمران:7] وفي قوله تعالى: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف:22] قال: أنا من القليل الذي يعلمه]] فلم يمنعه تواضعه أن يقول هذا. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 7 حيلة الخوف الحاجز الثاني أو الوهم الثاني: هو وهم الخوف، والخوف أذل أعناق الرجال، وكما أسلفت حينما يكون عند الإنسان خلل في نفسيتة يكون عنده خلل في تصوره، وإدراكه للأمور، وتخيله لها، فتجد أنه يخطئ في الحسابات، ويضخم الأمور تضخيماً مبالغاً فيه. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 8 الخوف من الفشل من ألوان الخوف وهو نوع من الحيل النفسية: الخوف من الفشل، فتجد الإنسان لا يقوم بأي عمل، يقول: أخشى من الفشل! أقترح عليك أن تقوم تلقي كلمة، قال: أخاف أن أخطئ باللغة أو آتي بكلمة مضحكة فيسخر الناس مني ثم بعد ذلك لا تقوم لي قائمة! لماذا لا تفتح مؤسسة تجارية تستفيد منها ويستفيد من ورائها المسلمون؟ قال: أخاف من الخسارة. إذاً هذا الخوف يمنع الإنسان من أي عمل، وبناءً عليه يجب أن تدرك أن أي عمل في الدنيا يتطلب قدراً من التضحية، وقدراً من المغامرة. فالعمل التجاري خاصة إذا كان عملاً مدروساً قد يفشل فعلاً، لكن كم نسبة فشله؟ قد تكون (10%) ، وهذه النسبة لا يلتفت إليها، ثم لو حصل الفشل فالنتيجة: ربما تخسر عشرة آلاف ريال، أو خمسة عشر ألف ريال، أو عشرين ألف ريال فقط! وتستطيع أن تسددها، وليس معنى الفشل أنك خسرت الدنيا والآخرة، ولذلك تفكر بقدر إمكانياتك، لا تفكر تفكيراً خيالياً. والكلمة التي نطالبك أن تلقيها أمام الناس، تقول: يمكن أن أخطئ، فإذا أخطأت سيكون ماذا؟ سأستحي وأخجل، لكن هذا الخجل سينتهي خلال يوم أو يومين، وتمتنع عن الكلمة أسبوعاً، ثم في الأسبوع الثاني ربما تكررالمحاولة، ولا تعود إلى الفشل بإذن الله تعالى، ومع ذلك نقول: ينبغي أن تحتاط وتضبط الكلام، وتعده إعداداً جيداً حتى تطمئن -إن شاء الله- أنك لن تخطئ، وإن كان خطأً فسيكون خطأً يسيراً ويمكن أن يحتمل -مثل أن يكون خطأ في اللغة-. حتى لو تصورت السباحة، كم شخصاً لا يجيد السباحة؟ ولماذا؟ وهي عملية بسيطة لا تحتاج إلى جهود ولا إلى تعب. فإن الحيوانات تسبح -تلقائياً- إذا وضعت في الماء، لكن تجد الإنسان؛ لأنه تعلم الخوف تجده يخاف ولا يسبح لأنه يخاف من الغرق، وبهذا الخوف توقف عن أي عمل إيجابي ومثمر. إذاً فلا بد أن تعمل أعمال الخير؛ بل أعمال الدنيا المطلوبة منك باجتهادك، ولأن تعمل باجتهاد ويتبين لك فيما بعد أن هذا الاجتهاد مرجوح خير من أن تقعد ولا تعمل، الذي يعمل ويخطئ أحب إلينا من الذي لا يعمل أصلاً، فكونك تأمر بالمعروف ثم اكتشفت أنك أغظت هذه المرة في الأمر بالمعروف، أنت أحب إلينا من الشخص الذي لم يأمر بالمعروف، خاصة إذا كان الإغلاظ بقدر معقول، لأنك استفدت درساً من الإغلاظ هذه المرة، فالمرة الثانية سوف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بالحسنى، والحكمة، والكلمة الطيبة، ولن تغلظ لأحد بقول ولا فعل، لكن ذاك الإنسان الذي لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر قد قصر في أصل الواجب، وأنت مطالب بأن تعمل وتصحح وتواصل، ولا تقف عند الخطأ، بل صحح الخطأ وواصل. ولو تأملت القرآن والحديث لوجدت أن ترك العمل وخوف الفشل من سيما المنافقين، فإياك أن تكون منهم: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] فإذا خضنا معركة وقتل منا من قتل، جاء أحد، وقال: قتل هؤلاء ونزفت دماءهم! لوأطاعونا وجلسوا في بيوتهم ما قتلوا: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران:168] . ومن لم يمت بالسيف مات بغيره قتل هؤلاء في المعركة شهداء في سبيل الله، كم يموت ويقتل في سبيل الطاغوت؟ كم يقتل في سبيل الدنيا؟ كم يقتل من مهربي المخدرات؟ وكم يقتل وكم؟! أعداد غفيرة من الناس، ثم كم يموت بالمرض؟ وكم يموت بالجوع والعطش والعري والبرد والحر؟! أعداد غفيرة من الناس، فلماذا تستكثر أن يموت في سبيل الإسلام بضعة أشخاص أو مئات أو ألوف ولا تستكثر أن يموتوا في سبيل الدنيا؟ فإن الموت حتماً على كل إنسان. ومن لم يمت بالسيف مات بغيره {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا * لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:153-154] نحن لم يكن رأينا الخرج إلى المعركة، كان رأينا أن نجلس في المدينة فلو أن الرسول صلى الله عليه وسلم استشارنا ما قتلنا هاهنا: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] . إذاً: المؤمن بالقضاء والقدر لا يأتي دائماً وأبداً ويقول: لو ولو … !! ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال في نفس الحديث الذي سقته سابقاً حديث أبي هريرة: {لا تعجز} فهناك عن العجز، ومن أسباب العجز الخوف من الفشل. ولذلك قال: {وإن أصابك شيء -أي عملت ووقع عليك شيء- فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان} . من صور الخوف أيضاً: الخوف من النقد والتبرم به، فالكثيرون من الناس يمتلكون حساسية مفرطة شديدة، لا يحب أن يسمع كلمة نقد، وإذا انتقد يحس بأنه اختل توازنه ويتمنى أن تنفتح الأرض لتبتلعه خجلاً، أو تجد بعض الناس يستكبر على النقد، ويتعجرف على أن يسمع، مع أن الواقع أن الإنسان إذا قام بعمل فهو عرضة للنقد، ولهذا قالوا: من ألَّف فقد استهدف، أي أنك إن كتبت كتاباً وقدمته للناس فسيقرؤه مئات أو ألوف، فهذا أعجب بالكتاب، وهذا لم يعجبه، وهذا أعجب به ولكن عليه بعض الملاحظات، كل هذا شيء طبيعي. وحينما تلقي درساً أو محاضرة، سيقول هذا زاد، وهذا نقص، وهذا أخطأ، وهذا لحن، وهذا أفرط، وهذا فرط إلى آخره، وهذا شيء طبيعي، فأنت عندما تقوم بأي عمل ضع في اعتبارك أنك عرضة للنقد، حتى الأعمال الدنيوية كالتجارة، سيقول لك أحدهم: والله يا فلان لو كان المتجر في المكان الفلاني لكان أفضل! وآخر يقول: العامل الذي وضعته هنا غير مناسب، أخلاقه سيئة، وغير مأمون! إذاً فأنت عرضة للنقد، فينبغي أن يكون لديك استعداد للعمل واستعداد لتقبل النقد، واستعداد للتصحيح -أيضاً- لأن الناقد -كما يقول بعضهم- يفترض الكمال فيما قلت أو فيما فعلت، ولهذا يطالبك بالمزيد. ولهذا قال الشاعر حتى عن خصومه: عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا همو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا ما رأيك في إناء تشترك في غسله أيادٍ كثيرة من أيدي الأصدقاء والأعداء، لا بد أن يتنظف هذا الإناء ولو بعد حين. ومن ألوان الخوف: الخوف على المكاسب: فهذا موظف كسب في وظيفته مستوى معيناً، أو رتبة معينة، فتجده لا يحاول أن ينتقل إلى إدارة أخرى، لأنه يخاف على بعض المكاسب التي حصل عليها من إدارته، فيقول أنا أقمت علاقة جيدة مع الرؤساء، فربما لو انتقلت إلى إدارة أخرى قد لا يحصل هذا! فهذا قد يقع، لكن -أحياناً- تجد أن هذا الخوف قد يحول بينك وبين عمل أفضل لك. كذلك التاجر إذا اقترحت عليه الانتقال إلى عمل تجاري أمثل وأفضل خاف! حتى بائع المسامير في السوق، لو تأتي وتقول له: يا فلان أنت تتاجر بالمسامير! الناس الآن بنت الدور وملكت القصور، وأنت رجل عندك عقل وتفكير وكذا فيتصور هذا الإنسان أنه لو ترك بيع المسامير أنه سوف يموت هو وأولاده جوعاً، لأنه حصل على كسب بسيط، وهو يخاف على هذا المكسب أن يضيع! مثله داعية قام بعمل طيب لكن هذا العمل محدود، مثلاً أقام مكتبة، ونشط في هذه المكتبة، وهدى الله على يديه أفراداً من الحي، فتقول له: يا أخي أنت ليس من حقك أن يهدي الله على يديك خمسة أو عشرة، أنت من حقك أن تخاطب بلداً أو أمة بأكملها، قال لك: نعم، لكن عندي هؤلاء العشرة، وهؤلاء أخاف عليهم أن يضيعوا، ليس لهم أحد غيري. فالخوف على هذا المكسب تسبب في أنه يفوت على نفسه خيراً أكبر وأعظم، قد يكون هو قدره، قد يكون هؤلاء الأفراد هم الحجم المناسب لإمكانياته، لكن أحياناً قد تجد الإنسان يمتلك مواهب أكبر وأوسع وأكثر وقدرات وإمكانيات قد أهدرها وضيعها، لأنه ارتبط بهذا الواقع أو هذا الوضع، فصار يخشى على هذا المكسب، وهو مكسب حقيقي ولكنه محدود. فهذا يمكن أن يقوم به إنسان آخر أقل منه موهبة، فخسرنا بذلك وخسر هو أموراً أكبر لماذا؟ لأنه دائماً يمد يداً قصيرة، وهو يحامي دون هذه المكاسب ويخاف عليها، ولذلك كلما قيل له تعال إلى هذا الميدان، قال: لا، أنا أخاف على فوات بعض ما كسبت. فلا بد من كبر الهمة وعلوها وحسن الظن بالله تعالى، والعوام يقولون في أمثلتهم: قل خيراً يقله الله عز وجل، ونحن لا نقول هكذا، لكن نقول كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي وهو صحيح: {أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء} فَظُنَّ بالله خيراً. واعتقد أن الله سفتح لك أبواب الخير، متى ما كبرُت همتك، واتسع نطاق تفكيرك، وانتقل من مكسب إلى مكسب، ومن نصر إلى نصر أكبر منه، ولا تقف عند حد معين وتقول: هذا يكفيني. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 9 الخوف من الناس فمثلاً: إنسان عنده وسواس -ولا شك أن الوسواس نوع من الخلل- فتجد أن هذا الموسوس يخاف من الكفردائماً، فيقول لأخيه: أنا قلت كذا، فهل يعتبر هذا كفر؟ فإن قلت له: لا، وأتاك بعد فترة، وقال: أتيت وكان في قلبي كذا، فهل يعد هذا من الكفر؟ تقول له: لا، وربما سألك في اليوم عشرين سؤالاً كلها تدور حول هل يعد من الكفر؟ هل يعد من الكفر؟ فنقول لهذا: أنت إنسان موصول القلب بالله عز وجل، مقبل على الله تعالى، محب لله ولدينه، حريص على تجنب الشبهة، فضلاً عن الحرام، فضلاً عن الكفر! فكيف تحول الأمر إلى خوف في قلبك؟ لكن هذا بسبب أن عنده خلل في نفسيته، فصار عنده خلل في إدراك الأشياء وتصورها، وتخيلها ومعرفتها. تجد بعض الناس يخاف من الطلاق، حتى إن بعضهم مجرد خاطر في قلبه يأتيه الشيطان، فيلقي عنده خاطر أنه إذا لم تتجاوز هذه السيارة تسبقها فزوجتك طالق! مجرد خاطر! فتجده يسرع بقوة حتى يسبق هذه السيارة! فإذا وصل إلى الإشارة وضع الشيطان في قلبه وَهماً أنه إذا لم ترجع من عند هذه الإشارة وتأخذ الدورة -مرة أخرى- من عند الرصيف فزوجتك طالق! فتجد هذا المسكين يركض كالمجنون، تركض وراء ماذا؟! وعمَّ تبحث؟! مجرد أوهام يلقيها الشيطان نتيجة خلل في النفسية واضطراب، وعدم وضع الأمور في مواضعها. هذا نموذج قد يكون واضحاً وربما يضحك البعض منه؛ لكن خذ أمثلة مشابهة، قد لا تضحك منها، تقول أنا مبتلى بها-مثلاً- الخوف من رجال الأمن، والخوف من أجهزة المخابرات، وأجهزة المباحث، تجدها ترسم بصماتها -أحياناً- على بعض الناس فيخاف من كل شيء ويقرأ الخوف في كل حركة وفي كل لفتة، وفي كل نظرة، يخاف من المباحث، ويخاف من الاستخبارات، ويخاف سواء الدول العظمى أو غيرها. حتى يقول أحدهم وكان إنساناً أخطأ فهرب، فيقول معبراً عن هذا المعنى بالضبط يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامةٌ لقلت عدو أو طليعة معشرِ فإن قيل خيرٌ قلت هذي خديعةٌ وإن قيل شرٌ قلت حق فشمرِ أي: إن جاء أحد يطمئنني ويقول: اطمئن الأمور على خير، قلت: هذا يخدعني، هذا مرسل ليخدعني، وإن جاءني أحد يقول: خف وأهرب، الطلب في إثرك، قلت: هذا صادق؛ ثم شمرت وركضت من الخوف. وآخر يقول: حتى صدى الهمسات غطاه الوهن لا تنطقوا إن الجدار له أذن والثالث يقول: لو كنت أستطيع … أن أقابل السلطان قلت له: يا حضرة السلطان! كلابك المفترسات دائماً ورائي كلابك المفترسات مزقت حذائي ومخبروك دائماً ورائي أنوفهم ورائي عيونهم ورائي آذانهم ورائي كالقدر المحتوم كالقضاء يستجوبون زوجتي … ويكتبون عندهم أسماء أصدقائي. والرابع الذي يقول: إن هناك مخبراً يدخله مع الشهيق، ويرسل التقرير مع الزفير كما يقول. وهذا شاعر، ومن عادة الشاعر أنه يحب المبالغة، وليس بالضرورة أنه يعيش هذه الأوهام، لكن هو يصور حقيقة إنما بالغ في تصويرها، ولكن هذه المبالغة تتحول إلى إحساس حقيقي عند بعض المرضى وبعض المصابين، فتجد أنه يخاف من كل شيء، ولا يعمل شيئاً. تخايله الأوهام دائماً وأبداً، وبالعكس تجد أحياناً دولاً أو مسئولين في دول أو شخصيات، تجده يخاف من الناس، يخاف من شعبه ويفسر كل حركة، وكل خطوة، ولكل سكنة، وكل محاولة، وكل شيء بأنه ضده، وأنه المقصود منها، فتجده يواجه هذا، ويحارب هذا، ويفرق المجتمع، ويجمع المتفرق، ويقوم بحركات تنبئ عن الخوف. فهذا الخوف: هو في كثير من الأحيان، عبارة عن وهم نفسي، وليس حقيقة واقعة، وبالتالي يتصور أنه يستطيع أن يؤذي الناس أو يبطش بهم أو يشكل أو يكمم الأفواه وما أشبه ذلك، ولكن هيهات!! وهذا ما يسمى -أحياناً- بعقدة المؤامرة التي توجد لدى الفرد أو الجماعة أو الدولة، وهو: شعورك بأن كل شيء مؤامرة، ومخطط ضدك، أو ضد هذه الدولة أو ضد الإسلام، أو ضد جماعة بعينها، نعم نحن ندرك بأن هناك مؤامرات، ويجب أن نعرف الواقع، ونعرف حجم عدونا، ونعرف كيف يفكر، وكيف يعمل، وحتى لا نبالغ، فنحن في أحيان كثيرة نتكلم عن مؤامرات الأعداء، ونشخصها، وقبل أيام كان لي درس عن وسائل المنصرين، وسأتحدث عن هذا الموضوع أيضاً مرات أخرى. وهناك فرق بين أن تدرك الواقع على طبيعته، وبين أن تضخم هذا الواقع حتى يتحول إلى عقدة عندك، فتتصور أن كل شيء وراءه مؤامرة، حتى لو كان شيئاً صالحك تخيلت أن وراءه مؤامرة فتوقفت عنه، مثل إنسان يقدم له طعام جيد، فيقول: يمكن أن يكون في هذا الطعام شيء. إذن لا داعي لأكله، فيتركه خوفاً أن يكون وراءه شيء، فيحرم نفسه بذلك من خير قد أتيح له. وينبغي أن تدرك أن الأعداء وأن أجهزة المخابرات العالمية مثل الـ C. I. الجواب هذه المخابرات الأمريكية، أو الموساد الإسرائيلية، أو المخابرات الروسية أو أي جهاز مخابرات في العالم، بل الدول بنفسها تعتمد على ما يسمى بالحرب النفسية، حرب التخويف والتضليل وإلقاء الرهبة في نفوس الشعوب، حتى تجد أن الواحد ينهزم قبل أن يخوض المعركة؛ لأنه يشعر أنه ضعيف لا يملك شيئاً، في حين أنه يواجه عدواً مدججا يملك كل شيء، ولعلكم تعرفون على سبيل المثال أفلام الرعب التي تعرض الآن في التلفاز، أو في الفيديو، وأكثر من يشاهدها الأطفال من مسلسلات الرعب، التي تغرس في نفوس الأطفال المخاوف، حتى إن أحد المستشفيات استقبل في أسبوع أكثر من أربعين حالة نفسية لبعض الأطفال بسبب فيلم أو مسلسل عرض في التلفاز. والكتب التي تتكلم عن التجسس والجاسوسية وأعمال الجاسوسية تعد بالآلاف، بعضها حقيقية، وبعضها خيالية، ولكن ربما بعض الوكالات تقوم بالتأليف عن نفسها من أجل أن تضخم حقيقتها في نفوس الشعوب لأن الخوف - أحياناً - يريحهم من أشياء كثيرة. فإذا كان مجرد الخوف منعك من العمل، ومنعك من المشاركة ومنعك من الإقدام، فلا يحتاجون بعد ذلك إلى شيء آخر، وهم يعتمدون على التهويل والمبالغة. ويقومون -أحياناً- بتسريب بعض المعلومات والأخبار غير الصحيحة من أجل الحرب النفسية. وأقرب وأوضح مثال: اليهود، الآن هناك عشرات الكتب تتكلم عن اليهود: القوة الخفية في العالم، اليهود الذين يملكون الاقتصاد، ويملكون الإعلام، ويملكون أمريكا، ويملكون روسيا، واليهود الذين يملكون التصنيع، حتى تصور البعض أن اليهود وراء كل عمل، وسبب كل شيء وأن أمريكا دمية بيد اليهود، وكذلكروسيا والعالم كله كذلك. وبناءً عليه فلا داعي أن نواجه اليهود، وليس هناك أمل في الانتصار عليهم! إذاً: لماذا لا تفترض أن هذه الصورة الوهمية الخيالية المبالغ فيها أن اليهود هم الذي سعوا إلى رسمها في نفوس المجتمع حتى يبقوا خائفين؟ ولا شك أن الخوف بداية الهزيمة، خاصة إذا تصورنا أن اليهود عندهم خطط ناجحة في الحرب النفسية، في مجال الإعلام والمخابرات، فلا غرابة أن يخططوا لمثل ذلك، لكن تصور أن اليهود يتحكمون في كل شيء هذا وَهم! والأمر كما قال أحد الكتاب: اليهود لا يصنعون الأحداث ولكنهم يستغلونها، فهم أعجز من أن يديروا كل شيء، ويعملوا كل شيء، لكن عندهم قدرة على استثمار الأحداث -بقدر الإمكان- لصالحهم، وهذا لا ينكر، واليهود لديهم قوة ولديهم قدرة، ولديهم تغلغل في أمريكا وفي روسيا وفي عدد من البلاد، وأعطاهم الله بعض التمكين. لكن مع ذلك أقول: الصورة التي ترسم في أذهاننا هي في كثير من الأحيان صورة خيالية ومبالغ فيها عن حقيقة القوة اليهودية. ومثل ذلك قصص التعذيب، فكثير من الشباب -شباب الدعوة- أول ما يبدأ في القراءة، يقرأ -مثلاً- كتاب البوابة السوداء، في الزنزانة لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه في غياهب السجون؟ وعشرات الكتب التي تتكلم عن سجون جمال عبد الناصر وألوان التعذيب أو السجون الآن في تونس أو في الجزائر أو في أي بلد آخر. فالشاب الذي هو في أول حياته لم ينضج بعد، ولا يزال غضاً طرياً نشأ على هذه المعاني، وعلى هذه المفاهيم، فولد عنده رعب وخوف ونشأ على نوع من الضعف والهزيمة، فأصبح مثل الشجرة التي نشأت في الظل، ليس فيها قوة واخضرار ونماء، تجد فيها صفرة وفيها ضعف، خاصة إذا كان هذا في أول عمره وتربى عليه، وأكثر من قراءته، فالغالب أن هذا يحدث عنده أثراً سلبياً. إذاً لا بد من تحطيم هذه المخاوف، وهذه الهيبة، والحديث بصورة معتدلة عن كل هذه الأمور. ولماذا لا نتحدث الآن عن سقوط أمريكا؟ وقد ظهرت الآن كتب ودراسات وتحقيقات علمية، عن بداية سقوط أمريكا، ليس بأقلام علماء ومشايخ وكتاب مسلمين بل بأقلام أمريكان. ومن آخر هذه الكتب وأخطرها وأكثرها شهرة كتاب اسمه: صعود القوى العظمى وانحطاطها، يتكلم عما جرى للاتحاد السوفيتي ويقول: إن السُّنة ماضية، وأمريكا تسير على الأثر، ثم رصد عدداً من الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والعسكرية التي تؤكد أن أمريكا سوف تتفكك وتنهار، بطريقة أو بأخرى كما انهارالاتحاد السوفيتي. فلماذا لا نتكلم عن هذا المعنى؟ حتى نزيل الرهبة الموجودة في نفوس البعض، والذين يتصورون أن أمريكا تستطيع أن تفعل كل شيء، وأنها تهيمن على كل ما يقع في هذا الكون، حتى تحولت إلى شبح رهيب ليس في نفوس البسطاء والسذج! بل في نفوس الساسة أحياناً!! وفي نفوس المفكرين! وفي نفوس الصحفيين والإعلاميين! ولعلكم تسمعون وتقرءون كيف يتكلمون عن هذه القوة التي يقدسونها! ويسبحون بحمدها! ويضفون عليها من أوصاف الجلال والقوة والقدرة والهيمنة شيئاً لا عهد للتاريخ بمثله، لماذا لا نحطم هذه الهيبة بالكلام عن سقوطأمريكا؟ هذا السقوط الوشيك، بعد خمس سنوات، أو عشر سنوات الأمر يسير-إن شاء الله-!! لماذا لا نتكلم عن سقوط اليهود سواء من خلال الأحداث الواقعية، أو من خلال النصوص الشرعية؟ لماذا لا نتكلم عن ضعف البشر؟ وأن جميع أجهزة البشر وإمكانياتهم مهما بلغت في القوة والدقة فهي ضعيفة؟! ولو أردت أن أحدثكم في هذا الموضوع لفعلت -ولكن ليس هذا هو الموضوع- المهم: أن نثبت أن البشر ضعاف ومهازيل، ويفوتهم الكثير وتنطلي عليهم أمور كثيرة جداً وأنهم لا يدركون إلا القليل، وحتى هذا القليل الذي يدركونه قد لا يدركونه تماماً وعلى حقيقته بل يدركون شيئاً منه: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] . وبالمقابل لا بد من تعظيم الله الجزء: 87 ¦ الصفحة: 10 حيلة طلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله من الحيل النفسية: طلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله، فتجد الإنسان أحياناً يفترض هدفاً عظيماً وكبيراً جداً لا يستطيعه ولا يسعى إليه، وإنما يستحسر في نفسه ويدع العمل، وخذ بعض الأمثلة:- فمثلاً: يفترض المسلم اليوم وجود دولة إسلامية نظيفة ناضجة كاملة على الكتاب والسنة، يؤمر فيها بالمعروف، وينهى فيها عن المنكر، وتقام الحدود، ويمنع الربا ولا يوجد فيها منكر ولا معصية، ويدعى فيها إلى السنة، فيفترض دولة إسلامية كاملة من كل الجوانب، ثم ينظر إلى واقع العالم كله اليوم، فيجد أن هذا الأمر بعيد المنال، ثم يصبح عنده فيصبح عنده حيئذ نوع من الإستحسار ويترك العمل. مثال آخر: إنسان بدأ في طلب العلم، فأحياناً تبرز إلى ذهنه صورة عالم فقيه مفتٍ لا يسأل عن مسألة إلا أجاب فيها بالدليل والتعليل والتفصيل، وأحياناً تبرز إلى ذهنه صورة ذلك الأديب الشاعر اللغوي المتكلم، وأحياناً تبرز إلى ذهنه صورة ذلك الخطيب المتكلم الذي يهز أعواد المنابر، فتجد هذا الإنسان مشتتاً، يتصور أنه يمكن لأن يكون كل واحد من هؤلاء يتصور نفسه خطيباً وداعية وعالماً وشاعراً، فيتصور أن هذا الأمر بعيد المنال، فيستحسر ويدع طلب العلم، لأن هذه الصورة التي رسمها هي صورة مثالية خيالية كمالية، قد لا يصل إليها أحد وقد لا تكون واقعة أصلاً أو ممكنة. مثال ثالث: إنسان يتصور أنه مطالب بتربية الشعوب كلها على الإسلام قبل أن يتحقق للإسلام نصر، فيقول: متى نربي الشعوب كلها على الإسلام؟ الواحد منا يجلس -أحياناً - سنوات يربي شخصاً على الإسلام أو أشخاصاً، وقد لا يتم له ما أراد فكيف تربى شعوب بأكملها؟ فيظن أن هذا أمر محال فيستحسر ويدع العمل، وينسى أنه ليس بالضرورة أن تكون تربية الشعوب كلها على المنهج الكامل أصولاً وفروعاً، واعتقاداً وسلوكاً، وعملاً، وعبادة في جميع الجوانب، هذه سنة الله في البشر أن فيهم وفيهم. والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلم لما جاء إلى صلح الحديبية كان معه ألف وأربعمائة رجل، وفي فتح مكة زاد العدد. فلم يُكَلّم أحداً بعد الصلح يعقل إلا أسلم، وبعده في حنين خرج النبي صلى الله عليه وسلم بعشرة آلاف مقاتل، وهؤلاء خلال فترة محدودة جداً-أقل من سنتين- بطبيعة الحال لم يتلقوا من التربية قدراً كبيراً، ولهذا لما مروا على قوم ينوطون أسلحتهم على شجرة، قالوا: {يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، قال: إنها السنن قلتم: والذي نفسي بيده لقد قلتم كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} . ثم صلى بهم عليه الصلاة السلام على إثر سماء كانت من الليل، فقال: {هل تدرون ماذا قال ربكم؟! قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فهذا كافر إلى آخر الحديث} المهم أنها تربية عامة، تربية جماهيرية على قدر معقول من الدين، وعلى قدر معين، ولا يلزم أن يكونوا كلهم في الدرجة العليا من الفهم والوعي والعلم والإدراك بل قد علم كل أناس مشربهم، وكل إنسان له سقف، وله مستوى يكفي أن يصل إليه. مثلاً - عندما يتكلم إنسان أو يلقي محاضرة ويفترض في نفسه أن يحضر له جماهير غفيرة! فإذا جاء إلى المسجد وقد تعب، وأعد وجد أن الحضور صف أو صفان، أصيب بإحباط ونكسة، وتصور أن هذا العمل خطأ، فلماذا تفترض كمال العمل من البداية؟ لماذا لا تعود الناس القوة والجودة في الإعداد والتجديد والبذل؟ وسيتكاثر حولك الناس حتى ينتفعوا بك ويستفيدوا من علمك. ومثل ذلك أو قريباً منه قضية ترك العمل بحجة عدم صلاح النية، فتجد أحدهم يترك الأعمال، ويقول: أخاف من الرياء، وليس الحل هو ترك العمل؛ بل استمر في العمل، وجاهد نفسك على ترك الرياء، وصحح النية، وادع الله عز وجل، وقل كما علم الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه} واستمر على العمل ولا يكن هذا سبباً في ترك العمل خشية فساد النية. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 11 لابد مع قبول المكاسب الجزئية المطالبة بما هو أكبر منها إذن لا بد من الإيمان والقبول بالمكاسب الجزئية، والمطالبة بما هو أكبر منها كما سبق، فليست الأمور كلها (100%) أو صفراً فتطلب دائماً الطفرات، أو تفسر المكاسب تفسيراً غير دقيق بناء على أن المقصود منها المجاملة أو الاحتواء أو غير ذلك، وأضرب لك مثالاً يوضح لك ما قصدت: أنت تطلب الكمال، فوجدت -مثلاً- في أسواقنا وفي كل مكان أن الأسواق ممتلئة بأماكن الخياطة النسائية، والخياطون رجال، وهذه الصورة في الواقع صورة شاذة؛ لأنه رجل تقف أمامه امرأة لمدة نصف ساعة أو ساعة أو ساعتين أحياناً ويرى بعض مفاتنها، وتتحدث معه، وقد تضحك معه وقد تتصل معه بالهاتف إلى آخره، فهذه الصورة صورة شاذة، ولكنها أصبحت مألوفة في المجتمع؛ لأنها موجودة، فبعد فترة نجد أنه وجد في المجتمع أماكن خياطة نسائية للنساء، -يعني: الخياطات نساء-. ووجدت أن كثيراً من الناس يقول لك: هذه أماكن الخياطة النسائية غير مريحة وهي مشبوهة، وأنا لست أزكيها ولا أدري عنها شيئاً، لكني أقول: على كل حال هي أفضل إجمالاً من أماكن الخياطة الرجالية؛ لأن الأصل أن المرأة، تتعامل مع امرأة مثلها، وينبغي أن تضبط ويحافظ عليها أو تراقب بالوسائل الممكنة، لكن لا ينبغي أن تحارب بحجة أنه يتسنى للمرأة أن تتصل بها وتفسدها أكثر مما يتسنى للرجل، لأن الأصل أن تتعامل المرأة مع امرأة. مثلاً المضيفات: تعرف أن المضيفات في الخطوط هنا قد ألزمن بالحجاب، ومثلهن الممرضات في بعض المستشفيات، فهذا مكسب، وهو مكسب جزئي ولا شك أنه ليس كل ما ننادي به، ولا كل ما نطالب به، لكن احسب أنه واحد من ألف أو عشرة آلاف مما هو مطلوب، وينبغي أن نسعى إلى تحصيله، فأنت تنظر حينئذ على أنه مكسب تفرح به وتطلب المزيد، فلا تتوقف؛ لأنه حصل لك ما تريد، فهذا شيء مما تريد، وهو ليس جديداً لأنه هو الأصل. وكان يفترض ألا يوجد الخطأ حتى يحتاج إلى تصحيح، فكان يفترض ألا يوجد في المجتمع إلا المتدينات المحجبات، والمتسترات البعيدات عن أي لون من ألوا ن التبرج، لكن إذا وجد هذا المنكر، فالسعي في إزالته واجب، والفرح بزوال المنكر أو بعضه هو أمر فطري، لا يملك الإنسان حياله إلا أن يفرح. مثله -أيضاً- البنوك الإسلامية الأصل ألا يوجد في أي مجتمع مسلم إلا بنك إسلامي على وفق الشريعة، وهذا ممكن، وليس أمراً مستحيلاً، وتهويل هذا الأمر هو من الحيل النفسية، فمن الممكن أن تكون كل بنوكنا إسلامية، وكل معاملاتنا إسلامية، ولا يشترط أن تكون كذلك بين يوم وليلة، بل نعطي الفرصة لترتيب هذا الأمر، والمقصود أنه عندما تفتح المجالات لإقامة بنوك إسلامية، فهذا مكسب جزئي أفرح به باعتبار أنه خطوة، لا باعتبار أنه المطلب النهائي، فوجود بنك إسلامي يجعل من يريد الحلال يجده، فلا يتجه إلى البنك الربوي إلا من أصروا عليه، كما أن هذه البنوك الإسلامية بإذن الله تعالى سوف تقاوم وتنافس البنوك الربوية، خاصة مع ازدياد الوعي الديني عند الناس، ثم إنها مع الوقت سوف تثبت إذا نجحت، وهي ستنجح بإذن الله، إذا وجد الغيورون وراءها فسوف تثبت أن وجود اقتصاد إسلامي نظيف أمر، ممكن ولا حجة لأحد في تركه. إذن من الممكن أن أقبل بالمكاسب الجزئية وأطالب بالمزيد، وليس شرطاً ألا أقبل إلا الشيء الكامل مائة بالمائة، أو أتصور كما قلت دولة إسلامية كاملة، أو أتصور علماً غزيراً، أو شعوباً كاملة تربت على الإسلام، أو غير ذلك. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 12 من صور هذه الحيلة انتقاص جهود الآخرين ومن صور تطلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله أنك تجد الإنسان ينتقص الآخرين أحياناً أو يعكر على جهودهم، فمثلاً قيام دعوة إسلامية وانتشار الشريط الإسلامي؛ هذه ظاهرة إيجابية بكل المقاييس ولا شك في أن هذه، ظاهرة إيجابية، وإن كانت هذه الظاهرة بلا شك عليها سلبيات، فتجد إنساناً يقول لك: هذه الأشرطة في الواقع طيبة، ولكن يغلب عليها طابع سياسي، ودائماً تتكلم في موضوعات سياسية، وفي أحوال المسلمين، وغير ذلك. وأنا قد أتحدث عن نفسي في هذا الجانب- وإن لم يكن هذا من الموضوع لكن الدفاع عن النفس مشروع، ومن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه- فأنا أقول -مثلاً- حين تقول هذه الكلام: لماذا تغفل أكثر من مائة وثلاثين درساً في شرح بلوغ المرام؟ ولماذا تغفل عن أكثر من ثلاثمائة درس، بل ضعف هذا العدد في شرح البخاري ومسلم؟ ولماذا تغفل أحياناً عن أشرطة تصل إلى مائة في الدعوة والتربية والإصلاح، وبالجملة فإن الأشرطة التي تعالج موضوعات سياسية لا تتجاوز (10%) لكن من طبيعة الناس أنهم يتابعونها، ويسمعونها ويهتمون بها، فيتصورون أن فلاناً لا يقول إلا هذا الكلام، ولا يعرفونه إلا من خلال هذه الأشرطة. على كل حال دعك من هذا الأمر، ولنفترض أن هذا الأمر نقص عندي أو عند زيد، أو عبيد من الناس: فإنسان فتح له باب من الخير، أو بورك له في شيء، ونفع الله به في هذا الجانب، لماذا لا تكمل أنت الجانب الآخر؟ ولماذا تفترض الكمال؟ وأن فلاناً إن تكلم فلا بد أن يتكلم في كل شيء، يمكن أن يكون الإنسان فقيهاً ولا يحسن التفسير، وآخر مفسر ولا يحسن في الحديث، وثالث محدث ولا يستطيع الخطابة، ورابع خطيب ولكن ليس عنده علم، وخامس يستطيع أن يقرر أمور العقيدة لكن لا يستطيع أن يقرر أمور الأحكام، وهذا من عمر الدنيا وهو موجود وقائم، فإذا وجد نقص عند فلان أو علان من الناس -وهو موجود بطبيعة الحال- فلماذا أنت لا تكمل هذا النقص الموجود عندهم، وتعتبر أنك أنت والثاني والثالث والرابع في مجموعكم يمكن أن يشكل منهجاً صحيحاً للناس؟ أما تصور أن فلاناً بذاته وبما يطرحه هو منهج متكامل فهذا مطالبة بما لايطاق ولا يمكن. مثال آخر من انتقاص الآخرين: تتحدث عن المسلمين في يوغسلافيا وضرورة دعمهم، أو المسلمين في روسيا، ويأتيك إنسان ويقول لك: يا أخي هؤلاء عندهم معاصي ويشربون الخمور، وبعضهم لا يصلي، والنساء متبرجات إلى آخره. فنقول: هذا الأمر جزء كبير منه موجود بسبب أن هذه البلاد ظلت زماناً طويلاً تحت تسلط الشيوعية، وتحت تسلط الكفر، وحيل بينهم وبين المسلمين، فلا تعليم ولا دعوة ولا إصلاح، ومن الطبيعي أن إنساناً يعيش في مثل هذه الأماكن أن تكون هذه هي النتيجة، لكن لديهم من الرغبة في العلم الشيء الكبير، حتى إن بعض الإخوة الذين ذهبوا إليهم يقولون: إذا رأونا جلسوا بين أيدينا لا يعرفون لغتنا، فلا يملكون إلا البكاء والدموع، واستعدادهم للتعلم عجيب، وليس لديهم أي لون من ألوان التعصب، والله تعالى أعلم. فلديهم استعداد للتعلم، فلماذا بدلاً من أن تكون القضية قضية تنقص لهؤلاء وأن فيهم وفيهم، فبدلاً من هذه الحيلة النفسية التي نقنع بها أنفسنا ألا نعمل ولا نساعد، لماذا لا نقوم نحن بدعمهم؟ ومن دعمهم تعليمهم دين الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف بالحسنى، ونهيهم عن المنكر بالحسنى، والتسلل إلى قلوبهم ومساعدتهم مادياً وإنسانياً وإغاثتهم، ومساعدتهم بالسلاح أيضاً والوقوف معهم بالنفس والمال حتى نستطيع أن نخرجهم من محنتهم، وأن نجعلهم مسلمين أقوياء صالحين. فهذه حيلة نفسية أنك تنتقص هذا الإنسان أو تنتقص هذا الجهد، أو تنتقص هذا الطريق، أو تنتقص هذا المنهج لتبرر لنفسك ترك العمل، وبشكل عام لا نعذرك أبداً أن تنظر إلى الجانب السلبي وتترك الجانب الآخر. وأضرب لك مثلاً بسيطاً وبعيداً عن الموضوع، لكن من أجل أن تدرك: إنسان خرج من صلاة الفجر، فلما خرج مر، فوجد شخصاً آخر قد خرج لتوه من صلاة الفجر، وهو يقلم أشجار الحديقة أو المنزل، فقال هذا الإنسان: فلان مسكين ما وجد شيئاً يشغل وقته إلا أن يقلم الأشجار! لماذا لا يذهب ليقرأ القرآن في المسجد؟ نقول: قراءة القرآن أفضل من تقليم الأشجار، ولا شك في هذا، لكن تقليم الأشجار عندنا أفضل من النوم، وأنت ذاهب للفراش، فلماذا تنتقد ذلك الشخص؟ فلا بأس أن توجهه، لكن أيضاً لا بد أن توجه نفسك وتنتبه إلى أنك ذاهب إلى عمل أقل قدراً حتى من تقليم الأشجار الذي تنتقد به صاحبنا. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 13 من أسباب حسن العمل وجود الهدف المعقول وإن وجود هدف معقول هو من أسباب حسن العمل، فأنت -مثلاً- تنشر العلم وليس بشرط إن كنت مدرساً أن تكون عالما فحلاً يشار إليه بالبنان، ولكن لو كان عندك معرفة بمتن من المتون، فمن الممكن أن تدرسه للناس بقدر طاقتك، وتحفيظ القرآن لا يشترط أن تجلس لتحفيظ القرآن أن تكون حافظاً للقرآن بالقراءت السبع، والوجوه وغير ذلك، بل لو كان عندك قدرة على الحفظ ووتحفظ طلابك في آن واحد. فإذا لم يوجد غيرك ممن هو أفضل منك، فلا بأس من ذلك، وهكذا الخطابة، ليس شرطاً أن تكون سحبان بن وائل أو خطيباً يهز أعواد المنابر ويحرك عواطف الجماهير من أول وهلة، المهم أن يكون عندك قدرة على أدنى حد معقول من الخطابة، لتستفيد من هذا، وتتدرب وتترقى في مراقي ومعارج الكمال شيئاً فشيئاً. ولا بد أن تدرك أن الأمور نسبية، وأننا نحن الآن في زمن الغربة، وهذا آخر الزمان، وأنت لست الآن في القرون الفاضلة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كثرت الفتن، وكثرت الشهوات، وكثرت الصوارف لك أنت ولغيرك من الناس عن الخير، فينبغي أن تضع ذلك كله في اعتبارك. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 14 حيلة القناعة الزائدة ومن الحيل النفسية القناعة الزائدة: وهي شعور الإنسان أنه كامل وأن هذا العمل الذي يقوم به عمل كامل، وأنه لا مزيد عليه بحال من الأحول، وأن كل الإمكانيات الموجودة لديه قد صرفها في سبيل العلم، أو الدعوة، أو الجهاد، أو الأمر والنهي، ولهذا لا يطلب ولا يسعى إلى الكمال. وعلى سبيل المثال -من أوضح الأمثلة- أحوال الدول والجماعات، تجد أن هذه الدولة أو تلك ترى أنها قد بلغت الكمال في اقتصادها وإعلامها وسياساتها وجيشها وأمنها وغير ذلك، ولهذا لا تقوم بأي لون من ألوان الإصلاح، لماذا؟ لأنها ترى الكمال وأن الإصلاح يعني وجود نقص سابق، وبذلك يتبين لك خيانة الإعلام الرسمي المضلل في كثير من الأحيان الذي لا يذكر إلا الصورة الإيجابية ويتجاهل السلبيات، وهو بذلك يخالف أولاً: المنهج الشرعي القائم على النقد والنصيحة، وفي حديث أبي رقية تميم الداري في صحيح مسلم: {الدين النصيحة} . وهو أيضاً مخالف للمنهج الغربي -مع الأسف- الذي يقلده العرب والمسلمون اليوم، فإن النهج الغربي قائم على حرية النقد للأفراد والدول والأحزاب والمؤسسات، وبالتالي فإن الإعلام لا يصلح إلا في جو من الحرية الشرعية التي تجعله يقوم بدوره ليس فقط في الثناء على المكاسب والمبالغة في ذلك، بل في نقد الواقع وتصحيحه وحث الناس وحفز الهمم إلى التغيير نحو الأفضل، وينبغي أن ندرك ذلك ونعيه. كان عمر رضي الله عنه يقول: [[أشكو إلى الله عجز التقي وجور الفاجر]] فلاحظ أن التقي الآن قد وصل إلى درجة معينة فلا يطلب المزيد، أما الفاجر فتجده يطالب، الداعية تجده يتحرك على استحياء يتسلل، يأتي -كما يقال- من أبواب الخدم. والمطلوب: أن الإسلام يدخل من أبواب الملوك لا من أبواب السوقة، أما الخصم العدو والمحارب للإسلام فإنك تجده يصيح دائماً وأبداً، وينادي بالويل والثبور، ويتبجح مع أنه هو الغالب. مثلاً: المرأة في التلفاز: أول ما ظهرت المرأة في التلفاز كان لا يظهر منها إلا اليد فقط أثناء عملية إعداد الطبخ، ثم ظهر حزء من البدن، ثم ظهرت محجبة ثم ظهر الوجه، ثم ظهر الشعر، ثم بدأ الثوب ينحسر، حتى أصبحت ترى المرأة في التلفاز يظهر منها إلى ما فوق نصف الفخذ، وبأبهى زينة. وقد يحصل بعض الأحيان ما هو أدهى من ذلك، فتجد أن بعض الفاسقين يقول: إن الإعلام لا يزال محافظاً، وأنه ينبغي تحرير الإعلام وينبغي وينبغي … !! لكن الأخيار حين يطالب الواحد منهم بتصحيح وضع، أو يرسل ملاحظة على برنامج فإنه يرسل على استحياء، وإذا حصل أدنى استجابة تجده وكأنه حصل على كل ما يريد، وكأنه قد حقق كل شيء. فإذاً كان الداعية خاصة في مجال الدعوة -ومع الأسف- قد يكون هو مسئول الدعوة، أو مدير مركز من المراكز، وتجد أنه لا يأخذ صلاحياته، ولا يقوم بأعماله، وإنما يمد يداً قصيرة ويرى أنه قد قام بكل شيء وأنه لا مزيد على ما قد قام به. لكن تجد أن أندية رياضية -فضلاً عن المراكزالصيفية- كما هو الحاصل الآن -مثلاً- تجد أحياناً نوادي رياضية أو جهات ليس لها علاقة بالدعوة تجد أنها؛ تنشط في مجال الدروس والمحاضرات وتحطم بعض الحواجز، وبعض الموانع، وبعض السدود، فتمارس عملها بكل قوة وشجاعة وجرأة -مع الأسف- يفقدها حتى بعض المنتسبين إلى مؤسسات دينية رسمية، وأحياناً يشعر الإنسان -داعية أو موظفاً متديناً- بالتهمة التي تقال عنه، ويتقبل هذه التهمة، فتجد أنه يدافع عن نفسه ويتحرك على ضوئها، ولهذا لا يقوم بالأعمال قياماً صحيحاً، بل يقنع قناعة زائفة بأدنى نجاح يتحقق له!! الجزء: 87 ¦ الصفحة: 15 حيلة تحميل الآخرين المسئولية ومن الحيل النفسية: تحميل الآخرين المسئولية، أنت بريء والمسئولون هم الآخرون، وأحياناً المسئول هو الشيطان، فتجد الإنسان يلقي باللائمة على الشيطان، وأحياناً يحتج الإنسان بالقدر، وأحياناً بالعدو أو الاستعمار والصهيونية أو الغرب أو غيرهم. وأحياناً الحكام هم المسئولون عن كل شيء في نظر البعض، -وأحياناً -العلماء إذا صلحوا صلح الناس، -وأحياناً- وهذا شيء مضحك- الناس؛ فمن هم الناس، إلا أنا وأنت؟! تجد كثيراً من الأدباء يؤلف كتباً، ويعمل فصولاً في هجاء الناس: ما لقي الناس من الناس، والناس كذا، فمن هم الناس إلا أنا وأنت، والمؤلف معهم؟! فهو عندما يهجو الناس يهجو نفسه. ونحن نقول: الشيطان موجود وله دور، والقدر حق، ولا شك فيه، والعدو يخطط، والحكام عليهم مسئولية كبيرة أكبر من غيرهم، والعلماء كذلك، لكن لا يعني هذا وأبداً أنك أنت بشخصك وبذاتك وعينك ونفسك أنك خارج المسئولية، وبعضهم يقول: كل المشاكل التي نعانيها الآن هي من صنع الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق ونحن خارج الدائرة لا صنعنا المشاكل ولا شاركنا في حلها! فهذا لا يجوز بحال. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 16 اعتقاد أن الساحة ملأى ومن ألوان تحميل الآخرين المسئولية: اعتقادك أن الساحة ملأى، وأنه لم يعد هناك مجال! والحمد لله أن الخير كثير والأصوات كثيرة، والعلماء كثيرون، وليس هناك مجال لك، وهذا خطأ، فالله عز وجل يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] وأنت إذا اعتذرت عن أعمال الخير الآن بحجة أن الساحة مليئة، فأخشى أن تعتذر يوم القيامة عن دخول الجنة، كما في الحديث الصحيح: {إن الله عز وجل قال لرجل: اذهب فادخل الجنة، فذهب فلما اقترب منها وجد أنها ملأى -خيل إليه- فقال: يا رب إني وجدتها ملأى! فقال له الله عز وجل: اذهب فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها} فهذا من آخر من يدخل الجنة، فربما تتأخر منزلتك في الجنة بسبب تأخرك عن العمل الصالح الآن بحجة أن الساحة ملأى، وأن الأخيار كثيرون! أما الشرع فهو في هذا واضح، فلم يعطك الشرع حجة، ولا ترك لك مجالاً للاعتذار بأن هناك كفاية في عدد الدعاة أو الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أو المصلحين أو المجاهدين أو الباذلين في سبيل الله، أو بأي لون من ألوان الخير، مثلاً: يقول ربنا جل وعلا: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] كلكم بشر كلكم خلائف في الأرض، وكلكم مبتلون بما أعطاكم الله تعالى، سواءً كان علماً أم جاهاً أم مالاً أم شجاعة أم رياسة أم إدارة أم خط رسم أم خطابة أم بلاغة، أم منزلة، أم أي لون من ألوان المواهب والعطايا ابتليت بها، يقول تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء:13] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وهو في الصحيحين، وفي الحديث الآخر وهو عند الترمذي وهو صحيح: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن، عمره، وعن شبابه، وعن ماله، وعن علمه ماذا عمل به} . كذلك قول الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فبعض الإخوة يفرح مما يفهمه من الآية، لكن يا أخي هذه حجة عليك، لماذا أنت تفهم من الآية الإعفاء، ولم تفهم من الآية المسؤولية؟ فالله تعالى كلفك وسعك، ولم يكلفك ما هو فوق وسعك، فالبعض إذا احتج على ترك العمل، قال: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولا يدري أن هذا دليل على أن الله قد كلفك وسعك وطاقتك، فنحتج عليك به على أنك مسئول قبل أن تحتج به على أنك غير مسئول وعلى أنك غير مكلف. ومثله أن بعض الإخوة يقول: يا أخي من الورع أن أترك هذا، فيرى أن الورع في ترك الشيء، ولا يذكرون أن الورع - أحياناً- في فعل الشيء، نعم من الورع ترك المكروه، وترك الذي يشتبه بالمكروه، أو يشتبه أنه من الحرام، وهذا كله من الورع، لكن أيضاً ألست تعرف أن من الورع أن تفعل ما يشتبه أن يكون واجباً، أو يشتبه أن يكون مستحباً عليك؟ فالشبيه بالمستحب أو الواجب من الورع يجب عليك أن تفعله، لكن تجدنا دائماً نحب ترك العمل! ولهذا فالورع الذي فيه ترك يمكن أن نتركه، لكن الورع الذي فيه فعل نتأخر عن فعله؛ لأننا دائماً وأبداً نتأخر إلى الوراء، ولا نرغب في أن نقوم بعمل، فهذا هو العجز كما ذكرته قبل قليل. تجدنا نقرأ هذه الآية: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وننسى أن معنى الآية أن الله تعالى قد كلفنا تكليفاً شرعياً أن نعمل بكل وسعنا. بقى لنا في موضوع الحيل النفسية موضوع التسويف وموضوع اليأس، وموضوع تعظيم الأمر أو تهوينه، وأتركها لأن الوقت ضاق. وأسأل الله تعالى أن يجعل ما قلته سبباً إلى أن نقوم جميعاً بما أوجب الله تعالى علينا من الأقوال والأفعال، ونجاهد في سبيل الله كما أمر الله، وأسأل الله تعالى لي ولكم التوفيق. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 17 انتظار المفاجآت وبعض الإخوة من تحميلهم المسئولية على الآخرين تجد أنهم ينتظرون المفاجآت، إما مفاجآت ربانية، أي: خوارق أو معجزات أو آيات، كما ما ينتظر بعضهم المهدي أو عيسى، ونحن نؤمن بالمهدي أنه يأتي في آخر الزمان، ونؤمن بعيسى أنه ينزل في آخر الزمان، وهذا فيه نصوص صريحة، لم نؤمر شرعاً أن ننتظر المهدي ولا عيسى ولا غيرهم، حتى المجدد الذي يبعثه الله على رأس كل مائة سنة، فلم نؤمر بالانتظار، بل أمرنا أن نعمل ما نستطيع ولا نحمل المسئولية الآخرين ولا ننتظر أحداً. كذلك بعضهم ينتظرون مفاجآت يصنعها الآخرون، فبعضهم ينتظر مفاجآت يصنعها الكفار؛ وهو أن الكفار -مثلاً- سوف يعلنونها حرباً ضروساً على المسلمين حرباً صليبية، تستثير همم المسلمين العاديين، وتدفعهم إلى القوة وإلى المشاركة، وهذا ليس بلازم، بل ينبغي أن نقوم نحن بالعمل ولا ننتظر عدونا. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 18 التلاوم ومن تحميل المسئولية الآخرين: التلاوم، والتلاوم مبناه سوء الظن بالناس، فأنت تسيء الظن بالناس فتلومهم، فالقائد مثلاً يلوم المقود ويقول: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت وكما يقول بعضهم -هذا مثل عام- يقول الناس حزمة سلوخ، يعني لو شددتها بالحبل تشتت وتفرقت، إذن لا أهتم بالناس ولا أكترث بهم، أيضاً وقد يقول القائد كما قال الأول: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر أما جمهور الناس المقودين فيقول قائلهم: تاه الدليل فلا تعجب إذا تاهوا أو ضيع الركب أشباح وأشباه تاه الدليل فلا تعجب إذا انحرفوا عن الصراط للات الشرك عزاه تاه الدليل فلا تعجب إذا تركوا قصد السبيل وحادوا عن سجاياه فهذا يلوم هذا، وهذا يلوم هذا، والواقع أنه في غياب القائد يجب أن نكون كلنا قواداً، وفي معركة مؤتة لما قتل القواد الذين حددهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكاد المسلمون أن يقتلوا قام رجل محتسب ثابت بن أقرم العجلاني وحمل الراية، وقال: أيها المسلمون إلي إلي!! فهي مبادرة شجاعة حتى تجمع الناس، وقال: اختاروا من بينكم، قالوا: أنت، قال: لا لست أنا لها بأهل، فاختاروا خالداً فسلمه الراية. تجد أن البعض يقول: الناس ليس عندهم اليوم استعداد للتضحية، والناس لا يفعلون شيئاً، والناس لا يقدرون الجهود، يا أخي الآن الكفار يفعلون الكثير! والكفار يقدرون الجهود! والكفار مستعدون أن يضحوا من أجل دينهم الباطل كما رأيت الصرب الآن! وكما رأيت من قبل الروس كيف قاوموا الانقلاب الشيوعي الفاسد، وكما رأيت أمم الكفر! قامت وواجهت القوة بأجساد عارية، وبسواعد لا تملك شيئاً، ومع ذلك حققوا انتصاراً، فهل تظن أن المسلمين -وهم حسب الإحصائيات الرسمية ألف مليون- عاجزون عن أن يدافعوا عن دينهم؟! بلى والله إنهم لقادرون! لكن لو أفلح الدعاة في تحريك مشاعرهم ومخاطبتهم ودعوتهم إلى الميدان، وإقناعهم بضرورة المشاركة بكل صورها وألوانها. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 87 ¦ الصفحة: 20 الحث على دروس العلم السؤال يقول: تزخر الطائف في هذه الأيام بالعديد من الدروس العلمية لنخبة من علمائنا الأفاضل، بل ومن هيئة كبار العلماء، فهل من كلمة تحث بها الشباب عامة وطلبة العلم خاصة لاغتنام مثل هذه الدروس؟ الجواب نعم، هذه من الفرص التي ينبغي اغتنامها، خاصة المشايخ الذين لا يتواجدون في الطائف إلا في أثناء الإجازة، فينبغي أن يلزمهم الشاب، ويقترب منهم ويستفيد من علمهم، وعليه أن يتذكر الكلام الذي قلته قبل قليل، فبعض الشباب يأتي وهو يتصور أنه من خلال درس أو درسين أنه سيحصل على العلم كله، فإذا جاء مرة أو مرتين لم يواصل، لماذا؟ قال: والله الأمر طويل، ولا يدري أن العلم طويل، وأعطه كلك يعطك بعضه، ولا بد من الصبر والأناة والدأب، وأسأل الله لي ولك التوفيق. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 21 ضرورة اختلاط الدعاة بالناس السؤال يقول: لاحظنا على إخواننا الدعاة الاحتكاك الضعيف بالعامة من الناس حتى من طلبة العلم؟ الجواب ينبغي على الدعاة أن يختلطوا بالناس في مجالسهم ومجامعهم، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على، أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} . الجزء: 87 ¦ الصفحة: 22 الأصل في الوسائل الإباحة السؤال أنا شاب أبذل جهدي في الدعوة إلى الله، وأحياناً أشارك مع إخواني بالدعوة في المراكز وغيرها، ولكن سمعت من أحدهم أن عملنا هذا بدعة، فهل هذا صحيح؟ الجواب ليست الدعوة إلى الله بدعة، والوسائل الأصل فيها الإباحة؛ فكل وسيلة إذا كانت مباحة في الأصل جاز استخدامها في الدعوة، ومن العجيب أن يتصور البعض أن الوسيلة يجوز أن تستخدم في الأمور العادية، ولا يجوز أن تستخدم في الأمور الشرعية، ومعنى ذلك أن العمل يكون حلالاً، فإذا أصلحت النية أصبح حراماً، وهذا من الغرائب والعجائب! الجزء: 87 ¦ الصفحة: 23 الإصلاح في المؤسسات السؤال يقول: أنا صاحب مستشفى كبير بالطائف، والمستشفى يعاني مما تعاني منه معظم المستشفيات من الاختلاط ووجود التلفاز بكل غرفة وغير ذلك، فبماذا تنصحني بارك الله فيك؟ الجواب أنصحك أن تحرص على الاتصال بأطباء متخصصين، وتستعملهم في هذا المستشفى، وتسعى إلى إصلاح الأوضاع في المستشفى بقدر ما تستطيع شيئاً فشيئاً، ومن الممكن أن تجعل مكتباً أو مجلس إدارة هو المسئول عن كل القضايا في هذا المستشفى، ويكون له صلاحيات قوية، يتحمل المسئولية أمام الله، ثم يتحمل المسئولية أمام الناس في ذلك. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 24 ضرورة التربية السؤال يقول: إن الضعف تغلغل في نفوس المسلمين إثر تربية طويلة أورثتهم تواضعاً زائفاً وخوفاً من كل شيء، وبعداً عن الجرأة، ولا يتصور إزالة ذلك من خلال جهود فردية غير متكاملة، ولذلك ما هي المقترحات على مستوى الأفراد والخطباء والدعاة. والمدرسين والموجهين والهيئات العلمية والدعوات الإسلامية في الداخل والخارج؛ لإزالة هذا الأثر الكبير من نفوس الناس؟ الجواب أعتقد أن من أهم الأسباب مناقشة الموضوع، لأن اكتشاف الإنسان خللاً في نفسه أو حيلة قد يجعله يتخلص منها، كما أن هذا الأمر الذي حدث نتيجة التربية الطويلة لا بد أن يزول بتربية طويلة أيضاً، فينبغي أن يكون هناك عناية من المربين أساتذة أو خطباء أو دعاة أو موجهين أو علماء، عناية بتربية الناس على الثقة بالله عز وجل ثم بأنفسهم وبإمكانياتهم. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 25 العمل في الأجهزة الأمنية السؤال يقول: ما رأيك في العمل ببعض الأجهزة الأمنية التي قد تضر؟ الجواب المهم هل أنت تعمل عملاً يرضي الله تعالى، فتحرص على أن تكون ناصحاً صادق النية حسن القصد، ولا تؤذي أحداً ولا تضر أحداً، أم أنك تستخدم وظيفتك في إيذاء عباد الله والاعتداء عليهم وكشف عوراتهم، وما أشبه ذلك؟ وإنما لكل امرئ ما نوى. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 26 النزول للميدان السؤال أنا إنسان مبتلى بالعاطفة، وأعمل جاهداً على التخلص منها، لكن هذا الداء يمنعني من النزول إلى الميدان، خوفاً من تضخم المرض؟ الجواب ينبغي أن تنزل، وليس عدم النزول، بل العلاج هو أن تنزل، وتجاهد نفسك من خلال الميدان ولا يغلبك الميدان فتغفل عن مرضك. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 27 المراكز الصيفية السؤال يقول: نرجو توجيه كلمة عن المراكز الصيفية؟ الجواب المراكز الصيفية هي أحد أوجه النشاط في هذه البلاد وفي هذه العطل، وأنا أحث الشباب على المشاركة فيها سواء كانوا أساتذة أو مربين أو موجهين أو كانوا طلاباً، وأحث أولياء الأمور على دعوة أبنائهم إلى المشاركة في هذه المراكز لما فيها من خير عميم، والمشاركة فيها جوانب تربوية كثيرة، وتنمية لبعض مواهب الشباب. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 28 ضرورة التعود على الإمامة السؤال أنا أولى من غيري في إمامة المسجد، ولكن المشكلة تكمن في كوني حينما أقف في المحراب أصاب بزيادة خفقان في القلب، وانهيار في الأعصاب وضعف شديد؟ الجواب هذا يمكن أن يزول بالتكرار والتعود، وإذا وجدت أن هذا الأمر استمر معك لسنوات طويلة، فنعم يمكن أن تغير طبيعة العمل الذي تقوم به، وعليك بكثرة الدعاء والاعتماد على الله والتوكل عليه. الجزء: 87 ¦ الصفحة: 29 التطبيع مكر اليهود وعداؤهم للإسلام والمسلمين على مر العصور لا يخفى، ووسائلهم في الدهاء والمكر لتمييع الإسلام وتضييعه أمر ظاهر لا يحتاج إلى برهان، ولما كان هذا الأمر مهماً ففي هذا الدرس بيان شافٍ وكشف فاضح لليهود وعملائهم وأشياعهم فيما يسمونه بعملية السلام (التطبيع اليهودي العربي) وهو درس مهم لكل مسلم وحصانة قوية لكل شاب تكسبه وعياً تاماً بما يدور حوله من التآمر عليه وعلى دينه. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 1 حقيقة التطبيع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:- أيها الإخوة: أفادني بعض الإخوة من أصحاب التسجيلات أن رقم هذا الدرس هو السابع والأربعون، خلافاً للتسلسل الذي سرنا عليه منذ عدة دروس، فلذلك تم هذا التعديل بناءً على أنني ربما أسقطت رقم أحد الدروس. أما هذه الليلة فليلة الإثنين التاسع عشر من شهر جمادى الأولى من سنة (1412هـ) وعنوان هذا المجلس هو: التطبيع، ولعل الكثير يتساءلون عن التطبيع، وماذا نعني بهذه الكلمة. وأقول أيها الإخوة إذا أدركنا أن الحرب اليوم في العالم كله ليست مجرد حرب في ميدان السلاح والقتال، وإنما هي حرب تتعدى ذلك إلى ميادين أخرى من ميادين الفكر، والعلم، والتقنية، والتقدم، وغيرها، بل وميادين الصراع في المجالات الاقتصادية، والمجالات الزراعية، ومجالات المياه، وغيرها، وأدركنا أن مفهوم الحرب قد تطور وأصبح مفهوماً شاملاً واسعاً، فكذلك مفهوم السلام لم يعد مفهوماً ضيقاً مقصوراً محدوداً، بل هو الآخر مفهوم شامل واسع. فالتطبيع هو مصطلح من مبتكرات الصراع العربي الإسرائيلي، يقصد به تحويل آليات الصراع إلى آليات للسلام، والمهادنة والتقارب بين الأطراف المتصارعة، وهو يعني: التبادل السلمي النشط في كافة المجالات. مثلاً: - التسليم بوجود إسرائيل. - مراجعة العقل العربي المسلم الذي يناصب اليهود العداء، تصحيح تصورات المسلمين في زعم اليهود أيضاً، تصحيح تصوراتهم عن اليهود ليفهموهم من جديد، على أنهم شعب -كما يريد لهم اليهود أن يفهموا- شعب وديع محب للسلام. - إحداث تغيير في نمط السلوك الإسلامي حيال اليهود ودولتهم إسرائيل. - التسليم بالمطالب الأمنية والإقليمية التي تحتم بالتالي قيام علاقات دبلوماسية وتبادل سياسي واقتصادي وسياحي، وتكامل في كافة المجالات الحيوية بين اليهود وبين جيرانهم من العرب والمسلمين. فهذا هو المقصود بكلمة التطبيع إذاً، وهي خلفية السلام الذي يتكلمون عنه، ويكون غطاء لأمر آخر أبعد منه. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 2 لماذا نتحدث عن التطبيع وهاهنا أمر آخر يطرح نفسه، لماذا نتحدث عن التطبيع؟ بل لماذا نخص التطبيع بجلسة خاصة بعد ما تكلمنا عبر أسبوعين عن السلام مع اليهود؟ الجزء: 88 ¦ الصفحة: 3 التطبيع عملية يهودية النقطة الثالثة التي تدعو إلى تناول هذا الموضوع ومعالجته: إن عملية التطبيع عملية سعى اليهود ويسعون مع حلفائهم من الداخل، -من داخل الأمة الإسلامية- وهم كثير وخاصة ممن يتسلمون ويتسنمون مناصب القيادة والتسلط على مقدرات الأمة وخيراتها وشعوبها، أو من خارج الأمة من الشرق والغرب، سعى الجميع لتحقيق هذه العملية، وقطعوا في ذلك أشواطاً بعيده شملت ربع البلاد العربية من حيث العدد، فهناك مصر، ولبنان، والأردن، والمغرب، كلها قد شملتها عملية التطبيع، وشملت من حيث العدد السكاني نصف أو البلاد العربية، وتورطت فيها هذه البلاد وتلك، والبقية لا بد أنها في الطريق على حسب المخططات المزعومة المرسومة إذا كتب لمؤامرة السلام أن تكتمل وتتم، فمن حق هذه الشعوب المستهدفة أن تعرف ماذا يراد بها، وأن تمارس دورها المنشود في الحفاظ على هويتها الإسلامية وعقيدتها الربانية، حتى تلقى الله تعالى غير مبدلة ولا مغيرة ولا محرفة. إننا لا نطالب هذه الشعوب أن تقوم بالمستحيل، ولا نطالبها الآن أن تحمل السلاح فربما أنها لم تدرب لهذا الأمر ولم تعد له يوماً من الأيام، ولكننا نطالب هذه الشعوب أن تحتفظ بهويتها الإسلامية، أن تحافظ على عقيدتها، أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها، وأن لا تتخلى طرفة عين عن قرآنها الذي يذكرها صباح مساء بالعداوة مع الكافر ولو تظاهر بغير ذلك، وأن لا تتخلى عن إيمانها بقول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] وأن لا تتخلى عن قول الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ولا تتخلى عن قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] . إننا نعجب -أيها الإخوة- في الوقت المبكر الذي نشرت إحدى الصحف الكويتية خبراً يقول إن هذه الدولة ليس لديها مانع من مشاركة بعض الشركات العالمية المتورطة في التعامل مع إسرائيل في إعمار الكويت، وأنها سوف تخفف هذه الشروط وإن لم تتخل بشكل نهائي عن المقاطعة لإسرائيل. ونعجب أكثر حين نجد رجلاً ذا علاقة بموقع السلطة يكتب في صحيفة سيارة أيضاً، ويقول: لماذا نظل نصر على محاربة إسرائيل مع أنها أثبتت خلال حرب الخليج أنها معنا بشكل مباشر أو غير مباشر، ولماذا نظل على عدائنا لها مع الأشياء الكبيرة التي قدمتها لنا والتضحيات الجسيمة التي تحملتها في سبيل إنجاح موقفنا في حرب الخليج، إن هؤلاء لم يعد الفيصل بينهم وبين كل الناس هو القرآن والسنة فيقربون الناس أو يبعدونهم بحسب هذا أو ذاك، كلا. بل أصبح الفيصل بينهم وبين شعوب العالم كلها هي قضية حرب الخليج، فمن كان معهم في حرب الخليج فهو أحب الناس إليهم ولو كان أكبر الكافرين وأشد الأعداء، وأشد الطغاة، ومن كان ضدهم أو على الأقل التزم بموقف ليس واضحاً في شجب العدوان العراقي فإنه يعتبر عدواً لدوداً لهم، ولا مانع لدى هؤلاء -أعني أولئك الصحفيين الذين كتبوا مثل هذه المقالات ومن كان على شاكلتهم وعلى مذهبهم- أن يستعينوا بإسرائيل ومن وراء إسرائيل ومن دونها، وأن يستعينوا حتى بالشيطان في مواجهة بعض القوى وبعض الدول التي تحالفت مع العراق، أو اتخذت موقفاً عادياً ليس مؤيداً ولا رافضاً. ونحن نقول وبكل تأكيد: إن الدول التي وقفت مع العدوان العراقي هي دول ظالمة آثمة مهما كانت وبأي زي تزيت، وأي شعار رفعت، وهذا أمر لا شك فيه، ونحن كنا من قبل ولا زلنا نقوله ويقوله معنا كل المخلصين وكل المطالبين بالعدل، ولكن هذا لا يعني أبداً أن نتجاهل أصول العقيدة الإسلامية الصحيحة، ومبادئها الراسخة من أجل موقف واحد، بل ينبغي أن يكون العدو عدواً لنا أمس واليوم وغداً، وأن يكون الصديق صديقاً لنا، وليس صحيحاً أن نظل نغير خريطة أعدائنا وأصدقائنا كل يوم بحسب متغيرات الأحوال، فيوم كانت الحرب العراقية الإيرانية مستعرة قائمة، كانت خريطة الأعداء مختلفة تماماً عما هي عليه الآن، ولما كانت حرب الخليج الأخيرة قائمة كانت الخريطة مختلفة، وأخشى ما أخشاه أن يغير هؤلاء خريطة عداوتهم يومياً فتصبح إسرائيل في نظر هؤلاء المفكرين المتقلبين وأمثالهم من الزعماء والساسة والصحفيين أن تصبح في قائمة الأصدقاء، بل ربما على رأس قائمة الأصدقاء، لماذا؟ لأنها تتميز بالقوة، ولأنها دولة ذات أهداف ومرامٍ بعيدة، ولأنه يهمها كثيراً أن تُوجد قدراً كبيراً من الانشطار، والانشقاق، والتفتيت، في الصف الإسلامي والصف العربي. إن إسرائيل -أيها الإخوة- ومن ورائها العالم الغربي تسعى بكل إمكانياتها وقواها إلى تطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية، من الناحية العقلية، والعقدية، والفكرية، ثم من الناحية السياسية والاقتصادية والحضارية، والسياحية، والعلمية، ولا يعني أن هذا حلم قد يتحقق أبداً. فقد يقول قائل بعد سنة أو سنوات: ما كنتم تقولونه لم يجر، ونقول: هذا ما يخططونه ويسعون له بكل وسيلة، ولا يعني أنه سيتحقق، فنحن نظن بالله تعالى ظناً حسناً، ونجزم بأن الله تعالى سيحول بينهم وبين ما يشتهون، ولكن يجب أن نعلم أن من أهم وسائل إحباط هذه المخططات الوعي بها، والوعي بها لا يتم إلا بالحديث عنها وإدراكها وكشف أبعادها للخاص والعام من الناس. أيها الإخوة: إنني أعترف إليكم بالعجز عن تناول هذا الموضوع الطويل لأسباب كثيرة، منها:- أولاً: أنه موضوع علمي إحصائي دقيق يعتمد على المعلومات والأرقام، ويعتمد على الخرائط والتواريخ التي يثقل على المستمع في مثل هذا المجلس، أو حتى على مستمع الشريط أن يتابعها بصورة جيدة. ثانياً: ثم إن هذا الموضوع موضوع متشعب من الناحية التاريخية ومن الناحية الواقعية، ثم إنه موضوع يمس أطرافاً عديدة قد يكون تناولها أو تناول بعضها أحياناً في حساسية مفرطة من الصعب الحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي في مقدمة هذا الحديث بالإحالة إلى أهم مراجع هذا الموضوع الخطير. فأقول: إن أهم كتاب قرأته يتناول هذا الموضوع بصورة جيدة جداً هو كتاب الاستراتيجية الإسرائيلية لتطبيع العلاقات مع البلاد العربية لـ محسن عوض، وهذا الكتاب قد طبع في مركز دراسات الوحدة العربية ضمن سلسلة الثقافة القومية، هذا الكتاب بالتأكيد ليس كتاباً موثقاً من جميع النواحي، فهو يتكلم عن دور القوميين العرب، كما يتكلم عن دور الماركسيين العرب في مواجهة التطبيع، وفي مواجهة إسرائيل، ولعل له نبرة قومية واضحة. ولكن الحقيقة أن هذا الكتاب يحفل بحشد هائل من المعلومات والحقائق والتحليلات لا أعتقد أن كتاباً آخر يحفل بها على الأقل في حدود ما اطلعت عليه، مع اختصار وجودة في لغة الكتاب، كما أن هناك كتاباً آخر اسمه التطبيع استراتيجية الاختراق الصهيوني لـ غسان حمدان، وهناك كتب أخرى لـ جمال عبد الهادي، ورفعت فوزي عبد المطلب، وأحمد لبن، وغيرهم من الكتاب والمؤلفين. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 4 سبب الحديث عن السلام الأمر الآخر الذي يدعو إلى معالجة هذا الموضوع ومناقشته، أن إدراك هذا الهدف الكبير لليهود؛ -هدف التطبيع، وهدف الهيمنة على المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية بأسرها، هذا الإدراك هو يقضي على هذه النبرة الغريبة المؤذية التي تقول: لماذا تتحدثون على السلام؟ إن السلام قضية أكبر منا ومن إمكانياتنا، إنها قضية دولية، وقضية عالمية، فلماذا لا نتحدث عنها؟ فأقول: إن السلام ليس صفقة سياسية بحتة كما يتصورون، بل هو عملية متكاملة شاملة، تبدأ من عقل الفرد المسلم، ومن قلبه أيضاً، وتستهدف تغيير العقل والقلب المسلم، واستخراج ما يسمونه بجرثومة العداوة للكافر، سواء أكان هذا الكافر يهودياً، أم كان نصرانياً، وزرع روح المحبة والمودة والسلام والوئام لكل شعوب العالم، سواء أكانوا يهوداً أم نصارى أم غير ذلك، وهذا هو المنطلق الأساسي للتطبيع كما سوف يتضح بشكل أكبر. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 5 التطبيع هو الهدف من عملية السلام أقول: إنما تكلمت عن التطبيع في هذا المجلس لأسباب: منها: إن هذا التطبيع وهذا المصطلح الذي لابد أن يكون واضحاً في الأذهان، هو في الحقيقة هو الهدف الأساسي من عملية السلام، وإذا كان الأصوليون والفقهاء يقولون: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فإن من السذاجة أن يحكم أحد على عملية السلام مع إسرائيل أو مع اليهود، أنها هدنة بين طرفين متحاربين، كما يتكلم الفقهاء عادة عن موضوع الحرب والسلام. إنه لا يؤسفنا -أيها الإخوة- أن يتهالك على امتداح السلام وأطرافه ورموزه، بعض المنافقين والمرتزقة، فهم هكذا دائماً وأبداً وكما قيل: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لاقيت معدياً فعدنان ولا يغيظنا أن يتكلم المنافقون والمرتزقة عن السلام، وأن يمتدحوه ويتحدثوا عن رابين، وعن رموزه ويعتبرون أنهم هم أبطال الأمة العربية، وهم رجال الموقف الذين أنقذوا الأمة في أحلك المواقف وأشد الظروف، فهذا هو دأبهم وهذا هو ديدنهم. كما لا يغيظنا أن يتكلم اليساريون والقوميون الذين كانوا بالأمس يتظاهرون أنهم أعداء لإسرائيل، لأنهم ينطلقون من موقف خدمة الاتحاد السوفيتي الذي يتظاهر بالعداء لإسرائيل من باب المناورة مع المواقف الغربية، فإذا بهم اليوم يسودون صفحات جرائدنا ومجلاتنا المحلية وغير المحلية بالكلام عن السلام المزعوم والتطبيل له واتهام معارضيه بأنهم ليسوا واقعيين بل هم خياليون، أو أنهم متاجرون بالشعارات، فهؤلاء لا نجاة منهم بحال، فإنك إن وافقتهم قالوا: هذا عميل، وهذا مؤيد لإسرائيل، وإن خالفتهم قالوا: هذا متاجر بالشعارات. وإني لأعجب -أيها الإخوة- من هؤلاء، وقد قرأت قبل زمن مقالاً لأحد هؤلاء وهو يتكلم عن أحد رجال الفكر الإسلامي، فإذا به يصممه بوصمة وهي أنه كان مؤيداً للسلام مع إسرائيل الذي قام به أنور السادات، وإذا به اليوم هو نفسه يتكلم عن الصلح مع إسرائيل على أنه ضرورة من ضرورات المرحلة لابد منها، وعلى أن هذا الأمر لا يعارضه إلا الذين لا يدركون الحقائق ولا يدركون أبعاد الأمور. لكننا لا نخفي أسفنا من بعض المنسوبين أو المحسوبين على الدعوة الإسلامية الذين تورطوا من قبل في تأييد خطوات السادات الخيانية حينما ذهب إلى القدس للزيارة التي ظنوها مفاجئة، ولم يدركوا ما أبعادها وما وراءها من خطط ومراحل، وهم الآن يرفعون عقيرتهم لتأييد مؤتمر مدريد للسلام، وقد كان لهؤلاء في الصمت مندوحة إذا قصرت بهم أفهامهم عن إدراك أبعاد المؤامرة ومراميها. أما أن يتكلموا عن قضية السلام ويؤيدوها وهم يستحضرون في أذهانهم الكلام الذي يقوله الفقهاء عن الهدنة مع عدو يعتقدون أنهم لا يستطيعون مواجهته ومقاتلته، فهذا أمر في غاية الغرابة، وهل بلغ بنا الغباء، هل بلغت بنا السذاجة أن نعتقد بأن السلام مع إسرائيل الذي يتحدثون عنه هو مجرد هدنة مؤقتة تضع الحرب خلالها أوزارها لسنة أو لعشر أو حتى لخمسين سنة؟ كلا، وألف كلا! إن السلام الذي يتكلمون عنه هو عبارة عن مسخ وتغيير للعقلية العربية والإسلامية أولاً، ثم عبارة عن ترسيخ لدعائم الوجود الإسرائيلي الموجود في هذه الأرض حتى يكون منطلقاً للعلم، والحضارة، والتقدم والصناعة، والاقتصاد، بل والأمن في المنطقة العربية، بل في المنطقة الإسلامية بأسرها، هذا هو السلام الذين يتكلمون عنه وهو في حقيقته التطبيع الذي أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 6 أهم أهداف التطبيع إن هدف إسرائيل في الحرب والسلام هدف واحد، وإنها لا يمكن أن تعيش بمعزل عن جيرانها، أو في ظل مقاطعة عربية صارمة، ولا تريد الاندماج وفق الشروط العربية، ولكنها تريد أن ترغم العرب على القبول باستغلال إسرائيل لثرواتهم، أو بمعنى أصح: مشاركة القوى العالمية التي تنهب ثروات العرب النفطية وغير النفطية، فتريد أن يكون لها نصيب الأسد في نهب هذه الثروات ومشاركة القوى العالمية في نهب الثروات العربية والإسلامية. إنها تريد القبول بالقيادة اليهودية للأمة الإسلامية سياسياً، وحضارياً، واقتصادياً وبشكل عام، فلو أجرينا مقارنه بين العمل العسكري الذي يمكن أن تقوم به إسرائيل، والعمل السلمي لوجدنا الأمر واضحاً جدا، فالعمل العسكري في متناول إسرائيل أن تقوم به، بإمكانها أن تشن حرباً أو عدواناً شاملاً على كل المحاور وكافة الأطراف، ولكن هذا العمل العسكري الذي قد تتفوق فيه إسرائيل نظراً لتفوقها في المجال الجوي وفي مجال الأسلحة الاستراتيجية وفي المجال النوعي، هذا العمل العسكري لا يمكن أن يضمن لإسرائيل حدوداً آمنة، ولا يمكن أن يضمن لها اقتصاداً نشطاً قوياً، ولا يمكن أن يضمن لها حدوداً مفتوحة مع جيرانها. إن إسرائيل صغيرة الحجم، صغيرة الموارد، تعتمد كثيراً على ما يأتيها من الدعم الخارجي، سواء الدعم من القوى الدولية كأمريكا وغيرها، أو من دعم الأفراد اليهود والأثرياء اليهود الموجودين في العالم، وهي قليلة العدد، صغيرة المساحة، ومع صغر مساحتها فإن نصف هذه المساحة هي عبارة عن صحراء جرداء قاحلة، ويكفي أن تعلم في قلة موارد إسرائيل أن حجم البترول والغاز الذي تستخدمه إسرائيل من أرضها لا يعادل إلا (1%) مما تستخدمه، ومعنى ذلك أنها تستورد (99%) من الطاقة النفطية والغاز من الخارج، فضلاً عن المشكلات المائية التي قد تواجهها إسرائيل عام (2000م) كما تقول كثير من التحليلات والدراسات الغربية والإسرائيلية، ولذلك تدرك إسرائيل أن مشكلتها لا يمكن أن تحل عن طريق الحرب والعمل العسكري بأي حال من الأحول، ولا يمكن أن تحل إلا عن طريق العمل السلمي، ولهذا سعت إسرائيل إلى عملية التطبيع، لضمان أهداف عديدة منها: الجزء: 88 ¦ الصفحة: 7 الهدف الأول: كسر الحاجز النفسي بين المسلمين واليهود بحيث يتقبل المسلمون وجود إسرائيل كما يتقبلون وجود أي دولة أخرى إسلامية غير عربية، أو حتى غير إسلامية مثل تركيا وإيران وأثيوبيا وغيرها، ومثلما تقبلوا أي دولة ذات أقلية في المنطقة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 8 الهدف الثاني: إلغاء المقاطعة العربية فقد أفقدت هذه المقاطعة اليهود إلى حد ما مزايا التعامل التجاري مع جيرانها العرب، ويقدر بعض الخبراء خسائر إسرائيل من جراء القطيعة بينها وبين العرب في الحدود بأكثر من عشرة بالمائة من الناتج القومي، وهذا يعتبر عبئاً على الاقتصاد الإسرائيلي. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 9 الهدف الثالث: تهيئة الظروف لاستقبال ملايين آخرين من اليهود وذلك من خلال توفير واستثمار مصادر المياه الضرورية للحياة وللزراعة في إسرائيل، ومن ذلك -مثلاً- تصريف مياه نهر الأردن فقد سعت إسرائيل منذ زمن بعيد إلى الاستفادة من مياه نهر الأردن، بل وبيع مياه نهر النيل التي أعلنها رئيس مصر السابق، فقد أعلن في أكثر من مناسبة الاستعداد لبيع كمية من مياه نهر النيل إلى إسرائيل، وقد بدأت دراسات وبحوث لمثل هذا الأمر ربما توقف العمل بها لظروف خاصة، ولكن يبدو أن هذه الخطة كانت من ضمن الخطط الأساسية المدروسة بين مصر وإسرائيل. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 10 الهدف الرابع: إزاحة العقبات التي تكذر الحياة اليهودية وذلك تمهيداً لتحقيق الحلم الكبير بإسرائيل الكبرى، وأرض الميعاد، فمثلاً يجب أن نعلم أن عدد اليهود الذين يقطنون في إسرائيل إلى الآن أقل من (30%) من يهود العالم، واليهود يحاولون تهيئة إسرائيل لاستقبال اليهود من العالم كله تمهيداً لإقامة الحلم الكبير بإسرائيل الكبرى، وذلك يستدعي ضرورة ضبط الوضع الأمني والاقتصادي في إسرائيل. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 11 الهدف الخامس: فتح مجالات وآفاق جديدة للتعاون بين الأصدقاء الجدد وأعني بذلك: إسرائيل وجيرانها، وذلك في مجالات الطاقة وإقامة المشاريع المشتركة مثل مصانع البتروكيماويات، والتنقيب عن النفط واستخراجه، وإلغاء العقوبات ضد الشركات والسفن التي تزود إسرائيل بالنفط، خاصة أنها لم تعد من الدول المنتجة للنفط -أعني إسرائيل- خاصة بعد تسليمها سيناء إلى مصر. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 12 مجالات ووسائل التطبيع يشمل التطبيع مجالات عدة كما هو ظاهر، وهو بالدرجة الأولى يشمل المجال الديني، والثقافي، والفني، أي مجال تغيير العقليات العربية والإسلامية للقبول بإسرائيل كواقع لا بد من الاعتراف به، وإزالة خلفيات الصراع العقلية لدى المواطن العربي المسلم. إن الآلة المباشرة للتواصل بين الشعوب هي المجالات الثقافية، والفنية، والإعلامية، ولا بد من تغيير قناعاتها ضد إسرائيل، والصراع من المعروف أنه يوجد في وعي الشعوب قبل أن ينتقل إلى الواقع، والمطلوب ببساطة في نظر اليهود هو نزع العداء من العقل المسلم استكمالاً لنزع السلاح من اليد المسلمة، وهذه عند اليهود ليست مهمة مستحيلة، بل هي مهمة ممكنة وإن كانت صعبة، فإذا كان العداء الموجود في عقل المسلم يأتي عن طريق التعليم فيجب تغيير مناهج التعليم وإزالة كل الأسباب التي تغرس العداء في عقل المسلم عن اليهود. وإذا كان هذا العداء يأتي عن طريق الإعلام، فيجب صياغة الإعلام ورسم سياساته بما يضمن وجود قدر من التفاهم بين شعوب المنطقة، وقدر من الإيمان والقناعة لدى المواطن والفرد العادي بإسرائيل وحقها بالعيش بسلام ضمن دول المنطقة. وإذا كانت الحقائق التاريخية الماضية هي التي تشوه الصورة وتغرس في العقل العربي والمسلم العداء لليهود؛ فإنه من الممكن تصفية الأحقاد عن طريق تجاهل الحقائق التاريخية الماضية ونسيان السيرة النبوية ونسيان كيد اليهود للأمة الإسلامية عبر التاريخ، والتركيز على ما يمكن أن يعتبروه من الجوانب الإيجابية مثل وجود يهودي في بلاد الأندلس، أو في المغرب، أو في المشرق كان طبيباً له دور في تنمية الطب في هذا البلد أو ذاك، أو وجود مغنٍ يهودي أو تاجر يهودي، أو ما أشبه ذلك. إن اليهود يضربون المثل بألمانيا وفرنسا، فيقولون: إن ألمانيا وفرنسا خاضت حروباً طويلة قبل الحرب العالمية الثانية، ومع ذلك فقد ذابت العداوة بينهما، وأصبحت فكرة نشوب حرب جديدة بينهما لا تخطر في بال أحد من الناس، كما يضربون كذلك مثلاً بأمريكا واليابان، حيث خاضتا حرباً شاملة من (1941م - 1945م) واستخدمتا أكثر الوسائل قتلاً وفتكاً، وهاهما الآن حليفتان ليس بينهما حرب ولا يخطر في بال أحد -فيما يظنون- أن تقوم بينهما حرب، بل إن شعوب أوروبا المتناثرة المتناحرة لمئات السنين؛ هاهي الآن قضت على مشاعر العداء بشكل حاسم دون أن تطمس الخصائص الثقافية والوطنية لكل دولة من هذه الدول. إن اليهود يجهلون، بل يتجاهلون الفرق بين حرب كانت هي السبب في العداوة وبين عداوة كانت هي السبب في الحرب، فإن العداوة بين أمريكا واليابان أو بين دول أوروبا كان سببها الحرب، والخلاف على المصالح، أما الخلاف بين المسلمين وبين اليهود فهي سبب الحروب، وليس سبب العداوة بيننا وبين اليهود أننا خضنا معهم حرباً، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المرعى، ولا سبب العداوة بيننا وبينهم الصراع على المياه، ولا سبب الصراع بيننا وبينهم الصراع على أشجار الزيتون في فلسطين كلا بل سبب العداوة بيننا وبين اليهود وغير اليهود أننا مسلمون وهم كفار، ونحن ننطلق من هذا المنطلق، ونقول كما قال سيد الحنفاء إبراهيم عليه السلام ومن كان معه: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] . إذاً: القضية بيننا وبين خصومنا من اليهود وغيرهم ليست قضية اقتصادية ولا قضية أرض ولا قضية مياه، وإنما القضية بيننا وبينهم هي قضية العقيدة، وقضية الدين، وقد فرق الإسلام بيننا وبينهم ولذلك فرق الإسلام من قبل بين العربي وأخيه العربي، بل فرق الإسلام بين القرشي وأخيه القرشي، بل فرق الإسلام بين الأخ وأخيه الشقيق. كم أب حارب في الله ابنه وأخ حارب في الله أخاه وكان المسلم يقول لأخيه: كذبت لست أخي فرق الإسلام بيني وبينك. إذاً: القضية بيننا وبين اليهود ليست قضية صراع دنيوي، إنما هي قضية صراع ديني، وكل مظاهر الصراع الدنيوي هي أثر من أثار ذلك الصراع والخلاف الديني، الأساسي والجوهري بيننا وبين اليهود. ولذلك نقول: إن الأمر بيننا وبين اليهود لا يُعبر ولا يمكن أن يقام عليه جسر بأي حال من الأحوال ما داموا على ما هم عليه من الكفر والضلال، ويدخل في هذا الخندق مع اليهود كل الكفار سواء أكانوا من الغرب أم من الشرق، أم حتى من العرب الذين هم عرب في ألفاظهم وكلماتهم وخطبهم النارية الرنانة ولكنهم يهود في قلوبهم، ويهود في عقولهم، ويهود في أفكارهم: ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب إن العروبة ثوب يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب واحسرتاه لقومي غرهم قَرِم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب حتى إذا أمكنته فرصة برزت حُمد المخالب بين الشك والعجب وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب وحارب الدين والإسلامُ قاهرُه وكم خلا مثله في سالف الحقب لكن اليهود لا يعقلون، ومن وراء اليهود، ومن أمامهم، وعملاؤهم في المنطقة العربية أيضاً لا يعقلون، ولهذا يتصورون أنه بالإمكان نزع فتيل العداوة لليهود، وأن بالإمكان أن يتغير قلب المسلم، فيحل محل العداوة والبغضاء لليهود، شامير، وعزرا، وحاييم وأمثالهم يحل محل العداوة والبغضاء الحب والرحمة والإنسانية والعطف واللطف، ومحال أن يكون هذا في قلب يخفق بلا إله إلا الله، محال أن يكون هذا بعقل يؤمن بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المحيي المميت، وأن الله تعالى هو المستحق للعبادة, وأن الله تعالى هو الأول والآخر والظاهر والباطن، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله، محال أن يوجد هذا في قلب المسلم الذي يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرأ معارك الإسلام مع اليهود، ويعرف قضايا خيبر وبني قينقاع وبني النضير وأمثالهم، ويدرك خطط اليهود عبر مراحل الخلافة الإسلامية، وماذا كادوا للإسلام، وماذا خططوا! إن المسلم حتى وإن كان أميّاً بسيطاً ساذجاً حتى ولو كان قروياً حتى ولو كان راعي إبل أو غنم يدرك أن اليهودي عدو له، وأن هذا اليهودي وإن كان مؤدباً في مظهره، وإن ملأت الابتسامة وجهه، وإن تأدب في عباراته وأحاديثه، وإن كتب الكلام الجميل، وإن نطق بالعبارات الحلوة إلا أن قلب هذا اليهودي مملوء ببغض المسلمين، يعرف المسلم هذا بشكل لا يحتاج إلى نقاش، ولا يقبل عنده النقاش، كما يعلم المسلم علم اليقين أنه ليس مسلماً قط إذا تخلى عن بغض الكفار، فإن كلمة: لا إله إلا الله التي هي عتبة الدخول في الإسلام هي نفي وإثبات، فهي تنفي الألوهية عن غير الله وتثبتها لله، لا معبود بحق إلا الله، وكذلك تبعاً لهذا تنفي أن تكون المحبة لغير المسلمين، فتعني نفي الحب عن جميع الكفار من اليهود والشيوعيين والنصارى والوثنيين وغيرهم، وتثبت المحبة لأهل الإسلام حتى ولو قصروا في حقك، حتى ولو ظلموك، ولو بخسوك، ولو أساءوا إليك يبقى حبهم ليس من باب المصلحة الدنيوية ولكن من باب الحب الديني. أما أولئك الأعداء من اليهود والنصارى فيبقى بغضهم وعداوتهم حتى ولو أحسنوا إليك، حتى ولو تظاهروا بألوان المودة والقرب؛ فإنهم يبقون أعداء يبغضهم المسلم من منطلق أنه مسلم وهم كفار، لا يجتمع الإسلام وحب الكفار في قلب واحد أبدا، لكن اليهود وأعوانهم يعتقدون أن بإمكانهم إخراج هذه العداوة من قلب المسلم، ويعتقدون أن مناهج التعليم، ومناهج الإعلام، وتزوير الحقائق التاريخية كفيل بإزالة هذه العداوة من قلوب المسلمين. أيها الأحبة: إنه في الوقت الذي يتكلم فيه اليهود عن التطبيع، وعن إزالة العداوة من قلوب المسلمين فإنهم لا يمكن أن يتقبلوا بحال من الأحوال أن يتجاهل أي مسلم الأساس العقائدي الديني لدولة اليهود، فإنها لم تقم على أساس عرقي بحت، ولا على أساس سياسي أو جغرافي، إنما قامت إسرائيل على أساس ديني، ويقول بعضهم: ليس اليهود هم الذين حفظوا التوراة، ولكن التوراة هي التي حفظت اليهود، فعقيدة دولة إسرائيل هي رخصة تسمح لهم بالتوسع وطموحات المستقبل، وهي مستند الشرعية لأعمال العنف والإبادة الجماعية التي يقومون بها، وهي مسوغ ضم القدس والجولان، واللعب بالخريطة الجغرافية في المنطقة كل يوم، فهذه حدود آمنة لإسرائيل وهذه حدود تاريخية، وهذه حدود يمكن الدفاع عنها، وهذا نطاق أمن لإسرائيل، وهذه أرض مشى فيها الأسباط الإثنا عشر إلى آخر هذه المصكوكات الدموية، ومن غير هذا يمكن أن تتلوث ثياب بني إسرائيل وأيديهم وقلوبهم من حمامات الدم التي أجروها أنهاراً في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وغيرها. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 13 مرتكزات العقيدة اليهودية إن هذا ليس جناحاً متطرفاً في إسرائيل، ولكنه إجماع فكري، يلتف حوله المخططون كلهم ويقومون بتنظيره من خلال مراكز البحوث العلمية في إسرائيل. وتدور هذه العقيدة اليهودية الراسخة حول النقاط التالية: أولاً: ضرورة تبادل المعلومات والثقافة، وتقوية الصلة الإنسانية بين كافة الأطراف. ثانياً: مراجعة البرامج الدراسية وتحديد ما يجب حذفه من تلك البرامج وما يجب إضافته. ثالثاً: دراسة البرامج المتبادلة في وسائل الإعلام. رابعاً: إزالة المفاهيم السلبية في عقائد المسلمين تجاه إسرائيل. وبذلك ندرك أن المحور الأكبر للصراع بين المسلمين وإسرائيل هو الإسلام، وإسرائيل تدرك ذلك حقاً، وتسعى جاهدة إلى نزع هذا من قلوب الناس. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 14 الإسلام مصدر كراهية المسلمين لليهود إن الإسلام هو مصدر كراهية المسلمين والعرب لليهود أو ما يسمونه باللاسامية العربية، يعني العداء لليهود، فهم يدركون أن الإسلام هو مصدر الكره لليهود من خلال أربع نقاط: أولاً: تأسيس إسرائيل يناقض الفقه الإسلامي الذي يتعامل مع اليهود على أنهم أقلية وأهل ذمة، فإن الكتب الإسلامية كلها تتكلم عن معاملة اليهود من منطلق أنهم أهل ذمة أو أقلية، أو ما أشبه ذلك، ولا يمكن أن يقبل المسلمون باليهود كدولة قائمة مستقلة بذاتها. ثانياً: أن القاعدة الشرعية تمنع الصلح مع اليهود أو مع غيرهم على أرض حكمها المسلمون ثم استولى عليها غير المسلمين من اليهود أو من غير اليهود. ثالثاً: إن الإسلام والقرآن والسنة النبوية فيها حديث مفصل عن اليهود وعداوتهم لله عز وجل وللملائكة وللأنبياء والمرسلين وللمسلمين، وأي مسلم يؤمن بهذا لا بد أن يحمل شعور العداوة والكره لليهود. رابعاً: إن الإسلام يربط المسلمين بالقضية الأساسية -القضية الفلسطينية- وذلك من خلال ترديد قضية المسجد الأقصى وقداسته ومدينة القدس، والأرض المباركة التي بارك الله فيها وبارك حولها: مسرى الرسول وأولى القبلتين بها واحر قلباه ماذا للفخار بقي عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيث ما يممت من أفق مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تدوي وعهدي بها مرفوعة العنق ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق واليوم دنسه فُجْر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفَسِقِ وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق لو استطاع لألقى نفسه حمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق وولت الكعبة الغراء باكية وغُمّ كل أذان غمة الشرق إذاً: الإسلام -دائماً- يربط المسلمين بقضية المسجد الأقصى، قضية الأرض المباركة التي ذكرها الله تعالى في القرآن الكريم، الأرض التي بارك الله حولها، قال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1] وفي آيات آخري كثيرة. خامساً وأخيراً: إن مدلول الجهاد في الإسلام هو مصدر من مصادر التعبئة ضد أعداء الدين بما في ذلك اليهود. إن الدعوة إلى حرب مقدسة هو أعظم خطر يمكن أن تسمع به إسرائيل، ولذلك عززت إسرائيل دراسة هذه المفاهيم فكتبت دراسات وكتباً وبحوثاً كثيرة في جامعاتها عن خطر الإسلام، وتأثير الإسلام على عقلية المسلم، أو عقلية العربي. فمثلاً: هناك كتاب لأحد اليهود اسمه: أثر الفكر الإسلامي في الصراع ضد الصهيونية، وهذه عبارة عن أطروحة دكتوراه في جامعة تل أبيب، وهناك أطروحة أخرى في معهد: أترومان لأبحاث السلام في الجامعة العبرية في إسرائيل اسمها: أثر الإسلام في السياسات الإفريقية في الماضي والحاضر، وهناك دراسة ثالثة اسمها: دور الإسلام كعنصر من عناصر الصراع العربي، وهذا عبارة عن بحث في وحدة الشرق الأوسط للسلام في إسرائيل. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 15 السعي اليهودي لتمييع الإسلام في المجالات المختلفة أيها الإخوة: حين نقول هذا؛ فإننا لسنا بذلك نقصد أن نبدي تخوفنا على الإسلام من اليهود، إن الإسلام عاش أربعة عشر قرناً من الزمان، يواجه حملات التشكيك من النصارى واليهود، حملات عسكرية، وحملات اقتصادية، وحملات سياسية، وحملات فكرية في الداخل والخارج، وحروباً ضارية ضروساً على مدى قرون، وحملات لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، ومع ذلك ظل الإسلام شامخاً برأسه، يقاوم الأعادي، وليس أحد يجهل دور اليهود في الحرب ضد الإسلام، سواء كانت حرباً عسكرية يجندون لها النصارى والأوباش من كل مكان، أو كانت حرباً تشكيكية من خلال ما زرعوه في كتب الإسلام من الإسرائيليات، أو كانت حرباً مذهبية من خلال المذاهب التي غرسوها في تاريخ الإسلام، أو كانت حرباً لتمزيق المسلمين من الداخل، ولا أحد يجهل ذلك، ومع ذلك كله ظل الإسلام شامخاً قوياً. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 16 المجال الإعلامي والتعليمي هناك نقاط كثيرة لكن أرى أن الوقت لا يتسع لها فأرى أن أشير إلى عناوينها، فمن النقاط المهمة الباقية، هناك جوانب مهمة في قضية التطبيع مثل: قضية التطبيع في المجال الإعلامي والتعليمي. وهناك قضية أن التطبيع عبارة عن استراتيجية أمريكية، وهذه قضية مهمة جداً، وخلاصتها أن هذه العملية التي يقوم بها اليهود ليست مجرد مناورة من اليهود، وإنما يقف وراءها الغرب، وتقف وراءها أمريكا، وأمريكا قد أعدت عدة جهات، منها شبكة أبحاث الشرق الأوسط، وهي أداة للسيطرة والتطبيع وتذليل العقبات، ومنها أيضاً جهات ومؤسسات أخرى. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 17 المعونات الأمريكية للعرب المعونة التي تدفعها أمريكا للعرب هي معونة مشروطة، والمقصود منها أن تساهم في التطبيع وتكون إطاراً يربط الاتجاهات الموالية للسياسة الأمريكية، ويعزز الأهداف المقصودة. ولذلك تشير بعض المصادر الأمريكية إلى أن مشروعات التعاون الإقليمي تضمنت بحوثاً مشتركة في مجال زراعة الأراضي القاحلة، والعلوم البحرية، والأمراض المعدية، وأنواع الأعلاف المغذية إلى غير ذلك، وقد عقد مؤتمر موسع في واشنطن شارك فيه خمسون عالماً مصرياً وإسرائيلياً بدعوة من الوكالة الأمريكية للتنمية، لتدارس ما تم تحقيقه من أوجه التعاون بين العلماء اليهود والمصريين في فترة ست سنوات وفقاً لبرنامج التعاون في الشرق الأوسط الذي أقره الكونجرس. المهم أن التطبيع هو عبارة عن استراتيجية وخطة أمريكية والكلام في هذا يطول. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 18 المجال الاقتصادي أولاً: المجال الاقتصادي. إن من الضروريات في نظر اليهود لتعزيز السلام، هو تدفق السلع التدفق الحر من إسرائيل إلى البلاد والأسواق العربية، ومع تدفق السلع تدفق الأفكار، فهاتان هما الدعامتان القادرتان في نظر اليهود على تعزيز السلام، وفي دراسة في إسرائيل عنوانها: الشرق الأوسط عام (2000م) قامت بها رابطة السلام في تل أبيب، أجرت هذه الدراسة في عام (1970م) وهي دراسة مستقبلية عن التوقعات لما تكون عليه الأحوال في ذلك الوقت، وقد قام بها دارسون من اليهود متعددون، وتوقعوا أن تقوم سوق شرق أوسطية مشتركة بين اليهود والعرب، أو على الأقل أنه سوف تقوم سوق لدول البحر الأبيض المتوسط، وتنبئوا بأن إسرائيل سوف تستحوذ على النصيب الأكبر في إدارة هذه السوق بين دول المنطقة، بل وسوف تعتبر قلب المنطقة ومركز إدارتها، وأساس تطورها في المجالات الاقتصادية ومجالات البحوث العلمية. وأغرب من ذلك وأكثر أن هذه الدراسة تنبأت بأن دول المنطقة سوف تتخصص في المستقبل في ضوء المزايا الإنتاجية، فمثلاً تتخصص مصر في إنتاج الصناعات التحويلية، والهندسية وصناعة السيارات والصناعات المعدنية، وتتخصص سوريا في صناعة المنسوجات والمواد الغذائية، والصناعات الاستهلاكية، ويتخصص العراق وبلدان الخليج في الصناعات البتروكيماوية، ويتركز نشاط لبنان في مجال الخدمات. أما إسرائيل فسوف تتخصص في الصناعات الإلكترونية الرفيعة المستوى، والمركبات الحديثة، وإنتاج آلات الحساب المتطورة، والأجهزة الطبية، والكيماويات المتطورة، والآلات الهندسية والكهربائية، والصناعات الحديثة المعتمدة على التحكم المركزي، والتسيير الذاتي، ويقوم التطور المستقبلي على أساس تزاوج الخبرة التكنولوجية الإسرائيلية، مع فائض رأس المال العربي، ومع الموارد العربية الوفيرة بما فيها العنصر البشري، من أجل تحقيق تطور اقتصادي سريع، ومكاسب مشتركة للطرفين. إذاً: الدراسة تنظر إلى المنطقة على أنها منطقة موحدة، حتى أن هناك طرحاً الآن لإدخال إسرائيل ضمن جامعة الدول العربية، أنا لا أقول: إن هذا طرح على المستوى الرسمي. لكنه طرح لبعض المثقفين العرب، فهو يقول: ما هو المانع من إدماج إسرائيل ضمن الأمة العربية وإدخالها في جامعة الدول العربية؟ إلى هذا الحد بلغ بهم المستوى!! ومن الأشياء التي تحلم بها إسرائيل من جراء مثل هذا التعامل الاقتصادي: - إقامة مشروعات بين إسرائيل ومصركالمشروعات المحتملة والتي بدأ بعضها فعلاً. - تنمية النفط والمعادن في سيناء. - بيع مياه نهر النيل لإسرائيل لتنمية المناطق الجرداء في جنوب إسرائيل. - إمكانية إقامة مشروعات مشتركة بين إسرائيل والأردن في مجال التعدين في البحر الميت، إمكانات التعاون في تسويق وإنتاج الفوسفات. - تنمية خطوط سكك الحديد. - تعاون بين ميناء إيلات، والعقبة. - كما أنه يحتمل إحياء مشروعات الاستغلال المشترك لمياه الأردن والتي حاولها الرئيس الأمريكي إيزنهاور من قبل. وفي لبنان يمكن أن يستغل اللبنانيون كفاءتهم، وعلاقاتهم، واتصالاتهم في التجارة، وبالذات في الوطن العربي، لتسويق المنتجات الإسرائيلية في الدول التي تتجاهل المقاطعة العربية لإسرائيل، كما يمكن التعاون مع لبنان في مجال المصارف والمال أيضاً. وهناك على كل حال مجالات واسعة للتعاون في مجال الاقتصاد بين مصر وإسرائيل، وبين إسرائيل والأردن، وبين إسرائيل ولبنان، وبين إسرائيل وبقية الدول العربية، والكلام في مثل هذه المجالات يطول، وأترك بقية الكلام وأنتقل إلى المجال الآخر وهو المجال الأمني . الجزء: 88 ¦ الصفحة: 19 المجال الأمني إن إسرائيل تسعى من هذه الوحدة الاندماجية وهذا التطبيع إلى توسيع نطاق التجسس، ولا شك أن السفارات الإسرائيلية في مصر وغيرها هي عبارة عن أوكار للتجسس وقد ثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، كما تسعى إسرائيل إلى إقامة صلات قوية مع أجهزة الأمن في مصر والأردن والتبادل الاستراتيجي بينها، ولعل من الطريف أن إحدى البلاد العربية -هذا ذكرته مصادر لا بأس بها- زودت إسرائيل بمحاضر ووثائق اجتماع على أعلى المستويات عُقدت في ذلك البلد، فقامت بتصوير محاضر ذلك الاجتماع على مستوى القمة وزودت بها إسرائيل لتستفيد منها في مجال رسم سياساتها. إن إسرائيل وبعض هذه الأنظمة تعتبر أن هناك عدواً مشتركاً، وهذا العدو المشترك هو ما يمكن أن يعبروا عنه جميعاً باسم الأصولية، فالأصولية الإسلامية هي العدو المشترك لليهود ولكثير من العرب الذين ضلوا وأصبحوا الآن مع اليهود في خندق واحد، ولهذا لا غرابة أن تتعهد عدد من الدول التي لها حدود مع إسرائيل بحماية حدودها، ومنع التسلل إليها، بل تتعهد بأكثر من ذلك، فهي تتعهد بمحاربة كل من يقف ضد عملية السلام ومحاكمته، ومنع إقامة أي حزب -في بعض هذه البلاد التي تسمح بقيام الأحزاب- إلا بعد أن يعترف بمعاهدة السلام ويؤمن بها على أنها ضرورة لا بد أن يقتنع بها من قبل. إنني أقول قبل أن أغادر هذه النقطة: إننا نعلم جيداً أن معظم الشعوب الإسلامية والعربية لا يمكن أن ترضى بهذا أو تقر به بحال من الأحول، وهذه هي المسألة الوحيدة الكفيلة -بإذن الله- بإحباط كل محاولات اليهود وأصدقائهم من العرب. وهي أن الشعوب العربية في مصر والشعوب المسلمة في لبنان، وفي سوريا، وفي الأردن، وفي المغرب وفي كل بلاد الدنيا لا يمكن أن تقر بمثل هذه الأمور، ولا يمكن أن ترضى بها ولا يمكن أن تحول روح العداء من العداء لليهود إلى العداء لإخوانهم المسلمين، إلى العداء لمن يسمونهم بالأصوليين وهذا هو ما يحاوله الإعلام العربي اليوم، وتحاوله -أيضاً- وسائل الأمن العربية اليوم، وهي تتحالف مع اليهود في مكافحة الأصولية، وفي مكافحة الإرهاب وغير ذلك من الأسماء. والحقيقة أن الأمر ربما يتعلق بمكافحة ظواهر الدعوة الإسلامية، وفي الوقت الذي يتمتع اليهود فيه بسياحة آمنة في مصر ولبنان والأردن والمغرب، نجد أن عدداً كبيراً من المسلمين والدعاة وطلبة العلم والمخلصين وأصحاب اللحى يزج بهم في غياهب السجون في تلك البلاد وغيرها، ويعتبرون مجرمين: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] وما ذنبهم إلا أنهم يرفضون معاهدات السلام والاستسلام، ويرفضون محبة اليهود ومودتهم، ويصرون على التمسك بدينهم وعلى الالتزام بشريعة ربهم مهما بذلوا في سبيل ذلك من التضحيات. إذاً: هناك محاولات كبيرة بين إسرائيل وحلفائها لتوحيد الجهود الأمنية في مقاومة هؤلاء، وتبادل المعلومات، ولا مانع في المستقبل من تبادل المجرمين أيضاً، ومعروف من هم المجرمون؟! إنهم ليسوا مجرمي المخدرات، وإنما هم مجرمون من نوع خاص يعرفهم الجميع! الجزء: 88 ¦ الصفحة: 20 التواصلات الفكرية والسياسية والثقافية مع التغيير العقدي للمسلمين، -تغيير العقول وتغيير القلوب، وتغيير الثقافة الإسلامية- تسعى إسرائيل أيضاً إلى إيجاد مجالات للتواصل مع بعض التيارات الفكرية والسياسية في المنطقة العربية من منطلق التخصصات -مثلاً- أو المهن، أو الهموم المشتركة، فالأطباء يلتقون بالأطباء، والفنانون يلتقون بالفنانين، والبرلمانيون يلتقون بالبرلمانيين، وهكذا تسعى إلى إيجاد روابط فكرية وسياسية وثقافية مع نظرائهم في المنطقة العربية. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 21 السعي إلى إقامة تحالفات الأقليات في المنطقة وكذلك تسعى إلى تحالف محتمل مع الأقليات الدينية والعرقية في المنطقة؛ فمثلاً اليهود يسعون إلى استغلال النصارى في المنطقة، وأبرز مثال لذلك هو النصارى في لبنان فقد استطاعت إسرائيل أن تجندهم لمصلحتها، وكذلك حزب الكتائب وغيره في ذلك على حد سواء. ولذلك استطاعت إسرائيل أن تعبث بلبنان كما يحلو لها، واستطاعت أن تقضي على المسلمين من الفلسطينيين وغيرهم، والمثال الآخر لتحالف إسرائيل مع النصارى هو: تحالفها مع نصارى الجنوب في السودان، فإن إسرائيل تدعم الثورة في الجنوب -ثورة جون قرنق وغيره- دعماً بلا حدود، خاصة في الظروف الحاضرة وبعد وجود دولة في السودان ترفع شعار الإسلام، وبغض النظر عن أي شيء آخر في تلك الدولة؛ إلا أنها تنظر إليها إسرائيل على أنها جزء من الأصولية العربية التي ينبغي أن تحاربها، ولهذا لا غرابة أن تستميت إسرائيل ويستميت حلفاؤها من العرب أيضاً في دعم الثورة النصرانية في جنوب السودان. كما تسعى إسرائيل إلى إقامة علاقة مع الدروز سواء في الجولان أو في غيره، وتسمح لهم في الانخراط في الجيش الإسرائيلي، وتعطيهم جنسيات إسرائيلية، وتسعى إلى تغيير عقولهم، وقد وجدت منهم تجاوباً كبيراً في ذلك، وحاولت إسرائيل أن تستغل الشيعة في لبنان بشتى المحاولات، وربما أن نجاحها في هذه المجالات أقل من نجاحها في المجالات الأخرى. إذاً القضية الأولى والكبرى في قضية التطبيع هي أن إسرائيل تسعى إلى تغيير العقل والقلب العربي والمسلم لاستخراج روح العداوة والبغضاء لليهودي والكافر يهودياً كان أو نصرانياً، وإحلال روح المحبة والتعاطف والإنسانية محلها، وهذه القضية يجب أن نعيها جيداً لأنها تتعلق بلب العقيدة وبصلب العقيدة، فإنني لا أعتقد أن مسلماً واحداً فضلاً عن داعية، فضلاً عن طالب علم، فضلاً عن عالم، يمكن أن يقول: إننا نستطيع أن نجلس مع اليهود على طاولة واحدة للمفاوضات في مثل هذه القضية، فقضية البغضاء لليهود قضية لا مساومة عليها، حتى لو انتصر اليهود، وزادت قوتهم، وملكوا السلاح والإمكانيات، فهذا كله شيء؛ لكن بقاء العقيدة الربانية في قلب المسلم التي تحمله على بغض اليهودي والكافر ولو كان يذبحه الآن، فهذه القضية لا يمكن المساومة عليها بأي حال من الأحول، وأول ما يهدف إليه التطبيع هو استخراج هذه العقيدة وإزالة روح العداء لليهود. وهناك مجالات أخرى تكون تبعاً لذلك، ولعلي لا أستطيع أن أشير إلا إلى أقل القليل منها، ولعل عزائي في ذلك أني أسلفت قبل قليل أن ثمت مراجع يمكن الاستفادة منها. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 22 تغيير العقل العربي وتوحيد الأديان إن المشكلة التي نعانيها الآن، والتي يجب أن نعيها جيداً: أننا لسنا بصدد مجرد تنظير من اليهود للحرب ضد الإسلام، أو نزع فتيل العداوة من قلوب المسلمين ضد اليهود! بل نحن الآن بصدد مخططات للنفاذ والتأثير، وهي مخططات التطبيع والمطالبة بالتبديل والتغيير في معتقداتنا وعقولنا وإعلامنا وتعليمنا، فلم تعد مجرد نظريات، أو أفكار، أو دراساتٍ، أو بحوث، أو أطروحات، بل أصبحت عبارة عن أشياء، فتجتمع المؤتمرات في مدريد وغير مدريد، بل وقبل ذلك في كامب ديفد، وفي لبنان وفي بلاد المغرب، وفي الأردن، تجتمع لتتكلم عن سبل التنفيذ، ولترسم المخططات التفصيلية، ولتبدأ عملياً وتناقش أولاً بأول ما تم تنفيذه من هذا. إذاً: القضية لم تعد مجرد نظريات أو مخاوف، بل أصبحت أموراً يسعون إلى تنفيذها واقعياً بشكل كبير، إن هذا التخطيط الإسرائيلي تجاه القضية الإسلامية قد اتخذ أنماطاً متعددة بدأت بتوجيه جهد مركز لتأسيس علاقات مع جامعة الأزهر، وإجراء ما يسمونه بحوار ديني على المستوى الشعبي، ويمكن أن يشار بهذا الصدد إلى المؤتمر الذي يسمى: مؤتمر التوحيد بين الأديان الثلاثة اليهودية والنصرانية والإسلام، وقد عقد هذا المؤتمر أول مرة في مدينة القدس عام (1979م) ، وشارك فيه من الجانب المصري مجموعة بدعوة من معهد إسبن الأمريكي للدراسات، ومؤتمر وحدة الأديان الذي عقد في إحدى المدن في أمريكا. وبعد ذلك عقد مؤتمر في سيناء عام (1984م) ، وضم يهوداً ومسيحيين ومسلمين، وقام الجميع بأداء صلاة مشتركة من كل الأديان، وهي عبادة عن صلاة موحدة يقوم بها المسلمون واليهود والنصارى في وقت واحد، وعلى حد سواء، إضافة إلى مؤتمر يسمونه مؤتمر النساء المقدسيات -بل هو مجموعة من المؤتمرات بالأصح- قامت بها مجموعة من النساء اللاتي تأسست لهن منظمة عام (1979م) في ظل ظروف ما يسمى بكامب ديفد، وذلك بهدف توثيق السلام بين مصر وإسرائيل من خلال الحوار الثقافي بين المسلمين والمسيحيين واليهود في الدولتين، وممثل هذه الأديان في أمريكا الشمالية، وقد عقدت هذه المنظمة النسائية العديد من الندوات، منها ندوتان في القاهرة: ندوة في التقارب بين الإسلام واليهودية، عقدها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة بعد تأسيسه عام 1982م وهناك محاضرة نظمها المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة. كما أخذ هذا المخطط شكل رموز وشعارات كان أبرزها مشروع مجمع الأديان الذي حاول الرئيس المصري السابق تأسيسه في سيناء وكان يهدف -كما هو معروف- إلى إقامة مجمع يضم مسجداً إسلامياً وكنيسة مسيحية، ومعبداً يهودياً في سيناء، وقد تبناه الرئيس السابق لمصر بحماس بالغ، وروج له منظرو فلسفة التطبيع، واشترك في تصميم المشروع ثلاثة مهندسين أحدهم مصري مسلم، والثاني فرنسي مسيحي، والثالث يهودي إسرائيلي، والمؤكد أن الفكرة لم تكن رمزاً لوحدة المصير الإنساني، أو تجسيداً لمفهوم الإيمان لدى جميع المؤمنين بالأديان الثلاثة، كما كان يقول الرئيس المصري السابق، وإنما كانت رمزاً لخلط المفاهيم والعقائد، وسرعان ما ظهر على الساحة من يبشر بأن الإسلام هو الإيمان بالله فحسب، ويقول بأن اليهود مسلمون، وقد ظهرت كتب في الأسواق المصرية مطبوعة في حيفا، تدعو إلى المذهب القادياني، كما ظهرت فكرة الصلاة المشتركة في سيناء، والذي يتتبع الشهادات الحية -التي أوردها رجل اسمه حازم هاشم، الذي كان حاضراً في تلك الصلوات- يُذهل من حجم التدليس، ومحاولة تمييع العقيدة الإسلامية، وتشويه العبادات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم. ولم تقتصر جهود اليهود والصهاينة على مواجهة الفكرة الإسلامية فحسب، بل اتجهت إلى مواجهة التنظيمات الإسلامية في مصر كالإخوان المسلمين مثلاً والجماعات الإسلامية الأخرى، ويلمس المتتبع للإعلام اليهودي نغمة تخويف مستمرة من دور هذه التنظيمات ورغبتها في تحقيق ثورة خمينية، أو على الأقل طبعة منقحة من تلك الثورة الخمينية، أو التأكيد على دور التنظيمات الأصولية في عرقلة السلام والتطبيع إلى غير ذلك. ونحن ندرك أن هذه النغمة قد ظهرت من جديد، فهاهم حلفاء اليهود أصبحوا يخوفوننا من ثورة خمينية، أو نسخة منقحة منها، ويخوفون من التنظيمات الأصولية ومن العلماء، والدعاة، وطلبة العلم، باعتبار أنهم أقوى جهة معارضة لمشروعات السلام والتطبيع في المنطقة. إن من أخطر الأمور التي تواجهنا الآن هي عقد المؤتمرات التي تسعى إلى التوحيد بين الأديان، أو ما يسمونه بالإخاء الديني، وهو الذي بدأ يبرز، وإنني لأعلم أن ببعض البلاد الإسلامية التي لا تسمح أصلاً بإقامة أي جمعية؛ إلا بعد أن توقع على معاهدة الوحدة الوطنية التي تضمن أن لا تمس أي جمعية بحقوق الأقليات الأخرى، ونعلم دولاً أخرى أصبحت تجعل يوماً من إعلامها للمسلمين، ويوماً آخر لليهود، ويوماً ثالثاً للنصارى، ويوماً رابعاً للبوذيين، ويوماً خامساً للهندوس، ويوماً سادساً للعلمانيين، وفي اليوم المخصص للمسلمين لا تكاد تأتي إلا بطفل يتعلم في الكُتّاب ومعه عصا يشير به إلى المصحف، ويعتبرون أن هذا هو ما يمكن أن يقوموا به في الدعوة إلى الإسلام، وإبراز الصورة الإسلامية من خلال جهاز الإعلام، أما في بقية الأيام فإنهم يأتون بإعلام متطور متقدم استخدم التكنولوجيا المعاصرة في الوصول إلى عقول المسلمين وتشويهها وتبديلها. ونعلم بلاداً إسلامية ليس لديها استعداد أن تقيم معهداً للدراسات العربية أو الإسلامية إلا بشق الأنفس، لكنها تقيم وبكل سهولة عشرات المعاهد الفنية في الموسيقى، أو في التعليم، أو في الرقص، أو في الفن، أو في غيرها لليهود ولغير اليهود، ونعلم بلاداً إسلامية تعتذر عن استقبال العلماء، ولكنها تستقبل بكل حفاوة وبكل رحابة صدر، بل وبكل حرارة فناناً يهودياً أعمى، وتجلب بخيلها ورجلها في استقبال هذا الفنان، وتعتبر هذا من ضمن منجزات ذلك العصر وذلك الرئيس الذي بليت به تلك البلد، كما بليت بلاد أخرى بأمثاله ونظرائه لا كثرهم الله. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 23 تاريخ التطبيع ومراحله وهناك نقطة أساسية وهي قضية تاريخ التطبيع، وباختصار شديد أقول: مَرَّ التطبيع بمراحل: المرحلة الأولى: هي التطبيع القهري في الأرض المحتلة، فبعد ما احتل اليهود بلاد المسلمين عملوا على تغيير عقول الناس من خلال التسلط الإعلامي القهري عليهم، ومن خلال محاولة صهرهم في المجتمع اليهودي، سواء كان ذلك في الأرض المحتلة أو الجولان أو غيرها. المرحلة الثانية: هي التطبيع الاختياري في مصر من خلال معاهدة السلام بكامب ديفد، واستطاع اليهود أن يتغلغلوا من خلال جهود سياحية، وإعلامية، ومن خلال عشرات المراكز البحثية ومن خلال السفارة الإسرائيلية في مصر التي هي وكر للتجسس، ومن خلال التغلغل في الشعب المصري، ومن خلال عقد الصداقات مع الشباب ومع الفتيات، ومع رجال الفكر والأدب، ودعوتهم إلى الجامعات الإسرائيلية العبرية لإلقاء المحاضرات، وعقد الندوات المشتركة، إلى غير ذلك، ولا زالت الإذاعة المصرية مشغولة بالأغنية التي تقول: "سيناء رجعت تاني لينا" في الوقت الذي يسعى فيه اليهود إلى إحكام السيطرة على مصر. المرحلة الثالثة: هي ما يسمى بسياسة الجسور المفتوحة مع الأردن، فإن الأردن ظلت مفتوحة الجسور؛ فمنذ عام (1962م) وتاريخ الأردن مع إسرائيل تاريخ مكشوف، وتاريخ الخيانة قديم جداً، بل هناك تعاون مع إسرائيل في سبيل القضاء على الوجود الفلسطيني، أو القضاء على الأقل -سابقاً- على منظمة التحرير الفلسطينية حين كانت تعتبر هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني. المرحلة الرابعة: مع المغرب، فهناك لقاءات قديمة جداً على أعلى المستويات بين المسئولين اليهود، وبين المسئولين في المغرب، وآخرها عقد في المغرب وتم فيه تبادل وجهات النظر حول كافة القضايا، وتم الاتفاق على حلول سلمية، واليهود يقيمون مناسبات عدة في المغرب ويحضرها مسئولون على كافة المستويات. المرحلة الخامسة: مع أثيوبيا وكان ذلك من خلال ترحيل مجموعة من اليهود الأثيوبيين إلى إسرائيل، وهي المعروفة باسم عملية الفلاشا، وقد شاركت فيها المخابرات، بل أدارتها المخابرات الأمريكية. المرحلة السادسة: هي المرحلة القائمة، وهي مرحلة التكامل مع الدول العربية، حيث يكون فيها المال والنفط العربي والأسواق العربية، والخبرة اليهودية، جنباً إلى جنب. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 24 تعليقات نذكر هنا تعليقات لا بد منها، وهي عبارة عن تعليقات خفيفة على ما سبق. أيها الأحبة: إن جناية القادة الذين جلسوا على طاولة المفاوضات مع اليهود على أمتهم وشعوبهم جناية عظيمة، وإن خدماتهم لليهود لا تقدر بثمن، فإنهم سوف يصنعون لإسرائيل بعملية السلام والتطبيع ما تعجز إسرائيل أن تعمله بالعمل العسكري، هذا من جهة، كما أنهم استطاعوا أن يدجنوا شعوبهم ويذللوها ويجعلوها شعوباً خاضعة ذليلة مستسلمة، لقد أورثت هذه الشعوب الذل، والتبعية، وعدم الاكتراث بالمخاطر والأهوال التي تواجهها، مما جعلها ترد موارد الهلكة. والواقع -أيها الأحبة- أن هذا الأمر الذي وضعوه في نفوس الشعوب غير صحيح، إن إمكانية مواجهة اليهود قائمة في كل وقت: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وكذلك أعوان الشيطان وحلفاؤهم؛ كيدهم ضعيف في كل وقت، وينبغي أن نعلم أن القهر الذي يمارسه اليهود -مثلاً- في داخل فلسطين قد ولّد جيل الانتفاضة، الذي يواجه الدبابة بالحجر، فأطفال هناك في عمر خمس وست سنوات يواجهون ذلك بمثل هذه الطريقة، ويجب أن نعلم أن مجموعة من العمليات الفدائية في لبنان وفلسطين قد أزعجت اليهود، وغيرت مقاييسهم إلى حد بعيد، فليس صحيحاً أن هؤلاء القوم يخططون فيقع ما يخططون، بل كم رتبوا وخططوا فجاءت النتائج عكس ما كانوا يريدون ويتوقعون، ولسنا أبداً ممن ينادي بتضخيم دور اليهود أو التهويل بقوتهم أو المبالغة في إرهاب الشعوب منهم، وإن كنا ننادي بضرورة أنه يجب أن نعرف حجم قوة عدونا، وندرك مدى قوته حتى نكون على استعداد له؛ لأن الاستهانة بقوة العدو خطأ كما أن المبالغة في تضخيم قوة العدو هي خطأ آخر. إن الحكام قد جنوا حين غيبوا الرمز الذي يمكن أن يظل حياً، بمعنى: إننا قد لا نستطيع أن نواجه اليهود الآن بالسلاح؛ لأسباب كثيرة، ولا شك أن هذا الوقت ليس وقت مواجهه عسكرية مع اليهود في ظل الظروف الحاضرة، فالأمة المفككة، والأمة التي تسلط عليها عدوها، لايمكن أن تواجه عدواً آخر، إن الأمة التي تتقاتل فيما بينها لا يمكن أن تواجه عدواً خارجياً، فالأمة التي مزقتها الخلافات بين الأنظمة، والخلافات بين الشعوب، والخلافات بين الأقاليم، والخلافات بين الأحزاب، والخلافات بين الجماعات، والخلافات بين الطوائف، هذه الأمة التي مزقتها تلك الخلافات حتى لم يبق فيها مكان إلا وفيه حرب ضارية بين طرف وآخر. هذه الأمة في ظل ظروفها الحاضرة وفي ظل تخلفها العلمي والتكنولوجي، والاقتصادي، والسياسي بكل تأكيد ليست على مستوى مواجهة العدو الإسرائيلي في الظرف الحاضر هذا صحيح، لكن بقي وجود الرمز الذي يقول للشعوب وللشباب، وللأمة، يقول للكبار والصغار، وللرجال للأطفال: إن هذا عدو يجب أن نحاربه، ويجب أن نستعد له، ويجب أن نخطط ولو بعد عشرة أو خمسين أو مائة سنة للقضاء عليه، هذا الرمز يحاول هؤلاء تغييبه، ويحاولون أن ينسوا الأمة ذلك الرمز، ويحاولون أن يؤثروا تأثيرات نفسية على الشعوب بحيث تتناسى عداوتها لليهود وتدرك بأنها في حال آمنة، وتنام نوماً عميقاً هادئاً بطيئاً. ولذلك لا غرابة أن أقرأ في أحد صحفنا المحلية مقالاً طويلاً عريضاً ساخطاً غاضباً، فما هو السبب؟ هل سبب الغضبة لما يجري في الساحة الآن؟ كلا. بل سبب الغضبة هو ملاحظة عدد من الراصدين تسرب جمهور كرة القدم، ووجود غياب مذهل عن مدرجات الكرة، مما يعكس مخاوف ومخاطر شديدة، ولا بد من دراسة هذه الظاهرة، وإجراء مقابلات مع كافة المختصين لمعرفة الأسباب وأبعادها وظروفها، ومحاولة عمل اللازم، ومعالجة هذه الظاهرة قبل أن تستفحل ويصعب القضاء عليها!! إذاً: هناك محاولات جادة لتغييب هذه الشعوب، وإشغالها بأمور تافهة وصغيرة وهموم يومية عن قضيتها ومعركتها الكبرى مع أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين والعلمانيين، والمنافقين في أي مكان كانوا، فهذه أعظم جناية يمكن أن يجنيها شخص، أو تجنيها طائفة، أو جهة على هذه الأمة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 25 الأمل في وعي الأمة الإسلامية نقول: إن وعي الأمة ووعي الشعوب الإسلامية -بإذن الله- كفيل بإحباط هذه المؤامرات، فنحن وإن تكلمنا عن جهود -في هذا المجلس وغيره- بين مصر وإسرائيل، وبين الأردن وإسرائيل، وبين لبنان وإسرائيل، وبين المغرب وإسرائيل، وبين كثير من الدول وإسرائيل، فإننا على ثقة بأن شعوب هذه البلاد ترفض هذه المؤامرة، ولا أدل على ذلك من محاولات عديدة لإجهاضها، بل إنهم استخدموا السلاح في مرات عديدة، فنحن نعرف بما يسمى بطل سيناء وماذا عمل، ونعرف مقتل السادات وكيف حصل، وما أسبابه وما أبعاده؛ ونعرف محاولة اقتحام السفارة الإسرائيلية وإحراقها مرات، ونعرف اغتيال عدد من اليهود في مصر وغيرها وما هي أبعاده، بغض النظر عن مدى جدية هذه الخطوات، ومدى فائدتها، ومدى جدواها، ولكنها تعبير عن الرفض الإسلامي الشعبي لليهود أفراداً وسياحاً وعلماء، ومختصين، ورفضهم لليهود كدولة تقيم في قلب الأمة الإسلامية، ولكن الأمة بليت في مثل هذا الظرف بمثل هؤلاء الحكام الذين لا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة، فهم على اليهود أو مع اليهود حملاناً وديعة أما مع شعوبهم فهم ذئاب مفترسة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 26 عداوة الأخ وصداقة العدو إن فرص السلام تظل ضعيفة -فرص السلام الحقيقي الذي يطالبون به حتى في نظرتهم هم هي فرص ضعيفة- فعلاقة الأنظمة العربية بعضها ببعض، وعلاقة الأنظمة العربية بشعوبها علاقة سيئة جداً، وما من دولة عربية أو نظام عربي إلا وبينه وبين جيرانه عداوات تبدأ ولا تنتهي، وكأن لسان حالهم يقول: من لم يلوث يده بدم جاره فإنه على الأقل صفّق للعدوان على جاره، وهذا يجعل الدول العربية في الوقت التي تسعى فيه إلى إقامة علاقات ممتازة مع إسرائيل. فإنها قد نجحت في تمزيق الروابط والجسور مع الدول العربية الأخرى، فلم تكن الدول العربية والإسلامية في ظرف من الظروف، أو في أي وقت من الأوقات أكثر منها تفككاً، وتمزقاً، واختلافاً، وعداوةً منها الآن، وهذا يعطي فرصاً كبيرة لإسرائيل للحصول على مزيد من المكاسب، فضلاً عن أن القوى المعادية نجحت في نقل العداوة من عداوة بين الحكومات إلى العداوة بين الشعوب مع بعضها، فإن كثيراً من الشعوب العربية اليوم أصبحت عدوة للشعوب الأخرى. وعلى سبيل المثال تجد كثيراً من المسلمين -دعك من العرب- إذا ذُكر الفلسطينيون شتم وسب، بل إنك تسمع من يقول هم شر من اليهود، ويقول: لأنهم فعلوا في الكويت كذا وكذا، فكم عدد الذين فعلوا في الكويت؟ كم عدد الذين تحالفوا مع الغزو العراقي للكويت من الفلسطينيين؟ لا أحد يستطيع أن يقدر عددهم ولكنهم بالتأكيد ليست هذه قضية شعب وإنما قضية أفراد وربما أن السبب في هؤلاء الأفراد هو أن الشعب الفلسطيني ظل طيلة الوقت وهو ألعوبة بيد الحكام، بمعنى أنه ليس النظام العراقي هو النظام الوحيد الذي حاول أن يبتز بعض الشعوب العربية والإسلامية، بل قد عملتها أنظمة عربية أخرى كثيرة، كذلك تجد العداوة مع الشعب اليمني، والعداوة مع السعودي، ومع السوري، ومع العراقي، فأصبحت القضية عداوة بين الشعوب وليست عداوة مع الحكام، وليست عداوة مع فئة ظالمة من الشعوب. فنحن جميعاً نعادي -مثلاً- الشيوعيين، سواء كانوا فلسطينيين، أو أردنيين، أو يمنيين، أو مصريين، أو حتى كانوا من السعوديين، أو من أي بلد آخر، ونعادي المنافقين أيّاً كان لونهم، ونعادي الكافرين أياً كان مذهبهم وأياً كان بلدهم، وبالمقابل نحب المسلم الذي يحب الله ورسوله ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلي الصلوات الخمس مهما كان بلده ومهما كانت جنسيته، فإن جنسية المسلم عقيدته، ولا يجوز أن ننساق وراء هذه الأشياء التي لم تقتصر على نطاق محدود، بل أخذت مأخذ التعميم والشمول، فينبغي أن لا يؤخذ أحد بجريرة غيره، فالظالم ظالم، والمخطئ مخطئ ولابد أن ينال جزاءه، لكنه لا يمكن أن يؤخذ أحد بجريرة غيره بحال من الأحوال. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 88 ¦ الصفحة: 28 دور المسلم في خدمة دينه السؤال المسلم دائماً في حماس لدينه وإسلامه، لكن كثيراً ما يرى الطريق مسدوداً أمامه، فماذا يعمل؟ وماذا يقدم؟ وما هي أول خطوة؟ الجواب في الواقع أن المسلم يستطيع أن يقدم الكثير، فهو كما يقول المثل الصيني: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، فثق ثقة تامة أن محافظتك على الصلاة شيء، وقيامك بالواجبات شيء، وأداءك للتكاليف الشرعية شيء، وتربيتك لأولادك على هذا شيء، وتعلمك للعقيدة الصحيحة، ومعرفتك بتاريخ الإسلام، والثقافة الإسلامية الواعية، ودعم الأعمال والمشاريع الإسلامية، والمشاركة في الدعوة إلى الله: نشر الكتاب، نشر الشريط، حضور الحلقة، حضور الدرس، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، كل هذه الأعمال يجب أن لا نحتقرها أو نزدريها أو نعتقد أنها لا علاقة لها بالقضية الكبرى. فكل قضية مهما كانت صغيرة في عينك -وليس في دين الله صغير- فينبغي أن تعلم أنها خدمة أنها تنفع بها نفسك ثم تنفع بها دينك، ولا داعي أن تربط نفسك بقضية تشعر بأنها مستحيلة، مثلاً تقول: أنا ما هي علاقتي بقضية السلام، وقضية اليهود؟ وأنا لا أملك قدرة على إخراج اليهود من فلسطين، إذاً أجلس مكتوف الأيدي وأنام ملء جفني، لا يا أخي، بل عليك أن تربي أولادك على الخوف من الله، وربِّ أولادك على محبة الله ورسوله، وربهم على الموالاة للمؤمنين والمعاداة للكافرين، ربِّ أولادك على أن فلسطين أرضٌ إسلامية مثلها في ذلك مثل سوريا والأردن والباكستان وأفغانستان والأندلس ومثل أي بلد آخر وأنه ينبغي أن تكون هذه البلاد كلها أرضاً إسلامية يحكم فيها بدين الله وشرعه، وتقام فيها العقيدة الصحيحة وتعلم فيها حدود الله، ويعلم فيها القرآن والسنة النبوية، ويؤمر فيها بالمعروف وينهى فيها عن المنكر، وإذا لم تقدر أنت قد يقدر أولادك، وإذا لم يستطيعوا هم فقد يستطيع من بعدهم، فينبغي أن يدرك كل إنسان منا أن العمل البسيط اليسير في نظره الذي يقوم به أنه يعتبر خدمة ونفعاً في هذا المجال ولبنة يمكن أن تساهم في هذا البناء الكبير. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 29 نظرة في الظروف الراهنة وموقع المسلمين منها السؤال ألا ترون أن أموراً عصيبة تلاحقت وتتابعت كمنظوم انفرط على الأمة في الوقت الحاضر، فما تفسير ذلك في نظركم؟ أرجو طرح التفاؤل، مع العمل على عدم خضوع عقول الناس لهذا الواقع؟ الجواب نعم. إن هناك أموراً كثيرة تلاحقت، والواقع أن العالم اليوم ينطبق عليه مقولة: الأيام حبلى بكل جديد، وهناك أحداث جرت خلال سنة واحدة أو سنتين إلى الآن لم يكن أحد يتوقع أن تجري خلال عشر أو عشرين سنة، فأنا اليوم أقرأ في كتاب يتكلم عن التوقعات الأمريكية لما تكون عليه روسيا، والكتاب نوعاً ما قديم، فيتكلم عن أن أمريكا -مثلاً- تتمنى القضاء على روسيا، ولكنها في مجال التوقع، فإن توقعات أمريكا هي توقعات متواضعة، فهي لا تتوقع أن تتفوق عليها تفوقاً باهراً خلال عقد أو عقدين من الزمان، ولكن الواقع جاء بنتائج مفاجئة جداً؛ حتى مراكز الدراسات والبحوث، والناس الذين يشتغلون في هذا الأمر ويسهرون الليل، ويجمعون الوثائق والأوراق والمعلومات إلى آخره، وكانت النتيجة خلافاً لما كانوا يتوقعون. أيضاً قضايا كثيرة جداً، قوة العراق -مثلاً- حيث كانت من أعظم القوى الضاربة في المنطقة، وقفت أمام إيران أكثر من إحدى عشرة سنة، وكان من المتوقع أن هذه القوة قد تبسط جناحها على المنطقة أو تحاول ذلك، وقد تكون تهديداً ليس لإسرائيل فقط، بل لغيرها من دول المنطقة، ومع ذلك تغيرت الأمور والموازين. إذاً: ينبغي أن يدرك الإنسان أنه: وأستار غيب الله دون العواقب الناس يخططون ويرسمون ويتوقعون ويتكلمون، لكنّ في غيب الله تعالى أموراً لم تخطر لي ولا لك، ولا لغيرنا، ولا للمحللين الخبراء على بال بحال من الأحوال، على كل حال من الواضح جداً أن هناك حالة مخاض في العالم كله، وتغيرات في الخارطة الدولية في الأوضاع، وفي التحالفات السياسية وفي موازين القوى، وهذه التغيرات نحن نطمح ونطمع إلى أن تكون لصالح المسلمين، فمثلاً الأوضاع في روسيا يمكن أن تخدم المسلمين -إن شاء الله- إلى حد ما، وقد ظهرت بعض الرءوس الإسلامية، وبعض الدول الإسلامية ذات الطابع العرقي التي تنتمي إلى أصول إسلامية، وهي تحاول أن تستعيد هويتها ولو وجدت يداً تمتد إليها لكان من وراء ذلك خير كثير. ولذلك الغرب وإسرائيل ينظرون بتوجس وخيفة إلى روسيا، مع أن الغرب وإسرائيل مغتبطون من سقوط الإمبراطورية السوفيتية، إلا أنه في نفس الوقت بدأ يتوجس خيفة من هذا السقوط، وماذا يمكن أن يجره عليه من ويلات ومخاطر. أقول وبكل تأكيد: والله الذي لا إله غيره؛ لو كان هناك مسلمون على مستوى المسئولية في طاعتهم لله، وإخلاصهم وصدقهم مع الله عز وجل، والتزامهم بدينهم الذي أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم دون تغيير ولا تحريف ولا تبديل، مع العمل بالأسباب الممكنة لهم والمتاحة لهم، لاستطاعوا أن يكسبوا في ظل الظروف الحاضرة أشياء كثيرة جداً؛ لكن المصيبة أنه حتى لو أن الغرب أصابه ما أصاب الشرق فتهاوت دوله دولة دولة، أو خاضت فيما بينها معارك طاحنة، فإن المسلمين في الغالب في ظل ظروفهم الحاضرة سيظلون لفترة -ليست بالقصيرة- أقل من مستوى القدرة على استغلال الأحداث لصالحهم، ونسأل الله تعالى أن يبرم لهذه الأمة أمر رُشد تخرج مما هي فيه من ويلات ونكبات. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 30 استغلال اليهود لغيرهم السؤال مما تقدم من كلامك تبادر إلى ذهني هذا التصور، وهو أن اليهود يخططون ويضعون العناصر والخطوات، لكن الذين يقومون بالعمل والتنفيذ غيرهم؛ لأن هذه الأعمال كبيرة بالنسبة لعددهم وتفرقهم؟ الجواب نعم، اليهود يستغلون غيرهم من الشعوب؛ لأنهم يقولون كما في التلمود: إن الشعوب الأممية -يعني من غير اليهود- ليسوا إلا حميراً خلقوا ليركبهم شعب الله المختار، وكل ما نفق منهم حمار ركبنا حماراً آخر، فهم يعتبرون العرب وغير العرب من حلف ائهم يعتبرونهم بهذه المثابة ويستغلونهم بهذه الصورة. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 31 السلام مع اليهود تطبيع لا خير فيه السؤال إن هذا السلام قد يكون فيه خير للمسلمين؛ وإذا كان الجواب نعم، فما هو هذا الخير؟ الجواب ينبغي أن تسأل هذا الشخص ما هذا السلام أولاً؟ وما هذا الخير الذي يمكن أن يكون من ورائه للمسلمين؟ أنا أقول: إنه من التضليل أن نقول هذا سلام، كما إن من التضليل أن نقول: إن هذا صلح مع اليهود، كما أنه من التضليل أن نتكلم عن هذا على أنه هدنة، وهذا التضليل مع الأسف وقع فيه حتى بعض طلبة العلم، الذين لم يدركوا أبعاد الأمور. القضية قضية تطبيع، والقضية قضية إزالة روح العداوة وجعل اليهود كأي دولة أخرى في المنطقة، من حيث التبادل الثقافي، والعلمي، والاقتصادي، والدبلوماسي -على كافة المستويات- السياحي، والحضاري، وهذه القضية لا يمكن أن يقبل بها مسلم أبداً مهما كان مستواه من الضعف والجهل. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 32 السلام مقابل تنازل اليهود عن بعض الأراضي السؤال يقول من منطلق عقيدتنا نعرف موقفنا من اليهود وغيرهم في أي مجال من مجالات الحياة، لكن ما رأيكم لو قيل في ظل الوضع الراهن لعل ما يمكن الحصول عليه بالمفاوضات من أراضٍ إسلامية لدى اليهود يُعد خديعة من قبلنا لهم، وإذا قوي المسلمون فدينهم يأمرهم بأمور أخرى يصعب سردها؟ الجواب لنفترض -يا أخي- مع أني تكلمت سابقاً أن اليهود يقولون: إنه ليس عندهم استعداد للتنازل عن أي شبر- لكن لنفترض أن اليهود تخلوا عن بعض ما احتلوه، أو عن كل ما احتلوه عام (1967م) ، السؤال الذي يجب أن تطرحه وتسأل نفسك عنه سيتنازل اليهود من أجل ماذا؟ هل من أجل سواد عيوني وعيونك سوف يتنازلون؟! وما قيمة أن تأخذ شبراً من الأرض وتدفع مقابله اقتصادك، بل تدفع قبل ذلك عقيدتك ودينك، وتاريخ أمتك وتراثك، وعقول أبنائك؟ وما قيمة أن نرد الأرض إلى أصحابها وتكون حكماً فيدرالياً مع اليهود، أو مع الأردن، أو بأي صورة من الصور، أو بإدارة مشتركة بين الأطراف كلها ومع ذلك يتاح لليهود أن ينساحوا على الأمة؟ وما قيمة أن يتخلى اليهود عن شبر من الأرض في مقابل أن يحتلوا بلاد الإسلام كلها باقتصادهم وإعلامهم وبخبرتهم وتخطيطهم؟ مع أنه ينبغي أن نعلم أن اليهود دائماً يتميزون بالقدرة على المكر والتخطيط والدهاء. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 33 العداء الديني لليهود والنصارى السؤال يقول: أنتم تقولون: إن العداء بيننا وبين اليهود عداء ديني، فلماذا هذا العداء لا ينطبق على النصارى؟ الجواب والنصارى أيضاً، فنحن نعتبر أن النصارى واليهود كما قال الله عز وجل: ((بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض)) [المائدة:51] . لذلك فعداوتنا لليهود وعداوتنا للنصارى واحدة، وإن كان اليهود أشد عداوة من هؤلاء، وإذا كنا الآن نتكلم عن اليهود، فلا مانع أن نخصص، وسوف أخصص -إن شاء الله- أحاديث ودروساً تتكلم عن النصارى، ومن ضمن الدروس التي تحتاج إلى تقديم -وسوف تقدم ضمن هذه الدروس بإذن الله سبحانه وتعالى، وعونه- الكلام عن الخطر التنصيري، وجهود النصارى في تحويل المسلمين عن دينهم، وهذه هي إحدى القضايا، لكن الإنسان في كل مناسبة قد يتكلم عن جزئية ويترك جزئيات أخرى. أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 88 ¦ الصفحة: 34 اعترافات مذنب إن الاعتراف بالذنب علامة على وجود الإيمان في القلب؛ ولكن ما هي حقيقته؟ وما هي مقتضياته؟! هذا ما أجاب عليه الشيخ -حفظه الله- في هذا الدرس، الذي بين فيه أن حقيقة الاعتراف بالذنب ليست الإقرار بفعله فقط؛ بل إنه يكون أولاً: اعترافاً بالقلب ونطقاً باللسان والاعتراف بنعمة الله، وقد ذكر الشيخ أدلة ذلك من الكتاب والسنة ومن أحوال السلف، ثم رغب في التوبة وحث عليها وحذر من اقتراف الذنوب مهما حقرت، وحذر كذلك من اتباع خطوات الشيطان، ثم بين أن باب التوبة مفتوح وأن رحمة الله واسعة. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 1 الاعتراف بالذنب دليل الإيمان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ثم أما بعد: فهذا اعتراف مذنب: كنت قد كتبت لأخي رسالة قبل أيام عاتبته فيها على شطحات وهفوات، وتحدثت عن مشاعر وأحاسيس في نفسي، فظن هذا الأخ الكريم أني أعنيه بشخصه وأقصده بذاته، فكتب إلي متبرماً متنصلاً وقال: إن سياط عتابك أوجعتني، وكلماتك آلمتني، والحق أني ما قصدته بذاته. بل أنا لا أعرفه لا باسمه ولا برسمه، ولكني أتحدث عن أعمال وأقوال وأحوال ربما كان يلابسها الكثير منا، -إن لم يكن كلنا؛ فجلنا- فما منا إلا وهو ذلك المخطئ المذنب، وفي سنن الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فكلنا ذلك الخطَّاء، وكلنا ذلك المذنب. بل وفي حديث آخر عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنه -وسنده صحيح أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد مؤمن إلا وله ذنب يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه حتى يفارق الدنيا، أي إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً، إذا ذكر} . فحديثي لم يكن إلى ذلك الأخ الكريم بعينه، ولقد سمعت عدداً من الإخوة يقول: أنا المقصود لولا أنني لا أفعل كذا، وأنا المراد لولا أني لم أقل كذا، وأظن أن الخطاب لي لولا أنني ما وقعت في كذا. إن اعتراف الإنسان بذنبه؛ هو دليل الإيمان، ودليل الشعور بالخوف من الله عز وجل، ولهذا قال الله تعالى عن المؤمنين، بل عن المستقيمين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه أحمد وغيره عن أبي أمامة، وهو حديث صحيح-: {إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك؛ فأنت مؤمن} . الجزء: 89 ¦ الصفحة: 2 كثرة استغفار الرسول حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله تعالى بأن يعترف بذنبه، ويستغفر الله تعالى منه، فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وقال: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [النساء:106] . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الاستغفار فكان إذا انصرف من صلاته، قال -وهو مستقبل القبلة قبل أن ينصرف إلى الناس-: {أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله} كما في حديث عائشة وهو في صحيح مسلم، وكما في حديث ثوبان وغيرهما فقال هذا الاستغفار عقب طاعة من الطاعات وهي الصلاة. كما أمره الله تعالى أن يستغفر عقب طاعة أخرى في مناسك الحج فقال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] . فإذا كان العبد حتى النبي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام يطلب منه أن يستغفر بعد طاعة، وصلاة، ونسك، وبعد ذكر، فما بالك بالخطائين المذنبين الذين غرقوا في أوحال المعصية إلى أذقانهم وتلطخوا بها؛ واشتملوا عليها! وما بالك بالعبد وهو يخرج من ذنب، أو يقلع من معصية، أو يتوب مما لا يرضي الله عز وجل! فإنه أولى أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يستغفر الله عز وجل استغفاراً يتواطأ فيه اللسان مع القلب، فإنه خير الاستغفار. أما أن يستغفر بلسانه وقلبه مصر على المعصية، فإن هذا لا يكون قد استغفر الله تعالى حقاً، ولهذا قال أحدهم: أستغفر الله من أستغفر الله من كلمة قلتها لم أدرِ معناها إنه يستغفر من أنه ينقض بفعله ما قاله بلسانه، فذلك الإنسان الذي يقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت؛ ثم ينقض عهد الله تعالى من بعد ميثاقه، ويقطع ما أمر الله تعالى به أن يوصل، ويترك ما أمر الله تعالى أن يفعل، ويفعل ما أمر الله تعالى أن يترك، أين هو ممن يعترف بذنبه، أو يقر به، أو يفي بعهد الله تعالى وميثاقه؟! إن هذا هو الاعتراف الحق أن يعترف العبد بقلبه بما وقع من الذنب والحوب والمعصية؛ ثم ينطق اللسان بما اشتمل عليه القلب من الإقرار لله تعالى، والتوبة إليه، والندم على ما فات، والعزم على ألا يعود. وهذا هو ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام، فقال سبحانه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . الجزء: 89 ¦ الصفحة: 3 حقيقة الاعتراف بالذنب وإن الاعتراف بالذنب في الإسلام لا يعني الإقرار بفعل الذنب، بل إن العبد ليس مطالب بأن يقر بفعل الذنب في هذه الدنيا، وربما لو تاب وستر نفسه؛ لكان خيراً له في الدنيا والآخرة من أن يفضح نفسه، أو أن يعرض نفسه للعقوبة، أو لإقامة حد من حدود الله تعالى عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من بلي بشيء من هذه القاذورات؛ فليستتر بستر الله عز وجل} . ولكن المقصود أن يعترف بين يدي ربه جل وعلا، الذي يعلم السر وأخفى، ولا تخفى عليه خافية أن يعترف بأن ما فعله خطأ، وذنب، ومعصية، وذلك دليل الإيمان بالله تعالى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا سرتك حسنتك وساءتك سيئتك؛ فأنت مؤمن} . فالمؤمن هو ذلك الذي يلدغ الشعور بالذنب قلبه، ويكوي فؤاده، ويؤرقه فيتقلب على فراشه على مثل جمر الغضى؛ من الشعور بالذنب وقلق المعصية، والتوتر والخوف من عقاب الله تعالى أن ينزل به ليلاً أو نهاراً، اليوم أو غداً. إنه اعتراف بأن ما فعله خطأ؛ ولذلك تراه يتوب ويستغفر وهاهو المؤمن يقول -في صباح كل يوم ومساء كل ليلة- كما أمر وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث شداد بن أوس في صحيح البخاري، أنه قال عليه الصلاة والسلام: {سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك علي، وأبوءُ بذنبي، فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قاله حين يصبح فمات من يومه دخل الجنة، ومن قاله حين يمسي فمات من ليلته دخل الجنة} وذلك لما احتواه هذا الاستغفار من الإقرار بالذنب، والاعتراف به، والإقرار بنعمة الله تعالى على العبد. وفي الحديث الآخر -أيضاً- الذي رواه البيهقي وأبو نعيم عن عائشة -وهو صحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً} . الجزء: 89 ¦ الصفحة: 4 فضل الاستغفار جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله، فقال له: إني تاجرت فخسرت، قال: عليك بالاستغفار! ثم جاءه آخر، فقال له: إني عقيم لا يولد لي، فقال له: عليك بالاستغفار! ثم جاءه ثالث، فقال: إن بلادنا قد وقف عنها المطر وقحطت وأجدبت الأرض، قال: عليكم بالاستغفار! فقال له رجل: يا أبا سعيد: شكوا إليك أمراضاً شتى، وذكرت لهم دواءً واحداً! قال: إن الله تعالى يقول: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً} [نوح:10-11] . فثمرة الاستغفار الأولى المطر من السماء: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} [نوح:12] ومن ثمار الاستغفار أيضاً الكثرة في المال والبركة في الرزق: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح:12] وهذا أيضا من ثمار الاستغفار أن يجعل الله للعبد أولاداً صالحين، وذرية تخلفه من بعده. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 5 أفضل أوقات الاستغفار إن الفرصة المثلى للاستغفار أن تستغفر الله تعالى وأنت صحيح شحيح؛ في حال قوتك، وقدرتك، وشبابك، وغناك؛ وأكثر الناس إنما يتوبون ويستغفرون إذا عجزوا عن المعصية! فإذا وقع أحدهم في الفخ -في المصيدة- مرضاً، أو هرماً، أو كبراً، أو عجزاً لا يطمع بزواله أبداً؛ استغفر حينئذٍ ولا شك أن هذا استغفار قد يقبل عند الله تعالى؛ ولكن أكمل الاستغفار وأصدق التوبة؛ أن يقلع الإنسان عن المعصية وهو قادر عليها. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 6 الاستغفار عند الموت هذا يكثر المعترفون عند الموت؛ بل ما من عبد ينزل به الموت إلا واعترف واستغفر، لكن شتان بين من يعترف طالباً للمزيد، وبين من يعترف بعدما أفلتت من يده كل الفرص! فشتان بين الإمام الشافعي وبين شاعرٍ كـ أبي نواس فالإمام الشافعي لما نزل الموت به تلفت فيمن حوله، ثم أراق قطرة من دموعه، ثم قال: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل شد إزاره على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول حبيبي أنت سؤلي وموئلي كفى بل للراجين سؤلاً ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني وما زلت مناناً علي ومنعما عسى من له الإحسان يغفر زلتي ويستر أوزاري وما قد تقدما ثم فاضت روحه الطاهرة رحمه الله. فماذا عمل الإمام الشافعي؟ إنه قضى ليله في الصلاة ونهاره في طلب العلم، وكان صاحب تقوى وعباده، إماماً في الفقه، إماماً في الحديث، إماماً في الزهد، إماماً في التقوى، إماماً في الورع، ومع ذلك هذا اعترافه وهذا ذنبه وهذا ندمه؛ لأنه ما من عبد ينزل به الموت إلا ندم، فإن كان مؤمناً ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون نزع عن إساءته ومعصيته، كما جاء في الأثر. فشتان بين رجل -كالإمام الشافعي - هذا اعترافه في تلك اللحظات الأخيرات، وبين رجل -كـ أبي نواس - ملأ الدنيا ذنوباً ومعاصي، وما من جريمة إلا وله فيها سهم ونصيب، وامتلأت كتب الأدب بقصائده وأشعاره وقصصه وأخباره، وغير ذلك مما يطول به الوقت ويضيق عنه الحصر؛ ثم إذا بالموت يصرعه، فيتلفت أين أصدقاؤه؟ أين ندماؤه؟ أين قيانه؟ أين الكئوس؟ أين الجلوس؟ كل ذلك فر عنه، وبقي يصارع الموت وحده! -وحينئذٍ: علم أنه لا باب إلا بابه جل وعلا، الذي ما رد طالباً، ولا رجع عنه أحد خائباً من قرع بابه بجد؛ فتح الله تعالى له وأجابه، فنظر هذا الرجل فحاول أن يستدرك فصاح: يا رب إن عظمت ذنوبي كثرةً فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسنٌ فبمن يلوذ ويستجير المجرم رب دعوت كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم إن العبيد لا يتحجرون رحمة الله تعالى، وقد قبل الله تعالى رجلاً قتل مائة نفس، وما عمل خيراً قط سوى أنه ذهب إلى بلد صالح ليتوب ويعبد الله عز وجل؛ بل إن جبريل عليه السلام قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- قال جبريل: {يا محمد! كيف لو رأيتني وأنا آخذ من وحال البحر فأدسه في فم فرعون مخافة أن تدركه الرحمة!} . فلما غرق فرعون في اليم قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال الله تعالى: {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91-92] فجبريل خشي أن تدركه رحمة الله تعالى حين نطق بكلمة التوحيد؛ فكان يأخذ من طين البحر فيدسه في فمه لئلا يكرر هذه الكلمة، أو يستغفر الله تعالى في تلك اللحظة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} . لكن أيها الأخ الكريم: ما الذي يدريك أن تتمكن من توبة صادقة وأنت على فراش الموت؟ ربما يحال بين العبد وبين ما يشتهي، وبينه وبين ما يريد، كما فعل بأشياعه من قبل؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله دخل الجنة} . لكن كم من إنسان حيل بينه وبينها! فلما أراد أن يقولها ثقل لسانه، أو جرى على لسانه ما كان يردده في حال حياته، -كأغنية، أو كلمة فاجرة، أو ما أشبه ذلك- وربما مات على غير ملة الإسلام! -والعياذ بالله تعالى من ذلك- ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] . فإن العبد إذا عاش على الإسلام؛ مات عليه، قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد، عن ابن عباس رضي الله عنه: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من الموت، فإن عرف العبد ربه في الرخاء فذكره، وشكره، وصلى، وصام، وتاب إليه، وأقلع عن معاصيه، وأكثر الاستغفار؛ رحمه الله تعالى في الشدة الكبرى عند الموت؛ فختم له بخير أما إن كان من المسرفين على أنفسهم، فيخشى أن يحال بينه وبين التوبة في آخر لحظة يمكن له فيها أن يعترف. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 7 التحذير من الذنوب واتباع خطوات الشيطان أيها الأخ الكريم: لا تحقرن من الذنوب شيئاً؛ فإنها تجتمع على الرجل حتى توبقه في نار جهنم، ماذا كانت الخطوة الأولى في المعصية؟ ربما كانت -كما حدثني ذلك الأخ الكريم المشار إليه- نظرة دافعها حب الاستطلاع لا غير، تمر من عنده المرأة فيقول: أريد أن أنظر هل هذه المرأة محجبة فعلاً؟ هل هي لابسة للقفازات؟ هل هي قد أسبلت ثوبها فلا يُرى من قدمها شيء؟ فإذا نظر إليها بهذه النظرة؛ فربما كانت هذه النظرة بداية للفتنة. أو يقع في يده كتاب، فيقول: أريد أن أنظر ماذا يحتوي، وعلى ماذا يشتمل، أو يتصل به هاتف في أول الليل أو في آخره لا يدري أذكر هو أو أنثى؛ فيقول: أريد أن أعرف، أريد أن أدري ماذا يقصد أريد وأريد ثم تكون تلك هي بداية الطريق الطويل كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] إنه يغزل لك غزلاً طويلاً، ويرسم لك طريقاً لا تدري أين بدايته؛ ولكنك تدري نهايته. ثم ينتقل بعد ذلك إلى جرك إلى الكأس الأولى، والكأس الأولى قد تكون كأس خمر؛ لكن هذا ليس ضرورياً -وقد يعبر بالخمر عن غيرها- فقد تكون سيجارة، وقد تكون أغنية في شريط، وقد تكون علاقة تقتصر أول الأمر على حديث بريء -كما يقال- وقد تكون سفرة مع رفقة سوء، وقد تكون جلسة لمجرد المتعة وإزجاء وقت الفراغ، ثم يجر ذلك إلى ما بعده -وقد يظن الظان أنه يمنع نفسه- ولا يدري أنه إذا انزلق في هذا الطريق فقد لا يكون له قرارٌ إلا في ذلك الوادي السحيق. ولهذا قال الله تعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} [الحديد:14] . فالعبد فتن نفسه حينما أوقعها في أول المعاصي؛ ثم انتقل إلى الخطوة الثالثة، وهي: أن نفسه تعلقت بهذه الأمور، فأصبحت تستحسنها وتستعذبها، وربما يكون صاحب المعصية -أحياناً- يجد لذة في معصيته أثناء مواقعتها، ثم يجد بعد ذلك ندماً في قلبه وحسرة؛ ثم تزول هذه الحسرة ويرجع إلى المعصية، وهكذا يظل عمره ضائعاً بين شهوة يتلذذ بها، وحسرة يتبعها إياها، وينتهي الأمر بعد ذلك إلى أن تصبح المعصية جزءاً من تكوينه وشخصيته وحياته؛ فلا يطيق بعداً عنها، ولا يصبر عن أصحابها. فيكون هذا الأمر والعياذ بالله! آخر ما يتصور الإنسان أنه ينتهي إليه، وربما كان الواحد يفعل المعصية وهو يبكي، لأن هذه المعصية أصبحت جزءاً من حياته، سرت في دمه، ورسخت في قلبه، وتصورها في عينه؛ فإذا غاب عنها قفز خياله إليها. وإني أعرف الكثيرين من هؤلاء، يتمنى كثير منهم الخلاص، ولكن شباك الشيطان قد أحكمت من حوله، فهو يصيح ويمد يده ولكن الأمر عظيم؛ لأن المعصية قد أصبحت شجرة في حياته، فامتدت جذورها في التربة، وبسقت، وتعرضت سيقانها، وهو: قد ضعفت إرادته وفترت همته، وقل إيمانه، فلا يستطيع أن يتخلص منها. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 8 شهر رمضان شهر التوبة إن هذا الشهر الكريم هو شهر التوبة، فحيهلا أيها العصاة -وكلنا خطاء- حيهلا لنتوب إلى الله تعالى، ونرفع إليه أكف الضراعة، ونريق دموع الندم على خدودنا، ونعفر وجوهنا بالتراب ذلاً له جل وعلا، ونتخلى عن حولنا وقوتنا، ونعلم أنه لا حول ولا قوة إلا به، ونتذكر أنه إذا لم نتب في هذه المواسم -التي هي مواسم الطاعات، وفيها تحصل رقة القلوب، وسلامة النفوس، وكثرة الذكر، وجود الله تعالى على عباده، وتصفيد الشياطين، -شياطين الجن والإنس- فمتى نتوب؟! هل نتوب حينما تزول هذه المواسم، وحينما تطلق الشياطين، وحينما يتسلط شياطين الجن والإنس على بني آدم؟!! إن من لم يتب في هذا الشهر؛ يخشى عليه ألا يتوب وما يدريك أنه قد يحال بينك وبين رمضان آخر! فإن الحزم كل الحزم، والعزم كل العزم أن تجدد لله تعالى نية صادقة، وتعترف له تعالى بذنوبك، وتتوب إليه تعالى من كل ما أسلفت من ذنب أو خطيئة. خاتمة: اللهم تب على التائبين، اللهم تب علينا أجمعين، اللهم وفقنا للتوبة النصوح ما دامت ممكنة وبابها مفتوح، اللهم تب علينا يا أرحم الراحمين، اللهم إننا نعلم أنه لا حول ولا قوة لنا إلا بك، اللهم ظلمنا أنفسنا، اللهم أسرفنا على أنفسنا، اللهم إنا نعترف بذنوبنا، اللهم إنا نعترف بعجزنا وتقصيرنا، اللهم إنا عبيدك بنو عبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ليس لنا غنى عن رحمتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم إنا نعترف إليك بعجزنا عن أن نقلع عن ذنوبنا إلا بقوة من عندك؛ فجد بها علينا يا جواد يا كريم، اللهم خذ بأيدينا من ذل المعصية إلى عز الطاعة، اللهم أخرجنا من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة، اللهم تب علينا يا تواب يا رحيم، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين، اللهم اهد ضال المسلمين. اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم اجعل هذا الشهر حجة لنا لا حجة علينا، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل صالح مبرور، وكن لنا في جميع الأمور يا عزيز يا غفور. نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، نستغفر الله تعالى ونتوب إليه، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً؛ فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمدننا بأموال وبنين يا أرحم الراحمين، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 89 ¦ الصفحة: 9 سعة رحمة الله وقبوله لتوبة عبده إن المعصية كانت بالأمس نبتة ضعيفة، هشة، سهلة الكسر، كان بإمكانه أن يقتلعها، وإيمانه كان أقوى وأرسخ مما هو عليه الآن؛ أما اليوم فقد عظمت المعصية وتعمقت وامتدت وضعف إيمانه، فهو أعجز عن إزالتها؛ ولهذا فإن السعيد كل السعيد هو من يبادر المعصية في أوائلها ويحاذرها من بداياتها، ويتقيها. أما إذا وقع فيها فقد يكون الخلاص صعباً، ومع ذلك فإن أولئك الذين ولغوا في المعاصي إلى أذقانهم، وغرقوا في تيارها؛ فإن الله تعالى يناديهم بقوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] . أي: إنه لا ذنب أعظم من القنوط من رحمة الله عز وجل، فإن القنوط من رحمته ضلال وكفر، قال تعالى: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وقال: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] حتى أولئك الذين كفروا، وقتلوا، وزنوا، يقول الله عز وجل عنهم: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:68-70] . ولربما جاء يوم يتمنى فيه أهل المعاصي أن لو كانوا قد استكثروا منها؛ لأنهم قد تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحاً، كما جاء ذلك في حديث صحيح: {إن الرجل يقف بين يدي الله تعالى فيذكره بذنوبه -لا يذكر إلا صغارها، وينحي عنه كبارها- فيقول الله تعالى له: قد غفرتها لك وأبدلتها حسنات، فيقول العبد: يا رب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!! فتبسم النبي صلى الله عليه سلم حتى بدت نواجذه} . الجزء: 89 ¦ الصفحة: 10 ونبلو أخباركم البلاء شرط للتمكين، وقد جعل الله تعالى من سننه في الكون أن يبتلي من ادعى الإيمان به سبحانه وتعالى، والناظر في أحوال الأنبياء جميعهم وأولهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وغيره كموسى ويوسف وشعيب عليهم السلام، والمتأمل في أحوال أتباعهم والصحابة والتابعين وسواهم، يجد الأمثلة الكثيرة المتناثرة هنا وهناك لمثل هذه الابتلاءات، وكيف تعامل هؤلاء الصالحون معها بقوة وصبر وثبات حتى اكتسبوا رضا الله تعالى وقبوله. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 1 من طرائف المحن إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلَّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. في هذا المسجد المبارك جامع الغنام في الزلفي، وفي هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة الحادي والعشرين من شهر شعبان من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، يكون هذا المجلس الذي أسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته أن يجعله اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. أحبتي الكرام: جزاكم الله يا أهل الزلفي من أهل ومن عشيرة خيراً، فإنكم نعم الأهل والدار والجار، ولو أن الإنسان وجد من وقته فسحة وأتبع نفسه هواها لما كان له أن يفارقكم، فإن المرء حين يلقاكم يلقى الكرم وحسن الخلق، والأمانة والديانة والرجال الذين يطمع أن يكون لهم نصيب وبلاء في خدمة هذا الدين والقيام عليه. وليست بالمرة الأولى التي أزوركم فيها، فإننا ونحن قادمون إليكم في الطريق تذاكرنا الزيارات والمحاضرات التي ألقيتها في هذا البلد، وبدون أن أفصح لكم وأبوح بهذا السر إلا أنني أقول إنها بالتأكيد كانت دون العشرين، وأسأل الله تعالى أن يجعلها في ميزان الأعمال الصالحة، وليس ذلك تذكيراً بشيء مضى إلا أنه اعتذار عن التقصير والإخلال، ورجاؤنا ألا يكون هذا التقصير شديداً وإلا فحقكم كبير، ولكم مكانة في القلب يعلمها الله عز وجل، وكل أهل هذا البلد الطيب -من أهل الخير والصلاح- لهم في سويداء القلب منزلة عظيمة، ولعلي أذكر مكتب الدعوة في هذا البلد، وجهده وبلاءه وقيامه بالنشاط الخيِّر، سواء في دعوة العلماء والمحاضرين وطلبة العلم للدروس والمحاضرات، أم في القيام على النشاطات المختلفة وتنظيم البرامج والمخيمات وغيرها، أم توزيع الكتب أم سواها أم في دعوة غير المسلمين من خلال المكتب التعاوني العامر الذي يقوم عليه رئيس المحاكم في هذا البلد الطيب، الشيخ محمد المعيتق حفظه الله. ذلك الرجل الذي شاب مفرقه في الإسلام ولكنه في روح شاب، فنحن نجده أمامنا إن ذهبنا إلى بريدة وإلى عنيزة وإلى الغاط وإلى المجمعة وإلى الشرقية وإلى جدة فحيث ما ذهبت وجدته أمامك، سباقاً إلى الخيرات حريصاً عليها فأسأل الله تعالى أن يجزيه عني وعنكم يا أهل البلد كل خير، وأن يجعله مباركاً أين ما كان، وأن يكثر في العلماء والمشايخ من أمثاله. ثم إني أشكر أيضاً كل الأساتذة والقضاة والعلماء والأخيار والأحبة الذي يسمعون لي الآن، سواء أكانوا من هذا البلد أم من القادمين إليه، وأسأل الله تعالى أن ينفعنا جميعاً بما نقول ونسمع. أيها الأحبة: عنوان المحاضرة كما سمعتم (ونبلو أخباركم) ولعلكم سوف تلاحظون في هذه المحاضرة ثورة على روتين المحاضرات والدروس، فلن أبدأ فيها كالعادة بأهمية هذا الموضوع وسبب التحدث عنه إلى غير ذلك كما جرت بذلك العادة في الدروس والمحاضرات، رغبة في التغيير والتنويع لا أكثر. بل سأبدؤها بعنوان يقول: "من طرائف المحن"، وهي عبارة عن بعض القصص الخفيفة والسريعة التي حصلت لبعض الصالحين والعلماء في حياتهم، وهي إعراب ودليل على أن هذه الحياة بطبيعة وأصل تركيبها لا تخلو من بعض الكدر والمحن والمصائب، سواء للأغنياء أو الفقراء، للكبراء أو الضعفاء، للرجال أو النساء، للمسلمين أو الكفار، فالجميع لا بد أن يلقوا في هذه الحياة بعض الأذى، فالأمر كما قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] إلى آخر الآية:- جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هارِ الجزء: 90 ¦ الصفحة: 2 أحد القراء الصالحين مع العبيديين القصة الثامنة: في عهد الفاطميين العبيديين الذين حكموا مصر وحكموا بعض بلاد الشام وحكموا بلاد المغرب جزءاً من الزمان، وهم كانوا يدعون أنهم من أولاد فاطمة رضي الله عنها ونسبهم ليس بصحيح كما حقق ذلك السيوطي وغيره، المهم أن بعض هؤلاء الفاطميين من غلاة الرافضة ادعى الألوهية، وكان الحاكم يدعي الألوهية حتى قال له الشاعر أبياته المشهورة: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار فألهه من ألهه من عباد الدنيا وعباد المال وطلاب المناصب وطلاب الشهوات، الذين لا يمانعون أن ينالوا ذلك كله ولو أراقوا ماء وجوههم، ولو تمرغوا في الوحل ولو تدربوا على الذل؛ بل ولو ذبحوا إيمانهم، على هذا فإنه لا مانع لديهم. ادعى هذا الحاكم أنه الإله الرب المدبر، فكان من صنع الله تعالى أن هذا الحاكم ظهر للناس في وقت الصيف، وقد كثر الذباب وقد كان من حوله يبعدون عنه الذباب فيبتعد ثم يعود مرة أخرى، فيبعدونه فيبتعد ثم يعود والناس قد طال عجبهم من تسلط الذباب عليه، وكان في المجلس قارئ حسن الصوت بالقرآن الكريم، خاشع ديِّن صدوق داعية مضحٍّ فاستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73-74] فصاح الناس كلهم الله أكبر الله أكبر! وكأنما تنزلت تلك الآية في تلك اللحظة، وانجفلوا عن الحاكم حتى سقط عن كرسيه فخاف من القتل فهرب، ثم أضمر شراً لهذا الرجل، وصار يتألفه شيئاً فشيئاً حتى اقترب منه، فقال: إن عندي رسالة أحب أن أرسلك بها إلى فلان، فأخذ الرجل هذه الرسالة وركب البحر فدبر الحاكم مؤامرة لإغراق هذا الرجل، فلما كان في ثبج البحر، وتلاطمت الأمواج، وأظلم الليل، سارع الربان إلى هذا الرجل، فأخذه وألقاه في البحر فأغرقه، ثم واصل طريقه، ومات هذا الرجل، ولما مات رؤي في المنام -رآه رجل في المنام- فسلم عليه، وقال له: والله ما قصر معي ربان السفينة، لقد أوقفني على باب الجنة. إنه موقف سهل يسير لم يزد هذا الرجل على أن قرأ آية من كتاب الله تعالى، ولكن التوقيت والمناسبة والظروف جعلت هذه الآية تفعل فعلها، فآمن الناس وأدركوا أنه يجب أن يرفضوا هذا المتأله، الذي قال لهم كما قال فرعون الأول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] فقالوا: الله أكبر، وقاموا حتى كادوا أن يقتلوا هذا الحاكم، ولو أنهم كانوا أكثر شجاعة وأكثر قوة وأكثر تضحية لكان في هذا الموقف البسيط الشرارة التي تحرق عرش العبيديين المتألهين، الذين حاربوا القرآن وحاربوا السنة وأحرقوا صحيح البخاري وقتلوا العلماء وقضوا على أهل السنة في ديارهم ونشروا البدعة حيث حلوا وأين أقاموا. الوقفه الثانية: المحن الكبار: وإذا ذكرت المحن الكبار فمن يستطيع أن ينسى أو يترك ذكر رسل الله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام، طالما لقوا ما لقوا في سبيل الله تعالى، وكذبوا وأوذوا ومنهم من حبس كما حبس يوسف عليه الصلاة والسلام، ومنهم من قُتل كما قُتل يحيى، ومنهم من ضُويق وحاولوا قتله كما فعلوا بعيسى عليه السلام، ومنهم من أخرج من بلده كما أخرج موسى وهارون ومحمد صلى الله عليهم جميعاً وسلم. إنهم قادة الموكب وأئمة الركب والحديث عنهم يطول ولكني أعرض نماذج لهؤلاء كما عرضت فيمن كان قبلهم. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 3 سفيان الثوري مع أبي جعفر المنصور القصة السابعة: دخل سفيان الثوري على أبي جعفر المنصور -وسفيان الثوري رجل معروف تاريخه كله تاريخ صبر ومصابرة، وبلاء وجهاد، وإيذاء في سبيل الله وصبر واحتساب- دخل مرة على الخليفة أبي جعفر فضرب سفيان البساط برجله بقوة، ثم تقدم وجلس فقال له الحجَّاب: كيف تجلس قبل أن يأذن لك أمير المؤمنين، فقال: إني لا أحتاج إلى إذن أحد، ثم تكلم على أمير المؤمنين ونصحه بقوة وشدة. فقال الحراس والحجاب للخليفة: يا أمير المؤمنين إن ترك مثل هذا يكون سبباً في الجراءة عليك وعلى سلطانك وقد يمرغ سمعة الدولة ويعرضها للخطر، فلو قتلته "فتبسم الخليفة" وتبسم سفيان، قال الخليفة: إنه سيقول لكم قولاً عظيماً، ما تقول في هؤلاء يا سفيان؟ قال: هؤلاء يا أمير المؤمنين والله الذي لا إله غيره شر من بطانة فرعون، فإن بطانة فرعون قالوا له: {قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الأعراف:111] يعني من الإرجاء والتأخير: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} [الشعراء:36] أما هؤلاء فهم طلبوا قتلي سريعاً، فتبسم الخليفة وقال له: قم سليماً معافى، وأخرجه ولم يتعرض له، وإن كان سفيان قضى بقية حياته كلها مختفياً متوارياً، بل مات ودفن وهو مختفٍ متوارٍ رحمه الله ورضي عنه وأرضاه. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 4 عراك بن مالك مع يزيد بن عبد الملك القصة السادسة: يزيد بن عبد الملك خليفة أموي، فقد نفى يزيد بن عبد الملك رجلاً إلى جزيرة اسمها دهلك، وكان هذا الرجل اسمه عراك بن مالك، وهو رجل صالح ديِّن خيِّر؛ ولكن لم يعجب الخليفة في هديه وطريقته وعلمه، فغضب منه وكرهه وأبعده وأقصاه، وطالما حصل مثل هذا وغادر المؤمنون ديارهم وبلادهم وأخرجوا منها بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وطالما أوذوا في سبيل الله عز وجل فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله عز وجل، فنفاه إلى تلك الجزيرة -جزيرة دهلك- وكان عمر بن عبد العزيز من قبله قد نفا رجلاً آخر إلى تلك الجزيرة. ولكن البون شاسع فياترى من هو الرجل الذي نفاه عمر بن عبد العزيز؟ هل نفى عمر رجلاً لصلاحه أو لتقواه أو لورعه أو لفتواه أو لمجاهرته بمسائل العلم؟ كلا، وإنما نفى عمر بن عبد العزيز شاعراً خليعاً يقال له الأحوص إلى تلك الجزيرة، ففي عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله تعالى ورضي الله عنه- كان النفي والإبعاد والطرد يكون للشعراء المجان، شعراء الفجور والحداثة والخلاعة والدنيا، ويكون التقريب والإعزاز والإكرام لأهل العلم، وأهل الورع وأهل التقوى وأهل الزهد وأهل العبادة، ولذلك نفى عمر الأحوص إلى دهلك. أما يزيد بن عبد الملك فقد نفى عراك بن مالك، والطريف في الأمر أن أهل دهلك كانوا يدعون لـ يزيد بن عبد الملك، ويقولون: جزاك الله عنا خيراً يا يزيد فقد أحضرت إلينا رجلاً علّم أولادنا القرآن والسنة والحديث، وكان عمر بن عبد العزيز من قبلك نفى إلينا رجلاً علم أولادنا الشعر والشر، فانظر: مصائب قوم عند قوم فوائد. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 5 عطاء بن أبي رباح القصة الخامسة: عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وفقيههم وعالمهم ومفتيهم، كان عبداً نوبياً أسود ولكن الله تعالى أعزه بالعلم وكرمه بالطاعة، فسوده أهل مكة عليهم حتى كان الخليفة يأتي فيجده في المسجد يصلي، فيجلس إلى جواره ينتظر السلام ليسأله عن مسألة في المناسك، فإذا سلم عطاء سأله الخليفة فأجابه عطاء جواباً مختصراً ثم قام واستقبل القبلة وقال: الله أكبر، وأعرض عن الخليفة. حتى قال الخليفة لأولاده: يا أولادي تعلموا العلم، فو الله لا أنسى ذلي بين يدي ذلك العبد الأسود وأنا أسأله عن مسائل العلم. عطاء كان ملء سمع الدنيا وبصرها، وترجمته ترجمة حافلة مشهورة مشهودة، كان يوماً من الأيام يصلي في بيت الله الحرام، وكان هناك رجل من الحجاج قد نام، فجاءت الريح فدفعت ثوبه فظهرت منطقته، وهو الحزام الذي يتمنطق به وكان به ماله، فعدا عليه بعض اللصوص وأخذوه، فاستيقظ هذا الرجل فلم يجد أحداً، ثم تلفت فلم ير إلا عطاء قائماً يصلي، فجاء إليه وأمسك بتلابيبه وهزه هزاً عنيفاً، فقال له: يا كذا ياكذا أخذت مالي فلما ظفرت بك ووجدتك فزعت إلى الصلاة، يعني: ظن أن عطاء هو الذي أخذ هذا المال. فقال عطاء: هل علم بهذا أحد؟ قال: لا، إلا أنت. قال: هلم معي، كم في منطقك من المال؟ قال: مائتا دينار، قال: تعال أعطيك إياها ولا يعلم بذلك أحد، لأن عطاء قد خشي عليه أن يبطش الناس به حينما أذل عالمهم وإمامهم وفقيههم ومفتيهم، فذهب به عطاء إلى بيته وأعطاه مائتي دينار وقال له: اذهب في حال سبيلك، فلما رآه الناس سألوه عن الخبر فأخبرهم فقالوا: أتدري من هذا قال: لا، قالوا: هذا عطاء بن أبي رباح سيد من سادات التابعين، وإمام فقيه حجة ثبت. فتعجب! وجاء إليه يعتذر إليه فقال: خذ المال، فقال: هيهات، أما المال فقد وهبه الله لك، وأما الحل فأنت مني في حل، فانظر إلى هذا الإمام كاد أن يبتلى بقضية، وكان من الممكن أن تُرَتَّب -لو وجدت مثل هذه المسألة- بعض الأجهزة المتخصصة في التشويه والتشهير، لرتبت منها قضية خطيرة وقالت ونشرت في الصحف وبالخط العريض: عطاء بن أبي رباح يقبض عليه متلبساً بتهمة كذا وكذا، سرقة الحجيج. ولكان هذا مادة لعدد من التعليقات الإذاعية والإعلامية، بل وربما عُملت أشياء كثيرة من أجل تضليل الناس عن حقيقة هذا الخبر وهذا الأمر، وتشويه صورة هذا الإمام العالم الجليل، ولكن الأمر انتهى عند ذلك الحد، فانظر كيف تحمل عطاء رضي الله عنه ذلك الأمر، وعفا عن هذا الرجل، وأنهى هذه القضية؛ لأنه كان يعمل لله تعالى لا للناس، فليس يضره أن يتكلم الناس فيه ولا أن يعيبوه ولا أن يتهموه بما هو منه براء: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] . وانظر إلى الناس كيف وقفوا إلى صف عطاء رضي الله عنه، وعرفوا هذا الرجل بحقيقته وطلبوا منه أن يذهب إليه ويتحلل منه ما دام الأمر ممكناً. وانظر كيف انتهت القضية عند هذا الحد، وأصبح الناس يتندرون بهذه القصة، ويعرفون كم كان مبلغ هذا الرجل من الخطأ وكم كان هذا الرجل بعيداً عن العلم والمعرفة، إذ من هو الذي يجهل عطاء بن أبي رباح وهل يخفى القمر، كلا! الجزء: 90 ¦ الصفحة: 6 أحمد الخزاعي مع الواثق القصة الرابعة: وهي قصة عجيبة: أحمد بن نصر الخزاعي -هذا من أصحاب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى وكان رجلاً فاضلاً عالماً بُلِيَ بمسألة القول بخلق القرآن، في عهد المأمون ثم في عهد الواثق وأبى بأن يقول بأن القرآن مخلوق، بل أصر أن القرآن كتاب الله تعالى منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، فحاولوا معه فأبى، فضربوه فأصر، فسجنوه فاستمر حتى أحضره الواثق بين يديه، وقال له: ما هي حجتك في إثبات أسماء الله تعالى والصفات؟ فذكر له أحاديث وأحاديث وآيات حتى مر على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء} . فقال له الواثق: تثبت هذا الحديث! قال: نعم، قال: أي تثبت أن لله يداً وأصابع! قال: نعم، أثبت ذلك كما أثبته رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الواثق: وهذا تشبيه وهذا تجسيم وهذا وهذا، فغضب أحمد بن نصر الخزاعي وخرجت منه كلمة شديدة على الخليفة، فقال للخليفة: ما أنت والعلم! كيف تتكلم في مسائل العلم وأنت لا تتقنها، إنما أنت نطفة سكران في رحم قينة، يعني إن أباك كان يشرب الخمر وأمك كانت أمة، قال هذه الكلمة الغليظة للخليفة لأنه تصاغر في عينه لما رأى أنه منابذ للحق معارض للسنة، فغضب عليه الخليفة وأمر بصلبه، فصلب في بعض شوارع بغداد، وكان الإمام أحمد يمر عليه فيترحم عليه ويدعو له؛ ويقول: ذلك رجل هانت عليه نفسه في الله تعالى، ثم يقول الإمام أحمد: هذا رجل قد قضى ما عليه، صلب مصراً على العقيدة الصحيحة التي توارثتها الأمة: أن القرآن كلام الله تعالى ليس بمخلوق. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 7 شريك القاضي مع المهدي أولاً: ذكر الإمام أبو العرب التميمي في كتابه الموسوم بكتاب: المحن، أن الإمام شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي الخليفة العباسي مسلِّماً، فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فنظر إليه المهدي ولم يرد السلام، فأعادها شَرِيك مرة أخرى، فما رد عليه السلام، فقال له مرة ثالثة: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال المهدي: عليَّ بالنطع، عليَّ بالسيف، عليَّ بالجلاد، قال القاضي شريك: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إني رأيت في المنام البارحة أنك تطأ بساطي وأنت عني معرض، فأتيت بالعابر الذي يفسر الأحلام فسألته فقال: إن هذا الرجل يقبل عليك بظاهره وقلبه مع أعدائك، فأريد أن أقتلك وأنتصف منك، فتبسم شريك بن عبد الله وقال: والله يا أمير المؤمنين ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا معبرك بمعبر يوسف عليه السلام، أفبرؤيا مثل هذه أو تعبير كهذا تراق دماء المؤمنين بغير حق، فلما سمع المهدي هذا الكلام سري عنه وزال ما في قلبه، واعتذر إلى هذا الرجل وقال له: اخرج من مجلسي، فخرج منه وهو يقول لمن حوله: أفرأيتم أعجب من هذا الرجل، يريد أن يقتل امرأً مؤمناً برؤياً رآها. إنها مثلٌ من محنة خفيفة ألمت أو كادت أن تلم بهذا القاضي المعروف، وفي ذلك عبر وأسوة تدل على أن هناك من الناس من شأنهم وديدنهم دائماً وأبداً الوقيعة والنكاية والتشهير ومحاولة إيقاع خصومهم بأي سبب، وبأي وسيلة، ولعل عابر الرؤيا كان من هذا الصنف، فأراد أن يستغل الرؤيا للإيقاع بخصم من خصومه، وهو شريك بن عبد الله القاضي، كما تدل على أن الحكمة والمنطق السليم من أهم الأسباب في النجاة من مثل هذا الأمر، وهذه الرؤيا والقصة تذكرنا أيضاً بقصة أخرى. ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة شريك بن عبد الله في ميزان الاعتدال: أن شريكاً هذا أتى به رجل من الرجال إلى مجلس الخليفة العباسي، وذلك أن رجلاً يقال له أبو أمية أمسك بـ شريك وأدخله على المهدي، وقال له: إن هذا الرجل يعني: شريك بن عبد الله القاضي حدثني عن الأعمش عن سالم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم} يعني لحكام قريش، لأن الحكام كانوا من قريش: {فإذا زاغوا عن الحق فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم} يعني نابذوهم وقاتلوهم، فقال الرجل للخليفة: إن شريكاً حدثني هذا الحديث، وهذا الحديث فيه تحريض على الخلفاء في ذلك الوقت وأمر بقتالهم إذا زاعوا عن الحق، وانحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل وحادوا عن المنهج النبوي النبيل. فقال المهدي لـ شريك: أفأنت حدثته بهذا الحديث؟ قال شريك: لا يا أمير المؤمنين كذب والله ما حدثته، قال ذلك الرجل -وهو أبو أمية -: يا أمير المؤمنين عليَّ الحج إلى بيت الله تعالى ماشياً وكل ما في ذمتي صدقة لله تعالى إن لم يكن حدثني بهذا الحديث، فقال لـ شريك: ما تقول أنت، قال: يا أمير المؤمنين وأنا عليَّ مثل الذي عليه إن كنت حدثته، فقال الخليفة: صدق، وزال ما في قلبه، فقال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين إنه يقول عليَّ مثل الذي عليك يعني عليَّ ثياب مثل الذي على أبي أمية، وليس يقصد أنه في ذمتي أن أحج إلى البيت الحرام ماشياً ولا أن أتصدق بمالي، فاطلب منه أن يحلف كما حلفت، فقال: صدق، احلف يا شريك مثلما حلف هذا الرجل، قال: لا والله لا أحلف بل ما جاءك هو الصحيح، أنا حدثته بهذا الحديث، فغضب الخليفة وقام يسب الأعمش لأنه روى هذا الحديث عن الأعمش، وكان الأعمش قد مات -رحمه الله- وقتها، فقال الخليفة يسب الأعمش: والله لو أعلم قبر هذا السكران لأحرقته، وصفه بأنه سكران وأنه يشرب الخمر، لأن الأعمش كان يتأول في بعض ألوان النبيذ الذي يتأول فيه أهل العراق، وليس من الخمر المسكر ولكنه من النبيذ الذي يسمونه هم بالمنَصَّف، فقال: والله لو أعلم قبره لأحرقته، قال: لا، يا أمير المؤمنين، والله ما كان يهودياً، بل كان رجلاً صالحاً. الآن انظر كيف تحول شريك من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، وبدأ يدافع عن هذا الرجل الفاضل الأعمش وهو إمام معروف مشهور؛ في وجه الخليفة، ويقول: ما كان يهودياً حتى تحرق قبره، وما أحرقت قبور اليهود، فلماذا يكون اعتداؤك وبلاؤك وعذابك للمؤمنين والأخيار والعلماء ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ما كان يهودياً كان رجلاً صالحاً، قال الخليفة: زنديق، قال شريك: لا، ولا هو بزنديق إن سيما الزنديق معروفة، فالزنديق يشرب الخمر، ولا يحضر الصلاة مع الجماعة، ويلعب مع القيان، يعني لو أراد أن يقولها صريحة لقال: المتهم أنت وليس هو، لأنك تشرب الخمر وتسهر مع القيان ولا تؤدي الصلاة مع الجماعة، فغضب الخليفة وهَمَّ به وقال: والله لأقتلنك، قال: إذاً تلقى الله تعالى بمهجة نفس قتلتها بغير حق، فقال: أخرجوه، فأخرجوه ثم تناوله الحراس يخرقون ثيابه وقلنسوته بالسهام، وخرج هذا الرجل من عند الخليفة سالماً. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 8 العبرة من قصة شريك والمهدي وفي هذه القصة أيضاًَ عبرة، أولئك الرواة الذين يسمعون الحديث؛ وليس همهم أن يرووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يتلقوا العلم ولا أن يستفيدوا ويستضيئوا بنوره، وإنما همهم الوشاية به إلى الخليفة، روى فلان كذا وروى فلان كذا، إن من حق الأعمش ومن حق سالم ومن حق ثوبان ومن حق شريك أن يرووا ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهبوا به على وجهه السليم فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال هذا الحديث لم يقصد به ولم يكن معنى الحديث الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بالشريعة إذا أخطأ أو قصر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح حديث عبادة: {وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان} . إذاً فالأمر معلق بأن يرى المؤمنون الكفر البواح الصراح، الذي لا لبس فيه ولا خفاء ولا مناورة فيه ولا مداورة، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإذا زاغوا عن الحق} أي: انحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل إلى الكفر البواح الذي عندكم من الله تعالى فيه برهان، ولكن بعض هؤلاء يسمعون الحديث ويسمعون الأخبار ويسمعون الروايات؛ وإنما همهم منها أن ينقلوا إلى غيرهم وأن يتشفوا من خصومهم، هذا جانب. الجانب الثاني: ما جبل عليه علماء السلف الصالح كما يظهر في سلوك أسلوب شريك بن عبد الله رضي الله عنه من الصدق والوضوح والصراحة والشجاعة والصبر في ذات الله تعالى، حتى ولو كان في ذلك حتفهم وعطبهم وهلاكهم، فإن شريكاً كان يرى لمعان السيوف ويسمع القعقعة ويسمع أصوات الجند، وبين يديه أعداد متطاولة من الجند ربما لا يدرك البصر مداهم، كل واحد منهم منتظر أن يؤذن له حتى يخطف رأس شريك، وأمامه الخليفة وقد غضب وأحمرت أوداجه وأحمرت عيناه وأرغى وأزبد وزمجر، وكاد أن يفقد صوابه، ومع ذلك ظل شريك محتفظاً برباطة جأشه وقوة قلبه وصبره، حتى دافع عن الأعمش رحمه الله تعالى في مجلس الخليفة وذب عن عرضه لتذب عنه النار يوم القيامة. ثم إن في ذلك دليلاً على ما تحلى به أولئك الخلفاء في الزمن السابق من التحري والدقة والصبر وحسن الظن، فإن المهدي في المرة الأولى لما قال له شريك: لماذا تستحل دمي برؤيا قد تكون حقاً أو باطلاً، وبمعبر قد يكون أصاب أو أخطأ؟ رجع إلى الحق وأذعن له ولم يمس شريكاً بشيء، وفي المرة الثانية لما حلف له شريك صدقه وكذب الراوي فيما روى أنه أخذ عنه، ثم طلب منه بعد ذلك أن يقسم قسماً صريحاً، فلما أصر لم يتسرع في قتله ولا إيذائه ولا إنزال العقوبة به، لأنه يدري أنه عالم له مكانته وله فضله وأن الأمة لا تعز ولا تعلو ولا تنتصر ولا تقوى ولا تجتمع كلمتها إلا على إعزاز العلماء وإكرامهم، وحفظهم وحفظ مكانتهم وحفظ هيبتهم وعدم المساس بهم، فإن كل أمم الأرض قاطبة منذ فجر التاريخ تعتز بأكابرها وسادتها وأهل العلم فيها، وتفخر بهم وتطلق أسماءهم على معالمها، وتسمي أولادها بأسمائهم، وتذكرهم بالذكر الحسن، وتدرس كتبهم وتحفظ علمهم، لأن الأمة التي ليس لها ماضٍ ليس لها حاضر ولا مستقبل. مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيّ في الناس انتساباً الجزء: 90 ¦ الصفحة: 9 ماهان مع الحجاج القصة الثالثة: أرسل الحجاج وهو من هو في بطشه وظلمه وعدوانه، كان والياً معروفاً في العراق، فأرسل إلى رجل يقال له: ماهان - أبي صالح المسبح - وكان رجلاً فاضلاً ديناً عالماً، فقال له الحجاج: إنه بلغني عندك دين وعلم وصلاح، وإنني أحببت أن تلي القضاء، فقال: أنا! قال: أنت، قال: كيف ألي القضاء وأنا لا أستطيع أن أعد من واحد إلى عشرة؟ قال: أنت تتباله عليَّ -يعني: تدعي البله في مجلسي- وتكلم عليه الحجاج وسبه، وقال: أنت مراءٍ، فغضب ماهان من كلام الحجاج وسبه، وخرج من عنده إلى النهر وكان قريباً فقال بأعلى صوته -والناس يسمعون ويرون-: اللهم إن كنت مرائياً فأغرقني، ثم وقع في النهر، فوقف على النهر قائماً وحفظه الله تعالى فلم يغرق حتى خرج يمشي إلى ضفة النهر، فجاءوا به إلى الحجاج، فأمر الحجاج بصلبه، فصلب على باب داره وهو مصر على ذلك، فكان الناس يحيطون به، وفي مثل هذا الموقف رأى هذا الرجل الفاضل بعض التابعين وبعض العلماء والفضلاء ينظرون إليه ويشاهدونه، فقال لواحد منهم: أنت تنظر إلي وتقف مع النظارة! لا تفعل، فإني أخشى أن ينزل عليك سخط الله، اذهب عني. فانظر إلى هذا الرجل كيف ثبت على موقفه، وكيف أصر على موقفه، ورفض أن يعمل عند هذا الحاكم الظالم المتغطرس الحجاج بن يوسف، الذي ملأ الدنيا ضجيجاً وصراخاً وسفك دماء المؤمنين بغير حق على ما هو معروف من سيرته وتاريخه، حتى قام عليه من قام من القراء المعروفين على ما هو معروف تفصيله في التاريخ، المهم أن هذا الرجل أبى أن يلي له عملاً واجتهد في ذلك حتى صلب بسببه، ولم ينس وهو في موقف الصلب أن يقدم هذه النصيحة لبعض الحضور من طلبة العلم: أنت يا طالب العلم ليس هذا موقعك، تأتي تتفرج علينا ما نفعت ولا دفعت ولا أنكرت وأصبحت متفرجاً، لا. إذا كانت المسألة مسألة تفرج فاذهب إلى بيت أبيك وأمك واستخفِ فيه لا ينزل عليك غضب الله عز وجل. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 10 محنة يوسف عليه السلام أولاً: يوسف عليه الصلاة والسلام، لقد كان يوسف نموذجاً للصبر على الابتلاء، ونموذجاً للرجل الذي تجرد لله عز وجل واحتسب، فلم تزده الفتنة والمحنة إلا قوة ونضجاً وصبراً وثباتاً حتى كتب الله تعالى له العزة في الدنيا والرفعة في الدار الآخرة. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 11 محنة السجن المحنة الثالثة: محنة السجن: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] سجنوه: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] كما ذكر الله عز وجل، فماذا كان حاله في السجن: أولاً: كان داعية مؤثراً، أصبح السجن بالنسبة له أمراً عادياً، بل إن السجن بظلمته وجدرانه الطويلة وجلاوزته وحراسه وحدوده أحب إليه وأفضل في نظره من ذلك القصر الفاره الضخم الواسع، نعم. السجن أحب إليه، ففي السجن يعبد الله ويأمن على نفسه، أما في ذلك القصر فإنه يخاف أن تجره تلك المرأة إلى الفتنة، كان في السجن داعية مؤثراً ولم يجد في السجن غضاضة، بل كان أمره كما قيل: صلابة أرض السجن إن كان قربكم ألذ وأشهى من طري النمارق {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [يوسف:39-40] وظل يدعو حتى أثر في المساجين وهدى منهم من هدى إلى الله عز وجل، ثم جاءه الفرج بعد حين، وجاءه الرسول يقول: الملك يطلبك! فماذا قال؟ هل استقبل الرسول عند باب السجن وقال: لماذا تأخرتم عليَّ! لا، قال: ارجع إلى ربك، فلن أخرج: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف:50] لا أريد أن أخرج ثم تلاحقني التهم والظنون والأقاويل الباطلة: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] فلما حصحص الحق: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:51] ؛ وحينئذٍ يخرج يوسف عليه السلام، وهو مرفوع الهامة عزيز الجانب، قوي الإيمان بريء الساحة، عرضه أطهر من السحابة في سمائها، لا يستطيع أحد أن يقول فيه ولو بالباطل ولو بالسوء. إنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقد نجح في هذه الثلاثة الاختبارات كلها، فما سر النجاح؟ لقد بينه تعالى بقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] فالقضية مرهونة بمسألتين يسيرتين في اللسان عظيمتين، وإنهما ليسيرتين على من يسرهما الله تعالى عليه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} [يوسف:90] . الجزء: 90 ¦ الصفحة: 12 فتنة النساء المحنة الثانية: فتنة النساء، فهو في قصر العزيز رئيس الوزراء، في قصره الفخم الضخم المشيد: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] إنه امتحان عظيم عسير، يوسف عليه السلام شاب وفي الشباب قوة وشِرَّة وشهوة واندفاع، والشهوة أحياناً تغطي العقل حتى يسير الإنسان أسير شهوته وهو لا يبصر ما أمامه، ويوسف عليه السلام كان شاباً وهو كان عزباً أيضاً لم يتزوج، والمتزوج ربما وجد في زوجته ما ينهي شهوته أو يدفعها أو يدافعها أو يؤجلها، ولكنه كان شاباً عزباً، وهو أيضاً كان غريباً والإنسان في وطنه ربما يمنعه في الوقوع في المحذور خوف الفضيحة والمعرفة والأقارب والأهل والجيران، أما الغريب فهو أجرأ في الوقوع في المعصية وأبعد من الفضيحة، ولهذا تجد الكثيرين إذا هموا بأمر سوء ذهبوا إلى بلاد بعيدة ليفعلوا ما يفعلون بعيداً عن أعين الرقباء، وعن أعين الأهل والمعارف والجيران والأصدقاء والزملاء، وهو أيضاً كان في صورة العبد المملوك، والعبد المملوك جرت العادة أن يؤمر فيطيع، ويوجه فيمتثل وهي كانت سيدة. فكان موقفه في نظر الناس ضعيفاً ولكنه في الحقيقة قوي، أما المرأة فكانت ذات منصب فهي -إن صح التعبير- سيدة البلاد الأولى زوجة العزيز، فهي ذات منصب وثانياً هي ذات جمال، وما اختار العزيز امرأته إلا وفق معايير في الحسن والجمال مضبوطة معروفة، فهي ذات منصب وجمال، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم فيمن يظلهم الله في ظله: {ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} وهي أيضاً المطالِبة بالأمر، فإن المرأة في العادة تكون مطلوبة لا طالبة، والرجل قد يعرض عن طلب المرأة خشية أن ترده، ولكنها الآن هي التي تطلبه وتقول له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وهي أيضاً في بيتها، في بيت العزيز في القصر وفي خلوة وقد غلقت الأبواب، فأمنت من أعين الرقباء ومع ذلك مارست معه أسلوب الترغيب والترهيب: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} [يوسف:32] . فاستعلى يوسف على هذا كله ونجح في هذه المحنة الثانية؛ وقال: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] وقال: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33] إذاً: استعان يوسف بربه عز وجل، وسأله العصمة وقال -والله تعالى يعلم أنه صادق-: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف:33] . نعم. الشهوة مركبة في كل إنسان وقد جاء في بعض الروايات الإسرائيلية؛ أن يوسف عليه السلام تزوج هذه المرأة بعدما مات العزيز، فدعاها مرة فأبت، فقال: كنت تطلبينني في الحرام والآن أنا أطلبك في الحلال فترفضين! على كل حال هذه روايات إسرائيلية، فإذا صحت هذه القصة؛ فإنها تؤكد هذا المعنى الذي لا شك فيه، وهو أن الإنسان بطبيعته عنده شهوة وعنده ميل، ومنظر المرأة الجميلة يشده ويأسره لكن الإيمان هو الذي يعصمه: {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24] فالذين صدقوا الله تعالى وتعرفوا إليه في الرخاء تعرف الله إليهم في الشدة فحفظهم. كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في وصيته لـ ابن عباس: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} وأي شدة أشد من أن يتعرض شاب في مثل هذا الحال إلى فتنة وإغواء وإغراء، وهو يتعرض للتهديد والوعيد إن لم يفعل، بل وتنقلب المسألة عليه: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف:25] لقد قلبت امرأة العزيز الأمر وزعمت لسيدها أن يوسف راودها عن نفسها. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 13 حسد إخوة يوسف المحنة الأولى: كانت أول محنة يوسف: حسد إخوته، حسدوه على مكانته عند أبيه ومحبته له وقالوا: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} [يوسف:8-9] لقد ألقوه في البئر فبيع، وعومل معاملة الرقيق وبعد عن الأهل وحيل بينه وبين أبيه وإخوته، وتغرب عن وطنه وعاش غريباً في بلد لا يعرفها، ولا يعرف أهلها وهم لا يعرفونه أيضاً، وبيع في المزاد العلني كما يباع الرقيق، بل بيع بثمن بخس: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف:20] . ولكن. هل ضره ذلك؟ لقد لقي الأذى، وعاش في ظلمة البئر، وأوذي وخاف ومشى مع قوم لا يعرفهم وجلس في القصر زماناً طويلاً، ولكن العجب أن الله تعالى عقَّب على هذه المحنة الأولى في حياته بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ} [يوسف:21] . هذه هي بداية التكريم وبداية العلو وبداية الصعود: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} [يوسف:21] . فقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] . نعم. كانت هذه المحنة بداية تمكين له في الأرض، وتعليم الأحاديث له، وقد عقب عليها سبحانه بقوله: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] . فالناس لا يرفعون ولا يضعون، ولا يقدمون ولا يؤخرون ولا يقربون ولا يبعدون فإنما الأمر كله لله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} [آل عمران:154] {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] . كم أراد الناس حطة إنسان فرفعوه، وكم أرادوا تقليله فكثروه، وكم أرادوا ضره فنفعوه. قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس قال: {واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى لك، وأن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله تعالى عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] . ويقول تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:22] . إذاً: كانت المحنة الأولى بداية في التمكين والتأييد والرفعة ليوسف عليه السلام، والتعليم الذي علمه الله تعالى وآتاه الله تعالى بعده حكماً وعلماً لأنه كان من المحسنين، لأنه تعامل مع المحنة تعاملاً سليماً نظيفاً صابراً فلم ينقل عنه أنه سب إخوته ولا شتمهم ولا قال فيهم ولا عاملهم بالمثل، بل هو كما قال الله تعالى في آخر السورة: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] فجعله نزغاً من الشيطان بينه وبين إخوته، ولم يقل لإخوانه أنتم فعلتم وفعلتم، وقلتم وذهبتم وجئتم، لا: {بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف:100] فكأن الأمر على السواء بين يوسف وبين إخوانه، وأن الشيطان نزغ بينه وبينهم. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 14 محنة شعيب عليه السلام شعيب عليه السلام دعا قومه فـ: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88] خياران لا ثالث لهما إما الطرد والنفي والإبعاد، لا تصلحون للوطنية أنتم، لأنكم تشقون الصف الواحد وتمزقون الوحدة الوطنية وأنتم تهددون بحرب أهلية، لماذا؟ لأنهم يدعون إلى دين جديد وعقيدة جديدة وتوحيد جديد، وبموجب دعوة شعيب وغير شعيب عليهم الصلاة والسلام من رسل الله وأنبيائه، سوف ينقسم الناس وينشطرون وينصدعون إلى فريقين: مؤمنين وكافرين: {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] . وهذا لا شك يهدد الوحدة الوطنية، لكن ما هي الوحدة الوطنية؟ إن أي وحدة أو وجود على غير الإيمان وعلى غير الإسلام وعلى غير التقوى فهو إلى ضلال وظلام. إذاً: لا بد أن تخرج من قريتنا أو تعود، أمامك فرصة -مثلما تعلن بعض الحكومات الآن: أمام المتطرفين مهلة مائة يوم للتوبة وأن يسلموا أنفسهم للأجهزة الأمنية- فقالوا له ذلك: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88] فماذا كان جواب شعيب عليه السلام؟ كان جوابه واضحاً صريحاً مباشراً ليس فيه لف ولا دوران، قال: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [الأعراف:89] إن رجعنا إلى ملتكم فنحن خاسرون كاذبون على الله مفترون مرتدون عن ديننا، وما كان لنا أن نفعل ذلك إلا أن يشاء الله، فالقلوب بيد الله يقلبها كيف شاء. ومثل ذلك ما قال أهل الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] . مرة أخرى أصر القوم وتطورت اللهجة وارتفع الخطاب، فـ: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود:91] إذاً تطور الأمر من مجرد النفي إلى التهديد بالرجم، يرجموكم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] إذاً ما خافوا من الله تعالى ولا راقبوه؛ إنما قالوا: تركنا قتلك رعاية للأسرة والعائلة التي تنتسب وتنتمي إليها، ولذلك قال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [هود:92] . إذاً تطورت اللهجة -لهجة قوم شعيب عليه الصلاة والسلام- فهددوه بالقتل بل القتل بطريقة بشعة وهي الرجم، وما منعهم من ذلك إلا رهطه: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91] بل إن شعيباً عليه السلام طلب منهم أن يصبروا وينتظروا حتى يحكم الله بينه وبينهم، دعوني واتركوني أدعو من هداه الله تعالى، أدعو الناس إلى الدين وإلى التوحيد، فأبوا ورفضوا وهذا يؤكد أن مثل هؤلاء القوم لا يمكن أن يهادنوا أمر الحق أبداً. فإن الصراع بين الحق والباطل والإسلام والكفر والإيمان والضلال؛ صراع أبدي أزلي لا يمكن أن ينتهي أبداً، حتى لو وضع أهل الخير السلاح، وحتى لو تركوا الأمر، وحتى لو اقتصروا على مجرد أداء الصلوات والنوافل والعبادات، لم يرض منهم أهل الشر بذلك، بل لا يرضون منهم حتى يتركوا دينهم كما قال الله عز وجل: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] . الجزء: 90 ¦ الصفحة: 15 محن موسى عليه السلام موسى عليه الصلاة والسلام إنه لقي من الأذى والبلاء الشيء الكثير. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 16 موسى مع بني إسرائيل بدأت مشكلة موسى حينئذٍ مع بني إسرائيل، مع هؤلاء الاتباع فإنهم يتلونون ويغيرون ويبدلون ويتراجعون، ويحتاجون إلى جهد كبير مرير طويل، وإلى تربية وإلى صبر، فهم يقولون له يوماً: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61] يعني: تتركون المن والسلوى طعاماً لذيذاً حلواً، عسلاً وطيوراً وتطلبون الثوم والبصل، ثم يقولون له: حين قال لهم: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] فقالوا له: {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة:67] أموسى يخاطب بهذا الأسلوب؟ أكان يهزأ وهو يقول لهم: إن الله يأمركم، هل يكون الهزو في أوامر ينقلها لهم: أن الله تعالى أمرهم بها؟! كلا! بل يأمرهم فيقولون: سمعنا وعصينا، ثم يقولون له: {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] بل قال لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ * فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:58-59] قالوا: حنطة، ودخلوا يزحفون ويقولون حبة في شعيرة، يعني كلاماً ليس له معنى على سبيل السخرية والاستهزاء. ولهذا موسى عليه الصلاة والسلام لما مر به النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإسراء والمعراج: {فقال له: بمَ أمرك ربك؟ قال: بخمسين صلاة، قال: إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، ارجع لربك فاسأله التخفيف} والحديث في صحيح البخاري، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت الصلوات خمساً، فقال الله تعالى في الحديث: {هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي} . المهم أن موسى قال: وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، مع أن هذه الأمة لا تقارن ببني إسرائيل فهم أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل، وأسرع في الخير، بل هم أفضل الأمم وأول من يدخل الجنة؛ كما أن نبينا محمداًصلى الله عليه وسلم هو أفضل الرسل وخاتمهم وأول من يدخل الجنة. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 17 موسى مع فرعون فأولها: أذية فرعون له ولقومه واستعبادهم، حتى طغى واعتدى وتسلط على بني إسرائيل وعلى غيرهم، وآذاهم أشد الأذى وكانت السجون ملأى {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} [الشعراء:29] أي: إن المساجين بمئات الألوف؛ وأنت سوف تكون واحداً منهم فقط، إذا عبدت غيري ووحدت الله تعالى، فعقابك سهل بالنسبة لنا، كل ما في الأمر أنك تكون واحداً من المسجونين، وننساك طيلة عمرك في السجن ولا نفطن لك أبداً. ثم القتل والتعذيب حتى كان فرعون يقتل سنة كل المواليد خشية أن يكون من بينهم من زوال ملكه على يده، ثم بعد ذلك كله الاستعباد حتى كان يقول لهم: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ولا يسمح لأحد أن يفكر بغير طريقته، ولا أن يتعبد بغير ملته ومذهبه، ولا أن يعبد غيره، ونشأ على هذا الصغير والكبير، حتى إن ماشطة بنت فرعون لما سقط المشط من يدها؛ فقالت: بسم الله -وكانت مؤمنة- فقالت لها ابنة فرعون: الله، تعني فرعون أبي، قالت: لا، ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، قالت: سوف أخبر والدي، قالت: أخبريه، فلما أخبرته جاء بها فأقرت وأصرت، فأحضر لها نقرة من نحاس، وأوقد عليها بالجمر حتى أصبحت تتوقد حمراء، ثم أحضر أطفالها فوضعهم في هذه النقرة حتى احترقوا أمام ناظريها وعينيها وهي تراهم يسوَدُّون فحماً وحمماً أمامها. وهي الأم الحنون العطوف التي يسيل قلبها رقة على أولادها، ومع ذلك تجلدت وصبرت صبر الرجال بل صبر الأشداء، ثم قالت له: لي إليك حاجة، وربما فرح الفرعون وظن أنها سوف تتراجع أو تتخلى، أو على الأقل تتظاهر بالموافقة، فقالت: أن تجمع عظامي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ثم أخذها وأحرقها معهم: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] . بل سلط فرعون أجهزة الأمن على الناس تراقبهم وتعد حركاتهم وسكناتهم وأنفاسهم؛ وتكتب عنهم التقارير، وتحصي عليهم كل شيء خشية من المؤمنين ومن الإيمان: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] كما هي العادة فرعون يخطب خطبة في شعبه فهو يريد أن يقول: هؤلاء قلة ليس لهم وزن ولا اعتبار ولا أهمية هم شرذمة قليلون: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55-56] وكلمة حاذرون هذه يدخل تحتها كل ألوان المكر والكيد والتخطيط والتدبير والمراقبة التي كانت أجهزة فرعون تعملها ضد الأخيار، وضد الذين يعتبرون متهمين في نظرهم، فلقي المؤمنون -موسى عليه السلام وهارون ومن معهم من المؤمنين- لقوا ألوان الأذى من تسلط فرعون وأذيته لهم. ثم خرج موسى بقومه، وخرج فرعون وراءه حرباً لهم يريد أن يقتلهم ويستأصلهم، حتى كان البحر أمامهم وفرعون وجنده وراءهم، حينئذٍ ضرب موسى بعصاه البحر ونجا ومن معه من المؤمنين، وأغرق الله تعالى فرعون ومن معه فحينئذٍ مكن الله تعالى للمؤمنين ولبني إسرائيل ولموسى. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 18 محن خير البشر صلى الله عليه وسلم لقد لقي محمد عليه الصلاة والسلام من قومه من أذاهم ما لقي: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] لقد هموا به عليه الصلاة والسلام أن يقتلوه، ويستريحوا منه -فيما زعموا- وأن يثبتوه فيُفرض عليه الإقامة الجبرية ويمنعوه من مغادرة مكة، أو يخرجوه فينفوه إلى بعض البلاد ويرتاحوا من دعوته، فلقد لقي صلى الله عليه وسلم من قومه ما لقي، وفي الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها: {ما أشد ما لقيت من قومك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال في الطائف، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم استفق إلا وأنا في قرن الثعالب -قريباً من منى لم يستفق عليه الصلاة والسلام إلا في ذلك المكان، من الطائف مشى وظل في هم كاد أن يغطي عليه عليه الصلاة والسلام فلما أفاق إذا سحابة قد أظلته وفيها جبريل، فنزل وقال: إن ربك قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وهذا ملك الجبال فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال وقال له: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بمكة- فقال عليه الصلاة والسلام: لا، بل أستأني بهم، أنتظر وأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً} . إن هؤلاء الأقوام قد تجردت نفوسهم من حظوظها، فلم يعد الواحد منهم ينتصر لنفسه ولا يغضب لذاته، بل كل أذى يناله في سبيل الله تعالى فهو هين، بل ربما فرح بالأذى كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالنعماء} يفرح لأنها عربون للصبر في ذات الله تعالى، وعربون الصدق في الدعوة وعربون الإخلاص، فإن الإنسان يعلم أنه إذا أوذي في الله فإن ذلك بقوة إيمانه وصدق يقينه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه إن كان في إيمانه قوة زيد في بلائه حتى يظل البلاء بالمؤمن فيمشي على الأرض وما عليه خطيئة} . وسئل صلى الله عليه وسلم -من أشد الناس بلاءً فقال: {الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل} فهؤلاء القوم لم يعد الواحد منهم يبالي لما يصيبه في ذات الله، لقد عمل المشركون ضد النبي عليه السلام وضد المؤمنين ألواناً من الأذى، فعلى سبيل المثال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] فسمعوا من أهل الكتاب سخرية واستهزاء، بل كان اليهود كلما جدت شعيرة؛ دندنوا حولها وشوشوا وتكلموا وأجلبوا وشبهوا وظللوا، وحاولوا أن يوقعوا في قلوب المؤمنين من الريبة والشك. وعلى سبيل المثال لما حولت القبلة إلى الكعبة تكلم اليهود وقالوا: لا يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا غيره وبدله، ورفضوا دعوته وأصروا على ما كانوا عليه، ثم سمعوا من المشركين أذىً كثيراً بل تجاوز الأمر الأذى بالقول واللسان، مع أن الأمر والبداية كلمات، ومن سل لسانه -كما يقال اليوم- سل سيفه غداً. فهؤلاء تكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه وآذوه ثم تطور الأمر إلى الحرب والقتال، فلقيه في بدر صلى الله عليه وسلم ثم في أحد حيث قتل أكثر من سبعين من أصحابه صلى الله عليه وسلم وجرح أكثرهم، بل جرح النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وسقط في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق، حتى قال عليه الصلاة والسلام: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} فأنزل الله مباشرة: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فالتأديب والتربية والتهذيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما غضب لشخصه ولا لأنه محمد بن عبد الله القرشي المطلبي الهاشمي، ولا غضب لأنه من مكة ولا لأنه من العرب، لا، إنما غضب لأن هذا اعتداء على مقام النبوة، شجوا نبيهم ومع ذلك يوجه الله تعالى ويعلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] إنهم لم يتركوا سبيلاً إلا سلكوه. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 19 افتعال العداءات بين الصحابة كذلك افتعل هؤلاء الخصومة والعداوة بين أصحابه صلى الله عليه وسلم وحاولوا أن يثيروا نعرات الجاهلية مرة بعد أخرى، وبذل المنافقون في ذلك جهداً وعناءً عظيماً، وكلما جاءت مناسبة؛ كما في قصة المريسيع التي قام فيها المنافقون، فقال قائل: يا للمهاجرين، وقال آخر: يا للأنصار، حتى كادوا أن يقتتلوا، ومرة أخرى كما في صحيح البخاري: {مر النبي صلى الله عليه وسلم فسلم عليهم ودعاهم إلى الله، فقال عبد الله بن أبي بن سلول: ما أحسن ما جئت به، لكن إن كان ما جئت به حقاً فلا تَغْشَنا في مجالسنا، اجلس في بيتك ومن أحبك جاء إلى بيتك، فقال بعض الصحابة: بل اغشنا يا رسول الله، فإنا نحب ذلك، فتثاور الحيان حتى كادوا أن يقتتلوا، فما زال النبي -صلى الله عليه وسلم يخفظهم حتى سكنوا} فحاولوا أن يفتعلوا الخصومة والعداوة بين المؤمنين، ويفرقوهم جماعات. كان اسم المهاجرين واسم الأنصار اسم شرعي إسلامي ذكره الله تعالى في القرآن، وذكره النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث، ولم يرتبط بهذا الاسم عصبية ولا حزبية ولا قبلية ولا عداوة، بل كان سبيلاً للمنافسة في الخير، فاستغله المنافقون أو حاولوا أن يحولوه إلى عداوة، أن يكون المهاجرون ضد الأنصار؛ أو أن يكون الأنصار ضد المهاجرين من أجل أن تثور العداوة بينهم، لأنهم يعرفون أنه لا تروج بضاعتهم ولا تنفق سوقهم؛ إلا حينما يشتبك المؤمنون فيما بينهم، وينشغل بعضهم ببعض، فحينئذٍ سيكون لليهود فرصة، وسيكون للمنافقين فرصة، وسيكون للمشركين الوثنيين فرصة، أما إن كانت كلمة المؤمنين مجتمعة فإنه لا شأن لهؤلاء جميعاً. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 20 الحصار الاقتصادي ثالثاً: الحصار الاقتصادي، أما في مكة ففي شعب أبي طالب ظلوا سنوات محصورين في الشعب، لا يصل إليهم طعام ولا شراب ولا لباس ولا شيء إلا على سبيل الاستخفاء، حتى سمع صياح الأطفال وتضاغيهم من بعيد، وقريش المشهورة بإكرام الضيوف والنجدة والكرم والحمية لا ترق على هؤلاء، لماذا؟ لأن المسألة مسألة كفر وإيمان، فحاصروهم في ذلك الشعب حصاراً طويلاً حتى زال ذلك الحصار. أما في المدينة فقد قال المنافقون قولتهم المشهورة: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون:7] إنهم يظنون أن المال عندهم، وأن توقفهم عن الإنفاق أو الصدقة أو بذل المرتبات لمستحقيها أو ما أشبه ذلك، أنه يكون سبباً في بُعد المؤمنين وانحيازهم، والواقع أن هذا لا يزيد المؤمنين إلا صدقاً، لأن أولئك المؤمنين ما جاءوا يطلبون مالاً ولا دنيا ولا جاهاً إنما جاءوا يطلبون ما عند الله، والرسول عليه الصلاة والسلام -أيُّ رسول- ما كان يعدهم أبداً بالملك، ولا يعدهم بالمناصب الوزارية، ولا يعدهم بالتمكين الدنيوي إنما كان يعدهم على أن يبايعوه ولهم الجنة، أما دون ذلك فالأمر إلى الله إن شاء نصرهم؛ وإن شاء نصر الجيل الذي بعدهم، فالأمر بيد الله يؤتيه من يشاء، ولهذا فأولئك المؤمنون مقاييسهم مختلفة لا ينظرون إلى الدنيا ولا إلى زخرفها ولا إلى المال. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 21 التشكيك في المقصد وكذلك التشكيك في مقصد الرسول صلى الله عليه وسلم ونيته: إنه يريد المال ويريد الملك ويريد الجاه، حتى قالوا له: إن كنت تريد مالاً! إن كنت تريد ملكاً! إن كنت تريد زوجة! وقالوا: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] هذا يريد الكبرياء، بمعنى واضح: يريد السلطة، يريد أن يجتمع عليه العرب، ويريد أن يتوج ملكاً، حتى لما انتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بدأ المنافقون واليهود يتهامسون بمثل هذا الأمر، وأن محمداً يريد الرياسة ويريد السلطة ويريد الجاه ويريد المنصب، وليس داعياً إلى الله عز وجل. لكن مثل هذه الأشياء من تخدع؟! من تدخل قلبه مثل هذه الأشياء؟! لقد ذهب عبد الله بن سلام -وهو يهودي في ذلك الوقت- كما في سنن الترمذي وهو صحيح، إلى النبي عليه السلام لما دخل المدينة مهاجراً، قال: فلما استثبت في وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب، ينطق الصدق في جبينه، وتنطق العقيدة الصافية في محياه، ويجري الحق في عروقه، فهو صلى الله عليه وسلم صادق كل الصدق، مخلص كل الإخلاص، متجرد كل التجرد، حتى يرى هذا في وجهه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 22 الطعن في العرض الطعن في عرضه صلى الله عليه وسلم وكان من أبرز ذلك الخطة التي دبرها المنافقون بالتعاون مع اليهود وضللوا بها بعض ضعفاء الإيمان؛ في الطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، لأنه طعن في بيت النبوة، واتهام في امرأة يحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم وإدخال للحزن والقلق على المؤمنين، وقد أصاب المؤمنين من جراء ذلك -شهراً كاملاً- أصابهم ضر وهَم وحزن وبلاء، ثم كان ذلك عين الخير للمؤمنين، قال الله تعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] رفعة ومكانة ومن هي المرأة التي حظيت بتزكية الله تعالى لها من فوق سبع سماوات، ونزل القرآن يبرئ ساحتها ونزلت فيها آيات عظام من سورة النور تتلى وتقرأ حتى أصبح من يطعن في عرض أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها كافراً، لأنه مكذب لله تعالى فيما أنزل وأخبر. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 23 التشكيك في مستقبل الدعوة وسلامتها التشكيك في مستقبل الدعوة وسلامتها: قالوا هذا رجل سينتهي انتظروا هي فترة وجيزة، مثلما ذهب النابغة، ومثلما ذهب فلان: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور:30] نعم، تربصوا، الزمن في صالحنا، الوقت لنا: {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:31] وذهب هؤلاء. لو سألتكم أنتم أيها الإخوة: من منكم يعرف اسم أبي جهل؟ الذي يعرفه منكم قليل، اسم أبي لهب؟ أنا لا أعرفه! حتى أسماؤهم لا تعرف، ولا يذكرهم الناس إلا باللعنة، لكن أقل واحد من الصحابة وأصغر واحد من أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح الناس لا يرون ذكره إلا مع الدعاء بالترضي، فكل صحابي يذكر: رضي الله عنه وأرضاه، فضلاً عن كبار الصحابة، فضلاً عن إمامهم وسيدهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم. فهو ملء سمع الدنيا وبصرها، وملايين المآذن في مشرق البلاد ومغربها تصدع في كل يوم خمس مرات: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، إنها تعلن انتصار دين محمد صلى الله عليه وسلم -وأنه بقي وذهبوا، وانتصر وخُذِلوا، ومضى يجتاز الزمان والمكان والقرون والدهور عليه الصلاة السلام؛ ويعمر العقول والقلوب، أما هم فذهبوا- أعني من مات منهم على الكفر -ذهبوا إلى نار جهنم وبئس المصير، ولم يبقَ لهم ذكر في الدنيا أبداً، حتى أقاربهم يتبرءون منهم ويستحون أن يكون أحدهم ابن فلان أو حفيد فلان. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 24 الحصار الإعلامي الحصار الإعلامي: قالوا: ساحر شاعر كذاب، حتى كان الرجل يأتي إلى مكة فلا يزالون به حتى يضع القطن في أذنيه خشية أن يسمع شيئاً من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم يستفيد النبي عليه السلام من مناسبات الحج وغيرها، واجتماع العرب في المواسم فيدور عليهم: {أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، من يؤويني ومن ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي} فماذا صنعوا؟ كان أقرب الناس إليه أبو لهب يمشي وراءه ويقول: لا تطيعوه لا تصدقوه، فإنه كذاب يريد أن تتركوا اللات والعزى وتتركوا حلفاءكم من الجن إنه وإنه بل يبعثون إلى ملك الحبشة من يقول له: أنت آويت بعض هؤلاء، ونحن قومهم وأبصر بهم إنهم قالوا وقالوا حتى قالوا، في عيسى قولاً عظيماً، ماذا قالوا في عيسى؟ قالوا: إنه عبد الله ورسوله. فهذا هو الحصار الإعلامي. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 25 التصفية الجسدية ثانياً: التصفية الجسدية، محاولات كثيرة لاغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام لقتله، حتى كان من آخر ذلك أنهم في ليلة الهجرة تآمروا عليه وجندوا مجموعة من الفتيان لقتل النبي عليه الصلاة والسلام بنية أن يتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع أهله ولا عشيرته أخذ الثأر من قبيلة بعينها، بل حتى في المدينة بعثوا إليه بعوثاً لمحاولة اغتياله عليه الصلاة والسلام. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 26 استمرار المحن في أمة محمد صلى الله عليه وسلم ثم كان بعد ذلك في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من ألوان الابتلاء ما يذكرك بما حصل للرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، حتى قيل للإمام أحمد رحمه الله وهو أحد الذي أوذوا في سبيل الله وعذبوا حتى جلس في السجن مرة واحدة ثمانية عشر شهراً متواصلة، قيل: لو كان الإمام أحمد في بني إسرائيل لكان نبياً، لفضله وعلمه وجلالته ورفعة قدره في هذه الأمة. وقد سبقت ترجمة الإمام أحمد في درس خاص، وهكذا الإمام مالك فأمره هكذا، قد لقي من العناء ما لقي وتحدثت عنه سابقاً، ومثله أيضاً العز بن عبد السلام والمنذر بن سعيد البلوطي وغيرهم من علماء هذه الأمة ودعاتها وأئمتها، وسأتحدث إن شاء الله في فرص ثانية عن أئمة آخرين كالإمام الشافعي وأبي حنيفة وابن تيمية وابن القيم والنووي وابن حزم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم من أهل العلم رحمة الله تعالى عليهم أجمعين. أيها الإخوة: إن الوقت انتهى ولم أصنع شيئاً فهذه وريقاتي في يدي كما كانت، ولذلك أترك بقيه الموضوع وقد بقي منه جزء كبير مهم جداً، أتركه إن شاء الله إلى محاضرة أخرى وأترك بعض الوقت لقراءة بعض الأسئلة . كثيراً ما يسألني بعض الشباب عن كتب تزكى للقراءة، ويقترحون في كل درس أو محاضرة أن أقدم لهم كتاباً، وقد وقع في يدي هذا اليوم كتاب اسمه: قواعد الاعتدال لمن أراد تقويم الجماعات والرجال، بقلم عقيل بن محمد بن زيد المقطري من اليمن وقد طبع الكتاب في مكتبة دار القدس في صنعاء، ونشر في دار ابن حزم، هذا الكتاب على قصره قرأته اليوم فوجدته كتاباً قيماً ممتعاً مفيداً معتدلاً، وأنصح الإخوة من الشباب وغيرهم بقراءته ونشره أيضاً، لما احتواه من القواعد والفوائد والمعلومات والاعتدال فيما يطرح وما يقول. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 90 ¦ الصفحة: 28 ضرورة اهتمام الموجهين بالمدرسين ظاهراً وباطناً السؤال بعض الموجهين التربويين يهتم بالأشياء الشكلية كحضور المدرس وتحضيره، أما سلوكه ومظهره، فلا، أرجو التنبيه على هذه النقطة؟ الجواب من المفروض والواجب الاهتمام بالأمور كلها الظاهر والباطن، فكما يهتم الموجه مثلاً بالتحضير والحضور وهندام المدرس، فعليه أن يهتم -بصورة أعظم وأقوى- بأخلاق المدرس، ودينه، وتقواه، ونجاحه في مهمته العظيمة التي هي تربية الأجيال، أما هذه المظاهر، فلا تكفي وحدها. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 29 الدوافع الحقيقية لإبعاد الفلسطينيين عن بلادهم السؤال ما هي الدوافع الحقيقية لإبعاد الفلسطينيين عن بلادهم؟ الجواب لقد أراد اليهود من وراء هذا وسعوا إلى أن تكون ضربة قاضية على منظمة حماس، وهي إحدى المنظمات الإسلامية القوية داخل فلسطين، وكذلك ضربة إلى الصحوة الإسلامية كلها حينما عمدوا إلى الخطباء والقضاة والمفتين والعلماء، وأساتذة الجامعات، وغيرهم من أهل العلم والدعوة والدين، فأبعدوهم، فقد انتخبوا هؤلاء الأربعمائة انتخاباً قوياً دقيقاً، ورأوا أنهم بذلك يطفئون نور الله عز وجل، ولكن خابوا وخسروا، فإن دين الله منصور وظاهر، وإذا أبعدوا أربعمائة، آلى المسلمون في فلسطين على أنفسهم أن يخرجوا بإذن الله تعالى أربعة آلاف يقومون مقامهم في العلم والدعوة والصبر والجهاد، بل إن الأخبار ذكرت أمس أن قوات الأمن اليهودية قتلت صبيين فلسطينيين في سن الخامسة عشرة، وجرحت أربعين، عشرون منهم دون الخامسة عشرة، نعم، إنه الإيمان يتحرك حتى في قلوب الصبية الصغار، حتى في أبناء الثامنة والتاسعة والعاشرة، فهم يعلنون الإيمان، ويعلنون رفضهم لدين وحكم وشريعة اليهود، ويطالبون بحكم الله تعالى ورسوله، وهم والله الذي لا إله غيره منصورون، أحلف بالله، ولا أستثني اليوم أو غداً، وإن غداً لناظره قريب، أقول هذه من قِبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول: {تقاتلون اليهود، فتقتلونهم حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله} وأعتقد أن هذا ليس بالأمر البعيد، فإن الإرهاصات والبوادر والبشائر تؤكد أن يوم الإسلام الذي تخفق فيه راياته يوم قريب، والقريب في ميزان الله ليس هو القريب في ميزانك، ربما القريب عندك أنت أسبوع، وترجع الآن إلى البيت تتحرى أن تسمع شيئاً، لا، ليس الأمر كذلك، خمس سنوات، وعشر سنوات، وعشرون سنة لا تعد شيئاً في أعمار الأمم. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 30 تعليق على زيارة البابا يوحنا للسودان السؤال ما تعليقكم على زيارة البابا يوحنا للسودان؟ الجواب زيارة البابا يوحنا للسودان هي مصيبة عظمى، ولا شك، وقد قرأت هذا اليوم في جريدة الحياة بعض التصريحات لبعض المسئولين في حكومة السودان، فأزعجتني وآذتني، وأقول: نعم نحن نعرف لماذا جاء البابا إلى السودان، لقد فرض البابا زيارته على السودان فرضاً؛ بل والعالم الغربي النصراني كله يرمي السودان عن قوس واحدة، ويتهمهم بأنهم أخلوا بحقوق الإنسان النصراني في الجنوب، وأنهم يحاربون النصارى حرباً دينية، وأن الحكومة الموجودة في السودان حكومة أصولية إسلامية، ولا بد من القضاء عليها، نعم الغرب يتواطأ على ذلك؛ بل المبكي والمحزن أن الدول العربية تؤيد الغرب على ذلك وتدعمه وتناصره في الحصار الاقتصادي والإعلامي، وإيواء من يسمونهم بالمعارضة، وهم من الشيوعيين والمنافقين في الغالب، فيلجئون إلى بعض البلاد، ويصدرون البيانات في النهار، أما في الليل، فهم يسهرون في الخمور والقمار وغير ذلك من المعاصي، كما نعلم ويعلم غيرنا هذا هو حال من يسمونهم بالمعارضة السودانية في معظم البلاد، الغرب يريد إفقار حكومة السودان، ولذلك جاء البابا في تلك الزيارة وتكلم، والتقى اليوم بالقساوسة، ومن يسمونهم برجال الدين النصارى في أحد الكاندرائيات الموجودة في الخرطوم، وتكلم البارحة بكلام معلوم. ولكنني أقول: هذا كله يفسر الزيارة، ولكنه لا يبررها، ولا يسوغها، فنحن نقول للإخوة في حكومة السودان: إن المسلمين مهما كانت الأسباب لا يرضون منكم أبداً باستقبال هذه الطاغية الفاجر الفاسق، ولا بإحسان الظن به، ولا بالحديث معه، ولا بالجلوس إليه، وفوق ذلك كله لا يقبلون من بعض مسئوليكم أن يدلوا بتلك التصريحات التي نشرت اليوم في جريدة الحياة، الذي يقول فيها ذلك المسئول: إننا نريد أن نعلم العالم أننا مع النصارى في خندق واحد، وهو خندق المؤمنين، كلا، نحن في خندق، وهم في خندق آخر، نحن فقط في خندق المؤمنين، وهم في الخندق الذي ذكر الله بقوله: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:1] إلى أن قال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة:6] ، فهم كفار بنص كلام الله سبحانه وتعالى، ونص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز للمسلم أن يحاورهم إلا على سبيل دعوتهم إلى الله تعالى، وإقامة الحجة عليهم، وإزالة الشكوك والشبهات الموجودة في قلوبهم، نعم، نحن نقدر بعض الظروف التي يعيشها السودان. ولكننا نعتقد أن هذه الظروف لا تسمح أبداً بمثل هذا الكلام، وكان يمكن أن تعالج المسألة بغير هذا الأسلوب، وبغير هذه الطريقة، فهذا خطأ كبير وقع، وكوننا وقفنا مع السودان فيما مضى، وسنقف معه في المستقبل متى ما أصيب، لا يعني أبداً أننا نسكت عن الخطأ، وإنما نقول للخطأ خطأ، ويجب أن يرد على من وقع منه كائناً من كان، وأقولها لكم صريحة: ونحن لا تربطنا بالسودان، ولا بغير السودان، ولا بالقريب، ولا بالبعيد، ولا بالجماعات الإسلامية، ولا بالدعاة، والله الذي لا إله غيره لا تربطنا إلا رابطة واحدة وهي أن من رأيناه قال حقاً، قلنا له: أصبت، ومن رأيناه أخطأ، قلنا له: أخطأ بحسب اجتهادنا. وفي الختام: ولعلنا أطلنا عليكم والأسئلة كثيرة وأود أن نجيب على بعضها لكن الوقت لا يسعف، فأختم هذا المجلس بهذه الدعوات التي أسأل الله تعالى أن لا يحجب عنها أبواب السماء. اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر جندك الموحدين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق يا أرحم الراحمين، اللهم اجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاشغله بنفسه، اللهم واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اهدنا واهد لنا واهد بنا يا رب العالمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم إنا نسألك أن توفق جميع الحكام للعمل بشريعتك والعمل بكتابك وبسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم وفقهم لإعزاز الحق والعمل به والدعوة إليه، اللهم اجعل كتابك وسنة نبيك هما الحاكمان في كل بلاد الإسلام، اللهم وفق المسلمين للحكم بكتابك وسنة نبيك يا حي يا قيوم، اللهم أصلح ولاة المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح الولاة في هذه البلاد، اللهم واجعلهم هداة مهتدين، اللهم وفقهم للعمل بالكتاب والسنة، اللهم وفقهم لتحكيم الشريعة، اللهم وفقهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يا رب العالمين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم انصر المسلمين في فلسطين، اللهم أعد المبعدين إلى ديارهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم انصر المسلمين في بلاد الشام يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في العراق، اللهم انصر المسلمين في أفغانستان، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم وحد صفهم، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تطفئ الفتنة الثائرة بينهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نتوسل إليك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا؛ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن تطفئ الفتنة الثائرة بينهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم وحدهم على الحق، اللهم وفقهم لتحكيم كتابك وسنة نبيك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك أن تنصر المسلمين في أرض البوسنة والهرسك يا حي يا قيوم، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم احفظ أعراض المسلمات، فإنا سمعنا أن عدد المسلمات المغتصبات يزيد على مائة وعشرين ألف مسلمة، وسمعنا أيضاً من الثقات أن ستين ألف مسلمة قد حملن من هذا الاغتصاب، وأن الصرب يرهنونهن حتى تتجاوز مدة الحمل ستة أشهر ليأمنوا أن لا تجهض المسلمة، ويطمئنوا أنها سوف تلد ولداً من سفاح لا من نكاح، فياذ الجلال والإكرام اجعلهم بعين رعايتك وحفظك وعطفك ولطفك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انتصر لهم، اللهم عليك بالصرب الظالمين، اللهم عاجلهم بالعقوبة يا حي يا قيوم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم عجل بهلاكهم، اللهم أحصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تبق على الأرض منهم أحداً أبداً يا رب العالمين، اللهم عليك بالكروات، اللهم عليك بأعداء الإسلام الشيوعيين في جمهوريات المسلمين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك للمسلمين في كل أرض وتحت كل سماء، أن تكون لهم بكل خير أسرع، اللهم انصرهم في بلاد المغرب، اللهم انصرهم في بلاد الجزائر، اللهم انصرهم في تونس، اللهم انصرهم في المغرب، اللهم انصرهم في موريتانيا، اللهم انصرهم يا خير الناصرين، اللهم إن العالم كله قد تبرأ منهم ونفض يده عنهم لا شرقاً ولا غرباً حتى المسلمون تنكروا لهم بل ربما صافحوا عدوهم وربما ناصروا عدوهم؛ فياذا الجلال والإكرام ويا من بيده مفاتيح كل شيء ويا من يقول للشيء كن فيكون، إنا نسألك بكل أسمائك الحسنى وكل صفاتك العليا يا ذا الجلال والإكرام أن تنصر إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم أَفْرِح قلوبنا بنصر الإسلام، اللهم عجل بالنصر للمسلمين، اللهم يا رب من دعا إلى دينك مخلصاً صادقاً من قلبه لا رياء ولا سمعة فانصره وأيده يا ذا الجلال والإكرام، وأعلِ شأنه وارفع كلمته ووفقه وأصغِ له الأسماع، وهيئ له القلوب، وانصره نصراً مؤزراً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يا رب ومن دعا يقصد غير ذلك يقصد الرياء والسمعة أو الدنيا أو يقصد العاجل، فإنا نسألك باسمك الأعظم يا ذا الجلال والإكرام، أن تهدي قلبه وتصلح نيته وتوفقه لكل خير وتتوب عليه إنك أنت التواب الرحيم، اللهم يا رب: ومن سبق في علمك من هؤلاء أنه لا يهتدي، فاللهم يا رب إنا نسألك أن تجعل كيده إلى بوار، وأمره إلى خسار، وأن تدير عليه دائرة السوء، وأن تكشف أمره للمسلمين، وأن تفضحه ولو في عقر داره يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تب علينا، اللهم لا تفضحنا، اللهم استرنا، اللهم اغفر لنا، اللهم وفقنا، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 31 دعوة للتبرع السؤال يقول: شهر رمضان على الأبواب نسأل الله أن يبلغنا وإياكم وجميع المسلمين إياه على خير وعافية، وأعتقد أن لهذا المكتب التعاوني جهداً مضاعفاً في هذا الشهر المبارك ولمساعدته نأمل حث الجميع على التبرع لهذا المكتب؟ الجواب نعم هناك المكتب التعاوني في هذا البلد وهو مكتب كبير ونافع، ويقوم عليه الشيخ محمد وثلة من المشايخ والعلماء الفضلاء والدعاة والقضاة وغيرهم، وله جهود كبيرة والحمد لله أصبح له سمعة حتى خارج هذا البلد، فأنا أدعوكم أيها الإخوة الحضور، بعد الصلاة إلى أن تبذلوا ما تجود به أنفسكم من الخير؛ ولو قليل في هذا العمل العظيم وليس من الزكاة إنما من التبرعات ومن الصدقات النوافل التي يبذلها الإنسان من غير الزكاة المفروضة. كما أني أدعو التجار والمحسنين والأثرياء وأهل الخير إلى أن يسارعوا في البذل في مثل هذه الميادين، وأن لا يترددوا ولا يتأخروا، فإن الله تعالى قال: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] فلمن تدخر المال؟! لمن يأكله بعدك، أو ينفقه بعدك فيكون عليك وزره وله أجره! فسارع في الإنفاق: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:10-11] . الجزء: 90 ¦ الصفحة: 32 العمل في توزيع الخير السؤال أنا أعمل أيضاً في شركة أرامكو وجاءت أوامر من إدارتنا بمنع الأشرطة الإسلامية التي تحذر المسلمين من مشاركة الكفار في أعيادهم كأشرطتكم، وأشرطة الشيخ سفر والتي كان يوزعها بعض الشباب، فما حكم هذا العمل، وهل نطيع هذه الأوامر وما نصيحتكم؟ الجواب الذي نراه أن للمسلم أن يوزع من الأشرطة والكتب والفتاوى كل ما يحتاج إليه المسلمون من الخير، ويساهم في توعيتهم وإرشادهم، ولكن ينشر بالطريقة التي توصل الخير دون أن تسبب له ضرراً. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 33 التثبت في الأخبار السؤال أريد نصيحة لأولئك الذين لا يترددون في نشر الأخبار المختلقة، والمشوهة لبعض الدعاة والمصلحين، وخاصةً رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع أنني كنت أصدق بعض الأخبار، ولكن حينما تكشفت الحقيقة، تركت ذلك. الجواب نعم، هذه من المشكلات، ويقولون -مع الأسف الشديد- أصبحت الإشاعات والأقاويل الباطلة تروج بين الناس، ولقد سمعت بأذني أخباراً وأقوالاً أحلف بالله العظيم أنها أخبار مكذوبةٌ مختلقةٌ لا أقول: يرددها عوام، ولا بلهاء، وإنما يرددها طلبة علم محسوبون، وقرَّاء لكتاب الله تعالى، وربما أئمة أحياناً، وهذا من الخطأ البين العظيم؛ والحمد لله اليوم تيسرت الأخبار، وسهلت الأمور، فالتحري والتثبت أصبح ميسوراً، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] ، وفي قراءة: (فتثبتوا) {أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ، وليس شرطاً أن يكون الفاسق فاجراً معلناً بفجوره، فقد يكون فسوقه من جهة خفية؛ وقد يكون فاسقاً بالغيبة، أو بالنميمة، أو بالحسد، أو ببغض أهل الخير، وقد يكون فاسقاً بغير ذلك مما يعلم به فسق الإنسان، فإذا جاءك فاسقٌ بنبأ، سواء كان فسقه ظاهراً، أم خفياً، فعليك أن تتثبت، والتثبت سهل، فما عليك إلا أن تدير قرص الهاتف وتقول: يا فلان هل سمعت كذا، هل هو صحيح أم لا؟، أو تذهب برجلك إلى إدارة الهيئة، وتقول: أيها الإخوة: هل سمعتم كذا، وستجد الاستقبال والإيضاح، وسوف تعلم أن (90%) على الأقل مما يقال ويشاع وينشر كذب لا أصل له، أما (10%) الباقية، فقد لا تكون كذباً صراحاً بواحاً، فقد يكون لها أصل، ولكن زيد عليها ونقص وغير وبدل، فأدعو المؤمنين كل المؤمنين إلى التحري والتثبت، وألا يتعجلوا في الأمر، لئلا يندموا بعد ذلك حيث لا ينفع الندم، إياك وما يعتذر منه، فليس هناك داعٍ إلى أن تذهب غداً إلى فلان كي تعتذر منه، وتقول له: اسمح لي أنا وقعت في عرضك، أو كذبت عليك، دع هذا من الآن، وإياك وما يعتذر منه. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 34 العمل في شركة فيها كفار السؤال نحن إخوان لكم في الله أتينا من المنطقة الشرقية لمشاركتكم وزيارتكم في الله تعالى، مجموعة من الشباب نعمل في شركة أرامكو في الأمن الصناعي، وللأسف الشديد أنه في كل يوم جمعة تفتح الشركة أبوابها للنصارى الذين يعملون في المنطقة الشرقية لكي يؤدوا صلاتهم في الكنيسة التي تقع في الشركة، ويوزع عليهم مجاناً الإنجيل الذي وقع تحت يدي، ونحن نعمل في البوابات ولا يمكننا منع النصارى الذين يريدون الدخول لعدم وجود أمر بمنعهم فما موقفنا وبمَ تنصحنا؟ الجواب الشر كبير وعظيم اليوم، وإذا لم يستيقظ الغيورون فأخشى أن يغزوا في عقر دورهم، فبالأمس هاتفني أحد الناس وقال لي: عندي عمال من الهندوس وقد أسلموا؛ فذهبت إلى بعض مكاتب العمل فقالوا: لا بد من مراجعة السفارة، قال: فذهبت بهم إلى السفارة ووجدت أن السفارة قد فرضت قيوداً وشروطاً عظيمة تعجيزية، وكأنها في الحقيقة تقول لهم لا تسلموا، قيود وإجراءات وأوراق والتزامات مالية حتى إن من الشروط أنه لا بد أن يعلن إسلامه في الصحف الهندية، وأعتقد أن إعلان المسلم الهندي الجديد إسلامه في الصحف الهندية أعتقد أنه انتحار، ومغامرة ومخاطرة لأنه تحدٍ صارخ صريح لهؤلاء القوم. ونحن نرى اليوم المسلمين الأصليين يقتلون في الهند فكيف به ينتقل عن الهندوسية مثلاً أو البوذية إلى الإسلام، سيكون هذا تحدياً وسيكون نوعاً من انتصار الإسلام، ولن يقر للبوذيين ولا للهندوس قرار حتى يقتلوه وينتقموا منه لدينهم وآلهتهم المدعاة. فيجب على المؤمنين أن يقوموا لله تعالى قومهً صادقة، وأن يبذلوا وسعهم وجهدهم وأن ينفضوا عنهم غبار النوم والكسل، وأن يصدقوا الله تعالى في الدعوة إليه والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبذل الوسع في ذلك والصدق مع الله تعالى. فالأمة كلها مطالبة أن تدعو إلى الله، دعوة غير المسلمين وبذل الوسع معهم أعطه كتباً أعطه أشرطة، لا تمل من مناصحته ومناقشته والأمر بالمعروف، وكذلك المسلم المقصر ابذل كل جهدك في ذلك. أما أولئك الإخوة الذين يوجدون في مثل تلك المواقع فأقول: إن كان بقاؤهم في مثل تلك المواقع فيه خير ودفع لبعض المفاسد؛ وتحقيق بعض المصالح، فعليهم أن يبقوا ولا ينتقلوا منه؛ إلا أن ينتقلوا إلى مجال آخر يكون نفعهم فيه أعم وأعظم. أما إن كان وجودهم وعدمهم سواء، فهم لا ينفعون ولا يدفعون ولا يقدمون ولا يؤخرون، فعليهم أن ينجوا بأنفسهم ويبحثوا عن عمل يرضى الله تعالى عنه، وأبواب الرزق كثيرة والله تعالى لم يجعل رزق هذه الأمة فيما حرم عليها. الجزء: 90 ¦ الصفحة: 35 وصايا الأنبياء والصالحين تحدث الدرس عن أهمية الوصية وأن العلماء هم أصدق وأنصح الناس خاصة عند الموت، ثم ذكر وصايا بعض الأنبياء مثل نوح وإبراهيم ويعقوب، ثم ذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، وعمرو بن العاص، ومعاذ، وأبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وهاشم بن ربيعة، وذكر فوائد هذه الوصايا، ثم أجاب على الأسئلة. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 1 شكر وعرفان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وجزى الله القائمين على هذا المركز خيراً؛ إذ تسببوا في هذا الاجتماع الطيب المبارك. ولقد فعلوا بي معروفاً ربما لم يدركوه، بل أكثر من معروف. أما المعروف الأول: فحين كانوا سبباً في مجيئي إلى هذا البلد الطيب، الذي كنت فيه في صغري وطفولتي، ودرست فيه السنين الأولى، وعشت فيه أيام الصبا، وتسنى لي بذلك رؤية المشائخ والإخوان الفضلاء، الذين طال العهد بهم. أما المعروف الثاني: فذلك أنني حين قلت للإخوة: سوف أتحدث عن وصايا العلماء عند حضور الموت، أزمعت أن أجمع بعض هذه الوصايا، وكنت أذكر في مكتبتي كتاباً ألفه الإمام الربعي، وهو كتاب نفيس مفيد في بابه، يحمل نفس العنوان وصايا العلماء عند حضور الموت وجمع فيه وصايا العلماء وغيرهم منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى العلماء الذين جاءوا في دولة بني أمية وما بعدها. ولكنني لم أظفر بهذا الكتاب حين احتجته، فرجعت إلى أوراق لي قديمة، كنت قد جمعتها قبل خمس سنوات، وهي عبارة عن مقتطفات من كتب السنة، فقد تسنى لي في تلك السنين أن أقرأ مجموعة من كتب السنة كالصحيحين، والسنن، والزهد لـ ابن المبارك، وغيرها. وكنت أجمع كل ما يتعلق بوصايا العلماء، وأصور في أوراق عندي؛ فرجعت إليها بعد أن كنت نسيتها، أو كدت أن أنساها فكانوا بذلك سبباً في مراجعتي لهذه الأوراق من جديد، واستفادتي منها، ومنها جمعت بعض هذه الوصايا التي سوف أعرضها عليكم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 2 سبب اختيار الموضوع أما لماذا وصايا العلماء عند حضور الموت؟ الجزء: 91 ¦ الصفحة: 3 العلماء هم خير البرية فأولاً: العلماء هم خير البرية، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:7-8] وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] . فبين الله عز وجل أن العلماء هم الذين يخشون الله، وأن من خشي ربه فهو من خير البرية. إذاً فالعلماء هم خير البرية، وهم أنصح الناس للناس، وأفصحهم، وأقدرهم على التعبير عما في نفوسهم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 4 أنصح ما يكون العلماء عند الموت أنصح ما يكون العالم عند حضور الموت، فإن الإنسان إذا حضره الموت فهي ساعة صدق وإخلاص، يؤمن فيها الكافر، ويصدق فيه الكاذب، ويزول فيها البهرج، ويظهر الإنسان فيها على حقيقته؛ فيقول الحق ولو كان على نفسه. ولذلك، فإن نصيحة العالم عندما يحضره الموت هي من أعظم النصائح، وأجدرها بالأخذ، والقبول. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 5 أهمية الوصية وحكمها إخواني وأحبتي الكرام: الوصية مما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:180] فكتب الله تعالى على العبد إذا حضره الموت، وترك خيراً أن يوصي. ذهب جمهور العلماء إلى أن هذه الآية منسوخة، وذهب آخرون إلى أنها محكمة، وفي الحديث الذي رواه الجماعة، البخاري، ومسلم وأصحاب السنن، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحق لامرئ له شيء يريد أن يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه} فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه ينبغي لكل إنسان له شيء يريد أن يوصي به، له حقوق على الناس، أو للناس عليه حقوق، أو له أشياء يريد أن يكتبها ألا يبيت ليلتين، وفي رواية ليلة، وفي رواية ثلاث ليال، فكأن أقصى مهلة أعطيت لك أن تكتب وصيتك ثلاث ليال، ولا تمر عليك ثلاث ليال إلا وتكتب وصيتك، وتجعلها محفوظة عندك. هذا إذا كان لك شيء تريد أن توصي به، أما إذا كنت تقول: لا مال، ولا أهل، ولا ولد، ولا لي شيء، ولا علي شيء، حينئذٍ ليس عليك أن تكتب الوصية أو لا تكتب، لكن إن كان لك حقوق، وعليك حقوق فإنه ينبغي لك أن تكتب الوصية، وقيل يجب عليك ذلك، والجمهور على أنه يستحب أن تكتب هذه الوصية. وقد جاء في الحديث الذي حسنه ابن حجر وغيره {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له رجل مات ميتة فجأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله! كأنها أَخْذة أسف، أو كأنها أَخْذة آسف} ثم أمر صلى الله عليه وسلم بالوصية. إذاً الإنسان لا يدري، قد يصبحه الموت أو يمسيه، وما الأمر إلا نَفَسٌ يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، فإذاً الحزم كل الحزم، والعقل كل العقل أن تكتب وصيتك، ولا تمهل أو تؤجل، فكم من إنسان كان يريد أن يوصي، لكن عاجلته المنية؛ فأصبح ما له لغيره: وأصبح مالي من طريف وتالد لغيري وكان المال بالأمس ماليا الجزء: 91 ¦ الصفحة: 6 وصية نوح عليه السلام إخوتي الكرام: أما وصية نوح عليه السلام، فقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنها، كما عند الطبراني بسند رجاله ثقات كما يقول الهيثمي: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن نوحاً حين حضره الموت، قال لولده: " إني آمرك باثنتين، وأنهاك عن اثنتين: آمرك بلا إله إلا الله، فإن السماوات، والأرض لو كانتا حلقة لفصمتهن، أو لقصمتهن لا إله إلا الله، وآمرك بسبحان الله وبحمده، فإنها زكاة الخلق، وبها يرزقون، وهي تسبيح كل شيء} ومصداق ذلك في كتاب الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] فأمر نوح ابنه عليه السلام بأن يكثر من قول (لا إله إلا الله) وأن يكثر من قول (سبحان الله وبحمده) فإنها زكاة الخلق، وتسبيحهم، وبها يرزقون. "وأنهاك عن اثنتين: عن الشرك، وعن الكبر أما الشرك: فشأنه معروف: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] . وأما الكبر: فهو قرين الشرك، قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم، وغيره: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قالوا: يا رسول الله، أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، قال عليه الصلاة والسلام: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} أي: جحد الحق ورده وبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم؛ فنهى نوح ابنه عن الشرك والكبر. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 7 وصية إبراهيم ويعقوب عليهما السلام أما الوصية الثانية: فهي وصية إبراهيم ويعقوب عليهما الصلاة والسلام. وهي مثبتة في كتاب الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 8 ظهور الحقائق عند الموت وهنا يتعجب بعض الناس ويقول: هل الموت ونحن مسلمون بأيدينا؟! فنقول: نعم، ولم يكن الله عز وجل يكلفنا ذلك، إلا ونحن نطيقه ونستطيعه، فإن العبد يموت على ما عاش عليه، فإذا علم الله من عبده الصدق والإخلاص، والإيمان والاستقامة؛ فإن الله تعالى يقبض روحه على ذلك. وإذ علم الله تعالى من عبده النفاق، وأنه يظهر ما لا يبطن، يعلن ما لا يسر، فإن الله تعالى يفضحه عند النزع، ويبين حقيقته للناس. فإن العبد عند احتضاره تبين حقيقته، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة -فيما يبدو للناس-، وهو من أهل النار. وإن العبد ليعمل من عمل أهل النار -فيما يبدو للناس- وهو من أهل الجنة} . إذاً هذا إنسان يتظاهر بالإيمان والإسلام، ويقول ما لا يعتقد؛ فيفضحه الله تعالى على فراش الموت، وذاك عبد صادق، علم الله من قلبه الصدق، والإقبال، والإخبات، والانقطاع إليه فثبته الله تعالى، قال الله عز وجل: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] ولذلك جاء في حديث البراء الطويل، الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، بسند حسن، وأصله في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن العبد المؤمن إذا احتضر بشر برحمة من الله تعالى، وحضرت الملائكة، فقالوا: أيتها الروح الطيبة، اخرجي إلى رحمة من الله تعالى ورضوان، ورب غير غضبان، فتخرج روحه، وإن العبد الكافر أو المنافق إذا احتضر، قيل: أيتها الروح الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله تعالى وغضب، فتتفرق روحه في جسده، فلا تخرج إلا بعناء} . إذاً: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] إن كان العبد صادقاً قبض الله روحه على الإيمان والتقوى، وإن كان منافقاً، أو مخلطاً فربما يفتضح -والعياذ بالله تعالى- عند الموت. وهذا من أسرار حسن الخاتمة أو سوئها، وقد تكلم الإمام ابن القيم في هذا الموضوع، وأطال الكلام فيه في مواضع عديدة من كتبه. فقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] معناها: اسلموا لله تعالى إسلاماً حقيقياً حال اختياركم وحياتكم؛ يقبض الله تعالى أرواحكم على الأيمان {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] . إذاً: يعقوب عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة دعا بنيه؛ فاجتمعوا عنده، وكانوا أحد عشر أو اثنا عشر، فكان يسألهم ما تعبدون من بعدي؟ يريد أن يطمئن على تربيته، وعلى غرسه، وعلى ولده {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهاً وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:133] فاطمأن يعقوب عليه الصلاة والسلام، وارتاح لذلك قلبه، وهدأت له نفسه، وعلم أن أولاده سوف يرثون بضاعته من بعده، ويحملون راية التوحيد التي كان يحملها، وحملها من قبله آباؤه إبراهيم، وإسماعيل وإسحاق. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 9 وصايا محمد صلى الله عليه وسلم ثم انتهت النوبة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إمام الرسل، وخاتمهم عليه الصلاة والسلام وحامل لواء الحمد، والشافع المشفع، وأفضل ولد آدم، وأول من تنشق عنه الأرض صلى الله عليه وسلم له من الخصائص والفضائل، والمزايا ما يضيق عنه الحصر، حتى صنف فيه العلماء كتباً خاصة، انتهت النوبة إليه صلى الله عليه وسلم فلننظر ماذا كان يقول عليه الصلاة والسلام قبل أن يموت، والكلام في وصاياه عليه الصلاة والسلام عند موته يطول، ولذلك أحببت أن اذكر لكم بعض الوصايا المختصرة، وأعرض عن الوصايا الأخرى؛ لأن لها مناسبات غير هذه: الجزء: 91 ¦ الصفحة: 10 حسن الظن بالله الوصية الرابعة من وصاياه صلى الله عليه وسلم: ما رواه مسلم عن جابر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بثلاث يقول: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله} فكان صلى الله عليه وسلم يأمر الناس أن يحسنوا الظن بربهم، وذلك لأن الله تعالى يقول: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه حيث يذكرني} وفي حديث: {أنا عند حسن ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء} . فينبغي للعبد أن يحسن الظن بالله جل وعلا، وحسن الظن من حسن العمل، فإن العبد إذا أحسن العمل رزقه الله تعالى حسن الظن، وإذا أساء العمل ساء ظنه: إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم وعادى محبيه لقول عداته وأصبح في ليلٍ من الشك مظلم في صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها وأبي هريرة وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، قالوا: يا رسول الله: أكراهية الموت؟ فكلنا يكره الموت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن العبد المؤمن إذا حُضِِر بُشِّرَ برحمة من الله عز وجل ففرح، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا حُضِِر بُشِّرَ بسخط من الله وعذاب؛ فكره لقاء الله، وكره الله لقاءه} . إذاً: من أحسن العمل، أحسن الظن، ومن أساء العمل، أساء الظن، فلا يموتن أحدكم الا وهو يحسن الظن بالله. يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم ربي دعوتُ كما أمرت تضرعا فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم الجزء: 91 ¦ الصفحة: 11 صلة الأرحام روى ابن حبان وغيره، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال في مرض موته: {أرحامكم، أرحامكم} صلوا أرحامكم، صلوا أرحامكم، فأمر صلى الله عليه وسلم بصلة الرحم، وكان يوصي بذلك في مرض الموت، وذلك لما في صلة الرحم من أثر في تقوية الأواصر الاجتماعية، وتُوفيد القلوب، وإزالة العدوات والبغضاء، ونزول الرحمة، قال الله عز وجل: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:22-24] . وورد في حديث: {أن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم} وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة قاطع رحم} قاطع الرحم لا يدخل الجنة، هكذا يقول صلى الله عليه وسلم، وكم من إنسان قد يصل أصدقاءه، ويحسن إليهم، ويستميت في خدمتهم، وتحقيق مطالبهم، والسهر على راحتهم، فإذا جاء الأمر فيما يتعلق بوالديه، وأرحامه، وأقاربه، فإنه لا يأبه بهم، ولا يتحمل من والديه كلمة خشنة، أو موقفاً صعباًً، وكثيرٌ من الشباب يستثقلون والديهم، ويضحكون من أعمالهم، وأقوالهم، وتصرفاتهم، وقد يستهزئون بهم، وقد يقولون لهم كلمات خشنة بذيئة، لا تليق أن تقال لرجل بعيد، فكيف بالقريب؟!! أخي الشاب! إنك مطالب -أصلاً- إذاً رأيت كبير السن، الذي شاب في الإسلام مفرقه، وشابت لحيته، وظهر عليه هذا الوقار، فأنت مطالب أصلاً أن تقدره، وتجله، وتخدمه، وتتلطف معه في القول، وتقدمه في المجالس، وفي كل شيء، فكيف إذا كان قريباً! فكيف إذا كان أبا أو كانت أماً؟ الأمر في ذلك أعظم وألزم، فلينتبه الشباب، وليعرف أن الصلة والبر من الأشياء التي تعجل ثمراتها في الدنيا، فإن الإنسان إن كان باراً بوالديه؛ عجلت له ثمرة ذلك في الدنيا، وأقلها أن يوفقه الله تعالى لمن يبره من أولاده، وأحفاده، وإن كان عاقاً، فإن الله تعالى يسلط عليه من أولاده وأولادهم من يعقه. كان رجلٌ في الجاهلية له ولد، فأساء إليه، وظلمه، وضربه، فكان هذا الرجل يرفع رأسه، ويدعو عليه، ويقول: جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنزل الدّين طالبه وربيته حتى إذا ما تركته أخا القوم واستغنى عن المسح شاربه تغمط حقي باطلاً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أئن رعشت كف أبيك وأصبحت يداك يدا ليثٍ فإنك ضاربه!! إذا: أصبحت يدا أبيك ترتعش من الكبر، والهرم، والضعف، والعجز، وأنت شاب قوي، فتيّ تستأسد عليه وتضربه! فكان يدعو عليه؛ فأصابه الله تعالى بالعقوبة العاجلة، والبلاء النازل. وأخيراً: فإن من وصاياه صلى الله عليه وسلم في مرض موته، ما رواه النسائي، وابن حبان، والحاكم، وابن المبارك، في كتاب الزهد، وغيرهم: أن سلمان الفارسي رضي الله عنه لما حضرته الوفاة، ظهر منه بعض الجزع والحزن؛ فعرف ذلك بعض من حضروا. فسألوه عن ذلك فقالوا له: ما الذي يحزنك ويجزعك؟ هل هذا جزع على الدنيا؟ فقال: كلا، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً، وقال لي عند موته: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب فجمعنا} قال: فجمعنا، إذاً سلمان الخير سلمان الفارسي حزين عند موته؛ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان وهو يودعنا -وهو يفارق الدنيا- أوصانا بوصية، قال لنا: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} المسافر، فالمسافر لا يحمل من الزاد إلا قليل. قال: فجمعنا. ثم مات سلمان الفارسي، مات سلمان رضي الله عنه فجمعوا تركته، فكم كانت هذه التركة؟! كانت فقط خمسة عشر ديناراً!! خمسة عشر ديناراً، يموت عنها سلمان، يظهر أثرها في الجزع والحزن على وجهه وهو يموت رضي الله عنه والشاهد: وصية النبي صلى الله عليه وسلم عند موته، وأنه قال لأصحابه: {يكفي أحدكم من الدنيا زاد كزاد الراكب} . فما بالكم بنا نحن الآن، ونحن نجمع القصور، والأموال الكثيرة، والسيارات الفخمة، والمراكب الفارهة، ونمد حبالاً طوالاً في هذه الدنيا، وكأننا نفعل فعل الخالدين. سبحان الله! كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه، يوماً من الأيام، صعد على منبر دمشق فقال: [[يا أهل دمشق؛ فاجتمعوا إليه -أبوالدرداء عويمر رضي الله عنه من خيار الصحابة وزهادهم وعلمائهم، كانوا يحبونه حباً شديداً؛ فلما سمعوه يصرخ ويصيح يا أهل دمشق: اجتمعوا إليه- لبيك يا أبا الدرداء. قال: ألا تسمعون وصية أخٍ لكم، مشفق، ناصح؟ قالوا: بلى، قل -رحمك الله- قال: إن من كان قبلكم، كانوا يجمعون كثيراً، ويؤملون كثيراً، ويبنون كثيراً، فأصبح جمعهم بدداً، وأصبح بنيانهم بوراً، وأصبحت قصورهم قبوراً، هؤلاء عاد الذين ملكوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، تركوا ما تركوا، فمن يشترى مني تركتهم بدرهمين؟ من يشترى منى تركتهم بدرهمين]] فكان النبي عليه الصلاة والسلام يكثر أن يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا. وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} غريب أو عابر سبيل، أما الغريب: فمثل إنسان مقيم في بلد إقامة معينة، وهو غريب غير معروف، لا يعرفه أحد؛ فتجد هذا الغريب يتقلل من الدنيا، لكن أشد من الغريب عابر السبيل -إنسان مسافر- لكن لما مر بهذا البلد قال: أريد أن أغير حاجيات السيارة، وأشتري ماءً بارداً، وأرتاح قليلاً، ثم أواصل السفر، عابر سبيل وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]] . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 12 الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم الوصية الثالثة: ما رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه، أنه قال: كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: {الصلاة، الصلاة، وما ملكت أيمانكم} . كانت هذه وصيته صلى الله عليه وسلم ويكثر من قولها، وتكرارها، وترديدها، {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} يحرضهم على الصلاة، ويحضهم عليها، ويبين لهم عظيم شأنها، فكانت من آخر ما فاض بها لسانه عليه الصلاة والسلام، حتى إن ابن حبان وغيره زاد -كما في صحيحه- أنه قال: {وكان يغرغر بها، وما يكاد يفيض بها لسانه} يعني: هذه آخر كلمة قالها صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بوصاياه، وقد ثقل لسانه، وأصبح نَفَسه لا يكاد يخرج، ولا يكاد يستطيع أن يتكلم بهذه الكلمة، ولسانه لا يكاد أن يقولها، فكان يقول: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} احرصوا على الصلاة، بكروا إلى الصلاة، التزموا بالصلاة، مروا بالصلاة، تعلموا الصلاة حثاً، وتحضيضاً على الصلاة، وما يتعلق بها. وما ملكت أيمانكم، يعني: اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم، من العبيد والأرقاء، أحسنوا ملكتهم، وأحسنوا إليهم، ولا تظلموهم، ولا تحملوهم مالا يطيقون. وهذا من عظيم رحمته صلى الله عليه وسلم، وشفقته، وحرصه على حقوق العباد، وأن يقوم الإنسان بحقوق الناس، ولا يقصر في شيء منها؛ والحديث صحيح وله شواهد عديدة. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 13 الرؤيا الصالحة وصية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته أيضاً، رواها الإمام مسلم عن ومن الأشياء التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الوصية: الرؤيا الصالحة يراها الرجل المؤمن، أو ترى له، وأنها هي الشيء الوحيد الباقي من آثار النبوة، وذلك لأن أول ما بُدِئ به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة، الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 14 عدم قراءة القرآن في الركوع والسجود الأمر الثالث الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ذكر حكماً يتعلق بالصلاة، وهو ألا يقرأ الإنسان القرآن في ركوعه، ولا في سجوده، أما الركوع فيقول: (سبحان ربي العظيم) وأما السجود فيقول: (سبحان ربى الأعلى) ويدعو بما شاء. والمقصود ألا يقرأ القرآن على سبيل القراءة، أما لو قرأه على سبيل الدعاء فلا حرج، فلو قال المصلي في ركوعه أو سجوده {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] أو قال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41] أو ما أشبه ذلك من الأدعية القرآنية، لا على سبيل القرآن، لكن على سبيل الدعاء، فإن هذا لا يدخل في ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 15 الوصية الثانية وصية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته أيضاً، رواها الإمام مسلم عن ابن عباس، {أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وكشف الستارة بينه وبينهم فرآهم صفوفاً خلف أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيها الناس إنه لم يبق من النبوة إلا المبشرات -وهي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم، أو ترى له- ثم قال عليه الصلاة والسلام: ألا وإني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً، أو ساجداً، أما الركوع فعظموا فيه الرب يعني قوله: سبحان ربى العظيم وأما السجود فادعوا، فقمِنٌ أن يستجاب لكم} . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 16 عقيدة ختم النبوة وفي هذه النصيحة أو الوصية النبوية أمور، أولها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلن عقيدة من أخطر العقائد في الإسلام، ألا وهي عقيدة ختم النبوة، وأن هذه الدنيا لن يأتيها نبي بعد النبي صلى الله عليه وسلم، صحيح أن عيسى ينزل في آخر الزمان، لكنه ينزل حاكماً بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس آتياً بدين جديد، ولا يتنزل عليه وحي جديد، فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم ختم النبوة، وأنه لا نبي بعده، وأن السماء لن تتفتح لنزول وحي بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وهذا كان من الأسباب التي تبكي المسلمين وتحزنهم عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيح: {أن أبا بكر قال لـ عمر -بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها -وأم أيمن حاضنة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- فذهبوا إليها، فلما رأتهم خنقتها العبرة، وأسبلت دموعها وبكت، وارتعدت عندهم. فقالا لها: يا أم أيمن، ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما أني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنى أبكي انقطاع الوحي من السماء. لاحظ الفقه عند هذه المرأة، تقول: لا أبكي على الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، فإن ما عند الله خير له وأبقى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء. قال: فهيجتهما على البكاء، فجعلا يبكيان معها} . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 17 إخراج المشركين من جزيرة العرب فمن وصاياه عليه الصلاة والسلام ما ذكره ابن عباس، كما في صحيح مسلم وغيره، {أنَّ ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس؟ ثم بكى حتى بل دمعه الحصى رضي الله عنه، فقال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه، فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبدا، فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، بعضهم يقول: هاتوا يكتب لكم، وبعضهم يقول: ما شأنه؟ أهجر، استفهموه -كأنهم ظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، فقال قولاً يحتاج إلى بيان، وربما يكون فيه قول من غلبة المرض عليه- قال: فتنازعوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قوموا عني، فقاموا من عنده صلى الله عليه وسلم، قال: وأوصاهم بثلاث، الأولى: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، الثانية: أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم، قال سعيد بن جبير: ونسيت الثالثة} . قوله عليه الصلاة والسلام: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} فقد كان في جزيرة العرب يهود، يهود في تيماء، وخيبر، وفي عدد من البقاع، وكان فيها نصارى في نجران وفي غيرها. فأمر صلى الله عليه وسلم بألا يبقى في جزيرة العرب إلا مسلم، وكان صلى الله عليه وسلم، يقول: {لأخرجن المشركين من جزيرة العرب، اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب؛ حتى لا أدع فيها إلا مسلمٌ} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} . هذه الجزيرة أيها الأحبة لها هذه الميزة التي ليست لأي بقعة في الدنيا. هي جزيرة الإسلام، أرض الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، عاصمة الإسلام. يقول عليه الصلاة والسلام -فيما رواه مسلم وغيره: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها} يعني: يجتمع وينضم ويرجع بين المسجدين، مسجد مكة ومسجد المدينة. إذاً: فهذه البلاد -حتى في أيام غربة الإسلام، وضعف شأنه-: هي بلاد الإسلام، وحصنه الحصين، وأهلها هم الذين يدفع الله تعالى بهم عن هذا الدين الغوائل، والعوادي على مر العصور، وكر الدهور؛ ولذلك أعظم، وأكبر وأخطر فتنة تمر بالمسلمين، بل تمر بالبشرية كلها من آدم عليه السلام إلى قيام الساعة: هي فتنة المسيح الدجال. من هو الذي يكسر هذه الفتنة، ويسقطها، ويكون بداية زوالها على يديه؟ إنه رجل من أهل هذه الجزيرة، بين الرسول صلى الله عليه وسلم شأنه في حديث رواه البخاري وغيره: {أن المسيح الدجال يدخل كل البلاد إلا مكة والمدينة، فإذا كان قريباً من المدينة جلس في بعض السباخ فارتجت المدينة، أو رجفت ثلاث رجفات؛ فخرج إليه كل منافق ومنافقة. والناس يفتنون به ويغترون بما معه من المظاهر، ومن الألاعيب، ومن الخدع، ومما سخره الله تبارك وتعالى له. فيخرج إليه شاب من المدينة هو خير أهل الأرض يومئذ، أومن خير أهل الأرض يومئذ. فإذا وقف أمام المسيح الدجال قال: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول المسيح الدجال للناس: أرأيتم إن قتلت هذا الشاب، وقطعته إلى قطعتين، ومشيت بين قطعتيه، أتشهدون أني أنا الله؟ فيقولون: نعم. فيقطعه، ثم يمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم فيستوي حياً بإذن الله عز وجل، فيقول لهذا الشاب: أتشهد أني أنا الله؟ فيقول هذا الشاب: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة -ما ازددت فيك إلا علماً، ومعرفةً، ووعياً- لأن الرسول عليه السلام أخبرنا بذلك، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، ويجعل الله عز وجل على رقبته شيئاً من نحاس أو حديد، فلا يستطيع الدجال أن يقتله} ومن حينئذٍ يبدأ -كما يقولون- العد التنازلي للدجال، فيغادر المدينة مخذولاً مهزوماً، ثم يذهب إلى الشام، وهناك يقتله المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. إذاً: أخطر وأعظم فتنة: فتنة الدجال، بداية زوالها على يد شاب من هذه الجزيرة، فما دونها من الفتن التي تنزل بالمسلمين، يتصدى لها شباب هذه الجزيرة بالدرجة الأولى، وغيرهم من شباب المسلمين في كل مكان، حتى يكتب الله تبارك وتعالى فضيحتها، وزوالها على أيديهم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 18 من وصايا الصديق أما الصديق رضي الله عنه وأرضاه، خير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخير هذه الأمة بعد نبيها، فإن خبره عجيب، ولولا أنه حق لظننا أنه من جملة الأساطير، لكن العلماء رووه لنا بالأسانيد الصحيحة، فانظر ماذا يقول أمير المؤمنين، يملك دنيا عريضة، ويدين له المسلمون في أنحاء الأرض، ويطيعونه في طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 19 الوصية الثالثة الوصية الثالثة لـ أبي بكر: كان يوصي عمر من بعده رضي الله عنه، قال: [[إني موصيك بوصية إن قبلتها مني يا عمر، إن لله حقاً بالنهار، لا يقبله بالليل، وإن لله تعالى حقا ًبالليل لا يقبله بالنهار، وإن الله تعالى لا يقبل نافلة، حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة؛ بإيثارهم الحق في الدنيا، ولو ثقل ذلك عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا حق أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم في الآخرة باتباعهم الباطل في الدنيا، وحُقّ لميزان لا يوضع فيه إلا باطل أن يطيش، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة، فذكرهم بصالح أعمالهم، لئلا يقول إنسان: أنا خير منهم. قال رضي الله عنه: فإن اتبعت أو حفظت وصيتي هذه، فلا يكونن غائب أحب إليك من الموت، ولابد لك منه، وإن ضيعتها فلا يكونن غائب أبغض إليك من الموت، ولن تعجزه، ولن تفوته]] أنت ميت بكل حال، رغبت أو لم ترغب، الموت لا يأخذ إذناً أو موافقة من الإنسان، قد يأتي الموت لإنسان ليس لوالديه غيره، ليس بالضرورة أن يراعي ظروف البيت أو ظروف الأهل، أو ظروف الجيران، هذه حكمة الله تعالى، قدره النافذ، وقضاؤه الذي يمضي على الكبير والصغير، وعلى الغني والفقير، وعلى المأمور، والأمير، وعلى الناس كلهم سواءً بسواء، هذا سر الله تعالى في خلقه {َوجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] . في وصايا أبي بكر رضي الله عنه أمور: منها توقيت العبادات، لله حق بالليل لا يقبله بالنهار، وحق بالنهار لا يقبله بالليل، أمور كثيرة، منها الصيام، منها الصلاة، منها حقوق الخلق، حقوق الناس. وفي وصيته رضي الله عنه إتباع الحق وإيثاره، وإن كان ثقل ذلك على الإنسان، وترك الباطل وإن كان خفيفاً عليك، فإن الله تعالى أمرنا بالحق، ونهانا عن الباطل. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 20 الوصية الثانية الحسن بن علي رضي الله عنه يذكر عن عائشة أن أبا بكر رضي الله عنه لما حضرته الوفاة -انظروا يا أحبتي- والله أمور ينقضي منها العجب! أعجب من العجب! قال لها: [[يا عائشة، انظري اللقحة التي كنا نشرب من لبنها، والجفنة التي كنا نصطبح فيها -الإناء الذي كانوا يضعون فيه صبوحهم أو غبوقهم- والقطيفة التي كنا نلبسها فادفعيها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أو ادفعيها إلى الخليفة من بعدي، فإنا كنا ننتفع بها حين كنا نلي أمر المسلمين، أما الآن، فليست منا، ولسنا منها في شيء]] . يا سلام! يا سلام! على أبي بكر رضي الله عنه ليس عنده شيء! خليفة، أمير المؤمنين -يقول لـ عائشة: القطيفة التي نلبسها هذه ادفعيها للخليفة من بعدي، والإناء الذي نشرب فيه ادفعيه، والناقة التي نشرب لبنها ادفعيها للخليفة من بعدي، هذه أمور كنا نستعملها يوم كنا نلي أمر المسلمين، أما الآن ادفعيها إلى الخليفة، فلما مات رضي الله عنه دفعتها إلى عمر، فلما رآها عمر قعد في مكانه يبكي ويصيح، ويقول: [[رحمك الله يا أبا بكر، رحمك الله يا أبا بكر، لقد أتعبت من جاء بعدك. من يصنع مثل صنيعك؟!]] هذا العمل الجليل الجبار، وهذه القصة رواها الطبراني، وقال الهيثمي: رجاله ثقات. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 21 الوصية الأولى لما حضرته الوفاة بكت عائشة رضي الله عنها وبدأت تردد أبياتاً من الشعر، فقال: [[يا عائشة: دعي هذا، وقولي كما قال الله عز وجل: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ)) [ق:19] ثم قال لها: يا بنية، في كم كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت له: كُفِّنَ في ثلاثة أثواب يمانية. فقال لها: إذا أنا مت فكفنوني في ثوبي هذين -كان عليه ثوبان- واشتروا لي ثوباً ثالثاً، وإياكم والجديد، -لا تكفنوني في ثوب جديد- فإن الحي أولى بالجديد من الميت، وإنما هو للمهلة، والصديد]]-يقول: الثياب التي تكفنونني فيها هي للمهلة، والصديد- الذي يكون في الميت عندما يقبر، بعدما تمر عليه الأيام، فلا داعي أن تكفنوني في كفن جديد، بل كفنوني في ثوبي هذين، والحديث ذكره الطحاوي في مشكل الآثار وغيره، لكن لم يتسن لي أن أخرجه إلا من الطحاوي -كما ذكرت-. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 22 وصايا عمر الجزء: 91 ¦ الصفحة: 23 الوصية الأولى أما عمر -رضي الله عنه وأرضاه، فقد روى مالك عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه وسنده صحيح أنه قال: [[لما طعن عمر رضي الله عنه: أتيت أوقظه لصلاة الفجر، فقلت له: يا أمير المؤمنين، الصلاة الصلاة، قال: فاستيقظ، وهو يقول: نعم، أما إنه لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. قال: فصلى عمر، وجرحه يثعب دماً]] . طعن رضي الله عنه وأرضاه، سقط في المحراب، فحمل إلى بيته، ومات بعد وقت يسير، ومع ذلك لما أرادوا أن يعرفوا هل عمر في حالة غيبوبة، أم إنه في حالة صحو قالوا: لا نجد أمراً يلفت نظر عمر مثل الصلاة. فقالوا له: الصلاة، الصلاة، يا أمير المؤمنين. فلما سمع كلمة الصلاة ارتجف وارتعد، وقال: نعم، أما إنه لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. كم هو مؤسف أن تجد من أصحاء المسلمين، وأقويائهم، وشبابهم الذين أنعم الله تعالى عليهم بالمال الوفير الكثير، والصحة، والعافية، والشباب، والقوة، والأمن، وجيران المسجد، يسمعون المؤذن ينادي: حي على الصلاة، حي على الفلاح؛ فلا يجيبونه، ومنهم من لا يجيبه في صلاة الفجر خاصة، وقد قال أنس وغيره: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] . أما المؤمنون الذين يعرفون حق الله عز وجل، فإن الواحد منهم، وهو طعين، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، يقول: نعم، لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة. ثم يصلي وبطنه تسيل دماً، جرحه يثعب، وهو يموت بعد وقت يسير. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 24 الوصية الثانية قضية أخرى لـ عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري، وهي قصة طويلة جداً في نحو ثلاث صفحات، لا يملك مؤمن أن يقرأها إلا ويبكى وتسيل دموعه، لكنني لا أستطيع؛ لضيق الوقت أن أسردها عليكم، لكن أذكر لكم موقفاً واحداً فقط منها. دخل عليه غلام من الأنصار، فسلم عليه، وقال: يا أمير المؤمنين، فعلت، وفعلت، وفعلت، وزكاه ومدحه، فلما أدبر نظر عمر فإذا هذا الشاب ثوبه فيه طول، طويل بعض الشيء، فقال: ردوا عليَّ الغلام. فرجعوا إليه قالوا: أمير المؤمنين يريدك. فقال: [[يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أتقى لربك، وأبقى وأنقى]] أتقى وأنقى وأبقى، يلقي الحكمة وهو يموت. كلمات حكمة تكتب بماء الذهب. يا ابن آخي: ارفع إزارك، أمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، لم يقل: هذا أمر بسيط، أو هذه قضية شخصية، لا، أمور الدين كلها عظيمة، لأن الدين عظيم جاء من عند عظيم (ارفع إزارك) . ثم يوصيه ويبين له فوائد هذا الأمر من ناحية دينية، ومن ناحية دنيوية، هذا أتقى لله وأبقى للثوب؛ لأن الثوب إذا طال يمس الأرض فتصيبه، وسرعان ما يبلى، وأنقى له من أن يصيبه -أيضاً- وسخ أو قذر، فهو أتقى وأنقى وأبقى. ولم يلهه ما هو فيه من أمر الموت أن ينبه هذا الغلام على أن ثوبه طويل. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 25 الوصية الثالثة من وصاياه -أيضاً- ما رواه الدارمي، عن مروان بن الحكم، قال: لما طعن عمر رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم الذين حوله في الجد. لاحظ عمر طعن في صلاة الفجر، ثم نقل إلى بيته، والناس يبكون، والقضية كلها ساعات محدودة، ثم لفظ نفسه رضي الله عنه وأرضاه، والموقف صعب، صعب بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لكن مع ذلك. فلننظر أمير المؤمنين كيف يتعامل مع الموضوع، يناقش قضايا فقهية، وقضايا علمية، وتفاصيل، كأنهم خلق آخر سبحان الله العظيم! عمر رضي الله عنه وهو مطعون، وحاله كما تعملون، ولما جاءه الطبيب، قال: نسقيك خمراً؟ قال: لا أشربه، قالوا: نسقيك نوعاً من المخدر، قال: لا أشربه، قالوا اسقوه لبناً: فسقوه لبناً فخرج اللبن مع الجرح، فعلم الطبيب أنه ميت -علم أنه هالك- قالوا: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين، قال: إن كان الموت بأساً فقد مت {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38] هذا ما كان يقوله عمر رضي الله عنه، ولما علم أن الذي طعنه أبو لؤلؤة تنفس الصعداء وأرتاح، وقال: [[الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجل سجد لله تعالى سجدة]] كان خائف أن يكون الناس ساخطين عليه لسوء عمل لم يشعر به؛ فقتلوه. فلما علم أن المؤمنين راضون به، وأن الجميع يبكون حتى كأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل ذلك، أرتاح وقال: الحمد لله. الشاهد أنه كان جالساً يقول للناس كما يقول مروان فيما رواه الدارمي: [[إني قد رأيت في الجد رأياً، يعني مسألة الجد والإخوة وهي قضية تتعلق بالفرائض، يقول: إني رأيت في الجد رأياً، إن بدا لكم أن تتبعوه فاتبعوه، ثم ذكر لهم هذا الرأي الذي رآه]] إنها مسألة فقهية، فرضية، يشرحها لهم أمير المؤمنين وهو على فراش الموت، فقال له عثمان رضي الله عنه: إن نتبع رأيك فإنه رأي رشيد، وإن نتبع رأي الشيخ قبلك يعني أبا بكر رضي الله عنه فنعم ذو الرأي كان -رأيك حسن، ورأي أبي بكر حسن- وهو اجتهاد، وذاك اجتهاد، وكل إن شاء الله على خير. ليس قصدي الآن القضية الفقهية، وإنما قصدي أن عمر رضي الله عنه لم يلهه ما هو فيه أن يتكلم عن قضية فقهية، يقول للصحابة ما رأيكم في موضوع الجد والإخوة، وقسمة المواريث، وأشياء من هذا القبيل، وهو يموت. وهذا دليل على عنايتهم بأمور: أولها: عنايتهم بعلوم الشرع، حتى لو كان في مرض الموت، يحرص على أن يعلم الناس مسألة من الفقه، لعله يخشى أن يلقى الله تعالى، فيسأله الله تعالى: لمَ لم تقل للناس هذا الحكم؟ فحرص على أن يبلغه قبل أن يموت، وكان هذا أمر يهمّ الصحابة، حتى إن معاذاً رضي الله عنه لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب أحداً منهم مات لا يشرك به شيئاً، قال: قلت يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: (لا تبشرهم فيتكلوا) } . لكن معاذاً رضي الله عنه خشي أن يسأل يوم القيامة لِمَ كتمت هذا العلم؟ لمَ لَمْ تبلغ به الناس؟ وهكذا يجب على العلماء أن يبلغوا الناس العلم، ولا يكتموه، وأن يحرصوا على إيصال الحق والعلم للناس بكل ما يستطيعون، هذه ناحية. الناحية الأخرى: قضية حرصهم على حفظ الوقت، هذا ما دام نَفَسه لم يخرج، وروحه لم تخرج، فهو حريص على أن يستفيد من الوقت، يعلم أو يتعلم، أو يبلغ شيئاً، ليكتب له بذلك أجر. أما نحن الآن، فالواحد منا صحيح، شحيح، قوي، والوسائل ممكنة، بكل سهولة يستطيع الشاب أن يحصل العلم اليوم، يقرأ كتاباً، يقرأ مجلة مفيدة، يسمع شريطاً مفيداً، يرفع الهاتف ليتصل بفلان أو علان، يذهب ليحضر حلقة الشيخ، يحضر حلقة القرآن، يحضر درساً، يحضر محاضرة، ومع ذلك تجد الشاب يضيع وقته، وربما يذهب إلى مباراة رياضية، أو يسمع أغاني محرمة، أو يقضي وقته في قراءة جرائد، أو قراءة أمور تافهة، أو قيل أو قال، أو ما أشبه ذلك من الأمور، التي يتفنن فيها بعض الشباب في إضاعة الوقت، ولا يعلمون أن هذا الوقت، هو الذي به يجازون، وبه يدخلون الجنة، أو يدخلون النار، والناس كانوا عند الموت يستغلون دقائق بقيت من أعمارهم مثل الطالب -لاحظوا الطالب الآن في صالة الامتحان- طبعاً التشبيه مع الفارق، لكن مثال للتقريب حتى تلاحظوا. أحياناً بعض الطلاب يكون طالباً جيداً، وحافظاً للمقرر كله، ومجتهداً، فمن حين أن يأخذ الورقة يبدأ يكتب الجواب، ولكن يكتب جواباً مضبوطاً، دقيقاً، مفصلاً، ولا يترك شاردة، ولا واردة ولا شاذة ولا فاذة إلا يكتبها في ورقة الجواب؛ فتجده يملأ الورقة -هذا شيء نلاحظه ونحن نراقب على الطلاب- فينتهي الوقت المحدد للإجابة، ينتهي، والطالب لم ينته بعد، فتجد الأستاذ يأتي عند هذا الطالب يقول له: باقي خمس دقائق. والطالب يسرع، يكتب بسرعة؛ لأن الوقت يمضي، الوقت ليس في صالحه، يحاول أن يستغل -خاصة الدقائق الأخيرة- يحرص على الاستفادة منها أكثر مما يحرص على الاستفادة من أول الوقت، فتجده ينازع الأستاذ في الورقة؛ من أجل أن يكتب ولو إجابة، ربما يحصل منها على درجة؛ لأن الطالب حينئذ يشعر بقيمة الوقت، وهكذا كان الصالحون يشعرون بقيمة الوقت، فإذا قربت آجالهم حرصوا على مضاعفة الأعمال الصالحة بقدر ما يستطيعون، حتى قال بعضهم: والله لو أعلم أني أموت الليلة ما كان عندي مزيد. يقول: بذلت، ثم بذلت، ثم بذلت، ثم ملأت وقتي بالأعمال الصالحة، حتى لو قيل لي: إنك الليلة سوف تموت. ليس عندي شيء جديد أضيفه، كل وقتي صرفته فيما يرضي الله عز وجل، ليس عندي مزيد. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 26 وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كما في الصحيحين: {أن سعداً أصابه في مكة، عام الفتح مرضاً شديداً، أشرف منه على الموت، وخشي أن يموت فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، وهو وجع اشتد به. فقال: يا رسول الله، قد اشتد بي الوجع، ولي مال كثير، ولا يرثني إلا بنت لي، فأريد أن أوصي بكل مالي. قال: لا. قال: بثلثيه. قال: لا. قال: بنصفه. قال: لا. قال: الثلث يا رسول الله، قال: الثلث، والثلث كثير، يعني توصي بثلث مالك وهو كثير، يعني الأفضل ألا توصي بالثلث، توصي بأقل منه} . ولذلك قال ابن عباس -كما في صحيح مسلم {وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع} {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس} . لاحظ ورثتك وهو ليس عنده إلا بنت، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ورثتك، وهذا علم من أعلام النبوة؛ لأن سعداً لم يمت في مرضه ذلك، بل عاش حتى عمِّر، ورزق عشرة من الولد. {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، اللهم امض لأصحابي هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم، لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان مات بمكة ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ سعد بن أبي وقاص: ولعلك إن تخلف فيضر بك أقوام، وينتفع بك آخرون} وهكذا كان، فإن سعداً لم يمت، بل عاش حتى شهد فتوح العراق وفارس، وكان من قادة الفتوح في تلك البلاد، وما موقعة القادسية عنا ببعيد. سعد رضي الله عنه لما جاءه اليقين من ربه جاءه الحق قال، كما في صحيح مسلم: [[الحدوا لي لحداً، وانصبوا علي اللبن نصباً، كما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم]] فأمرهم بأن يعتدلوا في دفنه، وأن يتبعوا السنة، فلا يبالغوا أو يفعلوا شيئاً من البدع، أو يفعلوا بدفنه، أو وضع قبره خلاف ما فعل برسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 27 وصايا عمرو بن العاص عمرو بن العاص، وما أدراك ما عمرو بن العاص!! له عند موته نبأ عجيب!!. في صحيح مسلم {أن عمراً لما حضرته الوفاة، حول رأسه إلى الجدار، وجعل يبكي، فجاءه ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص وقال: له يا أبت، ما يبكيك؟ يحاول أن يزيل همه وحزنه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ ويذكر له بعض البشارات، فما زال به حتى التفت، ثم قال رضي الله عنه وأرضاه: {إني لا ألقى الله عز وجل بأعظم من شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم قال: إني كنت على أطباق ثلاث -على أحوال ثلاث- الحالة الأولى: كنت في الجاهلية، ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. قال: ثم قذف الله تعالى الإسلام في قلبي، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أبسط يدك أبايعك، قال: فبسط يده؛ فقبضت يدي. فقال مالك يا عمرو قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: يا عمرو بايع، فإن الإسلام يجب ما قبله، والحج يجب ما قبله، والهجرة تجب ما قبلها، والتوبة تجب ما قبلها، قال: فبسطت يدي فبايعته صلى الله عليه وسلم فلم يكن أحد أعظم في عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إني لم أكن أطيق أن أنظر في وجهه؛ من شدة هيبتي له -عليه الصلاة والسلام فلو مت على هذه الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها أي من أمور الإمارة والحروب وغيرها، قال رضي الله عنه: فإذا دفنتموني فانتظروا عند قبري قدر ما تذبح جزور، ويقسم لحمها، لعلي أن أستأنس بكم، وأنظر بماذا أراجع به رسول ربي} يقول: انتظروا عند قبري، واستغفروا لي، وادعوا لي؛ لعلي أن أستأنس بكم، وهذا أمر خاص، اجتهاد خاص من عمرو بن العاص رضي الله عنه، لم يكن يفعله غيره من الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم. المهم هذه من وصيته. ومن وصيته، أو من أخباره عند موته ما رواه الحاكم وغيره، [[أن عبد الله ابنه قال له: يا أبت، أنت وأنت صحيح كنت تقول لنا: وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا عن الموت كان عمرو يقول: بودي أن إنساناً يحضره الموت يحدثنا ماذا يحصل عند الميت؟ ما الذي يجري. فأنت الآن محدثنا؟ فقال: يا بني إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، لكنني سوف أقربه لك، يقول: أرى شيئاً لا أستطيع أن أصفه، ولكن أقربه لك أحس كأن جوفي يشاك بالسلاح، كأن السكاكين والخناجر تختلف في بطني، هذا يخرج وهذا يدخل؛ من شدة الآلام، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وأحس كأن جبل رضوى على عنقي]] . هذا بعض ما يعبر به عمرو بن العاص رضي الله عنه عن الآلام، والصعوبات التي يلقاها المحتضر، ومع ذلك {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] . وقد روى نعيم بن حماد في زوائده عن ابن المبارك، عن عمرو بن العاص أيضاً عند موته أنه قال: [[اللهم إنك أمرت فعصينا، ونهيت فوقعنا، لا إله إلا أنت، ثم أمسك بإبهامه، فمازال يرددها حتى فاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه]] . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 28 وصية معاذ بن جبل معاذ بن جبل قال له جلساؤه وهو في مرض موته: أوصنا قال: [[أجلسوني]] معاذ من كبار العلماء، علماء الصحابة، ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح أنه قال: {معاذ أمام العلماء برتوة} رتوة: يعني مسافة معاذ من العلماء الكبار، ومن كبار المفتين من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا له: أوصنا، قال: أجلسوني، فلما أجلسوه قال لهم: [[إن العلم والإيمان مكانهما، من ابتغاهما وجدهما]] يعني: لا تظنوا أن موتي هو موت العلم، العلم باق موجود، والإيمان باق موجود، من التمسه وجده. ثم قال لتلاميذه، وأصحابه التمسوا العلم عند أربعة -أوصاهم، خذوا العلم بعدي عن أربعة- أولهم: أبو الدرداء عويمر رضي الله عنه، الثاني: سلمان الفارسي، الثالث: ابن مسعود، الرابع: عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً فأسلم، قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا -كلام معاذ - يقول: {إنه عاشر عشرة في الجنة} خذوا العلم عن هؤلاء، فأوصاهم بأن يواصلوا طلب العلم، وأن يأخذوا من بعده عن غيره. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 29 وصية أبي الدرداء أما أبو الدرداء رضي الله عنه فإن أم الدرداء رضي الله عنها قالت: [[إن أبا الدرداء رضي الله عنه لما حضرته الوفاة قال: من يعمل لمثل ساعتي هذه، من يعمل لمثل مصرعي هذا، من يعمل لمثل يومي هذا، ثم تلا قول الله عز وجل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110]] ] ثم قضى رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 30 وصية عبادة بن الصامت عبادة بن الصامت. قال الوليد بن عبادة بن الصامت: [[لما حضرت أبي الوفاة -كما في سنن الترمذي- قلت له: أوصني. قال: أوصيك بتقوى الله، والإيمان بقضائه وقدره، خيره وشره، فإنك لو مت وأنت لا تؤمن بالقدر خيره وشره أدخلك الله النار، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أول ما خلق الله القلم قال: اكتب؛ فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة} ]] . أما وصيته الثانية: فهي وصيته للصنابحي -وهي مشهورة-[[دخل عليه الصنابحي - وهو أحد تلاميذه-، فلما رآه الصنابحي وهو في حالة النزع حزن وبكى، فقال له عبادة: ما يبكيك، أما والله لئن استطعت لأنفعنك، ولئن شفعت لأشفعن لك، قال: وما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله حرمه الله تعالى على النار} ]] . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 31 وصية أبو هاشم بن عتبة أبو هاشم بن عتبة -كما في سنن النسائي-[[جاءه معاوية بن أبي سفيان يعوده، وهو في مرض الموت فبكى، فقال له معاوية: يا خال! ما يبكيك؟ أَوَجَعٌ يُشْئِزُك؟ -يعني ألم تحس به- أم جزع على الدنيا؟ فقد ذهب صفوها وبقي كدرها؟ فقال: على كلٍ لا، لا أبكي من وجع، ولا أبكي على الدنيا، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهداً فوددت إني حفظته، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {يكفيكم من الدنيا خادم ومركب} قال: فأدركنا فجمعن. ]] وفي الختام: أحبتي: وصايا العلماء أمرها يطول، وقد ذكرت لكم هذه الوصايا مما التقطته من كتب السنة النبوية -كما ذكرت لكم في مطلع حديثي- ومن أراد المزيد من وصايا العلماء، من الصحابة، والتابعين ومن بعدهم، فليرجع إلى الكتاب الذي يعتبر مكملاً لهذه المحاضرة، وهو كتاب وصايا العلماء عند حضور الموت للإمام الحافظ الربعي، وقد حققه الأرنؤوط تحقيقاً جيداً، وخرج في حلة قشيبة. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 32 الأسئلة الجزء: 91 ¦ الصفحة: 33 صلة الأرحام السؤال لقد بينتم عظم حق الأرحام ووجوب صلتهم. من مِن الأرحام تجب صلتهم، ومن منهم لا تجب صلتهم، ويسقط هذا الحق عنه، ألا يسقط عندما يكون الأرحام لا يأبهون بصلته؟ الجواب صلهم وإن كانوا لا يأبهون بصلتك، أما الأرحام، فالأقرب، فالأقرب، الوالدان، الأخوال، الأعمام، الإخوة، الأخوات، لا شك هؤلاء لهم حقوق، ثم الذين بعدهم حقهم يقل، وهكذا، والصلة تكون لكل أحد بحسبه، من الناس من يحتاج إلى زيارة في الشهر مرة أو مرتين، أوفي الأعياد، ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك، ومنهم من يحتاج إلى دون ذلك، ومنهم من يكفيه أحياناً تتصل به ولو بالهاتف وهكذا، كل إنسان بحسبه. هذا ما تيسر، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب هذا المجلس وأجره وبره وذخره لي ولكم في موازيننا يوم نلقاه. اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا، اللهم اجعلنا ممن تتنزل عليهم الملائكة عند الموت: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، اللهم توفنا وأنت راض عنا غير غضبان، اللهم احشرنا في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، اللهم صلِّ على محمد، وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 34 البكاء من خشية الله السؤال نسمع ونقرأ في سيرة السلف رضي الله عنهم أنهم كثيراً ما يبكون عند سماع القرآن وأخبار الصحابة، لماذا نحن لا نبكي عند سماع القرآن ابتداءً، وعند المواعظ، والخطب؟! وكيف السبيل إلى البكاء من خشية الله تعالى؟ الجواب نعم {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] فالخشية، والخشوع هو العلم يا أخي الكريم، العالم الحق هو الذي يخشى الله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] قال الله عز وجل عن الذين أمنوا من أهل الكتاب: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن مسعود: {اقرأ علي القرآن، قال: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فقرأت عليه سورة النساء حتى أتيت قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء:41-42] قال: حسبك الآن، قال: فالتفت فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم} . وقد قام ليلة حتى أصبح بآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:11] يرددها ويبكي. أبو بكر رضي الله عنه كان رجلاً أسيفاً، إذا قرأ القرآن بكى، حتى لا يسمع صوته، ولا يدرى ما يقول يختلط كلامه رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: {مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف يبكي، إذا بكى لم يسمعه الناس. } عمر رضي الله عنه قرأ قول الله عز وجل في سورة يوسف: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:86] فبكى قال عبد الله بن شداد: سمعت نشيجه وأنا في آخر الصفوف. هذا عمر الرجل القوي الجلد، كان يبكي، بل كان يقرأ رضي الله عنه وأرضاه الآية من كتاب الله تعالى فيمرض فيجلس أياماً يعاد في بيته. القرآن الكريم هو دواء القلوب أقبل على القرآن، تغن بالقرآن، اقرأ القرآن في خلواتك، تدبر الآيات، قف عندها، رددها، تأملها، عالج قلبك بالقرآن. والقلب الذي لا يشفى بالقرآن هذا لا حيلة فيه {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] الذي لا يشفيه القرآن لا شفاء له، والذي لا يتعظ بالقرآن لن يتعظ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) . هناك وسائل أخرى لترقيق القلوب، منها: الإحسان إلى اليتامى والفقراء والمساكين، منها: صلة الرحم، منها قيام الليل، منها طلب العلم، منها كثرة الدعاء، منها الجلوس في مجالس الذكر، منها صحبة الأخيار. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 35 حكم مقاطعة قاطع الصلاة السؤال يوجد بعض من الأقارب على معصية ظاهرة: عدم الاهتمام بالصلاة. فهل مقاطعة هؤلاء تعتبر من قطيعة الرحم؟ الجواب ينبغي أولاً: أن تبذل النصح لهؤلاء بقدر ما تستطيع، وتوسل إليهم بكل وسيلة مباحة لإيصال النصيحة إلى قلوبهم، وأشفق عليهم، أوصل إليهم بعض الكتب، بعض الرسائل، بعض الأشرطة، انصحهم، ذكرهم بأيام الله، أكثر عليهم، أحسن إليهم. فإذا يئست منهم، يئست، فحينئذ فإن هجرانهم مشروع مطلوب، خاصة إن كان الهجر سبباً في استقامتهم، فحينئذ يجب عليك أن تهجرهم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 36 طبع كتاب السؤال هذا يسأل عن كتاب "شرح بلوغ المرام" وهل شرحي لهذا الكتاب سوف يطبع؟ الجواب أقول له: نعم إن شاء الله عز وجل، وأنا الآن بصدد تبييض الجزء الأول، وهو يتعلق بكتاب الطهارة، وإن شاء الله تعالى خلال أشهر سوف يطبع هذا الجزء. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 37 أداء الأذكار السؤال أحياناً أذكر أذكار المساء قبل المغرب، وأحياناً بعد المغرب. فهل هذا جائز؟ الجواب نعم جائز، أذكار المساء إن قالها بعد صلاة العصر، أو قبل المغرب، أو بعد المغرب كل ذلك جائز. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 38 الخشوع في الصلاة السؤال هذا يسأل في موضوع الخشوع في الصلاة: الجواب الخشوع في الصلاة له أسباب. السبب الأول: إزالة الشواغل القلبية، أن تقبل على الصلاة بقلب خال، أما إذا أقبلت على الصلاة بقلب متفرق في أودية الدنيا، جزء منه في المزرعة، وجزء منه في البنك، وجزء منه في المتجر، وجزء منه في البيت، وجزء منه يميناً وجزء منه شمالاً، وجزء منه هنا، وجزء منه هناك، فلا مكان للصلاة. فلابد من تفريغ القلب من الشواغل الدنيوية. السبب الثاني: إزالة الشواغل المادية، مثل: أن يصلي الإنسان، وهو مقبل على صلاته، يبكر، يتوضأ يصلي ركعتين، يقبل وينظر في موضع سجوده، لا ينظر إلى ما أمامه، لا يصلي وهو حاقن أو حاقب، لا يصلي وهو يسمع الأصوات المزعجة، لا تكون في قبلته أمور تصرف بصره كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اذهبوا بأنبجانيتي هذه إلى أبي جهم، وأتوني بأنبجانيته؛ فإن أعلامها لا تزال تعرض لي في صلاتي} ولذلك كره أهل العلم الصلاة في أماكن المعصية، كره أهل العلم الصلاة في الأماكن الملهية؛ لأن الإنسان ينشغل بها. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 39 إخراج الكفار من جزيرة العرب السؤال قلت إن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصى أن يخرج الكفار من جزيرة العرب. فلماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟ الجواب لماذا يوجد الكثير من الكفار هنا؟ هذا سؤال وجيه. الكفار الموجودون هنا أنواع، أكثرهم وجودهم لغير سبب، بمعنى أنه يمكن أن يستغنى عنهم بغيرهم من المسلمين، ونقول لمن استخدم كافراً -أياً كان هذا المستخدم، كبيراً، أو صغيراً- نقول له: ألا اتخذت حنيفاً: لقد زل صاحبكم زلة أقر بها أعين الكافرين تخير كاتبه كافراً ولو شاء كان من المؤمنين الحمد لله، المؤمنون والمسلمون اليوم فيهم إمكانيات، ومواهب، وعندهم قدرات كبيرة، هناك أطباء ومتخصصون وعلماء على مستوى رفيع في أنحاء العالم، لكن مع الأسف يشتغلون في بلاد كافرة؛ لأنهم لم يجدوا المكان المناسب في البلاد الإسلامية، وقد رأينا من هؤلاء كثيراً وسمعنا عنهم، تجد في ألمانيا ألوف مؤلفة من الأطباء المسلمين، يشتغلون هناك، متدينون، وعلى مستوى رفيع من الكفاءة والجودة، ولكنهم وجدوا هناك الخدمات المتوفرة، والرواتب المغرية والاهتمام، ولم يجدوا مثل هذا في كثير من البلاد الإسلامية. فكثير من الكفار يمكن الاستغناء عنهم، الإنسان الذي عنده مزرعة فيأتي بعامل كافر، أليس هناك في الدنيا عامل مسلم يستطيع أن يقوم بالمزرعة!! عنده مؤسسة فيها أربعون عاملاً، ما بين خياطين، ونجارين، وسباكين، ودهانين، هل الدنيا ليس فيها مسلم يعرف السباكة ولا الدهان، ولا مثل هذه الأعمال، حتى تأتي من الفلبين بنصراني، أو مشرك أو وثني أو بوذي أومن كوريا أو غيرها!! هذا دليل على ضعف الولاء والبراء، ضعف مشاعر الأخوة تجاه هؤلاء المسلمين. الصنف الثاني: وهو قليل، بل لعله أقل من القليل، صنف قد يكون هناك ضرورة لوجوده (حاجة) بمعنى ألا يوجد من يقوم مقامه، فهذا لا حرج، لو فرض أنه وجد مثل هذا، فلا حرج أن يوجد بقدر الحاجة، ثم إذا وجد من يقوم مقامه، أو استغني عنه يسرح. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 40 بداية طالب العلم السؤال شاب يريد أن يبتدئ في طلب العلم في هذه الساعة، فبأي شيء ترشدونه أن يبدأ، ويثني ويثلث؟ جزاك الله خيراً؟ الجواب أرشده أن يبدأ أولاً: بكتاب الله تعالى قال الله عز وجل عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] . فيبدأ بحفظ القرآن الكريم، هذا أولاً. فإن كان عنده فراغ، وزيادة في الوقت، فيمكن أن ينتقل إلى دراسة السنة النبوية، وليحفظ متناً مختصراً، يبدأ بالأربعين النووية مثلاً، هي اثنان وأربعون أضاف إليها ابن رجب ثمانية أصبحت خمسين حديثاً، يبدأ بحفظها، يمكن تحفظها في الإجازة تستفيد وتفيد، وهذا يتطلب منك وقتاً، وإذا انتهيت منه إن شاء الله أرشدك أو يرشدك غيري إلى أمور أخرى. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 41 المقصود بالجزيرة العربية السؤال يسأل عن المقصود بجزيرة العرب في الأحاديث الواردة في الإخراج؟ الجواب اختلف العلماء، بعضهم قال: جزيرة العرب هي الحجاز وبعضهم قال: الحجاز واليمامة. وبعضهم قال: جزيرة العرب هي جزيرة العرب المعروفة بحدودها المعروفة. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 42 بقاء اليهود في اليمن السؤال لماذا بقي اليهود في اليمن إلى وقتنا هذا، فلم يخرجهم الخلفاء الراشدون ولا من بعدهم؟ الجواب نعم، هذه من أدلة من قالوا: إن جزيرة العرب المقصود بها الحجاز واليمامة، هذه من أدلتهم، بل من أقوى أدلتهم، وإن كان عدم إخراج اليهود ليس دليلاً؛ لأنه قد يكون هناك صعوبات في إخراجهم فبقوا. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 43 تفسير المسيح الدجال تفسيراً باطلاً السؤال نسمع أن المسيح الدجال يؤول أنه الحضارة الغربية، وكونه أعور هذا لأن الحضارة ذات جانب مادي فقط؟ الجواب هذا تأويل باطل أشبه بتأويلات الباطنية، وإنما المسيح الدجال -رجل إنسان- أعني بشر من البشر شخص معين، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له خصائص في شكله وهيئته وسنه وعمره، وما يأتي به، وأخباره وأحاديثه متواترة، صنف فيها أحد العلماء كتاباً التصريح بما تواتر في نزول المسيح حتى أن من اطلع على هذه الأحاديث وأنكرها فإنه يخشى عليه أن يكون كافراً، وهذا التأويل الذي ذكره الأخ -مع الأسف- تورط فيه بعض المفكرين الإسلاميين، أظن أن محمد أسد المستشرق النمساوي الذي كان يهودياً فأسلم، تورط في هذا التأويل، ووافقه عليه بعض المعاصرين، وهذه غلطة كبيرة ترتض منها العظام. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 44 صراع مع النفس السؤال أنا شاب هداني الله إلى الطريق المستقيم، وظاهري الصلاح -إن شاء الله-، لكن القلب يحدثني باللهو والشهوات، ولله الحمد لا أستجيب للشيطان، فهل هذا يدل على أن الإيمان لم يلج في القلب؟ الجواب لا بالعكس، هذا - إن شاء الله- يدل على أن الإيمان دخل القلب، والآن الشيطان يصارع في قلبك، ولعله -إن شاء الله- في الرمق الأخير ويخرج، ومسألة مجرد وجود الهوى في القلب هذا طبيعي، يقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] لكن المهم هو أن تنهى نفسك عن الهوى، وأن تحرص على صحبة الأخيار والطيبين، وأن تملأ وقتك بالأعمال المفيدة؛ لأن الإنسان إذا كان في وقته فراغ، فإن الشيطان يجره إلى أن يملأ الفراغ بالمعصية، ولذلك قال الله عز وجل في آخر سورة الفرقان: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70-71] وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه كفر الله تعالى عنه كل سيئة كان أزلفها، وكتب له كل حسنة كان أزلفها} حسنات العبد حتى قبل الإسلام تكتب له إذا حسن إسلامه، وسيئاته تكفر عنه، بل تقلب له حسنات {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] لكن بشرط ليس كل تائب تبدل سيئاته حسنات، الذي تبدل سيئاته حسنات هو التائب الذي حسنت توبته، وعمل صالحاً (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} إذاً املأ وقتك؛ لأن النفس إذا ما مُلأِتْ بالأعمال الصالحة يصبح بعد فترة عندها حنين للمعاصي السابقة، فحذار حذار!!. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 45 سوء الخاتمة السؤال هل يعني سوء الخاتمة دخول صاحبه في النار؟ الجواب يختلف هذا الأمر، إن كان سوء الخاتمة بنطق كلمة الكفر والعياذ بالله فإنه يعني أن صاحبه من أهل النار، مثلما ذكر لي أحد الشباب، الثقات، قال: كان لي صديق، له أخ مسرف على نفسه، ومرض مرضاً شديداً، وحضرته الوفاة، قال: فحضر عنده أخوه، وكان حريصاً على هدايته، ويكلمه بالكلام الطيب، ويأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر. قال: فلما دنت وفاته قال له: هات لي المصحف، قال: فقام أخوه مسروراً فرحاً مستبشراً، قال: لعله أن يختم له بخير، قال: فلما أعطيته المصحف قال له أخوه والعياذ بالله: أنا كافر بهذا الكتاب وما فيه!! ثم مات على ذلك. يقول: فلاحظت على قسمات أخيه زماناً طويلاً أنه كان يعيش حزناً مريراً، فقلت له: ما حزنك؟ هل لموت أخيك؟ كل الناس يموتون. قال: لا، ليس حزني لموته، لكن الأمر كذا وكذا. فهذا والعياذ بالله نسأل الله السلامة. أما إن كان سوء الخاتمة بكلام لا يدل على الكفر فلا يلزم أن يكون صاحبه من أهل النار، الذين هم المخلدون فيها، مثلاً ذكر مثل الإمام ابن القيم، ويذكر بعض الوعاظ أحياناً إنساناً إذا حضرته الوفاة وهو يتكلم باسم امرأة كان يعشقها، أو كان من أهل الدنيا يتكلم باسم المال، والتجارة، والبيع والشراء؛ فهذا لا يعني أن صاحبه من أهل النار الذين هم أهلها، لكن لا شك أن من علامات توفيق الله العبد وختمه له بخاتمة خير، أن يكون آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي سعيد وغيره: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 46 أعمال تعين على الثبات السؤال هل هناك أعمال وردت في الشرع لتعين الإنسان على الثبات عند الممات؟ الجواب كل الأعمال التي وردت في الشرع تعين الإنسان على الثبات عند الممات، فإن العبد إذا كان مع الله تعالى في حال الرخاء، كان الله معه في حال الشدة، كما في وصية النبي -صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس عند الترمذي، وأحمد، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح: {يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} . إذاً: من الرخاء حال، الصحة، العافية، السلامة. ومن الشدة حال الموت. مَنْ حفظ الله حفظه الله، ومن ضيع الله ضيعه الله، جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 47 حقوق العبادة السؤال أنا شاب عندي مشكلة، وهي: أنه يراودني الشيطان الرجيم بأن للعباد حقوقاً يجب أن أؤديها لهم، رغم أنني أجتهد في ذلك، حيث يذكرني بأعمالي السابقة كالسرقة، ونحوها، وجهوني وجزاكم الله خيراً؟ الجواب إن كان بقي عليك حقوق للعباد فينبغي أن تعمل على التخلص منها، مثل: إذا كنت تذكر أنك سرقت من أحد، فينبغي أن ترد إليه السرقة. إن كنت تذكر أنك اغتبت أحداً فينبغي أن تتحلل منه. إن كنت لا تستطيع ذلك، أولا تعرفه، أو تخشى أن يحقد عليك، فينبغي أن تكثر من الاستغفار له، وذكره في المجالس التي اغتبته فيها بخير، فإذا أديت ما عليك فأكثر من الاستغفار لله عز وجل فإن العبد لا يمكن أن يقوم بجميع الحقوق، لكن الله عز وجل يقبل منك اليسير، ويعفو عنك الذنب الكبير. لكن، لا تظن أنك تقبل على الله تعالى بأعمالك، إنما: {لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله تعالى برحمته} . فاعلم أنك لن تقبل على الله تعالى وتدخل جنته بعملك، لكن برحمته جل وعلا، وأعمالك الصالحة التي تعملها تجعلك -إن شاء الله- أهلاً لرحمته: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56] . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 48 التوكيل في كتابة الوصية السؤال ذكرت أن الوصية تكتب قبل الموت، فهل يجوز توكيل شخص آخر في كتابة الوصية بعد الموت؟ الجواب لا، لا يصلح أن توكل أحداً يكتب عنك وصيتك بعد موتك، فإنه بعد الموت يصبح المال لفلان، وفلان، وليس لك، فهذا الذي وكلته لا يصلح أن يكون نائباً عنك بأن يقول -مثلاً-: أوصي بالثلث أو الربع. لأن المال أصبح للورثة، فحينئذ هذه الوصية التي فعلها الوكيل باطلة. لكن يجوز أن توكله في حياتك. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 49 علامات الموت السؤال هل هناك أمور تحدث للشخص توجب له كتابة الوصية قبل الموت، أو علامات تظهر على الشخص؟ الجواب قد يكون هناك علامات. هناك من يرى رؤيا تدل على قرب أجله، وهناك من يمرض والمرض بريد الموت، الحمى بريد الموت، وهناك وإن كان المرض ليس بالضرورة: وكم من فتىً أمسى وأصبح سالماً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدرى وكم من صحيح مات من غير علة وكم من مريض عاش حيناً من الدهر لكن هذه قرائن يستدل بها، كبر السن من الأدلة، ثم مع ذلك موت الفجأة! موت الفجأة اليوم أصبح كثيراً عن طريق السيارات، الصدم، والانقلاب، وغيرها. عن طريق أحداث كثيرة. موت الفجأة مباشرة: ارتفاع الضغط، انخفاض الضغط، السكتة القلبية. أحداث كثيرة جداً، وأمراض كثيرة جداً جدّت اليوم توجب للإنسان إن كان له شيء أو عليه شيء أن يكتبه، هذا هو الحزم كل الحزم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 50 أمارات الرؤيا الصالحة السؤال أسمع كثيراً عن الرؤيا الصالحة، فما هي أمارتها؟ وكيف نفرق بينها وبين توهيم الشيطان؟ الجواب الكلام في هذا يطول، لكن الرؤيا الصالحة: هي أن تكون مبشرة، فيها خير، فيها بشارة، فيها سرور للعبد في دينه ودنياه، ولي محاضرة في شريطين عن "الرؤى والأحلام" يمكنك أن تراجعها. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 51 لزوم الطهارة السؤال هل ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته؟ الجواب نعم، ورد الترغيب في بقاء الإنسان على طهارة كل وقته، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحرص على أن يكون طاهراً، كان يتوضأ صلى الله عليه وسلم إذا أحدث كثيراً، وفي البخاري وغيره قال لـ بلال: {حدثني بأرجى عمل عملته} فذكر أنه يتوضأ، ويصلي ركعتين. وكان يعجبه صلى الله عيه وسلم أن يكون على طهارة، حتى إنه صلى الله عيه وسلم إذا كان جنباً يغتسل قبل أن ينام، فإذا لم يغتسل فإنه كان صلى الله عليه وسلم يتوضأ قبل أن ينام؛ لأن الوضوء يخفف من الجنابة. وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام وهو جنب دون غسل ولا وضوء. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 52 التسجيل في المراكز السؤال كثير من الشباب يأبى التسجيل في المراكز، بحجة حفظ الوقت، مع أنه يستفيد منها ويفيد فيها، فما رأيك في ذلك؟ الجواب في الواقع أنه من كان يستفيد ويفيد، ينبغي أن يبذل، ويزكي بعض ما آتاه الله عز وجل، فإن مثل هذه المراكز يجتمع فيها -كما تعرفون وتلاحظون- جمع غفير من الشباب، فمن كان يستفيد فينبغي أن يأتي ليستفيد، ومن قال: لا أستفيد. فنقول: معنى ذلك أنك لديك علم، ولديك معرفة، ولديك خير كثير، فينبغي أن تأتي لتفيد، ولا تترك هؤلاء الشباب بدون أن يوجد من بينهم من يوجههم ويرشدهم. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 53 حديث: لا هجرة بعد الفتح السؤال ما صحة الحديث الذي في مسند أحمد {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية} ؟ الجواب الحديث ليس فقط في مسند أحمد، بل رواه الشيخان: البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا} . ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح} يعني لا هجرة من مكة إلى المدينة؛ لأن مكة أصبحت بالفتح دار الإسلام، فلا يهاجر منها بل يهاجر إليها: {ولكن جهاد ونية} فالجهاد باق إلى قيام الساعة كما قال صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة} جهاد ونية: والنية -أيضاً- باقية إلى قيام الساعة: {فإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى} . الجزء: 91 ¦ الصفحة: 54 مقدمة الوصية السؤال يقول نرجو إيضاح مقدمة الوصية التي أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم لكون كثير من الناس يجهلون ذلك؟ الجواب في الواقع، لا أعلم وصية أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم أي بلفظ معين، لكن ورد عن بعض الصحابة أنهم كانوا يوصون: أن الإنسان يكتب في وصيته " هذا ما أوصى به فلان، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور" ثم يوصي أهله وولده بتقوى الله عز وجل والمحافظة على الصلوات الخمس، وإقامة الفرائض، وتجنب المناهي، والبعد عن قرناء السوء، ويكتب ما في باله من الوصايا من الأمر بتقوى الله، ثم يوصي بما يتعلق بأمواله، يوصي بثلث ماله أو ربعه أو خمسه، ويوصي بما عليه من الديون ونحوها. الجزء: 91 ¦ الصفحة: 55 لقاء مفتوح مع طالبات كلية البنات بحائل تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن اهتمام الإسلام بالمرأة ، وعن مكانتها في المجتمع وبين أشكال العبودية التي تقع فيها المرأة عند الابتعاد عن الإسلام، ووضح المجالات التي تستطيع فيها المرأة خدمة دينها ومجتمعها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 1 اهتمام الإسلام بالمرأة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل على نبيك ورسولك محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: إنها فرصة ولحظة مباركة أن يهيأ مثل هذا اللقاء الذي أرجو الله تعالى أن يكون سبب خيرٍ، وفرصة مناسبة للحديث في بعض الموضوعات المهمة. أيها الأخوات الكريمات في هذه الكلية المباركة! أود أن أقدم بين يدي إجابتي على هذه الأسئلة الموجودة أمامي الآن، بمقدمة سريعة أتحدث فيها عن آفاق ومجالات، المرأة المسلمة، في ميادين العمل الدعوي، والإصلاحي، والجهادي. إن المرأة هي صنو الرجل وشقيقته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {، إنما النساء شقائق الرجال} وإنما جاء الإسلام ليرفع من شأن الإنسان، كل الإنسان رجلاً كان أو امرأة. إذاً: الذكر والأنثى كلاهما متعبد بهذا الدين، وكلاهما مطالب بالتكاليف، ومحاسب بين يدي الله تعالى يوم القيامة، وواجب على الأخت المسلمة أن تدرك هذه المسئولية. نعم. قد يوجد في بعض المجتمعات نوع من النظرة الدونية للمرأة، وقد ينظر إليها بعض الناس على أنها مخلوق من الدرجة الثانية، أو الثالثة -مثلاً- وقد تكون محتقرة في بعض المجتمعات، ولكن هَدي الإسلام لا يؤخذ من خلال المجتمع، ولا يؤخذ من خلال التطبيق في بلدٍ أو مدينةٍ أو منطقةٍ أو أسرة معينة، إنما هدي الإسلام يؤخذ من خلال نصوص القرآن والسنة أولاً، ويؤخذ من خلال التطبيق الصحيح النموذجي للإسلام في عهود الصحابة رضي الله عنهم، وعهود السلف الصالح، حيث كانت المرأة تتبوأ أرقى المنازل وأعظمها، كانت مكرمة، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجتمع يحتقر المرأة ويزدريها، فلم يهادن هذا المجتمع، ولم يجامله، بل صرخ بين أظهر الناس بضرورة إعادة الاعتبار والاحترام للمرأة، وتكريمها أُماً، أو بنتاً، أو أختاً، أو زوجةً، وإعطائها حقها الواجب لها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 2 دور المرأة في الدعوة لا تقتصر الفتاة على مجرد الرصد لهذه الظواهر أو دراستها أو تسجيل الإحصائيات حولها أو دراسة أسبابها، بل يتعدى الأمر للتصدي للتوجيه والتعريف والدعوة والإصلاح العام داخل المجتمع. نحن لا نوافق أبداً على أن مجتمع النساء مجتمع قائم بذاته، ومعزول علمياً عن مجتمع الرجال، هو معزول عملياً، ولكن من الناحية العلمية فالمجتمع يحتاج بعضه إلى بعض، فالمرأة تحتاج إلى العالم لتستفتيه فيما أشكل عليها، وليس ضرورياً أن يكون في كل بلد مفتياً من الرجال، ومفتياً من النساء، لكن من الضروري أن يوجد في مجتمع النساء أعداد كافية من الفتيات المحتسبات في التعليم، والتوجيه، والإصلاح، والدعوة، وأن يكون لهن تأثير كبير في أوساط المجتمع لماذا يقع هذا؟ يقع لأسباب: منها: أننا ندرك أن هناك في الطرف المقابل -ولا يخلو أي مجتمع من ذلك- عناصر تسعى إلى الهدم، وإلى الفساد، وإلى التخريب، لأي سبب!! قد يكون بسبب الظروف التعيسة الاجتماعية التي عاشتها البنت، وقد يكون بتأثير بعض الكتب، التي قرأتها، والأفلام التي رأتها، أو الصلات التي عقدتها، وقد يكون لسبب آخر. إذاً هناك عناصر تسعى للفساد، وتسعى للهدم، وليس صحيحاً أن يُسَلِّم المجتمع لهذه العناصر، بل يجب أن يوجد في مجتمع المرأة فتيات معروفات بالدعوة، أنهن في المدارس بالنشاط الإسلامي والبيوت قائمات، وفي المساجد من خلال تجمعات النساء في رمضان أو في غيره، ومن خلال كل الوسائل الممكنة يبذلن المستطاع في الدعوة إلى الله، إما مباشرة، وإما بواسطة الكتاب، أو الشريط أو غير ذلك من الوسائل. ونحتاج -أيضاً- إلى مثل هذا اللون من النساء الداعيات، العالمات، المربيات، الموجهات؛ لأن هناك أشياء كثيرة لا يمكن أن يقولها الرجل، ولا يمكن أن يتحدث فيها، قد لا يكون يعلمها -أيضاً- لأنها من خصائص النساء التي لا تعلمها إلا المرأة، أو لأنه حتى ولو تحدث عنها قد لا يلامس قلب المرأة، ولا يستطيع أن يصل إلى نفسها، ولا أن يخاطبها بالأسلوب الذي تفهمه وتحسنه، لكن المرأة تقدر مع بنات جنسها، ما لا يقدر عليه الرجل، وتستطيع أن تصل إلى قلوبهن بما لا يصل إليه غيرها، فهي تستطيع أن تصل إلى آفاق ومجالات وأبعاد لا يصل إليها الرجال، ولذلك هي مطالبة بهذا الجانب المهم في حياة المرأة المسلمة، ولذلك نحن ننادي من ينتدب لعملية الدعوة في أوساط النساء ومن تقول: أنا وترفع الراية وسط النساء، وتحمل المشعل، وتبذل جهداً في هذا السبيل. ويكون من همها -أيضاً- تخريج أعداد من الفتيات الداعيات المصلحات، ليس همها فقط أن تبذل نفسها كداعية، بل ينبغي أن تحرص على تجنيد الجميع، حتى تلك الفتاة المقصرة التي قد تكون عندها خطأ أو عندها تقصير، يجب أن نربيها، وأن نطالبها بأن تقدم ما تستطيع للدين، ولو كانت مقصرة، وليس من شرط الفتاة الداعية أن تكون كاملة، ولا من شرطها أن تكون معصومة، فالعصمة للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، المهم أن يكون عندها نية صالحة واحتساب، وإخلاص لتقوم بالدعوة إلى الله تعالى في أوساط النساء. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 3 أهمية التعرف على المشكلات الاجتماعية إن من الواجب على المرأة أيضاً أن تعمل على التعرف على المشكلات الاجتماعية، وعلى قضايا المرأة بصفة خاصة، وأن تسعى في حلها، لماذا لا يكون للمرأة مشاركة في دراسة أوضاع المجتمع ومشكلاته والظواهر السلبية الموجودة فيه وإعداد بعض الاستبيانات في هذا الموضوع ودراستها، والخروج منها بنتائج؟ مثلاً: قد توجد ظاهرة سلبية عند بعض البنات في المدارس أو في غيرها، وهي تختلف من مجتمع إلى آخر، فقد تكون هذه الظاهرة السلبية في بعض المجتمعات المنحرفة تصل إلى حد انتشار المخدرات، لكن في مجتمعات أخرى قد لا يكون الأمر كذلك، وقد تكون هذه الظاهرة السلبية ظاهرة الإعجاب المتبادل بين البنات، والذي يتعدى درجة المحبة المعتدلة، أو الصداقة المعقولة إلى لون من التعلق القلبي الكبير والخطير الذي تذوب فيه شخصية الفتاة، وتضيع فيه معالمها، وتصبح فيه مجرد ظل لفلانة، أو صورة عنها، أو تقليد لشخصيتها، فتفقد استقلالها، وتفقد ذاتها، وشخصيتها، وتذوب في شخصية معلمة أو زميلة أو صديقة أو ما أشبه ذلك، هذه ظاهرة سلبية ويجب أن تعالج، لكن أيضا العلاج يجب أن يكون مبنياً على معرفة. ومن هو الذي يستطيع أن يدخل في أوساط البنات، ويطرح عليهن بعض الأسئلة، ويكتب الأجوبة بأمانة وبدقة وبعيداً عن التسمية -مثلاً- من أجل معرفة أسباب هذه المشكلة، ويدرس الأسباب، والحلول بشكل جيد ويقدم بعض المقترحات على شكل محاضرات، أو دروس، أو توجيهات، ولا مانع أيضاً أن يقدمها لمتحدثين من الرجال، يمكن أن يعالجوا هذه الظاهرة، ويمسوها بشكل يخدم وينفع ويزيل هذه المشكلة؟ قد تكون هناك مشكلة أعمق وأبعد في المجتمع كله، ليست مقصورة في أوساط الطالبات -مثلاً- ولا في مجتمع معين أو مدرسة معينة، مثلاً: ظاهرة تفشي الطلاق، ظاهرة خطيرة، ويجب أن تخيفنا فعلاً، فنسب الطلاق مرتفعة قد تصل في بعض المجتمعات أحيانا إلى (50%) من نسب الزواج، يعني (50%) من المتزوجين قد يطلقون، وربما -أيضاً- في السنة الأولى من الزواج، وهذا لا شك أنه خطر كبير، فكم بذل الإنسان في الزواج، تجربة نفسية ومالية والطرفان كلاهما خاسر في عملية الطلاق، ولكنه قد يجد نفسه مضطراً إليه لتجنب ما هو أخطر منه. دراسة هذه الظاهرة: أسبابها، عددها، تكثر في أي فئة، وفي أي طبقة، وفي أي مستوى، دراسة أحوال المطلقات -مثلاً- وأحوال أزواجهن إلى غير ذلك، هذه الظاهرة جزء كبير منها يمكن أن تقوم به الفتاة، ولا يشترط أن تكون فتاة دارسة في قسم علوم اجتماعية، ولا أن تكون فتاة مختصة، إنما هي فتاة معنية بأمر مجتمعها، ومعنية باستقامة هذا المجتمع على الدين، ومعرفة ظواهره السلبية، وتدرك أن أي ظاهرة سلبية توجد في المجتمع هي ضد الدين، وضد التدين الصحيح، لأن الدين إنما جاء لإقامة المجتمع على أحسن وأقوم السبل، والله تعالى يقول: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين:4-6] . إذاً إدراك هذه المشكلة، وأبعادها وأسبابها، وحلولها، ونسب انتشارها، وتقديم الحلول المناسبة قد يقلل من هذه المشكلة، وقد يحجمها، ومشاركة الفتاة في مثل هذا المجال هي مشاركة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها بحال. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 4 أهمية القراءة للمرأة إن مسئولية المرأة المسلمة كبيرة في المجتمع، فهي مطالبة أولاً: أن تبني نفسها بناءً صحيحاً، وأن تشعر بأنها كيان مستقل بذاته، مسئول ٌيوم القيامة مسئولية خاصة، ومحاسب، ومكلف، ومطالب، كما يطالب غيره، لذلك أقول: لماذا نجد إعراض الكثير من الفتيات -مثلاً- عن القراءة، بألوانها وأنواعها وعدم الاشتغال بذلك؟ فإنك تجد الكثير من الناس والفتيات على وجه الخصوص ليس لديها رغبة في القراءة والمطالعة، والمتابعة للكتب المفيدة، والدروس النافعة وغير ذلك مما تستفيد منه، سواء في دينها أو في دنياها، حتى في القضايا العلمية التي تحتاجها في أمورها الدنيوية، ربما يكون ذلك قليلاً أم غير موجود أحياناً، وربما تنهمك الفتاة بأمور لا تلام في الأصل على إعطائها قدراً من العناية، فالمرأة بل الإنسان قد لا يكون ملوماً أن يهتم بمظهره، ويحرص على أن يبرز أمام الآخرين بصورة حسنة جميلة، وأن يحرص على ذلك بقدر معتدل، وكذلك أن يحرص على الاتصال بالآخرين مباشرة أو هاتفياً بقدر ما يحتاج إليه، ويتحدث معهم وينبسط إليهم، لكن أن يتحول ذلك كله إلى هم يشغل كل وقتنا، وكل حياتنا، وفراغنا، ثم لا نجد وقتاً لنقرأ، أو نراجع، أو أن ندرس، أو أن نتابع، أو أن نفكر، فإنني أعتقد أن هذا خطأ. وأحياناً ربما أستطيع أن أقول: إن الفتاة تساهم من حيث تدري أو لا تدري في تلك النظرة المنحرفة التي ينظر إليها بعض الناس، من خلال أنها لا تكوِّن نفسها تكويناً صحيحاً، ولا تحفظ وقتها حفظاً جيداً، إنني أسمع الكثيرين يقولون: إن المرأة لا هم لها إلا العناية بمظهرها وجمالها، وإن الفتاة تقضي أمام المرآة ساعات لإصلاح الماكياج، وإن المرأة تقتني عشرات الثياب والملابس، وتغيرها في كل يوم، نعم. أنا أعرف أن هذا الكلام فيه تحامل، وفيه تجنٍّ، وفيه عموم، وأنه ربما كان هذا الإنسان يستطيع أن يتكلم عمن يعرف من النساء أنهن كما وصف، لكنه لا يستطيع أن يعمم هذا الحكم على كل بنات حواء، فإن كثيراً من النساء ممن هن على مستوى من الوعي، والعلم، والعقل، والإدراك، والفهم، والدعوة، والنشاط، يجب أن يذكرن ويشكرن، وتعميم السلبيات خطأ. ولكن مع ذلك أقول: ينبغي لنا أن ندرك، ولو أقل قدر من الخطأ الموجود عندنا فنعمل على تلافيه. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 5 القيود التي تواجهها المرأة يجب على المرأة أن تدرك هذا الدور، وأن تدرك أن استعادتها لمكانتها لا يكون بتأثرها بتلك الدعوات العلمانية التي تدعو المرأة إلى خلع ما يسمونه بالمألوف، أو التقاليد البالية، أو العادات المتوارثة، والتحرر من ربقتها. إن هذه الأصوات لا تعدو أن تكون استغلالاً لواقع قد تعيشه المرأة في بعض البيئات وفي بعض البلاد، ولكن النداء الحق والصوت الحق هو الذي ينادي ويدعو إلى تحرير المرأة من رق العبودية لغير الله عز وجل، ومن قيود التبعية للشرق أو الغرب. نعم. قد تخرج المرأة -مثلاً- من قيد التبعية، أو التأثر بأوضاع اجتماعية لا تكون مرضية، ولكنها تقع في قيدٍ آخر وهو قيد أشد وأعظم وأنكى، فتقيد نفسها بقيود الموضة ورسومها، أو العادات الغربية المستوردة التي تفرض نفسها على المرأة حتى لا تجد لها عنها مخرجاً، وهناك فرق بين هذين النوعين: النوع الأول من القيود التي تعانيها النساء في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، هي: قيود ربما يفرضها المجتمع، فتشعر المرأة بكراهيتها، وتتنصل منها. النوع الثاني من القيود التي أتت بها الحضارة الغربية، هي: قيود تقيد المرأة بها نفسها بطوعها واختيارها ورغبتها، وهذا سر خطورتها. إن المرأة يجب أن تتخلص من كل تلك القيود لتعيش في ظل الإسلام، والإسلام فيه تكاليف ولا شك، وفيه ضوابط، وأوامر، ونواهي، وقد يسمي البعض هذه الأشياء قيوداً، ولكنها قيود من عند الله عز وجل، وتكاليف أمر بها رب السماوات والأرض، وهي على المرأة، كما هي على الرجل أيضاً، هي على جنس الإنسان؛ لأن الإنسان عبد في هذه الدنيا، وليس حراً في الواقع، عبد ولكن لمن؟ ليس عبداً للمادة والشهوة، والدرهم والدينار والكراسي والعادات والتقاليد القبلية، وإنما هو عبد لله عز وجل، ومقتضى عبوديته لله تقتضي أن يطيع الله تعالى فيما أمر ونهى، وأن يدرك أن العبودية لله هي أعظم مظاهر الحرية الحقيقية، فمن كان عبداً لله تحرر من العبودية لغير الله، أما من رفض هذه العبودية وتمرد عليها، فإنه يكون عبداً لآلهة شتى: يكون عبداً للشهوة، وللمادة، وللحب، وللهوى، وللعشق، ولألوان من المذلة في حياته، ولهذا قال القائل: أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعتُ لكنت حرا فعبودية الطمع في المال، أو فيما يريده الإنسان من أغراض وأعراض الحياة الدنيا هي أخطر ألوان العبودية. إذاً: واجب أن تدرك المرأة المسلمة أن حريتها الحقيقية، وأن نجاتها، وخلاصها، ليس أن تخرج من قيد إلى قيد، ولا أن تهرب من مشكلة إلى مشكلة أعظم منها، ولا أن تعالج المرض بمرض مثله أو أشد، ولكن أن تخرج من ذلك كله وتتخلص من هذا الإسار والأغلال إلى الإيمان، والدين، وإلى طاعة الله تعالى، وأن تكون المرأة المسلمة منادية بكل ذلك. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 6 مجالات المسلمة في العمل الدعوي هناك مجالات كثيرة تنتظر الفتاة المسلمة، أذكرها بإيجاز، من هذه المجالات: الجزء: 92 ¦ الصفحة: 7 مجال الجهاد المالي المجال السابع الجهاد المالي: وهو موضوع مهم جداً، فأنا أعرف -مثلاً- أن هناك عشرات الآلاف من الأخوات، إما مدرسات، أو موجهات، أو موظفات، أو أي مجال من المجالات، وقد تتقاضى الأخت مرتباً ضخماً هو كمرتب الرجل الذي يساويها في الشهادة -مع أن هذا لا يوجد حتى في بلاد الغرب الذين يدعون مساواة المرأة بالرجل، ويطالبون بحرية المرأة، فهم يعطون المرأة نصف راتب الرجل أو (60%) من راتب الرجل، وهذا في أمريكا- وفي نفس الوقت الإسلام يطالب الرجل بالإنفاق على المنزل، ليس على المنزل فقط، ولا على الأطفال، بل حتى على المرأة، ولو كانت المرأة تتقاضى -مثلاً- عشرين ألف ريال مرتباً شهرياً، فإن زوجها مُطالب بأن يوفر لها الملابس، والأحذية، والطعام، والفراش، وغير ذلك مما تحتاجه في نفسها أو في بيتها، وهذا واجب شرعي عليه. إذاً: هذا المبلغ الضخم الذي تستلمه المرأة أو تأخذه كيف يمكن تصرفه؟! الذي ألحظه أن الكثير من النساء تجد هذا المال فرصة لعدم المبالاة في المال، فهي تخرج للسوق، وكلما أعجبها شيء اشترته، وإذا اكتشفت بعد الرجوع إلى المنزل أنه لم يكن مناسباً لا يعنيها الأمر، لأنها أصلاً ليس عندها مشكلة في قضية المال، فتُسرف على نفسها وعلى غيرها، وربما نستطيع أن نقول: إن هذا المال أخذه شخص لا يستفيد منه ولا تعرفه هي، شخص أجنبي صاحب الدكان مثلاً، أو صاحب المتجر، أو المعرض، أو غير هؤلاء، وهي لم تستفد منه!! والواقع أن الإنسان العاقل يجب أن يُخطِّئ مثل هذه الطريقة، وأن يوقن أن المطلوب، والمفروض: أن يكون هناك نوع من الترشيد في إنفاق المال، والاعتدال في صرفه. نعم. المرأة من حقها أن تشتري ما تحتاج، لكن بروية ودراسة وتأمل ومعرفة أن هذا هو الذي تحتاجه، وهو الذي يناسبها، وألا تتساهل في قضية المال أبداً، وإذا وجدت استغناءً عن المال، فأمامها طريق آخر، هذا الرجل الذي أخذ منها -مثلاً- أربعة آلاف ريال على فستان، بعدما رجعت البيت اكتشفت أنه لا يناسبها، وهي لم تنتفع به، وهي لا تؤجر -أيضاً- على هذا، بل هي آثمة لأن هذا إسراف!! وتضييع للمال!! ولكن لو أنها وضعت هذا المال، أو حفظت هذا المال -مثلاً- لا تكون ملومة، فتحفظ المال؛ وتستعد به للمستقبل، فقد تحتاجه هي، أو أقاربها، أو غير ذلك، وقد تنمي هذا المال بطريقة أو بأخرى، هذا مسلك لا تُلام عليه المرأة، من حقها أن تتاجر بمالها بواسطة أحد، أو بالطريقة التي يحبها الله، أو يرضى الله عنها، ولا أحد يلومها. لكن إذا استطاعت أيضاً أن تجعل هذا المال في سُبل الخير، وتساهم في مشاريع الدعوة، وفي أحوال الجهاد، وفي دعم المسلمين، فإن هذا -أيضاً- من أعمال الخير الكبيرة. أُختك المسلمة في البوسنة والهرسك محتاجة إليك، أنت ربُما سمعت مثلاً أن هناك (120) ألف امرأة مسلمة، تعرضن للاغتصاب -يعني: الزنا بالقهر والقوة- من قبل الجنود الصرب النصارى، أصغرهن بنت سبع سنوات، وأكبرهن، عجوزاً في الستين من عمرها!! وأنت تعلمين ربما أن (60) ألف من هؤلاء قد حملن نتيجة الاغتصاب!! وقام الصرب باعتقال هؤلاء، ورهنهن خشية أن يقمن بعملية إجهاض، فالصرب يريدون أن يتم الحمل، وأن يتم الإنجاب، مبالغةً في إذلال أختك المسلمة وقهرها، وتذكيرها طيلة عمرها بالإهانة التي لا تنساها، وإنها لم تنس تلك الإهانة، ولا ذلك الاعتداء، لأنه تمخض عنه ولدٌ بين يديها، يجدد لها الآلام صباح مساء، ثم هذا الولد سيعيش طيلة عمره عقدة كبيرة، هذه أمه؟ نعم. لكن من أبوه؟! أبوه رجل من الصرب الأعداء الملاعين الكفار، ألا يتحرك قلبك لمثل هذا الأسى؟!! ألا تدمع عينك؟!! افترضي أن واحدة منهن قريبة لك فما هو موقفك؟! مع أن رابطة الإيمان والدين أقوى من رابطة النسب، لو أن أحداً صور لك مأساة طفل، في قصيدة أو قطعة أدبية، وقرأها عليك لبكيت كثيراً، أفلا يحق لنا أن نبكي وندمع على (120) ألف أخت مسلمة. ونحن نتصور تلك اللحظات التي تقضيها بين يدي جندي صربي متوحش يعتدي على عرضها، أفلا يحقُ لنا أن نبكي ونحن نتحسس المشاعر الموجعة المؤلمة التي تتحرك في قلبها، أفلا يحق لنا أن نبكي ونتأثر ونحن نتصور هذا العدد الكبير من الأطفال من أولاد المسلمات الذين أتوا نتيجة ذلك الاغتصاب يعيشون في ضياع، وربما أخذتهم الكنيسة -أيضاً- لتحولهم إلى نصارى، وقسس، ورهبان. أنتِ -أيضاً- تعرفين أن أخواتك المسلمات في الصومال يتعرضن لأقصى ألوان الفقر والجوع، بل ولأقصى ألوان الإذلال على يد الجنود الكفار من الأمريكان والفرنسيين الذين ينتقلون -أحياناً- من بيت إلى بيت للاعتداء على المسلمات، أفيجدر بي وبك أيتها الأخت المسلمة أن نسمع أن فتاة -كما حدثني الإخوة الذين جاءوا من هناك- في سن الثامنة عشر من عمرها، تترك بلادها أوروبا حيث النعيم والرفاهية، والعيش الرغيد، والحضارة وألوان التيسيرات، وتأتي إلى الصومال حيث الفقر، والجوع، والمرض، والذباب، والآلام، والمشاهد البشعة، والأوساخ المتجمعة، والمخاطر، وتنتقل من خيمة إلى خيمة بين الأطفال تداوي هذا، وتعالج ذاك، وتطعم ذاك، وتبذل ما تستطيع، حتى تسود قدماها، ويداها من أثر العمل!! والمطلوب من المسلمة هو أن تساهم في شيء من الجهاد المالي، الذي تستطيعه هي، ولتعتبر أن ميدان الدعوة هو أحد الميادين الأخرى، يعني -مثلاً- إذا كانت خصصت جزءاً من مرتبها للملابس، وآخر للأثاث، وآخر للتوفير، فلماذا لا تخصص جزءاً من مرتبها للإنفاق في سبيل الله؟ {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] . فالله تعالى أعطاك هذا المال، ليس مُلكاً لكِ، إنما هو مِلك مؤقت، ينتقل عنك حتماً لا محالة، أو تنتقلين أنت عنه لا محالة، إذاً سارعي إلى الإنفاق ما دام الميدان مفتوحاً. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 8 مجال الكتابة المجال الخامس الكتابة: ربما يَقِل أو يندر، ونحن نعجب ونفرح في نفس الوقت إذا رأينا كتاباً ألفته امرأة!! خاصة إذا كان كتاباً جيداً ومفيداً، وبصورة أخص أيضاً إذا كان يعالج قضايا المرأة، ما هو المانع؟! الذي أعلمه وألحظه أن قدرة كثير من الفتيات على الكتابة، والترصد والتعبير، أكبر من قدرات الشباب، وهذا أمر مشاهد، ولديهن أساليب أدبية قوية، ولديهن عواطف جياشة، إذا استطاعت الفتاة أن تفرغ هذه العواطف على الورق ستكون مؤثرة تأثيراً كبيراً، فما هو الذي يَحوْل بين الفتاة وبين أن تكتب في بعض المجلات، أو الصحف التي يكون اتجاهها أسلم من غيرها، تكتب بعض الكتيبات، تكتب بعض الكتب، تكتب بعض الرسائل التي تعتقد أنها مفيدة ونافعة، بحيث تستغل هذا الميدان المهم المثمر في هذا المجال، وليس صحيحاً أبدا أن يرضى مجتمعنا أن يكون النساء المعروفات في بالكتابة، في الصحافة والإعلام والكتابة وغيرها، والدراسات، والشهادات، -أيضاً- والكتابة العلمية، أن يكون هذا مقصوراً على بعض النساء اللاتي درسن في الغرب، ورضعن من لبانه، وأتين يحملن جرثومة الانهيار المادي والحضارة الغربية!! الجزء: 92 ¦ الصفحة: 9 مجال الصداقة مع المدعوة المجال السادس: قضية الصداقة بين الفتيات: فإن من أهم وسائل التأثير على البنت إقامة العلاقة معها والاتصال بها، والصلة الفردية معها، فإذا وجد ذلك، أمكن لها أن تؤثر على زميلتها في خلقها وسلوكها، تنهاها عما لا يرضي الله عز وجل، تأمرها بطاعة الله، تنبهها على أداء الصلوات في أوقاتها، على قراءة القرآن، على ذكر الله عز وجل، على طاعة الوالدين، على تجنب ألوان المعاصي، والفواحش، والموبقات، فتكون بذلك سبباً في هدايتها، ولا شك أن المرافقة والمصاحبة من أهم الأسباب. ولكنني أنبه إلى الخطر الذي يتعلق بهذا، وهو: أن هذه الصداقة أحياناً تتجاوز حدودها، وتصبح نوعاً آخر يسمى بالإعجاب، حتى إن البنت تقلد الأخرى في حركاتها، وملابسها، وحذائها، وقصة شعرها، وأسلوبها، وطريقتها، وفي كل شيء، حتى تكون كالظل لها، ولا تصبر عنها، فتجلس معها طيلة الوقت، فإذا ذهبوا إلى البيت فالاتصال الهاتفي، أو الزيارة بشكل مستمر، وهذا لا شك أنه في غاية الخطورة، فهو خطر على دين الفتاة!! لأنه قد يفضي بها إلى نوع من الانحراف الذي لا يرضاه الله عز وجل، وهو -أيضاً- خطير على شخصية الفتاة، لأنها تذوب شخصيتها حينئذٍ في غيرها، ولا تصبح لها تلك الشخصية المستقلة، ولا شك أن الواقع يتطلب امرأة ذات استقلال، فهي سوف تكون ربة بيت، وزوجةً لرجل ينتظر منها شيئاً، وأماً لأطفال ينتظرون منها شيئاً. فإذا كانت ظلاً للآخرين معناه: أنها لن تستطيع أن تستقل بشيء، وإذا وكل إليها شيء سوف تجد نفسها لا تستطيع القيام به، وإذا تزوجت قالت: شعرت أنني تزوجت قبل الأوان، وأنني غير مهيأة لدخول منزل الزوجية، ليس عندي استعداد على تحمل المسئوليات، ومن أهم الأسباب أنه لم يكن هناك تربية ناضجة سليمة، وأنها انهمكت -مثلاً- في حالة إعجاب مع أخرى، جعلتها تصغر في عينها كل الأمور الكبار، فلا مكان لديها للقراءة، ولا مكان لديها للتعبد ولا للدعوة، ولا ولا! بل حتى لا مكان لديها أن تقوم بأعمال المنزل التي تحتاج إليها، وحين نقول: أعمال المنزل، نقول: إن هذا جزء من تربية الفتاة، فشئتِ أم أبيت، أنت غداً زوجة في بيت، والزوج ينتظر منزلاً نظيفاً، ينتظر أثاثاً جميلاً، ينتظر خدمة معينة، وأنت ستكونين محرجة جداً لو قصرت في هذا. إذاً: لابد من التهيء والاستعداد لهذا الوضع الذي تدرك الفتاة أنها صائرة إليه لا محالة، ولابد أن تعد نفسها من خلال العمل في بيت أمها وأبيها. المقصود ألا تنهمك الفتاة -مثلاً- في صداقة مغرقة مع أخرى تشغلها عن بناء شخصيتها، واستقلاليتها وعما أوجب الله تعالى عليها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 10 مجال معالجة المشكلات الاجتماعية المجال الثالث: قضية معالجة المشكلات الاجتماعية كما ذكرت، يعني: أن تنزل الأخت للميدان، وتحرص على أن تكون ملجأً وكهفاً لمن يعانون من المشكلات، وتبذل من وقتها، هناك الأغنياء الذين يبذلون من أموالهم، لكن قد يكون بذل الوقت -أحياناً- أهم من بذل المال، فهذه تعاني مشكلة، وهذه عندها قضية، وهذه عندها أزمة، ربما أنها تحتاج إلى قلبٍ يحنو ويعطف عليها، ويسمع مشكلتها، ويتعامل ويتعاطف معها، ويحاول أن يحل المشكلة لها، حتى -أحياناً- قد لا يكون الحل جاهزاً، وربما أن المرأة أو الفتاة التي تعاني من مشكلة جربت الأمر، وجربت كل الحلول، وربما تشعر بأن الطريق أمامها مسدود، فأنت تقولين: لماذا تأتي وتشغل وقتي بالكلام عن هذه المشكلة؟! وأن فلانة قالت لي، وفلانة وأمي وأبي وأخي وقريبتي الخ. ألا تدرين أنه -أحياناً- مجرد تنفيسها عن المشكلة، ومجرد كونها تشكو، أو تتكلم عن هذه المشكلة هذا يعتبر نوعاً من العلاج، فدعيها تتحدث معك، وتقول ما تعاني من مشكلات، وحاولي أن تظهري التأثر بما تقول، والتأثر بما تعاني، وتَدْعِين لها بالإعانة، والتسديد، والتوفيق، فإن هذا يعتبر جزءاً كبيراً من العلاج، وأحياناً: ولابد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع. ليس شرطاً أن تحل المشكلة، لكن مجرد كونها تشعر أن قلبك معها، قد يكون هذا سبباً في حلها، وهذا من أعظم أسباب حفظ المجتمع من الانحراف، ولا مانع أن أضرب لك مثالاً واحداً. مثلاً: فتاة تواجه في بيتها مشكلة، أبوها قاسٍ عليها يضربها، ويهملها، ويؤدبها أدباً غير شرعي، لأن الأدب الشرعي مطلوب، ويُسيء إليها، ويتهمها، وقد تكون أمها مطلقة، فيمنعها من زيارتها، فتعاني البنت الأمرين في بيتها، لم تسمع طيلة عمرها كلمة حلوة، ولا عبارة جميلة، ولا أحست بأن هناك قلباً يحنو عليها، ألا تعتقدين أن هذه البنت عرضة للذئاب؟ إذا اتصل بها بالهاتف صوتٌ متهدج -صوت رجل- يظهر الليونة، ويخاطبها بأرق العبارات، وأحسن الألفاظ، وأجمل الكلمات، ويقول لها: إن قلبه يخفق بحبها، وأنه وأنه حتى ولو كان كذاباً كبيراً، ودجالاً خطيراً، سوف تجد في قلبها، وفي داخلها دافعاً لتصديقه فيما يقول ومجاراته، وستحس بأن هذا نفقاً فتح لها أو نافذة، وهنا مكمن الخطورة، لكن لو وجدت قلب فتاة مثلها مخلصة، دينة، داعية، ففتحت لها صدرها، وعالجت مشاكلها واستمعت إليها، وتعززت لها، وصارت تتصل بها، وتوجهها، وترشدها، وتقف معها، لكان هذا بإذن الله تعالى عصمةً ووقاية من الانهماك في مهاوي الرذيلة والانحراف. إذاً: لابد أن تقوم الفتاة بدورها في معالجة المشكلات الاجتماعية، والدخول مع الناس. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 11 مجال إقامة الأنشطة في المدارس إقامة الأنشطة في المدارس: فليس من الأسرار أن نقول: إنه إن لم يكن (99%) فـ (100%) من أولاد وبنات المسلمين يدرسون بالمدارس، خاصة في هذه البلاد، معنى ذلك: أنه لو تمكن أهل الدعوة إلى الله وأهل الاحتساب، والخير، من أن يصلوا إلى كل مدرسة، ويقيموا فيها نشاطاً، ويعملوا على إيصال صوت الحق إلى كل بنت، وليس فئة خاصة، لكان معنى ذلك أنهم استطاعوا إيصال صوت الدعوة إلى كل النساء المسلمات!! وهذا مكسب ليس بالسهل، لكنه يتطلب بعض الجهود، وبعض التضحية، فعلى أقل تقدير أن يوجد في كل مدرسة واحدة معروفة بأنها داعية ذات خلق كريم، وعلم، وأدب، وفهم، وحسن تعامل مع الناس، وذات اجتهاد في مجال الدعوة، تقيم الحلقات والدروس في المسجد، وتوزع الكتب، والأشرطة، بطريقة أو بأخرى، وتعطي الناس من وقتها، ومن جهدها، ومن عمرها بقدر ما تستطيع، ولا تألوهم جهداً ولا نصحاً، حتى يجمع الجميع على أن هذه المرأة مخلصة، وأنها داعية صادقة، لا تريد إلا مصلحة الناس، وهذا مكسب عظيم للدعوة أيضاً. فلابد من العناية -أيضاً- بالمدارس، وإقامة الأنشطة فيها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 12 مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المجال الثاني: هو مجال الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ففي أوساط المرأة، كما في أوساط الرجل تنتشر المنكرات، ولمجتمعات النساء منكرات لا توجد في مجتمعات الرجال، وربما لا يسمعها الرجال -أيضاً- وربما تكون من نوع خاص، والمطلوب من المرأة أن تحتسب على المرأة من بنات جنسها، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بما تستطيع: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} . وحين قال الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] لم يخص الرجل دون المرأة أبداً، ولا خص العالم دون الجاهل، بل كل من علم أن هذا منكراً وجب عليه إنكاره إن استطاع بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن عجز فعلى أقل تقدير يعلم الله من قلبه أنه له كاره، ويقوم بمغادرة المكان الذي يعمل فيه هذا المنكر. إذاً: على المرأة أن تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر بالأسلوب الحسن، بالكلمة الطيبة الهادئة، البعيدة عن التجريح، والإثارة، والاندفاع، وأن يكون حرص المرأة على الإصلاح دائماً وأبداً، وأن تتجنب قدر المستطاع حظ النفس، فقد تدعو المرأة فلا يستجاب لها فتغضب حينئذٍ، لماذا لم يستجب لها؟ لا. بل عليها ألا تغضب وأن تصبر، وأن تكرر الدعوة، وألا يدخل في الأمر شيء شخصي على الإطلاق، ولا تقل: لماذا لم يستجيبوا لي وأنا فلانة؟! بل ينبغي أن أحاول أن أصبر عليهم، وأتدرج معهم شيئاً فشيئاً؛ حتى أتمكن من هدايتهم والتأثير عليهم بإذن الله تعالى، والله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] فعلينا أن نكون لبقين في إصلاح الخطأ سواء كان هذا الخطأ عند عامة الناس، أو عند كبيرات السن، وكبيرات السن أحوج للباقة وإلى الهدوء وإلى التدرج معهن، منه عند بعض المتعلمات وبعض الطالبات، فإن الطالبة قد تكون -أحياناً- في فترة مراهقة وبحاجة إلى صبر، وإلى سعة صدر، وإلى حلم وقلب ينفتح لها، لتبث همومها، وشئونها، وشجونها، ومشكلاتها، وماذا تعاني في البيت، وما هي المشكلة التي وقعت فيها، ليمكن بعد ذلك انتشالها مما تعانيه، وإخراجها من المشكلة التي تواجهها. كذلك قد تكون المخالفة على زميلة من زميلاتها، بل قد تكون على داعية أو طالبة علم، فحينئذ لا يجوز أبداً أن تكون الدعوة من خلال التشهير والنيل، ومن خلال الكلام الجارات، فإن هذا يزيد القلوب تفرقاً، ويزيد الصفوف انقساماً، ويسبب الشحناء، والبغضاء، وهو من مداخل الشيطان، ولذلك قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53] . إذاً: من أعظم مداخل الشيطان في النزغ بين العباد هو: القول السيئ، فالكلمة النابية، والعبارة الخشنة توغل الصدور، وتغير القلوب، وتسبب الإعراض، والبغضاء، والشحناء، والأحقاد، وأظن أننا نحن المسلمين لسنا بحاجة إلى شيء من ذلك، نحن أحوج ما نكون إلى وحدة الصف، والبعد عن الانقسامات، والاختلافات، ولذلك أقول: إذا وجد ما تعتقدين أنت أنه خطأ عند داعية أخرى، أو زميلة أو حتى مجموعة من الداعيات أو من البنات، فلا يجوز أبداً أن تكون القضية تبادل التهم والقيل والقال، والتشهير وما أشبه ذلك؛ لأن أمامكنَّ مجتمع مليء بالمخاطر، وبالمنكرات، وبالانحرافات، وهو يناديكنَّ، وهو بأمس الحاجة إليكن، فلماذا نعرض عن هذا المجتمع، ونغفل عنه، وننشغل فيما بيننا بمشكلات أو خلافات، أو مسائل هي اجتهادية قابلة للأخذ والرد، وقابلة للخطأ والصواب، ومن الممكن المراجعة فيها، ومن الممكن استشارة من يكون أعلم منا بها. وإن مما يؤسفُني ويحزنني أن أسمع أنه يوجد أحياناً في أوساط بعض الفتيات الطيبات مثل ذلك، من تبادل التهم، والأقوال، والألقاب، وهذه الأسماء والمُسَمَّيَات التي ما أنزل الله بها من سلطان، هذه كذا، وهذه كذا، مع أنها أمور ليست واقعية، إنما هي أوهام كبيرة، نفخت فيها الشياطين، وكبرتها، واختلقتها، وجعلت من لاشيء شيئاً؛ حتى صدقنا ذلك، وصرنا نسير به، وكأنه واقع وكأننا نعتبر أن العقل، والحكمة، والفطنة، والذكاء، تقتضي أن نقول ذلك، وأننا إذا جادلنا في وجود هذا الشيء، أو جادلنا فيه، فمعنى ذلك: أننا مغفلون، أو لا ندري عن الأوضاع، أو لا ندري عن الحقائق. عندنا قاعدة شرعية هي أخذ الناس بالظاهر - دعك من باطنه دعه- حتى المنافقون الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث كعب بن مالك وهو في الصحيحين لما جاءوا يعتذرون منه عليه الصلاة والسلام بعد معركة تبوك، مع أنهم تخلفوا عن الغزو والجهاد وقعدوا، مع ذلك لما جاءوا يعتذرون من رسول الله عليه الصلاة والسلام قَبِلَ مِنْهُمْ وبايعهم واستغفر لهم ووكل سرائرهم إلى الله، فليسعك أيها المسلم، وليسعك أنتِ أيتها المسلمة، أو أيتها الداعية ما وسع رسول الله عليه الصلاة والسلام مع المنافقين، وهم منافقون في الدرك الأسفل من النار بايعهم، واستغفر لهم، وقبل منهم على نيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. ترك السر ليوم الحساب، ودع السر لرب الأرباب، أنت تتعامل مع الظاهر، أما الخفي فدعه، واعتقد أننا لو عملنا بهذه القاعدة الذهبية العظيمة -وهي أصل واضح- لزالت كثير من الإشكالات، والقضايا، والتهم، والأمور، التي قد نقوم بها ونظن أن ذلك نوعاً من الاحتساب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والواقع إنما هو نفخٌ في نار الخلاف والفتنة التي قد تقع بين المسلمين والمسلمات. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 13 مجال الدروس التوجيهية والعلمية المجال الأول: الدروس التوجيهية والعلمية والحلقات سواء كانت حلقات لتحفيظ القرآن، أم حلقات لتحفيظ السنة النبوية، واختيار متن من المتون المختصرة، وتحفيظه لمجموعة من النساء، حتى ولو كان كتاب الأربعين النووية، أو غيرة من الكتب المفيدة النافعة، أو إقامة حلقة للذكر وتعليم النساء بعض الأحكام المتعلقة بهن، كأحكام الطهارة، والصلاة، والحيض، والنفاس، والمعاشرة الزوجية، وغير ذلك، أو حلقة لتعليم الأخلاق الفاضلة، أو لتعليم العقيدة السليمة وتربية النساء عليها، ممكن أن تقوم المرأة بهذه الحلقة في المدرسة، سواء في الفسحة أم في حصة مخصصة، أو ما أشبه ذلك، ومن الممكن أن تقوم بها في بيتها، من خلال دعوة النساء إلى هذا المنزل، وإقامة حلقة أسبوعية تدعو إليها نساء الجيران، ومن الممكن أن تقوم بها مع نساء أقاربها، فيجتمع الأقارب وتستغل إحدى الداعيات هذا الاجتماع للدعوة إلى الله، ونشر الكتب والأشرطة. ليس ضرورياً أن تكون الحلقة حلقة رسمية دائماً وأبداً، وليس ضرورياً أن تكون الحلقة تبدأ بشكل رسمي وتنتهي بشكل رسمي، بل أحياناً بمجرد الاجتماع، وليس شرطاً أن تنتدب من بينهن واحدة فتسكت الجميع، وتبدأ بحمد الله والصلاة والسلام على رسوله صلى الله عليه وسلم وما أشبه ذلك، ثم تطرح خطبة أمام النساء، قد يكون ذلك غير مناسب في بعض الأحيان، لكن من الممكن أن تدير المرأة الحديث وتوجهه في موضوعات مفيدة، وتجعل الجميع يشاركون، ويطرحون ما لديهم، ويسألون ويستفسرون، وبعد ذلك يصل الجميع إلى نتيجة مفيدة، وقد يكون ذلك من خلال الحفلات -أحياناً-: الزواج، الأعراس، المناسبات، فينظم برنامج تتحدث فيه بعض الأخوات عن بعض الموضوعات المهمة، وهنا أنبه إلى ضرورة أن يكون الحديث مضبوطاً، لبقاً، فإن الكثير من الأخوات يدندن دائماً حول موضوعات معينة، ولا يحسن الانتقال إلى غيرها. وأنا أقول: يجب أن يكون هناك حديث في التربية على العقيدة وتقويتها في نفوس النساء. يجب: أن يكون هناك حديث عن الأخلاق، والعلم، وشخصية المرأة، والمعاملة بين الزوجين، ونصائح للمرأة في حياتها الخاصة، وتربية الأطفال، ويجب أن يكون هناك حديث -أيضاً- عن اللباس الشرعي، وحدوده وضوابطه، وعن شعر المرأة وأحكامه -مثلاً- عن خروج المرأة وآدابه، ومتى يجوز ومتى لا يجوز وما أشبه ذلك من القضايا التي تحتاجها المرأة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 14 الأسئلة الجزء: 92 ¦ الصفحة: 15 قص الشعر السؤال عن قص الشعر؟ الجواب بعض الفقهاء يقولون بكراهية قص الشعر، وجاء في صحيح مسلم، أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة؟ فالأظهر أنه ليس بحرام، ولا نستطيع أن نقول -أيضاً- أنه مكروه، إنما -كما أسلفت- على الفتاة إذا قصت شعرها، ألا تجعل التسريحة عبارة عن موضة تتابع فيها وتقلد فيها أولاً بأول كل جديدٍ في هذه الساحة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 16 حكم اليدين والقدمين في الصلاة السؤال خروج اليدين والقدمين في الصلاة؟ الجواب في المسألة خلافٍ فقهي مشهور، بعضهم يرى وجوب سترهما، والراجح كما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية، كما في رسالته المعروفة، حجاب المرأة المسلمة ولباسها في الصلاة لا يجب على المرأة ستر كفيها، أو قدميها في الصلاة، وإن سترتهما كان أولى. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 17 المسح على الجوربين السؤال إذا لبس الإنسان جوربين فانتقض وضوءه فخلعهما ومسحهما فما الحكم؟ الجواب يجب أن يلبس الجوربين على طهارة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، للمغيرة: {إني أدخلتهما طاهرتين} فإذا لبسهما على طهارة، جاز له أن يمسح عليهما، منذ مسح عليهما أول مرة خمسة أوقات - يوم وليلة- ثم لا يمسح بعد ذلك، فإذا خلع الجورب، وإن كان خلعه بعد الوضوء مباشرة، غسل القدمين، أي: إنسان توضأ وضوءاً كاملاً، ثم لبس الجورب، فحينئذٍ نقول: إنه إذا خلع الجورب فوضوءه لا شك باق لأن الوضوء -أصلاً- ليس مبنياً على مسحه، وإنما مبني على وضوء، لكن لو مسح على هذا الجورب، ثم خلعه، فإن الأظهر والأقرب ينتقض وضوءه بذلك، وعليه أن لا يصلي بذلك الوضوء، بل أن يتوضأ من جديد، وهناك قولٌ آخر، بأنه لا ينتقض وضوءه، ولكن لا يجوز له أن يلبس الجورب مرةً أخرى إلا بعد طهارة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 18 وقت إمساك الصائم السؤال متى يمسك الصائم عن الأكل؟ عند سماع الأذان الأول، أو بعد الانتهاء من الأذان؟ الجواب يمسك الصائم عن الأكل عند طلوع الفجر الثاني، فإذا كان هناك مؤذن موثوق مأمون، أمسك عندما يسمع أول جملة من الأذان. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 19 خروج الدم من الأسنان السؤال ما الحكم إذا خرج دمٌ من الأسنان، هل ينقض الوضوء؟ علماً بأن سبب ذلك، هو استخدام عود الأسنان؟ الجواب، الراجح أن خروج الدم من الأسنان ونحوها لا ينقض الوضوء، وهناك قولُُ آخر عند بعض الفقهاء: أن خروج الدم ينقض الوضوء، وبعضهم يحده بالدم الفاحش والراجح: أن مجرد خروج الدم من البدن لا ينقض الوضوء، إلا أن يخرج من القبل أو من الدبر. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 20 كيفية وضع القدمين عند الوقوف في الصلاة السؤال عند وقوف المرأة للصلاة، كيف يكون موضع القدمين ملتصقتين، أو بينهما مسافة؟ الجواب بينهما مسافة، وليس هناك حد محدود لهذه المسافة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 21 وضع المصحف بجانب الطفل أو النائم لإذهاب القلق السؤال ما حكم وضع المصحف، بجانب الطفل المولود ووضعه بجانب الشخص النائم، لكي يذهب القلق، أو يمشي ويصرخ وهو نائم، فقد سمعنا أنه لا يجوز؟ الجواب نعم، هذا لا يجوز فهو من البدع التي لا تشرع ولا تفعل، وإنما لا بأس أن يقرأ هذا المريض من القرآن، أو يقرأ عليه -كبيراً أو صغيراً- شيءٌ من القرآن وينفث عليه، فربما كان هذا سبباً في شفائه. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 22 المجاملة السؤال ما حكم المجاملة بين الناس؟ الجواب المجاملة هي تعبير عن نوع من المصانعة بين الناس، وتقديم المودة للآخرين، وذكرهم والثناء عليهم والسؤال عن حالهم، وهو محمود والمدارات لا بد منها، كما قال عمر رضي الله عنه: [[مدارات الناس صدقه]] فهي مشروعة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 23 ظاهرة المحبة بين البنات السؤال لقد ظهرت في هذه الأيام ما يعرف بالمحبة بين البنات، فما رأيك في هذه الظاهرة؟ الجواب هذه ظاهرة سلبية وخطيرة وقد أشرت إليها فيما سبق، وهي تسمى بظاهرة الإعجاب، وقد تتطور إلى صور من الأوضاع التي لا تحمد ولا تليق، ويجب معالجة هذه الظاهرة على الأخوات المربيات والموجهات والمعلمات والداعيات، وبذل الوسع في تجنبها، وألا تتطور، وهي نوع من الانحراف العاطفي على أقل تقدير. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 24 الطرفة السؤال ما حكم الطرفة التي يتداولها الناس؟ الجواب هذه الطرف التي يتداولها الناس الكل يعرف أنها ليست أخباراً تساق على سبيل الحقيقية، وإنما هي أشياء تقال للترويح عن النفس، لكن ينبغي أن يشترط في هذه الطرفة شروطاً، مثل ألا يكون بها سخرية، وألا تكون بشيء من الأشياء الدينية، مثل القرآن أو الدين أو الرسل عليهم الصلاة والسلام، وما أشبه ذلك، وكذلك ينبغي أن لا تكون هذه الأشياء غالبة على الإنسان، بحيث تكون كل حياته سخرية ونكتة وطرائف؛ لأن هذا يفقد المرأة شخصيتها، أي: احترامها في عيون الآخرين، فعلى الإنسان إذا فعل ذلك أن يكون بقدر الاعتدال، وأشير أيضاً إلى شريط: النكت والطرائف. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 25 حكم الحلف لمن كان صادقا ً السؤال هل يجب القسم على الشخص إذا كان صادقاً فيما يقوله، وللثقة بنفسه لم يحلف لأن الأمر تافه ولا يستحق الحلف على هذا الشيء؟ الجواب الله تعالى يقول: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:224] والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب} والله تعالى قال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} [القلم:10] . فكثرة الحلف على لسان الإنسان ليست علامة خير، فلا يجوز للعبد أن يجعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه، ولا يتعامل إلا باليمين دائماً وأبداً، وهذا -أيضاً- يفقد اليمين عنده قيمته، فالإنسان الذي لا يحلف، والناس يعرفون عليه الصدق، مجرد كلامه كافٍ للتأثير، ويلقى القبول، لكن إذا كان يحلف ربما -أحياناً- يحتاجون إلى الحلف، ولا بد أن تحلف، أو تكرر الحلف، وبعضهم والعياذ بالله يقول: لابد أن تحلف بالطلاق، وهذا لا يجوز. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 26 نصيحة لفتاة تواجه مشاكل في حياتها السؤال أنا فتاة أعيش دائماً متضايقة من أشياء كثيرة في الحياة، ولا أرتاح إلا بعد بكاء طويل، لكثرة المشاكل في حياتي فما هي نصيحتكم للتغلب على هذه المشاكل التي تواجهني؟ الجواب أولاً: عليك بالشكوى إلى الله، فإن الله تعالى سميع، يسمع شكوى العبد، قال الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ} [المجادلة:1] . فمن فوق سبع سماوات سمع الله تعالى بكاء تلك المرأة وشكواها، وأجابها عز وجل بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، وكانت تقول: [[أشكو إلى الله، أطفالاً إن ضممتهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إليَّ جاعوا]] وعائشة تقول: [[أنا في ركن الدار لا أسمع، والله تعالى سمع من فوق سبع سماوات]] وقال {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] . فعليك دائماً وأبداً بالشكوى إلى الله، ضعي جبهتك على الأرض ساجدة، وابكِ بكل ما عندك من الدموع، وابكِ بين يدي الله، واسألي الله وستجدين سعادة كبيرة في قلبك. ثم لا مانع -أيضاً- من استشارة المخلوقين الذين تثقين بعلمهم ونصحهم، فتختارين لكِ أختاً فاضلة، تبثين لها الأشجان، وتستعينين بعقلها ورأيها ونصحها، وبشارتها، والناس لا بد لهم من الناس، والإنسان لا يستغني عن الآخرين. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 27 حكم الفطر للعلاج السؤال أنا إنسانة أعاني من أمراض في الصدر والكلى، ورمضان على الأبواب، وأخاف أن لا أستطيع الصوم، بالرغم من أني استطعت الصوم في رمضان السابق وأنا أعاني من هذا المرض، فهل علي ذنب لو تركت بعض الأيام لمتابعة العلاج؟ الجواب إذا نصحك الطبيب الموثوق بترك الصيام لبعض الأيام للعلاج، فلا حرج في ذلك، وعليك أن تقومي بقضائها فيما بعد. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 28 معنى حديث: (صنفان من أهل النار) السؤال في حديث: {صنفان من أهل النار لم أرهما إلخ} ما معنى الحديث؟ الجواب نعم الحديث في صحيح مسلم، يقول النبي عليه السلام: {صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس - هؤلاء الشُرط الظلمة الذين يضربون الناس بغير حق- ونساء كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام} ومعنى كاسيات عاريات، قيل: كاسيات من الثياب عاريات من الخلق، وقيل: كاسيات من وجه وعاريات من وجه آخر، كأن تلبس القصير الذي لا يستر أو الشفاف الذي يصف ويشف عما تحته، أو الضيق الذي يحجمها ويحددها، ويكون إلى الفتنة، أو الإثارة أقرب منه إلى التستر والتصون والعفاف، ومثل ذلك قوله أيضاً: {مائلات مميلات} قيل: مائلات عن الأخلاق مميلات غيرهن عن ذلك، وقيل: مائلات في مشيتهن مميلات غيرهن، وقيل: إن المقصود المشطة الميلاء، ولا شك أن الأولى أن يكون المعنى: مائلات عن الدين والخلق والاستقامة، ومميلات غيرهن عن ذلك. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 29 مكان إحرام أهل جدة السؤال أريد السؤال عن أشخاص ذهبوا إلى جدة، وهم لم ينووا العمرة، ولكن بعد قضاء حاجتهم، أرادوا أخذ العمرة من أين يحرمون؟ الجواب يحرمون من المكان الذين هم فيه. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 30 حكم جمع الصلاة في المدينة التي سافر إليها الشخص السؤال ما حكم جمع الصلاة في المدينة التي سافر إليها الشخص، مثل من سافر من حائل إلى الرياض، ويجمع الصلاة في الرياض، وليس المقصود الطريق، وإنما في المدينة نفسها؟ الجواب الجمع إنما يكون عند الحاجة، وليس الجمع رخصة إلا إن احتاج إليها الإنسان، سواء كان في السفر أو في إقامة، ولهذا المريض إذا احتاج إلى الجمع جمع الصلاة، ومثله أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمستحاضة التي معها حدث دائم أن تجمع الظهر والعصر، وأذن لها أن تجمع المغرب والعشاء، فإذا احتاج الإنسان للجمع -مثلاً- إذا كان سيسافر بعد الظهر مباشرة، وقال أريد أن أصلي الظهر والعصر ثم أنطلق، ولا أتوقف، هذا له أن يجمع. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 31 رد الدعاء للقضاء السؤال هل صحيح أن الدعاء يرد القضاء؟ الجواب نعم ورد في حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لا يرد القضاء إلا الدعاء} . الجزء: 92 ¦ الصفحة: 32 حكم نزول الدم أثناء استعمال حبوب منع الحمل السؤال ما حكم نزول الدم أثناء أكل حبوب منع الحمل، لفترة نسيانها، وهل تعتبر صلاتها وصيامها صحيحاً؟ الجواب إذا نزل دم العادة المعروف بلونه ورائحته وآلامه، فإن عليها أن تترك الصيام والصلاة حينئذٍ، ويعتبر هذا من العادة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 33 دعاء الاستفتاح السؤال هل دعاء الاستفتاح واجب في الصلاة؟ الجواب ليس بواجب بل هو مستحب، ولعل هذا إجماع من أهل العلم، وهو أن دعاء الاستفتاح: {سبحانك اللهم وبحمدك} أو {اللهم باعد بيني وبين خطاياي} أو غيرهما من الأدعية وهي كثيرة، وإنما على الإنسان أن يقرأ هذا الدعاء، ثم يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويسمي، ويقرأ الفاتحة، ثم يقرأ ما تيسر له من القرآن. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 34 مجيء الدورة الشهرية بعد غروب الشمس السؤال إذا جاءت الدورة الشهرية في رمضان، بعد صلاة المغرب، وقبل صلاة العشاء، هل يعتبر صيامي في ذلك اليوم تاماً أم لابد من صلاة العشاء؟ الجواب إذا جاءت دورتك بعد آذان المغرب، وليس بعد صلاة المغرب فصومك صحيح، ولو لم تصل صلاة المغرب، المهم إذا غربت الشمس وأنت طاهرة فصومك صحيح. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 35 اليمين المشروط إذا تحقق الشرط السؤال هناك امرأة حلفت يميناً إن شفاها الله من مرضها أن تصنع طعاماً أو ما أشبه ذلك، ومرت مدة والآن لا تستطيع أن تصنع ذلك لظروف عائلية فماذا تفعل؟ الجواب عليها أحد أمرين: إما أن تلتزم بما حلفت، ما دام أنها حلفت ولم تنذر، فتوفى بهذا الحلف، وتصنع هذا الطعام، فإن لم تفعل فعليها أن تكفر كفارة يمين، تطعم عشرة مساكين، لكل مسكين نصف صاع، أو تكسوهم. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 36 حكم من يرى أن سعادته في الغناء السؤال إني عندما أنوي أن أترك الغناء ولا أستمع إليه، وأقول أني سوف ألتزم، أشعر بضيقٍ شديد، لا أعرف لماذا، وأشعر أنني لن أصبح سعيدةً بعد ذلك، فانصحني جزاك الله خيراً؟ الجواب هذا من الشيطان، وعليك أيتها الأخت الكريمة: أن تعلمي أن السعادة في طاعة الله تعالى، فالعبد إذا وجد الله تعالى فماذا فقد، إذا كان الله معك: يحبك ويؤيدك وينصرك ويوفقك، فماذا يضرك أن تفقدي من الدنيا؟! وإذا تخلى الله عن العبد، فلم يبال في أي أودية الدنيا هلك، فماذا ينفعه أن تكون الدنيا كلها معه؟! فإذا كان الله تعالى يريد منك أن تتركي الغناء، أفلا تتركينه لله تعالى؟! ومن ترك شيئاً لله تعالى عوضه الله تعالى خيراً منه، فعليك أن تقبلي على القرآن الكريم، وسماع القرآن وحفظه، وسماع الدروس المفيدة والمحاضرات، والأشرطة النافعة، ولا بأس -أيضاً- أن تسمعي بعض أشرطة الأناشيد المفيدة، التي ربما تكون تعويضاً ولو بصورة مؤقتة عن هذا الغناء الذي اعتادت عليه أذنك. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 37 متابعة المرأة للموضة السؤال المبدأ الذي تنطلق منه الفتاة في لبسها وأزيائها وتسريحاتها مرجعه مجلات الأزياء المنتشرة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} ؟ الجواب موضوع الأزياء، وتسريحات الشعر، هذه القضية الكلام فيها يطول، وسبق أن تحدثت عنه في أكثر من مناسبة، وحل قضاياه في شريط: طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب، وهموم المرأة، وهموم فتاة ملتزمة، فقد تحدثت في هذه الأشرطة عن هذا الموضوع، والذي أراه أنه لا ينبغي للمسلمة أن تسير وراء الموضة والتسريحة، وكل يوم يغيروا، وكلما جد الجديد غير؛ وهذا يعني أنها أصبحت فعلاً مقلدة للغرب، متشبهة، ومعجبة بهم، ومتابعة لهم بمجرد أن ترى -مثلاً- لباساً على ممثلة، أو زياً على رقصة، أو تسريحة على عارضة تلتقط ذلك وتطبقه، فهذا لا شك ضياع لشخصيتها، وذوبان، وتقليد للكفار، واللحقوق بهم في المظهر، وهو لا شك عندي بهذه الصورة محرم، إنما هذه الأزياء تنتشر بين المسلمين، ويتداولونها، ويراعون فيها الضوابط الشرعية، إن كانت ضيقة وسعوها، وإن كانت قصيرة طولوها، وتحروا فيها مراعاة الضوابط الشرعية، ثم انتشرت بينهم، وأصبحت متداولة، هذه إنشاء الله لا نرى فيها حرج. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 38 صلاة الفريضة بوضوء فريضة سابقة السؤال هل تجوز صلاة الضحى بوضوء الفجر، وصلاة الظهر بوضوء الضحى؟ الجواب نعم، يجوز ذلك. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 39 حكم زكاة الذهب الملبوس السؤال هل يزكى على الذهب الذي تلبسه المرأة دائماً؟ الجواب مسألة الذهب الذي تلبسه المرأة فيها خلاف مشهور فالأئمة أحمد والشافعي ومالك لا يرون وجوب الزكاة فيه، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وطائفة من أهل العلم المعاصرين، ومذهب أبي حنيفة وجماعة من العلماء أن فيه الزكاة، وهو اختيار أيضاً جماعة من علمائنا المعاصرين، منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين، وجماعة أيضاً من العلماء، الأمر إن شاء الله في ذلك واسع، فإن زكت المرأة على سبيل الاحتياط فهو خير إن شاء الله، وما تخرجه فهو نافع وهي مأجورة عليه، ولن يقول لها أحد: لماذا زكيت؟ ولماذا أخرجت المال؟ فإن لم تزك فإني لا أرى أن الزكاة واجبة عليها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 40 اتباع المؤذن للصلاة السؤال إننا نرى ولله الحمد كثرة المآذن في بلادنا، لذلك عندما يُعلم المؤذن بدخول الوقت، نرى كل واحدٍ منهم يؤذن بعد فترة معينة، فهل نصلي عندما نسمع مؤذناً واحداً؟ الجواب إذا دخل الوقت جاز للمرأة أن تصلي، فإذا كان المؤذن الأول يؤذن على الوقت يجوز لها أن تصلي بعد ما يؤذن المؤذن الأول، أما إذا أذن قبل الوقت، أو كان متساهلاً، فلا يجوز لها أن تصلي إلا بعد ما يدخل الوقت، وإذا كان المؤذن مأموناً ومعلوماً، فعليها أن تصلي، فإذا شكت فلا حرج عليها أن تنتظر أربع أو خمس دقائق، حتى تطمئن إلى أن الوقت دخل فعلاً. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 41 كيفية الوقاية من العين السؤال نجد أن بعض الناس يصابُ بالعين -مثلاً- ويذهب إلى المسجد، ويأخذ قطعة من قماش إلى آخره؟ الجواب إذا أصيب الإنسان بالعين و: {العين حق} كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وأيضاً علينا أن لا ننسب كل شيءٍ إلى العين، فأنا أعتقد أن هناك في مجتمعاتنا مبالغة، فكل من أصيب، أو تأخر في الدراسة، أو صار عنده عقدة من الدراسة، أو مرض، أو فشل في زواج، أو فشل في تجارة، قلنا هذه عين، والواقع أن الأسباب كثيرة، والعين واحدة من الأسباب، إذاً علينا أن ندرك هل الذي أصاب الإنسان عين أم ليس بعين، فإذا ظهر أو ترجح أنه عين، فإنه يمكن معالجته بأسباب شرعية، من ذلك الاستعاذة، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يستعيذ ويعيذ أولاده الحسن والحسين ويقول: {أعيذكما بكلمات الله التامّةِ من كل شيطانٍ وهامّة، ومن كل عينٍ لامّة} فما المانع أن تعيذ المسلمة نفسها، حتى لو لم تصب؟! فتقول: {أعوذ بكلمات الله التامّة، من كل شيطان وهامّة، ومن كل عينٍ لامّة} وتقول: {أعوذ كلمات الله التامّة من شر ما خلق} وتكرر ذلك، فهذا بإذن الله تعالى حفظ ووقاية من هذا الضرر الذي قد يصيبها من الآخرين. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 42 حكم الذهاب إلى إحدى المدن لالتماس الشفاء من الله السؤال طُلب مني الذهاب إلى إحدى المدن لالتماس الشفاء من الله، ثم من أحد المشايخ، فرفضت وحلفت أن لا أذهب، فبعد إلحاح الوالدة وحاجتي لذلك ذهبت، فماذا أفعل؟ الجواب عليها أن تكفر عن يمينها بإطعام عشرة مساكين، كل مسكين نصف صاع من الرز، وقد يكون معه شيء من اللحم، ولا مانع من الذهاب إلى ذلك المكان. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 43 الحائض إذا طهرت في نهار رمضان السؤال إذا طهرت الحائض في نهار رمضان، فهل يجب عليها أن تمسك عن الطعام والشراب بقية النهار؟ الجواب هذا موضع خلاف، فالعلماء منهم من رأى أن عليها الإمساك، ومنهم من يقول: لا يلزمها أن تمسك، لكن عليها أن تسر بالأكل، والراجح أنه لا يجب عليها أن تمسك؛ لأن ذلك اليوم غير محسوبٍ لها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 44 حكم صلاة المسافر السؤال زارنا ضيوف من الرياض، وطوال مدة إقامتهم في حائل كانوا يصلون الصلاة قصراً بحجة أنهم مسافرون، فما الحكم؟ الجواب المسافر يقصر الصلاة الرباعية إلى ركعتين -كما هو معروف- لكن إن كان رجلاً أقام في البلد، ويسمع النداء، فعليه أن يصلي مع جماعة المسلمين، وإذا صلى مع الإمام -فإنه لا شك- يصلي أربعاً، أما إن فاتته الصلاة فإنه يقصر الصلاة، وكذلك المرأة تقصر الصلاة، هذا إذا كانت الإقامة إقامةً محدودة وكانوا مسافرين، أتوا في إجازات وما أشبه في ذلك لمدةً معينة، ثم سيرجعون. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 45 حكم الاجتماع قبل رمضان بيوم للأكل السؤال توجد في مجتمعنا هنا عادة تتم قبل رمضان بيوم، حيث يجتمعون للأكل، ويسمونها تجريش ما الحكم؟ الجواب هذه ليست من الأمور المشروعة، وهي من عادات الناس التي ليس متعبداً بها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 46 حكم العشاء الذي يقام في رمضان صدقة عن الميت السؤال ما حكم الذبيحة التي تذبح صدقة عن الميت في رمضان؟ الجواب الصدقة عن الميت بشكل عام مشروعة، ولا بأس أن تتصدق عن الميت بمالٍ أو طعامٍ أو غيره، لكن اعتياد بعض الناس أن يقيموا ما يسمونه بالعشاء في رمضان، ويجمعوا الأقارب وما أشبه ذلك، ويلتزم بذلك، هذا بذاته ليس له أصل محدد، والأولى أن يكون العشاء للفقراء والمساكين والمحتاجين. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 47 حكم قضاء الصيام في شعبان السؤال امرأة عليها صيام من رمضان ولم تقض إلا في شهر شعبان؟ الجواب لا حرج في ذلك. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 48 التوبة من الغش السؤال عندما كنا في المرحلة الدراسية المتوسطة والثانوية، كنا نتساهل في مسألة الغش، ولكن الآن عندما أتينا إلى الكلية عرفنا أن ذلك حرام ولا يجوز فتركنا الغش، فهل تكفينا التوبة عن ذلك، علماً بأن نجاحنا لم يكن بسب الغش، ولكنه رفع درجاتنا، فما الحكم؟ الجواب أولاً: هذا يؤكد ضرورة تربية البنات في المدارس، وأن أي واحدة منكن تنتقل إلى قطاع التعليم عليها أن تحرص وتبذل قصار جهدها في النصيحة للبنات وتصبر عليهن، وتعود نفسها على ذلك. ثانياً: لا حرج عليها إن شاء الله فيما جرى، ما دام أنها تابت إلى الله تعالى من هذا الغش، وما دام أنها أصبحت الآن في المرحلة الجامعية، فإن التوبة تجب ما قبلها، وتلك الشهادة المتوسطة والثانوية لم يعد لها قيمة مع وجود الشهادة الجامعية التي حصلت عليها نتيجة جدها واجتهادها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 49 الواجب على من يرى طالباً يغش في الامتحان السؤال ما موقفي الآن عندما أرى طالبة تغش في لجنة الامتحان؟ الجواب عليك أن تنصحيها وتبيني لها أن هذا لا يجوز، ويجب من يقوم على المراقبة أن يمنع الغش بقدر المستطاع. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 50 شراء المرأة من الباعة الرجال السؤال سمعت من أحد المشايخ أنه لا يجوز أن نشتري ملابسنا من البائعة الرجال، وقال: إن صحابية تصدقت بثوب بمجرد أن رجلاً أجنبياً قد رآه، فما الحكم؟ وهل نأثم ونحن لا نجد إلا هذه الطريقة، وكيف نفعل وملابسنا يخيطها لنا الرجال؟ الجواب لا، ليس بصحيح أنه لا يجوز شراء الملابس من البائع إذا كان رجلاً، بل يجوز أن تشتري الملابس من الرجل، ولكن عليها ألا تخضع بالقول، وعليها أن يكون خروجها بقدر الحاجة، وإذا أمكن لزوجها أن يقضي حاجاتها أو قريبها فهو أولى إذا استطاعت ذلك، فيكون خروجها لحاجتها التي لا بد لها منها، هذا هو الذي يجب التنبيه عليه. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 51 حكم صوت المرأة السؤال ما حكم صوت المرأة، خاصة ونحن نكلم الرجال المدرسين عبر الهاتف للمناقشة، فما الحكم؟ الجواب الصحيح أن صوت المرأة ليس بعورة، وأن للمرأة أن تتكلم بما تحتاجه مع الرجال، ولكن عليها أيضاً، ألا تخضع بالقول، قال الله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ليس نساء عامة المسلمين فقط، بل حتى نساء النبي عليه الصلاة والسلام، أمهات المؤمنين، يؤدبْنَ بهذا الأدب: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأحزاب:32-33] . فهذا توجيه للجميع، وإذا كانت أمهات المؤمنين مأمورات بذلك فغيرهن من باب أولى، وقوله تعالى: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] قد يكون الرجل الذي أمامك في قلبه مرض، سواء كان بائعاً، أو غير ذلك، فعليك ألا تخضعي بالقول، وأنت -أيضاً- عرضة للافتتان، فالمرأة قد تفتن غيرها، وقد تفتن نفسها، والله تعالى قال: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] . الجزء: 92 ¦ الصفحة: 52 حكم من أفطر رمضان السؤال فتاة عندما بلغ عمرها ثلاث عشرة سنة، أتتها الدورة لأول مرة، وجاء رمضان ولم تصم، وجاء رمضان آخر أيضاً ولم تصم، فما الحكم؟ الجواب يجب عليها أن تقضي الأيام التي فاتتها، فمنذُ أن جاءتها الدورة وجب عليها الصيام، فعليها أن تصوم قدر أيام الدورة وما بعدها من رمضان، وتصوم رمضان الذي بعده، فتقضي الجميع، وكل يومٍ قضته، بعد ما جاء رمضان الآخر، عليها أن تطعم مقابله -أيضاً- مسكيناً. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 53 حكم من تسكن هي وزوجها مع أقرباء الزوج السؤال أنا امرأة متزوجة وأسكن في بيت يضم زوجي وإخوته، وليس بمقدرتي التزام الحشمة الكاملة كتغطية اليدين والأرجل، ولا أستطيع أن أفعل شيئاً؟ الجواب عليها أن تحرص قدر المستطاع على الحشمة وتغطية ما أمكن من يديها ورجليها، وألا تكثر من الجلوس والمحادثة معهم، والاحتكاك بهم، بقدر ما تستطيع: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . الجزء: 92 ¦ الصفحة: 54 حكم خروج سائل أبيض من الفرج بعد الوضوء السؤال توضأت لأداء الصلاة، وبعد ذلك خرج سائل أبيض قبل أداء الصلاة، فهل أصلي؟ أم أعيد الوضوء؟ الجواب لا بد في هذه الحالة من إعادة الوضوء وتطهير الثياب إن كان هذا السائل وصل إلى شيء من الثياب على القول بأنه نجس، وهو الذي يظهر لي، والله تعالى أعلم. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 55 حكم صبغ الشعر بغير السواد السؤال حكم الصبغة بغير الأسود علماً أن من أن تقوم بذلك لا تأخذه من مجلات الأزياء؟ الجواب لا نرى حرجاً أن تصبغ المرأة شعرها بغير الأسود، فالصبغ بالأسود ممنوع عند كثير من أهل العلم، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: {غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد} أما ما سوى في ذلك، فالأصل أنه جائز. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 56 حقيقة مناهج قسم اللغة الإنجليزية السؤال لقد سمعت في أحد الأشرطة الإسلامية شيخاً يتحدث عن طالبات قسم الأدب الإنجليزي، وأنهن غير صالحات للزواج، ولا لتربية الأجيال، ولا لفتح بيوت في المستقبل، وأننا بعيدات عن الدين، فما رأيكم؟ أليس في كلامه هذا تشويه لنا ولأخلاقنا؟ رغم أننا ولله الحمد، نعرف الله تعالى جيداً؟ الجواب لم أسمع هذه الكلمة، ولذلك لا أستطيع أن أعلق عليها، لكنني أستطيع أن أعلق على أقسام اللغة الإنجليزية، فالذي أعرفه أن هذه الأقسام كغيرها من الأقسام في كليات البنات في هذه البلاد، وفي غيرها من بلاد العالم الإسلامي ولله الحمد، أنها عمتها الصحوة، فليس الأمر مقصوراً علينا، في تركيا أكثر من عشرة آلاف طالبة متحجبة في الجامعة!! في أندونيسيا، وفي مصر على رغم القيود والضغوط والحرب النفسية والمباشرة، على رغم ذلك المرأة المسلمة أثبتت أنها ورثت من امرأة فرعون صبرها وإيمانها، حين قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] فالأقسام كلها تشهد توجهاً طيباً، وفي كل الأقسام فتياتٌ صالحات، دينات، صينات، مخلصات ملتزمات، خيرات، ومثل هؤلاء هن صالحات لبناء البيوت، وبناء الأجيال، وهي الزوجة التي يبحث عنها الرجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} وهذا لا يمنع أن يوجد شيء من ذلك في تلك الأقسام -كما يوجد في غيرها- فالشر والخير صنوان موجودان في كل مكان. أمرٌ آخر أود أن أنبه عليه وربما كان هو مقصوداً لذلك المتحدث: أن مناهج اللغة ومناهج أقسام اللغة الإنجليزية مناهج سيئة، وهي مناهج غربية، وعندي نماذج من هذه المناهج تسود وجوه الذين وضعوها، وأمروا بها، ووجهوا رضوا بها أيضاً، وتسوِّد وجوهنا جميعاً، لأنها تدرس بناتنا وأخواتنا، وزوجاتنا، ولا يجوز لنا أبداً أن نسكت عليها، كيف يدرس هذا القسم كتاباً يتحدث -مثلاً- عن فتاة بريطانية، لكن كيف تدرسه فتاة مسلمة في هذه البلاد الطاهرة، وتدرس فيه كيف أن هذه الفتاة تعيش مع صديقها، وتنام معه على السرير، وتخرج معه في النزهة وتراقصه، وتجلس معه على شاطئ البحر، بل إن بعض هذه الكتب فيها انحرافات خطيرة في العقيدة، وفيها سخرية بالله عز وجل، وفيها سب للدين، لئن كانت هذه الكتب تدرس -مثلاً- في جامعات لندن وواشنطن وتنقل بقضها وقضيضها وبحذافيرها تدرس في جامعات المسلمين، هذا خطأ كبير، وانحراف خطير؛ لأن الأجيال تتربى على مثل ذلك، ومستحيل أن نتصور انعزال عقل البنت، وقلبها ووجدانها عما تدرس، إذا قلنا إن المناهج لا تؤثر في البنت، والتلفاز لا يؤثر في البنت، والإذاعة لا تؤثر في البنت، إذاً ما هو الذي يؤثر في البنت؟! الجزء: 92 ¦ الصفحة: 57 الشك بعد انقضاء الصلاة السؤال ما الحكم إذا شك المصلي بعد التسلم أن صلاته ناقصة أو زائدة؟ الجواب إذا كان الشك بعد الانتهاء من الصلاة، فهو لا يؤثر ولا يلتفت إليه. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 58 حكم تعلم اللغة الإنجليزية السؤال هل من الضروري تعلم اللغة الإنجليزية، مع أنني أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: {تعلموا لغة أعدائكم} وهناك بعض الطالبات يعتبرن تعلم اللغة الإنجليزية غير ضروري نرجو التوضيح؟ الجواب أما تعلم لغة أعدائكم، أو {من تعلم لغة قومٍ أمِنَ مكرهم} فهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بعض أصحابه بتعلم لغة اليهود -العبرية- وقال: {إني لا آمنهم على كتابنا} يعني: على القرآن وعلى الإسلام، وهذا يدل على أنه يجب أن يوجد في المسلمين من تقوم بهم الكفاية في حاجتهم إلى تعلم هذه اللغة، خاصةً أن هذه اللغة اليوم هي اللغة الغازية، وهي اللغة المسيطرة، وهي لغة الحضارة المادية التي تهيمن على العالم كله، ولهذا فإن هذا الوضع يستدعي أن يوجد في المسلمين ذكوراً وإناثاً من يتعلم هذه اللغة، لكن لماذا يتعلمها؟ يتعلمها ليدعو إلى الله تعالى، يتعلمها ليترجم ما يحتاج إليه المسلمون، في أمورهم الدينية، أو في أمورهم الدنيوية، أيضاً يتعلمها لمصالح حقيقية للأمة أو للمجتمع، ولا يتعلمها لأمور محرمة، أو محذورة. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 59 حكم استخدام الحبوب لمنع الدورة الشهرية في رمضان السؤال سؤال عن أكل حبوب منع الدورة الشهرية في رمضان من أجل إقامة الصلاة والمشاركة في الصيام وما أشبه ذلك؟ الجواب إذا كانت هذه الحبوب لا تضر بصحة المرأة، ولا تؤثر عليها تأثيراً واضحاً، فيجوز لها أن تأكل هذه الحبوب في شهر رمضان، من أجل أن تُصلي وتصوم مع الناس، ولكن الأولى أن لا تفعل، لأن هذه الحبوب من المرجح طبياً أنها ضارة بالمرأة، والمرأة عليها أن تفطر إذا جاءتها العادة، ثم تصوم مثل هذه الأيام بعد ذلك، وكذلك تركها للصلاة، ما دامت تصلي وقت طهرها، ما كتب لها من صلاة الليل، وتذكر الله تعالى، وتصلي التراويح والقيام، فإنها إذا تركت هذا العمل بسبب الدورة، فإن الله تعالى يكتب لها إن شاء الله نيتها واحتسابها أجر الصلاة التي كانت تصليها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 60 كيفية قضاء صيام رمضان لمن أفطر بعذر السؤال امرأة أفطرت طوال شهر رمضان بسبب الولادة في أول الشهر، فهل عليها أن تقضي صيام الشهر بأيام متتابعة أم لا، أو أن تتصدق بأيام الصيام؟ الجواب عليها أن تقضي الأيام التي أفطرتها من رمضان، ولكن لا يلزم أن يكون القضاء متتابعاً، بل يجوز أن تفرق قضاءها، فتصوم -مثلاً- من هذا الشهر يومين أو ثلاثة، ومن الشهر الثاني مثل ذلك، حتى ينتهي ما عليها، قبل مجئ رمضان الآخر. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 61 حكم الصلاة في الملابس المكتوب عليها كلمات إنجليزية السؤال عندي بلوزة مكتوب عليها (لندن) فهل يجوز أن أصلي بها، أو ألبسها، علماً بأني اخترتها لشكلها؟ الجواب نعم يجوز أن تلبسيها وتصلي بها، وإن كنتُ أحذر الفتيات من لبس الملابس التي تكون عليها كلمات باللغة الإنجليزية، لأنه ثبت أن كثيراً من هذه الكلمات تكون كلمات رديئة أو بذيئة، وبعضها تعبر عن معانٍ وثنية، مثل بعض الملابس مكتوب عليها، كلمة معناها "الإله" في الإغريق أو آلهة النصر عند الإغريق، وكذلك بعض الملابس يكون مكتوب عليها عبارة قد تكون غير أخلاقية، وبعض الملابس قد تدل على معنىً سيئ، وتلبسها الفتاة دون قصد أو إرادة منها، والمفروض أن مثل هذه الملابس تمنع من بلاد المسلمين، ومن أسواق المسلمين، لكن علينا نحن واجب وهو: أن نقاوم مثل هذه الملابس ولا نشتريها، وعلى فرض أن الأخت اشترت مثل هذه الملابس، ثم اكتشفت أن فيها معنىً شركياً أو غير أخلاقي، فإنه يجب عليها أن تتركها، وأن تبلغ عنها حتى يمكن مصادرتها. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 62 كيفية سجود السهو السؤال هذا السؤال عن سجود السهو، وهل يكون قبل التسليم أو بعد التسليم، وهل له دعاء مخصوص؟ الجواب سجود السهو له أحوال: الحالة الأولى: أن يكون عن نقص، مثل أن تنسى المرأة التشهد الأول في الصلاة، وتقوم عنه إلى الركعة الثالثة، فحينئذٍ عليها أن تسجد للسهو قبل السلام، لأن السجود للتعويض عن نقص، ولجبر نقص. الحالة الثانية: أن يكون سجود السهو عن زيادة حيث تزيد في الصلاة عملاً من جنس الصلاة سهواً، سواء زادت ركوعاً أو سجوداً أو ركعة أو ما أشبه ذلك سهواً، أو حتى زادت سلاماً في أثناء الصلاة، فحينئذٍ يكون سجود السهو بعد السلام، لأنه لا يجتمع في الصلاة زيادتان. الحالة الثالثة: وهي الشك في الصلاة: إذا شك الإنسان، ولم يدر كم صلَّى، ثلاثاً أو أربعاً، هذه أيضاً لها حالتان: الحالة الأولى: أن لا يترجح عنده شيء، يقول: لا أدري أهي ثلاث أم أربع، ولا يرجح شيئاً، فهذا يسمى شكاً، وحينئذٍ يأخذ بالأقل، ويبني على اليقين، فيعتبرها ثلاثاً، ويأتي بالرابعة، ويسجد للسهو قبل السلام، لتعويض هذا الشك الذي حصل في قلبه. الحالة الثانية: أن يترجح عنده أحد الأمرين، فيكون: الغالب على ظنه أنها أربع، فحينئذٍ يبني على أنها أربع ويسجد سجدتين للسهو بعد السلام. أما بالنسبة لسجود السهو فإنه ليس له دعاء مخصوص، إنما هو كسائر السجود. الجزء: 92 ¦ الصفحة: 63 كيفية صلاة الاستخارة السؤال كيفية الاستخارة؟ وأفضل وقت لصلاة الاستخارة؟ الجواب بالنسبة لصلاة الاستخارة، فليس لها وقت فاضل، إنما يتجنبها الإنسان في أوقات النهي، بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة العصر، إلا أن يكون مضطراً إلى ذلك، أي: في أمرٍ يفوت، فيصلي ركعتين، ثم يدعو إما في السجود أو في آخر التشهد قبل السلام بالدعاء الوارد في حديث جابر في صحيح البخاري: {اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك، فإنك تعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر وتسمي حاجتها، زواجاً أو سفراً أو ما أشبه ذلك- خيراً لي في ديني ودنياي وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي ويسره لي، وإن كنت تعلمه غير ذلك، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضِّني به} . الجزء: 92 ¦ الصفحة: 64 مسائل في التوبة أهمية التوبة والحث عليها في القرآن والسنة، وهي نوعان: واجبة ومستحبة، وهناك قصص في التوبة كثيرة للعظة والعبرة، وشروط التوبة: الإقلاع عن الذنب، وعقد العزم على عدم العود، والندم، وأن تكون في زمن القبول، والتخلص من حقوق الآدميين، ولا مانع من تكرار التوبة مع تلك الشروط، وهناك عوامل تساعد على التوبة منها: قوة العزيمة، وكثرة الدعاء، وترك بيئة المعصية، وعدم القنوط. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 1 الحث على التوبة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، الحمد لله الذي فتح بابه للتائبين، وبسط غناه للراغبين، ومدَّ عطاءه للطالبين، الحمد لله الذي وسع جوده، وكرمه، وفضله وعطاءه جميع خلقه، ففتح لهم أبواب السعادة في الدنيا والآخرة. الإخوة الكرام لعله فألٌُ حسن أن يكون الحديث في مثل هذا المجلس الطيب، عن موضوع التوبة، عسى أن يمن الله تعالى علينا جميعاً بأن يتوب علينا من ذنوبنا وخطايانا، وأن يكتبنا في عداد عباده الذين تابوا وأنابوا إليه، ولعله من المناسب أيضاً أن يكون الحديث عن التوبة في مثل هذه الأوقات التي كثرت فيها الذنوب والمعاصي، بل وكثرت فيها المجاهرة، التي تدل على الاستخفاف بالذنب، والتهوين من شأنه، بل ربما دلت على الشك، وعدم الإيمان بوجوب ما أوجب الله، أو تحريم ما حرم الله، وفي هذا الوقت بدأت الآيات والنذر، تتوالى من بين أيدينا، ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا. فنحن نسمع من المحن، والفقر، والجفاف، والفيضان، والزلازل، وغيرها الشيء الكثير، ونجد حتى فيما بين أيدينا شيئاً من ذلك، فنضرع إلى الله عز وجل، في صلاة الاستسقاء أن يغيثنا، يقول الله عز وجل على لسان نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] فمن أراد سقيا الله وبره وجوده وعطاءه في الدنيا والآخرة، فعليه بالاستغفار والتوبة إلى العزيز الغفار. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 2 الأحاديث من سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، من الأحاديث في ذلك الكثير الطيب، فمن ذلك ما في صحيح مسلم عن الأغر المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه ليغانُ على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة} وعن ابن عمر رضي الله عنه نحوه وفي صحيح مسلم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها} وفي الحديث المتواتر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه ابن مسعود ٍ والنعمان بن بشير، وأبو هريرة، وأنس وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: {لله أشد فرحاً، بتوبة عبده، من أحدكم كان بأرضٍ فلاة، ومعه راحلته وعليها زاده وطعامه وشرابه، فنام تحت ظل شجرة فذهبت هذه الراحلة، فطفق يبحث عنها حتى إذا أيس منها، رجع إلى تلك الشجرة، ونام تحتها ليموت، فلما استيقظ نظر فإذا راحلته عند هذه الشجرة، قد أمسكت بها أغصانها، وعليها طعامه وشرابه وزاده، فقال هذا الرجل: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح!!} وهذا فيه دليلٌُ على إثبات صفة الفرح لله عز وجل، وإن الله ليفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه وأناب، أعظم وأشد من فرحة هذا العبد الذي ضيع راحلته، وعليها طعامه وشرابه؛ حتى أيقن بالهلكة، فساقها الله تعالى إليه على غير انتظار، إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في فضل التوبة. وقد يتساءل كلُ فردٍ منا، أو كثير منا، فيقول: إنما التوبة للعصاة، والمذنبين، ولسنا بالضرورة عصاة أو مذنبين، فكيف نتوب؟! وهذه مشكلة تقع لكثير من الناس، حين تقول لإنسان: يا أخي استغفر الله، يقول لك: وهل عصيت الله حتى استغفره!! وجاء أحدهم إلى مريض على سرير مرضه، فقال له: (لا بأس عليك طهورٌ وتكفيرٌ لذنوبك إن شاء الله) فقال: وهل أنا عاصٍ حتى تكون هذه الآلام والأمراض تكفيراً لذنوبي، وهذا من جهل العباد بقدر أنفسهم وما يصدر منهم، وجهلهم -أيضاً- بحق الله تعالى عليهم، وأن العبد لو قضى حياته كلها ساجداً، راكعاً لله ما أدى حقه. ما للعبادِ عليه حقٌ واجبُ كلا، ولا سعيٌ لديه ضائعُ إن عُذِّبوا فبعدله أو نُعِّمُوا فبفضلهِ وهو الكريمُ الواسعُ الجزء: 93 ¦ الصفحة: 3 التوبة في كتاب الله لقد حث الله في كتابه الكريم، على التوبة في مواضع كثيرة، يقول الله عز وجل في صدر سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:1-3] . ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53-55] . ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم:8] . ويقول عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] . ويقول سبحانه عن نبيه آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] . إلى غير ذلك من الآيات التي فيها الحث على التوبة والأمر بها. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 4 أنواع التوبة أيها الإخوة التوبة نوعان: واجبة ومستحبة: الجزء: 93 ¦ الصفحة: 5 التوبة الواجبة فهي التوبة من فعل المحرمات، وترك الواجبات، وأعظم المحرمات الوقوع في الكفر، والشرك، والنفاق، فهي واجبة لاشك، وكذلك التوبة من سائر المعاصي، كأكل الربا، وأكل الحرام، وسماع الغناء، وعقوق الوالدين، وقطيعة الأرحام، والغيبة، والنميمة، وقول الزور، وغير ذلك من المعاصي التي فشت في أوساط مجتمعاتنا اليوم، فهذه التوبة واجبة، وكذلك التوبة من ترك الواجبات، كترك الصلاة، أو ترك صلاة الجماعة، أو ترك الصيام، أو الزكاة، أو الحج، أو ترك تعلم العلم الذي يجب على الإنسان تعلمه، إلى غير ذلك من الواجبات التي قد يُقصر فيها الإنسان، فهذه التوبة واجبة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 6 التوبة المستحبة أما التوبة المستحبة: فهي التوبة من فعل المكروه، أو ترك المستحب، فالإنسان يتوب من ترك الوتر مثلاً، أو ترك السنن الرواتب، أو ترك الإكثار من قراءة القرآن، أو ترك قيام الليل، أو غير ذلك من الأعمال والطاعات والصالحات، كما يتوب من فعل الأمور المكروهة، التي لا يحبها الله ولا رسوله، ولكن ليست محرمة، وإذا عُلم أن التوبة هكذا، عُلم أنه لا غنى للإنسان أي إنسان عنها، فإنه ما من إنسان وإلا يقع في بعض المعاصي ويترك بعض الواجبات، أو يقع في بعض المكروهات ويترك بعض المستحبات، ولذلك في الحديث، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون} والحديث رواه الترمذي وغيره وحسنه، وفيه إشارة إلى أن من شأن الإنسان أن يخطئ، ويغلط، ولذلك قيل: وما سُمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلبُ إلا أنه يتقلبُ الجزء: 93 ¦ الصفحة: 7 حاجتنا إلى التوبة وإذا كنا نعلم جميعاً، أن أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، كانوا على رأس التائبين، وكم منهم من كان يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] . وكم منهم من يتوب إلى الله عز وجل، وكم منهم من يقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] ومنهم من قال الله عز وجل عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص:24-25] . بل علم الله نبيه ومصطفاه وخيرته من خلقه عليه الصلاة والسلام، أن يستغفر فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] . وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام في كثرة الاستغفار، أنه يحسب له في المجلس الواحد نحو مائة مرة، (أستغفر الله وأتوب إليه) وفي لفظ سبعين مرة، فإذا كان هذا شأن الرسل والأنبياء، فما بالك بنا ونحن في جَلْجَلتنا، وفي أوضارنا، وفي تقصيرنا، وفي غفلتنا، وقلوبنا قد أصابها من الران وغطى عليها من الغبار ما لا يدفعه إلا الله عز وجل، فنحن أحوج وأحوج إلى أن نتوب إلى الله عز وجل ونستغفره. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 8 الأمر بالإكثار من الاستغفار وثمة أمرٌ ثالث يؤكد أهمية التوبة والحديث عنها، وهو أننا نجد أن الله عز وجل أرشدنا إلى أن نُكثر من الاستغفار، عند الأعمال الصالحة، يقول الله عز وجل: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] ويقول: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198-199] . ويقول سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، وبعد أن فتح الله عليه الفتوح ودانت له جزيرة العرب: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] . فكان عليه الصلاة والسلام، كما في حديث عائشة، في الصحيح، بعد نزول هذه السورة، {يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن} يعني: ينفذ أمر الله عز وجل له بقوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] فبعد أن جاهد عليه الصلاة والسلام، وكابد، وعانى، وطُرِد، وأُوذي، وألقي السلى على ظهره، وشج رأسه، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وأدميت عقباه، وأوذي، وشرد أصحابه، بعد هذا كله، يقول الله عز وجل له: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:3] . وكان من شأنه عليه الصلاة والسلام، أنه كان إذا صلى قال: {استغفر الله، استغفر الله ثلاث مرات} كما في حديث عائشة وثوبان في صحيح مسلم {أنه إذا صلى استغفر ثلاثاً ثم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام} فيتعود المسلم: أنه حين يعمل الأعمال الصالحة، ينبغي أن يستغفر، ولذلك قال الله عز وجل في وصف عباده المؤمنين: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17-18] قيل معنى الآية: أنهم كانوا يقومون الليل تهجداً، قائمين، وراكعين، وساجدين، يراوحون بين أرجلهم، وجباههم، فإذا كان الفجر استغفروا الله عز وجل، وهذا له دلالات عظيمة جداً، منها: أن يدرك الإنسان أنه مهما بذل، فبذله شيء يسير بالنسبة لحق الله عز وجل، ولا يمكن أن يؤدي الإنسان حقيقة شكر نعمة الله تعالى عليه، لأنه كلما تعبد، كانت هذه العبادة نعمة جديدة، تستحق شكراً، فإذا شكر الله عز وجل على هذه النعمة، كان الشكر نعمة أخرى تستحق شكراً آخر، ولذلك يقول القائل: إذا كان شكري الله نعمة عليَّ له في مثلها يجبُ الشكرُ فكيف أقوم الدهر في بعض حقهِ وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ المعنى الآخر: أن العبد قد يعتريه في أثناء عبادته تقصير من غفلة، أو سهو، أو نسيان، أو ما أشبه ذلك، فيستغفر منه. المعنى الثالث: أن العبد إذا تعبد لله عز وجل، بعباده، أو طلب علم، أو تعليم، أو أمرٍ بالمعروف، أو نهيٍ عن المنكر أو غير ذلك، فإن الشيطان حينئذٍ يأتيه، ويقول له: أنت الذي فعلت وفعلت، وأنت الذي أتيت بما لم تستطعه الأوائل، جاهدت في سبيل الله، وعملت، وتعلمت، وبذلت، وأعطيت، الحقيقة: أنك إنسان مجهول القدر، مجهول القيمة، ولا يزال يفتله في الذروة والسنام، حتى يصيبه بالعجب والعياذ بالله الذي قد يحبط عمله، ولذلك يستغفر العبد ربه عقب العمل في آخره، لما قد يكون ورد على قلبه من مثل هذه الخواطر السيئة الرديئة، وبذلك ندرك أن كل إنسان محتاج إلى التوبة، فالعابد محتاج، والعالم محتاج، وطالب العلم محتاج، وكذلك العاصي، والمقصر محتاج، فضلاً عن غيرهم من الكفار والمشركين والمنافقين، فهم أحوج الناس إلى التوبة، والتوبة أوجب ما تكون عليه. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 9 حال المؤمن والمنافق من الذنوب ثم إن هناك أمراً آخر وهو: إن الإنسان كلما قوي إيمانه، كان أخوف على نفسه، ولذلك تجد أن الذي يتبجح، ويقول: أي حاجة لي إلى التوبة!! هو غالباً إنسان يوصف بالغفلة والتقصير، ويظهر عليه أثر المعاصي، والإنسان المطيع المصلي، إذا ذكر بالتوبة أقبل عليها واستغفر ربه، ولذلك يقول ابن أبي مليكة كما في صحيح البخاري [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه]] وفي صحيح البخاري -أيضاً- عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنه كان يقول: [[إن المنافق يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال بيده هكذا فطار، أما المؤمن فيرى ذنوبه كأنها جبل يريد أن يقع عليه]] وذنوب المؤمن -بالقياس إلى ذنوب المنافق- هي كقطرة في بحر، لكن لأن قلب المؤمن قلب فيه نور، وفيه إشراق، وفيه حياة، فإنه يحس بأثر المعصية وخطرها، فيحاسب نفسه عليها، ولذلك قال الله عز وجل: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة:1-2] . فنفس المؤمن لا تزال تلومه على تقصيره، وعلى ذنوبه: ما أردت بهذه الكلمة، ما أردت بهذه الفعلة، ما أردت بهذه الأكلة، فيظل يوبخ نفسه!! أما المنافق: فإنه يمضي قُدماً لا يلوي على شيء!! ويرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه فقال بيده هكذا فطار، وانتهت القضية، ولذلك يقول الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ} [الأعراف:169] . كثيرٌ من المسلمين اليوم وهم يواقعون العظائم، والجرائم، والكبائر، وقد يكون أحدهم مرابياً، معلناً الحرب على الله ورسوله، أو شارباً للخمر، أو عاقاً لوالديه، أو مستهزئاً بالمؤمنين، ساخراً منهم، فإذا ذُكِّر بالله عز وجل، فإما أن يقول: هذا الكلام الذي أفعله صحيح، كما نجد اليوم من بيننا من يقول: الفوائد الربوبية لا شيء فيها، وقد سمعنا هذا من محاضرين وقرأناه في نشراتهم، مع أنه قولٌ حادث، مخالف لما عليه إجماع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أولها عن آخرها، ويتلمس لنفسه العذر في عيب المؤمنين، فيقول: هؤلاء متطرفون، هؤلاء متشددون، هؤلاء مغالون، هؤلاء فيهم وفيهم، أو يعترف على نفسه بالخطأ، ولكنه يقول: الله غفور رحيم. وهكذا يكون العِوج، فإن الله عز وجل يقول: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] إن ربك شديد العقاب، {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] فلابد أن تأخذ هاتين الصفتين معاً، فلا يؤمن الإنسان ببعض الكتاب، ويكفر ببعض. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 10 قصص في التوبة أيها الإخوة والتائبون الذين استجابوا لله والرسول كثير، وموكب التائبين قديم، يبدأ بآدم عليه السلام، أَبِيْنا الذي زين له إبليس المعصية، وأقسم له أنه لهما لمن الناصحين، فوقعا في الشَّرَك، ثم تاب الله تعالى عليهما، ومن حينئذٍ شرع الله التوبة لعباده إلى أن تطلع الشمس من مغربها، وضمن هذا الموكب الجليل، أعدادٌ كبيرة من الناس ممن تاب الله عليهم، وفضلاً عن الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 11 تائبون من العصر الحاضر أيها الإخوة وفي عصرنا الحاضر، نسمع كثيراً من القصص، والأخبار، والعجائب، لقومٍ وقعوا في المعاصي، وأسرفوا على أنفسهم، فتاب الله تعالى عليهم، فهذا إنسانٌ استجره قرناء السوء حتى أوقعوه في المخدرات، وصار يلهث خلفها، حتى ضاع وقته، وماله، وشبابه، وصحته، وصار في حالةٍ يُرثى لها، وقد تفرق عنه أحبابه وأصحابه، وتركه أهله وجفوه، ويئس منه أولاده، وزوجه، وما هي إلا لحظة حتى يستيقظ هذا الإنسان، فيلقي الله عز وجل في قلبه التوبة، فيقلع عما كان عليه، ويقبل على الله عز وجل، عبداً مؤمناً، تائباً، منيباً، إلى الله تعالى، ويُصبح بحكم خبرته السابقة حرباً، على المخدرات وأهلها، حريصاً على إنقاذ من يمكن إنقاذه من أصحابه الذين كان يعرفهم في تلك الحالة، ويكون له دور كبير. وذلك شابٌ آخر، لم يترك شاذةً ولا فاذة من المعاصي إلا وقع فيها!! ولم يترك بلداً من بلاد الرذيلة والإباحية، إلا سافر إليها!! ولم يترك معصيةً قرأ عنها أو سمع بها، أو تخيلها، إلا سعى إليها!! حتى أصبح مضرب المثل، في الجراءة على الله تعالى، وعلى حدوده، وحين يأذن الله تبارك وتعالى له بالتوبة، ويفتح له بابها، ويرحمه برحمته، يكتب له أن يلتقي بداعية، أو طالب علم، أو يسمع كلمة خير، فتُلقى في قلبه، فيصبح في لحظات، كأنه خلق آخر، غير ما كان يعلمه الناس، وبقدر ما كان في الماضي جريئاً على المعاصي، أصبح الآن مسارعاً إلى الطاعات، وهو يقول: لا أندم على شيء إلا على لحظات ضيعتها في معصية الله عز وجل، ويتمنى أن يمد الله في عمره، حتى يعبد الله عز وجل، ويحسن بقدر ما أساء، وظلم، وتعدى، في ماضيات الأيام. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 12 توبة القعنبي ومن قصص التائبين العجيبة، ما رواه أبو طاهر السلفي، من قصة عبد الله بن مسلمة القعنبي، تلميذ الإمام مالك، فإن عبد الله هذا كان بالبصرة، وكان رجلاً كثير المجون يكثر من الشرب، وله قومٌ من الأحداث المردان، يجلس معهم، وفي ذات يوم كان خارجاً، واقفاً عند بابه، ومعه سكين مثلما نلاحظ اليوم في كثير من الشباب في فترة المراهقة، حين يكون فيهم طيش واندفاع وغير ذلك فكان واقفاً في السوق، فمر به شعبة بن الحجاج، رحمه الله، أحد أئمة الحديث، فاستوقفه، وقال للناس لمن حوله: من هذا؟ قالوا هذا شعبة، قال: وما شعبة؟ قالوا: محدث من علماء الحديث، فأمسك به، وقال: حدثني، قال له شعبة: وقد رأى من شكله وملابسه، وهيأته أنه ليس من أهل هذا الشأن قال: لست بأهل بأن أحدثك بالحديث، لست من أهل الحديث، فقال: حدثني وإلا جرحتك بهذه السكين التي في يدي، فقال له شعبة: حدثني منصور، عن ربعي، عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} وهكذا يكون العالم مؤتىً يستطيع أن يقول الكلمة المناسبة في الوقت المناسب، لأن هذا الحديث مناسب لحال هذا الغلام، في تلك الحال، فتركه القعنبي، ودخل إلى بيته، وقد وقع في قلبه الحياء من الله عز وجل. كلمة وقعت في القلب!! وقال لأمه: إذا جاءك أصحابي، فأدخليهم البيت وأطعميهم، وأخبريهم، بما أحدث الله لي من التوبة، وإراقة الخمور، وكسر أوانيها، حتى لا يعودوا مرةً أخرى، ثم خرج إلى المدينة، وأخذ العلم عن الإمام مالك، ولما عاد إلى البصرة، كان شعبة رضي الله عنه قد مات، فلم يرو عنه إلا ذلك الحديث: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 13 توبة أبي محجن أيها الإخوة ومن قصص التائبين، قصة أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، وكان أبو محجن صحابياً، ولكنه كان مُولعاً بشرب الخمر، لا يسلو ولا يصبر عنها، حتى رُوي عنه أنه كان يقول: إذا مِتُ فادفني إلى جنبي كرمةٍ تُرَوِّي عظامي بَعد موتي عُروقُها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما متُّ ألا أذوقها والله أعلم إن صح هذا عنه، أو لم يصح، لكنه كان يشرب الخمر، فيجلد، فيشربها فيجلد، وأخيراً حبسه سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه وأرضاه، فلما كانت معركة القادسية، بين المسلمين والفُرس، نظر أبو محجن الثقفي رضي الله عنه إلى المسلمين، فكأنه رأى فيهم ضعفاً، وانكشافاً، فثارت حميته الدينية، وثارت غيرته الإسلامية، وهكذا كان عُصاة ذلك الزمان، الذين قد يقعون في بعض المعاصي، تجد أن الواحد منهم ولاؤه للإسلام، وحبه للإسلام، وعاطفته مع الإسلام والمسلمين وإن وقع في بعض المعاصي، لكن المُصيبة كل المصيبة في كثيرٍ من العصاة في الأزمنة المتأخرة، تسللت المعاصي إلى أعماق قلوبهم، فأصبح الإنسان ولاؤه لغير الله، وبراؤه لغير الله، وحبه، وعطاؤه، ومنعه، لغير الله عز وجل، فقد يعادي المؤمنين، ويوالي غيرهم، ويُحب الضلال والفساق، ومن كانوا أشباهه ونظراءه، وقد يأنس بالكافرين، والمجرمين، والضالين، ويستوحش من المؤمنين، والمطيعين، وهذه هي المصيبة التي لا جبر لها إلا التوبة، فالتوبة تجب ما قبلها، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى أبو محجن الثقفي انكشاف المسلمين، تحسر، وبكى، وأقبل، وأدبر، وهو يرسف في قيوده، وصار يتمثل بأبياتٍ من الشعر، يقول: كفى حَزناً أن تُطْرد الخيل بالقنا وأُترك مشدوداً عليَّ وثاقيا إذا قُمت عناني الحديدُ وغلِّقت مصاريعُ دوني قد تَصُم المناديا وقد كُنت ذا مالٍ كثيرٍ وإخوةٍ فقد تركوني واحداً لا أخا ليا ولله عهدُ، لا أخيس بعهدهٍ إذا فُرِّجت ألا أزور الحوانيا يعني ألَِا يزور حانات الخمر التي كان يتردد إليها، ثم قال لـ سلمى زوجة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: [[إنني أُريدُ مِنك أمراً وأعاهدك أن أصدق فيه: فكي قيودي، وأعطيني هذه البلقاء -وهي فرس سعد رضي الله عنه- أُقاتل بِها، فإن قتلت فبها، وإن لم أُقتل، فإنني أحلف لك بالله، أن أعود حتى تضعي القيد في رجلي]] فلما رأت صِدقه، فعلت وفكت قيده، وأعطته البلقاء فركِبها، وصار يجول بالمشركين، فيبدأ بالميمنة، لا يبينُ له أحدٌ إلا قتله، حتى لعب فيهم لعباً، ثم جاء من خلف المسلمين إلى ميسرة الأعداء، ففعل بهم مثل ذلك، ثم جاء واقتحم صفوفهم في الوسط، وفعل فيهم الأفاعيل، والمسلمون ينظرون إليه ويتعجبون!! حتى إن سعداً، وهو قائد المعركة، يقول: [[والله لولا أن البلقاء مربوطة، لقلت هذه البلقاء، ولولا أن أبا محجن مأسور لقلت هذا أبو محجن، ما رأيتُ خيلاً أشبه بالبلقاء أشبه من هذه، ولا فارساً أشبه بـ أبي محجن من هذا]] . فلما انتهت المعركة جاء أبو محجن، وعادَ إلى البيت، فوضعت سلمى زوجة سعد القيد فيه، فلما جاء سعدٌ قصَّ خبر ما رأى لزوجته، فقالت له: [[هو والله أبو محجن]] فجاء سعد رضي الله عنه، وفَك عنه القيد بيده، وقال له: [[له لا جَرم، والله لا حبسناك أبداً]] فقال: أبو محجن: [[وأنا واللهِ لا شربتُ الخمر أبداً]] والقصة رواها عبد الرزاق وغيره من المصنِفين، وفيها من العِبر ما هو ظاهر، ومن أبرزها: صدق أبي محجن وإيمانه على رغم وقوعه في هذه المعصية، ومنها أن الإنسان يكون له حالات، إذا وجد من يستحث الإيمان في قلبه، ويحركه فإنه يقلع عن المعصية، فهذا أبو محجن الذي لم يفد فيه الضرب، والجلد، والحبس، والقيد، أفادت فيه كلمة صادقة من سعد، فيها تقديرٌ لبلائه وجهاده، حين قال له: [[لا جرم، والله لا حبسناك أبداً فقال: لا جرم وأنا لا شربت الخمرَ أبداً]] . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 14 تائبون من بني إسرائيل هناك نماذج أخرى للتائبين، لا تقل عجباً عن ذلك، وقد حدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم، عن توبة رجال من بني إسرائيل منها: ما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً! -رجلٌ جبار، شديد البطش، لا يُمر على أحدٍ فيخالفه في مسألة، إلا أعلاه بالسيف، ثم غادره وهو جثة هامدة، غير آبه بذلك، وقد تمرن على هذا الأمر واعتاده، ولكن ضميره استيقظ ذات يوم- فطفق يسأل الناس هل لي من توبة، فقيل إن هنا راهباً، فاذهب فاسأله، فذهب إلى هذا الراهب، فدخل عليه، وقال: هل لي من توبة؟ وقد قتلتُ تسعة وتسعين نفساً؟ فقال له: وأنى لك التوبة، وأمره أن يخرج من صومعته، فعلاه بالسيف وأكمل به المائة الذين قتلهم، وخرج من هذه الصومعة، يبحث عن أعلم أهل الأرض، فدُل على عالم، فقال له: إني قتلت مائة نفسٍ، فهل لي من توبة؟ قال له هذا العالم: ومن يحول بينك وبينها -سبحان الله! باب الله عز وجل مفتوح- لكل إنسان في كل وقت يريد أن يتوب إليه، إذا كان صادقاً في توجهه- ولكن لا تعُدْ إلى أرضك فإنها أرض سوء، واذهب إلى قرية كذا، وكذا فإن بها قوماًُ يعبدون الله عز وجل، فاعبد الله تعالى معهم -فنبهه هذا العالم إلى مسألة تغيير البيئة كما سوف أشُير إليه بعد قليل- فذهب هذا الرجل إلى هذه القرية، فلما كان في بعض الطريق، أتاه ملك الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة، وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة تقول: إنه رجل جاء تائباً مقبلاً إلى الله تعالى، وملائكة العذاب يقولون: إنه رجل لم يعمل خيراً قط!! فأرسل الله تعالى إليهم ملكاً في صورة رجلٍ فحكموه بينهم فقال: قيسوا ما بين القريتين، فأوحى الله عز وجل، إلى هذه القرية أن تباعدي، وإلى هذه القرية أن تقاربي، -وفي رواية أخرى- أن هذا الرجل جعل ينوء بصدره، "أي جعل يزحف بصدره" وهو في الاحتضار إلى تلك القرية التي هاجر إليها- فوُجد أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبر -فقط- فقبضت روحه ملائكة الرحمة!!} وهذا يذكرني بالقصة التي رواها الطبري وغيره، عند قول الله عز وجل: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] . فقد روى أن رجلاً من المسلمين حُبس بمكة، ومنعه أهله من الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمرض مرضاً شديداً، حتى أشفق عليه أهله ورقُّوا له، فكانوا يقولون: كما يقال للمريض -عادةً- تشتهي شيئاً؟ تريد شيئاً نحضره لك؟ فلا يرد عليهم، لا يريد طعاماً، لا يريد شراباً، لا يريد دواءً، إنما يرد عليهم بإشارة ضعيفة، يشير إليهم بيده هكذا، وهو في مكة، يعني أريد المدينة التي حرمتموني من الهجرة إليها، فرَقُّوا له وخرجوا به من مكة صوب المدينة، فلما خرج من مكة مات رضي الله عنه وأرضاه! وأنزل الله عز وجل قوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:100] . ومن عجيب قصص التائبين -أيضاً- من بني إسرائيل، ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن حبان وغيرهم، في قصة الكِفْل: أن الكفل كان رجلاً من بني إسرائيل، لا يتورع عن معصية، لا تبين له معصية إلا فعلها، كان رجلاً والغاً في الفجور والرذيلة، والزنا، وشرب الخمور، وغير ذلك من الفواحش والموبقات، مقيماً عليها، فأعطى امرأة ستين ديناراً على أن تُخلي بينه وبين نفسها، فلما قعد منها، مقعد الرجل من زوجته انتفضت وبكت!! فقال لها: ما يبكيك؟ هل أكرهتك؟ قالت لا، ولكن هذا أمرٌ لم أفعله، قال: فما حملكِ على ذلك؟ ما حملك أن ترضي مني بهذا؟ قالت: الحاجة، فقام منها وتركها، وقال: الستون ديناراً لك، وقال: والله لا عصيتُ الله تعالى أبداً، فأصبح ميتاً، وغفر الله تبارك وتعالى له!! وهذا من عجيب شأن التائبين أن الله عز وجل يوفق بعض عباده للتوبة، قبل أن تُقبض أرواحهم، وبعد دنو آجالهم، فكم من إنسانٍ نعلمه، وكم من إنسان لا نعلمه، يكون إقلاعه عن المعصية قبيل موته بقليل، مع أن موته قد يكون فجأةً، مصداقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في المتفق عليه: {إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها} . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 15 تائبون من الصحابة نجد كثيراً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ممن كان لهم قصص عجيبة في التوبة، ولعل من أشهرها توبة أبي خيثمة، وأبي لبابة، وسعد بن مالك رضي الله عنهم وأرضاهم. فتوبة ماعز، الذي جاء، -كما في الصحيح- إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {يا رسول الله زنيت فطهرني، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لعلك غمزت، لعلك قبلت، لعلك كذا، لعلك كذا، يفتح له أبواب العذر، قال: لا يا رسول الله قال: أبك جنون قال: لا. وسأل عنه، فوجد رجلاً عاقلاً، واستنكهوه فلم يوجد فيه رائحة الخمر، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرجم، وأخبر بصدق توبته عليه الصلاة والسلام} . وأعجب منه الغامدية الجهنية، التي جاءت إليه عليه الصلاة والسلام تذكره ذنبها، قالت: {يا رسول الله، لقد زنيت فطهرني، فكأنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم سيردها، فقالت: لعلك تريد أن تردني، كما رددت ماعزاً، فو الله إني لحبلى من الزنا} . هذه هي التوبة، التوبة: ندم يحرق القلب، وخز في الضمير، عذاب يقلق الإنسان، فلا يستقر ولا يهدأ، حتى يكفر عن ذنبه، فتأتي هذه المرأة -وهي امرأة فيها طبيعة المرأة من الضعف الذي جبلت عليه- ومع ذلك تأتي، وهي تعلم، ما هي العقوبة المقررة على مثلها من الزناة المحصنين، أنه الرجم بالحجارة حتى الموت، ومع ذلك تقول: لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً، والله إني لحبلى من الزنا، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: {أما لا فاذهبي حتى تلدي} عندها فرصة تسعة أشهر، أو ثمانية أشهر، فربما لم تعد، لكنها عندما ولدت أتت بالصبي، {يا رسول الله هأنا قد ولدت، قال لها: اذهبي حتى تفطميه} كما في بعض الروايات، فتذهب وأمامها ربما سنتان، فكان بإمكانها أن لا تعود، والعجيب أيها الإخوة، أن سنتين وتسعة أشهر كافيه في لهدوء هذا العذاب الموجود في قلب الإنسان، فالمعتاد أن الإنسان إذا وقع في المعصية يندم في ساعتها، لكن مرور الأيام والليالي يخفف من حدة العذاب الموجودة في قلبه، لكن هذه المرأة بعد سنتين وتسعة أشهر تأتي بالصبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تقدم الدليل المادي للرسول صلى الله عليه وسلم، أن هذا الصبي قد فطم فعلاً، وأصبح يأكل الخبز: {يا رسول الله هذا قد فطمته} فيرجمها المسلمون، ويشهد النبي صلى الله عليه وسلم بصدق توبتها -هي الأخرى- كما شهد بصدق توبة ماعز رضي الله عنهم أجمعين. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 16 شروط التوبة دائماً ما تجد التائبين من أرق الناس قلوباً، وأقربهم دمعاً، وأكثرهم خشوعاً، وأسرعهم إلى الخير، ولذلك فإن مجالسة التائبين فيها ترقيق للقلوب، وإحياءٌ لما كاد أن يموت منها، وباب التوبة مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 17 التخلص من حقوق العباد أيها الإخوة وهناك شرط سادس لمن كان ذنبه تقصيراً في حقوق بعض العباد أو ظلماً لهم، بأخذ مال، أو غيبة، أو نميمة، أو ظلم بأي وجه من الوجوه، فإنه لابد أن يخرج من هذه الْمَظْلَمة، فإن كان مالاً رده، وإن كان غيبةً استحله، إلا أن يرى في ذِكْرِ ذلك له ضرراً، فحينئذٍ عليه أن يُكثر من الاستغفار له، وذكره بما في فيه من الحسنات والفضائل، في المجالس التي اغتابه فيها. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 18 قبل الغرغرة هناك علامة خاصة بالنسبة لكل إنسان، وهي: (الغرغرة) فإن العبد إذا غرغرت روحه وبلغت الحلقوم، فحينئذٍ لا تُقبل توبته، ولذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:17-18] . وفي الحديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} فحينئذٍ إذا غرغرت الروح، وعاين الإنسان الملائكة، لا تنفعه التوبة (الذين يعملون السوء بجهالة) . كل من وقع في المعصية، فهو جاهل لحق الله تعالى وقدره، وكل من تاب قبل أن تُغرغر فقد تاب من قريب، ثم يتوبون من قريب، وإن كان في الآية دلالة على أن الإنسان ينبغي أن لا يتهالك في المعصية، ولا يتوغل فيها، ولا يؤخر التوبة، فربما يريد أن يتوب فتقبض روحه على غير توبة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 19 أن تكون في زمن القبول ومن شروط التوبة: أن تكون في زمن القبول، وزمن القبول يعني أن تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها، فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها، كما قال الله عز وجل في محكم تنزيله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] . ولذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} والحديث في صحيح مسلم، وفي الحديث السابق -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمسُ من مغربها} فهذه العلامة لا ينفع بعدها إيمان، وهي علامة عامة بالنسبة للناس كلهم. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 20 الإقلاع عن الذنب من شروط التوبة الإقلاع عن الذنب، والاستغفار بنية صادقة، فإن الإنسان قد يستغفر الله، من قوله أستغفر الله، وهذا يقع مثل: أن يقول إنسانٌ أستغفر الله على سبيل السخرية، فيقول: معاقر الخمر -مثلاً- أستغفر الله، ثم يأخذ كأساً من الخمر، ويحتسيه، أو يقول آكل الربا: أستغفر الله، اكتب يا فلان، ثم يكتب عقداً ربوياً، أو ما أشبه ذلك، فهذا حاله حال المستهزئ، فحين يأذن الله له بتوبة نصوح، فإنه يستغفر الله من هذا الذنب، ويستغفر الله من استغفارٍ كان فيه ساخراً، مستهزئاً، غير جاد، ولا صادق، فلابد من الإقلاع عن الذنب الذي يقع فيه الإنسان، ولابد من عقد العزم الصادق على ألا يعود، إلى الذنب مرةً أخرى. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 21 الندم ولابد من الندم على ما مضى، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {الندم توبة} فإن أصل التوبة الندم، أصل التوبة أن إنساناً وقع في معصية فندم، فصار يبحث عن مخرج، ولاشك أن النادم ندماً حقيقياً سيترك المعصية، ويبحث عن مخرج، ويتوب إلى الله تبارك وتعالى، فلابد من الندم على ما مضى. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 22 العزم على عدم العود إلى المعصية ومن شروط التوبة (الإخلاص) ولذلك قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] . ولا تستغربون أننا نعلم من بعض الناس أنه قد يتوب إلى الله توبة مؤقته، وتلاحظون -مثلاً- أن بعض الناس أو بعض الشباب، إذا جاءته أزمة معينة، كأزمة الاختبار -مثلاً- بدأ يتردد على المسجد، فإذا انتهت هذه المناسبة، عاد إلى ما كان عليه من قبل، وشابُُ آخر إذا هم بالزواج، وأصبح يحس بأن من المهم أن يأخذ الناس صورة مشرفة عن شخصيته، بدأ يتردد على المسجد، فإذا حصل له ما يريد تنكر. صلى وصام لأمرٍ كان يطلبه فلما انقضى الأمر لا صلى ولا صاما وهذا موجود، وملحوظ، ومن كان هذا شأنه، ففيه شبه من بعض الوجوه من الذين كانوا إذا {رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65] فالله عز وجل معبود في حال الرخاء والشدة، والرسول صلى الله عليه وسلم، يقول في حديث ابن عباس عند الترمذي وأحمد وغيرهما: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 23 تكرر التوبة والمعصية وبمناسبة ذكر شروط التوبة، أشير إلى مسألة تخفى على كثير من الناس، وهي أن بعض الناس يتوبون إلى الله عز وجل، ثم يقعون في المعصية مرة أخرى، ثم يتوبون، ثم يقعون في معصية، وهذا غالباً ما يقع لأصحاب الشهوات، تجد شاباً -مثلاً- ينظر نظرة حرام، ينظر إلى امرأة، ينظر في المجلات، ينظر في الأفلام، ينظر إلى النساء، ينظر إلى مردان نظرة شهوة، أو تجده يقع في العادة السرية -مثلاً- أو قد يقع في الزنا، إلى غير ذلك من الشهوات، التي يغلب أن الواقع فيها إذا انتهى منها يُحس بالندم، فيقلع ويتوب، ولكن مع مضي الأيام يضعف وازع التوبة، ويقوى وازع المعصية؛ لضعف الإيمان في قلبه، فيقع مرةً أخرى، فإذا انتهى من المعصية، وذهبت اللذة، تذكر الإثم وشعر بالندم، حتى يقول له الشيطان: يا هذا أنت تتلاعب، ولا داعي أن تتوب؛ لأنك تعلم أنك ستقع في المعصية مرة أخرى، فييئسه من التوبة، وبعضهم قد يستدل بكلمة مشتهرة على الألسنة وهي: "ذنبٌ بعد توبة أشد من سبعين ذنباً قبلها"، وهذا كلام لا أصل له، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، ذكر في الحديث الصحيح، في مسلم: {قصة الرجل من بني إسرائيل، الذي أذنب ذنباً، وقال: يا رب إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب أخرى، فقال: ربِّ إني أذنبت ذنباً فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب مرةً ثالثة، فقال: ربِّ إني أذنبتُ فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت، فقد غفرت لك} نحن لا نستطيع أن نقول: إن فلاناً من الناس، قال الله عز وجل له: افعل ما شئت، فقد غفرت لك، ولذلك لا يكون في مثل هذا مدعاة للإنسان: أن يُقدم على المعصية، لأن كل مؤمن في قلبه وازع يبعد عن المعصية، مهما كان الأمر، ولذلك الصحابة الذين قال الله عز وجل لهم: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] كأصحاب بدر، كانوا من أكثر الناس كراهية للمعاصي والآثام، وإحجاماً عنها، وإقبالاً على الطاعات، وخوفاً من رب الأرض والسماوات، مع أن الله عز وجل اطلع عليهم، وقال: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] فلا يغتر إنسان بمثل هذا، بل ينبغي أن يخاف من ذنوبه. المهم أن الحديث يدل على أن تكرار وقوع الإنسان في الذنب، لا يدعوه إلى أن يترك التوبة، خوفاً من أنه ينقضها، وإذا تاب بصدق، تاب الله عليه، فإذا وقع في المعصية مرة أخرى، لا تنتقض توبته السابقة، بل توبته بحالها، ولا يكتب عليه إلا الذنب الذي فعله بعد التوبة، وهكذا، ولعل الإنسان أن يكتب له توبة نصوح، ولعله أن يموت على توبة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 24 العوامل التي تساعد على صدق التوبة أيها الإخوة أخيراً أذكر بعض العوامل التي تُساعد على التوبة وعلى صدق التوبة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 25 تغيير البيئة الأمر الثالث: ينبغي للإنسان أن يُغير البيئة التي تدعوه إلى فعل المعصية، فالمعصية لها أسباب، والطاعة لها أسباب، فمن جالس المصلين صلى، ومن جالس المولين ولى، ومن جالس قوماً كان منهم، وحُشِرَ معهم، ولذلك الإنسان غالباً ما يكون وقوعه في المعصية بسبب القرناء، والمجتمع والبيئة، فعليه أن يغير بيئته، يغير أصدقاءه ولذلك، قال ذلك العالم الإسرائيلي للرجل الذي تاب: لا تعد إلى قريتك فإنها أرض سوء، وهو يعلم أنه إذا رجع إلى القرية، ربما وقع في المعصية رقم مائة وواحد، ولكن اذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن بها قوماً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله تبارك وتعالى معهم، فلابد من البحث عن القرناء الصالحين. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 26 عدم القنوط واليأس الأمر الرابع: هو عدم القنوط واليأس، فإن هذا من أعظم مداخل الشيطان على الإنسان، والإنسان الواقع في المعصية غالباً يداخله شيء من اليأس، مع شيء من الاحتقار للنفس، واحتقار النفس شعور طيب، لكن اليأس لا يجوز {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] . وفي مثل هذه الحال، يُذكَّر العاصي بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي هريرة، الذي رواه مسلم: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم} وبمثل قوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث السابق {كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} وكيف يقنط الإنسان من رَوْح الله ورحمته؟! والله عز وجل يقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70-71] . على العاصي أن يتذكر أنه بتوبته أبدل الله سيئاته حسنات، والمعنى والله أعلم: أن الله تعالى كتب له في كل ذنبٍ كان يفعله توبةً من هذا الذنب، والتوبة حسنة، يثاب عليها، فيكون له يوم القيامة بكل ذنبٍ فعله توبةُُ يؤجر عليها، ولذلك، جاء في حديث مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة. ثم ذكر عليه الصلاة والسلام، أنه يؤتى برجل، فيقول الله عز وجل: اعرضوا عليه صغار ذنوبه، ونحُّوه أو ارفعوا عنه كبارها فيقال له: أتذكر يوم كذا ذنب كذا وكذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وكذا؟ وهو يقول: نعم، نعم. لا يستطيع أن يُنكر شيئاً من ذلك، فيقول الله عز وجل له: فإنني قد غفرتها لك، وأبدلتها حسنات -أو كما قال عز وجل، وهذا الإنسان يتذكر أن له ذنوباً عظيمة، فعندما كانت الذنوب عليه وهو ساكت، لكن لما رأى أن ذنوبه قد أبدلت حسنات- قال: يا ربِ عملت ذنوباً، لا أراها هاهُنا، أين المعاصي الكبار؟! التي عملتها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بدت نواجذه} . هذا مما يدل على طبيعة الإنسان، الذي يفرح بالغُنْمِ، ويطالب به، ويسكت عن الغرم، فيوم كانت الذنوب عليه وهو ساكت، لكن لما صارت له، صار يطالب بها، وله بكل سيئة حسنة، كما رجح ابن القيم في طريق الهجرتين، وكما نقل عن الزجاج وغيره، أن المعنى: له بكل سيئةٍ حسنةٌ لتوبته من هذه السيئة، وإلا فالسيئة بذاتها، لا تكونُ حسنة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 27 إظهار منابع الخير وأخيراً: فإن من العوامل المساعدة على التوبة، أن يعمل الإنسان على تفكيك منابع الخير في نفسه، قد يكون الإنسان فيه ضعف من ناحية، ولكن فيه قوة من ناحية أخرى، وكل إنسان منا هو ذلك الرجل، ولضيق الوقت اكتفي بضرب مثال: قد يكون الإنسان باراً بوالديه، محسناً لأقاربه، حريصاً على صلاة الجماعة، حريصاً على الصدقة، مبسوط اليد بالإنفاق، كثير الاستغفار، سريع الدمعة، رقيق القلب، ولكن عنده عيب: وهو أنه عنده اندفاع في شهوته، فربما يقع في المعاصي، فيما يتعلق بالشهوات، وباب التوبة مفتوح من هذه المعاصي، لكن من الوسائل التي أشير إليها الآن، التي تساعد الإنسان على التوبة، أن يحرص على مضاعفة الأعمال الصالحة الموجودة في نفسه، وتكثيرها حتى تغلب على حياته وقلبه، والله عز وجل يقول: {َأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] . خاتمة: إخوتي الكرام أسأل الله عز وجل، في هذا المجمع الطيب المبارك، بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا، وهو الجواد، الكريم، المنان، الحنان، المتفضل، أن يمن عليَّ، وعليكم جميعاً، بتوبةٍ نصوح، وأن يكتبنا في هذه الساعة من التائبين المنيبين إليه، المقبولين لديه، وأن يقينا شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيءٍ قدير، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، اللهم تب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك، ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 28 قوة العزيمة فمن ذلك قوة العزيمة، فإن خور العزيمة وضعفها، من أسباب الوقوع في المعاصي والآثام، ومن أسباب كون الإنسان يتردد يتوب اليوم، ويعصي غداً، ويتوب غداً ويعصي بعد غد، ولذلك تلاحظون أن بعض الناس، الذين يكون عندهم إيمان، وعندهم معاصٍ، تجد أحدهم يقول: لله علىَّ نذرٌ أن لا أقع في هذه المعصية، لله علي نذرٌ إن وقعت في هذه المعصية أن أصوم ستة أشهر، أعاهد الله ألا أقع في هذه المعصية، والله لا أعود، إلى غير ذلك من الأشياء التي ينبغي أن يحذر الإنسان منها، لأنه لا يلجأ إليها إلا ضعيف العزيمة، الذي يشعر بأن في عزيمته خوراً وضعفاً، فيلجأ إلى تقويته بالنذر والعهد واليمين وما أشبه ذلك، والله عز وجل يقول: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} [النور:53] ويقول: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة:75-77] . وقد يجر الإنسان لنفسه بسبب العهد، والنذر، واليمين، حرجاً عظيماً لا يستطيعه، فعلى الإنسان أن يتجنب مثل هذه الطريقة، بل يحرص على تقوية عزيمته، بالوسائل الأخرى، ولكن قوة العزيمة من أعظم الوسائل المعينة على التوبة. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 29 كثرة الدعاء ومن الوسائل: كثرة الدعاء، فإن الله عز وجل قريب، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ينبغي أن نعلم -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا دعا الله بضرورة، فإن الله لا يرده، وقد يجيب الله دعاء الكافر؛ لأنه دعا بضرورةٍ تامة، أنه ليس له إلا الله عز وجل، وهذا أمرٌ مشهود في الواقع وفي التاريخ، وله نماذج كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها، فكيف بالمؤمن إذا دعا الله مضطراً؟ فكيف إذا كان دعاؤه يتعلق بالتخلص من معصية؟ والاستقامة على أمر الله عز وجل، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] والدعاء من الجهاد، ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] والدعاء من الهداية، إلى غير ذلك، فينبغي للعبد أن يُكثر من دعاء الله عز وجل. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 30 الأسئلة الجزء: 93 ¦ الصفحة: 31 طريقة التوبة السؤال ابتلي بعادة سيئة، ويريد أن يتوب، فماذا عليه أن يفعل؟ الجواب سبق أن بينت خلال هذه المحاضرة، من أولها إلى آخرها، ماذا عليه أن يفعل، والتوبة في الإسلام ليس فيها طقوس، كل ما في الأمر، أن تقبل على الله عز وجل، بقلبٍ صادقٍ نادم، وتقول: ربي إني أذنبت فاغفر لي، وتترك هذه المعصية، ولا تعود إليها، وتعمل على إزالة الأسباب التي توقعك في هذه المعصية، فإذا كانت معصية شهوة، اترك النظر الحرام، سماع الغناء، مشاهدة المسلسلات، والأفلام، النظر إلى المردان، النظر إلى النساء، صحبة الأشرار، وأقبل على الطاعات، حتى يمتلئ قلبك من حب الله ورسوله. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 32 كتب تناسب طلب العلم 4000115 السؤال نحن نساء نريد أن نطلب العلم، فحبذا لو ترشدنا إلى بعض كتب العقيدة، والحديث والفقه والسيرة التي تناسبنا، كنساء في طلب العلم؟ الجواب الكتب كثيرة فمن كتب العقيدة، كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وكتب الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، وكتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وكتب الأشقر في العقيدة، فهذه كتب كلها طيبة، وينبغي أن يحرص المسلم والمسلمة على قراءتها، أما الفقه، فمن الكتب المفيدة: كتاب الروضة الندية، لـ صديق حسن خان، والدراري المضيئة للشوكاني، وكتاب فقه السنة لـ سيد سابق، وكتب وأشرطة الفقه لعلمائنا المعاصرين كالشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين وغيرهم، وأما الحديث فمن الكتب الجامعة في الحديث النبوي: كتاب رياض الصالحين، في المواعظ والآداب والرقائق، والأحكام العامة، وهو من أكثر الكتب فائدة وأكثرها قبولاً، ولا يستغني عنه بيت، ومن الكتب الموسعة في ذلك: جامع الأصول الذي جمع فيه مصنفه الكتب الستة، يعني الصحيحين وأبى داود والترمذي والنسائي، والموطأ للإمام مالك، وكذلك مجمع الزوائد للهيثمي الذي جمع فيه زوائد الطبراني في الكبير والصغير والأوسط والبزار، وأبي يعلى والإمام أحمد، وهذه الكتب جامعة وشاملة ومن أراد الاختصار، فيعليه كما أسلفت برياض الصالحين، وهناك كتب في الأحكام، جمعت أحاديث الأحكام، كعمدة الأحكام للمقدسي، والمنتقى للمجد ابن تيمية، وبلوغ المرام لـ ابن حجر، وغيرها من الكتب، أما في السيرة فإن عمدة أهل السير، سيرة ابن هشام، ولذلك كان محمد بن إسحاق أمير المؤمنين في السيرة لسعة علمه بها، وقد تُلُقِّيت عنه بالقبول، وقد اختصرت سيرة ابن هشام، في مختصرات عديدة، أحدها لـ عبد السلام هارون، بعنوان تهذيب سيرة ابن هشام، وهو تهذيبٌ طيب مفيد، وهناك مختصرات أخرى يمكن الاستفادة منها، وهناك الفصول في اختصار سيرة الرسول للحافظ ابن كثير. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 33 نصيحة للمرأة السؤال نرجو منكم تقديم نصيحة للمرأة التي إن حُدِّثَتْ عن التوبة وضرورتها خشعت، وتحمست لها، ولكن عندما تأخذها الدنيا وزخرفها يظهر منها بعض التقصير، ثم إذا قرأت كتاباً مفيداً، أو استمعت إلى شريط إسلامي، عادها الحماس نفسه للاستقامة والتوبة، وجزاكم الله عنا خيرا؟ الجواب هذا يدل على أن هذه المرأة معدن خير، وفيها خير وقابلية، ولذلك ينبغي عليها أن تحرص على أن تلقي بنفسها في وسط مؤمنات، كما ذكرت وكررت، وأكدت، ولا أمل من تكرار ذلك، إن الذي يتوب عليه أن يغير بيئته، كل من تاب إلى الله عز وجل، نقول: غادر بيئتك، فإنها أرض سوء، أو بيئة سوء، إلى بيئةٍ أخرى، ولا أعني بمغادرة البيئة أن يترك البلد إلى بلد آخر، لا. قد يترك الزملاء والأصدقاء الذين هم سبب في وقوعه في المعصية، وينتقل إلى زملاء يكونون عوناً له على طاعة الله عز وجل، فالمرء من جليسه، كما أن على هذه المرأة أن تكثر من قراءة الكتب وسماع الأشرطة، فالحسنات، تجر الحسنات، والسيئات تجر السيئات، وأنت إذا رأيت عند هذا الإنسان المعصية، فاعلم أن عنده أخوات لها، وإذا رأيت عنده طاعة، فاعلم أن لها أخوات، وكلما أكثر الإنسان من الطاعات، هربت المعاصي، وإذا أكثر من المعاصي، هربت الطاعات، إذا كَثُرَ دخول الملائكة في بيت، تضايق الشياطين وخرجوا، وإذا كثر تردد الشياطين عليه، تضايقت الملائكة وخرجت، فهذه المواد المتقابلة المتضادة، لا تكاد تجتمع في قلب إلا يتغلب أحدها على الآخر فيطرده. أسأل الله لي ولكم القبول، وصلاح القول والعمل، اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا، اللهم لا تؤاخذنا بسيئاتنا، اللهم لا تؤاخذنا بخطايانا، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تظل بها من تشاء، وتهدي بها من تشاء، أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا، وأنت خير الغافرين، واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم صلِّ وسلم، وزد وبارك، وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 34 صلاة التوبة السؤال إذا تاب المسلم، فهل يجوز له أن يصلي صلاة التوبة التي هي ركعتان؟ الجواب هذا مستحبٌ وهي في السنن، لحديث علي رضي الله عنه، أنه كان يقول: [[كنتُ إذا سمعتُ من النبي صلى الله عليه وسلم، حديثاً نفعني الله به، وإذا حدثني أحدٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً استحلفته، فإن حلف لي صدقته، وقد حدثني أبو بكر، وصدق أبو بكر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبدٍ يذنب ذنباً فيصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أذنبتُ فاغفري لي، إلا غفر الله له} ]] أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فيستحب للتائب أن يصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أذنبتُ فاغفر لي، اللهم أني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 35 الاستغفار للوالدين السؤال ما هي كيفية الاستغفار للوالدين؟ الجواب الاستغفار للوالدين أن يقول: ربنا اغفر لي ولوالديَّ، وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، وقد يدعو لأحدهما، فيقول: اللهم اغفر لأبي، وإن كان ميتاً، فلا بأس، فيقول: اللهم أغفر لأبي، اللهم ارفع درجته في المهديين، وبارك له في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره، ونور له فيه، إلى غير ذلك من الأدعية. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 36 أهمية الصلاة السؤال في هذه المحاضرة، شباب هداهم الله لا يصلون، أرجو منكم كلمة صغيرة عن الصلاة، لعل الله أن يهديهم أن يتوبوا؟ الجواب مسألة الصلاة شأنها عظيم، والله عز وجل وصف المشركين بأنهم: هم الذين لا يصلون، فقالوا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] وفي الحديث عند مسلم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقال: الشرك والكفر، فعرفه بأل، ولذلك ذهب كثير من أهل العلم، إلى أن كفر تارك الصلاة، حتى من غير جحود، ولا إنكار لوجوبها كفر أكبر ناقلٌ عن الملة، وفي السنن يقول صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وعند الترمذي، من قول عبد الله بن شقيق والحاكم من قول أبي هريرة: [[لم يكن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر، غير الصلاة]] فمن كان مسلماً لا بد أن يصلي، وإذا كان يريد ديناً آخر غير الإسلام فهو وما أراد لنفسه. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 37 الذنوب في البلد الحرام السؤال ورد أن الذنوب في البلد الحرام مضاعفة، ما مدى صحة ذلك؟ الجواب الصحيح الذي أعلمه أن الذنوب لا تضاعف، لأن الله من كرمه وعدله، أنه إذا عمل عبده ذنباً كتبه عليه سيئةً واحدة، كما في الحديث القدسي: {إذا هَمَّ عبدي بسيئة، فعملها، فاكتبوها عليه سيئةً واحدة} وهو في صحيح مسلم وغيره، وأما في البلد الحرام، فإن المعصية وإن لم تضاعف، إلا أن المعصية قد تكون أعظم من حيث الكيفية لا من حيث الكمية من المعصية في غير الحرم، فإن العاصي في الحرم، إضافة إلى وقوعه في المعصية انتهك حرمة البلد الحرام، ولذلك قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] . الجزء: 93 ¦ الصفحة: 38 توبة بعد معصية السؤال إنني شابٌ كانت لي معاصٍ كثيرة، ووفقني الله تعالى إلى التوبة، فتركت المعاصي، والتزمت بالسنة، واستقمت على أوامر الله، واستبدلت أصدقاء السوء بأهل الخير؟ الجواب الصحيح في العبارة: "استبدلت أهل الخير بأصدقاء السوء" فالباء تدخل على الذاهب لا على الذي جاء، ولذلك قال الله عز وجل: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61] . وكذلك قول الأخ إنني فعلت وفعلت، فهنا نكتة يذكرها بعض الإخوان، لما ذكر سؤالاً كهذا، قال: لكنه لم يذكر أنه شهد بدراً! فلا ينبغي للإنسان أن يبالغ في الثناء على نفسه في مثل هذه الأوصاف، فهذا قد يكون نوعاً من تزكية النفس، وإن كان على الإنسان أن يذكر بعض حاله بأسلوبٍ آخر. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 39 عدم الندم على المعاصي السؤال المشكلة عندي: أنه في بعض المرات تعرض في ذهني الصور والمعاصي في الماضي، ولا أجد في قلبي الحسرة والندامة الحقيقية عليها، وهذا مما يجعلني أشك في قبول التوبة، وأنا أسأل هل هذه من وساوس الشيطان، أم أنها الحقيقة، فأرشدوني إلى الطريق الصحيح؟ الجواب مما لا شك فيه: أن توبة الناس تتفاوت تفاوتاً عظيماً، كما أن أعمالهم الصالحة تتفاوت، بحسب قوة النية ووازعها، والذي يظهر لي أن هذا الإنسان -إن شاء الله- تائب، ولكن توبته تحتاج إلى مزيد تقوية، وصدق، حتى يصبح عنده كرهٌ للمعاصي، ويصبح ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات:7-8] . إن كون هذا الأخ يسأل هذا السؤال، يدل على أن عنده -فعلاً- كراهية لهذه المعاصي، وشعوراً بوجود كراهيتها، وحسرة أو شيئاً في قلبه على ما يجده، وهذا بشيرُ خير، لكن عليه أن يضاعفه ويزيد، لأن من عنده ضعيف، ينبغي أن يزاد لا أن ينقص. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 40 الستر أم التسليم للقضاء السؤال هل مطلوبٌ ممن وقعت منه معصية، وتاب إلى الله توبةً نصيحا، وندم أشد الندم، أن يسلم نفسه للقضاء ليأخذ مجراه، ويقام عليه الحد، أم ماذا؟ الجواب الذي يظهر لي أن الأولى في حقه، أن يستر نفسه، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ماعز، كما سبق، وقد ورد في بعض الأحاديث؛ أنه قال: {من وقع في هذه القاذورات بشيءٍ فليستتر، فإنه من يُبدِ لنا صفحته، نقم عليه كتاب الله} والحديث السابق: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} فما دام أنه تاب إلى الله عز وجل وأناب، فأرى أن يستر على نفسه. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 41 معنى أن الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم السؤال ما معنى قول: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} ، وهل يدري الشيطان ما الذي في نية الإنسان وما في قلبه، مع أنه لا يعلم الغيب؟ الجواب وهذا السؤال قد يرد وأمثاله كثير، لكنه من الأسئلة، التي لا طائل تحتها، ولا جدوى من ورائها، فإننا جميعاً نحس بوسوسة الشيطان، ونلمسها في واقعنا، وفي قلوبنا، وفي كونه يحاول أن يثنينا عن أعمالنا الصالحة، ولذلك تجد الواحد منا إذا وقف يصلي، فأطال الإمام في الصلاة، فقرأ -مثلاً- في صلاة المغرب -ولا أقول أطال إطالة غير مشروعة، لكن أطال عن غير المعتاد- فقرأ في صلاة المغرب، والسماء والطارق، والشمس وضحاها، خرج كل واحد منا، وهو يقول هذا الإمام هداه الله، يبدو أنه أخطأ وظن أننا في قيام رمضان، استثقلنا واستطلنا خمس دقائق بين يدي الله عز وجل، لكن حين يخرج الواحد منا من باب المسجد، يقف مع صديقه يتحدث معه في أحاديث طويلة وعريضة، وقصص وذكريات، وأمور دنيوية، فربما تمر عليهم ساعة أو ساعتان، فإذا نظر الإنسان إلى الساعة، فقال: -سبحان الله! - منذُ ساعة ونصف ونحن هنا، فقد مضى عليهم الوقت وهم لا يشعرون! فهذا من أعظم الأدلة على شدة وسوسة الشيطان للإنسان، تخلى عنك حين كنت خارج المسجد، لكن عند أن كنت واقفاً في الصف وسوس إليك، كيف يوسوس؟ هل هو ينفث في قلبك، حتى تصل الوسوسة، أم غير ذلك؟ هذا كله علمه عند الله عز وجل، وعليك أن لا تشتغل بذلك، لكن تشتغل بدفع هذه الوسوسة، بقدر ما تستطيع. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 42 تجزئة التوبة السؤال هل لكل ذنبٍ توبة، أم أنه يشترط التوبة لجميع الذنوب جملةً واحدة، لكي يتم قبولها، من هذا الشخص؟ الجواب في الواقع أن التوبة تَتَبَعَّض، فقد يتوب الإنسان مثلاً من الكفر، ولكنه يظل مصراً على شرب الخمر كما هي الحال فيما سبق في قصة أبي محجن، وإن كان تاب أخيراً من كل ذلك، وقد يتوب المسلم من بعض المعاصي دون بعض، فالتوبة تجب ما قبلها، فمن تاب تاب الله عليه، وعفا عنه ما عفا من هذه المعصية، لكنه يؤاخذ بجرمه في معصيةً أخرى. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 43 نصيحة لمن يفتخرون بالمعاصي السؤال يوجد بعض الذين يقولون: إنهم تابوا من فعل المعاصي، كالزنا وغيره، ثم بعد ذلك التقوا في مجلس من المجالس تذكروا تلك الأيام، وتذكروا من كانوا يعاشرون بالحرام، ويضحكون، ويوردون التفاصيل عن هذه الماضي، ثم لا يذكرون نعمة الله عليهم، بِأنْ منَّ عليهم بترك هذه الكبائر، أرجو الوقوف عند هذه المسألة؟ الجواب أولاً: الواقع أن هناك قضية خطيرة أيها الإخوة، لا تقل خطورة عن المعصية ذاتها، وهي مسألة المجاهرة، والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول في الحديث -الذي أشرتُ إليه فيما سبق-: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، ثم يصبح وقد ستره الله عز وجل، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وأصبح يكشف ستر الله عليه} والمجاهرة من أخطر ألوان المعاصي، المستتر يدل استتاره -غالباً-: على أنه يدرك أنها معصية، ويستحيي من إظهارها، وأما المجاهر: فهو يدل على وقاحته، وقلة دينه، وربما دل على عدم إيمانه بتحريم هذه المعصية، ولذلك حكم الرسول عليه الصلاة والسلام، بأن المجاهر غير معافى، فكيف يتصور أن إنساناً تاب من معصية، يفتخر بها!! حقيقة هذا الافتخار يدل على أن هذا الرجل مجاهر بالمعصية، فالواقع أن التائب يكره ذكرها، بل إذا مر ذِكرها في قلبه أسود وجه، وأظلمت الدنيا في عينيه، أما من يتبجح بالمجالس بأنه فعل كذا وفعل كذا، وفعل كذا، فهذا في توبته نظر، وكلامه في هذا المجلس هو في حد ذاته معصية عظيمة، يجب التوبة منها. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 44 اختيار القرين الأصلح السؤال نفسي تواقة إلى التوبة إلى الله عز وجل، وكنتُ تعرفتُ في بداية التزامي على شبابٍ يلتزمون بالإسلام، ويدعون إليه، لكن ألاحظ عليهم التساهل في أمور الدين، وإقبالهم على الحياة، ومع ذلك فإني صاحبتهم، وكلما أردت أن أتركهم وأتوجه إلى غيرهم، ممن أحسبهم -والله حسيبهم- أهل خيرٍ وتقوى، عذلني أصحابي، وقالوا: كلنا على خيرٍ وصلاح، فما رأيك؟ وللأسف نتيجة صحبتي لهم، تتردى حالي يوماً بعد يوم؟ الجواب الذي أنصح به الأخ، ألا يُقْصِر صحبته على هؤلاء القوم من أصحابه، فإنهم ماداموا فيهم خير وأهل خير، لا ينبغي تجنبهم والبعد عنهم، لكن لا ينبغي للإنسان أن يقصر نفسه عليهم، بل ينبغي أن يتجه إلى من ذكر ممن يعتقد أنهم أهل خير وصلاح، وأنهم أقرب إلى الله تعالى زلفى، ويستفيد مما عندهم، وينبغي أيضاً أن يدرك أنه مسئول عن نفسه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] فالعبد محاسب يوم القيامة وحده، ليس معه زملاء، ولا إخوان ولا أصدقاء. الجزء: 93 ¦ الصفحة: 45 كيف ننشر السنة؟ إن سنة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، بل لا يكون العمل متقبلاً إلا إذا كان موافقاً للسنة، فلابد علينا أن نعزم على اتباع السنة، وتعلمها وتعليمها للناس، والدعوة إليها والصبر في سبيل ذلك، والسنة هي سفينة نوح، من ركب فيها نجا ومن لم يركب فيها هلك وزاغ وضل؛ لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن مفهوم السنة ، ثم ذكر واجبنا تجاه السنة، وبعض الوسائل التي تعين على نشر السنة بين الناس. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 1 مفهوم السنة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الإخوة كلمة السنة تطلق على معانٍ متعددة لا بد من الإشارة إليها في البداية، حتى يكون الموضوع أكثر تحديداً. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 2 مفهوم السنة عند الفقهاء وهناك معنىً ثالث للسنة وهو ما يستخدمه الفقهاء, فالفقهاء حين يقولون -مثلاً-: هذا العمل سنة, يقصدون أنه ليس بواجب، وإنما هو سنة يثاب فاعلها تديناً وتعبداً لله جل وعلا، ولا إثم على تاركها. فيستخدمون السنة بمعنى أنه أمر مشروع لكنه ليس بواجب, فلذلك يقولون في كثير من الأشياء: إن هذا الأمر سنة, كرفع اليدين في التكبير، يقولون: سنة, يقصدون أنه ليس بواجب, لكنه مطلوب من الإنسان على سبيل الندب لا على سبيل الوجوب. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 3 المقصود بالسنة في هذا الحديث فأي من المعاني نريد الآن؟ حين نتحدث عن السنة، وكيف ننشرها بين الناس؟ الحقيقة أن المقصود الأصلي، هو أقرب إلى المعنى الثاني، وإن كان ليس مطابقاً له؛ لأن هناك معنىً عرفياً شائعاً عند الناس حول السنة, هو الذي أقصده في هذا الحديث, وذلك أن الناس إذا قالوا: فلان ملتزم بالسنة يعنون أن فلاناً هذا ملتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم, الهدي الظاهر المتعلق بالهيئة والصفة, كأن يكون هذا الإنسان معفياً لشعر لحيته مقصراً لثوبه محافظاً على الصلاة في الجماعة, وغيرها من العبادات بالصفة الشرعية التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا يدخل فيه أشياء واجبة, وأشياء مستحبة ومندوبة, وكلها تسمى عند الناس السنة, ولا بأس بهذا, لأن هذا من باب إطلاق اللفظ على بعض أفراده, فإن هذه الأشياء ليست السنة كلها, لأن السنة تشمل الدين كله في الواقع, إنما هذه بعض السنة, ولا بأس من إطلاق الكل وإرادة الجزء, فهذا هو المقصود بهذه السنة. المقصود بالسنة: التزام الإنسان بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم الظاهر، في هيئته وسلوكه العملي، من مأكل ومشرب وملبس وهيئة ظاهرة, إضافة إلى التزامه بالسنة في أبواب العبادة، في الصلاة ونحوها. النقطة الثانية التي أريد أن أوضحها: هو أن علينا جميعاً واجباً تجاه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم باعتبارنا من أتباعه الحريصين على أن ننسب إليه, وعلى أن نرد حوضه صلى الله عليه وسلم، ونشرب منه تلك الشربة التي من ورده شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً, وحريصين أن ننال شفاعته صلى الله عليه وسلم ونكون من جلسائه في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر. ومثل هذا الأمر الجليل لا بد أن يجاهد الإنسان في سبيل الوصول إليه, فإن الادعاء أمر ميسور وكما قيل: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء كل إنسان يدعي دعوة لا بد أن يقيم عليها الدليل, فحين يدعي زيد من الناس أنه متبع للسنة أو سلفي -كما يعبرون بلغة العصر- لا بد أن يقيم دليلاً على هذه الدعوى, تثبت صدق ولائه للرسول صلى الله عليه وسلم, وصدق اتباعه للسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، ظاهراً وباطناً، وإلا فما أسهل أن يقول الإنسان بملء فيه: أنا سلفي, ثم ينقض هذه الدعوى بأقواله وأفعاله وسلوكه وغير ذلك، لا بد أن نحدد واجبنا تجاه سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأحدد هذا الواجب في نقاط: الجزء: 94 ¦ الصفحة: 4 مفهوم السنة عند المتكلمين وللسنة استعمال آخر أو معنىً آخر، وهو المعنى الذي يستخدمها به المتكلمون في العقائد, فإن علماء أهل السنة والجماعة إذا أطلقوا السنة في مجال الاعتقاد قصدوا بها المنهج الصحيح في الاعتقاد الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه, والمخالف لمناهج وطرق المبتدعة, ولذلك صنف جماعة من أهل العلم في العقيدة كتباً سموها: السنة, كما صنف محمد بن نصر المروزي كتاب السنة، وأدخل فيه بعض أبواب الاعتقاد, وكما صنف الإمام اللالكائي، كتابه في السنة, وكما صنف الإمام عبد الله بن أحمد بن حنبل كتاب السنة, وكذلك الخلال، أحد تلاميذ الإمام أحمد وغيرهم كثير. ويقصدون بالسنة هنا يعني: المنهج السليم في الاعتقاد سواءً في أبواب الأسماء والصفات, أسماء الله وصفاته, أو الأمور الأخرى في مجالات الاعتقاد المختلفة. ولذلك كان السائرون على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم في المعتقد يسمون أهل السنة, باعتبارهم لازمين لهذه السنة غير حائدين عنها. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 5 مفهوم السنة عند المحدثين فالسنة تطلق عند المحدِّثين على ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير أو صفة خَلقِية أو خُلُقية. فكل حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قولاً كان، أو فعلاً، أو وصفاً، أو تقريراً، فهو من السنة في اصطلاح المحدثين مثال القول: قوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} فهذا من السنة في اصطلاح المحدثين. والفعل: مثل صلاته صلى الله عليه وسلم، وقوله بعد ذلك: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وكذلك حجه عليه الصلاة والسلام حيث وقف بعرفة ورمى الجمار وطاف بالبيت إلى غير ذلك. أما التقرير فهو: أن يُفعل شيء بحضرته أو يُقال شيء بحضرته؛ فيقره صلى الله عليه وسلم ويوافق عليه, وأمثلة ذلك أيضاً كثيرة, يذكر العلماء من أمثلته قصة الرجل أو الرجلين، اللذين خرجا في سفر فلم يجدا الماء, فتيمما وصليا, ثم وجدا الماء في وقت الصلاة، فأما أحدهما فإنه أعاد الوضوء، أي: توضأ وأعاد الصلاة, وأما الآخر فلم يُعِد, فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أعاد الصلاة: {لك الأجر مرتين} وقال للذي لم يُعِد: {أصبت السنة وأجزأتك صلاتك} . ومثله أشياء كثيرة، يقولها الصحابة في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيقرها ويوافق عليها, أو يفعلونها في حضرته؛ فيقرها ويوافق عليها, ولذلك علم الصحابة أن هذا من السنة؛ فكانوا يقولون: كنا نفعل كذا في عهده صلى الله عليه وسلم, فعرفوا أن هذا -أي الإقرار والموافقة- وأنه جزء من السنة, فله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. أما الصفة فهي: أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم خَلْقِية كانت أو خُلُقِيةً, فأما الأوصاف الخَلقية فهي المتعلقة بخلقته عليه الصلاة والسلام, مثل: صفة شعره وقامته وما يتعلق بذلك. وأما الخُلقية فهي: المتعلقة بأخلاقه عليه الصلاة والسلام، وهي كثيرة جداً ومعروفة, منها: أنه كان حليماً كريماً جواداً إلى غير ذلك، فالمحدثون يعتبرون هذه الأشياء -وما شابهها- هي السنة. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 6 اتباع السنة متى ما عرفناها الأولى: أن نعقد العزم على اتباعها, متى ما عرفناها, امتثالاً لقول الله جل وعلا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] إذاً حتى قبل أن تعرف السنة، تعقد العزم على أنك متى عرفت السنة سوف تلتزم بها وتضرب بما دونها عرض الحائط, والسنن كثيرة, وأصل كلمة السنة في اللغة العربية تعني: الطريقة، فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم هي طريقته, وسنة فلان هي طريقته. فلا تعجبن من سنة أنت سرتها فأول راضٍ سنة من يسيرها هناك سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهناك سنن لخلق كثير من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم, أو المخالفين له في بعض الأمر, فالإنسان لا بد أن يعقد العزم على أنه تابع لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وليس لسنة فلان أو فلان. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 7 لماذا نتبع السنة نتبع السنة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الأسوة والقدوة كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] , وقال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31] بل قد يوجد إنسان لا نقول إن له سنة مخالفة لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه اجتهد في سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، اجتهاداًَ لا يوافق عليه. مثلاً هناك الأئمة، والأئمة كلهم أئمة الإسلام، الذين تتبعهم الأمة المسلمة, كلهم يحرصون على أن يأخذوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكن منهم مخطئ ومصيب ولا بد. وكلهم من رسول الله مرتشف غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم فهم يأخذون من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكنهم يختلفون, وإن اختلفوا فالمرجع فيما اختلفوا فيه إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وحينئذٍ تقول أنت: بحكم أنني عقدت العزم على اتباع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته, فحين أعلم أن هذا الإمام وإن كان إماماً جليل القدر في عيني حين أعلم أنه خالف السنة في مسألة باجتهاده؛ فإنني حينئذٍ أقدم السنة على قول هذا الإمام, وإن كان إماماً له قدره. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 8 عقد العزم على اتباع السنة لا بد من عقد العزم على اتباع السنة متى بانت للإنسان, بحيث لا يقدم عليها قول أحد كائناً من كان, لا يقدم عليها قول مالك ولا الشافعي ولا أبي حنيفة ولا أحمد ولا الأوزاعي، وهم أئمة الإسلام, فضلاً عن غيرهم ممن دونهم, فضلاً عمن يكون مناوئاً للرسول صلى الله عليه وسلم. فأنت تجد هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في الأكل والشرب واللباس معروفاً, لكن قد تجد أن هناك سنناً أخذت عن أعداء الإسلام, من الغربيين أو الشرقيين, وتناقلها الناس في طريقة اللباس، وفي سائر الأمور الحيوية, فحينئذٍ من باب الأولى أن الإنسان يرفض كل هدي يخالف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويتشبث بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، رجاء أن يكون من حزبه وأن يحشر معه. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 9 الحرص على تعلم السنة النقطة الثانية: أن يحرص الإنسان على تعلم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم: لأنه ما دام عقد العزم على العمل بها؛ لا بد أن يخطو خطوةً نحو تعلمها, ومن رحمة الله جل وعلا بهذه الأمة أنه لم يبق من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم شيء دق أو جل إلا وحفظه لنا أصحابه رضي الله عنهم. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 10 أمور يجب التنبه لها عند تعلمه السنة وفي هذا المجال يحتاج الإنسان إلى أن ينتبه إلى أمور: أولاً: قد يقع الإنسان -أحياناً- في أمور يقرؤها في الكتب عن الرسول صلى الله عليه وسلم, فيظن أنها من السنة وهي ليست من السنة, لأن مما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، منه ما هو مجال للقدوة والاتباع, ومنه ما هو من الأمور البشرية الطبيعية، التي لا مجال فيها للاقتداء, بل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم الجبلة البشرية أو فعله بحكم العادة. مسألة اللباس: فمثلاً فيما يتعلق باللباس, الرسول صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يلبس العمامة, فهل يعني ذلك أن لبس العمامة أصبح سنة؟ لا يلزم ذلك, لأنه لبسها الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم أن العرب كانت تلبس العمامة. إنما كون الإنسان يوجد في مجتمعنا الذي اعتاد على لبس الطاقية والغترة -مثلاً- لا يعني أن الإنسان يخلع ذلك ويرتدي عمامةً ويقول: أنا أتبع السنة! كذلك لبس الإزار والرداء, والعرب كانت تلبسهما, وكذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم, فهل يعني ذلك أن الإزار والرداء أصبحت سنة، بحيث حين يوجد الإنسان في مجتمع يلبس الثوب كما نفعل نحن الآن يخلع ثوبه ويلبس إزاراً ورداءً ويقول: اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ لا، ليس ذلك بلازم أو نوع معين من الحذاء، كان يلبسها صلى الله عليه وسلم. هذه الأشياء ليست سنة بذاتها, إنما السنة تتعلق بصفتها, فمثلاً: صفة القميص أو صفة الكم أو صفة الثوب هذه تؤخذ من السنة, فقد ثبت في السنة مثلاً أن الثوب يجب أن يكون بصفات معينة, مثل ألا يكون محرماً، ألا يكون حريراً ولا مغصوباً ولا مسروقاً، وألا يكون فيه إسراف أو مباهاة، وألا يكون ثوب شهرة، وأن يكون فوق الكعبين، وما أشبه ذلك من الضوابط العامة للباس فهذه تؤخذ عن السنة، أما ما عدا ذلك من التفاصيل، فلا يلزم من كون الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض أصحابه لبسوها؛ بحكم أنها لباس المجتمع في ذلك العصر أنها أصبحت من السنة. كما أنه ليس من الصحيح أن نقول: من السنة -مثلاً- أن تكون البيوت بصفة معينة, لأن بيوت النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت هكذا. فليس كل ما قرأ الإنسان أنه موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، أو النبي صلى الله عليه وسلم فعله أنه من السنة, فلا بد للإنسان أن يفرق بين ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل التشريع للناس وبين ما فعله بحكم الجبلة أو بحكم العادة، أو ما أشبه ذلك. فهذا قد يقع فيه البعض وربما يخالفون عادات موجودة في مجتمعاتهم، ويلفتون النظر في هذه الأشياء مع أنها لو كانت سنناً ثابتة؛ لقال الإنسان: لا بأس، الإنسان يعلم السنة بقوله وفعله, لكن ما لم يثبت أنها سنة, فالأولى للإنسان ألاَّ يفعل أمراً يعاب عليه ويستنكر منه. مسألة إطالة الشعر: كما يدخل فيما سبق عند كثير من أهل العلم مسألة إطالة شعر الرأس فالرسول صلى الله عليه وسلم كان له شعر أحياناً يصل إلى منكبيه, وأحياناً إلى أذنيه, لكن هذا الشعر الذي تركه الرسول صلى الله عليه وسلم هل تركه بحكم العادة لأن العرب كانت تفعل ذلك؟ أو تركه على سبيل التشريع؟ من العلماء من قال هذا, ومن العلماء من قال هذا, والذي يظهر لي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم تركه على سبيل العادة. فنقول للإنسان: إن كان يريد أن يترك شعره؛ فيستحب أن يكرم هذا الشعر ويعتني به, كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل, ويستحب له -أيضاً- أن يحلق شعره في الحج والعمرة, أما إن حلق شعره أو قصره فلا شيء في ذلك وليس مخالفاً للسنة, وهذا الذي يظهر لي أن ترك الشعر لا يمكن أن يقال: إنه سنة بذاته. ثانياً: قد يظن الإنسان أو يتصور أن هناك أشياء هي -أيضاً- سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بحكم فهم سبق إلى ذهنه, وهنا -أيضاً- لا بد أن يتثبت الإنسان، ويتأكد من أن هذا العمل الذي يعمله هو من السنة, خاصة حين يكون هذا العمل يكثر حوله الجدل, كأن يكون أمراً مخالفاً لعادة الناس في المجتمع -مثل ما ذكرت قبل قليل في قضية العمامة- أو يكون أمراً فيه مشقة على الناس فلا بد حينئذٍ أن تنظر وتتأكد وتتثبت فعلاً أن الأمر سنة ثابتة لا إشكال فيها, لأنه من الصعب اليوم أن تواجه الناس بأمر من الأمور، فإذا أنكروا عليك قلت: يا أخي هذا سنة وبعد أن تبحث وتناقش العلماء وتراجع الكتب, ترجع وتقول: فعلاً أنا أخطأت، هذا الأمر كنت أظنه سنة والواقع أنه ليس من السنة! مسألة الاضطجاع قبل صلاة الفجر:- ولعلي أضرب لذلك أمثلة: - الرسول عليه الصلاة والسلام كان بعدما يصلي راتبة الفجر، يضطجع على شقه الأيمن حتى يأتي بلال فيؤذنه بالصلاة, فقال بعض العلماء: إن هذه الاضطجاعة مشروعة, بل بالغ ابن حزم رحمه الله، فقال: إنها واجبة, بل إنه يقول: إن من لم يفعلها يعيد الصلاة، هذا ما أذكر أنه قالها في كتاب "المحلى" وهذه مبالغة عجيبة وغريبة من مثله رحمه الله في سعة علمه, لكن كل إنسان يخطئ ويصيب المهم أنه بالغ في القول بسنية هذه الاضطجاعة, والعلماء فيها مختلفون, لكن الأظهر أنها ليست مشروعة لذاتها. فكون الإنسان -أحياناً- يأتي إلى المسجد وقد صلى الراتبة في البيت، الإمام -مثلاً- يصلي الراتبة في البيت، ثم يضطجع قليلاً، ثم يقوم إلى المسجد، الأمر هين، لكن المشكلة إذا جاء الإنسان -وهذا يحدث أحياناً- فاضطجع في المسجد فتأتي إلى المسجد فتجد مجموعة من المتسننة وقد اضطجع كل واحد منهم على شقه الأيمن, لماذا يا فلان؟ هل تحول المسجد إلى مكان للنوم؟ قال: لا، هذه سنة. فهذه السنة، إن صح أنها سنة، لا شك أنها مثيرة للناس، ولا ينبغي أن نبادئ الناس بأمر نحن غير متأكدين منه, وربما لو راجعنا وبحثنا ودققنا؛ لوجدنا أن الراجح أنها ليست بسنة, فنرجع لنقول: نعم نحن المخطئون. وهذا يذكرني بقصة يقول لي أحد الشباب: إن عنده امرأة عجوز، كانت تقرأ القرآن على حسب ما تعلمت في صغرها, فكانت إذا جاء موضع فيه "وَهُوَ" تقول: (وَهْوَ) بسكون الهاء, فالولد يعلمها ويقول: يا أمي لا ليست (وَهْوَ) إنما هي بضم الهاء (وهُوَ) , فحاول والأم أعرضت عنه وتركته, وظلت على ما هي عليه, وقالت: هكذا تعلمت, وأصرت على تعلمها, فبعد فترة وجد ابنها من خلال قراءته أن هذه قراءة بسكون الهاء, فجاء إلى أمه وقال لها: استمري على ما كنتِ عليه لا مانع أن تقرئيها بسكون الهاء فقالت له: أنا ما استمعت إليك من الأصل، هي ما رفعت رأساً لما وجهها إليه, وهو جاء من بعد أن وجد ذلك في قراءات معروفة فلا بأس أن تقرأ بالسكون ما دامت قد أصرت على هذا الأمر واعتمدت على ما هي عليه. فليس جديراً بالداعي إلى السنة أن يبادئ الناس بسنة، إلا بعدما يتثبت -فعلاً- أن السنة لا إشكال فيها. مسألة تسوية الصفوف: مثل آخر غير الاضطجاع في الفجر وهذا المثل ربما قد سبق أن ضربته في بعض المناسبات وأعيده لأهميته أيضاً، وهو: مسألة رص الصفوف في الصلاة فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير وهو في الصحيحين وكذلك في حديث أنس أنه كان يقول لأصحابه: {لتسوّون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم} قال الراوي: [[فلقد رأيت أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه]] وفي رواية صحيحة [[وركبته بركبته]] فأحياناً بعض الطلبة المجتهدين، حين يقرأ مثل هذا النص، يقوم بتطبيق هذا النص بصورة حرفية, فتجد أنه إذا صلى إلى جنب إنسان يجتهد أن يلزق كعبه بكعبه ومنكبه بمنكبه، ويتكلف في ذلك تكلفاً شديداً, وربما وصل -أحياناً- إلى إيذاء من يكون بجواره, وهو نفسه انشغل عن صلاته، وعن الخشوع فيها، وعن النظر إلى موضع السجود، بالنظر إلى موضع العقب، وكثرة الانشغال به، والنظر إذا كان هناك فجوة إلى غير ذلك, ويبالغ في ذلك مبالغة شديدة!! نحن يجب أن نكون واضحين أيها الإخوة, إذا ثبت لنا بالدليل الصحيح أن هذه سنة لا كلام فيها، فنحن نطبق هذا الأمر ونعود الناس عليه بكل وسيلة ولعلنا نجد فرصة في آخر المحاضرة للحديث عن بعض الوسائل المفيدة في نشر السنة. لكن قبل أن تطبق هذا الأمر بهذه الصورة، تأكد أنه سنة فعلاً, حتى لا تتراجع عنه، وحتى لا تكون قد تسببت في وجود التبرم والضيق، عند كثير من الناس من مبتدعي السنة في أمر لم يثبت لديك أنه سنة, والذي يظهر لي أنا في ما يتعلق بهذه القضية أن المقصود هو: ألاَّ يوجد فجوة بين الصفوف، لا يوجد فراغ بين المصلي ومن بجانبه، وكذلك ألاَّ يكون هناك تقدم أو تأخر في الصف، بل أن يكون الصف كله على استقامة واحدة وسمتٍ واحد, ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {لتسوون صفوفكم} التسوية تعني: أن لا يوجد واحد متقدم وآخر متأخر, بل أن يكون الصف مستقيماً مستوياً على سمت واحد, وما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لتسوون صفوفكم} والصحابي يعقب على الحديث بقوله: {لقد رأيت أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه} دل على أن المقصود من هذا الإلزاق: الاطمئنان إلى أن الصف مستوي, فكلما دعت الحاجة إلى الإلزاق والاطمئنان إلى أن الصف مستوٍ فعل, وذلك لأن الجسم استقامة على الكعب وليست على الأصابع، كما يفعل بعض الناس أنه يساوي أصابعه بأصابع الذي بجواره فالأصابع ليس من الضروري أن تكون مستوية، المقصود أن يكون الجسم مستوياً, والجسم استقامته على الكعب, فإذا كانت الأكعب مستوية فالأجسام -أيضاً- مستوية. فكلما دعت الحاجة إلى إلزاق الكعب بالكعب؛ للاطمئنان إلى استقامة الصف فعل الإنسان, أما أن يكون طيلة الصلاة ملزقاً كعبه بكعب صاحبه؛ فإنني أقول: إن هذا متعذر, ويلزم عليه أن يرفع الإنسان قدمه ويبالغ في رفعها، حتى يلزق كعبه بكعب صاحبه, وجرّب ذلك؛ تجد أنه لا يمكن أن تكون القدم على الأرض ومع ذلك قد ألزق المصلي كعبه بكعب من جواره, لا بد أن يوجد بينهما ولو فراغاً يسيراً, كما أن في ذلك مشقة عظيمة. إضافة إلى أننا نعلم أن الله خلق أقدام الناس ليست على استقامة واحدة, بل القدم اليمنى بطبيعتها تميل إلى جهة اليمين, والقدم اليسرى بطبيعتها تميل إلى اليسار, فإذا مشى الإنسان فإن اليمنى تتجه لليمين وال الجزء: 94 ¦ الصفحة: 11 تفاصيل هدي النبي صلى الله عليه وسلم في كتب السنة الذي يطلع على تفاصيل السنة يعجب أشد العجب، لا يوجد رجل في التاريخ كله من لدن آدم عليه الصلاة والسلام، إلى الناس الموجودين اليوم، الذين هم أحياء يتحركون بيننا لا يوجد إنسان حُفظ لنا من هديه وسيرته ودقائق وتفاصيل حياته مثل ما حُفظ لنا من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في أدق الأمور, حتى وهو في الفراش مع زوجته, إلى هذا الحد, حتى وهو يقضي حاجته. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -مثلاً- إذا أراد من زوجته -وهي حائض- شيئاً ألقى عليها ثوباً، كما في حديث ميمونة رضي الله عنها, وكما في حديث عكرمة، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في سنن أبي داود وسنده قوي. وفي الصحيحين عن عائشة وميمونة رضي الله عنهما: {أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر زوجته فتتزر فيباشرها وهي حائض} وليس المقصود بالمباشرة الجماع, المقصود بالمباشرة: هو أن يمس بشرته بشرتها، هذا معنى المباشرة. كيف كان يغتسل صلى الله عليه وسلم؟ كيف كان يقضي حاجته؟ كيف كان يتوضأ؟ كيف كان يشرب؟ كيف كان يأكل؟ وحين تنتقل إلى صفة خَلْقِه صلى الله عليه وسلم تجد كتب السنة حفظت لنا صفاته الخلقية، والتي قد يتبادر للإنسان أنه ليس هناك فائدة منها, كم شعرة بيضاء في لحية الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى هذا الحد! كيف كان شعره؟ كيف كان طوله وقامته ولونه وبشرته؟ وكيف كان حذاؤه صلى الله عليه وسلم، وإزاره ورداؤه؟ جميع التفاصيل المتعلقة به صلى الله عليه وسلم أصبحت محفوظة لنا في كتب السنة. ما غادرت كتب السنة دقيقاً ولا جليلاً مما يتعلق بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، أو صفته الخلقية والخُلقية إلا بينته. ولذلك من رحمة الله وحكمته، أن أباح لنبيه صلى الله عليه وسلم من الزوجات ما لم يبح لغيره, فقد مات صلى الله عليه وسلم عن تسع نسوة, فحفظت لنا هؤلاء النسوة من تفاصيل حياته البيتية الشيء الكثير. وحتى هذه الأمور الخَلْقية، التي يظن البعض أنه لا حاجة كبيرة إليها, فالواقع أن لها حاجة كبيرة جداً، ويستفيد الناس منها في مجالات كثيرة وعديدة, منها أنها آية بينة على صدق نبوته صلى الله عليه وسلم, لأننا نقول لكل الناس: هاتوا لنا رجلاً حفظ التاريخ من تفاصيل حياته مثلما حفظ التاريخ عن تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟ هذا موسى عليه الصلاة والسلام، هذا عيسى عليه الصلاة والسلام، له أتباع كثيرون اليوم في الدنيا الذي يدعون -وهي دعوى لا شك أنها ليست صحيحة لكنها دعوى- أنهم أتباع عيسى عليه الصلاة والسلام، اليوم من حيث الناحية العددية قد يكونون أكثر من المسلمين بكثير, لكن دعوهم يأتون لنا بتفاصيل حياة عيسى عليه الصلاة والسلام, هيهات لهم، لا يستطيعون! بل حتى المعلومات التي يعرفونها عن حياة عيسى عليه الصلاة والسلام هي معلومات غير موثقة, لو شككناهم فيها ما استطاعوا أن يثبتوها لنا, لكن فيما يتعلق بنا نحن المسلمين حتى عدد الشعرات في لحية الرسول عليه الصلاة والسلام نستطيع أن نثبتها بإسناد صحيح متصل لا يرقى إليه شك. كما أنه يستفاد منها في مجالات أخرى مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: {من رآني في المنام فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي} حينئذٍ إذا رأى الإنسان في منامه شخصاً يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحتاج إلى أن يعرف صفة الرسول صلى الله عليه وسلم، ليطمئن إلى أن الصفة التي رأى الرجل في المنام عليها، هي صفة الرسول صلى الله عليه وسلم فعلاً، وليست صفة أخرى, إلى غير ذلك. إذاً فلا بد أن يعقد الإنسان العزم على تعلم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم تفصيلاً، بعد أن عقد العزم على العمل بها. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 12 العمل بهدي السنة النقطة الثالثة: من واجبنا تجاه سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو: العمل بهدي السنة، فبعد أن يعلمها الإنسان لا بد أن يعمل بها, ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء} . وقد يقول إنسان: ما معنى السنة الحسنة؟ فأقول: معنى السنة الحسنة يوضحه الحديث نفسه, وهو حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم, قال: {جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم حفاة عراة مجتابو النمار، متقلدو السيوف أو العباءة، عامتهم من مضرأو كلهم من مضر، قد جرى عليهم الفقر والفاقة, فتمعر وجه النبي صلى الله عليه وسلم وتغير لما رأى بهم من الفاقة، ثم دخل فخرج فأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب الناس، وقرأ الآية التي في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] ثم قرأ الآية التي في سورة الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] ثم حث الناس على الصدقة فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه من صاع بره، من صاع تمره من ثوبه حتى قال ولو بشق تمره, فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده أن تعجز عنها, بل قد عجزت حتى رأيت كومين من الطعام والثياب فتهلل وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كأنه مُذْهَبةٌ} أي: كأنه قبة مطلية بالذهب, فرحاً بتسارع الناس إلى الصدقة, وحمد النبي صلى الله عليه وسلم، وأثنى على أولئك الذين سارعوا في الصدقة حتى رآهم الناس فتحركت أريحيتهم للبذل والعطاء, لأن بعض الناس إذا رأى الإقبال على الخير والذكر والطاعة والعبادة والصدقة سارع إليها، لكن لو لم يرَ أحداً ربما لم يفعل, فكثير من الناس قد لا يكون عنده من قوة الإيمان وقوة الدافع أن يبدأ هو بفعل الخير، لكن إذا رأى غيره يفعل الخير، سارع إلى فعل هذا الخير. فلذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع: {من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده} أي: أول إنسان تصدق فرآه الناس فحثهم على الصدقة، فتصدقوا، هذا الإنسان له أجره وأجر من عمل بهذه السنة. ولذلك نقول: الذين يحثون الناس بقولهم وفعلهم على الدعوة إلى الله عز وجل, على طلب العلم الشرعي وتعلمه وتعليمه, على الجهاد في سبيل الله بالسيف والسنان, على نشر السنة قولاً وعملاً, على الصدقة والبذل والعطاء، الذين يدعون الناس إلى هذه الأشياء، لهم أجرهم وأجر من عمل بهذا العمل الذي يدعون إليه إلى يوم القيامة. فهذا من الدعوة إلى الهدى وإلى السنة، وفي الحديث الآخر، من حديث أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء} وبالمقابل {من دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيء} . الجزء: 94 ¦ الصفحة: 13 أساليب الأعداء تجاه السنة وأهلها من العمل بالسنة الدفاع عنها ضد خصومها وخصوم السنة كثيرون, بعضهم عنده خصومة مقصودة، وبعضهم يكون خصماً للسنة ولو من غير قصد. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 14 التهويل من السنة ومن أعداء السنة من يهونون من السنة؛ بحجة أن السنة قشور، فبعض الناس يقول لك: إن الأمة المسلمة مشغولة بأشياء كثيرة، الأمة المسلمة تعاني أزمات اقتصادية، وأزمات سياسية، وأزمات حضارية، والأمة الإسلامية تعاني كذا! وفي أفغانستان كذا! وفي الفلبين كذا! وفي بلاد الشام كذا! وفي فلسطين كذا! ويظل يعطيك قائمة بالأزمات والمصائب النازلة بالأمة، وهذا لا شك أنه صحيح، فالأمة الإسلامية تعاني اليوم مشاكل كثيرة جداً, لكن هل هذه المشاكل التي تعانيها الأمة تنحل إذا قلنا اترك الكلام عن السنة والدعوة إلى السنة؟! كلا, بل إن من أعظم المشاكل التي تعانيها الأمة، الإعراض عن السنة قولاً وعملاً واعتقاداً, بل إننا نجزم جزماًَ بأن الدعوة إلى السنة قوليِّها وفعليِّها واعتقاديِّها هو بإذن الله الحل للأمة من جميع المشكلات التي تعانيها. فهل إذا تركنا السنة وتركنا الناس يفعلون ما يشاءون -مثلاً- في ثيابهم وفي شعورهم وفي صلاتهم؛ تنحل أزمة المسلمين في الفلبين؟ أو في أفغانستان؟ أو في بلاد فلسطين؟ أو في غيرها؟!! سؤال آخر: هل الذين يعملون بالسنة ويدعون إليها قد أهملوا قضايا المسلمين؟ لا, الواقع أن المسلم يستطيع أن يعلم السنة ويعمل بها ويدعو إليها, حتى تفاصيل السنة في الملبس والمأكل والمشرب وغيرها, ومع ذلك يستطيع أن يكون نصيراً لإخوانه المسلمين في كل مكان, ونصيراً لقضايا المسلمين في كل مكان, ومدركاً للأوضاع التي يعيشها المسلمون، عاملاً على حلها وإزالتها. وهذا من التكامل الذي يقضي على الخلافات الموجودة بين المسلمين, بحيث يأخذ كل إنسان بطرف ويهمل ما عداه, فالدعوة إلى إهمال السنة بحجة أنها قشور، غلط كبير, وتقسيم الدين إلى قشر ولب، هذه بدعة لا أصل لها, لأن الدين كله من عند الله. فمثلاً راتبة الفجر سنة, ولو أنكر إنسان راتبة الفجر؛ لكان منكراً لأمر متواتر, وربما يقاتل على تركه, يقاتل الناس إذا امتنعوا وأصروا على تركه, كما نص على ذلك أهل العلم, فالسنة من الدين ولا يمكن أن يهون من شأنها أو يقال: إنها قشور! وليس في الدين قشر ولب, بل الدين لبابٌ كله. من أعداء السنة: الساخرون بها وبأهلها من الدهماء والعوام وغيرهم, فإننا نجد قطاعاً كبيراً من الناس سواء من العامة, أم من المثقفين ثقافة غربية, أم من البعيدين عن العلم الشرعي من يسخرون بالسنة وبأهلها, جهلاً منهم بالسنة، وعدم معرفة بحقيقتها. فإذا رأوا إنساناً ملتزماً بالسنة في مظهره وسلوكه وعمله؛ سخروا منه! أذكر -مثلاً- أن كثيراً من العامة كانوا يسخرون من بعض الشباب؛ إذا رأوهم يضعون اليد اليمنى على اليسرى على الصدر في الصلاة, ويقول أحدهم: هؤلاء الذين يريد الواحد منهم أن يغتال نفسه, كأن الواحد منهم يريد أن يطير وإذا رأى إنساناً قد قصَّر ثوبه ورفعه؛ عاب عليه وسخر منه, فإذا رأى شخصاً ملتحياً؛ ألقى عليه بالألقاب وسبَّه ونال منه، فهؤلاء في الواقع أعداء للسنة، شاءوا أم أبوا أرادوا أم لم يريدوا, لأنهم حشروا أنفسهم في زمرة أعدائها؛ المحذرين منها المحاربين لها، وجعلوا من أنفسهم عقبات في سبيل تطبيق السنة. كم من شاب أراد أن يقصر ثوبه أو يعفي لحيته أو يلتزم بالسنة؛ فمنعه من ذلك وضع البيت، وسخرية الأب والأم والإخوة والأخوات في المنزل! وما زلنا في كثير من البيئات والمجتمعات؛ نجد من يسخر، لا أقول: بالسنة فقط، بل حتى بفعل الواجب, فإذا رأوا الشاب يحافظ على الصلاة في المسجد؛ سخروا منه. وهؤلاء، لا شك أنهم بحاجة إلى دعوة لتجديد إيمانهم، وتحقيق ولائهم للإسلام, فإما أن يعرف السنة ويلتزم بها, وإما أن يحاربها عن علم, ليحيا من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة. من أعداء السنة: المنابذون لها العاملون بسنة غير سنة النبي صلى الله عليه وسلم المتشبهون بغير المسلمين كثير من المجتمعات الإسلامية اليوم أصبحت تأخذ كثيراً من أمورها العملية، سواء في الشرب أو الأكل، أو في طريقة الجلوس أو اللبس، أو في الشعور، أو في الزواج والأفراح والأعياد والمناسبات أو غيرها, يأخذون تقاليد الغربيين والشرقيين، حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لحاولوا أن يدخلوا جحر الضب وراءهم, أفرأيتم أضيق من جحر الضب؟! من المسلمين من يجاهد ليدخل جحر الضب وراء أهل الكتاب, فهؤلاء رضوا بسنة اليهود والنصارى عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأحياناً لا تستطيع أن تميز بين المسلمين، وبين الكفار والمشركين, في كثير من البيئات الإسلامية, دعك من الذين يعايشون هؤلاء الكفار في بلادهم, فالأمر بالنسبة لهم أعم وأطم, لكن حتى في بعض البيئات الإسلامية، التي يكون فيها مسلمون وفيها بوذيون أو سيخ أو نصارى أو غير ذلك، لا تميز بين هؤلاء وهؤلاء!! وهذا يكشف جانباً من عظمة الإسلام فينا, علَّم المسلمين بالعناية بالمظهر والمخبر, الإسلام دين كامل يعلم المسلم كل شيء, لا توجد حاجة تركها الإسلام بدون تنظيم. فمن حكمة الله عز وجل، حين شرع للمسلمين العناية بمظاهرهم، أنها على صفة معينة، حتى يتميز المسلم بمظهره وبمخبره. فالمسلم إذا رأيته؛ وجدت سمت الإسلام، من حيث الشكل والهيئة واللباس والشعر, فإذا جاء وقت الصلاة؛ وجدت صفة الإسلام، الأذان والإقامة والصلاة, طريقته في الأخذ والعطاء، في المناسبات وغيرها، طريقة متميزة. فالذين رضوا بسنة أعداء الإسلام من الممثلين والمغنين وغيرهم, وأعداء الإسلام -أيضاً- في الأمور الاجتماعية، هؤلاء حشروا أنفسهم في زمرة أعداء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم. وهؤلاء -كلهم- بحاجة إلى دعوة؛ لمراجعة موقفهم من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يعرفوها ويعملوا بها ويصبحوا من أنصارها, أو يحاربوها على بينة وبصيرة ووضوح. فهؤلاء كلهم من أعداء السنة, ولا بد من مواجهتهم كما ذكرت. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 15 التشكيك في السنة فمن خصوم السنة -مثلاً- الذين يشككون في السنة تشبثاً بوجود أحاديث ضعيفة أو موضوعة, بعض الناس -مثلاً- يشكك في أن هذا الأمر الذي تخبرنا به وتدعونا إليه من السنة, وقد يشكك في أشياء ثابتة وصحيحة، وقد تكون متواترة أحياناً. ولذلك إنني أقول: إن من نعمة الله جل وعلا على هذه الأمة، أن قيض لها الإمام البخاري والإمام مسلم حيث صنفا الصحيحين, بحيث تقول لكل إنسان: يا أخي عندك صحيح البخاري وصحيح مسلم كل ما فيهما فهو صحيح, وهذا لمن لا توجد عنده قدرة على مراجعة الأسانيد والرجال والصحيح والضعيف: فهو يريد أشياء جاهزة فإذا كنت تريد أشياء جاهزة؛ فعندك الصحيحان، عض عليهما بالنواجذ، وفيهما خير كثير للإنسان الذي لا يستطيع أن يتوسع في معرفة السنة ودراستها. ولذلك لا يدرك فضل الصحيحين إلا أمثالنا في مثل هذا العصر, بل ربما كان بعض العلماء المتقدمين ينتقدون البخاري أو مسلم على تأليف الصحيح, ويقولون: لماذا تؤلف الصحيح؟ كما نقل عن أبي زرعة، أنه انتقد مسلم على أنه جمع الصحيح فقط, لكن المتأخرين عرفوا نعمة الله تعالى على هذه الأمة، حين قيض الإمام البخاري ومسلم للتصنيف في الحديث، بحيث أنه بعدما فترت الهمم وضعفت أصبح في متناول جمهور الناس صحيح البخاري وصحيح مسلم يقرءونهما، ويقبلون ما فيهما، باعتباره صحيحاً، أجمعت الأمة على قبوله وأخذه, وقد تلقت الأمة ما في صحيح البخاري وما في صحيح مسلم بالقبول على سبيل الإجماع. فمن أعداء السنة من يشككون فيها؛ تشبثاً بوجود أحاديث ضعيفة أو موضوعه في بعض دواوين السنة ومصنفاتها. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 16 الدعوة إلى السنة من واجبنا تجاه السنة، بعد أن عرفنا السنة وعملنا بها، أن ندعو الناس إليها -كما أسلفت- وهذه الدعوة تكون في إطارها الطبيعي, بحيث ندعو إلى السنة وندعو إلى غير السنة, أي: ندعو إلى السنة وندعو إلى الواجب. بعض الشباب -أحياناً- قد يدعو إلى السنة ويغفل عن الواجب, فربما يرى إنساناً مرتكباً للكبائر والموبقات، من أكل الربا، وأكل الحرام، وارتكاب الفواحش والعظائم، وهو في نفس الوقت مخل ببعض السنن, فينبهه إلى السنة ويغفل عن الواجب, ولا شك أن الأولى أن تبدأ بالواجب وهذا الذي تقتضيه الحكمة بأن تدعوه إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة, كيف تعالج الجرح والرأس مقطوع؟! هذا لا يكون, فهناك إنسان يسعى إلى اجتثاث الشجرة من أصلها, وآخر يعبث بورقها, ليس من الحكمة أن تمنع الذي يعبث بالورقة وتترك الذي يعبث بالجذور أو يسعى إلى اجتثاثها، إذا كان هناك تعارض؛ فلا بد من تقديم الواجب ثم السنة. ومن واجب السنة علينا -بعد ذلك- أن نصبر على ما سبق, نصبر على تعلم السنة, فإن تعلم السنة لا يمكن أن يتم بين يوم وليلة, ونصبر على العمل بالسنة. فإن بعض الناس قد يعمل بالسنة لكن إذا طال به الوقت مَلَّ وبرد, وذلك لأن الإنسان بطبيعته، أنه أول ما يعرف الشيء يكون نشطاً في تطبيقه، فإذا طالت عليه الأيام والليالي؛ فإنه يفتر شيئاً فشيئاً حتى ربما لا يعمل. الصبر على الدعوة إلى السنة, فإن بعض الناس إذا عرف السنة قد يدعو إليها فإذا وجد من الناس الإعراض والصدود؛ مَلَّ وترك هذه الدعوة, فلا بد من الصبر على هذا كله. ولذلك الصبر من أهم أخلاق الإسلام, وقد أمر الله عز وجل به حيث قال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري وغيره: {ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} كثير من الناس يعملون ولكنهم يملون, فسرعان ما يتخلون عن هذه الأشياء التي عملوا بها فترة، ثم تركوها إلى غيرها. فلينتبه الشاب إلى أنه يجب أن يصبر على كل هذه الأشياء, اصبر على تعلم السنة ولا تظن أنك بين يوم وليلة سوف تصبح عالماً يشار إليه بالبنان, واصبر على العمل بها؛ فلا يؤثر فيك الزمن بروداً وقسوة قلب. واصبر على الدعوة إليها, فلا تفتر إذا رأيت كثرة المخالف والمناوئ والمنافي, واصبر على الصبر -أيضاً-, فالصبر يحتاج إلى صبر, والإنسان قد يصبر فترة ثم يمل من الصبر فلا يصبر, فلا بد من الصبر حتى على الصبر نفسه. هذه بعض واجباتنا تجاه السنة أرى أن الوقت قد اقترب, ولذلك أنتقل إلى النقطة الأخيرة وأشير إليها باختصار، وإن كانت من الأشياء المهمة في نفسي, لكن لعلي مررت على بعض ما أريد أن أقوله فيها وهي: الحديث عن بعض الطرق والوسائل في نشر السنة النبوية بين الناس: من الوسائل في نشر السنة بين الناس ما يتعلق بالسنة التي ليست بواجبة بالدرجة الأولى، وكذلك السنن الغريبة, أما الواجبات فالوسائل لها كثيرة, وكذلك الأشياء المعروفة، التي يعلم الناس أنها سنة ليس هناك إشكال, الإشكال كثيرا ما يقع في بعض الأشياء التي هي سنن ليست واجبة، وهي في نفس الوقت غريبة وغير معروفة عند الناس, فتثير بينهم استنكاراً وتساؤلاً ونفوراً. من الوسائل في نشر السنة: الجزء: 94 ¦ الصفحة: 17 محاولة إشاعة السنة بين الناس بالقول والكتابة فالإنسان -مثلاً- حين يؤلف كتاباً في سنة من السنن, أو يلقي خطبة أو محاضرة عن هذه السنن، ويسوق ما ورد فيها من النصوص؛ يعلم الناس هذه السنة بالقول، وهذه طريقة من الطرق. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 18 دعوة العلماء وطلاب العلم إلى الحديث عن هذه السنن وتبصير الناس بها فإن للعلماء دوراً كبيرا ًفي هذا الأمر, فإن الناس يثقون بالعلماء أكثر مما يثقون بغيرهم. فعامة وجمهور الناس يُعتبرون مقلدين، إذا جاءهم إنسان مجهول، وقال لهم: إن هذا العمل سنة قالوا: لقد جالسنا العالم الفلاني والعالم الفلاني، أربعين سنة وخمسين سنة وستين سنة، ما سمعنا هذا الكلام إنه شيء جديد! فلا يقبلونه, والعامي مقلد, والأصوليون والفقهاء يقولون: العامي فرضه التقليد, ومذهبه مذهب مفتيه ولا شك أن العامة لا يطالبون بأكثر من التقليد, انظر إلى أفضل عالم تثق بعلمه ودينه فاسأله وقلده, العامي لا يطالب بأكثر من ذلك, عند جميع أهل العلم. إذاً: ليس مطلوباً من العامة حين يأتيهم شاب لا يعرفونه ولا يعرفون مصدره من العلم أن يقبلوا منه كل ما يقول, فإذا أتاهم بأمر غريب؛ من الطبيعي أن يتوقفوا في ذلك, فلماذا لا نسلك مسلك أن نأتي بعالم معروف أو -على الأقل- طالب علم موثوق، ونطلب منه الحديث عن هذه السنة؟ حتى يبصر الناس بها، ويفتح الطريق لتطبيقها, فلا يستنكر الناس على من عمل بها, معتبرين أنه أتى ببدعة؛ لأنه في آخر الزمان -كما ورد- تصبح السنة بدعة, فإذا أحيت السنة قيل: هذه بدعة, وهذا موجود في كثير من المجتمعات. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 19 التدرج في نشرها بين الناس من طرق ووسائل نشر السنة: التدرج في نشرها بين الناس، بحيث يسلك الإنسان أسلوب التدرج شيئاً فشيئاً فلا يعاجل الناس ويبادئهم بما لم يألفوا، فيبدأ الإنسان في تطبيق السنة في مجال ضيق -وأقصد بذلك السنن الغريبة- مثل ما إذا كان في وسط أناس لا يستنكرون, فبعض الناس عندهم شيء من المعرفة، أو هو بين زملائه في رحلة أو في مكان طيب، يبدأ في تطبيق السنة حتى تنتشر، أو صار هذا الإنسان إماماً، وبدأ يعلم جماعته شيئاً فشيئاً، حتى ألفوا هذا الأمر, صار يعلمهم السنة ثم يطبقها أمامهم. وبالطريقة هذه تنتشر السنة بهدوء، فلا يقف الناس ضدنا في تطبيق السنة, بل يكون الناس إما معنا في تطبيق السنة، أو -على الأقل- يتورعون حتى يستبينوا, ولهذا نقول: جزى الله خيراً من يقول: أنا أتوقف حتى أستبين ويسأل العلماء المعروفين في ذلك، سنكون أول من نطيع. فلا بد من التدرج في نشر السنة بين الناس شيئاً فشيئاً، حتى لا نفاجئ الناس أو نعاجلهم أو نبادئهم بأمر يكرهونه ولا يألفونه. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 20 الاعتدال والحكمة في تطبيق السنة فمثلاً أشرت إلى تقصير الثياب، بعض الشباب -مثلاً- تجد أن من أعظم الأشياء وأكثرها حساسية في نفسه؛ أن يقصر ثوبه؛ حتى يكون تحت الركبة بأربعة أصابع، أو على أحسن حال إلى نصف الساق, وهذا ورد فيه أحاديث، وصح أنه فعل ابن عمر رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم وغيره. ولست أنكر هذا العمل بذاته, لكنني أنكر أن يصبح هذا الأمر هو الفيصل بيننا وبين الناس, والقضية التي نوالي ونعادي ونفاصل من أجلها ومن لم يقبل هذا الأمر اتهمناه بسائر التهم, بل إنني أقول إن الظاهر من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه أنهم لم يكونوا دائماً يقصرون ثيابهم بهذه الصفة, انظر مثلا ًالحديث الذي في صحيح البخاري، لما كسفت الشمس، خرج الرسول صلى الله عليه وسلم فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة أي: بسبب العجلة. فلو كان إزار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما تحت الركبة بأربعة أصابع، أو إلى نصف الساق، ما كان يمكن أن ينجر من العجلة. وكذلك حديث أبي بكر رضي الله عنه، لما نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإسبال, قال أبو بكر رضي الله عنه، كما في صحيح البخاري أنه قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده -يسترخي أي: يصبح تحت الكعب أحياناً- قال: {إنك لست ممن يصنعه خيلاء} . فهل نتصور أن إزار أبي بكر تحت الركبة بأربعة أصابع، أو إلى نصف الساق، ومع ذلك يسترخي حتى يصل إلى أن يكون تحت الكعب؟! فهذا يستبعد جداًَ، وهناك نصوص كثيرة من هذا القبيل. فهذا يجعل الإنسان يعتدل في هذا الأمر, خاصة حين نرى أن علماءنا في هذا البلد، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو سماحة الشيخ محمد بن عثيمين، وكثير منهم, لا يتعاملون مع هذا الأمر بالصفة التي يستغربها العامة، بل العامة يحتجون بعلمائنا وأنهم لم يكونوا في لباسهم بصورة مخالفة لما عليه عامة المسلمين، من كون الثوب قصيراً بعيداً عن الإسبال، لكن ليس تحت الركبة بأربعة أصابع -مثلاً-, بل هو غير ملفت للنظر، وهو أقرب إلى أن يوصف بأنه طبيعي, ومع ذلك هم ملتزمون بالسنة لا شك, أما إذا وجد إنسان في بيئة تتقبل مثل هذا الأمر ولا تستغربه؛ فنحن لا نقول: إن هذا الأمر منكر، لكن نقول: إن هذا الأمر يلفت كثيراً من الناس، ويجعلهم يحاربون حتى ولدهم أحياناً فنقول: يمكن للإنسان أن يؤجل هذا الأمر، ويهتم بأمر آخر أكثر منه أهمية وعناية؛ لئلا تكون هذه القضية هي الفيصل وميدان الصراع، وتكون هي الشغل الشاغل للشاب في نومه ويقظته وذهابه ومجيئه, وهي قضية أكثر ما يقال فيها: إنها سنة. مثل آخر: مسألة الصلاة بالنعال, ورد فيها أحاديث كحديث أبي سعيد وغيره، وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في نعليه, وكذلك الصحابة، وفي ذلك أحاديث عديدة، لكن حين يوجد الناس في هذا العصر، وقد وضعوا في مساجدهم الفرش، وأصبحوا يعتنون بها عناية فائقة, ويكنسونها في اليوم عدة مرات, وهناك موظفون مخصصون لكنس المساجد وتنظيفها وما أشبه ذلك، وأصبح الناس ينفرون ممن يصلي في نعليه, أو يدخل للمسجد في نعليه. أنا حين آتي إلى مسجد فأجد أنهم يصلون على الأرض أصلي في نعلي, أو أكون خارجاً في البر مع بعض الأقارب أصلي في نعلي؛ لأن الأمر حينئذٍ طبيعي, لكن حين آتي إلى المسجد بهذه الصفة، أرى الصلاة بالنعلين حينئذٍ فيها إثارة كبيرة, أنا في غنىً عنها، فلا أرى من المصلحة ولا من الخير أن أفعل ذلك، بل أخلع نعلي وأصلي بدونهما. وأعتقد أن هذا -إن شاء الله- فيه تحصيل لمصالح كبيرة، إن كان فيه تفويت لشيء أقل منها, فلا بد من الاعتدال في تطبيق السنة. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 21 الحذر من الآراء الشاذة أيضاً علينا الحذر من الآراء الشاذة التي قد يتبناها البعض، ويعتقد أنها صحيحة في موضوع السنة: فقد يعتقد البعض أن السترة، أي: السترة أمام المصلي واجبة، والسترة لا شك أنها ثابتة في أحاديث كثيرة جداً، ولا شك في مشروعيتها وفضيلتها وسنيتها, لكن القول بأنها واجبة أمر صعب, وهو خلاف مذهب الأئمة الأربعة في المشهور عنهم, فمن الصعب قبوله, خاصة أن هناك نصوصاً قد تصرف ما ورد من الأحاديث عن القول بالوجوب إلى القول بالسنية. فإذا نظرنا إلى مذهب جماهير أهل العلم؛ لم نجد ما يدعو إلى التشبث بالقول بالوجوب وفي ذلك من الحرج ما فيه. كذلك وجوب الاضطجاع في صلاة الفجر، كما أسلفت قبل قليل. من الطرق المهمة لنشر السنة، هو عند تعارض السنة التي ليست بواجبة، مع ما هو أهم وأوجب، فإن على الإنسان أن يقدم ما هو أهم وأوجب، كما أسلفت في بعض الأمثلة. أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب, وما قلته فإنما هو اجتهاد من عندي, فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأً فمني ومن الشيطان. وأستغفر الله وأتوب إليه, وما أردت إلا الخير, وما أريد الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب؛ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 22 الأسئلة الجزء: 94 ¦ الصفحة: 23 حكم صلاة الإشراق السؤال ركعتا الإشراق، هل تكفي عن ركعتي الضحى؟ وما مدى صحة حديث ركعتي الإشراق؟ وهل يلزم المداومة عليها, وهل تلزم في المسجد أو تكون في البيت؟ الجواب لا يصح في صلاة الإشراق حديث, إلا فيمن جلس في مصلاه بعد صلاة الفجر يذكر الله، ثم صلى ركعتين؛ فله أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة وهذا الحديث حسنه بعض أهل العلم, ويشهد له فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، أنه كان يجلس في مصلاه حتى تطلع الشمس حسناً أو حسناء. أما صلاة الضحى فورد فيها أحاديث كثيرة والعلماء مختلفون فيها, منهم من يرى أنها مشروعة مطلقاً, ومنهم من يرى أنها لا تشرع مطلقاً, ومنهم من يرى أنها تشرع أحياناً, ولكن فيها أحاديث تدل على شرعيتها شرعية مطلقة, كما في حديث أبي ذر وأبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهما بثلاث، ومنها: صلاة ركعتي الضحى, وكما في حديث المفاصل التي في ابن آدم، ثلاثمائة وستون مفصل، وكل مفصلاً عليه صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى، فهناك أحاديث كثيرة، فالقول بمشروعية صلاة الضحى مطلقاً قول حسن, ووقتها أفضل ما يكون إذا اشتدت الشمس: {صلاة الأوابين حين ترمض الفصال} ويبدأ وقتها -كما ذكر الفقهاء- من ارتفاع الشمس بقدر رمح إلى الزوال. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 24 كتاب صفة الصلاة للألباني السؤال كتاب الألباني في الصلاة، أو كتب غيره من المحدثين، هل تعتبر مرجعاً في الأحكام الفقهية؟ الجواب الشيخ الألباني في كتاب صفة الصلاة، لم يتحدث عن الأحكام الفقهية, إنما تحدث عن صفة الصلاة, أي كيف يصلي. أما تفاصيل الأحكام المتعلقة بالصلاة في أمور كثيرة، فإنه لم يؤلف هذا الكتاب لهذا وهو كتاب عملي, ليعرف الإنسان كيف كان الرسول يصلي، فيلتزم بذلك. والكتاب فيه خير كثير، وهو فريد في بابه، ولا يعني هذا أن كل ما فيه صواب, فلا يوجد كتاب غير القرآن تُكفِّل له بالكمال. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين الجزء: 94 ¦ الصفحة: 25 التفريق بين السنة والعادة والجبلة السؤال ما هو المحك الحقيقي الذي نستطيع من خلاله أن نفرق بين أعمال المصطفى صلى الله عليه وسلم التي كان يعملها كسنة، وبين أعماله التي كان يعملها كعادة؟ أرجو توضيح ذلك؟ الجواب لا بد في ذلك من الرجوع إلى أقوال أهل العلم, وتحقيقها وتمحيصها؛ لأن بعض الأمثلة يكون مختلف فيها -كما أسلفت- قد يقال: هذا وهذا، فيحتاج الإنسان إلى الرجوع إلى أقوال أهل العلم، وتفصيلاتهم في السنة النبوية, ومعرفة ما فعله عليه الصلاة والسلام على سبيل التشريع، وما فعله بمقتضى الجبلة، وما فعله بمقتضى العادة, إلى غير ذلك من الأقسام المعروفة في كتب الأصول، وفي كتب المصطلح وغيرها. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 26 كتاب الغزالي الذي يشنع على الالتزام بالسنة السؤال فضيلة الشيخ: تدور اليوم ضجة كبيرة حول الشيخ محمد الغزالي، وكتابه الذي شنع فيه بالتزام السنة أي على اصطلاح المحدثين, وبعضهم يبالغ في القدح فيه, ألا ينبغي أن نحسن الظن به, ونعيب قوله لا ذاته، ونستفيد من الحق الذي يأتي به؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب الحقيقة الضجة التي أشار إليها الأخ موجودة وقائمة, ويقف خلف الضجة هذه بغض النظر عن مقصد الرجل؛ لأنه ليس لنا كلام في النيات, فالنيات إلى رب العباد, وليس من مصلحتنا الآن أن نتحدث عن مقاصد الخلق، لا الآن ولا غير الآن. نحن نتحدث عن الأمر الواقع المشاهد فقط, فنقول: إن الكتب التي أصدرها الغزالي وخاصة الكتاب الأخير "السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث" أصبح ورقة رابحة في أيدي أعداء السنة, بل في أيدي أعداء الإسلام في بعض الأحيان, يستغلونه لمآرب ومقاصد أخرى, ربما لم تدر في خلد الشيخ الغزالي، وهو يكتب هذا الكتاب. فنحن نعرف أناساً مطموس عليهم بالنفاق, وأناساً قد يكونون من العلمانيين, وأناساً ليسوا من المؤيدين أو المعجبين حتى بـ الغزالي نفسه, ومع ذلك يتبنون هذا الكتاب وينشرونه، لماذا؟ لأنه يحقق لهم بعض المصالح, يحقق لهم (20%) مما يريدون, وهم يضربون به الآن في وجه مشايخنا وعلمائنا ومجتهدينا. وبعد فترة سوف يتخلون عن الغزالي ويصبح الغزالي موضة قديمة عندهم، وينتقلون إلى كاتب آخر, مثل الكاتب المغربي محمد أركون، الذي يشكك حتى في القرآن الكريم وفي مصداقية الإسلام, فالأمور عند بعض هؤلاء تؤخذ بالتدريج. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 27 الاهتمام بقراءة كتب السنة السؤال هناك من الناس من يقرءون الكتب الفكرية والتربوية، وإذا رأيت صلاته تجده لا يحسنها, وتخفى عليه كثير من السنن في الصلاة, فإذا قلت له: لا بد أن تقرأ كتباً عن الصلاة وعن العبادات, يقول لك: لا بد أن نقرأ عن الواقع اليوم, فما توجيهكم لهذا؟! جزاكم الله خيراً. الجواب هؤلاء كما قال الله عز وجل: {فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة:14] من أسباب العداوة والاختلاف بين المسلمين اليوم، أن كل إنسان يمسك بجانب ويغفل الجوانب الأخرى, وقد ينال ممن يهتمون بها. فمثل هذا الشاب لا تقل له: اترك الواقع ومعرفة الواقع ومتابعة ما يحدث فيه وما أشبه ذلك, لكن اطلب إليه -بالإضافة إلى ما عنده- أن يهتم بكتب السلف الصالح, التي فيها تصفية للعقيدة وفيها العلم الشرعي الصحيح, وفيها تعليم للإنسان؛ ليلتزم بالسنة المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وسلوكه, فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وأنت -أيها الأخ- لا تصلي كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, بل لا تدري كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي, إنما تصلي كما رأيت أباك وقريبك وجارك يصلي, هذا غير صحيح. فمن ضمن قراءاتك واهتماماتك اقرأ هذا الكتاب, وتعطيه كتاباً مفيداً ككتاب الألباني، أو الشيخ عبد العزيز بن باز أو رسالة الشيخ محمد بن عثيمين، أو كتاب الهلالي , أو أي كتاب آخر مختصر في الصلاة. وهكذا تتدرج معه شيئاً فشيئاً؛ لعل الله عز وجل أن يلهمه الاهتمام بهذه الكتب المهمة التي ربما شغله عنها الكتب التي لا تكون من الأهمية بمكان. الجزء: 94 ¦ الصفحة: 28 كبار العلماء يتكلمون عن الدعاة تحتوي هذه المادة على بيان العناية الإلهية بالصحوة الإسلامية وما هو الواجب على الدعاة تجاهها، ثم بيان كلام العلماء حول أولئك الذين لا همَّ لهم إلا حرب إخوانهم والوقوع في أعراضهم. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 1 توفيق الله للصحوة الإسلامية الحمد الله الذي أمر بالاعتصام بحبله، ونهى عن الفرقة والاختلاف بين أهل الحق، وأوصى بالتعاون والتواصي بالحق والصبر، والصلاة والسلام على رسوله محمد بن عبد الله، الذي آخى بين المهاجرين والأنصار مؤاخاة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وربّى أصحابه على المحبة في الله، والإيثار والتضحية، فكانوا نماذج رائعة لصفاء القلوب ونقاء الصدور. أما بعد: أيها الأحبة: إن مما تتميز به الصحوة الإسلامية في عصرنا هذا أنها تسري كما يسري النسيم، وتجري كما يجري النهر الصافي المتدفق، تحوطها رعاية الله، وتكلؤها عينه التي لا تنام. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 2 الطعن في العلماء وخطره على الصحوة أيها الأحبة: إن الذي دفعني إلى هذا القول الذي أعلم أنكم تدركونه، إنما هو ما ظهر في الفترة الأخيرة من اتهامات أطلقت في بعض الأشرطة والكتب، وانتشرت في بعض المجالس، وجهت هذه الاتهامات إلى بعض العلماء والأئمة والدعاة إلى الله، الذين نفع الله بعلمهم ودعوتهم، ونحسبهم -والله حسيبهم- من المخلصين والداعين إلى الخير، والبعيدين عن التحزب وضيق النظرة، وقد زكاهم علماؤنا الأجلاء كما ستسمعون بعد قليل. إن أخشى ما نخشاه -أيها الأحبة- أن يكون لتلك الاتهامات أثرها السلبي على مسيرة الصحوة، مما سيفرح به أعداء هذا الدين في كل مكان وزمان، على أننا لا نغلق باب النصيحة بالحق، بل إن النصيحة واجبة في حق كل مسلم، ولكن بالطريقة المشروعة التي نعرفها جميعاً، خاصة وأن هؤلاء الدعاة الذين تطلق عليهم التهم، يدعون إلى الإسلام، ويحثون الناس على التمسك به، ويعتمدون على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام فيما يقولون، وليسوا من أولئك الذين يجاهرون بالمعصية، أو بقول السوء. وهذا الكلام أوجهه من قلب مخلص محب للجميع، ويعلم الله أنني لا أميل إلى أحد دون أحد إلا بالحق فإن الحق أحق أن يتبع، وإنما دفعني إلى هذا، الحرص على هذه الصحوة، والخوف على صفها من التمزق والتشرذم، والله المطلع على السرائر وهو المستعان. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 3 الصحوة الإسلامية مقدمة للوعد الإلهي إن الصحوة الإسلامية ليست خطة سياسية غربية أو شرقية، ولا قراراً سياسياً أوروبياً أو أمريكياً، فهي لم تخرج بتوصية من هيئة الأمم المتحدة، ولا بأمر من مجلس الأمن الدولي الذي يطيب لي أن أسميه مجلس الخوف، ولا ببيان عسكري من البيت الأبيض، ولا بعقد تجاري من السوق الأوروبية المشتركة، ولا بتصريح باهت من الجامعة العربية، كلا! إن الصحوة الإسلامية مقدمة لا شك في صحتها لذلك الوعد الإلهي بالنصر للمؤمنين الذين يثقون بوعد ربهم، ويسيرون على هدىً من كتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. ولذلك فإن نهر الصحوة المبارك سيظل متدفقاً -بإذن الله تعالى- مهما بنيت أمامه سدود الباطل، وأنى لسدود بشرية واهية أن ترد قضاء الله وقدره. هذه -أيها الأحبة- حقيقة يجب على كل مسلم أن يثق بها، وأن يصرف عن ذهنه وقلبه الشك فيها، فإذا غلبه شكه وسيطر عليه ظنه السيئ، فليراجع إيمانه. وإن من توفيق الله لهذه الصحوة أن هيأ لها عقولاً نيرة، وألْسنة معبِّرة، وقلوباً موقنة، وأذهاناً متوقدة، من دعاة، ومفكرين، ومصلحين، وأدباء، وشعراء، يحملون لواءها، ويبصرون الناس بها، ويصدقون في بيان زيف الباطل وأهله، ويرفعون عن وجوه الماكرين أقنعة الغدر والنفاق، ويهزون بعض القناعات الزائفة التي رسخت في نفوس كثير من المسلمين، كما أن من توفيق الله لهذه الصحوة أن هيأ لها شباباً مؤمناً مجاهداً يبذل روحه رخيصة في سبيل الله، ويعيد إلى الأمة ثقتها بعقيدتها التي تصنع الرجال الأفذاذ، الذين تتكرر على أيديهم مواقف البذل في سبيل الله بذلاً سخياً لا يبخل بشيء في هذه الحياة لا بمال، ولا بولد، ولا بنفس. فلكم رأينا شاباً عهدنا به لاهياً عابثاً تحول في جبال الهندكوش بأفغانستان، وفي أرض فلسطين، وفي بلاد البوسنة والهرسك أسداً هصوراً، يواجه دبابات الأعداء ومدافعهم وطائراتهم مواجهة الأبطال. ولكم رأينا فتاة مسلمة كانت الغاية من الحياة عندها أن تلبس فاخر الثياب، وأن تقتني أغلى الجواهر، ثم أصبحت مجاهدة بمالها، تبذل ما لديها في سبيل الله عوناً للمجاهدين ودعماً لهم، كل ذلك -أيها الأحبة- ما كان ليتم لولا أن الله قد رعاه وحفظه، ووفق المسلمين إليه تحقيقاً للوعد بنصر هذا الدين. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 4 تحمل مسئولية هذه الصحوة وإن من أوجب الواجبات على العلماء والدعاة والمصلحين، الذين يحملون مسئولية هذه الصحوة، أن يكونوا على مستوى هذه المسئولية، عملاً دؤوباً وإخلاصاً لله، وتجرداً من أهواء النفوس وحظوظها، ووعياً بالمرحلة التي يعيشونها، وتعاوناً مثمراً لا مكان فيه للفرقة والنزاع، ولا مجال فيه لتغليب هوى النفس الأمارة بالسوء. إن الصحوة الإسلامية نهر متدفق يحمل على ظهره زوارق الهدى والخير؛ ليصل بها إلى شاطئ الأمان، وإنه لا مكان في هذا النهر الصافي للذين يحاولون تغيير اتجاهه أو سد مجراه، أو تعطيل الزوارق التي تمخر عبابه. والصحوة أمر قدره الله ليس للجهد البشري فيه إلا الدعم والتوجيه، وتبليغ ما أمر الله بتبليغه، أما المشككون، والمعوقون، والمرجفون، فسوف يلقون خسراناً، وإن الرابح من كان له في هذه المسيرة المباركة يد بيضاء، وعمل صالح مشكور. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 5 الحاجة إلى الوعي والتعاون إن المرحلة التي نعيشها بحاجة إلى وعي، فلا مكان في هذه المرحلة للعقول القاصرة عن الإدراك والتفكير، ولا مقر فيها للقلوب المسكونة بالحيرة والاضطراب. إن كل عالم وداعية ومصلح، بل وكل مسلم صغير أو كبير مطالب بأن يكون لبنة في البناء، ويداً مضمومة إلى الأيدي المتوضئة، ونفساً مطمئنة باليقين محبة لكل من يدعو إلى الخير ويحث عليه ويسعى إلى نشر الوعي بين الناس. ولا أظن مسلماً صادقاً في انتمائه لهذا الدين يقف ولو ساعة من نهار في صف أعداء هذه الصحوة، متنكراً لعلمائها ودعاتها مهما تكن المسوغات التي يسوغ بها هذا الوقوف مما قد يلبس به عليه الشيطان لعنه الله. ليس من منهجنا أن نزكي أحداً على الله، أو نقدس أشخاصاً بأعيانهم -أعوذ بالله من ذلك- ولكن ليس من منهجنا -أيضاً- أن نجرح إخواننا الدعاة الذين وفقهم الله إلى الصدع بكلمة الحق، وجعل لهم عند الناس قبولاً، وننال من أعراضهم، ونغلب سوء الظن فيهم، نعم ليس من منهج المسلم الذي يخاف الله ويرجو رحمته ورضاه، أن يحكم على نيات الناس زوراً وبهتانا، ولا أدري كيف يجيز بعض المسلمين لنفسه هذا، وهو يقرأ ليل نهار آيات القرآن الكريم التي توصي المؤمنين بالتثبت حتى لا يندموا على أحكامهم، كما توصيهم بالاعتصام بحبل الله المتين. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 6 سد الثغرات بين أبناء الصحوة أيها الأحبة: كل مسلم مسئول على الثغرة التي يقف عليها، كل بحسب طاقته وقدرته، وبحسب ما هيأ الله له من المواهب، وإن هذه الحرب الشعواء التي يشنها الغرب الكافر ومن يسير على نهجه من أصحاب المشروع الغربي في العالم الإسلامي، لدليل قاطع على أن الصحوة المباركة قد آتت ثمارها، وأن أهل الباطل يرفعون أسلحتهم الفتاكة ليحموا بها مذاهبهم الفاسدة التي شقيت بها البشرية زمناً طويلا. وإن هذه الحرب لجديرة بأن نجد من دعاة الإسلام صفاً واحداً كأنه البنيان المرصوص لا مجال فيه للفرقة والعداوة بغير حق، وإني أنادي من أعماق قلبي من يحمل همَّ هذا الدين أن يكون ذا وعي، وألاّ يكون أداة في يد أعداء الصحوة شعر أم لم يشعر. وإن التشكيك في مقاصد الدعاة والعلماء، والحكم على نياتهم ليس من منهج الإسلام في شيء، والفائز من عرف الطريق ولزمه، وكان عوناً على البر والتقوى، وحقق قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وحقق قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه النعمان بن بشير رضي الله عنه: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} . الفائز من كان له وعي قائم على عقيدة صافية، يسلم بها من أن يكون مثل المنافق الذي صور لنا الرسول صلى الله عليه وسلم صورته في الحديث الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما: {مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع} . الجزء: 95 ¦ الصفحة: 7 كلمة العلامة ابن باز عن الدعاة والآن -أيها الأحبة- نترككم مع ما قاله علماؤنا الأجلاء حول هذا الموضوع، ونبدأ بسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وإنا لنرجو أن نجد لأقوالهم آذاناً صاغية، وقلوباً واعية. الواجب على طلبة العلم وعلى أهل العلم معرفة واجب العلماء، والواجب عليهم حسن الظن، وطيب الكلام، والبعد عن سيء الكلام، فالعلماء والدعاة إلى الله جل وعلا حقهم عظيم على المجتمع. فالواجب أن يساعدوا على مهمتهم بكلام طيب وبأسلوب حسن والظن الصالح الطيب، لا بالعنف والشدة ولا بتتبع الأخطاء وإشاعتها للتنفير من فلان وفلان. يجب أن يكون طالب العلم ويكون السائل يقصد الخير والفائدة ويسأل عن ما يهمه، وإذا وقع خطأ أو إشكال سأل عنه بالرفق والحكمة والنية الصالحة، حتى يزول الإشكال. فكل إنسان يخطئ ويصيب، ولا أحد معصوم إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون فيما يبلغون عن ربهم من الشرائع، والصحابة وغيرهم كل واحد قد يخطئ وقد يصيب، والعلماء كلامهم معروف في هذا والتابعون ومن بعدهم من الأئمة الأربعة وغيرهم، ليس معنى هذا أن الداعية معصوم أو العالم أو المدرس أو الخطيب. لا. قد يخطئون فالواجب إذا نبه أن يتنبه، وعلى من يشكل عليه شيء أن يسأل بالكلام الطيب والقصد الصالح حتى تحصل الفائدة ويزول الإشكال من غير أن يقع في عرض فلان أو النيل منه التشهير به. العلماء هم ورثة الأنبياء، وليس معنى هذا أنهم لا يخطئون أبداً، فهم إن أخطأوا لهم أجر وإن أصابوا لهم أجران إذا طلبوا الحق واجتهدوا في طلبه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في الصحيح: {إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران فإن حكم واجتهد فأخطأ فله أجر} . وإخوتنا الدعاة إلى الله عز وجل في هذه البلاد حقهم على المجتمع أن يساعَدُوا على الخير وأن يحسن بهم الظن، وأن يبين الخطأ بالأسلوب الحسن بقصد الفائدة ليس بقصد التشهير والعيب. وبعض الناس يكتب نشرات في بعض الدعاة، نشرات خبيثة رديئة لا ينبغي أن يكتبها طالب علم؛ لأنه ظن أنه أخطأ في كلمة، فلا ينبغي هذا الأسلوب، طالب العلم الحريص على الخير عليه أن يتحرى ويسأل عما أشكل عليه بالأسلوب الحسن. والدعاة ليسوا معصومين سواء كانوا مدرسين أم خطباء أم محاضرين أم في ندوة. ومن ذلك ما وقع في هذه الأيام ومن قبل أيام على بعض الدعاة، مثل محمد أمان والشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي، والشيخ ربيع بن هادي وغيرهم من الدعاة المعروفين بالعقيدة الطيبة وحسن السيرة ومعروفين أنهم من أهل السنة والجماعة. فلا ينبغي النيل منهم في شيء وإن ظن طالب العلم أن أحدهم أخطأ أو ظهر له أنه أخطأ، فلا ينبغي أن يشهر بذلك أو يسيء الظن، بل يدعو له بالتوفيق ويدعو له بالهداية، ويسأل فيما أشكل حتى يزول الإشكال بالدليل المعول عليه، قال الله وقال الرسول، ويقول الله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] . فالواجب على العلماء وطلبة العلم الحلم والحكمة وطلب الحق بالدليل لا بالشدة ولا بالأسلوب غير المناسب، ولكن بالكلام الطيب والأسلوب الحسن وحسن الظن، فالخطأ يزول بالمراجعة والتماس الدليل، يزول الخطأ ويأتي مكانه الحق والصواب، والله يقول: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر} [العصر:1-3] ، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] . فالتواصي بالحق والبر والتقوى يوضح الحق بالدليل وبالأسلوب الحسن والرفق وحسن الظن وبقاء المودة والمحبة، وأن الدعاة إخوان، والعلماء إخوان، وهم دعاة هدى ومن أهل السنة والجماعة، فيجب على طالب العلم إذا أشكل عليه شيء أن يسأل بالأسلوب الحسن من غير تشويش حتى تتم الفائدة. والواجب كذلك على طلبة العلم والمؤمنين والمؤمنات هو طلب العلم بالدليل، والأسلوب الحسن، والنية الصالحة وليس بالأساليب التي تنفر ولا تفيد، وربما زرعت الشحناء والعداوة، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] وقال تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] وهذا مطلوب حتى مع اليهود والنصارى. نسأل الله أن يوفق علماءنا وجميع دعاتنا وجميع المسلمين إلى الفقه في الدين والبصيرة والأسلوب الحسن، ونسأل الله أن يوفق طلبة العلم وجميع المسلمين بحسن السؤال والنية الصالحة حتى يستفيد الجميع ويتضح الحق بالدليل، وحتى تدوم المودة والمحبة والتعاون على البر والتقوى، وتزول الشحناء والتنافر، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 8 العالم يخطئ ويصيب السؤال يقول حسن البنا في مجموع الرسائل: الدعاء إذا قرن بالتوسل بأحد من خلقه خلاف فرعي وليس من مسائل العقيدة؟ ما حكم هذا القول؟ وما قولكم لمن يقول إنه إمام ومجدد ويمدحونه على المنابر؟ الجواب هذا خطأ وأن الوسائل تكون شرعية، والدعاء من الوسائل الشرعية بالتوسل بأسمائه وصفاته والأعمال الصالحات، أما التوسل بجاه فلان أو بحق فلان، فلا شك أنها مسألة خلاف، لكن الصواب أنها لا تجوز بجاه فلان أو بحق فلان، والشيخ حسن البنا وغيره له كلام طيب وعمل طيب، ولهم أشياء أخطأوا فيها يغفر الله لنا ولهم، والإنسان يؤخذ من كلامه الطيب ويترك الخطأ ويكون مجدداً في بعض ما أصاب فيه، وليس معنى أنه مجدد أنه لا يخطئ، المجدد قد يصيب حيناً ويخطئ حيناً. فالمجدد يدعو إلى الإسلام، إلى توحيد الله، إلى ما قال الله ورسوله، والمهم أن يكون هدفه الحق، وإذا كان الداعية قد مات وكتبه موجودة يبين الصواب والخطأ، وما أصاب فيه قبل وما أخطأ فيه رد مثل بقية العلماء الماضين كتبهم موجودة يبين منها الصواب والخطأ، وما أصاب فيه قبل وما وافق الحق قبلناه، وما خالف الحق ردوه مع الترحم عليهم ما داموا من أهل السنة والجماعة والتوحيد، وما أصابوا فيه لهم أجران وما أخطأوا لهم أجر واحد، وخطؤهم مغفور، إذا اجتهدوا وقصدوا الحق رحمهم الله. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 9 إتلاف الأشرطة القادحة في العلماء السؤال سمعنا شريطاً لبعض الأشخاص يصف فيه أحد الدعاة أمثال الشيخ سلمان العودة والشيخ سفر الحوالي وغيرهما من طلبة العلم وأمثالهما يصفهم بأنهم ضلال ودعاة بدعة وأنهم أضل من مبتدعة العصور الماضية، ويحذر من سماع أشرطتهم والاغترار بكلامهم، فما رأيكم في مثل هذا الكلام أثابكم الله؟ الجواب هذا غلط فلا ينبغي أن يسمع هذا الشريط ينبغي أن يتلف هذا الشريط، مثل هذا لا ينبغي أن يسمع ولا يتكلم فيه ولا ينشر عنه شيء -الله يهدي الجميع- هذا الذي أشرنا إليه أن الواجب هو الكلام الطيب وعدم إشاعة الفاحشة والكلام السيئ والتنابز بالألقاب وغيبة الناس من غير حق، ولا يوالي في هواه ويعادي في هواه -نسأل الله أن يهدي الجميع-. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 10 نصيحة لمن يروج الوسائل الإعلامية ضد العلماء السؤال يا شيخ! الله يغفر لك، الآن مما يؤسف له وكما سمعت أن أكثر أبناء هذه الطوائف المنحرفين من الصوفية والرافضة وغيرهم ما أذكر واحداً من تلاميذهم انتقد عالماً من علمائهم، وللأسف الشديد اليوم علماء المسلمين الأخيار -كما ذكرت أسماءهم- يروجون ضدهم الصحف والمجلات والأشرطة، هؤلاء المروجون ألا يؤخذ على أيديهم ويوقفون عند حدودهم؟ الجواب الله يهديهم ويهدي الجميع ويعين عليهم ويوفقهم ويصلحهم. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 11 طريقة نصح العلماء السؤال هل يجوز ذكر أسماء الدعاة إذا أخطأوا في مسائل للرد عليهم بأشرطة، وما هو أسلوب الرد، هل هو التكلم فيهم وإخبار الناس عنهم ليحذروهم وكتبهم أم لا؟ الجواب إذا وجد خطأ يبين بالدليل مع الدعاء لهم بالتوفيق وأن يسدد خطاهم، فيقال هذه الكلمة خطأ، والدليل هو كذا، ولعله غفل عن هذا الشيء ويتبين منه حتى يبين، ويسأل أهل العلم، يتفاهم مع صاحب الشريط لا بالعنف والشدة والتشهير وأن فلاناً لا يصلح أن يؤخذ منه العلم، لا، بل يبين له خطؤه مع بيان أنه من أهل العلم، ويؤخذ ما بيَّنه للناس إلا ما دل الدليل على خلافه فقد أخطأ مالك، وأحمد والثوري، وأبو حنيفة، والشافعي؛ ولهم أخطاء معلومة وما منع الناس ليأخذوا منهم علمهم الذي أصابوا فيه، وما من عالم إلا وله أخطاء وأشياء رجع فيها إلى الصواب. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 12 نصيحة لمن يوزع الأشرطة ضد الشيخ سلمان العودة السؤال ما نصيحتكم لمن يوزع الأشرطة ضد الشيخ سلمان العودة في بيت الله الحرام، علماً أنه موجود الآن في المسجد؟ الجواب لا يجوز، يجب التعاون في باب الخير وترك الشر مع الشيخ سلمان، والشيخ سفر، والشيخ الطريري، ومع الشيخ ربيع، ومحمد أمان الجامي، وجميع الدعاة وجميع العلماء يجب التعاون معهم في الخير والإعانة لهم في الخير والدعاء لهم بالتوفيق والتسديد، وإن حصل شيء في محاضرة للشيخ سفر أو الشيخ سلمان أو الشيخ ربيع أو الشيخ الفوزان أو الشيخ: محمد أمان أو لي أو لغيري يسأل عما أشكل عليه بالأسلوب الحسن وليس بالشدة وسوء الظن، وهم يلزمهم أن يوضحوا، ويبينوا بالأدلة التي لديهم، والحق ضالة المؤمن متى وجدها أخذها، وكتاب الله هو المرجع وفيه الكفاية: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فلا يجوز التعصب لا لزيد ولا لعمرو، يجب على طلبة العلم والعلماء الإنصاف وألا ينفروا من فلان أو فلان، عليهم أن ينفروا مما حرم الله من المعاصي والزنى والغيبة والنميمة والربا، ومن ترك الصلاة، ومن ترك صلاة الجماعة ومن جميع المعاصي. أما العلماء والدعاة إذا أشكل عليهم أن يسأل المحاضر عما أشكل عليه وماذا قصد الشيخ سلمان أو ربيع أو الفوزان أو ابن باز، ولكن بقصد طيب وليس بقصد المراء والجدل. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 13 كلمة الشيخ الجبرين عن الدعاة السؤال نتوجه بسؤال إلى فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين لنستفيد من علمه، وهو سؤال يهم كثير من شباب الصحوة هذه الأيام: وهو ما أشيع عن بعض الدعاة إلى الله عز وجل وقد اتهموا بمعتقدهم وضربت أقوالهم بعضها ببعض، بل ضربت أقوالهم بأقوال كبار العلماء، وجعل ذلك في أشرطة وألفت في ذلك مؤلفات كثيرة تتكلم عن هؤلاء الدعاة، ولا يُدرى ما المقصود من ذلك، ولعله عن حسن قصد ولكنها بلا شك فتنة، فنطلب من الشيخ حفظه الله أن يوجهنا ويعطينا ما يراه مناسباً في مثل هذا الأمر، وما هو موقف الشباب من مثل هذه الأمور التي تثار وجزاك الله خيرا؟ الجواب الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه. واجب على المسلم أن يحسن الظن بإخوته المسلمين، وأن يحملهم على المحامل الحسنة، وأن ينشر محاسنهم وآثارهم الطيبة، ويكون من آثار ذلك: محبتهم والدعاء لهم، وذكرهم بذكرى حسنة، لا سيما وقد عُرفت آثارهم، وقد لُمست الفوائد منهم، وقد عُرفوا بحسن المعتقد، وسلامة الفطرة، ونفعهم الله ونفع بهم في هذه البلاد، وفي هذه المناطق أظهر الله علماء من هذه الأمة، ومن أتباع أئمة الدعوة، ومن أتباع الأئمة الأربعة، ومن أتباع السلف الصالح، يعتقدون عقيدة صالحة، يعتقدون معتقد السلف، موحدين لله تعالى، عابدين له، لا يعرفون ولا يدعون إلى بدعة، ولا إلى شرك، ولا إلى منكر، بل قيض الله في هذا الزمان هؤلاء الدعاة الذين نفعهم الله بما فتح عليهم من العلوم، ومن الأفهام، ومن المعارف، ورزقهم الأساليب الحسنة، الأساليب الصحيحة التي يعبرون بها عن المعاني أحسن تعبير، فينفعهم الله بما فتح عليهم من العلم، وينفع بهم عباده الصالحين. ففي القصيم الشيخ سلمان بن فهد العودة ظهر في هذه السنوات الأخيرة ورزقه الله علماً وفهماً وهو من أئمة الدعوة، ومن الدعاة إلى الله تعالى، وفي الحجاز الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي هو أيضاً من أهل التوحيد، ومن أهل العقيدة السليمة، ومن المتبعين للسلف الصالح، وكذلك في المنطقة الجنوبية عائض بن عبد الله القرني هو أيضاً من الدعاة إلى الله تعالى، ومن القائمين بحقوقه وحدوده، وفي الرياض وإن كان أصلاً من القصيم الشيخ ناصر بن سليمان العمر، وكذلك غيرهم من أئمة الدعوة، ومن حملة العلم الصحيح السليم، هؤلاء من أهل العلم الشرعي، ومن أهل العلم الصحيح، لا شك أنهم -إن شاء الله- من المخلصين لله، والدعاة إليه، كذلك أيضاً ليسوا بمبتدعة، وليسوا بأهل لأن يُظن بهم بدعة سيئة، أو عمل سيئ، أو دعوة إلى سيئة، كذلك أيضا هم على عقيدة السلف الصالح من الأئمة الأربعة، ومن بعدهم، وعلى عقيدة دعاة الإسلام في كل مكان، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهما الله. كذلك -أيضاً- قد رزقهم الله مع العلم حسن عبارة، وحسن تعبير، وسلاسةً في صياغة الكلام، ومقدرة على البيان والبلاغة، وإعطاء المقام حقه حتى يستوفوا المقام، فهم تطرقوا في محاضراتهم وندواتهم ومؤلفاتهم ومجتمعاتهم، إلى العلوم الواقعية التي وقع فيها كثير من الناس في هذه الأزمنة، فنبهوا على المعاصي، وبينوا كيف علاجها، ونبهوا على الشركيات، وبينوا موضع إنكارها، ونبهوا على الكفر والكفرة من اليهود، والنصارى، والمشركين، والبوذيين، وسائر الكفرة، وبينوا خطرهم، وبينوا آثارهم السيئة، وبينوا كيف الحذر منهم، وكيف سبيل التوقي من شرورهم، وكذلك نصحوا للأمة، ونصحوا للأئمة، وحذروهم من الوقوع في الأسباب التي توقع في الهلاك، وتسبب عموم العقاب، ونزول العذاب. كل ذلك حملهم عليه نصحهم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ومحبتهم للنجاة ولسبل النجاة، وكذلك محبتهم لأن يظهر الإسلام، وأن يظهر المسلمون، فلا شك أنهم بهذا مجاهدون، فلا جرم نشر الله لهم سمعة حسنة، وانتشرت أشرطتهم ومؤلفاتهم في خارج البلاد، في أبعد البلاد وأقربها، حتى وصلت إلى دول أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، فضلاً عن الدول العربية، فهناك لهم ذكر حسنٌ وهناك لهم شهرةٌ فيما بين الأمة، هذا من آثار إخلاصهم، ونصائحهم أثابهم الله. لم يكن يعرف عنهم دعوة إلى أية بدعة من البدع التي يدعو إليها من يدعو إلى البدع أبداً، ومعروف أيضاً أنهم يحترمون إخوانهم من العلماء، فيحترمون مشايخهم وكبار العلماء، يحترمون سماحة شيخنا الوالد عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وكذلك المشايخ الآخرين الذين هم كبار العلماء، وقضاة المحاكم، كلهم يعدونهم لهم إخوة، ويعترفون بفضلهم، ويتبادلون معهم السلام، وكذلك أيضاً هؤلاء القضاة وكبار العلماء، يعترفون أيضاً بفضلهم وبعلمهم ويحبونهم، ويمكنونهم من المحاضرات والدعوة، يدعون الله لهم، فليس بينهم وبين هؤلاء العلماء أية منافسة ولا غيرها، وهذا يعرفه ويشهده من تتبع أخبارهم، فنراهم يجلسون مع الدعاة الذين هم دعاة إلى الله في المدينة، وكذلك في الرياض، وفي الحجاز، وفي القصيم، وفي الجنوب، وفي المنطقة الشرقية، الدعاة إلى الله المشهورين بالدعوة كلهم يجتمعون مع هؤلاء، ويشجعونهم، ويحثونهم على المواصلة في العمل، ويفرحون بنشاطهم وبقوتهم، ولا ينكرون عليهم شيئاً مما يقوله أعداؤهم الذين يشنعون عليهم. هذا بلا شك شيءٌ ظاهرٌ، فإذا سبرنا أقوالهم، وتتبعنا كتبهم ومؤلفاتهم، وجدناها مليئة بالنصح، والمواعظ، والإرشارات، ووجدناهم يحذرون من المنكرات، والبدع، والمعاصي، ووجدنا التأثر بها محسوسا، وملموساً، فلا يلتفت بعد ذلك إلى من عابهم، أو طعن فيهم بشيء لا حقيقة له. كذلك نحن نقول: إن كل من أظهره الله ورزقه علماً، وفهماً، فلا بد أن يبتلى بحسود، لا بد أن يكون له أعداء يحسدونه، فكم وقع من الحسدة في الأزمنة المتقدمة، فإمامنا أحمد بن حنبل رحمه الله قد تصدى له الحسدة، ووشوا به حتى أُدخل على الخليفة المعتصم، وحُبس مدة طويلة، وجُلد لمَّا أن وشى به هؤلاء وقالوا: إنه كافر وإنه فاجر، وأشاروا على الخليفة بأن يقتله حتى قال أحد أعدائه: ابن أبي دؤاد: اقتله وإثمه علي، وأوذي وحبس، وما ذاك إلا لأجل إخلاصه ولأجل صدقه في تمسكه بالسنة. وكذلك الشيخ ابن تيمية رحمه الله لما صدع بالحق وأظهر السنة ونصرها، وأعلن القول بها، حسده أعداؤه لمّا رأوا شهرته، ومحبة الناس له، وإقبالهم على تعظيمه وسرورهم بمقالاته، قالوا: هذا يمكن أن يستأثر بالناس، وأن يصرفهم عنا، وأن لا يبقى لنا مقال، لماذا لا نوشي به، ونشتكيه، ونطعن فيه؟ فطعنوا في عقيدته عند الخلفاء والسلاطين، ورفع إلى السلطان، وحبس في مصر، وأوذي وبقي في الحبس أكثر من أربع سنين أو خمس سنين، ربما سنتان متواليتان، كذلك أيضاً حبس في آخر حياته في دمشق أكثر من سنتين، بل مات وهو سجين، ولكن ذلك لم ينقص من قدره في قلوب الأمة، بل لما توفي، ارتجفت البلاد من المصيبة، واجتمعت الناس للصلاة عليه حتى حضر أكثر من ستين ألفاً يريدون الصلاة عليه، أو ربما أكثر من مائة ألف، الحاصل أن جميع أهل دمشق كلهم توافدوا وما ذاك إلا لمحبته التي في القلوب، وذلك مما ساء أعداءه، ومما أضر بهم، ولم يحملهم إلا الحسد، وفيهم يقول الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالقوم أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً وإنه لذميم ولكن ذلك لم يزده إلا تصلباً، لم يضره حسدهم، بل حسدهم صار ضرراً عليهم، فانصرف الناس عنهم، وزهدوا في علومهم، ونفع الله بعلمه، وبمؤلفاته، وبقيت إلى هذا اليوم معتنى بها، وماتت أكثر أخبارهم، وأكثر مؤلفات أهل زمانه كـ الزملكاني، وابن مخلوف، والسبكي، وأشباههم من الذين نصبوا العداوة لـ شيخ الإسلام، وصدق فيهم ما روي عن الأصمعي أنه قال: إن الحسد داء منصف يعمل في الحسود -أي: يعمل في الحاسد- أكثر مما يعمل في المحسود. فنقول: الحاسد لا يضر إلا نفسه، والمحسود عليه أن يصبر، فيتضرر الحاسد بصبره، ويتقلب على فراشه حقداً وغيظاً مما يرى في أخيه، يتمنى زوال هذه النعمة التي فيه، فنقول للمحسود: اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله فالنار تأكل نفسها إن لم تجد ماتأكله نقول لهؤلاء الذين حسدوهم ووشوا بهم وتتبعوا أغلاطاً لهم، وجعلوا الحبة قبة، وأخذوا من كلماتهم أو من أشرطتهم مقتطعات لم يأخذوا الذي قبلها والذي بعدها الذي يوضحها، فعلقوا عليها تعليقات يوهمون أنهم يبغضون الحديث، ويبغضون السنة، ويبغضون الشريعة، وأنهم دعاة ضلال، ودعاة سوء، وأنهم مفسدون في الأرض، وهذا شأن الحسدة أنهم يأخذون كلمة ويقطعونها عما قبلها، فهم كالذي يقطع الاستثناء عن المستثنى لو أن إنسان قرأ: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] وسكت لعد ظالماً حتى يأتي بقوله {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:5] . فهؤلاء يأخذون مقطعاً أو كلمة متعلقة بما قبلها وما بعدها، ثم يقولون هذه الكلمة تدل على كفر، وتدل على ضلالة، ولو أنهم أضافوها إلى ما سيقت له لاتضح المراد، ولو أيضاً تتبعوا الكلمات الأخرى والمحاضرات الأخرى، لوجدوا هؤلاء المشايخ ناصحين مخلصين، دالين الأمة على ما فيه خير، وعلى ما نفع الله به الأمة، ففرق بينهم وبين هؤلاء المغرضين، الذين يتتبعون السقطات واللقطات والهفوات، والذين يحسدون إخوتهم على ما أنعم الله به عليهم من الشهرة والمكانة في الأمة، فلا شك أن هذا ظلم كبير. فنحن نقول لهؤلاء: فرق بينكم وبينهم، أيّ قياس يحصل بين الاثنين بين من ينصحون المسلمين ويوجهونهم ويدلونهم ويرشدونهم، وبين من لم يظهر منهم أي أثر، ولا أي نفع، بل صار ضررهم أكثر من نفعهم، حيث صرفوا جماهير وأئمة وجماعات، عن هؤلاء الأخيار، وأوقعوا في قلوبهم حقداً للعلماء، ووشوا بينهم، ونشروا الفساد، ونشروا السوء، وأفسدوا ذات البين، التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن فساد ذات البين هي الحالقة} . فهؤلاء لم يظهر لهم أثر، فنحن نسألهم ونقول لهم: أ الجزء: 95 ¦ الصفحة: 14 كلام الشيخ ابن عثيمين عن الدعاة والآن مع ما قاله فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رداً على سؤال حول هذا الموضوع. بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، أما بعد: هذا السؤال موجه إلى سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين السؤال يا شيخ! هناك بعض طلبة العلم الذين عادوا من المدينة وغيرها، بدءوا في تحذير الشباب من عدة مشايخ وهم سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر وعائض القرني بأن منهج هؤلاء مخالف لمنهج السلف الصالح، وعلى طلبة العلم أن لا يستمعوا إلى أشرطتهم، وإذا أرادوا أن يحيلوا إلى السبب في هذا الأمر أحالوهم إلى مشايخ المدينة، ولم يحيلوهم إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حفظه الله فما رأيك يا شيخ؟! الجواب بسم الله الرحمن الرحيم أرى أن مثل هذا العمل عمل منكر، وأنه لا يجوز للناس أن يفرقوا بين العلماء بدون حق، وما ذكر عن المشايخ الذين تقدم السائل بذكر أسمائهم، فأنا لا أعلم عليهم إلا خيراً، وهم من إخواننا الذين لا نسيء الظن بهم، ونرى أن من ذمهم فإن الواجب عليه أن يتق الله عز وجل وأن ينظر في الأمر الذي ذمهم من أجله، وأن يتبصر فيما يقولون، وفيما يدعون إليه، فإن كان حقاً فهذا هو المطلوب، وإن كان خطأ فقد يكون الخطأ عنده لا عندهم، فليتكلم معهم ويبحث معهم، ثم الحق ضالة المؤمن أينما كان. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 15 كلام الشيخ الألباني عن الدعاة والآن مع كلمة فضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني: الشاهد أنني أفرق بين محمد بن سرور وبين بعض الأفراد كـ سلمان وسفر هؤلاء من الشباب الناشئين في الدعوة السلفية، وأنهم معنا في العقيدة وفي المنهج، لكن قد يكون خالطهم شيء من سياسة الإخوان المسلمين. أنا أقول: قد يكون لأن الحقيقة أنني ما التقيت بهم إطلاقاً مع كثرة ترددي إلى السعودية حجاً وعمرة، لكن الظاهر أنهم ما كانوا نبغوا هذا النبوغ الذي ظهر أخيراً منهم، وإن كان زارني منذ أقل من سنة أحد هؤلاء الذين ينهجون منهج الجماعة هؤلاء وهو ناصر العمر فزارني هنا والتقيت به، وجرى نقاش بيني وبينه حول كتيب صغير له اسمه، فقه الواقع والحقيقة أنني أيضاً سررت منه؛ لأنه أشعرني بأنه فعلاً معنا على الخط، أي ليس عنده تحزب، وليس عنده تعصب، فقد تراجع عن غير قليل من الأمور التي ذكرها في كتابه هذا فقه الواقع، ووعد بإعادة النظر في قضايا أخرى، أسرني هذا جداً منه، وشعرت بأنه فعلاً معنا على الخط، أما سفر فما التقيت به، كذلك سلمان، لكن سلمان من قبل كان أرسل لي خطاباً قصيراً جداً، يظهر في هذه الرسالة الصغيرة عواطفه تجاه الألباني وعلمه ودعوته إلى آخره وهذا ما لا يمكن أن أسمعه من الإخوان المسلمين مستحيل! بعد ذلك اتصل بي هاتفياً أكثر من نصف ساعة وهو يتكلم، وأيضاً يؤكد ما كان أوجزه في تلك الرسالة، ثم أرسل إلي خطاباً مسجلاً على الورق وأظهر شيئاً لا أعرفه من غيره حتى من إخواننا السلفيين قال: انظر أي مسألة أنت تراها في كتبي لك نقد عليها، أو اعتراض أو تصحيح، فأنا مستعد أن أنشر كل شيء تعدله وتصححه وتغيره، إلى آخره، هذا يدل على نفسية عظيمة جداً من حيث أنه تقبل الحق من الآخرين، ويتمنى بحرارة أن تزول بعض الأحوال القائمة هناك، حتى يسارع إلى زيارتي. خلاصة القول: أنا أعتقد أن إخواننا الذين نجلس معهم دائماً يعرفون رأيي هذا منذ أول ما بدأنا نطلع على بعض رسائلهم، أن هؤلاء الإخوان مثل سلمان وسفر ونحوهم هم معنا على الخط السلفي لا شك ولا ريب في ذلك، لكن هناك ملاحظتان فقط: إحداهما سبقت الإشارة إليها وهي أنهم قد يكونوا متأثرين بأسلوب دعوة الإخوان المسلمين إلى حد ما. الشيء الثاني: أنهم ناشئون فيما يتعلق بالعلم من الكتاب والسنة، ليسوا متمرسين فيهما، فقد يبدو خاصة من سلمان بعض كلمات أعتبرها أنها بسبب التسرع في تبني رأي ما، دون عرض هذا الرأي لبساط البحث والمناقشة، لكن هذا كله لا يخرجه عن الدعوة التي نحن نلتقي معهم ويلتقون معنا، وأسفت جداً حينما بلغني ثم اتصل بي أحد الإخوان السلفيين هناك، وزارنا هنا وكان بعض إخواننا الجالسين حاضر، وإذا بجماعة السلفيين فيالحجاز، وربما أكثر من الحجاز انقسمت إلى طائفتين كما حصل هناك في أبو ظبي، ونصحنا الجماعة الذين هم معنا بعدم الاشتغال بالسياسة لكنهم يحملون حملات شعواء جداً على سلمان وعلى سفر، ويظنون فيهم ظن السوء، وجرى نقاش بيني وبين هؤلاء الذين يظنون هذا الظن، وأنكرت عليهم أشد الإنكار وأن هذا لا يجوز، ويجب أن نتحمل إذا وجدنا من بعضهم رأياً مخالفاً لما هو المعروف عندنا كجماعة -مثلاً- فالدعوة السلفية لا تعرف التعصب لشخص معين، أو لرأي معين، إنما الحجة والبرهان والدليل، فهذا الذي أنا وصلت إليه إلى الآن، قبل أن أتصل بالشخصين المذكورين شخصياً فهم معنا في الدعوة، لكن قد يكون لهم اطلاع في بعض الجوانب لا يشاركهم الإخوان الآخرون فيها، وقد يكون لهم بعض الاجتهادات في بعض المسائل الفرعية، تكون موضع نظر، وقد يكون الصواب معهم أو مع غيرهم، فما ينبغي أن يكون مثل هذا الاختلاف في بعض الجزئيات سبباً للفرقة، ونحن نعلم جميعاً أن أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذين هم بنص القرآن الكريم كانوا خير أمة أخرجت للناس، ومع ذلك كانوا مختلفين في بعض المسائل التي لو وقع مثلها اليوم لتصدع الصف بسبب هذا التعصب، وعدم الرجوع إلى القواعد والأصول، هذا ما عندي حول هذا الموضوع. السؤال فضيلة الشيخ ما وصيتك للإخوة السلفيين الذين يزعجون، أو يؤذون، بأن يقال عنهم بأنهم سروريون وهم ليسوا سروريين، ربما قرءوا مجلة السنة واستمعوا إلى أشرطة بعض الإخوة ثم يتكلم عنهم في المجالس بأنهم سروريون، فاعتزلوهم وتركوهم، فما وصيتك لهؤلاء الذين يقال عنهم هذا؟ الجواب أولا: أظن أنه يفهم شيء من جواب هذا السؤال مما سبق، سرور كشخص وله تلك المجلة، لكن لم نطلع على منهجه وعقيدته بقدر ما اطلعنا على دعوته السياسية، ولذلك فلا يجوز أن ننسب إخواننا هؤلاء الذين يشتركون معنا في الدعوة إلى الكتاب والسنة والتوحيد ومحاربة البدع، هذا الجانب لا نعرفه من سرور، لو كان العكس لكان أقرب، لو نسب سرور إلى هؤلاء كان مقبولاً، لأن سرور لا نعرف عنه شيئاً من هذا العلم الذي نعرفه عن هؤلاء. ولذلك فأنا أنصح إخواننا هؤلاء الذين يتسرعون في نسب من هم معنا في الدعوة السلفية كـ سلمان وسفر إلى شخص لا نعرف ما هي حقيقة دعوته، نحن نتمنى أن تكون دعوته هي الدعوة السلفية، بل أن تكون دعوته دعوة سلمان ودعوة سفر، وإن كنّا قد ألمحنا آنفا أنه قد نأخذ عليهم بعض الأشياء الطفيفة التي لا يمكن أن ينجو منها صحابيان، أي: يكون بينهم شيء من الخلاف، هذا لا ينبغي أولاً أن يكون سبب التباعد وسبب التباغض وسبب التنافر، والتفرق كما في قوله تبارك وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] . ونعلم قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فهؤلاء إخواننا الذين يتهمون هؤلاء الإخوان السلفيين بأنهم سروريون نقول لهم: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين. أولاً: سوف لا يستطيعون أن يقدموا دعوة سرور ما هي، فإذاً هم يتهمون هؤلاء الذين عرفوا بدعوتهم بدعوة إنسان لم تعرف دعوته ما هي؟ فتشملهم تلك النصوص التي ذكرتها آنفا من القرآن، ثم يأتي أخيراً قوله عليه الصلاة والسلام: {كفى المرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع} . ولذلك فأنا أذكر كل إخواننا السلفيين في كل بلاد الدنيا الذين هم معنا على أصول الدعوة السلفية وفروعها، ومنها ألا ننقل خبراً إلا بعد أن نتثبت منه، فاتهام هؤلاء بأنهم سروريون هذا خطأ بينٌ وواضح، ثم هو مفرق للصف فلا يجوز؛ هذا ما عندي. السؤال: ماذا توصي أولئك الذين يتهمون -مثلاً- شباب سلفيون بأنهم سروريين لكنهم حتى الآن نوصيهم بالهدوء، ونوصيهم بالتزاور؟ الجواب: بلا شك في هذا لا ينبغي أن يهتموا بما قد يبلغهم من نسبة هم يعلمون من أنفسهم أنهم ليسوا منتسبين إليها، ونوصيهم بالصبر من جهة، كما نوصي الطرفين باستعمال الحكمة كما قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] فالصبر هو أساس النجاة في كل أمور الحياة. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 16 كلام الشيخ عبد الله بن قعود عن الدعاة السؤال كثيراً ما نسمع عن بعض طلبة العلم التحذير من أشخاص معينين من أهل العلم والدعوة بحجة فساد في عقيدتهم، كما يزعمون أو بحجة أنهم من فئة كذا، أو أنهم يخوضون في السياسة ويستغلون منا برهم للسياسة، فما رأي فضيلتكم في هذا ونرجو النصح والإرشاد في هذه المسألة؟ الجواب أعوذ بالله! أعوذ بالله! أعوذ بالله! {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران:8] وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] هذه دعوة المسلم نسأل الله -جل وعلا- ألاَّ يجعل في قلوبنا غلا، وأن يجعل فيها محبة لأولياء الله، وبغضاً لأعداء الله، لا أن تنعكس القضية فيكون في قلبه بغض لأولياء الله، ومحبة لأعداء الله. أكرر القول والتذكير بقول الله: {وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10] فهؤلاء النوع الذين حُذِّر منهم أليسوا مؤمنين؟ أليسوا دعاة؟ أليسوا أئمة مساجد؟ ونتحفظ عن الأسماء، أليسوا أصحاب حلق وما إلى ذلكم؟! متى وجد أن المسلمين بعضهم يحذر من بعض؟! يا إخواني! حذرونا من المبتدعة الابتداع الواضح، حذرونا من الطغاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله! حذرونا من الذين ظلموا عباد الله في كل مكان! لكن تحذروا شباب الإسلام من أن يستمعوا لدعاة الإسلام؟! على كل حال مثل هذا المقال لا يجوز أن يصدر من مؤمن مهما كان مستواه العلمي، لا يجوز أن يصدر من داعية، وإن صدر منه فلا شك أنه أحد رجلين، أو من أحد القسمين الذين ذكرت: إما أن يكون اشتبه الأمر عليه وتسلط شيطانه عليه وجاءه باجتهادات، وآراء أيضاً خاطئة، ولا صلة لهم بالأمور الأخرى، أو أن يكون بوقاً من الأبواق التي تخدم في الباطل باسم الدين وباسم التحرير، وليس هذا بغريب، يا إخوة ليس هذا غريب أذكر أني قد قرأت تقريراً، هذا التقرير نقلته مجلة الندوة أو مجلة المدينة قبل عشرين سنة، وهذا التقرير أيام فتنة جمال، تسلط جمال عبد الناصر على الإخوان، قالت: إنه اختص بها وأنها حظيت به فهو سري معد من رئيس استخبارات مصرية -مع الأسف- في الوقت الذي يعادون اليهود فيه، واستخبارات أمريكية، واستخبارات يهودية، التقرير استعرض وضع الإخوان. ومن النقط التي علقت بذهني نقطتان: نقطة في العرض منه، ونقطة في الحلول التي وضعوها، التي في العرض قالوا: وهم يستعرضون الإخوان: إن المتدينين من الناس لهم من غيرهم رصيد لهم هذا صحيح، يعني مهما كان في مسلم من نقص فأخوه المسلم يحس بإحساسه، {المسلم أخو المسلم} بقطع النظر عن الانتظام أو عدم الانتظام، إنما المؤمنون أخوة، فكأن البقية أرصدة لهم، معناه إذا وجد شيء، سيكون المتدينون أرصدة لهم. النقطة في الحل: الثاني: قالوا: "يجب أن يسلط عليهم من بينهم من يشكك بعضهم في بعض" مثال يقال: ملتحون لو جاء بينكم كعشرة في رحلة حليق أو ناقص أو غيره ممكن تتيحون له الفرصة، لا لكن يأتي واحد من بينهم ومن نفس النوع يشكك بعضهم في بعض، وهذا التقرير محمول من قبل اثنين وعشرين سنة، من خصوم مسلمين بقطع النظر عن مستواهم، لكن ما خرجوا من الملة، الآن نجد آثاره وإن لم نقرأ أو نحدد أن فيه تسلطاً على المسلمين بعضهم من بعض، ولا نقول هذا معناه أننا لا نلمس، نحن نلمس ذلك ونقرأ ونعرف أن الكثير من المداخلين للشباب، وللملتزمين أن من بينهم من يطرح الشيء ليشككهم في هذا الأمر، وليغريهم في هذا الأمر، وحسبنا قريباً ما حصل -وبالأخص مع الأسف- عندنا في الرياض فتنة عمياء -نحمد الله سبحانه وتعالى أن وقى الله المسلمين شرها- تخويف وتقليل من شأن العلماء إلى حد أن عدداً منهم في بيان ما استثنوا من العلماء إلا اثنين في مقدمة من استثنوا، ابن باز، وابن جبرين، وعدد معهم آخر، فعلى كل حال: أنا أعتقد أن مثل هذا يعتبر تسلطاً من الدعاة على الدعاة، ومن المتعلمين على المتعلمين، ومن السلف وممن ينتمي إلى السلفية -أنا لا أقطع بسلفية بعض الناس يقول: هو منتمي إلى السلفية- على من لم ينتم لها، ولا شك أن مما يجعلنا نقسو ونقول هذا القول أنني سمعت شريطاً لأحدهم يقول: فلان سلفي الظاهر مبتدع الباطن! أنا سمعت هذا بأذني، وكلكم قد يكون سمعه، فبالله هل الأنبياء إدعو مثل هذا، هل يوجد نبي ادعى أنه يعلم الغيب، أو حكم على الناس على بواطنهم، عمر -رضي الله تعالى عنه- يقول: [[الناس يؤاخذون في وقت الوحي بالوحي، أما الآن فيؤاخذون بما يظهر لنا منهم]] يعني فلان سلفي الظاهر مبتدع الباطن! هل هذا من العدل؟ أليس هذا والله أعلم منبعث من سوء نية؟ ومن تسلط؟! إن قلنا: أنه ليس سوء نية ولا تسلط، معناه اجتهاد أعمى، أقل أحواله أنه يدعي أنه يعلم الباطن! هذا الكلام تعرفونه كثيراً وهو عندكم في أشرطة، فلا شك أن مثل هذا الكلام أن القول به أو التحذير من طالب علم معروف بالخير، أو التحذير من داعية كونه سياسياً قول باطل وهل أنتم تفصلون السياسة عن الدين؟! إن الذي يفصل الدين عن السياسة هذا هو محل الإبعاد، ومحل التهمة، ومحل -أيضاً- تعطيل جزء كبير من دين الله، وإذا تكلم إنسان في أمر ما! قيل: هذا سياسي! الحباب بن المنذر لما قال للرسول عليه الصلاة والسلام: {أهذا منزل أنزلك الله إياه أم هو الحرب والمكيدة قال له: بل الحرب والمكيدة} فهل هذا تدخل في السياسة أم لا؟! هذا تدخل في السياسة، فالرسول عليه الصلاة والسلام عندما أبرم العقد مع غطفان وكتب العقد على أن يرجعوا عن المدينة ولهم ثلث ثمارها جاء السعدان رضي الله تعالى عنهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة واستشارهم الرسول بعد أن كتب العقد لكن لم يوقع ولم يستلم: {قالوا لرسول الله: أهذا أمر أمرك الله به؟ قال: لا، قالوا: أهو أمر تحبه عملناه؟ قال: لا، قالوا: والله ما أكلوا منها ونحن وهم في الجاهلية إلا بشراء أو يكراء فكيف ونحن في الإسلام؟!} فأخذ الورقة ومحا مافيها، هل هذا تدخل إذا قام رجل نقد أمر ما؟! وأنا أقسم بالله وأباهل أن بعض من يعترض على هذا الأمر لو خَلَى له الجو ولم يكن هناك مؤثرات، لقال: هذا هو الحق، ومن يقل بفصل الدين عن السياسة؟! ومن يقول: إن الحكومات لا تنتقد، ومن يقل: إن الوضع العام طيب ولا يُنْتَقَد أولا يسمح بهذا؟! معنى هذا إخراس الألسنة، وإماتة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والحمد لله أنه لا يزال في الزوايا بقايا. فالأمة لو أجبرت على أمر ما، يمكن أن يعترضها قصور لكن يبقى منها من بقي، على كل حال نرجو الله أن يرحم إخواننا جميعاً الناقدين والمنقودين، المتسلطين والمتسلط عليهم، وأن يجمع كلمتهم، وأن ينور قلوبنا وقلوبهم، وأن يجعلنا وإياهم جميعاً ممن يتحقق فيهم هذا الدعاء {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] . الجزء: 95 ¦ الصفحة: 17 العلاج لقالة السوء والآن أيها الأحبة بعد أن استمعنا إلى أقوال علمائنا الأجلاء في هذا الموضوع المهم، ما الذي نستطيع أن نفعله حتى نسلم من الخوض في هذه الأمور؟ لعل من المناسب هنا أن ندعوك إلى الاستماع إلى ما قاله أخونا الكريم الشيخ عبد الوهاب الطريري في إحدى خطبه فلعل في ذلك ما يفيد: الجزء: 95 ¦ الصفحة: 18 تنبيهات وتوجيهات هناك تنبيهات من أجملها إجمالاً وأمر عليها إِمْرَاراً، هي برقيات عاجلة ينبغي أن نكون منها على ذكر، نتذكر جميعاً قول عمر بن عبد العزيز -رحمه الله-[[من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل]] . تذكر أن التفاعل مع قالة السوء هو أكبر وقود وإمداد لها، أما لو انشغل الشباب بالسرى فيما هو أجدى فإن قالة السوء لن تجد في أوقاتهم فراغا، ولا في أذهانهم مساغا، وستجد من سراهم حائطاً صلباً ترتطم به ثم ترتد إلى قائلها، فيرتد طرفه وهو حسير. تذكر أيها الموفق أنك تُعَد لأمر عظيم: قد هيئوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل فلا تكن -رعاك الله- زاملةٌ تنقل قالة السوء، همك نقل ما قال فلان إلى فلان، وأن تخبر بمضمون شريط فلان في فلان، كلا، فلك من همومك ما هو أعلى، ومن شغلك ما هو أجدى، إذا سمعت هذه القالة فأَشِحْ عنها بوجهك، وأعرض عنها، واطو عنها لِيْتاً وقل: {قد أتى آل جعفر ما يشغلهم} {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] . تذكر بارك الله فيك -وأنت على ذكر- أن علينا ألا نؤجر عقولنا، وألا نوزع اهتماماتنا بالمجان، فلا نجعل من اهتماماتنا مزاداً مفتوحاً يزايد فيه كل فارغ لا شغل له ولا قضية. تذكر -وأنت على ذكر- أن كلاً منا سيقدم على ربه يوم القيامة فرداً، ولن ينفعني أو ينفعك فلان الذي تكلمنا له في فلان، ولكن سينفع كلاً منا لسانٌ حَفِظَه: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] . تذكر -وأنت على ذكر إن شاء الله- أنه ليس هناك خير يفوت عليك بسكوتك وإعراضك، والسلامة لا يعادلها شيء. تذكر أن حرمة عرض المسلم ثابتة بيقين، وأن حرمة عرضه كحرمة دمه وماله: {إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام} . هل نحذر أن نلقى الله وقد انتهكنا عرض مسلم، أو اشتغلنا به تذكر أن على الإنسان ألا ينطلق في المخاطرة بدينه من قناعات الآخرين، فقد يخادع الإنسان نفسه، أو يخادعه شيطانه بأن هذا التهوك والتشاغل من الدين، حينها تذكر أن الشيطان لا يعرض على الصالحين الحرام في صورة حرام، ولكن يعرض عليهم الحرام في صورة واجب. تذكر أنا ونحن نرى هذه الزوبعة لم نرها أنها أحقت حقاً، ولا أبطلت باطلاً، ولا أحيت سنة، وإنما ربت على الاستهانة بالغيبة، وهدر المجالس فيما لا ينفع، والانشغال عن المهمات، وتعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سلمت فارس، والروم، واليهود، والنصارى، والرافضة، والمجوس، ولم تسلم أعراض الدعاة، تذكر أن قناعتك بالحق ليست كافية في أن توصله بأي أسلوب شئت، وأن كثيراً ممن قدم هذه البلاد فتعدلت عقائدهم واستقامت حالهم لم يُهْدَوا إلى العقيدة الحقة بالغمز واللمز والإيذاء النفسي، كلا ولكن هدوا بالصبر والاحتساب والكلمة الطيبة والنية الصادقة. تذكر -بارك الله فيك- أن علينا ألا نتخذ موقفاً ولا نتكلم بكلمة إلا ولنا عنها جواب عند الله عز وجل حتى لا تلحقنا منها ندامة في الدنيا ولا حسرة يوم القيامة، تذكر وانظر من هم أسرع الناس إلى هذه الزوبعات، إن الذين سبقونا إليها ليسوا أكثر الناس صوما، ولا أكثر الناس صلاة، وليسوا فيما يظهر للناس أتقى ولا أورع. ولكن نراهم أهل البطالة والاستهانة بالوقت، وهدر الجهد، أفنرضى أن يكون هؤلاء لنا أسوة؟! ثم انظر -بارك الله فيك- إلى أهل والتقى والخشية، فستراهم أعف الناس ألسنا، وأكثرهم عن هذا الأمر إعراضا. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 19 العلاج النبوي قال حفظه الله: أيها الإخوة! المتحابون في جلال الله؛ إلى الإخوة الأخيار الأغيار: العلاج الحقيقي لقالة السوء التي فشت وآذت فأصمت الآذان، وزكمت الأنوف، ولا زالت ينفخ في كيرها كل ملفوج الشفة مر اللسان، إن العلاج الحقيقي لها يكون من خلال التعامل معها بالأسلوب النبوي، وإليك هو باختصار: عاد النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق، وفي مسيره ذلك ألقى رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول قالة سوء وقحة، قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل؛ ويعني بالأعز: نفسه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسرت قالة السوء في الجيش، فلما سرت تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل النظامي تعامل المجرب المحقق، فماذا عمل؟ لقد أشغل الجيش بالسرى فما أن سمع بالمقالة حتى آذن الجيش بالرحيل في ساعة ما كان يرحل فيها، فسار بهم نهارهم كله، ثم سرى بهم الليل كله، ثم مشى بهم يومه ذلك حتى آذتهم الشمس وأضناهم المسير، وأجهدهم السير، فما إن وقف بهم فلمسوا الأرض حتى سقطوا على الأرض سقوط الجدر، فلم يبق لقالة السوء مساغ في هذا الجيش الذي قطع ليله بالسرى ولا في هذا الجيش الذي ألقي على الأرض مجهودا، نحن بحاجة إلى هذا العلاج النبوي نتعامل به مع قالة السوء، إذا فشت وحاول الموّتُور إذكاءها، نتعامل مع قالة السوء بالسرى، السرى في حفظ القرآن العزيز، في حفظ الإرث النبوي الكريم، السرى في تَفْلِيَةِ المسائل العلمية، وكد الأذهان في تحصيل الفقاهة الشرعية، السرى في مكافحة الفساد وتطهير المجتمع، السرى في أعمال الدعوة والدلالة على الخير، السرى، خير ما يشغل عن قالة السوء، ويقضي عليها ويميتها. إذاً فليتذكر كل منا أن عليه أن ينصرف لما هو أجدى، وأن يعرض عنه قالة السوء صفحا، وأن نتذكر جميعا أن هذه القالة التي فشت إنما هي زوبعة ستمر وتنتهي حتماًَ، لأن الذين يذكونها بلا قضية، ثم هذه القالة من أتعب فيها نفسه، وكد ذهنه، وأفنى جهده، يفتح يده فلا يجد فيها إلا قبض الريح، ويلتفت يمنة ويسرة فإذا الذين أعرضوا عنها يوم كان بها مشغولاً قد حصّلوا من الخير ما حصلوا، وحازوا من الخير ما حازوا أما هو فرجع بالصفقة الخاسرة. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 20 كلمة للشيخ سلمان العودة ولذلك يجب على دعاة الإسلام ورجاله وأهله وحملته أن يكونوا فوق مستوى المسائل الشخصية، والمعارك القريبة، وألا يقبلوا أن تثار معركة إلا مع عدو الإسلام، أما المعركة مع إخوانهم ومع أحبابهم ومع أصحابهم فيجب ألاَّ يستجيبوا لها، وأن يكونوا فوق مستوى هذه المعارك التي هي للعدو وليست للصديق. ختاماً -أيها الإخوة أيها الأحبة- نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا جميعاً على الحق وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إن الله سميع مجيب. وإلى لقاء قريب والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. الجزء: 95 ¦ الصفحة: 21 فقه إنكار المنكر تحدث الشيخ حفظه الله عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم تطرق إلى العقوبات المترتبة على تركهما. ثم أرشد إلى مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووسائلهما، وأنه لابد من الالتزام بآدابها. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 1 أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، فكان صلى الله عليه وسلم أفضل الآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والصابرين على ما أصابهم، فجزاه الله عنا، وعن سائر أمته بل عن البشرية كلها أفضل الجزاء. أما بعد رقم الدرس: هو الخامس والعشرون، وينعقد في ليلة الاثنين الحادي عشر من ربيع الثاني لعام 1411هـ وهو بعنوان: (فقه إنكار المنكر) . الجزء: 96 ¦ الصفحة: 2 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمانة لعدم نزول العقوبات النقطة الرابعة: فضلاً عن أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ضمانة دون نزول العقوبات الإلهية التي تصيب المجتمعات في العاجل أو الآجل، وقد قص الله علينا قصص بني إسرائيل حين نهاهم أن يعتدوا في السبت: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون * َفَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف:164-166] إذاً أنجينا الذين ينهون عن السوء، فإذا حق العذاب على أمة من الأمم فإن الله تعالى لا ينجي إلا الذين ينهون عن السوء. فإذا كانت هناك أمة من الأمم لا يوجد فيها الذين ينهون عن السوء، لا ينجو منها أحد، ولذلك قال الله عز وجل: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود:116] . فإذا وجد في الأمة من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر نجا إذا نزل العذاب، فإن حقق -فعلاً- المعروف وأزال المنكر نجا ونجت الأمة، فإذا فُقِد هذا الصنف حق العذاب على الأمة بأكملها ولم ينج منها أحد. ولذلك روى البخاري ومسلم في صحيحهيما أن النبي صلى الله عليه وسلم نام ثم استيقظ فزعاً، وهو يقول: {لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد أقترب، لقد فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وأشار بإصبعيه السبابة والإبهام، فقالت له زينب بنت جحش -راوية الحديث- رضي الله عنها: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث} . والغريب أن هذا المعنى الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم نقل عن جماعة كبيرة من الصحابة مما يدل على عناية الرسول صلى الله عليه وسلم واهتمامه به، فنقل عن أم سلمة وأم حبيبة وعائشة وابن عمر وابن عباس وأبي هريرة، كلهم نقلوا عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى، أنكم تهلكون إذا كثر فيكم الخبث وإن وجد فيكم صالحون قليل. هذا جزء من العذاب الذي توعد الله تبارك وتعالى به الأمة، حين تتخلى عن مهمتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذلك قال الإمام مالك في موطئه باب: ما جاء في عذاب العامة بعمل الخاصة، ثم نقل عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله وأرضاه، أنه قال: [[كان يقال: إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة]] يعني: إذا وجدت فئة خاصة من المترفين والأغنياء والكبار الذين يصرون على المنكرات سراً فإن الله عز وجل لا يعذب المجتمع كله بعملهم، لكن هكذا يقول عمر بن عبد العزيز: [[لكن إذا عملوا المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم]] . إذاً: يا إخوة، هناك قضية كثيراً ما تخفى على كثير من الناس، تأتي إلى إنسان وتقول له: سبحان الله! المجتمع فشت فيه المنكرات، وحصل كيت، وكيت، يقول لك: لا داعي للتشاؤم، المنكرات هذه موجودة منذ زمن قديم، وفي عهد الصحابة كذا وفي عهد بني أمية كذا، وفي عهد بني العباس كذا. فأقول: ينبغي أن ننتبه إلى فرق جوهري في المنكرات، فرق بين منكر يُعْمل خفية في بيت أو مكان معزول، وبين منكر يُعمل على الملأ، فرق بين منكر شخصي ومنكر جماعي، فرق بين منكر مُحَارب وبين منكر مدعوم، فيجب أن لا نغتر بوجود أصول لبعض النكرات في أزمنة ماضية. هذا مع أنه حتى لو كانت المنكرات موجودة منذ زمن قديم، فإن هذا لا يبرر ولا يسوغ السكوت عليها، وإلا لكان المعنى: أننا يوماً بعد يوم نزداد من المنكرات نسكت عما مضى، وتأتينا منكرات جديدة، فيأتي الجيل الذي بعدنا فيسكت عن المنكرات التي حدثت في زماننا؛ لأنها موروثة وهكذا، وهذا معناه أن الأمة تصير في النهاية إلى التخلي عن الدين كله بهذه الطريقة. أبو بكر يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب} . إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه. الظلم أنواع: قد يكون الظلم بالمال نهب أموال الناس أو أخذ أموال الناس بالباطل، أو الغش أو الخديعة أو السرقة أو اللصوصية على أي مستوى كانت فهذا ظلم، لكن ليس هذا فقط هو الظلم، حتى الظالم لنفسه الذي يرتكب المعصية -مثلاً- هذا ظالم، ظالم لنفسه، وظالم لغيره -أيضاً- والظلم معنىً عام واسع يدخل فيه حتى الشرك: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فالناس إذا رأوا الظالم العاصي الفاسق، فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله تعالى بعقاب. ومن أكثر الأحاديث هزاً لقلوب المؤمنين، وتخويفاً لهم، ما رواه حذيفة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عذاباً من عنده} . إذاً يوشك ويقرب أن تصاب الأمة بالعذاب إذا لم تأمر بالمعروف ولم تنته عن المنكر، فصمام الأمان بالنسبة للأمة هو أن يكون فيها أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، وذلك أن المجتمع كله لحمة واحدة، تيار واحد مترابط، وأي انحراف أو منكر يقع في الأمة هو تماماً مثل أولئك القوم الذين أخبر عنهم النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كما في الحديث المتفق عليه، عن النعمان بن بشير -استهموا على سفينة، ركبوا في البحر، فكان بعضهم في أعلى السفينة وبعضهم في أسفلها، فواحد من الذين في أسفل السفينة قال: أنا كلما احتجت الماء أصعد وأؤذي هؤلاء الذين فوقي عندما أغرف الماء، ليس لهذا داع، أخرق من أسفل السفينة خرقاً حتى يأتينا منه الماء ولا تؤذي من فوقنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً} . أي: هو يقول: هذا شأني، وهذا أمر يخصني، وهذا نصيبي من السفينة، أصنع فيه ما أشاء، أخرقه أو أكسره، أصنع فيه ما أشاء، فإن قالوا: فعلاً هذه حريتك الشخصية، معناه أنهم أقروه على خرق سفينة المجتمع، لكن إذا أخذوا على يديه، وقالوا: لا هذه ليست حرية شخصية، السفينة ملك عام ويجب أن لا تقوم فيها بأي عمل يضر بنا جميعاً فإنهم يكونون سبباً في نجاته هو ونجاتهم هم أو نجاة المجتمع، فهكذا المجتمع هو عبارة عن: سفينة في لج بحر ما له من ساحل أبداً ولا ضحضاح المجتمع هو السفينة، وأصحاب الفساد سواء أكان فساداً فكرياً أم خلقياً عاماً أم خاصاً، كبيراً أم صغيراً كلهم عبارة عن مجموعة معهم معاول ومسامير، كل واحد يخرق في طرف من السفينة، والناهون عن المنكر عبارة عن القوم العقلاء الصالحين الذين يبذلون جهودهم في منع كسر هذه السفينة، أو أخذ لوح منها؛ ونتيجة هلاك السفينة وغرقها، أو نجاتها؛ مبنية على نجاح أحد الطرفين فيما يريد وفيما يحاول. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 3 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمان للبيئة من التلوث من جهة ثالثة فهو ضمانة للبيئة من التلوث، أحياناً قد ينتشر في البيئة جرثومة معينة تنتشر في الهواء مثلما وصل إلى أسماع الناس اليوم من قضية ما يسمى اليوم بالحرب الكيماوية، أو الأسلحة الكيماوية -مثلاً- بمجرد ما يستنشق الإنسان هذه الكيماويات أو الجراثيم أو نحوها يموت، أو يتعرض للإصابة بأمراض فتاكة. ومثلها تماماً جراثيم الأخلاق والأفكار تنتشر في الهواء مثلما تنتشر الجراثيم القاتلة للجسم -فمثلاً- إتاحة الفرصة لأهل الرذيلة أن يمارسوا رذيلتهم والفساد من خلال الصور، ومن خلال الأغنية، ومن خلال المجلة، ومن خلال بيت الدعارة -مثلاً- هذا يلوث البيئة العامة، ويجعل الإنسان الذي يريد الصلاح -أحياناً- قد لا يستطيع أن يكون كما يحب؛ لأن العقبات أمامه كثيرة فقد تلوثت البيئة العامة. وكذلك نشر الشبهات التي تشكك الناس في دينهم من خلال الكتاب والمجلة والجريدة والشريط والمحاضرة والقصيدة والأمسية هي الأخرى -أيضاً- تلوث البيئة العامة، بحيث تجد أن الإنسان يبدأ يسمع شبهة هنا وشبهة هنا، وشبهة هنا، وليس صحيحاً أبداً أن الناس كلهم محصنون ضد الشهوات والشبهات، سبحان الله! الإنسان خلق كما قال الله عز وجل: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28] حتى الإنسان التقي النقي الطاهر العَلَم قد يسمع شبهة، فتظل تدور في عقله أياماً، حتى يطردها بإذن الله عز وجل، وقد يرى بعينه شهوة -امرأة حسناء- أو حتى صورة في مجلة تقع عينه عليها عن عمد- أو عن غير عمد فيجلس قلبه أياماً مريضاً لهذه النظرة. فليس صحيحاً أن يقال: اسمح للفساد، وأن الناس عندهم حصانة ضد الفساد، من أين أتتهم هذه الحصانة، ونحن نعلم أن الإنسان نفسه أمارة بالسوء، وجُبِلَ على الشهوات، فضلاً عن تسليط الشيطان على ابن آدم؟! ولذلك فإن إظهار المنكرات سواء كانت منكرات أخلاقية أم فكرية في المجتمع، سبب في تعرض المجتمع كله لهزات لا يعلم مداها إلا الله، ولهذا كان يقال: المنكر إذا خفي لم يضر إلا صاحبه، أما إذا أعلن فإنه يضر الخاصة والعامة، بمعنى أننا نسأل: هذا فلان من الناس الذي عنده منكر، تجد أنه إذا أراد أن يمارس المنكر يخرج إلى باب الشارع فيقفله بالمفتاح ثم يدخل إلى الباب الآخر فيقفله، وهكذا باب بعد باب بعد باب، ثم ينظر في النوافذ من هنا ومن هنا، ثم يجلس على منكره، هذا العمل يدل على ماذا؟ يدل على أن صاحب المنكر هذا يحس بأنه في وسط بيئة صالحة، وأنه يقوم بعمل ضد المجتمع، تماماً مثل ذلك الإنسان الذي يقوم بعمل تخريبي ضد مجتمع. لو أن إنساناً -مثلاً- أراد أن يقوم بعمل تخريبي يخل بأمن المجتمع، هل كان يقوم بهذا العمل على قارعة الطريق؟ كلا، كان سيقوم به في سراديب مظلمة، فهو من الذين يعملون في الظلام؛ لأنه يدرك أن المنكر الذي يقوم به هو في الواقع عمل ضد أمن المجتمع، وأنه عمل تخريبي ضد أمن المجتمع، فيتستر به. لكن ما بالك إذا كان الذي يعمل المنكر يعمله في الهواء الطلق، في الشارع، في المدرسة، في الحديقة، بل -أحياناً- على مرأى ومسمع من ملايين الناس الذين يتابعونه عبر جهاز معين، دعاه إلى هذا أنه يحس أنه يقوم بعمل عادي، وأن المجتمع يوافقه على هذا العمل الذي يريد أن يقوم به، لا ينكر عليه ولا يعارضه، فتجرأ على مواجهة الناس بهذا الأمر. إذاً، إذا أعلنت المنكرات معنى ذلك أن المجتمع يعاني من قضية خطيرة جداً، في أصل وجود هذا المجتمع، وأصل القناعات الموجودة، بيئة المجتمعات العامة تلوثت بجرثومة الفساد، وكم هو مؤسف ومحزن ويجرح القلب، أن تتصور هؤلاء الأطفال من بنين وبنات في أعمار الزهور -عشر سنوات، اثنتا عشرة سنة، أربع عشرة سنة- إنهم يولدون في بيئة خاصة أو عامة فيستنشقون جراثيم الفساد، في كثير من البلدان تجد الصبي الصغير يتلقن ذلك ويتربى عليه. كما قال نوح عليه السلام: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:26-27] . من يوم أن يولد الصبي الصغير وهو يرضع الرذيلة مع لبن الأم ويستنشق الفساد في الهواء، فتأتي إليه وهو ابن سبع أو ثمان سنين، فإذا سألته عن ثقافته وجدت ثقافته عبارة عن أغانٍ ومعلومات تافهه، وأمور رخيصة، إذا سألته عن دينه تجد أنه لا يستطيع أن يقرأ لك آية من القرآن الكريم. أقول: هذا في كثير من البلاد الإسلامية، تجد أنه قد لا يستطيع أن يقرأ لك آية من القرآن الكريم ولا يقيم سورة، وتجد أن تصوراته تصورات منحرفة، فلو رأى في الشارع -مثلاً- امرأة محجبة لأصبح يركض إلى والده يحتمي به؛ لأنه يحس أنه رأى شيئاً موحشاً مخيفاً لأن بصره لم يعتد على رؤية الحجاب، فأصبح ينفر ويخاف منه تماماً، كما يفعل الطفل في بلاد الغرب إذا رأى مثل هذا المظهر الغريب، فإنه ينفر منه ويشمئز؛ لأنه أمر غير مألوف ولا معهود. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 4 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جزء من تكافل الأمة ومن جهة أخرى، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام هو: جزء من التكافل الذي جعله الله تبارك وتعالى بين المؤمنين، -مثلاً- أنت لو وجدت رجلاً يشتري بضاعة فاسدة كان واجباً عليك أن تنبهه أن هذه البضاعة فاسدة أو غالية أو غير مناسبة له، من باب الدين النصيحة، ولو وجدت رجلاً يعرق كان واجباً عليك أن تنقذه بقدر ما تستطيع، حتى لو ترتب على ذلك أن تؤجل عبادة مفروضة قد شرعت فيها، كأن تكون شرعت في صيام تحتاج إلى الفطر لإنقاذه تفطر، شرعت في صلاة يمكن أن تنبهه وأنت تصلي، أو تقطع الصلاة لتنبيهه، لأن المحافظة على الإنسان في الإسلام قضية مهمة جداً، لكن الإنسان في الإسلام ليس فقط شهوة، إنما هو جسد وروح، فكما أننا مطالبون بالمحافظة -مثلاً- على أموال الآخرين، وعلى أرواحهم، كذلك، نحن مطالبون بالمحافظة على أخلاقهم وعلى أديانهم. فالإسلام ضمن الحقوق الكلية للإنسان، فلا يجوز أن يجلس مسلم جائع ونحن نأكل ملئ بطوننا، ولو حصل هذا لكان واجباً عليه أن يأخذ منا بالقوة إذا لم نتبرع، يأخذ ما يسد رمقه، ونكون نحن آثمون، وكذلك الحال في أي حاجة من الحاجات الضرورية التي يحتاجها الفرد المسلم، مثله سواء بسواء، قضية المحافظة على الأخلاق والمحافظة على عقيدته، والمحافظة على دينه هي -أيضاً- جزء كذلك من هذا الواجب، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتحقيق هذا الأمر أنك إذا وجدت على أخيك المسلم نقصاً في دينه أو عقيدته أو خلقه تقوم بتكميل هذا النقص. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 5 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خصائص هذه الأمة إخوتى الكرام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من الخصائص والميزات التي أختص الله تعالى بها هذه الأمة من بين سائر الأمم الكافرة الضالة عن سواء السبيل، يقول الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] . إذاً سبب وسر خيريتكم هو أنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، وسبب فشل وضلال غيركم، أنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] فهذه صفة المجتمع المسلم أيها الأحبة. أما المجتمعات الكافرة اليوم فنحن نراها وقد أصبحت في الوقت الذي تتغنى بما يسمى حرية الفرد، فإنها أصبحت تحارب جميع صور الفضيلة التي يريد الفرد أن يمارسها، في بلاد الغرب -فمثلاً- الحرية متاحة لأهل العري والعهر والفساد والرذيلة، لا أقول: متاحة بل مفروضة، ولكن حين تفكر فتاة مسلمة بأن تلبس الحجاب على رأسها ورقبتها ونحرها وهي ذاهبة إلى المدرسة تقوم الدنيا حينئذٍ، ولا تقعد. كما حصل في فرنسا، منذ زمن ليس بالبعيد منذ نحو سنة، حين ذهبت ثلاث فتيات من المغرب إلى مدرستهن في فرنسا وقد لبسن الحجاب على الرأس فرفض مدير المدرسة إدخالهن حتى يخلعن الحجاب، وتطورت القضية حتى دُرست أعلى المستويات الرسمية وتدخلت فيها دول خارجية للوساطة عند والد هؤلاء الفتيات، لتغيير قناعتهن بالحجاب. سبحان الله! ما الذي جرى؟! هل دخلت جيوش إسلامية تلك البلاد الكافرة، حتى يحصل هذا الهلع والفزع والرعب، كلا، إنما هن ثلاث من "الجنس اللطيف"! أردن ممارسة حريتهن في ممارسة الالتزام بالحجاب الشرعي، فهذه دعاوى العلمانية البراقة ودعاوى الحرية! إنما هي مجرد لافتات يضحكون بها على الناس. وأما إذا كان الإسلام، هو الخصم فإنهم يظهرون ضراوتهم وعداوتهم جلية بدون مواربة، ولما حصلت هذه الحادثة بدأت الصحف الفرنسية كلها تكتب عن هذا الموضوع، وعندي قصاصات منها كثيرة، تكتب عن هذه القضية، هذه الظاهرة، خطورة الإسلام على فرنسا، تاريخ الحجاب، كيفية نزع الحجاب في مصر، ودخلت فيها قضية الخميني والثورة الإيرانية وإلى غير ذلك، وحاولت أن تهول قضية كون ثلاث بنات أردن أن يدخلن المدرسة بحجاب على الرأس. فالذي عندهم هو الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف بل محاربة المعروف علناً، وقد رأيت في بعض البلاد التي هاجر إليها كثير من المسلمين هناك وأقاموا فيها وتزوجوا من أهلها أنك والعياذ بالله تجد أن المسلم الذي زوجته نصرانية من أهل تلك البلاد. البنت التي ولدت له من هذه المرأة تمارس حريتها الكاملة على رغم أنف والدها، فتخرج متى شاءت وتدخل متى شاءت، وتأتي بعشيقها لتجلس معه في بيتها، في غرفة خاصة، والويل للأب إن أراد أن يتدخل فإنه ليس على البنت إلا أن تدير قرص الهاتف لتنادي الشرطة، فيأتوا ويأخذوا الأب إلى المخفر، ويجروا معه تحقيقاً طويلاً، لماذا تتدخل في حرية هذه البنت؟! يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. ففي الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو بديل عما يسمونه هناك بالحرية الفردية؛ لأن الحرية الفردية في بلاد الغرب إنما هي قشر خادع -كما بينت لكم-. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 6 صورة عقوبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد يستغرب بعض الناس مثل هذا الكلام بل -مع الأسف- أصبحنا نسمع كثيراً من الناس يستغربون، خاصة لما حصلت الأحداث الأخيرة، وتكلم أهل العلم، وقالوا: إن ما أصابنا وأصاب غيرنا هو بسبب الذنوب والمعاصي، أصبحت تجد كثيراً من الناس الذين رق إيمانهم، يقولون: كيف بسبب الذنوب والمعاصي، هذا غير صحيح! بل بعضهم يقول: هذه أمور مادية! وهاهم الكفار قد وسع الله عليهم، وأعطاهم ومكَّن لهم في الأرض، وفتح لهم أبواب كل شيء، فكيف تزعمون أن ما أصابنا هو بسبب ذنوبنا ومعاصينا. وهكذا الحال في موضوع المنكر، يقولون: كيف يحدث ترك النهي عن المنكر مثل هذه الآثار في المجتمع، ومن أجل تقريب الموضوع أذكر لكم بعض الأمثلة التي تؤكد ذلك. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 7 التفرق والتناحر {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] هذه هي النقطة الثالثة: أو يلبسكم شيعاً، إذاً من صور العذاب الذي يصيبنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قضية أن يلبسنا الله تعالى شيعاً ويذيق بعضنا بأس بعض. ولذلك قال الله عز وجل: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:104] ثم قال في الآية التي بعدها: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] . في عدد من البلاد المجاورة تجد أن أهم أسباب تفرقهم: أنهم لم يأمروا بالمعروف، ولم ينهوا عن المنكر، فترتب على ذلك شيوع الفساد، اليوم يعلن -مثلاً- عن حفل راقص في مكان كذا، وغداً يعلن عن حفل غنائي في مكان كذا، وبعده يعلنون عن عرض مسرحيٍ في مكان كذا، وهكذا أصبحت المنكرات في بلادهم منتشرة. فالغيورون الصالحون لم يرضوا بهذا، فصارت الأمة فرقاً بعد ذلك، لم يجدوا مجالاً للتغيير والإنكار بالأسلوب الصحيح، فلجئوا إلى أساليب أخرى، أحدثت تفرقاً آخر في الأمة، حتى تمزق المجتمع شيعاً وأحزاباً بسبب ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن المجتمع إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد أن يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، ويعتبر هذا الإنسان الذي جاء يقاوم المنكر ويقضي عليه إنساناً أصولياً متطرفاً ومتسرعاً، هذا إنسان يريد أن يقضي على المكاسب الحضارية والمكاسب الوطنية للأمة، وبالتالي أنقلب الحق باطلاً والباطل حقاً. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 8 تغيير المسار ومحاولة مسخ الأمة وهكذا حصلت القضية الرابعة من أنواع العقاب، وهي أخطر ما يكون: وهي أن الأمة بدأ مسارها في عدد من البلاد يتغير، فالمنافقون لم يكتفوا فقط بإشاعة المنكرات، لا، بل هم يخططون إلى سلخ الأمة عن دينها بالكلية، بحيث تتحول إلى أمة أخرى غير الأمة الإسلامية، تتحول مثلاً إلى أمة علمانية لا دين لها، تقبل أن يعيش فيها المسلم واليهودي والنصراني وأن تحكم بأي شريعة، أو بأي نظام، وأن يشيع فيها أي فكر وأي مبدأ وأي منهج، ليس لها دين، وليس لها اعتقاد تلتزم به. وهذا - في الحقيقة- أخطر من الحرب العسكرية، أرأيت الآن كم دولة إسلامية سلخت من المسلمين عن طريق الحرب العسكرية؟ قد تقول لي فلسطين، صحيح أخذها اليهود بالقوة، وأفغانستان أخذها الشيوعيون بالقوة قبل ذلك، وبلاد الأندلس أخذها النصارى بالقوة، وهكذا يبقى العدد محدوداً، لكن لو تساءلنا كم من البلاد الآن التي حكمها الإسلام يوماً من الأيام، وتجد في أهلها إسلاماً كثيراً، ومع ذلك تجدها بلاداً علمانية لا دينية. وإذا كنت قبل قليل ذكرت لكم ما حصل في فرنسا في قصة هؤلاء البنات الثلاث، فإن المأساة هذه تتكرر في بلاد ارتفع عليها علم الإسلام يوماً من الأيام، وأصبحت تمنع الحجاب في جامعاتها وتحاربه وتحارب من يلبسه، وتعتبر هذا رمزاً للرجوع -كما يعبرون- إلى عصر الحريم، عصر القرون الوسطى، قرون التخلف، هكذا يعبرون، وهكذا يزعمون. إذاً من أعظم الأشياء أن الأمة وقعت في أيدي المنافقين، يحاولون أن يمسخوها عن الإسلام مسخاً نهائياً ويلبسوها ثوباً آخر غير ثوب الإسلام، ويُدَيِّنوها بدين آخر غير دين الإسلام، والدين لا بد منه، إما الإسلام وإما غيره، فإذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا تركه الصالحون معنى ذلك: ارتفع المنافقون، وكما قال الله عز وجل عنهم: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] . كل مجتمع -وهذه قضية يحب أن تكون بديهية- كل مجتمع فيه قوتان: قوة المؤمنين وقوة المنافقين، المؤمنون والمؤمنات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، والمنافقون والمنافقات ذكوراً وإناثاً يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، والمسألة صراع، والمجتمع يكون للذي تغلب من هاتين الفئتين. ولذلك كانت قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند المسلمين قضية مصيرية، لو أن واحداً أنكر -مثلاً-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أنكر مشروعيته أصلاً- يكون بذلك مرتداً عن الإسلام، هذا من حيث التشريع أو المبدأ النظري. لكن من حيث المبدأ العملي كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو أعظم مؤسسة وأعظم جهاز وأعظم عمل في حياة المسلمين، لماذا كان كذلك؟ لأنه من حق كل مسلم أن ينتسب إلى هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كل مسلم من حقه ليس من حقه فقط بل من واجبه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأمر نفسه وغيره ويأمر في بيته ويأمر في السوق، وفي المسجد، وفي الشارع، وفي المتجر، وفي المدرسة، وفي المؤسسة، ويأمر الكبير والصغير والقريب والبعيد والمعروف والمجهول والذكر والأنثى، هكذا كان، ومع ذلك كله؛ لأن قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند كل مسلم قضية دين، وليست قضية وظيفة، بل كانت أكبر من ذلك، لكن مع ذلك عني المسلمون بنظام ما يسمى بالحسبة، وهو من أقدم الأنظمة الإسلامية، وأعظمها. نظام الحسبة الذي كان فيه أناس مختصون، مهمتهم ووظيفتهم الرئيسية، هي: القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ماذا تتصور وظيفة رجال الحسبة التي بدأت بشكل واضح في عهد عمر رضي الله عنه وأرضاه، كانت وظيفة رجال الحسبة مراقبة المجتمع العام في كل شيء -كما أسلفت في بداية الحديث- مثلاً: وجدوا رجلاً يغش في البيع والشراء هذا يمنع، وجدوا شخصاً له دين عند آخر ورفض أن يعطيه يقوم رجال الحسبة بتحقيق هذا المطلب، وجدوا بيتاً يوشك أن يسقط، ويؤذي الناس، يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وجدوا شارعاً ضيقاً يقومون هم بمعالجة هذه القضية، وتوسعة الشارع، إذا وجد من يؤذي الناس في أسواقهم يقومون بمنعه من ذلك. إذاً كانت مهمتهم فضلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومراقبة السلوك والأخلاق العامة، لكنني أريد أن أقول: إن مهمة رجال الحسبة في الإسلام كانت مهمة شمولية، أصبحت اليوم تسند إلى جهات كثيرة جداً، وربما تعجز عنها أو لا تقوم إلا بشيء يسير منها. فكان رجل الحسبة هو آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر يصلح فيما بين الناس، يمنع الإيذاء أو الاعتداء على نظام المرور، يقوم بدور رجال البلدية في مراقبة المباني والأسواق وغيرها، يقوم بدور الغرفة التجارية وغيرها، ويقوم بمراقبة البيع والشراء والبضائع وأعمال الناس وما سواها. وكانت الحسبة في الإسلام نظاماً عاماً شمولياً يهتم بمراقبة المجتمع في كل شيء، وعلى رأس ذلك مراقبة السلوك الأخلاقي، فإذا وجد إنسان يعصي أو يعتدي أو يشرب الخمر أو يؤذي المسلمين في أنفسهم أو في نسائهم أو في أموالهم كان هذا النظام يقوم بمنعه من ذلك، وما ذلك إلا لأنهم يدركون أن هذا قوام المجتمع المسلم، هذه هي النقطة الأولى التي أحببت أن أشير إليها، وهي قضية أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع المسلم. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 9 الإغراق في الشهوات مثلاً: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يوجب الوقوع في الشهوات والإغراق فيها، وهذا من شأنه أن يجعل الناس مرتبطين بالدنيا، أصحاب نفوس ضعيفة ليس عندهم جدية في الأمور. هذا الشاب -مثلاً- الذي أصبحت حياته كلها عبارة عن أغنية أو صورة فاسدة أو مجلة أو فيلم أو مكالمة هاتفية لغرض سيئ، أو البحث عن الشهوة أو السفر في الحرام، المهم أصبحت حياته كلها -باختصار شديد- مكونة من شهوة. هذا الشاب هل يستطيع أن يحصل على العلم النافع؟ وهل عنده جدية في تحصيل العلوم الدنيوية؟ وهل عنده استعداد أن يدافع عن نفسه فضلاً عن غيره؟ هل عنده استعداد أن يحمل السلاح؟ كلا وألف كلا، ولذلك عندما يذهب كثير من الشباب من بلاد شتى سواء بلاد كافرة -كما كان الحال في اليابان لما أرادت أن تأخذ التقنية الغربية فإنها بعثت شباباً- أو من بلاد مسلمة، فتجد الشاب المتدين جاد، وهذا الشاب الملتحي المستقيم تجده جاداً حتى في دراسته، في تحصيل العلم؛ لأنه ليس عنده وقت للأمور التافهة. لكن هذا الشاب الذي غرق في الشهوة، ليس عنده قوة تدفعه إلى أن يحضر الدرس أو المحاضرة أو يستمع أو ينصت أو يجري تجربة أو يحصل على أي علم، وبذلك تتأخر الأمة وتنهار. حتى إنه يقال: إن اليابان لما بعثت شبابها يتعلمون في بلاد الغرب، بعثت معهم من يراقبهم بدقة، وكانوا مجموعة، فلما رجعوا أخبروا بأن هؤلاء الشباب كلهم قد وقعوا في الفساد، وأن حياتهم تتراوح بين المواخير وبيوت الدعارة والبغاء والفساد وغير ذلك، قالوا: إنهم أعدموهم عن آخرهم حتى يكونوا عِبر لغيرهم، ثم بعثوا بعثة أخرى، وأرسلوا من يراقبهم، فكان يقدم تقارير متواصلة عن جدية هؤلاء الشباب، ومحافظتهم على كل شيء، حتى على التقاليد الوثنية التي تلقوها في بلادهم -في اليابان- حتى الكفرة الوثنيين عبدة الأوثان -عبدة بوذا أو غيره- يدركون أنه إذا كان الإنسان غارقاً في الشهوة؛ فإنه لا يجد وقتاً للأمور الجادة، ولا يحدث الغرق في الشهوات إلا إذا تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 10 الإهمال في أخذ العدة جانب ثانٍ: الإهمال في أخذ العدة، سواء أكانت عدة معنوية بقوة القلوب وشدتها، أم كانت عدة مادية بالاستعداد لمقاومة الأعداء، وهذه لا يمكن أن يتقنها ويجيدها إلا الناس الذين اشتغلوا بمعالي الأمور، وأعرضوا عن السفاسف، أما صرعى الشهوات فليسوا أهلاً لذلك، بل إن مجرد الكلام عن الحرب يخيفهم، مجرد إخراج إعلان أو تحذير عن الحرب تجده يخيفهم ويرعبهم، فضلاً عن الخوض في المعركة، هذا مع أننا حين نقول العذاب لا نعني العذاب عن طريق حرب من عدونا لا، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] . الجزء: 96 ¦ الصفحة: 11 مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أنتقل إلى نقطة ثانية: وهي قضية مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراتب لا تحتاج إلى كلام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تحدث عنها في حديث أبي سعيد الخدري كما في صحيح مسلم قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} إذاً، القضية قضية تدرج، وأول ما يحدث: التغيير بالقلب، فإذا رأيت منكراً فتغيره بقلبك، تكره هذا المنكر، وتبغضه وتتمنى زواله، وهذا التغيير يحدث أولاً في القلب، بعد ذلك القلب يرسل الأوامر إلى اللسان ليتكلم، فتقول لصاحب المنكر: يا أخي جزاك الله خيراً الأمر كذا وكذا وهذا لا يجوز، فإذا تحقق الامتثال فبها وإلا حينئذٍ يأتي دور اليد لإزالة المنكر وتغييره باليد. إذاً من حيث الواقع العملي، أول ما يحدث هو التغيير بالقلب، ثم التغيير باللسان، ثم التغيير باليد، لكن المطلوب هو أن تغير بيدك إذا استطعت، فإذا عجزت فالجأ إلى التغيير باللسان، فإذا عجزت يكفي هنا أن تغير بقلبك، أن يعلم الله عز وجل أنك كاره لهذا المنكر، وهذا فرض عين على جميع الناس في جميع الظروف والأحوال، ولا يعذر أحد بتركه؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، ولا يمكن لأحد أن يمنع قلبك من أن يبغض المنكر: {فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} . وفي حديث ابن مسعود أيضاً في صحيح مسلم: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} أي: الذي يرى المنكر فيسر به، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية، والعياذ بالله، فهذا ليس عنده إيمان بالكلية الذي يرى المنكر، فلا يمتعض ولا يغضب فضلاً عمن يفرح أو يسر بهذا المنكر. وهاهنا في موضوع مراتب المنكر يراعى أن الإسلام جاء بالتدرج في موضوع إنكار المنكر، فإذا أمكن أنك تكتفي بالتلميح فهو يغني عن التصريح، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} لماذا؟ لأن هذه الكلمة كانت تكفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحتاج أن يقول يا فلان ويافلان، وإلا إذا احتاج فهل كان يتركها الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا يتركها، إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، وإذا لم يكف التلميح يصرح، ولذلك قد يصرح الرسول صلى الله عليه وسلم -أحياناً- بأسماء. مثلاً مرة من المرات جاءوا وقالوا: {يا رسول الله فلان منع الزكاة - ابن جميل رجل معروف باسمه واسم أبيه منع الزكاة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله} أي: ما له عذر في ترك الزكاة إلا كفر النعمة فقط، فأعلنها الرسول صلى الله عليه وسلم صريحة مدوية، ولم يقل: إن هذا من التحدث في الأشخاص، لماذا؟ لأن ابن جميل مصر، وبعث له البعث ورفض دفع الزكاة، فما بقي إلا التشهير وهو وارد. أيضاً مرة من المرات كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فلما انصرف من صلاته، قال: {يا فلان ألا تحسن صلاتك، ألا ينظر أحدكم كيف يصلي، إني أراكم من وراء ظهري كما أراكم من أمامي} . إذاً هذا وارد جداً وهذا كثير، وهو باب طويل، فالإنسان إذا كفى التلميح لا داعي للتصريح، إذا كفى أنك تقول: بعض الناس يفعلون كذا وكذا ثم ينتهي المنكر، هذا أحسن شيء وأجمل شيء، لكن إن لم يكف وكل واحد يظن أنك لا تقصده بل تقصد شخصاً آخر، فليس هناك مانع أن تقول: يا فلان، بينك وبينه فهذا حسن، وإذا ما استطعت إلا بإعلانها فليس هناك مانع أيضاً، فإن رأيت إنساناً مجاهراً بالفساد، يكتب الكتب والمؤلفات الطويلة العريضة، له مئات الكتب في هدم الإسلام والقضاء عليه، وحرب المتدينين، وتشويه التاريخ الإسلامي، والسخرية بالمؤمنين، والتشكيك في عقائد المسلمين، ثم تقول: لا تتحدث عن فلان، لا تتكلم في فلان، وتحتج عليَّ بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا} هذا غير صحيح، من أعلن المنكر نعلن له الإنكار، ومن أسر أسررنا له الإنكار، فلا نأتِ لواحد قد أستتر بالمعصية ونفضحه أمام الملأ. المهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له مراتب، وكلما أمكنت مرتبة فهو أولى، فإن أمكن التلميح تكتفي به، وإن احتجت إلى التصريح فبالتصريح، وإن لم يكف باللسان تنتقل إلى اليد وهكذا. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 12 وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القضية الثالثة: وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: كل وسيلة مباحة تؤدي للمقصود فهي داخلة في الوسائل بشرطين: الأول: أن تكون مباحة فلا تأت بوسيلة محرمة من أجل النهي عن المنكر؛ لأن النجاسة لا تغسل بنجاسة مثلها، وكذلك لا تأتِ بوسيلة لا تؤدي إلى المقصود؛ لأن المقصود هو إزالة المنكر، فإذا كانت الوسيلة غير نافعة فإنه لا داعي لاستخدامها حينئذٍ. مثلاً: الوسائل كثيرة، وأود أن أنبه على أن قضية الوسائل لا تنحصر، والعرب يقولون: الحاجة أم الاختراع، ويوجد مثل عامي يقول: العطشان يكسر الحوض، أي: المهم عندنا هو أن تكون ذا قلب يحترق، ويسعى في زوال المنكرات، لا يبرد قلبك لا تستسغ المنكر لا ترض به، فإذا وُجِدت عندك هذه الحرارة في قلبك، فثق ثقة تامة أن القلب سيرسل تعليمات للعقل للتفكير كيف يغير، وبعد ذلك قد يتفتق ذهنك عن ألف وسيلة في إزالة المنكرات. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 13 من وسائل الأمر بالمعروف: التشهير بالمنكر من الوسائل: قضية التشهير بالمنكر إذا لزم الأمر -وكما أسلفت قبل قليل- {ما نقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله} والتشهير يأخذ صوراً شتى -مثلاً- إنسان مجاهر مُصِرٌ نهيته عدة مرات ولم ينته، ولم يبق إلا أن تشهر به، كيف تشهر به؟ ليس بالضرورة أن تعلن على المنبر أن فلاناً بن فلان كذا، هذه ليست الصورة الوحيدة، لكن أذكر لكم مثالاً يدلكم على ما ذكرته لكم قبل قليل، وهو أن الحاجة أم الاختراع، والعطشان يكسر الحوض. في بغداد كان هناك بيت يسمع منه صوت الغناء والمزامير واللهو، بيت لواحد من المترفين الأغنياء، طرقوا عليه الباب لم يستجب لهم، مرة ثانية وثالثة لكن الرجل مصر، وكان هناك قارئ في بغداد حسن الصوت ومؤثر بكَّاء- إذا قرأ بكى وأبكى من حوله، فلما أعيتهم الحيلة جاء هذا القارئ يوماً من الأيام، وقت ازدحام الناس في الشوارع، وجلس على عتبة الباب الذي يصدر منه صوت الغناء، والغناء مسموع -أي: في تلك اللحظة- ثم استعاذ بالله من الشيطان الرجيم وسمى وبدأ يقرأ القرآن الكريم بصوت جهوري فاجتمع الناس لما سمعوا صوت فلان- وامتلأ الشارع وعلا النحيب والأصوات والبكاء؛ حتى سمع صاحب البيت وهو في داخل منزله سمع أن الوضع غير طبيعي، وأن هناك بكاء وأصواتاً، فنظر وإذا بالوضع هكذا فنزل وأخرج الطبول وآلات اللهو والفساد التي عنده وأعطاها لهذا الشيخ ليقوم بتكسيرها بيده. فهذه طريقة لا تحتاج إلى شيء، وليس فيها مأخذ على فاعلها، وهي طريقة حكيمة ومناسبة، وقد فعل مثل هذا بعض الدعاة في العصر الحاضر، حيث كان هناك حفل يراد أن يقام في مكان ما، غناء ولهو وطرب، وهذا الداعية عجز عن تغييره، فلما عجز أخبر الصالحين بأنه سوف يقيم محاضرة أو درساً في مكان مجاور، قريب منه جداً، وبدأ يتكلم بكلام قوي ومؤثر، وقد أعد له إعداداً جيداً، فانسحب الناس من مكان الحفل، وأتوا إلى المحاضرة، وأوقف الحفل بطريقة هادئة مفيدة دون أن يحدث فيها أي شيء يمكن أن يعاتب عليه. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 14 من وسائل الأمر بالمعروف: المقاطعة ومن طرق إنكار المنكر قضية: الامتناع عن المكان أو المؤسسة التي يوجد فيها المنكر، أرأيتم بيوت الحرام التي تتاجر بحرب الله تعالى وحرب رسوله صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:278-279] هذه البيوت من أين كبرت وشهقت وارتفعت؟! من جيبي وجيبك!! وهذه المجلة التي تتاجر بأعراض المسلمين ما هو الذي ضمن لها الاستمرار والدوام؟! وأنها أصبحت تتطور وتخرج في ورق صقيل وعدد كبير من الأوراق، وتنشر في كل مكان، إنها أموال المسلمين!! وهكذا كل مؤسسات الفساد والانحراف والرذيلة، لو أن المسلمين قاطعوها لانتهت من نفسها ووئدت في مهدها، لكن أنا الذي أجرتها، وأنت الذي توظفت فيها وعملت فيها، والثالث تعامل معها، والرابع دعمها، والخامس، والسادس … وهكذا؛ حتى صار المجتمع من حيث يشعر أو لا يشعر ينفخ روح القوة والحيوية في مثل هذه المؤسسات، ثم تجد أنهم يمتعضون منها، ويستاءون منها، ونقول كما يقول المثل العربي: يداك أوكتا وفوك نفخ، أي: أنت المسئول ونحن المسئولون عن مثل هذه الأشياء. ولو أننا أخذنا على عواتقنا مقاطعة كل وسائل الهدم والفساد والانحراف لتغير المجتمع، أحد الشباب يقول: هناك طريقة، فأنت لا تكاد تدخل بقالة إلا وتجد فيها الدخان يباع، وهذه المجلات من كافة الأنواع والأصناف ومجلات الأزياء إلى غير ذلك، أنت تأتي وتشتري، وتقول له: يا أخي لماذا أنت تبيع هذه الأمور المحرمة؟ قال لك: والله يا أخي الزبائن لو لم أبعها فلن يأتوا إليَّ، تقول: وأنا لست من الزبائن، المتدينون ألا يشترون لبيوتهم ألا يدخلون البقالات؟! بلى، ما الذي يمنع أنني بعد أن أجمع بضائعي كلها بأربعمائة ريال أو خمسمائة ريال، أقول: سبحان الله! أنت تبيع الدخان وهذه مجلات سيئة هذا لا يصلح. إذاً دع بضاعتك عندك، أنا لا يمكن أن اشتري من مكان عنده هذه الأشياء، ما الذي يحصل؟! يحصل أنه غداً إذا جاءه إنسان، وقال: أين الدخان؟ قال: الزبائن رفضوا إن يشتروا مني وعندي دخان، أو سأله عن المجلات الخليعة قال: الزبائن رفضوا. إن المجتمع والحمد لله فيه خير كثير والطيبون أينما كانوا كثير، فينبغي أن يثبتوا وجودهم من خلال البعد، ومقاطعة الوسائل والأماكن التي يكون فيها معصية إلا بشرط زوال هذه المعصية، وبالمقابل الإقبال على المجالات الخيرية التي فيها نفع وفيها طاعة. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 15 من وسائل الأمر بالمعروف: الجريدة والجريدة أيضاً وسيلة منتشرة -مهما كان الأمر- وكل موظف يقرؤها، وكل إنسان يقرؤها، وقد يطبع من بعض الجرائد أحياناً مائة ألف نسخة أو مائتي ألف نسخة في اليوم الواحد، فما الذي يمنع أن تكتب أنت بإنكار بعض المنكرات في الجريدة؟ خاصة إذا كان المنكر انتشر في الجريدة نفسها. أي: افترض أنك قرأت في إحدى الجرائد أو رأيت في إحدى الجرائد منكراً، لا يكفي أنك تقول: أتكلم في المجلس، لأن المجلس فيه عشرة، لكن الذين قرءوا الجريدة مائة ألف -كما ذكرت- فما هو الذي يمنع أن تكتب، إذا كنت على مستوى أن تكتب مقالة، وتبعث بها إلى الجريدة، وتكون مناسبة للنشر بقدر المستطاع، وتراعي فيها قواعد النشر، من أجل أن يستفيد منها أكبر قدر ممكن من الناس؟ فهذه من الوسائل. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 16 من وسائل الأمر بالمعروف: الهاتف الهاتف وسيلة أيضاً ممكنة جداً أن تتصل بالهاتف لفلان أو علان وتنكر عليه، سواء كان الذي تتصل عليه هو صاحب المنكر، فتقول له: يا أخي وجدت كذا، ولاحظت كذا، أم كان شخصاً يستطيع أن يغير المنكر، إما بمكانته وجاهه كأن يكون عالماً أو وجيهاً أو مسئولاً يستطيع أن يساهم في إزالة المنكر، والهاتف وسيلة فعالة ومؤثرة، أرأيتم حين تعلن مؤسسة -مثلاً- عن عمل لا يرضي فيُتصِّل عليها من أطراف شتى ما الذي يحدث؟ أذكر أنني اتصلت يوماً من الأيام بمؤسسة أعلنت عن حفل في إحدى الدول المجاورة، وهذا الحفل -كما هو ظاهر من خلال الإعلان- مختلط، الرجال والنساء فيه، فاتصلت بهم ولما كلمني المسئول عرفته بنفسي ومن أين أتصل به ثم قلت: إنني قرأت في الجريدة الفلانية إعلاناً مؤداه كذا وكذا فما أدري ما هو الدافع إلى مثل هذا الإعلان، وأنتم تعرفون … !! المهم فبعد ذلك اعتذر لي، وقال لي: هذا الإعلان أولاً: خطأ نزل منا بطريق الخطأ -بغض النظر عن كلامه هو صحيح أو غير صحيح- وبعد ذلك أعلنا في الجريدة في اليوم التالي نقضاً لهذا الإعلان، لكن ربما لم يتسن لك الاطلاع عليه، ثم قال: إن الناس اتصلوا بنا -هو يقول لي- من كل مكان، حتى كبار العلماء والمشايخ اتصلوا بنا، وقد بلغناهم بهذا الأمر، ونحن نشكركم … إلخ. ومعنى ذلك أنك حين تتصل أنت وأنا والثاني والثالث والعاشر استطعنا أن نفهم الناس ماذا نريد، وماذا يريد المجتمع؟! وهذه الوسيلة مؤثرة جداً في الوقت الذي لا تكلف فيه شيئاً، فلابد أن تكون إيجابياً، لا تقول ليس هناك فائدة، بل جرب الاتصال الهاتفي، وهو لا يكلفك أكثر من خمس دقائق، والمبلغ الذي تدفعه مقابل المكالمة الهاتفية في سبيل الله عز وجل، فجرب أنك تتصل بصاحب المنكر أو بعالم أو بمسئول يستطيع أن يغير، وتتكلم معه حيال منكر معين، وستجد أن غيرك اتصل فيه، وبالتالي ساهمت مساهمة فعالة في إزالة هذا المنكر أو في تقليله، وهذه وسيلة أو طريقة. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 17 من وسائل الأمر بالمعروف: الكتاب ومن وسائل الإنكار: الكتاب أو الكتيب الصغير، سواء تكتب كتاباً في إنكار أحد المنكرات، أو تساهم في نشره: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] أنت طالب علم -مثلاً- تستطيع أن تكتب كتيباً صغيراً في معالجة المنكرات، واسع في طباعته وتوزيعه بين الناس، لكن قد تقول: أنا لست بطالب علم ولكنْ عندك مال ساهم في نشر الكتاب بالمال، حتى يوزع أو يباع بسعر رخيص. وقد تقول: حتى المال ليس عندي مال، فلا بأس، لكن ساهم في نشر الكتاب عن طريق أنه إذا وزع الكتاب بالمجان تأخذ هذه الكتب، وتوزعها في المدارس والمساجد والمؤسسات وغيرها، وكل إنسان له موقع فإنه يؤدي دوره ويقوم به بحسب قدراته وإمكانياته. وأيضاً قضية النشرة الصغيرة أو ما يسمونه اليوم بالمطويات -أربع ورقات أو خمس ورقات- وهي تعالج موضوعاً معيناً، وهذه من السهل أن يقرأها الإنسان وهو واقف أو يمشي، وتعالج أحد هذه المنكرات، فمن الممكن أن تشارك فيها أيضاً. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 18 من وسائل الأمر بالمعروف: الشريط قضية الشريط سواء بإعداد شريط في معالجة إحدى المنكرات الموجودة، أم بالمساهمة في نشر هذا الشريط وترويجه بقدر ما تستطيع، خاصة ونحن نعلم اليوم أن كثيراً من البيوت إن لم يكن كلها يوجد عندهم أجهزة تسجيل يسمعون بها، ويوجد عندهم أيضاً أجهزة السحب -أصبحت اليوم في كل بيت- وجهاز السحب يسحب به أربعة أشرطة أو خمسة، فبإمكانه أن يساهم بسحب هذا الشريط الذي يقوم بإنكار المنكر، ويقوم بتوزيعه على النطاق الذي يستطيعه. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 19 من وسائل الأمر بالمعروف: الكلمة ومن الوسائل مثلاً الكلمة، الكلمة الهادفة سواء أكانت درساً أم محاضرة أم نصيحة بعد الصلاة أم خطبة أم كلمة تلقيها أمام زملائك ومجالات الكلمة واسعة جداً، تخصص هذه الكلمة للتنبيه على منكر من المنكرات وتكون هذه الكلمة بأسلوب مناسب. ومن الأمور التي ينبغي أن تراعى في هذه الكلمة أن لا تكون هذه الكلمة ضربة في الوجه، -مثلاً- افترض أنك تريد أن تنكر أحد المنكرات الظاهرة، ومثالها اليوم أنك لا تكاد تجد مجتمعاً إلا وفيه من يشرب الدخان، أو يسبل في ثوبه، أو يحلق لحيته أو يرتكب بعض المعاصي -مثلاً- فهل معنى ذلك أني إذا أتيحت لي فرصة الكلمة، أحمد الله وأثني عليه، وأقول: الناس اليوم يحلقون لحاهم، وحلق اللحى ورد فيه كذا وورد فيه كذا، بهذا الأسلوب. قد يخرج الناس بانطباع لا يخدم قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الحالة، وقد لا يستجيبون لك. ولكن لو أنك بدأت بقضية أكبر من هذه -مثلاً- قضية التشبه بالمشركين ولماذا نهى الإسلام عن التشبه بالكفار وتذكر أدلة وأمثلة وكلام المؤرخين وكلام الناس المعاصرين، بحيث تتدرج بعد ذلك، وتضرب الأمثلة لبعض التشبه الذي وقع، وتأتي بقضية حلق اللحية كمثال على التشبه بالمشركين -مثلاً- فضلاً عن أنه ورد فيها نصوص خاصة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أعفوا اللحى} إلى غير ذلك، وتنطلق من هذا المنطلق، فإنك بعد ذلك تجد أن الحاضرين وإن كانوا حليقي اللحى، إلا أنهم تقبلوا كلامك، ودخل في قلوبهم ونفوسهم واستساغوه. وقد ذكرت لبعض الزملاء أنه حصلت لي قصة يوماً من الأيام في إحدى المدارس: زرت إحدى المناطق في هذه المملكة، فرأيت أن المدرسة التي زرتها يوجد فيها عدد كبير من المنكرات. فآليت على نفسي أنني لا بد أن أقول لهم شيئاً عنها، فلما تحدثت ذكرت كلاماً عاماً عن الشباب ومشكلات الشباب، وأوضاع الشباب وما يجري لهم، وخطط الأعداء والغربيين للقضاء على الشباب حتى ارتاح الحاضرون جميعاً، وأحسوا بأن هذا كلام جيد، وهم يحتاجون إلى مثله، وربما لم يسمعوه في بلادهم، باعتبار أنها بلاد نائية إلى غير ذلك. بعد هذا تكلمت عن الاعتزاز بالإسلام، وأن المسلم عزيز، وأنه هو الأعلى، الأعلى في دينه، الأعلى في عقيدته، الأعلى في سلوكه، وفي منهجه، وفي تاريخه وهكذا وذكرت أن المسلم العالي لا يقلد الكافر النازل، كما أن الكبير لا يقلد الصغير، والمدرس لا يقلد الطالب، وإنما الذي يحصل هو العكس، أن الصغير يقلد الكبير، والطالب يقلد المدرس، والمغلوب يقلد الغالب، ثم ذكرت هذه القاعدة، ثم انتقلت إلى التشبه بالمشركين، وما ورد فيها من النصوص، ثم ذكرت كل المنكرات التي رأيتها، وأدخلتها في باب التشبه. فخرج معي أحد الأساتذة، وكان يحدثني ويقول: جزاك الله خيراً أنت في الواقع أنكرت علينا، ولم نجد في أنفسنا من هذا الإنكار شيئاً، لكن فلاناً من الناس، وذكر شخصاً على رغم صغر سنه وعدم خبرته إلا أنه يقوم على المنبر ويتكلم بكلمات مبتذلة عن بعض هذه الأمور. حتى أنه ذكر لي: أنه يوماً من الأيام خصص خطبة للكلام عن حلق اللحية، وكان من ضمن ما قال: إن الذي يحلق لحيته مخنث، فهم بطبيعة الحال فهموا كلمة مخنث على غير وجهها؛ لأن الخطيب يقصد بمخنث أي: أنه إنسان يتشبه بالنساء، وفيه ليونة وفيه ترف وفيه تفسخ لا أكثر، هذا هو معناها اللغوي، لكن العرف الاجتماعي يفهمون من هذه الكلمة، أنه يقصد بها أنهم أصحاب فساد خلقي أو فواحش أو ما أشبه ذلك، فعظم هذا الأمر عليهم، وكان سبباً في عدم قبولهم لهذا الأمر، الذي أنكره عليهم. إذاً الكلمة سلاح، لكن ينبغي أن يحرص ويحسن الإنسان كيف يتسلل إلى قلوب الناس في إنكار المنكر الذي يراه عليهم. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 20 شروط الإنكار باليد النقطة الرابعة: قضية الإنكار باليد، أي تغيير المنكر أو هدمه أو إتلافه أو إحراقه، هذا معنى الإنكار باليد، الإنكار باليد هو أحد مراتب الإنكار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فليغيره بيده} بل هو أول مراتب الإنكار، وهي أن ينكر الإنسان بيده، والأصل أن الإنكار باليد يكون مهمة المسئولين عن إنكار المنكر أي: مهمة الجهة التي فوض إليها إزالة المنكر -لكن قد يحدث في كثير من الأحيان أن هذه الجهات لا توجد أصلاً- أي: في كثير من البلاد لا توجد هذه الجهات أصلاً التي يسند إليها هذا العمل أو توجد لكن لا تقوم بدورها ولا تمكن بذلك، فهنا صرح أهل العلم بأنه يجوز الإنكار باليد بأربعة شروط: الجزء: 96 ¦ الصفحة: 21 السلطة القائمة بالإنكار الشرط الأول: -الذي أشرت إليه سابقاً- وهو فقدان السلطة القائمة بالإنكار باليد، ولا شك أنه إذا وجد الماء فإنه لا يحتاج الإنسان إلى التيمم، فإذا وجد من يقوم بتغيير المنكرات باليد بطريقة مدعومة ممكنة قوية رسمية فلا داعي لغير ذلك، وإذا لم توجد فهنا يأتي الدور. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 22 ظهور المصلحة الراجحة الشرط الثاني: ظهور المصلحة الراجحة في ذلك، وهو أن يكون في الإنكار باليد مصلحة ظاهرة راجحة على المفسدة، أما إذا ظهر للإنسان أن في الإنكار باليد مفسدة أكبر وأنه قد يجر إلى مفاسد أخرى مثل تضييق الخناق على الطيبين والصالحين، أو انتشار المنكر أكثر وأكثر، فإنه يكون الإنكار باليد حينئذٍ ممنوعاً. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 23 تعذر غيرها الشرط الثالث: أن يتعذر بغيره، أي: إذا استطعت أن تغير هذا المنكر باللسان فالحمد لله، فلا تلجأ إلى اليد إلا إذا تعذر الإنكار باللسان. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 24 مراجعة العلماء الشرط الرابع: -وهو مهم جداً- وهو مراجعة العلماء في ذلك، وأن يكون المرجع فيه إلى علماء أهل السنة والجماعة، بمعنى أن كثيراً من الشباب بحكم ما أعطاهم الله عز وجل من قوة الشباب وتوقده وحيويته وما أنعم الله عليه به من قوة الإيمان -أيضاً- أصبح الواحد منهم إذا رأى المنكر فار الدم في عروقه، وقد يغير بيده دون أن يراجع أهل العلم، والواجب في نظري مراجعة أهل العلم في ذلك، وخاصة أهل العلم الذين يعرف الجميع أنهم مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الإصلاح، مع الدعوة، فإن مراجعة هؤلاء تضمن مصالح عديدة: المصلحة الأولى: التيقن من أن هذا الإنكار نفعه أكثر من ضرره؛ لأنه أنا وأنت قد لا نستطيع أن نقدر بالضبط لأن نظرتنا قصيرة، لكن غيرنا يمكن أن يكون أبعد نظراً منا. المصلحة الثانية: أن الذي ينكر باليد قد يتعرض لضرر في نفسه أو ماله أو بدنه أو أهله أو وظيفته أو ما أشبه ذلك، فهو يحتاج وقوف أهل العلم معه فإذا كان يصدر منهم وعنهم فحينئذ يضمن هذا. المصلحة الثالثة: أن هذا يعطي دعماً لأهل العلم -كما سبق أن نوهت به أكثر من مرة- فمن أهم وسائل إنكار المنكر وجود العالم الذي يكون الناس ملتفين حوله سائرين وراءه، فيكتسب بذلك نوعاً من المنعة والقوة تمكنه من إنكار المنكرات، فإذا كنت أنا وأنت وفلان وفلان لا نقوم بهذه الأعمال إلا بعد أن نرجع إلى العالم أكسبنا العالم قوة وأصبح الآخرون يدركون أن هذا العالم يملك أن يغير أشياء كثيرة، لكنه يؤثر أن يغيرها بطريقة سلمية، يكون هذا أفضل له ولهم، فهذا مما يجعل كلمة العالم مسموعة وصوته مؤثراً، فبذلك نكسب أموراً كثيرة إذا ربطنا هذه القضية بالعلماء، ونسلم مما وقع في كثير من البلاد من أن يكون الإنكار باليد سبباً في حدوث أمور ومشاكل كثيرة لا يعرف لها أول ولا آخر. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 25 المسئول عن إنكار المنكر الخامسة: وهي من المسؤول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هذه قضية في غاية الأهمية، جمهور الأمة إذا رأوا المنكرات غضبوا وفار الدم في عروقهم، وامتعضوا من هذه المنكرات، فإذا وجد الجمهور المجال الطبيعي للإنكار أنكر، والمجال الطبيعي ما هو؟ المجال الطبيعي يتلخص في نظري في أحد قناتين أو طريقين: إما القناة الأولى وهي: الجهات والمؤسسات الرسمية التي تقوم بإنكار المنكر. وأما القناة الثانية: إذا لم توجد الأولى هي: أن نسير خلف العلماء الذي يتحملون مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا أغلقت هاتان القناتان، ولم يجد الناس وسيلة للتغيير رسمية لا عن طريق العلماء ولا عن غيرهم، حينئذٍ يحدث الأمر الذي ذكرت لكم قبل قليل، وهي أن الناس يلجئون حينئذ إلى اجتهادهم، وهم معذورون؛ لأن الإنسان ليس مطالباً بأن يكف يده ويغلق عليه بيته ويترك المجتمع لهذه المنكرات تعبث به، فحينئذ تحدث اجتهادات قد تصيب وقد تخطئ، والإنسان يجتهد بحسب ما يستطيع. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 26 آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر النقطة السادسة: وهي قضية آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: من آداب الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: الجزء: 96 ¦ الصفحة: 27 الإسرار والإعلان النقطة السابعة: الإسرار والإعلان: قضية الإسرار والإعلان في موضوع المصلحة، هل تنكر سراً أم تنكر علناً؟ كلاهما وارد في الشرع، فقد يكون من المصلحة أن تنكر علانية وقد يكون من المصلحة أن تنكر سراً، -مثلاً- بعض الصحابة والتابعين كانوا ينكرون علانية، ومثل ذلك طارق بن شهاب رضي الله عنه، يذكر كما في صحيح مسلم أن مروان بن الحكم لما كان أميراً على المدينة أخرج المنبر في يوم العيد، وطفق يخطب قبل الصلاة، فقام إليه رجل، وقال: يا مروان خالفت السنة، قالها بصوت جهوري سمعه الناس: أخرجت المنبر في يوم العيد، ولم يكن يخرج، وبدأت بالخطبة قبل الصلاة، قال له مروان: قد ترك ما هنالك. ومرة أخرى أبو سعيد الخدري نفسه، لما قام مروان ولعلها كانت قبل ذلك، جاء مروان ليخطب، فقام ليغير عملياً وقف في وجه الأمير مروان بن الحكم وأمسك بثوبه وتله - أي: جره- وقال: إلى أين؟ فجره مروان وذهب، وصعد المنبر فلما انتهى، أنكر عليه أبو سعيد، فقال: قد ترك ما هنالك، فذكر أبو سعيد أن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم وهديه وطريقته. وكذلك الصحابة فيما بينهم -مثلاً- عمر رضي الله عنه، كم وكم أُنكر عليه، وهو على المنبر، ولعل من أصح القصص في ذلك، ما رواه الشيخان: أن أبي بن كعب قال لـ عمر مرة من المرات لما حصل خصومة بين عمر وأحد الصحابة، قال أبي بن كعب لـ عمر: يا ابن الخطاب لا تكونن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وعثمان بن عفان لما نهى عن المتعة في الحج -يعني جمع العمرة والحج- قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان حاجاً معه: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، قالوا لماذا؟ قال: أردت أن أبين أن ما يأمرنا به عثمان غير صحيح، ومخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك معاوية كان أميراً رضي الله عنه، وكان يستلم الأركان كلها في البيت ولا يكتفي باستلام الركن اليماني أو الحجر الأسود، يستلم الأركان الأربعة كلها في الكعبة، فأنكر عليه ابن عباس رضي الله عنه فقال له معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً، لماذا نهجر الأركان هذه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وكان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين اليماني والأسود. ومثل ذلك كثير: عائذ بن عمرو دخل يوماً من الأيام على عبيد الله بن زياد، وقال له: يا ولدي- هذا الأمير كان أمير العراق- يا ولدي إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} يعني: الإنسان القاسي الغليظ، فاحذر أن تكون منهم، قال له: اجلس فإنما أنت من نخالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وهل كان لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نخالة، إنما كانت النخالة فيمن جاء بعدهم، أي: مثلك، فكانوا ينكرونها علانية لأنهم رأوا المصلحة في ذلك. وقد يرى الإنسان المصلحة في الإسرار كما إذا كان المنكر شخصياً، أو رأى أن هذا الإنسان قد تأخذه العزة بالإثم، أو قد يترتب على ذلك مفسدة أكبر من المصلحة فحينئذ يسر، إذاً المصلحة والمفسدة من القضايا التي تجري في موضوع الإسرار والإعلان بالمنكر، يعني: بإنكار المنكر. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 28 الرفق أولاً: الرفق، فإنك قلما أغضبت رجلاً فقبل منك، وكلما أمكن أن تأمر وتنهى برفق، كان هذا هو المتعين عليك. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 29 الحكمة ثانياً: ومن الآداب -أيضاً- الحكمة، والحكمة قضية مشكلة جداً؛ لأن كثيراً من الناس لا يستطيع أن يعرف بالضبط ما المقصود بالحكمة، فبعض الناس يعتقد أن الحكمة تعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا قلت لشخص: يا أخي بارك الله فيك صلِّ، قال: ادع بالحكمة، تكلم لكن بحكمة، تكلم بحكمة، فماذا فعلنا نحن؟ كل ما في الأمر أننا وجهنا إليك نداء ودعاء بأن تصلي! قال لك: يا أخي بحكمة. ولا شك أن هذه من الأشياء التي أصبح كثير من الناس لا يعرفونها حق معرفتها، وبالمقابل قد يخفى على بعض الناس وجه الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد يقوم بعمل لا تتوفر فيه الحكمة بشكل كافٍ، فلا بد من الحكمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحكمة في كل شيء بحسبه كما يقول الشاعر: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى من الحكمة أن تستخدم اللين في موضعه، لكن من الحكمة أن تستخدم الشدة في موضعها أيضاً، وأذكر لكم قصة الشاب الإسرائيلي وهي قصة في الصحيحين: لما كان بين الساحر والراهب، والقصة طويلة، لكن الشاهد منها، أنه في آخر القصة، قال الغلام للملك بعد أن عجز عن قتله: هل تريد أن تعرف كيف تقتلني؟ قال: نعم، قال: اصلبني إلى جذع شجرة ثم اجمع الناس كلهم، وقل: بسم الله رب الغلام ثم اقتلني، أرسل إلي سهماً فيقتلني، ففعل الملك، فلما فعل ذلك، قال الناس كلهم بصوت واحد: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام. هذا العمل الذي قام به الغلام ترتب عليه موت -قتل- أي: آخر ما يخطر في بالك لكنه بلا شك في جميع المقاييس من الحكمة؛ لأنه ترتب عليه موت واحد وحياة ألوف مؤلفة من الناس، أحياهم الله تعالى بالإيمان بعد أن كانوا أمواتاً بالكفر. فالحكمة، تعني وضع الشيء في موضعه، إذا استدعى أمر أن تستخدم القوة والشدة استخدمها، تستخدم اللين استخدمه، تستخدم الكلمة استخدمها، الرسالة، الشريط، الكتاب كل شيء تضعه في موضعه، وقد لا يستطيع الإنسان أن يقدر الحكمة في بعض القضايا، فإن استطاع أن يستنير بغيره ويستشير فهذا جيد، ولذلك يقال الناس أنواع: واحد كامل: -ليس المقصود كمال كلي؛ لأن الكمال لله، ولكن كمال نسبي- فهذا هو الذي له عقل ويستشير، هذا رجل. وآخر نصف رجل: وهو الذي له عقل، لكنه لا يستشير. والثالث لاشيء: وهو الذي لا عقل له ولا يستشير، فهذا يعتبر لاشيء. فاعمل أنت على أن تكون رجلاً، أن تستشير مع عقلك، وتكون أضفت إلى عقلك عقل غيرك، فإن لم يكن فعلى الأقل كن نصف رجل واستخدم عقلك بشكل جيد وإياك إياك أن تكون لا شيء فتخسر، وتكون سبباً في خسران غيرك. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 30 الحلم ثالثاً من الآداب: الحلم، من الممكن أن تواجه من المُنْكَر عليه كلمات جارحة وأسلوباً غير مناسب. فعود نفسك على أن تكون واسع البال، واسع القلب بطيء الانفعال، واجه الكلمة بالابتسامة، واجهها برد حسن واجهها بنكتة أحياناً وطرفة، فوِّت الفرصة على هذا الإنسان؛ لأنه يجن جنونه إذا رأى أنه في ذروة الانفعال والغضب وأنت أعصابك كما يقال: في الثلاجة، لم تتحرك ولا انفعلت، إنما قابلت كلامه الغليظ بابتسامة أو بنظرة أو بكلمة حلوة أو بنكتة قلتها له، فإن هذا أعظم ما تستطيع أن تغلبه به. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 31 العدل رابعاً: العدل، والعدل يأخذ صوراً شتى، منها: أن هذا الإنسان الذي وقع في المنكر لا تنس أن له حسنات، فلو أتيت وقلت له: يا أخي في الحقيقة أنت رجل صالح، وأنا أشهد لك، ليس على سبيل المجاملة، لكن من باب العدل الذي أمرنا الله به، أنك محافظ على الصلاة في جماعة، وهذا هو الذي أغراني أن أقول لك كذا وكذا، فهذا من أسباب القبول لأنك عادل، لكن إذا تجاهلت كل حسنات هذا الإنسان وأهدرتها ربما لم يقبل منك. وكذلك العدل تحتاج إليه فربما يحصل من جراء إنكار المنكر -أحياناً- موضوعات تطول مثل قضية مخاصمة أو رفع إلى القضاء أو ما أشبه ذلك، فهنا أكون عادلاً وأقول الكلام الذي لي، والكلام الذي علي، وأراقب الله عز وجل في ذلك. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 32 الصبر خامساً: الصبر: فإن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يلقى الأذى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] . الجزء: 96 ¦ الصفحة: 33 النظر في المصالح والمفاسد النقطة السادسة: -وهي قضية مهمة- وهي قضية المصلحة والمفسدة، لماذا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؟ نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر حتى نحقق المصالح وندفع المفاسد، وإنما بعث الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام من أجل جلب المصالح وتكميلها وتقليل المفاسد وتعطيلها، فأنت حين تأمر أو تنهى تقصد المصلحة. فلو علمت أن أمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر يترتب عليه مفسدة حينئذ يكون ممنوعاً عليك، ولهذا يقال: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله خرج مع بعض تلاميذه من دمشق، كما ذكر هذا الإمام ابن القيم، فلما خرجوا مروا ببعض التتر وكانوا يشربون الخمور خارج دمشق أيام غزوهم لبلاد الإسلام، فهمَّ بعض تلاميذ شيخ الإسلام بالإنكار عليهم وذهبوا إليهم، فقال شيخ الإسلام: دعوهم، اتركوهم وما هم فيه، قالوا: رحمك الله نتركهم على هذا المنكر، قال: نعم، إن هؤلاء القوم لو صحوا من سكرهم لدخلوا دمشق، وهتكوا أعراض النساء، ونهبوا الأموال وقتلوا الرجال، فما هم فيه الآن، وإن كان منكراً إلا أنه أخف من المنكر الذي يمكن أن يحصل لو تركوا شرب الخمر. إذاً القضية قضية العمل على تحصيل المصلحة الأعظم ودفع المفسدة الأكبر، ولذلك العقل والشرع -أيضاً- هو تحصيل خير الخيرين ودفع شر الشرين، وإلا لا يكاد يوجد في الدنيا مصالح محضة (100%) ولا مفاسد محضة (100%) إلا أن المسألة مسألة موازنة أيهما أعظم، فإذا كانت المصلحة أعظم حصِّلها، وإذا كانت المفسدة أعظم ادفعها، ولذلك لا بد أن توازن بين المنكر الصغير وبين المنكر الكبير، فتبدأ بالأكبر قبل الأصغر، وكذلك إذا ترتب على المنكر منكر أكبر منه فدعه. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 34 دور الشباب النقطة الثامنة: قضية دور الشاب، ومن الأشياء الذي تعجبني أن كثيراً من الأسئلة التي وردتني يقولون: ما هو دورنا كشباب في إنكار المنكر؟ وهذا يدل على بداية حسنة ومعناها: أننا بدأنا نفكر أين الطريق؟ وما هو الأمر الذي يجب أن نفعله؟ فأقول بداية وإن كان الموضوع يتطلب وقتاً أطول من هذا الجزء: 96 ¦ الصفحة: 35 أن يقوم بالدور الكامل أول واجب على الشاب هو أن يقوم بالدور كاملاً -كما سبق تفصيله- أكثر مما يقوم به غيره، يعني -مثلاً- الكلمة أو الكتاب أو الشريط أو المناصحة أو المقاطعة لأماكن الفساد أو ما أشبه ذلك، فهذه كل المجتمع يقوم بها. لكن الشاب بصفة خاصة ينبغي أن يقوم بها، تقوم بها في المنزل، دورك في المنزل، دورك مع زملائك في العمل، دورك في الفصل إن كنت طالباً وهكذا، أن يقوم الشاب بدوره خير قيام وأن يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الهم والوظيفة التي نذر حياته من أجلها، ولا أتردد طرفة عين، أننا لو ملكنا جمعاً مثل هذا الجمع في هذا البلد -مثلاً- أو في هذه المنطقة، وكل واحد منهم همه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لاختفت كثير من المنكرات، وظهرت كثير من السنن التي هجرت وتركت، فهذا دور ينبغي القيام به. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 36 الالتفاف حول العلماء الواجب الثاني: دورهم في مواصلة العلماء، فإن العالم له دور كبير في إزالة المنكرات، خاصة المنكرات الراسخة المتأصلة التي امتدت جذورها في الأرض وتعمقت وتأصلت، وأصبح من الصعب إزالتها، فهذه تحتاج إلى رجال ذوي قوة ومنعة ومكانة ليقوموا بتغييرها، ولا يكون ذلك إلا بأن يقوم الشباب بالالتفاف حول العلماء العاملين المتبعين للسنة، ومن الالتفاف حولهم: تبليغهم بالمنكرات التي تقع. على الأقل اجعل من نفسك واسطة لإيصال ما يقع من المنكر إلى العلماء وتبليغهم به مع تزويدهم بالوثائق الكافية، أي: فلا يكفي أن تقول في مكان كذا منكر؛ لأن هذا قد لا يكون، قد تكون ظننت الأمر على غير ما هو عليه، لكن عليك أن تأتي بالأدلة الكافية على صدق ما تقول، وتجعل العالم يرى المنكر كما لو كان رآه بعينه فعلاً، حتى يستطيع أن يتكلم بقوة وجرأة، هذا من واجبنا، وقد سبق أن ذكرت نماذج في ذلك. مثلاً: المراسلة أن تكتب الرسالة للعلماء أو الدعاة أو طلبة العلم لتزودهم ببعض ما ترى، أو تسمع من مقالات، أو كتابات أو قصائد أو منكرات أو أشياء مخالفة للشرع، حتى يستطيعوا أن يقاوموها بقدر ما يمكن، فتكون أنت على أقل تقدير رافداً يواصل العلماء بما يقع في الأمة؛ لأن العالم قد يكون مشغولاً بدرسه ومجلس علمه وارتباطاته الكثيرة عن معرفة مثل هذه التفاصيل الدقيقة، فكن أنت عين العالم على المجتمع، وأذن العالم التي تنصت لما يقال في المجتمع، ثم إذا واصلته حينئذ فقد قمت بدورك وبقي دوره. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 37 المشاركة الرسمية الواجب الثالث: من دور الشباب: هي قضية المشاركة الرسمية في مجالات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن دائماً نحب أن نلقي بالمسئولية على غيرنا لنخرج أبرياء، فمثلاً: كثير من الناس يتكلمون عن جهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنه لم يقم بالدور الواجب منه، وقد يقول البعض بأن فيه موظفين كثيرين من كبار السن أو … إلى آخره. إذاً أين أنا وأنت والثاني والثالث؟ لماذا لم نقم بهذا الدور؟! لو أن هذا الجهاز مدعوم بعدد كبير من الشباب المتدين الواعي المدرك، لكان هذا الجهاز مهما كانت العقبات أمامه، ومهما وجد في المجتمع من يمتعض أو يستاء من هذا الجهاز، أو يحاربه لكان هذا أكبر وأقوى من أن يقف أحد في وجهه، لكن عندما حصلت الأمور السابقة، مثل الإعراض عن هذا الجهاز، وكون كثير من الصالحين والشباب الجامعي لا يرغب أن يتوظف فيه، حصلت السلبيات اللاحقة لذلك، فعلينا أن ندرك أننا نحن مسؤولون أيضاً عن هذا التقصير الذي حصل، ويجب أن نتداركه بقدر المستطاع. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 38 أسباب عدم إنكار المنكر أخيراً لماذا لا نغير؟ وما هي الأسباب التي تمنعنا من إنكار المنكر؟ هناك أسباب كثيرة منها: الجزء: 96 ¦ الصفحة: 39 الخجل أولاً: الخجل: نحن نستحي ولم نتعود، عندنا وهن وخوف من الناس، والهيبة والخجل لا يزول إلا بالممارسة الفعلية، جرب وسوف يزول الخجل تدريجياً وتلقائياً. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 40 التعذر بالمعصية ثانياً: يقول بعض الشباب كما في الأسئلة، يقول: أنا عاصٍ، فكيف أغير المنكر؟ وأقول: نعم، تغير المنكر، وإن كنت عاصياً: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد عليه الصلاة والسلام، والله عز وجل عاتب بني إسرائيل، وقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] حتى فاعل المنكر يجب أن ينكر، وهذه مسألة طويلة وقد بسطتها في مواضع كثيرة فلا أرى داعي للوقوف عندها. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 41 التعذر بعصيان القريب ثالثاً: يقول بعض الشباب: أنا لست بعاصٍ، لكن أخي عاصٍ، فكيف أنكر على الناس، وهم يرون أخي قد وقع في هذه المعصية؟ وهذا في الواقع ليس بعذر؛ لأنك لست سلطاناً على أخيك فتستطيع أن تأمره بالمعروف أو تلزمه به قسراً، قد أمرت أخاك فلم يأتمر، ونهيته فلم ينته، فحينئذٍ انتقل إلى غيره ولا تكترث من هؤلاء الذين يعيرونك به؛ لأنهم يعرفون بأنه لا سبيل لك إليه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] لكنهم أرادوا فقط أن يؤذوك بشيء، فقالوا: أخوك عاصٍ، فأنت قل لهم: أخي عاصٍ وأنتم عصاة وأسأل الله العظيم أن يهدينا وإياكم جميعاً، ولكن عليكم أن تسمعوا هذا الكلام: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] أما مسألة أنه يقول: إنكم عصاة، فهذه قضية بحسب المصلحة، كما أسلفت. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 42 التعذر بأنه لا يستمع له رابعاً: بعضهم وبعضهن يقولون: لن يسمع مني، ولن يزول هذا المنكر فما هو الداعي إلى أن أكلف نفسي؟ وهنا تأتي القضية بعض الشباب يريد أنه بمجرد أن يقول كلمة تزول المنكرات، وهذا ليس صواباً، حتى تصور أن الحاكم بجرة قلمه يستطيع أن يزيل المنكرات كلها، وهذا ليس بصحيح، بل الأمور كلها لابد فيها من مراعاة التدريج لكن الشيء الذي نطلبه هو أن يكون عندنا جدية وصدق في إزالة المنكرات، وبداية صحيحة بحيث نطمئن إلى أننا بدأنا ووضعنا أقدامنا على طريق التغيير، أما إزالة المنكرات كلها بجرة قلم وبلحظة فهذا لا يتصور، وليس بسهل، إن إزالة المنكر أمامه عقبات، والمنكر قد امتدت جذوره في واقع الناس، وله مؤيدون وله أنصار، وله منافقون يحامون عنه إلى غير ذلك، فتصور الأمور بهذه البساطة غير صحيح، لكن أنت إذا أنكرت كسبت أموراً: أولها: أنك قاومت المنكر من نفسك؛ لأنك أنت نفسك مهدد بأن المنكر يصل إليك، وممكن أن تقع فيه، فإذا أنكرته تكون سلمت منه بإذن الله تعالى. ثانيها: كسبت الأجر في القيام بهذه الفريضة والشعيرة التي هي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثالثها: قد تقلل من المنكر، تقلل منه. رابعها: قد تزيله. خامسها: على أقل تقدير قد تمنع حدوث غيره؛ لأنه إذا كان هناك من يريد أن يفعل منكراً أكبر من الواقع الآن، ووجد أنك حتى المنكر الموجود الآن لم تهضمه ولم تقبله، وأنك ترفضه وتنكره، فيقول: إذاً كيف أريد أفرض عليه منكرأ أكبر، فعلى أقل تقدير تمنع من حصول المنكر الذي يمكن أن يقع. وفضلاً عن هذا وذاك فإن أقل ما نجنيه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ألا تستقر المنكرات حتى تصبح كأنها معروفاً؛ لأنه إذا لم يوجد من يأمر وينهى، فإنه يهرم عليها الكبير، وينشأ عليها الصغير، وتصبح حقاً ومعروفاً، إذا تركت قيل: ترك الحق وترك المعروف وتركت السنة، لكن إذا وجد أولوا بقية ينهون عن الفساد، يكفي أنهم يقولون للناس بملء أفواههم: يا ناس هذه منكر وهذا لا يجوز، وقد يأتي يوم من الأيام من يستطيع أن يزيله أو يغيره بأي وسيلة. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 43 الخوف من الأذى خامساً: بعض الناس يدعون إلى ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنهم يخافون من الأذى، والأذى شيء طبيعي: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً} [آل عمران:186] {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الترمذي وغيره: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} . يبتلى المؤمن على قدر إيمانه، فالأذى عربون حسن على أنك إن شاء الله مؤمن، وأنك بدأت تتحلى بصفات المؤمنين، وواجه الأذى بالصبر والحلم كما أسلفت. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 44 خوف الفتنة سادساً: بعض الناس يقول لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر أخشى أن تحدث فتنة، وأقول: إن الفتنة هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد عاب الله تعالى على المنافقين أنهم تركوا الخروج مع الرسول عليه الصلاة والسلام للغزو بحجة خوف الفتنة: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] ويقول الله عز وجل: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] فأنت الآن أمام فتنة قائمة، وهي المنكر الموجود، تقول: لا أنكر وأخشى من فتنة متوقعة، نقول: الفتنة الواقعة يجب إزالتها، وعدم الالتفات إلى الفتنة التي تخافها، فالفتنة المخوفة محتملة يمكن تقع أو لا تقع وقد يكون هذا من سوء التقدير أو من الجبن فإن الجبان يخاف من كل شيء، كما قال المتنبي: يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك سجية الطبع اللئيم فالجبان يخاف من كل شيء ويَفْرق من ظله، ولهذا كل شيء لا ينكره، يقول: أخشى أن يكون إنكاري سبباً في إحداث فتنة. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 45 الأسئلة الجزء: 96 ¦ الصفحة: 46 حكم إحراق المجلات والأشرطة من غير إذن صاحبها السؤال يوجد مع رجل مجلات فيها نساء، وأشرطة غناء، فهل يجوز لي أخذها وإحراقها مع أني نصحته قبل ذلك؟ الجواب هذه من الأمور التي تختلف فيها وجهة النظر، فإن كنت قَيِّماً على هذا الإنسان أو مهيمناً عليه، فإن لك أن تأخذها وتحرقها، أما إن كنت بعيداً عنه وليس لك صفة رسمية تستطيع من خلالها أن تأخذ هذه المجلات أو الأشرطة وتتلفها، فلا أرى أن تفعل ذلك لما قد يترتب عليه من المفاسد الأخرى. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 47 حكم مقاطعة المحلات الغذائية التي تبيع الأشياء المحرمة السؤال يقول: الذي فهمت أن الأفضل أن يقاطع الإنسان المسلم المحلات الغذائية التي تبيع الأشياء المحرمة والذهاب إلى غيرها فما رأيكم؟ الجواب لا أقول أنه واجب لكن هذا هو الأفضل، حتى ندعو الناس إلى ترك هذه المنكرات، ونثبت أن زبائنهم الآخرين الطيبين يجب أن يراعى ما يريدون. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 48 كيفية التوبة من الغيبة السؤال يقول: اغتبت رجلاً وتكلمت بكلام إثم، أرجو أن تفيدني عما يجب عليَّ؟ الجواب إذا كنت اغتبت هذا الإنسان فإن عليك أن تبلغه أنك قد وقعت بهذا منه، وتطلب منه المسامحة إذا كنت تعلم أن هذا لا يؤثر في نفسه، أما إن كنت تعتقد أن هذا قد يؤثر في نفسه ويجعله يجد في قلبه عليك، فعليك أن تكثر له من الدعاء والاستغفار في ظهر الغيب، وتمدحه في المجالس التي اغتبته فيها، وبالمناسبة فإن كل أحد تكلم فيَّ أو نال مني فإنني أجعله في حل من ذلك وأسأل الله عز وجل أن يتجاوز عني وعنه بمنه وكرمه. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 49 خبر غير صحيح السؤال نرجو أن تخبرنا عن الشيخ المنجد سمعنا أنه قد مات من مدة أسبوع تقريباً؟ الجواب هذا ليس بصحيح، إنما الذي أعرفه أنه منذ فترة تعرض لحادث في البحر، حادث عجيب، لكن الله سلمه منه وولده بمنه وكرمه ونجاه من الغرق بأعجوبة من الله عز وجل، حيث جلس في البحر طيلة الليل يمسك بطوق النجاة مع أنه لا يجيد السباحة حتى طلعت الشمس، وكان معه آخر -أيضاً- حين غرق بهم المركب، ونجوا بحمد الله تعالى، هذا الذي أعلمه. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 50 طريقة الإنكار بالقلب السؤال يقول: كيف يكون إنكار المنكر بالقلب؟ الجواب كُره المنكر وبغضه وكراهيته والامتعاض منه، ويدخل في ذلك مغادرة المكان الذي يقع فيه المنكر. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 51 كيفية الإنكار على كبار السن السؤال يتعرض بعض الشباب حين ينصحون من هو أكبر منهم سناً لبعض ما يقول عنهم هؤلاء ما رأيك فيمن يرى رجلاً كبيراً وعليه بعض المعاصي؟ الجواب لا بد أن يراعي كبر سنه فيتدرج في نهيه عن المنكر إن استطعت أن تبلغ غيرك ممن يكون موثوقاً عنده فهو أفضل، وإن استطعت أن تقرأ عليه كتاباً وتقول هذا كلام فلان ممن يعلم فهو أجود -أيضاً- إن لم تستطع هذا تنكر عليه لكن بأسلوب حسن، فإذا بلغته ورأيت أنه لج في خصومته وعناده وأظهر لك أنه أعلم منك، وأعرف منك، وأنه جلس عند الشيخ الفلاني وما أشبه ذلك، فحينئذ ليس بيدك شيء. هذا ما تيسر وبقية الأسئلة إن شاء الله تحفظ إلى مناسبتها، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذه المجلس مكتوباً لنا في سجل أعمالنا يوم نلقاه، إنه على كل شيء قدير. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتوفنا وأنت راضٍ عنا غير غضبان، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، استغفرك وأتوب إليك. الجزء: 96 ¦ الصفحة: 52 فرحة رمضان - صائمون احتسابا ً إن من طبيعة الإنسان أنه يفرح بفضل الله تعالى، وبنعمه، ولكن مع ذلك تختلف فرحة الناس فمنهم من يفرحون لأمور دنيوية بحتة، ومنهم من يفرحون فرح المؤمنين المتقين الطائعين، وهذا هو الذي يجب أن يتمثله المسلم وخاصة في شهر رمضان، وعلى المسلم أن يكون صومه وجميع أعماله إيماناً واحتساباً للأجر والثواب عند الله تعالى: وقد بين الشيخ حفظه الله تعالى أن العبرة بحسن العمل لا بكثرته. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 1 فرح الناس بدخول شهر رمضان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: ما يزال المسلمون في هذه اللحظات ينتظرون إعلان دخول الشهر الكريم المبارك، وقد تطلعت قلوبهم، واستشرفت نفوسهم إلى سماع أصوات المدافع وهي تبشر بدخول هذا الشهر الكريم. ولا شك -أيها الإخوة- أن هذا الخبر الذي نترقبه وننتظره هو من أعظم ما يُفرح به {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] . الجزء: 97 ¦ الصفحة: 2 لماذا يفرح المؤمن برمضان من الناس من يكون فرحه فرح المؤمن، الذي يفرح برمضان؛ لأنه شهر القرآن، شهر الصيام والقيام والعبادة والدعاء والتضرع إلى الله -عزَّ وجلَّ- شهر المغفرة والعتق من النار. من الناس من يفرحون برمضان، كما كان يفرح به أصحاب محمد -عليه الصلاة والسلام- فكان -عليه الصلاة والسلام- إذ يبشرهم برمضان، لم يجد ما يبشرهم به في مقدم هذا الشهر الكريم، إلا ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول لأصحابه: {إذا دخل رمضان فُتِحَتْ أبواب السماء} وفي رواية: {فُتِحَتْ أبوابُ الجنة، وغُلِّقَتْ أبوابُ النيران، وصُفِّدَتِ الشياطينُ ومَرَدَةُ الجن} فبذلك كانوا يفرحون؛ لأن فتحَ أبوابِ السماء، وفتحَ أبوابِ الرحمة وأبواب الجنة، تكرم من الله -عزَّ وجلًّ- على عباده، وسِعة رحمته، وكثرة مغفرته، وكثرة عتقائه في هذا الشهر الكريم من النار، ولذلك جاء في الحديث، في رواية الترمذي -رحمه الله- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان أول ليلة من رمضان} ونرجو أن تكون هذه الليلة، التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم هي التي نعيش ساعاتها الآن ونترقبها {إذا كان أول ليلة من رمضان غُلِّقَتْ أبوابُ النار؛ فلم يُفتح منها باب، وفُتِحَتْ أبوابُ الجنة؛ فلم يُغلق منها باب، وينادِي منادٍ: يا باغي الخير هَلُمَّ وأقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله في كل ليلة عتقاءُ من النار} . فهذه مصدر فرحة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي وَجَدَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يبشر أصحابه به؛ لأنهم لم يكونوا يفرحون إلا بما يكون مقرباً لهم إلى رضوان الله تعالى ورحمته، ومباعداً لهم عن عذابه وسخطه، وهكذا يفرح المؤمنون {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] . مصدر فرحة المؤمن في رمضان: أنه يؤمل أن يكون فيه في ركب التائبين، الذين غُفرت لهم ذنوبُهم، ومُحيت عنهم سيئاتهم، وتجاوز الله تعالى عن خطاياهم، فساروا في موكب المؤمنين التائبين الطائعين، وما تدري -يا أخي الحبيب- ماذا يكون مصيرك بعد هذا الشهر الكريم، فإن الإنسان ما هو إلا نَفَسٌ يدخل ولا يخرج، أو يخرج ولا يدخل، ورُبَّ إنسان أصبح ولم يمسِ، أو أمسى ولم يصبح، أو نام ولم يستيقظ، أو استيقظ فلم ينم، وإنما هي آجال مكتوبة مضروبة قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] . وقد شَذَّ من هذا الموكب الكريم -موكب المؤمنين المطيعين الفرحين المسرورين بمقدم هذا الشهر الكريم- شَذَّ منهم فئة من الناس، تخلت عن حقيقة إيمانها، وأصابها بمقدم هذا الشهر الذعر والفزع والحزن؛ لأن أحبابهم وأصحابهم من الشياطين قد تخلوا عنهم -كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم- حين سُلسِلوا وصُفِّدوا في الأغلال، فلم يستطيعوا أن يَخْلُصوا في رمضان إلى ما كانوا يَخْلُصون إليه في غيره، فبقي شياطين الإنس منفردين شاذين، فأصبح الشهر ينزل عليهم نزول الألم الذي لا يكادون أن يطيقوه، يعدون أيامه ولياليَه عدّاً، وينتظرون خروجه بفارغ الصبر، وفي الوقت الذي يكون رمضان فيه للمؤمنين قربة ومزيداً في الطاعة، فإن هؤلاء يكون الشهر -والعياذ بالله- عليهم وبالاً ومقرباً إلى سخط الله عزَّ وجلَّ: فكم من إنسان يتتبع عورات المؤمنين في هذا الشهر، ويبحث عن زلاتهم وسقطاتهم، وينتظر غفلاتهم، فيفضي إلى ما حرم الله -عزَّ وجلَّ- إلى مال حرام، أو نظرة حرام، أو جريمة يتمكن منها في غفلة الناس، وفي غفلة من أعين الرقباء، ومثل هؤلاء أمرهم عجب؛ فإنهم قد رضوا لأنفسهم طريقاً غير طريق المؤمنين، وانسلخوا عن هذه الأمة، فإن فرحَتْ حزنوا، وإذا سُرَّت ابتأسوا؛ لأنهم اختاروا طريقاً آخر غير طريق الإيمان وغير طريق التوبة. مضى رجبٌ فما أحسنتَ فيه وولَّى شهرُ شعبان المبارَكْ فيا مَن ضيَّع الأوقاتَ جهلاً بحُرمتها أفِقْ واحذر بوارَكْ فسوف تُفارق اللذاتِ قسراً ويُخلي الموتُ كُرْهاً مِنك دارَكْ تدارَكْ ما استطعتَ مِن الخطايا بتوبةِ مُخْلِصٍ واجعلْ مدارَكْ على طلب السلامة مِن جحيمٍ فخير ذوي الجرائم مَن تدارَكْ الجزء: 97 ¦ الصفحة: 3 اختلاف فرحة الناس بدخول شهر رمضان أيها الإخوة: لعل كل الناس -بل أكثرهم- يفرحون بقدوم هذا الشهر ودخوله، لكن أسباب الفرحة تتفاوت تفاوتاً عظيماً. فمن الناس من يكون فرحه بدخول هذا الشهر؛ لأنه تاجر يعتقد أنه سوف ينمي بضاعته ويروجها في هذا الشهر، ويرى مِن إقبال الناس على شراء ما يحتاجونه، من المأكولات والمشروبات وغيرها في هذا الشهر الكريم ما يكون مصدر سعادة له وهذه فرحة دنيوية بحتة، نحن لا نلوم هؤلاء على فرحتهم تلك، فإن الإنسان مجبول على حب المال، قال الله عزَّ وجلَّ: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ومن الخير: المال، فالنفوس جُبلت على حب المال غالباً وقد صلى أصحابُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً معه صلاة الفجر، فلما سلم وقام تعرضوا له وسلموا عليه، فتبسم رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، عرف ما الذي جاء بهم، قال: {أظنكم سمعتم بالمال الذي قَدِم من البحرين قالوا: أجل يا رسول الله قال -عليه الصلاة والسلام-: أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُفتَح عليكم الدنيا كما فُتحَت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها؛ فتهلككم كما أهلكتهم} والحديث متفقٌ عليه، عن أبي سعيد رضي الله عنه. فمن الناس من تكون فرحته فرحة مادية بحتة، ومن الناس من تكون فرحته فرحة العابث اللاهي الذي لا يذكر من رمضان إلا إيقاد المصابيح، وسهر الليالي، والجلسات الطويلة المتصلة، والمباريات الرياضية التي يسهرون عليها حتى وقت السحور، أو لا يذكر من رمضان إلا السهر أمام الشاشة؛ لمشاهدة الأفلام، أو مشاهدة البرامج التي تضر ولا تنفع، فيكون فرحه برمضان لا يعدو فرحة مادية دنيوية ضارة، تكون على الإنسان وبالاً في دينه ودنياه وعاجل أمره وآجله. ومن الناس من لا يتذكرون من رمضان إلا المسابقات والمنافسات في أمور لا خير فيها، وكثير من الشباب ربما كان جُلُّ همهم في رمضان ومصدر فرحتهم وسرورهم، هي الذكريات التي يعيشونها في رمضانات مضت، والسهرات الطويلة، وأنواع من الأسفار والمغامرات والمسابقات والمنافسات، التي لا يفرح بها مؤمن أبداً. ومن الناس من يكون فرحه فرح الصبيان الذين لا يذكرون من شهر رمضان إلا ألوان الأطعمة المتميزة التي يتعاطونها في هذا الشهر الكريم، على حين لم يكونوا يتعاطونها قبل ذلك، فلا يفرح من هذا الشهر إلا بمثل هذه الأمور، كما يفرح بها الصبيان الصغار الذين لا يعرفون رمضان إلا بتغير البرامج وتغير الأطعمة ومواعيد الإفطار والغداء والعشاء وغيرها. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 4 معاتبة النفس أيها الأحبة ألا ترون أنه جديرٌ بنا جميعاً أن نعاتب أنفسنا في مثل هذه الليلة، والله إن نفوسنا لجديرة بالعتاب، يا نفس، كم شهراً صمتِ؟! كم سنة أدركتِ رمضان، ثم خرجتِ منه كما دخلتِ فيه، بل ربما كنتِ على حالٍِ أقل مما دخلتِ فيه في رمضان؟! كم سمعتِ في هذا الشهر من موعظة؟! بل كم حفظ الناس من أحاديث وآيات وموعظات وأبيات سمعوها في مدخل هذا الشهر الكريم وفي لياليه العامرات، بالذكر والعبادة؟! لا أقول: كم موعظةٍ سمعتِ؟ بل كم موعظة رأيتِ بعينيكِ؟! كم جنازة شيَّعتِ؟! كم من إنسان واريناه في حفرته ثم خرجنا من المقابر وقد أنكرنا قلوبنا، ما تغيرت إلا إلى أقل مما كنا نصبو إليه؟! بل كم من موعظة أدركناها في نفوسنا؟! رُبَّ إنسان منا أشرف -يوماً من الأيام- أو كاد أن يقع في حادث، وربما أصابه مرض شديد ظن أن فيه حتفه وهلاكه، وربما شاهد أباه أو أخاه أو قريبه وهو يلفظ أنفاسه، وربما وضع الإنسان يديه على رأسه -يوماً من الأيام- وهو يظن أنه في آخر أيامه ولياليه، أو آخر ساعاته ودقائق عمره، ثم خرج من ذلك كله، والقلب لا يزداد إلا قسوة، والنفس لا تزداد إلا إعراضاً، {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74] . جدير بكَ أن تختلي بنفسكِ لحظةً وتتساءل: هذه المواعظ التي سمعتُ وأعظمها مواعظ الله -عزَّ وجلَّ- {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] . هذه المواعظ التي سمعتِ، بل هذه المواعظ التي رأيت أين كان مصيرها؟! هل زادت العبد قرباً من الله عزَّ وجلَّ؟! هل زادته بصيرة في نفسه؟ هل زادته خوفاً من الله؟! هل زادته رغبة في الجنة؟! هل زادته خوفاً من النار؟! هل زادته إقبالاً على الطاعة؟! هل زادته إعراضاً عن المعصية؟! هل زادته زهداً في الدنيا؟! أم أن العبد يسمع بأذُن ويخرج الكلام من الأذُن الأخرى، ولربما تلهب سياطُ الموعظة ظهرَه لحظات، ثم بعد ذلك يغفل في الغافلين، ويشرد في الشاردين، ولا يتذكر من ذلك شيئاً قط، إلاَّ أنه يقول: طالما سمعنا هذه المواعظ فمللنا منها، نعم يا أخي الحبيب سمعتَ الكثير، سمعتَ الخطباء في أيام الجُمَع، وسمعتَ المواعظ في المساجد، وسمعتَ الكلام في مطلع شهر رمضان، لكن السؤال الكبير الذي يجب أن تسأله نفسَك: ماذا كان أثر هذه المواعظ في قلبك؟ هل حركت ساكناً؟ هل قوَّمت معْوَجَّاً؟ هل أصلحت فاسداً؟ أم أن هذه المواعظ لا تزيد الإنسان إلا غفلة؟! ألم تسمع -يا أخي! - كلام حبيبي وحبيبك محمد -عليه الصلاة والسلام- وهو يقول فيما رواه مسلم، عن أبي مالك الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض، والصلاة نور، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك} . رُبَّ إنسان أخذ القرآنُ بيده فأدخله الجنة، ورُبَّ آخر دفع القرآنُ في قفاه إلى النار، فهو حجة لك أو عليك. فهذه المواعظ هي حجة للعبد إن آمن بها وعمل، أو حجة عليه إن أعرض عنها وتنكر لها. فيا أخي! لا تظن أن المسألة مجرد استماع، أو برامج اعتاد الناس أن يسمعوها، إنما القضية أنك تُسأل يوم القيامة عن أمر علمته، فماذا عملت فيه، سوف يُقال لك: عَلِمْتَ فما عَمِلْتَ؟ وليس صحيحاً، أن الحل هو الإعراض عن الموعظة؛ لئلا تكون حجة عليك، بل إن الذي يعرض عن الموعظة خشية أن تكون حجة عليه، هو أعظم إثماً وجرماً ممن يستمع للموعظة ولا يعمل بها، إنما قد يُعذَر إنسانٌ لم يجد مَن يَعِظُه، ولا من يذكره، ولا من يقرأ عليه كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا من يقرأ عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من يبين له الحلال والحرام فهذا قد يكون معذوراً من بعض الوجوه، أما من وجد السبيل، ووجد مجالس الذكر والعلم، ووجد الموعظة، فهذا ينبغي له أن يبادر ويسارع إليها، وأن يجعل من هذه الموعظة سبيلاً إلى القربى إلى الله عزَّ وجلَّ. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 5 الأمة تعيش أحداثاً جساماً قبل رمضان أيها الإخوة! يقبل رمضان على الأمة في هذا العام، وفي هذه السنة، يقبل ووجوه الناس غير الوجوه التي كان يعرف، سيتنكر لرمضان كثيرون، وسيتغيرون عليه عما كانوا عليه بالأمس. لقد عاشت أمة المسلمين من رمضان في العام الماضي إلى رمضان في هذا السنة عاشت أحداثاً جساماً، سبحان من يرث الأرض ومن عليها! وسبحان من يعلم الغيب! لا يعلم الغيب إلا هو، من كان يدري ماذا سيجري لهذه الأمة بعد شهر رمضان؟ لقد تغيرت أشياء كثيرة، وتبدلت أحوال، ونزلت بالأمة نكبات وملمات وأزمات ومصائب عظام، نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعل عاقبتها للمسلمين خيراً، وأن يعوض المسلمين عنها خيراً مما فقدوا. لقد عاش المسلمون آلاماً جسيمة منذ الحج في العام الماضي، ثم مروراً بشهر الله المحرم، حيث حصل فيه اجتياح العراق للكويت، وما ترتب على ذلك من آثار وأحداث، إلى هذا اليوم الذي لا زال المسلمون يضعون أيديهم على قلوبهم، خوفاً مما يُخبأ في أيامٍ وليالٍ الله تعالى أعلم ما يكون فيها، وفي هذا عبرة أيُّ عبرة، فإن الأمم تقيس مدى تقدمها أو تأخرها ليس بالسنة، بل أحياناً باليوم، وربما بالساعة أو الدقيقة، أما المسلمون فإن الأيام والليالي تجعلهم دائماًَ وأبداً، يعيشون في خوف وترقب، ويعيشون في وجل مما قد يكون، وعلى كل حال فإن المؤمن مهما نزل به من بلاء، ومهما ألمت به من مصيبة إلا أنه يعلم أن ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، وقد قال -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الصحيح: {عجباً لأمر المؤمن! إن أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر؛ فكان خيراً له} فربما يتساءل كثير من الناس، كثير من المؤمنين يتساءلون: ماذا بين هذا الشهر الكريم الذي نعيشه الآن وبين الشهر الذي قد يدركه منا من كتب الله تعالى له أن يدركه في العام القادم ماذا تُرى سيقع للمسلمين، أفراداً وشعوباً وأمماً؟ ماذا سيحدث لهم؟ إن المؤمن الذي ينظر بعين التفاؤل والأمل والثقة بوعد الله عزَّ وجلَّ هو على يقين أن الله تعالى سيجعل هذا العام والأعوام المقبلة، للمسلمين خيراً في دنياهم ودينهم، وسيجعل منها سبباًَ إلى وصول المسلمين إلى ما يصبون إليه، من عز ونصر وتمكين، وستكون -بإذن الله تعالى- سبيلاً إلى إقبال الناس إلى ربهم، وتوجههم إلى الله عزَّ وجلَّ، فإننا جربنا أن الهزائم والنكبات التي تعيشها الأمة تكون دائماً عكس ما يريد أعداؤها، تكون سبباً إلى إيقاظ الأمة، وإحياء قلوبها، وإقبالها إلى ربها، وقد حصل للمسلمين خير كثير من جراء الهزائم والنكبات التي ألمت بهم مما واجهوا عدوَّهم اليهود، أعداء الله ورسوله. ولا شك أن الناس يترقبون إعلان هذا الشهر، فنحمد الله تعالى على أن بلغنا هذا الشهر الكريم، ونسأل الله تعالى أن يكتب لنا أجر صيامه وقيامه، ونسأله -عزَّ وجلَّ- أن يجعلنا فيه من عتقائه من النار، إنه على كل شيء قدير، اللهم بارك لنا في هذا الشهر، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه، اللهم اجعلنا فيه من عتقائك من النار، اللهم أعنا فيه على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم أعنا على نفوسنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من صالح الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 6 النية أساس العمل الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. أما بعد: أيها الإخوة الصائمون، هذه الليلة الثانية من ليالي شهر رمضان المبارك لعام: (1411هـ) . الجزء: 97 ¦ الصفحة: 7 العبرة بحسن العمل لا بكثرته والعجب كل العجب أننا قد نتنافس في أعمالنا الصالحة الظاهرة، فنتنافس أينا أكثر صلاة، أو أينا أكثر صياماً، أو أينا أكثر عملاً، أو أينا أكثر قراءة للقرآن، أو أينا أكثر صدقة؛ لكن الله تعالى ما قال: ليبلوكم أيكم أكثر عملاً، وإنما قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] . فهل نحن نتنافس في الاحتساب والنية، كما نتنافس في الأعمال لذاتها، لا؛ وذلك لأن النيات خفية، لا يعلمها إلا الله، فأنت لا تدري أن الذي إلى جنبك قد تكون نيته نية يدخل بها الجنة، وقد تكون عكس ذلك، وأنت كذلك، والآخر، إذاً: فالنية في القلب سر لا يعلمه إلا الرب -جلَّ وعلا- الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] . اللهم أعزَّنا بطاعتك، ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وتب علينا يا حي يا قيوم، اللهم اهدنا سواء السبيل، ربنا إنا لِمَا أنزلت إلينا من خير فقراء، اللهم إنا فقراء إليك، ليس بنا غنىً عن رحمتك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك. اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، اللهم خذ بأيدينا إلى ما تحب وترضى، اللهم وفقنا لصالح الأقوال والأعمال والمعتقدات، يا رب الأرض والسماوات، لا إله إلا أنت، سبحانك إنا كنا من الظالمين. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 8 احتساب الأجر عند الصبر على الأقدار وقل مثل هذا وذاك في موضوع الصبر على أقدار الله -عزَّ وجلَّ- فإن العبد قد يبتلى في نفسه، أو ماله، أو أهله، أو ولده، فهنا يصبر العبد المؤمن صبر المحتسب الراجي ثواب الله -عزَّ وجلَّ- وأجره وموعوده، لا صبر الإنسان الذي لا حيلة له، صبر المضطر الذي ليس بإمكانه الدفع والمنع، ولهذا قرن الرسول صلى الله عليه وسلم الأجر بالصبر، ففي حديث عمرو بن شعيب، -رحمه الله- أن رجلاً مات ابن له، فكتب إليه عمرو بن شعيب -كما في سنن النسائي- كتب إليه كتاباً، يعزيه في ولده الذي هلك، ويقول له: إنه حدَّثه أبوه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: {إن الله تعالى لا يرضى لعبده المؤمن إذا قَبَضَ صفيَّه من أهل الدنيا -يعني: حبيبه-، فصبر واحتسب، وقال ما أُمر به بثواب دون الجنة} . فإذا مات قريب، أو حبيب، أو ولد، أو صاحب، فصبر واحتسب، وقام بما أُمر به لم يرضَ الله تعالى له بثواب دون الجنة فيصبر صبر المحتسب، لا صبر المضطر، ومثله حديث أسامة بن زيد، وهو في الصحيحين: {أن ابناً لبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حضره الموت، فبعثت إلى أبيها رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- تقول: إن ابني قد حُضِر، جاءه الموت فأتنا، فبعثَ إليها رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول لها: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى؛ فلتصبر ولتحتسب. فأرسلَتْ إليه، تُقْسِمُ عليه لَيَأتِي -حَلَفَتْ: لَتَأْتِي يا رسول الله - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جماعة من أصحابه، فيهم: سعد بن معاذ، وأبي بن كعب، وغيرهم، فلما رُفع الصبيُّ إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذا نفسُه تَقَعْقَع، كأنها شَن أي: أصابه الموت، وروحه تخرج، وهو يعاني سكرات الموت، فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودمعت عيناه، فقال له سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ تَعَجَّبَ! قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه رحمة، وضعها الله تعالى في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} المهم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب} . فأمرها بالصبر والاحتساب على ما يفوتها من عاجل الدنيا، وكذلك لو فات الإنسان شيءٌ من ماله، بسرقة، أو خسارة مادية، أو ضياع، أو تلف، أو اصطدام سيارة، أو انقلاب سيارة، أو غير ذلك من الأسباب، فإن العبد يتذكر أنه بالصبر يكتب له ذلك صدقة في حسناته، ولهذا روى الإمام أحمد في مسنده، عن أسماء رضي الله عنها قالت: {لَمَّا نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي طوى، وهو: مكان قرب مكة وكأن هذا كان يوم فتح مكة- قال أبو قحافة -وهو والد أبي بكر رضي الله عنه، وكان مشركاً يومئذٍ، قال لبُنَيَّة عنده، وهي أصغر أولاده، قال لها: يا بُنَيَّة، اذهبي بي إلى جبل أبي قبيس، فَرَقَتْ به إلى هذا الجبل -وهو جبل مُطِلٌّ على الكعبة- فصعدت به إلى الجبل، فقال لها: يا بُنَيَّة -وكان أعمى- ماذا ترين؟ قالت: أرى سواداً عظيماً قال: تلك الخيل -هذه جيوش المسلمين قد أحاطت بمكة- قالت: وأرى رجلاً في وسط الخيول يذهب ويجيء، ويقبل ويدبر قال: هذا وازع الخيل -أي: الآمر، الذي يأمر ويقدم ويؤخر، وينظم الجيش- قالت: يا أبتاه، قد انتشر السواد وعَمَّ فقال: معنى ذلك: أن الجيش قد دخل إلى مكة، فهَلُمِّي بي إلى بيتي بسرعة، لا يدركنا الجيش فذهبت به، وأسرعت، فأدركهم الجيش قبل أن يصلوا إلى البيت، فأمسك رجل بهذه البُنَيَّة، وكان في عنقها قلادة من وَرِق -من فضة، قلادة نفيسة ثمينة- فقطعها منها وأخذها، ففتح المسلمون مكة، وجاء أبو بكر رضي الله عنه إلى والده، فأخذ بيده وقال: هَلُمَّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل به على رسول الله -صلى الله عليه وآله سلم- وقال: يا رسول الله! هذا أبو قحافة قال -عليه الصلاة والسلام- لـ أبي بكر: لو أمرتني، فأذهب إليه. قال: يا رسول الله! هو أحق أن يأتي إليك، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على صدره، وقال له: أسلِم. فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، وكان شعره أبيض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هلا غيَّرتم هذا الشيب. وفي رواية: غيروا هذا الشيب، وجنبوه السواد. فجاءت البُنَيَّة إلى أبي بكر رضي الله عنه فقالت له: يا أبا بكر -وهو أخوها، زعيم من زعماء المسلمين الذين دخلوا مكة فاتحين- قلادتي سُرقت، أخذها رجل. قال: مَن الرجل؟ قالت: لا أدري مَن هو. فقام أبو بكر يصيح بأعلى صوته، يقول: ناشدتُ اللهَ والإسلامَ رجلاً أخذ قلادة أختي إلا ردها. فانتظروا، وما جاءه أحد، فقال أبو بكر لأخته: -وهي بُنَيَّة صغيرة، لكن يؤدبها ويعلمها- يا بُنَيَّة، احتسبي عند الله تعالى قلادتكِ} . إذاً: كل قليل كل يسير، ولو كان شيئاً يسيراً لا يؤبه له، تحتسبه عند الله تعالى، فإن الله تعالى يكتب لك أجر ما احتسبت. وهكذا كل عمل، حتى أعمال الدنيا، من بيع، أو شراء، أو زراعة، أو تجارة، أو صناعة، أو دراسة، أو إدارة، كل هذه الأعمال بالاحتساب تتحول إلى قربات وطاعات تؤجر عليها، ولهذا جاء في: سنن أبي داود وسنن الترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: {إن الله تعالى يُدْخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة، صانعه يحتسب بصنعته الخير} هذا الصانع هو أول من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم {ومُنْبِلُه، والرامي به} . إذاً: كل عمل تعمله فإنه يُكتب لك بالنية والاحتساب قربةً وطاعةً إلى الله تعالى، فكيف إذا كان العمل في أصله عبادة. فالله الله! أيها الأحبة المؤمنون، وأيتها الأخوات المؤمنات، أن يستذكر الإنسان ويستحضر في كل شيء يفعله، وفي كل شيء يتركه، وفي كل شيء يفوت عليه، أن يحتسب النية عند الله تعالى. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 9 النية تدخل في أعمال الدنيا أيها الإخوة! ليس هذا الأمر مقصوراً على العبادات فقط، بل حتى أعمال الدنيا، فالعبادات أمرها معروف، لكن حتى أعمال الدنيا، إذا اقترن بها الاحتساب واقترنت بها النية تحولت إلى قُرُبات يُثاب عليها العبد، فأما موضوع الأعمال الصالحة فحدِّث ولا حرج، خذ -على سبيل المثال- القتل، هل هناك أعظم من أن يقدم الإنسان رقبته لتقطع في معركة من المعارك أو في موقف من المواقف؟ هذا أعظم الجود. يجود بالنفس إن ضن البخيل به والجودُ بالنفس أقصى غاية الجودِ لكن فرق بين مَن يُقتل في سبيل الدنيا، أو يُقتل من أجل المغنم، أو يُقتل من أجل الزعيم والرئيس، أو يُقتل من أجل الوطن والتراب والطين، فرق بين مَن يُقتلون في سبيل الطاغوت وبين مَن يقتل في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، ولهذا في الصحيح: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! أرأيتَ إن قُتِلْتُ صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر، يُغفَر لي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، ثم نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فتغشاه من الوحي ما كان يتغشاه، فلما سُرِّي عنه قال: أين السائل؟ قال: ها أنا يا رسول الله! قال: كيف قلتَ؟ قال: أرأيت -يا رسول الله- إن قُتِلْتُ صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، يُغفر لي؟ قال: يغفر لك كل شيء إلا الدَّين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً} . إذاً: الاحتساب لا بد منه في كل عمل عظيم، كالقتل، أو عمل يسير كالخطوة التي تمشيها إلى المسجد، أو الغصن الذي تعزله عن الطريق، أو الكلمة الطيبة التي تقولها لفلان أو فلان، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: {كان رجل من الأنصار ليس بالمدينة رجل أبعد من المسجد منه، وكانت لا تخطئه صلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقيل له: يا فلان! لو اشتريت حماراً تركبه في الرمضاء وفي الظلماء -كان يأتي على قدميه إلى المسجد- قال الرجل: ما أحب أنَّ بيتي إلى جنب المسجد، إني أريد أن يُكتَب لي ممشاي إلى المسجد، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي} . إذاً، الاحتساب وارد في هذه الحالة فأنا أمشي أريد أن يُكتب لي كل خطوة أمشيها إلى الصلاة، وكل خطوة أعود بها من المسجد إلى بيتي، فلما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، قال: {قد جمع الله لك ذلك كله} وفي رواية لـ مسلم -أيضاً-: {فإن لك ما احتسبت} فما دام المسألة مسألة احتساب فكل خطوة تمشيها إلى المسجد مكتوب لك أجرها وبرها وذخرها عند الله تعالى، وكل خطوة تمشيها من المسجد إلى بيتك راجعاً فهي مكتوبة لك أيضاً. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 10 الاحتساب يدخل في ترك المعاصي أيها الإخوة! هذا في الطاعات، أما في الكف عن المعاصي فالأمر كذلك؛ فرق بين من تجنب الخمر -مثلاً- لأنه يخشى أن تضر بصحته، أو يخشى أن تكون فضيحة له، أو يخشى أن تذهب بعقله فحسب، فهذا عمله حسن، وهو من خصال المروءة، وقد كان بعض أهل الجاهلية يتركونها، ويقول أحدهم: فلا والله أشربها صحيحاً ولا أشفى بها أبداً سقيماً ولكن ليس له الأجر الذي لذلك الذي ترك الخمر وهو يقرأ قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90] ويسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتفق عليه أنه -عليه الصلاة والسلام- قال: {من شرب الخمر في الدنيا، ثم مات ولم يتب منها، لم يشربها في الآخرة} . إذاً يترك الخمر في الدنيا، ولو كانت نفسه تميل إليها أو تشتهيها، ويتوب منها، ويقلع عنها؛ لأنه يَرِدُ في اعتباره وحسابه ادخار ذلك لخمر في الجنة لا تقاس بخمر الدنيا، قال الله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] إذاً: يحتسب بترك الخمر خمر الجنة {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ} [الطور:23] . ومثله: لباس الحرير، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة} . ومثله: ترك نساء الدنيا بالحرام؛ لأنه يريد عند الله تعالى حوراً حساناً أُعْدِدْن للرجال الصالحين المؤمنين الأتقياء الأعفاء، ولو تطلعت نفسه، وتاق ضميره، وتحركت شهوته، إلا أن اليقين الصادق بموعود الله تعالى في الجنة يجعله يدخر هذا الأمر، ويترك العاجل لموعد غيب لم يرَه، ولكنه آمن به، ولذلك كان أعظم ما مدح الله به الأنبياء أو الصالحين هو الإيمان بالدار الآخرة، والإعداد والاحتساب له، قال الله -عزَّ وجلَّ-: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} [ص:46] خصصناهم بخصيصة، ميزة، نعمة أكرمهم الله تعالى بها وفضَّلهم، {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] وارد في حسابه ذكر الدار الآخرة، وذكراها، والإعداد لها، والترك من أجلها، والفعل من أجلها: {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:47] . وأعظم ما ذم الله تعالى به الكفار والملحدين أنهم لا يؤمنون بالدار الآخرة، {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74] {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] . فإذا نسي الإنسان الجنة والنار، ويوم الحساب، ونسي الميزان، ونسي الاحتساب، اختلت الحسابات عنده: لماذا يترك الربا وفيه أموال هائلة طائلة سوف تحصل له؟ لماذا يتركه، إذا لم يكن عنده مبدأ الاحتساب والنية؟ لماذا يترك الحرام وقد تيسر له؟ ما دام أنه ليس عنده نية واحتساب، ولم يَرِدْ في قلبه وضميره وعقله ووجدانه الخوف من الله، أو الرجاء في ثوابه، وهذا هو سبب انحراف المنحرفين، وهو أيضاً سبب طاعة الطائعين. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 11 صيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً وأنت تصوم في شهر رمضان أو في غيره، هل تتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه} . من صام رمضان إيماناً بوجوب الصيام، وإيماناً بأنه من أركان الإسلام، وإيماناً بأنه قربة إلى الملك العلام، واحتساباً للأجر عند الله تعالى على ذلك الصيام، أي: أن الإنسان يجوع، يمسه الجوع ويمسه العطش، وقد يصيبه الصداع في رأسه، وقد يصيبه الضعف في بدنه؛ لكنه يفعل ذلك كله احتساباً وهو يفرح به، يفرح بهذا الجوع، وبهذا العطش، يفرح بما يلقاه في سبيل الله؛ لأنه أثر العبادة، وقد كان الناس أهل الدنيا وأهل الماديات يفرح أحدهم بما يصيبه من أجل حبيبه. إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ أفلا تقول هذا أنت لرب العالمين؟ إذا كان هذا الألم الذي تلقاه هو من أجل الله ولوجه الله واحتساباً، فإنك تفرح وتُسَرُّ به؛ لأنه أثر العبادة، وهو يُرضي الربَّ جلَّ وعلا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- في الحديث الصحيح المتفق عليه: {لَخَلُوفُ فَمِ الصائم أطيبُ عند الله من رِيح المسك} . الرائحة الكريهة للناس، من أثر خلو المعدة من الطعام، أطيب عند رب العالمين من رائحة المسك الفواح. وهكذا الحال بالنسبة للقيام، هل تقوم موافقة للناس أو معهم، أو استحساناً لأصوات القراء الفضلاء؟ أم أنك تقوم ابتغاء ما عند الله، ورجاء أجره وثوابه، وتطلباً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة: {من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} قد يقول كثير من الإخوة: وهل يقوم الإنسان إلا إيماناً واحتساباً؟ فأقول: مع أن أكثر المصلين إنما يصلون إيماناً واحتساباً، والذين يأتون لغير ذلك من الأغراض، سواء كانت أغراضاً دنيوية، أم أغراضاً سيئة، هُم -بحمد الله- قليل، إلا أن الذين يأتون إيماناً واحتساباً، بينهم من التفاوت في المنازل بَون عظيم وفرق شاسع: فمنهم من يأتي بنية، ولكنها نية غامضة مبهمة غير محددة، ومنهم من يستحضر النية في كل عمل، وفي كل حركة، وفي كل ليلة، ويتذكر هذه الأحاديث، وهذا من بركة حضور مجالس الذكر، وسماع المواعظ، أن العبد إذا سمع ما وعد به الله تعالى، أو ما وعد به الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- كان إقباله على العمل والعبادة إقبالاً بصدق ونية واحتساب، وليس إقبالاً بحكم العادة والإلف. ولهذا يقول الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه في كتاب الإيمان: باب ما جاء أن الأعمال بالنية والحُسبة، ولكل امرئ ما نوى، يقول: فدخل فيه الإيمان كما سبق: {مَن قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله} والوضوء -كما سبق أيضاً- والصلاة -كما سبق- والزكاة، والحج، والصوم، والأحكام، كل ذلك إنما هو بالعمل والنية، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونِيَّة} . ثم ساق البخاري -رحمه الله تعالى- قول الله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الإسراء:84] . كل يعمل على شاكلته أي: على نيته، فهذا يعمل للدنيا، وذاك يعمل للآخرة، العمل واحد والثمرة مختلفة، يَرِدُون مورداً واحداً، ويَصْدُرون مصادر شتى، بينهم من الفروق كما بين المشرق والمغرب، أو كما بين السماء والأرض، بل كما بين الجنة والنار، ولذلك جاء في حديث عمر رضي الله عنه: {العمل بالنية} وفي لفظ: {إنما الأعمال بالنيات} . الجزء: 97 ¦ الصفحة: 12 النية تبارك الأعمال أيها الإخوة: إن النية والاحتساب هي التي يبارك الله تبارك وتعالى بها العمل ويزكيه وينميه؛ فيجعل بها القليل كثيراً، واليسير خطيراً، وما دخل أهل الجنة الجنة بكبير عمل عملوه، ولا بعظيم جهد بذلوه، أكثر من كونهم محتسبين مخلصين، فيما يأخذون وفيما يَدَعون، وكأن أحدهم يقول: إنما أريد ما أريد، أن أعمل ما أعمل احتساباً لوجه الله، وأترك ما أترك احتساباً لوجه الله. إذاً: فصلاح النية، وحُسن القصد، وظهور الاحتساب عند العبد، هو من أعظم أسباب القرب، وأكبر الأشياء التي يتضرع بها العبد إلى دخول الجنة. وهذا الاحتساب المطلوب ليس خاصاً في الصيام، بل هو عام في كل عمل، حتى الأعمال الدنيوية العادية البحتة إذا دخلها الاحتساب كان هذا سراً أو (إكسيراً) -كما يقولون- يضاف إليها فيحولها إلى قُرُبات وطاعات وأعمال صالحة. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 13 صوم العادة وصوم العبادة اسأل نفسك -يا أخي الحبيب- حين تصوم: هل تصوم إِلْفاً وعادة؟ أم تصوم وفي أذُنك حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- الذي رواه البخاري وغيره، عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من صام يوماً في سبيل الله باعد الله تعالى بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً} أي: سبعين سنة فأنتَ اليوم صمتَ، فاعقد خُنْصُرَك على أنك صمتَ يوماً، صمتَ صوماً مظهرياً من حيث الإمساك عن الأكل والشرب والجماع، لكن بقي الشرط الثاني: (في سبيل الله) ، فهل كان صومك في سبيل الله؟ إذاً فأبشر أن هذا اليوم الوحيد الذي صمتَه الآن، قد بعَّد -بمقتضى موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق حديثه- بعَّد وجهك عن نار جهنم سبعين خريفاً، فما بالك بمن يصوم ثلاثين يوماً، فما بالك بمن يصوم عشرات السنين، كل سنة يصوم فيها شهر رمضان، ويصوم ما يسَّر الله تعالى له من صيام النفل المشروعة، فهل تصوم هذا اليوم وأنتَ تستذكر هذا الموعود، وتحتسب هذا الأجر عند الله تبارك وتعالى؟ أم تصوم مع الصائمين دون استحضار نِيَّة ولا تصوُّر قصد؟ وقل مثل ذلك في كل عمل، يبدأ ذلك بأصل الدين والتوحيد الذي يدخل به الإنسان في زمرة المؤمنين، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قد يقولها المنافق رياءً وسمعة، أو خوفاً من السيف، ويقولها المؤمن رجاء ثواب الله تعالى؛ فيحرم الله تعالى عليه النار، ويوجب له الجنة، بكلمة واحدة، فأنت إذا قلت: لا إله إلا الله، هل تقولها عادة جَرَت بها عادتك ومضت على لسانك؟ أم ترطب لسانك بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وأنت تتذكر ما رواه عتبان بن مالك رضي الله عنه، قال: {غدا عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، -أي: أتاه في منزله- فقال -عليه الصلاة والسلام-: ما من عبد يقول: لا إله إلا الله يبتغي بذلك ما عند الله، إلا حرم الله عليه النار} حرم الله عليه النار بكلمة واحدة، مع أن هناك من قالها رياءً وسمعة، فلم تغنِ عنه شيئاً قال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} [النساء:145] . إذاً: قضية الاحتساب في الشهادة في أصل الإيمان، هي السر الذي يكون به العبد مؤمناً مسلماً، ويَدخُل الجنة ويُحرَّم على النار. وقل مثل ذلك في الصلوات الخمس مثلاً، فهل أنتَ تؤدي الصلوات الخمس بحسب العادة، أو كما يقول بعض الشباب: من أجل أن يثبت الإنسان شخصيته، وأنه فردٌ مُنْتَمٍ إلى هذا المجتمع، موافق له في عاداته وأخلاقياته وتقاليده؟ أم أنك تؤدي هذه الصلوات الخمس احتساباً، وتتذكر حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي رواه أصحاب السنن بسند صحيح، أن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: {خمس صلوات كتبهن الله على العباد، مَن أتى بهن، ولم يضيع شيئاً منهن استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة} . إذاً: أنتَ تؤدي الصلوات الخمس، احتساباً لوجه الله تعالى، ويقيناً بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، من أن مهر دخول الجنة بعد الشهادتين أداء هذه الصلوات الخمس، وبين من يصلي بهذه العقيدة وبهذه النية، وبين ذاك الذي يصلي رياءً أو سمعة كما بين السماء والأرض، بل كما بين الجنة والنار، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّيْنَ * الَّذِيْنَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُوْنَ * الَّذِيْنَ هُمْ يُرَاءُوْنَ * وَيَمْنَعُوْنَ الْمَاعُوْنَ} [الماعون:4-7] . وأنتَ تتوضأ وضوءك للصلاة، هل تتوضأ وضوءاً عادياً مألوفاً، ربما تنتهي من الوضوء وأنت لم تتذكر أنك تتوضأ؟ أم أنك تقوم بهذا العمل الجليل وأنت تسمع بأذُنك وتؤمن في قلبك، بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه: مسلم، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما منكم من أحد يتوضأ فيحسن الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء} أبواب الجنة الثمانية تفتح لك خلال دقيقتين فقط، تقوم بهما بعمل الوضوء بنية واحتساب، فتُفتح لك أبواب الجنة الثمانية، تختار أيَّها شئتَ لتدخل منها، والحديث رواه الترمذي وزاد: {أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين} . وأنت تقرأ القرآن، سواءً كنت تقرؤه في مثل هذا الشهر الكريم، الذي هو شهر القرآن، أم تقرؤه في أي وقت من ليل أو نهار، هل تقرأ هذا القرآن هَذَّاً كَهَذِّ الشعر، همُّك الوصول إلى نهاية السورة أو إلى نهاية الجزء، أو إلى نهاية المصحف، أو أن تقول للناس: ختمت القرآن مَرَّةً أو عشراً أو مائة؟ أم أنك تقرأ وأنت تعلم أن لك ما أخبر به الصادق المصدوق -عليه صلوات الله تعالى وسلامه- في حديث ابن مسعود، الذي رواه الترمذي بسند صحيح: {من قرأ القرآن فله بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، أما إني لا أقول: "ألم" حرف، ولكن ألفٌ حرفٌ، ولامٌ حرفٌ، وميمٌ حرفٌ} . إذاً: احسب وأنت تقرأ القرآن، أن الحساب يوم القيامة على قراءتك القرآن، ليس بعدد السور التي قرأتَها، ولا بعدد الأجزاء، ولا بعدد الصفحات، ولكن بعدد الحروف، فاحسب كل حرف تلفظ به فمك عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وبإمكانك أن تحسب سورة من أقل سور القرآن الكريم عدداً في الآيات، كسورة العصر -مثلاً- أو سورة الكوثر، واحسب عدد آياتها، ثم عدد حروفها، واضرب ذلك في عشرة لتعرف مقدار ما أعد الله لك من جزيل الثواب، إذا كان هدفك الأجر والاحتساب في مثل هذا العمل العظيم. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 14 نظرة إلى وجه صائم أيها الإخوة! كل مَن رأى وجه أحد من الصائمين في هذا المساء؛ عرف أنه قد أمسى صائماً، وكيف لا يعرف ذلك، وهو يرى شفتيه وقد يبُسَتا وتقلصتا من أثر الصيام والجوع والعطش، وقد يرى أثر السكينة والإيمان ظاهراً جلياً على محياه، فإن كل مسلم يمسي في مثل هذه الأيام صائماً، حتى العصاة، حتى أولئك الذين بلغت بهم قلة الدين ورقة الورع وضعف التقوى، أن يُفَرِّطوا في صلوَاتهم، فإنهم لا يجرءون على ترك الصيام، بل تجدهم صائمين مع المسلمين، فمن باب أولى أن يكون روَّاد المساجد، وأهل حلق الذكر والمصلون، أن يكونوا هم أيضاً من الصائمين، وهذا مما ليس فيه شك ولا ارتياب، لكن الأمر الذي لا أدري هل هو منكَ على بالٍ، أم أنكَ عنه من الغافلين؟!!. إنه ليس كل صائم صائماً، فرب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، ورب قائم حظه من قيامه السهر والتعب، وفرق أي فرق بين من يصوم عادة، وبين من يصوم عبادة، فرق أي فرق بين من يصوم طمعاً في ثواب الله وجنته وخوفاً من ناره وسخطه، وبين من يصوم انسجاماً مع قوانين المجتمع، أو مراعاة للعرف العام والوضع العام للمجتمع، أو حياءً من الناس، أو خوفاً من السلطان، فرق بين هذا وذاك. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة نحمد الله تعالى، ونثني عليه الخير كله، ونشكره ولا نكفره. ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل خلقه وأنبيائه عليه الصلاة والسلام. أما بعد: الجزء: 97 ¦ الصفحة: 16 شروط لباس المرأة وقص شعرها السؤال هل يجوز للمرأة أن تجعل جيبها خلف ظهرها؟ وهل يجوز أن تَقُصَّ شعرها مِن أمامِها؟ الجواب بالنسبة لموضوع لباس المرأة: يسأل الناس أسئلة كثيرة عن ملابس النساء، والواقع: أن الشرع لم يأتِ بلباس محدد للمرأة، إنما أتى بشروط معينة للباس، مثل: - أن يكون اللباس ساتراً. - أن يكون واسعاً: لا يكون ضيقاً يصف حجم المرأة. - أن يكون مباحاً في نفسه. - أن لا يكون زينة في نفسه. وما أشبه ذلك من الشروط التي يجب أن تتوفر في ثياب المرأة المسلمة. أما أنواع الملابس التي قد يسأل عنها الكثيرون: فإن الضابط العام في ذلك: أن الملبس ما لم يكن تشبهاً بالكفار، ولا تشبهاً بالرجال، فإنه جائز، فإذا لم يكن في الثوب تشبه بالكفار، ولا تشبه بالرجال، فإنه يجوز للمرأة أن تلبسه. أما قَصُّ الشعر: فالأمر فيه كذلك لا بد له من شروط: الشرط الأول: إن كان على سبيل التشبه بالكافرات، مثل: ما تفعله بعض النساء مِن أخْذِ تسريحاتٍ معينة، رأينَها عند بعض الممثلات أو بعض المغنيات، ويسمينها بأسماء خاصة، يَرُوْجُ بين الفتيات في وقت معين قَصَّة معينة، ثم تنتقل إلى أخرى، وهذه قَصَّة فرنسية، وهذه قَصَّة بريطانية، وهذه أمريكية، وهذه قَصَّة فلان، وهذه قَصَّة فلان، وهذه قَصَّة الأسد، وهذه قَصَّة الديك، وهذه قَصَّة الدجاجة، وهذه كذا، وهذه كذا، فإن هذا كله لا يجوز؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من تشبه بقوم فهو منهم} . الشرط الآخر: أن لا يكون تشبهاًَ بالرجال، فإن بعض الفتيات تبالغ في إنهاك قَصِّ شعر رأسها حتى تصبح كأنها رجل، بل يُسميْنَها أيضاًَ القَصَّة الولاَّدية، تصبح المرأة كأنها فتى، كأنها شاب، ثم تنفش شعرها كأنها رجل والعياذ بالله، والرجل يتشبه بالمرأة، فيطيل شعره وقد يقصه قصاً نسائياً، وهكذا فُتن بعض الناس والعياذ بالله ذكوراً أو إناثاً بتغيير خلق الله تعالى، ومخالفة الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، فالرجل يشبه المرأة، ويطيل ثوبه، حتى يسحبَه في الأرض شبراً، أو أكثر من ذلك، والمرأة قد تقصر ثوبها، حتى يظهَر بعضُ ساقها، وهذا من تلاعب الشيطان ببني آدم، ومخالفتهم للفطرة، ومخالفتهم لشريعة الله عزَّ وجلَّ. أما إذا لم يكن فيه تشبه بالكفار ولا تشبه بالرجال: فلا أعلم في ذلك حرجاً، وقد جاء في: صحيح مسلم أن أمهات المؤمنين كنَّ يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفره، وإن كان قد نصَّ كثير من الفقهاء على أن قَصَّ الشعر مكروه. أسأل الله -عزَّ وجلَّ- بِمَنِّه وكرمه، أن يكتب لنا أجر هذا المجلس، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 17 بركة السحور السؤال قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تسحَّروا فإن في السَّحور بركة} ما المقصود ببركة السحور؟ الجواب بركة السحور: أولاً: طاعة الرسول -عليه الصلاة والسلام- فإن طاعته هي بركة كلها. ثانياً: مخالفة أهل الكتاب، ولذلك جاء: {فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب: أكلة السَّحَر} فإن أهل الكتاب كأنهم لا يتسحرون، فمخالفتهم خيرٌ وبِرٌّ وبركة. ثالثاً: من بركة السحور: أنه يعين المسلم على الاستفادة من وقته، فإذا كان قد تسحَّر يكون في بدنه قوة، ويكون لديه رغبة وإقبال على العبادة، بخلاف ما إذا لم يتسحَّر، فإنه يكون في جسده ضعف يحول بينه وبين القيام ببعض العبادات والأعمال. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 18 علاج النسيان السؤال قرأتُ عدة أحاديث عن تسهيل حفظ القرآن الكريم للذي ينسى كثيراً، وهي تقول: إن على مَن ينسى أن يُصَلي أربع ركعات في ليلة الجمعة، الأولى: الفاتحة ويس، ثم الفاتحة والدخان، ثم الفاتحة والسجدة، ثم الفاتحة وتبارك، الرجاء شرح ما يمكن عمله لتسهيل حفظ القرآن الكريم؟ الجواب هذا الحديث الذي أشار إليه الأخ السائل، لا يصح، رواه: الترمذي، والحاكم، وغيرهما، وتساهل بعضهم في تحسينه، بل هو حديث ضعيف، بل هو ضعيف جداً، لا يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في صلاة النسيان شيءٌ، وإنما على العبد الذي يريد أن يحفظ القرآن أمور: أولها: التضرع إلى الله تعالى بالدعاء: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني، وأن يسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقه حفظ القرآن، وأن لا ينساه، فيقول: اللهم علمنا منه ما جهلنا، وذكرنا منه ما نُسِّينا، هذا أولاً. ثانياً: عليه أن يكثر من تكرار القرآن الكريم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول -فيما رواه أصحاب السنن-: {تعاهدوا هذا القرآن، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تَفَلُّتاً، أو تَفَصِّياً من الإبل في عُقُلِها} . فالإنسان إذا غفل عن القرآن نسي، فعليه أن يكثر ويردد القرآن الكريم. ثالثها: كما عليه أن يتجنب المعاصي، فإنها من أسباب سواد القلب، ونسيان العلم. شكوت إلى وكيعٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يهدى لعاصي الجزء: 97 ¦ الصفحة: 19 حكم صيام يوم الشك السؤال هذا سؤالٌ عن صيام يوم الشك؟ الجواب يوم الشك لا يجوز صيامه على أنه من رمضان، وقد قال جمع من الصحابة، منهم: عمار بن ياسر: [[من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم]] فلا يجوز أن تصوم يوم الشك على أنه احتياط لرمضان، ولكن مَن وافقَ يومُ الشك يوماً كان يصومه، فصامه؛ فلا حرج، كمن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، فصادف يومَ الشك يومُ صيامه؛ فإنه لا بأس أن يصوم، أو صامه لأنه يوم الإثنين، أو يوم الخميس، أو ما أشبه ذلك. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 20 تبييت النية من الليل السؤال أسمع أن الإنسان إذا أراد أن يصوم في غير شهر رمضان أنه يصوم بنية من الليل، فهل شهر رمضان تدخل فيه هذه النية أم لا؟ الجواب كل صيام فرض: يجب فيه تبييت النية من الليل، سواء أكان شهر رمضان، أم كان صوم نذر، أم كان قضاءً، أم ما أشبه ذلك، يجب تبييت النية من الليل، ومعنى تبييت النية من الليل: أن ينوي الصيام ولو قبل طلوع الفجر بلحظة، فمن نوى الصيام، ولو قبل طلوع الفجر بلحظة، فإنه يكون قد بيَّت الصيام من الليل، أما من لم ينوِ هذه النية فإنه لا ويجزئه صومه ذلك. أما بالنسبة لصوم النفل، فيجوز بنية من الليل أو من النهار، فلو نام إنسان وليس في نيته أن يصوم، ولما أصبح وطلعت الشمس تذكر أن اليوم الإثنين، وقال: أريد أن أصوم، ولم يكن قد أفطر، فإنه يجوز له ذلك ويجزئه فصوم النفل يجوز بنية من الليل أو النهار، أما صوم الفرض فلا بد فيه من تبييت النية من الليل. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 21 نصاب المال السؤال هذا يسأل عن نِصاب المال، وإخراج الزكاة بالريال السعودي، وغيره؟ الجواب نصاب المال بالريالات السعودية، التي هي العملة الورقية المتداولة عند الناس يختلف بحسب سعر الفضة أو سعر الذهب، وقد قدَّره العلماء في الفترة الماضية بـ (ستة وخمسين) ريالاً عربياً فضياً، وليست الريالات الورقية، فإذا كان ذلك كذلك فإن هذا التفاوت بحسب سعره، سعر الفضة في الأسواق، وأما تقديره بالذهب والفضة، فإن نصاب الذهب يساوي أحد عشر جنيهاً وثلاثة أسباع الجنية، هذا نصابه بالذهب. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 22 صيام النفل السؤال هذا يسأل عن صيام بعض الأيام الفاضلة؟ الجواب ورَدَ صيام يوم الإثنين، والخميس، وورَدَ أيضاً صيام يوم السبت في بعض الأحاديث -وإن كانت الأحاديث فيه متعارضة- وورَدَ صيام (ثلاثة) أيام من كل شهر، وورَدَ أن يصوم يوماً ويفطر يومين، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سرد الصيام، أي: أن يصوم الدهر كله، وقال: {لا صام ولا أفطر} وقال: {من صام الدهر كله ضُيِّقَت عليه جهنمُ هكذا} . الجزء: 97 ¦ الصفحة: 23 حكم التهنئة بدخول رمضان السؤال التهنئة الشرعية في دخول هذا الشهر الكريم؟ الجواب لم يرِد -في الواقع- تهنئة محددة بدخول الشهر الكريم، ولا تهنئة أيضاً بالعيد؛ ولكن إذا هَنَّأ المسلم أخاه بأي لفظ حسن جميل فهذا طيب، مثل أن يقول: بارك الله لك في هذا الشهر الكريم، أوتقبل الله منا ومنك، أو مبارك عليكم هذا الشهر، أو ما أشبه ذلك من العبارات الحسنة المتداولة عند الناس؛ فإن هذا لا حرج فيه، ومن هُنِّئ بمثل ذلك يرُدُّ بنحوه أو أحسن منه، فيقول: بارك الله لنا ولكم، أو تقبل الله منا ومنكم، أو أعاننا الله وإياكم على صيامه وقيامه، فإن هذه من الأدعية الحسنة المشروعة. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 24 تعويد الأولاد على الصيام السؤال العُمُر المناسب لأمْرِ الأبناءِ فيه بالصيام؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة أن يصوموا يوم عاشوراء، فتقول الرُّبَيّعْ وهي إحدى الصحابيات الأنصاريات رضي الله عنها- تقول: [[كنا نَصُوْمُه ونُصَوِّمُ صبيانَنا -أي: نأمرهم بالصيام ونعلمهم عليه- حتى إذا بكى أحدهم أعطيناه اللعبة من العهن -أي من القطن- يلعب بها، حتى يكون عند الإفطار]] . فتدريب الصبيان على الصيام مع المسلمين، مع آبائهم، والإفطار معهم، هذا منهج تربوي حسن، لكن ينبغي أن يُراعَى فيه أن لا يكون في ذلك مشقة على الصبي، فإذا كان فيه مشقة على الصبي، فإن هذا قد يُبَغِّض إليه الصيام، كما إذا كان صغيراً لا يطيقه، أو كان يعجز عن مثله، فإنه يراعى في ذلك حاله، ولا بأس أن يدرب الصبي على الصيام أياماً معلومة، وأن يُعطى على ذلك أجرة، حتى يتدرب على الصيام إذا كان ممن يطيق ذلك، ولا يشق عليه، فإذا بلغ وجب على أبويه حينئذٍ أن يلزموه بالصيام وينهوه عن الفطر، ويبينوا له حرمة ذلك، وأنه أصبح مكلفاً بالغاً يجب عليه الصوم، ويأثم بتركه، وهو أحد أركان الإسلام الذي لا يسع مسلماً أن يفرط فيه؛ لأن كثيراً من الأطفال الصغار يسألون بعد مضي الوقت وفوات الأوان عن أشهر أفطروها في صغرهم، وخاصة النساء، وذلك لأن الفتاة قد تبلغ بالحيض وتستحي أن تخبر أهلها بذلك، فربما لا تصوم، وربما تصوم -أحياناً- وهي حائض، خشية أن تخبرهم أنها حائض، فتتظاهر لهم بالصوم، وهذا كله لا يجوز، فإن المرأة إذا بلغت المحيض وجب عليها الصوم، وإذا كانت حائضاً فإنها تفطر، وتقضي مثل هذه الأيام بعد ذلك، فعلى الأبوين أن يراقبوا أبناءهم، ذكوراً أو إناثاً، ويلزموهم بالصيام متى كانوا أهلاً لذلك. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 25 حكم قضاء المرأة الأيام التي لم تصمها السؤال إذا كان هناك امرأة لم تصمْ أول عام بدأ فيه الصيام بجهلها -هذا مثل لما ذكرتُه لكم- وكان عمرها ثلاث عشرة سنة، فهل عليها وقد بلغت، وأتتها الدورة الشهرية في رمضان، فهل عليها الصيام؟ الجواب نعم، عليها أن تصوم، عليها أن تقضي الأيام التي لم تصمها، وبالمناسبة: لو فُرِض أن المرأة أدركها الحيض في الخامس عشر من شهر رمضان أول مرَّة، فإننا نقول: يجب عليها أن تقضي الأيام السبعة أو الثمانية أو العشرة التي حاضت فيها، وتقضي إذا كانت لم تصم الأيام التي بعدها، عليها أن تقضيها، أما الخمسة عشر يوماً الأُوَل، التي أدركتها قبل الحيض؛ فإنه لا يجب عليها قضاؤها. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 26 استغلال الوقت في رمضان السؤال بِمَ توجه الشباب الذين يقضون الليالي في رمضان بالجلوس على الأرصفة؟ الجواب لا شك أن هذا الشهر فرصة ثمينة، وتحفة أسداها الله -عزَّ وجلَّ- بواسع فضله إلى عباده، والمحروم فيها من حرم، ومن لم يُغفرْ له في رمضان، فمتى يُغفرله؟! ومن لم يتُبْ في رمضان، فمتى يتُوب؟! ومن لم يُقْبِلْ على ربه في هذا الشهر الكريم، ويُقلع عن الذنوب، فمتى يُقلع عنها؟! إن مثل هذه التجمعات الطيبة لقراءة القرآن، وحضور صلاة التراويح، وسماع الذكر، إنها تؤثر في النفوس، حتى القلوب القاسية تلين لذلك. فعلى هؤلاء الإخوة أن يقبلوا على الله -عزَّ وجلَّ-، وأن يحضروا مواسم الخيرات، لعل أن تعمهم دعوة رجل صالح، أو تشملهم رحمة يفيضها الله تعالى على قوم، فتقول الملائكة: "يا رب فيهم فلان ليس منهم، وإنما جاء لحاجة" فيقول الله عزَّ وجلَّ: "هم القوم لا يشقى بهم جليسهم" فيَغْفِر لك معهم، فحضور مجالس الذكر، وصلاة التراويح، والقيام، وغيرها مع المسلمين من أعظم الأسباب، وكذلك حفظ الصيام من كل ما يخدشه أو يعكر فيه، والحرص على تدارك الأوقات، ومَلْئِها بالذكر والتسبيح وقراءة القرآن، والإحسان إلى الخلق وغير ذلك، وكم هو محزن أن تضيع أيامنا وليالينا النفيسة في هذا الشهر في مثل جلسات طويلة على مشاهدة تلفاز أو غيره، أو أحاديث ضائعة، أو لعب كرة، أو ما أشبه ذلك، مما لا يفيد المسلم في دينه ولا في دنياه. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 27 استغلال الموظف وقته في قراءة القرآن السؤال ما رأيكم في الموظف الذي يستغل وقت فراغه من العمل بقراءة القرآن؟ الجواب هذا حَسَن؛ لأن الموظف، ليس المطلوب أن يضيع وقته، مطلوبٌ منه أن يحفظ وقته، فإذا كان أمامه معاملات؛ فإنه يجب عليه أن يقوم بإعدادها وتجهيزها، وإذا كان أمامه مراجعون؛ فعليه أن يقوم بقضاء أعمالهم، فإذا لم يكن هذا ولا ذاك فاستغل وقته بقراءة القرآن أو ذكر الله -عزَّ وجلَّ- فهذا حسن، لكن الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز هو أن يكون هَمُّ بعض الإخوة -وهُمْ قليل بحمد الله- إذا وجد شيئاً من الفراغ أن يستغله في النوم، وربما يكون ذلك سبباً في فوات بعض المصالح التي يحتاجها المراجعون. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 28 أهمية السؤال عن أمر الدين أيها الأحبة: سيكون في كل ليلة -إن شاء الله- بعد انتهاء صلاة التراويح نحو عشر دقائق؛ للإجابة على ما يرد عنكم من أسئلة واستفسارات حول شهر رمضان، ويستوي في ذلك الأسئلة التي تأتي من الإخوة الرجال، أو من الأخوات المؤمنات، ولا شك أن سؤال الإنسان عما يُشْكِل عليه من أمور دينه، من أهم الواجبات، ولا يجوز بحال من الأحوال، أن تسمع -أحياناً- بعض الناس يسأل عن حادثة وقعت له، قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، ثم يقول: لم يخطر في بالي أن أسأل عنها حتى الآن؛ فإن الله -عزَّ وجلَّ- يقول في محكم تنزيله في موضعين من كتابه: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] . فمن كان يعلم حكم الله تعالى وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم- فحَسَنٌ، أما من كان يجهل هذا الحكم ففرض عليه أن يسأل من يعلم، وقد جاء أيضاً في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً، وقد ذهب جماعة في سرية فاحتلم رجلٌ، وكان به جُرح، فسأل أصحابه، فأمروه بالاغتسال، فاغتسل فمات فقال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: {قتلوه -قتلهم الله-، ألا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيِّ السؤال} فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعلم أن يسأل عما أشكل عليه من هذه الأمور؛ حتى يجد فيها الجواب الشافي والعلاج الناجح. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 29 اختلاف الفتوى كما أنني أحب أن أنبه إلى مسألة تُشْكِل على الكثيرين، وهي: مسألة اختلاف الفتوى فربما يَرِد إلى هذا المسجد المبارك، الذي تؤُمه هذه الجموع الغفيرة، من المؤمنين المصلين الراكعين الساجدين، ربما يَرِد إليه عدد من الإخوة المشايخ وطلبة العلم، وقد ترد أسئلة متكررة -أحياناً- ويكون الجواب مختلفاً بحسب اجتهاد المجيب، فيقع عند بعض الناس التباسٌ في ذلك، وتَردُّد وحَيرة. والواقع: أن هذا مما لا ينبغي أن يكون فيه التباس؛ لأن الفتوى قد تختلف بحسب اجتهاد المتكلم، وعلى الإنسان إن كان عالماً، أو قادراً على التمييز بين الأجوبة بحسب الدليل، أن يختار من الأجوبة ما يكون الدليل مسعفاً له ومقوياً له، أما إن كان عامياً؛ فإن عليه أن يتبع من يعتقد أنه أعلم وأتقى لله -عزَّ وجلَّ- وأورع وأقرب إلى معرفة الكتاب والسنة، ويترك ما سوى ذلك، أما ضرب الأقوال بعضها ببعض؛ فإن هذا مما لا ينبغي ولا يليق بالمسلم، وكثيراً ما تَرِدُ مسائل يقع فيها مثل هذا، خاصة في هذا الشهر الكريم، وربما يَرِد خلال هذه الأسئلة شيءٌ من ذلك. الجزء: 97 ¦ الصفحة: 30 على سرير الموت الموت حقيقة سيردها كل إنسان، والحياة محطة للتزود من الخير أو الشر، والعاقل من عمل لآخرته وسعى من أجل دينه، وفارق الدنيا خفيف الحمل من الذنوب. وفي هذه المحاضرة تجد تذكيراً بحقيقة الموت، وبعض الجوانب المطلوبة لذلك. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 1 مع المستمعين الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذا هو الدرس السابع والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين (16) من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة واثني عشر للهجرة. وقد أسلفت القول لكم عن عنوان حديثي إليكم في هذه الليلة " على سرير الموت ". الجزء: 98 ¦ الصفحة: 2 قصيدة فلسطين كما أنني بالمناسبة أيضاً أود أن أشرككم معي في مطلع هذا الدرس المبارك في قصيدة بعث بها أحد الشباب من قوله لا من منقوله، ومن إنشائه، وهي قصيدة رائعة المعنى قوية السبك والمبني وقد أخذتني أبياتها وعباراتها فأحب أن أشرككم معي في تذوق هذه القصيدة لن أقرأها لكنني سأقرأ منها أبياتاً، وإنما قالها يخاطب فيها فلسطين البلد الإسلامي الذي يحتله اليهود ولعل ذلك بمناسبة ما يقال حول السلام، والمسلم بكل حال يشتاق إلى الشهادة في سبيل الله وأن يراق دمه دفاعاً عن الإسلام وبلاد الإسلام وأعراض المسلمات، وقد جعل الأخ الكريم لها عنوان فلسطين: خذي القلب مني مزقيه وقطعي خذي الدمع إني قد وهبتك أدمعي خذي الروح إن الروح تشتاق للقا تكاد تطير الآن من بين أضلعي خذي الليل والأحزان واليأس والرجا خذي كل ألحاني وغني ورجعي خذي العشق يبكي في حروف قصائدي خذيه وضميه إلى الصدر واهجعي خذي كل ما شئت ولا تترددي خذي كل ما عندي خذي كل ما معي فلسطين قام القلب يشكو مصابه بك فتعالي يا فلسطين واسمعي وأصغي لما قال الفؤاد فإنه إذا ما وعى شيئا يقول الذي يعي فلسطين ما أقسى الخطوب تجمعت تدوس على القلب الضعيف المزعزع وتسلب منه الأمن والحب والمنى وتلقيه في قيد من البؤس مفزع فلسطين جاءوا للسلام كأنهم يقولون قومي يا فلسطين ودعي فلسطين لا حي الإله سلامهم إذا كان يعطيهم بلادي وأربعي إذا كان يهدي لليهود منازلي ويمنحهم بيتي وحقلي ومصنعي فلسطين لا حي الإله سلامهم فقد أخذوا أرضي وروضي ومرتعي إلى آخر تلك القصيدة الطويلة فبارك الله في قلب ولسان هذا الشاعر الناشئ المبدع. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 3 طلب موضوعات تتعلق بالنساء كما أن عدداً من الأخوات كتبن اقتراحات أو طلبن موضوعات تتعلق بالمرأة، والحق يقال: أننا مقصرون في الموضوعات المتعلقة بالمرأة في هذه الدروس، وسبب التقصير ربما عدم معرفتنا تماماً بما يجري في أوساط النساء، فنحن بحاجة إلى أن يكتب إلينا عما يدور عن الأخطاء والانحرافات الموجودة في أوساط المرأة سواء في المجالس أم المدارس أم المجتمعات أم غيرها، حتى يكون علاجها على بينة وعلى بصيرة، وأنا في انتظار مثل هذه الأمور لمعالجة هذه الموضوعات. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 4 قصيدة للشاعر عمر أبو ريشة أحد الإخوة الكرام ذكرني بقصيدة يعتقد هو واعتقاده في محله أنها ذات علاقة بموضوع المجلس السابق وهي: للشاعر عمر أبو ريشة رحمه الله يقول فيها: أمتي هل لك بين الأمم منبر للسيف أو للقلم أتلقاك وطرفي مطرق خجلاً من أمسك المنصرم ويكاد الدمع يهمي عابثاً ببقايا كبرياء الألم أين دنياك التي أوحت إلى وتري كل يتيم النغم أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبس الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إلى آخر ما قال في قصيدته وكتبها لي الأخ الكريم. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 5 ماذا عن الأسئلة لقد ذهبت معي في المجلس السابق بعدد كبير من أسئلتكم، وتصفحت هذه الأسئلة وقرأتها أكثر من مرة، ويعلم الله أنني كنت مسروراً من قراءتها، فقد قرأت في معظم هذه الأسئلة، وجلها إن لم يكن في كلها قلوباً تخفق بحب الإسلام، وعقولاً تفكر فيه، بل وألسنة تلهج بذكره وتعبر عنه، ولاشك أن ثمة عبارات كثيرة كتبها الإخوة تحمل مضامين أكبر من تلك الكلمات، فكم كان سروري عظيماً وأنا أقرأ هذه الأسئلة فأجدها معبرة بدرجة كبيرة من الوعي، ومستوى رفيع من الإدراك، فضلاً عن جودة اللغة وحسن العبارة، فالحمد لله رب العالمين أن تكون هذه الأمة -على الأقل- بدأت تفكر تفكيراً سليماً، وبدأت تتلمس طريقها وتبحث عنه، إن الفرح يتجدد كلما قرأ الإنسان سؤالاً يقول: ما هو دوري! ما واجبي! ماذا افعل؟ إلى غير ذلك. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 6 دواء الجمود القلبي تجاه قضايا المسلمين مجموعة كبيرة أيضاً من الأسئلة كتبت تقول: إنك وصفت الداء ونحن نحتاج إلى الدواء، وقد عبر عنها أحد الإخوة بعبارة جميلة يقول: قد أعطيتنا الداء أو وصف الداء نقداً فهل سوف تذكر لنا الدواء نقداً أم نسيئة؟ وفي الواقع أنني قد لا أملك وصف الدواء للداء الذي ذكرته في المجلس السابق وهو "جمود القلوب من الإحساس بهمِّ الإسلام والمسلمين" ولكنني مساهمة مني واستجابة لمجموعة كبيرة، من تلك الأسئلة أساهم في بعض هذه الحلول والواجب علينا جميعاً أن نشترك فيها. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 7 تربية النفس وتهذيبها الحل الثاني: هو تربية النفس وتهذيبها ومجاهدتها على هذه الأمور بقدر المستطاع بكل ما يستطاع. ومن وسائل تربية النفس وتهذيبها ومجاهدتها على ذلك: - كثرة القراءة عن أحوال المسلمين: الوسيلة الأولى: كثرة القراءة عن أحوال المسلمين في كل مكان، سواء عن المسلمين في بلادهم أم في الأقليات الإسلامية التي تعيش تحت تسلط أكثريات كافرة من النصارى أو اليهود أو الشيوعيين أو غيرهم، وسواء كانت هذه القراءة في كتب تتحدث عن أحوال المسلمين أم في مجلات أم في غيرها مما يكتب هنا وهناك، ولتقرأ بقلب يريد أن يتأسي ويتعزى لما ينزل بإخوانه المسلمين ولسان حالك يقول مخاطباً أولئك المسلمين: ما قر جنبي وقد أقوت مضاجعكم كأن جنبي مطوي على قصب ماذا تعانون من عسر ومن رهق؟ ماذا تقاسون من سجن ومن حرب؟! يا أوفياء وما أحلى الوفاء على تقلب الدهر من معط ومستلب أفديكم عصبة لله قد خلصت فما تَغيَّروا في خصب ولا جدب وليكن في ذهنك أننا حين نتكلم عن مصاب المسلمين لسنا نقصد فقط الاضطهاد الذي يعانيه المسلمون هنا وهناك في بلد أو في آخر، لا ليس هذا هو المقصود فحسب، هذا جزء من مصاب المسلمين، ولكن الواقع أن مصاب المسلمين في كل مكان، بل كل مسلم في الواقع يعيش مصاب المسلمين، وذلك في أمور: في التخلف العقدي، في جهلهم بدينهم، تخلفهم عما يحبه الله تعالى لهم من الاستقامة على الدين الصحيح ومعرفة العقيدة الصحيحة، جهل المسلمين بالعبادة التي يجب أن يتعبدوا لله تعالى بها وبالسلوك الذي يجب أن يسلكوه في شئون حياتهم، هذا أعظم مصاب نزل بالمسلمين. وربما نستطيع أن نقول: إن كل مصاب آخر فهو قليل بالقياس إلى هذا وهو فرع عنه قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . أيضاً من مصاب المسلمين: التخلف العلمي والتقني الذي يعانونه، حيث أصبحوا في ذيل ومؤخرة الدول فيما يتعلق بالعلم والتصنيع والتقدم والتقنية وغير ذلك، بل أصبحت العقول المسلمة تخدم الدول الأخرى من حيث تشعر أو لا تشعر، وهو ما يسمى بهجرة العقول العربية أو العقول الإسلامية، التي تجد الإغراءات الكثيرة من الأمم الأخرى، فتقيم هناك وتصب جهودها وإمكانياتها وخدماتها في مجتمعات لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر، مصاب المسلمين في هذا الثالوث الخطير الذي أناخ بكلكله عليهم: الفقر الجهل، المرض. السؤال الذي يطرح نفسه: ما دور التكتم الإعلامي في عدم إدراكنا لما يعيشه المسلمون؟ أقول: دور التكتم الإعلامي دور كبير سواء في ذلك التكتم عن المصائب والنوازل والكوارث التي تحل بالمسلمين، فإن الإعلام العربي مشغول في كثير من الأحيان بقضايا هامشية ثانوية، وما هو إلا صورة عما يقال في الغرب، ولا تعجب إذا رأيت في كثير من الإعلام العربي أخباراً مذهلة جداً، أخبار عن قطة ماتت هنا أو قطة ماتت هناك، أو أخبار عن ثرية أوصت لقطتها بالمال، أو أخبار عن اللاعبين أو المدربين أو غير ذلك، أو أخبار عن أمور يزعمون أنها أمور علمية وهي في الواقع أمور لا تمت إلى العلم بصلة، إنما يراد بها استفزاز أهل الإسلام، كالحديث مثلاً عن قضية اكتشافات علمية تؤكد أن الإنسان أصله يعود إلى القرد -مثلاً- لمجرد الاستفزاز، وإلا حاشا العلم الصحيح أن يثبت هذا أو يقول به، والعلم الصحيح لا يمكن أن يعارض النقل الصحيح في القرآن الكريم وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالإعلام العربي مشغول بهذه الأمور عن معالجة ومعاناة قضايا المسلمين، مشغول أولا عن مصائب المسلمين في كل مكان. وربما مرت مصيبة فلم يتكلم عنها، وربما تكلمت عنها الصحف أو بعض المجلات أو بعض الإذاعات على استحياء، ومستها مساً خفيفاً من وراء وراء!! كما إنه مشغول عن معالجة مصائب المسلمين ومشاكلهم الحقيقية؛ لأنه لا يهمه إلا المدح والثناء والإعجاب وذكر الجوانب الإيجابية والغفلة عن الجوانب الأخرى، فهو مشغول عن هذا وذاك، ولذا لاشك أن للإعلام العربي وبالتالي للإعلام العالمي -لكننا لا نلوم الإعلام العالمي لأن هذا شأنه- دوراً كبيراً في تغفيل الناس وتهميشهم عن إدراك قضاياهم، لكن هذا لا يعفي المسلم عن ضرورة البحث عن المصادر الحقيقية من خلال الكتب الموثوقة أو الدراسات والمقالات والتقارير التي تكون أكثر دقة من غيرها. - القراءة في تاريخ المسلمين: الوسيلة الثانية من وسائل تربية النفس ومجاهدتها على ذلك هو: كثرة القراءة عن تاريخ المسلمين وأمجادهم، بحيث إن الإنسان يقارن بين هذا الواقع المر الذي يراه ويسمعه ويلمسه وبين ذلك التاريخ الذي عاشته الأمة يوماً من الأيام، وفي ذلك ضمان للإنسان أن يظل عنده تفاؤل وعنده أمل، وعنده ثقة بالله عز وجل أن هذه الأمة وإن آلت إلى ما آلت إليه إلا أنه كان لها تاريخ، وكان لها ماضٍ، ويجب أن تعود إلى ماضيها وتاريخها ولسان حالك أيضاً يقول كما قال الشاعر: إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجداً تليداً بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداداً تحداه ماض تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه بالله سل خلف بحر الصين عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه هذي معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه إني لأشعر إذ أغشى معالمهم كأنني راهب يغشى مصلاه والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه - القراءة عن جهود الكفر في خدمة كفرهم: الوسيلة الثالثة هي: القراءة عن جهود النصارى واليهود وأعداء الدين في دعوتهم إلى دينهم ومذهبهم، وكيف بذلوا الغالي والنفيس وضحوا براحتهم وسعادتهم وتغربوا في الأمصار وبذلوا الأموال الهائلة الطائلة حتى حققوا ما حققوا! وفي ذلك قصص وأعاجيب سيكون عنها الحديث -بإذن الله تعالى- يوماً من الأيام. جهود النصارى في الدعوة إلى دينهم: ربما قام راهب منصر أو كما يسمونه خطأ (مبشر) قام فتكلم إلى شعب من الشعوب يطلب منهم تبرعاً بأموال طائلة هائلة، ويكون التبرع عن طريق الكمبيوتر من أراد أن يتبرع فتجد أنه خلال ساعتين أو ثلاث يغلق الحساب، وقد وصل المبلغ كله مهما كان ارتفاعه. وأيضاً أشكر ذلك الأخ الذي بعث إليَّ -وهذا على سبيل المثال أيضاً- بأوراق تتكلم عن بعض الإذاعات التي يملكها النصارى ويستخدمونها في نشر دينهم، وأقرأ عليكم على عجل شيئاً من ذلك يقول:- صارت برامج إذاعات التنصير تصل إلى شعوب هذه المجتمعات -يقصد مجتمعات كثيرة في العالم- بأوضح مما تصل إليه برامجها الوطنية المحلية، ويكفي أن نعلم أن الولايات المتحدة مثلاً تبث برامج دينية مسيحية من محطة الإذاعة الدولية لمدة تزيد على ثلاثمائة ساعة في الأسبوع، وذلك بلغات شتى مختلفة وتذيع باللغات الإنجليزية والأسبانية والبرتغالية والألمانية والروسية وتمتلك هذه الإذاعة التنصيرية محطات للتقوية في الفلبين واليابان وإندونيسيا وغيرها، مما يجعل برامجها تصل إلى مختلف أنحاء العالم. وفي موناكو يوجد راديو جميع أنحاء العالم الذي تموله هيئة مسيحية ويبث برامج تنصيرية بخمس وثلاثين لغة إلى كافة مناطق العالم. وفي الفلبين توجد خمس وعشرون محطة دينية مسيحية تبث برامجها إلى قارة آسيا، وتشمل هذه المحطات شركة الشرق الأقصى التي تبث برامج دينية لسبع مناطق في آسيا والاتحاد السوفيتي بست وأربعين لغة. وفي أمريكا اللاتينية توجد شبكة وتتولى إدارتها الجماعة التنصيرية العالمية وهي هيئة أسستها الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبر من أقوى الشبكات الإذاعية في أمريكا اللاتينية وتبث برامج مسيحية إلى الإكوادور لمدة عشرين ساعة يومياً وتبث برامج دينية دولية إلى جميع أنحاء العالم بعديد من اللغات بمعدل إرسال ستين ساعة في اليوم، بعدة لغات. وقد استطرد في ذكر عدد هائل وكبير من محطات الإذاعة التي تبث للدعوة إلى النصرانية، وهذا نموذج ومثال، فقراءة الإنسان أو سماعه مثل تلك الأخبار التي يبذل فيها النصارى واليهود لدينهم ما يبذلون، تجعله يحس بالحرقة والغيرة على الأقل ومع ذلك ينبغي أن يكون نصب عينيه قول الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:104] فلا يجوز أبداً أن يكون ما يبذله هؤلاء أو أولئك سبباً في قنوطنا وقعودنا وإحباطنا، فإن الله تعالى يبارك في القليل حتى يصبح كثيراً، ولو أن المسلمين بذلوا ما يستطيعون لوجدوا نتائج مذهلة، وهم الآن يجدون نتائج مذهلة على رغم أن البذل أقل بقليل مما يجب. - تربية الأسرة والمجتمع وربطه بقضايا الإسلام: الوسيلة الرابعة لتربية النفس هي: تربية المجتمع أيضاً على القيام بالواجب نحو الزوجة والأولاد كباراً كانوا أو صغاراً في ربطهم بقضايا المسلمين وأحوالهم وأوضاعهم، من خلال بعض القصص التي يذكرها الإنسان عن المجاهدين، والمضحين في سبيل الدين، وعن الدعاة والعلماء، بحيث ينشأ الصبي الصغير وقدوته ومثله الأعلى رجال الإسلام وأبطاله وزعماؤه وعلماؤه، وليسوا المغنين أو الفنانين أو المطربين أو الرياضيين أو غيرهم. كذلك الحديث عن بعض الأخطار المتجددة من المصائب التي تنزل بالمسلمين هنا وهناك، ومثله ربط الشباب ذكوراً أو إناثاً من الصغار بالأحلام والتطلعات إلى أن يقوموا بدورهم في خدمة الإسلام، فكم هو جميل أن تربي ولدك على أنه في المستقبل -إن شاء الله- سوف يجدد دور خالد بن الوليد أو صلاح الدين أو نور الدين أو فلان أو علان من رجالات الإسلام، وكم هو جميل أن يربي الرجل أو تربي المرأة بنتها على أنها سوف تقوم في مستقبلها بإذن الله تعالى بدور بعض أمهات المؤمنين، أو نساء الصحابة الفاضلات، أو النساء اللاتي تربى في حجورهن أو الجزء: 98 ¦ الصفحة: 8 العمل والعيش من أجل الإسلام من الحلول التي أعتقد أنها مهمة لإحياء القلب، وجعله يعيش هم الإسلام في كل وقت وحين، أن ينغمس الإنسان في الأعمال الخيرية الفاضلة النافعة التي يقصد من ورائها نفع المسلمين في كل مكان، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل. إننا نجد أن صاحب الدنيا المنغمس في تجارته أو زراعته أو طموحاته الدنيوية أيا كانت، نجد أن هذه الدنيا تخايله في كل وقت وحين، حتى لربما قام يريد أن يصلي، يريد أن يكبر أو يسمع فسبقت كلمات الدنيا إلى فمه، ربما أراد أن يقول: (الله أكبر) فقال: ما عندي غير هذا السعر! لأن الدنيا تعيش في قلبه، ويتحدث الناس عن قصص من هذا القبيل كثيرة ويضحكون منها ويتناقلونها. وبالمقابل يقول لي أحد الأحباب: والله إن قضية الإسلام والإيمان ومصاب المسلمين يؤرقني ويقلقني ويشغلني كثيراً؛ حتى إني ربما تقدمت لأصلي بالناس فخشيت أن يفضحني لساني فيسبق بكلمة بدلاً عن التكبير أو التسميع، ولا شك أن ما يعانيه الإنسان بيديه أو يعمله بجوارحه أو يشتغل به في حياته هو الذي يسكن في قلبه، وربما فرط في لسانه من غير قصد ولا إرادة منه. إذاً فالحل الأول: هو أن تغرق نفسك بأعمال تقصد من ورائها إلى خدمة الإسلام والمسلمين. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 9 معنى أن يكون الموت لرب العالمين معاشر المؤمنين لعل الكثير منا -وقد آن الأوان للدخول في موضوع هذه الليلة- يستفتحون صلاتهم بقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] قَلَّ رجل من المسلمين إلا ويستفتح بهذا الاستفتاح، ولكن الكثير ربما لا يستطيعون أن يدركوا معنى هذه الآية تماماً. إننا نعلم معنى أن تكون الحياة لرب العالمين، لكن الكثيرين لا يعلمون معنى أن يكون الموت أيضاً: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:163] . الجزء: 98 ¦ الصفحة: 10 أن يموت وقلبه معلق بفعل الخير ومحبته أيضاً من صور الممات لله رب العالمين: أن يموت الإنسان وقلبه معلق بفعل الخير ومحبته ومحبة أهله، والخوف على الإسلام والمسلمين والإشفاق عليهم، أي: أن يموت الإنسان وقلبه يتحرك ساعة موته بقضية الإسلام والمسلمين- وهذه علاقة درس هذه الليلة بدرس المجلس السابق- أي: أن يكون هم الإسلام في قلبك حتى وأنت تلفظ آخر أنفاسك على سرير الموت، هذا أيضاً من صور الممات لرب العالمين، مشاعر الموت هي هي، المسلم والكافر تنزل بهم الأحزان والمصائب، ينزل بهم الخوف والأمور التي يرهبونها ويكتئبون منها، فالمشاعر هي هي، لكن شتان بين من يكون شعوره إشفاقاً على الإسلام والمسلمين وحباً لهم ورغبة في لقاء الله تعالى، وخوفاً من ذنوبه، وبين من يكون بضد ذلك. ألم تعلم -يا أخي الحبيب- أن ساعة الموت إنما هي تلخيص للحياة الطويلة، أربعون أو خمسون أو ستون سنة قضيتها على ظهر هذه الدنيا تلخص لك في ساعة أو ساعتين وأنت على سرير الموت {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] . ملخص موجز دقيق لا يختلف عما تعيشه في هذه الدنيا، فالإنسان يموت على ما عاش عليه، ولا تتصور مثلاً أن المؤمن الذي قضى حياته مؤمناً صادقاً عابداً قانتاً لله عز وجل مجاهداً في سبيله أنه يموت منحرفاً عن سواء السبيل، ولا تتصور أيضاً أن الذي قضى حياته منافقاً مخالفاً لله ورسوله عاصياً مجاهراً مضاداً للإسلام محارباً له، أن يموت وينطق بـ (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) . فالإنسان غالباً يموت على ما عاش عليه، والله تعالى على كل شيء قدير، والخواتيم بيد الله عز وجل، والأعمال بالخواتيم، لكن الغالب كما قرر ذلك أهل العلم كـ ابن القيم وغيره وهو الظاهر من النصوص الشرعية؛ أن ساعة الموت هي تلخيص أمين دقيق لما يكون عليه الإنسان في حالة حياته. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 11 الشهادة في سبيل الله إن من معنى أن يكون الممات لرب العالمين، أن يموت الإنسان في سبيل الله شهيداً صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر في أرض المعركة، وهذا أمر طالما تمناه حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل} . ولما غادر أصحابه صلى الله عليه وسلم في معركة أحد قال: {وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} . فتمنى صلى الله عليه وسلم أن يقتل شهيداً في سبيل الله، فإن الشهداء يروون شجرة الإسلام بدمهم الأحمر القاني. ولكن ثمة وسائل وطرائق وصورٌ أخرى غير مجرد القتل في ميدان المعركة، وأضرب لك بعض الأمثلة السريعة: المثل الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث صهيب في صحيح مسلم عن ذلك الغلام الإسرائيلي الذي كان يتردد بين الساحر والراهب: (حبسني الساحر! حبسني أهلي، حبسني الساحر حبسني أهلي) حتى آمن هذا الغلام، ويوماً من الأيام وجد في الطريق دابة قد سدت الطريق فقال: الآن أعلم أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر، اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك فأزل هذه، فماتت وزالت وذهب الناس يمشون، فآمن هذا الغلام، وبدأ الناس يتسامعون بخبره حتى وصل خبره إلى الملك، فأحضره الملك وعرض عليه أن يرتد عن دينه فأبى فبعث معه مجموعة إلى رأس جبل وقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا فإن ارتد عن دينه وإلا فألقوه من الجبل، فلما كانوا في رأس الجبل قال هذا الغلام: اللهم أكفنيهم بما شئت فتزلزل الجبل بهم فسقطوا وذهب الغلام إلى الملك، قال: ما صنع أصحابك؟! قال: الله كفانيهم بما شاء، فبعث مجموعة أخرى وقال: خذوا هذا الغلام فضعوه في قرقور - أي في سفينة صغيرة- فإذا توسطتم في البحر فأعرضوا عليه الردة عن دينه فإن ارتد وإلا فألقوه في البحر وأغرقوه، فلما كانوا في عرض البحر قال: اللهم اكفنيهم بما شئت فانكفأ بهم القرقور أو السفينة وغرقوا، ورجع هذا الغلام إلى الملك فقال: ما صنع أصحابك؟! قال: كفانيهم الله بما شاء. ثم قال للملك: أيها الملك! إنك لا تستطيع قتلي إلا بطريقة واحدة، قال: وما هي؟ قال: أن تجمع الناس كلهم في صعيد واحد ثم تصلبني إلى جذع نخلة أو شجرة، ثم تأخذ سهماً من كنانتي وتصوبه إليَّ وتقول: بسم الله رب الغلام فإنك إذا قلت ذلك قتلتني، فجمع الملك رعيته كلها وصلب هذا الغلام ثم أخذ سهماً وصوبه إليه فقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم فأصاب صدغه، فوضع الغلام يده على صدغه فمات، ثم رجع الملك فقال الناس له: آمنا برب الغلام، فجاء من حوله وقالوا: إن الذي تخشاه قد وقع، فحفر لهم الأخدود وأحرقهم فيه، قال الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4-7] إلى آخر هذه القصة. لقد مات هذا الغلام؛ لكن مماته كان لله رب العالمين، ولذلك مات فرد واحد وحيت أمة بأكملها، مات واحد ممن يقول: (لا إله إلا اله) فنطقت الأمة كلها وضجت بلا إله إلا الله، وهكذا يكون الممات لله رب العالمين، لم يمت في ميدان المعركة مقبلاً غير مدبر إنما مات أمام هذه الجموع الغفيرة التي شهدته وعرفت أن الله تعالى هو رب هذا الغلام، فآمنوا به وكفروا بالطاغوت، فهذا نموذج ممن ماتوا في سبيل الله فكان مماتهم لله رب العالمين. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 12 صور على سرير الموت وإليك بعض هذه الصور المتقابلة التي تؤكد لك هذا، وتكشف لك ماذا يجري على سرير الموت، وماذا يجب أن يجري على سرير الموت: الجزء: 98 ¦ الصفحة: 13 صورة أخرى وثمة صورة أخرى متقابلة تختلف عن هذه بعض الشيء في شكلها ومضمونها، فأما اختلافها في المضمون فإنها صورة شعرية لرجلين شاعرين معروفين، وأما مضمونها فإذا كان كل من أبي جهل في معسكر الكفر وسعد بن الربيع في معسكر الإيمان كان لهما مكانة في مجالهما وفي معسكرهما، فإن هذين الرجلين اللذين سوف اذكرهما ليسا بتلك المنزلة: أحدهما مؤمن تائب لكنه لا يزال يعيش بعض آثار الجاهلية، والآخر رجل جاهلي كافر قبل أن يبعث الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن له خيلاء أبي جهل ولا غروره ولا غطرسته. أما الأول منهما فهو: عبد يغوث الحارثي وكان في الجاهلية رجلاً شاعراً مشهوراً شجاعاً، أسرته قبيلة من القبائل المعروفة يقال لها قبيلة تيم الرباب، فلما أسروه هموا به فأمسكوا لسانه، وربطوه بنسعة خشية أن يهجوهم أو يقول فيهم شيئاً من الشعر، فلا يطلقونه إلا للأكل والشرب، فقال لهم: أطلقوا لساني حتى أهجو قومي فأطلقوا عنه لسانه، وقال: لهم اقتلوني قتلة كريمة، قالوا: ما هي القتلة الكريمة؟ قال: أن يسقوه خمراً، ويقطعوا أكحله فيدعوه ينزف حتى يموت، ففعلوا به ذلك فلما بدأ دمه ينزف وهو في غير صحوة وفي غير عقله تمثل أو قال أبياتاً من الشعر يقول: ألا لا تلوماني كفى اللوم مابيا فما لكما في اللوم خير ولا ليا ألم تعلما أن الملامة نفعها قليل وما لومي أخي من شماليا فيا راكباً إما عرضت فبلغن نداماي من نجران ألا تلاقيا أبا كرب بني مالك والأيهمين كليهما وقيساً بأعلى حضرموت اليمانيا جزى الله قومي بالكلاب ملامة صريحهم والآخرين المواليا أقول وقد شدوا لساني بنسعة أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا فإن أخاكم لم يكن من بوائيا والكلاب هو اسم تلك المعركة التي أسر فيها. فهو يدعو على قومه سواء الذين هم صرحاء أو مواليه وموالي قومه. بدأ هذا الرجل يتكلم عن مآثره، وعن الأشياء التي يفتخر بها في الجاهلية، هذا شعوره وهو الآن يلفظ نفسه ويغادر الدنيا، آخر فرصة قد ضاعت عليه الآن يقول: وقد علمت عرسي مليكة أنني أنا الليث معدواً عليه وعاديا وقد كنت نحار الجزور ومعمل المطي وأمضي حيث لا حي ماضيا وأنحر للشَّرب الكرام مطيتي وأصدع بين القينتين ردائيا وكنت إذا ما الخيل شمصها القنا لبوقاً بتصريف القناة بنانيا مليكة هي زوجته. مطيتي: يعني قومه ينحر لهم مطيته التي يركبها إذا لم يجد غيرها. إلى آخر ما قال وأخيراً يقول مضى هذا كله وانتهى: كأني لم أركب جواداً ولم أقل لخيلي كرى نفسي عن رفاقيا أو قال: "عن رجاليا". فهذا نموذج لرجل كافر كل همه خمر وغانية وكأس وفخر بماضيه وتاريخه وشجاعته وكرمه إلى غير ذلك، انتهت حياته هكذا كأن لم يكن. وفي مقابل هذا تجد الصورة الأخرى لرجل مسلم وهو مالك بن الريب، وكان لصاً أديباً بليغاً قاطعاً للطريق، فأبصره سعيد بن عثمان بن عفان رضي الله عنه وكان في غزوه إلى فارس، فأعجبه هذا الرجل في جماله وحسن أدبه وما أشبه ذلك، فسأله: لماذا تقطع الطريق؟ قال: ليس لدي مال، وأنا رجل كريم، ولا بد أن أكافئ الإخوان وأحيي الضيفان، فلذلك اضطر إلى السرقة وإلى قطع الطريق، فأكرمه وأعطاه مالاً كثيراً، فتاب الرجل وذهب معه إلى الغزو، فلما كان بخراسان بات إحدى الليالي، فلما أراد أن يلبس خفه قيل إنه كان فيها حية فلدغته، فصار يتلوى ويتقلب من السم الذي في بدنه، ويقول هذه القصيدة المشهورة التي في مطلعها: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا وأصبحت في أرض الأعادي بعيد ما أراني عن أرض الأعادي قاصيا فلله دري يوم أترك طائعا بَنِيَّ بأعلى الرقمتين وماليا إن الله يرجعني من الغزو لا أرى وإن قل مالي طالبا ما ورائيا يقول: إن نجوت لن أطلب شيئا حراماً، لن أطلب ما لا يرضي الله عز وجل. فيظهر هنا مظهر من مظاهر توبته إلى الله عز وجل، وإنابته وصدقه وإيمانه ومعرفته بما يجب أن يكون عليه، ومع ذلك فثم مشاعر بشرية أخرى قالها في ذلك الموقف تدل على الآثار البشرية الموجودة عنده، وتدل على تعلقه ببعض أمور هذه الحياة، من ذلك مثلاً التعلق بالوطن وتذكر ذكريات الماضي في بلده، من ذلك ترديده لكلمة الغضى، وهو شجر موجودة في بلده كثيراً: فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه وليت الغضى ماشى الركاب لياليا لقد كان في أهل الغضى لودنا الغضى مزار ولكن الغضى ليس دانيا فكأنه يتلذذ بترديد هذه الكلمة لأنها ارتبطت في ذهنه وعاطفته ومشاعره، كما أنك تجده يقول: دعاني الهوى من أهل ودي وصحبتي بذي الطبيسين فالتفت ورائياأجبت الهوى لما دعاني بزفرة تقنعت منها أن آلام ردائيا أي: أنه تذكر بلاده وأرضه فحن إليها -هذا شعور بشري- لكن المسلم الحق يرتفع حتى على هذه المشاعر، كذلك التفكير فيمن يبكي عليها، هذا شعور يدل على ما يدل عليه يقول: تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد سوى السيف والرمح الرديني باكيا وأشقر محبوك يجر لجامه إلى الماء لم يترك له الموت ساقيا وبالرمل منا نسوة لو شهدنني بكين وفدين الطبيب المداويا فمنهن أمي وابنتاها وخالتي وباكية أخرى تهيج البواكيا وباكية أخرى: يقصد زوجته. كذلك شعوره بالغربة والفراق وأن من حوله سوف يدعونه في قبره ويذهبون ولهذا يقول: فيا صاحبي رحلي دنا الموت فانزلا برابية إني مقيم لياليا أقيما عليّ اليوم أو بعض ليلة ولا تعجلاني قد تبين شانيا وخطا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على جنبي فضل ردائيا ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا الجزء: 98 ¦ الصفحة: 14 صورة الإيمان وفي مقابل ذلك انظر إلى صورة الإيمان، انظر إلى طمأنينة المؤمن وإشراقه وسكينة قلبه حتى وهو يلفظ نفسه، سعد بن الربيع رضي الله عنه وأرضاه فيما رواه ابن سعد في طبقاته وابن الجوزي في صفة الصفوة وفي الثبات عند الممات وأهل السير كلهم ذكروا هذه القصة، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهت معركة أحد قال: {من يذهب فينظر ماذا فعل سعد بن الربيع} . فقام رجل ينظر ما فعل فكان يدور بين القتلى فرآه سعد بن الربيع فقال له: ماذا تفعل؟ قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثني انظر ماذا فعلت؟ فقال: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وأخبره أني ميت، وأني قد طعنت اثنتي عشرة طعنة وأنفذت فيَّ فأنا هالك لا محالة، واقرأ على قومي مني السلام وقل لهم: يا قوم! لا عذر لكم إن خُلِصَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، الله أكبر. سعد بن الربيع يموت الآن ماذا يهمه من أمر الدنيا؟ ما سأل عن زوجته، ولا سأل عن أطفاله الصغار، إنما بلغ قومه هذه النصيحة وأن يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، هذا من حقه علينا صلى الله عليه وسلم، وثانياً: يا معشر الأنصار والمهاجرين ليس لكم عند الله عذر إن تمكن المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم واحد حي، وفيكم عين تطرف، قاتلوا دونه حتى تقتلوا عن آخركم وتستأصل شأفتكم. فانظر كيف هو همّ سعد بن الربيع إنه همَّ الإسلام، لم يكن يربطه برسول الله صلى الله عليه وسلم نسب ولا قرابة إنما يربطه رابطة أنه يعلم أنه النبي الذي أنقذهم الله تعالى به من الضلالة، وبصرهم به من العمى، وهداهم به إلى طريق الجنة، فهو يعلم أن هذا النبي المختار له عليهم فضل أعظم من فضل الآباء والأمهات، وأن في بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً للإسلام والمسلمين، فلذلك كان هذا همَّه وهذا شأنه حتى وهو يجود بنفسه رضي الله عنه وأرضاه. فهذان شخصان: في معسكر الكفر أبو جهل وفي معسكر الإيمان سعد بن الربيع، وقد ظهرت همومهم وهم على فراش الموت ولا شك أن لكل منهما هم كبير يملأ قلبه ويؤرقه ويقلقه ويحركه. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 15 صورة الكفر والشرك قال تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132] . فرعون هذه الأمة أبو جهل روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بسند فيه انقطاع ولكن رواه الطبراني بسند آخر متصل، وأصل الحديث في الصحيحين في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهت معركة بدر قال: {من يذهب فينظر ماذا صنع أبو جهل، فذهب عبد الله بن مسعود فوجده، فلما رآه ركب على صدره فقال له أبو جهل: لمن الدائرة اليوم؟ لمن الدائرة اليوم؟ قال: لله ورسوله، لقد أخزاك الله يا عدو الله، أرأيت كيف أخزاك الله؟! قال أبو جهل: وهل أعجب من رجل قتله قومه؟! ثم احتز ابن مسعود رأس أبي جهل وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه صلى الله عليه وسلم سر بذلك وقال: هذا فرعون هذه الأمة} . هذا أبو جهل الآن في رمقه الأخير وقد ضربه ابنا عفراء حتى برك، وأدركه ابن مسعود وبه رمق، فـ أبو جهل الآن دماؤه -تسيل ورقبته قد قطعت أو كادت وهو يتشحط في أرض المعركة، فيم يفكر أبو جهل؟ فرعون هذه الأمة- قاتل الله من تكون حماسة أبي جهل لدينه أعظم من حماسته لدينه، فحماسة أبي جهل بالباطل وحماستك أنت بالحق، فـ أبو جهل الآن مشغول يقول: لمن الدائرة اليوم؟ من الذي انتصر اللات والعزى أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ ونقول: نحن صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال ابن مسعود: لقد أخزاك الله يا عدو الله ونصر الله دينه وأولياءه وجنده وحزبه، فانزعج أبو جهل لذلك. هذا آخر سؤال تلفظ به، كان يفكر ويحمل هماً، لكن ما هو هذا الهم الذي يحمله فرعون هذه الأمة؟ إنه هم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وما أطول العجب من هذا الموقف ما قرأته إلا تعجبت! سبحان الله! رجل كافر يعبد صنماً يعرف أن المسألة كلها كذب، وما منعه من الإيمان والإسلام إلا الغيرة، وإلا الحرص على مكانته ومكاسبه وسلطته ورياسته في قريش، فما الذي يجعله يقول: لمن الدائرة اليوم؟! ويتساءل وهو ميت الآن لا محالة!! فكرت في ذلك طويلاً فلم أجد إلا أنني تذكرت أن اللاعبين الذين يتسابقون في ميدان الرياضة أحياناً إذا تسابقوا في السباق يسقط أحدهم ويكون شديد العناد والحماس، فإذا سقط تجد أن رجله تظل فترة طويلة وهي تتحرك حركة لا إرادية، كما لو كان يركض في الميدان وهو مسجى ملقى على ظهره، لماذا؟ إنها شدة العناد، إنها كبرياء الجاهلية وخيلاؤها وغرورها الذي اشتط بـ أبي جهل حتى جعله على رغم ذلك الموقف الصعب الذي يعيشه يتساءل لمن الغلبة اليوم؟ لمن الدائرة؟ ألمحمد وأصحابه أم للات والعزى؟ الجزء: 98 ¦ الصفحة: 16 الموت قدر الجميع لاشك أن المؤمن إذا وضع في قبره وكان مؤمناً فإنه يفسح له مد بصره -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- فلا معنى لسعة القبر حينئذ وضيقه. أخي الكريم إنك ميت لا محالة، أفيسرك أن تموت في حضن غانية على ما حرم الله؟ أم تحب أن تقبض روحك وأنت ساجد لله عز وجل وتقول: سبحان ربي الأعلى، يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ هما طريقان ما للمرء غيرهما فانظر لنفسك ماذا أنت تختار الموت قدر الجميع يقول الله عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] ويقول سبحانه {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] . تهرب منه وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8] . وقال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] لا مجال للعب واللف والدوران والخداع، الميت صادق واضح صريح لا يمكن أن يقول إلا الحق، لأن الأمور قد تكشفت له، فهو يرى الملائكة ويرى الحقائق التي كان ينكرها ويجادل فيها بالأمس، يراها اليوم عياناً لاشك فيها فيقال له: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] حاد ظاهر لا إشكال فيه. حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مخبرًا حتى يرى خبراً من الأخبار طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذاء والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار والعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار والنفس إن رضيت بذلك أو أبت منقادة بأزمة المقدار فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوار الجزء: 98 ¦ الصفحة: 17 مشاعر المؤمنين عند الموت ما هي مشاعر المؤمنين وهم يموتون؟ هي مشاعر كثيرة، أضرب لكم شيئاً من هذه المشاعر: الجزء: 98 ¦ الصفحة: 18 الندم على ما فات من التقصير من المشاعر: الندم على ما فات، ووالله لنندمن على ما فات؛ إن كنا محسنين لنندم أن لم نكن ازددنا إحسانا، وإن كنا مسيئين لنندم أن لم نكن أقلعنا ونزعنا وتبنا إلى الله عز وجل، ولكن انظر كيف ندم الصالحون. عبد الله بن عمر رضي الله عنه ندم عند الموت يقول: [[ما آسى من الدنيا على شيء إلا على ثلاثة أحدها: ظمأ الهوا جرا (صيام كان يصومه ولم يعد يصومه) ومكابدة الليل، ومراوحة الأقدام بالقيام لله عز وجل ولم يقاتل تلك الفئة الباغية التي نزلت]] ولعله يقصد الحجاج ومن معه، وهذه هي الثلاثة التي ندم عليها من الدنيا. ودخل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه على أبي هاشم بن عتبة وهو ضعيف فبكى أبو هاشم بن عتبة فقال له معاوية رضي الله عنه: ما يبكيك أوجع يشئزك -يعني يشدك- أم على الدنيا تبكي فقد ذهب صفوها وبقي كدرها، فلم يعد هناك ما يوجب أنك تبكي عليه، فقال أبو هاشم: لا أبكي على الدنيا ولا أبكي من وجع، إنما عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم عهداً فوددت أني كنت اتبعته، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {إنك لعلك أن تدرك أموالاً تقسم بين أقوام وإنما يكفيك من الدنيا زاد ومركب} قال: فأدركنا فجمعنا، يقول ما أبكي الآن على الدنيا، إنما جمعت مالاً تمنيت أني لم أكن جمعته. ومما يذكر في الأسف أيضاً على ما فات: موقف حصل لشاعر وعالم وداعية معاصر وهو الشيخ مصطفى السباعي أحد دعاة الإسلام، وقد قال قصيدة طويلة قبل أن يموت بخمس دقائق حينما صارحه الأطباء باليأس من شفائه، وكان خلفه صبية صغار وأهل وأم وزوج؛ فقال قصيدة يبكي فيها نفسه ويتأسف على من وراءه: أهاجك الوجد أم شاقتك آثار كانت مغاني نعم الأهل والدار؟! وما لعينك تبكي حرقة وأسى وما لقلبك قد ضجت به النار على الأحبة تبكي أم على طلل لم يبق فيه أحباء وسمار وهل من الدهر تبكي سوء عشرته لم يوف حقاً ولم يهدأ له ثار هيهات يا صاحبي آسى على زمن ساد العبيد به واقتيد أحرار أو أذرف الدمع في حِبِّ يفارقني أو في اللذائد والآمال تنهار فما سبتني قبل اليوم غانية ولا دعاني إلى الفحشاء فجار أَمَت في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إصرار وبعت لله دنيا لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار وإنما جزعي في صبية درجو غُفْلٍ عن الشر لم توقد لهم نار قد كنت أرجو زمانا أن أقودهم للمكرمات فلا ظلم ولا عار واليوم سارعت في خطوي إلى كفن يوماً سيلبسه بر وفجار هيهات يا صاحبي آسى: يقول لا آسي ولا أبكي ولا أحزن على الحياة نفسها. فما سبتني قبل اليوم غانية، يقول: لم يسبق يوماً من الأيام أن سبتني امرأة جميلة أو أخذت عقلي أو لبي، من يستطيع أن يقول: هذا؟! جلست قبل أسبوع أو أسبوعين إلى شيخ كبير السن في الخامسة والتسعين من عمره تقريباً فقال لي: والله ما أذكر أن الله تعالى سوف يسألني عن ذنب ارتكبته، سبحان الله! رجل في مثل هذا السن يطمئن إلى أنه لم يرتكب ذنباً، كلنا ذوو أخطاء لكن المقصود الفواحش والذنوب الكبار، إلا أنه لا يذكر أن الله سوف يسأله أنه سرق أو ارتكب ما يسخط الله عز وجل، قليل من الناس من يستطيع أن يطمئن إلى هذا الأمر، بل كل واحد منا يذكر أنه قد تلطخ بذنوب وأوزار، نسأل الله تعالى أن يسترها علينا وألا يفضحنا في هذه الدار ولا في دار القرار. وإنما جزعي: هاهنا يتكلم عن الأسى والأسف على شي وراءه. ثم يخاطب هؤلاء الصبية الصغار معزياً ومسلياً ومثبتاً لهم فيقول: بالله يا صبيبتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار وما نصيب الأم والزوجة والإخوة: أفدي بنفسي أُماً لا يفارقها هم وتنهار حزناً حين أنهار فكيف تسكن بعد اليوم من شجن يا لوعة الثكل ما في الدار ديار وزوجة منحتني كل ما ملكت من صادق الود تحنان وإيثار عشنا زماناً هنيئاً من تواصلنا فكم يؤرق بعد العز إدبار وإخوة جعلوني بعد فقد أبي أباً لآمالهم روض وأزهار أستودع الله صحباً كنت أذخرهم للنائبات لنا أنس وأسمار زينة الحياة الدنيا: جلساء صالحون. الملتقى في جنان الخلد إن قبلت منا صلاة وطاعات وأذكار ثم مات رحمه الله بعد هذه القصيدة بقليل. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 19 التحلل من المظالم والحقوق الشعور الرابع: من المشاعر التي تدور في خلد المؤمن وهو يموت، التحلل ممن يعتقد أنه أخطأ عليه، أو ظلمه أو أساء إليه بقول أو بفعل. وهذا حصل لكثير، منهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه لما نزل به الموت قال: [[أخرجوني إلى صحن الدار فأخرجوه، فقال: اجمعوا لي من هاهنا من أولادي وخدمي وجيراني وأهلي، فجمعوهم، فتحلل منهم، وقال: إنه قد يكون قد فرط مني إليكم إساءة بقول أو فعل، وهو والله الذي لا إله غيره يوم القيامة القصاص فمن كان له حق عليَّ فأقسمت بالله عليه إلا يأخذ حقه مني الآن قبل يوم القيامة فبكوا جميعاً وقالوا: بل والله كنت والداً، وكنت براً، وكنت مؤدباً فقال لهم: ألا تطالبوني بشيء؟ قالوا: نعم، قال: اللهم فاشهد اللهم فاشهد]] وفاضت روحه رضي الله عنه وأرضاه وهو مطمئن إلى أنه لا أحد من الناس يطالبه بحق أمام الله تعالى يوم القيامة. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 20 التسليم للقضاء والقدر الشعور الخامس: شعور التسليم للقضاء والقدر، ولذلك لما نزل الموت بـ الحسن البصري رحمه الله حرك يديه وقال: [[هذه منزلة صبر واستسلام هذه منزلة صبر واستسلام]] كذلك كان عبادة بن الصامت أيضاً لما نزل به الموت، دعاه ولده الوليد بن عبادة فقال ولده: يا أبتي أوصني، قال [[أوصيك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتؤمن بالقضاء والقدر، فإنك لو مت وأنت غير مؤمن بالقضاء والقدر دخلت النار، سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم]] فذكره بضرورة الإيمان بالقضاء والقدر والتسليم لما كتب الله تعالى وقدر وقضى. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 21 الندم والتوبة الشعور السادس: شعور الندم والاستغفار من ذنب فرط من الإنسان في ساعة لهو أو جهل أو غفلة، ولذلك لما حضر الموت عبد الملك بن مروان وهو الخليفة المعروف قال [أخرجوني] فأخرجوه، فتلفت وقال: " يا دنيا ما أجملك! -يسخر- يا دنيا ما أجملك! والله إن عيشك لحقير، وإن طويلك لقصير، وإن تناقش يكن نقاشك يا رب عذاباً لا طوق لي بالعذاب أو تجاوز فأنت رب غفور لمسيء ذنوبه كالتراب ". وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله لما نزل به الموت، استغفر الله تعالى، ثم قال ودموعه تتحادر على لحيته: ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمنى ذنبي فلما قرنته بعفوك رب كان عفوك أعظما فما زلت غفاراً عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منَّةً وتكرما فلولاك لم يصمد لإبليس عابد فكيف وقد أغوى صفيك آدما فلله در العارف الندب إنه تفيض لفرط الوجد أجفانه دما يقيم إذا ما الليل مد ظلامه على نفسه من شدة الخوف مأتما فصيحاً إذا ما كان في ذكر ربه وفيما سواه في الورى كان أعجما ويذكر أياماً مضت من شبابه وما كان فيها بالجهالة أجرما فصار قرين الهم طول نهاره أخا السهد والنجوى إذا الليل أظلما يقول إلهي أنت سؤلي وموئلي كفى بك للراجين سؤلا ومغنما ألست الذي غذيتني وهديتني ولا زلت منانا عليَّ ومنعما عسى من له الإحسان يستر زلتي ويغفر أوزاري وما قد تقدما ثم فاضت روحه رحمة الله تعالى عليه. ومن أعجب ما يكون للمؤمنين عند الموت الترحيب بالموت يقول محمد إقبال: آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا هل رأيت أحداً يفرح بالموت؟! نحن ما رأينا لكننا قرأنا في الكتب وسمعنا بالأسانيد الجياد المتصلة؛ أولئك الرجال الذين ربطوا قلوبهم بالدار الآخرة، وتعلقت نفوسهم برفقة الحق التي طالما جاهدوا معها، وكابدوا وعاشوا الصعاب، فكان الواحد منهم يحن إلى لقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: [[اليوم ألقى الأحبة محمداً وصحبه]] . هذا حذيفة رضي الله عنه لما نزل به الموت قال: [[يا مرحبا بالموت حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، لا أفلح من ندم، الحمد الله الذي سبق بي الفتنة قادتها وعلوجها، أعوذ بالله من يوم صباحه إلى النار]] . وهكذا تمنى الموت وفرح به وقال: لا أفلح من ندم، ولاشك أن الإنسان بطبعه يكره الموت، وقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، كلنا يكره الموت، كما في حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 22 الشفقة على من بعده من المشاعر التي تدور في نفس المؤمن وهو يموت الشفقة على من ورائه أن يخالفوا ما أمر الله تعالى وما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كان من وصية النبي صلى الله عليه وسلم وهو يموت {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} . ومن وصيته صلى الله عليه وسلم وهو يموت: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم} وأمر بإنفاذ جيش أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه وأرضاه وعمر رضي الله تعالى عنه كان من وصيته وهو يموت أن دخل عليه شاب فرأى في ثوبه طولاً كما في صحيح البخاري، رأى ثوبه مسبلاً فقال: [[ردوا علي الغلام، فلما رجع قال: يا ابن أخي: ارفع إزارك فإنه أنقى لثوبك وأتقى لربك]] لم يلهه ما هو فيه عن مثل هذه النصيحة الثمينة الصادقة لوجه الله عز وجل أبو الدرداء رضي الله عنه لما نزل به الموت تلفت إلى من حوله وقال: [[ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه، ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا]]-يقول اعتبروا بي، وكأنكم معي فأنا وأنتم طلبنا الرجعة، فأنا لم أرجع وأنتم رجعتم فماذا أنتم عاملون؟ - يقول: [[ألا رجل يعمل لمثل مصرعي هذا، ألا رجل يعمل لمثل ساعتي هذه]] . الجزء: 98 ¦ الصفحة: 23 الضعف والافتقار لله الشعور الثاني: هو الشعور بالضعف والافتقار والانكسار بين يدي الملك الجبار، الحي الذي لا يموت، فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: {أنت الحي الذي لا يموت، والإنس والجن يموتون} ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو وهو في ذلك الحال فيقول: {اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى، اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى} . كما كان من دعائه صلى الله عليه وسلم أنه يقول: {اللهم أعني على سكرات الموت، اللهم أعني على سكرات الموت} وقل مؤمن نزل به كرب الموت إلا وهو يرفع رأسه بالدعاء لله عز وجل لأن الإنسان لا يكون في حال أفقر ولا أشد انكساراً وضعفاً وذلاً وعجزاً منه في ساعة الموت. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 24 تعزية من ورائه وتصبيرهم الشعور الثالث: هو شعور بتعزية من ورائه وتصبيرهم على ما قد ينزل بهم من المصيبة بموته، وهذا أيضاً حصل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: {فإنه لما نزل به الموت قالت بنته فاطمة: واكرب أبتاه واكرب أبتاه فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم: إنه ليس على أبيك كرب بعد اليوم} يقضي اليوم آخر ما عليه من الآلام والصعوبات والمتاعب التي كتب على أهل هذه الدنيا أنهم لابد أن يلقوها. ومن عجيب ما يذكر في قضية تعزية الإنسان من وراءه بقوله أو بفعله، أنهم ذكروا عن الاسكندر الذي جاب الدنيا وملك الأرض أو كثيراً من بلدانها، أنه كتب إلى أمه رسالة يقول فيها: " إذا جاءك خبر موتي ونعيي فإنني أريد أن تكوني أماً لا كألامهات، كما أنني كنت ملكاً لا كالملوك، أريد أن تبني مدينة فإذا نزل بي الموت فابعثي إلى الأمصار شرقها وغربها أن يوافوك في يوم معين في هذه المدينة للسرور والأكل والشرب، ليكون مأتمي سروراً حيث كان مأتم غيري حزناً وهماً، وقولي لهم: لا يوافيك في ذلك اليوم أحد أصابته مصيبة قط، لا يوافيك إلا المسرورون أما الحزانى فليبقوا حيث هم ". فلما مات الاسكندر الأكبر أوصت أمه وكتبت إلى الأمصار أن يحضروا فجلست تنتظر فلم يحضر إليها أحد، فقالت: أين الناس؟ قالوا لها: إنك قلت: لا يحضر في هذا اليوم أحد قد أصيب بمصيبة وما من إنسان إلا ونزلت به مصيبة أمس أو اليوم أو قبل أمس، فقالت لولدها: لقد عزيتني بعد موتك بموتك، أي: أنه قصد أن يقول لها: لست وحدك التي نزلت بك مصيبة، كل الناس نزلت بهم مصائب فاصبري وتعزي وكما كانت تقول الخنساء: فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي الجزء: 98 ¦ الصفحة: 25 خاتمة الموت كأس وكل الناس شاربه، فلتنظر -يا أخي- كيف سيكون حالك وأنت تعاني ما تعاني من سكرات الموت، وكيف ستكون مشاعرك، وما هي الهموم التي سوف تنزل عليك في تلك الساعة. إن الإنسان إن ملأ حياته بالخير كان همه آنذاك هم خير، وإن ملأ حياته بهموم الدنيا ومشاغلها كان حاله كأولئك الذين والعياذ بالله ختم لهم بخاتمة السوء. وقد ذكر العلماء منهم كثيراً لم أرد أن أذكر منهم شيئاً، فقد أحببت أن يكون جل ما ذكرته ما يعانيه المؤمنون وما يفكرون أو يشعرون به في مثل ذلك الموقف العصيب، لعل الله عز وجل أن يجعل هذا فألاً حسناً فنكون جميعاً ممن يختم الله تبارك وتعالى لهم بخاتمة السعادة، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 26 الأسئلة الجزء: 98 ¦ الصفحة: 27 فقه الأولويات السؤال ينبغي على المسلم أن يحس بقضايا الأمة الإسلامية، فالآن -كما تعلمون- أن هناك عشرات، بل مئات، بل ألوف المشاكل والقضايا التي ينسي ويهون بعضها بعضاً، فكيف نوفق بينها وكيف نرتبها، وما هو المقياس والأولويات؟ الجواب هذا في الواقع من الأسئلة التي سرتني؛ لأننا نريد مثل هذا النمط من التفكير، ومثل هذا النوع من التفكير، ومثل هذه الأسئلة، نعم، أنا لا أستطيع أن أرتب الأولويات في محاضرة فضلاً أن أرتبها في دقيقة، ولكنني أقول: وجود هَمٍّ عندك لقضايا الإسلام لا يعني أنك سوف تشتغل بكل هذه القضايا، لكن يعني أنك أدركت أن هناك واقعاً ينبغي تغييره ثم وضعت قدمك في الطريق، فالذي يدرس القرآن اعتبر أنه نفع المسلمين، والذي يعلم العلم الشرعي أعتبر أنه نفع الإسلام والمسلمين، والذي يؤم الناس في صلاة الجماعة نفع المسلمين، والذي يخطب بهم في يوم الجمعة نفع المسلمين، والذي يدرس أبناءهم الدروس النافعة من العلوم الشرعية نفع المسلمين، والذي يتبرع بماله نفع المسلمين، والذي يأمر بالمعروف نفع المسلمين، والذي يكون في مجلس فيدافع عن أعراض المسلمين، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويرشد إلى الخير نفع المسلمين، وهكذا أبواب الخير لا تتناهى يا أخي. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 28 احتقار الشخص عمله للمسلمين وترك ذلك العمل السؤال من يحتقر نفسه عن العمل ويقول: إن هناك من هو قائم بالدعوة ويحتج بأن عمله قليل جداً ولا يفيد الدعوة في شيء؟ الجواب من قال لكم إن هناك قائماً بالدعوة، أبداً، نحن دعونا عشرة أو مائة ألف، والثاني والثالث لكن هناك أعداد -والله العظيم- كثيرة من المسلمين، وقد كتب لي أحد الإخوة في المجلس السابق ورقة، بل أوراقاً يقول: إن هناك أعداداً غفيرةً ربما -هو قد بالغ- قال ربما تكون (90%) ما بلغتهم الدعوة الإسلامية الحقيقية، ولا أمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر ولا حركت قلوبهم بالخير، فعلاًً ربما أنت تجلس مع الطبيبين فيخيل إليك أن الناس كلهم طيبون، لكن لو ذهبت إلى أماكن أخرى لوجدت أن الأمر بخلاف ذلك، وأننا بحاجة إلى أعداد غفيرة جداً ممن يقومون ويحملون لواء الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 29 العمل اللازم لخدمة الإسلام السؤال ذكرتم -رعاكم الله- أنه يلزم الإنسان أن يتألم لواقع المسلمين الأليم، وأن يفعل شيئاً لمقاومة أعداء الإسلام، انطلاقاً بأنه يشعر أنه مقصر تجاه دينه، فما هو العمل المحدد الذي يمكن أن يؤديه المسلم، وهل يلزمه السفر إلى الشرق أو إلى الغرب لإيضاح موقف الإسلام الصحيح، ودعوة الناس إليه؟ الجواب السفر إلى الشرق أو الغرب ممكن وليس بلازم، هناك جمعيات ومؤسسات وهيئات الآن تتيح الفرصة لبعض الشباب أن يسافروا بغرض الدعوة، أو الإغاثة، أو التطبيب أو التعليم أو أي عمل خيري، وهذا جيد لكن ليس هذا بلازم، فمثلاً: سافر مائة أو ألف وبقي الباقون، بلاد المسلمين أنفسهم بحاجة إلى أن نقوم بدعوة الناس فيها، بتوعيتهم، بإرشادهم، بالمشاركة في المجالات الخيرية بنشر الدعوة، بحيث لا تكون الدعوة وقفاً على فئة معينة، بل تكون الدعوة في كل بيت وفي كل عقل، وما من إنسان إلا وسمع من يدعوه إلى الله تعالى وإلى كلمة الحق، فإن كان شريراً من أعداء الدين سمع من ينغص عليه ويكدر عليه ويعارضه على أقل تقدير. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 30 التوفيق بين هم الإسلام وهموم العائلة السؤال أنا أحمل هم الإسلام في قلبي، لكن لدي هموم عائلية كثيرة وعجزت أن أوفق بين هذا وذاك فبقيت بدون شيء، أرشدني إلى الحل؟ الجواب أولاً: هذا يؤكد لنا أهمية تأمين الجبهة الداخلية في البيت، وأهمية أن يكون الدعاة والصالحون وطلبة العلم أن تكون بيوتهم آمنة بالخير والصلاح والاستقامة والسعادة والأنس والراحة، حتى لا تكون هذه الهموم تشغل الإنسان. أمر آخر: أن هذه الأمور وإن وجدت في قلبك وهو -أمر طبيعي- قد لا يخلو منه أحد أو بيت -إلا أنها لا ينبغي أن تملأ قلبك، فاجعلها في زاوية من القلب ويكون بقية القلب للهموم الأخرى. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 31 لبس الكعب العالي السؤال بعض النسوة حضرن هذا الدرس وهن لابسات الكعب العالي، بل وكعب ملون أصفر أو أحمر أو غيره، وإني شاهدت هذه النسوة لابسات هذا الكعب، وكن أكثر من ثلاث بثياب فوق الكعبين، فهل هذا يليق بمن أرادت رضى ربها في هذا الدرس وجاءت مع زوجها أو أخيها ولم ينهها أو يأمرها بلبس لائق للخروج، نرجو بيان حكم لبس الكعب، لأنه أصبح منتشراً بين عامة الناس، بل قد يكون بين خاصة الناس، والله المستعان؟ الجواب هذا الأخ قام بمشاركة إيجابية في تنبيه الأخوات على خطأ ينبغي ألا يظهر ولا يوجد مرة أخرى، وينبغي أن لا يكون هناك ما يدعو إلى مثل هذه الملاحظة، أي أن الأخوات ينبغي عليهن عند خروجهن أن يكن متحفظات متسترات فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان} . وما أجمل بالفتاة أن تحرص إن خرجت لما لا بد من الخروج له، أن تكون متسترة بلباس لا يكون هو بذاته زينة، فربما بعض الفتيات تلبس العباءة أو ما يسمى بالكاب، وقد رأيت نماذج منها أحضرها لي بعض الشباب، فيها من ألوان التطريز والفتنة والإثارة الشيء الكثير؛ حتى ربما يكون عدمها خير من وجودها، والمقصود من لبس العباءة أو غيرها مما يستر المرأة، المقصود به البعد عن الإثارة وليس الإثارة، فليس صحيحاً أن تتستر الأخت المسلمة بثوب يكون هو زينة في نفسه، وقل مثل ذلك بالنسبة للكعب العالي؛ فإن الكعب إذا كان خارجاً عن المألوف عن حد الاعتدال؛ فإنه لا يصلح ولا يجدر بالفتاة المسلمة لبسه، وقد ذكرت كلاماً لبعض الأديبات والمربيات في فتوى سئلت فيها عن هذا ربما يطلع عليها في غير هذا الموضع. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 32 التحمس بغير بذل السؤال هل يعذر من يتحمس للإسلام بأحاسيس ومشاعر، وهو لا يستطيع أن يعمل شيئاً مادياً؟ الجواب هو يستطيع أن يعمل شيئاً كما ذكرنا ولو بكلمة طيبة ولو بدعوة صادقة، يستطيع أن يعمل ولا أحد لا يستطيع أن يعمل؛ اللهم إلا الموتى. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 33 طلب نصح المتقاعس بذنب السؤال شخص متعلم يقرأ كل شيء يتعلق بالإسلام والمسلمين ويتفاعل مع همومهم بكل حماس وهمة، لكنه يرى نفسه مقصراً في العبادة، ويرى هذا عائقاً دون الدعوة إلى الله تعالى، ويريد بكل صدق أن يخدم قضايا المسلمين، فأرشده أرشدك الله؟ الجواب يا أخي تقول: إنك مقصر في العبادة وترى ذلك عائقاً عن الدعوة إلى الله، ألا تعرف أن الاهتمام بشؤون المسلمين عبادة، والاشتغال بقضاياهم من أهم العبادات بل هو من العبادات التي يتعدى نفعها إلى غيرك، والعبادات التي يتعدى نفعها إلى غيرك هي أعظم أجراً وبراً عند الله تعالى متى قارنها الإخلاص من العبادات المقصورة على صاحبها، فينبعي أن يكون في اهتمامه بقضايا المسلمين يشعر بأنه متعبد في محرابه لله عز وجل، وأنه يقوم بعبادة من أعظم وأجلّ العبادات، كما أن عليه أن يسدد نقصه إن كان مقصراً في نوافل العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وغير ذلك. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 34 متحمس للدين ينزعه الشيطان فلا يهتم بالواجبات السؤال أنا ملتزم بأوامر بالدين، وأحلف لك أنه يأتيني حماس شديد لنصرة الدين والجهاد في سبيل الله، إلا أن هناك عائقاً لا أستطيع اجتيازه، ألا وهو وسواس الشيطان ونزغه، حيث يجعلني لا أحس بأي أهمية حتى لصلاة الفجر، فما هو العلاج؟ الجواب ينبغي أن تجاهد نفسك على هذا الأمر، وإنه ليسرني بأن تحس أن هذا خطأ يجب عليك أن تتخلص منه، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن التخلف عن صلاة الفجر ليس من سيما المؤمنين، بل يخشى على الإنسان إذا تخلف أن يساء به الظن، ولذلك عليك أن تعتبر من همك وشعورك تجاه الإسلام والمسلمين أن تصلي الفجر مع الجماعة، لأن من حسن أحوال المسلمين أن تمتلئ مساجدهم في صلاة الفجر بالمصلين، ومن سوء أحوالهم وأوضاعهم أن يكون المصلون في مسجد من المساجد أربعة أو خمسة صفوف ثم لا يصلي الفجر منهم إلا صف أو أقل من ذلك، أو نحوه بقليل أو قريباً منه، هذا من سوء أحوال المؤمنين؛ فإنك إن أحسست بهموم المسلمين وأحزانهم وآلامهم أدركت أن من أسباب تخلفهم تقصيرهم فيما أوجب الله تعالى عليهم، ومن ذلك تقصيرهم في الصلاة، فيا ليتك -أخي الحبيب- تجعل من الأعمال التي تقدمها لنفسك ولغيرك أن تحرص على صلاة الفجر في جماعة ما استطعت، وتبكر في النوم ليلاً إن كان ذلك يساعدك وتضع المنبه وتطلب من أهلك إيقاظك على ذلك وتنام على طهارة، وتقرأ الأوراد المذكورة في الأحاديث في أوراد النوم، حتى تغلبك عينك وأنت تذكر الله عز وجل وتصدق النية حتى يعينك الله تعالى على ذلك. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 35 الرد على الأم قولها السؤال أنا امرأة أرد على أمي في بعض الأحيان، لأني لا أملك نفسي عندما تتكلم عليَّ أمي في شيء فعلته ولم أغلط فيه، ولكن تراه هي غلطاً فبماذا تنصح أختك؟ الجواب في الواقع أن هذا هو نفس الكلام الأول، فالبنت عمرها سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة، والأم في الخمسين أو الستين، تفكير الأم غير تفكير البنت، ونشأة الأم غير نشأة البنت، قد ترى الأم شيئاً خطأ والبنت تراه صواباً، وقد ترى البنت شيئاً خطأ وتراه الأم صواباً، فليس معقولاً أن تطلب البنت من أمها أن توافقها على رأيها وعلى تصرفها، بل عليها أن تتنازل لها عن أشياء كثيرة، تمرر بعض الأمور بطريقتها الخاصة وبالحكمة وباللطف، ولا تكون القضية قضية جدل ومواجهة؛ لأن الإنسان إذا واجه والديه بالجدل والخصومة والكلام يفرط منه لسانه، وقد يقول ما لا يرضى أن يقوله وقد يندم على ذلك فيما بعد، لكن لو عوَّد نفسه أن لا يطلق للسانه العنان بكلام مع والديه فإنه يرتاح حينئذٍ كثيراً. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 36 الموازنة بين متطلبات الحياة المختلفة السؤال كيف يمكن التوازن بين متطلبات الحياة ومستلزماتها، وما للآخرين من والدين وأهل وأولاد من حقوق، وبين العمل للدعوة، وكذلك العمل إذا كان فيه خير للإسلام والمسلمين بصفة عامة؟ الجواب في الواقع أنه لا تعارض، والوقت فيه بركة، وفيه خير كثير متى اغتنمه الإنسان وحرص على أن يملأه بالجليل المفيد من الأعمال، فالعمل للدين والدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يخصص لها الإنسان وقتاً. أريد أن أسأل نفسي وأسألكم: من هو منا الذي قرر أن يخصص يومياً ساعة ونصف للعمل للإسلام أو ساعتين فقط للعمل للإسلام؟ وهذا يكفي، وخير كثير أي لو فرضنا أنك خصصت للدعوة إلى الله ساعتين من أربع وعشرين ساعة، بمعنى أنه يكفينا منك واحد من إثنى عشر، أي أقل من عشر حياتك تخصصها للدعوة إلى الله تعالى، فتملؤها بدعوة، بزيارة، بأمر بمعروف، بنهي عن منكر، بمقالة، بشيء تعتقد أنه ينفع الإسلام والمسلمين، هذا العمل ليس بالسهل؛ لأنه إذا خصص الواحد منا ساعتين بمعنى أنه إذا كان عندنا عشرة آلاف كلهم خصصوا ساعتين؛ أننا خصصنا في اليوم والليلة عشرين ألف ساعة لخدمة الإسلام، رقم خيالي مع أنه بالنسبة لكل واحد منا ممكن. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 37 قلة الشباب الصالح وكثرة الصغار السؤال نرى في هذا الوقت كثرة العزلة لطلب العلم، وترك هموم شباب الإسلام، وكنا نرى قبل سنوات في المراكز وغيرها كثرة الشباب في هذه الصحوة المباركة، أما هذه السنة فقد كثر البراعم الصغار وقل الشباب، وكثر الشباب الضائع، فلا نعلم ماهذه الظاهرة الجديدة ومن سوف يربي هؤلاء الصغار؟ الجواب لا شك أن هذا أيضاً من واجبنا جميعاً، فهؤلاء الشباب الصغار أو حتى الشباب المنحرفون على قارعة الطريق وفي أماكن تجمعات الشباب- كما جاءني في سؤال آخر- الشارع الأصفر أو الأخضر أو الأبيض أو الأزرق أو غيرها من الشوارع التي تأتي غداً أو بعد غد، هؤلاء الشباب الذين يفترشون تلك الشوارع أو يجلسون في مخيمات أو غيرها، أو في الأندية من لهم؟ غير صحيح أن الإنسان يشتغل أحياناً بفضول العلم ويتنطع ويتوسع ويدقق في أمور قد لا يجتاج إليها طول عمره، وقد لا يحتاج إليها المسلمون أيضاً؛ ويغفل عن واجب القيام بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. ومثل ذلك ما يقع في المراكز الصيفية: -مثلاً- فيها كثير من الشباب على سبيل الهداية مبتدئون أو صغار السن، أو ربما يكون عند بعضهم انحراف، فهم محتاجون لمن يأخذ بأيديهم ويوجههم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم} . وإنسان عنده علم قليل نفع الله به كثيراً من الناس خير وأحب إلينا من إنسان عنده علم كثير ولكن لم ينتفع الناس بعلمه ذاك، شأنه في ذلك شأن إنسان عنده مال كثير ولكن هذا المال موجود في البنوك لا يخرجه أبداً؛ فهذا لا ينفعنا، وأحسن منه وأبر وأجود إنسان آخر عنده مال قليل ولكنه يبذله بقدر المستطاع في أعمال الخير. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 38 نصيحة للمبتدئين بالدعوة السؤال الشباب الذين في بداية توجههم يبدءون بالدعوة إلى الله تعالى، نرجو توجيههم إلى ما يجب عليهم فعله في تلك البداية؟ الجواب لا شك أن الإنسان ينبغي أن يبدأ بما يعلم، فلا يهجم على أمور لا يحسنها في الدعوة إلى الله تعالى، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإنما يبدأ بما يعلم، وتكون بدايتة بقدر علمه، ويحسن بالإنسان حينئذٍ أن يكون مع آخرين يساعدونه على التعرف على طرق الدعوة وأساليبها؛ لكي لا يقع أو تزل به قدم أو يدعو إلى أمر يظن بأنه خير وليس كذلك. ومن أساليب الدعوة: المصاحبة، أي: أن تدعو زميلك وصديقك إلى الله سبحانه وتعالى، وتأمره بالخير وتنهاه عن الشر، تدعو أخاك في المنزل وتأمره بإقامة الصلاة، وتقرب له أسباب الخير، تعطيه الكتاب النافع والشريط النافع، تدعو أختك حتى الصغار من إخوانك أبناء تسع سنوات وعشر سنوات، تجعل لهم درساً في البيت أو حلقة، تعلمهم كيف يُصلَّون كيف يتوضئون، تخبرهم ما هو عذاب القبر، ما هو عذاب الآخرة، مَنْ الذين يعذبون، مَنْ هم أهل الجنة، مَنْ هم أهل النار، تذكر لهم أخبار الصحابة الصحابيات وغير ذلك، يستفيدون من وراء ذلك شيئاً عظيماً، فالدعوة أمر ميسور كل إنسان بحسبه. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 39 مالك بن نبي وأفكاره السؤال ما رأيكم في أفكار مالك بن نبي وكتاب مشكلة الثقافة، وهل تتفق أفكاره مع ما ذكرتم في المجلس السابق؟ وهل عالم الأفكار موجود وعالم الأشخاص مفقود؟ الجواب هذا من الأسئلة القيمة العميقة وفي الواقع أنه يتفق مع هذا المفكر في أشياء كثيرة واختلف في أشياء أخرى، أما بالنسبة لكتاب مشكلة الثقافة فيحتاج إلى قراءة متأنية. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 40 محب لكن لا يضحي السؤال أنا شاب ملتزم والحمد لله، ولكن لم أر أني قدمت للإسلام شيئاً، وأحب أن ينتصر الإسلام وأهله لكن بدون مشاركة مني، وأجد في نفسي الوهن وأعلق الأمل على بقية المسلمين، فما رأيك، وهل أنا مسئول أمام الله عز وجل عن ذلك؟ وهل هذا تقصير؟ وما العلاج؟ الجواب إذا لم تكن أنت المسئول فمن المسئول إذاً؟ وإذا كنت تعلق الأمل على بقية المسلمين فما رأيك أن المسلمين أنفسهم يعلقون الأمل عليك وعلى أمثالك؟ ولو أن كل واحد منا علق الأمل على غيره ما صنعنا شيئاً، وما لم نتخلص من هذه المشاعر المحبطة التي ترمي بالمسئولية على غيرهما، فلن يقوم للمسلمين قائمة ولن يتغير للمسلمين حال. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 41 والد يمنع ولده من الدعوة السؤال ما رأيكم في الآباء الذين يضعون العوائق أمام أبنائهم في سعيهم للمشاركة في الدعوة بما يستطيع، بل إن أحد الآباء منع ابنه من محادثة ومجالسة الشباب الذين لهم مشاركة في الدعوة والتوجيه لمجرد خلاف شخصي؟ الجواب بالنسبة للآباء الذين يسمعون ويدركون، لا شك أن واجبهم أن يساعدوا أبناءهم على القيام بالدعوة إلى الله، فأي توفيق يوفق إليه الأب أن يكون ابنه مستقيماً، حين ينحرف الشباب، وأن يكون ابنه داعية إلى الله في حين يكون أبناء بعض جيرانه أو أقاربه دعاة على أبواب جهنم، هذا من توفيق الله تعالى للأب، ومن الخير والبر الذي ساقه الله تعالى إليه، وأقل واجب عليه هو أن يدع الابن وسبيله، بل واجبه أعظم من ذلك، أن يساعد ويسدد ويؤيد الابن في طريقه ذاك. لكن إذا كان الأب لايدرك هذا الأمر هنا يأتي دور الابن نفسه؛ أنه عليه أن يتلطف مع والده ويتحيل في الوصول إلى ما يريد وأن يبتعد عن مواجهة الأب قدر المستطاع، فإن الإنسان إذا كان حكيماً واسع الصدر هادئ النفس لين الكلمة ذا أخلاق فاضلة يستطيع أن يحصل على كل ما يريد، وهذا أقوله من خلال تجارب كثيرة جداً، وكثيراً ما يكون الإنسان نفسه هو الذي حال بين نفسه وبين ما يريد؛ بسبب سوء خلقه أو قسوته في قول أو فعل أو عبارة أو تصرف غير جيد، ليس من الحكمة أن تقول لوالدك: والدي يمنعني من الذهاب إلى الجهاد؛ إذاً الجهاد فرض عين ولن أستشيره في ذلك، وبعد يومين تتصل بوالديك من بيشاور تقول له: أنا هنا سوف أجاهد في سبيل الله، ترضى أو تسخط ليس هذا من حقوق أبيك وأمك عليك، وغداً تقول: طلب العلم من الواجب وفرض العين ولا استشير فيه والدي، فتذهب هنا أو هناك دون أن يعلم والدك بذلك أصلاً فضلاً عن أن تكون استشرته، وبعده تقول: الدعوة واجب لا استشيره. فصار الأب يشعر بأنك ليس لك به أي علاقة وربما عرف بعض أسرارك وأحوالك عن طريق الناس، هذا ليس صحيحاً بحال من الأحوال. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 42 الكتابة وخدمة الدين السؤال من يحاول كتابة بعض المقالات التي تصف أحوال المسلمين ومآسيهم، وتدعو إلى الإهتمام بهم والدعاء لهم، هل يعتبر هذا تقديماً للدين وخدمة للإسلام أفيدونا؟ الجواب كيف لا، سواء كانت هذه مقالة أم قصيدة كما قرأت عليكم نموذجاً، فإنه يحتذى بالقصائد التي تعبر عن هموم المسلمين ومآسيهم، كل ذلك من المشاركة في محاولة خروج المسلمين مما هم فيه. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 43 طريقة إحياء الدين في مكان ما السؤال ما هي الأسباب التي يستطيع الداعية بها أن يحيي منطقة أو قرية نائية بعيدة، بالدين والعلم، وهذه المنطقة ليس فيها دعاة لا قليل ولا كثير، بل قد عم فيهم الجهل وهم أشبه ما يكونون بالبساطة، وليس عندهم انفتاح على الدنيا إلا من خلال الإعلام الذي دخل كل بيت وكل مكان؟ الجواب لا بد أن يوجد في هذه المدينة داعية نذر نفسه لإحياء تلك المدينة أو هذه المنطقة، لا مانع أن يسكن فيها، فإن لم يمكن أن يسكن فيها فليتردد عليها بين وقت وآخر، ويجعل فيها درساً للعلم، درساً للقرآن، درساً لتعليم الكبار، ودرساً لتعليم الصغار. وإن أمكن أن يكون خطيباً، وينشر بينهم الكتب الصغيرة والرسائل الصغيرة، والأشرطة المفيدة، وليتخصص في هذه المنطقة إن كان من أهلها أو كان قريباً منها حتى يكتب الله تعالى له أجر من اهتدوا فيها، وإذا انتفع الناس به هناك، ورأى إيمانهم وعلمهم وانتشار الخير لا مانع أن ينتقل بعد ذلك إلى منطقة أخرى، ويترك أمر هذه المنطقة لأهلها. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 44 التنصير وإيذاء المنصرين السؤال استمعت لمحاضرة لـ زغلول النجار حول التنصير في العالم الإسلامي، ومما هالني أن هناك منظمة منصرين في عدن وفي المنطقة التي أسكن قريباً منها، وفكرت في عمل أود أن أستشيرك فيه، هل تنصحني بإيذائهم وحرق مساكنهم وتخويفهم، عسى أن أجبرهم على الرحيل، وخاصة أنه ليس هناك من يساعدني على ذلك، والناس هناك منهم من يعادي الصحوة الإسلامية والشباب المسلم، فكأنه ما ينقصنا سوى وجود هذه الحثالة من البشر قاتلهم الله؟ الجواب لا أعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الذي تستطيع أن تفعله الآن، فالمسلمون في حال ضعف وليس هذا الأسلوب لائقاً ومناسباً لهم، ولو كان في المسلمين قوة لمنعوهم من القيام بمثل هذا، ولكن الأسلوب الذي تستطيع به أن تواجههم هو أن تقوم أنت بالدعوة المضادة، فإن البيئة إسلامية، والناس هنا وهناك أصلهم مسلمون، وهم إجمالاً من أهل لا إله إلا الله، والشرك والكفر الموجود عند بعضهم دخيل عليهم، ومتى سمعوا داعي الله تعالى وجدوا من يستجيب لهم، وهذا أمر مجرب لست أنت أول من جربه، ولذلك عليك أن تقوم بالدعوة المضادة، تدعو إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، وتجمع الشباب على كلمة لا إله إلا الله، وعلى طلب العلم النافع، وعلى دعوة الناس، وعلى وعظهم وترغيبهم فيما عند الله عز وجل، وستجد بعد ذلك أن هؤلاء النصارى وغيرهم يرحلون، ليس لأنك أحرقت مساكنهم وآذيتهم، ولكن لأنهم شعروا بأن الجو غير مناسب لهم ولا أحد يستجيب لهم هناك. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 45 التأثر والحماس حيناً دون حين السؤال أنا شاب ملتزم -ولا أزكي على الله أحداً- إذا جلست مع الملتزمين وذكروا أدوار الشباب أصبح عندي الحماس بالمشاركة، وإذا انصرفت عنهم وتركتهم ذهب هذا الحماس، فهل هذا يعتبر نفاقاً؟ الجواب كلا، ليس هذا من النفاق، فإن الإنسان إذا سمع الوعظ والتذكير كانت هذه أشبه ما تكون بالسياط التي تحمي ظهره فهي تحرك قلبه وتدفعه إلى الخير، فإذا ذهب بعد ذلك تغيرَّ حاله، وضعف بعض الشيء، ولكن عليه أن يجاهد نفسه وأن يكون دائماً وأبداً على حال من الحماس للإسلام والرغبة في خدمته. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 46 حمل الإسلام على علم ونبذ التعصب السؤال آمل التعليق على ما يلي: حمل الشعور الإسلامي على علم ونبذ التعصب؟ الجواب نعم، يجب أن يكون مع شعورك علم وإخلاص لله عز وجل، يجب أن تكون متخلصاً من العقد النفسية، وأعني بالعقد النفسية: كل ألوان التعصب لغير الحق، لا تكن متعصباً إلا للحق، يجب أن يكون ولاؤك لله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون رائدك الكتاب والسنة لا غير، فحبك للناس بقدر قربهم من الكتاب والسنة، وبغضك لهم بقدر بعدهم عنهما، وقبولك لشيء لأنه يوافق الكتاب والسنة، وردك له لأنه يخالف الكتاب والسنة، وعملك فيما يوافق الكتاب والسنة، وتركك لما نهى الله عنه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقيس كل الأشخاص والأعمال والأفكار والمؤسسات والجمعيات والجماعات والنشاطات والأمور كلها دقيقها وجليلها وكبيرها وصغيرها قريبها وبعيدها، تقيسه بمقياس واحد لا تقبله إلا بشاهدي عدل من الكتاب والسنة أو من أحدهما، لا تتعصب لشخص، ولا لراية، ولا لاسم، ولا لبلد، ولا لقبيلة، ولا لشيء، ينبغي أن تتحرر من كل ألوان التعصب، والكلام في هذا الموضوع لعل له مناسبة أخرى. الحكمة في رد الفعل لسماع خبر أو موقف مضاد للإسلام والمسلمين؛ فليست القضية قضية ردود أفعال، قد يسمع إنساناً خبراً فيكون عنده ردة فعل مباشرة وقد يكون قوياً؛ لكن سرعان ما ينتهي الأمر ويعود هذا الإنسان كما كان. نحن نريد قلباً يحمل شعوراً طويلاً مستمراً للإسلام والمسلمين وليس شعوراً وقتياً ولو كان هذا الشعور قوياً. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 47 كتب تعالج الواقع السؤال كتاب الشيخ محمد قطب واقعنا المعاصر من الكتب التي تعتبر فائدتها للفرد في فهم الواقع وواقع المسلمين وماضيهم وما هم عليه، ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها؟ الجواب فيها الكتاب الذي ذكرته هذا، وهناك كتاب آخر له رؤية إسلامية في أوضاع العالم الإسلامي المعاصر، وهي من الكتب القليلة التي تتحدث عن هذا الموضوع وللأستاذ محمد محمد حسين رحمه الله كتب مفيدة، منها كتاب حصوننا مهددة من داخلها وكتاب الإسلام والحضارة الغربية وكتاب الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، وهناك بعض الكتب لا تحضرني الآن. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 48 حب الإسلام وكراهية الوالد السؤال إذا كان شعوري نحو الإسلام جيداً وشعوري نحو والدي كريهاً أفيدوني؟ الجواب شعورك نحو الإسلام جيد هذا أمر مطلوب، لكن لا شك أن بر الوالدين والإحسان إليهما هو من الإسلام ومن برهما أن يحبهما الإنسان من كل قلبه، فإن حق الوالدين هو من أعظم الحقوق، وقد قرن الله تعالى حقهما مع حقه فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14] وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] وعلى الإنسان لكي يعرف حق الوالدين ويملأ قلبه بحبهما أن يتلطف مع والديه في المعاملة، ويعرف أنهما كبيران في السن، وربما يكونان من جيل آخر غير الجيل الذي هو منه، تفكيرهم غير تفكيره وتصوراتهم غير تصوراته، آراؤهم مختلفة، وأحياناً لغتهم قد تكون مختلفة في بعض الأمور. فلا ينتظر الإنسان من والده أو من أمه أن تكون مثله في النظر والتفكير والتصور والتصرف وما أشبه ذلك، فلا يطلب من والديه إلا ما يناسبهما وما هو في طوقهما، ثم إن على الإنسان أن لا يُرادَّ والديه في الكلام والجدل والخصومة، بل أن يأخذ منهما ما أتى عفواً ويرد عليهما بالكلام الطيب مثل: جزاكم الله خيراً، عفا الله عنك، أحسن الله إليك، وفقك الله، وغفر الله لك، وما أشبه ذلك، ثم عليك بالكلام الطيب: صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير. كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد كريم كما قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] فلو أن الإنسان عود نفسه {والخير عادة} -كما جاء في الحديث- عود نفسك أنك تقول الكلام الطيب لوالديك، كلمة طيبة تنفعك في الدنيا والآخرة وتحسّن علاقتك بوالديك؛ بحيث أنه يعتاد لسان الإنسان أن لا يقول لوالديه إلا الخير، ولا يرفع صوته عليهما بحال من الأحوال. وكذلك يحسن إليهما، يقبل رأس الوالد أو الوالدة، يقدم لهما من الطعام ما يستطيع، يخدمهما، ويحقق لهما ما يطلبانه، يكون رهن إشارة والديه، هذا جزء من الواجب الذي يمليه عليك دينك. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 49 جدوى الأسى على المسلمين السؤال ما فائدة حزني وألمي وهو لا يغير شيئاً من مآسي المسلمين، أليس هذا تعذيباً للنفس بلا جدوى؟ الجواب من قال لك أن حزنك وألمك لن يغير شيئاً من مآسي المسلمين ومصائبهم، أصلاً لن تتغير مآسي المسلمين ومصائبهم إلا إذا وجدت قلوب تحزن فتملي على العقول أن تفكر، وتدفع الأبدان إلى أن تعمل، فالقلب هو المحور الذي يحرك العقل، ويحرك البدن إلى التفكير وإلى العمل، وما لم نملك القلوب التي تحزن بمصاب المسلمين، فمعناه أننا لن نملك قلوباً تفكر، ولن نملك أبداناً تعمل، إذاً مطالبتنا بالحزن ليس لذات الحزن، ولكن لأنه يحركك إلى التفكير الصحيح وإلى العمل الصحيح. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 50 مخالفة الموالد والتمائم للشرع السؤال قلت في الدرس الماضي أنه في بعض الأقطار يتوقف العمل عندهم على تعليق التمائم وحضور الموالد فقط وكأنها من المشروعات في ديننا إنك لم تذكر مخالفتها للشرع أرجو توضيح ذلك؟ الجواب الذي ذكرته ليس من الشرع، فليس إحياء الموالد من الشرع، ولا كذلك تعليق التمائم التي في كثير من الأحيان تكون تمائم بدعية غير شرعية وإنما مقصودي أن هذا الفهم هو فهم كثير من المسلمين، وهذا تصورهم ونصيب الإسلام منهم في ظنهم، وإلا فإن هذا وذاك ليس من الإسلام في شيء، أما بالنسبة للموالد فلا شك أنها بدعة، أما بالنسبة لتعليق التمائم ففيه كلام طويل معروف لأهل العلم. الجزء: 98 ¦ الصفحة: 51 صانعو الخيام تحدث الشيخ عن أخطار التنصير على المسلمين وعلى الجزيرة بالذات، وعرض بعض الوثائق والمخططات التي يقومون بها، والتي يهدفون من ورائها إلى تنصير أهل هذه الجزيرة، وركز الشيخ من خلال حديثه على شركة أرامكو وما يدور فيها من المؤامرات. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 1 من نتائج حملات التنصير إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن هذا الدرس هو في حقيقته درسان، ولهذا أعطيته رقمين، الرقم: (38) و (39) من سلسلة الدروس العلمية العامة، لأن الوقت قد يطول بعض الشيء، نظراً لأن هذه الموضوعات غير قابلة للقسمة والتجزئة، وقد أطلنا في الحديث حول موضوع التنصير حتى مللت تقليب أوراقه، وربما مللتم أنتم سماع الكلام فيه على رغم خطورته، ولذلك حاولت أن أجمع خلاصة ما عندي وأقدمها لكم الآن بصورة ناقصة ومبتورة، ولكنها فيما أرى أفضل من التطويل في الموضوع أكثر مما حصل. وصانعو الخيام هو العنوان الذي وعدتكم به في هذه الليلة: ليلة الإثنين السادس والعشرين من شهر صفر من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة، وقد وصلنا فيما مضى إلى نتائج أقولها لكم باختصار: أولاً: فشلت الكنيسة في دول الخليج والجزيرة العربية في كسب متنصرين جدد. ثانياً: غيرت الكنيسة أسلوب عملها المباشر، إلى أسلوب يتخفى تحت ستار الأعمال الإنسانية والوظائف والخبرات التي تحتاجها منطقة الخليج والجزيرة. ثالثاً: استفادت الكنيسة من الجولات والرحلات العلاجية إلى دول الجزيرةالعربية. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 2 من مكاسب التنصير وثمة مكاسب أخرى لابد أنكم تفطنتم إليها: أولاً: تمكن النصارى من إيجاد تجمعات كنسية تتكلم العربية أو الإنجليزية في سائر دول الخليج: في الكويت والبحرين ومسقط إلى آخره. مثلاً في الكويت قبل عشرين سنة، أكثر من عشرة آلاف نصراني ما بين أرثوذكسي أو كاثوليكي معظمهم من غير الكويتيين، كونوا لهم رابطة مرنة اسمها مجلس كنائس الكويت، يضم هذا المجلس ثلاث عشرة طائفة. ثانياً: استطاعت الكنيسة في العام نفسه -أعني عام 1972م قبل عشرين سنة- على مدى سنوات إعداد ما يزيد على سبعة آلاف وخمسمائة طالب للعمل بنجاح في شتى المهن، منهم المسلمون الذين تخرجوا على أيدي المنصرين، -وكيف ترى تكون عقولهم وأفهامهم وأخلاقياتهم- ومنهم النصارى. ثالثاً: نجحت الكنيسة في التأثير على مكانة المرأة في الشرق الأوسط، وكان عدد الطالبات في مدارس النصارى أكثر دائماً من عدد الطلاب، وهذا الموضوع -موضوع التنصير- في مجال المرأة وفي مجال الجمعيات النسائية هو ميدان خصب للدراسة، وقد أعد أحد الدكاترة الخليجيين دراسة حول هذا الموضوع ونشرت في بعض الصحف الغربية. رابعاً: كان القُسُس والمنصرون طابوراً خامساً للدول الغربية يعملون في الخليج العربي والجزيرة، فالمخابرات البريطانية والأمريكية كانت تتصل بأفرادهم لتضمن ولاءهم لها، وكانوا يكتبون لها التقارير عن أوضاع الدول السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل يكتبون التقارير عن الحكام أنفسهم، كما كان بعض هؤلاء المنصرين على صلة بحكام الخليج لضمان مواقفهم المنسجمة مع المصالح الغربية، بل وصل الأمر إلى أن هؤلاء القُسُس؛ كالشياطين يقدمون المساعدات لبعض أمراء الخليج ضد بعض في خلافاتهم الداخلية فيما بينهم، فهم يدركون أن شعور دولة ما بأنها جزيرة في وسط بحر يناصبها العداء، سيجعلها أكثر قابلية للانهماك في موالاتهم، وإقامة الأحلاف معهم، وعقد ما يسمى اليوم بمواثيق الدفاع المشترك، وهذه أمور واضحة للعيان. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 3 مؤشرات جديدة النقطة الثالثة: مؤشرات جديدة -أو مؤثرات جديدة-: طرأ على خطط المنصرين عدد من المؤثرات أذكر منها أمرين اختصاراً: الجزء: 99 ¦ الصفحة: 4 اكتشاف النفط أولهما: اكتشاف النفط كما سبق، وهذه جديدة بالقياس إلى الإرساليات السابقة، ومما أحدثه اكتشاف النفط من أحوال: أولها: تزايد أهمية المنطقة العربية والخليجية من الناحية الاقتصادية. ثانياً: كثرة الفرص وتوسعها للخبراء والمهندسين والمختصين من خلال الشركات القائمة على التنقيب والاستخراج والتصنيع للنفط. ثالثاً: بعض النصارى اعتبروا هذا انتصاراً للمادية الجشعة على الإسلام والنصرانية على حد سواء. وفي كتاب من خطط التنصير وهو كتاب ضخم وعندي جزء مصور منه، يقول الكاتب فيه: يمثل المسلمون 98% من سكان السعودية، والوهابيون -يقول-: هم المسيطرون هناك -وأنا أنقل كلامه على كل حال، وأعتذر عن التعليق لأن الكلام كثير- ويمثل النصارى 1% من الوافدين، ولا يوجد نصراني سعودي واحد -هكذا يقول- لكن ثمة طموحات كبيرة أمامنا: أولاً: أن تشرق الأرض ثانية بنور المسيح -يعني أرض الجزيرةالعربية- خاصة في مكة حيث لا يسمح للنصارى بدخولها. ثانياً: لندع الله أن يكون للنصرانية نصيب من أموال المملكة، خاصة لصالح الإرساليات، وأن يسمح لهم بالدعوة هناك. ثالثاً: لندع الله أن يستطيع القُسُس وعظ وإرشاد النصارى من مختلف الجنسيات، وأن تنجح خططهم في كسب المسلمين، وأن يبدأ تجويع المسلمين ثم إشباعهم من تعاليم المسيح، ثم يقول: وهناك فرص عديدة للنصارى لدخول المملكة؛ للتنصير والاستفادة من أولئك الذين يسافرون خارج المملكة واستغلال وظائفهم في خدمة النصرانية، ولندع الله بأن تنجح النصرانية في كسب المسافرين إلى الخارج من السعوديين للعلاج أو للسياحة أو غير ذلك في الدول المجاورة أو في أوروبا أو حيث توجد الإرساليات، ولندع الله أن أولئك الذين يدرسون في الخارج يكونون نواة لأول كنيسة، علماً أن أي مسلم يغير دينه مصيره القتل على الفور، كما ندعو أن تثمر جهود إذاعة التنصير التي تبث برامجها من جزر سيشن إلى آخر ما قال. والمهم أن اكتشاف النفط ساهم مساهمة فعالة في تنشيط حركة التنصير، ومن باب الأمثلة فقط سوف أعرض بعد قليل بعض التقارير الخطيرة المتعلقة بأرامكو والمتعلقة بالهيئة الملكية بينبع، وهما نموذجان مختاران لا غير من الآثار التي أحدثها اكتشاف النفط في توسيع رقعة التنصير، خاصة مع غفلة المسلمين وعدم وجود المؤسسات التي تقاوم هذا المد. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 5 سقوط الشيوعية المؤثر الثاني: هو سقوط الشيوعية وما ترتب عليه، وقد نتج عن سقوط الشيوعية عدة أعمال: أولاً: توجه المزيد من إمكانيات الغرب التي كانت ضد الروس بحيث تصبح موجهة ضد المسلمين وخاصة في منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية. ثانياً: أصبح هناك تحالف بين الشرق -الذي كان شيوعياً وأصبح نصرانياً في غالبه- وبين الغرب النصراني الصليبي، وهذا التحالف تحالف مشترك على الإسلام في دول الخليج وفي غيرها، وأذكر أن فضيلة الشيخ سفر الحوالي حفظه الله قد تكلم منذ سنوات عن العالم الإسلامي في ظل الحرب الباردة وعما يسمى بالعبرة من الحروب الصليبية، وقال حينذاك: إنه يتوقع أن يكون هناك تحالف بين روسيا وأمريكا ضد الإسلام، واستغرب الكثيرون هذا! والعجيب أنني قرأت هذا الكلام نفسه قبل أسبوع واحد بلسان رجل كان نصرانياً وأسلم حسبما سمعت، وهو جهاد الخازن وهو صحفي كتب في جريدة الحياة: إن الغرب والشرق أصبحا متحالفين الآن ضد الإسلام. الأمر الثالث الذي أحدثه سقوط الشيوعية هو: أن الخليج أصبح منطقة مفتوحة للغزو الفكري القادم من الغرب دون مقاومة أخرى، اللهم إلا المقاومة الذاتية التي تمثلها الصحوة الإسلامية على رغم قلة إمكانياتها، وإذا جاز لنا أن نعتبر حرب الخليج بين العراق والتحالف الدولي قبل سنين ثمرة من ثمرات تهاوي الشيوعية وعجزها، فإننا نستطيع أن نسجل في مجال مكاسب النصارى ما يلي:- أولاً: حيث تم نقل ما يزيد على خمسمائة ألف جندي غربي، كان عدد المسلمين فيهم حسبما وصل إليَّ من الأرقام نحو عشرة آلاف مسلم، أما البقية الباقية فهم موزعون بين اليهود والنصارى، والغالبية العظمى فيهم كانت من النصارى، وأصبح الكثيرون بعد الحرب هنا وفي دول الخليج يعلنون ولاءهم للأجنبي، ويدعون صراحة إلى أمركة البلاد، أي: تحويلها إلى الطريقة الأمريكية، وبالأمس القريب في أيام الاستعمار كان هذا الكلام يعد خيانة عظمى. أما اليوم فأي متصفح للصحف الكويتية خاصة، يقرأ دعوة صريحة إلى الذوبان في المجتمع الأمريكي -وأنا لا أعبر عن كلامهم بأسلوبي، بل أنقل عباراتهم الذوبان في المجتمع الأمريكي- أو أمركة المجتمع الكويتي، هذه عباراتهم؛ بل قال أحد المسئولين هناك في الأسبوع الماضي -وفي صحيفة سعودية-: إن الكويت أصبحت الآن محمية أمريكية، وقبل عشرات السنين كانت كلمة محمية عاراً يلصق ببعض الدول التي رضيت بالخنوع والخضوع لبريطانيا أو غيرها. ثانياً: رفع النصارى رءوسهم، وصرحوا بأن المسيح جاء لإنقاذ بلاد محمد، فيصح أن نعتبر هذه الحرب داخلة ضمن سياسة تجويع المسلمين، ثم إشباعهم من تعاليم المسيح كما يقول الكتاب الذي أشرت إليه قبل قليل -من خطط التنصير- وكان يصحب هؤلاء الجنود الآلاف من القُسُس والرهبان. وعلى سبيل المثال: هناك كتاب عندي صورة منه أيضاً، وهذا الكتاب اسمه: بعد العاصفة فيه قصص لألوف من الجنود الأمريكان -يقول الكتاب-: إنهم قبلوا عيسى في أرض محمد، وأن الرب فتح لهم الباب للدعوة في البلاد التي لم يكونوا يحلمون بالدخول إليها، حيث كان الدخول إليها مستحيلاً، لكنهم قبلوا المسيح فيها، وهذا في (ص:147) ، ويذكر الكتاب أن السعودية وإيران والجزائر والجمهوريات السوفيتية من أهم أهداف المنصرين في الفترة القادمة. وقد تمكن هؤلاء من توزيع أكثر من ستمائة ألف نسخة خاصة من الكتاب المقدس، فضلاً عن عشرات النشرات التي وزع منها مئات الألوف في المدارس والأسواق والشوارع، بل وفي المساجد، وقد حدثني ثقة أنه رأى كتاباً في يد رجل من العوام لا يقرأ ولا يكتب، فأخذه منه، فإذا هو كتاب الإنجيل -كتابهم المقدس زعموا- فقال: ما هذا؟ قال له: هذا كتاب حديث! يحسب أنه صحيح البخاري أو رياض الصالحين؛ لأنه لا يعرف إلا هذا. ما تزال بقايا هؤلاء -لا كثرهم الله- في جميع دول الخليج تمارس دوراً تنصيرياً واضحاً في ثكناتها ومعسكراتها وأماكنها، بل وفي منتجعاتها وإسكاناتها، بل وفي الأسواق حيث يتسوقون في أيام العطل والإجازات وفي أوقات كثيرة بملابسهم الرسمية، ويقيمون أوثق العلاقات مع الشباب. أولاً: هم يعتقدون أنهم جاءوا لحماية هذه الدول، بناءً على اتفاقيات عسكرية وأمنية، إذاً فمن حقهم أن يعتقدوا -أيضاً- أن لهم أن يمارسوا طقوسهم وعباداتهم وشئونهم كلها دون أن يغيروا من نمط حياتهم شيئاً، وبناءً عليه: فإن من المؤكد أن لديهم كنائس مخصصة لهذا الأمر، فضلاً عن البارات وأماكن الرقص والسباحة العارية المختلطة وغير ذلك. وثانياً: هم رسل للمسيحية، فمن السذاجة تصور أنهم لا يحملون أية رغبة في دعوة الآخرين أو تنصيرهم، ولكنهم كما يقول التقرير الذي ذكرته في المجلس السابق حساسون ثقافياً، خاصة إذا كان ثمة من يراقبهم أو يتلفت حولهم، وهذه بعض الوثائق. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 6 نماذج من أعمال المنصرين إن الوثائق كثيرة جداً، وأنا أذكر معلومات كثيرة موثقة، لكنني لا أذكر الوثائق، وأحياناً قد أذكر نماذج فقط، أما الكلام الذي سأقوله لكم فلا أتكلم إلا من خلال وثائق معتمدة مؤكدة، وجميع ما أذكر من الوثائق سوف أبعث بها إلى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز حتى يُدرس على مستوى رفيع، وسأبعث بها أيضاً إلى أعضاء هيئة كبار العلماء، وإلى أعضاء اللجنة الخماسية، وإلى المهتمين بشئون التنصير؛ حتى يدركوا حجم الخطر الذي يواجه هذه البلاد من أولئك النصارى، إذاً لا تعتقد أن هذه الوثائق هي كل ما أملك، بل ثمة وثائق كثيرة جداً، إنما هذه بعضها. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 7 وثيقة جمعية الأسقف نيكولوس وعلى سبيل المثال: هذه الوثيقة الأولى: وثيقة جمعية الأسقف نيكولوس وهذه الوثيقة قد صورت ووزعت وهي موجودة باللغتين العربية والإنجليزية، وأذكر نماذج منها، يقول: إنهم يشكرون كل من استجاب لدعوتهم السابقة في المساعدة لإخراج هذه المناسبة -مناسبة عيد ميلاد- وسنكون على اتصال بكم لإعطائكم مزيداً من التفاصيل، ومازلنا نأمل في المخلصين ليساعدونا في إخراج ليلة عيد الميلاد في صورة لا تنسى في رأس تنورة، ولازلنا بحاجة إلى أناس روحانيين والأشخاص المطلوبون هم: أولاً: شخص بمواصفات مناسبة ليقوم بدور الأسقف نيكولوس في ثيابه التقليدية، ويقوم بتوزيع الهدايا في ليلة عيد الميلاد. ثانياً: أصحاب السيارات -الصالون الكبيرة- مطلوبون للمساعدة في نقل الأسقف نيكولاس بدلاً من مركبته التقليدية. ثالثاً: أصحاب بيوت ليس لديهم أطفال، ليستغل نيكولوس منازلهم لتخزين الهدايا لمدة أسبوع، ولا يمانعون في الإزعاج الذي يسببه لهم التوزيع والتصنيف في ليلة الثاني والعشرين والرابع والعشرين. رابعاً: المساعدة بصفة عامة من أي شخص -الجدير بالذكر أنا اقرأ الآن أن رأس تنورة من الأماكن القليلة في العالم التي يقوم فيها الأسقف نيكولوس بزيارة شخصية- فنرجو المساعدة لمواصلة التقليد، وجعلها انطلاقة طيبة لأيام الاحتفال، إذا كنت تريد التطوع أو إذا كنت تريد معلومات أكثر، فمن فضلك اتصل على هاتف بعد الساعة كذا أو في عطلة نهاية الأسبوع، شكراً مقدماً لمساعدتك جمعية الأسقف نيكولوس. ملاحظة إلى جميع الساكنين: إذا كنت تريد أن ترتب زيارة شخصية للأسقف في يوم الرابع والعشرين من ديسمبر، عليك بإملاء النموذج التالي، وإرساله إلى العنوان التالي بأسرع وقت ممكن، ثم ذكروا العنوان في رأس تنورة، وقالوا: هناك تفاصيل الترتيب سوف ترسل إليكم بالبريد، أرجو إرسال التفاصيل والترتيبات عن كيفية زيارة الأسقف إلى آخر الكلام. وهذا نموذج من محاولة دعوتهم الناس إلى المشاركة في أعيادهم ومناسباتهم وطقوسهم، وأنهم لا يقتصرون في ذلك على فئة معينة ولا جنسية معينة ولا على ديانة معينة. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 8 وثيقة المخلص كما أن هناك وثيقة أخرى هي عبارة عن دعوة من المخلص كما سمى نفسه فرانك إجراهم، يقول: عزيزي الصديق الأمريكي التابع للكنيسة! أنت الآن في منطقة الخليج الفارسي، وتجد نفسك في متسع من الوقت فلا تضيعه، فكبديل لماذا لا تتعلم قليلاً من اللغة العربية؟ وقد أرسلت لك بغية ذلك نسخة من الكتاب المقدس الجديد باللغة العربية، ونقترح عليك أن بإمكانك أن تجد صديقاً سعودياً يساعدك على قراءته، واللغة العربية لغة صعبة، ولكن عندما تتعلمها لن تنساها مطلقاً، ونحن فخورون بك، وندعو الإله أن يحميك، ويعيدك سالماً إلى وطنك وأحبائك، وفي نفس الوقت استمتع بتعلم اللغة العربية مستخدماً كتاب الإله كمرجع لك! إذاً: هم يريدون نشر النصرانية من خلال صاحب هذه الورقة حيث يطلب من أي شاب سعودي أن يعلمه اللغة العربية، أي: أن يعلمه ويشرح له الكتاب المقدس، ويعلمه اللغة العربية من خلال قراءته للكتاب المقدس، فيكسبون أمرين: أولاً: أن هذا الأمريكي أو الغربي يتعلم اللغة العربية، ويقيم صداقة مع هذا الشاب السعودي أو الخليجي. ثانياً: أن هذا الشاب الخليجي سوف يتعلم ويقرأ الكتاب -الإنجيل- ويؤثر عليه تأثيراً سلبياً، بل قد أقيمت لهم مشاريع ومباني خاصة حسبما يريدون في البلاد التي يقيمون فيها، وأقرت ذلك الوزارات المسئولة ووزارات الدفاع، فأقيمت لهم المباني المخصصة لهم، وفيها صالات الرقص، وبرك السباحة المختلطة، وأماكن تغيير الملابس للرجال والنساء، وبارات الخمور، وغير ذلك على مرأى ومسمع من المسلمين، ولهم تسلط وسيطرة على المسلمين حتى من أبناء البلاد ذاتها، فهم يمارسون عليهم ألوان الإذلال، أما المسلمون الأجانب من غير البلد فلا مكان لهم بين أظهرهم، فقد بدأت تصفية المسلمين شيئاً فشيئاً، فكلما اجتهد المسلم المتعاقد أكثر، أعطي إنذاراً بتحسين مستواه، ثم بعد ذلك يفصل، أما المهندس النصراني فيزود بخطابات شكر متواصلة. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 9 خطة التنصير الحالية وخلال التجارب تبلور لدى النصارى خطة إجمالية، لا أزعم أنهم متفقون عليها فيما بينهم، لكن مجموع المؤسسات والإرساليات والجمعيات النصرانية في دول الخليج تساهم في تنفيذ هذه الخطة، كل جمعية على حسب قناعتها وأسلوبها وطريقتها، والمجموع النهائي يصب في هذا التيار، وتسعى الخطة إلى تحقيق مزيد من المكاسب للنصارى عبر المحاور التالية: الجزء: 99 ¦ الصفحة: 10 تكثيف أعداد النصارى القادمين في شتى الأعمال أي محاولة استجلاب أكثر عدد ممكن من العاملين في هذه البلاد من النصارى في أعمال مختلفة حتى يكثر عددهم، ويعظم تأثيرهم. وفي قبرص في لارنكا -عام 1989م- عقد مؤتمر حضره أكثر من خمسين قسيساً يمثلون إحدى عشرة طائفة نصرانية، وكان هذا المؤتمر اسمه مؤتمر كنائس دول الخليج العربي، وعقد بإشراف مجلس كنائس الشرق الأوسط، وخرج بتوصيات هامة، منها ضرورة العمل على اغتنام الفرص المتاحة لصانعي الخيام في منطقة الخليج والجزيرة. وفي مجلة اليمامة -عدد (1110) - ذكرت أن من أهدافهم حشد النصارى من بني جنسهم وتكثيرهم، خاصة من لديهم القدرة على العمل التنصيري، وأنهم يحاولون السيطرة على المؤسسات التي تتولى تصدير العمال إلى دول الخليج من أجل إرسال النصارى، ويقوم هؤلاء بأعمال كثيرة، أهمها إرسال بني جنسهم، وتجد كثيراً من أصحاب الشركات والمؤسسات والأعمال يقولون: لم نستطع أن نأتي بالمسلمين؛ لأن أنظمة تلك الدول لا تقبل إلا النصارى. وفي الواقع أن هذا أمر يتعلق بالمؤسسات التي تتولى تصدير العمال إلى منطقة الخليج والجزيرة بالدرجة الأولى، وإلى المنطقة العربية بشكل أوسع. وهؤلاء الذين يأتون على هيئة خبراء ومهندسين وأطباء وفنيين وعمال بجميع ألوان المهن يقومون بأعمال كثيرة منها ما يلي: أولاً: يقومون بممارسة طقوسهم الدينية في مجمعات سكنية أو أحياناً في مجمعات رسمية، وفي كل مستشفى أو شركة يوجد فيها نصارى كثيرون، يوجد قسيس يعمل الترتيبات اللازمة لإقامة الصلوات النصرانية، ويكون هذا بالاتفاق مع الشركة، وأحياناً تكون الشركة على علم بهذا الأمر وترتيب مسبقاً له. ثانياً: يقومون بدعوة بني جنسهم إلى الديانة النصرانية، والتأثير على غير النصارى من الوافدين إلى هذه البلاد، ومجالهم في هذا مجال خصب جداً. ثالثاً: يقومون بمضايقة المسلمين خاصة من ليسوا من أهل البلاد، والتشديد عليهم ومحاولة إلغاء عقودهم واستبدالهم بالنصارى. رابعاً: يقومون بالتأثير الأخلاقي والسلوكي على الشباب والفتيات، خاصة من العاملين معهم من أبناء هذه البلاد. خامساً: يقومون بجمع التبرعات لأغراض تنصيرية، وفي مستشفى بريدة -مثلاً- وزعت ورقة تدعو إلى جمع التبرعات لمعهد المستشفى التخصصي -لمعهد كنائسي لإخراج القسس في الفلبين- ووزعت على نطاق واسع، وعندي صورة منها. وهناك أيضا نموذج آخر في هذا البلد: وهي ورقة من هندي يدعو فيها أصدقاءه وإخوانه إلى جمع تبرعات، وأرسل إليهم نوعاً من الفواتير أو الوثائق يقول: اجمعوا بها ريالات سعودية باستعمال هذه الفواتير من السعوديين؛ حتى نقوم ببناء معبد للوثن في البلد الذي هو فيه في الهند، وعندي أيضاً صورة من هذه الوثيقة، فهذه بعض أعمالهم. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 11 صبغ الحياة الإسلامية الاجتماعية بالصبغة التحللية الغربية وذلك من خلال إشاعة الفساد والرذيلة في أوساط المسلمين، وإتاحة الفرصة للشباب من الجنسين بأخذ نصيب وافر من الانحلال: أولاً: الخمور: فمصانع الخمور تقام في الشركات والمؤسسات ويتم تعاطيها علانية، وقد حدثني ثقات يعملون في شركة كبرى في هذا البلد، وحلف أحدهم لي بالله عز وجل -وقال: أُسأل عنها يوم ألقى الله تعالى- أنه رأى بعينه فتاة سعودية في سن الثامنة عشرة من عمرها تقوم بإدارة الخمور على بعض الحاضرين لإحدى الاحتفالات في جو مختلط ماجن فاسد! ثانياً: المسابح المختلطة في المستشفيات والشركات والفنادق والأحياء الدبلوماسية، فضلاً عن بعض شواطئ البحار التي توجد في مناطق عديدة، وأستطيع أن أقول في بعض هذه المناطق -وأنا لا أقول في كل شاطئ، لكن أقول: في مناطق معينة يوجد أماكن نستطيع أن نقول بكل وضوح-: إنه لا فرق بينها وبين شواطئ البحار في أي بلد غربي على الإطلاق، فالأجساد العارية ممددة، ولا يستر من المرأة إلا السوءة فحسب، والرجال كذلك، وهم يأخذون الحمامات هناك، ويتمددون في حرارة الشمس وحدث ولا حرج!!! ثالثاً: الحفلات الراقصة، كحفلات أعياد الميلاد وغيرها، التي تقام في أرامكو، وتقام في المستشفيات الحكومية وغير الحكومية، وتقام في الشركات التي يوجد فيها نصارى، ويختلط فيها الرجال بالنساء من الأجانب ومن المسلمين وسط نشوة من اللعب والمزاح والضحكات العالية إلى غير ذلك. رابعاً: توزيع الأفلام الخليعة، سواء كانت هذه الأفلام أفلاماً مرخصةً أو غير مرخصةٍ، بل ربما عمدوا إلى تصوير احتفالاتهم وتوزيعها أو نشرها، وقد وصل إلي فيلم يتحدث عن مباريات رياضية مختلطة في المستشفى التخصصي بمدينة بريدة، وفيه صور متعددة واختلاط وأوضاع غير لائقة، وبصورة تكشف أن المسئولين عن الصحة أو بعضهم متورطون في مثل هذه الأمور ومشاركون فيها، ولا موقف لهم عندما يشتكي إليهم الناس أو يتساءلون، إلا تلك الابتسامات البلهاء التي لا تغير من واقع الحال شيئاً. خامساً: توزيع المجلات الخليعة، حتى إنهم كانوا يوزعون مجلات الدعارة، ومجلات الجنس والشذوذ، بل حتى في أماكن القمامة والزبالة التي يلقون بها، توجد بعض هذه المجلات وبعض تلك الأفلام، ويجلس بعض الشباب في انتظارها ويأخذونها ليشاهدوها ويطلعوا عليها غيرهم، وقد حصلت اتصالات عديدة بي من مجموعة كبيرة من النساء في عدد من المناطق في المنطقة الشرقية وفي جدة، تشتكي ما آل إليه أمر الأولاد والشباب، وأنهم يجتمعون أحياناً على مشاهدة أفلام سيئة، وهناك أصابع خفية وراء تلك الأفلام. سادساً: إغراق الإعلام بالبرامج الهابطة، ومن يطالع أو يسمع عن القناة التليفزيونية الثانية -مثلاً- يرى العجب العجاب! فقد أصبح مألوفاً أن تظهر المرأة وقد كشفت إلى ما يزيد على نصف الفخذ! وهي تجلس مع الرجال، أو موائد الخمور -الموائد التي تدار فيها الخمور- أو أشياء يظهر فيها الصليب أو غير ذلك مما يتنافى كلية مع تعاليم الإسلام، وقد ذكرت في درس سابق كيف أنهم يقولون: نحن لا نسيطر على الإعلام فعلاً، ولكن كل شيء يسير بصورة جيدة. سابعاً: البث المباشر وهو أحد وسائلهم، وقد استأجر الفاتيكان أكثر من ست عشرة محطة فضلاً عن عدد آخر من المحطات التي يملكها للسعي إلى تنصير المسلمين، وأنت تعلم أن هذه الأقراص التي تستقبل البث المباشر أصبحت موجودة، واليوم أخبرني مجموعة من الشباب أنها تباع في شارع الخبيب، وتباع في أماكن أخرى في المدينة الصناعية، وأنا أدعو الإخوة إلى التثبت من هذا الخبر وموافاتي به سريعاً، حتى نقوم بمناصحة هؤلاء وعمل ما يمكن تجاههم، وأن نكون يقظين تجاه هذا الخطر. ثامناً: العمل على تغيير وضع المرأة، وفتح الباب على مصراعيه لعمل المرأة، سواء في مجال الإدارة، أو في مجال الاقتصاد، أو في مجال السكرتارية، أو في مجال الرياضة، أو في مجال الإعلام، أو في أي مجال آخر، بل ومحاولة جعل المرأة ألعوبة يغرى بها الشباب من أجل جذبهم إلى دين المسيح. ومن الملفت للنظر أن الذين يقومون بالتنصير أكثرهم من النساء، وللنساء دور كبير في التنصير في منطقة الخليج! 1- مذكرات منصرة: وهذه وثيقة من الوثائق، وهو كتاب اسمه: مذكرات شريفة الأمريكانية، وهذا الكتاب ضخم فيما لا يقل عن ثلاثمائة صفحة أو يقارب ثلاثمائة صفحة، لكن خلاصة هذا الكتاب أنه يتكلم عن المنهج التنصيري، وكيفية إعداد أفراده، والثقافة التي يزود بها كل فرد يقدم إلى هذه البلاد، وكيفية استغلال حاجة الناس لخدمة التنصير، خاصة في مجال الطب وفي مجال التعليم، وكيف تستغل العادات السيئة والتطبيق الخاطئ لتعاليم الإسلام كأداة لتشويه الإسلام والطعن فيه، مثل استغلال قسوة الآباء على الأبناء أحياناً، أو قسوة الأزواج على زوجاتهم، أو استغلال أي أسلوب سيئ للتنصير، وبعض الكلمات في هذا الكتاب توحي بالفشل الذي كانت تتوقعه، وخصوصاً عندما ترى المسلمين في رمضان، ومدى اتباعهم لتعاليم الإسلام ومحافظتهم على الصيام رغم الحر الشديد في المنطقة. ولكن هناك كلمات أخرى لديها توحي بالإحساس بالنصر، وعلى سبيل المثال عندما رأت مجموعة طلبة وطالبات من البحرين كان معظمهن من الفتيات الصغيرات وقد جئن إلى كندا للدراسة، وكانت فرحتها أكبر عندما علمت أن خمساً من هؤلاء كانوا من العائلة الحاكمة، والذين كانت أمهاتهم أو جداتهم -لاحظ الترابط- قد درسن في المدرسة الإرسالية الأمريكية، وقد ظهر الأثر الآن في البنت أو بنت البنت أو بنت الابن، وهن أيضاً ممن عاصر فترة اكتشاف النفط وعاصر فترة النقلة الاقتصادية التي أتت على مجتمع غير ثابت العقيدة، فنقلته أيضاً نقله اجتماعية غير متزنة، ثم تذكر أيضاً في المذكرة أنها دخلت إلى المملكة، ووصلت إلى القصيم حيث استعن بأفرادها وأفراد بعثتها للمعالجة، وتذكر محاولات لإنشاء مراكز للإرسالية داخل المملكة، ويمكن الاستفادة من هذا الكتاب بشكل أكبر، لكن هذا ما يمكن تلخيصه في مثل هذه العجالة. والمهم أن المنصرات كان لهن دور كبير جداً في مسألة التنصير والتأثير على المرأة وتغيير وضعها، ولكن المشكل الأكبر أنهم يحاولون استغلال الجانب الجسدي من المرأة، وهوجانب الإغراء والإثارة. وقد كان في أمريكا مذاهب عديدة تسعى إلى إدخال الرقص والإغراء الجنسي للمرأة ضمن نشاط الكنيسة، ونجح في استقطاب أعداد كثيرة من الشباب لحفلات الرقص التي تقام في تلك الكنائس التي كانت يوماً من الأيام مهجورة، وقد شن الفاتيكان هجوماً شديداً وعنيفاً على هذا اللون من النشاط، ولكنه بعد ذلك غض الطرف عنه وسكت، لما رأى أثره الكبير في جذب الشباب إلى الكنيسة. وفيمجلة اليمامة -في عدد (1110) قالت: إن الجمعيات التنصيرية تسلك أسلوب التنصير عن طريق السهرات والرحلات والجمعيات الشبابية. وأقول: إن الحديث عن موضوع عمل المرأة ووثائقه أمر يطول، بل هو يحتاج إلى دراسات، وهناك رسائل جامعية خُصصت للحديث عن عمل المرأة هنا في السعودية، ولكن أذكر لكم نماذج من الجهود المباشرة في هذا الميدان، والتي تستهدف إخراج المرأة من حشمتها وعفافها وأنوثتها إلى حيث الاختلاط بالرجال وممارسة الأعمال الرياضية، والرقص، والغناء إلى غير ذلك. النموذج الأول: برنامج الصحة والرشاقة، وهو برنامج من الرياض اسمه: برنامج الصحة والرشاقة، وهذا البرنامج طويل لا أدري كيف أوصله إليك، لكنه طبعاً كان قبل سنتين تقريباً، وأعتقد أنه مستمر؛ لأنه عبارة عن مؤسسة قائمة، وأظن أنها في الحي الدبلوماسي، واسم المؤسسة: برنامج الصحة والرشاقة -المنشآت الرياضية- وهو مثلاً يقول: لأول مرة مباراة في التنس المفتوح للسيدات، وذكر تاريخه، وكذلك هناك مباراة للمشاهدات، ثم ذكر تشكيلة من التنس، وذكر المساج الاقتصادي لهذا الشهر، ثم ذكر مدربة جديدة أمريكية درست في اليابان لمدة خمس سنوات، وعملت في بلدان مختلفة حول العالم في عشرين سنة، ووصولها سيكون يوم كذا، فتفضلي وقابلي هذه المدربة سونيا. وهناك مدرسة للأطفال سوف تقدم نشاطاً جديداً، فأحضري أطفالك، وللجديد أسعار مخفضة، العناية بالشعر والجمال، أحضري العائلة وأحضري صديقاتك، وخذي موعداً مرة كل أسبوع حتى تبدي رائعة، أهلاً وسهلاً بعودتك، قد احتفلنا في الشهر الماضي بمناسبة مرور ثلاث سنوات على افتتاح مركز الصحة والرشاقة، ونقدم شكراً للواتي اشتركن معنا في هذه المناسبة، وأيضاً كان لنا أول جولة للقهوة العالمية مع مائة سيدة في قصر طويق في حي السفارات، وإني أتقدم بالشكر الجزيل للائي ساهمن بنجاح في هذه الجولة، هذا الشهر نوجه دعوتنا على فنجان من القهوة للسيدات العضوات، وسوف تقام الثلاثاء تاريخ كذا، نرجو مشاركتك لاحتساء القهوة مع فريق مركز الصحة والرشاقة والصديقات العضوات، سوف تعود ساعات العمل كما كانت سابقاً. ثم هناك دعوة، بأن العضوية قد انتهت ولابد من تجديدها، مركز الصحة مضى على افتتاحه زمن، ونرحب باقتراحاتك وآرائك التي تودين عرضها، أرفق بعض المعلومات للاطلاع عليها، مباريات في التنس للسيدات سوف تقام في الشهر المقبل، وهي مفتوحة لجميع السيدات في مدينة الرياض، واستمارة التسجيل للانضمام موجودة هنا، مركز الجوال للشعر، إذا كان لديك استفسار خذي راحتك واتصلي، برنامج الأطفال، الجمباز، ألعاب الكرة، السباحة، الكاراتيه، هناك مفاجأة أيضاً في الأخير، مباريات أساسية، مباريات متقدمة، تعليم مهارات، تعليم الأطفال حركات الدفاع عن النفس، نشاط مصحوب بالموسيقى، لمن لا يعرفون السباحة تدريب على العوم، مستوى متقدم من السباحة، اشتركوا في المسرح، ثم هناك أيضاً تمرينات للذراعين، تمرينات شرقية، أنواع من الألعاب -في الواقع أنا لا أعرف عنها شيئاً- هناك مركز مفتوح من كذا إلى كذا، البركة الداخلية مفتوحة أيضاً لأيام معينة، الرياضة المائية، دور التنس، المساج -المساج هو عبارة عن تحريك الأطراف والأوساط والجسد لإزالة التعب خلال حركات معينة- المساج بالعطور الاسترخائي، التخسيس بآلة الريفو لوكسورلوجي، يومياً مواعيد معينة، هذا نموذج من نشاطهم في مجال المرأة. النموذج الثاني: مركز المناهل: وهذا المركز موجود أيضاً في ح الجزء: 99 ¦ الصفحة: 12 تنصير المزيد من المسلمين إن الأمل عندهم يجب أن يستمر في محاولة كسب بعض المسلمين إلى النصرانية، وهم يقولون: إن الظروف اليوم أصبحت أكثر ملاءمة من ذي قبل، وكثرة المنصرين من صانعي الخيام لابد أن تثمر ثمرة إيجابية، وفي عام 1401هـ قالت مجلة أنباكت إن في المملكة حوالي خمسين ألفاً مجندين للدعاية المسيحية في البلاد التي هي العدو للمسيحية، وقد أقاموا بعض الكنائس لهم، كما نشرت مجلة كميرون تربيون نقلاً عن الموسوعة المسيحية العالمية، أنه سيبلغ عدد النصارى عام 2000م ملياراً، وقالت: يوجد في المملكة آلاف الشباب خاصة من الطلبة قد تنصروا سراً. وأنا أعتقد أن في هذين التقريرين -خاصة التقرير الأخير- نوعاً من التهويل والمبالغة، ومحاولة إغراء النصارى بمزيد من الجهد، ولكن من الثابت عندي أن ثمة من المسلمين في هذه البلاد من تنصر، بسبب دراسته في المدارس الأجنبية أو بسبب علاقته ببعض العاملين الأجانب هنا، سواء في المجال العسكري أو في المجال المدني، حتى إني أعرف بعض الأسماء على سبيل التحديد، وبعض الذين تنصروا هم من الرافضة وبعضهم من أهل السنة. ونحن الآن نتكلم عن خططهم في تنصير المسلمين، ففي جريدة الرياض 14/3/1402هـ نشرت مقالاً بعنوان: من هم المروجون للإنجيل، ويتضمن هذا المقال أن ثمة نصارى هنا يوزعون بطاقات ومنشورات في الداخل وعلى سيارات الطلبة في المدارس، وأنهم مستعدون لإرسال الإنجيل باللغة العربية إلى من يريد، وفي عكاظ -12/6/1403هـ- كتب عاتق البلادي يقول: لا يا أتباع المسيح، وأشار إلى أنه لا يخلو يوم من رسالة تدعوه إلى الانضمام إلى النوادي في أوروبا لإقامة الحفلات الساهرة، وأنه وصلته رسالة من بومباي تدعو مسلماً من مكة لنبذ الإسلام والدخول في النصرانية. وقد بعثت إذاعة صوت الغفران رسالة إلى مواطن سعودي، وقالت له -بعدما دعته إلى النصرانية-: أما نسخة الإنجيل التي تطلبها، فسوف نبعث بها إليك من بلدك لضمان وصولها إليك، وفي جريدة الرياض أيضاً في 7/ جمادي الأول/1404هـ، ذكروا صورة من كتاب عنوانه: الإنجيل والإسلام، وهذا الكتاب يتكلم عن المسيحية في السعودية والخليج، ويقول: إن المسيحيين موجودون على رغم عدم السماح لهم، وإنما وجود المسيحية بفضل العاملين الأجانب الذين هم مبشرون في الحقيقة، ويمكن التأثير من قبلهم على سكان الدول الخليجية ونشر المسيحية بينهم، إن عدد المسيحيين هناك بازدياد، هذا ما يقوله الكتاب. إذاً من المؤكد أن النصارى لم يلغوا الهدف الذي يسعون إليه في تنصير المسلمين، وإن لم يكن هذا الهدف هو الهدف الأساسي نظراً لكثرة العقبات التي تعترضه وضآلة النتائج. وفي الواقع إن النصارى لم يفلحوا كثيراً في تحويل المسلمين -خاصة الواعين- إلى الديانة النصرانية، لماذا؟ لأنه ليس في النصرانية ما يغري أو يدعو إلى القبول بها أو اعتناقها، ففيها من الفساد والتناقص والتحريف ما يجعل أي إنسان عادي يكتشف هذه الأمور، ومن ثم لا يقبل بها ولا يؤمن بها، لكن يظل الهدف قائماً وهو إدخال المزيد من المسلمين إلى الديانة النصرانية، هذا هو المحور الأول. وفيما يتعلق بالمحور الأول، لهم فيه أهداف كثيرة سبق أن ذكرتها في وسائل المنصرين يمكن مراجعتها، لكني أعطيكم نموذجاً وقع في يدي بالأمس، وهي قصة صغيرة نشرت علىنطاق واسع للكبار والصغار، وهي قصة مصورة، تصور حياة إنسان فاسد، وأنه مات ولقي الله، وكيف حوسب وعذب هناك، وتحاول هذه القصة أن تستخدم بعض الألفاظ الموجودة في الإنجيل، والتي قد أَلِفها المسلم وسمعها كثيراً، فمثلاً تتكلم عن عذاب القبر، وتتكلم عن نعيم الجنة، فتنقل كلاماً عن الإنجيل: ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على بال إنسان، فالمسلم تعود على سماع مثل هذه الكلمات، وتعود أن المجرم يعاقب، وأن المحسن يثاب وهكذا تدور القصة حول هذه الأمور، حتى تغري قارئها باعتناق النصرانية أو الإيمان بها. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 13 وثائق تنصيرية وأعمال هؤلاء تعتمد على السرية، لكن مع ذلك -في مجال العمل التنصيري وتحقيق الأهداف الذي ذكرتها قبل قليل- هذه بعض النماذج وبعض الوثائق التي حصلت عليها. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 14 شركة أرامكو النموذج الثاني: -وهو أخطر وأهول وأطول- هو ما يتعلق بأرامكو: وسوف أتحدث عن التنصير وما يتعلق به أيضاً؛ لأنه يصعب فصل الموضوع بعضه عن بعض. ويوجد في مناطق عمل الشركة -أرامكو- الرئيسية موظفون أجانب ليس لديهم أعمال محددة، وإنما تم استقدامهم على شكل موظفين؛ للتغطية على المهام التي قدموا من أجلها، وهي إلقاء الخطب والمواعظ في مجموعات النصارى الموجودة بالشركة؛ مع التركيز على نصارى جنوب شرق آسيا، كالفلبين والهند وغيرها، ويتم إلقاء الخطب النصرانية في أوقات محددة من كل أسبوع: الوقت الأول: ما بين الساعة الحادية عشرة صباحاً والساعة الواحدة ظهراً من يوم الجمعة، أي: في وقت صلاة الجمعة، وذلك في مبنى معروف هناك اسمه: الديوان، وهو مخصص في الأصل للحفلات العامة. الوقت الثاني: ما بين الخامسة والسابعة مساءً من بعد عصر يوم الأحد، وذلك في مبنى المدرسة المتوسطة المخصصة لأبناء الأمريكان. فهذه هي الأوقات التي تقام فيها الخطب والمواعظ الكنسية. ثانيا: هناك امرأة اسمها: هيلين ريدي؛ وهي راهبة أمريكية، ومديرة لإدارة التمريض، يقع تحت تصرفها ألف وستمائة ممرض وممرضة، وبمستشفيات أرامكو لهذه الممرضة نفوذ قوي على الكثير من المسئولين في الشركة من السعوديين والأجانب، وهي مسئولة عن إداراة منازل بعضهم إدارةً مباشرةً، أي: إدارة منزله الخاص. وهذه المرأة كان لها نشاط غريب خلال وجود الجيش الأمريكي في حفر الباطن إبان أزمة الخليج، حتى كانت تذهب في نهاية كل أسبوع، تذهب من الأربعاء إلى الجمعة إلى حفر الباطن بإحدى سيارات الجيش الأمريكي، ولما سئلت: إلى أين تذهبين؟ قالت: هناك مجموعة من الأطفال الصغار -مها نظن أنها تعني من نسميهم بلغتنا: البذران- لابد أن نثبتهم، نخاف عليهم ولابد من تثبيتهم وتعني بهم أفراد الجيش الأمريكي! واستمرت على هذا الحال لعدة أشهر. واحفظوا اسم هذه المرأة، لأننا سوف نحتاج إليه بعد قليل، هيلين ريدي، وهي مديرة إدارة التمريض في أرامكو. ثالثاً: هناك رجل اسمه بوتش كونر، وزوجته اسمها دفرلي كونر يعملان بمستشفى أرامكو لسنوات طويلة، ولهم نشاطات غريبة، الزوجة دفرلي كونر تعمل بوظيفة مديرة المشاريع الخاصة! هكذا اسم الوظيفة: مديرة المشاريع الخاصة، تحت إدارة مسئول سعودي، ومن ضمن ما تقوم به دفرلي كونر أنها تقوم باستقبال الموظفين الجدد في أرامكو، وإعطاؤهم دورة تعريفية عن الشركة ونشاطاتها لمدة يومين، وتعريفهم عن البلد وعادات البلد وتقاليده، وإعطاؤهم نبذة عن الإسلام، والمهم في حياة هذه المرأة شيئان: أولاً: أنها تقيم في منزلها الفسيح حفلات التعارف بين الجنسين من مختلف الجنسيات، وتولي أهمية قصوى لإقامة حفلات التعارف بين الموظفات السعوديات الجدد وبين الموظفين الأمريكان غير المتزوجين، وذلك بحجة سد الفراغ الموجود لدى الطرفين! وطبعاً هناك سعوديات عازبات مقيمات في السكن نفسه! ولاحظ فتاة سنها عشرون سنة مقيمة في السكن مستقلة! وتقام الاحتفالات من أجل سد الفراغ الموجود لدى الطرفين! ثانياً: أنها في الإجازة السنوية تذهب إلى البلدان الفقيرة وتشتري الأطفال المسلمين، وتحضرهم إلى الظهران حيث تقوم بتنصيرهم وتغيير أسمائهم، وتجاهر بذلك، ولقد اشترت ستة أطفال: أربعة منهم من أمريكا الجنوبية، وطفلين من لبنان، وتقول: إنه حصل بينها وبين الملحق إشكال كبير؛ حيث إنه رفض إدخالهم إلى السعودية؛ لأنهم أولاد غير شرعيين، ولكنها أخيراً استطاعت إدخالهم بطرقها الخاصة، وأسماؤهم معروفة. وتقول: إن بعضهم عرف عنهم بعض أقاربهم، وجاءوا واستطاعوا إخراجهم من عندها، ولكنها عوضت بطفلين آخرين. وهذه المرأة -الآن- تنصر أطفالاً في هذه البلاد، فأنت أسألك: بالله عليك ماذا فعلت لأطفال المسلمين في الصومال أو البوسنة والهرسك أو غيرها؟! الذين ينصرون ويهجرون ويكفرون؟! لو أن كل واحد بذل جهده للحصول على طفل واحد من أطفال المسلمين ورباه مع أطفاله، لوجدنا أننا استطعنا احتواء عدد كبير من هؤلاء. ونرجع إلى أرامكو: بوتش كونر الزوج يعمل مساعداً للراهبة هيلين ريدي مديرة التمريض التي تكلمنا عنها قبل قليل، ومتخصص بشئون الاستقطاب، حيث يقوم بالسفر إلى جميع أنحاء العالم لاستقطاب الممرضين والممرضات الجدد وإجراء المقابلات معهم، ومن ثم اختيار المناسب منهم. ويعتبر هذا الرجل غامضاً جداً، ولا أحد يعرف عنه إلا أقل القليل عن شخصيته، حتى أن المفاجأة وقعت عندما أحضر دفعة -كما قلت قبل قليل- من الفلبين، وهم من الجنس الثالث، فانتشر عمل قوم لوط في أحياء متعددة، وتسامع الجميع بالخبر، فسارعت الشركة إلى إلغاء عقده وتسفيره مع زوجته التي تكلمت عنها قبل قليل أما أولئك فلم يصدر بحقهم شيء بحسب ما وصلني من الأخبار. ويقال: إن هذا الرجل بوتش كونر وزوجته سيعودان إلى الشركة بعد أن تهدأ العاصفة، حيث أن الشركة لا تستطيع أن تستغني عن خدماتهم! وكما يقال: إن هذه المرأة قد تخلصت من زوجها؛ حتى تستطيع أن تعود بعد ذلك إلى الشركة. ومن ضمن مطبوعات الشركة المنتظمة: قافلة الزيت الأسبوعية، وهي جريدة أسبوعية تعنى بأخبار الشركة وموظفيها، وهي غير جريدة قافلة الزيت الشهرية، ومن ضمن أبوابها الثابتة -أعني القافلة الأسبوعية- الصفحة الأدبية، والتي كثيراً ما ترد فيها الآيات القرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وما يتعلق بها من تفاسير واستدلالات، ويشرف على هذه الصفحة -وهي تصل أحياناً إلى أربع صفحات من الحجم الكبير- يشرف عليها موظف نصراني عربي، اسمه: جاك الشماس، وعندما تم تنبيه القائمين على الجريدة أوقف لمدة أسبوعين، ثم عاد ليتصدر الصفحة ولكن بصورة غير منتظمة. ومكاتب الاستقدام التابعة لشركة أرامكو والمنتشرة في أنحاء العالم، تتعمد إبعاد المتقدمين للوظائف إذا كانوا مسلمين، وترشح النصارى حتى من البلاد الإسلامية والعربية. وعلى سبيل المثال: ذهب مدير الصيدلية السابق بمستشفى أرامكو -وهو هندي نصراني- إلى مصر لإحضار صيادلة، ثم عاد بعد أسبوعين، ومعه ستة من الصيادلة المصريين الأقباط، ولما سئل عن هذا التحيز قال: إنه لم يتقدم سوى هؤلاء، وبعد التحري وجد أن مكتب الاستقدام هناك قد قام باستبعاد المتقدمين من المسلمين المتفوقين، وأبقى قليلاً من غير المتفوقين، كما وضع في المقدمة جميع المتقدمين النصارى، وكان ذلك باتفاق مع مدير الصيدلية ومع الجهات المسئولة عن هذا الأمر في الشركة، فلما ذهب مدير الصيدلية إلى هناك، كانت لديه جميع المبررات لاستقطاب النصارى وترك المسلمين. وهناك نماذج أخرى من التنصير في أرامكو؛ حيث يقبل في أرامكو سنوياً حوالي مائة وخمسين بنتاً سعودية من خريجات الثانوية العامة، حتى بلغ إجمالي العدد الحالي ما يزيد على خمسمائة بنت، وهذا في برنامج خاص، أما مجموع العاملات الموظفات، فهذا يزيد على أربعة آلاف كما ذكرت قبل قليل. وهذا البرنامج يتم من خلاله تدريس البنات لمدة سنتين على أعمال السكرتارية، ونماذج من القيم الغربية بأيدي مجموعة من المدرسات والراهبات الأمريكيات اللاتي أحضرن خصيصاً لتدريس هؤلاء البنات، ليتخرجن سكرتيرات للمدراء والمسئولين بالشركة، حيث الاجتماعات المغلقة وإضاعة القيم الإسلامية، وقبل ذلك كله نزع الحجاب! ومما تجدر الإشارة إليه أن التعليمات الموجودة بالشركة تمنع المتدربات من ارتداء الحجاب، ولقد حاول بعض الفتيات الإبقاء على حجابهن، ولكنهن أجبرن على نزعه بعد أن تم تهديدهن بالفصل من الشركة. ومن المؤسف أن بعض العاملين في هذه الدائرة من المسلمين، بل من هذه المنطقة. والممرضة سيبير أخصائية غرفة عمليات، إيرلندية مسلمة، كانت قد اعتنقت الإسلام قبل التحاقها بالشركة بسنتين، وقد فرحت عندما وجدت فرصة للعمل في المملكة لتعمل على تقوية إسلامها، ولكن الضغوط التي وجدتها من مديرة التمريض " هيلين ريدي " وبقية الراهبات في إدارة التمريض بالظهران بسبب أنها مسلمة، اضطرتها لتقديم استقالتها ومغادرة المملكة. وقد شرحت ذلك في خطاب يثير الأحزان وجهته إلى نائب رئيس أرامكو، ولا مانع أن أقرأ عليكم الخطاب، تقول -طبعاً هذه ترجمته-: أنا ممرضة إيرلندية تم التعاقد معي في لندن للعمل في مستشفى أرامكو كممرضة في غرفة العمليات، وكنت قد اعتنقت الإسلام قبل حوالي سنتين ونصف والحمد لله، وقد أخبرت أثناء المقابلة أن أرامكو ترحب بالمسلمين، وقد كنت شديدة الشوق للقدوم إلى المملكة، لاعتقادي أنها سوف تكون أفضل من الغرب لمن يعتنقون الإسلام، وللأسف وجدت أرامكو استمراراً للمضايقات التي كنت أجدها هناك، وأنها بؤرة للتعصب والتفرقة، فلم أستطع أن أتحمل المزيد، وخلال ما تبقى لي من أيام في السعودية، والتي يؤسفني أن أغادرها فإنني أدعو الله لأرامكو -عندما تصبح أرامكو السعودية- أن تأخذ وبقوة زمام الأمور من أولئك الذين نذروا على أنفسهم أن يخرجوا المسلمين من الإسلام، من أجل أولئك المسلمين الذين قد يجدون ما وجدت من معاناة خصوصاً حديثي العهد بالإسلام، فرأيت أنه من الأهمية أن ألفت أنظاركم إلى ما يجري، ورغم أنني لا أتوقع أن يتغير في الموقف شيء، أو أن تخف حدة التفرقة بين المسلمين وغير المسلمين، إلا أنني أرى أنه يجب أن يعلم بوجودها وشكراً، اهـ. وطبعاً هناك ملاحظات على الرسالة، فهي عندما تشير إلى التفرقة في أكثر من موضوع، فإنها تشير إلى التفرقة التي يمارسها الأمريكان على بقية الجنسيات الأخرى؛ لأنهم يقومون رسمياً بتقسيم الجنسيات إلى أقسام: فالجنسية الأولى: الأمريكان والكنديون فهؤلاء في المحل الأرفع، ولهم ميزات وخصائص لا تكون لغيرهم. والجنسية الثانية: السعوديون في جوانب وخاصة كبار الموظفين، أما صغار الموظفين فليس لهم ميزات، وغالب هؤلاء من السعوديين. المرتبة الثالثة: البريطانيون والأيرلنديون وبقية الدولة الأوروبية، ولذلك يشعرون بالكراهية للأمريكيين. أما المرتبة الرابعة: فالآسيو الجزء: 99 ¦ الصفحة: 15 كسر الحاجز النفسي بينهم وبين المسلمين إنهم يسعون إلى كسب الثقة والقبول لدى المسلمين حكاماً وشعوباً، فهم يدركون أنهم لا يستطيعون أن يتحركوا في جو يكرههم ويبغضهم ويخاف منهم، ولهذا حرصوا على كسر هذا الحاجز من خلال وسائل كثيرة، مثلاً من خلال المحور السابق وهو تكثيف أعداد النصارى، فإن الإنسان إذا تعود أن يرى النصارى سهل عليه ذلك، وأصبح أمراً مألوفاً. الأمر الثاني: من خلال كثرة الاتصال والتعامل مع الناس في التمريض والعلاج. وقد ذكر لي بعض الشباب -وهذا أمر ثابت- أن هناك دكتوراً موجوداً في المستشفى يتجول على الشباب، ويخرج معهم في خرجاتهم، ويتكلم معهم ويحادثهم ويضاحكهم، ويتصل بألوان شتى مع الشباب التائهين ومن الشباب العاديين أيضاً في هذا البلد وفي غيره. ومن الوسائل: الحث على الزيارة والمجالسة، ومن الطريف أنه ذكر لي أن أحد الإخوة الذين كانوا يعملون في القرى، يقول: كان هناك باكستاني نصراني مقيم في المستوصف في تلك القرية التابعة لمنطقة القصيم، ويقول: منذ عشرين سنة، وهو يعمل وينتقل من قرية إلى أخرى، فيقول: علمت أن عنده البارحة مناسبة أخبرني عنها خادم المدرسة، فقلت: من كان معكم؟ قال بعض الإخوان: فلما تحرى الخبر وجد أن هذا الرجل قد دعا إمام المسجد، ومؤذن المسجد، وبعض الناس، والمستخدم، وتكلم معهم في بعض الأمور، وكل ما قاله لهم: هذه الدعوة هي بمناسبة عيد ميلاد المسيح، فتعجب هذا الشاب وقال للمستخدم: كيف تذهب؟ فقال له: ليس في هذا شيء، مجرد أنه يحتفل بعيد ميلاد المسيح، أي: هو لم يدعهم إلى النصرانية وإنما قال لهم: أنا أحتفل الليلة بعيد ميلاد المسيح، ومن أجل الاحتفال قدمت لكم هذا الطعام. الوسيلة الثالثة: النقاش البريء بينهم وبين المسلمين وإبعاد قضية الدين. والكثيرون لا يصدقون هذا الكلام الذي نقوله، ويقولون: أنتم تبالغون! وأنتم تفهمون الأمور على غير وجهها! لماذا؟ لأنه قد يرى نصرانياً واحداً ظاهر حاله أنه لا يهتم بالنصرانية، ولا يدعو إليها ولا ينصر الناس في حقيقة أمره، وإذا تناقشوا لا يظهر عنده أي حماس، فيظن صاحبنا أن معنى ذلك أن هذا الرجل غير متحمس للنصرانية، والواقع أن الغربيين والأوروبيين بشكل عام عندهم هدوء وبرود في أعصابهم، فقد يكون أحدهم متحمساً ولكنه بارد الأعصاب، فيناقشك ولا ينفعل، ولا يظهر الحماس للنصرانية، وقد يستمع منك سباً لقومه ولدينه ولنفسه، فيواجه ذلك بابتسامة، ولا يظهر الغضب والانفعال، كما أن شعورهم بأن المنطقة حساسة يدعو إلى أن يكون هناك توصيات كثيرة للمنصرين هنا ولصانعي الخيام بأن عليهم أن يتلطفوا في دعوتهم وألا يظهروا أي قدر من الحماس للنصرانية، بل يحرصون على إبعاد قضية الدين. ومن الوسائل أيضاً: ما يسمى بالحوار الإسلامي المسيحي، وهو حوار يطول، وهناك لقاءات كثيرة ومؤتمرات، ومن ذلك أنه عقد لقاء وحدة وطنية كما ذكرت جريدة آخر ساعة في عدد (1997م) لقاء الوحدة الوطنية بين مفتي مصر والبابا شنودة، وتكلموا بكلام طويل عريض، ونشرت أخبار هذا اللقاء، بل نشر في التليفزيون المصري وشوهد هنا في جدة والمنطقة الشرقية والرياض وغيرهما من المناطق التي يمكن أن تستقبل البث المصري، والأغرب في الأمر أنه كان ضمن هذا الاجتماع بعض وزراء الأوقاف في بلاد إسلامية. وفي الخليج تجد أن هؤلاء النصارى تحالفوا مع كل أحد، فهم مستعدون أن يتنازلوا عن كل شيء في سبيل كسب المزيد من الانتصارات، فهم تحالفوا مع الشيطان، وتحالفوا مع اليهود، وبرّءوا اليهود من دم المسيح كما هو معروف في عقيدتهم، وتحالفوا مع الفساد والانحلال والرذيلة، واعتبروا أن ألوان الفساد الخلقي ذريعة إلى إغراء الشباب ودعوتهم إلى النصرانية، فأي شئ يمنعهم إذن من أن يظهروا أنهم مستعدون للحوار مع المسلمين؟ وأن هناك نقاط لقاء كثيرة جداً بينهم وبين دين الإسلام؟ وقد أصبح هذا الأمر يثار بشكل كبير, خاصة في هذه المنطقة، والصحف الكويتية تركز على هذا المعنى كجزء من دعوتها إلى تغريب المنطقة وأمركتها. إذن هم يسعون عبر المحور الرابع إلى كسر الحاجز النفسي بينهم وبين المسلمين, وكسب الثقة عند الحكام حتى يتمكنوا من القيام بدعوتهم ويحتفظوا بمواقعهم وكسب الثقة لدى الشعوب الإسلامية، هذا مع أن أكثر العاملين كما أسلفت في هذه القطاعات هم من الطابور الخامس وعملاء للمخابرات الأمريكية والغربية -عملاء على الشعوب وعملاء على الحكومات- وبعض من قبض عليهم في حايل كان معهم وثائق تدل على انتمائهم لبعض أجهزة المخابرات الغربية، ولكنهم مع ذلك يظلون محتفظين بمواقعهم لأسباب عديدة. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 16 العمل على تقليص أعداد المسلمين ولقد لاحظوا أن المسلم خاصة في هذه المناطق يصعب خروجه من الإسلام، وأن المسلمين لديهم كثافة عددية كبيرة, وفي البيت الواحد تجد عشرة أو خمسة عشر من الأطفال، ولذلك أدركوا أنه لا بد من السعي إلى تقليص أعداد المسلمين بكل وسيلة، فهم يشعرون أن المسلم من الممكن أن يستيقظ ولو بعد حين، وشعارهم: لا تثق في المسلم ولو أعطاك كل شئ، ولو كان علمانياً، ولو مد لك عربون الولاء والطاعة؛ لأنه قد يتغير عليك يوماً من الأيام، وما يتوقعونه هو في نظري معقول إلى حد ما، لأننا نجد أن أحداث البوسنة والهرسك مثلاً قد أيقظت الكثيرين إلى الخطر النصراني. وقد سمعت تقريراً عن تركيا يقول فيه أحد كبار المسئولين فيها -وهي دولة علمانية كانت تستحي من أي شئ يمت إلى الإسلام بصلة-: إنه يعترض على سياسة الغرب في العراق، ومحاولة تدخله في العراق، وأن الغرب يكيل بمكيالين ويزن بميزانين، وأنه يتعامل بسياسة مزدوجة، فلماذا يتدخل الغرب الآن لحماية الشيعة في العراق، ولا يتدخل لحماية المسلمين في البوسنة والهرسك؟! فهذا ما قالته تركيا وهي دولة علمانية. وهكذا نجد أن كثيراً من الصحفيين في مصر، بل في الكويت، بل في هذه البلاد وفي غيرها، أصبحوا يتكلمون عن الخطر النصراني القادم بسبب ملاحظتهم لأحداث البوسنة والهرسك والغموض في الموقف الغربي بل البرود، وبدلاً من أنهم أثاروا هنا قبل سنتين عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، فهناك أثاروا عاصفة الكلام والجعجعة التي لا تخرج منها بطائل. إذن هم يلاحظون الكثرة العددية للمسلمين، وأنه لا بد من تقليص هذا العدد، وفي مجلة اليمامة عدد (1110) ذكروا أن الجمعيات التنصيرية توصي الأطباء -وهذا ينبغي أن يكون موضع اهتمام- النصارى القائمين على توليد النساء بأن يحرصوا على أن تكون الولادة من خلال عملية قيصرية، وذلك حداً للتكاثر لئلا تتمكن المرأة من ولادة أكثر من أربعة أطفال؛ لأنه بالعملية القيصرية لا يمكن المرأة من ولادة أكثر من أربع مرات، وهذا العمل بعينه يفعله الأطباء النصارى في مستشفياتنا، فمتى يفيق أولئك الذين يجعلون الرجال -بل والرجال النصارى قائمين على توليد نساء المسلمين في هذه البلاد؟ ويتصورون أن هؤلاء الرجال علمانيون لا يعنيهم أمر النصرانية في شيء؟ ومتى يفيق الآباء والأولياء والأزواج الذين يحرصون على تحفيظ زوجاتهم وتسترهن، فإذا ذهبت إلى المستشفى أهملوها وتركوها ونسوا أنها تنكشف تماماً حتى عورتها أمام رجال أجانب، وأمام رجال في كثير من الأحيان من النصارى؟!! أما المسئولون عن الصحة خاصة في هذا البلد، فلا أتحدث عنهم لأننا جربنا أن تجاوبهم لا يتعدى ابتسامات صفراء بلهاء في منتهى البرود، وليس هناك أي تغيير، بل على النقيض من ذلك، ففي الوقت الذي نجد فيه مضايقة لبعض الممرضات المسلمات، نجد أن بعض الشباب من هذه البلاد يتم نقلهم من المستشفى إلى مستوصفات بعيدة ونائية بل أحياناً إلى مستوصفات لم تفتح بعد لا لسبب إلا لأنهم ملتحون. ونرجع إلى موضوع تقليص أعداد المسلمين: إن هذا التقليص لأعداد المسلمين يعتمد على مبدأ أن التنصير والتعميد صعب، وأن النصارى سوف يخوضون مع المسلمين معركة مستقبلية يسمونها معركة هرمجدون وهي المعركة بين الحق والباطل -المعركة الفاصلة- ولهذا لا بد من التفكير بتقليص عددهم، فكيف يكون؟ يكون بتقليص العدد من خلال إغراء المسلمين بتحديد النسل أو بتقليل النسل، ويكون تقليص أعداد المسلمين من خلال إلغاء عقود بعض المسلمين واستبدالهم بالنصارى، ويكون ذلك من خلال تعقيم أرحام النساء، كما ذكرت من خلال بعض العمليات القيصرية، بل يكون أحياناً من خلال إجراء عمليات وقتل المسلم فيها على الأقل على سبيل اللامبالاة، وهناك حالات كثيرة تجد أن النصارى لا يبالون بالمسلم، فيموت بين أيديهم نتيجة الإهمال على أقل الأحوال، وتجده هندوسي أو نصراني أو بوذي أو ما أشبه ذلك. ويكون تقليص المسلمين من خلال العمل على القضاء عليهم بالقتل، فالمعركة العسكرية واردة في اعتبار النصارى، ولذلك قارن الدكتور: استيفر رانسمان في التقرير التنصيري (إزهار مؤقت في الصحراء) بين جهود المنصرين في الخليج وبين الحروب الصليبية، وقال: إن الحروب الصليبية لم تصنع شيئاً يذكر، أما الجهود التنصيرية فهي أكثر نجاحاً، وهذه المقارنة تدل على أن مسألة ما يمكن أن نعبر عنه بالتصفية البدنية والجسدية للمسلمين واردة في قاموس النصارى وفي اعتبارهم. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 17 التنصير السياسي فإن النصرانية أو التنصير والاستعمار واحتلال البلاد هما وجهان لعملة واحدة، وجميع جهود التنصير مدعومة من دوائر الاستخبارات الأجنبية، وهناك مقبوضون كما ذكرت ثبت ولاؤهم وعمالتهم لتلك الأجهزة. والهدف السياسي للفاتيكان كبير، فإن الفاتيكان الآن ثبت نجاحه لدى المخابرات الأمريكية في إسقاط الشيوعية، وفي مجلة التايم الأمريكية الصادرة في (24) فبراير من هذا العام تقرير خطير عن دور الفاتيكان في إسقاط الشيوعية, وتكلموا عن دور البابا شخصياً في إسقاط الشيوعية أولاً في بولندا، من خلال دعم ما يسمى بنظام التضامن، ثم تطور هذا الأمر، وكيف كان يمدهم بالأموال والأجهزة: أجهزة التصوير وأجهزة الفاكس والرسوم والصور والخبراء والمعونات والنصائح إلى غير ذلك، وكان النصارى في كنائسهم هم الذين يقومون وراء الثورة على الشيوعية في بولندا، ويتسترون من خلال ذلك بالمنظمات: كمنظمة العمال وغيرها المعروفة هناك، ولذلك سعوا إلى أن يقوم الفاتيكان بدوره في بلاد أخرى. وليس من قبيل الصدفة أنه فتح للفاتيكان سفارة في الكويت قبل بضعة شهور، هذا فضلاً عن أن السفارات في الدول الإسلامية تقوم بتنظيم الطقوس الدينية والاتصال الدائم المنظم بمواطنيها وبغيرهم, وهناك رسائل للمواطنين في هذه البلاد من قبل بعض السفارات تدعوهم إلى السفر وتغريهم وتزودهم بالصور الخليعة والعارية، إضافة إلى وجود مراكز للترفيه ودورات تعليمية تقوم بها تلك السفارات، إضافة إلى أعياد الميلاد والاحتفالات والنشاطات. وعلى سبيل المثال نشاط الجالية الأمريكية في الرياض مثلاً، حيث تم توزيع خطاب حتى في مصلحة الزكاة والدخل على الموظفين، يقول الخطاب: إن الجالية الأمريكية في الرياض سوف تقوم بنشاط خلال الصيف، وعلى من يرغب بالمشاركة في هذا النشاط تسجيل اسمه أو ما أشبه ذلك، وعمم هذا على العاملين في مصلحة وفي إدارة ليس لها علاقة من قريب ولا من بعيد بالسفارة هناك. وهذا إضافة إلى إقامتهم للجامعات والمدارس، ففي الخليج العربي هناك الجامعة الأمريكية، وقد تكلمت عنها الصحف، وأشادت خضراء الدمن - جريدة الشرق الأوسط- بهذا الإنجاز الغربي الذي تلتقي فيه حضارة الغرب بعقول الشرق في منطقة الخليج العربي، إضافة إلى أنه أعلن عن إقامة فرع للجامعة الأمريكية في إحدى السفارات في الرياض، ونشرت أوراقها، وقد بلغني خبر أن هذه الجامعة أوقفت، ثم جاءتني أخبار أخرى أنها مازالت تقوم بعملها، وتدرس الشباب من الجنسين -من الرجال والنساء- تدريساً مختلطاً. والجامعات الأمريكية في بيروت وفي القاهرة وفي غيرها كانت أوكاراً لتخريج العملاء للغرب وتخريج الوجوه السياسية التي تستخدم لصالح الكنيسة. وهذه الجهود التنصيرية السياسية تسعى إلى تكوين أرضية صلبة للعلاقة بين الغرب وبين دول الخليج العربي من خلال هذه الوسائل الكثيرة: السفارات والقنصليات، الأعداد الكبيرة من الآتين هنا، والنشاطات المتنوعة، والجامعات، والمدارس وغيرها. وهناك أيضاً مما يتعلق بهذا معهد الدراسات الدبلوماسية، وهو ينظم دورات لزوجات الدبلوماسيين وغيرهم، من أجل تعليم اللغة الإنجليزية والفرنسية وتعليم الثقافة الدبلوماسية للنساء، فهنا سؤال -طبعاً هذا يتم في الرياض- ماذا سوف تدرس المرأة هنا؟ ومن الذي سوف يدرسها؟ وما هي الغاية من دراسة الثقافة الدبلوماسية للنساء؟ إضافة إلى أن هناك مدارس كثيرة على هذا الإطار. ومما يتعلق بما ذكرناه سابقاً، جاءت ورقة قبل قليل تقول: شركة سعودية كبرى تطلب موظفين لوظائف شاغرة وهي: عبارة عن مشرفات أمن وللسعوديات فقط، والمؤهل العلمي الثانوية العامة أو ما يعادلها، إضافة إلى خبرة في مجال العمل لا تقل عن سنتين, والمؤهلات ترسل على العنوان التالي في الخبر عناية مدير الخدمات الأمنية، وهذا قد نشر في الجريدة بتاريخ 25 صفر. إذاً مشرفات أمن سوف يكن سعوديات من خريجات الثانوية وخبرة في مجال العمل لمدة لا تقل عن سنتين! وقد يكون هناك شروطاً خاصةً مثل ما في أرامكو في بعض برامجها، حيث أن من الشروط ألا تكون الفتاة متزوجة! طال الأمر! وذلك يدعوني إلى إنهاء الموضوع، ولا شك أنه كان عندي الكثير الكثير من الوثائق المؤذية والمزعجة من جنس ما ذكرت وما لم أذكر؛ لأني رأيت أن إعطاء نموذج واحد يكفي، وإلا فالأمر جسيم والخطب عظيم، ونحن حين نتحدث عن مثل هذه الأمور ندعو إلى أن يكون للمسلم العادي دور في الوعي بمثل هذه الخطط ومقاومتها، والسعي إلى أن يكون له دور في الدعوة إلى الله عز وجل. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 18 المنظمة المسيحية العالمية فقبل عدة سنوات تم كشف منظمة تنصيرية في الرياض، وهذه المنظمة اسمها: الجمعية المسيحية العالمية، أو الجمعية المسيحية الدولية في الرياض، وتضم في عضويتها أكثر من ستمائة عضو، ولاشك أن أعضاءها آخذون في الازدياد، ولها قائمة بدليل التليفونات للمنتسبين إليها، وتقول هذه المنظمة: إنهم قد عرفوا وأن انتماءهم إلى هذه المنظمة كان في الأصل في المنامة، ويوجد مهندسون زراعيون أمريكيون منتسبون إليها وآخرون، ومن المنتسبين إليها رجل اسمه: سميث وهو مهندس زراعي، وآخر اسمه: وليم، وثالث بريطاني ورابع لبناني إلى غير ذلك، وكانوا ينتمون إلى هذه الجمعية ولهم مواقع في السليمانية في الرياض وفي غيرها، وقد تم كشفهم، وسُفِّر عدد من أعضاء هذه الجمعية، ولا يغيبن عن بالك أن كثيراً من هؤلاء يذهبون ثم يستطيعون أن يعودوا بأسماء أخرى؛ لأن عدداً منهم منتسبون إلى أجهزة المخابرات العالمية التي تعطيهم وثائق مزورة، فقد يخرج الواحد منهم وسفّر خروجاً بلا عودة باسم، وبعد حين يتبين أنه جاء باسم آخر وبوثائق أخرى مختلفة. وكذلك من إحدى الوثائق المتعلقة بهذا، وثيقة بل مجموعة ضخمة جداً من الوثائق وصلت إليَّ عن: المنظمة العالمية لعيسى المسيح المحدودة. وهذه المنظمة موجودة في حايل، وقد تم كشفها منذ أسابيع، ومازالت المعاملة جارية، وبحسب المعلومات التي وصلت إليَّ، فإنه لم يتم اتخاذ أي إجراء حتى الآن، أي أن الموضوع لا يزال جديداً. وتهدف هذه المنظمة إلى أمور منها: أولاً: نشر الإنجيل حسبما جاء في كلمة الله. ثانياً: نشر التعليمات والتدريب عليها، وزرع روح الانضباط بين الأتباع. ثالثاً: النمو والترقي تحت مباركة الرب يسوع. أما عقائدهم فهي الإيمان بعيسى، وأنه إله، وأنه مات من أجلنا -كما يقولون- وسيعود، والإيمان بالثالوث، وأن الكتاب المقدس هو كلمة الله. وهناك وثائق تتعلق بهذه المنظمة العالمية، مثل أعضاء مجلس الإدارة، وكثير من العاملين فيها موجودون في شركة الكهرباء، وأحياناً يستغلون الأوراق الرسمية أو الهاتف أو بعض المستشفيات، وهناك محاضر اجتماعات وتقريرات لهم، وسوف أقرأ عليكم على سبيل المثال فقط رسالة صدرت عن هذه الجمعية. وهذا نموذج للرسالة التي بعثت بها تلك المنظمة إلى أحد خريجيها، الذي تخرج من هنا، وذهب داعياً إلى النصرانية في الصين، فكتبوا إليه هذه الرسالة: الحمد لله أمجد الله الحي من خلال عيسى المسيح، وصل إلي خطابك اليوم، وسلم إلي بواسطة الأخ توني، وسعدت لمعرفة أن الإله قد وجهك إلى الصين، هيجني الروح القدس، فانسابت الدموع على خدودي، تذكر أنك أخي في المسيح، فأنت جزء مني في سفارتنا إلى إلاهنا الممجد المسيح، سوف أرسل إليك مساعدة مالية، مصاريفك في الرحلة إلى الصين بالإضافة إلى العلاوة، وسوف نهتم بك اهتماماً طيباً. ونحن الآن نتحرك في كنيسة المنظمة العالمية للمسيح المحدودة كنيسة حايل؛ لتأمين لوازمك المادية؛ ولتغطية مصاريفك في الصين، وسوف يرسل الملك لك إن شاء الله إلهنا عيسى الأسبوع الثالث من نوفمبر، الممرضة نانسي ستهتم بمجموعة مستشفى الملك خالد، وروبن سيدير مجموعة هادكو في عملية جمع رحمات الإله لتغطية سفرك وإقامتك في الصين، أدعو الله أن يبارك في المسيح وأن يبارك لك، وسوف ندعو لك، وأعتقد من كل قلبي أن الله يخبئ خططاً رائعة في حياتك، ابق على الرفقة معه، وكن على ثقة به. أخوك في المسيح. ملاحظة: أرجو ألا تتحرج من طلب المساعدة منا؛ لأنك لا تزال في قلوبنا؛ فقد تخرجت من المنظمة العالمية للمسيح المحدودة فرع حائل- المملكة. وهذه الأوراق كثيرة تعادل ملفاً بأكمله، وكما قلت: إنني سوف أبعث بها إلى المشايخ والعلماء، وهذا النموذج أيضاً من جهودهم في التنصير لأولئك الذين يعملون على وجودهم وتكثيفهم في هذه البلاد. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 19 دور المسلم تجاه التنصير وخلاصة الأهداف التي نهدف إليها من خلال عرض مثل هذه التقارير سوف تتبين إن شاء الله من خلال الحلقة الأخيرة في الأسبوع القادم وهي كيف نقاوم التنصير. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 20 مدرب يوغسلافي يعلن إسلامه وهنا أيضاً موضوع سبق أن ذكرته أيضاً في الجلسة الماضية: موضوع وجود مدرب نصراني في أحد الأندية الرياضية، وقد جاءتني أوراق متعددة تتعلق بهذا المدرب، فنشر في بعض الصحف -نشر في جريدة الرياض- أنه قد تم إلغاء عقد هذا المدرب، وكان هذا تصريح من مدير النادي العربي، وهذه صورة من الخطاب: بعث إليَّ فضيلة مدير مكتب الدعوة في عنيزة، للمشاركة تضامناً مع إخواننا مسلمي البوسنة والهرسك، فقد تم إلغاء عقد المدرب المذكور، فإنه سيتم صرف مستحقاته المالية بما في ذلك الشرط الجزائي لإلغاء العقد، هذا من جانب، لكن بعد ذلك جاء خبر آخر ناسخ للأول نشر في عدد من الصحف منها الرياضة، حيث أعلن هذا الخبر أن المدرب " استيفن بنيا " مدرب الفريق الكروي بالنادي العربي، أعلن اعتناقه للدين الإسلامي، وأنه قال: إنه أسلم بناءً على المعاملة الحسنة التي تلقاها من الإخوة في النادي ومن شباب هذا البلد الكريم. وهذا تقرير أيضاً جاءني من مكتب دعوة الجاليات بعنيزة، ويقول: قد علمت من هؤلاء أن المدرب اليوغسلافي قد أسلم ونطق بالشهادتين بحضور بعض مندوبي النادي، وحرصاً منا على استقصاء الأسباب والدوافع فقد تم سؤال المدرب عن تلك الأسباب، وأجاب بأنه رأى المسلمين هنا وتعاملهم، فأراد أن يسلم، وبعد ذلك تم سؤاله عن ديانته النصرانية، فأجاب بأن هناك اختلافات فيها وآلهة متعددة، وأنه لا يعرف الحقيقة، ثم تم سؤاله إذا كان يعتقد بحياة الآخرة فقال: ربما، ثم قال: إذا كان الإنسان طيباً ومات، فإنه يذهب إلى الإله، وأما السيئ فلا يعلم إلى أين يذهب، فقلنا له: جهنم، فقال: ربما، فقلنا: ماذا عن النصراني الذي يعمل أشياء طيبة؟ قال: يذهب إلى الإله، ثم سألناه: أيهما أسهل اتباعاً الإسلام أم النصرانية؟ فقال: النصرانية! فقلنا له: لماذا إذن لا تبقى على نصرانيتك؟ فلم يجب، وتم سؤاله عن اعتقاده حول عيسى، فقال: إنهم يقولون الإله أو ابن الإله، ولكنه هو لا يعلم! ولما سألناه عن محمد ماذا يعرف عنه؟ قال: إنه الإله! وأما القرآن فقال: إنه كلام محمد! وخلاصة القول: إن الرجل أُنطق بالشهادتين وهو لا يعلم شيئاً عن الإسلام، وما يعتقده يخالف ما نطق به، وهو ظاهراً يبدي الرغبة للدخول في الإسلام، أما باطناً فعلمه عند الله، وفي هذه الحالة يستحسن أن يشرح له الإيمان والإسلام، وبعد أن يعلم ماذا يجب أن يعتقده ويعمل به، ويعلم كيفية أداء شعائر الإسلام، يمكن أن يعلن إسلامه ويتابع من قبل الجهة المختصة قبل إصدار الصك بشأنه. وهذا الكلام الذي ذكره الإخوة أمر طيب، فنحن أولاً نقول: ليس لدينا مانع أن يدخل أي إنسان في الإسلام، حتى رئيس الصرب نفسه لو أعلن الإسلام فباب التوبة مفتوح، ونحن لا نستطيع أن نمنع أحداً كائناً من كان أن يدخل في دين الإسلام، وبمجرد أن يعلن الإنسان الشهادة فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله يجب أن نكف عنه، ونعتقد أنه أسلم، ثم بعد ذلك نعلمه الإسلام شيئاً فشيئاً. ولا شك أن هناك ملابسات في الحادث واضحة، ولكنني بقدر ما أشكر الإخوة في النادي على دعوتهم لهذا الرجل إلى الإسلام، وأقول: إننا يسرنا بكل حال أن يكون هذا الإعلان انتصاراً للإسلام أياً كان الأمر، إلا أننا نقول: ينبغي تعاهد هذا الرجل وتعليمه دين الإسلام عقيدة وعبادة وسلوكاً، فإذا تبين أن الرجل التزم بما أعلنه فعلاً، فأظهر الالتزام بالعقيدة الصحيحة فالحمد لله رب العالمين، وهو أخونا، له ما لنا وعليه ما علينا على رغم أنوفنا أيضاً، لأنه ليس لنا إلا الظاهر، والله تعالى يتولى السرائر، أما إذا تبين أن الأمر بخلاف ذلك، فأقول: لكل حادث حديث، ولكني أوجه الإخوة وكذلك الإخوة في مكتب توعية الجاليات بعنيزة جزاهم الله خيراً، أن يحرصوا على متابعة هذا الرجل، ولا داعي للضغط عليه الآن ما دام أعلن الإسلام، فلابد أن نعطيه الفرصة ليعرف الإسلام حقيقة، ثم بعد ذلك يؤمن به إيماناً صحيحاً، هذا وأسأل الله تعالى أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار وعذاب النار إنه على كل شيء قدير، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 99 ¦ الصفحة: 21 المراجعات - 2 - هناك ضوابط لابد منها في موضوع النقد، وللإنسان حق في الدفاع عن نفسه، ويحتوي هذا الدرس على بعض صور النقد الذي وُجِّه إلى الشيخ، وكذلك الجواب عليه. وفيه بعض الوثائق والرسائل المتعلقة بهذا الموضوع، إضافةً إلى ذكر المراجعات التي وجهت إلى الشيخ، وهي مراجعات فنية، وحديثية، وفقهية، ولغوية. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 1 أنت وليس أنا إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فهذا هو الدرس (76) من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الاثنين الثامن من شهر جمادى الأولى من سنة (1413هـ) . وعنوان هذا الدرس هو "المراجعات الثانية" وقد كنت تحدثت قبل أشهر حديثاً عنوانه: (المراجعات) صححت فيه بعض الأمور، ورجعت إلى بعض المسائل، وتكلمت عنها بما فتح الله عز وجل. أما اليوم فهذه هي الحلقة الثانية من المراجعات، أول عنوان: (أنت وليس أنا) . إن هذه الدروس والمحاضرات هي بعض مشاركاتكم، فأنا مدين لله عز وجل ثم لكم جميعاً، رجالاً ونساء، شيوخاً وشباباً، من داخل البلاد وخارجها، سواء من كاتبوني، أو راسلوني بالفاكس، أو شافهوني بما لديهم. أنتم يا هؤلاء الذين كتبتم إلي بالموضوعات المقترحة، وبعثتم إلي بالعناصر، وحشدتم لي النصوص، وأعنتموني على طرق هذه الموضوعات، إنه درس مهم في الاستفادة مما عند الآخرين، وفتح الأبواب لهم في المشاركة. إن هذه الدروس والمحاضرات والندوات، بل هذه الأشرطة التي تشرق وتغرب إنها ليست لي، بل هي أفكاركم أنتم، وآراؤكم، وعلومكم. هي: أحاديثكم وإن كانت بصوتي، وبصماتكم وإن كانت بيدي، وإملاءاتكم وإن كانت بقلمي. فأنا مدين لكل من بذل ولو شيئاً يسيراً، ولكنني على هذا وذاك أتحمل مسئوليتها ولا بد، في الدنيا وفي الآخرة، فلكم حارها وعلي قارها، فأما في الدنيا فهي من كلامي ولفظي وقولي، ولا شك أنني مسئول عنها، ومحاسب، ومسآءل، ومعاتب. ومن حق أي أحد عليَّ أن يطلب التحقيق والتدقيق، وأن يسأل عن الإثبات والبينة. إنني حريص إن شاء الله تعالى ألا أقول لكم شيئاً إلا بيقين عندي لا شك فيه، ولو تسامح الإنسان وقال كل ما يظن، أو ما يغلب على ظنه، لكان الأمر شيئاً آخر غير ما رأيتم وسمعتم، ولكنني آليت ألاَّ أقول إلا ما علمت أنه حق بيقين. إن من احترام المستمع، أو القارئ، أن يوثق الإنسان له كل ما يقول، ويذكر له، فهذه المسئولية الدنيوية، أما المسئولية الأخروية فشيء عظيم قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . وروى البخاري في صحيحه في كتاب: الرقائق، باب: حفظ اللسان، ومسلم أيضاً في باب: الزهد، ومالك في الموطأ كتاب: الكلام، باب: ما يكره من الكلام، وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها في الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم} وفي حديث بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله، ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سخطه إلى يوم يلقاه} والحديث رواه أبو داود، والترمذي، ومالك وغيرهم، وهو حديث صحيح. قال بعض الصالحين: " كم من كلمة منعنيها حديث بلال ". وقال ابن عبد البر رحمه الله تعالى: " الكلمة التي يهوي صاحبها بسببها في النار، هي التي يقولها عند السلطان الجائر بالبغي، أو بالسعي على المسلم، فتكون سبباً لهلاكه وإن لم يرد القائل ذلك، لكنها ربما أدت إليه فيكتب على القائل إثمها، والكلمة التي يرفع الله بها العبد الدرجات، ويكتب له بها الرضوان، هي التي يدفع بها عن المسلم مظلمة، أو يفرج بها عنه كربة، أو ينصر بها مظلوماً ". وقال بعض أهل العلم: " الكلمة التي يسخط الله تعالى عليها، هي: الكلمة عند ذي السلطان يرضيه بها ويسخط الله تعالى ". ولا شك أن الأمر أوسع من ذلك، فالكلمة التي ترضي الله تعالى قد تكون عند السلطان، وقد تكون في جريدة، وقد تكون في إذاعة، وقد تكون في الرأي، وقد تكون في مجلس، وقد تكون في غير ذلك، وقد تكون في كتاب، أما الكلمة التي يسخط الله عليها فقد تكون في ذلك كله. ومع ذلك فإن باب التوبة مفتوح، وإمكانية التراجع عن ما يسخط الله تعالى قائمة، ولهذا شرعت النصيحة بين المسلمين، لعل مخطئاً أن يتوب وينزع، أو غافلاً أن يصحو أو نائماً أن يفيق. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله! قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم} . ولهذا فإن من حق بعضنا على بعض أن نتعاون على معرفة الخطأ وتصويبه والرجوع عنه، كما نتعاون في إعداد الموضوعات، واقتراح الدروس، وإلقاء المحاضرات. وإنني كما أعربت عن شكري لأولئك الذين وافوني بأشياء تتعلق بدروس، أو محاضرات، أو مقترحات، فإنني أشكر أكثر وأكثر أولئك الإخوة الذين يعينوني على معرفة الأخطاء، وعلى اكتشاف العيوب، سواء كانوا من الأصدقاء، أم من غيرهم. وإذا كان الشاعر يقول: عداتي لهم فضل علي ومنة فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا هُمُ بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا إذا كان هذا كلامه عن عدوه، فكيف ترون وتظنون أن أقول عنكم أيها الأصدقاء! الذين تنطقون بالنصيحة بكل الحب، والوداد، والرغبة في تجنب الخطأ، وإدراك الصواب، والوصول إلى المعالي. إن هذا لا شك يقال لكم من باب الأولى، فلكم أنتم فضل كبير، ومنة كبرى في عنق كل من ساهمتم في تصحيح خطأ وقع فيه، أو استدراك أمر فاته، ولكم مع ذلك كله الدعاء الخالص الحار، أن يرفع الله بهذه الكلمات درجاتكم، وأن يوفي بها يوم الحشر حسناتكم، وأن يجعلكم بها من الدرجات العلى في الجنة، وأن يوفقكم بها لكل خير، ويجنبكم كل شر. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 2 النقطة الثانية: وثائق التنصير وفي ما يتعلق بوثائق التنصير أيضاً، فإنني أقدم شكراً ودعاءً لكل المخلصين الذين ساهموا في نشر هذا الموضوع، والحديث عنه، وترويجه، وإيصاله لمن يعنيه الأمر، ولعلني أجدد الشكر في هذه المناسبة لمجلة الإصلاح الإماراتية التي نشرت أحد هذه الدروس في حلقتين عبر أسبوعين، كما أشكر الأخ الكريم مازن مطبقان الذي كان كتابه أحد مراجعي في موضوع التنصير، وقد كتب في جريدة المدينة مقالاً أشاد فيه بهذه الدروس، فشكر الله تعالى له، وإني أشكره أيضاً على تنبيهه حيث نبهني على أن كتابه المطبوع بعنوان "التنصير في منطقة الخليج العربي" أن هذا الكتاب هو عبارة عن رسالة علمية وليس تقريراً كنسياً كما توهمت وذكرت في إحدى تلك المحاضرات. ثم إن هناك سؤالاً يطرح نفسه حول موضوع التنصير، كيف تحل هذه المشكلة الكبيرة، إنها مشكلة تتفاقم وتزداد يوماً بعد يوم، وتأتينا الليالي الحبالى بالأخبار العجيبة عن تطور في موضوع النصرانية والتنصير وأعمالهم في بلاد المسلمين، وليس أمر هذه الأعمال بجديد، فكيف يمكن حل هذه المشكلة؟ الجزء: 100 ¦ الصفحة: 3 وقفة مع كتاب (أرامكو وامتياز النفط) إنني قد اكتشفت أيها الإخوة كتاباً لم يكن عندي منه علم، وبعث إلي به أحد الإخوة من منطقة الحجاز، فجزاه الله خيراً عني أفضل الجزاء وأوفاه. هذا الكتاب لفت نظري عنوانه: أرامكو وامتياز النفط، وهو كتاب عجيب، لقد أدركت أن الناس منذ زمن بعيد يتكلمون عن مثل هذه الأمور، ويعلنونها بكل وضوح، وأن العالم كله يتحدث عن مجريات الأحوال، وربما يتكلم الإعلام الخارجي أحياناً بشيء من التضخيم والمبالغة عما يجري في هذه البلاد، فهل كتب علينا نحن فقط أن نظل لا ندري ماذا يدور حولنا، ولا نتحدث عنه، ولا نسمعه، ونستكثر حتى مجرد أن يكتب كتاب، أو يؤلف، أو تلقى كلمة، أو محاضرة، أو خطبة عن هذا الموضوع، أو ذاك!! إننا لن نفرح بإصلاح واقعنا إذا لم نكتشف الداء بأنفسنا، ونشترك جميعاً في علاجه، ونمنح الحق كل الحق لمن يريد النصيحة، والتقويم، والنقد الهادف البناء المبني على الحقائق والوثائق، لا على المبالغة والتهويل. إن النصيحة ليست حقاً للإنسان يجب تمكينه منها، لا. ولكنها واجب شرعي عليه، يأثم بتركه، وقد قام مروان بن الحكم يوماً يخطب في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدأ بخطبة العيد قبل الصلاة، فقام إليه رجل فأنكر عليه وبين له سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصلاة تسبق الخطبة فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد قضى ما عليه، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} . إن إنكار المنكر باليد وباللسان هو قرين الإيمان، ولا يلجأ على الاقتصار على القلب إلا أولئك العاجزون، الذين خرست أفواههم عن النطق بكلمة الحق، وشلت أيديهم عن أن يساهموا بتغيير المنكر بأنفسهم، فهؤلاء قد عذرهم الله تعالى إذا نصحوا لله ولرسوله، وبذلوا ما يستطيعون، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، وهو النصيحة في الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إنني أعجب وحق لي أن أعجب، أن بعث إلي أحد الإخوة في ذلك الكتاب المشار إليه أرامكو وامتياز النفط! هذا الكتاب كتبه الخبير أحمد طاشكندي، وهو موجود في المكتبات، وأعتقد أنه متداول أيضاً، ولو على النطاق الضيق، وهو عبارة عن تحقيقات حول شركة أرامكو، أتدري أين نشرت؟! نشرت في جريدة الندوة، ونشرت في جريدة الخليج، ثم طبع هذا الكتاب عام (1380هـ) قبل ما يزيد على (32) سنة. ومن الأشياء التي عمل الكتاب على توضيحها ما يلي: أولاً: ذكر بعض النصوص المتعلقة بعقد الامتياز لهذه الشركة وما جرى عليها من تعديلات. ثانياً: ذكر تصرفات المسئولين الكبار من الأمريكيين في هذه الشركة. ثالثاً: ذكر طرق العمل، وحالة العمال، والموظفين العرب والمسلمين في تلك الشركة. يقول ضمن ما يقول: إن الموظف الأمريكي يعتقد أنه صاحب الفضل الأول في كل هذا الخير الذي يتدفق من أرضنا الطيبة. يقول أحد الموظفين الأمريكان: هل تعلمون أنكم مدينون لنا نحن الأمريكيين لما وصلتم إليه من تطور وتقدم في حياتكم الاقتصادية والاجتماعية! فلولا وجودنا لما استطعتم إخراج الزيت من الأرض! وهذا الكلام الموجود في الكتاب وهو منشور أيضاً في جريدة الندوة في (6/4/1379هـ) . وكذلك ذكر نماذج من معاناة المسلمين، بل وأهل البلد الأصليين، من العاملين الكبار في الشركة، وإهدارهم لحقوق العمال والفنيين المسلمين، ونماذج أخرى من التلاعب المالي الذي تمارسه الشركة بحق الموظفين، وتتحكم بعلاواتهم، وترقياتهم وميزاتهم الوظيفية، ونماذج من استقلالية الشركة بأنظمتها، وعدم خضوعها لأحكام التشريع الإسلامي، وأنها قررت الاحتفاظ كما يعبر بجنسيتها الأمريكية، والعمل بموجب قوانينها الخاصة، دون أية مراعاة للصالح العام في البلاد، ونماذج من خططها لفصل الموظفين من أهل البلاد، وإبقاء من لا يفصل منهم دون خبرة ولا معرفة، إلى آخر ما ذكر. وهذا الكتاب يؤكد الحق في الحديث عن مثل هذه الأمور، بل والإعلان عن ذلك من خلال وسائل الإعلام الممكنة كتباً كانت، أو محاضرات، أو مقالات في صحف، أو غير ذلك، إنه أقل ما يجب للمخلصين الغيورين، الحريصين على مصلحة دينهم وبلادهم. وهذا الكتاب حين أتحدث عنه هو جواب على ذلك التساؤل الذي ربما أثاره بعض الإخوة، وتساءلوا لماذا يكون الحديث عن هذه الموضوعات بشكل علني؟ فأقول: إنها ليست أسراراً، إنها أمور يعرفها الكثيرون، ويعرفها الخاص والعام، وتتحدث عنها وسائل الإعلام الغربية كما أسلفت بشيء من التهويل والمبالغة، فهي تنشرها أحياناً، وقد تتحدث عما تسميه بالفضائح والمسلسلات، والروائح العفنة، التي تفوح في مواقع عدة ولا تتستر عن شيء من ذلك، ويقرؤها الكثيرون، ويعرفها الكثيرون، فلماذا يظل الأخيار والصالحون والمتدينون، هم فقط الذين لا يدركون هذه الأشياء ولا يعرفونها؟! مع أنني أعتقد أنهم أكثر من غيرهم قدرة على الإصلاح والتغيير بإذن الله تعالى، متى صحت النية، وصدقت العزيمة. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 4 ضرر معرفة أخبار التنصير وفيما عدا الكلام عن أرامكوا، فقد وصلني كمٌ هائل من الموضوع عن التنصير، في جدة، والرياض وفي المنطقة الشرقية عموماً، بل وفي القصيم وغيرها، فلماذا نتستر على هذه الأخبار، والمعلومات؟! وما هو الضرر الذي يحدث لنا إذا عرفنا هذه الأشياء؟! إن الضرر الوحيد في نظري يعود على النصارى أنفسهم، فقد يشعرون أنهم يتحركون في أرض غير آمنة بالنسبة لهم، وأن العيون تلاحقهم، وأن خططهم كثيراً ما تكشف بسبب تزايد الوعي وتناميه، وإدراك الناس لأهدافهم ومقاصدهم وهي: إخراج الناس عن دينهم {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] نعم قد حملوا السلاح في يوغسلافيا، وأعلن زعيمهم بقوله: لن نتوقف عن القتل حتى نرى الصليب يلمع على صدوركم. ولكنهم حملوا سلاحاً من نوع آخر في البلاد الإسلامية كلها ولا أستثني منها؛ حملوا سلاح الإغراء بالتطبيب، والإغراء بالخبرات، والإغراء بالأعمال وغيرها. إنهم يكتبون التقارير المفصلة عن نشاطاتهم، وينشرونها في كل دول العالم، فأي ضير إذاً أن يلاحق المسلمون هذه النشاطات، ويكتشفوها، ويكشفوها! والنصارى فقط ليسوا موظفين في مؤسسات حكومية، بل هم أطباء في مستشفيات؛ مستشفيات أهلية، وعاملون في شركات خاصة وعامة، بل وموجودون لدى أفراد كخدم وسائقين، أو غير ذلك! ولعل من الأخبار المفزعة المزعجة أن تعلم بما علمته أنا قبل أيام من مصادر موثوقة، أن رجلاً من أهل هذه البلاد الطيبة؛ بلاد الحرمين الشريفين، {التي يأرز الإيمان فيها كما تأرز الحية إلى جحرها} رجلاً وفير الثراء، يملك عدداً من مؤسسات المال، يقوم بتزويج بناته المسلمات إلى بعض النصارى! هل أدركت حجم هذا الخطر!! لقد عرفت أيضاً أن فتاة دخلت في مذهب أهل السنة والجماعة، وكانت قبل على مذهب التشيع، فتزوجها واحد من شباب أهل السنة، فقامت الدنيا ولم تقعد حتى تم الطلاق، وتدخلت في ذلك جهات عدة مع أن هؤلاء الشيعة يقولون عنا ظاهرياً وبألسنتهم، يقولون عنا: أنتم مسلمون مثلنا، ويقولون: لا فرق بيننا وبينكم، فهنا أتساءل فلماذا الغضب إذاً أن يتزوج مسلم مسلمة؟! فهل ترى يظل أهل السنة وحدهم هم الصامتون على الهوان، الذين لا يدرون ماذا يدور حولهم؟! الجزء: 100 ¦ الصفحة: 5 رسالة فريدة أما التعليق الآخر، وهو مراجعة مهمة: فقد وصلتني رسالة أيضاً من بعض الإخوة في المنطقة الشرقية، وهي رسالة أقرؤها عليكم، لأنها تشكل الفقرة الثالثة وعنوانها "رسالة فريدة". إنني أقرأ عليكم أجزاءً من هذه الرسالة، وفيها كلام يكتب بماء الذهب، ويكفي في تقريره والدعوة إليه وتوكيده، أنني سأخصص له هذه الدقائق لأقرأه عليكم بحروفه. يقول بعد كلام: وقبل أن استطرد -هذا كلامه- أرجو أن لا تسيء فهمي، فإنني والله موافق لك على ما قلت، ولكن قبل محاضرة (59 طريقة لمكافحة التنصير) نحتاج إلى علاج أنفسنا، ومع علمي بأنني على قدر يسير من المعرفة، إلا أنني وجدت نفسي لا إرادياً أسطر لكم هذه الملاحظة. لقد فهم البعض من محاضراتك أن السبب هم النصارى، وأذنابهم، وأتباعهم، وأما نحن فحمل وديع لا ذنب لنا في ما يحدث، كل ما يصيبنا بقضاء الله وقدره، كل ما يحدث لنا هو من المؤامرات التي تحاك علينا، أما نحن فلسنا ملومين: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا نعم، إن العيب فينا، فنحن نعلم، بل نتعايش مع تلكُمُ المنكرات التي ذكرتم، والكثير غيرها، فماذا عسانا عملنا!؟ أين نحن من الحديث الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} الحديث. الكثير منا لم ينكر حتى بقلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، بل إن الغالبية تستهويهم الشياطين، ويخدعهم سراب الحياة الاجتماعية الغربية، فتراهم هم الذين يشجعون أصحاب تلك المنكرات على نشرها، ولا يقتصر هذا التشجيع على المشاركة بل يتعداه إلى تأمين ما يحتاجه أولئك النصارى من الخارج! فيا ترى من الذي يؤمن لهم أدوات الاحتفال بعيد الميلاد؟! ومن الذي يحضر لهم بابا نويل؟! ومن الذي يدافع عن المقبوض عليهم أحياناً من قبل الشرطة والمباحث؟! من الذي يحجز لهم المنازل لإقامة حفلاتهم وطقوسهم الدينية؟! ومن؟! ومن؟! ومن؟! إنهم وللأسف سعوديون يعلمون بحرمة ما يصنعونه، ولكنهم قوم كما قال تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] إنهم عبدة الدينار والمنصب، والهوى والشيطان! إنهم منا، هم إخواننا وأبناؤنا، هم أقاربنا، هم جيراننا، إنهم من يعتقد بأنهم النخبة، وهم في الواقع نخبة معكوسة. أولئك قوم كثير منهم لديهم علمنة، أو جهل، ولكن ماذا عنا نحن الملتزمين؟! هل نحن معفون ولا مسئولية علينا؟! أم نحن موقوفون، وعن تفريطنا مسئولون؟! إن الكثير منا نحن الملتزمين جبناء، أو لا مبالون، بل منا من لا يحضر الصلاة إلا وقت الإقامة، وينصرف من المسجد قبل أن يصلي السنة، خوفاً من رئيسه، أو تهاوناً. إن البعض منا لا يمانع عن التعامل مع النساء بالطريقة نفسها التي يتعامل بها سواه، حتى لا يقال عنه: إنه معقد! البعض منا لا يمانع أن يكتب الربا، إن بعض الملتزمين لا يهمه أن يلمز المطاوعة، ويلصق بهم التعقيد والتزمت، دون أن يدافع عنهم. أما في مجال الدعوة إلى الله تعالى، وإنكار المنكر، على قلة القائمين بذلك، إلا إنهم على طرفي نقيض، فهم إما متحفظ إلى درجة لا يحرك معها ساكناً، أو متحمس إلى درجة كبيرة بحيث يضر بنفسه وبالآخرين، فَتُوأَدُ الفكرة أحياناً قبل ولادتها. والله المستعان! إن الحكمة في الدعوة إلى الله والإنكار -وهي ضالتنا- مفقودة، إن المنصرين يعملون بهدوء، وبشكل لا يلفت النظر، بشكل يبدو فردياً وهو منظم. أما نحن فحتى الآن لم نستطع أن نضع أرجلنا على بداية الطريق، نحن لم نعمل شيئاً، كل الذي عملناه هو تجميع بعض المعلومات، وأرسلنا بها شكوى إليكم، أو إلى الوالد العالم العلامة الإمام عبد العزيز بن باز، أو إلى الشيخ سفر الحوالي، أو غيره. إن إيماننا بالله تعالى قليل، ونفوسنا ضعيفة، إننا حتى الآن نعتقد أن البداية في هذا الطريق هي نهايتنا، فنحن نخاف على مناصبنا، على مستقبلنا، على أولادنا وعيالنا وبيتنا وسيارتنا، ولا زلنا نعتقد أن أرامكو أو الأمريكيين لا يمكن وقفهم عند حد، لازلنا نفكر بالطريقة القديمة القائمة على المجابهة، ولا زلنا نعتقد أن كلاً منا عليه من الرقيب والعتيد ما يكفيه!. ولذلك تجدنا نتوقف قبل أن نبدأ، لا زلنا نعتقد أن تغيير المنكر يحتاج إلى مراسيم عليا، ونسينا أن المنكرات بدأت من طريق أفراد، وأن إنهاءها يحتاج إلى أفراد معدودين. إنني أقول: إن مشوار الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة، فلو خطا كل منا خطوة لقطعنا المشوار في زمن قياسي، لكننا ننتظر المشايخ أن يغيروا كل شيء، والله المستعان! إننا قوم لا ندري ما هو المطلوب منا، نسمع المحاضرة وكأن المعني بها قوم آخرون، أما نحن ففي مهب الريح! خذ مثلاً: ردة الفعل التي حدثت بعد محاضراتك، البعض سمع الأشرطة مثلما يسمع أية محاضرة، والبعض يقول: نعرف هذا من زمان، والبعض أشاع أن الأشرطة لا تنتشر، أنها توقف، أو تحارب، والبعض يقول: إن مجلس أرامكو مجتمع لدراستها، والبعض يقول: إن الأمريكان الذين ذكرت أسماؤهم تقدموا بشكوى عن طريق القنصلية، ليس هذا فحسب، بل إننا نتحدث عنها عن هذه الأشرطة والخوف يملأ قلوبنا لئلا تسمعنا بعض الجهات! إن لنا أجسام الجمال ولنا عقول ربات الجمال! يا ترى هل هذا ما كنت توده منا؟! هل هذا ما كنت تود أن توصله لنا؟! لا أظن ذلك، ولكنا لسنا بعد جاهزين، أو مهيئين لذلك الدور الطلائعي المطلوب منا، لن يغير الله تعالى ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا. سنستوعب محاضراتك وغيرها عندما يصبح الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، سوف ندرك المرامي عندئذٍ، عند ما نكون عبيداً لله عز وجل، لا نشرك به شيئاً، ولا نشرك معه شيئاً، عندما تكون الدنيا في أيدينا نستطيع التفكير في ديننا، أما الآن فالدنيا في قلوبنا ولا نفكر في شيء سواها، رحم الله محاضرات التنصير، وشريط (صانعو الخيام) حتى نتوب إلى رشدنا. أرجو أن لا يكون كلامي هذا مثبطاً، فهذا واقعٌ لا أظنك تجهله، إن ما أريده هو أن نجلس مع أنفسنا جلسة هادئة، ونسأل أنفسنا ماذا نريد؟ إن الإجابة على هذا السؤال في نظري هو المعيار، فإما أن نختار الله والدار الآخرة، عندها فقط تستطيع أن تسمعنا ماذا نريد، أو أننا نريد الحياة الدنيا وزينتها، عندها لا بد من العودة إلى المربع رقم واحد، نتعلم معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، نتعلم التوحيد وأصوله، نتعرف على سيرته صلى الله عليه وسلم، وسيرة أصحابه الغر الميامين. لا بد أن نتعلم ليصبح فينا مثل ذلك الأعرابي الذي قال لـ عمر: " والله لو قلت عن الطريق هكذا، لقلنا لك بسيوفنا هكذا "، لا بد من فهم حديث {احفظ الله يحفظك} . إذا كان الخيار الثاني هو خيارنا، ولا أظنه والله إلا خيار الغالبية، فأمامنا وقت طويل، ومشوار بعيد، حتى نستيقظ من غفلتنا، عندها سوف يكون أمامنا مهمات عظيمة من نوع آخر. ختاماً أسأل الله جلت قدرته أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. هذا ما قاله الأخ الكريم. وإنني أثني جيداً على ما قال، وأؤكد على قضيتين منهما: الجزء: 100 ¦ الصفحة: 6 نحن لا نعفي أحداً من المسئولية الأولى: إن هذا الكلام الذي أقوله، أو يقوله غيري، لا يعفي أحداً أبداً من مسئولية تربية الناس على كتاب الله تعالى وعلى سنة رسوله، وعلى فهم معاني العقيدة الصحيحة. فإن الذين كانوا يخوضون المعارك، وقد جعل الواحد منهم راحته على كفه، هم أولئك الناس الذين امتلأت قلوبهم بالخوف من الله تعالى ومحبته ورجائه، وآمنوا بالدار الآخرة، حتى كأن الواحد منهم يراها رأي عين؛ فهانت الدنيا في نفوسهم، وجعلوها تحت أقدامهم وصار الواحد منهم في المعركة يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] فلا بد من تعميق الإيمان في النفوس، وتحريكها في القلوب، وبعث ما اندثر منه، وإزالة الغبار منه، وإلا فلن نتحرك أبداً. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 7 لن نتوقف عن كشف المنكرات الثانية: أن هذا لا يعني بحال من الأحوال أن نتوقف عن كشف المنكرات، وإعلان النكير على أصحابها، والدعوة إلى تغييرها، وبذل المستطاع في مقاومة ألوان الحرب التي توجه نحو الإسلام والمسلمين. فالدعوة إلى الإيمان، وإلى تجديد الإيمان، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى التوحيد، هذه لا تعارض أبداً كشف خطط المنصرين، ولا تعارض أبداً دعم المشاريع والأعمال الإسلامية، ولا تعارض أبداً الاهتمام بأحوال المسلمين في يوغسلافيا أو في الصومال، أو في فلسطين، أو في أفغانستان، أو في أي بلد من البلدان. إننا يجب أن لا نلهو بشيء عما هو مثله، أو أهم منه، فهذه المشاكل التي نعانيها يجب أن لا تلهي الدعاة إلى الله تعالى، والخطباء، والمدرسين، وطلبة العلم، عن غرس العقيدة الصحيحة في النفوس، وإزالة كل ما يعارضها، أو يناقضها من ألوان الانحرافات، والمخالفات، والمنكرات، والبدع، بل ومن ألوان التعلق بالدنيا، وشهواتها، الخوف من غير الله تعالى، محبة غير الله تعالى، الرجاء في ما عند المخلوقين، والغفلة على أن الله تعالى هو الذي بيده كل شيء. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 8 وللنساء نصيب أما الوقفة الرابعة في هذه المراجعات فهي بعنوان: {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء:7] . وقد جاءتني رسائل عديدة من بعض الأخوات، تعترض على جعل المرأة مع الرجل جنباً إلى جنب في مسئولية الدعوة إلى الله تعالى، وذلك رغم المعرفة بظروف المرأة، والقيود الموجودة عليها. تقول إحدى الأخوات: إنني أملك من النشاط والتفرغ ما لا تملكه كثيرات غيري، وأحمل في قلبي من الحرقة والهم لهذا الدين ما لا يعلمه إلا الله، ومع ذلك فلا أستطيع أن أقدم إلا الضئيل القليل، إلى آخر رسالتها. فأقول تعليقاً على هذا الكلام الذي ذكرته لي غير واحدة من الأخوات: إن القيود التي يتحدثن عنها نوعان: الجزء: 100 ¦ الصفحة: 9 فتيات داعيات وفي تلك الرسالة نفسها التي عقبت فيها الأخت الكريمة -جزاها الله خيراً- على موضوع متابعة الموضة والأزياء وقص الشعر وما يتعلق بذلك. ذكرت بأنها تراجع في مثل هذه الأمور أصحاب الفضيلة المشايخ؛ كسماحة الشيخ ابن باز وغيره، وتبلغ الفتيات بمثل هذه وسواها، وتود أن لا تسمع البنات إلا مثل هذه الأمور. وإنني أشكر للأخت الكريمة، وزميلاتها، أشكر لها أولاً قيامها بالدعوة إلى الله تعالى، فإن هذا أمر عظيم، وهي الوظيفة التي كلف بها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فمن قام بها فهو وريثهم الذي يرجى أن يحشر معهم يوم القيامة في الجنة، مع {النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] . فهنيئاً لهؤلاء الأخوات الكريمات، هذه الوظيفة التي شغلن أنفسهن وأوقاتهن وأعمارهن بها، وظيفة الدعوة إلى الله، وإنكار المنكر، ونشر العلم الشرعي، ونشر الحق في أوساط الفتيات، في وقت قل من يقوم بذلك، وكثر فيه المغرضون، والمرجفون، والداعون إلى الانحراف، والداعون إلى محاكاة الأنماط الغربية والشرقية، في أوضاعنا الاجتماعية والعائلية وغيرها. وأود أن أؤكد للأخت الكريمة أن هذا المسلك الذي سلكته في مراجعة العلماء والمشايخ هو عين الصواب، فإن الإنسان لا ينبغي أن يستبد برأي، أو اجتهاد، إلا بعد أن يراجع أهل الشأن والعلم فيه، ويحادثهم، ويناقشهم، ويعرض عليهم، حتى يطمئن على صواب ما توصل إليه. وهذا هو الأمر الذي نسلكه بحمد لله، ويسلكه غيرنا من طلبة العلم في مثل هذه الأمور وغيرها، وشكر الله للأخوات كثيراً على ذلك. ثم إن هذه المسائل تظل في جملتها مسائل اجتهادية، ليس فيها قطع، ومن وصل فيها إلى رأي، أو اجتهاد لم يسعه أن يترك رأيه أو اجتهاده لرأي غيره، ولا أن يلزم غيره بذلك، فإنه حينئذٍ ترك ما رأى أنه الحق لتقليد، وقد قال الإمام ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-:" أجمع أهل العلم أن المقلد لا يعد من العلماء ". والله تعالى لا يسألنا يوم القيامة ماذا أجبتم فلاناً العالم! أو فلاناً المفتي! أو فلاناً الداعية! ولكن يقول كما أخبرنا جل وعز: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] . فهذا هو السؤال (مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) فإذا كان الإنسان لديه دليل من قرآن، أو آية من كتاب الله تعالى، أو حديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، أو إجماع من أهل العلم قائم، فلا يسعه أن يترك ما ظهر له من ذلك لقول أحد كائن من كان. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 10 انتقاد وجواب كما أن هناك أخوات كثيرات ينتقدن عدم طرح الموضوعات المتعلقة بهن. وجوابي على ذلك: أولاً: أن هذا صحيح وأنا أسلم بما ذكر، وأن أموراً وموضوعات شغلتنا عن قضية النساء، وتجاوباً مع هذا فإنني أقول: سوف يكون درس الأسبوع القادم إن شاء الله بعنوان (أنصفوا النساء) . أما النقطة الثانية: فإنني أقول: إن بعض الأخوات يتحملن جزءاً من المسئولية، في عدم موافاتي كتابياً بالموضوعات، والمشكلات والاقتراحات، التي يكون من المناسب عرضها. إنني أرى أن كثيراً مما يردني من الأخوات إنما هي عبارة عن مشكلات شخصية، أو أسئلة خاصة، تتطلب جواباً شخصياً، فهل يدل هذا على قلة من يتحملن الهم العام في الدعوة إلى الله بين النساء؟! آمل أن لا يكون الأمر كذلك. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 11 التعلق بالموضة وأسباب تحريمه أيضاً أخت ثالثة تحدثت عما ورد في بعض الأشرطة والدروس، كشريط: طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب وغيره، وحول موضوع الموضة وما يتعلق بها. وأذكر مرة أخرى رأيي باختصار في هذا الموضوع، فأقول: هناك فرق بين فتاة تتابع الموضة أولاً بأول، وتتابع التسريحة، كلما صدرت مجلة في الأزياء، أو ما يسمى بالبردة، اقتنتها وأخذت منها الجديد، وتجد أنها يوماً تقلد الشرق ويوماً تقلد الغرب، وتتابع عروض الأزياء بكل دقة وعناية، حتى كأنه لا هم لها إلا خياطة الثياب، وتفصيلها، واقتنائها ومتابعة الموضة، فهذا لا يشك عاقل في أنه محرم لأسباب: 1- أهمهما وأعظمها أنه صورة واضحة من التشبه بالمشركين، وقد روى أبو داود وأحمد وغيرهما عن ابن عمر بسند جيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} كما نهى الله تعالى عن التشبه بأهل الكتاب بقوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] أخذ بعض المفسرين وبعض أهل العلم من الآية النهي عن التشبه بأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذا من أصول الدين العظيمة التي تكلم عنها العلماء، ولعل أهم كتاب ألف في هذا الباب هو الكتاب العظيم اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم للإمام شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فكون المسلم أو المسلمة لا هم له إلا معرفة الجديد في عالم الموضة، أو في عالم التسريحات، أو في غيرها، ومتابعة دور الأزياء الغربية، التي كثيراً ما يقف وراءها اليهود، ثم يلاحق ذلك أولاً بأول، لا شك أن هذا فيه تشبه بهم أولاً. 2- ثم إن فيه من شغل الوقت، والقلب، والعقل، وضياع العمر، ما يقطع معه المدرك بأنه من أول وأول ما يدخل في باب المحرمات، هذه مسألة. لكن هناك مسألة أخرى تختلف عن ذلك اختلافاً كبيراً، هناك فتاة صالحة وجدت تفصيلاً لثوب بشكل معين، فأعجبها هذا التفصيل، ثم أجرت عليه التعديلات الشرعية، فإن كان قصيراً طولته، وإن كان ضيقاً وسعته، وإن كان فيه فتحة كبيرة صغرتها، وإن كان بلا أكمام وضعت له الأكمام، ثم خاطت على هذا النمط فهنا لا أستطيع أن أقول: إن مثل هذا العمل ممنوع، بل هو في رأيي مباح، شريطة أن لا يكون هذا ديدنها، وعادتها التي تركض وراءها كما أسلفت في النقطة الأولى. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 12 القيود الاجتماعية على المرأة أما ما يتعلق بالقيود الاجتماعية، فلا شك أن بعض المجتمعات قد تفرض على المرأة أشياء ليست واجبة في الشرع، لكن المجتمع ليس لديه رغبة في أن يتساهل بشأنها، لاعتبارات كثيرة لا مجال للحديث عنها. ولا شك أن المرأة حينئذٍ مطالبة بمراعاة الحكمة بقدر المستطاع، ومحاولة أن تقوم وتقدم أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا شك أنه كما قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] . مثلاً: هذه فتاة في بيتها، تقوم بالدعوة إلى الله، وإلقاء الدروس عند النساء، وأمرهن بالمعروف، ونهيهن عن المنكر، وتبيين حدود ما أنزل الله على الرسول، فتجد من والدها اعتراضاً على خروجها، وتجد من أمها أيضاً اعتراضاً، فالوالد يرى أن خروج البنت من المنزل عيبٌ عليها، والأم ترى أن في بقائها في المنزل مساعدة على أعمالها ومسئولياتها، فحينئذٍ تحتاج هذه الفتاة المؤمنة الداعية إلى التوفيق بين هذه الأشياء كلها. فلا بد من السعي إلى نيل رضاها، ورضى والدها، وأن يكون خروجها تحت سمعه وبصره، وأن تكون معتدلة في الخروج، بشكل لا يدعو إلى القلق والانفعال. كما عليها أن تسعى إلى إرضاء والدتها، بالقيام ببعض الأعمال التي تستطيعها وقت فراغها. ثم إن عليها مع هذا وذاك أن تدرك أن مسئولية الدعوة مسئولية كبرى، وأن عليها أن تضحي في سبيلها بجزء من راحتها ووقتها. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 13 المسئولية مشتركة بين الرجل والمرأة ملاحظة أخرى من بعض الأخوات، وأيضاً في ما يتعلق في الموضوع السابق، فإنني أذكر بأن ما قلته من أن المرأة والرجل في الأصل مسئوليتهم مشتركة أنه صحيح، والله تعالى يقول في محكم التنزيل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] وقال سبحانه في غير موضع: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] إلى آيات أخرى كثيرة ذكر الله تعالى مسئولية المرأة فيها ومسئولية الرجل أيضاً. وفي سنن الترمذي وأبي داود عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {النساء شقائق الرجال} ومعنى قوله: {شقائق الرجال} جمع شقيقة، والشقيق هو: المثيل، والنظير، كأن الشقيق وشقيقه شُقَّا وقُطِعَا من شيء واحد، فأحدهما صورة عن الآخر. والأمر كذلك كما قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1] فقد خلق الله تعالى حواء من آدم وخلق منها زوجها كما جاء في بعض الآثار عن ابن عباس وغيره، وهناك أحاديث تدل على هذا المعنى في الصحيحين وغيرهما. إذاً فالأصل أن مسئولية المرأة هي نفسها مسئولية الرجل، إلا أن يأتي دليل يدل على تخصيص الرجل بحكم شرعي فيعمل به، أو دليل يدل على تخصيص المرأة بحكم شرعي فيعمل به. على سبيل المثال: صلاة الجماعة واجبة على الرجال بالنص، ولكنها ليست واجبة على النساء، فهذا حكم يخص الرجل ولا يلزم للمرأة، وهناك أحكام تتعلق بالنساء ولا تتعلق بالرجال وهي كثيرة معروفة جمعها الشيخ صديق حسن خان في كتابه: حسن الأسوة فيما ورد عن الله ورسوله في شأن النسوة. هناك أخت أخرى تنفي ما سبق أن ذكرته في بعض المناسبات، أن بعض الأخوات الملتزمات قد تنشغل بدعوتها وعبادتها وصلاحها وقراءتها وعلمها، قد تنشغل بذلك عن نفسها، فتقصر في أمر ملابسها، أو أمر بيتها وتنظيمه، أو أمر زوجها، أو ما أشبه ذلك، أو لا تهتم بمظهرها. وتنكر هذه الأخت وجود مثل ذلك، وجواباً على هذا أقول: إن هذه الحالة حالة موجودة، وإن كنت أعترف للأخت ولغيرها أنها قليلة فعلاً، وللأخت الكريمة أن تنفي هذا الأمر الذي ذكرته عن نفسها، ولها أن تنفيه عمن حولها، وعمن تعرفه، لكن من الصعب أن تنفي هذا عن جميع الأخوات الملتزمات. أما أن يكون أهل الشر والفساد قد يستغلون مثل هذا الكلام، ويعممونه ويلصقونه بكل الملتزمات، وكل الداعيات، فإنني أقول: لا يجب أن نخاف من هؤلاء، أو نتستر على أخطائنا من أجلهن. الخطأ لا مانع من معالجته ومناقشته، والحديث عنه دون تشهير، ودون تحديد، ودون تنقص، ودون تضخيم له، لكن لا مانع من الحديث عنه {فإن الدين النصيحة} كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم. والحديث عن هذه الأخطاء هو بإذن الله تعالى السبيل لإزالته، فإن الأخطاء لا تكبر وتتضخم وتتسع وتتراكم إلا بالسكوت عنها، والتستر عليها. ثم لماذا يكون لنا الحق في نقد جميع طبقات المجتمع؛ فننقد الأطباء والمستشفيات، وننقد التجار، وننقد الموظفين والمسئولين، وننقد الإعلام، وننقد جهات كثيرة ومتعددة، ثم لا يكون الحق مشابهاً في أن ننقد أنفسنا؟! إن هذا ليس من العدل في شيء. بل ينبغي لنا أن ننتقد أنفسنا، حين أتكلم أو يتكلم غيري عن أهل الخير والصلاح والدعوة فإن الله تعالى يعلم أن الواحد كأنما يتكلم عن نفسه، ولكن لا يرى مسوغاً أن يتستر، أو يسكت عن هذه الأشياء. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 14 القيود الشرعية على المرأة النوع الأول: هي القيود الشرعية، أي: أن الشرع جعل هناك قيوداً على المرأة، مثل: أن الرجل يسافر حيث شاء، أما المرأة فلا تسافر إلا مع ذي محرم، فهذا لا شك قيد شرعي، وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} فهذا قيد صحيح، وهو قيد شرعي يجب اعتباره، ولا يعفي المرأة من التزام هذا القيد أن تحتج بأنها قصدت الدعوة إلى الله تعالى، فإن ما عند الله تعالى لا ينال بمعصيته. وبشكل عام فالرجل يأتي قبل المرأة، والله تعالى يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ويقول سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] فالمرأة لا تتمنى منزلة الرجل، وقد جعل الله تعالى لكل نصيباً وجعل لكل قدراً، ولكن أيضاً لدى المرأة عبوديات لا توجد مع الرجل، فقد أمرها الشرع بأشياء من تربية أولادها، ورعايتهم، وحسن سياستهم، ومن العناية بزوجها، وحسن استقباله، وتسهيل الأمور له، وإعانته على أمر الدعوة، وتسهيل المهمات في طريقه، إلى غير ذلك مما لا يستطيعه سواها، كما إنها تستطيع من وسائل الدعوة، ونشرها، والقيام بها في أوساط بنات جنسها، ما لا يقدر عليه الرجال، فهذا فيما يتعلق بالقيود الشرعية. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 15 الوقفة الخامسة: تصحيحات وهي تتعلق بتصحيحات وافاني بها جمع كبير من الإخوة، أكرر أني لا أملك لهم إلا أن أدعو الله لهم من قلبي أن يجعل الله ما تقدموا به في ميزان حسناتهم، وأن يرفعهم الله تعالى به درجات في الدنيا وفي الآخرة، وأن يجزيهم به عني خير الجزاء. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 16 تصحيحات فقهية أيضاً ضمن التصحيحات بعض التصحيحات الفقهية: 1- عدد السنن الرواتب: فمن ذلك ما يتعلق بالسنن الرواتب، وكنت ذكرتها في درس (هكذا صلى الأنبياء) وأعيدها الآن توكيداً وتوضيحاً، مع أن الأمر فيها واضح لا لبس فيه. فالسنن الرواتب جاءت في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عشر ركعات، والحديث متفق عليه. وفيه قوله: {حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وركعتين قبل صلاة الصبح} فهذا يدل على أن الرواتب خمس يعني: عشر ركعات. وجاء في حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها ما يدل على أنها اثنتا عشر ركعة، فقد روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدع أربعاً قبل الظهر، وركعتين قبل الغداة} فدل هذا على أنها اثنتا عشرة ركعة، منها: أربع قبل الظهر. والجمع بين هذين الحديثين هو كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد: إما أن يقال: إنه صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى في بيته صلى أربعاً, وإذا صلى في المسجد صلى ركعتين. وهذا أظهر. وإما أن يقال: كان يفعل هذا ويفعل هذا، يعني: يفعل هذا وهذا في وقت واحد. يعني: يصلي أربعاً في بيته وركعتين في المسجد فيكون المجموع يصلي ستاً، هذا احتمال، أو أربعاً في البيت وركعتين في المسجد، وقد روي هذا المعنى عن أبي السائب رضي الله عنه مرفوعاً، وعن ابن مسعود وأبي أيوب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم. أو يكون النبي صلى الله عليه وسلم يفعل هذا تارة ويفعل هذا تارة، فتارة يصلي أربعاً وتارة يصلي ركعتين. 2- فتوى بخصوص العمل في مؤسسة الراجحي: المسألة الفقهية الثانية التي راجعني فيها بعض الإخوة، هو ما يتعلق بالفتوى التي ذكرتها قبل أسبوعين في العمل في مؤسسة الراجحي، وقد قال لي بعض الإخوة: إنه وجد عندهم بعض المعاملات، سواء في القسم النسائي في الذهب، أو في البيع بالتقسيط، أو في غير ذلك، فأقول جواباً على هذا: أولاً: الذي أفتيت به هو كان جواباً عن سؤال العمل في بنك الراجحي، والذي أرى أن العمل في هذا البنك الأصل فيه أنه جائز ولا دليل على منعه، والأصل في أنظمة هذا البنك أنه لا يتعامل بالربا، ولو أتيت لتودع مالاً مقابل أخذ فائدة؛ لم يقبلوا منك ذلك، فهو لا يقبل مبدأ الإيداع الربوي الذي تقوم عليه البنوك الأخرى، وهذا أمر ظاهر. ثانياً: قد يحدث من بعض العاملين، أو بعض المسئولين في مكاتب فرعية مثلاًَ، أو بعض المباشرين الذين يتولون الأمر مع الناس، قد يحصل منهم تساهل أو تفريط أو تقصير، وقد جاءني أشياء من ذلك، وسألت العاملين والمسئولين الكبار في الشركة، وفي مجلس الإدارة، فقالوا: إننا لا نقر شيئاً من ذلك قط، وإننا نطلب أن يوافينا كل إنسان بأي معاملة تكون مخالفة للشريعة، سواء عن طريق معاملات التقسيط أو غيرها. وإن ذلك لا تقره الشركة، ولكنه قد يحصل من بعض الأفراد العاملين فيها، فأطلب من بعض الإخوة الذين يجدون أشياء من هذا القبيل أن يكتبوا للعاملين في الشركة، ويواصلوهم بذلك، وأعتقد إن شاء الله أن لديهم رغبة أكيدة في التصحيح، والوصول إلى المستوى المطلوب من الناحية الشرعية. علماً أن هناك هيئة رقابة شرعية قائمة على هذه المؤسسة، وفيها جماعة من العلماء الفضلاء، كالشيخ عبد الله البسام، والشيخ صالح الحصيّن وغيرهم، وهم حريصون على هذه الأمور إن شاء الله بشكل كبير. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 17 تصحيحات لغوية هناك مجموعة من الإخوة وافوني بتصحيحات لغوية كثيرة، سواء في قواعد اللغة العربية، مثل موضوع العدد والمعدود وعدم مراعات القواعد النحوية فيها بالنسبة لي، وكوني أخطئ في ذلك. أو بعض الكلمات التي أنطقها أحياناً بطريقة غير صحيحة، وأنا أشكر للإخوة هذه الملاحظات وأطلب منهم المزيد. إن الإنسان أحياناً يكون قد أخذ لسانه منذ الصغر على نطق الكلمة بشكل معين، ثم عرف الصواب، ولكنه لم يتعود لسانه عليه، فيحتاج إلى وقت حتى يتخلص من ذلك، وأعتقد أننا بالتنبيه نفلح في اختصار الوقت، فجزاكم الله خيراً. من الكلمات التي لاحظها الإخوة كلمة: (وصِل) ، والصواب أنها: (وصَل) بفتح الصاد، وأيضاً كلمة بتسكين الميم، وكنت أنطقها أحياناً بضم الميم، وأشكر هؤلاء الإخوة وأعدهم بمحاولة التغلب على ذلك كله. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 18 تصحيحات حديثية هناك نوع آخر من الملاحظات والتصحيحات وهي أمور حديثية: فقد كتب إلي عدد من الإخوة عن بعض الآثار والأحاديث التي كنت سقتها في مناسبات متنوعة وتحتاج إلى تخريج، أو إلى استدراك. وأذكر لكم شيئاً من ذلك: 1- ما أُثر عن عمر في الخمر: فمنها: أنني في محاضرة وأعتقد أنها كانت بعنوان "التربية الوجدانية" ذكرت أثر عمر رضي الله عنه قوله: [[والخمر ما خامر العقل]] ونسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواقع أن هذا ليس بحديث مرفوع، ولكنه أثر موقوف على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد رواه البخاري في كتاب: التفسير، من صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت عمر رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [[أما بعد أيها الناس: إنه نزل تحريم الخمر، وهي من خمسة: من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير. قال: والخمر ما خامر العقل]] . 2- أثر علي (أحبب حبيبك هوناً ما) الملاحظة الثانية: أثر علي رضي الله عنه: [[أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] فقد ذكرت هذا الحديث وعزوته إلى الترمذي وغيره مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. والواقع أن هذا الحديث رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه ورواه الطبراني عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، ورواه الدارقطني في كتاب الأفراد، والبيهقي أيضاً في الشعب عن علي رضي الله عنه ورواه البخاري في الأدب المفرد، وابن عدي، والبيهقي في الشعب عن علي رضي الله عنه موقوفاً عليه، ورواه غيرهم عن عمر رضي الله عنه كما في كتاب الأدب المفرد للبخاري. وقال الترمذي عن هذا الحديث: " هذا حديث غريب لا نعرفه بهذا الإسناد إلا من هذا الوجه " ثم ضعف الحديث المرفوع ثم قال: " الصحيح عن علي موقوف من قوله " يعني: أن الحديث لا يصح مرفوعاً بل هو موقوف، وهذا الذي رجحه جماعة من أهل العلم، وكأنه هو المعتمد، وإن كان بعض أهل العلم الكبار رجحوا المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى كل حال فالمسألة مسألة اجتهادية تعتمد على البحث والنظر. يبقى كلام في معنى الحديث: [[أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيظك يوماً ما، وأبغض بغيظك هوناً ما، عسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] . إن الحديث يدعو إلى الاعتدال في المحبة، فهذا الذي تحبه ربما يتحول يوماً من الأيام إلى عدو مبغض، واعتدل أيضاً في البغضاء، فربما كان هذا العدو الذي تبغضه أشد البغض ربما تحول يوماً من الأيام إلى محب. وهذا المعنى ورد في القرآن الكريم قال الله عز وجل: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً} [الممتحنة:7] وعسى من الله واجبة كما قال المفسرون، كما قال ابن عباس وغيره: فتحول هؤلاء القوم الذين كانوا أعداء مبغضين، تحولوا إلى أصدقاء محبين موالين مناصرين، فينبغي على الإنسان أن يعتدل في حبه وبغضه. ولهذا جاء في المثل (لا يكون حبك كلفاً) أي: تسرف في المحبة، وتعطي العواطف بلا قياس، حتى إنك تجد في بعض المجتمعات، وفي بعض مدارس البنات، ومدارس الأولاد، ما يسمى بالإعجاب. أن البنت تتعلق بمدرسة، أو حتى بزميلة تعلقاً شديداً، فتصبح لا تصبر عنها ساعة من نهار، تكلمها، وتحادثها، فإذا غابت عنها اتصلت بها في الهاتف، وتقلدها بأصواتها، وحركاتها، ومشيتها، وملابسها، وتسريحتها، وكل شيء حتى تذوب شخصيتها في شخصية تلك الأخرى وكأنها ظل لها! وهذا لا شك أنه مذموم، ومن تأله القلب، وتعلقه بغير الله تعالى، ويخشى أن يؤدي بالإنسان إلى لون من ألوان شرك المحبة قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] . فينبغي للعبد أن يحذر من ذلك، وأن لا يجعل قلبه مسرحاً ومرتعاً للتعلق بفلان وفلان، فيكون عنده محبة معتدلة للخير وأهله، وإذا أبغض فينبغي أن يكون بغضه معتدلاً (لا يكون حبك كلفاً ولا يكون بغضك تلفاً) فالاقتصاد في العواطف إذن مهم. 3- آثار عن عمر أسنادها منقطعة: أيضاً من الملاحظات في هذا الجانب: أولاً: قول عمر رضي الله عنه: [[حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] . هذا أخرجه الإمام أحمد في الزهد، وابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس، وأبو نعيم في الحلية عن ثابت بن الحجاج عن عمر، ورجاله ثقات، وإن كان ثابتاً هذا لم يسمع من عمر رضي الله عنه. ورواه مالك بن مغول أنه بلغه عن عمر، أخرجه ابن المبارك في الزهد، وكذلك رواه أبو عبيد في المواعظ، وعلقه الترمذي في سننه. وأيضاً مثله قول عمر رضي الله عنه: [[رحم الله من أهدى إلي عيوبي]] . أخرجه الدارمي في سننه عن عباد بن عباد الخواص عن عمر في خبر طويل وسنده منقطع، ولكن معناه صحيح، وربما وجد بغير هذا الإسناد. [[رحم الله من أهدى إلي عيوبي]] فإن العبد يدعو ويفرح وهذا الأثر مناسب جداً لهذا الدرس؛ لأن فيه دعوة الإخوة إلى أن يتهادوا عيوبهم، فانظر كيف اعتبر ذكر العيب هدية تقدمها له؛ لأن الإنسان قد لا يكتشف عيبه بنفسه، قال الشاعر: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشوراتِ فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة مثله أيضاً: قول أبي الدرداء -رضي الله عنه: [[إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم لم يتركوك]] هذا أخرجه الخطيب البغدادي في التاريخ، وابن عساكر أيضاً عن لقمان بن عامر عن أبي الدرداء موقوفاً وفي سنده فرج بن فضالة وهو ضعيف، ولقمان بن عامر روايته عن أبي الدرداء مرسلة كما قال أبو حاتم الرازي رحمه الله. ورواه عون بن عبد الله أيضاً عن أبي الدرداء، أخرجه ابن قتيبة في غريب الحديث، وابن عساكر وهو مرسل. ورواه يحيى بن سعيد عن أبي الدرداء كما عند ابن عساكر، والأثر ثابت عن أبي الدرداء في هذه الطرق وغيرها والله تعالى أعلم. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 19 تصحيحات فنية بعض الإخوة انتقدوا سرعة الإلقاء في الدروس، خاصة في الدروس الأخيرة، وأتمنى أن لا يكون هذا الدرس هو الآخر موصوفاً بسرعة الإلقاء، وأحرص إن شاء الله تعالى على أن أراعي ذلك بقدر المستطاع، وإن كان ثمة من عذر أتقدم به فهو أن الإنسان يأتي أحياناً وأمامه مجموعة كبيرة من الأوراق، وعدد من الموضوعات، فهو يتمنى أن يتمكن من أن يقولها لكم قبل أن ينتهي الوقت المحدد. وبعض الإخوة أيضاً ينتقدون قراءة بعض الأسئلة بشكل مختصر، حتى إنهم قد لا يفهمون السؤال، ولا يعرفون ما المقصود به، وهذه أيضاً ملاحظة صحيحة، وأتمنى أن أتلافاها إن شاء الله تعالى. وآخرون يقولون: إنك في إجابتك على الأسئلة تختصر اختصاراً شديداً، ويطلبون أن يكون هناك نوع من التطويل في إجابة الأسئلة، وذكر بعض الأقوال وبعض الأدلة وما شابه ذلك، وأقول لهم: نعم أفعل إن شاء الله تعالى. وإخوة آخرون يطلبون ذكر المراجع في بعض الدروس وفي بعض الكتب، وهذا إن شاء الله تعالى سوف أراعيه مستقبلاً. كما أن بعض الإخوة نبهوني، جزوا أفضل الجزاء، على نسيان خطبة الحاجة في بعض المحاضرات والدروس، وفي بعض الكتب أيضاً، فسوف أعدل ذلك فيما يتعلق بالكتب، وأراعيه فيما يتعلق بالإلقاء. هذا ما يتعلق بتصحيحات، أستطيع أن أقول عنها إنها تصحيحات فنية. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 20 رسالة إلى الدعاة هذه رسالة مهمة وهي الفقرة السادسة، وهي رسالة بعث بها أحد الإخوة الغيورين، الأخ الشيخ محمد الحمد، جزاه الله خيراً، بعث بها إلى أحد الدعاة الذين كانوا موجودين هنا قبل أسبوعين أو ثلاثة، وقد أعجبتني، ورأيت أنها لا تخص داعية بعينه، بل هي لكل الدعاة، بل لنا جميعاً، وأحببت مشاركة الجميع بقراءة هذه الرسالة، وسأختصر بعض الكلمات: أكتب لكم هذه الرسالة منطلقاً من قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] ومن قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا أحببت أخاك فأخبره أنك تحبه} وقوله: {الدين النصيحة} . لقد حباكم الله محبة وقبولاً في قلوب المسلمين في شتى أصقاع الأرض، وما ذلك -والعلم عند الله تعالى- إلا لإخلاصكم وقوتكم في الحق وحرصكم عليه. ومن هذا المنطلق أود أن أذكركم ببعض الأمور، وما أخالكم إلا تذكرونها وتعلمونها وتستحضرونها وتستشعرونها، ولكن لحاجةٍ في نفس يعقوب أحببت الكتابة إليكم مذكراً ومحباً. فأول شيء أود أن أذكركم به: الاحتساب في كل عمل تقومون به، سواء كان ذلك عن طريق المحاضرات، أو الدروس، أو التأليف، أو المراسلة، أو جمع التبرعات، أو أعمال البر والإغاثة، وهذه الأعمال الجليلة قد نفع الله بها نفعاً عظيماً ونسأل الله تعالى أن ينطبق عليك قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فاحتسبْ عند الله تعالى كل كلمة تقولها، أو تكتبها، واحتسبْ عند الله تعالى ما تقوم به من جهد لتحضير المحاضرات، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل من حضر إلى المسجد، أو رابط فيه لسماع درس، أو انتظر الصلاة إلى الصلاة، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل مسلم سَلَّم على أخ له في الله بعد الدرس أو المحاضرة، واحتسبْ عند الله أجر كل من أعانك على درس، أو استفاد، أو دعا إلى الله تعالى بسببك؛ احتسبْ ذلك لأنك تسببت لهؤلاء بتلك العبوديات المتنوعة، واحتسبْ عند الله تعالى أجر إحياء الأمة، وبث روح الدعوة والثقة والشجاعة فيها، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل واحد ترك معصية، أو فعل طاعة، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر بسببك، واحتسبْ عند الله تعالى أجر من نالك بسوء أو غيبة، واحتسبْ عند الله تعالى أجر كل ملهوف أغثته، أو مكروب نفست كربته، أو جائع سددت جوعته، أو عارٍ أعنته على كسوته، أو أيمٍ من سعيت في زواجه، وأحصنت فرجه، وأعنته على قيام أسرة مسلمة، فكثر بذلك سواد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، واحتسب عند الله تعالى أجر كل مدين أعنته على قضاء دينه، أو دعوة صرفت لك من المسلمين، واحتسبْ عند الله أجرها وأجر تسببك فيها، واحتسبْ عند الله تعالى كل سنة أحييت بسببك، وكل بدعة أميتت بسببك أو قمعت. وبالجملة احتسب عند الله تعالى كل صغيرة وكبيرة، وشاردة وواردة، ولا تنس نصيبك من الله، فالأعمال كما قال ابن القيم -رحمه الله-: (تتفاضل بحسب ما في القلوب من حقائق الإيمان) . أمام هذا الخير العظيم والنفع العميم هل يتصور منكم معشر الدعاة! أن تقفوا عند حد معين؟! أو ينتهي طموحكم عند مكسب قل أو كثر!؟ هل يقف أمامكم، وأمام آمالكم تخذيل مخذل، أو عذل عاذل، أو إرجاف مرجف؟! أترك الإجابة لكم، وأذكركم بقول القائل: عذل العواذل حول قلب التائه وهوى الأحبة فيه من سودائهِ أأحبه وأحب فيه ملامة إن الملامة فيه من أعدائهِ إن هذه النعم التي تترى تحتاج إلى شكر عظيم، ومن ذلك الشكر مواصلة المسيرة، وألا يقف الناس في منتصف الطريق، ومن شكرها أن تتقبلوا كل نصيحة وتعملوا بها، ومن شكرها الإقبال على الله تعالى قلباً وقالبا، والزهد عن مُتَع الدنيا الفانية، ومن شكرها العفو عن من أساء إليكم، أو من نالكم بسوء: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ولا نوصيك بالعفو عن من أساء، لا. بل نوصيك بالدعاء له بظهر الغيب لأن القلب الكبير لا يتسع إلا لذلك. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ أرحت نفسيَ من ظلم العداوات إني أُحيي عدوي عند رؤيته لأدفع الشر عني بالتحياتِ ومن شكر تلك النعمة أن تفتح صدرك لجميع الناس وإن ضايقوك، فهذا جزء مهم في التربية العملية، لا يقل أهميةً عن الدروس والمحاضرات، وكل من أتاك ليراك، ويسلم عليك، ولم يَحْدُه لك إلا المحبة والشوق، فالله الله! بهذه الخلة العظيمة، التي فرط فيها وللأسف الكثيرون، حيث يقابلون الناس بالفضاضة والغلظة، وهذا لا يليق، فكل شخص أتى للسلام أو السؤال يشعر أن له حقاً، ولرب كلمة أو ابتسامة، أو انبساط، أو تصرف، أو اعتذار لطيف لبق، يُرى في الداعية، فيكون ذلك حافزاً له على الخير، والعكس بالعكس، فلو أن أحداً أُهين أو أغلظ عليه، فلربما كان ذلك سبباً لبغضه للدعاة. فنأمل جميعاً أن تستمروا على ذلك الأمر، على فتح الصدر، وأن توصوا الدعاة بذلك، فلعل الله تعالى أن يبارك في الجهد والوقت، بسبب وقفة مع سائل، أو ملهوف، أو محتاج، أو حائر. فإذا رُدَّ فإلى من يتجه بعد الله سبحانه وتعالى؟ سيتجه إلى الفسقة وأرباب الفكر الخبيث، من العلمانيين وغيرهم، من الذين يريدون أن يتخطفوا الشباب ويجروهم إليهم. ولقد حدثني أحد الإخوان وكان يقطن بجوار رأس من رءوس العلمانية، أنه لا يدع أحداً من خدمه وأهل بيته يقوم بفتح الباب، بل إنه يبادر بنفسه ويقوم بفتح الباب، ويكرم الضيف، ويخرج معه، ويركبه في سيارته، أو يركب معه، ويستمع لجميع ما يقول، ثم يودعه وداعاً حاراً عندما يريد الذهاب من عنده، أفيغلب هؤلاء المبطلون الدعاة المصلحين والعلماء العاملين في هذا المجال؟!! ومن شكر هذه النعمة أن تتذكروا إخوانكم وزملاء من الدعاة والمشايخ: إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن وفي الختام: ذكر بعض الدعوات، فجزاه الله تعالى خيراً، وقد وصلتني هذه الصورة من هذا الموضوع، وهذه الرسالة الجميلة، التي أسأل الله تبارك وتعالى لكاتبها أن يجزيه خيراً، ويجعل له بكل حرف حسنة، إنه على كل شيء قدير، وأدعو الإخوة إلى مثل هذه المشاركات العظيمة، التي تقوي القلوب، وترفع الهمم، وتشد العزائم. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 21 أخبار مهمة متفرقة وأمامي مجموعة كبيرة من المشاركات، وإلى جوارها مجموعة كبيرة من الأسئلة، فمن الأخبار المهمة: الجزء: 100 ¦ الصفحة: 22 كاتب يسخر من المتدينين وهذه قصاصة من أبشع وأفظع ما قرأت! فقد تكلمت الصحف كثيراً حول موضوع الزلزال في مصر، وهذا الزلزال عقوبة إلهية، أو انتقام، أو تنبيه، أو تحذير، أو غير ذلك. ولا شك أننا تكلمنا أيضاً قبل أسبوعين بما يعتقد أنه هو الصواب في هذه المسألة، ولكن الذي أزعجني كثيراً أن يكتب كاتبٌ كـ محمود السعدني في أخبار اليوم في العدد (2503) مقالاً يقول فيه: أما بعد، تصورت خلال مشاهدتي لبرنامج تلفزيوني -هذا في مصر استغرق ساعتين يوم الثلاثاء الماضي- تصورت أن مبنى التلفزيون قد وقع في يد تنظيم الجهاد -طبعاً المقال كله سخرية بالمسلمين والشباب المتدين- يقول: تصورت أن التلفزيون قد وقع في يد تنظيم الجهاد، وأن البيان رقم واحد سيعقب هذا البرنامج المريب، يحمل نبأ تأليف الوزارة الجديدة برئاسة مولانا الإمام حجة الإسلام كحكوح بن سمعان، ولا شك أن المواطن شجاع، وإيمانه بالله قوي كما أنه نموذج للصبر، ورباطة الجأش، وقوة الاحتمال. إلى أن يقول: ولكن ما جاء في البرنامج الذي استغرق وقتاً لا أستطيع تحديده، لا شيء سوى أن المواطن سعيد الحظ لا يريد الآن من الحياة إلا قضاء وقته داخل المسجد، والانقطاع للعبادة، وتأدية الصلاة، وهو لا يريد شقة، ولا زوجة، ولا شيئاً، ونصيحته للناس أن يتركوا كل شيء، ويتفرغوا لاستقبال الآخرة التي هي المأوى والمصير، أما الحياة فهي لا تساوي شيئاً، والأعمال، والأشغال، والمعايش، والأرزاق، فهي كلها مكروهة، لأنها تعطل الإنسان عن واجبه الرئيسي وهو العبادة وذكر الله تعالى! -هو ما قال (تعالى) ، أنا أقول: (تعالى) ، هو يقول: العبادة وذكر الله! - ولا أعرف كيف فات على معدي البرنامج العبقري الاستعانة بفرقة أبي الغيط، وكيف لم يقدم للمشاهدين مع البرنامج واعظاً مثل الشيخ حسن مات، لكي يحدثنا عن عذاب القبر، ويصف لنا خواص الماء المغلي الذي سيشربه الكافرون في الدرك الأسفل من النار!! تصور إلى أي حد بلغت السخرية بهذا الرجل! يقول: إن الزلزال كان فرصة لعرض صور الشهامة والبطولة والفداء، وتسليط الضوء على رجال الإنقاذ، والألوف الذين تقدموا عن طيب خاطر للتبرع بدمائهم، ومن بينهم أطفال. ولكن التلفزيون، وللأسف الشديد ومنذ الزلزال وحتى الآن، تحول إلى فرع من فروع جماعة الناجين من النار. نسأل الله أن يجعلنا من بركاتكم، وأن يجعل آخرنا في زاوية من زوايا التلفزيون، أو في برنامج على الهواء ننقطع فيه للعبادة وللصلاة!! إنها كارثة أن يكتب مسلم، أو إنسان ينتسب إلى الإسلام، مثل هذا الكلام الذي يدل على أنه يسخر من عذاب القبر، ويسخر من الماء المغلي؛ الماء الذي ذكره الله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:1-5] يعني: حارة شديدة الحرارة. وقال تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] وقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43-44] يعني: حار شديد الحرارة. ألا يخشى هذا الإنسان أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم ما قال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن:43] !! هل تعتقد أن إنساناً في قلبه الإيمان، بأن في قلبه الجنة، وهي مأوى المؤمنين، وأن النار موجودة وهي مأوى الكافرين يجرؤ على أن يكتب مثل هذا الكلام، ويسخر من المنتسبين إلى الإسلام. إنه لا ينقضي عجبي! أنه في الوقت الذي نجد السخرية من الدين، والمتدين، وأحكام الإسلام، وعقيدة الإسلام، والقرآن، والسنة، أننا نجد من هؤلاء الصحفيين أنفسهم وأمثالهم، محاولة الإعجاب بالغرب، وتقديم الأمريكان لنا والنصارى واليهود على أنهم إخواننا وأشقاؤنا، وأنهم هم المنقذون لنا، وأنهم شركاؤنا في العمل، وفي الحياة، وفي الأرض، وفي الحضارة، وفي التصنيع، وفي غير ذلك! فأي انحراف، وأي ردة أعظم من هذه الردة!! إنها انسلاخ من حقيقة دين الإسلام، انسلاخ من هذه العقيدة التي توارثتها الأمة واجتمعت عليها، إنها انسلاخ حتى من هذه الأمة، فهؤلاء لم يعد يسرهم أن يكونوا جزءاً من هذه الأمة، ولا أن ينسبوا إليها، هم يفرحون أن ينسبوا إلى الغرب أو الشرق، إلى النظام العالمي الجديد، أو النظام الشرق أوسطي الجديد، الذي يديره النصارى أو يدره اليهود! أما أن ننتسب إلى هذه الأمة، إلى تاريخها، إلى قرآنها، إلى تراثها، فإن ذلك ما يزعجهم كثيراً! لقد رأيت حملة ظالمة آثمة على أولئك الفنانات التائبات، العائدات إلى الله تعالى، المتحجبات، حتى إنني قرأت في بعض ما قالوا: إن هؤلاء تحجبن من أجل الشهرة والسمعة!! وآخر قال: قبضن مرتبات ضخمة أعطيات مقابل إظهار الحجاب! وثالث قال: حصلن على وعود كبيرة! ورابع قال في صحيفة سيارة: إن هناك قوى خارجية ودولاً خارجية وراء ظاهرة الحجاب في أوساط البنات، ووراء ظاهرة إعفاء اللحية أوساط الشباب، ووراء ظاهرة اعتزال الفن وتركه. سبحان الله! إلى هذا الحد، الله المستعان! أسأل الله تعالى لهذا الجمع الكريم ألا ينصرفوا إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل مبرور، وأن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل، وأن يهدينا وإياكم إلى سواء السبيل. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 23 فتوى تحرم اقتناء جريدة الشرق الأوسط في هذا الصدد أنقل لكم هذه الفتوى من سماحة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين حول هذه الجريدة. السؤال يقول: فضيلة الشيخ عبد الله السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: تمارس جريدة الشرق الأوسط دوراً سيئاً في تشويه أخبار المسلمين والتكتم على قضاياهم، وتشويه صورة الإسلام، والنيل من قضايا الإسلام، ومعالجتها بطريقة لا تخدم المصلحة الإسلامية بحال من الأحوال، كما أنها تتابع أخبار الفنانين والفنانات من الكفار وغيرهم، وتبرز صورهم، فما رأيكم في هذه الجريدة؟ وما حكم بيعها وشرائها، وتوزيعها، واقتنائها، وفقكم الله وسدد خطاكم. الجواب وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد: إذا كان الأمر كما ذكر أعلاه؛ فإن التعامل معها طريق لتشجيعها، وترويجها، وتمكينها مع ما فيها، وما تحدثه من الأضرار في المعتقد، لذلك أرى النهي عن اقتنائها، وشرائها، وتوزيعها. وأشير على كل ناصح للإسلام أن يتجنب المساهمة فيها، أو النشر فيها، فإن ذلك ذريعة إلى إماتتها، وإخماد ذكرها، حتى تتغير عن هذا الأسلوب، وتستبدل خيراً من هذه الطريقة. قاله وكتبه: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. في (5/4/1413هـ) ثم بعد ذلك التوقيع. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 24 حفلة مختلطة في السعودية وما دمنا في الإعلام، اتصل بي أحد الإخوة وأخبرني به، ثم راسلني به آخر في الفاكس. يؤكد أنه أقيمت في الرياض حفلة مختلطة في أحد الفنادق، وكانت بعنوان (مهرجان الأطعمة الأمريكية والمكسيكية) ، وقد قام التلفزيون السعودي، في القناة الثانية الإنجليزية، بنقل بعض وقائع هذا الحفلة المختلطة، والمقابلة مع بعض الضيوف من الرجال والنساء والأطفال. عرضت في برنامج (إن فوكس) وذلك يوم الجمعة مساء الخامس من جمادى الأولى سنة (1413هـ) الجمعة الماضية في تمام الساعة التاسعة وعشر دقائق تقريباً. المذيع يقوم بمقابلة الضيوف، وسؤالهم عن حضارة هذه البلاد، وإعجابهم بها. وكذلك سأل أحد الضيوف وقال له: ما رأيك بمثل هذه الفكرة؟ أي: فكرة المهرجان، وأن تُكرر، ويتعرف الناس على هذه الأطعمة؟ فأجاب: بأنها فكرة جميلة وجديدة، وأرى أن تتكرر سنوياً ليتعرف السعوديون والجنسيات الأخرى على الأطعمة الأمريكية. وكذلك قال مدير الفندق المنظم للحفلة: إن هدفها تعريف الناس في الرياض على الأطعمة، وكذلك التاريخ الأمريكي، وهناك عروض مسرحية قدم التلفزيون بعضاً منها. وكان ضيوف المهرجان رجالاً ونساء يجلسون على طاولات متقاسمين للمقاعد، وكانت الطاولات عليها علم السعودية، إلى جوار علم الولايات المتحدة الأمريكية. ويقول الأخ الكريم: ولقد رأيت والله ما يبكي ويحزن! فانظر كيف وصل بهم الأمر إلى أن يقوموا باستفزازنا وذلك من خلال إقامة هذه الحفلات، أولاً في بلادنا، ثم لم يكتفوا بذلك حتى قاموا بعرضها ضمن برنامج في القناة الثانية. فهذه دعوة إلى الغيورين والمخلصين أن يحاربوا مثل هذه الظواهر الشاذة، قد يقول قائل: لماذا لا نكتب إلى المسئولين؟! فأقول: يا أخي هذا برنامج عرض في التلفزيون، ويجب أن تتصور أن التلفزيون يجلس إليه في الساعة الواحدة ربما أقول بدون مبالغة ملايين، وليس الألوف أو عشرات الألوف، أو مئات الألوف، ملايين! وهذا ليس سراً، وكونك أنت إنسان طيب وصالح، وليس عندك تلفزيون، أو لا تسمع هذه الأخبار، لا يعني أنه لا يجب أن تقال، بل يجب أن تقال وأن تعلن، وأن تحارب، وأن نشترك جميعاً في مقاومتها. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 25 العالم يلزم صمته والعدو يزداد وحشية هذا خبر يقول: العالم يلزم صمته، والعدو يزداد وحشية وجرماً. وهو يتعلق بالمأساة التي يعيشها المسلمون في أرض البوسنة والهرسك، فقد احتل الصرب مدينة يايدسا التي تعتبر من أجمل المدن في البوسنة والهرسك، والتي ظلت صامدة أمامهم أكثر من خمسة أشهر تحت نظام العدو، بطائراته ومدافعه وقنابله، مدافعة بكل عزة وكرامة، رغم قلة الزاد والعتاد، حتى احتار العدو من جَلد هؤلاء وشدتهم، مما دعاه إلى جمع حشود هائلة حول المدينة البريئة، مدججاً قوته بكل أنواع الأسلحة المدمرة، التي تتلقاها صدور المجاهدين المرابطين طيلة هذه الفترة، وتحول دون سقوط المدينة. ولكن وجد المسلمون أخيراً أنه لا بد لهم أمام الحرب الضروس، وخوفاً من تكرار المذابح، وحفاظاً على أرواح المسلمين أن يقوموا بإخلاء المدينة من المدنيين، ثم انسحبوا منها، وانسحبت بعض فرق الجيش البوسنوي ما بين الساعة السادسة والسابعة من صباح اليوم -هذا قبل عدة أيام- متوجهة عبر الجبال إلى المدينة المجاورة إترافنك، وتردد في بعض الأخبار أن هناك أعداداً من السكان المسلمين، وبعض فرق الجيش، لا زالت تقاتل وهو ما يسمى بحرب الشوارع، هذا موجود إلى البارحة، كان هناك حرب شوارع داخل هذه المدينة، وهناك أنباء بسقوط ضحايا كثيرين من الطرفين. هذه المدينة تعتبر من المدن التي يرتبط اسمها تاريخياً بيوغسلافيا الاتحادية، ويمكن القول بأن السبب الرئيسي لسقوطها هو عدم وصول الأسلحة والذخائر إليها، بسبب الحصار الذي كانت تضربه قوات الصرب حول المدينة، وبسبب القتال الذي نشب مؤخراً بين المسلمين وبين والكروات في إترافنك وما حولها، مما حدا بقوات الصرب إلى استغلال الموقف، وحشد الأسلحة والعتاد، والآن يتكرر الأمر نفسه بحشد الجنود والعدة حول عدة مدن منها: مدينة برجكو، ماجلاي، جراداشاس. ونسأل الله تعالى أن ينصر المسلمين في تلك المدن وفي غيرها، وقد ترددت أنباء بأن قوات المسلمين البوسنوية استطاعت أن تقتل ثلاثين من بعض العصابات الصربية، وقتل من المسلمين ثلاثة في مدينة كراداشاس، نسأل الله تعالى أن يجعلهم شهداء في سبيله. وهذه المدينة تسمى مقبرة الصرب، كما بعث الرئيس البوسنوي خطاباً إلى رئيس جمهورية كرواتيا ينتقد فيها المواقف الكرواتية، وخاصة مواقف وسائل الإعلام في ترويج الإشاعات، وإبراز صور العداء ضد المسلمين. وقد رددت الإذاعة الكرواتية والتلفاز أنباء كثيرة تقلل من شأن حكومة المسلمين في البوسنة، وتذكر بعض الأخبار المغرضة. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 26 الأقلية الصربية تعيد التاريخ نفسه في كوسوفو كما أن من الأخبار التي لا بد أن نقف عندها خبر يقول: الأقلية الصربية المهلوعة تعيد التاريخ نفسه في كوسوفو. لقد ذكرت لكم في المجلس الماضي عن كوسوفو، هذا الإقليم الذي يحتله الصرب، ومعظم سكانه من المسلمين. ألسنة الدخان تتصاعد الآن فوق ميدان القتال في ذلك الإقليم، فبعد (603) سنوات من سحق المسلمين العثمانيين للصرب في هذا السهل، في كوسوفو، يتخذ الصرب الآن مواقعه من جديد في نفس الساحة، وهؤلاء الجند الحقيرون يتواجدون عند معسكراتهم، دباباتهم متأهبة في صمت، ومدفعيتهم موجهة نحو برسينا عاصمة كوسوفو التي تسكنها غالبية ألبانية. إن ذلك الجيش يمثل يوغسلافيا، وفي هذا المكان مُني الصرب بأكثر هزائمهم، وأدى ذلك إلى قيام حكومة عثمانية، ومن ذلك الوقت أصبح ميدان تلك المعركة مكاناً مقدساً للصرب، يعتبرونه أهم المواضع الاستراتيجية في كوسوفو رغم أنهم يكنون لرئيسهم فضلاً كبيراً في سيطرتهم على الألبان منذ ثلاث سنوات، إلا أنهم لم يحققوا نصراً بل وجدوا أنفسهم وحيدين، واضطروا إلى فرض جو من الحكم العسكري وهم يواجهون اليأس والخوف، وأصبح خيار الحرب الآن هو غايتهم. تقول إحدى الممرضات: لقد اقشعر بدني، كيف يعتنق بعض هؤلاء رجلاً انفصالياً هذا شيء كبير! ويطالب الزعماء الألبان باستقلال كوسوفو، ويتحدثون عن اتحاد حتمي مع ألبانيا. أما الصرب فهم يعتبرون هذا الاستقلال مستحيلاً، ويقولون: إنهم يفعلون كل شيء لمنع هذا الاستقلال للمسلمين، إن القليلين فقط يرون أن هناك بوادر حرب مع الألبان، ما لم يتلق الألبان أسلحة من الخارج. يعني: من المستبعد أن تقوم حرب بين ألبانيا وبين الصرب، ولكن من المتوقع جداً أن يواجه المسلمون داخل هذا الإقليم حرباً ضروساً، حرب إبادة على يد الصرب، الذين تفرغوا لمثل هذه المهمة، بعد أن عقدوا حلفاً جديداً مع الكروات. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 27 فضائح جريدة الشرق الأوسط هناك قصاصة وصلت إليَّ من جريدة المدينة، وهي قصاصة جيدة عنوانها (أضواء) ، كتبها الأستاذ محمد حميدة، الصفحة الأخيرة من جريدة الشرق الأوسط، وقد تكلم فيها عن بعض الفضائح والمصائب التي تنشرها هذه الجريدة المعروفة. فمثلاً: يقول في عدد (5066) نشرت أن مادونا؛ وهذه مغنية أمريكية مشهورة بالفجور، وأنها تظهر عارية على الشاشة أو بملابسها الداخلية، أجلكم الله! يقول: إن مادونا هذه مدينة بأكثر من مليوني دولار لمصلحة الضرائب الفرنسية، ثم يقول: ترى ماذا يستفيد القارئ من هذا الخبر، وما قيمة مادونا في دنيا العرب والمسلمين، حتى نتابع أخبارها وفسادها وتهربها من دفع الضرائب إلى غير ذلك؟! وأقول: في الوقت الذي يتكلمون فيه عن ذلك، فإنهم لا يتكلمون عن المديونيات الضخمة المرتفعة، التي تثقل كواهل الدول الإسلامية الغنية والنفطية يوماً بعد يوم. نعود إلى كلامه، يقول: وفي نفس العدد كتب الكاتب الهمام، الذي أصابنا الغثاء من كثرة ما يقذفنا به من تفاهات الغرب وسخافاته، عبد الله باجبير، كتب يعجب من قيام محكمة في الصين بالحكم بالإعدام على ناشر كتب، قام بطبع مليون نسخة من كتب إباحية. ونسأل كاتبنا الفاضل: هل نشر كتب الإباحية يقل خطورة عن نشر المخدرات والترويج لها؟! أو ليس نشر الكتب الإباحية التي تدمر أخلاق الشعب من الفساد في الأرض؟! أوليس من العجب أن تحرص حكومة شيوعية على حماية شعبها من الفساد، وصونه من الانحلال والفسق، ويقوم كاتب إسلامي في صحيفة عربية بالعجب من ذلك؟! وهل يعرف باجبير ما هو جزاء المفسدين في الأرض في الإسلام؟!! وفي العدد (5067) نشرت الجريدة صور مارلين مورلو تطرح في مزاد علني، وأن الرواد تزاحموا على صالة عرض في العاصمة البريطانية، لشراء صور لممثلة الإغراء، وأن هذه الصور التي ظهرت فيها وهي ترقد تحت غطاء حريري حققت شهرة واسعة، طبعاً قال: ترقد عارية! هل مثل هذا الخبر الفاضح الوقح يستحق أن ينشر، وهل بلغ من أهميته وقيمته أن ينشر في الصفحة الأولى، رقم (2) من هذه الجريدة. وفي العدد (5068) كتب يطبل ويزمر، ويكاد يرقص، لأن جندي مرور ترك الإشارة حمراء مدة طويلة، ليعطي الفرصة لعروسين لتبادل قبلة طويلة! ما شاء الله! إن قبلات العروسين في عرفنا وحكم ديننا لا تكون إلا في مخدع النوم، ليعجب الأوروبي والأمريكي في مجتمعهم الإباحي بمثل هذه الأمور، فمنهم من يمارس الفسق حتى على قارعة الطريق، أما نحن فسنستقذر مثل هذه التصرفات الشائنة، ونمقتها ولا نريد لها أن تغزونا. وفي العدد (5071) نشرت الجريدة أن بريجيت باردو تزوجت سراً من عشيق لها، وأن هذا هو الزواج الرابع. ما أهمية هذه المرأة عند القارئ المسلم! وماذا نستفيد من متابعة هذه الأخبار وملاحقة هذه النزوات! وفي العدد (5079) تحت عنوان " العزاب أطول صحة من المتزوجين "، ذكرت الجريدة أن الذين لم يتزوجوا قط أكثر صحة وسعادة من المتزوجين، وهذا لا شك أنه مخالف لسنة المرسلين! وفي العدد (5081) نشرت الجريدة أن الموظفين الكبار يتعلمون الغناء في سنغافوره، ولست أدري لماذا نروج لمثل هذه الأخبار وما الفائدة منها؟! إن هذه المقالة في جريدة المدينة مقالة جيدة، تكشف جانباً فقط من الدور التخريبي الذي تقوم به الجريدة. وأنا أطالبكم مرة أخرى -وأستغفر الله من أنا- بمقاطعة هذه الجريدة، وأن تقوموا بحملة لكل من تعرفوه من أصحاب البقالات، والشركات، وعموم الناس، وزملائكم، وزملاء العمل، وغيرهم أن يقاطعوا هذه الجريدة، لأنها لا تستحق حتى من الناحية الأخبارية أن تُشْتَرى. الجزء: 100 ¦ الصفحة: 28 المرأة بين الشرع والمجتمع من أساب سوء وضع المرأة المسلمة في العصر الحاضر كثرة المشكلات والتناقض بين ما ينص عليه الشرع وبين ما تبثه وسائل الإعلام ويشاهد في الواقع، وكذلك دور أعداء الإسلام في إخراج المرأة من بيتها ودينها والتأثر بالغرب وإهمال وضع المرأة. هناك مشكلات تواجه المرأة منها: قسوة الأب، تأخر الزواج، الآمال المعقودة قبل الزواج عندما لا تتحقق، والطلاق، وتعدد الزوجات. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 1 أسباب سوء وضع المرأة المسلمة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها المسلمون والمسلمات: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن اجتماع مثل هذه الأعداد الغفيرة في مسجد من مساجد الله تعالى للصلاة، وقراءة القرآن، وسماع الذكر لهو أكبر دليل على أن دين الإسلام هو ضمير هذه الأمة وروحها، وأن هذه الأمة مهما كاد لها الكائدون، وحاول المحاولون، فإنها تأبى أن تنسلخ عن هذا الدين، الذي أكرمها الله تبارك وتعالى به، واصطفاها لحمله جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل. أيها الإخوة والأخوات: وموضوع حديثي إليكم في هذه الليلة، هو حول: المرأة بين الشرع والمجتمع، وهناك قضية أُقدِّم بها، وهي: الإشارة إلى أن وضع المرأة المسلمة في مجتمعنا يُعتبَر في هذه الظروف والأيام وضعاً حرجاً وصعباً، وذلك لأسباب عديدة: الجزء: 101 ¦ الصفحة: 2 استقبال عادات الكفار ومن جهة رابعة: فإننا نجد أن انفتاح العالم اليوم بعضِه على بعض، جعل كثيراً من العادات والتقاليد الموجودة لدى الكفار تنتقل بطريقة العدوى إلى بلاد المسلمين، وتجد من يتلقفها ببلاهة وسذاجة، ومن الغريب أنه قد يوجد في بلادهم عادات وتقاليد مكروهة حتى لديهم هُم، وهُم يبذلون الوسائل والأساليب المختلفة للتخلص منها، فنتلقفها نحن بلا وعي، وقد يكون هناك أشياء تصلح لهم بحكم مجتمعهم وتاريخهم، وعقائدهم، لكنها لا تصلح لهذا المجتمع المسلم، فالذي ينقلها إلى المجتمع المسلم، كغارس النارجيل في أرض الأندلس -كما يقول الإمام أبو محمد بن حزم - أو كغارس الزيتون في أرض الهند وكل ذلك لا يجدي. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 3 إهمال وضع المرأة ومن جهة خامسة: فنحن نجد أن كثيراً من الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ، وطلاب العلم، والغيورين قد أهملوا وضع المرأة، فإنهم لا يكادون يخاطبون المرأة إلا قليلاً، ولا يتحدثون عن مشكلاتها إلا في أقل القليل، مع أن الوسائل ممكنة -بحمد الله- خاصة في مجتمعنا هذا، فإننا نجد -مثلا- أن جهاز تعليم البنات، جهازٌ يقوم عليه نخبة من أهل الخير والصلاح، وأن المرأة لا زالت تتعاطف مع نداء الحق والإسلام، وأن مخاطبتها من خلال الوسائل، والأشرطة، والكتب، وغيرها أمر ممكن وسهل في هذا الوقت، وأيضاً تجد كثيراً من الأولياء وأهل الخير والصلاح لا يحاولون أن يراقبوا وضع المرأة، مع أننا نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يراقب تصرفات عائشة رضي الله عنها، وفاطمة، وغيرهن من المؤمنات والمسلمات، ولم يكن يعيب واحدةً منهن أن يقول لها الرسول صلى الله عليه وسلم: أين كنتِ؟ وأين ذهبتِ؟ ومرَّة من المرات: خرج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقبرة ليزور أهل البقيع، ويستغفر لهم، ففقدته عائشة، فخرجت خلفه، فلما رجع صلى الله عليه وسلم رأى سوادها أمامه ولم يعرفها، فلما جاء إلى الفراش، وجد نفسَها مرتفعاً، فقال لها: {يا عائشة، ما لي أراكِ حشيا رابية؟ -لماذا ارتفاعُ نَفَسِك؟ - هل أنتِ السواد الذي رأيتُ أمامي؟ قالت: نعم، يا رسول الله، مهما يكتم الناس يعلمه الله، فلَكَزَها صلى الله عليه وسلم بيده، وقال لها: أخشيتِ أن يحيف الله عليك ورسوله} . وهذا الحديث في: صحيح مسلم وغيره. ومرة أخرى: رأى الرسولُ صلى الله عليه وسلم بنتَه فاطمة قد جاءت إلى البيت، وكان قد مات رجل من الأنصار، فقال لها: {يا فاطمة، من أين جئتِ؟ قالت: يا رسول الله، ذهبتُ إلى أهل هذا الميت أعزيهم في ميتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: لعلكِ بلغتِ معهم الكدى -وهو: موضع قريب من المقبرة- قالت: كلا، يا رسول الله قال: لو بلغتِ معهم الكدى، ما دخلتِ الجنة حتى يدخلها جدُّ أبيكِ أو: ما رأيتِ الجنة حتى يراها جدُّ أبيكِ} . ولم يَعِب عائشة وفاطمة وغيرهما من المؤمنات أن يسائلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يَعِيب المسلم ولا المسلمة أن يكون بينهم مناقشة ومراقبة، فمن حق المرأة أن تسأل زوجها، أو تسأل أخاها الأصغر: أين ذهبَ؟ إن كانت لا تثق بذَهابه، ومن حق الرجل أن يراقب المرأة في جميع تصرفاتها أيضاً. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 4 دور أعداء الإسلام ومن جهة ثالثة: فإننا نجد أن كثيراً من أعداء الإسلام في الداخل والخارج، من شياطين الإنس والجن يبذلون جهوداً كبيرة لإخراج المرأة المسلمة من بيتها، بل من دينها، وأنوثتها، وعفافها، وحجابها، حتى تكون سلعة يقضون بها وطَرَهم في قارعة الطريق. وليس بغريب أن تجدهم يحاولون أن يحشروا صورة المرأة في كل مكان، ليس فقط للإعلان -مثلاً- عن العطور، أو الملابس، بل حتى وهم يعلنون عن أي بضاعة، ولو كانت المعدات الثقيلة، فإنهم يحرصون على أن تبْرُز صورةُ المرأة، وهذا يثبت أن مقصودهم أن تكون المرأة ألعوبة بيد الرجل، وهم -بطبيعة الحال- لا يقولون هذا، بل هم يقولون: نريد أن نحرك نصف المجتمع، ونريد مجتمعاً يتنفس برئتين، ونريد أن نستفيد من هذا الكم المهمل، إلى غير ذلك من الوسائل، وهذا شيءٌ طبيعي. فإننا نعتقد جميعاً: أن إبليس شخصياً لو أصدَرَ صحيفةً، أو كَتَبَ مقالاً، أو ألَّفَ مسرحيةً، أو أنشأ جامعةً فإنه لا يمكن أن يقول: إنني أنا الشيطان الرجيم، وأنا أدعوكم إلى نار جهنم، إنما سيقول: إن هذه وسائل أقصد من ورائها الإصلاح، والتثقيف، وطبقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية السمحة، وغير ذلك من الوسائل والأساليب، ومِن قبْل قال إبليس للأبوين: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف:20] وقال: {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} [طه:120] إذاً ورثته ينسجون على منواله، ويمشون على خطاه، فهم لا يعربون عن مقاصدهم الحقيقية. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 5 كثرة المشكلات أولاً: نعرف أن الحالة التي تعيشها كثيرٌ من النساء في مجتمعنا هي كغيرها، فيها كثير من المشكلات المعقدة وغيره المعقدة، ولكن هذه المشكلات لم تبْرُز بعد في السطح، ولم تُناقَش بطريقة صحيحة، وكثيرٌ من المتربصين ينتهزون هذه الفرص لتفجير هذه الأوضاع، وإثارتها وحلها بالطريقة التي تعجبهم. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 6 التناقض بين ما تعرفه من الدين وما تراه في الواقع ومن جهة ثانية: فنحن نلاحظ أن المرأة المسلمة في هذه الأيام، وفي كل مكان تعيش تناقضاً صعباً بين ما تعرفه من دينها وتتلقاه من كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، وبين ما تجده من وسائل التثقيف الأخرى، ففي الوقت الذي تسمع فيه المرأة -مثلاً- قول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وقول الله -عزَّ وجلَّ-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] وقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] هي تشاهد في المقابل -عبر وسائل كثيرة- المرأةَ السافرة التي قد كشفت عن شعرها، ووجهها، ونحرها، وذراعَيها، وساقَيها، وربما أكثر من ذلك، وفي الوقت الذي تسمع فيه المرأةُ المسلمة أن المرأة المسلمة لا يجوز لها أن تسافر مسيرة يوم وليلة، أو مسيرة ثلاثة أيام، أو غير ذلك -كما ورد في النصوص- إلا مع ذي محرم، فإنها تجد كثيراً من النساء في واقع الحياة، ومن خلال وسائل التثقيف المختلفة يضربن بهذا التوجيه عُرض الحائط، ويذهبن مسافات مع الرجال أو منفردات، ويحضرن المؤتمرات والندوات، ويتحدثن، وتظهر صورهن في الصحف وغيرها. وفي الوقت الذي تسمع فيه المسلمة قول الله عزَّ وجلَّ: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] تجد المرأة المسلمة -من خلال وسائل كثيرة- أن كثيراً من النساء اللاتي وُضِعن موضع القدوة والأسوة يتعرضن للرجال، ويتحدثن إليهم بالكلام اللين، وبالعبارات الرقيقة، وبالأسلوب المؤثر، بل وكأن المرأة تحاول أن تقتنص الرجل إليها بكل وسيلة. فتجد المرأةُ المسلمة تناقضاً شديداً بين ما تدرسه في المدرسة -مثلاً- من أن المرأة كلها عورة، إلا وجهها في الصلاة، وبين ما تجده من نقض لهذا في ميادين ووسائل أخرى، وهذا التناقض أقل ما ينتجه أن ينتج لنا جيلاً من النساء فاقداً للانتماء والانتساب، لا يدري ما هويته، يقدم رِجْلاً مع الإسلام ورِجْلاً مع التيار المنحرف. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 7 مشكلات تعيشها المرأة إضافة إلى أسباب أخرى كثيرة فإن وضع المرأة في مجتمعنا وضع حرج، ويحتاج إلى معالجة. هذه المشكلات الموجودة في المجتمع إذا لم نعالجها نحن، يتصدَّى لها كثيرٌ ممن لا يُصْدِرون الأمور ولا يوردونها، فيضعون في صحفهم وكتبهم ووسائلهم فقرات خاصة لاستقبال المشكلات من المرأة وحلها، وهم لا يحلون المشكلة إلا بطريقة تضاعف المشكلة، كما سوف يأتي من خلال عرض المشكلات الموجودة في المجتمع، ولذلك فإنني أرى أن من المناسب أن أشير إلى عدد من المشكلات التي يزخر بها مجتمعنا. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 8 مشكلة الطلاق قد تكون هذه العلاقة الزوجية التي أشرتُ إليها سابقاً سبباً في الفراق بين الزوجين، والأمر الغريب أنك تسمع وتجد -أحياناً- في بعض الصحف التي تصدر في بلاد الإسلام، وبأموال أهل الإسلام، وتدخل بيوت المسلمين، ويقرؤها ذكرانهم وإناثهم تجد المطالبة بتحديد الطلاق، فقد قرأتُ يوماً من الأيام مقالاً بقلم مَن سمَّت نفسَها: بثينة فيما أعتقد، وأنا قديم العهد بهذا المقال، وأعتقد أن الكاتب جميلٌ وليست بثينة، يطالب بمنع الطلاق، وأن الطلاق لا يقَع إلا أمام القاضي، ويحتج بأن هناك بلاداً إسلامية، ذكَرَ: تونس، أو غيرها، لا يقع فيها الطلاق إلا أمام القاضي، وهي بلاد إسلامية، فلنا فيهم أسوة وقدوة! هكذا يقول هذا المسكين، فيا سبحان الله! الطلاق دواء وعلاج، والمرأة إذا عاشت في بيت رجل يبغضها، ويتمنى فراقها، ولو بالموت، ويكيد لها وتكيد له، فالطلاق أمنية بالنسبة لها، وبقاؤها في مثل هذا البيت يُعتبر سجناً بين أربعة جدران، وسجناً صعباً؛ لأنه يترتب عليه آثار بعيدة المدى، والمرأة -في كثير من الأحيان- تجد نفسها مضطرة؛ لأن تفتدي نفسها من زوجها بالمال، فكيف يقال بعد ذلك: إن الطلاق يجب أن يحدد أو لا يحدد! إن الطلاق رحمة من الله عزَّ وجلَّ للقضاء على علاقة زوجية قامت، وكانت نتيجتها فاشلة، ولا شك أن الطلاق له أضرار كثيرة في نفسية الزوجة وتحطيمها، وتحطيم شيء من مستقبلها أحياناً، وله أضرار على الزوج -أيضاً- في التأثير على نفسيته، وضياع شيء من ماله، وضرر أكبر على الأطفال -إن وُجِدوا- حيث يتشردون، ويعانون كثيراً من الأمراض النفسية، والمشاكل والقلق، هذا كله صحيح؛ لكن الطلاق مع ذلك كله يبقى -أحياناً- حلاً لا بد منه. ولنبحث: ما هي أسباب الطلاق؟ أول سبب من أسباب الطلاق -والذي يجب أن نركز عليه جيداً- هو: سوء اختيار الزوج:- فكما أسلفت قبل قليل، الفتاة والفتى في سن الزواج، ربما تتغلب عليهم العاطفة، فيوافقون على زواج، ربما تكون عوامل الفشل موجودة فيه، فإذا وقع الزواج -لا شك- أن المشكلة أصبحت صعبة الحل؛ لكن إذا أفلح الشاب، وأفلحت المرأة في في البحث عن الزوج المناسب، الذي تتفق طبيعته مع طبيعة المرأة، وعن الرجل المتدين أو المرأة المتدينة؛ الذي لا يقبل أن يكون ممن يقضون أوقاتهم في السفر إلى بلاد الكفار، وقضاء الإجازات وتبذير الأموال، والوقوع في الأوحال والمستنقعات الآسنة، إذا أفلح كل من الذكر والأنثى في اختيار الزوج؛ تكون مشكلة الطلاق شبه منتهية، ولو بحثتَ لوجدتَ أن هذا الزواج كان غير صحيح، وقد تَمَّ باستعجال، وعدم تروٍّ أو دراسة، فهذا هو الأمر الأول الذي يجب أن نركز عليه، أما إذا وقع الزواج، فإن حصلت المشكلات -كما سبق- يجب حلها بالطرق السابقة. زإذا تفاقم الأمر، فقد يكون الحل هو الطلاق، وقد يكون الحل، هو تعدد الزوجات أيضاً، وهذه هي المشكلة الأخيرة التي أريد أن أشير إليها. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 9 تعدد الزوجات فنحن نجد اليوم: أن تعدد الزوجات في مجتمعنا يعتبر جريمة لا تُغْتَفر، لأن كثيراً من الذين تولوا مراكز التوجيه والتثقيف في مجتمعنا ممن لا يراعون الله عزَّ وجلَّ في هذه الأمانات، فكم من مقالٍ وتحقيقٍ كُتِبَ عن تعدد الزوجات، وسلبياته، والمشاكل الموجودة فيه، وشكاوى النساء من التعدد، ومشكلات الرجل مع التعدد، ويطرح بطريقة مثيرة للاشمئزاز، ومؤثرة في نفوس الفتيات بشكل كبير؛ لكنني أسأل نفسي وأسألكم: كم مرة في الصحف كُتِبَ عن هؤلاء الشباب الذي يسافرون إلى بلاد الإباحية الجنسية، ويرجعون وقد فقدوا أخلاقهم، ودينهم، وعتادهم، وفقدوا صحتهم، وجاءوا يحملون كثيراً من الجراثيم والأوبئة والأمراض الجنسية وغيرها. لا أذكر أنني قرأتُ مقالاً أو تحقيقاً على مستوى قوي يتحدث عن هذا الأمر، بل بالعكس تجد الإعلانات عن وكالات السفر، وعن الفنادق وغيرها التي تستقبل هؤلاء الشباب، وتسهيل المهمة ما أمكن، لكن لا تكاد تجد ضد ذلك، فما أدري ما هو الشيء الذي جعل تعدد الزوجات، الأمر الذي أحله الله ورسوله، والذي يحل كثيراً من المشكلات، والقضية ليس فيها شيء، جعله جريمة لا تُغْتَفَر، وجعل السفر إلى تلك البلاد، وأن يعاقر الشاب فيها الخمر، ويضاجع النساء بالحرام، ويقع فيما يقع فيه -ولا أقول: كل مَن سافر، فهناك أناس يسافرون كثيراً لأغراض أخرى، لكنني أقصد نوعية معينة- جعل هذا الأمر حلالاًَ مباحاً لا يُنْتَقد، حتى من قبل المتزوجين أنفسهم أحياناً. فتعدد الزوجات أولاً: قد يكون حلاً لمشكلة قائمة، وقد يكون سبباً في عدم وقوع الطلاق الذي تخشاه المرأة، ولو افتُرِضَ أن رجلاً تزوج امرأة مريضة -مثلاً- أو عقيماً لا تلد، أو بينه وبينها مشكلات لا يستطيع أن يستمر معها، لكنه رجل غير متسرع في اتخاذ القرار، ويشفق على هذه المرأة أن يطلقها، وقد يكون طلاقها مؤثراً عليها، وقد لا تجد البيت الذي يؤويها، فيفضل أن يبقيها ويحفظ لها حقوقها، ويضيف إليها أخرى، حتى يحقق بعض ما يريد هو، فهذا أمر والله لا يقول عاقلٌ: إلاَّ أنه أمر هو الحكمة كلها، حتى بالنسبة للمرأة، وهو الرحمة أيضاً ولنفترض: أنه ليس هناك أي مشكلة موجودة على الإطلاق، وترجع إلى أصل التعدد: فرجل لا تكفيه امرأة، ويريد أن يثني، أو يثلث وهذا أمر شرعه الله تعالى وأباحه، فما الذي يحول بينه وبينه؟! ولم يتزوج هو امرأة إلا برضاها وموافقتها، فمن يحول بين هذا الشاب وبين أن يضم إليها امرأة أخرى برضاها وطواعيتها هي، حتى يتدخل أولئك الصحفيون وغيرهم، فيحاولون أن يلوثوا هذا الأمر، ويجعلوا في ذهن الفتاة أن مثل هذا الأمر يعتبر تحطيماً لها وإهانة لمستقبلها! هذه مشكلاتٌ موجودة في المجتمع، ولا أقول: إنها كل المشكلات، بل هي نماذج لمشكلات كثيرة، موجودة في المجتمع، وأقول: إن من الواجب على المرأة المسلمة: أن تتوجه بمشكلاتها إلى من تثق بدينه، لا إلى أولئك الذي يفتحون صدورهم لهذه المشكلات، بل قد يختلقون مشكلات من عند أنفسهم، ويستغلونها في التأثير على المرأة، بل المجتمع وليس تغيير المرأة وتغيير المجتمع كله، وإيجاد نوع من التوتر في العلاقات بين المرأة وزوجها، وبين المرأة وأبيها، والمرأة وأخيها، بل وبين المرأة والرجل بصفة عامة، حيث يحاولون أن يجعلوا المرأة طرفاً والرجل طرفاً آخر، ويقيموا نوعاً من الصراع بين هذين الطرفين، وهذا -طبعاً- وضع قابل للاستفزاز، خاصة وأن المشكلات -كما ذكرتُ- هي موجودة -بلا شك- في كل مجتمع. أيها الإخوة والأخوات: هذا المجتمع المسلم لا يزال يحتفظ بكثير من المميزات التي حباه الله إياها، بفضل هذا الدين الذي وجد في هذه البلاد، وسيظل -بإذن الله تعالى- على رغم كيد الكائدين ومكر الماكرين. والواجب علينا: أن ندرك أن حل مشكلاتنا الاجتماعية وغيرها إنما يكون عن طريق التمسك بهذا الدين، وليس عن طريق البحث عن بديل آخر، كمن يحاولون أن يجعلوا مجتمعنا المسلم صورة عن المجتمعات الغربية، وينقلون الأوبئة الموجودة في تلك المجتمعات إلى هذا المجتمع المسلم الطيب الطاهر، فلندرك -فعلاً- من هو العدو من الصديق، ولندرك كيف نستطيع أن نتغلب على هذه المشكلات الموجودة في المجتمع، ولندرك أي هوة سحيقة يقاد إليها المجتمع بواسطة إفساد نصف المجتمع: المرأة، والتي إذا فسدت فسد المجتمع كله، هذا واجب ينتظرنا جميعاً ذكوراً وإناثاً، والمسئولية ملقاة على عاتقنا جميعاً، أن نحصن أنفسنا، ونحصن غيرنا ضد هذه التيارات الهدامة، التي تحاول أن تفتك بهذا المجتمع. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأترك المجال للأسئلة إذا كان هناك بعض الأسئلة، وخاصة الأسئلة المتعلقة بهذا الموضوع. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 10 الآمال الطويلة قبل الزواج إن المرأة، وكذلك الشاب قبل الزواج يبنون قصوراً من الآمال والمثاليات والخيالات، فتجد الشاب يتصور في ذهنه صورة امرأة قد جمعت الحُسن من أطرافه، متدينة، ومثقفة، وعاقلة، وذات أخلاق عالية، وسمحة مقبولة، ويتصور كل ما يخطر في باله من صور الكمال، ويضعها في ذهنه لهذه المرأة، والمرأة على النقيض، تضع من ذلك في ذهنها صورة لهذا الرجل الذي تريد، وفيه كل ما يخطر على البال من صور الكمال، والجمال، والدين، والعقل، والخلق، والغنى إلخ ويتصور الطرفان أيضاً حياة الزوجية، وما فيها من سعادة، وأُنْس، ولذة، وغير ذلك. فإذا حدث وحصل الزواج نزلوا إلى ميدان الواقع، فبدأت هذه الصورة المثالية تتبخَّر، وهي لا بد أن تتبخَّر، لأنها -أصلاً- صورة مثالية غير واقعية، فبدأت تتبخَّر شيئاً فشيئاً، وبدأ الطرفان يصحو كل واحد منهما على وجود بعض المشكلات التي تعكر صفو العلاقات الزوجية، وما تزال هذه المشكلات تكبر، حتى ربما أدت إلى فصل عُرى هذه العلاقة. ومن الوسائل التي كثيراً ما تؤدي إلى سوء العلاقة بين الزوجين: ما يحصل من مقارنة لدى كل منهما، فالمرأة مثلاً تجلس مع بعض قريباتها، أو صديقاتها، أو قريبات الزوج، فيجري الكلام مِن قِبَل كل واحدة منهن عما يقع لها في بيتها، فبطبيعة الحال المرأة تريد أن تُظْهِر لدى الأخريات، أنها محظوظة وأنها موفقة في زواجها، فلا تذكر في المجلس إلا الجوانب الإيجابية، أن زوجها اشترى لها كذا، وذهب بها إلى مكان كذا، وقال لها كذا، وقد تذكر الحق وغير الحق، وتضيف إلى الواقع أضعافه، حتى تظهر أمام الأخريات على أنها امرأة موفقة في زواجها، وهذا يدل -بطبيعة الحال- على أنها ذات أخلاق، وأنها امرأة تُحْسِن معاملة الزوج، وكل واحدة تقوم بهذه التمثيلية مع الأخريات، مع أن الواقع أن كل واحدة منهن لديها مشكلات قد تكون كبيرة، لكنها لم تذكر، فترجع كل واحدة إلى بيتها تعض إصبع الندم، وتقول: -مع الأسف الشديد- كل هؤلاء النسوة اللاتي جلستُ معهن يعشن حياة سعادة وأنس مع أزواجهن إلا أنا، وكل واحدة تقول الكلام نفسه، في قرارة نفسها، والزوج يجري له نفس العمل، فهو يجلس مع أصدقائه، فيشعر أن كل واحد منهما سعيد في زواجه، وقد يذكر بعضهم قضايا معينة تدل على وجود السعادة الزوجية، فيشعر كل واحد بأنه هو الوحيد الذي لم يوفق، نتيجة المقارنة. وهذه المقارنة غير صحيحة؛ لأنكَ إذا قارنتَ بين زوجتك وبين الزوجات الأخريات، أو أنتِ أيتها المرأة إذا قارنتِ بين زوجكِ وبين الأزواج الآخرين، هذه المقارنة غير صحيحة؛ لأنك تقارن وضعاً وحالاً تعرفها معرفة تامة داخل البيت، فأنت تعرف زوجتك معرفة تامة، وتعرف العيوب والأخطاء والسلبيات، في حين أنك لا تعرف من نساء الآخرين إلا ما يُذكر لك من الجوانب الإيجابية، وكذلك المرأة تعرف زوجها معرفة تامة، وتعرف أخطاءه وسلبياته وإيجابياته -أيضاً- لكنها لا تعرف عن الأزواج الآخرين إلا ما تسمعه من زوجاتهم، وهي -غالباً- نواحي إيجابية. ولذلك في الحديث في صحيح البخاري ومسلم، ومسند الإمام أحمد، عن عائشة رضي الله عنها: أن إحدى عشرة امرأة في الجاهلية اجتمعن، وتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فبدأت كل واحدة تذكر حالها مع زوجها، ولا أريد أن أذكر الحديث؛ لأنه طويل، والمقصود أن هؤلاء النسوة يعرفن بأن كل امرأة تمثل حين تتحدث عن وضعها مع زوجها، فلا تذكر الحقيقة، وإنما تذكر تمثيلاً، تخادع به الآخرين في الغالب، ولذلك اتفق هؤلاء النسوة على أن يكن صريحات ولا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً. ولذلك كانت النتيجة مؤلمة، كانت (واحدة) تقول -مثلاً-: (الأولى) تقول: (زوجي العشنق إن أسكُتْ أُعَلَّقْ وإن أنطق أُطَلَّقْ) . (الثانية) تقول: (زوجي عياياء غياياء، كل داء له داء، شجك أو فلك أو جَمَعَ كُلَّاً لك) . (الثالثة) تقول: (زوجي لا أذكًرُهُ إني أخافُ ألاَّ أذَرَهُ إن أذكُرُهُ أذكر عُجْرَهُ وبُجْرَهُ) و (الرابعة) و (الخامسة) و (السادسة) إلا (الحادية عشرة) وهي: أم زرع، فقد ذَكَرَتْ زوجَها ومكانتها عنده، وأنه أعطاها من كل شيء، فأثنت عليه، ثم ذكرت أنه طلقها، فنكحت بعده رجلاً آخر، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عائشة: {كنتُ لكِ كـ أبي زرع ٍ لـ أم زرع} . فالمقصود: أن كل حياة زوجية لا تخلو من وجود بعض مشكلات ومُنَغِّصات، فعلى الزوج والزوجة أن يكونا واقعيَّين، ويتعاملا مع هذه المشكلات بصورة واقعية: - أولاً: يدركا أنه لا بد من التنازل؛ لأنك أنتَ عندكَ أخطاء، ستتحملها زوجتكَ، وأنتِ عندكِ أخطاء سيتحملها زوجكِ، وهناك نوع من التفاوت في الطبائع لا بد أن يوجد -غالباً- ولو قدر يسير منه، فلا بد من التنازل من كل من الطرفين حتى تستمر الحياة الزوجية، ثم إذا تفاقَمَ الأمْرُ، فكما حَكَمَ اللهُ وأَمَرَ: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] فيمكن أن تقوم هذه اللجنة بدور الإصلاح ورأب الصدع، وحل المشكلات التي عجز الزوجان عن حلها فيما بينهما، فإذا تفاقم الأمر فقد تكون هناك حلول أخرى شرعها الله عزَّ وجلَّ، كالطلاق، أو تعدد الزوجات، أو أي حل آخر. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 11 مشكلة الزواج حيث نجد في قضية الزواج صعوبات، من أكثر من طرف، ففيما يتعلق بالمرأة نفسها أصبح لديها شعوراً بأن الزواج يجب أن لا يتم إلا بعد أن يتقدم بها العمر، فهي أولاً: لا زالت صغيرة، وقد يصورون لها أنها لا تزال في مرحلة الطفولة، مع أننا نجد كثيراً من النسوة في الجيل الماضي تزوجت وهي بنت خمس عشرة أو ست عشرة أو سبع عشرة سنة، وأهل هذا الزمان اليوم يعتبرون امرأةً بهذا السن لا زالت طفلة صغيرة، ليس لديها خبرة، وأن أحداً لا يمكن أن يفكر بأن يأخذ بنتاً بهذا السن، ثم بعد أن تدخل البنت إلى الجامعة ترى أن الزواج يعرقل الدراسة، فلا بد من إكمال الدراسة قبل ذلك، فإذا تخرجت أصبح من غير الممكن أن تستلم الشهادة بعد أن تعبت فيها، لا بد أن تنتظر فترة حتى تعود إليها صحتها بعد جهد الدراسة، ومن أجل أن تتوظف بهذه الشهادة التي تعبت من أجلها سنة أو سنتين على الأقل، وعلى انتهاء هذه الأشياء يكون عمرها ربما خمساً وعشرين سنة، والشاب الذي يتخرج من الجامعة وعمره ثلاثاً وعشرين سنة إن لم يكن تزوج خلال الجامعة، فهو بعد الجامعة مباشرة سيتزوج، وهو يبحث عن من تكون أصغر منه -على الأقل- بسنة أو سنتين أو أكثر من ذلك، فتجد أن هذه المرأة قد تعداها قطار الزواج، وأصبحت تنتظر على غير جدوى، فبعد فوات الأوان تصحو، وتقدم شيئاً من التنازل في غير أوانه، فلا تجد من تريد، ثم تتنازل مرة أخرى وثالثة، حتى إنها قد تقبل -مثلاً- برجل متزوج، أو تقبل بإنسان لا تتوفر فيه الشروط، لكنها لا تجد مثل هذا، لأن هؤلاء وجدوا غيرها. إن هذه المشكلة، أوجدت عندنا كثيراً من النساء في سن السابعة والعشرين إلى الثلاثين وأكثر من ذلك لم يتزوجن، ومثل هذا مؤسف جداًَ من عدة وجوه: - من جهة لأن المرأة التي تدمر المجتمع هي: المرأة التي لم تجد طعم الأمومة، والتي حُرمت من الأمومة، ومن هؤلاء الأطفال الذين يملئون عليها حياتها، هي المرأة التي تدمر المجتمع، ولو بحثت عن تاريخ أي امرأة كان لها تأثير سلبياً في مجتمعها؛ لوجدت أنها تلك المرأة التي فقدت الحنان في طفولتها، وفقدت الأمومة في كبرها، أو فقدت أحدهما. - ومن جهة ثانية: فإن المرأة مهما رفضت الزواج في سن معين، فإن هذه الغريزة والشهوة مركبة فيها كما هي مركبة في الرجل، وهذه الشهوة غير قابلة للتأجيل، فهي تتحرك وتدعو المرأة وتحرضها، فإمَّا أن تقع المرأة في الحرام، أو تقع ضحية لكثير من الأمراض النفسية؛ بسبب شعورها بأنها لم تستجب لهذا النداء الداخلي المركوز في فطرتها. وهناك عقبات تعترض الزواج ليس من المرأة نفسها، بل من المجتمع، فالأب له مزاج وطلب، والأم لها مزاج وطلب، والإخوة لهم آراء خاصة في موضوع الزواج، وفي كثير من الأحيان قد يتقدم للفتاة خاطب واثنان وثلاثة، ويُردُّون دون علمها، وقد يكونون هم أكْفَاء، وبالمقابل قد تُكْرَه الفتاةُ بطريقة أو بأخرى على الزواج من رجل لا تريده، وهذا سبب لكثير من المشكلات، وربما يكون من أهم أسباب الطلاق، وهو أمر لا يجوز في الشريعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر باستئذان البكر، ونهى عن إكراهها، وحكم للبكر التي زُوِّجَت بغير رضاها بِرَدِّ نكاحِها، وهذا يخالف مصلحة المرأة نفسها، ويخالف أصول الشريعة، فإذا كان الأب ليس من حقه أن يتصرف في قدر قليل من مال المرأة إلا بإذنها، فكيف يتصرف في جسدها، وفي أعز ما عندها بغير إذنها، هذا أمر لا يسوغ لا عقلاًَ ولا شرعاً. فتأخير الزواج له آثار وخيمة على المرأة، ومهما كانت أسبابه، فإن الواجب أن تدرك المرأة المسلمة، ويدرك الشاب المسلم ويدرك أولياء الأمور؛ بأن الزواج قضية حيوية غير قابلة للتأجيل، ولله در ذلك الصحابي الذي كان في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاءت امرأة تهدي نفسها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فنظر فيها، فكأنه لم يقبلها عليه الصلاة والسلام، فقال هذا الرجل: يا رسول الله، زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال له: {هل عندك مهر؟ فذهب يبحث فلم يجد شيئاً، فقال: التَمِسْ ولو خاتماً من حديد فذهبَ ولم يجد خاتماً من حديد، قال: يا رسول الله! ليس عندي إلا إزاري هذا -ليس عنده إلا ثوبه، يريد أن يعطي المرأة نصفه مهراً- فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتَها إزارَك بقيتَ، ولا إزار لك ثم أنكحه إياها بما معه من القرآن} أي: على أن يعلمها القرآن، لقد أدرك هذا الرجل بأن قضية الزواج مهمة إلى حد أنه مستعد أن يتخلى عن نصف ثوبه من أجل تحصيل الزواج. وكثير من الناس اليوم، وخاصة الفتيات تجد أنه يتقدم الرجل الكفء، فترفض مجرد التفكير في الزواج لعدة اسباب، منها: أنه قد يحجزها عن مواصلة الدراسة، أو أنها تريد أن تتوظف، أو لأي سبب آخر، ولا تصحو إلا بعد فوات الأوان، وهذه مشكلة لها آثارها السلبية في المجتمع -كما أشرتُ-. وبعد أن يتحقق الزواج توجد أيضاً مشكلات، من أهمها: الجزء: 101 ¦ الصفحة: 12 مشكلة قسوة الآباء على بناتهم ولا شك أن البنت أحوج إلى الرعاية والعطف من الذكر؛ لأنها تُعد مستقبلاً لتكون حاضنة الأجيال، ولتفرغ هذا الحنان -الذي تلقته في البيت- في أولادها وذريتها؛ حتى ينشأ جيلاً صالحاً مستقيماً، فإذا فقدت البنت الحنان والعطف والأبوة في بيتها، فإنها تكون قد فقدت هذا الأمر، وفاقد الشيء لا يعطيه. وكثير من الآباء لا يعطون بناتهم من الرعاية والعطف والحنان ما يجب، ويهملون كثيراً من مطالبهن العادلة والمشروعة، بل وأزيد من ذلك أنك تجد كثيراً من الآباء يعاملون بناتهم بقسوة، حتى إن إحدى الأخوات الطيبات كتبت يوماً من الأيام تعرض مشكلة تواجهها في البيت، وتشير إلى أن أباها ذلك الرجل الذي يصوم النهار، ويقوم الليل، ويحفظ القرآن، ويُكثر من التهجد والبكاء يعاملها بمنتهى القسوة، ويضربها إلى حد أنها لا تتحرك إلا إلى الطبيب، وقد يتهمها بشتى التهم المتعلقة بالعِرض وغيره، وقد يتهم أمها من وراء ذلك، ويُفسر كل تصرف يصدر منها على أنه عناد وتحد له. فإذا كانت -مثلاًَ- لا تُحسِن بعض الأشياء من شئون البيت، بحكم أن تجربتها فيه قليلة، اتهمها بأنها تتعمد تجاهل هذه الأشياء، وعدم معرفتها عناداً وتحدياً له، وتقف البنت المسكينة التي ما زالت في مطلع شبابها، في هذا الوضع الحرج، ليس بيدها حول ولا قول إلا أن تنتظر من أبيها يوماً بعد يوم مثل هذه المواقف المؤثرة المحزنة، ولو صدرت مثل هذه المواقف من رجل سِكِّير منحرف لا يعرف لله حقاً لما كانت مستغربة، لكن أن تصدر من إنسان مؤمن مصلٍّ، فهذا هو الأمر الغريب، وقد أشارت هذه المؤمنة في مشكلتها إلى أنه لم ينقذها مما هي فيه، إلا أن الله عزَّ وجلَّ وفقها بأخوات طيبات بَيَّنَّ لها أهمية الحجاب، وضرورة البُعد عن الأغاني، والالتزام بدين الله، فوجدت في ذلك بعض العزاء والسلوى. مثل هذه المشكلة، عندما تقع في يد إنسان ممن يعتبرون أنفسهم مربين أو موجهين أو خبراء تجد أنه يصطاد في الماء العكِر، فيشير إلى هذه البنت بخطورة فعل الوالد وجريمته، ولا يزال يحاول أن يملأ قلب البنت بالحقد على أبيها، ثم يُشعرها بأنه وأمثاله هم اليد الحانية التي يمكن أن تجد عندها هذه البنت الحل لمشكلتها. بل قد يترتب على ذلك أن تشعر البنت، بأنها لا بد أن تنتقم من أبيها بكل وسيلة؛ حتى ولو بتدمير كرامته وتشويه سمعته عن طريق الفضائح الأخلاقية التي ستلاحقه -في ظنها- إلى الأبد. فهكذا تجد أن مثل هذه المشكلة إذا وقعت في يد إنسان لا يخاف الله، فإنه يستغلها بطريقة سيئة، ويحاول أن يجعل منها معولاً يهدم من خلاله المجتمع المسلم، فهذه مشكلة قائمة وموجودة في مجتمعاتنا، ولا بد أن ندرك أن الله عزَّ وجلَّ جعل هؤلاء النسوة، سواء أكُنَّ زوجات أم بنات، أسيرات لدينا، ونحن مسئولون عنهن أمام الله عزَّ وجلَّ، فالمسلم يدرك أن هذه المسئولية سيُسأل عنها، ومن ثََمَّ لا يتصرف فيها إلا وفق ما يرضي الله تبارك وتعالى، وهذه المرأة المظلومة إذا دعت الله عزَّ وجلَّ بقلب صادق، فحريٌّ أن يجيب الله دعاءها، فإن المظلوم لا تُرَد دعوتُه، كما قال صلى الله عليه وسلم: {اتَّقِ دعوةََ المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} والمظلوم حين يكون عاجزاً عن الانتصار ممن ظلمه، فإن دعاءه أقرب إلى الإجابة. وقد يقول قائل: إن الحل لمثل هذه المشكلة هو الزواج، حيث تنتقل البنت من هذا البيت الموبوء إلى بيت آخر، تجد فيه السعادة، وهذا -بلا شك- أنه من أحسن وأنجح الحلول إذا كان ممكناً. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 13 الأسئلة الجزء: 101 ¦ الصفحة: 14 حكم تناول حبوب منع الحمل في رمضان السؤال ما حكم تناول حبوب منع الحمل في شهر رمضان؛ لكي تمنع الدورة من أجل الصوم والصلاة والعبادة في هذا الشهر المبارك؟ الجواب تناول الحبوب في الحج من أجل أن تستطيع المرأة أن تطوف طواف الحج، لا بأس به؛ لأنها قد تحيض فتذهب رفقتها، وهي لم تقضِ حجها، فهذا يسبب لها إشكالاً. أما في رمضان فلا تستعمل المرأة الحبوب، بل تجلس أيام عادتها وحيضها، وإذا طَهُرت صامت، ثم إذا خرج رمضان قضت ما عليها، هذا هو الأَولى؛ لأن خروج دم الحيض أمر طبيعي فطري، ومعارضة الشيء الفطري دائماً تؤثر في نفس المرأة، وفي صحتها وجسمها، وفي استمرار حيضها، وتسبب اضطرابات في العادة وغير ذلك، لكن لو فعلت فليس هذا حراماً فيما يظهر. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 15 دراسة النساء للطب السؤال ماذا عن دراسة البنات لتخصص الطب، لا سيما في قسم النساء والولادة، حتى ولو كانت الدراسة تحت أساتذة ذكور، وذلك طمعاً في إيجاد طبيبات للنساء مستقبلاً؟ الجواب تعلم المرأة المسلمة لأي مهنة يحتاجها المجتمع، هو فرض كفاية، ولذلك فالواجب على الفتاة التي تستطيع أن تواصل دراستها في الطب، أو في غيره من الأعمال التي يحتاجها المسلمون أن تواصل هذه الدراسة، مع المحافظة على الحجاب، والبُعد عن التبرج، والحرص على الظهور بالمظهر الإسلامي في كل مناسبة، وإن وجدت بعض السلبيات في هذا الأمر، كالسلبية التي أشارت إليها الأخت وغيرها، فيمكن اتقاؤها. إذا لم يمكن دفعها، فيمكن تحملها مع المحافظة على الحجاب -كما ذكرتُ- حتى نستطيع في المستقبل أن نوجد المرأة المسلمة التي تحل محل هذا الرجل، فتدرس الطالبات المسلمات، وتمرِّض المسلمات، فلا يحتجن إلى رجل، وهذه مصلحة ظاهرة. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 16 عدم العدل بين الزوجات والتعدي عليهن السؤال هذه سائلة تقول: كثير من الرجال الذين تزوجوا بأكثر من واحدة نجدهم لا يعدلون بين نسائهم، بل إن أحدهم يضرب إحداهن أمام الأخريات، أرجو الإفادة والنصيحة؛ لأن زوجي من هذا الصنف، وهو جالس أمامك؟ الجواب أما النصيحة فإن قضايا علاقة المرأة مع الرجل لا يحكمها إلاَّ الخوف من الله، ولذلك الله -عزَّ وجلَّ- في سورة البقرة لما ذكر قضايا الطلاق، وأحكام الطلاق أدخل فيها آية، قد يظنها الظان أجنبية عن السياق، بعد الكلام عن أحكام الطلاق: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالَاً أَوْ رُكْبَانَاً} [البقرة:238-239] ثم رجَع السياقُ إلى الكلام عن موضوع الطلاق، والعلاقات الزوجية، والذين يُتَوفون منكم، إلى آخر الآيات، لماذا دخلت آية الصلاة في وسط سياق الطلاق، والعلاقات الزوجية؟! لأنه ليس هناك شيء يمنع الرجل من الظلم والخطأ والجَور إلاَّ ارتباط قلبه برب العالمين، وإلاَّ شعوره بأن الله عزَّ وجلَّ يُحصي عليه مثاقيل الذر، وأن جميع هذه الأشياء التي يقع فيها محسوبة، وإلاَّ فالإنسان إذا فَقََدَ الشعور برقابة الله عزَّ وجلَّ، فيمكن أن يقع في أعظم من ذلك، فالنصيحة أن الإنسان يتقي الله عزَّ وجلَّ، ويعلم أن النساء كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أنهن: {عوان عندكم، استحللتم فروجهن بكلمة الله} فحرام عليك أن تسيء إلى هذه المرأة أو تظلمها، أو تهضمها، أو تفضل غيرها عليها، خاصة أمام الأخريات، فهذا نوعٌ مِن أقرب وأشبه ما يكون -إن صح التعبير- باللؤم، لأنه ما معنى أنه يسيء إلى واحدة أمام الأخريات؟! هذا لا يسوغ بحال من الأحوال، حتى لو استحقت المرأة اللوم أو التقريع أو التوبيخ فيكون هذا على انفراد؛ لئلا يؤثر في نفسيتها، ويضرها بذلك، ويدمِّر شعورها. أما وجود هذا الأمر، فهو صحيح، لكن هل هذا يؤثر في طريق التعدد؟ إن كان هذا يؤثر في طريق التعدد، فيجب أيضاً أن نلغي الزواج من الأصل؛ لأن كثيراً من الأزواج، حتى لو لم يكن عنده إلا واحدة، تجد أنه يعيش هو وإياها في شقاء ومشكلات طويلة عريضة، هذا طبيعي أن يقع؛ لأن الإنسان يمكن أن يعيش لوحده بشيء من السعادة، لكن إذا انضم إليه آخر بدأت بعض المشكلات؛ لأنهما صارا اثنان، ولو جاء ثالث زادت المشكلات بنسبة أخرى، ورابع، وهكذا، هذا هو الغالب، فوجود مشكلة أو وجود حالات غير سوية -كما في السؤال- هو من حيث الواقع أمر صحيح ويقع، لكنه لا يؤثر على الأصل. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 17 دور الجمعيات النسائية السؤال فضيلة الشيخ، نرجو إيضاح دور الجمعيات النسائية في تربية المرأة المسلمة في هذا البلد؟ الجواب الجمعيات النسائية نشأت -أصلاً- في مصر وغيرها من البلاد، وكان القائمون والقائمات عليها من أمثال: نازلي فاضل، وهدى شعراوي، وأمينة السعيد، وغيرهن من النساء، اللاتي تلقَين معلوماتهن وثقافتهن من الغرب، وكانت صلتهن بالمستعمر البريطاني قوية، وكان يدعم هذه الخطوات، ويدعوهن إلى حضور المؤتمرات النسائية التي تقام في أماكن مختلفة من العالم، ويشجع هذه الخطوات شيئاً فشيئاً، وربما حضرت بعض النساء المرموقات من أوروبا إلى مصر، وشجعت وأيدت، وكان من أهم آثار موضوع هذه الجمعيات النسائية: المطالبة بتحديد الطلاق، والمطالبة بمنع تعدد الزوجات، والمطالبة بسفور المرأة، والمطالبة بما يسمونه الحقوق السياسية للمرأة، وشيئاً فشيئاً بدأت المرأة تتخلى عن أنوثتها وكرامتها ولباسها الشرعي، حتى وصلت المرأة إلى ما وصلت إليه الآن، من الوضع الذي يُرثي، وكل إنسان يعرف حكم الله ورسوله في النساء وآداب الإسلام، يشعر بالحسرة والمرارة، كلما يرى ما آلت إليه كثيرٌ من البلاد الإسلامية من التفسخ والانحلال. أما في هذه البلاد: فالواقع أن الجمعيات النسائية جمعيات مغلقة، لا أعرف أنا عنها شيئاً ظاهراً، وبعض الحفلات التي تعلن في الصحف عن هذه الجمعيات تثير علامة استفهام! وقد يكون هناك فرق بين بعض الجمعيات وبين بعض، فأنت بالمقابل تجد -أحياناً - هناك جمعيات قد يكون فيها عناصر طيبة، فتهتم -مثلاً- بالمحاضرات، وبرعاية الأيتام، والحجاب، وبالثقافة الإسلامية، وتُبعِد عن هذه الأشياء التي لا تتناسب مع تعاليم الإسلام بالمرَّة، والكلام المفصل عن هذا يتطلب معلومات أوسع. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 18 خروج النساء إلى السوق السؤال هل يجوز خروج المرأة مع مجموعة نساء للسوق، بحجة انتفاء الخلوة إذا دخلت عند صاحب المحل؟ الجواب إذا كان خروجها للسوق لحاجة صحيحة، تريد أن تشتري شيئاً، أو حاجة لا يقضيها إلا هي، فلها أن تخرج برفقة هؤلاء النساء، أو بغير رفقتهن، بعيدة عن التزين والتطيب والتبرج والتعطر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر أن: {أي امرأة استعطرت، ثم خرجت، ثم مرَّت على رجال ليجدوا ريحها، فهي زانية} والحديث صحيح وهو في في: سنن النسائي وغيره، هكذا حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا خرجت المرأة لحاجتها، بملابس بعيدة عن التزين والإثارة، وبدون طيب وبلا تبرج، فلا بأس بذلك. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 19 مفاهيم وآراء انتشرت السؤال فضيلة الشيخ -أثابكم الله- هناك مفاهيم وآراء انتشرت فما حكمها: الأول: شهر العسل؟ الجواب شهر العسل يقصدون به: الشهر الأول من الزواج ولا أعتقد أن لهذه العادة أصل في الإسلام، باعتباره شهراً محدداً، وربما له أنظمة خاصة، وبعضهم قد يسافرون إلى بلاد خارجية، فيبدءون حياتهم الزوجية بداية سيئة، بالذهاب إلى بلاد لم تعرف الله تبارك وتعالى ولم تعرف الخلق، ولا الحياء، ولا الحجاب، ولم تعرف هذه الأخلاقيات التي لا يكاد يتذوقها إلا الإنسان الذي نشأ عليها وعرف قيمتها، فمثل هذا ليس له أصل -فيما أعلم- في الشريعة. ثانياً: البيت الشرعي لكل زوجة لمن يريد أن يتزوج امرأة ثانية؟ إذا تزوج الإنسانٌ امرأة أخرى فلا يضعها مع الزوجة الأولى؛ بل يضعها في بيت مستقل ومن حق الزوجة أن تشترط هذا، ويجب على الرجل أن يفي بشرطه: {فإن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج} و {المؤمنون على شروطهم، إلا شرطاً حلل حراماً، أو حرم حلالاً} . الجزء: 101 ¦ الصفحة: 20 مديرة تطلب وضع الحناء ورفع العباءة السؤال ما رأي فضيلتكم في مديرة مدرسة تأمر الطالبات أن يضعن في أيديهن الحناء ويكشفنها، وكذلك تأمرهن بأن يرفعن العباءة إلى السرة؛ بحيث يكشفن ما يلبسن؟ الجواب إذا حدث هذا فهذه مصيبة. إذا كان ربُّ البيت بالدُّفِّ ضارباً فشِيْمَة أهلِ البيت كُلِّهِمُ الرَّقْصُ إذا كانت مديرة المدرسة، والأمانة في عنقها -والمفترض أنها قدوة حسنة- تأمر بمثل هذا، فما أدري كيف تكون التربية؟ وكيف يكون التعليم؟ لكن عصيان مثل هذه المرأة -إن صح عصيانها- واجب، ويجب أيضاً نصحها بأن تكف عن مثل هذه الأشياء، وتدرك أنها في مقامها في خدمة الأخلاق العالية، وبناء الفضيلة في نفوس الطالبات، وليس غير ذلك. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 21 عدم الإنجاب السؤال ما توجيه فضيلتكم للمرأة التي لم يُكتب لها الإنجاب، سواء أكان العجز منها أم من الزوج، وخصوصاً إذا كان من الزوج؟ حيث يُلاحظ أنها تطالب بالطلاق؟ الجواب إذا كان عدم الإنجاب من المرأة، واستنفذت الوسائل الممكنة للعلاج وغيره، فعليها أن تسلم أمرها إلى الله، وتثق به، وتدرك أن هذا قضاء الله، يخلق ما يشاء: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] فالله -عزَّ وجلَّ- له العلم وله القدرة، وأعماله سبحانه كلها مبنية على العلم والحكمة، وليس على العبث -تعالى الله عن ذلك-، وهو قدير أيضاً، فيفعل ما يشاء سبحانه، فالمسلم يرضى ويسلم بقضاء الله وقدره، مع فعل السبب الممكن. أما إذا كان عدم الإنجاب مِن قِبَل الزوج، فإن رضيت المرأة وصبرت معه، ورأت أن في حياتها معه أنساً وسعادة وخيراً، وهي تفضل البقاء معه، فلها الحق في ذلك، وإن كانت تحن إلى الأولاد، وهذا أمر فطري، وأكثر النساء تتطلع نفسها إلى وجود الولد الذي يشبع عاطفتها، والذي يخدمها، وربما تحتاج إليه في مقتبل الأيام؛ فلها الحق أن تطلب الفسخ من هذا الزوج، لعل الله أن يرزقها بالذرية الصالحة. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 22 إجراء عملية للمرأة من قبل طبيب السؤال حَضَرَت زوجتي آلامُ الوضع، فذهبت بها إلى المستشفى، ففوجئت بأنه سيشرف على عملية الولادة رجل، وعند سؤالي عن إمكانية أن تولدها امرأة، أفادوني بأن هذه الفترة مناوبة الطبيب، ولا يوجد طبيبة في هذا الوقت، وعندما أردت الانتظار لحين حضور الطبيبة، ذكروا بأن المسئولية ستقع عليَّ لو حدث حادث، فاضطررتُ للرضوخ لأن يُجري العمليةَ رجلٌ، فما حكم ذلك؟ الجواب إذا كان ممكناً أن تجري العملية امرأة، فلا يجوز ولا يحل للرجل أن يُجريَها، ولا للزوج أن يمكن الطبيب من ذلك، لأنه سوف يكشف عن عورة المرأة، وهذا أمر صعب أن يُقبل به، فكان الأحرى بالزوج أن يذهب بزوجته إلى إحدى المستشفيات الأهلية أو المستوصفات أو غيرها، وربما لو اتصل ببعض المسئولين أيضاً في المستشفى، لأنه من المجرب أن بعض الأطباء -أحياناً- قد لا يعطون الحقيقة كاملة. وقضية أن المسئولية عليه، فإذا كانت القضية قضية خطيرة -فعلاً- فالإنسان قد يرضخ أحياناً، لكن في الغالب أن هذه أمور قابلة للتأجيل ولو لوقت يسير. وبعض الأطباء أيضاً -وهذا يحدث- يستغلون جهل المراجع لهم وعلمهم هم، فيُهوِّلون الأمر، فلو أرادوا أن يجروا أي عملية ولو كانت بسيطة، فرفض المسئول هددوه بأن المسئولية عليك، وأن هذا قد يتطور، صحيح أن كل شيء محتمل من حيث الاحتمال العقلي المحض، فوضعوه في حالة تخوف تجعله يذعن بأن يقبل بمثل هذه الأشياء، فكان الأولى بالزوج أن يبحث عن غير هذا المستشفى ولو مستوصفاً أو مستشفى أهلياً أو غير ذلك، وهذا أمر أعتقد أنه ممكن، حتى ولو دفع بعض المال. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 23 نصيحة إلى المتبرجات من النساء السؤال نرى كثيراً من النساء متبرجات من هذا المجتمع، فلا نستطيع ردَّهن عما هن فيه، حيث يخاف الرجل أن يَفْتِنَّ عليه، فيعجز بذلك عن نصيحتهن، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فماذا تشيروا علينا بذلك؟ الجواب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإذا فقده الإنسان فقد الإيمان، فأي: إنسان يرى المنكر، ولا يمتعض قلبه، هذا ليس بمؤمن، {وذلك أضعف الإيمان} وفي رواية: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} كل هذا صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنسان يرى المنكر بعينه، أو يسمع بأذنه، أو يعلم بوجوده، ولا يمتعض، هذا ليس بمؤمن، فكيف إذا أحب المنكر والعياذ بالله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] . والأخ الذي يرى المنكر، عليه أن يغيره ما استطاع، فإن كانت مرأة وهو يشعر بأن الكلمة الطيبة تؤثر فيها فيتحدث معها من بُعد -أيضاً- وبصورة لا تدعو إلى الريبة؛ أن هذا العمل لا يسوغ ولا يجوز، وإن أمكن أن يستدل لها بما تيسر فأمر طيب، وإن رأى أن هذه المرأة فيها وقاحة وجراءة، وربما تسيء إليك، أو يحدث من الضرر أضعاف ما أردت من النصيحة فاترك؛ لأن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصيل المصلحة، فإذا رأى أنه ستقع مفسدة أكبر منها فليترك، ولكن عليه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إجمالاً، في أوساط النساء، ابتداءً، وليس فقط حينما يرى المنكر. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 24 حكم مصافحة المحارم السؤال فضيلة الشيخ: معروفٌ أنه لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية، السؤال: ما هي كيفية السلام على المحارم من النساء كالابنة، والأخت، وأم الزوجة؟ الجواب تحرم مصافحة المرأة الأجنبية، وهؤلاء النسوة لسن بأجنبيات، فيسلم الإنسان عليهن كما يسلم على غيرهن، هؤلاء النسوة كأمه، أو أخته، أو أم زوجته، أو سواهن، يسلم عليهن كما يسلم على غيرهن، كما يسلم على الرجال، أما إن كان يقصد ما يتعلق بالمعانقة أو القبلة، فينبغي للإنسان أن لا يقبل أخته أو قريبته في فمها، وإذا كانت الشهوة مندفعة -وهذا هو الوضع الطبيعي- فله أن يسلم عليها إذا جاء من سفر، ويقبلها -مثلاً - في جبهتها أو نحو ذلك، هذا فيما يتعلق بالأخت، أو البنت، أو نحو ذلك. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 25 تغطية وجه المرأة السؤال كتبت امرأة في إحدى المجلات، تقول: إن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لا يغطين وجوههن، بل يحتجبن بالحجاب المعروف، وقد حدث هذا -وللأسف- وصدقت به زميلات كثيرات، وعندما أقول لهن: إن ذلك محرم، يقلن: لا، ليس هناك دليل، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب كل إنسان يمكن أن يدعي ما يشاء، والشاعر يقول: والدعاوى ما لم يُقيموا عليها بينات أصحابُها أدعياءُ فكل إنسان يمكن له أن يدعي دعوى مثل الدعوى التي في السؤال السابق، وهذه الدعوى أن نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لا يغطين وجوههن: لا يوجد أحد يحول بينه وبين أي دعوى يريدها، لكن الشيء الذي يجب أن نطالب به دائماً وأبداً هو: إقامة الدليل، هاتِ المصداقية على ما ذكرتَ، وعلى أي أساس اعتمدت؟ ففيما يتعلق بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم في: سنن أبي داود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: [[إن الركبان إذا حاذَونا ونحن محرمات، كانت إحدانا تسدل جلبابها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه]] . وهذا صريح في أن المرأة يجب عليها أن تغطي وجهها؛ لأن تغطية المرأة لوجهها في الإحرام لا يجوز على المشهور، فكونها تغطي وجهها في الإحرام دليل على أنها لم تغطِّه إلاَّ لتؤدي واجباً آخر، وهو ستر الوجه عن غير المحارم، فإذا قال قائل: إن هذا خاص بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم احْتُجَّ عليه بالحديث الآخر الذي رواه: مالك في: الموطأ بسند صحيح، عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها قالت: [[كنا نذهب مع أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها للحج -نسوة مؤمنات- فإذا حاذانا الركبان سدلت إحدانا جلبابها على وجهها]] . فدل -أيضاً- على أن الحجاب كان معروفاً ومشروعاً وواجباً؛ حتى إن المرأة تحتجب في حال الإحرام، مع أن المفروض: أنها في حال الإحرام تكشف وجهها إذا لم تكن بحضرة رجال أجانب، فكونها تغطيه دليلٌ على أن تغطيته واجب، وهذه أدلة صريحة. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 26 النساء والموضات السؤال هذه سائلة تقول: فضيلة الشيخ: بالأمس القريب، وأنا خارجة من هذا المسجد، شاهدت بعض الأخوات، من النساء يخرجن من هذا المسجد، وهن يرتدين ملابس ضيقة جداً، بل إنه خرج نصف ساقها، حيث انتشرت هذه الظاهرة، وهي وجود فتحة في أسفل الثوب من الجنب قد يصل طولها إلى أسفل الركبة، فما حكم هذا؟ الجواب الله المستعان {لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة} مصيبة كبرى! نحن نقع في تناقض، الرجل يسبل ثوبه شبراً أو ذراعاً، لماذا؟! لأنه مأمور بأن يرفع ثوبه، والمرأة المأمورة بالستر تجد أنها ترفع ثوبها شيئاً فشيئاً -كما أشارت السائلة- وهناك ظواهر موجودة في تقصير الثياب إجمالاً، وفي رفع الملاءة أو العباءة، وفي تقصير حجاب الوجه، وتخفيفه، فهذا دليل قوي على أن التربية الإسلامية لدى هؤلاء الأخوات ضعيفة، وإلا -فأصلاً- ما معنى كلمة: (إسلام) ؟ كلمة: (إسلام) معناها: أن المنتسب لهذا الدين قد سلم نفسه لله -عزَّ وجلَّ- واستسلم، بحيث إنه يتلقى جميع الأوامر والنواهي، والتوجيهات والتصرفات عن الله ورسوله، ويضرب عُرض الحائط بكل ما خالف ذلك، حتى ولو أطبق عليه الناس كلهم، فإذا كان الله يأمر المسلمة بالستر، والتصوُّن، والبعد عن الريبة، وأن لا يظهر منها شيء وفي الترمذي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان} وأم سلمة لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجال برفع الثياب، قالت: يا رسول الله! فالنساء، قال: {يرخينه شبراً -أي الثوب- قالت: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: يرخينه ذراعاً، ولا يزدن على ذلك} . فهي المرأة المؤمنة التي تشعر أن انكشاف القدم من خلال المشي وتحرك الثوب أمر محظور ومحذور، فتعمل على اتقائه، لكن لو جاءت الموضة أن المرأة تلبس ثوباً يسحب خلفها متراً أو مترين وعرضه كذا وطوله كذا -والله الذي لا إله إلا هو- أنكِ تجدين كثيراً من الفتيات، خاصة المتبرجات يسارعن إليه؛ لأن هذا الأمر تقتضيه الموضة، فالمسلم والمسلمة والدِّين تَبَعاً لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وليس على حسب ما تصدره بيوت الأزياء التي غالب مصمميها من اليهود. والواجب بين الأخوات المسلمات النصيحة بالكلمة الطيبة، وإهداء الشريط، أو الكتاب، والموعظة، و {الدين النصيحة} كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 27 استئذان البكر السؤال أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن البكر تُسْتأذَن في الزواج، ولكن إذا كان الزوج فيه جميع المواصفات التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم في الخاطب، ولكن رفضت هذه البنت الزواج، فما حكم ذلك؟ وهل تستأذن في هذه الحالة؟ أم لا؟ الجواب نعم، تُسْتَأذَن حتى في هذه الحالة، ومن حقها ألا تقبله؛ لأي سبب، ولكن يجب أن يُنْتَبَه إلى عدة أمور: أولاً: إذا كانت المرأة أو الفتاة تطلب إنساناً منحرفاً غير مستقيم، فيشعرها وليُّها حينئذٍ بأن مثل هذا الإنسان لا يمكن أن يقبل به هو، ومن حقه أن يرفض الشخص المنحرف. الأمر الأخر: إذا كانت الفتاة ترفض هذا؛ لأنها لا تريد الزواج، فمن حق الأب، وغير الأب أن يضغطوا عليها في البيت، وفرق بين الضغط عليها لتتزوج بمن تريد من الأشخاص الذين تتوفر فيهم المواصفات، وبين أن تُكرَه على شخص معين لا تريده. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 28 حكم السفر لطلب العلم بدون محرم السؤال هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون محرم لطلب العلم -مثلاً- امرأة تأتي من دول الخليج تدرس في جامعة من جامعات المملكة، علماً بأن الرحلة في الطائرة، ولمدة قصيرة؟ الجواب الأصل: أن المرأة لا يجوز لها أن تسافر إلا ومعها محرم، وهذا أمر وردت به النصوص الكثيرة في: الصحيحين وغيرهما، فلا يجوز لهذه المرأة ولا لغيرها أن تسافر من دول الخليج إلى هذه البلاد أو سواها بدون محرم، حتى ولو كانت في الطائرة، ولو كان الوقت يسيراً، فقد تتعرض الطائرة للتأخر، وقد يحصل عطل، وهذا يقع أحياناً، ثم إن الفتنة موجودة، حتى داخل الطائرة، وهذا شرع الله -كما سبق- والإنسان إذا حرص يسَّر الله له السبب، فلا تَعْدَم المرأة: أن تجد ولياً يأتي بها من بلدها إلى إي بلد آخر لتتعلم، وكذلك الشأن في موضوع الرجوع. الجزء: 101 ¦ الصفحة: 29 علاج العشق السؤال ما هو علاج مَن ابتُلِيَ بالعشق؟ الجواب -لا شك- هذه بلوى عظيمة، والشيطان يحارب الإنسان على كل ميدان، لكن إذا كان الشيطان يحارب الإنسان في سائر الميادين فإنه مثل العدو الخارج يدافعه الإنسان، فينتصر عليه مرة، وينهزم أخرى، وهكذا، والدهر دول، لكن ما بالكم ببلد محصَّن جاء العدو فاقتحم هذه الحصون، ودخل في الشوارع، وصار أهل البلد يقاتلونه في الشوارع، الأمل حينئذ في الانتصار ضعيف جداً، ويتطلب مزيداً من المقاومة، وأنا لا أقول: هذا أمر ميئوس من شفائه، لكنني أقول: يتطلب مزيداً من المقاومة. فالأمر الأول الذي يجب التنبيه إليه: هو: أن يسأل -أصلاً- لماذا وقع الإنسان في هذا العشق؟ وقع في العشق؛ لأنه يتطلع، ولإنه كثير الأماني والأحلام، يطلق بصره في الحرام، وكما يقول الشاعر: كل الحوادث مبداها من النَّظَرِ ومعظمُ النار مِن مستصغَر الشَّرَرِ كم نظرةٍ فَتَكَتْ في قلب صاحبها فَتْكَ السهامِ بِلا قوسٍ ولا وَتَرَ يَسُرُّ مقلتَه ما ضَرَّ مهجتَه لا مرحباً بسرور جاء بالضَّرَرِ فالإنسان إذا نظر ربما يترتب على هذه النظرة الحرام، أن تقع هذه الصورة في قلبه، فيقع في عشق الصور والعياذ بالله، ولا نقول: هذه قضية روحية! أبداً، فالإنسان يعشق الصورة الجميلة، وكما قال بعض الأدباء: أرأيتم العشاق المعروفين في التاريخ، والذين يذكرهم الأدباء وسواهم، لو أن الفتاة أو المرأة التي عشقوها أصيبت -مثلاً- بالجدري أو غيره من الأمراض التي شوهتها، فهل ترى كان يقع منه هذا العشق؟ الجواب: لا، فالعشق مربوط بالنظر، والإعجاب لكل حال، فالإنسان عليه أن يصون بصره عما حرم الله، وهذا يؤكد لك فضل الإسلام حين حسم القضية من أصلها، فمنع النظرة الحرام؛ لأن النظرة الحرام لا تنتهي عند مجرد نظرة عابرة، بل قد تتعداه إلى أمنية، ثم إلى رغبة، ثم إلى كلام، ثم إلى موعد، ثم إلى لقاء وعشق، وقد يكون في هذا خسارة للطرفين، في الدنيا والآخرة، وبعض العشاق والعياذ بالله يصل قلبه إلى حد التأله لهذا المعشوق، حتى إنك لا تجد في قلبه إلا معشوقه. ويقول أحدهم: إنني وأنا ساجد بين يدي رب العالمين تبارك وتعالى أتذكر معشوقي الذي يؤمن به، إنه يدعو الله، ويسبح الله، وليس في قلبه إلا معشوقة، ولا يُخْلص في الدعاء إلا إذا جاء ليدعو له -والعياذ بالله - فهذا يؤكد لك أن هذا نوع من الشرك الخطر: الذي إذا أصاب قلب الإنسان، فقد حصل منه الشيطان على أمر عظيم. فلا بد أولاً: من الوقاية، ثم إذا وقع الإنسان -فأيضاً- لا بد أن يكون عنده صدق في الرغبة في التخلص، أما إنسان يتلذذ بسماع كلام عن العشق، والسؤال عن هذا الموضوع، وعرضه في المناسبات -مثلاًَ- لكن تجد أنه في قرارة نفسه مرتاح بما هو فيه، ولا يطمع أو يتطلع إلى الخلاص، فمثل هذا لا حيلة فيه، فلا بد أن يكون عند المصاب نفسه شعور بوجوب التخلص وجدية الانعتاق من هذا الأمر، بحيث إنه يسأل الله بصدق، وينطرح بين يديه، وبحيث إنه يحرص على أن يملء قلبه بمحبة الله وتعظيمه، حتى لا يصبح قلبُه خالياً خاوياً، تتراكض فيه الشياطين كما تتراكض الذئاب في البرية، ويحرص على الطاعات والعبادات، وعلى فطم نفسه عن كل أمر يؤدي إلى زيادة هذا الحب أو العشق، ومعرفة ما قد يوجد من عيوب فيه، وتَذَكّر العيوب الموجودة في أي إنسان. وأخيراً: فقد كتب الإمام ابن قيم الجوزية فصولاً مهمة في هذا الأمر، في: كتاب: الجواب الكافي، وكذلك في: زاد المعاد في الجزء الثالث المتعلق بالطب النبوي، حيث عقد فصلاً لعلاج العشق، وربما يقول بعضهم: أنا مصيبتي أنني قرأت هذه الفصول، وحفظتها ورددتها، لكنني ما ازددت إلا شدة، سنقول نعم: بلاؤكَ فيكَ وما تشْعُرُ وداؤك منكَ وما تبْصِرُ إن لم يوجد عند الإنسان -كما أشرتُ- رغبة في الارتفاع والتطلع، والخروج عن هذا المأزق، فلا حيلة، ومع ذلك إذا كان الزواج ممكناً، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لم يُرَ للمتحابَّين مثل النكاح} . الجزء: 101 ¦ الصفحة: 30 أثر التربية على الشباب المسلم تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن أن الحضارات والأمم والدول إنما تقوم على سواعد الأفراد الأقوياء المؤهلين، وضرب مثلاً بقيام دولة الإسلام على سواعد الصحابة الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأكد أنه لابد من تربيتهم تربية حسنة، واستغلال الجوانب الإيجابية لدى هؤلاء الأفراد الذين يراد صناعة رجال منهم، ثم ضرب بعض الأمثلة من النجاح الباهر للتربية النبوية لبعض الصحابة، ومنهم مصعب بن عمير، وعبد الله بن عباس، وقصة لبعض الصحابة حصلت في معركة اليرموك. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 1 الحضارات لا تقوم إلا على سواعد الأفراد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وحبيبه، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في هذه المحاضرة سيكون الحديث إن شاء الله تعالى عن قضية مهمة لنا جميعاً ألا وهي الحديث عن دور الإسلام في تربية الفرد وبنائه بناءً صحيحاً. إن العنصر الذي تقام عليه المبادئ والعقائد وتنشأ عليه الأمم والحضارات هو الفرد، فإذا استطاعت أمة من الأمم أن تبني أفرادها بناءً قوياً متكاملاً صحيحاً؛ فمعنى ذلك أنها استطاعت بإذن الله أن تحقق لنفسها مستقبلاً زاهراً، وأن تحقق للدين والعقيدة التي تدين بها نصراً ونجاحاً كبيرين، وإذا فشلت أمة من الأمم في بناء أفرادها وتكوينهم أو ركزت هذه الأمة أفرادها على لونٍ معين من نشاطات الحياة؛ فمعنى ذلك أن هذه الأمة حكمت على نفسها بالفناء والدمار. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 2 قيام دولة الإسلام على أكتاف الصحابة إن دولة الإسلام الأولى التي أقامها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما قامت إلا على أكتاف الرجال الأشداء الأقوياء من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم من أصحابه؛ وخاصةً قدماؤهم وأكابرهم ومشاهيرهم الذين تولوا أمور الدولة كـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وسعد بن أبي وقاص وغيرهم من الصحابة أجمعين، ولو نظرنا إلى أمة من الأمم ملكت مثل هذا التاريخ -مثلاً- فصارت تتغنى بأمجاد الماضي وأنه كان لها في التاريخ نصرٌ وعزٌ وتمكين، وأن فيها فلاناً وفلاناً، أو نظرنا إلى أمة من الأمم ملكت الثروة والمال والجاه بأي صورة كان، أو نظرنا إلى أمة من الأمم ملكت العدد والعدة فصار أفرادها يعدون بالملايين بل بمئات الملايين بل بآلاف الملايين مثلاً. لو نظرنا إلى هذه الأمة أو تلك لوجدنا أنها لا يمكن أن تقوم قياماً صحيحاً إلا بتربية الفرد الصالح الذي يبدي استعداده للتضحية في سبيل هذا المبدأ أو العقيدة التي يدين بها أو في سبيل هذه الأمة التي ينتمي إليها. وهذه القضية وهي: قضية أهمية الفرد في بناء الأمم وتكوين الحضارات، كانت تشغل بال المصلحين والغيورين على الدين منذ أول عهد الإسلام. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 3 أمنية عمر فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يجلس في مجلس مع بعض الصحابة فيقول لهم: تمنوا، فقال أحدهم: أنا أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت ذهباً أنفقه في سبيل الله. وإنها أمنية طيبة ولا شك لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر رضي الله عنه، فقد كان يشغل بال عمر أمرٌ أغلى من الذهب فأعاد الكلمة مرة أخرى: تمنوا، فقال آخر أنا أتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت جوهراً وزبرجداً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. وهذه أمنية أيضاً تشبه السابقة، لكنها لم تكن هي الأمر الذي يشغل بال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال لهم مرة ثالثة: تمنوا، فقالوا: والله ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال: أما أنا فأتمنى أن يكون لي ملء هذا البيت رجالاً مثل أبي عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة وحذيفة بن اليمان، وهذا الخبر صحيح رواه الإمام أحمد في كتاب فضائل الصحابة وغيره. إذاً فـ عمر رضي الله عنه وأرضاه لا يشغل باله المال -مثلاً- أو الذهب أو الفضة التي ينفقها في سبيل الله، بل يشغل باله أمرٌ أخطر من هذا: ألا وهو بناء الفرد الصالح المؤمن إيماناً حقيقياً في عقيدته يستطيع أن يوفر المال والذهب والفضة ولو من قُوتِه، وهذا هو الذي وقع فعلاً وهو ما تشهد به أحداث التاريخ. وهؤلاء الرجال هم الذين تقوم عليهم الدعوات وتعتمد عليهم الأمم بعد الله عز وجل إذا رزقوا الصبر والثبات على مبدئهم وعقيدتهم؛ حققوا من جليل الأعمال ما يشبه المعجزات ولكن لا بد لهم أن يتمتعوا بالصبر والثبات على مبدئهم، لأنهم هم قوام الحياة فإذا صلحوا صلحت بهم الحياة، لكن إذا انحرفوا أو فسدوا أو مالوا إلى الدنيا أو تأثروا بالمغريات من حولهم، فمعنى ذلك أن الأرض التي تصلح بصلاحهم قد فسدت بفسادهم. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 4 نصيحة عيسى عليه السلام روى الإمام عبد الله بن المبارك رضي الله عنه وأرضاه في كتاب الزهد أن عيسى عليه الصلاة والسلام قال للحواريين: لا تأخذوا ممن تعلمونهم أجراً إلا مثل الذي أخذت منكم، فما هو الأجر الذي أخذه عيسى من الحواريين حين علمهم الإسلام؟! بمعنى آخر أنه لم يأخذ منهم أجراً مادياً دنيوياً، وهذا شأن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، قال تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23] وكان كل نبيٍ يقول لقومه: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود:29] فعيسى عليه السلام لم يأخذ من الحواريين أجراً وهو يعلمهم الإسلام، فيقول لهم: حين تعلمون الناس الإسلام لا تأخذوا منهم أجراً إلا مثل الأجر الذي أخذت منكم، بمعنى: إنني لم آخذ منكم أجراً حين علمتكم، فكذلك أنتم لا تأخذوا من الناس أجراً حين تعلمونهم، ثم يقول بلهف: ويا ملح الأرض لا تفسدوا -يخاطب الحواريين، والحواريون هم -كما تعلمون- خاصة عيسى عليه السلام وبطانته ومقربوه؛ وهم الذين قاموا بالدعوة وبعثهم إلى أنحاء الأرض ينشرون الدين فيه، فهم الفئة القليلة الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فهو يقول لهم: ويا ملح الأرض لا تفسدوا فإن كل شيءٍ إذا فسد فصلاحه بالملح، فإذا فسد الملح لا يصلحه شيء، ثم يقول لهم: واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الخصلة الأولى: هي الضحك بغير سبب، والخصلة الثانية هي: الصبحة من غير سهر. ما هي الصبحة؟ هي ما نسميه نحن بالسفرة، وهو النوم بعد صلاة الفجر، فهذه الكلمة من عيسى عليه الصلاة والسلام يهمنا منها قوله: ويا ملح الأرض لا تفسدوا وقد نظم هذا بعض السلف بقوله: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد الجزء: 102 ¦ الصفحة: 5 ضرورة تربية الأفراد تربية قوية فهؤلاء الرجال الأفراد الأفذاذ الذين تقوم عليهم الأمم والحضارات والدعوات يحتاجون إلى أن يبنوا بناءً قوياً صحيحاً متكاملاً، ثم يحتاجون بعد ذلك إلى أن يتمتعوا بالصبر والثبات على مبادئهم، فلا تجرهم المغريات والشهوات والمطامع فتثنيهم عن مقاصدهم الحقيقية، وهؤلاء الرجال الذين تحتاجهم الدعوة إلى الإسلام لا بد أن يكونوا متميزين بخصائص فطرية جبلوا عليها تناسب المهمة التي خلقوا من أجلها. فلو نظرنا مثلاً إلى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وتساءلنا لم كانت دعوة الإسلام في الجزيرة العربية؟ ولم تكن في أرض فارس أو الروم أو بين النصارى واليهود لوجدنا أن الله عز وجل اختار هذه الجزيرة وهو على علمٍ سبحانه بخصائص أهلها، وأن العرب على ما كانوا عليه من الانحراف والفساد إلا أن صحراءهم المترامية الأطراف كانت تمنع وصول كثيرٍ من المفاسد والمراذل إليهم، ومعيشتهم المعيشة البدوية الصحراوية كانت تمنع تأثرهم بالمذاهب الفلسفية المنحرفة التي كانت تسيطر على الناس في ذلك الوقت، فكانوا يتمتعون بالشجاعة مثلاً والكرم والقوة والنجدة والصراحة، ولذلك لما دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قول: لا إله إلا الله، كان بإمكان بعضهم أن يقولوها نفاقاً مثلاً أو مجاملة أو محاولة للتقريب بينهم وبينه عليه الصلاة والسلام، ولكن لأنهم أناسٌ صرحاء، الغالب على أحوالهم الوضوح والصدق والصراحة والبعد عن أساليب الالتواء واللف والدوران، لم يقبلوا هذه الكلمة وردوها صراحة وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] . فالعرب كانوا يتمتعون بخصائص فطرية جيدة بالقياس إلى ما كان يوجد في الأمم الأخرى في عصرهم، ومع هذه الخصائص الفطرية التي لا بد أن توجد في كل من يدعو إلى الإسلام ويقوم بشأنه، فإن هناك ثلاث قضايا لا بد من التركيز عليها في بناء هؤلاء القوم ودعوتهم حتى تتحول خصائصهم هذه إلى خصائص تخدم الدعوة الإسلامية. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 6 قضايا في تربية بعض أصحاب الفطر المقبولة هذه القضايا الثلاث هي: الجزء: 102 ¦ الصفحة: 7 التركيز على كثرة طرق الخير الجانب الثالث: هو أن التربية الإسلامية تحرص على تفجير منابع الخير عند الإنسان وذلك بكثرة طرق الخير من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وطلب العلم والإحسان وغير ذلك، بحيث أن كل طاقة موجودة عند الإنسان يجد لها مصرفاً يصرفها فيه، ويشعر أنه يخدم الإسلام من خلال تصريف هذه الطاقة، ولا شك أننا نجد كثيراً من الناس وخاصة الشباب يتمتعون بطاقات كبيرة جداً، بطاقات جسمية، وعقلية وغيرها. فحين لا يوجد من يستثمر هذه الطاقات تجدها تتسرب وتذهب إلى مجالات وجهات ليست محمودة؛ فتضيع مثلاً في الركض وراء الكرة ركضاً مبالغاً فيه، أو تضيع في الركض وراء الشهوات وإشباع الغرائز، أو تضيع وراء قضاء الأوقات مع الشلل والأصدقاء المنحرفين، أو تضيع بأي صورة من الصور، إن لم تجد المصرف الصحيح الذي تصرف فيه وتوجه إليه، لكن الإسلام والتربية الإسلامية الصحيحة أوجدت المجالات التي يمكن استثمار هذه الطاقات من خلالها، وأضرب لذلك بعض الأمثلة: فمثلاً نجد الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من أنفق زوجين في سبيل الله دعي من الجنة: يا عبد الله هذا خير والمقصود بزوجين، أي: شيئين اثنين من أنواع الخير كأن ينفق درهمين أو دينارين أو بعيرين أو غير ذلك، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان. قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يا رسول الله! ما على أحدٍ دعي من هذه الأبواب من ضرورة -يعني: من أي بابٍ دعي الإنسان ما دام أنه سيدخل الجنة فليس عليه من بأس، إن دخل من باب الصلاة أو دخل من باب الزكاة أو من باب الصوم أو من باب الجهاد أو من غيرها- فهل يدعى أحدٌ منها كلها، قال صلى الله عليه وسلم: نعم وأرجو أن تكون منهم. } . إذاً: طرق الخير كثيرة وقد يشعر الإنسان بأنه يستطيع أن يساهم في مجال معين من مجالات الخير وقد يشعر بأن عنده طاقاتٍ كبيرة يمكن أن يصرفها في العديد من المجالات، ولذلك كان أبو بكر ممن يدعى من أبواب الجنة كلها، فكل ملأ من الملائكة عند بابٍ من أبواب الجنة يدعونه ويقولون له: يا أبا بكر هذا خير فتعال وادخل منه، وهذا لا شك أن فيه مزية وفضل لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وهذا ليس بغريب فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {من أصبح اليوم منكم صائماً؟ قال أبو بكر ٍ: أنا، قال: من تصدق منكم اليوم على فقير؟ قال أبو بكر: أنا، قال: قال: من عاد منكم اليوم مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا، قال: من اتبع منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة} . لقد سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أربعة أسئلة: من أصبح منكم صائماً؟ من عاد منكم مريضاً؟ من تبع جنازة؟ من تصدق منكم على فقير أو مسكين؟ كلها يقول أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فبشره بعدها النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة. هذه الوسائل الثلاث وغيرها هي من أهم الوسائل التي استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في بناء وتكوين أصحابه، ولذلك نجد أن أمهر وأقوى خريجي المدارس هم خريجو المدرسة المحمدية الذين تخرجوا على يدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم ورباهم على عينه، ودائماً قوة المدرسة تعرف من نتائجها. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 8 توجيه الفطر الحسنة لخدمة الدين أولاً: توجيه خصائصهم الفطرية الموجودة لديهم لخدمة الإسلام، بمعنى أن الإسلام لا يهدف إلى إلغاء الخصائص الفطرية الموجودة عند الناس، بل يعمل على توجيهها توجيهاً صحيحاً والاستفادة منها، فهذا مثلاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه كان قوياً شديداً في الجاهلية كما تعلمون، وكان كثيرٌ من القرشيين يهابه ويخشاه، فمن يوم أن أسلم رضي الله عنه وأرضاه تحولت هذه القوة والشدة الموجودة فيه إلى شجاعة في سبيل الله عز وجل وإلى جراءة في مواجهة الكفار والمشركين، وهذا ما يذكره لنا المصنفون في سيرته رضي الله عنه وأرضاه. يذكر الإمام محمد بن إسحاق صاحب المغازي والحاكم في المستدرك وابن حبان وغيرهم أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما أسلم ذهب إلى رجل يقال له جميل بن معمر الجمحي، وكان هذا الرجل مشهوراً بإفشاء السر ونشر الكلام، فاختاره عمر وقال له هل علمت أني قد أسلمت؟ فقام جميل بن معمر في نوادي قريش وهو يصرخ بأعلى صوته، يقول: يا معشر قريش إن عمر قد صبأ، وعمر يركض خلفه؛ ويقول: كذبت كذبت، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يتجمع القرشيون حول هذا الرجل الشديد عمر رضي الله عنه، وهو ما زال حديث عهدٍ بالإسلام، فيظل يقاتلهم -كما تقول الرواية- منذ غدوه حتى صارت الشمس حيال رأسه، يقاتل هذا الجمع الغفير من القرشيين في مسجد مكة بيده بطبيعة الحال، لأن القتال بالسيف لم يكن مشروعاً حينذاك، فلما صارت الشمس حيال رأسه كأنه تعب وأعيا فقعد، وهم يعرشون حوله -ملتفون حوله- وهو يقول: [[يا أعداء الله: اصنعوا ما بدا لكم، فوالله لو قد بلغنا ثلاثمائة رجل لأخرجناكم منها أو أخرجتمونا منها]] يعني: مكة. إنها صورة من صور القوة في الحق، وهذه القوة كانت موجودة في عمر كصفة مجردة قبل الإسلام، لكن لما أسلم توظفت وتوجهت هذه القوة في سبيل الخير، واستغلت أو استثمرت لصالح الإسلام فلم يأتِ الإسلام ليحطم شخصيات الرجال ويقضي عليها؛ ويجعل الناس كلهم عبارة عن نسخة واحدة أو قالب مصبوب، لا بد أن يكون الناس كلهم على هذه النسخة أو على هذا القالب، لا، بل جاء الإسلام لينقل كل فرد من وضعه الذي يعيش فيه، وخصائصه الذي يتميز بها ليكون مسلماً متسماً بخصائص معينة؛ يوجه هذه الخصائص لخدمة الإسلام، لم يأت الإسلام ليجعل الناس كلهم علماء مثلاً، ولا ليجعل الناس كلهم مجاهدين يحملون السيف في سبيل الله، ولا ليجعل الناس كلهم متعبدين يحيون ليلهم ويصومون نهارهم، لا، بل جاء الإسلام يخاطب كل فرد بما يناسبه، فالقوي في الجاهلية يبقى قوياً في الإسلام، والإنسان الذي يتمتع بفطرته بخصائص عاطفية تجده يجد في الإسلام ما يشبع هذه العواطف فيتحول إلى متعبد لله عز وجل غير خارجٍ عن التعبد إلى الصوفية، والإنسان الذي يحب القوة يجد في الإسلام وفي ميدان الجهاد ما يستغل هذه الطاقة، والإنسان الذي يملك ذهناً متطلعاً إلى تحصيل المعلومات يجد في الإسلام الحث على التعلم وطلب العلم. ومع هذه الشدة التي كان عمر رضي الله عنه يتحلى بها فإننا نجد أن الإسلام قد هذب هذه الصفة فيه رضي الله عنه، وإيمانه بالله واليوم الآخر والجنة والنار جعله يكثر من لوم نفسه وتقريعها، ولذلك روى الإمام مالك في الموطأ وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائده على كتاب الزهد لأبيه عن أنس بن مالك رضي الله عنه [[أنه خرج مع عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى أحد الحيطان -يعني البساتين- فدخل عمر رضي الله عنه في هذا الحائط، قال: أنس سمعته يقول -وبيني وبينه الحائط- وهو يخاطب نفسه يقول: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخٍ بخٍ والله لتتقين الله أو ليعذبنك]] فهو يخاطب نفسه الآن، وكأنه يقول لنفسه: كيف وصلت يا ابن الخطاب الذي كنت ترعى غنم أبيك في الجاهلية ولا هم لك في الحياة؛ كيف وصلت الآن إلى أن تكون أميراً للمؤمنين ويشار إليك بالبنان، ثم يتعجب من هذا الأمر فيقول: بخٍ بخٍ وهي كلمة تقال للتعجب، ثم يثني على نفسه باللوم فيقول: والله لتتقين الله أو ليعذبنك، فلا ينفعك بين يدي الله أن تكون أميراً أو ذا منصبٍ بين المسلمين ما لم تقدم بينك وبينه العمل الصالح. وهكذا استفاد الإسلام من هذه الخصيصة الموجودة عند عمر وهي القوة في الحق مع تهذيبها وتوجيهها توجيهاً صحيحاً بحيث لا تتعدى حدها. هذا أنموذج لرجل يتميز بالقوة. وهناك أنموذج ثانٍ لرجلٍ يتميز بالشجاعة وهو خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه حيث تتحول شجاعته بل يتحول تهوره في الجاهلية؛ إلى شجاعةٍ وإقدامٍ في سبيل الله ونصر للإسلام وخذلانٍ لأعداء الدين، ولذلك يروي الإمام أحمد في فضائل الصحابة وأبو يعلى في مسنده وابن حبان وغيرهم بسندٍ صحيح أن خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه كان يقول: " والله ما ليلة تهدى إليّ عروس أنا لها محب أبشر فيها بغلام، بأحب إليّ من ليلةٍ شديدة الجليد قضيتها مع نفرٍ من المهاجرين -يعني مجاهدين في سبيل الله عز وجل- " فيتحول إقدام خالد وشجاعته إلى رغبة حقيقية ملحة في الجهاد في سبيل الله، ويجد هذا الرجل الباسل المجاهد لذته وطمأنينة نفسه في الخروج إلى سبيل الله لقتال أعداء الله، حتى وهو يجد ألم البرد، حتى وهو يجد الخوف كما يخاف غيره من الناس، ومع ذلك يحس بأن هذه ألذ ليلة يقضيها في عمره، إنه أنموذج لقدرة التربية الإسلامية الصحيحة على الاستفادة من خصائص الناس وتوجيهها توجيهاً صحيحاً. هذه هي النقطة الأولى التي تفعلها التربية الإسلامية في نفوس الناس وهي الاستفادة من الخصائص الفطرية الموجودة فيهم استفادة صحيحة وليس إلغاء هذه الخصائص أو القضاء عليها. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 9 التركيز على الفطر الإيجابية أما القضية الثانية: فهي التركيز على الجوانب الإيجابية في النفس البشرية، فإننا نعلم -جميعاً- أنه لا يكاد يوجد إنسان مهما يكن شريراً إلا ويوجد فيه قدر من الخير ولو يسير، وقد يكون هذا القدر أحياناً مغطى بطبقة من الانحراف أو الفساد؛ بحيث أن الإنسان -الذي يقابله أول وهلة- يتصور أن هذا الإنسان مجموعة من الرذائل وأنه ليس فيه خير أبداً، لكن لو وفق هذا الإنسان ليد حانية تعمل على إزالة الغبار والانحراف الموجود على الفطرة لتكشفت الفطرة عن خصائص جيدة محمودة عند هذا الإنسان؛ وأقرب مثل لذلك هو ما ذكرته قبل قليل من قصة عمر رضي الله عنه، فإحدى المسلمات المهاجرات إلى الحبشة رآها عمر في الطريق فقال إلى أين تذهبون؟ وهم خارجون إلى الحبشة؟ قالت: نريد أن نخرج نسيح في أرض الله فقد آذيتمونا وعذبتمونا، فكأن عمر رق لها، فتعجبت من هذه الرقة الموجودة عند عمر، وأخبرت زوجها بذلك فقال: أتظنين أن يسلم عمر بن الخطاب؟ قالت: نعم، قال: لا والله لا يسلم عمر حتى يسلم حمار الخطاب! فالفطرة أحياناً تكون مدفونة بطبقة كثيفة من الانحراف يصور للإنسان أن هذا الشخص المنحرف الذي أمامه هو إنسان شرير من جميع جوانبه، لكن في الواقع أنه لا يخلو من جانب خير، فالتربية الإسلامية تهدف إلى مخاطبة هذا الجانب الخيِّر وتحريكه وإثارته حتى يكبر هذا الجانب ويصبح بارزاً، وبطبيعة الحال يضعف جانب الشر، وهكذا حتى يزول الشر أو يضعف ويكثر الخير ويصبح هو الغالب على نفس هذا الإنسان، ولو نظرنا في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأصحابه من الشباب وغيرهم لوجدنا ملمحاً قوياً في هذا الجانب. فعلى سبيل المثال يروي لنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه خرج في سرية مع مجموعة من الصحابة فحاص الناس حيصةً -يعني: هزموا في المعركة وكأنهم فروا منها- فلما التقى بعضهم ببعض قالوا: ماذا صنعنا؟ فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب لأن الله عز وجل توعد من فر من الزحف بالوعيد الشديد، كما قال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16] ثم تشاوروا في ماذا يصنعون؟ فقالوا: لنذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان لنا توبة أقمنا وإن كان الأمر غير ذلك ذهبنا، فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وابتدروه قبل أن يصلي الفجر، فجاءوا يسلمون أنفسهم؛ ويقولون: يا رسول الله نحن الفرارون، نحن الفرارون -وقد شعروا بأن القضية خطيرة فيمكن ألا تقبل توبتهم، ويمكن أن يكونوا قد باءوا بغضب من الله، ويمكن أن يكون مأواهم جهنم كما يفهم من ظاهر الآية، فشعروا بالخطر، ولذلك تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمسك الجانب الآخر وبعث الخير في نفوسهم فلم يوافقهم على ما قالوا، ولم يقل: نعم أنتم فررتم وفعلتم وفعلتم، ويوبخهم على ما فعلوا، كلا، بل قال لهم صلى الله عليه وسلم- بل أنتم الكرارون، يعني: أنتم الكرارون الذين تغادرون العدو ثم تكرون عليهم مرة أخرى، فأثار في نفوسهم الخير لأنهم مستعدون والحالة هذه أن يخوضوا معركة ولا يغادروها حتى ولو قتلوا عن بكرة أبيهم، فأثار النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الجانب الخير في نفوسهم واستفاد من شعورهم بالخطأ أو بالمعصية استفادة صحيحة يحتاج إليها الدعاة إلى الله عز وجل ويحتاج إليها المربون في كل مكان، قال فجئنا وقبلنا يده صلى الله عليه وسلم فقال لنا: {أنا فئة المسلمين} وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الإمام أحمد أيضاً، فهو أنموذج لتحريك الخير الكامن في النفوس. وثمة أنموذج آخر يحكيه لنا أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول أنس: إن صفية بنت حيي بن أخطب زوج النبي صلى الله عليه وسلم سمعت أن حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما تقول لـ صفية: إنها ابنة يهودي، وهذا الكلام صحيح فـ صفية أبوها يهودي وهو حيي بن أخطب ومات ولم يسلم، فهذا جانب قد يفسر بأنه جانب ضعف قد تحس به صفية خاصةً حين تعيرها به إحدى ضراتها، فيدخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكي، فيقول لها ما يبكيكِ؟ فتقول له: يا رسول الله حفصة تعيرني بأنني بنت يهودي، فقال عليه الصلاة والسلام: {أفلا قلتِ لها بأنني بنت نبي، وعمي نبي، وتحت نبي} وهذه الرواية عند الترمذي وقد صححها، وفي رواية أخرى عنده أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال لها: {أفلا قلتِ لها: إن أبي هارون وعمي موسى وزوجي محمد صلى الله عليه وسلم} وقد كانت صفية من نسل هارون عليه السلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم حين لمحت حفصة الجانب الذي قد يفسر عند البعض بأنه جانب سلبي وهو أن صفية بنت يهودي لمح صلى الله عليه وسلم الجانب الآخر وهو أن صفية من نسل النبي هارون، وعمها موسى عليهما السلام، وزوجها محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يضيرها أن يكون أبوها يهودياً. هذا هو الجانب الثاني من الجوانب التي تعني التربية الإسلامية، وهو استخراج الخير الكامن في النفوس أو التركيز على الجوانب الإيجابية عند الإنسان. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 10 أمثلة من مجتمع الصحابة فلننظر الآن لبعض الأمثلة التي تدلنا على مدى قوة وعظمة التربية النبوية، وأكتفي بمثالين أو ثلاثة لخريجي هذه المدرسة: الجزء: 102 ¦ الصفحة: 11 قتلى اليرموك الموقف الثالث والأخير الذي يعطينا أنموذجاً لما وصل إليه خريجو هذه المدرسة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، هو موقف الثلاثة الذين قتلوا في معركة اليرموك، وهذه القصة رواها عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن أبي جهم بن حذيفة العدوي قال: [[كان لي ابن عم جرح في المعركة فسقط فأخذت ماءً في إناء وقلت: أذهب إليه فإن وجدته حياً سقيته وبللته ببعض الماء، قال فجئت إليه فقلت له: تريد الماء؟ فقال: نعم، فسمع بجواره صوت جريحٍ يقول: آه، فأشار إليَّ أن اذهب به إليه، فذهبت به إليه فإذا هو هشام بن العاص أخو عمرو بن العاص، قال: فأعطيته إياه فلما أراد أن يشربه سمع جريحاً ثالثاً يقول: آه، وهو ينشق يعني: في حالة النزع فأشار إلي أن اذهب به إليه فذهبت به إليه فوجدته قد مات فرجعت إلى هشام فوجدته قد مات، ورجعت إلى ابن عمي فوجدته قد مات]] . صورة رائعة من صور الإيثار ليست في الرخاء، لأن الذين يؤثرون في الرخاء كثيرون، لكن من الإيثار في حالة الشدة بل في أشد شدة يمكن أن تعرض للإنسان وهي حاجته إلى جرعة يبرد بها ما يجد من الحر في جوفه وهو يجود بنفسه، ولا عجب أن يصل أتباع محمد صلى الله عليه وسلم من الصحابة والتابعين إلى هذا المستوى، وليس ما ذكرته إلا نماذج فقط، وإلا فبإمكان أي واحد أن يقرأ بعض الكتب التي جمعت أخبارهم ليجد العجب العجاب، وهي كثيرة أذكر منها: سير أعلام النبلاء للذهبي وحلية الأولياء لـ أبي نعيم والإصابة لـ ابن حجر والاستيعاب وأسد الغابة وغيرها، من الكتب التي تحدثت عن الصحابة والتابعين أو عمن جاءوا بعدهم من المقتدين بهم. إن من واجبنا -أيها الشباب- أن نجعل هذه القدوات مثلاً أعلى لنا، وأن نحرص في حياتنا على أن نصل إلى بعض ما وصلوا إليه فإن كل إنسان لا بد له في حياته من مثل أعلى، فإذا كان كثير من الناس اليوم جعلوا مثلهم الأعلى فلاناً وفلاناً؛ من أهل الغناء أو الرياضة أو الجاه أو الثروة أو غيرهم، فليكن مثلنا وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة والتابعين لهم بإحسان. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم، وأصلي وأسلم على نبيه محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 12 مصعب بن عمير المثال الأول: ما رواه البخاري ومسلم عن خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: {خرجنا في سبيل الله نبتغي ما عند الله فوقع أجرنا على الله، فمنا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من مات لم يأخذ من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه وقد قتل يوم أحد فلم نجد شيئاً نكفنه فيه إلا بردة قصيرة -أو ثوباً قصيراً- إن غطينا به رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطينا به رجليه ظهر رأسه، فأمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نغطي به رأسه وأن نجعل على رجليه من الإذخر} . هذا الصحابي المضحي الباذل في سبيل الله والذي تعرفون كيف كانت حياته في مكة من الترف والنعيم، وكانت أمه تلبسه أحسن الثياب وتطعمه أحسن الطعام؛ حتى إنه كان إذا مشى في الشارع شمت الفتيات في بيوتهن طيبه من مسافة بعيدة، وحتى إنها كانت تضع الطعام عند رأسه وهو نائم ليأكل كلما استيقظ، وكان شاباً مدللاً كما نعبر، فلما أسلم تحول هذا النعيم إلى حد أن هذا الشاب الذي لم يتعود على شظف العيش يهاجر إلى الحبشة في بلد الغربة؛ ويجد فيها من اللأواء والتعب ومشقة الغربة ما يجد، ثم يعود مرة أخرى، ثم يهاجر، إلى المدينة قبل المهاجرين وقبل الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلَّم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام، ويدعو أهل المدينة أيضاً، وكان يسمى المقرئ، ثم يستشهد بعد فترة قليلة من قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فلم يتمتع طويلاً بصحبته صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد ما أعز الله الإسلام ودون أن تينع له ثمرته، كما يعبر خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه، وقد كانت قصته كما تعرفون أنه يحمل الراية فتقطع يده اليمنى فيحملها باليسرى فتقطع، ثم يضمها بعضديه إلى صدره ثم يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] فهذا أنموذج حي عظيم من نماذج خريجي المدرسة النبوية. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 13 عبد الله بن عباس أما الأنموذج الثاني فهو الإمام الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه وكان صغيراً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أو ناهز الاحتلام فلما مات الرسول صلى الله عليه وسلم جاء ابن عباس -كما يروي الإمام أحمد بسندٍ صحيح في فضائل الصحابة- إلى رجل من الأنصار فقال له: [[إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قبض فهلم فلنسأل أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حديثه فإنهم اليوم كثير، فقال له هذا الأنصاري: عجباً لك يا ابن عباس أتظن الناس يحتاجون إليك وعلى الأرض من أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم هذا العدد الكثير! فتركه ابن عباس وظل يطلب العلم حتى إنه يقول: إنه ليبلغني الحديث عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فآتي إليه في بيته في القائلة فأجده قد نام فأكره أن أوقضه فأتوسد ردائي عند بابه فتهب الرياح فتسفي عليَّ من التراب، فإذا خرج الرجل إلى الصلاة؛ قال: ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! ما الذي أتى بك؟ لو أخبرتني لأتيتك، فأقول له: لا أنت أحق أن يؤتى إليه! وإنه بلغني أن عندك حديث كذا فأحب أن أسمعه منك- وبهذه الطريقة حصل ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه على علمٍ كثير حتى احتاجوا إليه احتياجاً كثيراً وصاروا يتجمعون عليه ويسألونه- فيمر به هذا الأنصاري فيقول: يا ابن عباس أنت كنت أعقل مني]] مع أنه كان يومها صغيراً. فهذا الرجل الذي سلك هذه الطريقة بالتعلم لما تلقاه من النبي صلى الله عليه وسلم من الحث على التعليم، بل والدعاء له بالفقه في الدين بقوله صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} كما في الصحيح، هذا الرجل يصبح وهو شاب في مقتبل عمره يضالع المشايخ الكبار، فيحضره عمر رضي الله عنه وأرضاه في مجلسه مع كبار المهاجرين، فيقول له عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين أتحضر معنا هذا الفتى وفي أولادنا من هو في مثل سنه؟ فيقول لهم عمر رضي الله عنه وأرضاه ليثبت لهم دقة علمه بالرجال ومعرفته بخصائصهم: أرأيتم قول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] ما معنى هذه السورة؟ فظل الصحابة رضي الله عنهم يتكلمون في معناها دون أن يقعوا على السر الذي أراده عمر حتى إذا وصل الكلام إلى ابن عباس قال رضي الله عنه وأرضاه: [[إن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعلمه الله إياه، فقال له: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3]] ] . فهو إشارة إلى أن النصر والفتح قد جاء ودخل الناس في الدين فعلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكثر من التسبيح والاستغفار إشارة إلى قرب أجله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله عنه: [[والله ما أعلم من هذه السورة إلا ما تعلم]] وهذا الحديث رواه الترمذي وحسنه. وهناك رواية أخرى عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه دخل ابن عباس رضي الله عنه مع شيوخ المهاجرين فأراد يوماً من الأيام أن يختبرهم ويبين لهم قوة ابن عباس فقال لهم: [[أرأيتم قول النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر: التمسوها في العشر الأواخر، يعني: من رمضان أية ليلة هي ليلة القدر؟ فقال بعضهم: هي ليلة إحدى وعشرين، وقال بعضهم: هي ليلة ثلاث وعشرين واختلفوا، فقال: ما عندك يا ابن عباس؟ وكان عمر قال له: لا تتكلم حتى يتكلم أصحابك، فقال: إن أذنت لي يا أمير المؤمنين تكلمت، قال عمر إني لم أحضرك إلا وأنا أريدك أن تتكلم، فقال ابن عباس: أتكلم برأيي، قال: لك الذي تريد، فقال رضي الله عنه وأرضاه: إنني أراها ليلة سبع وعشرين، وذلك لأن الله عز وجل خلق السموات سبعاً وجعل الأراضين سبعاً وخلق الإنسان من سبع وجعل نبت الأرض سبعاً، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: قد عرفنا ما قلت إلا قولك: جعل نبت الأرض سبعاً ماذا تريد به؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه إن الله عز وجل قال: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:27-31] فهذه سبعة أصنافٍ من نبت الأرض، فقال عمر رضي الله عنه: ألا قلتم مثلما قال هذا الفتى، والله ما أعلم منها إلا ما يعلم]] وهذه القصة رواها البيهقي والحاكم وابن خزيمة بسندٍ صحيح. الجزء: 102 ¦ الصفحة: 14 وقفات مع السبع المثاني تحدث الشيخ عن فضائل سورة الفاتحة وعن كثرة أسمائها وعن فرضية حفظها على كل مسلم، ثم شرع في تفسيرها في خمس وقفات: تطرق خلالها لمعاني أسماء الله (الله، رب) ثم للعبادة والاستعانة، ثم عن الحمد والثناء. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 1 فضائل فاتحة الكتاب الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. هذه السورة العظيمة إنما اخترنا البداءة بها؛ لا لأننا سوف نبدأ في التفسير من أول القرآن؛ فإن هذا الأمر قد يطول، وسبق أن ذكرت أن كثيراً من أهل العلم وأصحاب الدروس إذا بدءوا؛ بدءوا بأول القرآن، وقد ينقطعون عن آخره، ولهذا ستكون بدايتنا إن شاء الله تعالى من المفصل، وفي الأسبوع القادم بإذن الله عز وجل سنقرأ الوجه الأول من سورة (ق والقرآن المجيد) . وإنما بدأت بهذه السورة لمسيس الحاجة إليها؛ فإن كل إنسان مسلم يقرأ هذه السورة في اليوم الواحد مرات بعدد ركعات الصلوات، ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث عبادة: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقد ذكر الشراح في معنى الحديث أنه يقرأ بها في كل ركعةٍ من صلاته، وليست قراءته لسورة الفاتحة في ركعة بمجزئة عن قراءته لها في كل الركعات، بل لابد أن يقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة، خاصة إن كان إماماً، أو منفرداً أو كان في صلاة سرية، أو كان مأموماً في صلاة سرية. فدل هذا على عظيم وقع هذه السورة وجليل قدرها، وأنه ينبغي على كل مسلم -فضلاً عن طالب العلم- أن يتأمل في معانيها. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 2 أسماء سورة الفاتحة ولهذه السورة أسماء كثيرة، وكثرة أسمائها أيضاً مما يدل على عظيم قدرها، فهي سورة الفاتحة وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب؛ وذلك لأنها أول ما يُقرأ من القرآن الكريم، فهي أول سورة في الكتاب المكتوب (القرآن الكريم) أي أنها ليست أول سورة نزلت، ولكنها أول سورة مكتوبة، فهي أول سورة في الكتاب؛ ولهذا سميت فاتحة الكتاب، أي فاتحة الكتاب المكتوب. وهي أيضاً أم القرآن، وهكذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما سميت أم القرآن -والله أعلم- لأن معاني القرآن الكريم ترجع إلى هذه السورة، فهي شاملة للمعاني الكلية والمباني الأساسية التي يتكلم عنها القرآن. وهي أيضاً السبع المثاني، وذلك لأنها سبع آيات تقرأ مرة بعد مرة، وهي أيضاً -كما سبق- شاملة للمعاني الكلية في القرآن الكريم، ولهذا سميت بالمثاني. وهي القرآن العظيم، فقد سماها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: {وهي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيته} . وهي سورة الحمد؛ لأنها بدأت بحمد الله عز وجل: {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] . بل سماها الله عز وجل الصلاة! كما في الحديث القدسي في البخاري قال الله عز وجل: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي} إلى آخر الحديث فسماها (الصلاة) وذلك لأمرين: لأن الفاتحة ذكر ودعاء، ففيها دعاء وتبتل إلى الله بأعظم مطلوب وهو الهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فسميت السورة ببعض أجزائها وببعض معانيها وهو الدعاء، ومن المعلوم أن الدعاء في اللغة يسمى: صلاة، كما قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي ادعُ لهم، قال الشاعر: تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً يا ربِّ جِنِّبْ أبي الأوصاب والوجعا عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا أي: لك من الدعاء مثل الذي دعوت به لي، فالصلاة هي الدعاء. وقد تكون السورة سميت بالصلاة لمعنى آخر، وهو أنها لا تصح الصلاة إلا بها -كما سبق- فهي ركن في الصلاة؛ فلذلك سميت صلاة. إلى غير ذلك من الأسماء التي تدل على عظيم هذه السورة، وجليل قدرها، ووجوب العناية بها. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 3 فرضية حفظها على كل مسلم ويكفي في شرفها أنه لا يكاد يوجد مسلم في الدنيا إلا ويحفظها، حتى إن الإنسان أول ما يدخل في الإسلام وينطق بالشهادتين، يُحفَّظ سورة الفاتحة قبل غيرها؛ حتى تصح بها صلاته، ولو أن الإنسان اقتصر عليها في الصلاة لصحت صلاته، فما زاد عنها فهو نفل مستحب وليس بواجب. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 4 وقفات في تفسير الفاتحة وفي هذه السورة معانٍ ووقفات: الجزء: 103 ¦ الصفحة: 5 الوقفة الخامسة مع العبادة والاستعانة الوقفة الأخيرة: وكان حقها أن تكون قبل الأخيرة في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فإن هذه الآية فيها معنى من أعظم المعاني، ففي أولها الاعتراف لله تعالى بالعبودية وأن الإنسان لا يعبد إلا الله، وهذا أصل التوحيد، وما بعث الرسل إلا بهذا الأمر العظيم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2] والشرك في الألوهية من أخطر ألوان الشرك الذي بليت به الأمم كلها حتى تسرب إلى الأمة الإسلامية، فصار كثير منهم يعبدون غير الله. فالشرك في الألوهية هو أخطر ألوان الشرك على الإطلاق؛ لأن قضية الربوبية وهي الاعتراف بالله عز وجل هذا موضوع تقر به الفطر والنفوس، ولا يحتاج إلى تقرير كبير، وموضوع الأسماء والصفات أيضاً حصل فيه انحراف ولكنه لا يقاس بالانحراف الذي حصل في موضوع الشرك في توحيد الألوهية، ولهذا ينبغي أن نعتني كثيراً بدعوة الناس إلى توحيد الألوهية، لأنه أصل الدين وأساس التوحيد. فقولك: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] قُدّم الضمير فيه: إشارة إلى التخصيص، أي: لا نعبد إلا إياك، لا نعبد إلا الله، فهو حصرٌ وقصرٌ. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أي: لا نطلب إلا عونك، فلا نستعين بغيرك، ولا نستغني عن فضلك، فمن الناس من يستعين بغير الله، وهؤلاء ما حققوا: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومنهم من قد يستعين بالله وبغيره، ومنهم من قد لا يستعين بالله تعالى فلا يكون حقق هذا، فقولك: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه إثبات الاستعانة بالله ونفي الاستعانة عمن سواه. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: {هذا بيني وبين عبدي} فقول: "إياك نعبد" هذا حق الله تعالى على العبد كما في حديث معاذ: {حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً} فأنت تقر به وتعترف في قولك: "إياك نعبد" وأما قولك: "وإياك نستعين" فهو استعانة العبد بالله عز وجل؛ إذ لا قوام له حتى على التوحيد إلا بعون الله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] فضلاً عن غيره من أمور الدنيا والآخرة. خاتمة: أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن هدوا إلى الصراط المستقيم، ورزقوا العلم النافع والعمل الصالح، وجنبوا طريق المغضوب عليهم والضآلين آمين! كما أسلفت إن شاء الله في الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم سوف نقرأ الوجه الأول من سورة (ق) وهكذا نظل في كل أسبوع -إن شاء الله- نقرأ وجهاً. ولا يغيب عن بالكم استحضار النية الصالحة في هذا المجال؛ فالعبد الآن يقرأ كلام الله ويسمع شرحه وتفسيره، فإذا استحضر النية رجا أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم الخ} فيرجو العبد الرحمة ونزول الملائكة، وأن يذكرنا الله فيمن عنده، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 6 الوقفة الرابعة: البراءة من المغضوب عليهم والضالين {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] وهذا تأكيد للمعنى السابق، ولذلك قلت لكم: انتبهوا إلى هذا المعنى لأهميته، ولذلك يعاد مرة بعد أخرى. فقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي الذين حازوا على الهداية التامة ممن: {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم هم اليهود، والأولى أننا ما نقول: هم اليهود، لكن نقول: كاليهود، لأن الغضب هل هو محصور في اليهود؟ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} [النساء:93] وفي الحديث في البخاري {من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان} {إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها بات الذي في السماء ساخطاً عليها} وفي قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، قال: {إن الله قد رضي عنك وسخط على صاحبيك} . إذاً هل الغضب والسخط خاص باليهود؟ ليس خاصاً بهم، وإنما اليهودُ مجردُ مثالٍ للمغضوب عليهم، لكن القاعدة في المغضوب عليهم سواء كانوا اليهود أم غيرهم: لماذا غضب الله عليهم؟ لأنهم مهتدون أو ضالون؟ لأنهم ضالون لا شك، أي أنهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم، وما سبب عدم هدايتهم؟ هل هو الجهل أم الهوى؟ الهوى، فاليهود معهم علم ولم يعملوا به، ولهذا قال بعض السلف: من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه باليهود، لأنهم يعلمون ولكنهم يرتكبون الخطأ عمداً وإصراراً، فيتعوذ الإنسان من حالهم وطريقهم، فمن الهداية أن يكون عند الإنسان العزيمة والقوة على فعل الحق وترك الباطل. وقدم -والله أعلم- المغضوب عليهم، فقال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} لسبب وهو أن أمرَهم أصعبُ وأشقُّ على النفس، بمعنى أن الإنسان إذا كان ضلاله بسبب الجهل كيف يرفع الضلال حينئذٍ؟ بالعلم، والتعليم وليس صعباً، أي: كون الإنسان مثلاً يصلي ولا يقول: "سبحان ربي الأعلى" في سجوده، هذا هل تحقق له كمال الهداية أولم يتحقق؟ لم يتحقق، كيف نستطيع أن نهديه -بإذن الله تعالى- في هذه المسألة؟ يكون بالتعليم، نقول له: إذا سجدت فقل: "سبحان ربي الأعلى" كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فتجد أن هذا الإنسان يقول: "جزاك الله خيراً! "، أنا جاهل وأحتاج أن أتعلم، ويدعو لك ويقبل منك، ثم يبدأ يعمل بهذا العلم، فدفع الجهل ورفعه يكون بالعلم، وهو أمر ميسور. أما الإنسان إذا كان عالماً أصلاً ولكنه لا يعمل، فما هي الحيلة فيه؟ كل ما تريد أن تقوله له فهو موجود لديه، مثال: إنسان يدخن ولأنه يدخن صار معنياً بموضوع التدخين، يقرأ فيه ويتابع التقارير والأخبار، فتجد أنه يكون لديه ثقافةٌ ممتازةٌ عن التدخين وخَطَرِ التدخينِ ومحتويات هذه السيجارة، حتى إنه مستعد أن يلقي محاضرة قوية جداً عن التدخين، ولكنه ومع ذلك كله يدخن، فما هي الحيلة مع هذا الإنسان؟ هل ينفعه العلم ويرفع عنه ما هو فيه؟ لا. لأن القضية بالنسبة له ليست علماً، ولكنها فقدان الإرادة والعزيمة على الفعل، فأخطر ما يكون هو هذا. ولذلك جاء الوعيد الشديد في شأنه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أسامة بن زيد: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى! -هذا الإنسان عالم أم غير عالم؟ عالم لأنه يعلم المعروف والمنكر، بل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكنه لا يعمل! ولهذا قال-: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه} ولهذا كان بهذه المثابة من العذاب. وكان من أخطر ألوان انحراف اليهود أنهم يعرفون الحق ثم يعرضون عنه ويلبسونه بالباطل، ولهذا قدم المغضوب عليهم على الضالين: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] والضالون: هم النصارى، والأولى أن يقال: كالنصارى، فيكون هذا مثالاً فقط، وإلا فالضلال ليس محصوراً في النصارى، فالله تعالى وصف ووسم بالضلال في كتابه أصنافاً من الخلق، وليس الأمر محصوراً بهم، ولكنهم هم أولى من يصلحون مثالاً للضلال، وما سبب ضلال النصارى؟ سبب ضلال النصارى هو الجهل هذا في الأصل، ولا يمنع أن يكون طرأ عليه في هذا الزمان مع الجهل العناد والإصرار بعدما زال الجهل عن بعضهم. والمقصود أننا الآن أمام ثلاثة اتجاهات أو ثلاث طرق: الطريق الأول: الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهذا الطريق والصراط يقوم على ركنين: أولهما: العلم، والثاني: العمل: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] وهما: العلم النافع والعمل الصالح، فهذا هو الصراط المستقيم. الطريق الثاني: صراط المغضوب عليهم من اليهود وغيرهم، وصراط المغضوب عليهم اختل فيه ركن وهو العمل، فهم يعرفون الحق ولكنهم لا يعملون به. والطريق الثالث: هو صراط الضالين أو طريق الضالين، وقد اخْتَلَّ فيه ركن وهو العلم، فهم قد يعملون ولكن بغير علم، ولهذا قال بعض السلف أيضاً: من ضلَّ من عُبَّاد هذه الأمة ففيه شبه من النصارى، كبعض الطرق الصوفية التي تعبد الله على جهل وضلالة ففيهم شبه من النصارى؛ لأنهم يعبدون الله ولكن على جهل وضلال، فهذا المعنى العظيم واردٌ في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] مع أن الإنسان مهتدٍ إلى الإسلام، ولكن مع ذلك يطلب مزيداً من الهداية، أي: مزيداً من العلم والعمل والتوفيق في كل حالة ومسألة تنزل به، ثم أعاده في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] فهؤلاء اختل عندهم ركن العمل وهؤلاء اختل عندهم ركن العلم. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 7 الوقفة الثانية مع حمد الله والثناء عليه ثم استفتح السورة بالحمد حتى سميت باسم الحمد: "الحمد لله رب العالمين" والحمد: هو الثناء على المحمود بإفضاله وإنعامه، أما المدح: فهو الثناء عليه بصفات الجلال والجمال والكمال، إذاً فالحمد ثناء على الله تعالى بما أنعم عليك وما أعطاك، فإذا قيل: "إن فلان حمد فلاناً" فمعناه أنه شكره على إحسانٍ قدمه إليه، لكن إذا قيل: "مدحه" فلا يلزم أن يكون مدحه بشيء قدمه له؟ بل قد يكون مدحه -مثلاً- بفصاحته وبلاغته، أو مدحه بجماله، وقد يكون مدحه -وهو من المخلوقين- بجسمه وقوته، أو بغناه إلى غير ذلك، فهذا الفرق بين الحمد والمدح أن الحمد ثناء على المحمود بإحسانه وإنعامه وإفضاله إلى العبد الحامد، أما المدح فهو ثناء عليه بصفات الجمال والجلال والكمال مطلقاً، فالحمد فيه معنى الشكر ومعنى الاعتراف بالجميل وهذه هي الوقفة الثانية. فالوقفة الثانية أن السورة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف له معنى عظيم؛ لأنه إقرار من العبد بتقصيره وفقره وحاجته، واعتراف لله جل وعلا بالكمال والفضل والإحسان، وهو من أعظم ألوان العبادة، ولهذا قد يعبد الإنسان رَبَّه عبادة المدل المعجب بعمله، فلا يُقبل منه عمل، بل يُرد عليه ويُجعل هباءً منثوراً؛ لأنه داخله إعجابٌ، والإعجاب لا يتفق مع الاعتراف والذل، فلا يدخل العبد على ربه من باب أوسع وأفضل من الذل له والانكسار، بل هذا هو معنى العبادة المذكورة في قوله "إياك نعبد"، تقول العرب: (هذا طريق معبد) أي: تطؤه الأقدام، فالعبادة من أعظم معانيها: الذل له سبحانه. ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الاعتراف لله تعالى والاعتراف على نفسه بالنقص والظلم، فكان يقول صلى الله عليه وسلم -كما علّم أبا بكر -: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} إلى آخر الدعاء، وكان يقول: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليّ وأبوءُ لك بذنبي} حتى الدعاء (اللهم اغفر لي) فيه الاعتراف على النفس بالذنب والنقص، والاعتراف لله تعالى بأنه هو الغفور الرحيم. فابتداء السورة بـ (الحمد لله رب العالمين) فيه معنى الاعتراف بالنعمة كما بينت ذلك، ولا شك أن عكس الاعتراف هو الإنكار والجحود، والذنب الذي كفر به إبليس هو الجحود، فإبليس يعرف ربه ويدعو الله تعالى باسمه: (فبعزتك) يحلف بالله تعالى، ويسأل الله تعالى (رب فأنظرني) ويؤمن بيوم القيامة: {قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الأعراف:14] ولكن ذنبه هو الجحود والاستكبار عن الطاعة والعبادة، وهكذا قال عز وجل عن فرعون وقومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل:14] فإذا قال العبد: (الحمد لله) تبرأ من هذا كله، وكأن أول ما تدل عليه هذه الكلمة أن العبد وهو واقف يقول: أعترف بأنني عبد محتاج فقير ذليل مقصر، وأنك الله المنعم المتفضل، فهذا فيه معنى الحمد، فأنا أحمده على فضل منه عليَّ في ديني ودنياي. {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] وهذه كلها أسماء لله، فهو الرب: رب العالمين. والرب معناه الخالق أولاً ثم المالك ثم المتصرف، فهو خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم. {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2-4] أي: يوم يدان الناس بعملهم، ويُجازَون به خيراً أو شراً. فبعد ما اعترف لله بقوله: "الحمد لله" زاد الاعتراف قوةً وثباتاً بأن أثنى على الله سبحانه بصفاته تلك وأسمائه، فهو "رب العالمين" {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] وهو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] وفي قراءة سبعية: (ملك يوم الدين) بالقصر بلا مد، وكل ذلك جائز أن يُقرأ به في الصلاة: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] أو: {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] . الجزء: 103 ¦ الصفحة: 8 الوقفة الثالثة: مع الهداية عند قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] . أولاً: الإنسان الآن واقف يصلي أو يقرأ القرآن، ومعنى ذلك أنه مسلم، ومع ذلك يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] والمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا ننحرف عنه أو نزيغ؛ لأن من الممكن أن يكون الإنسان اليوم مهتدياً وغداً من الضالين؛ ولهذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] أي ثبتنا عليه، وهذا معنى، وأيضاً من معانيها: قوِّ هدايتنا؛ فالهداية درجات، والمهتدون طبقات: منهم من يبلغ إلى درجة الصديقية، ومنهم من يكون دون ذلك وبحسب هدايتهم نكون منازلهم في الجنة، وبحسبها تكون سيرهم على الصراط، فإن لله تعالى صراطين: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وسيرك على الصراط الأخروي هو بقدر سيرك على الصراط الدنيوي، فالصراط الدنيوي هو طريق الله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:53] {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [الفتح:2] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] فهذا صراط الدنيا بطاعة الله فيما أمر واجتناب ما نهى عنه، وبقدر استقامة العبد عليه يكون سيره على الصراط الأخروي الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنم وهو دحض مزلة، يمشي الناس فيه بقدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالركاب، ومنهم من يمشي، ومنهم من يمشي تارة ويهوي أخرى. فهو يقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: قوِّ هدايتنا، وزَوِّدْ إيماننا، وعَلِّمْنا، ولهذا قال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] فالعلم من الإيمان، ومن التزام الصراط المستقيم أن يزداد علماً، قال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] فزيادة الإيمان هي زيادةُ ثباتٍ على الصراط المستقيم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] وهذا نص في الموضوع، وأيضاً: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] فإنه من الممكن أن يكون الإنسان مهتدياً ثم يزداد من الهداية ويزداد بصيرة وعلماً ومعرفةً وتمسكاً ويزداد دعوةً وصبراً، إلى غير ذلك، فهذا من معاني قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] . ومن معانيها أيضاً -وهو معنى لطيف- أن العبد إذا قال هذا، فهو يعلم بذلك أن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر أو مسألة يلم به من أمور الدنيا حكماً، إما إيجاب أو استحباب أو إباحة أو كراهة أو تحريم، والعبد قد يجهل هذه الأحكام أولاً فلا يعلمها، وقد يعلمها ولكنه لا يعمل بها، لغلبة النفس والهوى والشيطان، وهذا المعنى من أعظم المعاني الذي أريدُ أن تنتبهوا لها. ومن معاني طلب الهداية أيضاً في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أن فيها إشارة إلى أن العبد محتاج إلى الهداية في كل موقف، وكل حال تمر به، وفي كل مسألة تواجهه؛ لأن هذه المسألة التي واجهته، فيها هداية وفيها ضلال، فيها خطأ وصواب، فيها حق وباطل، ولله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها حكم؛ فأنت محتاج إلى أمرين: أولاً: معرفة الحكم، أي ماذا يريد الله ورسوله منك في هذه المسألة. ثانياً: العمل بهذا الحكم. فمن الهداية حين تقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: يا رب، عرفنا ما تحب وترضى في كل ما يواجهنا من أمور الحياة، وقَوِّنا على العمل بهذا الذي عرفناه. وسر الضلال يرجع إلى أحد أمرين: إما الجهل فمثلاً: إنسان وُلِدَ له ولدٌ فهذه حادثةٌ نزلت به، فيحتاج فيها إلى أنه أول ما يولد الولد -مثلاً- إلى اسم، والاسم من الأشياء العادية، فإذا أراد أن يسمي ولده، فقد يكون الأب جاهلاً، فيسمي ولده باسم غير شرعي، مثل التعبيد لغير الله، فيسميه مثلاً: عبد المطلب، فهذا من الأسماء الموجودة عند المسلمين الآن، أو يسميه بأسماء الشياطين أو بأسماء الفراعنة! فرعون: وهذا اسم موجود حتى عند المسلمين أيضاً! وهذه مسألة قد يراها الإنسان عادية أو بسيطة لكنها مثال يدل على الجهل. إذاً سبب الخطأ هنا: الجهل، فمن الهداية أن يكون الإنسان عالماً لئلا يقع في الخطأ وهو جاهل، فأنت حين تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] أي: تقول أولاً: (يا رب علمنا الحق الذي تريده في كل مسألة تنزل بنا) حتى لو كانت مسألة يراها العبد صغيرة، مثل: مسألة تسمية المولود، فمن الهداية -هداية الصراط المستقيم- هداية العبد فيما يتعلق بتسمية الولد، لأن سبب الضلال -أولاً- الجهل. وقد يرتفع الجهل بالعلم فيكون الإنسان عالماً، ولكن ليس لديه الهمة والقوة القلبية التي تجعله يعمل بهذا العلم، فيرتكب الخطأ عمداً، مثال: أكل الربا، فالمال بطبيعة الحال محبوب: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات:8] ولذلك لا يكفي أن يعرف الإنسان أن ذلك حرام ليجتنبه، بل تجد أن الإنسان قد يعرف أنه حرام، ومع ذلك يقول: عسى الله أن يغفر لنا، وأنا معترف بأن هذا المال من طريق غير مشروع، بل قد يسرق المال، فالسارق لا يجهل أن السرقة حرام حتى لو لم يكن لديه علم؛ لأنه يعرف أن هذا أخذ مال الغير، فالفطرة تقول له: إن هذا لا يسوغ ولا يعقل أن تعتدي على الآخرين وتأخذ أشياءهم، ولكنه يفعل السرقة مع علمه بمنعها وبتحريمها، فيفعلها لضعف الإيمان في قلبه وضعف الوازع والرادع الديني. فيحتاج العبد من أجل الهداية إذاً لأمرين: الأول: العلم لئلا يقع في الضلال عن جهل. والثاني: العمل بالعلم عن طريق وجود إيمان قوي في قلبه يحدوه للعمل. فإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] كأن المعنى: عرِّفنا الحق، أي: نعرف الحق أولاً ثم نعمل به ثانياً. فطرق الضلال إذاً: إما الجهل فيرتكب الخطأ جهلاً، وإما الهوى فيترك الحق ويفعل الخطأ مع علمه بذلك الخطأ. إذاً كوني أقول في كل ركعة: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] إشارة إلى أنني أحتاج الهداية على الدوام، فإذا ولد لي ولد احتجت الهداية في تسميته، ثم احتجت الهداية في كل العادات المتعلقة بولادته، وإذا أراد الإنسان مثلاً أن يصلي احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يصلي، وإذا أراد أن يتاجر احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يتاجر، وإذا أراد أن يبني احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يبني، وإذا أراد أن يزرع، أو يأكل، أو يشرب، أو ينام وهكذا كل لحظة يحتاج إلى هداية. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 9 الوقفة الأولى: مع الأسماء الحسنى قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" وقد اختلف أهل العلم: هل هذه الآية آية من الفاتحة، أم هي آية من القرآن، أم هي آية من كل سورة ولا أدخل في هذا الخلاف الفقهي؛ فربما سبق ذكر شيء منه في بعض الدروس، ولكن المقصود أن كل سورة في القرآن تبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم" وفي هذه السورة بالذات قال: {الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2-3] فأعاد هذين الوصفين العظيمين لله تعالى. أ/ الله: ففي السورة إذاً ذكر أسماء الله عز وجل: أولها:"الله"وهو الاسم الأعظم لله عز وجل الذي تلحق به الأسماء الأخرى، ولا يشاركه في هذا الاسم غيره فلم يتسمَّ به أحدٌ قط! والله هو الذي تأله إليه القلوب بالمحبة والشوق والحنين، حتى إنك تجد المسلم يدعو الله تعالى بقوله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك} فمن جهة معاني هذا الاسم "الله" أن القلوب تأله إليه، أي تحن إليه وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره. وأيضاً "الله" بمعنى الذي تحار فيه العقول، فلا تحيط به علماً، ولا تدرك له من الكنه والحقيقة إلا ما بَيَّنَ سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تعلم كيفية ذاته سبحانه، ولا تحيط به العقول فتحار فيه، وإذا كانت العقول تحار في بعض مخلوقاته في السماوات والأرض والبر والبحر فكيف بذاته جل وعلا؟! فالعقل يرتد خاسئاً حسيراً عن إدراك ذات الله جل وعلا، ولهذا قال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة: {إنه ينطلق فيخر ساجداً تحت العرش، فيحمد الله تعالى بمحامد يعلمه إياها لا يعلمها الآن} فيفتح الله جل وعلا عليه من العلم به آنذاك ما لم يكن لديه من قبل. إذاً "الله" هو الذي تَحِنُّ إليه القلوب، "والله" هو الذي تحار فيه العقول! فهذه هي بعض معاني الألوهية، وعلى كل حال فإن من المعنى أنه: "الإله المعبود المتفرد" ولهذا جاء هذا الاسم وهو "الله" في الشهادة، فإن المؤمن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ولم يقل مثلاً: (أشهد أن لا إله إلا الرحمن) أو (إلا الرحيم) مع أن الرحمن والرحيم من أسمائه جل وعلا، لكن أطلق هذا الاسم العلم الذي هو أصل لكل الأسماء الأخرى، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله" اعترافاً بأنه لا معبود بحق في الكون إلا الله عز وجل، وأما المعبودات بالباطل فهي كثيرة: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] . ب/ الرحمن الرحيم: الاسم الثاني: المذكور هو "الرحمن" والاسم الثالث هو "الرحيم"، والرحمن الرحيم: مأخوذ من الرحمة، وقيل: الرحمن رحمة عامة بجميع الخلق، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال عز وجل: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب:43] وقيل إن الفرق بينهما أن اسم الرحمن بالنظر إلى وجود الصفة، وأما الرحيم فبالنظر إلى متعلقها في الخلق، أي: حصول أثرها في الخلق برحمته تعالى لهم، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما. وهاهنا ينبغي أن نتأمل سراً من أسرار تكرار هذا الاسم -الرحمن الرحيم- فإن الإنسان إذا أراد أن يقرأ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يدخل قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يخرج قال: بسم الله، وإذا أراد أن يأكل قال: بسم الله، وإذا أراد أن يخطب أو يتكلم قال: بسم الله، حتى جاء في الحديث عند النسائي وغيره أن: {كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله -وفي رواية- "بالحمد لله" فهو أبتر أو أقطع أو أجذم} والمعنى ناقص البركة، وفي الحديث مقال على كل حال، لكن من المعلوم أن الاسم يقال هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلم يقل أحد من الناس قط بسم الله المنتقم الجبار، أو بسم الله العزيز الحكيم، مع أن هذا حق، وإنما قيل "بسم الله الرحمن الرحيم". وفي هذا إشارة إلى قوله عز وجل في الحديث القدسي عند البخاري وغيره: {إن رحمتي سبقت غضبي} وفي الحديث الآخر أيضاً في الصحيح: {إن الله تعالى جعل مائة رحمة، فأنزل منها رحمة واحدة في الدنيا، وبها يتراحم الناس، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين رحمة إلى يوم الحساب} ففي ذلك إشارة إلى عظيم رحمته جل وعلا وأنها تسبق غضبه، ولذلك ينبغي ألا يقنط الإنسان من رحمة الله مهما أسرف على نفسه من الذنوب والمعاصي: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولهذا كان اليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله من صفات الكافرين، وهكذا ينبغي للإنسان أن يتشبث أبداً بطلب رحمته جل وعلا، وأن يُعَلِّم الناس الثقة برحمته سبحانه. وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الرجاء فيما عند الله عز وجل، وأن تكونَ ثقةُ الإنسان بالله وبرحمته أعظمَ من ثقته بعمله؛ فإن عمله قد لا يقبل؛ فقد يداخله الرياء والعجب أو عدم الإخلاص، أو لا يكون على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَردُّ على صاحبه، لكن يكون اعتماد العبد على رحمة الله جل وعلا، وهكذا ينبغي أن يدعو الناس والعصاة إلى الله عز وجل لتذكيرهم برحمته، مع أنه ينبغي أن يقرن هذا بتذكيرهم بعقوبته: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] لكن الناس دائماً وأبداً محتاجون إلى تذكيرهم برحمة الله جل وعلا. ونحن الآن نجد أن كثيراً من الناس -ربما من طلبة العلم أو من الدعاة- من يفيضون كثيراً في الحديث عن الوعيد والتشديد والتخويف والترهيب، وهذا أحد أوجه التربية التي جاء بهما القرآن والسنة، ولكن ينبغي العدل، وربنا جل وعلا يقول: {رحمتي سبقت غضبي} وعلّمنا أن نستفتح ونبدأ باسمه "الرحمن الرحيم" حتى إن الإنسان الذي يريد أن يتكلم مثلاً عن النار بماذا سيبدأ؟ سيقول في أول حديثه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم مثلاً عن نواقض الإسلام سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم عن الحدود الشرعية سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، فينبغي أن يعطى هذا الحديث قدره عند الناس، ويذكروا دائماً بأن يتعلقوا بالله جل وعلا الرحمن الرحيم. ج/ الله والرحمن من أسماء الله الخاصة: فهذه هي الأسماء الثلاثة المذكورة في هذه السورة، لكن هنا فائدة وهي: أن اسم "الرحمن" كاسم "الله" لا يسمى به غير الله، ولم يتسَمَّ به أحدٌ؛ فالله والرحمن من الأسماء الخاصة به جل وعلا، لا يشاركه فيها غيره، ولهذا قال سبحانه: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] أما الأسماء الأخرى فقد يسمى أو يوصَفُ بها غير الله، كالرحيم والسميع والبصير كما قال سبحانه: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] يعني رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] أما اسم " الله " "والرحمن" فلا يسمى بهما غيره سبحانه. الجزء: 103 ¦ الصفحة: 10 حقوق الإنسان في الإسلام قامت حركات شعبية كبيرة في العصور الأخيرة تسعى إلى فرض اتفاقيات ومواثيق تنظم الحقوق الفردية والشعبية، وهي ما اصْطُلِح على تسميتها فيما بعد (حقوق الإنسان) عقب الحرب العالمية الثانية؛ حين أعلن في الأمم المتحدة الميثاق العالمي لحقوق الإنسان سنة (1945م) . ورغم الدعاوى العريضة عن حقوق الإنسان في الغرب إلا أن الواقع الملموس في بلادهم أنها خاصة بهم دون سائر الناس، ومنهم المسلمون؛ الذين حباهم الله عز وجل بأشمل وأكمل منهج لحقوق الإنسان منذ أكثر من ألف عام، وذلك رغم التطبيقات المشوهة لهذا النظام في واقع المسلمين اليوم، والذي ينبغي اتخاذ عدة أساليب لتطويره. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 1 أسباب الحديث عن موضوع حقوق الإنسان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم، قال الله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] . أما بعد: فيا حيَّ الله هذه الوجوه الطاهرة النيرة المشرقة، حضرت إلى بيت من بيوت الله تعالى، ومجلس لعله أن يكون من مجالس الذكر، يذكر فيه الله تعالى فيسبح، أو يذكر فيه رسوله صلى الله عليه وسلم فيصلى عليه ويسلم، فيا حياكم الله ثم حياكم يا أهل الإيمان والنخوة والنجدة والمروءة والحمية، وكثركم وكثر في المسلمين من أمثالكم. ثم أما بعد أيضاً: فقد جمد أخي الذي قدمني جمد الريق في فمي وحلقي بهول العبارات التي سمعت منه، وغفر الله لي ولكم وله. إنني بقدر ما أقدر هذه المشاعر الفياضة وهذا الحب الكبير الذي تحملونه في الله إن شاء الله، بقدر ذلك لا أملك إلا أن أبين عن الإحراج الذي ينتابني وأنا بين أيديكم أسمع مثل هذا الإطراء وهذا الثناء، فأستغفر لي ولأخي ولكم جميعاً وأقول كما قال الصديق: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون]] . ثم أما بعد: فموضوع حديثي إليكم الليلة عن الإسلام وحقوق الإنسان، في هذا الجامع المبارك، جامع الشيخ فيصل المبارك رحمه الله بمدينة سكاكا بمنطقة الجوف، وثمة أربعة أسباب وراء هذا الحديث: الجزء: 104 ¦ الصفحة: 2 الفهم المخلوط عن حقوق الإنسان في الإسلام السبب الثاني: أن هذه الحقوق -حقوق الإنسان- قد أخذت بعداً عالمياً واسعاً عريضاً، فمنذ أن صدر ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ووقعت على هذا الميثاق جميع الدول بلا استثناء، ثم صدرت ملاحق أخرى له تهتم ببيان حقوق الإنسان الاجتماعية أو الاقتصادية أو الإعلامية أو التعليمية أو السياسية أو غيرها، وهي الأخرى حظيت بتأييد غير قليل من دول العالم كلها شرقيها وغربيها. فأصبح العالم اليوم يتحدث عن حقوق الإنسان حتى أمريكا، أمريكا التي تعاني بذاتها من التفرقة العنصرية، وأمريكا التي شهدت اضطرابات طويلة عريضة بسبب الاعتداء على حقوق من يسمونهم بالسود، حتى أمريكا تتحدث عن حقوق الإنسان، وتتذرع بهذه الحقوق إلى ما تريد، فهي تتدخل هنا أو هناك بحجة حماية حقوق الإنسان، أو رفع الظلم والاضطهاد عن المظلومين، إذاً أصبحت حقوق الإنسان أحياناً ألعوبة يتذرع بها الأقوياء للسطو على الضعفاء، وأصبحت ذريعة للعالم الغربي لتحقيق مآربه وأهدافه في الهيمنة على بلاد المسلمين -مثلاً- أو ابتزاز خيرات أرضهم نفطاً واقتصاداً، أو السيطرة على مقدرات بلادهم، أو القضاء على خصوم الغرب، كل ذلك يتذرعون إليه باسم حماية حقوق الإنسان والثأر للمظلومين. هذا العالم الخاسر الكافر الذي لم يتورع عن أن يدفن ما يزيد عن ثمانين ألف إنسان وهم أحياء -وهو يضحك ويبتسم- اليوم ينادي ويتكلم باسم حقوق الإنسان المظلومة والمهضومة. إذا كان الغرب اليوم يتكلم باسم حقوق الإنسان فإنه لا يعرف عن الإسلام إلا ثلاث مسائل: المسألة الأولى: مسألة تعدد الزوجات، وأن الإسلام أباح تعدد الزوجات. المسألة الثانية: مسألة الرق والاسترقاق. المسألة الثالثة: مسألة الجهاد والقتال. وبناءً عليه يصور الغرب الإسلام على أنه دين أهدر حقوق الإنسان، فأهدر حقوق المرأة يوم سمح للزوج بأن يأخذ عليها أخرى وثالثة ورابعة، وأهدر حقوق الإنسان يوم رضي أن يكون عبداً رقيقاً يستخدم ويباع ويشترى، وأهدر حقوق الإنسان يوم أذن بقتاله وسفك دمه، هكذا تصور الحضارة الغربية الإسلام، وبناءً عليه كان لابد أن نتكلم عن حقوق الإنسان في الإسلام لنبين أي مستوى من الكرامة رفع الإسلام إليها هذا الإنسان الكريم. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 3 أنها سبب لحوادث جسمية على مر التاريخ أما السبب الثالث فهو: أن هذه الحقوق كانت سبباً لحوادث تاريخية جسيمة، فربما انتهت المطالبة بحقوق الإنسان -أحياناً- إلى انتفاضات سياسية أو اجتماعية، أو ثورات عارمة تأتي على الأخضر واليابس، أو نهضات فكرية أو نصوص تشريعية ودستورية، فضلاً عن مواثيق ومعاهدات دولية. وإن الحديث عن هذه الحقوق -حقوق الإنسان في مجتمع ما- يعد ظاهرة صحية للغاية تدل على وعي هذا المجتمع وعلى تماسكه، لقد كانت الكثير من الدكتاتوريات المتسلطة على رقاب الشعوب عبر التاريخ كانت تميل إلى التسلط والفردية والاستبداد والأثرة، وتعتقد أن إعطاء الإنسان حقوقه أو بعض حقوقه أنه يهيئ له الفرصة للتمرد على الحكام ومقاومتهم ومحاولة التخلص منهم، هكذا يظنون! ولكن تجارب التاريخ أثبتت نقيض ذلك تماماً، وأثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن القيود والأغلال التي تكبل بها الشعوب والأمم لا تزيدها إلا رغبة في التحرر والانطلاق، على حين أن تمتع الشعوب بحقوقها المشروعة وحرياتها المشروعة يدفعها دفعاً إلى الاستقرار والتقدم، ويحميها من التمزق والانشطار الذي كثيراً ما يقع بسبب الاعتداء على مصالح الفرد أو مصالح الجماعة من قبل أقلية تحكم وتهيمن وتسيطر. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 4 زيادة الإهدار لحقوق الإنسان في العصر الحاضر أما السبب الرابع لبحث هذا الموضوع فهو: أننا في الوقت الذي امتلأت آذاننا من الحديث عن حقوق الإنسان من الناحية النظرية، إلا أن آذاننا امتلأت -أيضاً- بما يواجهه الإنسان على محك الواقع من الإهدار لكرامته والانتهاك لحقوقه، ولهذا نقول: ربما لم ير الإنسان في تاريخه الطويل كاليوم قط إهداراً لحقوقه وانتهاكاً لكرامته. فالإنسان الغربي اليوم لم تعد تفرض عليه الأمور بقوة الحديد والنار كما كان ذلك في الماضي، ولكن أصبحت الأمور تفرض عليه من خلال تأثير الإعلام، فبالأمس إذا أراد الحاكم في بلد غربي أن يحمل الناس على شيء حملهم بقوة الحديد والنار، أما اليوم فإنه يحملهم بقوة الإعلام، فإذا أراد أن ينتخبوا فلاناً -مثلاً- سلط الأجهزة الإعلامية لتلميع هذا الشخص والحديث عن منجزاته، والكلام عن بطولاته، وذكر مآثره حتى تمتلئ نفوس الناس قناعة فيصوتون له بملء اختيارهم وطواعيتهم، فالدكتاتورية هي هي، والاستبداد هو هو، سواء كان حملاً للإنسان بالقسر والقوة، أم كان إقناعاً للإنسان من خلال وسائل الإعلام المسلطة عليه، والتي تقوم معه حيث يقوم، وتقعد معه حيث يقعد. أما الإنسان المسلم فعلى رغم أن العالم يعلن باستمرار أنه لا يعترف بالفوارق بين الأديان، إلا أن الإنسان المسلم قطعاً يحظى بمعاملة خاصة ملؤها الإهدار واللامبالاة والاعتداء الصارخ على حقوقه، سواء حقوق الأفراد أم حقوق الشعوب أم حقوق الدول، ولسان حال المسلم المستضعف المسكين يقول: لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا إن الغرب يريد من المسلم فعلاً أن يتخلى عن إسلامه وتميزه بهذا الدين وانتمائه إلى هذه العقيدة، وبراءته من المخالفين له في الدين، ولكن الغرب نفسه لم يقنع الكافر هناك أن يتعامل مع المسلم على قدم الإخاء والمساواة، اللهم إلا بالكلام فحسب. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 5 غفلة المسلمين عن هذه الحقوق وأخيراً: فعلى رغم اهتمام الإسلام بالإنسان وتكريمه ومنحه الكثير من الحقوق بل كل الحقوق التي يستحقها إلا أن أقل الناس إحساساً بهذه الحقوق -بدون مبالغة- هم المسلمون. الفرد المسلم لا يشعر بكرامته ولا يسعى إلى نيل حقه، بل لا يعرف أن له حقاً، ويستكثر القليل مما يدفع له أو يمنح، وربما يستكثر حتى مجرد الحديث عن هذا الموضوع، ولست أستغرب ولا أتعجب أن يقول قائل: أي علاقة لطالب علم شرعي أن يتكلم في حقوق الإنسان؟ وهكذا نجد أننا عملياً خضعنا لمسألة تبعيض الدين وتمزيقه، كما تطالب بذلك العلمانية وتدعو إليه، فأصبح مسموحاً للفقيه أن يتكلم في أحكام الطهارات والعبادات وغيرها، لكن حين ينتقل إلى الحديث عن القضايا العامة الكلية التي تحتاجها الأمة، فإن الكثيرين يفغرون أفواههم ويفتحون عيونهم ويقلبون أيديهم وملؤهم العجب والدهشة!! أي علاقة لهذا أن يتكلم في مثل هذا الموضوع؟!! وكأن مثل هذه الموضوعات أصبحت نظرياً وعملياً حكراً على الغرب أو على تلامذة الغرب الذين يتكلمون في ديار الإسلام. إن غيبة الوعي عن الدين جعلت الكثير من المسلمين لا يعرفون ماذا لهم من الحقوق في كتاب الله تعالى وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى يطالبوا بها، ولا ماذا عليهم من الواجبات والمسئوليات حتى ينهضوا بها ويتحملوها، وكذلك البعد عن الواقع جعلت الكثير من المسلمين لا يحركون ساكناً. رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم وخاضوا بحار الجد دعوى فما ابتلَّو إن الكثير من المسلمين قد صودرت حتى إنسانيتهم، حتى شعور الواحد منهم بإنسانيته أصبح قليلاً ضئيلاً ضعيفاً، وأصبح المسلم يسمع -مثلاً- عن حقوق يتمتع بها غيره هنا أو هناك، فيظن أن هذا مما لم يخلق ولم يتأهل ولم يترشح له. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 6 قدم مسألة حقوق الإنسان أولها: أن مسألة حقوق الإنسان مسألة قديمة ترجع إلى أقدم العصور، فليس البحث فيها بحثاً جديداً وليد اليوم أو وليد هذا العصر، فقد جاءت الرسالات السماوية كلها من لدن آدم عليه السلام وإلى خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم لتكرس حقوق الإنسان وتبين فضيلته، وأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، واستخلفه على هذه الدنيا. أما فقهاء القوانين الوضعية فلعلهم لم يعرفوا الاهتمام الحقيقي بهذا الموضوع إلا في أواخر العصور الوسطى، عصور التخلف والانحطاط في أوروبا، حين وصل استبداد الحكام وسيطرتهم ووصل بأمراء الإقطاع إلى الغاية، وفقدت -تلك الشعوب الأوروبية الكافرة- معظم ما يجب أن يتمتع به الإنسان من حقوق؛ وبذلك اندفعت إلى إعلان الثورة على حكامها من الكنسيين والطغاة الماديين، وأطاحت بهم، وسيطرت على مقاليد البلاد، ثم كان من جراء ذلك إصدار ما يسمى بإعلانات حقوق الإنسان، هذه الإعلانات: التي تضمنت بعض ما يجب للإنسان، كالإعلان الفرنسي الشهير الذي لم يكن صدر إلا بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وكان آخر تلك الإعلانات الإعلان العالمي الشهير: (بإعلان حقوق الإنسان) الذي صدر من الأمم المتحدة في أواسط القرن العشرين، عام خمسة وأربعين وتسعمائة وألف، وكان ذلك في أعقاب حرب عالمية دامية ذهبت بالأخضر واليابس، وذهبت فيها آلاف بل مئات الآلاف من الأرواح والضحايا. إن حقوق الإنسان التي هي موضوع حديثنا اليوم، كلمة طالما تغنى بها الشعراء، وتكلم عنها الأدباء، وبحث فيها الفلاسفة، وتكلم عنها المصلحون وعلماء الاجتماع وعلماء الاقتصاد وغيرهم، فهي بيت القصيد لكثير من البحوث والأحاديث؛ فلا غرابة إذاً أن نعقد هذه الجلسة للكلام عن حقوق الإنسان في الإسلام. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 7 الإسلام وشعارات الحرية أعتقد أن الحرية من أكثر الكلمات تداولاً على الألسنة، وهي كلمة بارقة يستخدمها الكثيرون على نطاق واسع، فكل من أراد أن يلفت أنظار الناس نادى بالحرية، وكل من أراد أن يحقق أمانيه أو أهواءه رفع شعار الحرية، ومع ذلك فإن كلمة الحرية هي من أكثر الكلمات غموضاً! أما المعنى الشرعي للحرية في الإسلام: فهي ضد الرق، ولا شك أن هذا المعنى غير مقصود الآن، وهو معنى آخر فالإنسان حر بمعنى أنه ليس رقيقاً مستعبداً هذا معنى آخر- وإنما الحرية تستخدم اليوم بمصطلح آخر مخالف لذلك تماماً، فمثلاً: حينما تتحدث مع شخص عن ملاحظة عليه في سلوكه أو أخلاقه، أو ملاحظة على ولده أو على زوجه، قال لك: يا أخي لا تتدخل في حريات الآخرين، دع هذا فمن باب الحرية الشخصية، أصبح الولد أحياناً يرفع شعار الحرية الشخصية ضد أبيه، وأصبح الإنسان المنفلت من القيود يرفع شعار الحرية الشخصية ضد جميع الإجراءات الأخلاقية والأعراف المرعية، ولذلك فلابد من وقفة عند هذه الكلمة البراقة "الحرية". تقول بعض التعريفات: الحرية هي: حق الفرد في أن يفعل كل ما لا يضر بالآخرين. إذاً: ليس هناك حرية في الدنيا مطلقة قط، لا عند المسلم ولا عند الكافر، ولا في أي قانون في الدنيا، إنما أكثر الناس توسعاً في الحرية -وهم الفرنسيون- يقولون لك: الحرية هي: حق الفرد أن يفعل ما لا يضر بالآخرين. إذاً حريتك تنتهي حيث تبدأ حقوق الآخرين وحدودهم، فلك أن تتحرك في حدود ما لا يضر بالآخرين، وهنا لا بد أن نضيف: ولا يضر بنفسه أيضاً، ولا بد أيضاً أن نحدد الضرر بأنه يشمل الضرر الدنيوي، كأن يتعاطى الإنسان أكلاً أو شرباً أو لباساً لا يضر بدينه أو ماله أو صحته أو مكانته، وأيضاً يشمل الضرر الديني، الضرر الأخروي الذي يجعل الإنسان تحت طائلة المساءلة والعقاب أمام الله تعالى يوم الحساب. فإذا كانت مسألة ما لا تضر بالإنسان ديناً ولا دنيا، ولا تضر بالآخرين أيضاً ديناً ولا دنيا فهنا يكون نطاق الحرية، ويكون الإنسان مأذوناً أن يتحرك ويعمل هذا الأمر، أمر مأذون له شرعاً فليس إثماً ولا حراماً، لا يضر بدينه وهو أيضاً لا يضر بدنياه، ولو تأملت لوجدت أن الضرر الدنيوي هو أيضاً محرم كما جاء في الحديث: {لا ضرر ولا ضرار} . والحرية هي قرين الحق، فهما متلازمان في اصطلاح العديد من الفقهاء، وبذلك يتبين لك أن من المطلوب أن يتنازل الإنسان عن جزء من حقوقه الشخصية في مقابل عدم حرمان الآخرين من حقوقهم، إن هذا التنازل الجزئي منك أنت ليس تنازلاً بلا مقابل، بل أنت تفعل ذلك من أجل ألا تفاجأ يوماً من الأيام بأن الآخرين اعتدوا على حريتك الشخصية، فهذا هو ثمن الحياة الاجتماعية المشتركة بينكم، فالحريات أحياناً تتناقض. فهذا صحفي -مثلاً- يصدر جريدة ويكتب فيها ما يقول مما يسيء إلى الدين وإلى الأخلاق وإلى فلان وإلى وإلى، ويقول: من حقي أن أكتب ما أريد، ومالك الجريدة أو الصحيفة يستطيع أن يمنع هذا الصحفي من الكتابة، ويقول له أيضاً: من حقي ألا ينشر في صحيفتي التي أملكها إلا ما أريد، والقارئ من حقه أن يرفض هذه الصحيفة تعاطياً وشراءً وتعاملاً، ويقول: من حقي ألا أشتري ولا أقرأ إلا ما أريد. مثل آخر: الطريق (الشارع) هو مرفق عام يشترك فيه الجميع، فهو ملك للمجتمع وليس ملك لشخص بعينه، ومن حق كل إنسان يستفيد منه، لكن هذه الفائدة تتناقض عندما يستخدمها الإنسان بالأصوات المزعجة، أو يستخدمها -مثلاً- بالدعايات التي تضر بالآخرين وتغير عقولهم أو مفاهيمهم أو تسيء إليهم، وهذا سر من أسرار الحكم في الإسلام، فالحاكم في شريعة الله تعالى هو فرد اختاره الناس لكي ينظم لهم كيفية ممارسة الحقوق فيما بينهم بصورة صحيحة، وليس الحاكم وضع من أجل أن يصادر حقوق الناس. فلا بد أن يتنازل الجميع عن قدر من الحقوق والمصالح الذاتية حفاظاً على ذلك العقد الاجتماعي العام. فعلى سبيل المثال-أيضاً- من حق الحاكم أن ينظم كيفية الحصول على الطعام -مثلاً- في بيعه أو تعاطيه، أو الشراب، أو السيارات، أو الرخص للسير، أو السفر، أو الشهادة، أو غير ذلك، أو أن يرتب وينظم عملية المرور، أو ينسِق العمل الوظيفي ويضع له شروطاً إلى غير ذلك، لكن إذا تجاوز هذا الأمر حد التنظيم المطلوب للمجتمع إلى التعقيد وافتعال العقبات والصعوبات والمشكلات؛ كان ذلك عبئاً على الإنسان، يفترض أن يتجاوزه ويتعداه، أو أدى هذا إلى امتهان كرامة الإنسان، أو مصادرة رأيه بالضغط والتهديد بحيث يكون الطعام -مثلاً- أو الشراب أو الشهادة أو الوظيفة أو المال أو غيرها لا تحصل للإنسان إلا عن طريق التسول، أن يريق ماء وجه، ويخضع للضغط والتهديد ومصادرة الرأي، فحينئذ تصبح عبئاً ثقيلاً يسعى الإنسان للتخلص منه بقدر المستطاع. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 8 الإنسان في الإسلام الله تعالى خلق آدم بيده -كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم- ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، ثم جعل ذريته مكرمين، {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] والله تعالى من فوق سبع سماوات يخاطب هذا الإنسان، وهذا أعظم تكريم متصور للإنسان أن الله سبحانه وتعالى الغني القدير الكبير المتعال يتلطف على هذا العبد الفقير الضعيف فيقول له: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] إذاً الإنسان -والجن أيضاً- هو الكائن الوحيد المكلف المبتلى {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] فهو الذي كلف بمسئولية وقيل له: إذا قمت بهذا الواجب فلك الأجر العظيم، وإذا قصرت به أو تخليت عنه؛ فالويل لك يوم يقوم الناس لرب العالمين. حتى صورة الإنسان وشكله متميز؛ كما قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] نعم، ليس الإنسان في خيلاء الطاووس، ولا في قوة الفيل، ولا في خفة الطيور، ولكن يبقى خلق الإنسان خلقاً متميزاً معتدلاً مكتملاً؛ حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري وغيره: {إذا قاتل أحدكم أخاه -أي ضاربه- فليتق الوجه، فإن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على صورته} أي: خلق الإنسان سميعاً بصيراً مكتمل الحواس، وجعل كرامة الإنسان أكثر ما تكون في وجهه، ولهذا كان السجود الذي هو أعظم عبادة هو انحناء الإنسان لربه ووضعه جبهته في التراب لرب الأرباب. ولهذا -أيضاً كما في صحيح مسلم- {لما مرت جنازة قام لها الرسول صلى الله عليه وسلم فقيل له: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي. فقال عليه الصلاة والسلام: إن للموت لفزعاً -وفي رواية- أنه قال: أليست نفساً؟} فقام وأمر بالقيام للجنازة، وكثير من أهل العلم يقولون: إن هذا الحكم باق غير منسوخ، وأنه يستحب للإنسان إذا رأى الجنازة أن يقوم لها. إذاً كرم الإسلام الإنسان من حيث هو، ولو نظرت إلى تكريم الإسلام لفئات خاصة من الناس كالعبيد الأرقاء أو الأيتام أو الضعفاء أو المعوقين أو النساء، أو غيرهم، أو الفقراء لوجدت أمراً عجباً، فكيف بتكريم الإنسان العادي؟ وفي خطبة الوداع التي كانت هي آخر خطبة ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه أرسى -عليه الصلاة والسلام- دعائم الحقوق الإنسانية بصورة لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية كلها، لا، بل بصورة لم تسبق ولن تلحق أيضاً: {أيها الناس: أتدرون في أي شهر أنتم؟ وفي أي يوم أنتم؟ وفي أي بلد أنتم؟ قالوا: في شهر حرام وفي بلد حرام، قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا يحل مال مسلم إلا بطيب نفس منه، وإن كل دم ومال ومأثرة كانت في الجاهلية تحت قدمي هاتين إلى يوم القيامة، ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، ألا إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم، واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان -أي أسيرات- لا يملكن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حقا} . فذكر الحقوق صلى الله عليه وسلم، ذكر حرمة الدماء بمنع القتل أو الجرح أو الاعتداء، وذكر حرمة الأموال بمنع أخذها أو ابتزازها أو نهبها أو سرقتها أو الحجر عليها، وذكر حرمة الأعراض بتحريم الاعتداء عليها بالقذف أو بالسب أو بالشتم أو بالزنا أو بغير ذلك، وذكر مسألة العلاقات الاجتماعية التي تحكم المسلمين، تحكم المسلم مع أخيه، وتحكم الرجل مع زوجته، وتحكم الوالد مع ولده، إلى غير ذلك، ولم تكن خطبة الوداع هي الموقف الوحيد الذي حدد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الحقوق؛ بل إنه حددها في أحاديث ربما لو جمعت لكانت في أكثر من عدة مجلدات وكلها تتعلق بحقوق الإنسان سواء الحقوق العامة أم الحقوق الخاصة لفئة معينة، كحقوق المرأة أو حقوق العامل أو حقوق الجار أو حقوق اليتيم أو حقوق الزوج أو غير ذلك. وأستطيع أن أقول تبعاً لما قرره عدد غير قليل حتى من فقهاء القوانين اليوم: إن هناك حقوقاً كثيرة جاء بها الإسلام لم تفلح البشرية حتى الآن في المطالبة بها، فمثلاً: حق ضعاف العقول في الرعاية: هذا جاء به الإسلام ولم ينص عليه إعلان حقوق الإنسان، مثل حق اليتامى، حق الجار، حق القريب، حق الإنسان في الدفاع عن نفسه، حق الإنسان في العفو عمن ظلمه، حق الميراث للورثة رجالاً أو نساءً من الأقربين، كل هذه الحقوق لم تأت بها القوانين الوضعية، ولا إعلانات حقوق الإنسان. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 9 حقوق الإنسان في المواثيق الدولية كما أسلفت هناك عدة إعلانات لحقوق الإنسان، كان آخرها الإعلان عام 48م والذي وقعت عليه جميع الدول بلا استثناء، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إنه قانون عام ملزم للبشرية كلها، حسبما تقتضيه مواثيق الأمم المتحدة التي تعتبر هي الحكومة العالمية المتوجة، التي تتزعم ما يسمى بالنظام الدولي الجديد، فما هذه الحقوق التي جاءت بها تلك الإعلانات؟ الجزء: 104 ¦ الصفحة: 10 الحقوق التعليمية والثقافية أما الحق الأخير عندهم: فهو ما يسمى بالحقوق التعليمية والثقافية، مثل حق التعليم، وهو في الإسلام ليس حقاً بل هو واجب، وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} وهو حديث حسن، ومثله حق الإنسان في اختيار نوع التعليم الذي يمارسه، كما يدخل في ذلك حق الابتكار والاختراع العلمي، إضافة إلى حق مشاركة الإنسان في الحياة الثقافية والحياة العلمية في بلده، كل هذه الحقوق جاء بها الإسلام قبل إعلان حقوق الإنسان، وهي أيضاً في غالبها وجملتها جاء بها الإسلام قبل أربعة عشر قرناً من الزمان، لكن ثمة نقطة لابد من بيانها وهي النقطة الخامسة. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 11 الحقوق الاقتصادية والاجتماعية أما الحق الرابع الذي ضمنته تلك الوثيقة: فهو ما يسمى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية: مثل حق الإنسان في الملكية الخاصة، أن يملك المال أو الأرض ولا يحق لأحد أن يصادر ماله أو أرضه أو يعتدي عليه، ومثله حق الإنسان في التجارة والصناعة إلى غير ذلك، ونحن نجد أن هذه الحقوق مقررة في الشريعة والله تعالى يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} [البقرة:275] والرسول عليه السلام يقول: {من أحيا أرضاً ميتةً فهي له} فهنا يظهر الفارق بين حق الفرد وحق المجتمع، فالرسول صلى الله عليه وسلم -مثلاً- في هذا الحديث أباح للإنسان أن يحيي الأرض الموات بحسبها، إن كانت أرضاً زراعية بالحفر والزرع، وإن كانت غير ذلك؛ كل أرض بحسبها، لكن هذا الأمر مقيد بشيء واحد فقط وهو ما يكون مصلحة عامة للمجتمع، فليس من حق الإنسان أن يحيي -مثلاً- أرضاً يحتاجها المجتمع كله في مصالحه العامة. ومن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للإنسان مراعاة الإنسان في حال البطالة والعجز والمرض والشيخوخة، وأن الدولة مطالبة بمساعدته وإعانته، وهذا كما ضمنته حقوق الإنسان فقد ضمنته الحقوق الشرعية التي جاء بها سيد البشرية محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما أن من تلك الحقوق الاقتصادية حق مساواة الجميع أمام التكاليف، فالضرائب -مثلاً- إذا جاز أن تفرض ضرائب على الناس في الإسلام، فلا بد أن تكون بقدر الحاجة وبقدر متساوٍ للجميع، وهذا الأمر هو ما جاءت به منظمات حقوق الإنسان في الناحية الاقتصادية والاجتماعية. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 12 الحقوق الشخصية والجسدية هي أولاً -باختصار- الحقوق الشخصية والجسدية: مثل أمن الإنسان من أن يستعبد (أن يكون رقيقاً) وأمنه أن يقهر أو يسخر أو يقتل أو يغتصب رجلاً أو امرأةً، أو يعذب، كل هذه الحقوق بلا شك جاء بها الإسلام، كذلك حق الإنسان في حرية الانتقال من مكان إلى مكان أو الرجوع إلى مكانه الأول، حرمة المساكن وعدم الاعتداء عليها، حرمة الاتصال الهاتفي بين إنسان وآخر، وألا يحق لأحد أن يعتدي عليه أو يتصنت عليه، حرمة الاتصال البريدي أو المراسلة، وأنه لا يحق لأي جهة أن تكشف مراسلة بين طرفين، حق الزواج، حق السلامة الصحية للإنسان، كل هذه الحقوق تدخل فيما يسمى بالحقوق الشخصية والجسدية. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 13 الحقوق القضائية النوع الثاني: ما يسمونه بالحقوق القضائية: ويقصدون بها ضمان حق الإنسان في أن يدافع عن نفسه أمام المحاكم، ومساواة الناس أمام القضاة، وأنه ليس هناك إنسان يتميز عن آخر أمام القضاء، وعدم التعرض بصورة تعسفية للقبض على إنسان أو اعتقال إنسان أو نفي إنسان من بلد إلى آخر أو حبسه أو محاكمته إلا وفق نظام معمول به، كما يشمل هذا حق الإنسان في تقديم العرائض والشكاوى إلى أي جهة يشاء. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 14 الحقوق الفكرية والسياسية النوع الثالث: هو ما يسمونه بالحرية الفكرية والسياسية، وهذا يشمل أشياء كثيرة جداً قد يكون معمول بها في بعض البلاد، مثلاً: يشمل -عندهم وفي بلادهم- حق الإنسان في تكوين حزب سياسي والانضمام لعضويته، أو حق اللجوء إلى بلد آخر، أو حق تكوين الجمعيات والأحزاب أو غير ذلك، لكنه يشمل أيضاً أموراً جاء بها الإسلام، يشمل حرية الرأي والتعبير عنه وفق الأصول الشرعية، ونحن نعلم أن هذا لم يكن في الإسلام مجرد حق بل هو واجب، فالإسلام قد حرم التقليد على من يملك الاجتهاد ويعرف الصواب، وأوجب على المسلم أن يقول بالحق كما في الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت قال: [[وأن نقول الحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم]] فأوجب على المسلم أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، قائلاً لكلمة الحق، مجاهداً في هذا السبيل، حريصاً على أن يعبر عن رأيه الناضج الصريح الذي يبني ولا يهدم ويحقق المصالح ويدفع المفاسد. ومثله أيضاً حرية الصحافة والإعلام -كما يسمونه- ونحن نعلم أن الغرب حقق قدراً كبيراً مما يسمى بحرية الإعلام عندهم، فتجد أن الإعلام يتكلم عن قضايا كثيرة تتعلق بأوضاعهم الحكومية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وقد أفلح الإعلام عندهم في الكشف عن فضائح كثيرة مثلما فعلت بعض الصحف الأمريكية حين فضحت ما يسمى بقضية فضيحة "وتر جيت" ثم "إيران جيت" ثم "عراق جيت" إلى غيرها من الفضائح التي كانت الصحافة والإعلام هي السبب في كشفها وبالتالي معاقبة المتسببين فيها، إضافة إلى أمور أخرى تتعلق عندهم بحقوق الإنسان فيما يتعلق بالحرية الفكرية والسياسية. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 15 الفروق بين حقوق الإنسان في الإسلام وحقوق الإنسان في إعلانات الغرب الجزء: 104 ¦ الصفحة: 16 الحقوق في الإسلام موهوبة وفي غيره مطلوبة الفرق الثالث: أن هذه الحقوق في الإسلام جاءت هبة من الله تعالى على غير ترقب من الإنسان، ودون أن يطلبها الإنسان أو يسعى في تحصيلها، وعرفها المسلمون منذ أن عرفوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان المسلم العادي البسيط الفلاح يجلس في المسجد وهو يستمع إلى الخليفة يخطب على المنبر، فلا يرى غضاضة أن يقف على قدميه ثم يرفع يده، ويقول له: الأمر ليس كما ذكرت، فيقول: لم رحمك الله؟ فيبين للحاكم الذي يحكم ربع الدنيا ما يراه هو دون أن يخاف من بطش أو تسلط أو ظلم أو عدوان أو مساءلة أو غير ذلك، فلقيها المسلم وأخذها ببساطته وبوضوحه. أما في الغرب فإنهم لم يحصلوا على حقوقهم تلك، بل انتزعت انتزاعاً بالقوة، وقبل كل إعلان لحقوق الإنسان كان هناك ثورات ومعارك ودماء اضطروا بعدها إلى الإعلان عن حقوق الإنسان والإقرار بها، وآخر تلك الحروب الحرب العالمية الثانية التي تلاها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. أما في تاريخ الإسلام فلا يوجد محاكم تفتيش، ولا يوجد سجون تمتلئ وتغص بالنزلاء، ولا يوجد أجهزة استخبارات تعد على الناس أنفاسهم وتحصي عليهم حركاتهم وتحاسبهم على كل شيء. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 17 اختلاف الحقوق الفرق الرابع: هو الاختلاق والتباين في الحقوق: فمثلاً هناك حقوق إسلامية لم ترد في الإعلان -كما أسلفت- مثل حقوق اليتامى، وحقوق الجيران، وحقوق ضعاف العقول، وحق الميراث، وحق العفو إلى آخره. هناك أشياء منعها الإسلام مثل حق تغيير الدين، ففي حقوق الإنسان العالمية -ومع الأسف أنها موقع عليها دولياً من كل دول العالم- يحق للإنسان أن يختار الدين الذي يريد ويغير دينه كيف شاء، وأعتقد أن حقوق الإنسان حين أعلنوا هذا قصدوا من ورائه إتاحة الفرصة للمسلم أن يرتد عن دينه؛ لأنهم يعلمون أن المسلمين اليوم في فترة ضعف واستضعاف، وأنهم يخضعون لمشاكل كثيرة، وأن الغرب بيده القوة والتمكين والحضارة والتسلط والإغاثة والمساعدات الإنسانية والمنظمات الدولية والصليب الأحمر إلخ، كل هذه أدوات في أيدي الغرب الصليبي النصراني يستخدمها ضد المسلمين. فالمسلم اليوم يتعرض لابتلاء وفتنة في دينه، وليس سراً أن نقول: إن هناك قرى بأكملها قد تحولت من الإسلام إلى النصرانية وذلك في أكثر من بلد إسلامي، في أفريقيا، وفي إندونيسيا، بل وفي بعض البلاد العربية أصبح تحول المسلم إلى النصرانية أمراً مسموحاً به قانوناً، وأمراً واقعاً من الناحية العملية، على الأقل يتخلون عن دينهم طمعاً في المال، أو رغبة في الشهادة. إذاً النصارى لا يستحون أن يستغلوا الكوارث والظروف والأزمات الاقتصادية والنكبات التي تمر بها الشعوب لكسب المزيد من الأنصار والضغط على الناس لتغيير دينهم، وهم اتخذوا في ذلك ذريعة هي عبارة عن فقره في القانون الدولي لحقوق الإنسان تبيح وتسمح للإنسان أن يغير دينه، لكن لو وجدوا نصرانياً تحول إلى مسلم لأقاموا الدنيا وأقعدوها، وتكلموا عن ذلك وقالوا: هذا نتيجة ضغوط، ونتيجة إرهاب، ونتيجة تخويف إلى غير ذلك من الأسباب. أما في الإسلام فلا يحق للمسلم أن يغير دينه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {من بدل دينه فاقتلوه} والفقهاء متفقون على قتل المرتد إلا أبا حنيفة فإنه يرى: أن المرأة تسجن حتى ترجع إلى دينها أو تموت، وقد حدث أن معاذ بن جبل عندما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأبا موسى الأشعري وجد رجلاً قد أسلم ثم رجع إلى اليهودية، فأقاما عليه الحد وقتلاه بمحضر من المسلمين، والقصة أيضاً في صحيح البخاري. أيضاً من الفوارق: الفارق بين الرجل والمرأة:- فإن الإسلام أعطى للرجل حقوقاً ليست للمرأة، وأعطى المرأة حقوقاً -أيضاً- ليست للرجل، فلا يتحول الرجل في شريعة الله إلى امرأة، ولا المرأة إلى الرجل، بل كل إنسان له حقوق، كما قال الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32] . وهذا القانون الغربي لحقوق الإنسان يرفض اعتبار الدين أساساً للتمييز بين الناس، ويقول: يجب أن ننظر إلى الأديان كلها على حد سواء، ولكننا نجد أن لبنان -مثلاً- كبلد مسيحي أو نصراني في بلاد عربية يشترط أن يكون رئيس الجمهورية فيه نصرانياًَ، وهذه هي الطائفة السياسية بعينها، لكننا نجد في مقابل ذلك أن دولاً أفريقية كثيرة غالبية سكانها من المسلمين ومع ذلك تكون محكومة برئيس نصراني دون أن يكون هناك نكير في ذلك. نقطة أخيرة في ذلك أيضاً في الفارق بين إعلان الإسلام وإعلان الأمم المتحدة هو أن المساواة في الإسلام حق صحيح، ولكن المساواة لا تعني إلغاء الفوارق الطبيعية والفوارق الشرعية، فالرجل -كما أسفلت- مع الرجل متساوٍ، والمرأة مع المرأة، ثم الرجل مع الرجل -أيضاً- لا يعني التساوي في كل شيء، فالعامل يتساوى مع نظيره، والموظف يتساوى مع مثيله، والطالب مع مثيله، وهكذا. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 18 الرقابة الإلهية فرق ثان: الرقابة الإلهية: فنحن نعلم أن من طبيعة الإنسان الظلم والأثرة، وكما قيل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم والله تعالى قد ذكر لنا قصة ابني آدم بالحق: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ} [المائدة:27] إذاً من طبيعة الإنسان أنه قد يعتدي وقد يظلم، ولهذا كان ربط حقوق الإنسان بالدين صيانة عظيمة لهذه الحقوق. يقول أحد الغربيين: لا توجد في الحكومات البشرية سوى قوتين ضابطتين: القوة الأولى: قوة السلاح، والقوة الثانية: قوة القانون -أي قوة النظام- فإذا تولى قوة القانون قضاة هم فوق الخلق وفوق الملامة فإن الأمر حينئذ على ما يرام، أما إذا لم يكن ذلك فإن قوة السلاح هي التي تسود حتماً، وذلك يؤدي إلى سيطرة النظم العسكرية المستبدة على الشعوب. وأقول: هناك قوة ثالثة هي قوة الإيمان، أو ما يسمونه في الغرب "الضمير"، الخوف من الله عز وجل، ولذلك نجد أن الإنسان -بل كل الناس حتى غير المسلم- لم يجد من الحقوق التي يتمتع بها في ظل شريعة من الشرائع أو دولة من الدول مثلما وجد في دولة الإسلام وشريعة الإسلام، حتى قال " تومبي " وهو أحد المؤرخين البريطانيين قال: ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم ولا أعدل من العرب، يعني المسلمين. أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه لما أخذ الجزية من أهل حمص، ثم رأى أنه قد لا يستطيع الدفاع عنهم، ماذا صنع؟ رجع إليهم ورد الجزية التي أخذ منهم، وقال مع ذلك: سوف ندافع عنكم ما استطعنا، فإن انتصرنا عدنا وأخذنا الجزية، وإن لم ننتصر لا نكون ظلمناكم، فهات مثالاً آخر مثل هذا في كل شرائع الدنيا وأنظمة الدنيا ودول التاريخ في غير شريعة الإسلام! لما فتح المسلمون سمرقند فتحوها قبل أن يدعوا أهلها إلى الإسلام، وقبل أن يطلبوا منهم الجزية، فبعث أهل سمرقند إلى الخليفة المسلم بالشام يشتكون إليه، وبعث الخليفة وطلب من الجيش المسلم أن يخرج من سمرقند ويظل خارجها ثم يعرض على أهلها الإسلام، فإن أبوا فالجزية، فإن أبوا استعان بالله تعالى وقاتلهم، وخرج الجيش المسلم الفاتح من سمرقند إلى مشارفها ثم دعوا أهلها إلى الإسلام فأسلموا عن آخرهم، وقالوا: دين هذا قدر الإنسان فيه، وهذه عدالته لابد أن ندخل فيه جميعاً! أما في النظم الوضعية فما ثَم جزاءً يذكر، لا يؤمنون بيوم الحساب فيمنعهم ذلك من الاعتداء على حقوق الناس، وفي الدنيا لهم ألف وسيلة وحيلة للتحايل والخروج من القوانين والعقوبات. ففي الإسلام إذاً عقوبتان: العقوبة الأولى: الأخروية، وهي الأهم والأعظم، والرادع الأكبر في ضمير المسلم، إضافة إلى العقوبة الأخرى وهي: الدنيوية المتمثلة في الحدود والتعزيرات على الاعتداء على الإنسان كحد السرقة -مثلاً- أو حد القذف أو حد الزنا أو غير ذلك من الحدود. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 19 القيد الأخلاقي للحقوق في الإسلام أولاً: القيد الأخلاقي للحقوق والحريات في الإسلام، فالإسلام دين نزل من السماء يقوم عليه سلطان يحميه ويحرسه في الأرض، فليست الأعراف والتقاليد والعادات هي التشريع ولا مصدر التشريع، وليست الأمة هي مصدر السلطات -أي مصدر التشريع- كما هي الحال في بعض النظم الديمقراطية. فرعاية الأمر الشرعي أمر لا خيار فيه، فعلى سبيل المثال: جسد المرأة، لا يجوز أن يكشف من جسد المرأة ما لم يأذن الله تعالى بكشفه بحجة الحرية الشخصية، وأيضاً منع الاختلاط -اختلاط الجنسين- لا يجوز الإذن به بحجة عدم التفرقة العنصرية كما هو معروف دولياً. ونحن نجد أن هذا الأمر موجود عند الغرب ولكن بصورة أخرى، فإذا كان المسلم مطالباً باحترام الإسلام، فإن الغرب يطالب باحترام الأعراف والتقليد والعادات، وقد أقيم في دولة من أكثر الدول انفلاتاً وهي فرنسا، أقيمت دعوى ضد إحدى الشركات التي عرضت فيلماً سينمائياً فيه كثير من التفسخ اللاأخلاقي الفاضح، أقيمت الدعوى ونظرت المحكمة وقررت معاقبة الشركة كما قررت توجيه اللوم والعتاب إلى محافظ تلك المدينة أو تلك القرية وقالت له: كما أنه مطلوب منك المحافظة على الإدارة، كذلك مطلوب منك المحافظة على أخلاقيات الناس وعدم السماح بعرض ذلك الفيلم بالنظر إلى الظروف المحلية للبلدة والتقاليد التي كانت تحكمها. إذاً: هي فعندهم تقاليد وعادات، أما عندنا في الإسلام فهي أحكام وتشريعات نزلت من عند الله ولا حيلة لأحد فيها {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] . مثل آخر: من حق المرأة والرجل العلاج، لكن هذا العلاج يجب أن يتم في جو محتشم تحفظ فيه الحرمات وتصان فيه الحقوق، ويمنع فيه الاعتداء على الإنسان رجلاً كان أو امرأة، أما أن تضع لي مستشفيات مليئة بألوان التفسخ والاختلاط والانحلال والتواجد النصراني وغير ذلك ثم تطالبوني أن أمرض زوجتي فهذا أمر صعب، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: {يا رسول الله، إني أصرع، فادعُ الله لي. فقال لها: إن شئت دعوت الله تعالى لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة، فقالت: أصبر يا رسول الله، ولكني أتكشف فادع الله لي أن لا أتكشف، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلم الله تعالى لها أن لا تتكشف إذا صرعت} . ففي هذا المثال يبدو في المجتمع المسلم أن العناية بحفظ أمر العورة لا يقل أهمية عن العناية بالصحة، وكلاهما من الحقوق التي يجب على المسلم العناية بها، وواجب على كل ذي أمر من المسلمين أن يهيأ للمسلمين الفرص التي يكون فيها العلاج بعيداً عن كشف العورات وانتهاك الحرمات، كما أنه من الواجب على كل ذي أمر من المسلمين أن يسعى إلى تربية المسلم ذكراً أو أنثى على احترام هذه العهود والمواثيق الربانية. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 20 حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق النقطة السادسة: بين النظرية والتطبيق: مع الاعتراف النظري بحقوق الإنسان فإن حقوق الإنسان -كما يقول بعض المفكرين-: تبقى هي أخسر قضية في التاريخ، ويظل الإنسان في ظل جميع الشرائع -غير الإسلام- يظل هو أخسر مخلوق على وجه الأرض، فكل الأنظمة تتغنى بحقوق الإنسان، حتى النظام الشيوعي -الذي قتل أكثر من عشرين مليوناً ونفى مثل هذا العدد أو أكثر- حتى النظام الشيوعي البائد يزعم أنه قام لحماية حقوق الإنسان، وإلغاء الطبقية الاجتماعية، وإعلان المساواة، وقد أقر الدستور الذي كان يحكم الإتحاد السوفيتي أقر المساواة بين المواطنين. لاحظ الفرق بين الكلام الشفهي الحلو الجميل وبين الواقع العملي المر، وأقر الدستور -أيضاً- حق التعليم المجاني لكل مواطن، وحرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية الاجتماع والتظاهر وتأسيس الجمعيات، وحرمة المنازل، وحرمة المراسلات، ومع ذلك كان نظام المخابرات السوفيتي الـ (كي جي بي) هذا النظام جند ربما ملايين الأشخاص، جعلوا كل مواطن يشعر كأنه في سجن كبير، وأنه يعيش داخل هذا السور الحديدي الضارب من حوله، ومع ذلك قوانينهم تنص على أن هناك حرمات للمنازل وحرمة للمراسلات وحرية التعبير والاجتماع وغير ذلك، يقول أحدهم: أيتها الحرية، كم من الجرائم قد اقترفت باسمك!! أما في الغرب النصراني فإنهم نظرياً -أيضاً- يقولون بل حتى الدين الذي ينتسبون إليه النصرانية يقولون: أن في أحد الأناجيل أن عيسى قال: باركوا لاعنيكم، وأحسنوا إلى مبغضيكم، وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم، فهم إن أحببتم من يحبكم فأي خير تصنعون؟! وإن أحسنتم إلى من يحسن إليكم فأي أجر لكم؟! إنما أحسنوا إلى من يسيء إليكم. ويقولون في المثل النصراني: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر، ومن أخذ منك القميص فأعطه الرداء أيضاً! الجزء: 104 ¦ الصفحة: 21 الاضطهاد الديني في بلاد المسلمين أيضاً قضية الاضطهاد الديني الذي ما زال بلاءً جاثماً على المسلم بشكل خاص في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي والعالم العربي، وفي مصر مثلاً، أو تونس أو ليبيا أو الجزائر أصبح من السهل جداً أن يسجن المسلم، بل أن تقتله قوات الأمن في الشارع، ولا يسأل من أطلق عليه النار ولماذا قتلته؟ أبداً، لكن سوف يسألون يوم القيامة {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8-9] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93] أما أجهزة الأمن فقد أعطت صلاحيات واسعة بإطلاق النار على كل من يشتبه فيه وفق قوانين وأنظمة جديدة يسمونها بأنظمة مكافحة الإرهاب. وقد اطلعت على وثائق من ألوان الممارسات المخالفة للشرع، بل المخالفة لقوانين البشر ومواثيق حقوق الإنسان في مصر وفي تونس وفي ليبيا، بل إن كثيراً من هذه السجون الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود. وقد وصل الحال بكثير من هذه المؤسسات إلى أن تسجن الإنسان، وتلفق عليه قضايا أخلاقية مكذوبة من أجل تشويه صورته أمام الناس، وتسلط عليه الصحافة والإعلام من أجل أن يأخذ الناس عنه انطباعاً غير جيد، وتتهمه بكل التهم الرديئة والملفقة، ولا تسمح له بحق الدفاع عن نفسه، لا سراً ولا علناً، بل لا يمثل هؤلاء أمام محاكم، ومن المؤسف أيضاً أن ثمة منظمات غربية نصرانية قامت تدافع عن حقوق الإنسان، فقد وقفت على تقرير خطير عن حقوق الإنسان في تونس أصدرته منظمة العفو الدولية، ووقفت على تقرير آخر أصدرته منظمة أمريكية عن حقوق الإنسان! في مصر، وطالبت تلك المنظمة أمريكا أن تحجب المعونات عن حكومة مصر حتى تعدل أوضاعها وتحترم حقوق الإنسان في سجونها! أما العالم الإسلامي الطويل العريض الذي تقول آخر الإحصائيات: إنهم بلغوا ألفاً ومائتي مليون إنسان فلم نكد نسمع صوتاً واحداً يستنكر مثل هذا العذاب الرهيب بأهل الإسلام! كم هو محزن أن نسمع في الأخبار أن أطفالاً أو شباباً صغاراً في سن السادسة عشرة وفي زهرة الشباب وريعان الصبا تطلق عليهم أجهزة الأمن النيران في الشوارع وترديهم قتلى! وبالتأكيد ثق أن أي ضابط أمن أو مسئول حينما يخطئ في حق مسلم متدين أو ما يسمى متطرف فإنه لن يتعرض لأي شيء، لأن هذا دليل على أنه مخلص ووفي لهذا النظام أو ذلك؛ لكن لو أنه أخل بحق مسئول في حراسته أو حمايته أو الحفاظ عليه، لرأيت كيف يتعرض لأقسى العقوبات. ولهذا أصبح أي مسئول أو شخص عادي لا يبالي أن يعتدي على المسلم أو يمتهن كرامته أو يهينه، وينسى أن هذا الإنسان له قدر عظيم عند الله تعالى وله مكان، وربما يكون إيذاؤه أو الاعتداء عليه سبباً في معاجلة الله تعالى ليس لهذا الفرد بل للمجتمع الذي أقر الاعتداء أن يعاجله الله تعالى بالعقوبة، وأي عقوبة؟ عقوبة مثل: أزمة اقتصادية، أو أزمة سياسية، أو حرب أهلية، أو غلاء فاحش، إلى غير ذلك {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] . الجزء: 104 ¦ الصفحة: 22 حق السفر والعودة للبلد في البلاد الإسلامية حق الانتقال والسفر والعودة إلى البلد: في كثير من البلاد يحجر على الناس، لا يسمح لهم أن يسافروا ولا أن ينتقلوا ولا أن يعودوا في بلاد قد وقعت على حقوق الإنسان، وقل مثل ذلك في حق الجنسية، فلا يكاد الإنسان من غير تلك البلاد يحصل عليها، وإذا حصل عليها من غير أهلها فكثيراً ما يهدد بسحبها وتبتز كرامته بهذا الأمر أو ذاك. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 23 استغلال المواقع والصلاحيات ضد حقوق الإنسان في البلاد الإسلامية ومثله استغلال المواقع والصلاحيات ضد حقوق الإنسان في بلاد العالم الإسلامي بطولها وعرضها، فأنا لا أتكلم عن بلد بعينه، ولكني أتكلم عن كل بلاد الإسلام، لم يعد المواطن المسلم يشعر أن الإنجازات التي يراها أنها له كما هي لسائر الرعية، ولكنه أصبح يشعر أن هذه الإنجازات هي لفلان وفلان وحكر عليهم وخالصة لهم من دون الناس المسلمين المؤمنين، لماذا شعر بأنها خاصة لفلان؟ أولاً: لأن فلان هذا يتمدح بها في كل مناسبة، فيثني على إنجازاته ومفاخره، وماذا قدم الناس لشعوبهم وماذا فعلوا، حتى حكومة العراق التي بلغت في إهدار كرامة الإنسان واضطهاد شعبها مبلغاً لا يوصف؛ تتغنى بالحقوق التي قدمتها لشعوبها، دعك من حكومات أخرى تتكلم عن ذلك، الجميع يتكلمون عن هذه الحقوق كما لو كانت فضلاً من جيوبهم تصدقوا به على شعوبهم. وأيضاً يشعر المسلم والمواطن العادي بأن هذه الإنجازات هي حكر لفلان وفلان، لأن فلان يستخدمها في تحقيق مآربه ومصالحه وقمع خصومه، فإذا حارب فلاناً من الناس استخدم الإعلام للتشهير، واستخدم الأمن للمطاردة والحرب، واستخدم الأجهزة الرسمية الدينية للتكفير، وطالما سمعنا من يصدرون الفتاوى لتكفير فلان أو علان أو قتل هذا أو ذاك موافقة لرغبة السلطة التي تريد التخلص من هؤلاء. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 24 الكيل بمكيالين المواثيق الدولية التي يتكلمون عنها هي ذات ميزان مزدوج، فهم يكيلون بمكيالين، فأحياناً إذا اعتدي على حقوق الإنسان اكتفوا بالشجب والاستنكار الشفهي، وأحياناً ينتقل الأمر إلى النقيض يضطرون إلى التدخل العسكري كما هو الحاصل في أكثر من موقع، وكما هو حاصل الآن على سبيل المثال في العراق. نعم، نحن نقول: هبوا أن تدخلكم في العراق لحماية حفنة من الشيعة في منطقة الأهوار، لماذا لا تتدخلوا لحماية الملايين التي تواجه اليوم تصفية عرقية لا مثيل لها في التاريخ كله في أرض البوسنة والهرسك؟! أليس هذا أكبر دليل على أنه ثمة في الغرب مكيالان وميزانان؟! بل أقول: أحياناً يتعدى الأمر إلى أن الغرب يؤيد تلك العنصريات وتلك الاعتداءات على حقوق الإنسان، ويلوي عنق القوانين الدولية من أجل أن تخدم مصلحة هذا الطرف أو ذاك. فمثلاً الغرب -بالذات أمريكا- اليوم تفتعل الأسباب والذرائع التي تبيح لها أن تتدخل في كل مكان في العالم، وقد سمعت بأذني منذ شهور أخباراً تتكلم على أن هناك دراسات في بعض المحاكم الأمريكية من أجل الإذن لقوات أمريكا بالتدخل لملاحقة مهربي المخدرات -مثلاً- في أي مكان في العالم. وأحياناً يميل هؤلاء بموازينهم المتناقضة المزدوجة إلى إقرار الأمر الواقع، فمثلاً وجود اليهود أو ما يسمى بإسرائيل في أرض فلسطين المسلمة، هذا الوجود هو وجود غير صحيح، وهي جسم غريب في الأمة الإسلامية، ولكن الغرب يفرض على المسلمين اليوم بالقوة -بقوة السلطان وقوة السلاح- أن يعترفوا بالوجود اليهودي وأن يتعاملوا مع هذا الوجود على أنه أمر طبيعي، وأن يفتحوا حدودهم وبلادهم وعقولهم إلى رياح التغيير اليهودية. وبالصراحة والصدق أقول لكم: الغرب كله يخطط إلى أن يجعل من الشرق الأوسط منطقة نفوذ إسرائيلية، وأن تكون الأسواق العربية كلها مفتوحة للبضائع الإسرائيلية، وأن تستخدم الأيدي العاملة الرخيصة العربية لمصلحة اليهود، وأن توظف الأموال العربية والإسلامية لخدمة اليهود، وأن يستفيد العرب -زعموا- من الخبرة والتقنية والتصنيع والتحضر اليهودي، هذه هي الخطة التي يسعون إليها فيما يسمى بمؤتمرات السلام، ولذلك طالبت إسرائيل بشدة وقوة ووضوح طالبت سوريا مقابل أن تتنازل لها عن شيء من الجولان أن تجعل هناك علاقات طبيعية بينها وبينها! علاقات إعلامية، علاقات دبلوماسية، علاقات تبادل سياحي، تبادل ثقافي، تبادل أمني، بل تنسيق أمني، وربما في المستقبل يكون هناك نوع من التعاون العسكري. والغريب أن كل هذه الأمور تتم؛ ربما أقول: على مرآى ومسمع من الشعوب الإسلامية، دون أن تتكلم أو تعبر عن رفضها لهذا التهجين، وربما أقول: على غير مرآى ومسمع من الشعوب العربية والإسلامية التي فقدت إحساسها بنفسها ومعرفتها بكرامتها وشعورها بحقوقها، ولذلك أصبحت لا تقدم ولا تؤخر ولا تعبر عن رأيها في أخص خصائصها وألزم قضاياها. المهم أن الغرب أحياناً يعمل على فرض الأمر الواقع وفرض الاعتراف والرضا به، كما هي الحال في إسرائيل، وربما يطبق المثال نفسه في أرض البوسنة والهرسك التي يخضع -ربما- أكثر من (70%) من أرضها إلى سيطرة الصرب النصارى الحاقدين. أما في الكويت فلم يتم اعتماد مثل هذا الميزان، بل تحرك الغرب من أجل طرد المعتدي عن الكويت، ونقول: طرد المعتدي كان لابد منه، ولكن لماذا يكيل الغرب بمكيالين ويزن بميزانين؟!! وفي الغرب أيضاً الذي يتشبث بحقوق الإنسان وينادي بها، نجد أن أجهزة المخابرات الغربية، كالمخابرات الأمريكية (الـ سي آي إيه) إن هذه الأجهزة لا تعرف معنىً للأخلاق، ولا تقيم وزناً للكرامة، بل إنها تستخدم كل وسيلة شريفة أو دنيئة إلى تحقيق أهدافها والوصول إلى مقاصدها، فمن وسائلها القتل وسفك الدم ونهب المال والاعتداء على الأعراض، والخداع والتضليل والتلبيس، إلى غير ذلك من الوسائل التي لا تعرف معنىً للأخلاق والكرامة، ولا شك أن هذه الأنظمة المخابراتية هي المتنفذة في السياسات الغربية والسياسة الأمريكية بوجه خاص، أين حقوق الإنسان إذاً؟! الجزء: 104 ¦ الصفحة: 25 انتقاص حقوق الإنسان في العالم الإسلامي أما بالنسبة للعالم الإسلامي فثمة أسئلة كثيرة وهو بيت القصيد: هل يأخذ الإنسان المسلم حقوقه التي أقرتها له الشريعة الإسلامية؟! هذا سؤال، بل هل يأخذ حقوقه التي يأخذها نظيره ومماثله في العالم الغربي؟! أقول في الحالين: كلا، هل نحن اليوم نعمل بكلمة عمر التي قالها واضحة صريحة لـ محمد بن عمرو بن العاص قال له: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] قال هذا انتصاراً لقبطي جاء يشتكي، هل نأخذ بهذه الكلمة؟ أما أننا نأخذ بكلمة الحجاج الذي كان يقول للناس: من تكلم منكم قتلناه صبراً، ومن سكت منكم قتلناه كمداً، يعني من تكلم يحبس حتى يموت، أما من سكت فإنه يموت غيظاً وحزناً وكمداً. هل يستطيع المسلم اليوم أن يقول كلمة عمر بن الخطاب لحكامه "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار؟! "أجزم: لا، إنما يستطيع المسلم أحياناً أن يقول هذه الكلمة لحكام دولة أخرى، خاصة حين تكون العلاقة مع تلك الدولة علاقة سيئة، فإنه حينئذ يستطيع أن يقول ذلك. والتقارير الصادرة عن حقوق الإنسان، تتكلم أن حقوق الإنسان المسلم تهدر بقسوة بالغة بواسطة الحكومات الوطنية في بقاع كثيرة، أو بواسطة القوى الأجنبية في مواطن أخرى. هناك عدة أشياء: هناك مثلاً أمور يتم انتهاك الحقوق فيها من قبل الحكومات الأجنبية أو الوطنية، وهناك حالات كثيرة يتم انتهاك حقوق الإنسان فيها من قبل أخيه الإنسان. خذ على سبيل ذلك هذا المثال: التفرقة العنصرية قائمة في بلاد الإسلام كلها بدون استثناء، دعك من جنوب أفريقيا -مثلاً- حيث التفرقة هناك على أشدها، بل حتى في المجتمعات الإسلامية والمجتمعات المتدينة والمجتمعات الواعية، بل أحياناً حتى في أوساط طلبة العلم يصبح الانتساب للقبيلة يشكل حجر أساس في العلاقات مع الناس، وفي تفضيل فلان على علان، وفي القرب أو البعد، وفي التزاوج وغير ذلك، والكثيرون مستعدون أن يسخطوا سخطاً لا رضا بعده لأن فلاناً من أولادهم تزوج من قبيلة أخرى، ولكنهم لا يسخطون قط لو تزوج فلان فتاة منحرفة أو غير ذات دين. وهكذا أصبح الانتماء للقبيلة أو التفرقة العنصرية أصبحت في نظر الكثيرين أهم من التمييز على أساس الدين، ليس في مجال الزواج فحسب، بل في مجال الزواج والعلاقات الاجتماعية والولاء والتقارب والتفضيل في الأعمال والوظائف والمسئوليات وغير ذلك، فقد تكون جديراً بمنصب أو بموقع أو بعمل أو بزوجة أو شيء من هذا لأنك فلان بن فلان، ولو لم تكن أي شيء آخر. الجوع والبرد والمرض الذي يقتل اليوم عشرات الآلاف من المسلمين، عدد المهاجرين من الصومال يزيد على مليوني مهاجر للبلاد الغربية، كل هؤلاء يستقبلهم الغرب بالأحضان، وتتنافس الجمعيات النصرانية في تسجيل أطفال المسلمين في الصومال نفسها من أجل أن يذهبوا إلى هناك من أجل تنصيرهم وتعميدهم. أيضاً كندا تستقبل المسلمين الهاربين من جحيم المعاناة في الصومال تستقبلهم بالإسكانات الحكومية بالمجان، بل تصرف لهم إعانات تسميها بدل بطالة، وتحيل قضاياهم إلى المراكز الإسلامية، وتمنحهم الجنسية الكندية بكل سهولة. أما في البلاد الإسلامية فيظل المسلمون أوقاتاً طويلة يطرقون الأبواب ثم تغلق في وجوههم، والله -أيها الأحبة- كادت عيني تدمع وأنا أسمع خبراً قبل ثلاثة أيام عن مجموعة من المسلمين الهاربين من الصومال إلى روسيا، والذين تقطعت بهم الأسباب لأن أوراقهم ناقصة، فكل الدول لا تستقبلهم، وروسيا لا تسمح أن يخرجوا خارج المطار لأن أوراقهم ناقصة وتريد أن تسفرهم إلى أي بلد آخر، وبلادهم لا تقبلهم لأنهم -أيضاً- أوراقهم ناقصة وقد يكون فيها شيئاً من التزوير، كل العالم يرفضهم، فظلوا أكثر من ثلاثة أشهر في المطار جالسين، ينامون على الكراتين التي يفرشونها، وهناك طفل عمره ستة عشر عاماً يقولون له أكثر من ستة أشهر وهو يتجول في المطار، يا سبحان الله! كل هذه النوعيات التي تعاني الاضطهاد وتعاني التشريد والتعذيب وتعاني الضياع غالباً ما تكون من المنتسبين إلى هذا الدين! فإن أهل الإسلام اليوم لا بواكي لهم وإلى الله وحده المشتكى، قد أسلمهم حتى الأقربون! مثال آخر: الحرب، تقتل وتشرد الملايين في فلسطين، ثم في يوغسلافيا، وقد نسي المسلمون جرحهم النازف في أرض فلسطين المباركة نسوها بآلام جديدة وجراح جديدة تفتحت عليهم في بلاد أخرى، فإلى الله المشتكى! الجزء: 104 ¦ الصفحة: 26 التمييز العنصري في الغرب النصراني هذا الكلام نظرياً جميل ومن السهل أن يردد، لكن ماذا يعاني الأجانب -دعك من المسلمين بالذات- بل كل الأجانب ماذا يعانون في الغرب من ألوان التمييز العنصري البغيض! وبالأمس (البارحة) كنت أسمع أخبار اعتداءات وحشية في ألمانيا بشطريها، وخاصة ألمانيا الشرقية على كل الأجانب، وقد رأيت بعيني إعلانات تملء شوارع فرنسا تعبر عن حزب من الأحزاب اليمينية المتطرفة الذي بدأ يكتسح الشارع الفرنسي، ويحظى بإعجاب الناس، تطالب بطرد كل الأجانب عن البلاد، والأجانب غالبيتهم من الجاليات الإسلامية، لكن يدخل في هذا غيرهم كاليهودي مثلاً أو الذين أتوا من بلاد أخرى. أما التمييز العنصري والطبقي في الغرب فإنه على أشده، وما لقيه السود -مثلاً- وما لقيه أيضاً سكان أمريكا الأصليون من المعاناة والقتل والترهيب والعنصرية والابتزاز أمر يفوق الوصف. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 27 من المعتدي على حقوق الإنسان النقطة السابعة: من هم المعتدون على حقوق الإنسان؟ ليس المعتدون على حقوق الإنسان الحكومات فحسب، بل أكثر من ذلك، فالمعتدون: أولاً: أصحاب الاستبداد السلطوي، الذين استغلوا ما منحهم الله تعالى ومكن لهم في التضييق على شعوبهم، والتمتع بخيراتهم الدنيوية. ثانياً: الأقوياء في المجتمعات وهم كثير، فالتجار أحياناً يعتدون على حقوق الفقراء، ورؤساء الإدارات والمصالح والجمعيات والمؤسسات والهيئات في طول البلاد الإسلامية وعرضها، كثيراً ما يضطهدون الموظفين الصغار ويعتدون على حقوقهم ويبتزونهم ويهينون كرامتهم. أحياناً قليلة: الآباء قد يستخدمون ذلك ضد الأبناء، وكمثال: قد تجد بنات في كثير من البيوت تمنع من الزواج الشرعي؛ لأن الأب لا يوافق على ذلك، وهذا لا شك اعتداء على حقوق الإنسان ومنع له من حق أذن الله تعالى له فيه، وهو مسئول عنه بين يدي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، أو تجد ولداً -مثلاً- يعاني من والده الذي يمنعه من طلب العلم، يمنعه من ممارسة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى ويمنعه مما أحل الله تعالى له، وقد يمنعه من الزواج أيضاً بحجة صغر سنه، مع أنه يتعرض لأقسى ألوان الفتنة في هذا الزمان. وهناك اعتداء ثالث: وهو اعتداء الشخص العادي على أخيه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه} وهذا نص عام، فاعتداء الإنسان على مثيله أو نظيره أو مساويه أو زميله هو أيضاً حرام، لا يجوز أن يعتدي على ماله بالنهب أو السرقة، ولا على عرضه بالكلام أو الوقيعة في غير حق أو الشتم أو السب، أو يعتدي على دمه بالقتل أو الجرح. وكل هذه الاعتداءات خطيرة؛ لأن منها ما يستغل النفوذ والقدرة في مضايقة الناس ومصادرة كرامتهم، وإيذائه وامتهانه والقضاء على إنسانيته وكرامته، والأصل أن الاعتداء محرم، والاعتداء الواقع منوع بل حتى الملتزم المتدين أحياناً قد لا يأبه بحماية حق أخيه المسلم فيسبه -مثلاً- وينسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لعن المسلم كقتله} أو يحقره والنبي صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم أخو المسلم لا يخذله ولا يظلمه ولا يحقره ولا يسلمه} أو يتخلى عنه في أزمة أو شدة عرضت له سواء كانت أزمة فردية أم جماعية أم على مستوى شعب، وينسى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ولا يسلمه} أو يسيء الظن به في قول أو فعل وينسى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات:12] أو يجرحه باللسان أو باليد، وجرح اللسان كجرح اليد، أو يقتله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء:93] . الجزء: 104 ¦ الصفحة: 28 أساليب تطوير حقوق الإنسان المسلم أخيراً -وليس آخراً- فما هي الحلول؟ وباختصار أقول: الحلول كثيرة منها: الجزء: 104 ¦ الصفحة: 29 الرقابة القضائية والشعبية على المسئولين ثانياً: الرقابة على انسجام القرارات والأنظمة مع الشريعة الإسلامية إذاً: لا قيمة للنص على حقوق الإنسان وكرامته وحفظ شخصه وماله ودينه وعقله وبيته ومراسلاته وماله وغير ذلك إذا كان الحاكم لا يحترم هذه النظم، بل يخالفها متى شاء لمصلحته أو لمصلحة طرف آخر. كيف تكون الرقابة؟ في العالم الغربي تكون من خلال البرلمانات أو الوسائل والمؤسسات المتعلقة بقواهم الديمقراطية، لكن في العالم الإسلامي أو في النظام الإسلامي يمكن أن تكون الرقابة أولاً من خلال القضاء، القضاء الذين يكونون فوق مستوى الخوف وفوق مستوى الذل إلا لله عز وجل، فهم يشكلون رقابة حقيقية على هذه الأشياء. كذلك الرقابة الشعبية، ورقابة جمهور المسلمين متى عرفوا الحق وعملوا على تحصيله، فإن الرأي العام بوسائله ومؤسساته المختلفة يستطيع أن يؤثر تأثيراً كبيراً وبليغاً، عن طريق الجمعيات -مثلاً- أو وسائل الإعلام المختلفة، ومنها -أيضاً- المنابر التي يمكن أن ترشد الناس إلى الحق وما يجب أن يفعلوه وما يجب أن يتركوه، كما ترشدهم إلى الواجب الذي عليهم أن يقوموا به. كذلك قضية الشكاوي والعرائض فإنها من الحقوق المضمونة بشريعة الإسلام، ثم هي مضمونة بحقوق الإنسان كما قلنا وبحسب الكلام الذي يذكرونه في الكتب يذكرون هذه الأشياء وغيرها، إنما نحن لابد أن نراعي في ذلك ما يتوافق مع شريعة الإسلام. فإذاً لابد من نزاهة القضاء واستقلاله وعدالته وعدم خضوعه لأي ضغط مهما كان، كما قال صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه} . كذلك لابد من وجود قضاء المظالم، وهو معروف عبر التاريخ الإسلامي، الذي يتلقى الشكاوي، الشكاوي ضد أي شخص مهما كبرت مسئوليته وعظم قدره وكان ذا نفوذ أو منزلة، بل لو كانت الشكوى ضد جهة حكومية أو غير حكومية فإن قضاء المظالم يتولى هذه المسألة، وله صلاحيات واسعة في النظر فيها، بل له صلاحيات تنفيذية في رد الحق إلى أصحابه وانتزاعه من الظالم. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 30 تفعيل الحسبة (وظيفة الضبط الإداري) ثالثاً: نظام الحسبة في الإسلام الاحتساب هو على الجميع: على الأفراد، وعلى الجهات المختلفة رسمية كانت أو شعبية، وعلى كل الأطراف، والحسبة نظام إسلامي شمولي، فهو احتساب على البيع، وعلى الشراء، وعلى التعليم، وعلى الإعلام، وعلى الأنظمة، وعلى كل شيء، وهو مماثل لما يسمونه بلغة الإدارة المعاصرة "وظيفة الضبط الإداري" فالبعض يتوقعون أن الحسبة هي مجرد الأمر بأداء الصلوات، فهذا هو جزء من الحسبة، ولكن نظام الحسبة في الإسلام نظام شمولي لكل أمور الحياة، يشمل أن المحتسب مسئول عن مراقبة كل شيء وتصحيحه وفق الشريعة الإسلامية. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 31 تربية الأفراد على معرفة الحقوق والواجبات رابعاً: تربية الأفراد على معرفة الحقوق والواجبات: ولا يعني هذا الغفلة عن أحدهما في اتجاه الآخر، فلابد أن يتعلم كل مسلم أن له حقاً ينبغي أن يطلبه ولا ينبغي أن يتخلى عنه، وأن عليه واجباً ينبغي أن يؤديه ويقوم به، ولا يجوز أبداً أن تطالب بحقك وأنت تتخلى عن واجبك، كما لا يجوز أن نعلم الناس الحق الذي عليهم ولا نعلمهم الحق الذي لهم. مثلاً: نتكلم عن الواجب على النساء، فنقول -مثلاً- أن من الواجب على المرأة إطاعة الزوج، وأن تقوم على خدمته، وأن تسعى في راحته إلخ، هذا صحيح، لكن أيضاً يجب أن نقول: أن للمرأة حقوق على الزوج، هي أن يسكنها، ويكسيها، ويريحها، ويحسن معاملتها، ويبذل لها ما يستطيع، فيكون هناك توازن بين هذا وذاك. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 32 بناء الإعلام الناقد الحر خامساً: بناء الإعلام: بناء الإعلام الناقد المربي الأمين الحر الذي يعرض الأوضاع الصحيحة بعيداً عن التهويل والمبالغة أو التزكية المطلقة، وكما أسلفت فإن الإعلام الناضج هو من أفضل الوسائل في كشف الفضائح ووضع النقاط على الحروف، كما هو الحال في بلاد الغرب. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 33 إعداد الدراسات والبحوث عن حقوق الإنسان في الإسلام سادساً: إعداد الدراسات عن حقوق الإنسان في الإسلام وإيضاح ذلك للناس. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 34 إقامة الجمعيات التي تدافع عن حقوق الإنسان المسلم سابعاً: إقامة الجمعيات والمؤسسات والمنظمات التي تدافع عن حقوق الإنسان المسلم، فنحن نعلم أن هناك جمعيات غربية تدافع عن حقوق الإنسان، بل هناك جمعيات عربية تدافع عن حقوق الإنسان العربي، فنحن نحتاج إلى جمعيات تدافع عن حقوق الإنسان المسلمٍ، ولا يجوز أن يكون الدفاع عن حقوق الإنسان حكراً على النصارى الذين يستخدمون مثل هذه الأشياء -أحياناً- لأغراض دعائية ينبغي أن ينبري من أهل القدرة والإمكانية من يقيمون في بلاد العالم كله جمعيات للدفاع عن حقوق الإنسان، وخاصة الدفاع عن حقوق الإنسان المسلم. مثلما نجد في منظمات العفو -مثلاً- إحدى منظمات العفو في بريطانيا فيها أكثر من مائتي ألف عضو منتسبين إليها، وتنتشر في أكثر من أربعين بلد في العالم، إضافة إلى عشرات من المراسلين والباحثين المتخصصين المتفرغين. ولابد من استخدام وسائل التأثير كما أسلفت. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 35 واجب العالم والداعية في الدفاع عن المضطهدين وأخيراً فإن هناك واجب على العالم والداعية والخطيب في الدفاع عن المضطهدين والمظلومين من المسلمين خاصة، وذلك من خلال الفتوى التي تصدر، والنصيحة العامة والخاصة، والكتابة، والتعليم، والحديث، والتدخل في هذه الشئون ورعاية أحوال المضطهدين. وأختم هذه الكلمة بأن أقول: على العالم والداعية حق أكبر لأنه يستطيع أن يفعل مالا يستطيع غيره من جمهور الناس، وأيضاً بقدر ما عليه من الحق فإن له من الواجب على غيره، فللعالم والداعية أيضاً حق أكبر مما لجمهور الناس أو سائر الناس في حفظه في حضوره وغيبته. أرجو ألا أكون قد أثقلت عليكم أو أطلت أو أمللتكم بمثل هذا الحديث، وأستغفر الله تعالى لي ولكم، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع، وأترك جزءاً قصيراً من الوقت للإجابة على بعض الأسئلة الضرورية. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 36 تقسيم المسئوليات إلى تشريعية وتنفيذية وقضائية أولاً: تقسيم المسئوليات إلى مسئوليات تشريعية خاصة تتعلق بالأمور الإدارية، وإلا فالتشريع لله تعالى، والناس لا يشرعون، لكنهم من الممكن أن يضعوا بعض الترتيبات الإدارية في المجال المباح الذي لا يخالف نصاً شرعياً، وهناك جهة أخرى مهمتها تنفيذية بحتة، وهناك جهة ثالثة مهمتها قضائية بحتة. وكل جهة من هذه الجهات الثلاث تكون مستقلة عن الأخرى، ولا تتداخل هذه الاختصاصات أو تجتمع كلها في يد شخص واحد، فإنه لا شيء يغري بالاستبداد والتسلط والظلم مثل تجمع السلطات في يد شخص واحد، وهذا أيضاً-تجمع السلطات في يد شخص واحد- يمنع الإنسان أن يرافع جهة أمام الجهة الأخرى، فإذا كانت هذه الجهات مستقلة أمكن أن أرافع الجهة التنفيذية أمام الجهة القضائية -مثلاً- ولكن إذا كان المصب واحداً، فإنه لا يمكن مرافعة جهة أمام جهة أخرى، فإنك حينئذ تكون كما قيل: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم. يقول أحد المفكرين: "إذا اجتمعت سلطتان فأكثر في يد شخص واحد انعدمت الحرية؛ حتى لو كانت السلطة بيد الشعب ذاته". إن هذا التوزيع يتيح الفرصة للمراقبة والمحاسبة. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 37 الأسئلة الجزء: 104 ¦ الصفحة: 38 حكم مس الحائض المصحف السؤال ما حكم قراءة القرآن الكريم أثناء الدورة الشهرية؟ ليست تلاوة تعبدية وإنما خشية النسيان، ويكون بحائل، وكذلك الحفظ أو ترديد الآيات غيباً ومنها الأذكار من المعوذات وآية الكرسي إلى غير ذلك؟ الجواب المسألة لا شك فيها خلاف، فمن أهل العلم من يرى أنه لا يجوز للحائض أن تقرأ شيئاً من القرآن ويستدلون بأحاديث منها حديث: {لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن} وهو ضعيف، ومن العلماء من يجيز ذلك مطلقاً دون قيد أو شرط. والذي أراه أنه يجوز للحائض أن تقرأ القرآن سواء كان ذلك بغرض الاختبار أم كان ذلك خشية النسيان، أو كان ذلك تعبداً كما تقرأ شيئاً من القرآن أو تقرأ آية الكرسي أو الأذكار المعوذات أو غيرها فإن ذلك كله جائز على القول الراجح ولا دليل على منعه، والممنوع أن تمس الحائض المصحف، فإنه لا يمس القرآن إلا طاهر، فالراجح كما هو مذهب الأئمة الأربعة: أن المحدث يحرم عليه مس المصحف إلا من وراء حاجز أو ساتر، فإذا احتاجت إلى مس المصحف فإنها تمسه من وراء ثوب أو منديل أو غير ذلك. أعتذر إليكم أشد الاعتذار وأوفاه عن عدم قدرتي على الإجابة على أسئلتكم، وأتمنى أن تتاح لي فرصة لأجيب عليها كلها، فإن فتح الله شيئاً من ذلك فبفضله ورحمته والحمد له، وإلا فأسأل الله تعالى أن يوفقكم إلى من يجيب عليها، وأن يجمعنا وإياكم على طاعته، وأن يجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، واغفر لنا في الآخرة والأولى إنك على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 39 التفاوت في الأداء بين المسلمين وغيرهم السؤال إن الإسلام كرم المسلم، فبعض الناس عنده عامل غير مسلم يفضله على المسلم، فما حكم ذلك؟ الجواب أما إن كان يفضله على المسلم لدينه فلا شك أن هذه ردة عن الإسلام، أما إن كان يفضله؛ لأنه أكثر جدية في العمل أو أكثر عملاً، فهذا قد يكون أمراً واقعاً، مع الأسف الشديد أن الغرب عمل على تجهيل المسلمين في البلاد التي استعمرها، فأصبحت تجد كثيراً من المسلمين عندهم جهل وتخلف وعدم معرفة، ولكن على الإنسان بكل حال ألا يستخدم إلا المسلم، وأن يحرص من كان عنده عمال غير مسلمين أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أسلموا وإلا استبدل بهم مسلمين. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 40 أخبار السودان السؤال ما هي آخر أخبار السودان؟ الجواب في الواقع ربما يسأل الأخ عن قضية في جنوب السودان، الانتصارات تتوالى، وقد أنشئوا جيشاً شعبياً إسلامياً قام بطرد " جون قرنق " وأنصاره من جنوب السودان، وسيطر على الجنوب، و"جوبا" هي آخر معقل يمكن أن يهيمنوا عليه بإذن الله تعالى وما حوله، وأرجو أن يكونوا بذلك وضعوا نهاية لتمرد النصارى في الجنوب. العنصرية الغربية برزت جيداً فقد صرحت أمريكا قبل أسبوع تقريباً بأنه لا مانع لديها من تقسيم السودان إلى دولتين: دولة مسلمة ودولة نصرانية، وهذه لهجة غريبة جداً لأنها تصرح دائماً وأبداً أنها لا تقبل تقسيم الدول، فما بالها الآن قبلت!! قبلت لأنها تعرف أن في ذلك حفظاً للنصارى، وأمريكا الآن تسعى إلى إيجاد دول نصرانية في أفريقيا، أثيوبيا، والحبشة وغيرها من أجل اكتساح الإسلام، وأيضاً تسعى إلى تحويل الدول الإسلامية كما هو الحال في الصومال الذي يشكل المسلمون فيه نسبة (100%) تسعى إلى القضاء على هذه الدول من أجل تحويل أفريقيا إلى قارة نصرانية عام (2000م) كما يحلمون ويطمعون بذلك!! وأما بالنسبة للحكومة في السودان فهي بشكل إجمالي حكومة إسلامية وتقف وراءها جبهة الإنقاذ القومية، ولها جهود كبيرة في مجال القضاء على المنكرات، وإيجاد شرطة شعبية تقوم بدور الهيئات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقضاء على دور الدعارة والفساد ومنع المخدرات، ولها حركات طيبة في التقدم نحو تطبيق الشرع، وكل هذا مما يحمد ويشكر وينبغي أن نقول لهم: أحسنتم، أحسنتم، وهذا لا يمنع من وجود ملاحظات، هناك ملاحظات على الإعلام، هناك ملاحظات على الاقتصاد، هناك ملاحظات على الأوضاع الاجتماعية، هناك ملاحظات في أسلوب التعامل مع الجهات الأخرى، يحتاج كل ذلك إلى أن ينصحوا فيه. ومن التعاون معهم والفرح بانتصار الإسلام في السودان أن نناصح هؤلاء، ونحذرهم من الأخطار التي تهددهم، من خلال التعامل مع بعض الدول مثلاً ذات الطابع العقائدي المنحرف، أو من خلال بعض القوى الأخرى، أو من خلال بعض الطرق الصوفية إلى غير ذلك من الأمور، وينبغي أن نعلم أن ذكر الملاحظات هنا أمر طبيعي وليس فيه ما يعاب، فنحن بقدر ما نفرح ونسر -علم الله- بأي كسب أو انتصار ولو جزئي للإسلام؛ فإننا نرى أن من الوفاء لهذا الكسب أن ننبه على بعض الملاحظات في هذا المجال نقولها إجمالاً لضيق الوقت، وربما تحدثنا عنها بصورة مفصلة من خلال الوسائل التي نعتقد أنها تثمر وتجدي. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 41 منهج التستر على الأخطاء السؤال ذكر بعضهم أن جبهة الإنقاذ في الجزائر ليست مؤهلة لحمل رسالة الإسلام، وذكر بعضهم أنك تعلم أن على الجبهة أخطاء ولكنك تخفيها؟ الجواب في الواقع أن مسألة أنهم جديرون أو ليسوا بجديرين هذا أمر إلى الله، فإن الله تعالى سيمكنهم كما قال تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] . أما مسألة الأخطاء ففي الواقع أنا لا أرى أن التستر على الأخطاء منهج صحيح، بل دعوت وناديت مراراً وتكراراً بالنقد الهادف البناء على كافة المستويات، على مستوى الدول، وعلى مستوى الأفراد، وعلى مستوى الشعوب، وعلى مستوى الدعاة، وعلى مستوى الجماعات، وأعتقد أن هذا -بإذن الله تعالى- خير علاج وشفاء لأمراضنا. ولكنني في الواقع لست ممن يتلذذون بأن يلوكوا ما يعتبرونه أخطاءً للآخرين، وأنا أخاف أن أقع في أحد بغير علم، فأحرص على التحري، وإذا أردت أن أدرس أخطاء فئة بعينها فلابد أن أطلع على كل شيء. لقد رأيت بعض الإخوة وقعت في يده ورقة واحدة عن جبهة الإنقاذ فقام وعلق عليها تعليقات طويلة تنم عن كراهية الله أعلم بدوافعها، ولكنني أملك وثائق كثيرة جداً تؤكد أن مثل هذه الورقة لم يكن يصح أو يصلح أن يعتمد عليها في الحكم على عمل كبير كعمل جبهة الإنقاذ في الإسلام. وعلى كل حال فإننا نقول: جبهة الإنقاذ وغيرها هي عبارة عن أواني ووسائل إلى تحقيق نصر الدين، ونقول: ليذهب الأشخاص ولتذهب الأسماء والرايات واللافتات المهم أن ينتصر دين الله سبحانه وتعالى في الأرض. الجزء: 104 ¦ الصفحة: 42 المواعظ في هذا الدرس دعوةٌ إلى التوبة ومحاسبة النفس، والاتعاظ بالآيات الكونية والشرعية، كما أنه يحتوي على بيان قابلية العقل والقلب للطغيان أمام موجات الشبهات والشهوات، وفيه كذلك ذكرٌ لبعض المواعظ وأسباب الهداية والفلاح. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 1 توبة ومحاسبة وندم الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم لا تعذب لساناً يخبر عنك، ولا قلباً يشتاق إليك، ولا عيناً تنظر في ملكوتك، ولا أذناً تستمع إلى كلامك. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 2 قصيدة تائب يا منزل الآيات والفرقان بيني وبينك حرمة القرآنِ اشرح به صدري لمعرفة الهدى واعصم به قلبي من الشيطانِ يسر به أمري وقَضِّ مآربي وأَجِرْ به جسدي من النيرانِ واحطط به وزري وأخلص نيتي واشدد به أزري وأصلح شأني واقطع به طمعي وشرف همتي كثر به ورعي وأحي جناني أسهر به ليلي وأظمِ جوارحي وأسل بفيض دموعها أجفاني أنت الذي صورتني وخلقتني وهديتني لشرائع الإيمانِ أنت الذي أطعمتني وسقيتني من غير كسب يدٍ ولا دكانِ أنت الذي آويتني وحبوتني وهديتني من حيرة الخذلانِ وزرعت لي بين القلوب مودة والعطف منك برحمة وحنانِ ونشرت لي في العالمين محاسناً وسترت عن أبصارهم عصياني وجعلت ذكري في البرية شائعاً حتى جعلت جميعهم إخواني والله لو علموا قبيح سريرتي لأبى السلام علي من يلقانِ ولأعرضوا عني وملوا صحبتي ولبؤت بعد كرامة بهوانِ لكن سترت معايبي ومثالبي وحلمت عن سقطي وعن طغياني فلك المحامد والمدائح كلها بخواطري وجوانحي ولساني فلقد مننت علي ربِّ بأنعم مالي بشكر أقلهن يدانِ الجزء: 105 ¦ الصفحة: 3 نياحة أبي الوفاء ابن عقيل قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله تعالى: " كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود، فوجدت الإمام أبا الوفاء ابن عقيل قد ناح على نفسه نحو ما نحت، فأعجبتني نياحته فكتبتها هنا قال لنفسه: يا رعناء! تقومين الألفاظ ليقال: مُناظِر، وثمرت هذا يا مناظر، كما يقال للمصارع الغارة، ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء وهي أيام العمر، حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر، وينسى الذاكر والمذكور إذا درست القبور، هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك، فموهوا له، وصار الاسم له، والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم وهو العمل بالعلم، والنظر الخالص لنفوسهم. أفٍ لنفس وقد سطَّرت عدة مجلدات في فنون العلوم، وما عاق بها فضيلة، إن نوظرت شمخت، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم، وسقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة، توفِّر في المخالطة عيوباً تبلى، ولا تحتشم نظر الحق إليها، أفٍ والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها! والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائق وأنا بين الأصحاب، والله إنني قد أبهرني حلم هذا الكريم عني، كيف يسترني وأنا أنتهك؟! ويجمعني وأنا أتشتت؟! وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، والله لو عرفوني حق معرفتي ما دفنوني، والله لأنادين على نفسي نداء المكشِّفين معايب الأعداء! ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء! إذ لا نائح ينوح علي لهذه المصائب المكتومة، والخلال المغطاة، التي قد سترها من خبرها، وغطاها من علمها، وهو الله، والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا، والله ما ألتفت قط إلا أجد منه سبحانه براً يكفيني، ووقاية تحميني، مع تسلط الأعداء، ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها. هذا فعله معي، وهو رب غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه! ولا عذر لي فأقول: ما دريت أو سهوت، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً، ونوّر قلبي بالفطنة حتى إن بعض الغائبات المكنونات تنكشف لفهمي، فوا حسرتاه! على عمر انقضى في ما لا يطابق الرضا، واحرماني لمقامات الرجال الفطناء يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله، وشماتة العدو بي! واخيبة من أحسن الظن بي! إذا أشهدت الجوارح علي، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر والله مني الشيطان وأنا الفطن، اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأقدار، وقد جئتك بعد الخمسين، وأنا من خلق المتاع، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم، والله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمتك، ولا ناسياً ما سلف من كرامتك، فاغفر لي سالف فعلي. هذا كلام إمام جليل وهو الإمام أبو الوفاء ابن عقيل الذي له كتاب الفنون في نحو ثمانمائة مجلد، وكان له مقامات في العلم والعمل والجهاد كثيرة، ولكنه مع ذلك تفطن إلى إسرافه على نفسه، وتقصيره في جنب الله عز وجل فناح على نفسه هذه النياحة الباكية، التي رآها الإمام ابن الجوزي الإمام الحبر الفذ الفهم، الذي كان يعظ فتنخلع القلوب، وتسيل الدموع، ويقوم من مجلسه مئات وألوف قد تابوا إلى ربهم جل وعلا وأنابوا، فناح على نفسه بنحوها، ورأى أنها تطابق ما في قلبه وما في نفسه، يقول: " وإن لم يكن هذا لعمل من الكبائر ارتكبته لئلا يظن بي ظان ما لست أهله؛ ولكن لأن عندي أعمالاً وتقصيرات لا تليق بمثلي، ولا تنبغي مني وقد أنعم الله تعالى عليَّ بنعمة العلم، والفهم، والذكاء " فهو يتوب إلى الله تعالى ويستغفره من ذلك. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 4 خلق الإنسان مركبٌ من ثلاث المواعظ أيها الاخوة! هو الدرس الرابع والستون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في هذه الليلة ليلة الإثنين السابع والعشرين من شهر الله المحرم من سنة 1413هـ تأملت خلق الإنسان فوجدته مركباً من ثلاثة أشياء: الجزء: 105 ¦ الصفحة: 5 القلب مستودع المشاعر والأحاسيس الأمر الثاني: الذي ركب منه الإنسان: القلب، وهو مستودع المشاعر والأحاسيس، ومستقرها، فهو الذي يحب ويبغض، ويلين ويقسو، ويصح ويمرض، وهو مستودع المشاعر، فقد يتجه هذا القلب إلى مسلك حسن، فيكون فيه الإيمان، ومحبة الرحمن، والخشوع للقرآن، والإخبات إلى ذكر الله تعالى وطاعته والانقياد له. حينئذٍ يكون نعمّا هو، وقد يسترسل القلب وينحرف إلى شهوة حرام، شهوة في الملبس، فيلبس ما حرم الله تعالى عليه، حريراً، أو إسبالاً، أو ثوباً مغصوباً، أو أَُبَّهة، أو ثوب شهرة، أو يأكل ما حرم الله تعالى عليه، أو يشرب ما حرم الله تعالى عليه، أو ينكح ما حرم الله تعالى عليه، أو يسترسل إلى طلب شهرة يركض وراءها ويعشقها حتى تكون الشهرة هي معبوده على الحقيقة، يتكلم من أجلها ليقال: هو فصيح، ويسكت من أجلها ليقال: صاحب صمت، وفكر، وزهد، وعبادة! أو رياسة يسعى إليها، ويشرأب لطلبها! فيبذل لطلبها الغالي والنفيس، ويرتكب في سبيلها ما حرمه الله ودعا إليه إبليس. أو يكون معبوده المال، فمن أجله يحب ويباغض، ويقرب ويباعد، ويسهر الليالي الطوال، ويحب المال من حرام أو من حلال، فيحتاج القلب حينئذٍ إلى وعظ يوقفه عند حده، ويقمعه عن غيه، ليرعوي ويزدجر، فهذا هو العنصر الثاني. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 6 الجسم مطية يركبها العقل والقلب أما العنصر الثالث فهو الجسم: وهذا الجسم بأعضائه، وجوارحه، وقوته، هو مطية ذلول، يركبها العقل ويركبها القلب إلى ما يريدان، فإذا اقتنع العقل بشيء حرك إليه الجسم، وقال له: هلم إلى هذا المكان ففيه مصلحة لي في الدنيا أو في الآخرة، فيحرك الجسم إلى ما يرى، كأن يذهب الإنسان إلى إجراء عملية جراحية يعلم أنها مؤلمة، وأن فيها مشقة عليه، ولكنه يقتنع بعقله أن فيها مصلحة له، فالقلب يقول: أحجم، والعقل يقول: أقدم. وكذلك إذا اشتهى القلب شيئاً حرك الجسم إلى ما يشتهي ويريد، كأن يقصد الإنسان المحبوبات في هذه الدنيا، وهي كثيرة من الملاذ بالنسبة لأهل الدنيا، فهو يركض إلى ما يحب من مأكل، أو مطعم، أو مشرب، أو منكح، أو غير ذلك، ومثله أيضاً الإقبال على الطاعات عند أهل الآخرة، فإنك تجد أحدهم وهو يسعى إلى عبادة، أو طاعة، أو صوم، أو ذكر، أو طواف، أو حج، أو عمرة، أو جهاد، يركض إليها ركضاً يخشى أن تفوته، مع أنه يعلم أنه ربما كان فيها عطيه، ولكن قلبه آمن أن هذا الطريق مرضاة لله عز وجل فأقبل عليه وهو يقول: رضيت في حبك الأيام جائرة فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {كتب على ابن آدم حظه من الزنا، مدرك ذلك لا محالة، فالعين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش، والرجل تزني وزناها المشي، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} . فأنت ترى الآن أن مدار هذه الأشياء كلها على القلب، فإذا تمنى القلب نظرت العين، وأصغت الأذن، وامتدت اليد، ومشت القدم، ثم توقف الأمر على الفرج. {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] فإنه يقبل على شهواته لا يلوي على شئ، وهو يقول: عجل وتمتع بهذه الشهوات قبل الموت! أفق وصب الخمر أنعم بها واكشف خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبلما يصاغ دن الخمر من تربها هكذا يقول الفاجر!! {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات:37-38] {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات:40] فإنه وإن استرسل وراء نظرة خائنة، أو حركة عابثة، أو خطوة غير مدروسة، فإنه إذا جد الجد، وحزم الأمر، ووقف أمام الفاحشة الكبرى، تذكر وقوفه بين يدي الله عز وجل وتذكر نظر الله تبارك وتعالى إليه، فكف نفسه عن الهوى وأقلع. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: {والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} كان ذو الكفل كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، ومسند أحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح: {أن الكفل كان رجلاً مسرفاً على نفسه بالمعاصي، فأراد امرأة يوماً فأبت عليه، ثم أصابتها حاجة فجاءت إليه، وقالت: هلم على أن تعطيني حاجتي، فأعطاها مائة دينار، ثم قعد منها مقعد الرجل من امرأته، فارتعدت وبكت، فقال لها: ما يبكيكِ؟ قالت: هذا أمر ما فعلته قط، وإنما فعلته الآن للحاجة، فأقبل على نفسه يوبخها ويقول: أنا العبد الذي ما ترك معصية إلا ارتكبها لا أبكي، وهذه امرأة ما فعلت معصية قط تبكي لله عز وجل أنا أحق بالخوف منها، ثم قام من عندها معرضاً تائباً إلى الله عز وجل فمات من ساعته فأصبح مكتوباً على بابه (إن الله تعالى غفر للكفل) } . {والقلب يتمنى؛ والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} إذاً العين مطية، والأذن مطية، واليد مطية، والرجل مطية، والجسد كله مطية إلى ما يكون في هذا القلب من الأمنيات، والمطالب، والمقاصد، وما في هذا العقل من الأفكار، والقناعات، والآراء، هذا هو الجسم: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خُسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان إن قوة الإنسان، وإنسانيته، وفضله، ومكانته، ليست بقوة جسمه، فالفيل والبعير أقوى منه، وليست بكثرة أيامه ولياليه، وطول عمره، فإن النسر، والفيل، أطول عمراً منه، وليست بشدة بطشه، فالأسد والنمر أشد منه بطشاً، وليست بلباسه وزينته، وحسن هيئته، وجميل مظهره، فالطاووس وهو يختال، والدراج أحسن لوناً، وجسماً منه، ولا بقوته على النكاح، فالعصفور قالوا: أقوى منه، ولا بكثرة الذهب، والفضة، والأموال، فالمعادن والجبال أكثر ذهباً وفضة. لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان فهكذا عرفت أيها الأخ الكريم! فضل العقل، وفضل القلب، وأن الجسم خادم، والغريب أن بعض الناس كل همه أن يشبع، ويروي، وينعم جسمه بجميل الثياب، وجميل المناظر، وجميل المطاعم، وجميل المشارب! فهو كمن يعلف دابته ثم يتركها مربوطة، لا يستخدمها في أمر ينفعه في دنيا ولا في دين! كان بعض السلف يأكل حلوى، فأقبل عليه أحدهم فعاتبه في ذلك، وقال: كيف تتوسع وتترفه في هذا المأكل؟! فقال: أعلفها حتى أحمل عليها، يقول: أعلف نفسي الآن لأحمل عليها. فهو يتقوى بالطعام والشراب على ما يقربه إلى رب الأرباب. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 7 العقل غريزة تدرك بها الأشياء الأول: العقل، وهو غريزة يدرك بها الإنسان الأشياء، فيعرف بها الخطأ والصواب، والحق والباطل، والصحيح من غيره، وهو يميز الإنسان عن الحيوان، وبه امتن الله على العبد، ومع ذلك فإن هذا العقل قد يشطح أحياناً، ويتعدى حده إلى ما لا يحل ولا يجوز. فالعقل: نعمة أنعم بها الله تعالى على الإنسان، ومن الأشياء التي قد يشطح إليها العقل مثلاً، أنه يفكر فيما لا يحل له، فيسترسل في النظر في أمور الغيب، كالتفكر في ذات الله عز وجل مع أن العبد لا يحيط بالله تعالى علماً، قال الله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:10] وقال سبحانه: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255] . فالعقل عاجز عن إدراك حقيقة أسماء الله تعالى، وصفاته، أو معرفة كنهها، وكنه ذاته كما قيل: العجز عن دراك الإدراك إدراكُ والبحث في ذاته كفر وإشراكُ ومثله التفكير في أمور الغيبيات التي لا يحيط بها الإنسان، بل يضيع العمر فيها في غير طائل وفي غير جدوى، بل هو باب يجر الإنسان إلى الضلال. ومثله أيضاً أن العقل قد ينجر أحياناً إلى الشبهات التي تطرأ عليه، شبهة في أمر الإيمان بالله عز وجل، شبهة في أمر القضاء والقدر، وكيف كلفنا الله -تعالى- العمل والعبادة مع أنه قضى علينا، وقدر، وكتب؟ {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فيظل العقل غاصاً بهذه الشبهة، قلقاً فيها، ينام عليها، ويصحو عليها، وهي تسير معه حيث سار فيتعكر الصفاء، وتكثر الهموم، حتى لا يكاد الإنسان يطمع في الفكاك من هذه الشبهات، وقد يستمر العقل أحياناً في بحث مسائل ليس لها أهمية دينية أو دنيوية، فليس فيها سوى ضياع التفكير، ككثير من مباحث الفلاسفة الذين يضيعون الأعمار فيها، ثم يكون نهاية أحدهم كما يقول: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلالُ وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبالُ ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا فهي علوم وأبحاث لا تقرب من الله عز وجل ولا تقرب إلى الجنة، ولا تباعد عن النار، ولا تنفع في الدنيا، فليست من العلم الذي ينتفع به الإنسان في دنياه، تيسيراً للسفر مثلاً، أو تيسيراً للاتصال، أو تيسيراً لعلم، أو تيسيراً للعمل، أو تيسيراً للعبادة، لا هذا ولا ذاك، وإنما هي من فضول العلم الذي لا ينفع في دنيا ولا في دين. فيحتاج العقل حينئذٍ إلى وعظ يردعه، ويعالجه، ويقمعه، ويوقفه عند حده، فيقول له: قف لا تتعدى هذه الحدود التي حدها الله تعالى لك، فلا تغتر أيها العقل بقوتك وأنت الصغير، بل اشتغل فيما شرع الله تعالى لك، وفيما تعبدك فيه، ودع عنك ما سوى ذلك. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 8 العقل والقلب قابلان للطغيان أيها الإخوة العقل، والقلب، والجسم تبع لهما، قابلان للطغيان والانحراف -كما أشرت- ومن حكمة الله عز وجل أن خلق الإنسان وابتلاه، فجعل أمامه طريق الخير والشر، فقال عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] فلاحظ هذه الآية: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2] حكمة الخلق الابتلاء، (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً) فالعين ترى، والأذن تسمع، فإذا رأت العين، أو سمعت الأذن أرسلت إلى القلب، والى العقل، فتأثر القلب بما يرى وبما يسمع. ثم قال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] من الناس من ينظر فيكون نظره طاعة، ومنهم من يكون نظره معصية، جعل الله -تعالى- في الكون أموراً متقابلة فأنت ترى في الدنيا كلها مغريات تحرك القلب إلى المعصية، الصورة الجميلة، والصوت العذب، والملذة العاجلة، التي ينهمك فيها صاحب النظر القصير، كلها من المغريات، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات} وفي لفظ: {حجبت} . الجزء: 105 ¦ الصفحة: 9 أبواب الشبهات تفتح أمام العقل أما العقل فقد فتحت أمامه أبواب الشبهات، وصارت الدنيا مليئة بالمذاهب الفلسفية، والنظريات التي يسمونها أحياناً نظريات علمية، والفرضيات، والاحتمالات الظنية، والدراسات والبحوث المنمقة بجميل الألفاظ، وحسن الترتيب، والتبويب، وحسن الاستدلال أحياناً، والتي سرقت من الناس طمأنينة إيمانهم، وهدوء قلوبهم، وسلامة فطرتهم، وجعلت الكثيرين منهم في أمر مريج! الجزء: 105 ¦ الصفحة: 10 أبواب الشهوات تفتح أمام القلب الدنيا مليئة بالشهوات التي يتخطاها العبد، فإذا تخطى شهوة وقع أمام ناظريه أخرى، قال بعض السلف: [[الكفر في أربعة أشياء: في الغضب، والشهوة، والرغبة، والرهبة، ثم قال: وقد رأيت منها اثنتين، رأيت رجلاً غضب فقتل أمه، ورأيت رجلاً عشق فتنصر]] هذا أثر الغضب، وهذا أثر الرغبة في القلب، ومثله الرغبة والشهوة، فإنها تجر إلى أشد من ذلك. قال الله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً} [الإنسان:11-12] قال بعض المفسرين: بما صبروا عن الشهوات. الشهوة لم تتبرج مثلما تبرجت في هذا العصر، فأصبحت تَرَى في المكتبة أعداداً غفيرة من المجلات، التي تتاجر بصورة المرأة الجميلة، وهي في عز شبابها، وقد قدمت لها الصورة الملونة التي إذا رآها الشاب المراهق افتتن بها وتأثر، فأغلقت عليه منافذ التفكير، وغاب العقل، وحضر الهوى والشهوة، فأصبح الإنسان ينظر ويتملى، ثم قد يجره ذلك إلى ما بعده. الأفلام الخليعة الماجنة التي أصبحت ليست صورة جامدة أمام الإنسان، بل صورة متحركة! كأنها تحكي الواقع بكل تفاصيله، وهي تقول للإنسان: هيت لك! يختارون لها أجمل النساء وفي أبهى الثياب، وبحركات خليعة تنخلع لها قلوب ضعاف النفوس وقصار النظر، ثم معها الأصوات العذبة، الجميلة، المؤثرة، ومعها الكلمات الهامسة المحركة لساكن الشهوة، وأصبحت هذه الأشياء في عرف الكثيرين مما لا ينكر! فأنت إذا قلت: هذا فيلم خليع، ترامى إلى نظر البعض الأفلام المتعلقة بالرذيلة العارية، وتصوروا أن الأفلام المسموحة المباحة قانوناً ونظاماً ليست داخلة في هذا الباب، ولا أدري أي شئ بقي بعد أن عرض الرجل والمرأة على سرير واحد، وعرضت المرأة ليس عليها ما يسترها أو يغطيها، إلا ما يستر سوءتها فحسب؟! وربما تلبس ما يزيدها إثارة، وحسناً، وجمالاً! وماذا بقي بعدما أصبح الرجل يتحدث إلى المرأة، كما يتحدث الرجل إلى زوجته وهما في المخدع؟! فكل ذلك مما سلط على الإنسان لاستثارت كوامنه، وليتحقق فيه معنى الابتلاء {مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2] {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا ً) [الملك:2] . وأشد من ذلك البث المباشر الذي تحدثت عنه سابقاً، وتحدث عنه غيري، وهو الآن يقرع نواقيس الخطر على أبواب المسلمين، فيتلفت الناس ويصابون بما يصابون به، فهاهنا نقول لهم: كل ما يقضيه الله تعالى ويقدره للمؤمنين فهو خير، دع الناس يتمحصون، ويتمحضون، ويتبين منهم الصادق من الكاذب، والمؤمن من الفاجر، والتقي الورع من المقبل على المعاصي، لا ينكف عنها إلا خوفاً منها، أو عجزاً عنها. انظر إلى الجمال الذي ظهر في هذا العصر كما لم يظهر من قبل، الرذيلة التي تيسرت زماناً ومكاناً، حتى أصبحنا نجد الإعلانات عن السفريات والتسهيلات للشباب في الصحف صباح مساء، وهي تدعوهم إلى قضاء أوقات إجازاتهم في أماكن الفساد، وفي الفنادق، وفي المخيمات، والمعسكرات، بل وتتيح لهم في بلادهم من ذلك ما لم يكن متاحاً لهم من قبل، وتعلن لهم التيسير، والتسهيل، والتخفيض وغيره! انظر إلى الأصوات، انظر إلى المآكل المحرمة اليوم، وقد أصبحت في متناول الإنسان في بيته، وسوقه، والمتجر، وفي كل مكان! انظر المشارب المحرمة، والمناظر المغرية، إلى غير ذلك مما تبرجت به الشهوة في هذا العصر، كما لم تتبرج من قبل، وأصبحت سهاماً موجهة إلى قلوب الناس، هذه الأشياء كلها تخاطب القلب، وتهز الوجدان، وتحاول أن تزلزل وتزعزع الإيمان فيه. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 11 أسباب الهداية والفلاح وأمام هذا وذاك تحركت العقول إلى الشبهات، وتحركت القلوب إلى الشهوات، فيتساءل الإنسان ماذا يكافئ هذا وذاك؟! فنقول: يكافئهما مواعظ الله تعالى لابن آدم، فالله تعالى لا يظلم أحداً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] والذي وضع وخلق هذه المغريات، وضع بإزائها أسباب الهداية والفلاح، وهي كثيرة: الجزء: 105 ¦ الصفحة: 12 موعظة الحوادث الموعظة الخامسة الحوادث: وما جبلت عليه هذه الدنيا من التقلب والتغير، سواء للأفراد، أو للأمم، للجماعات من الأحياء، أو من الأموات، والسعيد فيها من وُعِظ بغيره، والشقي من وُعِظ به غيره، الشقي من شقي في بطن أمه. حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرارِ ما إن يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبارِ جبلت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدارِ ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نارِ وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هارِ فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفراً من الأسفارِ وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنهن عوارِ وقد نادت الدنيا على الناس بأعلى صوتها، وهي تقول كما قيل: هي الدنيا تقول بملء فيها حذارِ حذارِ من بطشي وفتكي فلا يغرركم مني ابتسام فقولي مضحك والفعل مبكي هل تنتظر أن تنزل بك المصيبة لتعتبر؟! في أي قرن أنت؟! ومن أي جيل؟! الأرض الذي وطئتها ماذا تقول لك؟! لو سمعتها لوجدتها تقول:- صاحِ هذي قبورنا تملء الرحب فأين القبور من عهد عادِ خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ رُبَّ قبر قد صار قبراً مراراً ضاحك من تزاحم الأضدادِ ودفين على بقايا دفينٍ في خفايا الأحقاب والآمادِ هؤلاء الأغنياء افتقروا الشرفاء اتضعوا، الملوك ماتوا، أو قتلوا، أو طردوا، أين فرعون؟! أين هامان؟! أين قارون؟! أين النمرود؟ أين أبو جهل؟! أين ماركس؟ أين لينين؟! أين تيتو؟ 1 أين جمال عبد الناصر؟! أين السادات؟! أين بوظياف؟! أين فلان؟! أين فلان؟! طحنتهم الدنيا فأصبحوا كأن لم يكونوا. آيات الله تعالى في الكون وفي النفس {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:185] وفي الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في آخر الليل إلى شِنٍ معلقة فتوضأ، ثم قرأ قول الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَاب * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190-191] } . وفي بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر} وفي هذا العصر تفتق العلم عن إنجازات كشوفات عظيمة، حيث ارتاد آفاق الكون، والنفس، وأصبح بمقدور الإنسان أن يعرف الكثير الكثير من بديع صنع الله عز وجل، فليستفد الإنسان من هذا ويعتبر به ليكون سبباً واصلاً إلى الله عز وجل ليس في الإيمان بوجوده فحسب، بل بالإيمان بوجوده، وفي معرفته بأفعاله جل وعلا وفي تعظيمه، وفي التقرب إليه بالطاعات. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 13 ذكر الموت ثالث هذه المواعظ: هو ذكر الموت، وما بعده من العذاب أو النعيم في القبر، في سنن النسائي وغيره يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} أي: الموت، فإنه يقطع اللذات عن الإنسان، والغريب في أمر الموت أن لا أحد ينكره، حتى الكفار يصرحون، ويقولون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [المؤمنون:82] فهم يتصورون الموت، ويتصورون أنفسهم في القبور، وقد حالوا إلى التراب، ولعبت الديدان بأجسادهم، ولكنهم مع ذلك يصرون على ما هم عليه. الغريب في الأمر أن الجميع يؤمنون به، ولكن قال: من يضعه نصب عينيه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، عند أحمد وأصحاب السنن، من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع -وذكر منها - ويؤمن بالموت} والمقصود حينئذٍ أن يتحول اقتناعك العقلي، بأن الموت قادم إليك، أن يتحول إلى شعور قلبي، يدفعك إلى الطاعة، ويردعك عن المعصية. قال بعض أهل العلم: أي عيش يطيب وليس للموت طبيب، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[كفى بالموت واعظاً، وكفا باليقين غنى، وكفى بالعبادة شغلاً]] وقال الحسن البصري: [[ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت على غفلتهم عنه، ولا رأيت صدقاً أشبه بالكذب من حب الناس الجنة مع تركهم لعملها]] . 1- حال السلف مع الموت: كان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أميراً مرفهاً، حسن البزة، حسن الثياب، فلما ولي الخلافة وكان ذا نفس طموحة، طمح إلى الجنة فجعل الدنيا تحت قدميه، وأقبل على الآخرة، فكان يكثر من ذكر الموت، فإذا نظر إلى جسمه قال: " فكيف رأيته بعد ثلاث حينما يوسد في قبره " فعرف الناس منه ذلك، فلما كان يجول في الأمصار حضر بعض الشعراء، وكان من عادة الشعراء إذا وقفوا أمام الأمراء أن يشتغلوا بالمديح، والثناء، والقيل، والقال، ولكن عمر رضي الله عنه أنشأ مدرسة للشعراء تهتم بذكر الموت والآخرة، فوقف أمامه أحدهم يقول: وبينما المرء أمسى ناعماً جَذِلا في أهله معجباً بالعيش ذا أنقِ غراً أُتيح له من حينه عرضٌ فما تلبث حتى مات كالصعقِ ثمة أضحى ضحاً من غب ثالثة مقنعاً غير ذي روح ولا رمقِ يبكى عليه وأدنوه لمظلمة تغشى جوانبها بالترب والفلقِ فما تزودَّ مما كان يجمعه إلا حنوطاً وما واروه من خرقِ وغير نفحة أعواد تُشبُّ له وقل ذلك من زادِ لمنطلقِ فبكى عمر رضي الله عنه حتى أخضلت لحيته. ومما يذكر بالموت مشاهدة المحتضرين، فأنت حين ترى الإنسان وهو يحتضر، فتتجمد أطرافه، وتشخص عيناه، وتتجمد حركته، فإنك ترى أمراً رعيباً، كان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول -وهذا الأثر عند الحاكم وغيره وهو صحيح- قال: [[وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا خبر الموت وكيف يكون! فلما حضره الموت قال له ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص: يا أبتِ! إنك كنت وأنت صحيح شحيح تقول: وددت أن بعض المحتضرين يخبروننا خبر الموت، فها أنت الآن محتضر فهلا أخبرتنا، فقال له: يا بني! إن أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأقربه لك، أحس كأن جبل رضوى على عنقي شيء ثقيل، وأحس كأن جوفي يشاك بالسلاح، تختلف فيه الرماح والسيوف، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ثم أقبل على الجدار يبكي -وهذا القدر الذي سأسوقه في صحيح مسلم- فقال له ابنه عبد الله: يا أبتِ ما يبكيك؟! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟! فما زال به حتى أقبل عليه، فقال له: إني كنت على أطباقٍ ثلاث: كنت وأنا في الجاهلية لا أحد عندي أبغض من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو استمكنت منه حينئذٍ لقتلته، ولو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار، ثم وضع الله الإسلام في قلبي فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: ابسط يدك أبايعك، فبسط يده، فقال: فقبضت يدي، فقال يا عمرو! بايع، قلت: يا رسول الله! أريد أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟! قلت: أشترط أن يغفر لي، قال: بايع، أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الحج يهدم ما قبله، قال: فبسطت يدي فبايعته، قال: فقذف الله حبه في قلبي حتى إني كنت لا أستطيع أن أملء عيني منه -كما في بعض الروايات- إجلالاً له صلى الله عليه وسلم، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها! فإذا أنا مت فلا تصحبوني بنائحة، فإذا وضعتموني في قبري فانتظروا عند قبري، قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي]] . 2- زيارة القبور: ومما يذكر بالموت زيارة القبور، وفي الصحيح: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزورها فإنها تذكر بالآخرة} أتيت القبور فناديتها فأين المعظم والمحتقَرْ وأين المدل بسلطانه وأين العظيم إذا ما افتخرْ تفانوا جميعاً فلا مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر هذه القبور وإن كانت ساكنة إلا أنها ناطقة تقول: في داخلي الأكابر، والعظماء، والملوك، والزعماء، والعلماء، والتجار، والفجار، كلهم سواء! قبور مسنمة، لكن داخلها يختلف، فهذا روضة من رياض الجنة، وذاك حفرة من حفر النار، ولا أنيس فيه إلا العمل الصالح. 3- ملاحظات في ذكر الموت: وينبغي في موضوع ذكر الموت أن يفطن الإنسان لأمور: أولاً: أن مجرد ذكر الموت لا يكفي، بل ينبغي أن يكون ذكره واعظاً يدفعك إلى العمل الصالح. ثانياً: الزيادة في ذكر الموت، والمبالغة في ذلك، حتى يقعد الإنسان عن العمل لا ينبغي، بل يكون الإنسان في ذلك معتدلاً، ويكون ذكره للموت لمناسبة، أي يربط ذكر الموت بأمور الدين والشريعة، فيذكر الناس بالموت ثم يحثهم على عمل الصالحات، أو يذكرهم بالموت، ثم ينهاهم عن المعاصي والموبقات، أما مجرد النياحة على النفس، والبكاء على الذات، والصياح على ما سوف يصيبه، وكثرة توصيف أحوال المحتضرين مثلاً، وتوصيف أحوال الموتى، وما يصيبهم في القبور، وما تكون إليه هذه الأجساد بعد البلى، وبعد أن تلعب بها الديدان، إلى غير ذلك، فهذا وحده لا يكفي، لأن هذا القدر مشترك. ومما يُحْكَى أن رجلاً من التجار أصابته قرحة في جسده، حتى كدرت عليه عيشه، فبحث عن أطباء فلم يجد، فذكر له طبيب في الهند -ذكر هذه القصة الحميدي - فذهب إليه فوجد هذا الطبيب نحيفاً منجعفاً على سريره، فقال: أنت الطبيب! فقال: نعم. ما بك؟ قال: بي هذه القرحة التي قد آذتني، وأسهرتني، وشوهت صورتي، فأريد أن تعالجها، قال: بماذا؟ قال: بما شئت، قال: بنصف مالك، قال: نعم، فأعطاه نصف ماله على أن يعالج هذه القرحة، فما زال هذا الطبيب به يعالجه حتى شفيت هذه القرحة، فذهب التاجر ينظر وجهه في المرآة فوجد القرحة قد زالت، ولكن بقي أثرها سواداً يشوه صورته، فرجع إلى الطبيب، فقال: لازال السواد باقياً، قال: ما على هذا قاولتك، ولكن قاولتك أن يزول الألم وقد زال بالكلية، فما زال يكلمه حتى اتفق معه على أن يزيل أثر القرحة بالنصف الثاني من ماله! فعالجه الطبيب حتى زال أثر هذه القرحة، فلم يبق معه مال، ثم قال له الطبيب: إنني لم أرد مالك، فأنا أزهد الناس به، وأغنى الناس عنه، وهاأنت تراني ما براني، وأضعف جسدي، إلا كثرة التأمل والتفكير في أمر هذه الدنيا وما بها، ولكنني أردت أن أعرف قدر نفسك عندك وقدر مالك، فقد عرفت أن نفسك أغلى عليك من مالك، قال: نعم، قال: فمن أي دين أنت؟ قال: من دين الإسلام، قال: وما دين الإسلام؟ فذكر له الإسلام، وأن المؤمنين والمسلمين يؤمنون بالدار الآخرة، والبعث بعد الموت، إلى غير ذلك، فتعجب هذا الرجل منه! وقال: إنني وأنا رجل لا أؤمن بهذا، أعجب ممن يبالغون في جمع الأموال! ويقبلون على الدنيا، ويجعلونها مرادهم وهمهم! فكيف وأنت تؤمن بدار الآخرة غير هذه الدنيا تشتغل بمثل ذاك؟! فرجع الرجل متعظا مزدجراً. المقصود: أن الإيمان بالموت، وتذكر ما يصيب الميت، هذا أمر مشترك بين جميع أمم الدنيا، ولا يكفي، بل بالنسبة للمسلم ينبغي أن يربطه بأمر الدين، والتوحيد، والدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله فيكون الموت مثلاً سبباً في إقباله على الجهاد، وقتاله للكفار، لا يخاف لأنه يرى أن الموت آتٍ لا محالة، وأن بعد الموت بعثاً. ولهذا قال بعض السلف: [[إن الله تعالى لم يخلق الخلق للفناء، وإنما خلقهم للبقاء، وإنما هم ينتقلون من دار الضيق إلى دار السعة]] فيجب أن يكون ذكر الموت سبباً للإنجاز، لا سبباً للقعود، لا معنى أن يقول الإنسان: الموت آتٍ ولهذا أقعد عن طلب الرزق، لا اطلب الرزق وتاجر، وإذا اغتنيت، وأكثر الله أموالك، فانفقها في سبيل الله. ولا معنى أن يقعد الإنسان عن طلب العلم ويقول: الموت آتٍ، لا، اطلب العلم، وتعلم، وعلم، واعمل حتى تدعى كبيراً في ملكوت السماوات، أما مجرد النياحة على النفس فهذا لا ينفع. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 14 موعظة القرآن الرابع من المواعظ: موعظة القرآن. وهو كلام الله عز وجل الذي {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] والعجب في أمر الناس أن الإنسان ربما سمع كلام واعظ، أو داعٍ، أو قارئ، أو منشدٍ فانهلت دموعه! وربما يسمع كلام الله عز وجل فلا يحرك منه ساكناً! وربما يسمع أبياتاً من الشعر فتعجبه فيحفظها، ويطلب إعادتها، ويسمع القرآن فلا يهتز له وجدان! قال هارون الرشيد لـ ابن السماك وهو زاهد، واعظ، مشهور، قال: عظني، قال له: " كفى بالقرآن واعظاً، والله تعالى يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6-9] ". فوعظه بموعظة قرآنية تناسب ما هو عليه، لأنه كان خليفة، فذكره بأحوال أهل التمكين والرياسة من قبله، وكيف صارت أمورهم إلى ما صارت إليه! ولهذا فالقرآن موعظة للجميع، هو موعظة للملوك، وبأحوال ما كان عليه الملوك من قبل، وما آلوا وصاروا إليه، وموعظة للسوقة، وموعظة للعلماء والجهال، وللأغنياء والفقراء، وللمُفْرِطِين والمفَرِّطِين، وللرجال والنساء، فهو جماع الخير، وأُسّه وأوله وآخره، وعلى طالب الهدى أن يقبل على القرآن الكريم فهو حبل الله الممدود، الذي من تمسك به نجا ووصل، ومن تركه هلك وانقطع. يسأل كثيرون يقولون: نسمع المواعظ فما علاج فساد قلوبنا؟! يبدو أن أعظم هدية يمكن تقدم لهم أن يقال: اجعلوا للقرآن حظاً من أوقاتكم بمفردكم، وأقبلوا على القرآن، ورددوا آياته، وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 15 ذكر الجنة والنار ومن المواعظ لله تعالى في قلب ابن آدم ذكر الجنة والنار، فإنهما المصير والقرار، قال الله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] من شاء آمن ومن شاء كفر، ولكن عليه أن يعلم أن هذا الاختيار، وهذا القرار، له ما بعده، ولهذا أعقب بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:29] ثم قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف:30-31] . نعم، إليك الاختيار، ولكنه اختيار أنت مسئول عن عواقبه، وليست المسألة صفقة تجارية، غايتها أن تخسر شيئاً من المال، ولا المسألة مغامرة يمكن أن تموت فيها، لا، بل هي الجنة أبداً، أو النار أبداً ربح النفس أو خسارتها، وأي خسارة أعظم من أن يخسر الإنسان نفسه التي بين جنبيه! قال تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى:45] . وعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أوقد على النار ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة} رواه مالك والترمذي وغيرهم، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال والحديث في مسلم: {يؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد بسبعين ألف زمام مع كل زمام سبعين ألف ملك يجرونها} . أي: جسم يتحمل هذا العذاب الشديد! هذا الجسم الرخو، اللين، الغض النظيف، الذي تحاذر منه النسمة الحارة، الألم البسيط، لا طاقة له بمقاساة أهوال النار والسعير، تقول: هذا حديث قد يصح وقد لا يصح، أقول لك: هو حديث صحيح، وفي القرآن {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} [فاطر:36-37] تسمع هذه الآية كأنك تسمع أصوات تضاغيهم في النار: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً} [الإنسان:4] . وبالمقابل الاختيار الآخر عاقبته الجنة، أدنى أهل الجنة منزلة -كما في الصحيح- من له الدنيا وعشرة أمثال الدنيا، فإن لك الدنيا وعشرة أمثالها: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر:33-35] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان:56] نعيم، وحرير، وصحاف، ودر، ونعيم ما تجلى لقلب بشري، أو دنا منه فكر! من الناس من يذكر الجنة ومن يذكر النار، ولكنه يذكرها ليبكي فقط، فإذا ذكرت النار بكى وأعول، وتعوذ بالله منها، وإذا ذكرت الجنة بكى وسأل الله تعالى الجنة، ولاشك أن هذا وذاك مشروع، فإن الله تعالى ذكر النار لنتعوذ منها، وذكر الجنة لتسألها كما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من النار، ولما قال الأعرابي: {يا رسول الله إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ! ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: حولهما ندندن} فهو يسأل الله تعالى الجنة ويعوذ به من النار. ولكن تأمل في منهج القرآن في ذكر الجنة والنار، تجد أن ذكر الجنة والنار غالباً يكون في سياق الأوامر والنواهي، فيذكر الأمر ثم يتوعد على تركه، ويذكر النهي ثم يتوعد على فعله، فيعد المؤمنين ويوعد المخالفين، وينبغي للعبد أن يدرك أن ذكره للجنة والنار ينبغي أن يكون كذلك، فلا معنى لأن تبكي عند ذكر الجنة والنار وأنت ترابي، أو تبكي وأنت تسرق، وتظلم، وتكذب، فأي شيء في هذا! إذا لم يكن ذكر الجنة والنار واعظاً يردعك عن المعصية، ويحثك على الطاعة، فأي معنى لحقيقة الإيمان في قلبك إذاً، نعم نحن لا نحجر واسعاً، رحمة الله تعالى واسعة، والأمر كما قيل: ولا يرهب ابن العم والجار سطوتي ولا أنثني عن صولة المتهددِ وإني وإن أوعدته أو وعدته لمنجز إيعادي ومخلف موعدي فإن الله تعالى قد يعفو عن الذنب، لكن ما الذي أدراك أنك ممن عفا الله تعالى عنهم؟! ما الذي يؤملك أن تكون ممن أخذهم الله تعالى بذنوبهم؟! إما لأنك تهاونت بالذنب، أو لأنك أصررت عليه، أو لأنك كنت بموقع لم يكن منك مقبولاً بحال، أو لغير ذلك من الأعمال، أو لأنه ليس لديك أعمال صالحة تكافئك، ما الذي يؤملك أن يختم الله تعالى لك بخاتمة سوء، على معصية فعلتها، أسررت بها أو أعلنت؟! الجزء: 105 ¦ الصفحة: 16 معرفة الله عز وجل أولها وأعظمها: معرفة الله -جل وعلا- فكيف يعصي الله تعالى من عرفه وهو يعلم أنه مطلع عليه؟! كيف يخالف أمره وهو يتقلب في نعمته؟! كيف يخالفه إلى معصيته وهو يعلم أنه صائر إليه واقف بين يديه؟! فيا عجباً كيف يعصى الإله؟! أم كيف يجحده الجاحدُ؟! ولله في كل تحريكةٍ وفي كل تسكينةٍ شاهدُ وفي كل شيء له آيةٌ تدل على أنه الواحدُ أسماؤه تعالى، وصفاته، وأفعاله، منها ما يوجب الخوف منه فهو الجبار، المنتقم، القوي، العزيز، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فيتذكر العبد أن الله -تعالى- شديد العقاب، جبار يأخذ من عصاه أخذ عزيز مقتدر. ومن أسمائه، وصفاته، وأفعاله، ما يوجب الرجاء فيما عنده، فهو سبحانه الرحمن الرحيم، وتعرف إلى عباده بذلك، فالمسلم يقول في كل مناسبة: بسم الله الرحمن الرحيم، وهو الغفور الودود، فلا ييأس من رحمة الله تعالى قط {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] . ومن أسمائه، وأفعاله، وصفاته، ما يوجب محبته لإحسانه إلى خلقه، وتعطفه، وتحننه إليهم، وحلمه وصفحه عنهم، وعدم معاجلته لهم بالعقوبة، بل هو سبحانه ينزل عليهم من الخير، والبر، والعطاء، في الوقت الذي ترتفع إليه سبحانه منهم المعاصي والذنوب! ولهذا جاء في الحديث القدسي: {إني والأنس والجن لفي نبأ عجيب أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي! خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد} . فإذا عرف الإنسان ربه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله؛ اجتمع في قلبه محبة الله تعالى فلا مكان في قلبه للعشق الحرام، وخوفه سبحانه! فلا مكان في قلبه لخوف غير الله، ولا مكان في قلبه للمعاصي الكبار، وهو يخاف الله تعالى، واجتمع في قلبه الرجاء فيما عنده، فلا ينقطع حبل رجائه بربه، فيجتمع الحب والخوف والرجاء، ولهذا قال بعض السلف: [[من عَبَدَ الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله تعالى بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله تعالى بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله تعالى بالحب والرجاء والخوف فهو مؤمن موحد]] . ليس العجب من الكافر الذي لا يعرف الله تعالى أن يعصيه، بل العجب كل العجب من المؤمن العارف بربه الذي يقرأ في القرآن أسماء الله تعالى، وصفاته، ويردد صباح مساء قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر:22-24] ثم يخالف إلى معصية الله تعالى! 1- لماذا الحق نتركه والباطل نفعله؟ سأل بعضهم: لماذا اعتقادنا صحيح، وفعلنا بطئ؟! نعرف الحق ونتركه، ونعرف الباطل ونفعله؟ فأجاب بعض أهل العلم أن ذلك لثلاثة أسباب: أولها: رؤية الهوى العاجل، والشهوة الحاضرة، فإنها تطغى على القلب حتى تشغل الفكر عن التفكير فيما يجنيه الفعل من العواقب الوخيمة. الثاني: التسويف بالتوبة، ولهذا قال بعض السلف: [[أنذرتكم سوف]] سوف أقوم، سوف أعمل، سوف أصوم، قال الله تعالى: {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد:14] التمني: الأمل {يكبر ابن آدم، أو يشب ابن آدم، وتشب معه خصلتان، حب الدنيا، وطول الأمل} . يريد الفتى طول السلامة جاهداً فكيف يرى طول السلامة يفعل التسويف: وما حال المسوف إلا كحال إنسان خرج وهو في سن الأربعين من بيته إلى المسجد، فوجد في الطريق شجرة، فقال: أقطعها لأزيلها عن طريق الناس، فحاول فوجدها صعبة، فتركها، وقال: أعود إليها غداً، ونسي هذا الإنسان أنه إذا عاد إليها غداً سيجد أن قوته قد ضعفت، وأن الشجرة زادت قوة، ورسوخاً، وعمقاً في التربة. فهكذا المعصية إذا تركتها اليوم ولم تتب منها الآن، وقلت: أتوب غداً؛ فأنت غداً إيمانك يضعف، والمعصية تترسخ وتتعمق في قلبك، ويعز عليك تركها. السبب الثالث: رجاء الرحمة: فنجد العاصي يقول: ربي رحيم، وينسى أنه شديد العقاب، وأن عذابه غير مأمون، فإنه سبحانه وتعالى شرع قطع اليد الشريفة في خمسة قراريط، فما يؤملك أن يعذبك غداً في الدار الآخرة! تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درك الجنان بها وفوز العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنب واحدِ المسرف على نفسه يقول: ينبغي أن يذكر وهو يقول: ربي غفور رحيم بقول الله تعالى {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] وقول الله عز وجل عن الصالحين الصادقين أنهم كانوا يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10] وقولهم: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] يعني خائفين من عذابه عز وجل، وجلين من عقوبته، وقوله سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27-28] . فلمن خلقت النار؟ ولمن نصب الصراط؟ إن من خاف في الدنيا أمن في الآخرة، ومن أمن في الدنيا خشي عليه أن يطول خوفه يوم الحساب، ولهذا جاء في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر منهم- رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله} {وأَمَا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] . 2- معنى إحصاء أسماء الله تعالى: من الناس من قد يعرف أسماء الله عز وجل فلو طلبت منه أن يعدها عليك لعدها، ولا ينكر شيئاً منها، ولكنها لا تؤثر في حياته، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} وقد جاء عَدُّ هذه الأسماء في حديث عند الترمذي وغيره، ولكنه ليس بقوي، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة} ليس المقصود من عدها فقط، فإن الإنسان قد يحفظ القرآن، وقد يحفظ أسماء الله الحسنى، ومع ذلك كم قارئ للقرآن والقرآن يلعنه! ولكن المقصود بإحصائها أمر وراء ذلك، فمن إحصاء أسماء الله -تعالى- أن يحفظها ويعرفها، ومن إحصاء هذه الأسماء أن يعرف معانيها، فلو قلنا له: ما معنى القدوس؟ ما معنى السلام؟ ما معنى المؤمن؟ ما معنى المتكبر؟ ما معنى المهيمن؟ لعرف. ومن إحصائها أن يؤمن بذلك إيماناً حقيقياً لا تحريف فيه، ولا تعطيل، ولا تغيير، ولا تبديل، ومن إحصائها أن يستحضرها في قلبه، وخاصة عند الطمع، والرغبة، أو الرهبة، أو عند الطاعة، أو المعصية فيستحضرها عند الطاعة ليقبل عليها، ويستحضرها عند المعصية فينكف عنها. ومن إحصاء أسماء الله تعالى أن يدعو الله تعالى بها: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] فيقول يا رحيم! ارحمني، يا غفور! اغفر ليَ، وهكذا. هذا وإن كان ينبغي أن لا يدعو إلا بما ثبت من الأسماء. هذا واعظ الله عز وجل في قلب ابن آدم، فكيف يعصي الله من لله تعالى في قلبه تعظيم؟! وكيف يقصر في طاعته من يعلم أن الله تعالى يسمع ويرى؟! ولهذا قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:217-219] فإذا تذكر العبد أن الله تعالى يراه {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] . إذا تذكر أن الله تعالى يراه في الطاعة صبر عليها، وعند المعصية أعرض عنها، وعند الابتلاء صبر طمعاً في رضوان الله جل وعلا، وأنت ترى الإنسان في هذه الدنيا لو كان يعاني أمراً من أمور الدنيا في وظيفة أو عمل، ثم وجد أن الرئيس ينظر إليه، وهو يتعب في هذا العمل، يحصل في قلبه فرح، وطرب، وانتعاش، ويحصل في نفسه سعادة أن الرئيس، وهو بشر مثله، اطلع عليه وهو يعاني أمراً من الأمور، ولو أن موظفاً عرضت عليه رشوة فرفضها، ثم اطلع عليه رئيسه على هذا الأمر، وعلم به لأصابه من السرور، والنعيم، والحبور شئ كثير، فكيف بالعبد إذا علم أن الله تعالى يراه والمعصية تناديه، وينكف عنها، ويقول: إنني أريد ما أريد لله تعالى؟ الجزء: 105 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة . الجزء: 105 ¦ الصفحة: 18 حكم استقدام اللاعبين الأجانب السؤال موضوع استقدام اللاعب الأجنبي الذي ربما يكون غير مسلم، وما يسمى بالاحتراف حيث أن قلة من المشايخ الذين أشاروا إلى ذلك، مع أني أعتقد أن هذا الأمر من الأمور الخطيرة على الشباب؟ الجواب كنت في الواقع تحدثت عن هذا الموضوع في المجلس السابق، لكن ربما كان في آخر الحديث فلم يصبه قدر كافي، وأحيل الأخ بالرجوع إلى ذلك الموضوع، وأيضاً لعل هذا الموضوع يكون مجالاً لأن يتناوله بعض الإخوة من الخطباء، وطلبة العلم، لعله أن يتم إعادة النظر في هذا القرار، كما تم من قبل إلغاء تلك الدورة التي أقامتها رعاية الشباب، واستضافت بها رجلاً مشهوراً منصراً يسمى بوب شارتول للإشراف على أطفال المسلمين من سن الثانية عشر إلى الثامنة عشر أو قريباً من ذلك، فلعله أن يحدث هنا كما حدث هناك، بفضل الله ثم بفضل جهود المخلصين الذين يبذلون ما يستطيعون في هذا السبيل. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 19 إلى الغارقين في النوم السؤال كثيرٌ من الشباب يمضون أوقاتهم في النوم خاصة في الإجازة الصيفية، أو حتى في الإجازة الأسبوعية وفي الأمور المباحة، فما رأيك في ذلك؟ الجواب النوم لا ينبغي للإنسان أن يجعله هو همه إلا بقدر ما يتزود به للعمل الصالح، هو يعتبره محطة للتزود؛ ولهذا كانوا يعتبرون نومهم من عملهم، يتزودون به، يتقوون به على العبادة، أو الأعمال الصالحة، ولهذا قال معاذ رضي الله عنه لـ أبي موسى: [[إني أقوم وأنام، وأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي]] . يعني احتسب في النوم من الأجر مثلما احتسب في القيام والعبادة، لأن النوم حينئذٍ يتقرب به إلى الله تعالى لتقوي على طاعته حتى فسر بعضهم قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} [الأنعام:162] قال: المقصود بالممات هنا الموت الحقيقي، والموت الذي هو النوم أيضاً، أنه لله عز وجل لأنه ينام ليتقوى، مثل أن ينام أول الليل ليقوم آخره، أو ينام في القيلولة ليتقوى على طلب العلم، أو على العبادة، فلا شك أنه حينئذٍ مأجور. أما الإنسان الذي يتقلب في فراشه يبحث عن النوم، فالغالب أن هذا الإنسان ليس في قلبه هم يشغله ويحدوه، ويدعوه إلى العمل الجاد المثمر. وختاماً: أسأل لله تعالى أن يرزقني وإياكم العمل النافع والعمل الصالح، وأن يجعل ما أعطانا قربة وزلفى إليه إنه على كل شيء قدير. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأكرما ولا تهنا، واعِنَّا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا، وظاهرنا وباطننا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم استعملنا فيما يرضيك، اللهم جنبنا بفضلك يا حي يا قيوم يا رحمان يا رحيم جنبنا مساخطك ومعاصيك، اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم اجعل ما علمتنا وأسمعتنا حجة لنا لا حجة علينا، اللهم أحيي قلوبنا بذكرك وشكرك وطاعتك، اللهم خذ بأيدينا إلى ما يرضيك، اللهم اجمع شتات قلوبنا. اللهم وحد على الخير صفوفنا، اللهم أبرم للمؤمنين أمراً يعز به من أطاعك حتى لا يكون أحدٌ أعز منك، ويذل به من عصاك حتى لا يكون أحد أذلك منك، اللهم ألحظ بعين رعايتك وعطفك ولطفك إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم أنزل عليهم من سكينتك ونصرك يا حي يا قيوم ما تؤمنهم به من خوف، وتشبعهم به من جوع، وتكسوهم به من عري، اللهم وأنزل على عدوهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. يا حي يا قيوم هذا الدعاء ومنك الإجابة، اللهم إنا ندعوك ونحن نعلم أننا لا نستحق الإجابة، لكننا نحن نعلم أيضا أنك أنت مجيب الدعوات، وقاضي الحاجات، تجيب دعاء المضطرين، حتى وإن كانوا بالإجابة غير جديرين، فيا قيوم السماوات والأرض لا ترد دعاءنا، ولا تخيب رجاءنا، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 20 معنى حديث: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به السؤال في الحديث القدسي، قال الله عز وجل: {لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل} ثم قال إلى آخر الحديث {فإذا أحببته كنت سمعه، وبصره، ويده، ورجله} يقول: ما معنى هذا الحديث؟ الجواب معناه بينه النبي صلى الله عليه وسلم في رواية أخرى، قال الله عز وجل: {فبي يسمع وبي يبصر} أي: إذا أحبه الله عز وجل جعله مستعملاً في طاعته، فمن علامات حب الله تعالى للعبد أن يوفقه للصالحات يستعمله في طاعته، فلا يسمع إلا ما يرضي الله، ولا يرى إلا ما يرضي الله، ولا يمشي إلا إلى ما يرضي الله، ولا يبطش أو يأخذ بيده إلا ما يرضي الله عز وجل فهذا هو معنى الحديث. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 21 الإسلام لا يعرف الحدود الجغرافية السؤال هناك بعض الناس والشباب يذهبون إلى خارج المملكة مع وجود قرى في الداخل بحاجة إلى طلبة العلم والعلماء؟ الجواب الإسلام لا يعرف الحدود الجغرافية والسياسية فبلاد المسلمين واحدة وطني كبيرٌ لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا أنا عالميٌ ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي ودعوة الإسلام والتوحيد ما نزلت للمملكة وإنما نزلت للبشرية كلها، ولهذا أنا أدعو الإخوة إلى أن يحملوا دعوة التوحيد والإيمان إلى الناس كلهم، وعلى الأخص إلى المسلمين الذين هم أحوج ما يكونون إلى تصحيح دينهم وإيمانهم، وتجريد توحيدهم ودعوتهم إلى التزام السلوك المستقيم، سواءً في ذلك الناس الموجدون في القرى هنا والذين يغلب عليهم الجهل، أو الموجودون في بلاد أخرى أو غير ذلك، ولكن على الإنسان أن يدعو إلى الله تعالى بقدر ما يستطيع، وأن يضع نفسه في الموضع المناسب. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 22 التعامل مع المجلات الفاسدة السؤال ما موقف الشاب من مجلة فاسدة، يوجد عليها صورة امرأة سافرة، ولكن يوجد بها مواضيع لا توجد بها في مجلات أخرى من حيث أنها مواضيع اقتصادية، أو سياسية، أو علمية أو غيرها؟ الجواب يعني هنا ممكن أن يجتزأ هذا الموضوع، ويأخذه ويحتفظ به ويتلف المجلة. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 23 عجيب أمر بعض الناس السؤال يقول: من أعجب الأمور أن يفتح محبو الشهوة من الناس هنا قلوبهم وبيوتهم للبث المباشر!! بعد أن كانت قلوب الكثير منهم قد بلغت الحناجر قبل سنين حينما حصلت أحداث الخليج؟ أيها الإخوة هل أمنَّا مكر الله، وهل زال عنا الخطر بانجلاء الخطر العراقي، إنني أتساءل عن المسافة الزمنية بين أقراص البث المباشر وأقراص صافرات الإنذار، فالجامع بينهما أن كلاً منهما في أسطح البيوت، أحدها نذير خطر على الأجسام، والآخر نذير خطر على الدين والأخلاق. إنني أخشى أن نكون ممن قال الله -تعالى- فيهم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام:44] . الجواب هذه نصيحة من أحد الإخوة، ونسأل الله تعالى أن تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 24 التوبة من المعصية ثم الرجوع إليها السؤال أنا شاب في التاسعة عشر من عمري، وأنا ولله الحمد أعد من الشباب الصالح، ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ولكنني قد زامنت معصية منذ بضع سنين، كلما تركتها رجعت إليها، وأعزم على التوبة، واسمع كلام الوعاظ فتزداد عزيمتي، ثم بعد أيام تطول أو تقصر أعود إليها فأسرع إلى ذلك، فبماذا تنصحني؟ الجواب أولاً: ينبغي عليك ألا تيأس من روح الله، كما قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] . وقال: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] فعليك أن تتوب مرة أخرى وثانية، وثالثة، وعاشرة، ومن تاب، تاب الله عليه، {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربهما تاب لله عليه} وربما يقبضك الله تعالى على توبة. فإن الشيطان يأتي أحياناً لبعض الشباب ويقول: لا داعي للتوبة وأنت تعرف أنك ستنقضها! نقول: لا، بل تب ولعلك ألا تنقضها، وفي الصحيح {أن رجلاً من بني إسرائيل أسرف على نفسه -عمل ذنباً- ثم قال: ربِّ إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم فعله أخرى، فقال: ربِّ! أذنبت فاغفر لي، فغفره الله له، ثم فعله ثالثة، فقال: ربِّ! أذنبت فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب افعل ما شئت فقد غفرت لك} . لا تقل ربما أكون مثل هذا الإسرائيلي فتسرف على نفسك لا، من يدريك؟ قد يقول الله: لا، لا أغفر لك، لأنك مصر على الذنب، أو لأنك مسرف على نفسك، أو لغير ذلك، أو لأنك عالم، فلا تغتر بحلم الله عز وجل، ولكن تأخذ من هذا الحديث أن تكرار الوقوع في الذنب لا يمنع من تكرار التوبة، وإذا أسرع العبد إلى الذنب ثم تاب، أسرع الله إليه بالقبول، والله -تعالى- لا يرجع في شيءٍ أعطاه الإنسان، فإذا محا عنك ذنوباً سالفات؛ فإنه لا يعيدها في صحيفتك لأنك رجعت إلى الذنب. ولذلك فإن ما يشاع ويقال: أن من أذنب ذنباً بعد توبة أشد من سبعين ذنباً قبلها، هذا ليس بصحيح! لا يصح لا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن غيره، وليس معناه بصحيح أيضاً، بل الذنب بعد التوبة هو الذنب قبلها، ما لم يكن العبد مستخفاً، مستهتراً، مستهزئاً بالمعصية، وبمن عصاه. أمر آخر عليك أن تعرف: لماذا تقع في الذنب؟ فإن كان وقوعك فيه لجلساء سوء فتجنبهم، وإن كان وقوعك فيه لعمل تعمله، وظيفة أو دراسة، أو غيرها، فحاول أن تغير هذا العمل، وإن كان لأنك تنظر فتجنب النظر، فانظر إلى الباب الذي تأتيك منه الريح، فسده لتستريح، فعليك أن تعلم السبب، فتسعى إلى إزالة هذا السبب حتى ينقطع عنك الداء بالكلية. أمر ثالث: عليك أن تقاوم ذلك بكثرة الطاعات، فإن الطاعة تقاوم المعصية، والخير يقاوم الشر، والنفس إذا اشغلتها بالخير اشتغلت به، وإلا اشغلتك بالباطل، فعليك أن تكثر من الطاعات، وتشتغل بأعمال البر الصالحة: أولاً: لتشغلك عن المعصية، وثانياً: حتى في حال وقوعك في المعصية لتقاوم أثرها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] إن الحسنات يذهبن السيئات، يذهبنها من صحائف الأعمال، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} فتمحى السيئة بالحسنة التي تكون بعدها، وتذهب الحسنات السيئات وتمحو أثرها من قلبك، فكثرت الطاعة، والصلاة، والذكر، والتسبيح، تمحو أثر المعصية، والسواد الموجود في قلبك، والقسوة، والجفاف، فيكون في قلبك نور، وإيمان، وإشراق. وتمحو أثرها من حياتك أيضاً فتجد توفيق الله تعالى وتأييده لك إذا أقبلت على الطاعات، ثم عليك -وأظن معصيتك من معاصي الشهوات، مثل الوقوع في العادة السرية أو نحوها، فهي أكثر ما يشتكى منه- فعليك أن تسعى إلى تحصين نفسك بالزواج المشروع، وبذل الأسباب في ذلك بقدر ما تستطيع، فإن لم تستطع فعليك بتناول الدواء النبوي: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، فمن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} . الجزء: 105 ¦ الصفحة: 25 جمال الإنسان السؤال يقول: قلت: إن الطاوس أحسن من الإنسان خلقاً، وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ؟ الجواب نعم الإنسان خلقه الله سبحانه وتعالى في أحسن تقويم من حيث الظاهر والباطن، ولكن ليست زينة الإنسان في شكله كما أسلفت، وإنما الإنسان كرم بإنسانيته، كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] . فالله تعالى خلق آدم وأسجد له الملائكة {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة:34] مع أن آدم خلق من الطين والملائكة خلقوا من النور، ومع ذلك أسجدهم الله -تعالى- لآدم بإذن الله -تعالى- نفخ فيه هذه الروح {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [الحجر:29] فليست ميزة الإنسان في جسمه، ولهذا ليس الإنسان الجميل حسن الصورة، الطويل، العريض، ليس بالضرورة أنه أفضل من ذلك الإنسان القصير، وابن مسعود رضي الله عنه كان صغيراً، حتى أن الريح تحركت به يوماً من الأيام فاهتز، فضحك بعض الصحابة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم والحديث صحيح: {إنهما أثقل في الميزان من جبل أحد} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. فليس قيمة الإنسان بطوله ولا بعرضه، ولا بحسنه وجماله، ولا ببزته، ولا بهندامه، ولا بتقاسيمه، ولكن قيمة الإنسان بعقله وقلبه، قيمة الإنسان بدينه، بإيمانه، بعلمه، بتقواه، بورعه، بخوفه من الله عز وجل. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 26 علاج القلب الذي لا يتأثر بالمواعظ السؤال ما هو علاج القلب الذي لا يتأثر بالمواعظ ولا ينزجر عن النواهي، مع الإدراك والاعتراف بالخطأ؟ الجواب ابحث عن قلبك في مواطن، فابحث عن قلبك أولاً عند القرآن، فإن وجدت الدمعة تنهل، والقلب يرق فأنت إلى خير، وابحث عن قلبك في المقابر، حينما ترى الموتى، وتتحرك وتنظر القبور، فإن وجدت في قلبك رقة، وإلا فابحث عن قلبك عند المرضى، وأنت تتقلب بينهم، فتسمع أنينهم، وزفراتهم، وصياحهم، وآلامهم، فإن لم يتحرك قلبك فابحث فيه وأنت تنظر في آيات الله تعالى في الكون، وفي النفس، فإن تحرك قلبك وإلا فاعلم أنه لا قلب لك، فاسأل الله تعالى أن يرزقك قلباً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] . الجزء: 105 ¦ الصفحة: 27 احذر العقوبة الأخروية السؤال قبل أن أصبح ملتزماً كنت أرتكب بعض الجرائم، وأنا الآن قد تبت منها وأنا خائف من العقوبة الدنيوية من خراب بيتي أو غير ذلك؟ الجواب أقول: من تاب تاب الله تعالى عليه، والله تعالى يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] ويقول: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] حتى يقول أحدهم -في الدار الآخرة بعدما يرى ذنوبه قد أبدلت حسنات- يقول: يا ربِّ! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا! يريد أن تثبت في الديوان حتى تقلب له حسنات، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ولكن على العبد أن يكون خائفاً وجلاً من ربه عز وجل، ليس من عقوبة الدنيا بل من عقوبة الآخرة. والعجب كل العجب أن الواحد منا يخاف من الدنيا! يخاف من خراب بيته! أو يخاف من مرض دنيوي، مثلاً قد يكون زانياً يخاف من الإيدز، أو يخاف من خراب بيته، لأن بعض الأحاديث وليس بصحيح {بشر الزاني بخراب بيته ولو بعد حين} أو يخاف من عقوبة دنيوية، لكن لا يخاف من العقوبة الأخروية! وهذا من قصر النظر، لأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة، لكن الأمر العظيم، والخطب الجسيم، هو ما يتعلق بعقوبة الآخرة، إن لم يتداركه الله تعالى برحمته. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 28 دعوة الشباب إلى الله عز وجل السؤال كثير من الشباب يتقبلون من الملتزمين الشيء الكثير ويحبون أن يحضر إليهم الشباب الملتزم سواء في الأرصفة، أو في الأحواش، ولكن لا يأتي إليهم إلا القليل، والواجب أن نستغل هذه الفرصة بتنبيه الشباب الذين يسهرون حتى الفجر وعندهم وقت طويل! الجواب هذه فرصة طيبة سبق أن أشرت إليها بإيجاز، أن ندفع لدعوة هؤلاء الشباب إلى الله عز وجل كلمة طيبة، جلسة مباركة لا تستغرق خمس دقائق، قد يهدي بها الله -تعالى- على يديك رجلاً واحداً، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه البخاري وغيره في قصة خيبر يقول لـ علي: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} . من رد عبداً آبقاً شارداً عفا عن الذنب له الغافر فتأتي أعماله يوم القيامة في صحائف أعماله، {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، من غير أن ينقص من أجورهم شيء} {من سن في الإسلام سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} . وكل هذه أحاديث في الصحاح، فعلى العبد أن يغتنم الفرصة، ومثلما تقبل في رمضان على القيام، والصيام، أو العمرة، أو في موسم الحج على الحج، عليك أن تقبل في موسم الإجازة على الدعوة، فتذهب إلى هؤلاء الشباب وتتلطف معهم، وتتكلم بالكلام الطيب، وتدعوهم إلى الله عز وجل ولا تيأس منهم، فإن قابلوك بالخير فبها، وإن قابلوك بالسوء فلا تغضب لنفسك، ولا يتمعر وجهك، ولا تتنمر وتقول: أنت فلان بن فلان، وأنا ولد فلان، وأنا أفعل وأفعل، لا. دعهم ولا تنتصر منهم، فإنه سيكون في قلوبهم حينئذٍ ندم، وخزي، وأسف على ما قابلوك به، وربما يكون هذا سبباً في هدايتهم واستقامتهم. حدثني أحدهم، قال: دخلت متجراً في جدة فقام إليَّ رجلٌ كث اللحية، فعانقني، وضمني، وقبل رأسي وقد بللت الدموع عينه وهو يصافحني بحرارة، ويسألني عن أحوالي، وأخباري، وأموري وغير ذلك، قال: فخجلت خجلاً شديداً، لأني أدركت أن هذا الرجل قد شبه عليَّ وظنني رجلاً يعرفه وهو لا يعرفني! قال: فلما هدأ، قلت له: أظن أنك قد شبهت علي، قال: لا، قلت: كيف؟! قال: ألم تمر قبل عام مضى في مكان كذا، وذكر مكاناً قريباً من مكة، قال: فتذكرت فقلت: بلى، قال: فوجدت قوماً يغنون ويطربون فأتيت إليهم وتكلمت معهم، قال: بلى، قلت: فضحكوا منك، قال: أنا كنت أحدهم، هداني الله تعالى بتلك الكلمة. كانوا يضحكون، لكن فيما بعد أدت تلك الكلمة دورها، فعليك أن تغرس البذرة في الصحراء وربما تأتي قطرة من السماء فتسقيها، فتنبت بأذن ربها فتكون لك قربة إلى الله، يكون لك أجر بهذه الشجرة التي نبتت، أعني الإنسان الذي هداه الله عز وجل. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 29 البث المباشر السؤال بماذا تفسر ذلك التجاهل الخطير، والإحجام الكبير، في التصدي للخَطْبِ الجلل المتمثل في البث المباشر الذي احتضنته بيوت المسلمين اليوم بشكل مخيف؟ أين موقف العلماء المخلصين العارفين بمخاطر هذا الوباء؟ كموقفهم العظيم المثمر في وجه حوادث سابقة؟ من مثل محاولة قيادة المرأة للسيارة، أو غير ذلك، مع أن هذا البث أشد فتكاً، وأعظم خطراً، فلماذا هذا التجاهل والخذلان؟! أهو اليأس من التغيير؟ أم الخوف من نزول ساحة الإصلاح؟ أو الإنكار؟ أم الرضا بالواقع المزري؟ أم ما هو السر في هذا السكوت المفزع؟ الجواب المشكلة الكبيرة أن الوسيلة ربما الوحيدة التي يسلكها الكثيرون هي مجرد الكتابة في أي منكر يقع، وأنا أقول: الكتابة وسيلة، ولكن ينبغي ألا تكون الوسيلة الوحيدة، وينبغي أن ندرك أن من أعظم الوسائل أن ننزل إلى جمهور المسلمين، فنخاطبهم بمواعظ الله عز وجل، ونحرك قلوبهم بمواعظ القرآن والسنة، ونذكرهم بدينهم الذي يجب أن يكونوا أوفياء له، وعدوهم الذي يكيد لهم، والخطر المحدق بهم، ونبين لهم عملياً خطر مثل هذه الأشياء. فمن كان منهم صاحب عقل نقنعه بالعقل، بأضرار هذه الأشياء، ومن كان منهم صاحب قلب، وعاطفة، وإيمان حركنا قلبه ليعرف الأضرار، ومن كان منهم صاحب مادة أقنعناه مادياً بأضرارها، ومن كان منهم صاحب سياسة أقنعناه سياسياً وأمنياً بمفاسدها ومخاطرها، فنحاول أن نخاطب جماهير المسلمين بذلك، وننشر الوعي بينهم. كما أن علينا أن نناصح أولئك الذين تسابقوا إلى مثل هذا الأمر، من خلال المراسلة، من خلال أن نوصل إليهم بعض الكتب، وهناك كتاب للدكتور ناصر العمر اسمه البث المباشر حقائق وأرقام وهو كتاب مفيد جداً، وهناك أشرطة للشيخ ناصر العمر أيضاً، وشريط للشيخ عبد الوهاب الطريري حول هذا الموضوع، نرسله إليهم لعله أن يحرك في قلوبهم ساكناً، أو يحي هامداً. نخاطب أيضاً العلماء، فنطالبهم بمحاولة الوقوف أمام هذا المد الكاسح، ومنعه بقدر المستطاع، نخاطب الخطباء فندعوهم إلى معالجة هذا الموضوع والتصدي له، نخاطب المسئولين والقائمين على الأمر، فندعوهم إلى منع استيراد، أو تصنيع، أو تركيب، مثل هذه الأشياء، وخاصة على سبيل العموم، ولكن على سبيل الخصوص في الأماكن العامة كالفنادق، والمستشفيات، والجامعات، وغيرها فإن الشر حينئذٍ يتعاظم ويتفاقم. الجزء: 105 ¦ الصفحة: 30 المسلم بين غربتين تحدث الشيخ في هذا الدرس عن معنى الغربة، ثم ذكر المقصود ببداية الإسلام غريباً، وكذلك المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} ثم ذكر أن الغربة أمر نسبي تتفاوت بين مكان ومكان، وزمان وزمان، وتحدث عن حال البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعض جوانب الانحراف البشري فيها، وبيَّن الفرق بين غربة الحنفاء وغربة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر انتهاء الغربة في أول الإسلام. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 1 تعريف الغربة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة: عنوان هذه الكلمة هو (المسلم بين غربتين) وفي نهاية الكلمة أحب أن أسمع من بعض إخواني تحليلاً صحيحاً لهذا العنوان، يبين لنا ما هو المقصود بهاتين الغربتين المذكورتين في العنوان. فأما الغربة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قد بين لنا في أحاديث كثيرة -ثلاثة وعشرين حديثاً أو تزيد على ذلك- أن الإسلام بدأ في أول أمره غريباً، وأنه سيعود في آخر أمره غريباً كما بدأ أول مرة، حتى إن من العلماء من قال: إن الإسلام سينتهي برجل واحد، كما ابتدأ برجل واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم. أيها الإخوة والمقصود بالغربة في هذا الحديث؛ هو بعض معانيها اللغوية، فإن العرب يطلقون الغربة على عدة معانٍ: فيطلقون الغربة على معنى الخفاء والغموض، ومنه قول بعض العلماء؛ أو تسميتهم للألفاظ ذات الدلالة غير الواضحة، في الأحاديث النبوية: غريب الحديث. فالمقصود بالغريب هنا، هو: اللفظ الذي يوجد في معناه غموض وخفاء ويحتاج إلى كشف وبيان؛ هذا معنىً من معاني الغربة. المعنى الثاني: من معاني الغربة هو: معنى النزوح والخروج عن الوطن، ومن ذلك قول الشاعر: وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مدحج الغربان أي: غريبان، فهما قد نزحا عن وطنهما. ومن معاني الغربة أيضاً: أن يوجد الإنسان بين قوم غير قومه، وفي بلد غير بلده، وأهل غير أهله، فهو بينهم غريب؛ لأنهم لهم حال وله حال إلى معان أخرى كثيرة. وكل هذه المعاني متحققة في معنى غربة المسلم، فالمسلم غريب بمعنى أنه قد نزح عن وطنه وخرج عنه، إذ أن الإنسان إذا خلف في القوم الذين يقتدي بهم، شعر بالغربة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يتمثل بقول الشاعر: إذا ما مضى القرن الذي أنت فيهمُ وكلفت في قرن فأنت غريب والمسلم غريب أيضاً، بمعنى أن الناس من حوله في العموم، مخالفون لما هو عليه، عقيدة وسلوكاً ومنهجاً، ولذلك يشعر بينهم بالغربة، بمعنى المخالفة لما هم عليه. وكذلك المسلم يشعر بالغربة، بمعنى الغموض والاستخفاء؛ لأنه يجد في كثير من الأحيان أن المكانة والحظوة والشهرة والسمعة، هي لغير المتقين، وغير الصالحين من أهل الرياضة، أو أهل الفن، أو المال، أو الجاه أو غيرهم. هذه بإجمال بعض مشاعر الغربة، التي تنطلق من المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وتنطبق على المعنى الشرعي لها، ويوافقها واقع المسلم في كل زمان وفي كل مكان. وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى إشارة مجملة بقوله: {بدأ الإسلام غريباً} فأشار إلى أن هذا الدين بدأ غريباً، والغربة هنا تعني غربة الإسلام في أول مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 2 المقصود ببداية الإسلام غريبا ً وإلا فلو نظرنا إلى الدين جملة، وإلى معنى الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدنا أن أول البشر وهو أبونا آدم كان نبياً مكلماً وكان بنوه كذلك تعلموا منه الدين، وكانوا على شريعة من الحق، بل قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الناس ظلوا على شريعة من الهدى عشرة قرون]] . فالمقصود ببداية الإسلام في هذا الحديث، بدايته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول مبعثه بدأ غريباً بفرد واحد وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيعود. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 3 المقصود بقوله: وسيعود غريبا ً ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل. فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله. فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها. أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان. فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان. وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما. إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان. هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان. والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال} . ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 4 حياة البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لقد كانت البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم تعيش مرحلة من أحط مراحل التاريخ البشري في جميع شئونها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وقد سيطرت الروح الجاهلية على الدنيا كلها وعلى الأجناس كلها، واتسم ذلك العصر بالجهل، والهوى، والنقص، والتحيز، والتعسف وغيره من خصائص البشر حين يتخلون عن الديانات السماوية. ومع هذه الجاهلية، فقد غاب تأثير الديانات السماوية في الأرض أو كاد، حتى إنك لا تكاد تجد في الأرض من المستقيمين على دين الله، إلا أفراداً يعدون على الأصابع. وهذا ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن عياض بن حمار رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى قال: كل مال نحلته عبداً حلال، وإني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله تبارك وتعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} وإن الله عز وجل قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قال الله تعالى لنبيه: إنما بعثتك لأبتليك وابتلي بك، وأنزلت عليكم كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً، ثم إن الله عز وجل أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت: يا رب إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك فاغزهم نغزك وأنفق عليهم فسننفق عليك، وأبعث جنداً نبعث خمسة مثله وقاتل بمن أطاعك من عصاك. } . هذا الحديث العظيم -أيها الإخوة- أريد أن أقف عنده وقفات لنستدل منه: الجزء: 106 ¦ الصفحة: 5 جوانب إغراق الناس قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أولاً: بعض جوانب الانحراف البشري، الذي وقع فيه الناس قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد أشار عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث، إلى انحراف الناس في عدة جوانب: الجزء: 106 ¦ الصفحة: 6 فساد المصلحين الجانب الثالث من جوانب انحراف البشرية، التي أشار إليها الحديث النبوي، وهذا الانحراف هو قاصمة الظهر- وهو: فساد المصلحين، فإن البشرية، مهما بلغ فيها الانحراف يمكن أن ترجع إلى شرع الله عز وجل وإلى دينه بشرط، هذا الشرط أن يوجد في البشرية من ينهى عن الفساد في الأرض ويدعو إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] . فمهما بلغ الانحراف؛ يمكن أن يرجع الناس إلى الدين، بشرط أن يقوم أناس مصلحون، يدعون إلى دين الله وشرعه، وهؤلاء بالضبط هم الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، وهو حديث المجدد الذي أشرت إليه سابقا، لكن إذا غاب هؤلاء المصلحون، أو انحرفوا فماذا يصلح الناس؟ ولذلك كان بعض السلف يخاطب القراء، وطلاب العلم، والعلماء، والمحدثين، فيقول لهم: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد يعني إذا كنتم أنتم- وأنتم ملح الناس وأنتم زين الناس وأنتم صلاح الناس- فسدتم، فكيف يصلح الناس إذا جاءت العلة من قِبلِكم، فمن أين تأتي العافية؟! وهذه المشكلة التي قامت في الجاهلية، حيث انحرف الناس، حتى أصحاب الديانات السماوية من اليهود والنصارى. وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: {وإن الله عز وجل نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم -والمقت هو أشد البغض- عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب} أي: حتى أصحاب الكتب السماوية، انحرفوا، ومقتوا، وسقطوا من عين الله عز وجل، إلا بقايا منهم، وكلمة بقايا تدل على القلة، وأن هؤلاء الصالحين آثار باقية، بعدما انحرف اليهود والنصارى وغيرهم. وهذه البقايا التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، يمكن أن نقول: إنهم كانوا غرباء في الجاهلية، غربة شديدة فلننظر كيف كانت غربة هؤلاء:- نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم، أشار -بعد ما ذكر هذا الانحراف المجمل- إلى وجود قلائل صالحين، هؤلاء القلائل كانوا متفرقين في الدنيا كلها. فالأمة العربية -مثلاً- وهي تعاني أشد ألوان الانحراف الذي ذكرناه، وقد ابتليت بانحطاط شديد، في أخلاقها وأديانها وعقائدها، حتى وصلت إلى الحال التي يصفها أبو رجاء العطاردي كما في صحيح البخاري أنهم: [[كانوا يعبدون الحجر، فإذا وجدوا حجراً هو أخير منه، تركوا الحجر الأول، وعبدوا الحجر الجديد]] ووصلوا إلى الحال الذي كان يأخذ بعضهم أربعة أحجار، فيضع ثلاثة منها تحت قِدْره، ويجعل الحجر الرابع له إلهاً يعبده ويصلي إليه، فإذا لم يجد حجراً حثا حثوةً من تراب، جاء بالشاة، فحلبها على هذا التراب فصلى إليه. وإلى حد الانحطاط الخلقي، الذي كانت النساء فيه -البغايا- يضعن أعلاماً على بيوتهن، حتى يعرفهن الناس فيأتوا إليهن طلباً للرذيلة والخنا والفساد. وحتى صارت الأمة العربية، لا تعدو أن تكون أمة ذليلة، تابعة لإحدى الدولتين العظميين آنذاك، فارس أو الروم، ومع هذا الانحطاط الشديد الذي ابتليت به الأمة العربية، كان يوجد فيها قلائل ممن يسمون بالحنفاء، وهؤلاء الحنفاء هم الذين بقوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن أشهرهم زيد بن عمرو بن نفيل، وكان هذا الرجل يبحث عن الدين الصحيح، فذهب إلى الشام والتقى باليهود، وسألهم عن الدين الصحيح، فلم يجد عندهم علماً، وقالوا لا يمكن أن تكون معنا حتى تأخذ نصيبك من لعنة الله فقال: إنما أفر من لعنة الله، فسألهم عن الدين، فقالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، قال: وما الحنيف؟ قالوا: ديانة إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً. قالوا: فسألهم أين يوجد هذا الدين؟ فلم يذكروا له خبراً، فخرج إلى النصارى، فلم يجد عندهم علماً، وسألهم عن الدين الصحيح قالوا: لا نعلمه إلا أن يكون حنيفاً، دين إبراهيم عليه السلام، كان يعبد الله ولا يشرك به شيئاً، فسألهم أين يوجد؟ فلم يذكروا له من ذلك خبراً، فخرج رضي الله عنه وأرضاه، حتى إذا ظهر في الصحراء، رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني على دين إبراهيم حنيفاً، وما أنا من المشركين. وقد ورد أنه قتل في الصحراء، حيث تعرض له بعض الناس وقتلوه، وورد في صحيح البخاري أن زيد بن عمرو بن نفيل كان يسند ظهره إلى الكعبة، وينظر إلى قريش وهم يعبدون الأصنام، فيقول لهم: يا معشر قريش! ثم يقول لهم: هذه الشاة خلقها الله عز وجل وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض العشب، ثم أنتم تذبحونها لغير الله فينكر عليهم أن يذبحوا لغير الله. وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري أيضاً، أنه التقى به فقدمت له شاة مشوية أو مصلية، فابتعد عنها زيد بن نفيل وقال: لا آكل مما ذبح لغير الله. وكذلك كان إذا علم أن رجلاً يريد أن يئد ابنته -جرياً على العادة الموجودة، في بعض القبائل في الجاهلية -جاء إليه وقال: لا تئدها، فأنا أكفلها لك؛ لأنهم كانوا يئدون البنات أحياناً؛ لما يجدونه من الجوع والمسغبة، فكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول لمن هَمَّ بوأد ابنته لا تئدها وعَلَّي طعامها وشرابها، فيفتديها منه وفي ذلك يتمدح الشاعر بقوله: ومنا الذي منع الوائدات وأحيا الوئيدة لم تؤأد فافتخروا بتدخله في منع وأد البنات، وبالمناسبة مدحه النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه في الجنة فهو مسلم. إن زيد بن عمرو بن نفيل لم يكن وحيداً في الجاهلية، بل كان يوجد أفراد متفرقون على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكانوا يعيشون غربة شديدة في ذلك الوقت، فهذه غربة. ولما بُعِثَ النبي صلى الله عليه وسلم، كان مبعثه انتصاراً لهؤلاء الغرباء، المشردين المضطهدين، الذين قتلوا في سبيل الله أو أوذوا أو ضويقوا. كان مبعثه صلى الله عليه وسلم انتصاراً لهؤلاء القوم، بل كان مبعثه انتصاراً لديانات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام؛ لأنه جاء بالدين الذي جدد دين الأنبياء السابقين جميعاً، فكان مبعثه انتصاراً للحقيقة، وهذا جزء من معنى قوله تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فقد نصر الله عز وجل رسله في الحياة الدنيا، نصرهم بالتمكين لدينهم، سواء في وقتهم أو على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، ونصرهم بخذلان أعدائهم ومناوئيهم في وقتهم أو بعد ذلك على يد محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى يدي أمة محمد صلى الله عليه وسلم. كان مبعثه صلى الله عليه وسلم، انتصاراً للرسل والأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام، وقد بعث غريباً فرداً مطلقاً غرابة مستحكمة، ومر وقت من الأوقات، لم يكن في الدنيا كلها مسلم إلا رجل واحد، هو النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الدنيا كلها تقف في صف وفي معسكر، وهو معسكر الكفر والشرك بالله عز وجل، ومحمد صلى الله عليه وسلم وحده، يقف في المعسكر الآخر، غريباً وحيداً فريداً ليس معه إلا الله عز وجل. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 7 الانحراف في الجوانب التشريعية الجانب الثاني: هو: الانحراف في الجوانب والأوضاع التشريعية، حيث كان الناس يتحاكمون فيما بينهم إلى أوضاع، ونظم، وأعراف، وتقاليد ما أنزل الله بها من سلطان، إنما كانت بمحض الهوى والآراء البشرية. وقد أشار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هذا الجانب، في قوله في بداية الحديث القدسي: {كل مال نحلته عبداً حلال، كل مال نحلته عبدا حلال} فهذا إشارة إلى ما كان أهل الجاهلية يفعلونه بأموالهم حيث كانوا يجعلون الأموال لأصنامهم وغير ذلك، وقد أنكر الله عز وجل عليهم بقوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة:103] فهذه إشارة إلى جانب، وهو: انحراف الأوضاع التشريعية. ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: {وحَرَّمت عليهم ما أحللت لهم} وهذا ما أنكره الله عز وجل في كتابه، حيث قال: {فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فأشار إلى ما آتاهم الله من رزق، فجعلوا منه الحلال والحرام، هل هو بشرع الله أم بالهوى والافتراء؟! الجزء: 106 ¦ الصفحة: 8 الانحراف في النواحي الدينية الجانب الأول: انحراف النواحي الدينية، وفساد حملة الأديان السماوية، من اليهود والنصارى وغيرهم، وهذا الانحراف يكون: أولاً: بخروج الناس عن الأديان السماوية، بعد ما دخلوا فيها، كما يكون بعدم دخولهم في الأديان السماوية أصلاً، وأخطر صورة من صور الانحراف على مدى التاريخ، هي الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث، حيث قال: {وإن الشياطين أتتهم فاجتالتهم عن دينهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً} . الجزء: 106 ¦ الصفحة: 9 الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وغربة النبي صلى الله عليه وسلم وهنا أريد أن أشير إلى قضية مهمة جداً، وهي قضية: الفرق بين غربة الحنفاء في الجاهلية وبين غربة النبي صلى الله عليه وسلم. إن الحنفاء في الجاهلية، لم يكونوا يطمعون بإصلاح الأوضاع، ولم يكونوا يملكون منهجاً للتغيير والدعوة إلى الله عز وجل، بل قد قنعوا بصلاح أنفسهم، ونجاتها من الشرك والكفر في الدنيا، ونجاتها من العذاب في الآخرة، ويئسوا يأساً مطلقاً من إصلاح الناس، فهم مثل الشمس التي قد قاربت الغروب، فبقيت أشعتها الباهتة في أعالي النخيل، وعلى رءوس الأبنية المرتفعة أشعة صفراء، وما هي إلا دقائق حتى تغرب وتنتهي. أما غربة محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت غربة بداية؛ فهي تشبه أشعة الشمس في أول طلوعها، وإن كانت أشعة قليلة لا تبرز إلا في أعالي الأبنية والنخيل؛ إلا أنها سرعان ما ترتفع حتى تشمل بأشعتها وأنوارها الدنيا كلها. إذاً: لم يقنع الرسول صلى الله عليه وسلم بترديد أنه غريب، وأن الناس على منهج مخالف لمنهجه، ودين مخالف لدينه، ويقف عند هذا الحد! بل قام يدعو إلى الله عز وجل بكل وسيلة، حتى التف حوله بعض الصالحين من قريش، واحد واثنان وثلاثة وأربعة، وكانوا قلائل، حتى كان الواحد منهم يقول: إني يوم أسلمت، كنت ثلث الإسلام، كنت ربع الإسلام، كنت خمس الإسلام، كنت سدس الإسلام، كل هذا ثبت عن بعض الصحابة الذين تقدم إسلامهم. كان الواحد منهم يقول: إنه ثلث الإسلام؛ لأنه لا يوجد إلا مسلمان وهو ثالثهم، وآخر يقول إنه ربع الإسلام، بمعنى أنه يوجد في الدنيا ثلاثة هو رابعهم. ولما سأل عمرو بن عبسة رضي الله عنه، النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم وغيره: {من معك على هذا الأمر -يعني الإسلام- قال: حر وعبد} . أما الحر فهو: أبو بكر، أو علي بن أبي طالب وأما العبد فهو: بلال، هذا على القول بأن المقصود، حر يعني: فرد واحد، وعبد يعني: فرد واحد. لكن هناك معنى آخر، ذكره ابن كثير رحمه الله: أن يكون المعنى من الأساليب، التي سلكها الرسول صلى الله عليه وسلم للتعمية على أعداء الدعوة فأعطى هذه اللفظة المحتملة يعني أن معه جنسان: جنس الأحرار وجنس العبيد، وعلى هذا لا إشكال، فيدخل في الأحرار أبو بكر، وعلي بن أبي طالب وغيرهم ممن تقدم إسلامهم، كـ زيد بن حارثة، ويدخل في العبيد بلال، وعمار وغيره أيضاً، ممن تقدم إسلامه. وعلى أي حال فقد كان عدد المسلمين أفراداً يعدون على الأصابع، ولكنهم أيضاً كانوا يحملون هَمَّ الدعوة في نفوسهم، ولذلك ما مر إلا سنوات قليلة حتى أسلم الأنصار، وهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأقام الدولة ودفع الغربة. ثم ما هي إلا سنوات حتى انفضت الأحزاب التي هاجمت المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الآن نغزوهم ولا يغزونا} . وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى مرحلة الهجوم من مرحلة الدفاع، وما هي إلا سنوات قليلة حتى خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بجمع غفير صوب مكة، فذهب وفتحها ودخل وعلى رأسه المغفر، وأصبحت الجزيرة العربية كلها للحكم المتبع للإسلام، لأنهم كانوا يتربصون بإسلامهم إسلام قريش. فلما فتحت مكة وأسلمت قريش بدأ الناس يدخلون في الإسلام أفواجاً، وحصل ما يسمى بعام الوفود، الذي أرسلت فيه القبائل العربية وفودها، تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام. ولم يمت صلى الله عليه وسلم، حتى أقر الله عز وجل عينيه برؤية هذا الدين، الذي بعث به ظاهراً ظافراً منتصراً، وحتى رأى صلى الله عليه وسلم هذه العصابة الضعيفة التي كان يخاف عليها صلى الله عليه وسلم من الاستئصال حين كان يقول في بدر: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض} أقر الله عز وجل عينه برؤية هذه العصابة وهي التي تحكم الجزيرة العربية وتستعد للانقضاض على صروح الكفر، في الشام والعراق وغيرها من بلاد الأرض. إذاً غربة النبي صلى الله عليه وسلم، غربة البداية، غربة الداعية الذي يحمل منهجاً للإصلاح ويرتب للدعوة، ويرفع راية التوحيد، ويدعو الناس إليها. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 10 شبهة من يقول إن الغربة اليوم هي كغربة الحنفاء أما غربة الحنفاء في الجاهلية، فهي غربة النهاية، وغربة من لا يملك إلا الصبر، والسكوت والاستسلام، حتى يأتي أمر الله. وهكذا الحال بالنسبة للمسلم الموصوف بأنه غريب، يمكن أن يسلك المسلم أحد الطريقين. أيها الإخوة: يمكن أن يكون بعض من يرددون: بأن المسلمين غرباء يعنون غربة كغربة الحنفاء، فيظنون أن الدين قد عاد اليوم غريباً كما بدأ، وأنه لا مطمع في الإصلاح، فيكفون عن الدعوة إلى الله، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن نشر العلم الشرعي الصحيح، ويتعللون بأن الدين قد عاد غريباً كما بدأ. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 11 الرد على هذه الشبهة هذا فهم غير صحيح بلا شك؛ بل إن المسلم المتبع لمحمد صلى الله عليه وسلم، يشعر أن الغربة التي يجب أن يشعر بها في هذا الزمان وفي كل زمان، هي الغربة التي كان يشعر بها سيده ومتبوعه صلى الله عليه وسلم. حيث كان يشعر بالغربة، التي تدعوه إلى دفع الغربة، وإلى الدعوة إلى الله، وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فهذا الشعور، من شأنه أن يجعل المسلم: أولاً: معتزاً بالدين الذي ينتسب إليه، فلا يستوحش من كثرة المخالفين والمعاندين والفاسقين والمنافقين أبداً؛ لأنه يشعر أن الله عز وجل قد خصه من بينهم بهذه الخصيصة التي هي التميز عنهم بالتمسك بالدين، والعناية بالسنة، وطلب العلم الشرعي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو يشعر أنها موهبة وهبها الله عز وجل له، يجب أن يشكرها. وثانياً: فإن هذا الشعور، لا يجعله يستسلم للقعود، ويخلد إلى الراحة، ويترك الدعوة إلى الله عز وجل، لا، بل يجعله يشعر، كما بدأ الإسلام غريباً، ثم زالت غربته بجهود الرسول صلى الله عليه وسلم، وجهود أصحابه، فإنه حين توجد غربته في بلد من البلدان، في زمن من الأزمان، يجب أن يقوم الغرباء حينئذٍ بجهود قوية قدر ما يستطيعون لدفع الغربة عن هذا الدين وإعادته عزيزاً قوياً، كما كان في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أو قريباً من ذلك. وهذا المعنى، هو الذي فهمه العلماء العاملون من هذا الحديث، وأضرب مثلاً بشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنه ذكر هذا الحديث، وقال: " إن كون الإسلام يعود غريباً، لا يعني جواز التخلي عنه والعياذ بالله فإنه حين بدأ غريباً، لم يكن غيره من الدين مقبولاً حينئذٍ، بل كما قال عز وجل: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] ". فهذا المعنى في نظري، من المعاني التي تخفى على كثير من الناس، الذين قنعوا بسماع هذا الحديث، ورأوا في واقعهم كثيراً من المعاصي المشتهرة المنتشرة، التي يصعب -ولا أقول يستحيل- بل يصعب تغييرها وإنكارها، فاكتفوا بترديد هذا الحديث، ورأوا أنه إشارة إلى جواز السكوت والقعود. وأقول: إن جواز السكوت والقعود مطلقاً، للأمة كلها وللغرباء كلهم في كل زمان وفي كل مكان إنما يجوز في حال واحدة، هي التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً ودنياً مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، ودع أمر العامة} . وهذه الحال، حال لا يمكن أن نقول إنها موجودة الآن في الأمة الإسلامية على الإطلاق، أبداً، لأننا نجد في هذا الزمان قبولاً للحق، وانقياداً له، واتباعاً للسنة، وإن كنا نجد نوعاً من الهوى، ونوعاً من إيثار الدنيا، ونوعاً من طاعة الشح، ولكن هذه الأشياء موجودة منذ أزمنة غابرة. بل إننا نجد من كتب من العلماء المتقدمين كـ ابن بطال المغربي وابن حجر وغيرهما، أشاروا إلى بدايات هذه الأمور منذ زمن بعيد. إذاً: يجب علينا أن ندرك أن الشعور بالغربة يجب أن يكون شعوراً دافعاً لنا، لدفع هذه الغربة وإزالتها. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 12 المقصود بالغربتين في نهاية هذه الكلمة أحب أن أسأل بعض الإخوة، عن معنى العنوان لعله اتضح، حيث ذكرت أن عنوان هذه الكلمة: المسلم بين غربتين، فأريد أن يبين لي أحدكم ما المقصود بالغربتين إذاً؟ إنه يقول: غربة الحنفاء في الجاهلية، وغربة الرسول صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام. فنقول: المسلم المعاصر، أنا وأنت اليوم، كيف نكون بين غربتين؟ ما الغربتان؟ إن المسلم في هذا العصر، تتناوبه غربتان، أو الشعور بالاغتراب لدى المسلم في هذا العصر يمكن أن يكون على وجهين: الوجه الأول: الشعور باليأس والاستسلام، والقعود عن الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الوجه الثاني: الشعور بالغربة التي تدفعه إلى العمل والدعوة إلى الله والتغيير، وفرق بين شعور الاستيئاس والاستسلام، وبين شعور القوة والدعوة والأمر والنهي. وفي نهاية هذه الكلمة أرجو الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس ويصلحون ما أفسد الناس، وأن يحشرني وإياكم في زمرة المتقين المفلحين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 13 الأسئلة الجزء: 106 ¦ الصفحة: 14 حقيقة المجدد السؤال قد يثير بعض الناس شبهة أو استفساراً حول قول الرسول صلى الله عليه وسلم {يبعث على رأس كل مائة سنة مجدد} فيقول: نحن لم نر مجدداً سوى محمد بن عبد الوهاب، فماذا نرد على هذه الشبهة؟ أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب يقول العلماء رحمهم الله [[عدم العلم لا يعني العلم بالعدم]] وهذه القاعدة مفيدة هاهنا، عدم علمك بالشيء لا يعني أنه غير موجود أي: لا يعني علمك بعدمه. فنقول لهذا السائل أو هذا المشبه، نقول له عدم علمك بوجود مجددين لا يعني عدم المجددين وعدم وجودهم، فعدم العلم لا يعني العلم بالعدم، وقد مَنَّ الله على هذه الأمة بمجددين على مدار القرون، سواء على شكل أفراد أو على شكل مجموعات وطوائف. ومن أشهر المجددين: الإمام الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز وقد عده الزهري ومن بعده من العلماء من مجددي أو هو مجدد القرن الأول، ولا يعني أنه بالضرورة انفرد بذلك، بل لا يمنع أن يكون له نصيب من التجديد وهو النصيب الأوفر ولغيره من حوله نصيب كذلك. ومن المجددين المعروفين الإمام أحمد، والإمام الشافعي وغيرهما، وقد عد العلماء في كل قرن مجدداً، وممن عد ذلك واستقصى القرون -على سبيل المثال لا على سبيل الحصر- الإمام ابن الأثير، في كتابه جامع الأصول، حين شرح هذا الحديث. وممن عدهم: الإمام الذهبي أيضاً، والمناوي في فيض القدير، والسيوطي في رسالة له مخطوطة، اسمها: التنبئة فيمن بعثه الله على رأس المائة، وغيرهم. ولكن لا يلزم أيضاً أن تجد في كل قرن فرداً أطبقت الأمة على أنه هو المجدد، بل قد يكون المجدد أكثر من فرد، فيكون -مثلاً- في الجزيرة العربية مجدد، ويكون في بلاد الهند مجدد آخر وفي الشام وفي مصر وفي غيرها، بل قد يوجد المجدد لجانب من جوانب الدين، كأن يجدد في جانب الفقه والحديث مثلاً، وآخر يجدد في مجال نشر العقيدة السلفية الصحيحة، وثالث يجدد في مجال الدعوة إلى الله عز وجل، ورابع يجدد في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وخامس يجدد في مجال إحياء الجهاد في سبيل الله وهكذا، لأن قوله صلى الله عليه وسلم: {من يجدد لها} مَنْ يمكن أن تحمل على الفرد وعلى الجماعة، ولا مانع من ذلك، ولم يرد حديث صحيح يدل على أن المجدد فرد، والقول الراجح أن المجدد طائفة ولا يلزم أن يكون فرداً. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 15 الحكم على حديث: أحبب حبيبك هونا ً السؤال فضيلة الشيخ: هل الحديث التالي صحيح أم ضعيف، يقول: {أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما} ؟ الجواب الذي يظهر لي أن السائل ربما يكون سمع، أو رأى أنني استشهدت بهذا الحديث في أحد المرات، والذي يظهر لي الآن أنه صحيح، وإن كنت ذكرت أنه صححه بعض العلماء، ولم أجزم بأنه صحيح. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 16 العنف والشدة في التربية السؤال لي أخوان في سن العاشرة، وأبي ليس موجوداً، وأريد أن يتوجهوا ويكونوا صالحين مهتدين ولقد عاملتهم بالعنف فلم يفد فيهم فماذا أفعل؟ قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من دعا إلى حسنة كان له مثل أجور من تبعه، أو من دعا إلى سيئة كان له مثل أجور من تبعه} أو كما قال: فماذا أفعل أفتونا مأجورين؟ الجواب الحقيقة أن العنف والشدة، هي الأسلوب الغالب في طريقة الناس في التربية في هذا الزمان، مع أنها ليست هي أنجح الأساليب، بل إنني أعتقد إنها كالكي الذي هو آخر الدواء. أما أن تكون هي البداية وهي الأسلوب الوحيد، فهذا خطأ، خاصة حين يكون الذي يقوم بالتربية أخ لهؤلاء الإخوة، وحينئذٍ يفترض أن المسافة الزمنية بينهم ليست بعيدة، فأعمارهم متقاربة نوعاً ما، وحينئذٍ يكون أسلوب الضرب أو العنف أكثر سوءاً وأقل فائدة. فالذي أنصح به هذا الأخ وغيره، أن يسلك الأساليب المناسبة في الدعوة إلى الله، وأن يحرص على ربط إخوته يدرس من دروس القرآن -مثلاً- وببعض الأصدقاء الطيبين، ويختار لهم بعض القصص المفيدة التي تناسب سنهم، ويغريهم بالقراءة وحفظ القرآن، وحفظ الوقت، بالوسائل المناسبة كالجوائز التشجيعية والمسابقات وغيرها، ويستبعد أسلوب الشدة نهائياً إلا في حالات خاصة. هذا هو ما أنصح به هذا الأخ وأنصحه بعدم العجلة، فإن كثيراً من الناس يطمعون أن يروا نتائج أعمالهم بسرعة، وآثار التربية لا تظهر إلا بعد زمن، فيجب أن يبذل الجهد وينتظر، ويثق بأن الله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً. وبالمناسبة أقول: حتى حين تفشل جهود الإنسان في التربية، لا يجب أن يعتبر أنها فاشلة فعلاً؛ لأننا نجد أن الإنسان المنحرف حتى وهو منحرف إذا كان واجه في بداية حياته دعوة، وتربية، ونصيحة، يكون انحرافه أقل من انحراف ذاك الذي لم يواجه دعوة، ولا تربية ولا نصيحة، إذاً فالتربية لا يمكن أن يضيع أثرها بحال من الأحوال. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 17 تقليد الأئمة من تصحيح الأحاديث وتضعيفها السؤال من المعلوم أن كثيراً من السلف -أهل الحديث- قد خدموا السنة خدمة جليلة في تصفيتها وتنقيتها من الكدر والكذب، وهم أرباب لهذه الصنعة، كالإمام النووي والحافظ ابن حجر وغيرهم الكثير، وقد خلصوا إلى تصحيح أحاديث وتضعيف أخرى، قد يتفقون أحياناً وقد يختلفون في ذلك، والآن من أكبر المعدودين هو الشيخ الألباني حفظه الله، وأرى كثيراً من طلبة العلم الذين يعدون مقلدين في هذه الساحة يعتمدون قول الألباني باطمئنان، حتى ولو خالف السابقين، وقد حصل ذلك، كما تعلمون سواء في التصحيح أو التضعيف. فأقول هل يعد هذا المنهج صحيحاً، خاصة وأنا أعتقد أن من سبقوا الألباني يقدمونه ويفوقونه علماً، أو ليس هذا هو المنهج الصحيح؟ الجواب الذي أعتقده أن الأخ لم يدع مقالاً لقائل، فقد سأل وأجاب، رزقنا الله وإياه الأجر والثواب، فليس لي تعليق على ما ذكره الأخ. وإن كنت أقول إن قضية تصحيح الأحاديث وتضعيفها، أمر اختلف فيه العلماء قديماً وحديثاً، وعامل الزمن لا يجب أن يحول بيننا وبين أخذ الحق ممن جاء به، إذا وجدت الحق عند إمام متقدم فافرح به، وإن وجدته عند إمام متأخر فكذلك، ومن نعمة الله على هذه الأمة أنه لا يزال فيها من يُعنى بحفظ السنة، فشأنها كما قال الشاعر: إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول ولكن إذا اختلفت أقوال الأئمة في الحديث بغض النظر عن كونهم قدماء أو معاصرين، إن اختلفت هذه الأقوال فلا يجوز للإنسان أن يأخذ بالتشهي فقط، فيأخذ أقوال فلان من الناس جملة وتفصيلاً، بل عليه أن يسلك مسلك البحث ويأخذ من الأقوال ما يجد أنه أقرب إلى الصواب، هذا إذا كان من طلاب العلم، أما إن لم يكن كذلك فالأمر يختلف. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 18 الجمع بين أحاديث أشراط الساعة السؤال كيف نجمع بين الأحاديث الدالة على خروج الدابة والتي تقسم الناس إلى مؤمن وكافر، وبين الأحاديث التي تصرح، بأن باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها؟ الجواب فيما يتعلق بأشراط الساعة الكبرى، هناك اختلاف بين العلماء في ترتيب هذه الأشراط، وليس هذا محل ذكر هذا الخلاف والحديث عنه. ولكن القضية الظاهرة، التي لا تخفى على من قرأ الأحاديث المتعلقة بأشراط الساعة الكبرى، أنه بعد هبوب الريح التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أن مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، وأنها تقبض أرواح المؤمنين، أنه بعد هذا الأمر لا يوجد في الأرض من في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. وفي القرآن الكريم ذكر الله عز وجل في قوله تعالى {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] فقوله (يوم يأتي بعض آيات ربك) صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه فسر ذلك بطلوع الشمس من مغربها، فنقول: إذا طلعت الشمس من مغربها لم ينفع نفساً حينئذ إيمانها، لأنها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً. أما الدابة فإنها تسم الناس المؤمن والكافر، وهذا يشعر -والله أعلم- بأنه حينئذٍ لا توبة؛ لأن المؤمن صار مؤمناً والكافر صار كافراً، ولا يتحول أحدهما، فلا المؤمن يرتد عن دينه، ولا الكافر يتوب إلى الله عز وجل والله أعلم. الجزء: 106 ¦ الصفحة: 19 مشكلات واقعية للشباب الشباب المسلم يعاني من مشكلات كبيرة، خاصة من يتابعون الإعلام المرئي بمختلف أشكاله، وفي هذا الدرس معالجة لمشكلات قُدِّمت من شباب، فلعل القارئ يستفيد منها أو يحذرها أو يفيد من وقعوا فيها. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 1 توطئة وتشويق الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه، أما بعد: في هذه الليلة المباركة، نشير إلى بعض المشكلات التي يواجهها الكثير من الشباب، فحديثنا الليلة هو عبارة عن مشكلات واقعية للشباب. أيها الأحبة الجسد الميت لا يشعر بالألم، ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ وإذا أصيب جزء من بدن الإنسانِ بمرض الشلل، أو الفالج، أو غيره، فإنك مهما وخزته أو ضربته لا يشعر بالألم، إذ لا ينتقل الإحساس إلى مركز التألم والشعور والإحساس، لكن ما إن تدب الحياة في هذا الجسدِ أو في هذا العضو حتى يصبح شديد الحساسية يتألم لأقل شيء ويتأثر من أي شيء، وإذا كانت حياة الأبدان هي بالروح؛ فإن حياة القلوب هي بالإيمان بالله عز وجل وطاعة الله تعالى والقربى إليه. وهذا الشهر الكريم هو من مواسم الخيرات، التي تتحرك فيها القلوب إلى رِبها جل وعلا، وربما أصغت الآذان إلى ذكره وربما لهجت الألسنة بذكره والثناء عليه، ولهذا لا غرابة أبداً، أن تجد الأوابين والتوابين تتكاثر جموعهم في هذا الشهر الكريم، وتغص بهم المساجد، وتكتظ بهم حِلق الذِكر، ولأصواتهم دوي بالقرآن الكريم، وربما كان في كثير من الأحيان لهم خنين وحنين وبكاء كلما سمعوا ذكراً أو وعظاً أو تخويفاً من نار أو ترغيباً في جنة أو دعوة إلى توبة، وهذا شأن المؤمنين الصادقين، فإن المؤمن الذي يؤمن بالله عز وجل وإن ابتعد، وإن استدرجه الشيطان خطوة خطوة، ونأى به عن ربه جل وعلا، فإنه سريع الأوبة والعودة إلى الله تعالى، لا يصر على ذنب، ولا يستمرئ معصية، ولا يستلذ مخالفة، وإنما تغلبه نفسه مرة بعد مرة بتسويل شياطين الإنس والجن، فإذا سمع داعي الله تعالى أجاب وأناب وهو يقول: لبيك لبيك، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه، في هذه الساعة المباركة، أن يجعلنا وإياكم من التوابين، وأن يتقبل منا ومنكم أجمعين. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 2 مشكلة شاب أيها الإخوة لم تدع لي أسئلة الشباب في الليلة الماضية وقتاً لبعض الموضوعات التي كنت دونتها وأعددتها، فقد جاءتني مجموعة من الأسئلة التي أرى أنها في غاية الأهمية، وهي أسئلة واقعية من بعض الشباب، فرأيت أن أشرككم معي في سماع المشكلة، ثم في بعض الحلول التي أسأل الله تعالى أن يفتح بها. فأحد الرقاع التي بعث إليّ بها شاب يقول: أنا شاب نشأت وسط أسرة متدينة، ملتزمة بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم منذُ أن عرفت هذه الحياة، ويرجع الفضل بعد الله تعالى في ذلك إلى والدي -رحمه الله- الذي نشَّأ هذه الأسرة على الالتزام، ولكنني انحرفت عن خط سير هذه الأسرة نوعاً ما، حيث إنني الوحيد الذي ابتعدت عن الصراط المستقيم وقد بذل والدي رحمه الله كل ما يملك في سبيل هدايتي، وبذل النفس والنفيس، ولكن الله تعالى أراد شيئاً وأراد والدي شيئاً آخر، وكان ما أراده الله تعالى ثم رحل والدي عن هذا العالم إلى الدار الآخرة، وأكمل المسيرة من بعده أشقائي ووالدتي، ولكن جميع جهودهم لم يُكتب لها التوفيق، وأخبرك أن انحرافي لم يكن لسوء التربية دورٌ فيه، فأنا القاتل، وأنا القتيل، فما هي نصيحتك لي وأرجو الدعاء لي في هذا المقام أن يهديني الله تعالى وأن ينور بصيرتي؟ أما الدعاء، فقد بذلناه وسألناه جل وعلا، أن يهدينا وإياك إلى سواء السبيل، وأن يأخذ بأيدينا إلى ما يحب ويرضى، وأن ينور بصائرنا، ويرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، ويأخذ بأيدينا إلى مرضاته، ويكفينا شر أنفسنا، وشر شياطين الإنس والجن. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 3 البحث عن الأسباب التي تحول دون الهداية النصيحة الثانية: أن ينظر العبد في الأسباب التي تحول بينه وبين هداية الله تعالى وذلك أن الهداية موجودة في القرآن محفوظة {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . فالهداية موجودة، بحث عنها يهودي فوجدها، وبحث عنها نصراني فوجدها، وبحث عنها بوذي فوجدها، وبحث عنها هندوسي فوجدها، وبحث عنها وثني فوجدها، واهتدوا بهداية الله تعالى، ووصلوا إلى طريقه، وآمنوا به، فكيف تعز هذه الهداية على إنسانٍ يعيش في مجتمع مسلم، وولد من أبوين مسلمين، ونشأ في بيئة صالحة؟! إلا أن يكون هناك سبب يحول بينه وبينها. الهداية إذاً موجودة ومبذولة، والله تعالى قد أقام الحجة على عباده: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] ويقول الله عز وجل عن المشركين وهم يعذبون في النار يوم القيامة قال: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10-11] . فهم اعترفوا أنهم أهل لهذا العذاب مستحقون له جديرون به، ولم يتعذروا بأنه لم يبلغهم شيء، أو أنه حال بينهم وبين الهداية حائل، أو منعهم منها مانع!!، كلا، بل اعترفوا كما ذكر الواحد الأحد، جل وعلا، في محكم تنزيله: (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) وأنهم جديرون بهذا العذاب مستحقون له، حتى إنه لا يدخل النار أحد قط، إلا وهو معترف بأنه من أهل النار، وأنه مستحق لها ليس في الدار الآخرة أحد يدخل النار وهو يصيح يقول: ربِّ إني مظلوم، نعم، هذا حاصل في الدنيا، فقد يقتل شخص في الساحة وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يجلد شخص وهو يصيح يقول: أنا مظلوم، وقد يسجن وهو يقول: أنا مظلوم، ومن الممكن أن تقطع يده وهو يصيح أنا مظلوم. أما في الدار الآخرة فهذا الصياح والصراخ لا تجده!!، كل إنسان لا يدخل النار إلا وهو مقتنع بأنه مستحق لهذا العذاب مهما كان هذا العذاب شديداً، وعظيماً وفظيعاً ومهيناً ورهيباً لا تتصوره العقول، ولا يكاد الإنسان أن يدركه، ومع ذلك كله لا يدخل النار أحد إلا وقد أعذر من نفسه، وعرف أنه مستحق لهذا العذاب، وهذا من كمال عدل الله تعالى. وقالوا: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) إذاً: هم عطلوا آذانهم، (أو نعقل) فعطلوا عقولهم أيضاً عن طلب الهداية (ما كنا في أصحاب السعير) فاعترفوا بألسنتهم وقلوبهم ظاهراً وباطناً، (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) إذاً الهداية موجودة فلتنظر ما هو المانع الذي يحول بينك وبينها؟! أيضاً الأمر الآخر: أن الفطرة موجودة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول كما في الحديث المتفق عليه {ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه} . وأنت أيها الأخ الكريم ذكرت لنا في سؤالك أن والديك من أهل الخير والصلاح، وأن أسرتك متدينة وأن ما حصل لك لم يكن لسوء التربية فيه دورٌ كما ذكرت. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 4 القرآن شفاء لما في الصدور النصيحة الأولى: فإن الله تعالى بيَّن في كتابه أن هذا القرآن شِفاء، إذا وجدنا في جسد الإنسان مرضاً ذهبنا به إلى أطباء الأجساد، فعملوا له التحاليل اللازمة والدراسات حتى اكتشفوا سبب المرض، ثم صرفوا له الدواء المناسب، فإن العلاج كل العلاج لأمراض القلوب هو بهذا القرآن، فعلى الإنسان أن يوقن يقيناً لاشك فيه، أن هذا القرآن مُشتمل على ألوان العلاجات التي تحتاجها قلوب الناس، وأن القلب الذي لا يخشع لهذا القرآن، ولا يتأثر فيه، ولا يجد فيه طبه وشفاءه، هذا القلب على خطر عظيم، وإذا كان للأجساد أيضاً أمراض ينفض الأطباء أيديهم منها ويقولون: هذا مرض لا شفاء له ولا حيلة فيه، وصاحبه ميئوس منه، فالناجي منه مولود، والواقع فيه مفقود؛ فإن للقلوب أيضاً أمراضاً يُخشى أن تؤدي بأصحابها. وعلامة ذلك المرض الخطير في القلب هو أن لا يتأثر بالقرآن ولا يخشع به، قال الله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] . وبين في مواضع أنه أنزل هذا القرآن شفاء، وفي موضع شفاء لما في الصدور، وفي موضع أنه يهدي للتي هي أقوم، إلى غير ذلك مما وصف الله تبارك وتعالى به كتابه، فينصح الجميع بالإقبال على هذا القرآن، تلاوةً وقراءةً، وتدبراً، وتخشعاً، وسماعاً، وفهماً، وحفظاً، وإدراكاً، واجتماعاً عليه؛ لعل الله تعالى أن يُلين قاسي القلوب بتكرار الآيات والمواعظ فيه. وإذا تأملت أن هذا القرآن هو كلام الله جل وعلا، خالق هذه القلوب ومبدعها عرفت السر في تجاوب القلوب الحية أو القلوب التي لا زالت على الفطرة مع القرآن الكريم. قرأت في بعض القصص، أن رجلاً من أهل العلم سافر قبل سنوات إلى بلدان من بلاد العالم على متن سفينة، وكان معهم مجموعة من المسلمين، ومجموعات أخرى من غير المسلمين، وكان اليوم جمعة فأرادوا أن يقيموا صلاة الجمعة على السفينة، فاجتمعوا وقام ذلك الرجل وهو قد يكون عالماً أو مفكراً أو داعية، المهم قام وصلى بهم وخطب خطبة الجمعة، وبعد الصلاة تفرق الناس، فجاءت إليه امرأة غربية نصرانية، وتكلمت معه برطانتها وهي لا تعرف اللغة العربية، فقالت له: " ماذا قُلت قبل قليل حينما كُنت تتكلم". فقال لها: " إنه وعظ الناس وذكرهم وتكلم عن بعض المسائل وبعض الأمور التي تهم المسلم في دينه". فقالت له: " أنا لا أعرف اللغة العربية ولا أدري ماذا قلت، ولكنني أحس أن بعض الكلام الذي تقوله يتعاطف معه قلبي، وأنني إذا سمعت كلامك أشعر بخفقان في صدري، وأشعر أن قلبي يكاد أن يطير، ولا أدري ما هذا الكلام الذي تقوله" فقال لها: إن هذا هو القرآن وإني استشهد بشيء من آياته أثناء خطبتي. وفي القديم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه لما جاء المدينة في فداء أسارى بدر، سمع النبي صلى الله عليه وسلم وكان يصلي بأصحابه فيقرأ بهم سورة {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:1-2] فدخل المسجد وسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فأنصت له يقول جبير رضي الله عنه، وكان يومئذٍ مشركاً: [[فلما سمعت قول الله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ الآية)) [الطور:35-36] . كاد قلبي أن يطير فوقع الإسلام في قلبي من يومئذٍ]] ثم هداه الله تعالى وأسلم. وقد قرأت مقالاً لأحد العلماء يقول: " إنه كان يوماً ما جالساً في مجلس لهو ولعب وسمر مع بعض أصحابه وزملائه، وكانوا يتحدثون ويتضاحكون، يقول: فصمتوا لحظة واحدة، ثم جاءهم من بعيد صوت قارئ يقرأ شيئاً من القرآن الكريم، قول الله عز وجل: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ * فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:59-62] . يقول: فكأن هذه الآية وقعت في أذني لأول مرة، وكأنه لم يخاطب بها غيري ولم أسمعها من قبل يقول: فأصابتني قشعريرة ورعشة في بدني ظلت معي أسابيع وأنا مضطربٌ مقشعرٌ، وفي أعصابي حال من الارتباك ما الله به عليم، من جراء تأثره بتلك الآيات". وقد جاء في بعض الروايات أن المشركين لما سمعوا هذه الآيات أيضاً، وكانوا في مكة يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم يطاردونه ويطاردون أصحابه فسمعوا قوله تعالى: {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم:59-61] يعني: غافلون لا هون {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم:62] إنهم سجدوا عن آخرهم، وهم كانوا مشركين، إلا رجلاً منهم كان كبير السن لم يستطع أن يسجد فأخذ كفاً من تراب في كفه في يده ثم وضعه على جبهته وسجد عليه! فمن لم يعتبر بمواعظ القرآن فبأي مواعظ يعتبر؟! ومن لم يلن قلبه لكلام الله فكيف يلين قلبه لكلام الناس؟! ومن لم يخشع من هذا الذكر الحكيم فأي وعظ يمكن أن يخشعه أو يلين قاسي قلبه؟! الجزء: 107 ¦ الصفحة: 5 أسباب تحول دون الهداية وعلاجها عليك أن تسأل نفسك: ما هو الأمر الذي حال بينك وبين أن تستجيب فطرتك لهذه الهداية؟ بقي الأمر منحصراً والله تبارك وتعالى أعلم في أحد أمرين: الجزء: 107 ¦ الصفحة: 6 شياطين الإنس السبب الثاني: هو الشيطان الإنسي وأعني به قرناء السوء، الذين هم أحياناً أعوان ل شياطين الجن على إضلال الإنسان، له فيكون له أصحاب يدعونه إلى الضلالة، ويدعونه إلى الشر، ويزينون له الباطل، كما فعلوا مع أبي طالب حتى وهو في مرض الموت، أترغب عن ملة عبد المطلب؟! حتى كان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله، فختم له على الشرك والكفر -والعياذ بالله من شؤم قرناء السوء-! والغريب أن قرين السوء قد يوقعك ثم يذهب وهو يضحك وأنت تبكي!! فقد يجر الإنسان إلى أنواع المهالك والمعاطب؛ فإذا وقع تركه وذهب ينظر إليه من بعيد، ويسخر منه، ويشمت به ويضحك، وقد يتبجح في المجالس أنه أورد فلاناً موارد الهلكة، وعلى كل حال فهم يوم القيامة لا ينفعونك بشيء، فيوم القيامة يفصل بينكم ويقال لكم: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] . لا أحد يحمل وزر أحد بل كل إنسان قد ألزم طائره في عنقه، ويخرج له يوم القيامة كتابٌ منشور، يُسلَّم إياه ويقال له كما قال الواحد الأحد جل وعلا: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً * مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:14-15] . فحاذر شر شياطين الإنس وابعده عن جلساء السوء، وإن خدعوك بمعسول القول ولين الكلام، وإن أغروك بالمخدرات، وأغروك بالتدخين، وأغروك بالسفر إلى الخارج، وأغروك بالصورة الجميلة، وأغروك بالأغنية ذات الصوت العذب، وأغروك بالموسيقى وأغروك بما يلذ سمعك ويطربه، ويعجبك، ولكن لا تنس أبداً أن العبرة بالمآل وكما قيل: كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتكُ السهام بلا قوس ولا وترِ يسر مُقلته ما ضر مُهجته لا مرحباً بسرورٍ جاء بالضررِ أي خير في نظرة حرام يستلذ بها الإنسان لحظة، ثم تورثه حسرة دائمة في قلبه؟! حسرة في الدنيا على فوت هذا الأمر وحرمانه منه، وحسرة في الآخرة، والله الذي لا إله غيره -أقولها خاصة لك أخي الشاب صاحب الورقة، وأقولها لكل إنسان- والله الذي لا إله غيره إن العذاب الذي يشعر به الذي يرتكب الجرائم من الفواحش والكبائر والذنوب العظام، ومن مقارفة ما حرم الله، ومن السفر إلى الخارج، ومن معاقرة الخمور، ومن مجالسة المومسات والبغايا والفاجرات، والله إن العذاب الذي يشعر به في قلبه هو أضعاف أضعاف ما قد يشعر به الإنسان من العذاب في سبيل مقاومة الشهوة، والصبر عليها، والامتناع عما حرم الله، بل إن العبد إذا صبر عما حرم الله تعالى فإن الله تعالى يورثه في قلبه أُنساً ولذة، لذة الانتصار على الشهوة، لذة الانتصار على النفس، لذة مخالفة الشيطان، ومراغمة النفس الأمارة بالسوء، فيقذف الله تبارك وتعالى في قلبه سكينة ولذةً لا يعلمها إلا من ذاقها وجربها. فلا تنخدع بلذة عابرة، لا خير في لذة من بعدها النارلا، بل قبل النار حتى في هذه الدنيا حسرات. وعندي أوراق من بعض هؤلاء، والله إن الإنسان إذا قرأها لا يملك عينه أن يبكي، قد يكونون ارتكبوا فواحش كثيرة، وأثموا، وظلموا، وفجروا حتى يظن من يعرفهم أن هؤلاء لا خير فيه وليس في قلوبهم إحساس، لكن إذا قرأ ما كتبوا أو سمع ما قالوا ينكسر قلبه لهم، ينكسر لما يشعر ويعلم في قلوبهم من ذُل المعصية والعياذ بالله ومن عظيم الحزن على ما فعلوا، أما العبد الذي أطاع ربه، فقد يشعر بالحرمان لحظة؛ لكن الله تعالى يورثه من جراء ذلك سعادة وأُنساً: ومن يغضض فضول الطرف عنها يجد في قلبه أُنساً وطيباً فعليك أن تعوذ بالله وتلوذ بكنفه، وتسأله جل وعلا أن يمنحك الصبر، وأن يثبتك وتنظر ما هي الأسباب التي أودت بك من ما زينه لك شياطين الإنس والجن فتعمل على إزالتها، وعليك أن تبحث عن رفقة صالحة، تكون معهم يعينونك على الخير، ويدلونك عليه، وينشطونك إذا كسلت، ويذكرونك إذا نسيت، ويعلمونك إذا جهلت، لعل الله تعالى أن يحشرك معهم في الدار الآخرة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 7 شياطين الجن السبب الأول: وسوسة شياطين الجن، الشيطان الجني المسلط على ابن آدم، والذي له في القلب لمةُُ وله تأثير وله محاولة، وقد توعد بني آدم أن يغويهم أجمعين، وهددهم منذ عهد أبيهم آدم عليه الصلاة والسلام أن يقعد لهم بكل طريق يقطع عليهم هذا الطريق، ويحول بينهم وبينه ويحاول أن يوجد العثرة لهم عن الهداية، فهذا شيطان الجن، وعلاج شيطان الجن، أن تستعيذ بالله منه، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] . وعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس:1-6] . فالاستعاذة من شيطان الجن أولاً، وعلى العبد أن لا يدع لشيطان الجن سبيلاً إليه، وذلك بكثرة الذكر فإن الشيطان إذا دخلت البيت حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله، فإذا خرجت حاول أن يوسوس لك، وقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا دخلت الخلاء حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا أردت أن تنام حاول أن يوسوس لك، فقل: بسم الله وادع الدعاء الوارد، فإذا استيقظت وإذا ذهبت، أو سافرت، أو أقمت، أو حصل منك أي تغير في حال من أحوالك، فاجعل الذكر أنيسك وخليلك في كل حال، واجعله حائلاً بينك وبين شياطين الجن الذين قد يضرونك حتى في بدنك، فمن المعلوم أن الشيطان الجني يحاول أن يضر الإنسان حتى في بدنه، فالجن قد يلاطفون الإنسان، وقد يؤذونه في نفسه، وقد يؤذونه في أهله، وقد يؤذونه في ولده، والذي يحول بينه وبين ذلك هو أن يستعيذ بالله تعالى من شرهم، وأن يذكر اسم الله تعالى، ولهذا جاء في الحديث: {ستر ما بين أعين الجن وبين عورات بني آدم إذا دخلوا الخلاء أن يذكروا اسم الله} فإذا أراد الإنسان أن يدخل الخلاء فقال: {بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث} كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن للشيطان عليه سبيل، فلا يراه ولا يستطيع أن يضره بشيء وهكذا غير هذه الأماكن، خاصة الأماكن التي تكون محتضرة، أي: يحضرها الشياطين ويكثرون فيها، فعلى العبد أن يتحصن من شر شياطين الجن بالأدعية والأذكار الصباحية والمسائية والأوراد التي يحفظه الله تبارك وتعالى بها. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 8 سؤال مصاب بمرض العشق هذا أيضاً سؤال آخر يقول: أنا شابٌ ابتلاني الله تعالى بأخطر الأمراض المعنوية، وهو مرض العشق- أعاذنا الله وإياكم منه- حيث كانت البداية مع شاب صغير حاولتُ مساعدته بعد أن شكا لي ظُلم والده له، وقسوته عليه، فعطفت عليه وساعدته، ولم أكن أعلم ماذا يخبئ لي القدر المجهول -على حد تعبيره- حيث تحولت العلاقة إلى عشق مرير لا أستطيع التخلص منه وهو كذلك، وأحمل والده المسئولية العظمى أمام الله تعالى حيث أهمل ابنه، وقسى عليه وطالت مدتي معه، حتى أنبني ضميري، وصارحته أن عليه أن ينسى الأيام الماضية لتبقى مجرد ذكرى في طيش الشباب، ولكنه بكى أمامي كالحمل الوديع، ورفض أن أتخلى عنه مهما كانت الأحوال، فاستسلمت للأقدار رغم إيماني التام أن الهدف الحقيقي من هذه الحياة، أجل وأسمى من هذه التوافه، يقول: وأعاتبك عتاباً رقيقاً، لعدم إلقائك لأحد الدروس السابقة، التي كنت أعلنت عنها بعنوان مصارع العشاق، وأرجو أن يتحقق هذا الأمل ويُلقى الدرس فلا تعلم قد تكون هدايتي على يديك لتحصل على خير كثير! أسأل الله تعالى أن يهديك على يدي أو على يدي غيري، المهم أن يهديك الله تعالى إلى سواء السبيل، ويأخذ بيدك إلى ما يحب ويرضى. أولاً: أنا قرأت هذا السؤال عمداً من أجل أن تسمعوه فيسمعه الآباء ويدركوا أهمية عنايتهم بأولادهم وخاصة من صغار السن، في السن الابتدائي والمرحلة المتوسطة، ويحرصوا على مراقبتهم وشدة الاهتمام بهم، وكذلك لأنه يسمعه الشباب فيحذروا على أنفسهم ويبتعدوا ويدركوا أنه ربُما نظر نظرة تكون سبباً في بلاءٍ وحزنٍ طويل، فيحرص الإنسان على أن يلتزم قول الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] ربما نظرة يُحرم الإنسان بسببها لذة العبادة، وربما نظرة يحرم الإنسان بسببها من حفظ القرآن، وربما نظرة يحرم الإنسان بسببها من الطاعة، فتثقل عليك، وربما يحال بينه وبين الهداية بسبب إدمان النظر، وكونه يتلفت يمنةً ويسرةً، ينظر في وجوه الناس شباباً ونساءً، وينظر في الصور ويتأملها ويستحسن حسنها ويستملحها، ويتأملها ويتلذذ بالنظر إليها وإدمان ذلك، فيورث هذا قلبه مرضاً طويلاً!! نسأل الله تعالى العفو العافية. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 9 توجيه العاطفة وجهة شرعية ثالثاً: إن هذا قد يعود إلى وجود نوع من الطبيعة العاطفية عند هذا الإنسان، إنه إنسان عاطفي قوي العاطفة، عنده قدر من المحبة في قلبه، وهذه المحبة لم تجد طريقها الطبيعي الصحيح، ولذلك صارت مثل الماء الذي لا يجد مجراه الصحيح، فيضيع في الصحراء هنا وهناك، فعلى الإنسان أن يعالج هذا الأمر، بأن يملأ المكان الطبيعي من المحبة بما شرع الله تعالى، أما المحبة العبادية فكما بينت أنها لله تعالى، فيحب الله تعالى ويقبل عليه، ويحب النبي صلى الله عليه وسلم وسائر أنبياء الله ورسله، ويحب الصالحين والأعمال الصالحة، أما المحبة الطبيعية البشرية فعليه أيضاً أن يبحث عن بنت الحلال التي تملأ هذه الخانة المخصصة، فإن القلب عبارة عن خانات، وهناك خانة مخصصة للحب الطبيعي للزوجة والأولاد وغير ذلك قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14] . فهذه الخانة إذا زادت فهي مذمومة، وإذا نقصت فقد تضر بالإنسان -أيضاً- فعليك أن تبحث عن بنت الحلال التي تملأ هذه الخانة المخصصة في قلبك لحب الزوجة، أو لهذا اللون من الحب بما أحل الله تعالى، وتغض بها بصرك عن الحرام وتعف بها فرجك عما لا يجوز ولا ينبغي. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 10 الانقطاع الكلي عن الوباء كما أن من الأسباب كثرة ملازمتك لهذا الشخص، فمن الحلول أن تنقطع عنه وتنفض يدك منه بالكلية وإذا كنت تقول: إنك قد تشعر أنه بحاجة إليك، فلا شك أنه ليس من العقل ولا من الحكمة أن ينفع الإنسان الآخرين ليضر نفسه، واطلب نجاة نفسك، والسلامة لا يعدلها شيء، وأنت الآن بحاجة إلى أن تفارقه أعظم بكثير من حاجته هو إلى أن يصاحبك، وحاجتك مقدمة على حاجته، فعليك أن تتجنب هذا الشاب وتبتعد عنه ابتعاداً كلياً، وتجعل علاقتك معه كعلاقتك بأي شخص أجنبي، إن قابلته سلمت عليه وصافحته إن كان هذا لا يضر بك، وأما ما سوى ذلك فابتعد عنه وتجنب. وفي الختام: بقي في الحقيقة مجموعة من الأسئلة كانت مهمة ومفيدة ولكن الوقت داهمنا، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يمن علينا وعليكم جميعاً بالهداية والثبات، وأسأل الله تعالى لهؤلاء الشباب ولسائر شباب المسلمين أن يهديهم إلى سواء السبيل، وأن يجعلهم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يصلح فساد قلوبهم، وأن يصلح ظاهرهم وباطنهم وسرهم وعلانيتهم، وأن يملأ قلوبنا وقلوبهم بحبه وذكره وشكره وعبادته إنه على كل شيء قدير، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، اللهم استجب لنا يا حي يا قيوم، اللهم لا تردنا خائبين ولا من رحمتك مطرودين يا حي يا قيوم، اللهم استجب لنا إذ سألناك، اللهم استجب لنا إذ سألناك، اللهم استجب لنا إذ سألناك، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، وأنت وحدك المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، خاتم أنبيائه وأفضل رسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا السلام هو تحية الإسلام، وفي نفس الوقت هو استدراك استدركه عليَّ أحد الإخوة، يقول: لقد نسيت أن تحيي هذه الجموع المتطلعة بتحية الإسلام، فهلا قابلتهم بمثل ما يحملون، فلذلك ذكرني هذا الأخ، فجزاه عني وعنكم خيراً. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 11 العلاج بقطع السبب الأمر الثاني الذي قد يكون سبباً فيما جرى وبزوال السبب يزول المسبب، إن هذا الأمر قد يكون بسبب النظرة الحرام، أول نظرة تلذذ واستحسان لهذه الصور، وقد يرى بعض الناس أن هذا أمرٌ أصبح عادياً، فعلى الإنسان أن يكف بصره عما حرم الله، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وقال: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] . وعلى الإنسان أن لا يثق بنفسه أبداً. اتصلت بي إحدى المرات امرأة، تقول لي: كنت أسمع الناس يتكلمون عن التلفاز ويحذرون منه؛ فكنتُ أسخر بالذين يقولون هذا الكلام، لأنني لا أرى فيه شيئاً، ولا أتابعه، وإنما كنت أستمع كما تقول إلى البرامج الدينية، وربما شاهدت المباريات الرياضية، فتقول: في إحدى المرات، تعلق قلبي من حيث لا أدري ولا أشعر بأحد هؤلاء اللاعبين الذين أتابعهم، وصرت أفكر فيه دائماً وأبداً، ووالله إنها تكلمني وعبرتها تسبق كلمتها، وهي تقول: إن هذه الأمور أنا لست لها، وليست لي، وأنا بعيدة عنها، وتحلف بالله أن هذا الإنسان لو جاء يطرق الباب إنها لا يمكن أن تقبله، ولكنها تشكو ما وجدت في قلبها، وتتساءل كيف سرى هذا إلى فؤادها!! وهذا هو البلاء، البلاء يسري من حيث لا يدري الإنسان مثل ما قال الشاعر الذي يقول: عُيون المها بين الرُصافة والجسرِ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري فقد لا يعرف الإنسان أن هذه النظرة سوف تورثه مثل هذا المصير السيئ، فعلى الإنسان أن يقطع مادة الفساد من أصلها بتجنب النظر الحرام، والذي وقع عليه أيضاً أن يعالج هذا البلاء بغض البصر، وأن يطأطئ رأسه لله، فكما إنه في صلاته ينظر إلى موضع سجوده لا يتعداه، فعليه أن ينظر إلى ما يحتاج إليه، وأن يتجنب إطلاق البصر فيما لا يحتاجه وفيما يضره ولا ينفعه. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 12 العلاج بدوام الدعاء أدم قرع الباب حتى يُفتح لك، واعلم أن الله تعالى إذا حجب عنك شيئاً مما تريد الآن، فإنما يحجبه عنك لحكمة وهو أحكم الحاكمين، لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، وعليك أن تظل منطرحاً حتى تصل إلى درجة الاضطرار، والله تعالى يجيب المضطر إذا دعاه، كما قطع على نفسه سبحانه، وكتب على نفسه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] . والناس يتناقلون في قصصهم وأخبارهم، أن ربنا جل وعلا يجيب دعاء المضطرين في أمور الدنيا، حتى ولو كانوا من غير المسلمين أحياناً، فربما أجاب الله دعوة غريق، أو مريض، أو حريق، أو جائع، أو مظلوم، أو غير ذلك إذا وصل إلى درجة الاضطرار، أي الانقطاع التام من الأسباب، والتسليم المطلق لله تعالى، وتفويض القلب كله إلى الله تعالى، وانتظار الرجاء مع الثقة بوعده؛ فكيف إذا كانت الضرورة ضرورة دينية؟! وضرورة الدين أعظم من ضرورة الدنيا؛ لأن الإنسان قد يموتُ من مرضٍ، أو جوعٍ، أو عطشٍ، أو بردٍ، أو حَرٍ، أو ظُلمٍ، فيكون مأواه إلى الجنة إن كان من الصالحين الأتقياء، فضرورة الدنيا مهما عظمت فأمرها يهون، لكن المصيبة العظمى ضرورة الدين، فكون الإنسان مفتوناً في دينه في مثل هذا الأمر هذه هي المصيبة؛ لأن الإنسان ولو عاش في ظل نعيمٍ مقيم في هذه الدنيا فإن مصيره إلى الموت، وما بعد الموت أمر يهول ويطول، فعليك أن تستمر في قرع الباب حتى تصل إلى درجة الاضطرار، وأن لا تيأس من أن الله تعالى سوف يجيب دعاءك. إذاً: عليك أولاً: أن تشغل قلبك بطاعة الله تعالى وحبه وذكره ودعائه وسؤاله وتنطرح بين يديه. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 13 العلاج بالتوبة عليك أن تعالج قلبك، بالقرآن وترديد القرآن، وبالمواصلة وعدم اليأس، وكما قيل: أخلق بذي الصبرِ أن يحظى بحاجتهِ ومُدمِن القرعِ للأبوابِ أنْ يَلِجاَ رأيت بعض الناس يُصلي مرة أو يخشع مرة، أو يحضر ختمة من الختمات، أو يحضر مجلساً من المجالس، فإذا لم يجد في قلبه ليناً ترك المجاهدة!! لا يا أخي كل حياتك ميدان للجهاد حتى تموت، حتى وأنت على فراش الموت، جاهد لعل التوبة تكتب لك ولو في ذلك الوقت، فإنك سعيد إن كتبت لك توبة، حتى ولو كنت على فراش الموت ما لم تغرغر قال النبي عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} كما في الحديث الصحيح -حديث أبي هريرة - رضي الله عنه. فحتى لو كتبت لك توبة هناك فأنت إلى خير، المهم أن تتوب قبل الموت، وقبل أن تبلغ الروح الحلقوم، وقبل أن تعاين الملائكة الذين جاءوا لقبض روحك. والله عز وجل يقول: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] . فانطرح بين يدي الله، وانكسر له، واصرخ طالباً من الله تعالى النجدة والغوث، وتذكر أن الإنسان لو رأى شخصاً في مسيس الحاجة إليه، وهو يناديه ويستغيث به ويطلب منه عونه في نجاة من غرقة أو حرقة، أو حادث أو غير ذلك، أن أقسى الناس قلباً، لا يمكن أن ينظر إلى هذا الشخص وهو يموت ويتركه، والله تعالى أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، ورحمته وسعت كل شيء وهو أرحم بعباده من الأم بولدها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فعليك أن تعلم أن ربك هو الرحمن الرحيم، الودود الحليم الذي قال عن أكفر الكافرين: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] أي: لو تابوا لتاب عليهم، {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] يعني أصحاب الأخدود {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] . أي: لو تابوا من جريمتهم العظمى لتاب لله عليهم وقبلهم، فهو قابل التوبة، فتب إليه وانطرح بين يديه، وَأَدِمْ السؤال، وألظ بـ (ياذا الجلال والإكرام) واصدُق الله تعالى يصدقك الله، ولا تيأس إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا تقنط فإنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 14 من أسباب المرض: فراغ القلب وخواء الروح أول الأسباب التي أودت بك إلى هذا هو فراغ القلب والروح: فإن القلب إذا خلا عصفت فيه رياح الشهوة، وتلاعبت فيه الشياطين، وأدخل عليك الشيطان من وسوسته ما أراد. فراغ القلب من حب الله تعالى فإن القلب المشغول بحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب الصالحين، ليس فيه مكانٌ لأي لون من ألوان هذا الحب المذموم الممقوت، والقلب مثل الإناء، إن ملأه الإنسان بالعسل لم يكن فيه مكان للتراب والبعر، وإن ملأه الإنسان بالتراب والمواد الخبيثة لم يكن فيه مكان للعسل والأشياء النافعة الحلوة المفيدة، فهو للذي يسبق. فعلى الإنسان أن يملأ قلبه بمحبة الله تعالى، ويحرص على تحصيل محبة الله تعالى. وأمرها واضح وسبيلها لا شك فيه: {إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] . ويقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أنس وهو في الصحيحين: {ثلاث من كُن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه؛ كما يكره أن يقذف في النار} . الجزء: 107 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 107 ¦ الصفحة: 16 المحتاجون في الداخل والخارج السؤال مع كثرة التبرعات هذه الليالي كزكاة أو صدقات؛ هناك كثير من الناس يشككون بوصولها، ويقولون: هناك في البلد محتاجون أكثر من الخارج، بماذا تنصح هؤلاء؟ الجواب نعم في البلد محتاجون لا شك، ونحن ممن يتعرف على المحتاجين في البلد ويوصلون إليهم ما تيسر من المواد العينية وغيرها، ومن المال الذي يستعينون به، ولكن من المغالطة أن نقول هنا: إن المحتاجين هنا أكثر من الخارج، ففي الخارج أممُُ بأكملها، وكما قيل: تلفتوا هاهُم في الأرضِ إخوتُنا شعبٌ برمته في العُري يُحتضرُ كانوا بأوطانهم كالناس وانتبهوا فما هُمُ من وجود الناس إن ذُكِروا مشردون بِلا تيهٍ فلو طلبوا تُجدد التيه في الآفاقِ ما قدِروا يلقى الشريدُ فِجاج الأرض واسعةً لكنهم بمدى أنفاسهمْ حُشِرُوا في خيمةٍ من نسيج الوهم لفقها ضميرُ باغٍ على الإسلام يأتَمِر أوهى وأوهى خيوطاً من سياسته لو مسها الضوء لا نفدتْ بِه السُتُرُ ناس لا يجدون ما يلبسون ولا ما يأكلون ولا ما يشربون، بل لا يجدون مكاناً يقضون فيه حاجتهم، مريضهم يموت وهو يتلوى، لا يجدون علاجاً له، ولو كان مرضه أهون الأمراض الفرق كبير يا أخي! الجزء: 107 ¦ الصفحة: 17 من مات ولم يعرف الإسلام السؤال ما هو مصير الذين يموتون على غير دين الإسلام وهم لم يعلموا كما هو حاصل في بعض دول أوروبا؟ الجواب إذا كانوا لم يعلموا بدين الإسلام فربك جل وعلا يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ويقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وقال: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقد اختلف أهل العلم في مثل هذه المسألة على أقوال كثيرة، سردها الإمام ابن القيم في كتابه القيم أحكام أهل الذمة، على كل حال دعهم لله، واشتغل بمحاولة إيصال الإسلام لمن تستطيع منهم ودعوتهم إليه، وتقديمه لهم بطريقة مقنعه تدعوهم إلى التفكير فيه، ومن ثم الدخول فيه، أما الاشتغال بمصيرهم الأخروي هذا فدعه لله تعالى. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 18 مشكلة شرب السيجارة السؤال هذا شاب يقول: أنا مبتلى بشرب الدخان، وعند دخول شهر رمضان عزمت على تركه فلم أستطع، حيث إني بعد الإفطار مباشرة وقبل المغرب أشربه، وقبل أذان الفجر أشربه أيضاً، وقد أثر ذلك في أعمالي، حيث إني هجرت القرآن كثيراً فما هو توجيهكم؟ الجواب يا أخي لا تحتاج إلا إلى عزيمة صادقة أولاً، ثم استعن بالله تعالى أن يعينك على الخير، والله تعالى لا يرد سائلاً ويقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . فأنصحك أن تصدُق الله وتصمم على هذا العمل، وإن قمت بزيارة إلى العيادة الخاصة في ذلك، واستفدت من بعض خبراتهم وما لديهم، فهذا شيءُُ حسنٌ أيضاً. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 19 نصيحة للمقصرين السؤال هل من كلمة نصح بالتوجيه لمن يشاهدون الأفلام والمسلسلات والدعايات، ونحن في أمس الحاجة إلى الحذر واليقظة مما يحيكه لنا أعداؤنا؟ الجواب أعداؤك يا أخي يسهرون الليل والنهار! ذكر لي مجموعة من الإخوة أنه مُطّلع -وذكرت هذا في أكثر من مناسبة- على البث الذي يُبث الآن إلى الشعب الروسي، فوجدوا كيف أن الغرب تسلل إليهم سريعاً الآن، وبدأ يبث إليهم الآن أفلاماً تنصيرية مجهزة، كأنما أعدت لهم إعداداً خاصاً، فضلاً عن الأفلام التي يستهدفون بها مسخ عقول الشباب، وتغيير أخلاقهم، وتدمير معنوياتهم، وشغلهم بالتوافه من الأمور، فعلى العبد أن يتقي الله تعالى في هذا الوقت ولا يضيعه بمثل هذه الطريقة، لأنه بهذا الأسلوب وهذا العمل، أول من نخسر سوف نخسره هو، فالشاب الذي تكدست أعصابه من طول مشاهدة التلفاز والفيديو، هذا لا يصلح لحل ولا ربط، وأنى له أن يكون شاباً مناضلاً في علمٍ، أو في عملٍ، أو في دعوةٍ، أو في جهادٍ أو في غير ذلك؟! نحن نريد الشباب الذين قيل فيهم: وبورك في الشباب الطامحينا وقال فيهم آخر: شبابُ ذللوا سُبل المعالي وما عرفوا سِوى الإسلامِ دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا إذا شهدوا الوغى كانوا كُماة يدقون المعاقلَ والحصونا وإن جُن المساءُ فلا تراهم من الإشفاقِ إلا ساجدينا ولم يتشدقوا بقشور علمٍ ولم يتقلبوا في الملحدينا ولم يتبجحوا في كل أمرٍ خطيرٍ كي يُقال مثقفونا كذلك أخرجَ الإسلامُ قومي شباباً مُخلصاً حُراً أمينا الشباب الذي يقول فيهم القائل: شبابٌ كمَ الإسلام يرضى خلائقاً وديناً ووعياً في اسْوِداد المفارقِ قلوبهم طُهرٌ يفيض على الورى وأيديهم تأسو جُراح الخوافقِ هُم السلسل الصافي على كُلِ مؤمنٍ وفي حومة الهيجاءِ نارُ الصواعقِ هُم الأملُ المرجوُ إن خابَ مأملٌُ وأوهن بُعد الشوطِ صبر السوابقِ هُم الحلمُ الريانُ في وقدةِ الضما وليس على الآفاق طيفٌ لِبَارقِ كأنَّي أراهم والدُّنا ليست الدُّنا صلاحُُ ونورُ الله مِلء المشارقِ أقاموا عَمودِ الدِّين مِنْ بَعد صدعهِ وأعلوا لواء الحقِ فوق الخلائقِ السؤال: هل من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم؟ الجواب: هذا ليس بصحيح، وإن كانت معرفة لغة الأعداء مما يحتاج إليه المسلمون، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتعلم لغة يهود، وقال: إني لا آمنهم على كتابنا. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 20 إيصال التبرعات السؤال أرجو إعطاءنا فكرة موجزة حول مدى إيصال وصرف التبرعات، وإزالة ما ران على الآذان حول التشكيك بعمل كلٍ من هيئة الإغاثة، وجمعية البر الخيرية ببريدة؟ الجواب القائمون على هيئة الإغاثة وعلى جميعة البر الخيرية هنا، من الإخوة الأفاضل الموثوقين بحمد الله تعالى، ونسأل الله تبارك تعالى أن يبارك في جهودهم، ويعينهم على صرف ما وصل إليهم إلى مستحقيه، وأن لا يوجد هناك أي عقبة تحول دون ذلك، وهم على كل حال من الناس المعروفين المشهود لهم بالثقة، والعدالة، والأمانة، ونحمد الله تعالى على ذلك. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 21 سجود التلاوة في الصلاة السؤال إمام قرأ سورة العلق ولما وصل إلى آية السجدة لم يسجد بل ركع، وظن كثير من المأمومين أنه سجد ولم ينتبه إلى الإمام فما حكم صلاتهم؟ الجواب هذا يختلف، إن تفطنوا لذلك، فإنهم يتبعون الإمام ويقضون هذه الركعة التي عليهم ما داموا لم يركعوا، فإن لم ينتبهوا إلا بعد مضي وقتٍ طويل فإن عليهم أن يعيدوا الصلاة. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 22 المفاخرة بدفاع الغرب عن الإنسان السؤال ما هي توجيهاتكم للذين يفاخرون بدفاع الغرب عن حقوق الإنسان، ويدللون بالدفاع عن هذه الجزيرة، ووقوفهم ضد النظام البعثي العراقي؟ الجواب هم لم يدافعوا هنا عن حقوق الإنسان، هم دافعوا عن مصالحهم، هذا أمرٌ يعرفه الخاص والعام والغبي والجاهل، والمسلم والكافر، هل جاءوا من أجل سواد عيوننا؟! أو غضبوا حرصاً على حياتنا؟! هذه السذاجة لا يقول بها أحدٌ يملك شيئاً من العقل ولو يسيراً، هم جاءوا يدافعون عن مصالحهم، فالله تعالى قد حبا هذه البلاد بآبار النفط التي تدر من هذا الذهب الأسود الذي به قوام اقتصادهم ومعيشتهم وصناعاتهم وأمورهم، ولذلك يحرصون عليها ويدافعون عنها، هذا أمرٌ معروف. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 23 توجيه نصح للمعتمرين السؤال نحن في موسمٍ يكثرُ فيه المعتمرون إلى بيت الله، ويلاحظ هناك العديد من المنكرات لا سيما في الأسواق، أرجو توجيه كلمة للشباب الذاهبين إلى هناك بضرورة العمل على إنكار هذه المنكرات بالحكمة والموعظة الحسنة، كذلك توجيه كلمة لأرباب الأسر، وذلك لحفظ نسائهم وأطفالهم من التردد ذهاباً وإياباً من وإلى السوق. الجواب تكلمت عن هذين الموضوعين، أما حث الشباب على الذهاب إلى أسواق مكة خاصةً جماعة وليسوا فرادى، ووجودهم هناك صمام أمان بإذن الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، بالكلمة الطيبة فقط، فهذا تكلمت عنه في درس في مسجد المحيسني، بعنوان: (خمسة مقترحات) . أما توجيه كلمة لأرباب الأسر، فقد تكلمت عنه أيضاً في موضوع بعنوان (صفة العمرة) وكان في مسجد المحيسني أيضاً. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 24 الجمعيات الشبابية السؤال ما رأيك في انتشار الجمعيات بين الشباب، ألا ترى أن في انتشارها خيراً، حيث أن في انتشارها تقليلاً من الإيداع في البنوك؟ الجواب يقصد بالجمعيات أن مجموعة يتفقون على أن يأخذ أحدهم من راتبه الشهري ألفاً -مثلاً- ومن ثم في الشهر الثاني تكون عند آخر وهكذا، لا بأس بذلك، هذا جائز على ما أفتى به جماعة من علمائنا، على رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز حفظه الله. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 25 زكاة الحلي السؤال لقد حمي الوطيس بين العلماء المسلمين حول القول الراجح في زكاة الحلي، فهل لكم أو لأحد العلماء تحقيقاً بليغاً تحيلنا إليه؟ الجواب أعرف في موضوع زكاة الحلي بالنسبة للنساء حوالي عشرة كتب مطولة، والأمر في ذلك واسع إن شاء الله فجمهور العلماء على أنه ليس في حلي المرأة زكاة، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة، واختيار ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله، ولهم في ذلك حججٌ يطول الكلام بذكرها، وذهب أبو حنيفة واختاره جماعة من علمائنا على رأسهم سماحة الوالد الشيخ/ ابن باز، وكذلك الشيخ/ ابن عثيمين حفظهم الله، إلى أنه تجب في الحلي المستعمل أو المعد للاستعمال زكاة، فإن زكَّت المرأة احتياطاً فهذا حسن، وإن لم تزكِ فلا حرج عليها إن شاء الله تعالى. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 26 معنى (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً) السؤال أرجو أن توضح المعنى الصحيح لقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً الآية} [المائدة:82] لأن بعض الناس يفهمها على غير حقيقتها، فتراه يودُّ النصارى ويقربهم ولا يعرفون من المقصودون في الآية؟ الجواب المقصودون في الآية هم الذين قال الله تعالى فيهم في نفس الآية: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:82-85] . المقصود الذين أسلموا منهم وآمنوا وعدهم الله بذلك. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 27 طلب توزيع شريط السؤال المسلمون في بقاع الأرض محتاجون إلينا وإلى دعواتنا ومشاعرنا وأموالنا فنرجو بأن تقوم بتوزيع شريط (من للمسلمين؟) حتى نستحث الهمم الراقدة لنصرة إخواننا؟ الجواب الشريط موجود، ويمكن نشره. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 28 التتابع في قضاء الصوم السؤال سألتك في يومٍ مضى أنيِ فرطت في صيام رمضان في وقت مضى، وقلت: إن عليك القضاء، هل يلزم عليَّ التتابع أم صيام أيام فرادى؟ الجواب ليس عليك تتابع، بل تصوم هذه الأيام التي عليك ولو كانت متفرقة. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 29 قضاء الصلاة السؤال أنا أيضاً قد فاتني صلاةٌ هل عليَّ قضاء الصلاة؟ إذا كان كذلك، أرجو إيضاح صفة ذلك وخاصة في صلاة العصر، وكذلك صلاة الجمعة والقصر؟ الجواب أيضاً إذا كانت فاتتك صلاةٌ فعليك أن تقضيها على مذهب جمهور أهل العلم، وتقضي الصلاة على هيئتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها} . الجزء: 107 ¦ الصفحة: 30 سؤال عن بنوك الربا السؤال في هذه البيوت الشاهقة الضخمة، في أكبر شوارعنا وفي مدننا الرئيسية وفي المواقع المهمة، وهي تعلن الحرب على الله ورسوله، صباح مساء، يُتعاطى فيها الربا الصراح البواح الذي لا شك فيه، فهم يأخذون المال ريالات وغيرها ويودع عندهم بفوائد، وقد يدفعون للمستدين مالاً ويأخذون عليه فوائد. الجواب هذا ربا صريح، ثبت النهي عنه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أكثر من سبعة عشر وجهاً. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 31 التأثر الوقتي بالمحاضرة السؤال إذا كنت في جو المحاضرة، فإني أتشجع وأحس بنفسي الحُرقة على إخواني المسلمين، لكن إذا خرجتُ نسيتُ معظم ما قلته! الجواب المهم يا أخي في المحاضرة وغيرها، أن تكون رجلاً طيباً، وقد تعمل بالخير ولو نسيته، وإذا عملت به وفقك الله لحفظه، والله تعالى يقول: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:189] ويقول: {وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] ويقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] . فإذا وفقك الله للعمل بما علمت، أو بما سمعت فإن هذا مُعينٌ لك على حفظه، ولو نسيت بعد ذلك ما قيل أو نسيت دليلاً أو ما أشبه ذلك. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 32 حملة الصحف ضد الألباني السؤال بدأت بعض الصحف المحلية بحملة منظمة ضد الشيخ ناصر الدين الألباني، ما هو تعليقكم على ذلك، وكذلك انتشرت في الأسواق بعض الكتيبات، أرجو منكم التعليق؟! ثم هل للشيخ آراء نقرأها؟ الجواب الشيخ ناصر الدين الألباني إمام من أئمة المسلمين في هذا الوقت، شاء من شاء وأبى من أبى، فإن الله تعالى قد كتب له القبول، في نفوس الناس، فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها يحبونه في الله تعالى، وهو من أئمة الحديث في هذا الزمان الذين لهم دورٌ ومساهمة في تجديد هذا العلم، وحث الناس عليه، والكلام على أسانيده ومتونه تصحيحاً وتضعيفاً، وله كتب كبيرة لا توجد لعالم آخر مثله قط، ولا يعني أن هذا الرجل معصوم فهو بشر كغيره يخطئ ويصيب، وله آراء واجتهادات فقهية قد يخالف فيها جمهور العلماء، وله أيضاً آراء واجتهادات في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، قد يخالف فيها غيره، لكن كان ماذا؟! ومن ذا الذي ترضى سجاياهُ كلها كل إمام يأخذ من قوله ويترك، إلا إمام الأئمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأما هذه الحملة أنا لم أطلع الحقيقة على شيء من ذلك، فإن كان كذلك فليس بغريب. فهي كما قيل (شنشة أعرفها من أخزم) . الجزء: 107 ¦ الصفحة: 33 مفتون بشاب السؤال أنا شاب، بلغت من العمر الخامسة والعشرين -ولله الحمد- ملتزم إن شاء الله، حيث إني أحضر هذه الدروس لك منذ أكثر من سنتين ونصف، ولم أترك درساً لم أحضره، وعندي مشكلة، وهي إذا حضرت مسجداً جلستُ، وغالباً يجلس في جواري شابٌ، أو أراه يميناً أو يساراً، ثم يبدأ ببعض الحركات التي تثيرني … إلى آخره ولا أقدر أن أكلمه أو أنتقل من مكان إلى آخر، لأن المسجد قد يكون ممتلئاً، وأخرج وأنا صفر اليدين، وأنا لست على ذلك، وأرجو منكم حل مشكلتي بأسرع وقتٍ ممكن. وأدع الله أن يبعدني عن هذه الفتنة. الجواب اللهم آمين، نسأل الله أن يبعدك عن هذه الفتنة ويملأ قلبك بحبه وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، ويشغلك بما ينفعك في دينك ودنياك، ومن أهم الحلول في هذه، كما قلنا غض البصر، والإكثار من قراءة القرآن ودعاء الله تعالى واستغفاره. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 34 مقاطعة بنوك الربا السؤال هذا جزء من خطاب البنك البريطاني، أحد المتعاملين معه الذي ترك الإيداع في البنوك الربوية جميعاً، منعاً من مساعدتهم على الربا، وتاب إلى الله تعالى من ذلك، والبنك يستجديه الآن، فما رأيك بحثَّ المسلمين على سحب أرصدتهم من البنوك الربوية، حتى تُفلس، لأنه لو كان لكل بنك ألف عميل، ولكل عميل عشرة آلاف، لأصبح الإجمالي عشرة ملايين ريال، ولو سحب هؤلاء أرصدتهم واحتفظوا بها لأفلس البنك؟ الجواب هذا واجب قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأي إثم أو عدوان أعظم من إعلان الحرب على رب الأرباب جل وعلا. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 35 لبس الجورب على غير طهارة والمسح عليه ناسيا ً السؤال لبست الشرَّاب البارحة في مثل هذا الوقت ولما صليت المغرب هذه الليلة تذكرت أني لم ألبسها على طهارة، فهل أقضي الأوقات التي صليت ومسحت على الشراب، أم أني أعتبر ناسياً وليس عليَّ شيء؟ الجواب النسيان هنا لا يعفيك من إعادة الصلوات، فعليك أن تعيد جميع الصلوات التي صليت وأنت بذلك الوضوء. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 36 من أدركه الفجر وهو جنب في رمضان السؤال من جامع زوجته ونام ولم يستيقظ إلا بعد صلاة الفجر، ولم يتسحر، واغتسل من الجنابة، فهل عليه شيء؟ الجواب ليس عليه شيءُُ مادام أنه حصل جماعها في الليل قبل الفجر، ثم نام ولم يستيقظ إلاَّ بعد طلوع الفجر، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم، يدركه الفجر وهو جنب، من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم عليه الصلاة والسلام. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 37 اللعب المسلية المتخللة للمجالس السؤال يقول: عندي استراحة، وقد أذنت لبعض الشباب الملتزمين من طلاب الحلقات والثقات -إن شاء الله- بالجلوس فيها ليالي رمضان، ويتخلل جلستهم ليلياً بعض اللعب، فهل عليَّ حرج في ذلك، وهل عليهم أيضاً من حرجٍ في هذا الشهر؟ الجواب لا ليس عليك ولا عليهم جناحٌ في هذا، بل ما فعلته خيرٌ إن شاء الله، وأنت مأجور وهم كذلك ماداموا يحفظون جل وقتهم في ما ينفع ويفيد، فإن التسلية وإزالة الملل والسأم أمرٌ لا بد منه. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 38 قضاء الصلاة على المغمي عليه السؤال امرأة دخلت المستشفى النفسي، ولقد ضيعت وقت الصلاة، وهي في غيبوبة، والآن الحمد لله في صحة جيدة ترجو إفادتها عما مضى من الصلاة؟ الجواب إذا كان الذي مضى عليها أيامٌ طويلة وهي في غيبوبة، فالراجح من أقوال أهل العلم، أنه ليس عليها شيءٌ في ذلك إن شاء الله تعالى وإن قضت احتياطاً فلا حرج. الجزء: 107 ¦ الصفحة: 39 الصلاة جنباً سنوات والاستمناء في نهار رمضان السؤال يسأل عمن كان يفعل العادة السرية قبل سنوات، وجلس فترة طويلة، ثلاث أو أربع سنوات تقريباً، وهو لا يغتسل من الجنابة جاهلاً، وكذلك قد يحدث هذا منه في رمضان، ولا يعلم عدد الأيام التي فعلها، لكي يقضيها؟ الجواب أما بالنسبة لقضاء الصلاة فمن المعروف أنه من موجبات الغُسل نزول المني بأي سببٍ كان، وبناءً عليه فإن الأصل أنه كان واجباً عليه أن يغتسل، قبل أن يُصلي، ولكن لأن المدة طويلة ثلاث أو أربع سنوات، وربما يشق عليه قضاء هذه الأوقات المتطاولة، فلعله يتسامح في ذلك، كما أفتى به بعض أهل العلم، وإلا في الأصل لو كانت الأوقات معلومة محدودة المقدار وجب عليه قضاؤها. أما بالنسبة لأيام رمضان، فإن عليه أن يقضيها، لأن الصائم مبتعدٌ عن هذا بالحلال، فكيف بما لا يحل عند طائفة كبيرة من أهل العلم، والله تعالى قال عن الصائم: {يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي} فهل هذا قد ترك شهوته لله تعالى؟ كلا! الجزء: 107 ¦ الصفحة: 40 مآخذ على طلبة العلم تحتوي المادة على الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه، ومع الناس. وقد ذكر موقف أهل البدع من علمائهم وموقف عامة أهل السنة من علمائهم. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 1 كتب تحدثت عن مآخذ ومعايب على طلبة العلم الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. سنتكلم إن شاء الله عن الآفات التي قد تصيب طالب العلم، وقبل الدخول فيها أشير إلى أن الآفات التي تعترض المسلم كثيرة، وهي تعترض طالب العلم وغيره، فالحديث عن هذه الآفات والعيوب والمداخل ليس من شأن هذه الدروس، بل له ميدان آخر، وإنما سوف يقتصر الحديث إن شاء الله تعالى في هذه الدروس على ذكر الآفات والأخطاء الذي يقع فيها طالب العلم، وخاصة مما هو شائع بين طلاب العلم في هذا العصر، وربما في عصور كثيرة، لكن كل واحد يدرك ما يعايشه أكثر مما يدرك غيره. فسيكون التركيز إن شاء الله على الآفات والمعايب الموجودة فينا إن صح أننا طلاب علم. ثم إنه حتى هذه العيوب يصعب حصرها والحديث عنها، ولذلك فإنني أكتفي بأن أشير في مقدمة هذه الدروس إلى بعض الكتب المهمة التي تحدث فيها مصنفوها عن هذه المثالب والمعايب، وأتوا فيها بالعجب العجاب. وأنصح نفسي وإخواني من الطلبة أن يحرصوا على مراجعة هذه الكتب والاتصال الدائم بها، فمن هذه الكتب كتاب العزلة للإمام الخطابي، ومنها كتب الإمام الغزالي وخاصة كتاب إحياء علوم الدين في الجزء الأول منه تحدث عن آفات طلب العلم، ومنها كتاب تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة وهو يذكر الآداب ويذكر مع كل أدب جوانب من الإخلال بهذا الأدب يصح أن تعتبر من الآفات. ومنها ما كتبه الإمام ابن القيم في عدد من كتبه من كتابات متفرقة في زاد المعاد مثلاً، وفي إغاثة اللهفان، وفي مدارج السالكين، بل وفي إعلام الموقعين وغيرها، ومنها ما كتبه الإمام الذهبي في رسالة صغيرة له نسبت إليه وبعضهم يشكك في نسبتها، لكن الظاهر أن نسبتها إليه صحيحه واسمها بيان زغل العلم، وكذلك ما كتبه الإمام ابن الجوزي في كتاب تلبيس إبليس وهو كتاب مهم جداً ومفيد لكل مسلم ولطالب العلم خاصة. وكذلك في كتابه صيد الخاطر في مواضع متفرقة منه، وكذلك ما كتبه الإمام ابن حزم في كتاب الأخلاق والسير أومداواة النفوس، وأخيراً ما كتبه ابن السبكي في كتاب له مطبوع اسمه معيد النعم ومبيد النقم، وقد استفاد كثيراً مما كتبه من قبله كـ الغزالي وغيره. وعموماً فالكتب التي ألفت في آداب العالم والمتعلم كجامع بيان العلم وفضله وغيرها تحدثت عن هذا الموضوع، وسأقسم الحديث عن هذا الموضوع إلى أربعة أقسام: القسم الأول: الحديث في الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه . والثاني: في علاقته مع الناس. والثالث: في تعلمه وتعليمه. والرابع: في أمور متفرقة. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 2 الآفات التي تعترض طالب العلم في علاقته مع ربه ولنبدأ بالحديث عن الآفات التي تعترض الطالب في سيره إلى الله -جل وعلا- ولا بد من الاختصار لطول الموضوع، وضيق المجال، وقد سبق أن القصد من العلم أصلاً هو إصلاح الظاهر والباطن، وإصلاح الباطن يترتب عليه إصلاح الظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} . الجزء: 108 ¦ الصفحة: 3 الحد الأدنى المطلوب من طالب العلم في عبادته وألخص هذه الأشياء المطلوبة من طالب العلم في أربعة أمور: الأمر الأول: وهو القيام بأداء ما افترضه الله عليه، من الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغيرها من الفروض وكذلك صلاة الجماعة، وخاصة صلاة الفجر، فإن صلاة الفجر فيصل يدل على إيمان العبد أو ضعف إيمانه، وفي حديث أنس الذي رواه ابن حبان قال: [[كنا إذا افتقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] . الأمر الثاني: أن يقوم بقدر من النوافل وهي كالسنن الرواتب والوتر وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن يكون له وردٌ من قراءة القرآن لا يتركه في جميع الظروف، وأن يكون له وردٌ من الأذكار في الصباح والمساء وفي تقلبات الأحوال وإن قل، فإن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل. الأمر الثالث: أن يحرص على تحقيق المعنى الذي شرعت من أجله هذه العبادات، فإن من المعلوم أن الله عز وجل لم يشرع هذه العبادات ليكلفنا أو ليعذبنا، فإن الله غني عن تعذيبنا، إنما شرعها لتهذيبنا، وإصلاح نفوسنا وسرائرنا، فيحرص العبد على أن يؤدي هذه الأشياء مع مجاهدة نفسه باستحضار ذهن، وحضور قلب، واحتساب، وصلاح نية. الأمر الرابع: أن يجتنب المحارم ما استطاع، ويحفظ نفسه من قول الزور والغيبة والنميمة، وأكل الحرام، وما أشبه ذلك من المحرمات المعلوم تحريمها، فيحرص على تجنبها والبعد عنها. هذه أربعة مطالب لا بد منها لطالب العلم حتى يحقق قدراً من سيره إلى الله تبارك وتعالى، وإذا أخل الطالب بهذه الأشياء فيجب عليه أن يبكي على نفسه، ويقول مع القائل: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ويتذكر الكلمة التي قالها الإمام ابن الجوزي رحمه الله قال: إن طالب العلم إذا لم يرد وجه الله ويعبد الله بهذا العلم، فهو مسكين مسكين، لأنه خسر هذه الدنيا فلم يتمتع بلذاتها وزخارفها كما تمتع غيره من الفساق والمنحرفين، حيث كان مشغولاً بطلب العلم وتحصيله، ثم يقبل على الله عز وجل فيحرم من لذات الآخرة؛ لأنه لم يسع لها ولم يطلبها، ويقبل على الله عز وجل أصغر ما كان والحجة عليه أقوى ما كانت، فالحجة على العالم ليست كالحجة على الجاهل. هذا وأسأل الله عز وجل أن يرزقني وإياكم الإقبال عليه، واللهج بذكره، وأن يجعل ما نتعلمه من القرآن والسنة قربى وزلفى إليه في الدار الآخرة، وأن يعيننا على أنفسنا، وأن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ويجعلنا للمتقين إماماً، في الأقوال والأفعال والعلم والعبادة، وكل خير وألاَّ نكون ممن علمه حجة عليه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآلة وصحبه أجمعين. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 4 الفقيه هو العابد الخائف من الله يجب على طالب العلم أن يحرص على صلاح قلبه، وتوجهه إلى الله تبارك وتعالى، وأن يكون مقبلاً على الله والدار الآخرة معرضاً عن الدنيا وزخرفها، ولذلك كان السلف يعتبرون أن الفقيه هو العابد الزاهد المقبل على الله. جاء فرقد السبخي إلى الحسن البصري فسأله عن مسألة فأفتاه فيها، فقال له فرقد: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء، فقال له الحسن البصري: [[ثكلتك أمك، وهل رأيت في حياتك فقيهاً قط؟ إنما الفقيه المعرض عن الدنيا المقبل على الآخرة، الخائف من الله، الكاف عن أعراض الناس، المستعد للقاء الله]] إلى آخر الصفات التي ذكرها رحمه الله. وهذا المعنى قد أخذه الحسن وغيره من السلف من كتاب الله تعالى فإنهم كانوا يعدون العلم الخشية، انظر إلى قول الله عز وجل: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] فوصفهم بقلة الخشية من الله، وكثرة الخشية من المخلوقين لقلة فقههم وعلمهم، وكلما زاد فقه المرء زادت خشيته لله، فطالب العلم يجب أن يظهر أثر العلم في سمته، وهديه، وإقباله على الله عز وجل. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 5 من المعايب الانشغال بدقيق العلم على حساب القضايا المهمة وكثير من طلاب العلم في هذا العصر، بل ومن قبل يلامون ويذمون بضعف عبادتهم، وانشغالهم بكثير من المسائل الفقهية الدقيقة التي قد لا يحتاجون هم إليها، وقد لا يحتاجها الناس قروناً عديدة، وربما ضيع الواحد منهم عمره، وسافر، وجمع الكتب، وقرأ الأجزاء من أجل هذه المسألة. وفي مقابل ذلك قد يخل بقضية من القضايا المهمة في حياته، ويذكر الإمام السبكي في كتاب معيد النعم أن بعض طلبة العلم المعرضين عن القيام بالواجبات الدينية، وسلوك طريق الآخرة يحتجون بحجج، فإذا قلت للواحد منهم مثلاً: قد حانت الصلاة، قام وصلى أربعاً لا يذكر الله -تعالى- فيها إلا قليلا، فإذا قلت له: هل تنفلت بعد صلاة الظهر؟ قال لك: إن الإمام الشافعي يرى أن الاشتغال بالعلم، أولى من الاشتغال بنوافل العبادات، وبناءً على ذلك ترك الراتبة ليشتغل بالعلم، فإذا سألته عن نسيانه للقرآن قال لك: إن نسيان القرآن لم يعده أحداً من أهل العلم كبيرة من كبائر الذنوب، إلا صاحب العدة أو العمدة وهما كتابان في فروع الفقه الشافعي، أحدهما لـ عبد الرحمن بن الحسين الطبري، والآخر لـ أبي بكر الشاشي. وكذلك قال: أنا لم أنس القرآن كله فأنا أحفظ الفاتحة، ولعله أيضاً يحفظ معها قصار السور، ثم ما الدليل على أن هذا الأمر محرم؟ فتخلى عن حفظه للقرآن بهذه الحجج، فإذا سألته هل خشعت في صلاتك؟ قال لك: إن الخشوع في الصلاة ليس من شرائطها ولا من أركانها، وهكذا اتخذ هذا الإنسان ما يعلمه من بعض الأحكام مطية إلى التخلي عن كثير من الأشياء التي لا بد منها لطالب العلم. ولذلك عقب السبكي رحمه الله على هذا بقوله: " وهذه كلمة حق أريد بها باطل " ثم استطرد الإمام السبكي في هذه المسألة، وذكر أن كثيراً من الطلاب قد يريد أن يقول في الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وهذه الكلمة فيها من التوكل، والإقبال على الله، وإفراده بالعبادة وبالاستعانة ما فيها، فربما يسبق إلى لسانه كلمة أخرى من كلمات الفروع الفقهية التي طالما اشتغل بها. قال: وبلغنا أن الإمام الغزالي صلى يوماً بأخيه أحمد إماماً، وفي أثناء الصلاة انفرد أخوه عنه، وقطع الاقتداء به، وصلى لوحده، فلما سلم من الصلاة سأله الإمام الغزالي لم فعلت هذا؟ فقال: لأنك في صلاتك متلطخ بدم الحيض، ففكر الغزالي ساعة، ثم تذكر أنه في أثناء الصلاة قد عرضت له فعلاً مسألة من مسائل الحيض، وأنه فكر فيها شيئاً من الوقت وهو يصلي!! ونقول: أولاً هذه مستبعدة من جهة أخيه، لأنه لا يعلم ما في السرائر إلا الله عز وجل، وهاهو الغزالي نفسه لم يتذكر أنه كان يفكر في هذا الأمر إلا بعد أن أدار ذهنه فما بالك بغيره، فهذا بعيد جداً من هذه الناحية، وبعيد أيضاً من الناحية الفقهية، لأنه ليس من حق المأموم أن يقطع ائتمامه بالإمام إلا لضرورة، أما أن يقطع ائتمامه به لعارض غير صحيح فهذا لا يجوز، فضلاً عن أن يكون قد سبق إلى ذهنه أنه قد يكون فكر في أمر من هذه الأمور، وإنما سقت هذه الحادثة؛ لأن من المفيد أن يتعلم ويتدرب الطالب على أن يقرأ في هذه الكتب بوعي، ولا يأخذ كل ما يقرأ مأخذ القبول والتسليم. وما يشكوه العلماء المتقدمون هو من الأسباب التي تقلل من تأثر الطالب بشيخه، فلو نظرت في العلماء الذين أثروا في تلاميذهم لوجدت أنه كان عندهم زهد ونسك وعباده، وإقبال على الله عز وجل، وقد ذكر ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر، بعد أن تحدث عن شيوخه الذين تلقى عنهم العلم، وعدد بعضهم، وأشار إلى أن بعضهم كانوا يشتغلون ببعض ما لا يسع العالم الاشتغال به، ذكر أن من أكثرهم أثراً عليه عالم يقال له عبد الوهاب الأنماطي، وقال: كان هذا العالم زاهداً مقبلاً على الله عز وجل معرضاً عن الدنيا، قال: وكنت اقرأ عليه أحاديث في الرقائق والوعظ فيبكي طويلاً حتى لا يستطيع أن يمنع نفسه من البكاء، قال: وكنت وأنا طفل صغير أتأثر حين أرى شيخي وهو يبكي خوفاً من الله عز وجل فتركت هذه أثرها في نفسي، وعلمت بعد أن التأثر بالحال أكثر من التأثر بالمقال، يعني: أن التأثر بالقدوة الحسنة، أكثر من التأثر بالنصيحة. وهكذا غيره من العلماء كان تأثرهم بأشياخهم الذين صدقوا مع الله، ولم يكن تعلمهم ولا تعليمهم من أجل الدنيا. والمطلوب من طالب العلم أن ينتبه إلى نفسه، ويحرص على إصلاحها، وعلى الحرص على التعبد وتليين قلبه بالقرب من الله عز وجل، وليس المعنى أننا نطالب كل واحد منا، أن يكون كعباد الصحابة كـ عبد الله بن عمرو بن العاص مثلاً، أو كعباد التابعين كـ الحسن البصري، أو كـ الفضيل بن عياض، أو كفلان وفلان ممن اشتهروا بالزهد والعبادة، وإن كان هذا المطلب نفيساً وعزيزاً، ويمكن أن يصل إليه الإنسان بالجد والاجتهاد، لكن هناك مستوى عام، ينبغي لكل طالب علم ألاَّ يرضى لنفسه أن ينزل عنه، وإذا انحط عنه فيجب عليه أن يعيد النظر في نفسه ويحاسبها، قبل أن يبغته الأجل وهو على حال لا ترضي. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 6 مثالب طالب العلم فيما يتعلق بالمجتمع الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين، آمين يا رب العالمين. أيها الإخوة: في هذا الأسبوع والأسابيع القادمة وقد تستغرق إلى نهاية شهر شعبان، يكون الحديث إن شاء الله، عن بعض مثالب ومآخذ على الطالب وعلاقته بالمجتمع من حوله، وسأذكر بعض الملاحظات بدون ترتيب. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 7 العزلة عن الواقع فمن الملاحظات على كثير من طلاب العلم في هذا العصر، أنهم يعيشون عزلة عن الواقع الذي من حولهم؛ وذلك لأن طلب العلم له لذة يدركها من جربها. فطالب العلم إذا أكثر من البحث والمراجعة والقراءة؛ يصبح عنده تلذذ بالحصول على المعلومات، وإذا أشكل عليه مسألة من المسائل وبحث ولم نجدها، ازداد لهفه وشوقه إلى معرفتها، فإذا عثر عليها أصبح كأنه عثر على كنز ثمين، وهذه اللذة عامة في العلوم الشرعية وغيرها، أي أنها قضية مغروزة عند المسلم، لكن قد يزيد طالب العلم الشرعي إذا حسنت نيته بأنه يفرح بمعرفته لحكم شرعي، يحتاج إلى أن يعرفه ويعرّفه غيره. فهذه اللذة من جهة، والراحة التي يجدها طالب العلم في التعامل مع الكتب، كما تعرفون الشاعر الذي يتغزل بقراءة الكتب ومعايشتها يقول: لنا جلساء لا يمل حديثهم ألباء مأمونون غيباً ومشهداً يفيدوننا من علمهم علم ما مضى … … … إلى آخر ما قال. وأبيات كثيرة منها: أعز مكان في الدنا سرج سابح وخير جليس في الزمان كتاب أبيات كثيرة يتمدح فيها العلماء بالكتب والقراءة؛ لأن الناس قد يتضايقون من معاملة بعضهم لبعض، وكون فلان أخطأ عليك، وفلان أساء، وفلان قال فيك كذا، وفلان كذا، أما الكتب فهي صماء خذ ما شئت منها ودع ما شئت، فالإنسان إذا تضايق من واقعة لجأ إلى هذه الكتب، وبدأ يتعامل معها، لسهولة وراحة التعامل معها، كما أنه ليس في ذهاب ولا إياب ولا كلفه ولا مشقة، ولذلك ينجر كثير من الطلاب وراء هذه اللذة، ووراء هذه الراحة، ويشتغلون بالطلب والقراءة، وشيئاً فشيئاً يفرضون على أنفسهم طوقاً من العزلة عن الواقع. حتى يصح أن يوصف بعض طلاب العلم في هذا العصر، بأنهم ممن يعيشون في أبراج عاجية، كما كان الفلاسفة يعيشون في أبراج عاجية، فالفلاسفة كانوا يعيشون في بروج، أي في أماكنهم في مكتباتهم والناس كانوا يعيشون في عذاب، من تسلط طغاة، ومن مشكلات قائمة فيما بينهم، وهم مشغولون بدراسة ما يسمى بالمدنية الفاضلة، فالفيلسوف مشغول يصور تصويراً خيالياً مدينة فاضلة فيها كمال مطلق من كل ناحية، والناس يعيشون في عذاب في واقعهم فليس له علاقة بهم، فقد يصل الحال ببعض الطلاب إلى هذا الحال، للأسباب السابقة. وربما يفتخر بعض الأحيان كثير من طلاب العلم الشرعي، بأنهم يجهلون هذا الواقع، ويجهلون ما يجري في حياة الناس، وما جد في هذه الحياة من أمور، وفي هذا العصر يصح أن نقول: إنه حصل في هذا العصر تغير تام في كثير من مجالات الحياة، لم يعهد الناس مثله، تفجر في المعلومات، وفي الحوادث الجديدة، والابتكارات، والعلوم والصناعات، وأمور لا عهد للناس بها. ومن جهة أخرى في هذا العصر جاءت أمواج من الفتن والانحرافات الفكرية والخلقية التي غزت واقع المسلمين، فكثير من طلاب العلم قد تأتيه بمصطلح ربما يعرفه عامة الناس في هذا العصر، فيفتخر بأنه لا يعرف هذا الاصطلاح، لأن معنى عدم معرفتي بهذا الاصطلاح أنني ممن هم فوق هذا الواقع! وممن هم بعيدون عنه، ومشغولون بما هو أهم، فأنا أفتخر بأني أسأل عن هذا الأمر، وهذا واقع، وأحياناً هو من تلبيس إبليس على الإنسان، كما قد يفتخر الإنسان بأنه لا يعرف الخطأ الفلاني. وأمثل بمثال واقعي، وهو كثيراً ما تجري -على سبيل المثال- مباريات رياضية طويلة عريضة تأخذ من أوقات الناس وأعمارهم وعقولهم ونظراتهم، ويحدث فيها ما الله به عليم، الله المستعان! فتجد كثيراً من طلاب العلم وقد يكون كثير منا منهم، قد يفتخر بأنه لا يعرف هذه الأشياء ولا يدري عنها شيئاً، والواقع أن انعزال الإنسان عن واقعه ليس فيه ما يدعو إلى الفخر، بل إن طالب العلم المحقق لعلمه يحرص على أن ينزل بعلمه في واقع الحياة. مسألة من الشرع والدين، فتتعلمها، وتعمل بها وتعلمها غيرك وتدعو إليها، وتنكر ما خالفها، خيراً من أن تكون مليئاً بعلوم نظرية مجردة لا تفيد في واقع الناس شيئاً، لأن شرف العلم هو أن يدعو إلى العمل والمعرفة، فلماذا يشتغل طالب العلم في كثير من الأحيان بقضايا جزئية جداً في فروع العلم، وربما يتخصص فيها، ويكتب رسائل عليا في هذه القضية الجزئية التي -والله أعلم- قد لا يحتاج إليها الناس إلى قيام الساعة! ويخفى عليه ويتجاهل قضايا ملحة في واقع الناس، وفي واقع المسلمين اليوم. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 8 مواقف علماء السلف من فهم الواقع أشير الآن إلى جانب من علاقة علماء السلف رضي الله عنهم بالواقع -ولعلي أكمل إن شاء الله في درس قادم- فعلماء السلف رضي الله عنهم اهتداءً واقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعايشون الواقع، والعلماء المشهورون كانوا يعيشون الواقع ويصح أن نقول: إنهم كانوا أوصياء على هذا الواقع، فهم يعدلون واقع الناس على ما تقتضيه شريعة الله عز وجل وانظروا إلى هذه القصص العجيبة التي لا تعدو أن تكون في الواقع أمثلة يسيرة جداً من الواقع. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 9 الفائدة من ذكر هذه النماذج هذه نماذج تدل على المكانة التي كان يتبوؤها علماء السلف في مجتمعهم، وموقف الناس من مثل هذه الأحداث الشهيرة، التي يذكرها المؤرخون في سير العلماء، وموقف الناس وطلاب العلم يتفاوت، فمن طلاب العلم من يعتبر هذه الأشياء مجرد طرائف، وأشياء يتلذذ بذكرها وسردها وتزيين المجالس بها، وهذا حالنا وحال كثير من الناس. يكفي أن نذكر هذه القصص ونتلذذ بها ونهز الرءوس، وقد نعجب ونطرب لها، وهذا غاية الأمر! ومن الناس من يفكر بتطبيق هذه الأحداث والقصص بحذافيرها دون أن يتصور الظروف التي وقعت فيها هذه القصص، والشخصيات التي قامت بهذه الأعمال! فيقع في خطأ غير مناسب، ويكون أمر ونهى أمراً ونهياً في غير أوانه. ولعلكم تذكرون أن أحد الطلاب والشباب وقف في يوم من الأيام أمام رجل كبير في إحدى الدول، وتكلم أمامه بكلام قوي، سمعناه جميعاً في حينه، وقال له: كيف تدّعون العلم والإيمان، وقد طرد فلان وشرد فلان، وحصل كذا، وحصل كذا فهذا الإنسان ربما يقرأ سيرة فلان وفلان من العلماء، فيطبق ما يسمع تطبيقاً حرفياً كما يقال، والواقع أنه يجب أن ننظر إلى الظروف التي وقعت فيها هذه القصص. فمثلاً المنذر بن سعيد، أو العز بن عبد السلام، أو ابن تيمية ليسوا أناساً جاءوا من الشارع وفعلوا هذه المواقف، هذا خطأ أن تتصوره. بل ابن تيمية، والمنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وجميع علماء الإسلام المشهورين كانوا متغلغلين في المجتمع، وكان لهم تأثير، ووقع ومكانه لدى الخاص والعام، بحيث أن مكانتهم لا يمكن أن يتجاهلها أحد. ولذلك لما طلب العز بن عبد السلام من المماليك أن يبيعوا أنفسهم لأنه قال: أنتم أرقاء وعبيد ولا يمكن أن تحكموا المسلمين وأنتم كذلك، قالوا: فكيف نصنع؟ قال: لا بد أن تباعوا ويعلن عنكم في المزاد العلني، ثم إذا تم بيعكم فحينئذٍ لكم أن ترجعوا إلى مناصبكم، فحاولوا بكل وسيلة أن يثنوه عن هذا القرار فأصر، حتى إن منهم من حاول قتله فلما رآه سقط السيف من يده وبهت وتحير. فطلبوا منه أن يخرج من بلاد مصر، فخرج العز بن عبد السلام في موكب ليس فيه هيلمان ولا أبهة، جاء بحمار ووضع عليه رحله، ووضع أثاثه في جانبي المزادة، وركب هو، وأركب زوجته وأطفاله ومضى، ولمارأى الناس هذا الموكب البسيط المتواضع خرجوا كلهم وراءه، حتى أتى آت للمماليك، وقال: إذا خرج هؤلاء فمن تحكمون في بلاد مصر؟! فطلبوا منه أن يرجع وأن ينفذوا له ما طلب. والمقصود أن مما لا يختلف فيه -حتى لو فرض أن هناك مثلاً من لا يوافق على هذا الحدث والسياق- أن هؤلاء العلماء لم يكونوا نكرات مجهولين في واقعهم، بل كانوا منذ نعومة أظافرهم، منذ بداية طلبهم معروفين بالمشاركة في الحياة العامة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالإصلاح، حتى بخدمة الناس في أمورهم الدنيوية. واقرأ ما قاله ابن رجب الحنبلي في الطبقات، أو ما قاله الذهبي في ترجمة الإمام ابن تيمية، إنه كان منتصباً لخدمة الناس ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه، وحتى الظلم الدنيوي يحاول أن يدفعه عن الناس، كإنسان يحتاج إلى عمل، أو إلى مال، أو زواج، أو وظيفة، أو إنسان ظلم، فيحاول أن يدفع عنهم حتى المظالم الدنيوية. واقرءوا كتب الشيخ تجدون كثيراً من الكتب كتبت في دفع المظالم عن الناس، لأنه كان مختلطاً بالناس مؤثراً فيهم، ولذلك كان يملك هو وأمثاله أن تكون له مواقف مؤثرة وشجاعة، فطالب العلم يسعى إلى أن يحقق من الاختلاط بالناس اختلاطاً واعياً مؤثراً؛ ما يجعله أهلاً لأن يكون قوياً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوقت المناسب إن أعانه الله تبارك وتعالى على ذلك. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى، اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 10 موقف شيخ الإسلام ابن تيمية لا يمكن أن نتجاهل في هذا المقام مواقف عظيمة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأخص منها في هذا المجلس ما يتعلق بإنكار المنكرات الكبرى التي يقف وراءها أناس ذووا قدر ويصعب على الدهماء أن يغيروها، فقد جاء التتر إلى بلاد الشام، وغزوها وأهلكوا الحرث والنسل، وخاف الناس منهم حتى العلماء، فذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى الولاة في مصر، والتقى بالسلطان هناك، وأظنه محمد بن قلاوون، فتكلم معه بكلام قوي أعجب العلماء كـ ابن دقيق العيد وغيره، وكان من ضمن ما قال له، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية وغيره، أنه قال له: لو قدر أنكم لستم أنتم حكام مصر، واستنجد بكم أهلها، وقد غزاهم هؤلاء الكفرة، لوجب عليكم إغاثتهم ونصرتهم، فكيف وأنتم حكامه وولاته وقال له: إذا تخليتم عن الشام فإننا نقيم له من يحوطه ويحميه في زمن الشدة، ويستغله في زمن الأمن، أما أن تكونوا يا أمراء المماليك تستغلون بلاد الشام في زمن الأمن وتأخذون خيراتها، فإذا جاءت الشدة ابتعدتم عنه، فهذا ما لا يكون. وحرض هذا السلطان على الغزو ووعده بالنصر حتى تحرك هذا السلطان وخرج بجنده، وانتصر المسلمون على التتار كما هو معروف، وكان لـ ابن تيمية مواقف كثيرة مع السلاطين غير هذه. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 11 موقف العز بن عبد السلام موقف آخر، بل مواقف لـ عز الدين بن عبد السلام، المشهور بـ العز بن عبد السلام سلطان العلماء، إمام من أئمة المسلمين، اقرأ ترجمة هذا الإمام في طبقات الشافعية مثلاً أو غيرها، أو في الكتاب الذي كتبه الندوي عنه، وانظر نماذج من بطولات هذا الإمام. كان في دمشق، وكان حاكم دمشق الملك الصالح إسماعيل، فتعاون هذا الرجل مع أعداء الإسلام، وأسلم إليهم بعض المدن، فغضب عليه الإمام العز بن عبد السلام، وعاتبه وقطع الدعاء له في الخطبة، وحرض العلماء على ذلك، ثم خرج من دمشق وتركها مهاجراً إلى غيرها، فمر ببعض المدن الصغيرة في الشام، فطلب منه بعض أمرائها أن يبقى عندهم، فقال: إن مدينتكم صغيرة على علمي، والإنسان العالم كـ العز بن عبد السلام يجب أن يعرف قدر علمه، وذهب إلى مصر وكان فيها الملك الصالح أيوب، فاستقبله وأكرم مثواه. وكان للعز بن عبد السلام مواقف في منتهى القوة، وأقرب إلى العجب، ولعل منها الموقف المشهور له، والذي ذكره أيضاً السبكي في الطبقات، قال: إن الملك الصالح جاء في يوم عيد وكان يحف به الأعوان، والشرط، والخدم، والحشم، بل والأمراء الصغار وغيرهم يقبلون الأرض بين يديه كما جرت عادتهم بذلك. فلم يرض العز بن عبد السلام بهذا المشهد، وخاف على السلطان أن يتعاظم ويصيبه شيء من العجب والخيلاء، إضافة إلى أنه رأى منكراً يجب تغييره، فوقف بكل ثبات وقوة ورجولة في طريق السلطان، وقال له: يا أيوب! -هكذا كلمة مجردة ليس قبلها شيء ولا بعدها شيء، لا ألفاظ تفخيم وتبجيل، ولا دعاء ولا شيء، باسمه الذي سماه به أبوه- فالتفت السلطان، وقال: نعم يا سيدي أو نحو هذه الكلمة، فقال له: ما جوابك أمام رب العالمين إذا سألك وقال لك: إنني وليتك أمر عبادي ورقابهم وأموالهم فما قمت بما ائتمنتك عليه، فقال له السلطان: ما الأمر أيها الإمام؟ فقال العز بن عبد السلام: إن في مكان كذا وكذا حانوتاً يباع فيها الخمر، فقال له السلطان: يا سيدي هذه من عهد أبي -الحاكم قبله-. فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذاً أنت من الذين يقولون: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22] فقال: أعوذ بالله، أعوذ بالله، وأمر بها حالاً فغيرت وأزيلت. وخلا العز بن عبد السلام بتلاميذه بعد هذه الحادثة التي لا شك أن الناس كانوا يتناقلونها، وكانت تغرس للعز بن عبد السلام مكانه طيبة في نفوسهم، وتجعلهم يشعرون بأن هؤلاء العلماء يستحقون أن يقف الناس إلى جوارهم، سأله أحد تلاميذه وهو الباجي، فقال له: بعد أن دعا له قال له: أيها الشيخ، كيف جرؤت أن تخاطب السلطان بهذا الجفاء، وبهذه القوة؟! قال: يا بني! إني تخيلت عظمة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط، ورأيت ما حوله من الخدم والحشم فخشيت أن تغلبه نفسه، فأردت أن أضع من قدره، فالرجل ينظر إلى مصالح، فالمنكر الأعظم هو أن يزهو السلطان بنفسه وبمن حوله ممن يزينون له ما هو فيه، وقد عالجه العز بن عبد السلام بخطابه بهذا الأسلوب الذي يناسب الموقف، والمنكر الآخر هو وجود حانوت يباع فيه الخمر. وللعز بن عبد السلام مواقف كثيرة جداً مع السلاطين لا يتسع المجال لذكرها فأقرءوها في ترجمته وهي فعلاً أقرب إلى الأسطورة، ولذلك استحق أن يسميه المترجمون المتقدمون بسلطان العلماء. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 12 موقف المنذر بن سعيد البلوطي على سبيل المثال: يذكر المترجمون المنذر بن سعيد البلوطي وهو من شيوخ المالكية، ويذكر مترجموه أن له ميلاً إلى علم الكلام، وكأنه متأثراً ببعض أراء أهل الكلام، ولكن الشاهد من حياته أن الرجل كان قوياً في الحق، وكان ذو علاقة بالمجتمع وبالسلاطين في عصره، ليست علاقة استجداء، وإنما هي علاقة قوامة وأمر ونهي، فأحد ولاة الأندلس وأظنه عبد الرحمن الناصر، بنى قصراً فخماً مشيداً وزينه بالذهب والفضة، وأسرف فيه أيما إسراف، ثم دعا الوزراء والحاشية والعلماء وغيرهم، فنظروا في هذا القصر والكل يثني ويمجد. فحضر المنذر بن سعيد لصلاة الجمعة، وكان الخليفة يصلي معه، وتحت منبره، فوقف المنذر بن سعيد رحمه الله، وألقى خطبة عصماء تلا فيها قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] . ثم قال يخاطب الخليفة ويوبخه على ما فعل: ما كنت أظن أن يبلغ بك الشيطان إلى ما بلغ حيث أنزلك منزل الكافرين، فتشبهت بفرعون وهامان وقارون، وأسرفت في الأموال، وضيعت أموال المسلمين، وفعلت وفعلت، وخنت الأمانة التي أمنك الله عليها، وأهملت شأن الرعية، وظل يورد على السلطان من القول المتين القوي، والسلطان تحت منبره فما زاد السلطان على أن أقسم ألا يصلي معه مرةً أخرى، وذهب إلى مسجد آخر ليصلي معهم، ثم إنه كفر عن يمينه ورجع ليصلي مع هذا الخطيب، وهذا الموقف في أذهان الكثير منا أقرب ما يكون إلى الخيال والأسطورة. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 13 تطبيق تلك المواقف في الواقع الموجود الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد: تواصلاً مع حديثي السابق في الليلة الماضية أكمل ما بدأت في هذا الليلة إن شاء الله تعالى، والحديث وإن لم يكن ذو علاقة وطيدة بأصل الموضوع، إلا أنه استطراد ضروري لما سبق، فقد تحدثت في الليلة الماضية عن مواقف العلماء الشجاعة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقوامة على المجتمعات الإسلامية، ومثلت في ذلك بمواقف لبعضهم، كمواقف المنذر بن سعيد، والعز بن عبد السلام، وابن تيمية، وهذه المواقف إنما هي غيض من فيض وقليل من كثير. ثم أشرت إلى أن هذه المواقف كان لها ملابسات معينة، حدثت فيها ولم تحدث صدفة، أو من أفراد مغمورين مجهولين، جاءوا من عرض الطريق ثم فعلوا هذه المواقف، ثم يأتي السؤال اليوم وهو سؤال يجب أن يطرح فعلاً وهو: ما هو الجانب المتعلق بواقعنا من هذا؟ أي: كيف نطبق هذه المواقف على الواقع الموجود والقائم اليوم؟ وكيف نعرف الأخطاء القائمة في واقع المسلمين عامة وخاصة طلاب العلم وحملته؟ وكيف نعرف ذلك؟ الجزء: 108 ¦ الصفحة: 14 المخرج من مأزق التلاوم الحل في نظري لمثل هذا يكون في ثلاث نقاط: الأولى منها: هي ضرورة اعتراف المسلمين -وأخص أهل السنة؛ لأنهم هم المطالبون بأن يقوموا بالدور الصحيح في الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وأن يكون لديهم جرءة في لوم النفس وتقريعها وتوبيخها، وبدلاً من أن نلقي باللائمة على غيرنا، لابد أن نتعود ونتجرأ على أن نعرف عيوب أنفسنا، ويكون لدينا إمكانية في نقد الذات كما يقولون. وهذه درجة من الشجاعة يعز وجودها خاصة لدى من يُنظر إليهم، ويعجبني في هذا المقام كلمة قرأتها للشيخ محمد أمين المصري رحمه الله في كتاب له اسمه سبيل الدعوة الإسلامية في (ص:154) يقول بعدما تكلم عن التعليم في البلاد الإسلامية وما وصل إليه، قال رحمه الله وهو يتكلم عن نفسه: لقد قضيت عمري بين قاعات المدرسة، معلماً ومتعلماً، وإني وايم الله أجد أيامي هزيلة، ونفسي رخيصة، لم ترتق عن مرحلة الطفولة، ولم تبلغ درجة الرشد، ولم تذق معاني الرجولة، ولو طلب إلي أن أكتب تقريراً بشأن نفسي لقلت: أ/ إنه -يعني نفسه- ليس براض عن مستواه الإيماني، ولا يرى أن مثل هذا المستوى يمكن أن يحدث تأثيراً واضحاً في طلابه. ب/ ليس براض عن عمله، ولا يؤديه وهو واثق أنه السبيل الذي يؤدي إلى نجاة الأمة، فلا المناهج، ولا الطرق، والنظم التي يتخرج بها الطلاب وبالتي تخرج للأمة رجالاً أبطالاً دعاةً، ولهذا -والكلام لا يزال للشيخ المصري رحمه الله- ولهذا فهو يعتبر نفسه -هو يقول عن نفسه هذا الكلام- أجيراً يعمل ما يرضي صاحب العمل في سبيل العيش، وربما يعجب كثيرون من هذا القول، إلى آخر ما قال رحمه الله. فالحقيقة أن هذا الكلام بغض النظر أن البعض قد يتساءل ما الفائدة منه؟ أو ما أشبه ذلك؟ لكن أقول بلا شك: إن هذه درجة من الشجاعة يعز نظيرها خاصة بين المفكرين وقادة الفكر والعلم، أن يتكلم إنسان أمام الملأ وفي كتاب أو صحيفة بمثل هذا الكلام الذي فيه إدانة لنفسه، وذلك لأن الشيخ رحمه الله كثيراً ما يطرق قضية وهي أن مشكلة الأمة في أن كل فرد يلقي باللائمة على غيره، فضاعت المسئولية في حين أن المشكلة أصلاً فينا في أفرادنا. نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيبٌ سوانا فلا بد أن يكون لدينا شجاعة على نقد أنفسنا؛ ونقد شخصياتنا، وتقويم مواقفنا، والاعتراف بالخطأ، وهذه الخطوة لا بد منها لتصحيح الخطأ، لأنه إذا كان الإنسان لا يعترف بخطئه فمن باب أولى أنه لن يصحح هذا الخطأ؛ لأنه صواب عنده، لكن إذا وصل إلى درجة الاعتراف بأنه مخطئ في الموقف الفلاني، ومقصر في المسألة الفلانية؛ حينئذٍ يمكن أن يصحح. وهذه القضية لها جانب عكسي موجود عند كثير من الطلاب اليوم، وهو أنه يبالغ في تقريع نفسه وتوبيخها، مبالغة يستغلها الشيطان في إقعاد الإنسان عن الأعمال والخير. وأعرف كثيراً من الإخوة الطلاب والمشايخ يقصر في كثير من الأمور؛ مع أنه مستعد لفعلها هذا، لكنه يقول: ليس أهلاً لذلك، وما وصل إلى هذا المستوى، ويشدد على نفسه حتى يحرم الناس من خير كثير، وهذا يصدق ما قاله بعض السلف، حين قال: ما من أمرٍ أمر الله به الإنسان إلا وللشيطان فيه نزعتان: إما إلى إفراط، وإما إلى تفريط. إن قضية الاعتراف بالخطأ، والقدرة على تقويم النفس ومعرفة عيوبها هي في الأصل مطلوبة ولا بد منها، لكن قد تتحول إلى مرض إذا زادت عن حدها فتنقلب إلى ضدها. الحل الثاني: هو ضرورة التفاف أهل السنة حول علمائهم المخلصين. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 15 تنازع الأمة وفشلها يبدأ بالتلاوم أقول: أولاً: يجب أن نعرف دائماً أن الأمة أو الجماعة أو الطائفة من الناس، إذا أصيبت بالفشل، ومُنيت بالنكبة، فإنها تبتلى حينئذٍ بالتنازع والاختلاف والتلاوم، ولذلك يقول الله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:152] فأتبع ذكر الفشل بذكر التنازع؛ لأنه أثر من آثاره، فإذا فشلت المجموعة أو الأمة بدأ التنازع، ومن أسباب التنازع الاختلاف فيما بينهم في قدر المسئولية، فكل إنسان يلقي بالمسئولية على غيره، وهذا هو التلاوم. ولو نظرنا في القرآن الكريم لوجدنا أن الله عز وجل ذكر التلاوم في كتابه فقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ} [القلم:30] وانظر في القصة تجد فيها مصداق ما ذكر، فإن الله عز وجل قال: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِين * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ * فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم:17-31] . فالمقصود أن أصحاب الجنة بعدما رأوا هذه الجنة، وما أصابها من الله عز وجل من احتراقها وذهاب ثمرتها، وبعدما نزلت بهم هذه المصيبة أقبل بعضهم على بعض يتلاومون، أي: يلوم بعضهم بعضاً، فكل إنسان يلقي باللائمة، ويحمل الخطأ الآخر، وهذا مما يستفاد من هذه الآيات، ومن هذه السورة، أن الأمة والطائفة في حال فشلها وتنازعها تبدأ بالتلاوم. ولذلك إذا أتيت اليوم في هذا العصر إلى بعض العلماء المجاهدين المثابرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعليم، والإخلاص، فحدثته عن بعض الأخطاء والانحرافات، تجد هذا العالم يلوم نفسه ويوبخها ويقرعها، ويقول: نحن مقصرون، ويجب أن نفعل، وسنفعل، ويحث غيره، فإذا أتيت إلى بعض القاعدين أو المقصرين قال لك: الواجب على أهل العلم، والواجب على الطلاب، والواجب والواجب، وصار كأنه يتبرأ من التبعة ويلقي بها على الآخرين، هذا هو الواقع اليوم في الأمة. فأنت إذا نظرت إلى موقف الأمة من علمائها، وموقف العلماء وطلاب العلم من الأمة؛ وجدت الأمر فيه نوع من تبادل اللوم، فأما بالنسبة لطلاب العلم فكثير منهم يلقي باللائمة على العامة، ويقول: إنهم لا قيمة لهم، ولا يلتفون حول علمائهم وما أشبه ذلك، وينتظر منهم دوراً يقومون به في ذلك، وهذا بحد ذاته صحيح لا إشكال فيه، حتى إنني أذكر أن الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله وأسكننا وإياه فسيح الجنان عوتب مرة على التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بذلك، فتكلم بكلام قوي، ثم استشهد بقول الشاعر: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت يعني لو أن الناس والمسلمين وأهل السنة كانوا ردءاً لعلمائهم لتكلموا وأمروا ونهوا، لكن تأخروا وتخلفوا فصار العالم يشعر أنه وحده في الميدان. ثم حين تنظر إلى العامة تجد الأمر نفسه موجوداً، فكثير من عامة الناس حتى من سفهاء الأحلام والعقول، حتى من الفساق ومن سائر الناس ممن هم مستقيمون بصفة عامة، تجد كثيراً منهم يتلذذون بنهش أعراض العلماء، والوقوع فيهم، وأن هؤلاء العلماء شبعوا من الأموال، وامتلأت بطونهم، وأنهم لم يأمروا بمعروف ولا نهوا عن منكر، وأن فيهم وفيهم، وأن فيهم نفاقاً إلى آخر ما تسمعه من كثير من الناس. فيحملون العلماء مسئوليات جسام، وكأن الأمر يبدأ منهم وينتهي إليهم، وكأن المتكلم من هؤلاء ليس عليه مسئولية، هذا فضلاً عن أنه لا يدري ما دور العلماء، وقد يكون من العلماء من يأمر وينهى في الخفاء، خاصة فيما يتعلق بأمر الناس الذين لهم مكانة، فإن هؤلاء غالباً الأنسب ألاَّ يعلم بأمرهم ونهيهم، بل يؤمروا وينهوا خفية لأن هذا أدعى للقبول. فتجد كثيراً من عوام المسلمين ومن أهل السنة والجماعة يتكلمون في علمائهم بهذه الصورة، ومن هنا حصل التلاوم، فالعالم أو طالب العلم ينتظر من الناس أن يكون لهم دور، والناس ينتظرون من العلماء أن يكون لهم كل الدور لا بعضه، وهكذا تضيع الأمور بين هؤلاء وأولئك. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 16 عناية أهل البدع بعلمائهم إذا نظرنا إلى أهل البدع على مدار التاريخ، وجدنا أنهم يلتفون حول علمائهم التفافاً عجيباً، وذلك لأن البدعة في الغالب بل دائماً البدعة لا يعضدها عقل ولا نقل. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 17 التفاف الرافضة حول مشايخهم هذا نموذج من التفاف أهل البدع حول شيوخهم. ومالنا نذهب بعيداً ونحن نرى اليوم ما يصنعه الرافضة من الالتفاف حول مشايخهم، التفافاً يصل إلى حد التقديس الأعمى والعبادة، حتى إن عامتهم إذا ناقشتهم في مسألة قال لك يا أخي: أنا لا أدري اذهب واسأل الملا أو السيد، أو الشيخ عن هذه المسألة. وترونهم وهم في الحج وفي غيره يمشون خلف هذا الرحل بعمته السوداء، وبعباءته السوداء، وبقلبه الأسود أيضاً، يمشون خلفه جماعات كثيرة أحياناً، ويأتمرون بأمره، وأي إشارة منه يلتزمون بها أي التزام! وهم يقصدون إظهار هذا لأهل السنة، لأن هذا نوع من التهزيء والإحباط لأهل السنة، أنه نحن إلى هذه الدرجة من الدقة والضبط والتقدير والتقديس لمشايخنا وعلمائنا. وقد يصل هذا الأمر إلى حد الغلو في شيوخهم، أما بالنسبة لأئمتهم فهم يؤلهونهم، وحدِّث ولا حرج عن الغلو، لكن حتى بالنسبة لشيوخهم فهم قد يعتبرون أحياناً هذا الشيخ الفقيه نائباً عن الإمام، فينظرون إليه هذه النظرة، وليس المطلوب من أهل السنة ذلك، بل إننا نعرف جميعاً أن أهل السنة يجب أن يكون تعبدهم على ما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس في تقليد الرجال وأقوالهم. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 18 موقف العامة وبعض طلبة العلم من علماء أهل السنة ولكن فرق بين هذا وبين كون كثير من أهل السنة اليوم لا يحترمون علماءهم، ولا ينظرون إليهم، تجد الطالب المبتدئ مثلاً يقف أمام العالم الذي قضى كثيراً من عمره في البحث والطلب والجهاد، يقف أمامه بلحيته البيضاء، وبورعه وزهده وجهاده، وتجد هذا العالم بسيطاً في ملبسه، ومركبه، ومنزله، ولو كان عند أهل البدع لعظموه، واعتبروه آية من آياتهم، وحجة من حججهم، وما تركوه يمشي على الأرض. ومع ذلك تجد أهل السنة في الطرف الآخر، تجد شاباً في مقتبل العمر ما طر شاربه يقف أمام هذا العالم، فيرد عليه في مسألة من المسائل بعبارات ركيكة، وألفاظ نابية وقد يسب أو يحط من قدره، فالمطلوب من أهل السنة ليس أن يبالغوا في تعظيم أئمتهم وعلمائهم مبالغة أهل البدعة، فهذا أمر لا يقبله العلماء أنفسهم، ولا طلاب العلم، وإنما المطلوب أن يعرف للعلماء حقهم وقدرهم، وأن يلتف طلاب العلم والعامة حول المشايخ والعلماء، حتى يمكن للعالم أن يأمر وينهى، ويكون له ثقل في الواقع ومكانة. وبذلك يصبح كل واحد من المسلمين له مكانة، وله منزلة، وله تأثير، فضلاً عن العالم الذي يعتبر قائداً لهؤلاء، ولو نظرنا اليوم في الواقع لوجدنا أن الله عز وجل قد امتن على المسلمين وأهل السنة بمشايخ وعلماء أجلاء، لا يوجد نظيرهم عند أي أمة من الأمم. وعلى سبيل المثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، هذا الرجل بتواضعه، وبحلمه وبحسن خلقه الذي وسع الخاص والعام على كثرة من يرتاد مجلسه ومكتبه، وكثرة التفاف الناس حوله، وكثرة ما يرد من الشكاوى، والإشكالات والأسئلة والإيرادات والخصومات وغيرها، وعلى رغم ما قضاه من السنين والعمر الطويل في هذا الصدد، وكثرة ما يلقى من العنت والمشقة إلى غير ذلك. هذا الرجل بهذه المواصفات ببعده عن الدنيا، بكرمه وجوده الذي هو مضرب المثل، هو أنموذج لما يراد من أهل السنة اليوم، وأقول بصراحة: لو كان مثل هذا الرجل عند غير هذه الأمة، عند أمة أخرى، أو عند طائفة من الطوائف لاعتبروه إماماً وحجة، وأشعلوا الدنيا كلها بالحديث عنه، لكن -لله الحمد- أن مشايخنا وعلماءنا بعيدون عن البهرج، والقيل والقال، وحب الثناء رغبة في التواضع وهضماً للنفس، وهذه من فضائلهم التي يمدحون بها، ولكن هذا لا يعفينا نحن المسلمين وأهل السنة من ضرورة احترام علمائنا، والالتفاف حولهم، وإشعار الآخرين بأننا نوقرهم ونقدرهم، لأنك إذا أشعرت الناس بأنك توقر وتقدر علماءك وقروهم وقدروهم أيضاً، وأصبح للعالم منطق ومكانة، وبإمكانه أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر على كل مستوى. أما إذا كان أقرب الناس إلى العالم يتندرون في مجالسهم بنهش عرضه والنيل منه، وينسون ما قاله ابن عساكر رحمه الله حين كان يقول: اعلم أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، إذا كان هذا شأن أقرب الناس إليهم، فما بالك بالأبعدين؟! فكل واحد من أهل السنة عليه واجب ينبغي أن يؤديه، وأن تنتقل المسألة من مجرد اللوم والتقريع، وإلقاء التبعة على الآخرين من مسئولين وعلماء أو غيرهم، إلى أن يلقي كل إنسان باللوم والتبعة على نفسه، ويسأل نفسه بجد، ما هو الشيء الذي يجب أن أؤديه؟ وما هو الدور الملقى علي؟ وهل قمت بذلك؟ ويبدأ بداية صحيحة في القيام بهذا الواجب. وفقنا الله جميعاً لما يحب ويرضى، اللهم وفقنا لصالح القول والعمل، اللهم اغفر لنا الخطأ والزلل، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم طهِّر قلوبنا من النفاق، وألسنتنا من الكذب، وعيوننا من الخيانة، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 19 أسلوب المبتدعة في كسب الناس زعماء البدعة يحرصون على كسب ثقة من حولهم؛ لأن ثقة هؤلاء بالشيخ المبتدع هي سبب التزامهم بالبدعة، لأنهم إذا فقدوا الثقة به، وصار عندهم إمكانية النظر، والتأمل والدراسة، اكتشفوا أن هذه البدعة بدعة فتركوها، لكن ما داموا يعظمون هذا الذي جاء بالبدعة فإن عقولهم مغلقة، وليس لديهم قدرة على النظر والتأمل. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 20 تقديس المعتزلة لمشايخهم انظروا على سبيل المثال إلى المعتزلة وتقديسهم لمشايخهم، وأضرب مثالاً واحداً لذلك وهو واصل بن عطاء شيخ من شيوخ المعتزلة بل هو زعيمهم، أو عمرو بن عبيد، هذا الرجل كان تلاميذه يلتفون حوله ويعجبون به أشد الإعجاب، ومن ضمن هؤلاء التلاميذ المعجبين به شاعر اسمه صفوان الأنصاري، وقد قال قصيدة يمدح فيها شيخه ذكرها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين، والذي يظهر أن الجاحظ إن لم يكن من الزنادقة فهو من غلاة المعتزلة، ولذلك يسترسل في مديحهم، والثناء عليهم، واسترسل هاهنا في مديح عمرو بن عبيد والثناء عليه، ويذكر وينسب إلى هذا الشاعر قصيدة جميلة في مدح شيخه والثناء عليه، يقول من ضمن الأبيات يقول: له خلف بحر الصين في كل ثغرة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابرِ رجال دعاة لا يفل عزيمهم تهكم جبار ولا كيد ماكرِ إذا قال مروا في الشتاء تطوعوا وإن كان صيفاً لم يخف شهر ناجرِ فيمدح هذا الشيخ، ويصفه بأن له دعاة في أنحاء الدنيا، في بلاد المغرب، وفي بلاد الصين وفي غيرها فله دعاة في كل مكان، ويمدح هؤلاء الدعاة بأنهم رجال دعاة أقوياء، لا يؤثر في عزيمتهم سخرية الساخرين، ولا كيد الماكرين، وأن هؤلاء القوم إذا أمرهم شيخهم بالذهاب والسفر للدعوة والإصلاح في أي مكان أو في الشتاء في الصيف ذهبوا، ولم يؤثر فيهم وجود الحر أو جود البرد. ويضحون في سبيل ذلك بهجر الأوطان والتكلف، ولذلك مدحهم بقوله: بهجرة أوطان وبذل وكلفة وشدة أخطار وكد مسافر فأنجح مسعاهم وأثقب زندهم وأورى بثلج للمخاصم قاهر وأوتاد أرض الله في كل بلدة وموضع فتياها وعلم التشاجر إلى أن يقول في آخر القصيدة واصفاً مجالس هؤلاء الطلاب عند شيخهم المبتدع يقول: تراهم كأن الطير فوق رءوسهم على عمة معروفة في المعاشر وسيماهم معروفة في وجوههم وفي المشي حجاجاً وفوق الأباعر إلى آخر ما قال. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 21 موقف العز بن عبد السلام مع الملك الصالح إسماعيل في بيت المقدس الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه. مضى في حلقات عديدة الكلام عن عيب من عيوب طالب العلم في هذا العصر، وهو إيثار اعتزال الناس وتجنب مخالطتهم، واستطرد الحديث عن هذا الموضوع إلى ذكر مواقف علماء السلف رضي الله عنهم، وكيف كان الفرد منهم قيماً على المجتمع، آمراً ناهياً مصلحاً، واستعرضت في المجلس السابق، أو أشرت إلى واقع الناس اليوم، وما هم فيه من التلاوم، وأن الناس والعامة يلومون العلماء، وكذلك بعض العلماء أو طلاب العلم يلومون العامة، وأن الواجب على كل إنسان أن يتجه باللوم إلى نفسه، وأن يحرص على أن يقوم بالدور الذي يوجبه عليه كونه مسلماً. وذكرت جانباً من عناية أهل البدع بعلمائهم -إن صح أنهم علماء- وتعظيمهم لهم، وإظهارهم للناس إجلالاً لهؤلاء الأئمة، وأضيف في ذلك القصة الطريفة التي ذكرها ابن السبكي في الطبقات في ترجمة العز بن عبد السلام، في الجزء الثامن من طبقات الشافعية، حيث ذكر أن هذا الإمام الجليل حين خرج من دمشق بعد أن أغضب الملك الصالح إسماعيل، مشى حتى وصل إلى بيت المقدس، فخرج الملك الصالح إسماعيل ومعه بعض حاشيته إلى بيت المقدس، وأمروا بسجن العز بن عبد السلام، فسجن في خيمة بجوراهم، ففي أحد المرات كان الملك الصالح إسماعيل جالساً في خيمته، ومعه وفد من الصليبيين، وإلى جوارهم خيمة أخرى فيها العز بن عبد السلام. فكان العز يتمتم ويقرأ القرآن الكريم، فسمعه من في الخيمة الأخرى، فقال له الصليبيون: ما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: هذا صوت فلان وهو أحد العلماء الذين عارضوني حين حالفتكم وسلمتكم هذه الحصون والقلاع فسجنته، وكأنه يتقرب إليهم بذلك ويريد أن يبين لهم جانباً من التضحيات التي بذلها في سبيل موالاتهم ومناصرتهم. لكن هؤلاء القوم قالوا له كلمة تجرح قلبه إن كان له قلب، قالوا له: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها، تعظيماً له، وبعد فترة كأن الصالح إسماعيل أراد أن يسترضي العز بن عبد السلام، فبعث إليه رجلاً يقول له: لو ذهبت إلى الصالح إسماعيل واعتذرت منه وقبلت رأسه؛ لعله أن يصفح عنك ويعيدك إلى دمشق، فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: أنتم مساكين، أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله الذي لا إله إلا هو إني لا أرضى أن يأتي الصالح إسماعيل نفسه ليقبل رأسي، فكيف أذهب أنا لأقبل رأسه، فدعوني وما أنا فيه. هذا أيضاً جانب أو قصة تدل على إظهار هؤلاء النصارى وتبجيلهم وتعظيمهم لقساوستهم، وبطارقتهم، ورجال دينهم، وأنهم يتعمدون إظهار هذا الأمر للمسلمين من باب الإحباط، وإشعارهم بأننا على حال أحسن مما أنتم عليه. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 22 محاولة التنصل من الواجبات أيها الإخوة: في هذا العصر قد ينتقد بعض الطلبة كثيراً من طلاب العلم أو بعض المشايخ في تقصيرهم في القيام بما أوجب الله عليهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن فلاناً بلغه كذا، وبلغه كذا، وقيل له كذا، واطلع على كذا فلم يحرك ساكناً، ولا بد من وقفه سريعة عند هذا الأمر، فهذا جانب من التلاوم الذي اتفقنا على ضرورة القضاء عليه، وأن نبدأ بلوم أنفسنا، حيث إن اللوم ينفع الآن، وإلا فقد نتلاوم أو نلوم أنفسنا في وقت لا ينفع فيه اللوم، كما في قوله تعالى حكاية عما يقوله الشيطان في يوم القيامة، حين قال: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] . في ذلك الوقت لا ينفع اللوم، لكن الآن ينفع اللوم، فكونك تلقي باللوم على فلان وعلان هذا نوع من التخلص من التبعة، كما إننا كثيراً ما نتلذذ بأن نلقي بأخطائنا على الاستعمار وأعداء الإسلام واليهود والنصارى، فإذا وجدنا ما يضج به المجتمع المسلم اليوم من المفاسد، والمنكرات الظاهرة والباطنة، والبدع، والانحرافات، والتفسخ والانحلال الخلقي والفكري، قلنا هذا من كيد الاستعمار، والصهيونية العالمية، واليهود والنصارى!! صحيح {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] لكن لماذا نسينا أيضا قوله تعالى: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120] لماذا نسينا أن اليهود والنصارى لا يستطيعون أن يجتثوا شجرة الإسلام إلا بغصن من غصونها؟ اليهود ما استطاعوا أن يكيدوا في المجتمع المسلم إلا حين كان هؤلاء الناس الذين يحملون أسماءً إسلامية وثياباً عربية هم أخلص من الاستعمار لأهداف الاستعمار، وأصبح شأنهم كما قال أحد دعاة الإسلام، حين قال: ألفاظهم عرب والفعل مختلفٌ وكم حوى اللفظ من زور ومن كذب إن العروبة ثوب يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب فكما يقول العوام في المثل العامي: (دود الخل منه وفيه) فالدود في داخلنا موجود منا نحن، فعلينا ألاَّ نلقي باللوم على غيرنا، وننسى الخطأ الذي هو ضعف مقاومتنا واستعدادنا للتأثر بهذه الجراثيم، فالجسم القوي يمتلك المناعة ضد الأمراض بإذن الله، لكن الجسم الضعيف أو الذي فقد المناعة لو أصيب بالزكام لأدى إلى حتفه، كما هو معروف في المرض الجنسي المعاصر الذي هو مرض الإيدز -فقدان المناعة- جسم لا يملك المقاومة، فأدنى جرثومة تحل فيه تؤدي إلى الوفاة بإذن الله، وهكذا الحال في كثير من المسلمين. إذاً يجب أن ننهي قضية اللوم، ونبدأ بلوم أنفسنا وتصحيح أحوالنا، فهذا جانب يتعلق بإلقائنا للوم على غيرنا من المشايخ وكبار طلبة العلم. الجانب الثاني: أن كثيراً من هؤلاء العلماء يقومون بأدوار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد لا يعلمها كثير من الناس، ويرون من المصلحة ألا يذكروها. الجانب الثالث: وهو الذي أركز عليه الآن، أو أؤكد عليه الآن، هو أن الله عز وجل خلق الخلق، وقسم بينهم المواهب، والملكات، والأرزاق، والقدرات، فمن ترى من طلاب العلم أو المشايخ، هؤلاء أعطاهم الله عز وجل ما لم يعطِ غيرهم من العلم والمعرفة والتضلع بالشريعة، وأعني بذلك العلماء العاملين، الذين فعلاً يصدق عليهم أنهم علماء ومشايخ، وليس كل من أطلق عليه هذه اللفظة ممن يستحق أو لا يستحق، فإن هذه الكلمة أصبحت عند الناس مبذولة. فهؤلاء مَنَّ الله عز وجل عليهم بأن منحهم هذا العلم، لكن لا يلزم من ذلك أن يكونوا كاملين في كل شيء. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 23 أصناف الصحابة انظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الجيل المثالي الذي يجب أن تسير على خطاه في كل مجال. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 24 من الصحابة من اشتهر بالعلم تجد من هؤلاء الصحابة من منّ الله عز وجل عليه بالعلم الغزير، كـ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي هريرة، وغيرهم. وفيهم نقول ونصوص عن السلف يهتز لها الإنسان طرباً كما في قول بعضهم: " إني نظرت في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالإخاذات، من الإخاذ يروي الفرد، ومن الإخاذ يروي الفردين، ومن الإخاذ يروي الثلاثة، ومن الإخاذ يروي الفئام من الناس، ومن الإخاذ لو ورد عليه أهل الأرض كلهم لوسعهم، وإن ابن مسعود من هؤلاء " وقال عمر رضي الله عنه عن ابن مسعود: [[كنيف ملئ علماً]] يعني زاوية أو ناحية ملأت علماً، وهذا في فضائل الصحابة للإمام أحمد وغيره. ومن الصحابة من منّ الله عز وجل عليهم بالزهد، والورع، والتعبد والبعد عن الدنيا، كـ أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه حتى بلغ به زهده رضي الله عنه وتقشفه أنه سلك مسلكاً ومذهباً أصبح لا يصلح فيه لمخالطة الناس، فقال له عثمان كما في صحيح البخاري: [[لو اعتزلت أو لو ذهبت إلى الربذة]] يقترح عليه، فرأى أبو ذر أن هذا الاقتراح من عثمان في مكانه، فذهب إلى الربذة، وأقام فيها حتى مات بها رضي الله عنه وأرضاه؛ وذلك لأنه يرى أنه لا يجوز للإنسان أن يدخر ما زاد عن القوت. وهذا مسلك يصلح أن يتزهد به الإنسان لنفسه، لكن أن يفرضه على المجتمع فهذا الأمر في غاية الصعوبة، وقد يؤدي إلى شيء من الخصام، ولذلك فقد حدث في الشام حين كان فيها أبو ذر ما حدث، فخاطبه معاوية رضي الله عنه، ثم أشخصه إلى عثمان بالمدينة. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 25 من الصحابة من اشتهر بالجهاد ومن الصحابة من هو مشهور بالجهاد، والجلاد، والقتال كـ خالد بن الوليد رضي الله عنه، والذي صح عنه أنه كان يقول: [[ما ليلة تهدى إلي فيها عروس أنا لها محب، بأحب إلى قلبي من ليلة شديدة البرد، أُصبِّحُ فيه اليهود مع سرية من المهاجمين]] نعم، يوجد من الناس من تكون لذته في الجهاد، والعلم، والعبادة، والأمر، والنهي، كما أن لذة أهل الدنيا في جمع المال والحطام، أو نيل الشهادة والرياسة والجاه وغير ذلك. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 26 من الصحابة من جمع الخصال ويوجد من الصحابة رضي الله عنهم من جمعوا هذه الفضائل بحذافيرها، وإن أبا بكر وعمر من هؤلاء، فلو نظرت إلى شخصية أبي بكر مثلاً لوجدته جمع الفضل من أطرافه، وكذلك عمر رضي الله عنه فإذا قرأت في ترجمته وجدته في العلم أعلم الصحابة، وفي السياسة أحذقهم، وفي الجهاد أشدهم وأقواهم، وهكذا هو أسبقهم إلى كل خير وفضيلة، لكن هؤلاء قليل. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 27 اعتذار للعلماء وإذا كان ذلك كذلك فالأمر أيضا بالنسبة لأهل الخير والعلم في هذا العصر وفي كل عصر هو كذلك، فكفى هؤلاء العلماء العاملين فخراً أنهم حين اشتغل أقرانهم بجمع الدنيا، أو نيل الحطام، أو الرئاسة، اشتغلوا هم بتعلم العلم الشرعي، وتعليمه ونشره بين الناس، وهذه ثغرة عظيمة جداً نحن نحتاج في كل وقت إلى من يقوم بها، ولا يلزم أبداً أن يكون هذا العالم مثلاً المشتغل بهذا الأمر هو أيضاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الغاية العليا، بل إن من حكمة الله عز وجل ولله الحكمة البالغة أن قد يكون بعضهم منشغلاً بالعلم عن غيره؛ لأنه لو اشتغل مثلاً بالأمر والنهي لقصر في جانب العلم. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 28 لا يكلف الله نفسها كما أن من الأعذار أنه قد يكون هذا الشخص معذور بينه وبين الله عز وجل فقد لا يستطيع، وهل من شرط العالم أن يكون شجاعاً؟ ليس بشرط، بل قد يكون هذا العالم -وجزاه الله خيراً- أشغل نفسه بطلب العلم، وبذل ما استطاع، لكن فيه ناحية ضعف فطري جبلي لا سبيل له عليها، {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . هذا في جانب الاعتذار. لكن حذار حذار أيها الإخوة أن تكون هذه الأعذار وسيلة للقعود بهذه الحجة، فقد يقعد الواحد منا مثلاً عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإصلاح والاختلاط بالناس، بقصد توجيههم بحجة أنني مشغول بطلب العلم، أو بحجة أنني مفطور على شيء من حب العزلة، أو بحجة أنني جبان لا أستطيع أن آمر وأنهى، خاصة إذا كنت في ملأ من الناس، لا. بل يجب أن يكون للإنسان ميزانان: ميزان فيما يتعلق بنفسه، وميزان فيما يتعلق بالناس، وانظر إلى قول الله -عز وجل: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ * يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:1-6] فالله عز وجل توعد المطففين بالويل، ووصفهم بأنهم المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. فإذا كان الكيل لهم أخذوا حقهم وافياً، وإذا كان الكيل عليهم للناس بخسوا ونقصوا، والله عز وجل أمرنا بتجنب مشابهة أهل السوء واللعنة، فإذا أردت أن لا تكون من المطففين بوجه من الوجوه، فعليك أن تتجنب مشابهتهم في الحالين: فإذا كان الحق لك فاحرص على أن لا تأخذه مستوفى، وإن تفضل منه فضلاً، وإذا كان الحق عليك، فاحرص على أن تعطيه كاملاً بل أن تزيد وتتفضل، وهكذا الشأن في هذه القضايا المعنوية، كقضية القيام بالواجبات الشرعية، فإذا أردت أن تقوم أو تقيم الناس فلا تصف فلاناً بأنه مقصر، وفلاناً لم يقم بالواجب، بل عليك أن تبحث له عن عذر، لأن هذا من مخالفة المطففين أن تعذر الناس إذا كان لهم أعذار ظاهرة غير متكلفة. أما إذا كان الحق عليك، فعليك أن تعامل نفسك بالميزان الأقوى، فتطلب من نفسك أن تقوم بالواجب أمراً ونهياً وإصلاحاً، ولا تسمح لهذه الأعذار بالتسلل إليك. هذه تعليقة خفيفة على ما سبق، أما بقية الموضوع فسأتعرض له إن شاء الله في الأسبوع التالي والذي بعده إن كان في العمر بقية، فسوف أعرض فيهما العزلة، وفضائلها، وغوائلها، والخلطة، وفضائلها، وغوائلها، مع ذكر بعض النصوص والأحاديث والقصص في ذلك، وأذكر في نهاية تينك الحلقتين المذهب الصحيح المختار الملائم لطالب العلم في الاختلاط بالناس. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 29 لابد من احترام التخصص والتخصص وارد، ونحن في عصر التخصص، فالإنسان يمكنه أن يتخصص في جانب معين فيفيد فيه، ويصل إلى نتائج محددة ومدروسة، ويقوم غيره بفروض أخرى من الفروض التي أوجبها الله على الأمة، فهذه من الأعذار التي يجب أن نلتمسها لهؤلاء الأئمة. الجزء: 108 ¦ الصفحة: 30 اللحظات الأخيرة من حياة الفاروق غابت معاني الإسلام الشاملة في حياة المسلمين، وتبعوا سنن من قبلهم من أهل الكتاب وذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حذو القذة بالقذة ونسو أو تناسوا تراثاً للأمة لا يلتفت إلى غيره ما دام باقياً، فكم شخصيات وعظماء في تاريخ الإسلام بهم نقتدي ونهتدي. لقد سلَّ عمر سيفه يحارب الإسلام فسطع نور الإسلام في قلبه فغير وجه الحياة بمبادئه وأخلاقه وقُوَّته فارتشفت الدنيا على يدي عمر كثيراً من المعاني التي بُعِثَ بها محمد صلى الله عليه وسلم فكانت حياته لله ومماته لله رضي الله عنه. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 1 المعنى الشامل للإسلام إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون، والذين كانوا نجوماً يستضاء بها في الظلمات، والذين رفع الله بهم شأن هذا الدين، وأعز بهم الإسلام، وأحيا بهم ما اندرس من شرائع المرسلين. أيها الإخوة: يقول الله تبارك وتعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] . صلاتي ونسكي، ومحياي ومماتي، هذا هو الدين وهذه هي العقيدة وهذا هو شأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا باتباعه، والاقتداء به، ولقد مرت بالمسلمين قرون نسوا خلالها هذا المعنى الشامل للإسلام، الذي يشمل كل جوانب الحياة فأصبح الدين في أوقات خاصة وفي أماكن خاصة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 2 تعدد شخصيات المسلم واليوم تجد المسلم له شخصيات متعددة، فله في المسجد شخصية كشخصية العابد الخاشع، والخائف الباكي، وله في المتجر شخصيةٌ أخرى كشخصية المحتال الغشاش المخادع المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وله في المدرسة شخصية، كشخصية الإنسان الذي يهمه أن ينال المكانة لدى أستاذه، وأن يحصل على الشهادة، والوظيفة، والدرجات، وعلى المال والدنيا، وله في السوق والشارع شخصية، وفي البيت شخصية. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 3 اتباع اليهود والنصارى إن وجود شخصياتٌ متعددة تكون هذا الإنسان المسلم، هو مصداقُ ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن القوم إلا هم!} فالمسلمون تتبعوا سنن اليهود والنصارى، فاليهود والنصارى فرقوا دينهم وكانوا شيعاً والمسلمون كثيراً منهم جعلوا القرآن عضين. اليهود اليوم -مثلاً- أو النصارى، يعبدون الله -فيما يزعمون- يوماً واحداً في الأسبوع، يوم السبت أو يوم الأحد، يتجهون فيه إلى الكنيسة، أو إلى المعبد، وفي بقية أيام الأسبوع يعبدون المال، والدنيا، كما قال أحد مفكري الإنجليز، قال: إن الإنجليز يعبدون الله في يوم واحد وهو يوم الأحد، ويعبدون بنك إنجلترا في بقية أيام الأسبوع، والمصيبة كل المصيبة أن المسلمين بلوا بما بلي به أهل الكتاب من قبلهم. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 4 أهمية القدوة في حياة المسلم ولذلك نقف في هذه الأوقات المباركة -إن شاء الله- مع شخصيةٍ من الشخصيات العريقة في الإسلام، والتي تذكِّرنا بما قد نسينا من معالم الدين، والحقيقة -أيها الإخوة- أن المسلم المقصر -من أمثالنا- إذا قرأ شخصيات هؤلاء الأقوام وما كانوا عليه، يشعر بشيءٍ عظيم من الفرحة في قلبه، ويحس أحياناً بأن من الظلم لهؤلاء الرجال الأكابر أن يتكلم عنهم صعاليك، ولله در الشاعر إذ يقول: إني لأشعر إذ أغشى معالمهم كأنني راهبٌ يغشى مصلاه والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه الجزء: 109 ¦ الصفحة: 5 مع عمر بن الخطاب الجزء: 109 ¦ الصفحة: 6 فضله وشرفه هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ويكفي في شرفه وفضله ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحاح الكثيرة، والتي يمكن أن تطلع عليها في مراجعة أي كتاب من كتب السنة، اقرأ مثلاً: كتاب جامع الأصول لـ ابن الأثير في فضائل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفي الفضائل المشتركة بينه وبين أبي بكر، ترى ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الرجل العظيم، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بينا أنا نائمٌ إذ رأيت الناس وعليهم قمصٌ، وقمص الناس منهم يبلغ الثدي، ومنهم من دون ذلك وعلى عمر قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} والحديث متفق عليه. وفي الحديث الآخر أنه صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عبد الله بن عمر: {بينا أنا نائمٌ إذ أوتيت بقدحٍ من لبن فشربته، حتى أني لأرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فضلي عمر قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} هذه الفضائل التي لا تنتهي لـ عمر رضي الله عنه، قميصٌ يجره هو الدين، ولبنٌ يشربه وهو فضلةٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العلم، فما بالك بهذا الرجل أي رجلٍ يكون! الجزء: 109 ¦ الصفحة: 7 الإسلام يقلب حياة عمر انظر إلى الإسلام، وكيف صنع هذا الرجل، هذا الرجل لم يكن له في الجاهلية شأن، كان رجلاً من رجال قريش يسرح بالغنم ويؤوب ويقضي وقته في لهوٍ وشرب خمرٍ، لا يلتفت إليه أحد، ولا يعلم بوجوده أحد، فلما أسلم انقلبت كل ذرةٍ من ذرات شخصية عمر عن مكانها، وتكونت شخصيته بصورةٍ جديدة، وهذا يبرز لك أثر الإسلام، يسلم هذا الرجل على اختلافٍ في قصة إسلامه، فيعلن إسلامه في مكة، ويعمد إلى رجل هو جميل بن معمر الجمحي، وهو رجلٌ من قريش كان مشهوراً بنشر الأخبار، بل كان وكالة أنباء متنقلة، فيأتيه عمر كما في رواية ابن إسحاق بسندٍ حسن فيقول له عمر: هل سمعت وعلمت أنني قد أسلمت! لكن لا تخبر أحداً، فيخرج الرجل يجر ثوبه في أندية قريش، وهو يقول: ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، ألا إن ابن الخطاب قد صبأ، وعمر بن الخطاب وراءه يكذبه: كذبت، ولكنني أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فيجتمع إليه القرشيون يقاتلونه، ويضاربونه، ويضاربهم حتى يرتفع النهار وتزول الشمس أو تكاد، فيقعد عمر رضي الله عنه على الأرض من شدة التعب والإعياء، وهو يقول: يا أعداء الله، اصنعوا ما بدا لكم، تقاتلونني، أو تضربونني، أو تقتلونني، اصنعوا ما قد بدا لكم، فوالله لو قد بلغنا معاشر المسلمين ثلاث مائة نفر، لأخرجناكم من مكة، أو أخرجتمونا منها. انظر أخي المسلم كيف غير الإسلام شخصية عمر رضي الله عنه، بين يومٍ وليلة يتحول عمر الرجل المخمور، بل عدو الإسلام الذي ينطلق ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من الصفا صفا ثم أصبح عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين. هكذا يصنع الإسلام بالرجال؛ لكن نحن اليوم بل وكثير من المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها تجد الواحد منا عمره ثلاثون سنة أو أربعون سنة، أكثر أو أقل، وفلانٌ هو فلان، لا يشعر بأنه يزداد يوماً بعد يوم، ويتقوى في الإيمان، ويرتقي في مدارجه، بل إن لم يشعر بالنقص لم يشعر بالزيادة، ولذلك يقول ابن مسعود فيما يرويه مسلم في صحيحه: لم يكن بين إسلامنا وبين أن خوطبنا بهذه الآية ثلاث سنوات: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] } . هكذا يقلب الإسلام شخصية عمر، فيقف هذا الموقف المتحدي: يا أعداء الله، اصنعوا ما بدا لكم، فوالله لو بلغنا ثلاث مائة رجل لأخرجناكم من مكة، أو أخرجتمونا، وتمر الأيام والليالي وعمر هو الساعد الأيمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أبي بكر، ثم يقبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم إليه فيستخلف المسلمون ويختارون أبا بكر رضي الله عنه، فكان عمر في يده سيفاً، إن شاء أن يسله سلَّه، وإن شاء أن يغمده أغمده، ثم يتولى عمر الخلافة بعد موت أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فيصنع الأعاجيب ويرضى عنه ساكن الأرض وساكن السماء، وتدر الأرض خيراتها. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 8 قصة موت عمر بن الخطاب انظر إلى صورةٍ صحيحة، تنبئك عن كيفية مقتل أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، وكيف عاش عمر رضي الله عنه الساعات الأخيرة من عمره، هذه الساعات التي يؤمن فيها الكافر، والتي هي أجلٌ محتوم لا بد لكل إنسانٍ منه براً أو فاجراً، وانظر إلى مصداق قول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] . تدرك أن عمر الذي كان محياه لله صار مماته أيضاً لله عز وجل. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 9 عمر وإنكار المنكر ثم يخرج هذا الشاب من عند عمر، فينظر إليه فإذا ثوبه يمس الأرض، فيقول: علي بالغلام فيأتونه به، فيقول: [[يا ابن أخي، ارفع إزارك، فإنه أنقى لثوبك -وفي رواية- أبقى لثوبك وأتقى لربك]] قضية يمكن اعتبارها سهلة في نظر الكثير منا، وهي إسبال الثوب، وعمر رضي الله عنه في موقف صعب، وهو يعاني سكرات الموت، بل وهو يواجه قضايا كبيرة في الواقع منها قضية الخلافة، وكيف يترك المسلمين بشأنها، هل يعهد بها إلى أحد؟ أو يعهد بها إلى مجموعة من الناس أو يترك المسلمين على حالهم، ومع ذلك لا ينسى أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه، أن ينبه رجلاً من المسلمين إلى خطأ وقع فيه، وهو أنه أسبل ثوبه، وينبهه بالأسلوب اللين، وبالحكمة، والموعظة الحسنة: يا ابن أخي، ارفع ثوبك، ويبين المزايا الدينية والدنيوية لهذا الأمر، فمن ناحية دنيوية هو أبقى لثوبك وأنقى له، ومن ناحيةٍ أخروية هو أتقى لربك، وهذا يؤكد أن المسلم عليه أن يأخذ الإسلام كله جملةً واحدة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 10 دخول علي بن أبي طالب عليه ثم حفصة ثم يأتي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فيثني على عمر رضي الله عنه، فيقول: [[والله إني لأرجو أن تكون مع صاحبيك، فإني كنت كثيراً ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر، كنت أنا وأبو بكر وعمر]] فيشهد له رضي الله عنه وأرضاه بالخير وحسن الصحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يدخل المسلمون عليه زرافات ووحداناً، ثم تستأذن بنته حفصة رضي الله عنها، ومعها النساء، فيخرج الرجال فتدخل فتبكي عند أبيها ساعة، وهي تقول: [[يا أبتاه! يا صاحب رسول الله، يا أمير المؤمنين]] فينهرها عمر رضي الله عنه وأرضاه، ويقول: لا صبر لي على ما أسمع، عزمت عليك ألا تقولي شيئاً من ذلك، أما عينك فلست أحبسها. أي أن البكاء لا بد لها منه، أما النياحة والندبة، وتعداد محاسنه وما أشبه ذلك فإنه لا يرضى به، ثم تخرج حفصة رضي الله عنها فيسمع بكاؤها من الستر، وبكاء النساء معها، وكان عمر رضي الله عنه إذا ذاك على رجل ابنه عبد الله بن عمر ثم يأتي الطبيب وينظر فيسقي عمر رضي الله عنه نبيذاً، وهو الماء يوضع فيه شيءٌ من الزبيب حتى يكون حلواً، فيخرج النبيذ من جرحه، ثم يسقيه شيئاً من اللبن فيخرج من جرحه أيضاً، فيعلمون أنه هالكٌ لا محالة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 11 من ماذا كان يخاف عمر؟ لماذا يأمر عمر رضي الله عنه عبد الله بن عباس أن يذهب فينظر من قتله؟! إن الأمر عجب! إن عمر رضي الله عنه كان يسأل المسلمين من حوله، أعن ملأٍ منكم كان هذا الأمر؟ هل هي مؤامرة مشتركة منكم يا معاشر المسلمين عليَّ؟! قالوا: معاذ الله يا أمير المؤمنين، ما علمنا ولا سمعنا. عمر وهو من هو في عدله وفضله، يخطر في باله أن يكون مسيئاً للمسلمين فسعوا للتخلص منه بهذه الطريقة، فيأمر ابن عباس أن يذهب لينظر من قتله، وجانبٌ آخر هو أنه كان يخشى أن يكون دمه في عنق أحد من المسلمين، فلما أخبره ابن عباس أن القاتل مجوسي، وأن قتله له لم يكن عن مواطأة، وأنه ما مر بملأٍ من المسلمين إلا وهم يبكون، حتى لكأنهم لم يصابوا بمصيبة قبل يومئذ؛ سُري عن عمر رضي الله عنه ودهش وفرح، ثم يقول عمر رضي الله عنه لـ ابن عباس: قد كنت أنت وأبوك تريدان أن تكثر العلوج في المدينة، وكنت أنهاكما عن ذلك، قال يا أمير المؤمنين، إن شئت الآن، أي أن نقتلهم الآن، قال: كذبت لا تستطيع ذلك بعد أن تكلموا بلسانكم، وشهدوا شهادتكم، ثم يخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى بيته، يخرج فيقعد في بيته، والمسلمون يبكون، ويدخل عليه النفر بعد النفر يشهدون له ويدعون له ويبكون بين يديه، ويدخل عليه غلامٌ أو شابٌ في بعض الروايات أنه ابن عباس فيقول: [[هنيئاً لك الشهادة يا أمير المؤمنين، صحبت رسول الله عليه وسلم، ثم هاجرت، ثم جاهدت معه، وكان لك قدم صدقٍ في الإسلام كما علمت، ثم نلت الشهادة، فقال: تشهد لي بهذا يـ ابن عباس قال: نعم، قال: الحمد لله، وددت أني خرجت منها كفافاً لا علي ولا لي]] يود أنه خرج من الدنيا أو من هذه الخلافة كفافاً لا عليه ولا له، وفي روايةٍ أنه كان يقول: [[لو أن لي قلاع الأرض -يعني ملء الأرض- لافتديت به من هول المطلع]] . هذه الشخصيات التي صنعها الإسلام فعلاً، رجلٌ كل حياته في سبيل الله، بل ومماته في سبيل الله، وخطواته في سبيل الله وجهاده معروف، ثالث رجلٍ في الإسلام، ومع ذلك يبلغ به الخوف أن يقول: [[وددت أني خرجت منها لا علي ولا لي، لو أن لي قلاع الأرض لافتديت به من هول المطلع]] وما بالك بكثيرٍ من المسلمين اليوم! من طلبة العلم، ومن المتعبدين، ومن الدعاة، يفرح الواحد بعملٍ يسيرٍ فعله من عبادة، أو قيام ليلٍ، أو حفظ قرآنٍِ، أو دعوةٍ، أو عمل خير، حتى يخيل إليه أنه من أول من يدخل الجنة، ويتعاظم في نفسه، وربما نظر إلى غيره نظرة ازدراء واحتقار، بل ما بالك بالعامة من المسلمين وهم يثنون على أنفسهم في أحيانٍ كثيرة، ويحمدون الله على أنهم وعلى أنهم، دون أن يخطر في قلوبهم خاطر الخوف من الله عز وجل، أو أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، كما قال الله عز وجل: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فكان عمر يخشى من هول المطلع، ويتمنى أن يخرج منها كفافاً لا له ولا عليه. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 12 لماذا قتل أبو لؤلؤة عمر رضي الله عنه فـ أبو لؤلؤة لم يقتل عمر رضي الله عنه؛ لأنه لم يتدخل مع المغيرة في التخفيف من خراجه، بل إن الواقع أن عمر تدخل وطلب من المغيرة أن يضع عنه الخراج، وليست القضية قضية شخصية وإنما أبو لؤلؤة طعن عمر؛ لأن -دولة المجوس- دولة الفرس سقطت على يديه، طعنه انتقاماً للمجوسية. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 13 عمر يحس بدنو أجله ومر به عمر يوماً فقال له: ألم أخبر أنك تقول: لأصنعن رحى تدور بالريح -وكان هذا الرجل فيما يبدو صاحب قدرة في الاختراعات والابتكارات، فكان يتحدث أنه سوف يصنع رحى تديرها الريح- فأقبل على عمر عابساً مغضباً، وقال: لأصنعن لك رحى يسمع بها أهل المشرق والمغرب، فقال عمر: لقد توعدني العبد. فكان عمر رضي الله عنه يظن أن هذا الرجل قاتله، بل إن مسلماً روى في صحيحه، أن عمر رضي الله عنه قال قبل أن يموت بثلاثٍ: [[إني رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، وما أراه إلا حضورُ أجلي]] وفي بعض الروايات: أن أسماء بنت عميس فسرت هذه الرؤيا برجلٍ من العجم يطعن عمر ثلاث طعنات، لكن وماذا يهم عمر أن يطعن في سبيل الله، بل إنه كان يتمنى ذلك، كما في الروايات الصحيحة، أنه بعد أن انتهى من حجه رضي الله عنه في العام الذي قتل فيه وأقام بالأبطح جمع كومةً من تراب، ثم فرش عليها رداءه، ثم استلقى ورفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم قد رقَّ عظمي، وكثرت رعيتي فاقبضني إليك غير مفتون ولا مضيع. وفي الحديث الصحيح عنه أنه كان يقول: [[اللهم إني أسألك شهادةً في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك]] انظر كيف جمع بينهما شهادةً في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، فجمع الله عز وجل له بينهما حيث طعنه هذا الغلام الكافر في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأدرك الشهادة في سبيل الله، والموت في بلد رسول الله، والغريب أن أبا لؤلؤة بعد أن طعن عمر هذه الطعنات، وكان معه سكين ذات حدين، أقبل على المسلمين مسرعاً فلا يعرض له أحدٌ إلا طعنه، حتى طعن نحو ثلاثة عشر رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين؛ طرح عليه برنساً أي ثوباً فلما علم العلج أنه مأخوذٌ نحر نفسه. إذاً أبو لؤلؤة قتل عمر رضي الله عنه وأرضاه، لسبب خفي، وهذا السبب هو الانتصار لدين المجوس الذي سقطت دولته -دولة الفرس- على يدي جيوش أمير المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه فـ أبو لؤلؤة طعن عمر رضي الله عنه بسكين المجوس بالتعاون مع اليهود، ولذلك فليس من الغريب أن يعظم المجوس منذ ذلك الحين وإلى اليوم أبا لؤلؤة المجوسي فيسمونه بابا شجاع الدين، لماذا؟ لأنه قتل عمر رضي الله عنه، ولذلك فليس من الغريب أن تمتلئ كتب الرافضة بالشتيمة على عمر رضي الله عنه والطعن فيه، ورميه بالكفر، حتى إنهم يقرءون في مزاراتهم ومعابدهم الوثنية، اللهم العن صنمي قريش، وجبتيهما، وطاغوتيهما، وابنتيهما إلى آخر الدعاء. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 14 طعنه في المسجد كان من عادة عمر بن الخطاب في صلاة الفجر أنه يتقدم إلى المسجد، فيوقظ النائمين فيه ويقول: أيها الناس الصلاة الصلاة، ثم يتقدم الصفوف فيسويها، حتى إذا استوت تقدم فكبر، وكان أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة في ظلام الليل وفي ظلام المحراب، فما هي إلا لحظةٌ حتى كبر عمر رضي الله عنه وأرضاه، وشرع في القراءة، وكان من عادته أن يقرأ سورةً طويلة كسورة النحل أو سورة يوسف، حتى يجتمع الناس، فطعنه أبو لؤلؤة ثلاث طعنات كانت إحداها تحت سرته، فمزقت ثيابه ونفذت إلى جوفه، فخر صريعاً رضي الله عنه وأرضاه، يتشحط في دمه، وهو يقول: أكلني الكلب، أو قتلني الكلب، ثم أخذ عمر رضي الله عنه بيد عبد الرحمن بن عوف وكان وراءه، فجره ليكمل الصلاة بالمسلمين، فأما القريبون من عمر فقد رأوا مثل الذي رأى عمرو بن ميمون، وشهدوا مقتل عمر رضي الله عنه، وأما البعيدون فقد انقطع عنهم صوت أمير المؤمنين، ولم يعرفوا ما الخبر، فبدءوا يقولون في كل ناحيةٍ من نواحي المسجد: سبحان الله! سبحان الله! وتقدم عبد الرحمن بن عوف وصلى بالمسلمين صلاةً خفيفة، قرأ فيها سورتين قصيرتين، ثم سلم، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه لـ ابن عباس: يا ابن عباس اذهب فانظر من قتلني، فيذهب ابن عباس ينظر ويتساءل، وإذا بالقاتل أبو لؤلؤة المجوسي واسمه فيروز. فعاد وأخبر عمر رضي الله عنه، فيسر، ويقول: الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على رجلٍ سجد لله سجدة، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على يد رجلٍ يشهد أن لا إله إلا الله، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي على رجلٍ يحاجني بلا إله إلا الله يوم القيامة. ولماذا قتل أبو لؤلؤة المجوسي عمر رضي الله عنه؟ الأحداث القريبة تقول: إن أبا لؤلؤة كان غلاماً للمغيرة بن شعبة وكان صانعاً نقاشاً نجاراً يتقن كثيراً من الأعمال والمهن، فكان عمر يمنع العجم من دخول المدينة؛ حفاظاً على عاصمة الإسلام أن تكثر فيها العلوج، فغلبه المسلمون وأثروا عليه حتى أذن لبعض العبيد أن يدخلوا، وكان منهم هذا الغلام إذ بعث المغيرة بكتاب يقول له: إنه غلامٌ حائكٌ صانعٌ كاتبٌ، فأذن له عمر فدخل، فكان في يوم من الأيام يصنع شيئاً لـ عمر فقال: يا أمير المؤمنين كلم المغيرة بن شعبة يضع من خراجي، ويخفف عني، فقال: كم خراجك؟ قال: أربعة دراهم، قال: وما عملك؟ قال: أنا نجار وحدادٌ وكذا وكذا، فقال: إن هذا الخراج قليل، في جنب صنعتك التي تحسن، فقال هذا الغلام: قد وسع الناس كلهم عدل عمر إلا أنا، وأضمر في نفسه الشر لـ عمر. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 15 من اهتماماته قبل الموت يروي البخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون الأودي رضي الله عنه، وهو من التابعين المخضرمين أنه قال: إني رأيت عمر بن الخطاب قبل أن يموت بأربع ليالِ، وقد مر على حذيفة بن اليمان وسهل بن حنيف، وكان قد بعثهما إلى العراق لتحديد المبلغ الذي يضرب على أرض الخراج، فحددا لـ عمر المبلغ الذي تستحقه الأرض، فقال لهما عمر رضي الله عنه: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق، وضربتما عليها من الخراج فوق ما تستحق، قالا: يا أمير المؤمنين، حملناها أمراً هي له مطيقة، ما فيها كبير فضلٍ لو زدنا عليها لتحملت. فقال رضي الله عنه وأرضاه: والله لئن سلمني الله؛ لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجلٍ بعدي أبداً. هذا همٌّ من هموم أمير المؤمنين الذي يقطع الليل تسبيحاً وعبادة وقرآناً، من همومه قبل أن يموت بأربع أيام بخطةٍ اقتصادية تجعل أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى أحدٍ بعده أبداً، فما مرت عليه أربعة أيامٍ، إلا وطعن رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 16 أشياء كانت تشغل بال عمر عند الموت فانظر أخي المسلم ما هي الأشياء التي كانت تشغل بال عمر في تلك اللحظة، أقتصر منها على أمور أربعة: الجزء: 109 ¦ الصفحة: 17 الوصية للمسلمين ثم كان الهم الرابع: هو هَمُّ المسلمين، وهَمُّ الشئون الكثيرة بعد عمر، وقد لخص عمر رضي الله عنه وصيته فيها لمن يستخلفه المسلمين من بعده، فأوصاه بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم، ولا ينسى لهم فضلهم، ثم أوصاه بالأنصار الذين تبوّءوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، ثم أوصاه بأهل الأمصار خيراً؛ لأنهم ردأ الإسلام وجباة الزكاة وغيظ العدو، ثم أوصاه بالأعراب خيراً فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام، أن يأخذ شيئاً من حواشي أموالهم وألا يأخذ من أموالهم إلا عن طيب نفسٍ منهم، ثم أوصاه بأهل الذمة أن يحسن إليهم وأن يقاتل بهم من وراءهم. فأوصى بجميع الطوائف التي كانت تقع تحت سلطة عمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم قضى ولفظ أنفاسه الأخيرة بعد حياةٍ مليئةٍ بالبطولة والجهاد. قضى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه شهيداً من شهداء الإسلام وقد سطر بدمه، وزكى ما سطره خلال حياته، من جهاد في سبيل الله عز وجل، وحسن صحبةٍ لرسول الله عليه وسلم، وعلمٍ، وعملٍ، ودعوةٍ، وجهاد. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 18 هم الخلافة بعده الهم الثالث الذي كان يشغل باله رضي الله عنه وأرضاه، هم الخلافة، لقد طعن عمر فقال المسلمون جميعاً له: أوص يا أمير المؤمنين، فقال إن أستخلف فقد استخلف من هو خيرٌ مني -يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خيرٌ مني -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- فعلم الناس حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف، ثم جعل الأمر شورى في الستة الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر وليس له من الأمر شيء، وأمرهم أن يجتمعوا ويتشاوروا فيما بينهم، قال: فإن أمروا سعداً فنعما هو، يعني سعد بن أبي وقاص وإلاّ فأيكم ولي فلا يستغني عنه، فإنني لم أعزله عن خيانة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 19 أين يدفن عمر؟ الهم الثاني: هو أين يدفن عمر رضي الله! عاش أمير المؤمنين سنين طويلة في صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقاسى معه في مكة ثم في المدينة، وخرج معه في مغازيه كلها، وكان قلبه مع قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم في منتهى الصفاء والقرب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه ويحب أبا بكر، ويقول: هذان السمع والبصر، فكان النبي صلى الله وسلم حبيب عمر وصفيُّه، وكذلك كان أبو بكر، فخشي عمر أن تفترق بينهم القبور، ولذلك قال لابنه عبد الله: اذهب إلى عائشة، فقل لها: يستأذن عليك عمر بن الخطاب اسمٌ مجرد غير مسبوقٍ بألفاظٍ رنانةٍ فخمة اسمٌ مجرد ينتسب إلى عمر بن الخطاب، ولا تقل لها يسلم أو يستأذن عليك أمير المؤمنين، فإنني لست للمؤمنين اليوم بأمير انتهى عهد خلافته، لا يظل طيلة عمره يسمى به ثم يلحقه هذا الاسم طيلة الدهر، لا فإنني لست للمؤمنين اليوم بأمير -وقل لها يستأذن أن يدفن مع صاحبيه، فإن أذنت وإلا فادفنوني مع المسلمين، فيذهب عبد الله بن عمر إليها ثم يعود، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله أقبل، فقال: أسندوني أقعدوني -من شدة الشوق في قلب عمر إلى أن يدفن إلى جوار صاحبيه ببيت جعلته يتطلع إلى هذا الخبر، حتى يقول: أسندوني- فيسندونه فيقول لابنه متلهفاً: ما وراءك؟ قال: أذنت يا أمير المؤمنين. قال: إذا مت فمروا بي من عند حجرتها، فإن أذنت لي وإلا فادفنوني مع المسلمين، لأنه يخشى أن تكون أذنت مجاملةً له أو سمعاً وطاعةً له، فلذلك يطلب أن يستأذنوا منها مرةً أخرى بعد موته رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو الهم الآخر وقد سري عنه، وفرح أيما فرح حينما سمع بإذن أم المؤمنين له أن يدفن إلى جوار صاحبيه. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 20 الدَّين الأول: الدَّين الذي كان في ذمته رضي الله عنه وأرضاه، فأمير المؤمنين الذي كان على خزائن الأرض مات وفي ذمته ستةٌ وثمانون ألفاً، لقد أتعب من جاء بعده، يقول لابنه عبد الله: انظر ديني، فإن وفى فيه مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، يعني في البطن الذي ينتسب إليه عمر، وإلا فسل في قريش، وهي قبيلته، ولا تعدهم إلى غيرهم، هذا هو الهم الأول. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 21 شأننا مع أولئك الرجال أيها الإخوة إن شأننا مع أولئك الرجال كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ماكررته يتضوع إنك حين تقرأ سيرة هذا الرجل لا تملك دموع عينيك، وكما قال الشاعر: والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه إنك تعجب أشد العجب من هذه الحياة المستمرة. قد تمر بالواحد منا لحظات خشوع وخوف وإيمان، وقد يحدث للواحد منا موقفٌ من مواقف الرجولة؛ لكن الأمر العجيب أن أولئك الرجال كانت حياتهم كلها رجولة، وكانت حياتهم كلها إيمان وبطولة وجهاد، كان الواحد منهم إذا أراد أن يستريح استراح للذكر، والخشوع، والعبادة، وقراءة القرآن. فرضي الله على أولئك الرجال، ورضي الله عن أولئك الأبطال، ورحم الله تلك الأبدان، وأسكن أرواحهم الجنان. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 22 دعاء اللهم ألحقنا بهم في الصالحين، اللهم اجعلنا لسيرتهم مقتدين ولآثارهم متبعين، وعلى نهجهم سائرين، ومعهم يوم القيامة محشورين، اللهم اجعلنا ممن يجدد سيرتهم، لا بالكلام؛ لكن بالواقع وبالأفعال، اللهم اجعلنا ممن يجدد سيرتهم، ويحي آثارهم، اللهم كما أسقطت على أيدي أولئك الرجال دولة فارس والروم، فأسقط على أيدي شباب الإسلام الدول الكافرة من الروس والأمريكان وغيرها من الذين يحادون رسولك، ويضلون عبادك ويقاتلون أولياءك في مشارق الأرض ومغاربها، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 109 ¦ الصفحة: 24 حكم الإسبال في الصلاة السؤال يقول: أذكر حديثاً عن الإسبال وهو: {لا صلاة لمن أسبل إزاره} فهل هذا الحديث صحيح؟ الجواب كثيراً ما يسأل بعض الإخوة عن أحاديث هل هي صحيحة أم لا؟ فعلى الأخ أن يتعود الرجوع إلى بعض الكتب، فمهما تحدث المتحدث عن الحديث من أنه صحيح، أو ضعيف، أو جيد فلن يفيدك كما يفيدك لو رجعت إلى كتاب من كتب السنة فأعطاك جواباً موسعاً، ولله الحمد كتب السنة أصبحت ميسورة خاصة بعد ظهور الفهارس، ارجع مثلاً إلى فهارس كتب السنة وهي كثيرةٌ جداً، ارجع إلى كتب السنة المؤلفة على حسب حروف الهجاء مثلاً: كتب الأحاديث المشتهرة معظمها مصنفة على حسب حروف الهجاء: أب ت ث وهي تتكلم عن الأحاديث المشتهرة المتداولة بين الناس، فاقرأ فيها وستجد غالباً الأحاديث المشتهرة، والحكم عليها وعلى من خرجها وهذا الحديث {لا صلاة لمن أسبل إزاره} أظن أن السائل يقصد الحديث الذي رواه أبو داود في قصة الرجل الذي مر بالنبي صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم سلم عليه فقال له النبي صلى الله عليه: {ارجع فتوضأ، فرجع فتوضأ وصلى، ثم مر على النبي صلى الله عليه فسلم، فقال: ارجع فتوضأ ثلاثاً، فقال له رجلٌ: يا رسول الله، إنه مر عليك، فقلت له: ارجع فتوضأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه مسبل وإن الله لا يقبل صلاة رجلٍ مسبلٍ إزاره} والحديث اختلف العلماء فيه، فقال الإمام النووي في رياض الصالحين إسناده صحيح على شرط مسلم، وقال الإمام المنذري الحديث في إسناده أبو جعفر وهو رجلٌ من أهل المدينة لا يعرف اسمه، والذي يظهر والله أعلم أن الحديث لا يصح، لأن متنه مع سنده فيه غرابة، فمتنه فيه غرابة فهذا الرجل يمر بالنبي صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه فيقول له: اذهب فتوضأ، ما علاقة الوضوء بالإسبال! الرسول عليه الصلاة والسلام أوتي جوامع الكلام، وكان يرشد الإنسان إلى الخطأ الذي وقع فيه بأتم بيان وأوضح حجة وأجلى عبارة، ويبعد أن يأتيه رجل مسبل فيقول له: ارجع فتوضأ، وإنما من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يأتيه الرجل لم يحسن الوضوء كما في حديث عمر في صحيح مسلم، في قصة الرجل الذي كان في قدمه قدر الظفر لم يصبه الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يحسن وضوءه، فلو كان هذا الحديث صحيحاً لكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لهذا الرجل ارفع إزارك، ولو كانت صلاته لا تصح لأنه مسبل، لأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك وأمره أن يرفع إزاره وأن يعيد الصلاة لا الوضوء، فإن العلماء متفقون على أن وضوء المسبل صحيحٌ ولا يحتاج إلى إعادة فيما أعلم، فهذا يجعل الحديث أقرب إلى أن يكون ضعيفاً، وأما المسبل فيوجد في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ما يدل على أنه يقول بعدم صحة الصلاة، ولكن كثيراً من الفقهاء يقولون بأن صلاته صحيحة وهذا هو الأقرب للصواب أنه تصح صلاته، ولو أمَّ قوماً فإمامته مكروهة إن وجد من هو أفضل منه، ولا ينبغي أن يصلي بهم وهو بهذه الحال ولكن صلاتهم أيضاً صحيحة، وإن كان العلماء -فيما أعلم- على أنه يكره للإنسان أن يصلي خلف للفضول مع وجود الفاضل فكيف بالصلاة خلف الفاسق؟! فكيف بالصلاة خلف المسبل الذي ربما يؤدي فسقه إلى وقوعه في كبيرة إن كان هذا الإسبال معه خيلاء. أيها الإخوة! أسأل الله أن يجمعني وإياكم في جناته، وأن يغفر لي ولكم ما ظهر وما بطن، وما تقدم وما تأخر، وأن يغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وأن يثبت أقدامنا على طاعته، وأن يتوفانا على الإسلام، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راضٍ عنا، وأن يجعل حياتنا جهاداً في سبيله ودعوةً إليه، وصبراً على ما نلقى فيه، وأن يصلح ظاهرنا وباطننا، وأن يختم لنا بخير، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 25 تذكر الموت ميزةٌ غالية السؤال يقول: شابٌ هَمَّه الآخرة، ويخاف أن يدركه الموت، وهو يقول: يا نفس قد دنيت من القبر، وهو يخاف أن يكون من أهل النار، ودائماً يتذكر الموت؟ الجواب لقد فهمت من السؤال أن الخوف يغلب على قلب هذا الشاب حتى أنه كثيراً ما يذكر الموت، وذكر الموت مطلوب، وكفى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا بزيارة القبور، لأنها تذكر بالآخرة، وقال الله في وصف عباده الصالحين: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} [ص:46-47] . فذكر الدار الآخرة هو ميزةٌ وخصيصة يختص الله بها من يشاء من عباده؛ ولكن على الإنسان أن يستفيد من هذا الشعور، وألا يكون مجرد خاطر؛ لأن بعض الناس ذكره للموت والقبر مجرد وحشة في قلبه، وليس ذكراً شرعياً حقيقياً يحدوه إلى العمل الصالح وإلى المسارعة في الخيرات، وإلى اقتناص أوقات العمر، فعلى الإنسان أن يدرك أن ذكر الموت يكون على صفاتٍ شتى، فمن الناس من ذكر الموت يدعوه إلى نوعٍ من الانطواء، وربما إلى شيء من الوحشة والعزلة ولا يدعوه إلى أعمال صالحة، فمثل هذا ينبغي للإنسان أن يعالجه، وبعض الناس ذكر الموت يحدوه إلى المسارعة في اغتنام أوقات العمر، وصحبة الطيبين، وعلى كل حال إذا شعرت أن هذا الأمر قد غلب وزاد في قلبك، فحاول أن تنتبه حتى يكون شعورك متوازناً، ولا يغلب على قلبك شيءٌ، فإن الإنسان المؤمن ينبغي أن يكون خائفاً راجياً محباً، ينبغي أن يجتمع في قلبه ثلاثة أشياء: الحب، والخوف، والرجاء، فمن عَبَدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عَبَد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عَبَدَ الله بالخوف والحب والرجاء فهو مؤمنٌ موحد، فعلى الإنسان أن يطير إلى الله عز وجل بهذه الأجنحة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 26 الدَّين كان على عمر شخصياً السؤال يقول: لِمَ لِمْ يسدد ابن عمر دين أبيه من بيت المال؟ حيث إنه ربما يكون قد حصل له بسبب الخلافة؟ الجواب هذا الدَّين كان على عمر شخصياً، وكان في ماله ما يكفي لسداد هذا الدين، كما يظهر من روايات صحيحة، فأمر عمر ابنه أن يسدد هذا الدين من ماله. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 27 عبد الله بن عمر لم يقتل أبا لؤلؤة السؤال يقول: أنت قلت: إن أبا لؤلؤة قتل نفسه عندما ألقي عليه البرنس، فما رأيك وقد سمعت أن عبد الله بن عمر قتل أبا لؤلؤة واثنين معه، وكانت هذه الحادثة في عهد عثمان؟ الجواب في الواقع أن ابن عمر لم يقتل أبا لؤلؤة، وإنما قتل رجلين آخرين من المجوس، يقال أن لهما علاقة بهذه المؤامرة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 28 قصة غير صحيحة السؤال هل قصة بلال بن رباح رضي الله عنه حينما رأى الرسول بعد وفاته وقال له: أما آن لك أن تزورنا يا بلال، ثم رحل من الشام إلى الحجاز وزار قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومرغ وجهه بالتراب صحيحة؟ الجواب هذه القصة غير صحيحة. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 29 أهم الكتب في تاريخ عمر السؤال فضيلة الشيخ ما هي أهم الكتب التي ينبغي للمسلم أن يقرأها في موضوع عمر بن الخطاب؟ الجواب الكتب كثيرة، ذكرت موضع القصة في صحيح البخاري، وأشرت من خلال الكلمة، إلى قراءة فضائل عمر رضي الله عنه في كتاب جامع الأصول، وهناك كتابٌ فيه سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لـ ابن الجوزي وهناك كتابٌ ضخمٌ في أخبار عمر لـ ناجي الطنطاوي وعلي الطنطاوي، وهو كتابٌ وإن كان فيه ما فيه، إلا أنه مفيدٌ وأسلوبه مناسب. والكتب في سيرة عمر رضي الله عنه كثيرة ومتداولة وموجودة في المكتبات. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 30 المواعظ كالسياط السؤال يقول: أخي في الله، إن المسلم حينما يعيش مع سير هؤلاء العظماء، يرى أن أمامه طريقاً يخالف الطريق الذي كان يسلكه قبل سماعه لسيرة هذا العالم، ولكن سرعان ما ينتهي من سيرة هذا العالم، فلا يلبث بضعة أيام، حتى ينسى ما كان في نيته أن يعمله للتغيير من مسلك حياته السابق، أرجو إرشادي وإرشاد غيري لكي نبقى على اتصال دائم مع حياة هؤلاء العظماء؟ الجواب وصف أحد الوعاظ وأظنه الإمام ابن الجوزي رحمه الله المواعظ بأنها كالسياط التي يضرب بها ظهر الإنسان، فما دام وقع السياط على ظهرك فهو يحس بألمها، فإذا توقف الضرب زال الألم، وكذلك المواعظ بألوانها هي عبارة عن مؤثرات تشد الإنسان وحين ينتهي الإنسان من هذه المواعظ يبدأ تأثيرها يخف تدريجياً في نفس الإنسان ولكن على الإنسان أن يستغل ويستفيد من هذا الشعور الذي ينبعث في قلبه خلال سماعه للموعظة، يستفيد منه في أعمال الخير، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لكل عابدٍ شرة، ولكل شرةٍ فترة} فالشرة هي الشدة والقوة والاندفاع، فعليك أن تستثمر هذا الأمر في الطاعة والتقرب إلى الله عز وجل، وكذلك عليك أن تكثر من حضور مجالس الذكر، حتى تظل على اتصالٍ دائم بهذه الأشياء، ولا يهدأ تأثير موعظة في قلبك إلا وتسمع موعظة أخرى يبدأ تأثيرها بعد ذلك، وعلى الإنسان أن يدرك بعد ذلك أنه بشر، وليس مطلوب منه أن يكون في جميع الأحوال على ذلك المستوى، ولا بد أنكم سمعتم جميعاً حديث حنظلة في صحيح مسلم، وشكواه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إنكم لو تدومون في كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعة وساعة} . الجزء: 109 ¦ الصفحة: 31 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتوقف السؤال كيف تكون حياة المسلم في البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله؟ وهل عليه أمرٌ بمعروف ونهي عن منكر حيث إن حكام هذه البلاد التي تحكم بغير ما أنزل الله علمانيون؟ الجواب إن المسلم مطالب في جميع الظروف بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الأنبياء إنما بعثوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأول ما يأمر الإنسان بالمعروف وينهى عن المنكر يأمر نفسه وينهاها، ثم يأمر من تحت يده، ثم يأمر من يستطيع من سائر الناس، فالمسلم مطالب في تلك البلاد بأن يعمل على أن يعيش الحياة الإسلامية في نفسه وفي بيته ما استطاع، ومع الأسف الشديد بعض المسلمين بل الكثير قد يكونون طيبين في ظاهرهم وربما يكون بعضهم من دعاة الإسلام، فإذا أتيت إلى الواحد منهم وجدته مقصراً أشد التقصير في الشعائر التعبدية، لا يصلي مع الجماعة -مثلاً- لا يربي لحيته، لا يقول الكلمة الطيبة، ويبالغ في الخوف من المخلوقين، والواجب على الإنسان مع اتخاذ الحيطة والحذر ومراعاة المصلحة أن يخاف من الله عز وجل، ولله الحمد ما من بلد اليوم إلا وفيه مسلمون صالحون مجتمعون على الخير، فعلى الإنسان أن ينضوي إليهم، وينضم إلى سلكهم وأن لا ينفرد، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء عند أبي داود والترمذي وأحمد وغيرهم أنه قال: {إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية} وعليه أن يربي نفسه على منهج الإسلام ويسعى إلى التمكين للمسلمين في الأرض ما استطاع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 32 الدفاع عن أهل العلم السؤال يقول: بعض الشباب من غير المتدينين يتكلمون في بعض أهل العلم، وخاصة المعاصرين، فكيف يكون الرد عليهم؟ هل بالتي هي أحسن؟ أم بالجفاء وإسكاتهم بالقوة؟ الجواب الواقع أن النيل من أهل العلم والعلماء والدعاة مطلب أساسي من مطالب أعداء الإسلام في هذا العصر، لأنهم لاحظوا أن المسلمين بدءوا يلتفون حول العلماء والمشايخ، وفقدوا ثقتهم بالقيادات العلمانية المنحرفة، لأنه في وقت من الأوقات كان كثير من الشباب يصفقون ويهتفون بفلان وفلان من دعاة القومية، كـ ساطع الحصري مثلاً أو دعاة البعثية، أو دعاة الناصرية، أو من الأدباء والشعراء وغيرهم، أما اليوم فالساحة هي في صالح العلماء والمشايخ ودعاة الإسلام. وحتى أعداء الإسلام الذين كانوا بالأمس يطعنون بالدين، ويسيئون للمسلمين، ويشوهون سير الصحابة رضي الله عنهم بدءوا يلبسون مسوح الرهبان ويتسمون باسم الدين، ويكتبون عن الإسلام والمسلمين، ويؤلفون في سير الصحابة، ويتمسحون بالإسلام، رغبةً في كثير من الأحيان في كسب الجولة، ولأنهم يدركون خطر الإسلام عليهم، وكما يقول المثل العربي يعرفون من أين تأكل الكتف، فعلى المسلم أن يكون حذراً، وكم من صحفي كان معروفاً بالطعن في المسلمين، والوقيعة في الإسلام، والنيل من الحجاب، وسب اللحية وأهلها، وسب الشعائر الإسلامية، وإذا به ينقلب بين يوم وليلة متكلماً عن الإسلام، وإذا أراد أن يطعن في الدين لا يطعن بالإسلام بل يمجد الإسلام ثم يطعن بمن يمثلون الإسلام؛ لأن الطعن في الإسلام مباشرةً يجعل كثيراً من الناس يثورون عليه، ويرفضون ما قال، لكن هو حين يطعن في فلان وفلان فقد يتقبل بعض الناس منه هذا الأمر، ويعتقدون أن ما يقوله صحيح، فيقول مثلاً: إن هؤلاء المسلمين يجمعون الأموال لأنفسهم وليس في سبيل الله، إن فلاناً يقصد بتعليمه وعلمه ودعوته كذا وكذا، وربما نشروا الشائعات الذي تلوث شخصية كثيرٍ من المشايخ. وأذكر بالمناسبة قصة قد تصدق أو لا تصدق، بل لعلها تكون من نسج الخيال لكن هي بكل حال فيها العبرة، وهي أن مجموعة من الخبثاء المنحرفين، التقوا برجلٍ صالح وكان يحضر مجالس العلم والذكر ويحب المشايخ والعلماء، فقالوا له: إن فلاناً وفلاناً وفلاناً ممن تحبهم وتعظمهم ليسوا على ظاهرهم بل إنهم منحرفون وفاسقون، وعندهم انحرافات أخلاقية كثيرة في أحد البلاد الإسلامية، فقال: إن هذا كذبٌ ولا يتصور، وأنا أعرف دينهم وورعهم، قال أحد هؤلاء القوم وألح عليه: إن هذا الأمر مؤكد وقد رأيت بعيني كذا وسمعت بأذني كذا، وما زالوا به حتى رأوا أنه قد تأثر بكثرة ما قالوا، فقال أحدهم: وحتى تكون على بينة من الأمر فإن عندنا أشرطة مسجلة، أشرطة فيديو مسجلةً مصورةً لهؤلاء، وهم يعاقرون الخمر، ويفعلون ويفعلون من الفواحش العظيمة، وسوف أحضرها لك الآن حتى تطلع وترى بعينك، وخرج من عنده بحجة أنه سيأتيه الآن بهذه الأشياء، فخلال خروجه اغتر هذا الشاب بالأمر، ووقع في أعراض هؤلاء العلماء، وظن أن ما قيل عنهم صحيح، ولحظاتٍ وهو ينتظر وطال الانتظار، وأخيراً تكشف له أنها لا تعدو أن تكون خدعة ولعبة وأنه ذهب ضحية هؤلاء المخادعين. فعلى كل واحدٍ منا أن يجعل الدفاع عن أهل العلم جزءاً من دينه، وجزءاً من دعوته إلى الله عز وجل، وأن لا يقبل فيهم كلاماً حتى لو سمع عن أحدٍ منهم مقالاً بتهمةٍ معينة، فإنه يسارع بعدم قبولها كما علمنا الله عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] . فعليك أن تنكر ما ينسب إلى أهل العلم مما لا ينتظر منهم ولا يتوقع، ولو فرض حصوله، فإنك تقول: إنهم بشرٌ وليسوا معصومين، وفيهم من الفضائل أضعاف ما في غيرهم من الفضائل، وما عندهم من الخطأ فعند غيرهم أضعاف أضعاف، وأهل الشر يمجدون ويرفعون أشخاصاً لو اطلعتم على سيرهم الذاتية وحياتهم الشخصية؛ لوجدتموها في منتهى البشاعة، لكنهم يلمعون شخصياتهم، ويتكلمون عنهم، ويصورونهم على أنهم هم النزيهون في مجال المال وهم الأدباء وهم الشعراء، وهم العقلاء حتى يخدع الناس بهم. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 33 المجاهدة سيرة حتى الممات السؤال يقول: قلت أن الواحد يبلغ الثلاثين من عمره أو أكثر أو أقل، وهو لم يزد في إيمانه، بل إن لم يشعر بالنقص لم يشعر بالزيادة. ماذا تعني بذلك، وكيف يزيد الإنسان من إيمانه، وعلمه وغير ذلك؟ الجواب يا إخوتي: هذا السؤال فعلاً كبير، كيف يزيد الإنسان في علمه وفي إيمانه ومثل هذا السؤال يحتاج إلى حديث خاص؛ ولكن يجب أن تعلم أيها الأخ أن كل شيء منحك الله إياه، فهو عبارة عن تحدٍ، أو قل عبارة عن اختبار يبتليك الله عز وجل به، ولذلك قال الله عز وجل: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:1-2] . قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه، قيل له: يا أبا عبد الله، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، ولا يقبل حتى يكون خالصاً -يعني لوجه الله- صواباً يعني على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. حياتك أيها المسلم تحدٍ واختبار، والشباب تحدٍ واختبار، والمال تحدٍ واختبار، والقوة في جسمك تحدٍ واختبار، والفصاحة تحدٍ واختبار، والعلم تحدٍ واختبار، والعقل تحدٍ واختبار، وكل شئ هو عبارة عن تحدٍ واختبار، الله عز وجل خلقنا وأعطى كلٍ واحد منا ذكراً أو أنثى مجموعةً من الأشياء، يتصرف الإنسان في هذه الأشياء على وفق ما يريده الله، هذا هو المطلوب، وما يريده الله عز وجل ليس هو أن تحول نفسك من إنسان إلى مَلَك، كلا، فإن الله قادر على أن يجعلنا ملائكةً لا يعصونه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لكنه بحكمته جعلنا بشراً من البشر، وخلق أبانا آدم خلقاً، وسلط على الإنسان الشيطان، وجعل نفس الإنسان قابلةً للخير والشر، فقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] . والمطلوب منك بكلمةٍ واحدة: المجاهدة، والمجاهدة ليست موقف ينتهي، المجاهدة سيرةٌ تبدأ منذ أن بدأت تعي وتعقل، ولا تنتهي إلا بنهاية حياتك، وقبل قليلٍ مرت بكم لمحاتٌ من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، وانظر كيف كان يجاهد في حياته، ثم كيف جاهد في آخر لحظة من لحظاته، فالمطلوب منك المجاهدة، وبالمجاهدة ترتقي قطعاً؛ لأن الله عز وجل كتب على نفسه -والله لا يخلف الميعاد- أنه من جاهد ففيه هداه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . إذاً مطلوبٌ منك أن تجاهد، والمجاهدة هي كما يقول اللغويون: هي مفاعلة بين طرفين، مثلما تقول مضاربة، والمضاربة لا يمكن أن تأتي من شخصٍ واحد أبداً، المضاربة تحصل بين شخصين، كذلك المجاهدة تحصل بين طرفين. الطرف الأول هو الإنسان، والطرف الثاني هو مجموعةٌ قوى النفس الأمارة بالسوء: الهوى، والشيطان، كل هذه الأشياء تتحالف ضد الإنسان، والمطلوب منك أن تجاهد في الله، ثم تجاهد في الله، كما أمر الله تعالى: يعني تجاهد طلباً لما عند الله، ورغبةً في الوصول إلى الجنة، ورغبةً في الوصول إلى العلم النافع، ورغبةً في الرقي إلى الدرجات العلى، لا تجاهد من أجل أن تكون فلاناً المشار إليه بالبنان، لا تجاهد من أجل أن تكون عالماً يقصدك الناس، ومفتياً يسألك الناس، وداعيةً تتكلم فتلفت الأنظار، لا تجاهد لأجل ذلك لكن جاهد معتمداً على الله فنفسك ضعيفة، ولو وكلك الله إلى نفسك لخسرت كل الخسارة والذين جاهدوا فيه فالنتيجة التي ذكرها الله على نفسه في محكم كتابه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . وعدٌ مؤكدٌ باللام والنون {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] ومؤكدٌ بالفعل المضارع الدال على التجدد والحدوث {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . الجزء: 109 ¦ الصفحة: 34 دخول المجوس جزيرة العرب في عهد عمر السؤال يقول: كيف سمح عمر رضي الله عنه بدخول المجوسي إلى جزيرة العرب وهو الذي نفذ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بإخراج من كان على غير الإسلام من الجزيرة؟ الجواب نعم، صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بإخراج اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب، وأنه لا يجتمع فيها دينان، وكان هذا من آخر ما أوصى به صلى الله عليه وسلم. أما كيف فعل عمر ذلك، فإن هؤلاء هم من العبيد الأرقاء الذين لا يشملهم الحكم، فإن العبد الرقيق هو عبارة عن مال من مال الإنسان وليس له كيانٌ مستقل، فدخول الكافر الرقيق لسيده دخوله في جزيرة العرب أمرٌ مباح. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 35 عمر وتسوية الصفوف في الصلاة السؤال يقول: أحد المشايخ قال لي: إن عمر رضي الله عنه كان يسوي الصفوف بيده بأكتافهم، ويدور على الصفوف، هل تعتبر هذه سنة يعمل بها؟ الجواب قضية كونه رضي الله عنه يسوي الصفوف، هذا ثابتٌ في هذه القصة كما في صحيح البخاري، وقد سقتها من صحيح البخاري، وأدخلت فيها روايات أخرى من مصادر غيره، ومن أراد الاطلاع على رواية البخاري كاملةً فإنه يجدها في الصحيح في كتاب فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة والاتفاق على عثمان رضي الله عنه وأرضاه. وجدير بكل امرئ منكم أن يرجع إلى هذه القصة ويقرأها، فإن في سياقها من التأثير والإعجاب ما لا تجدونه في حكايتي لهذه القصة، ومن ضمن هذه القصة أنه كان يمر بين الصفوف ويسويها بيده، وتسوية الصفوف سنة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يسوي الصفوف، فيسن للإمام أن يسوي الصفوف بقوله وبفعله إن احتاج إلى ذلك، وأن يلتفت إلى المأمومين، ولا يكبر للصلاة حتى يرضى عن استقامتهم. ويقول الأخ في آخر سؤاله: إني أحبك في الله، وأحب جميع الحاضرين. فجزاه الله خيراً عني وعنكم حيث يحبنا جميعاً في الله، ونسأل الله أن يكون جميع الحاضرين من المتحابين فيه، وممن يستحقون أن يحبوا في ذات الله. وأنبه من وجهة نظر شخصية في موضوع الإخبار بالمحبة فكثيراً ما يوجه مثل هذا السؤال للمحاضرين، ولست أقول في هذا شيء؛ ولكن فيما يتعلق بي؛ فأرى أن مخاطبة الإنسان بنفسه أقوى وأبلغ، فكونك تقابل من تحب في الله، وتقول له: إني أحبك في الله أجود، لعدة أسباب منها: أنه يعرفك بذلك فيبادلك هذا الحب بمثله، وكما يقولون: القلوب شواهد، وأنت إذا عرفت من إنسان أنه يحبك في الله تجد في قلبك له من المحبة مثلما يجد، وهذه حكمة وضعها الله في قلوب بني آدم من المؤمنين، كما أن هذا أبعد عن أن يصيب هذا الإنسان شيءٌ من الاغترار، وربما تكون هذه في بعض الأحيان كلمة تقال باللسان، فإذا رأى الإنسان من يحبه في الله ونظر إليه اطمأن إلى صدقه في هذا الحب، وهذه كما قلت هي عبارة عن وجهة نظر لا تقدم ولا تؤخر. الجزء: 109 ¦ الصفحة: 36 السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟ قدم الشيخ لهذا الدرس بنبذة يسيرة عن حالة البشرية قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ثم بين أن النبوة اختيار واصطفاء، وذكر بعض خصائص الأنبياء التي تميزوا بها عن سائر الخلق، وشرع بذكر خصائص السيرة النبوية بعد التنويه إلى اهتمام العلماء بدارستها، وختم بذكر أهداف دراسة السيرة النبوية. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 1 أهمية دراسة السيرة النبوية الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. أيها الإخوة الأفاضل! السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وأكرمَ الله هذه الوجوه، وهي تحبس نفسها في بيت من بيوت الله! وأكرم بهذه القلوب وهي تجلس جلسة في ذات الله تعالى، وأسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن يشملهم الله تعالى بعفوه ورحمته، وممن تظلهم الملائكة بأجنحتها، وممن يذكروا عند الله تعالى في الملأ الأعلى. أيها الإخوة الأفاضل! وأقبل اعتذار الإخوة عن الخطأ في العنوان، وما كنت قد حددت "النبي العربي" وإنما حددت "النبي الأمي أحداث وعبر"، ولكنني إذ أقبل الاعتذار، فإنني أتيح لنفسي أن أغير العنوان مرة أخرى، فإذا كان الإخوة قد غيروا في العنوان، فإنني أتيح لنفسي مرة أخرى أن أغير العنوان، وعسى أن يكون في ذلك خير، وليكن عنواننا الجديد (السيرة النبوية لماذا وكيف تدرس؟) . وليس بخافٍ عليكم -معاشر الإخوة والأخوات- أن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حرية بالدراسة والبيان، بل إن من العبادة أن يقرأ الإنسان سيرة النبي صلى الله عليه وسلم! بل ومن الحكمة والأناة ومن التعقل أن يفقه الإنسان في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ذلكم لأنه يتعامل مع رجل أدبه ربه فأحسن أدبه، ويتعامل مع رجل هو صفوة الله تعالى من خلقه، يتعامل مع رجل أنقذ الله به الدنيا من دياجير الظلمات وفتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 2 النبوة اختيار واصطفاء يطيب لنا -معاشر الإخوة- ونحن نتحدث عن سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أن نشير إلى أن النبوة بشكل عام -سواء أكانت في شخص محمد صلى الله عليه وسلم أو في شخص غيره من أنبياء الله ورسله- أنما هي اصطفاء واختيار إلهي، وليست رغبة بشرية {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران:33] {إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي} [الأعراف:144] إذاً الرسالة والنبوة اصطفاء واختيار ليس غير ذلك، والله أعلم حيث يجعل رسالته. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 3 سمو رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم لقد كان الناس قبل بعثته عليه الصلاة والسلام يعيشون في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، وكان أكثر الأنبياء في أقوامهم كرؤيا جميلة في نوم طال أمده، أو كومضة برق في ليل حالك ظلامه. وإذا كان ذلكم في سائر الأنبياء، فإن الأمر بالنسبة لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم أولى وأحرى، لقد كان أتباع الأنبياء عليهم السلام أو على الأقل معظم أنبياء الله تعالى كان أتباعهم آحاداً! آحاداً من الناس ينقرضون بعد جيل أو جيلين، وما أن انتصف القرن السادس الميلادي -وهو الذي بُعِثَ فيه النبي صلى الله عليه وسلم- حتى كانت شقوة الجاهلية تلف العالم بأسره، وتسقيه كئوس الظلم والتخلف والوثنية، لقد أُطْفِئَتْ مشاعل التوحيد، وعمَّ الفساد إلى كل واد، ولجأ الحنيفيون الذين بقوا متمسكين بالحنيفية الإبراهيمية إلى الكهوف وإلى قمم الجبال، ليس لشيء إلا فراراً بدينهم، واستبقاءً على ما بقي لديهم من حنيفية يستضيئون بنورها ويتعبدون على منوالها. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 4 حالة الناس في القرن السادس لقد تفنن الناس في هذا القرن -أعني القرن السادس وبالذات في منتصفه- في صناعة الأصنام والأوثان، واتخذوها آلهة تعبد من دون الله، وكانت الأمم الكبيرة تستعمر الشعوب الصغيرة وتستذلها، بل كان القوي بشكل عام يستعبد الضعيف ويستغله، وإزاء هذا وذاك كان الكون أحوج ما يكون إلى رسالة تنير دياجير الظلمة، تنير دياجير هذا الكون، وتبدد حوالك الظلمة وكانت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم هي السراج الوضاء الذي أنار لهذا الكون كله. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 5 خصائص الأنبياء والرسل بشكل عام أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ولذا تختلف حياتهم عن حياة الآخرين من غيرهم، في فكرهم وفي سلوكياتهم وفي تعاملهم إلا من نهج منهجهم، والأنبياء بشكل عام -معاشر الإخوة- لهم خصائص تميزهم، وحين شاء الله تعالى أن يكونوا من جنس البشر فقد اصطفاهم كما أسلفت واختارهم، فهم ليسوا ملائكة من السماء، وقد اقتضت حكمة الله تعالى ذلك؛ لأن الذين أرسل الأنبياء إليهم بشر، ولو أنزل الله تعالى ملائكة لهؤلاء البشر لصعب التفاهم بينهم، ولربما كان هناك عذر لمن لم يلتزم سبيلهم، وهو أنه لا طاقة له بهم لاختلاف سلوكياتهم، ولكن اقتضت حكمة الله أن يكون الأنبياء والمرسلون بشراً من الناس. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 6 اختصاص الأنبياء بالعصمة من خصائص الأنبياء العصمة؛ فقد عصم الله تعالى أنبياءه من الشرك والضلال، سواء أكان ذلك قبل النبوة أم بعدها، وبرَّأهم من الزيغ والأهواء، وهم معصومون في تحمل الرسالة، فلا ينسون شيئاً مما أوحاه الله إليهم إلا شيئاً قد نسخ، وهم معصومون كذلك في نقل الوحي والرسالة للناس، فلا يزيدون ولا ينقصون ولا يكتمون شيئاً مما أوحاه الله تعالى إليهم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44-45] ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً مما أوحى الله تعالى إليه لكتم أمثال: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس:1] وأمثال: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] . الجزء: 110 ¦ الصفحة: 7 اختصاص الأنبياء بيقظة القلوب من خصائص الأنبياء عليهم السلام أن أعينهم تنام ولكن لا تنام قلوبهم، قال عليه الصلاة والسلام: {إنا معاشرَ الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا} وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الإسراء: {وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم} . الجزء: 110 ¦ الصفحة: 8 اختصاص الأنبياء بالتخيير بين الموت والبقاء من خصائص الأنبياء عليهم السلام تخييرهم عند الموت، فهم يُخَّيرون بين الموت وبين البقاء في الحياة الدنيا، وفي الحديث الصحيح: {ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة} ولكنهم عليهم السلام يختارون الآخرة ونعيمها على الدنيا ومتاعها كما قال صلى الله عليه وسلم وهو في مرضه الأخير، وهو يختار الآخرة: { {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء:69] تقول عائشة رضي الله تعالى عنها: فعلمت أنه خُيِّر} أي: حينما قال هذه الكلمات، علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خُيِّر بين الحياة والممات، فاختار الرفيق الأعلى دون الحياة الدنيا، كما أخرج ذلك البخاري في صحيحه. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 9 اختصاص الأنبياء بالحياة في القبور وأن الأرض لا تأكل أجسادهم من خصائص الأنبياء عليهم السلام أنهم أحياء في قبورهم، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خصائصهم كذلك أن الأرض لا تأكل أجسادهم، وهذا إكرام من الله تعالى لهم، فمهما طال بهم الزمن وتقادم بهم العهد فأجسامهم محفوظة من البِلَى، وفي الحديث: {إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء} كما روى ذلك أبو داود والنسائي وصححه ابن خزيمة وغيره كما في الفتح. ومن خصائص الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون، فلا يقبر نبي إلا في الموضع الذي مات فيه، وفي الحديث الصحيح: {لم يقبر نبي إلا حيث يموت} كما روى ذلك أحمد في مسنده بإسناد صحيح، ولهذا فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم دفنوا الرسول صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها، حيث قبضت روحه فيها. هذه أبرز الخصائص التي تميز الأنبياء والمرسلين، أو التي ميز الله بها الأنبياء والمرسلين عن غيرهم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 10 خصائص أخرى للأنبياء ينبغي أن نعلم أن الأنبياء عليهم السلام أكمل البشر خَلْقاً وخُلُقاً، فهم أسلم الناس في هيئاتهم وفكرهم، مبرؤون من كل عيب خَلْقي، وإن كان يصيبهم ما يصيب غيرهم من الأمراض والأسقام، وهم كذلك أكمل الناس خُلُقاً، وهم أشرف الناس كذلك نسباً، وهذا محمد صلى الله عليه وسلم وهو آخرهم يتحدث عن شرف نسبه ومن سبقه من آبائه المرسلين، فيقول: {بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت أنا فيه} . وهم ذكور أحرار، فلم يكن في الأنبياء عليهم السلام امرأة كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء:7] ولم يكن فيهم كذلك عبد أو رقيق. وهم بالجملة أحسن الناس خُلُقاً وأطهرهم قلوباً وأكثرهم صبراً، وما بالهم لا يكونون كذلك؟! وقد أدبهم ربهم فأحسن أدبهم، ورعاهم فأحسن رعايتهم، وتولاهم وحفظهم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 11 اختصاص الأنبياء بالوحي الأنبياء ببشريتهم مميزون وبأشخاصهم مختصون، فهم أولاً مختصون بوحي السماء؛ فمنهم من كلمه الله تعالى مباشرة أو من وراء الحجاب، ومنهم من أرسل إليه ملائكة بالوحي، كما قال تعالى {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51] . الجزء: 110 ¦ الصفحة: 12 اهتمام العلماء بدراسة السيرة النبوية أيها الإخوة ونعود إلى السيرة النبوية سيرة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فنقول: إن السابقين قد اهتموا بها، ولا يزال اللاحقون تشكل السيرة عندهم محل اهتمام، أما اهتمام السابقين فقد تجاوز لدى الرعيل الأول مجال العلم بها، إلى مجال العمل بها والتأسي. بل تجاوز ذلك إلى مجال التعليم والتدوين للأجيال اللاحقة، فكانت السيرة النبوية تعقد لها الحلقات والدروس، ويروي ابن سعد في طبقاته أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كان له مجلس يدرس فيها السيرة النبوية، وكان ابن عباس يجلس في إحدى عشياته يعلم الناس المغازي والسير وهذا نموذج لاهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بل بلغ الاهتمام بالسير والمغازي أنهم كانوا يتعلمونها كما يتعلمون السورة من القرآن، كما نقل ذلك ابن كثير عليه رحمة الله. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 13 من دواعي اهتمام السلف بالسيرة وما بالهم لا يهتمون بها؟! وقد روي عن الزهري عليه رحمة الله أنه قال: في علم المغازي علم الآخرة والدنيا، ويقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله: وهذا الفن -يعني السير أو السيرة- مما ينبغي الاعتناء به والاعتناء بأمره والتهيؤ له، ثم نقل عن الواقدي بسنده عن عبد الله بن عمر بن علي سمعت علي بن الحسين يقول: [[كنا نعلم مغازي النبي صلى الله عليه وسلم كما نعلم السورة من القرآن]] وهذه إشارة كافية إلى اهتمام السابقين بسيرة النبي الكريم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 14 خصائص السيرة النبوية لماذا الاهتمام بالسيرة ولماذا دراستها؟ وهل من ميزة أو ميزات تتميز بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتستدعي هذا الاهتمام وأكثر؟ نعم -إي وربي- إنها ذات قيمة وذات اعتبار، ولها خصائص تميزها، وهذه وتلك تدعو إلى الاهتمام بها وإلى دراستها وإلى تدوينها وإلى تعليمها وإلى العمل بها. فما هي أبرز خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولعله غير خاف أن سير الأنبياء عليهم السلام تتميز عن سير الخلق بشكل عام، ذلكم لأن الله اصطفاهم كما سمعتم، ولأن الله تعالى أعدهم لحمل رسالته إلى العالمين، ولهذا فإن سيرهم بشكل عام نموذج للطهر والعفاف، ومثل أعلى للعبودية والتقوى، وهي أيضاً مثال يحتذى في الخلق والعطاء والدعوة والجهاد والصبر على المحن والبلوى إلى غير ذلك من خصائص الأنبياء عليهم السلام. ومع ذلك فإن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تنفرد عن سائر الأنبياء والمرسلين قبله بسمات وخصائص أهمها ما يلي: الجزء: 110 ¦ الصفحة: 15 قدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشارة الأنبياء بها ويعني هذا أن الله تبارك وتعالى أخذ على الأنبياء قبله أو هذه خاصية أخرى من خصائص محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته. أن الله تعالى أخذ العهد على الأنبياء قبله لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه، وطلب إليهم أن يأخذوا من أممهم العهد والميثاق لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه. ذلك يعني أيها الإخوة تقدم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقد يخيل لبعضنا أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم تبدأ منذ أنزل عليه اقرأ وهو في مكة وعمره أربعون عاماً، والحق أن نبوة محمد صلى الله عليه وسلم سبقت هذا التاريخ بعدة قرون، يؤكد ذلك الحديث الصحيح الذي سأل فيه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: {منذ متى كنت نبياً يا رسول الله؟ قال: وآدم منجدل في طينته} وفي رواية: {وآدم بين الجسد والروح} حديث حسن. بل إن الآية القرآنية في سورة آل عمران لتؤكد هذا العهد وتؤكد سابق نبوته صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81] . لقد بشرت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما سمعتم، وآخر الأنبياء عيسى عليه السلام بشر به صراحة وقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف:6] وشهدت على صحة نبوته كتب السماء، واعترف أهل الكتاب بذلك، وسأسوق لكم نموذجين اثنين لتتأملوا كيف اعترف اليهود أو النصارى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. من هذه النصوص ما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، عن عوف بن مالك قال: {انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم وأنا معه حتى دخلنا كنيسة اليهود، فقال: أروني يا معشر يهود اثني عشر رجلاً يشهدون أن محمداً رسول الله يحط الله عنكم الغضب، فأُسكتوا، ثم أعاد عليهم فلم يجبه أحد، قال: فوالله لأنا الحاشر وأنا العاقب وأنا المصطفى آمنتم أو كذبتم، فلما كاد يخرج قال رجل: كما أنت يا محمد، أي رجل تعلمونني فيكم -وهو يشير إلى قومه من اليهود- قالوا: ما فينا أعلم منك! قال: فإني أشهد بالله أنه نبي الله الذي تجدونه في التوراة، فقالوا: كذبت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل كذبتم، قال عوف: فخرجنا ونحن ثلاثة، وأنزلت: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10] } أما النص الآخر فهو عن كعب الأحبار، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: العباس لـ كعب [[ما منعك أن تسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر؟ قال: إن أبي كان كتب لي كتاباً من التوراة، فقال: اعمل بهذا وختم على سائر كتبه، وأخذ علي بحق الوالد على الولد ألا أفض الختم عنها، فلما رأيت ظهور الإسلام، قلت: لعل أبي غيب عني علمها ففتحتها، فإذا صفة محمد وأمته، فجئت الآن مسلماً]] وقد حسَّن ابن حجر إسناد هذه الرواية. أيها الإخوة؛ ونص ثالث يؤكد فيه يهودي يحتضر أن محمداً يجدون صفته في كتبهم المنزلة، {وقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يحتضر، وأبوه عند رأسه، وقد فتح التوراة يقرؤها عليه، فقال: يا هذا -أي اليهودي- أتجد في هذا الكتاب صفتي وصفة مخرجي؟ قال: لا، وأشار برأسه، وابنه كان في لحظات الموت الأخيرة، فرفع الابن رأسه، وقال: نعم! إنا نجد صفتك وصفة مخرجك في كتابنا هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أقيلوا أخاكم عن اليهودي أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم} فتولى المسلمون دفنه؛ لأنه أصبح في عداد المسلمين إلى غير ذلكم. وقصص عبد الله بن سلام وأمثاله من أحبار اليهود أو من رهبان النصارى تؤكد اعترافهم بهذا الدين وبوجوده في كتب الله المنزلة من التوراة والإنجيل قبل أن تدخلها أيدي التحريف والتضليل. بل إن هذه الشهادات وهذه الاعترافات تترى حتى يومنا هذا، وهل أشد حقداً من المستشرقين على الإسلام، وهم الآخرون يعترفون بعظمة محمد صلى الله عليه وسلم وبنبوته لا على أنه رجل مصلح، وإنما على أنه نبي شملت رسالته العالمين، وارتاح الكون بهديها. وأنقل لكم بعضاً من نصوصهم، فهذا أحدهم وهو تشيلل يقول: إن البشرية لتفتخر بانتساب كمحمد صلى الله عليه وسلم لها، إذ أنه رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوروبيين أسعد ما نكون لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة، ويقول كارليل: ولولا ما وجدوا -يعني قومه أو المسلمون- فيه من آيات النبل والفضل لما خضعوا لإرادته ولما انقادوا لمشيئته، وفي ظني --والكلام لا يزال لـ كارليل - أنه لو وضع قيصر بتيجانه وصولجانه وسط هؤلاء القوم بدل هذا النبي، لما استطاع قيصر أن يجبرهم على طاعته كما استطاع هذا النبي في ثوبه المرقع، ثم ينهي كلامه قائلاً: هكذا تكون العظمة! وهكذا تكون البطولة! وهكذا تكون العبقرية! ويقول ويليام موير: لم يعهد التاريخ مصلحاً أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل محمد صلى الله عليه وسلم. ويقول القس ميشون في كتابه سياحة دينية في الشرق: إنه لمن المحزن أن يتلقى المسيحيون عن المسلمين روح التسامح وفضائل حسن المعاملة وهما أقدس قواعد الرحمة والإحسان عند الشعوب والأمم. أما المؤرخ الفرنسي جوزيف فيقول: بينما أهل أوروبا نائمون في ضلال الجهالة لا يرون الضوء إلا في سَم الخياط، إذ سطع نور قوي من جانب الأمة الإسلامية، وهو يشير إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته. ويقول المؤرخ سيديو: وبعد ظهور محمد النبي صلى الله عليه وسلم رفعت أعلام التمدن في أقطار الأرض أيام كانت أوروبا مظلمة بجهالات أهلها. أما غوستاف لوبون فيقول: إن العرب هم سبب انتشار المدنية في أوروبا ويا ليت قومي يعلمون! وأخيراً يقول الدكتور موريس: إن القرآن أفضل كتاب أخرجته العناية الأزلية لبني البشر، هذا على حد تعبيره. أكتفي بهذه النصوص التي تؤكد اعتراف اللاحقين والسابقين بعظمة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنتقل بعد ذلك إلى أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا قد علمنا هذه العظمة، وهذا الشمول وهذه الخصائص؛ فما هي أهداف دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 16 اطلاع صاحب السيرة على أحوال الأنبياء السابقين ومن خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وهو أمر يدعو إلى الاهتمام بها وإلى دراستها، أن الله تعالى أطلع نبيه على أحوال الأنبياء السابقين وعرفه بقصص الماضين، فكان ذلك رصيداً له ولأمته من بعده، وكان ذلك دليلاً على صدق نبوته عليه الصلاة والسلام، أجل! إن ذلك من إعجاز القرآن الكريم، وإلا فكيف يخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن أمم غبرت في سالف الأيام، وبينه وبينهم آلاف الأعوام؟! وهو ترسيخ للإيمان، يجده من يقرأ القرآن الكريم، فهو مثلاً حينما يقرأ أخبار عاد وثمود، أو قوم نوح أو قوم صالح، أو قوم لوط أو حكايات بني إسرائيل وأخبارهم، حينما يقرأ هذه الأخبار كلها، وهو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمي لا يقرأ ولا يكتب، يعلم أن ذلك من وحي السماء؛ ولهذا قال الله تعالى لنبيه وهو يعقب على قصة موسى عليه السلام، وانظروا إلى دقة التعبير، قال الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [القصص:44-45] . إذاً بسبب الرسالة وبسبب الوحي علم محمد صلى الله عليه وسلم ما لم يكن يعلم، وقص عليه من الأخبار ما لم يكن شاهداً أو حاضراً له. وفي موطن آخر وبعد أن يخبر الله تعالى أو يقص من أخبار مريم البتول وابنها عيسى عليه السلام يقول الله تعالى: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران:44] وحين يفصل الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم قصة يوسف عليه السلام مع إخوته يوحي الله تعالى إلى نبيه في نهاية المطاف ويقول: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} [يوسف:102] إلى غير ذلك من آيات تشير إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وتؤكد إخباره بأخبار الماضين. ماذا يعني ذلك؟ يعني هذا: شمولَ رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وعظمته وحاجته إلى هذه المعارف، فهي رسالة خاتمة، ولذلك فهي محتاجة إلى كل رصيد من تجارب الأنبياء قبله. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 17 تواصل حمل الرسالة والدعوة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم أيها الإخوة ومن خصائص هذه السيرة أنها لم تنته بموته، بل بقي جيل بل أجيال تحمل منهجه، وتؤدي رسالته، فالرجال الذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وسلم لم يتوفر مثلهم عدداً وعدة لنبي قط، وإذا كان أصحاب موسى عليه السلام قالوا له حينما اشتدت الأمور: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] فإن الأمر يختلف بالنسبة لجيل محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته فهم الذين قالوا له: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، والله لو خضت بنا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد. وإذا كان أصحاب عيسى عليه السلام حكى الله تعالى كفرهم وحكى تحذير عيسى عليه السلام إياهم من الكفر، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المائدة:72] إذا كان هذا حصل من أصحاب عيسى عليه السلام، فلم يحصل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كفر به بعد إيمان. وليس بخافٍ عليكم -أيها الإخوة- كذلك موقف النصارى أو بني إسرائيل من المائدة التي سألوا عيسى أن يسأل ربه أن ينزلها عليهم من السماء، وأخذ عليهم العهود، فسأل الله تعالى بعد أن أخذ عليهم من العهود والمواثيق ما أخذ أن يشكروا الله ولا يكفروه، إلا أنهم بدلوا وحرفوا وكفر بعضهم وجحدوا هذه النعمة، حتى قال بعض المفسرين: إنها لم تنزل عقوبة لهم، وقال الحافظ ابن كثير: وقد روي ذلك بأسانيد حسان، بل قال: بأسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن وإن كان قال: إن الجمهور على أن المائدة نزلت، المهم أن أصحاب عيسى كذلك حصل لهم ما حصل مع نبيهم عيسى عليه السلام. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 18 النقلة التي أحدثها صلى الله عليه وسلم إن سمات وخصائص هذه السيرة، بل مما يثير العجب فيها أن هذه النوعية -أعني بهم الصحابة جيل محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله وأصحابه- قد استخرجها الله تعالى بهذا النبي من أوحال الكفر وظلمات الجاهلية، وأحياهم الله تعالى به بعد أن كانوا في عداد الموتى، لقد كانوا أمة في الحضيض في قيمها بل وفي تصوراتها وسلوكها، وسألمح لكم نماذجاً تكشف عن هذا الضياع وهذا الانحراف وهذا التيه الذي وجده محمد صلى الله عليه وسلم. فبنو حنيفة حي من أحياء العرب، وقد روى ابن قتيبة في معارفه وهو يشير إلى ضحالة وإلى خرافة أديان العرب وإلى تفاهة ما كانوا عليه في المعتقد، يقول عن بني حنيفة: إنهم اتخذوا صنماً من حيس فعبدوه دهراً طويلاً ثم أصابتهم مجاعة فأكلوه، فقال رجل من بني تميم يعيرهم بذلك: أكلت حنيفة ربها من جوع قديم ومن اعواج وقال آخر فيهم: أكلت حنيفة ربها زمن التقحم والمجاعة لم يحذروا من ربهم سوا العواقب والتباعة أما وفد سليم، وما أدراك ما وفد سليم؟! فقد روى ابن سعد في طبقاته خبراً عجيباً وهو يذكر وفادة سُلَيم، وجاء في الخبر أنه كان من ضمن الوفد رجل يسمى راشد بن عبد ربه وهذه تسمية من النبي صلى الله عليه وسلم أسلم الوفد وبات هذا الرجل وهو راشد بن عبد ربه يقص على النبي صلى الله عليه وسلم بعضاً من أخبارهم في بني سليم، ويقول: يا نبي الله كنت سادن صنمٍ لبني سليم، يعني: يحرسه ويحفظه وما إلى ذلك، يقول: فرأيت يوماً ثعلبين يبولان عليه، فقلت: أربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟! لقد ذل من بالت عليه الثعالبُ يقول: ثم شددت عليه فكسرته، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره خبره، وقال: ما اسمك؟ قال: غاوي بن عبد العزى -وانظروا إلى الانتكاس حتى في الأسماء- اسمه غاوي بن عبد العزى، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت راشد بن عبد ربه، فأسلم وحسن إسلامه وشهد الفتوح، وقال فيه النبي: {خير بني سليم راشد} . الجزء: 110 ¦ الصفحة: 19 عموم الرسالة المحمدية وختمها للرسالات الخاصية الثالثة: أن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة خاتمة وعامة، وهذه خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم، فرسالته عليه الصلاة والسلام هي خاتمة الرسالات، وقد أكمل الله بها الدين وأتم بها النعمة على العالمين، ومع كونها خاتمة انقطع الوحي من السماء بموت صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام، فهي كذلك عامة لكل زمان ومكان، ومكلَّف بها الإنس والجان، وهذا العموم والشمول لا يوجد في سيرة الأنبياء قبله، إذ كان النبي يبعث إلى قومه خاصة في إطار زمني ومكاني محددين، ومع ذلك تقف حدود رسالته بموته، بل أُخِذَ العهد على كل نبي إن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه كما سيأتي بيان ذلك. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 20 بقاء الدلائل والمعجزات النبوية رابعاً: من خصائص سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بقاء دلائل نبوته، فقد أعطى الله كل نبي من الأنبياء أموراً خارقة للعادة تؤكد نبوتهم، وتدعو الناس للإيمان بهم وبرسالتهم، والتصديق بما جاءوا به من عند الله، فأعطى الله تعالى صالحاً الناقة، وسخر مع داود الجبال يسبحن والطير، ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر، وآتى موسى تسع آيات بينات، آمن السحرة حين رأوا بعضها، ومكن عيسى عليه السلام من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله تعالى، إلى غير ذلك من دلائل النبوة. لكن هذه الآيات كانت وقتية ذهبت آثارها مع الذين رأوها، ولم تبق الآيات شاهداً حياً تراه الأجيال المتلاحقة كدليل على نبوة هؤلاء المرسلين، هذا في حق أنبياء الله ورسله السابقين. أما في حق النبي صلى الله عليه وسلم فالأمر مختلف جداً؛ فقد كان من أعظم دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم، بل هو المعجزة الخالدة لهذا النبي العظيم، والقرآن شاهد حي منذ نزل وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وعلى الرغم من محاولات التحريف والتأويل التي تعاقبت عليها أيدي البشر جيلاً بعد جيل، فما يزال كتاب الله يتحدى البشر، بل ويعترفون بتحديهم وعجزهم عن التحريف فيه. فهذا القرآن معجز ودليل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما يحويه من آيات الإعجاز العقلية والعلمية، فضلاً عن إخباره عن الأمم الغابرة، وحديثه عن المغيبات، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {ما من نبي إلا وقد أوتي ما على مثله آمن البشر، أما الذي أوتيته أنا فهو وحي من السماء} كما روى ذلك البخاري في صحيحه. ولهذا فمن يقرأ القرآن الكريم في زماننا هذا يدرك كما أدرك من سبقه، أن هذا القرآن الكريم لا يمكن أن يكون من عند محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من عند الله، هذا فضلاً عن دلائل نبوته الأخرى، كالإسراء والمعراج وانشقاق القمر وحنين الجذع ونحوها، وإنما أكدت على القرآن الكريم لبقائه معجزاً إلى هذا اليوم، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 21 صحة المصادر وتكاملها أولاً: الصدق والتكامل في مصادرها؛ وإذا كان القرآن الكريم أول مصدر لهذه السيرة فهو نموذج للصدق والحفظ من الزيادة والنقصان، قال الله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ويتضح الفرق حين المقارنة بين القرآن الكريم وبين سائر الكتب المنزلة قبله كالتوراة والإنجيل، والتي لم تعد صالحة للاعتماد نظراً لما شابها من التحريف، ولو لم يحفظ القرآن، لنا نبذاً من سير الأنبياء السابقين وكذا نصوص السنة الصحيحة لم يبق شيء يعتمد عليه ويوثق به في معرفة سيرهم. أما سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فما لم نجده في القرآن الكريم نجده في السنة النبوية، وما لم تحط به كتب السنة نجد كتب السيرة قد أحاطت به وفصلت القول فيه، ومع كون هذه النصوص في كتب السيرة تشمل نصوصاً قد لا تثبت أمام النقد، فبإمكاننا أن نجمع من هذه النصوص مادةً نكتب بها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بدقيقها وجليلها وبروايات موثقة لا مطعن فيها. أما النصوص التي تروي أخبار المرسلين السابقين فيما عدا القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، فيغلب عليها الإسرائيليات وتكثر فيها الاختلافات، ليس ذلك محض افتراء أيها الإخوة، وليس ذلك تزيداً أو افتراءً أو جنايةً على الكتب المتقدمة، بل هو الواقع نشهد به نحن، ويشهد به أرباب الديانات المحرفة كذلك. وأسوق لكم نصاً من رجل نصراني يعترف بهذه الحقيقة، ويقول: إنه لم يكن يعرف إلا حوالي خمسين يوماً من حياة المسيح عليه السلام، فأين بقية أيام المسيح، بل يعترف صراحة حينما يقول، وهو القس الدكتور كارلوس أندرسون يقول في مقال نشره في دائرة المعارف البريطانية: ينبغي أن يتنازل الإنسان عن محاولة وضع كتاب في سيرة المسيح بكل صراحة، فإنه لا وجود للمادة والمعلومات التي تساعد على تحقيق هذا الغرض، والأيام التي توجد عنها بعض المعلومات لا يزيد عددها على خمسين يوماً. إذاً ليس بمقدورنا أن نكتب سيرة عن المسيح عليه السلام، وإذا كان هذا آخر أنبياء بني إسرائيل، وليس بمقدورنا أن نكتب عنه السيرة، فإن من مضى من أنبياء الله ورسله من باب أولى وأحرى؛ لأنه كلما تقادم العهد كلما كثر التحريف والتأويل والانتحال. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 22 الشمول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم الخاصية الثانية التي تمتاز بها سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد تكامل مصادرها: الشمول في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه النسخ التي نجدها عن المرسلين السابقين على الرغم من قلتها لا نجد فيها وصفاً شاملاً وجامعاً لمراحل حياتهم، وتفصيلاً كاملاً لمواقفهم مع أممهم، الأمر الذي نجد عكسه في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حيث يمكن للمطلع عليها الوقوف على مولده، ونشأته، وحياته قبل البعثة -أعني محمداً صلى الله عليه وسلم- وكيف بعث؟ وموقف قومه من بعثته، وهجرته، ودعوته، وبناء دولته، وتربية أصحابه إلى غير ذلك من الأمور التي يتعذر معرفتها في بقية أنبياء الله ورسله عليهم السلام، وليس ذلك بقادح فيهم، ولكنها حكمة الله جلت قدرته جعلت سيرة هذا النبي المصطفى تحفظ؛ فهو آخر الأنبياء والمرسلين. بل إن الشمول في سيرته عليه الصلاة والسلام يمتد ليغطي مناحي الحياة كلها، فيخرج المطلع عليها بتصور كامل عن النواحي العبادية وأمور المعاملة، وتتسع هذه السيرة المحمدية لتشمل الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية وغيرها، بل إن الشمول في سيرته صلى الله عليه وسلم يعني كذلك اهتمامها بأمر الدنيا والآخرة. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 23 أهداف دراسة السيرة النبوية لا شك أن هناك فرقاً بين أن ندرس سيرة عظيم من العظماء أياً كانت هذه العظمة، وبين دراستنا لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا ينبغي علينا ونحن نقرأ السيرة أن نضع في حسباننا أننا لا نقرؤها لمجرد المعرفة الباردة، أو التسلي بأحداثها المختلفة، لمجرد زيادة رصيد المعرفة، بل علينا أن تكون الأهداف واضحة في أذهاننا؛ حتى نستمتع بقراءتها، ونستفيد من عبرها ودروسها، وبغير هذه النظرة لا نستفيد من هذه السيرة، بل ربما أغلقت نصوصها أمام ناظرينا. وأذكر هنا بعضاً من أهداف دراسة السيرة، عساها أن تكون مفتاحاً للطريق: الجزء: 110 ¦ الصفحة: 24 إزالة الخلاف والتقريب بين وجهات النظر أما الأمر الأخير والمهم في دراسة السيرة فهو أنها مادة للاجتماع وأسلوب للتقارب الحق بين المسلمين المختلفين، والواقع يشهد أنه لم يحدث أن اجتمعت كلمة المسلمين في بقاع الأرض على مذهب من المذاهب، أو حزب من الأحزاب، أو على كتب ومؤلفات عالم من العلماء، ولكنهم اجتمعوا واتحدوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم سلفاً ويمكن أن يتحدوا خلفاً على ذلك. وهذا يستدعي قراءة السيرة النبوية وتحقيقها ليجتمع المسلمون على كلمة سواء، واجتماع المسلمين هدف جليل ينبغي أن يُسْعَى له، وينبغي أن يُفَكِّر في وسائله، وينبغي أن يفكر كذلك في الأمور المعينة عليه، وفي ظني أن فقه السيرة النبوية مدخل أساسي، ووسيلة مهمة لجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى. أسأل الله أن يجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى، وأن يؤلف قلوبهم وأن يصلح ذات بينهم، وأن ينصرهم على عدوهم وعدوه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأعتذر عن إعطاء هذا الموضوع حقه، فثمة إشارات ينبغي أن يتحدث بها لمن يريد أن يفي الموضوع حقه، لكنني أكتفي بهذه العجالة تقديراً للزمن واعترافاً بالتقصير، وأسأل الله تعالى أن ينفعني وإياكم بما نسمع، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 25 توضيح المنهجية الإسلامية نحن نحتاج إلى دراسة السيرة في كل أحوالنا، في حالة السراء وفي حال الضراء وفي حال النصر أو حال الهزيمة، في حال الضعف أو حال القوة. إن الأمة أيها الإخوة حينما تمر بمرحلة ضعف فلا منقذ لها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، والتزام شرع الإسلام منهجاً ودليلاً، وهل السيرة النبوية إلا منهج لهذا وذاك؟! وحين تبصر الأمة حائرة مترددة تلتفت هنا مرة وهناك أخرى، فاعلم أن علتها غياب المنهج والجهل بسيرة النبي المعلم صلى الله عليه وسلم. واعلم أن حاجتها إلى هذه السيرة العطرة أشد من حاجتها إلى الطعام والشراب، ومن هنا تأتي أهمية دراسة السيرة في حالة غياب الأمة وأفول نجمها، لتكون معلماً تهتدي به في حوالك الظلمة، وإذا كانت حاجتها إلى السيرة في هذه المرحلة مهمة -أعني مرحلة الضعف والهوان- فحاجة الأمة إلى السيرة النبوية في حال النصر والتمكين أشد، إذ ليس الهدف من النصر والتمكين مجرد الاستعلاء أو التكبر والبطر، كلا! فالهدف استخراج العباد من عبودية بعضهم لبعض إلى عبودية رب العالمين، ونقلهم من وضع مهين مزرٍ إلى وضع يستشعرون معه الراحة والسعادة والأمن والطمأنينة والأمان. هدف المسلمين تحقيق العدالة وتمكين شرع الله وإزالة الظلم، وكل هذا وذاك لا يمكن أن يكون لقوم يجهلون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه. معاشر الإخوة؛ إننا اليوم -ونحن نستشف بوادر النصر والتمكين لهذا الدين- مدعوون لقراءة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى يُحكم الناس بالعدل والقسط، وحتى تكون القيادة راشدة والمنهج سليماً، وثمة أمر آخر يؤكد أهمية دراسة السيرة، فالباحثون في التربية والاجتماع والسياسة والاقتصاد ونحوها من العلوم، عادوا يعترفون أنهم بعد جهد كبير ومشوار طويل في دراسة النظريات واستيعاب الطروحات، عادوا يعترفون بكون السيرة النبوية منهلاً عذباً يردون فيه فيجدون بغيتهم، ومورداً زلالاً يروي ظمأهم، بل إن العسكريين وهم يخططون لمعارك اليوم لا يجدون غُنْيَةً عن تجربة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية، فضلاً عن أهل الإدارة والتخطيط، وهذا وذاك يحتم دراسة السيرة النبوية وفهمها. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 26 توضيح المجمل في القرآن رابعاً: توضيح المجمل في القرآن: فمن أهداف دراسة في السيرة أنها توضح ما أجمله القرآن الكريم من إثارات قد لا يفهم المقصود منها إلا بالرجوع إلى أحداث السيرة، وفي السيرة تحديد للإطار العام للآيات القرآنية ومواضع نزولها ومواقع دلالتها، وبهذا نفهم المقصود بآياته، ويستفاد من توجيهاته. فالآيات مثلاً في أسرى بدر يصعب فهمها وإدراك دلالتها دون الرجوع إلى أحداث السيرة، وهكذا الشأن في آيات غزوة أحد حين وقعت الهزيمة، ومثل ذلك يقال في توجيهات القرآن حول النفاق والمنافقين، وحول أهل الكتاب والمشركين إلى غير ذلك، بل نستطيع من خلال معرفتنا بأحداث السيرة تحديد الآيات الناسخة والمنسوخة، وهي قضية يترتب عليها كثير من الأحكام الشرعية، والأمر كذلك بالنسبة للأحاديث النبوية، حيث تعين دراستنا للسيرة على معرفة زمن القول وظروفه، وهو ما يسمى ببيان أسباب ورود الحديث. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 27 تحقيق وحدة الأمة خامساً: وحدة الأمة وعدم التنازع: وهذا هدف سام وجليل من أهداف دراسة السيرة، فمعرفتنا بمراحل الدعوة وأساليبها المختلفة ومعرفتنا بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم بشكل مجمل، يجعل في صدر كل واحد منا متسعاً للآخرين في أسلوب دعوتهم، ما دام أصحابها يلتزمون بهدي الإسلام، ويراعون أصوله، ولا يؤثرون الهوى على الهدى، ولا يقصدون تقليد الخلق، بل هدفهم الوصول إلى الحق، ولا تؤدي بنا الاختلافات الفرعية إلى التناحر والنزاع والقطيعة، بل نجعل السيرة هي أداة التحكيم عند اختلافنا امتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ولقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . نعم! إنه قد يشكل علينا أمر، ونختلف في حله وحرمته وقربه من روح الإسلام أو بعده، ولكنا حينما نعود إلى السيرة ينحسم هذا الأمر، ويوضح لنا الطريق سيرتُه وهديُه صلى الله عليه وسلم، وقد يرى راءٍ في الإسلام جزئية لا تعجبه، ولا يدرك مغزاها ومرماها، فما عليه إلا أن ينظر كيف طبق الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الجزئية؟ ومتى؟ ولماذا؟ وكيف؟! ليدرك موقعها من مجموع البناء الإسلامي، ولا يستعجل الأمور، فيلتمس التعليلات الباردة ليرد بها الأحكام الصريحة الواضحة، أو النقول الصحيحة الجلية كما يفعل بعض الناس. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 28 التعرف على مراحل الدعوة وأساليبها ثالثا: التعرف على مراحل الدعوة وأساليبها، فدراسة السيرة -معاشر الإخوة والأخوات- تكشف عن مراحل دعوته صلى الله عليه وسلم المختلفة، وترسم المنهج الأمثل للدعوة، ومن المعلوم أنه صلى الله عليه وسلم أسر في دعوته بمكة فترة من الزمن، كان لهذه الفترة ظروفها وملابساتها، وكان له صلى الله عليه وسلم فيها أسلوب مميز للدعوة شاد فيها أسس البناء، واختار العناصر الصالحة للعطاء، وأبعد عن الدعوة مخاطر الأعداء، ثم جهر بالدعوة وأعلنها على الملأ، وكان له ولصحابته مع الكفار مواقف وأحداث استطاع خلالها أن يرسم الأسلوب الأمثل للمواجهة، ثم هاجر إلى المدينة فاحتاجت الدعوة إلى أسلوب آخر، فما جمد الرسول صلى الله عليه وسلم وما تردد، ورسم منهجاً ومارس وسائل الدعوة التي تناسب هذه المرحلة، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في دعوته لا يمل ولا يكل، ولا يتوقف عند أسلوب يرى أن غيره أنسب للدعوة منه. ولذا فإن على الذين يمارسون الدعوة أن يقرءوا هذه السيرة العطرة، وسيجدون فيها ما يجيب على تساؤلاتهم، ويلبي حاجياتهم، ويفي بمتطلبات دعوتهم، مهما اختلفت الأزمان وتنوعت البقاع، أجل! لقد حوصر النبي صلى الله عليه وسلم وشرد، ونفي وأهين، وواجهته ضغوط نفسية واجتماعية ومؤامرات وخيانات، وتعرض لكيد المنافقين وكيد الكفار والطغاة والمجرمين، وتعرض لمساومات سياسية وعقد مصالحات، وواجهته مشكلة بناء أمة وإقامة مجتمع على أسس جديدة، فما وهن ولا استكان، بل ترك في هذه وتلك توجيهات كريمة وأسساً رشيدةً، وعلى قدر المسيرة عليها تصلح الدعوة وينجح الدعاة. وليس بمقدور الدعوة، بل وليس بمقدور الدعاة أن يعيدوا منهج الدعوة بغير معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 29 تأكيد الواقعية في هذا الدين ثانياً من أهداف دراسة السيرة تأكيد الواقعية في هذا الدين، فإن من سمات الدين الإسلامي أنه دين الواقعية يتعامل مع النفس البشرية بكل ملابساتها وبمختلف أحوالها وظروفها، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيد لهذه الواقعية، فهو مع كونه صورة مشرقة وقمة سامقة للإسلام، إلا أنه لم ينسلخ عن بشريته يوماً من الأيام، ولم يكن وهو يزاول تعاليم الإسلام ملكاً مقرباً؛ بل كان بشراً سوياً، فعاش مع نفسه حالة الخوف والرجاء، وعانى من الفقر، وعرض له الغنى، وعاش ظروف الغربة كما عايش الأمن والاستقرار، كما مرت حياته بظروف العزلة والاختلاط، والعزوبة والزواج، وكان قائداً حربياً ومخططاً سياسياً، وأحست نفسه بآمال النصر كما أحست بآلام الهزيمة، ففرح وحزن وغضب ورضي، وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، والذين يقرءون هذه السيرة يتبينون هذا الأمر، ويسيرون في حياتهم على نهج سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وهكذا كان في كل هذه الأحوال ينهج نهج الاستقامة والعدل، ويتعامل مع النفس البشرية بشكل واقعي، يتيح لمن بعده أن يقتدي به في كل حال من أحوال الحياة، وفي هذا المجال يجد الدارس للسيرة تلازماً بين القول والعمل، والمبدأ والسلوك، فلا يأمر الناس بالبر والخير وينسى نفسه، والذين لا تتاح لهم دراسة السيرة دراسة واعية تظهر في سلوكياتهم التناقضات، وتكثر في حياتهم المنغصات. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 30 فهم الإسلام وتريعاته أولاً: السيرة النبوية تجسيد حي لتعاليم الإسلام، فلا بد لمن يريد أن يفهم الإسلام وتشريعاته، أن يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فسيرته هي التجسيد الحي، بل هي الصورة المشرقة لتعاليم الإسلام؛ فإن الإسلام منذ أن نزل لم يكن نصوصاً جامدة لا وجود لها ولا أثر في الحياة، وإنما نزل ليكون منهجاً للبشر، ولهذا تمثل النبي صلى الله عليه وسلم كل تعاليمه سلوكاً واقعياً في الحياة، ومجموع هذا السلوك هو سيرته عليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يمثل الإسلام في كل أحواله، سواء أكان ذلك في حال النوم أم في حال اليقظة وسواء أكان على مستوى الفرد أم على مستوى الجماعة، في حال الرضا أم في حال الغضب، في حال السلم أم الحرب، وفي حال الجد أو المداعبة، وميزة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه في كل هذه الأحوال -وهو البشر الذي يمكن أن يقع منه فعل خلاف الأولى- ميزته أنه يلقى التوجيه من ربه إذا ما قدر له ذلك، فينبه إلى الأولى ولا يكتم شيئاً مما أوحى الله إليه، فتستمر سيرته على الهدى والحق. وعلى سبيل المثال: تحفظ لنا نصوص السيرة قصته مع عبد الله بن أم مكتوم، وقصته في زواجه لـ زينب بنت جحش، فالأولى قال الله تعالى عنها {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1-3] إلى آخر الآيات، والأخرى قال الله عنها: {وَإِذْ تَقُولً لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] . الجزء: 110 ¦ الصفحة: 31 الأسئلة الأسئلة التي وردت كثيرة، ولعلنا نأخذ ما تيسر منها، ونرجو أن نجيب على أكثرها ولو باختصار، والأسئلة على قسمين قسم منها يطالب الشيخ بدرس في السيرة؛ لأن الساحة خالية من هذا الموضوع، وكانت المطالبات كثيرة، وإن قلت: إن نصف الأسئلة تطالب الشيخ بهذا الموضوع، فلست مبالغاً، وأرجو من الشيخ أن يعلق على هذا الموضوع، وأن يعد الحضور وعداً يثلج الصدور في طرق مثل هذه الدروس القيمة التي نحن في أمس الحاجة إليها. الجواب على أية حال أشكر الإخوة على ثقتهم، وأسأل الله تعالى أن يغفر ويتجاوز، وأعدهم خيراً، بل إنني أفكر كثيراً في تخصيص درس للسيرة النبوية، فأنا المستفيد الأول من هذا الدرس، أرجو الله تعالى أن يعجل بقيامه وأن يعينني على إتمامه، ولعل هذا اللقاء يكون بداية طيبة بإذن الله تعالى، وأعد الإخوة إن شاء الله بإقامة درس، لكنه إن كان فسيكون بمشيئة الله في المسجد الذي أصلي فيه وهو في حي السلطان، وأرجو أن يعينني الله تعالى على إعلانه قريباً. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 32 معجزات الرسول غير القرآن السؤال هل هناك معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم باقية إلى هذا الوقت غير القرآن الكريم؟ الجواب نعم! من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ومن دلائل نبوته إخباره عن المغيبات، والمغيبات منها أمور وقعت بعد موته، من أمثال حديثه عن الفتن والحروب التي حصلت في عهود الصحابة رضي الله عنهم، ومن أمثال حديثه عن نشأت كذلك الفرق التي نشأت بعد موته، ومن أمثال حديثه صلى الله عليه وسلم عن كثرة المال، وقد كثر المال اليوم، وهناك أحداث أخبر عنها ولم تقع وستقع، وهذه معجزة وتعد من دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 33 الدراسة الجامعية السؤال هل تنصح بالالتحاق بقسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وهل هناك تعليق على هذا القسم؟ الجواب أنصح الإنسان أن يستخير الله تعالى قبل أن يدخل أي قسم وأن يستشير، فما خاب من استخار ولا ندم من استشار، وسواء كان ذلك في قسم التاريخ أو في قسم الشريعة وأصول الدين، أو قسم اللغة العربية أو في سواها من الأقسام، هذه أقسام كلها فيها خير، والمهم أن يتوفر عند الإنسان حين الدخول نية طيبة وهدف نبيل يسعى من ورائه إلى خدمة الأمة الإسلامية، حتى ولو كان في قسم العلوم والأحياء أو غيره من الأقسام كالهندسة والطب، أو نحوها من الأقسام الأخرى، فالقضية مربوطة بالهدف الذي يسعى الإنسان من أجله، فإذا كان الهدف نبيلاً والنية طيبةً، ويقصد من وراء ذلك تقديم خدمة لهذه الأمة، فإنني أنصحه بدخول أي قسم يرى فيه بغيته، ويجد فيه ما يتفقُ مع طبيعتَه. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 34 الواقعية والمثالية السؤال ذكرت أن من أهداف دراسة السيرة النبوية تأكيد الواقعية لهذا الدين، فكيف يكون ذلك؟ الجواب الواقعية حينما نقول الواقعية هي بخلاف المثالية أو على عكس المثالية، فهذا الدين أيها الإخوة ليس ديناً مثالياً، ومن ميزة النبي صلى الله عليه وسلم أنه واقعي، بمعنى أن سيرته حوت حياته وهو في أعلى الدرجات، وذكرت بعض الأمور التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع فيها من الخطأ الذي عالجه الله تعالى، فهو يصيب ويخطئ، يغضب ويرضى، يجاهد في حال السلم وفي حال الحرب. وأعني بالواقعية أنها أمور قريبة للنفس البشرية، فليس بمقدور الإنسان أن يقرأ السيرة، ويقول: إني لا أستطيع أن أطبق هذه السيرة، بل نقول له إذا حصلت له حالة ضعف أو حالة خطأ أن النبي صلى الله عليه وسلم حصل له شيء من ذلك، إذا حصل له حالة هزيمة في معركة ينبغي ألا يحبط نفسه، ويقال له: حصل للنبي صلى الله عليه وسلم قبلك ما حصل، إذا اشتدت عليه حالة العزبة فكان النبي صلى الله عليه وسلم عزباً، إذا اشتدت عليه حالات الغربة تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش غريباً وهكذا بمجملها، فهي تؤكد الواقعية، وليست نموذجاً لملك نزل من السماء لا يفتر عن التسبيح والتهليل، بل النبي صلى الله عليه وسلم عايش النساء وعاش في الدنيا فافتقر واغتنى، وسالم وحارب، إلى غير ذلك من الأمور التي تؤكد الواقعية، وهي ضد المثالية التي لا يمكن وقوعها، أما المثالية ومعالي الأمور التي يمكن أن يوصل إليها لكن يجهد فهذا أمر مطلوب، لكن حينما نقول: الواقعية فهي بخلاف اللاواقعية بتعبير أدق. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 35 الكتب المؤلفة في السيرة النبوية السؤال ما أهم الكتب التي تنصحنا بقراءتها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وما أهم المؤلفين الذين ينصح باقتناء كتبهم في هذا المجال؟ الجواب هذا سؤال يحتاج إلى درس خاص به، نتحدث فيه أو نتحاور فيه عن مصادر السيرة النبوية وعن أهميتها، فمن المعلوم -وهذه ميزة ألمحت إليها- تميز سيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن سائر الأنبياء والمرسلين بأنها وفرة المصادر كثيرة المراجع، فأول مصادرها القرآن الكريم، وأنا أنصح بداية أن يقف المرء على بعض الآيات التي تتحدث عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يجد فيها معلومات لا يجدها في غيرها من كتب السير، أولاً أن المعلومة من القرآن الكريم هي من الصحة بحيث لا تحتاج إلى نقاش؛ لأن القرآن الكريم كلام الله، ثم إن كتب التفسير تعتبر عاضداً مهماً في تجلية هذه الآيات، فأحياناً تقرأ آيات قرآنية ولا تعلم المقصود بها، وكم من قارئ يقرأ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] ولكنه لا يدري ما المقصود، لكنه عندما يرجع إلى كتب التفسير، أو حتى كتب السير الموثوقة، ويجد تفسير الحادثة فإنه يطمئن لذلك. على أية حال إضافة إلى التأمل في آيات القرآن الكريم مع تفسيرها من كتب التفسير الموثقة، هناك كتب السيرة الموثقة، وفي مقدمتها الصحيحان صحيح البخاري وصحيح مسلم: في كتاب الفضائل، وفي كتاب المغازي، وفي كتاب المبعث، وفي كتب أخرى مفرقة في صحيح البخاري وصحيح مسلم فيها مادة طيبة وجميلة، وأما المصدر المتوفر فهو سيرة ابن هشام، وهي يغلب عليها الصحة، وإن كان فيها معلومات دون ذلك، وعلى أية حال فمن بين كتب السيرة أرشح للقارئ السيرة النبوية للإمام ابن كثير عليه رحمة الله وهي منتزعة من البداية والنهاية، ففيها تحقيق يندر وجوده في غيرها، بالإضافة إلى الشمول، وإلا فهناك كتاب للذهبي، وهناك كتاب لـ ابن القيم، لكن ميزة سيرة ابن كثير أن فيها تحقيقاً، هذا لمن يستطيع أن يقرأ المطولات، أما من لا يستطيع ذلك، وخاصة المبتدئين الشباب، فهناك كتب ميسورة يستفيد منها أمثال كتاب الندوي في السيرة النبوية ودراسات في السيرة لـ محمد بن سرور، وكتابات أكرم العمري في السيرة النبوية، وهي كتب حديثة، ومحمد رسول الله لـ صادق عرجون إلى غير ذلكم من الكتب التي يمكن أن يستفاد منها في هذا المجال. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 36 كيفية تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة السؤال فضيلة الشيخ! ذكرت أنه قبل البعثة كان هناك من يتعبد على دين إبراهيم الحنيفية، فماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعبد في غار حراء حيث كان يتعبد شهراً كاملاً؟ من كل سنة؟ الجواب وقف أهل السير عند تعبده شهراً كاملاً كل سنة في غار حراء، فقال بعضهم: إنه كان يصوم فيه، وقال بعضهم: إنه كان يتصدق على الفقراء والمساكين، وقال بعضهم: إنه كان يتأله أي ينظر في هذا الكون، ويتأمل فيه، وكأنه ينظر إلى قومه من علو، وهو في غار حراء، وغار حراء كما هو معلوم في القمة، فهو ينظر إلى هذا الكون، وكأنه يسفه أحلامهم، ويأخذ عليهم عباداتهم، وبالتالي فأهل السير مختلفون، لكنهم مجمعون على أنه يخرج من أجل أن يروح عن نفسه، ومن أجل أن يصقل فكره، ومن أجل أن يتأمل في هذا الكون، وعلى أية حال فأقرب الروايات أو أقرب شيء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتعبد بالحنيفية، وإن لم يكن هناك نصوص واضحة وصريحة تحدد كيف كانت عبوديته، لكنَّ هناك نصوصاً أخرى تؤكد أنه كان يخالف قومه في عبادة الأصنام وفي عباداتهم من أمثال الطواف بالبيت وهم عراة، أو من أمثال الوقوف بمزدلفة حين يقف الناس بعرفة، فقد خالف قومه في هذه الأشياء، وكانت هذه إرهاصاً لنبوته، فكان يتأله ويتعبد بهذه الأشياء كلها، أو يبتعد عن المعبودات الوثنية والأصنام، دون أن يمسها أو يقربها، وينظر في ملكوت الله تعالى وعظمته وقد هداه الله تعالى. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 37 إشكالية التخيير بين الموت والبقاء مع إخبار الله بموت جميع الخلائق السؤال كيف يخير الأنبياء بين الموت والبقاء؟ والله عز وجل أقسم ألا يبقى عليها أحد، كيف التوفيق بين ذلك؟ الجواب ليس معنى التخيير الحياة إلى الأبد، وإنما هو المد في الأجل والفسحة فيه، وقد ورد في الصحيح {أن موسى عليه السلام لما جاءه ملك الموت صكه على وجهه، فرجع ملك الموت، وقال لله تعالى -وهو أعلم بما حصل-: إن عبدك لا يريد الموت، فقال: ارجع إليه وقل له: ضع يدك على ظهر ثور، فما وقع تحت يدك من شعراته فلك به عدد السنين، فرجع الملك إلى موسى عليه السلام، وقال له ذلك، فقال موسى: وماذا بعد ذلك؟ قال: الموت -لأنه ليس هناك أحد مخلد {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء:35] {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد:38]- فقال موسى عليه السلام: إذا كان لا بد من الموت فليكن من الآن} فليس المقصود البقاء إلى الأبد، وإنما المقصود الفسحة في الأجل، ولذلك خير النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الحديث الصحيح- فاختار الرفيق الأعلى على مزيد المكث في الحياة الدنيا، والله أعلم. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 38 عصمة الأنبياء السؤال نعلم أن الأنبياء معصومون فماذا نقول في موسى عندما قتل نفساً قال كما حدث عنه القرآن {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ} [القصص:16] ؟ الجواب أولاً: هذا كان قبل النبوة، ثم إن الآيات القرآنية تشير إلى أن الله تعالى غفر له، وكان هذا خطأ من موسى عليه السلام فغفر الله تعالى له بعد أن سما في طريق القرآن الكريم، علماً بأن العصمة بالنسبة للأنبياء قبل النبوة هي محل خلاف بين العلماء، وقد ألف الرازي رحمه الله كتاباً خاصاً في عصمة الأنبياء، وعلى أية حال فهم متفقون على عصمتهم من الشرك ومن العبودية لغير الله أو السجود لصنم حتى قبل النبوة. الجزء: 110 ¦ الصفحة: 39 التفسير النبوي للقرآن من أعظم نعم الله للبشر أجمعين وجود كلامه بين أيدي الناس، ويبين لهم أحكامهم ويهديهم وفيه بركة ونور وشفاء، وهو كتاب يتميز بشموليته لجميع النواحي، وأنه يقرر الحق المطلق في كل الأمور، ولا يتطرقه شك. ولذلك عني المسلمون بالتفسير لهذا الكتاب من الصحابة والسلف الصالح، بل وفسره حتى بعض أصحاب الأغراض كالمعتزلة والصوفية وغيرهم، وقد تفاوت الناس في تفسيرهم للقرآن وأولهم الصحابة لتفاوتهم في أمور عدة، وأعظم تفسير للقرآن هو التفسير النبوي والذي يكون على أضرب عديدة. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 1 أعظم نعم الله على البشر أجمعين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الحمد لله القائل {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً * مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً * وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً} [الكهف:1-4] والصلاة والسلام على رسوله القائل كما في حديث المقدام وغيره: {ألا وأني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته أن يأتيه الأمر من أمري فيما أمرت به أو فيما نهيت عنه، فيقول: عندنا كتاب الله حسبنا، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حرم الله تعالى} . إن من نعمة الله تعالى لا أقول علينا فحسب، بل على الناس أجمعين أن يوجد بين أظهرهم كلام الله، كلمات الله مضبوطة محفوظة من الزيادة والنقصان. ولعل هذه أعظم نعمة يفيض الله تعالى من خيرها على البشر أجمعين، أن يكون بين أيديهم كتاب محفوظ، قرآن يحتكمون إليه فيما يقع بينهم من خلاف أو شجار، وذلك بعد أن حرفت الكتب السماوية كلها، التوراة، والإنجيل، وغيرها، وضاع أكثرها، ولعبت بها أيدي التغيير والتبديل {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة:79] . إخوتي الكرام: إن القرآن الكريم كلام الله تعالى، وإذا كان القرآن الكريم هو كلام الله؛ فلا أعتقد أن هناك مجالاً لذكر محاسن ومزايا وخصائص القرآن الكريم، فحسبه أنه كلام الله، ولذلك وصفه الله عز وجل بقوله: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:41-42] وكما جاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضل القرآن على سائر الكلام، كفضل الله تعالى على خلقه} . الجزء: 111 ¦ الصفحة: 2 من خصائص القرآن الكريم إذاً: فكون القرآن كلام الله هو أمر يغني عن تعداد خصائص القرآن وفضائله ومزاياه، لكنني أجدني مضطراً إلى أن أشير إلى ثلاث خصائص لهذا القرآن لا بد من ذكرها في مطلع هذه المحاضرة. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 3 الحق المطلق الخاصية الثالثة هي: أن هذا القرآن يقرر الحق المطلق الذي لا ريب فيه {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فالقرآن حق كله، وصدق كله، فهو فيما أخبر به عن الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل، صدق، ويستحيل استحالة مطلقة قطعية لا تردد فيها أن يتعارض خبر القرآن مع الواقع، أو مع التاريخ الماضي، أو مع ما يكتشفه العلم في المستقبل، فنجزم ونقطع بلا تردد من منطلق إيماننا بالله العظيم، أن كل ما أخبر به القرآن عن الأمم السابقة، من أخبار الأنبياء، وأخبار الأمم من بني إسرائيل، ومن قبلهم ومن بعدهم، وما حدث لهم من العز والارتفاع، أو الذل والانحدار، والمصائب والنكبات، أو النعم أو غيرها، والدول وسواها، والقصص والأخبار أن كلها حق وصدق، ونجزم ونقطع بلا تردد من منطلق إيماننا بالله العظيم أن كل ما أخبر به القرآن الكريم في الواقع، وفي الكون، وفي الفلك، وفي النجوم، وفي الأرض، وفي السماء، وفي الأرحام، وفي النفس البشرية، من الأخبار أنه صدقٌ وحقٌ قطعيٌ لا تردد فيه، ولذلك يستحيل أن يثبت العلم حقيقة تناقض القرآن، ومن ادعى أن هناك حقيقة علمية تناقض القرآن، فهو إما أنه لم يفهم القرآن حق فهمه، فظن أنه يناقض العلم، أو لم يفهم العلم حق فهمه فظن أنه يناقض القرآن، أما أن توجد حقيقة علمية تناقض نصاً قطعياً صريحاً فهذا والله لا يمكن أن يكون بحال من الأحوال؛ لأن الذي أنزل القرآن، هو الذي خلق الأكوان وأوجد الإنسان، فلا يمكن أن يخبر عن الإنسان، أو عن الأكوان، إلا بما هو الحق والواقع. وكذلك ما أخبر به الله عز وجل في القرآن من الأخبار المستقبلة في آخر الدنيا، أو في يوم القيامة، فإنه لا بد أن يكون حقاً لا شك فيه، فأخبار الله تعالى في القرآن صدق لا ريب فيها، وأحكامه في القرآن عدل لا ظلم فيها ولا جور، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] صدقاً في الأخبار ماضيها وحاضرها ومستقبلها، وعدلاً في الأحكام خاصها وعامها، فرعها وأصلها، فهو الحق المطلق الذي لا شك فيه. ولذلك لهذه الأسباب كلها ولاحظوا هذا الخصائص الثلاث، حق مطلق، شامل لجميع شئون الحياة، محفوظ من الزيادة والنقصان، لهذا أصبح القرآن ميزاناً وفيصلاً فيما يشتجر الناس ويختلفون فيه من أمور الدين والدنيا، وبذلك تعرف نعمة الله تعالى بحفظ هذا القرآن إلى هذا الزمان، وأنه نعمة كبرى على المسلمين بل على البشرية كلها. وهذه النعمة شكرها: أن يكون القرآن هو المهيمن على حياتنا، أفراداً، وأسراً، ومجتمعات، ودولاً، وأمماً، بحيث يكون القرآن هو المحكم، وإذا لم نفعل فنكون قد كفرنا هذه النعمة، وعقوبة كفران هذه النعمة عقوبة أليمة، أتدرون أيٌ هي؟ إنها أن يرفع هذا القرآن من بين أيدينا، فلا يبقى في الأرض منه آية، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن ماجة وغيره بسند صحيح من حديث حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يدرس الإسلام كما يُدرَس وشيء الثوب، حتى لا يدرى ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة، حتى لا يبقى في الأرض منه آية} ينزع القرآن من المصاحف، وينزع القرآن من صدور الرجال، لماذا؟ لأنه لم يُعمل به، فتعطلت منافعه، فرفعه الله تعالى تكريماً لكلامه العظيم أن يوضع عند من لا يستأمنونه، ولا يستحقونه، ولذلك نسأل الله جل وعلا العفو والعافية. وإذا رُزِقَ إنسان القرآن حفظاً وفهماً ثم أهمله وفرط فيه، فإن الله تعالى يبتليه بعقوبة عاجلة، بنسيان القرآن الكريم وتفلته منه. ولذلك أذكر لكم قصة قرأتها في بعض التواريخ، أن جماعة من المسلمين خرجوا في غزو للروم، وكان معهم شابٌ يحفظ القرآن، ويصلي ويقرأ، فكانوا يحبونه ويعدوه كأحد أبنائهم، قال: فلما مررنا بقرية للنصارى أطلت من سور القرية فتاة جميلة حسناء، فنظر إليها ذلك الشاب وافتتن بها، فذهب إليها، وقال لها: هل إليك من سبيل؟ قالت: لا سبيل إلي إلا بأن تتنصر، فقال: أنا كذلك والعياذ بالله، ثم دخل في هذه القرية وكان مع هذه النصرانية، فلما رجعوا من الغزو مروا بتلك القرية وهم حزانى، ثكلوا بردة هذا الشاب الذي كانوا يحبونه ويقدرونه ويوقرونه، فلما مروا بالقرية تمنوا أن يروه، فرأوه عند باب السور، فقالوا له: يا فلان! ما فعل القرآن؟ قال: والله لقد نسيت القرآن فلا أذكر منه إلا هذه الآية {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر:2] فنسأل الله جل وعلا أن يعافينا، ولا يفضحنا في الدنيا ولا في الآخرة، اللهم لا تفضحنا في الأرض ولا يوم العرض، اللهم لا تفضح عبيداً أحسنوا الظن بك يا كريم. أيها الإخوة: القرآن الذي هذه مزاياه، وهذه مكانته، نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاه عنه أصحابه، ثم تلقاه عنهم المسلمون، وعنوا به كما أشرت عناية كبيرة. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 4 الشمولية والكمال الخاصية الثانية لهذا القرآن: الشمول والكمال، فإن هذا الكتاب فيه كما قال الله عز وجل: {َتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف:111] ما من أمر يحتاجه الناس في دينهم أو دنياهم إلا وفي القرآن بيانه، سواء بياناً بالنص عليه، أو بدخوله تحت قاعدة كلية عامة قررها الله تعالى في القرآن الكريم، أو بالإحالة على مصدر آخر، كالإحالة على السنة النبوية، أو على القياس الصحيح، أو ما أشبه ذلك، أو على إجماع أهل العلم. فما من قضية يحتاجها الناس في اجتماعهم، أو أخلاقهم، أو عقائدهم، أو اقتصادهم، أو سياستهم، أو أمورهم الفردية، أو الاجتماعية الدنيوية أو الأخروية، إلا وفي القرآن بيانها إجمالاً أو تفصيلاً، فجاء القرآن بأصول المسائل، ولذلك لو أتيت مثلاً إلى أصول الطب لوجدتها في القرآن الكريم، أو إلى أصول الاقتصاد لوجدتها في القرآن الكريم، أو إلى أصول الاجتماع لوجدتها في القرآن الكريم، أو إلى أصول العقائد بل وتفاصيل كثير منها في القرآن الكريم، أو إلى أصول الأحكام لو جدتها في القرآن الكريم، فالقرآن شامل كامل مهيمن على جميع شئون الحياة. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 5 الحفظ الخاصية الأولي: خاصية الحفظ {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ولذلك قيض الله تعالى للقرآن منذ نزل من يحفظه، من الصحابة ومن بعدهم، في الصدور وفي السطور، وبلغت عناية المسلمين بالقرآن الكريم وتدوينه، وكتابته، وحفظه، وضبطه، شيئاً يفوق الوصف، حتى إن جميع حروف القرآن وكلماته مضبوطة محفوظة بقراءاتها المختلفة لا يزاد فيها ولا ينقص، وبدقة متناهية، حتى إن الرسم الذي يتناقله الناس لهذا القرآن اليوم هو الرسم الذي كتبه به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نحو ألف وأربعمائة عام، لا يختلفون في حرف واحد من القرآن الكريم زيادة ولا نقصاً. وقد ذكر بعض المفسرين كـ القرطبي وغيره، قصة طريفة تتعلق بحفظ القرآن الكريم، وذلك أن المأمون كان يجالسه رجل من اليهود، وكان رجلاً ذكياً نابغةً عالماً ينادم المأمون، ويتحدث معه في مجلسه، فأعجب بعقلة وذكائه وقال له: لماذا لا تسلم؟ قال: لا أسلم، فحاول أن يدعوه إلى الإسلام؛ لكن هذا اليهودي أبى وأصر على دينه ورفض الإسلام، فغضب منه المأمون وطرده من مجلسه، فانقطع عن المأمون فترة طويلة، ثم جاءه بعد زمان طويل بعد سنين يستأذن عليه، فلما مَثُلَ بين يديه قال: يا أمير المؤمنين، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فتعجب الخليفة لذلك وقال: بالأمس كنت أدعوك إلى الإسلام، وأنت نديمي، وصديقي، وجليسي، فكنت تأبى وتصر على رغم أن كثيراً من الناس يقبلون ولو مجاملة ولو من أجل مطمع دنيوي، أو مغنم عاجل، وأنت تصر على دينك الباطل، فما بالك أسلمت الآن؟! قال: إنني بعد ما خرجت من عندك بلوت الأديان كلها، وكان الرجل خطاطاً، فقال: إنني أخذت نسخة من التوراة فنسختها بخطي الجميل، وزدت فيها ونقصت كما أريد، ثم وقفت بها عند بيعةٍ من بيع اليهود بعد صلاة من صلواتهم، فلما خرج اليهود أخذوها وتداولوها واشتروها مني بأغلى الأثمان، فقلت: هذا دين لا خير فيه، يزاد فيه وينقص دون أن يعلم أهله، هذا دين لا خير فيه، فتركته. قال: ثم ذهبت إلى النصرانية فأخذت نسخة من الإنجيل فنسخت منها عدداً من الكتب بخطي، وزدت فيها ونقصت، ثم وقفت عند كنيسة من كنائسهم في عيد من أعيادهم، فلما خرج النصارى أخذوها منى وتداولوها واشتروها مني بأغلى الأثمان، قال فقلت: هذا دين لا خير فيه، يزاد فيه وينقص دون أن يعلم أهله بذلك! قال: ثم أخذت نسخة من القرآن الكريم فنسختها بخطي الجميل عدداً من النسخ، وزدت فيها ونقصت وغيرت وبدلت شيئاً يسيراً، ثم وقفت عند جامع من جوامعهم في يوم جمعة، فلما خرج المسلمون من صلاتهم أخذوا هذه النسخ وتداولوها وبدءوا يتصفحونها ويفتشونها ورقة ورقة، فعثر هذا على زيادة، وعثر هذا على نقص، وعثر هذا على خطأ، وعثر هذا على تغيير، قال: فأخذوا النسخ من حجري، وانكبوا على يركلونني بأقدامهم، ويلكمونني بأيديهم، حتى حملت من عند باب المسجد وأنا لا أعي، ثم ذهب بي إلى المسئولين وتعهدت ألا أعود إلى مثل عملي وإلا فعلوا بي وفعلوا، قال: فعرفت أن هذا كتاب محفوظ فأسلمت. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 6 عناية المسلمين بتفسير القرآن وكان من أوجه عنايتهم به عنايتهم بتفسير القرآن الكريم، فكان الصحابة يعنون بتفسير القرآن، حتى كان فيهم مشاهير كـ ابن عباس وابن مسعود؛ صرفوا حياتهم ووقتهم في فهم معاني القرآن الكريم، وابن عمر رضي الله عنه حتى إن مالكاً روى في الموطأ أن ابن عمر رضي الله عنه يقول: إنه مكث في تعلم سورة البقرة عشر سنين، فلما أتمها نحر بدنة شكراً لله تعالى، وهو لا شك أنه يتعلم البقرة ألفاظاً ومعان، وإلا فصغار الطلبة اليوم في المدارس الابتدائية يحفظون البقرة في أسبوع أو في شهر. حاشا لـ ابن عمر أن يحتاج إلى عشرة سنين في حفظ ألفاظها فحسب، بل كان يتفهمها ويتلقنها ألفاظاً ومعانٍ، وابن عباس رضى الله عنه كان يسأل عن معاني كتاب الله تعالى ويتفهمها حتى سمي ترجمان القرآن، وابن مسعود رضى الله عنه يقول كما في الرواية الصحيحة عنه: [[والله ما من آية في كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم أين نزلت وفيم نزلت، ولو أعلم رجلاً أعلم مني بكتاب الله تناله المطي لأتيته]] يعني ولو في أقصى الدنيا لأتيته، وكذلك التابعون تلقوا عن الصحابة رضى الله عنهم فكان منهم أئمة في التفسير، كـ مجاهد بن جبر المكي الذي يقول فيه سفيان الثوري [[إذا جاءك التفسير من مجاهد فحسبك به]] لا تسأل عن غيره، وليس هذا بغريب فقد تلقى عن ابن عباس، حتى إنه كان يقول: إنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها، وكذلك كما هو معروف من تفسير قتادة، وعكرمة، والسدي، وغيرهم كثير من التابعين وأتباعهم. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 7 اختلاف مناهج المفسرين تبعاً لاختلاف مذاهبهم وعلومهم ثم انتهت النوبة إلى الأئمة المصنفين، فصنفوا مئات بل ألوف الكتب في تفسير كتاب الله تعالى بمختلف الفنون، فأهل اللغة صنفوا كتباً في تفسير القرآن من النواحي اللغوية، والإعراب، والبلاغة، والبيان، والبديع، وغيرها، وأهل الفقه صنفوا كتباً في معاني آيات الأحكام، وتفسيرها، ودلالاتها، واختلاف العلماء فيها، وأهل الحديث صنفوا كتباً في جمع الروايات التي وردت في تفسير معاني كتاب الله تعالى، وهكذا أهل كل فن صنفوا كتباً في التفسير تتناول القرآن من الزاوية التي يحسنونها ويتحدثون فيها. وهذه الكتب لاشك أن فيها الغث والسمين، والقوى والضعيف، والجيد والرديء، بل إن بعض الذين فسروا القرآن الكريم، فسروه ليتوافق مع ما لديهم من الأغراض، سواء كانت حقاً، أو باطلاً. فالمعتزلة -مثلاً- منهم من فسر القرآن ليخدم مذهبه الفاسد، كما فعل القاضي عبد الجبار في تفسيره، وكما فعل الزمخشري في كشافه المعروف، حيث جعل القرآن لخدمة مذهبه الفاسد في الاعتزال، وكذلك بعض المتكلمين فسروا القرآن ليوافق آراءهم وأصولهم، كما فعل الرازي في تفسيره الكبير، والماتريدي وغيرهم، وبعض الفقهاء فسروا آيات الأحكام تفسيراً يخدم اتجاهاتهم المذهبية، ويؤيد ما اختاروه من الأقوال الفقهية، بل ووجد من الصوفية من يفسر القرآن ليخدم مذهبه الصوفي، كما فعل الغزالي وغيره، ووجد من أرباب العلوم خاصة المعاصرين من يحاول أن يحمّل القرآن وألفاظه مالا يحتمل من الدلالة على أنواع العلوم العصرية، كما فعل مثلاً طنطاوي جوهري في تفسيره المسمى بـ الجواهر والذي فيه كل شيء إلا التفسير! فهو كتاب في الفلك، والعلوم المادية، والأحياء، والفيزياء، والجيولوجيا، لكن ليس فيه شيء من تفسير القرآن الكريم! وكما يفعل كذلك بعض الذين يتحدثون عن ما يسمى بإعجاز القرآن، فإن منهم من يغلوا فيحمّل ألفاظ القرآن الكريم ومعانيه مالا تحتمل، لتوافق بعض مكتشفات ومخترعات العلم، بل بعض النظريات العلمية التي لم تصل إلى حد أن تكون حقيقة قطعية ثابتة. وهذا الخلاف الطويل العريض في تفسير القرآن الكريم؛ يوجب للمسلم الحريص على معرفة كلام الله عز وجل أن يعود إلى الأصل الأول، والمنبع الأول، الرسول عليه الصلاة والسلام وسنته الصحيحة الثابتة، فهي خير ما يفسر كتاب الله تعالى، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالبلاغ {إِنْ عليكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ علينَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ علينَا بَيَانَهُ} [القيامة:16-19] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] . الجزء: 111 ¦ الصفحة: 8 بيان النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن إذاً فالرسول عليه السلام مطالب بالبلاغ والبيان، ويا ترى ما البلاغ والبيان؟ هل يكفي أن يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم بقراءة القرآن على الناس، وتلقينهم كيف يقرءون القرآن، وهذه سورة البقرة، وهذه آل عمران، وهذه سورة النساء، والآية الفلانية تبدأ بكذا، وتنتهي بكذا، والقرآن يبدأ بالفاتحة وينتهي بسورة الناس، بحيث يضبط الصحابة ألفاظ القرآن الكريم لفظاً لفظاً، وكلمة كلمة، وحرفاً حرفاً، وآية آية، وسورة سورة، ثم يقول قد بلغتكم؟ هل يكفي هذا؟! لا يكفي، بل هذا جزء من البلاغ وهو بلاغ الألفاظ. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 9 بيان المعاني بلاغ المعاني تبليغه صلى الله عليه وسلم لمعاني كتاب الله تعالى، هي بنص كتاب الله تعالى جزء من مهمته في البلاغ، جزء من مهمة الرسول عليه السلام ومسئوليته أن يبلغ الناس ألفاظ القرآن ويبلغهم معاني القرآن، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] هذا الجزء من الآية {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] ما المقصود به؟ أي نوع من البلاغ؟ المقصود بقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] البلاغ اللفظي الذي ذكرته قبل قليل، أنه ما يكتم شيئاً من القرآن، ولا يزيد شيئاً، بل يبلغ القرآن للناس كما بلغه إياه جبريل، حتى إنه عليه السلام من شدة حرصه كان كما يقول ابن عباس كما في الحديث المتفق عليه: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان يحرك شفتيه} انظروا سبحان الله! جبريل هو المعلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتلقي المتعلم، فإذا قرأ عليه جبريل آية، أو لقنه إياها، كان عليه السلام يحرك شفتيه حتى إن ابن عباس يقول: [[فأنا أحرك شفتي كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما]] وسعيد بن جبير يقول: [[فأنا أحرك شفتي كما كان ابن عباس يحركهما]] يحرك شفتيه حتى يضبط وراء جبريل، ولا يفوته شيء، {وكان يحرك شفتيه فنزل عليه قول الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:16-17] } يقول: إن علينا أن نجمعه لك في صدرك فتقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18] يقول: اصبر حتى إذا قرأه عليك جبريل اقرأ بعده {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19] أي أن نبينه لك لفظه ومعناه. فكما بين عليه السلام البيان، وكان شديد الحرص عليه وهو البيان اللفظي ، وهو المقصود من قوله تعالى: {رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:164] وَيُزَكِّيهِمْ التزكية تعني أن يربي الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على القرآن الكريم، بحيث يتحول القرآن من مجرد كتاب مكتوب أو قرآن منطوق مقروء، يتحول إلى مع ذلك واقع وحياة عملية تتحقق على ظهر الأرض، حتى قال بعضهم: إن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم كأنه قرآن يدب على ظهر الأرض، وهذا التعبير ليس بعيداً فإن عائشة رضي الله عنها لما سئلت عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت للسائل كما في مسلم وغيره: [[أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قالت: كان خلقه القرآن]] . إذاً: هذا معنى قوله ويزكيهم، يزكيهم بالعقائد الصحيحة، والأخلاق الفاضلة، والسلوك الحسن، ويُعدهم للدور العالمي الذي ينتظرهم لقيادة البشرية. ما كان عليه الصلاة والسلام يربي أصحابه فقط حتى يكونوا عباداً، يحسنون العبادة والصلاة فقط، ولا كان يربيهم حتى يكونوا قادة وساسة وإداريين فقط، ولا يربيهم حتى يكونوا تجاراً واقتصاديين فقط، بل كان يجمع ذلك كله صلى الله عليه وسلم، فتخرج من مدرسته العلماء، والعباد، والزهاد، والمدراء، والقواد، والساسة، وأصناف البشر الذين تحتاجهم الحياة، ثم قال: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] ما هو الكتاب؟ هو القرآن، وما هي الحكمة؟ هي السنة، كما قال الشافعي: فيما نقل من جماعة ممن أرضى علمهم يقولون القرآن هو الكتاب، والحكمة هي السنة، يقول الله عز وجل: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] يعني من القرآن والسنة. إذاً: يقول: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران:164] ألم يسبق قبل قليل قوله: {يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ} [آل عمران:164] وهي القرآن، فهل قوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [آل عمران:164] هل هو تكرار؟ كلا، ليس في القرآن تكرار ليس له فائدة، فإن مقصوده -والله تعالى أعلم- بقوله: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [آل عمران:164] يعني يفقههم في معاني القرآن، إذاً في أول الآية قال: {يَتْلُو عليهمْ آيَاتِهِ} يقرأ عليهم القرآن فإذا قرأوا القرآن، وحفظوه، وأتقنوه، انتقل إلى مرحلة أخرى يعلمهم الكتاب أي: يعلمهم معاني ما حفظوا وضبطوا، ثم مرحلة ثالثة يؤدبهم بهذا الكتاب، حتى يعملوا به، ولذلك قال أبو عبد الرحمن السلمي: [[حدثني الذين كانوا يقرؤننا القرآن من الصحابة كـ عبد الله بن مسعود وغيره، أنهم كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا معانيهن والعمل بهن، قال: فتعلمنا القرآن، والعلم، والعمل معاً]] . فاضبط هذه الآيات العشرة من حيث التلاوة، ثم انتقل بعد ذلك إلى فهم معانيها، ثم انتفل بعد ذلك إلى التطبيق العملي. فإن القرآن لم ينزل ليكون مجرد كتاب يقرأ: ما أنزل القرآن كي يتلى على قبر تمدد فيه ميت لا يعي ما أنزل القرآن إلا حجة، إذاً من مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ اللفظي والمعنوي، وقد قام بمهمة البلاغ بشقيها خير قيام صلى الله عليه وسلم. أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنهم من زكاهم رب العزة عز وجل، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا عرباً، يعرفون بالسليقة معاني الكلام العربي، فبمجرد ما يسمعون يفقهون، ولذلك في مكة حتى غير الصحابة من الكفار يعرفون عموم معاني الكلام العربي، والقرآن بلسان عربي مبين، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} [إبراهيم:4] . إذاً: العرب فهموا القرآن من حيث الجملة حتى الكفار، ولذلك ردوه، وأذكر أن أحد الأئمة وهو الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقارن بين مشركي هذا الزمان، والمشركين الأولين، فيقول: إن المشركين الأولين كانوا أفقه بمعنى لا إله إلا الله ممن ينتسبون إلى الإسلام في هذا الزمان، أبو جهل وأبو لهب يفهمون معانيها في اللغة العربية، فلما سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله} عرفوا ما معنى الآيات وعرفوا أن معناها: لا عبادة إلا لله، ولا معبود إلا الله، ولا أحد يستحق العبادة إلا الله، ولذلك رفضوها وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] . لكن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر ومنذ عصور، يقولون لا إله إلا الله، ولا يفهمون منها حتى ولا المعنى الذي فهمه أبو لهب وأبو جهل، فيفهم كثير من المسلمين معنى لا إله إلا الله أنه: لا خالق إلا الله، لا رازق إلا الله، وهذا جزء من معناها، لكن المعنى الأصلي الذي أنكره المشركون هو إفراده الله بالعبادة، فالصحابة كانوا عرباً فصحاء أقحاح يفهمون معاني الكلام، ولذلك فهموا كثيراً من القرآن بمجرد تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، كما أن العربي اليوم بالسليقة يفهم من القرآن الكريم أشياء كثير لا يحتاج معه إلى الرجوع إلى كتب التفسير. فأنت -مثلاً- إذا سمعت كلام الله تعالى عن الجنة، وعن النار، وعن الرسل، وعن القرآن الكريم، تفهم معناها مباشرة، وإذا سمعت آيات المواريث فهمتها، وأشياء كثيرة تفهم بمجرد سمعاها، والصحابة رضي الله عنهم كانوا يفهمون وراء ذلك أشياء. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 10 البيان اللفظي ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ ألفاظ القرآن الكريم بلاغاً تاماً، ولم يكتم شيئاً صلى الله عليه وسلم مما أنزل عليه، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكتم شيئاً مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] آيات فيها عتاب شديد على الرسول صلى الله عليه وسلم {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] يا سبحان الله! ثم يقوم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقرأ هذه الآيات على الناس في الصلاة وفي غير الصلاة وهو المخاطب بها {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب:37] أو كذلك يكتم هذه الآية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10] عتاب شديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى) (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) (وَمَا عليكَ أَلَّا يَزَّكَّى) هل أنت مسئول عنه؟ ما عليك من حسابه من شيء، (وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى) (وَهُوَ يَخْشَى) (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (كَلَّا) يا سبحان الله! اللهم صل وسلم على رسولك محمد. إن الله تعالى اختاره على علم على العالمين، {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] اختار رجلاً يعلم أنه لن يكتم شيئاً مما أوحي إليه، حتى الآيات التي عاتبه الله فيها ولامه على بعض ما صدر منه صلى الله عليه وسلم ينقلها للناس كما هي، كما ينقل الآيات التي مدح فيها، فيقرأ على الناس قول الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقرأ عليهم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29] فكما يقرأ الآيات التي فيها اللوم والعتاب يقرأ الآيات التي فيها المدح والثناء، هذه وهذه سواء، كلام الله أُبلِّغه لي أو علي. إذاً يجزم كل موحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ القرآن الكريم لفظاً؛ بلاغاً تاماً لا ريب فيه. هذه النقطة الأولى من البلاغ اللفظي لكن تأتى النقطة الثانية وهى: الجزء: 111 ¦ الصفحة: 11 تفاوت الصحابة في فهم القرآن ومع ذلك فإنهم كانوا يتفاوتون في فهمهم للقرآن الكريم، يتفاوتون لأسباب كثيرة، ومن أسباب تفاوتهم: الجزء: 111 ¦ الصفحة: 12 تفاوتهم لاختلافهم في معرفة التواريخ والأحداث من أسباب اختلافهم رضي الله عنهم اختلافهم في معرفة التواريخ، والأحداث، والأخبار، والعلوم الأخرى التي يستفاد منها في فهم القرآن الكريم، ولذلك جاء في صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى نصارى نجران، يدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم، فكان من ضمن ما قرأ عليهم المغيرة بن شعبة سورة مريم {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فقال النصارى: يا مغيرة! كيف يا أخت هارون؟! مريم بينها وبين هارون قرون طويلة، فكيف تكون أخته؟ فتحير رضي الله عنه ولم يستطع أن يجيبهم، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، والصالحين منهم} فحل له الأشكال، وبين له أن هارون هذا المذكور في الآية، ليس هو هارون أخو موسى، لا. بل هارون آخر سموه عليه؛ لأنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء، ولذلك يكثر في اليهود -مثلاً- موسى وهارون؛ لأنهم يسمون بأسماء أنبياء، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإشكال، ولا شك أن المغيرة لو كان يعرف هذا الأمر من الأصل لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، لكن لما سأله النصارى وقع عنده الأشكال فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأجابه على ذلك. فهذه من أسباب اختلاف الصحابة في فهم القرآن الكريم، ولذلك كان الصحابة يسألون الرسول عليه الصلاة والسلام عن أشياء كثيرة من القرآن مما يحتاجون إلى بيانه فيبينه لهم، ولذلك نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين في سنته كل ما يحتاج إلى بيانه من القرآن، ولا نريد أن ندخل في جدل: هل بين القرآن كله أو بعضه؟ لأن من العلماء من يقول: ما بين الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن إلا القليل كما يقول السيوطي، ويستدلون بحديث مروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [[ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفسر من القرآن إلا آيات معدودة]] وهذا الحديث لا يصح، رواه الطبري والبزار وغيرهما، وهو معلول لأن في إسناده محمد بن جعفر الزبيري، وهو ضعيف ولا يحتج بحديثه. ومن العلماء من يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القرآن كله، ومقصودهم: أنه بين ما يحتاج إلى بيان فهناك آيات لا تحتاج إلى بيان لأنها هي بينة من نفسها، ولذلك ابن عباس رضي الله عنه كما ذكر الطبري عنه يقول: [[التفسير على أربعة أنواع: تفسير تعرفه العرب في لغتها، إذا قرئ على العرب فهموا معنى الآية، وتفسير لا يعذر أحدٌ بجهله، وذلك كتفسير الأحكام، والعقائد التي يحتاج الناس إلى معرفتها. وتفسير يعرفه العلماء وهى المعاني الخفية التي لا يعرفها عامة الناس. وتفسير أستأثر الله بعلمه]] فهذه أربعة أنواع. إذاً يوجد تفسير تعرفه العرب من لغاتها، ولا يحتاج إلى البيان. المهم والخلاصة أن كل ما يحتاج الناس إلى بيانه من القرآن الكريم؛ فقد بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 13 تفاوتهم لاختلاف مداركهم أنهم يتفاوتون في مداركهم وعقولهم، فإن الله تعالى قسم بين الخلق أرزاقهم، وأخلاقهم، وعقولهم، فهذا عقله كبير عبقري نابغة، وهذا إنسان ساذج لا يفهم من الأمور شيئاً، ولا يوردها ولا يصدرها، وأما أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أنهم كانوا يشتركون في قدر من العلم بالقرآن، إلا أن بعضهم كان يفوق بعضاً في ذلك. فمثلاً: في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن علي رضى الله عنه: أنه سئل هل خصكم صلى الله عليه وسلم بشيء من دون الناس، وقد كان الناس في ذلك العصر يتسامعون، أو أشاع الشيعة بأن الله تعالى اختص أهل البيت بأشياء، فسئل علي:هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء قال: [[لا، والذي برأ النسمة وفلق الحبة، ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا فهماً أوتيه رجل في كتاب الله تعالى، وما في هذه الصحيفة وأشار إلى صحيفة معلقة في سيفه، فقالوا: وماذا في هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل -يعني الديات- وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر]] وفيها أشياء من الأحكام، الشاهد قوله: إلا فهماً أوتيه رجلٌ في كتاب الله تعالى. إذاً: قد يؤتى أحد الصحابة أو غير الصحابة من الفهم ما لم يؤته غيره، ولذلك ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في الصحيح أنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم طهوره، أي الماء الذي يتوضأ به صلى الله عليه وسلم، فقال: {من وضع هذا؟} فقالوا: ابن عباس -وكان شاباً دون الحلم أي دون البلوغ في ذلك الوقت، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بعمله هذا، بذكائه، وأدبه- فدعا له: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل} فكان ابن عباس رضي الله تعالى عنه، لا يشق له غبار في فهمه لكتاب الله تعالى، وله في ذلك قصص وأخبار، لعل من أعجبها وأغربها قصته مع نافع بن الأزرق الخارجي الذي أرسل إلى ابن عباس يسأله عن أشياء كثيرة، وكلما سأله قال: وهل تعرف ذلك العرب في لغاتها، فيقول: نعم، ثم يستشهد ابن عباس بأبيات من أبيات العرب وهي محفوظة وهي عجب من العجب، وهو من أكثر من نقل عنه التفسير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. ولذلك أيضاً -لتفاوتهم في مداركهم- تجد الاختلاف بينهم، فمثلاً: اختلف الصحابة في معاني آيات كثيرة، وفهم بعضهم من معاني الآيات خلاف ما تدل عليه، كما سيأتي الإشارة إلى شيء من ذلك. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 14 تفاوتهم لاختلافهم في اللغة فمن أسباب اختلافهم: اختلافهم في فهم اللغة العربية، فإنهم -وإن كانوا عرباً- إلا أنهم متفاوتون في التوسع في فهم اللغة وألفاظها ومعانيها، ولذلك جاء في تفسير الطبري وغيره أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وفي رواية أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه صعد على المنبر فقرأ قول الله تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس:26-31] فقال: [[قد عرفنا الفاكهة فما "الأب"؟ ثم رجع إلى نفسه، وقال: والله إن هذا هو التكلف]] فما كان يعرف الأب تماماً وإلا فالأب معروف أنه من نبات الأرض، من رعي الأرض، لكن ما كان يعرف نوعه من بين أنواع النباتات، وفي رواية أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه سئل عن هذه الآية فقال: [[أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم]] فكانوا يتفاوتون في فهمهم للغة العربية. كما كانوا يتفاوتون في فهمهم لمراد الله تبارك وتعالى بالآية، فهذا عدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه وقصته في صحيح البخاري وصحيح مسلم من روايته، وهي في الصحيحين أيضاً بنحوه من رواية سهل بن سعد دون ذكر اسمه، أن عدي بن حاتم لما سمع قوله الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة:187] فهم أن الخيط هو الحبل المعروف، فلما نام وضع تحت وسادته خيطين، أسود وأبيض، فوضع الخيطين بجواره وصار يأكل وينظر، حتى أسفر وصار يعرف أن هذا هو الأبيض وهذا هو الأسود فأمسك، فلما أصبح غدا على الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبره، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا، إنما هو بياض النهار، وسواد الليل -الخيط الأبيض هو النهار، والخيط الأسود هو الليل- فإذا بان لك النهار -أي: طلع الصبح وطلع الفجر- فأمسك} وفي رواية أنه الرسول عليه الصلاة السلام قال له: {إنك لعريض الوساد إن كان الخيط الأبيض والخيط الأسود تحتك} وقد اختلف الشراح في معنى هذه الكلمة ولا أجد داعياً للوقوف عندها لأن الوقت يمضي. فهذا من اختلاف فهمهم لقول الله تعالى في القرآن الكريم، لأن اللغة العربية تحتمل أن يكون الخيط هو الحبل، وتحتمل أن يكون المقصود بالخيط هو الليل والنهار، فعدي فهم الأول فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم الثاني، ولا شك أن بقية الصحابة ما فهموا كما فهم عدي، بل فهموا الليل والنهار ولذلك ما وقعوا في الأمر الذي وقع فيه. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 15 أنواع بيان السنة للقرآن وأنواع بيانه صلى الله عليه وسلم في السنة أو نقول بشكل أعم: السنة النبوية تفسر القرآن الكريم. وأنواع بيان السنة للقرآن على أربعة أضرب: الجزء: 111 ¦ الصفحة: 16 بيانه بمعرفة أسباب النزول الضرب الثالث: الذي تبين فيه السنة كتاب الله، هو أن السنة تكفلت ببيان أسباب نزول القرآن الكريم، ولا شك أن من يعلم بسبب نزول القرآن يكن أقدر على فهم الآيات، وربطها بسبب النزول، ومعرفة على أي وجه أنزلت، وأضرب لذلك بعض الأمثلة. فمن أقوى الأمثلة على ذلك ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عروة بن الزبير أنه قال لخالته عائشة رضي الله عنها: يا خالة أو يا أماه -لأنها خالته وأمه في نفس الوقت، هي أمه أم المؤمنين وهي خالته فكان يقول لها: يا أماه أرأيت قول الله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] فوالله ما على أحد من جناح ألا يطوف بالبيت -هكذا يقول عروة وكان شاباً صغير السن كما يقول، قال: إن الآية تقول: ولا جناح أي لا إثم ولا حرج عليه أن يطوف بهما، ففهم كأن الآية تقول: لا مانع أن يطوف- فقالت عائشة: [[بئس ما قلت يا ابن أخي، إنه لو كان الأمر كما تقول لكانت الآية: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)) وإنما كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية يهلون لمناة الطاغية التي يعبدونها بالمشكلة وهو صنم يعبدونه بالجاهلية، فكان من أَهَلَّ لمناة يتحرج أن يطوف بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أي قال الأنصار لرسول الله: يا رسول الله نحن كنا في الجاهلية -معشر الأنصار- لا نسعى بين الصفا والمروة- كل من أحرم وأهل بمناة عادة ودين لا يسعى بين الصفا والمروة، فبين الله عز وجل أن هذا دين باطل وأن كل إنسان يسعى بين الصفا والمروة]] قال عروة: فحدثت بذلك، حدث به أبا بكر فقال أبو بكر بن الحارث: والله إن هذا لعلم، وقد حدثني من سمعت من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بقية الصحابة -غير الأنصار- كانوا في الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام تحرجوا أن يطوفوا بينهما؛ لأنه أمر كانوا يفعلونه في الجاهلية فتحرجوا أن يفعلوا في الإسلام شيئاً كانوا يفعلونه ف الجاهلية، فنزل قول الله تعالى: {فَلا جُنَاحَ)) أي: لا حرج عليه أن يطوف بهما. إذاً الآية نزلت للأمرين كلاهما، نزلت تقول للأنصار: طوفوا بين الصفا والمروة خلافاً لما كنتم تفعلونه في الجاهلية يوم كنتم تهلون لمناة، ونزلت تقول للمهاجرين ولسائر المسلمين: طوفوا بين الصفا والمروة كما كنتم تطوفون بهما في الجاهلية، لأن هذا من شعائر الله وليس من عادات الجاهلية. إذاً معرفة سبب النزول هاهنا تبين معنى الآية بياناً شافياً. مثله أيضاً قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة:198] ما المقصود بالفضل؟ يشمل الدعاء، والذكر، والأجر، فالآية شاملة جامعة لهذا كله، لكن من معاني الفضل: التجارة في الحج، وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه كما في البخاري أنه قال: كانت العرب في الجاهلية لها أسواق عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فكانوا يتاجرون بها، فكان الرجل يذهب للتجارة وللحج فتحرجوا من ذلك، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] أي: لا مانع أن يذهب الإنسان للحج ويتاجر في الحج، يكون قصده الحج وأيضاً بهدف التجارة في الحج، لا مانع من ذلك، فبين سبب النزول معنى الآية. ومثله قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] ما المقصود بالتطهر؟ ثبت عند أبي داود والترمذي من حديث أبي هريرة، وعند غيرهما من حديث عويمر بن ساعدة، وهو حديث صحيح بمجموع طرقه أن هذه الآية نزلت في أهل قباء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم فقال: {إن الله يثني عليكم يا أهل قباء، فماذا تصنعون؟! قالوا: يا رسول الله إنا نجاور هذا الحي من اليهود وكانوا يتطهرون فيستنجون بالماء، -يستخدمون الماء في الاستنجاء- قال: بهذا أثنى الله عليكم} وهناك رواية مشهورة {أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء} عند البزار وهذه رواية ضعيفة جداً، ليست صحيحة، وليس المقصود أنهم كانوا يتبعون الحجارة بالماء أي: يستنجون بالحجارة ثم بالماء، بل كانوا يستنجون بالماء ليس بالحجارة. مثله قوله تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48-49] هذه الآية يستدل بها أهل السنة والجماعة على إثبات القدر، وأن كل شيء بقدر وقضاء من عند الله تعالى، وقد رأيت بعضاً من ينكر ذلك ويقول: إن معنى الآية خلقناه بقدر، يعني مقدراً مفصلاً مناسباً لأوانه ووقته وزمانه، وهذا لا مانع أن يكون جزءاً من معنى الآية، لكن أيضاً بقدر يعني مكتوباً عند الله تعالى، والذي يفصل هذا ويبين المعنى الصحيح للقدر هو ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة في سبب نزول هذه الآية: {أن المشركين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر، فنزلت هذه الآية} . الجزء: 111 ¦ الصفحة: 17 بيانه بفعل النبي صلى الله عليه وسلم الضرب الرابع: من أضرب بيان الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن هو بيانه للقرآن بفعله، ولذلك قال بعض الأئمة المهتدين في هذا العصر لما سئل عن تفسير القرآن، قال: أعظم كتاب نفهم منه تفسير القرآن هو سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن سيرة النبي عبارة عن ترجمة عملية للقرآن الكريم، بأقواله، وأفعاله، وتقريراته عليه الصلاة والسلام، ولذلك عائشة قالت: {كان خلقه القرآن} كما أسلفت، وجابر أيضاً قال كما في صحيح مسلم في حديثة الطويل في سياق حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، وعليه ينزل القرآن، وهو يعلم تأويله فما فعل من شيء فعلنا مثله]] يعنى: في الحجة وغير الحجة. ومن أمثلة أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم التي تفسر القرآن: صلاته عليه السلام حيث قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} فالصلاة كلها داخلة تحت قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام:72] . وحج عليه السلام ونسك المناسك كلها من الإحرام، والطواف، والسعي، والوقوف، والنحر، وقال: {خذوا عني مناسككم} فكل أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج داخلة في تفسير قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] . وهكذا بين لنا أحكام الصيام، فكلها داخلة تحت قوله تعالى: {كُتِبَ على كُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] . ويبين لنا مقادير الزكاة فكلها داخلة تحت قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] . ومن الأمثلة التفصيلية لذلك -على سبيل المثال- يقول الله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:78] هذه الآية تحدد مواقيت الصلوات الخمس، لدلوك الشمس يعني: زوال الشمس، إلى غسق الليل يعني: منتصف الليل، وقرآن الفجر يعنى: صلاة الفجر، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالبيان الكافي الشافي بالقول والفعل، فلما زالت الشمس صلى الظهر، وهذا هو دلوك الشمس، إلى غسق الليل -وطبعاً صلى العصر قبل الغروب فهذا وقت صلاة الظهر والعصر- ولما غابت الشمس صلى المغرب، ثم أخر العشاء في بعض الأوقات إلى ما قبل نصف الليل، ليبين أن هذا آخر وقت العشاء، فبدأ بدلوك الشمس وهو الزوال، وانتهى بغسق الليل، ثم صلى الفجر حين طلع الفجر فهذا قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] . ومثله أيضاً في الحج: السعي بين الصفا والمروة فإن الله قال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة:158] وهذا يدل على أنه لا يحرم السعي بين الصفا والمروة أيضاً ولا يجب، لكن لما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم علم أنه واجب، ولذلك قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث السابق: {والله ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة} . إذاً: كل أفعاله صلى الله عليه وسلم هي بيان للقرآن الكريم وكذلك أقواله، ولذلك ذهب من ذهب من أهل العلم كـ الشافعي إلى أن كل السنة إنما هي استنباط من القرآن الكريم، فهمها منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبذلك نعلم أن القرآن والسنة متلازمان مترابطان، وأنهما لايفترقان إلى يوم القيامة، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، وإنما تحدثت في هذا الموضوع لأشيد وأبين أهمية السنة في فهم كتاب الله تبارك وتعالى، وأنه لا يمكن أن نفهم القرآن إلا على ضوء السنة، وأعتبر أن هذه المحاضرة هي الدرس الثاني ضمن الدروس التي كنت وعدت بها سابقاً بعنوان: (دفاع عن السنة النبوية) وسبق أن ألقيت المحاضرة الأولى منها في حائل قبل نحو شهر وكانت بعنوان (دفاع عن السنة) وهى لبيان مكانة السنة النبوية في الإسلام، وهذا هو الدرس الثاني من هذه الدروس وهو لبيان تفسير السنة النبوية للقرآن الكريم. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 18 بيانه بالاستنباط النبوي منه الضرب الثاني: هو ما جاء في السنة النبوية استنباطاً واستخراجاً من القرآن الكريم، فهو تفصيل لمعانيها، وهذا ضرب لطيف، أن تستخرج الآيات التي تدل على الحديث، أي: تأتي إلى معنى جاء في السنة؛ فتستخرج من القرآن ما يدل عليه، وهذا أسلوب لطيف عني به الحافظ ابن كثير في تفسيره، وبعض طلبة العلم في هذا العصر يحاولون أن يجمعوا كتاباً يشمل كل ما ورد في السنة النبوية مما يعتبر مستخرجاً من القرآن الكريم، استنباطاً من النبي صلى الله عليه وسلم. ومن لطيف ذلك -مثلاً- قوله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد} هل تعرفون آية من القرآن الكريم تدل على هذا المعنى؟ نعم، إنها قوله تعالى: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] . أيضاً جاء في مسلم قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الإنسان إذا ذكر الله عند دخوله وعند عشائه، قال الشيطان لجنوده: لا مبيت لكم ولا عشاء، فإذا نسي ذكر الله عند الدخول قال الشيطان: أدركتم المبيت، فإذا نسي ذكر الله عند العشاء قال الشيطان أدركتم المبيت والعشاء} هل تعرفون الآية التي تدل على هذا المعنى؟ نعم، إنها قوله تعالى: {وَاسْتَفْززْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء:64] إذاً: من مشاركته في الأموال أن يأكل معك، ويشرب معك، وينام معك، ومتى ذلك؟ إذا لم تذكر الله تعالى. ومن لطيفها -أيضاً- قوله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن علي يوم الأحزاب أنه صلى الله عليه وسلم قال: {شغلونا عن الصلاة الوسطى، صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وأجوافهم ناراً} والحديث نفسه جاء في صحيح مسلم عن ابن مسعود، ففي القرآن الكريم ما يمكن وهذا ليس جزماً، بل هو ظن والعلم عند الله تعالى، ونستغفر الله أن نقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا نعلم أن في القرآن ما يمكن أن يستأنس به على أن الرسول صلى الله عليه وسلم فهم أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} [النور:58] فهذه الآية تدل على أن الأوقات تبدأ بالفجر وتنتهي بالعشاء، إذن يكون الوقت الأوسط هو العصر، قبله الفجر والظهر وبعده المغرب والعشاء، فبدأ بقوله، من قبل صلاة الفجر، وانتهى بقوله: من بعد صلاة العشاء، إذن أول الأوقات هو الفجر، ولذلك سلك بعض الفقهاء وكثير من المحدثين في مسلك ذكر المواقيت في الفقه، أن يبدء بميقات صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، وبعضهم يبدأون بالظهر، والأجود أن يبدأ بالفجر، وإن كان الأمر في ذلك واسعاً. ومثل ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} . وفي السنن عن بريدة وغيره: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن تركها فقد كفر} ففي القرآن الكريم ما يدل على أن ترك الصلاة كفر، وقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فهم هذا من كتاب الله تعالى واستنبطها من كتاب الله تعالى، وذلك كما في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] فكأن الآية تدل على أن مالم يؤد الصلاة يكن من المشركين، وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] فقد روى البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن هذه الآية تنزلت لما حولت القبلة إلى الكعبة، فقال المسلمون: فكيف بمن ماتوا قبل تحويل القبلة وكانوا يصلون إلى بيت المقدس؟! فقال الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: ليضيع صلاتكم إلى بيت المقدس، فسمى الصلاة إيماناً، والله تعالى يقول: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5] ومن الكفر بالصلاة تركها بالكلية، فإن هذا كفر بها، فقد يكون الرسول صلى الله عليه وسلم استنبط من هذه الآية أو من غيرها ما قرره في كفر تارك الصلاة. ومثل قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن جابر {أن بني سلمة -وهم حي من الأنصار- كانوا بعيدين من المسجد، فأرادوا أن يبيعوا منازلهم لينزلوا بقرب المسجد، فلما علم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بني سلمة دياركم تكتب آثاركم} أي: الزموا دياركم وابقوا فيها وكأنه صلى الله عليه وسلم كره أن يعروا المدينة فأحب أن يكون أهل الخير منتشرين في البلد، فلا يكونون موجودين فقط حول المسجد وبقية الأحياء تخلو منهم. فقد يكون صلى الله عليه وسلم فهم ذلك واستنبطه من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] فمن الآثار التي تكتب: خطاك إلى المسجد ذاهباً وآيباً. ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث عمرو بن حزم عن أبيه، عن جده، عند مالك في الموطأ، والحاكم، وحكيم بن حزام وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يمس القرآن إلا طاهر} يعني: متوضئ؛ هذا معنى طاهر، هذا المعنى قد يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد استنبطه، والحديث حسن بمجموع طرقه، وله ما يشهد له، والمقصود بالطاهر على الراجح من أقوال أهل العلم: هو المتوضئ الطاهر من الحدث الأكبر والأصغر، فقد يكون استنبط ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة:77-80] . فقوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وكل ما بعده وصف له، فهو في كتاب مكنون، وهو لا يمسه إلا المطهرون، وهو تنزيل من رب العالمين، ولذلك استدل أهل العلم على تحريم مس المصحف لغير المتوضئ من هذه الآية. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 19 بيانه بقول النبي صلى الله عليه وسلم الضرب الأول: بيان القرآن بالقول: أي بقوله صلى الله عليه وسلم وهذا كثير جداً، حتى صنف فيه العلماء مصنفات مستقلة، مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير ابن مردويهوتفسير ابن أبي حاتم، وتفسير الطبري، وجمع السيوطي في كتابه الدر المنثور في التفسير بالمأثور جمع من ذلك أشياء طيبة، وكثير من كتب السنة تفرد باباً خاصاً بالتفسير النبوي، فمثلاً جامع الأصول لـ ابن الأثير خصص مجلداً تقريباً للمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير القرآن، ولم يستقص ما في الكتب الستة وهي: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ومالك في الموطأ، ولم يستقص، بل فرق بعضها في مواضع أخرى، وهو قريب من مجلد كامل. إذاً: فقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم وفسر أشياء كثيرة من القرآن الكريم بقوله صلى الله عليه وسلم، ومن أمثلة تفسيره صلى الله عليه وسلم للقرآن ما جاء في الصحيحين عن كعب بن عجرة في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] فقوله: من صيام، أو صدقة، أو نسك، هذا مجمل يحتاج إلى تفسير، ما الصيام؟ ما مقداره من الصدقة؟ ما النسك؟ ففي الصحيحين: أن كعب بن عجرة قال: أتى بي إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك ما أرى! فهل تجد شاة؟ أو هل تستطيع أن تصوم ثلاثة أيام؟ أو تطعم ستة مساكين؟ أي ذلك، وأمره صلى الله عليه وسلم أن يحلق رأسه} . فبين عليه الصلاة والسلام تفسير هذه الآية في هذا الحديث. كذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] بينها الرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك حين تطلع الشمس من مغربها فقال: {إذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فحينئذٍ لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً} . كذلك ما ورد في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ثم قال: ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي} ففسر القوة بالرمي، الرمي بكل شيء، الرمي بالبندقية، وبالمدفعية، الرمي بأي شيء. ومثله -أيضاً- قوله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق:8] فعن عائشة رضي الله تعالى عنها في الصحيحين: {أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إنما هو العرض، من نوقش الحساب عذب} فبين صلى الله عليه وسلم أن المقصود بالحساب اليسير هو أن تعرض عليه أعماله وذنوبه ولا يناقش عليها، وإلا لو نوقش الحساب وحوسب لعذب. ومثله -أيضاً- ما جاء في حديث البراء في الصحيحين في تفسير قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] قال: {إن المؤمن إذا حُضر يشهد أن لا اله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] } وأمثلة ذلك كثيرة جداً، فهذا هو الضرب الأول أن يبين الرسول صلى الله عليه وسلم مراد كلام الله تعالى بكلامه. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 111 ¦ الصفحة: 21 محاربة الشيطان السؤال يقول: أحياناً عندما يضيق صدري ألجأ إلى قراءة القرآن الكريم، لكن أجد صدري لا ينشرح بل يزداد ضيقاً؟ الجواب قد يكون هذا من الشيطان أنه يحاول أن يضيق صدرك عند قراءة القرآن، لتبتعد عن القرآن، ولذلك فالعلاج أن تقرأ دائماً، فإذا عرفت أن الشيطان يحاول بشيء، فالعلاج أن تزيد، وأمعن في الأمر، فهذا كشخص يقرأ القرآن فضاق صدره، لا أقول: يترك القرآن، بل زد في القراءة، ضاق صدرك زد، لأن الشيطان ترغمه حينئذٍ، مثال آخر: إنسان يأتيه الشيطان من قبل الرياء؛ إذا قام يصلي قال له الشيطان: أنت مرائي اترك الصلاة، إذا قرأ يقول الشيطان: اترك القراءة أنت مرائي، وهكذا إذا أراد أن يتصدق قال له الشيطان: أنت مرائي، فلا يتصدق، فالعلاج ليس أن يترك العمل الصالح خشية الرياء، بل نقول: زد من العمل الصالح، واستبعد الرياء، واستعذ بالله من الشيطان الرجيم، أما إذا وسوس لك بالرياء ثم أنت تركت العمل؛ فقد عرف طريقتك وبدأ يسلك معك هذا الأسلوب ويعاملك بهذه الطريقة. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 22 تعريف بالغزالي السؤال ذكرت فيمن فسر القرآن حسب معتقده الغزالي، من هو الغزالي؟ الجواب الغزالي هو الإمام أبو حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 23 ترك مجالس العلم خشية إقامة الحجة السؤال لي صديق أدعوه كثيراً لحضور مثل هذا المجالس، لكنه يقول: أخشى أن أسمع شيئاً ولا أعمل به فيكون حجة علي فما ردكم عليه؟ الجواب هذا مسكين، ما سمع بالقرآن؟ هذا وسواس من الشيطان الرجيم، إذا سمع بالقرآن فالقرآن حجة عليه، فالقرآن يأمره بالعلم والتعلم، ولذلك إذا ارتكب خطأ بسبب الجهل الذي كان يستطيع أن يتعلمه من خلال هذه المجالس؛ لكان غير معذور بهذا الجهل لأنه تركها خشية أن يتعلم. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 24 تأخير الصلاة السؤال سمعت الشيخ محمد بن عثيمين في نور على الدرب يقول: إنه من أخر الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر لم تقبل منه، ونحن شباب نخرج إلى البر في المساء ولا نعود إلا في وقت متأخر من الليل، ولا نصلي صلاة العشاء بحجة أن وقتها طويل، ثم نتفرق دون أن نصلها جماعة، وبعضنا ينسى فلا يصلي إلا بعد خروج الوقت، أو بعد يوم أو يومين إذا ذكر، فهل نحن آثمون، مع أنه ليس لنا عذر في ذلك سوى النسيان والتفريط؟ الجواب ما دمتم في البر لا تسمعون المؤذن؛ فلا بأس أن تؤخروا صلاة العشاء إلى آخر وقتها، وآخر وقتها من ثلث الليل الأول إلى منتصفه، فإذا كان الليل -مثلاً- اثنتي عشرة ساعة، يبدأ الوقت الفاصل بالنسبة لصلاة العشاء بعد مضي أربع ساعات منذ غروب الشمس إلى ست ساعات، فما بين أربع إلى ست ساعات هذا وقت صلاة العشاء الفاضل، وما قبلها بعد خروج المغرب وقت العشاء، أما تأخير العشاء بعد ذلك بغير ضرورة؛ فإنه لا يجوز مطلقاً، لكن لو أخرها إلى وقت الفجر أي بعد نصف الليل؛ فإنه يصليها على الراجح في نظري من أقوال أهل العلم، يعني لو ما صلاها إلا الساعة الثامنة يكون آثماً مفرطاً، لكن لو أخرها إلى ما بعد طلوع الفجر فهذا هو الذي قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة من أهل العلم والشوكاني وهو رأي جماعة من فقهائنا المعاصرين أنه إذا أخرها حتى خرج وقتها بالكلية لا يصليها، فهؤلاء الإخوة لا شك أنهم إذا فرطوا وأخروا الصلاة حتى خروج وقتها فإنهم يأثمون بذلك فلا يجوز لهم تأخيرها. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 25 إفساد العامل على صاحب العمل السؤل: رجل استقدم عاملاً للعمل في محل يدر عليه رزقاً بتوفيق الله، وهذا العامل مخلص وأمين، وقد أعجب أشخاصاً آخرين كثيرين وطلبوا منه أن يستقدم لهم عمالاً مثله في الأمانة والإخلاص، فبدأ بهذه المهمة، وأخذ يتغير كثيراً في عمله ويتساهل في عمله لكونه يأخذ على هؤلاء العمال الذين يستقدمهم مبلغاً، مما أضر به كثير وأفسدوه عليه، فما حكم تصرف هؤلاء؟ وما حكم كسبهم من وراء العمال الذين يستجلبونهم بهذه الطريقة؟ الجواب المسلم أخو المسلم يتعاون معه في أمور الخير، فإذا كان هؤلاء فيما طلبوا من هذا العامل لم يشقوا عليه مشقة يترتيب عليها تقصير في عمله، فكان ينبغي أن يكون هذا الأمر تعاوناً، كان ينبغي عليهم هم أن يتم الأمر عن طريق الكفيل، حتى يأتوا البيوت من أبوابها، أما وقد حصل الأمر ووقع الخطأ منهم، فأرى أن على الكفيل أن يحتسب الأمر عند الله ويقول: إخواني المسلمين وإن أخطأوا علي أتحمل هذا الأمر منهم، وينبغي أن ينصح هذا العامل ويبين له أنه لا يغتر بكونه فلان وفلان قد يغرونه، أو قد يستقدمونه أو ما أشبه من ذلك فإنه إذا لم يكن جاداً في عمله وتدرب على الكسل والإهمال فلم يعبأ به أحد. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 26 قراءة الأئمة من أواخر السور السؤال نلاحظ كثيراً من ألائمه يقرءون أواخر السور، وكنت أنا ممن يعمل ذلك فأخبرني أحد الإخوة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر عنه أو يعلم عنه أنه قرأ سورة ما في كتاب الله من آخرها، إنما يبدأ السورة من أولها ولا ينتقل عنها إلى سورة أخرى فهل هذا صحيح؟ الجواب نعم، لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الصلاة أواخر السور كما هو موجود عند كثير من الأئمة اليوم، لكن أواخر السور قرآن كأوائلها وكأواسطها، فالذي ينبغي للإمام أن يقرأ في الصلاة من أول السورة وأوسطها وآخرها ولا شيء في ذلك إن شاء الله. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 27 الحث على بعض الكتب السؤال أريد تكوين مكتبة في منزلي فما هي الكتب التي ترشدني باقتنائها؟ الجواب بالنسبة لكتب التفسير فقد ذكرتها، أما ما يتعلق بكتب الحديث فأنصحك بالكتب الستة وجامع الأصول، ومجمع الزوائد، وفى مجال العقائد أنصحك بكتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وفى مجال الأحكام الشرعية أنصحك بعدد من الكتب منها كتاب العدة إن كنت مبتدئاً، ومنها الكافي إن كنت متوسطاً، والمغني إن كنت متوسعاً، أو اجمعها كلها، ويمكن أن تضيف إلى ذلك كتاب ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد، وكذلك كتاب فقه السنة لـ سيد سابق، ونيل الأوطار للشوكاني، والمحلى لـ ابن حزم فهذا حسن جيد، اجمع مجموعة من كتب السيرة النبوية مثل سيرة ابن هشام وغيرها، كذلك اجمع بعض الكتب المعاصرة المفيدة التي تسلم من الأخطاء وهي كثيرة. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 28 اختلاف الحدود السؤال يقول: من المعلوم أن الله تعالى قد جعل جزاء القاتل القتل، وجزاء الزاني الرجم، ونعلم أن القتل أشد من الزنا، فما الحكمة من أن القاتل يقتل بالسيف دون أن يعذب، والزاني يرجم حتى يموت، وفي ذلك أشد التعذيب له وقتل في آن واحد، أرجو من فضيلتكم توضيح هذا وجزاكم الله خيراً؟ الجواب القاتل يقتل، هل يقتل بالطريقة التي قَتل بها، أو يقتل بالسيف خلاف بين أهل العلم، فمنهم من يقول يقتل كما قَتل، إن قتل بالسيف يقتل بالسيف، وإن قَتل بالحجارة قُتل بالحجارة، كما ورد في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم رض رأس يهودي بين حجرين} لأنها رضت رأس جارية، وهذه ناحية ينبغي أن يفهمها السائل. أما بالنسبة للزاني وأنه يرجم فذلك لأن كل جزء من جسد هذا الزاني خاصة المحصن قد تلذذ بهذه المعصية، وكل موضع من البدن قد ثار وتفجر أثناء الشهوة، فكانت العقوبة أن ينال التعذيب كل موضع من البدن وهذا مجرد التماس. لكن فيه أمر أكبر من هذا وأعظم وهو الأصل أن نقول: إن القضية مرتبطة بالدين أصلاً، ولذلك العلماء يقولون الكفارات وغيرها ليس فيها قياس، ولا تضرب لها الأمثال، إذا أنت مقتنع بأن الله هو الإله الذي يعبد ويشرع، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يبلغ، وأنا وأنت نتلقى مادام اقتنعنا بالله تعالى وآمنا به وبأسمائه وصفاته واقتنعنا بالرسول صلى الله عليه وسلم وأنه صادق فيما بلغ، ما عندنا مجال، حتى لو جاء الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم على خلاف ما نتوقع، ليس بغريب، لأن عقلي وعقلك قد يكون قاصراً في كثير من المجالات، وهذه قضية ينبغي أن يتربى عليها كل إنسان. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 29 حسن الصوت في الإمامة بالناس السؤال يقول: أنا شاب ملتزم والحمد لله الجماعة يقدموني للصلاة بهم أحياناً لحسن صوتي، مع العلم بأني أقرؤهم لكتاب الله، فأتقدم وأحسن من صوتي لعلمي السابق بذلك، وأخشى من الرياء والإعجاب؟ الجواب لا، ليس في ذلك رياءً ولا إعجاب، لكن استعذ بالله من الشيطان الرجيم إن عرض لك الشيطان، وقل: اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 30 الاستسماح للغيبة السؤال أنا شاب متمسك بدين الله والحمد لله إذا كان على إثم قبل التمسك بدين الله مثل الغيبة والنميمة، فهل عليَّ أن أذهب لمن أخطأت في حقه وأطلب منهم السماح؟ الجواب إن كان هؤلاء الناس من ذوي الأريحية والنفوس القوية، فاستأذن منهم واستسمحهم، وإن كنت تخشى أن يقع في نفوسهم شيئ ويحقدون عليك ويكرهونك فلا تخبرهم، ولكن أكثر من الاستغفار لهم وأمدحهم بما تعلم فيهم من الفضائل. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 31 مباشرة الحائض السؤال ما حكم مباشرة الحائض فيما دون الفرج والإنزال من جراء ذلك؟ الجواب لا بأس في ذلك، الصحيح أنه جائز بالقبلة والضم وغير ذلك من أنواع المباشرة في غير الفرج لما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اصنعوا كل شيء إلا النكاح} وفي المسألة أقوال أخرى. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 32 إعادة أمانة لورثة متوف ٍ السؤال يوجد لدي ثلاث أشرطة غنائية لشخص قد توفي، وقمت بمسح الغناء بمحاضرات دينية وتبرعت بقيمة الأشرطة لصالح المتوفي، فهل هذا يكفي؟ أم أن أعيد قيمتها لورثة المتوفى؟ الجواب لابد أن تعيد قيمة الشريط فارغاً لورثة المتوفى، لا ترده بما فيه من أغانٍ، جزاك الله خيراً، إذا أعدته وفيه المحاضرات طيب، لكن إذا كنت تريد أن تقول: أنا لا أريد أن أدفع إلا ما علي، نقول لك: كم قيمة الشريط فارغاً؟ ريال، إذاً ادفع لهم ثلاثة ريالات. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 33 التسمية بكريّم السؤال هل يجوز تسمية كريّم. أم لا، أفيدوني؟ الجواب يجوز تسمية الولد كريم، أما إذا كان اسمه عبد الكريم ويسمى كريّم تصغيراً له فلا أرى هذا، أرى أن لا يفعل. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 34 صلاة الاستخارة السؤال كيفية صلاة الاستخارة، وما هو الدعاء المأثور في ذلك؟ الجواب ركعة الاستخارة إذا هَمَّ الإنسان بأمر وتردد لا يعرف وجه الصواب فيه؛ يركع ركعتين من غير الفريضة في أي وقت فإن كان وقت نهي أجلهما إلا إن كانت الاستخارة تفوت، فيصلي ولو كان في وقت نهي فيصلي ويقول -إما في السجود أو قبل السلام- ثم يقول: (اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك فإنك تعلم ولا أعلم، وتقدر ولا أقدر وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن في هذا الأمر -ويسمي الأمر- خير لي في ديني، ودنياي، وعاجل أمري وآجله، فاقدره لي، ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به) . وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 35 ترك حفظ القرآن خشية نسيانه السؤال ما رأيك فيمن يقول: إنا لا أريد أن أحفظ القرآن خشية أن ينالني الوعيد الشديد إذا نسيته؟ الجواب الحديث الوارد: {عرضت على ذنوب أمتي فلم أجد أعظم ذنباً من رجل حفظ آية من كتاب الله ثم نسيها} ذكر بعض أهل العلم أنه ضعيف وعلى رأسهم سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله باز، فلا يحتج بالحديث، ولذلك الذي يترك حفظ القرآن خشية نسيانه هذا مخطئ، لكن احفظ القرآن واعمل على أن لا تنساه، فإذا نسيته مع اجتهادك فأنت إن شاء الله مأجور ولا إثم عليك. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 36 التكرار في الحفظ السؤال ما هي الطريقة المثلى لحفظ القرآن؟ وقد حاولت عدة مرات ولكني عجزت؟ الجواب لابد من التكرار، وأذكر أن الإمام أبا إسحاق الشيرازي -وهو من أحد فقهاء الشافعية وأصولهم ومقدمتهم يقول: إنه إذا أراد أن يلقي الدرس على تلاميذه يقرأه مائة مرة، فلابد من التكرار، وأعرف ناساً عندهم بطء في فهمهم لكن مع كثرة التكرار يتعودون. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 37 التفسير المنصوح به السؤال ما هو أسهل وأشمل تفسير توصي به من عزم على قراءة تفسير كتاب الله؟ الجواب أولاً: أوصي من عزم على قراءة كتاب الله أن يقرأ في تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم لكتاب الله تعالى، وأتمنى من قلبي أن يوفق أحد طلبة العلم ليجمع كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم من التفسير بقوله أو بفعله في كتاب يكون بين أيدي الناس، وأرجو الله أن يوفق بعض طلبة العلم المهتمين والمختصين لذلك فحاجة الناس ماسة لهذا خاصة في هذا العصر، وما دام هذا الكتاب لم يوجد فارجع -مثلاً- إلى كتاب جَمَعَ الأحاديث الواردة في التفسير كما أشرت قبل قليل إلى جامع الأصول، وكذلك ارجع إلى مجمع الزوائد للهيثمي في كتاب التفسير، مع مراعاة استبعاد الضعيف. ثانياً: أنصح بتفسير ابن كثير أو أحد مختصراته الموثقة، فهو كتاب نافع ومفيد، هناك مختصر لتفسير الشوكاني أختصره الشيخ الأشقر، وأعتقد أن هذا المختصر سيكون نافعاً ومفيداً فأنصح به. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 38 نصيحة في الإقبال على القرآن السؤال كثير من المسلمين في هذه الأيام ليس لهم من القرآن نصيب إلا ما شاء الله، فيمر على أحدهم اليوم والشهر والسنة لا يفتح المصحف، فضلاً عمن يختم ويقرأ ويتدبر كتاب ربه، مما كان ذلك سبباً في انحرافهم ووقوعهم في المحاذير لقلة زادهم من هذا الكتاب العظيم، فهل من كلمة تحث بها في هذا الشأن؟ وتبين لهم في أي شيء فرطوا؟ الجواب هذا ليس سؤالاً بل هو نصيحة سمعتموها على لسان هذا الأخ الكريم، وهي نصيحة لي وللسائل ولكم أجميعين؛ ألا نكفر هذه النعمة التي رزقنا الله عز وجل إياها فقد سمعتم عقوبه كفران هذه النعمة، والخاسر من خسر تدبر القرآن، الآن يا إخواني كبار العلماء في آخر حياتهم لا يتأسفون على شيء مثل تأسفهم على أنهم ما صرفوا وقتهم للقرآن كله أو جله، فهذا ابن تيمية رضي الله عنه كان كل وقته جهاد وعلم وعمل -وهذا معروف- ولكن في آخر عمره تمنى لو كان قضاء جل وقته مع القرآن، وغيره كثير. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 39 المحافظة على حفظ القرآن السؤال أنا حفظ دائماً أجزاء من القرآن ولكنها تتفلت مني، فماذا تنصحني به لإنني لا أستطيع أن أحفظ القرآن؟ الجواب هناك قواعد كثيرة لحفظ القرآن، أذكر أن الشيخ عبد الرحمن بن عبد الخالق كتب قواعد في كتيب صغير مفيد يمكن مراجعته، أما من يتفلت منه القرآن، فأنصحه بكثرة المراجعة، لإنها من أهم أسباب حفظ القرآن، كذلك ضبط الحفظ أي لا تنتقل من موضع حتى تضبط حفظاً هذا الموضع، خاصة والآيات المتشابهة، تضبطها لئلا تلتبس عليك وتتقنها بدقة وتعطيها عناية خاصة، كذلك عود نفسك أن تقرأ القرآن في كل حال، عبد الصلاة في الفرض وفي النفل وأنت ذاهب وآيب؛ تقرأ بعض ما حفظت حتى لا تقوت عليك. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 40 التعريف ببعض التفاسير المعاصرة السؤال أرجو التعريف بالتفاسير التالية: في ظلال القرآن، تفسير المنار، صفوة الآثار والتفاسير والمفاهيم؟ الجواب التفاسير كثيرة جداً، قديماً وحديثاً، وأذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية له رسالة مفيدة في التفسير عنوانها (مقدمة في أصول التفسير) أنصحكم بالرجوع إليها، فإنه من خلال هذه المقدمة عمل تقييماً -كما يقال موجزاً- لبعض الكتب المشهورة كالكشاف، وتفسير ابن عطية، وتفسير الطبري، وتفسير البغوي، وتفسير الثعالبي، وغيرها من التفاسير، تكلم عنها وإن كانت كلمات مختصرة، لكن كلام ابن تيمية رحمة الله عليه ثمين ونفيس. أما بالنسبة لكتاب في ظلال القرآن فإنه تفسير معاصر للأستاذ سيد قطب رحمه الله، والكتاب فيه فوائد عظيمة جداً ومزايا، من أبرزها وأعظمها أسلوبه الفذ؛ فإن الرجل أديب بارع، ذو أسلوب قوي أخاذ، ولذلك تجد في كتابه من القوة والبلاغة والجودة والتأثير ما لا تجده في كثير من الكتب الأخرى. الميزة الثانية أن الرجل كتب تفسيره ليس فقط بعقله، ولكن بعقله وقلبه، بعاطفة حية، فأنت تشعر وأنت تقرأ هذا الكتاب أن الرجل يتكلم بصدق، هذا الذي نحسبه والله تعالى حسيبه ولا نزكي على الله أحداً، تحس بأنه يكتب بقلبه وبعواطفه، وفعلاً له وقفات مع بعض الآيات يطول العجب منها، ارجع إلى تفسير قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:2] تجد العجب العجاب، ارجع إلى تفسير قوله تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] تجد العجب في مواضع كثيرة. الميزة الثالثة: أن الرجل قتل، ونرجو أن يكون شهيداً في سبيل الله تعالى، فزكى ما كتب بدمه، وهو الذي كان يقول: إن كلماتنا وأفكارنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها وغذيناها بالدماء انتعشت وعاشت بين الأحياء، وفي لفظ يقول: إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها أصبحت حية وعاشت بين الأحياء هذه مميزات الكتاب. وعلى الكتاب بعض المآخذ، لعل أهم مأخذ أنبه إليه أنه فيما يتعلق بالتصور الاعتقادي، الجوانب الاعتقادية التفصيلية في أسماء الله وصفاته وأمور الآخرة، ولا ينبغي أن تؤخذ من هذا الكتاب، بل تؤخذ من المصادر المعتمدة، أولاً كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وتفسير الطبري وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، كذلك تفسير ابن كثير فهو من أهل السنة الجماعة، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهم، وفي الكتاب ثغرات أخرى لا أرى داعي الإطالة فيها. أما تفسير المنار فهو للشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وهو تفسير عصري، فيه فوائد اجتماعية في سنن الله عز وجل في الكون والمجتمع، وربط الإسلام بواقع الناس اليوم، ومكتشفات حديثة، والكلام عن بعض القضايا، وفيها نظرات ولمحات عقلية نافعة ونفيسة، ولكن فيه أشياء كثيرة جداً ينبغي الحذر منها، منها أنهم يغلبون النزعة العقلية في فهم كتاب الله تعالى، ولذلك جاءوا بآراء قد تكون غريبة فيها مخالفة لما عليه الجماعة، فينبغي الانتباه منه، فلا أرى أن يقرأ في تفسير المنار إلا إنسان متمكن. أما صفوة الآثار فهو للشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله ورحمنا وإياهم أجمعين، وقد صدرت منه أجزاء، وهو كتاب طيب نافع وجامع، ومؤلفة قد تعب فيه وكان رحمه الله كثيراً ما يشيد به، ويعد بإخراجه، حتى إنه مرة سئل عن كتاب في ظلال القرآن فقال: إنه هو الكتاب المناسب لهذا العصر، ولا أعلم كتاباً أفضل منه إلا كتابي (صفوة الآثار والمفاهيم) إذا كتب الله له الإتمام. وأنا أنصح بقراءة هذا الكتاب، فهو كتاب نافع ويعالج بعض المشكلات المعاصرة أيضاً. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 41 الوسائل المعينة على تدبر القرآن السؤال ما هي الوسائل المعينة على تدبر القرآن والبكاء من خشية الله تعالى؟ الجواب أن يرزق الإنسان قلباً ليناً، فهذه نعمة كبرى من الله تعالى، وأن يكون عند الإنسان عاطفة حية فهذه نعمة أخرى، والدعاء -أيضاً- من أسباب لين القلب لأنه يحقق للعبد الانكسار، وكأن العبد لا يدخل على الله تعالى من باب أوسع من باب الدعاء: الصادق ولذلك قال الله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] والنعمان بن بشير روى عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند صحيح عند الترمذي وغيره أنه قال: {الدعاء هو العبادة} . كذلك التغني بالقرآن الكريم أي ترقيق الصوت وتحسينه بالقرآن وضبط القرآن وفهم معانيه، والوقوف عند آياته، فقد كان بعض الصحابة يقف عن آية يرددها حتى الصباح ثم يمرض فيجلس في بيته أياماً يزار. الجزء: 111 ¦ الصفحة: 42 لماذا يخافون من الإسلام الصراع الأبدي بين الخير والشر، بين الإسلام والكفر، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حقيقته وأهدافه وكيفية خوض هذه المعركة، هذه أشياء قد تكون مهملة أو منسية في بعض مراحل التاريخ لأسباب كثيرة. وفي هذا الدرس المبارك يرحل بنا الشيخ سلمان العودة حفظه الله في آفاق جديدة في جوانب هذا الموضوع. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 1 وقفة مع سورة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، أنزل عليه ربه عز وجل. وبعد:- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِين َ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ * أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين:1-8] . الجزء: 112 ¦ الصفحة: 2 وهذا البلد الأمين {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين:1-2] الإشارة إلى هذا البلد الذي فيه تقطنون، وإليه يحن المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، قصبة الإسلام، وعاصمة التوحيد، ومهبط الوحي، ومنطلق الرسالة. وطأت أرضها أقدام المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشهدت تربتها البداية الأولى لدعوة الإسلام العظيمة، التي اكتسحت البلاد كلها شرقاً وغربا. فيقسم الله تبارك وتعالى بها، ويسميها البلد الأمين، كما سماها أم القرى: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى:7] ومن حولها كل بلاد الإسلام، قرى تحن إلى هذه القصبة العظيمة والعاصمة الكريمة قال الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96-97] . بلادي كل أرضٍ ضجَّ فيها نداء الحق صداحاً مغنى ودوي ثمَّ بالسبع المثاني شباب كان للإسلام حصنا تمنيت الحجاز أكون فيه فأعطى الله قلبي ما تمنى سقى الله الحجاز وساكنيه وأمطر كل ساقية ومغنى أخي إن زرت بيت الله تبغي رضاً أو تشتكي هماً وحزنا ففي تلك الرحاب عظيم أنسٍ لناءٍ إن دعاه الشوق حنا لطيبة يأرز الإيمان حباً ويشتاق لها القلب المعنى لحى الله اليهود فما أقاموا لعهد الله في المحراب وزنا ترى القدس الحزين لنا ينادي وما من سامعٍ قد هب منا ينادي المغرب المقدام مصراً ويدعو القدس لبنان المعنى ويهوى القلب شهباء المعالي وفي بغداد للإسلام معنى إذا كابول آذتها جراح ففي صنعاء إخوان المثنى ثم يقول الله عز وجل: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:5-6] وهذه الآية ذات علاقة وثيقة بموضوع الحديث إليكم هذه الليلة، فإن الله تعالى حكم على الإنسان الذي خلق في أحسن تقويم، بأنه يرد إلى أسفل سافلين، انحرافاً وظلالاً وضياعاً وتيهاً، ويستثنى من ذلك طائفة قليلة هم الذين آمنوا، قال الله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [الأعراف:179] . وفي صحيح مسلم: {يقول الله: يا آدم أخرج بعث النار. قال: يا ربي وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحدٌُ إلى الجنة} والعادة على جاري اللغة ومقتضى الفصاحة والبلاغة والبيان، أن المستثنى يكون أقل من المستثنى منه، فأنت تقول مثلاً: عندي لك عشرة إلا واحد، لكن ما تقل عندي لك عشرة إلا تسعة، وهكذا قوله -تعالى- هنا: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين:5] هو دليل على إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات قليل: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود:40] أما البقية فرُدوا إلى أسفل سافلين. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 3 حقيقة العداء بين الغرب والمسلمين لماذا يكرهون الإسلام؟ في هذا الموضوع عدة عناوين: أولها: هل الغرب علماني؟ وهل الغرب يؤمن بدين العلمانية؟ لقد ظن الكثيرون حتى من الأخيار أحياناً أن الغرب قد أصبح علمانياً، لا فرق عنده بين المسجد والكنيسة، ولا بين المصحف والإنجيل، وإنما همه قطرة النفط التي يصر على استمرار وصولها إليه، حسب رغبته وحسب مواصفاته. فهل الغرب نفسه يقبل مثل هذا التصور أو يقره، أو يوافق عليه، سواءً من الناحية العملية أو من الناحية النظرية؟ هذا سؤال؟ وإليك الجواب. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 4 حقيقة الغرب الدينية من الناحية العملية أما من الناحية العملية، فإنني قد أعددت كلاماً لأقوله لكم عن البوسنة والهرسك، وبينما نحن في الطريق إذا بنا نسمع إذاعة لندن، وإذا بها تقول كلاماً يوجع القلب، ويستخرج الدموع بالقوة من الأعين، حتى القلوب الصلدة القاسية، لا بد أن تهتز وتضطرب. يقول: إن الصرب الآن يحاصرون إحدى المدن الشرقية وذكرها، التي غالبية سكانها من المسلمين، وفر إليها سكان مدنٍ أخرى سوَّاها الصرب بالأرض، بدباباتهم ومدافعهم وطائراتهم؛ ففر السكان إلى تلك المدينة، وإذا بهم يفرون من معاناةٍ إلى معانة أخرى أشد منها. ويقول: إن السكان الآن بلا طعام، ولا شراب، ولا مؤن، ولا أغذية، ولا أدوية، وإنهم يواجهون خطر الفناء التام، بعدما فر الكثير منهم، وبقي نحو مائة ألف في هذه المدينة، حتى إن الأطباء يجرون عمليات البتر للأعضاء، الأيدي والأرجل وغيرها، دون أن يستخدموا المخدرات أو المهدئات أو غير ذلك؛ لأنهم لا يجدونها، فيبترون ساق الإنسان أو يده للحاجة وهو ينظر ويتألم ويحزن. !! ويقول: إن الصرب يضربونها الآن بشراسة، براجمات الصواريخ، والمدافع، والدبابات والرشاشات وغيرها، وإذا سقطت هذه المدينة كان الطريق أمامهم مفتوحاً تماماً إلى سراييفو، أي أن تتوجه كل قوات الصرب إلى العاصمة التي هي القلعة الأخيرة في هذه الدولة. وأيضاً سمعنا خبراً آخر، يقول: إن فرنسا قد أجلت إرسال الطائرات المروحية والجنود الذين كانت تنوي أن ترسلهم يوم الأربعاء القادم، لأسبابٍ أمنية، وبناءً على طلب الأمم المتحدة، هنا يبرز دور بطرس غالي، الذي كان من المفروض أن يطلب التدخل أصبح يطلب منهم التريث، حتى يتمكن الصرب من اقتحام سراييفو وحشد كل قواتهم حولها. الحروب كثيرة والاحتكاكات كثيرة، سواءً في الدول التي خرجت من عباءة الاتحاد السوفيتي، أو في البوسنة والهرسك والهجمات الصربية عليها كما ذكرت، وفي كل يومٍ منذ أربعة أشهر خبر تتقطع له القلوب أسى، فهذا راديو سراييفو يعلن أن جثث القتلى في الشوارع لا تجد من ينتشلها، ولا من يؤوي الفارين والمشردين، ويكفي الناس شر الجراثيم المتصاعدة منها، والروائح المنتنة. وأخبار أخرى تقول: إن مدينة سراييفوا قد هدمت بالكامل، وإنه لا يوجد ولا حتى مبنىً واحد سلم من القصف المدفعي المتواصل. وأخبار عن مدن على الحدود الشرقية بمحاذاة صربيا، على امتداد ما يزيد على ثلاثمائة كيلومتر قد دمرت بأكملها، وأبيد شعبها في مجازر وحشية تقشعر لهولها الأبدان، وأخبار عن احتلال مبنى التلفزيون، وقطع الاتصالات، ومنع الضحايا من أن ينقلوا إلى المستشفيات. وأخبار عن إحاطة الصرب بسكان بعض المدن، وحصد أهلها بالرصاص في إحدى الساحات العامة، وأخبار عن كبار السن الذين لم يستطيعوا الهرب، يقولون: إنهم لم يعانوا خلال السنوات الأربع التي شاهدوها في الحرب العالمية الثانية، شيئاً يذكر، بالقياس إلى ما عانوه في هذه الثلاثة الأشهر الماضية. وأخبار عن مدينة ذوبوي، وغالبية سكانها من المسلمين؛ أن الصرب يهددونها بالتسليم، وعندما رفضت انهالت عليهم الحمم من كل جانب، ثم قتل من قتل تحت الأنقاض، ومن هرب منهم سقط به الجسر الذي قصفه الصرب، حينما كان المسلمون يعبرون عليه، أما النازحون من المسلمين، فتقدرهم بعض الإحصائيات بأكثر من مليون ونصف. والخطورة هنا تكمن في أن تغييراً كبيراً يحدث في التركيبة السكانية للمناطق، وهذا نائب رئيس وزراء البوسنة يصرح في تركيا؛ أن الصرب يقتلون المسلمين بالهوية ويلعبون برءوسهم كرة القدم. لا تظنوا هذه مبالغات، لقد أحضر مجموعةً من الإخوة الذين ذهبوا إلى هناك، عشرات الأشرطة والصور، التي تؤكد أن ما يقال هو بعض الحقيقة وليس كلها، وقمة المأساة عندما فجر الصرب مكاناً يكتظ بأعدادٍ كبيرةٍ من المسلمين، كانوا ينتظرون دورهم لشراء الخبز، فأحالتهم قنابل الصرب إلى كتلةٍ من الدماء والأشلاء. كل ذلك يجري على أنغام الموسيقى، والأناشيد الكنسية التي تحث الشباب الصربيين المنتسبين إلى صربيا الكبرى حماة المسيحية، على أن يحتفلوا ويرقصوا على أجساد الكفار، أي المسلمين، نشيدهم المفضل يقول: أنا أشرب دم التركي أولاً، فمن يشربه ثانياً. وأما النشيد الثاني فيقول: وهي كلمة للزعيم الصربي يتناقلونها، وقد أصبحت نشيداً لهم: مستعدون أن نخسر ثلاثمائة ألف جندي؛ لإبادة الإسلام من سراييفو إلى مكة. هذه هي المأساة، فماذا كان موقف الغرب؟ كان موقفهم عبارة تعاطف كلامي: يجب على الصرب أن يكفوا وإلا! يجب عليهم أن يحترموا القرارات الدولية! تهديد بالمقاطعة! حتى كادوا أن يقاطعوا صربيا رياضياً فيمنعوا فريقها من دخول المباراة، الله أكبر!! ويقولون -عندما تدخلوا فعلاً من أجل الإغاثة والإمدادات والمعونات الإنسانية، ثم صارت الحرب- قالوا: إذا لم تتوقف الحرب فسوف ننسحب!! ثم يقولون: لقد اكتشفنا أن كلا الفريقين يمتلكون الأسلحة. والواقع أن المسلمين مساكين، في بلادهم في سراييفو العاصمة نفسها، ومع ذلك يستكثر عليهم أن يملكوا السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم، وهو سلاح بسيط وقليل، يشترى بالقرش والريال الذي يدفع من جيوبكم، أما الأسلحة الحقيقية فيمتلكها الجيش اليوغسلافي، وذهب غالبيتها إلى الصرب. هذا تعاطف كلامي من الغرب، ومساعدات إنسانية محدودة، بعد ثلاثة أشهر كان المسلمون خلالها يعيشون في السراديب، تحت وابلٍ من القصف المتواصل، وهذه المساعدات، وهذا التعاطف الكلامي تراجعت عنه أوروبا، والتفت عليه حينما طالبت المسلمين في البوسنة والهرسك بإنشاء ثلاثة كانتونات، أي ثلاثة أجهزة أو ثلاث جهات. للصرب كانتون خاص بهم أشبه ما يكون بالحكم الذاتي، لأنهم يمثلون (30%) من الجمهورية، وللكروات كانتون خاص بهم وهم يمثلون (18%) ، وللمسلمين وهم يمثلون نحو (44%) كانتون خاصٌ بهم. إذاً طالبوا بوجود جمهوريات داخل الجمهورية الكبرى، واحدة للصرب وواحدة للكروات وواحدة للمسلمين، لكن أوروبا والغرب لم يطالب صربيا بذلك، مع أننا نعلم -مثلاً- أن مدينة كوسوفو الواقعة تحت حكم الصرب، فيها مليونا مسلم؟! مليونان لم يطالبوا لهم بالحكم الذاتي، وإن السنجق نصف مليون مسلم لم يطالب لهم بالحكم الذاتي. إذاً: القضية حرب صليبية، الغرب إن لم يكن مؤيداً لها، فإنه ليس معارضاً لها، وهناك معلومات تسربت على أن رجال الأمم المتحدة يساعدون الجنود الصرب على نقل السلاح، ونحن نعلم يقيناً أن المسلمين لو كانوا نصارى؛ لكان للغرب موقف آخر، كما نعلم يقيناً أن المسلمين الذي يعيشون تحت الحصار الشديد الآن، في جبال الأكراد، أو في شمال العراق أو في جنوبه أو في وسطه، أنهم لو كانوا من النصارى لكان للغرب موقف آخر. ولما رضي أن يعيش (18) مليوناً تحت آلام الفقر والجوع والحرمان؛ حتى أصبحت علبة البيبسى كولا -إن وجدت- تباع بما يزيد على مائة ريال، وأصبحت الدجاجة -إن وجدت أيضاً، ولا يجدها إلا الخاصة وكبار الأثرياء- تباع بما يعادل خمسمائة ريال، وأصبحت المرأة حتى الفتاة الحصينة العفيفة مضطرة أن تتاجر بعرضها، وانتشرت تجارة البغاء والرذيلة، لأنها تبحث عن اللقمة التي تسد جوعتها، وأصبح الإنسان الشريف مضطراً إلى أن يقفز في الليل على أحد البيوت؛ حتى يسرق منه طعاماً يأكله من الجوع. بل وصل الحال إلى أن البعض يقتل أولاده -وحصل هذا فعلاً في العراق- لماذا؟! قال: لم أجد شيئاً أطعمهم إياه، لا أريد أن أراهم يتضورون أمامي جوعاً ثم يموتون. فلو كان هذا الشعب نصرانياً، لتنادت أمم النصارى من المشرق والمغرب لرفع هذا الظلم الواقع عليه، وكانت تستطيع أن تنتقم من طاغية بغداد بغير هذا الأسلوب. وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها إذ حبستها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فماتت فدخلت بها النار} فما بالك بشعبٍ بأكمله يموت جوعاً وعطشاً، حتى إن الإحصائيات تقول: عدد الموتى يزيد على مائة وخمسين ألفاً خلال الشهور الماضية، وغالبيتهم من الأطفال. المهم أن الغرب ينطلق من منطلق صليبي حاقد نظرياً وعملياً. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 5 حقيقة الغرب الدينية من الناحية النظرية أما من الناحية النظرية، فإنني أترك الجواب لطاغية من طغاة الغرب، وكبيرٍ من أكابرهم كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا} [الأنعام:123] . ذلكم هو رئيس النظام الدولي الجديد، ورئيس الولايات المتحدة الذي ألقى خطاباً قبل أيام هو في غاية الدهشة، وأنا أقرأ عليكم الآن أحرفاً يسيرة من هذا الخطاب، لتكتشفوا أن أكبر متحدث باسم النظام الدولي الجديد، الذي يريد أن يفرض هيمنته على العالم، يتحدث من منطلق ديني بحت، فهو يقول بالحرف الواحد: إنه لولا الإيمان وحرية العقيدة في أمريكا لما قامت هذه الدولة العظمى، ولا فتحت ذراعيها لكل المضطهدين في أوروبا وفي العالم، فمنذ أن اكتشف كولمبس أمريكا سنة (1492م) ، وكل موجوع القلب والعقل والمعدة، يحزم متاعه ويتجه إلى أرض الخير الوفير، والثروات الهائلة، والتسامح الديني. ثم يقول: يستحيل أن يكون الإنسان رئيساً لأمريكا دون أن يكون مؤمناً. قال: إنها قدسية الحياة والعمل، وإنها الشجاعة الأمينة في قول الحق وشجب الخطأ، والإيمان بالأسرة، وهي القوة الحقيقية لأمريكا، إنها حرية التفكير والخيال والإبداع والعبادة، إن بلادنا في هذا القرن اشتركت في خمسة حروب، في أماكن مختلفة في العالم؛ دفاعاً عن الحق ورفعاً للظلم عن المظلومين -هكذا يقول- ثم أشار إلى انتصار الحرية في حرب الخليج، ثم ذكر: إن الذين حرَّموا الدين على مئات الملايين في الاتحاد السوفيتي قد أعادوه مرةً أخرى، ففتحوا المعابد للصلاة والتوجه إلى الله، إن هذا انتصارٌ للإيمان، وإنها لضرورةُ حيوية، وإن كل إنسان حر في أن يعبد الله -والكلام له- على طريقته دون أن يتدخل أحد بينه وبين الله. ثم قال: إن الشاعر الأمريكي أوتيمان عندما كان يتحدث وسئل عن سر عظمة أمريكا، فقال: إيمانها بالله. ثم يقول: إن الإحصائيات الرسمية المؤكدة تقول: أن (90%) من الشعب الأمريكي يؤدون الصلاة في أوقاتها. والرجل يتكلم من خلال إحصائيات، (90%) من الشعب الأمريكي يؤدون الصلاة في أوقاتها، (90%) يتعبدون ويذهبون إلى الكنائس، والمعابد والمساجد إلى آخر الكلام. هذا الكلام تجاهلته الصحف العربية، بل وبعض الصحف الغربية، ونشر على استحياء في مجلة اليقظة العدد [1208] في شوال من عام ألف (1412هـ) بعنوان: لولا الإيمان بالله ما كانت هذه العظمة. دعونا من كل التعليقات على مثل هذا الكلام، فالرجل نحن نعلم أنه نصراني، وأنه قبل أن يخوض أي حرب من الحروب الخمس التي تحدث عنها، كان يذهب إلى الكنيسة، ويصلي من أجل الغرب ومن أجل أمريكا ومن أجل المصالح، ولكنه لم يخجل أن يتكلم بهذا الكلام الواضح البين، وأن يفخر بأن الشعب الأمريكي يؤدي الصلوات في أوقاتها. قد يقول البعض: إن هذه مناورة انتخابية وهو يستعد الآن لخوض المعركة الانتخابية. وأقول: لنفترض أن هذا الكلام صحيح، فكون الرجل يتكلم عن الدين، ويمدح الشعب الأمريكي بأنه متدين، أليس دليلاً فعلاً على أن العاطفة الدينية عاطفة قوية هناك، وأنه هو الذي قد ينجح في مخاطبتها، وأن الرئيس نفسه يتودد إلى شعبه من خلال الثناء عليه، والإطراء لتدينه ومحافظته؟ بلى. هذا من الناحية النظرية. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 6 حقيقة الغرب في القرآن الكريم النقطة الثانية: تعليم القرآن. لسنا بحاجةٍ إلى أن نثبت هذا من خلال الأدلة والوثائق، ومن خلال كلام فلانٍ أو علان، لأن القرآن الكريم قد وضع قواعد واضحة في هذا المجال، ويكفي أن أذكر بعض النصوص، والمسلم لا يقرأ القرآن من أجل التبرك فحسب، ولا من أجل الحصول على الأجر والمثوبة أيضاً فحسب، ولكنه يقرأ القرآن ليتعلم منه ما يجب أن يكون عليه اعتقاداً وقولاً وعملا. يقول ربنا جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] ويقول سبحانه: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] ويقول: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] وقس ما خفي على ما ظهر. ويقول جل وعلا: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقول: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقول سبحانه: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران:119-120] . هذا هو القرآن هذا هو الحق: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] يقرر لك عقيدة هؤلاء النصارى والمشركين واليهود بالنسبة للمسلم، وتصورهم عنه، وطموحهم في شأنه، وتمنياتهم حوله. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 7 القضية الثالثة: حربٌ أم سلام كثير من الفقهاء والكتاب يبحثون، هل الأصل في علاقتنا بالكفار الحرب أم السلام؟ هل يمكن أن تسود العلاقات الودية بين المسلمين وبين الكفار؟ بعض الفقهاء المعاصرين يميلون إلى الليونة في مثل هذا الكلام، مثل ما كتب الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله وغفر له، والدكتور يوسف القرضاوي، والشيخ حسين خالد، والدكتور وهبة الزحيلي وغيرهم كثير. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 8 قضية واضحة وأنا أرى أن أمامنا الآن قضية واضحة جداً، ليس المهم الآن هو الافتراض المثالي، المهم هو الواقع المشهود المستمر، وأعطيك مثالاً: لو عرض الإسلام بتجرد ووضوح ونقاء، وفصاحة وبلاغة، وأسلوبٍ ناجح وناضج وقوي للعالم كله، أليس من المتوقع أن يسلم أكثر الناس؟ بلى. ولا تعني هذه الفرضية أنهم أصبحوا بمجرد هذا الافتراض مسلمين، فالتاريخ كله تاريخ الحرب مع الكفار، والواقع اليوم وأمس هو واقع التوتر الدائم الذي يتوجس فيه كل من الآخر، والقضية لا تعدو أن تكون -في الغالب- نوعاً من المخادعة أو كسب الوقت -كما يقال- في نظر الطرف الآخر. فإذا قال بعض الغربيين مثلاً: موقفنا من الإسلام موقف تسامح، فهو يقصد بذلك كسب الوقت. وإذا قال بعض المسلمين -في الغالب-: إن الإسلام لا يبغض الغرب ولا يكرهه، وإنما يسالمه ويهادنه، فالواقع أنهم يعرفون في قرارات أنفسهم أن الإسلام له موقف آخر لو كان يملك القوة التي يواجه بها الغرب، والله عز وجل يقول: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] فالكفر قرين الظلم، ويقول سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] . فطبيعة الكافر في الأعم الأغلب أنه فاسد التصور، مختل التفكير، ومنحرف العقل، وهامد الإحساس والقلب، فتصوراته ومشاعره غير سوية، وقد يحتج بعض الإخوة بحالات، فيتحدث عن مسلمين يسلمون في أمريكا أو بريطانيا أو غيرها هنا وهناك، خاصةً من النساء في الغالب، وهذه تظل حالات محدودة، وأعتقد أنه من البعيد جداً تصور أن تتحول تلك الدول إلى دول إسلامية والله تعالى أعلم. وحينما تحس تلك الدول بأن الدعوة الإسلامية خطرٌ عليها؛ فسوف يضعون العراقيل والقيود في طريقها، وسيحاربونها علانيةً وبدون مواربة، وسيتخلون عن الديمقراطية والمؤسسات الليبرالية، كما يحارب المشرق والمغرب العربي الإسلام علانية. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 9 الديمقراطية الهشة إن دعاوى الديمقراطية هشة، لا يكمن أن تقاوم الإحساس بالخطر من الإسلام في الغرب، كما يحتج البعض -أحياناً- بأشخاص من المستشرقين أو غيرهم الذين قد يكون لديهم نوعٌ من الأنصاف والاعتدال في كتبهم وأطروحاتهم، وأقول: هذا الاعتدال -أحياناً- هو إمعانٌ في الخداع، فهو قد يكون معتدلاً لإقناعنا بأنصاف الحلول. مثال: أن يأتي مستشرق نعتبره من الغلاة المحاربين المتشددين، فيقول: الإسلام دين الدماء، ودين الحرب، ودين القوة، دين انتشر بالسيف. فيزعجنا هذا الكلام، فيأتي مستشرقٌ آخر ويتطوع ليظهر بمظهر المعتدل المنصف، ويقول: لا يا أخي، الإسلام دين التسامح، والإسلام دين المرونة، والإسلام دين العقل، والإسلام لم ينتشر بالسيف، والإسلام لا يرضى الحرب -أيضاً-، ولا يخوض الإسلام الحرب إلا مضطراً للدفاع عن نفسه. فنجد أنفسنا حرجين، فنوافق هذا الإنسان على أن الإسلام لا يؤمن بالحرب إلا دفاعاً عن نفسه، وبذلك نبطل مفهوم الجهاد الشرعي: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] . وأقول: قد يوجد من بين أفراد العوام في البلاد الغربية؛ من لا يحمل حقداً على الإسلام، ونحن نعرف أنه كان في الجاهلية من التاريخ العربي مشركون، مثل عبد الله بن أريقط الذي كان دليل الهجرة كما في حديث عائشة في صحيح البخاري، وذهب مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر إلى الغار، كان هذا الرجل هادياً خريتاً دليلاً، ولكنه كان مأموناً، فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه المهمة الصعبة الخطيرة. وهناك مواقف شخصية لبعض المشركين، كـ النجاشي مثلاً الذي كان ملكاً على الحبشة، قبل أن يسلم ذهب إليه المسلمون وأقاموا عنده، ومدحه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {ملكٌ عادل لا يظلم عنده أحد} كما في حديث أم سلمة وهو في مسند الإمام أحمد وغيره وسنده صحيح. لكن تظل هذه النسبة قليلة جداً ومحدودة جداً، والعبرة أيها الإخوة بالقيادات الكبرى، الرؤوس السياسية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية، والقيادات في كل مجتمع، التي تسير هذه المجتمعات، وتؤثر في سلوكها، وفي نظرتها وفي تفكيرها، وفي عواطفها، هذه القيادات في بلاد الغرب واعية ومدركة، وغير متجاهلة للعداوة الدينية بينها وبين المسلمين، وهي تستثير مشاعر الجماهير عند الحاجة، كما كان يعمل بطرس في الحروب الصليبية، لقد مسح أجزاء من أوروبا على حماره، وكان يدعو الناس إلى غزو هذه البلاد التي يقول لهم: إنها تفيض لبناً وعسلا، وتطهير بيت المقدس -كما يزعم- من الكفار، يعني بهم المسلمين. ولا زال الجميع يحتفظون بذكريات الحروب الصليبية التي قادها هؤلاء، ولقي المسلمون من جرائها أمراً عصيباً، حتى سجلها بعض الشعراء أو سجل جزءاً من المعانات يشبه ما نتحدث عنه اليوم: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب فحق ضائعٌ وحمىً مباحٌ وسيفٌ قاطعٌ ودمٌ صبيبُ وكم من مسلمٍ أضحى سليباً ومسلمةٍ لها حرمٌ سليبُ وكم من مسجدٍ جعلوه ديراً على محرابه نُصب الصليبُ دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريقُ المصاحف فيه طيب فقل لذوي الكرامة حيث كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا أما لله والإسلام حقٌ يدافع عنه شبانٌ وشيبُ الجزء: 112 ¦ الصفحة: 10 المسلمون والعرب في العقلية الغربية كيف ينظر الغرب إلينا؟ المواطن الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو الغربي، كيف يتصورني أنا؟ وكيف يتصورك أنت؟ وبشكل عام كيف يتصور العربي والمسلم؟ الجزء: 112 ¦ الصفحة: 11 الصورة التي يظهر بها العربي المسلم عند الغرب كيف يظهر المواطن العربي هناك؟ يظهر كالتالي: أولاً: إنسانٌ جائعٌ للجنس، منهمكٌ في استخدام واستغلال الفتيات المراهقات جنسياً، كل همه أن يشبع غريزته، وتظهر أفلام غربية تصور العربي بهذه الصورة فقط، وأنا أعجب حقيقةً، نحن نعرف عن أولئك الأقوام أنهم كالبهائم، يتسافدون في الطرقات، وفي الحدائق، والسيارات وفي كل مكان، ويرقصون عراةً أحياناً، ويمارسون ألوان الشذوذ الجنسي حتى مع الحيوانات، والجنس الجماعي، والشذوذ. وما أخبار الإحصائيات المذهلة عن مرض الإيدز إلا مؤشر واحد، يدل على ما وصولوا إليه من إباحية وتحلل، ومع ذلك هم لا يفتئون يذكرون ذلك عن المسلمين، حتى المواطن العادي منهم، تلاحظه في الشارع ينظر إليك، ويعتبر أن كل همك هو الجنس والجنس فقط!! وأذكر أنني سمعت من بعض الشباب العربي المسلم في فرنسا، أن بعض المحطات التلفزيونية الفرنسية تعرض فلماً عن إحدى الدول الخليجية، كل نصف شهر، وتكرر عرض هذا الفيلم حتى لا ينسى الانطباع السيئ عن المواطن العربي والخليجي حينما يظهر بغترته وعقاله، أميراً أو شخصاً عادياً أو ثرياً أو تاجراً أو غير ذلك، بالطائرة وهو ينظر بالمكبر؛ فإذا وجد في الطائر فتاة تعجبه في حسنها وجمالها؛ دعاها وأصبح يمارس معها الجنس في الطائرة، ويسكر، وبعد قليل يصطفون لأداء الصلاة. إمعاناً في إظهار التناقض لهذا الإنسان، وهم دائماً وأبداً يصورونه بصورة بشعة، تثير التقزز في نفس الطفل والمرأة والكبير والصغير والعامي وغيره. ثانياً: يصوروننا على أننا ساديون مصاصو دماء، كل همنا القتل وسفك الدماء. ثالثاً: نحن نطعن من الخلف، وليس لنا عهد ولا ميثاق. رابعاً: نحن شيوخ البترول والنفط الأثرياء، نملك الجمال والسيارات الفخمة الفارهة، ونهدد الغرب وأمريكا إذا زادوا علينا في قيمة السيارة، أن نستخدم ضدهم سلاح النفط. هذا تصويرهم للمواطن العربي والمسلم، هذه صورة تاريخية ليست جديدة، لا يستثنى منها حتى سيد البشر، سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فنحن نعلم أي عقيدةٍ يحملونها عن الرسول عليه الصلاة والسلام، هم يعتقدون وأستغفر الله عز وجل أنه كاذب فيما أخبر، ومفترٍ على الله عز وجل وأن القرآن من وضعه واختلاقه، ويصورنه في أفلامهم صوراً بشعة أستعظم أن أتحدث عنها. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 12 الغرب يعزون أسباب هذه الشخصية لأمور ومنذ قديمٍ كان الرحالة الغربيون الذين يأتون إلى البلاد العربية والإسلامية ينقلون هذه الصور، فيصورون العرب على أنهم شحاذون، وقراصنة، ولصوص، ومستغلون، يتاجرون بالرقيق والبغاء والرذيلة، الكتب الشعبية عندهم هناك تؤكد هذا المعنى وتعزوه إلى أمرين: الأمر الأول: النفسية والعقلية التي يتكون منها العربي، فمن طبيعته العداء والاستبداد والعنف والقسوة والحدة. وثانياً: ينسبون هذا ويعزونه إلى القرآن والدين، الذي يحرض العربي على القتل وسفك الدماء، -هكذا يتصورون- ولا يعرفون من هذا الدين إلا ثلاثة أمور: الأول: الرق. الثاني: السيف والقتل. الثالث: تعدد الزوجات. الرسوم والصور، أو ما يسمى بالكاريكاتيرات التي تظهر في صحفهم، كلها تصور العربي دائماً وأبداً بعباءة، وكوفية أوطاقية أو غترة وعقال، وخنجر في الماضي، أو كلاشنكوف في الحاضر، وهو حافي القدمين، ومن وراءه تظهر آبار النفط، وهو يحتضن مالاً أو دولارات أو شيئاً آخر. وفي حرب 56م صورت إحدى الصحف البريطانية ستة عشر رسماً للعرب، على أنهم معتدون، وسفاكون للدماء، وعاجزون عن زراعة الأرض أو إحيائها أو الاستفادة منها، إضافةً إلى صورة الحريم التي لا تفارق العربي، فهو يجلس على الأرض أحياناً واضعاً ساقاً على الأخرى، وبكرشٍ كبير، وأنفٍ طويل مقوس، وعينان تموران بالجشع، وابتسامة شريرة، ومن خلفه إحدى عشر امرأة، كل واحدةٍ منهن ترفع يدها وتطالب بالطلاق ولكن هيهات! وأيضاً الأفلام وهناك فيلمٌ حاز على واحد من مائة فيلم من أشهر الأفلام، يسمونه: فيلم الشيخ، يصور العربي بالأسلوب الشهواني، حيث يخطف امرأة ويجبرها على أن تحبه وتقع في غرامه بالقوة، كذلك فيلم آخر اسمه: الريشات السبع. يصور العرب كأوغاد وتجار رقيق، وغدارين ومتعصبين ومتعطشين للدماء. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 13 أهم العوامل التي ساهمت في تكوين هذه الصورة عند الغرب وهناك عوامل كثيرة ساهمت في صياغة هذه الصورة البشعة للمسلم والعربي، في نظر المواطن الغربي العادي، منها الظروف التاريخية، والحروب التي قامت بيننا وبينهم. ومنها: الدين، وهو من أهم العوامل. ومنها: التعليم الذي يعلمهم هذه الصورة منذ نعومة أظفارهم. ومنها: الإعلام، وهو في الكثير الغالب إعلامٌ مستقلٌ غير مرتبط، ويركز على هذه الصورة. ويؤسفني أن أقول: إن الإعلام حتى مع الدول التي يعتبر معتدلة، وحتى في حالة الحاجة، لا يفتأ يتحدث عن هذه الدول بهذه الصورة، فمثلاً: أثناء حرب الخليج، كان الإعلام الغربي والأمريكي بالذات، يشن حملةً شرسة على هذه البلاد، وينشر من التقارير والصور والأفلام وغير ذلك في أجهزة إعلامه ما تقشعر منه الأبدان، ليس عن العراق، بل عن دول الخليج، ومصر وبلاد الشام وغيرها. الدول التي لم تقف ضده، بل وقفت معه ضد العراق، وضد عدوان العراق على الكويت. ومن المؤثرات: السيطرة الصهيونية واليهودية، والكلام في هذا الموضوع يطول. ولكن ينبغي أن تعرف أن الرجل الأوروبي العادي أو الأمريكي العادي ثقافته محدودة، جداً، دعك من المثقفين والساسة، المواطن العادي ثقافته محدودةً، تقول له: أنا عربي -أحياناً- لو كنت بغير الملابس الخاصة بأهل هذه البلاد، لا يعرفك، ولكن يقول لك: عربي من أي ولاية؟ وربما لا يعرف أصلاً العربي، كلمة عربي أو أنه من دولةٍ معينة، مثلاً سعودي، أو كويتي، أو سوري، أو غير ذلك. هذا في الغالب ربما لا يعرف إلا مدينته، وحتى داخل مدينته يمكن يعرف الطريق إلى العمل الذي يذهب إليه والذي يرجع منه!! وبعضهم لا يعرف حتى اسم رئيس الدولة عندهم، هذا مؤكد، ليس أمراً مضطرداً، لكنه موجودٌ وبكثرة. فالمواطن العادي عندهم محدود الثقافة، ويتأثر كثيراً بما يشاهد في التلفاز، فمجرد صورة عربي بهذا الزي العربي -مثلاً- تستطيع أن توجِدَ عنده انطباعاً عميقاً لا ينساه أبداً. وأود قبل أن أغادر هذه النقطة أن ألفت نظر الإخوة إلى أن هناك كتاباً مفيداً، وهو كتاب علميٌ قويٌ جداً اسمه: صورة العرب في الصحافة البريطانية، وهو رسالة دكتوراه للدكتور حلمي خضر ساري، وهو من طباعة مركز الدراسات العربية، مطبوع ويباع في الأسواق، فيمكن مراجعته لمزيد من الاستيضاح حول هذه النقطة. المهم أن تدرك أن الغربي ينظر إلى العربي هذه النظرة السيئة السوداوية. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 14 تحقيقات وسائل الإعلام الغربية عن الإسلام والأهداف منها أولاً: التحقيقات التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية عن الإسلام والدراسات، هي موجهة لعدة أهداف: الهدف الأول: الدفاع عن ما يسمى بإسرائيل، فالغرب ينظر إلى إسرائيل على أنها معقل الحضارة الغربية في وسط الأدغال الإسلامية. ثانياً: من أجل الاحتفاظ بالذكريات الحية المخيفة عن الإسلام، وحضارته، ودوله، وآخرها الدولة العثمانية التي احتلت أجزاءً من أوروبا، ونحن نعرف مثلاً أن البوسنة والهرسك دخلها الإسلام أيام الدولة العثمانية. وهناك دراسة تحليلية كنموذج واحد فقط، لمضمون ثلاث مطبوعات غربية من أشهر الصحف قبل فترة، وهي: نيويورك تايمز، لوس أنجلوس تايمز، واشنطن بوست، وهي صحفٌ أمريكية، هذه الصحف كلها تتحدث بلهجةٍ مؤيدةٍ لإسرائيل خلال الصراع السابق عام 67م، ونادت بأن على أمريكا ليس أن تؤيد إسرائيل، أو ما يسمى بإسرائيل دبلوماسياً وسياسياً فحسب، بل عليها أن تمدها بالمساعدات العسكرية. إذاً هم يعتبرون العلاقة بينهم وبين إسرائيل علاقةً تاريخية، وإستراتيجيةً وثيقة، وفي النهاية نجد أن أمريكا مستعدة لخوض الحرب مع إسرائيل جنباً إلى جنب ضد أي تهديد عربي أو إسلامي. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 15 شهادة الغرب على نفسه النقطة الخامسة: هي عبارة عن شهادات. جاك بيرك، هذا مستشرقٌ فرنسي جاوز الثمانين من عمره، يقول في مقابلةٍ له مع جريدة الحياة: إن الغرب لا يزال يجهل الإسلام جهلاً كلياً، حيث يضع الإسلام في موقع التعارض مع العقل، ويندفع دائماً في معادلات مثل: الإسلام يساوي التعصب، هكذا يقول. أقول: هل المشكلة لدى الغربي مشكلة الجهل فحسب؟ لا أعتقد ذلك، وأعتقد أن القضية ليست كذلك، وحتى لو افترضنا أن القضية قضية جهل، ف السؤال متى سنفلح في إزالة الجهل عن شعوبٍ تعد بمئات الملايين، في حين أن إمكانياتنا محدودة، بل حتى عن تعديل الصورة لدى الغربيين الموجودين في بلادنا والذين يعيشون بين أظهرنا؟! يقول أحد الصحفيين الأمريكيين: إن الأمر -أي تعديل الصورة- سيستغرق وقتاً طويلاً؛ حتى يفهم الأمريكان ويتخلوا عن الصورة الجامدة التي يحملونها عن العرب. وأعتقد أن الأمر لن يكون أصلاً، قد يتم تعديل بعض الصورة، لكن أعتقد أن القضية ليست في طريقها إلى الحل، فعبر التاريخ الغربي كانت الصورة قاتمة. وهذا إدوارد سعيد باحث متخصص، معظم حياته في أمريكا، يقول في كتاب له مهمٌ اسمه: التغطية الإعلامية للإسلام، يقول كلمةً مهمة: لم أستطع أن أكتشف أي فترة في التاريخ الأوروبي والأمريكي منذ القرون الوسطى، نوقش فيها الإسلام هناك خارج إطار العاطفة والتعصب والمصالح السياسية. هذه شهادة مهمة جداً. كانوا يناقشون الإسلام عبر تاريخهم مناقشةً عاطفيةً متعصبة، تنطلق من مصالحهم السياسية ضد الإسلام. وأقول: إن وعي الغرب بالإسلام سيزيده حقداً وكراهيةً للإسلام، وخوفاً من الإسلام، فالإسلام الذي قد يقبلونه، أو يتأقلمون معه، هو الإسلام المهجن المدجن، الإسلام الأمريكي كما سماه بعضهم تجاوزاً، الذي لا ينافسهم على دنياهم، بل يتحدث كما قال أحدهم: عما تحت الأرض وما فوق السماء، عن القبر والموت والعالم الآخر، وعن الله والملائكة، أما الدنيا فإنه يدعها لقيصر: دع ما لله لله وما لقيصر لقيصر. ولهذا هناك دراسةٌ نشرت في صحيفة التايمز في هذا العام، تحدثوا فيها عن أن الإسلام قادمٌ لا محالة، بعنوان: سيف الإسلام. يقولون: الإسلام قادمٌ لا محالة، لكن علينا أن نختار إما الإسلام الأصولي المتشدد، وإما الإسلام المرن المتسامح. إن الغرب لم يكن أكثر وعياً بالإسلام منه اليوم، وفي نفس الوقت لم يكن أشد خوفاً وهلعاً وفزعاً من الإسلام مما هو عليه الآن، فالإسلام الحق يخيفه. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 16 المخاوف من الإسلام النقطة السادسة: المخاوف من الإسلام. كان السفير الألماني في المغرب واسمه هوفمان، كان يستعد لإصدار كتابه الذي هو بعنوان: الإسلام هو البديل، عندما بعث إليه وكيل وزارة الخارجية هناك ببرقيةٍ سريةٍ عاجلة، يحذره فيها من الوضع الخطير الناشئ عن دعوته إلى الأفكار الإسلامية، ويحذره من تجاهله لوظيفته باعتباره ممثلاً لدولة غربية ديمقراطية وهي ألمانيا، وتلك الرسالة كانت تمهيداً لقرار استدعائه ومناقشته، وكان هذا الرجل قد أسلم منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة. وفي جمعية دراسات الشرق الأوسط قبل سنوات، في خطاب لرئاسة الجمعية، يقول: إذا كان الإسلام لم يعط التغطية الكافية منذ سنوات -أي: لم يتم التعريف به، أو كان الجهل بالإسلام هو سمة الماضي- فإنه يستطيع الكثيرون الآن أن يؤكدوا أن الأمر قد تغير في السنوات الأخيرة، وكما قال أحد الزملاء: إن الصحوة الإسلامية، بل دراسة الإسلام والمجتمعات الإسلامية أصبحت مهنة نامية، والخبراء جاهزون وموجودون بكثرة، من رؤساء الدول، ووزراء الخارجية، ووزراء الدفاع، والصحفيين، والأكاديميين، ومن كل الأشكال والأحجام والألوان. ويقول هذا الخطاب أيضاً: إننا فهمنا المجتمعات الإسلامية في الماضي خطأً، لأسبابٍ منها: أولاً: الانسياق وراء العلمانية، وفصل الدين عن الحياة. ثانياً: أننا انخدعنا بالنخبة المثقفة المستغربة من العرب والمسلمين، وارتحنا إليها، وظننا أنها تمثل الإسلام والمجتمعات الإسلامية، وتجاهلنا دور العلماء الشرعيين والدعاة والمعاهد الإسلامية. وفعلاً عقدت ندوات كثيرة، وصدرت كتبٌ ودراسات عن الإسلام والصحوة الإسلامية، فماذا كانت النتيجة؟ نتيجة علمهم ومعرفتهم بالإسلام. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 17 أقسام العالم الإسلامي في نظر الغرب ثم ينصح هذا الكتاب صناع السياسة الأمريكية، أن يكونوا حينما يتعاملون مع المسلمين، أن يناوروا داخل وكر أفعى، ويقسم الاتجاهات الإسلامية في العالم الإسلامي إلى ثلاثة أنماط: 1- الأصولية وهي: مخيفة إرهابية. 2- الديكتاتورية. 3- التحديثية، أي: العلمانية، كتركيا، ومصر، وباكستان، وإندونيسيا. ويقول: نتعاون مع الأصوليين ومع الديكتاتوريين تعاون تكتيك فقط، لا يتعدى متطلبات اللحظة الحاضرة، ويجب أن نتعاون معهم عندما تكسبهم قوتهم مكاناً على الطاولة، أما ما زاد عن ذلك فلا، ويجب ألا ندخل معهم في شركةٍ أبداً. أما بالنسبة للفئة الثانية وهم التحديثيون، فيجب أن نصنع معهم شركة وبالذات مع الدول الأربع. ثم يتحدث عن السلام، وضرورة التهديد الغربي للعرب بإقراره الآن، حيث ضعف الدول العربية يمكن إسرائيل من تحقيق ما تريد وما تطلب، وإذا لم يعترف العرب بإسرائيل الآن -يقول- وبعد أربعة وأربعين سنة؛ فإنهم يكونون غير مهتمين بالتسوية السلمية إذاً. ويقول: إذا وافقت إسرائيل على السلام، فإنه يمكن في حالة وقوع هجوم تقليدي، أن يعامل وكأنه هجوم على الولايات المتحدة ذاتها، وعلينا أن نصر على تحجيم القوات العربية المجاورة. هذا الكتاب خطير وهو موضع حفاوة وعناية من الغرب. المثل السادس والأخير: في التايمز مقالٌ طويل، أسلفتْ الإشارة إليه عنوانه: سيف الإسلام، يقول: إن صناع السياسة الغربية مهتمون بدراسة الإسلام، وهل هو الخطر القادم؟! ويقول: إن أدوات نشر الفكر الإسلامي هي البندقية والقنبلة والرصاصة والتفجير والاغتيال. ويقول: إن المسلمين يشعرون بالغيظ للغرب والكراهية له؛ لأنه تسبب في سقوط حضارتهم وتأخرها. ويقول: إن الفكر الإسلامي فكر منغلق متحجر، ولا أدل على ذلك من موقف العالم الإسلامي من قضية سلمان رشدي، وهي قضية شهيرة معروفة. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 18 أمثلة على خوف الغرب من الإسلام إليك مجموعة سريعة من الأمثلة والنماذج: نشرت صحيفة واشنطن بوست، في (16) مارس من هذا العام، مقالاً عنوانه: مقارعة حكم الأصوليين الإسلاميين، وقالت: إن خصمنا الرهيب هو الإسلام، وإن كان يحلو للبعض أن يجعلوا خصم الغرب هو اليابان، ولكن الواقع أن الخصم الرهيب هو الإسلام، وأن مصطلحات الحرب الباردة التي كانت تستخدم ضد الاتحاد السوفيتي، أصبحت الآن تستخدم ضد الإسلام. فمثلاً: الاحتواء، أصبح الغربيون يطلقونه في شأن الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي، محاولة احتوائها عن طريق تركيا وإدخالها في تيار العلمنة. أيضاً مصطلح الخطوط الحمراء ضد تصدير الثورة في السودان، أي أنهم يطالبون السودان، ويحذرونه من تصدير ثورته إلى الخارج، وأن يتعدى الخطوط الحمراء، كما كان هذا المصطلح يستخدم ضد الاتحاد السوفيتي. أيضاً: القبضة الحديدية. استخدموها ضد الإسلام في الجزائر، لما أوشك أن يصل إلى الحكم عن طريق الانتخابات، فأطلقوا على الانقلاب لفظ القبضة الحديدية، وهذه كانوا يستخدمونها أيضاً ضد الاتحاد السوفيتي، ثم أثارت تلك الصحيفة إشكالية غريبة جداً، قالت: إن الغرب يريد الديمقراطية في بلاد الإسلام، ولكنه يخاف من الديمقراطية في بلاد الإسلام؛ أن تكون سبباً في إبعاد أصدقائه الموالين له والإتيان بالأصوليين، ولذلك فهو يعيش تناقضاً خطيراً بارزاً، كما هو الحال في الجزائر وفي غيرها من البلاد. وضربت الجريدة نفسها مثلاً بالجزائر، فقالت: تناقض كبير في الموقف، لماذا لم تقف أمريكا مع الديمقراطية كما تدعي؟ يقول أحد الباحثين الجزائريين -والكلام للجريدة- وهو باحث في جامعة غربية: إن الجزائر على مشارف التطور -هكذا يتمنى- ولكنه لن يصل إلى التطور إلا بعد أن يجرب الحكم الإسلامي ويثبت فشله. إذاً هو سوف يجرب الإسلام في الحكم، وسيثبت فشله، وحينئذٍ تنتقل الجزائر إلى التطور. تقول الصحيفة تعليقاً على هذه الأمنية: فكرةٌ جميلة، ولكننا لن نراهن عليها بالمزرعة. أي: ليس لدينا استعداد أن نجرب الإسلام ليثبت فشله، لأننا نخشى أن يثبت نجاحه كما ثبت نجاحه في أكثر من بلد. مثال آخر: عقد في ميونخ في أوائل العام الميلادي الحالي مؤتمرٌ للأمن، وقد عبر هذا المؤتمر عن قلقه مما يسميه بالقنبلة النووية الإسلامية، وأكد أن الأصوليين -كما يسميهم- ساخطون على الغرب، لماذا؟ قال: ليس سخطهم لأن الأصوليين متعاطفون مع العراق، ولكن سخطهم بسبب أن الغرب مصمم على تجريد العراق من أسلحته النووية وبرنامجه ومواده، في الوقت نفسه الذي يتجاهل فيه البرنامج النووي لإسرائيل. وقال رئيس الأركان البريطاني في مقابلة: حتى المسلمون المعتدلون، يمكن أن يطرحوا مشكلات لنا، ويقول إن صواريخ دول الخليج يمكن أن تشكل تهديداً لنا، ويمكنها أن تضرب لندن إذا نقلت غرباً على طول ساحل الشمال الإفريقي، ثم أعرب عن أمله في أن تتمكن تركيا من نشر علمانيتها في الجمهوريات الإسلامية في جنوب الاتحاد السوفيتي. مثالٌ ثالث: صدر في أمريكا كتابٌ أثار ضجةً إعلامية كبيرة اسمه: قيام الدول العظمى وانحطاطها، وقد أبدى مؤلف الكتاب مخاوفه من الإسلام كأحد الأعداء المحتملين للديمقراطية الليبرالية الغربية. وصدر كتاب آخر عنوانه: نهاية التاريخ يرد على الكتاب الأول، ويؤكد أن الديمقراطية الغربية هي نهاية التاريخ، وأنها خالدة لا زوال لها. قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر:2] وأثار الكتاب الآخر أيضاً ضجةً كبيرة، وكان أحد الردود عليه كتاباً صدر من فرنسا ألفه أحد القسس النصارى، وتكلم عن انهيار الديمقراطية، وقد أبرز بقوة وشدة وعناية الخطر الإسلامي، وقال: إن المشكلة ليست تكمن في المتطرفين أو الأصوليين، أو الذين لا يفهمون الإسلام فهماً صحيحاً. إنما المشكلة تكمن في الإسلام ذاته، وليس في خطأ المتمسكين به، وإن المتسامحين من المسلمين قليل، فأنا لا أعرف إلا ثلاثة من المتسامحين، وسماهم واحد ٌمنهم هو ابن جلون الذي قتل في المغرب، وآخر يقول منبوذ لا يلتفت إليه أحد، والمسلمون لا يستمعون إليهم، إنما يستمعون إلى الأصوليين والمتشددين. وأعاد إلى الأذهان أخبار الغزوات التركية التي وطأت أرض أوروبا، وآذنتْ بالسيطرة عليها، كما أبدى سخطه على العرب المهاجرين في فرنسا وبريطانيا، وأنهم يشكلون خطورة كبيرة على تلك المجتمعات؛ لصعوبة ذوبانهم فيها، وتأقلمهم معها، وتكاثرهم السكاني الكبير. مثالٌ رابع: أصدر نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق، كتاباً وهو الكتاب التاسع، تحت عنوان: انتهزوا هذه الفرصة أو الفرصة السانحة، وقد ترجم إلى العربية عدة تراجم، أحدها طبعتها دار الهلال، وقد عرضته أيضاً مجموعةٌ من الصحف والمجلات العربية، والكتاب عبارة عن خمسة فصول، يتكلم بطبيعة الحال عن أمريكا وأنها القوة العالمية الوحيدة، التي تسيطر الآن سيطرة كاملة على الحضارة، وتنفرد بقيادة العالم والبشريةَ جمعاء، ويؤكد هذا المعنى، ثم يتحدث في فصولٍ خمسة عن العالم كله. الفصل الخامس منه يوضح النظرة الأمريكية للمسلمين؛ بأنهم غير متحضرين، ولا يغتسلون، وبربريون، وهمجيون، وغير عقلاء، يجذبون اهتمامنا فقط، لأن بعض قادتهم لديهم ثروة كبيرة، ولأنهم يحكمون منطقةً تحوي -بالمصادفة- ما يزيد على ثلثي احتياطي النفط في العالم، ولا توجد -كما يقول- دولة ولا حتى الصين الشعبية، تحظى بصدارة سلبية، ونظرة قاتمة في الضمير الأمريكي، كما هو الحال بالنسبة للعالم الإسلامي. ويحذر بعض المراقبين -ولا يزال الكلام لـ نيكسون - من أن الإسلام سوف يصبح قوة واحدة ومتعصبة، وأن تزايد عدد السكان والقوة المالية التي يتمتع بها المسلمون، سوف تشكل تحدياً رئيساً، وأن الغرب سيضطر إلى تشكيل حلف جديد مع موسكو، لمواجهة العالم الإسلامي المعتدي العادي في المستقبل. وتقول وجهة النظر هذه: إن الإسلام والغرب متناقضان، والمسلمين ينظرون إلى العالم على أنهم معسكران: دار إيمان ودار كفر، أو دار توحيد ودار شرك، وأن العلاقة بينهما علاقة حرب وتناقض ومناوئة. ويقول نيكسون: إن هذا الكابوس -أي: توحد العالم الإسلامي ومواجهته للغرب- لن يتحقق أبداً، لأن العالم الإسلامي كبيرٌ جداً ومترامي الأطراف، ومتناقض ومتباعد، ومن قوميات وعرقيات مختلفة، ولا يمكن أن يزحف ليقرع طبلاً واحداً. وأقول: بلى، يمكن أن يتوحد الإسلام والعالم الإسلامي، ربما يتوحد على وقع أقدام الغزاة، فحينما يشعر المسلمون بأنهم مهددون فعلاً، وأنهم على أبواب حرب صليبية قادمةٍ، بلا شك سوف ترتفع مشاعرهم، ويكون لديهم إحساس عميقٌ بالخطر الذي يمكن أن يوحدهم. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 19 عنصرية العالم الغربي النقطة السابعة: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] : هذه آيةٌ من كتاب الله تعالى، تجعل الكفر يساوي الظلم، وتجعل الكافر ظالماً، ويقول عز وجل: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] فلننظر عملياً كيف تحققت هذه الآية في الحضارات الغربية الكافرة. من العجيب أن نستغرب نحن انحيازها، أو نستغرب عنصريتها، أو نستغرب تجاهلها لإنسانية الإنسان في العالم الثالث، أليست حضارة غربية؟ أليسوا حصلوا على هذا التقدم بأعمالهم، وبعقولهم؟ فهل نتصور أن الأمريكي سيتعامل مع المسلم الصومالي مثلاً، أو المسلم في الخليج، أو المسلم في مصر، أو المسلم في أي بلدٍ، سيتعامل معه كما يتعامل مع الرجل الأبيض الأمريكي؟ كلا! فهم ينظرون إلى العالم على أنه هو الغرب، أما العالم الشرقي هذا، فهو عالمٌ في آخر الاهتمامات، ولولا وجود النفط فيه ربما لم يكن العالم الغربي يعلم بوجوده ولا يهتم له أصلاً، ولذلك تجد أن كثيراً من الدول يقع فيها معارك وحروب كثيرة، وتترك هذه المعارك تطحن في رحاها أعداداً غفيرة دون أن يلتفت إليها أحد {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] . الجزء: 112 ¦ الصفحة: 20 تصدير التلوث إلى العالم الثالث {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254] اجتمع وزراء البيئة في دول أوروبا -واسمع هذه الأخبار- وكان أكثر الموضوعات التي طرحوها إثارةً للجدل: اقتراحٌ يدعو إلى تصدير التلوث إلى العالم الثالث، وبصورة أكثر وضوحاً، يدعو إلى نقل النفايات والمواد الملوثة إلى العالم العربي والإسلامي، وقبل هذا المؤتمر بأسابيع، كان هناك خبيرٌ اسمه: ألويس سومرز، وهو كبير الخبراء الاقتصاديين في البنك الدولي، يقترح تصدير الصناعات التي ينتج عنها التلوث إلى دول العالم الثالث. وأستأذنكم أن أقرأ عليكم تقريراً منشوراً في غاية الخطورة عن هذه القضية، قضية نقل التلوث إلى العالم العربي والإسلامي، هذا التقرير نشر في عدد من الصحف، منها صحيفة المجتمع الكويتية، ومنها جريدة المدينة التي تصدر في هذا البلد، وهو تقرير -كما ذكرت- غريب وخطير في نفس الوقت. يقول -بعد كلامٍ طويل- يتكلم عن أن الغرب يصدر كل شيء ملوث إلى العالم الإسلامي دون تحفظ، ويقول: إن أمريكا اكتشفت أن هناك بعض البيجامات المصنوعة تسبب السرطان، وفوراً منع تداول هذه البيجامات، وفوراً قامت الشركة التي أنتجتها بتصديرها إلى دول آسيا وإفريقيا، وفي خلال تسعة أشهر بعد المنع، استطاعت أن تصدر ما يزيد على مليوني بجامة إلى أطفال هذا العالم آسيا وإفريقيا. رغم أن حكومة كارتر في الأسابيع الأخيرة، قد تيقظت أو تيقظت إنسانيتها فيما يزعمون، وطالبت بعدم تصدير أي مواد ملوثة إلى العالم العربي والإسلامي، إلا بعد أن يُخطَروا ويُخْبروا بذلك، أي: لا يصدر إليهم أي شيء ملوث دون أن يعلموا، بل ينبغي أن يخبروا أن هذه المواد ملوثة، وأنتم وشأنكم بها، رغم ذلك، وأن هذا تم قبل خمسة أيام فقط من انتهاء الحكم، إلا أن أول شيء فعله الرئيس ريجان بعده، وبعد وصوله إلى كرسي الرئاسة هو إلغاء القرار السابق، القاضي بعدم تصدير مواد سامة إلى العالم الثالث دون علمه. وصدر قرار ريجان بعد بضعة أيام من وصوله إلى الحكم، ولا تزال القوانين الأمريكية والأوروبية حتى هذه اللحظة تبيح تصدير جميع المواد السامة، والأغذية الملوثة، والمواد المسببة للسرطان، والمبيدات الحشرية الممنوعة في أوروبا وأمريكا، تبيح تصدير ذلك كله إلى أي دولةٍ من دول العالم الثالث، ودون أن تخبر هذه الدولة بالمواد السامة المرسلة إليها. ورغم وجود لجان لحقوق الإنسان في الكونجرس، وكثرة الحديث عنها في أجهزة الإعلام، إلا أنه يبدو أن تعريف الإنسان عندهم يختلف من بلد إلى آخر، فالإنسان الأوروبي أو الأمريكي أو الأبيض؛ هو فقط الجدير بهذه الحقوق، أما الإنسان المسلم، أو الإنسان الموجود في آسيا أو إفريقيا فليس إنساناً أصلاً عندهم، ولا يمكن أن تكون له حقوق، حتى مثل الكلاب. أقول: حتى الكلاب تتمتع في المجتمعات الأوروبية والأمريكية بحقوق لا يتمتع بها الإنسان هنا في نظرهم، لو أعطي كلبٌ في أوروبا أو أمريكا مواد سامة، لقامت المظاهرات والاحتجاجات، وقد حصل هذا فعلاً، مظاهرات ضخمة قامت، وكان يتقدمها أعضاء الكونجرس أنفسهم، وكذلك رجال الكنيسة، لماذا؟ لأن هناك كلب أو كلبة اسمها (لايكا) ، أرسلها الروس إلى الفضاء في أول رحلة فضائية، قبل أن يرسلوا أي إنسان، وسالت دموع رجال الكهنوت، وقامت لجان المدافعة عن حقوق الكلاب والخنازير، تحتج على إرسال الكلبة (لايكا) إلى الفضاء! ودموع التماسيح هذه ما سالت من أجل إرسال السموم إلى دول العالم الثالث، دول العالم الإسلامي. إن جميع البضائع والمنتجات التي تصدر للعالم الثالث، لا تخضع أبداً للمقاييس والشروط الموجودة في أوروبا وأمريكا، فلأوروبا وأمريكا شروطٌ شديدة في السلامة، بينما المواد المصدرة إلى العالم الثالث تخلو من هذه الشروط. وقد نشرت مجلة نيوزويك في العدد (17) بحثاً طويلاً عن أخطار المبيدات الحشرية المرسلة إلى العالم الثالث، والتي تستخدم خاصة في الزراعة، وذكرت قائمة طويلة من المواد السامة التي ترسل إلى العالم الثالث، دون أي تحذير من الشركات المصدرة، وذكرت ما هي هذه المواد. وفي كل مجالٍ ترسل المواد السامة والخطرة، والمواد الغذائية الملوثة، وغير الصالحة، والأدوية الممنوعة، أو التي لا تزال على الأقل خاضعة للتجارب ولم يصرح بعد باستخدامها هناك، ترسل إلى دول العالم الثالث وبأثمان باهظة، وتدفع أثمانها هذه الدول الفقيرة من قوتها. أما الآلات والأدوات الكهربائية، والأدوات المنزلية، والسيارات، والجرارات والجرافات وغيرها، ومواد البناء التي تصدر إلى العالم الثالث، فإنها جميعاً لا تخضع لنفس المقاييس المفروضة في أوروبا وأمريكا، حتى السجائر المصدرة إلى دول العالم الثالث، تحوي ثلاثة أضعاف ما تحويه مثيلاتها المصرح بها في أمريكا وأوروبا من النيكوتين والقطران. إنها صورة بشعة لحضارة ذلك الإنسان الغربي، حضارة الطين لا حضارة الإيمان والدين. نماذج لولا أنها حقائق تتكلم عنها الصحف؛ لظنها الإنسان ضرباً من الخيال والمبالغات. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 21 خلاصات ونتائج أخيراً: أقف معكم مع بعض هذه الخلاصات والنتائج، وأذكرها باختصار لأنها جاءت في النهاية: الجزء: 112 ¦ الصفحة: 22 الإسلام محارب في الغرب أولاً: الإسلام محارب في الغرب؛ لأنه الإسلام المنزل من عند الله -تعالى- على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، لا لشيءٍ آخر، واسترضاء أولئك القوم عبث، والله تعالى يقول: (وَلَنْ تَرْضَى) هم غير واثقين حتى بأوليائهم وحلفائهم، بل حتى بعملائهم. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 23 وجوب الدعوة إلى الله في وسط الكفار ثانياً: الدعوة إلى الله تعالى في أوساط الكفار واجبة، وتصحيح الصورة القائمة في نفوسهم عن العرب والمسلمين أيضاً واجب، ولا بد من ذلك، وينبغي أن يبذل المسلمون جهدهم في هذا وذاك، ولكن هذا لا يعني أن الغرب سيغير موقفه -والله أعلم- إنما يمكن أن يهتدي من أراد الله تعالى هدايته، والله تعالى ويهدي من يشاء، ويمكن أن يحيد من الغرب من يحيد، ويبقى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا} [الأعراف:179] ويبقى: {يا آدم أخرج بعث النار} . الجزء: 112 ¦ الصفحة: 24 الإسلام لا يرضيهم ثالثاً: الإسلام المنزل من عند الله تعالى لا يرضيهم، لماذا؟ لأنه يقول لهم: أنتم كفار، وأنتم حطب جهنم، وحصب جهنم أنتم لها واردون، جهادكم واجب؛ ما دمتم محاربين له، إذاً لإسلام المنزل لا يرضيهم لأنه هكذا يقول، أما الواقع فهو لا يرضيهم أيضاً، لأنه واقع مؤسف من كل ناحية، لا أقول لا يرضيهم، لكنه وإن كان يرضيهم من ناحية، لكنه يعطيهم انطباعاً سيئاً عندما، يتصوروننا عاجزين مفرطين ضعفاء، فالتخلف العلمي، والجهل، والاستبداد السياسي، وعدم الشعور بالمسؤولية، والتوتر الدائم، والسلوكيات المتخلفة كل ذلك قائم، فكيف نريد من العالم أن يقدرنا ويحترمنا، ونحن لم نسع إلى ذلك بأنفسنا وبأعمالنا وأخلاقنا، وبسلوكياتنا وبسياستنا، وباقتصادنا، وعلمنا وإعلامنا؟ الواقع مر، ولعل هذا الواقع يتجلى في تجمعات المسلمين. وأقرب مثال -زماناً ومكاناً-: الحج. فهو نموذج كبير للتجمعات الإسلامية العظمى، لو نظر الغربي إلى المسلمين، أو نظرت أي مؤسسة عالمية إلى المسلمين، وهم يؤدون مناسك الحج، ماذا تجد؟ ستجد أن كثيراً من المسلمين لا يهتمون بالأخلاقيات، ولا يهتمون بحقوق الآخرين، ولا يهتمون بالنظافة، فيفترشون الأرض جوار القمامة، تصرفات صعبة وسلوكيات مريضة، وأوضاع شائنة. وهذا يرجع في جزءٍ منه -كما يقول البعض- إلى جوانب تنظيمية أو إلى تقصير، أنا أقول: نعم هذا يرجع في جزءٍ كبير منه إلى التقصير، ولكن أيضاً لا يمكن أن نتجاهل الجانب الثاني وهو سوء التربية لدى المسلم العادي، الذي لم يتربى على حسن الخلق والأدب والنظافة وعلى إتيان الأمور من أبوابها. ولذلك تجد التضارب والتصادم والأوضاع السيئة التي لا تحتاج إلى شرحٍ أو بيان. فمثل ذلك يعطي انطباعاً سيئاً لدى أي إنسانٍ عاقل، إذاً لا بد أن نصحح أوضاعنا حتى نفرض على العالم احترامنا، أما التناقض بين سلوكيات المسلم، وبين عقيدته فأمرٌ لا مفر منه، ولا ريب في أنه واقعٌ ويجب أن يزول، والمثال الذي ذكرته في الفيلم الفرنسي يتكرر في واقع المسلمين، فتجد المصلي يأكل الربا، وقد يتعاطى الحرام، ويغش ويكذب، وينقل الكلام على غير وجه، إلى غير ذلك من ألوان السلوك المحرم. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 25 العناية بإبراز الجانب الأخلاقي رابعاً: من الضروري أن يُعنى الدعاة الإسلاميون بإبراز الجانب الأخلاقي من الإسلام، والتركيز عليه والعناية به؛ لعظم تأثيره في مثل هذه المجالات، وشدة وقعه في نظر الإنسان الغربي، وأنه يمكن أن يلفت نظرهم إلى الإسلام، ويحدوهم إلى دراسته، فهو من أوجه وأساليب دعوتهم إلى دراسة الإسلام وتأمله، وقد يهتدي منهم من يشاء الله تعالى له الهداية كما أسلفت. وكذلك الجانب العقائدي، وكذلك العلمي، وكذلك الجانب الحضاري. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 26 العناية بأوضاع المسلمين وتصحيحها خامساً: لا بد من العناية بأوضاع العالم الإسلامي وتصحيحها، وتوجيه الدعوة إلى الأمة الإسلامية كلها- جماهير الأمة- لأن هجمة صليبية شرسة؛ تعد الآن ضد المسلمين، فالأمة كلها مستهدفة، في أخلاقها، وفي عقيدتها، وفي سلوكها، وفي اقتصادها، وفي أمنها، وفي سياستها، بل وفي وجودها. ويجب أن يعي الناس هذا الأمر، ويخاطبوا خطاباً جماهيرياً عاقلاً قوياً رشيداً، يربطهم بالدين والعقيدة والنص والقرآن والسنة، ويكشف لهم حقيقة العداوة القائمة بينهم وبين اليهود والنصارى. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 27 الاستعداد للمنازلة مع الأعداء وأخيراً: لا بد من الاستعداد للمنازلة مع خصوم الإسلام. وأقول: هذا ليس حلماً، وإن كان هذا الأمر حلماً الآن، فإن أحلام اليوم هي حقائق الغد، ونحن ندعو كل مختصٍ أن يشارك في هذه المعركة الكبرى معركة الإسلام الكبرى. أسأل الله تعالى أن ينصر الإسلام وأهله، وأن يذل الشرك وحزبه، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه إنه على كل شيء قدير. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة الجزء: 112 ¦ الصفحة: 29 كتاب وملاحظة السؤال ما رأيك في كتابات محمد أحمد الراشد، وخاصة كتابه: صناعات الحياة؟ الجواب الحقيقة كتاب قيم، وجدير بالقراءة، ومع ذلك عليه ملاحظات. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 30 في كل بلدٍ آلام السؤال لا يخفى عليكم نظام الحكم في ليبيا، وما فيها من محاربة للإسلام والمسلمين، فما هو واجب المسلمين هناك، أيفرون بدينهم ويهاجرون؟ الجواب يا أخي، في كل بلد يواجه المسلمون هذا، وأرى أن يبقى المسلمون في بلادهم، وأن يبذلوا وسعهم في الدعوة إلى الله تعالى. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 31 قراءة كتب السلف والكتب الفكرية المعاصرة السؤال كيف يوفق طالب العلم بين قراءة كتب السلف، والكتب المعاصرة وخاصة الكتب الفكرية؟ الجواب لا تناقض بين هذا وذاك، فيقرأ الكتب العلمية السلفية؛ لما فيها من تأصيل العقيدة والعلم الشرعي الصحيح المؤصل، ويقرأ بعض الكتب المعاصرة لما فيها من بيان الواقع، وبيان بعض الظروف، وبعض المتغيرات، والأفكار الهدامة، والرد عليها وما أشبه ذلك. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 32 مكة نموذج العالم الإسلامي السؤال يعاني أهل البلد الطيب من سلبية عجيبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل من كلمة؟ لعل فيها إحياء للقلوب. الجواب مصيبة كبيرة جداً، هذا بلد الله الحرام، هذا نموذج لبلاد العالم الإسلامي، والناس يحتجون بها -وقد رأيتهم في إندونيسيا، وفي بلاد العالم- يحتجون بما يجري في مكة، رأيت اختلافاً بينهم في أذان الفجر الأول. والثاني، وهل يؤذن أولا يؤذن؟ ومتى يؤذن؟ فوجدتهم يحتجون بما يقع في هذا البلد الحرام. فالمسلمون يحملون لهذا البلد قدسية وتعظيماً، ويعتبرون ما يجري فيه نموذجاً وقدوة وحجة، هذا هو الواقع، وإن كان هذا ليس بصحيح، فينبغي على أهل هذه البلاد أن يخافوا الله تعالى في هذا الأمر، وأن يكونوا خيراً من غيرهم من المسلمين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة وغير ذلك. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 33 الصحف والاستهزاء بالدين السؤال إلى متى هذا الاستهزاء بديننا، وهذه الصحف تدخل إلى هنا وهاهنا جريدة الحياة عدد السبت، وفيها اثنان: واحدٌ منهما ملتحي والآخر كأنه جندي عليه خوذة، فهذا يمسك لحية هذا، وهذا يمسك خوذة هذا، كأنه إشارة إلى معركة بين الطرفين! الجواب الله المستعان لو اطلعت على أشياء لرأيت أمراً عجباً غير هذا. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 34 واجب الجهاد السؤال يقول: ما دورنا؟ وهل علينا واجب الجهاد؟ الجواب علينا واجب الجهاد في موضوع البوسنة والهرسك، بالمساعدة المالية والدعاء لإخواننا هناك، وأيضاً المساعدة بدعوتهم إلى الله تعالى، وتربيتهم على الإسلام؛ لأنهم محتاجون إلى ذلك. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 35 المؤمن للمؤمن كالبنيان السؤال من منطلق قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم} نأمل تحديد دورنا في هذا العصر المليء بالفتن، وماذا علينا نحن الشباب تجاه المسجد الأقصى والمسلمين في أنحاء العالم؟ الجواب الحديث فيه ضعف، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {المؤمن للؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً، وشبك صلى الله عليه وسلم بين أصابعه} والحديث في الصحيح، وفي الصحيح أيضاً: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} . فعلى المسلمين أن يعوا قضايا إخوانهم في كل مكان، وأن يتعاطفوا مع قضايا المسلمين في فلسطين والمسجد الأقصى، وأفغانستان، والسودان، والجزائر، والأردن، ومصر، ويوغسلافيا وكل مكان. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 36 مؤلفات الشيخ مجموعة ومطبوعة السؤال سمعنا أن أحد طلاب العلم قد جمع مؤلفاتك، وأنها قد تطبع فيما بعد، فما صحة ذلك؟ الجواب نعم جمعها، أما أنها ستطبع فيما بعد فهي مطبوعة أصلاً. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 37 إنهم قادمون خيال لا حقيقة السؤال أسلمت امرأة بريطانية عجوز، فسألها أحد المسلمين: ما موقف قومك وجماعتك من إسلامك؟ فردت عليه قائلة: إنهم قادمون، فكيف نخاف من الغرب مع علمنا بأنهم قادمون، فقد ضاع عليَّ القياس أيها الشيخ الفاضل؟ الجواب نعم يا أخي، قد يسلم عشرة أو مائة أو ألف، لكن أن نتوقع أن العالم الغربي سوف يتحول إلى عالَمٍ مسلم، أنا أعتبر هذا ضرباً من الخيال، لأن الغرب إذا قوي الإسلام، فسوف تقوم القوى الشريرة في داخله وتطالب بالوقوف في وجه الإسلام، وسوف تقام السجون -لو حصل هذا- للمسلمين هناك. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 38 النظرة الناضجة لواقع الجهاد الأفغاني السؤال هناك بعض من إخواننا الدعاة يشكك في نجاح الجهاد الأفغاني، ويشكك في بعض القادة، ويقصد أن وصول هؤلاء إلى قمة السلطة نتيجة غير مرضية للجهاد الطويل في أفغانستان؟ الجواب بعض الإخوة ينظرون نظرة مثالية، ويريدون أن تقوم دولة إسلامية راشدية بين عشية وضحاها، وأقول: هذا أمر بعيد ومخالف للسنة، فنحن الآن نرضى بدولةٍ إسلامية في أفغانستان، أو السودان عليها مآخذ وفيها تقصير، ونعتبر أنها -بإذن الله تعالى- ذريعة ووسيلة إلى مزيد من النضج في قيام دولة إسلامية ناضجة ومؤمنة، سلفية ملتزمة بالكتاب والسنة. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 39 المجالس النيابية والولاء والبراء السؤال كنتم قد سئلتم في محاضرة الولاء والبراء، ومفهومه في الإسلام: هل يجوز الدخول في المجالس النيابية؟ وقلت إن المسألة محتاجة إلى البحث والاستماع لرأي العلماء في هذا الموضوع، وبينتم منهج أهل السنة والجماعة في قضية الولاء والبراء، ودساتير هذه الدول مستمدة من الشرق والغرب ولا تحكم بما أنزل الله، فهل من جديد في المسألة؟ الجواب الحقيقة ليس لدي جديد، ولا زلت أعتقد أن المسألة بحاجة إلى مزيد من البحث في هذا الموضوع؛ لأن فيه جوانب عديدة وفيه مجال للنقاش والحوار. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 40 خطة للتقتيل السؤال ألا ترى أن قصر المساعدات الإسلامية لإخواننا في البوسنة والهرسك على المواد الغذائية فقط، ومنع مساعدتهم بالسلاح خطة لتقتيلهم على مرأى من إخوانهم؟ الجواب نعم هذا خطأ، وينبغي أن يساعدوا بالسلاح قبل أن يساعدوا بالإغاثة والإعانات الإنسانية، ومع الأسف أن بعض الإعانات، نشر في جريدة الشرق الأوسط أنها سوف توصل إليهم عن طريق شركات ومؤسسات ألمانية نصرانية، تقوم بإيصال مساعدات المسلمين إلى المسلمين. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 41 أفغانستان الثانية السؤال هل يتوقع أن تكون يوغسلافيا أفغانستان الثانية؟ وهل بالإمكان المشاركة في الجهاد؟ الجواب نسأل الله تعالى أن يبرم للإسلام هناك أمر رشدٍ، وأن ينصر الإسلام ويجمع كلمة المسلمين على الحق. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 42 الفرق بين المصلحين والصالحين السؤال قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] وهناك حديث عائشة: {أنهلك وفينا الصالحون} كيف نوفق بين هذا وهذا؟ الجواب لا اختلاف، لأن الآية: وأهلها مصلحون، وفي الحديث: وفينا الصالحون، ما قالت وفينا المصلحون، ولهذا قال: {نعم إذا كثر الخبث} لا يكثر الخبث والمصلحون قائمون يعملون ويجتهدون، لأن صوت الحق قوي، ويكتسح الساحة إذا ظهر. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 43 المراكز الصيفية أحد أوجه النشاط السؤال هل من كلمة لهذا الجمع المبارك تدعوهم فيها إلى استثمار أوقاتهم في المراكز، ومنها هذا المركز الذي نسأل الله أن ينفع به الجميع؟ الجواب المراكز الصيفية -كما أسلفت- هي أحد أوجه النشاط التي يمكن أن يستفاد منها في هذه الإجازة، وفيها حفظٌ لوقت الشباب، وتنميةٌ لمواهبهم وقدراتهم. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 44 التصويت لصالح الإسلاميين السؤال أنا من أحد الدول المجاورة المسلمة التي فتحت باب الحزبية، فتحزب بعض المسلمين فيها، وبعد شهورٍ ستقام الانتخابات، فهل أشارك في هذه الانتخابات مع المسلمين، علماً أن معتقدي سلفي ولله الحمد ما دخلت الحزبية؟ الجواب أرى في مثل هذا الواقع، أن على الإنسان المسلم إذا كان مخيراً بين أن يصوت لصالح إسلاميين -ولو كان يخالفهم في بعض الأمور- أو لصالح أناسٍ آخرين، أو يسكت، أن الأولى أن يصوت لصالح الإسلام والمسلمين. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 45 الدش ونقل التعاسة الغربية السؤال نرجو أن تتكلم عن الدشات وآثارها على المجتمع، وتنبيه الخطباء إلى الكلام في هذا الموضوع؟ الجواب هذه أحد وسائل الحرب الغربية على الإسلام، ونقل التعاسة الغربية إلى عقول المسلمين وبيوتهم وقلوبهم، وقد يحتج البعض بأنها تنقل بعض الأخبار مصورةً ودقيقة، وهذا صحيح؛ ولكنه يشكل نسبة محدودةً من مجموعة ما يبث عبرها، وقد أشرت إليها البارحة، وأدعوا الخطباء إلى تناول هذا الموضوع. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 46 الدعوة إلى الجهاد السؤال ألا تظنون أن إعلان الجهاد على أرض البوسنة والهرسك من قبل أئمة المسلمين، أمثال الشيخ ابن باز، وحث كل من يستطيع الجهاد بالنفس والمال إلى الذهاب إلى هذه الأرض، ألا تظنون أنه كفيل لإرعاب الصليبيين؟ الجواب هم يخافون الآن من هذا، وأعتقد أن الغرب الآن ينتظر سقوط سراييفو والقضاء على هذه الدولة الإسلامية؛ خوفاً من أن تكون أفغانستان أخرى. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 47 آخر الأخبار عن مجاهدي الأفغان السؤال ما هي آخر أخبار إخواننا المجاهدين الأفغان؟ ولماذا هذه المشاكل التي نسمع عنها؟ الجواب آخر الأخبار أن الأستاذ برهان الدين رباني تولى الرئاسة، والأستاذ عبد الصبور فريد تولى رئاسة الوزراء وباشر عمله، أما المشاكل فأعتبر أنها في الجملة لا بد منها، لكن الأمر الذي نتمناه وندعو إليه، هو أن تتوحد الجبهات والأحزاب الإسلامية المتقاربة فيما بينها ضد الشيوعيين، وضد الشيعة، وضد الميليشيات، وضد الأعداء الخارجيين. الجزء: 112 ¦ الصفحة: 48 المرأة المسلمة المرأة هي مربية الأجيال، وهي أحد ركني المجتمع ويقوم على كاهلها عبء كبير في بناء المجتمع، وقد تفطن الغرب لأهميتها، فهو يحاول إفسادها بكل ما يستطيع حتى يفسد المجتمع كاملاً. وفي هذا الدرس يحدثنا الشيخ حفظه الله عن أهمية المرأة ودور الغرب في إفسادها، ذاكراً صوراً مشرقة لنساء من التاريخ كان لهن دور كبير في بناء المجتمع المسلم. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 1 أهمية الحديث عن المرأة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] . أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد فإن اللقاء يطيب في مدارسة الأمور الخيرية المهمة، التي تتعلق بنا جميعاً، ذكراناً وإناثاً، والتي من شأنها أن تقوِّم سلوكنا، وتثبيت أقدامنا على طريق الإسلام، وإن الحديث عن موضوع المرأة في كل وقت هو أمر مهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: {إن النساء قلن له يا رسول الله غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً تعظنا فيه، فجعل لهن يوماً، فأتاهن ووعظهن وذكرهن} فالحديث عن المرأة ووجوب تمسكها بقيمها وبدينها، أمر مهم في كل وقت، ولكن تتأكد أهميته في مثل هذا الوقت، وفى مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، وذلك لأسباب ثلاثة: الجزء: 113 ¦ الصفحة: 2 الغزو الفكري لجأ إليه أعداء الإسلام أما السبب الثالث: فهو مبني على السبب الثاني، وهو: أن أعداء الإسلام بمختلف أصنافهم من اليهود، أو النصارى، أو المشركين، أو الشيوعيين، أو غيرهم، أدركوا أن معركتهم مع الإسلام بالسيف معركة خاسرة، وقد جربوها مراراً وتكراراً فوجدوا أنها تكلفهم الكثير، وأن نتائجها أقل مما يتصورون، وذلك لقوة الروح الجهادية لدى المسلمين، فلجئوا إلى طريقة من المكر والحيلة والدهاء، هي أفتك وأخطر من ألوان الأسلحة المادية، لجئوا إلى غزو المسلمين غزواً فكرياً، وتصدير الفساد والانحراف والرذيلة إليهم بشتى الوسائل، وجعل المجتمعات الإسلامية تتطلع إلى تقليد المجتمعات الغربية، والسير على خطاها، وقد ركزوا في هجماتهم الشرسة هذه على المرأة، فلماذا ركزوا على المرأة؟ لأن المرأة إذا فسدت وانحرفت غدت فتنة لكل مفتون، وسببت الفساد والدمار في المجتمع، وركزوا على المرأة، لأن المرأة هي التي تتخرج على يديها الأجيال التي ينتظر منها أن تبعث مجد الأمة، والتي يتخرج على يديها الشباب الذين سوف يملئون الفراغ الذي وقعت به الأمة الإسلامية، فإذا انحرفت ونسيت مهمتها فقد ضمن أولئك الأعداء أن تتخرج من المسلمين أجيال لا تعرف من أمر دينها شيئاً، ولا تتحمس لدينها، ولا لأمتها، ولا لكرامتها، إنما تتحمس للتوافه من الأمور، لهذا وذاك ركزوا في هجمتهم الشرسة على المرأة وحاولوا إفسادها بكل وسيلة. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 3 حساسية موقف المرأة وخطورته أما السبب الثاني: حساسية موقف المرأة وخطورته، حيث إن المرأة هي حارسة الحصون الإسلامية، وهي مربية الأجيال، ومعلمة الرجال، وإذا أصيب هذا الحارس بالضعف والوهن، فإن معنى ذلك أن الحصون أصبحت مفتوحة على مصراعيها للأعداء ولو نظرنا إلى المهمات التي أنيطت بالمرأة، لوجدنا أنها مهمات خطيرة جداً، ويكفي أن الرجل مهما كُلف بتكاليف أو مهمات، لا يستطيع أن يقوم بها أو يؤديها، إلا بعد أن يكون تربى في طفولته تربية صحيحة، وهذه التربية تقوم المرأة بجزء كبير منها، ولذلك يقول بعضهم: خلف كل عظيم امرأة، وهو يقصد بذلك أن عظماء الرجال، الذين غيروا وجه التاريخ إنما هم في أول أمرهم كانوا، أطفالاً في أحضان أمهاتهم، وتلقوا على أيديهن التربية والتوجيه، وهذا معنى لاشك أنه معنى صحيح. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 4 المرأة مخلوق مكلف بالتكاليف الشرعية السبب الأول: هو أن المرأة مخلوق بشري مكلف بالتكاليف الشرعية ومحاسب عليها، فهي مخاطبة بالشريعة أصولاً وفروعاً، وعقائد وأحكاماً، كما يخاطب الرجل سواء، وإن تميزت ببعض الأحكام الخاصة بها، فهي مطالبة بتطبيق الأحكام العامة والخاصة، وهي مأجورة إن استقامت، وآثمة إن انحرفت كما نطق بذلك كتاب الله عز وجل، يقول الله تبارك وتعالى في سورة آل عمران: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] ويقول في سورة النحل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] . إذاً: فتبليغ الدين والأحكام والحلال والحرام، أمر يجب أن يوصل إلى المرأة كما يوصل إلى الرجل، والإسلام ليس ديناً مقصوراً على الرجال، كما يشيع في بعض المجتمعات عن جهل، حيث يعتبرون توجه المرأة للدين، وإكثارها من الصلاة، علامة غير طيبة، بسبب الجهل وسوء الظن لديهم، كلا. بل الدين خطاب للرجل والمرأة على حد سواء. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 5 خطر الأمراض الخلقية أيها الإخوة والأخوات: إن الأمراض الجسمية، والأوبئة الصحية المحسوسة، حين تنتشر في المجتمعات، خاصة إذا كانت أمراضاً معدية يتسامع بها الناس كلهم، ويتساندون في القضاء عليها، وتهتم الجهات الرسمية بمحاصرة هذا الداء والقضاء عليه، والوقاية منه، فسريعاً ما ينتهي هذا الداء أو يتقلص، وليست كذلك الأدواء والأمراض الخُلُقِية، فهي أمراض خطيرة، وهي أيضاً بطيئة الظهور تسري سرياناً هادئاً بطيئاً، ولكنها تتغلغل في القلب وفي الجسم للإنسان، تتغلغل في قلب الإنسان، وتتغلغل في قلب المجتمع حتى تفسده بصورة هادئة لا تلفت الأنظار، ولذلك فإن الإنسان الذي عايش المجتمعات منذ بداية انحرافها، قد يتأقلم مع هذه الأشياء، ولا يستغربها في كثير من الأحيان، لكن أولئك الناس الذين عاشوا أزماناً كانت المجتمعات فيها مجتمعات نظيفة خالية من الانحرافات، إذا انتبهوا إلى واقعهم أصيبوا بالذهول، ودهشوا من الأمر الذي آلت إليه أوضاع هذه المجتمعات، وتعجبوا كيف تم هذا، ونسوا أن هذا تم خطوة خطوة، بحيث لم يلتفت إليه كثير من الناس. ونظراً لأن الأمراض الخلقية بطيئة التأثير، فإن الإنسان الذي يسمع التحذير منها، ويسمع المصلحين يدقون ناقوس الخطر، ويقولون تداركوا الأمر، ينظر هذا الإنسان في الواقع، فيجد أن الفساد منتشر في كثير من المجتمعات، ومع ذلك لم يصبها العذاب، ولم ينزل عليها عقاب الله، فيظن هذا الإنسان المتعجل، أن جميع النذر التي يسمعها إنما هي خرافات وأساطير. والواقع أن العقاب قد لا ينزل ضرورة في الجيل الأول، الذي وقع في الفساد والانحراف، بل قد لا ينزل في الجيل الثاني، وقد يتعدى ذلك، ولكن كما ذكرت إن الفساد الخلقي بطيء الانتشار، ولكنه ينتشر بعمق، وقد تظهر الآثار بعد جيل أو جيلين أو ثلاثة بحسب قوة انتشار الفساد، وبحسب المقاومة لهذا الفساد من المصلحين. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 6 أسلوب أعداء الإسلام في محاربة المسلمين وإذا كان أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والشيوعيين وغيرهم، أعداء خارجيين يسهل التحرز منهم وكل إنسان يدرك عداوتهم، فإن هؤلاء الأعداء أدركوا بعد قرون من صراعهم مع الإسلام، أدركوا، كما قال أحدهم: " إن شجرة الإسلام لا يمكن أن تجتث إلا بغصن من غصونها" أي أن المهمات التي يريدون تحقيقها في المجتمع الإسلامي في عالم المرأة وغيره لا يمكن أن تتحقق فعلاً إلا إذا وجد من المحسوبين على الإسلام من ينادي بها ويطالب بها ولذلك عملوا على تربية أجيال من الجنسين من الرجال، ومن النساء تربية خاصة، فرضع هؤلاء ألبان الغرب وأشربوا حبه وحب ما جاء به من آراء وأفكار ونظريات، وصاروا في بلاد المسلمين طابوراً خامساً ينادي بما ينادي به الغربيون، من الدعوة إلى تحرير المرأة كما يزعمون، أو إلى خروج المرأة للعمل، أو إلى تحريك نصف المجتمع المعطل، أو إلى غير ذلك من الشعارات التي يتشدقون بها بألسنتهم، والواقع أنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، بل هؤلاء أصحاب شهوات ونزوات، يسعون لتحقيقها، فهم يريدون أن تكون المرأة متعة على قارعة الطريق، وقد كشف الله عز وجل مقاصدهم في كتابه فقال تعالى: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] . وقد أصبحت حال المرأة مع هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يطالبون بحقوقها وهم في الواقع يسعون إلى تكبيلها، وجعلها في موقع العبودية للرجل، وكل همها أن تسعى إلى كسب إعجابه بكل وسيلة، حال هؤلاء القوم مع المرأة، يذكرنا بالخبر الطريف، الذي ذكره الأستاذ العقاد في أحد كتبه حينما قال: "إن المندوب البريطاني في مصر كان إذا أراد أن يسجن رجلاً أو يعاقبه، أرسل إليه خطاباً وختم هذا الخطاب بقوله خادمكم المطيع فلان" هو يدعوه إلى السجن أو التعذيب، ومع ذلك يوقع باسم "خادمكم المطيع فلان". فهكذا هؤلاء الأدعياء، الذين يزعمون أنهم محامون عن المرأة، وهم في الواقع طلاب شهوات، يريدون أن يستمتعوا بالمرأة بلا قيد ولا شرط. إن الرجل المستعمر استعماراً عقلياً، والذي تعشش في فكره وخياله النظريات الغربية الكافرة، لا يستطيع أن يفهم معنى حرية المرأة في الإسلام، وهذا الأمر الخطير، هو الذي يحذرنا منه أحد الشعراء الإسلاميين، في قصيدة يخاطب بها المرأة المسلمة، يقول: أيتها المرأة كُفِّي من دلالك واسمعي النصح يجنبك المهالك ذلك العُري الذي آثرته رجعة للغاب لو تدرين ذلك خَلْفه أيدي الكواهين التي لا يروي غلها غير اغتيالك ثم يقول وهو يصف بالضبط خطورة انحراف المرأة: قد دَرَت أنكِ معيار القوى فإذا اختل هوى الخزي بآلك وقديماً يئسوا من قهرنا حينما أعياهم لمح خيالك غير أن الذل قد أرهقنا منذ أن خضت بنا تلك المسالك فمتى العود إلى الله وقد وضح الدرب ولا عذر لهالك أيها الإخوة إن المرأة المسلمة في هذا الزمان، وفى كل زمان، مُطالبة بتحقيق معنى كونها امرأة، مُطالبة بأن تؤمن بأنها خلقت امرأة فعلاً ولم تخلق رجلاً، وأن تدرك أن كمالها وجمالها وقوتها وسعادتها، ليست في محاولة التخلص من طبيعتها، ومحاكاة الرجال في طبائعهم، بل إن قوتها وسعادتها وكمالها، تكمن في تحقيقها لطبيعتها البشرية التي جُبلت عليها. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 7 صور ونماذج للمرأة المسلمة وإننا حين نلتفت إلى الواقع نجد الأمثلة والنماذج التي نتطلع إليها، قليلة في كثير من الأحيان، ونجد أن كثيراً من المجتمعات قد اندفعت وراء تقليد المستعمر الكافر اندفاعاً أعمى، فلا تكاد تجد الأمثلة والنماذج، التي تعتبر قدوة ومثلاً أعلى لغيرها. وفى مثل هذه الظروف والأحوال، يفزع الإنسان إلى التاريخ، يحاول أن يستلهم العبر من الأحداث والوقائع التي حدثت عبر التاريخ، ولذلك فإنني أجدني مسوقاً إلى استعراض بعض الصور والنماذج، التي ضربت فيها المرأة المسلمة أروع الأمثلة في الصبر، وفي القوة، وفي الاعتزاز بدينها، وفي معايشتها السراء والضراء مع زوجها. أيها الإخوة والأخوات: لقد أشاد الله عز وجل في القرآن الكريم بموقف عدد من النسوة، فها نحن نجد أن الله عز وجل يضرب لنا المثل بقصة امرأة فرعون التي نشأت في هذا القصر المليء بالمغريات، المليء بالملذات الذي يقف فيه هذا الطاغية الأكبر المتأله، فرفعت رأسها في وسط هذه الظلمات تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] . لقد أعرضت عن هذا القصر الذي تعيش فيه، وزهدت في زينته، فطلبت من الله عز وجل أن يبنى لها عنده قصراً في الجنة، وهذه المرأة قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا أربع -منهن- مريم بنت عمران، وآسيا امرأة فرعون} . فهذا أنموذج للمرأة المسلمة وبجواره أنموذج آخر يَمُت إليه بسبب، ألا وهو أنموذج ماشطة بنت فرعون. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 8 المرأة المسلمة لم تترك أعمال بيتها حتى مع قيامها بأمور دينها الخارجية هذه صورة أولئك النسوة، على رغم المستوى الإيماني الرفيع الذي وصلن إليه، وعلى رغم المهمات الجسام التي قمن بها، سواء مشاركة المسلمين في الأعمال الجهادية المتعلقة بسقي الجرحى ومداواتهم، وحملهم وما أشبه ذلك من الأعمال المساندة، أو في حمل العلم ونقله، أو في غير ذلك، مع كل هذه المهمات الجسام، لم تنس أولئك النسوة، أن من مقتضى جبلة المرأة وطبيعتها، أن تمارس أعمالها الفطرية التي جبلت عليها، فتؤدي من هذه الأعمال ما تستطيع وتظل محتفظة بقدر من ذلك. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 9 أسماء رضي الله عنها في جانب آخر من حياتها وهذه صورة أخرى لـ أسماء رضي الله عنها وهي تتعلق بجانب آخر من حياتها، فإذا كنا عرفنا قبل قليل نموذجاً لتحملها وصبرها، فإن هذه القصة تدلنا على جانب آخر من عمل هذه المرأة، وهو البيت وقيامها بالواجبات، ومشاركتها لزوجها في أفراحه ومسراته وأحزانه. يروي الإمام مسلم في صحيحه عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: [[تزوجني الزبير رضي الله عنه وليس له في الأرض من مال ولا مملوكٍ ولا شيء، غير الفرس الذي كان يستعمله، قالت: فكنت أعلف فرسه، وأكفيه مؤنته، وأسوسه، وأدق النوى لناضحه، وأعلفه، وأستقي الماء، وأخرز غربه، وأعجن، ولم أكن أحسن الخبز، فكن نساء صدق من الأنصار جيراناً لي يساعدنني في ذلك، قالت: وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، وهذه الأرض على مساحة ثلثي فرسخ من بيت الزبير -أي بقدر ميلين- قالت فجئت ذات يومٍ وقد حملت النوى على رأسي، فلقيني النبي صلى الله عليه وسلم على بعيره فهمَّ صلى الله عليه وسلم لينيخ بعيره ليركبها خلفه إلى دارها قالت: فاستحييت وعرفت غيرة الزبير فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما يجول في نفسها، فواصل المسير وتركها]] وفى رواية أخرى لـ مسلم أضاف: [[أن رجلاً فقيراً قال لـ أسماء: يا أم عبد الله إنني رجل فقير، وأريد أن أبيع في ظل دارك، يريد أن يتخذ من ظل بيتها مكاناً يبسط فيه بضاعته- فقالت له: إن رخصت لك في ذلك أبى الزبير ولكن ائتني وأنا عند الزبير فاطلب مني ذلك، فجاءها وعندها الزبير فقال: لها يا أم عبد الله إنني رجل فقير وأريد أن أبيع في ظل دارك، فقالت له: مستنكرة عليه -وهي تتظاهر بذلك أمام الزبير - أما لك في المدينة إلا داري؟ فقال لها الزبير: مالكِ أن تمنعي رجلاً فقيراً أن يبيع في ظل دارك، فقالت: فكان يبيع إلى أن كسب فبعت عليه أمة -أي عبدة- كانت عندي. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، أو أبو بكر أرسلها إليها، قالت: فكانت تحمل عني سياسة الفرس فكأنما أعتقتني قالت: فبعت عليه هذه الأمة، فدخل علي الزبير وثمنها في حجري، فقال: ألا تهديه إلي؟ قالت: إني قد تصدقت به]] . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 10 نموذج فاطمة رضي الله عنها يروي أبو داود في سننه، عن علي بن أعبد عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه- أنه قال له: {ألا أحدثك عني وعن فاطمة، قال: بلى، قال: إنها كانت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب أهله إليه، وكانت عندي -أي أنه تزوجها- قال: فجرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وطبخت بالقدر حتى دكنت ثيابها، فسمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه رقيق أو خدم، فقلت لها: لو ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألتيه خادماً، فذهبت فاطمة رضي الله عنها إلى بيت أبيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد أن تسأله خادماً، فلم تجده، أو وجدت عنده حُداثاً -أي: قوماً يتحدثون- فاستحيت فرجعت إلى بيتها، فلما أخذا هي وعلي مضاجعهما، طرقهما الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء حتى جلس بينهما، فقال: ما الذي جاء بك يا بنت رسول الله؟ فاستحيت وسكتت، فقال علي -رضي الله عنه وأرضاه- أنا أخبرك يا رسول الله، إن فاطمة قد جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وحملت القربة حتى أثرت في نحرها، وأوقدت على القدر حتى دكنت ثيابها، وإني سمعت أن خداماً أو أعبداً جاءوك، فقلت لها: اسأليه صلى الله عليه وسلم خادماً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، إذا أويتما إلى مضاجعكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين فإنه خير لكم من خادم} والحديث أصله في الصحيح، وخرج من عندهما صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إن هذه الأذكار قد جربت لمن حافظ عليها عند النوم أنه يجد من القوة والقدرة على معاناة الأعمال ما لا يجد غيره" وهذا سر فيها، يدل عليه توجيه النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة وعلي إلى ذلك، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه [[فوالله ما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل له: ولا ليلة صفين قال: ولا ليلة صفين]] . وهذه القصة أيضاً ليست هي الوحيدة، بل إنني أقول: إن معظم نساء الصدر الأول من زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم أو زوجات الصحابة كن على مستوى قريب من هذا المستوى. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 11 نموذج أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها يروي الإمام مسلم في صحيحه [[أن الحجاج حين صلب عبد الله بن الزبير، وضعه على جذع في عقبة المدينة وهو موضع في مكة، وكانت تمر به قريش ويمر به الناس، فمر به عبد الله بن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- فوقف عليه -أسيفاً حزيناً- فقال: السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، السلام عليك يا أبا خبيب، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا، ثم قال: أما والله إنك إن كنت ما علمتك إلا صواماً قواماً وصولاً للرحم، والله لأمة أنت أشرها لأمة خير. ثم نفذ عبد الله بن عمر في طريقه، فسمع الحجاج بالخبر، فأمر بإنزال عبد الله بن الزبير من الجذع فأنزل وألقى به في مقابر اليهود، والحجاج طاغية آخر من الطغاة الذين حفل بهم التاريخ، فألقى هذا الصحابي الجليل الذي له من المآثر العظيمة، التي لا يتسع المجال لذكرها وهو أول مولود بعد الهجرة في المدينة، وأول ما وصل إلى بطنه هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح، ومع ذلك يجرؤ هذا الرجل على أن يلقي به بين قبور اليهود، ثم يرسل هذا الطاغية رسولاً إلى أمه أسماء رضي الله عنها يرسل إليها رسولاً لتأتي إليه، فترفض أسماء وتقول: لا آتى إليه، وحين يأتيه الرسول، يقول له: ارجع إليها وقل لها لتأتيني أو لأبعثن إليكِ من يسحبك بقرونكِ، فتقول: لا والله لا آتيه، فليبعث إلي من يسحبني بقروني. فلما رأى الحجاج صلابتها قال: أروني سبتيتي -أي أعطوني حذائي- فلبس نعاله وذهب إليها، فدخل عليها مغاضباً مستفزاً لها يقول: هل سرك ما صنعنا بعدو الله؟ وهو يعلم أنه ليس بعدو الله؟! وهو يعلم أنه ابنها الذي غذته بلبنها، وفرحت به صغيراً وربته كبيراً، ويعلم أن فقده عليها عزيز، ومع ذلك يقول: هل سرك ما صنعنا بعدو الله؟ -قالت: " أما والله إن كنت أفسدت عليه دنياه، فلقد أفسد عليك دينك" فانظر إلى حكمة هذه المرأة وقوة منطقها وغلبتها لمثل هذا الطاغية بالحجة والبيان، ثم قالت رضي الله عنها: بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين -كأنه يعيره بهذا- وأنا ذات النطاقين، كان لي نطاقٌ فشققته نصفين، أحدهما أرفع به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطعام أبي بكر على الدواب وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه -وكأنها تقول: فكيف تعيره بهذه الفضيلة والمحمدة، فيصبح الأمر كما قيل: إذا ما محاسني اللاتي أدل بها صارت عيوباً فقل لي كيف أعتذر ولقد سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه سيكون في ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فقد عرفناه -وتعنى بذلك والله أعلم المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي نسب إليه ادعاء النبوة- "وأما المبير" -ومعنى المبير: الذي يكثر القتل في الناس- فوالله ما أحسبه إلا أنت، فخرج الحجاج من عندها يجر ثوبه منكسراً ولم يرد عليها، بل إنه قال في بعض الروايات: جئنا لنعلمها فعلمتنا أو نحو ذلك]] فهو يشعر بأنه جاء ليوبخها فوبخته هي، وخرج من عندها بهذه الصورة! فهذه صورة امرأة فقدت ابنها فلم تتزعزع ولم تتزلزل، بل إن بعض الروايات تقول: إن ابن الزبير حين حصر بمكة جاء إلى أمه يقول لها: [[يا أماه أنت ترين الآن وقد حاصرني العدو، وقَلَّ من معي من الجند، ولا بد من الهزيمة، فما رأيك أن أستسلم لهم وأدع القتال، فقالت له: إن كنت إنما تقاتل في سبيل الله، فلا يسعك أن تتخلف عن القتال ما دامت روحك في جسدك، وإن كنت تقاتل في سبيل الدنيا فبئس العبد أنت، فقال لها: والله يا أم ما قلت ذلك إلا لأختبر صبرك فقد عرفت]] وفعلاً حققت هذه الأم من الصبر ما حققت. أيها الإخوة: هذه صورة من صور القوة، تُطالب المرأة المسلمة اليوم بأن تجعلها نصب عينيها، وأن تدرك أن بإمكانها أن تقاوم الفساد والانحراف، وأن تقف في وجه المغريات الكثيرة التي تضج بها المجتمعات. وهناك صور أخرى تعبر عن جوانب غير جانب القوة والصبر الذي سبق فمن ذلك جانب القيام بالمهمات، والأعمال الطبيعية التي أنيطت بالمرأة، فالمرأة خلقت لمهمات محددة واضحة، تتعلق بمشاركة الزوج في البيت وخدمته، ورعاية الأولاد، وبناء الأجيال، وما أشبه ذلك من الأعمال. وانظروا إلى صورة أخرى، وهى صورة امرأة من أفاضل النساء، وكفاها فخراً وشرفاً أنها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم، أفضل الأولين والآخرين. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 12 نموذج ماشطة بنت فرعون فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه شأن هذه المرأة وأولادها، تُرى ما شأن هذه المرأة، التي وجد النبي صلى الله عليه وسلم طيب ريحها وزكاه في السماء، وهو في الملأ الأعلى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قلت: وما شأنها يا جبريل؟ فقال جبريل: إن هذه الماشطة، بينما كانت تمشط ابنة فرعون، إذ سقط المدرار -وهو المشط- من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: (أبي) -تربَّت هذه البنت على أن أباها هو الله فلم تكن تعرف غيره وفق التربية، وإن كانت الفطرة موجودة- فلما قالت هذه المرأة: بسم الله، فسألتها: أهو أبي، فقالت الماشطة: لا، ربي وربك ورب أبيك هو الله الذي في السماء، فقالت: هل أخبر أبي بذلك؟ قالت: نعم. أخبريه -هذا التحدي من امرأة خادمة في قصر فرعون، تتحدى هذا الفرعون الطاغي، ولا تأبه فتقول: نعم أخبريه- فتذهب البنت إلى أبيها وتقول له: يا أبتي إن الماشطة تقول: إن ربى وربها وربك هو الله، فدعا فرعون الماشطة وسألها: أو لك رب غيري؟ قالت نعم. ربي وربك الله، فأمر هذا الطاغية المتأله بنقرة من نحاس -أي قدر- فأحمي عليه في النار حتى أحمر، ثم أتى بأولادها وبدأ يقذف بهم في هذا القدر واحداً بعد الآخر، على مرأى من أمهم المؤمنة المحتسبة، وتجلدت هذه المرأة في وجه الطغيان وصبرت ولم تهن عزيمتها، أو تضعف قوتها، حتى كان معها صبي يرضع فكأنها أشفقت عليه ورحمته وترددت هي بعض التردد، فأنطق الله عز وجل هذا الصبي فقال: يا أماه اصبري فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فتقدمت وألقت بنفسها في هذا القدر، وقالت لفرعون: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟ قالت: إذا قتلتنا أن تضع عظامي وعظام بني في بيت أو قبرٍ واحد، فقال: ذلك لكِ علينا من الحق} . يقول ابن عباس -رضي الله عنه وأرضاه: [[تكلم في المهد أربعة -أربعة صغار- عيسى بن مريم، وابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب قريش]] والحديث رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورواه بإسناد آخر ابن ماجة في سننه. هذه الصورة العظيمة، التي لا تكاد تتكرر على مدار التاريخ، إنما صنعتها امرأة لم تصنعها بقوتها، بل بقوة الله، ولولا أنها تملك من قوة الإيمان، ورباطة الجأش ما تملك، لما استطاعت أن تقف هذا الموقف الذي ينهزم فيه أكابر الرجال وليس هذا الموقف فريداً أو يتيماً في تاريخ المرأة المسلمة، فإننا نجد في هذه الأمة المختارة المصطفاة، امرأة جددت لنا موقفاً شبيهاً بهذا. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 13 عناية المرأة بطلب العلم وتحصيله إخواني وأخواتي: إن هذه النماذج المتعلقة لعرض صور من الحياة الطبيعية التي كان يعيشها الجيل الأول يقابلها نماذج في الجانب الثاني أو الثالث وهو عناية المرأة بطلب العلم وتحصيله، فلم يلهها هذا عن هذا، وأكتفي بعرض صورتين ناطقتين معبرتين عن ذلك:- الجزء: 113 ¦ الصفحة: 14 تأثر الصحابة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم انظر هذا الفقه الدقيق من هذه المرأة، إن فقد الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ليس بالهين على أناس قد عايشوه مدة طويلة وحل منهم محل الروح من الجسد صلى الله عليه وسلم، وأحبوه أشد ما يكون الحب وأذكاه، ولما مات صلى الله عليه وسلم أنكروا أنفسهم حتى أظلم كل شيء في المدينة، وحتى كانوا كالغنم المطيرة، وبلغ التأثر بهم مبلغه، مع كل هذا تقول: إنني لم أبك فقط لفقد الرسول صلى الله عليه وسلم لأنني أعلم أنه انتقل إلى خير مما كان فيه، ولكنني أبكي انقطاع الوحي من السماء! إنها تدرك أن الوحي هو الطريق الوحيد لمعرفة دين الله، وشرعه، وأن السماء لن تفتح أبوابها أبداً. هذه أيها الإخوة والأخوات ثلاثة جوانب: الجانب الأول: جانب قوة المرأة وصبرها وتحملها لما تلقى في سبيل الله. والجانب الثاني: إن المرأة مع ذلك، ومع اشتغالها بشئون دينها ودعوتها، فإن هذا لم يصرفها عن القيام بأعمالها الطبيعية التي كلفت بها. والجانب الثالث: أن هذا وذاك لم يصرفاها عن السعي في طلب العلم وجمعه وتحصيله. أسأل الله عز وجل أن يصلحنا جميعاً رجالاً ونساءً وأن يحمينا من كيد أعدائنا، وأن يبصرنا بمواطن الضعف في أنفسنا. وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 15 نموذج أم أيمن رضي الله عنها والأنموذج الثاني: هو ما ورد في الصحيح أيضاً عن أنس بن مالك -رضي الله عنه وأرضاه- قال: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر لـ عمر: انطلق بنا إلى أم أيمن -وكانت أم أيمن حاضنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم- انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فذهبا إليها فلما دخلا عليها بكت! -وكانوا حدثاء عهد بقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: والله إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنني أبكي انقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها!]] . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 16 نموذج عائشة رضي الله عنها فقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، على رغم صغر سنها يوم دخل بها النبي صلى الله عليه وسلم وهى بنت تسع سنين، كما في الصحيح وتوفى عنها وعمرها (18) سنة، ومع ذلك فقد كانت أنموذجاً للحفظ والضبط والعلم، حتى إنها حفظت للأمة خيراً كثيراً، وقال أبو موسى -رضي الله عنه وأرضاه-: [[ما سألنا عائشة رضي الله عنها عن شيء إلا وجدنا عندها منه علماً]] فهي معلمة الرجال. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 113 ¦ الصفحة: 18 حكم خروج المرأة دون علم زوجها السؤال ما حكم خروج المرأة دون علم زوجها؟ الجواب إذا كان خروج المرأة لغير غرض، وبدون إذن الزوج، فهي معصية للزوج، بحيث إذا رفض الزوج أن تخرج فلا تخرج، ولو لم يرفض لكنها تعلم أنه لا يوافق، فلا ينبغي ولا يجوز لها أن تخرج بدون علمه، كما أن الخروج لغير حاجة أصلاً ليس مطلوباً من المرأة. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 19 حكم تأخير المرأة للصلاة السؤال كثير من النساء يؤخرن صلاة العشاء إلى قبيل الفجر الساطع، ذلك لأنهن يقعدن في الأعراس، فلا يأتين إلا متأخرات، وحين يأتين يغفلن عن الصلاة، أو يتساهلن بداعي الكسل والتثاؤب والنوم، فما الحكم في ذلك؟ الجواب لا ينبغي للإنسان أن يتعامل مع الصلاة، التي هي مُثول بين يدي الله عز وجل بهذه الطريقة، ويجب أن نؤدي الصلاة في أي مكان حللنا فيه، وليس بالضرورة أن للصلاة مكاناً خاصاً، وثوباً خاصاً لا يمكن أن تؤدى إلا فيه، بل إذا التزمت المرأة بالستر في صلاتها، فلها أن تصلي في أي مكان وبأي ثوب، أما صلاة العشاء فإن النبي صلى الله عليه وسلم ربما أخرها إلى ثلثي الليل، وفي بعض الروايات إلى نصف الليل، فلا ينبغي أن يتعدى بها هذا. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 20 حكم سفر المرأة بدون محرم السؤال ما حكم سفر المرأة في الطائرة لوحدها؟ الجواب هذا يدخل في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم في الصحيح عن أن تسافر المرأة إلا ومعها ذو محرم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من المتعظين {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:18] . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 21 نصيحة حول الخشوع في الصلاة السؤال تقول السائلة: أنا فتاة مسلمة أخاف ربي وأصلي بفضل الله، لكني لا أخشع في صلاتي وأفتقر إلى الخشوع، أي أنني كثيرة التفكير أثناء الصلاة، بماذا تنصحني؟ الجواب الخشوع -أيها الإخوة والأخوات- هو أول علم يفقد من الأرض، ولذلك في الحديث الصحيح بمجموع طرقه عن زياد بن لبيد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هذا أوان يختلف العلم من الناس، حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال له زياد بن لبيد: يا رسول الله، كيف وقد قرأنا القرآن؟ فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت أعدك من فقهاء المدينة، هؤلاء اليهود والنصارى عندهم التوراة والإنجيل، فما أغنت عنهم} . قال الراوي وهو سالم بن أبي الجعد: فلقيت عبادة بن الصامت فسألته، فقال: [[إن شئت لأحدثك بأول علم يرفع من الأرض: الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع، فلا ترى رجلاً خاشعاً]] والخشوع: حالة في القلب -ليس هو تكلف الدمع والبكاء- لا يملك الإنسان لها دفعاً، وهي مرحلة تحتاج إلى صبر ومجاهدة ووقت واستمرار. أما الذي يظن أن هذه الأشياء سوف تأتيه بمجرد أنه يريدها فهذا صعب، فعلى الإنسان أن يجاهد نفسه على تفهم القرآن، وعلى استحضار القلب في دعائه وذكره، وعلى تغيير الأذكار الذي يدعو بها والتنقل بين الأذكار الواردة، وكذلك التنقل بين السور القرآنية فلا يداوم على سورة يقرؤها في كل صلاة، بحيث قد يقرءوها وقلبه غافل، بل يحرص على أن يختار اختياراً حتى يستحضر قلبه، ومع المجاهدة تحصل الهداية: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 22 حكم ذهاب المرأة إلى المدرسة أو السوق بدون محرم السؤال كثير من الفتيات يأتين إلى الأسواق والمدارس بدون محرم فهل هذا جائز؟ الجواب يأتين إلى الأسواق والمدارس بدون محرم، هل المقصود أنهن يركبن مع رجال أجانب كالسائقين -مثلاً- فهذا الأمر فيه خطورة كبيرة جداً كما تعلمون، والمرأة حين تركب في السيارة مع هذا السائق تكون في وضع يشبه الخلوة من بعض الوجوه، ويمكن أن يجري بينهما حديث أو أحاديث، ويمكن أن يكون هناك نوع من الألفة بسبب استمرار هذا العمل، وهذا أدعى إلى وقوع المحظور. فعلى المرأة أن تحتفظ بكرامتها، وتصون عفافها، وتبتعد عن كل ما يمكن أن يدنسها. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 23 حكم خروج المرأة متزينة متطيبة السؤال إذا خرجت المرأة متزينة أو متطيبة فما الحكم في ذلك؟ الجواب لا يجوز للمرأة أن تخرج إلى الأسواق أو غيرها متطيبة، لأن النهي ورد عن خروجهن إلى المساجد متطيبات، بل قال صلى الله عليه وسلم: {وليخرجن وهن تفلات} فكيف بالخروج إلى غير المساجد، إلا أن تكون ستذهب إلى مجتمع من النساء، فهذا أمر آخر. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 24 حكم سماع الأغاني السؤال ما حكم سماع الأغاني مع ذكر دليل مختصر؟ الجواب سماع الأغاني لا يجوز، وأقصد بالأغاني ما يتبادر إلى أذهانكم جميعاً، من سماع هذه الكلمة، وهو الغناء الذي فيه الغزل، والدعوة إلى الفساد، وهو ما ينشر ويبث بين الناس اليوم، أما الأدلة على ذلك، فقد استدل بعضهم بقول الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان:6] وأقسم بعضهم أنه الغناء، وورد في ذلك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، منها حديث أبي مالك الأشعري في صحيح البخاري، قال: قال صلى الله عليه وسلم: {ليكونن في آخر أمتي أقوام يستحلون الحِر والحرير، والخمر والمعازف} والحر هو الفرج. فهم (يستحِلُّون) ، معنى ذلك أنها أشياء محرمة استحلوها، كالزنا ولبس الحرير، والخمر، وقرن بها المعازف، فدل دلالة واضحة على حرمتها، ومن أراد المزيد عن هذا فليرجع إلى كتاب إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان للإمام ابن القيم. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 25 حكم مصافحة المرأة لغير المحارم السؤال ما حكم مصافحة النساء للرجال غير المحارم؟ الجواب لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: {لأن يطعن في يد أحدكم بمخيط من حديد خير له من أن يمس امرأة لا تحل له} وفي حديث عائشة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مست يده يد امرأة قط، إلا امرأة يملكها، إنما كان يبايعهن كلاماً} . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 26 حكم أخذ المرأة من مال زوجها دون علمه إذا كان لحاجة السؤال إذا أخذت الزوجة مبلغاً من مال زوجها دون علمه فاشترت به حوائج لبيته وبيتها، هل هذا جائز؟ وهل للأخذ إذا كان جائزاً مقدار؟ الجواب إذا كانت الحوائج التي أخذت لها حوائج ضرورية، بخل الزوج بالإنفاق فيها، فإنه يجوز لحديث هند بنت عتبة أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: {إن أبا سفيان رجلٌ شحيح، فهل آخذ من ماله لي ولولدي؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك} . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 27 حكم رفع الصوت بالبكاء على الميت السؤال هل يجوز رفع الصوت للنساء في البكاء أثناء التعازي مثلاً أو فقد الأحياء؟ الجواب البكاء هو فطرة وطبيعة، وقد دمعت عينا الرسول صلى الله عليه وسلم في العديد من المواقف، دمعت عينه حين مات عثمان بن مضعون، ودمعت عينه حين مات ابنه إبراهيم، وفي مواقف أخرى، فاستغرب الصحابة وقالوا: {ما هذا يا رسول الله؟! قال: هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} . لكن رفع الأصوات بالبكاء هو النياحة المنهي عنها. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 28 مشكلة رفض المرأة للزواج بحجة إتمام الدراسة السؤال كثير من الفتيات يتقدم لهن بعض الشباب فيرفضن ذلك بحجة إتمام الدراسة، مع أن المتقدمين أكفاء أمناء فما رأيكم في ذلك؟ الجواب هذه الحقيقة من المشكلات الكبيرة في مجتمعنا، والتي أصبحت ظاهرة خطيرة، ونحن ننادي دائماً بأن المرأة يجب أن تنسجم مع فطرتها، ويجب ألا تغالب الفطرة، لأن الذي يغالب الفطرة والجبلة فهو مغلوب، فالمرأة تعرف بلا شك، أن الغريزة فطرة مركوزة فيها، وأنه لا بد من إشباع هذه الغريزة بالطريقة الشرعية الصحيحة. في حين أن الدراسة أمر مهم ولا شك، لكنه ليس بنفس القدر، فتجد كثيراً من الفتيات يرفضن الزوج الكفء بحجة مواصلة الدراسة، فيواصلن الدراسة فتكبر أعمارهن، فيعزف عنهن الخطاب، لأن قطار الزواج أو شك أن يفوت، فيتقدم لها إنسان أقل من الأول الذي تقدم لها، فترفضه؛ لأنها تطمع أن تحصل على نفس النوعية أو أفضل، فتظل تقدم تنازلات بعد فوات الأوان. فلذلك تجد عدداً من الفتيات يتقدم بهن السن، ويتركن الزواج، أو يصرن إلى حال لو تصورنها قبل لبادرن إلى الزواج. فأقول: قضية الزواج قضية فطرية، وأنصح كل مسلمة أن تعتبر الزواج أهم من الدراسة وأهم من غير الدراسة، إلاَّ إذا أمكن التوفيق بين الأمرين فهو شيء طيب. أما أن تكون طالبة وقد تكون في كلية الطب -مثلاً- فتقضي سبع سنوات في الدراسة بعد المرحلة الثانوية، ثم بعد هذه كله تريد أن تحصل على الزوج الذي يناسبها، فهيهات لا أظن أن الزوج سوف يجلس في انتظارها، بل قد يضطر بعض الناس الطيبين إلى الزواج بنساء غير متعلمات، وأقل مستوى من المطلوب لهذا السبب. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 29 استعمال حبوب منع الحمل في رمضان لمنع الطمث السؤال هل حبوب منع الحمل جائز استعمالها في رمضان، لتأخير الطمث؟ الجواب الأولى ألا تستعمل المرأة هذه الحبوب في رمضان؛ لأن هذه أيضاً قضية فطرية، والحيض وظيفة عضوية، يجب أن تؤدي دورها بصورة طبيعية ولا نتعرض لها، وكثرة استعمال المرأة للحبوب المانعة للحمل، يؤثر عليها كما ذكر ذلك الأطباء، والشرع أباح لها أن تفطر، بل أمرها وأوجب عليها أن تفطر إذا كانت حائضاً وتقضي أياماً أخرى. أما لو كانت المرأة في الحج، وحاضت قبل أن تطوف بالبيت، أو خشيت الحيض قبل أن تطوف بالبيت، ففي مثل هذه الحالة يمكن أن تتناول هذه الحبوب، حتى تتمكن من إتمام حجها، خاصة إذا كانت مع رفقة قد يسافرون ويتركونها، أو قد تتعرض لبعض الإحراجات. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 30 من صام الست من شوال لا يلزمه صيامها كل عام السؤال هل يلزم من يصوم الست من شوال -مثلاً- يصومها في أول سنة تطوعاً، هل يلزمه بذلك أن يصومها كل عام، بمجرد صيامه لها لأول مرة؟ الجواب أبداً لا يلزمه ذلك، بل هي تطوع لو شاء صامها ولو شاء لم يصمها، ولو صام بعضها أُجر على ما صام، ولو صام في سنة وترك الصيام في سنة أخرى، فهذا أيضاً لا شيء فيه، ولكن الأفضل دائماً أن يصومها الإنسان لما ورد من فضلها. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 31 مخاطبة المرأة للرجل عبر التليفون بعبارات لينة السؤال تتساهل كثيرٌ من الفتيات بالمكالمات الهاتفية، أو مخاطبة الرجال بعبارة لينة، فهل في ذلك خضوع في القول؟ الجواب نعم، إذا كان فيه تساهل، وعبارات لينة، واسترسال في الحديث أيضاً، فإن هذا نوعٌ من الخضوع بالقول، الذي نهيت عنه المؤمنات، ونهيت عنه أمهات المؤمنين بالدرجة الأولى، في قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] . وإذا كانت أم المؤمنين منهية عن الخضوع بالقول لئلا يطمع الذي في قلبه مرض، فما بالك بغيرها. فيجب على المرأة أن تبتعد عن هذه الأشياء التي لا تنفعها في دينها ولا في دنياها، بل هي مجرد مضيعة للأوقات وإشغال للقلب. أقول: ومن الخضوع بالقول سلام المرأة إذا دخلت على صاحب الدكان، فالنتيجة والعلة ظاهرة فيطمع الذي في قلبه مرض. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 32 نصيحة لمواجهة المضايقات التي تجدها الفتاة الملتزمة السؤال تجد الفتاة المتدينة مضايقة في بعض الأحيان من أهلها، ومن بعض زميلاتها، فكيف تصنع؟ الجواب ذكرنا خلال المحاضرة نماذج لصبر المرأة المسلمة، فليس أمام الفتاة المسلمة إلا الصبر، وتحمل هذه المضايقات، مع الحرص على أن يكون جانبها سليماً، بمعنى ألا تكون هي بادأت غيرها بنوع من التعدي، فعليها أن تؤدي حقوق والديها -مثلاً- وحقوق زميلاتها، وحقوق معلماتها، بقدر ما تستطيع، وتتجنب الأشياء التي تثيرهم من الأمور التي ليست واجبة في الدين، ثم إذا حاربوها لأنها متدينة، أو متمسكة بدينها، فعليها أن تصبر وتواجه ذلك قدر ما تستطيع بالهدوء، هدوء الأعصاب، ورباطة الجأش، وتستعين بالله عز وجل فإن الله عز وجل قريب يسمع دعاء الداعين، ويجيبهم كما وعد سبحانه {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 33 حكم مخالفة أمر الوالدين بغير علمهما السؤال والدي حلف ألا يدخل الفيديو بيته، فقد عصيته بذلك وأدخلته سراً وهو لا يدري، هل ذلك ينافي بر الوالدين؟ الجواب لا شك أنه ينافي بر الوالدين، وينافي طاعة الله عز وجل والمصلحة، فإن إدخال هذا الجهاز إلى البيت الأعم الأغلب من أحواله، أنه تعرض فيه الأفلام الساقطة، فهو مدعاة إلى انحطاط المجتمع وفساد البيت بمن فيه، ولهذا وقف هذا الأب ضد دخوله في البيت كما يقف ضد دخول اللصوص والسراق، بل أشد من ذلك، لأن لصوص الأموال أهون وأخف ضرراً من لصوص الأعراض ولصوص الأخلاق. فهذا الفعل هو عصيان لله عز وجل، ثم هو عصيان للوالد ومخالفة لبره، لأنه أمرك بأمر فيه طاعة لله فعصيته وخالفت أمر الله عز وجل. وهناك من يقول: إنني قد أستعمل هذا الجهاز في أفلام نافعة، فأقول: الواقع أن الأفلام المفيدة النافعة اليوم تعد على الأصابع، فهي قليلة، فيشاهدها الإنسان ثم تنتهي فيذهب لينظر كما ينظر غيره من الناس. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 34 وجوب قضاء صوم من أفطر جاهلا ً السؤال تقول السائلة: لم أصم في العام الذي بلغت فيه، فهل علي قضاء ذلك حيث إنني صغيرة ولا أدري، بعدما علمت أمارات البلوغ علمت وعرفت بأني فَوَّتُّ على نفسي عاماً لم أصمه في بداية البلوغ، فهل أصومه أم ماذا، وأنا كبرت الآن؟ الجواب نعم، عليها أن تقضي ما فاتها من الصيام، سواء بلغت قبل الشهر فتصوم الشهر كله، أو بلغت في أثناء الشهر فتصوم ما أدركت منه. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 35 تغطية الوجه السؤال هل الحجاب منه تغطية الوجه، أم لا بأس من إظهاره؟ وهل هناك دليل على ما تقولون؟ الجواب أما الحجاب فتغطية الوجه منه، وقد أمر الله عز وجل نساء المؤمنين، أن يضربن بخمرهن على جيوبهن، والضرب بالخمار على الجيب هو أن الخمار ينزل من أعلى الرأس إلى الجيب، فيشمل هذا تغطية الوجه، وقد قالت عائشة رضي الله عنها كما في الصحيح أبو الأعلى المودودي رحمه الله ألف كتاباً سماه: الحجاب، وهو كتاب نافع، ومنهم الشيخ الإمام ابن تيمية، ومنهم الشيخ محمد بن عثيمين، وهناك أيضاً رسالة مفيدة اسمها رسالة الحجاب لـ عبد القادر السندي. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 36 زيارة المرأة لقبر النبي صلى الله عليه وسلم السؤال ما حكم زيارة المرأة لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب الذي يظهر أن الأولى بالمرأة ألا تزور المقابر كلها لعموم النهي، كما في قول أم عطية رضي الله عنها في الصحيحين: [[نهينا عن اتباع الجنائز]] ولما يترتب على ذلك من خوف الفتنة، وإذا كانت الفتنة مخوفة بزيارة قبر إنسان عادي، فهي أخوف بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم. وكذلك لا يجوز لرجل ولا امرأة أن يسافر لزيارة قبر ما، وإنما يقول ذهبت أو سافرت لزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وأثناء وجودي أسلم على رسول الله -إذا كان رجلاً- وإذا كانت امرأة فالحديث كما سمعتم عامٌ ومطلق: {لعن الله زائرة القبور} . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 37 حكم دخول المرأة للمسجد وهي حائض السؤال ما حكم دخول المرأة المسجد لسماع الخطبة وهي حائض؟ الجواب ورد في حديث فيما يتعلق بصلاة العيد عن أم عطية أيضاً وفيه قولها: [[فأمرنا أن نخرج في العيدين العواتق وذوات الخدور، وأمر الحُيَّض أن يعتزلن مصلى المسلمين]] . أي: أنه لا يجوز لها أن تدخل المسجد وتمكث فيه وهي حائض، وإن كانت تستمع خارج المسجد أو في بيتها فلا بأس، هذا ملخص الإجابة والله أعلم. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 38 حكم قراءة القرآن للحائض السؤال ما حكم قراءة القرآن للضرورة للمرأة الحائض؟ الجواب حقيقة لا أستطيع أن أفتي بهذا، لكنني أنقل لكم فتوى للشيخ محمد بن عثيمين، أن هذا يرخص فيه للضرورة الملحة، ويحسن ألا تمس المصحف، بل يكون من وراء ستار. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 39 حكم مجامعة الرجل لزوجته وهي حائض وهو لا يعلم السؤال ما حكم الرجل إذا جامع زوجته وهي حائض ولم يعلم بأنها حائض إلا بعد ذلك وهي تعلم، فما الحكم على الرجل وعلى المرأة؟ الجواب لا شك أن القضية إن كانت كما وصف، فالإثم في هذه الحالة على المرأة، حيث مكنت الرجل من نفسها، دون أن تشعره بذلك، أما الرجل فإن كان لا يعلم فإن الله عز وجل لا يؤاخذه على ذلك. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 40 نصيحة إلى موسوس السؤال إذا صليت أكثر من الوسواس في صلاتي، فاضطر إلى إعادة الصلاة، فهل هذا جائز في حقي؟ الجواب هذه الوساوس هي من كيد الشيطان بلا شك، والله عز وجل يقول: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] لكن لا بد من نوع من المجاهدة فالإنسان الذي ابتلي بهذه الوساوس سواء كانت وساوس في الوضوء أو في الصلاة، أو في غير ذلك. لكن على الإنسان أن يقف وقفة حاسمة وسيجد أنه خلال مدة وجيزة قد تخلص من هذا الوسواس، وقد جرب ذلك مراراً، وثبت أنه يمكن فعلاً خلال مدة قصيرة التخلي عنه، لكن بشرط أن يكون لدى الإنسان إرادة قوية، ينفذ فيها ما يقتنع به، فعلى الإنسان -مثلاًً- إذا كان يوسوس في الصلاة بزيادة، أو نقص، ثم يعيد الصلاة، فإذا أعادها وسوس مرة أخرى، عليه ألا يلتفت إلى هذا الوسواس، فيصلي ولا يلتفت إلى هذا الوسواس، ولا يسجد للسهو أيضاً، ويظل على هذا الأمر ولا يلتفت لهذا الوسواس أصلاً، ولا يعيد الصلاة بطبيعة الحال، ولو وسوس له الشيطان بأن وضوءه سقط لا يقبل. وسيجد خلال عشرة أيام -مثلاً- أو نصف شهر، أن هذه الوساوس بحمد الله قد زالت، وقد ذكر بعض الناظمين الحالات التي لا يؤثر فيها الشك، يقول أحدهم: والشك بعد الفعل لا يؤثر وهكذا إذا الشكوك تكثر فإذا كثرت عند الإنسان الشكوك والوساوس، فإنها لا تؤثر ولا يلتفت إليها. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 41 حكم كشف الوجه لغير المحارم السؤال هل يجوز للمرأة أن تكشف وجهها عند أخي زوجها مثلاً؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم سئل عن الدخول، قال: {إياكم والدخول على النساء، فقيل يا رسول الله: أرأيت الحمو؟ -والحمو هو قريب الزوج، أخوه أو ابن أخيه، أو ما أشبه ذلك- قال صلى الله عليه وسلم: الحمو الموت} إشارة إلى خطورة التساهل به، وذلك لأن كثيراً من الناس بسبب اجتماع العائلات في بيت واحد يتهاونون بهذا الأمر، فتتهاون المرأة بالكشف لأقارب زوجها، ويتهاون الزوج بذلك أيضاً فلا يأمرها به. وقد يحدث أن يقبل إنسان من هؤلاء الأحماء على زوجة أخيه مثلاً، فيرى من جمالها ما يغريه بها، ويدفعه إلى الفتنة، أو يحدث العكس، فحذر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا لكثرة وقوعه في الناس، وكثرة وقوع الناس فيه، فأخو الزوج لا يقل خطورة عن الرجل الأجنبي في ذلك. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 42 انقطاع نفاس المرأة قبل الأربعين السؤال إن مدة الطهر من النفاس المعتادة أربعون يوماً، فإذا طهرت قبل هذا المدة بعشرة أيام مثلاً، أو أكثر أو أقل قبل الأربعين، فهل تغتسل وتصلي وقت طهرها، وتبيت إلى جوار زوجها؟ الجواب نعم. إذا طهرت المرأة من النفاس في أقل من أربعين يوماً بعشرة أيام أو أكثر أو أقل، فإنها من حين طهرت مطالبة شرعاً بالاغتسال، وأداء الصلاة ولها أن يعاشرها زوجها. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 43 كلام المرأة مع الرجل في الهاتف السؤال ما حكم تكليم المرأة للرجل الأجنبي من خلال الهاتف، وذلك لأنها مضطرة في تكليمها له؟ الجواب التكليم إذا كان يؤمن فيه الفتنة فهو جائز، أما إذا خشيت الفتنة فهو لا يجوز، وكثير من الأمور المباحة عند خوف الفتنة تتحول إلى محرمات، فإذا اضطرت المرأة إلى تكليم رجل أجنبي سواء في التلفون أو مباشرة، فإن لها ذلك، سواء كانت هذه الضرورة لسؤال، أو كانت لخبر، أو لغير ذلك من الموضوعات. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 44 مساعدة الرجل لزوجته في العمل المنزلي خاصة أثناء الحمل السؤال مما لا شك فيه هو وجوب طاعة الزوجة لزوجها، ولكن ما هو حق الزوجة في تعاون زوجها معها، وخاصة أثناء الحمل، أو الوضع، أو الرضاع، والأوقات التي تحتاج لتعاون الرجل معها في شئون الحياة، فهل عليها أن تسند إليه بعض أعمال المنزل أو البيت لكي يقوم بها؟ الجواب أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يكون في مهنة أهله، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة، لكن مَنْ مِن الرجال يستطيع ما يستطيعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، على رغم كثرة أعبائه. فتكليف الرجل ببعض أعمال البيت، هو أمر غير عملي، ولا أظن أنه مناسب، لكن لو وجد عند رجل من الرجال أريحية، وتبسط، ومشاركة في هذه الأمور دون مبالاة فهذا أمر طيب. إنما على الرجل أن يتعاون مع المرأة ويقدر ظروفها، فرفقة الزوج لزوجته هي رفقة عمر، وليست أمراً مؤقتاً، الأصل أنها مستمرة حتى الموت، ومثل هذا يحتاج إلى نوع من التنازل من الطرفين، يحتاج إلى تنازل من الرجل فلا يتحقق له كل ما يريد، ويحتاج إلى تنازل من المرأة أيضاً، بحيث تقدم على عمل كثير من الأشياء تلبية لرغبة زوجها ولو لم تكن راغبة في ذلك أصلاً. وإذا أصر كل واحد من الطرفين على تحقيق رغبته فالزوج يصر على تحقيق ما يريد، والزوجة تصر على ألا تحقق إلا ما تريد، فإن ذلك قد يؤدي إلى مشاكل زوجيه، وقد يتعدى الأمر إلى الطلاق. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 45 صلاح المرأة في نفسها وعدم إصلاحها لغيرها السؤال هناك بعض الشابات الملتزمات، ولكن التزامهن يقتصر على أنفسهن وينطوين ولا يقمن بإصلاح المجتمع، فما هي وصيتكم لهن؟ الجواب بالنسبة للفتاة التي التزمت بنفسها، ولم يتعدَّ خيرها إلى غيرها، فإنني أقول -وباختصار- إننا بحاجة إلى الفتاة التي ترفع راية الدعوة إلى الله في أوساط بنات جنسها، وتحرص على أن تكون مؤثرة فيهن، من خلال المدرسة وغيرها، وهذا الأمر لا بد منه، وهناك أملٌ كبيرٌ جداً أن يتحقق هذا الأمر، لأن الصحوة كما قلت قد عمت جميع البلاد الإسلامية. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 46 حكم خروج المرأة إلى العمل خارج البيت السؤال ذكرتم في محاضرتكم أن الغرب يدعون المرأة إلى المساواة مع الرجل إلى قولكم والخروج إلى العمل، فهل خروج المرأة إلى العمل محظور، أو منهي عنه، خصوصاً إذا كانت تخرج متحجبة وتعمل فقط في مجال النساء؟ وكيف يكون الحجاب الشرعي؟ الجواب أعتقد أن هذا السؤال جاء تعقيباً على محاضرة أخرى فيما أتوقع، بحيث أنني لم أتطرق في هذه المحاضرة لقضية المساواة بين الجنسين، وخروج المرأة إلى العمل، وذلك لسبب وهو أن هناك نية لدى بعض طلبة العلم متجهة إلى جمع بعض المحاضرات، وتسجيل محاضرات أخرى في سائر الشئون المتعلقة بالمرأة ونشرها على شكل سلسلة من الأشرطة، ولعل موضوع هذا السؤال يكون موضوعاً لأحد هذه الأشرطة. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 47 كيفية غسل الجنابة للمرأة السؤال كيفية غسل الجنابة للمرأة؟ وضحوها لنا مأجورين؟ الجواب إن المرأة تفيض على رأسها ثلاث حثيات، وتغسله دون أن تحتاج إلى حله، ثم تغسل بقية جسدها ثلاثاً ثلاثاً وتبدأ بميامنه، وقد سمعت من بعض النساء أنهن لا يغسلن رءوسهن من الجنابة، لسبب أو لآخر، لأن الشعر يبطؤ في الجفاف، وهذا لا يجوز أبداً، بل إن المرأة لو صلت وقد تركت غسل رأسها من الجنابة، فإن عليها حينئذٍ أن تعيد الصلاة، لأنها صلت على غير طهارة. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 48 حكم الصلاة التي طهرت المرأة بعد خروج وقتها السؤال إذا انتهت المرأة من الحيض فهل تصلي الصلاة التي اغتسلت في وجوبها أم أيضاً الصلاة التي كانت قبلها؟ كأنها تريد أن تقول إذا اغتسلت من الحيض فهل أصلي فوراً الصلاة التي اغتسلت من أجلها، أم أني أصلي الصلاة السابقة التي قبلها، والتي قد دخل وقتها وخرج قبل أن أطهر؟ الجواب الذي صححه جمع من علمائنا، أن المرأة لا يلزمها أن تقضي شيئاً من الأوقات التي مرت بها وهي حائض، إنما عليها أن تصلي الصلاة التي طهرت فيها، بمعنى أنها لو طهرت في وقت صلاة العصر فيكفيها أن تصلي صلاة العصر، ولا يلزمها أن تصلي صلاة الظهر معها، والله أعلم. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 49 حكم إتيان الرجل المرأة في دبرها أثناء الحيض السؤال هل يجوز أن يأتي الرجل المرأة في دبرها أثناء الحيض فقط؟ فهل هذا صحيح؟ الجواب هذا لا يجوز لا في حالة حيض، ولا في غيره، بل قد سماه الرسول صلى الله عليه وسلم كفراً، وقال عليه الصلاة والسلام: {إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن} . الجزء: 113 ¦ الصفحة: 50 حكم إزالة المرأة لشعر جسدها، وحكم قص شعرها ووضع المكياج السؤال هل يجوز للمرأة أن تزيل الشعر من وجهها وجسدها، وأن تتجمل لزوجها بقص شعر رأسها، ووضع الأصباغ عليه، ووضع ما يسمى بالمكياج؟ الجواب بالنسبة لإزالة الشعر فإزالة شعر الحاجبين لا يجوز، وقد ورد فيه حديث صحيح وأسوقه لأنه مهم، فقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة المتفلجات بالحسن المغيرات خلق الله} وقال: [[وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقامت امرأة فقالت له: يا ابن مسعود لقد قرأت ما بين الدفتين -أي: دفتي المصحف- فما وجدته- ما وجدت ما تقول- قال: لئن كنت قرأته لقد وجدته، ألم تقرئي قول الله تعالى: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)) [الحشر:7]] ] . ثم ساق بذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذه صورة من موقف المرأة في استيضاحها وسؤالها عما أشكل عليها، وأنتم ترون أن هذا المرأة تقول: أنها قرأت ما بين الدفتين. أما إزالة الشعر الموجود في اليدين، أو الساقين فالظاهر أنه لا بأس به، أما قص المرأة شعرها فإن الحديث الذي ورد في صحيح مسلم عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة. فاستدل بهذا بعض العلماء على جواز قص المرأة شعر رأسها، وذهب آخرون إلى منع ذلك خاصة إذا كان منطلقه وسببه التشبه بالنساء الكافرات الأجنبيات، لكن لعل المرأة إذا كانت ذات زوج، ورأت في هذا مزيداً من التحبب إليه، وأن هذا أمر يعجبه، ولم يدر في بالها أنها تتشبه بالنساء الكافرات أنه أقرب إلى الجواز، وإن كانت الاستقلالية عند المرأة المسلمة في العادات والمظاهر مطلوبة. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 51 كتب تنصح المرأة بقراءتها السؤال ما هي الكتب التي توصون النساء باقتنائها وفهمها؟ الجواب أولاً هناك كتب عامة ليست في مواضيع المرأة الخاصة، فهي تصلح للرجل والمرأة، وهذه الكتب كثيرة وفي فنون مختلفة، وأظن أنه سبق في هذا المكان أنني ذكرت بعضها في محاضرات سابقة. أما الكتب المتعلقة بالمرأة خاصة، فإنني أحب قبل أن أذكر بعضها أن ألفت نظر المرأة المسلمة إلى أن ذكر كتاب معين لا يعني بالضرورة توثيق هذا الكتاب توثيقاً مطلقاً، فقد أذكر كتاباً ويكون فيه بعض الأخطاء ولكنه في الجملة كتاب طيب ومفيد، فمن ذلك كتاب للأستاذ أحمد محمد جمال عنوانه: مكانك تحمدي، ومن ذلك كتاب للأستاذ عمر الأشقر بعنوان: المرأة بين دعاة الإسلام وأدعياء التقدم، ومن ذلك كتاب للدكتور مصطفى السباعي عنوانه: المرأة بين الفقه والقانون، وهناك كتب لامرأة هي حرم الدكتور محمد رضا، أحدها: كتاب يتعلق بالتبرج وهو كتاب طيب ومفيد، وهناك كتب لامرأة اسمها حنان لحام، بعضها يتعلق بتفسير آيات أو سور من القرآن الكريم، وهي أيضاً كتب قيمة ومفيدة. المقدم: ولنا أن نتفضل على محاضرنا، ونضيف كتاباً آخر من الكتب التي نراها مهمة فعلاً، وهو كتاب الشيخ البليهي، عنوانه: يا فتاة الإسلام اقرئي حتى لا تخدعي، فحق على كل فتاة ولكل فتاة، أن تقف عنده وتطلع على ما فيه حتى لا تخدع. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 52 طريقة توعية المرأة المسلمة، وخطر المسلسلات الهدامة السؤال الحقيقة أن المرأة في البيت لا تصل إليها الثقافة الإسلامية، والتوعية الدينية الصحيحة، بل إن المرأة غالب وقتها أمام التلفاز والمسلسلات التلفزيونية، والحقيقة أن المرأة المسلمة يخفى عليها من يخطط ضدها من خلال هذه المسلسلات، فهل من إلقاء الضوء على هذه المسألة خصوصاً؟ الجواب أولاً: أقول: إن هذا الذي ذكره السائل الكريم، هو شأن طائفة من النساء، وليس شأن النساء كلهن، فإننا نجد بحمد الله وهذه بشارة يكثر تكريرها وتردادها؛ لأن النفس تفرح وتسر بها، فهي كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع إننا نجد صحوة إسلامية في أوساط النساء، كما نجد ذلك في أوساط الرجال، ونجد من فتيات العصر الحاضر من فاقت كثيراً من النساء الكبيرات سواء في الفهم، أم في العلم، أم في التحجب وعدم ظهور شيءٍ من جسدها للأجانب، أو في غير ذلك من جوانب الالتزام بالسلوك الإسلامي، وهذه والله مفخرة للأمة الإسلامية أولاً التي على رغم الضربات القاسية الموجهة إليها لم تعقم هذه الأمة، ما عقمت، بل لا زالت تخرج لنا المستقيمين الصالحين الثابتين من الرجال ومن النساء، وهو مفخرة للمرأة التي تلتزم بهذا فإنه يدعو إلى الإكبار والإعجاب، وأنت حين ترى امرأة متهتكة متبذلة، تشعر بنوع من السخرية أو عدم التقدير لها، وتحس أنك أمام إنسانٍ غير سوي، لكنك حين ترى هذه المرأة المتحجبة حجاباً إسلامياً صحيحاً، وقد غطت يديها ورجليها وأسبغت الحجاب على رأسها، ولبست ثياباً فضفاضة فإنك تحس بالإكبار والإجلال لمثل هذا النوع من النساء. وهو أنموذج يوجد في كل بلد، ويجب أن يحتذى ويُسار على منواله، لكن لا شك أيضاً في وجود نوع من الجهل لدى كثير من النساء، بسبب ضعف الوسائل المستخدمة في إيصال الثقافة الإسلامية للمرأة، فالمرأة تقضي معظم وقتها في البيت وهذا صحيح بل هو مطلوب أصلا، ولكن يمكن أن تصل إليها أشياء كثيرة من العلم وهي في عقر دارها، وخاصة في هذا العصر فإننا نجد الكتاب الإسلامي قد انتشر بشكل كبير، وهناك كتب إسلامية كثيرة ألفت فيما يتعلق بالمرأة، وهناك الشريط الإسلامي، وهناك أيضاً عددٌ من الأشرطة الإسلامية والمحاضرات المتعلقة بالمرأة، والتي يمكن سماعها. مع أن ما تقرؤه المرأة من كتب أو ما تسمعه من أشرطه، ليس هو فقط ما يخصها أو يتحدث عنها، فهناك أشياء كثيرة تشترك فيها المرأة مع الرجل، فكل موعظة توجه للرجال، هي أيضاً مهمة بالنسبة للنساء، ولكن يجب علينا أن نسعى في نشر العلم الشرعي، وترويج الكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي في البيوت وبين النساء بكل وسيلة، حتى نحقق نوعاً من انتشار الوعي والثقافة الإسلامية. أما ما يتعلق بالمسلسلات سواء أكانت في التلفزيون أم كانت عبارة عن أفلام فيديو أم غيرها، فإنني أقول إن المصيبة أيها المسلمون والمسلمات، إن المصيبة كل المصيبة أن نقع أحياناً في ورطات ندرك نحن أننا مخطئون فيها، ولا يمكن أن يوجد مسلم فيما أظن وأعتقد، يجلس يستمع لهذه المشاهد السيئة، التي ليس فيها إلا ألفاظ الحب والعشق والغرام، والتأوهات والشوق واللقاء وما أشبه ذلك، بل تزيد على ذلك إلى حد أن تصبح دعوة صريحة إلى الزنا في العديد من الحالات. خطر الأفلام والمسلسلات الهابطة: وما أظن أن مسلماً يشاهد هذه الأشياء وهو يحس بأنه يمارس عملاً عادياً أبداً، بل يدرك أنه يتعرض لسخط الله في هذا العمل، وإذا كان يدرك ذلك أصلاً فماذا عسى الواعظين أن يقولوا؟ سيقولون له إن هذا العمل حرام، ويجلب عليك سخط الله، وقد يجر المجتمع إلى عدد من المشاكل التي لا نهاية لها، لكن هذا كله لا أظنه يخفى على أولئك القوم. بل قد تجد بينهم من هو مستعد أن يلقي محاضرة عن أضرار هذه المسلسلات، أو عن أضرار هذه الأفلام، فالقضية قضية إرادة مهزومة، وعزيمة واهنة لم تستطع أن تقف أمام الإغراء، مع أنه إغراءٌُ بسيط. أيها الإخوة هناك مشكلة كبيرة جداً وهي أن الإسلام حين جاء كان من أبرز القضايا التي ركز عليها: هو التفريق بين المسلم والكافر، والتمييز الكامل، ووجود الولاء والنصرة بين المؤمنين، والعداء للكافرين، ومن ذلك جاء النهي عن مشابهة المشركين حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فاليوم أصبح العالم كله جزيرة واحدة، وأصبح ما يعرض في أحط وأردأ وأخس البيئات الغربية الكافرة التي لم تذق طعم الإيمان يوماً من دهرها، دول كافرة لم تكن مسلمة على مدى التاريخ، ولا عرفت الطهر والعفاف، هذا الشيء الذي يعرض في هذه الدول المنحطة، أصبحت تجده في كثير من الأحيان يعرض في أوساط المسلمين بصورة أو بأخرى، وهذا معناه أن الأمة الإسلامية، أصبحت مجرد أمة متطفلة على موائد الغرب، وأصبحت مصانع اليهود في هوليود وغيرها، تصدر الأفلام والمسلسلات، وتملؤها بما يثير الغرائز، ويحرك كوامن الشهوات، ويحطم القيم والأخلاق، وتملؤها بما يبلبل الأفكار، ويهز العقائد، ثم تصدرها إلى هذه الأمة التي أصبحت جاهزة لتقبل مثل هذه الأشياء. فأين الولاء والبراء؟! وأين النهي عن التشبه بالمشركين؟! وأين الاستقلالية التي فطرت عليها الأمة المسلمة؟! فهذه بلية عظيمة تحتاج إلى حديث خاص، قد لا يتسع له هذا المجال. الجزء: 113 ¦ الصفحة: 53 حوار مع الشباب الشباب هم عماد الأمة ومصدر قوتها ونهوضها، ولابد من طرح قضاياهم ومحاولة دراستها وإيجاد الحلول لها، ومنها الوحشة بين غير المتدينين والمتدينين، وخطورة وسائل الإعلام ورفاق السوء والسفر إلى دول الكفر والفراغ العاطفي عليهم؛ وكذلك مواضيع أخرى مهمة كالزواج والانشغال بالتوافه. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 1 ضرورة الحوار مع الشباب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أما بعد: عباد الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن رقم هذا الدرس (93) وعنوانه كما كنت أسلفت لكم (حوار مع الشباب) هذه ليلة الاثنين، الرابع عشر من شهر صفر، من سنة ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة، ويأتي هذا الحديث ضمن سياق محاضرات ودروس حول الشباب، فقد ألقيت في المجلس السابق درساً هاهنا كان عنوانه: (يا شباب) أما اليوم فقد انتقلت من المحادثة إلى الحوار مع إخواني من الشباب. والحوار مع الشباب ضرورة، وأتمنى من قلبي أن نفلح في إقناع إخواننا من الشباب؛ أن يبوحوا بما لديهم من الأسرار والأخبار والمشكلات، وما يعانونه أو يواجهونه في حياتهم من العقبات، فإن ذلك ولا شك هو السبيل الأقوم والأسلم لحل هذه الأمور وتوحيد وجهة المجتمع. إنني قبل أن أبدأ في حواري معهم أو معكم، أشكر كثيراً أولئك الإخوة الذين راسلوني وواصلوني، فقد جاءني كم طيب من الرسائل والاتصالات والمحادثات الشفهية، التي كانت -بعد توفيق الله تعالى- هي عماد هذا الدرس الذي أقدمه لكم الآن، فلأولئك الإخوة الذين بذلوا مجهودهم وكتبوا إليَّ شيئاً قليلاً أو كثيراً، خبراً أو رسالة أو سؤالاً أو محادثةً أو نقداً، أو أي شيء يتعلق بالشباب، لهؤلاء مني جزيل الشكر وصادق الدعاء أن يوفقهم الله جل وتعالى لكل خير في دنياهم وأخراهم. إن أمامي الآن أكثر من عشرة عناوين: أولها: وجه عابر . ثانيها: ماذا عن شباب الهيئات. ثالثها: حديث عن العشق. رابعها: سؤال يطرحه أحد الشباب: متى أتزوج؟ خامسها: موضوع عن الشباب والرياضة. سادسها: شلة الأصدقاء. سابعها: مسافرون إلى الخارج. ثامنها: كلام عن الإعلام والإعدام. تاسعها: عقبات في طريق الالتزام. وأخيراً: تجربة شخصية. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 2 وجه عابر ولكن أيها الإخوة: عفواً؛ فأنا لا أريد حضور المحاضرات بعد الآن، ولا المشاركة في الدروس العلمية، ولا المجيء إلى هذه التجمعات الأخوية الخيرية، لقد أصبحت أضيق بها ذرعاً وأكره الحضور إليها، وأجد نفسي في ضيق وأنا بين رواد الدروس العلمية، والقادمين إلى المحاضرات والكلمات في المساجد أو المراكز أو غيرها. هكذا يتحدث أحد الشباب، وحين تسأله عن السبب، فإنه يقول لك: نعم، أنا أجلس في استراحة أو مزرعة مع مجموعة من أصدقائي صغيرة أو كبيرة؛ وأعترف أن في جلستنا بعض مالا يرضي، وبعض ما نعرف أنه إثم، ولهذا نستره عن الآخرين. فربما كان فيها جهاز التلفاز أو حتى الفيديو، وربما كان الدش منصوباً على سطحها يستقبل القنوات من الشرق والغرب، ولا تخلو تلك المزرعة أو الاستراحة أو المجلس أو حتى الشقة لا تخلو من الدخان أو الشيشة، وربما آلات الغناء والطبول وغيرها. كل هذا يجري ولكننا مع ذلك -بحمد الله- محافظون على صلواتنا حتى مع الجماعة، بعيدون عن ارتكاب الفواحش والموبقات والكبائر، التي نص الله على تحريمها في القرآن وحذر من مغبتها وسوئها، وكنت أطمع قبل ذلك في صلاح قلبي واستقامة حالي، وأن أجد نفسي منتظماً في سلك مجموعة من الشباب الملتزمين، في حلقة من حلق تحفيظ القرآن الكريم، أو في درس علمي أو ما شابه. لكن الأمر تغير، فإنني أصبحت أجد نفسي بين الإخوة الملتزمين كما لو كنت غريباً، تلاحقني النظرات والعيون الجائعة، العيون التي تسأل ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لأي غرض أتيت؟ كما لو كان مجيئي إلى ذلك الدرس عاراً أو عيباً أو أمراً مستنكراً. لقد كنت أتوقع أن يفرح بقدومي الشباب الملتزمون، وأن يستقبلوني بالبشاشة والترحاب، وأن يعبروا لي عن أجمل المشاعر والفرحة والسرور. ولكني أنظر عيوناً زائغة، وأقرأ فيها أسئلة تقول: لماذا جئت؟ ما هدفك؟ هل أنت طالب علم؟ هل أنت راغب في الاستفادة أو في تغيير أو إصلاح؟ ولقد سمعت أكثر من النظرات؛ سمعت كلمات وعبارات تلاحقني وتقول لي: هذا الإنسان وجهه ليس بوجه محاضرات، ولا بوجه دروس علمية، ولا هو من روادها، فأي ذنب جنيته؟ نعم أنا مخطئ، لكن ربما يكون من ينتقدني هو الآخر مخطئاً بأمر آخر ظاهر أو خفي، وأعظم الذنوب ذنوب القلوب. إن هذه الكلمات والنظرات، التي واجهتني وصعقتني من إخواني الملتزمين؛ أبعدتني أمتاراً بل كيلو مترات عن مجال الخير والمشاركة فيه. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 3 الفضول الملاحظة الخامسة: ألحظ أننا نتميز جميعاً -أهل هذا المجتمع- وربما أستطيع أن أقول: المجتمعات العربية والإسلامية على وجه العموم في كل البلاد، نتميز بنوع من الفضول في نظرتنا التي لا معنى لها في مجتمعاتنا. فالإنسان منا ينظر إلى كل أحد، هذا قَدِم، وهذا خرج، وهذا دخل، وهذا قام، وهذا قعد، وينظر نظرات طويلة، ثم بعد ذلك يصدر حكماً وكلاماً وتقريراً، فلان مع فلان شكله كذا ويعمل كذا، يقدم أحياناً ملاحظات دقيقة وعجيبة، فيقول أشياء، عن حال هذا الإنسان أو ملبسه أو طريقته في غاية الغرابة، مع أنه خلق مذموم، وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: {أن رجلاً نظر من ثقب الباب إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: لو أعلم أنك تنظر -وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى، مشط يسرح به رأسه- فقال: لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر} أي: لا تجعل عينك تتلصص على الآخرين، تنظر إلى هذا وذاك، وتراقب هذا وتلاحظ القادم وتتلفت يمنة ويسرة وتطيل النظر، فإن هذه النظرات الفضولية عيب لا يليق بأي إنسان صادق. رأيت الناس -مع الأسف الشديد- في بلاد غربية، يلتزمون هذا الخلق أكثر مما يلتزمه المسلمون، قدمنا إلى تلك البلاد بملابسنا المعتادة وغترنا وثيابنا، وكان منظرنا مثيراً عندها، لأول مرة يشاهده بعض أطفالهم ورجالهم، فكان الأطفال -أحياناً- يتلفتون وينظرون ببساطة وبراءة، فكان الأب يجر ولده ويزجره وينهاه أن ينظر إلى الآخرين مثل تلك النظرات، مع أنه مشهد يعد مثيراً أو غير مألوفٍ عندهم. لو مر إنسان من أمام أحدنا، كان من الممكن أن يحدثك الآخر عن نوع ثيابه، بل عن عدد الأزارير الموجودة فيه، ولون الحذاء، وطريقة لبس الغترة أو الشماغ والطاقية، وصفة الشعر، وغير ذلك من التفاصيل، إنه نوع من نقص التهذيب الذي يحب أن نتدرج على تركه والابتعاد عنه، وأن نشتغل بالأمور الكبار ولا نضع أنفسنا لمثل هذه القضايا. إن البحث عن الآخرين لا معنى له، ولا قيمة لأن يكلف الإنسان نفسه عناء مراقبة الآخرين، ويترك مراقبة نفسه وضبط تصرفاتها. لنفسيَ أبكي لست أبكي لغيرها لنفسيَ من نفسي عن الناس شاغل هذا إنسان غير ملتزم وغير متدين في الظاهر يشاهد شخصاً ملتزماً، فتجده ينظر إليه من أعلاه ومن أسفله ويصعد النظر ويصوبه، ثم يقول ويطرح سؤالاً: هل الالتزام أن يخرج هذا الإنسان وهندامه -كما يقولون- مقلوب، والثوب غير مكوي، والشعر غير مسرح ولا مرجل، هل هذا مما يأمر به الدين؟ حسناً، لماذا أنت طرحت السؤال؟ طرحت السؤال لأنك تنظر إلى هذا النوع من الناس نظرة فيها كثير من المعاتبة، والبحث عن أي شيء يمكن أن يصلح للملاحظة. وبالمقابل شخص ملتزم يعمل -كما يقولون- تشييكاً على آخر مر من عنده، فيقول: الطاقية إلى نصف الجبهة وهي منقطة، الشعر -كما يقول أحدهم- قصة مايكل جاكسون، الأزرار مفتحة إلى نصف الصدر وهكذا. إذاً لماذا يفعل هذا أو هذا مثل هذه الأشياء؟ لماذا ننظر إلى الآخرين دائماً وكأننا نتفقد عيوبهم، بل المؤسف أنها نظرة سطحية، تقتصر على النظر إلى الغترة أو الطاقية أو الثوب أو البدلة أو البنطلون الذي يمكن أن يلبسه الإنسان، وهذا الأسلوب عليه ملاحظات كثيرة، من أهمها: أنه يعبر عن قلة التفكير وسطحيته وضعفه؛ حيث أن الإنسان لا يتعدى نظره الثوب أو الغترة أو ما أشبه ذلك. الملاحظة الثانية: أنه يعبر عن العجز عن إصلاح النفس، فإن العادة أن الإنسان إذا عجز عن إصلاح نفسه، ربما يتجه إلى الآخرين لينتقدهم أو يلاحظ عليهم. الملاحظة الثالثة: أن هذا نوع من فرض الرأي على الغير، والجميع يطالبون -أحياناً- أن يكون للإنسان حرية في حدود المباحات في مثل هذه الأشياء، فلماذا تفرض على الآخرين شيئاً من غير وجه صحيح؟ هذه هي النقطة الأولى. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 4 الجفوة الملاحظة الرابعة: من الملاحظ -فعلاً- أن هناك جفوة بين الأخيار وبين غيرهم، يقام مثلاً نشاط في مدرسة متوسطة أو ثانوية أو جامعة، فتجد هذا النشاط يقتصر على أربعين طالباً، بينما طلاب المدرسة يناهزون ثمانمائة طالب، أي أنه لا يتجاوز عدد المنتسبين إلى النشاط الخيري في المدرسة نسبة (5%) . إذاً لمن نترك (95%) من شبابنا وفلذات أكبادنا، الذين هم عدة المستقبل وهم روح الأمة وهم سر قوتها وبقائها بإذن ربها؟ هؤلاء الشباب الذين يملكون الاستعداد للخير وتقبل النصيحة، إذا وجدوا حسن الدعوة وحسن المعاملة وسعة الصدر والصبر عليهم، لمن نترك هؤلاء؟ هل نتركهم -مثلاً- لقرناء السوء! أو لتجار المخدرات، أو ضحايا الإعلام الفاسد؟! إن ذلك لا يحوز بحال، ألم يغش رسول الله صلى الله عليه وسلم نوادي قريش ومجالسها، ألم يغش خيام الحجيج في مكة ومنى وعرفات يدعوهم إلى الله، وكانوا على عصيان وعلى شرك وعلى عبادة الأوثان، وربما شربوا الخمور وتناشدوا الأشعار الجاهلية، التي ليس فيها إلا الفخر والخيلاء والكذب والزور، ومع ذلك كان يغشاهم عليه الصلاة والسلام بصبر عميق طويل، ويدعوهم إلى الله تعالى، فيرده هؤلاء ويرده أولئك، ولا يزال صلى الله عليه وسلم يضرب المثل في صبره وإصراره على دعوته. إذاً فلماذا لا نتصل بجمهور الشباب، في مدرجات الرياضة أو تجمعات السمر، أو الاستراحات التي يذهبون إليها في وقت الفراغ، أو في شوارع التفحيط، أو في الأرصفة التي يجلسون عليها حتى الهجيع الأخير من الليل، بل حتى طلوع الشمس أحياناً، أو في خيامهم التي ينصبونها في البر؟ لماذا لا نتواصل معهم ونتعرف إليهم بالود والمحبة والشفقة؟ نعاملهم معاملة الطبيب، الذي يحنو على المريض ويعمل على إقناعه بالعلاج بكل وسيلة، أو الأب الذي يبحث عن العافية لأولاده مهما كلفه ذلك من الصبر والمشقة، دون أن نشعرهم أبداً أننا نتعامل معهم معاملة الأستاذ، أو أننا نستعلي عليهم، أو أننا أكبر منهم، أو أننا أعرف منهم. لا أتعامل معهم من هذا المنطلق، بل أتعامل من منطلق أخوي بحت، محض نصيحة وود وإخاء لهؤلاء الشباب، الذي هم في الجملة أصحاب فطر سليمة وقلوب قابلة للخير والهداية. وكثير من هؤلاء -ويجب أن تثق بهذا- كثير من هؤلاء سيكونون في المستقبل خطباء جوامع، وأئمة مساجد، ورواد حلقات، ومدرسين ومدراء، وصالحين بكل حال إن شاء الله تعالى، وإنني أقول لكم عن تجربة وخبرة. أيها الإخوة: أتذكر زملائي الذين كنا معهم على مقاعد الدراسة؛ فأجد أن الذين برزوا منهم، برزوا دعاة إلى الله، أو خطباء أو معلمين أو مرشدين، أو عاملين في أي حقل من الحقول الخيرية، فأجد نسبة ربما تزيد على (50%) ممن كانوا على مقاعد الدراسة بهيئة وصفة أخرى مختلفة، ثم هداهم الله تعالى فكانوا نموذجاً للمهتدي، الذي آلى على نفسه وقطع على نفسه إلا أن يكفر عما مضى بأعمال صالحة عظيمة. لقد أفلح بعض إخواننا من الشباب في فترة مضت؛ أن يحولوا شارع الموت في الرياض إلى شارع يضج بالحياة، ويضج بالقوة والهداية والتوبة، والإقبال على الله عز وجل، وارتفعت فيه الأصوات، وبدأت فيه القلوب تهفو إلى باريها، وتتطلع إلى الخير والهداية، ولو أن حركة الدعوة دُعمت دعماً خفيفاً؛ لآتت أكلها كل حين بإذن ربها. بل أقول: لو خُلي بين الدعاة وبين الناس لرأينا العجب العجاب، وقديماً قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيننا وبين الناس، فإن أظهر فعزي عزهم ونصري نصرهم وكانوا أسعد الناس بي، وإن أقتل فقد كفوا بغيرهم} . الجزء: 114 ¦ الصفحة: 5 سوء الظن الملاحظة الثانية: سوء الظن. وسوء الظن مشكلة عند الجميع، لماذا تفترض أيها الأخ الملتزم أو الداعية -مثلاً- إذا رأيت عند شخص معصية -أياً كانت هذه المعصية- خصوصاً المعاصي الظاهرة، ليكن -مثلاً- طويل الثوب، أو ليس على وجهه شعر، أو أن عنده ذنب، أو أنه يسمع الغناء، لماذا تفترض أنه مجرم يرتكب الفواحش الأخرى الخفية؟ ولماذا لا تفترض أنه يمكن أن يكون عند هذا الإنسان نقاء في الفطرة وصلاح في السريرة. ولكن سوء التربية، أو مضرة قرناء السوء، أو التقليد الأعمى؛ جره إلى بعض ما رأيت، وأن هذا الانحراف الموجود عنده سهل الاندفاع قريب الزوال؟ فلا تطلق العنان لخيالك أن يتصور أن هذا الشاب الذي عنده بعض المعاصي؛ أن وراء ذلك ركام طويل من الذنوب والآثام والفواحش والمنكرات. وكذلك أنت أيها الشاب الآخر، إذا غشيك في مجلسك شاب متدين ظاهراً، فلماذا تفترض -مثلاً- أنه جاء ليوقع بك، أو يكتشف سرك، أو أن هذا الإنسان يبطن خلاف ما يظهر؟ لماذا لا تتعامل مع الناس بالظواهر وتدع السرائر لله رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى؟ أيسرك -مثلاً- أن يقول عنك هذا الإنسان: من كان هذا ظاهره وهذا عنوانه فعنده من المعاصي الباطنة كيت وكيت، فيدعي عنك ما لم يعلم؟ حتى لو كان موجوداً فإنك تقول: سترني الله تعالى فلماذا تفضحني أنت. وإذا كان الأمر كذلك؛ فينبغي أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به. لماذا لا نجعل حسن الظن شعارنا ودثارنا؟ ولماذا لا نتعامل مع الآخرين دائماً ببساطة ووضوح وبعيداً عن العقد والمشكلات والأوهام والظنون؟ الجزء: 114 ¦ الصفحة: 6 التواضع الملاحظة الثالثة: التواضع وهضم النفس. إنها خصلة من أهم خصال المؤمن الصادق، الإنسان العاقل إذا لقي -ولو كان صالحاً- إذا لقي شخصاً كبير السن قال: هذا سبقني إلى الطاعات. وإذا لقي صغيراً قال: هذا سبقته إلى المعاصي. وإذا لقي مطيعاً قال: هذا أطوع لله مني وأقرب زلفى. وإذا لقي عاصياً قال: لعل عند هذا العاصي من الإخبات والانكسار وذل القلب لله جل وعلا؛ ما يجعله أطوع لله تعالى مني وأقرب إلى الرحمة، وربما كان في عملي الصالح من الغرور أو الإعجاب أو الرياء؛ ما يحبطه ويزيل أثره. فلا يرى إنساناً مسلماً كبر أو صغر إلا اعتقد أنه أفضل منه وأطوع وأدين لله تعالى. إنك حين تدعو شخصاً ما، لا يلزم بالضرورة أن تكون أفضل منه أو أتقى منه أو أعلم منه، قد تكون أعلم منه في هذه النقطة أو هذه المسألة التي دعوته إليها، وربما كان هو أعلم منك في أشياء أُخَر، وربما كان أفضل منك، وربما كان على خير هو لا يوجد عندك أنت. إنما الدعوة من باب التعاون على البر والتقوى، ومن باب التناصح، ومن باب التواصي بالحق والتواصي بالصبر كما أمر الله عز وجل، وهي نوع من المشاركة، فما منا إنسان إلا وهو داعٍ ومدعو في الوقت ذاته، وربما تجد الفائدة أو العلم أو الحكمة عند شخص لم تكن تظن أو تتوقع أن تجدها عنده. ولهذا روى أبو نعيم وغيره [[أن سلمان الفارسي رضي الله عنه، دخل في بيت امرأة نصرانية، فقال لها: هل هاهنا مكان طاهر أريد أن أصلي فيه؟ قالت له تلك المرأة: طهر قلبك وصلِّ حيثما شئت، فخرج سلمان وهو يبتسم ويتعجب من حكمة هذه المرأة، على رغم أنها كانت كافرة]] . الجزء: 114 ¦ الصفحة: 7 حسن الخلق وهذا يقود إلى قضية: العلاقة بين الشباب الملتزمين المتدينين وبين غيرهم. إنها علاقة يغلب عليها طابع الجفوة والمباعدة والتوجس والترقب، والطرفان يتحملان جزءاً من المسئولية، ولا أريد أن أجعل من نفسي اليوم حكماً بين هؤلاء وأولئك، ولكني سوف أقدم للطرفين -من الإخوة الملتزمين ومن غير الملتزمين- سوف أقدم لهم مجموعة من الملاحظات، أرجو أن تسهم -كما يقال- في تذويب الجليد بينهم، وإزالة الجفوة، وإقامة الجسور المقطوعة؛ حتى يتمكن كل طرف من الاستفادة من الطرف الآخر، فإنه لا غنى لأحد الطرفين عن الآخر. حتى أنت أنت أيها الداعية أو الملتزم أو طالب العلم، إذا لم يوجد لك علاقة وصلة بآخرين، عندهم نقص أو خطأ أو انحراف تتمكن من دعوتهم، فأنت حينئذٍ تفقد معنى كونك داعية إلى الله عز وجل أو مجاهداً في سبيله. الملاحظة الأولى: أن حسن الخلق من الإيمان، وهو خير كله، وقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال له ذلك حينما كان يجهر بالدعوة في مكة، ويدعو الناس إلى الخير، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، فكان عليه الصلاة والسلام ذا خلق عظيم مع كل الناس، حتى أولئك الذين يدعوهم كانوا كفاراً مشركين عبدة أوثان، ثم في المدينة كانوا يهوداً أو منافقين أو نصارى أو مشركين أيضاً، مع كل ذلك تذرع النبي صلى الله عليه وسلم إلى دعوتهم بالخلق العظيم. {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] . لقد كان عليه الصلاة والسلام مع أهله ومع أقربائه ومع أصحابه، على درجة عليا من الخلق الفاضل، لكن الأعجب أنه كان حتى مع خصومه وأعدائه على درجة من الخلق، {جاءه رجل فسله بثوبه حتى أثر الرداء في رقبة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا محمد -بكل جفاء الأعراب وقسوتهم- مر لي بعطاء -أعطني مالاً- فإنك لا تعطيني من مالك ولا من مال أبيك، فضحك النبي صلى الله علية وسلم وأمر له بعطاء} . إننا ينبغي أن نتذرع بالبشاشة مع أصدقائنا ومعارفنا وهذا لا شك فيه، لكن لماذا إذا اقتحم مجلسنا شخص جديد انقبضنا عنه وازوررنا، وتوقفت الكلمات، وقرظت الشفاه، وأصبح الجميع صامتون متسمرون لا يتحدثون ولا يبتسمون؛ كما لو كان دخل عليهم عنصر غريب، يتقون الحديث معه أو يتجنبونه. إن الشاب الملتزم يعتبر نفسه داعية إلى الله تعالى، وهو إن شاء الله كذلك؛ إذاً فالابتسامة والبشاشة والكلمة الطيبة والهدوء، هي المدخل الطبيعي إلى قلوب الآخرين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإذا أردت أن تنادي أخاك أو تحادثه أو تدعوه إلى الله تعالى، فقدم بين يدي نجواك صدقة، ليست صدقة مال، لكن صدقة ابتسامة تعبر عن قلب رَضِيٍ نديٍ، لا يحمل للآخرين إلا الحب والود، وليس فيه أدنى رائحة من كبر أو عجب أو غرور أو أي معنى آخر يظنه الآخرون. كثيراً ما نسمع من ينتقد بعض الأخيار بأنهم مكفهرون، أو حواجبهم مقطبة، أو لا يبتسمون مع الآخرين، وقد يعبر عن ذلك بأنهم سوداويون أو ما أشبه ذلك. ونحن اليوم نسمع ضجيج الإعلام وصخب الإعلام العالمي والعربي على وجه الخصوص، يحاول أن يشوه صورة المتدينين، وأنهم إرهابيون ودمويون وأهل عنف إلى غير ذلك، أتدري أن ابتسامة صادقة تستقبل بها الآخرين؛ أنها كفيلة بمحو هذا الركام والزبد الذي ضل الإعلام يقذفه في عقول الناس وقلوبهم؟ إذاً ماذا تخسر إذا ابتسمت للآخرين؟ إنك مأجور لأنك تتصدق حينئذٍ، ويكتب هذا في أجرك وثوابك وميزانك يوم القيامة. ثم أنت أيها الشاب الآخر، الذي يعتبرك الناس أو تعتبر نفسك؛ أنك غير ملتزم وغير متدين، لماذا تنكمش أحياناً وتكشر عن أولئك الإخوة من الملتزمين والمتدينين؟ لماذا تعتقد -لو جاءوك- أنهم جاءوا من كوكب آخر أو من عالم آخر؟ لماذا لا تتعامل معهم بشيء من الأريحية والكرم؟ هل تظن أن كل من جاءك يكون أتى لغرض لا تريده أنت أو لا تستحبه؟ هب أنه جاء ليدعوك إلى الله وأنك غير مهيأ الآن لقبول الدعوة، عليك أن تتعامل معه بالاستقبال الحسن، كما هو واجب في شريعة الإسلام، وكما هو عادة عند الإنسان العربي في كل زمان ومكان، ثم إذا دعاك إلى الله فإن وجدت خيراً فاقبل، وإن كانت نفسك لا تساعدك فرد رداً جميلاً، وربما يوفقك الله تعالى لقبول الحق يوماً من الأيام. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 8 ماذا عن شباب الهيئات أما العنوان الثاني فهو: ماذا عن شباب الهيئات. إنهم رجال الحسبة، الشباب العاملون في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء كانوا عاملين في قطاعات رسمية، أو محتسبين لوجه الله تعالى في إنكار المنكرات بقدر المستطاع، أسمع كثيراً من الشباب وفي كثير من المجالس يتحدثون عن هذه النوعية من الشباب، وعن بعض الملاحظات على الأساليب والطرق التي يسلكونها. وأبرز الملاحظات التي يقدمها إخواننا الآخرون من الشباب؛ تتعلق بأسلوب المعاملة فيمن يوجد عليه تقصير أو معصية، وأن هذا الأسلوب يعتمد كثيراً على نوع من الشدة والعنف والقسوة في العبارة. وآخرون يقولون: إن هؤلاء الشباب -أو بعضهم- قد يطلق العنان لخياله ويقيس الآخرين بعضهم على بعض، فربما وجد إنساناً على معصية، فيتصور أن كل شاب يمكن أن يكون كذلك، ويتعامل معه من هذا المنطلق، وربما وجد أنه هو نفسه تثيره هذه الأشياء، لولا أنه يخاف الله تعالى وينهى النفس عن الهوى. فيقول في نفسه: إذا كنت أنا الشاب الملتزم المتدين تثيرني هذه الأشياء؛ فأجد رادعاً من ديني وخوفي من الله تعالى، وأولئك الشباب الذين يوجد ما يثيرهم، وربما لا يجدون رادعاً من خوف الله تعالى أو خشيته فيقعون في المعاصي. وأود أن أعلق على مثل هذه الأمور -فضلاً عن قضايا كثيرة تتعلق بهذا الموضوع- مثل بعض الأقوال وبعض القصص والأخبار والحكايات، التي أقول قد يصدق منها (10%) ولكن تبين لي أن (90%) من بعض القصص قد تكون من نسج الخيال، وقد سألت عدداً من الشباب عن قصص يتداولونها عن إخوانهم من العاملين في هذا المجال، فأقول له مثلاً: هل وقفت بعينك أو بنفسك على هذا الأمر؟ فيقول: لا، لكن حدثني شخص موثوق، وربما لو أتيت إلى هذا الشخص الموثوق، لقال لك: لم أر هذا ولكن حدثني شخص آخر موثوق، وهكذا تكون السلسلة طويلة، وقد أذكر لكم أنني سمعت من ذلك أشياء، وبعد ما تحريت بنفسي؛ تبين لي أن بعض هذه الأشياء مختلق تماماً، وأن بعضها الآخر قد يكون لها أصل ولكنه كُبِّر، وأن هناك نسبة قد تكون (10%) أو قل عشرين أو حتى ثلاثين قد يكون لها أصل وقد تكون صحيحة، لكن: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه الجزء: 114 ¦ الصفحة: 9 تعليقات على الأخبار المتداولة على شباب الهيئات وهنا لي مجموعة من التعليقات: أولاً: إن الدين يا أخي ليس ملكاً لفئة خاصة، الدين ليس ملكاً لشباب الهيئات، والدين ليس ملكاً للشباب الملتزمين، والدين ليس ملكاً للقضاة -مثلاً- والدين ليس ملكاً للدعاة، ولا ملكاً لطبقة معينة، الدين دين الله عز وجل، والكل مطالبون بتقوى الله ومطالبون بعبادته، ومطالبون بفعل الخير، ومطالبون بترك الشر، والجنة خلقت لكل مطيع، والنار خلقت للعاصي والكافر والمعاند، بغض النظر عن أي اعتبار آخر. الدين دين الله عز وجل، ووجود فئة قلت أو كثرت صغرت أو كبرت؛ في نظرك أنت وفي ظنك وفي قياسك، باعتبارك أن هذا الفئة لا تمثل الدين أو لا تقوم به أو لا تطبقه تطبيقاً صحيحاً، أو أن أخلاقيات هذه الفئة أو أساليبها أو طرقها لا تمثل الدين، لا يعني ذلك أنك تنحرف عن الدين، كلا! بل الواجب عليك أن تكون أكثر تديناً وإخلاصاً وصدقاً؛ حتى تنجح أنت في تطبيق ما تقول إن الآخرين عجزوا عنه أو قصروا فيه. وهذه قضية أساسية، يقول الله عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] حتى الثياب ما عليك ثياب {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكم} [الأنعام:94] . إذاً المسؤولية يوم القيامة مسؤولية فردية وكل إنسان يحاسب، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13-14] المطلوب من كل فرد أن يزكي نفسه، ويسعى في صلاحها، ويبعدها وينأى بها عن كل أساليب التجفية والضلال {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] . ثانياً: كل قطاع أو جهة أو مؤسسة أو شركة أو مجموعة من الناس، لا بد أن يكون فيهم أخطاء، اسأل نفسك سؤالاً: كم أخطاء رجال المرور مثلاً؟ كم أخطاء رجال الدوريات؟ كم أخطاء الشرط؟ بل اسأل نفسك: كم أخطاء الأجهزة الأمنية بشكل عام؟ أنا لا أتحدث عن هذا البلد فقط. أقول هذا البلد وكل بلاد الدنيا، البلاد الإسلامية خاصة، والبلاد العالمية كلها عامة كم يوجد فيها من الأخطاء والتجاوزات؟ بل أحياناً تصل إلى درجة الفضائح التي يتكلم عنها الإعلام، وتفرح بها الصحف، وتبدئ وتعيد حولها، ويستغلها بعض الخصوم أو بعض المعارضين. أصدقاؤك الذين تجالسهم وتتحدث معهم، كم تجد عليهم من الملاحظات، ربما تعتب عليهم كثيراً، وقد تقاطعهم، وقد تغضب من فلان أو تسخط من علان. إذاً لا يمكن أن تتصور أن مؤسسة أو هيئة أو جهازاً أو مجموعة من الناس، فئة الملتزمين -مثلاً- أو فئة المتدينين أو فئة الشباب الأخيار، أو فئة شباب الجمعيات في المدرسة، أو أي فئة من الفئات المنتسبة إلى الدين، ضع في اعتبارك أن من السنن الطبيعية أن هؤلاء بشر، وإذا كان الواحد منهم لا بد أن يوجد عنده خطأ على الأقل، فما بالك إذا اجتمعوا؟ لا بد أن يكون هناك مجموعة من الأخطاء. إذاً هناك أمر طبيعي لابد أن يوجد، لكن أعتقد أن هناك ميزة في أوساط المتدينين، وأنا لا أريد أن أبالغ في إثباتها ولكني أزعم أنها موجودة، وإذا كان ما أقوله خطأ؛ فأتمنى من إخوتي أن يصححوا لي ما أقول. أقول: إن الملتزمين بشكل عام أو المتدينين، سواء كانوا في أجهزة رسمية، أو كانوا محتسبين قائمين بالدعوة إلى الله والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ يوجد لديهم إمكانية الحوار، وإمكانية التفاهم، وإمكانية معرفة الخطأ والتنبيه عليه والسعي في إزالته، أو على أقل تقدير الاعتراف بأنه خطأ، وأحياناً إذا أخطأ عليك إنسان ثم جاءك وقال: والله يا أخي أنا أخطأت وأعتذر إليك، ربما يكفيك هذا لأنك تقول: لا أريد منك أكثر من الاعتراف بالخطأ وإظهار الندم عليه، ولو كلف الإنسان نفسه عناء تجربة ذلك، فإنه لن يخطئ -إن شاء الله- من يظهر له الاستعداد في تصحيح الخطأ ومراجعته ومحاولة إيقافه عند حده. ثالثاً: لا تنسى أن الإنسان بطبيعته ذو هوى، وهو لا يحب من يمنعه من هذا الهوى، فإذا حيل بينه وبين ما يريد؛ فإنه لابد أن يجد في نفسه على هذا الإنسان، أو إذا تعرض صديقه أو قريبه أو جاره أو من يحب لموقف، حتى لو كان هو المخطئ، لابد أن يجد في نفسه على من تسببوا له في هذا الموقف، إنما تذكَّر أيها الأخ الكريم، كم من الوقت يبذله المخلصون الساهرون على حماية المجتمع، والمحافظة على أخلاقياته وعلى أمنه وعلى استقامته، وعلى حفظ نسائنا وأخواتنا وبناتنا وزوجاتنا وقريباتنا، كم من الوقت يبذلون؟ وكم من الليل يسهرون؟ في سبيل حماية المجتمع. ولعلك على -سبيل المثال- تعرف أنهم قد يتعرضون أحياناً للمخاطر، وربما ضُرب أحدهم، وربما هُدد، وربما أُوذي، وربما أُطلق على أحدهم النار، فجلس أياماً أو أسابيع طريح الفراش في المستشفى؛ وما كان السبب إلا لأنه وقف ضد جريمة يمكن أن تقع في المجتمع، ولعلك تعرف من الأخبار ما يقع اليوم -وفي هذه الأيام بالذات- ما يصدق ما قلته لك. إذاً ينبغي أن نضع الأخطاء في حجمها الطبيعي، وبالمقابل نعمل على تصحيحها بالمستطاع، ثم نلاحظ الجانب الآخر وهو الجانب الإيجابي، جانب العمل على وقاية المجتمع وحمايته. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 10 قضية العشق ثالثاً: قضية العشق. إنها مشكلة كبيرة، وأعتقد أن تعلق القلب بإنسان، سواءً كان فتاة بنتاً أو كان شاباً صغيراً أمرد حسناً وسيماً، تتعلق به بعض قلوب الشباب وتركض وراءه، وربما أركبه أحدهم في سيارته ليل نهار، وسعى إلى تهيئة الفرص والأسباب بأن يجلس حوله في مزرعة أو استراحة أو شقة، وربما كان هذا الرجل أحياناً كبير السن أو متزوجاً أو ذا أطفال، ومع ذلك لا يقوم ولا ببعض الجهد لزوجته أو أطفاله، مثل: ما يقوم به لهذا الإنسان الذي استولى على قلبه، وأصبح يعتبره ولداً لهواه، يسميه ولد الهوى -مثلاً- أو محبوبه أو معشوقه، ويعتبره خاصاً به، ويسعى إلى إرضائه بكل المستطاع، وربما هجره هذا الإنسان؛ فجلس أياماً طويلة يبكي وينتحب كما تنتحب الثكلى. إن ذلك من أخطر الأمراض التي تودي بالإنسان إلى الهاوية في الدنيا وفي الآخرة، فهو يلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، وأي مكان في القلب المشغول بحب ليلى وسلمى ولبنى، أو المشغول بحب فلان وفلان من المردان الحسان، أي مكان في القلب لذكر الله تعالى أو محبته. بل ربما يكون في حال عبادة مع الناس وهم في واد وهو في واد آخر، يذهب للحج فيبكي الناس في عرفة ويجأرون إلى الله تعالى وتنهل دموعهم، حتى العصاة والفساق والمقصرون؛ ترى عندهم من الانكسار والبكاء والنحيب والصياح -أحياناً- ما تتكسر له القلوب، ومع ذلك هذا الإنسان في واد آخر، يقول: وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشجان الفؤاد ولا يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري أو يصلي فيسجد الناس ويرفعون لرب العالمين، يعفرون جباههم، ويستغفرون ويسألون الله تعالى، ويبللون بدموعهم خدودهم، أما هو فيبكي معهم، ولكن يبكي لشيء آخر مختلف تماماً. أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها لك الويل مما يكتب الملكان بل ربما أدى به ذلك إلى أن يعترض على قضاء الله، ويتبرم ولا يرضى بالله تعالى رباً وإلهاً ومدبراً، كما قال أحدهم: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا وربما تمنى هذا العاشق الوقوع في الفاحشة، لنفسه أو حتى لغيره من الناس، فأحب ما يكرهه الله تعالى ويبغضه، وأبغض ما يحبه الله تعالى ويرضى به، أبغض العفاف وأبغض الطهارة وأبغض النقاء، وأحب الفاحشة والمنكر والفساد، حتى يتحقق له ما يريد، كما قال محمد إقبال رحمه الله: لقد سئم الهوى في البيد قيس ومل من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب يقول المجنون: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبانة ويرعاهما ربي فلا يريان إنه يتمنى أن يفضي كل محبوب إلى محبوبه، فيما يجد في نفسه من التعلل والتعلق الذي يصل إلى حد التعبد لغير الله عز وجل، إن هذا قد يفضي بالإنسان أحياناً إلى الشرك والكفر. روى ابن الجوزي، كما في كتاب تسجيل الأشواق، أن شاباً خرج فرأى جارية نصرانية، فعلق قلبه بها وأشرب حبها، وسهر الليل وتعب ومرض، وحيل بينه وبينها فلم يستطع؛ حتى أصيب بخبل في عقله وحمل إلى المستشفى، مستشفى الأمراض العقلية كان وقتها يسمى المارستان-. حمل هذا الإنسان إلى المستشفى، وكان له صديق يتردد عليه قال: فلما جاءه أحد المرات، قال له هذا الإنسان العاشق المريض: إني قد يئست من لقاء فلانة في الدنيا -وهي كانت نصرانية- قال: فأريد أن أتنصر لعلي ألقاها في الدار الآخرة، حتى ولو كان في نار جهنم والعياذ بالله تعالى. قال: فتنصر ومات من ساعته، ثم خرج هذا الإنسان فجاء إلى تلك الفتاة يوماً من الأيام، وإذا بها قد أصابها ما أصابها من الوله والعشق والتعلق بذلك الإنسان، ولم تدر ما خبره، فإذا بها تقول: إنني قد أيست من لقاء هذا الإنسان في الدنيا، وقد رأيته مسلماً وأنا أحب أن ألقاه في الآخرة، فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. ثم أسلمت وصدقت ثم قبضت على الإسلام، فانظر كيف يمكر الله تعالى بمثل هؤلاء الذين فتنوا أنفسهم، وضلوا وأضلوا، والله تعالى قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فعلى العبد أن لا يأمن مكر الله {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] . الجزء: 114 ¦ الصفحة: 11 علاج العشق العلاج: وإن كنت أود أن أقول: في الأسبوع القادم -إن شاء الله تعالى- سوف أتحدث بعنوان طالما وعدت الإخوة به، وماطلت وسوفت، وطلبوه وطلبوه حتى ملوا وسئموا وتركوا الأمر، وهو سيكون نهاية الحديث مع إخواني من الشباب في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى، وتحت عنوان: مصارع العشاق. لكن لا بأس أن أعرض الآن بسرعة ما دمت عرضت موضوع العشق، أن أشير إلى بعض ألوان العلاج باختصار: أولاً: غض البصر وحفظ الجوارح، الأذن وغيرها. قال الله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وكل هذه الجوارح هي عبارة عن سواقٍ وأنهار تصب في القلب، فما تراه بعينك أو تسمعه بأذنك أو حتى تتكلم به في لسانك؛ فإنه يظهر أثره في القلب. ثانياً: البعد عن مواطن الشبهة والشهوة والإثارة، وتجنب ذلك ما أمكن. ثالثاً: الفرار إلى الله تعالى واللجوء إليه، فإنه كما قال الله تعالى: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] وقال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] . رابعاً: الزواج للجنسين الذكر والأنثى، فإنه هو السبيل الشرعي لتفريغ هذه الشهوة والغريزة والعاطفة، بطريقة شرعية مباحة، تبني ولا تهدم وتعمر ولا تدمر. خامساً: شغل النفس بالأمور الشرعية، من طاعة الله تعالى، والصلاة، وطلب العلم، وقراءة القرآن وحفظه ومذاكرته، أو على أقل تقدير بالأمور المباحة التي تملأ العقل والقلب والوقت، كأن يشتغل الإنسان بالتجارة -مثلاً- أو الزراعة أو الدراسة أو الرياضة المباحة، أو ما أشبه ذلك مما لا يضر وربما ينفع. سادساً: استعمال العقل واستخدامه، فإن الله تعالى وهبك العقل حتى تميز به بين النافع والضار، والعقل بإذن الله تعالى يعصم الإنسان عن الشهوات وعن الشبهات، ففيما يتعلق بالشبهة يستطيع أن يصل إلى الحق بإذن الله تعالى متى صدق الله، وفيما يتعلق بالشهوة فإنه لو فكر في عواقبها لتركها، لو فكر في عواقب الشهوة، كم تورث من الحزن الطويل، وكم تورث من المرض، وكم تورث من القلق والتوتر، وكم تسبب من الأمراض النفسية، وكم تجني على العبد، وكم لها من الآثار والأضرار والعواقب الأخروية، التي منها: أن يكوى هذا الجسد الذي تلذذ بلذة محرمة في الدنيا، أن يكوى بالعذاب في الدار الآخرة جزاءً وفاقاً. ثم لو أنه أعمل عقله في حال معشوقه أياً كان ولداً أو بنتاً، ثم تذكر هذا الجسد الذي عشقه أنه جسد بشري، فيه نقائص البشر وعيوب البشر، ما قيمة أن يزين الإنسان ظاهره بالثوب الجميل المكوي، واللباس والهندام، والشعر المسرح المصبوغ، وغير ذلك، وألوان الطيب والزينة والجمال الظاهر، لكن هناك عيوب فطرية خلقية لا سبيل إلى دفعها بحال من الأحوال، فلا تغتر بلحظة تزين، وتذكر العيوب المختلفة الموجودة في هذا الإنسان. ثم تذكر حال هذا الإنسان وبشريته، هذا العرق الذي يخرج ويؤثر فيه، الإفرازات التي تخرج منه من أنفه ومن فمه، الفضلات التي مجرد سماعها أو تذكرها يثير الاشمئزاز. إن هذه الأشياء كلها عيوب جعلها الله تعالى في الإنسان؛ حتى يعتدل الناس في نظرة بعضهم إلى بعض، كما أن الله تعالى أقام الحجة على الناس بالنسبة للمسيح الدجال، لما ادعى الألوهية جعل الله فيه نقصاً فطرياً وهو أن إحدى عينيه طافية فهو أعور، حتى يعلم الناس أن هذه الدعوى العريضة التي يقولها؛ منقوضة بالصورة الحقيقية التي يشهدها. سابعاً: من الأشياء ومن العلاجات: تذكر الموت. فإنه يقطع كل لذة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن، وهو حديث صحيح: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} أي: قاطعها، فإن الموت كما قال عمر بن عبد العزيز [[: ما ذكرته في سعة إلا ضيقها عليك، ولا في ضيق إلا وسعه عليك]] . ثامناً: تذكر الدار الآخرة والعقاب الذي جعله الله تعالى للعصاة والمفسدين قال الله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:17-19] وقال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] هذا يوم القيامة. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 12 شاب يتساءل متى أتزوج العنوان الرابع: شاب يتساءل متى أتزوج؟ أحد الشباب بعث إلي برسالة عقب درس المجلس السابق، ملخصها: أنه يبحث عن بنت الحلال، التي تعف فرجه وتغض بصره، وتملأ بيته سروراً وابتهاجاً وسعادةً وأطفالاً أيضاً، ولكنه لم يوفق ولم يجد البنت التي يبحث عنها؛ لأسباب كثيرة، منها: رفض بعض الفتيات بحجة مواصلة الدراسة أو غيرها، ومنها رفض بعض الأسر، ومنها عقبات قد تكون من قبل الوالدين أو غيرهم، وحول هذا الموضوع لابد من تعليقات سريعة:- الجزء: 114 ¦ الصفحة: 13 دور المجتمع وأخيراً: دور المجتمع. فللمجتمع دور كبير، الإعلام مثلاً له دور كبير في إقناع بعض الفتيات بتأخير الزواج مثلاً، أو بعدم قبول فرد إلا بمواصفات معينة، الأسرة لها دور، فقد تشير على البنت أو على الولد بشيء أو تشير عليها بضده، وعموماً جهاز الدعوة في المجتمع. والدعاة -كما أسلفت- وخطب الجمعة، والكتب، والأشرطة وغيرها، لها دور كبير في مثل هذه القضية. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 14 مهمة الدعاء والخطباء النقطة الخامسة: مهمة الدعاة والخطباء في توعية الناس بقضايا الزواج، والعلاقات الزوجية، وتخفيف المهور وتخفيف التكاليف وغير ذلك مما نجد أن المجتمع قد ابتلي به كثيراً، إن علينا معاشر الخطباء والدعاة مسؤولية كبيرة في هذا الجانب، توعية الناس بهذا الأمر، ودعوتهم إلى التزام الحدود والضوابط الشرعية فيه، وعدم تعدي ذلك إلى المبالغة والمباهات والإفرط. ومن ذلك: أن لا يكون هناك ضرورة لقصور الأفراح، يكون الزواج في استراحة من استراحاتنا أو في بيوتنا، أو حتى في بعض المناطق الغير مبنية في الحي التي تستخدم كمراقص عامة، بحيث لا يكون ثمة حاجة إلى المزيد من التكاليف. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 15 الانتقال من الكلام إلى البرامج العملية النقطة السادسة: ضرورة الانتقال من الكلام إلى البرامج العملية التطبيقية. لماذا لا توجد برامج لما يسمى بالزواج الجماعي؟ أن يتم تزويج خمسين أو ستين في ليلة واحدة، وقد قرأت في صحفنا أن مجموعة من شباب الشيعة في المنطقة الشرقية فعلوا ذلك ونشرت أخباره في الجرائد، بل وفي التلفاز، وتحدثوا عنها كتجربة يعتبرونها إيجابية وسليمة. فلماذا لا يتم تعميم هذه الظاهرة على شباب أهل السنة في كل مكان؟ وفي منطقة الخليج العربي، وفي البحرين -مثلاً- قامت زواجات جماعية لشباب أهل السنة ناجحة بحيث تختصر التكاليف إلى أبعد الحدود. كذلك أمر آخر وهو: القدوة العملية، ما أحوج المجتمع إلى القدوة! سئمنا من الكلام عن تخفيف المهور، وإلقاء الكلمات، ونشر المقالات عن هذا الأمر، بقي علينا أمر واحد؛ أن يقوم بعض المحتسبين والمعروفين والأخيار، بعمل ميداني في هذا المجال، فيتم التزويج مقابل مهر معقول ومحدود، وحتى يتسامع الناس بذلك، ويسن لهم فيه سنة حسنة. ومثله أيضاً ما يتعلق بالوليمة والدعوة والعرس وغير ذلك، وأرجو الله تعالى أن يوفقني إلى أن أقوم مع بقية إخواني وزملائي من طلبة العلم بشيء من هذا السبيل، وأطلب من الإخوة أن يقترحوا علي بما يعتقدون أنه صورة مثلى لتحقيق مثل هذه البرامج العملية. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 16 واجب الفتيات النقطة السابعة: واجب الفتيات. فإن كثيراً من الفتيات يرفضن الزواج؛ بحجة مواصلة الدراسة أو غير ذلك، وهذا لا شك أنه خطأ، فإذا جاء للفتاة من ترضى دينه وخلقه؛ فعليها أن تقبل به لئلا يقع في المجتمع الفتنة والفساد العريض، الذي حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وربما ترفض الفتاة شاباً صالحاً فلا يأتيها إلا من هو دونه، فعلى الفتاة أن لا تفرط بالشاب الذي يتقدم لها بل تسعى إليه، ولا مانع من مواصلة الدراسة وفق التفاهم بينها وبينه. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 17 جمعيات البحث عن الفتاة الصالحة رابعاً: هناك جمعيات أخرى لتسهيل مهمة البحث عن الفتاة الصالحة، وهذه الجمعيات ينبغي أن يعتنى بها، أو حتى أشخاص مستقلون يقدمون خدمات في هذا المجال، إنني أقرأ في بعض الصحف والمجلات، فعندما تقرأ مجلة كمجلة الوطن العربي؛ فتجد أنها تعلن -في كل عدد من أعدادها- عن مجموعة كبيرة من الشباب والفتيات ممن يسمونهم الجنس الآخر، كل واحد يعرض اسمه وعنوانه يطلب الزواج من فتاة، أو فتاة تطلب الزواج من فتى بشروط معينة. إن مثل هذا الأسلوب قد لا يكون أسلوباً سليماً قط، وذلك لأنه يتخذ -في أحيان كثيرة- وسيلة إلى نوع من الاصطياد -كما يقال- في الماء العكر. ولكنني أقول: هناك طرق سليمة يمكن أن تفلح، كإقامة جمعيات سليمة نظيفة منضبطة، أو وجود أشخاص يتبرعون بجهد في هذا السبيل، ويحتسبون أن يجمعوا بين قلبين على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بعيداً عن التهريج والتشويق والمبالغة والخداع، وما أشبه ذلك مما قد يقع في كثير ممن يبحثون عن الزوجات، أو بنات يوافقن على أزواج صالحين. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 18 دور الآباء أولها: دور الآباء. فإن على الآباء مسؤولية كبيرة في مساعدة أبنائهم على الزواج، بعض الآباء قد يكون ثرياً يملك أموالاً طائلة أو أرصدة في البنك، ولكنه مع ذلك يرفض أن يزوج ولده، أو حتى يساعده على الزواج، أو على أقل تقدير أن يعطيه سلفة من المال، أعطه مائة ألف ريال وقل له: هذه سلفة تردها متى أغناك الله عز وجل، حتى تبعث فيه روح البحث عن الرزق الحلال، وتشعره بالمسؤولية. وأقول: هذا واجب شرعي، على كل أب قادر مستطيع أن يسعى في تزويج أولاده وإعفافهم، ولا يحل لأب أبداً أن يمتنع من ذلك، وهو يرى أن الفتن تنزل اليوم في البيوت والأسواق والشوارع وفي كل مكان؛ ومع ذلك يرضى أن يسلم ولده إلى مثل هذه الفتن التي قد تجره إلى الهاوية، وهو يملك أن يساعده في موضوع الزواج. وبعض الآباء قد يمتنع -ليس لهذا الغرض- لكن لاعتبار آخر، فلا يوافق ولده على الزواج، والواجب على الآباء أن يعملوا على إقناع أولادهم بالزواج، حتى في حالة إن كان الولد عازفاً عن الزواج، أو غير راضٍ أو غير موافق، ينبغي للأب أن يسعى في إقناعه بالزواج بالوسائل، ويسلط عليه من يستطيعون إقناعه حتى يتخذ قراراً بالموافقة، وليس أن يرغب الابن فيرفض الأب في وقت يطلب فيه الولد مثل هذا. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 19 الاعتماد على النفس بعد الله تعالى ثانياً: ينبغي على الإخوة من الشباب أن يسعوا إلى الاعتماد على الله عز وجل، ثم الاعتماد على أنفسهم، فالشاب الذي في سن العشرين أو أكثر من ذلك، لماذا لا يسعى أن يعتمد على نفسه بعد الله تعالى، في طلب الرزق والوظيفة، في محاولة توفير المهر وإعداد البيت والمسكن وغير ذلك من الوسائل؟ وأعتقد أنه مهما قلنا من الأعذار والوسائل والأسباب والأشياء، إلا أننا ينبغي أن نستسلم في النهاية إلى أن هناك فرصاً لطلب الرزق وكسبه، فرصاً شرعية مباحة موجودة في المجتمع، لو أننا تخلينا عن بعض الكبر الموجود في نفوسنا، وبعض الأشياء التي نأنف من ممارستها وعملها. حدثني رجل أثق به فقال: أعطيت شاباً مبلغاً من المال وقلت له: خذ هذا المبلغ تاجر به ولك نصف الربح. قال: فأخذ هذا المبلغ وجلس عنده زماناً طويلاً ثم لم يتاجر به، لماذا؟ لأنه يأنف أن يشتغل بالتجارة أو بغيرها. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 20 الجمعيات الخيرية ثالثاً: هناك جمعيات خيرية كثيرة لمساعدة المتزوجين، منها جمعية في منطقة القصيم وجمعية في الرياض وجمعية في جدة، وهناك جمعيات خارج المملكة في مناطق الخليج العربي وغيرها، تعلن المساعدة لكل من يرغبون في الزواج، سواء عن طريق الدعم المادي كهدية أو تبرع، أو عن طريق القرض الحسن، أن يقرضوه مبلغاً من المال يرده متى أغناه الله تعالى، أو يقتطع من راتبه أو بأي طريقة. وأقول: هناك أعداد كبيرة من الدعاة المعروفين في هذه البلاد، وطلبة العلم وأئمة الجوامع، لديهم استعداد -وإن لم يعلنوا ذلك- لدعم الشباب الراغبين في الزواج ومساعدتهم، أو على أقل تقدير الكتابة معهم إلى بعض الأثرياء وبعض المحسنين، ليقوموا بهذا الدور. وإنني أقول لإخوتي من الشباب: إنني مستعد أن أساهم بقدر وسعي واستطاعتي في هذا الأمر، دون نظر إلى أي اعتبار من الاعتبارات، أي أنه لا يهمني أن يكون الشاب -مثلاً- من هذا البلد أو من بلد آخر، من هذه المنطقة أو من غيرها، كل شاب مسلم يرغب في إعفاف فرجه، فحق علينا أن نسعى في إعانته بقدر ما نملك وما نستطيع. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 21 الشباب والرياضة النقطة الخامسة: الشباب والرياضة. وقت كبير جداً ذلك الوقت الذي نقضيه في الرياضة، حسبت -على سبيل المثال- إحدى المباريات، كانت المباريات قبل حرب الخليج يحضرها عشرات الألوف، ثم بعد الأزمة تقلص الحضور كثيراً، وأصبحنا نقرأ في الصحف عن ندرة الحضور وقلتهم، ومحاولات مستميتة لإقناع الشباب بالرجوع إلى مواقعهم في المدرجات. ومع ذلك هذه المحاولات -التي تصل إلى إعلانات وإغراءات وتسهيلات وخدمات وغير ذلك- مع ذلك لم تنجح في إعادة الجمهور كما كان، ولكن لنفترض أن مباراة نهائية حضرها عشرة آلاف متفرج، استغرقت المباراة وما قبلها وما بعدها من الوقت خمس ساعات، عشرة آلاف متفرج، اضرب في خمس ساعات، النتيجة خمسون ألف ساعة. إذاً من عمر الأمة والمجتمع وطاقتهم، ضيعنا في أمسية واحد خمسين ألف ساعة، آلاف الأيام وعدد من السنوات، كم كان يمكن في مثل هذا الوقت أن ينتج هؤلاء الشباب لدنياهم من الأرباح والمكاسب المادية؟ وكم كان يمكن أن ينتجوا لأمتهم ومجتمعهم، من الخدمات العلمية والابتكارات والاختراعات والتصنيع؟ ولو أنهم كانوا في ناد علمي -مثلاً- أو مختبر أو معمل أو حقل تجارب؛ لأفادوا واستفادوا كثيراً، ونموا عقولهم ومعارفهم وتقدموا بأمتهم وأنفسهم إلى الأمام. هذا فضلاً عن المشاهدين عبر الشاشة، وعبر الشاشة يشاهد -أقول وأنا متأكد مما أقول- أحياناً يشاهد مئات الألوف خاصة بعض المباريات الكبيرة، ويوم من الأيام نقل التلفزيون مباراة بين منتخب هذه البلاد ومنتخب اليابان أو كوريا، ونقلت عبر الشاشة. ففي تلك الضحوة بعض المدارس ما حضرها أحد، مدرسة بنات في إحدى المدن المقدسة حضرها تسع بنات من بين ثمان مائة طالبة، جامعات لم يوجد في الفصول أحد، أساتذة ودكاترة ربما لم يأتوا من أجل مشاهدة تلك المباريات، أي لهاث مسعور وراء مثل هذا الأمر! هؤلاء الناس كم كانوا سيرتقون بأنفسهم وأرواحهم وإيمانهم وقلوبهم؛ لو أنهم خصصوا جزءاً من هذا الوقت في عبادة الله تعالى أو طاعة أو قربة إليه عز وجل. أيها الإخوة، أيها الشباب: إلى متى الركض المحموم وراء الكرة، حتى إن مبانيها أحياناً تفوق أفخم المباني في بعض المدن والقرى، وربما تفتقر إليها كثير من المدارس والمؤسسات. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 22 بماذا يكون الإنسان إنسانا ً نقطة أخيرة: إن الإنسان لا يعد إنساناً بجسمه فقط، وإنما يعد إنساناً بعقله وتفكيره وقلبه وروحه وفهمه وثقافته ولسانه قبل أي شيء آخر. لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم وكائن ترى من صامت لك معجب زيادته أو نقصه في التكلم فاللسان المعبر عن الإنسان، هو من علامات رجولة الإنسان ومعرفته وعلمه وثقافته، ويقول المتنبي: لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرف من الإنسان ولما تفاضلت النفوس ودبرت أيدي الكماة عوالي المران يقول: لولا العقول لكان الأسد أدنى إلى الشرف من الإنسان لأنه أقوى منه، ونعم لو كان إنسان ببدنه لكان الفيل أقوى منه، ولو كان الإنسان بماله لكانت الجبال أكثر منه ذهباً وفضة، ولو كان الإنسان بقوته الجنسية لكانت العصافير أقوى منه جنسياً، ولو كان الإنسان بشكله وهيئته وملبسه لكان الطاووس أجمل منه وأحسن مظهراً، إنما الإنسان بهذين الاثنين: بعقله وقلبه، وبما يعبر عنهما وهو لسانه. ينبغي أن أضيف أيضاً: إن هناك شغلاً للشباب بما يسمى بالفن، وسواء عن طريق متابعة الأشرطة، أشرطة الغناء أو أشرطة الفيديو والمسلسلات، أو الضرب بالطبول والتدرب على ذلك، والخروج إلى البراري والصحاري وعمل هذه الأشياء، وربما تكون هذه الأمور -أحياناً- مما يتزين بها بعض الشباب لبعض، أو يعمل على كسب إعجاب الآخرين وودهم. إنني لا أرضى لإخواني من الشباب أن ينهمكوا في مثل هذا الأمر، أو يغتروا بالصحافة التي تقدم بعض هؤلاء الشباب على أنهم مقبلون ناشئون أو واعدون، وتحاول أن تغريهم بكل وسيلة للمواصلة في هذا الطريق الذي لا يؤمن. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 23 تعليق على الانغماس في الرياضة إنني أعلق وبسرعة على هذا الموضوع بالنقاط التالية: أولاً: تقوية الجسم مطلوب، وأنا لا أعترض على أن يوجد فينا أقوياء في أجسامهم وعقولهم وقلوبهم، ولكن المشكل أن الرياضة لا تحقق ذلك، إذ يلعب عشرون أو خمس وعشرون، أما هذه الألوف فهي مكدسة على مدرجات الملاعب، لا تلعب ولا تمارس الرياضة ولا تتحرك ولا تركض، إنما أعصابها مشدودة وأصواتها مبحوحة، وهي مشغولة تماماً بما تشاهد، إذاً الرياضة لم تحقق قوة جسمية إلا لفئة محدودة، أما الأكثرون فهم مجرد متفرجين، وربما أثر هذا على صحتهم وأبدانهم، بل إنني قرأت منذ أيام طويلة في بعض الصحف، أعداداً عن أولئك الذين ماتوا على المدرجات في هذا البلد وفي مصر وفي غيرها؛ بسبب هدف لفريقه أو هدف على فريقه. ثانياً: إن التعارف مطلوب بين الناس، بين المسلمين في بلادهم المختلفة، وبين المناطق، لكن التعارف لا يجب أن يكون بالضرورة في مدرجات الرياضة وملاعب الكرة، إنما يغلب على التعارف الذي يتم على ملاعب الكرة؛ أن يكون مقارناً بالعداوة والبغضاء، أو العلاقات المريبة بين مستويات مختلفة من الشباب الكبار والصغار، وكلنا ندري أن هذه الكرة ربما تفرق بين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين الناس، وربما قرأ بعضكم في صحفنا أشياء غريبة في هذا الباب. ثالثاً: شغل وقت الفراغ واجب، لكن يشغل بما يفيد، ولو أن الرياضة كانت في حدود المعقول والاعتدال، وكانت في أوقات معينة لما كان لنا اعتراض عليها، أما أن تكون هي جل هم الشباب، وجل وقت الإعلام أن يشغلهم بذلك، حتى في أيام الاختبارات أحياناً، وحتى في أوقات المواسم، يأتي رمضان فتشغل لياليه بدوري يشغل الليل كله من أوله إلى آخر، تأتي الاختبارات وتأتي الإجازات، فنجد أن أثمن وأفضل ما نقضيه في مثل هذه الأشياء هو الرياضة، فلا شك أن العاقل يدري ويدرك -حينئذ- أن المقصود تلهية الناس وشغلهم عن الجد وعن الإقبال وعن الفهم وعن الوعي، واليهود يقفون وراء مثل هذه الأشياء في الغالب؛ لمحاولة تلهية الشعوب عن مؤامراتهم وخططهم، أما هم فمنهمكون ومنشغلون بالإعداد والتسليح والتقوية والتدريب، حتى بناتهم يدربونهن على الحرب وفنون القتال. رابعاً: المدربون واللاعبون الأجانب موجودون كثيراً في مجتمعاتنا وفي نوادينا، وأعني بالأجانب الكفار، بل ربما تعاقد البعض مع مدربين من صربيا التي تحارب المسلمين وتقاتلهم، وكثير من بلاد الغرب أو روسيا أو غيرها التي توجه سهامها وطعناتها للمسلمين؛ ومع ذلك نستقبلهم ونؤويهم ونبجلهم، ونصرف لهم أضخم الرواتب، ونصفهم بأضخم العبارات، ونقدمهم لشبابنا قدوة حسنة، وهم في الحقيقة قدوة سيئة، وبعض هؤلاء قد يكونون -أو كثير منهم كما أسلفت- من النصارى، فيعملون حركات، مثل حركة التصليب التي يفعلها بعضهم في الميدان وهو يلعب الكرة، وتنقل في التلفاز فيراها الشباب والكبار والصغار، ويقلدونها وهم لا يفقهون أن المقصود منها الإشارة إلى الصليب، حينما يشير إلى جبهته ثم صدره ثم جانبه الأيمن والأيسر. خامساً: المعسكرات الخارجية. نعم للمعسكرات التي تدرب الشباب، وتقوي أجسامهم وتقوي عقولهم بالثقافة، وتقوي إيمانهم بالصلاة والمحافظة عليها والدروس العلمية، لكن لا يمكن أن يقبل بتلك المعسكرات التي تضعف الرقابة عليها، وخاصة إذا كانت في الخارج، وربما تكون فرصة لبعض ضعاف النفوس في ارتكاب ما لا يحل. سادساً: إن من المعلوم أن المجتمع كلما زاد وعيه قل نصيبه من الرياضة، وكلما ضعف وعيه أصبح مشغولاً منهمكاً في متابعة الكرة، والركض وراء أخبارها ودورياتها وبرامجها وجداولها. سابعاً: لا أعني بكلامي قط؛ أن كل لاعب أو متابع أو مشجع أو مشغول بالكرة بعض الوقت أنه إنسان منحرف، كلا، وأرجو أن لا يسبق هذا الفهم الخاطئ إلى ذهن أحد من الناس، بل إنني أعرف من بين هؤلاء صالحين وأخياراً، أو على الأقل فئة أخرى فيهم خير وصلاح، وربما يقتصدون في ذلك بقدر معقول لا إسراف فيه ولا مبالغة، وإن كان هذا الأمر ربما أستطيع أن أقول إن ساعة أصرفها في هذا المجال أعتبر أنها خسارة. لكنني أقول: إنه يوجد من بين هؤلاء أبرار أخيار ولا شك، وهم يتحرون الحلال ويسألون عن الأحكام الشرعية، ولا يقدمون على عمل إلا بعد ما يستفتون في حكمه. ومن ذلك مثلاً: لما أعلن النظام الجديد الذي يسمى: نظام الاحتراف والتفرغ، أن الكثيرين يسألون قبل أن يقدموا عليه هل يجوز مثل هذا العمل؛ أن يكون متفرغاً موظفاً كلاعب في النادي يقبض منه مرتبه أم لا يجوز؟ الجزء: 114 ¦ الصفحة: 24 مجموعة الأصدقاء النقطة السادسة: شلة الأصدقاء. الشلة التي يقضي فيها ذلك الشاب وقته في الاستراحة، أو مع الفريق الرياضي أو في مجموعة السفر أو السمر، إنهم جزء كبير من حياة هذا الإنسان وكيانه، وهم بلا شك من أقوى العوامل على بقائه على ما هو عليه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه، عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وله شاهد من حديث أنس، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة} فهذا يكشف عن أثر الجليس، وقديماً قيل: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي الجزء: 114 ¦ الصفحة: 25 صفات الجليس الصالح إذاً إذا كنت تريد أن تعبد الله تعالى، وتبحث عن التوبة التي بحث عنها ذلك القاتل السفاح، فعليك أن تبحث عن العابدين لرب العالمين، وأن تلقي بنفسك بينهم، وأن تحرص على مصاحبتهم، وأن تتمسك بهم، فإنك الغريق الذي إذا لم يضع يده في أيديهم، يُخشى عليه أن يذهب إلى القعر ويهلك هناك، ثم عليك قبل ذلك، أن تعتصم برب العالمين وتسأل الله تعالى أن ينقذك من كل إثم وسوء. بعض الشباب كتب إلي ورقة يسألني عن جليس يقول إنه لا بأس به، ولكنني إذا جلست معه أشعر بضعف في إيماني ورقة في ديني، فهل أجلس معه أو لا أجلس؟ أقول: مثل هذا لا يحتاج إلى سؤال، قال عيسى عليه السلام لأصحابه من الحواريين: سوف يوجد بعدي قوم يدعون النبوة. قالوا: يا نبي الله، كيف نعرف هؤلاء؟ كيف نعرفهم وكيف نميزهم؟ فتبسم عيسى وقال: من ثمارهم تعرفونهم. وهذا أصبح مثلاً يضرب: من ثمارهم تعرفونهم. لكي تعرف هل جليسك صالح وينبغي أن تجالسه أو غير ذلك، انظر ما هي ثماره وآثاره على نفسك. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 26 موافقة الشاب لجلسائه إن الشاب يتزين لجلسائه أياً كانوا، فيظهر الموافقة لهم على ما هم عليه، وربما أظهر الموافقة حتى ولو كانت بالكذب، ويتشبع بما لم يفعل، فإن كانوا أشراراً مجتمعون على معصية الله تعالى؛ فإنه يظهر لهم أنه مثلهم على معصية وعلى مخالفة ويفعل كيت وينوي كيت ويفكر كيت، على أقل تقدير من أجل أن لا يزدروه، ولا يعتبروا أنه معقد -مثلاً- أو أنه لا يعيش حياته وشبابه كما يجب، أو أنه محروم من بهجة الحياة الدنيا. ومثله أيضاً لو كان مع مجموعة من الأخيار؛ فإنه قد يتزين لهم بما يحبون، ويعمل على موافقتهم، ويظهر لهم بعض الأعمال الصالحة في أول الأمر، ثم يعتادها وتصبح جزءً من حياته. أما أولئك الرفقة من الأشرار، فإنهم يجرونه أولاً إلى السفر، مرة إلى الرياض وأخرى إلى جدة، أما في المرة الثالثة فإلى ما يعلم الله تعالى في مكان ناءٍ من الأرض. وعموماً الإنسان يختار من الأصدقاء من يوافقونه، فهو لن يبحث عن هؤلاء إلا لما يشعر أن هناك نوعاً من الالتزام والتواطئ بينه وبينهم، ولهذا كما قال مالك بن دينار وغيره: [[إنك ترى أن الطيور بعضها مع بعض]] فأنت تجد العصافير بعضها مع بعض، والصقور بعضها مع بعض، والحمام بعضها مع بعض وهكذا بنو آدم. ولذلك فيما يتعلق بالبشر انظر من هو صديق النبي صلى الله عليه وسلم؟ إنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه، انظر من هو قرين أبي جهل -فرعون هذه الأمة؟ إنهم عتبة وشيبة أبناء ربيعة وأمثالهم من الكفار المشركين، انظر من هو قرين فرعون؟ إنه هامان وقارون وأمثالهم من المستكبرين. ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27-29] . الجزء: 114 ¦ الصفحة: 27 الأقربون أولى بالمعروف إن الإنسان ربما يستميت مع جلسائه، ويطيل البقاء معهم، ويخدمهم ويهمل والديه، وربما ذهب الشاب بأمه إلى السوق -مثلاً- فأنزلها وهو مسرع؛ لأنه على موعد مع بعض الأصدقاء أو مع من يعشق ويحب، فيذهب إلى هؤلاء راكضاً ويتأخر عن أمه. فإذا جاءت أصبح يتكلم معها بشدة وينهرها ويغلظ لها في القول، ويتعذر ويتعلل دائماً بأنه مشغول وعلى ارتباط وعلى موعد، ولو أنه صارح نفسه وكشف الأمر، لأدرك ودرى أن مثل هذا الأمر لا يدعو أبداً إلى أن يتعامل مع أهله بمثل هذه الطريقة، فيكون إمبراطوراً على أمه أو أبيه أو أخته أو أخيه، وأما مع أصدقائه فهو حملٌ وديع، فالأقربون أولى بالمعروف. البعض من الشباب يعيبونه إذا كان خاضعاً لإرادة والديه، أو كان والده مسيطراً عليه، ويعتبرون هذا دليلاً على نقصه وعدم قدرته على التخلص من الضغوط والاستقلال بنفسه، ولا يزالون يزينون له التمرد على سلطة الوالد؛ حتى يستطيعوا أن يتفردوا به ويذهب معهم كيفما شاءوا. أعرف بعض الشباب كانوا صالحين، وكان الشاب الصالح مطيعاً لوالده لا يخرج إلا بإذنه، فكان أبوه ربما يمنعه حتى من مجالس العلم والخير وحلقة القرآن، والخروج مع الأخيار في رحلة، أو المشاركة في المراكز الصيفية، ثم انحرفوا بسبب بعدهم عن الأخيار والحيلولة بينهم وبينهم. فذهبوا مع الأشرار، فكان الواحد منهم لا يلتفت إلى أبيه ولا إلى أمه، وربما نام خارج المنزل، وربما لم يروه اليوم واليومين والثلاثة، ومع ذلك استسلموا له، ولم يعودوا يعاتبونه ولا يغضبون عليه؛ لأنهم يقولون نريد أن نصبر عليه لعل الله أن يهديه. وليتهم استخدموا هذا الصبر يوم كان شاباً صالحاً، وشجعوه على مقارنة الأخيار ومصاحبتهم؛ ليكون ذلك سبباً في هدايته وثباته. إن الإنسان مدني بالطبع -كما يقال- ولا بد له من مجالسة، فعليك أن تبحث عن البديل الصالح، إذا أردت أن تترك جلساء السوء فابحث عن الأخيار، ولما جاء ذلك الرجل التائب من بني إسرائيل إلى الرجل العالم وقال: {إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ قال: نعم، اذهب إلى قرية كذا وكذا فإن فيها قوماً يعبدون الله تعالى فاعبد الله تعالى معهم} والحديث في صحيح البخاري. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 28 السفر إلى الخارج النقطة السابعة: مسافرون إلى الخارج. السفر إلى الخارج -مع الأسف- أصبح ظاهرة عند بعض الأسر وبعض الشباب، بل الكثير الكثير من ذلك، وهناك مغريات كثيرة تدعو إلى ذلك الأمر. منها: الدعايات في وسائل الإعلام المختلفة، التي تعرض مناظر في بعض الدول وأشكالاً وصوراً وفنادق وغير ذلك. ومنها: الدعايات التي تقدمها الخطوط، سواء الخطوط السعودية أو غيرها، والتي تقدم الرحلات المتتابعة والمنظمة، وتعلن عن الفنادق وعن الأماكن الرئيسية، ويا ليتها على الأقل تعلن مع ذلك عن المراكز الإسلامية والتجمعات الخيرية لمثل هؤلاء المسافرين. ومنها: التسهيلات من خلال وكالات السفر والسياحة، التي تعلن باستمرار في الصحف والمجلات ووسائل الإعلام، عن رحلات منظمة وسياحة كاملة، تقوم هي بتوليها لمن لا يجيدون ذلك، أو ليس لهم خبرة مقابل مبلغ من المال. ومنها: الأصدقاء الذين يغرون صاحبهم بالسفر، ويحاولون أن يزينوا له السفر إلى الخارج. ومنها: التخفيضات التي تقدم للشباب لتذاكر السفر، وتسمى تخفيضات الشباب أو الطلاب. واعتياد السفر يجعل الإنسان -والشاب خاصة- ينتظر الفرصة أو الإجازة ليذهب إلى هنا أو هناك. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 29 مفاسد السفر إلى الخارج المفاسد المترتبة على هذا كثيرة منها: أولاً: -وهو أهمها- تدمير الأخلاق من خلال المناظر والمشاهدات والاختلاط الذي يراه الإنسان، يراه في الفندق، ويراه في المطعم، ويراه في الشارع، ويراه على شاطئ البحر، ويراه في أي مكان، فضلاً عمن يبحثون عن مثل هذا الأمر في النوادي الليلية والملاهي والمراقص وغيرها. الإغراء بالرذيلة، من تعاطي المسكرات والمخدرات وارتكاب الفواحش والمحرمات. أقول: ليس كل المسافرين كذلك، هناك كثيرون يسافرون للدعوة إلى الله، وهناك الكثيرون يسافرون للتجارة، وهناك الكثيرون يسافرون لأعمالهم، وهناك من يسافرون للعلاج، أو للدراسة، إنما أنا أتحدث عن فئة مخصوصة، ممن يسافرون لهذا الغرض الذي تحدثت عنه وبحت به. ثانياً: من أضرار ذلك: القضاء على الحيوية والصحة والشباب، فما قيمة الشباب والقوة، إذا كان سوف يريقها على أماكن الرذيلة والعهر والفساد، في بلاد لا تعرف الحياء ولا العفاف. ثالثاً: إضعاف الثروة الاقتصادية للبلاد. إن السياحة من أهم مصادر الدخل في بلاد كثيرة منها بلاد عربية كمصر وتونس وبلاد المغرب، ومنها بلاد أجنبية مختلفة على سبيل الخصوص بلاد جنوب شرق آسيا، إنها بلاد الرذيلة؛ بلاد الإيدز، وبلاد الأمراض الجنسية، وبلاد الإعلام المكشوف السافر؛ الذي تراه في الفندق، وتراه في البقالة، والصيدلية، والشارع، ومع الأسف توجد شوارع معروفة بأسماء العرب، تعلن عن الرذيلة بشكل صريح مكشوف. رابعاً: التهديد السياسي والأمني لوجود شبكات استخبارات من "الموساد"، الاستخبارات اليهودية أو غيرها، تسعى إلى تجنيد شبابنا من خلال الكأس والغانية، ومن خلال توريطهم في فضائح، فتجندهم ضد دينهم وضد بلادهم وضد مصالح أمتهم وتستخدمهم لهذا الغرض، أو على أقل تقدير من خلال شبكات ترويج المخدرات، التي تجند هؤلاء الشباب وتلقي بهم في أتون الرذيلة. وقد ذكر تقرير نشر في بعض الصحف قبل سنوات؛ أن بعض الشباب من شباب دول الخليج العربي، في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة في عمر الزهور، يذهبون إلى هناك -مع الأسف الشديد- ويتورطون في قضايا المخدرات والفساد، وقد رأيت شباباً أصيبوا بمرض الإيدز في هذه البلاد، وهم في مثل تلك السن، لا زالوا في قوة شبابهم وفي أول أعمارهم، فمن المسؤول عن هؤلاء؟ الجزء: 114 ¦ الصفحة: 30 الحلول لمشكلة السفر إلى الخارج أصبح من يريد الفساد اليوم يجده، الذي يريد الشر يجده، فلم يبق إلا التوعية الصادقة المباشرة للشباب، ومخاطبتهم وتجنيدهم في أعمال الخير، ودعوتهم إلى الله تعالى، وتحريك الخوف من الله تعالى في قلوبهم، فإن ذلك هو الرادع والوازع، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] . إنني أعرف أعداداً كبيرة من الشباب ذهبوا إلى بلاد الغرب للدراسة، فكان الواحد منهم أول ما ذهب يسأل عن جامعة تكون قريبة من شاطئ البحر، أو جامعة تكثر فيها النوادي الليلية، أو جامعة في بلد يتمتع بالحرية، فيذهبون إلى هناك؛ فإذا ذهبوا تغيرت عقولهم واستقاموا وصلحوا والله العظيم، ثم تغير الواحد منهم ورجع مرة أخرى يقول: أريد جامعة يقرب منها مركز إسلامي، وفيها مسجد، وفيها أكثرية أو جالية إسلامية يمكن أن أتعاون معهم. إن السبب في ذلك التغير؛ هو أنهم خوطبوا بالدعوة إلى الله تعالى، في جو حرية كاملة، ولكنهم دعوا إلى الله وذكروا بالله؛ فتحركت قلوبهم وعادوا إلى رشدهم، فينبغي أن نخاطب هؤلاء الشباب. أمر آخر: أن نجند الشباب إلى السفر -إن كان ولابد- إلى البلاد الإسلامية المنكوبة، إلى الصومال -مثلاً- أو أفغانستان، أو إلى بلاد البوسنة والهرسك، أو إلى طاجكستان أو إلى غيرها من البلاد؛ إما أن يذهبوا للدعوة إلى الله، أو يذهبوا للتربية أو يذهبوا للأعمال الإنسانية، من المساعدات والخدمات وغيرها، ولا شك أنهم سوف يتأثرون نتيجة مشاهدتهم، أو يذهبون للتعليم أو لغير ذلك من الأغراض. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 31 خطورة الإعلام النقطة الثامنة: الإعلام والإعدام. الفتنة في التلفاز أصبحت طاغية اليوم، عند الكبار والصغار والرجال والنساء، فقلَّ بيت يخلو من هذا الجهاز، التلفاز يعرض الرياضة للجنسين، يعرض المسلسلات الفاضحة العربية والأجنبية، والتي ليس لها أي معنى سوى عرض الجميلات من الممثلات وإغراء الشباب بهن، وهناك صور ونماذج موجودة عندي. أقول: إنها مؤذية جداً وغريبة ومستنكرة، لكني لا أطيل بها لضيق الوقت، ولأني سوف أقدم للإخوة موضوعاً خاصاً، عنوانه إن شاء الله تعالى: كلام في الإعلام. أما البرامج الدينية أو العلمية فهي أقل من القليل، ويؤسفني أن أقول: إن التلفزيون في هذا البلد يقدم برامج دينية أقل حتى مما تقدمه دول خليجية أخرى كقطر أو غيرها، وهذا نتيجة إحصائية منشورة في مجلة سعودية هي مجلة قافلة الزيت، وهي موجودة عندي، مع أن كثيراً من البرامج العلمية والدينية تفتقد الجاذبية والإثارة والقدرة على مخاطبة الجمهور، فأكثر الناس يعرضون عنها أو يغلقون الجهاز عند ظهورها. الدش موجود في البيوت والاستراحات، يقول البعض: إنه يتابع الأخبار، في الواقع أن معظم القنوات التي تبث تبث بلغة غير العربية، ومعظم الذين وضعوا هذا الجهاز لا يحسنون إلا اللغة العربية، أيضاً لم يبلغ مستوى الوعي والمتابعة الإخبارية عند الناس إلى هذا الحد، ولهذا لا تجد عندهم عناية في أحاديثهم وأقوالهم وتفكيرهم ونظرتهم، للمتابعات الإخبارية ومعرفة المجريات، إنما الغالب أن الدافع هو الإطلاع على عروض الأزياء، وعلى الرياضة، والرقص، والمسلسلات الغربية، والبرامج المنحلة. وأقول: لقد سمعت بأذني برنامجاً في إذاعة "هنا لندن" يتكلم عن جهود الحكومة البريطانية، في وقاية الشعب البريطاني من البث الخليع الذي يأتي عن طريق هذه القنوات، والتفكير في الحماية الأخلاقية للمجتمعات الغربية، مع أنهم قوم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يدينون دين الحق. فما بالك بالمسلمين، إنهم أولى أن يقوموا بهذا الأمر، ولقد أعجبني كثيراً ما نشرته الصحف أن قطر قامت بمنع تركيب الدشوش وحاربتها وصادرتها، وهذا خبر مؤكد، وينبغي على جميع البلاد أن تسعى حذوها في منع التأثير الأخلاقي والديني والعقائدي على شعوبها؛ فإن ذلك يحمل أعظم الخطر عليها. الفيديو: لقد ضعف دور الفيديو نوعاً ما بوجود الدشوش، لكن لا يزال هناك مجال من خلال الاشتراك، أو شراء ومتابعة أحدث الأفلام والمسلسلات؛ وما يحدثه ذلك من الأثر الكبير في نفوس المشاهدين أو المستمعين. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 32 حلول فساد الإعلام من الحلول: الأول: الإقبال على القراءة. فهي جزء من الإعلام، وسماع الأشرطة الإسلامية، ولها دور كبير في مثل هذا المجال، لتوعية الإنسان وملء عقله وقلبه. قد يقول الإنسان: أنا خرجت من المدرسة، تريدني أن أرجع لأقرأ -مثلاً- وأضيع وقتي في القراءة! أقول: نعم، القراءة غير المدرسة، فأنت تختار ماذا تقرأ، وفي أي وقت تقرأ، وأي لون من المعلومات، تقرأ قصة أو رواية أو تاريخاً أو شعراً أو مجلةً مفيدة أو علماً نافعاً أو ما أشبه ذلك، أو تستمع إلى شريط ينفعك في دينك أو دنياك، أو ينور لك الطريق، أو يزيد في خبرتك ومعلوماتك. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 33 آثار أجهزة الإعلام الفاسدة إن من أعظم الآثار: أولاً: ضحالة الثقافة والمعلومات، فأنت تجد هؤلاء المتابعين ليس لديهم أي ثقافة يعتزون بها، ولا معلومات حقيقية، إنما هم خطافون يجتمعون أو يشاهدون، وقد تقلصت معلوماتهم وضاع وقتهم. ثانياً: القضاء على الوقت، فلم يعد عند الإنسان وقت يذكر للقيام بأمور جادة، لا يقرأ ولا يكتب ولا يعمل في دنياه، ولا يقوم بأي عمل مثمر. ثالثاً: وهو من أهم الأشياء وأخطرها: تغيير الأفكار والأخلاق، فإن الإنسان يتأثر بما يشاهده ويسمعه قطعاً ويقيناً، بعض الإخوة والأخوات يقولون لا نتأثر، أقول: هذا غير صحيح، وأضرب لذلك مثالاً: لو فرضنا أن هناك مسرحية أو تمثيلية مؤثرة ومبكية؛ ألا تجد أن الإنسان يبكي وتدمع عينه، مع أنه يعرف أن الأمر تمثيل. لو كان هناك مسلسل عنف وإثارة؛ ألا تجد أنه يتابعه وأعصابه مشدودة؟ بلى. مع أنه يعرف أن القضية تمثيل، إذاً الإنسان يتأثر بكل ما يشاهد وبكل ما يسمع، ومع الوقت يتعود الإنسان -مثلاً- على أن كون الرجل مع امرأة أجنبية ما يضر، وكذا ركوبها معه في السيارة، والمغازلة، والاتصال الهاتفي، وظهور الأوراق واكتشافها، وكلام الحب والغزل والغرام. هذه المدرسة دربت بناتنا وأولادنا على كثير من أنواع الاتصالات المحرمة، والعلاقات الغير نظيفة ولا شريفة، إنها مدرسة كبيرة اسمها: مدرسة التلفزيون. رابعاً: تمزيق الشخصية بين ما يعيشه الإنسان في مجتمعه، ويدرسه في مدرسته، ويسمعه في المسجد من التعاليم الدينية الشرعية، وبين ما يراه عبر الشاشة من المخلفات. خامساً: التهييج والإثارة، وأعني بذلك على سبيل الخصوص: التهييج والإثارة بما يتعلق بالعواطف والغرائز. نعم، كلٌ بحسبه، حتى صورة تلك المرأة التي تعرض في مسلسل عربي، إنها ربما تكون -أحياناً- أكثر إثارة أو تهييجاً من صورة في مسلسل أجنبي، أو حتى مما لو كانت أمراً مكشوفاً يتعاطى فيه الجنس علانية، فإنها قد تتفنن في وسائل الإغراء والإثارة، وربما يكون المستور أحياناً أكثر إثارة من المكشوف. سادساً: ملء ذهن الإنسان وعقله بالأمور الفارغة: التعلق بالصور، والتعلق بالأشكال، والمفاهيم الخاطئة، والنظرات القصيرة إلى غير ذلك. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 34 عقبات في طريق الالتزام النقطة العاشرة: عقبات في طريق الالتزام: السفر عقبة، الأصدقاء عقبة، التعلق بالرياضة أو بالفن عقبة. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 35 عقبة الفراغ عقبة الفراغ: لقد هاج الفراغ علي شغلاً وأسباب البلاء من الفراغ نفسك إن لم تشغلها بالخير شغلتك بالشر، من أنجح الأساليب التربوية عند الآباء الواعين الفاهمين، أن يشغلوا أبناءهم بالأمور الجادة منذ الصغر، مذاكرة، أو مشاركة في تجارة أو عمل، أو إدارة، أو زراعة، مع منح المغريات والمكافآت التي تحدوهم إلى هذا العمل وترغبهم فيه، القيام بالخدمات في المنزل، تربيتهم على الاستقلالية في شخصياتهم، وأن لا يكونوا تبعاً لغيرهم، أو تربيتهم على القدرة على اتخاذ المواقف السليمة وتحمل المسئوليات. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 36 عقبة العادة هناك عقبة إضافية وهي: عقبة العادة. أن تكون عادات الإنسان عادات سيئة، كما يشتكي الكثيرون -مثلاً- مما يسمونه بالعادة السرية، قد تصبح المعصية عادة أياً كانت، اعتاد الإنسان التدخين أو شرب المسكر أو السفر أو ممارسة الحرام، أحياناً يمارسها لمجرد العادة دون أن يجد لها لذة، ودون أن تتطلع نفسه إليها إلا لمجرد أنه إذا وجد وقت فراغ، انصرف تلقائياً إليها، الذي تعود على المعاكسات الهاتفية، في كل وقت فراغ يجد أمامه جهازه يحركه دون أن يوجد هناك أي دافع إضافي إلا دافع العادة فحسب، أما اللذة فقد ذهبت مع المكالمات الأولى أو مع الاتصالات الأولى. فهذه الأشياء كما قيل: أولها لعب وآخرها عطب. وبالمقابل أصبح الإنسان لا يجد -بسبب عاداته السيئة أو المحرمة- أصبح لا يجد رغبة نفسية مثلاً في الصلاة، وربما يضيق بالأذان، وربما يذكره ذلك بشيء يريد هو أن ينساه، أو يشعره بالذنب وينغص عليه لذته العابرة التي يقضيها الآن، أو يجعله يقارن نفسه بتلك الفئة الملتزمة المهتدية من الأخيار والصالحين، ولا يجد أدنى دافع يفتح المصحف أو يقرأ شيئاً من القرآن؛ مع أن القرآن علاج وشفاء، كما قال الله جل وتعالى: {هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] {مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] . الوحشة من الطاعة وأهلها؛ من أعظم آثار الذنب والمعصية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الخير عادة} من الممكن أن يكون الخير هو العادة التي تدرب نفسك عليها، فتعتاد على أداء الصلاة في أوقاتها، أو قراءة الورد اليومي صباحاً ومساءً، أو المحافظة على السنن الرواتب والوتر أو سنة الضحى، أو سماع الأشرطة أو قراءة الكتب، أو ملازمة حلقة القرآن والذكر؛ بحيث تكون هذه عادة لك تنزعج لتركها. ولهذا لما ذكر الله تعالى المنافقين قال: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:13-14] . إذاً الفتنة جاءتك من الداخل {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد:14] تربصتم: أي انتظرتم وقلتم العمر طويل، نحن شباب، إذا كنا مثل فلان وفلان في السن نتوب إن شاء الله، هذا هو التربص. {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد:14-15] . الجزء: 114 ¦ الصفحة: 37 الأسئلة الجزء: 114 ¦ الصفحة: 38 طريقة التوبة السؤال أنا شاب أتيت مع أخيار، ولأول مرة أحضر محاضرة، لي بعض الأخطاء الصغيرة والكبيرة، ما هي نصيحتك لى حيث أني أريد أن أتوب إلى الله؟ الجواب نصيحتي أن تسمع شريط "أريد أن أتوب ولكن" الذي ذكرته لكم قبل قليل. فنترك بقية الأسئلة ونجيب على المهم منها في فترة قادمة إن شاء الله تعالى، في الأسبوع القادم سأقوم بإعداد موضوع مصارع العشاق، وهو الحلقة الأخيرة في سلسلة الحديث مع إخواني الشباب. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلِّ اللهم وسلم وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 39 خبر مزعج للغاية السؤال خبر مزعج للغاية، في الواقع يقول أحد الإخوة: أطرح هذا السؤال لإرساله إلى أهل الزوجين حتى ينكروا المنكر، آه ثم آه لما حصل في بلدنا قبل ثلاثة أيام في أحد قصور الأفراح، حيث أتى الرجال مع النساء، واستمر الغناء والموسيقى حتى الساعة الثالثة ليلاً تقريباً، والله ثم والله قد حصل هذا، وفي زواج آخر دخل الزوج مع زوجته بين نساء أجنبيات عنه، فإلى متى تبقى هذه المظاهر وتستمر هذه المنكرات؟ فاتقوا الله يا شباب الأمة. ونرجو أن تخصص موضوعاً لمنكرات الأفراح؟ الجواب سبق أن خصصت موضوعاً عنوانه: تنبيه الناس على ما يقع في الأعراس. أما هذا الخبر فإذا كنت أنت أو غيرك ممن يسمع هذا السؤال ومتأكد من حصوله فينبغي أن ينكر هذا في وقته ويثبت، ويمكن أن يتم إنكاره بطريقة يمكن أن يتأكد بها -إن شاء الله- من عدم تكرار مثل هذا العمل الشنيع الفضيع، وفعلاً والله أصبحت تصلنا الآن رسائل واتصالات في غاية الإزعاج مما يقع في الزواجات. أخبرتني امرأة أن هناك زواجات يستأجرون قصر الأفراح بمائة وخمسين ألف ريال فقط؟ بل خمسمائة ألف ريال لمجموعة من الشباب؛ وأخرى بل مجموعة أثبتن أنه يتم رقص نساء شبه عرايا، عليهن ملابس لا تستر إلا إلى نصف الفخذ، هذا يوجد حتى بين الفتيات الغير متزوجات؛ وربما رقصت الزوجة مع زوجها أمام الرجال والنساء، سبحان الله! فتن يرقق بعضها بعضاً، أصبح مجتمعنا يصل إلى مثل هذه الأمور، ونحن في كثير من الأحيان نقف موقف المتفرج. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 40 نوع المساعدة على الزواج السؤال قلتم إنكم على استعداد لمن يريد مساعدة للزواج؟ الجواب أنا ما قلت على استعداد المساعدة من يريد الزواج، لأنه قد يظن أني على استعداد لمساعدته في البحث عن الفتاة، ومثل هذا العمل لا يمكن أن أورط نفسي به، لكني على استعداد لمساعدته فيما يتعلق بالمساعدة المادية إذا كان ذلك ممكناً. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 41 كتاب عن أهل الحسبة تنويه: يقول: هناك كتاب للشيخ محمد الدويش يتكلم ويجيب على أسئلة عن أهل الحسبة وهو يجيب على أسئلة كثيرة مطروحة، اسمه أهل الحسبة، فلذلك نلفت الأنظار. الجزء: 114 ¦ الصفحة: 42 العالم الشرعي بين الواقع والمثال ما أحوج الأمة إلى العالم الرباني الذي يصدع بكلمة الحق ولا يخاف لومة لائم، والذي تهفو إليه القلوب وتجتمع حوله لحسن خلقه وطيب باطنه وظاهره. نعم. هناك علماء كثر، لكن خصائصهم لا تتطابق مع خصائص العالم الرباني، لقد كان علماء السلف بحق هم العلماء الربانيون، وحتى ندرك الفارق بين علمائنا وعلماء السلف الصالح فما علينا إلا أن نقرأ هذه الصفحات. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 1 مقدمة عن منزلة العالم وصفاته إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. العالم: هو من خير البرية ويتبوأ منزلة دونها منازل الناس أجمعين، كما ذكر الله تعالى في كتابه، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في سنته: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] و {العلماء هم ورثة الأنبياء} وإنما يقصد بالعالم في هذا، العالم بالشرع أصوله وفروعه، أما غيرها من العلوم الدنيوية فليس لها هذا الشرف مهما يكن نفعها ومهما تكن ثمرتها. وقد كان علماء هذه الأمة من السلف الصالح رضي الله عنهم ترجمة واقعية حقة لما كان الإسلام يريده من العالم، في مظهره ومخبره في علمه وعمله ودعوته وسائر تقلباته. وكلما تقادم العهد بهذه الأمة، وبعدت عن المنابع الأصلية، وطال عليها الأمد، ضعف هذا الأمر، وقل العلماء العاملون المخلصون، وبهتت الصورة التي كان عليها العالم المسلم في عهود السلف الصالح رضي الله عنهم أجمعين. ولذلك تحتاج الأمة بين كل آونة وأخرى إلى أن تستعيد صورة ما كان عليه أولئك العلماء، ليكون ذلك حافزاً لها على السير على خطاهم وتقفي آثارهم. ولا شك أن الصورة المثالية للعالم التي جاءت في القرآن والسنة بشكل نظري، وطبقت في واقع الحياة في العصور الأولى بشكل عملي، هذه الصورة المتكاملة لاشك أن مقاييسها بالصورة الحالية لطلاب العلم أمر يطول، فإن الفرق ليس محصوراً في جانب واحد حتى يمكن استقصاؤه والحديث عنه، بل الفرق في المنهج، في طريقة التعلم، والتعليم في الأسلوب، وفي الهيئة الظاهرة والباطنة وفي كل شيء،؛ولهذا فإنني سوف اقتصر في هذه الدقائق على الحديث عن ثلاثة جوانب مع بيان الفرق فيها بين ما كان عليه علماء السلف الصالح وما آل إليه الأمر في هذا الزمان، وهذه الجوانب الثلاثة هي: الجانب الأول: فيما يتعلق بموضوع المواصلة في طلب العلم. والجانب الثاني: ما يتعلق بموضوع التأثر بالعلم والعمل به. والجانب الثالث: فيما يتعلق بموضوع القوة في الحق. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 2 إمكانيات لطلاب العلم اليوم وقبل أن أدخل في هذه الجوانب الثلاثة أحب أن أشير إلى أن هناك ميزات وإمكانيات أصبحت في مقدور طالب العلم اليوم لم تكن ميسورة لطلاب العلم في المرحلة الماضية. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 3 الرفاهية وتيسير العيش فمثلاً: نحن ننظر اليوم إلى الرفاهية المادية والرخاء المعيشي الذي يعيشه طالب العلم، ونجد أن طالب العلم قد كفي كثيراً من الجهد في طلب الرزق، وأصبحت الأمور ميسرة لديه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب، بصورة لم تكن متيسرة لطلاب العلم في أي عصر مضى. وعلى النقيض من ذلك كان علماء السلف رضي الله عنهم يلاقون المشاق والصعاب في حياتهم بسبب ضيق ذات اليد. ولعلي أكتفي بالإشارة إلى القصة المعروفة التي حدثت لأربعة من كبار الأئمة والعلماء، وهم محمد بن جرير الطبري، ومحمد بن نصر المروزي، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح، ومحمد بن هارون الروياني، فقد كان هؤلاء العلماء الأربعة ممن جمعتهم الرحلة وذهبوا إلى مصر في طلب العلم، فهناك أصابهم من شظف العيش ما أصابهم حتى كانوا يبيتون الليالي الطويلة بلا غداء ولا عشاء. حتى إنهم اتفقوا على أن يضربوا القرعة فيما بينهم ومن وقعت عليه القرعة فإنه يذهب ليسأل لهم طعاماً، فلما أداروا القرعة وقعت على ابن خزيمة -رحمه الله- فما بالك إمام الأئمة كما يسمى ابن خزيمة صاحب المصنفات الشهيرة سوف يضطره ما يلقاه من ضيق ذات اليد إلى أن يسأل غداء أو عشاء له ولأصحابه؟! فكأنه رحمه الله استثقل ذلك الأمر، وقال: دعوني حتى أصلي صلاة الخيرة، أي: صلاة الاستخارة، فذهب يصلي ركعتين، ولعله دعا الله تعالى فيها، فما انتهى من صلاته إلا والباب يطرق، وإذا برسول من عند الأمير يقول: أين محمد بن نصر المروزي؟! فقال: هاأنا! فأعطاه خمسين ديناراً ثم قال: أين الروياني؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، ثم قال: أين محمد بن جرير الطبري؟! فأعطاه خمسين ديناراً، فقال: أين محمد بن إسحاق بن خزيمة؟! فجاء فأعطاه خمسين ديناراً، وقال: إن الأمير كان نائماً فرأى في المنام خيالاً يقول له: إن المحاميد قد طووا كشحهم من الجوع! فاستيقظ وعرف أن المقصود هؤلاء الأئمة الأربعة؛ لأن كل واحد منهم اسمه محمد، فأرسل إليهم ذلك، وسألهم بالله إذا انتهت واحتاجوا أن يبعثوا أحدهم إلى الأمير ليأخذ مثلها. وما من عالم من العلماء المشهورين إلا ومرت به مواقف تشبه هذا الموقف وقد تزيد عليه، فلم يكن لدى أولئك العلماء من سعة ذات اليد وتوفر هذه الأمور الضرورية ما هو موجود لدى طالب العلم اليوم. كذلك لم يكن لديهم من توفر وسائل الاتصال، فقد كان الواحد منهم يضطر إلى الرحلة من الحجاز إلى مصر أو إلى اليمن أو إلى الشام أو إلى العراق في طلب حديث واحد، وقد يرحل رحلات عدة في طلب حديث واحد، ولهم في ذلك قصص وطرائف ويمكن أن تراجعوا مثلاً كتاب الرحلة في طلب الحديث للخطيب البغدادي أو غيرها. وأما اليوم فإن وسائل الاتصال أصبحت ميسرة؛ فإن الإنسان عندما يريد السفر يستطيع أن يقطع آلاف الأميال في ساعات وبكل راحة وهدوء، وخلال سفره يستطيع أن يستثمر وقته في قراءة، في طلب علم، في مراجعة، في حفظ، في أي أمر من الأمور، وقد لا يحتاج إلى السفر في كثير من الأحيان لتوفر وسائل الاتصال الأخرى أيضاً، فهذه ميزة متوفرة اليوم لم تكن متوفرة من قبل. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 4 توفر الكتب من الميزات المتوفرة اليوم توفر الكتاب، فأنت تجد أن المكتبات تقذف يومياً بأعداد كبيرة من الكتب في شتى ألوان المعرفة، بما في ذلك المعارف الإسلامية من فقه وتوحيد وتفسير وأصول ولغة وغيرها، ومن السهل أن يحصل الطالب على هذه الأشياء، أما في ذلك العصر فلم يكن من الميسور لأحدهم أن يحصل على كتاب إلا بأغلى الأثمان، لأنهم كانوا ينسخون الكتاب نسخاً، وكان هذا يكلف، وفي الوقت نفسه كان هذا يجعل الكتاب نادراً وقليلاً لا يتوفر إلا للخاصة من الناس، هذه كلها إمكانيات هي متوفرة اليوم لطالب العلم لم تكن متوفرة لهم في ذلك العصر. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 5 ميزات السلف الصالح وبالمقابل نلاحظ أن هناك أشياء كثيرة تميزوا بها رحمهم الله، وهي أمور أساسية إذا وجدت عند طالب العلم، فإنه يستطيع أن يتجاوز الصعاب والعقبات في طلب العلم، وإذا لم توجد فلا ينفع الطالب أن تكون الأمور كلها ميسرة، فماذا ينفع الطالب إذا كانت كتب العلم كلها بين يديه، وهو لا يجد الرغبة في تحصيل العلم؟! أولا يملك الدأب على تحصيله؟! لا يستفيد شيئا من هذه الأمور، ولو كان العلم بالكتب لصار أصحاب المكتبات أعلم الناس. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 6 القدوة الصالحة وقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخيراً فإن من الميزات الواضحة لهم على غيرهم: أنهم رضي الله عنهم كانوا يجدون القدوة الصالحة في هذا السبيل، والقدوة كلما تقدم الزمن تضعف. فالجيل الأول كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، والجيل الثاني على جلالة أقدارهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بل ثناء الله تبارك وتعالى عليهم كانوا يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم، لكن الأشخاص الذين عايشوهم وأخذوا عنهم كانوا من الصحابة، كـ معاذ بن جبل وابن مسعود وعمر بن الخطاب وفلان وفلان، الجيل الثالث كان مشايخهم من التابعين … وهكذا، فكلما تقدم الزمن ضعفت القدوة. ولذلك ذكر الإمام الذهبي في التذكرة قول بعضهم: " إن الإمام أبا داود صاحب السنن كان أكثر الناس شبهاً بالإمام أحمد، والإمام أحمد كان أكثر الناس شبهاً بـ وكيع، ووكيع كان أكثر الناس شبهاً بـ سفيان، وسفيان كان أكثر الناس شبهاً بـ منصور، ومنصور كان أكثر الناس شبهاً بـ إبراهيم، وإبراهيم كان أكثر الناس شبهاً بـ علقمة، وعلقمة كان أكثر الناس شبهاً بـ عبد الله " يعني ابن مسعود رضي الله عنه. إذاً: كلما تقدم الزمن ضعفت القدوة، فكانوا يجدون في واقع حياتهم قدوةً حسنة في الدأب في تحصيل العلم، وفي العمل، وفي تحمل المشاق والصعاب وغير ذلك، وهذه لا تزال موجودة ولكنها لاشك ليست كما كانت موجودة عندهم، لا من حيث الكم والعدد ولا من حيث الكيف، فهذه مقارنة عامة لا أقول إنها مستوعبة لكل الفروق بين هؤلاء وأولئك لكنها إشارة إلى بعض الجوانب التي تحضرني الآن. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 7 الإخلاص فمن ميزاتهم رضي الله عنهم التي امتازوا بها: الإخلاص، فقد كان دافعهم أو دافع كثير منهم ابتغاء وجه الله تعالى فيما يعلمون، ولم يكن قصد أحدهم مثلاً أن يُحَصِّلَ علماً ليباري به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه أو يتصدر به في المجالس أو ليقال هو قارئ، إنما كان قصدهم معرفة ماذا يريد الله منهم ليعملوا، وقصدهم حفظ الشريعة وتعليم الناس وما أشبه ذلك من المقاصد المشروعة، وهذا الأمر يصبح يسيرُ العلمِ معه كثيراً مباركاً. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 8 علو الهمة ومن الميزات التي امتازوا بها رحمهم الله ورضي عنهم: قوة الهمة، فقد كانوا يمتلكون من الهمم العالية القوية ما يسهل كل صعب، وما قطعهم للمسافات وتحملهم للمشاق في تحصيل العلم إلا لوجود الهمة القوية، أما اليوم فأنت تجد طالب العلم إذا تعسر عليه فهم باب من أبواب العلم تشرح له مرة فلم يفهمه يلقي بالأمر ويقول: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع ويخيل إليه أنه بذل وسعه في التحصيل فلم يفلح!. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 9 التفرغ لطلب العلم من ميزاتهم التفرغ لطلب العلم، ولذلك كان الإمام الشافعي - رحمه الله - يقول: لو كلفت شراء بصلة ما فهمت مسألة، وهذا ليس معناه كما قد يتبادر أن طالب العلم في عصرهم أصبح عالة على غيره لا يأتي ولا يذهب، وإنما هو متفرغ، والمحسنون ينفقون عليه، لا! لكن المقصود أن طالب العلم لديه جو مناسب لتحصيل العلم، ولديه تفرغ قلبي من الشواغل، لكن لو تنظر لطالب العلم اليوم تجد عنده مزرعة يشتغل فيها، وتجد عنده دكاناً، وتجد له أصحاباً وخلاناً يأخذون وقته، ولذلك فرحمة الله على السلف حين كانوا يقولون: " من أراد تحصيل العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه " أي أن يوجد قدراً من التفرغ في طلب العلم وتحصيله. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 10 الاستمرار في تحصيل العلم بين عصر السلف وعصرنا أما فيما يتعلق بالأمور الثلاثة التي ذكرت أنني سوف أقارن فيها بين ما كان عليه السلف الصالح وبين ما نحن عليه اليوم فإن الأمر الأول منها هو: - استمرارهم في تحصيل العلم، واستمرارهم في تحصيل العلم هو امتثال لقول الله عز وجل {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فإن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالعبادة وحدد وقتا ينتهي فيه هذا العمل الذي كلف به وهو الموت {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] أما قبل ذلك فلا يزال في عبادة ومجاهدة. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 11 مساوئ التخصص نلحظ قضية أخرى وهي: في موضوع التخصص، وإذا كان السلف على ما وصفت فإننا نلحظ أن التخصص أخذ بعداً آخر في هذا العصر، فنجد الطالب أحياناً قد يتخصص في سن مبكرة حتى إنهم الآن أوجدوا التخصص حتى على مستوى المدارس الثانوية، فقد يتخصص الطالب في المرحلة الثانوية أحياناً في علوم شرعية أو علوم لغة عربية أو في غيرها، ثم إذا انتقل إلى الجامعة استمر في تخصصه نفسه. وقد نفترض أن إنساناً أنهى أعلى المراحل الدراسية في تخصص معين كالفقه مثلاً ماذا سيكون؟ ربما يأخذ في المدرسة الثانوية قولاً واحداً هو المشهور من المذهب في بعض المسائل دون بعض وهو موزع على سنوات، ويختلف تحصيله بحسب جودة الأستاذ وجودة ذهن الطالب وإمكانياته، وهناك ظروف كثيرة تؤثر في التحصيل. ينتقل إلى كلية الشريعة مثلاً فيقرأ في كتاب ككتاب الروض المربع شرح زاد المستقنع، وحينئذٍ يكون الطالب أيضاً أخذ قولاً في المذهب ومعه دليله في أحيان وتعليله في أحيان أخرى، وينتهي من الكلية بهذه الصفة، وإذا تخصص في مرحلة الماجستير أخذ موضوعاً واحداً، ولنفترض مثلاً أنه بحث في موضوع أحكام الطهارة في الماجستير، وجمع الأقوال المختلفة وقارن بينها، وجمع الأدلة وخرج منها بنتائج محددة، ولكنها تبقى في موضوع واحد، ثم انتقل إلى ما يسمى بمرحلة الدكتوراة، فكذلك تخصص في موضوع واحد آخر، وليكن لا أقول الصلاة لأنه لا يمكن أن يأخذ دكتوراه في موضوع الصلاة كلها، لكن يأخذها في جزء مثلاً: في صلاة النوافل، أو في أحكام المسافر، أو في أحكام المريض، أو في أحكام الإمام وما أشبه ذلك. يبقى الطالب فيما سوى ذلك من العلوم أشبه بالأمي! فهذه من سلبيات التخصص المبكر، خاصة من الإنسان الذي لا يجد في نفسه رغبة شخصية في متابعة العلم وتحصيله، وإلا فالذي يجد الرغبة والهمة والإقبال سوف يُحَصِّلُ -بإذن الله- العلم، حتى لو لم يتخرج من الجامعة وحتى لو لم يحصل على شهادة، إنما الكلام في جمهور المتفقهين والقراء وهم الذين يسلكون هذا الطريق الذي أشرت إليه. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 12 سعة الاطلاع على كثير من العلوم عند السلف إضافة إلى ذلك لم يكن طلبهم للعلم مقصوراً على جانب معين، أي: فلو نظرت في أي عالم من علماء السلف تجد أنه وإن كان مشهوراً في فن معين، مثلاً في الأصول أو في الفقه أو في اللغة العربية، إلا أنك تجد أنه واسع الإطلاع على كثير من العلوم، ولعل من الأمثلة المناسبة: بعض علماء اللغة، فأنت لو نظرت مثلاً للأصمعي أو ابن الأعرابي أو ابن فارس أو سيبويه أو ابن قتيبة، لوجدت أنهم كانوا مشهورين بالجوانب اللغوية والنحوية والأدبية، إلا أنهم كان لهم مشاركات ومساهمات أو على الأقل اطلاع واسع على العلوم الشرعية. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 13 انتهاء الطلب بالتخرج من الجامعة في عصرنا وفيما يبدو أن المعرفة بعلوم الشريعة وعلوم اللغة العربية كانت قاسماً مشتركاً بين كافة العلماء في ذلك العصر، ثم يتخصص الواحد منهم في علم من العلوم يبرز فيه أكثر من غيره. إذا نظرنا إلى الصورة المقابلة في واقعنا وجدت أن كثيراً من طلاب العلم يعتبر أن تخرجه من الكلية مثلاً هو آخر عهده بطلب العلم، فهو يخيل إليه أنه بعد أن حصل على هذه الشهادة أنه قد حصل على العلم المطلوب وتوجه إلى عمل أو تدريس أو وظيفة أو غيرها، وتوقفت بذلك جهوده في طلب العلم وتحصيله، مع أننا ندرك جميعاً أن أي علم يمكن أن يحصله الطالب في كليات الشريعة أو أصول الدين أو غيرها، لاشك أنه علم لا بأس به، ولست أقلل من شأنه، لكن هو علم يمكن أن يفتح أبواب العلم الواسعة على الطالب، وييسر له سبيل الوصول إلى العلوم، أما أن يكون هو العلم الذي يكفي الطالب فليس الأمر كذلك. ومنهم من يعتقد أن إنهاء ما يسمى بمرحلة الماجستير أو الدكتوراة هو آخر عهده بالعلم، مع أن من المعلوم أن هذه الرسالة قد تكون في موضوع واحد، مهما أجاد فيه الطالب إلا أنه يبقى معزولاً عن غيره من الموضوعات، بل عن غيره من الفنون التي قد يجهلها بأكملها أحياناً. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 14 انقطاع التحصيل بالترؤس ومن الأشياء الملحوظة أيضاً في هذا الجانب: أن بعض المعاصرين قد يظن أن وصوله إلى التصدر والترؤس والسؤدد هو غاية النهاية في تحصيل العلوم والمعارف، فإذا صار فقيهاً وجلس للطلاب أو أفتى أو تكلم توقف عند ذلك تحصيله، وهذا أمر ملحوظ جداً، ولذلك كان عمر رضي الله عنه خبيراً بالنفوس حين كان يقول: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] كما في سنن الدارمي وذكره البخاري في صحيحه، أي: أن الإنسان إذا صار سيداً، سواء برئاسة دنيوية على قبيلة أو على بلد أو على عمل أو مؤسسة أو كانت رئاسة دينية وعلمية وشرعية، فإن فرصة الإنسان في التحصيل تقل، فقال: [[تفقهوا قبل أن تسودوا]] وعقب الإمام أبو عبد الله البخاري على كلمة عمر هذه بقوله: " وبعد أن تسودوا" أي ليس فقط قبل أن تسودوا، وإنما أيضاً بعد السيادة ينبغي للإنسان أن يواصل في طلب العلم وتحصيله، مع أن من الملحوظ أن حركة العلم دائبة لا تنقطع. ولعل من أبرز ما يدلل على هذا ما نلحظه اليوم في هذه النهضة العلمية، كم من مخطوط كان كثير من العلماء المشهورين يتمنون الحصول عليه في وقت من الأوقات أصبح الآن في متناول كل طالب، وتجده مطبوعاً محققاً مخدوماً رخيص الثمن، وكم من كتاب كانت المعلومات فيه غير مرتبة ككتب المسانيد مثلاً أو بعض كتب الثقات ككتاب الثقات لابن حبان وكتب التراجم أو غيرها، فكان العالم يجتهد في البحث عن طلبته وبغيته فلا يحصل عليها، وأصبح هذا اليوم ميسراً لطلاب العلم، عن طريق هذه الفهارس التي أصبحت تعد بالمئات، بل ربما أكثر من ذلك. كم من مسألة كانت مفرقة بين بطون الكتب في الماضي، فقيض الله في هذا العصر من يجمع أشتاتها وأطرافها في بحث واحد ويقربه للناس، وهذا لا يعني التزكية المطلقة لهذه الأشياء. قد يقول بعضكم: ولكن كثيراً من هذه التحقيقات والبحوث والفهارس فيها نقص وفيها وفيها؟ أقول: هذا صحيح، وليس المجال مجال توثيق أو تقويم لهذه الأعمال العلمية، إنما المقصود فقط الإشارة إلى أن حركة العلم في هذا العصر في تزايد مستمر ووسائل تحصيل العلم أصبحت ميسورة، فالتوقف عند حد معين ليس له ما يسوغه أو يبرره كما يقولون. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 15 نماذج عجيبة ولا شك أن العلم من أجل الطاعات وأعظم العبادات، بل ذكر عدد من أهل العلم أنه أفضل من نوافل العبادات من وجوه عديدة، فكان العالم منهم يعتبر أنه طالب عالم حتى الموت، ولهم في ذلك قصص وحكايات كثيرة لعل منها ما هو معروف عن الإمام أحمد، وقد رأى بعضهم معه محبرة في آخر عمره وعلى كبر سنه، فاستغرب ذلك وسأل الإمام أحمد فقال: الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] لا يلقي عصا التسيار والترحال في طلب العلم حتى يأتيه الموت. - عبد الله بن المبارك كذلك تعجب الناس من كثرة علمه وتحصيله ومع ذلك، يغشى المجالس ويسمع الحديث، وسألوه عن ذلك فقال: "لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أسمعها بعد" ربما تكون الكلمة التي فيها حياة قلبه -هكذا كلمته- ما زال بحاجة إليها، ولعله لم يسمعها حتى الآن. ومثل ذلك ما رواه ابن عساكر عن أبي القاسم الصوفي أنه خرج إلى الحج وهو شيخ كبير، فكان معه مقلمة ومحبرة وبياض -أي ورق بياض- وكانوا يسمونه "الكاغد" وأجزاء، فكان كلما نزل في مكان قرب قرية أو بلد قال لأحد تلاميذه: هلم! فيذهبون ويحضرون مجالس الحديث ويسجلون الفوائد، فإذا مر به أحد سأله إن وجد عنده فائدة قيدها، حتى ذكر أنه كان في وادي محسر، والناس يحاولون أن يخففوا من أحمالهم التي معهم، فكان في هذا المكان الضيق المزدحم معه المقلمة والمحبرة والبياض والأجزاء فقال له تلميذه: يا إمام في هذا المكان الضيق المزدحم والناس يتخففون من أمتعتهم معك هذه الأشياء، فقال: لعلي أسمع فائدة من جمال أو غيره فأقيدها! صورة معبرة من صور الدأب في تحصيل العلم وعدم الوقوف عند حد معين. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 16 الخشية والسمت الحسن والخلق الفاضل أما القضية الأخرى التي هي موضوع المقارنة أيضاً: فهي ما يتعلق بالخشية والسمت الحسن والخلق الفاضل، فقد مدح الله أهل العلم بقوله: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَخِرُون لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيْدُهمْ خُشُوعاً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء:108] وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن العلم هو ما أورث الخشوع والخشية والخوف من الله والعمل، ولا أدل على ذلك من الحديث الصحيح الذي رواه أبو الدرداء: {أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء ذات ليلة وقال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقام رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد فقال: يا رسول الله! كيف وقد قرأنا القرآن؟! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ثكلتك أمك يا زياد! إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة، هذه التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى فما أغنت عنهم} . قال: جبير بن نفير راوي الحديث، فلقيت عبادة بن الصامت فقلت له: ألا تسمع ما يقوله أخوك أبو الدرداء؟ وحدثته بالحديث فقال: [[صدق! إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الأرض، الخشوع! يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] أحياناً العامي الذي يكون في قلبه خشوع وخشية يسمع المواعظ فيهتز لها ويتأثر ليقظة قلبه، فالقرآن والسنة مواعظ، والحديث الذي ذكرته رواه الدارمي وغيره عن أبي الدرداء، وجاء عن زياد بن لبيد وعن وحشي وعن غيرهم من الصحابة فهو حديث صحيح. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 17 العلم عند السلف مرادف للخشية أقول: السلف رضي الله عنهم كانوا يفهمون العلم هكذا ما كانوا يطلقون لفظ العلم على المعلومات المجردة، وهذا من المصطلحات التي تغيرت اليوم عما كانت عليه في الماضي، فالسلف -حين كانوا يقولون: فلان عالم أو يقولون اطلب العلم- كانوا يقصدون العلم وثمرته التي هي العمل والتأثر، التأثر القلبي والسلوكي بالعلم، أما مجرد تحصيل المعلومات فلم يكن عندهم فقهاً ولا علماً، ولهذا قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] . هل إنذار الناس يكون فقط بالأحكام الفرعية؟! هل إنذار الناس يكون بأن تبين لهم مثلاً أحكام الحيض أو أحكام النفاس أو أحكام سجود السهو؟! كلا! إنما الإنذار يكون بالعلم الذي ينفذ إلى القلب، العلم بالله تعالى، العلم باليوم الآخر، وكذلك معرفة هذه الأحكام الفرعية الشرعية على سبيل العمل بها والدعوة إليها وعبادة الله تعالى بامتثالها، هكذا كان العلم. ولذلك روى الخطيب البغدادي في كتابه المفيد الذي سماه الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع عن ابن سيرين أنه قال: "كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم" يتعلمون الهدي -وهو السمت والخلق والسلوك- كما يتعلمون العلم! وذكر الخطيب أيضاً في كتابه المشار إليه عن أبي زكريا العنبري أنه كان يقول: "علم بلا أدب كنار بلا حطب، وأدب بلا علم كروح بلا جسم" أما قوله: "علم بلا أدب كنار بلا حطب" فمعناه والله أعلم: أن العلم يقتبس منه فلا ينقص، مثل النار الذي يوضع عليها الحطب يقتبس الناس منها فلا تنقص، فالعلم الذي ليس معه أدب هو كالنار التي ليس معها حطب، وما هو مصير النار إذا لم يكن معها حطب؟ أن تخبو وتنطفئ، وكذلك طالب العلم إذا لم يتحل بالأدب والخلق الحسن، فسرعان ما يعرض عن العلم ويشتغل بالدنيا. وروى الإمام الدارمي في سننه أن الحسن البصري -رحمه الله- تكلم في مسألة من مسائل الفقه في مجلس من المجالس، فقال له رجل اسمه عمران المنقري: يا إمام! ما هكذا يقول الفقهاء! كأنه رأى أن ما قرره الحسن البصري مخالف لما يقرره أهل العلم والفقه فقال: له الحسن البصري: [[وهل رأيت فقيهاً قط- أي هل سبق أنك رأيت فقيهاً في حياتك- إنما الفقيه: العالم بأمر الله، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، المداوم على عبادة ربه تبارك وتعالى]] فهكذا كانوا يفهمون العلم، وكانت حياتهم تطبيقاً لهذا الفهم. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 18 سلامة السلف الصالح من الأمراض التي تصاحب طالب العلم عادة ولذلك لو نظرتم في سير السلف الصالح، لوجدتهم أنهم يسلمون من الأمراض التي تصاحب طلب العلم عادة، وذلك كمرض العجب والغرور، فإنه من الأمراض التي تسرع إلى طالب العلم، فما أن يتصدر للتعليم ويلتفَّ الناس حوله ويطؤون أعقابه إلا ويصيبه شيء من الزهو والعجب والخيلاء ويخرج عن طوره، وكذلك الحسد الذي قد يجعل طالب العلم يحسد غيره على ما آتاه الله من فضله، فإذا تعب في تحصيل العلم، ثم رأى أن غيره حصَّل أكثر مما حصل بتعب أو بغير تعب، وإن كان العلم لا يستطاع براحة الجسم كما قال يحيى بن أبي كثير، المهم إذا رأى غيره فاقه أصابته الغيرة والحسد، إضافة إلى غير ذلك من الأمراض الكثيرة، فلو نظرت في سير السلف وجدت الغالب عليهم السلامة من هذه الأمراض، لأنهم فهموا العلم كما ذكرت. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 19 حالة المدارس في عصرنا أما نحن لو نظرنا في هذا العصر لوجدنا أن كثيراً من المدارس على غير ذلك، وحين أقول: المدارس أعني المدارس التي تدرس الطلاب العلم الشرعي، وهي كثيرة في أنحاء العالم الإسلامي، وليست كلها مدارس رسمية كما تتصورون، ففي كثير من البلاد -وخاصة في بلاد الهند- يوجد جامعات إسلامية ليست رسمية وإنما هي أهلية، والطالب فيها يتلقى العلم الشرعي من فقه وحديث وغيره ومناهج هذه الجامعات تختلف. المقصود أن هذه المدارس بشكل عام التي تدرس اليوم العلوم الشرعية سواء كانت مدارس رسمية أو كانت غير رسمية تعنى بحشو المعلومات في ذهن الطالب، وإعطائه أكبر قدر ممكن من المعارف والأحكام والأدلة؛ ولذلك تربي الطالب على أن الفائدة والعلم هو تحصيل هذه المعارف الفرعية، فإذا جلس الطالب إلى شيخ وقال له الشيخ: المسألة الفلانية فيها عدة أقوال هذا قولُ فلان ودليله كذا، والراجح كذا، وبدأ يعطيه بعض الفوائد، فإنك تجد الطالب يسارع بتقييد الفوائد، وإذا خرج قال: أنا والله استفدت من هذه المحاضرة أو من هذا الدرس. لكن حين يجلس الطالب فيسمع ترقيقاً للقلب أو تذكيراً بالله عز وجل أو بناءً لشخصيته في جانب من الجوانب المهمة أو تحذيراً من خلق ذميم، فقد لا يشعر بأنه استفاد، فهذا أثر التربية التي تلقاها الطالب في المدارس التي قصرت همها على حشو ذهن الطالب بالمعلومات فقط دون القيام ببناء شخصيته وسلوكه وتربيته تربيةً إسلاميةً متكاملةً. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 20 علاقة المدرس بالطالب في عصرنا وفي عصر السلف أمرٌ آخر علاقة الدرس بالطالب: أن السلف الصالح رضي الله عنهم كان الشيخ قدوة لطلابه في كل شيء، أما اليوم فتجد علاقة المدرس بالطالب تنتهي حين يخرج من المحاضرة وبصفة أكيدة تنتهي حين ينتهي الطالب من دراسة هذه المادة أو هذا المقرر الذي يدرسه له هذا الشيخ، فلم يستفد من هدي المدرس وسمته وأدبه وخلقه وهديه، إنما استفاد مما ألقاه إليه من علوم خلال محاضرات معدودة محدودة، ولذلك غاب القدوة عن الطالب وأصبح كثير من المدرسين في العلوم الشرعية وغيرها ليسوا على المستوى الذي يدعو الآخرين إلى الاقتداء بهم، بل في كثير من البلاد الإسلامية الأخرى قد يكون مدرس العلوم الشرعية هو أضعف المدرسين؛ لأنه لا يتخصص في العلوم الشرعية في تلك البلاد إلا من تكون إمكانية التحصيل عنده ضعيفة، فلا يستطيع أن يتخرج مثلاً من الطب أو من الهندسة أو من العلوم فيتجه للكليات الشرعية، آل الأمر إلى الصورة التي ذكرها ابن جماعة الكناني لبعضهم في تدريس من لا يصلح، ذكر أن بعض الشعراء كان يقول: تصدر للتدريس كل مهوس جهول يسمى بالفقيه المدرسِ فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلسِ لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلسِ ومع الأسف فإن ابن كنانة -رحمه الله - كان يهجونا جميعاً بمثل هذه الأبيات وله الحق في ذلك وإن كان هذا لا يمنع من استثناء العلماء الأفاضل والفقهاء المخلصين والدعاة العاملين، الذين نجزم ونقطع بموعود رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أن هذه الأمة لا يمكن أن تخلو منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 21 الاهتمام بالجانب العملي من الملاحظات المتعلقة بهذا الباب أيضاً أن المعلومات التي تعطى للطالب أيضاً هي في الغالب معلومات نظرية أكثر منها معلومات عملية بحيث أن العلوم المتعلقة بواقع الطالب والتي يحتاج إليها في حياته العملية وفي سلوكه قد يغفل عنها، والملاحظات التي تلاحظ على مسلكه في الحياة ومنهجه أين يعيش هذا الطالب؟ من يصادق؟ ممَّ يأكل؟ إلى آخره، هذه ليس لها وجود في قاموس الدراسات العصرية. ومن العجيب أن بعض العلماء ذكروا عن الإمام أبي عمرو بن الصلاح الفقيه الشافعي المشهور، أنه كان إذا جاء إلى مجلسه أحد من الطلاب ليس عليه عمامة أو قد فتح أزاريره فإنه يطرده من مجلسه! وكانوا يراقبون الطالب: من يجالس من الأصدقاء؟ وكيف يعيش؟ ومع من يمشي؟ فإذا رأوا مثلاً أن طالب علم مبتدئاً صغيراً يماشي سفهاء وكبار سن وغير ذلك، فإنهم يحذرونه مرة وثانية وثالثة، فإذا لم يستجب فإنهم يطردونه من هذه المدارس والحلق التعليمية. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 22 الانفصال بين العلم والعمل ولهذه الظواهر التي أشرت إليها في هذا العصر برز الانفصام والانفصال بين العلم والعمل، فأصبحت تجد في كثير من البلاد عالماً أو قل طالب علم، فحين تنظر في مظهره تجده مثلاً: حليق اللحية مسبل الثوب يلبس ثياباً لا تليق إلا بسفهاء الناس، ومظهره لا يدل على ما يحمله من العلم، ثم حين تأتي إلى بيته تجد عدداً من المخالفات الشرعية على أولاده وزوجته، وما ندري ماله من أين يكتسبه؟ … إلى غير ذلك، لا تجد السلوك والسمت الحسن المتناسب مع هذا العلم، هذا موجود وحين أقول موجود لا أقصد التعميم، وإنما أقصد أنه موجود ويعتبر ظاهرة ملحوظة، أي: ليس وجوده نادراً أو حالات فردية، بل وجوده يصل إلى حد يمكن أن يقال: إنه ظاهرة ملحوظة على المستوي العام، ولا يمنع وجود غيره كما أسلفت من العلماء العاملين الملتزمين بالسنة في مظهرهم ومخبرهم في كل مكان في الأرض ولا يخلو عصر من قائم لله بحجة. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 23 بروز الأمراض التي تصحب طالب العلم كذلك برزت الأمراض والآفات التي تخشى على طالب العلم فأصبح التنافس في مجالات العلم على أشده تنافساً غير شريف، لأنه لو كان تنافساً في مجال تحصيل العلم فلا بأس، لكن قد يأخذ التنافس في هذا العصر صورة أن يأتي طالب علم أو محقق إلى كتاب اشتغل به غيره، وتعب في تحقيقه ومقارنة نسخه وضبط نصوصه وتخريج أحاديثه، فيسرق جهد غيره ويطبعه باسمه، دون مراعاة خوف من الله ولا حياء من الناس، وفي كثير من الأحيان تجد في المكتبة عدداً من الكتب والمحققون لها عدد، أي أن كل طبعة لها محقق يختلف عن الآخر، وحين تقارن الهوامش تجدها متطابقة! وأضرب لكم مثالين بأسماء الكتب فقط دون الحديث عمن حقوقها: الكتاب الأول كتاب غياث الأمم في التياث الظلم للإمام الجويني، والكتاب الثاني هو كتاب تحريم النرد والشطرنج والملاهي للآجري. وكذلك برز الحسد بين طلاب العلم أو بعضهم بسبب التنافس الدنيوي، فأصبحت تجد الطالب يقع في غيره بل قد يقع في شيوخ لهم قدم صدق ومكانة وثقة، وكم من كتاب صدر في النيل من علماء أجلاء أطبقت الأمة على تقديرهم، ولعله لا يغيب عن الأذهان مثلاً ما يلقاه الشيخ الألباني من هجوم ذريع من عدد من الكتاب وطلاب العلم، بل وربما من العلماء أو من بعض العلماء، ولا يبعد أبداً أن يكون الحسد هو أحد الدوافع في كثير من الأحيان، إضافة إلى العجب والغرور والزهو والخيلاء بما عند الإنسان وفرحه بما أوتي من العلم، كل هذا بسبب غياب الفهم السلفي للعلم الذي يعتبر أن العلم هو التقوى والخشية والورع والعمل. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 24 القوة في الحق النقطة الثالثة: هي مسألة القوة في الحق، كان علماء السلف رضي الله عنهم يعتبرون أنفسهم قوامين على المجتمعات الإسلامية، وهكذا المفهوم الشرعي فالله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] من هم أولو الأمر؟ هم العلماء والحكام، والعلماء والأمراء، هؤلاء هم أولو الأمر، فكان العالم له مكانته وثقله وتأثيره، ولم يكن غريباً أن الوالي والعامل على المصر يهاب العالم ويخشى منه ويمشي إليه. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 25 قيام العلماء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المهم أن العلماء كان لهم شأن أي شأن وتأثير في المجتمعات، وسوف أُبِرزُ هذا التأثير من خلال عدد من القصص الغريبة التي هي أحياناً أشبه ما تكون بالخيال لشدة بعدها عن واقعنا اليوم. منها القصة التي رواها البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ولا شك أن الصحابة هم أعلم العلماء بعد الأنبياء، فـ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه ذكر أن مروان بن الحكم وكان والياً على المدينة خرج لصلاة العيد في يوم أضحى أو فطر، فلما خرج اتجه إلى المنبر ليخطب، فجذبه أبو سعيد وجره، فجر مروان نفسه من أبي سعيد، وارتقى المنبر وخطب، فقال له أبو سعيد: خالفت السنة! قال: يا أبا سعيد قد ترك ما هنالك! -أو قال: قد ترك ما تعلم- قال أبو سعيد: والله! لما أعلم خير مما لا أعلم، فقال مروان: إن الناس كانوا لا يجلسون لنا، أي: إذا صلوا العيد خرجوا ولم يستمعوا الخطبة، فقدم الخطبة حتى يضمن جلوس الناس لاستماعها، والمهم أن أبا سعيد اتخذ هذا الموقف القوي من مروان. وبعد ذلك تكرر الموقف مرة أخرى -والله أعلم- من مروان، فخرج في يوم عيد وذهب إلى المنبر، فقام له رجل يبدو أنه معتز بعشيرته وقوي منيع، ونهى مروان عن ذلك، وقال: الصلاة قبل الخطبة! فقال له مروان: قد ترك ما هنالك! فقام أبو سعيد وقال: أما هذا فقد قضى ما عليه -وهذه الرواية في صحيح مسلم- أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} . وهذا النص كان وراء تصرفات عدد من العلماء العاملين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، منهم محمد بن المنكدر رحمه الله، ذكر الإمام المالكي ابن أبي زيد القيرواني في كتاب الجامع، أن محمد بن المنكدر كان يخرج إلى السوق مع طلابه فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وقد أوذوا في ذلك من السلطان. ومن أعجب المواقف ما ذكره أبو نعيم في الحلية، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن عالم يقال له أبو الحسن الزاهد وهي أشبه بالخيال كما أسلفت: أن أبا الحسن الزاهد عِلمَ بما يفعله حاكم مصر أحمد بن طولون من البطش بالرعية وقهرهم والتنكيل بهم؛ حتى إنه قتل -كما يقال- ثمانية عشر ألف إنسان صبراً، أي: بحبسه حتى يموت أو يحبسه ويرميه بشيء حتى يموت، فتبرم الناس منه وضاقوا ذرعاً بقهره واضطهاده لهم، فجاء إليه أبو الحسن وأمره ونهاه وأنكر عليه، فتميز هذا الطاغية غضباً عليه، وأمر بسجنه وأن يلقى إلى أسد جائع حتى يفتك به، فجيء بأسد قد جوع أياماً، ووضع أبو الحسن وهو أعزل في فناء أو ساحة وجيء بهذا الأسد الضخم العظيم الذي مجرد زئيره يقطع نياط القلوب، فكيف بمرآه وهو طليق؟! فكان هذا الأسد يزأر والناس ينظرون خائفين فزعين، أما أبو الحسن الذي يعنيه الأمر، فإنه كان جالسا مطرقاً كأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد، فما إن اقترب منه الأسد حتى تغير حاله، أي حال الأسد، وهدأ وأقعى على الأرض، ثم اقترب قليلاً قليلاً من هذا الإمام وبدأ يمسحه، ولم يصبه بأذى بل انصرف عنه! فوسط تهليل الناس وتكبيرهم جاء ابن طولون هذا الطاغية، وأخذ هذا العالم وأخذ يسأله: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول حين أقبل عليك الأسد؟ ربما تصور الناس أن هذا العالم عندما كان جالساً ساكناً أنه قد أصابته القشعريرة والرعدة وأصابه الخوف، فأعجزه عن القيام أو الفرار مثلاً أو أنه كان ساحراً أو مشعوذاً كما يلبس كثير من الجهال على بعض الناس، فلذلك سأله ابن طولون: ماذا كان في قلبك؟ وماذا كنت تقول؟ قال: ليس عليَّ منه بأس، إنما كنت أفكر هل لعاب الأسد طاهر أم نجس، أي هو مشغول بمسألة فقهية فرعية هل لعاب الأسد طاهر أم نجس؟! أما قضية الأسد وفتكه به فهو كان يثق بالله عز وجل، ويدري أنه موقف لله، والله يدافع عن الذين آمنوا، وقد حصل مثل هذا مواقف كثيرة لكثير من العلماء، حين كانوا يقفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مواقف شجاعة، كان الله تعالى يحفظهم ويرعاهم. والأمثلة كثيرة منها: المنذر بن سعيد البلوطي العالم الأندلسي له مواقف شجاعة مشهورة، العز بن عبد السلام في الشام ثم في مصر له مواقف مشهورة، ابن تيمية رحمه الله له مواقف: منها أنه كان يخرج بتلاميذه إلى السوق فيكسرون أواني الخمور، ويكسرون آلات الغناء والطبول وغيرها، ويهرقون الخمور في الشوارع، ويؤدبون المعتدين، حتى إنهم خرجوا إلى جبل كسروان وأدبوا النصيرية وفرضوا عليهم أحكام الإسلام، وتعدى الأمر إلى أن هذا العالم حين جاء التتار إلى الشام خرج إلى حكام مصر وكانوا من المماليك، وخاطبهم بأسلوب عجيب كان يقول للحاكم: إن كنتم أعرضتم عن الشام وأهله، فإننا نجعل له من يحوطه ويحميه في زمن الخوف، ويستغله في زمن الأمن، أي نجعل للشام ولاةً وحكاماً يدافعون عنه في الشدة ويستفيدون منه في الرخاء، ثم قال: لهم لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، ثم استنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وملوكه؟! وتلا عليهم القرآن الكريم، حتى خرجوا من مصر إلى الشام، والتقوا مع التتار، فنصرهم الله تعالى نصراً مؤزراً، كما هو معروف. وليست هذه المواقف مقصورة على ذلك العصر حتى حين نأتي للعصور المتأخرة نجد مثلاً أمثال الشيخ العقاد وكان من علماء الشام، والشيخ عبد العزيز البدري كان من علماء العراق، لهم مواقف مع الطغاة مشهورة معروفة، ولعلماء نجد في ذلك القدح المعلى، فقد كان لهم مواقف مشهورة محمودة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المستوى الخاص وعلى المستوى العام، لكن في المقابل مع كثرة طلاب العلم والمنتسبين إليه والفقهاء، فإننا نجد كثيراً منهم قد آثروا السلامة، واشتغلوا إما بالعلم الذي لا تعلق له بواقع الحياة، وإما بأمور دنيوية من وظائف ومناصب يتنافسون فيها ويحرصون عليها ومن وقع في هذه الأشياء فإن لسانه يعقد عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمجتمعات الإسلامية اليوم تتعرض لغزو خطير من أعداء الإسلام، يستهدف لا أقول بعض أحكام الإسلام بل يستهدف اجتثاث الإسلام من أصوله، عن طريق نشر الإلحاد والعلمانية والإباحية والفجور في الأمة كلها، فما أحوج الأمة إلى العلماء العاملين والدعاة المخلصين. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 26 هيبة العلماء حتى إن من الطرائف أن الإمام الشافعي لما هَمَّ بطلب العلم وذهب إلى المدينة المنورة، كان معه خطاب إلى الوالي يطلب منه أمير مكة من أمير المدينة أن يذهب إلى الإمام مالك ليوصيه بالإمام الشافعي خيراً، فلما قرأ والي المدينة الكتاب أصابه ما قرب وما بعد، وقال: إن الإمام مالكاً رجل نَهابُه، ولا نستطيع أن نكلمه في أمر أو كأنه قال من يصل إليه؟! فقال الإمام الشافعي: أصلح الله الأمير! لو أمرت به إلى مجلسك! -لو دعوته ليأتي إليك- فضحك الأمير، وقال: ليته يخرج إلينا بعدما يصيبنا غبار العقيق ونقطع الطريق إليه، فلما ذهب الوالي إلى الإمام مالك وقالت الجارية: إن الوالي بالباب قال لها: قولي له: إن كان عنده سؤال يكتبه في رقعة ونجيب عليه، وإن كان يريد التدريس فهو يعرف موعد التدريس، فيأتي إليَّ، فقال: إنني أريده في أمر مهم، فخرجت الجارية، ونصبت كرسياً للإمام مالك، فخرج بجلالته وهيبته ووقاره، وانتصب على كرسي … إلى آخر القصة. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 27 صفات طلبة العلم الذين تحتاجهم الأمة في ختام هذا الحديث الموجز أشير إلى أن الأمة محتاجة إلى نهضة إصلاحية، مدرسة تخرج الطلاب الذين يتميزون بالصفات التالية: أولاً: العلم المربوط بالدليل الشرعي من الكتاب والسنة أو الإجماع الصحيح، وليس العلم الذي ليس له زمام ولا خطام. ثانياً: الجمع بين العلم والعمل، بحيث يشعر الطالب، وهو يحصل العلم أنه إنما يعلم ليعمل بنفسه ويعمل غيره. ثالثاً: معرفة الواقع ومعايشته، ومعرفة أسلوب تغييره، ومعرفة حكم الله ورسوله في كثير من النوازل التي ألمت بالناس اليوم، فلا يكادون يجدون في عدد من البلدان من يبين لهم حكم الله ورسوله فيها. رابعاً: أن يتربى طالب العلم على الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدرك أن طالب العلم لا يليق به أن يكون معتزلاً عن الناس، بل ينبغي أن يخالطهم ويدعوهم ويصبر على أذاهم، فالمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم. وإن كان بقي وقت فأترك المجال لبعض الأسئلة المتعلقة بالموضوع. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة الجزء: 115 ¦ الصفحة: 29 المقصود بالعلم في أحاديث فضل العلم هو العلم الشرعي السؤال ذكرت في بداية الحديث أن علماء الشريعة لهم فضل وميزة على غيرهم، وتواردت أسئلة يبدو أنها من الطلاب الذين يشتغلون بغير التخصص الشرعي الدقيق، يسألون يقولون: التخصص في هذه العلوم لمصالح تخص المسلمين أو تهم المسلمين، هل ذلك يعارض، وهل في الحديث وهو قول النبي عليه الصلاة والسلام: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله به طريقاً للجنة} يشمل العلم الشرعي وغيره. الجواب النصوص الواردة في فضل العلم جملتها، في فضل العلم الشرعي وأهله وحملته، بما في ذلك النص الذي ساق السائل، أما العلوم الأخرى فمنها ما هو علوم آلة ووسيلة كعلوم اللغة العربية وهذه تابعة وعالم الشرع لا يستغني عنها بحال من الأحوال، ومنها علوم يحتاج إليها المسلمون، وهي فرض كفاية إذا لم يقم بها من يكفي أثم الجميع، وكثير من العلوم التي يدرسها الطلاب اليوم هي من هذا الباب، فالطالب الذي يتعلم بنية صالحة ويقصد أن يسد ثغرة عن المسلمين فهو لا شك مأجور، وقد يقوم بفرض كفاية ما قام به غيره، ولعل من الأمثلة على ذلك مثلاً: علم التربية، والنفس، والتاريخ، والإدارة، والاقتصاد، بل الاقتصاد له جانب شرعي، هذه العلوم أصبحت اليوم تدرس في الجامعات الإسلامية ولأولاد المسلمين كما هي في نظريات الغربيين، لعدم وجود العالم المسلم المتخصص الذي يستطيع أن يصيغ هذه العلوم صياغة إسلامية، حتى أصبح بعض الناس ينفرون منها؛ لأن فيها أشياء ليست منسجمة مع التعاليم الإسلامية، فما أحوج الأمة إلى علماء في هذه المجالات وغيرها يصوغون تلك العلوم صياغة إسلامية، لأنها علوم لابد للناس منها، ومن قام بهذا وكان هذا قصده ونيته، فلا شك أنه على ثغرة، وله في هذا أجر عظيم بقدر نيته. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 30 الاطلاع والقراءة ومشكلة النسيان والانشغال بالقرآن عن طلب العلم السؤال إن مشكلة الكثيرين وأنا منهم أنني أقرأ وأحب القراءة، ولكنني أنسى كثيراً مما يجعلني أنتهي إلى طريق مسدود قد أيأس معه من القراءة بعد فترة؟ وآخر يقول: أنا أشتغل بتعليم القرآن وتدريسه، وهذا يشغلني عن طلب العلم، فهل أستمر في هذا أم انصرف إلى طلب العلم؛ لأن رغبتي في أن أحصل لنفسي ولإخواني العلم؟ الجواب أما بالنسبة للجانب الأول من السؤال، أنه عندما يقرأ بعض الكتب تضيع منه هذه المعلومات، ومن ثم ييأس، فهذا أمر طبيعي، فلو كان الواحد منا كلما قرأ شيئاً حفظه، لأصبح الواحد منا أمة في رجل، فأنت بوسعك مثلاً أن تقرأ تراث شيخ الإسلام ابن تيمية كاملاً وابن القيم وابن حجر والنووي والذهبي وابن كثير، فتصبح أنت كأنك هؤلاء كلهم، لكن الأمر أن الإنسان يقرأ ويقرأ ويقرأ وينسى، ثم إذا قرأ بعد ذلك حفظ، أي قد تقرأ المسألة أو العلم في موضع فتنساها، لكن لو سمعتها مرة أو قرأتها قلت: والله هذه مرت معي لكن لا أدري أين، فبقيت في ذهنك أكثر، يمكن أيضاً أن تنساها، لكن تمر مرة ثالثة فترسخ في الذهن، وهذا هو الأمر الموجود، فلا تظن أن الإنسان عندما يحفظ ويذكر ويستشهد، يكون حفظها من المتون كذا وكذا وكذا أنه حفظها من خلال مرة أو مرتين أو عشر. ذكر عن الإمام أبي إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وغيره وهو من فقهاء الشافعية أنه كان إذا أراد أن يلقي الدرس كما ذكر في ترجمته في مقدمة كتاب المعونة في الجدل، كان يقرؤه أو يلقيه مائة مرة، وأعتقد أن أقلنا حفظاً وأكثرنا شكوى لا يردد المسألة التي يريد أن يحفظها مائة مرة، يرددها مرتين أو ثلاثة أو عشر ثم يريد أن يحفظها لأننا نريد أن نطلب العلم بسرعة. أما مسألة من يشغله القرآن عن طلب العلم، فإن القرآن هو العلم يقول الله تعالى عن القرآن الكريم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وأنت حين تتأمل هذه الآية تجد أن الله تعالى وصف الذين يحفظون القرآن في صدورهم وصفهم بأنهم أوتوا العلم، فالقرآن هو العلم، ومن حفظ القرآن فقد أخذ من العلم بحظ وافر، لكن عليه أن يفهم القرآن ويعمل به ويدعو إليه، وفهم القرآن هو على ضوء السنة النبوية، ولذلك ذهب بعض العلماء كـ الشافعي إلى أن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كلها مستنبطة من القرآن الكريم، فالقرآن هو أساس العلم ولبه والانشغال به انشغال بجزء مهم من العلم. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 31 العالم بين التأليف والتعليم السؤال من خلال تتبعكم لحال السلف، وخاصة العلماء منهم يقول: أيهم أعظم فائدة في النفس العالم الذي يشتغل بالتأليف أم العالم الذي يشتغل بالتعليم؟ الجواب كلاهما! كان العلماء يشتغلون بالتأليف ويشتغلون بالتعليم، والذين خلد ذكرهم في التاريخ هم من هذين الصنفين أو من أحدهما، وكثير منهم جمعوا بين الأمرين، فإن كثيراً من مؤلفات هؤلاء العلماء كانت دروساً يلقيها في مجلس الإملاء، فيسجلها طلابه ويأخذونها عنه، سواء كانت حديثاً يحدثهم به أو علماً يلقيه إليهم، فكلا الأمرين مهم ومفيد، وإن كان التأليف والله أعلم أبقى؛ لأن المؤلفات تبقي على القرون والأجيال، ولذلك هناك علماء ليس لهم تلاميذ، ولم يعرفوا بنشر العلم، لكنهم ألفوا، فبقي ذكرهم وبقيت مؤلفاتهم وانتفع الناس بها. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 32 الإخلاص في العلم منذ بداية الطلب السؤال ما هو تفسير كلمتين إحداهما مشهورة وهي قول أبي حامد، أو يزيد بن هارون كما يقول السائل تعلمنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، والكلمة الثانية ما ينقلها عن ابن الجوزي وهذه الكلمة هي: "وأما ما في العلم من حب الرياسة فإنما أوجد لحكمة كما أوجد النكاح لحكمة الولد"؟ الجواب أما الكلمة الأولى وهي كلمة "تعلمنا العلم لغير الله، فأبى إلا أن يكون العلم لله" فهذه نقلت عن جمع من السلف، وذكرها عنهم الذهبي في السير وغيره، ومقصودهم فيها -والله أعلم- أن الطالب في بداية الطلب قد لا يكون قصده ظاهراً ولا نيته خالصة، خاصة وأنهم كانوا يتعلمون العلم على صغر أعمارهم، ربما بدأ الواحد منهم في طلب العلم في صغر سنه، وقبل أن يتميز له قصد ونية، وقبل أن يشعر بأهمية الإخلاص، فلما كبر وحصل العلم ورأى العلم بين يديه دعاه هذا إلى الإخلاص وأن يكون العلم لله، دعاه من عدة جوانب: أولاً: أن الاشتغال بالعلم وقال الله وقال رسوله يرقق القلوب ويقربها إلى الله تعالى، فتكون قابلة للخير والإخلاص. ثانياً: أن طالب العلم يسمع الوعيد على من قصد الدنيا بعلمه، فيورثه هذا كراهية هذا الأمر ومجاهدة النفس عليه حتى ينجو منه، ومن المزالق التي يقع فيها بعض الطلاب في هذا الباب أنه إذا خشي من سوء القصد والنية ترك طلب العلم، وهذا مدخل ربما يجعل الإنسان يترك حتى أمور الخير. فمثلاً: شاب يبكر إلى الصلاة فقال له الشيطان: أنت ربما تبكر بقصد الرياء وأن يمدحك الناس، فترك المبادرة إلى المسجد، وربما يترك الجماعة لهذا الغرض أيضاً، فهذا الأمر لا ينتهي ولذلك على الإنسان السالك في هذا السبيل أن يدرك أن النجاة من ذلك هي بمجاهدة هذا المقصد السيئ ومدافعته عن القلب، والحرص على الإخلاص والدعاء في ذلك وتوبيخ النفس عليها على عدمه وما أشبه ذلك. أما كلمة ابن الجوزي فإن ظاهر العبارة الإشارة إلى أن كل أمر من الأمور يوجد الله تعالى في النفس من الحوافز الطبيعية ما يكون داعياً لبقائه واستمراره، فكما أن النكاح الذي هو سبب في بقاء الأمة وتكاثرها هو أمر فطري غريزي جبلي عند الإنسان، فلو لم يوجد عند الإنسان شهوة النكاح لربما عزف عنه، فحصل بذلك انتهاء الأمة أو نقص أفرادها وقلتهم، فكذلك العلم ربما يوجد عند بعض العلماء من حب الرئاسة ما يدعوه إلى طلب العلم، وقد يكون هذا في بداية الأمر، ثم إذا طلب العلم صار -كما ذكر في الكلمة السابقة- صار لله بعد أن كان لغير الله، أي ربما كان من وسائل التوظف مثلا حتى في العصور السابقة، بعض الناس يتصورون هذه قضية حادثة، حتى الأقدمون كان الإنسان منهم الذي يريد أن يكون في الديوان أو في الكتاب أو ما أشبه ذلك، يحتاج إلى أن يتعلم العلوم ليكون قاضياً أو عالماً أو مقدماً عند السلطان أو ما أشبه ذلك، فإذا تعلم العلم لهذا الغرض أبى العلم إلا أن يكون لله، إذا فحسنت في ذلك نيته وحسن قصده، هذا محمل كلمة ابن الجوزي رحمه الله. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 33 تفسير هجر الخلان الذي يلزم لطلب العلم السؤال أسئلة كثيرة يريدون تفسيراً جلياً للكلمة التي أوردتها، وهي قول بعضهم: "من أراد طلب العلم فليهجر دكانه، وليخرب بستانه، وليفارق خلانه" ويخصون الكلمة الأخيرة، إذ كيف نوفق بين الدعوة إلى الله عز وجل ومخالطة الناس وبين قول هذا العالم: وليفارق خلانه"؟ الجواب كما ذكرت حين إيراد هذه الكلمة أنه ليس المقصود منها ظاهر لفظها، لأننا نعلم مثلاً أن الأمة والعلماء لم يكونوا رهباناً في صوامعهم، بل حتى الأنبياء عليهم السلام، ولماذا نضرب المثل بالعلماء؟ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كان لهم أزواج وذرية كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويحتكون بالناس ويخالطونهم ويأمرونهم وينهونهم، وهذا نوح عليه السلام يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} [نوح:5-9] فليس المقصود من هجر الخلان وتوابعه حقيقة معناه، لأن السلف كان يعبرون عن المعنى بالرمز أحياناً، هذه قضية يجب أن تعرف، أحياناً، عندما يقولون: فلان لا يعرف الدرهم من الدينار! هل يقصدون حقيقة معناها أنه -فعلاً- لو جاءه درهم ودينار لا يعرف، لا! ليس الأمر كذلك. لكن هذه أمثال تضرب وكلمات تنقل، يقصد منها أن الطالب عليه أن يعلم أن العلم لا يستطاع براحة الجسم، فالطالب مثلاً الذي ينام بعد صلاة الفجر حتى يأتي وقت دراسته أو عمله، ثم يذهب إلى الدراسة والعمل، ثم يأتي بعد الظهر متعباً فيتغدى ثم ينام، ثم بعد العصر يجلس يشرب الشاي مع أهله حتى الغروب، ويقول: وقت العصر في هذه الأيام قصير بعد المغرب يجلس يتعشى مع أهله، وبعد العشاء يسهر مع أصدقائه، وهذا برنامجه! هذا لن يحصل علماً ولا عملاً ولا دعوة ولا غير ذلك، لكن على الإنسان أن يضحي ببعض راحته فلا يكثر من الجلوس في المجالس التي لا فائدة منها. ربما لو حسب بعض الإخوة وقت النوم لوجد أنه يزيد على تسع ساعات في يومه وليلته، لو حسب وقت الأكل والشرب لوجد أنه أضعاف ما يكفي لهذا الأمر، ثم تجد البعض يقول: أنا عجزت عن التوفيق بين طلب العلم وبين الدعوة وبين القيام بحقوق الأهل، نعم! عجزت لأنك أمضيت وقتك في نوم وأكل وشرب وأحاديث لا فائدة منها، لكن لو ضبطت وقتك فالوقت فيه بركة، فلو ضبطت وقتك استطعت أن توفق بين هذه الأشياء جميعها. طالب العلم يحتاج إلى أقران يعينونه على العلم ويشجعونه ويقوون همته والرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده} فهذا وعد لمن اجتمعوا {وما اجتمع قوم} فلا يناله الفرد بكامله إنما يناله القوم، والله تعالى يقول في الحديث القدسي: {من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم} فذكر الله وطلب العلم والدعوة وسط مجموعة من القرناء الذين يعينون الإنسان على هذا السبيل يبينون له أخطاءه ويوقفونه عند حده أمر مهم جداً. من أبسط الأمور التي اضرب بها المثل: طالب العلم أحياناً يخيل إليه أنه -ما شاء الله- حصل من العلوم ما لم تستطعه الأوائل! هذا يحصل وهو شعور طبيعي، لكن إذا جالس الآخرين ممن لديهم علوم ليست عنده، وسمع منهم، واطلع على ما لديهم، عرف قدر نفسه وتذكر أنه ليس عنده من العلم إلا النزر اليسير، وأن غيره قد فاته في ذلك بكثير فدفعوا عنه شراً كاد أن يقع فيه. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 34 ترك الدعوة بحجة التفرغ للعلم السؤال يتعلل كثير من الشباب ممن تفرغوا لطلب العلم عن ترك الدعوة ومخالطة الناس، بأن ذلك يشغلهم عن طلب العلم، فما توجيهكم لهؤلاء؟ الجواب فيما يظهر لي أن الإنسان يجب ألا يضرب أمور الدين بعضها ببعض، فالذي أمرنا بالعلم هو الذي أمرنا بالدعوة، هو الذي أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأشياء يزكي بعضها بعضا، فإن زكاة العلم نشره والدعوة إليه، ومن دعا إلى الله تعالى احتاج إلى العلم فطلبه، ثم إن الإنسان يستطيع أن يوفق بين هذه الأشياء بأساليب كثيرة جداً، فإنه إذا حدد لنفسه منهجاً في التعلم واستمر عليه، واقتصر على نوع من مخالطة الناس فيه فائدة ونفع لهم، فإن الوقت يتسع لهذا وذاك. لكن ينبغي أن يعرف أن الإنسان إذا اعتزل في فترة طلب العلم وطال هذا الأمر، فإنه يصعب عليه فيما بعد أن يحتك بالناس، أي لا يجب أن تتصور أن الإنسان هو عبارة عن آلة إن شئت أن توجهها هاهنا أو توجها هاهنا، إن شئت تشغلها أو توقفها، لا! الإنسان ليس كذلك، الإنسان لحم ودم ومشاعر، فالذي ما تعود على مخالطة الناس اكتفاءً بطلب العلم وتحصيله، حين يشعر بالحاجة إلى مخالطتهم، تخونه نفسه أحوج ما كان إليها، ولذلك بعض الناس لا يستطيع أن يتحدث مع الآخرين، إذا دخل على صاحب بقالة مثلاً لا يستطيع أن يماكسه في الثمن، إذا قال له: هذه السلعة بكذا أخذها ولو كانت بضعف الثمن، لا يستطيع أن يماكسه في الثمن، لماذا؟ لأنه ما تدرب على الاحتكاك بالناس ومخالطتهم، فإذا ما ربى الإنسان نفسه على هذا الأمر فقد لا يطيقه إذا ما احتاج إليه. الجزء: 115 ¦ الصفحة: 35 الشهادة الكبرى بدأ الشيخ حفظه الله المحاضرة بالكلام عن توحيد الله تعالى، ثم تكلم عن سنن الله تعالى الجارية في الأمم من الإشراك بالله تعالى والانحراف عن التوحيد، وتكلم بعد ذلك عن الأصلين العظيمين للتوحيدوهما: 1- الشهادة بتوحيد الله تعالى. 2- الشهادة برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تكلم بعد ذلك عن ثمار التوحيد العظيمة منبهاً على بعض الشركيات والخرافات مثل: حكم برنامج (كنز العربي وخرافة رومانية في شعار طبي) ثم ذكر أخباراً توحي بأن النصر للإسلام وأنه قادمٌ بإذن الله، ثم تحدث بعد ذلك عن الخطر الإعلامي الذي يهدد المملكة، وفي النهاية حذر من كتاب الخيرات. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 1 بين يدي الحديث أولاً: بين يدي الحديث، إنه انقطاع طويل عن الدرس تخلله شهر رمضان المبارك وعيد الفطر، ولا بد من التذكير في عجالة بوجوب المحافظة على الطاعات واغتنام الأوقات في الباقيات الصالحات {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] لقد تعلمت في رمضان الصيام، والقيام، وتعلمت الإنفاق، والحلم، فاجعل من العام كله مجالاً لتطبيق ذلك كله، ثم إن الله تعالى قد أنعم على البلاد خلال هذه الفترة الماضية كلها بنعم، منها: هذا الغيث المدرار الذي اكتست منه الأرض حلةً خضراء، وهذا أيضاً مما يوجب الشكر {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] . هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن هذه الفترة الماضية التي ربما طالت تخللها عدد من الدروس والمحاضرات المتعددة، التي سأل عنها عدد من الإخوة، وطلبوا أن أسجلها في مستهل هذا الدرس؛ ليتسنى لهم متابعتها ومعرفتها والحصول على أشرطتها، على رغم أن أمر انتشارِ الشريط وتوزيعه وتداوله أصبح أمراً عادياً ميسوراً والحمد لله تعالى على ذلك كثيراً، فمن هذه المحاضرات (مفاتيح الخير) في الرياض ثم (الثبات حتى الممات) في الخرج (حديث حول منهج السلف) في مكة (مقياس الربح والخسارة) في جدة (ونبلو أخباركم) في الزلفي (أسئلة صريحة) في حائل و (صائمون ولكن) قبل رمضان بليلة في بريدة، فضلاً عن دروسٍ متفرقة هنا وهناك، وعن دروس رمضان والتي أشير إلى درسين منها فحسب أولهما: (عشرون كلمة عتاب للرجل) ، و (عشرون كلمة عتاب للمرأة) وقد أخرجته بعض التسجيلات بعنوان (شريك الحياة) وهذا عنوان لا بأس به، وكذلك درسٌ آخر أخرج مستقلاً بعنوان (رسالة خاصةٌ جداً) وإنما ذكرت هذا لهؤلاء الإخوة الذين يسألون ويخشون من انقطاع بعض الأشرطة - والحمد لله تعالى- على التيسير. أما بالنسبة للدروس المستقبلية فهناك موضوعات كثيرة، وفيها مادة غزيرةٌ جداً وافاني بها الإخوة الكرام - جزاهم الله تعالى عني وعنكم خير الجزاء - وأسأل الله تعالى العون عليها. من هذه الدروس مجموعة رسائل موجهة إلى المسلمين في عدد من البلاد منها: رسالة إلى المسلمين في الجزائر، ومنها: رسالة إلى المسلمين في أرض الكنانة في مصر، ومنها مجموعة من الموضوعات المتعلقة بالجانب الاقتصادي والمالي، وأحد هذه الموضوعات سيكون في الأسبوع القادم - إن شاء الله تعالى - وسيكون عنوانه (دعوة للإنفاق) . ومن هذه الموضوعات أيضاً (همسة إلى شباب الصحوة) ومنها (حديث إلى الغرب) ومنها (كلام في الإعلام) ومنها (حتمية السقوط) وسيكون عن البشائر بانهيار النظام الصليبي النصراني الغربي، ومنها درس عن الهندوس في الخليج، وأسأل الله تعالى الإعانة. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 2 حديث عن التوحيد أيها الإخوة! أتيتكم وأنا فرح مسرور والحمد لله؛ لأنني سوف أحدثكم عن الله، الله الذي نحن بعض خلقه، ونحن بالقياس إلى الأكوان والأجرام والعوالم ذرة تائهة صغيرة لا نكاد نعد شيئاً، ولكن الله تعالى من علينا وتفضل وأنعم، فسخرها لنا، وميزنا بالعقل والإدراك، واختارنا للمسؤولية واختص من بيننا رسلاً تتنزل عليهم الملائكة: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75] الله الذي له كل شيء، له الدنيا والآخرة، والأرض والسماء، والإنسان والمادة، وله كل شئ: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل:13] فلله الآخرة والأولى، فإذا رضي عن العبد أعطاه بلا حساب {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37] . الله الذي سنقدم عليه وسنلقاه وسنلاقيه وسيحادثنا ويحاضرنا سبحانه {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} [البقرة:223] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الإنشقاق:6] فأي شيء أعظم وألزم وأهم من التعرف إليه، والثناء عليه، والكلام عنه، والتمدح بصفاته، والتحبب له، إننا حين نتحدث مثلاً عن عبادةٍ من العبادات كما تحدثنا مرةً عن الصلاة، وأخرى عن الصيام، وثالثةً عن الحج، فإنما هذه الأعمال والعبادات لا تعدو أن تكون وسائل وأسباباً وذرائع لتحصيل مرضاة الله تعالى، وإدراك عفوه، والفوز بكرامته. وحين نتحدث عن الجهاد وهو ذروة سنام الإسلام، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعن الدعوة إلى الله تعالى، فإنما نتحدث عن بعض آثار التوحيد، التي تقع من الموحدين المؤمنين، العارفين بالله تعالى، العالمين بأسمائه وصفاته، العابدين له، الذين يعملون لله لا للناس، ويجاهدون في سبيله لتكون كلمته هي العليا، فيحبون في الله، ويبغضون في الله، ويوالون في الله، ويعادون في الله، ويعملون لله، ويتركون لله. ألا في الله لا في الناس شالت بداودٍ وإخوته الجذوع مضوا قتلاً وتمزيقاً وصلباً تحوّم حولهم طيرٌ وقوع إذا ما الليل أظلم كابدوه فيسفر عنهم وهمُ ركوع أطار الخوف نومهم فقاموا وأهل الأمن في الدنيا هجوع لهم تحت الظلام وهم سجودٌ أنينٌ منه تنفجر الضلوع وخرسٌ بالنهار لطول صمتٍ عليهم من سكينتهم خشوع يعالون النحيب إليه شوقاً وإن خفضوا فربهمُ سميع وحين نتحدث عن جوانب من الخلل في الحياة الإسلامية، في الواقع السياسي، أو الأخلاقي، أو العبادي، أو الإعلامي، أو الاقتصادي، أو التعليمي، فإنما نتحدث عن ترسيخ قاعدة التوحيد الشاملة، والدينونة لله تعالى في كل الأمور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران:119] . ونتحدث عن منابذة طريق المغضوب عليهم والضالين، وأهل الشرك والتجزئة، الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، والذين جعلوا القرآن عضين، فليس التوحيد نصاً يقرأ ولا منهجاً يدرّس فحسب، ولا درساً يلقى فقط، ولا جانباً من جوانب العقل أو القلب مقطوعاً عما سواه وما عداه، بل التوحيد منهج يهيمن على الحياة كلها، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة. فما من طاعة من الطاعات إلا وهى تزيد في التوحيد وتكمله، وما من معصية صغرت أو كبرت إلا وهى تخدش التوحيد وتنقصه وتنافيه أو تنافى كماله. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 3 إنها السنن إنها السنن: إن الأمم الكتابية ثلاث، المسلمون واليهود والنصارى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:156] فقد أنزل الكتاب على اليهود، ثم أنزل على النصارى، ثم أنزل على المسلمين، على نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، النبي الخاتم، أنزل عليه القرآن، وقد حذّرنا الله تعالى مما آلت إليه الأمم السابقة، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أننا سوف نتبع سننهم وطريقتهم حذو القذة بالقذة. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 4 الغلو الشركي عند أهل الرسوم هذا أحدهم يعبر عن محبته لرجل من الناس فانظر كيف خلع عليه -لا أقول أوصاف الأولياء- وهو ولي فعلاً، لأنه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا أقول خلع عليه أوصاف النبوة، بل خلع عليه أوصاف الإلهية! لقد سمعت يوماً من الأيام شاعراً لبنانياً معاصراً، رافضياً، يخاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعلي بن أبي طالب في قلوبنا، والله إننا نحبه أشد الحب، وأكرمه وأزكاه، الحب اللائق به، فهو رابع أربعة من الخلفاء الراشدين، والمبشرين بالجنة، وأحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونحبه لقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحبه لبلائه وجهاده، ونحبه لسابقته، لكن يظل علي بن أبي طالب بشراً من أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليس نبياً مرسلاً، ولا إلهاً معبوداً، لقد سمعت شاعراً لبنانياً يخاطبه ويقول: أبا حسن أنت عين الإله وعنوان قدرته السامية وأنت المحيط بعلم الغيوب فهل عنك تعزب من خافية لك الأمر إن شئت تنجي غداً وإن شئت تسفع بالناصية فاندهشت لذلك وقلت سبحان الله! كيف يوجد إنسان قرأ ولو شيئاً من القرآن، وسمع ولو شيئاً من الحديث، أو حافظ على نقاء فطرته فقط، كيف يعطي بشراً مثل ذلك؟! فإذا بي أفاجأ بهذه الورقة توزع في بعض مدارسنا، وفى بعض مؤسساتنا، وفى بعض دوائرنا الحكومية، وفيها الشرك الأكبر البواح الصراح! أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، قصيدة لمن يسمي نفسه الشيخ علي بن سليمان المزيدي في مدح الإمام حيدر عليه السلام: أبا حسن أنت زوج البتول وجنب الإله ونفس الرسول وبدر الكمال وشمس العقول ومملوك ربٍ وأنت الملك لا حول ولا قوة إلا بالله! قال في المقدمة:" أنت مملوك" وذكرني بالمشركين الأولين الذين كانوا يقولون في التلبية: "لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك"، فقالوا: لا شريك لك إلا شريكاً واحداً، ثم جعلوا لهذا الشريك الذي هو اللات والعزى كل شيء، ولم يجعلوا لله تعالى شيئاً قط، يقول: ومملوك رب وأنت الملك. دعاك النبي بيوم الغدير ونص عليك بأمر القدير بأنك للمؤمنين الأمير وعقد ولايته قلدك إليك تصير جميع الأمور وأنت العليم بذات الصدور وأنت المبعثر ما في القبور وحكم القيامة بالنص لك ماذا بقي لرب العالمين؟! وأنت السميع وأنت البصير وأنت على كل شيء قدير ولولاك ما كان نجمٌ يسير ولا دار لولا ولاك الفلك وأنت بكل البرايا عليم وأنت المكلم أهل الرقيم ولولاك ما كان موسى الكليم كليماً فسبحان من كونك سرى سر اسمك في العالمين فحبك كالشمس فوق الجبين فمن ذاك كان ومن ذا يكون وما الأنبياء وما المرسلون وما القلم اللوح ما العالمون وكلٌ عبيدٌ مماليك لك أي شرك وكفر وردة وجراءة أعظم من هذا؟ الأنبياء والمرسلون والقلم واللوح والعالمون كلهم عبيد مماليك له!! أبا حسن يا مدير الوجود وكهف الطريد ومأوي الوفود ومسقي مجيبك يوم الورود ومنكر في البعث من أنكرك ولاؤك لي في ضريحي منار واسمك لي في المضيق الشعار وحبك مدخلني جنتك فالجنة والنار أصبحت له في نظر هذا المرتد، الكافر الكبير! يقول: المزيدي علي -هذا اسمه- بك المزيدي علي ٌّ دخيل إذا جاء أمر الإله الجليل ونادى المنادي الرحيل الرحيل وحاشاك تترك من لاذ بك {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:2-7] . والله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ما كان يدور في خلدي أن يصل الجهل والكفر والجراءة بإنسانٍ ينتسب إلى الإسلام، ولو نسبة ضعيفة، أن يقول مثل هذا الكلام، خاصة في مثل هذا الوقت الذي أصبح الناس فيه، متصلٌ بعضهم ببعض ويجامل بعضهم بعضاً، ويستحي بعضهم من بعض، فحتى صاحب الفكر الدخيل والكفر، ربما يداري أو يواري أو يتقي، أما أن يعلن ذلك ويصرحه ويبوح به، فهذا والعياذ بالله أمر عجيب! إن مثل هذا الكلام لم يمدحوا به رب العالمين جل وعلا، وأقسم بالله على ذلك، ولو قرأت الكتب الضخمة الكبيرة لن تجد قصيدة يُمدح فيها الله جل جلاله بمثل هذه البلاغة، ومثل هذه الألفاظ، كما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يمدح فيها النبي محمد صلى الله عليه وسلم، بمثل ما مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} [الأنعام:136] . الجزء: 116 ¦ الصفحة: 5 العناية بالرسوم وإهمال المعاني إن من سنن أهل الكتاب السابقين العناية بالرسوم، وإهمال المعاني والحقائق، فقد كان من شأنهم مثلاً: بناء المساجد على قبور الأنبياء تعظيماً لهم، ولكنهم في الوقت نفسه كانوا ينسبون إلى الأنبياء كثيراً من النقائص والآثام، ويخالفون هديهم في كثير من الأمور حتى بناء المساجد على قبورهم، كان مما نهاهم عنه الأنبياء فأبوا وأصروا {وقَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] . إن الأنبياء لا يأتون بمثل ذلك أبداً، وهذه الأمة تعاني من هذا ما يطول منه العجب! فمثلاً: عناية الأمة بالرسوم وإهمالها للحقائق والمعاني كثير، فالقرآن نزل ليقرأ ويُفهم، ويعمل به، ويحكّم في واقع الحياة الفردية والجماعية، فماذا صنع المسلمون؟ أعرضوا عن قراءته، وعن فهمه، وعن تحكيمه، وعن التحاكم إليه، وذهبوا يطبعونه على ورق، ويذهِّبونه بأغلى الأثمان، ويقبلونه، ويضعونه على جباههم، ويضعونه على موتاهم، ثم لا شيء بعد ذلك. والكعبة {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] هذه الكعبة جعلها الله تعالى أمناً وقياماً للناس يصلى إليها، ويطاف بها، ويتوجه إليها المؤمنون في عباداتهم ودعائهم وما سوى ذلك. فماذا صنع المسلمون؟ أعرض الكثير منهم عن ذلك، وذهبوا يحافظون على الرسوم، لا تستدبر الكعبة وأنت ماش؛ بل امشِ على وراءك لئلا تستدبرها، لا تمد الرجل إليها وأنت قاعد، والتمسح بها وبكل جوانبها، بل وبخرقها، وبالماء النازل من ميزابها، أما الصلاة والطواف والدعاء وتعظيم حرمات الله عز وجل فالكثير عن ذلك بمعزل، والمساجد عموماً غير الكعبة أصبحت تبنى وتشَّيد وترفع مآذنها، وربما وضعت فيها ألوان من الأشكال والرسوم والصور، ولكن أين الصلاة فيها؟! أين رفع الأذان؟ أين البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؟! مآذنكم علت في كل حيِّ ومسجدكم من العباد خالي حتى البلاد التي فتحت ذراعيها للمسلمين اليوم في آسيا الوسطى وغيرها، وفى ألبانيا، البلاد التي كانت شيوعية ذهب المسلمون من الأثرياء ومن الدعاة يتنافسون في بناء المساجد ووضع القباب عليها وتشييدها، لكن لم يهتموا بإيجاد الدعاة، وإيجاد الأئمة، وإيجاد الخطباء، وإيجاد المصلين، فاعتنوا بالمسجد وغفلوا عن الإنسان المصلي. والرسول صلى الله عليه وسلم، تجد كل المسلمين حتى العصاة، حتى الفجار، تصيبهم الحميّة له عليه الصلاة والسلام، ومما أذكر في القصص أنني قرأت في كتاب الطريق إلى المدينة لـ أبي الحسن الندوي، أن شاعراً هندياً كان سِكِّيراً لا يكاد يصحو أبداً، فجلس مع شاب عربي في أحد المطاعم أو المقاهي، يتعاطون الخمر، ويتكلمون فيما حرم الله عز وجل، حتى نزل هذا الشاب العربي، وكان شيوعياً، فتكلم في رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونال منه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، فغضب ذاك الشاعر الهندي وكان ثملاً، فقام إلى ذلك الشاب العربي وضربه بيده ورجله ونعله حتى ظل طريحاً في غيبوبة أياماً، وهو يقول له: كل شيء فعلناه، ولم يبق لنا إلا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنت أيها العربي! الذي تنتسب إلى نفس الجنس الذي منه رسول الله صلى الله عليه وسلم {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2] تأتي إلى بلاد الهند، إلى بلاد العجم، لتنال من رسول الله صلى الله عليه وسلم! فكل المسلمين حتى المسرفين والمقصرين والخطاة والجناة يغارون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتصيبهم الحمية له، وأكثرهم يقيمون الموالد والاحتفالات والمناسبات التي تتلى فيها السير بما صح وما لم يصح، وتتناشد فيها الأشعار في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وجماله وكماله وغير ذلك، بل وفى بعض البلاد تصدع الأغاني المختلطة بالموسيقى وتختلط الرجال بالنساء كما يفعل النصارى فيما يسمونه بعيد (الكريسمس) ! الجزء: 116 ¦ الصفحة: 6 الرسوم غالبها محدثة لا أصل لها لتتبعن سنن من كان قبلكم، إنها السنن، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، هذه واحدة، والأخرى أن هذه الرسوم التي لا زال المسلمون يعتنون بها دون أن ينتقلوا إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع سنته، ولزوم شريعته، والأخذ عنه، والدفاع عن عقيدته وعن دينه، هذه الرسوم التي يعتنون بها هي في غالبها محدثة لا أصل لها، فعظّمت هذه الأمور عند العامة كثيراً، كما يتحدث الرافضة مثلاً عن يوم عاشوراء، ويقولون كما يقول مجددهم المعاصر الخميني، يقولون: إن يوم عاشوراء هو الذي حفظ دين الرافضة، لأن هذا اليوم وما فيه من التمثيليات التي يعرضونها، وشق الجيوب، وخمش الوجوه، وضرب الظهور، وسيلان الدماء، وارتفاع النياحة، والأصوات والضجيج والصراخ، هذا أصبح رمزاً وشعاراً ومناسبة يربطون بها العوام الجهلة إلى ذلك الدين المحدث. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 7 الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى ولا حق رسوله هذه الرسوم لم تحفظ حق الله تعالى، إذ حفظ حق الله تعالى هو بمعرفته، وعبادته، وحبه وخوفه ورجائه، ولم تحفظ حق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ حفظ حقه صلى الله عليه وسلم هو بحبه أشد الحب، وطاعته واتباعه فيما أمر، وترك ما نهى عنه وزجر، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم والدفاع عن دينه، ولكن هذه الرسوم خلطت الأوراق، فجعلت ما لله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلت ما للرسول للأولياء، وجعلت ما للأولياء للمشايخ، بل لغير الصالحين أحياناً، بل جعلت حق الله تعالى لبعض المجهولين، وبعض الفجار، وبعض الفساق، وكم من ضريحٍ يزار، ويطاف به، ويعبد مع الله تعالى، أو من دون الله، وتنذر له القرابين، وتبرم عنده العقود، ويتبرك بتربته، وهو مرقد لشخص لا يُدرى أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار، بل إن بعضهم مما يعلم بأنهم من أهل النار، لأنهم من الكافرين، وإنني أقرأ لكم خبراً مضحكاً، نُشر في عدد من الصحف، وأذاعته وكالة اسمها وكالة إينا من باريس، ونشر في عكاظ (3/6/1413هـ) ونشر في الندوة أيضاً (29/5) من العام نفسه، هذا الخبر يقول: إنه تم تأجير ضريح أحد الأولياء في بلد إسلامي، في شمال إفريقيا بمبلغ يزيد على مليون دولار، ويشمل الإيجار القبر والقبة، وصندوق جمع التبرعات والنذر، ويستأجر هذه القبور النصابون والمحتالون، الذين يحصلون على مبالغ ضخمة، توضع في صندوق التبرعات، يضعها بعض العامة من البسطاء والجهلة، الذين يتصورون أن الولي الميت، أو أن الميت ولو لم يكن ولياً سيحل مشاكله، وهناك تخصصات مختلفة يعتقدونها، فبعضها للشفاء من الصرع والجنون، والبعض الآخر لعلاج النساء من العقم، في حين يحرص النصابون والمشعوذون على نشر القصص الخيالية والأكاذيب بين الناس، لدفعهم إلى زيارة القبر، وطلب مساعدة المقبور، وبعض القبور التي يزدحم حولها الزوار لطلب العلاج من الميت تصبح -كما يقول الخبر- بؤراً للدعارة والفسق، في حين يقوم المستفيدون من هذه الظاهرة بخداع الناس، كالتكلم من وراء حجاب، أو عمل خدع بسيطة لإيهام الناس بأن الميت يسمعهم ويتحدث إليهم. يقول الخبر: وذكر أنه في بلد إسلامي، أسيوي يتسابق أصحاب النفوذ والسلاطين في الدولة على إعطاء حق الإشراف على القبور لأقربائهم، حتى يتمتعوا بالدخل اليومي الوفير. وفى بلد إسلامي آخر، يقع على البحر المتوسط، قبر يزوره الناس، ويطلبون من صاحبه الوساطة والمساعدة على أساس أن الميت من الأولياء، ثم تبين أن المدفون في القبر صياد سمك يوناني، وبعض المحتالين يلجأ إلى وضع كومة من الأحجار في مكان ما، ويزعم كذباً أنها قبر لولي صالح، ويبدأ الناس في تصديقهم، ويجمعون الأموال مع أنه ليس في المكان ميت ولا قبر أصلاً، ومن المعروف أن الحسين رحمه الله ورضي الله عنه، له ثلاثة قبور، قبر في العراق وقبر في الشام، وثالث في مصر، وقد ضحك بعض المتندرين وقال: لعل رأسه في العراق، وصدره في الشام، ورجلاه في مصر، وهذا على سبيل التندر والطرفة، يبذلون الأموال الضخمة عند هذه القبور نذوراً للميت، وقرابين، وذبائح، على رغم أنهم يعانون أشد ألوان الفقر، فحيهم يموت جوعاً، أما ميتهم فتذبح عنده القرابين، وتنذر له النذور! إنها أُضحوكة على هذه الأمة التي قال شاعرها الأول: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم أحياؤنا لا يرزقون بدرهمٍ وبألف ألف ترزق الأموات من لي بحظ الميتين بحفرةٍ قامت على أحجارها الصلوات يسعى الأنام لها ويجري حولها بحر النذور وتقرأ الآيات ويقال هذا القطب باب المصطفى ووسيلةُ تقضى بها الحاجات {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:20-21] . حتى جحا شيدت له القبور في ثلاث دول إسلامية، وفي تركيا قبرٌ لـ جحا، نصر الدين خوجة، يذهب إليه من يريدون عقد الزواج، يعقدون الزواج عند قبره تبركاً بتربته، ويطوفون حوله، وربما توجهوا إليه بالدعاء، بل وربما استقبلوه بالصلوات، وقد حدثني شهود عيان، أن بلداً إسلاميا بمجرد ما ينزل السائح إلى ذلك البلد، في المطار يخلع نعليه؛ لأنه في البلد الذي حوى تربة الولي الصالح فلان فمن تكريمه أن تخلع نعليك مند أن نزلت المطار، وتكون خاشعاً مطرقاً مخبتاً، فإذا وصلت إلى القبر رأيت العجب العجاب رأيت استقباله بالدعاء والصلاة إليه والسجود، ولقد حدثني شهود عيانٍ بذلك كله، في غير ما موضع. ومما يذكر أيضاً في هذا، أن جريدة أو مجلة اسمها الأولى، نشرت في الحادي عشر من جمادى الآخرة، من هذا العام خبراً طويلاً عنوانه (الأولى في حضرة ولي الله الصالح الشيخ العيدروس وذكرت الجريدة أخباراً وصوراً عن الابتهاج والاحتفال عند هذا الولي، وكيف يتوجهون إليه، وينشدون الأناشيد، وترتفع الأصوات بالغناء المصحوب بالموسيقى، وتختلط الرجال بالنساء، وتكون هناك طقوس وعبادات ومشاعل، ويحضر كبار الشخصيات، تعلوهم الابتسامات التي تزاحم - كما تقول الجريدة - تزاحم أصداح نغمات الموسيقى النحاسية، التي جاءت للمشاركة في الاحتفال، وبدون تمايز اختلطت النساء بإخوانهن الرجال في لوحة بديعة أطلقوا عليها لوحة العيدروس وقد حازت تلك الجريدة قصب السبق الصحفي حيث شغلت صفحتين كاملتين لبيان الطقوس والمراسيم، التي كانت في مثل ذلك الاحتفال البدعي الوثني. إننا قلما نسمع في دنيا المسلمين من ينتصر لحق الله تعالى، أو يقول لقومه مقالة نوح عليه السلام: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13-14] أو يرمي قوماً بأنهم ما عرفوا الله حق معرفته، ولا قدروه، حق قدره كما قال الله عز وجل: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر:67] . لكننا كثيراً ما نسمع حتى من العامة، من يقول: إن فلاناً لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إن فلاناً لا يحب الأولياء الصالحين، ولا شك أن الذي لا يحب الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بمؤمن، كما يقول سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} . فيجب على كل مؤمن أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون أحب إليه من نفسه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، بل أحب إليه من الماء البارد على العطش والظمأ الشديد، والذي يبغض الأولياء والصالحين هو أيضاً قد بارز الله تعالى بالمحاربة كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} . لكن ما هو المقياس في حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب الأولياء الصالحين؟ لعل هذا الذي ترميه بأنه لا يحب الرسول عليه الصلاة والسلام، قد رفض الرسوم الحادثة، التي يعبر بها هؤلاء عما يزعمونه حباً، وعبر هذا المؤمن عن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم باتباع طريقته الشرعية، التي ترضي محبوبه وتوافق هديه. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 8 أصلان عظيمان إن الشهادة الكبرى هي شهادة التوحيد، وهي دين الإسلام، فالإسلام مبنيٌ على أصلين: الجزء: 116 ¦ الصفحة: 9 الشهادة برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن الثاني: فهو الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم. أولاً: بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي من السماء، ينزل عليه جبريل بخبر السماء بكرة وعشياً. ثانياً: أنه خاتم النبيين لا نبي بعده {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] . ثالثاً: تصديق النبي صلى الله عليه وسلم في أخباره، سواء ما أخبر به عن الأمم السابقة، أو ما يخبر به عن المستقبل في الدنيا أو في الآخرة، فإن خبره صدق، لأنه من خبر الله ومن كلمة الله (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام:115] {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] . رابعاً: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم، واتباع أوامره، واجتناب نواهيه، فإن هذا هو المحك الحقيقي للإيمان به ومحبته. خامساً: محبته صلى الله عليه وسلم محبةً بحيث يؤثره على نفسه وأهله وولده، وأمه وأبيه، وزوجته، وكل حبيب لديه، ومحبة ما أحبه الرسول صلى الله عليه وسلم، محبةً تنبعث من شغاف القلب، فلا يذكر صلى الله عليه وسلم، إلا وسارع بالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وآله وسلم، وطربت نفسه لذلك شوقاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم وارتياحاً لذكره وهي تحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من محبتها لقرابتها، بل لنفسها، وكما عبر عن ذلك الشاعر دعبل الخزاعي في قصيدته الشهيرة، التي لا تصلح إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أحب قصي الرحم من أجل حبكم وأهجر فيكم أسرتي وبناتي وأكتم حبكم مخافة كاشحٍ عنيدٍ لأهل الحق غير مواتي لآل رسول الله بالخيف من منى وبالركن والتعريف والجمراتِ مدارس آياتٍ خلت من تلاوةٍ ومنزل وحيٍ مقفر العرصاتِ ديار علي والحسين وجعفر وحمزة والسجاد ذي الثفناتِ همو أهل ميراث النبي إذا اعتزوا وهم خير قاداتٍ وخير حماةِ فلا بد من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم وإيثاره على كل حبيب من البشر، فإن ذلك كله من شهادة أن محمداً رسول الله، وكيف لا نحبه وهو الذي أنقذنا الله به من الضلال إلى الهدى، ومن النار إلى الجنة {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] فهو أحق البشر بالمحبة والدعاء، والتعظيم والتكريم، وأن نُفدِّيه بأنفسنا وأرواحنا، وآبائنا وأمهاتنا، ونقول أعظم مما قال أبو طالب، ولو رآنا أبو طالب لعلم أنّا أحق بقوله: كذبتم وبيت الله نُبزَى محمداً ولما نطاعن دونه ونناضل ونُسْلِمَهُ حتى نصرَّع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل الجزء: 116 ¦ الصفحة: 10 الشهادة بتوحيد الله تعالى أولهما: أن نعبد الله تعالى وحده لا شريك له، فلا نصلي إلا له، ولا نصوم إلا له، ولا نحج إلا له، ولا نتوكل إلا عليه، ولا نعبد إلا إياه، ولا ندعو سواه، فهو الله الذي تألهه القلوب بالحب والشوق، والمحبة والرغبة، والخوف والرجاء والتوكل، فهو الله الواحد الأحد الذي لا يُعبد بحق سواه، هذا هو الأصل الأول. الأصل الثاني: أن نعبد الله تعالى بما شرع، فلا نعبده بالهوى، والتقاليد، ولا نعبده بالرسوم والطقوس، ولا نعبده بالبدع، بل نعبده بما شرع في كتابه، أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم فليس للعبد أن يعبد غير الله لا ملَكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، ولهذا قال الله تعالى عن الملائكة: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين} [الأنبياء:26-29] . ولا يعبدون نبياً ولا يعبدون صحابياً، لا علي بن أبي طالب، ولا أبا بكر، ولا عمر، ولا عثمان ولا غيرهم، ولا يعبدون ولياً، ولا صالحاً، ولا شيخاً، ولا عالماً، ولا حاكماً، ولا رئيساًَ، ولا ملكاً، ولا مُشرِّعاً، ولا مقنناً، لا يعبدون إلا الله تعالى وحده، فهو المعبود بحقٍ دون سواه، ولا يعبد الله تعالى إلا بشريعته ودينه، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا هو معنى كلمة الشهادة العظمى، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فهما توحيدان توحيد الله تعالى بالعبادة، وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع. إن لهذه الكلمة العظيمة شأناً أي شأن، فقد ذكرت في القرآن بلفظها في قوله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] فعلّم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة -كلمة الشهادة- بلفظ التعليم {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] فغيره من البشر أحوج إلى التعليم بهذه الكلمة، وكذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] وذكرت في أكثر من أربعين موضعاً بألفاظ متقاربة، على حسب إحصاء الشيخ يحي، جزاه الله خيراً والعهدة عليه، وهي الكلمة الباقية بعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} [الزخرف:26] . فها هنا البراءة من الشرك والمشركين والمعبودات من دون الله تعالى {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:27] فاستثنى من المعبودات ربه عز وجل، ثم قال: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف:28] ولهذا تبرأ المؤمنون من الأوثان والأنداد، والآلهة المدعاة من دون الله عز وجل، وأقروا بالألوهية لله تعالى وحده، وهذا معنى لا إله إلا الله، فأولها نفيٌ هو بمعنى (إنني براءٌ) وثانيها إثبات هو بمعنى (إلا الذي فطرني) ولهذا قال العلماء: ركنا الشهادة نفيٌ وإثبات، وكما قال الشاعر: والحق ركنان بناءٌ وهدّام فهي تبني العبودية لله، وتهدم كل عبوديةٍ لغير الله تعالى، فالنفي براءةٌ من الطواغيت حجراً كان أو بشراً أو شجراً أو مادةً، أو معنىً أو وثناً، أو قانوناً أو شخصاً، أو غير ذلك، والطواغيت كثيرة، ومن رؤوس الطواغيت الشيطان {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] . الثاني: الحاكم الذي يحكم بغير شريعة الله، يحكم بالقانون الروماني، أو الفرنسي، أو العربي المخالف لشريعة الله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] الفاسقون، الظالمون. الثالث: المغير لأحكام الله تعالى، المقنن المشرع، الذي يضع القوانين والتشريعات والنظم، المبنية على أصول وقواعد غير الشريعة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] . رابعهم: من يدعي علم الغيب {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن:26] {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان:34] فمن ادعى علم الغيب كأن يدعي أن يعرف متى تقوم الساعة، أو يعرف آجال الناس، أو يعرف الأسرار التي لا يعلمها إلا الله عز وجل، فهذا طاغوت يجب الكفر به. الخامس: المعبود من دون الله تعالى إذا رضي بهذه العبادة {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:29] . والبهرة اليوم وهم طائفة منشقة عن المسلمين، اتخذت لنفسها ديناً وثنياً شركياً، يعبدون فيه غير الله، وقد رُؤوا بالعيان يسجدون لـ أغاخان زعيمهم وشيخهم، ويقدسونه حتى في رباطهم في البلد الحرام في مكة شرفها الله تعالى. وبعض الحكام أيضاً يسمعون من الإطراء والمديح والثناء ما يرفعهم إلى درجة الربوبية، ويعطيهم حق الألوهية، فلا يمتعضون بل يفرحون ويطربون، وقديماً وقف أحد الشعراء أمام الحاكم الفاطمي العبيدي فقال له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار فطرب لذلك وجازاه على هذا الشعر؛ فكل هؤلاء من الطواغيت، التي يجب الكفر بها ومحاربتها، والإيمان بالله تعالى وحده. فمعنى لا إله إلا الله أي: لا معبود بحق إلا الله تعالى، أما المعبودات بالباطل فهي كثيرة، وهي الطواغيت، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1] و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] كثيراً في راتبة المغرب، وفى راتبة الفجر، وفى آخر الوتر؛ وذلك لأن هاتين السورتين اشتملتا على النفي والإثبات، فأما الإثبات ففي (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) التي فيها الإيمان بالله تعالى وتوحيده رباً وإلها معبوداً والإيمان بأسمائه وصفاته، وأما النفي ففي (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) التي فيها البراءة من الشرك والمشركين، والكفر والكافرين. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 11 لماذا التوحيد؟ الجزء: 116 ¦ الصفحة: 12 التوحيد هو سبب النجاة في الآخرة خامساً: التوحيد هو سبب النجاة في الآخرة، فإنه لا ينجو يوم القيامة إلا الموحدون لله تعالى {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87-89] سليمٍ من الشرك وعبادة غير الله تعالى، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار} . وقال تعالى عن الكافرين {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وسألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان يصل الرحم، ويكرم الضيف، ويطعم الفقير، ويتصدق "أينفعه ذلك؟ " فقال: {لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} . إن العبد إذا لقي الله تعالى موحداً فهو إلى خير، ولو كان من أهل المعاصي، ولو عذب بالنار ما عذب، فإن مآله إن شاء الله إلى الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي ذر: {على رغم أنف أبي ذر} . ومن أعظم ألوان النعيم واللذة النظر إلى وجه الله تعالى في الجنة، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه النسائي: {اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة} . إن العبد ينظر إلى شيءٍ من خلق الله تعالى في هذه الدنيا، ينظر إلى حديقةٍ جميلة غناء، أو صورة حلوة، أو مشهد بديع، فيعجب لذلك، ويطرب وتنبلج أساريره، وربما جادت قريحته بأعذب الشعر، وأجمله وأطيبه، فما بالك بالنظر إلى وجه الله تعالى، وهو الكمال والجمال والجلال؟! وفى صحيح مسلم: {إن الله تعالى جميل يحب الجمال} أما الكافر فهو محجوب عن ذلك كله {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15-16] . الجزء: 116 ¦ الصفحة: 13 التوحيد هو الخير الذي لا شر فيه سادساً: إن التوحيد هو الخير الذي لا شر فيه بوجه من الوجوه، والحق الذي لا باطل معه، والنفع الذي لا ضرر فيه، فإن محبة الله تعالى خير كلها، وكلما زادت المحبة زاد الإيمان، وزاد العلم، وارتفعت منزلة العبد في الدنيا وفي الآخرة، فلا يقال أبداً في حق أحد إنه زاد في محبة الله عن القدر المطلوب أبداً، بل هذا القدر من الحب ليس له حدٌ محدود، كلما زاد حبك لله كان ذلك أعظم وأفضل، أما محبة المخلوق فلا بد أن ينالها سأم أو ملل أو مفارقة، ومن أحب شيئاً لغير الله فلابد أن يضره ذلك الشيء وربما كان سبباً في عذابه كما قال بعضهم: من أحب شيئا لغير الله عذب به. ولهذا ذكر الله تعالى الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله حباً لها، فذكر أنهم يعذبون بها في الدار الآخرة {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزُونَ} [التوبة:35] . ومثله الخوف أيضاً، وهو من العبادة والتوحيد لله تعالى، فالخوف من الله تعالى هو القوة وهو الإيمان، وهو الصدق، وهو ثبات القلب، واستقراره وطمأنينته، ولذلك يقول المؤمنون وهم في الجنة: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} الطور:26] خائفين وجلين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27] أما الخوف من المخلوقين فهو مذلة ونزول في الرتبة، وضعفٌ في القلب، وانحطاطٌ في الدرجة، وربما أدى إلى الضعة والهوان، بخلاف الخوف من الله فإنه كلما زاد كان أحسن، فيمدح العبد بشدة خوفه من ربه جل وعلا، كما مدح بذلك جبريل، وكان كأنه حلسٌ لاطٍ من مخافة الله عز وجل، وكما مدح بذلك الملائكة كلهم قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50] {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} [الأنبياء:28] وكما مدح بذلك الرسل والأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . ومثله الرجاء أيضاً، فإن رجاء المخلوق ولو كان عظيماً، تاجراً أو سلطاناً أو كبيراً أو رئيساً، إن رجاء المخلوقين تعلق بما لا طائل وراءه، ولا نفع فيه، وهو ربما أراد نفعك فضرك، وربما أراد أن يدنيك فأبعدك، وربما أراد أن يفيدك فآذاك، وربما حاول فعجَز، أما الرجاء في رب العالمين فهو رجاء بالقدير الذي لا يعجزه شيء، والكريم الذي لا يخيب سائله، والحكيم العليم بعباده وما ينفعهم وما يصلحهم وما يحتاجون إليه. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 14 التوحيد من أسباب الثبات ثالثاً: التوحيد من أسباب الثبات، وعدم التذبذب، وعدم التنقل والاضطراب، فإن الله تعالى واحد، وهو حي باق لا يموت ولا ينام، كما قال عز وجل: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] . أما المعبودات من غير الله تعالى فكلها فانيةٌ لا دوام لها، فإذا تعلق الإنسان بها انتقل من معبودٍ إلى معبود، ومن محبوبٍ إلى محبوب، ويتنعم بهذا في وقت ثم يتنعم بغيره في وقت آخر، وربما يضيق اليوم ذرعاً بما كان يتنعم به في الأمس، أما الله تعالى فلا بد للعبد منه في كل حال، وفى كل وقت، وأينما كان فهو معه كما قال الخليل عليه السلام: {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:76] ولهذا أيضاً كانت أعظم آية في القرآن هي آية الكرسي؛ لأن فيها إثبات الحياة والقيومية لله تعالى ونفي السِنة والنوم عنه جل وعلا. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 15 التوحيد صلة للعبد الضعيف بخالقه القوي رابعاً: التوحيد صلة للعبد الضعيف المحتاج الفاني بالحي الواحد القادر، الذي بيده العطاء والمنع، والضر والنفع، ولهذا تكثر الإشارة في القرآن الكريم إلى هذا {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:107] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، فالطبيب ليس إلا سبباً عادياً مادياً للشفاء، أما العافية الحقيقية فمن الله، والطبيب نفسه ما خلق المرض حتى يزيله، وإنما الذي خلق المرض وخلق الجرثومة هو الله تعالى، ولا يقدر على ذلك إلا الذي خلقه. والتجارة ليست إلا سبباً لتحصيل المال، وإنما الخزائن بيد الله تعالى، فكم من تاجر افتقر. وما يدري الفقير متى غناه وما يدري الغني متى يغيض والمرض ليس إلا سبباً للموت، وإلا فكم من إنسان تعرض للموت بأشد الأسباب، فخاض المعارك ووقعت عليه الحوادث ونجا منها، ثم مات في فراشه، فلتمنع الملوك من الموت حراساتهم وقصورهم، ولتحمِ التجار من الموت أرصدتهم وأرقامهم، وبنوكهم ومؤسساتهم. لابد للإنسان من ضجعةٍِ لا تقلب المضجَع عن جنبه ينسى بها ما كان من عجبه وما أذاق الموت من كَربِه نحن بنو الموتى فما بالنا نعافُ ما لابد من شربه تبخل أيدينا بأرواحنا على زمانٍ هن من كسبه لو فكر العاشق في منتهى حسنِ الذي يسبيه لم يسبه لم يُرَ قرن الشمس في شرقه فشكت الأنفس في غربه ما رأى أحد الشمس في المشرق فشك أنها سوف تغرب. يموت راعي الضأن في جهله موتة جالينوس في طبه وربما زاد على عمره أو زاد في الأمن على سربه نعم، يموت الراعي كما مات جالينوس الطبيب، وربما كان الراعي أطول عمراً من جالينوس، أو أكثر أمناً منه. والسلاح ليس إلا أداة للنصر والغلبة، وكم من قوم ظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب، فلم تغن عنهم قوتهم شيئاً، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولوا مدبرين، فالأسباب كلها عقيمة إذا لم يبارك فيها الواحد الأحد الصمد، والبحث عن مرضاة الله تعالى هو أعظم الأسباب، والجد في طاعته وعبادته هو أولها وأولاها، والبراءة إليه هو أنجعها وأنفعها. فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان الجزء: 116 ¦ الصفحة: 16 التوحيد من أعظم أسباب الوحدة أولاً: التوحيد من أعظم أسباب الوحدة فلا اجتماع إلا على التوحيد، قال الله تعالى: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم:31-32] فإن الخلافات التي تعصف بالمسلمين اليوم الكثير منها سببه عدم تحقيق التوحيد، إذاً: فسبب الاجتماع والألفة، أن نجمع الدين ونعمل به كله ونعبد الله تعالى وحده لا شريك له، كما أمر بذلك ظاهراً وباطنا، وسبب التفرق ترك حظ مما أُمِرَ المسلمون به، والبغيُ بين المسلمين بسبب ذلك. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 17 التوحيد من أعظم أسباب السعادة في الدنيا ثانياً: التوحيد من أعظم أسباب السعادة في الدنيا، إذ ليس في الكائنات كلها ما يسكن العبد إليه، ويطمئن به، يتنعم بالتوجه إليه إلا الله سبحانه وتعالى ومن عَبَدَ غير الله، أو طلب السعادة بمعصية الله، وإن حصل له نوع لذة، أو نوع سعادة، فهي مفسدة أعظم من مفسدة أكل الطعام المسموم، فقد يجد في أكل الطعام المسموم لذة، ولكن يعقب ذلك الموت، أو التمتع بالمرأة المصابة بالإيدز مثلاً ولكن يعقب ذلك هم طويل، وحزن كبير، فالغذاء الحقيقي والقوة هي الإيمان بالله تعالى، وعبادته ومحبته، وليست العبادة تكليفاً مخالفاً لرغبة القلب، ورغبة العبد، بل هي موافقةٌ للفطرة، ملائمةٌُ لها، منعشةٌ للقلب، ولهذا لم يسم الله تعالى العبادات تكاليف إلا في مقام النفي، كما في قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7] . الجزء: 116 ¦ الصفحة: 18 تعرف إلى الله هذه نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس كما عند الترمذي وأحمد بسندٍ صحيح {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} . الجزء: 116 ¦ الصفحة: 19 ذكره بأسمائه وصفاته وأفعاله وإن من التعرف عليه سبحانه ذكره بأسمائه وصفاته وأفعاله، ذكر عبادة وذكر مسألة، فالعبد محتاج إلى الله تعالى في الدارين قال الله عز وجل: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وهذا الذكر فيه نوع سؤال وتعرض؛ لأن العبد إذا ذكر الله فكأنما يسأله. أأذكر حاجتي أم قد كفاني حباؤك إن شيمتك الحباء إذا أثنى عليك العبدُ يوماً كفاه من تعرضه الثناء وفى صحيح البخاري وصحيح مسلم {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} وقد سبق أن شرحت هذا الحديث في درس مستقل. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 20 عبادته جل وعلا ومن التعرف عليه: عبادته جل وعلا، فهي تقرب العبد من الرب، ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه} . أما الإلحاد في أسماء الله تعالى فهو محادةٌ لذلك كله، ولهذا قال: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] . إن من الإلحاد أن تسمى الآلهة والأصنام، والمعبودات من الحجر أو من البشر، بأسماء الله تعالى، كما سمى المشركون اللات والعزى من الله ومن العزيز، وكما يخاطب بعضهم بشراً من البشر بألوان من التعبد، والثناء، لا تليق إلا بالله، وقد قام أحدهم يمدح طاغية من طغاة العصر الحاضر، في وسيلة إعلام تلتقط في منطقة عريضة، ويقول له: يا فلان تباركت في الأرض، كما تبارك الله في السماء، وقام آخر في بلد منكوبٍ معروف، يخاطب الرئيس، ويقول له: لو كان لي من الأمر شيء لجعلتك في مقام الذي لا يُسأل عما يفعل، فطاش صواب هذا الرئيس، واغتر وطرب وقال: اسمعوا لا يبدل القول لدي، وما أنا بظلام للعبيد، وما هي إلا ساعات حتى أردته رصاصة طائشة واحدة، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت، آلآن وقد عصيت قبل! وإن من الإلحاد: تسمية الله تعالى بما لا يليق، كما سماه النصارى أباً، أو سماه الفلاسفة موجباً، أو علةً فاعلة، أو ما شابه ذلك. وإن من الإلحاد في أسمائه وصفه بصفات النقص، كما قالت اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] . وإن من الإلحاد: تعطيل أسمائه الحسنى أو بعضها، أو صفاته أو بعضها، وجحد معانيها وحقائقها كمن يقول: إنها ألفاظ مجردة، لا تدل على معانٍ ولا تتضمن حقائق. وإن من الإلحاد: تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه، وهو سبحانه أحدٌ صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فهو لا يشبه خلقه ولا يشبهه أحد من خلقه، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا تحيط به العقول، ولا يحيطون به علماً، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء، وكل ما خطر ببالك من الصور والرسوم والخيالات والكيفيات والأشكال، فالله تعالى ليس كذلك، لا تدركه العقول، ولا تحيط به العلوم، سبحانه عز وجل. وهذا الموضوع موضوع كبير وطويل، وسيكون له بقية إن شاء الله في مناسبات أخرى. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 21 التعرف إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله أولاً: التعرف إليه سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، وربوبيته وألوهيته، فإنها تزيد العبد حباً له، وخوفاً ورجاءً. لقد صورت أساطير اليونان لهم آلهتهم المدعاة على أنها أشباح مخيفة، تطارد الإنسان وتهاجمه، وتغضب عليه وتحاربه، وتكيد له، وشاع هذا عند اليونان، ثم انتقل عبر ثقافاتهم وكتبهم المترجمة إلى سائر الأمم الأخرى، أما أمة الإسلام فإن أكثر كلمة يرددها المسلم هي كلمة بسم الله الرحمن الرحيم، اشتملت على ثلاثة أسماء لله عز وجل: أولها: الله ثم الرحمن ثم الرحيم، وهذان الاسمان متعلقان برحمته بعباده، رحمةً عامة وخاصة، فهو رحيمٌ بعباده، رحيمٌ بالمؤمنين، رحمة في الدنيا ورحمة في الآخرة، إنها دعوة إلى التوبة إلى الله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى جنابه تعالى، والتفويض إليه عز وجل، فإن لله تعالى من الأسماء والصفات ما يدعو العبد إلى القرب من الله تعالى، والدنو إليه، والفرار منه إليه: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] . فكل شيءٍ إذا خافه العبد فر منه، إلا الله تعالى فإنه إذا خافه فر إليه، كما أن له من الأسماء والصفات ما يزجر الوالغ في المعصية عن معصيته، ويردعه عن التمادي فيها، ولهذا قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50] . ولأن الله تعالى رحيم ودود، حليم كريم جواد لطيف، لما سمع أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجة وأحمد يقول: {ضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره} أي: تغيير حال الناس، سأل الأعرابي رسول الله وقد تعجب بفطرته وبساطته، وبعده عن التعقيد، وعن التأثر بالمنطق والكلام الوافد على هذه الأمة، الدخيل على ثقافاتهم فقال: {يا رسول الله! أو يضحك ربنا؟! قال: نعم، قال: لن نعدم من ربٍ يضحك خيراً} وفى صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لقد عجب الله من صنيعكما البارحة} ومثله أيضاً في الصحيحين: {يضحك الله عز وجل إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة} والحديث معروف. إن الرجل الفطري لا يحتاج إلى قوانين المنطق، ولا إلى تطويل الكلام وتهويله وتصفيفه، فيأخذها سهلةً ميسرة إن أخبر رسولنا صلى الله عليه وسلم عن ربه بشيء. فهو أولاً: صادقٌ أمين، وما هو على الغيب بضنين عليه الصلاة السلام. وهو ثانياً: بليغ في ذروة الفصاحة، فلا يمكن أن تخونه العبارة أو يخطئ في اللفظ. وهو ثالثاً: ناصحٌ لأمته عليه الصلاة والسلام. فإذاً يجب التسليم بكل ما قال، ولا يعني هذا أن صفة الله تعالى كصفة المخلوق، فإن الله تعالى لا يشبه أحداً من خلقه، ولا يشبهه أحد من خلقه، فالصفة الثابتة لله تعالى لا تشبه صفة المخلوق، حتى يحتاج الإنسان إلى تأويلها أو صرفها عن ظاهرها، بل للخالق صفة تليق بجلاله وعظمته وكبريائه، وكماله وكمال غناه، وللمخلوق صفةٌ تليق بفقره وذله وحاجته، ولا يشبه هذا هذا. والخطأ الأساسي الذي وقع فيه المؤولون هو قياسهم الخالق على المخلوق، واعتبارهم أن المخلوق أصلٌ يقاس عليه، ولهذا لجئوا إلى التأويل، ظناً منهم أن إثبات الصفة لله يقتضي إثبات الصفة كالصفة التي يعرفها بشأن المخلوق، وهذا خطأ، فإن الإنسان بشرٌ ضعيفٌ قاصر، وتكييف الصفة أمرٌ لا يطيقه الإنسان، ولا يحيط به علمه، ثم عصم الله تعالى أهل الحق من العبث بالنصوص، فأجروها على ظاهرها وآمنوا بها وقالوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] . الجزء: 116 ¦ الصفحة: 22 دروس متفرقة الجزء: 116 ¦ الصفحة: 23 حكم برنامج كنز العربي هذا برنامج وزع ونشر، اسمه برنامج (كنز العربي) : وهو عبارة عن برنامج في البنك العربي الوطني، يقدم فرصة للادخار مقابل أرباح ربوية، ومقابل هدايا ثمينة خلال هذا العام الميلادي، الذي نحن فيه عام ثلاث وتسعين، وهناك ثلاثون هدية مجانية، يحصل عليها الإنسان إذا أتم برنامج الادخار يقدم هذا البرنامج للتلاميذ وربات المنازل، والأطفال فقط، ولاحِظ من يخاطبهم هذا البرنامج! لحفزهم على الادخار، والحصول على ما يحتاجونه من سلع مفيدة تكون بمثابة جائزة فريدة لهم عند تحقيق الهدف، وللاشتراك في البرنامج لا بد من فتح الحساب واختيار الهدية المناسبة من كتلوج الهدايا، وتسجيل رقمها في قسيمة الاشتراك؛ ثم باستطاعته الاشتراك بأكثر من حساب جميع أفراد العائلة، ثم طلبوا زيارة البنك، وقدموا هذه الهدايا. فمثلاً يقول: ادخر مبلغ خمسة آلاف ريال شهرياً لمدة اثنا عشر شهراً، واحصل على إحدى هذه الهدايا مجاناً، قلم حبر باركر، مكواة فيليبس، أو سوني، وهكذا فيما بقي من هذه الأوراق، كلما زادت نسبة أو كمية الادخار زادت الهدية بعدما يعبئ الإنسان القسيمة، ولا شك أن هذا دعوة إلى الربا، وإعانة عليه. وواجبنا جميعاً أن نحرص على محاربة هذا البرنامج، والتنبيه عليه من خلال الدروس والخطب، والكلمات، وفى المجالس، حتى يحذره المسلمون، خاصة أنه يخاطب طبقة قد تكون لا تدرك بعض الأحكام، كالصغار مثلاً، إضافة إلى أنه يخاطب ربات البيوت، من المدرسات والموظفات وغيرهن، فحق علينا أن نوعيهم توعية كاملة بهذا البرنامج وخطره وأن درهماً يكسبه العبد من ربا قد يكون سبباً في إتلاف ماله كله قال تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276] . وواجبنا جميعاً محاربة هذه البنوك، والسعي في كسادها وإفلاسها، لأنها تحارب الله تعالى ورسوله، فمن أحب الله، وعظم الله، ووحد الله فلا بد أن يحارب من حارب الله، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:278-279] . الجزء: 116 ¦ الصفحة: 24 خرافة رومانية في شعار طبي وهذه أيضاً ملاحظة أخرى: أننا نجد أن في كثيرٍ من الصيدليات والمستشفيات شعاراً يضعونه، عبارة عن إناء أو قارورة أو كأس، وعليه أفعى مستديرة، وهذا الشعار أصله خرافة رومانية قديمة وهو أن الإله المعروف عند اليونانيين والذي يسمونه إكليبوس ظهر على شكل ثعبان، وشفى المرضى من الطاعون، الذي اجتاح روما كما يدعون ويزعمون، فمن هذه الخرافة جعلوا علامة الطب والعلاج هذا الكأس الذي عليه أفعى مستديرة، وحقٌ على المسلمين أن يكونوا مستقلين بشعاراتهم، وأمورهم ورسومهم، ولهذا ينبغي علينا أن نوعي الناس، من الصيادلة والأطباء والقائمين على المستشفيات وغيرهم، بهذا الأصل، ووجوب تغيير ذلك، وعدم اعتماده. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 25 أخبار توحي بأن النصر للإسلام هذا خبر نشر في جريدة (المسلمون) ، وهو يدل على أن النصر للإسلام، طال الزمن أم قصر: تركيا التي كانت مركزاً للعلمانية، ووكراً انطلقت منه إلى العالم الإسلامي، وكانوا يعتقدون أن كمال أتاتورك الذي جاء بالعلمانية وهدم الخلافة وهو يهوديٌ في الأصل من يهود الدونمه، اغتروا به وجعلوا تماثيله في الساحات العامة وفى كل مكان، يعظمونه ويقدسونه وكان المساس به جريمة يعاقب عليها القانون، والمساس بالعلمانية كان جريمة أيضاً، وقد حصل في يوم من الأيام أن تكلم عالم في هذه البلاد عن العلمانية، فاحتجت دولة تركيا على ذلك الكلام. أما اليوم فإن الرئيس التركي نفسه يعتذر للمحجبات، ويقول: كنا نطردهن من الجامعة وهذا خطأٌ كبير، ثم يقول: العلمانية ليست أمراً مقدساً، والقرآن به كل ما نحتاجه، والخبر نشر في الجريدة، ويسهل الرجوع إليه ولا أريد أن أقرأه، لكني أريد أن أعلق عليه، لا يهمني أن أسأل هل الرئيس التركي صادق فيما قال أو غير صادق؟ هذا السؤال لا يعنيني، لأننا نحن المسلمين مستفيدون في الحالتين، فلو كان صادقاً لكان هذا خيراً إن شاء الله، ولو كان الأمر بخلاف ذلك لكان ذلك دليلاً على أن الإسلام بلغ من القوة والنفاذ، والشمول والتأثير، بحيث أن رؤساء الدول وزعماءها أصبحوا يجاملون الإسلام، ويخافون منه، ويراقبون أهله، ويحرصون على كسب ودهم، وأنتم تعلمون أن الحزب الذي يعلن برنامجاً إسلامياً في تركيا، وهو يسمى حزب السلامة، أو حزب الرفاه، هذا الحزب فاز بأغلبية في تركيا، أغلبية أدهشت جميع المحللين، وصوت له أكثر من (25%) من الشعب التركي هناك، فتفوق على حزب الأمة وعلى حزب الصراط المستقيم، وذلك لأنه حزب يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه، وذلك بدوره يزعج الغرب ويقلقهم، ولذلك صدرت منهم تقارير كثيرة، متشائمة من وجهة نظرهم، تقول: إن الإسلام قادم وقوي، والشعوب الإسلامية قد استيقظت وهي تريد الإسلام، وتريد تحكيمه، والحكومات العلمانية المهيمنة على البلاد الإسلامية حكومات مهلهلة ضعيفة غير قادرة على مواجهة المد الإسلامي، فلله تعالى الحمد على ذلك حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وبالمقابل هذا خبر آخر، نشر في مجلة الرسالة في شهر رمضان لهذا العام، وقد أطربني هذا الخبر حقاً يقول: خبراء الاقتصاد يقرعون أجراس الإنذار ألف وتسعمائة وخمس وتسعين، يعني بعد سنتين، عامُ السقوط الأمريكي، ثم يقول الخبر: أمريكا أكبر مدين في العالم وكلينتون هو آخر رؤسائها، والخبر طويل وسوف أخصص له جلسة إن شاء الله تعالى عما قريب. ومثل ذلك أيضاً خبر نشر في جريدة الرياض في الثاني من رمضان لهذا العام يقول: سبعة ملايين ونصف مليون مسلم في أمريكا، ومسلم أمريكي جديد يقول: المستقبل للإسلام، ويقول الخبر: أكد مهتدٍ جديد للإسلام أن المستقبل في الولايات المتحدة سيكون للإسلام، وقال تشارلز بلال، المسلم الذي أصبح رئيساً لبلدية مدينة كوينتز الواقعة شرق ولاية تكساس الأمريكية، يقول: لقد أصبح الآن ممكناً أن يكون رجل مسلم أسود رئيساً لبلدية إحدى المدن. فليس الوقت ببعيد بإذن الله حيث يكون مسلم أسود أو أبيض رئيساً للولايات المتحدة، مؤكداً أن الناس لن يجتمعوا بمختلف أجناسهم وألوانهم إلا تحت راية الإسلام، وأوضح في رسالة وجهها إلى مدير الرابطة في كندا، أن اجتماعاته يبدؤها بقراءة سورة الفاتحة، ويذكر بلال الذي يبلغ أربعة وأربعين عاماً، وكان عضواً في إحدى الكنائس ثم أعلن إسلامه، يُذكر أنه كان نشيطاً في ذلك ثم تخلى عنه، وفى تلك المدينة تصل نسبة المسلمين السود إلى (30%) من مجموع السكان، وذكرت إحصائية شبه رسمية أن عدد المسلمين في أمريكا كما أسلفت يزيدون على سبعة ملايين ونصف، منهم (42%) من المسلمين الأفارقة (15%) من العرب (20%) من الهند والباقون من أصول مختلفة. وأشار مسئول يعمل في مجال الدعوة، إلى أكبر ثلاث جمعيات إسلامية في أمريكا -وذكر الجمعيات الثلاثة- وذكر أن هناك مؤتمرات سوف يحضرها أكثر من عشرة آلاف مسلم في المستقبل القريب، فنسأل الله تعالى أن يرينا بأعيننا نصر هذا الدين، وتقر عيوننا بخذلان الشرك والمشركين، والنصارى واليهود وسائر أعداء الإسلام. ومثل ذلك أيضاً مقال جيد نشر في جريدة المدينة، في الحادي عشر من رمضان، للدكتور مصطفى عبد الواحد عنوانه (نعم إنها الصحوة) وقد استهل المقال بذكر برنامج أذاعه القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية، في الليلة الثانية من رمضان عن مظاهر الصحوة في العالم الإسلامي، وقال: إن المذيعة ختمت البرنامج بسؤال كان مثيراً للدهشة إذ قالت: هل هي صحوة أم نكسة؟! طبعاً هو تساؤل خبيث يدل على ما وراءه وقد وجهته إلى مجموعة من الناس منتقين بعناية وتحدثوا عن وجهات نظرهم، ثم تكلم الدكتور مصطفى عبد الواحد عن هذا الموضوع في هذا المقال الطيب، وهذا يعد نكسة بالنسبة لهم لأنهم يهمهم أن يظل المسلمون مخفوضي الرءوس، مطأطئي الجباه، مستغلين اقتصادياً، منهوكين سياسياً، جهلة بدينهم، متفرقين فيما بينهم، حتى يسهل على العدو أن يستغلهم حسبما يريد، ويسوؤهم ولا شك أن يعي المسلمون دينهم، ويجتمعوا عليه ويحاربوا من أجله، ولا نلومهم على ذلك. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 26 خطر يهدد المملكة وهذه قُصاصة من أخطر القصاصات التي وصلتني، وهي تدعو إلى أمر خطير، محلات في الرياض تعلن وتقول: نضع أوروبا بين يديك، هل سمعت بالقنوات الأوروبية من أقمار (استرا ويورستات) إنها لدينا نحن فقط، فنحن نتحدى من ينافسنا في التقاط البرامج الأوروبية من هذه الأقمار إلى الآن ولفترة طويلة، يعني هم أخذوا أو حصلوا على حق الامتياز. عزيزي المواطن تأكد قبل أن تشتري هوائي الأقمار الصناعية، هل هذا الهوائي يستقبل قمر استرا، هل هو يستقبل هذه القنوات التالية؟ ثم رسموا مجموعة من القنوات وهي تقريباً سبعة وعشرين قناة. تقول الشركة الوحيدة في المملكة، التي تعطيك هذه القنوات وإلى فترة طويلة الأمد ويطلبون الاتصال، وقد وضعوا عنوانهم ومكانهم بل والهاتف، لمن أراد أن يتصل ثم يقول في الورقة الأخرى، لنفس المكان؛ هل سمعت عن محطة الأفلام الحديثة؟ إنها تعطيك أحدث الأفلام السينمائية -لاحظ- هذا الآن ليس فقط بثاً، إنما هي تتابع الأفلام السينمائية الأمريكية عن طريق جهاز فك التشفير الموجود لدينا، وباشتراك سنوي يصل إلى أربعمائة وخمسين دولاراً سنوياً وهم يعطونك اشتراكاً سنوياً ثلاث سنوات، كل سنة بأربعمائة وخمسين دولاراً أمريكياً، ثم بعد ثلاث سنوات يعطونك اشتراكياً -مجاني إلى الأبد- في هذه الأفلام السينمائية الأمريكية، إنها أول شركة سعودية معتمدة في جهاز فك التشفير، لجميع المحطات المشفرة، ولا توجد شركة في المملكة غيرنا لديها هذه الإمكانيات، ومرة أخرى لا تتردد في الاتصال بنا. إنه خطر عظيم، ومنكر كبير، واجب علينا جميعاً أن نحتسب في إزالته، إن هذه (الدشوش) التي غزتنا في كل مكان، وفى بريدة رأيناها في عدد من الأبنية، بل لا أودعكم سراً، اتصل بي أحد الشباب وحدثني عن قرية نائية من مناطق القصيم سكانها قليل وقال لي: يوجد في هذه القرية أكثر من اثني عشر دشاً، وفى قرية مجاورة أكثر من سبعة عشر دشاً، إنك بالتأكيد لن تجد مثل هذا العدد من الدعاة في تلك القرية، هذا خطر عظيم علينا، والواجب أيضاً يحتاج إلى حديث، وقد وعدتكم قبل قليل، أن يكون لي إن شاء الله درس عنوانه (كلام في الإعلام) لكن إليك بعض هذه النقاط الملخصة: أولاً: لا يجوز أن يكون موقفنا هو فقط التململ والتضجر مما يجري، بل ينبغي أن ننتقل خطوات إلى الأمام، ينبغي في المقابل أن ننشر الإعلام الإسلامي، ننشر الشريط، وقد أصبح نشر الشريط بحمد الله ميسوراً ممكناً، وليس هناك عقبات حقيقية أمامه، فعلينا أن نشمر عن ساعد الجد، وننشر الشريط بطريقة مدروسة، وطريقة مهذبة منظمة، وما المانع أن يكون في بيتك بدلاً من بيت جارك الذي فيه دش، أن تجعل في بيتك جهاز سحب الأشرطة؟! وهو رخيص تشتريه بأربعة آلاف ريال، أو باشتراك مع مجموعة من زملائك، وتسحب على الأشرطة ليصبح السعر رخيصاً وتوزع على معارفك وجيرانك، وأقربائك وأهل بيتك. ومن الأشرطة التي يمكن توزيعها تلك الأشرطة التي تتكلم عن خطر البث المباشر، وخطر الإعلام الغربي، ووجوب حماية الأهل من مثل هذا الغزو الخطير، وهذا واجب، ونشر الكتاب أيضاً، نشر الدعوة، والمحاضرة، الدعوة إلى الخير، قيام الدعاة بواجبهم، ترك التململ والتضجر والاعتماد على الآخرين، وكون الإنسان يقول: أنا لا أصلح لشيء، غيري قد كفاني المهمة. يا أخي! عدوك الآن دخل إلى البيت، دخل إلى غرفة النوم، الإعلام والتقنية والتصنيع ووسائل الاتصال ليست حكراً على الغرب الكافر، المسلم يستطيع أن يستغلها ويستثمرها، ولو كان المسلمون أقوياء وعلى المستوى المطلوب، ولديهم مؤسسات لاستطاعوا أن يغزوا الغرب نفسه من خلال قنواته، ومن خلال وسائله، فالمسلمون قادرون على أن يشتروا محطات وأجهزة وإذاعات وقبل مدة ليست بالبعيدة عرضت إذاعة شهيرة للبيع، مونتكارلو وعرض لها بلغتها العربية فقط خمسين مليون ريال سعودي، وخمسين مليون ريال سعودي بإمكان أي تاجر أن يوفرها ومن الممكن أن تتحول هذه الإذاعة إلى إذاعة إسلامية. فلو كان هناك مسلمون على المستوى المطلوب، أن تتحول من إذاعة تبث التنصير --كما تعلمون- إلى إذاعة تخاطب أكثر من سبعين مليون بالإسلام، والدعوة إلى الإسلام، ونشر الخبر الصحيح، والعلم الصحيح، والتحليل الصحيح، وترفع صوت العلماء إلى العالم كله، وليس إلى العالم الإسلامي فقط، أين الإعلاميون المسلمون؟! أين ذووا الاختصاص؟! لماذا لا يفكرون في جريدة إسلامية يومية، أو أسبوعية، تصدر في أي بلد، وتخاطب المسلمين، وتنشر أخبارهم، وتحذرهم من الأخطار المحدقة بهم، وتكون لساناً ناطقاً للصحوة وأهلها، لماذا نكتفي دائماً وأبداً بالتضجر وهز الرءوس؟! إن هذا وحده لا يكفي، ثم هذه الدشوش الموجودة لماذا لا نناصح أهلها؟ لماذا لا نحدثهم بالعقل والمنطق والحكمة عن الأخطار المحدقة على أُسَرهم، وعلى بيوتهم. أيها الأحبة لقد كتبنا واتصلنا، وكتب سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز وأصدر فتوى، والمؤسف جداً أن هذه الفتوى أصبحت تُحارَب في بعض الأماكن وتلاحق، ويؤذى من يوزعها، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ما دام أن هذه الدشوش وجدت وانتشرت، وشاعت وذاعت، ورخص لها وسمح بها، على الرغم من أن هذا مخالف للأنظمة والقوانين على أقل التقدير، لتعامل الفتاوى العلمية التي تصدر في تحريمها، وتحريم استيرادها أو تركيبها، أو التعامل معها، لتعامل بالطريقة نفسها. اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى، اللهم يسر لنا اليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى، ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا أرحم الراحمين! اللهم وفقنا لكل خير، اللهم إنا نسألك من كل خير خزائنه بيدك فإن خزائن الأمور كلها بيدك، اللهم إنا نسألك لإخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك أن تعجل لهم فرجاً يا حي يا قيوم! ونسألك لعبيدك المستضعفين في الجزائر يا رب العالمين! أن تنصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أسْمعنا من الأخبار ما تقر به عيوننا يا رب العالمين! اللهم أسْمعنا من الأخبار ما تقر به عيوننا، اللهم انصرهم يا ناصر المستضعفين! اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم أنزل على عدوهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم فرق شمل عدوهم وخالف بين قلوبهم يا رب العالمين! اللهم عليك بأعداء الإسلام في الجزائر، اللهم عليك بأعداء الإسلام في فلسطين، اللهم عليك بأعداء الإسلام في مصر، فإنهم طغوا وبغوا، واعتدوا على عبادك الصالحين، وجاوزوا الحدود وأنت أعلم يا حي يا قيوم! اللهم عليك بأعداء الإسلام. اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين في أفغانستان، اللهم انصر المسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم انصر دينك يا رب العالمين! اللهم اجعلنا من أنصار الدين، اللهم اجعلنا من الدعاة إليك على بصيرة، اللهم اجعلنا من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يا أرحم الراحمين! اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 116 ¦ الصفحة: 27 العائدون إلى الله تناول المحاضر في محاضرته عن بعض ما يحتاجه العائد إلى الله، وقبل أن يدخل في موضوعه أَحَبَّ أن ينبه أنه على الناس أن ينظروا إلى واقعهم بنظرة مليئة بالتفاؤل، وأن يقللوا رواية الأحاديث التي تفيد أن الناس هلكى وبيَّن مواضع هذا الذكر، ثم نبه إلى أن هذه الأمة كلما كثر فيها العائدون فإن هذا يعلم منه إرادة الله لهذه الأمة بالخير، ثم استدل على بعض المبشرات التي أخبر بها الصادق المصدوق وما جاء به من عند ربه أن الخير وطريق الخير وإصلاح النفس كلها باقية إلى أن يأتي وعد الله الحق، ثم نبه إلى ثلاث قضايا ليرشد بها ويستفيد منها العائد إلى الله ومن أراد المواصلة على السير إلى الله؛ لأن المسافر قد تعترضه بعض الصعوبات فعليه مواجهة كل صعوبة بعلاجها. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 1 الحديث عن الظواهر الإيجابية والسلبية إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن عنوان هذه المحاضرة: العائدون إلى الله، وبين يدي هذه المحاضرة، أقدم مقدمة قد تستغرق بعض الوقت ولكنها لا تخلو من فائدة، بل إنني قصدت من ورائها التنبيه إلى قضية تربوية مهمة، فقد يجد بعض الإخوة أنني أميل إلى الحديث عن الظواهر الإيجابية، والأحداث السارة في المجتمع، أكثر من الميل إلى الحديث عن الظواهر السلبية والأحداث المؤلمة، وهذا ليس تعامياً مني عن الواقع وما يجري فيه، وإنما هو استجابة لما أفهمه من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان يقول كما في الصحيحين: {ويعجبني الفأل} وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن، فيفرح بالرؤيا الحسنة يراها هو أو يراها بعض أصحابه، ويكره ضدها، ويعجب للاسم الحسن الجميل، ويكره ضده وقد يغيره كما قد حصل في عدد من الحالات. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 2 أسباب خطر الحديث عن الفساد الأخلاقي وبمناسبة هذا الحديث فإنني أرى أن الحديث عن الفساد الخلقي بالذات، والشذوذ والانحراف والمبالغة في تضخيم ذلك ونشره، أخطر من الحديث عن أي لون آخر من ألوان الفساد، وذلك لأسباب: السبب الأول: منها أن الميل إلى الإشباع الغريزي فطرة مركوزة في قلب كل إنسان ذكراً كان أو أنثى، فالحديث عن الفساد في هذا الإطار يحرك منطقة في النفس لصورة قد لا أستطيع أن أصفها لكم الآن، ولكن يمكن أن يدركها كل واحد منكم إذا حاول أن يراقب نفسه وهو يسمع الحديث عن ألوان الفساد، وخاصة -كما قلت- الفساد الخلقي. السبب الثاني: أن الأصل في هذه القاذورات التي يتلبس بها بعض الناس هو الستر وعدم الفضيحة، وبقاء المتلبسين بها متوارين عن أعين الناس بعيدين عن ذلك؛ فنشرها وفضحها قد يدخل في إشاعة الفاحشة في الذين آمنوا، فلا يحسن كثرة الحديث عنها. السبب الثالث: هو أن الحديث في هذه المفاسد ومواطنها قد يصادف قلباً مريضاً أو نفساً منحرفة، فتتحرك إلى مواطن هذه الرذيلة وتقع فيها بقصد أو بغير قصد. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 3 متى نتحدث عن الفساد؟! وقد يسأل سائل، متى نتحدث عن هذا الفساد، وبالذات عن الفساد الخلقي؟. فأقول: هناك مناسبات قد يسوغ ويحسن أن نتحدث فيها عن هذا الفساد، وأضرب لها بعض الأمثلة: فيحسن بل يجب أن نتحدث عن هذا الفساد إلى من بيده القدرة على التغيير -بأي صورة من صور التغيير- حتى يتحركوا للقضاء على هذا الفساد وردع القائمين به والمتلبسين به. وهناك صورة أخرى وهي: إذا علمت -مثلاً- أن هناك إنساناً قد يقع من حيث لا يدري -وهو غافل- في موطن من مواطن هذا الفساد، فعليك أن تنبهه من هذا الموطن لتحذره من الوقوع فيه، لأنك تعلم أنه واقع في غفلة، والغفلة تُزال بالتحذير والتنبيه. والصورة الثالثة التي يسوغ ويحسن أن نتحدث فيها عن الفساد وبالذات الفساد الخلقي: أن يكون ذلك لغرض تربوي تقصد فيه بناء جانب معين في نفس المربى، وقد توجد صور أخرى غير هذه الصور التي ذكرت، إنما الخطأ الذي أشير إليه وأرى أنه واقع هو مبالغة البعض في الحديث عن الفساد. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 4 لا تزال أمة محمد بخير أيها الإخوة: تجلس أحياناً إلى بعض الناس، من المتحمسين للخير والمتمسكين، بل والمتشددين، فيبدأ يسرد لك من القصص التي يشيب لها الرأس، سواء في عقوق الوالدين، أو في أنواع الجرائم الخلقية، أو في غيرها حتى يخرج الإنسان وهو يشعر أن قلبه قد تلوث بما سمع واسود، ولو أنكرت على هذا الإنسان وقلت له: يا أخي، لا تزال أمة محمد بخير، ويجب عليك أن تنظر إلى جوانب الخير المشرقة في المجتمع مثلما نظرت إلى الجوانب السوداء المعتمة؛ اتهمك بأنك مغفل وأنك طيب القلب، وأنك لا تدري، وهو بهذا يصور نفسه بأنه هو الوحيد الذي يدري ويعلم ويدرك ويفهم، وأن غيره ممن ينكر هذا الأسلوب مصابون بالغفلة وعدم الإدراك، وهذا -كما قلت- خطأ تربوي، يجب أن نتفاداه وأن ننبه عليه من يقع فيه. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 5 حديث: {من قال: هلك الناس فهو أهلكهم} ويصف نبينا محمد صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الذي رواه مسلم - الذين يكثرون من الحديث عن الأحوال السيئة، والانحرافات الفكرية والخلقية في المجتمع، ويرددون هذه الأشياء بمناسبة وبغير مناسبة، بأنهم من أهلك المسلمين، فيقول: {من قال: هلك الناس فهو أهلكهم} . ويقول أبو إسحاق صاحب مسلم لا أدري هل الرواية بالرفع أم بالنصب، يعني: أن الرواية لهذا الحديث تحتمل وجهين:- الوجه الأول: {من قال: هلك الناس فهو أهلكَهم} بفتح الكاف، فيكون فعلاً ماضياً، ويكون معنى الحديث على هذه الرواية أن من قال: هلك الناس، وأكثر من الحديث عن الانحراف الواقع في المجتمع، فهو الذي تسبب في هلاك المسلمين. ولماذا تسبب في هلاك المسلمين؟ لأنه أشاع في نفوس المسلمين اليأس من الإصلاح، وأشاع في أنفسهم التهاون بالفاحشة والجريمة، وأشاع في نفوسهم اليأس من رحمة الله تبارك وتعالى ومغفرته، وهذه كلها من أعظم أسباب وألوان الفساد. الوجه الثاني: {من قال: هلك المسلمون فهو أهلكُهم} بضم الكاف، ويكون معنى الحديث على هذه الرواية أنه أكثرهم هلاكاً، فتكون أهلكهم هنا صيغة تفضيل، ويكون معنى الحديث: إن المكثر من الحديث عن الفساد بمناسبة أو بغير مناسبة هو أكثر المسلمين هلاكاً وأشدهم فساداً، ووجه فساده وهلاكه في هذه الحالة في الغالب: أولاً: أنه مصاب بالعجب بنفسه، أو الاغترار بعمله. وثانياً: أنه مصاب باستصغار الناس واحتقار شأنهم، إضافة إلى معنى ألمحُهُ في هذه الرواية، وهو أن المكثر من ترداد الفساد وذكر صوره، إنما ينطلق في الغالب من قلب مريض بالشك وبالشهوة، فلذلك تجد أن جميع الصور التي في الواقع تنعكس على هذا القلب الذي هو كالمرآة الصدئة، فكل صورة لا تظهر فيها إلا مشوهة أو مشوشة، حتى لو كانت الصورة في الأصل واضحة أو سليمة، فإنها تظهر في هذه المرآة الصدئة مشوهة أو مشوشة. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 6 الحديث عن الواقع باعتدال إذاً فالرسول صلى الله عليه وسلم يرشدنا إلى أن يكون حديثنا عن الواقع والفساد الموجود فيه حديثاً معتدلاً، لا نتعدى فيه حدود الحاجة. وقد يقول قائل في هذا الموقف: إذن هل يجب علينا أن نتعامى عن الفساد القائم والواقع ولا نتحدث عنه، فلا نذكر إلا الخير والصورة المشرقة، ونغمض أعيننا عن الصور المعتمة والقاتمة في المجتمع؟! فأقول: كلا، بل إن الحديث عن الفساد وما يجري في المجتمع من انحراف وانحلال هو كالملح في الطعام، إن زاد أفسد الطعام، وإن نقص -أيضاً- أفسد الطعام، بل يجب أن يوضع فيه بقدر، فلا يزيد ولا ينقص، ولذلك لما روى الإمام أبو داود رحمه الله هذا الحديث في سننه أعقبه بكلمة للإمام مالك بن أنس رحمه الله، حيث يقول الإمام مالك فيها عن معنى قوله صلى الله عليه وسلم السابق: إذا قال ذلك تحزناً لما يرى في الناس -أي في أمر دينهم- فلا أرى به بأساً، وإذا قال ذلك عجباً بنفسه، وتصاغراً للناس فهو المكروه الذي نُهي عنه. ويشير الإمام مالك رحمه الله إلى التفصيل في معنى هذا الحديث، وأن الحديث عن هلاك الناس يختلف بحسب الظروف والملابسات والمناسبات التي قيل فيها، كما أن الهلاك المقصود في الحديث، يحتمل في ظني معنى آخر، حيث يكون قول: هلك الناس، في الحديث فيه شرٌ من كل وجه، وهو الحديث عن هلاك الناس في الآخرة، فإنك تجد بعض الناس، وبعض الوعاظ يقنط الناس من رحمة الله عز وجل، وهو يقول: هلك الناس، ويشير بذلك إلى أنهم قد هلكوا وعذبوا في الآخرة، ولا طمع لهم في رحمة الله سبحانه وتعالى. وهذا لا شك أنه خطأ تربوي وقع فيه كثير من السابقين من أصحاب الملل الضالة والأهواء المنحرفة، كالخوارج وغيرهم، ووقع فيه بعض أهل السنة من الوعاظ والقصاص الذين يقفون أمام الناس فيقنطونهم من رحمة الله تعالى، فيجب أن نضع الأمر في موضعه وفي إطاره الصحيح. ونحن نجد في القرآن الكريم الحديث عن الجنة إلى جانب الحديث عن النار، والحديث عن رحمة الله إلى جانب الحديث عن غضبه، كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:50] ولذلك قال بعض السلف: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد، أو كما قال. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 7 العودة إلى الله هي الظاهرة الطبيعية وبعد أن نقول: إن تلك المقدمة التي قد تكون طالت بعض الوقت أردت منها أن تكون تمهيداً إلى الحديث عن موضوع: العائدون إلى الله، ومن هذا المنطلق خصصت الحديث عن ظاهرة طيبة في المجتمع يلمسها الجميع، وهي اتجاه كثير من الناس -وخاصة الشباب ذكوراً كانوا أم إناثاً- إلى الخير وسلوكهم طريق الإسلام، وعودتهم إلى الله عز وجل تائبين نادمين. ومن العجيب أنني بعد أن اتفقت مع الإخوة على عنوان هذه المحاضرة وموضوعها، سمعت بدون قصد عدداً طيباً من الأخبار التي تصب في هذا الوادي، وهذا يدل على أن التوجه إلى الإسلام، وأن الأحداث الفردية التي نسمعها يوماً بعد يوم، تدل على أن الله عز وجل قد أراد بهذه الأمة خيراً. وهذه الظاهرة يشتغل الكثير من الناس بتحليلها وبيان أسبابها، وقد أصدرت إحدى المجلات التي تصدر في الكويت عدداً خاصاً تحدثت فيه عن ظاهرة التدين بين الشباب، وما يسمونه أيضاً بالتطرف ويقصدون به الغلو في الدين، واستقطبت فيه عدداً من المختصين وغير المختصين ممن يحسنون الحديث في هذه الموضوعات، وممن ليسوا على نفس المستوى وليسوا بنفس الدرجة، وأشغل بعض هؤلاء أنفسهم بدراسة هذه الظاهرة وتحليلها. وأقول: إنني لست أنكر أن كل شيء له سبب، ومن ذلك التوجه إلى الخير له سبب، ولكني أقول: إن ظاهرة الاتجاه إلى الخير والعودة إلى الله ليست ظاهرة غريبة حتى نحتاج إلى تعليلها وتفسيرها، بل هي ظاهرة طبيعية وخلافها هو الوضع الشاذ، وهو الوضع الغريب، فنحن يجب أن نشتغل بالحديث عن أسباب الفساد، ولم انحراف الشباب عن الإسلام، وكيف يعودون إليه. أما أن نشتغل بالحديث لماذا عادوا إلى الإسلام، فهذا ليس فيه كبير طائل في كثير من الأحيان -وليس في كل الأحيان- لأنه هو الوضع الطبيعي الذي ننتظره، والذي يجب أن يكون عليه الجميع. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 8 مبشرات دوام الخير في هذه الأمة إن هذه الظاهرة هي مصداق لبشارات نبوية أخبر بها سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في العديد من الأحاديث. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 9 الوعد بتجديد الدين والبشارة الثانية: هي ما رواه أبو داود في سننه وأطبق العلماء على تصحيحه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} وإذا كان بعض العلماء قد تحدث عن التجديد في القرون الأولى، وأشاروا إلى أن عمر بن عبد العزيز في القرن الأول، وأن الشافعي في القرن الثاني وهكذا، فإن المقصود ليس فرداً واحداً، بل إن الراجح من أقوال العلماء أن المجددين لأمر هذا الدين ولهذه الأمة؛ إنما هم طوائف مختلفة من شتى أصناف الناس، بعضهم يجدد أمر العلم، وبعضهم يجدد أمر الدعوة والتربية، وبعضهم يجدد أمر الجهاد والقتال. وهكذا لكل لون من ألوان الحياة صورة من صور التجديد يقوم عليها طائفة من الطوائف، ومن العسير أن تنحصر صور التجديد كلها في فرد واحد، ولو أمكن أن يقال ذلك في عمر بن عبد العزيز باعتباره اجمع له ما لم يجتمع لغيره، فإن من العسير -كما قال الحافظ ابن حجر - أن يتحقق ذلك فيمن بعده ممن ادعي لهم وصف الانفراد بالتجديد. إذاً: فيجب أن يكون عندنا أمل كبير -ولا أقول أمل- بل يجب أن يكون عندنا قناعة تامة بأن الله عز وجل وعدنا وعداً ثابتاً على لسان رسوله صلى الله وعليه وسلم، أنه سيجدد لهذه الأمة أمر الدين كلما اندرس، وهذا الوعد قائم حتى يأتي أمر الله، وآخر من يجدد أمر هذا الدين هو المهدي أو عيسى ابن مريم عليهما السلام، ولذلك لما تحدث الحافظ العراقي عن المجددين حتى وصل إلى القرن السابع قال رحمه الله في منظومة له: والظن أن الثامن المهدي من ولد النبي أو المسيح المهتدي فالأمر أقرب ما يكون وذو الحجى متأخرٌ ويسود غير مسود فظن رحمه الله أن المجدد في ذلك القرن هو المهدي أو عيسى عليهما السلام، وقد تبين لنا خطأ هذا الظن، فقد وجد بعد هذا القرن قرون ولازلنا الآن في القرن الخامس عشر، والغيب بيد الله. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 10 فتح باب التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها والبشارة الثالثة: هي إخباره صلى الله عليه وسلم بفتح باب التوبة إلى أن تطلع الشمس من مغربها، فعلى سبيل المثال روى الإمام الترمذي رحمه الله في جامعه عن صفوان بن عسال: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر باباً قبل المغرب مسافته أربعون -أو سبعون- عاماً، لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} وقال: حسن صحيح، وهو كما قال. إذاً فباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، وهذا شرط يجب أن يضاف إلى شروط التوبة التي يذكرها الناس، فإذا ذكرت شروط التوبة الأربعة، فينبغي أن يضاف إليها للإيضاح: أن تكون التوبة قبل أن يغرغر الإنسان، وأن تكون قبل أن تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، وحينئذٍ: {لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام:158] . الجزء: 117 ¦ الصفحة: 11 بقاء طائفة من الأمة على الحق فالبشارة الأولى التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، هي: ما رواه واحد وعشرون من أصحابه عليهم الصلاة والسلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرها من خذلها ولا من خالفها حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} وأمر الله الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم، هو ما أخبر به في الحديث الآخر الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص {أنه إذا كان في آخر الزمان وقبيل قيام الساعة بعث الله تبارك وتعالى ريحاً طيبة، فقبضت روح كل مؤمن ومؤمنة، فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة} . فهذا هو أمر الله، وقبل هذه الريح لا يزال في أمة محمد قائم بأمر الله، وقائم بالحجة على عباد الله، يهدي بالحق ويعدل به، ويربي الناس على منهج النبوة، وعلى طريقة محمد صلى الله وعليه وسلم، فهذا مصداق لوعد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 12 قضايا في طريق الهداية أيها الإخوة: إن فرحنا بهذه الظاهرة واستبشارنا بها؛ يوجب علينا أن نحرص على ترشيدها وتوجيهها الوجهة الصالحة، ولذلك أشارك في هذه العجالة في طرح ثلاث قضايا، وأرجو أن تنتبهوا معي لهذه القضايا، لأنني أحب أن تكون موضع نقاش وحديث بيني وبينكم، فهي لا تعدو أن تكون اجتهادات اجتهدت فيها، فإن أصبت فمن الله وبتوفيقه، وإن أخطأت فمني، والله ورسوله منه بريئان. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 13 أنواع التائبين والقضية الثالثة: هي في نظري مهمة جداً ليس للتائبين أنفسهم، بل لنا نحن الذين نسمع هذه الأحداث، وإن كنا يجب أن نكون جميعاً تائبين من جميع الذنوب والمعاصي، وهي: أن التائبين على أنواع؛ فليسوا كلهم يجب أن يصنفوا في جدول أو قائمة واحدة. النوع الأول: تائب قابل للتوبة فمن التائبين من لم يوفق في أول عمره بالتوجيه السليم والتربية الصحيحة، مع أنه يملك الاستعداد أصلاً لذلك، وعنده القابلية له، فإذا وفق هذا الإنسان لموجه أو لكلمة طيبة أو لموقف اهتدى واستنار قلبه بنور الإيمان، وأشرقت نفسه به، وعظم شأن الدين عنده، فجدد لنا بذلك أخبار السابقين، كـ خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وغيرهم من السابقين التائبين، رضي الله عنهم أجمعين. بل جدد لنا أخبار الصحابة كلهم فما منهم إلا وقد قارف عملاً من أعمال الجاهلية، فله بذلك أسوة وقدوة، وهم خير أسوة وقدوة، فهذا صنف من التائبين وهم كثير. بل إنني أقول: إنهم أكثر التائبين، ولذلك فليفرح التائبون وليقروا عيناً بأن الله عز وجل أوصل قلوبهم إلى مكانها الصحيح، وليحمدوا الله ويشكروه على هذه النعمة، وشكر النعمة نفسه نعمة تستحق أن يشكر الله عليها، وكما قيل: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فلست أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر النوع الثاني: تائب متذبذب. ويجب أن ننتبه للصنف الثاني ممن يسميهم الناس بالتائبين، وهم فئة قليلة من الناس يكون شأنهم تذبذب الشخصية واضطرابها، فلا يستقر واحدهم على حال، فأنت تجده اليوم طيباً متحمساً حماساً زائداً، ثم تجده غداً وقد ضعف وتغير حاله، ثم تجده بعد غد وقد اختلف عما كان، وقد تقابله بعد شهر فتجده قد عاد لحاله الأولى، سواء في مظهره أو في مخبره، ومع الأسف أن أخبار هذه الطائفة تشيع في المجتمع، أكثر مما تشيع أخبار الطوائف الأولى. ويتداول الناس أنباء تحولاتهم، خاصة إن كانوا على علاقة بأمر يعرفه الناس، فقد يكون الواحد منهم على علاقة بالفن أو الصحافة أو الرياضة أو التمثيل، ويعرفه الناس قبل ذلك، فيتسامعون بأنه اهتدى وصلح وأصبح متحمساً للخير، ثم يفاجئون بعد حين أنه قد ضعف وابتعد واختلف عما كان يعهده الناس، فيشعر كثير منهم أن صلاح هؤلاء القوم كسب عظيم للإسلام، ويتعلقون بهم ويتابعون تحركاتهم، بل لا أبالغ إذا قلت: إن بعض الناس يمنحونهم الولاء، ويعتبرونهم قادة على مستوى معين من الوعي والإخلاص يجب أن يسير الناس خلفهم، ونحن يجب أن لا نسير وراء الطفرات والتأثرات، فهذه الطفرات لا تأتي بخير، ويعجبني أن أتمثل بقول الشاعر: يا عجباً من سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول فنحن نريد أناساً من هذا النوع، يمشي رويداً ويجيء أولاً، وكلكم شاهدتم السباقات -مثلاً- سباق الأقدام، فتجد المتسابقين حين يبدءون في السباق يبرز منهم عدد ثلاثة أو أربعة أو أكثر، حتى يخيل للمشاهدين أن هؤلاء هم الفائزون، وتجد الفائزين الحقيقيين في مؤخرة الركب، وما يزال المتسابقون يسقطون واحداً بعد الآخر، أو يضعفون ويهدأ سيرهم، والمؤخرون يتقدمون حتى تأتي النتائج في الغالب مخالفة لتوقعات المشاهدين، ويكون هذا الإنسان الذي يمشي مشياً هادئاً رزيناً متزناً هو السابق، وهكذا نريد في شأن السير إلى الله عز وجل. هذه أهم الملاحظات والأفكار التي قلت إنني أريد أن أتحدث فيها، ونيتي ليس أن أتحدث وتسمعوا، ولكن أن أسمع منكم أو من بعضكم ما قد يكون من اعتراضات أو مناقشات أو إضافات ليكون الحديث أكبر فائدة من هذا وأكثر متعة وأبعد عن الضجر، ولكن ضيق الوقت يحول دون ذلك. وأسأل الله أن يرزقني وإياكم التوبة النصوح، ويثبتنا على الإسلام، ويهدينا صراطه المستقيم، ويقبلنا في عباده الصالحين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 14 عدم التشديد على النفس الحل الرابع: هو أن يدرك الإنسان أن تشديده على نفسه، وهضمه لحقوقها، وجوره عليها؛ قد يؤدي به إلى حالة من الكبت والملل من العبادة، ربما تصل في النهاية والعياذ بالله إلى الانحراف والانتكاس. وما أشرت إليه من أن الإنسان إذا هضم حقوق النفس الطبيعية البشرية التي خلق وفطر عليها، وجار على نفسه وشدد عليها، وأن هذا قد يؤدي به إلى حالة من الكبت والملل في العبادة وربما تصل في النهاية إلى الانحراف والانتكاس، وهذا هو الخطر الثاني الذي أحب أن أحذر منه. فالخطر الأول الذي انتهينا منه: هو أن يكون عند الإنسان ارتداد فعل لما سبق، فيغلو أو يزيد في العبادة والدين. والخطر الثاني: هو أن الإنسان قد ينتكس ويرتكس ولو بعد حين إلى الحال التي فارقها، فيعود إلى الانحراف من جديد لسبب أو لآخر. ومن الأسباب المرصودة التي يمكن أن يلحظها كل واحد منكم: أن الانحراف قد يكون بسبب ما ذكرت أولاً، من تنكر الإنسان لفطرته وجبلته التي لا تلبث أن تتمرد وتنتفض وتثور؛ فيرجع الإنسان إلى صورة من الانحراف، قد تكون أعنف مما ترك قبل. والسبب الثاني: هو الفراغ، فالشاب الذي يكون قد اهتدى إلى هجر المجالس السيئة والمخالطات والأعمال والمجالات التي كان يشغل وقته بها، وكانت تستغرق كل طاقاته ومواهبه، بعد أن ترك هذه الفرص ربما لا يجد من المجالات الخيرية بنفس القوة ما يعوضه ويشغل وقته ويصرف طاقاته إليه، فيترتب على هذا الفراغ ولو بعد فترة، نوع من الحنين إلى الماضي، وإلى بعض الأعمال المنحرفة التي ألفها وتعود عليها، فيشتد ذلك حتى ينتكس الإنسان ويرتكس والعياذ بالله، وهذا خطر، وقد تلاحظون وجود بعض الناس -ولو كانوا قليلاً، ولكن حتى هذا القليل يجب أن نعالجه- قد يعاودون بعض ما كانوا عليه وإن تركوه لفترة من الفترات، فمن العلاج المفيد: أولاً: إنه يجب على الصالحين والمستقيمين أصلاً تهيئة الفرص المتنوعة التي تستوعب هؤلاء الطيبين المهتدين وتشغل وقتهم، كالدروس والمحاضرات والمراكز وإقامة الصداقات والعلاقات وغيرها. ثانياً: إن هذا القلب التائب يجب أن يرتبط بعدد كبير من القلوب بالحب، والحب هو الرباط الذي يظل ملحاً على الإنسان ويقاوم جميع التحديات، فإذا ارتبط قلب التائب الراجع إلى الله بقلوب عدد من الصالحين بالمحبة، فهذا الارتباط قضاء مبرم على الفراغ، لأنه يشعر باستمرار أن قلبه مشغول بمحبتهم، إن رآهم فرح بهم، وإن غابوا عنه حن إليهم، بحيث يصعب بكل حال أن يفك هذا الارتباط. ثالثاً: إنه يجب على التائب أن يكثر من عمل الصالحات في حدود ما تطيق نفسه، دون أن يؤدي ذلك إلى كلال نفسه ومللها، ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] . فقال العلماء في معنى هذه الآية قولين كلاهما يتعلق بالنقطة التي أتحدث عنها. القول الأول: إن من تاب وأقلع عن المعاصي وحسن إسلامه -وهذا الشرط- وعمل الصالحات قلب الله سيئاته في صحيفته حسنات، وهذا المعنى صحيح، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، يؤتى برجل فيقول الله لملائكته: نحوا عنه كبار ذنوبه واعرضوا عليه صغاره، فيقولون له: عملت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، فيذكرون له ذنوبه الصغيرة، وهو خائف منها مشفق وجل، فإذا انتهوا مما عنده من الصغائر. قال الله عز وجل: إنني أقلبها لك حسنات، فيفرح هذا الإنسان ويقول: يا رب عملت ذنوباً لا أراها هاهنا} . فانظر إلى طبيعتك الطماعة -أيها الإنسان- حتى في هذا الموقف العجيب، فعندما كانت الذنوب ضده وليست في صالحه كان ساكتاً عنها، وبطبيعة الحال لا يذكر بها، والله عز وجل أعلم وهو يعلم أن الله أعلم، لكن طبيعة الإنسان لا تغادره ولا تفارقه، فهو ساكت فلما قلبها الله حسنات قال: يا ربي عملت ذنوباً لا أراها هاهنا. ولذلك ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: {يمر بالإنسان يوم القيامة موقف يفرح فيه بسيئاته} والمقصود بالإنسان هاهنا التائب، فهذا هو المعنى الأول، وهذا المعنى يجعل الإنسان: أولاً: لا يقنط كما ذكرت في أول الحديث. ثانياً: يجعله يحسن إسلامه ويكثر من عمل الصالحات؛ لأن ظاهر الآية وظاهر الحديث مقيد بحسن الإسلام وعمل الصالحات، أما من أسلم وآمن ولم يحسن إسلامه، ولم يعمل الصالحات، فظواهر النصوص على أن سيئاته تمحى عنه ولا تقلب حسنات كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أسلم العبد فحسن إسلامه، محا الله عنه كل سيئة} وروى البخاري الحديث معلقاً عن مالك بن أنس رضي الله عنه، ولم يشر فيه إلى هذا المعنى. إذاً الشرط هو أن يحسن العبدُ الإسلام. المعنى الثاني للآية: هو أن الله يبدل السيئات حسنات، بمعنى أن الإنسان بدلاً من أنه كان يعمل السيئات أصبح يعمل الحسنات، فيبدله الله بالشرك إخلاصاً، وبالفجور إحصاناً وعفافاً، وبعمل السيئات عمل الطاعات والقربات، وهذا المعنى يدعو الإنسان إلى أن يعوض عن كل عمل سيء عمله بعمل صالح، وأن لا يكون كما قيل: جباراً في الجاهلية خواراً في الإسلام. كما إنني أحب أن أنبه بمناسبة عمل الصالحات، إلى أن الإنسان له خط بياني، فهو يرفع أحياناً ويهبط أحياناً، فالإنسان ليس ملكاً: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:20] فالإنسان بشر، ولذلك يجد الإنسان من نفسه أحياناً نشاطاً إلى العبادة وإقبالاً عليها، ويجد في أحيان أخرى في نفسه نوعاً من الفتور وبرود الهمة، فيجب على الإنسان في هذا الموقف أن يتذكر ما رواه الإمام أحمد رحمه الله في مسنده من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث طويل لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: {إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد هلك} . إذاً: يجب أن يكون الإنسان في ارتقائه أو ضعفه حد أدنى لا ينزل عنه ولا يقبل لنفسه أن تنحط عنه هذه المرتبة، وهذه هي القضية الثانية التي أشرت إليها، وهي الخطر على التائبين من وجهين: إما أن يغلو فيزيد، وإما أن يشعر بالفراغ أو غيره من الملل فيؤدي بهم ذلك إلى الانتكاس والارتكاس والرجوع إلى حالهم السابق. وأختم الحديث بالقضية الثالثة: وأختصر الحديث فيها، وقد أحببت أن أعرض الموضوع كاملاً وإن كنت أشعر أنني أطلت بذلك. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 15 الحذر من الاندفاع أمام الحماس والعاطفة القضية الثالثة: أن يحذر الإنسان من الانسياق والاندفاع أمام الحماس والعاطفة غير المنضبطة، وقد يندفع الإنسان أمام عاطفته ويلبس هذه العاطفة لبوس الدين وتعظيم حرمات الله، وأضرب لكم قصة طريفة ذكرها عدد من العلماء، وأنقل لكم لفظ الإمام البيهقي في السنن لأنه أقرب إلى إيضاح المعنى الذي أقصد إليه. فقد روى الإمام البيهقي في سننه في كتاب الحج، جِماع أبواب جزاء الصيد قصة عن قبيصة بن جابر الأسدي رضي الله عنه وأرضاه قال: [[خرجنا حجاجاً فكثر مراؤنا ونحن محرمون -يعني جدلنا- أيهما أسرع شدّاً الظبي أم الفرس، قال: فبينما نحن كذلك إذ سنح لنا ظبي -وهم على خيولهم أو فرسانهم- فرماه رجل منا بحجر فما أخطأ خششاءه -العظم الناشز خلف الأذن- فقتله، فأسقط في أيدينا، فلما قدمنا مكة انطلقنا إلى عمر رضي الله عنه وأرضاه -وعمر هو الخليفة يومئذ- قال: فدخلت أنا وصاحب الظبي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فذكر له أمر الظبي الذي قتل قال: فقال عمر رضي الله عنه: عمداً أصبته أم خطأ؟ قال: تعمدت رميه وما أردت قتله، زاد رجل -راو في القصة- فقال: عمر رضي الله عنه: لقد شرك العمد الخطأ ثم اجتنح إلى رجل -كان عمر بجواره رجل من الصحابة فمال عمر أو التفت إليه -فوالله لكأن وجهه قلب -يعني فضة- وربما قال: ثم التفت إلى رجل إلى جنبه فكلّمه ساعة ثم التفت إلى صاحب الظبي، فقال: خذ شاة من الغنم فأهرق دمها وأطعم لحمها وربما قال: فتصدق بلحمها واسقِ إهابها سقاءً، فلما خرجنا من عنده أقبلت على الرجل والآن قبيصة بن جابر في موقف المتحمس رضي الله عنه، ومن كمال عدله وإنصافه أنه ذكر لنا القصة حتى نأخذ منها الدرس، فـ قبيصة بن جابر لم يعجبه أسلوب الخليفة في حل هذه المشكلة، حيث إن عمر بن الخطاب تعرض له مشكلة في الدين فيلتفت إلى واحد من الناس ويتحدث معه ساعة، ثم يلتفت على صاحب الشأن ويقول: خذ شاة فأهرق دمها وتصدق بلحمها واسق إهابها سقاءً، فلم يعجبه هذا الأسلوب، بل تصور أن عمر سيقول له: قال الله كذا وقال الرسول صلى الله عليه وسلم كذا، أو أن يقول له على الأقل انحر ناقتك. أيها الإخوة: قال قبيصة: أقبلت على الرجل فقلت: أيها المستفتي عمر بن الخطاب، إن فتيا عمر لن تغني عنك من الله شيئاً، والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه، فانحر راحلتك فتصدق بها -هذا نموذج للتشديد- وعظم شعائر الله، وأنا أضع تحت هذه الكلمة خطاً (وعظّم شعائر الله) إذاً كم وكم على مدار التاريخ وفي واقعنا القريب من يشددون على الناس بما لم يشدد الله، من باب تعظيم شعائر الله في ظنهم، والحقيقة أن تعظيم شعائر الله يكون بمخالفة الهوى في طاعة الله. يقول: فنما هذا ذو العوينتين إليه -يعني الجاسوس سمع الكلمة وأخبر بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- والله ما شعرت إلا به يضرب بالدِّرة عليّ -ودرة عمر لها شأن وخبر في التاريخ، فيضرب عمر بالدِّرة على رأسه- ويقول: قاتلك الله! تَعدَّى على الفتيا، وتقتل الحرام، وتقول والله ما علم عمر حتى سأل الذي إلى جنبه، أما تقرأ كتاب الله، فإن الله عز وجل يقول: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] ثم أقبل عليَّ وأخذ بمجامع ردائي أو قال ثوبي -وكان هذا الشاب ذكياً فطناً، فلما رأى هذا الشأن من عمر خاف فقال:- يا أمير المؤمنين! إني لا أحل لك مني أمراً حرمه الله عليك -أي: والله لا أحل لك أن تضربني ضرباً لا يحل لك، أو تعاقبني بأي لون من ألوان العقوبة لا يجوز لك- فسكت عمر وأطلقه -ولكنه لم يرضَ حتى لقنه درساً تربوياً هو في الحقيقة درس لنا جميعاً وللأجيال كلها- فقال له عمر: إني أراك شاباً فصيح اللسان، فسيح الصدر وقد يكون في الرجل عشرة أخلاق، تسعة حسنة -أو صالحة- وواحدة سيئة، فيفسد الخلق السيئ التسع الصالحة، فاتق طيرات الشباب]] . وفي الرواية الأخرى عند البيهقي أيضاً [[وإياك وعثرة الشباب]] . إذاً: الحل الثالث: هو عدم الاندفاع وراء هوى النفس، وإلباسه لبوس تعظيم شعائر الله. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 16 الاستقامة على الطريق القويم القضية الثانية: أنه يجب على إخواننا التائبين -ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً تائبين- تحقيق معنى الاستقامة، والحذر من خطرين كلاهما مهلك وكلاهما يهدد كل واحد من هؤلاء القوم، وأرجو الانتباه لهذين الخطرين: الخطر الأول: هو التشدد والغلو في الدين كردة فعل للانحراف والبعد عنه، والعلماء يقررون أن كل فعل له ردة فعل مساوية في القوة ومعاكسة في الاتجاه، فمثلاً: لو كان عندك كرة فضربتها برجلك بقوة، فاصطدمت في الجدار ارتدت بقدر القوة التي ذهبت بها، وهكذا بقدر مبالغة الإنسان في الفساد في السابق قد - وهنا أضع خط تحت كلمة قد، لأن الأمر للاحتمال لا للتوكيد وإنما هو خطر أنبه إليه وأحذر منه- يدعو هذا الحال التي كان يعيشها الإنسان والإنسان إلى الغلو والتشدد كما ذكرت، ويتبعه إلى الزيادة والإفراط لمحاولة التكفير عن الماضي، فينتقل الإنسان من طرف إلى طرف. ومن الحلول التي أطرحها في هذا المجال: أولاً: البحث عن الرفقة الصالحين المعتدلين المجانبين لمذهب التشدد في الدين بما لم يأذن به الله، ولذلك روى الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول أعتقاد أهل السنة والإمام ابن بطة في كتاب الإبانة عن عبد الله بن شوذب رحمه الله أنه قال: [[إن من نعمة الله على الشاب إذا نسك أن يؤاخي صاحب سُنة يحمله عليها]] إذا نسك يعني: تعبد واتجه للخير-. ومفهوم هذه الكلمة: أن من شقوة هذا الإنسان أن يؤاخي صاحب هوى يحمله على هذا الهوى، فيكون الأمر كما قال الشاعر: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا الأمر الثاني: أن يتفقه الإنسان في دينه، والتفقه في الدين يكون بمعرفة القرآن والسُنة وأقوال العلماء المحققين من اللاحقين أو السابقين، ويستعين الإنسان على ذلك بكتبهم وأشرطتهم وغيرها من الوسائل الممكنة في تحصيل العلم ومعرفته، ولذلك أيضاً أنقل لكم قول أحد التابعين وهو الإمام أيوب السختياني رحمه الله، وهو يماثل أو يقارب قول عبد الله بن شوذب من قبل، يقول أيوب السختياني: [[إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله تعالى بعالم من أهل السنة]] والحدث هو: الشاب. وذلك لأن الشباب إذا لم يلتفوا حول العلماء العالمين الملتزمين بالنصوص الشرعية، تفرقت بهم السبل ذات اليمين وذات الشمال، فعلينا إذن أن نوجه هؤلاء إلى الالتفاف حول العلماء وطلاب العلم والدعاة الملتزمين بالنصوص، وأؤكد على هذه القضية (الملتزمين بالنصوص) . أما الهوى فكل إنسان يختلج في نفسه الهوى كائناً من كان، ولا يقاوم الهوى إلا التمسك بالنص الشرعي، وأهواء الناس تختلف، فقد تجد من هواه أن يشدد على الناس ويميل إلى كلمة محرم أكثر مما يميل إلى كلمة مباح. وهذا النوع من الناس موجود، فليحذر الإنسان أن يميل مع الهوى، والضابط في ذلك هو: أن يلتزم الإنسان بالنصوص الشرعية قرآناً وسُنة، وما يوضحها ويجليها من أقوال العلماء المحققين السابقين واللاحقين. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 17 عدم القنوط من رحمة الله القضية الأولى التي من المهم أن نشير إليها ونتحدث عنها هي: أن التائب إلى الله عز وجل يحتفظ في ماضيه في الغالب، بسجل أسود من المعاصي والخطايا كان يفعلها غير آبهٍ ولا مبالٍ، وسبحان مقلب القلوب وسبحان من جعل هذا القلب ملكاً للأعضاء! هذا الإنسان الذي كان بالأمس يقدم على المعصية غير هيابٍ ولا وجل، أصبح -اليوم- ذكر المعصية يقلقه ويؤرقه ويزعجه، وقد يصل الحال به إلى أن يقنط من رحمة الله تعالى وييأس، وهذا مدخل من مداخل الشيطان على التائبين، وهو أن يجعل ذنوبهم وخطاياهم أمامهم؛ فيغلق بذلك باب التوبة والقبول لدى الله تبارك وتعالى أمامهم، وهذا من جانب أمر موجود في كل مؤمن. ولذلك صح عن ابن مسعود رضي الله عنه في الصحيح أنه قال رضي الله عنه وأرضاه: [[إن المنافق يرى ذنوبه كذباب طار على وجهه، فقال به هكذا، وإن المؤمن يرى ذنوبه كأنها جبل يوشك أن يقع عليه]] وقد يتعمق وينمو هذا الشعور حتى يتحول -كما قلت- إلى يأس وقنوط، قال تعالى: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولذلك كيف نعالج هذا الأمر؟ أولاً: نعالجه بالنصوص التي تفتح الأمل أمام التائبين، وبالذات أضرب لها مثالاً واحداً، وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي أيوب يقول صلى الله عليه وسلم: {لولا أنكم تذنبون لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم} والحديث ورد في العديد من كتب السنة عن العديد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد يقول قائل: سبحان الله! كيف يُحرِّم اللهُ الذنوب ثم يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث؟! فأقول: هذا الحديث هو علاج وبلسم يوضع في موضعه الصحيح، فتعالج به جراح التائبين النادمين المقلعين، الذين أقلقتهم ذنوبهم حتى كادت أن تودي بهم في مهاوي القنوط واليأس من رحمة الله، وهذا هو العلاج الأول. العلاج الثاني: هو أن نفتح أمامهم باب التعويض، بحيث يُكَفِّرُ الواحد منهم عن كل ذنب عمله بعمل صالح يحدثه، يزكي به قلبه ويُصدِّقُ به توبته، فهذه هي القضية الأولى. الجزء: 117 ¦ الصفحة: 18 الدفاع عن السنة في هذا الدرس تجد تعريف السنة وأقسامها وعلاقتها بالقرآن الكريم، مما يزيح شبهات المضلين الذين لا هَمّ لهم إلا رد أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسوف ترى أمثلة كثيرة تبين لك ضرورة الرجوع إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم حتماً للعمل بكثير مما جاء في القرآن الكريم، وتقضي على شبهات هؤلاء القوم قضاء مبرماً. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 1 كثرة الدعاوي الباطلة في هذا العصر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: دفاعٌ عن السنة النبوية، وفي هذا العصر كثرت الدعاوى التي يريد أصحابها من ورائها أن يقوضوا أركان الإسلام ودعائمه: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) [الصف:8] . إنهم كما قال الشاعر: كناطح صخرةً يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل بل هم كمن يحاول أن يطفئ نور الشمس بنفخةٍ من فيه: أتطفئ نورَ الله نفخةُ كافرٍ تعالى الذي بالكبرياء تفردا والدعاوى اليوم عجيبة، كل ما يخطر في بالك، وهناك من يدعي هذا الذي يخطر في بالك. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 2 الهجمة الشرسة على السنة النبوية أيها الإخوة! من ضمن الأشياء التي كثر حديث الناس عنها في هذا العصر: موضوع السنة النبوية. فقد تعرضت السنة منذ عصور قديمة لهجمات شرسة من أهل البدع، كالخوارج، والمعتزلة، والشيعةوغيرهم، لكنها لم تتعرض كما تعرضت في هذا العصر لحملات ضارية، تستهدف القضاء على السنة النبوية، وإقصاءها عن واقع الأمة الإسلامية، ولذلك وجب على القادرين منا أن يتحدثوا في موضوع السنة النبوية، ويدافعوا عنها، ويبينوا للناس حقيقة السنة ومكانتها بالنسبة للقرآن الكريم ومدى حجيتها حتى يهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة. ولست أزعم أنني في هذه المحاضرة أستطيع أن أقول كل ما يتعلق بهذا الموضوع، أو كل ما عندي مما يتعلق بهذا الموضوع، كلا! ولكنني سوف أبدأ في هذه المحاضرة بعرض جوانب مهمة تتعلق بالسنة النبوية، وأعد أن أكمل هذا الموضوع في مناسبة قادمة إن شاء الله؛ ليكون الموضوع بين أيدي الناس، وليسمعه جمهور المسلمين وجمهور المثقفين؛ ليأخذوا صورة عن الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفوه من السنة النبوية. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 3 دور الإعلام في نشر الدعاوى الباطلة عصرنا هذا مليء بالدعاوى العريضة الطويلة، والمصيبة أيضاً في هذه الدعاوى؛ أن أجهزة الإعلام أصبحت تنشر كل شيء ويقرؤها كل أحد: العالم، والجاهل، والأمي، والمثقف، والكبير، والصغير، والقوي والضعيف، وبذلك أصبح كل من ادعى دعوة وجد من يشايعه عليها ويوافقه عليها، وهذا أحدث شرخاً كبيراً في علم المسلمين وفقههم، وجعلهم مادةً خصبة لكل ناعق. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 4 ادعاء الألوهية بل هناك من ادعى ما فوق النبوة! فقد قرأت في مقابلة صحفية مع رجل اسمه/ أغاخان، وهو يعبد من دون الله في شبه القارة الهندية، له أتباع يعبدونه ويسبحون بحمده وله يسجدون! فمن ضمن الأسئلة التي وجهها إليه أحد الصحفيين أن قال له: لماذا ترضى وتقبل من هؤلاء البشر الذين هم في منزلتك أن يعبدوك ويسبحوك ويعظموك؟ فابتسم، وقال له: ألا تراهم يعبدون البقر؟! وهل أنا أقل منزلة من البقر حتى تستكثر علي أن يعبدوني؟! الجزء: 118 ¦ الصفحة: 5 ادعاء النبوة هناك من يدعي النبوة، وليسوا قليلاً، وبالأمس وصلتني رسالةٌ من أحد الشباب، يشكو فيها من شخصٍ ظهر منذ زمن ليس باليسير في أمريكا، واسمه/ رشاد خليفة يدَّعي أنه نبيٌ يوحى إليه من عند الله، ودعا الناس إلى الإيمان بدعوته، وتوعدهم إن لم يؤمنوا! وقال هذا الشاب: إن هذا الرجل خدع بدعوته أناساً، وله نشرات يصدرها، وقد اطلعت على بعض هذه النشرات؛ فوجدت أن هذا الرجل يقول: إن عنده مئات الأدلة على أنه رسول ونبي، ما هذه الأدلة؟! قال: من الأدلة أن حروف البسملة تسعة عشر حرفاً، والله قال: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] . وعدد حروف القرآن من مضاعفات العدد تسعة عشر، وعدد كلماته من مضاعفات تسعة عشر، ورشاد خليفة ولد في التاسع عشر من شهر نوفمبر، أو شهر سبتمبر، كما يقول، فمعنى ذلك أن هذا دليل على أنه نبي، ويطلب من الناس أن يؤمنوا به بمقتضى هذا الكلام السخيف. نحن لماذا لا نقول: إن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ لأنه ولد في التاسع عشر من نوفمبر، وهو الرقم الذي يساوي عدد حروف البسملة، والله تعالى يقول عن جهنم: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر:30] . فليس القول بأن هذا دليل على أنه من أهل النار؛ بأقل من دعواه أنه نبي لأنه ولد في تسعة عشر، وهذا منتهى السخف، ومع ذلك يجد من يتقبل دعوته. وأذكر أن بعض الصحف الإسلامية والعربية -وفي بلادنا أيضاً- نشرت منذ زمن طويل، دعاية عن إنجاز علمي كبير سوف يحقق معجزة القرآن في القرن العشرين -على حد تعبيرهم- وهو ما يسمونه بمعجزة القرآن العددية، وهذه المعجزة العددية هي الأسطورة والخرافة التي ابتكرها/ رشاد خليفة، ليدعم بها دعواه للنبوة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 6 تعريف السنة النبوية وأقسامها وأول ما يلاقينا في هذا الموضوع تعريف السنة النبوية، وللسنة النبوية تعريفات كثيرة لن أعرضها، ولكنني سوف أختار منها تعريفاً واحداً، وهو تعريف علماء الأصول، حيث قالوا: إن السنة النبوية هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية. وهذا التعريف هو أوسع التعريفات وأكثرها انتشاراً، والتقسيمات المختلفة في السنة تدور عليه، وهو يتضمن أن السنة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الجزء: 118 ¦ الصفحة: 7 السنة التقريرية والمقصود بتقريراته، أو بالسنة التقريرية: أن يفعل بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم شيء، أو يفعل بغيبته لكنه يعلم به، ثم يقر هذا الأمر ويسكت عنه، أو يستحسنه ويرضى به، فيدل على جوازه أو على استحبابه بحسب الحال. وأمثلة التقرير كثيرة منها قصة الجارية كما في صحيح مسلم، التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: {أين الله؟ قالت: في السماء -وفي رواية- أشارت بأصبعها إلى السماء، قال لها: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدها: أعتقها فإنها مؤمنة} فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم على إشارتها إلى السماء، وعلى قولها: إن الله في السماء، فدل هذا على عقيدة من عقائد أهل السنة والجماعة، وهي أن الله تبارك وتعالى فوق سماواته، وهذه العقيدة موجودة أيضاً في القرآن الكريم، لكن هذا الحديث يزيدها إيضاحاً. ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم: ما سبق في قصة الضب، فإن خالد بن الوليد أكل الضب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه؛ فدّل أن أكله مباح. ومن أمثلة تقريراته صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو سعيد الخدري: {أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذهبا في سفر، فأدركتهما صلاة فلم يجدا الماء، فتيمما وصليا ثم وجدا الماء في الوقت، فأمّا أحدهما فتوضأ وأعاد الصلاة، وأما الآخر فلم يعد الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي أعاد الصلاة: لك الأجر مرتين -أي مرة على صلاته الأولى ومرة على صلاته الثانية- وقال للذي لم يعد الصلاة: أصبت السنة، وأجزأتك صلاتك} فزكى النبي صلى الله عليه وسلم عمله، وبيّن أنه هو الموافق للسنة، وأن صلاته الأولى مجزئة له. هذه نقطة في هذه المحاضرة وهي تعريف السنة، وخلاصة هذه النقطة أن السنة هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته، التي تدل على الأحكام الشرعية. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 8 الأصل في أفعال الرسول الاقتداء وإذا حصل نوع من التردد في هذه الأشياء، فيجب أن نعلم أن الأصل في أفعال النبي عليه الصلاة والسلام أنها للتأسي والاقتداء، كما قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فإذا وجد تردد فالأصل الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقد رأيت بعض المصنفين -وقد يكون من بينهم من هو محسوب على أهل العلم وإلى الله المشتكى- من يتوسعون في هذه المسألة توسعاً غير محمود، فكلما تضايقوا من سنة من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ردوها وقالوا: هذه فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بحكم العادة، وهذه فعلها بحكم الخبرة، وهذه فعلها بحكم الجبلة؛ ثم رفضوها وأخذوا بسنن الكفار والمشركين واليهود والنصارى! وأضرب لكم على ذلك بعض الأمثلة: قرأت في أحد الكتب لعالم يشار إليه بالبنان، وقد تحدث عن موضوع إعفاء اللحية، فقال: إن إعفاء النبي صلى الله عليه وسلم للحيته، إنما فعله عليه السلام بمقتضى العادة الموجودة في عهده، وليس تشريعاً يقتدى به! وبناءً على ذلك؛ فتح الباب على مصراعيه للناس ليفعلوا بشعورهم ما شاءوا، من التهذيب والتشذيب والحلق، وهم في منجاة من أن يقول لهم قائل: لماذا تخالفون سنة الرسول عليه الصلاة والسلام؟ ونسي أو تناسى الأحاديث الكثيرة الصحيحة، التي يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بإعفاء اللحية، وينهى عن التشبه بالمجوس والمشركين الذين يحلقون شعر لحاهم -هذا مثال-. وسمعت عن رجلٍ آخر، وقد يكون داعيةً وكاتباً مرموقاً، وهو يتحدث عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: {إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه، ثم ليرفعه فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء} رواه البخاري وأبو داود وزاد أبو داود {وإنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء} أي أن الذباب يسقط على الجناح الذي فيه الداء، والحديث عن أبي هريرة، لكن له شواهد عن جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك، ومنهم علي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة. ورد الحديث عن جماعة من الصحابة وبأسانيد صحيحة، ومع ذلك لم يجد أحد الدعاة حرجاً أن يقول: إن هذا الحديث من الأمور الدنيوية، التي تكلم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بحسب الثقافة الموجودة في عصره، ولا يلزم أن يكون هذا الأمر صحيحاً نعوذ بالله من ذلك! وهذا يعتبر تكذيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم جميعاً أن الرسول عليه السلام ذكر أن {من تتطبب ولم يعلم منه طب فإنه يضمن ما أتلف} أي لو أن إنساناً ادعى أنه طبيب، فعالج إنساناً فقتله، وعالج آخر فأمرضه، فإنه يحاسب على هذه الأعمال التي يعملها، وهو غير جديرٍ بها، ولا متأهل لها. فما بالك أن الرسول عليه السلام -فيما يزعم هذا الزاعم- أنه يتكلم في قضية وهو لا يعلم عنها شيئاً، حاشاه من ذلك! ومتى كانت الأمة العربية تعلم أن الذباب في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء؟! ما كان العرب يعرفون ذلك، وهذا أمر دقيق لا يمكن أن يعلم إلا بأحد أمرين: إما بالوحي الصادق عن الله جل وعلا، وإما بالعلم اليقيني التجريبي الذي يخضع الذباب للتحليل والدراسة، ثم يكتشف الداء والدواء. ولما قطعنا بأن هذا العلم لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ عرفنا أنه عليه السلام لم يتكلم عن الهوى قال الله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4-5] ومثالٌ ثالث: أحد العلماء يتكلم عن باب كبير في الطب النبوي، فيقول: إن هذا الطب كله مبناه على اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم، بحسب الخبرة الموجودة لديه والموجودة في مجتمعه، أشاعها بين أصحابه، ولا يلزم أن تكون كلها وصفات وعلاجات صحيحة ومناسبة! هذا أيضاً يفتح الباب على مصراعيه؛ لأن يرفض الناس جميع تشريعات الإسلام، فيرفضون -مثلاً- أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال الاقتصاد؛ بحجة أنها اجتهادات من النبي صلى الله عليه وسلم ولا يلزم أن تكون دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال السياسة؛ بحجة أنها اجتهادات قد لا تكون بالضرورة دقيقة، ثم يرفضون أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في مجال تنظيم شئون المجتمع، وبالتالي يرفضون الإسلام كله، ولا يبقى لهم منه شيء. وهكذا يتبين لكم خطورة توسع بعض الناس في قولهم: إن هناك سنة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس فيها مجال للاقتداء. لا ثم لا!! الأصل فيما ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأقوال والأفعال وغيرها؛ أنها للتأسي والاقتداء به عليه الصلاة والسلام، ولا يخرج شيء عن الاقتداء والتأسي إلا بدليل واضح أو بحجة قائمة، وذلك ينحصر في الأمور الأربعة التي أسلفتها سابقاً، وكما أننا لا نقبل من أحد أن يقول بخصوصية شيء للنبي صلى الله عليه وسلم إلا بدليل، كذلك لا نقبل منه أن يقول عن أمر من الأمور: إن هذا الأمر ليس فيه مجال للتشريع إلا بحجة واضحة قائمة لا لبس فيها. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 9 السنة الفعلية وهي أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي نقلها عنه أصحابه سواء كانت هذه الأفعال متعلقةً بالعبادات أو متعلقةً بالمعاملات. وهذه السنة الفعلية تنقسم أيضاً إلى قسمين: القسم الأول: ما يعتبر تشريعاً ينبغي على الناس الاقتداء به والالتزام به، إباحة أو إيجاباً أو استحباباً أو تحريماً، وهذه الأشياء التي تدل على التشريع، ويجب على الناس الالتزام بها، إما أن تكون بياناً للقرآن الكريم، أو تكون تأسيساً لحكمٍ جديد لم يرد في القرآن، كما سوف يأتي بعد قليل. القسم الثاني: ما لا يعد تشريعاً، وهو أربعة أشياء: الأول منها: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة والطبيعة البشرية، مثل نومه عليه السلام، وأكله وشربه وقضائه لحاجته، وغير ذلك من الأشياء التي فعلها بمقتضى الجبلة والطبيعة. فهذه لا دخل فيها للاقتداء أصلاً، ولكن قد يكون الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام في شيءٍ يتعلق بأخلاقيات هذه الأشياء. كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام علمنا آداب النوم وآداب الجماع، وآداب التخلي وقضاء الحاجة، وآداب الأكل وآداب الشرب، لكن أصل الفعل ليس فيه مجال للاقتداء، فهو أمر طبيعي فطري جبلي موجود عند الإنسان، فهذا ليس من باب التشريع. هذا هو النوع الأول مما لا يعد تشريعاً من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم. النوع الثاني: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة. فقد يكون هناك عادات اجتماعية موجودة في المجتمع، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، وليس لأنها مشروعة أو مستحبة، أو أمور تركها أيضاً بمقتضى العادة، وليس لأنها مكروهة أو محرمة. ومثال ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة، كما ذكر بعض أهل العلم: ترك النبي صلى الله عليه وسلم لشعر رأسه، فقد كان النبي عليه السلام له شعرٌ يضرب إلى منكبيه، وفي رواية إلى "شحمة أذنيه"، والأظهر -والله تعالى- أعلم أن إطلاقه عليه السلام لشعر الرأس، إنما أطلقه لأن هذه عادة معروفة عند العرب، والإسلام لم يرفض هذه العادة، ففعلها النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان بعض أهل العلم قالوا: بل هذه سنة. ومثال ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والكراهية البشرية، تركه عليه الصلاة والسلام لأكل الضب ففي الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم قُدِّم له الضب على مائدة ليأكل منها، فأراد أن يأكل، فقالت إحدى أمهات المؤمنين: أخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا اللحم الذي يريد أن يأكله، فقالوا: يا رسول الله! إن هذا ضب، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده، وكان بحضرته جماعة من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه، فاجتره خالد بن الوليد رضي الله عنه، فأكله بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم} . فترك النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب ليس تشريعاً يدل على كراهية أكل الضب، لكنه أمر كرهته نفسه، وعافته نفسه فتركه. النوع الثالث من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الخبرة والتجربة في الأمور الدنيوية البحتة. فكونه صلى الله عليه وسلم في الغزو يرتب الجيش ترتيباً معيناً، أو إذا أراد أن ينزل على ماء نزل عند هذا الماء أو عند ذاك، أو فعل أمراً يتعلق بالحرب، أو الزراعة، أو بالسفر أو بالإقامة، أو غيرها من الأمور الدنيوية البحتة المتعلقة بخبرة الناس، فهذا الأمر أيضاً ليس فيه مجال للتشريع والتأسي والاقتداء. النوع الرابع من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا تعد تشريعاً: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي من عند الله، ولكن دل الدليل على أنه خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومثال ذلك: زواج النبي صلى الله عليه وسلم بأكثر من أربع نسوة؛ فإن الله تعالى أباح للأمة أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع، ولا يجوز الزيادة على أربع، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام مات عن تسع نسوة، فدل على أن هذا الأمر خاص به. كذلك تحريم النكاح عليه في آخر عمره على قول، كما في قول الله تعالى: (لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} [الأحزاب:52] . فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم، وخصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ جداً، حتى إن بعض أهل العلم صنفوا فيها كتباً ككتاب" الخصائص الكبرى " للسيوطي، والذي ذكر فيه، ألف خصلة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بعضها يقال: إنه خاص، لكن عند الدراسة والبحث يتبين أنه ليس خاصاً، لكن بالتأكيد هناك خصال خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، لا يجوز لأمته أن تتأسى به فيها. إذاً السنة الفعلية تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما يقصد به التشريع. والقسم الثاني: ما لا يقصد به التشريع: وما لا يقصد به التشريع هو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة، أو ما فعله بمقتضى العادة، أو ما فعله بحكم الخبرة والتجربة، أو ما دل الدليل على خصوصيته بالنبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 10 السنة القولية القسم الأول: أقوال النبي صلى الله عليه وسلم المتعلقة بالتشريع. وهي كثيرة جداً، منها على سبيل المثال قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: {لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافهما؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة} . فهذا قول من النبي صلى الله عليه وسلم يتضمن أحكاماً شرعية، منها تحريم لبس الحرير والديباج على الرجال، ومنها تحريم الأكل أو الشرب في آنية الذهب والفضة وصحافها؛ لأن هذا من شأن المشركين الذين يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم. هذا هو القسم الأول من السنة النبوية، وهو السنة القولية. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 11 وظائف القرآن مع السنة ووظائف القرآن الكريم مع السنة النبوية عديدة، يمكن تلخيصها في الوظائف التالية: الجزء: 118 ¦ الصفحة: 12 السنة تأتي مفسرة للقرآن الوظيفة الثانية وهي مهمة جداً: وهي أن السنة تأتي مبينة ومفسرة لكتاب الله تعالى، ولذلك يقول مطرف بن عبد الله أحد التابعين، يقول رضي الله عنه: [[والله ما نريد عن القرآن بديلاً، ولكننا نريد من هو أعلم منا بالقرآن]] أي: أننا حين نبحث عن السنة ونعمل بها ونأخذ بها، ليس معنى ذلك أننا نبحث عن شيء غير القرآن، لكننا نبحث عن أحد أعلم منا بالقرآن، نتبعه في معرفة القرآن، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بمراد الله تعالى بكلامه، فبيَّنه وفسره وأخذته عنه الأمة. وكذلك يقول يحيى بن أبي كثير، ويقول الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام يقولان -كما ذكر البيهقي في كتاب المدخل-: السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة. وهذه الكلمة لها معنى لا بد من فهمه قبل أن يسارع الإنسان بقبولها أو ردها، فإن معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن، معناه -كما ذكر الإمام البيهقي رحمه الله: أن السنة جعلها الله تعالى للقرآن مبينة له وموضحة مراد الله تعالى فيه، وليس المعنى أن شيئاً من السنن يأتي على خلاف ما في القرآن الكريم. وزاد الإمام السيوطي الأمر بياناً فقال: إن القرآن يحتاج إلى توضيح وبيان، بخلاف السنة فهي بينة بنفسها فلا تحتاج إلى أن تبين بالقرآن؛ وذلك لأن السنة كالشرح للقرآن، والعادة أن الشرح يكون أبسط وأوضح من المشروح. فهذا معنى قولهم: السنة تقضي على القرآن أي أن السنة النبوية تبين وتوضح مراد الله تعالى في القرآن، فقد يفهم الإنسان من الآية معنى، فإذا درس السنة تبين له أن هذا المعنى الذي فهمه غير صحيح، وسيأتي أمثلة عديدة لذلك، لكن لا بأس أن أعجل بمثال منها حتى يتضح المقصود: يقول الله تعالى في محكم تنزيله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فظاهر الآية يدل على أن قصر الصلاة مشروط بحال الخوف؛ لأنه قال: {فلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] فهذا المعنى يسبق إلى ذهن أي إنسان يسمع الآية، لكن إذا درس السنة وعرفها علم بالسنة القطعية المتواترة العملية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يقصرون في السفر، ولو لم يكونوا خائفين. ولذلك جاء في صحيح مسلم، عن عمر رضي الله عنه [[أنه سئل فقيل له: كيف وقد أمن الناس؟ -أي: كيف نقصر وقد أمن الناس؟ - فقال للسائل: عجبت مما عجبت منه، فسألت عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته]] أي أن قصر الصلاة في السفر صدقة تصدق الله بها عليكم في حال الأمن وفي حال الخوف، فاقبلوا صدقته واقصروا الصلاة ولو كنتم آمنين إذا كنتم مسافرين، هذا يوضح معنى أن السنة قاضية على القرآن. ومن العجب أن أحد المرموقين وهو يناقش رسالة ماجستير في إحدى الجامعات مر بموضع نقل فيه الطالب هذه الكلمة، وقال الطالب: إن السنة تقضي على القرآن، فقال هذا الأستاذ للطالب -وقد سمعته في شريط مسجل بأذني- قال له الأستاذ: كيف تقول إن السنة تقضي على القرآن؟! هذه عبارة فيها سوء أدب مع القرآن الكريم، ثم استدرك الأستاذ قائلاً: مع أن العبارة ليست صحيحة، إلا أن الطالب هذا لم يأت العبارة من عند نفسه؛ بل هو ناقلٌ عن غيره، وناقل الكفر ليس بكافر! هكذا يقول: وناقل الكفر ليس بكافر. !! يا سبحان الله! وهل صار قولنا: "إن السنة تقضي على القرآن" كفراً حتى نقول: ناقل الكفر ليس بكافر. صحيح أنه قد يقصد أن الكلمة هذه: "ناقل الكفر ليس بكافر" تجري مجرى المثل، لكن حتى وضعها في هذا الموضع ركيك جداً. بل هي كلمة صحيحة: أن السنة تقضي على القرآن بالمعنى الذي بينت، وإذا كان هذا حكم الأستاذ على الطالب؛ أن ناقل الكفر ليس بكافر، فما حكم الأستاذ على يحيى بن أبي كثير وعلى الأوزاعي اللذين قالا هذه الكلمة وقالا: "السنة تقضي على القرآن، والقرآن لا يقضي على السنة"؟! إننا نواجه في هذا العصر -أيها الإخوة- خصومة مفتعلة بين القرآن والسنة! عدد غير قليل؛ بل كثير من الكتاب والمؤلفين والمصنفين والمتحدثين، يفتعلون دائماً خصومة بين القرآن الكريم وبين السنة النبوية؛ ليتوصلوا من وراء ذلك إلى رد السنة بالقرآن الكريم. ولم يعد هذا الأمر مقصوراً على المنسوبين إلى العلم، وإلى الدعوة وإلى الفقه؛ بل تعدى الأمر إلى كل من هب ودب، حتى إنني أحدثكم عن شاعرة لا تورد أمور الدين ولا تُصْدُرها، ولكنها كتبت مقالاً في إحدى الصحف، وذكرت فيه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، في قصة الأعمى الذي جاء وقال: {يا رسول الله! إنني ليس لي قائد يلازمني، وأنا رجل بعيد الدار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء؟ قال: نعم، قال: فأجب} والحديث في صحيح مسلم، فقالت هذه الشاعرة: هذا الحديث في متنه علة. الله أكبر! في متنه علة!! كأنك أمام أبي حاتم، أو أبي زرعة الرازي، أو الدارقطني، أو البخاري. ما هذه العلة؟ والعلة في الواقع هي في عقلها! ما هذه العلة؟ قالت: إن هذا الحديث يعارض القرآن الكريم! كيف يعارض القرآن الكريم؟ قالت: لأن الله يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] وهذا الحديث فيه مشقة وكلفة وحرج على الناس، فهذا الحديث ليس بصحيح! بهذه السهولة يرفض عدد ممن يتكلمون اليوم دون أن يحاسبهم أحد في قضايا الإسلام، يرفضون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام. وقد سمعت أيضاً بأذني شخصاً، وقد عرض مجموعة من الأحاديث في صحيح البخاري، ومجموعة أخرى من الأحاديث في صحيح مسلم، لكن هذه الأحاديث لم ترق له ولم تدخل مزاجه -كما يقال-! فرفض هذه الأحاديث، ولما راجعه أحد الحضور فيها، قال بالحرف الواحد: كل حديث يعارض القرآن ضعه تحت رجلك؛ الله أكبر! وقاحة، جراءة، قلة أدب، قلة حياء! افتعال الخصومة بين القرآن وبين السنة، ثم يرفض السنة بحجة أنها تعارض القرآن، والمعارضة هي في عقولهم القاصرة، وليست في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، والغريب أن بعضهم يحتجون بحديث نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الحديث سيفشو عني، فما آتاكم يوافق القرآن فهو عني، وما أتاكم يخالف القرآن فليس عني} وهذا الحديث غير صحيح، بل هو ضعيف فإن في إسناده خالد بن أبي كريمة، وهو ضعيف، وهو أيضاً منقطع لأن الحديث ينتهي إلى أبي جعفر وليس بصحابي وجميع طرق الحديث ضعيفة لا تصح. ولا يحتج كذلك بحديث {إن ما أتاكم يوافق القرآن فاقبلوه، وما أتاكم يعارض القرآن فردوه} ولا يعتبر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث ليس يخالف القرآن، ولكن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين معنى ما أراد الله تعالى، خاصاً أو عاماً، ناسخاً أو منسوخاً، ثم يلزم الناس ما سن بفرض الله، فمن قبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن الله قبل. وهؤلاء الذين يعترضون ويفتعلون الخصومة بين القرآن والسنة؛ يتهمون الأمة بأنها لم تكن تفقه كتاب الله تعالى، يتهمون الأمة وبالذات العلماء الذين دونوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بأنهم لم يكونوا يفقهون القرآن، ولذلك أثبتوا هذه الأحاديث المعارضة للقرآن، حتى جاء هؤلاء في القرن العشرين بعدما غلب الجهل وقل العلم، وغلب على الناس الهوى، فبدءوا يفهمون القرآن، ويرفضون السنة بمقتضى هذا الفهم الذي فهموه من كتاب الله تعالى، وهذه تهمة للأمة كلها في جميع أجيالها السابقة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 13 السنة تأتي موافقة للقرآن أما الوظيفة الأولى: فهي أن السنة تأتي أحياناً مؤكدةً لمعنى جاء في القرآن الكريم، ومقررةً له، وموافقةً لمعناه، وهذا لا إشكال فيه، وأمثلته كثيرة، ولعل من أمثلته: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا إله الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان} فهذا الحديث موافق لما في القرآن الكريم، فإن الله تعالى يقول: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] ويقول: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح:29] فهذا تضمن الشهادتين. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة جاء فيها قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] . والصوم جاء فيه قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183] . والحج جاء فيه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] . فلم يأت هذا الحديث بشيء غير ما جاء في القرآن الكريم، من جعل هذه الأشياء أركاناً يقوم عليها بنيان الإسلام، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور، لما سأله عن الإيمان قال: {أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر} والحديث متفق عليه. فهذا أيضاً جاء في القرآن الكريم كما في قول الله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:136] . وكما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] إلى غير ذلك من الآيات، والقدر كما في قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر} [القمر:49] إذاً هذا الحديث معناه موجودٌ في القرآن. أيضاً الحديث المتفق عليه {عن أبي هريرة في قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، وقال في الرابعة: أبوك} فهذا جاء معناه في القرآن الكريم، كما في قول الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] فهذا القسم الأول من السنة، أو الوظيفة الأولى للسنة مع القرآن الكريم؛ أنها تأتي موافقةً ومقررةً لمعنى جاء في القرآن الكريم. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 14 منزلة السنة من القرآن فهذه النقطة هي بيت القصيد وهي نقطة مهمة، وهي موقع السنة من القرآن الكريم ما موقع السنة من القرآن؟ بعض الناس يقول: نستغني بالقرآن! وفي هذا العصر بالذات ظهر في الهند والعراق ومصر جماعة من الضُّلَّال المرتدين يقولون: لا حاجة بنا إلى السنة، يكفينا القرآن، ويسمون أنفسهم -أو يسميهم الناس- بالقرآنيين وهم يرفضون السنة كلها جملة وتفصيلاً، وأذكر أحدهم يقول مخاطباً لغيره من الناس: فاحمل أزوادك واتْبَعْني يا عبد الله يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن يكفينا زاداً في الدنيا هذا القرآن، ولعل هذا يعني إنكار السنة النبوية ورفضها، وهؤلاء لا شك مرتدون لا إشكال في ردتهم وخروجهم عن دائرة الإسلام. بقي أن نسأل: ما موقع السنة من هذا القرآن الذي أطبق الناس -حتى هؤلاء- على الإيمان به والاعتراف بثبوته وتواتره؟ السنة هي قرينة القرآن الكريم في كتاب الله تعالى وفي حديث رسوله صلى الله عليه وسلم يقول الله - عز وجل - مخاطباً نساء النبي صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] ويقول: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] أما آيات الله فهي القرآن وهي الكتاب، لكن ما الحكمة؟ يقول الشافعي رحمه الله سمعت غير واحدٍ ممن أرضى من العلماء يقول: الحكمة هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً الحكمة هي السنة وهي قرينة القرآن، وفي كتاب الله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] أي القرآن والسنة {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:34] أي من القرآن ومن السنة. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي} فقرن السنة مع القرآن الكريم. ولذلك فالسنة مصدر تشريعي كالقرآن الكريم. ويعجبني في هذا المقال الكلمة التي يقولها الإمام محمد بن علي الشوكاني يقول: إن ثبوت حجية السنة واستقلالها بتقرير الأحكام الشرعية ضرورة دينية لا ينكرها إلا من لا حظَّ له في الإسلام! فاعتبر أن ثبوت حجية السنة، وأن السنة تؤخذ منها الأحكام كما تؤخذ من القرآن ضرورة دينية لا يمكن أن ينكرها أحد إلا من لا حظَّ له في الإسلام. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 15 أمثلة على بيان السنة للقرآن لذلك لا بد أن أذكر أمثلة من بيان السنة للقرآن، يتبين من خلال هذه الأمثلة أنه بدون السنة النبوية لا يمكن أن يقوم المسلمون بما أوجب الله تبارك وتعالى عليهم في القرآن. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 16 السنة تأتي بحكم جديد والوظيفة الثالثة: أن السنة تأتي بحكمٍ جديد لم يكن مذكوراً في كتاب الله تعالى. وأمثلة ذلك كثيرة لعل منها حد الرجم للزاني المحصن، والذي أجمع عليه أهل العلم، فإنه لم يرد في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها، لم يرد في القرآن الكريم، وكذلك النهي عن كل ذي نابٍ من السباع وكل ذي مخلب من الطير، لم يرد في القرآن الكريم إلى غير ذلك. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 17 السنة تأتي ناسخة للقرآن الوظيفة الرابعة: قال بعض أهل العلم: إن السنة النبوية تأتي ناسخةً للقرآن، وهناك كلام في ثبوت النسخ، وأظهر مثال يذكره بعضهم؛ هو قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي أمامة عند الترمذي وغيره: {إن الله أعطى كل ذي حقٍ حقه؛ فلا وصية لوارث} مع قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} [البقرة:180] ومعنى الآية فرضية الوصية للوالدين والأقربين، فقالوا: نسخت الوصية للوالدين والأقربين بالسنة، وبقوله صلى الله عليه وسلم: {لا وصية لوارث} وقال آخرون: إنما نسخت الوصية للورثة بآيات المواريث. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 18 السنة تفرع على أصل ثابت في القرآن ومن بيان السنة للقرآن: أن السنة قد تفرع على أصلٍ ثابتٍ في القرآن الكريم، فمثلاً يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5] فدلت الآية على رفع الجناح - وهو الإثم والحرج- عن الإنسان فيما أخطأ به. فجاءت السنة بأشياء كثيرة بينها النبي صلى الله عليه وسلم، تدخل تحت هذه الآية، ومن ذلك: ما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله تعالى وسقاه} فكونه جعل الناسي إذا أكل أو شرب وهو صائم معذوراً يتم صومه، قد يكون مفهوماً فهمه النبي صلى الله عليه وسلم من الآية السابقة، وهذا البيان الذي ربما أكون أستطرد فيه بعض الاستطرات -بيان السنة للقرآن الكريم- كما يقولون: يضع النقاط على الحروف، بحيث لا يستطيع أحد أن يتلاعب بالقرآن الكريم إذا وجدت السنة، ولذلك كان السلف يعتمدون في جدال أهل البدع على السنة. روى اللالكائي والدارمي عن عمر رضي الله عنه، أنه قال: [[سيأتي أناسٌ يجادلونكم بمتشابهات القرآن فجادلوهم بالسنن؛ فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله]] فبين أن أهل البدعة سوف يجادلون بمتشابهات القرآن، وسبحان الله! هذا هو الذي وقع، فإن أهل البدع يتكئون كثيراً على عمومات موجودة في القرآن الكريم، جاء في السنة ما يبينها، أو يقيد مطلقها، أو يخصص عامها، أو ما أشبه ذلك. ومثل ذلك: ما رواه ابن سعد في طبقاته من طريق عكرمة عن ابن عباس: [[أن علياً رضي الله عنه أرسل ابن عباس إلى الخوارج ليجادلهم، وقال له: لا تجادلهم بالقرآن؛ فإن القرآن حمَّال وجوه، ولكن جادلهم بالسنة، قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين! أنا أعلم بالقرآن منهم، إن القرآن نزل في بيوتنا. قال علي رضي الله عنه: نعم، ولكن القرآن ذو وجوه فتقول ويقولون -أي تفسر القرآن بوجه ويفسرونه بوجه آخر- القرآن تقول ويقولون، ولكن حاجهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا عنها محيصاً]] وفعلاً ذهب إليهم ابن عباس فحاجهم بالسنة، فرجع كثيرٌ منهم عن بدعتهم. وكذلك روى سعيد بن منصور، والبيهقي في المدخل، عن إبراهيم التيمي: أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى ابن عباس يسأله يقول له: كيف تختلف هذه الأمة وربها واحد وكتابها واحد ونبيها واحد؟ يتعجب عمر رضي الله عنه من احتمال اختلاف الأمة مع أن ربها واحد وقرآنها ونبيها واحد. فقال ابن عباس رضي الله عنه: [[يا أمير المؤمنين! إن القرآن نزل علينا فعلمنا فيم نزل، وسيأتي أقوام لا يعلمون فيم نزل القرآن، فيختلفون في تفسيره، فإذا اختلفوا تنازعوا، فإذا تنازعوا اقتتلوا]] . وهذا هو الواقع اليوم! انظر كم من الناس مَنْ يفسرون القرآن الكريم، أعداد هائلة من الناس يفسرون القرآن! بل إنني ألحظ أن كثيراً من أهل البدع لهم تفاسير للقرآن الكريم، ويتكئون على القرآن الكريم، ويرفضون السنة؛ لأن القرآن أتى بأصول وقواعد وكليات عامة، يحاولون أن يفهموا منها ما شاءوا، وكم من إنسان صاحب بدعة حاول أن يستر بدعته بظاهرٍ فهمه من كتاب الله تعالى أو رد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم بمعنى غير صحيح ألصقه بالقرآن الكريم! وهكذا. فالوظيفة الأولى: أن السنة تأتي مقررةً لمعنى جاء في القرآن الكريم. والوظيفة الثانية أن السنة تأتي مبينةً وشارحةً للقرآن الكريم! الجزء: 118 ¦ الصفحة: 19 السنة تقيد مطلق القرآن من بيان القرآن بالسنة أن السنة تقيد مطلق القرآن، فمثلاً قول الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] بينت السنة المقصود بالسارق، وهو من يسرق ربع دينار فصاعداً كما في حديث عائشة في الصحيحين. وكذلك بينت أن اليد في قوله: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] إنما تقطع من مفصل الكف، كما ثبت ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه رضي الله عنهم، وإلا لما كنا نعلم المقصود باليد. ومثله قوله تعالى في التيمم: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] لا ندري ما المقصود باليد؟ هل اليد إلى مفصل الكف، أم اليد إلى المرفق، أم هي اليد إلى الكتف؟ لا ندري، القرآن قال: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء:43] لكن جاءت السنة لتبين أنه يمسح بالكف أي إلى الرسغ، كما في حديث عمار المتفق عليه: {أنه صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر كفيه ووجهه} واليتيم ضربة للوجه والكفين. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 20 تخصيص السنة للقرآن ومن بيان السنة للقرآن: أن السنة تأتي بتخصيص ما جاء عاماً في القرآن الكريم، فقد يأتي في القرآن لفظ عام فتأتي السنة فتخصصه، وذلك كما في قوله تعالى بعدما ذكر المحرمات من النساء قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] ولكن جاء في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تنكح المرأة على عمتها، ولا تنكح المرأة على خالتها} فلا يجوز للإنسان أن يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها، هذا الحكم ليس موجوداً في القرآن، ولكنه موجود في السنة، فهو تخصيص لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء:24] . كذلك قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] فهذه الآية عامة تدل على وجوب الإنفاق من جميع الطيبات، لكن بينت السنة أنه ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة كما في حديث أبي سعيد في الصحيحين: {ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة} إذاً فمعنى الآية: أنفقوا من طيبات ما كسبتم، مما كان خمسة أوسق فصاعداً، أما ما كان دون خمسة أوسق فلا زكاة ولا صدقة فيه. ومثله آيات المواريث، خصصها قوله صلى الله عليه وسلم: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركنا صدقة} فالمواريث لا تجري على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، بل ما تركوه وراءهم فإنه لا يرثه أقاربهم بل هو صدقة. ومثله: قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] فقد بينت السنة أن من الميتات ما هو مباح، وهي ميتة الحوت والجراد، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عند أصحاب السنن والبيهقي وسنده صحيح موقوفاً قال: {أحل لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت} . وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} [المائدة:3] هذا دليل على تحريم جميع الدماء، لكن الحديث السابق نفسه دل على أن من الدماء دماء مباحة حلال، وهي الكبد والطحال. قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] دلت السنة النبوية على تحريم كل ذي نابٍ من السباع، كما في الحديث في الصحيحين: {كل ذي ناب من السباع فأكله حرام} . ومثله قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] هذه الآية دليل على إباحة جميع الزينة، فظاهر الآية يدل على إباحة جميع الزينة، لكن دلت السنة على أن هناك زينة محرمة، وهي الحرير والذهب للرجال، كما في قوله صلى الله عليه وسلم وقد خرج وبيده قطعة من الذهب وقطعة من الحرير، فقال: {هذان حرام على ذكور أمتي حلٌ لإناثها} . والأمثلة كثيرة، لكن من خلال سرد هذه الأمثلة؛ يتبين لكم أن القرآن لا يمكن أن يستغنى به عن السنة بحال من الأحوال، وأن الاستغناء بالقرآن عن السنة ضلالٌ أي ضلال. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 21 بيان تفصيلات أركان الإسلام فمن البيان أن الله-تبارك وتعالى - أمرنا في القرآن بالصلاة والزكاة: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وأمرنا بالحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97] . وأمرنا بالصوم: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] لكن هل نجد في القرآن الكريم صفة الصلاة، أو مقادير الزكاة، أو صفة الحج، أو صفة الصوم؟ كلا! لا نجد ذلك، لكننا نجد في السنة تفصيلاً للصلاة حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم أمام أصحابه صلاةً تامةً، وقال لهم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} . وتفصيل حج النبي عليه الصلاة والسلام ومعه عشرات الألوف من أصحابه، ينتقلون معه من مكة إلى منى إلى عرفة إلى مزدلفة إلى الجمرات، إلى الطواف إلى السعي وهو يقول لهم: {خذوا عني مناسككم} فنقلوا تفاصيل أفعاله صلى الله عليه وسلم، وهكذا نقلوا مقادير الزكاة، وأحكام الصيام. ولذلك لعل من الطريف أن أذكر القصة التي رواها البيهقي عن شبيب بن أبي فضالة: [[أنه كان جالساً عند عمران بن حصين رضي الله عنه، فذكر عمران رضي الله عنه الشفاعة في يوم القيامة، فقال رجل من الحضور: يا أبا نجيد! -وهذه كنية عمران - إنكم تحدثوننا بأحاديث لا نجد لها أصلاً في كتاب الله تعالى -هذا رجل كأنه يحتج بالقرآن ويرفض السنة، فيرفض الشفاعة مثلاً لأنه ليس لها نص في القرآن الكريم، أو بعض أنواع الشفاعة- فغضب عمران بن حصين رضي الله عنه، وقال له: هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل تجد في القرآن أن صلاة العشاء أربع، وأن صلاة المغرب ثلاث، وأن صلاة الغداة -أي: الفجر- ركعتين، وأن صلاة الظهر أربع، وأن صلاة العصر أربع؟ قال: لا أجد في القرآن. قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم أخذتموه عنا، ونحن أخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فهل تجد في القرآن أن في كل أربعين شاةٍ شاة، وفي كذا من الإبل كذا، وفي كذا من الدراهم كذا؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم أخذتموه عنا، ونحن أخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: فهل تجد في القرآن، والله تعالى يقول: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] فهل تجد في القرآن الطواف بالبيت سبعاً، وصلاة ركعتين خلف المقام؟ قال: لا، قال: فعمن أخذتم هذا؟ ألستم أخذتموه عنا، ونحن أخذناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فهل تجد في القرآن "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شغار في الإسلام"؟ قال: لا، ثم قال عمران رضي الله عنه: فنحن أخذنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشياء لا علم لكم بها. جاء في رواية أن هذا الرجل قال لـ عمران: أحييتني أحياك الله -أي أزلت الشبهة عن قلبي بهذا الجدال بالتي هي أحسن- قال الحسن البصري: فوالله ما مات ذلك الرجل حتى صار من فقهاء المسلمين]] . الجزء: 118 ¦ الصفحة: 22 تفسير وبيان الظلم خذ أمثلة تفصيلية لبعض البيان الذي جاء في السنة لكلام الله تعالى، بعد ما ذكرت أمثلة من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيره. يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فقد وعد الله المؤمنين الذين لم يخلطوا إيمانهم بشيء من الظلم؛ أن لهم الأمن يوم القيامة وهم مهتدون في الدنيا، ولو أردنا أن نأخذ الآية بمقتضى اللغة العربية البحتة فقط، لقلنا: يدخل في ذلك كل ظلم، ظلم الإنسان لنفسه، وظلم الإنسان لغيره، فمن ظلم ولو قضيباً من أراك فليس من أهل هذه الآية، لكن جاء الحديث النبوي مبيناً لمعنى هذه الآية كما في الصحيحين: {أن الصحابة لما سمعوا هذه الآية شق ذلك عليهم، وقالوا: يا رسول الله أينا لم يظلم نفسه؟ قال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس كذلك، إنه الشرك، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح: إن الشرك لظلم عظيم؟!} فبين صلى الله عليه وسلم أن قوله تعالى: {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} [الأنعام:82] معناه: لم يخلطوا إيمانهم بشرك. مثال آخر- وإن كان قد سبق- وهو قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101] فقد بينت السنة أن شرط الخوف غير معتبر للقصر. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 23 وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم أخيراً أشير إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد الله تبارك وتعالى مهمته، فلننظر ولنقف مع هذه الآية لئلا يوجد عندنا أدنى التباس، يقول الله عز وجل في سورة آل عمران: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] هذه واحدة {وَيُزَكِّيهِمْ} [الجمعة:2] هذه الثانية {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة:2] هذه الثالثة {وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2] هذه الرابعة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] . الجزء: 118 ¦ الصفحة: 24 تلاوة الآيات الوظيفة الأولى للرسول عليه الصلاة والسلام: يتلو عليهم آياته، وهذا يعني أنه عليه السلام يبلغ القرآن للناس، فيقرؤه عليهم كما أنزل، ويعلمهم طريقة قراءته المشروعة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 25 التزكية الوظيفة الثانية: ويزكيهم، والتزكية تعني: أنه يطهرهم ويربيهم ويهذبهم، وذلك بتكميل المحاسن وإبعاد المساوئ، فتكميل المحاسن بتعويدهم على الأعمال الفاضلة، والخصال الفاضلة الظاهرة والباطنة، وإبعاد المساوئ يكون بنهيهم عن المنكرات والأخلاق الرديئة. ولذلك قال الله عز وجل لرسوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي: تدربهم على الفضائل، وتنقيهم من الرذائل. هذه هي الوظيفة الثانية: ويزكيهم. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 26 تعليم الكتاب الوظيفة الثالثة: ويعلمهم الكتاب، ما معنى: ويعلمهم الكتاب؟ هل معناها يعلمهم تلاوة القرآن؟ لا، لأن التلاوة جاءت في الآية الأولى {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] إذاً {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} [الجمعة:2] تعني معنى آخر غير مجرد تلاوة القرآن، فهي تعني شرح القرآن وبيان معانيه وبيان المقصود منه. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 27 تعليم الحكمة الوظيفة الرابعة: الحكمة: وهي كما ذكرنا شيءٌ آخر غير القرآن، وهذا مذهب اتفق عليه جمهور العلماء والمفسرين، ولذلك قال الله عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء:105] فالحكمة وهي السنة هي أيضاً مفسرة وشارحة وموضحة للقرآن الكريم. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة أنتقل بعد ذلك للأسئلة، وقد استعرضت الأسئلة استعراضاً سريعاً، فأعجبني فيها أن معظمها يدور حول موضوع المحاضرة، وهذا يهمني كثيراً لأنه ليس من هدفي في المحاضرة أن تكون مجرد كلمات عابرة، بل أحببت أن تكون موضوعاً علمياً يخرج منه المستمع بفائدة، ويثور عنده أسئلة أو إشكالات فيعرضها، وأقول لجميع الإخوة: أحبكم الله كما أحببتموني فيه. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 29 علاقة الإلهام بالوحي السؤال هل السنة المفسرة وحي أم إلهام للنبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب الإلهام نوع من الوحي، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب} ومثل ذلك أحاديث كثيرة، فالإلهام نوعٌ من الوحي. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 30 كيفية الوقوف على صحة الحديث السؤال كيف أرد على جاهل يقول: إنني أومن بالسنة، ولكن من يضمن لي أن كل تلك الأحاديث صحيحة صريحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ الجواب ترد عليه بردود منها: أن تقول: قد كفيت المؤنة، فعندك صحيح البخاري وصحيح مسلم، كل ما فيهما صحيح، وقد اتفقت الأمة على تلقيهما بالقبول، ولهما من الجلالة والمكانة والمهابة ما هو معروف، فعليك بالصحيحين فكل ما فيهما صحيح، ثم ما عدا الصحيحين فإنك تأخذ بأقوال أهل العلم في تصحيح الأحاديث وتضعيفها، وكل عصر له علماؤه الذين يسهلون للناس هذه الأشياء، فبإمكانك مثلاً أن تستفيد من كتب الشيخ الألباني باعتبارها كتباً مرتبةً وميسرة، وإن كان حكمه لا يلغي حكم غيره فتنتفع بذلك، أما كونك تترك الأحاديث كلها باحتمال أن يوجد من بينها ضعيف فهذا ليس بصحيح. هل هناك أحد يترك أكل الطعام لأن هناك طعام قد يكون مسموماً؟! إذاً لمات جوعاً! الجزء: 118 ¦ الصفحة: 31 حكم شاتم الرسول السؤال ما حكم من يشتم النبي صلى الله عليه وسلم؟ نعوذ بالله من ذلك! الجواب مرتد زنديق لا يستتاب، بل يجب أن يقتل حتى ولو تاب، ومن أراد المزيد من ذلك فعليه مراجعة الكتاب القيم" الصارم المسلول على شاتم الرسول" للإمام ابن تيمية. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 32 حكم من يكذب الأحاديث السؤال ما حكم من يكذب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب إن كان يكذب الأحاديث بناءً على دراسة، يكذب أحاديث معلومة لأن هذا الحديث فيه فلان وهو كذاب، وفيه فلان وهو وضاع فهذا لا بأس، أما إن كان يكذب الأحاديث بمجرد رغبته وشهوته، فهذا من أهل البدع المفتونين عن دينهم نسأل الله لنا ولهم الهداية. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 33 صحة حديث يبين دعوى الاقتصار على القرآن السؤال يقول: ما صحة هذا الحديث: قال عليه الصلاة والسلام: {يوشك رجلٌ شبعان جالس على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن! فما وجدتم فيه حلالاً فأحلوه، وما وجدتم فيه حراماً فحرموه} ؟ الجواب هذا حديث صحيح، جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق أبي رافع، في سنن أبي داود والبيهقي، وسنده صحيح، وجاء عن غيره من الصحابة، وهو علم من أعلام نبوته عليه الصلاة والسلام، ونحوه جاء عن المقدام بن معد يكرب عند أصحاب السنن والبيهقي وأحمد. خاتمة: جزاكم الله خيراً على صبركم على هذه المحاضرة، التي قد يكون فيها شيء من الجفاف بحكم أن موضوعها -كما ذكرت لكم في البداية- موضوع علمي، وأسأل الله جل وعلا أن يكتب مجلسنا هذا في ميزان حسناتنا، إنه على كل شيء قدير، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا رب العالمين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 34 التمذهب السؤال هل يجب على كل إنسان أن يسلك في حياته على مذهب من المذاهب الأربعة؟ الجواب ليس بواجب، بل على الإنسان إن كان قادراً على الأخذ بالدليل أن يأخذ به، وإلا اتبع من يثق بعلمه كما سبق، من الأحياء أو من الأموات، وله أن يترك المذهب الذي يتمذهب به في أي مسألة إذا عرف أن الحق في خلافها، فحتى لو كنت عامياً وأنت مقلد -مثلاً- للشافعي، ثم سمعت أحد العلماء يقرر مسألة على خلاف مذهب الشافعي، واقتنعت بتقريره، فإنه يجب عليك أن تأخذ بقول هذا العالم، وتترك مذهبك في هذه المسألة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 35 التحذير من سب العلماء السؤال ما هو رأيك في الإنسان الذي يلعن بعض العلماء؟ الجواب لا شك أن لعن الإنسان العادي؛ بل لعن الفاسق المعين لا يجوز، فلا يجوز أن تقول: لعن الله فلاناً لأنه يشرب الخمر، فكيف بالمسلم العادي؟! فكيف بالعالم من العلماء كالأئمة الأربعة الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم؟! لا شك أن الذي يلعنهم هو أحق باللعن، ويجب عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويجب على من يسمع منه هذا أن ينهاه ويزجره، فإن ازدجر وإلا فيرفع أمره إلى ولاة الأمر ليعزر هذا الإنسان ويؤدب. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 36 كتاب محمد الغزالي والرد عليه السؤال سائل يستفسر عن كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ويرغب في معرفة ما للشيخ من ملاحظات عليه؟ الجواب لا شك أن هذا السؤال سبقت الإجابة عليه في عدد من الدروس، وطبعت في كتاب بعنوان" حوار هادئ مع الغزالي" يمكن للسائل أن يطلع عليه. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 37 الكتب التي دافعت عن السنة السؤال أرجو ذكر بعض الكتب المعاصرة والقديمة، والتي دافعت عن السنة النبوية؟ الجواب سؤال جيد، في الواقع الكتب التي دافعت عن السنة كثيرة، أذكر منها: كتاب"السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي" للشيخ مصطفى السباعي، وأذكر منها كتاب"السنة قبل التدوين" لـ محمد عجاج الخطيب، وكتاب"دفاع عن أبي هريرة" لـ عبد المنعم صالح العلي، وكتاب" معنى السنة وبيان الحاجة إليها" للشيخ سليمان الندوي، وكتب أخرى كثيرة، وهناك كتاب "الحديث النبوي" للصباغ، و"دفاع عن الحديث النبوي" نسيت مؤلفه الآن. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 38 معنى (أنتم أعلم بأمور دنياكم) السؤال أرجو توضيح قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنتم أعلم بأمور دنياكم} ؟ الجواب هذا الحديث له قصة، كما في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى أهل المدينة مهاجراً من مكة، ومكة كما تعلمون ليس فيها نخل، فلما جاء إلى أهل المدينة، وكانت بلداً فيه نخل كثير، رأى أنهم يلقحون النخيل، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما أظن أن هذا يغني عنه شيئاً -أي ما أظن أن هذا التلقيح ينفع شيئاً أو أنه ضروري- فلما سمع بعض الأنصار كلام النبي صلى الله عليه وسلم تركوا تلقيح النخل، فخرج شيصاً، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ماله؟ قالوا: سمعناك تقول كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: إنما ظننت ظناً فإذا حدثتكم عن الله فخذوه، وإذا حدثتكم عن الدنيا فأنتم أعلم بأمور دنياكم} . وهذا من الأشياء التي تعلم -كما ذكرت - بمقتضى الخبرة والتجربة، وليس لها مدخل في التشريع، فإن المزارع أدرى من غيره في أن النخل يحتاج إلى تلقيح كما يحتاج إلى سقي، وكذلك التاجر أعرف بكيفية إدارة الصفقات التجارية من الناحية العادية البحتة، وليس من الناحية الشرعية، ولذلك الرسول عليه السلام في أول الحديث قال: {ما أظن يغني شيئاً} فبين أن هذا مجرد ظن سبق إلى ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، وليس وحياً من عند الله تبارك وتعالى. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 39 اختلاف المذاهب السؤال يقول: أريد أن أسألك سؤالاً يلازمني في أكثر أوقاتي، وهو أن بعض الأعمال المسنونة تختلف من مذهب إلى آخر، فأي واحدٍ منها آخذ بقوله في ذلك العمل المسنون؟ الجواب المذاهب تختلف في الأعمال المسنونة بل وفي الواجبات، فقد يكون العمل واجباً في مذهب ومحرماً في مذهب آخر، كمواقيت الصلوات؛ صلاة الظهر مع صلاة العصر، كذلك ما يتعلق بالحيض قد تكون المرأة حائضاً عند مذهب وطاهراً عند مذهب آخر، فمن يقول حائض يحرم عليها الصلاة، ومن يقول طاهر يوجب عليها الصلاة وهكذا، لكن على الإنسان أن يجتهد في معرفة الحق، فإن كان طالب علم بحث في المسألة، وما ترجح عليه أخذ به، وإن كان عامياً مقلداً فإنه يقلد من يثق بدينه من الأحياء أو من الأموات، يقلد أحمد، أو الشافعي، أو أبا حنيفة، أو مالكاً، أو يقلد عالماً من العلماء المعاصرين كـ ابن باز، أو ابن جبرين، أو ابن عثيمين، أو غيرهم من علماء المسلمين الموثوقين، وهو مأجور إن شاء الله فيما أخذ به في ذلك. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 40 تقصير الثوب إلى نصف الساق السؤال ماذا تقول في رجل يعد قدوةً للشباب، ويقول: إن الذي يقصر ثوبه إلى منتصف الساقين يكون لباسه لباس شهرة؟ الجواب في الواقع أن ما يتعلق بتقصير الثوب إلى منتصف الساقين أمر ورد به أحاديث في السنة، وورد من فعل بعض الصحابة، ومن فعله لا يمكن أن يلام على هذا الأمر أو يَثَّربَ عليه؛ لأن من فعل سنة واردة فليس لنا حق أن نلومه، لكن إن كان يسأل عما نعتقد أنه أحسن في هذه الظروف فقط، فهو ألا يقصر الإنسان ثوبه تقصيراً يلفت إليه النظر، بل عليه أن يكون ثوبه فوق الكعبين، ولا يكون مرتفعاً ارتفاعاً يلفت إليه النظر، ويكون مدعاةً إلى أن يقع الناس في عرضه، ويرفضوا ما لديه من الخير والدعوة؛ لأنه داعية يريد أن يدعو الناس إلى صلاة الجماعة، وتربية الأولاد، ترك الربا وترك الحرام وإلى تجنب آلات الملاهي، له أغراض كثيرة مع الناس، فإذا تمسك بهذه السنة حرم الناس من خير كثير، نقول: ترك الأولى تحصيلاً لأمور ومصالح عظيمة قد يكون هو الأفضل، وهذا أمر يدرك بالعقل والحساب، خاصةً أننا نجد في السنن أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة وصحيحة، تدل على أن تقصير الثوب إلى ما فوق منتصف الساقين لم يكن أمراً مطرداً موجوداً بين الصحابة في جميع الظروف. أرأيت ما في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كسفت الشمس، خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة} لو كان إزار النبي صلى الله عليه وسلم فوق منتصف الساق؛ لما كان يعقل أن ينزل إلى حد أن يجره من العجلة، كذلك حديث أبي بكر في البخاري {لما قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي -أي ينزل دون الكعب- إلا أن أتعاهده، فقال: لست ممن يصنعه خيلاء} لا يعقل أن يكون إزار أبي بكر فوق منتصف الساق، ثم ينزل بالاسترخاء إلى أن يكون دون الكعبين. لكن هذه الأشياء لا تمنع من القول بأن رفع الإزار إلى ما فوق منتصف الساق سنة، لا تمنع من أن نقرر أن هذا سنة حسب ما يظهر لي الآن، ولا مانع أن يترك الإنسان الأولى إلى أمر مباح وجائز بلا خلاف، وهو أن يرسل ثوبه فوق الكعبين لتحصيل مصالح كبيرة لا تخفى على إنسان يعيش في هذا العصر. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 41 الفرق بين الحكمة والضعف السؤال يقول: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين، فمنها قصته مع الأعرابي عندما بال في المسجد، وكذلك مع الذي لبس خاتم الذهب فهل الأولى بالحكمة، والثانية بغير الحكمة حيث التبس معنى الحكمةبالضعف؟ الجواب ملحظ جيد، فليست الحكمة في الدعوة تعني دائماً الضعف، بل الحكمة هي وضع الأمر في موضعه، ولذلك يقول الشاعر: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى فوضع الضعف في موضع القوة ليس من الحكمة، ووضع القوة في موضع الضعف ليس من الحكمة، هناك شخص لا يصلح له إلا القوة، والحكمة أن تأخذه بالشدة، وهناك شخص لا يصلح له إلا اللين، والحكمة أن تأخذه باللين، وهناك وقت لا يصلح له إلا اللين، وهناك وقت آخر لا يصلح له إلا الشدة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 42 صحة إسلام الشيعة السؤال هل الشيعة مسلمون أم كفار، آمل الإيضاح أثابكم الله؟ الجواب الشيعة باعتبارهم طائفة، والمقصود بالشيعة الإثني عشرية الجعفرية؛ حكم جماعة من العلماء بأنهم ليسوا مسلمين، وهذا مذهب الأئمة الأربعة؛ بل نقل الإجماع عليه عدد من العلماء كـ السمعاني في الأنساب والملا علي القاري وغيرهم، نقلوا الإجماع على أن الشيعة غير مسلمين، لكن هذا لا يعني تكفير أعيانهم وأفرادهم، فقد يكون الواحد منهم شيعياً، لكن لا يدري ما عقيدة الشيعة، ولا يؤمن بالخرافات والأباطيل الموجودة في كتبهم. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 43 معنى التشريع السؤال هل المسلم ليس ملزماً من السنة إلا بالتشريع فقط؟ الجواب التشريع يشمل الواجب والمستحب، وفعل الواجب وفعل المستحب، ويشمل ترك المحرم وترك المكروه، وهذا ما جاءت به السنة، أما المباح فإن الإنسان ليس ملزماً به، وكذلك ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة والجبلة أو ما أشبه ذلك، فليس موضع قدوة واتباع. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 44 بداية النقد في الفكر المعاصر السؤال ذكرت في مقدمة حوارك مع الغزالي أن ذلك بدايةً لنقدٍ في الفكر المعاصر، فهل هناك نية لنقد فكرٍ معين في هذا الوقت لتوضيح بعض الشبهات الذي يطرحها هؤلاء الكتاب؟ الجواب قد يكون في النية شيءٌ من ذلك، لكن متى؟ قل عسى أن يكون قريباً. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 45 تعدد الزوجات السؤال كيف نرد على من يقول: إن تعدد الزوجات خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأن زواجه لحكمه؟ الجواب أما كونه زواجه صلى الله عليه وسلم لحكمه، فلا شك أنه لحكمة، أما أن تعدد الزوجات خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا ينقضه القرآن يقول الله عز وجل: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] فبين أنه يجوز للإنسان أن يتزوج بواحدة واثنتين وثلاث وأربع، أي أن أقصى حد أربع (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] . الجزء: 118 ¦ الصفحة: 46 الإعجاز العددي في القرآن السؤال ذكرتم أن بيان الإعجاز العددي للقرآن الكريم أمرٌ غير مرغوب -على حد فهمي- وكثير من العلماء أضاف الإعجاز العددي إلى الإعجازات الأخرى للقرآن، وألف في ذلك كثير من العلماء الثقاة وبأجهزة متطورة كجهاز الكمبيوتر، فكيف يكون البحث في هذا الأمر لا يجوز في نظر الشرع؟ وأرجو أن يكون هذا عن دراية كافية وإجماع من علماء الإسلام، فأرجو إيضاح ذلك حتى نكون عن بينة في الأمر؟ الجواب في الواقع أنا لم يكن حديثي عن مسألة الإعجاز العددي في القرآن بذاتها، كان حديثي عن استغلال رشاد خليفة للإعجاز، أو لجوانب من الإعجاز العددي؛ ليدعم به دعواه الكاذبة في أنه نبي يوحى إليه، نعم يوحى إليه من قبل الشيطان، كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] . الجزء: 118 ¦ الصفحة: 47 حديث غمس الذباب السؤال هل توصل العلم إلى أن أحد جناحي الذباب فيه داء، وفي الآخر دواء؟ الجواب هناك دراسات كثيرة في عدد من البلاد الغربية، وفي هذه البلاد في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وقد توصلوا إلى أن في أحد جناحي الذباب داء، وفي الجناح الآخر دواء يقاوم الداء الموجود في الجناح الآخر. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 48 تسمية الرسول بأحمد السؤال يقول: لماذا سمي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب المسيحية باسم أحمد، وسمي في القرآن والسنة باسم محمد؟ الجواب أحمد ومحمد كلاهما اسمان للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهما مشتقان من الحمد، فهو في القرآن والسنة أحمد ومحمد، وهذان من أسمائه، وله صلى الله عليه وسلم أسماء أخرى غير هذه. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 49 تقصير الثوب السؤال كيف نرد على من قال: إن بعض السنن التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بها، إنما كانت موافقةً لعصره عليه الصلاة والسلام، ولا يصلح تطبيقها في هذا العصر المختلف، عنه مثل تقصير الثوب، وهو يقول: إنهم ليس لديهم المال ليشتروا ثوباً يجر خلفهم، واكتفوا بطول نصف الساق؟! الجواب لو كان هذا مجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم، كان يمكن أن يقول مُشَبِّهٌ ومُلَبِّسٌ على الناس مثل هذا، لكن الرسول عليه السلام لم يكتف بمجرد الفعل حتى شفعه بالقول، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} وقال في الحديث الآخر: {من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه} وفي الحديث الثالث قال: {حد الإزار هكذا، فإن أبيت فهكذا، فإن أبيت فهكذا، ولاحظَّ للكعبين في الإزار} إلى أحاديث كثيرة جداً قولية من قول النبي صلى الله عليه وسلم، تدل على تحريم إسبال الإزار: {وإياك وإسبال الإزار فإنه من المخيلة} . الجزء: 118 ¦ الصفحة: 50 آداب في المأكل والملبس والمشي السؤال يقول: هل هذه الأشياء من الأمور التي لا تعد شرعاً: الأكل بثلاثة أصابع، التيامن في كل شيء، استعمال الطيب، ارتداء البياض من الملابس، الإسراع في المشي، أرجو توضيح ذلك؟ الجواب أما بالنسبة للأكل بثلاثة أصابع، وإن كان هذا -لا شك- يختلف بحسب نوع الطعام الذي يأكله الإنسان، لكن هذا من الآداب المتعلقة بالأكل، والتي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إليها أمته؛ لما في ذلك من البعد عن الجشع والنهم في أكل الطعام. وكذلك التيامن كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن، وقد أمر بذلك في قوله: {إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم، وإذا لبستم} وهو عند ابن حبان وسنده صحيح، فأمر بالبدء باليمين في اللباس، وكان يعجبه صلى الله عليه وسلم، وله في ذلك أحاديث كثيرة، فالبدء باليمين سنة مستحبة. واستعمال الطيب كذلك هو من هديه صلى الله عليه وسلم؛ لما في ذلك من الرائحة الطيبة والتجمل للناس، وهو أمر محمود ومشروع في هديه عليه السلام قولاً وفعلاً. ارتداء البياض كذلك ورد في سنة قولية من قوله صلى الله عليه وسلم: {البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم} وقد ورد هذا الحديث من طرق. وكذلك الإسراع في المشي، فإنه يدل على القوة والبعد عن التماوت والذل، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أصحابه يفعلونه من بعده، فهو سنة مستحبة مأثورة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 51 حكم من يرد السنة كلها أو بعضها السؤال ما حكم من رفض شيئاً من السنة النبوية وأخذ شيئاً آخر، وحجته أن بعض السنة لم يسلم من التحريف بعد الرسول عليه السلام والخلفاء الراشدين، ويقول مثلاً: هل صحيح مسلم سليم من الزيادة والنقصان؟ وغيره من كتب السنة، ما هو الرد على هذا؟ وجزاكم الله خيرا!! الجواب أولاً: أخطر شيء أن يرفض الإنسان السنة بأكملها، فهذا الذي يعتبر مرتداً خارجاً عن الإسلام، واحد يقول: أنا لا أقبل السنة، يكفيني القرآن هذا مرتد، لكن واحد يقبل السنة، وإنما هناك أشياء لضعف إيمانه، وقلة علمه، وقلة فقهه، يمكن أن يتوقف فيها أو يردها، فهذا لا نقول: إنه يكفر بهذا الأمر، كما سأل الأخ عن حكمه لكن لا شك أنه ناقص الإيمان، وقد يكون عاصياً بحسب ما وقع فيه. وأما أن السنة لم تسلم من التحريف، فصحيح أن هناك من وضع على النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، ولعلني أفرد محاضرة خاصة بالوضع في السنة النبوية، ولكن هذه الأحاديث التي وضعها الوضاعون يعيش لها الجهابذة، فما من حديث وضع إلا وتكلم العلماء فيه، وبينوا أنه موضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان العلماء يسافرون الأيام الطوال إلى مصر والشام والحجاز والعراق وخراسان ومرو وغيرها، بحثاً عن حديث واحد، أو للقاء راوٍ واحدٍ والتأكد من روايه، والأخذ عنه مباشرة. الجزء: 118 ¦ الصفحة: 52 الخلاف بين العلماء أسبابه وموقفنا منه يغفل كثير من الناس أن مسائل الاتفاق في الفقه الإسلامي أكثر من مسائل الاختلاف، وسبب ذلك أن الأمر المألوف لا يلفت النظر بخلاف غيره، وللخلاف العلمي الشرعي بين العلماء أسباب عدة معظمها أسباب طبيعية لا تستلزم إنكاراً أو انتقاصاً من حق العالم، فالحذر الحذر من اتخاذ الخلاف بين العلماء وتعدد الأقوال ذريعة لأن يأخذ الإنسان منها ما يوافق هواه أو يدعي دعوى الاجتهاد والتجديد ويأتي بأقوال جديدة مستحدثة، فطالب العلم حقه الترجيح، والعامي حقه السؤال والتقليد. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 1 مسائل الاجتماع بين المسلمين أكثر من مسائل الخلاف إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أما بعد: فإن مثل هذا اللقاء الطيب، من المجالس التي نعتقد ونظن -إن شاء الله تعالى- أنها تغشاها الرحمة وتنزل عليها السكينة، وتحفها الملائكة، ويذكرها الله تعالى فيمن عنده. إنها واحات إيمانية، ورياض علمية في وسط هذه الصحراء الملتهبة؛ إنها صحراء وإن كانت أرضها خضراء، إلا أنها هجير؛ وذلك بسبب فقدان الروح الإيمانية والخلق والسلوك الإيماني عند أهلها ولذلك فإنني أقول: إن مثل هذه المجالس هي واحات خضراء مورقة في وسط هذا الهجير القاتم، فكم هي نعمة الله تعالى علينا وعليكم عظيمة؛ أن يأخذ بأيدينا جميعاً إلى هذه المجالس الطيبة، التي إن احتسب الإنسان سعيه ومجيئه وجلوسه فيها؛ فهو يتقلب في الأجر والثواب وكأنه في روضة من رياض الجنة. إنني أعبر لكم عن شعوري وشعور إخواني وزملائي، بالود والمحبة الخالصة الشخصية لكم جميعاً؛ فإن هذا الحب هو الذي ربط الله تعالى به بين قلوبنا؛ فأصبح الواحد منا يهش للقاء أخيه ويفرح، وإن كان لا يعرف اسمه ولا يذكر أنه التقى به من قبل، لكن تكفي علامات الإيمان وشعارات الإسلام؛ لتحريك القلوب وإحياء المودة، فجزى الله القائمين على هذا المؤتمر خيراً على صنيعهم ومسعاهم. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 2 أنواع الخلاف بين أهل السنة ولعلني أعمل تحويراً بسيطاً في عنوان هذه المحاضرة وموضوعها، فقد رأيت أن من المصلحة أن أتحدث عن الخلاف بشكل عام، وليس فقط عن الخلاف بين العلماء كما هو المقرر والمطلوب أصلاً، سواء في ذلك الخلاف العلمي أو الخلاف العملي. فالخلاف العلمي أقصد به: الخلاف في قضية علمية في مسائل الفقه مثلاً أو الأصول أو غيرها. وأما الخلاف العملي: فهو التنازع بين المسلمين في واقع حياتهم، في مسعاهم وطريقهم في الدعوة إلى الله جل وعلا. ولست أعني -أيضاً- الخلاف الجوهري، فإننا يجب أن نقول بوضوح: إن هناك طوائف وفئات وإن كانت تنسب إلى هذا الدين وتدعي أنها تمت إليه بسبب، إلا أن الخلاف بيننا وبينهم عبارة عن هوة واسعة، لا يمكن أن تعبر ولا أن يقام عليها معبر، إلا أن يعودوا إلى الحق الذي فارقوه وخالفوه، فنحن نقول لهم: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] نقول لهم هذا وإن انتسبوا بطريقة أو بأخرى إلى الإسلام؛ فإن مجرد النسبة لا تكفي، وكما قيل: "والدعاوي إن لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء". لكنني أتحدث عن الخلاف داخل إطار أهل السنة والجماعة، أهل السنة الذين اتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الظاهر والباطن، في معتقداتهم وأقوالهم وأفعالهم، علماً وعملاً وعبادةً وسلوكاً. فداخل هذا الإطار العام الذي يشمل أهل السنة والجماعة يأتي مثل هذا الكلام. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 3 الخلاف العلمي وأبدأ بالجانب الأول من الخلاف، وهو الخلاف العلمي: أي الخلاف في بعض القضايا العلمية، كالاختلاف -مثلاً- في قضية فقهية أو أصولية، أو في تفسير آية أو حديث أو ما أشبه ذلك. وهذا الخلاف -أولاً- لابد من تحديد حجمه أي إلى حد يوجد هذا الخلاف بين العلماء في القضايا الشرعية؟ الناس في هذا بين مُفْرِط ومُفَرِّط، من الناس من يفتر فمه عن ابتسامة صفراء إذا جاء ذكر الأقوال؛ ويقول: كل شيء فيه خلاف. وهذا لا شك أنه كلام يدل على أن فيه تسرعاً وعدم دقة؛ لأننا نعلم أن هناك ألوفاً، بل ربما عشرات الألوف من المسائل ليس فيها خلاف، إنما لأنه ليس فيها خلاف لا تثار. فمثلاً: كون صلاة المغرب ثلاثاً، وصلاة العشاء أربعاً، وصلاة الفجر ركعتين هذه الأمور صارت طبيعية؛ لأنه لا خلاف فيها. كون صلاة المغرب -مثلاً- لا تقصر في السفر وكذلك صلاة الفجر؛ بل تصلى تامة، هذا ليس فيه خلاف؛ ولذلك يكون طبيعياً ولا يلتفت إليه إنسان. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 4 ليس كل مسألة فيها خلاف فقضايا الإجماع كثيرة جداً، حتى صنف فيها العلماء، ولعلكم تعرفون كتاب الإجماع لـ ابن المنذر وغيره من كتبه الأخرى، التي كان يحكي فيها إجماع العلماء. ومثله كلام الحافظ ابن عبد البر والنووي وغيرهم من أهل العلم الذين يذكرون إجماع العلماء في مسائل معلومة. إذاً ليس صحيحاً أن كل مسألة فيها خلاف، بل هناك مسائل كثيرة جداً فيها اتفاق وإجماع، إنما لا تلفت النظر. وأضرب لذلك مثلاً واقعياً مادياً: الآن تجد في الشارع عشرات الألوف من السيارات تمشي بانتظام، والأمر في ذلك طبيعيٌ ولا أحد يلتفت إليه، لكن حين يوجد حادث صدام بين سيارتين؛ يلفت الأنظار ويتجمهر حوله الناس، وهكذا الشأن في قضية الاتفاق، فما دام العلماء متفقين على مسألة تمضي الأمور عادية، ولا أحد يلتفت إليها، لكن حين يوجد خلاف يلتفت الناس إلى هذا الأمر، فإذا تكرر ظنوا أن كل شيء فيه خلاف. والواقع أن العلماء يوجد بينهم من الاتفاق والإجماع مثلما يوجد بينهم من الاختلاف؛ أقل أو أكثر لا أستطيع أن أحدد نسبة دقيقة، لكن المهم التأكيد على أن العلماء بينهم اتفاق في مسائل كثيرة جداً، كما يوجد بينهم خلاف في مسائل كثيرة جداً. أحياناً الخلاف قد يمتد امتداداً طويلاً، حتى أنني أذكر -على سبيل المثال- أن الحافظ ابن حجر في كتاب فتح الباري لما ذكر ليلة القدر وأي ليلة هي، ذكر أن في المسألة نحو خمسين قولاً للعلماء، رغم أن ليالي الشهر الكريم ثلاثين ليلة، لكن الأقوال خمسين قولاً، في تحديد ما هي ليلة القدر. ومثلاً {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] ما هي الصلاة الوسطى؟ الصلوات كلها خمس لكن أقوال العلماء في هذه المسألة أكثر من عشرة؛ لأن هناك من يقول الوسطى هي: الفجر، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، وهناك من يقول بعدم التحديد إلى غير ذلك. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 5 أسباب اختلاف العلماء كذلك أذكر مسألة: ساعة الإجابة في يوم الجمعة، فيها أقوال كثيرة جداً، تزيد على عشرة، ذكرها ابن القيم في زاد المعاد إلى غير ذلك من الأقوال الكثيرة. ولكن يجب أن ننتبه جيداً إلى الأسباب التي تدعو إلى هذا الاختلاف، حتى يكون الأمر طبيعياً، وأستطيع أن أحاول حصر الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف العلماء في ستة أسباب: الجزء: 119 ¦ الصفحة: 6 الهوى والتعصب السبب السادس: الهوى والتعصب، وهذا السبب لاشك أنه مدعاة للاختلاف المذموم، فلسنا نعتقد أن جميع من خالف في مسألة معه الحق، بل غالب العلماء، وقد يوجد من بين المنتسبين للعلم والفقه من يقول في مسألة على سبيل التعصب والهوى، والتعصب له شأن عظيم في تاريخ المسلمين، وكم هدم من أمم ودول ومدن، وأنشأ من فتن وصراعات وقتال ودماء إلى غير ذلك. فقد يكون التعصب والهوى أحياناً من مظاهر أو أسباب الاختلاف، بحيث أن الإنسان يتمسك بقول مع أنه يعرف أنه قول ضعيف ولا دليل عليه، لكن لمجرد أنه قال به فلان مثلاً، وأمثلة ذلك كثيرة جداً ولا أحب أن أضرب مثلاً، لأن الأمثلة في هذا الموضع بالذات لها حساسية معينة. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 7 عدم اعتماد دلالة الحديث السبب الخامس: وجود معارض راجح لهذا الدليل. أي: الدليل ثابت عندي وصحيح، لكن عندي دليلٌ آخر، وهو في نظري أقوى منه، فأترك هذا الدليل؛ لأن عندي دليلاً آخر أقوى منه فأغلبه عليه، وغيري يرى هذا الدليل هو الأقوى فيغلبه وبالتالي يقع الاختلاف. ولعل من الأمثلة -أيضاً ضمن ما ذكرنا في قضية نوا قض الوضوء- مسألة مس الفرج، هل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ فعندنا فيه حديثان متعارضان أحدهما قوله صلى الله عليه وسلم: {من مس ذكره فليتوضأ} هذا دليل على وجوب الوضوء من مس الذكر، وكذلك المرأة تتوضأ إذا مست فرجها، لحديث: {من مس فرجه فليتوضأ} . والحديث الثاني: {أن الرسول عليه السلام سئل عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء؟ قال: لا إنما هو بضعة منك} أي: قطعة منك كما لو مسست رجلك أو أنفك أو أذنك فلا وضوء في ذلك، فهذان دليلان متعارضان في الظاهر، فبعض العلماء يرجح الأول فيقول: بوجوب الوضوء من مس الذكر، وبعضهم يرجح الثاني فيقول بعدم الوضوء. وأذكر أن جماعة غير قليلة من العلماء رجحوا الدليل الأول وقالوا بوجوب الوضوء، وذلك لأنه ناقل عن الأصل، لأن الأصل عدم وجوب الوضوء فلما جاء هذا الدليل عرفنا أن هناك نسخاً، وأن حديث: {إنما هو بضعة منك} منسوخ وآخرون جمعوا بين الدليلين باستحباب الوضوء من مس الذكر وعدم وجوبه. هذه الأسباب الخمسة هي أسباب شرعية وطبيعية، لا لوم ولا تترتب على من وقع في اختلاف سببه واحد منها، ويمكن أن نعيدها باختصار وهي: أن لا يبلغ الدليل للعالم. أو يبلغه ثم ينساه. أو يبلغه لكن لا يثبت عنده. أو يبلغه لكن يرجح عليه دليل آخر أقوى منه؛ لأن دلالته ظنية وليست قطعية. وألا يعتقد دلالة الحديث على المقصود. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 8 نسيان الدليل السبب الثاني: أن الدليل قد يبلغ العالم لكن ينساه، ومن طبيعة الإنسان أنه قد ينسى أحياناً، ينسى نسياناً مطلقاً، وأحياناً نسياناً مؤقتاً، حتى القرآن قد ينسى الإنسان آية منه أحياناً. حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم عن أُبي بن كعب مرفوعاً يقول: {رحم الله أبياً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} . يعني: ينسى الرسول عليه الصلاة والسلام آية فيذكره بها أبي بن كعب، لكن هذا ليس نسياناً مطبقاً مطلقاً، بل ينسى فترة ثم يتذكر. إنما -أحياناً- يوجد نسيان كامل للنص، ولذلك علماء الحديث عندهم باب يسمونه: "من حدث ونسي"، وقد صنَّف فيه السيوطي كتاباً سماه "تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي". حتى أن بعضهم يقول: حدثني فلان أنني حدثته بكذا وكذا، فيروي عن فلان؛ لأنه حدثه ثم نسي الحديث، فصار يرويه عنه بالواسطة، يرويه عن نفسه بالواسطة، هذا كثير وله أمثلة ذكرها ابن الصلاح وغيره من العلماء. أما كون الإنسان يقول بقول أو يعمل عملاً ناسياً فدليله: القصة التي رواها الحاكم وغيره، وسندها صحيح، قصة أبي مسعود وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فقد كان حذيفة وأبو مسعود بالمدائن فصلى حذيفة إماماً بالناس، وكان يصلي على دكة -على مكان مرتفع- والناس على الأرض، فجره أبو مسعود حتى نزل إلى الأرض وصلى بالناس وهو مساوٍ لهم، فلما سلَّم قال أبو مسعود لـ حذيفة: ألم تعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ينهي عن ذلك، يعني ينهى عن ارتفاع الإمام عن المأموم لغير حاجة، فقال له حذيفة: بلى نسيت، ولكنني ذكرت حين سحبتني يعني حين جررتني، فذكر الحديث وإلا من قبل كان ناسياً لهذا الحديث، فلما ذكر الحديث انصاع له حالاً ونزل من على الدكة ولم يتمسك برأيه السابق. وأما قضية الصلاة على المكان المرتفع ذكر العلماء أنها تجوز للحاجة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم صلى في مكان مرتفع كما في القصة المتفق عليها، أنه لما بني له المنبر وصعد عليه وكبر؛ وصلى بعض الصلاة وهو على المنبر، فلما أراد السجود نزل القهقرى وسجد على الأرض، وفي الركعة الثانية صعد حتى يرى الناس صلاته، وقال: {إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلَّموا صلاتي} . فالقضية لا تعنيننا كقضية فقهية أو فرعية بل يعنينا أن من أسباب الاختلاف أحياناً أن العالم قد يبلغه الدليل لكنه ينساه، فيفتي بخلافه فإذا ذكر له تذكر ورجع إلى الدليل. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 9 عدم ثبوت الدليل السبب الثالث: هو عدم ثبوت الدليل عند العالم، يعني قد يبلغه الحديث لكن لم يثبت عنده. وأنتم تعرفون أن علماء الحديث عندهم من الاختلاف مثل غيرهم، فهم يختلفون -مثلاً- في توثيق الرواة، ففلان ضعيف عند بعضهم ومقبول عند آخرين، ويختلفون في اتصال الأسانيد وانقطاعها، ويختلفون على العموم في صحة الأحاديث وضعفها، قد يصحح عالم حديثاً ويضعفه عالم آخر، وبالتالي يقع اختلاف بينهم بسبب الاختلاف في ثبوت الدليل عندهم. وأمثلة ذلك كثيرة جداً، وأيضاً لا يمكن أن أحصرها، لكن من أقرب وأسهل الأمثلة: اختلافهم في جواز مس المصحف لغير المتوضئ، اختلفوا في ذلك فالأئمة الأربعة يقولون لا يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف، وذلك أخذاً من حديث: {لا يمس القرآن إلا طاهر} وهو حديث حسن بمجموع طرقه من حديث عمرو بن حزم، وحديث حكيم بن حزام وعبد الله بن عمر، وكذلك الآية الكريمة {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] لكن الطبري وابن حزم وجماعة من العلماء يقولون: يجوز لغير المتوضئ أن يمس المصحف؛ لأن الحديث لم يثبت عندهم، فاختلفوا في الحكم نظراً لاختلافهم في ثبوت الدليل. ولعل من هذا السبب الاختلافات المذكورة بين الصحابة رضي الله عنهم فيما يتعلق باستدراك عائشة عليهم، فقد استدركت عائشة على جماعة من الصحابة استدراكات كثيرة على عمر وعلى ابن عمر وعلى أبي هريرة وعلى ابن عباس، حتى أن الزركشي جمع استدراكات عائشة على الصحابة في كتاب سماه "الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة". فـ عائشة رضي الله عنها يبلغها الدليل وتعلم به، لكنه لا يصح عندها وتعتقد أنه حصل وهم من الراوي، وأحياناً يكون الصواب معها وأحياناً يكون الصواب مع غيرها. فمثلاً: لما سمعت عائشة رضي الله عنها أن ابن عمر يقول -كما في الصحيحين- أن الرسول عليه الصلاة والسلام: {اعتمر أربع عمرات إحداهن في رجب} تبسمت عائشة وقالت: غفر الله لـ أبي عبد الرحمن -تعني ابن عمر - والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا وهو شاهده -تعني حاضر معه- وما اعتمر في رجب قط، فنسبت إليه الوهم أنه غلط، وفعلاً الصواب معها رضي الله عنها في هذه المسألة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رجب قط، ولذلك وافقها غيرها من الصحابة. وأحياناً يكون الصواب مع غيرها، كما استدركت في قطع المرأة للصلاة وقالت: [[كان يصلي رسول الله وأنا معترضة بين يديه، اعتراض الجنازة على السرير، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطها]] وكان الصواب مع غيرها في هذه المسألة، وكما اعترضت على عمر في مسألة وعلى غير عمر أيضاً في مسألة أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه ومسائل كثيرة، فهذا لأن الدليل بلغها لكن لم يثبت عندها رأت أن الراوي وهم في هذا الدليل. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 10 الاختلاف في فهم النص السبب الرابع: هو عدم دلالة الحديث أو النص على المقصود، وأنتم خبيرون بأن دلالة النصوص تنقسم إلى قسمين: هناك نص يسمى قطعي الدلالة، والنص قطعي الدلالة لا يحتمل إلا معنى واحداً فمثلاً قول الله تعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ} [النساء:12] . هذه الآية لا يمكن أن يختلف اثنان في فهمها؛ لأن كلمة النصف معروفة عند الجميع، ولذلك يتفق العلماء على دلالة الآية ومعناها، وهذا يسمى قطعي الدلالة، والمخالف فيه يعتبر مرتداً عن الإسلام إذا خالف فيه. لكن هناك نوعاً آخر من النصوص دلالته ظنية ليست قطعية، ومن أبرز الأمثلة قول الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] أي: المرأة المطلقة تنتظر العدة ثلاثة قروء، ما هو القرء؟ بعض العلماء قال: القروء: هي الأطهار، أي ثلاثة أطهار، وبعضهم قال: لا، القروء هي الحيض، فتتربص ثلاث حيض، واللغة العربية تحتمل هذا وهذا؛ لأن الكثير من العلماء قالوا: إن القروء من أسماء الأضداد تطلق على الطهر وعلى الحيض، فالمهم أن القرء هذا دلالته على أحد المعنيين دلالة ظنية، وليست قطيعة، أي: مختلف فيها. فقد يبلغ العالم الدليل ويثبت عنده ولا ينساه، ولكنه لا يعتقد أنه يدل على الأمر المقصود فيخالف في ذلك، ولعل من الأمثلة الفرعية أيضاً: اختلاف العلماء في لحم الجزور، هل ينقض الوضوء أم لا ينقض الوضوء؟ هذا ورد فيه حديث: {أنتوضأ من لحوم الإبل، قال: نعم} وقبله {أنتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت} . فدلالة الحديث على وجوب الوضوء من لحوم الإبل ليست قطيعة بل ظنية؛ لأن احتمال أن يكون قوله: نعم توضئوا، على سبيل الاستحباب، كما في قوله فيما بعد: {أنصلي في معاطن الإبل؟ قال: لا، أنصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم} فالصلاة في مرابض الغنم ليست واجبة، وإنما هي جائزة. فبعضهم قال: إن الحديث يدل على الاستحباب فقط، بعضهم حمل الحديث على أن المقصود الوضوء مما مست النار، وقالوا: إنه منسوخ وبالتالي ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبو حنيفة إلى أنه لا يجب الوضوء من لحوم الإبل، وذهب الإمام أحمد وإسحاق وجماعة من العلماء إلى وجوب الوضوء من لحوم الإبل لصحة الحديث وثبوته عندهم، المهم هذا من أسباب اختلافهم. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 11 عدم بلوغ الدليل السبب الأول: هو عدم وصول الدليل إلى بعض العلماء. فنحن نعلم أن السنة النبوية -التي هي الشارحة والمفصلة لما أبهم وأجمل في القرآن الكريم- قد لا تصل إلى كل العلماء؛ خاصة في الزمن الماضي؛ بحيث أن العالم الذي يكون في العراق أو في مصر لا يكون اطلاعه على السنة النبوية كالعالم الذي -مثلاً- في الحجاز أو الشام. وبالتالي: فإن هذا العالم البعيد الذي لم تصل إليه السنة كلها مضطر إلى أن يجتهد بقدر ما لديه من أدلة، وهذا واجب شرعي عليه، فمن غير المعقول أن يقول: لا أتكلم ولا أحل مشاكل الناس حتى أطلع على الأدلة الشرعية كلها هذا لا يمكن؛ بل هو يجتهد بحسب ما يتوفر لديه من العلم ومن الأدلة. بل إن هذا كان موجوداً بين الصحابة أنفسهم رضي الله عنهم فقد يوجد دليل عند صحابي ويخفى الدليل نفسه على صحابي آخر، ولذلك إذا بلغ به وأخبر به فإنه يرجع إليه، وهذا كثير جداً، حتى كبار الصحابة. فمثلاً عمر بن الخطاب رضي الله وأرضاه -والقصة في الصحيحين-: {أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن عليه، فطرق الباب واستأذن على عمر فلم يأذن له وسكت، فاستأذن مرة أخرى ثم ثالثة ثم انصرف، وكان عمر رضي الله عنه مشغولاً في بعض شئونه، فلما التفت قال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ قالوا: نعم. فقال: عليَّ به. فقالوا: ذهب. ثم جاءوا بـ أبي موسى رضي الله عنه إلى عمر. فقال له: ألم أسمع صوتك؟ قال: بلى، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع، فاستأذنت ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت. فقال له عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت -أي: قال له عمر: أريد أن تأتيني ببينة تؤكد لي ما قلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل سمع هذا الحديث معك أحد؟ وهدده إن لم يأت بالبينة. فذهب أبو موسى إلى ملأ من الأنصار وهم جلوس؛ وأخبرهم بالخبر -وكان يظهر عليه شيء من الفزع والخوف. فقالوا له: لا يقوم معك إلا أصغرنا، وقام معه أبو سعيد الخدري فذهب إلى عمر وأخبره بأنه سمع من الرسول عليه الصلاة والسلام مثلما سمع أبو موسى، أن يستأذن الإنسان ثلاث مرات فإذا أذن له وإلا رجع، ثم جاء أبي بن كعب يعاتب عمر رضي الله عنهم أجمعين، ويقول له: يا ابن الخطاب، لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لماذا تفزع أبا موسى بتهديده؟ فقال عمر رضي الله عنه: أما إنني ما أردت ذلك، ولكن الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد} . فكان مقصد عمر أن يتعلم ويتربى الناس على التثبت في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينقلوا إلا ما يقتنعون ويطمئنون لصحته ودقة فهمهم له، فرجع عمر رضي الله عنه إلى هذه المسألة. بل إنك تجد أحياناً جماعة من الصحابة يخفى عليهم حديث، فإذا علموا به قالوا به، كذلك أيضاً في البخاري وغيره، قصة الصحابة لما قدموا إلى الشام فبلغهم أن وباء الطاعون موجود في الشام، فترددوا، هل يدخلون أو لا يدخلون؟ فاستشار عمر رضي الله عنه كبار المهاجرين وكبار الأنصار؛ فأشاروا عليه بأن ندخل -لا نمتنع عن الدخول إلى الشام بسبب الوباء والمرض، ندخل ونتوكل على الله. فاستشار مسلمة الفتح، فأشاروا عليه بأن لا ندخل بل نرجع، فتردد عمر حتى جاء عبد الرحمن بن عوف -وكان غائباً في بعض حاجته- فقال: إنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون {إذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها، وإذا قدمتم عليه في بلد فلا تدخلوا عليها} فوافقت رواية عبد الرحمن بن عوف الرأي الذي كان يميل إليه عمر رضي الله عنه في عدم توريط المسلمين في الدخول في الشام على الرغم من أن الطاعون كان قد استشرى فيها، فرجعوا. ومسائل كثيرة جداً لا أستطيع أن أحصيها؛ لكن أكتفي بأمثلة أن الصحابة رضي الله عنهم كان يخفى على الواحد منهم حديث فإذا سمعه من غيره أخذ به، وكذلك من بعدهم من العلماء، فهذا سبب أنه قد لا يكون الدليل وصل إلى هذا العالم فيقول بخلاف الدليل. ولذلك الشافعي رحمه الله: ماذا كان يقول للإمام أحمد، -انظروا إلى جلالة قدر الإمام الشافعي وتواضعه رحمه الله- كان يقول للإمام أحمد: إذا صح عندكم الحديث فأخبرونا حتى نقول به، وكل الأئمة الأربعة ثبت عنهم أن الواحد منهم يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، كل واحد منهم كان يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأحياناً يعلقون المسألة على ورود حديث في هذا الباب. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 12 أخطاء في خلافات العلماء فمن الأخطاء التي يقع فيها المخالفون والمختلفون: الجزء: 119 ¦ الصفحة: 13 الإنكار في المسائل الخلافية لغير المصلحة أخيراً من الأخطاء -في موضوع الخلاف بين العلماء- أن البعض ينكر أشياء لا مصلحة للإنكار فيها وهي خلافية، والعلماء يقولون: الإنكار في مسائل الاجتهاد لا يسوغ، وهذه الكلمة ليست على إطلاقها، فهناك مسائل الدليل فيها واضح أو المصلحة فيها ظاهرة؛ فهذه ينكر فيها على من خالف. وهناك مسائل الأمر فيها محتمل والمصلحة غير ظاهرة، فهنا قد يتسامح في الأمر -بحسب المسألة التي يتحدث فيها- لكن هناك أمور مثل مسائل (قضايا السنن، قضايا خلافية، ظاهرة جداً) لا ينبغي الإنكار فيها، مع أن عدم الإنكار لا يمنع من المناقشة فأنا قد أرى إنساناً يعمل برأي وعندي رأي آخر قد أناقشه فيه وأتحدث معه، فإما أن أرجع لرأيه إذا كان عنده علم جديد، أو هو يقبل رأيي، أو كل واحد منا يبقى على ما لديه، لكن لا مانع من المفاوضة والمحادثة في هذا الأمر. الآن أريد أن أنتقل إلى نقطة أخرى ثم إلى الموضوع الثاني، فلعلني أجعل هذه الجلسة مقصورة على الخلاف بين العلماء وأترك الجانب الآخر، وهو في نظري مهم جداً وهو الخلاف العملي (الخلاف بين الدعاة) وهذا الموضوع يهم الجميع في اعتقادي، فلعلي أتركه إلى فرصة أخرى إن أمكن ذلك. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 14 أزمة فيها قولان من الأخطاء الكبيرة أيضاً، في العصر الحاضر أننا نعيش هذه الأزمة، أزمة "فيها قولان" -إن صح التعبير- فالإنسان يفعل -مثلاً- ما يشاء، وإذا قلت له شيئاً قال: فيه قولان. إذاً فيه قولان ماذا تعني؟ أهذان القولان لله وللرسول أم للعلماء؟! للعلماء! أما الله والرسول فلهما في كل واقعة حكم واحد، وهذا لا شك فيه قاعدة ينبغي أن تفهم، ونعتبر أنها مهمة جداً للشباب في هذا العصر، وخاصة في هذه البلاد، أن يعرف أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو أن للإسلام في كل واقعة -في كل واقعة مطلقاً- لله وللرسول فيها حكم واحد فقط وليس أكثر، وهذا الحكم يصيبه بعض العلماء ويخطئه آخرون، وقد نصب الله أمارات على الحكم وهي الأدلة حسب اجتهاد الناس. إذاً الخلاف في مسألة: هل يجعلني أختار ما يناسبني، وأقول: فيه خلاف؟ هذا لا يصح؛ لأن معنى ذلك أن الإنسان تحلل من قيود الدين كلها، كما قال بعض السلف: لو أن إنساناً أخذ بشذوذات العلماء، لاجتمع فيه الشر كله، فكثير من العلماء الجهابذة يكون له رأي شاذ، أطبق العلماء على رده وإنكاره وأجمعوا على خلافه قبله وبعده. أذكر لكم أمثلة على هذه الشذوذات حتى تعرفوا أهمية عدم الاستدلال بالخلاف، فعلى سبيل المثال أذكر أن أحد العلماء وهو أبو سلمة بن عبد الرحمن كان يقول بأن الإنسان إذا تيمم -أي لم يجد الماء أو احتاج إلى التيمم ثم تيمم عن الوضوء للحدث الأصغر أو للجنابة أيضاً- ثم وجد الماء بعد ذلك أنه لا يلزمه استخدام الماء، بل يكتفي بالتيمم، والتيمم رفع الحدث إلى أن يحدث مرة أخرى، وهذا القول مخالف للإجماع وللنص أيضاً؛ فإن المجمع عليه عند العلماء أن الإنسان إذا تيمم ثم استطاع أن يستخدم الماء أو وجده، وجب عليه أن يمسه بشرته، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا القول شاذ جداً. عالم آخر: قال: أن الإنسان إذا نام في المنام وبعدما استيقظ، وجد بللاً في ثيابه يدل على أنه احتلم، لكنه لم يذكر أنه احتلم إنما أثر الاحتلام واضح في ثيابه، قال: لا يجب عليه الغسل في هذه الحالة، وهذا القول شاذ يخالف إجماع العلماء ويخالف النص أيضاً، وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {إنما الماء من الماء} وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح -وكلا الحديثين في الصحيح أيضاً- لما سئل: {هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نعم إذا هي رأت الماء} فالغسل مربوط بخروج المني سواء في يقظة أو احتلام، فإذا خرج المني وجب الغسل، هذا القول شاذ بأنه لا غسل عليه إذا لم يتذكر، لكن وجد من قال به من العلماء فإذا أراد الإنسان أن ينتقي، فيأخذ قولاً شاذاً وقولاً شاذاً أصبح الإنسان مجموعة شذوذات، وهو يدعي أنه ينتسب إلى الدين وإلى العلم. إذاً: فعلينا أن نحذر -كل التحذير- من الاعتماد على قضية فيه خلاف، من الممكن أن تقول لي: إن المسألة هذه فيها خلاف؛ لأنني بحثت المسألة وتوصلت بالأدلة إلى أن الراجح هو ما أفعله الآن، حينئذ أقول لك: لك ذلك، فمثلاً: إنسان زوجته سافرة الوجه، فتقول: لو حجبتها أو أمرتها بالحجاب قال لك: المسألة فيها خلاف، صحيح نحن لا ننكر أنه فيها خلاف؛ ليس عندنا إشكال في هذا مطلقاً، الخلاف قائم وموجود ولا أحد يتجاهله، لكن أنا أسألك الآن: أنت عندما جعلت زوجتك سافرة هل بحثت المسألة وتوصلت إلى أن الراجح أن الحجاب غير واجب؟ فلا بأس لك ذلك، ومن حقك أن تفعل ذلك، خاصة إذا كنت في بلد لا يلزم بالحجاب، وإلا لو كنت في بلد يلزم بالحجاب، تلتزم بالبلد وأنظمة البلد، ويكون فيه مصلحة اجتماعية في ذلك، لكن بمجرد أن يكون فيه خلاف، فأنا آخذ بما أرى وما أشاء؛ فهذا غير صحيح ولا يجوز. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 15 القطع والجزم في أشياء لا مجال للقطع فيها من الأخطاء التي يقع فيها البعض أنهم قد يقطعون ويجزمون في أشياء لا مجال للقطع والجزم فيها، بعض طلاب العلم قد تعود على القطع والجزم في بعض القضايا، والاستغراب ممن يخالفه في ذلك، مع وضوح الدليل فيما يزعم. وفي الواقع أن قطعه بسبب نقص العلم؛ فأحياناً الإنسان ليس عنده إلا دليل واحد في المسألة، ولا يعرف ما يعارضه، وقد يتصور أن المسألة واضحة وهذا شيء جربناه من خلال طلب العلم الشرعي، أن الإنسان أحياناً قد يتبين أو يظن أن المسألة هذه واضحة؛ لأن عنده فيها دليل، لكن إذا بحث وجد أن هناك أدلة أخرى تعارض هذا الدليل، وبالتالي أصبحت القضية أقل وضوحاً. ولذلك تجد العالم الفقيه أكثر قدرة على هضم الخلاف من العامة؛ لأن العالم يعرف أسباب الاختلاف، وبالتالي يقدر المواقف، لكن العامي لا يفهم ذلك، وبالتالي تجد أنه يغضب ويتبرم من هذا الاختلاف. فلا ينبغي القطع في قضيةٍ الخلاف فيها موجود وقائم، وإن قال الإنسان بالراجح؛ لأنه أيضاً من غير المعقول أنني أجعل الناس في بلبلة، لا يعرفون الخطأ من الصواب بسبب أنه فيها قولان. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 16 تحويل الفرع إلى أصل أنهم أحياناً يحولون الفرع إلى أصل، ومع الأسف الشديد هناك من يحولون الأصل -أيضاً- إلى الفرع. فالذين يحولون الفرع إلى أصله مثاله: أن أختلف معك في قضية جزئية من مثل القضايا التي سردتها قبل قليل، فتجدني أقيم الدنيا وأقعدها على هذه المسألة الفرعية، وأعتبر أن موقفي منك يتحدد على ضوء هذه المسألة. أو قد نختلف مثلاً في جلسة الاستراحة التي تفعل بعد الركعة الأولى والركعة الثالثة هل هي سنة أو ليست سنة؟ بعضهم يبالغ فيقول: واجب، وبعضهم يقول: مكروه، فتكون هذه المسألة سبباً للبعد بيني وبينك، والهجر -أحياناً- والمباعدة بسبب هذه القضية الجزئية. فهنا حولت الفرعية إلى أصلية، وبعض الشباب يلتمسون تأويلاً لهذا، يقولون: هذه الأمور أصبحت سيما للملتزم بالسنة، فإذا صار الإنسان لا يفعلها عرفت أنه ليس ملتزماً بالسنة، وبالتالي ابتعدتُ عنه، فهذا غلط آخر؛ لأنه كيف نجعل علامة للالتزام بالسنة ليست هي العلامة التي جعلها الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن الخطأ كل الخطأ أن يبالغ الشباب ويستغرقوا في جزئيات لا نهاية لها. أذكر أنني قرأت في مسألة جزئية -ربما الأحاديث فيها قليلة- قرأت فيها نحو أربعة عشر بحثاً ما بين كتاب إلى بحث إلى مجلة، وهو موضوع (كيفية تحريك الإصبع في التشهد) كيف تحرك إصبعك في التشهد؟ هل تجعل الإصبع هكذا ساكناً؟ أم تحركه باستمرار دون توقف؟ أم تحركه عند الدعاء وذكر الله جل وعلا؟ أم ماذا تفعل؟ ويُحدثني أحد طلاب العلم أنه صلى في الحرم إلى جوار أحد الشباب؛ فقال أنه كان يدير إصبعه بطريقة دائرية هكذا، يعني يرسم دوائر بإصبعه السبابة أو السباحة، فيقول: وعندما سلَّم سألته: ما هو السبب في هذا الصنيع الذي تقوم به؟ قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلق إصبعه، التحليق كان للإبهام مع الوسطى يعني هكذا، فيجعل إبهامه مع الوسطى حلقة؛ لكن الأخ فهم أن التحليق هو للسبابة، فصار يعمل حلقة بشكل مستمر عليها، وبذلك أضاف قولاً جديداً أظنه محدثاً ما سبقه إليه أحد. المهم: أن القضية كلها لا تستحمل هذا الجهد الكبير المبذول لها، أما إني لا أقول: ينبغي أن نتركها وهذه أمور لا قيمة لها، لا، هذا غلط، هي قضية من الدين وكلكم يعلم أن جبريل عندما جاء للرسول عليه الصلاة والسلام، سأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، ولما انتهى، قال: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم. إذاً كل هذه الأشياء من الدين، ولا ينبغي أن نزدري شيئاً منها. لكن ينبغي أن نعطي لكل شيء من الأهمية بقدر موقعه، فليس الاهتمام بالأصول أو بالعقائد مثل الاهتمام بالجزئيات، أو مثل الاهتمام بتفاصيل بعض العبادات، أو بالسنن التي فعلها حسن ولكن تركها لا يبطل أو يبخل بالعبادة. بعض الذين يحولون الأصول إلى فروع، قد يتجاهلون الخلاف مع بعض الناس في قضية أصولية، ويقول: يا أخي يكفينا أننا نتفق على كذا وكذا، وبعض الشباب أيضاً عندهم حماس مفرط للوحدة الإسلامية، ويعيشون على هذا الأمل. ولذلك الواحد منهم يتجاهل -أحياناً- خلافاً واقعاً، وهذا خطأ، فإنك عندما تجد أمامك إنساناً مريضاً، وتقول: عليَّ أن أتجاهله، ولعله أن يكون غير مريض -بحكم أنه يستطيع أن يمشي- والمرض ينخر فيه، وبعد فترة تفاجأ أن الرجل هلك ومات. فالتجاهل ليس حلاً، فحين تعلم أن بينك وبين طائفة من الطوائف -وإن كانت منتسبة إلى الإسلام كالصوفية مثلاً، أو الرافضة أو أي طائفة أخرى- بينك وبينهم خلاف جذري أصولي لا يمكن تجاهله؛ ففي هذه الحالة لا يمكن أن أتجاهل الموضوع، وأقول: نتفق على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ لأنه حتى هذا في الواقع لا اتفاق عليه إلا في اللفظ فقط، لكن المعنى مختلف. بعض الناس ربما يهدر كرامة أخيه، بسبب اختلافه معه في قضية جزئية، وربما يعمل على التنقيص منه في المجالس والدروس والمحاضرات أو في غيرها، بسبب أنه اختلف معه في مسألة. وهنا نفرق بين كونه قد يستدرك عليه، وهذه من الأشياء التي أقول لكم: لا نضيق فيها، فمن الممكن أن أكتب وأن أقول قولاً فيرد عليه إنسان آخر؛ ويقول: إن القول الذي قلت، يبدو لي أنه مرجوح، والدليل كذا؛ فهذا ليس فيه حرج؛ لكن المهم ألا يكون عنده محاولة لإسقاط شخصية الذي يختلف معه، لمجرد أنه اختلف معه في قضية جزئية، ويهدر كرامته ومكانته وأخوته الإسلامية، وينسى الفضائل التي قد يكون تحلى بها. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 17 انقسام الناس في المسائل الخلافية إلى قسمين الموقف السليم من خلاف العلماء أمام هذه الخلافات الفقهية: الناس ينقسمون إلى قسمين في هذا الموضع. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 18 طالب العلم القسم الأول: هناك إنسان يستطيع أن يبحث ويصل بالأدلة بنفسه إلى القول الراجح -الراجح في نظره هو وليس الراجح مطلقاً- فيكون راجحاً عنده وليس راجحاً عند غيره، كطالب العلم الذي عنده معرفة -ولو مجملة- في أصول الفقه، ومعرفة بدلالات اللغة، وعنده قدرة على الرجوع إلى مظانِّ البحث، فإذا أشكلت عليه مسألة فقهية رجع إلى الكتب، وقرأ أقوال أهل العلم، ونظر في الأدلة، ووازن بينها، ثم توصل إلى نتيجة أن هذا القول أرجح، هذا ينبغي له أن يفعل هذا الأمر ويبحث بنفسه، خاصة في المسائل الكبيرة. وإلا من غير المعقول أيضاً أن نقول للناس اتركوا أعمالكم ودراساتكم وبيعكم وشرائكم، والطبيب يترك الطب، والمهندس يترك الهندسة وغيرهم؛ ليتجهوا إلى البحث في هذه المسائل؛ لأن الذي يبحث فيها بالتأكيد سوف يستنفذ عمره كله دون أن يصل إلى جميع المسائل، لكن المسائل التي يحتاج فيها إلى رأي واضح وتكون قضايا كلية وكبيرة، أو التبس عليه الأمر فيها، أو عرف الحق بأي طريق أو عرف الدليل من خلال عالم من العلماء؛ فينبغي له أن ينصاع للدليل. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 19 عامة الناس القسم الثاني: هم من يمكن أن نصفهم بالعامة، وحين أقول العامة، لا أقصد فقط الذين لا يقرءون ولا يكتبون، بل قد يكون العامي طبيباً -مثلاً- في مختبره أو معمله، أو مهندساً أو مسئولاً وعالماً في فنه، لكن في مجال الأمور الشرعية لم يتلق علماً، يقول: في المجال الشرعي ليس عندي علم، أنا أعتبر نفسي عامياً في المجالات الشرعية، في فني قد أكون مجتهداً في علمي، فرحم الله امرءاً عرف قدر نفسه، هذا الإنسان هكذا يقول عن نفسه. وقد يكون العامي إنسان لم يتلق العلم بأنواعه، فهذا العامي ما موقفه؟ في حدود علمي ومعرفتي أن هذا العامي فرضه وحكمه التقليد، أن يقلد من يثق به وبعلمه من الأحياء أو من الأموات، الممكن أن يقول: أنا سوف أُقلِّد عالماً من العلماء أقلد -مثلاً- سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الألباني أو فلان أو علان، أي عالم معتبر من المسلمين يقلده فله ذلك. لكن نقول لهذا العامي: واجب عليك أن تختار من سوف تقلده في دينك، وفق ضوابط شرعية، فلا تقل: إني أختار فلاناً لأنه -مثلاً- سمح، ويوسع علينا في القضايا فقط، لا، هذه القضية ليست قضية أمزجة وأهواء ورغبات؛ لكن العامي يختار من يعتقد في قلبه أن آراءه أقرب إلى حكم الله ورسوله، فيقلده في الحق. وهل يلزم العامي أن يسأل على الدليل أم لا يلزم أن يسأل؟ إن سأل العامي عن الدليل فحسن، إذا كان يستطيع أن يسأل عن الأدلة ويفهما، لكن كثيراً من العامة لا يفقه الدليل، ولا يميز بين الآية والحديث، ولا يميز بين الحديث إذا كان موضوعاً أو من صحيح البخاري، ولو قلت له: هذا الحديث في صحيح البخاري لا يدري ماذا يعني صحيح البخاري فهو لا يفقه من هذا شيئاً. ولذلك نقل ابن قدامة الإجماع على أن العامي فرضه التقليد، ويقول الأصوليون: العامي مذهبه مذهب مفتيه، فإذا سأل عالماً يثق بعلمه ودينه، وجب عليه أن يلتزم بفتواه التي أصدرها، وهذا العمل هو الذي عليه المسلمون منذ عهود الصحابة رضي الله عنهم إلى اليوم. حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الذي رواه جابر وابن عباس وغيرهم، في قصة صاحب الشجة، لما ذهب مجموعة من الصحابة في سرية، فأحدهم أصابته شجة في رأسه ثم أجنب، فسأل الصحابة: ماذا أصنع؟ لأنه إن اغتسل قد يضره الماء، فأمروه بالاغتسال، فاغتسل ومات. فلما رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا؛ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يقول بيديه هكذا، وضرب بيديه الأرض ضربة واحدة فمسح بها وجهه وكفيه} . وجه الدلالة من الحديث: أن هذا الرجل الصحابي سأل الصحابة، وبالتأكيد ما أعطوه دليلاً معيناً في هذه المسألة! ولذلك قال: الرسول عليه السلام: {قتلوه قتلهم الله} وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وجههم بقوله: ألا سألوا إذا لم يعلموا، والله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فالعامي ومن في حكمه يسأل أهل الذكر -أهل العلم- فإن كان يستطيع أن يفهم الأدلة سأل عن الأدلة، وإذا كان لا يستطيع أن يفهم؛ فإنه يكتفي بالسؤال عن الحكم. وأذكر أن أحدهم -عامي وإن كان يدرس الطلاب ويتصدر لهم في علوم معينة- كان يجلس أمام الطلاب ثم يقول: سمعت يوماً من الأيام كلمة لا أدري أهي آية أو حديث أو مثل أو حكمة؟! فمثل هذا لا معنى لأن تقول له اسأل عن الدليل، إذ لو أتيت له بآية ظنها حديثاً أو العكس ولو أتيت بحديث موضوع التبس عليه، ولو أتيت بحديث صحيح لا يدري عنه؛ فلا معنى من تكليفه بأمر لا جدوى ولا معنى من ورائه. إذاً: هذا هو موقف العامي، وكذلك الموقف لطالب العلم أو القادر على البحث في أي مسألة، والوصول إلى القول الراجح بالدليل، في موضوع اختلاف أهل العلم، ولا أريد أن أطيل في المسألة أكثر من ذلك، فأترك بقية الحديث -إن شاء الله- كما وعدت إلى فرصة أخرى إن أمكن ذلك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 119 ¦ الصفحة: 21 مفهوم التجديد السؤال مجموعة من الأسئلة يجمعها مفهوم "التجديد أو الدعوة إلى التجديد" فمجموع الأسئلة تدور حول: أنه ما دام أن الكتب قد جمعت، والمكتبات قد توفرت، والفهارس قد فهرست، وأن زماننا غير زمان السلف، وهناك قضايا جدت في هذه الأمة ولم تكن موجودة في الأزمنة السابقة، فلماذا نضيق الأمر ونقول: نتبع فلاناً ونقلد الآخر؟ لماذا لا نعطي الفرصة أكثر لكثير من مشايخنا أن يجتهدوا في كثير من القضايا بما يتعلق ويناسب هذا الزمان؟ ويأتي سائل آخر ويقول: أن هناك دعوة ليست فقط بالاجتهاد؛ لكن لتجديد أصول الفقه ككل، ويدعي ويقول: بأنها ليست ملزمة، وقد قال بهذا -كما أعرف- بعض الناس في هذا الزمان. فالموضوع يدور حول مفهوم التجديد في الأمور الفقهية، واستنتاج واستخراج الأدلة من الأصول. فلا أدري ما تعليقكم على هذا؟! الجواب أعتقد أن هناك محاضرة أو جلسة خاصة للكلام ولذلك أريد أن أطلب الأسئلة من الأخ الكريم؛ لأنه هناك محاضرة خاصة عن موضوع مفهوم التجديد في الإسلام، وإن شاء الله سأتناول هذا الموضوع من خلال المحاضرة. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 22 الردود العملية السؤال الموضوع يناقش رد الشيخ سلمان على الشيخ الغزالي هل هناك من تعارض فيما تناولت في محاضرتك الليلة، وبين ردك على الشيخ الغزالي في كتاب "السنة النبوية بين أهل الفقه والحديث"؟ الجواب أعتقد أن ما أشرتُ إليه ينسجم مع ما في الكتاب، أو مع ردي على الشيخ الغزالي؛ لأنني قلت لكم: إني أرثي لبعض الإخوة الذين يضيقون ذرعاً بالاختلاف؛ لأن الاختلاف أمر طبيعي والقضاء على الخلاف مستحيل، وبالتالي فالخلاف يمكن أن يوجه وجهة تثري الفكر. دعنا مثلاً من الغزالي أو من غيره الذين يكثر الحديث عنهم، لكن أفترض -عن جدل- الآن ما هو السبب للشهرة التي قد تحصل لشخص ما؟ أليست أجهزة الإعلام هي التي تساهم في صياغة عقول الناس وتؤثر فيهم، وبالتالي هي التي تضع أمامهم الشخص التي تريد؟ وأجهزة الإعلام نحن نعرف وضع هذه الأجهزة، وبيد من تدار. إذاً: أجهزة الإعلام يمكن أن تحول قناعتنا بفلان إلى عدم قناعة، أو تقنعنا بشخص ليس كذلك. فالتلميع والإبراز له تأثير في عقلية الإنسان ونفسيته، وبالتالي ربما يقع كثير من الناس ضحية هذا التضليل الإعلامي في أي شخص آخر -دعنا من موضوع الحديث- فأنا أقول: إنه ليس من الحفاظ على تكوين شخصية الشاب المسلم أن يتعود على أن يكون طَيِّعاً لفلان من الناس، هذا التقليد الذي فعلاً يذم، أنني أنجر لآراء وأقوال لمجرد قناعتي بالشخص، وهذا من التقليد المذموم أيضاً. لكن على سبيل العموم أنا أقول وجهة نظري في هذه الأمور وغيرها: أننا يجب أن نتعود على تطبيع هذه القضايا، أي: تحويلها إلى أمور طبيعية، أي: ليست مشكلة أن فلاناً رد على فلان؛ وهل هذه أول قضية تحدث؟ أبداً على مدى التاريخ كانت المناقشات والردود، بل العكس هذه الأشياء هي التي تثري الفكر، وتحرك الساحة وتزيد من معلومات الإنسان، فربما بعضنا لم يقرأ كثيراً من الأشياء وليس عنده علم بها. لكن من خلال المناقشة والأخذ والرد؛ وجد نفسه مضطراً لأن يقرأ ويراجع ويبحث، فيتكون لديه ثقافة صحيحة وعلم صحيح مبني على أصول. الشيء الذي أكرهه كثيراً في هذه المسألة وغيرها هو: التبرم من الخلاف، واعتقاد أن تخطئة إنسان في مسألة أو في مائة مسألة يقتضي أن هذا الإنسان انتهى، وليس من الضرورة أصلاً. فلماذا نعتقد العصمة في شخص، بحيث نرفعه إلى عنان السماء، ثم عندما نكتشف أنه أخطأ؛ نسقطه إلى الحضيض، دائماً الاعتدال هو المنهج المطلوب، فنضع الشخص في موضعه الطبيعي، بأنه إنسان -مثلاً- مجتهد وفاضل، لكن الخطأ وارد عليه. وبالتالي: من الممكن أن نتقبل أنه أخطأ في هذه المسألة، أو تلك، أو حتى في عشر مسائل، أو مائة؛ ليس لأنه الذي رد عليه فلان أيضاً، لا يعنيني من الراد ولا من المردود عليه، فعليَّ أن أنظر في جدال الآراء والأدلة وأختار ما أعتقد أنه هو الصحيح، ودين الله ليس وقفاً على أحد، وليس هناك متحدث رسمي باسم الإسلام أو باسم الرسول صلى الله عليه وسلم. يعني هو يعطي الكلمة الأخيرة، خلافاً لما يوجد في الكنيسة -مثلاً- فالأمور كلها قابلة للنقاش والأخذ والرد، والإنسان يأخذ الحق بغض النظر عن الذي قاله أو من قيل فيه. وصلِّ اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 23 إبلاغ العامي بالدليل السؤال هذه مقولة الشيخ الأخيرة هي استدراك لبعض الإخوة، ولعل بعضاً من المشايخ يقول: بالنسبة لكون العامي لا يفهم الدليل، ألا يحسن بنا أن نقول لهذا العامي أو لا بد أن يذكره العالم بالدليل بطريقة سهلة يطيقها عقل هذا العامي، أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بذلك أو نهى عن ذلك؟ الجواب نرجع إلى قضية التقليد، فالعامي -الآن- ما يدريه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك، أليس تقليداً لهذا العالم؟ فهو لا يدري، لكن العالم أخذ بيده وقال له قول، ولو كان العالم لا يخاف الله، فاختلق دليلاً أو ذكر دليلاً موضوعاً وسكت، انطلى الأمر على العامي، هذا من جهة، من جهة أخرى أن الدليل -أحياناً- قد لا يكون دليل نص، ففي كثير من المسائل ليس الدليل نصاً كقال الله تعالى أو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. أحياناً الدليل مبني على قاعدة أصولية، أو على اتفاق وإجماع، أو على قياس صحيح، فيحتاج إلى أنك تعطي هذا العامي درساً في الأصول، بل دروساً في الأصول، حتى يفهم أصول الفقه، ثم تذكر له الدليل بعد ذلك. فأرى أنه لا إلزام، وأنه لا دليل على الإلزام بأن يفهم العامي الدليل أو يبين له، بل الأمور تختلف، فبعض العامة قد يناسب ذكر الأدلة له؛ لأنهم كما ذكرت عندهم اشتغال وكثرة مجالسة للعلماء، وبعضهم أناس بعيدون عن المعرفة لا يفقهون شيئاً، بل إنه أحياناً إذا قلت له: حلال أو حرام فهذا الذي يهمه. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 24 الأخذ بالأحوط السؤال ما رأيك في من يقول: نأخذ بالأحوط خصوصاً في مسائل الخلاف، حتى نصل إلى السلامة ولا نقع فيما وقع فيه بعض الناس الآخرين؟ الجواب هذا السؤال يذكرني برأي الدكتور موسى الموسوي الشيعي المعروف صاحب كتاب الشيعة والتصحيح والثورة البائسة، ففي الكتاب الشيعة والتصحيح لاحظ أن الفقهاء الشيعة يبتزون أموال الناس عن طريق الفتيا وغير ذلك، فقال: إنني أرى حلاً لهذه المشكلة حتى لا يحتاج الناس إلى الفقهاء، أن يأخذوا بالأحوط في هذه المسائل حتى لا يحتاجوا إلى فقيه، وأعتقد أن الأخذ بالأحوط يصلح في حالات معينة. مثلاً: إذا التبس الأمر على الإنسان وما اتضح له الحق وهذا كثير ما يقع للعالم فضلاً عن غيره؛ فيقول: آخذ بالأحوط براءة لديني وهذا جيد وحسن خاصة في أموره الخاصة، أو فيمن له عليهم ولاية، لكن أحياناً يكون الأمر ليس فيه احتياط وأضرب لكم أمثلة على الأمور التي ليس فيها احتياط. لو فرضنا على سبيل المثال فيما يتعلق بمواقيت الصلاة، صلاة العصر متى يدخل وقتها؟ الجمهور على أن وقت صلاة العصر يدخل إذا صار ظل الشيء مثله، ومتى يخرج الوقت؟ الجمهور أيضاً على أن وقت صلاة العصر يخرج عند اصفرار الشمس، والحنفية يرون أن دخول وقت صلاة العصر مختلف، فالمهم أن هناك خلافاً بحيث أنك أحياناً لو راعيت مذهب أبي حنيفة في الوقت، لكنت مصلياً في غير الوقت عند الجمهور، ولو صليت على مذهب الجمهور لكنت مصلياً في غير الوقت عند أبي حنيفة؛ لأن الوقت خرج فهذه ناحية. مثال آخر: قضية الحيض، قد تكون المرأة في حالة مشكوك فيها، هل هي حيض أم استحاضة؟! فهنا لا مجال للاحتياط؛ لأنه إن صلت المرأة وقلت لها: صلي، فقد تكون أمرتها بالصلاة وهي حائض وصلاة الحائض لا تجوز، وإن قلت: دعي الصلاة، فقد تكون أمرتها بترك الصلاة وهي طاهر، فتكون تركت الصلاة. إذاً هنا لا يوجد احتياط؛ لا بد من الحسم في المسألة، إما هنا أو هنا. كذلك: أحياناً الاحتياط يكون في مشقة؛ لأنه إذا كانت المسألة اختيارية بحتة فهو أمر سهل، لكن -أحياناً- قضية يترتب عليها آثار عملية صعبة -أي في مشقة عليه في هذا الأمر- أنا لن أتركه إلا إذا كان ممنوعاً؛ فالاحتياط يلجأ إليه الإنسان في حالة الاشتباه أو الالتباس كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} . الجزء: 119 ¦ الصفحة: 25 المذهبية السؤال هل يأخذ المسلم الحكم من أي مذهب شاء أم يلزمه اتباع مذهب معروف ومعين أو واحد عند الحاجة؟ ويقول: إن المذاهب لا تحصر في أربعة مذاهب -كما نراها معروفة- لكن هناك آراء لبعض الأئمة ممن لم تنتشر مذاهبهم، فهل نتبع بعضها إن وجدنا عندهم الدليل الصحيح أم لا؟ الجواب بالنسبة للأئمة الأربعة وغير الأربعة: نعم الأئمة ليسوا أربعة، وأذكر أحد الإخوة يحدثني أنه صلى في مسجد جمعة إلى جوار رجل، فرأى هذا الرجل يعمل في صلاته عملاً استغربه، أظنه كان يرسل يديه في الصلاة ولا يضم، أي لا يضع إحداهما على الأخرى، فلما سلم من الصلاة سلم عليه، وجلس يتحدث معه بأسلوب هادئ وبعيدٍ عن الإنكار، إنما حادثه عن وضع اليدين في الصلاة، وأن السنة وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة، فلما قلت له ذلك، قال: ليست المذاهب أربعة -كما تزعم وما زعم الأخ شيئاً- ولا ذكر شيئاً من المذاهب الأربعة، لكن الآخر قال له: ليست المذاهب أربعة كما تزعم- وإنما هي عشرة. وأقول أيضاً: المذاهب ليست عشرة كما يزعم؛ وإنما هي أكثر من ذلك بكثير، فهناك أئمة متبوعون كثيرون، هناك فقهاء المدينة السبعة، هناك فقهاء في العراق، هناك فقهاء في الشام، وفي مصر، لكن غالب مذاهبهم اندرست أو كادت، بحيث لا يكاد يوجد من يقول بها إلا قلة؛ فمثلاً: الأوزاعي يوجد من يقول بمذهبه خاصة في الشام وكان إمام أهل الشام؛ وهم قلة. وكذلك يوجد في بعض مناطق المملكة من يتمذهبون بمذهب الأوزاعي، وكذلك الإمام ابن جرير الطبري يوجد من يدين بمذهبه، وكانوا يسمون في التاريخ بالجريرين -نسبة إلى ابن جرير - وكثير من العلماء كانوا متبوعين ثم اندرست مذاهبهم. والسؤال: هل الحق محصور في هذه المذاهب الأربعة، أو في أحدها؟ أبداً ليس الحق محصوراً في واحد من المذاهب الأربعة، ولو قال إنسان: إن مذهب الإمام مالك كله حق وما عداه باطل، أو مذهب الشافعي أو مذهب أحمد أو أبي حنيفة، لكان في ذلك مخطئاً -بلا خلاف عند أهل العلم- فالحق ليس محصوراً في مذهب واحد، لكن هؤلاء العلماء كلهم اجتهدوا وكما قال الشاعر: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وهم يحاولون أن يقتبسوا ويلتمسوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون الحق في مسألة عند واحد وفي مسألة أخرى عند غيره. فليس الحق محصوراً في أحد هذه المذاهب، بل وليس بالضرورة في أحد المذاهب الأربعة فقط، قد يخرج الحق عنها، فليس هناك نص شرعي يدل على منع ذلك. لكن من واقع تجربتي القصيرة في موضوع البحث في مسائل فقهية، وتجربتي مع بعض الشباب الذين يتحدثون في قضايا شرعية، تكون لدي قناعة، هي أن الشاب وطالب العلم ينبغي أن يحرص على الاعتصام بمذهب الجمهور، إلا في المسائل التي دليلها شديد الظهور، فغالباً رأي الجمهور هو الصواب، والجمهور ليس شخصاً بعينه أو جهة بعينها، فأحياناً الجمهور -مثلاً- مالك وأبو حنيفة والشافعي، وأحياناً يكون الجمهور أحمد وإسحاق وأبو حنيفة ومالك، المهم الأكثرية -أكثرية العلماء- وذلك إذا كنا نعرف أن العلماء يعتبرون الإجماع حجة شرعية. وبالمقابل -كما أسلفت قبل قليل- الشذوذ: انفراد واحد برأي، يعتبرونه رأياً منطرحاً متروكاً. إذاً: إذا كان الأغلبية من غير المعقول أن نقول سواء أغلبية أو غير أغلبية أن الأمر سيان في ذلك، فالغالب أن أكثرية العلماء يكونون على الصواب، لكن لا يمنع الإنسان من النظر في الأدلة، حتى يكون اتباعه لرأي الجمهور على بينة وبصيرة ودليل. لكن نقول: تقليده للجمهور أولى من تقليده لرجل واحد -مثلاً- كما أن الإنسان أحياناً قد يجد أن هناك رأياً مخالفاً للجمهور ومع ذلك رجحانه ظاهر، ولعلي أضرب مثالاً في هذا. مسألة الخمر هل هي نجسة أم طاهرة؟ طبعاً موضوع تحريم الخمر فيه حكم بنص القرآن الكريم: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] ولا خلاف في موضوع تحريم الخمر، أما الكلام في نجاسة الخمر إذا أصاب ثوب الإنسان، هل هي نجسة أم طاهرة؟ الجمهور والأئمة الأربعة أيضاً، على أن الخمر نجسة، لكن هناك قولاً آخر لـ ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك وللمزني تلميذ الإمام الشافعي ولكثير من فقهاء الشافعية البغداديين والقرويين وغيرهم، ولجماعة من الأئمة المتقدمين، ولجماعة من الأئمة المعاصرين كالشيخ محمد رشيد رضا وغيره، أن الخمر طاهر بذاته وليس بنجس. ومن خلال النظر في الأدلة يبدو أن القول بطهارة الخمر قول فيه قوة، وكأن الأدلة على نجاسة الخمر لا يمكن أن تثبت بحيث لا تجد دليلاً صريحاً بأنها نجس، فهنا قد يجد الإنسان أنه بإمكانه أن يخالف؛ لكن في مسائل محدودة، وإلا فالأصل أن يحاول أن يتمسك بقول الجمهور. وأقول لكم: من خلال ملاحظتي أن الإنسان إذا تأمل -المهم ألا يستعجل بالأخذ بظاهر النص- إذا تأمل يجد لقول الجمهور متانة أحياناً، ولعلي أضرب لكم مثالاً واجهته في حياتي: حين تلقيت بعض المسائل على شيوخنا كنت أسمع بعضهم يقول: إن الإنسان المستيقظ من نوم الليل يجب عليه أن يغسل يده قبل أن يدخلها في الإناء، في الماء، ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا أستيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً، فإنه لا يدري أين باتت يده} وهذا دليل يدل على تحريم غمس اليد، كنا نتابع شيوخنا أو بعض شيوخنا في هذه المسألة لكن لما تسنى لي وبحثت المسألة ونظرت في أقوال العلماء القدماء والمعاصرين وجدت أولاً: أن الجمهور على أنه لا يجب ولكن يستحب له، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة وهو أيضاً رواية في مذهب الإمام أحمد، ورجحه عدد من علمائنا المعاصرين. نظرت في الدليل الذي يستدلون به على وجوب غسل اليد وهو قوله: {فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثاً} فوجدت أن هناك أشياء كثيرة يمكن أن تصرف هذا الدليل عن القول بالوجوب وجوب الغسل إلى الاستحباب فقط، مثلاً قوله: {حتى يغسلها ثلاثاً} لو قلنا بالوجوب؛ لكان معنى ذلك يجب أن نغسلها ثلاث مرات؛ لأن هذا نص الحديث ولا أحد يقول بهذا، الذين يقولون بالوجوب يقولون يغسلها ولو مرة، إذاً التقييد بثلاث دليل على أنه لا يجب ويستحب أن يغسلها ثلاثاً. كذلك التعليل في قوله: {فإن أحدكم لا يدري} فمثلاً الآن، لو كان على يد الإنسان نجاسة يشاهدها بعينه وغسلها مرة واحدة فزالت النجاسة، هل يجب غسلها مرة ثانية؟ لا يجب، المقصود أن تزول النجاسة، فلو غسلها مرة واحدة فزالت النجاسة؛ فلا يجب أن يغسلها مرة أخرى، يغسلها تنظيفاً واطمئناناً حسن، لكن لا يجب، فمن باب الأولى إذا لم يكن هناك نجاسة متيقنة أنه لا يجب عليه ذلك. ولعل قوله صلى الله عليه وسلم: {فلا يغمس يده في الإناء} مثل قوله صلى الله عليه وسلم: {إذا استيقظ أحدكم من نومه فليستنثر ثلاثاً، فإن الشيطان يبيت على خيشومه} ولا أحد يقول بوجوب الاستنثار عند الاستيقاظ من نوم الليل إلا ابن حزم، ولا دليل له؛ لأنه حتى هذا الحديث ورد {إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فتوضأ فليستنثر ثلاثاً} فيكون الأمر إذاً على الاستحباب لا على الإيجاب. هذا مثال، وأحياناً الإنسان إذا تأمل يجد أن قول الجمهور له قوة ووجاهة، بشرط أن لا ينحل كثيراً إلى ظاهر النص ويتجاهل نصوصاً وقرائن أخرى. وهناك نقطة أخرى أشارة إليها السؤال فيما يتعلق بالتفريق بين الاتباع والتقليد. الاتباع هو: أن تسأل العالم عن الحكم والدليل. والتقليد هو: أن تسأله عن الحكم دون الدليل، وتقلده بغير حجة. وهذا الفرق يوجد أحياناً، لكنه غير مضطرد، بمعنى أنه: قد يوجد -أحياناً- إنسان ليس طالب علم متمكن يستطيع أن يفهم هذا المسألة، ولا هو أيضاً عامي بحت، لكنه بين بين. يعني عنده اهتمام وعنده مطالعات، فيفهم الأدلة إجمالاً وإذا فُهِمَ فَهِمَ، فهذا نقول له: نعم، الأولى أن يسأل العالم عن المسألة وعن دليلها، أما العامي البحت فلا نطالبه بالسؤال عن الدليل للتعليل السابق. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 26 متى يكون الخلاف رحمة السؤال محاولة ربط الشباب الحديث غير الصحيح الذي يقول: {اختلاف أمتي رحمة} بموضوع المحاضرة، وكلهم يحاول أن يربط بشكل أو بآخر، والمطلوب تعليق عن هل فعلاً هناك ربط أم أن الموضوعين مختلفان؟ الجواب أولاً: حديث {اختلاف أمتي رحمة} كما أشار السائل، ذكر أهل العلم أن هذا الحديث لا أصل له، أي: ليس له إسناد لا صحيح ولا حسن ولا حتى ضعيف، ليس له إسناد مطلقاً، ولذلك بعض أهل العلم قال: لعل له إسناد لكنه ضاع، وأعتقد أنه إن ضاع، لا نستطيع أن نتكلم عنه، بمعنى: أن ضاع الإسناد، ضاع المتن معه، فليس للحديث أصل، هذا من ناحية. أما من حيث المعنى: فإن الحديث يمكن أن يفهم بأكثر من وجه، له وجه صحيح وله وجه آخر غير صحيح، فأما الوجه الصحيح فهو الاختلاف الذي يمكن أن يعبر عنه بأنه اختلاف تنوع، كون الأمة فيها واحد يهتم بالطب، وآخر مهندس، وثالث عالم شرعي، ورابع أستاذ، وخامس مسئول في مجال وهكذا، اختلاف في الميادين العملية في المجالات التي يخدمون من خلالها، فهذا لا شك أنه رحمة. وهناك أيضاً اختلاف آخر، لا يمكن أن يوصف بأنه شر وعذاب؛ وهو الاختلاف المبني على أسباب صحيحة، مثل الاختلاف في قضية فقهية بحسب اختلاف الأدلة، فأنا -مثلاً- أقول في المسألة قولاً وأنت تقول قولاً آخر، وكل واحد منا عنده دليل، هذا الخلاف -كما أسلفت- لا بأس به، ولا ينبغي أن نضيق به ذرعاً، وليس شراً كله، بل قد يكون فيه خير وتوسعة على الأمة وتحصيل لمصالح متشابكة. وأما الاختلاف الذي هو اختلاف تضاد وتطاحن وتناقض، بحيث أن الإنسان يهدم ما يبنيه الآخر؛ فهذا لا شك أنه عذاب، وكذلك الاختلاف في أمور أدلتها واضحة وصحيحة وبينه، فإن هذا الاختلاف شر، وينبغي العمل على تلافيه بقدر ما يمكن. الجزء: 119 ¦ الصفحة: 27 أحاديث غير عابرة بدأ الشيخ حفظه الله بالكلام حول واقع الأمة الإسلامية اليوم، وعن أهمية الدين في الصراعات العالمية اليوم، ثم تكلم عن الوعي الموجود في أوساط المسلمين، وتحدث بعد ذلك عن ذكاء خطط المنافقين، وعن مبدأ احترام القوة، وعرج بعد ذلك على ذكر بعض جراحات الأمة، وتلا ذلك بالكلام حول العودة إلى الذات والتوبة ومحاسبة النفس، ثم وقف مع جريدة الندوة وذكر عليها بعض الملاحظات، وتكلم بعدها عن أهداف العلمانيين من التشهير بالدعاة، وقرأ رسالة موحية أرسلها إليه أحد الشباب المسلمين الدارسين في أمريكا، وختم المحاضرة بعد ذلك بقراءة بعض الأوراق المتفرقة. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 1 دمعة على الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيرًا. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] . أما بعد:- عباد الله: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، هذا المجلس (82) من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين (20/جمادي الثانية/1413هـ) ، وعنوان هذه الجلسة: "أحاديث غير عابرة ". إن المتتبع لأخبار المسلمين في هذه الأيام، يكاد يمرض من هول ما يسمع، ففي كل بلد نكبة، وفي كل زاوية مصيبة، وفي كل بيت مأتم ونياحة، ومع أننا لا نملك دموعنا، ولا ندارى أحزاننا، إلا أن ثقتنا بالله عز وجل وإيماننا بوعده الصادق، الذي لا يتخلف أكبر من تلك المصائب والآلام. ولهذا يتفجر الأمل والثقة بما عند الله تعالى، من عمق المعاناة وقلبها، ففي الهند هدم الهندوس المسجد البابري، الذي كان من عهد المغول، وعمره أكثر من أربعمائة وخمسين سنة، كان طيلة هذه الأزمنة مكاناً للعبادة والصلاة والذكر وقراءة القرآن، وكم شهدت أرضه من مصلِّ وساجد، وباك بين يدي الله تعالى! وإذا به في هذا الزمن يسلط عليه أولئك المتوحشون من الهندوس، فينقضون عليه بمئات الألوف بأيديهم الفئوس والمعاول حتى سووه بالتراب، ليس هذا فحسب، بل ويقتل في أنحاء الهند ما يزيد على ألف قتيل، معظمهم من المسلمين، بسبب ما يسمونه بأعمال العنف، من الهندوس وغيرهم. إنها مصيبة وكارثة، ولكن في عمق هذه الكارثة بشائر اللطف الرباني من الله عز وجل، والدروس المهمة التي تتجلى من خلال هذه الوقفات. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 2 احترام القوة إن الحكومة الهندية لم تفعل شيئاً إزاء ثلاثمائة ألف هندوسي قاموا بهدم المسجد، بل وقفت متفرجة، وقال رئيس الحكومة: إنني قد بعثت بقوات إلى تلك المدينة، ولكن محافظ المدينة منع القوات من التدخل، وقام المسلمون يعربون عن غضبهم، فتصدت لهم قوات الأمن، وضربتهم وقتلت منهم من قتلت. أثخنوهم بالجراح ثم قالوا لا تصيحوا إن في هذا الصباح بعض ما يبغي الجريح ووعدهم بأن يعيدوا بناء المسجد من جديد. إن بعض الإجراءات التي عملتها حكومة الهند، لا تعدو أن تكون مدارةً للغضب الإسلامي المتزايد، وخوفا من أن تنجر منطقة الهند بأكملها، إلى أنواع وألوان من العنف المتبادل، بين الهندوس والمسلمين، وبقية الطوائف الأخرى. العالم اليوم يحترم القوة، وهو لا يؤمن بمبادئ السلام والعدل والإخاء والإنسانية، وإنما يتبجح بهذه الكلمات ليخدر بها مشاعر البسطاء والسذج من المسلمين، وإلا فالعالم اليوم يحترم القوة، ومنطق العالم هو منطق السباع: ودعوى القوي كدعوى السباع من الناب والظفر برهانها هذا أحد الجراح. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 3 ذكاء خطط المنافقين الوقفة الثالثة: ذكاء خطط المنافقين، الذين أدركوا كيف يعبثون بالمسلمين، وعرفوا من أين تؤكل الكتف، فهم يحافظون على الشكل، ويسرقون اللب والمضمون، فهم يدركون مثلاً أن هدم مسجد يثير مشاعر البسطاء من المسلمين، ويحركهم ويزعجهم ويغضبهم. ولهذا قد لا يتعرضون للمساجد، بل ربما حموها وحفظوها، وحافظوا عليها لسبب أو لآخر، حتى إن منهم من يحافظ عليها بحجة أنها جزء من التراث، أو معالم سياحية يتردد عليها الناس، حتى يكون من جراء ذلك تنمية وتقوية للدخل، ولاقتصاد البلاد، وقد يحافظون عليها من منطلق حماية مشاعر المسلمين، أو لغرض آخر. ولكن -نحن جميعاً- ندرك أن هدم مسجد، بل هدم عشرات المساجد، على خطورته أنه مما يُغضب الله تعالى، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:114] وهدم المساجد خطير، ولكن قتل مسلم واحد أخطر وأعظم. لأن هذا المسلم هو الذي به إحياء المساجد، وعمارتها، وذكر الله تعالى فيها، والمساجد إنما أقيمت ليذكر الله فيها {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:37] . فهؤلاء الرجال أهم من المساجد، وأعظم حرمة عند الله تعالى منها، ولكننا نجد المسلمين اليوم يغضبون لهدم مسجد، أكثر مما يغضبون لا أقول لقتل مسلم، بل لقتل عشرات، ومئات، وألوف، وعشرات الألوف من المسلمين، في كل مكان، وهذا يدلك على عمق المكر اليهودي، والنصراني ضد الإسلام، الذي يتجنب الأشياء التي تثير مشاعر المسلمين ويتجه إلى تلك الأشياء التي تكون أقل إثارة، وأكثر فاعليه، وأعظم جدوى. بل إنني أقول: إن فتنة مسلم واحد عن دينه، وإخراجه عن الإسلام إلى الكفر والشرك والوثنية، أو إلى النصرانية، أو إلى اليهودية، أو إلى اللادينية والعلمانية، إن فتنة مسلم واحد عن دينه، هي أعظم عند الله تعالى بكثير من قتله، كما قال الله عز وجل: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] . وقال في الآية الأخرى، وكلا الآيتين في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:217] . إن هذا المسلم القتيل قد يكون ولياً لله تعالى، فيكون قتله تعجيلاً له إلى {جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] لكن هذا المسلم الذي ظل حياً بجسده، ولكنه ميت بقلبه، لا روح فيه، ولا إيمان، ولا تقوى، ولا دين، ولا توحيد، ولا شهادة أن لا إله إلا الله، ولا شهادة أن محمداً رسول الله، لا شك أن موته خير له من الحياة. إن سلب إيمانه، الذي به عزته وكرامته ونجاته في الدنيا، وفي الآخرة، وفتنة المسلم عن دينه أعظم بكثير من قتله، وكم من المسلمين يفتنون اليوم عن دينهم، بالتكفير، والتنصير، والتضليل، والتجهيل، وغير ذلك. إننا يجب أن نغضب لهدم مسجد في الهند وفي أي مكان، خاصة إذا تصورنا أن هدم هذا المسجد بالهند، قد يترتب عليه هدم مساجد أخرى، وقد أعلنت صحيفة هندوسية. أن هدم هذا المسجد تمهيد لهدم ما يزيد على ثلاثمائة وسبعة وخمسين مسجداً آخر في الهند، فيجب أن نغضب لهدم هذا المسجد، لكننا يجب أن نغضب أكثر وأكثر، لهدم هذه الأجساد، التي تذكر الله تعالى، وتسبحه وتصلي له وتشهد له بالوحدانية في كل مكان. ينبغي أن نغضب لقتل المسلمين في كل مكان وإبادتهم، وينبغي أن نغضب أكثر من هذا ومن ذاك، لفتنة المسلمين عن دينهم، بإتاحة سبل الفساد لهم، وتحريضهم على الجريمة، ودعوتهم إلى التنصير، ومحاولة سلخهم عن دينهم، بكافة الوسائل، ذلك الموضوع الكبير الخطير الذي طالما تحدثت عنه، وتحدث عنه غيري. إنه ليس من العدل، ولا من الغيرة على دين الله تعالى، أن نهون الأمر بالنسبة للمسلمين، وأن نقول لهم: اطمئنوا، ناموا قريري العيون، فدينكم في أمان والمسلمون كلهم بخير! كلا إن المسلمين اليوم يتعرضون لعملية مسخ لعقولهم وقلوبهم، وإخراج لهم عن دينهم في كل مكان. وقد اطلعت هذا اليوم ببالغ الأسف، على خبر يقول لي فيه أحد الإخوة من بلاد الغرب: جاءنا في المركز رجل بريطاني نصراني، يريد أن يتعلم العربية، فسألناه لماذا؟ قال: فتلكأ بعض الشيء، ثم دخلنا معه فإذا به يبوح لنا بالسر الدفين، إنني صديق لفتاة من دولة خليجية محافظة، واسم هذه الفتاة (م. ش) وقد تمكنت من دعوتها إلى النصرانية، وتنصرت، واتفقت معها على الزواج، وأن يعقد الزواج في كنيسة في بريطانيا، في ظل موافقة عائلية، ولكن حالت بعض الظروف دون ذلك، ولا زالت المراسلات جارية، ونحن بصدد التأثير على أخواتها الباقيات، وهناك نتائج إيجابية في هذا السبيل. إذاً: لا يجوز أبداً أن نتهاون بخطط أعداء الإسلام، في إخراج المسلمين عن دينهم، سواء أخرجوه إلى النصرانية، أو أخرجوه إلى الإباحية واللادينية والعلمنة، أو أخرجوه إلى المادية والاهتمام بالدنيا والغفلة عن الآخرة، والله تعالى وصف الكافرين بأنهم يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 4 أهمية الدين في الصراعات العالمية أولاً: لابد أن ندرك أهمية الدين في الصراعات العالمية اليوم، وأن ندرك أثره في الأحداث التي تقع في كل مكان. إن العالم كله اليوم، يعيش فترة استقطاب ديني على كافة المستويات، في جميع الدول، فليست الصحوة فقط بين المسلمين، بل إن النصارى يشهدون صحوة قوية في كل العالم النصراني، وهناك جماعات إنجيلية، وجماعات أصولية نصرانية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وفي بلاد الروس، وفي غيرها، تتمسك بالنصوص الحرفية لأناجيلها وكتبها. وكذلك في شأن اليهود، فإن هناك جماعات يهودية كثيرة، تتمسك بحرفية نصوصها، التي تزعم أنها مقدسة، وتتحمس وتتعصب لدينها، وتطالب بالقضاء على المسلمين، وتحقيق ما يسمى بدولة إسرائيل الكبرى، بل يقول أحد كبار المسئولين في إسرائيل: إن أكثر الأحزاب الموجودة في التحالف القائم اليوم، أو التكتل القائم، إن أكثر تلك الأحزاب حمائمية وتساهلاً، لا يمكن أن ترضى بتسليم الأرض إلى المسلمين، التي احتلها اليهود. وهكذا الحال بالنسبة لأهل البدع، فإن جميع أهل البدع يوجد عندهم تعصب لدينهم اليوم، وإقبال على إحياء بدعهم؛ فلو نظرت إلى أحوال الرافضة، سواء في بلاد إيران، أو في العراق، أو في مناطق الخليج العربي كلها، وبدون استثناء، لوجدت أنهم قد تحمسوا لدينهم، وتعصبوا لبدعتهم، وبدءوا يعودون من جديد إلى الدعوة إليها، وتربية أولادهم وبناتهم عليها، والاجتماع على ضوئها، والمطالبة بالاعتراف بها إلى غير ذلك. ولو نظرنا إلى الإباضية، سواء في عمان، أو في الجزائر، أو في ليبيا أو في غيرها، من المناطق التي توجد فيها الأقلية الإباضية، وهم فئة أقرب ما يكونون إلى الخوارج، وإن كانوا يختلفون معهم في بعض جوانب الاعتقاد، لوجدنا أن هؤلاء تحمسوا من جديد وعادوا، وبدءوا يطبعون كتبهم، ويحيون تراثهم، ويقيمون الدروس والأعمال العلمية، ويحاربون كل من يخالفهم في ذلك. وإذا نظرنا إلى الأمة الإسلامية، وأهل السنة لوجدنا -بحمد الله- أن الله تعالى أنعم عليهم، هم الآخرين، بنعمة عودتهم إلى الدين، وانتشار الصحوة الإسلامية في أوساطهم رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، وهذه نعمة من الله تعالى نحمده سبحانه عليها. المهم أن قضية الدين اليوم، أصبحت قضية ذات أهمية كبرى، في الأحداث التي تجرى في العالم كله، ومن المحال أن يقبل المسلمون بتلك الدعوات التي تدعو إلى أن يعودوا علمانيين، وأن يتخلوا عن ولائهم للإسلام، وأن يتخلوا عن هذا التوحيد الذي ميزهم الله تعالى به، كيف والقرآن الكريم يدعوهم أن يعبدوا الله تعالى وحده، لا يشركوا به شيئا؟! كيف وهم يرون أن أهل الضلال تحمسوا لضلالهم، وأهل الكفر تحمسوا لكفرهم؟! فكيف يطالب أهل التوحيد، وأهل الإيمان، وأهل السنة بأن يتخلوا عن الحق الذي ائتمنوا عليه؟! ليكونوا علمانيين، يرضون بفصل الدين عن الحياة، وفصل الدين عن السياسة، وفصل الدين عن الإعلام، وفصل الدين عن الفن، وفصل الدين عن الأخلاق، وفصل الدين عن أمور المجتمع، ليكون الدين علاقة بين العبد وربه، تختصر في الصلوات وفي المساجد وحسب. إن هذا ما كان ولن يكون، فإن الله تعالى أنزل كتابه مهيمناً على كل شيء، وأنكر وعتب على أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض الكتاب، فقال سبحانه: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] . الجزء: 120 ¦ الصفحة: 5 تزايد الوعي في صفوف المسلمين الدرس الثاني: تزايد الوعي الإسلامي، في صفوف المسلمين وغلبة الإسلام على رغم الكيد المدبر له. إننا نعلم أيها الإخوة، أن اليهود قاموا بحرق جزء من المسجد الأقصى، قبل بضع سنوات، وكانت جميع الدول العربية والإسلامية وقتها في حالة عداء معلن مع اليهود، على أقل تقدير، وكانت ترغب أن تثور ثائرة الشعوب الإسلامية، ضد هذا العمل اليهودي المجرم المتجني. ولكن مع ذلك كله كان رد الفعل الإسلامي، مع أنه تعرض للمسجد الأقصى، الذي بارك الله تعالى حوله، وذكره في كتابه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن: {الصلاة فيه بخمسمائة صلاة} كما في الأحاديث. ومع أنه مسجد تاريخي، مع ذلك كانت ردود الفعل الإسلامية لا تعدو أن تكون مظاهرات، وصخب إعلامي، وربما كانت الحكومات وراءه في الأعم الأغلب، ثم هدأ الأمر، وانتهى كل شيء. أما اليوم فمع أن الهجوم الهندوسي هو لمسجد لا يحمل قداسة خاصة عن غيره من المساجد، إلا أنه مسجد تاريخي، ومع ذلك فقد وجدنا أن المسلمين قد غضبوا لذلك غضباً شديداً، وثارت ثائرتهم، وسارت المظاهرات في الشوارع، في طول العالم الإسلامي وعرضه، وقامت الاضرابات في كل بلد، حتى تعطلت الموانئ في الهند وغيرها، وتكدست البضائع، ولم تجد من يحملها، ووقف المسلمون عن العمل، خاصة من الهنود في بلاد شتى. بل وهدمت معابد الهندوس في الهند، وفي باكستان، بل وفي لندن وفي برمنجهام وفي غيرها من بلاد العالم الغربي، غضباً للإسلام. بل إنني أعلم أن هناك أعداداً من الشركات والمؤسسات الإسلامية ورجال الأعمال والمسئولين في منطقة الخليج العربي، وفي غيرها قاموا بتسريح عشرات، بل مئات، بل ألوف من العمال الهندوس، الذين كانوا تحت كفالتهم، تعاطفاً مع إخوانهم المسلمين، وغضبا لله تعالى ورسوله، وهذه على كل حال، نعمة نحمد الله تعالى عليها. ونقول: إن هذه ظاهرة إيجابية في الجملة، بغض النظر عن الأساليب، التي عبر بها المسلمون عن سخطهم، وبغض النظر عن تحفظات أخرى، سوف أتحدث عنها، إلا أن مجرد هذه الظواهر وردود الفعل القوية، يدل على أن المسلمين يوجد في قلوبهم إيمان، ويوجد عندهم غضب للدين، وتوجد عندهم غيره، متى شعروا بأن دينهم مستهدف، وأن مقدساتهم محل نظر من أعدائهم. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 6 الجرح الدامي في الصومال أما الجرح الثاني: ففي الصومال حيث تدخلت أمريكا، وأذلت المسلمين أيما إذلال، حتى أعرب بعض الغربيين الكفار، عن امتعاضهم من الطريقة التي يعامل الجنود الأمريكان فيها المسلمين هناك، إذ أنهم بمجرد أن يروا مسلماً يطلبون منه أن ينبطح على الأرض، دون أن يحرك ساكناً، وفي حالة إذا ما تردد، أو توقف أو تباطأ، فإن الأسلحة تصوب إليه، ليفعل تحت وطأة التهديد بالسلاح، ويجر المسلمين جراً، كما كان يفعل بأهل الكتاب، ويعاملون بذلة وصغار. بل إن من العجائب أنه وزع على الجنود الأمريكان كتاب من ثمان عشرة صفحة، يعلمهم كيف يتعاملون مع الصوماليين، ومن ضمن هذه التعليمات، يقول: إياك أن تقبل الفتاة الصومالية. الله أكبر ما أرخص أعراض المسلمين اليوم! فقد أصبحت بنات المسلمين في كل مكان، عرضة لاعتداء جنود الكفار عليهن بكل سهولة، وقد كان بإمكان ألفي جندي فرنسي موجودين في جيبوتي، حماية قوافل الإغاثة الموجودة في الصومال. وكما يقول أحد النصارى في جريدة الحياة، ولولا أن المقصود ترتيب الوضع في القرن الإفريقي كله، وحمايته والمحافظة على المكاسب الغربية في أثيوبيا وفي غيرها، وتحجيم دور الإسلام في إفريقيا كلها، بل القضاء على الإسلام فيها، لولا أن هذا هو المقصود، لم يكن ثمة حاجة بالدفع بأكثر من ثلاثين ألف جندي أمريكي إلى هناك. وقد أعلن الرئيس الأمريكي السابق، أنه يتراجع عن المدة التي حددها، وقال: إن ستة أشهر سبق أن أٌعلِنتْ غير كافية لتواجد الجنود الأمريكان في الصومال، إن هذا يذكرنا بكلمة سبق أن سمعناها، وهي أن النصارى يريدون أن تكون إفريقيا قارة نصرانية في عام (2000م) . وكنت أتعجب من ذلك! وأقول كيف يقولون هذا وهم يرون أن النصرانية تزحف ببطء، وأن الإسلام أسرع منها وأقوى؟! فالإسلام يكتسح القبائل الوثنية، وهم يدخلون بحمد الله في الإسلام أفواجاً، فكيف يظنون هم أنهم سيحولون إفريقيا إلى قارة نصرانية عام (2000م) ؟! أما اليوم فكأن الأمر بدأ يتضح بعض الشيء. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 7 المبشرات في أرض الصومال ثم إن من المبشرات أن السفير الأمريكي في كينيا حذَّر قومه من هذا العمل ومغبته، وقال: إن هذا تورط، وانتقد التسرع الذي فعلوه، وقال: إنكم قد دخلتم في عش الزنابير، وإذا كنتم أحببتم بيروت فسوف تعشقون مقديشو، يذكرهم بما جرى لقوات المارينز في بيروت، حينما فُجِّرَ مقهى وقتل أكثر من مائتين وستين جندي، ويقول لهم: ما جرى في بيروت سوف يجرى لكم أكثر منه في مناطق الصومال. وهناك جماعات إسلامية مثل الاتحاد الإسلامي، وكذلك هناك جمهورية الصومال، التي استقلت وأعلنت استقلالها حديثاً، وغيرها من الأطراف قد أعلنت رفضها للتدخل الغربي، وأنها سوف تواجههم. ونحن نسأل الله تعالى أن يصدق ظن هذا السفير في إخواننا المسلمين في الصومال، وأن لا تمر هذه المؤامرة الكبيرة على المسلمين بسلام، فإن أعداء الإسلام قد جربوا منا الذل والصغار، ورأوا أن جميع أمم الأرض تدافع عن نفسها، وتدافع من منطلقات وطنية، ومن منطلقات عرقية، ومن منطلقات قومية أو قبلية أحياناً، كما حصل في فيتنام وفي غيرها. أما المسلمون فقد جرب العدو معهم أنهم مستسلمون، وأنهم لا يدافعون عن أنفسهم، لا نتيجة غيرة دينية، ولا نتيجة نخوة وطنية، فنسأل الله تعالى أن يرينا في هؤلاء الظالمين عجائب قدرته، ونسأل الله أن يسلط عليهم من جنده، إنه على كل شئ قدير. ومن المبشرات أيضاً: ذلك الحشد العالمي والعربي، الذي سعت الأمم المتحدة إلى أن يساهم في القضية، ولو بصورة شكلية رمزية، فإن القوى الدولية والعربية التي شاركت هي قوى رمزية، لمجرد إشعار المسلمين أن العملية ليست احتلالاً أمريكياً للصومال، وإنما هي قضية دولية تشترك فيها دول كثيرة، وأن الذي يواجهها يواجه العالم بأكمله. وهذا يؤكد أنهم يخافون اليوم من انفجار المسلمين، ومن وقوف المسلمين ضد هذه الأعمال التي تستهدف استقلالهم، وتستهدف إيمانهم، وتستهدف قوتهم، وتستهدف تحكيمهم بشريعة الله عز وجل. وإن من الأشياء التي نعتبرها من المبشرات أيضاً العودة إلى الاستعمار المكشوف اليوم، والوصاية المباشرة، فإن ذلك وهو يقع فعلاً في أكثر من مكان، يوحي بأن الغرب أدرك فشل الخطط السابقة التي تعتمد على وجود وكلاء وأوصياء، يقومون بالمهمة عنه. فالغرب اليوم لم يعد يثق بحلفائه الأصليين وهذه -أعني التدخل الغربي المباشر في مناطق الإسلام فقط، دون غيرها من المناطق العالمية- هي أحد الأسباب التي نظن بإذن الله تعالى، أنها سوف تؤجج مشاعر المسلمين، وتحرك فيهم روح العداء للغربي الكافر، وتجعلهم يدركون أنه لا ثقة بأعداء الله تعالى، مهما أرضونا بمعسول القول، ومهما خدعونا بعبارات الإنسانية، ومهما ادعوا أنهم علمانيون، وأنهم ديمقراطيون، وأنهم لا يتحركون لدين، إلا أن الواقع أنه لا ثقة بأعداء الله تعالى، طال الزمن أم قصر. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 8 أهداف أمريكا في الصومال إن تحويل إفريقيا إلى قارة نصرانية، كما يريدون ويرغبون، لا يلزم منه أن تتحول الشعوب كلها إلى شعوب نصرانية، بل يكفيهم أن تكون الحكومات نصرانية، وأن يكون عندهم هيمنة على إفريقيا، وأن يكون هناك نوع من الوصاية، والحماية الغربية على إفريقيا. فإن هذا يعني في مقاييسهم أن تكون إفريقيا قارة مسيحية، أما وجود مجموعات من القبائل المسلمة، أو شعوب مستضعفة لا تملك من أمرها شيئاً، فإن هذا لا يشكل عندهم خطراً يذكر. لقد قلت في محاضرةٍ سابقة: إن الخطر لا يتهدد الصومال وحدها، بل يتهدد الجيران كلهم، والقرن الإفريقي، بل ما وراء ذلك، وقد بدأت بوادر ذلك تظهر. فقد أعلنت الأمم المتحدة عن إدانة لحقوق الإنسان في السودان، وأنتم تعرفون لماذا يدان السودان؟ لأن الذين وقع عليهم الظلم كما يدعون، هم النصارى في الجنوب، الذين حاربهم المسلمون وانتصروا عليهم، فثارت ثائرة الغرب، ووقف إلى جانبهم وتدخل، وأحد أهدافه دعم النصارى في الجنوب، وإعادة ترتيب الأوراق من جديد. كما إنني ذكرت من قبل قضية اليمن، وقد كنا نسمع عن تصعيد الأوضاع في اليمن، ووجود عدد من ألوان التفجيرات الأمنية، التي نسأل الله تعالى أن يكفي المسلمين شرها. في هذا القطر الإسلامي العريض، الذي يوجد فيه اليوم صحوة إسلامية عارمة، ويوجد فيه دعوة إلى الله تعالى، ويوجد فيه علماء مخلصون، ويوجد فيه دعاة غيورون، وتوجد فيه مراكز ونشاطات إسلامية، عمل أعداء الإسلام من العلمانيين وبقايا الشيوعيين على إزالتها، فألغوا المعاهد العلمية التي كانت تخرج طلاب العلم والدعاة والمصلحين، وكانت من مراكز الإشعاع والتعليم، وفرضوا التضييق والحصار على أهل الدعوة، وحاولوا أن يماطلوا ويسوفوا بتطبيق الشريعة الإسلامية، وقاموا ببعض الأعمال الإرهابية، ونسبوا إلى المسلمين جرائم هم منها أبرياء. كل ذلك في محاولة لإغراق هذا البلد في بحر من الدماء، والحيلولة دون أن يحكم هذا البلد العريق بالإسلام، ونحن على وعد من النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: {الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية} ويقول عليه الصلاة والسلام: {أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة} . وفي قوله تعالى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال: {هم هذا وقومه} أي أن أهل اليمن ممن يعودون إلى الإسلام إذا خرج الناس منه، ويحيونه إذا اندرس، ويعملون بالسنة إذا تركها الناس، ويقومون بالجهاد إذا غفل عنه الغافلون. فنحن على أمل كبير، وثقة بوعد الله تعالى، على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، أن يكفي الله تعالى هذا البلد العريق، شر الأشرار من المنافقين الموجودين في داخله، أو من أعداء الإسلام الذين قد يتناوشونه من الخارج. إن مما يثير الأسى أن يجتمع الطرفان المتحاربان في الصومال بوساطة أمريكية، وأن يتصافحا بعد سنة من القطيعة والحرب، وأن يصدرا بياناً مشتركاً لإيقاف الحرب، وإزالة الخطوط الفاصلة بينهما. بل أن يقوموا بدعوة الغرب إلى أن ينزع السلاح من المتحاربين في الصومال كلها، إن هذا يؤكد على دور العلمانيين في بلاد الإسلام، وأنهم دائماً وأبداً ضد مصالح البلاد وضد استقلالها وضد اجتماعها على الخير، فهم بالأمس يتحاربون ويتقاتلون، وكل الأطراف المتحاربة من العلمانيين، ويتقاتلون بدعم من إيطاليا ومن الغرب. أما اليوم فهم يجتمعون -أيضاً- في ظل وساطة أمريكية، ويوحدون صفهم، ويعطون العدو الخارجي مبرراً ومسوغاً وسنداً للتدخل، حيث يطلبون منه التدخل والبقاء، وأن يقوم بنزع السلاح من المتحاربين. وإن مما يؤسف أيضاً، أن يجتمع في كينيا أكثر من أربعين ممثل عن جمعيات صومالية، وقبائل وغيرها، وأن يستقبلوا السفير الإسرائيلي هناك، ليلقي عليهم كلمة، ويتحدث عن أن أمن الصومال مرتبط بأمن إسرائيل، وأن إسرائيل لا يتحقق أمنها إلا باستقرار القرن الإفريقي، والقضاء على بوادر الإسلام فيه، وأن أي فئة تدعو إلى الإسلام ولو كانت قليلة العدد، ضعيفة العُدد، ولو كانت في الصومال، فإنها تخيف اليهود والنصارى، وتثير الرعب في قلوبهم. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 9 الجرح الدامي في مصر أما الجرح الثالث: ففي مصر، حيث سُنَّ قانون مكافحة الإرهاب، وباسم هذا القانون قتل آلاف من الشباب المسلم في الشوارع، دون تحقيق أو إدانة، وإن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، وإنا بذلك لمحزونون، حين نرى شباباً في سن السادسة عشرة، وفي سن السابعة عشرة والعشرين، يطلق عليهم الرصاص، فيردون قتلى دون أن يسأل عنهم أحد، وفي حي أمبابة في القاهرة، جندوا أكثر من عشرين ألف شرطي، بقيادة أكثر من ألفي ضابط لتمشيط هذا الحي، هذا في حي واحد فقط، يقولون: إنه مركز الأصوليين والمتطرفين والإرهابيين. ماذا يفعل هؤلاء الأصوليون؟ ما هي جريمتهم؟ قالوا: أحرقوا سبعة محلات للفيديو، ولو أحرقت محلات الفيديو في إسرائيل أوفي أمريكا أو في فرنسا، هل كان جزاؤهم أن يجند عشرون ألف جندي لتمشيط هذا الحي، ثم يعتقل حسب الإحصائيات الرسمية أكثر من ستمائة إنسان؟! وإذا كان الاعتراف الرسمي يقول ستمائة، هذا فقط في هذا الحي فضلاً عن ألف ومائتين قبله بأيام، فمعنى ذلك أن السجون قد امتلأت، ولابد أن الحكومة جادة في طلب الإعانات من دول مختلفة، لبناء سجون جديدة لمزيد من الشباب المسلم هناك. وقاموا بتمشيط من قبل في مدنٍ كثيرة في الصعيد، وحاصروا مساجد بأكملها، وكانوا يأتون إلى المسلمين وهم في صلاة الجمعة، فيكدرون عليهم صفو عبادتهم، ليأخذوا من بينهم أعداداً من الشباب بحجة التحقيق معهم، ومن ذا الذي سوف يسأل أجهزة الأمن، بأي ذنب قتل هؤلاء؟! وبأي ذنب اعتقلوا؟! وعلى أي قضية أوقفوا؟! إنه لا أحد يسألهم. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 10 خطر الإعلام في تشويه الحقائق وإنني أريد أن أقول: إن الإعلام اليوم العالمي والعربي يكذب ويكذب، وشعاره يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، إنهم يدركون أن تكرار الكذب ونشره في الجريدة، ثم في الإذاعة، ثم في التلفاز، ثم في الكتاب، ثم عبر الأخبار، وتكريره أن من شأن ذلك أن يوجد تراكمات في عقول الناس، تصدق ما يقال. ولكنني أقول: الحذر الحذر أيها الإخوة مما يروج إعلامياً، إن من الأمثلة الواضحة مثلاً، أن يتهم الدعاة بأنهم على صله بإيران، وهذا كذب صريح، فإن دعاة الإسلام في مصر وفي غيرها، لا علاقة لهم بإيران، وهم من أهل السنة وغالبيتهم يحاربون الرافضة حرباً لا هوادة فيها، وإنما يتهمون بأنهم عملاء لإيران، لغرض أو لآخر. ولعل من الطرائف أنه قبض على اثنين في الأردن، بتهم شتى، منها أنهم عملاء لإيران. وقام رجل وأدلى بشهادته قائلاًَ: إنني كنت وسيطاً في نقل بعض الأموال من إيران إلى هؤلاء، وبعد أيام إذا بهذا الشاهد يرسل إلى جريدة خضراء الدمن "الشرق الأوسط" مقالاً يقول فيه: إن شهادتي كذب وزور، وإنني أدليت بهذه الشهادة في ظل ضغوط معينة، والأمر مختلق لا أساس له، فكشف الله تعالى كذبهم وزيفهم، وبين باطلهم، حتى يعتبر الناس ويدركوا أن ما يسمى الآن بالأصولية، وهي في الحقيقة الدعوة إلى الإسلام، والعودة إليه، والصحوة أصبحت خطراً عالمياً يهدد الغرب، وإسرائيل، يهدد الدول والأنظمة العلمانية في جميع البلاد. ولذلك تحالف هؤلاء جميعاً، بل ويهدد العلمانيين، الذين يمسكون بأزمة الصحف، ووسائل الإعلام في كل مكان. ولأن هؤلاء جميعاً شركاء في العداوة لهذا الإسلام، أو لهذه الصحوة، أو الأصولية، أو التطرف أوالتشدد، -كما يسمونه ويعبرون عنه- فقد اتفقوا جميعاً على الكذب، وعلى تبادل الأكاذيب في هذا الشأن، وهم يعتبرونها تبادلاً للأخبار والحقائق، فأنا أحذر كل المستمعين من الإعلام في هذا الجانب خاصة، وفي غيره عامة. وأقول: قد تبين بما لا يدع مجالاً للشك، أن الإعلام يكذب كذباً بواحاً، صراحاً، منظماً، مدروساً، ولا يجد في ذلك غضاضة، فيجب أن نتلقى ما ينقل عبر وسائل الإعلام عن المسلمين، بكثير من الشك والريبة والتردد، بل والرفض، وأن لا نعتمد عليه فيما يتعلق بمثل هذه القضايا. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 11 موقف النظام المصري من المتدينين بل إن النظام هناك قد جند الإعلام والصحف والتلفاز والإذاعة والسينما وغيرها، من أجل تشويه صورة المتدينين، واتهامهم بكل نقيصة، ورسم الكاريكاتيرات التي تصورهم بأبشع الصور. إن الإنسان يعجز أن يتكلم في مثل هذه الأمور، لأنها أصبحت قضايا لا يفيد فيها مجرد الكلام، وأصبح مجرد صفحة واحدة في جريدة يتفطر لها القلب ألماً، فكيف إذا تصورت أن جهازاً إعلامياً متكاملاً مجنداً لتأييد ما تقوم به الدولة، وتشويه صورة المتدينين والملتحين. لماذا؟ لأنهم يطالبون بحجاب المرأة مثلاً، أو لأنهم يقولون: إن الصورة حرام، أو لأنهم يطالبون بتحكيم شريعة الله عز وجل، أو لأنهم يحاربون الربا، أو لأنهم يعارضون السلام مع اليهود فيما يسمى بدولة إسرائيل، أو لغير ذلك: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [البروج:9] . ثم إنهم جندوا أجهزة الدولة كلها لحرب المسلمين، وتأييد تلك الخطوات، ووأد الأصوات المخالفة، فقد قام أساتذة الجامعات باستنكار ما يجري، وقالوا: إنه تدمير لقوة الدولة وللمجتمع وغير ذلك، ولكن هذه الأصوات توأد في مهدها، ولا يسمح لها بالظهور إلا على استحياء وبصورة قليلة، أما الصوت الظاهر الغالب، فهو ذلك الصوت الذي يؤيد ويبارك تلك الخطوات، سواء داخل مصر أو خارجها. بل إن العالم الغربي المنادي بحقوق الإنسان، يتحدث عن ذلك بكثير من الارتياح والاغتباط. بل يتكلمون عن طرد أحد رجال الدعوة الإسلامية في مصر، وزعيم لإحدى الجماعات، وهو الدكتور الشيخ عمر عبد الرحمن، وهو رجل كفيف مقيم في أمريكا، لأنه مطرود من مصر أو هارب بالأصح، فيتكلمون عنه أنه سوف يطرد، لأنه يطرح آراءً مناهضة للسياسة الأمريكية. ماذا أجدت عشرات السنين من حرب الإسلام في مصر وفي غير مصر؟ ماذا أجدت؟ وماذا نفعت؟ إن الإسلام لم يكن أقوى، ولا أرسخ، ولا أعمق، ولا أعظم منه اليوم في مصر، تعاطف من الشعب، وقوة في التوجه الإسلامي، وصدق، وفي مستوى الجامعات والأطباء والمهندسين، وفي جميع الدوائر وعلى كافة المستويات، يوجد ولاء قوي للإسلام. إن الشباب الذين يودعون في الزنازين والمعتقلات والسجون، إنهم يهتفون للموت، ويرتلون أناشيد الفداء، ليس عبر مكبرات الصوت، لكن داخل السجون وفي ظل ترقب أحكام الإعدام، وقد صدر في حق ثمانية حكم بالإعدام، ولكن محكمة الاستئناف رفضت هذا الحكم. وهذا يدل على مدى ما وصل إليه القضاء في مصر من التردي، لأننا نعلم أن رفض هذا الحكم لم يكن بالأمر اليسير، لولا أنهم تجاوزوا كل حد، ولم يقفوا عند مستوى معين، فثارت بذلك بذلك بعض المشاعر ورفض هذا الحكم. إن تدمير طاقات الأمة بهذه الصورة، جريمة لا ينساها التاريخ أبداً، فإن هؤلاء الشباب هم الذين يعمرون البلاد، وهم الذين ينقلون العلم، وهم الذين يدعون إلى الله تعالى، وهم الذين يعرفون في ميادين الجهاد، وهم الذين تقوم عليهم الأمم والشعوب والحضارات، في كل مكان، وكل أمم الدنيا اليوم، يهودها ونصاراها وكفارها، بل وعبدة البقر يهتمون بشبابهم، ويحتفلون بهم، ويوفرون لهم الخدمات، ويحاولون أن يرفعوهم إلى أعلى المستويات. أما في بلاد الإسلام فيسلط على شباب الإسلام التجهيل، والتضليل، والرياضة، والفن، والمسلسلات، وحفلات الرقص والغناء، لسلخهم من دينهم. أما الذين يصرون على التمسك بالإسلام، فتُعد لهم الزنازين والسجون والمعتقلات، ومقاصل الإعدام، فلا حول ولا قوة إلا بالله {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:197] قال الله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ} [الزخرف:56] . إننا على يقين أن هذه الأمة إذا لم تنتصر لدينها، وتغضب لربها، وتقف في صف دعاة الإسلام، فإنها معرضةٌ لعقاب الله عز وجل. إننا نتعجب أنه في الوقت الذي يضيق فيه على المؤمنين، يسمح ويمنح النصارى التسهيلات والفرص الوظيفية في مصر وغيرها! ويمكنون من ناصية الاقتصاد، وتقوم أجهزة الأمن بحمايتهم وحراستهم، ويمكن اليهود من العبث باسم السياحة، أوباسم الدراسات والبحوث الميدانية، ويقبض على مجموعات تتجسس لصالح اليهود، فسرعان ما يطلق سراحها. وأما المتطرفون فيكفي أن يتهموا بأنهم عاشوا في أفغانستان جزءاً من الوقت، أو تدربوا في السودان ليودعوا في السجون والمعتقلات، مع أننا نعلم أن هذه الأشياء هي أكاذيب. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 12 الجرح الدامي في المغرب أما الجرح الرابع: ففي بلاد المغرب، حيث القضاء على الوجود الإسلامي، باسم مكافحة الإرهاب، ففي تونس إعدامات سابقة بعد محاكمات صورية، وحرب للإسلام باسم الحرب على حزب معين، وهو حزب النهضة. ولكن الواقع أن الحرب إنما هي حرب على الإسلام، فالذين في السجون أكثر من خمسين ألفاً، منهم من جماعة التبليغ، ومنهم من الإخوان المسلمين، ومنهم من الجماعات السلفية، ومنهم من حزب النهضة، ومنهم من المتدينين الذين لا ينتسبون إلى جماعة، ولا طائفة، ولا حزب، بل ذنبهم الوحيد أنهم أطلقوا لحاهم، أو تدينوا. إن مجرد إعفاء اللحية، وتقصير الثوب، والتردد على المسجد في عرف أجهزة الأمن هناك تهمة يحاسب عليها، ويسجن بسببها. لقد أقفلوا أكثر من سبعمائة مكتبة، لماذا؟ لأنه يوجد في ضمن ما تبيع بعض الكتب الإسلامية، ونزعوا الحجاب من المسلمات في الشوارع، وأصبح المرء لا يستطيع أن يعفي لحيته، إلا بعد أن يأخذ ترخيصاً من أجهزة الأمن بذلك، ومُنع المتدينون رجالاً ونساءً من المدارس، لا يُدرِّسون ولا يُعلِّمون، وفصل أكثر من أربعة آلاف منهم، ومنعوا من الوظائف، وزج بهم في غياهب السجون، وقُتل منهم من قتل، وجُرحَ من جرح. وعندي صور وزعتها منظمات غربية، عن ألوان التعذيب التي يلاقيها المسلمون داخل السجون، وشرد منهم من شرد، وحطمت أسر بأكملها، وألصقت التهم بالأبرياء، وروج لها الإعلام فاتهموا فلاناً بأنه مدمن مخدرات، مع أنه رجل صالح من الأخيار، وصوروه في الصحف، وكتبوا هذه التهم، واتهموا فلاناً بأنه يغازل سكرتيرته الجميلة الحسناء، وصوروه وفبركوا كما يقال، أو صوروا صوراً خادعة. ونشروها في الصحف، في الوقت الذي يتسترون فيه على المجرمين الحقيقيين، فقد تكلم الإعلام العالمي، عن أن أخ رئيس هذه الدولة قبض في فرنسا، بجريمة ترويج المخدرات، فمنعت جميع الصحف الفرنسية من الدخول إلى تلك الدولة. أما المسلمون فيتهمون بالباطل، ويروج -بالباطل- عنهم مثل هذه الأكاذيب. ونزع الحجاب بالقوة من الطالبات، ومن المؤمنات، في الوقت الذي تلزم فيه طالبات كلية الشريعة بجامعة الزيتونة بلعب كرة الطائرة، بملابس قصيرة مع الرجال. بل تلزم بالسباحة بالمايوه الذي لا يستر إلا العورة المغلظة، على مرأى ومسمع من الرجال، ومنعت دروس القرآن الكريم، والحديث الشريف، والعلم الشرعي، والفقه، والتفسير، ليسمح للمحطات الإيطالية، التي تبث أربعاً وعشرين ساعة الدعارة الصريحة المعلنة، والمحطة الفرنسية التي تبث أربعة عشر ساعة، ألواناً من أفلام الدعارة، التي تصل إلى عرض الجريمة عياناً سمح لها لتقوم بغسيل عقول المسلمين، وتغير أخلاقهم، وعُيّن الشيوعيون المحترفون المخترقون في أكثر من خمس وزارات مهمة، منها وزارة التربية والتعليم، في حين لا يسمح للمسلم المتدين بمجرد الحياة الكريمة. أما في الجزائر فقد صودرت الحريات، ومنع الناس من مجرد المشي في الأسواق، وحوصرت المساجد، وقتل الشباب المسلم في الساحات العامة، بمجرد الظن وأُغلِقت جميع الجمعيات الخيرية والمؤسسات الإصلاحية، في اليمن، وفي طاجكستان، وفي أفغانستان، وفي البوسنة والهرسك، وفي غيرها، والله تعالى هو المستعان. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 13 عودة إلى الذات إننا إزاء ما يجري، يجب أن نعود إلى أنفسنا، ونعلم أن ما أصابنا هو من عند أنفسنا، وبما كسبت أيدينا، وجزاء ببعض ما عملنا، ولو آخذنا الله وعاقبنا بكل ذنوبنا، لعذبنا وعذبنا ثم لم يظلمنا {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} [الأنعام:65] هل نعي؟! هل نفقه؟! هل نعود إلى الله تعالى؟! قال العباس رضي الله عنه وهو يستسقي المطر من السماء: [[اللهم إنه ما وقع بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة]] فلنعلم أيها الأحباب، أن هذه الأحداث والمصائب ليست إلا بعض أعمالنا، وبعض ذنوبنا: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} [المائدة:49] وإنها ليست عقاباً فقط للشعب الذي أصيب بها، أو الفئة أو الجماعة، التي ابتليت بها، كلا إنها عقاب للأمة جميعاً. {فالمؤمنون في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، والمؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضا} كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. فواجب علينا، يا معشر الذين آمنوا بالله ورسوله، هنا أو هناك، أو في كل مكان، أن ندرك هذه الضربات الموجعة، فهي دروس يجب أن نعيها، وعِبَر ينبغي أن نفقهها، وأنها بعض التأديب السماوي لنا على ذنوبنا، على معاصينا في أشخاصنا، وفي بيوتنا، وأموالنا، ومعاملاتنا، وأقوالنا، وفي تقصيرنا في عبادة الله عز وجل، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي فعل الربا، وترك مؤسساته وبيوته قائمة بلا نكير. بل وفي دعم الشر بألوانه، وعدم التعاون على البر والتقوى، وفي ألوان وألوان من الذنوب والمعاصي، الفردية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي يعاقبنا الله تعالى عليها بسببها. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 14 التوبة ومراجعة الذات فواجب علينا أن نتوب من جميع الذنوب، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] فرض على الناس أن يتوبوا لكن ترك الذنوب أوجب والدهر في صرفه عجيب وغفلة الناس عنه أعجب والصبر في النائبات صعب لكن فوات الثواب أصعب وكل ما ترتجي قريب والموت من كل ذاك أقرب وكان الأمام أحمد رحمه الله تعالى كثيراً ما يردد:- إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب أيها الأحبة: توبوا إلى الله توبة نصوحاً واستغفروه، توبوا إلى الله توبة نصوحا، اصدقوا الله، أقبلوا على الله تعالى من كل قلوبكم، واذرفوا دموع الندم، وعودوا إلى الله تعالى عوداً حميداً. ويجب أن يكون هناك مواطئة بين القلب واللسان، فيكون باللسان استغفار، وبالقلب ندم صادق، وعودة إلى الله تعالى، وفي الجوارح تخلص من كل الذنوب والمعاصي، وإقبال على الطاعات، وفعل لما يرضي الله عز وجل. ولنكن على يقين مثل الشمس، أننا متى صدقنا الله تعالى، وأقبلنا عليه، وتخلينا عن ذنوبنا ومعاصينا، وتبنا توبة نصوحاً، أن الله تعالى سيسُدد نقصنا، ويغفر ذنبنا، ويعيننا على ما نعاني من أمر الدنيا والدين، وإن كل ما نجده من نقص في العلم، أو في السلاح، أو في المال، أو في القوة، أو في العدد. فإن الله تعالى سريع بكل خير إلينا، متى صدقنا الله تعالى، ومتى توجهنا إليه، وتخلينا عن كل ما يخالف أمر الله عز وجل، واعترفنا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، فهو وحده القادر على كل شيء، له الأمر والنهي، وله الحول والقوة. فلا تحول للعبد من حال إلى حال إلا بإذنه، ولا قوة للعبد على فعل ما يرضى الله تعالى وترك ما يسخطه، إلا بقوته جل وعلا، فمتى نصدق الله تعالى؟! ومتى نخلص له؟! ومتى نتوب إليه؟! ومتى نتبرأ من ذنوبنا؟! ومتى نتخلص من معاصينا؟! بل متى ندرك أن ما أصابنا لا ينزع ولا يرفع إلا بأن نصحح أعمالنا، ولا يتغير ما بنا إلا أن نغير أنفسنا؟! قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11] يجب ألا نحتقر ذنباً مهما صغر، ولا نتهاون به مهما قل، فإن الذنوب الصغيرة تجتمع على الرجل حتى تهلكه، وتورده الموارد. ويجب أن نعلم أن الذنوب هي المخالفات كلها، صغيرها وكبيرها، سواء كانت ذنوب أفراد، أو ذنوب أسر، أو ذنوب دول، أو ذنوب جماعات، أو ذنوب مؤسسات، فهذه كلها الذنوب يجب على فاعلها أن يتوب. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 15 دعاء ثم إنني رأيت أن نتجه إلى الله بقلوب صادقة بهذه الدعوات الحارة، التي أسأله جل وعلا أن لا يغلق دونها أبواب السماء: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] . اللهم إن عبادك هؤلاء اجتمعوا في بيت من بيوتك، يرجون رحمتك، ويخافون عذابك، اللهم فحقق لهم ما يرجون، وأمنهم برحمتك مما يخافون، اللهم استجب لهم ما يسألون، اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم فرج عن المسلمين في كل مكان، اللهم نفس كربهم، اللهم اهد ضالهم، وعلم جاهلهم، وعافِ مبتلاهم، وقوِّ ضعيفهم، واجمع شتاتهم، وأطعم جائعهم، واكسُ عاريهم، واحمل حفاتهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين! اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهي فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم يا بديع السماوات والأرض! يا أول! يا آخر! يا ظاهر! يا باطن، يا من هو بكل شيء عليم، ومن هو على كل شيء قدير، يا من يقول للشيء: كن فيكون! يا من بيده مفاتيح كل شئ، وإليه يرجع الأمر كله، وبيده الخير كله، الطف بهذه الأمة المبتلاة، وارفع عنها البلاء والذل، يا حي يا قيوم! اللهم أعزها بطاعتك، ولا تذلها بمعصيتك، اللهم اكفها شر أعدائها، الظاهرين، من اليهود والنصارى والشيوعيين، اللهم اكفها شر أعدائها المستترين، من المنافقين والعلمانيين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه. اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم انتقم منهم لدينك وعبادك يا حي يا قيوم! اللهم انتقم من الظالمين، اللهم احفظ على المسلمين دينهم، اللهم احفظ على المسلمين أخلاقهم. اللهم احفظ على المسلمين أعراضهم، اللهم احفظ على المسلمين أموالهم وثرواتهم، اللهم احفظ على المسلمين نساءهم، اللهم احفظ على المسلمين بلادهم يا حي يا قيوم، يا خير الحافظين. اللهم أدر لهم فلك النصر بحولك وقوتك يا ذا البطش الشديد، يا ذا الأمر الرشيد، يا فعال لما يريد، اللهم اكفهم شر اليهود والنصارى، اللهم اكفهم شر الهندوس، والكفار والمنافقين والعلمانيين، اللهم يا ولي الإسلام وأهله! من قام يدعو إليك، ويغضب لدينك، ويغار على شريعتك، اللهم انصره وأيده وأعلِ كلمته يا رحمن يا رحيم، اللهم ومن قام رياءً وسمعة، أو لأجل الدنيا، أو لأجل فلان وفلان، فاهده لما تحب وترضى، إنك على كل شيء قدير. اللهم إن سبق في علمك أنه لا يهتدي فاهتك أستاره، اللهم اهتك أستاره وافضح أسراره، وأدر عليه دائرة السوء يا حي يا قيوم! اللهم إنا نناديك بقلوب قد أمضتها المصائب، وندعوك بأنفس أقلقتها المحن، ونهتف إليك بألسن أثقلتها الخطوب عن الخطاب، ونحن لا نملك لأنفسنا، ولا لغيرنا حولاً ولا طولاً. اللهم إن كنا حزنا للمسلمين، لأنهم عبيدك المنتسبون إلى دينك، لا لقرابة، ولا لمصلحة دنيوية، ولا لنعرة عصبية، اللهم بقوتك وحولك يا حي يا قيوم! أجب فيهم دعاءنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] . يا مالك يوم الدين! انصر إخواننا المسلمين في مصر، وانصر المسلمين في الجزائر، وانصر إخواننا المسلمين في السودان، وانصر إخواننا المسلمين في الصومال، وانصر إخواننا المسلمين في تونس، وانصر إخواننا المسلمين في اليمن، وانصر إخواننا المسلمين في إرتيريا، وانصر إخواننا المسلمين في الهند، وانصر إخواننا المسلمين في أفغانستان، وانصر المسلمين فوق كل أرض وتحت كل سماء. يا من يقول للشيء كن فيكون! يا واحد يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد! يا سميع الدعوات، يا قاضى الحاجات، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك وأنت الله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، أن لا تردنا خائبين، ولا من رحمتك مطرودين، إنك على كل شيء قدير. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 16 وقفة مع جريدة الندوة أما النقطة الثالثة: فهي وقفة مع جريدة الندوة، عبر ثلاثة أعداد تكلمت هذه الجريدة، عن التطرف والمتطرفين، وكتب محررها يوسف دمنهوري مقالاً يحرض فيه على المتطرفين في كل البلاد، وأنهم يهددون مكاسب الأمة، وأن الشارع العربي كما يعبر قد ضرب المكاسب التي حققتها الأمة عبر عشرات السنين، ويحرض عليهم، ويطالب بالقضاء عليهم، في مصر وفي تونس، وفي كل البلاد. ثم تكلم في العدد الثاني والثالث، عن الحوار مع من؟ وأين؟ ورَّد فيه حسب ما يزعم على الدكتور الشيخ صاحب الفضيلة/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي -حفظه الله تعالى- ثم أدخل فضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني أيضاً في الحلبة، وتكلم بكلام غريب، وقد استاء منه الناس، وهذه بادرة خير. حتى إنني لا أحصي الذين اتصلوا بي عن هذا الموضوع، والذين أوصلوا إليَّ تلك القصاصة يعدون بالعشرات، وقد ساءهم ما حصل، فإن الرجل قد أطال لسانه، وتكلم بكلام غريب. وفي المقالة الأولى كان يواري ويداري، أما في بقية المقالات فقد صرح بما ينطوي عليه قلبه، ووصف فضيلة الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، بأنه هو وجماعته من المتطرفين، الذين يعتقدون أنهم يتقربون به إلى الله تعالى، والذين قد غيرت عقولهم، وتكلم بكلام شديد، واستغل موقعه في الجريدة للتنفيس عن بعض ما في قلبه من الضغينة والحقد. ورمى الآخرين بكلمات متطرفة متشجنة، تنم عن عدم توازن وعدم اعتدال. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 17 من أهداف العلمانيين عبر الصحافة أيها الأحبة: إنني لا ألومكم، ولا غيركم، على أن تغضبوا حينما تقرءوا في صحف تصدر في هذه البلاد، ومثل هذا الكلام، في الوقت الذي تتكلم فيه بكثير من الحفاوة عن الفنانين، وعن رجال السياسة، وعن رجال الاقتصاد الغربيين منهم والشرقيين. ولكنني أقول: ما الذي يمنعك أن تقوم بزيارة إلى بلد الله الحرام، وتعتمر فتكسب أجر العمرة، وتطوف بالبيت، وبين الصفا والمروة، ويكون لك بذلك أجر كبير، ثم تُعرّج على هذا الرجل وتقف معه؟! وتعطيه من فمك مباشرة دون واسطة، ما الذي يمنعك من ذلك؟! إن من حق الأمة أن تغضب، وأن تبتئس لذلك، لكن من حقها -أيضاً- أن تسأل ماذا وراء الأكم؟ إنني أخشى أن يكون وراء ذلك تحريض على أهل الخير في هذه البلاد، ويتزامن هذا الطرح الذي نشرته جريدة الندوة، يتزامن مع طرح أمريكي غربي مكثف، عن الصحوة في هذه البلاد. وآخر ذلك، أن إذاعة صوت أمريكا أذاعت البارحة، وهذا الشريط معي الآن، أذاعت تقريراً وتحقيقاً عن الصحوة في الجزيرة العربية، وتكلمت عن عدد من الدعاة، وأذاعت جزءاً من شريط سبق أن ألقي في هذا المكان، بعنوان: لماذا نخاف من النقد؟ سبق أن أصدر برنامج تلفزيوني لمدة ساعة ونصف هناك، وهناك صحف كثيرة تكتب، وأظن أن ذلك كله على سبيل التحريض والإثارة، ولفت الأنظار. لقد أصبح من السهل أن يقال في الإعلام كله -ومع الأسف الشديد! إعلامنا المحلي يشارك في هذا الوزر- أصبح من السهل أن يقال عن فلان إنه أصولي، أو متشدد، أو متطرف، أو حتى إرهابي. أيها الأحبة: لقد أصبح من السهل أن يتهم فلان بأنه ينتسب إلى الجماعة الفلانية، أو يدعو إلى تلك الجماعة، أو يتعاون معها، وأصبح من السهل أن يتهم هذا الداعية أو ذاك، بأن له اتصالات خارجية، وأن هناك أموراً أنت لا تدري عنها، لكن يعرفها الخبراء ويعرفها المختصون، ويعرفها الخبيرون ببواطن الأمور. إنني أقول لكم والله على ما أقول شهيد، أقول: مع أننا لا نُحَارب الجماعات الإسلامية المخلصة، الملتزمة بمنهج السلف الصالح، والسنة والجماعة، البعيدة عن الانحراف، بل نعتبرها نموذجاً من النشاط الإسلامي الشرعي، الذي يؤيَّد ويُصحَّح، كما هو منهج والدنا الشيخ عبد العزيز بن باز -ولعلي أقرأ لكم فتواه بعد قليل- إلا أننا نرى أن الأفق الواسع الرحب للمسلمين جميعاً، دون أن نقيد أنفسنا بقيد هذه الجماعة أو تلك، أو نقصر أنفسنا في إطار هؤلاء أو أولئك، فكلهم ما داموا من أهل السنة، كلهم إخواننا على حد سواء، ونحن لا نحصر أنفسنا في إطار معين، ولا في انتساب خاص. أما الاتصال بالخارج، فمع أننا لا نقر بالفواصل أصلاً، والحدود الجغرافية والسياسية بين المسلمين، بل نعتز بأي مسلم في أي مكان كان، ونعتبره أخاً لنا، وصوتنا جواب لصوته، وحديثنا رجع لحديثه، ومشاعرنا هي خفق قلبه، ونحن أيضاً ندعو إلى مساعدته، والتعاون معه على البر والتقوى، كما أمر الله عز وجل، إلا أننا نستنكر هذه التهم الملفقة المدروسة، بالانتماء إلى فئات معينة، أو الاستمداد منها، أو التنسيق معها، أو الاتصال بفئة في الداخل أو الخارج. إنه كذب مُفترى، وإنه كلام يروج له اليوم، من أجل التشهير بالدعاة إلى الله تعالى، من أجل الحيلولة بين الدعاة وبين المجتمعات الإسلامية، لأن الناس ربما يصدقون أو يتصورون أن هناك أشياء، ومع كثرة الكلام، اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، والترويج الإعلامي المتواصل الذي تؤيد الصحف فيه الإذاعة، ويؤيد التلفاز الصحف، ويؤيد هؤلاء وأولئك الفحيح الإعلامي الذي لا يتوقف، إنه ربما يهز قناعات المسلمين، أو يؤثر فيهم. وهدف هؤلاء أن يحولوا بين المسلمين وبين دعاة الإسلام، أولاً: لئلا تتأثر الشعوب الإسلامية بالدعاة، ولا تتقبل منهم شيئاً، ثانيا: ليسهل القضاء على الدعوة والدعاة في غفلة الأمة وغيبتها. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 18 ملاحظات على كلام الدمنهوري وقد لاحظت في هذه المقالات المتعددة عدة أمور:- الأول: أن الرجل يطالب بالحوار، ويقول: يجب أن يكون حواراً هادئاً متزناً عقلانياً بعيداً عن التشنج، ولكنه هو كان يرمى الناس بالحجارة، وبالخشب، وبالعصي، وبالعبارات النابية، وأقل ما يرمي به أمثال المشايخ الفضلاء، بأنهم متطرفون، وأنهم يرتقون باسم العلم، وباسم الدين، وهم ليسوا من أهل العلم، ولا يستحقون مثل هذه الأمور، ويتكلم بلهجة متشنجة، هي أبعد ما تكون عن الهدوء، وأبعد ما تكون عن الحوار. ثانياً: أن الرجل يتهم المشايخ والعلماء والدعاة، بأنهم يسعون إلى تمزيق المجتمع وتفريقه، وهذه تهمة قديمة، هو يردد كلاماً قيل من قبل، ولكن الغريب أن الرجل في الوقت الذي يتهم فيه الآخرين بتقسيم المجتمع إلى مسلمين وعلمانيين. وهذه حقيقة قائمة شئنا أم أبينا، فإن الإسلام لا يقسم الناس على أساس دولي أو وطني، أو هذا -مثلاً- من بلد وذاك من بلد، إنما يقسمهم على أساس الدين، كما قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن:2] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} [التوبة:67] . فهذا مقياس شرعي لابد منه شئنا أم أبينا، ولكن الغريب أن الرجل في الوقت الذي يتهم فيه الدعاة، بأنهم يسعون إلى تفريق المجتمع وتمزيقه، إلا أنه هو عمل على تمزيق المجتمع بطريقةٍ جاهلية، حيث إنه وصف الدعاة والمختصين والصادقين بأنهم من المتطرفين، وأنهم يتعاطفون مع إخوانهم المتطرفين في كل مكان، وأنهم قد احترقوا وهلكوا بدعم حسن الترابي، وراشد الغنوشي وغيرهم، من رجال التطرف كما يقول. فهذا لون من تمزيق المجتمع، والإسلام لا يعرف معتدلاً ومتطرفاً، الإسلام يعرف مسلماً صادقاً أو كافراً، والمسلم قد يكون مقصراً كما هو الحال بالنسبة للكثيرين، لكن ما عهد أن المسلم المقصر، أو المخطئ، يعيب ويتهم أولئك المسلمين الصادقين المجتهدين المخلصين، وينتقد عليهم صدق إيمانهم، وصحة يقينهم، وعظم بلائهم وجهادهم. الأمر الثالث: أن الرجل يقوِّل العلماء ما لم يقولوا، ويتمسح بأسمائهم، فقد ذكر الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى بغير مناسبة، ثم ذكر سماحة الوالد عبد العزيز بن باز، بغير مناسبة أيضاً. بل إن من الطريف المضحك المبكى، أنه نقل كلاماً للشيخ عبد العزيز بن باز قاله الشيخ دفاعاً عن الشيخ سفر الحوالي وأمثاله من الدعاة، والله تعالى يشهد على ذلك، وأنا ممن وقفوا على هذا بنفسي، أن ذلك البيان المشهور، صدر دفاعاً عن مجموعة من الدعاة، فالرجل جعل هذا المقال الذي كتبه الشيخ دفاعاً عن الدعاة، جعله كلاماً ينتقده فيه، أويجيره ضد خصومه. الأمر الرابع: أن هذا الرجل يقول في أحد المقالات: إن الشارع العربي حطم مكاسب الدول العربية والإسلامية، أي أن الشارع العربي تحول إلى شارع أصولي، شارع متطرف، وبتعبيرنا نحن، تحول إلى شارع التدين، فهو مستاء من أن نتدين، لم يعد حكراً على طائفة من الناس -في المسجد مثلاً- وإنما أصبح الشارع كله -يعني جمهور الناس- أصبحوا متدينين. فهو يقول: إن الشارع يحطم مكاسب الدول، ويشير بذلك إلى ما يجري مثلاً في الجزائر، ومصر، وفي تونس، في عدد من البلاد التي جمهور الناس فيها ضد أي إجراء يعملونه ضد المسلمين، وفي الوقت نفسه كتب هذا الرجل في العدد الأخير، يقول: إن المواطن يقف مع رجل الأمن جنباً إلى جنب، في مقاومة التطرف. فسبحان الله! المواطن الذي بالأمس يقول: إنه أصولي وإنه متطرف، وإنه يحطم مكاسب الدول. كيف تحول في لحظة واحدة، إلى أن يقف جنباً إلى جنب مع رجل الأمن؟! إننا نعلم أن رجال الأمن في مصر مثلاً، جاءوا إلى أحد المساجد، بهدف القبض على بعض الشباب، وقت صلاة الجمعة، فواجههم الناس كلهم جميعاً ووقفوا ضدهم. وقالوا: لا يمكن أن تأخذوا أحداً وإذا أصررتم على البقاء، فسوف نقاتلكم، فاضطرت أجهزة الأمن إلى الانسحاب، وهذا الخبر قرأته بنفسي في جريدة الحياة، وقد سمعنا ورأينا أن هناك مسيرات تسير في شوارع الخرطوم وغيرها، قوامها أحياناً أكثر من مائتين وثلاثمائة وأربعمائة ألف، تأييداً للمكاسب والانتصارات الإسلامية. وهذا يدل على أن الشعور الإسلامي أصبح شعوراً متزايداً متنامياً في العالم الإسلامي كله، وما يجرى في الهند هو نموذجٌ جديد أيضاً، كيف استطاع الرجل أن يتجاهل كل هذه الحقائق! وجريدته إحدى الجرائد التي تذكرها أحياناً، ليقول: إن المواطن يقف جنباً إلى جنب مع رجل الأمن، إنها ظاهرة غريبة، لقد تكلم أحدهم قبل سنوات، أثناء حرب الخليج، وألَّف كتباً عن بعض الدعاة، وأصدرها في كتيب بعنوان "حتى لا تكون فتنة" وكان لتلك الكتابة ظروفها، التي جعلت قائلها يحاول أن يتنصل منها في إحدى المقابلات معه، في جريدة إسلامية، تصدر في أمريكا. أما أن يحدث اليوم في صحيفة محلية سيارة، وفي مثل هذه الظروف الهادئة نسبياً، أن يستغل منصبه الوظيفي والصحفي، في التشفي من خصومه، فهذا عمل غير شريف، إنه بالتأكيد لن ينشر أي رد، حول هذا الموضوع، يكتب من قبل بعض المخلصين الغيورين، بل إنه اليوم لا يرد حتى على الهاتف، ولا غيره، فأين الشجاعة إذن؟! الجزء: 120 ¦ الصفحة: 19 رسالة موحية النقطة الرابعة: وهي رسالة موحية: لقد بعث إليَّ بعض الإخوة من الخليج، وكانوا قد أقاموا مؤتمراً إسلامياً في أمريكا، بعثوا إليَّ لمشاركتهم، ونظراً لبعض الظروف الخاصة، فإنني لم أتمكن من المشاركة إلا برسالة بعثت بها إليهم، ورد عليَّ مجموعة من الإخوة، وكان هذا أحد الردود التي أثلجت صدري، وأحيت مزيداً من الأمل في قلبي، فأحببت أن أشارككم، أو أشرككم في هذه الرسالة يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد:- قبل عدة ساعات سمعنا رسالتكم الهاتفية، التي بعثتم بها إلى مؤتمر الطلبة الكويتيين، فحركت في نفوس الحاضرين المعاني الكثيرة، خاصة أن الشيخ أحمد القطان قد ألقاها، وحركت في نفسي أن أكتب لكم هذه الرسالة، التي كانت تجول في ذاكرتي منذ أمد تكلم الأخ بعد ذلك عن مشاعره تجاهي، وتجاه إخواني من الدعاة، فأعتذر عن قراءتي ذلك. يقول: وأودُّ أن أعبر لك عن جل مشاعري تجاه أمتي وديني ورسالتي، فأنا مسلم عربي من أرض الجزيرة، يجري في عروقي شيء اسمه همّ الإسلام، لا تغادر مخيلتي صباحاً ولا مساءً تلك المآسي، التي تعصر قلوب المسلمين في شتى بقاع الأرض، حتى صدق قول الشاعر:- أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصاً جناحاه كم صرفتنا يد كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه ثم إني أبعث لطلابك بتحية إعجاب وتقدير، فبلغهم إياه وقل لهم إن الأمة في انتظاركم، فأنتم أملها بعد الله تعالى، وأنتم الورثة الشرعيون لأمجاد أبي بكر، وعمر، وخالد، وسعد، أما نحن الذين قضينا السنين الطوال في علوم الطبيعة -الهندسة- فلسنا إلا مكملين لكم، ولا قيمة لنا بدونكم. ثم إني أردت أن أبشرك كما بشرنا المصطفي صلى الله عليه وسلم، بأن المستقبل في العالم كله هو مستقبل الإسلام، وأود أن أصور لك شيئاً من هذا المستقبل، كما التزم به أنا، أستسمحكم العذر في أن أتكلم عن نفسي، وليس هذا -والله تعالى يشهد- حباً في الذكر أو المديح. وإنما لكي يعلم علماء الأمة، أن في عامة الأمة عروقاً تنبض، تنبض بالحياة، فأنا كما أسلفت أدرس الدكتوراه في أحد التخصصات الهندسية، ومن المتفوقين في الكلية، ثم إني حريص على تلاوة القرآن يومياً، ومطالعة بعض الكتب المفيدة، في السنة والسيرة، ثم إني حريص على التصدق في سبيل الله، وأكفل من اليتامى اثنين، وأُمِّثل إحدى الجمعيات الخيرية لجمع التبرعات في مدينتي، وأحرص على أداء الصلاة في أوقاتها، وجماعة كلما أمكن، كما إنني أعتقد جازماً، أنه لا عودة للإسلام إلا على منهاج النبوة، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث {ثم تكون خلافة على منهاج النبوة} وأرى أن وعد الله لن يتخلف، إذا التزم المسلمون بتعاليم دينهم، وأقاموا أوامره واجتنبوا نواهيه. وأعلم أن رسالتي في التعليم هي إعداد المهندسين المسلمين، الذين يحملون بين أضلعهم قلوباً تهندس للإسلام، وتعمل من أجله، ثم إنني ألمس من زملائي هنا، أكثر مما قلت عن نفسي، وتصور أن أحدنا وهو طالب الدراسات العليا في الهندسة أيضاً، يشغل وقته بدراسة الجامع الصحيح للبخاري، والعقيدة الواسطية للشيخ الإمام ابن تيمية، وآخر يصدر نشرة شهرية تطبع بالمئات، توزع في مشارق أمريكا وفي غيرها. وذلك بمجهوده الشخصي فقط، وهو طالب دكتوراة أيضاً، ومرة أخرى أبلغ تلاميذك الذين يكبون على ركبهم في الدروس، بأن يتقنوا علمهم، وأن يتقنوا الحديث، وأن يستعدوا أن يدرسوا سواهم أو أبناءهم القرآن والتفسير والحديث، لا أقول في بريدة أو جدة، وإنما في دمشق وفي الخرطوم، وفي إسلام آباد، بل وإن شاء الله في واشنطن دي سي، وما ذلك على الله بعزيز. وفي الختام أبلغكم أن السواد الأعظم من المبتعثين هنا، يحبون العلماء والدعاة، ويدعون لهم ولطلابهم بالتوفيق، وهم معهم، ومع علمائنا هنا ملتحمين معهم، كما يلتحم اللحم بالعظم، والله تعالى يحفظ ويرى، ويسدد الخطا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأعتذر عن كتابة اسمي، حتى لا أكون مرائياً، التوقيع: طالب مسلم. هذه أحد البشائر، وأحد الأخبار المبهجة، التي تعيد الأمل إلى القلوب، وتؤكد قرب تحقق ما أخبر عنه الله تعالى، وأخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، من نصر هذا الدين. الجزء: 120 ¦ الصفحة: 20 أوراق متفرقة وهذه بعض الأوراق المتفرقة: أولاً: هذه الفتوى التي أحلت إليها، نشرت في مجلة الحرس الوطني، عدد جمادى الآخرة. السؤال هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية لاحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟ الجواب وجود هذه الجماعات فيه خير للمسلمين، ولكن عليها أن تجتهد في إيضاح الحق مع دليله، وألا تتنافر بعضها عن بعض، وأن تجتهد في التعاون فيما بينها، وأن تحب إحداها الأخرى، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينها وبين غيرها. ولا مانع أن تكون هناك جماعات إذا كانت تدعو إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليهم أن يترسموا طريق الحق ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين، بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، ولكن بالكلمة الطيبة، والأسلوب الحسن، وأن يكون السلف الصالح قدوتهم، والحق دليلهم، وأن يهتموا بالعقيدة الصحيحة، التي صار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته رضى الله عنهم. انتهت فتوى الإمام الشيخ عبد العزيز. وإنني أقول: إن هذه الفتوى بحروفها هي ما ندين الله به، وهو ما يعلمه الله تعالى من قلوبنا، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا في ذلك بصيرة، وأن يتوفانا عليه وأن يجمع كلمة المسلمين على الحق. هذا خبر نشر في الحياة قبل ثلاثة أسابيع، ثم نشر أيضاً في خضراء الدمن قبل أسبوعين. يقول: مع إعلان تأسيس مركز البحرين للتحكيم في فبراير، دول الخليج تستعد لتطبيق القانون النموذجي للتحكيم التجاري، وهو يتكلم عن محكمة تقام في البحرين. خلاصة الخبر: وسوف تستعد دول الخليج كلها للتعامل مع هذه المحكمة، التي سوف تنفذ وتطبق قانون التحكيم التجاري. ولا شك أن هذه إحدى الخطوات الخطيرة، لفرض القوانين الوضعية، وإقصاء الشريعة الإسلامية عن الحكم، وهذا يؤكد ما سبق أن تكلمت عنه في موضوع التنصير، من أن النصارى بدءوا الآن محاولة أن يقدموا النصرانية للمسلمين في ثوب إسلامي. وقلت لكم: إنهم حاولوا تقديم الإنجيل بصورة القرآن وبناء الكنائس بصورة المساجد، وتقديم إذاعة البرامج الدينية بصورة شرعية، وقد جاءتني قصاصة وصورة فيها كتابة للإنجيل على شكل كتابة الآيات القرآنية، ومفصول بينها بفواصل وأرقام، ومكتوبة، وفيها أشياء مثيرة. حتى أنهم قد قاموا بتشكيل الحروف، وفيه باب السكينة مقدسى، سبعة وعشرين، هذه وضعت كما توضع أسماء الصور في المصحف، ثم بسم الله الرحمن الرحيم (1) قل يا أيها الذين آمنوا إن كنتم تؤمنون بالله حقا، فآمنوا بي ولا تخافوا، إن لكم عند الله جنات نزلا (2) فلأسبقنكم إلى الله لأعدها لكم، ثم لآتينكم نزلة أخرى (3) وأنكم لتعرفون السبيل إلى قبلتي العليا، فقال له تومى الحواري: مولانا إنا لا نملك من ذلك علما (4) فقال له عيسى: أنا هو الصراط إلى الله حقا، ومن دوني لا تستطيعون إليه سبيلا (5) ومن عرفني فكأنما عرف الله الخ ما ذكر. لقد أصدروا هذا على شكل القرآن، حتى يضللوا المسلمين ويخدعوهم عن الدين، ويجب أن تعلم أن المسلمين بسطاء وسذج ومغفلين، وقد وجد اليوم مجموعة يسمون أنفسهم بالعيسويين المسلمين، وهي دعوة جديدة في وسط المسلمين، المسلم العيسوي هو: الذي يقبل أن يكون نصفه مسلماً ونصفه نصرانياً. ونحن في ديننا وعقيدتنا نعلم أنه ليس هناك حلول وسط، إما مسلم وإما كافر كما سبق، ولكنهم حاولوا أن يضللوا بسطاء المسلمين بذلك المسلم العيسوي، وهي دعوة جديدة بدأت تجد لها رواجاً في أكثر من بلد إسلامي، وهذا يدعو إلى مزيد من بذل الجهد في مقاومة ومواجهة النصارى، وبالمناسبة فإنني أقول: إن من الواجب علينا أن نسعى في نشر جميع النشرات التي تبين وتحذر من التعاون مع النصارى، أو من المشاركة لهم في أعيادهم. ثالثاً: ومن ذلك الفتوى الذي سبق أن أفتى بها الشيخ محمد بن صالح العثيمين، عن تحريم مشاركة النصارى في أعيادهم، وهناك فتوى أخرى للشيخ عبد الله بن جبرين حفظه الله، فينبغي أن نسعى إلى نشر هذه الأشياء، وإشاعتها بين المسلمين. هذه أيضاً فتوى للشيخ عبد الله بن جبرين، وقد سئل عما يتعرض له إخواننا في بقاع الأرض من التعذيب والتشريد والتقتيل وهتك الأعراض. ومن ذلك ما جرى ويجرى لإخواننا في الهند، على يد الهندوس عليهم من الله ما يستحقون، والتي كان من آخرها ما هز مشاعر المسلمين في العالم أجمع، بهدم المسجد البابري، وهو يزيد كيدهم يوماً بعد يوم. ونحن نرى في بلادنا الكثير من الطائفة مستقدمين -يعني: من الهندوس- مستقدمين للعمل فيها، فما الحكم في استقدامهم، بل وفي استقدام كل من هو على ملة الكفر إلى هذه الجزيرة؟ أفتونا سدد كم الله وبارك الله فيكم. الجواب: قال فضيلة الشيخ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وبعد:- فإن الكفرة والمشركين في كل زمان ومكان يكيدون للإسلام وأهله، ويبذلون قصارى جهدهم في إذلال المسلمين وإهانتهم، والقضاء على معالم الدين، حيث علموا أن الإسلام قضى على أديانهم الباطلة، وحاربهم وأباح قتلهم، واستولى على بلادهم ورقابهم. ولذلك نصبوا العداء لجميع المسلمين في كل مكان، فكان من الواجب على أهل الإسلام، أن يأخذوا حذرهم، وأن يتفطنوا لكل كافر، وأن يجتمعوا جميعاً على إذلال الكفر وأهله، ولا يجوز إكرامهم، ولا رفع أعلامهم، ولا استخدامهم بما فيه إعزاز لهم، مع وجود المسلمين، الذين يقومون مقامهم. ثم بعد هذه الحادثة التي ذكرت في السؤال على المسلمين في كل البلاد، أن يقاطعوا هذه الفئة من الهندوس والسيخ وغيرهم من الكفرة، وأن يقطعوا الصلة بهم، ويردوا إليهم العمالة التي تعمل في بلاد المسلمين، حتى لا يعينوا الكفر على الإسلام، وذلك من الجهاد في إظهار الإسلام وإذلال الكفار، والله أعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، في (15/6/1413هـ) عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين. وأود أن أقول للإخوة أن هذه الفتوى، وفتاوى الشيخ الأخرى، وبعض الأوراق المتعلقة بالنصارى، والتوعية لهم، وكذلك تحريم مشاركتهم في أعيادهم كلها، موجودة لدينا، وممكن أن نصورها لمن أراد، ومن أحب أن يحصل عليها أيضاً من مكتب الدعوة، ومن اللجنة العلمية في مكتب الدعوة فبإمكانه الحصول عليها إن شاء الله تعالى، وهذا كله من باب التعاون على البر والتقوى. هذه قصاصة مفتى الجمهورية أجاركم الله في مصر، وقد سبق أنه أفتى بإباحة الفوائد الربوية من البنوك، وأفتى بالمؤاخاة مع النصارى، والحوار معهم، هاهو اليوم يقول: حماية السائح واجب إسلامي حتى لو كانت دولته معنا في حرب، ثم يقول: الاعتداء على السياح عمل غير أخلاقي، يؤكد نذالة وخسة فاعله. فأسال الله تعالى أن يهدي هذا الرجل إلى سواء السبيل، ولا أقول أكثر من ذلك، لا أريد أن أطاوع لساني، فأسال الله تعالى أن يهديه، وهذا الرجل في الوقت الذي يتكلم فيه عن مجموعة من السواح الفرنسيين، الذين يقال أنهم تعرضوا للضرب من بعض من يسمونهم بالمتطرفين، وجد غيره حماساً للسواح والسياحة، ووصف هؤلاء بأنهم أخساء وأنذال، أو نسب إليهم ذلك على الأصح. لأننا لا نصدق أجهزة الإعلام، أين هو من أعداد غفيرة من الشباب المسلمين، الذين يقتلون في الشوارع، ألا يخاف الله، ألا يتقى الله؟! {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4-6] . أسأل الله أن يولي على المسلمين خيارهم، وأسال الله أن يهدي المسلمين حكاماً ومحكومين، أفراداً وشعوباً إنه على كل شيء قدير، وأسأل الله أن يهدي علماء المسلمين، إنه على كل شئ قدير. هذه جريدة خضراء الدمن التي سبق أن حذرناكم منها مراراً، ولا زلت أطالبكم بمزيد من الحصار عليها، بعد ما تبين لنا أن الحصار قد فعل فعله. وقد كتبت في عدد الأربعاء (29/2/1992م) مقالاً تقول فيه: إقبالٌ واسع لسيدات الأعمال على رياضة الجولف، وتكلمت عن هذه الرياضة وتعميق أواصر الصداقة، وعقد الصفقات التجارية والترويح عن النفس بين السيدات، وتشجيع النساء على ممارسة رياضة الجولف، وصورت في الجريدة لاعبة الجولف الأمريكية في انتظار دخول كرتها إلى الحارة. وكذلك كتبت في عدد آخر مقالاً عنوانه " مخاوف من انتشار الأفغنة " وذلك في يوم الخميس (29/6/1413هـ) تكلمت فيه عن مخاوف انتشار الأفغنة أي الاتجاهات الإسلامية القوية، في الجمهوريات السوفيتية وفي أفغانستان، وفي باكستان وفي مناطق المغرب العربي، بل وفي منطقة الخليج العربي. ونقلت كلاماً لمتحدث إسرائيلي عن خطر ذلك على بلاده، وأن بلاده تملك السلاح النووي، وأنه لابد أن تدافع عن نفسها، وقال المتحدث الإسرائيلي: إن بلاده تمتلك بالفعل السلاح النووي، وقال: إن أكثر الأحزاب حمائمية في الائتلاف الحاكم الآن، وهو حزب لرتس، ليس على استعداد لمناقشة فكرة نزع السلاح النووى إلخ التقرير والمقال. وسبق أن ذكرت لكم الجهاز الذي يغير الصوت من رجل الى امرأة، ومن كبير إلى صغير، وأن هذا الجهاز يباع، وهو يباع فعلاً، ولكن هذا تعميم لبعض مراكز الهيئات في القصيم، يطالب فيه رئيس الهيئة سابقاً، المكلف الشيخ إبراهيم بن عبد الله الضالع، بسحب هذا الجهاز، بناءً على التعليمات الصادرة من مصلحة الجمارك، لعدم السماح لدخول مثل هذه الأجهزة، واتخاذ الإجراءات النظامية لمن وجدت لديه، ومع ذلك ومع شكرنا للهيئة على جهودها الكبيرة، إلا أننى أقول: إن هذا الجهاز لا يزال يباع في أماكن عدة في جدة والرياض وغيرها. هذا أيضاً ضمن ما يتعلق بخضراء الدمن، فقد كتبت مقالاً في الوقت الذي يذبح فيه المسلمون، كتبت مقالاً عنوانه "بنات روسيا يبحثن عن فتى الأحلام في أمريكا". وذكرت الجريدة كتلوجات تصور البنات الروسيات الجميلات، وصورت نموذجاً من ذلك، من أجل إغراء الرجل الأمريكى بالزواج منهن، وكأن المسلمين ليس لهم قضية، وهى معنية كثيراً بمثل هذه الأخبار، التي تثير الشباب وتحرك غرائزهم. هذه قضي الجزء: 120 ¦ الصفحة: 21 أسباب تحصيل السعادة إن السعادة هي غاية يطلبها كل البشر، والإنسان دائماً يبحث عنها بكل ما أوتي من قوة، والناس بين مصيب في البحث عنها، ومخطئ، وهم كثير، فالسعادة ليست في جمع المال، ولا في تحصيل الملذات والشهوات، فيا ترى ما هي السعادة؟ وما هو السبيل إلى تحصيلها، وما هي الطريق إليها؟ هذا هو ما تتناوله هذه المادة. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 1 السعادة غاية يقصدها كل البشر إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فشكر الله للإخوة القائمين على هذه المراكز جهودهم الكبيرة المحمودة في توجيه الشباب، وشغل أوقات فراغهم، فيما يعود عليهم وعلى أمتهم بالخير العميم، وإن هذه الجهود لتستحق الإشادة والثناء، ونسأل الله عز وجل أن يجزيهم عنها خير الجزاء، وأن يشد على أعوادهم، ويقوي عزائمهم، ويهبنا وإياهم الصبر والثبات، إنه على كل شيء قدير. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 2 البحث عن السعادة إنك -أيها المسلم- حين تتلفت حولك في هذه الدنيا، فتجد جموعاً غفيرةً من الناس، مختلفةً ألوانهم وأشكالهم وأديانهم وأخلاقهم وأجناسهم، وتجد هذه الجموع الغفيرة كلها تكدح في الحياة كدحاً، وتسعى فيها سعياً حثيثاً. تقف لتسائل نفسك: عن أي شيء يبحث هؤلاء؟ وماذا يريدون؟ وأي غاية يقصدون؟ تقف لتتأمل فتجد أغراضهم شتى، ومقاصدهم مختلفة متباينة، وهنا تقف لتسأل نفسك سؤالاً آخر: هل توجد غاية أو هدف محدد معين يتفق الناس كلهم، أولهم وآخرهم على البحث عنه والرغبة فيه والحرص على تحصيله؟ هل يوجد هدف معين يتفق عليه هؤلاء الكادحون جميعاً على البحث عنه؟ الجواب إنه لا يوجد هدفٌ يسعى الناس جميعاً في تحصيله إلا هدفٌ واحد، وهو السعي لطرد الهموم عن قلوبهم، وتحصيل ما يسمونه: بالسعادة. أما ما عدا ذلك من الأغراض مهما تكن فإن الناس لا يتفقون على طلبها، فإن من الناس -مثلاً- من لا يسعى في العمل للآخرة وطلب مرضات الله عز وجل؛ لأنه غير مؤمن وغير مسلم وغير مستعدٍ ليوم المعاد، ولا راغبٍ في رضوان الله تعالى، ومثل هذا لا يعمل للآخرة. وهناك من الناس من لا يرغب في تحصيل العلم، وهم عامة العوام الموجودون في زمانك هذا وفي كل زمان، لا يشعرون بقيمة العلم، ولا يرغبون في تحصيله. ومن الناس من لا يرغب في المال، وذلك كالرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإنهم لا رغبة لهم في الأموال، زاهدون فيها معرضون عنها، ومن الناس من لا يرغب في الشهوات الدنيوية المحضة، وهكذا كل مطالب الدنيا التي يركض البشر خلفها، يتفاوتون فيها، فيسعى بعضهم إليها، وبعضهم الآخر لا يسعى إليها، ولا يرغب في تحصيلها، إلا أن هناك مطلباً واحداً يتفق الجميع على أنه مطلب محمود، بل ويسعون إليه بكل ما أوتوا من الوسائل، هذا المطلب هو: الحرص على دفع الهموم والغموم عن قلوبهم، أو بعبارة أخرى: الحرص على تحصيل السعادة. والسعادة كما يعرفها علماء اللغة هي: أصل يدل على الخير والسرور، وهي: ضد الشقاوة، وخلاف النحس. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 3 نظرة خاطئة في طريق السعادة أيها الإخوة: إذا عرفنا جميعاً أن الناس يتفقون في البحث عن السعادة، فإننا يجب أن نعرف أيضاً أن كثيراً منهم يخطئون طريقها، فالفقير يحسب السعادة في الغنى، فيسعى لجمع المال بكل وسيلة، والمريض يحسب السعادة في الصحة والعافية فيسعى إلى نيلهما وتحصيلهما، والضعيف يظن السعادة في القوة، والشخص الخامل المغمور يظن السعادة في الجاه والشهرة، والمخفق يظن السعادة في النجاح، وهكذا يظن كثيرٌ من الناس أن السعادة في تحصيل المطالب التي طويت عنهم، وحرموا نيلها وتحصيلها، فيسعون إلى نيل هذه المطالب بكل وسيلة. وأنت إذا نظرت إلى هذه الأشياء التي يسعى الناس إلى نيلها وتحصيلها؛ وجدت أنها في الحقيقة لا توصلهم إلى نبيل السعادة؛ لأن السعادة كما سبق هي: طرد الهم والغم عن القلب، وطلب هذه الأشياء -من المال، أو الجاه، أو الشهرة، أو المنصب، أو الصحة، أو النجاح- بمجردها ولذاتها لا لغيرها، لا يزيل الهم عن القلب، وإن تخيله بعض الناس كذلك، بل إن طلب هذه الأشياء ونيلها؛ يجر إلى الإنسان آلاماً وهموماً كثيرةً، فيا ترى ما هذه الآلام والهموم والغموم، التي يجرها سعي الإنسان لتحصيل هذه الأعراض الظاهرة من مالٍ، أو جاهٍ، أو صيتٍ، أو غيرها؟! أولاً: يصيب الإنسان الهم والغم، بعدم تحصيله لكل ما يريد، فكم من إنسان سعى سعياً حثيثاً لنيل المال -مثلاً- فأخفق في ذلك، وكانت نتيجة سعيه أن أثقلت كاهله الديون الكثيرة. إذاً فقد يصيب الإنسان الهمُّ، بحرمانه من هذه الأشياء التي يسعى في تحصيلها، أو من بعضها، وقد يصيبه الهم من خوفه من زوالها بعد الحصول عليها، فكم من إنسان جاءته الدنيا وأقبلت عليه، فتجده مع ذلك قلقاً خائفاً أن ترتحل عنه هذه الأعراض، وأن تزول عنه بين عشيةٍ وضحاها، ولذلك كان كثيرٌ من المتشائمين، وإن أقبلت عليهم الدنيا، فإن قائلهم يقول: يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحاراً فحتى والإنسان يتمتع بهذه الأعراض، فإن الهم يأتي إلى قلبه من خوف زوالها، ثم إن هذه الأعراض قد تزول -فعلاً- بعدما حصل عليها الإنسان، فيبقى الهم لا يغادر قلبه، وكلنا يعرف كم من غنيٍ افتقر بعد غنى، وكم من حاكم دانت له الرقاب، وذلت له الرءوس، فإذا هو بين عشية وضحاها شريداً طريداً، وكلكم يذكر -مثلاً- قصة حاكم إيران، الطاغية المتجبر، الذي كان يحلم بإقامة امبراطوريةٍ عظمى، فإذا به بين عشيةٍ وضحاها يخسر عرشه، ويخرج طريداً من بلاده، ويهرب من بلدٍ إلى آخر لا يأمن على نفسه، ولا على ماله أو ولده، ثم يموت شرَّ ميتة بالصورة التي يعرفها الجميع. إذاً: فهناك همٌ ثالث يصيب الإنسان، وهو: زوال هذه الأعراض بعد حصوله عليها. وهناك هم رابع يصيب من نالته أو من نال هذه الأعراض، وهو: أن يخشى أن يزول هو عنها، فإن هذه الأعراض إن لم ترتحل عنك، فإنك سوف ترتحل عنها بالموت لا محالة، ولذلك فالموت سيفٌ مصلتٌ على رقاب الجبارين، لأنه لا أحد مطلقاً يطمع في النجاة منه والخلود أبداً، وهذا همٌ لا يغادر قلوبهم أبداً. الهم الخامس الذي يصيبهم؛ هو: ما يغشى قلوبهم ويعتريها، حين يرون من يفوقهم في هذه الأعراض، فالغني إذا رأى من هو أغنى منه اكتأب، والحاكم إذا رأى من هو أكثر منه في رقعة البلاد التي يحكمها، أو عدد البشر، أو غير ذلك اكتأب، والقوي إذا رأى من هو أقوى منه اكتأب، وهكذا الهم السادس: هو ما يصيب قلوب هؤلاء الذين حصلوا على بعض الأعراض الدنيوية، مما يسمعونه من ذم الناس لهم، وعيبهم لهم، فأنتم تعرفون -مثلاً- أن هناك أغنياء يملكون الأموال الطائلة، ثم تجدون كثيراً من الناس يتكلم فيهم، وينال منهم بأي صورةٍ من الصور، فالإنسان الذي يملك الغيرة الدينية، يقول: تعساً لهؤلاء الأغنياء، ما أغنى عنهم مالهم، إن هذه الأموال يعذبون بها في الدنيا، وتزهق أنفسهم وهم كارهون، ويعذبون بها في قبورهم وآخرتهم، والإنسان الذي يحس بالغيرة الوطنية يقول: تباً لهؤلاء الأغنياء، إنهم تنكروا لأوطانهم وبلدانهم، فأصبحوا ينفقون الأموال الطائلة في بلاد أوروبا وغيرها، ولا تستفيد منهم بلدانهم التي ينتسبون إليها، وأقاربهم يقولون: ليس لنا إلا الاسم، أما غير ذلك فلم ننتفع منهم وهكذا فيشقى هؤلاء الأغنياء، بالذم الذي يسمعونه على ألسنة الناس. وأخيراً يشقى هؤلاء كلهم أو معظمهم بما يعرفونه من العذاب الذي أعده الله عز وجل لمن استعمل هذه الأعراض في غير مرضاته، فسواء آمنوا بهذا العذاب المنتظر لأمثالهم إيماناً حقيقياً، أو ظنوا أنه سيصيبهم، أو خافوا، ففي جميع هذه الحالات هم يعذبون بالوعيد الذي ذكره الله عز وجل في كتابه لأمثالهم. لذلك كله، فإن الإنسان يخطئ حين يعتقد أن السعادة، وطرد الهم والغم عن قلبه، يكون بتحصيل الأعراض الدنيوية، وتحصيل المال، والسمعة والصيت والجاه، أو بتحصيل المركز والوظيفة، أو القوة، أو بتحصيل الشهادة الدراسية، أو الشهوة الحيوانية، يخطئ الإنسان طريق السعادة حين يقضي عمره وأيامه في البحث عن هذه الأعراض الزائلة، وحينئذٍ يسأل الإنسان: وهل هناك سعادةٌ أو لذةٌ يشعر بها الإنسان غير هذه السعادة؟ الجزء: 121 ¦ الصفحة: 4 السعادة الحقيقية لقد ذكر شيخ الكاتبين في مصر الأديب المشهور/ مصطفى المنفلوطي، في كتابه الذي سماه"بالنبرات" قصة سماها "قصة الصياد" وخلاصة هذه القصة: أن أحد أصدقائه قال: إن رجلاً قرع عليه الباب، فخرج فإذا هو بصياد ممن يصيدون السمك، وإذا معه سمكةٌ كبيرة، وقال له -بعد أن سلم عليه وحياه- أتشتري مني هذه السمكة؟ قال: فلم أساومه عليها بل سألته مباشرةً: كم تريد عليها؟ فقال: أريد عليها كذا وكذا. قال: فنقدته الثمن حالاً، فارتاح الصياد لهذا، وشكرني ودعا لي، وقال لي -وقد رأى علي مظهر الغنى والثرى. قال: جعلك الله سعيداً في نفسك كما جعلك سعيداً في مالك. قال: فقلت له: أيها الصياد، وهل هناك سعادة غير سعادة المال؟ قال لي: أجل! إن سعادة المال لا قيمة لها، ما لم يكن الإنسان سعيداً في نفسه. فقال له: وهل أدركت سعادة النفس؟ قال: نعم، إنني وأنا الرجل الفقير، أحس في قرارة قلبي بسعادة لا حدود لها. قال: وكيف تشعر بالسعادة، وأنت ترى هؤلاء الأغنياء أصحاب الأموال الطائلة والقصور الفارهة والمراكب الفخمة؟ قال له الفقير البسيط: وأي شيءٍ أغنت عنهم هذه الأموال التي وجدوها، وهي لم تمنحهم السعادة التي يبحثون عنها، إن هذا مما يزهدني في المال، أنني أرى الذين حصلوا عليه هم أكثر الناس شقاءً به، يشقون في جمعه، ثم يشقون في المحافظة عليه، ويشقون في تنميته، ويشقون به في الدنيا والآخرة. أما أنا -الصياد الفقير- فإني أجد لذةً في حياتي حياتي البسيطة البعيدة عن التكلف والتعقيد، بين أولادي وزوجي في هذا الكوخ المتواضع، ولا أشعر لأحدٍ بمنةٍ علي إلا لله عز وجل، فأتوجه إليه بالعبادة والشكر والتعظيم، وأتعرف عليه بأسمائه وصفاته، وأتقرب إليه بألوان العبادة بكرةً وعشياً. فتعجب هذا الرجل الغني من هذا المنطق القوي، الذي يتحلى به هذا الفقير. أيها الإخوة: إنك حين تبحث عن السعادة الحقيقية تجد أنها شعورٌ في النفس والقلب، حيث ينفسح وينشرح فيشعر بالسعادة، حتى مع فقد جميع الأعراض الدنيوية، ويضيق القلب ويظلم، فيشعر بالقلق والشقاء، حتى مع وجدان جميع الأعراض الظاهرة الزائلة. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 5 أعظم الناس شعوراً بالسعادة هم أكثرهم عملاً للآخرة وأعظم الناس شعوراً بذلك، وإدراكاً لهذه السعادة هم أعظم الناس عملاً للآخرة، واستعداداً لها، وتضحيةً في سبيل الله عز وجل، ولذلك فإن للنبي صلى الله عليه وسلم من السعادة في الدنيا وفي الآخرة، أكملها وأزكاها وأوفاها، يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:1-4] أي: قد شرحنا لك صدرك، ووسعناه وطمأناه بالإيمان والعلم النافع والنبوة، وأعطاه الله عز وجل ما ذكره في هذه السورة، من الرفعة والنعيم في الدنيا والآخرة. ولأتباع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الشرح والسعادة والنعيم في الدنيا والآخرة، بقدر كمال اتباعه له صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] فمن شرح الله صدره للإسلام ووسعه للإيمان، فهو على نورٍ من ربه، يتحرك في هذه الحياة وهو يعرف لماذا جاء إلى هذه الدنيا؟ وكيف يقطع هذه الرحلة القصيرة عليها؟ وإلى أين سينتهي به المقام؟ وما هو مصيره في الآخرة؟ فيشعر بالأنس والسعادة، ويتلذذ بطاعة الله تعالى ومناجاته. أما الكافر فهو على الضد من ذلك، يسمع الآيات القرآنية، ويسمع ذكر الله عز وجل فيزيد هذا قلبه قسوةً وجموداً، فقلوبهم قاسيةٌ من ذكر الله، و (من) هاهنا سببية، أي: قلوبهم قاسية بسبب ذكر الله عز وجل وهكذا الكافر لا يزيده الله تعالى إلا قسوةً في قلبه، وقد تكون (من) ابتدائية، فيكون المعنى: أن قلوبهم قاسية بسبب بعدها عن ذكر الله عز وجل فهي معرضةٌ غافلةٌ عن ذكر الله، وهاهنا تكون من للابتداء، ويقول الله عز وجل: {ضَرَبَ اللَّهُ مثلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مثلاً} [الزمر:29] . فهذا الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون، هو مثلٌ للمشرك الذي يعبد آلهةً شتى، فيصبح قلبه متشعباً في الأودية والشعاب، هذا يأمره بأمر، وذاك يأمره بضده، أما المؤمن الموحد لله عز وجل فقلبه على وجهةٍ واحدة. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 6 العمل لله عز وجل هو حقيقة السعادة لذلك فإن السبيل الوحيد -إلى تحصيل السعادة، وإلى طرد الهموم- السالم من جميع المنغصات، هو: العمل لله عز وجل، والتوجه إليه تبارك وتعالى بكل النفس والقلب، والإعراض عن كل ما سواه من المخلوقين. ولذلك فإن الإنسان الذي يعمل لله عز وجل يكون في سرور أبداً، فهو إذا حصل ما يعمل من أجله أصابه السرور، وإذا انتصر أصابه السرور، وإذا انهزم أو لم يحصل على ما يريد أو أخفق، فإنه لا يغتم لذلك؛ لأنه يعرف أن الأجر الذي وعده الله عز وجل مرتب على العمل وليس على النتيجة. ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: ما يصنع بي أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري، حيثما ذهبت فهي معي لا تفارقني، سجني خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة. فالسعادة مستقرها القلب، ولا سبيل لهم على القلب، فإن سجنوه تفرغ للعبادة، وإن آذوه شعر بأن هذا الإيذاء في ذات الله، فوجد من سرور القلب ونعيمه بهذا الأذى ما لا يجده الناس الذين يظن أنهم سعداء يتقلبون على فرش الحرير والديباج، وإن نفوه من بلده شعر بأن هذه سياحة، وأقصى ما يفعلون به أن يقتلوه، وهذه شهادة يتمناها كل مسلم صادق، ويدعو الله عز وجل أن يبلغه منازل الشهداء، فيحتار أعداؤه فيه. وها نحن أمام داعية من الدعاة المعاصرين يشرد من بلده ويطرد ويؤذى بألوان الأذى، فلا يأبه بما يصنع الأعداء وما يضعون أمامه من العراقيل، فيقول ضمن قصيدة طويلة: ولو ملكت خياري والدنا عرضت بكل إغرائها في فنها العجب لما رأت غير إصراري على سنني وعادها اليأس بعد الهدِ والنصبِ قلبي خليٌ عن الدنيا ومطَّلبي ربي فليس سراب العيش من أربي ثم يقول وقد فقد كثيراً مما يجده الأغنياء والمترفون، وأخرج من بلده وتغرب، وفارق أهله وأصدقاءه، يقول بلسان المؤمن الصادق: ربي لك الحمد لا أحصي الجميل إذا نفثت يوماً شكاة القلب في كرب فلا تؤاخذ إذا زل اللسان وما شيء سوى الحمد في الضراء يجمل بي لك الحياة كما ترضى بشاشتها فيما تحب وإن باتت على عضبي رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب وهذا الشعور ليس شعوراً خاصاً بهذا الداعية، أو بذلك الإمام الجليل، بل هو شعورٌ وجده كل مسلم صادق، وهو يفقد ما يفقد من زخرف الدنيا، وجده محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة، ووجده أصحابه وهم يطردون منها كل مطرد، ووجده المؤمنون في غزوة أحد وهم يهزمون , ووجده أصحاب الرجيع وهم يقتلون، ووجده كل مؤمنٍ يجد الأذى في ذات الله عز وجل فيعوض عما فقد من هذه الدنيا، بهذا السرور القلبي، الذي لا يمكن أن يوصف، وإنما عبر عنه هذا أو ذاك، عبروا عنه على لسان الجميع. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 7 أسباب تحصيل السعادة وحين ننظر إلى الأسباب التي حصل بها النبي صلى الله عليه وسلم، أو حصل بها أتباعه هذه السعادة نجد أنه يمكن تلخيصها واختصارها في الأسباب التالية: الجزء: 121 ¦ الصفحة: 8 شجاعة القلب وجراءته السبب السادس من أسباب السعادة: شجاعة القلب وجراءته. فالإنسان الشجاع واسع البطان، مسرور القلب، بهيج النفس، وبضد ذلك الجبان، فإن السعادة كما يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: حرام على كل جبان، كما هي حرام على كل بخيل، والمقصود بالشجاعة: هي قدرة الإنسان على ضبط نفسه، فيما يحتاج إلى ضبط وإحجام، وعلى الاندفاع والإقدام، فيما يحتاج إلى الإقدام. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 9 إخراج الأعراض الرديئة من القلب السبب السابع: إخراج دغل القلب، وإخراج الأعراض الرديئة من القلب. فالإنسان الذي يحس بالحسد للناس -مثلاً- أو بالحقد عليهم، لا يمكن أن يكون سعيداً؛ لأنه لا بد أن يجد سروراً يصيب من يحسدهم، وخيراً ينزل بهم، فيغتم لذلك، أما من يحب للناس الخير كما يحب لنفسه، فإنه يفرح بما أصاب الناس من خير، فيكون ما أصابهم سبباً أيضاً لسعادته وسرور قلبه. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 10 ترك فضول النظر والاستماع والكلام وغيره السبب الثامن: ترك فضول النظر والكلام والاستماع، والأكل. والمقصود بفضول هذه الأشياء: الزيادة منها التي لا حاجة إليها، لا تكثر من الكلام بلا فائدة، أو النظر بلا فائدة، أو الأكل، أو النوم، أو المخالطة التي لا فائدة منها، فإن الزيادة من هذه الأشياء حمى للقلب، ومن أكثر منها شعر بظلمة في قلبه، واسوداد فيه، ومن قلل منها واقتصر على القدر المطلوب المناسب وجد من اللذة ما يجد. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 11 الإيمان الحق بالقدر السبب التاسع: الإيمان الحق بالقدر حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وهذا يجعل المؤمن مطمئناً لما يمكن أن ينزل به من المصائب والهموم، فإذا نزل به شيئٌ من ذلك، كان متوقعاً له هادئ النفس غير جزعٍ من ذلك. هذه جماع الأسباب التي يحصل بها للإنسان السعادة في الدنيا، وكما ذكرت فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد تحقق بهذه الأسباب أعظم تحقق، فحصلت له السعادة من جميع نواحيها، فأنت إذا اقتديت به في ذلك، أدركت من السعادة بقدر كمال الإقتداء. وليس المقصود السعادة الدنيوية فحسب، بل إن للمؤمن مع سعادة الدنيا سعادة الآخرة، ولذلك يقول الله عز وجل عن المؤمنين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس:62-64] ويقول سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ويقول سبحانه: {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:31] ويقول سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] . أيها المسلم: إنك حين ترى الناس من حولك، وهم يركضون وراء المقاصد التي ظنوا فيها السعادة، يجب أن تدرك أن هؤلاء القوم قد أخطئوا طريقها، وأن طريقها أمامك واسعٌ واضحٌ مستقيم، فعليك أن تسلك السبيل الموصل إلى السعادة، حتى تحظى بخيري الدنيا والآخرة. أسأل الله أن يجعلني وإياكم ممن عاشوا عيشة السعداء، وماتوا ميتة الشهداء، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 12 محبة الله تعالى السبب الثالث من أسباب تحصيل السعادة: محبة الله تبارك وتعالى بكل القلب، والإقبال عليه، والتنعم بذكره. ولذلك كان العباد والمحبون يعيشون في أعلى درجات السعادة، حتى يقول قائلهم: إنه لتمرُّ بالقلب ساعات يرقص فيها طرباً، حتى إنني لأقول: إن كنت في الجنة في مثل هذا، فإني إذاً في عيشٍ طيب ساعات يرقص القلب فيها طرباً، ابتهاجاً بالقرب من الله تبارك وتعالى والأنس بذكره، والتلذذ بمناجاته، وبضد ذلك، فإن من أسباب الشقاوة أن يتعلق قلبك بغير الله عز وجل. ولذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: من تعلق قلبه بشيءٍ غير الله تبارك وتعالى عذب به، وذلك لأن الإنسان قد يتعلق قلبه بغير الله، من المحبوبات والمعشوقات، بالصور الجميلة، سواء كانت صورة امرأة، أو صورة شاب، أو كانت تعلقاً بدنياً، أو بجاهٍ، أو بأي أمرٍ آخر، فيصبح قلبه متألهاً لهذا المحبوب متعبداً، حتى ليقول القائل من هؤلاء المصابين بلوثات الوثنية عن محبوبته: لا تدعني إلا بياعبدها فإنه أشرف أسمائي وحتى ليبلغ تقديس الوطن -مثلاً- على لسان أحد الشعراء أن يقول: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا ويقول آخر: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي إذاً: تعلق القلب بغير الله تبارك وتعالى سببٌ لأن يعذب الله هذا القلب المتعلق بغيره، بهذا الشيء الذي تعلق به، فتجد واحدهم -مثلاً- قضى حياته كلها بالتعلق بمعشوقة بغض النظر عمن تكون، ثم لم يتح له أن يجتمع بها، ولا أن يسعد -فيما يعتقد- هو بلقائها، فمات محروماً من الخير كله، لا هو حصل على ما يريد من هذه المحبوبة، التي ملأت عليه قلبه، ولا هو عاش حياته بعيداً عن هذا الشقاء، فمات ميتة التعساء الأشقياء. وليس يغني عن هؤلاء العشاق شيئاً أن يكون بعض الناس يقرءون قصائدهم فيجدون المتعة فيها، فأي غنى لهذا العاشق وهو في ظلمة قبره أن يردد الناس اسمه، أو يتغنوا بقصائده، أو يتمدحوا بالمواقف التي حصلت له، إنها الشقاوة تحيط به، وتحيط بقلبه من جميع جوانبه، وهكذا من تعلق قلبه بغير الله تعلق حبٍ وذلٍ وتأله، فإنه يعذب بهذا الشيء الذي تعلق به. ولذلك تجدون الشباب الذين يركضون خلف الأغاني المنحرفة، ويكثرون من سماعها، فتتأثر قلوبهم بذلك، تجد أنه لا مكان للقرآن، أو للذكر، أو للذة المناجاة في قلوبهم، وهذا مصداق ما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله حيث يقول: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلب عبدٍ ليس يجتمعان الجزء: 121 ¦ الصفحة: 13 ذكر الله تعالى على كل حال السبب الرابع: دوام ذكر الله تعالى على كل حال. وهذا أثر من آثار المحبة، فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، فإذا أحب العبد ربه تبارك وتعالى فإنه يأنس بذكره فيزداد لذلك أنساً، ويزداد به سعادة. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 14 الإحسان إلى المخلوقين السبب الخامس: الإحسان إلى المخلوقين. فإن الإنسان الذي يبذل نفسه للناس، وماله، وجاهه، وما يستطيع في إيصال الخير الدنيوي والديني إليهم؛ يجد في قلبه من السعادة واللذة الشيء العظيم، وهذا السر وضعه الله عز وجل في قلوب العباد، فتجد الناس الذين تتحرك أريحيتهم لخدمة الآخرين والإحسان إليهم، وإيصال ألوان المعروف إليهم يشعرون في قلوبهم بلذة وسعادة بالبذل، أعظم بكثير مما يشعر الآخذون بالأخذ، أي الكرماء والأجواد، الذين جبلوا وطبعوا على ذلك، يشعرون بلذة العطاء، أكثر بكثير مما يشعر الآخذ بالفرح والسرور واللذة، لهذا المال الذي أخذه. ولكن يشترط لذلك: أن يكون هذا العطاء، وهذا الإحسان الذي تقدمه للآخرين، بدون انتظار مقابلٍ من الناس، فإن الذي يحسن إلى الناس، وهو يشعر بقيمة العطاء، ويشعر بأنه أعطى وقدم، ويدرك قيمة ما بذل، يصبح منتظراً أن يرد الناس إليه الجميل، وأن يقابلوا إحسانه بالإحسان، ومعروفه بالمعروف، فيفاجأ بأن كثيراً من الناس قد لا يكونون كذلك. فكم من إنسان تحسن إليه فيسيء إليك، أو على الأقل لا يشعر بقيمة هذا الإحسان، فمن أعطى وهو ينتظر المقابل، فإن عطاءه لا يدوم، بل سرعان ما يخيب أمله في الناس، وينطوي على نفسه، ولذلك لو قرأتم في بعض كتب الأدب -مثلاً- لوجدتم فصولاً في ذم مخالطة الناس، وفي عيب الناس، ووجدتم كثيراً من القصص والأحداث. فمن أعطى الناس من أجلِ الله عز وجل، ودون انتظار مقابل من الناس يشعر في قلبه بالسرور أكثر بكثير مما يشعر غيره من الناس، وبضد ذلك فإن الإنسان الذي يمنع عن الناس عطاءه؛ يجد في قلبه من الظلمة بقدر ذلك. ولذلك جاء في الصحيحين عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب مثلاً للمتصدق والبخيل، فقال: {مثل المتصدق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد، من تراقيهما إلى ثدييهما، فالمتصدق إذا أراد أن يتصدق اتسعت هذه الجبة أو الجنة، حتى تقفو بنانه وتعفو أثره، أما البخيل فإنه إذا أراد أن يتصدق لزقت كل حلقةٍ من هذه الجبة مكانها وتضايقت، فلا ينفق أبداً} . فهكذا الكريم إذا أراد أن يتصدق وهكذا البخيل، وأشد من ذلك من لم يقتصر على منع خيره عن الناس، بل تعدى ذلك إلى إيصال شره إلى الناس بالظلم -مثلاً- فإن الذي يظلم الناس لا يشعر للسعادة بطعم، فهو يدرك دائماً وأبداً أن هذا الظلم سيحيق به يوماً من الأيام، ويتذكر هؤلاء الناس الذين ظلمهم وأساء إليهم؛ فيشعر بالحزن والهم والغم؛ لذلك. فاحرص -أيها المسلم- إن كنت باحثاً عن السعادة على أن تكون كريماً معطاءً جواداً، ليس بالمال فقط، بل جواداً بنفسك، تجود بالابتسامة للناس، وبالعطاء، والإحسان، تجود بالإحسان بكل صوره وألوانه، وانظر كيف كان إمامك ومتبوعك، صلى الله عليه وسلم يحسن إلى الناس، فاقتفِ أثره في ظروف الإحسان، تجد لذلك من اللذة ما يغريك للزيادة والمواصلة في هذا الطريق. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 15 العلم النافع السبب الثاني من أسباب السعادة: العلم. والمقصود بالعلم العلم النافع الموروث عن النبي صلى الله عليه وسلم، العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ودينه، فإن هذا العلم يفسح القلب، فقد يطلب الإنسان العلم كما قال الإمام الزهري رحمه الله وقلبه شعبٌ من الشعاب، فما يزال في طلبه حتى يصبح قلبه وادياً من الأودية، وقد يكون مراد الإمام الزهري: أن الإنسان تتسع مداركه للعلم وهذا صحيح، ولكن يدخل في ذلك أيضاً: أن الإنسان كلما تزود بالعلم النافع اتسع صدره، وانشرحت نفسه، وبضد ذلك فإن الجهل ظلمة تخيم على قلب صاحبها، فلا يأنس بشيءٍ بعده أبداً. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 16 الإيمان والتوحيد السبب الأول: الإيمان والتوحيد. فإن للمؤمن من السعادة بالإيمان بالله عز وجل مالا يجده غيره، ولذلك تجد الكافر مظلم القلب والنفس، قلق الفؤاد، ولو قرأت ما تغنى به الشعراء الكافرون، وما عبروا به عما يحسونه في نفوسهم من الضيق؛ لشعرت ببعض ما يعانونه من ذلك، وهم يحاولون طرد هذه الهموم عن قلوبهم بالسكر -مثلاً- ليفقدوا عقولهم، ويفقدوا الشعور بالحياة، أو بغير ذلك من ألوان اللذائذ الدنيوية التي يتعاطونها، فلا يزيدهم هذا إلا قلقاً وظلمة. فيلجئون أخيراً إلى التخلص من هذه الحياة الدنيا بالانتحار، وإن أعلى نسب الانتحار اليوم هي في أعلى بلاد العالم حضارة، وفي التيسيرات المادية الهائلة، وهي ما تسمى بالدول الاسكندنافية ففيها أعلى نسبة لدخل الفرد، وبالمقابل فيها أعلى نسبة للانتحار، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي من طرقٍ موصولة ومرسلةٍ يشد بعضها بعضاً -كما يقول الحافظ ابن كثير - يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح، قالوا: يا رسول الله! وهل لذلك من علامة؟ قال: نعم. التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل نزوله} . إن هذا هو العمل في سبيل الله عز وجل والتوجه بكل النفس والطاقات إلى الله تبارك وتعالى والدار الآخرة. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 121 ¦ الصفحة: 18 علاج السأم والملل السؤال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: تمر على الإنسان أثناء عيشه مع إخوانه في الله، ومع العمل في الدعوة إلى الله؛ حالات يحس فيها بالملل والضيق، ما أدري ما السبب؟ وكيف علاج ذلك؟ الجواب هذا قد يكون أمراً طبيعياً، فإن القوم الذين يعيشون أكثر حياتهم ووقتهم بعضهم مع بعض لا بد أن يجد بعضهم أحياناً نوعاً من السأم، أو الملل، أو الضيق، فعلى الإنسان أن يعرف إن كانت هناك أسباب خاصة، دعت إلى هذا الملل، فيسعى إلى إزالتها، كما إذا كان هناك -مثلاً- برنامجاً ثقيلاً، طويلاً وقته، من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالملل. حينئذ يكون العلاج تخفيف هذا البرنامج، وصياغته بطريقة لا تدعو إلى الملل، مع أن الإنسان لا بد أن يصبر نفسه على طلب العلم، وعلى مجالسة الصالحين، حتى تجد لذة ذلك فيما بعد، وإلا فلا شك أن الإنسان -خاصةً في مثل هذا السن- قد تدعوه نفسه إلى قضاء الوقت في ميادين ربما تكون أروح لنفسه، وأسعد لقلبه -سعادة عارضة بطبيعة الحال- من كونه يجلس لسماع محاضرة، أو كلمة، أو للمشاركة في مسابقة، أو لغير ذلك من الأعمال التي يستعملها الشباب الصالحون. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 19 مجاهدة النفس السؤال يقول ملخصه: إنه يجاهد نفسه في صلاة الفجر، وفعل كثيراً من الأسباب، ولكنه لم يستطيع، فما هو العلاج؟ الجواب أولاً: الجهاد باب طويل يبدأ ولا ينتهي، ولذلك من الصعب أن نقول: إنسان جاهد ولم يستطع، تقول بدأ الجهاد فهذا صحيح، لكن هل انتهى الجهاد؟ فنقول له: إذاً اترك صلاة الفجر جماعة، وجاهد نفسك في ميدان آخر! كلا، شعار المسلم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] فالمسلم مجاهد حتى الموت، وإذا كان أصحاب الأغراض الدنيوية يرفعون شعارات، يزعمون فيها أنهم مقاتلون حتى الموت، أو حتى النصر؛ فإن المسلم يجب أن يعرف أنه بحكم ربانيته -فعلاً- مجاهد حتى الموت، حتى تخرج الروح، وحين يكون المسلم على سرير الموت، أيضاً يكون مجاهداً، وربما تكون أخطر حالات المجاهدة، ومدافعة الشيطان هي في حالة النزع والاحتضار. فأنت مطلوب منك المواصلة في المجاهدة، والتفكير في وسائل جديدة في هذا الجهاد، مثلاً: قد يكون جهادك أنك تضع ساعةً منبهة، أو تركب ساعة الهاتف، أو تطلب من جيرانك أو أحد أصدقائك، أن يطرق عليك الباب، لكن هناك نوع آخر من الجهاد، وهو معرفة الأسباب التي تؤدي إلى عدم استيقاظك، قد تكون تنام متأخراً، أو تجهد نفسك، فحينئذٍ عليك أن تحرص قدر الإمكان على النوم مبكراً؛ ليتسنى لك أن تستيقظ لصلاة الفجر، لكن لو افترض أن شخصاً مصاب بمرض وهذا المرض لا يجعله يستطيع أن يستيقظ لصلاة الفجر أبداً، فحينئذٍ لا شك أنه معذور، وعليه أن يصلي متى تمكن من الاستيقاظ، وفي سنن أبي داود وغيره، أن صفوان بن المعطل كان لا يستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي إذا استيقظ. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 20 الدعوة إلى الله تعالى في البيت بالحكمة السؤال هذا سائل يسأل عن أن والده، يمنعه من صحبة الطيبين، ويحول بينه وبين مجالستهم، فما العمل؟ الجواب أقول: هذه الشكوى كثيراً ما تسمعها، وكثيراً من الشباب يضيقون بها، وعلى الإنسان أن يخلص في الدعاء لنفسه ولوالده، أن يخلص القصد، وأن يحرص على الأسلوب الحسن في معاملة الوالد. وبعض الشباب -مثلاً- يقرءون في سير الصحابة، أن أبا عبيدة قتل أباه، وإن كان العلماء ضعفوا هذه الرواية، أو أن مصعباً أو علياً أو عمر قتلوا أقاربهم أو حاولوا، فتثور في نفوسهم روح التحدي والمواجهة للمنحرفين من أقاربهم، فتجد الشاب مستعداً ليواجه أبويه. مثلاً: قد يكون الأب منحرفاً، وفاسقاً، ويترك الصلاة أحياناً، أو يسافر إلى الخارج لقضاء الإجازة بصورة غير صحيحة، أو يقوم بأعمالٍ كثيرة محرمة، فعلى الشاب حينئذٍ أن يدرك أن فتح جبهةً في البيت وهو لا يزال غضاً طري العود قد يعود عليه هو بالضرر، وسوف يصبح البيت كله ضده، وهو غير مؤهل في هذه المرحلة للمواجهة إلى نهاية المطاف، فالأصل أن من الصعب أن الشاب يخرج من البيت وهو في سن مبكرة، إلى أين يخرج؟ هناك حالات استثنائية ونادرة لها حكمها. لكن نحن نتحدث عن الوضع الغالب، حينئذ يقول الشاب: إذاً أدع المنكرات في البيت كما هي، فنقول: لا. هناك مرحلة بين هذه وتلك، عليك أن تحرص على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بالأسلوب الحسن، حاول أن تؤثر في أهلك، حاول أن تدعوهم إلى الله عز وجل وقد وجد -وهو كثير بحمد الله- شباب صغار كانوا سبباً في إحداث انقلاب كامل في البيت، فأصبح الأب والأم، والبنات، والشباب الكبار، كلهم صالحين، بتأثير واحد قد يكون هو أصغر الأبناء، ولعل كثيراً منكم يعرف نماذج لهذا الأمر. إذاً يمكن بالمحاولة أن تؤثر في البيت تأثيراً إيجابياً مع حرصك على تحصين نفسك من هذه المنكرات قدر ما تستطيع، وتجنبها وحرصك على الإحسان لوالديك، والبر بهما، والدعاء لهما، وقول الكلام الطيب لهما، والقيام في حاجاتهما المباحة، والمسارعة فيها، وإذا كان لك أصدقاء طيبين صالحين فلا بأس أن تعرف الأب عليهم إذا كان هذا قد يقنعه؛ فإن كان لا يمكن فعليك أن تعرض هذه القضية على أحد أساتذتك الذين يعرفون ظروفك، وربما يعرفون طبيعة أبيك، والموقف أو التصرف الذي يناسبه، وبالجملة فهذا الأمر أمر طبيعي، وهو أثر من آثار إقبال الشباب على الدعوة إلى الله عز وجل وتوجههم إليه. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 21 علاج التعلق بغير الله السؤال ذكرت أن من تعلق قلبه بغير الله كان سبباً لشقاوته وعذب هذا الشخص به، فما هو علاج التعلق بغير الله، مثلاً: بالصور، أو بالأخص بالأشخاص الذين يوجد فيهم ما يسبب التعلق القلبي؟ الجواب غالباً ما يكون التعلق القلبي بالصور الجميلة سواءً كانت صورة امرأة، أو شاب، أو غير ذلك، فإذا وجد في الشخص الظرف، والملاحة، وخفة الدم، فإن هذا مدعاة لتعلق من حوله به، وهذا بصراحة موجود عند كثير من الشباب، وقد يأخذ أحياناً اسم الحب في الله، مع أنه ليس حباً في الله بالمعنى الصحيح. صحيح أنهم متحابون في الله جملةً لكن هذا الحب الزائد ليس لأن هذا الشاب -مثلاً- يملك علماً أكثر، أو عبادةً أكثر، أو قرباً من الله أكثر، وإنما الصفات الشكلية التي ذكرتها، وهذا بابٌ خطير، وعلى الإنسان أن يحرص على حماية قلبه من ذلك؛ لأن القلب إذا وقع في هذا الشرك، فقد وقع في أمرٍ عظيم، فالحماية والوقاية خيرٌ من العلاج، خاصةً في هذا الباب، أما من ابتلي بشيء من ذلك فعليه أن يبحث عن الوسائل التي تخلصه من هذا الأمر، ويجاهد نفسه فيه، ويكثر من العبادة، وذكر الله، ودعائه، ويحرص على معرفة العيوب الموجودة في هذا الشخص الذي تعلق به. فإنه إذا عرف عيوبه، وتذكر ما فيه من المعايب التي هي موجودة في كل إنسان زهد فيه وخف ميزانه عنده، ثم يحرص على ألا يستجيب لما تدعوه نفسه إليه، من كثرة مخالطته ومجالسته وممازحته، وإذا جلس إليه يحرص أن يكون في مجلس عام، وألا يكثر من الجلوس إلى جواره، والنظر إليه، وحب التعليق على الكلمات التي يقولها، وغير ذلك من الأشياء التي يكون دافعها التعلق بهذا الشخص، وهناك مقالات للإمام ابن القيم بسط في هذا الموضوع بسطاً جيداً يمكن أن تقرأه في زاد المعاد، وإغاثة اللهفان، والجواب الكافي، وغيرها من الكتب. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 22 علاج الظن بكلام الناس والحساسية الزائدة السؤال كيف التخلص من الحساسية الزائدة والمرهفة، حيث يتأثر الإنسان من كل كلمة تقال له، ويحسب لها ألف حساب ويفسرها تفسيرات قد تكون شيطانية، وربما ظن في إخوانه الظنون الخاطئة؟ الجواب هذه الحساسية الزائدة لا شك أنها مرض يعتري الإنسان، وهي عذاب له ولمن حوله. عذاب له؛ لأنه يحلل ويفسر تصرفات الناس، ويربط بينها بطريقة غير صحيحة، فيصبح وكأنه هو محط جميع التصرفات، الكلمة الفلانية هو المقصود فيها، والعمل الفلاني قصد فيه إبعاده، والخطوة الفلانية كانت من أجل الإساءة إليه، وهكذا. وهي عذابٌ لمن حوله؛ لأن من حوله إذا أدركوا عنده هذه الحساية المرهفة بدءوا يجاملونه، ويحاولون تجنب الأشياء التي تثير هذه الحساسية، فيتعبون لذلك أشد التعب، ومع ذلك لا يفلحون بل لابد أن يقعوا في أشياء عفوية يفسرها هذا الإنسان تفسير غير صحيح. وأول خطوات العلاج: أن يدرك هذا المصاب بالحساسية أنه حساس، حتى يكون عنده استعداد لقبول تفسيرات الناس لمواقفهم، فإذا قلت: أنت قلت في اليوم الفلاني كذا وكذا، وأنت تقصدني. قال لك الطرف الآخر: لا -يا أخي- أنا لا أقصدك، إنما أقصد أمراً آخر. ثم بينه لك فيكون لديك استعداد لقبول هذا التفسير، إذا عرفت أن عندك حساسية زائدة، ومن العوامل المعينة على إزالة أو تخفيف الحساسية: كثرة المخالطة في مثل هذه المراكز، وخاصةً أن يهدف الإنسان من خلال المخالطة إلى تدريب نفسه على الاختلاط بالناس وتفسير التصرفات تفسيراً صحيحاً، وتخفيف هذه الحساسية، والإنسان -وأعرف أشخاصاً جربوا ذلك عملياً- إذا عرف أن الحساسية موجودة لديه, وسعى في علاجها، فإنه ينجح في ذلك إلى حدٍ بعيد، وهذا من توفيق الله تبارك وتعالى. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 23 الحسد والغبطة السؤال فضيلة الشيخ، أشهد الله على حبك فيه، وبعد فإني أجد في نفسي حسداً لبعض إخوتي، عند تميزهم علي بأعمال مع أنها أعمال خير، ويصيبني بذلك شيءٌ من الغمة، وأشهد الله على كراهية ذلك، فكيف أدفعه عن نفسي؟ الجواب أحبك الله أما من شأن الحسد، فلا شك أنه خلقٌ ذميم، والنصوص صريحة في النهي عنه، لكن ينبغي التفريق بين الحسد، وبين الغبطة؛ فإن الحسد هو: تمني زوال النعمة عن الغير، بحيث إذا رأيت أحداً قد أصيب بخير حسدته حتى تتمنى أن يزول هذا الخير عنه، أما الغبطة فهي: أنك إذا رأيت أحداً أصابه خير، تمنيت أن يصيبك مثل هذا الخير الذي أصابه، وأن ترتفع إلى مثل الدرجة التي وصل إليها. وسواء كان الذي تحس به حسداً أو غبطة، فإن الحسد الممنوع المحرم يزول بإذن الله بالمجاهدة، وأحيل السائل على كتاب قيم، للإمام ابن حزم الأندلسي، اسمه كتاب" الأخلاق والسير في مداواة النفوس" فقد تكلم فيه عن موضوعات كثيرة مفيدة، تتعلق بعلاج النفوس ومداواتها؛ بل وذكر الإمام ابن حزم بعض الخصال الذميمة التي كانت موجودةً فيه، كالحدة والعجب وغيرها، وكيف استطاع بإذن الله أن يتخلص منها. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 24 المعوقات عن الدعوة إلى الله السؤال فضيلة الشيخ! لدي حماس للإسلام، والعمل له، والدعوة إلى الله، ولكن هناك ما يعيقني عن ذلك، وهو إحساسي بقيودٍ في داخلي تمنعني من عمل شيء، وهذا أمرٌ أعاني منه كثيراً فما الحل للمشكلة هذه؛ وجزاكم الله خيراً؟ الجواب هذه القيود التي تعاني منها ليست ظاهرة، وهي إن كانت قيود نفسية، وموروثات، وأشياء تشكلت في نفس الإنسان وصارت تشكل عقداً تحول بينه وبين الاستمرار في طريق الدعوة؛ فإن هذا الأمر لا يكاد يخلو إنسان من شيءٍ منه، فمقل ومستكثر، وإنما الفرق بين الناس هو أن منهم من يملك الهمة، والعزيمة، والإرادة القوية فيقدم ويتغلب على هذه الصعاب، ومنهم من لا يملك الإرادة والعزيمة، فيحجم فتتضخم هذه القيود عنده. وأضرب لذلك مثلاً -والمثال بسيط لكنه يوضح المراد-: من أساليب الدعوة: الكلمة الطيبة تلقيها أمام الناس، وكل إنسان يجد نوعاً من الصعوبة، والتردد في الوقوف أمام الناس، وقد يشعر بحرج، وقد يشعر برعدة تعتريه أحياناً وهو يهم بالقيام، فهذه صعوبة أو عقبة، تحول بينك وبين صورة من صور الدعوة إلى الله عز وجل فمن الناس من يظل يستجيب لهذا المانع، فيحجم عن الدعوة والقيام بالموعظة مرة بعد مرة. وقد تأتي فرص يمكنه أن يقوم فيها ولو بشيء من الصعوبة، فيفوت هذه الفرص، وقد يستجيب لهمسات الشيطان ووساوسه، التي تقول له: لا تقم. تقوم في مناسبة أخرى، في مرة قادمة تحضر وتعد الموضوع إعداداً جيداً، حتى لا تحرج أمام الناس، وأحياناً إذا كنت تريد أن تقوم، لتتحدث بعد الصلاة، يقول لك الشيطان: لا تقم الآن والناس يسبحون, ويهللون، وقد ارتفعت أصواتهم فتقطع عليهم تسبيحهم انتظر قليلاً، وهذا ليكن أهون لك أيضاً. فإذا سكتوا قال لك: الآن غير مناسب؛ لأن الناس بدءوا يخرجون من المسجد، ولا ينتظرون أن يقوم أحد بعد هذا الوقت، وهكذا يضع الشيطان أمامك عقبات كثيرة، فإذا استمعت لهذه العقبات الذي يضعها، مع وجود عقبات وموانع فطرية انتهى عمرك وأنت لا تستطيع أن تتكلم. لكن إذا حاولت أن تتدرب، وتتغلب على هذه العقبات من خلال المناسبات، والفرص الكثيرة، كالفرص في المراكز الصيفية، والمدرسة، والمسجد الذي يكون أهله قليل، أو بين الزملاء إلخ، فإنك تزيل هذه العقبة شيئاً فشيئاً وإلا فهل تتصور -مثلاً- أن الخطباء الذين يعتلون أعواد المنابر، ويتكلم الواحد منهم الساعات الطوال دون تردد قد ولد هكذا؟ الجواب: لا. وأنا أضرب مثلاً واحداً بهذا الأمر، وإلا فأساليب الدعوة كثيرة، وطرق الخير كثيرة ليست مقصورة على هذا الباب، فقد يوجد مثلاً من ييأس من إمكانية علاج هذا الجانب، وحينئذ فعليه أن يدرك أن وسائل فالدعوة كثيرة جداً، الدعوة تكون بالتربية وتكون بالتعليم وبالصلات الفردية والمناصحة، وتكون بالكتابة، والمشاركة في الأنشطة المختلفة إلى غير ذلك. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 25 التوازن بين العلم والعبادة والدعوة السؤال عندما ينشغل بعض الدعاة خلال دعوتهم عن التفرغ لطلب العلم، أو كثرة التعبد لله سبحانه، فإن مشاغل الدعوة قد أخذت عليه جل وقته، فما هو إرشادك لهؤلاء، بحيث يتمكن من الجمع بين الثلاثة، دون الإخلال بأيٍ منهم؟ الجواب لا شك أن المسلم مطالب بالتوازن، والحقيقة أن كثيراً من الناس وخاصةً الشباب يخلون بهذا المطلب الذي هو التوازن، فإذا أقبل الإنسان على أمر أقبل عليه كله، وإذا أدبر عنه أدبر عنه كله، فتجد الشاب اليوم -مثلاً- منشغلاً بالدعوة، حتى ربما تفوته صلاة الجماعة، وربما أخل بكثيرٍ من الواجبات، وربما سبب مضايقات لأهله ولوالديه، وقصر في أشياء كثيرة. ثم تجده من الغد وقد ترك هذه الأشياء كلها، فتسأله ولم يا أخي؟ يقول لك: يا أخي أنا نظرت فوجدت أنني قد أهملت نفسي، وقد قصرت في العبادة، وقد قصرت في طلب العلم، وقد قصرت في حقوق الوالدين, ويبدأ في تعداد الآثار السلبية التي نتجت عن عدم توازنه الأول. فيجعل من هذه الأسباب وسيلة لأن يخطئ مرةً أخرى، ويخل بالتوازن مرةً أخرى، فيترك أمر الدعوة بالكلية ليتجه لتحصيل العلم، فتجده متنقلاً من حلقةٍ إلى حلقة، ومن درسٍ إلى درس، وإذا خلا ببيته خلا للقراءة، وإذا اجتمع بأصدقائه فإنه يكون قد اصطحب معه كتاباً ليقرأه وهكذا، فيسيطر عليه هم العلم لفترة معينة، فيستيقظ بعد فترة، وإذا به قد أخل بأشياء أخرى كثيرة، فيلتفت إليها، وهكذا، لا يعرف التوازن إليه سبيلاً، هذا خطأ. وقد لاحظت وقوع كثيرٍ من الشباب المقبلين على الدين وعلى الدعوة في هذا الأمر، والنصيحة التي أنصح بها نفسي وإخواني أن نحرص على أن نكون متوازنين في سائر أعمالنا، وحين نشعر بتقصيرنا في مجال من المجالات، يجب أن نشعر أنه من غير الممكن، أن نسدد النقص الذي نشعر به بين عشية وضحاها، ولذلك قال أحد العلماء، كما حكاه أبو هلال العسكري في كتابه "الحث على طلب العلم" قال: من أراد أن يحصل على العلوم كلها في وقتٍ قصير فهو مجنون. وهذا حال كثيرٍ من الناس، فحين تشعر بالتقصير في مجال من المجالات، فتذكر أن الطريق الصحيح للتغلب على هذا التقصير الموجود لا بد أن يكون بالتدرج، لنفترض أنك قد أخللت، أو شعرت بالإخلال بواجب طلب العلم، فحينئذ عليك أن ترسم لنفسك برنامجاً معتدلاً معقولاً فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى، وليكن -مثلاً- بدء هذا البرنامج، بأن تحفظ القرآن الكريم بصورة تدريجية، خلال سنتين أو ثلاث سنوات، مع مجموعة من زملائك في المسجد، أو في البيت، أو في أي مكان، وحفظ القرآن هو عنوان طلب العلم، قال الله عز وجل عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فإذا حفظت القرآن، انتقل إلى أخذ علمٍ آخر، فإذا أتقنته أو أتقنت أصوله ابدأ بعلمٍ ثالث وهكذا. وهناك طريقة أخرى وهي: أن تبدأ بحلقةٍ معينة -مثلاً- فتقرأ على شيخٍ مجموعة من الكتب، فإذا أنهيتها وأخذت ما عند هذا الشيخ، انتقلت إلى شيخٍ آخر، وهكذا. طريقة ثالثة: قد تقول: ليس لدي وقت لملازمة حلقة هذا العالم، أو هناك موانع، فحينئذٍ ابدأ في تحصيل العلم مع نفسك، أو مع مجموعة من زملائك، باختيار مجموعة من الكتب، في ألوان شتى من العلوم والفنون، وتستعين على ذلك بسماع أشرطة العلماء؛ فإنك تجد اليوم بحمد الله مجموعة كبيرة من الأشرطة، قد سجلت عليها دروس علمية في سائر العلوم، وأنت حين تسمع هذه الأشرطة تستفيد منها فائدة كبيرة، حتى كأنك حاضرٌ في هذه الحلقة، مع وجود الفارق، لا أقول: إنك حاضر، ولكن كأنك حاضرٌ في هذه الحلقة، وإن كان للحضور فائدة وبركة أخرى، المهم: النصيحة مرةً أخرى حين تشعر بالتقصير في أي مجال من المجالات يجب أن تتذكر أن سد هذا التقصير لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها، بل لا بد أن يأخذ صورة تدريجية شيئاً فشيئاً. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 26 الشعور بالكسل في العبادة بعد الجد والنشاط السؤال فضيلة الشيخ! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إني أحبك في الله، وأسأل الله أن يظلنا في ظله، يوم لا ظل إلا ظله. سؤالي هو: عند خروج رمضان، أو عند العودة من أحد المخيمات، بعدها بأيام قلائل، تذهب الروحانية التي كانت تلازمني في ذلك الوقت، فما سبب ذلك؟ وما هو علاج هذه الحالة؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب مما لا شك فيه، أن لمجالس الذكر والعبادة والعلم أثرٌ كبيرٌ جداً في تقوية الإيمان، وتحريكه في القلوب، ولذلك يجد الإنسان في حضور هذه المجالس إشراقاً في قلبه، وحركة وارتفاعاً في مستوى إيمانه، وهذا شيء طبيعي، فإذا خرج الإنسان من هذه الأوقات أو الأمكنة أو المجتمعات، شعر بأن مستوى الإيمان قد ضعف عما كان عليه، وقد أدرك أو شعر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بذلك، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن حنظلة بن الربيع الأسدي، أنه جاء إلى أبي بكر ٍ رضي الله عنه وأرضاه فقال: {يا أبا بكر نافق حنظلة. قال: وما ذاك؟ قال: إنا نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال من الإيمان، وقوة اليقين، واستحضار الآخرة، فإذا فارقناه وذهبنا إلى بيوتنا عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً. قال أبو بكر: والله إني لأجد مثل ذلك، فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال حنظلة مثلما قال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم لو تدومون على الحال التي تكونون بها عندي في جميع الأوقات؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم، وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة، ساعةً وساعة} . وهذا الحديث فيه عبرة فهو: أولاً: دعوة إلى كل مسلم، أن يحرص على أن يكثر من حضور مجالس العلم والذكر والعبادة؛ لما فيها من تقوية الإيمان وزيادته. ثانياً: إن الإنسان لا يمكن أن يبقى على مستوىً واحد، بل لا بد أن يشعر أحياناً بارتفاع، وأحياناً بشيء من الهبوط، ساعةً وساعة، أما الحال التي يطمح إليها حنظلة رضي الله عنه فهي إنما تجدر وتليق بالملائكة، ولذلك نبهه صلى الله عليه وسلم، إلى أنه لو كنتم على هذه الحال في كل أوقاتكم، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وطرقكم، والإنسان لم يخلق ليكون ملكاً، وإنما خلق ليكون إنساناً، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] . فالله عز وجل يعلم بحكمته وعلمه وهو الذي خلقنا -أن الإنسان يشتجر في نفسه الهوى، وتتحرك في نفسه الشهوة، ولكن ليس المطلوب ألا يوجد الهوى أبداً، إنما أن ينهى الإنسان نفسه عن الهوى، وهذا هو المستوى الإيماني الذي ينبغي للإنسان أن يجاهد في الوصول إليه. الجزء: 121 ¦ الصفحة: 27 غربة الإسلام لقد أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن غربة الإسلام، وهذه الغربة لها معان، وهي عائدة في آخر الزمان، والغرباء هم أهل الله فيها، وفي هذا الدرس تجد كلاماً مفيداً حول هذه الغربة وأحاديثها ومعانيها. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 1 حديث غربة الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: فقد روى الإمام مسلم -رحمه الله- في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ومعنى يأرز: أي يحن ويرجع، والمقصود بالمسجدين: مسجد مكة ومسجد المدينة. وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} . وروى الإمام أحمد رحمه الله في المسند بسند صحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ، فطوبى يومئذ للغرباء إذا فسد الناس، والذي نفس محمد بيده إن الإسلام ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} . وروى الإمام أحمد أيضاً في مسنده بسند حسن عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ونحن عنده: {طوبى للغرباء، قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: أناس صالحون في أهل سوء كثير؛ من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عدد كبير من أصحابه رضي الله عنهم أنه أشار إلى غربة الإسلام، حتى قال بعض العلماء: إنه حديث متواتر يقطع بثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة الذين رووا هذا المعنى عبد الله بن عمر، وأبو هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص وسهل بن سعد الساعدي وسلمان الفارسي وأبو سعيد الخدري وأبو موسى الأشعري وابن عباس، وأبو الدرداء وأبو أمامة وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك وبلال بن مرداس الفزاري وغيرهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن التابعين. فهو حديث متواتر ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك فإن الحديث والكلام في معنى هذا الحديث وفي دلالته أمر مهم لكل مسلم، لأنه إذا تبين لك صحة هذا الحديث، وثبوته ثبوتاً قطعياً بقي عليك أن تعرف ما معنى الحديث. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 2 درجات غربة الإسلام والغربة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم تقوم على ثلاث درجات. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 3 غربة المسلمين بين الكفار الدرجة الأولى: غربة المسلمين بين الكفار: غربة الأمة المحمدية بين أمم الأرض الكثيرة الكافرة، فإن هذه الأمة قليل بالقياس إلى غيرها من أمم الكفر، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وغيرهما أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: شطر أهل الجنة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما أنتم في أهل الكفر إلا كالشعرة السوداء في جلد الثور الأبيض، أو كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، أوكالشامة في جنب البعير، أو كالرقمة في ذراع الدابة} إنهم قليل {وقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] كما قال الله عز وجل. فالمسلمون بين الكفار غرباء، وهذه هي الدرجة الأولى من درجات الغربة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 4 غربة أهل السنة بين المسلمين أما الدرجة الثانية: فهي غربة أهل السنة المتمسكين بها بين المسلمين، فإن المتمسكين بالسنة المتعلمين لها، العاملين بها اعتقاداً وقولاً وعملاً بين الناس قليل، ولذلك قال سفيان الثوري -رحمه الله-: استوصوا بأهل السنة خيراً فإنهم غرباء، وقال أبو بكر بن عياش رحمه الله: إذا سمعت بصاحب سنة في المشرق أو في المغرب فأرسل إليه السلام، ما أقل أهل السنة! بل قال بعضهم: إن غربة أهل السنة بين المسلمين أشد وأعظم من غربة المسلمين بين أمم الأرض من الكافرين، وهذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح حيث قال عليه الصلاة والسلام: {إن اليهود افترقوا في دينهم على إحدى وسبعين ملة، وإن النصارى افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة} يعني الأهواء، يقول صلى الله عليه وسلم: {وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} والكَلَب هو: داء يصيب الإنسان من عض الكلب المصاب، فيسري الداء في عروقه حتى يموت. {وإنه سيخرج من أمتي أقوام تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه؛ لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله} إذاً فأهل السنة هم الفرقة الناجية من بين ثلاث وسبعين فرقة، وهذا دليل على شدة غربتهم، وقلتهم بين الضالين والمنحرفين، فهذه هي المرتبة الثانية من مراتب الغربة التي أخبر بها المصطفى صلى الله عليه وسلم. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 5 غربة الطائفة المنصورة بين أهل السنة أما المرتبة الثالثة من مراتب الغربة: وهي أشرف هذه المراتب وأعظمها وأعلاها، وأهل هذه المرتبة هم ورثة الأنبياء والصديقين والصالحين فهي غربة الطائفة المنصورة الأمة القائمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم، ومحاربة الفساد في الأرض، والمجاهدة في سبيل الله، وهذه الطائفة هي أمة من بين أهل السنة والجماعة وقد أمر الله عز وجل أن توجد هذه الأمة فقال سبحانه: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] . وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المتواتر أن هذه الطائفة ستظل موجودة من عهده صلى الله عليه وسلم إلى أن يأتي أمر الله، فلا تخلو الأرض من طائفة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر مجاهدة في سبيل الله، لا يضرها من خذلها ولا من خالفها ولا من ناوأها حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس. فهذه ثلاث درجات من درجات الغربة، الأولى: غربة المسلمين بين الكفار. الثانية: غربة أهل السنة بين المسلمين. الثالثة: غربة الطائفة المنصورة الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر بين أهل السنة. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 6 وقفات في معاني حديث الغربة وهذا الحديث الذي بين أيدينا يحمل معانٍ عظيمة لا يتسع المقام للتفصيل فيها، ولكن يمكن المرور على بعض المسائل بشيء من الاختصار. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 7 أوصاف الغرباء المسألة الخامسة: الأوصاف التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الغرباء، وقد وردت أحاديث عديدة في وصفهم، ولكن الصحيح منها أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بالغرباء، ووصفهم بأنهم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، ووصفهم بأن من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم، فهم متمسكون بالكتاب والسنة حين يتمسك الناس بآراء الرجال، أو يعرضون عن الإسلام بالكلية، وهم داعون إلى القرآن والسنة حين يترك الناس الدعوة إليهما، وهم صابرون على ما يلقونه في سبيل هذه الدعوة من الإيذاء والعناد والمخالفة والتكذيب ولذلك وعدوا بما وعدوا به. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 8 مواقع عزة الإسلام المسألة السادسة والأخيرة: هي الإشارة إلى المواقع التي بشَّر النبي صلى الله عليه وسلم بإعزاز الإسلام فيها، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعزة الإسلام في هذه الجزيرة فقال: {إن الدين يأرز بين المسجدين كما تأزر الحية إلى جحرها أو في جحرها} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} وقال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وهذا دليل على أن هذه الجزيرة هي عاصمة الإسلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها إلا ما شاء الله. وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الشام وأن فيه طائفة منصورة إلى قيام الساعة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: {وهم بالشام} وقال في الحديث الصحيح الآخر: {إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم} وقال في حديث آخر حين سئل: أين هم يا رسول الله؟ قال: {ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس} فهو دليل على أن الله عز وجل يُوجِد في الشام قوماً صالحين يحمون الدين، وقد يستغرب بعضكم هذا ونحن نعرف ما نعرف من الفساد في بلاد الشام اليوم، فأقول: إن علم الله عز وجل لا يمكن أن يحيط العباد بشيء منه إلا ما أطلعهم عليه، وقد أخبرهم بعزة المسلمين في الشام. ولعل ما ترونه اليوم من تجمع اليهود في فلسطين وسطوتهم وعتوهم يكون تمهيداً لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من الملاحم بينهم وبين المسلمين في تلك البلاد، ومن عزة الإسلام في تلك الأرض. كما أخبر صلى الله عليه وسلم عن اليمن وقال في الحديث الصحيح: {إني لأجد نَفَس ربكم من قبل اليمن} أي تنفيسه عن المؤمنين وفرجه عنهم كما فسره بذلك ابن قتيبة وابن تيمية رحمهما الله فهذه بعض المواقع التي لا يزال يوجد فيها من يقوم بأمر الدين ويرفع رايته، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من الغرباء الذين يصلحون إذا فسد الناس، ويصلحون ما أفسد الناس، ويثبتون على الإسلام حتى يلقون الله عز وجل غير مبالين بخلاف المخالفين، ولا نواء المناوئين، ولا خذلان المخذلين، والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 9 طوبى للغرباء أما المسألة الرابعة: فهي قوله صلى الله عليه وسلم {فطوبى للغرباء} وهذا وعد منه صلى الله عليه وسلم بطوبى للغرباء، واختلف في طوبى فقيل: هي: شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، وقيل: هي: الخير الكثير الطيب والجزاء الحسن، وهذا القول أحسن لأنه يدخل فيه القول الأول، فمن الخير الكثير الحسن والجزاء الطيب هذه الشجرة المذكورة في الجنة، فقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الغرباء بالخير الكثير الطيب في الدنيا والآخرة. فما هو الخير الكثير الطيب الذي وعدوا به في الدنيا؟ لقد وعدوا في الدنيا بسعادة القلب وسروره وطمأنينته بالإيمان، ووعدوا بأن يقيض الله لهم من يعينهم حتى من أعدائهم كما حصل للمسلمين حين هاجروا إلى الحبشة، ووعدوا أن يزيغ الله قلوب الناس لهم فيطيعونهم كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعه الأنصار في رجب، ثم استقبلوه في مدينتهم، ووعدوا بشيء كثير من الخير الطيب في الدنيا، فضلاً عما يجدونه في قبورهم من النعيم، فضلاً عما يلقونه يوم القيامة من الرضوان والجنة والنظر إلى وجه الله الكريم، وهذا كله داخل في قوله: (فطوبى) . الجزء: 122 ¦ الصفحة: 10 عودة الغربة الثانية أما المسالة الثالثة: فهي إخباره صلى الله عليه وسلم خبراً يقينياً قطعياً أن هذه الغربة ستعود مرة أخرى، فقال: {وسيعود غريباً كما بدأ} . وقوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} يحتمل أحد معنيين ذكرهما شيخ الإسلام ابن تيمية في الجزء الثامن عشر من الفتاوى. المعنى الأول: أن تكون هذه إشارة إلى ما يقع في آخر الزمان بعد عيسى -عليه السلام- حين تأتي الريح الطيبة فتقبض أرواح المؤمنين فلا يوجد في الأرض من يقول: (الله الله) فقبل هذه الريح يوجد مؤمنون ولكنهم قليل، ثم تأتي الريح فتقبض أرواحهم بقدرة الله عز وجل فلا يبقى إلا الشيخ الكبير والعجوز يقولون: لا إله إلا الله أدركنا آباءنا يقولونها فنحن نقولها، وهم مع ذلك لا يدرون ما صلاة، ولا صيام، ولا صدقة، ولا نسك! كما صح ذلك عنه صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة ورواه ابن ماجه وغيره بسند صحيح. أما المعنى الثاني: الذي يحتمله قوله - صلى الله عليه وسلم-: {وسيعود غريباً} أن يكون هذا إشارة إلى ما سيقع في الأمة من ضعف الدين، وانحلال ربقته في كثير من البلدان بعد عصور النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيكون هذا إشارة إلى ما وقع من النقص من تلك الأزمنة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 11 زوال الغربة الأولى وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى زوال هذه الغربة، وهذا هو المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: بدأ، ثم قال: وسيعود، دليل على أن هذه الغربة قد زالت، وفعلاً زالت هذه الغربة ودافعها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة ثم في المدينة في بدر وفي أحد وفي الخندق وفي فتح مكة، حتى زالت هذه الغربة، ويمكن أن تكون الموقعة التي انقشعت فيها الغربة انقشاعاً تاماً هي فتح مكة، حيث كانت قريش هم ملوك العرب وسادتهم وأهل البيت العتيق، فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم مكة أسلم كثير من العرب، وجاءت الوفود من أنحاء الجزيرة العربية تبايع الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام، ودان له الناس، ودخلت الكعبة تحت طاعة المسلمين، ثم نزل قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وكان هذا في حجة الوداع، فكمل الدين، وتمت النعمة، وزالت الغربة، وهذه هي المسألة الثانية. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 12 غربة الإسلام الأولى فالمسألة الأولى التي بينها الرسول صلى الله عليه وسلم: هي الإشارة إلى أن الإسلام بدأ غريباً، أي: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وغربته الأولى تعني: أولاً: أنه كان دينًا وحيداً بين الأديان السماوية التي حرفها أهلها، وبين الأديان البشرية التي اخترعها الناس من عند أنفسهم. وتعني ثانياً: أن أتباع الإسلام كانوا في بدايتهم عدداً قليلا، حتى كان الواحد منهم يقول: لقد أمسيت وإني ثلث الإسلام، وإني ربع الإسلام، وإني خمس الإسلام، وإني سدس الإسلام، أي أنه لم يكن في وقته إلا خمسة، أو ستة أو أقل من ذلك أو أكثر من المتمسكين بهذا الدين، فاتبأعه كانوا قليلاً. أيضاً المعنى الثالث من معاني غربة الإسلام الأولى: أن كثيراً من الناس كانوا يجهلون أحكام الدين وشرائعه وعقائده، فكان غريباً بينهم، والذي يعرفه منه قليل، بل أقل من القليل. الجزء: 122 ¦ الصفحة: 13 وقفات مع سورة ق إثبات البعث ودرجات الإيمان به، والرد على منكريه نقلياً وعقلياً، تفاصيل البعث وحال المؤمن والكافر عند البعث، وأفضلية الإيمان المفصل على الإيمان المجمل، ولا بد من اتساع النظرة وعدم الانحصار في حدود الزمان والمكان، وأهمية الصبر للداعية والاستعانة بالله وعدم الاهتمام بالنتائج. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 1 الحروف المقطعة بسم الله الرحمن الرحيم: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ * أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:1-15] . إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فهذه السورة مكية، وهي موسومة باسم الحرف الأول منها تعرف باسم "سورة ق" وهو الحرف الذي بدأت به هكذا "ق" وشأن هذا الحرف كشأن غيره من الحروف المقطعة في أوائل السور كـ (الم) (الر) (كهيعص) (ص) إلى غير ذلك. (ق) فيها أقوال كثيرة أقربها وأحسنها: أن يكون ذكر هذا الحرف إشارة إلى قضية الإعجاز والتحدي للعرب؛ أن هذا القرآن حروفه من جنس الحروف التي بها تنطقون، ومع ذلك فأنتم عن الإتيان بمثله عاجزون، بل بسورة من مثله، بل بشيء من مثله، فهذا أحسن ما قيل فيها، ولذلك غالباً ما يذكر بعد هذه الحروف المقطعة في القرآن مقروءاً أو مكتوباً: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] {ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص:1] {ألم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] فهذا قد يدل على رجحان ذلك المعنى. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 2 إثبات البعث ثم إن هذه السورة العظيمة تُعنى بإثبات وبيان عقيدة البعث التي كانت موضع شك وإشكال عند العرب الذي بُعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقضية البعث قضية جوهرية، وهي مفرق طريق بين الإيمان والكفر، وبين التزام الشريعة والانحراف عنها، فالذي يؤمن بالبعث سوف يدخل مسألة البعث ضمن حساباته. بمعنى أنه في كل مسألة تعرض له سيراعي عواقبها بعد البعث؛ لأنه يؤمن بالبعث ويعلم أنه صائر إليه، فسينظر في أي مسألة أو قضية تعرض له؛ هل هي تنفعه في يوم البعث أو تضره، والذي لا يؤمن لن يلتفت إلى ذلك أصلاً، بل يكون قصارى موضع النظر عنده الحياة الدنيا، فإذا وجد أن المسألة دنيوياً مربحة ومفيدة، فإنه يقدم عليها؛ لأنه ليس عنده حسابات أخروية، وبالتالي فالفرق بين المؤمن بالبعث والكافر بالبعث كبير جداً، بل هو فرق بين الإيمان والكفر. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 3 رد الله تعالى على من أنكر البعث إذاً فسورة (ق) تدور حول محور البعث، فأول آية فهيا بعد: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] تشير إلى عجب المشركين واستبعادهم البعث: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] فهم ينكرون البعث، والغريب؛ أن حجتهم في إنكار البعث هي مجرد تصفيف الألفاظ والاستبعاد العادي، ليس استبعاداً عقلياً، ولكنه استبعاد بحكم العادة: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} هو مستعبد، لكن على أي أساس. فلقد لهم أساس، ولهذا رد الله عز وجل على هذا الاستبعاد بردين: الجزء: 123 ¦ الصفحة: 4 درجات الإيمان بالبعث الإيمان بالبعث نفسه على درجتين: هناك إيمان ذهني عقلي مجرد، مثل ما إذا إنسان نظر وحسب فوجد نتيجة الحسابات أنه لا بد من البعث، لكن هذه النتيجة التي توصل إليها عقله لم يستشعرها قلبه، فلم تتحول عنده إلى عقيدة، وإيمان، وخشية، وخوف، بل ظلت قناعة ذهنية مجردة، وكما يقتنع بأي نتيجة رياضية اقتنع بهذا، ولهذا فرَّق الله تعالى بينهما، فمثلاً وصف الله تعالى المؤمنين المصلين في سورة المعارج فقال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المعارج:26] فهذا الأمر مجرد التصديق بأن هناك يوماً اسمه يوم الدين، ثم أعقبه بقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:27-28] فليست القضية مجرد تصديق، بل مع التصديق إشفاق وخوف من عذاب الله تعالى، ومن يوم الدين. وكلما ازداد الإنسان استعداداً ليوم الدين، زاد خوفاً منه، وكلما قل إعداده واستعداده قلَّ خوفه منه، ولهذا تجد أن المؤمن جمع إحساناً وخوفاً كما قال الحسن البصري -رحمه الله- وأما المنافق فجمع إساءة وأمنا، فتجد الإنسان المفرط يمني نفسه بالمنازل العليا في الجنة، ولا تتحرك في رأسه شعرة من ذكر العذاب، وتجد المؤمن، بل تجد المبشرين بالجنة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم -ورضي الله عنهم_ تجدهم يخافون أن تحبط أعمالهم. إذاً: الإيمان بيوم الحساب، والإيمان بالبعث على درجتين: الدرجة الأولى: الإيمان الذهني المجرد، وهذا قد نمثل له ببعض الذين عُرف عنهم الإيمان ولم يؤثر فيهم، مثل أمية بن أبي الصلت فـ أمية بن أبي الصلت كل شعره تخويف من النار، وترغيب في الجنة، ومع ذلك آمن لسانه وكفر قلبه. الدرجة الثانية من درجات الإيمان بالبعث: أن يتحول هذا الإيمان إلى عقيدة في القلب، وخوف ووجل، وهذا هو الذي يردع وينفع، ويحدو الإنسان إلى العمل الصالح ويردعه عن المعصية. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 5 الدليل النقلي الذي يرد على منكر البعث الأول رد للمؤمنين الذين يكفيهم أن يقرر، أو يبين الله تعالى مسألة ليؤمنوا بها، فلا يحتاجون إلى دليل آخر، بل أعظم دليل عندهم هو كلام الله، فكلام الله عندهم يستدل به ولا يحتاج إلى أمر آخر، فهؤلاء يكفيهم أقل الكلام، لأن قلوبهم مشرقة، فاكتفى بقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] فهذه للمؤمن كافية، البعث حق ولا غرابة فيه، ولا بُعد، لأن الله تعالى عالم بكل شيء، حتى عملية أكل الأرض لأجساد هؤلاء الموتى: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً} [ق:3] تحول الجسد إلى تراب أمر معلوم لله تعالى، ومسجل عنده: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق:4] تأكل وتأخذ منهم شيئاً فشيئاً {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] وهو اللوح المحفوظ الذي سجل الله تعالى فيه مقادير الخلائق كلها، قبل أن يخلق السماوات والأرض، وهنا انتهى الأمر بالنسبة للمؤمن والمسلم الذي لا يحتاج بعد هذا الكلام الإلهي إلى دليل آخر، فهذا هو الدليل الذي نستطع أن نسميه الدليل النقلي: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] فإذا كان ذلك كذلك فلا بعد، ويكفي أن الله تعالى قرر ذلك وأثبته. ثم عقب الله ببيان أن الضلال الذي وقع فيه المشركون هو بسبب إعراضهم عن هذا الحق الذي قرره فقال: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] فهذا هو الحق الذي كذبوا به، كذبوا بالبعث، كذبوا بعلم الله عز وجل، وأن لديه كتاباً حفيظاً، كذبوا بالنبوة، فليسوا على قاعدة يستقرون عليها، فلذا قال: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] والأمر المريج هو المختلط المضطرب، مِنْ مرج الشيء: إذا دخل في شيء آخر، كما في قوله: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن:19] فالمروج يدل على دخول الشيء في شيء، ومعناه أيضاً الاضطراب والاختلاط، إذا دخل فيه، فقد اختلط به واضطرب هذا مع هذا، فهذه تصور حال المشركين ليس في زمن النبوة فقط، بل في كل زمان أنهم فقدوا القاعدة التي يستقرون عليها، وهي قاعدة الإيمان بوحي الله، فاضطرب أمرهم. وفي هذه الآية دليل على أن من ترك الكتاب والسنة فإنه لا يستقر على حال، ولا يهتدي إلى الخير، ولا إلى صواب، لأن النص الشرعي والوحي الإلهي هو أعظم نعمة أنعم الله بها على الناس، فإذا تركوها وأهملوها أو كذبوا بها، فيضطرب أمرهم، اضطرب أمر العلم عندهم -مثلاً- لأنه علم دنيوي مبني على الحدس والتخمين، لا على الحق واليقين، واضطرب أمر اجتماعهم، واضطرب أمر اقتصادهم، وأمر سياستهم، وحربهم وسلمهم، وعلمهم؛ لأنهم تركوا القاعدة اليقينية، وهي قاعدة الحق: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق:5] الذي نزلت به الكتب وبعثت به الرسل، وبالمقابل إذا كان الإنسان يقتبس من الوحي، فأمره مستقر، لأن الله تعالى بيّن كل شيء، فلا يكون عنده اضطراب. إذاً: اضطرب المشركون لأنهم كذبوا بالوحي، وكان من اضطرابهم استبعادهم للبعث بعد الموت استبعاداً مجرداً عن الدليل، لكن عقولهم لم تتعود على ذلك، فلما سمعته استغربت، فلما استغربت استنكرت وأنكرت. فهذا هو الدليل النقلي ثابت، فالوحي حق، والبعث حق: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] وهكذا هنا: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] هذا الكلام لا يقنع الكفار بطبيعة الحال، لأنهم يجادلون فيه هو -أيضاً- فهم يجادلون في الله، ويجادلون في آياته، ويجادلون في علمه، ويجادلون في اللوح المحفوظ فلا ينفعهم هذا. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 6 إثبات البعث بالدليل العقلي ولذلك انتقل إلى ما يمكن أن نسيمه بالدليل العقلي على مسالة البعث، فذكر لهم أربعة أدلة: أولاً: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] فهذا الدليل خلق السماء بما فيه من قوة وجمال. ثانياً: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:7-8] فهذه الأرض أيضاً بما بسطها الله تعالى، ومدها، وجعل فيها من الاستقرار لصلاحيتها للحياة عليها، واستخدامها في البناء، وفي الإنبات والزرع، وفي غير ذلك. ثالثاً: {وَنزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:9-11] فالدليل الثالث هو إحياء الأرض بالمطر بعد موتها، وهي ظاهرة مرئية، فأنت ترى الأرض يابسة هامدة، فإذا أنزل الله عليها الماء انقلبت إلى خضراء تهتز بألوان النباتات، فهذا اُستُدِلَ به في القرآن الكريم لأمرين: الأول: إثبات البعث كما أن هذه الأرض بالأمس كانت ميتة فنزل المطر فأحياها الله تعالى به بعد موتها، فكذلك الإنسان يُحيا بعد موته، بل ويُحيا بالمطر، فقد جاء في حديث البعث: {إن الله تعالى ينزل من السماء ماء فتنبت به جثثهم، فكل ما في الإنسان يبلى إلا عجب الذنب} إلى أن قال: ومنه يعود مرة أخرى {فينبتون كما ينبت البقل} كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام فسواء بسواء كما تنبت الأرض بالمطر كذلك ينبت الإنسان بعد موته. الثاني: اُستدل عليه بهذا، وهو حياة القلب بعد موته، فإنَّ القلب يموت بالإعراض عن الله وآياته، حتى يظن الناس أن هذا القلب لا حياة فيه. وقبل يومين حدثني إنسان عن شخص، فذكر ما فيه من الضلال والانحراف، فقلت: لعل الله أن يهديه، قال: مستحيل أن يهتدي هذا الإنسان! قالها هكذا دون أن يفكر في معناها (مستحيل!) سبحان الله! نعم لو قلنا: إنك أنت الذي ستهديه ربما نصدق هذا، لكن إذا قلنا: إن الله يمكن أن يهديه فلا مستحيل على الله جل وعلا فقد هدى من هو شر منه، ولهذا تعرفون الموضع الذي نبه الله تعالى فيه على أنه كما تحيا الأرض بالمطر، كذلك القلوب تحيا بعد موتها بالوحي والإيمان، في سورة الحديد: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فهذه دعوة إلى إيقاظ القلوب بالخشوع لله تعالى وعدم القسوة، فأعقب ذلك إشارة إلى أنه كما أن الأرض تحيا بالمطر، فكذلك القلوب تحيا بالوحي، فلا ييئس الإنسان من إمكانية أن يعود ويؤوب قلبه إلى الهدى، ويلين بعد أن كان قلباً قاسياً أو منحرفاً ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير سورة الحديد وغيره، وهو مأخذ حسن، وهاهنا في سورة (ق) ذكر الله تعالى إحياء الأرض بالمطر {وَنزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً} [ق:9-11] كل ذلك أتبعه بقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] كما تحيا الأرض بالمطر وينبت منها هذا الخير الكثير، كذلك يكون خروج الناس يوم القيامة. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 7 من الأدلة العقلية للبعث: الخلق الأول ثم قال سبحانه: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] وهذا كالتعقيب على كل ما سبق، ففي الآية: أن الله خلقهم أول مرة -وهذا يمكن أن يعد دليلاً عقلياً رابعاً على أمر البعث- وهو خلق الإنسان أول مرة، فيضاف إلى أمر السماء والأرض والمطر الإنسانُ، وقد أشار الله تعالى إليه إشارة واضحة في آخر سورة (يس) : {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] ففيها موضع عجيب، أي أن الله عز وجل لم يذكر إلا البداية والحال، فالبداية من نطفة والحال الآن أنه خصيم مبين، وبين هذا مراحل، لكن الله تعالى طواها ليظهر العجب في الإنسان، فهو بالأمس نطفة، واليوم خصيم مبين لله جل وعلا: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس:77] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] قبل أن يذكر المثل أتى بكلمة محت كل شيء -والمثل الآن لم يذكر في الآية- لكنه قال: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] هذه الكلمة {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] جملة اعتراضية -كما يقولون- لكنها مسحت كل ما سيقوله الإنسان: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78] ولو لم ينس خلقه ما قال هذا لأن مسألة الخلق واحدة، بل في مقياس البشر الإعادة أهون من البدء، فالذي بدأ فإن الإعادة أهون عليه، وإن كان الأمر بالنسبة لله جل وعلا كله هين كما قال في نفس السورة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] فخلقه بالكلمة سبحانه: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78-79] فأبرز قضية الاستدلال بخلق الإنسان أول مرة، على الاستدلال بإعادته مرة أخرى، وهاهنا في سورة (ق) قال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق:15] كلا {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق:15] أي: التبس الأمر عليهم بالخلق الجديد الذي هو إعادتهم بعد بعثهم. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 8 من الأدلة العقلية للبعث قوله تعالى: (كذلك الخروج) وقوله: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] يدل على أمرين: الأول منهما: إثبات البعث، فيكون هذا من باب القياس، قياس الأمر الخفي المستقبل الذي لم يحدث على الأمر الظاهر الواقع الحادث الآن، فقاس أمر البعث الأخروي على هذا الأمر المشاهد بحياة الأرض بعد موتها. الأمر الثاني: بيان صفة البعث يوم القيامة، وقد فصَّله النبي صلى الله عليه وسلم في {أن الله تعالى ينزل من السماء ماءً، فينبت الناس منه، ثم ينفخ في الصور، فتطير الأرواح إلى أجسادها} فيكون قوله أيضاً: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] يعني من حيث الصفة. فهذه ثلاثة أدلة: السماء، والأرض، والمطر النازل من السماء للأرض، وهي أدلة متقاربة، فالدليل الأول يوجه أنظارهم إلى السماء فوقهم، والدليل الثاني يوجه أنظارهم إلى الأرض تحتهم، والدليل الثالث يذكر أمراً متراوحاً بين السماء والأرض، وهو المطر الذي ينزل من السماء فتحيا به الأرض بعد موتها، وهذا الدليل يذكره الله كثيراً؛ وأنه حجة على البعث وهو دليل واضح، وإنما ذكره الله عز وجل لأنه مما لم يكن للإنسان فيه يد، فالله تعالى هو الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً، وهو الذي يبسطه في السماء كيف يشاء، وهو الذي ينزل المطر، وينزل الغيث من بعد ما قنطوا، وهو الذي ينبت الأرض دون أن يضع الإنسان فيها الحب، والزرع، والبذر، فهي أعجوبة كبيرة وإن كانت مألوفة للناس، وكونهم ألفوها قد يقلل من وقعها عليهم. ولهذا تجد الناس إذا جاء وقت الربيع واخضرت الأرض، يمشون في مسافات بعيدة وطويلة خضراء، فيتعجبون من خضرة الأرض فقط، وهو أمر عادي عندهم، وقد يأتون إلى مدن وقرى ودول خضراء طول العام، فيمرون عليها وهم عنها معرضون، لكن لو جاء أحدهم للأرض في وقت الخريف، وقد يبست الأشجار، ثم وجد في وسط هذا الهشيم اليابس شجرة خضراء تهتز، تعجَّب واندهش وقال: سبحان الله! ما أعظم قدرة الله! فأدرك القدرة بهذه الشجرة لأنها مخالفة لمألوفه، أكثر مما أدرك القدرة بحياة الأرض كلها في وقت الربيع والخضرة، لأن هذا أمر مألوف عنده، وهذا من غفلة الإنسان التي تحتاج إلى إيقاظ، ولذلك تجدون الإنسان الذي يتعامل مع الأرض أحسن وأصدق إيماناً، وأقرب للفطرة من الإنسان الذي يتعامل مع بعض ما صنعه الناس، فالغالب أن الفلاح والمزارع أصدق إيماناً، وأسلم وأقرب للفطرة من الصانع، لأن المزارع يتعامل مع خلق الله تعالى مباشرة، فهو يلاحظ نزول المطر، ويلاحظ انشقاق الحبة عن النبات، وانفراج الأرض عنها، ويلحظ في ذلك القدرة الإلهية: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل:88] فيكون في قلبه تعظيم لله عز وجل ومحبة، خاصة إذا اهتدى بهداية السماء، أما الصانع فهو يتعامل مع الأدلة التي هي من صناعة أخيه الإنسان، فبينه وبين التعامل مع ما يلاحظ فيه قدرة الله تعالى واسطة أو وسائط أحياناً تزيده بعداً عن الله، لأنه ينظر في هذه الأدلة فيرى فيها شيئاً عجيباً من الصنع، وهذا الصنع من عمل يد أخيه الإنسان، فتجده يتحول إعجابه إلى إعجاب بالإنسان الذي صنع هذه الآلة مثلاً، وقوة عقله وحدة ذهنه، وما أشبه ذلك لأنه يتعامل معها مباشرة، ولو أنه كان أكثر ذكاء ولو بدرجة، لتذكر أن هذه الحدة في ذهن الإنسان، وهذه القوة والذكاء حصل له من الله، فرجعت القضية إلى صنع الله الذي أتقن كل شيء، لكنها في الحالة الأولى حالة الزرع مباشرة، وفي الحالة الثانية في حالة الصناعة غير مباشرة. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 9 من الأدلة العقلية للبعث: الاعتبار بالأمم السابقة فالمقصود أن العرب كانوا أهل زرع وحرث، فكانوا يفقهون مثل هذه المعاني، ومع ذلك أصروا على ما هم عليه من الكفر ولم يؤمنوا، ومن عادة الإنسان أنه ينهمك أحياناً في الواقع المحيط القريب منه، فيتخيل الدنيا كلها من خلال الأوضاع التي تحيط به، فإذا أحاط بالإنسان جو معين أصبح هذا الجو يؤثر في نظراته وتصرفاته، -فمثلاً- أهل مكة -جاءتهم الرسالة- فإذا نظروا خاصة في العهد المكي وجدوا أن أكثرهم كافرون بالبعث غير مصدقين بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نظروا إلى أهل المدينة وأهل الطائف والعرب في الجزيرة العربية، فإذا أكثرهم إن لم يكن كلهم على الشاكلة والطريقة نفسها، فلذلك أعطاهم هذا نوعاً من الإصرار على حرب الرسول عليه الصلاة والسلام، بل الضراوة في حربه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم يقولون: أنت أتيت بشيء لا يوافقك عليه أحد. نأتي لليهود والنصارى، اليهود والنصارى يؤمنون بالبعث، فيلتمسون أسباب خلاف بين الرسول عليه الصلاة السلام وبين ما كان عليه أهل الكتاب، ولهذا قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ} [ص:6-7] . ويقصدون بالملة الأخرى النصرانية ففي مثل هذا الجو يوحون للسذج والعوام أن هذا لا يهمكم في شيء، هذا رجل يأتي بأمور غريبة والدنيا كلها ضده، والعالم كله يرفض هذه الأشياء التي يقولها، وقد أتى بشيء خالفنا ولم يوافق فيه أهل الكتاب، فلذلك هذا موضوع سينتهي قريباً، وهذه البلبلة الحادثة من جراء ظهور الدعوة في مكة سوف تحسم، وينتهي أمر الدعوة، وينتهي أمر الرسول عليه الصلاة والسلام في زعمهم، فالله عز وجل ينقلهم وينقل المؤمنين الذين قد يؤثر فيهم هذا الكلام أيضاً إذا سمعوه، خاصة الذين يكون إيمانهم قريباً -حدثاء العهد بالإيمان- ينقلهم إلى ميدان أوسع وأرحب من مجرد التفكير في مكة وما حولها، أو حتى في العالم الموجود آنذاك، وأنه عالم كافر، ينقلهم إلى التاريخ، فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} [ق:12-14] وهذه ثمان حالات يُذكِّر الله تعالى بها {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: أن السنة جارية، فالذي جرى على قوم نوح وأصحاب الرس وثمود وغيرهم يجرى على كل المكذبين، ولهذا قال: {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14] أي: حق وعيدي على هؤلاء المكذبين بالعقوبة الدنيوية والأخروية، والوعيد حاصل ولو تغيرت صورته، فإن الله تعالى دفع عن هذه الأمة عذاب الاستئصال الذي أهلك به أمماً من أمم الأنبياء السابقين لكفرها وتكذيبها. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 10 فوائد المقطع وفي هذا المقطع فوائد منها: الجزء: 123 ¦ الصفحة: 11 استخدام الأدلة العقلية مع النقلية في النفي والإثبات وفيه: استخدام الأدلة العقلية مع الأدلة النقلية في النفي والإثبات، حيث نجد أن الله تعالى ذكر هاهنا الأدلة النقلية ثم أتبعها بذكر الأدلة العقلية التي قد تدعو الكافر إلى التأمل، وتزيد المؤمن إيماناً إلى إيمانه. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 12 استخدام القياس وفيه: استخدام القياس، كما في قوله تعالى: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11] . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 13 فضيلة الرجوع إلى الحق وفيه: فضيلة الرجوع إلى الحق، وأن العبد إذا كان رجاعاً إلى الحق، فإن الله تعالى يؤيده ويسدده، لا يصر على الباطل، ولهذا قال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] والمنيب: هو الرجاع، ِمنْ أناب إذا رجع، فإذا كان من عادة الإنسان أنه إذا ظهر له الحق اتبعه، ولم يقدم عليه لا عادة ولا عرفاً ولا ميراثاً ولا غير ذلك، فإن الله تعالى يسدده ويوفقه للحق، ويرزقه في قلبه البصيرة التي يعرف بها الحق من الباطل: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8] . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 14 الاستبعاد ليس دليلا ً ومنها: أن مجرد الاستبعاد العادي للشيء ليس دليلاً على أمر من أمور الدنيا، أو الآخرة، فكم من شيء يستبعده الإنسان لأنه غير مألوف لديه حتى من أمور الدين! لو أن إنساناً عامياً اطلع لأول مرة على حكم من الأحكام الشرعية ربما أنكره لأنه لم يتعود أن يسمعه، وهذا كل ما لديه من الدليل، ولهذا كان من أعظم الأصنام والطواغيت التي حورب بها الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ طاغوت العادة كما سماه الإمام ابن القيم وغيره، العادة التي كثيراً ما ووجهت بها الدعوة ووجه بها الحق، والمؤمن ينبغي أن يكون متجرداً، فليست العادة عنده دليلاً، وإنما الدليل عنده الوحي قرآناً وسنة، وهاأنت ترى المشركين أنكروا أمر البعث بناءً على مجرد الاستبعاد: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3] . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 15 الإقرار بالموت والحساب بعده وفيه: أن أمر الموت يتفق على الإقرار به جميع الناس حتى المشركون، ولكن هذا لا يكفي في الإيمان بالموت، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أهل السنن عن علي رضي الله عنه: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع، وذكر منها الموت} فمعنى الإيمان بالموت هنا أمر أكثر من مجرد الإقرار بحصوله، بل يتعداه إلى معرفة أن الإنسان يحاسب بعد الموت، وينعم أو يعذب، ثم يبعث، وأن الأمر ليس تناسخاً للأرواح مثلاً -كما تزعمه طوائف من الناس- وأيضاً يكون هذا الإقرار بالموت عقيدة في قلبه تحدوه إلى العمل الصالح، وتزجره عن العمل الفاسد، فذلك كله يتحقق به الإيمان بالموت. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 16 كفر الأكثرية بالبعث وفيه: أن أكثر المشركين من العرب كانوا لا يؤمنون بالبعث، والدليل على ذلك: ما ذكره الله تعالى في كتابه في هذا الموضع وغيره عن موضوع البعث والاستدلال له وتوجيه النظر إليه، وحكى عنهم سبحانه أنهم أنكروا ذلك، كما قال: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} [التغابن:7] وهذا لا يمنع أن يكون من بينهم أفراداً قلائل كانوا يؤمنون بالبعث، لما تسامعوا به من أخبار النبوات والرسالات السابقة، وما وصل إليهم من هدايتها، فيوجد عند العرب، وعند الأمم الأخرى الكافرة والوثنية أفراداً قلائل يؤمنون بالبعث، ولكن يؤمنون به بطريقة منحرفة فاسدة أيضاً. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 17 من تجاوز الحق فلا قرار له وفيه: أن من تجاوز الحق فإنه لا يركن إلى قرار، لقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] وأن من أراد طمأنينة النفس، وسكون القلب، وسلامة العقل والتفكير، فعليه أن يقبل على الوحي (القرآن والسنة) ليجد فيهما الجواب الصحيح لكل ما يعرض له من إشكالات عامة أو خاصة، ومن تجاوز هذا ضل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً} [طه:123-124] ولهذا لو نظرت اليوم إلى واقع العالم؛ رأيت مصداق هذه الآية: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] . أحياناً تقرأ ما يسمونه نظرية فيها كلام طويل، ودراسات ومناقشات، وبحوث وأمور، وتجدها مبنية على أمر تافه. على سبيل المثال الشيوعية كانت نظرية كبيرة، ولها أنصار يعدون بمئات الملايين في العالم، وألفت فيها من الكتب والدراسات عشرات الآلاف، وتبنتها دول وامبراطوريات كاملة، وظن أناس أنه لا زوال لها، وإذا بها تنتهي في لحظة، مجرد وجود سياسي انهار، انهارت معه النظرية، فمن الذي لا يستحيي الآن أنه يتكلم عن الشيوعية؟ أكثر الناس إخلاصاً وولاءً لها يستحيي أن يتكلم عنها، حتى ولو كان عنده شيء سيسكت لفترة حتى ينسى الناس الذي حصل ليتكلم على استحياء أيضاً، حتى إنهم يقولون في أحد المتاحف أو معارض الرسم في ألمانيا أحد الفنانين رسم صورة لـ ماركس الذي أنشأ هذه النظرية الفاسدة، وهو يعتذر إلى الرفاق -صورة خيالية- ويقول: أعتذر إليكم أنا كنت أمزح -كانت مزحة- يعني هذه النظرية التي ركضوا وراءها وهتفوا لها، وأقاموا عليها دول وكيانات، وحاربوا من أجلها، وأزهقت أرواح، وسالت دماء، وصارت أموراً عظيمة!! يقول: كانت مجرد مزح، وما ذلك إلا إشارة إلى أنها ليست مبنية على شيء، فهذه عاقبة الإعراض عن الحق، لكن تجد المسلم العادي البعيد عن العلم عنده من الخير والهداية الشيء الكثير الذي لا يملكه أحياناً علماء كبار بعدوا عن هداية الله عز وجل. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 18 عظمة القرآن لقد أقسم الله تبارك وتعالى بالقرآن، فقال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 19 قضية البعث مرتبطة بقضية وجود الإنسان أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ * وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ * أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ * قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ * يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:16-35] الشرح: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فقد سبق في الكلام على أول السورة، أن الله تبارك وتعالى أقام الحجج على الكفار المكذبين بالبعث، وذكرنا أن هذه الحجج التي مرت في القسم الأول من السورة، تنقسم إلى نوعين: النوع الأول منها: حجج سمعية نقلية في مثل قوله: {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق:4] وهي الحجج التي ذكر الله تعالى فيها البعث في هذه السورة وفي غيرها، كما في قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن:7] إلى غير ذلك، فهي أدلة شرعية نصية على إثبات البعث. النوع الثاني: أدلة عقلية على ثبوت البعث، منها: إيجاد الأرض وإحياؤها بالمطر بعد أن كانت هامدة، ومنها خلق السماوات، ومنها خلق الإنسان نفسه وإعادته في العادة أهون، وكل ذلك على الله يسير كما في أدلة أخرى، ولذلك البعث والنشور. فبناءً على هذه الأدلة من كان جاهلاً تعلم، وآمن أن الله تعالى يحيي الموتى وهكذا جاءت النصوص، ومن كان عنده شبهة أوشك زالت شبهته وزال شكه أمام الأدلة العقلية القاهرة القاطعة؛ لكن مع هذا وذاك قد يظل إيمانهم بالبعث مجرد اقتناع عقلي بارد، لو سألته قال: نعم. هناك بعث، لكن توقف الأمر عند هذا الحد. فأنت قد تختبر إنساناً، فتقول: هل يبعث الناس بعد موتهم؟ فيقول نعم، تقول: وما الدليل؟ فيقول: الدليل قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7] أو تأتي لإنسان آخر فتقول له: هل تؤمن بالبعث؟ يقول: أنا مقتنع بالبعث تقول: كيف اقتنعت؟ فقال: نظرت إلى السماء، والأرض، وحياة الأرض بالمطر والزرع، وخلق الإنسان، وأن إعادته أهون، وآيات كثيرة توصلت منها إلى أنه لا بد من بعث. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 20 أهمية التفصيل في أمور البعث ولذلك بعد أن ساق الله تعالى أدلة عقلية، وأدلة نقلية على ثبوت البعث ذكر الله عز وجل تفاصيل البعث وما يجرى فيه؛ من أجل أن يتحول هذا الإيمان إلى يقين في القلب، وعادةً أن الإنسان إذا سمع التفاصيل يتأثر أكثر مما يتأثر بالإجمال، فأنت مثلاً لو قيل لك: إنه حصل في بلد كذا وكذا مذبحة عظيمة راح ضحيتها عشرات الآلاف، قلت: إنا لله وإنا إليه راجعون؛ لكن لو أن إنساناً شاهد عيان، جاء أمامك، وبدأ يتكلم لك عن الفظائع تفصيلاً فقال لك: رأيت امرأة بقر بطنها، ورأيت صبياً قطعت أطرافه، ورأيت شيخاً كبيراً ذبح كما تذبح الشاة، ورأيت، ورأيت، وأصبح يحدثك عن الفظائع بالتفصيل، تجد أنه يصيبك من الانفعال والدهشة والتأثر شيء عظيم لم يكن حصل لك من الخبر الإجمالي، بل ربما يزيد؛ فقد يفلح الإنسان في لفت نظرك إلى قتل عشرة أشخاص لأنه أعطاك تفاصيلاً أكثر مما يهزك مقتل عشرة آلاف لم تأخذ عنهم تفصيلاً وإنما أخذت الخبر الإجمالي، فالتفصيل عادةً له تأثير في النفوس، ولهذا ذكر الله تعالى في هذه الآيات تفصيل الأمر من بداية الدنيا إلى نهايتها، من أجل أن تعلم أن مسألة البعث هي المقصود الأساسي من الخلق كله، فابن آدم لم يخلق ليعيش في الدنيا، لكن خلق من أجل الدار الآخرة، كما قال بعض السلف: إن الله تعالى لم يخلق الإنسان للفناء، وإنما خلقه للبقاء، وإنما ينتقل من دار إلى دار، ولهذا بدأ هنا بالخلق فقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} [ق:16] منذ خلق آدم (الإنسان الأول) وعبر الأجيال كلها. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 21 إحصاء الله لكل شيء ثم قال: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] والمقصود من هذا العلم أولاً: إثبات العلم لله عز وجل لا شك، فالله تعالى عليم يعلم كل شيء، حتى مجرد الوسوسة التي في النفس، والتي قد يكون الإنسان نفسه -أحياناً- غافلاً عنها، فقد يسرح الإنسان في وسوسة أو تفكير وهو شارد الذهن، لكن ربك يعلم سبحانه، لكن المقصود مع العلم -أيضاً- كتابة هذا العلم: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} [يس:12] في لوح محفوظ، وقال تعالى عن الكفار: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} [النبأ:29] يعني: مكتوباً، والعلم والكتابة هي من أجل الجزاء والحساب، ليقال له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:14] . إذاً قوله: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] إشارة إلى أن كل شيء محصى على الإنسان للجزاء الأخروي، وهنا تبرز لك قضية البعث، أن خلق الإنسان والعلم به لكتابة ذلك ومواجهته به يوم القيامة ومجازاته عليه، إذاً رجعنا إلى قضية البعث والكلام فيها تفصيلاً، قال تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] بعلمه تعالى، وبملائكته، وبإحاطته، وبعظمته، هو أقرب إلى الإنسان من حبل وريده. قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] نموذج تفصيلي للعلم، ملكان عن اليمين وعن الشمال، أحدهما للحسنات والآخر للسيئات، ما يلفظ من قول يقوله الإنسان إلا لديه هذا الرقيب العتيد الحاضر المهيأ الذي مهمته أن يكتب، لذلك بعض الناس يقول: الكلام يطير به الهواء، الواقع أن الكلام لا يطير به الهواء بل هو محفوظ مضبوط، وبعض الناس يسترسل في الكلام في الهاتف، ويقول لك: يا أخي! الهاتف الآن بالمجان، نسي أن هناك رقيباً وعتيداً: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] أنسيت هذا! فحفظت القضية الدنيوية ونسيت القضية الأخروية، هو مسجل عليك مثل فواتير الدنيا، وإن كان الأمر مختلفاً، وتواجه وتجازى به يوم القيامة. وقد اختلف السلف في أمر الكتابة، فقال بعضهم: يكتب كل شيء ثم يمحو الله تعالى ما يشاء، ويبقى ما يجازى عليه الإنسان من خيرٍ أو شر، وهذا هو الصحيح، حتى الكلام العادي يكتب، مثل: ذهبت، وجئت مما ليس فيه إثم ولا بر، وقال بعضهم: لا يكتب إلا الخير أوالشر، والواقع أن كل شيء يكتب لأنه قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 22 أثر الإيمان بالبعث في الدار الدنيا إذاً تبين لنا أن قضية البعث مرتبطة بقضية وجود الإنسان في هذه الدنيا، وأن البعث ليجازى بما عمل، وهنا يبرز أثر الإيمان بالبعث في الدار الدنيا، فليس الكلام عن البعث كلام عن عالم آخر لا علاقة له، بل هو كلام عن عالم مرتبط بهذه الدنيا، وهو الوجه الآخر لحياة الإنسان، وفي الآية دليلٌ على أن الإنسان لا يؤاخذ بما حدثت به نفسه إلا إذا تكلم به، فالوسواس الذي يدور في القلب والصدر، والخواطر التي تمر، والشبهات التي يلقيها الشيطان على قلب العبد لا يؤاخذ بها الإنسان إلا إذا تكلم بها، أما إذا دفعها، واستعاذ بالله تعالى منها فإنها لا تضره، ولا يسأل عنها أصلاً يوم القيامة، ولهذا قال سبحانه: {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق:16] ثم قال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] إذاً: ما ليس بقول ولم يتكلم به العبد ولا أقره؛ فإنه لا يضره، ولا يسأل عنه يوم القيامة، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل} . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 23 النقلة من الدنيا إلى الآخرة نحن الآن في دار الدنيا والناس يعيشون، يتكلمون، يعملون، يفكرون والملائكة يكتبون وهذا جانب، ثم ننتقل إلى الخطوة الثانية وهي: النقلة من الدنيا إلى الآخرة: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] فالموت: هو عملية الانتقال في نظر المسلم من الدنيا إلى الآخرة، فما بينك وبين الآخرة إلا نفس يدخل فلا يخرج، أو يخرج فلا يدخل، وأكثر الذين ماتوا لم يكونوا متوقعين أنهم يموتون بتلك الطريقة ولا كانوا مستعدين للموت بما فيه الكفاية، بل كانوا يسمعون الكلام عن الموت، وكأنه يتعلق بأشخاص آخرين غيرهم، لا يخاطبهم أو يعينهم هم مباشرة. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 24 مفاجأة الموت يقول الله تعالى: (وجاءت) وهنا يلاحظ مسألة المفاجأة، وهنا الكلام عن خلق الإنسان، والعلم بما يوسوس، وقرب الله تعالى منه والملائكة الذين عن يمينه وعن شماله، بعد ذلك تجد مفاجأة: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] هكذا بهذه السرعة!! ففي ذلك دليل على قصر الحياة وسرعة زوالها، وأن الموت في الغالب يفاجأ الإنسان، وحين نقول، يفاجئه لا يعني بالضرورة موت الفجأة الذي يأتي للإنسان وهو صحيح شحيح فيموت في لحظة، في حادث سيارة مثلاً، أو بالسكتة القلبية! ليس هذا شرط، بل حتى الذي مات بمرض قد يكون مرضه استغرق أسبوعاً أو شهراً؛ لكنه كان يتوقع أنه يعيش زماناً طويلاً، ولذلك قد مد حبالاً طوالاً؛ فهذه العمارة تعمر، وعنده مشاريع طويلة، وعنده أشياء، ولهذا تجد الإنسان أحياناً يبرم عقوداً عجيبة فيتصبر بيتاً لمدة مائة سنة وشيء، أو مائتي سنة وشيء، وأكثر من هذا، هكذا الإنسان يظن أنه خالد، أو معمر في هذه الدنيا، فيأتي النص القرآني: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] وفي ذلك دليل على ما يعانيه الإنسان عند الموت من الشدائد، والأهوال، يبين هذا في قوله: (سَكْرَةُ) فهي صحوة من حيث أن الإنسان عقل ما لم يكن يعقل، لكن الله تعالى سمَّاها سكرة لشدة ما يعانيه الإنسان، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقول وهو في مرض الموت: {إن للموت لسكرات، ويمسح العرق عن جبينه، وكان يضع خميصة على وجهه يتغطى بها، فإذا اغتم وثقل نفسه كشفها، حتى رأت فاطمة ما يعانيه، فقالت: واكرب أبتاه! فقال: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} فالموت كربة تهون عندها كل كرب الدنيا، فأين الملُك والجاه والمال والسلطان من إنسان مثل الفأر في المصيدة، قد قبض عليه والآن تنزع روحه؟! الجزء: 123 ¦ الصفحة: 25 البعث من القبور ثم ينتقل إلى الأمر الثالث الذي هو موضوع السورة أصلاً، وهو أمر البعث، لهذا قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق:20] ثم بدأ في التفصيل لأن هذا هو الموضوع الأساسي: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] من الملائكة: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] كشف الغطاء يبدأ من الموت، فعند الموت ينكشف شيء من الغطاء، فالإنسان إذا عاين الملائكة ورآهم قد تنزلوا أدرك حينئذ؛ لكن بعد فوات الأوان، ولهذا تجد أن الإنسان في الدنيا إذا تذكَّر الموت وصحَّ تذكره صار عنده شعور فيقول: يا ليتني لم أفعل كذا، ولم أفعل كذا، لكن إذا غفل انطلق مع الحرام ومع الشهوة، ومع ما لا يرضي الله عز وجل، فإذا عاين الموت حقيقة، كان الأمر أعظم بالنسبة له، فإذا كان يوم القيامة انكشف له حينئذٍ كل شيء، ولهذا حتى الكفار يقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] و {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا} [الأنعام:27] فالمقصود أن الأمر انكشف لهم، فلهذا قال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22] قوله: حديد أي: شديد، أو بعبارة أخرى: قوي حاد ينفذ، فأصبحت ترى ما لم تكن ترى، وتسمع ما لم تكن تسمع. ثم يقول: {بِالْحَقِّ} [ق:19] وفي ذلك دليل على أن الموت والاحتضار يبين للإنسان فيه بعض ما كان غائباً عنه، ويصدق ما كان مكذباً به، فسكرة الموت جاءت بالحق فكشفت للإنسان الحق، فالمكذب صدق، والكافر آمن، لكن لا ينفعه ذلك، والدليل على أنه لا ينفعه ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} والدليل الثاني أيضاً من الحديث: {ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم يعني الروح قلت لفلان كذا، ولفلان كذا} . أيضاً من الأدلة: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] فإذا عاين الإنسان الملائكة فقد جاء الحق، لكن بسكرة الموت التي لا يقبل معها عمل، لأنه تحوّل حينئذٍ من إيمان بالغيب إلى إيمان بالشهادة، فقد رأى وعاين: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] تهرب عنه لكنه يلحقك، ولذلك تجدنا نكره حتى ذكر الموت، ولا نريد أن يكدر علينا، ولكن هذا لا يغير من الواقع شيئاً، فهذا هو الأمر الثاني وهو أمر النقلة من دار الدنيا إلى دار الآخرة، والإشارة إلى الموت تتضمن الإشارة إلى حياة البرزخ في القبور حيث الفتنة والسؤال عن الدين، وعن الرب، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام، وحيث النعيم أو العذاب في القبر. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 26 تذكر القلب الواعي ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] أي: أن من لم يتذكر فليس له قلب، نعم. فيه تلك المضغة الموجودة في الصدر، وهي موجودة عنده ولو لم تكن موجودة عنده ما حيي، ولكن قلب الوعي، وقلب البصيرة أمر وراء ذلك. ففي هذه الآيات والعبر ذكرى لمن كان له قلب، أما من ليس له قلب فهو لا يعتبر بذلك، حتى ميت القلب لو سمع سماع تفهم ربما حيي قلبه: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] ولهذا قال هناك: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] ضع أذنك وفكر وقدر وتدبر، وربما يصحى القلب المريض، أو يحيا القلب الميت والله تعالى على كل شيء قدير: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17] فنسأل الله تعالى أن يحيي قلوبنا بذكره وشكره وحسن عبادته، ونستغفر الله تعالى مما فرطت به ألسنتنا، أو زلت به أعضاؤنا وجوارحنا، ونسأل الله تعالى أن يشملنا جميعاً بصفحه وعفوه إنه على كل شيء قدير، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 27 فوائد الإيمان المفصل الإيمان المفصل أقوى وأعظم تأثيراً في النفس، وأبعد عن أن ينساه العبد، وأبعد عن الشبهات، ولو أن إنساناً أُخبر بوجود بلد من البلدان العظام الآن في الدنيا، فآمن بوجود هذا البلد كان هذا إيمانا مجملاً، لكن إذا أعطي هذا الإنسان تفصيلاً، وقيل له: إن هذا البلد فيه عدد من المدن هو كذا، وعدد الولايات كذا، وعدد سكانه كذا، وجغرافيته كذا، وتربته كذا، وفيه من العجائب كذا، وفيه من الغرائب كذا، وصار ويسرد له التفاصيل، ويسرد، ويسرد فإنه يتولد حينئذٍ عند هذا الإنسان من هذا التفصيل مزيد من اليقين، ولم تبق عنده كلمة غامضة، بل أصبحت كلمة بمجرد ذكرها تتداعى أشياء كثيرة. مثلاً: قيل له: أمريكا -إذا كان لا يعرف عنها أي شيء- وذكر أمريكا لا يوجد في ذهنه أي تداعيات، لكن إذا ذهب وزار البلد، ورأى فيه الخضرة، ورأى فيه الشلالات، ورأى فيه العجائب ثم رجع، فبمجرد ما يسمع كلمة أمريكا يتداعى إلى ذهنه -وهذا تركيب فطري عند الإنسان- صور عظيمة، فيتذكر في لحظة واحدة -والله جعل في العقل قدرة على هذا- كل الصور التي ذكرها والتي رآها، والتي سمع بها أو قرأ عنها، فتتداعى بمجرد ذكر كلمة واحدة. وهكذا المؤمن بمجرد ذكر كلمة يوم القيامة، وهي كلمة مكونة -مثلاً- من خمسة حروف، تجد أنه مباشرة يقفز إلى ذهنه صورة الصراط المنصوب، وصورة الميزان الموضوع، وصورة هؤلاء الخلائق الذين يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وصورة النار وهي تفور، وصورة الجنة وقد قربت للمؤمنين، تداعت كل هذه المعاني في ذهنه بمجرد ذكر يوم القيامة؛ لأنها من ضمن الإيمان بيوم القيامة، فهذا من فوائد الإيمان المفصل. كما أن الإيمان المفصل في أمر من أمور الدنيا، عندما تعطي تفصيل عن بلد تجد عندك رغبة ولهفة في زيارته، والانتفاع والاستفادة مما فيه، والوقوف على عجائبه، فكذلك الإيمان المفصل بالدار الآخرة يجعل عند الإنسان شوق، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: {وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة} فالإنسان الذي يرى في الدار الآخرة هذه الألوان من النعيم، ويرى فيها السلامة من الآفات، ويرى فيها رؤية الله عز وجل ولدينا مزيد: وهي الزيادة والحسنى التي ذكرت وآخر الموعد المذكور في الزبر رؤية الله عز وجل والنظر إلى وجهه في جنة عدن، وألوان النعيم، والحور، والحبور، والقصور؛ يتولد عنده شوق إلى الدار الآخرة -وهذا أيضاً- من فوائد الإيمان المفصل، فأنت ترى الآن أن هذا السياق كله هو في صدد الكلام عن موضوع البعث الذي افتتحت به السورة {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:1-3] الجواب سترجعون، وهذا هو التفصيل. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 28 التفصيل في إثبات البعث يزيد الإيمان قال تعالى: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:33-35] فهذا السياق الآن ذكر فيه البعث ووقوف الإنسان بين يدي الله، والكلام والحوار الذي دار مع الملائكة الكرام الكاتبين، وكلام الشياطين القرناء، وتبرءهم من الإنسان، ثم ذكر فيه مصير أهل الجنة وما يلقون فيها من النعيم، ومصير أهل النار وما يلقون فيها من العذاب والنكال والجحيم، فهذا التفصيل ضمن الإجمال في إثبات البعث يقوي إيمان العبد بالبعث، فإن الإيمان يزيد وينقص -كما هو معروف- ومن زيادة الإيمان: الإيمان بالتفصيل، ولهذا قال الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] . لماذا زادتهم هذه السورة إيماناً؟ كيف زادتهم إيماناً؟ لما فيها من الآيات والعبر، والأوامر والنواهي، فأدى ذلك إلى العمل بها هذا شيء. وهناك شيء آخر، لأن الإيمان يزداد بزيادة الشيء الذي آمنت به، فأنت الآن نزلت سورة فآمنت بها فزاد إيمانك ثم نزلت سورة ثانية فآمنت بها فزاد إيمانك، كلما آمنت بشيء جديد زاد الإيمان، ولهذا من رحمة الله أن يفصل لعباده في أمور البعث وغيرها لأنهم كلما آمنوا بشيء جديد زاد إيمانهم. فمثلاً لو لم يكن الإنسان يعلم إلا أن هناك بعثاً فقط فقال: آمنت بالله وصدقت رسله، وهذا إيمان قوي بالبعث، ثم وصل إلى الإنسان علم أنه بعد البعث هناك الجنة والنار فقال: آمنت بالله، بعد ذلك وصله علم جديد أن هناك الصراط المنصوب، والميزان الذي توزن به الأعمال فقال: آمنت بالله فزاد الإيمان، ثم وصل إليه أيضاً علم جديد في صفة أهل النار وما يلقون فيها من النكال فقال: آمنت بالله فزاد إيمانه، ثم وصل إليه علم جديد عن أهل الجنة وما يلقون فيها من النعيم، فقال: آمنت فزاد إيمانه، وهكذا كل شيء جديد وتفصيل ومعلومات جديدة تقدم للعبد فيؤمن بها، يزداد إيمانه بذلك. فهذا التفصيل الذي ساقه الله عز وجل في أمر البعث هو زيادة في إيمان العبد لزيادة التفصيل، وهو أيضاً ترسيخ وتقوية لهذا الإيمان، فَفَرقٌ بين الإيمان المجمل والإيمان المفصل. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 29 حال المؤمن وبالمقابل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31-35] فهذه هي النتيجة الثانية للاختبار، نتيجة من أطاعوا الله تعالى، واتصفوا بصفات المتقين وتركوا المعاصي، واتقوا الكفر بالإيمان واتقوا المعصية بالطاعة، وصبروا في هذه الدنيا فكان مصيرهم ذاك، وما بينهم وبين أن يلقوا هذا المصير إلا: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق:19] . ثم قال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33] لماذا اتقوا؟ وهل تعتقد أن الإنسان التقي أقل من غيره طمعاً في الدنيا؟ أو أقل من غيره في وجود الدوافع الشهوانية لديه؟ أو أقل من غيره بصراً ومعرفة بسبل الوصول إلى ما يريد؟! لا، فأنت قد تجد المتقي في نفسه من الشهوة مثلما في نفس غيره أو أشد، وعنده من تذوق اللذائذ في الدنيا مثلما عند غيره أو أشد، وعنده من معرفة الطرق والأسباب الموصلة إلى ذلك في الدنيا مثلما عند غيره أو أشد، ولكنه فطم نفسه عن هذا كله، وهو يعرف -لو أراد- الطريقة إليها. إذاً لماذا حرم نفسه من ذلك كله؟ لأنه من المتقين، هذه هي التقوى. ثم قال: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق:33] أي: لأنه خشي الرحمن بالغيب، فخاف الله تعالى وهو لم يره، وأيضاً خاف الله تعالى وهو غائب عن عيون الناس، فهو لا يعمل العمل من أجل الناس فإذا خلا بمحارم الله تعالى انتهكها، ولكنه يخاف الله رب العالمين، فيراقبه في الملأ كما يراقبه في الخلا: إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما يخفى عليه يغيب لهونا عن الأيام حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب فياليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب وقد كان الإمام أحمد يتمثل بهذه الأبيات. ثم قال: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] وأنت تلاحظ في هذه السورة وفي غيرها كثرة وصف الإنسان الخيِّر بالتوبة، والرجوع والإنابة، حتى هنا قال: {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:33] وقال: {لِكُلِّ أَوَّابٍ} [ق:32] أي: رجَّاع وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} [البقرة:222] لأن الإنسان لابد له من زلات، ولابد له من أخطاء، ولابد له من غفلة، فالآيات هذه تحثه على أن يسارع بالتوبة، ويكثر منها أيضاً، ولا يقول: أخشى أن لا أصبر على هذه التوبة، بل يتوب ويرجو الله أن يثبته ويصبره عليها. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 30 حال الكافر العاصي ثم يذكر الله تعالى نوعاً من الكلام الذي يجري يوم القيامة: {وَقَالَ قَرِينُهُ} [ق:23] الإنسان الذي هو مناط التكليف -هناك جدل حوله الآن- له قرين من الملائكة: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وله أيضاً قرين من الشياطين -كما هو معروف- كلهم حاضرون معه، فالآن القرين من الملائكة يقدم كشف الحساب أمام الله عز وجل: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق:23] يقدم أوراقه، وسبق أن الإنسان معه ملكان، فحينئذ يقول الله عز وجل للملكين: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ * الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق:24-26] هذا إنسان عاصٍ فاجر فجزاؤه جهنم. أما القرين من الشياطين فيتبرأ: {قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] أي: لست أنا الذي أطغيته، إنما هو من نفسه كان محباً للشر باحثاً عنه، وقد ذكر الله تعالى براءة الشياطين ممن أطاعوهم: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] فهاهنا قال: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27] الإنسان بطبيعته لا يقر بهذا، بل يلقي باللائمة على الشيطان ويلومه ويعاتبه كما جاء في آيات أخرى، فالله عز وجل يقول لهم: {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:28-29] فهذا الذي قيل له: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:24] هو صائر إلى النار، لأن أمر الله تعالى نافذ كما قال تعالى: (لا يبدل) {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] ألقي فيها ثم ألقي ثم ألقي كما أمر الله، وكما قال عز وجل: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك:8] يعني يلقون فيها أفواجاً بعد أفواج، أمم: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف:38] حتى يقول الله عز وجل للنار: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] أي: أريد المزيد، حتى يضع رب العزة فيها قدمه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فينزوي بعضها إلى بعض، وينضم بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط، وعزتك يا رب} وبعضهم يقول: إن قولها: هل من مزيد، أنها تقول: لا مزيد على ما وضع وألقي فيّ، ويحتمل إن كان الأمر كذلك أن يكون هذا بعد أن يضع الله تعالى فيها قدمه، فهذه هي النتيجة الأولى، نتيجة الإنسان العاصي الكافر. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 31 وقفات ومعالم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ * وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ * إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:36-45] . الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فهذا هو القسم الثالث من هذه السورة العظيمة سورة (ق) وفيه وقفات ومعالم: الجزء: 123 ¦ الصفحة: 32 آيات الله معروضة في الكون والنفس قال بعدها: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] وفي هذه الآية الوقفة الثانية. وهي أن آيات الله تعالى معروضة في الكون وفي النفس: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت:53] ولكن العبرة بمن يتلقى هذه الآيات، ويستمع إليها أوينظر إليها بجوارحه، ثم يعتبر فيها بقلبه. فالشمس آية من آيات الله، ولو تصور الإنسان الجرم الهائل لهذه الشمس، وكيف أن الله تعالى بقدرته جعلها تطلع من المشرق، ثم تذهب إلى المغرب بهذا الانتظام، لرأى أمراً عجاباً، فهذه الشمس ينظر إليها المؤمن فيزداد إيماناً وقوةً ويقيناً وثقة بالله عز وجل، وينظر إليها الكافر فلا تحدث عنده شيئاً مع أنها هي هي، وما الفرق إلا لأن هذا لديه أجهزة استقبال صحيحة (عقل وقلب وحواس) وأما الكافر فقد عطَّل هذه الأشياء، مع أنه قد يكون خبيراً أكثر من المسلم بهذه الأمور، فقد تجد الكافر عالماً فلكياً عنده أرقام وإحصائيات، وكم حجم الشمس، وكم جرمها، وكم بعدها عن الأرض، وما هي طبيعة حركتها، وما علاقتها بالأرض، وعلاقتها بالقمر، وعلاقتها بالأجرام الفضائية الأخرى، وفي وقت الصيف، وفي وقت الشتاء إلى غير ذلك، فقد تجده عالماً بالأفلاك ومع ذلك لم يستفد، أو تجده عالماً بالإنسان فهو يتكلم عن جسم الإنسان، وعن أعضاء الإنسان، وعن الأجهزة الموجودة فيه، وعن قوتها وعملها، وما فيها من الآيات والعبر، ولكنه يتكلم عنها كما لو كان يتكلم عن مسألة رياضية لا تحرك في قلبه ذرة من الإيمان، ولا من المحبة لله عز وجل، ولا من الخوف منه، لماذا؟! لأن أجهزة الاستقبال عنده معطلة، فالحواس التي أعطيها السمع والبصر وبقية الجوارح لم يستثمرها، وكذلك القلب لم يستثمره، فهو يشتغل بعقله لا بقلبه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] . فلا بد للإنسان من أمرين: الأول: أن يكون له قلب، فالذي ليس له قلب لا ينتفع من سمعه ولا من بصره ولا مما يرى، فيرى العجائب والغرائب فيما خلق الله، وفي المصائب التي تنزل في الناس، وفي والحوادث وفي غيرها ولا يلتفت إليها، ويسمع بأذنه من العبر، والدروس، والأخبار، والوعد، والوعيد، والقرآن أشياء كثيرة، فلا ينتفع من هذا ولا من ذاك، لأنه ليس له قلب. الأمر الثاني الذي لا بد منه للإنسان هو: هذه الجوارح التي هي منافذ ومعابر إلى القلب، فالله تعالى قد امتن على الإنسان بالسمع وبالبصر وبغير ذلك من القوى التي يتمتع بها، كما قال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] وكما قال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ} [الإسراء:36] أي: القلب: {كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فلابد من هذا وذاك، ومن لم ينتفع بقلبه لم ينفعه سمعه ولا بصره، ولهذا قال الكفار يوم القيامة اعترافاً: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10-11] . الجزء: 123 ¦ الصفحة: 33 استغراق الكافر في واقعه الوقفة الأولى: في قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] فالله تعالى بعد أن أقام الحجة على كفار قريش بالأدلة العقلية والنقلية على ثبوت البعث وحصوله وإمكانه، ثم بيَّن لهم تفصيلاً ماذا يكون في البعث والنشور من الجزاء والحساب والمحادثة بين الإنسان وبين الملائكة وغير ذلك مما يدعم ذلك الإيمان ويقويه عقَّب بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} [ق:36] ففي هذه الوقفة إشارة إلى أن الكافر مستغرق في واقعه، لا يعنيه شيء بقدر ما يعنيه هذا الواقع، فإن أتيت إلى آماله وطموحاته وجدتها محصورة في واقعه؛ أن يأكل جيداً، ويلبس جيداً، ويشرب جيداً، ويركب جيداً، ويسكن جيداً، وهذا كل منتهى أمله، لأنه لا يفكر فيما وراء الحياة الدنيا. وكذلك إن أتيت إلى نظراته وتفكيره وآرائه وجدتها مرهونة بواقعه، فإذا قلت له مثلاً: الحق وانتصار الحق وزوال الباطل، قال لك: دعنا من هذا الكلام، هذا كلام لا حقيقة له ولا قيمة، المهم ما نراه بأعيننا، وما نسمعه بآذاننا، فنحن نرى أن الباطل منتصر والحق مغلوب، وأنكم أنتم يا أهل الإيمان لا شأن لكم، ولا وزن لكم، ومن قبل كانوا يقولون للرسول عليه الصلاة والسلام كلاماً من هذا القبيل، فمثلاً ينظرون إلى الجانب المادي فيجدون الرسول صلى الله عليه وسلم عرياً من ذلك، لا مال ولا جاه -في أول الأمر- فيقولون منتقدين على الرسول عليه الصلاة والسلام: {لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} [الفرقان:8-9] أو ينظرون في كونه عليه الصلاة والسلام وحيداً فريداً أعزل ليس معه قوة، ولا سلاح، وليس له دولة في مكة فينكرون ذلك ويقولون: هذا إنسان فرد أعزل ليس معه قوة ولا سلطة، فلماذا نطيعه وهو مجرد رجل واحد ليس له وزن؟! هذا الكلام -أيضاً- قد يؤثر حتى في عقول، وقلوب بعض المسلمين، فإن من طبيعة الإنسان أن الواقع يؤثر عليه تأثيراً بليغاً. أ/ حال الناس هذه الأيام: وقد تأملت أحوال أكثر الناس فوجدت أنهم مستغرقون في واقعهم، لا يتعدى تفكيرهم حدود هذا الواقع القريب المحدود في الزمان والمحدود في المكان، فلو نظرنا في واقعنا نحن الحاضرين -مثلاً- دعك عن الغائبين، لوجدنا أن الكثيرين منا لا يفكر إلا في حدود الناس الذين يراهم بعينه، أو يعايشهم في حياته، فإذا تكلم قال: الناس بخير، فمعنى ذلك أنه يصف أولئك الناس الذين يعايشهم، ويختلط بهم، وإذا قال ضد ذلك فهو يقصدهم -أيضاً- وإذا فكر تجد أنه يفكر في حدود منطقته، أو إقليمه، أو بلده، أو حتى حيه أحياناً، لكن القليل من الناس من يضيف في تفكيره بُعد الزمان، وبُعد المكان، فينظر مكاناً، فيجد أن خلق الله أعظم من ذلك، وإذا كان سكان بلدك الذي تعيش فيه ألف أو مليون، فسكان هذه الأرض أعداداً كبيرة، والمسلمون منهم يقدرون بألف مليون، وقد تجد في دولة واحدة مائة مليون، ومائتي مليون، فلماذا لا تضيف هذا الرقم إلى تفكيرك أيضاً؟ مثال: لو أن حاكماً طاغية سُلِطَ على مجموعة من المسلمين في بلد من البلدان؛ قد يكون عددهم عشرة ملايين، أو عشرين مليون؛ لوجدت أن كل إنسان ينظر إلى هذا ويتعجب، ويقول: كيف سُلِطَ عليهم وما أشبه ذلك!! ونسي أن هذا الحاكم مهما طغى واستبد؛ فإنه لا يتعدى حدود هؤلاء العشرين مليوناً، وأن غيرهم بمنجاة من ظلمه، وبطشه، ويستطيعون أن يتخلصوا من كيده ومكره، فلذلك إذا أضاف الإنسان عنصر المكان ووسع تفكيره، وجد أنه تغير نظره، فقد تفعل أنت شيئاً لا يرضي من حولك، ولكنه يرضي أضعاف أضعافهم ممن لا يراهم الإنسان بعينه، أو يسمعهم بأذنه، أو يحسهم بجوارحه، فلا يكون محط اهتمامه فقط هم من حوله؛ بل لا يكون أصل قضية رضاهم وسخطهم هي كل شيء عنده، فالمهم أن يرضى الله تعالى عنه. كذلك مسألة الزمان: بأن تضع في اعتبارك الواقع الذي تعيشه الآن، لكن لماذا لا تفكر -أيضاً- في قرون وأجيال ذهبت؟! وقرون وأجيال سوف تأتي؟! الإنسان الذي يُفكِّر في حدود يومه فقط ينظر في المصلحة القريبة، وقد يفعل ما هو خطأ أو يترك ما هو صواب؛ لأنه يناسب يومه، لكن إذا فكَّر في أن هناك قرون وأجيال، وأنه هو حلقة ضمن سلسلة طويلة تغير تفكيره، فقد تجد أن هناك شيء لا يرضي من حولك في هذه الأيام، لكنه سيكون بالتأكيد له أثر عظيم في قرون وأجيال مستقبلة، فيزيد الإنسان قوة، ودائماً عَيْبَ الإنسان هو أنه يغرق في لحظته الحاضرة، وفي مكانه الحاضر، فهو مأسور بحدود الزمان وحدود المكان. وكثيراً ما كان الكفار يحتجون على الرسل بالواقع، قد يقولون: أنت يا محمد -عليه الصلاة والسلام- الآن في مكة، أنت الآن تقول مبعوث للعالمين، أنت الآن في مكة لا تأمن على نفسك، أو في المدينة وليس لك أتباع، وليس لك قوة، وليس وليس فتجدهم يحتجون عليه بالزمان وبالمكان، لكن ينسون أن الزمان يتغير، والمكان يتسع، فلهذا ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية جانباً يتعلق بهذين الأمرين، فقال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق:36] أي: لماذا ينظر كفار قريش فقط إلى واقعهم الآن؟! وإلى أن الله تعالى قد أمهلهم؟! وحلم عليهم فلم يعاجلهم بالعقوبة؟! ألا ينظرون إلى أزمنة ممتدة طويلة من قبلهم! فيها أناس مثلهم كذبوا فأهلكهم الله تعالى ولم يبق منهم باقية، ولم يكن لهم مهرب ولا ملجأ من عقوبة الله تعالى لهم! فلو فكروا في هذا لاعتبروا، أو فكروا في الزمان القادم -أيضاً- والأيام المقبلة تفكيراً سليماً لاعتبروا. ب/ أبو طالب عم رسول الله: انظر مثلاً: أبو طالب حيث كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم -كما هو معروف- ويعظمه ويجله، وله في ذلك أقوال مشهورة مثلما هو معروف في قصيدته: ولقد علمتُ بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وصدقتني وعلمت أنك ناصحي ولقد بررت وكنت قبل أمينا ويقول أيضاً: لقد علموا أن ابننا لا مكذب لدينا ولا يعنى بقول الأباطل فو الله لولا أن أجيء بسبة تجر على أشياخنا في المحافل لكنا اتبعناه على كل حالة من الدهر حقاً غير قول التهازل إذاً السؤال ما هو السبب الذي كان يمنع أبو طالب من الإسلام؟ أبو طالب مجرد مثال لأعداء غفيرة من الناس، وليس هو الوحيد، لماذا امتنع أبو طالب عن الإسلام، مع أنه مؤمن ومصدق، وكان يحب أن يفرح قلب النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا لم يسلم؟! لأنه كان يراعي حال قومه في الزمان والمكان، ففي مكة كان إسلام أبي طالب سبباً لأن يُسب أبا طالب، ويعاب، ويعير، وينتقص، وهو من شيوخ قريش، فيقال: إن أبا طالب على كبر سنه وجلالة قدره وجاهه، يذهب حتى يتبع ولداً من أولاده، ويصدقه، ويوافقه، ويطيعه فيما يأمر، وفيما ينهى، فكان يرى في حدود المحيط الذي يعيش فيه شيئاً من العار والعيب والمسبة، فتثاقلت نفسه عن الاستجابة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه لا يرى حوله ما يشجع على هذا. كذلك بالنسبة للزمان: يتوقع أبو طالب لأنه حكم على الغائب حكمه على الحاضر أي: قاس الغائب على الحاضر، فتوصل إلى أن القضية ستستمر، وبالتالي أبو طالب سيكون في المستقبل لو أسلم مسبة تجر على أشياخه في المحافل، ونسي أبو طالب أنه كان بذلك أسيراً لحدود زمانه ومكانه، ولو أنه انعتق من هذه القيود لأدرك شيئاً آخر؛ لأدرك أن إسلامه هو الخير له في الدنيا قبل الآخرة، فلو أسلم أبو طالب لكان أهل التوحيد، وأهل الإسلام عبر هذه القرون الطويلة التي مضت -الآن أربعة عشر قرناً- كلهم كانوا يحبونه ويمدحونه، ويدعون له، ويثنون عليه، أما الآن فلا يجرؤ مسلم على مدى هذه الأزمنة المتطاولة، أن يقول عن أبي طالب: رحمه الله! أو غفر الله له، لأنه مشرك، ولأن الله تعالى يقول في حق أبي طالب أولاً، وحق من مثله ثانياً: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] إلى آخر الآيات. إذاً حسابات أبي طالب كانت صحيحة خاطئة قطعاً، فلو أسلم لكانت مديحة تعلن في المحافل، والمجالس في هذا الوقت، لكن الله تعالى غالب على أمره: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56] فها أنت ترى الكافر محدوداً بحدود الزمان، فينظر فيمن حوله، وحدود المكان، فينظر في الناس الذين يحيطون به، وهذا ليس خاصاً بالكافر فقط؛ بل حتى المسلم قصير النظر تجده محدود بهذه الأشياء، فهو قد يعمل عمل الخير، لكن في حدود الناس الذين حوله، ولا يُفكِّر في الأفق الأبعد، ولا يفكر في الزمان، والمكان. جـ/ شيخ الإسلام ابن تيمية: شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: هو نموذج للعالم المجدد الذي تجاوز حدود الزمان، وحدود المكان؛ يفكر تفكيراً أوسع من الرقعة التي يعيش فيها، أو الفترة التي يعيش فيها، فلم يأبه ابن تيمية بأن يخالف بعض فقهاء عصره، ممن كانوا على غير الصراط المستقيم، ولم يأبه ابن تيمية أن تُصدر ضده الفتاوى، ولم يأبه ابن تيمية أن يودع في غياهب السجون، أو يمنع من التدريس، أو يحال بينه وبين طلابه، أو حتى يُضرب، أو يُؤذى، أو تُحرق كتبه، أو يُمنع من التدريس والفتوى، أو يسجن، مع أن هذه الأشياء لو نظر الإنسان إليها بالمقياس القريب ربما تغير في النظرة، فالواحد منا يستحي -أحي الجزء: 123 ¦ الصفحة: 34 أهمية الصبر للداعية ووسائله قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ * وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ * فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:40] . قوله تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق:39] وهذا فيه تصبير، وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من أذى قريش وتكذيبهم، وتعزية للرسول عليه الصلاة والسلام، وفيه بيان أن الداعية لا بد أن يواجه من أسرى أنفسهم، وشهواتهم، وحدود زمانهم ومكانهم العناد والتكذيب، فلا بد له من الصبر، ومن لم يصبر لا يدعو أبداً، لأنه سيجد ما يثبطه ويقعد عزيمته. فالناس يقولون له: يا فلان! لماذا أنت تخالف واقعك الذي تعيش فيه؟ ولماذا تتمرد على زمانك؟ ويظلون يحاربونه حتى يقعد إذا لم يصبر، ولهذا أوصى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر في آيات كثيرة، منها قوله تعالى هنا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] وهناك آيات أخرى كثيرة أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بالصبر: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل:10] وقال أيضاً: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:7] وقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف:28] وقال: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] وقال في مواضع: {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} [مريم:65] وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] الداعية الذي لا صبر له لا يمكن أن يستمر على دعوته، لأن من طبيعة الدعوة أن تواجه الناس بما لم يألفوا، ولم يعرفوا، فستجد من يقول: لست بملزم، دع هذه الأمور التي تشغل نفسك بها، وستجد من يخطئك على هذا الشيء الذي تقول، وستجد من يعارضك، وستجد من يؤذيك، بل ستجد حتى ممن يحبك من يشفق عليك فيقول لك: لا تعرض نفسك للأذى، والزوجة تقول: لمن تركتنا؟! والولد يقول: لا تدعنا؟! والأم تعرب عن خوفها وقلقها عليك! والقريب وهكذا! فستجد من القريب والبعيد من يحاول أن يثنيك عن طريقك، فإن لم يتذرع الإنسان بالصبر فلا يمكن أن يدعو إلى الله تعالى حقاً، والصبر نفسه يحتاج إلى صبر؛ لأن الواحد قد يصبر أو تصبر يوماً، أو يومين، أو شهر أو شهرين، لكن إذا كثر الطَّرْق عليه تراجع وأثّر هذا فيه ضعفاً وقعوداً، وتركاً للدعوة إلى الله تعالى، أو طلب علم، أو التعليم، أو الجهاد في سبيل الله. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 35 الاعتبار بحال الأمم من وسائل الصبر من الوسائل التي تصبر الإنسان الاعتبار بالأمم السابقة واللاحقة والموجودة الآن؛ ممن لا يقع تحت سمعه وبصره، أي أن ينعتق الإنسان من حدود الزمان وحدود المكان، افترض مثلاً أن من حولك يعارضونك ويؤذونك، لكنك تعرف أن المسلمين في بلاد أخرى قريبة وبعيدة ونائية وغير ذلك معك على ما أنت عليه، ألا يعتبر هذا تقوية وتسلية وتصبيراً للإنسان؟ بلى، بل حتى لو تصورت أن الناس ضدك، لو تذكرت أن ملائكة الله عز وجل يؤيدونك، وينصرونك، ويدعون لك، ويستغفرون لك، ألا يكون هذا تقوية وتصبيراً للإنسان؟ بلى، ومثله أيضاً الزمن المقبل، فلو وجد الإنسان أنه الآن يؤذى، ولكن الله تعالى سينصره بعد حين لصبر على ذلك، لكن حتى لو تصور أن الله سينصره ولو بعد موته، ويظهر حقه على باطلهم لصبر على ذلك، فهذا من وسائل الصبر التي بينها الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 36 الاستعانة بالله أقوى وسائل الصبر ولا شيء يقوي صبر الإنسان مثل أن يستمد العبد العون من ربه جل وعلا؛ لأنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا قال هنا: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق:39] فليس صبرك أنت لأنك مجبول على القوة، ولا لأنك إنسان حديدي -كما يقولون- ولا لغير ذلك، بل الصبر منحه من الرب جل وعلا، فإذا استعان الإنسان بربه، وأكثر من ذكره، أعانه الله تعالى ورزقه الصبر، ولهذا قال بعدما أمر بالصبر: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39-40] وقبل طلوع الشمس المقصود به صلاة الفجر، وقبل الغروب: صلاة العصر، ومن الليل فسبحه: المقصود الثلث الأخير من الليل، والعشاء والمغرب فإنهما في الليل وقيام الليل هذا ذكر وتسبيح. ولا شك أن أعظم الذكر هو أداء الفرائض، كمافي الحديث: {وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه} وتدخل في ذلك النوافل -أيضاً- كقيام الليل، والوتر، والسنن الرواتب وغيرها، وأدبار السجود المقصود به تسبيح الله أدبار السجود أي: بعد الصلوات المفروضة. هناك جواب ثانٍ: هو أننا حين نقول أدبار الصلوات المكتوبات فهل بالضرورة إنه بعد الصلاة؟ لا. بل حتى في صلب الصلاة في آخرها، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: دبر كل صلاة مكتوبة، كما جاء في أحاديث وليس بالضرورة بعد السلام، يمكن أن يقول قبل السلام في آخر الصلاة، فهذا من أدبار السجود، وكذلك الذكر الذي يقال بعد السلام هذا من أدبار السجود، ففيه الأمر بذكر الله تعالى في آخر الصلاة أيضاً، فكل هذه وغيرها مواضع يذكر العبد فيها ربه، ويسبحه، ويستعين به على الصبر على أمر الدعوة. وأنت تجد الآن في هذه الآية أن الله تعالى أمر بالصبر، وأمر بالتسبيح، فها هنا تبين لك أن العبادة في الإسلام ليست أمراً منفصلاً عن طلب العلم، والدعوة، والتعليم، والجهاد في سبيل الله. اليوم قد تجد من المسلمين من يتعب، ويقوم الليل، ويصوم النهار، ولكن لا يغار على حرمات الله، ولا يهتم بأمر المسلمين، ولا يدعو إلى الله، بل -وأعرف حالات من هذا القبيل- قد يكون أولاده في منزله على حال لا ترضي الله، ولا يأمرهم ولا ينهاهم، وهو من أهل قيام الليل، فانفصل عنده معنى العبادة عن (معنى الشعائر التعبدية) عن معنى الدعوة إلى الله، مع أنه بالنسبة للصحابة لم يكن هناك فاصل. الصحابة رضي الله عنهم ليس عندهم هذه التقسيمات فهم يعبدون الله بالدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلما يعبدوا الله بقراءة القرآن، والذكر؛ لكن المتأخرين آثروا الأعمال اليسيرة التي لا مشقة فيها لأنه لا أحد يمنعهم من الذكر، حتى كفار قريش أذنوا لـ أبي بكر أن يعبد ربه في داره ولا يستعلن بذلك، كما هو معروف في صحيح البخاري لكن لو أن أبا بكر مشى في السوق وقال: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} فلن تسمح له قريش، فبالنسبة للمسلم الحق ليس عنده انفصال بين الشعائر التعبدية التي يتقوى بها على الصبر، وبين الدعوة إلى الله والجهاد في سبيله، إذاً من أقوى وسائل الصبر الاستعانة بالله عز وجل. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 37 البعث والنشور ثم قال سبحانه: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق:42] فهذا عودٌ إلى المعنى العظيم البارز في السورة، والموضوع الذي استغرق معظم آياتها، وهو موضوع البعث والنشور، وكأن الأمر قريب وهو كذلك، فالله تعالى يقول: (استمع) فكأن إنساناً وضع أذنيه يتسمع متى ينادي المنادي (من مكان قريب) فلا تغتر ببعد المكان، ولا بطول الزمان، فالأمر آتٍ ولهذا قال: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] وقال سبحانه: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] وقال عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء:1] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وقال عليه الصلاة والسلام: {ويل للعرب من شر قد اقترب} فلماذا يهلكنا الواقع الذي نعيشه ولا نمتد إلى أبعد من ذلك، فنرى الساعة وقد قامت، ونادى المنادي من مكان قريب، ونسمع الصيحة بالحق، ونرى الناس وكأنهم يخرجون من قبورهم: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج:43] فيعطي هذا الإنسان صبراً وقوةً وإصراراً، ويعطيه معاني عظيمة. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 38 ليس عليك هداهم {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:43-45] في الآية الأخيرة في قوله عز وجل: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] قوله: (بجبار) معناها أي: تجبرهم على الإيمان، فعلى هذا يكون المعنى، كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] وكقوله تعالى في موضع آخر: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] فمهمة الرسول تتلخص في النذارة، والتذكير فقط، والتبليغ، أما اهتداء الناس أو عدمه فهذا ليس شأنك، إنما هو شأن رب العالمين: قال تعالى: {لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} [الرعد:31] وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} [الأنعام:107] وقال: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] فها هنا قال: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] وفي ذلك تسلية للداعية، لأن المؤمن ربما لشدة غيرته وفرط حماسه وإشفاقه عليهم، يصبه من ذلك هم شديد، ويحزن فيرى أن يدعوهم إلى النجاة، ويدعونه إلى النار، ومع ذلك يواجهونه بالكيد والحرب، والتكذيب وغير ذلك. فالله تعالى يقول: لا تحزن عليهم: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:3] وقال: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] لا تحزن، وقال: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] ما عليك إلا مهمة إذا قمت بها فنم قرير العين، هذه المهمة هي أن تدعوهم إلى الله عز وجل. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 39 ليس عليك إلا الدعوة قال تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] أي هذه هي مهمتك، فهذا كقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} [الغاشية:21] أو قوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7] وقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:48] أو قوله: {فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النحل:35] إلى غير ذلك من الآيات، فحصر مهمة الرسول بالدعوة، قد يموت الرسول أو الداعية ولم يستجب له أحد، ولم يغير من الواقع شيئاً يذكر، والنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان فهذا لا يعني أنه فشل. إن نجاحه في قيامه بما أوكل الله تعالى إليه، فإذا قام بدعوته فسواء استجاب الناس أو ردوا، صدقوا أو كذبوا، استطاع الرسول أن يقيم له دولة ودعوة وأن يتبعه الناس، وأن يتغلب على أعدائه فهذا من فضل الله، وإن لم يستطع فهذا قضاء الله وقدره، والدنيا ليست مقياساً، ولهذا الله تعالى في هذا الموضع وقبله أيضاً يقول: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41] . هب أنك قضيت دنياك كلها شريداً طريداً لم تقبل دعوتك فالأمر يسير، انتظر قليلاً، وتسمع المنادي ينادي من مكان قريب، وفي زمان قريب أيضاً، أو يسمعون الصيحة بالحق ويخرجون من الأجداث سراعاً، وحينئذ يتبين الحق من الباطل، فالدنيا ليست دار قرار، وإنما هي دار ابتلاء واختبار، أما التمحيص والتمييز وظهور الحق الواضح، فهذا يوم القيامة، أما في الدنيا فقد يلتبس الأمر على الناس، وقد يغلب الحق وينتصر الباطل، وقد يكون صاحب الحق شريداً، وقد يكون أسيراً، وقد يكون سجيناً، وقد يكون مؤذى، وقد يكون وحيداً فريداً لا يتبعه أحد، وهذا لا يضره. إذاً لا يعرف الحق بغلبته وانتصاره وكثره أتباعه، إنما يعرف بعلاماته وأماراته، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 40 قصة ذكرها الغزالي يذكرون في الأمثال ما ذكره أبو حامد الغزالي ذكر قصة يقول: إن رجلاً خرج لقطع شجرة ومعه فأس، فلقيه الشيطان في الطريق، وقال له: إلى أين تذهب، قال: أذهب إلى شجرة كذا، شجرة تعبد من دون الله فأقطعها، قال: لا تستطيع، فأمسك الإنسان بالشيطان وهو لا يدرك؛ لأنه لا يدري أنه الشيطان، أمسك به حتى خنقه ثم طرحه أرضاً وقعد على صدره فقال: افعل ما شئت، فقام الرجل، ومضى في سبيله ليقطع هذه الشجرة، فعارضه الشيطان في موضع آخر، فقال: إلى أين تريد؟ قال: أريد أذهب إلى شجرة في مكان كذا وكذا تعبد من دون الله فأقطعها، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: وما هو، قال: أن تترك هذه الشجرة الآن؛ لأنك لو قطعتها الآن عبد الناس غيرها، وأنا أتكفل لك أن أضع تحت وسادتك كل يوم عشرين ديناراً، تأكل وتطعم المساكين، وأبناء السبيل، وتتصدق، وتنفق على نفسك وأولادك، ففكر الرجل فأعجبته الفكرة، وقال: حسناً، وعاد إلى بيته! نام الليلة الأولى فوجد تحت وسادته عشرين ديناراً، فأخذها وتصدق بها، وفي اليوم الثاني نظر تحت وسادته فوجد عشرة دنانير فأخذها، وفي اليوم الثالث وجد دينارين فأخذها، وفي اليوم الرابع لم يجد شيئاً، فأخذ فأسه ومشى في الطريق يريد أن يقطع هذه الشجرة، وغضبه هذه المرة من أجل الدينارين! فوقف له الشيطان وقال: إلى أين؟ قال: أريد هذه الشجرة أقطعها، فقال: هيهات، فأمسك به الشيطان وطرحه حتى كان بين يديه كالعصفور، فقال له الرجل: عجيب! أخبرني لماذا غلبتك أمس وغلبتني اليوم؟! قال: لأنك بالأمس خرجت غضباً لله فلم يقم لغضبك شيء، وأما اليوم فخرجت غضباً للدينارين فغلبتك. فأنت تجد الكثير اليوم يتحملون الأذى ممن يدعونهم إذا كان أذى دينياً، مثل التقصير في أمر الدين، أو سماع الغناء، أو ارتكاب الفواحش، ويصبرون على المدعوين زمناً وهذا أمر حسن، ولا لوم، بل ينبغي أن يصبروا عليهم ويحلموا لعل الله تعالى أن يهديهم، لكن الواحد منهم لو أوذي في شخصه لغضب لنفسه غضباً. وأنا أدعوكم إلى ملاحظة هذا في سلوككم، فقد رأيته عياناً في نفسي وفي غيري من الناس، ورأيت الكثيرين لا يغضبون غضباً شديداً إلا إذا نيل من أشخاصهم، أو تعرض لهم هذا المدعو بشيء يمسهم هم في ذاتهم، فإذا غضبوا لأنفسهم حشدوا بعد ذلك الأمور الدينية كلها، مع أنه غضب لنفسه، لكن تجد أنه يقول: يا أخي! هذا خبيث، وهذا لا يصلي، وقد يكون السبب أنه رآه لم يسلم عليه، أو لم يحترمه، أو ما أشبه ذلك، ففرق بين الغضب لله والغضب للنفس. فالمقصود أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوذي فصبر، وفي أشد المواقف التي تعرض فيها للسخرية من بني عبد ياليل حتى قال: أحدهم: أما وجد الله غيرك، يعني: ما لقي واحداً أحسن منك يبعثه، وقال آخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كنت أنت مبعوث، وقال ثالث: ما ينبغي لي أن أكلمك إن كنت نبياً، فأنت أعظم من أن أكلمك، وإن كنت تكذب على الله، فأنت أهون من أن أكلمك، فما تركوا شيئاً إلا ألصقوه به، وخرج مهموماً -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- ونيل منه ومع ذلك في هذا الموقف: (إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) فيكون جوابه عليه الصلاة والسلام: {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئا} أي: حتى لو ماتوا هم على الكفر، فربما يكون من ذراريهم من يعبد الله ويوحده، فهذا صبر الداعية، ولا غرابة أن يصبر هذا الصبر والله تعالى يقول له هنا: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق:39] ويقول له: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [طه:104] وفي الآية الأخرى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور:48] ما معنى قوله تعالى: (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) ؟ المعنى على مرأى منا، كما قال: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] وقال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:14] فقوله هنا: (نحن أعلم) هذا من أعظم أسباب التصبير فكل ما يقع فالله تعالى يعلمه، وأمضاه لحكمة. {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق:45] فتجبرهم وتكرههم، لا تملك ذلك {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر:8] ففي ذلك دعوة للإنسان إلى ألا تذهب نفسه حسرات على المدعوين، بل ينبغي أن يدعوهم ويبذل وسعه ويصبر، ويعلم أن ذلك كله بعلم الله جل وعلا ورؤيته. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 41 الفرق بين الغضب لله والغضب للنفس وأنت تعلم ماذا لقي الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث عائشة في الصحيحين لما عرض النبي عليه الصلاة والسلام نفسه على أبناء عبد ياليل بن عبد كلال وهم في الطائف فردوه رداً قبيحاً، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم مهموماً لماذا؟ هل كان يطلبهم ملكاً، أو جاهاً، أو سلطاناً، أو زوجة ينكحها؟ كلا. ليس ذلك كله، إنما كان يطلبهم هذه الكلمة قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، فردوه رداً قبيحاً، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهموم على وجهه حتى لم يستفق كأنه كان في ما يشبه الغيبوبة عما حوله إلا وهو بقرن الثعالب وإذا هذه السحابة قد أظلته، ومع شدة ما أصابه منهم صلى الله عليه وسلم هذا ملك الجبال، ثم يسلم ملك الجبال: (مرني بما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين) لو كان غيره صلى الله عليه وسلم لقال افعلها، ويكونون عبرة لغيرهم، لكن من شدة الإشفاق والحرص قال: {لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً} الفارق بين دعوة النبي عليه الصلاة السلام وأخلاقه وغيره! الآن أنا وأنت لو كان عندنا جار لا يصلي تصبر عليه خمس سنوات، يمكن ندعوه أو لا ندعوه، ونقول: لعل الله يهديه، ونتلطف له بالقول، ونبذل له المستطاع، لكن لو أنك لقيت هذا الجار في الشارع يوماً، فقلت له: يا فلان لا نراك في المسجد، فقال: يا أخي! ليس لك علاقة، وأنتم أشغلتموني، أشغلكم الله، وكل يوم واحد واقف عند بابي، وأنتم فيكم وفيكم، ولا تستحون، ولا تخجلون، وصار يتكلم عليك، تجد أنك تغضب لنفسك اليوم، الشيء الذي صبرك خمس سنوات عليه لا يجعلك تملك نفسك هذه الساعة لأنه قد نيل من شخصك، فتجد أنك تغضب، ثم تبدأ تستعيد أشياء ماضية، وهذا فيه وفيه، وتجمع كل ما عليه، ليس ديناً الآن، وإنما غضبت من أجل نفسك. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 42 الأسئلة الجزء: 123 ¦ الصفحة: 43 اجتماع القلب والسمع السؤال يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] (أو) ما معناها؟ الجواب حسب ما ذكرنا (أو ألقى السمع وهو شهيد) هل يكفي أحدهم دون الآخر؟ الأقرب -والله أعلم- من كان له قلب وألقى السمع وهو شهيد أن (أو) بمعنى الواو لأن صاحب القلب ينفع بما يسمع إذا كان له قلب وسمع الموعظة اعتبر وازدجر. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 123 ¦ الصفحة: 44 وقفات حول الأحداث الجديدة في هذه المحاضرة تفاصيل للأحداث التي جرت بين العراق والكويت، وفيها كذلك تحليلٌ قيمٌ لهذه الأحداث، كما احتوت المحاضرة على ذكر أهدافها، مع ذكر بعض المآخذ على المسلمين إزاء ردود أفعالهم حولها، وفي المحاضرة دروس وعبر مأخوذة من صميم هذه الأحداث، كما أن فيها كذلك تبييناً لواجبات المسلمين نحو مثل هذه الأحداث والنكبات. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 1 مقدمة حول الأحداث الجديدة الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، حمل الرسالة وأدى الأمانة وقاد الأمة إلى ميادين النصر والتمكين، فجزاه الله تعالى عنا وعن المسلمين خير الجزاء: {إن اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . أما بعد: في هذه الليلة، ليلة الثاني والعشرين من شهر الله المحرم لعام (1411هـ) ، ينعقد المجلس السادس عشر ضمن الدروس العلمية العامة، وعنوان هذه الجلسة هو: وقفات حول الأحداث الجديدة. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 2 بديهيات ومسلمات ليكن عنوان هذا الدرس: حول الأحداث الجديدة، وأجدني مضطراً إلى أن أجمل في كثير من المواضع، وذلك لأسباب كثيرة. وأبدأ بالنقطة الأولى، وقد ارتضيت أن يكون العنوان الأول: بديهيات ومسلمات. إشارة إلى بعض الحقائق والمسلمات التي يجب استحضارها: الجزء: 124 ¦ الصفحة: 3 الولاء والبراء من أصول الدين الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين والمشركين؛ أصلٌ من أصول هذا الدين، قال الله عز وجل: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المجادلة:22] وهذا الولاء والبراء هو جزء من مفهوم "لا إله إلاالله" فإن "لا إله إلا الله" نفي وإثبات: نفي الألوهية عن كل أحد إلا الله، وإثبات الألوهية لله تبارك وتعالى وحده، ومعنى ذلك: أن المؤمن يعلن البراءة من كل معبودٍ سوى الله تعالى، كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيما حكى الله تعالى عنه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] فأعلن إبراهيم -أبو الحنفاء وإمام الموحدين- أعلن البراءة من المشركين قبل أن يعلن البراءة من معبوداتهم {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] . وها هنا أود أن أشير إلى خطأ وقع فيه الكثيرون: من المعروف أن الرافضة يستخدمون لفظ البراءة من المشركين، حتى إنهم في أعمالهم العنيفة المنحرفة التي كانوا يؤذون بها حجاج بيت الله الحرام، كانوا يسمونها: مسيرة البراءة من المشركين، والواقع أن هذا الاصطلاح الذي يستخدمه الرافضة هو من باب التضليل، وذر الرماد في العيون، وإلا فمن هم المشركون في نظر الرافضة؟ نحن المشركون في نظرهم، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمسلمون من ذلك العصر إلى اليوم، فهم حين يقولون: البراءة من المشركين، لا يقصدون -كما يتصور السذج فقط روسياوأمريكا وغيرها من الدول- بل يقصدون البراءة من المؤمنين الموحدين لأنهم في نظرهم مشركون. وقد التبس هذا الأمر على بعض المتحدثين في أجهزة الإعلام، فقالوا: إن البراءة من المشركين أمر فعله الرسول عليه الصلاة والسلام، حين كان في حالة حرب مع اليهود أو مع النصارى وقد زالت. وهذا كلام خطير جداً؛ لأنه هدم ونسخ لأصل من أصول التوحيد، البراءة من المشركين حكم باقٍ إلى قيام الساعة، أليس إبراهيم عليه السلام يقول: {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [الممتحنة:4] فليس صحيحاً أنه حين يستخدم أهل البدعة والضلالة مصطلحاً شرعياً نتخلى عنه نحن، ونحاول أن نفرغ هذا المصطلح الشرعي من مفهومه الصحيح. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 4 المصائب من صنع أيدينا قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] حتم لاتردد فيه، كل بلية عامة أو كارثة تنزل بالأمة فإنما هي من صنع أيدينا، بل هي بعض ذنوبنا قال الله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أن يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} [المائدة:49] وليس بكلها فقال الله: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] فقد يعاقب الله تعالى الظالم بمن هو أظلم منه، ولا أحد يستدرك على القدر، فالقدر سر الله وفعل الله وإرادة الله، ولا أحد يستدرك عليه، قد يعاقب الله الظالم بمن هو أظلم منه، وقد يعاقب الفاسق بالكافر، فلا يغتر الإنسان بأن فلاناً وفلاناً وفلاناَ قد وسع الله تبارك وتعالى عليهم وأعطاهم وأمهلهم، فإن الله تعالى قد يعجل بالعقوبه أحداً ويؤجل غيره ممن هو أظلم منه أو أكفر منه، وقد يعاقب المؤمنين بذنوبهم فيسلط عليهم بعض الظالمين أو الفاسقين أو الكافرين. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 5 الصراع بين الحق والباطل أولاً: الصراع بين الحق والباطل باقٍ إلى قيام الساعة، ومن أجلى وأظهر صور هذا الصراع: الصراع العسكري. يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً} [الأنعام:112] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] وقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أن اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] وقال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] . فالصراع باقٍ إلى قيام الساعة ومن أبرز صوره الصراع العسكري. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 6 الكفار صف واحد ضد الإسلام ثانياً: الكفار بأصنافهم صف واحد في وجه الإسلام: اليهود قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] والنصارى قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] والمشركون قال الله: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ أن اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] والمنافقون قال تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] . وهذه الأصناف الأربعة: اليهود، والنصارى، والمشركون، والمنافقون، كلهم حزبٌ واحد في وجه الأمة الإسلامية، كما قال الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحداً شيوعيون جذر من يهودٍ صليبيون في لؤم الذئاب تفرق جمعهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب الجزء: 124 ¦ الصفحة: 7 الأهداف من وراء أحداث العراق مع الكويت ما هي أهداف هذه الأمور التي جرت وتمت على مرأى ومسمع من العالم كله؟ أولاً: الأحداث معروفه، ولا أحتاج إلى أن أتحدث عن تفاصيلها، ونهاية هذه الأحداث وجوهرها: هو حشود القوات العراقية على الحدود الكويتية، ثم اجتياح العراق لالكويت واحتلاله، وتكوين حكومة شكلية وَهْمُ، لا حقيقة له، تطلب الانضمام لالعراق، فيوافق على ذلك، ويعلن ضم الكويت إلى أراضيه لتصبح جزءاً من بلاده. هذه هي الأحداث، ثم تلاها بعد ذلك ما خُشي أن يكون مطامع أخرى أكبر مما حصل بالفعل، فما هي أهداف هذا العمل؟ في نظري أنه يمكن تلخيص أهداف هذا العمل على المدى البعيد بخمسة أهداف: الجزء: 124 ¦ الصفحة: 8 الهدف الرابع من المعروف أن قوة العراق ليست ملكاً لرئيسه أو لغيره، فالأشخاص يذهبون ويجيئون، وهذه الأمة أمة معطاة، لابد أن يوجد فيها اليوم أو غداً من يحمل الراية، ولذلك فإن مما يزعج الغرب -بكل حال- أن يوجد بلد إسلامي فيه قوة عسكرية، سواءً من حيث العدد، أو من حيث السلاح، أو من حيث التصنيع؛ لأن هذه القوة ليست رهناً بوجود حاكم معين، فهذا الحاكم قد يذهب، ولذلك فإننى أعتقد أن الغرب يسعى إلى القضاء على هذه القوة التي خرج بها العراق، بعد ثماني سنوات من الحرب مع إيران، فقد خرج بما يزيد على مليون مقاتل، وأسلحة قوية متطورة، وقدرة تصنيعية وخبرة طويلة، فلابد من القضاء على هذه القوة التي تهدد إسرائيل وتهدد الغرب، وقد تكون سبباً في طموحات معينة لمن يقود ذلك البلد، ولسنا نشك أن صداماً أو غيره، أنه هو يسير في ركاب الغرب أو الشرق، ولا يمكن أن يضرب مصالحهم، ولكننا -كما أسلفت- إن هذه القوة لسنا نعتقد أنها ملك له، بل هي ملك للأمة، وقد يذهب فلان ويجيء غيره، فالناس يذهبون ويجيئون، وهذا الأمر يمكن أن يتم بأحد أمور: إما بافتعال معركة بين العراق وإسرائيل، بحيث أن إسرائيل تضرب المواقع الحساسة في العراق وتدمر قوته كما فعلت في مصر، وهذا محتمل، وإما عن طريق تشجيع تحريك الوضع الداخلى لتغير القيادات وتغيرالوجوه، وإما عن طريق أمر ثالث الله تبارك وتعالى أعلم به. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 9 الهدف الخامس دعم الوجود الغربى، وتأمين غطاء إعلامى مقنع لهذا الوجود. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 10 الهدف الثانى التخلص من الفلسطينيين، سواء بنقلهم إلى الكويت أو غيرها لتكون وطناً لهم، باسم الجيش الشعبي الذي ينادي به صدام ويضحك به على عقول السذج، فقد أعلن عن تكوين ما يسميه بالجيش الشعبى العربي، واستفز عقول الناس في تكوين هذا الجيش، ولعله يريد أن ينضم لهذا الجيش الفلسطينيون بالدرجة الأولى في أكثر من بلد عربي؛ ليأتي ويضعهم في الكويت بحجة أنهم جيش شعبي لحماية أراضى العراق، ليكون الكويت وطناً لهم، على حسب ما يخطط {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وقد يكون ذلك بإقامة دويلة فلسطينية منزوعة السلاح كما هي الفكرة القائمة. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 11 الهدف الثالث ضرب الصحوة الإسلامية، ويتم ذلك بأمور:- أولاً: لا شك أن ما جرى في الكويت، هو ضربة عنيفة لنشاطات إسلامية كبيرة، وقد علم الناس في كل مكان أن الجمعيات والنشاطات الإسلامية والمشاريع الخيرية، في أوروبا وأمريكا وأفريقيا وآسيا تدعم من بلاد الخليج كلها، وأن الكويت من أكثر بلاد الخليج نشاطاً في هذا المجال، حتى أن أموال دول خليجية أخرى تمر عبر جمعيات إسلامية في الكويت، كجمعية الإصلاح، وجمعية إحياء التراث، والهيئة الخيرية، ولجان المناصرة، وحيثما انتقلت في أي بلد من بلاد العالم؛ تجد جهود هؤلاء الخيرين ومشاركاتهم، فهي الآن أصبحت لا تجد الدعم الذي كانت تجده بالأمس، وبذلك تقلص النشاط الإسلامي إلى حد بعيد. الأمر الثانى: من مظاهر احتواء الصحوة الإسلامية والقضاء عليها: هو احتواء المشاعر الإسلامية في الخليج وغيره بطريقة ذكية مخططة. فقد رأينا كيف يستغل صدام البعثي، فيستخدم الأساليب الدينية لإثارة مشاعر الشباب، فيهز عواطف السذج في كل مكان، وتتعلق كثير من نفوس المغفلين به، وتظن أن الخلاص على يديه، حتى أصبحنا -بكل أسف- نجد المؤيدين له، ليسوا فقط من البعثيين أو من القوميين، بل ربما تجد من بعض المنتسبين إلى الصحوة الإسلامية وبعض رواد المساجد؛ من ينطلقون بالهتاف لهذا البطل المصنوع، الذي هو عبارة عن بالون منفوخ لا حقيقة له، لكن صنعوا منه بطلاً وليس كذلك. وقد تخوض هذه الجموع الساذجة المغفلة، قد تخوض حرباً معه لا تدري ما نهايتها، ولا تدري ما هي أهدافها، وما أسرع ما نسيت الجماهير المسلمة أفعاله الشنيعة البشعة في العراق! بتدمير المسلمين والقضاء عليهم، وهدم المساجد على رءوس أهلها، وحرب الدعوة الإسلامية، وتشريد الدعاة، بل ما أسرع ما نسيت قتله لجموع غفيرة من المسلمين الأكراد في ما يسمى بمدينة حلبجة! حيث قتلهم بما يسمى بالأسلحة الكيماوية، ومات منهم -حسب بعض التقديرات-، ما يزيد على عشرين ألفاً، بضربة قاسية وجهها إليهم، وهو لا يرحم ولا يألو في مؤمن إلاً ولا ذمة، وكيف يرحم هؤلاء، وهو يقتل أقرب الناس إليه في سبيل الحفاظ على مصالحه وطموحاته الشخصية؟! ما أسرع ما نسي الناس ذلك كله، أمام هذه العواطف الخادعة والأمل الكاذب! وقد يواجه هؤلاء الشباب الذين يهتفون له، قد يواجهون في حروبهم شباباً مثلهم ينطلقون لمواجهة هذا السيل الكاسح، الذي هو في حقيقته وأهدافه سيل بعثي، يطمح إلى توحيد عددٍ من البلاد العربية المهمة، تحت راية حزب البعث الاشتراكي القومي المعروف. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 12 الهدف الأول تأمين إسرائيل وحمايتها من أي خطر يهددها في المنطقة الإسلامية. وذلك لأن أمن إسرائيل يعتبر هدفاً كبيراً في نظر الغرب، ولابد من دفع أي خطر يهددها في أمنها، سواءً كان من داخلها أو من خارجها. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 13 مخطط الأحداث مخطط الأحداث وكيف جرت. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 14 التخلص ممن لا يريده الغرب وبهذا حققوا أهدافاً عديدة سوف تظهر بعد قليل، لعل من أهمها: التخلص مِنْ وضع ربما لا يكونون راضين عنه تماماً، ربما يكون خرج عن المدار بعض الشيء، فضلاً عن الإيحاء الشديد بأهميتهم ومدى الحاجة إليهم في كل وقت، وفي نفس الوقت أعتقد أنهم أوقعوا العراق في فخ يصعب الخلاص منه، فهو أصبح ذئباً وإن كان ذئباً إلاأنه وقع في المصيدة أيضاً. فبعد ذلك حصل وضع إعلامي، وحديث عن جدية التهديدات العراقية، ولابد من ضمان أن لا يتوسع العراق أكثر مما توسع، فكان الجو ملائماً لوجود تدخل أو ما يسمى بالقوات المتعددة الجنسيات، ومن بينها قوات عربيه كما هومعروف، وكانوا يصرحون بأن هدفهم في ذلك؛ أنهم لا يمكن أن يوافقوا على أن يتحكم مثل الرئيس العراقي في نصف مخزون النفط العالمي، فرافق دخول قواتهم صخب إعلامى مؤداه: جدية هذه التهديدات العراقية لاكتساح المنطقة، خاصة مع وجود تحالفات عراقية عربية تزيد من خطورة الموقف. بوصول هذه القوات وجد نوع مما يسمى بالردع، فالقوات العراقية لا يمكن -والله تعالى أعلم- أو هذا الوضع لا يمكن أن يمنح القوات العراقية من التقدم، وفى نفس الوقت أعلنت القوات المتعددة الجنسيات؛ أن مهمتها مهمة دفاعيه وليست مهمة هجومية، بمعنى أنها فقط تريد منع العراق من التقدم، وليست تريد أن تهاجم الأراضي العراقية، هنا يمكن أن نلاحظ مشكلة، وهي وضع الكويت الذي يعتبره العراق جزءاً من أراضيه، ويعتبر الدخول فيه اعتداءاً على أرض عراقية، في حين أن دول العالم الأخرى كلها تعتبر أن أرض الكويت أرضاً كويتية، ويجب أن تعود للكويتيين أنفسهم، ويخرج منها العراق، ولهذا فليس من المستغرب؛ أن هذه القوات تفكر بأنه لابد من تطهير الكويت باعتبارها أرضاً كويتية وليست عراقية، وهذا يعتبر دفاعاً وليس هجوماً، وهذا يحتمل أن يكون فتيلاً قابلاً للاشتعال في أي لحظه، ويمكن أن تنتهي الأمور عند هذا الحد الذي وصلت إليه الآن، ويتوقف التصعيد في منطقة الخليج لفترة معينة، بحيث ينتهى الفصل الأول من المسرحية عند هذا الحد، ويبدأ فصل جديد يستثمر التحالفات العراقية العربية، الأردن وسوريا والجزائر واليمن إلى آخره، للتحضير لهجمة عراقية على إسرائيل، حيث تقول العراق: إن إسرائيل تستهدف العراق من خلال قواتها. المهم أن إسرائيل إن حصل عليها اعتداء فسوف ترد بقوة، وهي بلاشك تفوق العراق من حيث التقنية المتطورة والإمكانيات التسليحية المتقدمة، وتستطيع بأن توجه إلى العراق ضربة قوية، وبذلك تدمر جزءاً كبيراً من قوته، وقد تدمر المفاعل النووي الذي سبق أن دمرته بمفاجأة غريبة، وبني مرة أخرى بمساعدة دول عربية. فهذه أحد الأهداف لمثل هذا العمل، على أن هذه الامور كلها مجرد احتمالات: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] وليس ببعيد أن يأتى التدمير من الداخل -كما أسلفت- بتشجيع أي حركة بتغيير الوجوه والقيادات. وعلى فرض نشوب حرب حقيقية أو حرب تمثيلية بين القوات العراقية والقوات المواجهة لها، فإن من أكبر المآسي التي يفزع لها القلب المؤمن؛ أن هذه الحشود التي يجمعها صدام تحتوي -كما أسلفت- على طائفة من المغفلين من أبناء الإسلام الذين خدعهم بالخطاب الديني، وحرك فيهم العواطف وألهب فيهم الحماس، فنسوا التاريخ الماضي، ونسوا التجارب السابقة، وانساقوا وراء هذه الشعارات الإعلامية الكاذبة، وما أكثر ما ينساق المسلمون وراء الإعلام المضلل! وقد يذهبون وقوداً للحرب بالوكالة عن غيرهم، لايعرفون نتائجها ولا أهدافها، ولايدرون أتنتهي لصالح هذا الطرف أو ذاك؟ وسيواجههم أيضاً مثلهم. وهكذا يصدق ما ورد في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يأتى على الناس زمان لايدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قُتِل} مسلم مؤمن موحد يقتل تحت راية لا يدري أي راية هي! ولا يدري لماذا يقاتل؟ ولا لماذا قتل؟ تسيرهم أطماع الشرق أو الغرب، وأطماع فلان أو علان، فينساقون وراءه بدون وعي ولا بصيرة، لوكانوا من دهماء الناس وهمجهم ورعاهم؛ لقلت: هذا شأنهم في كل زمان ومكان. لكن يؤسفك أن يكون هؤلاء من رواد المساجد، أو يكونوا من القوم الذين يُظن فيهم الصلاح. كما أنه ليس من المستحيل أن يولد هذا الضغط العالمي المتزايد؛ دافعاً لأن يقول الرئيس العراقي كما قال شمعون: "علي وعلى أعدائي. " ويدمر نفسه ومن حوله ويغرق المنطقة إن استطاع في بحر من الدم أو في جحيم من اللهب، ونسأل الله جل وعلا أن يقي المسلمين شره وشر غيره، وأن يقيهم شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يحفظ للمسلمين بلادهم وأمنهم واستقرارهم، ويحفظهم في أموالهم ودمائهم وأعراضهم إنه على كل شىء قدير. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 15 إغراق المنطقة في صراعات مستمرة قد يتعجب بعضكم ويقول: ما علاقة هذه الأهداف بما جرى؟ فأقول: المنطقة الإسلامية والعربية منطقة مهمة، وخاصة منطقة الخليج العربي، حيث فيها أعظم مخزون نفطي في العالم، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي، فالغرب وضع دولة إسرائيل في فلسطين في قلب البلاد الإسلامية، وعقد معها حلفاً تاريخياً وثيقاً، هو الذي صنعها وأوجدها وحماها ولا يزال، ولا يأمن الغرب من التغيير الإسلامي في أي وقت، مهما وجد أمثال صدام وغيره من الذين يحالفونه، فإنه لا يأمن أن يقدم الإسلام وتصبح هذه القوة في أيدي المسلمين يوماً من الأيام. ولذلك يسعى الغرب إلى إغراق المنطقة في صراعات مستمرة، وهذا في مصلحته لأن فيه إنهاكاً للمسلمين وشغلاً لهم عن التفكير بأن يصححوا أنفسهم، أو يتقدموا في مجالات الحضارة والعلم والصناعة وغيرها. فلا غرابة أن يخطط الغرب لمثل هذه الأعمال، ولا غرابة أن يفتعل الغرب حروباً طاحنة ويدعم فيها الطرفين كليهما، حتى يخرجا من هذه الحرب في غاية الإنهاك. ولعل من الأمثلة لذلك: الحرب العراقية الإيرانية. فإن القوى الغربية كانت تدعم العراق وتدعم إيران في نفس الوقت، وكان من مصلحتها أن تستمر هذه الحرب إلى أجل معين. ومثل ذلك ما يجرى في لبنان منذ سنين طويلة. ومع تزايد الصحوة الإسلامية أصبح هناك خوفٌ مقلقٌ، كثيراً ما تردده التقارير الغربية ومراكز البحث ومراكز الدراسات المستقبلية، وهي تدق ناقوس الخطر من الإسلام القادم، وتضخم هذه الظواهر والحقائق، وتبالغ في تصويرها، حتى أصبح رجل الشارع العادي في أمريكا أو أوروبا؛ فزعاً مما يسميه بالأصولية أو الصحوة الإسلامية، أو ما يسمونه بالتطرف أو أي اصطلاح آخر. ولذلك تحرص هذه القوى الغربية على إرجاع الأمة الإسلامية دائماً إلى الوراء، لتنتهى حيث بدأت، وتحرص على هز بعض الأنظمة التي تعتقد أنها خرجت عن المدار، وتستبدل بها أنظمة أخرى تكون أكثر ولاءً للغرب، وكل هذا يؤيد فكرة الغرب حول إسرائيل، وأهمية وجودها في المنطقة، كحليف تاريخي لمصالح النصارى في البلاد الإسلامية. من هنا جاءت هذه الأحداث المرسومة بدقة، وحين نقول: بدقة، نقول: هم بشر يخطئون ويصيبون في أحداثهم وخططهم، ويجتهدون في تحقيق مصالحهم، لكن: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وكم حاولوا ثم فشلوا، ولعل ما جرى للروس في أفغانستان شاهد عيان، حيث جروا أذيال الخيبة وخرجوا منها مهزومين، وأدركوا بعد ذلك أنها كانت مغامرة خاطئة، وحاسبوا من كان سبباً فيها. فليس معنى ذلك أن كل ما يخططونه فهو ناجح ولابد، بل قد يخططون أشياء، وتأتي الأمور على خلاف ما يريدون وخلاف ما يتوقعون، ولذلك ليس ببعيد أن يكون الغرب وأن يكون النصارى؛ وراء دفع العراق إلى دخول الكويت، وأنهم أعطوه الضوء الأخضر لذلك. ومما يؤكد هذا: الحشود العراقية على الحدود الكويتية منذ زمن، ومن الظاهر جداً أن هناك حركة غير عادية، فضلاً عن التهديدات الصريحة، إضافةً إلى هذا وذاك، فإن الدوائر الأمنية في أمريكا وغيرها؛ أطلعت مسئولين في المنطقة على ما أسمته بمخططات عراقية لغزو دولهم. وهذا معناه أنهم اطلعوا على مخططه لغزو الكويت، ولكن لمصلحة معينة يريدونها لم يريدوا أن يعلنوا هذا في حينه، ولا أن يتخذوا مواجهة ضد غزو العراق لالكويت، وسمحوا له بذلك لأمر يريدونه ويخططونه، وإن كانوا استنكروا ذلك وشجبوه في أجهزة إعلامهم. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 16 مآخذ على تفاعل المسلمين مع هذه الأحداث الأحداث هي التي تكشف عن معادن الرجال وتبين حقائقهم، ولذلك أسرد لكم بعض المآخذ التي وجدتها فيمن أراهم أو أسمعهم من الناس، على إثر هذه الهزة العنيفة التي لم تكن لأحد منا في حساب. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 17 ضعف التوكل مأخذ آخر على تعامل الناس مع هذه الأحداث: ضعف التوكل. لقد كشفت هذه الأحداث عن ضعف توكل الناس على ربهم، وعن شدة تعلقهم بالأسباب والماديات، وهذا هوالفيصل بين الإيمان والنفاق. لما جاء الأحزاب وأحاطوا بالمدينة، وزلزل المؤمنون زلزالاً شديداً بانت الحقائق، فالمنافقون قالوا: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] وقالوا: هذا محمد يعدنا بكنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب لقضاء الحاجة. أما المؤمنون لما رأوا الأحزاب وادلهمت الأجواء وتكهربت، وأحيطت المدينة المنورة بقوة لا طاقة ولا قبل لهم بها، قالوا: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] فالإيمان حقيقة تتكشف مع شدة الأحداث، تكشف الأحداث عن قوتها وصلابتها وصمودها، أو يبين أن الإنسان قلبه والعياذ بالله خواء من الإيمان، ليس فيه إلا الخوف والرعب والفزع أن يتخطف بكرة أو عشياً. والإيمان قرين التوكل، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23] {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود:123] هودٌ عليه السلام حين جمعوا له قال: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوآخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} [هود:56] ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، فهذه القوة التي تجمعون، والمؤامرات التي تدبرون، هي بيد الله عز وجل، ولوشاء أن يحبطها أحبطها، فأنا متوكل على الله تعالى ربي وربكم وربها، فتحداهم وقال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:55] لا تنتظروني ولا تمهلوني، وكل ما في أيديكم فاصنعوه، فأنا أملك القوة التي لا تملكون {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود:56] . لا بد -أيها الإخوة- أن نعرف حجم الأسباب المادية، وأن القوة لله جميعاً، وأن المنع بيده، والإعطاء بيده، والنفع بيده، والضر بيده. كم هومؤسف أن الواحد منا يردد بكرة وعشياً: (لا حول ولا قوة إلا بالله) ولكنه -عملياً- يشعر بأن الحول والقوة بيد فلان أو فلان، أو الدولة الفلانية أو الدولة العلانية، وكم هو مؤسف أن يقول الانسان منا بكرة وعشياً: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم تجده يتعلق بغير الله، أو ينتظر من غير الله، أو يتوكل على غير الله. وكم هومؤسف أن الواحد منا يقول دبر كل صلاة: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذات الجد منك الجد. ثم يعتقد أن المنع أو العطاء أو الضر أو النفع بيد أحد غير الله عز وجل. فالخلق كلهم أدوات ينفذون ما أراده الله تبارك وتعالى منهم، والله تعالى يجري قدره بما يشاء. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 18 عدم توقع الأحداث وانتظارها مأخذ ثالث في أسلوب تعاملنا: قضية المفاجأة بالأحداث. وهذا من أكبر مظاهر الضعف عند المسلمين؛ أنهم يفاجئون بالأحداث ولا ينتظرونها ولا يتوقعونها، وهودليل قطعي على أنهم لا يساهمون في صناعة الأحداث، بل ولا يستطيعون رصد الأحداث، وتوقعها قبل وقوعها، وهذا -كما أشرت- هومن أعظم مظاهر ضعف المسلمين. ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ حتى الأحداث في مناطقهم وفي بلادهم في أموالهم، تدار في بلادٍ أخرى وتصنع، ويفاجئون بها دون أن يكون لهم علم، ودون أن يكون لهم أثر في تحريكها أو إيقافها أو توجيهها إلى وجهة معينه. لعل رجل الشارع العادي في البلاد الأجنبية -أحياناً- أكثر إهتماماً بالأحداث من المسلم، والآن لونظرت إلى رجل الشارع في بلاد النصارى؛ لوجدته معنياً بالأحداث أكثر من عناية كثيرٍ من المسلمين، ويهتم لها أكثر مما يهتم لها، ويتابعها أكثر مما يتابعها، ويتصورها أكثر مما يتصورها. وكم فوجئ المسلمون في تاريخهم بأحداث كثيرة، لعل من أكثرها المفاجآت التي تمت على يد اليهود في المنطقة، باعتبار أن اليهود -كما أسلفت- خلفاء تاريخيين للنصارى، ضرب الطيران المصري كان مفاجأة، وجولات إسرائيل على العراق، لضرب المفاعل كان مفاجأة، والضرب على تونس للقضاء على مجموعة من الفلسطينيين كانت مفاجأة، وأحداث أفغانستان كانت مفاجأة، وأحداث باكستان في أكثر من مناسبة كانت مفاجأة. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 19 ردة فعل غير متزنة مأخذ رابع: قضية ردة الفعل غير المتزنة عند المسلمين. وهي من آثار المفاجأة بالحدث، فإن الإنسان إذا فوجئ بشيء يتصرف -أحياناً- بصورة غير مدروسة؛ لأنه لا يدري ما هي الأسباب، ولا ما وراء الأحداث، فيندفع باتجاه الحدث، فيحقق هدفاً يراد منه أن يؤديه، مجرد دور يراد منه أن يصنعه، فيؤديه دون وعي منه بطبيعة الموقف. مثال: عدوشرس مدجج، قوامة ثلاثة ملايين مقاتل مدرب، دخل بلداً إسلامياً واحتله بالقوة وهذا مثال تمثيلى خيالي وفي هذا البلد ألف من الشباب المتدين، لم يكن لهم من الأمر شيء، يُحكمون بغير ما أنزل الله، مضطهدون مضيقٌ عليهم، استسلم الناس لهذا الجيش الغازي كلهم، وحنوا رءوسهم للعاصفة حتى هدأت، وعادت المياه بعض الشيء إلى مجاريها، إلا هؤلاء الأشاوس، فقد قال قائلهم: علامَ نعطي الدنية في ديننا؟ هذا فلان لا نجوت إن نجا، هبي يا رياح الجنة. وهكذا اقتحموا حتى قتلوا عن آخرهم، إنهم -إن شاء الله- شهداء، وكفاهم هذا فخراً وشرفاً، نسأل الله أن يكونوا كذلك -وهذا كما قلت لكم مثال- لكن ليس هذا طريق النصر للإسلام، لأننا تُعبدنا بالصبر كما تعبدنا بالجهاد، قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] كان المؤمنون في مكة ضعفاء، ولذلك كانوا يؤمرون بالصبر، ويتحملون أذى المشركين وقتلهم واعتداءهم على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتعبدون الله تعالى، لا يقفون مكتوفي الأيدى، يتعبدون الله تعالى بشيء اسمه الصبر، والصبر أيضاً هو قرين الإيمان، وليس الإيمان مجرد اندفاعات عاطفية هوجاء ليس لها زمام ولا خطام. كان المسلم في مكة يقتل وإخوته صابرون، بل هذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين، لما دخل مصر وكانت معه زوجة جميلة حسناء، فأخبر بها الملك الجبار فدعا بها، يريد أن ينتهك عرضها ويعتدي عليها، ولم يكن لإبراهيم نبي الله تعالى صلى الله عليه وسلم حولٌ ولا قوة، إنما كان كل ما يملك أن يتجه إلى الله تعالى بالصلاة والدعاء، فلما دخلت على الجبار صَلَّت ودَعَت الله تعالى عليه، فقبضت يده، أصيبت يده بالشلل، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك. فدعت الله فأنفكت يده، ومرة أخرى وثالثة. فقال لمن حوله: إنما جئتموني بشيطان ولم تأتوني بإنسان، ثم أخرجها من عنده وأعطاها هاجر، وجاءت إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهويصلي، فأشار إليها بيده ما الخبر؟ قالت: رد الله كيد الكافر في نحره، وذكرت أنه أعطاها هاجر. المهم أن المؤمن قد يتعبد بالصبر، حين يكون ضعيفاً يدرك أنه لا حول له ولا قوة، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال:66] هذه آية ناسخة، والتي قبلها المنسوخة: {إن يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأنفال:65] لكنَّ المسلمين في كثيرٍ من البلاد التي يواجهون فيها قوة عاتية، حتى لا يبلغوا ولا إلى مستوى الآية المنسوخة، ليسوا (20%) ولا مائة بالألف من عدد الكفار، ومع ذلك تجد أنهم يندفعون بعواطف أكثر مما يندفعون بتفكير وتخطيط سليم. علىكل حال تولد لدي قناعة شخصية من جراء مواجهتي لكثير من الشباب؛ أن المسلمين يمتلكون التضحية والبذل، أكثر مما يمتلكون التفكير السليم والنظر البعيد، ولوحدث التكامل بأن تضبط هذه التضحيات وفق نظر سليم وتفكير مستقبلي؛ لتحقق للإسلام والمسلمين خيرٌ كثير. وهنا يأتي السؤال إلى متى يظل المسلمون -عموماً- ورجال العلم والدعوة -خصوصاً- يلاحقون الأحداث ملاحقة ولا يسبقون الأحداث؟ إلى متى تسيرهم الأحداث ولا يسيرونها؟! إيضاح: لو اتجه المسلمون لخدمة الأمة وخدمة دينها في كل صعيد، التعليم والطب والتغذية والتصنيع والدعوة، … إلخ، واستمر الحال على ذلك -مثلاً- عشر سنوات أو خمس عشرة سنة؛ لوجدنا أن الأمة حققت خلال ذلك مستوى متقدماً من حيث القوة والصحة والتعليم والفهم والتدين، وهذا كله يصب في بحر خدمة الإسلام، ويدفعها نحوالنضج والعافية بإذن الله، وتستر بذلك إيمانها وثقتها بربها، ومعرفتها بنفسها، وتعود للحياة من جديد، لكننا مشغولون بالاندفاع وراء حماس، وهذا الحماس لا يشغلنا عنه إلا حماس لحدث جديد ننسى به الحدث الأول. مثال: أفغانستان، التي سقيناها دماءنا وعرقنا وصحتنا وأموالنا ومهجنا وأرواحنا وشبابنا، ننساها الآن في حمى الاندفاع وراء حدث آخر نلاحقه، وهكذا لم نصنع في أفغانستان إلى الآن نصراً حقيقياً للإسلام، ولن نصنع في غيرها، وما ذلك إلا لأننا نتصرف على ضوء ردود الفعل. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 20 الخوف الظاهر على الوجوه والكلمات والنفوس أولاً: شدة الخوف ظاهر على الوجوه، وعلى الكلمات المتقطعة، وعلى القلوب الراجفة، وعلى النفوس القلقة قال الله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ أن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] {الَذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] وهكذا ندرك أن الخوف من الله تعالى وحده شرط للإيمان {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ أن كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فمن الناس من يخاف على نفسه؛ فتجده يلجأ للهرب بنفسه أو بأهله أو بماله، من مجرد هذه الإذاعات والإشاعات التي أصبحت تدق نواقيس الخطر، وينسى هذا الإنسان أن هذه الإذاعات تتاجر بالأخبار، فقد يأتي خبر عادي فتحرص كثير من الإذاعات على تضخيمه وتكبيره وتهويله، حتى تلفت إليها نظر الناس وتكسب مزيداً من المستمعين إليها. ­ولذلك حين تسمع طريقتهم في إذاعة الأخبار؛ تجدها طريقة فيها قدر من الإثارة، ويعرفون كيف يخاطبون نفوس الناس، فليس حقاً أن يتأثر الإنسان بمثل هذه الإذاعات والإشاعات، ويصاب قلبه بهذا الفزع والرعب، حتى كأن الإنسان لا يملك من الإيمان بالله والثقة والتوكل عليه رصيداً أبداً! حتى الخوف على الدين، حين تسمع بعض الغيورين على الدين؛ تجد خوفاً غير طبيعي في نفوسهم، نحن نقول بكل ثقة وإيمان: لقد انتهت مرحلة: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم} وأما الآن وإلى قيام الساعة مرحلة: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} لا زالت ترن في أذني -والله- كلمة جبريل عليه الصلاة السلام، حين جاء إلى ذرية إبراهيم وقد وضعهم في البيت الحرام عند الكعبة، فقال لهم: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيت الله يبنيه هذا الغلام وأبوه. كم جيوشٍ تحطمت على صخرة الإسلام، هذه الجزيرة هي جزيرة الإسلام، الإسلام في كل شبر منها، في كل حفنة من ترابها، في كل ذرة من هوائها، في كل حجر من جبالها، في كل لحظة من تاريخها، في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، هي من الإسلام بدأت وإلى الإسلام تعود. أليس يقول صلى الله عليه وسلم: {إن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} ؟ أليس يقول عليه الصلاة والسلام: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وكل هذا دليل على أن هذه الجزيرة جزيرة الإسلام وعاصمة الإسلام، وأن الدين يعود ويحن ويرجع ويجتمع وينضم إليها، حين تضيق عليه بلاد الدنيا. حتى بلاد اليمن، صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: {الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية} ومنها: قوله صلى الله عليه وسلم: {أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة} ومنها: قوله عليه الصلاة والسلام: {إني لأجد نفَس ربكم من قبل اليمن} أي: تنفيسه وتفريجه عن كربات المؤمنين , ولا عبرة بوقت أو لحظة حاضرة، فإن العبرة بالوضع الغالب، فإن نصر الإسلام يأتي غالباً من هذه الجزيرة، فهي بلاد الإسلام، ولا خوف على الإسلام -أيضاً- لا في هذه البلاد ولا في غيرها، لا خوف على الإسلام أبداً، وكيف نخاف على الإسلام ونحن ندرك أن تاريخ الإسلام المستقبلي مرتبط بالعرب أيضاً، والقبائل العربية! وأذكر حديثاً قرأته في صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: {مازلت أحب بنى تميم منذ ثلاث سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فيهم سمعته يقول: هم أشد الناس على الدجال. وفي رواية مسلم: هم أكثر الناس قتلاً في الملاحم. وجيء بصدقاتهم فقال صلى الله عليه وسلم: هذه صدقات قومنا. وكان عند عائشة رضي الله عنها سبيّة منهم، فقال: أعتقيها فإنها من ولد إسماعيل} إذاً تاريخ الإسلام مرتبط بهذه البلاد في ماضيه وحاضره ومستقبله. ومن الخطأ أن نعتقد أن الإسلام يضيع إذا حدث كذا وكذا، نحن قد نضيع. وقد ننتهي، لكن الإسلام باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، إلى أن يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فتقبض أرواح كل مؤمنٍ ومؤمنة ولا يبقى إلا شرار الناس، أما قبل ذلك فالإسلام باقٍ، ومن المحال -شرعاً- أن تستحكم الجاهلية على بلاد المسلمين. هذه حقائق قطعية ثابتة لاريب فيها ولا شك، وينبغى أن تكون مصدر أمن واطمئنان لكل قلب فزع مذعور يخاف على مستقبل الإسلام. نخاف على مستقبلنا نحن، أو نخاف أن نكون قصرنا في حق الله تعالى وفي حق الإسلام، أو نخاف أن نكون فرطنا فنلقى الله تعالى آثمين مقصرين، كل هذا صحيح. أما أن نخشى على الإسلام فهذا خطأ، الإسلام دين الله وللبيت رب يحميه، وفعلاً عبد المطلب كان يعرف حقائق الأمور، حين ذهب إلى أبرهة الذي غزا الكعبة بكل هدوء أعصاب وبرودة، ولما قال له ماذا تريد؟ قال: أريد إبلي، أخذتم مني مائة بعير أرجعوها. قالوا له: عجيب! هذا البيت الذي هوتراثك وتراث آبائك وعزك، ونحن أتينا لهدمه ومع ذلك لا تطالبنا بالكف عنه! تطالب بمائة بعير، كيف سودك قومك وهذا عقلك؟ فقال عبد المطلب بلهجة الواثق: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه. ومع أن عبد المطلب كان كافراً، فقد كانت ثقته كبيرة بالله جل وعلا، ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين اليوم يفتقدون هذه الثقة بالله تعالى، نحن بحاجة إلى أن نقول: نحن نعمل وندعو ونجاهد في سبيل الله عز وجل؛ حرصاً على أن لا يقع منا تقصير نؤاخذ به أمام الله تعالى، أما قضية الإسلام فهي محفوظة، وهذا دين الله تعالى. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 21 دروس وعبر الجزء: 124 ¦ الصفحة: 22 المعصية أثرها مدمر الدرس الرابع: أثر المعصية. هوأثر مدمر، وحديث القرآن عنه كبير وكثير قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:42-45] {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوهُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف:4-5] {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَلَوأَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:94-99] {وَأَلَّواسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن:16-17] . الإنهماك في المعاصي, الغفلة, الشهوة، الحكم بغير ما أنزل الله، موالاة أعداء الله، التمكن لهم، أكل الربا وقيام الاقتصاد عليه، والظلم الاجتماعي وسوء توزيع الثروة {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] ترك الإعداد المادي والمعنوي، والغفلة عن الصناعات التي يجب على المسلمين أن يتخذوها، سوءُ التخطيط، والاستبداد، كل هذه من المعاصي، وأعظم من هذه المعاصي كلها: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد ثبت في أحاديث صحيحة أن الأمة إذا تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ عمها الله تبارك وتعالى بعقابٍ من عنده، وفي كل بلدة تعلن فيه الحرب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يجب أن يترقبوا عذاب الله تعالى بكرة أو عشياً. السنن الإلهية والنواميس الموجودة لا تحابي أحداً ولا تجامل أحداً، تجري على كل من استحقها، ولوكان قرشياً، ولوكان من آل محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإنه يجب علينا أن ندرك أن العلاج هوأن نعود إلى الله تعالى، ونصلح ما بيننا وبين الله تعالى، وأن نقيم شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما نستطيع، فإن هذه الشعيرة كفيلة بالقضاء على جميع المنكرات الأخرى التي تحدثت عنها. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 23 أخذ الحياة بجد الدرس الأول: لا بد من أخذ الحياة بجد فالحياة للشجعان الأقوياء العاملين، ولا مكان فيها للكسالى والبطالين والتنابلة والمتخاذلين، يجب أن يشق الشباب طريقه معتمداً على الله، بعيداً عن التفكير الهامشي التافه، التفكير في الشهوات الدنيوية، التفكير في الكرة والرياضة والركض وراءها، التفكير في الأهداف المادية القريبة، يحب أن يتربى الشباب على معالي الأمور ليصدق عليه قول الشاعر: شباب ذللوا سبل المعالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طاب في الدنيا غصونا هم وردوا الحياض مباركات فسالت عندهم ماءً معينا إذا وردوا الوغى كانوا كماة يدكون المعاقل والحصونا وإن جن المساء فلا تراهم من الإشفاق إلا ساجدينا ولم يتشدقوا بقشور علم ولم يتقلبوا في الملحدينا ولم يتبجحوا في كل أمر خطيرٍ كي يقال مثقفونا كذلك أخرج الإسلام قومي شباباً مسلماً حراً أمينا وعلمه الكرامة كيف تبنى فيأبى أن يُقيد أو يهونا أين هؤلاء الشباب؟ أين نجدهم؟ في المسارح! على مدرجات الملاعب! على الأرصفة! أو أمام شاشات التلفاز والفيديو! أو وراء الركض خلف المخدرات، كلا! ثم كلا! لا نجد هؤلاء إلا في حلقات العلم والتعليم، ودروس المساجد، وأماكن البناء والمصانع وأماكن التعبئة والإعداد. فلكي نأخذ الحياة بجد أقول: يجب على المسلمين -جميعاً- الإعداد الحقيقي بجميع صوره وأشكاله، الإعداد المعنوي, وتعبئة الناس نفسياً وعقلياً, ملء قلوبهم بالإيمان والثقة بالله والتوكل عليه والرغبة فيما عنده، والاستعلاء على متاع الحياة الدنيا، والتطلع إلى الآخرة وإلى الموت في سبيل الله, أيضاً جعل الناس يعيشون واقعهم ويعرفون الأحداث، وكيف تتم الأحداث، وما وراء الأحداث ولا يعيشون في غيبوبة، لا يدرون كيف تقع ولا كيف تجري، أو يأخذون معلوماتهم من جهات غير موثوقه، فضلاً عن وجوب التربية، والإعداد العسكرى بالتدريب، في أي مكان يتاح فيه للمسلم أن يتدرب على فنون الرماية والقتال؛ ليدافع عن نفسة وعن دينه وعن عرضه، بل وحتى عن وطنه، فإن من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون وطنه فهو شهيد، وأعني بوطنه: ليس لأنه يقاتل دون التراب، وإنما يقاتل دون البلد الذي يعتبره بلداً إسلامياً، يريد أن ترتفع عليه راية لا إله إلا الله، وأن يحكم بشريعة الله، ويكون بلداً للإسلام كما تحدثت قبل قليل. فلا شك أن كل هذه الأمور من الأمور المشروعة التي يجب إعداد الشباب لها، ولا شك أن أفغانستان من الفرص التي كان ولا يزال يمكن أن يستثمرها المسلمون في كل مكان؛ لتدريب شبابهم على بعض فنون الرماية والقتال، وغرس القوة في نفوسهم، وإزالة الجبن والرعب الذي يسيطر عليها. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 24 متى تنتهي مرحلة الغثائية الدرس الثاني: متى تنتهى مرحلة الغثائية التي يعيشها المسلمون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {ولكنكم غثاء كغثاء السيل} كما في حديث ثوبان عند أبي داود وأحمد وهوحديث صحيح: ولكنكم غثاء كغثاء السيل؟! الشاب فقد إحساسه بنفسه، لا يعرف حقوقه ليطالب بها، ولا يعرف واجباته ليؤديها, بل هويحس أن هناك من يفكر بالنيابة عنه، ويدافع بالنيابة عنه، ويشتغل بالنيابة عنه، ويكسب الرزق بالنيابة عنه، وليس على هذا الشاب إلا أن ينتظر لقمة العيش، وينساق وراء شهواته وملاذه ويستمتع بالحياة كما يشاء، ولا شك أن الإعلام يتحمل مسئولية كبرى في ذلك، فإن الإعلام يستطيع أن يجند الشباب ويملأ نفوسهم بالقوة والثقة والرجولة، كما أنه يستطيع أن يجعل الشباب شباباً هامشياً، لا هم لهم إلا الركض وراء الأغنية الماجنة، والكلمة الخليعة، والصورة والكرة وغيرها. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 25 أهمية صناعة الإعلام الدرس الثالث: أهمية صناعة الإعلام. الإعلام هوالذي يبني عقول الناس، ويؤثر فيها في كل مكان، خاصة في الاحداث المصيرية، فهو يقلب الخطأ صواباً والصواب خطأً، ويستطيع أن يصرف اهتمام الناس عن أمر إلى أمر آخر، ويشغلهم عن شيء بشيء آخر، وما حدث الآن هوخير مصداقٍ على ذلك، فنحن وجدنا أن الإعلام في أكثر من دولة نجح في صرف أنظار الناس عن الجريمة، باجتياح العراق للكويت مثلاً، إلى قضية أخرى يدندن حولها وهي: قضية القوات متعددة الجنسيات. وهكذا يستطيع الإعلام أن يصنع -كما يقولون- دكتاتورية بغير حديدٍ ونار، الإعلام في الغرب يمارس دوره بشكل قوي، لا يلزم الناس بما يراد لهم, ولكن توجه أجهزة الإعلام لإقناع الناس بأمر من الأمور، ثم يؤخذ رأيهم، فإذا كان رأي الناس موافق لما يراد، فيعرض عليهم الأمر الذي يراد أن يفرض بقناعتهم ورضاهم، فهي دكتاتورية مبطنة مقنعة. ولذلك فالإعلام يمارس التضليل والتعتيم، ولسان الحال يقول للناس: لستم علىمستوى شيء من الأحداث، هذه الأمور لا تعنيكم اشتغلوا بغيرها، وخذوا هذه الأغاني وهذه التمثيليات الشعبية، وهذه الأمور اشتغلوا بها، أما الأحداث الكبرى فلا تعنيكم في قليل ولا كثير. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 26 أهم واجباتنا وأخيراً: ما هي أهم واجباتنا؟ الجزء: 124 ¦ الصفحة: 27 واجباتنا نحو المنكوبين أولاً: الصبر كما أسلفت. ثانياً: أن نفتح صدورنا وبيوتنا وجيوبنا لإخواننا المنكوبين، بالدعم والعون والإغاثة، وأود أن أخبر الإخوة بأنه قد تم في ذلك خطوة جيدة في كل مكان وفي هذا البلد أيضاً، قامت بها جهات عديدة مشكورة، كالإمارة وجمعية البر، وإخوان لكم من الشباب يساهمون في هذا العمل بشكل جيد، وسأتحدث عن جوانب منه تستفيدون منها إن شاء الله. أقول: لا بد من دعم هؤلاء الإخوة؛ لأنهم ولا شك مسلمون تربطنا بهم رابطة الإسلام، وهم ضيوف علينا -إن صح أنهم ضيوف- بل هم منا ونحن منهم , ولذلك فإن من الواجب علينا أن نعمل على مساعدتهم بقدر ما نستطيع، بالمال، وبالمساعدة، وبالتوجيه، وبالإرشاد، وبغير ذلك من الوسائل، وقد تم في ذلك خطوات، وهناك جهات متخصصة لإسكانهم، وهناك مساعدات لهم بالمال، وهناك مساعدات بالأشياء العينية التي يحتاجونها, وهناك -إن شاء الله- فكرة جارية في جمع بعض الأموال وإيصالها إليهم في أماكن تجمعهم، في المناطق القريبة من الحدود، فضلاً عن أن هناك فكرة إيجاد أماكن تكون بتجمعات سكنية تخصص لهم خارج البلد، وتجهز بالأشياء الضرورية، وبذلك يسهل وجودهم فيها على انفراد، ويمكن أن يُكَونوا من خلال هذه التجمعات فرصاً للإرشاد والتوجيه، والحديث عن بعض الأشياء التي يحتاجون إليها، ولابد من دعم ذلك كله من قبل كل فرد منا بقدر ما يستطيع. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 28 التوجيه والدعوة الأمر الثالث: من واجباتنا: هي قضية التوجيه والدعوة. فإنني أقول لكم -أيها الإخوة-: إننا نفتخر أن يكون القائمون بمساعدة هؤلاء الإخوة المنكوبين هم من المؤمنين المتدينين الصادقين، حتى إن الإنسان إذا نظر فوجد أن أصحاب اللحى وأصحاب الثياب الرفيعة، هم الذخر الذين تجدهم الأمة كلما ألمت بها ملمة، أو نزلت بها نازلة , فيقومون مع إخوانهم ويغيثونهم ويساعدونهم، وهذه في الواقع دعوة صامته للإسلام، وهي أبلغ من مائة خطبة وأبلغ من مائة محاضرة، وأحسن من مائة كتاب تعطيها له، هي دعوة صامته؛ لأن كل إنسان عاقل يعرف ما معنى أن يتخلى عنه القريب والبعيد، فيأتيه شاب متدين ربما كان بالأمس يسخر به وبأمثاله، فيساعده في محنته، ويحرص على إنقاذه وإعانته، ولا شك أن هذه لها دلالة كبيرة، ولهذا ينبغي أن نحرص على أن نكون نموذجاً حياً في دعم المؤمنين والمحتاجين والمستضعفين والمنكوبين في كل مكان، وخلال دعوة هؤلاء ينبغي مراعاة أمور: أولاً: اختلاف المجتمع، وهذا أمر لا بد من مراعاته، فهم عاشوا في مجتمع يختلف كثيراً عن المجتمع الذي عشنا فيه، ومن أراد أن يدعوهم أو ينبههم إلى بعض الأمور؛ فينبغي أن يراعي هذا الأمر؛ لئلا يقع في الخطأ؛ لأن الله عز وجل يحب الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في موضعه، فالعالم -مثلاً- غير الجاهل، والمعتاد على شيء غير الذي يفاجأ به لأول مرة، وينبغي مراعاة هذا الوضع والتدرج معهم شيئاً فشيئاً. الأمر الثانى: مراعاة الهدوء وسعة البال وعدم العجلة. الأمر الثالث: مراعاة البعد عن المن والأذى بما يعطيه الإنسان، أو باعتبار هذا ضريبة أننا ندعوكم وإلا وإلا، أو يكون هذا إعانة مشروطة، هذا لا يجوز أن يكون بحالٍ من الأحوال، فهو واجب عليك أن تساعدهم وهذا الأمر علينا جميعاً، ونشر الكتاب والشريط الإسلامي من أهم وسائل الدعوة بينهم، والمجمعات السكنية التي قد يتجمعون فيها هي فرصة، ولعله يتم تنظيم أشياء رسمية من خلالها للتوجيه والإرشاد. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 29 كيف نتناول هذا الحدث المؤلم بقي نقطة أخيرة في الموضوع، وهي: كيف نتناول هذا الحدث المؤلم؟ من الناس من يتجاهل هذا الأمر، فقد تأتي إلى خطيب وكل نفوس الناس مليئة مشتعلة في هذا الموضوع، فتأتي إلى خطيب فتجد كأنه قد أصم أذنيه ولم يسمع شيئاً، يتكلم عن موضوع بعيد عن الحدث، إما أن يتكلم تحت الأرض، فيما يتعلق بأحوال الآخرة والقبر والموت، وإما أن يتكلم فوق السماء فيما يتعلق بأمور الجنة والنار والبعث والحساب وغيرها. كل هذه أمور حق، والكلام فيها حق، لكن ينبغي أن يستغل الإنسان فرصة كون النفوس متهيئة للوعظ والإرشاد والتوجيه، وأخذ الدروس والعبر من هذه الأحداث، ويطمئن الناس على هذا الأمر، فيكون مصدر طمأنينة للناس مصدر سكينة لنفوسهم، يحيي المعاني الإيمانية في قلوبهم كما ذكرت، يبين لهم المخاطر التي تهددهم، بحيث يكون الكلام متعلقاً بالواقع، أما أن نعيش أحداثاً مؤلمة تحرك قلوبناجميعاً ثم نأتي للمتحدث أو الخطيب؛ فنجدة يتكلم في وادٍ آخر، فهذا في الواقع ذهول وغيبوبة لا يجوز أن يقع المؤمن أو العالم أو الداعية ضحيتها. فالإسلام هو دين للواقع، والقرآن الكريم جاء لينظم أمور الناس، وكذلك السنة النبوية، في كل شيء، حتى في علاقة الإنسان بزوجته، حتى في كيفية قضاء الحاجة، والأمور الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية قال الله تعالى: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فليس صحيحاً أن نعزل الإسلام عن هذه الأمور، ولا نتكلم إلا في قضايا معينة، أمور الزهديات والوعظيات والأخرويات، هذه حق، ولكن غيرها حق أيضاً {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} [البقرة:85] . لا بد أن نتناول هذا الموضوع كما نتناول غيره، ليكون الطرق والحديد ساخن. لكن كيف نتناول هذا الموضوع؟ إن من الخطأ أن نتحدث عن هذا الموضوع وكأننا نتحدث عن أمة أخرى أو شعب آخر، فنقول للحضور مثلاً: انظروا لما أصاب هؤلاء، إنه بسبب ذنوبهم، وانتبهوا أن يصيبكم ما أصابهم. لا يصلح هذا الأسلوب في الطرق، يجب أن ندرك أن هذه مصيبة لنا جميعاً، ليست مصيبة لفئة دون فئة، ولا لفرد دون فرد، هي مصيبة للأمة كلها، وبناءً على ذلك؛ ينبغي أن نقول: إن ما أصابنا هوبسبب ذنوبنا، نحن المصابون، وهل نعتقد نحن حين نتكلم بضمير الغائب، أننا أقل من غيرنا ذنوباً؟ بل بالعكس، أحياناً في بعض المجالات قد تجد أن كثيراً من الناس والعياذ بالله وقعوا في ذنوب أكثر مما وقع فيه غيرهم، ولو أردت أن تحسب من حيث الكمية والعدد؛ لوجدت ما عندنا من المؤسسات والأجهزة والمنكرات أضعاف أضعاف ما يوجد في بلاد أخرى كثيرة، فليس صحيحاً أن تتكلم عن غيرك وتظن أنك بمنجاة من هذا الأمر، كلا، بل ينبغي أن نتحدث عن المصيبة على أنها مصيبة نزلت بنا جميعاً، وعلى أن هذا الدرس لنا جميعاً، وأننا يجب أن نتوب إلى الله تعالى ونقلع، حتى يرفع الله تبارك وتعالى عنا ما أصابنا، ويكبت عنا عدونا، ونقول كما قال موسى عليه الصلاة والسلام: {عَسَى رَبُّكُمْ أن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] . وفي الختام: هذه الأسئلة التي أمامي، تتحدث عن ظاهرة هي أثر من آثار الرعب والفزع، وقلة التوكل الذي في قلوب الناس، حيث أصبحت السيارات أرتالاً وأسراباً لشراء المواد الغذائية بكميات هائلة، وكثير من الناس سحبوا أرصدتهم أو حولوها بعملات أخرى، أو بدءوا يشترون الذهب، أو يغادرون هذه البلاد، وكل هذا لا شك ينم لا أقول عن فقدان التوكل، لكن عن ضعف التوكل، ولا حول ولا وقوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم أعزالإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، وترفع فيه كلمتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم اجعلنا من أنصار دينك المجاهدين في سبيلك، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم إنا عبيدك بنوعبيدك بنو إمائك، نواصينا بيدك، ماضٍ فينا حكمك، عدل فينا قضاؤك، نسألك بكل اسم هولك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تكفي المسلمين شر هذه الأحداث والفتن، في أنفسهم وأموالهم ودينهم وبلادهم، إنك قريب سميع مجيب. اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم اكفنا شر الفتن ما ظهر منها وما بطن. اللهم احيي بلادك ودينك وأهل دينك وأنصار شريعتك، اللهم انصر المسلمين في كل مكان. اللهم يا ذا العرش المجيد! من رفع راية يريد فيها رفع راية الإسلام، وكلمة التوحيد، وإعزاز الدين، وتحكيم الشريعة؛ فانصره نصراً مؤزراً، واجعل التوفيق حليفه حيث كان، ومن رفع راية يريد بها هدم دينك وشريعتك، وإذلال عبادك الصالحين والتمكين للكفر في الأرض؛ فأذله وخذه أخذ عزيز مقتدر إنك على كل شيء قدير. اللهم إنا عبيدك ضعفاء بين يديك، ولا حول ولا قوة لنا إلا بك؛ فادفع عنا إنك على كل شيء قدير. اللهم آمنا بك وتوكلنا عليك وفوضنا إليك، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 124 ¦ الصفحة: 30 لقاء مع منسوبي الرعاية الصحية الانتماء لهذا الدين نعمةٌ ومنةٌ منَّ الله بها على عباده، وليس للإنسان مصدر فخر يفاخر به أعظم من فخره بالانتساب إلى هذا الدين، وليس الانتساب اسماً يباهي به المسلم، بل هو واقعٌ وجهاد وعمل يتطلب تضحيات وصبراً وثباتاً؛ ولكن -وللأسف الشديد- بتنا على حافة الهاوية بعيدين عن هذا المعنى وأعداؤنا قريبون منه رغم كفرهم وضلالهم ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 1 تقديم وترحيب بالشيخ سلمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: أيها الإخوة: يشرِّفُ إدارة الرعاية الصحية الأولية بالقصيم، أن تتشرف باستضافة هذا الجمع المبارك، والمتمثل بلقاءٍ مع فضيلة الشيخ الداعية سلمان بن فهد العودة فجزاه الله خيرًا على تجشمه الصعاب، ومجيئه إلينا في هذا الوقت, ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها في ميزان حسناته يوم أن نلقى الله, وأول ما نبدأ به هذا اللقاء المبارك، هو القرآن الكريم ومع الأخ خالد الحسين فليتفضل جزاه الله خيرًا. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 2 قصيدة ترحيبية أيها الإخوة! نشكر لسعادة الدكتور هذه الكلمات المباركة إن شاء الله, والفقرة الثالثة وقبل الأخيرة، نبقى مع قصيدة للأخ عبد الرحمن البليهي فليتفضل. عفوًا أيها الإخوة! هذه القصيدة ليست لي وإنما هي للزميل إبراهيم السمحان، الذي جادت قريحته بهذه الكلمات، وهي قصيدة نبطية أبى إلا أن يشارك بها, فلنستأذن فضيلة الشيخ بإلقائها بين يديه. بسم الله والحمد لله، فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة أيها الجمع الكريم! أحييكم بتحية الإسلام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الواقع أن بضاعتي مزجاة, ولكن طمعًا في الوقوف أمام هذه الوجوه الطيبة، كانت القصيدة، فأستميحكم عذرًا لإلقائها، والقصيدة بعنوان "قصيدة القلب": قصيدة القلب كيف الحبر يكتبها ويش لون بحر الورق يقوى مراكبها بحر شواطيه جفت واختفى المينا والموج راكب وموج النفس يتعبها وابحرت مجدافي الكلمة ومعناها زادي وقدامى الحكمة وكاسبها الحكمة التي غدت ويش لو نلقاها في مهمه الطيش ساق الحبل غاربها وبديت تقليد ديوان أمة ثكلى قريت خلف السطور وذي مصايبها نسأل على الغرب يهزمها ويهزمنا وعن الليالي لنا تعقد حواجبها نسأل عن الحرب تستوطن بعالمنا وعوالم الكفر ويش فيها تجنبها نسأل عن الجوع الاكبر عن تناحرنا وعن هتكة العرض والتهجير جالبها وعن كسرة الخبز تغرق ساحة البوسنة وعن عدة الحرب تعطى غير طالبها وعن مسجد البابري عن هيبة المقدس يا كيف الأنجاس تفتل به شواربها واحنا علينا البكاء ويا كثر ما نبكي وأخطر قراراتنا ننكر ونشجبها نسأل وكل الإجابة بعدنا السافر عن ديننا لا حظوظٍ بس نندبها قصيدة القلب طالت بس ما طالت أشجاراً بخاطري تصفق جوانبها والمعذرة منك يا سلمان ذا جهدي قليل والقلب عذر النفس مشجبها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والآن أيها الأحبة مع اللقاء المنتظر مع العالم العامل! مع الداعية المعروف, مع قائد من قواد هذه الصحوة الطيبة المباركة, مع فضيلة الشيخ سلمان العودة. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 3 آيات من الذكر الحكيم أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ * وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ * وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ * مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ * وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} [إبراهيم:13-23] . أما بعد أيها الإخوة! فنبقى مع الفقرة الثانية من هذا اللقاء الطيب المبارك، ومع كلمةٍ ترحيبية لسعادة الدكتور/ طلال البياري، مدير عام الشئون الصحية بمنطقة القصيم, فليتفضل مشكورًا جزاه الله خيرًا. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 4 كلمة الشيخ/ طلال البياري بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله نبينا محمد, فضيلة الشيخ سلمان العودة , الإخوة الزملاء, وضيوفنا الأفاضل, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أرحب بفضيلة الشيخ، وأتقدم له بالشكر على تفضله بقبول الدعوة والمجيء لهذا اللقاء المبارك، وهو اللقاء الثاني خلال هذا الأسبوع, وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يثيب الشيخ على هذا الإقدام الطيب, وأن يجعل في نصائحه وكلماته الطيبة كل البركة, لرفع المعنويات لدى الزملاء. ولا أشك أن هذه اللقاءات الطيبة والخيرة فيها ترويحٌ للنفس, وفيها أيضًا رفعٌ للمشاعر والمعنويات لدى الزملاء والعاملين في الشئون الصحية, وأعتقد جازمًا، أننا نحتاج لمثل هذه الجلسات الطيبة، حتى ترتقي المعنويات، ويزيد الالتزام والانتماء والحب فيما بيننا، ولأهدافنا السامية التي نعمل من أجلها, ألا وهى الخدمات الصحية, وأن نرتقي بهذه الخدمات للمستوى الذي يرضينا ويرضى الله سبحانه وتعالى عنا, ويلبي احتياج المواطن، وأيضًا يرتقي إلى المستويات التي تنشدها الدولة رعاها الله, فلعلَّ في هذه الاجتماعات ما يروح عن نفوسكم, وما يرفع المعنويات ويزيد الانتماء إلى أهدافكم السامية النبيلة, والتي تلتقي بإذن الله مع أهداف الأمة الإسلامية جمعاء. وبودي أن أشكر كافة الزملاء في إدارة الرعاية الصحية الأولية، يتقدمهم الأخ عبد الرحمن البليهي، وهو الذي فكر في هذا الاجتماع مع زملائه العاملين، ومع الدكتور عصام الحركة، وبقية الزملاء الذين هيئوا لهذا الاجتماع الطيب المبارك, وأرجو الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم الثواب الحسن على هذا الإقدام, وكذلك أشكر الإخوة منسوبي الشئون الصحية من الحاضرين, والضيوف الذين أحبوا أن يشاركونا هذا اللقاء الطيب المبارك, وأدعو الله سبحانه وتعالى أن يثيب شيخنا، وأن يوفقه في تقديم ما ينفعنا في دنيانا وأخرانا وما يزيد -كما ذكرتُ- من رفع معنوياتنا، والتزامنا وحبنا والتصاقنا بعملنا، وما يقدمنا إلى الأمام بإذن الله, أشكركم مرةً أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 5 الانتماء إلى هذا الدين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، وأتباعه إلى يوم الدين, وسلم تسليمًا كثيرًا. أما بعد: أيها الأحبة فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. وإنني -بادئ ذي بدءٍ- أشكر سعادة مدير الشئون الصحية بالقصيم, كما أشكر جميع إخوانه العاملين معه, وزملائه الذين كانوا سببًا في ترتيب مثل هذا اللقاء, والذين حضروا إلى هذا اللقاء أيضًا, وأشكركم جميعًا وأدعو الله تعالى لكم بكل خير, وأقول لكم: إنني أحبكم في الله تعالى, وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا من المتحابين فيه, وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله, وأن يجمعنا جميعًا في دار كرامته إنه على كل شيءٍ قدير؛ ثم أما بعد أيضًا: فإن مثل هذه اللحظات هي لحظات نفيسة حقًا, فإن الحديث إلى مثلكم أنتم بالذات، أيها الأحبة حديث شيق, وحديثٌ طويل، وفي النفس خواطر, أحببت أن أقدمها بين أيديكم الآن. أول هذه الخواطر، نقول: إننا جميعاً نعيش في خندقٍ واحد, ونحمل هماً واحداً, وإن اختلفت المهمات وتنوعت المسئوليات وتعددت المواقع, إلا أن الهدف يجب أن يظل واحدًا. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 6 قيمة الانتماء إلى هذا الدين وفضله فنحن ننتمي وننتسب إلى هذا الدين الذي أكرمنا الله تبارك وتعالى به, وأي انتسابٍ أعظم وأكرم وأفضل من أن تكون أنت محسوبًا من المسلمين {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] . فهذا الاسم الرباني الإلهي: تاجٌ على رأسي وعلى رأسك, وشرفٌ لا يقدِّر أحدٌ قدره, إلا الله عز وجل. إنه علامة على كل معاني الخير والكمال, فكل خيرٍ أو كمالٍ فهو في الإسلام, وكل ضررٍأو نقصٍ أو عيبٍ فهو مما جاء الإسلام بذمه والنهى عنه. إذاً: هذا الاسم الشريف العظيم الكبير الرباني، الإسلام هو التاج الذي نكلل به رؤوسنا, ونفتخر بالنسبة إليه, فليس فخرنا لأننا عرب, فإن العروبة بحد ذاتها قد يدخل فيها من هم حطب جهنم. لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب ليس فخرنا بالعروبة بذاتها، فإن العروبة بذاتها لا تكفي؛ ما لم يكن الإسلام سرها, وليس فخرنا أيضًا بتاريخ نردده؛ فإن أجدادنا الذين مضوا, مضوا بمفاخرهم, ومضوا بجهادهم, ومضوا بصدقهم, وكتب التاريخ لهم أروع الصحائف, في كل المجالات، في العلم, وفي العمل, وفي الدعوة, وفي الجهاد, وفي الإخلاص, وفي النزاهة, وفي كل الكمالات مضوا بها, ولا ينفعك أن تكون أنت من أحفادهم فتكتفي بترديد مآثرهم, فتصبح إنسانًا كنتياً، أي: يتكلم أن أجدادنا كانوا وكانوا وكانوا. كن ابن من شئت واكتسب أدبًا يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي والنار -أحياناً- تخلف الرماد كما هو معروف, فإذا كان أجدادنا السابقون نارًا تضيء وتشرق، وفيها تدفئة, وخير, ونور, فقد يكون من أحفادهم من انقلب وتحول إلى رمادٍ تذروه الرياح, وقد لاحظ هذا المعنى شاعر الهند محمد إقبال فقال: أرى نارًا قد انقلبت رمادًا سوى ظل مريض من دخان فليس فخرنا لأننا أبناء رجال, وأحفاد رجال, الفخر هو بما يقدمه الإنسان وينجزه، سواءً في الدنيا أو في الآخرة, فأما في الدنيا فإن العالم اليوم لا يحترمك احترامًا تاريخيًا, إنما يحترم القوة, ويحترم العمل, ويحترم الإنجاز, وماذا ينفعنا إذا صرَّح متحدثٌ رسمي أو غير رسمي في الشرق، أم في الغرب بأننا نحترم الإسلام ونقدره، ونعتبره دينًا تاريخيًا له فضلٌ على الحضارة الإنسانية؟ ماذا يقدم هذا وماذا يؤخر؟ لا ينفع شيئًا. إنها مجرد إبرة للتخدير, لكن الذي ينفع هو الذي يملك قوة، ولا أعني بالقوة فقط قوةُ السلاح, بل كل ألوان القوة, حتى القوة العلمية, والفنية, والإدارية, والعملية, قوةُ وحدةِ الكلمة واجتماع الصف, كل ألوان القوة هي التي أصبح العالم اليوم يحترمها. وكذلك الحال في الدار الآخرة: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] {لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [البقرة:48] {لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان:33] ومن حكمة الله تعالى أن يعلن الله تعالى لنا في القرآن أن بعض أقارب الأنبياء كانوا من الكافرين, ومن المعذبين بالنار أيضًا, كما هي الحال بالنسبة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، كان والده من أهل النار, كما صرح بذلك القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} [الأنعام:74] وفي الآية الأخرى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة:114] . وفي الصحيح: {إن إبراهيم يلقى أباه يوم القيامة وعليه غَبَرة وَقَترة, فيقول له: يا أبت! ألم آمرك فعصيتني؟ فيقول: الآن لا أعصيك, فيذهب إبراهيم وكأنه يريد أن يشفع فيه, فيقول الله تعالى له: يا إبراهيم إني حَرمتُ الجنة على الكافرين} . إذاً: العبرة في الدنيا وفى الآخرة ليست بالأمجاد الغابرة, ولا بالتاريخ الماضي أو بالنسب أو بالأرض, إذ أن ولادة الإنسان في هذه الأرض أو تلك، لم يكن باختياره، وليس له فيه يد, كما أن العبرة لا تكون بلون الإنسان ولا بأي صفةٍ أخرى من الصفات الشكلية الذاتية التي قد لا يكون للإنسان أصلاً يدٌ في اختيارها, إنما العبرة بعمل الإنسان. فعمل الإنسان هو الذي يحدد موقعه في الدنيا, وهو الذي يحدد مستقره في الدار الآخرة, فإذا انتسبنا نحن إلى الإسلام؛ كانت هذه النسبة الحقيقة التي اختارها الإنسان ورضيها لنفسه، ثم لم يكتف بمجرد أن يكون انتسابه للإسلام وراثياً, كون أبيه أو أمه مسلمين؛ بل حقق هذه النسبة التي ورثها بالتطبيق العملي لهذا الانتساب, وأن يصدق هو في تطبيق هذا الدين والعمل به، والدعوة إليه, حتى يعرف أن كونه مسلمًا ليس أمراً عفوياً, أو أمراً وراثياً, أو أمراً بيئياً, وإنما هو أمرٌ رضيه الإنسان لنفسه، واختاره وارتضاه وآمن به, وصدق بفعله ما وجده في واقعه أو في بيئته. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 7 المسئولية تجاه هذا الدين هذه النسبة أيها الإخوة! تقتضي منا أشياء كثيرة. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 8 عدم التخلي عن المسئولية ألا يتخلى أحدٌ عن دوره ومسئوليته. فكثيراً ما نسمع تعبيراً يقول: الناس الملتزمون يفعلون كذا, والناس الملتزمون يقولون كذا, إذاً وأنت, لماذا نرضى -فعلاً- بأن نجعل مهمة التدين والالتزام، والصلاح، والدعوة، ونشر الخير، مهمة فئةٍ معينة في المجتمع؟ أما نحن فنكتفي بأن نقول: الملتزمون فعلوا كذا, فقد نثني أحيانًا على ما فعلوه، وقد نعتب عليهم أحيانًا في خطأٍ أو تقصيرٍ وقعوا فيه. والملتزمون بشر يخطئون ويصيبون ولا شك! وليس بشرط كون الإنسان ملتزمًا بدينه أن يكون معصومًا, إنما العصمة للأنبياء فقط عليهم الصلاة والسلام, أما غيرهم من الناس فيخطئ ويصيب, ولذلك يجب أن نضع الأمور في مواضعها، ونعدل وننصف في النظر إلى هذه الفئة من الناس. وقد قلت لبعض الإخوة: كثيراً ما تردد الصحف والإعلام العربي -تبعًا للإعلام العالمي- لفظ المتطرفين والأصوليين والإرهابيين، وما أشبه ذلك من الكلمات التي يقصد بها المتدينون, سواء ًكانوا من المعتدلين، أو كانوا من غير المعتدلين, إن صح هذا التقسيم -أيضًا- فلننظر قليلاً إلى اليهود ألا يوجد فيما يسمى اليوم بدولة إسرائيل وهي فلسطين المغتصبة, ألا يوجد عندهم اليوم في شعب اليهود أحزاباً ومجموعات كبيرة ممن يسميهم الإعلام العالمي ويسمونهم اليهود أنفسهم, ويسميهم العرب باليهود المتطرفين, كحزب غوش أمنيوم وغيره من الأحزاب؟ بلى. يوجد أحزاب يهودية متطرفة، بعضها يؤمنون بما يسمونه دولة إسرائيل العظمى التي تمتد من الفرات إلى النيل, وبعضهم يؤمنون بحكومة العالم اليهودية الخفية، التي يجب أن تعلن لتحكم العالم كله باسم بني إسرائيل, وبعضهم يؤمنون بأشياء يرفضها العالم كله. لكن هؤلاء المتطرفون -كما يسمونهم- اليهود أين يعيشون؟ هل هم يعيشون في غياهب السجون؟ لا. هل هم يعيشون في زوايا المجتمع، حيث الإهمال والنسيان والضغط عليهم؟ لا. إذاً أين يعيشون؟! لعلك تعلم أنهم يعيشون في الكنيسة, ويشاركون في الحكم, وفي القرار, ويؤثرون في اختيار المسئولين في تلك الدولة الممسوخة؛ ولذلك تجد أن مجتمعهم على ما فيه من تناقضات واختلافات وفيه حرية للمتدينين والبارحة كان هناك تهديدات لرئيس الوزراء وللحكومة بالموت, من قبل اليهود المتطرفين تهديدات هاتفية, وتهديدات عبر مظاهرات, حيث هناك حفريات في بعض المقابر، التي يقول اليهود إنها قبورٌ تاريخية لهم, وتقول الحكومة اليهودية: إنها قبورٌ للنصارى. المهم أن أولئك القوم عرفوا كيف يتعاملون مع الآراء المختلفة, ومع التوجهات المختلفة, وأعطوا فرصةً لكل قوةٍ أثبتت وجودها في المجتمع, وبذلك سلم مجتمعهم من التناقض والاضطراب، والتشتت، وأن يقوم بقتل بعضه بعضاً، وبطعن بعضه بعضاً. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 9 المتدينين في وجهة العالم الغربي وفى العالم الغربي أيضاً، حيث النصرانية تجد مثل ذلك, ففي أمريكا، التي هي موضع القدوة في نظر الكثيرين من المستغربين وغيرهم, في تلك الدولة التي هي أيضًا حكومة للعالم معلنة متوجة, يوجد أحزاب متطرفة نصرانية، يسمونها الأحزاب الإنجيلية، أو يسمونها الأحزاب الأصولية -وأصل كلمة الأصولية مأخوذة من الغرب- ويعنون بها تلك الأحزاب التي تأخذ النص مما يدعون أنه الكتاب المقدس؛ تأخذ به أخذًا حرفياً، وهى أحزابٌ كثيرة, وهناك دراساتٌ ضخمة جدًا عن هذه الأحزاب, وهي في ازدياد، ومنذ أكثر من اثنتي عشرة سنة، لا يصل رئيس إلى سدة الحكم في أمريكا إلا وهو يخطب ود هؤلاء, ويعلن تدينه وتأييده للمتدينين, وأنه يسعى إلى أن تكون أمريكا مقرًا للدين والتدين, ومكاناً لمحبة الله -كما يزعمون ويعبرون ويقولون- صرح بذلك كارتر , وريجن , وبوش , وصرح به الزعيم الحالي, فهو لا يستحي من أن يعلن الدين والتدين, بل الرئيس السابق بوش، كان يتكلم عن تدين الشعب الأمريكي ويقول إن (99%) من الشعب الأمريكي يؤدون الصلاة, سواء في الكنائس أو في بيوتهم, لا يخجل من هذا؛ بل يعلنه ويفتخر به، ويقول: نفتخر بأن هذه الدولة أو هذه الأمة الأمريكية؛ أصبحت مأوى للمضطهدين والمشردين إلى غير ذلك. المهم أن تلك الأحزاب الأصولية المتطرفة النصرانية، أصبحت ذاتَ تأثيرٍ كبيرٍ وخطيرٍ، وأصبحت تملك مئات المحطات للتلفزة، وآلاف الإذاعات, وعشرات الآلاف من المؤسسات، وعشرات الملايين من الناس الذين يتابعون مطبوعاتها ومنشوراتها، وبثها وإذاعتها, ويدفعون لها الضرائب والتبرعات, ويؤمنون بأطروحاتها ومذاهبها. وبذلك استطاعوا أن يحفظوا مجتمعهم من الشتات والتفرق والصدام, وأن يستفيدوا من كل الطاقات الموجودة فيه الجزء: 125 ¦ الصفحة: 10 موقف الحكومات العربية الإسلامية من المتدينين ثم تنتقل إلى بلاد العروبة والإسلام؛ فتجد أن اليهود الذين استطاعوا أن يتعاملوا مع المتطرفين منهم بطريقةٍ صحيحة, والنصارى الذين استطاعوا أن يتعاملوا مع المتطرفين منهم بطريقةٍ صحيحة هؤلاء وأولئك يحرضون المسلمين على أن يضرب بعضهم بعضًا, ويقتل بعضهم بعضًا, ويسجن بعضهم بعضًا, وأنه لا مكان لهؤلاء المتطرفين إلا السجون والمعتقلات, ومقاصل الإعدام, والقضاء عليهم, ومحاولة الحيلولة بينهم وبين المجتمع, إنه تدميرٌ لمجتمعات عربية وإسلامية بأكملها, بتأييدٍ من أولئك، من اليهود ومن النصارى. ثم ليست القضية قضية متطرفين، فنحن نعلم كما أن عند اليهود، وعند النصارى متطرفين؛ يوجد عند المسلمين غلاة, وهذا معروفٌ من فجر التاريخ, كالخوارج مثلاً، الذين وجدوا حتى في أفضل العصور، وجدوا في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم, وهو يوجدون اليوم, ولكنهم قلةٌ لا يُعبأ بهم, وإنما الأكثرية الساحقة من المتدينين هم من أهل الاعتدال، والتدين الموزون, والفكر المتعقل, والنظرة الهادئة, وإنما حاولوا تعميم هذا اللفظ؛ فأصبح كل متدين في نظر الإعلام العالمي والعربي -في كثيرٍ من الأحيان- يوصف بأنه متطرف أو أصولي, وفي بعض البلاد يكفي أن تعفي اللحية، أو أن تتردد على المساجد لتوصف وتصنف ضمن المتطرفين, ثم تكون عرضةً لكل ما يتعرضون له هم من الأشياء, وشوه الإعلام هذه الصورة عند الناس. هاهنا أنتقل إلى الهدف الذي أقصد إليه الآن في هذه الكلمة, وهو: مجتمعنا -بحمد الله- أستطيع أن أقول: إنه يخلو من هذه النوعية, وإلا فعلى أقل تقدير أن هذه النوعية لازالت نوعية قليلة، لا يكاد يعلم أو يسمع بها أحد, وفيما يتعلق بمشاهدتي في الشخصية؛ فإنني على صلةٍ واسعة بقطاعٍ عريض من هذا المجتمع, سواءً من المتدينين, أو من الشباب الملتزمين أو من غيرهم. وليس في منطقةٍ خاصة، بل في كل مناطق هذه البلاد, وأشهد بالله تعالى؛ أنني لم أر طيلة هذه الفترة شابًا أستطيع أن أقول عنه إنه يحمل فكرًا من أفكار الغلاة, أو من يصح أن يسموا بأنهم متطرفون أو أصوليون أو إرهابيون أو ما أشبه ذلك. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 11 ما هي العلاقة بين المتدينين والمقصرين إذا أردنا تطبيق الموازين الشرعية وليست الموازين الغربية أو الموازين العلمانية. يوجد في مجتمعنا -ولا شك- متدينون محافظون على كل قيم الدين وأخلاقه, ويوجد أيضًا المفرطون والمقصرون ولا شك, وهنا يجب أن نتساءل: ما هي العلاقة التي يجب أن توجد بين هؤلاء وهؤلاء؟ لا يجوز أن تكون العلاقة علاقة تنابز وتباعد, فلا ينبغي للملتزم مثلاً أن يكون سريعًا إلى عيب هؤلاء واتهامهم، وسوء الظن بهم, بل ينبغي أن يعطيهم فرصةً للمراجعة والرجوع, وأن يحسن الظن بهم ما استطاع, وأن يبذل لهم النصيحة, ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة, وبالكلمة الطيبة, والابتسامة التي أحيانًا تزيل كثيرًا مما في القلوب, وأن يسعى جهده إلى دعوتهم إلى الله, وتحسين صورة المتدينين في نفوسهم. وأن يحرص على أن يكون منضبطًا قدر المستطاع في تصرفاته, فلا يبدر منه من الكلام أو الفعل ما يعاب به هو, لأن العيب -أحيانًا- لا يوقف على شخصٍ؛ بل يتعدى إلى عيب الملتزمين, فطالما سمعنا إنسانًا يعيب المتدينين كلهم أو يسبهم لأنه رأى موقفًا من واحد, أو سمع كلمةً من آخر. حسناً يا أخي! أخطأ شخصٌ تنسب الخطأ إليه؛ لكن لا تعمم هذا الخطأ على كل المتدينين, أو على كل من تسميهم أنت بالملتزمين, فإن الله تعالى يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] والإنسان مسئول عن فعله هو, ولا يجوز أبدًا أن يحمل غيره وزره. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 12 ليس من شرط التدين أن يكون الإنسان معصوما ً ثم يجب أن تعلم أنه -كما أسلفنا- ليس من شرط التدين أن يكون الإنسان معصومًا؛ بل قد يكون الإنسان متدينًا وهو عصبي، هذا وارد، كما أن إنساناً قد يكون موظفًا كبيرًا وهو يحمل نفسية شديدة, أو يحمل حسًا مرهفًا, أو يكون عنده نوعٌ من العصبية، والحدة والحرارة في طبعه. وقد يكون الإنسان موظفًا في المرور، ويتعامل -مثلاً- مع القادمين والغادين والرائحين وهو كذلك, وقد يكون موظفاً يستقبل الجماهير وهو كذلك, وقد يكون مدرسًا وهو كذلك, وقد يكون إذاً لا تتصور أن جو المتدينين جوًا مثالياً، إنما هم من المجتمع، فهم كغيرهم, وأنت لو أخذت أي قطاعٍ في المجتمع, كقطاع الصحة, أو قطاع المرور, أو قطاع الشرطة, أو قطاع التعليم, أو قطاع الإعلام, أو أي قطاع، لو أخذته لوجدت أنه يوجد فيه نوعياتٍ شتى, منهم المتدين, ومنهم غير المتدين, ومنهم الأمين, ومنهم غير الأمين, ومنهم ذو الأخلاق الفاضلة, ومنهم من ليس كذلك, ومنهم العصبي, ومنهم الهادئ, إلى غير ذلك. فهذا هو المجتمع أصلاً، وهؤلاء ما خرجوا وما جاءوا من كوكبٍ آخر, إنما خرجوا من هذا المجتمع، ولهذا فيهم وفيهم , ومن الظلم لهم أن تفترض أنهم يجب أن يكونوا مثاليين, هذا ظلمٌ وصعبٌ ومستحيل, بل ينبغي أن تعتقد أنهم كغيرهم، يحصل منهم ما يحصل من غيرهم، وإن كانوا أفضل من غيرهم من حيث أنهم قد يكونون قابلين للتوجيه, قابلين للإرشاد, قابلين للمناقشة بشرط أن يكون هذا كله من منطلق النصيحة. وأعني بذلك: أن البعض -أحياناً- قد يلقى من إنسان متدين موقفاً معيناً، فيعلن عليه أنك فعلت، وفيك وفيك، ويريد من هذا الإنسان أن يقبل منه. فمن الطبيعي إذا صار مثل هذا؛ أن هذا المتدين قد يظن أن في قلبك حقدًا على المتدينين، وأنك وجدتها فرصةً للتنفيس عما في نفسك, وحينئذٍ لن يقبل منك، وهذا أمرٌ طبيعي لكن لو انفردت به وقلت له بينك وبينه, يا أخي! حصل كذا, وأنا أعتقد أنه كان يجب أن تكون الأمور كذا, وأنت موضع نظر, وربما ينسب إلى غيرك هذا الفعل, وربما خطؤك لا ينسب إلى الملتزمين جميعًا، وإلى غير ذلك, فبالتأكيد سيقبل بك. وأمس حدثني إنسان أنه رأى موقفاً لم يعجبه من بعض المتدينين، فانفرد بهذا الإنسان الذي أخطأ في نظره، وحدثه، فقال: وجدت تجاوباً كبيراً ورائعاً. وبالمقابل هناك مسئوليةً كبرى -أيضاً- على كل الأطراف، فيجب أن يكون هناك اتصالٌ بين كل الطبقات والنوعيات, فأصلاً كلمة هؤلاء ملتزمون وهؤلاء غير ملتزمين؛ يجب أن ننظر فيها, يجب أن نكون جميعاً ملتزمين, ويجب أن نكون جميعاً معنيين بأمر الإسلام, ومعنيين بتطبيق أخلاقيات الإسلام وأحكام الإسلام، على أمورنا الخاصة والعامة, حتى ذلك الإنسان المقصر, أليس مطالبًا شرعًا بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؟ بلى, والله تعالى عندما قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] هل هذه الآية خاصة بالملتزمين مثلاً؟ كلا! والرسول عليه السلام لما قال: {من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه} هل كان يخاطب فقط الملتزمين أو المتدينين؟ لا بل يخاطب كل من يؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه نبي مرسل من عند الله تعالى. فكل هؤلاء مخاطبون بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، بأيديهم إن استطاعوا, ثم بألسنتهم, فإن لم يستطيعوا -فعلى أقل تقديرٍ- ينبغي أن ينكروا المنكر بقلوبهم, وأن يعلم الله تعالى من قلوبهم أنهم له كارهون, حتى ذلك الذي يقع في المنكر مطالبٌ بأن يساهم في تغييره، ويسعى في إزالته بقدر ما يستطيع. ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد إذاً: يجب أن يكون هناك مبادرة من الجميع, بالتعاون على البر والتقوى, والاتصال بين سائر أفراد المجتمع, وما أدري ما هو السبب الذي يوجد نوعًا من الفجوة بين من يسمون بالملتزمين, وبين بقية أفراد المجتمع, لماذا لا يكون هناك اتصال؟ ولماذا لا يكون هناك مجالس؟ ولماذا لا يكون هناك حوار؟ وأنا أعلم أن الكثيرين ممن يقام لهم وزن ويحسب لهم حساب, لديهم استعداد أن يسمعوا أي اقتراح, أو ملاحظة, أو نقد, أو حوار, أو سؤال, أو نقاش؛ حتى يتم الوصول إلى الحق, وحتى نستطيع أن نضمن ولاء الجميع للإسلام, وللدعوة, وللخير وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الإنسان إذا لم يجد سبيلاً للتعبير عن وجهة نظره وعن ملاحظاته؛ ربما يتحول إلى إنسانٍ حاقد, أو كاره, أو مبغض, لمن يسميهم بالملتزمين, أو من يسميهم بالآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر, أو من يسميهم بالمتدينين, أو ما شئت من الأسماء. لكن إذا كانت القنوات مفتوحة، والمجالات قائمة، وإمكانية الصلة والحديث والحوار ممكناً، فلماذا لا يجربها الجميع؟ ولماذا لا نسعى كلنا جميعاً إلى العمل على ربط كل طبقات المجتمع بعضها ببعض, وتعارف أفراد المجتمع, والاتصال فيما بينهم. وجرب يا أخي! هذا الكلام الذي أقوله فهو كلامٌ نظري؛ لكن جرب أنت، اذهب إلى من شئت من الناس، من المتدينين, أو ممن لك عليهم ملاحظة, أو ممن تعتقد أنهم ربما يسمعون منك, وحدثهم عما في نفسك، فستجد إن شاء الله تعالى أن هناك تجاوباً، ورغبة في سماع وجهة النظر الأخرى, ورغبةٌ في سماع الرأي الآخر, ورغبةً في تبادل الحديث فيما يخدم المصلحة العليا وهي مصلحة الإسلام. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 13 كيف نحقق هذا الإيمان عمليا ً إنني أعلم أن هذا المجتمع متدين، لا أقول كله (100%) فهذا أمرٌ لم يحدث حتى في المجتمع الذي كان على رأسه محمد عليه الصلاة والسلام, ففي المدينة كان المنافقون, لكن أستطيع أن أقول: إن هذا المجتمع في غالب أفراده مجتمعٌ متدين, ومجتمعٌ مؤمن, ومجتمعٌ يؤمن بالإسلام, ويحب الخير للإسلام والمسلمين, ولذلك أطالب نفسي، وأطالبكم جميعًا وبدون استثناء, أن نحقق هذا الإيمان عملياً, ستقولون: كيف نحققه عملياً؟ أقول: الجزء: 125 ¦ الصفحة: 14 نحن عصاة ولكن نملك قلوباً تحترق لأمر الإسلام أيها الأحبة: إنه يسرني أعظم السرور؛ حينما اقرأ بعض الرسائل من إخوةٍ يقولون عن أنفسهم: إننا عصاةٌ ومفرطون ومقصرون, لكننا نحمل قلوباً تحترق لأمر الإسلام والحقيقة أن هذه بداية العافية وهذه بداية الصحة، وبداية التوفيق, وأنت مع من أحببت، وهذا دليلٌ على أن هذا القلب فيه حياة, وفيه إيمان، وفيه إقبال, وفيه تفاعل مع قضايا المسلمين, ولعل هذا يكون سبباًَ في توبتك من المعصية, فإن لم يكن، فلعل هذا يكون سببًا في تكفير الذنب الذي وقعت فيه. فلا يجوز أبدًا أن نعتبر أن مصاب المسلمين أو قضاياهم مسئولية فئةٍ معينة, أو طرفٍ معين, أو أنها مسئوليةٌ الحكومات مثلاً، لا بل هي مسئوليةٌ كل فردٍ مسلم, يشارك ولو بأقل القليل, ولو لم يملك إلا المشاركة بالدعاء, والله لقد رأينا بأعيننا أثر الدعاء في دفع كوارث ومصائب عن المسلمين, وفي تحقيق ألوانٍ من الخير لهم, وما يدريك أن يكون الدعاء أفتك وأمضى من الأسلحة المادية, والدعاء هو العبادة، كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم. أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاء سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاء ما يدريك أن تكون نجاتك يوم القيامة بسبب ركعتين، قمتَ في آخر الليل قبل أذان الفجر فصليت ركعتين ودمعتَ دمعتين, وقلت: اللهم يا رب إني أسألك لعبيدك المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها. ما يدريك أن يكون هذا سر نجاتك؟ فيجب أن يكون عندنا تفاعلٌ مع قضايا الإسلام والمسلمين وأن لا يرضى أحدٌ منا قط بأن يقول: أنا غير ملتزم وأنا لست متديناً, وبالتالي يسلخ جسده من جسد هذه الأمة، لا يتفاعل مع قضاياها, ولا يشارك في همومها، ولا يقوم بواجباتها، لا يدعوا إلى الله، ولا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر, ولا يسعى في إصلاح, ولا يتصل بأهل الخير, ولا يسعى إلى خير, هذا لا يكون ولا يجوز أبدًا. أسأل الله تعالى أن يجمعنا جميعًا على طاعته وتقواه، إنه على كل شيءٍ قدير, وأعتذر إليكم إن كان الوقت قد طال بعض الشيء, فالحديث كما يقول الأول ذو شجونٍ، وأسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقًا معصومًا, وأسأله بأسمائه وصفاته أن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيًا ولا محرومًا, وأسأله تعالى أن يكتب لي ولكم الجنة والرضوان إنه على كل شيءٍ قدير, اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 15 التفاعل مع قضايا المسلمين الأمر الثالث: الذي تحقق به معنى انتمائك للإسلام وللإيمان، ومعنى انتمائك لهذه الأمة العظيمة: هو التفاعل مع كل قضايا المسلمين. وأنت ترى وتسمع اليوم، ولعل آخر ما سمعنا تلك القصيدة الجميلة التي قرأها الأخ إبراهيم، وهي فعلاً قصيدة معبرة، وتعتبر نموذجًا من المشاركات، فكل إنسانٍ من موقعه يشارك, والتي تتحدث عن آلام الأمة الإسلامية اليوم، والتي أصبحت جسدًا ممزق الأوصالِ مليئاً بالجراح, كاد الأطباء أن يعجزوا عنه؛ ولكن لا يأس: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] كلما اشتدت الخطوب كلما زدنا إيمانًا بقرب الفرج من الله عز وجل. اشتدي أزمة تنفرج قد آذن ليلك بالبلج والفجر يطلع حينما يشتد الظلام، فأشد ظلام الليل هو قبيل الفجر, ثم يأذن الله تعالى بصبحٍ جديد للأمة. إذاً هذه الآم والنكبات والمصائب التي يعيشها المسلمون في يوغسلافيا, والصومال, وأفغانستان, وبلاد المغرب, وبلاد روسيا, والهند، في كل بلاد الأرض إلا ما ندر، وهذه المصائب هي إيذانٌ بقرب الفرج, فهي كآلام المخاض -كما تعرفون- الولادة لها آلام, والأمة اليوم بدأت تعي وبدأت تدرك, وبدأت تتفاعل, وبدأ المسلم يعيش هموم إخوانه في كل مكان، ولهذا أصبحنا ندري بما يقع، أما في السابق فكانت الأمور كلها تقع ولا يدري بها أحد. فمثلاً الذي يجري في البوسنة والهرسك ليس أمرًا جديدًا, خلال الحرب العالمية جرى أكثر منه, ولكن ما علم به أحد، لأن المسلمين كانوا أوصالاً ممزقة، لا يدري أحدٌ منهم بمصيبةٍ غيره, أما اليوم فأصبح المسلمون يسعون إلى أن يكونوا جسداً واحداً, وإلى أن يحققوا معنى الأخوة الإيمانية, وإلى أن يتمثلوا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} وبالتالي أصبح هذا الجسد يشعر بالألم ويحس بالوخز، بخلاف الماضي، فقد كان جسداً أشبه بالمشلول، الذي لا يحس بوقع الألم عليه. ولذلك علينا أن نتعاطف ونتفاعل مع أحوال إخواننا المسلمين في كل مكان, وأن نشارك بقدر ما نستطيع, ولا يحقر أحد منا نفسه, هذا يشارك في التوعية ونشر قضية المسلمين, وهذا يشاركُ بنشر التقارير عن أحوال المسلمين, وهذا يشاركُ بنشر القضية على مستوى معين, وهذا يشارك بجمع التبرعات, وهذا يشارك بخطبة, وهذا يشارك بكلمة, وهذا يشارك بورقة, وهذا وهذا , حتى نستطيع أن نكون مجتمعاً -فعلاً- يتفاعل مع قضايا المسلمين. وقد رأيت كثيرًا من المسلمين من البلاد الأخرى، فوجدت أنهم يحملون أرفع المشاعر والأحاسيس تجاه المسلمين في هذه البلاد, لشعورهم بأنهم يتعاطفون معهم, ويتفاعلون مع قضاياهم، وأنهم يصغون آذانهم لكل صوتٍ يستصرخ ويستغيث من أصوات المسلمين، المصاب كبير، والخطب جلل؛ ولكن أعيذك بالله يا أخي الكريم! مهما كنت تعتقد إنك مقصر وعاص ومسرفٌ وضال … إلى آخره, أعيذك بالله أن تسلخ نفسك من جسد هذه الأمة, أو أن لا تتفاعل مع قضاياها, بل يجب أن يكون عندك قلب يتحرق لها ألماً. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 16 إزالة كل ألوان الجفوة والتباعد أولاً: بإزالة كل ألوان الجفوة أو التباعد, أو الجسور المقطوعة بين طبقات المجتمع, بين من نسميهم بالملتزمين وغيرهم, بين العلماء والعامة, بين كل الطبقات, وأن يكون هناك حوار، هذا الحوار ليس هدفه كسب المواقف, بل هدفه الوصول إلى الحق, وهدفه ردم الهوة, وهدم وإزالة كل ألوان سوء الفهم الموجودة بين المتدينين وغيرهم. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 17 المشاركة في مسئولية الدعوة وأيضاً نحقق هذا الشعور، وهذا الإيمان الذي أكرمنا الله تعالى به؛ نحققه بالمشاركة, وأن لا نعتبر أن مسئولية الإسلام, أو مسئولية الدعوة, أو مسئولية نشر الكتاب, أو مسئولية نشر الشريط, أو مسئولية تطبيق الخُلق الإسلامي, مسؤولية فئة معينة, أو جهة معينة, أو إدارة معينة. كل فردٍ منا يجب أن يشعر بأنه مسئول, -وأحيانًا- الإنسان الذي يرى أنه منحرف أو مقصر أو مفرط؛ يستطيع من ذلك ما لا يستطيعه الملتزم -كما يسمونه- أنت بشكلك، وصفتك وطبيعتك، وتكوينك وعلاقاتك وصداقاتك، ربما تطلع على أسرار في المجتمع لم يطلع عليها غيرك, وربما تعرف أشياء ما عرفها غيرك, وربما تدرك أموراً قد لا يدركها كثيرٌ من البعيدين عن هذه المجالات, وربما تعرف الأسلوب المناسب لمخاطبة هذه الفئة أو تلك, فلماذا لا تقيم العلاقة مع الأخيار, ومع طلبة العلم, ومع العلماء, ومع الدعاة, ومع خطباء المساجد, ومع المعنيين بأمر الإسلام, تقيم معهم العلاقة, وتوافيهم بكل جديد, وتبين لهم ما تراه, وتخبرهم بما تعتقد أن فيه مصلحةً، وأن في إطلاعهم عليه مصلحةً, وبذلك تكون مشاركًا في عملية تحقيق معنى إسلامية هذا المجتمع. أيضاً أنت بحكم موقعك، مسئولاً أو طبيباً أو إدارياً أو غير ذلك؛ تستطيع مالا يستطيعه البعيد, وتطلع على مالا يطلعون عليه, فلماذا لا تحقق معنى انتمائك لهذا الدين من خلال موقعك؟: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] وإياك إياك أن تعتقد أن إخلاصك لله تعالى في عملك، وصدقك في تطبيق معاني التدين؛ أن هذا يضرك, لا والله الذي لا إله غيره, إذا رضي الله عنك, فلا يضرك أن يسخط الناس كلهم, وأنا أقول لكم أيها الأحبة واقعاً عملياً، أعرف مجموعات من الشباب في مواقع كثيرةٍ وكثيرةٍ جداً، عندهم وضوح وصدق وجرءة وعزيمة, هؤلاء، والله حصلوا على رتبٍ وظيفية، لم يحصل عليها جميع زملائهم الذين تخرجوا معهم, ما ضرهم أبدًا، بل حصلوا على أشياء ما حصل عليها غيرهم ممن سبقهم في هذه الميادين. إذاً: من رضي الله تعالى عنه أرضى عنه الناس, ومن سخط الله تعالى عليه أسخط عليه الناس, وليست العبرة بيومٍ أو ساعةٍ أو شهرٍ أو سنةٍ، العبرة بحياتك كلها، وجرب تجد. بل لا أقول لك: جرب، لأن المعاملة مع الله لا تحتاج إلى تجربة, أو تشك في وعد الله، حاشاك من ذلك, والله تعالى لا يخلف الميعاد, فاصدق مع الله تعالى، واحرص على أن تستخدم كل وظيفة بوأك الله إياها, حتى ولو كانت صغيرة, افترض أنك موظفٌ صغير في الأشعة أو في الصيدلية أم في الاستقبال، أم في أي جهازٍ معين، سواءً في هذا الجهاز الشئون الصحية أو غيرها, حاول أن تطبق كل ما تعلمه من الدين في مجال عملك, وأن تتعامل بالأخلاق الفاضلة, وأن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر بقدر ما تستطيع, وأن تسدي النصيحة, وأن تحرص على أن تمنع كل أبواب الشر, وأن تفتح كل أبواب الخير بقدر ما تملك, وستجد أن الله تعالى لك بكل خيرٍ أسرع, يعطيك السعادة في قلبك, والتوفيق في حياتك, والسعادة في علاقاتك مع زوجتك, والرفعة بين زملائك, ويدفع عنك كل سوءٍ وشر, وستجد أنك موفقٌ في دنياك قبل آخرتك, وتلك عاجلُ بشرى المؤمن. فعليك إذا أن تستخدم كل إمكانياتك، وكل صلاحياتك، وكل مواهبك، وكل الفرص التي تتاح لك؛ في تحقيق معنى كونك مسلماً: ومعنى كونك مؤمناً, ومعنى كونك متديناً, حتى لو لم تكن متديناً فيما يراه الناس؛ ولكن أنت مسلمٌ رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً, فواجبٌ عليك أن تحقق ولو قدرًا من ذلك. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 125 ¦ الصفحة: 19 التجاوزات في مؤسسات الدولة ومخالفة النظام فيما لا يضر السؤال هذا موظفٌ في قسم المتابعة يقول: أنا مطالبٌ بتطبيق الأنظمة حرفياً، وذلك أثناء توقيع الجزاءات التأديبية, هل التجاوزات عن بعض الأخطاء التي لا تؤثر على المصلحة العامة، وعدم وقوع العقوبة، هل هذا يعد محرمًا من الناحية الشرعية؟ وهل نحن مطالبون بتطبيق النص النظامي حرفيًا؟ أم يكفي إزالة الأخطاء وبأي طريقة؟ الجواب النظام كما هو معروف، هو من وضع البشر، بخلاف الشريعة فهي من عند الله تعالى, والله تعالى يقول عن القرآن: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ولذلك الأنظمة الهدف منها الضبط الإداري, ضبط العمل, ومن الممكن أن يكون النظام صالحاً في هذا العام, ولكنه غير صالحٍ في العام القادم, أو من الممكن أن نكتشف أن هذا النظام أصبح غير مناسب, وبالتالي لابد من تغييره، إلى غير ذلك مما هو معروف. فعلى الإنسان أن يدرك أن النظام له هدفٌ يجب السعي إلى تحقيقه, وهو الضبط الإداري, وضبط الحضور والانصراف, وضبط القيام بالعمل, وضبط احترام المراجعين, وضبط المحافظة على الممتلكات, وضبط حسن المعاملة مع الرؤساء أو المرءوسين، إلى غير ذلك من الأهداف التي يسعى النظام إلى تحقيقها. فأنت كقائمٍ على موضوع تنفيذ الجزاءات، فيلزمك أن تراعي كل هذه الاعتبارات, وكل حالةٍ تقدر بقدرها، ويجتهد الإنسان المسئول في تطبيق ما يتعلق بها, ومن الصعب أن أقول لك: نعم أو لا. لأن هذه قضايا عينية, قضايا واقعية تفصيلية, الكلام الذي أقوله فيها، مهما كان سيظل كلامًا عامًا، قد يستخدمه إنسانٌ بصورةٍ صحيحة وقد يستخدمه آخر بصورةٍ عكسية, وبالتالي أعتقد أن مثل هذا السائل ينبغي أن يتحرى، ولا بأس أن يسأل بنفسه بشكل مباشر، فيسأل بعض أهل العلم عن بعض الأمور، وبعض الأشياء، وبعض الجزئيات، وبعض التفصيلات؛ بحيث يملك بعض الوقت قاعدةً منضبطةً مضطردةً يطبقها. فمثلاً: نحن نعلم جميعًا أن الظلم محرم في جميع شرائع الله عز وجل, بل وفي جميع قوانين البشر، والله تعالى يقول: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة} ويهدد الظالم بالهلاك في الدنيا، وفي الآخرة ويهدد بأنه يسلط عليه من هو أظلم منه, فأحيانًا قد أكتشف يقيناً بأن هذه الحالة ظلمٌ على هذا الإنسان لسببٍ أو لآخر، هنا ينبغي أن أسعى في دفع الظلم, وأحيانًا قد أجد أن هذا الشيء قد يكون إهمالاً أو تساهلاً أو تفريطًا, وأن التفريط في مثل هذا الأمر قد يغري هذا الإنسان بمزيدٍ من الإهمال, أو يغري غيره أيضاً بأن يسعى وأن يفعل مثل فعله, فكل حالة لها حكمٌ، وتقدر بقدرها، وأرى أن مثل هذا الأخ لو اتصل مباشرةً ببعض طلبة العلم، وسأل عن بعض التفاصيل؛ ربما كان أجدى وأنفع. (توضيح السؤال من السائل) يقول: يا شيخ أنا لا أقصد الظلم! وإنما الإصلاح. الأمر هنا كما ذكرت، أي أن النظام، وضع لضبط العمل، فإذا كان هناك في النظام؛ عقوبة مثلاً على من أخل بالعمل, عقوبةً معينة, وأخل إنسانٌ بحيث أصبح مستحقًا لهذه العقوبة, الأصل هو تطبيق هذه العقوبة عليه، هذا هو الأصل، وليس يعتبر في هذه الحالة ظلمٌ، بل قد يكون هذا الأمر لا بد منه من أجل ردعِ هذا الإنسان كما أسلفت, أو منع غيره أن يحذو حذوه فهذا أمرٌ واضح. لكن يوجد أحيانًا ملابسات، بحسب ما اطلعت فيه على أجهزةٍ كثيرة, يوجد ملابسات وأحوال تستدعي أن القائم على مثل هذه الأمور التأديبية؛ أن يسأل ويستبين ويطلع على جلية الأمر وعلى حقيقته، فعلى الإنسان أن يحتاط لنفسه في هذه الحالة, لأنه حينئذٍ إما أن يظلم هذا الموظف؛ بأن يكون أوقع عليه عقابًا لا يستحقه، فيكون ظالمًا بهذا الاعتبار, وإما أن يظلم العمل الذي يقوم عليه؛ بتفويت العقوبة للمخطئ الذي يستحق العقاب، وتجريء الآخرين على أن يعملوا مثل عمله, وكلا الأمرين خطأ, فهو مثل الذي يمشي على طريقٍ دحض مزلةٍ وعرٍ، يتطلب أن يكون يقظاً، وأن يحرص على العدل والإنصاف بقدر ما يستطيع. وفي الختام لا يسعنا إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل لصاحب الفضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة , على تفضله بحضور هذا الاجتماع مع أبنائه وإخوانه، فشكر الله له, وجعل هذا العمل خالصًا لوجهه سبحانه وتعالى, ونفعنا بما سمعنا، وشكر الله للمسئولين على حضورهم، ولكم أيها الإخوة أجمل شكر, وإلى لقاءاتِ الخير دائمًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 20 استقدام غير المسلمين في مجال العمالة السؤال فضيلة الشيخ: كيف الجمع بين التضييق على غير المسلمين, والحصول على أحسن ما عندهم في مجال العمل؟. الجواب على كل حال، غير المسلم إذا جاء إلى بلدٍ من بلاد المسلمين ليقوم بعمل, فيجب تمكينه من القيام بهذا العمل الذي جيء به من أجله، وإعطائه الوسائل والأدوات المادية والمعنوية، التي تمكنه من القيام بهذا العمل, هذا مفروغٌ منه, وينبغي أيضًا أن يبذل معه الجهد والوسع في دعوته إلى الله تعالى، سواء بالفعل أم بالقول, والله تعالى يقول: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة:8-9] فهذه إجابةٌ عامة، وإن كنا نعلم يقيناً أن استقدام هذه الأعداد من غير المسلمين إلى بلاد الإسلام، هو أيضاً من الأمور التي تكون الأمة كلها آثمة إذا كان هناك تقصيرٌ أو تفريط ففي كثيرٍ من الأحيان، من الممكن أن يوجد مسلم يقوم بهذا العمل, مثل ما يقوم به غيره، أو أفضل، أو حتى أقل بقليل، بل إننا -مع الأسف أحيانًا- قد نأتي بغير المسلم بحجة أنه يملك الخبرة, ويملك التجربة, ويملك التدريب, والواقع أن غير المسلم إنما يملك الخبرة والتجربة والتدريب في بلادنا, حينما استقدمناه أول مرةٍ ومكناه, أما المسلم فمتى سيتدرب؟! ومتى سيملك الخبرة؟! ومتى سيتعلم، إذا كنا نستبعده أصلاً لأنه لا خبرة لديه؟. إننا نجد في بلاد الإسلام: أنه حينما يكون القائم علي مؤسسةٍ أو شركة أو جهة نصرانياً فإنه يأتي بقومٍ من بني جنسه، وهذا أمرٌ موثق, وعندي فيه حقائق وأرقام لا تقبل الجدل, فلماذا نجد أن بعض المسلمين يكونون قائمين على مثل هذه الأشياء، أو قادرين على الاستقدام, أو على الإتيان ببعض الخبراء, أو بعمالةٍ معينة, أو بفنيين، ثم لا يهتم الواحد منهم أن يأتي بمسلمٍ أو غير مسلم, بل همه محصورٌ فقط في النواحي الفنية البحتة, نعم النواحي الفنية البحتة لها اعتبار، يجب أن توضع في الاعتبار, لكن ما هو المانع أن آتي بمسلمين أو بمسلمات، وأعطيهم دورة أو دورتين -وهذا يعطى الآن للجميع- تزيد من تأهيلهم وتعطيهم إمكانية أن يمارسوا العمل جيدًا، بحيث يكون في ذلك رفعٌ لمستوى المسلمين حتى في بلادهم, ومحافظةٌ على الأخلاقيات, وتحقيق لمعنى من معاني الإخاء الديني. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 21 أثر الاختلاط في التأخر العلمي السؤال فضيلة الشيخ -جزاك الله خيراً- نرجو الإفادة عن الحكم الشرعي في حضور ندوات علمية مختلطة؟ الجواب أولاً يجب السعي إلى فصل الرجال عن النساء في كل المجالات, العلمية والطبية والندوات والتطبيب وغيرها, هذا واجبٌ علينا جميعاً، وعلينا أن نبذل فيه ما نستطيع، سواء كان الواحد منا يستطيع أن يقدم النصيحة, أو كان يستطيع أن يتخذ القرار, أو كان يستطيع أي شيء، واجب علينا أن نسعى إلى الفصل بقدر المستطاع وبقدر الإمكان, وهذا ممكنٌ ولا شك, وإذا تحقق هذا لم يكن هناك -أصلاً- مجالٌ للسؤال عن حضور ندوات مختلطة بين الرجال والنساء, لكن لنفرض أن هذا الأمر لم يتحقق, فأقول: يفتقر الأمر حينئذٍ إلى مسائل: أولها: أهمية هذه الندوة، فقد تكون هذه الندوة يغني عنها غيرها، أو فيها فائدةً محدودة، فلا داعي حينئذٍ أن نحضرها، بل ينبغي أن يكون تعبيرنا عن إنكار هذا المنكر -أحيانًا- بعدم الحضور؛ متى كان الحضور وعدمه متساويين أو متقاربين، والأمر لا يفرق كثيرًا. وبالمقابل قد تكون هذه الندوة أحيانًا مهمة، أو يُتَوقَّف عليها على خبرةٍ معينة، أو على ترقيةٍ معينة أو ما أشبه ذلك. الأمر الثاني: الذي يجب أن يوضع في الاعتبار: نوعيةُ الاختلاط -فأحيانًا- يوجد ندوات فيها شيء مما يسمى بالاختلاط, لكن يوجد الرجال -مثلاً- في الأمام، وتوجد النساء في الخلف, بحيث يكون المكان منعزلاً, ومخرجٌ مستقل للرجال, وهناك مخرجٌ مستقلٌ للنساء, فهذه الصورة -على ما فيها من الخطر، وعلى ما فيها من الضرر، وعلى ما فيها من أنها تكون ذريعةً إلى غيرها, وسبيلاً إلى غيرها- لكنها على ما فيها أهونَ من الصورة الثالثة، التي اطلعت -مع الأسف أنها تحصل أحيانًا, وهي صورةُ الاختلاط الكلي والاندماج الكامل، بحيث تجد الرجل إلى جواره امرأة, ويتبادلون الحديث وغير ذلك, مع أن الواقع أن هذا الجو ليس جواً تعليمياً, ولا جواً تربوياً مهما كان الأمر. وقد أدرك الغرب أن الاختلاط من أهم الأسباب في التأخر العلمي, ولذلك عمد الآن إلى الفصل بين الجنسين، ويوجد في أمريكا أكثر من مائتي جامعة غير مختلطة, لأنه أدرك أن العلم الصحيح لا يمكن الحصول عليه في جو مختلط, يوجد فيه الرجال والنساء بعضهم إلى جوار بعض, بل هذا الجو مثارٌ للفتنة، وسببٌ للإعراض، وسببٌ للعزوف، وسببٌ في انشغال بعضهم ببعض, وليس جواً تعليمياً ناضجاً. ونحن نجد اليوم ونعلم أن الإنسان المتدين المستقيم، ذا الخلق الفاضل المتزوج, إذا وجد في مثل هذه الأجواء يشعر بالضيق، ويشعر بالقلق ويشعر بالتبرم، وبالتالي نفسيته غير مؤهلة ولا مهيأة لتلقي العلم، فكيف بغيره من الناس؟ فالله المستعان. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 22 للضرورة أحكام السؤال فضيلة الشيخ! للضرورة أحكام, هكذا تنبت الإجابة، كلما تساءل أحدٌ عن قضية استشفاء المرأة لدى الرجل، أو العكس, فهل يرى فضيلتكم أن هذه الأحكام يمكن أن تمتد إلى هذا الجانب مطلقًا؟ الجواب الضرورة من المعروف أنَّ لها أحكاماً في الشريعة؛ لكن ما هي هذه الأحكام أولاً؟ وما هي الضرورة ثانيًا؟ هذا بحثٌ أصولي وفيه كتبٌ ومصنفات، ولا أظن أن هناك داعياً للاستطراد والاسترسال فيه, ولكن ينبغي أن نعلم أن الأمة عليها واجب، قبل أن يكون الواجب على الفرد، فالأمةُ بأجهزتها ومؤسساتها؛ مطالبةٌ بأن توفر للفرد من أفرادها العلاج الصحيح الشرعي، الذي يحقق المطلب الصحي أو الحاجة, وفي نفس الوقت يحافظ على دين الإنسان، رجلاً كان أو امرأة وتحافظ على أخلاقه, هذا مطلبُ الأمة كلها وهي آثمة إذا قصرت أو فرطت فيه, بأفرادها ومؤسساتها وأجهزتها العامة والخاصة. وأقول -كما قلت من قبل-: في بلاد الغرب. حيث توجد قوانين تعتبر أن فصل الرجل عن المرأة نوعٌ من التمييز العنصري, فترفض الفصل، ومع ذلك يوجد عندهم فنادق خاصة بالنساء, وجامعات ومدارس خاصة بالنساء, ومستشفيات خاصة بالنساء, بل يفكرون بأكثر من ذلك. فالمسلمون مطالبون من باب أولى، أن يشعروا بأن هذه المطالب الجدية الملحة التي تصيح الأمة بها صباح مساء, لا يمكن أن تصم عنها الآذان, ويجب أن نكون كلنا دعاة لمثل هذا الأمر, وأن نتحدث عنه، ونبلغه ونوصله, ونسعى بقدر المستطاع، وليس شرطًا أن الإنسان في يده المفتاح, ويملك كل شيء ويملك قراراً , لكن يستطيع أن يملك -على أقل تقديرٍ- أن يساهم في مثل هذا الأمر، وفي هذا الاتجاه ولو بالكلمة الصادقة القوية المؤثرة المعبرة عما يعيشه الناس, فهذا واجب الأمة. أما بالنسبة لحال الأفراد، فلو افترض أن إنساناً عنده حالة مرضية؛ إذا استطاع أن يجد امرأة تعالج هذه المرأة فهذا هو الواجب عليه، ولو كانت هذه المرأة غير مسلمة، فالأصل أن يكون العلاج عن طريق امرأةٍ مسلمة, وإذا كان لا يوجد امرأةً مسلمة تعالج هذه المرأة فتتعالج ولو عند امرأةٍ كافرة بشرط أن تكون مأمونة في علاجها، لا يمكن أن تسيء إلى هذه المرأة المسلمة، أو تحقد عليها بما يضرها ويسيء إليها, فإذا لم توجد هذه المرأة التي تعالج المرأة, ينتقل الأمر إلى الطبيب المسلم المأمون, فإن لم يوجد هذا الطبيب, فالحل الأخير هو الطبيب الكافر المأمون أيضًا. والضرورة لها أحكامها, فإذا كان الإنسان يستطيع أن يعالج زوجته عند امرأةٍ مسلمة ويملك ذلك دون مشقة, لم يكن جائزًا له شرعًا أن ينتقل إلى غيرها، أي إلى رجلٍ -مثلاً- ولو كان رجلاً مسلمًا، فينبغي أن ندرك هذا الأمر. وفرقٌ بين الأمور التي يواجهها الإنسان وتواجهها الأسر والمجتمعات, فقد يكون التضييق عليه في مثل هذه الأمور صعباً مع وجود الحاجة، وإن كان على ولي الأمر، زوجاً كان أو أخا أو أباً أو ما أشبه ذلك، أن يحرص على ضبط الأمور، وعلى العناية وعلى الرعاية وعلى المتابعة، حتى يطمئن بنفسه إلى أن الأمر تم كله في جوٍ منضبطٍ، بعيدٍ عن كل ما يخدش أو يشين. الجزء: 125 ¦ الصفحة: 23 كثر ولكن عديدٌ لا اعتداد به السؤال فضيلة الشيخ! جزاكم الله خيراً -كما تعلمون- أن الإسلام ما انتشر في الأرض إلا ببركة الله، ثم بخروج الصحابة والتابعين لنشر الإسلام بالكلمة الطيبة إلى كل مكان, واليوم ترى أن أعداد المسلمين الطيبين في تزايدٍ في داخل البلاد الإسلامية، وليس لهم جهدٌ واضح في الدعوة إلى الله, سواءً بين الكفار داخل بلادهم, ولا حتى في الخارج, وتبذل معظم جهودهم في قضايا خلافية قد تكون مهمةً، ولكنها ليست لها الأولوية, فهل الخلل في الدعوة أم المسلمين اليوم، أرجو التعليق؟ وجزاكم الله خيرًا. الجواب على كل حال, أعتقد أنه من المسلم به أن الإسلام هو دين الله عز وجل، وأنَّ العصمة هي لهذا الدين الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم, فالمسلمون يصيبون بقدر قربهم من الإسلام, ويخطئون بقدر بعدهم عن الإسلام. والإسلام هو الأمر الذي يجب أن ندعو المسلمين جميعاً إلى تطبيقه والعمل به, وندرك -بديهياً- أن كل خطأٍ فإنما قائماً هو بسبب بعدهم عن المنهج الرباني, فلو حسبنا عدد الصحابة؛ لوجدنا أن الإحصائية تقول: عدد الصحابة الذين حضروا فقط حجة الوداع, كانوا مائة وأربعة عشر ألف سؤالٌ آخر: عدد الصحابة الذين دفنوا في المدينة المنورة مقبرة البقيع محصورةٌ محدودة, وعدد القبور فيها قليل كما هو معروف. إذاً: أين ذهب هؤلاء؟! منهم من دفن في الشام, أو العراق, أو مصر, أو تركيا, أو بلاد ما وراء النهر, أو في مناطق من الجزيرة العربية مختلفة كـ اليمن, إلى غير ذلك. إذاً هذا يدل على أن جيل الصحابة فعلاً كان جيل دعوة, ولذلك ساحوا في الأرض كلها، وكانوا تجديدًا للأمم كافة. أما اليوم فالصورة عكسية، المسلمون أصبحوا ليست القضية قضية مائة وأربعة عشر ألف، الإحصائيات الرسمية، وهي تحسب المسلمين الجغرافيين، تقول: ألف مليون ومائتا مليون عدد المسلمين؛ ومثل عدد الرمل والحصى والتراب، ولكن كما قال الشاعر: كثر ولكن عديد لا اعتداد به جمع ولكن بديد غير متسق حارت عقائدنا زاغت قواعدنا أما الرءوس فرأيٌ غير متفق يكفينا أن يوجد في المسلمين اليوم، ولو نسبة (1%) ممن يحمل في قلبه هم الإسلام, القضية هي قضية أن يوجد قلبٌ يشتعل بهم الإسلام, وإذا وجد هذا القلب انتهى كل شيء، لأن الإنسان يستطيع أن يعطى مما عنده وينفق مما عنده, هذا إنسانٌ استطاع أن يخدم من خلال موقعه وفى بلده، ونفع وسدَّ ثغرةً لا يسدها غيره, وآخر ذهب إلى بلاد أخرى, وبلاد العالم الإسلامي اليوم كلها تتطلع، ومع الأسف الشديد- لو نظرنا للنصارى؛ لوجدنا أنهم يأتون عمالاً -أحيانًا- وموظفين صغار، ويضحون بالكثير, ويأتي شباب النصارى ذكوراً وإناثاً في سن المراهقة، ويتركون الحضارة والرفاهية والتنعم وألوان الملذات في بلادهم, ويأتون إلى بلاد المسلمين إلى الصومال مثلاً، أو إلى غيرها, حيث الجوع والعطش والفقر والمرض والخطر ويتعرضون للموت, وقد حدثني أحد الشباب من هذا البلد: الذين ذهبوا إلى هناك، كيف أنهم رأوا أولاداً وبناتاً من أولاد الأوروبيين في سن الثامنة عشرة جاءوا إلى هناك, وتجد أن أصحاب الدماء الأوروبية وهؤلاء البيض، تجد أن أسفل أقدامهم وسيقانهم قد اسود من أثر الشمس والجهد والمشي والتعب, وتجدهم مع المسلمين ومع الأطفال, والذباب, والمرض, والخطر, والتلوث, والفقر, من أجل ماذا؟ يقول الله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] . الكنيسة ومجلس الكنائس يُجند مئات الألوف من المسلمين، في إندونيسيا, في بلاد المشرق العربي, وفي روسيا، وفي كل مكان, أما المسلمون فلا يزالون يتحدثون عن هذا الأمر مجرد حديث فقط, أو يتكلمون عما فعله الغرب وعما فعله النصارى, أما أن ينتقلوا إلى مرحلة المشاركة, فلا زال الأمر يتطلب جهدًا أكبر, ويتطلب إخلاصًا, ويتطلب مبادرات شخصية من الناس. لا تنتظر أحداً يا أخي، من تنتظر أنت؟ هل تعلم اليوم أن هناك جهة هي المسئولة عن الإسلام؟ ليس هناك جهة في العالم الإسلامي كله مع الأسف, إنما القضية قضية مبادرات من المؤمنين، أفراداً كانوا أو مؤسسات، أو غير ذلك, مبادرات تأخذ الزمام وتتقدم، وتعلن للمسلمين، وتحاول أن تشركهم في مثل هذه الأعمال، ويبذل كلَّ واحد منا ما يستطيع في هذا السبيل، بحيث نستطيع أن نتغلب على هذه المشكلة. أحياناً نحس أن هناك جموداً وخموداً في القلوب, على سبيل المثال تلك، الإحصائية التي أعلنت في الجرائد قبل شهر أو أكثر, أثبت التعداد السكاني أنه يوجد في هذه البلاد، أكثر أو قريب من أربعة ملايين إنسان من غير أبناء هذه البلاد, وأجزم أن هناك نسبةً ربما تصل إلى (50%) من غير المسلمين من هؤلاء الناس. إذاً: مليوني إنسان مقيمون هنا، غالبيتهم ليسو أطفالاً أو صغارًا, إنما هم من الناس الراشدين، الذين يستطيعون أن يفهموا، وأن يسمعوا، ويقرءوا، ويناقشوا, إذاً ما هو مجهودنا مع هؤلاء؟! ماذا بذلنا معهم؟! هم في بلادنا, وتحت تأثيرنا، ويشاهدوننا، ونستطيع أن نخاطبهم ونحادثهم ونحاورهم، ونعطيهم الكتاب والشريط, وإذا لم نستطع -على الأقل- نأخذ بيد الواحد منهم إلى فلان وإلى علاَّن، دعه يفتح معه نقاش عن الإسلام, وعن الدعوة, فمن الممكن أن يسلم هذا الإنسان, وإذا لم يسلم؛ فعلى أقل تقدير أثرنا عنده تساؤلات، أو شككناه في دينه, وقد يسلم بعد خمس أو عشر سنين, وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك؛ فمن المؤكد أن مثل هذه المناقشات، ومثل هذه الجهود إذا كثفت وكثرت واستمرت، أقل تقدير أنها سوف تضعف من حماسهم لدينهم, وبالمقابل تجد من هؤلاء مع أنهم في بلادنا من يستميتون لدينهم. وقبل فترةٍ ليست بالبعيدة، كشف رجلٌ هندوسي هو عبارة عن موظفٍ صغير مستخدم، لكنه تظاهر بالإسلام، وأتى بجوازاتٍ مزورة تدل على أنه مسلم, وهو هندوسي, وكان يجمع التبرعات، ويجمع زملاءه، ويقيم الطقوس، ويتواصى معهم، ويرسل التبرعات إلى بني جنسه في الهند, في هذه المنطقة بالذات، وظل سنتين, من أجل ماذا؟ ما كان للراتب نفسه؛ بل لأنه كان يجمع التبرعات ويرسل بها إلى جمعيات هندوسية, ويكشف. ومن النصارى أمثال هؤلاء؛ بل الغريب أنهم يتعرضون للمخاطر الكبيرة في سبيل دينهم، ويعقدون الاجتماعات, ويتصلون حتى بأبناء هذه البلاد, ويفعلون أشياء كثيرة، وعندنا الوثائق, مع أنهم يتعرضون للخطر, ولكن عندهم حماس وعندهم استبسال. أنت أيٌ خطرٍ عليك إذا دعوت إلى الإسلام؟! وأي خطر عليك إذا وزعت كتاباً باللغة العربية أو بغيرها؟! وأي خطرٍ عليك إذا وزعت شريطاً بلغةٍ أو بأخرى؟! وأيُّ خطرٍ عليك إذا أخذت واحداً منهم إلى أحد المشايخ أو الخطباء أو العلماء؛ ليناقشه ويدعوه إلى الإسلام؟ لكن القضية قضية وجود قلب يشتعل بهم الإسلام, وأنا أسألك يا أخي إذا كنت لا تحمل هذا القلب الآن, هل عندك نيةٌ بأن تحمله في المستقبل؟ أقول لك: كم سوف تعيش من عمر؟ ألا تعلم أن العمر واحد, وأن العمر ما يؤكل إلا مرةً واحدة, والفرصة المتاحة لك على ظهر هذه الأرض فرصةٌ واحدة لا تتكررُ أبداً, إذاً ليس أمامك مجالٌ آخر، ولا فرصة أخرى, إذا كنت لا تحمل القلب الآن فسارع إلى الحصول عليه, وهناك أناسٌ ما عندهم قلبٌ أصلاً, ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] أي: أنه وجد معه قلب صحيح المضغة موجوداً في الصدر, لكن خواء وهواء، لا يحمل هذا القلب أيَّ شعور, ولا عاطفة, ولا إيمان, ولا تفاعل, ولا تفكير, بل يرى الآيات والنذر؛ فلا يعتبر بها: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] . الجزء: 125 ¦ الصفحة: 24 عقبات في مسيرة الدعوة الصحوة الإسلامية نور بزغ في الأمة فبدد الظلام، وأرشد الحيران، وهذه الصحوة قد نفع الله بها الأمة، وقمع بها شبهات الكفر والضلال، ولكن لا تزال هناك في مسيرة الدعوة وفي طريق الشباب عقبات ربما أحدثت انفصالاً، وهذه يجب التغلب عليها، وهذا الدرس يتحدث عن ذلك. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 1 الإسلام والفطرة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم، رسم الطريق المستقيم لمن يأتي بعده من هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وما ترك صلى الله عليه وسلم خيراً يعلمه إلا دل الأمة عليه وأمرها به, وما ترك صلى الله عليه وسلم شراً يعلمه إلا حذر الأمة منه ونهاها عنه, حتى تركها على المحجة البيضاء المشرقة، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. أما بعد: أيها الإخوة وأيتها الأخوات الإسلام فطرة مركوزة في ضمير كل إنسان، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] , يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث عياض بن حمار المجاشعي، في صحيح مسلم: {قال الله تعالى: إني خلقت عبادي كلهم حنفاء -أي: مستقيمين في أصل الفطرة على التوحيد، مائلين عن الشرك- وإنهم أتتهم الشياطين فحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً} . هذه الفطرة قد يعتريها -في كثير من الأحيان- ما يصرفها عن طريقها إلى طرق الغواية، ولكنها سرعان ما تستيقظ إذا سمعت داعي الله عز وجل, وتئن تحت هذا الركام ثم تثور وتتمرد؛ حتى تجد طريقها المستقيم الذي هداها الله تبارك وتعالى إليه. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 2 دور الصحوة في نشر هذا الدين هذه الظاهرة التي يعبر عنها بالصحوة الإسلامية، والتي أقضت مضاجع أعداء الإسلام, فانطلقوا مسعورين يكتبون عنها في صحفهم ووسائل إعلامهم، ويحذرون منها, ويقولون: انتبهوا إلى هذا الإسلام!! هذا العملاق النائم الذي إذا استيقظ فلن تقف في وجهه جيوش أوروبا ولا روسيا ولا غيرها!! هذه الصحوة الإسلامية، لست أقول كما يقول البعض: إنها بدون سبب وبلا مقدمات، كلا! فجهود العلماء والدعاة والموجهين، والجمعيات الإسلامية، والوسائل المختلفة، من الكتب والمجلات والأشرطة وغيرها, لا يمكن أن نتجاهل دورها. لكن أعتقد -والله أعلم- أن حجم الصحوة الإسلامية أضخم مما يتوقع من تلك الوسائل, فالوسائل لها دورها لكن النتائج أعظم مما هو متوقع، ولا يمكن أن تفسر هذه الوسائل هذه الصحوة الإسلامية, لكن يفسرها لطف الله تبارك وتعالى بهذه الأمة, ولذلك يقال: وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالمخاوف كلهن أمانُ إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده فإذا لم يرد الله بالإنسان خيراً؛ فمهما بذل من الوسائل والأسباب فهي تكون عليه لا له, وفي طريق هذا التوجه للإسلام عقبات وعوائق كثيرة وكثيرة!! وهذه العقبات قد تجعل بعض الناس يهم بالاستقامة ولكنه لا يقدم. ومما لا شك فيه أن كثيراً من الواقعين في الانحراف بكافة صوره وأشكاله؛ في قلوبهم صوت يصيح بهم ويناديهم أن توبوا إلى الله عز وجل, وهذا الصوت هو مصدر إزعاج لهم وقلق, وقد ذكر بعض الشباب الذين كانوا يعيشون في أجواء منحرفة؛ أنه كان يحمل الطبل بيده أو العود في ساعة متأخرة من الليل، مع قرنائه الأشرار, وفي ضميره تأنيب وتقريع وشعور بالخطأ والذنب! ما استمر هذا الشعور فترة إلا وانتصر، فخرج هذا الشاب من الظلمات إلى النور, وهداه الله تبارك وتعالى. وكثير من الشباب الذين يسافرون إلى الخارج، ويبحثون عن الرذيلة والمتعة الجنسية المحرمة, يذكر من تاب الله عليه منهم أن من أصحابهم من يجالس الفتاة المنحرفة في وقت, ثم يذهب بعده بلحظات إلى غرفة أخرى يئن ويبكي!! فهذا الشعور قد يظل شعوراً مغلوباً في قلب الإنسان؛ بسبب عوائق وعقبات تحول دونه ودون الواقع, وقد يتحول إلى خطوات عملية؛ فيتجه هذا الإنسان إلى الخير، ويستقيم ويصلح، ويسير في هذا الطريق خطوات, وربما توجد عوائق وعقبات توقف هذه الخطوات أو تضعف من شأنها. وفي هذه اللحظات القصيرة سوف أعرض لخمسة عوائق أو عقبات؛ لا أقول إنها كل العقبات، لكنها في نظري من أهم العقبات. وهي: الجزء: 126 ¦ الصفحة: 3 حرص العدو على محاصرة الإسلام وهذا يفسر لنا -أيها الإخوة- عدداً من الأمور؛ أولاً: ما نلاحظه من حرص أعداء الإسلام -في القديم والحديث- على ألا يصل صوت الإسلام إلى الناس, لأن صوت الحق مهما كان ضعيفاً فإنه يجد في داخل الإنسان تحركاً واستجابة. ولذلك لما جاء الطفيل بن عمرو الدوسي إلى مكة، كما في الصحيح؛ ما زال القرشيون يفتلونه في الذروة والغارب؛ حتى أقنعوه بأن يضع في أذنيه قطناًَ؛ لئلا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم, فلما جاء إلى الكعبة ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ رجع على نفسه باللائمة وقال: لعمرك إنك رجل لبيب عاقل، فما يضيرك أن تسمع منه، فإن كان حقاً قبلته وإن كان باطلاً رددته. فسمع فأسلم. وقد حكى لنا الله عز وجل عن أولئك القوم من الجن، الذين استمعوا إلى قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم، في واد بين مكة والطائف، لما رفضه أهل الطائف وردوا دعوته؛ خرج مهموماً محزوناً عليه الصلاة والسلام, حتى إذا كان ببطن نخلة جلس يصلي ويتلو القرآن, فصرف الله إليه نفراً من الجن من نصيبين، فماذا كانت النتيجة حين سمعوا هذا القرآن؟! قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] . هذا هو السر (أنصتوا) مَنْ أنصت وجد الهداية في قلبه, ولهذا قال الله عز وجل: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] بمجرد أن سمعوا آيات محدودة معدودة من القرآن الكريم؛ رجعوا ليسوا مسلمين فقط، بل منذرين ودعاة إلى قومهم. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 4 الاستجابة لدين الفطرة عند غير المسلمين وهذا ما نجده اليوم في القوى التي تحارب الإسلام، فإنها تجند كافة طاقاتها وإمكانياتها للحيلولة بين الناس وبين سما ع صوت الدعاة إلى الله عز وجل، لأنهم يعرفون أن كثيراً من الناس إذا سمعوا بالقرآن والإسلام آمنوا, وهذا ما نلاحظه في هذه البلاد في هذه الأيام, ونحن نجد العمالة الوافدة من النصارى والبوذيين وغيرهم من كافة الأديان؛ يتقبلون الإسلام بصورة عجيبة, ويعلنون إسلامهم بالعشرات بل وبالمئات, وفي كل مكان. ولكنني أشير إلى ما أعرفه في القصيم، أحياناً عقب محاضرة أو موعظة يأتي عشرون أو أكثر يعلنون إسلامهم, وهذا قد لا يكون غريباً بالنسبة للملحدين أو الوثنيين؛ لأنهم بلا دين. لكنني أعتبره غريباً بعض الشيء بالنسبة للنصارى الذين هم على دين، ولديهم شبهات، وقد يكون عند بعضهم تعصب لدينهم, فهذا يفسر لنا أن الفطرة تستجيب لصوت الحق, وكذلك يفسره لنا هذا الأمر -وهو وجود الفطرة المركوزة المغروزة عند الإنسان- ما نلحظه اليوم من توجه كثير من الناس شيباً وشباناً ذكوراً وإناثاً إلى الإسلام. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 5 العقبة النفسية وذلك أن نفوس كثير من الناس تحول دونهم ودون الاستقامة في بعض الأحيان, والله عز وجل قسم بين الناس أخلاقهم وطبائعهم كما قسم بينهم أرزاقهم. تجد من الناس من هو مجبول على خصال الخير, من الكرم والرجولة والإخلاص والصدق والوضوح، وحب الإحسان للناس، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشج زعيم بني عبد القيس، قال له: {إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل: الحلم والأناة. قال: يا رسول الله! أخصلتان اكتسبتهما أم جبلت عليهما؟ قال: بل جبلت عليهما. قال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} والحديث حسنه الترمذي وغيره. فأنت ترى أن مثل هذا الرجل مفطور على خصال طيبة, فعنده قابلية للخير, واستعداد نفسي له, وبالمقابل تجد آخرين جبلوا على ضد ذلك، من البخل أو الشح أو الجبن، أو حب الفخر أو حب الرياسة, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام -أيضاً- في الحديث الثابت، لما فتح مكة قال: {من دخل دار أبي سفيان فهو آمن} وكان تعليل ذلك بأن أبا سفيان رجل يحب الفخر, كما قال العباس رضي الله عنه وأرضاه. ولا شك أن الإسلام يهذب هذه الطباع، كما هذَّب أبا سفيان فأصبح المؤمن الباذل المجاهد, ولكننا نلحظ في واقع الناس تفاوتاً كبيراً, وعقبات سَبَبُها نفس الإنسان التي بين جنبيه, قد يهم الإنسان -مثلاً- بالإنفاق في سبيل الله, وبذل ما يملك في وجوه الخير، من مساعدة المحتاجين، أو دعم المجاهدين, أو القيام على المشاريع الخيرية أو سواها، فيحول دونه ودون هذا طبيعة البخل والشح الموجودة في نفسه، والتي تجعل يده تكف كلما همّ بالبذل والإنفاق, حتى كأنما هي مثقلة بقيود الحديد. وقد يهم آخر بأن ينطلق لميدان الدعوة إلى الله عز وجل, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, والتعليم والتعلم, فلا يكاد يبدأ بذلك حتى تخرج عنده طبيعة، وهي غلبة حب الراحة والكسل والخمول، فتقعده عن هذا المجال وتؤخره عنه. وقد يوجد عند بعض الناس في طبيعته شيء من العجب والكبر والخيلاء وحب الفخر, فتجد هذا الإنسان لا ينشط إلا في المجالات التي يكون فيها فرصة للظهور والشهرة والبروز, فإذا قام بعمل من أعمال الخير، كقيام الليل -مثلاً- أو قراءة القرآن، أو الصلاة أو ما أشبه ذلك؛ بدأ هذا الشعور يحاول أن يجد مكانه في قلبه، إذا صلى فرآه أحد قالت له نفسه: لقد رآك فلان وسوف يحسن الظن بك، ويدري أنك إنسان صالح محافظ على العبادات, وإذا سمع أحد صوته وقراءته أو إنفاقه في سبيل الله؛ ثارت في نفسه مثل هذه المشاعر وربما تغلبت عليه!! وبعض الناس قد يكون لديهم عقد نفسية، مشاكل نفسية؛ إما بسبب تأثير البيئة التي عاشوا فيها، أو بسبب ظروف معينة مروا بها، أو بسبب انحراف وقع فيه بعضهم لفترة معينة ثم خرج منه, فترك هذا الانحراف أثره في نفسه, فهذه العقد النفسية لا يكاد الإنسان يتخلص منها بسهولة, وتظل تشده إلى الوراء, وقد يصاب من وراء ذلك بأنواع من الوساوس والأفكار والهواجس، إذا هم بالتوجه إلى عمل الخير, فربما يؤثر عدم الإكثار من الطاعات للسلامة من ذلك. هذه العوائق النفسية -أيها الإخوة- هي أول ما يواجه الإنسان, لأن بقية العوائق من خارج النفس, لكن هذا العائق من الداخل، ولذلك إذا استطاع الإنسان أن يتغلب على نفسه؛ فهو أقدر على أن يتغلب على العوائق الأخرى, وكثير من الإخوة -وخاصة الشباب ذكوراً وإناثاً- يشتكون من مثل هذه الأشياء, ولكن يبحثون عن الطريق, وكأني ببعض الإخوة والأخوات يتصورون أن الطريق سهل ومفروش بالورود, وأقول: إن أعظم معالجة ومجاهدة يتطلبها السير في طريق الإسلام هي: الجزء: 126 ¦ الصفحة: 6 الثقة بالنفس وتنمية الخصال الحميدة الخطوة الثانية: أن يعلم الإنسان أنه -وإن كانت فيه خصال ذميمة- إلا أن فيه خصالاً حميدة. أعرف أحد الشباب عنده بعض المشاكل النفسية، من كثرة التردد وكثرة التذبذب, وضعف الهمة, وعدم الإقدام وعدم الثقة بالنفس؛ بحيث إذا أراد أن يعمل عملاً تحمل له بشكل كبير, وفي أثناء العمل يبذل جهداً مضاعفاً، ولذلك فإنه يرغب عن الأعمال الصالحة ويتركها لهذا السبب, لكن حين تنظر في الزاوية الأخرى تجد عند هذا الإنسان -لو باحثته وحادثته- تجد عنده خصالاً فُطِر عليها، هي في الذروة العليا من الجمال والقوة, تجده -مثلاً- يحب الصالحين -وهذه فضيلة كبرى- كان الإمام الشافعي على جلالة قدره يفاخر فيها ويقول: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة فهذا الإنسان تجده يحب الصالحين ويحب العلم, تجده يحب الإحسان إلى الناس, ويحب التصدق. فعلى الإنسان أن ينمي الصفات الطيبة الموجودة في نفسه, لأن الصفة الطيبة إذا نمت وكبرت تغلبت على غيرها. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 7 مجالسة الصالحين الثالث: أن يبحث الإنسان -الشاب أو الفتاة- عن القرناء الصالحين الذين يتعلم منهم الخلق الفاضل, فإن العلم بالتعلم والحلم بالتحلم, والإنسان يقتبس من زملائه الأخلاق، كما يقتبس منهم العلوم والمعارف والفوائد, والخلق يعدي كما هو معروف, فأنت إذا صاحبت قوماً صالحين سرعان ما تدب إليك أخلاقهم وطبائعهم. والعكس بالعكس, فمن صاحب الطيبين اقتبس من فضائلهم وخصالهم؛ ما يزين به نفسه في الدنيا وفي الآخرة. هذا ما يتعلق بالعقبة الأولى وهي العقبة النفسية. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 8 مجاهدة النفس مجاهدة النفس في إزالة هذه الأشياء والعقبات الموجودة فيها؛ فلا بد من المجاهدة المستمرة، بحيث يدافع الإنسان هذه الخواطر من نفسه, لأنه ما من إنسان إلا وفي نفسه شيء من هذه الخواطر تقل أو تكثر, وعلاجها أولاً وثانياً وثالثاً ورابعاً وعاشراً هو بالمجاهدة, ولذلك يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] . هذا الشاب الذي يقول: كلما قمت بعمل صالح قال لي الشيطان: أنت مراء، أنت معجب بعملك، هذا العمل لن ينفعك بل سيضرك سيكون وبالاً عليك!! ويقول: إني أشعر بالعجب في نفسي. كيف يتوقع أن يكون العلاج؟! وماذا يتصور؟! لا شك أننا نؤمن إيماناً يقينياً بأن العلاج موجود لهذه الحالة ولكل حالة, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ما أنزل الله من داء إلا له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله} وهذا يشمل الأدواء النفسية والقلبية والبدنية وغيرها, فنقطع ونجزم بأن العلاج موجود, لكن لا بد أن تتعاطى العلاج. وأول خطوة هي المجاهدة ودفع هذه الأشياء ما استطعت, وينبغي أن يحذر الشاب من ترك الأعمال الصالحة بحجة الخوف من الرياء, لأن هذا مدخل من مداخل الشيطان. ذكر لي بعض الإخوة: أن أحد الشباب المقبلين على الخير، كان يتردد على المسجد ويصلي خلف الإمام قريباً منه باستمرار، ويتلو القرآن ويتنفل, قال: فافتقدته حيناً من الدهر, ثم وجدته يصلي في أواخر الصفوف، ولا يتنفل ولا يقرأ القرآن. فسألته عن السبب في ذلك؟ فقال: إنني أحسست أنني حين أبكر إلى المسجد وأصلي، ويسمع الناس صوتي بقراءة القرآن؛ أحسست أني مراءٍ, والمرائي توعد بالويل, وعمله الذي يعمله وإن كان في الظاهر صالحاً إلا أنه فاسد. هكذا يقول هو. ولذلك فإنني تركت هذه الأعمال؛ لأنجو من تبعتها وأسلم من الرياء. وهذا منهج خطير لأن الشيطان يأتيك عند كل عمل صالح فيوقع في نفسك الرياء, والحل هو أن تعلم أن هذا باب من أبواب المجاهدة فتحه الله عليك, أن تجاهد في أشرف ميدان في القلب, في مدافعة الخواطر والواردات المنافية لإخلاص النية، وقصد الله تبارك وتعالى في عملك, وإذا علم الله منك الصدق في هذا؛ فأبشر أن الله قد وعدك في كتابه بأن يمنحك ما تريد حين قال: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فأول خطوة هي المجاهدة. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 9 العقبة الاجتماعية لا شك أن المجتمع له ضغط كبير على الإنسان، ولذلك في الحديث المتفق عليه {في قصة الرجل الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً، ثم جاء إلى راهب فسأله: هل لي من توبة؟ وذكر له أنه قتل تسعاً وتسعين نفساً, فقال: وأنّى لك التوبة؟! وأمره أن يخرج من صومعته, فقام هذا الرجل مغضباً وأكمل به المائة! ثم ذهب يبحث، فَدُل على عالم، فسأله: هل لي من توبة؟! فقال له: من يحول بينك وبينها. ثم أمره ألا يعود إلى بلده لأنها بلد سوء، وأمره أن يذهب إلى قرية كذا وكذا, فإن بها قوماً يعبدون الله عز وجل, فيعبد الله تعالى معهم حتى يأتيه الموت, فقبضت روحه في الطريق} كما هو معروف في القصة. الشاهد: أن هذا العالم بين له أنه لو عاد إلى مجتمعه الأول ربما عاد إلى خطيئته مرة أخرى, لأن بلده بلد سوء, وأمره أن يغير البيئة، ينتقل إلى بيئة صالحة تعينه على الاستقامة, ولذلك أمر الله تبارك وتعالى بالهجرة. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 10 علاج ضغوط المجتمع والعلاج لمثل ضغط المجتمع يكون بأمور: أولاً: العلاج الذي ذكرته سابقاً، وهو البحث عن البيئة الطيبة, والبحث عن القرناء الطيبين، لأن الإنسان إذا كان عليه ضغط من جهة؛ يحتاج إلى أن ينفس من جهة أخرى, فإذا ارتبط بقوم صالحين يشكو إليهم أحزانه, ويجد أنهم على شاكلته, يصلون كما يصلي, ويصومون كما يصوم, وأخلاقهم أخلاقه, واهتماماتهم هي اهتماماته؛ فيشعر بالأنس معهم، فيزول عنه بعض ما يعاني من الأسى والحزن. فلا بد من البحث عن بيئة طيبة يحقق الإنسان فيها رغباته وطموحاته. ثانياً: لا بد من الصبر. والله عز وجل قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] فأمرنا بالصبر، ولذلك كان الصبر واجباً على الإنسان, لكنه سبحانه ثنى بقوله: {وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] أي: أنك قد تصبر مرة، لكن إذا تكرر عليك الإيذاء والسخرية والاستهزاء وعبارات التوبيخ؛ ربما ينفد صبرك وتجزع, ولذلك قال: (وَصَابِرُوا) والمصابرة تعني: استمرار الصبر, كلما آذاك الآخرون صبرت, إذا صبروا هم على باطلهم فصابر أنت على حقك، ثم قال تعالى: {وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] . وأشد ما تكون حاجة الإنسان إلى الصبر في هذا الوقت, هذا الوقت الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، الذي رواه الترمذي وغيره، عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر} القابض على الجمر يحس بلسع النار في راحته. ولذلك هو في كل لحظة يهم بإلقاء هذه الجمرة حتى يسلم من إحراقها, وكذلك القابض على دينه في أزمان الغربة في أيام الصبر؛ يحس بصعوبة الاستمساك بالدين، فتحدثه نفسه في كل لحظة بالتخلي عن هذا الأمر الذي يتعذب من أجله, ولكنه حين يمسك بهذا الجمر يجزى بأوفر الجزاء, له أجر خمسين كما في الحديث الصحيح: {قالوا: يا رسول الله! أمنا أم منهم؟ قال: بل منكم} أي: من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه لا يكاد يجد المعين والناصر، أما هم كانوا يجدون أعواناً على الخير. فلا بد من الصبر، ويقرأ الإنسان في القرآن الكريم وفي كتب السنة الأحاديث المرغبة في الصبر, ألم تعلم أن من الأنبياء من بعث فلم يؤمن به أحد؟ ولذلك في الحديث الذي في الصحيحين، عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عرض الأمم عليه، وأنه يأتي النبي ومعه الرجل, والنبي ومعه الرجلان, والنبي وليس معه أحد. نبي بعث ما آمن به ولا نفر واحد من أمته, كم عانى هذا النبي؟ كم تعب؟! كم سُخر منه؟! كم استُهزئ به؟! كم بذل؟! ولكنه لم يُقْبَل منه, ومع ذلك صبر, فيأتي يوم القيامة وقد أقام الحجة على أمته. ومع الصبر فلا بد أن يعرف المسلم أن هناك ملجأًَ، إذا أغلقت جميع الأبواب فإنه لا يغلق, وهو باب الله تبارك وتعالى, باب الله لا يغلق في وجه طارق, والله أكرم الأكرمين, وأجود الأجودين, يعطي بلا حساب, فما من عبد يرفع رأسه إلى الله عز وجل سائلاً بصدق وإخلاص وإلحاح إلا أجابه الله تعالى, لا شك في هذا {ولكنكم قوم تستعجلون} كما أخبر صلى الله عليه وسلم. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 11 صور من ضغوط المجتمع على الإنسان وضغط المجتمع يتجلى في أشياء عديدة، ففي مثل مجتمعاتنا؛ لينظر الإنسان حين يجد المجتمع يتعامل فيما بين أفراده بمعاملة معينة في موضوع التحية والسلام، والعبارات التي يتبادلونها عند اللقاء, هل من السهل عليك أن تغير هذه الأشياء؟! ليس من السهل. حين يتعامل أفراد هذا المجتمع فيما بينهم بمعاملة معينة فيما يتعلق بنوع اللباس, هل من السهل عليك أن تغير هذا اللباس؟! ليس من السهل. من الصعب جداً على الإنسان؛ أن يأتي إلى مجتمع كمجتمعنا، فيلبس ثياباً لا يلبسها أهل هذه البلاد, ويعيش بها بينهم وهو فلان بن فلان المعروف, صحيح أنه لو لبسها إنسان أجنبي أو من بلد آخر هي لباسه في بلده؛ قد لا يستغرب. حين يتعامل المجتمع في طريقة الشعور بأسلوب معين يصعب مخالفته, فلو كان هناك مجتمع -مثلاً- اعتاد أفراده على حلق شعورهم؛ تجد الإنسان الذي يريد أن يلتزم بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم، في إعفاء اللحية وإحفاء الشارب؛ يجد مشقة كبيرة في ذلك, وقد يضعف أمام هذه الضغوط. حين تجد الفتاة -مثلاً- أنها تعيش داخل مجتمع السفور فيه على أشده، ولم تجرِ عادة الجدات والقريبات بلبس الغطاء على الوجه، على الأقل عن الأقارب وأبناء العم وأزواج الأخوات وما أشبه ذلك, فإن الفتاة تجد صعوبة في الالتزام بهذه الشعيرة الإسلامية الثابتة في القرآن والسنة, لأنها تخالف المجتمع. وقل مثل ذلك في عادات المجتمع في أمور الزواج والعلاقات الاجتماعية وغيرها. فالمجتمع له ضغط، والشاب والفتاة قد يقعون ضحايا لضغط هذا المجتمع -مثلاً- فالشاب يلاحظ أنه لكي يكون له قيمته في المجتمع يجب أن يسلك مسلكاً معيناً، فيتجه بهذه الوجهة ولو كانت مخالفة؛ لأنه يريد أن يحتفظ بعلاقات معينة, يريد أن يحظى بإعجاب من حوله, يريد أن يسلم من استهزائهم وسخريتهم وطعنهم وقيلهم وقالهم, فهو يحس بأنه لا بد أن يسير مع التيار, وحين يخالف المجتمع يشعر بأنه كما يقال: يسبح ضد التيار! وحين تنظر إلى شرائح من المجتمع تجد هذه الصورة أوضح, انظر -مثلاً- إلى البيت، إذا كان البيت منحرفاً وخرج شاب أو فتاة في داخل هذا البيت كالريحانة في وسط النتن, يريد أن يستقيم ويريد أن يصلح, ماذا يجد من البيت؟ مع الأسف الشديد -أحيانا- يجد هذا الشاب وتجد هذه الفتاة، حتى من الوالدين الذين هم أقرب الناس إليهم؛ يجدون منهم المعارضة، والسخرية المرة، والاستهزاء والتحطيم، ومحاولة ثنيهم عن هذا الطريق بكل وسيلة, وحينئذٍ يكون الخطب عسيراً, لأن الشاب أو الفتاة يشعر بالحسرة، ويصدق عليه حينئذٍ قول الشاعر: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند أشد من وقع السيوف الباترة. فتاة -مثلاً- تلتزم بالحجاب فتسمع من أمها عبارات سخرية وتقريع, فإذا صلت وأطالت صلاتها بعض الشيء قالت لها أمها: يا ابنتي، نحن لسنا في شهر رمضان، وما يصلح أن يكون كل الوقت صلاة! إن فعلت هذا رغب عنك الخُطَّاب ولا يريدك أحد. إن رأتها لا تخرج من البيت عتبت عليها ولامتها، وطلبت منها أن تتفسح، وأن تزيل العقد النفسية -كما يعبر بعضهن وبعضهم- ولا يزالون يضعون العقبات في هذا الطريق؛ حتى يعيا الشاب أو الفتاة السائر في طريق الهداية، وربما كان هذا سبباً في إصابته بكثير من النكسات والمشاكل النفسية. بعض الشباب يواجهون مشقة إذا عاشوا مثل هذا الجو، خاصة الفتاة؛ لأن الشاب قد يجد ما ينفس به عن نفسه خارج البيت, لكن الفتاة تشعر بالضغط والكبت, فربما يولد هذا عندها أمراضاً كثيرة جداً، فبعض الفتيات إذا وصلت إلى هذا المستوى؛ أصبحت لا تجد طعم الأنس بالحياة, لا تشعر إلا بالحزن والكآبة وضيق الصدر, وتجد معظم وقتها يمضي في بكاء مر, حتى أن بعضهن تجدها وهي تصلي وتبكي منذ أن تُكَبّر إلى أن تسلّم؛ بسبب ضغوط البيئة، وكثرة السخرية والاستهزاء, خاصة إذا كانت ضعيفة النفس ولم تجد من يعينها على تحمل هذا الضغط. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 12 الهجرة من البيئة الفاسدة المنحرفة الهجرة بمفهومها الشامل، فالسلف رضي الله عنهم كانوا يفهمون الهجرة بأنها تعني: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام, والانتقال من بلد المعصية إلى بلد الطاعة, والانتقال من بلد البدعة إلى بلد السنة, والانتقال من بلد الجهل إلى بلد العلم, كل هذا من الهجرة. وكان الإمام مالك -رحمه الله- يقول: لا أقيم ببلد يسب فيه أبو بكر وعمر فالهجرة إنما شرعت لإخراج الإنسان من البيئة الفاسدة المنحرفة، وإخراجه من ضغط المجتمع، ووضعه في بيئة صالحة تعينه على الاستقامة. وقد يلحظ كل إنسان أنه حين يعيش في مجتمعات كافرة -مثلاً- لو اضطرته ظروفه كظروف الدراسة، أو ظروف العلاج، أو ظروف المعيشة؛ أن يعيش مثلاً في أوروبا أو أمريكا أو غيرها, في وسط مجتمع كافر، يلاحظ أنه وإن كانوا يقولون: هذه مجتمعات الحرية, وليس هناك أحد يحمل سيفاً على رأسه ليضطره أن يمارس الكفر, لكن الواقع أن ضغط المجتمع يُسيِّر هذا الإنسان -في كثير من الأحيان- على خلاف ما يحب هو, وعلى خلاف ما يرغب. وما يعلم أن الدين يأمره به, سواء في ذلك ضغط القانون الذي يُسيِّر هذا المجتمع، أو ضغط الناس المحيطين به، وما لهم من عادات وتقاليد موروثة اعتادوا على فعلها. وحين يرى الإنسان من حوله ملايين من البشر، كلهم يمارسون أموراً اتفقوا عليها, فإنه يشعر داخلياً بضرورة موافقة هؤلاء الناس على ما هم عليه, إلا أن يستعصم بالإسلام. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 13 عقبة قرناء السوء وقرناء السوء هم جزء من المجتمع، ولكنني أشرت إليهم إشارة خاصة؛ لعظم تأثيرهم على القرين, لأن الشاب وكذلك الفتاة في فترة المراهقة بالذات قد يشعر بنوع من الانفصال عن البيت. ولذلك تجد الشاب يحرص -في بعض الأحيان- على ألاَّ يأتي أصدقاؤه إلى بيته؛ لئلا يروا بعض الأشياء التي هو غير مقتنع بها, قد يحرص على ألا يروا والده مثلاً؛ لأنه غير مقتنع ببعض صفات والده، يحرص على ألا يدخلوا المجلس؛ لأنه مقتنع أن صفة البيت وشكله لا يناسب أن يراه أصدقاؤه. عنده نوع من الانفصال عن البيت، وبالمقابل عنده نوع من الارتماء في أحضان القرناء والأصدقاء، وهو ما يسميه علماء التربية بالانتماء، الشعور بالانتماء إلى هذه الفئة. ولذلك يتلقى عنهم كثيراً من الأخلاق والآداب والقيم والمعارف والأساليب وغيرها, وكثير ممن كانوا ضحايا، كضحايا المخدرات، وضحايا السفر إلى الخارج، وضحايا العكوف على الأفلام الهابطة؛ إنما عرفوا هذه الأشياء وتعرفوا عليها بواسطة القرناء السيئين، الذين زينوا لهم الباطل ودعوهم إليه, وشجعوهم عليه بكل ما يملكون من وسيلة. ولذلك فعلى الإنسان أن يعرف أين يضع قدمه، وأن يبحث عن القرناء الطيبين، وعلى الأب أن يراعي أين يكون ابنه؛ فإنه لا بد له من قرين. لكن إما أن يكون صالحاً يعينه على الخير أو يكون فاسداً يعينه على الشر. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 14 الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية وهي الوسائل التي تؤثر على الناس وشخصياتهم وتعطيهم الثقافة, ولذلك يسمونها وسائل تثقيف. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 15 أساليب الغرب في استخدام وسائل الإعلام في البلاد الأجنبية والغربية يقولون: إنها بلاد ليس فيها ديكتاتورية-كما يعبرون- فيها حرية، فيها ديمقراطية، إلى غير ذلك من الشعارات التي يطنطنون بها, لكن يكتشف العلماء أن في تلك البلاد التي تتشدق بالحرية والديمقراطية, فيها ديكتاتورية من نوع آخر, صحيح أنهم لا يفرضون عليهم الأشياء بالقوة؛ لكنهم يقنعونهم بما يريدون من خلال وسائل الإعلام, فإذا أرادوا إقناع شعوبهم بشيء؛ ركزوا عليه من خلال الأفلام والتمثيليات والبرامج وغيرها؛ حتى يقنعوا شعوبهم بهذا الأمر, ومن ثم يقبل الناس طائعين مختارين على ما يراد لهم وليس بالقوة, وهذا نوع من الديكتاتورية أخطر من الحديد والنار وغيره. وهذه الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية لها رواج، وهي تدخل إلى كل بيت، بل أقول تدخل إلى كل قلب وإلى كل عقل. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 16 الموقف من الوسائل المسموعة والمقروءة والمرئية ينبغي أن نعرف ما هو الموقف من هذه الوسائل. أولاً: لا بد من اختيار الجيد المفيد: الكتاب المفيد, المجلة المفيدة, المقالة المفيدة, البرنامج المفيد, وتجنب ما يضر بالدين والأخلاق وهو الأغلب. فكم من مجلة صالحة هي تعد بالأصابع, قد تقول: هناك مجلة الدعوة، ومجلة المجتمع، وهناك مجلة البلاغ، ومجلة البيان، ومجلة التوحيد، عشر مجلات أو عشرين, لكن كم يوجد في السوق من مجلة منحرفة؟! أعتقد أنها تعد بالآلاف، من مجلات للفن والرياضة والسينما، والمرأة إلى غير ذلك وقل مثل ذلك في أي وسيلة أخرى من الوسائل المرئية، من الكتب، والأفلام, كم شريط فيديو يتداول بين الناس وهو طيب وصالح يعرض أشياء مفيدة؟! إنها أشرطة محدودة عن المجاهدين -كما سمعنا- أو أشرطة علمية معدودة, أو أشرطة في الدعوة إلى الله عز وجل, ثم تجد ركاماً هائلاً في محلات البيع هي أشرطة تبدأ بالحب وتنتهي بالحب, ولا تعرف في قاموسها إلا الحب!! فعلى الإنسان أن يختار الجيد ولو كان قليلاً. ثانياً: على الدعاة إلى الله عز وجل؛ أن يحرصوا على الاستفادة من هذه الوسائل بالصورة الصحيحة, وفي بلادنا -ولله الحمد- فرص غير قليلة للاستفادة من هذه الأجهزة، سواء المجلات، أو الجرائد، أو الإذاعة، أو التلفزة، أو غيرها, وهي تفرض نفسها على المجتمع شئنا أم أبينا. فليس من السليم في نظري -والله أعلم بالصواب- أن تكون خلواً من الدعاة إلى الله عز وجل وطلاب العلم، الذين يخاطبون الناس ويزاحمون المواد المنحرفة الفاسدة, والفرصة كما ذكرت مواتية وممكنة. ثالثاً: لا بد من الحرب على كل وسيلة أو مادة فاسدة, والحرب تأخذ صوراً شتى: تحذير الناس منها وبالذات من المواد المنحرفة، كذلك مخاطبة المسئولين عنها, وقد قرأنا قبل فترة أن وزارة الإعلام منعت ثلاثاً وعشرين مجلة من الدخول إلى هذه البلاد, وهذه بادرة طيبة, هذه المجلات كانت تدخل، وكان الطيبون يتضايقون منها ثم منعت, وهذا دل على أنه من الممكن أن يكون هناك خطوات أخرى مماثلة؛ لو أن أهل الخير بذلوا جهودهم في هذا السبيل. هل جربت -مثلاً- أن تخاطب المسئولين، أو تطلب من العلماء أن يخاطبوا إن لم يكن لك مقام في ذلك, في شأن مجلة نشرت مادة فاسدة, في شأن شريط مخل بالحياء والأخلاق -وما أكثرها؟! بشرط أن يكون هذا الخطاب مدعوما بالوثائق والمعلومات الدقيقة, وليس مجرد خطاب حماسي, هل جربت ذلك؟!! الذين جربوا هذا الأمر يؤكدون أن هذا الطريق لا يخلو من ثمرات, صحيح أنها ليست (100%) لكنه مثمر بكل حال. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 17 المؤسسة الدينية العائق الخامس: هو ما يمكن أن أسميه -تجوزاً- بالمؤسسة الدينية أو الإسلامية. وأعني بذلك أهل الخير أنفسهم, وهل يمكن أن يكون أهل الخير عقبة في طريق الالتزام بالإسلام، وهم الذين بذلوا أنفسهم وجهودهم وأوقاتهم في سبيل الإسلام؟ لا شك أن أهل الخير قد بذلوا جهودهم وأوقاتهم وأنفسهم في سبيل الإسلام, أو كثير منهم كذلك. وقد أشرت في بداية حديثي إلى أن الصحوة التي يعيشها المسلمون اليوم؛ هي في الغالب أثر من آثار جهود هؤلاء الخيرين, لكن مع ذلك كما قيل: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وحين يتحدث الإنسان عن أهل الخير؛ فإنما هو من باب الحرص على الكمال, عملاً بقول الشاعر: ولم أرَ في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام فأقول: ما يتعلق بالمؤسسة الإسلامية أو الدينية، وأنها تتحمل مسئولية في ضعف التزام بعض الناس بالإسلام, أو عدم التزامه بالإسلام، أشير في ذلك إلى عدة جوانب: الجزء: 126 ¦ الصفحة: 18 الجانب الثالث: ما يتعلق بالقضاء على الشخصية بعض مجتمعات الشباب قد يكون فيها نوع من القضاء على الشخصية، يشعر الشاب بأن شخصيته تصهر وتذاب في وسط إخوانه, ليس له شخصيه إذا قدم رأياً أو تحدث بخبر؛ أو سأل عن شيء؛ يقال له: من الذي سألك عن هذا الرأي؟! ونحن أعلم بهذا الأمر. فيشعر الشاب بأنه لا يستطيع أن يحقق ذاته في وسط هؤلاء القوم الطيبين, إما أن يتخلى عن شخصيته وإما أن يتخلى عنهم. وحينئذٍ ينقسم الشباب في مثل هذه الحالة إلى فئات: 1- منهم من يكون إنساناً ذا مواهب وذكاء وعنده قدرات، فيترك هذه البيئة وقد ينحرف, ولا يجد القرناء الطيبين، وقد يسيء الظن بهم, وهذا يحصل. 2- وقد يكون الشاب ضعيف الشخصية تابعاً مقلداً؛ فيستمر معهم, لكن لو تغير عليه الشخص الذي يحتك به, كأن يكون انتقل إلى بلد آخر أو حي آخر أو مكان آخر، وتعرف على أناس آخرين وتغير عليه أصدقاؤه؛ فإنه قد ينحرف ولا يستطيع أن يعيش مع هؤلاء الأصدقاء الجدد, حتى لو لم ينحرف فإنه قد يتمسك بهذا الشخص أو بهؤلاء الأشخاص أكثر مما يتمسك بالمبدأ؛ وهو الدين الذي اجتمعوا عليه, ويصبح عنده نوع من التقليد والتبعية تمنعه من نقد الأخطاء، ونقد الأخطاء لا بد منه. فينبغي أن يكون للشاب قيمته ومكانته في المجتمع الصغير الذي يعيش فيه, له رأيه وله مشاركته وله احترامه وتقديره. كذلك يلاحظ أن الشاب الذي يدخل مع زملاء طيبين؛ قد يشعر أنه لا بد أن يدفع ضريبة قوية حتى يستمر معهم, مثلاً: لا بد أن يشارك في كل النشاطات، ولا بد أن يحضر محاضرات، ولا بد أن يحفظ شيئاً من القرآن، ولا بد أن يحضر الدروس العلمية، وهو غير مؤهل لذلك ولا يرغب في ذلك، وقد يكون جاء من بيئات منحرفة تماماً, فيشعر أن هذه ضريبة باهظة لا يستطيع أن يؤديها, وبالتالي يبحث عن أناس آخرين. والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعطي كل إنسان بحسبه, والناس مثل الآنية، منها إناء كبير يسع كثيراً من الماء، ومنها إناء صغير، فأنت تعطي كل إنسان بحسبه, ولذلك في الصحيحين، {يأتي رجل فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الصلاة والزكاة والصوم والحج، فإذا انتهى منها قال: هل عليَّ غيرها؟! قال: لا, فيقول بعدها: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذا ولا أنقص، فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أفلح وأبيه إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق} . ينبغي أن يوجد مكان في أوساط الطيبين والصالحين، حتى لمن يريد أن يلتزم فقط بشعائر الإسلام, بالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج, ويبتعد عن المحرمات. وحين أقول هذا عما يتعلق بالدعاة وطلاب العلم والطيبين؛ فإن هذه الأشياء هي قطرة مغمورة في بحر حسناتهم, وهم على ما هم عليه خير الناس وخير القبائل, ولكن هذا لا يمنع من وجود أخطاء، ولا يمنع من الحديث عنها لتعديلها. أسأل الله لي ولكم التوفيق والثبات، إنه ولي ذلك والقادر عليه, وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 19 الجانب الثاني: ما يتعلق بالقرناء الصالحين ما يتعلق بالقرناء الصالحين، وهؤلاء القرناء هم البيئة التي يعتمد عليها -بعد الله عز وجل- في إنقاذ الشباب من البيئات المنحرفة، وإيجاد محضن صالح لتربيتهم, لكن ينبغي الحذر من تسلل بعض الأمراض أو بعض الأوضاع التي لا تتناسب مع هؤلاء الشباب: مثلاً: أحياناً يشعر الشاب حين يدخل مع قوم طيبين صالحين؛ أنه في جوٍ مليء بالوقار والسمت والهيبة، والبعد عن كل ما يمت إلى التبسط والمزاح بصلة. ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثير التبسم، ومن الأحاديث الصحيحة عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان هناك رجل يقال له زاهر، أعرابي في البادية, فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالهدايا، فيرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ويزوده مثلها, وكان رجلاً دميم الخلقة؛ فيأتيه النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام وهو في السوق، فيأتيه من خلفه ويضمه إليه ويقول: {من يشتري العبد؟ -على سبيل الممازحة- فلما التفت ورآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذاً تجدني كاسداًَ يا رسول الله. قال: لكنك عند الله لست بكاسد} والحديث رواه الترمذي في الشمائل وغيره، وهو حديث صحيح. وكان الرسول يقول لـ أنس بن مالك: {يا ذا الأذنين} على سبيل الممازحة, وهذا في أبي داود والترمذي وهو صحيح أيضاً, كل إنسان له أذنان، ولكنه يخاطب أنساً بهذا ممازحة ومباسطة له. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطب أبا عمير , وهو أخو أنس بن مالك لأمه, وكان له عصفور اسمه (النغر) أو (النغير) , فمات هذا العصفور, فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمازح هذا الطفل الصغير ويقول له: {يا أبا عمير ما فعل النغير؟ فيقول: مات يا رسول الله} . ومزاح الرسول صلى الله عليه وسلم كثير في هذا الباب، ما كان عليه الصلاة والسلام يتعمد الهيبة, ولا يتكلف التوقر. فلا بد أن تكون الأجواء فيها قدر من السعة والمرونة، وفرصة للشاب أن يتحرك يميناً وشمالاً، ويعبر عن بعض الأشياء الموجودة في نفسه, هذا لا بد أن يراعى. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 20 الجانب الأول: مخاطبة المجتمع كله بالإسلام إن كثيراً من طلاب العلم والدعاة قصروا حديثهم وخطابهم على طبقة المتدينين والملتزمين بالإسلام, هذا هو الغالب, وذلك من خلال وسائل معينة، كمحاضرة، أو ندوة، أو كلمة، أو برنامج، أو كتاب إلى آخره. لكن في حالات قليلة يخاطبون غير الملتزمين بالإسلام, والواجب أن يتحرك الدعاة لمخاطبة المجتمع كله بالإسلام, ودعوة غير الملتزمين إلى الالتزام الإسلام، بالوسائل المناسبة، من خلال الاحتكاك والمخالطة والاتصال والدعوة، وغشيان الأماكن التي يتواجدون فيها، واستخدام الوسائل التي يمكن الوصول إليهم عن طريقها ما لم تكن محرمة, فإن الإنسان لا يجوز له أن يغشى المحرم بحال من الأحوال. ولذلك تجد كثيراً من الناس يعيشون في عالم آخر وهم في نفس المجتمع! لا يدرون ماذا يجري في المجتمع, فكثير من الطيبين لا يدرون ماذا يجري في مجتمعات المنحرفين، فهم في عزلة عنهم, والعكس بالعكس, كثير من المنحرفين لا يدرون ما عند الطيبين, وربما ردوا بضاعتهم قبل أن يعرفوها أو يتعرفوا عليها. فينبغي أن نقيم الجسور مع هؤلاء الناس؛ بهدف إصلاحهم واستصلاحهم ودعوتهم إلى الله عز وجل, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يغشى نوادي قريش ومحافلهم، ويدعوهم إلى الله عز وجل, كلنا نعلم أنه كان يأتي إلى عكاظ ومجنة وذي المجاز، ويغشى منازل الناس بمنى ومزدلفة وغيرها، في مواسم الحجيج, ويقول لهم: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} والناس ينظرون إليه ويقلبون رءوسهم وأبصارهم؛ حتى قيض الله له من سمع وأجاب. فينبغي ألا تدوم هذه العزلة بين الطيبين وبقية طبقات المجتمع, وقد يقول بعض الإخوة: فأين الولاء والبراء؟! فأقول: نعم الولاء والبراء هو مع الكافرين بالدرجة الأولى, وحتى الكافر تدعوه إلى الله عز وجل بالأسلوب المناسب، وتجب دعوته إن استطعت إلى ذلك سبيلاً, فإذا علمت إصراره وعناده فحينئذٍ تتبرأ منه. وأما الإنسان المسلم المنحرف؛ فإن الواجب في حقه أن يدعى إلى الله عز وجل, ويسعى إلى إصلاحه بالوسائل المناسبة؛ لأنه لا يمكن أن تتوقع أن هذا المنحرف يصلح بمجرد ما تقول له: يا فلان إن ما تصنعه حرام, قد يعرف أنه حرام لكن عنده عوائق وعقبات -كما ذكرنا- تحتاج إلى إنسان يتدرج معه حتى يزيل هذه العقبات, فإذا علمت أن هذا الإنسان مصر ومستهزئ؛ فحينئذٍ تتركه وتهجره، وتتخذ طريقاً غير طريقه وتتبرأ منه. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 21 الأسئلة الجزء: 126 ¦ الصفحة: 22 الافتتان بالصور الجميلة السؤال أنا شاب ملتزم -ولله الحمد- ولكنني مبتلى بحب الصور الجميلة، فنفسي تتحرك عند رؤية تلك الصور, أرجو منك يا شيخ أن توبخني وتلومني وتنصحني، وتبين لي طريق الخلاص من هذه المشكلة؟ الجواب مسألة الابتلاء بالصور وعشق الصور, لا شك أنه مرض في القلب خطير, ويُخشى على الإنسان منه, لأن الإنسان قد يتعامل مع الصور لكن لا يتعلق بها, فإذا حصل التعلق فحينئذٍ ينتقل المرض إلى القلب, كإنسان كان فيه مرض في ناحية من نواحي جسمه ثم انتقل هذا المرض إلى القلب, فحينئذٍ الخطب أشد. ولذلك أوبخك بأن أقول لك: يجب أن تعلم أن الشيطان الآن يقاتلك في أخطر منطقة منك وهي القلب, يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} . فينبغي أن تستدرك الأمر، وتستنفر كل ما تستطيع من طاقات وقوات في مطاردة الشيطان من قلبك, ودفعه عنك, وذلك بأمور: الأول: كثرة القراءة عن الجنة وما أعد الله لأهلها فيها, لأن في الجنة من الجمال والجلال والكمال ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويكفي قول الله عز وجل: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] فالنظر إلى وجه الله الكريم هو أعظم نعيم ينعم الإنسان به في الجنة. الثاني: عليك أن تعتزل هذه الصور، وتبتعد عن الأماكن التي توجد فيها قدر ما تستطيع، ولا تنظر إليها, حتى تكون عالجت الداء من أصله, لأنك إذا نظرت إلى الصورة قد تتعلق بها, لكن إذا لم تنظر تكون حسمت الداء من أصله, ولذلك كان بعض الشعراء يقول: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر فيقع للإنسان الحسرة بفوات ما فاته من هذه الصور الجميلة, مع أنه لا يستطيع أن يصل إليها مهما كان, حتى الفاجر لا يستطيع أن يصل إليها. الثالث: أن تدافع هذا الشعور في نفسك، بالذكر والاستغفار والتسبيح والتهليل وغير ذلك, فإن الإنسان إذا أكثر من هذه الأمور تعلق قلبه بها، وأصبح ينافس فيها حتى تصبح هي همه وديدنه. ولعل هذه من العقبات والعوائق النفسية التي أشرت إليها في العقبة الأولى, فهذا أيضاً يصلح نموذجاً ومثالاً له. والله تعالى أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 23 دور المرأة في تغلب الزوج على العقبات السؤال ما هو دور المرأة الصالحة في إعانة زوجها للتغلب على العقبات الاجتماعية؟ الجواب الحقيقة أن دور الزوجة كبير, لأن الرجل الذي يجاهد في ميدان الحياة، ويجد المشكلات في المجتمع؛ يحتاج إلى سكن يأوي إليه, فإذا خرج الرجل للمجتمع وجد مشكلات, وإذا رجع وجد مشكلات, أصبح يصطلي بنارين, وهذا وضع قد لا يستمر, فهو يحتاج أن يكون البيت سكناً يأوي إليه, فيجد فيه الأنس والمودة والرحمة والتنفيس. ولله در خديجة رضي الله عنها، كم بذلت في سبيل إسعاد الرسول صلى الله عليه وسلم, ودفع الهموم عنه, وتطييب خاطره, وكفى بموقفها حين نزول الوحي, حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {زملوني، زملوني، دثروني} فتقول له: أبشر! هو في حالة خوف وهي تقول له: أبشر! فوالله لا يخزيك الله أبداً, إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. كما في حديث عائشة في صحيح البخاري وغيره. أما إن كان السؤال عن بعض العقبات الاجتماعية، أي بعض الأشياء الموجودة في المجتمع والتي تخالف الإسلام؛ فإن وجود الزوج مع الزوجة وهما متفقان على القضاء على هذه العقبات يسهل الطريق، لأن معنى ذلك أننا أوجدنا بيتاً مسلماً يريد أن يقوم على أساس الإسلام, ويريد أن يطبق أخلاق الإسلام وعادات المسلمين, وينشر هذه الأشياء في خارجه من البيئات والبيوت الأخرى. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 24 تيسير أمور الزواج السؤال نريد من فضيلة الشيخ إلقاء كلمة إلى أولياء أمور الشباب والنساء؛ لتيسير أمور الزواج، جزاك الله خيراً؟ الجواب مثل هذا الموضوع وهو موضوع تيسير أمور الزواج، لا شك أنه موضوع خطير, وله تأثير كبير في المجتمع, وذلك لأن كل شاب وفتاة ركب الله فيهم بحكمته هذه الغريزة، التي لا بد لها من إشباع, فإذا سد أمامها طريق الحلال ربما تتجه إلى طريق الحرام، خاصة عند من لا يخاف الله. وكثير من الشباب المنحرفين لو وجدوا الطريقة الصحيحة لإشباع هذه الغرائز ما لجئوا للحرام, لكن وجدوا الصعوبات، صعوبات مالية، ولا بد من سن معين بعد التخرج، وبيت واستعدادات وتكاليف، وهذا الشاب ربما لو جمع كل ما يستطيع؛ ما قام هذا الذي يجمعه بتكاليف قصر الأفراح في ليلة الزواج, فما بالك بما سوى ذلك من التكاليف؟! فيجب أن نعلم جميعاً؛ أننا بتيسير أمور الزواج نفتح طريقاً للصلاح للجنسين, ونسد باباً من أبواب الشيطان, ولكن -أيضاً- ليست كلمة في هذا المجال بكافية, لأن المجتمع الآن -وهذا مثال لما ذكرته قبل قليل من ضغط المجتمع- أصبح يتنافس على المغالاة في هذه الأشياء، ويتحدث أن فلاناً ابن فلان في ليلة الزواج دفع سبعين ألفاً أو مائة ألف, وفلان دفع كذا وكذا مهراً: وفلان تكلف كذا وكذا. وأصبحت النساء ذوات تأثير في مثل هذه القرارات. فالمجتمع كله يسير في هذا الاتجاه. فنحن لسنا بحاجة إلى كلمات توجيهية, نحن بحاجة إلى واقع عملي وتطبيق وقدوة، فالقدوة تعادل عشرات الكلمات والكتب, لو أن بعض الصالحين المتحمسين لهذا الأمر زوجوا بناتهم بأثمان أو مهور يسيرة ورمزية, وتركنا الناس يتحدثون، فلا مانع من نشرها، على سبيل القدوة لا على سبيل الرياء, اجعل المجتمع بدلاً من أن يتحدث أن فلاناً دفع مائة ألف في ليلة أو ليلتين, اجعل المجتمع يتحدث أن فلاناً زوج بنته بعشرين أو عشرة ريالات, فإن الناس يتحدثون في القضايا التي تكون غير عادية. وقد سمعت أحد المشايخ الكبار يقول: إنه جاءه رجل ليعقد لشاب على بنته, قال: ولما سألتهم كم المهر حتى أسجله في الورقة؟ قال: بريال واحد, قال: فقلت له: أنا لا يمكن أن أكذب -لأنه جرت عادة الناس في مجتمعنا أنهم يعطون مهراً رمزياً في الورقة لكن الواقع خلافه، أي يقول: بخمسة ريالات، والواقع أنه بخمسين ألف أو مائة ألف- فقال له هذا الشيخ: أنا لا يمكن أن أكتب إلا الواقع والحق. فقال له هذا الرجل: هذا هو الواقع والحق, وهذا هو الزوج أمامك، إنني لم آخذ منه إلا ريالاً واحدا ًفقط, وإنني مستعد بتحمل جميع النفقات المتعلقة بهم, مثل هذه القصة يتحدث عنها الناس؛ لأنها غريبة. فلو أن عشرة أو عشرين في بلد كالرياض -مثلاً- سلكوا هذا الطريق، لتحدث الناس عن ذلك وأعجبوا به؛ لأن كل فرد من الناس قد تضايق من هذه التبعات الثقيلة، والتكاليف العظيمة. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 25 الزوجة التي لا تلتزم بالشرع السؤال أنا شاب ملتزم ولكن زوجتي عكس ذلك, فهي تلبس الملابس الضيقة، وتتشبه بالكافرات في بعض ملابسها, وتشاهد التلفاز، وحاولت إقناعها والتوضيح لها بسوء فعلها, ولكن لا فائدة, فما نصيحتكم؟ فإنني في حرج، وقد شكوت لعدد من أصحابي ووجدت أنهم يقعون فيما أنا واقع، فهل أطلقها، علماً أن حالتي المادية لا تسمح لي بالزواج مرة أخرى فما نصيحتكم؟ الجواب أولاً: هذا يذكرنا بضرورة البحث عن القرينة الصالحة حين يهم الإنسان بالزواج, فإن الزواج شركة حياة, ليست رفقة سفر تنتهي في أيام أو ليالٍ, بل هي رفقة عمر، بل هي حتى في الآخرة فالمؤمنون يلتقون في الجنة, ونتائج هذه الشركة الأولاد الذي هم فلذة كبد الإنسان, فعلى الشاب -حين يريد الزواج- أن يبحث عن القرينة الصالحة الطيبة, مهما طال به الأمر. بعض الإخوة الشباب، قد يُغَلِّبون -بسبب السن التي يعيشونها وضعف التجربة- يغلبون العناية بالنواحي الجسمية, البحث عن ذات الجمال، وهذا ليس خطأً في نظري, لأن الإنسان له غرائز فطرية طبيعية من الصعب على الإنسان تجاهلها. ولكن لا ينبغي أن يكون الجمال هو المقياس الأول والأخير في هذا الباب, قد يتنازل الإنسان عن مستوى معين من الجمال إلى أقل منه؛ تحصيلاً للخلق، لأن الجمال في الحقيقة هو جمال الخلق وجمال الروح, والإنسان يجد ذلك فيما يتعلق بالرجال بعضهم مع بعض في واقع الحياة، قد تجد إنساناً ليس له صفات تدعو إلى الإعجاب به، لا مال، ولا جمال، ولا جسم، ولا منطق, ولكن إذا عاشرته شعرت بشدة المحبة له, وآخرون على النقيض من ذلك. فالجمال هو جمال الروح. أما عن مثل هذه المشكلة: فالذي أعلمه أن الزوج إذا كان قوي الشخصية، فهو قوي التأثير على زوجته, لكن عليه أن يراعي في ذلك أموراً: أولاً: لا يتعسف الخطى, إذا كانت هذه الفتاة نشأت في بيت منحرف؛ فمن الصعب أن تعدلها بين يوم وليلة, بعض الإخوة يتصورون أن إنكار المنكر يكون بأن تقول: هذا خطأ وهذا حرام والدليل كذا. ثم ينتهي الأمر, ليس بلازم، وهذا قد يفيد فيمن كان فعله للمنكر بسبب الجهل, لكن قد يكون فعله للمنكر بسبب الهوى وإن كان يعلم أنه منكر، ومثل هذا يحتاج إلى علاج أطول, وصبر وأناة، فلا بد لهذا الأخ ومن كان على شاكلته من سعة البال وطوله، والصبر في هذا الطريق. ثانياً: لا بد من استخدام الوسائل المختلفة، من وسائل الترغيب والترهيب, واستخدام المواقف, فبعض المواقف لها تأثير في النفس, فلا بد أن المرأة مؤمنة، والمرأة بطبيعتها ذات عواطف, عندما تقرأ عليها قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الترغيب في الجنة، وتكرر هذا الكلام مثنى وثلاث ورباع وغير ذلك وتستمر عليه، فلو كانت من حجر لتأثر قلبها, لكن كون العلاقة بينك وبينها مجرد أوامر، كأنك عسكري يصدر أوامر, تقول: هذا لا يصلح. افعلي هذا. اتركي هذا. قد لا تستجيب, لكن على الإنسان أن يلتمس المداخل المناسبة للتأثير. وكذلك على الإنسان أن يحرص على ربط هذه المرأة بأخوات صالحات, لأن المرأة قد تؤثر في المرأة، والحمد لله المجتمع عامر بالفتيات الطيبات, فيبحث عن بعض هؤلاء الطيبات ويصل بهن زوجته حتى تتأثر بهن، والإنسان الحكيم لا تعييه الوسيلة المناسبة لتحقيق ما يريد. الجزء: 126 ¦ الصفحة: 26 شعائر ومناسبات جعل الله للمسلمين شعائر ومناسبات، وهذه تحتاج إلى أن يعمل فيها المرء بما يتفق مع الشرع، وأن ينضبط فيها بفعل الخير والإكثار منه، ومن ذلك شهر ذي الحجة، فإنه ملتقى العامين وشهر حرام وهو شهر الحج. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 1 وقفات إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. نحمد الله تعالى أن جمعنا في هذا اللقاء المتجدد المبارك -إن شاء الله تعالى- بعد انقطاع دام أسابيع بسبب ظروف الامتحان. في هذه الليلة -ليلة الإثنين 25 من شهر ذي القعدة- ينعقد هذا المجلس، وهو المجلس الثاني عشر من سلسلة الدروس العلمية العامة، وكان الاتفاق أن يكون موضوع الحديث في هذه الليلة عن (الطرائف والنكت) وأحكامها؛ ولكن الإخوة في مكتب الإفتاء رغبوا إلي أن أغير هذا الموضوع، أو أن يؤجل بسبب مراعاة الظرف الذي نعيشه الآن، وكان اقتراحهم حسناً وجيداً وفي مكانه، ولذلك فإن موضوع هذه الليلة سيكون بعنوان: "شعائر ومناسبات" أما موضوع (الطرائف والنكت) وما يتعلق بها؛ فسأخصص له جلسة قادمة إن شاء الله تعالى. إخوتي الكرام: وقفاتنا في هذه الليلة ثلاث:- الجزء: 127 ¦ الصفحة: 2 وقفة مع عشر ذي الحجة وشعائرها أولاً: وقفة تتعلق بدخول عشر ذي الحجة. وهذه الأيام العشر لها فضل عظيم، فهي من مواسم الطاعات والخيرات والقربات، بل إنها أفضل الأيام عند الله تعالى، حتى أقسم الله تبارك وتعالى بها فقال عز وجل: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1-2] قال ابن عباس، وابن الزبير، ومجاهد، وجماعة من السلف: [[المقصود بالليالي العشر هي عشر ذي الحجة]] ومن هنا قال كثير من أهل العلم: إن عشر ذي الحجة أفضل من العشر الأواخر من رمضان. وقد ثبت في هذا نصوص عديدة -سوف يأتي ذكر شيء منها- تدل على فضل عشر ذي الحجة، وأنها أفضل من العشر الأواخر من رمضان، وإن كان بعض أهل العلم -كـ ابن القيم وغيره- توسطوا في ذلك وقالوا: أيام عشر ذي الحجة أفضل، وليالي عشر رمضان أفضل، وذلك لأن في ليالي رمضان ليلة القدر وهي خير من ألف شهر، وفي عشر ذي الحجة يوم عرفة ويوم النحر، وهي من أفضل الأيام عند الله تبارك وتعالى وهذا تفصيل حسن لا بأس به. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 3 العشر من ذي الحجة من مواسم الطاعات هذه هي أهم الأعمال المشروعة في هذه العشرة، وبكل حال فإن هذه العشر من مواسم الطاعات التي ينبغي للإنسان أن يغتنمها، ويحرص على أن يعمرها بذكر الله تعالى، والتبكير إلى المساجد، وكثرة الصلاة، وكثرة الاستغفار والدعاء والتهليل والتكبير والتحميد، والتسبيح، وكثرة الصدقة، والصيام وصلة الرحم والإحسان إلى الناس، وغير ذلك من أعمال الطاعات والقربات، وينبغي أن تكون فرصة للتوبة؛ فإن التوبة من أعظم الأعمال الصالحة، والمغبون من غبن في هذه العشر، والمحروم من حرمها، وهذه فرصة ومواسم ينبغي للعبد أن يحرص على التقرب فيها إلى الله عز وجل، خاصة في الأعمال الأربعة التي ذكرت، والتي منها: الصوم، والحج، والذكر، والتكبير، و الأضحية . هذا ما يتعلق بالوقفة الأولى، وهي ما تتعلق بهذه الأيام العشر وشعائرها. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 4 الأضحية من الأعمال المشروعة في هذه العشر، وهو العمل الرابع المشروع: الأضحية. والأضحية مشروعة بإجماع المسلمين كما ذكره جماعة من أهل العلم، لم يخالف في مشروعية الأضحية أحد، بل إن من أهل العلم من ذهب إلى أن الأضحية واجبة على الموسر، ذهب إلى ذلك الأوزاعي وأبو حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد، مال إليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو أيضاً مذهب ربيعة بن عبد الرحمن، وجماعة من فقهاء المالكية. أما الجمهور -جمهور المالكية والشافعية والحنابلة- فإنهم يذهبون إلى أن الأضحية سنة، ولعل هذا أقرب؛ لأن الأحاديث الذي استدلوا بها على الوجوب قابلة للتأويل كما سوف يأتي ذكر بعضها. يقول الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] فشعائر الله تشمل الأضحية، وتعظيمها أي: استسمانها واختيار أفضلها وأغلاها وأنفسها، وذبحها قربة إلى الله عز وجل، ويقول الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:1-3] فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالنحر، ويدخل في ذلك نحر الهدي ونحر الأضاحي؛ ولذلك ضحى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنه عليه السلام أقام بالمدينة عشر سنين، يضحي طيلة هذه السنين العشر، لم يترك الأضحية ولا سنة واحدة. وقد ثبت في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم، ضحى بكبشين أقرنين أملحين، ووضع رجله على صفاحهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضحي، ويقول: عني وعن من لم يضح من أمتي} فالأضحية سنة عند الجمهور، واجبة عند بعض أهل العلم. أ/ أدلة من أوجب الأضحية: روى الإمام أحمد وابن ماجة والدارقطني بسند حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا} وهذا مما استدل به بعض أهل العلم على وجوب الأضحية، فإن النبي صلى الله عليه وسلم وبخ من ترك الأضحية وهو غني واجد، وقال: لا يقربن مصلانا أي: من لم يعد الأضحية ويجهزها، ولم ينو أن يضحي فلا يقربن المصلى، وهذا ليس صريحاً في الوجوب، بل لعله دليل على عدم وجوب صلاة العيد. أما الدليل الثاني الذي استدلوا به على وجوب الأضحية: فهو ما جاء في الصحيحين من حديث جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أنه قال: شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم النحر، فقال: {من ذبح قبل الصلاة فليعد مكانها، ومن لم يذبح فليذبج، أو من لم يضح فليضح} قوله: فليضح، أمر يدل على الوجوب. والواقع أن هذا يصلح أن يقال: إنه أمر بعد الحظر، كما يقول الأصوليون: أمر بعد الحظر؛ لأن ذبح الأضحية قبل صلاة العيد باعتبارها أضحية لا يجوز؛ فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يضح} أي: لم يذبح قبل الصلاة؛ فليضح الآن بعد الصلاة فهذا وقت ذبح الأضحية. ب/ وقت ذبحها وما يلزم من أرادها: ومما يتعلق بأحكام الأضحية: أنها تذبح بعد صلاة العيد، ولا يجوز ذبحها قبل الصلاة؛ لما في المتفق عليه من حديث البراء بن عازب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من ذبح قبل الصلاة فشاته شاة لحم، فجاء البراء وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ضحى، وأن عنده جذعة هي خير من مسنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اذبحها، ولا تجزي عن أحد بعدك} فدل على أن هذا من خصائصه، وأنه لا يجوز للإنسان أن يذبح قبل الصلاة، ومن ذبح بنية الأضحية فليعد ذبيحته. ومما يتعلق بالأضحية: أن من نوى أن يضحي؛ فإنه لا يجوز له أن يأخذ من شعره ولا من بشره ولا من أظافره شيئاً، منذ دخول العشر، كما في حديث أم سلمة في صحيح مسلم: {إذا دخل العشر فأراد أحدكم أن يضحي؛ فلا يأخذ من شعره ولا من بشره شيئاً} وفي رواية: {ولا من أظفاره} فمن أراد أن يضحي عن نفسه -وهذا لا يدخل فيه الوكيل الذي وكل عن غيره، إنما من أراد أن يضحي عن نفسه، سواء باشر الأضحية أو وكل غيره- فإنه لا يأخذ من شعره، ولا من أظفاره شيئاً، منذ دخول العشر إلى أن يذبح أضحيته. ج/ شروط الأضحية: ومما يتعلق بأحكام الأضحية أنه لابد فيها من شرطين: الشرط الأول: السن. لابد من مراعاة السن المشروعة، وهو أن تكون جذعة من الضأن، أو ثنية مما سواها، والجذعة من الضأن: هي ما تم لها ستة أشهر، والثنية مما سواها: هي المسنة، وهي من الإبل ما تم له خمس سنوات، ومن البقر ما تم له سنتان. أما الشرط الثاني في الأضحية: فهو السلامة من العيوب. ولذلك جاء في مسند الإمام أحمد بسند صحيح، عن البراء رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أربع لا تجزيء في الأضاحي: العوراء البين عورها، والعرجاء البين عرجها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء} وفي رواية: {الكسيرة التي لا تنقي} أي التي ليس فيها مخ، قد ذهب مخها من الهزال والضعف، فهذه أربع لا يجزئ أن يضحي بها الإنسان، ولابد من مراعاة هذين الشرطين في الأضحية. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 5 الحج وفضله العمل الثالث الذي يكون في أيام العشر هو: الحج. فإن أيام العشر من مواقيت الحج الزمانية، قال الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] قال ابن عمر وغيره: [[أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة]] . والحج -أيها الإخوة- هو من أخص خصائص المسلمين وأبرز علاماتهم، حتى قال الله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وهذا إيماء وإشارة إلى أن ترك الحج من خصال الكافرين، وقد ذهب طائفة من السلف إلى أن من وجد سعة ولم يحج من غير عذر فإنه كافر، وقد جاء في أثر عن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[لقد هممت أن أنظر وأبعث إلى عمالي فينظروا من وجد سعة فلم يحج؛ فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين! ما هم بمسلمين]] وهذا الأثر رواه سعيد بن منصور في سننه، وقد جاء نحو هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنه لا يصح. أ/ فضل الحج: والحج من أعظم الكفارات، حتى إن الإنسان ليعجب ويطرب إذا قرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج، وما فيها من عظيم تكفير الذنوب، خذ على سبيل المثال: ما رواه الشيخان عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من حج فلم يرفث ولم يفسق؛ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله. قال: ثم أي؟ قال: ثم الجهاد في سبيل الله. قال: ثم أي؟ قال: حج مبرور} وفي المتفق عليه أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم بر الحج بأنه: إطعام الطعام وطيب الكلام، وألا يرفث ولا يفسق. كما ورد في الحديث الآخر: {من حج فلم يرفث ولم يفسق} وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه [[أنه لما حضرته الوفاة بكى، وحول وجهه إلى الجدار يبكي، فقال له ابنه عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: يا أبت، ما يبكيك؟! أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، فما زال به حتى أقبل عليه بوجهه فقال رضي الله عنه وأرضاه: إني كنت على أطباق ثلاث: إني كنت في الجاهلية ولم يكن أحد أبغض إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إني لو استمكنت منه لقتلته، قال: فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار. قال: ثم قذف الله الإسلام في قلبي، فأتيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: يا رسول الله، ابسط يدك فلأبايعك. قال: فبسط يده فقبضت يدي، فقال: {ما لك يا عمرو؟ قلت: يا رسول الله، أريد أن أشترط. قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي. قال: بايع يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله} قال: فبسطت يدي فبايعته صلى الله عليه وسلم، فجعل الله محبته في قلبي، حتى إني كنت ما أطيق أن أنظر إليه هيبة له وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال؛ لرجوت أن أكون من أهل الجنة. قال: ثم ولينا أشياء لا أدري ما حالي فيها أي: من أمر الخلافة والإمارة]] وما يتعلق بذلك المهم قوله عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الحج يهدم ما كان قبله} والحديث كما أسلفت في صحيح مسلم. فهذه الأحاديث وغيرها مما يدل على عظيم شأن الحج. والمقام لا يتسع لسرد الأحاديث الواردة في هذا الباب، وفي تفاصيل أعمال الحج، ولذلك أنصح الإخوة بعد أن يرجعوا إلى بيوتهم؛ أن يقرءوا كتاب "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" للإمام شرف الدين الدمياطي، يقرءوا فيه ما ورد في فضل الحج، فإن الإنسان ليعجب ويطول به العجب إذا قرأ هذه الأحاديث الواردة في فضل الحج، وأذكر منها حديثاً واحداً فقط، وهو ما رواه البزار وغيره، وصححه ابن حبان، وقال الدمياطي: إسناده لا بأس به، من حديث ابن عمر وله شاهد من حديث عبادة، قال ابن عمر: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى، فأتاه رجلان أنصاري وثقفي، فقالا: يا رسول الله، نريد أن نسألك. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم للثقفي: إن شئت أن تسألني، وإن شئت أخبرتك بما جئت تسأل عنه. فقال: بل أخبرني يا رسول الله، قال: جئت تسألني عن مسيرك من بيتك تؤم البيت الحرام، وجئت تسألني عن ركعتيك بعد الطواف ما لك فيهما، وجئت تسألني عن طوافك بين الصفا والمروة ما لك فيه، وجئت تسألني عن رميك الجمار ما لك فيه، وجئت تسألني عن ذبحك ما لك فيه، وجئت تسألني عن وقوفك بعرفة مالك فيه، وجئت تسألني عن حلقك رأسك ما لك فيه، وجئت تسألني وجئت تسألني، حتى عدد النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الحج، ثم ذكر ما فيها من الفضل، فذكر أنه إذا ركب راحلته إلى البيت الحرام، لم يرفع خفاً ولا يضع آخر إلا كان له بذلك أن يكتب الله تعالى له به حسنة ويضع عنه به خطيئة، ثم ذكر ركعتي الطواف وأنه كعتق رقبة، ثم ذكر طوافه بين الصفا والمروة وأنه كعتق سبعين رقبة، ثم ذكر رميه الجمار وأن كل رمية يمحو الله بها عنه كبيرة أو موبقة من الكبائر، ثم ذكر طوافه بالبيت وأنه يطوف لا ذنب له، يبعث الله تعالى ملكاً يضع يديه على كتفيه ويقول له: اعمل فيما يستقبل، فقد غفر لك ما مضى. إلى غير لك من الفضائل العظيمة التي يعجب الإنسان منها، إلا أنه إذا تذكر أن هذا الفضل ممن يملك الفضل، ومن الوهاب التواب الذي يقول: {يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً؛ لأتيتك بقرابها مغفرة، أو لغفرت لك ولا أبالي} إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في سعة فضل الله تعالى، ولا شك أن هذا إنما يحصل لمن كان مخلصاً في حجه، وفي نفقته، وفي نيته، وفي عمله، متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم. والغالب أن تكفير الأعمال إنما يكون للصغائر، أما الكبائر فإن جمهور أهل السنة، كما قال ابن عبد البر وغيره يقولون: إنها لا تكفر إلا بالتوبة، كما ورد في الحديث في صحيح مسلم {ما لم تغش كبيرة} وفي رواية: {ما لم تؤت كبيرة} فإن الكبائر في الأصل أنها لا تكفر إلا بالتوبة النصوح. فينبغي أن تكون هذه النصوص العظيمة محركاً لهممنا وقلوبنا إلى حج بيت الله الحرام، وشتان شتان بين من اتخذ الحج عادة أو تجارة أو سياحة، وبين إنسان لم يكن في نيته أن يحج، فلما سمع هذه النصوص وقرأ الأحاديث الواردة في فضل الحج؛ تحركت همته فجدد عزيمته وأخلص نيته أنه سيحج، بسبب هذا الفضل الذي يتوقعه وينتظره، فإن هذا ممن يرجى أن ينال هذا الأجر العظيم من الله تعالى. أيها الإخوة: الكلام عن مناسك الحج ليس هذا مجاله؛ ولذلك لن أذكر في موضوع المناسك شيئاً، وإنما أذكر الإخوة بأن ثمة كتباً كثيرة وأشرطة في موضوع المناسك، أذكر من أهمها: منسك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مطبوع، كذلك المنسك للشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ ناصر الدين الألباني له "حجة النبي صلى الله عليه وسلم"، وله كتاب آخر "مناسك الحج والعمرة"، وكل هذه الكتب كتب مفيدة ونافعة جداً، إضافة إلى مراجعة كتاب الحج في بعض كتب الفقه الموسعة كالمجموع، والمغني وغيرها، وكذلك حاشية ابن القاسم. وعليه فلا حاجة إلى أن أدخل في موضوع المناسك؛ لأن الدخول فيها يطول، والأمر في ذلك لا يتسع له مثل هذا المقام. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 6 العمل الصالح إجمالا ً أما العمل الثاني المشروع فهو: العمل الصالح إجمالاً. وهذا ثبت في حديث ابن عباس، كما في صحيح البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه العشر. قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله؛ إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء} وقد جاء عن جابر رضي الله عنه ما يشهد لهذا الحديث، فعند أبي يعلى والبزار بسند صحيح عن جابر نحو حديث ابن عباس، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه {لا يعادل العمل الصالح في العشر إلا رجل خرج بنفسه وماله في الجهاد، فخر صريعاً على وجهه في المعركة} فهذا الذي يعدل العمل الصالح في أيام العشر. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العمل الصالح} يشمل كل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال الظاهرة والباطنة، فإن العمل الصالح هو ما كان خالصاً صواباً كما هو معروف، فما كان من الأعمال التي أمر الله تعالى بها في كتابه، أو أمر بها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الصحيحة، من قول أو فعل أو اعتقاد؛ فهو من الأعمال الصالحة المحبوبة إلى الله تعالى في كل وقت، ويتأكد استحبابها في هذه العشر، فيدخل في ذلك الذكر كما سبق، ويدخل فيه التكبير مطلقاً ومقيداً، ويدخل فيه قراءة القرآن، ويدخل فيه الصيام. أ/ الصيام: أما صيام يوم عرفة فهو مستحب لغير الحاج، كما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: {أن صيام يوم عرفة يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده} يكفر سنتين: السنة الماضية والسنة الآتية، هذا صيام يوم عرفة لغير الحاج، وهذا فضل عظيم لا أعلم أنه ثبت ليوم من الأيام التي يستحب صيامها إلا يوم عرفة؛ أنه يكفر سنة قبله وسنة بعده. أما الحاج فلا يستحب له صيام هذا اليوم؛ لما ثبت في الصحيح: {أن الناس تماروا هل صام النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أم كان غير صائم؟ فبعثت أم الفضل إليه بلبن وهو على راحلته فشربه النبي صلى الله عليه وسلم} . وهل يشرع صيام أيام العشر كلها؟ هذا فيه اختلاف، والأقرب أنه يشرع للإنسان صيام أيام العشر كلها؛ وذلك للحديث السابق: {ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله تعالى من هذه العشر} والصيام لا شك أنه من العمل الصالح. ولا يعكر على ذلك ما ورد من النهي عن سرد الصوم، فإن المنهي عنه: أن يسرد الإنسان الصوم طيلة عمره، أما أن يصوم لمناسبات معينة فلا حرج في ذلك، ألا ترون أن النبي صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه صام شعبان أكثره بل كله، ففي بعض السنين كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم شعبان كله، وكذلك أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، إذاً كون الإنسان يسرد صيام أيام العشر هذا مشروع ومستحب، وقد جاء في ذلك حديث عن حفصة، أو عن بعض أمهات المؤمنين عند أصحاب السنن، لكنه حديث فيه ضعف واضطراب فلا يحتج به. أما ما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: [[ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط]] فهذا لا يشكل، والجواب عن هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول أن يقال: إن عدم معرفة عائشة رضي الله عنها بصيام النبي صلى الله عليه وسلم، لا يلزم منه ألا يكون صام، فإنه قد يخفى على الرجل أو المرأة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعض سنته فلا يعلمها، كما نقل عن جماعه منهم عائشة أنها لم تكن تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى، إلى غير ذلك من الأعمال وكان يفعلها، فلا غرابه أن ينكر الصحابي فعلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبته آخرون، وإنما أنكر هذا الصحابي أن يكون بلغه ذلك أو اطلع عليه، وعدم علمه بالشيء ليس دليلاً على عدم حصوله؛ بمعنى أنه لا يبعد أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صام هذه العشر أو بعضها، ولم تطلع عائشة رضي الله عنها على ذلك؛ لسبب من الأسباب. الجواب الثاني أن يقال -وهو في نظري أقوى-: إن مشروعية صيام أيام العشر تثبت ولو لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم أن السنة تثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما تثبت بفعله، وكما تثبت بإقراره صلى الله عليه وسلم فإن ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو إقرار كله سنة، ولا يلزم أن يعمل النبي صلى الله عليه وسلم بالسنن كلها، فقد يترك النبي صلى الله عليه وسلم العمل وهو يحبه لعارض، قد يتركه لما هو أهم منه، من جهاد أو سفر أو شغل، وقد يتركه خشية أن يفرض على أمته، وقد يتركه خشية أن يشق على أصحابه، وقد يتركه لبيان الجواز، إلى غير ذلك من الأسباب. إذاً: عدم صيام النبي صلى الله عليه وسلم أيام العشر، ليس دليلاً على عدم مشروعيتها، بل أيام العشر يستحب للإنسان أن يسرد صومها، إلا يوم العيد فإنه لا يجوز صيامه، فصيام يومي العيد: عيد الفطر وعيد الأضحى حرام كما هو معروف، وسبق تقريره في الوقفات الثلاثين من مطلع شهر رمضان، فصيام يوم العيد لا يجوز. وكذلك صيام يوم عرفة للحاج مكروه، والأولى ألا يصوم، إنما صيام الأيام الثمانية مشروع، وصيام الأيام التسعة لغير الحاج مشروع أيضاً، ولذلك جاء في سنن أبي داود ذكر صيام التسع من ذي الحجة، في الحديث الذي أشرت إليه قبل قليل -حديث حفصة - جاء فيه بدلاً من العشر صيام التسع من ذي الحجة، ولذلك قال الإمام النووي رحمه الله في شرحه لصحيح مسلم: قال العلماء: صيام أيام العشر مستحب استحباباً شديداً. والمقصود -بلا شك- خلا يوم العيد فإنه يحرم صومه. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 7 الأعمال المشروعة في عشر ذي الحجة أما النقطة الثانية فهي الأعمال المشروعة في تلك العشر: وفي العشر أعمال كثيرة مشروعة أذكر بعضاً منها، فمن هذه الأعمال المشروعة الذكر لله عز وجل، قال الله عز وجل: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] قال ابن عباس رضي الله عنه: [[الأيام المعلومات أيام العشر]] والأثر رواه البخاري تعليقاً عن ابن عباس، الأيام المعلومات أيام العشر أي عشرة ذي الحجة. فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] هذا يشمل عدة أمور منها: ذكر الله تعالى على الذبائح من الأضاحي والهدي، فإنه يجب أن يسمي العبد ربه عليها، فيقول: باسم الله والله أكبر؛ يقول: باسم الله وجوباً، ويكبر استحباباً، وهذا ذكر، ولذلك قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:28] فهذا من الذكر المشروع، ويشمل الذكر غير هذا من التسبيح والتكبير والتهليل والتحميد، وغير ذلك من الدعاء وقراءة القرآن وغيرها، فكل ذلك مشروع في هذه العشر وفي غيرها، ويتأكد في العشر. ولذلك جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيام أعظم عند الله تعالى ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه العشر، فأكثروا فيهن من التحميد والتهليل والتكبير} قال المنذري: سنده جيد، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. والواقع أن في الحديث ضعفاً؛ فإن فيه يزيد بن أبي زياد، وهو إن خرج له مسلم إلا أنه ضعيف وفيه مقال، وكذلك الحديث فيه شيء من الاضطراب، فقد رواه الإمام أحمد من حديث يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عمر، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، من حديث يزيد عن مجاهد عن ابن عباس، وقد وهم من اعتبر حديث ابن عباس شاهداً لحديث ابن عمر، بل هو مما يضعفه؛ لأن مدار الحديث على يزيد بن أبي زياد عن مجاهد، قال مرة: عن ابن عمر، وقال مرة: عن ابن عباس، فدل على أنه لم يضبط هذا الحديث. فالحديث ضعيف، لكن له شواهد كثيرة عن ابن عباس في صحيح البخاري، وعن جابر عند أبي يعلى والبزار، وسوف يأتي الإشارة إليهما بعد قليل. أ/ أنواع التكبير: من الأذكار الذي تستحب في العشر: التكبير (الله أكبر) ، وما أشبه ذلك من صيغ التكبير وهي كثيرة، فيستحب للعبد أن يكبر ويكثر من التكبير في أيام العشر، والتكبير في العشر نوعان:- النوع الأول: تكبير مطلق يشرع طيلة أيام العشر في كل وقت، ليلاً ونهاراً، في المنزل وفي السوق وفي المسجد، وفي كل مكان، فيشرع للمسلمين أن يكبروا ويرفعوا أصواتهم بالتكبير، ولهذا قال الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه: [[كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق فيكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما، وكان عمر رضي الله عنه يكبر بمنى في قبته، فيسمعه أهل المسجد فيكبرون، فيكبر أهل منى حتى ترتج منى تكبيراً]] . ففعل أبي هريرة وابن عمر وعمر؛ يدل على مشروعية التكبير في أيام العشر في كل وقت، ويدل أيضاً على مشروعية رفع الصوت بهذا التكبير، ولكن ليس على سبيل أن يكون التكبير بصوت واحد كما يفعله كثير من الناس، حيث يكبرون بصوت واحد تكبيراً جماعياً وبلحن واحد، هذا غير مشروع، إنما يكبر كل إنسان بمفرده، وتختلط الأصوات كما تختلط بقراءة القرآن في المساجد، وكما تختلط بالأذكار في أدبار الصلوات، إلى غير ذلك، فهذا تكبير مطلق. النوع الثاني من التكبير: هو التكبير المقيد؛ وهو التكبير في أدبار الصلوات المكتوبات، أن يكبر الناس عقب كل صلاة مكتوبة، فيقولون: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، إلى غير ذلك من صيغ التكبير، وهذا التكبير المقيد لم يثبت فيه حديث صحيح، جاء فيه حديث عند الدارقطني لكن سنده ضعيف جداً، وهو حديث منكر، لكن قال الإمام الحاكم: ثبت التكبير المقيد عن عمر وابن عمر وابن عباس وابن مسعود صح ذلك عنهم. وجاء عند ابن أبي شيبة عن علي رضي الله عنه [[أنه كان يكبر بعد الفجر من يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق]] وسند هذا الأثر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صحيح، وكذلك روى ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح، عن أبي الأسود [[: أن ابن مسعود كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر يوم النحر، يقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] فابن مسعود كان يكبر إلى عصر يوم النحر، أما علي فإلى عصر آخر يوم من أيام التشريق. وسند الأثرين عن علي وابن مسعود عند ابن أبي شيبة صحيح، وجاء هذا عن جماعة آخرين من الصحابة، مما يدل على أن هذا الأمر مشهور مشروع عندهم، فإذا انضم إلى ذلك ما هو معروف من ورود أحاديث عديدة في مشروعية التكبير في أدبار الصلوات، كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [[كان رفع الصوت بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته]] وفي لفظ: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] علم أن التكبير مشروع في أدبار الصلوات، خاصة في هذه الأيام المحددة من صلاة الفجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، أو إلى عصر يوم النحر. كل ذلك حسن والأمر فيه واسع، والتكبير ذكر وما دام أنه قد ثبت عن بعض الصحابة، فلا حرج على الإنسان أن يلتزم بهذا التكبير المقيد في أدبار الصلوات المكتوبات، فهذا من الذكر الذي يستحب للإنسان أن يقوله. ب/ صفة التكبير: أما صفة التكبير وكيف يكبر الإنسان: فمما ثبت عن ابن مسعود كما سبق: [[الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد]] وقال الإمام الشافعي: "إن زاد على هذا قوله: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده؛ كان حسناً". هذا كلام الإمام الشافعي رحمه الله كما نقله عنه الإمام ابن القيم في "زاد المعاد"، وإن زاد في ذلك أو اقتصر على أن يقول: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فكل ذلك حسن ولا بأس به، فهذا الذكر من العمل المشروع في أيام العشر، وهو التكبير والذكر لله تبارك وتعالى، ومن ذلك المبادرة إلى الصلوات، وكثرة قراءة القرآن. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 8 أسباب فضيلة عشر من ذي الحجة ومن أسباب فضيلة هذه العشر من ذي الحجة: أن فيها يوم عرفة، وهو يوم ما طلعت الشمس ولا غربت على أفضل منه، وفيه تكفير للذنوب، ومغفرة للخطايا، وستر للعيوب، وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من يوم أكثر أن يعتق الله عبداً من النار من يوم عرفة، وإن الله تعالى ليدنو ثم يباهي بهم -أي بعبيده الحجاج -الملائكة يقول: ما أراد هؤلاء؟} فهذا يوم عرفة، وسوف يأتي فضل صيام هذا اليوم. كذلك من أسباب فضيلة العشر: أن فيها يوم النحر، وهو اليوم العاشر، وهو يوم العيد، يأتي العيد وأول أيامه اليوم العاشر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما قدم المدينة، فوجد للأنصار يومين يلعبون بهما؛ قال: {إن الله تعالى قد أبدلكما بهما يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى، وهما عيدنا أهل الإسلام} فيوم عيد الأضحى هو من الأيام التي تعتبر شعائر يفرح بها المسلمون ويسرون، وهو يوم الحج الأكبر، كما قال الله عز وجل: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3] فأذَّن المسلمون بهذا في يوم العيد، يوم الحج الأكبر يوم النحر، وهو أفضل الأيام عند الله تعالى على الإطلاق، كما في السنن من حديث عبد الله بن قرط الثمالي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الأيام عند الله يوم النحر} وهذا الحديث سنده صحيح، ولذلك فلا غرابة أن تكون أيام العشر هي أفضل الأيام، حيث احتوت على هذين اليومين الفاضلين العظيمين عند الله عز وجل، يوم عرفة، ويوم النحر، يوم الحج الأكبر. وهي تحتوي على أيام العيد التي تشمل يوم العيد، وما بعده من أيام التشريق، ولذلك جاء في السنن من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدنا أهل الإسلام، وهي أيام أكل وشرب} فأما يوم عرفة فهو عيد من جهات عديدة، ولذلك جاء في الحديث الذي في صحيح البخاري: أن يهودياً قال للمسلمين: لو علينا معشر يهود نزلت هذه الآية، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، وفي رواية: عيدنا {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فقال عمر رضي الله عنه: [[والله إني لأعلم في أي مكان نزلت، وفي أي يوم نزلت، نزلت في يوم جمعة في يوم عرفة]] وجاء في رواية عند أصحاب السنن: [[في يوم عيد]] فعرفة عيد؛ باعتباره مجاوراً ليوم العيد وسابقاً ومقدمة له، وهو يوم سرور للمؤمنين لكثرة تكفير الخطايا، وتجاوز الله تبارك وتعالى عن عباده، حيث إنه يدنو، وجاء في رواية: {أنه ينزل إلى السماء الدنيا، ويباهي الملائكة بعباده فيقول: ما أراد عبادي؟ هؤلاء أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق، أشهدكم أني قد غفرت لهم} وجاء في رواية: {ووهبت مسيئهم لمحسنهم} ففي هذه الأيام العشر تتحقق هذه الفضائل الكثيرة، ولذلك كانت هذه الأيام العشر أفضل الأيام عند الله تعالى كما سبق. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 9 وقفة محاسبة مع نهاية السنة أما الوقفة الثانية: فهي تتعلق بنهاية هذا العام. تعلمون -أيها الإخوة- أننا نودع في هذه الأيام عاماً مضى، ونستقبل عاماً جديداً، وهذه وقفة ينبغي أن نقف عندها، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في بدائع الفوائد: "السنة شجرة، والأشهر أغصانها، والأيام أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة الله طابت ثماره". فنحن ندرك الآن كأن الواحد منا له شجرة عظيمة قد غرسها، وهي الآن توشك أن تنتهي لتقطع ويغرس له شجرة أخرى. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 10 ضياع العمر بالتسويف والناس أصناف: منهم من يضيع عمره في الباطل واللهو والحرام، وهذا لا يخرج من عمره بالكفاف، بل إنه لو تدارك وقته وضاعف أعماله لا يمكن أن يستدرك ما مضى، ولذلك يقول الشيخ الإمام أبو إسماعيل الهروي -رحمه الله-: "إن الوقت سريع التقضي أبي التأتي بطيء الرجوع". هذه ثلاث مسائل: الوقت سريع التقضي، فسرعان ما ينتهي، أبي التأتي، فإنه لا يستسلم وينقاد للإنسان إلا بمجاهدة، بطيء الرجوع، فإن ما مضى من الوقت لا حيلة في رده بحال من الأحوال. ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها ما مضى فات، لا تحسب وتقول: أربعين سنة، خمسين سنة، ستين سنة، هذه كلها ذهبت ما كأنها لمح بصر ولا ومضة، ولا لحظة، مضت بما فيها من خير أو شر، والمؤمل غيب، لا تدري هل كتب لك يوم أو شهر أو سنة أو عشرة الله أعلم، ولك الساعة التي أنت فيها. يسر المرء ما ذهب الليالي كأن ذهابهن لها ذهابا سبحان الله! إذا جاء البرد قلنا متى يأتي الحر حتى نسلم من البرد؟ فإذا جاء الحر تضايقنا منه، إذا جاءت أيام الاختبارات قلنا: متى تنتهي حتى نقبل على الإجازة؟ وهكذا، كلما جاءت مناسبة تمنينا ما بعدها، ولذلك يقول أحد المفكرين أو أحد الأدباء: إن الكلام عن قضية المستقبل، مثل حزمة من العلف مربوطة في عنق فرس، فهذا الفرس يركب ويجد الحزمة أمامه؛ لأنها تركض معه، فالمستقبل شيء لا حقيقة له؛ لأن هذه اللحظة الذي تعيشها الآن كانت قبل قليل مستقبلاً. إذاً ما هو المستقبل؟ المستقبل: هو اللحظة التي تعيشها. أما الأمور البعيدة فأمرها إلى الله تعالى. جدير بالإنسان أن يقف وقفة محاسبة، إذا كان لك طموحات ولك آمال وتطلعات، تريد أن تعمل صالحاً وتريد أن تتوب وأن تكفر عن سيئاتك، وتريد أن تكون طالب علم، وأن تنفع الناس، وأن تقوم بعمل خير اجلس خمس دقائق واسأل نفسك كم عمرك الآن؟ خمس وعشرون سنة، ثلاثون سنة، هل عملت شيئاً خلال المدة هذه؟ لم تعمل شيئاً. هل تتوقع أن هناك شيئاً جديداً سوف يحركك فتعمل ما لم تكن تعمل بالأمس؟ أبداً، يا إخوة، الذي لا يعمل في وقت الشباب لا يعمل في وقت الهرم والشيخوخة، الشباب هو وقت القوة والفتوة، وقت النشاط والطموح، وقت التوقد والإشراق والاندفاع، فمن لم يعمل في شبابه ويستثمر أيامه؛ فينبغي أن يدرك أنه لا يعمل في شيخوخته، ولذلك طال حنين الشيوخ للشباب وتمنوا عودته: ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهرب؟ الجزء: 127 ¦ الصفحة: 11 خسارة الدنيا والآخرة إخوتي الكرام: لو أن الواحد منا كانت عنده شركة زراعية أو تجارية؛ لوضع له في نهاية العام أو في وسط العام ميزانية يحسب أرباحه وخسائره، وما له وما عليه، ثم يقرر هل يستمر أو لا يستمر، فإذا وجد أن الخسارة تتوالى عليه، فحينئذ يقول: من المصلحة أن أصفي هذه الشركة وأنتهي منها، ولو اتجهت فيما بعد إلى عمل آخر، لكن الخسارة غير مطلوبة. فما بالكم -أيها الإخوة- بخسارة الأبد، فخسارة الدنيا يمكن أن تعوض، لكن ما بالك إذا خسر الإنسان نفسه!! ما بعد خسارة النفس من شيء، هذا العمر وهذه الأنفاس التي تتردد، هي التي يجازي الله تعالى عليها ويحاسب، أهل الجنة إنما دخلوها بأنفاسهم وأعمالهم وأوقاتهم، وأهل النار إنما دخلوها بأوقاتهم، ولذلك يقول الله عز وجل في كتابه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:36-37] تدبر: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] . إذاً: العمر -أيها الإخوة- هو الذي تجزون عليه وتحاسبون، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، فهو ورقة بيضاء تكتب فيها ما شئت، اكتب فيها الحسنات تجز بالجنة، اكتب فيها السيئات تجز بالنار، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 12 استغلال الإجازة الصيفية أما الوقفة الثالثة والأخيرة: فهي بمناسبة الإجازة الصيفية. إننا الآن نستقبل إجازة، ولا أريد أن أتحدث عن الإجازة؛ لأنني تحدثت عنها في محاضرة بعنوان "ماذا في الإجازة" ولعلها ميسورة لمن أراد أن يطلع عليها أو يستفيد منها، لكنني أريد أن أذكّر بأمور:- الجزء: 127 ¦ الصفحة: 13 الاهتمام بالأبناء والبنات الأمر الثاني: أنه ينبغي للإنسان أن يراقب من ولاه الله تعالى أمرهم -خاصة في هذه الإجازة- لاحظت بعيني خلال هذه الأيام القليلة؛ تسيب الشباب في الشوارع، بالأمس وأنا آوي إلى منزلي أبصرت في ساعة متأخرة نسبياً -ربما في الحادية عشرة ليلاً أو بعدها- لاحظت شاباً ربما يكون في الثانية عشرة من عمره؛ يمشي في الشارع وبيده سيجارة، فقلت سبحان الله! أهكذا تستغل الإجازة؟ صبياننا وأطفالنا وشبابنا يترك آباؤهم لهم الحبل على الغارب، يذهبون كيف شاءوا، يذهبون إلى الملاهي والشوارع، وإلى الشلل الفاسدة، وبعض الشباب يجلسون على قارعة الطريق، أو في جوانب الأرصفة يتعاطون الدخان، أو يشاهدون التلفاز، أو يسمعون الغناء، أو يطبلون ويرتكبون ما حرم الله، وربما يكون في بعض هذه المجالس فرصة لديهم لاقتناص بعض صغار السن وتوريطهم بتعاطي الدخان، ثم ربما يجرونهم من وراء ذلك إلى الحاجة إلى المال، وربما يوقعونهم في الفواحش والموبقات. فمن الجرم العظيم أن تغفل عمن ولاك الله تعالى أمرهم، خاصة من الصبية الصغار، ينبغي أن ينظم الإنسان لهم برنامجاً، وما ينبغي للإنسان أن يكون مغفلاً يقول: هل أغلق عليهم الباب؟ لا تغلق عليهم الباب، ضع لهم الوسائل التي يستفيدون منها في هذه الإجازة، هناك فرص كثيرة، يوجد قصص للصغار، ويوجد أشرطة للصغار، وأناشيد مفيدة يمكن أن تفيدهم. يوجد مجلات نافعة للصبية الصغار، ويوجد ألعاب، لا بأس أن تحضر لأولادك مراجيح، أشياء يلعبون بها، دراجات في المنزل لا يخرجون بها، لا بأس أن تحضر لهم جهاز الكمبيوتر إن كانوا يعرفون ذلك، فهو يصلح لمن كان في سن الثالثة والرابعة والخامسة الابتدائية وما فوق، ويوجد برامج مفيدة، برامج قرآن كريم، وحديث، وبرامج لغة عربية، ومسابقات، وبرامج ألعاب بريئة مسلية ليست محرمة، لكنها تلهي الشباب وتصرفهم عن مجالس السوء. فينبغي أن تدركوا -أيها الإخوة- أنه من يوم أن يتعود الطفل والشاب الصغير على الخروج من المنزل؛ حينئذ تعتبر هذه خطوة كبيرة نحو الفساد؛ لأنه إذا خرج أصبح الوالد لا يتحكم فيه، ولذلك قد يوفق بأناس طيبين صالحين، كحلقة قرآن، أو مركز طيب، أو زملاء من أهل الصلاح، وقد يوفق -وهذا هو الغالب- بقرناء سوء؛ فعندئذ ليس للأب في ذلك يد، ولا يستطيع أن يمنعه منهم، ولو منعه لخرج سراً، والأب لن يقف بواباً عند باب المنزل حتى لا يخرج الولد، الأب سيسافر، وسينام وسيذهب إلى عمله. فينبغي أن نجعل الخطوة الأساسية هي أن نربي أولادنا داخل البيوت، ولا مانع أن تصرف جزءاً من وقتك لأولادك، تخرج معهم في نزهة أو زيارة، في ذهاب أو إياب، فإذا لم تستطع فاصحبهم معك في الأعمال الضرورية، وأنت خارج إلى السوق لشراء بعض الحاجيات، اصحبهم معك، وأنت ذاهب إلى زيارة قريب أو إلى رحلة حتى يتربوا على عينك. هذا وأود أن أقول في ختام هذه الكلمة: إن هذه الجلسة أو هذا الدرس هو الوحيد قبل الحج؛ وذلك لأنني سوف أسافر في نهاية هذا الأسبوع بإذن الله تعالى إلى المنطقة الشرقية، وأقول للإخوة الأكارم: بإذن الله تبارك وتعالى، سوف نستأنف هذه الدروس في يوم الأحد، الثالث والعشرين من شهر ذي الحجة لهذا العام، كما أن درس بلوغ المرام لهذا الأسبوع، سوف ينعقد -إن شاء الله- في موعده المحدد في يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 14 إعداد برنامج نافع أولها: أنه ينبغي للإنسان أن يرسم لنفسه برنامجاً حسناً في هذه الإجازة، يستغلها في طاعة الله، وفي قراءة الكتب المفيدة، وفي حضور مجالس العلم وحلقات العلم، وفي إعداد البحوث النافعة، وفي الأسفار المفيدة، من سفر إلى الحج والعمرة، والرحلات المفيدة، والسفر في الوعظ والإرشاد، ودعوة الناس إلى الخير، وفي السفر إلى الجهاد في سبيل الله، وفي السفر إلى مشاهدة أحوال المسلمين اللاجئين والمهاجرين في أماكن كثيرة، إلى غير ذلك من الأمور المشروعة، التي يزداد الإنسان بها خيراً وعلماً وبراً وقرباً من الله عز وجل. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 127 ¦ الصفحة: 16 الحج مع جماعة ومنفردا ً السؤال أيهما أفضل الحج مع جماعة أو منفرداً؟ الجواب الأفضل أن تحج مع جماعة بشرط أن يكونوا رفقة صالحين. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 17 منع الوالد ولده من الحج السؤال هذا سؤال يحيرني جداً؛ حيث إني عزمت على الحج ونويت، فلما قلت لأبي أبى عليَّ وقال: لا أسمح لك. فقلت: لماذا؟ فقال: أخاف عليك. فحاولت إقناعه وأخبرته أن الأعمار بيد الله ولكنه كان مصراً؟ الجواب مادام الحج بالنسبة لك فريضة؛ فعليك أن تقنعه وتسلط عليه من يقنعه ثم تحج مهما كان الأمر، أما إن كان نافلة وأصر والدك على بقائك ورأيت مصلحة في طاعته؛ فالأولى في نظري أن تطيعه. أقول للإخوة أجمعين: جزاكم الله خيراً، وأسأل الله أن يجمعني وإياكم والمسلمين في دار رحمته وكرامته، وأن يعفو عني وعنكم ويتقبل منا الحسنات، ويتجاوز عنا السيئات، ويوفقنا للطاعات والقربات، اللهم آمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 18 من وكل في الأضحية هل يأخذ من شعره السؤال إذا وكلني أحد على التسمية في الأضحية، فهل يجوز له أن يأخذ من شعره؟ الجواب المضحي نفسه -أي الذي اشترى الأضحية- وأراد أن يضحي عن نفسه؛ لا يجوز له أن يأخذ من شعره أو ظفره شيئاً. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 19 رمي الجمرات ليلا ً السؤال هل يجوز رمي الجمرات ليلاً ويكون بعد صلاة العشاء؟ الجواب ذهب جماعة من أهل العلم القدماء وفقهائنا المعاصرين، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وسماحة الشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم من أهل العلم؛ إلى أنه يجوز رمي الجمرات ليلاً، وهذا فيه توسعة على الناس وفيه رفع للحرج، وخاصة إذا كان مع الإنسان نساء يخشى عليهن، والذي لا أشك فيه أن رمي الجمرات ليلاً، أو تأخير رمي الجمرات إلى اليوم الأخير فيرمي جمرات اليوم الأول، ثم يرمي جمرات اليوم الثاني، ثم يرمي جمرات اليوم الثالث؛ أفضل من التوكيل، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً للرعاة، الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل، والحديث صحيح، ولا شك أن المرأة المحتاجة والمسنة والإنسان الذي يخشى الزحام ومن في حكمهم، حاجتهم وضرورتهم أعظم بمراحل من حاجة الراعي، وهذا لا يشك فيه أحد. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 20 صيام بعض العشر السؤال من كان لا يستطيع أن يصوم جميع الأيام التسعة من أيام العشر لظروفه الصحية، فهل يصوم بعضها؟ الجواب نعم يصوم حسب استطاعته، ويمكن أن يصوم منها يوماً ويفطر يوماً، أو يصوم الاثنين والخميس أو ما أشبه ذلك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 21 كتاب المتجر الرابح السؤال ما رأيك في الكتاب الذي ذكرته في كلامك وهو كتاب "المتجر الرابح"؟ الجواب كتاب "المتجر الرابح في ثواب العمل الصالح" " للدمياطي من الكتب المفيدة، مفيد جداً لأنه جمع الأحاديث في فضائل الأعمال، الذكر والدعاء والصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وغيرها، وإن كان فيه أحاديث ضعيفة ينبغي للإنسان أن ينتبه لها، والإمام الدمياطي تكلموا عنه أنه متسامح في تصحيح الأحاديث أو تحسينها فيتفطن الإنسان لذلك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 22 التردد في الحج السؤال أنا متردد في الحج هذا العام، وذلك أنني حججت أكثر من مرة، لكن لم يسلم ولا واحد منها -مع الأسف- من معصية، فما نصيحتكم؟ الجواب نصيحتي أن تحج، لا ينبغي للإنسان أن يتردد في فعل الخير. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 23 حديث عائشة في صوم العشر السؤال حديث عائشة الذي ذكرت -غفر الله لك- أنه في صحيح مسلم لدي حوله أمران: ألا يكون لفظ عائشة دال على أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم مفطراً، والثاني: ألا يكون الفطر بعض أو أكثر العشر. الجواب نعم حديث عائشة رضي الله عنها تقول: ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط. وظاهر كلامها يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام ما صام من العشر ولا يوماً واحداً، فهذا الذي أقول: لا يلزم أن تكون عائشة قد اطلعت عليه، فقد يكون صام يوماً وهو عند حفصة أو عند زينب أو عند ميمونة أو عند أم سلمة أو عند سودة فلم تعلم عائشة رضي الله عنها بذلك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 24 إمساك الشعر للحاج ونحوها السؤال من أراد الحج هل عليه ألا يمس شيئاً من شعره وأظفاره؟ الجواب نعم، بالنسبة للحاج معروف أنه عند الإحرام يستحب له أن يتنظف ويتطيب، مثلاً: يزيل شعر إبطيه وعانته، ويتطيب، ويأخذ أظافره عند الإحرام. وإذا أراد أن يتحلل فإنه يقضي تفثه بحلق رأسه. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 25 نصيحة لشاب يريد الحج السؤال ما هي توجيهاتكم لشاب يحج لأول مرة؟ الجواب توجيهاتي أولاً: أن تتعلم أحكام الحج قبل أن تحج، اقرأ كتاباً في المناسك، ومن أفضل الكتب التي أرشحها لك كتاب التحقيق والإيضاح في مسائل الحج والعمرة والزيارة لوالدنا وشيخنا الإمام عبد العزيز بن باز، اقرأ كتاب المنهج للشيخ الفاضل العلامة محمد بن صالح بن عثيمين، اقرأ كتاب مناسك الحج والعمرة للشيخ الألباني، اقرأ حجة النبي صلى الله عليه وسلم للألباني، اقرأ منسك الشيخ ابن تيمية أو أحد هذه الكتب، اقرأه مرتين أو ثلاث، واصحبه معك في حجتك. النصيحة الثانية وهي مهمة: احرص على المال الحلال. إذا حججت بمال أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور النصيحة الثالثة: اختر الرفقة الصالحة الذين يعلمونك الحج ويعينونك على طاعة الله، لا تحج مع شباب سفهاء يقضون الوقت في لهو وعبث وكلام فارغ، وقد يسمعون الغناء، وقد يغتابون الناس، وقد يرتكبون المعاصي، وقد يتكلمون في فلان وفلانة. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 26 تأخير الحج مع القدرة عليه السؤال شاب تهيأت له جميع فرص الحج، وربما لا تتهيأ له مرة أخرى، ولكنه يرفض أن يحج بدون عذر. نرجو منكم الإرشاد والتوجيه؟ الجواب في الواقع أنه من يسمع الأحاديث ولا يتحرك قلبه وتندفع همته للحج؛ فإنه يجب عليه أن يراجع قلبه لعله لا قلب له! لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} {ليس له جزاء إلا الجنة} فهو كفارة ويهدم ما كان قبله، ومع ذلك تحجم وتتردد مع تيسر الظروف والأسباب! لا ينبغي هذا. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 27 الحج من الجهاد السؤال هل الحج من الجهاد في سبيل الله؟ الجواب نعم، صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحج من الجهاد في سبيل الله. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 28 حركة الأصبع في التشهد السؤال ذكرت في أكثر من مرة الأبحاث الكثيرة في حركة الأصبع عند التشهد. فما هي الحركة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ الجواب الذي أعلمه الآن في تحريك الأصبع عند التشهد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان يقبض أصابعه الثلاث، ويضع الإبهام عليها ويحرك السبابة، هذه صورة. الصورة الثانية: يقبض إصبعين ويحلق الوسطى مع الإبهام ويحرك السبابة. أما متى يحركها؟ فإنه يحركها عند الدعاء وعند التشهد، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله حركها، وكذلك عند الدعاء مثل: اللهم صلِّ على محمد، اللهم بارك على محمد، أعوذ بالله من عذاب جهنم، يحركها وينظر إليها، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه كان ينظر إلى سبابته في التشهد عندما يحركها. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 29 رمي الجمار للنساء السؤال من معه نساء في الحج، ما حكم رمي الجمار لهن؟ الجواب ذكرت ذلك، لكن أشير للإخوة أنه بالنسبة للإنسان الذي سوف يحج بنساء؛ ينبغي له أن يتفطن لهن، يهيئ لهن المكان المناسب للطواف، وللسعي ولرمي الجمار، وللذهاب والإياب، ويحرص على تستر نسائه وبعدهن عن الزينة والتبرج بها؛ لئلا يرجعن مأزورات غير مأجورات. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 30 الشائعات حول الدعاة السؤال ما يتعرض له الدعاة من شائعات وشبهات باطلة، ما تعليقك على ذلك؟ الجواب أولاً: الكيد للدعوة والدعاة قديم، ومن أهم الوسائل التي كان أعداء هذه الدعوة يستخدمونها هي إلصاق التهم بحملة الدعوة ورجالاتها، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الطاهر المطهر الذي لم يكذب قط، ولم يعهد عليه في الجاهلية أنه ارتكب أمراً مما يعاب أو يشين، مع ذلك لما جهر بدعوته قالوا عنه: ساحر، شاعر، مجنون، كذاب، ورموه بشتى التهم وقالوا: إنه يريد رئاسة ويريد سلطة ويريد حكماً. ولا زال الدعاة إلى يومنا هذا يتعرضون لمثل هذه الأشياء، وقد أرشدنا الله عز وجل إلى المنهج الشرعي في مثل هذا الباب فقال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:16-17] وقال عز وجل: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فكل من ادعى على مسلم حتى لو كان مسلماً عادياً -وحتى لو كان فاسقاً أيضاً- من ادعى عليه دعوى لم يأت فيها بأربعة شهداء فهو عند الله من الكاذبين، أقول: عند الله. لاحظ النص القرآني: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] وهذه فرية مكذوبة مختلقة، وقد كشف الله سبحانه وتعالى أمرها وجلاها، وأقول كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11] قد أبانت عن مكانة الدعاة في نفوس الناس، وتقديرهم لهم، وتأثرهم بهم في القريب والبعيد وفي الداخل والخارج {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ} [النور:11] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69] . الجزء: 127 ¦ الصفحة: 31 حديثان يظن تعارضهما السؤال يقول: ورد في الحديث: {الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وورد: {إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيسبق عليه القدر} كيف نوفق بينهما؟ الجواب لا شك أن المقصود بالحج المبرور الذي جزاؤه الجنة؛ هو لمن لم يأت بما ينقضه، أما لو نقضه الإنسان بردة عن الإسلام والعياذ بالله فهذا كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:65] فالردة محبطة للأعمال. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 32 ذبح الهدي خارج الحرم السؤال ما حكم من ذبح الهدي خارج الحرم؟ الجواب ذبح الهدي خارج الحرم لا يجزئ ولا يجوز، ومن ذبح خارج الحرم فعليه الإعادة، وقد ذكر جماعة من أهل العلم الإجماع على ذلك -أي أن يذبح الهدي في الحل- مثل أن يذبح هديه بعرفة خارج الحرم. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 33 صوم العشر السؤال كيف يشرع صيام العشر من ذي الحجة مع أنه لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبت عنه؟ ألا يمكن أن يقال أن العمل الصالح عام وحديث عائشة خاص؟ وهل يمكن فعل شيء لم يفعله الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل هذا في الأصول؟ الجواب نعم، يمكن فعل شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر به أو استحبه، فقد ثبت عند جميع أهل العلم في الأصول وفي المصطلح وغيرهم؛ أن السنة هي ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، من قول أو فعل أو تقرير، فإذا قال شيئاً أو فعله أو أقر على فعله فإن هذا دليل على مشروعيته، فقد يُفعَل شيء بحضرته فيقره النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيكون هذا دليلاً على أنه مستحب أو مباح على الأقل، وقد يفعل شيئاً صلى الله عليه وسلم أو يأمر بشيء فيدل على أنه واجب أو مستحب، فهذا معروف في الأصول ومستقر عند جميع أهل العلم. أما كونه عام وخاص فهذا في حالة وجود تعار ض بين الحديثين، ولا تعارض بينهما -كما ذكرت- فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض فعله -كما أسلفت- أي لا يفتقر الفعل إلى قول، فإذا جاءنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، فلا نقول هل فعله؟! لا يلزم أن يكون قد فعله، قد يكون تركه لعارض. مثلاً: صلاة التراويح في رمضان والمحافظة عليها في كل ليلة، هذا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، بل صلى ليلتين أو ثلاثاً ثم ترك ذلك خشية أن يفرض على الناس، فهل نقول: إن صلاة التراويح طيلة الشهر غير مشروعة؟ لا، هي مشروعة باتفاق أهل العلم، وذلك لأن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للمحافظة عليها له سبب وهو خشية الفرضية، وهذا السبب زال بموته عليه الصلاة والسلام. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 34 حكم الأضحية السؤال قلت: إن الأضحية واجبة عند بعض أهل العلم، فهل هي واجبة كل سنة؟ الجواب الظاهر أنها واجبة عندهم كل سنة، لكن الراجح عند جمهور العلماء أنها سنة مؤكدة. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 35 دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة السؤال ما حكم دعاء الاستفتاح في صلاة الجنازة؟ الجواب لا يشرع، بل إن الإنسان إذا كبر في صلاة الجنازة يبدأ مباشرة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم) ثم يقرأ الفاتحة، ولا يشرع له أن يستفتح؛ لما في حديث ابن عباس رضي الله عنه. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 36 إنشاد الضالة في المسجد السؤال ما حكم من علم أن ساعته ضائعة في المسجد فجاء ينشد عنها؟ الجواب أما أن يعلن عن وجود ساعة ضائعة فهذا لا يجوز في المسجد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا سمعتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا له: لا وجدت. إنما بنيت هذه المساجد لما بنيت له} فلا يجوز إنشاد الضالة في المسجد. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 37 الحج عن الميت السؤال إذا حج الإنسان عن شخص ميت فهل له أجر على ذلك؟ وماذا يقول عند التلبية؟ الجواب نعم، له أجر على ذلك، خاصة إذا كانت نيته صالحة، ويقول أول ما يلبي بالحج: لبيك عن فلان. ثم يبدأ: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، لبيك إله الحق لبيك، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، إلى غير ذلك من أنواع التلبية الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام أو عن أصحابه. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 38 الحج بالأجرة السؤال ما حكم من كان قصده الأجرة من الحج، هل حجه صحيح؟ الجواب حجه صحيح، ولكن لا ينبغي ولا يجوز أن يحج الإنسان بقصد أخذ الأجرة، بل ينبغي إن حج عن أحد أن يحج بقصد الفضل، ومشاهدة الحجيج، وشهود المواقف، والطواف، وحضور يوم عرفة، والدعاء، ونيل الأجر من الله تعالى، والإحسان إلى أخيه المسلم. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 39 الحج والجهاد السؤال ذكرت حديثاً عن الجهاد فقدم الجهاد في سبيل الله على الحج، فما رأيك خاصة أن المجاهدين الأفغان بحاجة إلى المال الذي نذهب به لحج التطوع؟ الجواب في الواقع ليس هناك ما يدعو إلى ذلك، والحمد لله، قد وسع الله تعالى على الناس اليوم، فبإمكان الإنسان أن يحج، والحج لا يكلف أكثر من ألف أو ألف وخمسمائة ريال أو ألفي ريال على الأكثر، ويستطيع أن يحج ويساعد إخوانه المجاهدين في أفغانستان وفي غير أفغانستان، لا داعي لأن نجعل مساعدة الأفغان بديلاً عن الحج، ولكن حج وساعد إخوانك المجاهدين. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 40 التكبير المطلق والمقيد السؤال ما هو الفرق بين التكبير المطلق والمقيد؟ أليس المقيد داخل في المطلق بعد الصلاة؟ الجواب الفرق بين التكبير المطلق والمقيد: أن التكبير المطلق مشروع في كل وقت، كما قال البخاري رحمه الله: قائماً وقاعداً ونائماً وماشياً وداخلاً وخارجاً وفي كل وقت، أما التكبير المقيد فهو مخصص بصلاة الفريضة وفي أيام معلومة، من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 41 الحج عمن حج وقد مات السؤال والدي متوفى، وقد حج أكثر من مرتين، وأرغب في الحج له، فما الحكم؟ الجواب حسن، بارك الله لك وفيك، وتقبل الله منا ومنك، وهذا من البر بأبويك أن تحج لهما بعد حجهما، أو تتصدق عنهما وتدعو لهما، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمرأة أن تحج عن أبيها، وقد جاء في سنن ابن ماجة حديث لا بأس بإسناده: {أن رجلاً قال: أريد أن أحج عن أبي فهل ينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: حج عن أبيك، فإنه إن لم ينفعه لم يضره} فحج عن أبيك ولك أجر على ذلك. بقية السؤال: وكيف أقول بالدخول في نسك عن والدي؟ الجواب: تقول: لبيك عن والدي، لبيك عن فلان. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 42 الخروج للمبيت بمنى السؤال كثير من الحجاج يسكنون بمكة أيام التشريق، ويخرجون إلى منى للنوم فقط، ومع الفجر يذهبون إلى شقتهم، فما الحكم؟ الجواب لا حرج في ذلك، فإن المطلوب هو أن يبيت الإنسان بمنى. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 43 الصوم بمكة قبل يوم التروية السؤال هل يسن أن يصوم الحاج بمكة قبل يوم التروية؟ الجواب الذي يظهر لي أنه إذا لم يشق عليه؛ فإنه يشرع له كما يشرع لغيره صيام تلك الأيام. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 44 الحج الذي يمحو الذنوب السؤال هل خروج الإنسان من ذنوبه كيوم ولدته أمه في حج الفرض والنفل؟ الجواب الحديث عام: {من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه} فرضاً كان هذا الحج أو نفلاً. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 45 جبر الحج السؤال زوج يماطل زوجته ويمنعها عن الحج بزعم أنها حجت قبل ذلك، مع أنها تقول: حججت وكنت صغيرة، وأنا لا أعرف شيئاً عن الحج، وأنا أريد أن أجبر ذلك الحج. فما الحكم؟ الجواب مسألة جبر الحج كثير من الناس يقول: أنا قصرت في الحج وأريد أن أحج حجة أخرى تكون هي حجة الإسلام. فالحجة الأولى التي حجها الإنسان وهو بالغ هي حجة الإسلام، لكن لا شك أن النفل يجبر الفرض، فإن كانت هذه المرأة بالغة يوم حجت فالحجة الثانية نافلة، وينبغي أن تحرص على أن تحج وتقنع زوجها بذلك، وإن لم تحج هذه السنة حجت السنة التي بعدها أو التي بعدها، أو حتى بعد خمس سنين إن أعطاها الله تعالى عمراً، وإن كانت حجت وهي صغيرة -أي قبل أن تبلغ- فمعنى ذلك أن حجة الإسلام في عنقها، وعليها أن تحج حجة الإسلام، ويجب على زوجها أن يأذن لها بذلك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 46 تأجيل الحج عن الميت السؤال أنا شاب أبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وقد سبق أن حججت، وتوفي عمي وهو يبلغ من العمر سبعين سنة ولم يحج، وقد توفي قبل سنتين، وأنا أريد أن أحج عنه؛ لكن لا أستطيع لظروف. فهل يجوز أن أؤجل الحج عن عمي؟ الجواب نعم، يجوز أن تؤجل الحج عن عمك، ومتى زالت هذه الظروف ووسع الله عليك حججت عنه. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 47 من أذنب وهو في الحج السؤال إذا حج رجل وارتكب ذنباً عمداً، وندم بعد ذلك بقليل وهو في الحج، ولا يريد أن يكون حجه ناقصاً، فماذا يفعل ليكون حجه نفلاً؟ الجواب لا يمكن أن يكون حجه نفلاً وهو لم يؤدِ فريضة الإسلام، حجه فرض؛ لكن عليه أن يتوب إلى الله تعالى ويستغفر من هذا الذنب الذي فعله، فإن الذنب ينقص أجره، ولكن عليه بعد ذلك أن يكثر من حج النفل حتى يجبر الفريضة. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 48 ارتكاب ذنب أو ترك واجب ركوناً على فضل الحج السؤال هناك أحاديث كثيرة تشير إلى عمل من الأعمال، وفيه ضمان لمن أدى هذا العمل أن يدخل الجنة، مثل حديث: {الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} وعلى هذا يفعل بعض الناس كبائر من الذنوب ويقولون: يكفي الحج، أو قد يتركون الصلاة محتجين بالحديث؟ وما صحة الحديث: {يأتي زمان يحج قراؤهم رياءً وفقراؤهم للمسألة} وهل يمكن أن يحج الإنسان للتجارة وللحج؟ الجواب نبدأ الجواب من الأخير: كونه يحج للتجارة وللحج لا حرج، كما قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198] قال ابن عباس: [[أن يحج وهو يريد أن يتاجر أيضاً]] وقد أجمع أهل العلم على ذلك. وأما حديث: {يأتي زمان يحج قراؤهم رياءً الحديث} فيما أعلم ضعيف. قول الأخ: إن الإنسان يعتمد على هذه الأحاديث، فالذي أظنه -والله تعالى أعلم- أن قلب المؤمن لا يطيعه على ما تدعيه أيها الأخ، أي أن الإنسان الذي عنده ذرة من الإيمان لا يمكن أن يقبل على المعاصي، ويقول: يكفي الحج والعمرة؛ لأن في قلب المؤمن شيء يحرق ويدافع عن المعصية، ولذلك تجد الإنسان إذا عصى يتألم قلبه حتى يتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ولو نظرت في سير الصحابة، اقرأ مثلاً كتاب التوابين، أو التائبين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أو أي كتاب آخر، تجد أن الإنسان إذا وقع في ذنب يشعر بحرقة في قلبه لا يخرجه منها إلا توبة نصوح، بل كثير من الناس يقول: لا يطمئن قلبي إلا أن يهراق دمي في سبيل الله عز وجل، فتجده يتعرض للشهادة لعله أن يموت في سبيل الله، فالإنسان الذي عنده إيمان لا يمكن أن يعتمد على مثل هذه الأحاديث فقط ويقول: أفعل المعاصي؛ لأنه قد لا يفعل هذه الطاعات، وقد لا يكون فعل هذه الطاعة بنية خالصة؛ حتى يتحقق له الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه الأحاديث تكون مرغبة للأعمال الصالحة من جهة، وتكون مزيلة للقنوط واليأس الذي يقع في نفوس بعض العصاة من جهة أخرى. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 49 الديون وحج التطوع السؤال عليَّ بعض الديون لعدة أشخاص، ولا أستطيع أن أسددها، وأريد الحج، وسبق أن حججت فرضي، فهل على شيء في ذلك، مع العلم أنني سآخذ حجة لأحد الأشخاص؟ الجواب على أي حال، سواء كان حجك لنفسك أو غيرك؛ إن كنت تعلم أن أصحاب الديون يأذنون لك في الحج ولا يمانعون من ذلك، فسواء استأذنتهم أو علمت ذلك من القرائن ووقائع الأحوال؛ فلا أرى في ذلك حرجاً. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 50 التوكيل في رمي الجمرات السؤال وكلني أحد الناس أن أرمي له الجمرات وقد رميت له قبل نفسي فهل يجوز؟ وقد عملت ذلك حرصاً على موكلي، وقد رميت له ست جمرات فقط؛ وذلك لوقوع السابعة مني ولم أستطع أخذها لكثرة الزحام؟ الجواب هذا فيه عدة أمور: منها أولاً: أنك رميت عنه قبل أن ترمي عن نفسك والأصل أن هذا لا يصح، الأصل أن تبرئ ذمتك ثم ترمي عنه، ومنها: أن الأصل أنه لا يوكلك إلا عند العجز، فإذا كان مستطيعاً فإنه يجب أن يرمي بنفسه. ومنها: أنك رميت له بست جمرات وكان يجب أن ترمي له سبعاً، على كل حال من ترك واجباً في الحج فإنه يجبره بدم. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 51 الأضحية على الحاج السؤال أريد أن أضحي وأريد أن أحج، هل أذبح أضحيتي هناك مع الهدي؟ الجواب ذهب الإمام مالك ورجحه الإمام ابن تيمية كما في الاختيارات، إلى أن الأضحية لا تشرع للحاج، فالهدي بدل عنها، والجمهور على أن الأضحية مشروعية للحاج وغيره، سواء ذبحها هنا أم هناك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 52 الأضحية في أماكن الحاجة إليها السؤال شاع بين الإخوة التضحية بين الأماكن المحتاجة كأفغانستان. ما مدى جواز ذلك؟ الجواب الذي يظهر لي أن الإنسان يجوز له أن يضحي في الأماكن التي يحتاج الناس إليها، فلا حرج أن يذبح أو يوكل من يذبح أضحيته في أفغانستان أو غيرها، وقد ذهب بعض أهل العلم المعاصرين إلى أنه ينبغي أن تذبح الأضحية في البلد الذي فيه الإنسان حتى تظهر هذه الشعيرة وتشهر. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 53 التلفظ بالنية في الأضحية السؤال إن النية محلها القلب فهل يلزمنا أن نسمي على الأضحية ونقول: عن فلان وعن فلان أم يكفي النية دون التلفظ؟ الجواب تكفي النية دون التلفظ ولو تلفظ فلا حرج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عني وعن لم يضح من أمتي} فلا حرج أن تقول عن فلان أو تنويها بقلبك الجزء: 127 ¦ الصفحة: 54 التكبير عقب الصلاة السؤال قولك عن ابن عباس: [[ما كنا نعرف صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] هل هو التكبير بعد الصلاة، أو خفض التكبيرة الأخيرة من التشهد الأخير؟ الجواب قوله: [[ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير]] أي أنهم كانوا يعرفون أن الصلاة قد انتهت إذا كانوا في الشارع؛ لأن ابن عباس كان صغيراً ربما يتأخر عن الصلاة أحياناً أو يأتي في آخرها، فيقول: كنت أعلم انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم -وإن كان هذا يحدث قليلاً أو نادراً- فيعرف رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد انتهى من الصلاة بارتفاع أصوات الناس بالتهليل والتكبير، فكانوا يعرفون ذلك بالتهليل والتكبير. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 55 المفاضلة بين بعض صيام النوافل السؤال أيهما أفضل: صيام التسع من ذي الحجة، أم صيام يوم وإفطار يوم، للحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام صيام داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً} ؟ الجواب الأفضل أن يصوم التسع من ذي الحجة كلها سرداً؛ وذلك لأن صيام يوم وإفطار يوم هذا لمن يصوم الدهر كله، فنقول له: الأفضل أن تصوم يوماً وتفطر يوماً، وهذا هو أفضل الصيام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو بن العاص. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 56 المضحي عن والديه هل يمسك عن شعره السؤال من تبرع بأضحية عن والديه، فهل يلزمه الإمساك عن شعره وأظفاره؟ الجواب من كانت أضحيته عن والديه أو عن أحد غيرهما؛ فإنه لا يلزمه أن يمسك عن شعره وظفره، إنما الذي يلزمه أن يمسك هو من أراد أن يضحي عن نفسه، فلو ضحى عن نفسه وأهل بيته -مثلاً- فإنه يلزمه حينئذ أن يمسك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 57 الاستظلال بمخيمات المطوفين بعرفة السؤال ما حكم الاستظلال ببعض مخيمات المطوفين في عرفة، حيث إنهم يأخذون مساحات كبيرة في ذلك الموقف، وقد يشق على المرء وجود مكان مناسب؟ الجواب لا شك أنه لا حرج في ذلك؛ لأنه ليس من حقهم أن يستقطعوا هذه الأماكن، فهذه أماكن مشاعر ليست لأحد، فإذا وجد الإنسان مكاناً فارغاً ليس فيه أحد؛ فإنه يحق له أن يجلس فيه ويستظل به، اللهم إلا أن يأتي إليه أحد، مثل أن يكون هذا المطوف حجزه لحجاج لم يأتوا بعد وسيأتون، فإن الإنسان في حالة مجيئهم ينبغي له أن يترك ويغادر هذا المكان؛ إذا كان في ذلك تضييق عليهم. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 58 سؤال عن الحج وطاعة الأب السؤال شاب يبلغ من العمر ست عشرة سنة يريد أن يحج، حيث أنه قد بلغ ولم يحج. ولكن أباه لا يسمح له بذلك ويقول: تحج بعد بضع سنوات. فهل ينبغي له أن يطيع أبويه، أو يحج بدون إذنهما؟ الجواب في الواقع أن من بلغ ينبغي له أن يحج من ذكر أو أنثى، ولا يشترط في ذلك إذن الوالدين، لكن على الأب أن يأذن لولده بالحج بل عليه أن يأمره به، وكذلك الزوج ليس له أن يمنع زوجته من حج الفريضة إذا كانت قادرة مستطيعة، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الحج واجب على الفور، وعلى هذا القول فإن على الابن أن يحج بدون إذن أبيه، وكذلك الزوجة تحج ولا يحق لزوجها أن يمنعها؛ إذا وجدت محرماً أباً أو أخاً أو ابن أخ أو نحو ذلك؛ لكن على الإنسان -ذكراً أو أنثى- ألا يجعل بداية الإقناع هي الإلزام، فإذا قال لوالده -مثلاً- أنا بالغ وأريد أن أحج. قال له أبوه: ستحج العام القادم. فقال له: لا، سأحج، قد أفتى فلان وفلان بأنه لا يشترط إذنك. هذا ليس أسلوباً مع الوالد، بل ينبغي أن يأتيه بالأساليب السمحة السهلة اليسيرة، ويبدأ بالتدريج والإقناع، يستخدم وسائل الضغط، يكلم الوالدة وبعض الأقارب، يتحدث إلى الوالد ويحسن إليه، ويحرص على إقناعه بكل وسيلة، فإذا عجز هنا يجعل سلاح الفتوى بأن يحج ولو لم يأذن له، يجعله آخر حل. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 59 حكم من حج شاكاً في بلوغه السؤال لقد حججت قبل العام الماضي وعمري حوالي خمس عشرة سنة، فهل هذا الحج يعتبر فرضاً أم يلزمني أن أحج مرة أخرى علماً أنني لا أعلم هل بلغت حينئذٍ أم لا؟ الجواب البلوغ يكون بوسائل بالنسبة للذكر، منها بلوغ خمس عشرة سنة، كما في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: [[عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فردني، ثم عرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فقبلني]] فلما سمع عمر بن عبد العزيز هذا الحديث قال: [[إن هذا يصلح أن يكون حداً للفرق بين الكبير والصغير. ]] فمن بلغ خمس عشرة سنة فإنه يكون قد بلغ وحجه صحيح وهو فرض، وكذلك يكون البلوغ بإنبات الشعر فوق الذكر (شعر العانة) وكذلك يكون البلوغ بإنزال المني بيقظة أو باحتلام، فإذا تحقق أحد هذه الصفات الثلاث، والأنثى تزداد أمراً رابعاً وهو الحيض فإن الإنسان يكون بالغاً، أما إذا لم يتحقق لك شيء من ذلك؛ فإنه لا يكون بالغاً، ويجب عليه أن يحج حجة الإسلام. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 60 المراد بتكفير صوم عرفة لسنتين السؤال إن يوم عرفة يكفر السنة الماضية والسنة القادمة. ما المراد بذلك؟ الجواب أي يكفر سنة قبله وسنة بعده. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 61 التوكيل في الحج السؤال هل يجوز التوكيل في الحج عن المستطيع؟ الجواب الأصل أن يحج الإنسان بنفسه، وكذلك سائر الأعمال الأصل أن الإنسان يباشرها بنفسه؛ فإن أهل الجنة دخلوها بأعمالهم قال تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] دخلوها برحمة الله التي تأهلوا لها بأعمالهم، إنما يوكل عن الحج العاجز، فمن عجز عن الحج لزمانة أو مرض أو نحوه فإنه يوكل. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 62 زوائد الإنسان من ظفر ونحوه السؤال هل من المشروع الاحتفاظ بالشعر والظفر والسن للآدمي، والدعاء عند دفن السن، وهل شعر الإنسان محترم؟ الجواب لا أعلم في ذلك حديثاً مرفوعاً ولا أثراً صحيحاً، فإن دفن الإنسان هذه الأشياء فحسن، وإن وضعها في أي مكان مثل الزبالة أو القمامة فلا أعلم في هذا حرجاً، ولا أعلم في هذا أمراً مشروعاً. أما الدعاء فليس هناك دعاء مشروع عند دفن السن أو دفن الشعر أو غير ذلك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 63 الاعتكاف في العشر السؤال هل الاعتكاف مشروع في أيام العشر، ومتى يبدأ ومتى ينتهي إن كان مشروعاً؟ الجواب سبق وأن بينت في ثلاثين وقفة في مطلع شهر رمضان؛ أن الاعتكاف مشروع في كل وقت، ويتأكد في رمضان وفي العشر الأواخر منه، أما متى يبدأ ومتى ينتهي؟ فبحسب ما يريد الإنسان، فإذا أراد أن يعتكف يوماً أو ليلة أو يومين أو أقل أو أكثر بحسب ما يريد جاز له ذلك. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 64 نهاية يوم عرفة السؤال ما صحة قول من قال: أن نهاية يوم عرفة قبل دخول وقت الفجر من اليوم الثاني؟ الجواب نعم، ينتهي يوم عرفة بطلوع الفجر من اليوم الثاني، أي من ليلة مزدلفة. مثلاً: لو أن الإنسان وقف بعرفة في الليل -أي بعد يوم عرفة في ليلة مزدلفة- لكان حجه صحيحاً، وإن كان ينبغي أن يقف بعض النهار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد وقف بعد ذلك بعرفة أي ساعة من ليل أو نهار، فقد تم حجه وقضى تفثه. فمن وقف بعرفة ولو ليلاً فحجه صحيح؛ لكن يجب أن يقف جزءاً من النهار كما قاله كثير من أهل العلم. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 65 حج التطوع والصدقة السؤال إذا كان الإنسان قد حج أكثر من مرة، فأيهما أفضل: أن يترك الحج ويتصدق بثمن حجه؟ وما رأيك فيمن يحج رغبة في الرفقة الصالحة والاستفادة منهم علماً وإيماناً؟ الجواب أرى أن الحج أفضل من التصدق بثمنه، إلا أن يكون في الناس حاجة شديدة إلى المال لا تسد. وأما الحج رغبة في الرفقة الصالحة أو الاستفادة علماً وإيماناً؛ فهذا حسن وهو من المقاصد المشروعة. الجزء: 127 ¦ الصفحة: 66 سبل المشاركة الدعوة إلى دين الإسلام هي الخير العميم، وبه جعلت الأمة خير الأمم، وهذه الدعوة لها سبل عديدة، ووسائل مختلفة متى أغلق على المرء منها باب يمكنه أن يفتح باباً آخر وهكذا، وفي هذا الدرس ذكر الشيخ حفظه الله، وسائل وسبلاً متعددة ونافعة، وبين كيفية استخدامها. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 1 تخريج الدعاة إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته، وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وذريته وأزواجه يا أرحم الراحمين. أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته في هذا المجلس -وهو نهاية المجالس الرمضانية- في ليلة الأحد، لعله 13 من شهر رمضان من هذا العام، وقد كنت وعدت أن يكون موضوع هذا المجلس: أجوبة على بعض الأسئلة المتعلقة بدور الإنسان في الدعوة، واقترحت أن يكون عنوانه (سبل المشاركة) وسأقدم نماذج لبرامج عملية بإمكان أي إنسان أن يقوم بعملها أو عمل شيء منها، ليكون بذلك داعية إلى الله تعالى. إننا نحتاج لتخريج الدعاة إلى الله تعالى إلى أمرين: أولهما: توفر الهمة الصادقة، والشعور القوي بوجوب المشاركة، بحيث يشعر كل إنسان أن عليه مسئولية في الدعوة إلى الله تعالى، وواجباً يقوم به هو لا يجزئ عنه فيه غيره ولا سواه، وهذا يمكن أن يتم من خلال الطَّرْق المتواصل على موضوع الإيجابية، وضرورة المشاركة، ووجوب القيام بدور الإنسان في الدعوة. الأمر الثاني: الانتقال من هذا المعنى العام، إلى طرح برامج عملية وأسباب تفصيلية وطرق للدعوة إلى الله تعالى، وسوف أعرض اليوم ما تيسر منها، وهي لا شك برامج كثيرة جداً تتسع لمجالس عديدة، فمن هذه السبل والبرامج: الجزء: 128 ¦ الصفحة: 2 طريق المراسلة لو فتحت أي مجلة أو جريدة، داخلية كانت أو خارجية، لوجدت فيها زاوية للتعارف، يُنشر فيها أسماء وعناوين، وأحياناً صوراً لأعداد كبيرة لأناس من جميع البلاد، وغالباً ما تتم المراسلة بينهم وبين أمثالهم من المشغولين بالدنيا المنهمكين في شئونها، فلا تكون المراسلة إلا نوعاً من اكتشاف المجهول فحسب، أو اقتناء رسوم وصور وعناوين، أو اتخاذ صداقات يستعد بها الإنسان للمفاجآت والنوازل والنوائب، لكن ثمة طريقة يمكن أن تستثمر؛ وهي تحويل هذه الصداقات والتعارف إلى أسلوب للدعوة. إننا نجد الإذاعات هي الأخرى تعلن أسماء وعناوين للمراسلة والتعارف، والإذاعات التنصيرية على سبيل الخصوص، كإذاعة الإصلاح وغيرها، تقوم بإعلان أسماء كثير من الناس للتعارف معهم، وتستقبل رسائلهم وتراسلهم، فلماذا لا يدخل المسلمون الحلبة ذاتها؟ لماذا لا تفكر أنت بذاتك وعينك وشخصك ودعك من الآخرين؟ أن تعمل على جريدة أو مجلة أو إذاعة، حتى إذاعة لندن، وصوت أمريكا، ومونتكارلو وغيرها. تبث أسماء للتعارف، فلماذا لا تقتنص هذه الأسماء والعناوين وتراسل أصحابها بالكلمة الطيبة والهداية والنور؟ وتجعل مع الرسالة كتاباً، أو كتيباً، أو نشرةً، أو شريطاً، أو دعوة إلى الله تعالى، بحيث تستفيد من هذه الوسيلة في الدعوة، وسوف تجد أنك إذا راسلت واحداً أول مرة؛ فإنه في الشهر التالي سوف يبعث إليك عشرة من أقاربه وأصدقائه ومعارفه وأهل بلده، وكلهم يطلبون منك الشيء ذاته، والكتاب نفسه، وأن تبعث إليهم ببعض الكتب الإسلامية أو الكتيبات أو المجلات الطيبة أو الأشرطة النافعة، وتستمر هذه القضية، وستجد بعد سنة أنه أصبح عندك مشروع كبير، وأنك عاجز عن الرد على هذه الرسائل، فأنت محتاج إلى أن تستعين بإخوانك، وهكذا تتحول من داعية بنفسك إلى داعية يجنِّد الآخرين في الدعوة إلى الله تعالى، فتستعين بآخرين يشاركونك في هذا العمل، وستجد في السنة الثانية أنك محتاج إلى أن تنشأ قسماً للمراسلة باللغة الإنجليزية أيضاً، لأنه جاءتك رسائل بهذا الشكل، وسوف تجد في السنة الرابعة أنك محتاج إلى أن تجند زوجتك وأختك لمراسلة الفتيات للهدف ذاته. وهكذا تستطيع أن تنشر دعوة الله تعالى ونور الحق والخير في بلاد كثيرة، بل أقول: في كل بلاد الدنيا وأنت في بلدك ما ركبت طائرة، ولا غادرت الدولة التي تقيم فيها، ولا تحملت المشاق، ولا بذلت قيمة التذاكر، ومع ذلك فإن دعوتك ورسالتك وكلماتك شرَّقت وغرَّبت ووصلت إلى كل بلاد الدنيا. إنها طريقة سهلة ومع ذلك فهي مفيدة جداً، أعتقد أن ولدك ربما يشتري أو تشتري له أنت أحياناً، أو على الأقل تستعير له من ولد الجيران بعض مجلات الأطفال، وكثيراً من هذه المجلات فيها شر مستطير، وبعضها مجلات تنصيرية عندي منها نماذج، ولكن كلها فيها ركن للتعارف للأطفال، فلماذا لا تستغل ذلك فتبعث لهؤلاء الأطفال باسم ولدك أو تجعل ولدك يكتب لهم دعوة إلى الخير ودعوة إلى الهدى، ومرفق معها قصص إسلامية من قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو قصص الصحابة رضى الله عنهم وأرضاهم، لماذا لا تفعل ذلك وسوف تجد من وراء ذلك خيراً كثيراً؟ الجزء: 128 ¦ الصفحة: 3 الطريقة الثانية: إعداد نشرات للتوعية وتوزيعها إن الناس بحاجة إلى التوعية دائماً وأبداً، وخاصة في بعض المناسبات الملحة. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 4 عن النصرانية نشرة ثالثة: عن الديانة النصرانية: تتحدث عن حقيقة الدين النصراني كما أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام، وما طرأ عليه من التغيير والتحريف والتبديل، وبيان بطلان دين النصارى الذي يدينون به اليوم وما يشوبه من الشرك، والوثنية، والتناقض، ومخالفة الواقع والتاريخ والفطرة والتوحيد، ونشر هذه الورقة على نطاق واسع، خاصة في أوساط النصارى وغيرهم. إن إعداد مثل هذه النشرة وهذه لا تعدو أن تكون نموذجاً، وإلا فأنت من الممكن أن تعد نشرة للتوعية بخطر المخدرات، أو التدخين، أو العمال، أو الخادمات، أو سفر المرأة بدون محرم، أو أي موضوع آخر، ثم تعد هذه النشرة بشكل جيد وجذاب، وتعرضها على بعض أهل العلم ليتم توثيقها وتصحيحها، ثم طباعتها وتوزيعها، وتكون أنت شريكاً في مثل هذا العمل الطيب، ومن الممكن -بعد أن تجرب حظك مع نشرة- أن تنتقل بعد ذلك إلى نشرات أخر. من الممكن أن يكون نشاطك هذا الشهر لنشرة توزع على من يبيعون أشرطة الغناء، لتحذيرهم من هذا الخطر وبيان حرمته في الإسلام، وفي الشهر الثاني تكون النشرة موجهة إلى من يبيعون أشرطة الفيديو، وفي الشهر الثالث تكون موجهة إلى أصحاب محلات الحلاقة، وفي الشهر الرابع تكون موجهة إلى أصحاب بيوت الربا، بنوك الربا، من العاملين فيه والإداريين والموظفين والحراس والمتعاونين وغيرهم، وهكذا. إنه مجال خصب، ونحن أحوج ما نكون إليه، ورُبَّ كلمة لم يبذل فيها الإنسان جهداً كبيراً، ومع ذلك هدى الله بها خلقاً كثيراً. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 5 ضد أعداء الإسلام قام الهندوس بهدم المسجد البابري، وهدموا معه أكثر من 300 مسجد، وقتلوا أعداداً كبيرة من المسلمين، وساعدتهم في ذلك أجهزة الأمن الهندية، وظل المسلمون يشتكون؛ لكن لا من يسمع ولا من يجيب فـ حمزة لا بواكي له: أحل الكفر بالإسلام ضيماً يطول به على الدين النحيب فحق ضائع وحمىً مباح وسيف قاطع ودم صبيب وكم من مسلم أمسى سليباً ومسلمةٍ لها حرم سليب وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب فقل لذوى البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا أما لله والإسلام حقٌ يدافع عنه شبان وشيب فلماذا لا تقوم أنت بهذه المناسبة بإعداد نشرة تبين خطر الهندوس وعقائدهم وأهدافهم ونظرتهم إلى المسلمين، وواجب المسلم تجاه هذه الجرائم التي حلت بإخوانه؟ ثم تزكيها وتوثقها وتطبعها وتنشرها عن طريق صناديق البريد أو بشكل مباشر، أو عن طريق البريد نفسه، أو عن طريق الأصدقاء، وكثير ممن يملكون صناديق البريد، إذا فتح صندوقه وجد فيه دعاية لمحل جديد، محل تغسيل سيارات، أو ورشة جديدة، أو محل خياطة أو ما أشبه ذلك. لكن من النادر أن يفتح الواحد صندوقه فيجد فيه نشرة توعية تحذره من خطر الهندوس، وتبين واجبنا نحن المسلمين تجاه هؤلاء، وأنه يجب إبعادهم، وإلغاء عقودهم وحرمانهم من وظائف العمل رسميةً كانت أو شعبية في بلاد الإسلام. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 6 للتعريف بالإسلام مثلٌ آخر: نشرة تعريفية بالإسلام: تكون عبارة عن صفحة واحدة أو صفحتين؛ تقتصر على بيان القواعد والأصول العامة لعقيدة المسلمين في الله عز وجل، وأنه واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، توحيد الألوهية وأنه لا يعبد إلا الله، توحيد الربوبية وأن الله هو الخالق الرازق المحيى المميت، توحيد الأسماء والصفات وأن المسلم يقر لله تعالى بالأسماء الحسنى والصفات العليا، ثم أركان الإسلام ومبادؤه العظام، وكيفية الدخول في هذا الدين، وما أشبه ذلك من القواعد الكلية في الإسلام، نشرة في صفحة واحدة أو صفحتين، ثم يتم تزكيتها وطباعتها وتوزيعها بكافة الوسائل الممكنة. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 7 الطريقة الثالثة: زيارات ميدانية لدعوة غير المسلمين إن الإحصائية التي أعلنت رسمياً قبل شهور، أثبتت أنه يوجد في هذا البلد ما يزيد على أربعة ملايين إنسان من غير أهله، أما المسلمون ففي الواقع أنهم من أهل البلد، ولو كانت جنسياتهم من بلد آخر، من مصر، أو الشام، أو العراق، أو بلاد العجم أو غيرها، فهذا البلد وسائر بلاد المسلمين هي بلد واحد، لا يعرف الحدود الجغرافية، ولا الفواصل السياسية، فكل بلاد المسلمين واحدة، ونحن نعتبر أن المسلم المقيم بيننا، أياً كان لونه أو جنسه أو جنسيته أو بلده؛ هو أخونا له ما لنا وعليه ما علينا، وهو أحب إلينا، وأغلى في قلوبنا، وأرفع في نفوسنا من أخينا لأمنا وأبينا إذا كان مفرّطاً في الدين أو مقصراً في حقوق الله عز وجل، لكن الشأن في الملايين من غير المسلمين، من يهود أو نصارى أو بوذيين أو سيخ أو هندوس أو وثنيين أو ما أشبه ذلك. إن من المؤسف جداً أنهم يقيمون بيننا دون أن نبذل لهم أدنى مجهود، وقد يقيم الواحد منهم -أحياناً- عشر سنوات، ثم يرجع إلى بلده وهو لا يعرف عن الإسلام شيئاً، لماذا لا تقوم أنت شخصياً ببعض الزيارات التي هدفها دعوة غير المسلمين إلى الإسلام؟ زيارات إلى الورش والمصانع والمؤسسات والإسكانات وبعض المزارع، أو الشركات التي يوجد فيها عدد كبير منهم، سواء كانت هذه الزيارات منظمة، من خلال مكاتب الدعوة مثلاً، أو كانت زيارات اجتهادية شخصية من قبل نفسك، وأنت رابح بكل تأكيد من وراء هذه الزيارة، والربح يمكن أن يكون أحد البطاقات التالية: الجزء: 128 ¦ الصفحة: 8 الأجر العظيم عند الله البطاقة السادسة والأخيرة: هب أن ذلك كله لم يكن حتى إقامة الحجة ، هب أنك وجدت لغته من اللغات التي لا تحسنها أنت، ولم تستطع حتى إقامة الحجة عليه، فأنت حينئذٍ عندك البطاقة السادسة وهي: الأجر فكل خطوة يرفع لك بها درجة ويحط عنك بها سيئة أو خطيئة. فأنت مأجور على كل حال، ومسعاك هذا مسجل عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى. إن هناك فوائد أخرى غير هذه، وهي: اكتشاف أحوال هؤلاء وأوضاعهم، والأشياء التي يعيشونها، فقد يكون بينهم مسلم مضطهد فتزيل اضطهاده، وقد يكون عنده منكرات ظاهرة تزيلها، وقد ينشرون في المجتمع، خمراً أو مخدرات، أو أفلاماً فاسدة أو مجلات منحطة، أو يتصلون ببعض الشباب، أو يرتكبون ويسهلون بعض الفواحش، فتكون أنت سبباً في الاحتساب على هذا المنكر وإزالته. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 9 إقامة الحجة البطاقة الخامسة: إذا لم تفلح في ذلك كله فعندك إقامة الحجة عليهم، فأنت بلغتهم آيات الله وأحاديث رسول الله، والعقيدة الصحيحة، وفي صحيح مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار} فأنت كنت سبباً في إقامة الحجة عليهم وتبليغهم رسالات الله عز وجل، فأنت حينئذ تكون ممن يبلغون رسالات الله، ويخلفون النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته، فأنت من ورثة المرسلين. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 10 تشكيكه في دينه البطاقة الثانية: تشكيكه في دينه، فإنك لما دعوته إلى الإسلام، وعرضت عليه مميزات هذا الدين ومحاسنه وفضائله؛ أثرت عنده تساؤلات عن دينه، ووضعت في عقله علامات استفهام عن العقيدة التي ورثها كابراً عن كابر، وهذا التشكيك في دينه قد يأتي بعد سنة أو أكثر من يزيده شكاً فيه، حتى يصبح في حالة تردد، ثم هذا الشك سيجعله يبحث عن الحق ولو بعد حين. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 11 تفتير القسس عن الحماس لدعوتهم البطاقة الثالثة: أن هذا الإنسان كان قسيساً أو داعيةً إلى دينه، فلما دعوته إلى الإسلام وكررت عليه، وبدأت وأعدت، وحاصرته بالدعوة، تولد من ذلك فتور الحماس، لقد شعر أن هناك متحمسين لدينهم في هذه البلاد، وأنهم حتى هو استهدفوه بالدعوة وحاولوا صرفه عن دينه، فحينئذٍ يفتر حماسه، كما يفتر حماسك أنت لو دعوت نصرانياً فوجدته متصلباً في دينه متحمساً لدينه، مصراً عليه، فإن بعض المسلمين قد يفتر حماسه حينئذٍ. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 12 تخفيف العداوة للإسلام البطاقة الرابع: تخفيف عداوته للإسلام، ولا شك أن الكفار كلهم أعداء للدين، ولكن بعضهم أشد عداوة من بعض، فأنت قد تفلح في تخفيف عداوته للدين، وقد تقول أنت: وأي فائدة من تخفيف عداوته؟ نقول: بل له فائدة، فكل شيء له حساب، ومن نتائج تخفيف عداوته: أنه لو أسلم قريبه لما كان موقفه شديداً متعنتاً متصلباً، لأن عداوته للإسلام قد خفت، ومن تخفيف العداوة: أنه لو واجهه مسلم لم يكن كرهه له شديداً، وقد يصغي له ولو بعد حين، ومن تخفيف العداوة: أنه قد يقدم لبعض المسلمين خدمات، كما نعلم أن عبد الله بن أريقط وكان مشركاً، هو الذي دل النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر في حادثة الهجرة، وهكذا، فكل شيء ينبغي أن تضعه في حسابك. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 13 الدخول في الإسلام البطاقة الأولى: أن يدخل هذا الإنسان في الإسلام، وحينئذ فالأمر كما قال الله تعالى: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] . من رد عبداً آبقاً شارداً عفا عن الذنب له الغافر فهداية واحد على يدك خير كثير، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} توليت أنت عتقه من النار، ومن الكفر، وهذا أعظم من عتقه من الرق لو كان رقيقاً، لكن هب أنه لم يسلم، فهل يعني أن جهدك ذهب سدى؟ كلا! الجزء: 128 ¦ الصفحة: 14 الطريقة الرابعة: احتضان المسلمين الجدد الطريقة الرابعة: احتضان مجموعة من المسلمين الجدد: أو حتى من المهتدين الجدد وحل مشكلاتهم ومساعدتهم مادياً أو معنوياً، فالسجن فيه عدد من المنحرفين، والواقع فيه عدد كبير من هؤلاء، أما الكفار -فكما أسلفت- ممن الممكن أن تقول لإخوانك المسلمين: أنا سوف أكفيكم أربعة أو خمسة مهتدين جدد وسوف أحتضنهم، سأتصل بهم وأقيم معهم الصداقات، وأدعوهم إلى الله وأصبر عليهم، وأتحمل أخطاءهم، وأحلم عنهم، وأتدرب على دعوتهم إلى الله، وأحتسب ذلك كله عند الله، وسأعطيهم الكتب والأشرطة، وأسمع مشكلاتهم وأسعى في حلها، وأبذل قصارى جهدي في ذلك، حتى مشكلاتهم المادية سوف أسعى في حلها وتيسيرها، لعل الله تعالى أن يهديهم، سواء كانوا كفاراً أصليين تطمع في نقلهم إلى الإسلام، أو ممن دخلوا حديثاً في الإسلام ويحتاجون إلى توعية أو تثقيف، أو كانوا من المسلمين الشاردين الضالين، وهنا حينما يكون عندك خمسة أو ستة أو أقل أو أكثر، تكون قد كفيتنا جانباً مهماً. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 15 الطريقة الخامسة: تبني حملة توعية عن منكر من المنكرات مثلاً: الصحف المنحرفة أو المجلات الفاسدة التي تباع في المكتبات، والبقالات، والتموينات، وفي معظم الأماكن التجارية، ومثلها أيضاً: الكتب المنحرفة، ومثلها أيضاً الربا المحرم، أو الدخان، أو ألوان المحرمات، عندما تتبنى حملة ضد مثل هذه الأشياء في المحلات التجارية، بما تتطلبه هذه الحملة من زيارات لأصحاب الدكاكين والعاملين فيها، وإقناعهم بأن هذا العمل حرام، ومن توفير بعض اللوحات التي يمكن أن تعلق في بعض المحلات لتكون إرشاداً ودلالة، ومن اتصال بالأصحاب الأصليين، فقد يقول لك صاحب الدكان أنا موظف ليس بيدي شيء، لكن عندك صاحب المحل ومالكه، هذا تليفونه وهذا بيته اتصل به وهكذا. وتجند معك في هذا العمل مجموعة من الشباب، تبدءون بالحي الذي أنتم فيه، ثم تنتقلون إلى نطاق أوسع حتى تغطوا المدينة بأكملها، ثم المنطقة ثم الدولة؛ أي دولة وأي منطقة وأي مدينة وأي حي، بحيث يكون لكم دور في مقاومة ومكافحة المنكرات الظاهرة، والقيام بحملة توعية تتعلق بملاحقتها والقضاء عليها. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 16 الطريقة السادسة: إعداد مكتبات نموذجية صغيرة وتوزيعها على المحلات المختلفة حين نقول: مكتبة، لا نعني مكتبة ضخمة، بل نعني مكتبة قد لا تكلف أكثر من (600 ريال) فيها مجموعة من الكتب المفيدة، مجموعة من المختصرات التي تعرف بالإسلام، مجموعة من القصص التاريخية، مجموعة من الأشعار، مجموعة من الموضوعات المؤثرة وهكذا، ومثلها مجموعة من الأشرطة أيضاً، فعندما توفر -مثلاً- خمسين مكتبة في البلد، توضع في محلات الحلاقة، وفي المستشفيات في أماكن الانتظار، وفي الخطوط، وعند الأماكن التي يكثر فيها الشباب، حتى في الأندية الرياضية؛ بحيث أن الإنسان في أي مكان يلتفت فيجد أمامه مجموعة من الكتيبات وهو جالس، ينتظر دوره، أو ينتظر معاملة أو ما أشبه ذلك فيأخذ هذه الكتب فيقرؤها. من ذلك: سيارة النقل الجماعي -مثلاً- بدلاً من أن يوجد فيها الفيديو الذي يعرض على الركاب، أو الغناء توضع فيها مثل هذه المكتبات والكتيبات، لا تقل: (سيضيع الكتاب) دعه يضيع، فهذا الكتاب -أصلاً- قيمته ريال أو ريالان، فإذا أخذه شخص يستفيد منه هو، أو يضعه في بيته يستفيد منه أولاده، وحبذا أن يوجد مَنْ يأخذه لينتفع به أو من وراءه. فمثل هذا المشروع حين تتبناه وتجمع له التبرعات وتقوم به وتجتهد فيه، وتضع له مخططاً، سيكون مشروعاً مفيداً ناجحاً. أي انطباع يأخذه المشاهد -حتى من خارج البلد- إذا دخل إلى البلد، وأراد أن يحلق رأسه فوجد عند الحلاق كتباً إسلامية ومجلات طيبة، بدلاً من المجلات الخليعة الفاسدة، ثم ذهب إلى السوق فوجد لوحات تتحدث عن منع بيع الكتب السيئة، أو النهي عن التدخين، أو النهي عن كشف المرأة لوجهها، ثم كلما مشى في مكان وجد أثراً من آثار الخير يدل عليه، إنه دليل على صلاح أهل البلد وفاعليتهم وإيجابيتهم. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 17 طرق أخرى وأخيراً وليس بالأخير: جمع التبرعات، جاءني أحد الإخوة بطفله الذي لا يتجاوز الثانية عشرة بل الحادية عشرة من عمره، ومنذ زمن وهو في كل حين يأتيني بمجموعة من الأموال جمعها، هذه للبوسنة والهرسك، وهذه للصومال، وهذه لأفغانستان، وهذه لتفطير صائم، وكلما جاءه مشتر عرض عليه مشروعاً من هذه المشاريع بريال أو بريالين أو خمس ريالات، فعلى أقل تقدير المشتري يقدر هذه الهمة القوية عند شاب أو طفل في هذا السن، فيتجاوب معه، ويجمع من جراء ذلك مبلغاً، وقال لي الأخ: إني أربي ولدي منذ الطفولة ليكون شحاذاً، ولكن شحاذاً للإسلام. ويا حبذا هذا العمل! فأنت فحين تتبنى جمع التبرعات بين زملائك في العمل، أو بين أهل الحي أو جماعة المسجد، أو جيرانك، أو أقاربك، وكذلك الأخت المسلمة تتبنى جمع التبرعات في مدرستها، أو تتبنى جمع التبرعات في مناسبة من المناسبات، أو في مسجد من المساجد، أو في وسط مجموعة من النساء لها بهن صلة وارتباط، إن الدال على الخير كفاعله، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة: {من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء} . أيها الأحبة: إنه من المؤسف أن تعلم أنه قد يقيم مغنٍِّ في بريطانيا أو أمريكا، أو ممثلة أو راقصة، يقيم حفلاً ويصرف ريعه لصالح الأعمال الإنسانية، فتحسب الأموال فإذا هي أحياناً مئات الملايين، مع أنهم كما قال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] فالكافر يحب المال، بل محبة الكافر للمال أعظم من محبة المسلم، لأن المال هو كل شيء بالنسبة له، فلماذا يبذل الكافر هذا البذل العظيم وهو لا يرجو ثوابه عند الله، أما المسلم فيقبض يده بالصدقة؟ هذه نماذج عملية تحولك من مسلم عادي، أو مسلم سلبي، أو من مسلم متفرج إلى مسلم داعية، مسلم إيجابي، واعلم أنه لا يوجد تعارض أن تكون مسلماً داعية ولو كنت مقصراً، فليس من شرط الداعية أن يكون كاملاً، ولا أن يكون معصوماً، ولو كان كذلك ما دعا أحد. أسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته، ويوفقني وإياكم لمرضاته ويهدني وإياكم سواء السبيل. اللهم اعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعجل بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك يا رب العالمين! اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم إنهم ضعاف فقوّهم، وجياع فأطعمهم، وأذلاء فأعزهم، وخائفون فأمنهم، اللهم من كان منهم ضالاً فاهده يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك أن تقر عيوننا بنصر عاجل لهم، اللهم ارحم ضعف أخواتنا المسلمات في البوسنة والهرسك، اللهم ارحم ضعفهن يا خير الراحمين، اللهم ارحم ضعفهن، اللهم ارحم ضعف أولئك الأطفال، اللهم ارحم ضعف أولئك الأيتام، اللهم ارحم ضعف أولئك الشيوخ يا رب العالمين! أنت العليم بحالهم فارحمهم، وأنزل عليهم نصرك عاجلاً غير آجل. اللهم انصر إخواننا في الصومال، اللهم انصر إخواننا في السودان، اللهم انصر إخواننا في الجزائر، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في مصر، اللهم انصر إخواننا في الفلبين، اللهم انصر إخواننا في كشمير، اللهم انصر إخواننا في طاجكستان، اللهم انصر إخواننا في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين في أفغانستان يا أرحم الراحمين، اللهم أقر أعيننا بنصر عاجل للدين، اللهم إنه دينك الذي اخترته لعبادك يا حي يا قيوم، وبعثت به نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، فأظهره عاجلاً غير آجل على الدين كله، إنك على كل شيءٍ قدير. ثم إننا سوف نجمع هذه الليلة -وهي الأخيرة- فابذلوا كل ما تستطيعون، وسيكون الجمع للغرض ذاته الذي جمعنا من أجله أمس وقبل أمس، وذلك لشدة الأهمية، ولأن هذا الغرض لو تحقق لربما أعفانا من كثرة سؤالكم والإلحاح عليكم في المستقبل، أسأل الله تعالى أن يقيني وإياكم شح أنفسنا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل محمد. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 18 الخاتمة أسأل الله أن يستعملني وإياكم في طاعته، ويوفقني وإياكم لمرضاته ويهدني وإياكم سواء السبيل. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تعجل بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم انصر إخواننا المسلمين في البوسنة والهرسك يا رب العالمين، اللهم انصرهم على من بغى عليهم، اللهم إنهم ضعاف فقوّهم، وجياع فأطعمهم، وأذلاء فأعزهم، وخائفون فأمنهم، اللهم من كان منهم ضالاً فاهده يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك أن تقر عيوننا بنصر عاجل لهم، اللهم ارحم ضعف أخواتنا المسلمات في البوسنة والهرسك، اللهم ارحم ضعفهن يا خير الراحمين، اللهم ارحم ضعفهن، اللهم ارحم ضعف أولئك الأطفال، اللهم ارحم ضعف أولئك الأيتام، اللهم ارحم ضعف أولئك الشيوخ، يا رب العالمين، أنت العليم بحالهم فارحمهم، وأنزل عليهم نصرك عاجلاً غير آجل. اللهم انصر إخواننا في الصومال، اللهم انصر إخواننا في السودان، اللهم انصر إخواننا في الجزائر، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم انصر إخواننا في مصر، اللهم انصر إخواننا في الفلبين، اللهم انصر إخواننا في كشمير، اللهم انصر إخواننا في طاجكستان، اللهم انصر إخواننا في كل مكان، اللهم اجمع كلمة المسلمين في أفغانستان يا أرحم الراحمين، اللهم أقر أعيننا بنصر عاجل للدين، اللهم إنه دينك الذي اخترته لعبادك يا حي يا قيوم، وبعثت به نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، فأظهره عاجلاً غير آجل على الدين كله، إنك على كل شيءٍ قدير. ثم إننا سوف نجمع هذه الليلة -وهي الأخيرة- فابذلوا كل ما تستطيعون، وسيكون الجمع للغرض ذاته الذي جمعنا من أجله أمس وقبل أمس، وذلك لشدة الأهمية، ولأن هذا الغرض لو تحقق لربما أعفانا من كثرة سؤالكم والإلحاح عليكم في المستقبل، أسأل الله تعالى أن يقيني وإياكم شح أنفسنا، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آل محمد. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 128 ¦ الصفحة: 20 نصيحة حول جريدة الشرق الأوسط السؤال اطلع كثير من المسلمين على فتوى الشيخ ابن جبرين حول وجوب مقاطعة جريدة خضراء الدمن الشرق الأوسط لكن لا زال بعض الناس يتعاملون معها بكلمات وفتاوى وغير ذلك، فهل من كلمة لنا ولهم حول ذلك؟ الجواب الكلمات هي: مرة أخرى نريد منكم مقاطعة هذه الجريدة، بل نطمع منكم بمقاطعة جميع مطابع الشركة السعودية سواء جريدة الشرق الأوسط أو الاقتصادية أو الرياضية أو سيدتي أو المجلة أو غيرها، فهي من الناحية الصحفية والإخبارية ليست ذات جدوى، ومعلوماتها غير موثقة، إضافة إلى ذلك فهي تظهر عداءها لكل ما هو إسلامي، وهي وكر للعلمانيين وأعداء الدين، وحق علينا أن نحاربها ونقاومها ولا نمل ولا نكل، حتى نراها وقد ركعت لهذا الضغط. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 21 نسيان إخراج الفطرة السؤال من لم يخرج زكاة الفطر العام الماضي وهو يستطيع ولم يخرجها للنسيان، فما حكم ذلك؟ الجواب بعضهم يقول: يخرجها إن كان ناسياً، وبعضهم يقول: ينتهي وقتها وتكون بعد ذلك من الصدقات العامة. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 22 ما يقال بين تسليمات صلاة الليل السؤال الرجاء إيضاح ما يقال بعد كل تسليمة من صلاة الليل وبعد الوتر؟ الجواب الذي بعد الوتر "سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس، سبحان الملك القدوس" يمد صوته بالثالثة، أما ما بين التسليمات فلم يرد فيها ذكر خاص، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر بعد كل صلاة يقول: "أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله" أي: بعد الفريضة، ثم يقول عليه السلام: "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام". الجزء: 128 ¦ الصفحة: 23 استعمال معجون الأسنان للصائم السؤال أفتيت بجواز استعمال معجون الأسنان في نهار رمضان، ألا يتعارض ذلك مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائماً} ؟ الجواب المشهور في الحديث: {وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً} مع أن معجون الأسنان لا يدخل في المبالغة، فهو مثل السواك، يوضع على الأسنان ثم يزال بالماء، وقد جاء في رواية أخرى ذكرها الحافظ ابن حجر في التلخيص: {وبالغ في المضمضة والاستنشاق} أيضاً. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 24 قطيعة الرحم بسبب التليفزيون السؤال بسبب وجود التليفزيون قل ذهابي لصلة رحمي، مع العلم أنني نصحتهم وأعطيتهم شريطاً كي يستجيبوا؟ الجواب معناه: أن التليفزيون عند ذوي الرحم وعليك أن تزورهم وتنصحهم، وإذا كان عندهم تليفزيون وزرتهم فاطلب منهم أن يقفلوه، خاصة إذا وجد الغناء أو الموسيقى أو ما أشبه ذلك من المحرمات، ووجوده لا يمنع من صلة الرحم مع النصيحة كما بينت. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 25 ضيق الصدر بتذكر الماضي السؤال أنا مصاب بمرض نفسي، وهو أن يضيق صدري عندما تمر بذاكرتي بعض الأحداث السابقة وهي لا تستحق؛ لكن هكذا أنا، وعندما أضيق لا أدري ماذا أعمل، وربما تركت بعض أعمالي وظللت أفكر حتى أسكن، ثم يعود مرة أخرى فكيف ينشرح صدري؟ الجواب عليك بكثرة ذكر الله تعالى، قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فعليك بالإكثار من ذكر الله تعالى، وأوراد الصباح والمساء، وقراءة القرآن، والتبكير إلى الصلاة، وعمل الصالحات والخير والبر، والانهماك في الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحاول قدر المستطاع أن تنسى كل ما مضى، فإن كانت معاصي فتذكر أنها تحولت إلى حسنات بتوبتك إلى الله تعالى منها، وأنك يوم القيامة قد تتمنى أنك لو زدت منها؛ لأن الله تعالى عوضك عنها بحسنات، كما قال سبحانه: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] وإن كانت أشياءً أخرى فهي أمور قد قدرها الله تعالى وكتبها عليك، فلا يد لك فيها ولا حيلة، ثم إن كثرة احتكاكك بالناس وخاصة الأخيار يزيل هذه الحساسية، وعليك أيضا بكثرة الدعاء، ثم إنى أسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يشرح صدري وصدرك للإيمان. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 26 اعتكاف ثلاثة أيام من العشر السؤال هل يصح أن يعتكف الإنسان ثلاثة أيام فقط من العشر الأواخر؟ الجواب نعم. بإمكان الإنسان أن يعتكف ثلاثة أيام أو دون ذلك، حتى إن بعض الفقهاء يقول: اعتكف ولو ساعة أو نصف يوم، أو ما أشبه ذلك، لكن اعتكاف يوم كامل أو يوم وليلة هذا لاشك في جوازه، والأفضل أن يعتكف العشر الأواخر كلها. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 27 الوساوس في ذات الله السؤال ما رأيك بشاب تحدثه نفسه بأمر ووساوس لأن يسقط من أعلى مكان بالمدينة أحب إليه من أن يتحدث بها مع الآخرين، لأنها وساوس تتعلق بذات الله تعالى وبالرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب هذا لا يضرك شيئاً، عليك أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وتقرأ سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4] وتتفل عن يسارك، ثم لا تعبأ بما وراء ذلك، لأن الشيطان إذا رآك خائفاً قلقاً؛ فإنه يفرح ويزيد، وأما إذا رآك تفلت واستعذت بالله منه، فإنه يعرض عنك، وهذه الوساوس لا تضرك قط، لا في دينك ولا في دنياك ولا في آخرتك. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 28 زكاة الدين السؤال لي دين على بعض الأشخاص فهل أزكي عنه؟ الجواب إذا كان هذا الشخص مليئاً فإنك تزكيه. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 29 الطواف عن الأموات السؤال ما حكم ما يفعله بعض الناس عند الذهاب إلى بيت الله الحرام من الطواف للأموات؟ الجواب لا حرج في ذلك -إن شاء الله- إن طاف لميت، أو حج عنه، أو اعتمر عنه، فلا حرج في ذلك كله. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 30 القراءة بغير تجويد السؤال ما حكم قراءة القرآن الكريم بدون إقامة الحركات لمن لا يستطيع إجادتها؟ الجواب الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، هذه فتوى محمد صلى الله عليه وسلم، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 31 خروج المرأة معطرة السؤال بعض الأخوات تضع العطر وهي قادمة لتصلي التراويح وتسمع درساً، فهل هذا معناه إصرار على إثم أم ماذا يكون؟ الجواب قد يكون عدم معرفة بحكم الشرع، فربما أن الأخت ما سمعت حديث أبي هريرة عند أبي داود والنسائي قال: {أيما امرأة استعطرت ثم خرجت فمرت على رجال ليجدوا ريحها فهي كذا وكذا} وفي بعض الروايات قال: {فهي زانية} . الجزء: 128 ¦ الصفحة: 32 المزح بأخذ حق الغير السؤال ما رأيك فيمن يمزح فيأخذ مفتاحاً أو مالاً أو حذاءً أو غير ذلك؟ الجواب هذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لا يأخذ أحدكم نعل أخيه جاداً ولا هازلاً فإن ذلك يحزنه} . الجزء: 128 ¦ الصفحة: 33 زكاة مرتب التقاعد السؤال أنا واحدة ممن يعملن بحقل التدريس، ومن المتعارف عليه نظاماً أن يؤخذ من كل راتب قدر من المال ويسمى بالتقاعد، وتمضي عليه عدة سنوات، هل يزكى على هذا المال المدخر؟ الجواب أعتقد أن الجهة المختصة هي التي تقوم بتزكيته. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 34 الدعاء لأهل السنة في لبنان السؤال نرجو منكم حشر أهل السنة والجماعة في لبنان في دعائكم، وأن يقوي الله شوكتهم في هذا البلد، وأن يفضح الأحباش وسائر أعداء الدين، وأن يدمر مكائدهم وأن يجعل تدبيرهم في تدميرهم، ونفيدكم علماً أن هناك صحوة قائمة في هذا البلد -أعني لبنان- على أيدي الشباب الملتزم المتخرج من جامعة الإمام والجامعة الإسلامية وغيرهما. الجواب هذه بشرى، وقد سمعتها من عدد من الإخوة وظواهرها كثيرة، ونسأل الله تعالى أن يثبت إخواننا في لبنان، وأن يقوي شوكتهم ويشد من أزرهم، ويجمع كلمتهم على الحق، وأن يكفيهم شر أعدائهم. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 35 حكم التفصيل في الدعاء السؤال انتشر عند بعض الأئمة التفصيل في الدعاء فهل هذا هو المشروع؟ الجواب الأحسن هو الدعاء بجوامع الكلم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بجوامع الدعاء ويدع ما سوى ذلك. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 36 صلاة المرأة بالقفازين والتصدق عن الأحياء السؤال ما حكم الصلاة للمرأة وقد ارتدت القفازين، ورفع اليدين عند الدعاء، وهل يجوز التصدق عن الأحياء؟ الجواب أما الصلاة وقد ارتدت المرأة القفازين فلا حرج في ذلك، ومثل ذلك رفع اليدين عند الدعاء على ألا يظهر شيء من ذراعها، أما التصدق عن الأحياء فهو جائز، وكذلك التصدق عن الأموات. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 37 دخول الأطفال المسجد السؤال أرجو توجيه نصيحة للنسوة اللاتي تركن أطفالهن يؤذين المصلين؟ الجواب المرأة إن استطاعت أن تبقى في بيتها وتصلي ما كتب لها، فهذا أفضل لها بلا شك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {وبيوتهن خير لهن} لكن أيضاً أنتم لا تكونوا حساسين، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إني أكبر في الصلاة وأريد أن أطيلها فأقصرها لأني أسمع بكاء الصبي} فدخول الصبيان للمسجد مع أهلهم إذا كان ثمة حاجة مع التحفظ في ذلك من نجاستهم ومن أذاهم بقدر المستطاع، فلا حرج فيه إن شاء الله. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 38 ردة القصيمي السؤال ما سبب ردة القصيمي عن الإسلام؟ وهل هو حي؟ وهل نصح؟ الجواب أما سبب ردته فقد سبق في علم الله تعالى، كما قال الله في الآيات: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:105-107] وقال ربنا عز وجل في الحديث القدسي: {هؤلاء للنار ولا أبالي، وهؤلاء للجنة ولا أبالي} أما السبب الظاهر للناس: فالأغلب أنها شهوة الظهور والعظمة والاستكبار والإعجاب بالنفس، تمكنت من قلبه نسأل الله لنا ولكم جميعاً الوقاية من هذا الداء العظيم. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 39 احترام الطعام السؤال رأيت رجلاً قد سقط على طرف ثوبه بعض الطعام، فأخذ قطعةً من الخبز ثم مسح طرف الثوب فأنكرت عليه فقال: إن هذا أمر طبيعي وإن القطعة يأكلها الطير والنمل فما رأيك؟ الجواب إذا كان سيضع هذا الطعام في مكان طاهر فلا بأس بذلك. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 40 اختيار الزوجة السؤال طلقت زوجي بعد سنة من زواجي لانعدام الود في قلبي لها، وبعد ذلك لقيت اللوم، وقال لي والدي: إذا أردت أن تتزوج مرة أخرى فابحث بنفسك عن زوجة ونحن لن نبحث لك، وأنا لا أستطيع الرجوع لأني لا أرغب بها وأرغب في الزواج من أخرى، فأرجو نصح والدي لعدم الضغط عليَّ بالرجوع؟ الجواب أن الزوج يطلق على المذكر والمؤنث، كما قال الشاعر: وإن الذي يسعى ليأخذ زوجي هذه هي اللغة القليلة، واللغة الأكثر هي زوجي، جاء بها القرآن الكريم كما في سورة الأحزاب وغيرها قال الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] أي: زوجتك. أولاً: قبل أن تتزوج حاول أن تتحرى بقدر المستطاع، فأكثر الشباب يهجمون على الزواج دون روية، هذه نصيحة ثمينة ولن أطيل فيها. ثانياً: ليس كل البيوت تبنى على الحب، وسيدك محمد صلى الله عليه وسلم وسيدي الناصح الأمين يقول: {لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقاً رضي منها بآخر} وقد يرزقك الله منها ولداً صالحاً يجاهد في سبيل الله، قال الله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] . ثالثاً: أما إذ طلقت وأنت لا ترغب الرجوع إليها فهذا من حقك، وعلى أهلك ووالدك أن يكونوا عوناً لك على الخير. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 41 اقتراح تسجيل الأشرطة بجميع اللغات السؤال اللغة تحول بيني وبين دعوتي هؤلاء العمال، فأقترح أن تقوم محلات التسجيلات بعمل أشرطة بجميع اللغات؟ الجواب لماذا لا يكون هذا عملك أنت؟ فينبغي أن نكون منفذين لا مجرد مقترحين، ووجود أشرطة بلغات مختلفة توزع أو تباع اقتراح ممتاز، وبدلاً من أن توكل بها إلى أصحاب التسجيلات، وأصحاب التسجيلات الموجودون منهم والغائبون يقولون: وفرناها فما جاء أحد ليشتريها، قم أنت بهذا المشروع مع كوكبة من زملائك. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 42 البديل الإسلامي عن المحرمات السؤال كثيراً ما يتطرق الدعاة والعلماء -حفظهم الله- إلى بعض المواضيع والأمور المحرمة، ويحثون الناس على اجتنابها وسوء عاقبتها، وذلك لتعود الناس عليها وإلفهم لها دون محاولة إيجاد البديل، ومن هذه -مثلاً- المؤسسات الربوية، فلو وُجد البديل الإسلامي لهذه المؤسسات، لكانت الاستجابة الكبيرة والسريعة؟ الجواب هذا جيد، وهذه مسئولية الإخوة الاقتصاديين، بل مسئولية الشباب حتى من الدارسين، أن يوجد من بينهم من يتخصص في الاقتصاد، فإن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، ثم إني أقول: لماذا إذا وجد عندي أو عندك قرشان نذهب لإيداعها في البنك؟ لماذا يكون البديل مني أنا ومنك أنت؟ مشروع اقتصادي ولو بسيط، ولو أن تشتري بها دكاناً وتؤجره، أو سيارة وتؤجرها، أو تشتري بها نخلاً تقوم عليه وتبيع ثمرته في نهاية العام، أو ما أشبه ذلك من المشاريع البسيطة التي تتناسب مع رأس المال الموجود عندك! ثم إن هناك بنوكاً ومؤسسات مالية أفضل بكثير مما هو مشهور عند الناس، فمثلاً بعض المؤسسات التي تسمى بالبنوك الإسلامية، ومنها بنك الراجحى فهي في اعتقادي عند الجميع لا تقارن بأوضاع البنوك الربوية، حتى عند أولئك الإخوة الذين يرون أن في معاملتها بعض الشوائب؛ فإنهم -لا شك- يوافقوننا على أنها أفضل من غيرها، لأنها -على أقل تقدير- لا يمكن أن يودع عندها بفوائد، فلا يوجد في نظامها أن تودع مقابل فائدة معلومة قلت أو كثرت، ولهذه المؤسسة هيئة شرعية، يوجد فيها عدد من العلماء الموثوقين المعروفين، وأما الأخطاء والتجاوزات فهذه لا يسلم منها عمل، وخاصة في مثل هذه الظروف التي يسيطر فيها الربا على اقتصاديات العالم. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 43 توجيه للشباب السؤال مجالات الدعوة كثيرة، ولكن من لثمان كشتات في الأسبوع، ومن لأحوشة الضاحي التي يقضي فيها أكثر من 2500 شاب ليلياً على ما لا فائدة فيه حتى ساعة متأخرة من الليل، هؤلاء أكثرهم يحضرون معنا الآن أرجو توجيه كلمة لهم، وأن يجعلوا من برامجهم برنامجاً دعوياً؟ الجواب هؤلاء الإخوة سواء كانوا ممن يقضون أوقاتهم في هذه الأحواش، أو في ملاعب الكرة، أو على جنبات الطريق، كلهم مخاطبون بالحديث السابق، والمسئولية علينا جميعاً، ودين الله تعالى حينما نزل لم ينزل لفئة خاصة، بل نزل للبشر كلهم كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فهي مسئوليتنا جميعاً. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 44 التسبيح باليمنى والاقتصار عليها السؤال أرى بعض الناس يسبحون بأيديهم اليمنى فقط، وعندما سألت بعضهم أجابني إجابة لم تقنعني؟ الجواب جاء في حديث عند أبي داود والبيهقي، وسنده جيد {أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يعقد التسبيح بيمينه} وإن كان بعض أهل العلم يعتبر هذا الحديث شاذاً؛ ولكن تصحيحه مشهور عند جماعة من أهل الحديث. الجزء: 128 ¦ الصفحة: 45 المجاهرة بالمعاصي لا بد أن يهيمن الإسلام على حياة المسلم ولتحقيق ذلك هناك واجبات على المرأة تجاه هذا الدين، وواجبات على أولياء الأمور، كما ينبغي التفطن لأعداء الإسلام ودور الإعلام المساند لهم، والتعاون مع الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. والله يجيب دعاء عباده الصالحين من الأنبياء وغيرهم ويجيب دعوة المظلوم، وهناك آداب للدعاء ينبغي فعلها، كما أن هناك أسباباً للدعاء لابد منها. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 1 خطر المجاهرة بالمعاصي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أيها المسلمون أيها المسلمات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، في هذه الليلة نستقبل أولى ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان، وقد خلفنا وراء ظهورنا عشرين يوماً وليلة من هذا الشهر الكريم، فذهب أكثره وبقي أقله، فالخسار كل الخسار، والبوار كل البوار أن تمضي هذه المناسبات والفرص، ونحن على ما نحن عليه من تفريط وإضاعة وإهمال، وكأننا كما وصف الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف:169] . إنني أود أن أتحدث عن هذه العشر وفضلها، وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، لكنَّ هناك أمراً يقلق بالي ويؤرقني، ويجعلني مضطراً للحديث عنه، وترك الحديث عن هذه المناسبة العظيمة، ألا وهو ما نشاهده اليوم جميعاً في مجتمعات المسلمين من تحلل وفساد وانحلال. إن المعصية إذا سترت لن تضر إلا صاحبها، لكنها إذا أعلنت وجوهر بها فإنها تضر الخاصة والعامة، ولذلك حرص الإسلام على حماية المجتمعات من مظاهر الرذيلة والانحلال، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل -أي معصية- ثم يصبح، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وأصبح يكشف ستر الله تعالى عليه} المجاهر لا يعافى إلا أن يتوب إلى الله عز وجل، وما أكثر ما نجد اليوم في مجتمعاتنا من المجاهرة بالمعاصي! تلك المجاهرة التي توشك أن تحول مجتمعات المسلمين إلى مجتمعات تشيع فيها المعاصي والمفاسد، ويصبح الإنسان إذا أراد أن يستقيم يصعب عليه ذلك؛ لأن المجتمع ضده، فهو يسبح ضد التيار. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 2 إليكم يا أولياء الأمور وأنتم أيها الرجال، يا أولياء الأمور! أين أنتم من هذه المناظر؟ ما هذه الثقة المفرطة؟ كل الأسف ينتاب الإنسان حين يجد أن بعض الآباء يتقدمون إلى المساجد، وفي روضات المساجد، وخلف الإمام، ومن الممكن أن أحدهم يضع بناته وزوجته في السوق، ويذهب ليصلي التراويح والقيام وقبل السحور يأتي ليأخذهم من السوق، مسكين! أنت أيها الأب آخر من يعلم، لا تدري ماذا يجري. نحن لا نقول: أسيئوا الظن. لكن نقول: لا تبالغوا في حسن الظن، الإفراط في حسن الظن غلط، أنت ترى أن بنتك أو زوجتك أو موليتك تستحي أمامك، ولا يظهر منها أمامك إلا الشيء الطيب، وتنسى أن هذه الغريزة موجودة فيها، كما أن الرجل إذا رأى امرأة تثور غريزته، المرأة كذلك يحصل منها هذا الأمر، فما هو الشيء الذي يجعلك تبالغ في حسن الظن؟! ما هو الأمر الذي يجعل الأب قد ترك البيت لا يدري ماذا يجري داخل البيت، وأطلق الحبل على الغارب؟! التلفون في متناولهن، جهاز التلفاز والمسجل والفيديو والخروج والدخول والمجلات، بل السائق والخادم والخادمة في داخل المنزل، يا سبحان الله! لا بد أن نتصور كثيراً من بيوتنا الآن -حتى نكون أكثر وضوحاً- كثيراً من بيوتكم، لأننا لا نتكلم عن أناس غائبين، نحن نتلكم عنكم أنتم يا معشر الحاضرين، أنتم يا معشر المستمعين، البيت فيه سائق أو أكثر، وفيه خادمة أو أكثر، وفيه جهاز تلفاز، وفيه فيديو، وفيه أشرطة أغاني، وفيه مجلات، وفيه أجهزة هاتف، أحياناً كل غرفة فيها جهاز خاص للهاتف، يتصرف فيه الولد أو تتصرف فيه البنت كما يريدون، وفي نفس الوقت يوجد في البيت مجموعة من الشباب والبنات في سن المراهقة، هؤلاء الشباب والبنات نستطيع أن نقول: إنهم في كثير من الأحيان لم يتلقوا أي قدر من التربية. ما هو دورك أنت أيها الأب؟ قل لنا بالله عليك، ماذا علمت لهم؟! هل علمتهم الإسلام وربيتهم على الخوف من الله عز وجل وربطتهم بالله والدار الآخرة، وأحييت في قلوبهم ذكر الموت وذكر الجنة وذكر النار؟ لا، أبداً، إذا كان الأب جيد، فكل ما يفعله أن يوفر لهم هذه الأشياء مع الطعام والشراب، ثم يترك لهم الحرية يصنعون ما يشاءون. كيف ستكون النتيجة؟ النتيجة لا تحتاج أن أفصل فيها في هذا المكان الطاهر، النتيجة في رءوس الجميع، كل واحد منكم يعرف ما يجري في داخل كثير من البيوت، الشباب ينحرفون، والبنات يخرجن وينحرف بعضهن، والأجهزة من تلفاز وفيديو ومسجل تستخدم فيما لا يرضي الله عز وجل، في مشاهدة مسلسلات منحرفة، وأفلام خليعة، وأغاني ماجنة، ولذلك لا تستغربون حين تشاهدون الشهوات تتفجر. أ/ نتيجة الإهمال من الآباء: أحد الأدباء المعاصرين، يسمي هذا العصر الذي نحن نعيش فيه عصر الشهوة. وصدق هذا الرجل، هذا عصر الشهوة، أجهزة ووسائل كثيرة كل همها؛ أنها تحرض الرجال والنساء على الشهوات، الأغنية الماجنة الخليعة، الفيلم المنحط، المسلسل السيئ، المجلات التي ملأت البيوت اليوم، ثم إهمال الأبوين وتضييع التربية؛ أوجدت لنا جيلاً من الشباب والبنات لا يُعتمد عليه في دنيا ولا في دين، إن جئت للبنت لا تستطيع أن تشتغل في مطبخ المنزل، ولا عمل المنزل؛ لأنها قد كفيت هذا العمل ودللت، وأصبحت ترى أنها كالأميرة، ليس من شأنها أن تحرك ساكناً في البيت فهي مخدومة، وإن جئت إليها من جهة التدين والصلاح، فالله المستعان، ورحمة الله على أمهات المؤمنين وعلى المؤمنات الأول، هؤلاء النساء اللاتي ينتظر منهن أن تكون الواحدة وريثة لـ عائشة وزينب وخديجة وأم سلمة، أصبحت الواحدة لا همَّ لها إلا الاشتغال بتجميل نفسها بالأصباغ والمكاييج والملابس والحذاء والحلي والموضات والتسريحات وغيرها، وأصبحت البنت إذا شاهدت على شاشة التلفاز ممثلة أو مغنية بشكل من الأشكال في شعر رأسها أو ثيابها أو حذائها، أو أي شيء آخر؛ رأت أنه حق عليها أن تقلدها، وتسير على خطواتها، وتحاكيها حذو القذة بالقذه. ما أكثر انتشار هذه المجلات المنحرفة! مجلة النهضة الكويتية -مثلاً- يباع منها في الأسواق أكثر من ثمانين ألف نسخة في الأسبوع الواحد، أو سبعين ألف نسخة، من الذي يشتريها؟! وكذلك المجلة التي يسمونها: مجلة سيدتي، وقل مثل ذلك في محلات الفن، محلات السينما وغيرها، من الذي يشتريها؟ إنهن بناتكم ونساؤكم، وما يكاد يوجد بيت -إلا ما رحم الله- إلا ويوجد فيه شيء من ذلك. ما ذنب البنت إذا كانت لم تربَّ إلا على مشاهدة المجلات والأفلام، وسماع الغناء؟ وإذا خرجت إلى المدرسة وجدت قرينات سوء يحدثنها عن الصداقات وإقامة العلاقات، والمعاكسات في التلفون، وأشياء مثل هذا القبيل، وربما تبادل صور رجال أحياناً؟! وإذا جاءت للبيت ليس هناك تربية ولا توجيه ولا نصيحة، الأب مهمل مضيع، مشغول بالدنيا، من المزرعة إلى المؤسسة إلى الدكان إلى العمل، وكل ما يعرف عنه في البيت أن يأوي إلى البيت في وقت الغداء ويتغدى، وفي وقت العشاء ويتعشى، وفي وقت النوم يأوي إلى مضجعه. الإنسان لو زرع شجرة في مزرعة. أو في البر، إن تركها دون سقي ودون رعاية هلكت، لأنها تحتاج إلى الماء، وتحتاج إلى الرعاية، وتحتاج إلى الظل، وإذا أصابها شيء تحتاج لإزالته، فكيف ببناتك وأولادك تهملهم وتضيعهم؟ الجزء: 129 ¦ الصفحة: 3 دور أعداء الإسلام في نشر الرذيلة يجب أن يظهر ولاؤنا للإسلام، المجتمعات الإسلامية مهددة، وأعداء الإسلام يعملون ليل نهار على تحويل هذه المجتمعات إلى مجتمعات رذيلة، هم حريصون على ألا يبقى في هذه الدنيا كلها مسلمة واحدة ولا مسلم واحد، وإلا فما هو الذي يجعلهم يتعبون في سبيل ترويج البضائع الفاسدة والانحرافات في مجتمعاتنا؟ في بلاد الغرب عصابات ومؤسسات وشركات، بل وجهات ودول، كل همها زرع الرذيلة وزرع الشهوات والشبهات والفجور في عقولنا وفي بلادنا. هناك عصابات متخصصة -مثلاً- لترويج المخدرات في بلاد المسلمين، وهم يضحون في سبيل إيصال المخدرات عن طريق التهريب والبيع وغير ذلك، هناك عصابات وجهات وشركات ومؤسسات متخصصة في إصدار الكتب والمجلات والنشرات، والأشرطة وغيرها، ومحاولة إيصالها إلى كل شاب وكل فتاة، في سبيل إغرائهم بالوقوع في المتعة الحرام، وفي سبيل تحويلهم من مسلمين إلى مرتدين. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 4 إليك أيتها المسلمة الإسلام ليس مجرد شعار، أو كلمات تقال باللسان، ولا مجرد عبارات يرددها الإنسان بلسانه، ثم ينقضها في واقع حياته، الإسلام لا بد أن يهيمن على واقع المسلم وحياته كلها، وكيف يحصل هذا التناقض من المسلمة؟! كيف ترضى لنفسها أن تفتن هؤلاء الرجال، وتفتن نفسها بهذا التبذل والتبرج والسفور؟! ثم هذه الأعداد الكبيرة من النساء، كل واحد منا حين يمر في الشارع -ذاهباً أو آيباً- يجد في الأسواق وعند المعارض وغيرها أعداداً هائلة من النساء، وأقولها لكم: فتيات غير متزوجات في سن الخامسة عشرة والسادسة عشرة، في سن المراهقة وفتيات بأجمل زينة وأبهى زينة، وبصورة مثيرة وجذابة ومغرية، ويعرضن هذه المناظر على الرجال في قارعة الطريق. ألا تخافين الله عز وجل أيتها المسلمة؟ أما تذكرين أن هذا الجسم النظير سوف يوسد يوماً من الأيام في قبر وسوف يلعب به الدود لعباً؟ أما تذكرين أنه لن يبق من هذا الجسم شيء؟ سوف يؤكل منه اللحم والعظم ويبلى كله، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {كل ابن آدم تأكله الأرض إلا عجب الذنب} أي العظم في مؤخرته -الخرزة الصغيرة- أما يتذكر الإنسان هذا؟! أيغتر الإنسان بشبابه؟ أيغتر بجماله؟ كم من إنسان -ذكراً أو أنثى- كان مغروراً بقوته وبشبابه وبجماله، فعاجله الله بعقوبة، بمرض يحول هذا الجسم إلى جسم ضعيف واهٍ؛ حتى يصبح كأنه فرخ ضعيف من أثر المرض، ثم الموت له بالمرصاد. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 5 الخطوات المؤدية إلى الفاحشة الكبرى (الزنا) إن من المجاهرة بالمعاصي اليوم ما نجده من الخطوات والأسباب والوسائل المؤدية إلى الفاحشة الكبرى "الزنا"، الذي وصفه الله تعالى بأنه فاحشة، وحكم على فاعله -إن لم يكن محصناً- بالجلد مائة جلدة، وإن كان محصناً فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت شر ميتة -نسأل الله العافية- وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم مصير فاعليه من الذكور والإناث، بأنه أبشع وأفظع مصير، كما في صحيح البخاري عن سمرة بن جندب رضي الله عنه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الفجر التفت إلى أصحابه، فقال لهم: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ فإن رأى أحد رؤيا قصها على النبي صلى الله عليه وسلم. وإنه التفت عليهم يوماً، فقال: هل رأى منكم أحد رؤيا؟ قلنا: لا يا رسول الله. قال: لكني رأيت الليلة ملكين أتياني فأخذا بيدي، فصعدا بي جبلاً عظيماً، فمرا بي على رجل قاعد، ورجل قائم على رأسه معه كلوب من حديد، يضعه في شدقه -أي في الجانب الأيمن من فمه- فيشرشره حتى يبلغ قفاه، ثم يصنع بشدقه الآخر مثل ذلك، فيلتئم الأول، فيعود فيصنع به كذاك، فقلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا حتى أتيا بي على نهر من دم ورجل في وسط النهر، وعلى حافة النهر رجل آخر بين يديه حجارة، فإذا اقترب هذا الرجل ليخرج؛ ضربه فعاد كما كان. فقلت: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق. قال: فانطلقنا حتى أتيا بي على شيء مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه رجال ونساء، ونيران تتلهب، فإذا ارتفعت بهم النيران صرخوا وضوضوا، فدهش الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا، وقال: ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق} إلى آخر الرؤيا، المهم: أن هؤلاء الملائكة بعد أن انتهت هذه الرؤيا الطويلة، فسرا للنبي صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى، فقالا له: {أما الرجل الذي يشق شدقه، فهو الرجل يكذب الكذبة فتبلغ الآفاق، فيصنع به ذلك إلى يوم القيامة} فهذه عقوبة الله عز وجل للكذابين، الذين يهتكون أعراض الناس، ويسيئون إليهم ويشوهون سمعتهم بالأقوال الكاذبة، يفعل بهم ذلك إلى يوم القيامة جزاءً وفاقاً {وأما الرجل الذي في وسط النهر، فآكل الربا} الذي يأكل الربا مثل الذي يسبح في هذا النهر من دم، إذا أراد أن يخرج ضربه الملك حتى يعود في وسط النهر، في وسط هذه اللجة المتلوثة {وأما التنور الذي رأيت ومن رأيت فيه، فهم الزناة والزواني، يصنع بهم ذلك إلى يوم القيامة} كما تلذذوا في الدنيا بهذه اللذة الحرام، فالله عز وجل يعاقبهم من حين أن يموتوا إلى يوم القيامة؛ أن يكونوا وسط هذا التنور يعذبون، ولهم فيه صراخ وأصوات، وإذا كانوا فيه إلى عرصات القيامة فلهم وراء ذلك عذاب عظيم. أ/ السفور: أيها المسلمون والمسلمات هذه الفاحشة الكبرى، مما يؤرق ويحزن قلوب المصلحين؛ إن كثيراً من الناس اليوم لا أقول وقعوا فيها، لكن صاروا قاب قوسين أو أدنى منها، لأن الفاحشة الكبرى لها خطوات، من خطوات الفاحشة الكبرى: السفور. وكم هو محزن أن المسلمة التي تنطق بالشهادتين، وتصلي الصلوات الخمس، ويمكن أنها تأتي لتصلي التراويح والقيام، تخرج إلى الأسواق وقد لبست أجمل ثيابها، وتعطرت، ولبست هذه العباءة الخفيفة، وهذا الحجاب الخفيف الذي يلمعها، وبدأت تقف أمام أصحاب الدكاكين وأصحاب المعارض، تبايعهم وتشاريهم وتتبسط معهم في الحديث وتضاحكهم، وقد تقف أمام بائع الذهب، وقد يمس يدها، وقد يخرج من يدها الذهب أو يدخل في يدها الذهب، وقد يرى ذراعها كاملاً أين يوجد هذا؟! أهذا يقع في بلاد يظللها علم لا إله إلا الله محمد رسول الله؟ أهذا يقع من امرأة تؤمن بالله واليوم الآخر -مع الأسف الشديد- أن هذه المرأة قد تكون متزوجة في داخل بيتها لا يرى زوجها منها إلا الأمر السيئ، قد تقابل زوجها بثياب المطبخ، وقد تستقبل زوجها بروائح منتنة وبوجه مكفهر، وبأخلاق رديئة، وبعبارات بذيئة، قد يقع منها هذا، لكن حينما تكون مع رجال أجانب فخذ من التلطف والخضوع بالقول، والتجميل في الملبس والطيب والذهب وإظهار المفاتن والمحاسن، وإغراء هؤلاء الرجال قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19] . الجزء: 129 ¦ الصفحة: 6 الحرب على الإسلام الحرب الآن على أصل الدين، ولعلكم تسمعون أنهم الآن يحاولون أن يبثوا برامج تلفزيونية عبر الأقمار الصناعية لتصل إلى كل بيت، بحيث أنك يا من يوجد في بيتك جهاز تلفاز، ستجد نفسك يوماً من الأيام أمام موج كاسح من الأفلام والمسلسلات والتمثيليات والمسرحيات المنحطة، قد تعرض كل ما يخطر في بالك من رذيلة: الجريمة، والفجور، والشذوذ، وأنت لا تستطيع أن تتحكم، أنت تقول الآن: أستطيع أن أتحكم، وتستطيع أن تقول: لو كان التلفاز حراماً لم تأذن فيه الدولة؛ لأنه لا يأت إلا تلفزيون من هذه البلاد، بعد فترة دول العالم من فرنسا وبريطانيا وغيرها؛ تحاول أن تبث في بيتك هذه الأشياء المنحطة. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 7 قضية عدم مساعدة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هناك قضية خطيرة تتعلق بهذا الموضوع، مع انتشار المحرمات والمنكرات وشيوعها بشكل يقلق القلوب، ويزعج النفوس، ويبكي العيون، إذا فسدت البيئة، فقل على هذه المجتمعات السلام، تدعون فلا يستجاب لكم، وتستنصرون فلا تنصرون، وتستغيثون فلا تغاثون. من أسباب حرمان الناس من إجابة الدعاء: أن تشيع المنكرات بينهم فلا يغيرونها، فهذه النقطة التي أريد أن أؤكد عليها اليوم؛ إنه مع انتشار الفواحش والجرائم والموبقات والمنكرات، وإعلان الناس بها، أصبح الواحد منا والعياذ بالله يشعر بأن كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر كأنه ضده. في المجتمعات الأولى في عهد الرسول عليه السلام ومن بعده، كان هناك عصاة -بلا شك- فكانت توجد معاصي قليلة، لكن كان العاصي يبكي ندماً على معصيته، ويحزن، ويحب الصالحين، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويواليهم ويشعر بالخطأ، أما اليوم فكما يقول المثل: حشفاً وسوء كيلة. مع أن الواحد يعصي، ويرتكب ما حرم الله عز وجل، ويجاهر بالمعاصي، ويساهم بأن يمد يده إلى الأعداء -بقصد أو بغير قصد- في تخريب مجتمعات المسلمين، مع ذلك كله إذا وجد هذا الإنسان من يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، سواء شخصاً محتسباً أو جهات رسمية كهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو غيرها، لا يمد يده إليهم بالمعاونة، كيف هذا يا إخواني؟ أين الولاء والبراء في الإسلام؟ الولاء للمؤمنين يوجب عليك أيها المسلم الذي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويوجب عليكِ أنتِ أيتها المسلمة الناطقة بالشهادتين، يوجب عليكم يا من تترددون إلى المساجد؛ أن تمدوا أيديكم إلى الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أن تكونوا أنتم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، أن نكون يداً واحدة في مقاومة هذا الانحراف وفي إصلاح المجتمع، وإلا فالواقع -الآن- أن كثيراً من الناس يخربون بيوتهم بأيديهم. الإنسان الذي يأتي إلى البيت بجهاز فيديو، أو مجلة، أو شريط غناءٍ منحل، هذا في الواقع يخرب بيته بيده، وماذا فعل هذا الإنسان في سبيل مقاومة المنكرات؟! تجد أنه إذا سمع من ينصحه، قال: دعنا نحن نعرف كل شيء. المؤسف أنك تعرف كل شيء، أنت والله لا تعرف شيئاً، وإن كنت تعرف شيئاً فإن هذه المعرفة لا تنفعك بل تضرك، ثم إذا وجد من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الإصلاح، فإنه -لا أقول: لا يساعده ولا يمد يده إليه- بل ربما يقف حجر عثرة في سبيله، ربما يتكلم عليه بما لا يليق، ربما يرميه ويؤذيه بالألفاظ غير اللائقة، هل هذا هو حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علينا؟ الجزء: 129 ¦ الصفحة: 8 الغفلة مع حسن الظن بالأولاد هم يحاولون أن يحولوا مجتمعاتنا إلى مجتمعات رذيلة وفساد وانحلال، ونحن غافلون -مع الأسف الشديد- الأب، وولي الأمر، والمسئول هو آخر من يعلم، يمكن أن بعضنا لا يعلم ولا ينتبه للخطر إلا إذا قدر الله وشعر أن في بيته شيئاً غير طبيعي، اتصال هاتفي غير طبيعي، مجلات، أو اكتشف أفلاماً، أو -لا قدر الله- وقع ما لا تحمد عقباه، فيسود وجه الأب حينئذ. لماذا نؤثر السلامة، ونظن أن الأمور على ما يرام؟ لماذا نبالغ في حسن الظن بأولادنا وبناتنا؟ مع أننا لم نفعل لهم شيئاً، الآن لو كان الأب بذل جهده في تربية أولاده وبناته، وعلمهم ورباهم وذكرهم بالله عز وجل، وشاهد عليهم آثار الصلاح والتردد على المساجد، وقراءة القرآن، وشاهد على البنات الحجاب وكراهية الخروج والتزين والصلاة وقيام الليل، كما يوجد والحمد الله في بعض البيوت، فلا بأس أن يقول: أنا واثق فيهم، لكن تشاهد الآن أن الجميع غافلون، أولاد وبنات يدخلون ويخرجون، لا ترى عليهم من آثار الاستقامة إلا الشيء اليسير، ومع ذلك تفرط وتبالغ في حسن الظن بهم، وتظن أن الفساد والانحلال يأتي من أولاد الناس، وأن القصص التي تسمعها أنت لا تتعلق بك، إنما هي قصص أولاد الجيران وأولاد المجتمع، ومن هو المجتمع؟ المجتمع هو أنا وأنت والثاني والثالث، فكل واحد منكم أيها الرجال وأيتها النساء -أيضاً- يجب أن يشعر بأنه هو المخاطب. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 9 دورنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لنسمع قول الباري جل وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ؟ المخاطبون بقوله (كنتم) أنتم! نحن المخاطبون، ألم نسمع قول الله جل وعلا: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] ؟ بالله عليكم يا إخواني وأنتن يا مسلمات! كل واحد منا يوجه لنفسه هذا السؤال نحن في شهر رمضان، صائمون لوجه الله -إن شاء الله- ونتردد على المساجد، ونصلي التراويح والقيام، ويمكن أن الواحد منا يتصدق وينفق، بقي عليك سؤال: ما هو الدور الذي قمت به في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ما هو الدور الذي قمت به في سبيل إصلاح المجتمع؟! هل تكلمت بكلمة طيبة؟! هل وجهت أحداً؟! هل نشرت كتاباً مفيداً؟! هل نشرت شريطاً مفيداً؟! هل حذرت من خطر؟! هل نبهت على خطأ؟! هل بلغت عن فساد وانحلال موجود في المجتمع؟! كل واحد يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال، ما دوره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! الدين عدد لا يقبل القسمة، ليس بصحيح أن تتهجد وتحيي الليل وتصوم النهار، ثم إذا جئناك في هذا المجال؛ وجدناك بارد القلب لا تثور لك غيرة، إن هذا ليس علامة على وجود الإيمان، الإنسان الذي يسمع بأخبار المنكرات ويتحقق من وجودها، وهو بارد الأعصاب بارد العزيمة بارد الدم، لا يتحرك في قلبه عاطفة ولا انفعال ولا تأثر ولا حزن؛ هذا ليس عنده إيمان حقيقي، هذا يدل على تردي مستوى الإيمان في قلبه، إن كان في قلبه إيمان، كأنك تسمع بلاداً أخرى، أو كأنك تسمع أخباراً تاريخية؛ أنه في العصر الفلاني حصل كذا وكذا، وفي العصر الفلاني حصل كذا وكذا، نسأل الله العافية والسلامة. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 10 عاقبة عدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنها مصيبة أن المسلمين اليوم حذوا حذو الأمم الأخرى، النصارى يعبدون الله يوم الأحد في الكنيسة وغيرها، لكنهم في بقية أيام الأسبوع يعبدون غير الله، يعبدون الشهوات، ويعبدون المصالح، ويعبدون البنوك، ويعبدون الدرهم والدينار. واليهود كذلك يزعمون -كلهم يزعمون وهم كاذبون لا يعبدون الله عز وجل- يزعمون أنهم يعبدون الله عز وجل في يوم السبت، وفي بقية أيام الأسبوع يعبدون الشيطان، يعبدون الشهوة واللذة والمتعة الحرام. والآن كثير من ذريات المسلمين قد تأثروا بذلك، فأصبح الواحد منهم إذا جئته في المسجد، قلت: ما شاء الله، بكاء وخشوع وصلاة وذكر وتبكير، وإذا جئته أمام المنكرات، حتى في بيته، دعنا من السوق، دعنا من المنكرات العامة الاجتماعية، نريد أن ننظر في بيته نفسه، نجد في بيت هذا الإنسان منكرات طويلة عريضة، لا يبالي بها ولا يهتم لها ولا ينكرها، ولو قيل له في ذلك، قال: والله ما نستطيع وهؤلاء غلبونا. ما هذا التناقض بين شخصية هذا المتعبد في المسجد المبكر، وبين شخصية الراضي بالمنكرات؟! قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78-79] . الجزء: 129 ¦ الصفحة: 11 الواجب مد العون إلى الآمرين بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجب علينا أن نمد أيدينا إلى الجهات الرسمية، الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر، هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في التبليغ عن أي منكر، في مساعدتهم، وإعانتهم، في حماية ظهورهم، ما نسمح لأحد أن ينال منهم، أو يتكلم فيهم، أو يسبهم، حتى لو فرض أنه وقع خطأ، كل ابن آدم خطاء، جميع الجهات الرسمية وغير الرسمية تخطئ، فلماذا نسمح أن يكون هؤلاء عرضة لألسنة الناس؟ وواجب علينا أن يكون الواحد منا شرطياً عند باب بيته، لا يسمح بدخول أي بضاعة إلا بعد أن يفتشها، لا يدخل شريط أو فيلم أو مجلة أو كتاب أو غيره وأنت غافل مسكين لا تدري، تكون مثل الشرطي عند باب البيت. وهذا لا يكفي، لابد من التوعية، ذكرهم بالله عز وجل، ذكرهم بأيام الله، خوفهم بالله، أحي قلوبهم بالإيمان. وقبل ذلك كله واجب علينا جميعاً أن نأمر أنفسنا بالمعروف وننهى أنفسنا عن المنكر، فبهذا بعث الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فواجب على كل إنسان أن يأمر نفسه بالمعروف وينهاها عن المنكر، ثم ينتقل إلى غيره، فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، هذا حق الإسلام علينا، هذا هو الولاء والبراء في الإسلام. أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعز الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأن يجعلنا منهم، وأن يوفقنا إلى الأخذ على أيدي الظالمين، وأطرهم على الحق أطراً، وقسرهم عليه قسراً. أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وبصفاته العليا؛ أن يحيي في قلوبنا الغيرة على الحرمات، والغيرة على الدين، والغيرة على الأعراض. أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى صالح الأقوال والأعمال. أسأل الله عز وجل أن يحمي نساء المسلمين من الكيد الذي يراد لهن، وأن يوفقهن إلى التزام الحجاب، وتجنب السفور والاختلاط بالرجال، والخلوة وغير ذلك مما حرم الله عز وجل. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 12 إجابة الدعاء الحمد لله القائل: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] . والصلاة والسلام على رسوله القائل: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} والقائل صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} كما رواه الترمذي وغيره بسند صحيح. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 13 إجابة دعاء أتباع الرسول وتلقى هذا الإرث النبوي الكريم أصحابه الأطهار وأتباعه الأخيار، فكان الصالحون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم؛ إذا دعوا الله عز وجل جاءت دعوتهم مثل فلق الصبح. أ/ الإجابة لسعد بن أبي وقاص: هذا سعد بن أبي وقاص، كان مستجاب الدعوة، فإذا دعا لأحد أو دعا على أحد أجابه الله عز وجل، قام رجل من الناس فأساء إلى سعد بن أبي وقاص، وظلمه وكذب عليه، فدعا عليه، فأجابه الله تعالى. وتفصيل ذلك أن أهل الكوفة، كان سعد بن أبي وقاص أميراً عليهم، فاشتكوه إلى عمر، وقالوا: إن هذا الأمير فيه كذا وكذا، حتى إنهم قالوا: إنه لا يحسن أن يصلي. فدعاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأمير العادل المنصف وقال لـ سعد: إن أهل الكوفة شكوك في كل شيء، حتى قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي. قال سعد: أما إني أصلي بهم كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، أطيل في الأوليين، وأخفف في الأخريين. فقال عمر رضي الله عنه: ذلك الظن بك يا أبا إسحاق. ثم أرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، فذهبت هذه اللجنة إلى الكوفة، وبدأت تقف في أسواق الناس، وفي مساجدهم، وتسألهم: ماذا تقولون في سعد؟ فيقولون: لا نعلم إلا خيراً. حتى دخلوا على مسجد لبني عبس، فقالوا لهم: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ قالوا: لا نعلم إلا خيراً. فقام رجل مراءٍ، وقال: أما إذ سألتنا فإن أميرنا سعداً لا يقسم بالسوية، ولا يسير بالسرية، ولا يعدل في القضية. رجل فيه ظلم وحيف وإجحاف وجبن وخوف، ولا يساهم في المعارك. فقام سعد بن أبي وقاص وقال: [[اللهم إن كان عبدك هذا قام رياءً وسمعة، فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] والقصة في صحيح البخاري ومسلم، فطال عمر هذا الرجل حتى سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وطال فقره حتى إنه يمد يده يتكفف الناس، وتعرض للفتن حتى إنه كان على رغم فقره وشيخوخته وهرمه، يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغمزهن، فإذا قيل له في ذلك قال: شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. ب/ الإجابة لسعيد بن زيد: وكذلك ورث هذا الميراث النبوي الخالد سعيد بن زيد رضي الله عنه، فإن امرأة يقال لها: أروى بنت أوس، شكته إلى مروان بن الحكم أمير المدينة، وقالت: إنه أخذ شيئاً من أرضها، فقال سعيد بن زيد: [[أنا أخذت شيئاً من أرضها، بعد الذي سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال له الأمير مروان: وماذا سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: {من اقتطع شبراً من أرض طوقه الله يوم القيامة من سبع أراضين} ]] فقال مروان بن الحكم: لا أسألك بعد هذا بينة، يكفيني قولك هذا. ثم قام سعيد بن زيد يدعو على هذه المرأة التي شوهت سمعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ونسبت إليهم ما هم منه أبرياء، من الظلم والحيف والطمع في الدنيا، فقال: [[اللهم إن كانت كاذبة، فأعمِ بصرها، واجعل ميتتها في هذه الأرض]] قال الراوي عروة بن الزبير، والحديث أيضاً في البخاري ومسلم قال: [[فلقد والله عمي بصرها، حتى رأيتها امرأة مسنة تلتمس الجدران بيديها، وكان في هذه الأرض بئر، فبينما كانت تمشي في أحد الأيام سقطت في البئر، فكانت قبرها، وأجاب الله تعالى دعاء سعيد بن زيد]] . الجزء: 129 ¦ الصفحة: 14 قصة حاكم من حكام الأندلس وما زال الله عز وجل يتقبل دعوات الداعين، ويجيب استغاثة الملهوفين، متى ما كانوا في دعائهم صادقين، وإلى ربهم مخلصين، ومن الموانع سالمين، ولعل من الطريف أن أذكر لكم القصة الذي يذكرها بعض المؤرخين، والتي حدثت في الأندلس وفيها أسوة وعجب وعبرة. يذكر بعض المؤرخين أن حاكماً من حكام الأندلس يقال له: أبو الوليد بن جهور، وكان أمير قرطبة، إحدى كبار المدن الأندلسية، حاول بعض جيرانه أن يعتدي عليه وهو يحيى بن ذي النون ويأخذ ملكه في قرطبة، فاستنجد أبو الوليد بن جهور بحاكم من ملوك الأندلس، يقال له: المعتمد بن عباد، وكان ملكاً قوياً شاعراً أديباً مشهوراً، فجاء المعتمد بن عباد فأنجده وقضى على عدوه، ولكن المعتمد بن عباد لما رأى قرطبة، وما فيها من المياه والخضرة والأموال والترف؛ طمع فيها، وبدأ يخطط للسيطرة عليها، وأدرك ذلك ملك قرطبة أو أمير قرطبة ابن جهور، فذكر المعتمد بن عباد بالعهود والمواثيق التي بينهم، وذكره بالله، ولكن المعتمد بن عباد كان مصراً على احتلال قرطبة، وفعلاً تم للمعتمد بن عباد بعد طول كيد وتدبير، ما أراد من حكم قرطبة، وأخذ أمراءها فطردهم منها، وصادر أموالهم، وقتل منهم من قتل، وسجن منهم من سجن، فخرج بنو جهور، أمراء قرطبة، بلا مال ولا جاه ولا سلطان، أذلاء خائفين، مرضى مذعورين. وبعد أن خرجوا منها التفت الأمير إلى هذا البلدة التي طالما تمتع بحكمها، وعرف أنه لم يخرج منها إلا بسبب دعوات المظلومين، وبسبب الدماء التي سالت ظلماً وعدواناً، وبسبب الأموال التي أخذت بغير حق، وبسبب ظلمه للناس وحيفه في معاملتهم، عرف ابن جهور هذا فالتفت إلى قرطبة، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كما أجبت الدعاء علينا، فأخرجتنا من جنات وعيون، وزروع ومقام كريم، ونعمة كنا فيها فاكهين، فأجب الدعاء لنا فإننا اليوم مسلمون مظلومون. فدعا الله على المعتمد بن عباد وخرج بنو جهور، وظل المعتمد بن عباد ردحاً من الزمن يحكم قرطبة، ويتمتع بما فيها من الترف، حتى إنهم يقولون: إنه بلغ من ترف المعتمد بن عباد؛ أنه كان عنده جارية جميلة كان يحبها وكان اسمها اعتماد، وفي يوم من الأيام هذه الجارية أطلت من إحدى نوافذ القصر، فشاهدت بعض النساء البدويات يحملن على ظهورهن القرب، قرب السمن وغيره يبعنه في الأسواق، وقد هطل المطر من السماء، وأصبحت الأرض فيها من الوحل والطين، فكان هؤلاء النساء البدويات يطأن في الوحل والطين، وعلى ظهورهن القرب، فأعجب هذا المنظر هذه الجارية، وقالت للأمير: أريد أن أفعل مع بناتي ومع الجواري مثلما تفعل هؤلاء النساء، فقال الأمير: الأمر هين، وأمر بالكافور والمسك وماء الورد فخلط بعضه ببعض، حتى صار مثل الطين في أرض القصر، ولكن ليس من الطين والمطر والوحل، وإنما هو من المسك والكافور والورد، هكذا يكون الترف، ثم جاء بقرب وحزمها بالإبريسم أي بالحرير، ثم حملتها هذه الجارية ومن معها على ظهورهن، وبدأن يطأن في هذا الطين، أو بالأصح في هذا الورد والكافور والمسك، وتم لهن ما أردن، إلى هذا الحد بلغ ترف المعتمد بن عباد، ولكن تلك الدعوة التي أطلقها ابن جهور لا تزال محفوظة، دعوة المظلوم لا تزال محفوظة، والإنسان إذا دعا الله عز وجل وهو موقن، يجبه الله عز وجل إذا كان مظلوماً. وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانع ولذلك فإن ملك النصارى هدد المعتمد بن عباد، وطلب منه مع دفع الجزية أن يتخلى عن بعض الحصون والقصور، فرفض ووجد نفسه مضطراً أن يستنجد بحاكم من الحكام المرابطين وهو يوسف بن تاشفين فأرسل إليه يستنجده، فجاء يوسف بن تاشفين ودخل قرطبة، وخاض معركة ضد النصارى تسمى موقعة الزلاقة، وانتصر على النصارى وطردهم، ولكنه بعد أن انتصر عليهم، تقلبت الأمور حتى وجد يوسف بن تاشفين نفسه مضطراً إلى السيطرة على قرطبة، وقبض على المعتمد بن عباد وأولاده، فقتل بعضهم على مرأى من أبيهم ومسمع، وأودع المعتمد بن عباد السجن، في مدينة في المغرب يقال لها مدينة أغمات، حتى جلس فيها عشر سنوات مسجوناً، ثم انتهت هذه السنوات العشر بموته. وكان هذا الرجل في المغرب في أغمات مشرداً من كل شيء، القيود في يديه ورجليه، ويرى بناته اللاتي كن بالأمس يطأن بالمسك والكافور، يطأن في الطين والوحل اليوم، وهن يغزلن للناس -يشتغلن بالغزل- من أجل دراهم بسيطة لا يملكن شيئاً، وينظرن نظرة الحياء والاستحياء والخجل، فبكى بكاءً مراً ثم قال: يخاطب نفسه في إحدى المناسبات، وقد فرح الناس واستبشروا بالعيد، قال يخاطب نفسه: فيما مضى كنت بالأعياد مسروراً فساءك العيد في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعة أبصارهن حسيرات مكاسيرا يطأن في الطين والأقدام حافية كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا من بات بعدك في ملك يسربه فإنما بات بالأحلام مغرورا أيها الإخوة، ولا تزال الدعوات تستجاب من رب الأرض والسماوات، ولذلك فإن عليكم أن تدعوا الله عز وجل وأنتم موقنون بالإجابة، كم نجد في عصرنا الذي نحن فيه من قوم ظلموا فدعو فاستجاب الله لهم، قوم وقعوا في ضر فدعو الله فاستجاب لهم. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 15 مدح الرسل والملائكة والصالحين لدعائهم أيها الإخوة والأخوات أيها المسلمون والمسلمات هذه مواسم الطاعات والقربات، وهذا أوان الدعوات المستجابات. لقد مدح الله عز وجل رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام بكثرة دعائهم، فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] . ومدح ملائكته عليهم الصلاة والسلام بذلك، فقال جل وعلا: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] . ومدح عباده الصالحين بذلك فقال: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُون * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16-17] . فمدح الأنبياء والرسل والملائكة والصالحين بكثرة دعائهم واستغفارهم؛ خوفاً من الله عز وجل ورغبة فيما عنده، ولذلك وعد سبحانه بالإجابة: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقد تحقق هذا الوعد الإلهي الكريم منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى يوم الناس هذا، فما من عبد أو أمة يدعو الله عز وجل بصدق وإخلاص وإقبال، دعاءً سالماً من الموانع إلا أجابه الله عز وجل. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 16 إجابة دعاء الأنبياء أ/ إجابة دعوة موسى وهارون على فرعون: هذا موسى وهارون يدعوان الله عز وجل على فرعون وقومه: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيم) َ) [يونس:88] . قال الله عز وجل: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس:89] وهذا موسى يدعو مرة أخرى بأن يجعل الله له وزيراً من أهله: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:29-32] قال الله عز وجل في آخر الآيات: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] . ب/ الإجابة ليونس عليه السلام: وهذا يونس عليه الصلاة والسلام، يخرج من البلد الذي أرسل إليه غاضباً عليهم، إذ لم يجيبوا دعوته، فيركب في السفينة، فيأذن الله عز وجل فتتحرك الرياح والعواصف، فتهز السفينة يمنة ويسرة، فيساهمون ليلقوا في البحر بعض من في هذه السفينة، فتقع القرعة على يونس مرة ومرتين وثلاث، فيلقون به في البحر فيلتقمه الحوت، فيقول الله عز وجل: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144] وقال أيضاً: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء:87-88] . ج/ الإجابة لمحمد صلى الله عليه وسلم: وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل، فيجيبه الله تبارك وتعالى، يدعو الله على أعدائه الذين آذوه، بينما كان ساجداً في أحد الأيام في الحرم المكي قرب الكعبة، وبقربه جماعة من كفار قريش، فيقول بعضهم لبعض: أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان. فيلقيه على ظهر محمد؟ فيقوم عقبة بن أبي معيط، فيأخذ السلا فيلقيه على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، فيظل عليه الصلاة والسلام ساجداً لا ينهض، حتى تأتي ابنته فتأخذ السلا عن ظهره وهي تبكي، ثم تقبل على المشركين تسبهم، فيقوم النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف قرب الكعبة ويرفع يديه ويقول: {اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بـ أبي جهل، اللهم عليك بـ عقبة بن أبي معيط، اللهم عليك بفلان، اللهم عليك بفلان، ويعد سبعة من صناديد المشركين} كما في صحيح البخاري ومسلم، قال ابن مسعود: {فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى قليب بدر فألقوا فيها بعد أن انتفخت جثثهم، وأتبع أصحاب القليب لعنة} . ويدعو صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فيجيبه الله تعالى فيهم، ويدعو لبعض الناس فيجيب الله تعالى دعوته لهم: {اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين، بـ أبي جهل أو بـ عمر بن الخطاب} وما هي إلا ساعات قلائل، حتى يقبل عمر على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد لان قلبه للإسلام، فيقرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فيبكي ويسلم ويجيب الله تعالى فيه دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام. ويدعو مرة أخرى لـ ابن عباس، حين قرب له وضوءه وطهوره، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من فعل هذا؟ قالوا: ابن عباس يا رسول الله. قال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فكان ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، وكان الناس يشدون إليه الأسفار، ويضربون إليه أكباد الإبل يتلقون عنه علم التفسير ومعرفة التنزيل. ودعا النبي صلى الله عليه وسلم لـ أنس بن مالك خادمه: بأن يطيل الله عز وجل عمره، ويكثر ماله وولده، فطال عمره حتى كان من آخر الصحابة موتاً، وكثر ماله حتى امتلأت به أودية المدينة وكانت له بساتين في العراق وغيرها تغل في السنة مرتين، وكثر أولاده وأولاد أولاده؛ حتى إنه رأى بعينة قبل أن يموت ما يزيد على مائة من ولده وولد ولده. ودعا صلى الله عليه وسلم لغيرهم فأجاب الله تعالى دعاءه فيهم. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 17 آداب الدعاء أيها المسلمون ينبغي علينا أن نحرص على أن ندعو الله عز وجل في كل مناسبة، وإني أذكر لكم باختصار أهم الآداب التي يجب على المسلم، أو يستحب للمسلم مراعاتها، إذا أراد أن يدعو الله عز وجل: الجزء: 129 ¦ الصفحة: 18 الاقتصار على جوامع الكلم ومن أدب الدعاء: أن يقتصر الإنسان على الجوامع من الدعاء ويدع ما سوى ذلك، ولذلك إذا تتبعت دعاء النبي صلى الله عليه وسلم؛ وجدت فيه المعاني العظيمة والألفاظ المختصرة، اسمع مثلاً ماذا كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم: {اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، اللهم إني أسألك حبك وحب من أحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك، اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر، اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأهواء والأدواء} إلى غير ذلك من الأدعية المأثورة، التي فيها اختصار، وجمع لمعانٍ عظيمة، فالاقتصار على الجوامع من الدعاء هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 19 السؤال بالأسماء الحسنى والصفات العلى لله ومن آداب الدعاء: أن يسأل العبدُ ربَه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، لقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف:180] . الجزء: 129 ¦ الصفحة: 20 الدعاء ثلاثا ً ومن آداب الدعاء: أن يدعو الإنسان ثلاثاً، أي يكرر الدعوات ثلاث مرات، خاصة إن كانت الدعوات فيها مصلحة عامة للمسلمين والمحتاجين؛ فإنه يستحب تكرارها ثلاثاً، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه إذا دعا أن يدعو الله تعالى ثلاثاً. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 21 عدم الاعتداء في الدعاء وكذلك من آداب الدعاء: أن لا يعتدي الإنسان في الدعاء، يقول الله عز وجل: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] وللذلك في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه سمع ابناً له يقول: [[اللهم إني أسألك الجنة وحورها وقصورها ونعيمها وما فيها وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار، وحياتها وعقاربها وسعيرها وعذابها، فقال له: أي بني إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الدعاء، إذا سألت الله عز وجل فاسأله الجنة، فإنك إن أعطيت الجنة أعطيتها وما فيها، واستعذ به من النار، فإنك إن أعذت من النار أعذت منها ومما فيها]] أي: أنه لا داعي لهذه التفاصيل وكذلك صح عن عبد الله بن مغفل، أنه سمع ابنه يقول: [[اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الداخل إلى الجنة، أو القصر الأخضر، فهو يصف قصراً في الجنة كأنه رآه، فقال له: أي بني إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {سيكون في هذه الأمة أقوام يعتدون في الطهور والدعاء} اسأل الله الجنة واستعذ به من النار]] ولذلك فإن أشياء كثيرة يفعلها الناس اليوم، تُعَدُّ من الاعتداء في الدعاء: أ/ دعاء الله بأسماء لم تثبت: بعض الناس يدعون الله عز وجل بأسماء لم تثبت، مثل قول بعض الناس: يا سبحان، يا برهان، يا غفران، فهذه أشياء لم ترد في أسماء الله جل وعلا، إنما لا بأس أن تقول: يا رحمان! يا حنان! يا منان! يا ديان! وما أشبه ذلك من الأسماء التي ثبتت لله عز وجل. ب/ التفصيل في الدعاء: ومن الاعتداء في الدعاء: أن الناس يفصلون في الدعاء، فإذا دعوا فصَّلوا مثلما سبق، أسألك الجنة كذا وكذا وكذا، ويذكر تفاصيل ما في الجنة، حتى أن بعض الدعاة إذا دعا، يبدأ في وصف الجنة وكأنه في موعظة أو خطبة، ثم يبدأ في وصف النار وكأنه في خطبة تحذير وإنذار، وهذا لا يسوغ في الدعاء، بل هو من الاعتداء. ج/ الدعاء على أحد بالتفصيل: ومن الاعتداء: بعض الناس إذا دعا على أحد دعا دعاءً مفصلاً، فبدلاً من أن يقول: اللهم عليك بفلان، أو اللهم عليك بأعداء الإسلام، يبدأ بالتفاصيل، اللهم عليك بفلان، اللهم اجذع أنفه، واقطع أذنه، وافعل به كذا وكذا، وأصبه من الأمراض بكذا وكذا، وافعل بيده كذا، وبرجله كذا وبماله كذا، وبولده كذا، ويبدأ يطيل في الدعاء. ادع الله عز وجل كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم على قريش، إن كان مستحقاً للدعاء، اللهم عليك بفلان، اللهم عليك بأعداء الإسلام، فإن كان المدعو عليه مسلم، فمن الأولى أن لا تدعو عليه، بل أن تدعو له بالهداية والصلاح والمغفرة. د/ الدعاء بما لم يرد: ومن الاعتداء في الدعاء: أن بعض الناس يطيلون بأدعية لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يكون بعضهم جهال، فيدعون الله عز وجل بدعاء غير مأثور ولا مشروع، ولذلك نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، أنه كان يقول: [[إن أهل الجنة يحتاجون إلى العلماء، قالوا: كيف يحتاجون إلى العلماء؟ قال: إنه إذا قيل لأهل الجنة تمنوا، لم يعرفوا كيف يتمنون حتى يذهبوا إلى العلماء فيسألونهم ماذا نتمنى]] فما كل أحد يستطيع أن يحسن الدعاء ولذلك بعض الناس يريد أن يدعو فيدعو دعاءً غير لائق، وغير مناسب ولا ينبغي، مثل ذلك الرجل الأعرابي -كما ذكره الخطابي وغيره- الذي قام يستسقي وقال: رب العباد ما لنا ومالك، قد كنت تسقينا فما بدالك. هذا لا يليق بالله عز وجل أن يخاطب بهذا: قد كنت تسقينا فما بدالك. الله عز وجل لا يجوز أن يقال له فما بدالك، الله يعلم ما مضى وما يأتي، ولا يغيب عنه شيء جل وعلا. فالإنسان ينبغي أن يقتصر في دعائه على المشروع، كما قال الإمام أحمد رحمه الله، وقد سأله الأثرم فقال له: ماذا أقول في آخر صلاتي؟ قال: تدعو بما ورد. قال: أرأيت قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ثم ليتخير من المسألة ما شاء} ؟ قال: يعني مما ورد. والمقصود حين نقول مما ورد، لا يلزم بالنص، أي مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، سواء كان بالنص أو بالمعنى، فالأعرابي الذي كان يقول: {يا رسول الله، إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ، إنما أسأل الله الجنة وأستعيذ به من النار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حولهما ندندن} فكون الإنسان يدندن بما ورد، أي من الألفاظ النبوية أو من المعاني النبوية، لكن لا يعتدي بدعاء غير مشروع. هـ/ الدعاء بأمر مستحيل: وكذلك من الاعتداء في الدعاء: أن يدع الإنسان بأمر مستحيل، مثل كونه يدعو الله أن يبلغه منازل الأنبياء، فإن منازل الأنبياء لا يبلغها أحد غيرهم، ورتب الأنبياء لا يمكن أن يصل إليها أحد من الخلق. ومثل ذلك الدعاء بالخلود، بعض المنافقين إذا دعوا لحاكم أو لأمير، يقولون: خلد الله ملكك وأبَّد سلطانك. الله عز وجل هو الذي له البقاء الدائم في ملكه وسلطانه، أما ملك البشر فيزول، والكرسي يدور بهم، ولو بقي لهم ما انتقل من غيرهم، فهذا من الاعتداء في الدعاء الذي لا يجوز. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 22 الوضوء فمن ذلك أن يتوضأ إن لم يكن في صلاة. فلو أراد أن يدعو وهو في غير صلاة يستحب له الوضوء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يدعو توضأ. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 23 استقبال القبلة ومن ذلك أن يستقبل القبلة -أيضاً- فإنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبل القبلة في دعائه، كما في الصحيح {أنه استقبل القبلة وقال: اللهم اهدِ دوساً} وكذلك استقبل القبلة حينما أراد أن يدعو عند الصفا وعند المروة، وعند رمي الجمار، وعند المشعر الحرام وغيرها. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 24 الصلاة على النبي وحمد الله تعالى وكذلك ينبغي للداعي أن يبدأ دعاءه بالصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، والحمد لله تبارك وتعالى. ولذلك في الحديث الصحيح عن فضالة بن عبيد: {أن رجلاً جاء فصلى، فقال: ربي اغفر لي وارحمني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عجل هذا. ثم دعاه، فقال له: إذا صليت فاحمد الله وصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ادع، فجاء رجل آخر فصلى فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادع تجب} فعلى الإنسان أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويحمد الله تبارك وتعالى في أول دعائه. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 25 رفع اليدين إلى السماء وكذلك يستحب للداعي أن يرفع يديه إلى السماء، فقد تواتر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعو يرفع يديه إلى السماء، من نحو أكثر من أربعين طريقاً، عن أكثر من عشرين صحابياً: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في الدعاء} من ذلك قوله: {إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً} فينبغي للعبد أن يرفع يديه في الدعاء. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 26 الإسرار في الدعاء ومن آدب الدعاء: أن يسر الإنسان في الدعاء ولا يجهر، هذا إذا كان منفرداً وليس إماماً، فيستحب له الإسرار في الدعاء، كما قال الله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف:55] . وقال: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:2-3] . أما إن كان إماماً فإنه يجهر ليسمع المأمومين. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 27 أسباب إجابة الدعاء أيها الإخوة أريد أن أختم هذه الكلمة بذكر أسباب الإجابة باختصار شديد، وهي خمسة فاحفظوها: الجزء: 129 ¦ الصفحة: 28 السلامة من الموانع السبب الخامس من أسباب الإجابة: السلامة من الموانع. يقول الإنسان: دعوت فلم يستجب لي! نعم دعوتَ فلم يستجب لك ففتش في نفسك، هل عندك موانع منعت إجابة الدعاء؟ إن كنت ممن يأكل الحرام؛ الربا، أو أموال الناس بالباطل، لا يستجاب لك، ولذلك في صحيح مسلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى يستجاب له} هذا مسافر يجاب له الدعاء في الأصل، ومسلم ويدعو الله بأسمائه الحسنى يا رب، ويمد يديه -كما سبق- مع ذلك من البعيد جداً أن يستجاب له، كل قرش تدخله إلى بطنك أو إلى جيبك من حرام؛ يمنع إجابة الدعاء، فعليك أن تصفي مالك من الحرام، وتتوب إلى الله عز وجل وتخرج من المظالم. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 29 ما يتعلق بالمكان السبب الرابع: يرجع إلى المكان، فإن هناك أمكنة يجاب فيها الدعاء، كما يكون ذلك داخل الكعبة، وحجر إسماعيل الذي يقع إلى الشمال من الكعبة هو من الكعبة، فالدعاء فيه يرجى أن يكون مجاباً، ولذلك دخل النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة ودعا في نواحيها، وكذلك الدعاء في الملتزم، وهو ما بين الحجر الأسود وباب الكعبة، فقد ورد عن ابن عباس وغيره أحاديث في أنه يجاب عنده الدعاء. كذلك فوق الصفا وفوق المروة، وعند المشعر الحرام، فإنها أماكن يجاب عندها الدعاء. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 30 ما يتعلق بالداعي نفسه السبب الثاني: يرجع إلى الداعي، وذلك مثل أن يكون الداعي مضطراً: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] أو صائماً، فإن الصائم له دعوة مستجابة، لا أقول عند فطره، ولكن للصائم دعوة لا ترد، وكذلك المسافر دعوته لا ترد، والوالد على ولده دعوته لا ترد، والمظلوم دعوته لا ترد، والحاج والمعتمر دعوته لا ترد. وبصفة عامة: فكل سبب يجعل الإنسان يخبت في الدعاء ويخلص، وينكسر لله عز وجل، ويبكي بصدق، ويدعو دعاء الإنسان الغريق في البحر، الذي يعلم أنه لا نجاة له إلا بالله عز وجل؛ فهذا يجاب. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 31 ما يتعلق بالزمان السبب الثالث من أسباب الإجابة: ما يرجع إلى الزمان. فإن هناك أزمنة فاضلة يجاب فيها الدعاء، كالثلث الأخير من الليل، فأسمع الدعاء في جوف الليل الآخر، حين ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فيقول: {هل من سائل، من تائب، هل من مستغفر} وكذلك ساعة الجمعة، ما بين أن يدخل الإمام إلى أن تقضى الصلاة، والساعة الأخيرة من العصر يوم الجمعة، وكذلك ليلة القدر فإنها من أوقات الإجابة، ولذلك قالت عائشة: {يا رسول الله، أرأيت إن علمت ليلة القدر أي ليلة هي ما أقول؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني} . الجزء: 129 ¦ الصفحة: 32 ما يتعلق بالدعاء نفسه السبب الأول من أسباب الإجابة: ما يتعلق بالدعاء نفسه. مثل أن يدعو الإنسان ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أو باسمه الأعظم، اللهم إني أسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. أو بدعوة ذي النون، ما دعا بها مسلم إلا أجابه الله عز وجل: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فهذا من الأسباب، وهو سبب يرجع إلى الدعاء نفسه. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 33 بعض موانع إجابة الدعاء من أسباب حرمان إجابة الدعاء: ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكون الإنسان يفقد الغيرة على محارم الله عز وجل، ويرى المنكر فلا يغيره، ولا يتمعر وجهه ولا يمتعض منه، فهذا لا يجاب له الدعاء، كما ورد في حديث حذيفة وعائشة وغيرهما أن الله عز جل يقول: {مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوني فلا أجيب لكم، وتستنصروني فلا أنصركم، وتستغفروني فلا أغفر لكم} أو كما قال جل وعلا في الحديث القدسي. فهذا من موانع إجابة الدعاء، وقد يدعو الإنسان ويحب الله تبارك وتعالى أن يسمع دعاءه وتضرعه فيؤخر إجابته، والله يجيب دعاء عبده متى ما كانت المصلحة للعبد دنيا وآخرة في إجابة الدعاء، وزالت الموانع. اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، واجعل خير أيامنا يوم نلقاك، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين. اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم احفظ مجتمعات المسلمين من الرذيلة، اللهم احفظ مجتمعات المسلمين من الرذيلة، اللهم احفظ مجتمعات المسلمين من الرذيلة، اللهم افضح أولئك الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم عليك بالظالمين، اللهم عليك بالظالمين، اللهم عليك بأعداء الدين. اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العليا أن تنصر عبادك المجاهدين في كل مكان، اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام، اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام، اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام، اللهم إنك تعلم أن أعداء الإسلام قد تنادوا وتداعوا على هذا الدين من كل حدب وصوب، اللهم فاخذلهم يا عزيز يا كريم، اللهم اخذلهم، اللهم انصر عبادك الصالحين عليهم، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا ظالمين، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 129 ¦ الصفحة: 34 مفهوم الشهادتين فيه بيان لمفهوم الشهادتين، و أهمية الشهادتين ، وأنهما شرط للإيمان، كما أنه يحتوي على ذكر مقتضيات ولوازم شهادة أن لا إله إلا الله، وشهادة أن محمداً رسول الله، وفيه أيضاً ذكر لصور الشركيات الظاهرة والخفية التي تناقض مفهوم الشهادتين. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 1 أهمية الشهادتين الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين: أيها الإخوة: إن كثيراً من المفاهيم، والحقائق الكبرى في الإسلام، قد أصابها ما أصابها من الالتباس والضعف في نفوس المسلمين، وانحرف فهم الكثيرين منهم لها، ومن هذه القضايا قضية: (مفهوم الشهادتين) ؛ مع أن هذه القضية هي الأصل الذي يدور عليه الإسلام، والحديث عن مثل هذه الموضوعات، وتجلية المعنى الحقيقي لها لجميع المسلمين أمرٌ ضروري، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 2 كلمة التوحيد هي دعوة الأنبياء وسنقف -أولاً- عند الشق الأول من الشهادة، وهو: (شهادة أن لا إله إلا الله) وهذه الكلمة لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم هو أول من دعا إليها؛ بل قد دعا إليها قبله جميع الأنبياء والمرسلين، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ويقول سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ويقول سبحانه على لسان كثير من أنبيائه -أن الواحد منهم كان يقول لقومه-: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] أو يقول: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [الأحقاف:21] . إذاً: فهذه الدعوة هي دعوة جميع الأنبياء والمرسلين، وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نحن معاشر الأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد} أي: أن الأنبياء بمثابة الإخوة من الأب، فأبوهم واحد وأمهاتهم مختلفة، وهكذا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ شرائعهم متعددة، فكثير من الأنبياء جاءوا بشرائع في الأحكام والمعاملات، تختلف عما جاء به الأنبياء قبلهم. أما العقيدة والتوحيد -وهو الذي جاءوا به جميعاً- فإنه لا يتغير بين نبيٍ وآخر فكل نبي يدعو إلى الدعوة نفسها التي دعا إليها النبي قبله صلى الله عليهم جميعاً وسلم. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 3 الشهادتان شرط للإيمان أيها الإخوة: ولفضل هاتين الكلمتين شأن عظيم في الإسلام، فقد نوه الرسول صلى الله عليه وسلم بمكانتهما وفضلهما، ففي الحديث المتفق عليه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروحٌ منه؛ أدخله الله الجنة على ما كان من عمل} وفي حديث عتبان الذي رواه البخاري ومسلم -أيضاً- أنه صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله؛ يبتغي بذلك وجه الله} وقد روى مسلم في صحيحه، عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار} . وروى مسلم -أيضاً- عن أبي مالك الأشجعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ فقد حرم دمه وماله} ومن هذه الأحاديث: تعلم أيها المسلم! أن العاصم لدم المسلم وماله في الدنيا، وأن الذي يحقق له السعادة والجنة في الآخرة، هو نطقه بهاتين الكلمتين؛ مؤمناً بهما، عالماً بما دلتا عليه من الإخلاص والتوحيد، عاملاً بمقتضاهما، مخلصاً من قلبه، فحينئذٍ فإنه يحرم على النار، ويدخل الجنة، ويسلم له ماله، ونفسه، وأهله في هذه الدار. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 4 معرفة قريش لمفهوم الشهادتين إن هاتين الشهادتين اللتين هما المدخل الذي يدخل منه الإنسان إلى الإسلام، ليستا مجرد كلمتين تقالان باللسان، بل هما منهج حياة كاملة؛ ولذلك فإن العرب الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم وقفوا من دعوته ذلك الموقف، لمعرفتهم بما تنطوي عليه هاتان الشهادتان من تغيير كامل لحياتهم الفردية والاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، والدينية وغيرها. ولذلك فقد ثبت في الأحاديث الصحاح، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدور على القبائل في المواسم، في عكاظ، ومجنة، وذي المجاز، ومنى، فيعرض عليهم نفسه ويقول صلى الله عليه وسلم: {من يؤويني من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي} ويقول: {يا أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} ومن خلفه رجل ذو غديرتين يرميه بالحجارة والتراب، ويقول: يا أيها الناس! لا تطيعوه فإنه صابئ كذاب، وهذا الرجل هو أبو لهب عم الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا الموقف من قريش إنما هو مبني على معرفتهم الصحيحة بالمدلول الحقيقي لهذه الكلمة؛ إذ يدركون أنها ليست مجرد كلمة؛ ولذلك لما طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقولوها، أو قال لهم: {يا معشر قريش! كلمة واحدة تملكون بها العرب، وتدين لكم بها العجم، فقالوا: نعم وأبيك! وألف كلمة -نقولها ونقول معها ألف كلمة- فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله} فانطلقوا وهم يولولون، ويقولون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وكم يحز في النفس أن يصبح كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم لا يدركون من معنى هذه الكلمة ما أدركه كفار قريش الأوائل. فقبح الله مَنْ كان أبو جهل وأبو لهب أعلم منه بمدلول هذه الكلمة! الجزء: 130 ¦ الصفحة: 5 مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله الإيمان بشهادة أن لا إله إلا الله يتضمن أموراً عديدة: الجزء: 130 ¦ الصفحة: 6 إفراد الله تعالى بالعبادة لكن! هل يكفي كل هذا؟ أما منا إنسان يؤمن بأن الله موجود، ويؤمن بأن الله هو المتصرف في الأكوان كلها، ويؤمن بأن الله سميع عليم بصير خالق بارئ مصور إلى آخر هذه الأسماء، ويؤمن بالصفات وبالأفعال كذلك؛ فهل نقول: إنه حقق لا إله إلا الله إذا اقتصر على ذلك، أم لا بد من أمر رابع عظيم؟ الجواب بل لا بد من أمر رابع عظيم جليل، ألا وهو: (إفراد الله تبارك وتعالى بالعبادة) وهو: توجيه جميع أعمال الإنسان ونشاطاته إلى الله عز وجل، وهذه الكلمة التي هي (لا إله إلا الله) فسرها الأنبياء بقولهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:2] {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] . إذاً: الإله هو: المعبود الذي تألهه القلوب، وتطمئن وتسكن إليه النفوس فتتوجه إليه بالعبادة بأنواعها؛ وهذا هو موضع الخصومة بين الأنبياء وأممهم. ولذلك قال المشركون: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] وقد كان أبو جهل وأبو لهب يعرفون أن هناك إلهاً في السماء، وما كانوا يوجهون عبادتهم إليه، بل كانوا يعبدون اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ولم يكن اعتقادهم بأن اللات والعزى هي التي خلقت الكون، أو هي المتصرفة، أو التي تحاسبهم يوم القيامة، كلا! بل كان اعتقادهم أن هذه الأشياء تقربهم إلى الله زلفى، فكانوا يعتبرون الله رب الأرباب، والإله الأعظم، ويعتبرون هذه الأصنام آلهةً صغيرة تقربهم إلى الله؛ لأنهم يقولون: نحن بأدناسنا، وأرجاسنا وذنوبنا، وخطايانا؛ لسنا على مستوى أن نتوجه إلى الله مباشرة، وأن ندعوه مباشرة، فلا بد من وسائل تقربنا إليه، فكانوا يلبون في حجهم فيقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. إذاً: كانوا يعترفون بربوبية الله، ويعترفون بوجوده، لكنهم يصرفون العبادات إلى غيره فلما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {قولوا: لا إله إلا الله} عرفوا أنه لا يقصد بمعنى (لا إله إلا الله) أنه لا خالق إلا الله، لأنهم يعرفون سلفاً أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا قادر على الاختراع والإرجاع إلا الله؛ يعرفون أن هذا ليس هو المعنى المقصود من وراء ذلك، ويعرفون أن معنى لا إله إلا الله التي طالبهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقولوها، يعني: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] اتركوا اللات والعزى، واتركوا حلفاءكم من الجن، الذين كنتم تتقربون إليهم بألوان من العبادة؛ واصرفوا صلاتكم ونسككم وحجكم ومحياكم ومماتكم لله، كما قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام:162-163] وقال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] . ولذلك: فإنهم قاوموا هذه الدعوة ووقفوا في طريقها، ومن المؤسف جداً -أيها الإخوة- أن يكون أبو لهب، وأبو جهل وأمية بن خلف، وغيرهم من أساطين الكفر والجاهلية؛ أعرف بالمفهوم الصحيح للا إله إلا الله من كثير من المسلمين، الذين يقولونها اليوم دون أن يعرفوا حقيقة المعنى الذي دلت عليه. فلو سألت بعض المسلمين اليوم -ولا أقول العوام؛ بل حتى بعض المثقفين-: ما معنى لا إله إلا الله؟ لقال: معناها: لا خالق إلا الله، وآخر يقول: معنى (لا إله إلا الله) يعني: لا قادر على الاختراع والإبداع إلا الله، وثالث يقول: لا متصرف إلا الله؛ وهذا كله تفسير غير صحيح، وإن كان داخلاً في الإقرار والإيمان بالله، إلا أن هذا لم يكن موضع خصومة بين الأنبياء وأممهم؛ وإنما المعنى الصحيح للا إله إلا الله، هو: أنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده؛ ولذلك فإن هذه الكلمة تتضمن نفي العبادة عمن سوى الله، وإثبات العبادة لله وحده فهي كما يقول العلماء: نفي وإثبات؛ تنفي العبادة عن جميع المعبودات، وتثبت العبادة لله تبارك وتعالى وحده بلا شريك فهي إيمان بالله، وكفرٌ بالطاغوت: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] فالعروة الوثقى هي: الكفر بالطاغوت والإيمان بالله. فالمعنى الصحيح لهذه الكلمة التي يطالب كل مسلم أن يقولها، ويتعبد بها، ويدعو إليها هو: الإيمان بالله والكفر بالطاغوت. والإيمان بالله يشمل: الإقرار بوجوده، والإيمان بربوبيته وتصريفه للكون، والإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، والإيمان بأنه لا يستحق العبادة إلا هو سبحانه، وتوجيه العبادة له وحده. والكفر بالطاغوت يشمل: نفي جميع الآلهة المدعاة من دون الله؛ فهو ركن من أركان الشهادة. وأنت لو نظرت في واقع المسلمين اليوم؛ لوجدت أنهم قد وقعوا في ألوان وألوان من الشرك، منه ما هو شرك أكبر مناف لأصل هذه الكلمة وحقيقتها، ومنه ما هو دون ذلك مما ينافي كمال الإيمان والتوحيد. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 7 الإيمان بالأسماء والصفات الأمر الثالث: هو الإيمان بالله عز وجل بأسمائه وصفاته وأفعاله، فلا يثبت الإنسان ذاتاً مجردة، ولا يعرف رباً يتصرف في الأكوان فقط! بل يعرف ربه بأسمائه وصفاته التي وردت في القرآن الكريم، ووردت في السنة النبوية المطهرة، وأعلم الناس المخلوقين بالله؛ هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر عن ربه، وقد أخبر الله -أيضاً- عن نفسه في كتابه، بأسماء، وبصفات، وبأفعال. فمن أسمائه مثلاً: العزيز، الحكيم، الخالق، البارئ، المصور، وكل اسم تليه صفة، ومن صفاته العزة، والكبرياء، وغيرها مما ورد النص عليها. وأفعاله مثل: استوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، ونزوله لفصل القضاء، وغير ذلك مما ثبت له في الأحاديث الصحاح المتواترة فلا بد من الإيمان بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفتة سبحانه وتعالى معرفة حقيقية. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 8 الاعتراف بربوبية الله جل وعلا اللازم الآخر: هو الاعتراف بربوبية الله جل وعلا: بأنه الرب، ومعنى الرب: أي المتصرف في الأكوان؛ فهو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت، وهو الذي يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، ويصرف الأقدار النازلة بالناس؛ والاعتراف -أيضاً- بهذا القدر لا بد منه في شهادة أن لا إله إلا الله، وهو ضروري لها. ولكنك أيضاً تجد أن الخصومة بين الأنبياء وأممهم لم تكن على هذا؛ بدليل: أن الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، كانوا يقرون بهذا الأمر قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان:25] . وفي آيات كثيرة يبين الله عز وجل إيمانهم بأنه هو المالك قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِسَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون:84-89] وهكذا يعترف الكفار الذين رفضوا أن يقولوا: لا إله إلا الله؛ يعترفون بألسنتهم بأن المتصرف بالأكوان هو الله وحده. إذاً: فالمسلم مع أنه مطالب بأن يعرف معرفة حقيقية، أن الرب المتصرف المدبر للأمور هو الله؛ إلا أن هذا ليس هو المعنى الذي قصده الأنبياء -أصالة- عندما دعو إلى لا إله إلا الله؛ فعارضتهم أممهم في ذلك. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 9 الإقرار بوجود الله فأولاً: من لوازم ومقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله؛ الإقرار بوجود الله، فإن الإنسان لم يشهد بألوهية الله وحده إلا وقد أقر قبل ذلك بوجوده سبحانه، وهذا الإقرار بوجود الله لم يكن موضع شك عند الأمم السابقة؛ بل ولا عند كثير من الكفار المعاصرين اليوم فأغلب الأمم في الماضي والحاضر يعترفون بوجود الله تعالى؛ وإنما أنكر الله، أو أنكر وجوده طائفة من الدهريين في الماضي، الذين كانوا يقولون: {إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون:37] . كما أنكره طائفة من المعاصرين من الشيوعيين؛ وإن كان إنكار هؤلاء الشيوعيين لله -في الحقيقة- ليس في غالبه إنكاراً حقيقياً؛ بل هم يتعصبون لإنكار وجود الله؛ محافظة على مذهبهم الشيوعي الذي بنوه على الإلحاد؛ ولذلك عندما ذهب رائد الفضاء الروسي جاجارين في الرحلات الفضائية، ورجع وصرح للصحافيين بأنه آمن بالله عز وجل، أو أقر بوجوده؛ قتلوا هذا الرجل، وسحبوا هذا التصريح الذي أدلى به. إذاً: فقضية اعتقاد أنَّ الله موجود ليست موضع خصومة ولا شك من السابقين، ولم تقف يوماً من الأيام مشكلة أمام نبي من الأنبياء وأنت تقرأ القرآن الكريم والأحاديث، وقصص الأنبياء؛ لا تجد نبياً من الأنبياء كانت مشكلته مع قومه أنه يدعوهم إلى الإيمان بوجود الله وهم منكرون! أبداً بل إن الكفار والمشركين -على حد سواء مع المؤمنين- يعترفون بوجود الله؛ من حيث أصل الوجود. إذاً: فمجرد الإيمان بوجود الله، وإن كان لازماً من لوازم شهادة أن لا إله إلا الله؛ إلا أنه ليس هو المعنى الذي دعا إليه الأنبياء والمرسلون. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 10 من ألوان الشرك بالله ولنستعرض بعض الألوان من الشرك الظاهر والخفي، الذي يقع فيه بعض المسلمين اليوم: الجزء: 130 ¦ الصفحة: 11 التعلق بالأسباب المادية من ألوان الشرك الذي يقع فيها المسلمون اليوم: التعلق بالأسباب المادية: فإن الله عز وجل جعل للمسببات أسباباً في الغالب، تتحقق بها؛ ولكن الله تعالى هو خالق السبب والمسبب، وهو قبل الأسباب، وإرادته فوق السبب ومع السبب، ولذلك فإن هذه الأسباب لا أثر لها إلا بإرادة الله، وهو الذي رتب عليها ما يكون بعدها. والمسلم وإن كان يفعل السبب؛ إلا أنه يؤمن بأن الله هو خالق السبب والمسبب؛ لكن لضعف ارتباط الناس بالله عز وجل؛ صاروا يلاحظون أن الأسباب التي تفعل تؤدي إلى نتائجها في حالات كثيرة، أو في غالب الحالات فالمريض إذا ذهب للمستشفى؛ يحصل في غالب الأحوال على الشفاء، والطالب إذا اجتهد في دراسته؛ حصل على النجاح. ومع الغفلة عن الإيمان اليَقِظ بالله عز وجل؛ أصبح الناس يتوكلون على هذه الأسباب، ويعتبرون أنها كل شيء، وينسون قدر الله تعالى وحكمه وراء ذلك، ولذلك يقتل الإنسان نفسه بالتعب في تحصيل الأشياء، وبذل الأسباب التي تعسُر؛ بل قد تكون أشبه بالمستحيل أحياناً، ثم إذا لم يحصل على ما يريد؛ تقطعت نفسه حسرات على ما كان! وهذا أمر ينبغي للمسلم أن يحرر قلبه منه. أيها الإخوة: هذا المعنى المتعلق بالشق الأول من لا إله إلا الله؛ هو معنىً خطير عظيم، أي: توجه القلب، واللسان والجوارح لله عز وجل بكليته، فلا يمكن أن ينطق الإنسان بلسانه، وقلبه خاوٍ؛ لأنه حينئذٍ يكون منافقاً، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار، ولا يمكن أن يكتفي الإنسان بإقرار القلب فـ أبو طالب كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم، ويعرف أنه صادق في دعوته، ويقول في قصيدته المشهورة: لقد علموا أن ابننا لا مكذَّبٌ لدينا ولا يعنى بقولِ الأباطلِ فو الله لولا أن أجيء بسبة تُجر على أشياخنا في المحافلِ لَكُنَّا اتبعناه على كل حالة من الدهر حقاً غير قول التهازلِ ومع ذلك ورد في الصحيحين، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أهون أهل النار عذاباً رجل تحت قدمية جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، ما يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، وإنه لأهونهم عذاباً} وفي رواية في الصحيح أيضاً: {أنه أبو طالب} . إذاً: مجرد دعوى الإيمان في القلب، أو وجود شيء من الإيمان في القلب لا يكفي، والذين يقولون: ربك رب القلوب، والتقوى هاهنا، مخطئون في ذلك، بالمعنى الذي يقصدونه، وإن كانت الكلمة في أصلها صحيحة، لكنها كلمة حق أريد بها باطل فإنه لابد مع إيمان القلب من نطق اللسان، ولا بد مع نطق اللسان من توجه الجوارح بالعمل لتحقيق معنى ومدلول لا إله إلا الله. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 12 الغلو في محبة غير الله من ألوان الشرك بالله عز وجل: محبة غير الله محبة لا تليق إلا بالله فيها ذل وخضوع فيها تأله، وطاعة مطلقة محبة لغير الله. قد تكون محبة للمال -مثلاً- تجعل الإنسان يضحي في سبيل المال بكل شيء، ويجعل من هذا الدرهم والدينار، أو هذا القرش والريال؛ نُصباً وتمثالاً يتقرب إليه ويسبح بحمده، ولو لم يكن بلسانه، ولو لم يضعه ويصلي إليه؛ فالعبادة أصلها تنطلق من القلب إلى الجوارح والإنسان الذي يضحي في سبيل جمع القرش والريال بكل غال ونفيس، ويتعب، ويواصل سهر الليل بسهر النهار، ويذهب إلى أقاصي الدنيا، ثم يكون بيته إلى جوار المسجد -مثلاً- فيسمع المؤذن ينادي: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، فلا يستجيب لهذا النداء، ولا يؤدي الصلاة، ويسمع هذا النداء المكرر عليه، مع سهولة الاستجابة فلا يستجيب؛ فمثل هذا لا يمكن أن نقول: إنه مؤمن بالله، أو عالم بمعنى لا إله إلا الله، أو محقق لها بوجه من الوجوه، بل هو يعبد -في حقيقته- هذا الدرهم والدينار، وهذا القرش والريال. ولذلك يقول الله عز وجل في محكم كتابه: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [إبراهيم:2] من هم الكافرون؟ {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:3] ويقول: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وفي الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس عبد القطيفة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} يدعو صلى الله عليه وسلم عليه بالتعاسة، ويسميه عبداً، عبداً: للدينار للدرهم للقطيفة للخميلة للخميصة. كم يوجد -أيها الإخوة- من العبيد لهذه الأصنام الجديدة! كم يوجد من أصبح يتعبد لهذا الذهب الثمين البراق! وإذا أصيب بدينه لم يبال، فإذا أصيب بهذا المال؛ جن جنونه، وقد يصاب بضغط في قلبه، وقد يصاب بجنون حقيقي! بل منهم من يموت على أثر انتكاسةٍ مالية تنزل به! وقد يكون الحب لشيء آخر غير المال قد يكون الحب للصور صور النساء، مثلما يتعلق شخص بامرأة يعشقها، ويتأله قلبه إليها، وتستولي محبتها على قلبه، فيصبح خيالها لا يفارقه في الليل وفي النهار وهو يصلي -إن كان يصلي مثلاً-؛ تجد هذه المرأة في مخيلته وهو يدعو؛ تجدها بين ناظريه، وهو ينام يحلم بها، فإذا وجدته سارحاً في أفكار وتأملات؛ وجدته يدور حولها، وهذا لون من الوثنية في منتهى الخطورة؛ لأنه يأسر القلب، وأسر القلب أخطر من أي شيء آخر، فإن مأسور البدن قد يكون معذوراً، قد يكون مسلماً أسره الكفار، وقد يتخلص منهم، ولو قتل عندهم لكان شهيداً؛ لكن مأسور القلب -والعياذ بالله- على خطر عظيم، وبعضهم يصرح بعبوديته لهذه المعشوقة، يقول قائلهم: لا تدعُني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وكما تكون الوثنية في تأله القلب، وولعه في عشق الصور، وكما تكون في عشق الرجل لامرأة؛ تكون أيضاً على العكس من ذلك؛ بولع وتعلق امرأة برجل، فيقع لها من اندماك القلب، وانشغاله، وبلباله، وتوجه جميع همه وإرادته إلى هذا الرجل؛ حتى يصبح الأبوان -مثلاً- اللذان جبل الإنسان على محبتهما، يصبحان عند هذا المحب -رجلاً كان أو امرأة- ليسا على بال، ولا يكترث لهما، ولا يعبأ بهما، ويغفل عن أولاده، ويغفل عن أشياء كثيرة؛ لولع القلب بهذا اللون من المحبة. وأنت لو تأملت الوسائل التي يتلقى منها الناس ثقافاتهم اليوم؛ لوجدتها تدغدغ هذه المشاعر، وتحرك هذا العواطف، وتحاول عبر وسائل كثيرة أن تملأ قلوب الشباب والفتيات بمعاني الحب المحرم، الذي يؤدي في حالات كثيرة إلى تعلق القلب بغير الله فلا تكاد تسمع عن فيلم، أو تمثيلية، أو ديوان شعر؛ إلا وتجده يضرب على هذا الوتر، ولعلكم تعرفون أنه يوجد شاعر من شعراء الدعارة والمجون، الذين لوثوا اللغة العربية بشعرهم، والذي وظف الشعر لوصف المرأة ومحاسنها، والتغزل بها، فكتب ديواناً كاملاً اسمه (أشهد) يشهد ماذا؟ يشهد (أن لا امرأة إلا أنت!) فهذا ينتسب للإسلام والإسلام منه براء، ما دام على مثل هذه الحال؛ لأن الإسلام لم يعرف منه إلا الشتم يشتم الله عز وجل! ويشتم الأنبياء والمرسلين! ويشتم المؤمنين! لكن: يشهد أن لا امرأة إلا أنت! إذاً: فتعلق القلب بالمعشوق -أياً كان المعشوق- هو نوع من تأله القلب وتوجهه لغير الله عز وجل، وهو في الناس اليوم كثير. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 13 تقديس الأنظمة الكفرية ومن ألوان الشرك أيضاًَ: تقديس كثير من الناس لأشياء ما أنزل الله بها من سلطان، فإننا نسمع اليوم من يتغنى -مثلاً- بالعروبة كعرق أو جنسية ينتسبون إليها، ويعتبرون هذه العروبة ديناً يدينون به. يقول شاعرهم: آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني فيعتبرون العروبة ديناً يدينون به وينتسبون إليه، ويدندنون حوله، وقبل أن يصرح الواحد منهم بما يدعيه من الإسلام؛ يصرح بعروبته؛ بل قد لا يصرح بإسلامه، ولا يعتز بذلك. ومثل ذلك: تقديس الأوطان وتعظيمها، والموت من أجلها، حتى أصبحت أوثاناً، وليست أوطاناً في الحقيقة، وليس هذا التعبير من عندي؛ بل إنَّ هؤلاء الذين أصيبوا بلوثة هذه الوثنية عبروا بنفس التعبير، حتى يقول أحد الشعراء: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثن وبكل أسف! حدثني بعض الشباب: أن هذه القصيدة كانت تغنى وتذاع من أجهزة الإعلام في أيام مضت في بلدان متعددة. ويقول آخر يخاطب وطنه: ويا وطني لقيتك بعد يأسٍ كأني قد لقيت بك الشباباً أدير إليك قبل البيت وجهي إذا رمت الشهادة والمثابا كم هو محزن -أيها الإخوة- أن يكون مسلم يفوه بالشهادة وبالمثاب أي: يشهد أن لا إله إلا الله؛ يدير إلى وطنه وجهه قبل البيت الحرام، وهو نفسه يقول: وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي أي: (في الجنة) . فتقديس الوطن أو العرق والقومية، أو تقديس الأشخاص، وتعظيمهم، وإضفاء خصائص وصفات الألوهية عليهم؛ هو شرك بالله عز وجل. ويجب أن نعرف أن الإنسان العاقل الذي يتكلم وهو صاحٍ، عاقل غير مغلوب على عقله، مؤاخذ بما يتكلم به، ومسئول عنه، ولا يجوز أن نقول: هذه مجرد فلتات، أو كلمات تنطلق منهم دون فهم لمعناها، أو حساب لها. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 14 الشرك في التشريع صورة أخرى من صور الشرك بالله عز وجل: إن الله تعالى قد نص في كتابه على أن التشريع والدين، إنما يُتَلَقَّى من عنده فقال سبحانه: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] فالدين والشرع لا يؤخذ إلا عن الله، والتحليل والتحريم لا يؤخذ إلا عن الله وعن رسوله. فأنت تجد اليوم كثيرا ًمن المسلمين لم يحققوا هذا المعنى، ولم يحققوا معنى الكفر بالطاغوت؛ بل أصبحوا يتلقون نظمهم وتشريعاتهم، وقوانينهم، وأنماط سلوكهم عن الكفار، من الأوروبيين وغيرهم؛ وأصبحت تجد بين المسلمين من يؤمن بالنظريات والمذاهب الإلحادية المعارضة للإسلام، والمنافية له، سواء في مجال الاقتصاد، أو الاجتماع، أو علم النفس، أو غيرها؛ وأصبحت تجد بين المسلمين من يأخذ النظم والقوانين والتشريعات المختلفة لجميع شئون الحياة؛ فيطبقها في خاصة نفسه، أو في من يستطيع تطبيقها عليه، مما ينافي الدين، ويعارض أصله، وهذا لا يعني -بطبيعة الحال- النظم الإدارية البحتة التي أذن الإسلام بالاستفادة منها مما عند الأعداء؛ فهذا يختلف عن تلقي القوانين والشرائع المتعلقة بالدماء والأعراض والأموال، وبغير ذلك من الخصومات والحكومات بين الناس على مستوى الفرد والمجتمع الذي يعتبر لوناً من ألوان الشرك بالله عز وجل؛ ولذلك قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة {وَلا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] فهي نفي ونهي -في نفس الوقت- عن أن يشرك المسلم في الحكم أحداً مع الله عز وجل؛ فلا حَكَم إلا الله وله الحكم، ولا يجوز أخذ الأنظمة والشرائع والقوانين إلا منه سبحانه. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 15 الشرك في العبادات فمن الشرك الظاهر -مثلاً-: توجيه العبادة لغير الله؛ سواء بالصلاة، أو الدعاء، أو النذر، أو الذبح، أو بالحب والخوف والرجاء وغيرها للأنبياء، أو الأولياء، أو الصالحين، أو المقبورين، وأنت تجد في كثير من بلاد المسلمين هذه القبور والأضرحة، التي يطاف بها وينذر لها، ويتقرب إليها؛ بل ويصلى إليها! وقد حدثني بعض إخواننا من بعض البلاد الإسلامية، فقال: والله لقد رأيت بعيني رجلاً في إحدى البلاد الإسلامية، وهو مستقبل للقبر مستدبر للكعبة، قال: فظننته يدعو -وإن كان الدعاء لا يجوز؛ لكن يقول: إن الأمر قد يكون غير مستغرب- يقول: فما لبث هذا الرجل أن ركع وسجد؛ فعرفت أنه يصلي مستقبلاً القبر والذي حدثني شاهد عيان لهذا الحادث. أما الطواف بها، ونذر القرابين لها، والدعاء عندها؛ فحدّث ولا حرج وفي كثير من مجتمعات الأرياف، وفي أوساط السذج البعيدين عن المعرفة؛ تجد أن الاستشفاء للمريض يكون عند القبر؛ سواء بالدعاء، أو بالذبح، أو بالنذر، وقد يسافر الواحد منهم مئات الكيلو مترات ويتجشم المشاق، ويضيع كثيراً من ماله في هذا السبيل، وهذا بلا شك شرك أكبر؛ بل إن هذا هو بالضبط، وبدون أي فرق، هو الشرك الذي وقعت فيه قريش، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليحرر الجزيرة العربية والعالم كله من قبضة هذه الوثنية، وهذا الشرك؛ لأن هؤلاء القوم الذين يوجهون عبادتهم للمقبورين اليوم ليسوا يعتقدون إلا أن هذا المقبور يتوسط لهم عند الله فقط! وقريش كما قال الله كانت تقول: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3] وكما قال سبحانه: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس:18] في حين أن المعبودين أنفسهم هم عباد فقراء محتاجون، يتوجهون إلى الله بالدعاء والعبادة؛ ولذلك يقول الله عز وجل: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] أي: أن هؤلاء القوم المدعوين؛ كعيسى، وعزير، وغيرهم من الصالحين الذين يعبدون أولئك الذين يدعون، هم أنفسهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57] . فكيف يدعونهم وهم عبيد، يتقربون إلى الله عز وجل؟! فهؤلاء وقعوا في لون من الشرك الأكبر، ولا شك أن هذه الظاهرة الخطيرة موجودة في كثير من بلاد الإسلام، وهي قضية تمس أصل الدين والاعتقاد، ويجب أن تأخذ حقها من العناية والاهتمام، وإن كان الوعي -بحمد الله- قد انتشر أيضاً في بلاد إسلامية كثيرة، وأصبحت تجد في تلك البلاد من يستنكر مثل هذا العمل، ويدرك ما ينطوي عليه من خطورة، ويدعو إلى الرجوع بالإسلام، وبالدين، وبالعقيدة الصحيحة، إلى نقائها وصفائها. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 16 مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله ثم ننتقل بعد ذلك إلى الشق الثاني من هذه الشهادة: وهو (شهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم) : وهذه الشهادة تتضمن عدة معانٍ: الجزء: 130 ¦ الصفحة: 17 الإيمان بعموم البعثية النبوية ولا بد من أمر ثالث وهو: الإيمان بأن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الناس كافة: فالذين يؤمنون بإقليمية الإسلام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى العرب، أو إلى الجزيرة، أو في بيئة معينة؛ هؤلاء القوم ليسوا مؤمنين بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولا مُقِرِّين بنبوته على الحقيقة. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 18 محبته من القلب ولا بد من أمر رابع وهو: محبة النبي صلى الله عليه وسلم من القلب: فلابد من محبته وتقديم هذه المحبة، على النفس، والولد، والوالد؛ ولذلك في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فقال عمر: والله يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء، إلا من نفسي، فقال: لا تؤمن حتى أكون أحب إليك من نفسك، فقال: والله يا رسول الله! لأنت الآن أحب إلي من كل شيء، حتى من نفسي، فقال: الآن يا عمر} أي: الآن حققت الإيمان. فهناك إيمان كامل، وكمال الإيمان لا يتحقق إلا بتحقق كمال المحبة، لكن -أيضاً- أصل الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم لا يتحقق إلا بوجود أصل المحبة، بمعنى: لو وجد إنسان لا يحب النبي عليه الصلاة والسلام -والعياذ بالله- أو يبغض النبي عليه الصلاة والسلام، فهو غير مسلم، وغير مؤمن به صلى الله عليه وسلم؛ لكن لو وجد إنسان يحب النبي صلى الله عليه وسلم -لكن قد لا يدرك بالضبط ما مقدار هذه المحبة- فحينئذٍ يكون له من الإيمان بقدر ما للنبي صلى الله عليه وسلم في قلبه من المحبة. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 19 وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المحبة ليست شعوراً في القلب أيضاً، بل إنها تستلزم أمراً خامساً وهو: أن تتحول المحبة إلى اتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يقول الشاعر فيما يتعلق بالله عز وجل: تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيعُ لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيعُ وأنت إذا نظرت إلى الذين يحبون بشراً من البشر محبة شركية؛ وجدتهم في الحقيقة أصبحوا مجرد آلات تأتمر وتتحرك بإشارة المعشوق المحبوب بشكل واضح جداً، فالمحبة الحقيقية لا بد أن تظهر آثارها على الجوارح؛ ولذلك لما ادعى قوم محبة الله ورسوله، ابتلاهم الله عز وجل بالآية التي كان بعض السلف يسميها آية المحنة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] . فالمحبة -أيها الإخوة- ليست دعوةً باللسان، وليست مجرد شعور يخفق به القلب؛ بل هي محبة تجعل الإنسان مستعداً لأن يقف حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالوقوف، ويعمل ما أمره صلى الله عليه وسلم أن يعمل، ويترك ما أمره صلى الله عليه وسلم أن يترك؛ مهما كان ذلك مخالفاً لمحبوبه ومراده هو. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 20 الإيمان بنبوته عليه الصلاة والسلام المعنى الأول: هو الإيمان بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، وتصديقه فيما أخبر به عن ربه تبارك وتعالى وهذا المعنى معنىً ظاهر، قد يؤمن به من نطق بهذه الشهادة؛ فهو يدرك من ظاهر هذه العبارة، أنه مؤمن في قلبه، بأن الرسول صلى الله عليه وسلم: مبعوث من لدن الله عز وجل؛ لكن هل يكفي هذا الإيمان وهذا القدر؟ لا. بل لابد من أشياء، ستعرف إذا سمعتها أنها لو تخلفت؛ لم يُفِدْ نطق الإنسان بشهادة أن محمداً رسول الله. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 21 الإيمان بأنه خاتم النبيين وبعد الإيمان بنبوته ورسالته صلى الله عليه وسلم؛ لا بد من الإيمان بأنه خاتم النبيين، وأن الرسالات قد ختمت به صلى الله عليه وسلم. ولذلك كان من اليهود من آمنوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم رسول ونبي؛ ومع ذلك ما نفعهم هذا، ففي صحيح مسلم عن ثوبان رضي الله عنه: {أن يهودياً جاء إلى الرسول صلى الله عليه سلم، فقال: السلام عليك يا محمد! قال ثوبان: فدفعته في صدره دفعة شديدة، كاد يسقط منها! قال: لما دفعتني؟ فقلت له: ألا تقول: السلام عليك يا رسول الله؟ قال: أنا اسميه باسمه الذي سماه به أهله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن اسمي الذي سماني به أهلي محمد، ثم قال اليهودي: يا محمد! إني سائلك عن مسائل، قال صلى الله عليه وسلم: هل ينفعك إن أخبرتك -أي: هل تستفيد- قال: أسمع بأذني -لن يستفيد إلا مجرد السماع بأذنه- فقال له صلى الله عليه وسلم: سل عما تريد، قال: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض؟! -في ذلك الموقف أين يكون الناس؟! - قال: هم في الظلمة دون الجسر -والجسر هو الصراط- قال: فمن أول من يجوز؟ -من هو أول من يجتاز الصراط؟ - قال: فقراء المهاجرين، قال: فما أول طعام يأكلونه في الجنة؟ قال: زيادة كبد الحوت -الزائدة الموجودة في كبد الحوت- قال: فما غذاؤهم عليها؟ قال: ثور يأكل من أنحاء الجنة، قال: فما شرابهم؟ قال: من عين تسمى سلسبيلاً، قال: إني سائلك سؤالاً لا يعلمه إلا نبي، أو رجل، أو رجلان ما الذي يجعل الولد ينزع إلى أبيه، أو ينزع إلى أمه؟ قال: ماء الرجل أبيض غليظ، وماء المرأة أصفر رقيق، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أَذْكَر بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنث بإذن الله -ماذا قال هذا اليهودي الحبر؟ - قال: صدقت وإنك لنبي} ومع ذلك بقي يهودياً كافراً وهو من ضمن المعاني التي تخلفت عند هؤلاء اليهود فلم تنفعهم شهادتهم. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 22 نماذج من الإخلال بشهادة أن محمداً رسول الله هذه أهم الأشياء المتعلقة بمعنى شهادة أن محمداً رسول الله، ولو أردنا أن ننظر في واقع المسلمين اليوم، وهم ينطقون بهذه الشهادة؛ بل وكثير منهم يعلنون في كثير من المواقف محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقيمون الموالد التي يقرءون فيها الكتب المؤلفة في شمائله صلى الله عليه وسلم، وفي ذكر صفاته، وذكر الأشعار التي قيلت فيه، وذكر أخباره، وما يتبع ذلك من الأشياء؛ وهم مع ذلك كله يُخِلُّون بالتحقيق الصحيح لمعنى الشهادة! حتى وهم يعلنون بالطريقة التي يعلنون بها عن محبة النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه؛ يخطئون وينحرفون عن المعنى الصحيح، ولنتأمل صوراً ونماذج من الإخلال بهذه الشهادة: الجزء: 130 ¦ الصفحة: 23 إدعاء النبوة بعد النبي عليه الصلاة والسلام إن الذين كفروا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، من اليهود، أو النصارى، أو غيرهم من سائر الطوائف الملحدة، لا شك في كفرهم بأصل الإسلام، ومن ذلك كفرهم بشهادة أن محمداً رسول الله، كفراً أصيلاً ظاهراً لا يتردد فيه اثنان؛ لكن لو نظرت -مثلاً- في حال القاديانيين، والبهائيين؛ لوجدت أنهم يدعون الإسلام، ويحسبون -في كثير من البلدان- من المسلمين، وهم مع ذلك يدعون لمتبوعيهم من الزعماء والقادة أنهم أنبياء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فهؤلاء -بلا شك- مشركون في تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله، وخارجون عن الإسلام بهذه الدعوة. ولو نظرت -مثلاً- لبعض الذين يقدسون بعض الزعماء والقادة والسياسيين؛ فيسمونهم بالأنبياء فهذا نبي القومية مثلاً، وأحد الشعراء يقول على أثر وفاة بعض الحاكمين، يخاطبه بقصيدة يقول فيها: قتلناك يا آخر الأنبياء!! فهؤلاء أيضاً هم مشركون، وغير مؤمنين بشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يبعد هؤلاء وأمثالهم -وهم كثير، لا كثرهم الله! - من الإحصائيات التي تعلن لأعداد المسلمين في أحيان كثيرة. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 24 الإخلال بحقيقة الاتباع ومن ألوان الإخلال بالشهادة الشائعة لدى كثير من المسلمين: الإخلال بحقيقة الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا كنا عرفنا أن شهادة أن محمداً رسول الله تعني ضرورة اتباعه صلى الله عليه وسلم، وتجريد المتابعة له فيما نهوى وما لا نهوى، فكم تجد من المسلمين اليوم من يقتصرون على التلفظ بالشهادة! فالنبي صلى الله عليه وسلم له الاسم في الشهادة، وهو الذي ينطق باسمه؛ لكن العمل والتطبيق والاتباع، ليس له؛ وإنما للمتبوعين سواء كان هؤلاء المتبوعين ممن يرضون بأن يتبعهم الناس، أو ممن لا يرضون بذلك ولا يقرون به وهذا نوع من أنواع الشرك، وعدم تحقيق المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم. لقد جهل كثير من المسلمين اليوم معنى الاتباع الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم، فوجدتهم يستغربون سنته ويستنكرونها، وينكرون أحياناً على من فعلها، وقد يُشَهِّرون به، وقد يصفونه بأوصاف كثيرة، فيقال عن المتبع لسنة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه متزمت، ومتشدد، ومتطرف إلى غير ذلك من الأوصاف التي يراد منها تنفير الناس عنه، وعن السنة التي يحملها، وكثير من الناس اليوم يقدمون آراء الرجال وأقوالهم على أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذا خطأ عظيم، وقع فيه المسلمون، فإن من المعلوم أنه لا قول لأحد، ولا كلام لأحد بعد كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا عرفت أيها المسلم! أن نبيك، ومتبوعك، وإمامك، وقدوتك صلى الله عليه وسلم، يفتي في هذه المسألة، أو يقول في هذا الحكم قولاً، لم يكن لك أن تتعدى قوله، ولا أن تترك قوله إلى قول غيره، وكما قيل: دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر ويقول آخر: وخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائعُ الجزء: 130 ¦ الصفحة: 25 اتباع الأئمة الأربعة للسنة النبوية ولا شك أن الله عز وجل قد منَّ على هذه الأمة، بأئمة جهابذة، وعلماء أفذاذ، أناروا لهذه الأمة الطريق، وهدى الله بهم الخلق إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ونفع الله بهم أمماً عظيمة، وخلَّد ذكرهم في التاريخ ومن أعظم هؤلاء الأئمة، الأئمة الأربعة الذين بقيت مذاهبهم، وانتشرت في أقطار الأرض، وهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد رحمهم الله أجمعين. فهؤلاء الأئمة: إنما يغترفون من بحر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكما قيل: (وكلهم من رسول الله مغترف) فإنما هم يأخذون من هديه ومن سنته، ويقول كل واحد منهم: "إذا صح الدليل فهو مذهبي، وإذا صح الحديث قلت به". روى الأئمة الذين ترجموا للإمام الشافعي كـ البيهقي، والرازي وغيرهما: "أن رجلاًَ جاء للإمام الشافعي فسأله عن حديث أصحيح هو أم لا؟ قال: نعم صحيح، قال: وتقول به أنت يا إمام؟! فغضب الشافعي، وأحمر وجهه! وقال لهذا السائل: هل رأيتني في كنيسة؟! أرأيت في وسطي زِنَّاراً؟! وغضب! وقال: حديث يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أقول به كيف هذا؟! ولذلك نال هؤلاء الأئمة من المكانة عند المسلمين ما نالوا؛ لشدة متابعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة تحريهم لهديه، وبعدهم عن مخالفته في كل شيء، إلا فيما لا بد للبشر منه، ولكن إذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا؛ فمن بعدهم أولى بالاختلاف، والاختلاف أمر لا بد منه، وإنما الشيء الذي يجب على المسلم أن يعيه ويسمعه ويفهمه، هو المنهج الصحيح في هذا الاختلاف، وفي مواجهته. وخلاصة ما يتعلق بموضوعنا الآن هو: أن كل اختلاف فمرده إلى كتاب الله تعالى وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه إذا صح الحديث، فكل واحد منا يقول: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا عرفت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كذا، قلت به، ولا حاجة لأن أقول: الأئمة أعلم مني بهذا الحديث، أو أعرف مني به لو كان صحيحاً لقالوا به، أو لو كان هذا معناه لقالوا به؛ لأنك حينئذٍ قد أحلْتَ سنة النبي صلى الله عليه وسلم إلى التقاعد أو إلى المعاش، واستبدلت بها آراء هؤلاء الأئمة، وهذا ما لا يرضيهم؛ لأنك حينئذٍ كما تكون خالفت هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، تكون خالفت هؤلاء الأئمة الذين تتبعهم وتسير على نهجهم. إذاً: فالحديث هو المقدم، وهؤلاء الأئمة إنما يغترفون من بحر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كتاب الله تبارك وتعالى. فيجب عليك أيها المسلم! أن تعظم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتربي في قلبك تعظيم الحديث، فإذا سمعت كلمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليها بكليتك بقلبك وقالبك، واحرص على فهمها ومدى صحتها وثبوتها، ثم ابن على ذلك العمل بها، والدعوة إليها، واعرف أنك بهذا لن تخرج عن قول إمام من الأئمة، فما من شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا وقال به بعض هؤلاء الأئمة أو كلهم. فهذه أشياء مما يتعلق بالأخطاء التي يقع فيها كثيرٌ من المسلمين، في تحقيق معنى شهادة أن محمداً رسول الله، والإنسان الذي يطمع في رحمة الله، ويطمع في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، عليه أن يقف مع نفسه وقفة صدق، ويتأمل مدى تحققه وامتثاله للمعاني التي آمن واقتنع بأنها هي المعنى الصحيح للشهادتين. وفقني الله وإياكم لصالح القول والعمل، وجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 26 الأسئلة الجزء: 130 ¦ الصفحة: 27 حكم تثنية التكبير في الأذان السؤال ما حكم تثنية (الله أكبر) في الأذان؟ وما هي السنة، الإفراد أم التثنية؟ الجواب لا أدري ما هي السنة! هل السنة أن يكبر بَنَفسٍ واحد، الله أكبر الله أكبر؟ أو يفصل إحداهما عن الأخرى فيقول: الله أكبر الله أكبر؛ لكن ليس في هذا أو هذا من بأس، أما إن كان أحدهما أفضل من الآخر فلست أدري. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 28 حكم الوساوس التي تعتري الإنسان السؤال يحدث أن يوسوس الشيطان بأشياء تخل بعقيدة الإنسان؛ ولكن القلب لا يطرقها ويأباها بل يحارب ذلك الوسواس، ويتمنى عدم وجود هذا الوسواس فما موقف الإيمان من هذا؟ هل يخل ذلك بشيء من الإيمان؟ الجواب الوساوس التي تعتري الإنسان -وخاصة الشاب- هي أمر يعرض لكثيرين، ومثل هذا السؤال يتردد ويتسرب كثيراً، وهي نوع من الوسوسة، ويخطئ من يسميها شكاً؛ بل هي وسواس, وعلى الإنسان إذا شعر بشيء من ذلك ألا يلتفت إليه، ويعرض عنه بالكلية، فإن الشيطان إذا رأى إعراض الإنسان عن هذه الأمور، وعدم التفاته لها؛ بحث عن وسيلة وسبيل آخر ليشغله به، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة أوصى أنه إذا وجد الإنسان شيئاً من ذلك: {فليستعذ بالله ولينتهِ} والانتهاء يعني ألا يكترث الإنسان، وألا يحمل هم هذه الوساوس. فحاول أن تدفعها عن نفسك، لكن لا تحمل همها، ولا تصبح هذه الوساوس شغلك الشاغل، والتخلص منها هو كل ما يعنيك، ولا تفكر إلا بذلك. فانته عنها، ولا تأبه بها، واستعذ بالله منها، وستجد أن هذه الوساوس تختفي، وعلى كل حال فهي وساوس تعرض للإنسان في مرحلة معينة من حياته، ثم تختفي؛ ومع ذلك فعلى الإنسان أن يسعى إلى دفعها ما استطاع، بالاستعاذة بالذكر بدعاء الله عز وجل بإهمالها وعدم الالتفات إليها، فإن استمرت معه؛ فلا بأس أن يعرض ما يجده على بعض أهل العلم الذين يعرفهم، حتى يساعدوه في التخلص مما هو فيه. وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 29 حكم المشي بالنعال في المقبرة السؤال ما حكم المشي في المقبرة بالنعال؟ الجواب ورد حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها، أن رجلاً كان يمشي على القبر وعليه نعلان سبتيتان فقال: {يا صاحب السبتيتين ألقِ سبتيتيك} وقد اختلف في ذلك أهل العلم، فقال بعضهم: إن المشي على القبور بالنعال ممنوع بدلالة هذا الحديث، وقال آخرون: إن النعال السبتية نعال فيها شيء من الأبهة، ولا يلبسها إلا الأغنياء، وقد يداخل الذي يلبسها شيء من التعاظم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بخلعها؛ لأن المقام مقام تذلل وتواضع، وبعد عن الزينة والزخرف، وأَوَّلَ علماء آخرون هذا بأوجه أخرى، والله أعلم. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 30 حكم ولائم الموت السؤال ما حكم الطعام الذي يؤتى به إلى المقبرة عندما يموت الميت فيطعم الناس؟ الجواب في الحديث الصحيح الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، حين مات جعفر قال عليه الصلاة والسلام: {اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم} فهذا دليل على أنه يشرع إذا شغل أهل الميت بميتهم أن يصنع لهم بعض جيرانهم، أو أقاربهم طعاماً ويقدمونه إليهم. أما غير ذلك من الأطعمة والولائم التي تصنع في وفاة أحد فهي غير مشروعة، سواء كانت هذه الولائم مما يصنعه أهل الميت كما يحصل في بعض البلدان، ويدعون الناس إليه، أو غير ذلك. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 31 حكم الحلف بغير الله السؤال هناك كثير من الناس اليوم من يحلف بغير الله، كأن يقول: والكعبة، والنبي، أو رأس فلان، أو بالذمة، وغير ذلك فهل ينطبق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {من حلف بغير الله فقد أشرك أو كفر} وهل الشرك هنا أو الكفر مخرجٌ من الملة أم على سبيل التغليظ والتشديد؟ الجواب نعم. الذي يحلف بغير الله ينطبق عليه جملة هذا الحديث، فهو قد حلف بغير الله، سواء حلف بالأمانة أو بالكعبة، أو بطاغوت من الطواغيت، أو بشرفه، أو بفلان، فهذا كله لا يجوز، ومن حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك؛ لكن الكفر والشرك هاهنا ليس كفراً أكبر، مخرجاً من الإسلام؛ بل هو كفر أصغر، وشرك أصغر، فالحلف بغير الله محرم، وممنوع، وغير جائز. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 32 حكم الوفاء بالنذر إذا كان في معصية السؤال إنه أحب بنتاً، ونذر أن ينظر إليها ثمان مرات، فهل يوفي بنذره، أو يكفر عن النذر؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا وفاء لنذر في معصية الله} ويقول: {من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه} وإذا كان الإنسان نذر بأمر وهو معصية، كما هي الحال بالنسبة لهذا السائل، فإنه سوف ينظر إلى امرأة قد حرمها الله تبارك وتعالى عليه بالنصوص الصريحة، وقد يترتب على هذا النظر فساد قلبه، ومزيد تعلق وشغف، وكما قيل: كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وترِ فعلى الإنسان أن يدرك حجم الخطأ الذي هو مقدم عليه، وألا يعصي الله عز وجل، ولا يفي بهذا النذر الذي هو معصية. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 33 مسألة وصول ثواب قراءة القرآن للميت السؤال ما حكم قراءة القرآن على الموتى؟ وهل يصل الثواب لهم أم لا؟ الجواب الصحيح أن قراءة القرآن على الموتى أو على قبورهم غير مشروعة، أما وصول الثواب فهذا موضع خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال بوصول الثواب إلى الميت، ومنهم من قال: إن الثواب لا يصل؛ لأن هذه عبادة بدنية محضة، فلا يصل ثوابها، وإنما يصل ثواب العبادات المالية، أو المشتركة بين كونها مالية وكونها بدنية، والأشياء التي ورد النص بها كالحج -مثلاً- ومما لا شك فيه أن الذين يقرءون القرآن بالأجرة -كما هو حاصل في كثير من البلدان الإسلامية- ويختمونه بالأجرة، فمثلاً: يأتون بعشرة قراء أو أكثر، كل واحد منهم يقرأ قسطاً من القرآن، ويهدونه لفلان؛ فهذا لا يصل ثوابه إلى الميت بلا إشكال؛ لأنه لا ثواب له أصلاً، فهؤلاء القوم ما عملوا عملاً صالحاً فيه أجر يصل إلى الميت، إنما هم تَأَكَّلوا بالقرآن، وجعلوا هذا الكتاب الذي نزل ليحكم الحياة، ويسير شئون الناس، لا يعرف إلا عند الموتى وفي حال الموت، ومن أجل المكاسب المادية، وحتى تمتلئ جيوبهم من أموال هؤلاء المساكين الذين أصيبوا بميتهم، ثم أصيبوا بمالهم أيضاً، فثواب مثل هذا، لا شك في عدم وصوله. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 34 حكم الرقية بالآيات القرآنية السؤال ما مدى استعمال الآية القرآنية كحجاب لمنع العين والحسد؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى طريقة صحيحة ونافعة، يحمينا الله عز وجل بها من شر شياطين الإنس والجن من العين والحسد، والجن، ومن غير ذلك ألا وهي الأذكار والأوراد والأدعية التي يقولها الإنسان بنفسه، فيقرأ ورده في الصباح، ويقرأ ورده في المساء، ويذكر الأدعية الواردة في المناسبات التي تعرض له، ويجعل قلبه مربوطاً بالله تعالى، وحياً بذكره في جميع الأحوال، وهذا هو الطريق الأصلي والصحيح لطلب حماية الله عز وجل مما يخافه الإنسان. وكثيرٌ من الناس اليوم لا يعرفون هذا الطريق، فلا يعرفون إلا وضع الحروز التي يكتبها أناس قد لا يكونون معروفين بالعلم ولا بالتعبد، بل وبعضهم لا يدرى ماذا يكتب، فقد تفتح بعض الحروز، فتجد فيها عبارة عن طلاسم وأشياء لا يُدرى ما معناها، ثم يعلقونها أحياناً على الصبيان وغير ذلك، دون أن يهتموا بالشيء الذي يحيي قلوبهم فعلاً، ويجعلهم يشعرون أن الله تعالى يحفظهم مما يخافون، وهذا من انحراف المفاهيم أيضاً في نفوس كثير من الناس. فأين الأذكار؟! وأين الأدعية؟! وهل كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم دأبهم فقط هو كتابة الحروز، والتمائم، والرقى، والتعاويذ وتعليقها؟ وحتى لو وجد هذا؛ تبقى حالات معينة! أما الأصل فالإنسان ينبغي له أن يستعمل الأذكار والأدعية النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الرقى فإنها إذا لم يكن بها شرك، وكانت من القرآن أو السنة، ومن أناس من أهل الخير فلا بأس بها. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 35 تعريف القومية السؤال ما معنى القومية؟ الجواب القومية هي الاجتماع على أساس معين، كالاجتماع على أساس الوطن، أو على أساس القوم، والجنس، والعنصر، وما أشبه ذلك، أي: أن تكون الرابطة بين الناس ليست هي الأخوة الإسلامية؛ بل القومية، فيكون العرب أمة واحدة، والترك أمة واحدة، وهكذا فهذه هي القومية، وهي مناقضة في أصلها للإسلام، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام جاء بدعوة الإسلام إلى الناس كافة، وكان أتباعه منهم العربي، ومنهم الفارسي، والرومي، والحبشي، ولا فرق بينهم إلا بالتقوى. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 36 أشرطة جيدة في العقيدة السؤال هل هناك بعض الأشرطة في العقيدة تنصحهم بها؟ الجواب لا أذكر الآن أشرطة في العقيدة مناسبة للجميع، وقد يكون هناك شرح للعقيدة الطحاوية للشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، يناسب أيضاً الإنسان المتقدم نسبياً؛ لأنه يشرح العقيدة الطحاوية، وهي أشرطة جيدة ومفيدة أما بقية الأشرطة فقد يكون هناك أشرطة، لكنني لم أسمعها، أو لا أستطيع أن أوثقها توثيقاً مطلقاً؛ لأن الشريط في الجملة طيب؛ لكن يكون فيه بعض الهفوات فتوثيق الشريط إجمالاً فيه شيء من الصعوبة. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 37 حكم الدعاء بحق النبي صلى الله عليه وسلم السؤال تكلم فضيلتكم في المحاضرة عن الشرك الأكبر والشرك الخفي، فهل الدعاء بحق النبي أو بحق رسول يعتبر من ذلك؟ الجواب الدعاء بحق النبي صلى الله عليه وسلم أو بجاهه، مر في أثناء المحاضرة، وأنه نوع من التوسل الممنوع المحرم، وبعض السلف كانوا يقسمون الشرك إلى ثلاثة أقسام: شرك أكبر، وشرك أصغر، وشرك معصية فعلى الإنسان ألا يستغرب تسمية بعض الأشياء شركاً أصغر؛ لأن الإنسان الذي عصى الله عز وجل، قد عرف أن الله لا يريد هذا الأمر ففعل وأطاع الشيطان في هذه المسألة فهو واقع في نوع من الشرك، بطاعته للشيطان، وهي طاعة جزئية. فليس بغريب أن تسمى بعض الأشياء شركاً أصغر، ولو لم تكن كفراً يخرج به صاحبه من الإسلام. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 38 ما صحة حديث: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك؟ السؤال ما صحة الدعاء الوارد عند الذهاب إلى المسجد، ألا وهو قول: {اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك} الخ؟ الجواب هذا الدعاء لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت؛ لما كان فيه حجة لسؤال الله عز وجل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل هو أقرب ما يكون إلى سؤال الله بعمل الإنسان الصالح، وبما أوجبه الله على نفسه من إجابة الداعين، وهذا أمر لا يستقيم به الاستدلال على سؤال الله بجاه نبي أو ولي أو صالح. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 39 حكم قول: (الله والنبي يحييك) السؤال بعض الناس إذا زرته قال: الله والنبي يحييك، فما حكم ذلك؟ الجواب هذا لا يصح، ولا تصلح مثل هذه العبارة، بل كلمة: حياك الله أو الله يحييك، لا بأس بها؛ لأنها نوع من التحية الموجودة عند الناس في الجاهلية والإسلام، وليس بها بأس إن شاء الله؛ لكن إضافة النبي صلى الله عليه وسلم هاهنا ليس لها مكان فأنت حين تقول: حياك الله، كأنك تدعو له بالتحية، سواء كان المعنى الحياة، أو كان معنى آخر من معاني التحية، فأصل هذه الكلمة نوع من الدعاء. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 40 حكم الصلاة على القبر السؤال ما حكم الصلاة على القبر؟ الجواب الصلاة على القبر، بأن تصلي على المقبور، أي: وجد لك قريب مات في بلد، أو مات وأنت غائب، ثم قدمت من قريب، فقالوا: إن فلاناً قد توفي، فذهبت إلى قبره وصليت عليه صلاة الجنازة هذا وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصحيحين {أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر بعدما دفن، فكبر عليه أربعاً} أما الصلوات في المقابر -سواء صلاة الفريضة أو النافلة- لا تجوز؛ لثبوت النهي عن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تجلسوا إلى القبور ولا تصلوا إليها} . الجزء: 130 ¦ الصفحة: 41 حكم قول: يا وجه الله السؤال عنده كلمة اعتادها فهل هذه الكلمة تؤدي إلى الشرك، وهي قوله: يا وجه الله؟ الجواب لا أدري ماذا يقصد بهذه الكلمة، وفي أي مناسبة يقولها! لكن ظاهر الكلمة -الآن- أنه ليس فيها شيء؛ لكن إن كان يقصد بها معنىً توارثه عن أهله، أو يقولها في مناسبات تدل على أن لها معنىً خاصاً غير المعنى الظاهر والمتبادر، فقد يختلف الأمر، وإن كان في الأصل أن الإنسان يدعو الله عز وجل، فلا يقول مثلاً: يا وجه الله، أو ينادي اسماً أو صفة؛ إنما ينادي الله عز وجل باسمه الذي هو الاسم الأعظم عند كثير من الناس وهو: (الله) أو بأسمائه الأخرى، فيقول: يا ودود، يا رحيم، يا غفور وهذا من دعاء الله بأسمائه الحسنى، أما ما ذكر، فلا أعرف أن العلماء ذكروا مشروعية مثل هذا العمل، وينبغي للإنسان أن يحرص على تجنبه. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 42 توضيح لإشكال السؤال أرجو توضيح قولكم: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ليفصل القضاء. الجواب قلت: إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا في كل ليلة فيقول: {هل من سائل؟ هل من مستغفر؟ هل من تائب؟} ثم قلت: إن الله عز وجل ينزل في يوم القيامة لفصل القضاء، فإن كنت قلت إنه ينزل إلى السماء الدنيا لفصل القضاء فهذه سبقة لسان. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 43 من يقول: عرفنا الله بالعقل السؤال ما رأي فضيلتكم في من يقول: الله ما رأيناه، بل بالعقل عرفناه؟ وقولهم: أعرف ربي بآياته ومخلوقاته؟ الجواب قوله: "الله ما رأيناه"، أي ما رأيناه بأعيننا، هذا صحيح، ثم قوله: "بالعقل عرفناه"، العقل لا شك أنه يدل على الله عز وجل، والشاعر يقول: فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد ويقول الآخر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت سطرها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فالعقل من الوسائل إلى معرفة الله، والفطرة مجبولة على معرفة الله، والتأله إليه وحبه، وهذا لاشك فيه، ولكن هذه المعرفة بالله عز وجل تنمو وتزكو وتصح وتكمل؛ بمعرفة الله أيضاً من خلال كتبه ورسله، وما جاءوا به من أوصافه سبحانه وأسمائه، وأفعاله. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 44 كتب جيدة في العقيدة السؤال فضيلة الشيخ! اذكر لنا بعض الكتب الجيدة في العقيدة لنقتنيها؟ الجواب الكتب الجيدة في العقيدة -بحمد الله- كثيرة، وفي هذا العصر -بالذات- كثرت الكتب؛ سواء المؤلفة، أو كتب السلف التي حققت وظهرت إلى الواقع، لكن تحديد الكتب يختلف بحسب مستوى الإنسان. فإن كان طالب علم ولديه علم جيد، فيمكن أن يقرأ في كتب العلماء الأقدمين، ككتاب شرح أصول الاعتقاد للإمام أبي القاسم اللالكائي، وكتاب الإيمان للإمام ابن مندة، وكتاب التوحيد للإمام ابن مندة أيضاً، وكتاب السنة لابن أبي عاصم، وكتاب السنة، لعبد الله بن أحمد، وكتاب السنة للمروزي، وكتاب الشريعة للآجري، وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم وغيرها. وإن كان مستواه دون ذلك؛ فيمكن أن يختار في العقيدة كتباً مبسطة، تشرح قضايا العقيدة الإسلامية بشكل جيد وواضح ومناسب للأصل، ومن هذه الكتب، كتب ألفها الشيخ الأشقر، وهي عبارة عن سلسلة بعنوان العقيدة في الله، أو العقائد، منها كتاب يتعلق بالعقيدة في الله، وكتاب في الرسالات، وكتاب في الملائكة، وكتاب في الشياطين، وغيرها. وكذلك يوجد كتاب قيم وجيد للشيخ محمد بن صالح العثيمين عنوانه: القواعد المثلى للأسماء والصفات الحسنى، وهو كتاب مفيد جداً. إضافة إلى كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وأحفاده، وتلاميذه. الذين شرحوا دعوته، ومن هذه الكتب كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد، وغير هذه الكتب. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 45 حكم الدعاء عند القبر السؤال فضيلة الشيخ: أليس الدعاء عند القبر لصاحبه -أي لصاحب القبر- من السنة التي غفل الناس عنها في زماننا هذا؟ الجواب ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بزيارة القبور، وأنها تذكر بالآخرة، وورد عنه أدعية تقال في الزيارة، منها ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من قول: {السلام على أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، يغفر الله لنا ولكم} ثم يدعو: {اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم} . فمثل هذه الأدعية التي هي بمناسبة زيارة القبر، وهي دعاء للميت، ودعاء للزائر أيضاً، ولكن ليس بقصد تحري المقبرة، أو بقصد تحري القبر للدعاء عنده، ومع الاقتصار منها على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، هذا لا شيء فيه، ولا يعارض تحريم قصد القبور للدعاء. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 46 حكم الذبح عند دخول البيت الجديد السؤال ما حكم الذبح في البيت الجديد، أي: إذا بنى بيتاً جديدا ذبح ذبحاً بنية التبرك بالدم، وهذا حاصل من كثير من الناس؟ الجواب لا شك أن هذا محرم أيضاً، فإن هذا العمل -وهو التبرك بالدم- قد يصاحبه شيء من الاعتقاد؛ بل لا بد أنه يصاحبه شيء من الاعتقاد بهذا الدم، وبهذا المنزل الجديد والرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت تجد عليهم أشياء كثيرة، فكان الواحد منهم ينتقل من بلد ليسكن في بلد آخر، وينتقل من بيت ليسكن في بيت آخر، أو من مزرعة ليسكن في مزرعة أخرى، وغير ذلك من الأحوال التي تعرض لهم، كما تعرض لنا الآن؛ فما كانوا يصنعون شيئاً من ذلك؛ بل كان هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه إذا استجد شيئاً دعا دعاءً يتعلق به، كما إذا لبس ثوباً جديداً، وكذلك إذا دخل منزله، أو ما أشبه ذلك. أما ذبح الإنسان بنية التبرك بمناسبة دخوله بيتاً جديداً؛ فهذا ليس بجائز. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 47 حكم الذبح للجن السؤال فضيلة الشيخ: يقصد أنهم يذبحون للجن، فما حكم ذلك؟ الجواب نعوذ بالله! إذا كان الذبح للجن؛ فهذا نوع من الشرك. فالنسيكة لا تذبح لغير الله عز وجل، بل إن الحنفاء الذين كانوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجاهلية، كانوا يستنكرون مثل هذا العمل، وفي الحديث في صحيح البخاري، عن أسماء رضي الله عنها قالت: [[كان زيد بن عمرو بن نفيل ملصق ظهره بالكعبة، وهو يخاطب قريشاً ويقول لهم: يا معشر قريش! والله ما على دين إبراهيم منكم اليوم غيري -يقول ذلك مستنكراً عليهم- هذه الشاة خلقها الله، وأنزل لها الماء من السماء، وأنبت لها العشب من الأرض؛ ثم أنتم تذبحونها لغير الله!]] . فلا شك أن الذبح للجن أو لغيرهم، هو شرك بالله عز وجل. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 48 حكم من يقعون في الشركيات السؤال ما حكم هؤلاء المنتسبين إلى الإسلام، الذين يقعون في هذه الشركيات؛ بسبب نشأتهم في هذه البيئة الشركية، ويظنون أن الإسلام هو هذا؟ الجواب الواجب على العلماء، وطلاب العلم، والدعاة، أن يركزوا على هذه القضية، ببيان العقيدة الصحيحة، وبيان المعنى الصحيح للتوحيد والشهادة والتحذير مما ينافي ذلك من عبادة المقبورين أو دعائهم، أو الطواف أو الصلاة، أو ما أشبه ذلك إليهم؛ أو ما ينافي كمال التوحيد ويخدش فيه. فليحرصوا على توعية الناس بذلك، حتى يهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيي عن بينة، وتقوم عليهم الحجة؛ فإن هذا هو الأمر الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على الذين أوتوا الكتاب: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] . الجزء: 130 ¦ الصفحة: 49 حكم التوسل بغير الله السؤال ما حكم التوسل بغير الله، أو من يتوسل برسول، أو أحد الصالحين الميتين؟ الجواب التوسل بغير الله -بلا شك- لا يجوز، لكنه أنواع: فمنه ما يكون شركاً أكبر؛ وذلك كما إذا وجه الدعاء والتوسل إلى الوسيط والمدعو نفسه، كمن يدعو المقبورين، ويلتمس منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، ورد الغائب، وما أشبه ذلك. ومنه ما هو حرام؛ لكن لا يصل إلى حد الشرك، وذلك كما لو سأل الله عز وجل بفلان، كما يقول بعض الناس: اللهم إني أسألك بجاه محمد صلى الله عليه وسلم، أو بجاه فلان، فهذا لا يجوز، لكنه ليس شركاً أكبر. والإنسان عليه أن يسأل الله بما أمره الله به أن يسأله، فقد بين لنا ربنا سبحانه -الذي نؤمن به، ونقبل شرعه- وبين لنا نبينا صلى الله عليه وسلم كيف ندعو؟ وكيف نتوسل؟ يقول الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180] فادعُ الله بأسمائه الحسنى وبصفاته، وادعُ الله بسابق إنعامه عليك اللهم إني أسألك كما هديتني ورزقتني ووفقتني -مثلاً- أن تفرج همي وكربتي وادعُ الله تبارك وتعالى بعملك الصالح أيضاً، كما دل عليه الحديث الصحيح في قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، فكان كل واحد منهم يذكر عملاً صالحاً فيقول: {اللهم إن كنت تعلم أني إنما فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك فافرج عنا ما نحن فيه} . فلا بأس أن يقول المسلم -مثلاً-: اللهم إني أسألك بأني آمنت بك، وشهدت أن لا إله إلا أنت، وأن محمداً عبدك ورسولك إلا غفرت لي ورحمتنني. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 50 حكم فعل المولد السؤال ما حكم فعل المولد؟ وما حكم من يقول: إن المولد مباح أو سنة؟ الجواب فعل المولد بدعة لم يعرفها المسلمون في عصورهم المفضلة؛ إنما عرفوها عند طريق احتكاكهم بالنصارى الذين كانوا يعملون الموالد لنبيهم، والواقع -أيها الإخوة- أن المسلمين اليوم تحول حبهم واتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم من اقتداء حقيقي به، وبحث عن سنته وعمله، والتأسي بذلك؛ إلى مجرد -لا أقول: حب في القلب؛ بل إلى مجرد- دعاوى يتفوهون بها بألسنتهم، وما أكثر ما تسمع من يدعي حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم! أين الحب؟! هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ليس فقط إنساناً تحبه، ثم تتركه إلى غيره! وأصبحت القضية مجرد أقوال تقال، لا رصيد لها من الواقع، ولا دليل عليها؛ فكيف تحبه ثم تعبر عن هذا الحب بأسلوب لم يشرعه لك صلى الله عليه وسلم؟! ولو سألناكم أيها الإخوة! وسألنا من يقيمون المولد بصراحة، هل نحن أكثر محبة للرسول صلى الله عليه وسلم من أبي بكر، وعمر، وبقية الصحابة؟ لكان الجواب بالإجماع لا من التابعين، أو تابعيهم؟ الجواب: كلا. بل هم أكمل محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم منا، وأعظم توقيراً له ومعرفةً بقدره. إذاً: فما الذي كان يمنعهم من أن يحيوا المولد، خاصة وأنهم حديثو عهد به صلى الله عليه وسلم وقد جرت عادة الناس إذا مات عندهم ميت، أن يحيوا ذكرى وفاته، ويسمونها -مثلاً- الذكرى بعد أسبوع ذكرى الأربعين ذكرى كذا ثم كل ما بَعُد الزمن؛ قلت هذه المناسبات، حتى تختفي. فأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، عاش بين أظهرهم، وأحبوه من كل قلوبهم، وكان أحب إليهم من نفوسهم، ومن الماء البارد على الظمأ، ويفدونه بآبائهم وأمهاتهم، ولما قيل لـ خبيب بن عدي وهو يصلب في مكة: [[أتحب أن محمداً مكانك صلى الله عليه سلم، وأنك سالم في أهلك؟ قال: والله ما أحب أني سالم في أهلي، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم تصيبه شوكة]] فهذا هو الحب الصحيح. فإذا حلق شعره صلى الله عليه وسلم، فإنها لا تسقط شعرة من أيديهم، فكل واحد يأخذ شعرة من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم، ليحتفظ بها؛ وذلك لأن الاحتفاظ والانتفاع بآثاره الحقيقية في حال حياته صلى الله عليه وسلم، أمرٌ ليس فيه أدنى بأس. وكذلك إذا بصق؛ أخذوا بصاقه صلى الله عليه وسلم، وإذا توضأ؛ كادوا يقتتلون على باقي وضوئه إلى هذا الحد من الحب!! وماذا تتصورن حين مات محمد صلى الله عليه وسلم؟ أقفرت منه المدينة وأظلم كل شيء فيها، وأصبح الصحابة كالغنم المطيرة. فـ أبو بكر يدخل عليه وهو مُسَجَّى قبل أن يوسد في قبره صلى الله عليه سلم، فيقبله، ويبكي، ويقول: [[طبت حياً وميتاً يا رسول الله]] فهي محبة عميقة، والله لا يشعر بها ولا بقليل منها أولئك الذين يدعون محبته، من خلال أشياء يقيمونها، وخطب رنانة يلقونها، وقصائد يرددونها. خذ على سبيل المثال: هذا الشاعر الذي كتب قصيد البردة، وهو البوصيري الذي يقول: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم إلى آخر القصيدة هذا الرجل الذي يظن كثير من الناس أنه قال هذه القصيدة من فرط حبه للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ابحث عن ديوانه، واقرأ ديوانه؛ تجد أن هذا الرجل شاعر متكسب، يأتي إلى هذا فيمدحه ويأخذ ماله، ويأتي إلى الآخر فيمدحه ويأخذ ماله، وقضى حياته كلها بهذا الشكل! اقرأ ديوانه، واقرأ سيرته ليس أكثر من ذلك فهو ليس عالماً أو ليس إماماً أو عابداً، ولا شيء من ذلك؛ ولكنه رجل قوي في نظم الشعر -أي يملك موهبة- فصار هذا الشعر يأسر قلوب كثير من الناس، ويرددونه. إذاً: فقضية محبة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ليست دعاوى تقال باللسان؛ وإنما هي حقائق توجد في القلب فتنطبع على الجوارح. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 51 الدعوة إلى التوحيد من الأصول لا من الفروع السؤال هل الدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، من الأمور الفرعية كما يزعم بعض المنتسبين إلى العلم؟ وما حكم من قال مثل هذا القول؟ الجواب الدعوة إلى تصحيح العقيدة أصل وليست فرعاً، فالخطأ في الفروع، خطأ وصواب؛ لكن الخطأ في الأصول هدىً وضلال فالإنسان الذي يخطئ في عبادة من العبادات، أو في تطبيق حكم من الأحكام؛ يختلف كثيرا ًعن إنسان يخطئ في قضية اعتقاديه فالدعوة إلى تصحيح المفاهيم الاعتقادية، وبنائها على ضوء الكتاب والسنة، هو أصل في الدين وليس فرعاً، وهذا الأصل يبنى عليه غيره. ولذلك فإن من الواجب على المسلم، وطالب العلم -بصفة خاصة- أن يحرص على تصحيح عقائد الناس، وليس من الضرورة أن يكون تصحيح عقائد الناس -وخاصة العامة من المسلمين- عن طريق بيان انحراف أصحاب الفرق الضالة -مثلاً- وكيف انحرفوا؟ وما هي الفرق المنحرفة في الأسماء والصفات، أو في غيرها؟ إنما الضروري أن يشرح لهم التوحيد الصحيح، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والذي فهمه منه أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة، وبلغوه إلى من بعدهم، وأن يقرأ عليهم الأحاديث التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم، والأشياء التي ذكرها لأصحابه، ويكفي أن الناس بفطرتهم يعرفون ذلك. فالرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى العرب، فكان يخاطبهم باللغة العربية، فيصف الله لهم بصفاته، ويسمي الله بأسمائه، ويذكر أفعال الله عز وجل، فماذا تتوقع من العربي القح الذي لم يدرس الفلسفة والمنطق وغيرها، عندما يسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: {ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فاغفر له، هل من تائب فأتوب عليه؟ وذلك حتى يطلع الفجر} . وهذا الحديث المتواتر، ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالعربي عندما يسمع هذا الحديث لا يفهم أن المعنى: تنزل رحمة الله، وأن رحمة الله هي التي تنادي؛ بل يفهم أن الله ينزل، وأن الله ينادي، دون أن يكيف هذا النزول بكيفية، أو يحده بحد، أو يتصور له شكلاً معيناً، ولو خطر في باله تصور معين، أو كيفية معينة، دفع ذلك وعرف أن الأمر كما قيل: كل ما خطر ببالك فالله بخلاف ذلك: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام:103] وقال: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه:110] . فحين تقرأ عليهم الأحاديث، وأقوال الصحابة والتابعين، في الله عز وجل، في أسمائه، وأفعاله، وفي غير ذلك من أبواب الإيمان، وتشرح له ذلك شرحاً مبسطاً، بل حتى لو لم تشرح ذلك؛ لفهم كثير من الناس -بالفطرة- المعنى الصحيح الذي تدل عليه هذه الأشياء، إلا أن يكون سبق إلى فطرتهم ما يفسدها. أما العامي فليس بالضرورة أن يعرف الفرق الضالة، والرد عليها، وما أشبه ذلك من الأمور. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 52 الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات السؤال هل من لوازم لا إله إلا الله الإيمان بتوحيد الأسماء والصفات؟ الجواب أقول: ليس من الضروري أن يكون الجواب هو: نعم إن توحيد الأسماء والصفات هو من لوازم لا إله إلا الله؛ ولكن الإنسان الذي آمن بوجود الله سبحانه، لا يكفي إيمانه به إيماناً مجرداً، بل لا بد أن يعرف ربه، لأن اليهود والنصارى، وكثير من أمم الكفر يؤمنون بوجود إله خالق للكون، فالفرق بين إيمان المسلم بوجود الله، وبين إيمان غيره، هو أن المسلم يؤمن بالله، ويعرفه بأسمائه وصفاته وأفعاله. وهذا الأمر لا بد منه، وهو أحد أنواع التوحيد، التي يطالب المسلم بتحقيقها، فهو جزء من مفهوم الإيمان بالله عز وجل. الجزء: 130 ¦ الصفحة: 53 خواطر في النصر والهزيمة لا يكتب الله عز وجل شيئاً للأمة الإسلامية إلا وكان وراءه الخير، حتى وإن توهمه الناس شراً، ومن ذلك الحروب والأزمات التي تمر بها، فإن الجهاد الإسلامي كان مصدر خير عظيم للأمم التي تعرضت له رغم ما حل ببعض أفرادها من القتل والأسر، لكنه كان سبباً في دخول أجيال وأجيال في دين الله الذي أرتضاه وللنصر الذي وعده الله لعباده عوامل منها: تحديد المبدأ وجمع الكلمة والإعداد المادي والتعبئة الشعبية وشرط النصر نصرة الله ونصرة دينه وإقامة شعائره، وإذا كتب الله النصر يُسّر أسبابه وسخر له جنوده الذين لا يعلمهم إلا هو، سبحانه وتعالى. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 1 الحرب ليست شراً محضاً إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: أيها الإخوة الأحبة الأكارم: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وشكر الله لكم مسعاكم وحرصكم على الحضور والاستماع، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يكتبه لنا جميعاً أجراً ومثوبة يوم أن نلقاه، وألا يتفرق هذا الجمع إلا بذنبٍ مغفور وسعي مشكور وعملٍ مبرور، وأن يكتب لنا النجاة في الدارين من كل ما يسخطه جل وعلا. أيها الأحبة: الحرب شبح مخيف يزلزل القلوب ويخيف الأسماع، فما إن يسمع أحدٌ كلمة (الحرب) حتى يرتقي ويرتمي في مخيلته صورة الآلاف من القتلى من الكبار والصغار، وصورة الدماء التي تسيل، وصورة النيران التي ترتفع وتتوقد، ولذلك ارتبطت الحرب في أذهان البشر -أو غالبهم- بالتدمير والإفناء، وأصبح الناس إذا أرادوا أن يتكلموا عن فردٍ أو طائفة بالذم والنقيصة، وصفوا هذا الفرد أو هذه الفئة أو هذه الأمة بأنها أمة تلجأ إلى العنف وتنادي بالحرب. وهذا المفهوم -أيها الإخوة- هو في الواقع مفهوم جاهلي لكلمة (الحرب) بل هو في الواقع مفهوم على الورق، أما على الواقع فما من أمةٍ من الأمم سواء كانت كافرة أم مسلمة، إلا وحين تقلب صفحات تاريخها، تجد أنها خاضت حروباً كبيرة، ودخلت معارك طاحنة، وقاتلت أمماً عديدة خرجت مرة منتصرة ومرة منهزمة، وفي هذا الدين الذي أكرمنا الله تعالى به فإن الحرب ليست شراً بكل حال. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 2 الشر يهيمن على البشرية كلها إننا نعلم -أيها الإخوة- أن الشر اليوم يهيمن على البشرية كلها، حيث تتحكم فيها الحضارة الغربية، وأعني بالحضارة الغربية بمفهومها الاصطلاحي بشقيها الشرقي والغربي، الشيوعي والرأسمالي، وأن كنا نعلم أن الشيوعية قد انحسرت وتقلصت، لكن لازالت تتشبث ببقايا خيوطٍ لها هنا وهناك، وإن واقع العالم الإسلامي الموجود اليوم وما فيه من تناقض وتناحر وفتن، هو إفرازٌ لذلك الخلاف الموجود أصلاً بين الشرق والغرب، ولا شك أن هذا العالم لا تكاد ترتفع فيه راية تنادي بالإسلام إلا وجدت العداء المستحكم من الشرق والغرب من الشيوعية، والرأسمالية، ومن هذا المنطلق فإن الحرب التي قد نخافها ونخشاها في كثيرٍ من الأحيان قد تحمل بشارات كثيرة للمسلمين بأن أعداءهم هم الذين سوف يتقاتلون، ولذلك فإن كثيراً من المسلمين يدعون ويقولون: اللهم أهلك الظالمين بالظالمين وأخرجنا من بينهم سالمين. إننا نرجو ونؤمل أن يكون كل أمرٍ يكتبه الله تعالى ويقدره للمسلمين خيراً لهم في عاجل أمرهم وآجله، وأن يكون شراً لأعدائهم كما كان يتفاءل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تقص عليه رؤيا، فكان يقول: {خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا} فهكذا نحن نقول في اليقظة والمنام، وفي كل أمرٍ يثيره الله عز وجل: خيرٌ لنا وشرٌ لأعدائنا. فالحرب ليست شراً محضاً، وكما يقول أحمد شوقي: والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم والشر إن تلقه بالخير ضقت به ذرعاً وإن تلقه بالشر ينحسم إن الظلم اللاحق بالمسلمين اليوم ظلمٌ فادح، في ابتزاز أراضيهم، ونزف دمائهم، ونهب خيراتهم، وتسليط الأعداء عليهم، وحرمانهم من حقوقهم الإنسانية ومن العيش الكريم، ونحن نجد أن الغرب ينظر إلى الدم النصراني على أنه دم مقدس، في مقابل أنه لا يرى أن للمسلمين حرمة، ولذلك نجد أنهم يغضبون إذا استخدمت روسيا السلاح في الجمهوريات السوفيتية النصرانية؛ كجمهوريات البلطيق لكنهم لا يرفعون رأساً إذا كانت الضربة بإخواننا المسلمين، فما بال الإنسانية تتحرك للنصرانية ولا تتحرك للمسلم؟! أيها الأحبة: إذاً الوقفة الأولى باختصار ليست الحرب شراً محضاً، وقد تكون الحرب إن كتبها الله تعالى خيراً للمسلمين، ونحن لا نتمناها ولا نطلبها لكننا نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح حديث عبد الله بن أبي أوفى: {أيها الناس: لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال صلى الله عليه وسلم: اللهم مجري السحاب منزل الكتاب هازم الأحزاب اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم} . فيا أخي الحبيب: ادع بما دعا به نبيك وحبيبك محمد صلى الله عليه وسلم: {اللهم مجري السحاب منزل الكتاب هازم الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم، اللهم وانصرنا عليهم} وادع ربك على كل عدو للإسلام ظاهر أو مستتر، معلن أو مخفي، فالأعداء كثر ومنهم عدوٌ كاشر عن عدائه ومنهم عدوٌ في ثياب الأصادق ومنهم قريب أعظم الخطب قربه له فيكم فعل العدو المفارق لا أقول كما كان يقول بعض الغرب: اللهم اكفني شر أصدقائي، أما أعدائي فأنا كفيلٌ بهم، نحن نقول: كلا. بل اللهم اكفنا شر أصدقائنا وشر أعدائنا، فإننا بدون عون الله تعالى وتأييده ونصره لا نستطيع أن نصنع شيئاً أبداً. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 3 دعوى السلام عند الغرب أيها الإخوة: نسمع الأمم الغربية والشرقية اليوم تتشدق بنبذ الحرب والدعوة إلى السلام، فأي سلامٍ هذا الذي يقصدونه وينادون به ويتحدثون عنه في محافلهم الدولية ومجاميعهم وأجهزة إعلامهم؟ إن هذا السلام يعني أنهم يريدون أن تظل هيمنتهم على البشرية، وألا تقوم الأمم الأخرى المغلوبة على أمرها والمضطهدة؛ بالمطالبة بنيل حقوقها، أو السعي بالتمكين لنفسها. إنهم يريدون أن تظل الحضارة بأيديهم وأن يظل الأمر لهم، فكلما وجدوا من هذه الأمم -ولا أقول الأمم الإسلامية فقط، بل أقول أمم الأرض كلها- من يسعى إلى نيل حقه، قالوا: هذا يريد أن يعكر صفونا وهناءة عيشنا فحاربوه. هؤلاء الذين ينادون بالسلام كم أقاموا في الدنيا من مجازر؟! حتى مع الأمم الكافرة أيضاًَ، لكننا نضرب مثلاً بذوي القربى من المسلمين في فلسطين، لماذا لم تسل دموعهم لهذه الملايين من المسلمين التي شردت، وقتلت وأفنيت؟ لماذا لا تتحرك إنسانيتهم وعواطفهم للمدارس التي أحرقت؟ أين هم من مجازر صبرا وشاتيلا التي فعلها اليهود بالفلسطينيين؟ أين هم من المخيمات التي لا زال المسلمون يعيشون فيها منذ عشرات السنين وهي لا تكاد تسترهم من أذى الحر والقر؟ أين هم من شعب أفغانستان المسلم الذي يذوق المرارة وهو شعب مهجر بأكمله، منذ أكثر من عشر سنوات وهو مشرد بعضه في باكستان وبعضه في إيران وبعضه هنا وبعضه هناك، وكثير منهم في بلاد الغرب، في أمريكا وبريطانيا وغيرها؟ لقد أصبحنا نسمع نغمة جديدة، إنهم يتحدثون عن هؤلاء المجاهدين وقد يصفونهم بالمتطرفين، أو أنهم من ذوي العنف، أو أنهم لا يحبون السلام، كما رموا بذلك المجاهدين في فلسطين منذ زمن، وهي فتوى جاهزة معلبة ضد كل من يعكر صفو عيشهم، مع أن هؤلاء هم الوحيدون الذين أثبتوا -من بين جميع الرايات التي تعلن القتال في الدنيا- ولاءهم وصدقهم للإسلام، لأننا نجد أن كثيراً من البلاد تثور فيها الحروب، فإذا أرادت الدول الكبرى الشرقية والغربية أن تهدأ الحرب عقدت اتفاقية فسكنت الحرب، أما في أفغانستان فعلى رغم ما يسمى بالوفاق الدولي بين روسيا وأمريكا، إلا أن المجاهدين لا يزالون يحملون السلاح. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 4 الخير الناتج عن الجهاد الإسلامي فها نحن نرى أن الحروب الإسلامية -وبالمعنى الاصطلاحي الشرعي: الجهاد الإسلامي- كانت خيراً للبشرية كلها، فكم من أممٍ دخلت في هذا الدين على إثر تلك الحروب والغزوات التي قام بها المسلمون، وكم من قلوب انفتحت للهداية بسبب هذه الحروب، وكم من طواغيت أُزيلوا عن عروشهم وتسلطهم على الأمم وحيلولتهم بينها وبين نور وهدى الله عز وجل، ولهذا يقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} [الحج:40] . إذاً: الحرب الإسلامية لم تكن شراً، بل كانت خيراً محضاً للأمة المسلمة التي خاضت الحرب وضحت وبذلت وقدمت فلذات أكبادها وقوداً لهذه الحروب، فكانت خيراً لهم في الدنيا والآخرة عزاً وسعادةً في الدنيا، وفضلاً وشهادةً عند الله تعالى في الدار الآخرة قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] كما أنها كانت خيراً للأمم والشعوب التي حوربت، فأزيلت الحكومات التي كانت تحول بينهم وبين الإسلام، فتركوا وشأنهم ففكروا ونظروا وتأملوا فدخلوا في هذا الدين عن طواعية واقتناع. ولهذا يعجبني تصوير الشاعر الهندي محمد إقبال لهذا الأمر وهذا الموقف في قصيدته المشهورة (شكوى وجواب شكوى) حين يقول: من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم فخارا كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا ورءوسنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا ندعو جهاراً لا إله سوى الذي خلق الوجود وقدَّر الأقدارا كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا إشارة إلى أن المسلمين حين فتحهم للهند كانوا يأتون إلى الصنم المصنوع من الذهب فيكسرونه ويقتلون سدنته فوقه. لو كان غير المسلمين لحازها ذهباً وصاغ الحلي والدينارا وكأن ظل السيف ظل حديقةٍ خضراء تنبت حولها الأزهارا فانظر دقة التصوير، لم يكن السيف الإسلامي قتلاً وإفناءً وتدميراً وتيتيماً للأطفال وترميلاً للنساء، بل كان كالحديقة التي تنبت الأزهار حولها. إذاً فالجهاد والحرب ليست شراً بكل حال، وإنما هي في كثيرٍ من الأحيان خير، صحيح أن النفوس تكره الحرب، وكما قال الله عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] . فقضية أن الناس لا يحبون الحروب، أو يكرهونها ويمقتونها هذا شيء، لكن كونها خيراً لهم ولدينهم أو لمصلحتهم هذا شيء آخر غير مرتبط بذلك. وخاصةً أن الله عز وجل شرع لنا الحرب والقتال كما قال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] . الجزء: 131 ¦ الصفحة: 5 المدافعة سنة الحياة الوقفة الثانية: هي أن الله جعل نظام الحياة والبشرية في هذه الدنيا يقوم على أساس المدافعة كما قال الله عز وجل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] وقال: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] ولهذا فالحياة البشرية من يوم أن خلق الله أبونا آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا تخلوا أبداً من عداوات هنا وهناك، وخصومات متنوعة مختلفة، وحروبٍ تقوم هنا وحروبٍ تقوم هناك، وأحلافٍ تقوم هنا وأحلاف تنفض هناك. إذاً: فنظام الحياة البشرية جعله الله قائماً على مبدأ المدافعة -أو ما يسمونه بمبدأ الصراع- الصراع بين الخير والشر بل وحتى الصراع بين قوى الشر بعضها مع بعض، وهذا الصراع بين قوى الشر بعضها مع بعض لا شك أنه في مصلحة الإسلام، صراع الكافرين مع الكافرين، صراع النصارى مع اليهود -مثلاً- صراع الشيوعيين مع اليهود والنصارى، فصراع الأمم الكافرة بعضها مع بعض هو لا شك خيرٌ للإسلام، ولا يمكن أن تخلو الحياة البشرية من مثل هذه السنة بحالٍ من الأحوال. إن فكرة أن ينفرد شعبٌ من الشعوب أو أمة من الأمم فقط بالسيطرة والهيمنة على مقدرات الكون والدنيا وخيرات الشعوب؛ وعلى الأمم كلها، وأن تصبح الكلمة الأخيرة ويصبح القرار الأخير بيدها هذا تصورٌ بعيدٌ عن معرفة سنن الله تعالى في الكون، ولذلك تجد إلى وقتٍ قريب أن الصراع كان قائماً بين الشرق والغرب، بين الرأسمالية في الغرب وبين الشيوعية في الشرق، فبعدما حصل التخلخل والانهيار في النظام الشيوعي هل تتصور أن الغرب تفرد بحكم البشرية، وآل الأمر إليه وانتهت السنة الإلهية في دفع الأمم بعضها ببعض؟ لا أبداً، لا تتصور هذا بحالٍ من الأحوال، فدفع الله الناس بعضهم ببعض قائمٌ باقٍ إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 6 القيام بالأسباب وعدم انتظار المفاجآت إن الأمة الإسلامية لا يجوز لها أن تخضع أو أن تتوقع أنها خاضعة لنظام الطفرات والمفاجآت وأن تعلق أملها دائماً بانتظار المصادفات، بل ينبغي أن تعرف السنن التي وضعها الله تعالى في هذا الكون، وأن تسعى إلى الطريقة الصحيحة وعبر تدرج إلى أن تتلافى النقص الموجود في حياتها، فلا بد من فعل الأسباب وهذا لا شك يتطلب منا وقتاً. وخلاصة الوقفة الثانية: أننا نؤمل أن كل ما يجريه الله تعالى في هذا الكون يكون سبباً في بروز قوى جديدة في الكون، ودول جديدة تتنافس على مركز الصدارة ليستفيد المسلمون من هذا التنافس لمصلحتهم بدلاً من أن يكون زبوناً واحداً فيتحكم فيهم كما يشاء. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 7 فوائد تعدد القوى السياسية المهيمنة ولعلي أشير إلى أن الفترات التي يخبو أو يضعف فيها هذا الصراع بين قوتين كبيرتين هي من الفترات التي تكون تعيسة بالنسبة للمسلمين، لأنهم حينئذٍ يكونون أمام قوة واحدة تتحكم فيهم بدون منافس، لكن حين تسترخي هذه القوة، فإنهم يستفيدون منها من وجوهٍ عديدة، كما حصل بالنسبة للاتحاد السوفيتي مثلاً. أولاً: أنهم -كما يقال- تنفسوا الصعداء داخل الجمهوريات السوفيتية، فبدأنا نسمع عن إقامة بعض المساجد، وإقامة بعض المدارس، وتوزيع مصاحف أو كتبٍ إسلامية، وصلات مع بعض الجمعيات الإسلامية، ولا شك أن هذا العمل لا زال عملاً محدوداً قليلاً لا يكاد يذكر بالقياس -مثلاً- إلى انتفاع اليهود من هذا الانفتاح الذي حصل على الشيوعية، لكن لو كان المسلمون أقوياء لاستطاعوا أن يستفيدوا من هذا الانفتاح فائدة كبيرة. المهم أن استرخاء هذه القوة كان في صالح المسلمين من حيث أنهم استفادوا من الانفتاح في مد الجسور إلى إخوانهم المسلمين داخل ما يسمى بالسور الحديدي الشيوعي. الفائدة الثانية: أنهم حين يكونون أمام جهات متعددة كلها تخطب ودهم وتسعى إلى إرضائهم، فإنهم يستطيعون أن يستفيدوا من بعضهم ضد بعض، كما يستفيد صاحب السلعة، الذي يجد عدداً من الزبائن يريدون أن يشتروها، فهب أنك صاحب سلعة في دكانك وأتاك زبون واحد لهذه السلعة يستطيع أن يشتريها منك بما غلا ورخص من الثمن، لكن لو كانت هذه السلعة يتنافس عليها خمسة أو ستة كلهم يريد أن يشتريها لأمكن أن يتزايد عليها حتى يرتفع سعرها. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 8 استفادة المسلمين من تعدد القوى إننا لو كنا أمام مجموعة من الدول كلها تتنافس على نيل السيطرة والهيمنة على البشرية اليابان -مثلاً- وفرنسا وبريطانيا، وأمريكا، وروسيا، وكل دولة تنافس الأخرى، لكان المسلمون يستطيعون أن يستفيدوا من هذا التناقض، وهذه الحرب القائمة بين هذه الرءوس المتعددة، ويحرص كل طرف من هذه الأطراف على نيل رضاهم، وكسبهم إلى صفه والانتفاع من خيراتهم الكثيرة الموجودة في بلادهم، ومن أعدادهم الغفيرة ومن إمكانياتهم الهائلة، ومواقعهم الاستراتيجية المعروفة، لكي يستفيد من كل هذه الأشياء ويستفيد المسلمون بالتالي، لكن حين يكون الزبون واحداً فقط، فإنه يتحكم كما يشاء دون أن يجد من ينافسه. ولذلك فإنني أقول: إن هناك دولاً لو تقدمت في المضمار العالمي، لكان هذا -إن شاء الله- خيراً للإسلام والمسلمين، وأضرب مثلاً بقضية اليابان، فقد أصبحت -كما تعلمون- تتقدم في اقتصادها وتصنيعها، وتتقدم في علومها وتقنيتها بشكلٍ كبير، ولا شك أن اليابان على ما فيها أفضل للمسلمين من الدول اليهودية أو النصرانية، فاليابان دولة وثنية لا تختص بدينٍ معين، ولذلك فهي معرضة لأن تتقبل الإسلام. فالوثنيون إذا رأوا نور الإسلام والوحدانية، وضياء الإيمان أشربته قلوبهم وأقبلوا عليه لأنهم لم يتمسكوا من قبل بدينٍ سماوي أو شبهة دين سماوي، بخلاف اليهود والنصارى فإنهم يعتقدون أن معهم وثيقة -كما يزعمون- من السماء وهي الإنجيل والتوراة، ولذلك يتشبثون بها ويرفضون ما عداها، فاليابانيون في غالبهم وثنيون. أمرٌ آخر هو مبنيٌ على الأول أن اليابان كدولة وثنية لا تحتفظ بتاريخ من الصراع والحروب مع المسلمين، بل تاريخها مع المسلمين تاريخ عادي، ليس هناك أية خلفيات معينة، بخلاف اليهود والنصارى -والشيوعيين- فإنهم يحتفظون بتاريخ طويل من المعارك مع الإسلام ومع المسلمين، وهذا التاريخ يؤثر فيهم ويصنع عقولهم ويتلقاه صغارهم عن كبارهم، وهو عبارة عن منهج يتربون على وضعه. وحين أقول: اليابان لست أعني أن الأمة الإسلامية ستظل إلى الأبد أمة ضعيفة تأخذ من فتات موائد الآخرين إما من الشرق وإما من الغرب، وإما من الشمال أو الجنوب، فليس هذا هو قصدي بالكلام. مثلما يضربون في المثل العامي ويضحكون من رجل كان يقول: اللهم إني أسألك أن تغني فلاناً حتى أستدين منه، لا. نحن لسنا نسأل الله أن يرفع دولاً أخرى حتى ننتفع منها، كلا. لكننا نعلم أن نظام الحياة محكومٌ بسنن، والله عز وجل وضع في هذا الكون سنناً مطردة. وليس صحيحاً أن الأمة الإسلامية التي عاشت قروناً في ضعفٍ ونومٍ عميق وسبات طويل، وما زالت لم تضع قدمها في الطريق الصحيح؛ سوف تنهض بين يومٍ وليلة وتصبح رائدة في مجال العلم والتقدم البشري، وتقود الأمم كلها، هذا أمر سيكون بإذن الله تعالى كما وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو كائن لا محالة، لكن لا يمنع أن يكون هذا أمرٌ يقع بالتدريج وأن تكون الأمة المسلمة تترقى شيئاً فشيئاً ويصنع الله لها بحكمته ورحمته سلماً ترتقي من خلاله إلى ما أراده لها. ومن هذا أن توجد دولٌ عديدة تسعى إلى كسب ود المسلمين ونيل رضاهم والانتفاع بما لديهم، فتتنافس هذه الدول ويستفيد المسلمون من هذا التنافس. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 9 عوامل النصر وقفة ثالثة: لم تدخل الأمة الإسلامية في تاريخها الطويل معركة واحدة وقوتها أكبر من قوة عدوها أبداً، اللهم فيما ذكر في معركة حنين ولعلها من المعارك النادرة التي دخلها المسلمون وكانت قوتهم أكبر من قوة عدوهم، ولعله من العجيب أن ينهزم المسلمون في أول تلك المعركة، كما قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] فانهزم المسلمون في أول الأمر في حنين لأنهم اعتمدوا على قوتهم ورأوا أنهم لن يغلبوا، فلم تغن عنهم هذه القوة شيئاً مصداقاً لقول الله عز وجل: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19] . فلم يدخل المسلمون معركة من المعارك بقوتهم الذاتية ولم تكن أسلحتهم أقوى وأفتك من أسلحة عدوهم، وعددهم أكثر من عدد عدوهم، بل إن الله عز وجل يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] أي: أن المهم ألا تقصروا أنتم في جمع القوة التي تستطيعون، وبعد ذلك دعوا الأمر لله عز وجل فإنه يصل قوتكم بحوله وقوته فينصركم على عدوكم، ولكن لا بد من إعداد ما تستطيعون، أما ما لا تستطيعون فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. ولما دخلت الأمة معتمدةً على قوتها في أي معركة؛ فإنها كانت تنهزم وتخرج من المعركة خاسرة ذليلة، كل أمة دخلت المعركة -وخاصةً الأمة الإسلامية- معتمدةً على عددها وعدتها فهي أمة منهزمة. إنما المسلم كالفلاح الذي يضع الحب في الأرض ثم يرفع يده إلى السماء وينتظر أن ينزل الله تعالى المطر: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة:63-67] . إذاً أنت تفعل السبب ثم ترفع يدك إلى الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن السبب وحده قد يجني عليك، وكما قيل: إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده كم من إنسان فعل سبباً يحسب أنه في صالحه، فكان هذا السبب هو أعظم وسيلة إلى فشله! كم من أمة افتعلت حرباً تظن أنها سوف تكسبها فخرجت من هذه الحرب منكسة الرءوس مهزومة ولم تقم لها بعدها قائمة! فلا يجوز أن تعتمد الأمة على قوتها أو قدرتها فقط، والمطلوب من الأمة على كل حال أمور: الجزء: 131 ¦ الصفحة: 10 الإعداد المادي أمرٌ ثالث لابد أن تعده الأمة وهو الإعداد المادي كما أسلفت، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] من الجنود، والسلاح، إلى غير ذلك. ولعلكم تستغربون حين تعلمون أن إسرائيل وهي دولة صغيرة نشأت منذ سنوات ليست بالبعيدة، ومع ذلك فإن هذه الدولة تملك قوة عظيمة، حتى إني سمعت في أحد التقارير عنها أن كل مواطن إسرائيلي لابد أن يجند في الجيش ذكراً كان أو أنثى، فإن كان ذكراً يجند ثلاث سنوات والأنثى تجند سنتين، وبغضَّ النظر أن هذا الأمر يصلح لهم باعتبارهم لهم دينهم الخاص، فنحن المسلمون لا نقول نجند نساءنا، بل أبداً الأمر كما قيل: كتب القتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول المرأة لها دور تؤديه في تربية الجنود وإعدادهم وإصلاحهم إلى غير ذلك من الأدوار، لكن نحن نريد أن تربي الأمة ولابد شبابها وتعدهم، بحيث يكون كل شاب في هذه الأمة هو فعلاً جندي في أي معركة تقوم بين الأمة وبين أعدائها. وأود -أيها الإخوة- بهذه المناسبة أن أذكر إلى أن اليهود من أخطر أعدائنا الذين لا شك أننا غفلنا عنهم الآن؛ لأن من عاداتنا أننا في غمرة الصراع مع عدو ننسى أعداءنا الآخرين، صحيح أن عداوتنا مع البعثيين عداوة مستحكمة وعظيمة وحاضرة، لكن أيضاً يجب ألا ننسى عداوتنا مع اليهود، إن من المؤكد قطعاً عند من يعقل عن الله عز وجل أننا سوف نخوض مع اليهود معركة فاصلة حاسمة، يقول فيها الحجر والشجر: {يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} وهذه المعركة ليست بالبعيدة أبداً، إنها معركة قريبة حدد النبي صلى الله عليه وسلم زمانها ومكانها، فقال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود} فهذا بالنسبة للزمان. أما بالنسبة للمكان فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث نهيك بن صريم {على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه} والغريب في الأمر أنه حتى النصارى عندهم عقيدة في كتبهم التي يعتبرونها مقدسة أن هناك معركة مع المسلمين، في هذا الموقع بالذات ويسمونها معركة هرمجدون، ويعتقدون أن وجود اليهود بهذا الموقع بالذات هو بشارة بنزول المسيح الذي يقود النصارى -كما يزعمون هم- إلى معركة فاصلة مع المسلمين، وهذا موجود في كتبهم، وهو من أسرار دعم الإمريكان لإسرائيل كما ذكر ذلك عدد من المؤلفين. والمهم أن لنا مع أعدائنا من اليهود وغيرهم معارك كثيرة فاصلة لا بد أن نتفطن لها وأن نعد العدة لها. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 11 جمع الكلمة الأمر الرابع الذي لابد أن تعد له الأمة هو: موضوع جمع الكلمة، فإن تمزيق الأمة لا يمكن أن يستفيد منه سوى عدوها، وحين نقول الأمة نقصد: الأمة المجتمعة على كلمة لا إله إلا الله بغض النظر عن اسم البلد التي تعيش فيه، أو شكل أو لون الإنسان أو أي شيء آخر من الصفات البشرية، فالأمة تجتمع على الإيمان لا على الحدود أو العوامل البشرية الأخرى، إن لسان حالنا يقول: إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فالعدو أحياناً يمزق الأمة حتى يعبث بكل جزءٍ منها دون أن يلتفت إليه الآخرون. لما أراد الغرب -مثلاً- أن يعبث بتركيا ماذا صنع؟ أول ما صنع أنه هدم الخلافة، وبذلك عزل الأمة الإسلامية عن تركيا، ففعل بتركيا ما أراد أن يفعله من العلمنة والتغريب والتخريب والفساد كما تعلمون، وهكذا بقية الدول لما انفصلت وانفصل بعضها عن بعض، أصبح ينفرد بكل دولةٍ منها فيفعل بها ما يشاء، هذا إذا كانت المسألة مجرد عزلة، فما بالك إذا تحولت القضية إلى عداوة مستحكمة بين شعوب المسلمين وأصبح المسلم يبغض أخاه المسلم ويحب الكافر يهودياً أو نصرانياً أو بعثياًُ أو غير ذلك، إن هذا لهو البلاء المبين! لقد استصرخنا إخواننا الفلسطينيون زماناً طويلاً، ثم استصرخنا الأفغان، ثم استصرخنا إخواننا المسلمين في الفلبين إلى غير ذلك، وربما كنا مشغولين عن صرخات إخواننا بهمومنا الشخصية، كان كل امرئٍ منا مشغولاً بهمومه الخاصة عن إجابة صرخات إخوانه المسلمين، وهانحن -أيها الإخوة- اليوم ندفع الثمن، إن من يخذل إخوانه المسلمين في كل مكان لا بد أن يدفع الثمن عاجلاً غير آجل. فلنعلم -أيها الأحبة- أن رابطة الإيمان التي توحد هذا الجسم الإسلامي الكبير يجب أن تظل هي الرابطة الأولى، بل الرابطة الأولى والأخيرة بين المسلمين، وألا نسمح لأي سبب من الأسباب أن تمزق هذه الرابطة، ليس صحيحاً أن تأتي إلى شعبٍ من الشعوب فتقول الشعب الفلاني فيه كذا، وفيه كذا، وتعمم وتأتي بعيوب، لقد سمعت بأذني من هذا الكلام ما يؤذي، فتجد إنساناً -مثلاً- يقول لك: الشعب الفلاني فيه كذا وفي الخارج تجد كثيراً يتحدثون عنا، بأن فينا كذا وفينا كذا، وهناك نحن نتحدث عن آخرين، فنقول عن الشعب الفلسطيني أن فيه كذا وكذا، أو عن الشعب الأفغاني أن فيه كذا وكذا، والمؤسف أن هذا الأمر يتعدى النطاق الفردي أحياناً إلى نطاقٍ أوسع، فربما وجدت مدخلاً لهذا الكلام في بعض أجهزة إعلامنا من صحافة أو إذاعة أو تلفزة أو غيرها، فأصبحت بوعي أو بغير وعي تعمق هذه الهوة وتصور بعض الشعوب الإسلامية تصويراً غير صحيح. إن تمزيق الأمة الإسلامية لا يستفيد منه إلا العدو: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان 1- الاختلاف في وجهات النظر لا يضر: أيها الإخوة: الاختلاف في الرأي لا يضر، والاختلاف في وجهات النظر لا يضر، والاجتهاد وارد، ولا يعني اختلاف وجهات النظر تفريق الكلمة، أنا أتعجب أن اليهود -مثلاً- يخوضون معركة مع المسلمين، معركة ضارية ويستعدون لها استعداد الرجال فعلاً:- هم حاربونا برأيٍ واحدٍ عددٌ قُلٌ ولكن مضاءٌ ثابت النسق دأباً وعزماً وإعداداً وتضحية وبادروا غزونا في مكر مستبق يحدوهم أملٌ يمضي به عملٌ ونحن واسوأتاه في ظلة الحمق حارت قواعدنا زاغت عقائدنا أما الرءوس فرأيٌ غير متفق البعض يحسب أن الحرب جعجعة والبعض في غفلة والبعض في نفق قالوا الشعوب وهل نال الشعوب سوى قولٍ جزاف وإصلاح على الورق أقول: اليهود يحاربوننا الآن وهم أحزاب شتى وشيع واتجاهات متناقضة مختلفة، ويحصل بينهم في مجالسهم وبرلماناتهم صراع وجدل وقيل وقال، وأحياناً سب وشتم، ولكن مع ذلك سياستهم في حربنا موحدة، فلا ضرهم هذا الاختلاف الموجود بينهم في توحيد كلمتهم ضدنا، ولا كان هذا التوحيد لكلمتهم مدعاة إلى أن يحسموا أمورهم الداخلية لصالح طرفٍ من الأطراف. فالمشكلة أننا نحن المسلمين لا نعرف أنصاف الحلول، إما نريد اتفاقاً (100%) على كل شيء، وإما أننا لا نلتقي أبداً، إما صفر أو (100%) لا يا أخي! قد نختلف في أمور كثيرة وفي وجهات النظر ويكون لكل واحد منا رأي، وقد أجد عليك في نفسي موقفاً معيناً، أو تجد عليَّ في نفسك موقفاً معيناً، لكن هذا كله لا يمنع أن نوحد كلمتنا وصفنا باتجاه عدونا، وأن ندرك أن أخوة الإيمان أكبر وأعمق وأوسع من كل خلاف يجري بين المؤمنين. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 12 التعبئة الدائمة أمرٌ آخر لا بد أن تعده الأمة بعد الإيمان وهو التعبئة الدائمة، وذلك لأن الإنسان من طبيعته أن ينسى، والإيمان قد يغطي عليه الغبار، والنفوس تخلد إلى الراحة والترف ويفعل فيها النعيم والترف شيئاً عظيماً من الضعف؛ وحب العافية وإيثار السلامة وكراهية الجهاد والتضحية، وهنا تأتي وسائل التربية والإعلام في الأمة. إن دور وسائل الإعلام في الأمة أن تنفخ هذا الغبار دائماً وتنفخ في الأمة روح الجهاد والبسالة، والتضحية، والفداء، بحيث أن هذه الوسائل تؤدي دورها بشكلٍ صحيح، في تصحيح العقيدة، والسلوك، والدعوة إلى الجهاد في سبيل الله، وتحديد من هو العدو ومن هو الصديق هذه مهمة وسائل الإعلام في الأمة الإسلامية. أيها الإخوة: إن الناس إذا وقع لهم ما وقع فإنهم يحتاجون من يذكرهم بالله عز وجل، ويشدهم إلى الإيمان، يذكرهم بوجوب التوبة، ووجوب الاستغفار، ووجوب الذكر والدعاء، ورفع القلوب إلى الله، والتوكل عليه عز وجل إلى غير ذلك من المعاني التي تحتاجها الأمة، فما بالك إذا كان إعلام الأمة مشغولاً بأمورٍ أخرى بعيدة كل البعد عن هذا، وكأنه لا يعيش في حالة حربٍ حقيقية، فتجد أنه مشغول بأمور أحسن ما تقول عنها: أنها تافهة، لسنا بحاجة إلى طبق اليوم، كما أننا لسنا بحاجة إلى النكت والطرائف، كما أننا لسنا بحاجة إلى تمثيليات شعبية، كما أننا لسنا بحاجة إلى قصائد، فهذا كله قد لا يكون له حاجة أصلاً، وبعضه يمكن أن يكون له حاجة في وقتٍ آخر، لكن الأمة بحاجة إلى تعبئة قوية تقوم بها كل وسائل الأمة التي ائتمنتها الأمة على أفلاذ أكبادها وعلى عقائدها وأخلاقها ودينها أن تقوم بدورها الحقيقي في هذا المجال. أيها الإخوة: لعلي أضرب مثلاً واحداً كلكم تسمعون ما يأتي بأجهزة الإعلام من التنبيه على الوسائل الوقائية التي يتقي بها الناس في حال وجود غازات أو أسلحة كيماوية، هذا شيء كلنا سمعه، فما هو أثر هذا الأمر على الناس؟ كثير من الناس أصيبوا بالرعب والفزع، والسبب هو أنهم لم يتعودوا على مثل هذا الأمر، وأنا لا أكتم أنني أرى أن مثل هذه الطريقة مناسبة، أعني طريقة استخدام أجهزة الإعلام -كما تحدثت قبل قليل- في إزالة الغبار عن الناس، هل سنظل دائماً أمة خاوية خامدة خائفة صوت الطائرة في الجو يفزعنا، ورؤية السلاح تخيفنا!! هل سنظل هكذا؟! إذا كنا أمة إسلامية مجاهدة فإننا لا يمكن أن نظل هكذا بحالٍ من الأحوال، ولذلك فإن هذا الأمر الذي نسمع به الآن سواء أكان إعلانات عبر أجهزة الإعلام في تنبيه الناس؛ أم حتى -مثلاً- الأجراس التي تطلق للتنبيه أو للتدريب، أقول كل هذا لا غبار عليه لماذا؟ لكي لا يكون الناس خائفين، الإنسان بطبيعته كما يقول أبو ذؤيب الهذلي: والنفس طامعةٌ إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليل تقنع فكثيرٌ من الدول التي تعيش حالة حروب مثل لبنان أو أفغانستان أو غيرها تجد أن مجموعة يموت نصفهم في المعركة والباقون يذهبون يأكلون الغداء أو العشاء في المطعم، فلم يعودوا يبالون بهذه القضية، ولم يعد الخوف الذي يسيطر على النفوس موجوداً عندهم، وهذا أمر لا يمكن أن يزول من النفوس إلا بالتدريب والممارسة. إنَّ دور أجهزة الإعلام ليس دوراً محصوراً اليوم أو أمس أو غداً، بل هو دور أصلاً من الماضي للحاضر للمستقبل، يجب أن يستمر دائماً وأبداً ينفض الغبار عن قلوب الناس، ويزيل الخوف منهم، فأنت من الممكن أن تخاف اليوم، لكن غداً يصبح الأمر عادياً عندك، فلا تهتم بهذا الشيء، وهذه من الأشياء التي تفتقدها الأمة بلا شك وتحتاج إليها كثيراً، فدور الإعلام هو أن يرفع معنويات الأمة ويعبئها، بحيث يمكن أن يحقق للأمة نصراً حقيقياً لا تحققه بالسلاح المادي. وأضرب بذلك مثلاً تاريخياً وما حصل في الجزيرة المسماة كريت ويسمونها قريطش في المصادر الغربية، وكانت جزيرة في البحر المتوسط، كانت تخرج منها الجيوش لغزو الروم، فتضايق الروم منها وجهزوا أسطولاً حربياً ضخماً لحصار هذه الجزيرة الصغيرة، وفعلاً جاءوا وحاصروا هذه الجزيرة حصاراً اقتصادياً طويلاً، ظل الناس فيها شهراً وشهرين حتى نفدت المؤن والأرزاق، وكاد الناس أن يموتوا من شدة الجوع؛ ولم يكن أمام الناس مفر إلا الاستسلام، ففكروا أن يستسلموا، وكان في وسط الجزيرة رجل منعزل للعبادة والذكر، ليس له بهم علاقة فلما رأوا ما هم فيه أتوا إليه، وقالوا له: يا فلان الأمر كما ترى فبماذا تنصحنا؟ سألهم: هل عندكم أسلحة؟ قالوا: لا. قال: هل عندكم قوت؟ قالوا: لا. قال: هل عندكم مؤن؟ قالوا: لا. قال: هل عندكم أموال؟ قالوا: لا. قال: ماذا بقي لكم؟ قالوا: لم يبق لنا شيء مطلقاً، فكل الإمكانيات المادية ضاعت منهم، قال: إذا كان في الصباح فاجمعوا لي رجالكم ونساءكم وأطفالكم ودوابكم واجعلوها في صعيدٍ واحد. فجمعوا كل ما لديهم واجتمعوا عن آخرهم، فقام الرجل وخطب فيهم خطبة بليغة وذكرهم بالله عز وجل وربط قلوبهم به، وجعلهم يدركون أن النصر من عنده وأن من نصره الله فلا تهزمه قوةٌ في الدنيا مهما كانت؛ حتى قويت قلوبهم، فقال لهم: هلموا إلى مدخل المدينة -وهو الباب الذي يحيط به الروم المحاصرين لها- فلما اجتمعوا فتح الباب بسرعة وقال لهم: عجلوا الآن إلى الله عز وجل وقولوا: الله أكبر! فاندفعوا إلى الروم اندفاعةً واحدة، وهم يصرخون بالتكبير: الله أكبر، الله أكبر، فلما رأى الروم هذا المشهد فزعوا وفوجئوا وظنوا أن المسلمين يمتلكون قوة قد خبئوها لهم وأنهم يستعدون لهم، فنزلوا بسرعة إلى سفنهم وهربوا في عرض البحر، وأنجى الله تعالى هذه المدينة من غير أسلحة مادية وإنما من خلال ما يمكن أن نعبر عنه بأجهزة الإعلام التي وظفت وسخرت لجعل الأمة أمة مجاهدة فعلاً، أمة في حالة من التعبئة والقوة تستطيع أن تتغلب على عدوها وتنازله بإيمانها بالله عز وجل. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 13 تحديد المبدأ أو الهدف الأمر الأول: تحديد المبدأ الذي قامت ووجدت عليه والذي تقاتل من أجله ألا وهو الإيمان، وإذا كان المبدأ الذي نقاتل من أجله هو الإيمان فعلاً فإنه لا خوف علينا، كيف نخاف من هزيمة والله عز وجل يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] فالنصر في الدنيا للمؤمنين، وكذلك النصر في الآخرة يقول عز وجل: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] ويقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] . إذاً فالنصر حليف المؤمنين، وإذا كانت الأمة قامت وقاتلت من أجل الإيمان فإن هذا الإيمان هو الذي يضمن لها بإذن الله عز وجل النصر. فلابد أن نقاتل من أجل المبادئ لا من أجل المصالح، فيكون القتال من أجل الدين والعقيدة، ومعنى هذا أننا حين نقاتل لا بد أن نشعر أننا أمة مجاهدة في جميع الظروف والأحوال، أمة تشعر بأنها أصلاً ما صارت أمة لأنها أمة عربية -مثلاً- أو لأنها أمةٌ في بلدٍ معين، أو لأنها تنتسب إلى عرقٍ معين، إنما صارت أمة لأنها تدين بدينٍ معين، وتعتقد عقيدة خاصة، ومستعدة أن تموت من أجل هذا الدين وهذه العقيدة، ولسان حالها يقول: ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أيٍ جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزعِ فحينئذٍ تدخل هذه الأمة المعركة بسلاح الإيمان، وتكون أمة عقائدية لم ترتع في النعيم وتَعْم من الشهوات وتخلد إلى الترف والراحة وتطمئن إلى ما هي فيه، ولم تنس الهدف الذي قامت من أجله، وهو هدف الدعوة إلى الإيمان، ولهذا كان حال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب كما علمتم -مثلاً- في معركة بدر لما احتدمت المعركة أو كادت أن تقوم؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم على حالٍ معين، ما هي تلك الحال؟ وهو زعيم الأمة وقائد المعركة الحقيقي وأكبر رأس للمسلمين وأكبر قائد لهم، انظر كيف كانت الحال التي يعيشها صلى الله عليه وسلم عند قيام المعركة، لم يأمر صلى الله عليه وسلم أن تضرب الطبول، ولا أن ترفع أناشيد وطنية -مثلاً- ولا لافتات ولا شيء من ذلك، إنما دخل صلى الله عليه وسلم في العريش الذي بنوه له ورفع يديه إلى السماء يبتهل ويبكي ويقول: {اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد اليوم، وظل يدعو ويبتهل إلى الله عز وجل حتى سقط رداؤه صلى الله عليه وسلم عن منكبه من شدة ابتهاله ورفعه يديه إلى السماء، حتى أشفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كفاك مناشدة ربك فإن الله تعالى منجزٌ لك ما وعدك} . فهي في حال الحرب هكذا حالها، وهكذا شأنها شدةً في الإقبال على الله، وصدقاً في التوكل عليه، وإقبالاً للقلوب إليه، وبراءة من الحول والقوة إلا من حوله جل وعلا وقوته وتوبةً نصوحاً له، ليست توبةً باللسان، بل توبة حقيقية تظهر آثارها في الواقع. هذا كان حالها في شأن الحرب، لكن في حال السلم كيف كانت؟ هل كانت أيضاً أمة رخوة مترفة ضائعة، أمة قد غرقت في النعيم، ورضيت بأن تسكن في المسكن المرتفع والقصر الفاره وتركب السيارة الفخمة وتأكل من أطايب الطعام وتحضر المباريات الرياضية -مثلاً- وتسمع الأناشيد أو الأغاني العاطفية ويكفيها هذا في حياتها أبداً؛ حتى في حال السلم كانوا يشعرون بأنهم في حالة مرابطة دائمة. ولعلي أضرب مثلاً واحداً لهذا أيضاً وهو في الصحيحين، وهو قصة عمر رضي الله عنه التي يرويها عنه ابن عباس، يقول عمر رضي الله عنه: [[كنت اختلف أنا ورجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل يوماً وأنزل يوماً، يقول: فإذا نزل جاءني بالخبر -خبر الوحي من السماء- وما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما حدث في المدينة، وإذا نزلت أنا أتيته بخبر ما نزل من الوحي وما حدث في المدينة، قال: فطرق عليَّ يوماً الباب طرقاً شديداً فخرجت إليه فزعاً مذعوراً فقلت: ما شأنك يا فلان؟ قال: حدث اليوم أمرٌ عظيم. قلت: ماذا؟ هل جاءت غسان؟ قال: وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لحربنا وقد امتلأت قلوبنا منهم رعباً]] . إذاً كان المسلمون إما في الحرب أو ينتظرون عدواً يغير عليهم، لأنهم يعرفون أن مقتضى اجتماعهم على عقيدة الإيمان يعني أنه لابد أن يتنادى الأعداء لحربهم، ولهذا حتى في حال السلم كان الواحد منهم إذا طرق عليه الباب طرقاً شديداً ماذا يتصور؟ الواحد منا -اليوم- لو طرق عليه الباب، وشعر أن الطارق منزعج، لقال: ربما قتل ولدي، أو ربما دهس، أو ربما صُدِمَتْ السيارة، وربما كذا، وربما كذا، فتصوراتنا قريبة جداً ومحدودة، لكنه لما طرق الباب عليه طرقاً شديداً تصور أنه ربما تكون غسان والدول التي كان المسلمون يتسامعون أنها تنعل، وتعد العدة لحربهم أنها قد قدمت وأنها على مشارف المدينة، هذا أول ما بدر إلى ذهن عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له أخوه الأنصاري: [[كلا. بل طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه]] فالمهم أن هذه الأمة منذ وجدت أمة ميزتها أنها ذات هوية وعقدية واضحة، وهذه مشكلة كبيرة أن ينسى الناس عقيدتهم أو هويتهم التي اجتمعوا من أجلها ويغفلوا عن ذلك. يا إخواني! حتى الأمة التي اجتمعت على عقيدة منحرفة إذا أخلصت لهذه العقيدة فهي أقرب إلى النصر من أمة لها عقيدة صافية، لكنها قد نسيتها وغطى الغبار عليها، فأي مجموعة تجتمع على عقيدة أو على مبدأ -حتى وإن كانت منحرفة- تضحي في سبيلها، نحن نعلم أن هناك من قتل -مثلاً- من أجل يهوديته، وهناك من قتل من أجل نصرانيته، وهناك من قتل من أجل شيوعيته، وهناك من قتل من أجل باطنيته ورافضيته، فكذلك ومن باب أولى ينبغي أن تكون للمؤمن كفرد ولأمته ولمجتمعه ودولته هوية واضحة لا غبار عليها؛ وهي أننا أمة اجتمعت على الإيمان والعقيدة الصحيحة، فمن أجلها نقاتل ومن أجلها نسالم، وهي التي تحكم جميع تصرفاتنا ولا نكتفي بأن نعطي العقيدة كلامنا الطيب وألفاظنا الجميلة وخطبنا الرنانة. هذا لا يكفي، لابد من هذا ولابد معه أن تكون العقيدة واقعاً يهيمن على جميع تصرفات حياتنا. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 14 من يستحق النصر؟ الوقفة أو الخاطرة الرابعة والأخيرة هي عبارة عن السؤال من يستحق النصر؟ يقول الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] ما قرأت هذه الآية إلا وقفت فيها وقفات أتعجب وأتملى وأقيس هذه الآية على واقعنا. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 15 صفة المنصورين ثم قال في صفة من ينصرهم الله ومن يسخر لهم هذه الإمكانيات؟ هل هم المزايدون أو المتاجرون بالكلمة؟ لا. إنهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] فلم يقل الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بل قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] . فهناك أمم وشعوب تقاتل وقد ترفع راية الإسلام، ومع ذلك لا تنصر، فيتساءل الناس: لماذا؟ نقول: لأن الله تعالى لم يقل في من يستحقون النصر: الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة؛ بل قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] وما الذي يدريك -يا أخي- أن هؤلاء أو أولئك لو مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، فمعرفة الغيب عند الله تعالى. ولذلك فإن معرفة الشعب أو الأمة أو الجيش أو الجند الجدير بالنصر هذا إلى الله عز وجل، ولا أحد -والله- يستطيع أن يحكم بأن المجاهدين في مكان كذا أو المقاتل أو الجيش الفلاني يستحق النصر لأنه كذا، وهذا كله ادعاء ورجم بالغيب، والرسول عليه الصلاة والسلام وهو رسول الله ومؤيد بالوحي من السماء ما كان يفتري على الله تعالى ولا يتألى ولا يقدم بين يدي الله عز وجل ويقول للصحابة: أنتم المنصورون، إنما كان يأمل ويرجو النصر من الله عز وجل فإذا رأى البشائر قال: {ابشروا، هذا جبريل يقود فرسه على ثنايا النقع في سبيل الله عز وجل} . إذاً تحديد الأمة التي تستحق النصر أمرٌ لا يعرفه إلا الله تعالى، فقد علقه الله تعالى بأمر غيبي: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] وكم من أمة ترفع راية الحرب في سبيل الله، لكن إذا نُصرت نكست وتخلت وغيرت مبادئها. إذاً ربما لا يصبر الناس على النصر فيمنعه الله تعالى عنهم لحكمةٍ يعلمها، إنما ينصر الله تعالى الذين إن مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور. إن هؤلاء القوم يعتبرون أن التمكين في الأرض وكون الأمر لهم ليس غايةً يسعون إليها، إنما هو وسيلة لإقامة الصلاة بالناس وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على يد الظالمين، فهؤلاء هم الذين يستحقون نصر الله تعالى وعونه وتأييده. أيها الإخوة: يجب أن تمتلئ قلوبنا ثقة بالله عز وجل واطمئناناً إلى قضاء الله تعالى وقدره، فوالله الذي لا إله غيره لا يقضي الله تعالى قضاءً للمسلمين إلا كان خيراً لهم، إن المسلمين منصورون مهما كانت قوة عدوهم. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 16 نصرة الله إنما تكون لمن ينصر دينه أولاً: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] الله غنيٌ عنا، وإنما المقصود بنصر الله أن ننصر دين الله عز وجل بمعنى أن نقدم الدين على أهوائنا الذاتية، وعلى أمزجتنا الشخصية، وعلى مصالحنا الخاصة أو العامة، على فرض أن مصالحنا الخاصة أو العامة كان الدين يقتضي خلافها مع أن الواقع الحق أن الدين هو كله مصلحة والمصلحة كلها في الدين. فمثلاً الذي يأكل الربا أو يبني اقتصاده على الربا، قد يتصور أن نصر الدين في هذا الجانب ضرر عليه، ولكن الواقع الصحيح أن الربا مصلحة وهمية، بل هو ضررٌ في العاجل والآجل في الفرد والمجتمع، وسبب في محق البركات والخيرات، وأذان بحربٍ من الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فالمؤمن حينئذٍ لا يجد خياراً أبداً أن ينصر الله تعالى بالتخلي عن المال الحرام، مهما كانت النتائج، ومهما توقع أنه يضره في أموره المادية؛ لأن معنى هذا أن تنصر الله عز وجل حتى تستحق نصر الله تعالى: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] . إذاً: حين ننصر دين الله في جميع مجالات حياتنا ونجعل الكلمة الأخيرة هي للدين، وللشريعة في أمورنا السياسية والاقتصادية، والإعلامية والتعليمية، والتربوية والاجتماعية، والخاصة والعامة فإننا نستحق نصر الله عز وجل لا محالة. وأقول مثلما قال شيخ الإسلام رحمه الله حين قال: إنكم منصورون قالوا: قل: إن شاء الله. قال: أقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً لأن وعد الله آتٍ لا محالة: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] . الجزء: 131 ¦ الصفحة: 17 العزة لله ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] وهنا لفتة مهمة جداً وهي أن القوة عند الله تعالى، والعزو لله: {إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [يونس:65] فالله تعالى له القوة والعزة، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، ولذلك قال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] . 1- ولله جنود السماوات والأرض: فتذكر أن الله تعالى له جنود السماوات والأرض: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فلا تقس الأمر بعدد جنودك أو بأسلحتك أو بإمكانياتك، فإنها متواضعة أبداً، إذا كنت قد نصرت الله تعالى، فتذكر أن الله تعالى عنده جنود، فالسماوات السبع كلها ملئا بالملائكة، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيها ملكٌ واضع جبهته لله عز وجل ساجد أو راكع أو قائم، يسبحون الله تعالى الليل والنهار لا يفترون، فالله تعالى إذا رضي عن عبده أو عباده أو عن أمته فهو يبعث هؤلاء الملائكة بالنصر المبين، قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] . ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يعرفون قتيل الملائكة ببنانه، لأن الملائكة تضرب بنانه، فالملائكة جنود الله عز وجل وهم جنودٌ لا يرون، كما قال في الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] والجنود الذين لا يرون لا سبيل إلى مقاتلتهم وحربهم أبداً، فالملائكة من جند الله عز وجل، ومن جند الله تعالى الرعب، كما قال: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال:12] ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه: {نصرت بالرعب يقذف في قلوب أعدائي} حتى إنه في بعض الروايات: {مسيرة شهر} فإذا أصيب العدو بالرعب فإنه لا نصر له بحالٍ من الأحوال. ومن جند الله عز وجل الريح: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} [الأحزاب:9] سلطها الله على الأحزاب المتحزبة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأكفأت قدورهم وزلزلتهم وهدمت خيامهم فكانت لا تقيم لهم بناء، حتى قال بعضهم لبعض: إنه لا يمكن أن يكون لكم المقام فهلموا واذهبوا وارتحلوا فإنا مرتحلون، فالريح يسلطها الله على أعدائه. ومن جند الله الزلزلة، كما قال جبريل عليه السلام لما انتهت معركة الأحزاب، جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -والحديث في الصحيحين- قال: {وقد وضعت السلاح؟ فإن الملائكة لم تضع السلاح، اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهبٌ إليهم فمزلزلٌ بهم} فزلزل قلوبهم بالخوف والفزع والهلع فأصبحوا مهزومين قبل أن يخوضوا المعركة، ثم الزلزلة الحقيقية بالأرض فإن الله سبحانه وتعالى قد يسلط الزلزلة على عدونا فيزلزل الأرض من تحت أقدامهم، أو يأذن للأرض فتخسف بهم فتفتح فاها فتبتلع أعداءها. كل هذا يمكن أن يكون، وهذا ليس كلام عجائز وليس ألاعيباً، بل هذا كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، كل هذه الوسائل يجريها الله تعالى لجنده المخلصين الصادقين بعد ما يستفرغون وسعهم في الأسباب المادية وتجنيدها والإعداد والتعبئة ثم تقصر بهم وسائلهم المادية، فإن الله تعالى يسخر لهم كل هذه القوى والأسباب التي ليست بأيديهم. ومن جنود الله تعالى الطوفان الذي أهلك الله به قوم نوح ونجى به نوحاً ومن معه من المؤمنين، ومنها الفيضانات، والبراكين، والحجارة من سجيل التي تنزل من السماء على عدونا، ومنها ومنها قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فهذه كلها مجرد أمثلة أما عدد جنود الله فهذا لا يعلمه إلا الله تعالى، فما بالك إذا كان الله تعالى معنا وسخر لنا هذه القوى أو واحدة منها، كيف نتصور أن نهزم؟! الجزء: 131 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة الجزء: 131 ¦ الصفحة: 19 مؤتمر إسلامي في أمريكا السؤال هل يمكن تلخيص ما نتج عن المؤتمر الذي حضرتموه في أمريكا؟ الجواب هذا المؤتمر أقامته رابطة الشباب المسلم العربي واستمر خمسة أيام وحضره ما يقارب ستة آلاف مسلم من أنحاء الولايات المتحدة، والمؤتمر كان عبارة عن ندوات ومحاضرات ودروس، وقد يسر الله بفضله أن شاركت في بعض الندوات والدروس والمحاضرات. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 20 تدريب النساء على السلاح السؤال لم نعد نسمع كثيراً عن تطوع النساء في التدريب فهذا يدل على إيقافها أم ماذا، وما رأيكم في ذلك؟ الجواب لا أدري بالضبط مسألة الإيقاف، لم أعلم شيئاً وأتمنى وأسأل الله عز وجل في هذا المكان الطيب ومع هذا الجمع الطيب أن يكفي المسلمين شر كل عملٍ يخطط لنسائهم وبناتهم ويراد به إخراجهن من بيوتهن ونزع جلباب الحياء عنهن، وأن يرد كيد الذين يريدون بالأمة شراً في نحورهم، وأتمنى أن يكون ما ظنه هذا الأخ حقيقة، وإن كنت لم أسمع شيئاً عن ذلك. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 21 بقاء المرأة مع الزوج البائع للمخدرات السؤال هذه امرأة تقول: أنا امرأة ذات عيال وزوجي مروج مخدرات فقال أحد المشايخ: حرام لا يجوز العيش معه، وقال زوجي: عليَّ ديون كثيرة فعندما أقضيها أتوب إلى الله، فهل يجوز العيش معه؟ وللعلم أني امرأة مريضة لا أستطيع العمل وأبي مسافر ولا أجد من يكفلني والحمد لله لديَّ أطفال صغار كثيرون إلى آخر السؤال. الجواب لا شك إن كنت ترجين صلاح هذا الرجل وتقومين بدور وجهد معه في إبعاده عما هو فيه وتجدين بعض التقبل والاستعداد لذلك، فإن البقاء بهذه النية وبهذه الرغبة لفترة معينة، خاصة إذا كان مقيماً للصلاة أرجو أن يكون فيه متسع لكِ، أما إن كنت قد يئست من هذا الرجل ورأيتِ أنه لا يقبل، وأنه قد تورط في هذا الأمر وابتلي بقرناء سوء يجرونه دائماً إليها فلا شك أن عليك أن تتخلصي منه، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] . الجزء: 131 ¦ الصفحة: 22 التبرع من الزكاة والصدقة لتزويج الأيامى السؤال هذا طلب للتبرع للمشروع الخيري لمساعدة الشباب على الزواج، وعندهم ملف عن هذا المشروع ويأملون حث طلاب العلم والحضور على دفع زكاة أموالهم وصدقاتهم الجارية في صناديق المشروع الخيري الموجودة في أبواب المسجد، وفيها فتحات خاصة بالزكاة، وأخرى خاصة بالصدقات وكلها تصرف على الشباب المحتاج للزواج؟ الجواب وهذه أيضاً من أعظم الوسائل في تحقيق الاستعفاف للشباب، ولا شك أن غالبكم من الشباب ويحتاجون إلى هذا الأمر وفيكم من رزقه الله تعالى مالاً وأنعم عليه، فعلى من أنعم الله تعالى عليه بالمال أن يؤدي زكاته وأن يسرع إلى الصدقة، فإن الله تعالى يقول: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ثلاثٌ أقسم عليهن: ما نقصت صدقةٌ من مال} فإن تبرعك لهذا المشروع وغيره مما يزيد في مالك ويبارك في عمرك ويجعل الله تعالى لك ذخراً وفخراً في الدنيا والآخرة. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم وندرأ بك في نحورهم، اللهم من أرادنا بسوءٍ فاشغله في نفسه، واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين. اللهم أدر دائرة السوء على الفاسقين والكافرين والظالمين، اللهم أدر دائرة السوء على أعداء الدين، اللهم إنا نستغيث بك ونسألك يا حي يا قيوم! ياذا العرش المجيد! يا ذا الجلال والإكرام! يا مالك الملك! يا قوي! يا عزيز! أن تنصر الإسلام والمسلمين في كل مكان. اللهم أقر عيوننا بنصر الإسلام والمسلمين، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء! اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم طهر بلاد المسلمين من كل ملحدٍ وطاغوت، اللهم انصرنا على القوم الكافرين، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول لنا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم انك حميد مجيد. والحمد لله ربك العالمين. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 23 دعوة الشباب اللاهي السؤال يطلب الأخ توجيه كلمة إلى طلبة العلم وجميع الإخوان في هذه العطلة بالتوجه إلى أماكن تجمع الشباب على الشواطئ ودعوتهم إلى الله وتوجيه النصح لهم، فكثير من هؤلاء الشباب لم يحدث أن وجه إليهم نصيحة أبداً إلا ما قل، فقد ذهبت بفضل الله تعالى إلى الشاطئ ورأيت كثيراً من هؤلاء الشباب الذي يجتمعون على الغناء أو على البلوت وغيرها من الأفعال التي لا ترضي الله عز وجل، وبدأت أوجه لهم النصيحة وأهدي بعض الكتيبات والأشرطة الإسلامية ووجدت منهم إقبالاً أدهشني تماماً وهذا ما جعلني أكتب هذا التوجيه لتبلغوه إلى إخواني وجزاكم الله خيراً. الجواب في الواقع أن الأخ يلفت النظر إلى قضية في غاية الأهمية، فهناك طبقة في المجتمع ليست بالقليلة -أيها الإخوة- لم توجه لهم الدعوة، قد نكون نشيطين أحياناً في إقامة مثل هذه الدروس والمحاضرات لكن جمهور المحاضرات معروف أنه غالباً من الناس المتوجهين، لكن هناك طبقات كثيرة من الشباب الضائع، ومن الناس البعيدين، من الناس الموظفين من كبار السن، من الناس الذين لا يحضرون، فهل نترك هؤلاء؟ ينبغي أن نبذل جهوداً خاصة لهم، ولا مانع أن نرتادهم في الأماكن التي يوجدون فيها بالأسلوب الحسن، خاصة من يحسن الدخول معهم والملاطفة والابتسامة الصادقة التي تعبر عن القلب النظيف النزيه الذي يحب الخير لهم، ويهديهم ما تيسر ويجلس معهم جلسة خفيفة ربع ساعة، فيها كلمات حلوة طيبة، فإن وجد تقبلاً شكرهم وإن وجد إعراضاً دعا لهم وانصرف، وإن وجد من يستفزه أو يرده رداً سيئاً، لا يرد بالمثل بل يشكرهم ويدعو لهم وينصرف، ويتركهم إلى المرة الثانية أو يأتيهم آخر فيخجلون منه، نحتاج إلى مثل هؤلاء الشباب الذين يجندون أنفسهم في الأماكن التي يتجمع فيها الشباب ويدعوهم إلى الله عز وجل ويهدوهم ما تيسر من كتب وأشرطة، وقبل ذلك كله الكلمة الطيبة ويا حبذا أن تكون هناك جهود منظمة من قبل الجهات المختصة في هذا المجال. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 24 دور أجهزة الإعلام المفترض وقت الحروب السؤال هذا يتحدث عن أجهزة الإعلام أيضاً وما فيها من تحذير المواطنين، والوصية بالإجراءات التي يتبعونها عند حدوث أي حربٍ كيماوية وهذا لا بأس به، لكن ماذا عن ربط عباد الله بالله سبحانه وتقوية عقيدتهم وتوكلهم على الله عز وجل وربط حياتهم وموتهم بتلك الأسباب؟ الجواب لا شك أن هذا من الأشياء التي يطول عجبنا منها، ونسأل الله عز وجل أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد، تعرف فيه ما ينفعها مما يضرها، وتستفيد فيه مما وهبها الله عز وجل فيما يصلحها، وتحسن في تربية أبنائها وبناتها على المنهج الصحيح، بحيث تكون كل إمكانيات الأمة ووسائلها عبارة عن أجهزة مجندة في خدمة هذا الدين وتربية الناس عليه. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 25 القتال في سبيل الله السؤال يثير ويشير الأخ إلى قضية القتال من أجل ماذا يكون، هل من أجل الأرض والوطن أم ماذا؟ الجواب لا شك أن القتال هو في سبيل الله عز وجل، فالقتال الذي يحبه الله ويثيب أهله هو أن يقاتل الإنسان في سبيل الله تعالى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى في الصحيحين: {حين سُئل عن الرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ودفاع الإنسان عن نفسه أو عرضه أو أرضه أو ماله إذا كان دفاعاً شرعياً من أجل أن يظل الإسلام هو المهيمن، والشريعة هي المحكمة، ويظل الإسلام هو القائم، وراية الإسلام هي المرفوعة، فهو جهادٌ في سبيل الله. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 26 دعوة العلماء والدعاة السؤال عن دور العلماء والدعاة في مثل هذه البلاد، في ضبط البلاد وحفظها؟ الجواب أقول: إن العلماء والدعاة لهم -دائماً- هدف واحد، وهم دائماً يدعون الأمة إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، يتكلمون في وضح النهار ويعلنونها واضحة صريحة لا غبار عليها ولا لبس وراءها، نحن ندعو الناس إلى كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن دعونا إلى غير هذا فيجب ألا يسمع لنا وألا يستجاب لنا، ونكون قد ظلمنا أنفسنا وغيرنا، والدعوة إنما تكون إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله تعالى يقول: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] فإن الأمن الحقيقي للأمة هو بأن تكون في مسلكٍ واحد وطريقٍ واحد. وما زال الأمن عن الأمة إلا يوم أن تشتت، فأصبح فيها العلماني والشيوعي والحداثي والباطني، وسائر الأسماء واللافتات التي اقتطعت جزءاً من أبناء هذه الأمة وتفرقت الأمة شيعاً وأحزاباً، وأصبح كلٌ ينادي إلى مذهبه ودينه، ويعمل سراً وجهاراً وليلاً ونهاراً إلى ما هو عليه، أما يوم أن كانت الأمة متوحدة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد حقق الله تعالى لها ما وعد به من الأمل، فالعلماء يدعون الناس إلى تحقيق الأمن الذي يكون بأن يؤمنوا بالله تعالى إيماناً حقاً وألا يلبسوا إيمانهم بالظلم. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 27 ادخار الطعام وقت الأزمات السؤال ما رأيك في شراء الناس للمواد الغذائية والمياه وتخزينها، وهل هذا العمل صحيح أم خاطئ؟ وهل هناك توجيه؟ الجواب أنا أريد أن أسأل أولئك الذين بالغوا في شراء المواد الغذائية والمياه حتى ربما قلت من الأسواق وارتفعت أسعارها، في حالة حصول حرب -مثلاً- هل يرضى هؤلاء أن يغلقوا عليهم بيوتهم ويجلسوا ويشربوا ويدعوا الناس ممن حولهم من إخوانهم وجيرانهم وأقاربهم يموتون جوعاً وعطشاً، أين أنتم من الإيثار الخلقي الإسلامي العظيم الذي بمقتضاه مدح الله تعالى أقواماً بقوله: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] بل أين أنت حتى قبل الإسلام، كان العربي في الجاهلية يقول: ولو إني حبيت الخلد فرداً لما أحببت بالخلد انفرادا فلا هطلت عليَّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا يدعو أن المطر الذي لا ينزل على البلاد كلها لا ينزل عليه، فيا أخي الكريم! يجب أن نكون مؤمنين حقاً، فالإنسان يفعل الأسباب، لكن كون الناس أصابهم سعار عجيب، فاقبلوا على المواد والبضائع والتموينات والأطعمة والأشربة والمياه وغيرها يخزنونها ويقتنونها بكميات كبيرة أمرٌ يثير العجب والدهشة، هل نحن نريد أن يكون شأننا كشأن ذلك الرجل المغفل الذي رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك ميتة كميتة أبي خارجة فتعجب الناس من حوله وظنوا أن أبا خارجة هذا مات شهيداً بين الصفين في سبيل الله عز وجل يتشحط في دمه، قالوا: رحمك الله ومن هو أبو خارجة هذا؟ قال: أبو خارجة هذا أكل مُدين من الحنطة وشرب منوين من العسل وقعد في الشمس حتى دفئ فمات شبعان ريان دفئان، فهو يريد أن يموت كميتته! فهذا -يا إخوان- لا يصلح فينبغي أن ندرك أن هذه الأمور، ينبغي فيها الاعتدال فكون الإنسان يحتاط ويأخذ وسائل واحتياطات، وأسباب لا لوم عليه وإن كنت لا أرى هذا لازماً كما يتصور البعض أبداً، قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12] وقال: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] لكن يفعل الإنسان الأسباب المادية إذا احتاج إليها، أما المبالغات التي إنما صدرت بسبب الرعب والفزع والهلع والقلوب الضعيفة والنفوس الرخوة والترف الذي قتلنا قتلاً -أيها الإخوة- حتى رجولتنا قتلها، فهذا لا ينبغي. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 28 كلام الشيخ سفر عن أحداث حرب العراق السؤال هناك كما يقول الإخوة أكثر من ثلاثمائة سؤال عن موضوع الشيخ سفر حفظه الله وما هو واجب الشباب أو واجب المؤمنين تجاه هذا الموضوع؟ الجواب أقول -أيها الإخوة-: إن فضيلة الشيخ الدكتور/ سفر بن عبد الرحمن الحوالي لعله من أجدر الناس في هذا الزمان بالكلمة التي كان يقولها الإمام أحمد عن الشافعي رضي الله عنه، فالشيخ حفظه الله كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن فهل ترى عن هذين من عوض أو لهما من خلل، وجهد هذا الشيخ وبلاؤه غير مجهولٍ للخاص والعام، وكل ما أريد أن أشير إليه في هذه القضية أمور: أولاً: أنني أرى أن الشباب في جميع الظروف يجب أن يحتفظوا بهدوئهم وأعصابهم وأن يبتعدوا عن أي تصرفٍ أو أسلوبٍ يرون أنه غير مناسب، فإن جميع تصرفات الشاب المتدين محسوبة لا أقول عليه هو، بل على المتدينين جميعاً، فأنت يا أخي الشاب -بارك الله فيك- لا تمثل نفسك إنما تمثل أمة بأكملها، أو فئة كثيرة من الشباب المهتدين، فعليك أن تكون تصرفاتك تصرفات منضبطة مفيدة نافعة تضمن تحقيق المصلحة دون أن يترتب عليها أي مفسدة أو أي سبب إلى سوء التفسير من الآخرين، والحمد لله الأبواب ممكنة ومفتوحة فالذي يرى أن له دوراً يمكن أن يؤديه فيجب أن يقوم به، ولا أعتقد أن أحداً يعجز -مثلاً- عن أن يخاطب ولاة الأمر بهذا الأمر من خلال القنوات والوسائل الممكنة المتاحة وهي كثيرة جداً، وهذا الأمر هو قضيتنا جميعاً، فهذه مسألة. المسألة الثانية: أن العلماء الذي يقومون بتوعية الناس وإرشادهم؛ في الواقع أنهم يتعبون ليقدموا للناس التوجيه السليم وكم سهروا الليالي وكم تعبوا، وكم حرم الواحد منهم الجلوس مع أهله، ومع أولاده وأطفاله ومع أعماله الخاصة في سبيل تحقيق المصلحة العامة للأمة، فهم يحرقون أنفسهم ليضيئوا للآخرين. ولذلك أقول: من حق العالم على الأمة ألا يطلب العالم شيئاً لنفسه، بل أن تكون الأمة التي تستفيد منه وتنتفع من علمه، هي التي تطلب لا أقول له بل أقول لنفسها، ما يكون به نجاتها وما يكون به خيرها من علم العلماء وإرشادهم وتوجيههم وإصلاحهم ودعوتهم إلى الله عز وجل؛ وتصحيحهم لعقائد الناس؛ وربطهم على قلوب الناس في أزمة من الأزمات وفي أوقات الشدائد، وهذه من الأمور التي تحتاج إليها الأمة وأشد ما تحتاج إليه في مثل هذه الظروف، فينبغي أن يكون لكل امرئ منا دور واضح يؤديه بعيداً عن أي طريقة أو أسلوب يرى أن فيه مأخذاً أو أن عليه مغمزاً. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 29 المسئولية الفردية السؤال ذكرت في معرض حديثك عن الإعلام ودوره في بث روح الجهاد في الأمة، كيف يكون ذلك، ونحن نجد أن كثيراً من أجهزة الإعلام تبث الموسيقى عوضاً عن الأشياء التافهة التي أشرت إلى شيئاً منها، لماذا لا يتغير هذا كله أو يُغير من يقوم عليه ليكون أهلاً لبث روح الإسلام وبث ما ينفع المسلمين بتوجيه وتعاون بين العلماء وبين ولاة الأمر؟ الجواب المسئولية لا شك أنها علينا جميعاً -أيها الإخوة- كل امرئٍ منا عليه الدور، ولنفترض -مثلاً- أن هذا الأمل أو الرجاء الذي طلبه الأخ لم يتحقق، ولم يسمع إليه، هل معنى ذلك أن نجلس نحن مكتوفي الأيدي ننتظر أمراً من السماء في تصحيح وضعٍ عجزنا عن تصحيحه؟ لا. ينبغي أن يقوم كل واحد منا بدوره بقدر ما يستطيع في إصلاح ما يمكن إصلاحه. ولعلي أضرب لكم مثلاً أيضاً بالمقارنة: كثير من الطيبين يقومون بعمل يسير وينتظرون من جراء هذا العمل نتائج خطيرة وكبيرة جداً، وعلى العكس من ذلك اليهود والنصارى أو حتى المنافقين أو المنحرفين يقومون أحياناً بأعمال كبيرة جداً ويقنعون بالنتائج اليسيرة. أنت -مثلاً- نفترض أنك كتبت برقية في أمر من الأمور أو رسالة أو نصيحة لأحد أو اتصلت هاتفياً، أو حتى قمت بزيارة لإنسان فتريد أن يكون أثر هذه البرقية أو هذه الرسالة أو المهاتفة أو الزيارة، تغييراً كلياً لأمرٍ أنت لا تقتنع به وترى أنه معارض للإسلام، وهذه الإرادة نحن معك نتمنى هذا، لكن ليس بالضرورة أن يحصل هذا، أولاً اسأل نفسك كم خسرت؟ الورقة التي كتبت فيها كم تعادل؟ لا تعادل قرشاً واحدً، وكذلك الحبر والمبلغ الذي بعثت به الخطاب أو البرقية ربما تعطيه أحد أطفالك حتى يسكت عن البكاء. إذاً ما عملت شيئاً، والوقت الذي بذلته في كتابة الرسالة أو الاتصال أو الزيارة يمكن أن تبذل ضعفه أو أضعافه في جلسة غير مفيدة مع أحد الأصدقاء، إذاً أنت قمت بجهد وأنت مشكورٌ عليه، لكن لماذا تنتظر من هذا الجهد المتواضع الذي قمت به أنه سوف يغير الدنيا كلها. وعلى العكس من ذلك: فقد أقرأ في تاريخ اليهود في أمريكا أعاجيب، أحياناً يكتبون عرائض يوزعونها على الناس ويوقعها مئات من كبار الشخصيات، وأحياناً يرفعون مئات الألوف من البرقيات في موضوع من الموضوعات إلى رئيس الدولة أو لأعضاء الكونجرس أو لغيرهم؛ في تأييد إسرائيل، أو في طلب تأييد الموقف اليهودي أو في طلب إعانة أو احتجاج أو أي شيء، ويفعلون ما يسمى باللوبي الذي هو الضغط، جماعات الضغط اليهودية يفعلون أشياء كثيرة جداً، ومع ذلك يقنعون ببعض النتائج. لماذا أصبح عند المسلم -مع أن المفروض أن يكون قوياً بإيمانه واثقاً صبوراً- ضعف وقلة في جلده، قصير النفس يريد نتائج سريعة مقابل أعمال بسيطة. يا أخي! لابد من الصبر وسعة البال وطول الانتظار وابذل وابذل وابذل وستجد النتيجة، وما أُشبِه تصرف وموقف بعض الناس الذين ييئسون بسرعة إلا بـ الكسعي الذي كان يصنع القسي -السهام- ثم يرمي بالليل -وقد صنع قوساً ممتازة- ثم رمى بها ولم يدر أنه قد أصاب ثم رمى مرة أخرى ورمى مرة ثالثة فغضب وكسر القوس، فلما أصبح الصباح نظر فوجد أن السهام الثلاثة التي أطلقها كلها قد أصابت الهدف ولكنه لم يعلم، فندم ندماً شديداً على تكسير القوس وأصبح مضرب المثل، يقول أحدهم: ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار ُ فيضرب به المثل في كثرة الندم، فهكذا بعض الطيبين يقومون بأعمال دون أن يدركوا آثارها ونتائجها ولذلك يقطعونها وأحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل. الجزء: 131 ¦ الصفحة: 30 ولكن في التحريش بينهم هذا العنوان نص من حديث فما معناه؟ وهل لم يعبد الشيطان في جزيرة العرب، وما واجب أهل الجزيرة تجاه ذلك، وكيف يحرش الشيطان بيننا، وما هي ألوان التحريش وما موقف الداعية المسلم تجاه كل ذلك؟ هذه الأسئلة تجد الإجابة عليها ضمن ثنايا هذه المحاضرة مع عشرين نصيحة تجاه هذا الأمر تفيدك إن شاء الله. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 1 إن الشيطان فد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب الحمد الله مستحق الحمد وأهله، وأهل التقوى وأهل المغفرة، وصلوات الله وسلامه على خاتم رسله وأنبيائه، نبينا وسيدنا وإمامنا محمد صلى الله عليه وسلم ما تعاقب الليل والنهار، وصلى الله وبارك ورضي عن أصحابه الطيبين الأطهار، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم القرار. أما بعد: سلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته، إنها لحظاتٌ سعيدة أن ألتقي بكم، وأحل في مدينتكم هذه المدينة الطيبة، وأرى وجوهكم هذه الوجوه المشرقة، وأسأل الله تعالى بمنه وكرمه أن يغفر لي ولكم في هذه اللحظة، ما قدمنا وما أخرنا، وما أعلنا وما هو أعلم به منا. أما بعد: فكما سمعتم عنوان هذا الكلمة: (ولكن في التحريش بينهم) وهذا العنوان -كما تدركون جميعاً- جزءٌ من لفظٍ نبويٍ كريم، وهو خير ما عنونت به الدروس والمحاضرات، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: فيما رواه مسلم في صحيحه: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم} أي: أن الشيطان رضي من المسلمين في هذه الجزيرة بالخلافات والعداوات والأحقاد في قلوبهم، رضي بذلك واكتفى به؛ لأنه يئس أن يعبدوه. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 2 لون من التحريش بينهم وإذا كان العالم اليوم يعاني مما يسميه بالتفرقة العنصرية، فإن الأمر المدهش حقاً، أن ورثة الكتاب من أهل الإسلام، لم يتخلصوا بعد من لوثات الجاهلية الأولى، فأصبح الناس يتفاخرون داخل المجتمعات الإسلامية، أو يتميزون، ويتحيزون بحسب انتماءاتهم، أو أعراقهم أو أنسابهم، بل حتى داخل المجتمعات المثقفة، بل حتى في مراكز العلم والدعوة والجهاد، بل أصبح العالم اليوم يتحدث عن حروبٍ طاحنة، يعتبر الانتماء القبلي أحد أسبابها في نظر البعض، وهذا أحد ألوان التحريش الشيطاني، الذي يمارسه على المصلين في جزيرة العرب وفي غيرها. فلقد نجح الشيطان وجنوده من أبناء الصليب وغيرهم، في تقسيم الأمة الواحدة إلى شعوبٍ متطاحنة، يكره بعضها بعضاً، ويلعن بعضها بعضاً، ويحارب بعضها بعضاً، ويحاصر بعضها بعضاً وينصر بعضها أعداءها ضد البعض الآخر. لقد قدم النصارى لنا -أعني المسلمين- قدموا لنا أنفسهم على أنهم الصديق الحميم للجميع، بأساليب مختلفة، وبإخراجٍ دقيقٍ عجيب، فالنصارى يظهرون أنفسهم متحالفين مع الحكومات -كل الحكومات- ضد الشعوب الثائرة لإنسانيتها، الغاضبة لكرامتها، ويظهر النصارى أنفسهم أنصاراً للشعوب ضد حكامها المستبدين، ويظهرون أنفسهم ثائرين وقائمين وغاضبين للمصابين بالنكبات والكوارث، من الفقر والجوع والمرض من خلال منظمات الصليب، التي ندفع نحن مئات الملايين من ميزانياتها، فهم مع الجميع ضد الجميع، وفي النهاية أصبح المسلم يمنح النصراني ثقةً كبيرة، ويفضله على أخيه في الإسلام، وأخيه في العروبة وجاره في الدار والقرار. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 3 أقوال أهل العلم في يأس الشيطان من جزيرة العرب وقد يتساءل الكثيرون: كيف يكون هذا؟ مع أننا نعلم أنه حدث ويحدث في هذه الجزيرة، بل وفي بلاد الإسلام كلها أن هناك من أطاع الشيطان، وعبده، أو أطاعه فيما دون ذلك، فمن أهل العلم من قال: إن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص المصلين، أي: "يئس أن يعبده المصلون" أما أولئك الذين أطاعوه وعبدوه فهم من الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، ومن الذين فارقوا الشريعة وتركوا الملة، وخرجوا من الدين، وأصبحوا من غير المسلمين ومن غير المصلين، وهذا دليل على عظم شأن الصلاة. وقال آخرون: بل يئس الشيطان يوم رأى عز الإسلام، ورأى قوة الدين، وشاهد إقبال الناس على الحق، وإعراضهم عن الباطل، فأصابه من جراء ذلك إعراضٌ وقنوطٌ ويأس؛ ولكنه بعد ذلك يعود إلى قلبه الأمل، وتراوده الأماني والأحلام، أن يوجد من يعبده في هذه الجزيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر وهو في الصحيح أيضاً: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخلصة} وهو صنم كانت تعبده قبيلة دوس في الجاهلية، وهذه القبيلة في الطائف، وقد رأينا اليوم في هذه البلاد وفي غيرها، من رفعوا رءوسهم في إحياء شعائر الجاهلية الأولى، مصداقاً لما أخبر به نبينا صلى الله عليه وسلم فقد عاد الأمل إلى الشيطان أن يعبده الناس في هذه الجزيرة وفي غيرها، وكل هذه الاحتمالات وغيرها، تتفق على أنه سيوجد في هذه الأمة، وفي هذه الجزيرة بالذات، وفي غيرها من باب أولى؛ من ينساق وراء نزغات الشيطان، ويقع حتى في لونٍ من ألوان العبادة له: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] . الجزء: 132 ¦ الصفحة: 4 الناس في الإسلام سواء الإسلام لا يعبأ بالحدود الإقليمية، ولا يكترث للحواجز الجغرافية، ولا يقيم وزنًا للفواصل العرقية، لأن الرابطة الوحيدة عنده رابطة الإيمان والتقوى، والوحدة الإسلامية، ليس هذا من الزاوية والناحية النظرية فحسب، فإننا نجد أن الأديان والمذاهب والنظريات كلها أو جلها، تقول نظرياً أنها لا تفرق بين الناس. فالنصرانية مثلاً تقول: إنه لا فرق عندها بين لونٍ ولون، وجنس وجنس، والميزان عندها هو القرب من الخير والحق والعدل والسلام!! والشيوعيةأيضاً تقول: إنها قامت لتحطيم كل الفروق والحواجز بين الناس، وإقامة الأخوة البشرية بينهم، وإزالة ألوان التفرقة، بما في ذلك التفرقة في المستوى المالي أو غيره!! ومثل ذلك الماسونية، فهي تزعم وتدَّعي أنها تقوم على الأخوة والعدل والمساواة! وهكذا، فالشعارات وحدها لا تكفي، والكلمات وحدها لا تغني، أما الإسلام فقد رفعه شعاراً، أنه لا فرق بين عربي وأعجمي، وأبيض وأسود، وغني وفقير، ومأمور وأمير، وقريب وبعيد إلا بالتقوى، ثم طبق ذلك عملياً، فكان المجتمع الإسلامي الأول نسيجاً متلاحماً متكاملاً منسجماً من أجناسٍ مختلفة، في انتماءاتها القبلية، وفي بلدانها ودولها ومدنها، ومختلفةً في ألوانها وأشكالها؛ ولكنها امتزجت كلها في لحمةٍ واحدة، وهي لحمة الإيمان والتقوى والعمل الصالح، وساهمت في هذا المجتمع الإسلامي العظيم. ولقد ضرب عمر رضي الله عنه أروع الأمثلة في ذلك، حيث كان يقول: [[والله لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لوليته، الخلافة]] وهو مولى!! وكان النبي صلى الله عليه وسلم يولي عليهم في الغزوات والسرايا والبعوث، أحياناً أبا بكر، وأحياناً زيد بن حارثة، وأحياناً أسامة بن زيد وهو ابن مولى، فيوليه وهو مولى على وجوه الصحابة، من رجالات قريش وكبرائها، ووجهائها وأعيانها، أو من رجالات الأوس والخزرج في المدينة النبوية الشريفة. لقد حطم الإسلام أبَّهة العربي وكبرياءه، وفخره بقبيلته؛ إذ أن جدارة الإنسان لا تكتسب بالوراثة أو باللون أو بالبلد، إنما تنال بالأعمال الجليلة، والمواهب النبيلة، والطاقات الموجودة في الإنسان، أو الإنجازات التي تمت على يديه، وأيُّ فضلٍ لعربي ما حقق لنفسه ولا لدينه تقدماً. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 5 التحريش الديني إن أخطر ألوان التحريش؛ هو التحريش الديني. فالخلاف على الدنيا قديم، وليس من الخطورة بمكان؛ أن نختلف على قطعة أرض، أو على أمرٍ دنيوي، أو على لعاعة، أو على منصب، أو على كرسيٍ أو مالٍ أو جاه، ما لم يلبس هذا الخلاف لبوس الدين، أو يجعل الدين خادماً لأهداف الدنيا ومطامعها. إنما التحريش الخطير والأمر الجلل؛ أن يختلف الناس في دينهم فيصبحون شيعاً وأحزاباً، وقوارع القرآن تقرع آذانهم، تحذرهم صباح مساء أن يفرقوا دينهم: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آل عمران:105] وقوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وقوله: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً، ويكره ثلاثاً، يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تطيعوا من ولاه الله أمركم، وأن تعتصموا بحبله جميعاً ولا تفرقوا} . الجزء: 132 ¦ الصفحة: 6 الآثار المترتبة على الخلاف في المسائل الدعوية السابقة وقد ترتب على إثارة هذه المسائل وغيرها؛ آثارٌ خطيرة لا بد من الإشارة إليها، هذه الآثار تقع بيننا شئنا أم أبينا، وباختصار أقول لكم من هذه الآثار: أولاً: فساد القلوب: إن القلوب إذا تنافر ودها مثل الزجاجة كسرها لا يجبر فالقلوب قد تغيرت ولم تعد على ما كانت عليه، ودخلها التباغض والشحناء والكراهية وسوء الظن وغير ذلك من الأمراض، وأصبح من العسير أن أتعامل مع أخي فلان دون حساسية، أو دون أن أحمل في قلبي شيئاً من الكراهية، أو البغضاء عليه. ثانياً: ضياع الأوقات في القيل والقال، والكلام في فلان وعلان، وهذه الجماعة أو تلك، وربما أصبحت -عند الكثيرين- تشغل من الوقت أكثر مما ينشغل الإنسان بقراءة القرآن، أو تعلم السنة، أو العبادة، أو الدعوة إلى الله، أو غير ذلك من الأعمال، وأنت ترى أن الناس اليوم إذا رأوا في الشارع اثنين يتخاصمان التفوا حولهم واجتمعوا، وإذا رأوا سيارتين اصطدمت إحداها بالأخرى؛ تجمع الناس وتجمهروا، لينظروا من أخطأ ومن أصاب، وهذا يتحمل (50%) وذاك يتحمل (60%) فمن طبيعة الناس إذا لم يوجهوا ويعلموا ويرشدوا، أن يهتموا كثيرًا بأسباب الخلاف والفرقة، ويدندنوا حولها، ويركضوا وراءها، ويغفلوا عن الأمور الجليلة المهمة. ثالثاً: ضياع الجهود وتناقضها، وتدمير بعضها البعض فأنا اليوم -مثلاً- أكتب ورقة أحط فيها من قدر فلان وأتكلم عنه، وربما اتهمته بما هو منه براء، وربما رددت عليه بالحق أو بالباطل، وأنشر هذه الورقة بالآلاف بين الناس، وكل همي أن يعلم الناس أن فلاناً مخطئ غير مصيب، ففلان هذا يرى في نشر هذه الورقة ظلماً له، واعتداءً عليه، وهضماً لحقه، فيقوم ويبذل جهوداً كبيرة في مصادرة هذه الورقة ومحاربتها، وفي النهاية لم أستطع أنا أن أوصل ما أريد إلى الناس، وأصبح جهدي يضيعه هذا، وأصبحت أنا أستنزف منه جهداً كبيراً في مقاومة ما أعمل، فلا أنا الذي انتفعت ولا هو، وصار الناس لا يدرون أين يكون الحق! رابعاً: تنفير الناس من الدعوة إلى الله وأهلها، وانحراف بعض الناس بسبب الخصومة والصراع حولهم، فكل إنسان يجره إلى مذهبه أو طريقته أو طائفته، وربما كان من نتائج ذلك؛ أن ينحرف ويترك الخير، وآخرون عزفوا عن الدعوة وعن التعليم؛ لأنهم يقولون: إذا كان فلانٌ -وهو من هو في العلم أو الدعوة أو الجهاد- عنده مثل هذه الأشياء، ويتهم بمثل هذه الأمور، فما هو الظن بنا ونحن لا نظن يوماً من الأيام أن نصل إلى منزلته ودرجته ومرتبته، إذاً فمن الأولى لنا أن ننزل من أول السِلََّم، وألا نشتغل بهذه الأمور ولا نسلك هذا الطريق، فأصبحنا نصد -أحياناً- عن دين الله تعالى ودعوته وطريقته، من حيث نشعر أو لا نشعر. خامساً: أننا أعرضنا عن العمل الجاد المثمر، أعرضنا عن العلم النافع، ولم نعد نملك الجلد فيه، وأعرضنا عن العبادة الصحيحة التي فيها صفاءُ القلب، والقرب من الله تعالى، وهي من أسباب دخول الجنة، وأعرضنا عن الدعوة الصادقة للمجتمعات، والقدرة على اختراق المجتمع والتأثير فيه، والوصول إلى طبقاته، إلى الرجال والنساء والشباب، وإلى المنحرفين والتجار والمسئولين، لماذا؟ لأننا انشغلنا عن ذلك كله بالقيل والقال. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 7 مسائل واقعية اختلف فيها وأنت اليوم لو نظرت للواقع، لوجدت مسائل كثيرة حادثة، تكلم فيها الكثيرون بعلم، وتكلم فيها الكثيرون بغير علم، وكانت من أسباب الخلاف. ومن أمثلة ذلك: الجهاد الأفغاني، والجماعات القائمة بالجهاد هناك، ومثل ثاني: الجهاد والقتال، والدفاع عن النفس في البوسنة والهرسك. ومثل ثالث: طبيعة النظرة إلى الأنظمة والحكومات القائمة في العالم الإسلامي، والتي تحكم بغير شريعة الله تعالى، والموقف منها، وحكم الاشتراك فيها، أو الدخول في مجالسها أو برلماناتها أو أجهزتها أو غير ذلك. ومثل رابع: حكم المشاركة في المؤسسات القائمة في العالم الإسلامي، والتي يكون فيها منكرات، ويضطر الذي يدخل فيها إلى بعض التنازلات، وإلى السكوت عن بعض المنكرات التي يعلم أنها حرام؛ تحصيلاً لمصلحة أو دفعاً لمفسدة، هل هذا يجوز أو لا يجوز؟ هذه المسائل أنا لم أعرضها لأقول فيها رأياً؛ ولكنني عرضتها كنماذج للقضايا الخلافية الاجتهادية، التي تحتاج إلى معرفة بالشرع، ومعرفة بطبيعة الواقع التي تتكلم فيه، وإلى سعة في العقل والفهم والإدراك، وهي أيضاً -مع هذا كله- من المسائل الاجتهادية، التي لا يمكن أن تكون سبباً في الفرقة والخلاف والتباعد والولاء والبراء وغير ذلك. فالمسائل الاجتهادية الواقعية؛ ينبغي أن نملك فيها قدراً من التفاهم والنقاش الموضوعي العلمي الهادي، بعيداً عن الحرب التي يشنها أحدنا على الآخر، أو الولاء والبراء في مثل هذه المسائل. وفي المسائل الدعوية. فمع الاتفاق على أن الدعوة إلى الله واجبة وعلى أهميتها، إلا أننا نجد اختلافاً واسعاً بين الدعاة من أهل العقيدة الواحدة، ومن أهل المنهج الواحد، في مسائل كثيرة جداً. فمثلاً: الجماعات العاملة للإسلام، والتفضيل بين هذه الجماعات أو الانتماء إليها. مثل ثان: وسائل الدعوة إلى الله تعالى، هل هذه المسائل توقيفية، لا يجوز لنا أن نستخدم وسيلة إلا أن تكون قد استخدمت قبلنا، استخدمها الرسل وأذنوا بها عليهم الصلاة والسلام؟ أم أن وسائل الدعوة اجتهادية، ومن حقنا أن نستخدم كل وسيلةٍ مفيدة، ما لم تكن محرمة علينا بنصٍ شرعي؟ مثل ثالث: الأولويات في الدعوة إلى الله تعالى، بماذا نبدأ بالدعوة؟ إلى غير ذلك. هذه وتلك وما قبلها؛ أمثلة لمسائل من الأمور التي يثور فيها الخلاف بين المسلمين، بل بين طلبة العلم والدعاة إلى الله تعالى، وهي من أكثر الأشياء تفريقاً للصفوف وتمزيقاً لوحدتها. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 8 المسائل الواقعية والشروط اللازمة فيمن يقوم بمعالجتها وهذه المسائل المتعلقة بالواقع أقرب إلى الاختلاف من المسائل الفقهية، فالمسائل الفقهية فيها نصوص -أحياناً- وفيها أصولٌ عامة، أما المسائل الواقعية فقد لا يوجد فيها نص يعالج المسألة بذاتها، وقد يدخلها شخص تحت نصٍ، ويدخلها غيره تحت نصٍ آخر، وأكثر هذه المسائل الواقعية تخضع لأبواب السياسات الشرعية، التي تتفاوت فيها الأنظار ويختلف فيها النُظَّار، وتحتاج لمن يعالجها ويعاينها إلى ثلاثة أمور، قد لا تتوفر للكثير ممن يبحثون في هذه الأمور: الأمر الأول: العلم بالشرع. فإن الله تعالى قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تركت أمراً يقربكم من الجنة ويباعدكم عن النار إلا أنبأتكم به} وقال بعض الصحابة: [[ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم طائراً يقلب جناحيه في السماء، إلا بين لنا منه علمًا]] فقد علمهم كل شيء. فلا بد أن يكون من يتصدى للمسائل الواقعية الحادثة متدرعاً بالعلم الشرعي، من معرفة الأصول العامة، والنصوص الشرعية، والقواعد الكلية، التي هي كالنور الهادي لمعرفة ما حدث وجدَّ بين الناس. الأمر الثاني: المعرفة بالواقع. فأنت تريد أن تحكم على واقع، وكيف تحكم على شيء لا تعرفه؟ أرأيت لو أن شخصاً استفتاك في مسألة، ولو كانت من صغار المسائل، هل كنت تستطيع أن تفتيه في هذه المسألة وأنت لم تتصور سؤاله ولم تعرف الحادثة؟ هبها مسألة في الطلاق، أو في النكاح، أو في الحيض، أو في اللحوم أو في غيرها، لم تكن لتفتيه في ذلك ولو كنت تحفظ القرآن، والحديث، وتعرف الأصول والقواعد؛ إلا بعد أن تتصور الواقعة تصوراً صحيحاً، والفقهاء يقولون: الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره، ولهذا في علم الأصول قسَّم العلماء الأحكام إلى قسمين: القسم الأول: الأحكام التكليفية: وهي الواجب والمحرم، والمندوب، والمكروه، والمباح. والقسم الثاني: الأحكام الوضعية، المتعلقة بأفعال المكلفين، من صحتها أو فسادها أو غير ذلك، وهذا لا يتسنى إلا بمعرفة أحوال الناس وأفعالهم، وإعطائها الحكم الذي تستحقه، فلا بد لمن يتصدى لمسائل الواقع؛ أن يكون عنده معرفةً بالواقع أو الوقائع التي يتكلم عنها. القسم الثالث: أن يملك الإنسان سعة العقل والفهم والإدراك. فإن الكثيرين يؤتون من ضعف عقولهم، وضعف مداركهم، وقلة فهمهم، فيطبقون الأشياء على غير مجالاتها، ويحكمون في الأمور بغير حكم الله ورسوله فيها؛ بسبب أنهم لا يملكون القوة في التصور، خاصةً إذا تصورت أننا في هذا الزمان نواجه أحوالاً وأوضاعاً ومسائل وأموراً في غاية التعقيد والتشابك والصعوبة، وهي بحقٍ تعد من النوازل، التي تحتاج -في كثيرٍ من الأحيان- إلى أن يتنادى علماء الأمة وفقهاؤها، إلى مؤتمرات ومجامع ومجتمعات ليتباحثوا ويتناقشوا ثم يخرجوا فيها برأيٍ موحد، أو بآراءٍ متقاربة. ولذلك لما جاء التتار مثلاً إلى المسلمين في القرون السابقة، في القرن الخامس والسادس والسابع، جاء التتار ثم أظهروا الإسلام، ووجد معهم أئمة ومؤذنون وقضاة، وكانوا يحملون المصحف، ويقرءون القرآن، ويصلون، ووقع عند الناس لبس عظيم، فكان من الناس من يقول: كيف نقاتلهم وهم مسلمون؟ ومن الناس من يقول: نقاتلهم لأنهم معتدون وبغاة، واختلف الناس في ذلك، حتى بعض العلماء والمنسوبين إلى العلم، إلى أن قام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فأصدر فتواه الشهيرة في أمر التتار، وهي موجودة في مجموع الفتاوى، وأزال اللبس الموجود عند الناس في ذلك، ونبه إلى أنه لا يمكن أن يحيط بمثل هذه المسائل إلا من عرف الشرع وعرف الواقع، ثم أفتى في ذلك بفتواه الشهيرة المعروفة. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 9 شباب الصحوة وجدل حول مسائل الاجتهاد الفقهي ومع ذلك أرى اليوم من شباب الصحوة؛ من لم يتفطن إلى بُعد الهوة والشقة بيننا وبين هؤلاء الأعداء، ولا إلى عمق التأثير الذي أحدثوه فينا وفي بلادنا، وأدياننا وعقولنا، وأصبح مشغولاً بالأقربين، يحاربهم ويعمل على مقاومتهم، ويتصدى لتأثيرهم، ويبذل وسعه في الوقوف في وجوههم، فصرنا في جدلٍ لا يهدأ، ولا يقر له قرار ولا يهدأ له أوار، حول مسائل اجتهادية تحتمل الخلاف. والعجب كل العجب؛ أن كل من حادثته في أمر الإسلام، وتفرق المسلمين، واختلاف الدعاة؛ وجدته يحمل قلباً يتحرق على هذا الاختلاف، ويتميز غيظاً لهذا التفاوت، ويحزن ويتباكى على هذا الصف المنقسم، والوحدة المشتتة؛ ولكننا في الوقت الذي نتباكى فيه على الوحدة، ونصيح فيه على الاختلاف، إلا أننا جميعاً جزءٌ من هذا الواقع الفاسد المريض، الذي يقيم معنا حيث أقمنا، ويرحل معنا حيث ارتحلنا، فإن بقينا في ديارنا بقي الخلاف والشتات معنا، وإن رحلنا لنصرة حقٍ هنا، أو إقامة جهادٍ هناك، نقلنا جراثيمنا وأمراضنا حيث انتقلنا، وهناك وجد التناقض والاختلاف بيننا كما وجد في بلادنا، وكأن هذا يوحي إلى أننا حين نبكي على الفرقة ونحزن لها؛ نتمنى أن يجتمع الناس على رأينا ومذهبنا، وعلى جماعاتنا، وعلى متبوعنا، وهيهات هيهات! ما اجتمع الناس على الحق حتى يجتمعوا على الباطل! وما اجتمع الناس على النص حتى يجتمعوا على رأيي أو على رأيك؟! ونحن جميعاً نقر من الناحية النظرية، أن المسائل الفقهية الخلافية مما لا ينبغي أن تكون مجال تضليل أو تفسيقٍ أو تبديع، وا ولاءٍ ولا براء، فلا ينبغي أن أسبك أو أعاديك أو أحاربك، أو أنقص من قدرك، لأنك اختلفت معي في مسألةٍ فقهية خلافية، ليس فيها حقٌ وباطل، وهدىً وظلال، وإنما فيها راجح ومرجوح، وصحيحٌ وأصح. فمن الناحية النظرية ربما نقر كلنا بهذا لكن حين أصلي إلى جوارك وأراك تضع يديك على صدرك وأنا أضعها تحت الصدر؛ أشعر بشيءٍ من عدم الرضا عنك، وأنسى أن هذه مسألة خلافية، تحتمل الاختلاف حولها، وحين أراك تخر ساجداً فتقدم ركبتيك، أنسى أن هذه مسألةٌ خلافية، أجمع العلماء أنه لا مدخل لها في أركان الصلاة، ولا في شروطها، ولا في واجباتها، وإنما الخلاف في الأولى والأفضل من ذلك، أنسى هذا وأحمل في صدري عليك شيئاً! لأنني أرى أنك خالفتني حينما قدمت ركبتيك قبل يديك وأنت تهوى إلى السجود. ومثله حين أصلي إلى جوارك، فأراك تجلس جلسة الاستراحة بعد الركعة الأولى أو الثالثة؛ فأجد في قلبي عليك شيئاً، وأحس أنك خالفتني في هذا الأمر، ولا يقف الحد عند مجرد الجدل بالتي هي أحسن، والنقاش العلمي الموضوعي، بل يتعدى إلى ارتفاع الأصوات، ويتعدى إلى التنابز وإلى الاختلاف، وربما قلت لك يوماً من الأيام: صحيح أن هذه المسائل فرعية وخلافية، ولكنها أصبحت شعارًا لفئةٍ أو طائفة، فلا بد من التميز بها. لماذا أجعل الأشياء في غير مواقعها الشرعية، وأخلف المدارات التي وضعها فيها الشارع الحكيم؟ وهكذا آلاف المسائل التي لو ذكرت لكم اليوم بعضها، ربما ثار الخلاف حول كلامي نفسه، وربما أحجم البعض عن مواصلة السماع لما أقول، لأنه رأى أنني لمست قضية تمسه وتخصه هو شخصياً، فنحن نوافق على ذم الخلاف والفرقة، ولكننا لا نوافق أن يمس أحد ما نهتم به ونعانيه، ونعتبره جزءاً من تكويننا وشخصيتنا ووجودنا، ولا نقبل النقاش الهادئ حوله مع الأسف الشديد! بل أحياناً يتعدى الأمر إلى أن نربط المسائل الاجتهادية الشرعية الفرعية، بأصل أو بمنهج، وذلك محاولةً منا لتأصيل الخلاف بيننا وتعميقه، وكأننا لم نقنع بالخلافات الحقيقية التي تعصف بالأمة، فصرنا نلتمس سبيلاً لمزيدٍ من الخلافات الوهمية، التي نريدها أن تجهز على البقية الباقية من إخائنا ومحبتنا ووحدتنا وصفاء قلوبنا، هذا مثل وهو متعلق بالمسائل الفقهية. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 10 خطر عظيم يهددنا إننا اليوم أمام هجمةٍ عظيمة من الكفار، النصارى الذين يعملون اليوم على تحويل الأمة الإسلامية إلى أمةٍ غير ذات رسالة، أو اليهود الذين يسعون إلى جعل المنطقة الإسلامية منطقة نفوذ لليهود، تتعاون فيها خبرة اليهود مع رأس المال العربي أو الخليجي بالذات، أو مع اليد العاملة المصرية؛ لتكوِّن بناءً واحداً يهيمن عليه بنو إسرائيل. والمنافقون المندسون في الصفوف اليوم، والذين يستخدمون الأدب والشعر والصحافة والتلفاز والإعلام والمنصب والمدرسة والجامعة وكل وسيلة؛ لتغيير عقليات المسلمين وأفكارهم، وهؤلاء المنافقون يعتبرون طابوراً خامساً داخل الصف المسلم لأعدائنا من اليهود والنصارى. والمشركون الوثنيون، الذين يحاربون الإسلام، عبدة البقر في الهند يقتلون المسلمين، وعباد الأوثان، بل البوذيون، والهندوس، وألوان المشركين، وما يدريك أن يكون لنا معركة قادمة مع بعض هؤلاء؟! ربما ننسى في إوارها بعض عداوة أهل الكتاب، كل هذه الهجمة المشتركة تستهدف وجودنا، وعقيدتنا، وديننا، وأخلاقنا، وهي تحتاج -ولا شك- إلى جمع الكلمة لمواجهة هذا الكيد العظيم المدبر المدروس، المدجج بأحدث ألوان التقنية الغربية. أمام هذا نجدُ -أيضاً- هجمة من المتحالفين على المسلمين، المتحالفين على الانحراف الفكري، والانحراف العقدي، ممن يحملون الثارات التاريخية، والأحقاد المذهبية، ويتربصون بنا الدوائر، ويحاولون أن يحيطوا بنا إحاطة السوار بالمعصم، وهؤلاء وأولئك على بعد الشقة بيننا وبينهم، فنحن نحمل الهداية وهم يحملون الضلال والكفر البواح، ومع ذلك فقد استطاعوا أن يجتاحوا الكثير من المسلمين؛ بل من أهل السنة والجماعة، ومن أصحاب المنهج الحق، ومن المتبعين لسيد المرسلين عليه الصلاة والسلام. إذاً هم أولاً: أعداء معلنون بالعداوة، والشقة بيننا وبينهم بعيدة جداً. وهم ثانياً: قد نجحوا في تضليلنا وإفسادنا، وإهدار كرامتنا، ونهب ثرواتنا، وتغيير عقولنا، بل نجحوا في تغيير عقائد الكثير من المسلمين، وهناك دولٌ ومدن وأقاليم وأفراد وطوائف، قد لحقت بالنصارى، وأخرى لحقت باليهود، مصداقًا لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان: {ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} . الجزء: 132 ¦ الصفحة: 11 عشرون نصيحة إن ما سوف أقوله لكم الآن هو دين أدين الله تعالى به، فأنا لا أكلمكم لأنصر مذهباً على مذهب، ولا طائفةً على أخرى، ولا أدعوكم لشخصٍ على حساب شخص آخر، اللهم إلا أننا ندعوكم إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، إيماناً به، وحباً له، ودعوةً إلى دينه وشريعته، والتزاماً بسنته، وتعلماً لسيرته، وصلاةً وسلاماً عليه صلى الله عليه وسلم صلاةً وتسليماً دائمين إلى يوم الدين، فهو إمام الأئمة، وقدوة الدعاة والعلماء، أما من سواه من الأشخاص؛ فلا ينبغي أن يكونوا متبوعين لنا، أو أن نكون دعاةً لفلانٍ أو علان، إن ما نقوله لكم نقوله نصرة لدين الله تعالى، وإن شاء الله أن الله تعالى لا يعلم من قلوبنا إلا أننا نقول ما نقول رغبةً في جمع كلمة أهل الخير والحق، وتوحيد صفوفهم، وأن يقوموا بعمل جاد ينصرون به دين الله تعالى، ويكون نكاية للكفر والشرك والنفاق وأهلها، هذا كل ما نتمناه ونريده، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا جميعاً على الحق. إنني أعلم قبل أن أذكر هذه النصائح، أن أهل هذه البلدة المباركة، هم بحمد الله تعالى على أحسن حال، من الوحدة والوفاق والانسجام، والبعد عن أسباب الفرقة والخلاف، ولكنني لا أتحدث معكم إلا لأمرين: أولاً: أن ذلك تحذيراً من سلوك سبيل التفرق، الذي لم يأل الشيطان جهداً معكم ومع غيركم، والتحذير من الشر قبل وقوعه أولى من التحذير منه بعد وقوعه. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 12 دع الخلق للخلاق تسلم وتؤجر لماذا تكون مجالسك كمجالس القصابين والجزارين؟ تتكلم في فلانٍ وفلانٍ، وتعطي الفرصة حتى تتكلم فيهم بالظن، أظن فلاناً كذا، وأخشى أن فلانًا كذا، لماذا لا تربي نفسك، ومن حولك على ألا يكون ثمَّ مجالٌ للكلام في الناس، ولو مت وأنت لم تتكلم فيهم ما ضرك هذا شيئاً، ولو لقيت الله تعالى وأنت لم تلعن فرعون وهو أكفر الخلق في زمانه، ما سألك الله لماذا لم تلعنه بذاته؟ الجزء: 132 ¦ الصفحة: 13 استحضر أنك في آخر الزمان فإن هذا ولا شك من أواخر الزمان، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وكلما تقدم الزمن بالناس، بعُد عهدُهم بالرسالة والنبوة، وقلَّ العلم ورفع العلم ونشر الجهل، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في الصحيح وغيره، وأصبح الإنسان في حيرةٍ من أمره، وقلَّ الخير وكثر الشر، وقلَّ الإخلاص، وكثرت الفتن، إلى غير ذلك، فينبغي أن تتصور هذه الصورة الكلية، حتى تكون معتدلاً، وتعرف ماذا يجب أن تعمل. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 14 عليك بالورع والاحتياط الورع والاحتياط فيما يتعلق بأمر الناس، أفراداً وجماعات، ولأن تخطئ بحسن الظن؛ خير من أن تخطئ بسوء الظن، ولأن تخطئ بالعفو خيراً من أن تخطئ بالعقوبة. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 15 جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم وأخيراً أقول لكم: إننا لن نفلح في جمع كلمة المسلمين؛ ما لم نفلح في جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم، ولن نفلح في جمع كلمة الدعاة وطلبة العلم من أهل السنة على أمرٍ سواء، ما لم يكن هذا الهم -همُّ توحيد الأمة، وتوحيد الدعاة، وتوحيد الشباب، وتوحيد الصحوة- ما لم يكن هذا هماً يقلقنا، ويملأ عقولنا، ويجعلنا نتقلب على فرشنا في الليل لا يجد النوم إلى أعيننا سبيلاً، من الأحزان التي نعانيها بسبب التفرق والشتات والاختلاف والتطاحن والتنازع، أما ما دمنا ننام ملء جفوننا ولا نبالي، ولا نقيم وزناً لهذه القضية، ولا تحزننا وتقلقنا وتحرق قلوبنا، فإننا لن نستطيع أن نقوم بهذا العمل. أسأل الله جل جلاله، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليم، أن يجمع كلمة المسلمين على الحق إنه على كل شيء قدير. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 16 حسن الظن أحسن الظن بإخوانك الآخرين، والتمس لهم سبعين عذراً، فإن لم تجد فقل لعل له عذراً، لا أعرفه، وبالحق والصراحة أقول لكم، وقد جالست الكثيرين من الدعاة وطلبة العلم والشباب: لقد رأيت أننا جميعاً نحتاج إلى حسن الظن، وأحياناً نفسر فعل فلان أو قوله على أنه لا يحتمل إلا أمراً واحداً، ولو أننا أعطينا عقولنا بعض الفرصة والفسحة، لوجدنا أن هذا الفعل أو القول له ألف تفسيرٍ وتفسير، ولكن ضاقت عقولنا عن أن نحسن الظن به. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 17 التماس العذر هب أنه أخطأ فعلاً، وأنه لا مجال لحسن الظن في هذا الخطأ، لماذا لا تلتمس العذر له، ولإخوانك المسلمين؟ وتنظر في الأسباب التي أدت إلى هذا الخطأ، انظر مثلاً إلى المسلمين الذين خرجوا من جحيم الشيوعية، سبعين سنة وهم تحت مطارق الشيوعية، هل تظن أنه بمجرد سقوط الشيوعية سيتحولون إلى علماء وإلى دعاة، وإلى عباد، وإلى أناسٍ اعتقادهم صحيح، وقولهم صحيح، وعملهم صحيح! أبداً، فإذا وجدت إنساناً منهم يشرب باليسار، أو يرتكب معصية أو مخالفة، أو يقصر حتى في الصلاة، قلت: هذا ليس بمسلم! لا، بل هذا مسلم، ولكنه ظل أكثر من سبعين عاماً تحت تسلط الشيوعية، التي فرضت عليه سوراً حديدياً، وحرمت عليه حتى أن يقتني المصحف، فضلاً عن أن يقرأه أو يحفظه أو يتعلمه أو يعمل به أو يدعو إليه، فلا بد أن تضع في اعتبارك الظروف والأسباب والملابسات والخلفيات، التي جرت إلى الوقوع في هذا الخطأ. ومما ينبغي أن يقال في مجال التماس العذر، أن العلماء الكبار، والدعاة والمخلصون، والقادة المشهورون، وأهل البلاء في الجهاد والدعوة -على سبيل الخصوص- ينبغي أن يلتمس لهم الأعذار فيما وقعوا فيه بوجهٍ خاص، وقد ألف الإمام ابن تيمية كتاباً سماه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام". الجزء: 132 ¦ الصفحة: 18 ضرورة التناوب في القيام بفروض الكفايات إنني أعترف لك اليوم؛ أنه لا أنا ولا أنت نستطيع أن نقوم بالواجبات كلها، فأنا قد أستطيع أن أقوم عنك بواجبٍ واحد من الواجبات الكفائية، وأنت تقوم بواجبٍ آخر، فإذا قمت أنا بعملٍ وأنت قمت بآخر، تم بحمد الله عمل عظيم كبير، وهذا لا يعني أننا اختلفنا في مناهجنا ودعواتنا، بل يكمل بعضنا بعضاً، ويعزز بعضنا بعضاً، فمنا من يهتم بأمر السياسة، وماذا جرى للمسلمين، ويحلل الأحداث، ويكشف مخططات الأعداء، ويبصر الأمة بالخطر الذي يهددها في عقيدتها وفي بلادها وفي ثرواتها في شبابها، إلى غير ذلك. وهذا الإنسان لا نضطره ضرورة أن يبحث في الفقه، وأن يشتغل بالوعظ، وأن يتكلم في أمور العقائد، وأن يحيط بكل قريب وبعيد، فنقول: جزاه الله خيراً وكثر الله خيره، ويكفينا منه أنه سد عنا هذه الثغرة، وكفانا هذا الباب وهذا السبيل. وأمامنا إنسانٌ آخر اشتغل بالفقه والتعلم، وثالثٌ اشتغل بالوعظ والإرشاد، ورابعٌ اشتغل بالدعوة، وخامسٌ اشتغل بجمع الأموال والتبرعات، وسابعٌ اشتغل بالجهاد في سبيل الله ومناصرة قضايا المسلمين، وثامنٌ وتاسعٌ وعاشر ونحن نعتبر أن هذه الأعمال كلها يكمل بعضها بعضاً، ولا يعني أن من اشتغل بشيءٍ لا بد أن يشتغل بكل شيء، وأن من أصبح شيئاً لا بد أن يكون كل شيء، يكفي أنه قام ولو ببعض الواجب. مع أنه لابد من قدر مشترك عند الجميع، من معرفة الدين، ومعرفة العلم الشرعي الفرضي الذي هو فرض عين على كل إنسان، والاعتدال والتعقل، والحرص على مبادئ الأخوة الإسلامية، والأمة عبر التاريخ كله كانت تطبق مبدأ التخصص، ففلانٌ فقيه، وفلانٌ محدث، وفلانٌ مجاهد، وفلانٌ سياسي، وفلانٌ حاكم، وهكذا. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 19 الكلمة الطيبة قال الله تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {الكلمة الطيبة صدقة} فأحياناً صفاء قلبي نحوك يغريني بأن أتساهل في العبارات والألفاظ، وهذا في الواقع غير صحيح، فإن فُرض أن قلبي قد صفا، فربما لا تصفوا قلوب الآخرين، فأجعل هناك كلمةً طيبةً لا يكون فيها مجال للتأويل وسوء الظن، أو دخول الشيطان، والفكرة الواحدة قد تعبر عنها بأكثر من تعبير تقول: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فأنت أحياناً ترى شخصاً مهتماً بالسياسة، ودراسة الأحوال السياسية للمسلمين، بإمكانك أن تقول: جزاه الله خيراً كفانا هذا الباب العظيم، الذي قل من يهتم به، فتكون بذلك قد أثنيت عليه، وإن كنت بينت أنه اهتم بجانبٍ واحد فقط. وأحياناً قد تقول: هذا الإنسان لا هم له إلا الكلام في السياسة، فتكون ضمنت هذه الكلمة شيئاً من معنى التنقص والازدراء للجهد الذي قام به. وأحياناً ترى شاباً متحمساً للدعوة، فتقول: هذا الإنسان جزاه الله خير، صحيحٌ أنه متحمس، فهذه الكلمة توحي بأن لك عليه ملاحظات، وأن هناك انتقادات كثيرة، ولو أنك قلت: إن هذا الإنسان ما شاء الله تبارك الله، هذا الشاب إذا رأيت توقده وتحمسه واندفاعه؛ حرك في قلبك كوامن الغيرة لدين الله تعالى، لكان في ذلك قولاً بالتي هي أحسن. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 20 سعة الأفق إن الكثيرين وقعوا ضحية التفكير الضيق، والإطار المحصور بسبب فساد التربية أحياناً، أو بسبب طبيعة التكوين والمواهب، فالكثيرون لا يرون إلا ما هو أمام أعينهم، واهتماماتهم في الغالب اهتماماتٌ صغيرة ومحدودة ومحصورة، لقد استحوذت مشكلةٌ خاصة محصورة صغيرة على تفكيري، وملأت في عقلي، ولسبب أنني لم أنشغل بما هو أهم منها، بل ربما لم أدرِ بما هو أهم منها. فمثلاً: إنسان جاره فقير، لا يجد ألوان الأطعمة والمأكولات، فتجد أن هذا الإنسان يتصور أن مشكلات الدنيا انحصرت في هذا الجار الفقير، الذي لا يجد ألوان الأطعمة والأغذية والمأكولات، لكن لو تصور هذا الإنسان الآلاف المؤلفة، ممن يموتون جوعاً أو عطشاً أو فقراً، أو لا يجدون الغذاء أو الكساء أو الدواء؛ لتصور مشكلة هذا الجار الفقير في إطارها الطبيعي الصحيح. ولذلك تجد أن الأمم في الأزمات الكبرى العامة التي تجتاح الأمة كلها، تتغير فيها التحالفات، وتتفاوت الاهتمامات؛ وذلك لأن صدمة الحدث وقوته غيرت تفكير الكثيرين، وأجبرتهم إجباراً على النظر والتفكير، واقتحمت مجالات ومدارات التأمل لديهم، واضطرتهم إلى تغيير اهتماماتهم، ولكن في أزمنة السلم والهدوء يتكرس عقل البعض كثيراً لما حولهم، وما يرون ويسمعون في محيطهم القريب، دون أن يفتحوا نوافذ العقول إلى سماع ورؤية ومشاهدة الهموم الكبرى التي تعدل اهتماماتهم. أرأيت لو أننا -مثلاً- تصورنا التنصير الذي يهدد المسلمين -وقد تكلمت عنه كثيراً بما لا أجد حاجةً لإعادته الآن- فتصورنا خطر التنصير الآن على الأمة الإسلامية، في هذا البلد وفي كل بلد، وتصورنا خطر الصلح الذي يدار اليوم مع اليهود في ما يسمى بإسرائيل، وتابعنا ما يجري في الساحة الإسلامية، سواء في أفغانستان، أو في السودان، أو في البوسنة والهرسك، أو في جميع القضايا الإسلامية، وأمر آخر: لو أننا عرفنا نوع الانحرافات التي تقع من الشباب الموجود في مجتمعنا، ماذا يواجهون، وماذا يفعلون، ما حجم تأثير المخدرات، ما حجم تأثير الأفلام السيئة، وما حجم تأثير البث المباشر! ما حجم تأثير قرناء السوء! لوجدنا أمراً خطيراً. لو أننا أدركنا المشكلات التي تعانيها المرأة في مجتمعنا، من الظلم أحياناً، والاعتداء على حقوقها، وبخسها ما أوجب الله تعالى لها، أو هضمها، أو منعها من الميراث، أو جهلها بدينها، أو غير ذلك، إلى عشرات بل مئات بل ألوف الاهتمامات، التي لو وضعها الإنسان كلها أمام نظره، لاعتدل أمامه الميزان فأعطى كل ذي حق حقه. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 21 العدل والتوسط والإنصاف ولا بد من العدل في الأقوال والأحكام كلها، فإن الأعمال البشرية لا تخلو من نقص مهما سعت إلى الكمال، ولكنها أيضًا لا تخلو من خيرٍ وصواب مهما وجد فيها من النقص، مما نعنيه بالأعمال البشرية، الجماعات الإسلامية مثلاً، فوجود الجماعات وتكوينها وقياداتها وأعمالها، هذا عملٌ بشري، والنشاطات الجهادية، سواء في أفغانستان، أو الفلبين، أو البوسنة والهرسك، أو السودان، أو أي بلد إسلامي آخر، والنشاطات العلمية، الدروس والمحاضرات والكتب والحوارات، والمناظرات والدورات، إلى غير ذلك، كل هذه لا تخلو من نقائص، فينبغي أن ينظر إليها الإنسان بعين العدل والإنصاف، لا بعين البحث عن أخطاءٍ أو زلات، ولا بعين الذي يفترض لها الكمال المطلق، ولا يقبل فيها أي قدر من النقص. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 22 تصحيح النيات والمقاصد ليس الهدف هو إسقاط هذا الشخص أو تلك الجماعة؛ من أجل أن نحل محلها، أو نثبت زيغها أو زيفها، وهب أنني نجحت في إسقاط فلان وفلان، فمن للناس ومن للمسلمين؟ إذا أنت أسقطتني وأنا أسقطتك، وأنت نجحت في تشويه صورتي وأنا نجحت في تشويه صورتك، من للمسلمين؟ من للشباب؟ من للدعوة؟ من للمساجد؟ من للمنابر؟ من للكتب؟ فلنتق الله تعالى في دينه عز وجل. وقفت على كتاب يتكلم عن تناقضات أحد المؤلفين، فوجدته يذكر أن هذا المؤلف تناقض بمائة أو ألف، أو بأكثر من ذلك من التناقضات العلمية، فقلت في نفسي: لا بأس! من حق الإنسان أن ينتقد غيره، فوجدت أنه يعلق عقب كل موقفٍ يذكر فيه تناقضاً لهذا العالم أو المحدث، ويفرغ بعض ما في قلبه من الحقد، فأنا أقبل منك -مثلاً- أن تقول: إن فلاناً تناقض، فصحح الحديث في موضع وضعفه في موضعٍ آخر، أو حسنه في موضع وحكم عليه بأنه موضوع في مكانٍ ثانٍ، أقبل منك ذلك؛ لأنك يمكن أن تثبته لي بالأرقام والصفحات، لكن لماذا تعلق على هذا بعد كل مرة، بأن هذا دليل على جهله، وهذا دليل على عدم فقهه، وهذا دليل على عدم معرفته باللغة، وهذا دليلٌ على أنه يُخدم في هذه الأعمال، لماذا تنفث أحقادك من خلال هذه الأشياء العلمية؟ ولماذا لم تجعل عملك علمياً محضاً حيادياً بعيداً عن العواطف؟ ودع القراء هم الذين يحكمون ويقولون الكلام الذي تريد، أو يقولون ضده ويلتمسون العذر لهذا الإنسان، ففرقٌ بين من ينتقد نقداً علمياً موضوعياً، وبين من نيته وقصده إسقاط هذا العلم، أو هذا الشيخ، أو هذا الداعية، أو هذا الإمام. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 23 الاختلاف لا يعكر الأخوة وروابط الولاء فأمامنا القرآن الكريم، الذي يُجمع المسلمون على أنه نصٌ قطعي الثبوت، ومن شك أو تردد في حرف منه كفر، وأمامنا السنة النبوية الصحيحة، وهي كثيرةٌ جداً وتغطي مساحةً واسعة من أعمال الحياة العلمية والدعوية والجهادية والسياسية وغيرها، وأمامنا إجماع علماء الأمة، الأمة التي عصمها الله أن تجتمع على ضلالة، فهذه الأصول الثلاثة تشكل المنهج الكلي الذي يجب أن نتفق عليه، ولا نقبل له خرقاً بحالٍ من الأحوال، ولا يعني هذا أن ما سوى ذلك من حق أي إنسان أن يتكلم فيه، أو يخرج عنه، وأن الناس فيما دون ذلك سواء؛ لكن يعني أنه لا داعي للتفرقة والتنازع والحرب، وأن نقيم راية الولاء والبراء والحب والبغض، على مسائل ليس فيها نصٌ ولا إجماع، وإنما هي آراءٌ واجتهادات، هي صوابٌ يحتمل الخطأ أو هي خطأٌ يحتمل الصواب. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 24 العناية بالمطالب الشرعية ولا بد من العناية بالمطالب الشرعية المتمثلة في المعروف الذي أمر الله به ورسوله، وفي المنكر الذي نهى الله عنه ورسوله، بماذا أمر القرآن؟ أمر بالبر، والتقوى، والإحسان، والإسلام، والإيمان، والعلم، والصلاح، والخير، والعمل الصالح، والعلم النافع، والعبادة، وصلة الرحم، والإقساط، وكل هذه الأمور من جلائل الأعمال التي ينبغي أن نوجه نفوسنا وغيرنا من المدعوين إليها، ومثل ذلك الحديث النبوي، وعن ماذا نهى القرآن؟ نهى عن الكفر والنفاق والشرك والعدوان والقطيعة، وغير ذلك من المفاسد التي ينبغي أن نشغل أنفسنا وغيرنا بتعلمها، والنهي عنها ومحاربتها والتحذير منها، ولو تأملنا كم تأخذ هذه الأشياء من وقت الدعاة، لوجدنا أنها لا تأخذ إلا القليل، أما الكثير من الوقت -خاصةً حينما نجتمع- فإننا نصرفه في أمورٍ لا نُسأل عنها يوم القيامة، فلو أننا أقبلنا على تعلم دين الله تعالى أصولاً وفروعاً، عقائداً وأحكاماً، وتعلم العبادة وتطبيقها، وتعلم الأخلاق الفاضلة، من صلة الرحم، والإحسان للجيران، والزملاء، والأقربين والأباعد، وغير ذلك، والدعوة إلى الله تعالى، وأن نصل إلى كل طبقات المجتمع، فنستطيع أن نصل إلى كل الشباب، ونصل إلى التجار، ونصل إلى المرأة، ونصل إلى الأطفال، ونصل إلى جميع الطبقات، ونخاطبها بالدعوة ونؤثر فيها، وأقل ذلك أن نكسب قلوبها وولاءها لدين الله -تعالى- ودعوته؛ لفعلنا خيراً كثيراً، ولو أننا أقبلنا على القراءة والانتفاع ومعرفة ما يجري، والجهاد في سبيل الله -تعالى- ومتابعة أخبار الجهاد، ومناصرة المجاهدين في كل مكان، وأقبلنا على الخطابة، وأقبلنا على التدريس؛ لوجدنا من جراء ذلك خيراً كثيراً، ولم يبق لدينا وقت نصرفه في قيل وقال. إن الفراغ من أهم الأسباب التي تجعلنا -أحياناً- ننصرف تلقائياً لتلك الأقوال التي لا نخرج منها بطائل، وأيُّ ثمرةٍ يجنيها شابٌ وهو قد قضى عمره من سن السادسة عشرة إلى الثاني والعشرين، لا يحسن إلا الكلام في فلانٍ وعلان، مع أنه لا يزال غض الإهاب طرياً، لم يملك ناصية العلم والمعرفة، ولا عنده معرفةُ بالأصول، ولا غير ذلك، لأنه شُغل عنه بهذه الأقوال، وشغل ببنيات الطريق: فهذا الحق ليس به خفاءُ فدعني من بنيات الطريق الجزء: 132 ¦ الصفحة: 25 لا تجعل من الأشخاص أو الجماعات أوالمصطلحات، منطلقاً للحديث والدعوة فليذهب الأشخاص أياً كانوا، ولتذهب الرايات واللافتات والأسماء، وليبق دين الله وشريعته، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فالأشخاص والجماعات والأعمال والكتب؛ ما هي إلا وسائل لنصرة دين الله عز وجل، فلماذا نختلف نحن حول فلان وفلان، مع أننا نتفق جميعاً على أصل الشريعة والدين والسنة؟ ولماذا نختلف على المصطلح الفلاني، مع أننا قد نتفق على مضمون هذا المصطلح أحياناً؟ ولماذا نختلف حول هذه الجماعة أو تلك، مع أننا متفقون على أمر الدعوة إلى الله تعالى؟ قال لي قائل يوماً من الأيام: فلانٌ يتكلم فيك، فقلت له: ماذا يكون إذا تكلم فلانٌ في؟ أنا أعلم أن محبتي ليست من الضروريات، ولا من الأمور التي أدعو الناس إليها، فإنسان اجتهد وتأول فكرهني لأمر رآه عليَّ، قد لا يضيره ذلك، وقد يستطيع هذا الإنسان أن يقوم بعملٍ للدين عظيم وكبير، يرفعه الله تعالى به عند الأولين والآخرين، حتى لو كان يسيء الظن بي وبغيري من الدعاة، أو طلبة العلم، وقد يكون هذا الإنسان صادقاً ديِّناً غيوراً صالحاً، فيجعله الله تعالى يوم القيامة من أهل الفردوس الأعلى حتى لو كان يسيء الظن بي أو بفلان، وسوء الظن بي إن كان صواباً فهو عمل مشكور، وإن كان خطأً فربما يكون من الاجتهاد أو الخطأ المغفور، وأنا أسامحه عن ذلك، وليس لدي استعداد ولا أوافق على أن أجعل من شخصي -مثلاً- أو شخص زيدٍ من الناس، معركة تثور من أجل فلان أو علان، ليس لدي استعداد أن أسمع ماذا قال، ولا أن أرد على ما قال! فقال لي هذا المتحدث: ولكن هناك من الناس من اغتروا به، قلت له: كم عدد الذين اغتروا بهذا المتحدث؟ قال: كثير ربما خمسين أو مائة قلت: طيب هذا الاغترار أهو أخطر، أم اغترار الذين اغتروا بـ الخميني مثلاً يوم رفع عقيرته في الدعوة إلى مذهبه وطريقته؟ قال: لا، بل الاغترار بـ الخميني أعظم وأصعب، قلت: الذين اغتروا بـ الخميني أكثر أم الذين اغتروا بكلام هذا الإنسان، قال: لا، بل الذين اغتروا بذاك الداعية الرافضي أكثر عدداً وعدة. قلت له: لقد عجزنا عن دفع اغترار الكثيرين من الناس بأهل الكفر أحياناً، فهناك من اغتروا بالنصارى واليهود، وعجزنا عن دفع اغترار الكثيرين من الناس بأهل البدعة الظاهرة المعلنة، وعجزنا عن دفع اغترار الكثيرين من الناس بالمنافقين الذين يتسترون بالإسلام، فلماذا نركز جهدنا وهمنا في دفع اغترار خمسين أو مائة بشخص، وهو اغترار لا يضر إن شاء الله تعالى في دنيا ولا دين؟ فلماذا تريد أن تثير معركةً حول شخصي، أو شخصِ فلانٍ أو علان؟ نحن نرى أن دين الله تعالى أعظم من الأشخاص وأعظم من الجماعات، وينبغي أن يكون الأشخاص والجماعات كلهم فداءً لدين الله تعالى. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 26 الاعتراف بإنجازات الآخرين والإشادة بها الكثيرون قد يعترفون بالإنجازات على سبيل التمهيد لما بعدها، فمثلاً دعني أقول لك: إنني حين آتي لأنتقدك، أقول: صحيح أنك طالب علم وأنك عالم، ومن الواضح أنني حين أقول هذا الكلام، أمهد به لأقول لك: ولكن ثم أبدأ بعد ذلك وأقلب عليك أو أقلب لك ظهر المجن، فأصبح واضحاً أن تلك المقدمة المختصرة التي اعترفت لك فيها ببعض الأشياء، لم تكن أكثر من مدخل لأقول لك بعد ذلك ولكن، ثم أنثني عليك فلا أدع لك حسنةً إلا أتيت عليها، مثل إنسان يقول: صحيح أنَّ فلاناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيم الصلاة، ولكن شهادته أن لا إله إلا الله، لا تتعدى أنه يؤمن بربوبية الله ولا يؤمن بألوهيته، وشهادته أن محمداً رسول الله لم يتبعها عملٌ ولا تطبيق، وإقامته للصلاة هي من باب الرياء والنفاق، فلو كان ما يقوله هذا الإنسان عن ذاك صحيحاً لما كان لشهادته معنى، لأن شهادة أن لا إله إلا الله لا تعني الاعتراف بربوبية الله -تعالى- فحسب، فهذا الأمر يعترف به حتى المشركون، وإنما تعني الاعتراف بالربوبية أولاً، وتعني الاعتراف بالألوهية ثانياً، وأن الله وحده هو المستحق للعبادة دون غيره، ثم تعني -أيضاً- الاعتراف لله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله. فينبغي أن أعترف بإنجازات الآخرين، أفراداً كانوا أو جماعات أو أمماً أو طوائف، أعترف بإنجازاتهم أصالةً، وأتحدث عنها بشيءٍ من التفصيل والإفاضة والصدق والموضوعية، ويكون القصد من هذا الحديث من باب معرفة الخير لأهله، ومن باب إزالة الشكوك والظنون والأوهام، ومن باب تأليف القلوب، ومن باب تربية النفوس على معرفة الحق والثناء على أهله، ومن باب العرفان بفضائل أهل الفضائل، وهذا من الدين ومن المروءة. فلا بد من الاعتراف بإنجازات فلان، وإنجازات الفئة أو الطائفة الفلانية. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 27 العناية بالجوانب الإيجابية لا بالجوانب السلبية إن كثرة التركيز على النقائص والعيوب، حتى لو كانت النقائص والعيوب موجودة فعلاً، ليس من المروءة في شيء، فكونك دائماً تنظر نظرة التنقص، وتنظر بالعين التي تبحث عن العيوب، هذه ليست من المروءة في شيء. فمثلاً: كوني دائماً أركز على جانب أخطاء الناس، فكل درس أو محاضرة أو مجلس لي؛ عنايتي فيه أن الناس أخطأوا في كذا وكذا، هذا لا ينبغي فإن من الممكن أن أذكر أخطاء الناس، لكن أذكرها ضمن غيرها، فمثلاً إذا تكلمت عن أمر من أمور الشرع، أصَّلْتُه وذكرت ما فيه من النصوص، وفضائله وأحكامه، والطريقة الشرعية فيه، وأثنيت عن بعض الإيجابيات الموجودة عند الناس، ثم بعد ذلك أذكر بعض العيوب والأخطاء الموجودة في العمل أو في التطبيق، لأن هذا أدعى للقبول، وأحرى بالتأثير. مثال ثانٍ: انتقاد الآخرين، وأن يكون دأبي وديدني في مجالسي وأسفاري ودروسي وقيامي وجلوسي، ومحاضراتي هو نقد فلان وعلان، وهذا أخطأ، وهذا زاد وهذا نقص، وهذا قال وهذا لم يقل، وهذا ارتفع وهذا انخفض، حتى لو فرض أنه بالحق؛ لما كان هذا سائغاً، فليس من الأسلوب أن أربِّي لى معرفة أهل البدع، ومعرفة البدع والرد عليها، بل الأسلوب أن أربي الناس على السنة، ومعرفة السنة وأهل السنة وتعظيمها، أما الكلام عن البدع وأهلها فيأتي تبعاً، ويشكل جزءاً أو محدداً من جهدي وعملي ونشاطي. مثالٌ ثالث: النصيحة. كونك دائماً تركز على النصيحة، فكلما لقيتني قدمت لي نصيحة، أنا أشكرك على نصيحتك، وأدعو لك بظهر الغيب أنك نصحتني، ولكن هل تعتقد أن كل النفوس تتحمل كثرة النصح؟ ثم ما هو السر في كون النصح دائماً وأبداً يأتي منك دون غيرك، وأنك لا تجيد إلا أسلوب الملاحظة؟ هي نصيحة. ولكنها على شكل ملاحظة، فكثرة الملاحظات قد يوجد من أولي العزم وأولي الإيمان والصبر من يتحملها ويفرح بها ولكن ليس كل الناس من هذا القبيل، ولا كل الناس بهذا المعيار. وعلى كل حال ربما يلاحظ أن كونك دائماً وأبداً تقدم الملاحظات بعد الملاحظات، فأنت اليوم تقدم لي ملاحظة على محاضرتي، وغداً تقدم لي ملاحظة على شخصيتي، وبعد غدٍ تقدم لي ملاحظة على أسرتي، وبعده تقدم لي ملاحظة على أسلوبي وهكذا، هذا دليل على أن عندك قوة لملاحظة العيوب، وأنك قد صرفت وركزت نظرك إليها، فأنا أدعوك على أن تنظر بعينين، عينٌ تدرك المحاسن وعينٌ تلاحظ العيوب، حتى يكون لديك اعتدال وتوسط في ذلك. وأنت لو لاحظت منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة والأسوة؛ لوجدت أنه تكلم في المناقب كثيراً، فأثنى على قبائل وبلاد وأمم وأشخاص كثيرين جداً، حتى إن ثناءه عليه الصلاة والسلام على هؤلاء، يجمع في مجلدات، {أبو بكر وعمر هما السمع والبصر} {أبو قتادة خير فرساننا} و {سلمة بن الأكوع خير رَجَالنا} و {عثمان تستحي منه الملائكة} و {علي يحبه الله ورسوله ويحب الله ورسوله} وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن سلام. وأثنى صلى الله عليه وسلم على قبائل قريش، وعلى الأنصار، وعلى المهاجرين، حتى على أهل فارس حيث قال: {لو كان الإيمان بالثريا، لناله رجال من هؤلاء} فتجد ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً، لأن هذا الثناء أسلوبٌ تربويٌ مؤثرٌ وقوي، يثير كوامن الخير في نفس الإنسان، وفي نفس المجموعة، وفي نفس القبيلة، إذا كان ثناءً معتدلاً، ليس فيه مجاملة ولا تزلف ولا مبالغة ولا خروج على حدود الاعتدال. أما المثالب فإنك تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان يقتصد في ذكرها، وهي أحاديث ليست بالكثيرة، مثلاً: استأذن عليه رجل فقال: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة، ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: إن من شر الناس، من ودعه الناس اتقاء فحشه} فذكر هذا الرجل بغير المناقب، بل ببعض المثالب الموجودة فيه، إلى أشخاص آخرين، ولم يكن هذا هو الأصل والقاعدة، وإنما كان هذا استثناءً في سيرته صلى الله عليه وسلم. فالنظر للجوانب المظلمة دائماً، في أعمال الناس، في الأشخاص، في الأعمال الخيرية، الأعمال الدعوية، الأعمال الجهادية، الجماعات، الكتب، كل هذا ليس من المروءة في شيء. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 28 تجنب الاستبداد في القول والعمل والعلم والدعوة إن الاستبداد بالرأي، والفردية والاستئثار بالقرار، يثير مشاعر الآخرين، ويحرك في نفوسهم رغبة البحث عن خطأٍ موجود عندك أو زللْ، أما إذا كانوا شركاء معك في الرأي وأهل شورى، فإن المحذور يزول حينئذ، فإذا مكنك الله تعالى من عمل، أو مكنك من دعوة، أو جعل بيدك مقاليد مؤسسةٍ من المؤسسات، أو فوض إليك بقدرته ورحمته خيراً من الخير، فلتكن هذه الأشياء التي تملكها أنت تحت تصرف الجميع، وليشعر الكل بأن هذه مكسب لهم جميعاً، وليست مكسباً لشخص، ولا لجهة معينة أو طائفة خاصة، فهذا العمل الذي أملكه هو ملك لكم جميعاً، فشاركوا فيه واستفيدوا منه، وأنا لا أفرض عليكم فيه شيئاً أبداً، فنحن شركاء في هذه الدعوة وفي هذا العمل. وإذا كنا نرى أن الاستبداد السياسي الذي يعصف بالعالم الإسلامي؛ من أهم أسباب الانشطار والتمزق في المجتمعات، فإننا نعلم أن الاستبداد الدعوي هو من أهم أسباب التمزق داخل الصف الإسلامي. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 29 محبة الخير للآخرين ويكون ذلك بالحرص على كمالهم وهدايتهم، والحرص على أن يقبلوا مني النصيحة التي أقدمها لهم، فأنا لا أنطلق من منطلق التنقص لهم، ولا من منطلق الحطَّ من قدرهم، ولا أقصد بما أقول إسقاط فلان أو علان، أو إزالته عن مكانته، بل أريد أن أؤيده وأساعده وأنصره وأقف معه، وأفرح لفرحه وأحزن لحزنه، ومع ذلك إذا قدمت له النصيحة فهي النصيحة التي أتوج بها كماله، ولهذا قال الله تعالى في الآية السابقة: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران:159] فالعفو عن أخطائهم والاستغفار لهم هو طلب الكمال لهم، والحرص على بلوغهم هذه الدرجات العليا. إن الحريص على انتشار الخير الذي يملكه هو ويريد أن يوصله إلى الناس، لا يستنفر مشاعر الآخرين ليردوا ما عنده إن كان عاقلاً، بل يحرص أن يتسلل إلى قلوبهم بأفضل الوسائل، وما أريد بيانه أن أقول لك: ليس شرطاً أن أُشعر زيداً من الناس في البداية، أنك يا زيد قد أخطأت وتعديت، وقلت وفعلت، ويجب عليك، ويجب عليك؛ لأن هذا الأسلوب التعليمي المباشر قد لا يقبله الكثيرون، ومن الصعب عليهم أن يعترفوا بأنهم أخطئوا، وقد لا يكون الخطأ خطأً محضاً، وقد يكون بتأويل، أو باجتهاد، أو بعضه صواباً، وقد يكون صواباً وأنت المخطئ لأنك لست معصوماً، ولست الناطق الرسمي باسم القرآن والسنة، فانتبه لهذا. وبناءً عليه لا يلزم أن تشعره في البداية أنه أخطأ، بل أعرض عليه بالأسلوب الهين اللين الناصح، الذي لا يشعر معه بأي لونٍ تمارسه أنت، من ألوان التسلط أو الأستاذية أو الاستعلاء أو الاتهام، بمعنى أنني حين أدعوك أحرص على ألاَّ أثير مشاعر الرفض في قلبك، بل أحرص على أن يتسلل الكلام إلى قلبك، دون شعور منك بأنني أعطيتك شيئاً جديداً، لماذا؟ لأنني لست أهدف إلى أن تشكرني وتذكرني، ولا أهدف إلى أن أقول: أنا أعرف وأنت لا تعرف، وأنا على صوابٍ وأنت على خطأ، هدفي أن يوجد هذا الخير والحق، ولهذا كان الإمام المتجرد الشافعي رضي الله عنه يقول: والله لوددت أن هذا الخلق تعلموا العلم وأنه لم ينسب إليَّ منه حرف. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 30 حسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] فكن من الذين صبروا، ومن أهل الحظ العظيم بحسن الخلق والدفع بالتي هي أحسن. إن الكثيرين من أهل الخصومات والعداوات والمواقف، ربما انطلقوا في البداية من تصرفٍ قاسٍ، أو كلمة شديدة من فلانٍ أو علان، فكرهوه وأبغضوه، ثم بدأ هذا البغض وهذه الكراهية تتحول أو تتفلسف في مواقف فكرية، ومخالفاتٍ منهجية وغير ذلك، فبعضهم إذا رآك فهششت له وبششت وتلطفت واستخدمت معه الواجب الشرعي في حسن الخلق، استخرجت ما في قلبه، وقلمت أظفار ضغنه كما قال الشاعر: وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه بحلمي عنه وهو ليس له حلم فلا بد أن تطيع الله تعالى في هؤلاء، قال الله -تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أنقذهم الله تعالى به من النار، وهداهم به من الضلال، وبصرهم به من العمى، وجمعهم به بعد الفرقة، ومع ذلك قال: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] أي: قاسي الخُلق، سيء المعاملة؛ لانفضوا من حولك وتركوك، فما بالك بغيره من الناس، حتى ولو كانوا دعاةً، ومصلحين، وعلماء، وطلبة علم، وقادة وغير ذلك، لو كانوا أصحاب غِلظة في المعاملة، وقسوة في الأقوال والأفعال؛ لانفض الناس من حولهم، فلنعمل على جمع كلمة المسلمين وتأليف قلوبهم، بحسن الخلق والتلطف، والدفع بالتي هي أحسن، ومن عصى الله تعالى فيك فإياك أن تعصي الله تعالى فيه، بل قل: لا أجد فيمن عصى الله تعالى فيَّ إلا أن أطيع الله تعالى فيه، فإن أساء الظن بي أحسنت به الظن، وإن جهل عليَّ حلمت عليه، وإن ظلمني عدلت معه، وإن هجرني سلمت عليه، وابتسمت في وجهه: وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختلفٌ جدا فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا ولا أحمل الحقد القديم عليهمُ وليس زعيم القوم من يحمل الحقدا الجزء: 132 ¦ الصفحة: 31 الحرص على تأليف القلوب ندعو والخلاف قائم شئنا أم أبينا، وستقوم الساعة والمسلمون مختلفون فيما بينهم في مسائل تقل أو تكثر، وإذا كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اختلفوا في مسائل فقهية، واختلفوا في مسائل اجتهادية، واختلفوا في مسائل دعوية وجهادية؛ فغيرهم أولى وأحرى بالاختلاف، وإذا كان الخلاف قائماً ولا بد، فليكن تأليف القلوب هدفاً يتنازل الإنسان من أجله عن بعض المصالح المؤكدة، لأنه تنازل من أجل ما هو أعظم وآكد من هذه المصالح. ألم ترَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلى وتنازل عن هدف كان يتمناه ويحبه، وهو بناء الكعبة على قواعد إبراهيم، كما في حديث عائشة المتفق عليه. تنازل عن هذا من أجل تأليف قلوب الناس، وعلَّل ترك هذا بقوله: {لولا أن قومك -أي: عائشة - حديثوا عهدٍ بجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم} . ألم ترَ أن النبي صلى الله عليه وسلم، علل عدم قتل المنافقين الموجودين في الصف المسلم، والذين كان لهم دور خطير في إشاعة الفتنة بين المسلمين، اعتذر عن قتلهم بقوله -كما في حديث جابر المتفق عليه-: {لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} فعمل صلى الله عليه وسلم على تأليف القلوب وجمعها، ولو أدى ذلك إلى التنازل عن بعض الأشياء التي نعتقد أنها حق وصواب وخير، وأن فيها مصلحة، فإن مصلحة جمع الكلمة وتأليف القلوب وتوحيد الصف؛ من أعظم المصالح التي أمر الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم. إننا -أحياناً ومن حيث لا نشعر- نلقي حطباً على نار الاختلاف والفرقة، وكأن العمل على وحدة المسلمين ذنب لا ينبغي أن نطالب به ولا أن ندعو إليه؛ أو على الأقل كأن وحدة المسلمين ليست مطلباً شرعياً، ينبغي أن يكون أمراً يتحرك في قلوبنا، ويسري في دمائنا وعروقنا. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 32 الإقبال على النفس ثانياً: أني لا أخاطبكم في أشخاصكم، ولكني أخاطب كل شابٍ مؤمن، وكل داعية، وكل غيور على دين الله، وكل حريصٍ على نصرة هذا الدين قرب أم بعد. بتكميل النفس بمعالي الأمور، علماً وعملاً ودعوةً وعبادة، فإن هذه الأشياء فيها شغل أي شغلٌ، الإقبال على النفس باستخدام العقل الذي أعطاك الله تعالى، وألا تعير عقلك غيرك، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] لا تجعل عقلك تبعاً لقولي أو رأيي أو شخصي أو قناعتي، ولا لفلانٍ أو علان، بل هذا العقل الجوهرة النفيسة التي أعطاك الله، استخدمها واعرض ما أقوله لك أنا أو غيري على هذا العقل؛ لتعرف بنور العقل المنور بالشرع -أيضًا- تعرف الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، والنافع من الضار. والإقبال على النفس -أيضًا- بتنقصها وازدرائها وعتابها. لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل فإن الكثيرين ينطلقون في انتقاص غيرهم ونقد غيرهم؛ من منطلق الإحساس بالكمال الموهوم، أو الإحساس بالفوقية اللاشعورية، فبذلك يزدري غيره، فلو أقبل على نفسه، ورأى ما فيها من النقائص والجهالات والعيوب والظلم والأمراض الخفية؛ لرأى أن له شغلاً بنفسه عن غيره، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس: أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان الجزء: 132 ¦ الصفحة: 33 الأسئلة . الجزء: 132 ¦ الصفحة: 34 الصحوة خطرٌ على أمريكا السؤال سمعنا مقولةً قبل فترة من كاتبة أمريكية تقول: إن الخطر على أمريكا يأتي من فلان، ثم ذكرت أحد الدعاة، فما هو الخطر الذي يملكه فلان ضد أمريكا؟ الجواب ما أدري، أشك أن مثل هذا الكلام يقال، لكن أمريكا قد تعتبر خطراً عليها من الصحوة، ومن رموز الصحوة بشكلٍ عام، ولا شك أن أمريكا تخاف من الإسلام، وهناك كتاب "الفرصة السانحة" خصص فصلاً للخطر الإسلامي، وقد قرأت هذا الكتاب وقرأت ملخصاً له، وهو يؤكد على الخطر الإسلامي، وبعده ظهر كتاب آخر أخطر منه اسمه "الترقب العظيم" خصص فيه فصلاً عنوانه: مارك محمد، بدلاً من ماركس، ونقول محمد صلى الله عليه وسلم. فهو يقول: إن الإسلام هو الخطر البديل بعد سقوط الشيوعية، وهناك أخبار عن أن أمريكا بل وروسيا، وجهوا رءوسهم النووية وأسلحتهم صوب بلاد في العالم الإسلامي، وهذا يؤكد أنهم يحسون بجدية الخطر، وأنا أتعجب وأتساءل ماذا تملك بلاد العالم الإسلامي، حتى يقيم الغرب لها هذا الوزن الكبير؟ وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 35 المساهمة في البنوك الربوية السؤال على رغم انتشار الفتاوى المبينة لحرمة المساهمة في البنوك الربوية، إلا أن الكثيرين من الناس لم يمتنعوا عن ذلك لشبهٍ باطلة يحتجون بها، فحبذا لو نبهت على ذلك؟ الجواب أما المشاركة في البنوك الربوية فلا يجوز أبداً، والربح الذي يكسب من ورائها هو سحت يأكله صاحبه سحتاً، قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275] فالبنوك تتعامل عن طريق الإيداع بفوائد، فتعطيهم ألفاً ويعطونك ألفأً ومائة مثلاً، أو تأخذ منهم سلفةً فتردها لهم بزيادة. وهذا هو عين الربا، وقد جاء فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يزيد على سبعة عشر حديثاً، فيجب على كل مؤمنٍ أن لا يُدْخل إلى جيبه درهماً واحداً من حرام، ولا إلى جوفه، أو إلى جوف ولده أو زوجه، وليتق الله تعالى، وقليل من المال الحلال يبارك الله تعالى فيه، خيرٌ من كثيرٍ لا يبارك الله تعالى فيه. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 36 السودان وتطبيقهم للشريعة السؤال ما هي حقيقة السودان؟ وهل هم حاكمون بالشرع؟ الجواب في السودان حكومةٌ تسعى إلى تطبيق الشريعة الإسلامية بجدية إن شاء الله تعالى، وقد كتب الله لها مجموعة من الانتصارات، أولها: الانتصار على النصارى في الجنوب وقد أبهج ذلك كل مسلم غيور. الثاني: انتصارها على الفقر، وعلى البنك الدولي الذي يتمنع ويبتز المسلمين، حيث حققوا من معدلات التقدم الاقتصادي، والاستغناء والاكتفاء، حتى أصبحت الدول العربية حتى مصر، وهذه الدولة -أعني دولتنا- تستقدم منهم، وتتعامل معهم بشراء بعض البضائع كالذرة أو السكر أو غيرها، مع أن هذا لم يكن في الماضي، بل إن السودان أرسلت إلى أفغانستان وإلى البوسنة والهرسك ألواناً من المساعدات، وهذا التقدم الاقتصادي أمرٌ عجيب. والانتصار الثالث: هو في القضاء على بعض المخالفات والمنكرات، وإقامة ما يسمى بالشرطة الشعبية التي تقوم على إزالة المنكر، وهي أشبه ما تكون بهيآت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لكن يبقى أن قيام كيان إسلامي متكامل وناضجٌ أمر يتطلب بعض الوقت، ويتطلب مزيداً من الجهود، فكلامنا لا يعني تزكية مطلقة لكل ما يجري في السودان، فإن النقص موجود، وهناك ملاحظاتٌ تحتاج إلى استكمال، ملاحظات إعلامية، ملاحظات في التعامل مع الآخرين وملاحظات في غير ذلك. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 37 كتب الردود في الساحة السؤال تطرح في الساحة بعض الكتيبات والأشرطة، التي تحمل وجهة نظر معينة، مما يسوغ فيه الاجتهاد لبعض العلماء وطلاب العلم، وقد تكون أحياناً خاطئة، ألا ترى أن ردة الفعل القوية ضد تلك من أسباب الخلاف والفرقة؟ الجواب بلى أنا أرى أنه أصلاً لا داعي لردة الفعل، أرى أن مثل هذه الأشياء ينبغي أن ندعها ضربةً في الجدار، وليس في رأس فلانٍ أو علان، فما يضير أن شريطاً خرج ضد فلانٍ أو فلان، أو كتاباً أو غير ذلك، ولماذا نجعل هذا ميداناً للنقاش في مجالسنا وأحاديثنا؟ ونضخم هذا ونشتغل بالرد عليه وما أشبه ذلك. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 38 الغيبة وخطرها السؤال ما رأيك عما انتشر وعم البلاء به من الغيبة، خاصة وقد ألبست لباساً شرعياً؟ الجواب هذه من النصائح التي يجب أن نضيفها فالغيبة هي ذكرك أخاك بما يكره أحياناً نصور الغيبة على أنها ملاحظات، وأحياناً على أنها من الجرح والتعديل، وهل أنت أبو حاتم، أو ابن أبي حاتم وهل أنت أبو زرعة أو يحي بن معين أو أحمد أو البخاري أو النسائي حتى تجعل من نفسك إماماً في الجرح والتعديل، تتكلم في من هم أحسن منك أحياناً، أو أكبر منك سناً، أو أكثر منك علماً، أو أتقى لله، أو أقدم منك، أو على الأقل في نظرائك وأقرانك؟! الجزء: 132 ¦ الصفحة: 39 حضور الشيعة المسجد السؤال يحضر إلى هذا المسجد أحياناً بعض الشيعة لأداء الصلاة، لكن يلاحظ عليهم الآتي: عدم أداء الصلاة مع الإمام، قيامهم ببعض البدع والمخالفات في الشريعة؟ الجواب إما أن يلتزموا بالسنة التي أقيمت هذه المساجد عليها، وإما أن يمنعوا من ذلك. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 40 تفضيل الكفار على المسلمين السؤال ما حكم الذين يفضلون غير المسلمين على المسلمين، حين يقولون: حكمهم أحسن من حكم المسلمين؟ الجواب ينبغي أن ينظر ماذا يقصدون، فإن قصدوا تفضيل دين غير المسلمين على دين المسلمين، فلا شك أن هذا كفرٌ وردة، أما إن قصدوا تفضيل شيءٍ معين، فقد يكون مثلاً عمل هذا الإنسان أحسن من عمل هذا، أو قيامه بواجبه أحسن من قيامه بواجبه، أو خبرته أقوى من خبرته، أو حكمه أعدل من حكمه، ومع الأسف هذا قد يقع، والرسول صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {اذهبوا إلى الحبشة فإن بها ملكاً -أي: النجاشي - لا يُظلم عنده أحد} . الجزء: 132 ¦ الصفحة: 41 دعوة اللاجئين وحفظ مكانتهم السؤال توجيه الإخوان العاملين بمعسكر اللاجئين لتعاملهم مع الموجودين فيها، ماذا ترى في ذلك؟ الجواب الحقيقة أرى أن عليهم مسؤولية عظيمة وكبيرة جداًَ. أولاً: ينبغي أن ندرك أن هؤلاء مهما كانوا فهم قابلون لقدر من التأثير، فينبغي أن نبذل جهوداً مكثفة للتأثير عليهم، وعلى تفكيرهم وعقولهم وإدراكهم، وأن نتعامل معهم بإنسانية وحفظ لمكانتهم، وأن لا نهينهم أو نذلهم أو نحتقرهم، ومع ذلك أن نحرص على دعوتهم إلى الله تعالى ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. فإن منهم ولا شك إذا صدقنا في الدعوة، من سيقبل الدعوة ويكتب الله له الهداية، ويكفيك فخراً حديث: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمْر النعم} . ثانياً: منهم من قد لا يهتدي، ولكن أوجدت عنده -على الأقل- شكاً في النظريات والتصورات والمذاهب والمعتقدات الموجودة لديه، وهذا الشك قد يوجد -ولو بعد سنين- من يزيده حتى يتحول إلى نوعٍ من الهداية. ثالثاً: هب أنك لم تفلح في إيجاد شكٍ لديه، على الأقل أنك فتَّرتَ الحماس الموجود عنده لمذهبه. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 42 حكم وجود الخادمات الكافرات في الجزيرة العربية السؤال يقول: لا يجتمع في جزيرة العرب دينان، لماذا يوجد عندنا البوذي والهندوسي، ويستقدمون الخادمات البوذيات، وهم أناسٌ متدينون، نرجو التعليق؟ الجواب لا شك أن هذا من مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هو أيضاً -من وجه آخر- من مناصرة المشركين على المسلمين، لأنه ما من بلد ينتسب إليها هؤلاء إلا وفيها مسلمون مضطهدون، أو فقراء محتاجون، فأولى بك أن تستقدم مسلماً، أولاً: تزيده معرفةً وعلماً بدينه ليرجع داعية عارفاً بصيراً، وثانياً: تنفعه ببعض المال وتنصره على غير المسلمين. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 43 دور إيران في أفغانستان السؤال نرجو بيان أثر إيران في الوقت الحاضر على الجهاد الأفغاني؟ الجواب لإيران أثرٌ سلبي على الجهاد الأفغاني، ومحاولةٌ قوية للتدخل سواءً عن طريق حزب الوحدة، أو عن طريق دعم المليشيات، أو عن طريق تأجيج نار الخلاف بين المجاهدين الأفغان، وقد نقلت مصادر عدة أن هناك أسلحة كثيرة، بل هناك مجندون مما يسمى بالحرس الثوري الإيراني دخلوا إلى كابل. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 44 اللجنة الخماسية السؤال كثيرٌ من الشباب يسألون عن اللجنة الخماسية وأهدافها. الجواب اللجنة الخماسية مكونة من مجموعة من أهل العلم، على رأسهم سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز بن باز، ومهمة هذه اللجنة الخماسية، هي النظر في الدعاة وطلبة العلم والمشايخ، وذلك أن الدعاة وطلبة العلم والمشايخ كانوا يحالون في الماضي إلى بعض الجهات الأمنية وغيرها، فرأى بعض أهل العلم أن الأولى أن يكون العلماء وطلبة العلم هم الذين يناقشون مثل هذه القضايا باعتبار وجود خلفية مشتركة بين هذين الطرفين. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 45 أخبار الجهاد الأفغاني السؤال هذا يسأل عن أخبار الجهاد الأفغاني، وما يحدث من فرقة بين الفصائل والمجاهدين؟ الجواب نعم هناك فرقة بين فصائل المجاهدين، وبالذات بين الحكومة من جهة، ممثلة بالدرجة الأولى بالجمعية الإسلامية رباني وأحمد شاه مسعود، ومن طرف آخر الحزب الإسلامي حكمتيار، ولعل دور المليشيات واضحٌ جداً في تأجيج نار الخلاف، لأن هناك نوعٌ من التحالف بين المليشيات، وبين الجمعية الإسلامية، وهناك اختلافٌ في طريقة حل هذه المشكلة، فـ حكمتيار يرى أنه لا بد من حلها وحسمها بصورةٍ واضحة، بأن يخرجوا بالقوة إذا لم يخرجوا بالموافقة والطوع والرضا. أما الجمعية فترى أن هؤلاء غالبيتهم من الجهال، الذين يمكن تعليمهم والاستفادة منهم، ويمكن إبعاد بعضهم على المدى الطويل، دون أن نضطر إلى مواجهة صريحة ومباشرة معهم، والأمر لا شك يتطلب مزيداً من الجهد والتأمل والنظر والمدارسة. والمشكلة أنني أعتقد أنه لا يملك أحد من الطرفين حسم المعركة لصالحه، فلو وجدت المعركة بينهم -وأسأل الله أن لا يكون ذلك- فلا أعتقد أن الحكومة تستطيع أن تحسم الأمر ضد الحزب الإسلامي، ولا الحزب الإسلامي يستطيع أن يحسمه ضد الحكومة، بل ستكون حرب استنزافية قد يطول أمدها ولا يخرج منها بطائل. الجزء: 132 ¦ الصفحة: 46 لقاء مفتوح حول قضايا المرأة للمرأة دور كبير في المجتمع الإسلامي الذي ارتفعت فيه منزلتها، ونالت حقوقها، وينبغي للمرأة أن تكون على المستوى الذي أنيط بها في جانب الدعوة إلى الله. هذا هو حديث الشيخ حفظه الله في هذا اللقاء المفتوح. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 1 رفع مكانة المرأة في الإسلام إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إنما هذا الاجتماع لقاء مفتوح حول قضايا المرأة، وقد آثرت أن يكون عبارة عن حوار من خلال بعض الأسئلة التي تشعر المرأة بضرورة وأهمية وحاجة الحديث عنها؛ انطلاقاً من واقعها ومشكلاتها وما تواجهه في حياتها العملية أو الدعوية. ليس ذلك شحاً في الموضوعات فإن الموضوعات التي تحتاج المرأة إلى الحديث عنها كثيرة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 2 ضعف المرأة هو مكمن قوتها وخصائصها ورث أصحابه عنه هذا الأمر، وخلعوا ما كان في الجاهلية من احتقار المرأة أو ازدرائها أو الحط من قدرها، ورفعوا مكانتها، ورأوا أنه من الطرق الموصلة إلى رضوان الله تعالى والجنة العناية بالمرأة والاهتمام بها وتكريمها، وكيف لا وهم يسمعون النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة} فيعتبر أن هذا الضعف الفطري في المرأة مدعاة إلى تقديرها واحترامها وحفظها وصيانتها، وهو الضعف الذي جعلها أنثى تسد هذه الخانة الموجودة في المجتمع، فهو ليس ضعفاً تعاب به أو تؤاخذ أو تنتقص؛ بل على النقيض لو حاولت المرأة أن تخرج من إطار أنوثتها لتترجل أو تتشبه بالرجال لفقدت أخص خصائصها، إذ قوة المرأة هي في ضعفها، وكما قال الشاعر العربي وهو يخاطب المرأة: أتجمع ضعفاً واقتداراً على الهوى أليس غريباً ضعفها واقتدارها فهذا الجانب هو الجانب الذي تميزت به المرأة عن الرجل وبه أصبحت المرأة قادرة على إدارة شئون البيت، وعلى تربية الأطفال، وعلى ملء قلب الرجل، وعلى القيام بمهماتها الحقيقية داخل المجتمع المسلم. المقصود من هذا الاستطراد الإشارة إلى أن الإسلام رفع مكانة المرأة، ومن رفعه لمكانتها أنه لم يجعل للمرأة خطاباً خاصاً يخاطبها به دون الرجل، كما لم يجعل للرجل خطاباً خاصاً يخاطبه به دون المرأة؛ بل الأصل أن الخطاب واحد في الشرع للرجل والمرأة، وقليل جداً من الحالات خاطب الله فيها الرجل دون المرأة، أو خاطب المرأة دون الرجل بأحكام تخص أحدهما. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 3 خطاب التكليف عام في المرأة والرجل وبصورة عامة فإنني أعتقد أنه ليس ضرورياً أن يكون الحديث إلى المرأة -دائماً- حديثاً خاصاً موجهاً إليها هي بالذات، فإن هذا الفصل بين المرأة والرجل? -الفصل الكامل- ليس له مكان، بمعنى أن الأصل في جميع التكاليف أنها موجهة إلى الرجل والمرأة على حد سواء! وأن الأنشطة الموجودة في المجتمع المسلم تشارك فيها المرأة كما يشارك فيها الرجل مع الالتزام بالضوابط الشرعية الواردة! وقليل جدّاً من الآيات والأحاديث التي نزلت تخاطب المرأة بالذات، أو تخاطب المرأة والرجل مع التنصيص على كل منهما، فأنتِ -مثلاً- قد تجدين في القرآن قول الله عز وجل: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] ذكر الرجال وذكر النساء أيضاً، أو مثل قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] ثم في الآية التي تليها: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] . لكن هذا ليس بمطرد؛ بل الغالب أن النصوص في القرآن والسنة تأتي عامة ويخاطب فيها الجميع، دون حاجة إلى تخصيص الرجال دون النساء أو تخصيص النساء دون الرجال، وعلى سبيل المثال فقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: {طلب العلم فريضة على كل مسلم} هذا الحديث اختلف العلماء فيه والراجح أنه حديث حسن؛ لكن بعضهم جاء بزيادة لفظ في الحديث وهي: {طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة} هذه الزيادة ليست بصحيحة ولا يحتاج إليها أيضاً، لأن قولنا على كل مسلم ليس المقصود به الرجل بالذات، بل المقصود به كل من اتصف بصفة الإسلام سواء أكان رجلاً أم امرأة، عربياً أم أعجمياً على حد سواء، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي وغيره وسنده لا بأس به أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إنما النساء شقائق الرجال} الله تعالى خلق آدم وخلق حواء قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] . فالمرأة خلقت من الرجل ومع الرجل، وهي شريكته في الحياة ورفيقة دربه وسفره، ولذلك لا يكون ثَمَّ حاجة في النص الشرعي إلى أن يكون هناك نص على الرجل، وبعد ذلك نص على المرأة كما هي الحال بالنسبة لبعض القوانين الوضعية، لا؛ لأن الله تعالى يخاطب المسلمين جميعاً بخطاب واحد، إلا إذا كان هناك حكم يخص الرجال بينه الله تعالى، أو هناك حكم يخص النساء بينه الله تعالى، وإذا لم يوجد هذا، ولا ذاك فالأصل أن الحكم عام شامل للجميع? ولا يحتاج الأمر إلى تخصيص فئة دون أخرى أو جنس دون آخر، وهذا من كمال عناية الإسلام بالمرأة ورفعه لمقامها جعل الخطاب لها مع الرجل على قدم المساواة كما هو الأصل. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 4 النقلة التي حققها الإسلام للمرأة ولا يدرك عظمة النقلة التي حققها الإسلام للمرأة إلا من تصور وضع المرأة في المجتمع العربي الذي بعث فيه النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن بلغته، كان ذلك المجتمع يبخس المرأة كل حقوقها أو أكثرها، وبما في ذلك حق الحرية في اختيار الزوج، وحق الميراث، وحقوق كثيرة جداً عادية فضلاً عن الحقوق الأخرى، كان المجتمع العربي في الجاهلية يحرم المرأة منها، وكانت مناداة الإسلام بحقوق المرأة في ذلك المجتمع من الأسباب التي تجعل العربي -أحياناً- يتوقف عن قبوله؛ لأنه أتى بأشياء مخالفة لما ألفه، ومع ذلك صدع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الدعوة على رغم ما فيها من مخالفة لمألوف الناس ومعهودهم وموروثهم؛ حتى أثبت الإسلام للمرأة تلك المكانة الرفيعة العظيمة. وكم يدرك الإنسان العجب حينما يقارن مثلا بين المرأة في المجتمع الجاهلي حين كان الرجل يخجل أن يحمل بنته الصغيرة على كتفه أمام الرجال، ويرى أن هذا عيب ينقص من قدره، أو يحط من رجولته وإنسانيته، فكبرياء أبي جهل أو أبي لهب لا تطيق أن يحمل أنثى على كتفه أو يضعها في حجره في مجتمع الرجال؛ بل كان يصل الحال ببعضهم إلى أن يئدها وهي حية خوف العار، أو خوف الحاجة، فلما جاء الرسول عليه الصلاة والسلام تحدى هذه الأشياء؛ تحداها ليس بقوله فقط بل تحداها بفعله وهذا أكبر وأخطر، فكان عليه الصلاة والسلام لا أقول: يحمل بناته هو على كتفه أو يضعهن في حجره فهذا أمر طبيعي؛ لكن حتى بنات الناس تولد البنت لبيت من بيوت المسلمين فيأتون بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لها بالبركة ويضعها في حجره، ويطيب خواطر أهلها بمثل هذا العمل على مرأى ومسمع من أصحابه، متحدياً بذلك كثيراً من العوائد والموروثات والتقاليد التي كانت موجودة في البيئة الجاهلية العربية الأولى، فيدرك الإنسان عظمة النقلة التي أحدثها الإسلام. هذا فضلاً عن أشياء أخرى كثيرة ليس هذا مجال الحديث عنها: -مثلاً- تأتي فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس، فيقوم لها ويجلسها إلى جنبه. ما كانت البيئة العربية تطيق مثل هذا الأمر ولا تعرفه، أو اهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بزوجته عائشة وبقية أزواجه حتى يصل الحال إلى أنه يسافر فيسافر بها معه، أو يقول لأصحابه: تقدموا، ثم يتسابق هو وإياها، ومرة أخرى يتسابق، وفي الأولى فازت عائشة، وفى الثانية فاز النبي صلى الله عليه وسلم فكان يمازحها ويقول لها: {هذه بتلك} أي غلبتيني مرة وغلبتك مرة أخرى. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 5 النشاط الدعوي للنساء ليس من الضروري أن تكون النشاطات النسائية في مجتمعاتنا الإسلامية دائماً وأبداً نشاطات مستقلة نحن نؤيد ونوافق؛ بل نشجع تلك النشاطات الخاصة بالمرأة كهذا الاجتماع المبارك -مثلاً- أو غيره، وهو ضروري على كل حال؛ لكنني أقول: ينبغي أن تفهم الأخت المسلمة أن هذه النشاطات لا تعني اعتزال تلك النشاطات التي يقوم بها المجتمع برجاله ونسائه. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 6 دور المرأة في عهد النبي إن غالب المفتين من الصحابة كانوا رجالاً: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس إلخ، كما ذكرهم الإمام ابن القيم في عددٍ من كتبه وغيره، فغالب المفتين كانوا من الرجال لكن أيضاً لا يمكن أن نتجاهل دور امرأة مثل عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهي في سن الثامنة عشر من عمرها، وقد كانت تتعلم وهي بنت تسع وعشر وتحفظ حتى أصبحت معلمة للرجال، وقال أبو موسى رضي الله عنه: [[ما أشكل علينا أمر فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً]] . وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرجعون إليها في كثير مما أشكل عليهم، بل كانت عائشة رضي الله عنها تمارس لوناً من النقد والرد على بعض اجتهادات الصحابة رضى الله عنهم علانية، حتى جمع الإمام الزركشي انتقادات عائشة لبعض فتاوي الصحابة وآرائهم في كتاب سماه "الإجابة فيما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة" ردت على ابن عمر رضي الله عنه، وكانت مصيبة في ردها عليه حين كان ابن عمر يقول: [[اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم أربع عمر إحداهن في رجب]] فكانت تضحك عائشة رضي الله عنها وتقول: [[غفر الله لـ أبي عبد الرحمن والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا وعبد الله بن عمر شاهد معه، والله ما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في رجب قط]] وكان الصواب هنا مع عائشة رضي الله عنها، وقد وهم عبد الله بن عمر كما حرره جماعة من أهل العلم بالسير والتاريخ والمغازي، واستدركت على عمر رضى الله عنه، واستدركت على عمران بن حصين، واستدركت على عدد كبير من الصحابة، وقد يكون الصواب معها أحياناً وقد يكون الصواب مع غيرها. فمن القضايا المشهورة التي استدركتها عليهم لما نقل عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على القتلى يوم بدر وتكلم معهم، وقال: {هل وجدتم ما وعد ربكم حقا، فإني وجدت ما وعدني ربي حقا، فقالوا: يا رسول الله! هل تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يجيبون} فلما سمعت عائشة رضي الله عنها أنكرته وقالت: كلا إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم ليعلمون الآن أن ما كنت أقوله لهم حق، وإلا فإن الله تعالى يقول: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] فأخذت مأخذاً من القرآن الكريم، وفهمت حديث النبي صلى الله عليه وسلم على وجه آخر، وردَّت على من روى ذلك من الصحابة، إضافة إلى قضية قطع الصلاة بمرور المرأة -أيضاً- أنكرته عائشة وقالت كما هو في حديثها المعروف قالت لبعض الصحابة: [[ساويتمونا بالحمر والكلاب]] لأنه روى بعضهم، كما في حديث أبي ذر {يقطع صلاة الرجل: المرأة، والحمار، والكلب الأسود} . فأنكرت عائشة هذا وقالت: [[ساويتمونا بالكلاب، والحمر، والله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا نائمة على السرير إلى قبلته، فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتها، والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح]] تقول في رواية أخرى، تعتذر أنها تبسط رجلها؛ لأنها لا تره وقت سجود النبي صلى الله عليه وسلم حتى يلمسها بيده فتكف رجلها لتمكنه من السجود. وهذا باب يطول وأقول: إننا لا يمكن أن نغض النظر عن هذا الدور الكبير الذي قامت به أم المؤمنين عائشة، وعن العدد الهائل من المرويات التي روتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أتيح لها في ذلك ما لم يتح لغيرها حتى من الرجال، وإذا كنا نقول: إن ميزة الرجال كثرة صحبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن عائشة باعتبارها خليلة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقعيدة بيته، وصاحبته في منزله، وزوجه في فراشه قد أتيح لها من إمكانية التعرف على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وأخباره وأخلاقه ومعاملاته وقضاياه خاصة في المجالات الخاصة والشخصية والبيتية ما لم يتح لغيرها قط، ونقلت من ذلك ما لم ينقله غيرها، ولها في ذلك قصص وطرائف وعجائب لو جمعت في كتاب لكان ذلك خيراً كثيراً. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 7 غلبة الرجال في العلم على النساء -وعلى سبيل المثال- مما يؤكد أهمية هذا الموضوع: لو نظرنا -مثلاً-إلى قضية العلم الشرعي، والفتوى، والكلام في الحلال والحرام نجد أن من الصعب جداً أن نتصور وجود عالمات في أوساط النساء يملكن من التأصيل الشرعي وكمال الفقه ما يملكه بعض من أتيحت له الفرص في مجتمعنا هذا أو غيره من المجتمعات ما لم تتح للنساء، وهذا أمر مؤكد، بل أقول: حتى في مجتمع الصحابة رضي الله عنهم كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه أن بعض النساء أتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: {يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوما تأتينا فيه فتحدثنا، فجعل لهن صلى الله عليه وسلم يوماً وواعدهن فآتاهن، وذكرهن، ووعظهن، وخصهن بكلام يتعلق بأوضاعهن هن، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام، ما منكن من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد فتصبر وتحتسب إلا كانوا لها حجاباً من النار. قالت امرأة: يا رسول الله! واثنان قال: واثنان} المهم أن الرسول عليه السلام جعل لهن يوماً معلوماً؛ لكن قول النساء: غلبنا عليك الرجال يوحي بماذا؟ يوحي بأن الغالب على مجتمعات الرسول عليه الصلاة والسلام أن الذين حوله كانوا هم الرجال. وأعتقد أن هذا لا يحتاج إلى مزيد تأكيد. الغزو: من الذين كانوا يخرجون معه؟ على الأقل (90%) ممن كانوا يخرجون معه من الرجال وقد تخرج النساء أحيانا كما في غزوة بدر وأحد وحنين وغيرها، لكن يخرجن بنسبة محدودة ويمارسن أعمالاً محدودة، كما هو وارد في الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، وكذلك اجتماعاته صلى الله عليه وسلم في المسجد وكانت النساء موجودات في المجتمع المدني وفى مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في حياته كن في آخر الصفوف {خير صفوف النساء آخرها} وبمجرد ما يسلم النبي صلى الله عليه وسلم كن يخرجن من المسجد ويبقى الرجال فيتحدثون، ويتحلقون، ويسألون الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك كان غالب الرواة هم من الرجال. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 8 استفادة المرأة مما أتيح للرجل إذاً، في ذلك المجتمع، وهو المجتمع القدوة أتيح للرجل فيه من وسائل التعلم، والاتصال، والفهم، وسماع الوحي ما لم يتح للمرأة، ولذلك كلف هو من المسئوليات ما لم تكلف به المرأة، وكان من أعظم مسئوليات الرجل أن ينقل ما يسمعه إلى بيته، وإلى زوجته، وإلى أمه، وإلى أخته، وإلى قريبته، حتى يكون وسيطاً، في نقل العلم الشرعي ونقل الوحي الذي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه قضية واضحة ولا ينبغي أن تكون محل جدل أو خلاف، وهذا -أيضاً- موجود الآن، وأعتقد أنها ستظل موجودة إلى الأبد؛ أنه يتاح للرجل من فرص التعلم ما لا يتاح للمرأة، ليس فقط في العلم الشرعي بل حتى في العلوم الدنيوية. خذي مثالاً قضية الطب: هل الفتاة التي تدرس في كلية الطب تتمكن من وسائل التعلم والاتصال والمعرفة مثل ما يتمكن الرجل؟ قطعا لا، وهذا أمر مشاهد ويعرفه الذين يعانونه. فالمرأة لا تستطيع أن تسافر كما يسافر الرجل، ولا تحضر كما يحضر الرجل، ولا تطّلع كما يطّلع، ولذلك مهما بذلت من الجهد فإنها تظل في حالات كثيرة محتاجة إلى مساعدة الرجل لها، زوجها، أخيها، قريبها؛ بل وحتى محتاجة إلى النشاطات الأخرى التي لا تختص بالمرأة -كما أسلفت-. إذاً، ليس من تكريم المرأة ولا من رفع قدرها أن نقول: لا بد أن يوجد -مثلاً- للمرأة مفتيات خاصات لا تقبل المرأة الفتوى والعلم الشرعي إلا عن طريقهن، هذا ليس واجباً ولا داعي -أصلاً- لإيجاد هذه الحواجز النفسية بين الرجل والمرأة، فالمرأة في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كانت تأتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وتسأله في أمورها العامة والخاصة، وترى أن هذا هو السبيل الصحيح، بل إنني أقول: إن الله تعالى لم يبعث من رسله وأنبيائه إلا الرجال قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً} [الأنبياء:7] وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء وإن كان هناك من يقول إن هناك نبيات من النساء كما قال بعضهم في مريم أو غير ذلك كما ذهب إليه ابن حزم، ولكن جمهور العلماء على أن الأنبياء كانوا رجالاً لقول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] . وهذا على أي حال يؤكد المعنى الذي أريد أن أطرق وأدور حوله، وهو أن المرأة ينبغي أن تستفيد مما وهب الله تعالى الرجال من العلم الشرعي، من الفتوى، من الحديث، من القدرات، وهذا ليس تقليلاً من شأنها أو حطاً من قدرها، بل على النقيض من ذلك هذا رفع لشأنها باعتبار أن المجتمع المسلم مجتمع واحد متكامل يقوم الرجل فيه بإمكانياته ومهماته، وتقوم المرأة بإمكانيتها ومهماتها، وليس من حق الرجل أن يمارس الدور الذي وكل إلى المرأة ولا المرأة أن تمارس الدور الذي وكل إلى الرجل، لكن هناك مهمات مشتركة تستفيد المرأة فيها من الرجل ويستفيد الرجل فيها من المرأة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 9 مشاركة المرأة في الدروس العامة وغيرها يجب أن تكون المرأة مشاركة في الدروس العلمية التي تقام في البلاد، وفى المحاضرات العامة دون أن تنتظر أن تكون هناك دائماً وأبداً محاضرات ودروس ونشاطات تخصها دون غيرها، بل إذا وجدت هذه النشاطات فهذا نور على نور، ومع ذلك ينبغي أن يكون ثمة وجود ظاهر حقيقي وقوي للمرأة في الدروس، والمحاضرات، والنشاطات، والندوات، وسائر الأعمال التي تقيمها المؤسسات الإسلامية والمؤسسات الخيرية، والشخصيات العلمية في البلاد، فننتظر أن تكون المرأة موجودة في المسجد الذي تقام فيه المحاضرة، أو تقام فيه الندوة، أو يقام فيه الدرس العلمي، وأن تستمع كما يستمع الرجال، وتشارك كما يشاركون، وتسأل كما يسألون، وتفهم كما يفهمون، وتتواصل مع تلك النشاطات، وتشعر أن من مهمتها دعم هذه النشاطات، وتقوية وتكثيف الحضور لها. وبالمقابل كما نطالب المرأة بالمشاركة والحضور نطالب أولئك القائمين على النشاطات العامة الإسلامية في المجتمعات القائمين على الدروس والمحاضرات والندوات أن يكون للمرأة من موضوعاتهم نصيب، وأن يكون ثمة خطاب وعلاج لقضايا المرأة وموضوعاتها سواء الموضوعات الاجتماعية، أو الموضوعات الشخصية، أو الموضوعات العلمية والثقافية، أو الدعوية، أو غيرها بحيث يكون هناك تواصل حقيقي بين تلك النشاطات العامة التي لا نقول: إنها تخص الرجال، ولو كان الذين يتولون إلقاءها هم من الرجال -أيضاً-، يكون هناك تواصل من كلا الطرفين، فالطرف الأول المرأة، تتواصل مع تلك النشاطات، بالحضور والمشاركة والتشجيع والسؤال، والطرف الثاني القائمون على تلك النشاطات يتواصلون مع الرجال والنساء من خلال اختيار الموضوعات، ومعالجتها، وطرحها. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 10 الخلاصة الجزء: 133 ¦ الصفحة: 11 تشجيع النشاطات النسائية الدعوية والقضية الثانية: أننا نحتفل احتفالاً كبيراً بمثل هذه الأنشطة الإسلامية التي تقوم عليها الأخوات، ويعلم الله أننا نشعر بفرحة غامرة لا نشعر بها حينما نسمع عن النشاط في أوساط الرجال، وذلك؛ لأنه ربما تعودنا أن نسمع وجود نشاطات للشباب الصالحين، لكن ليس بنفس المستوى أن نسمع عن النشاطات التي تقوم بها الفتيات المؤمنات الدينات الداعيات، فحين يسمع الإنسان بنشاط تقوم عليه الأخت المسلمة يشعر بفرحة غامرة وغير محدودة، خاصة ونحن نرى أن هذه النشاطات الكبيرة تتم في وسط ذلك الجو الذي نعيش فيه، وهو جو مشحون بجهود أعداء الإسلام من الرجال والنساء، والذين يركزون على المرأة ويولونها عناية خاصة؛ لأنهم يدركون أن هذه المرأة لو انحرفت أو ضلت فإنه يصعب على المجتمع جداً أن يصلح أو يستقيم، وكما قال الشاعر وهو يخاطب المرأة: أيها الحسنا كفى من دلالك واسمعي النصح يجنبك المهالك ذلك الأمر الذي آثرته رجعة للغاب لو تدرين ذلك خلفه أيدي الكواهين التي لا يروي غلها غير اغتيالك قد درت أنك معيار القوى فإذا اختل هوى الخزى بآلك وقديماً يئسوا من قهرنا حينما أعياهم لمح خيالك يقول: في الماضي يئسوا منا لأنهم عرفوا أنهم لا يستطيعون الوصول إلى المرأة، أما اليوم فهم يعرفون أنهم إن استطاعوا أن يسيطروا على المرأة ويؤثرون فيها استطاعوا أن يجعلوا المجتمع المسلم كله يسير إلى هاوية الانحراف، ففي وسط هذا الجو المشحون بجهود المستعربين، والمستعربات، والفاسقين، والفاسقات، وفى وسط الجو المليء بالمغريات والتي تشكل المرأة أبرز أعمدتها؛ حتى استطاع العدو أن يسخر صورة المرأة للإثارة في كل مجال في المجلة، في التلفاز، في الفيديو، في الإعلان، حتى في المتجر، في الطائرة إلى غير ذلك، وهو ينظر حينئذٍ إلى المرأة جسداً بلا روح، فيتعامل مع جسدها، ومع إغرائها، ومع فتنتها، ولا يتعامل مع إنسانيتها، ومع عقلها، ومع تكليفها، ومع دورها في صيانة المجتمع، إنما يتعامل معها كوسيلة من وسائل الإغراء لا غير؛ فحطم بذلك المرأة أولاً، وبالمرأة حطم الرجل ثانياً. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 12 عدم الفصل التام بين الجنسين في مسائل الشرع هذه قضية أولى وهي: أنه لا داعي لأن نفصل بين الرجل والمرأة في الجوانب الشرعية فنعتبر الأصل أن نشاط المرأة مستقل ونشاط الرجل مستقل، ويمكن على نطاق واسع أن يكون هناك نشاطات خاصة بالمرأة من دروس، ومحاضرات، وندوات، وكتب، وأعمال خيرية، ودراسة، ومراكز وغير ذلك. هذا كله ليس عليه أي غبار، بل ينبغي أن يشجع بقدر المستطاع، ولكن لا ينبغي أن نعتبر هذا بديلاً عن مشاركة المرأة في النشاطات الإسلامية العامة المتاحة للرجل والمرأة جنباً إلى جنب، وأيضاً لا ينبغي أن تشعر المرأة أن لها عالمها الخاص المتميز عن الرجل في كل شيء، بل ينبغي أن تشعر أنها محتاجة إلى أن تستفيد من الآخرين، كما أن الآخرين محتاجون أن يستفيدوا منها في الأمور التي لا يعرفها غيرها، فمثلاً نحن حين نريد أن نتكلم عن قضايا المرأة، ومشاكل المرأة، والأوضاع في المجتمع؛ نوقن بأننا لا نستطيع أن نتكلم عن هذا الأمر إلا بمساعدة أخواتنا من النساء حين يوافيننا مثلاً بطبيعة المشكلات القائمة، ونوعيتها، وما هي؟ وكيف يمكن علاجها؟ وما هي الحلول؟ وما هي عقلية المرأة؟ وما هي الأشياء التي تؤثر فيها؟ إلى غير ذلك من الأمور التي نستفيد نحن فيها من المرأة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 13 دور المرأة ومكانتها عند الرجل ففي وسط هذا البحر اللجي المتلاطم من ألوان المنكرات نفرح بهذه البوادر الكبيرة المشجعة من وجود نشاط إسلامي نسائي متميز، وأقول: أنتن بهذا العمل الذي تقمن به تمثلن الخط الأصيل للأمة وهذا هو الأصل، ونحن ندرك أن المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يتمكن الإنسان فيه من الاستقامة، وإذا كانت المرأة منحرفة فأنَّى للإنسان أن يستقيم والمرأة تقول له: هيت لك، هل ننتظر من الرجال أن يكونوا دائماً وأبداً -حتى وهم في سن المراهقة وفى سن طيش الشباب- أن يكون الواحد منهم يوسف تقول له امرأة العزيز: هيت لك، فيقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي، كلا؛ بل نجد في الشباب وفي الرجال الضعف، ونجد فيهم الميل، ونجد فيهم الدوافع الغريزية، ونجد فيهم تسلط الشيطان، ولذلك ينبغي أن نعمل على إصلاح المجتمع حتى لا يجد الإنسان في ذلك المجتمع عقبات كبيرة تمنعه من الاستقامة على الطريق الصحيح. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 14 دور المرأة في ظروف الرجل الصعبة لا غرابة أن تجد أن الرجل في الحالات التي يواجه فيها الصعوبات كثيراً ما يلتفت إلى المرأة، وهذا دليل على عمق مكانة المرأة في نفسية الرجل، وأضرب بعض الأمثلة السريعة التي توحي أن الرجل في أوقات الأزمات، في الشدة، في السجن، على حافة الموت، أول ما يبرز إلى ذهنه -أحياناً- صورة أمه، أو صورة زوجته، أو صورة بنته فيشعر بمشاعر كبيرة ويعبر عنها. أ/ رجل في السجن يتذكر أمه: هذا رجل سجن في أحد سجون الطغاة، وطال سجنه، فكان أول ما تبادر إلى ذهنه وإلى مخيلته صورة أمه وهي تسفح الدموع حزناً على ولدها، فكتب إليها قصيدة من أروع القصائد يعبر فيها عن عمق مشاعره تجاهها: ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنت البيت والحرما أنت الهنا والمنى أنت العنا وأنا على ثراك وليد قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرني ويبعث العطر في جنبيّ مبتسما ما زال طيفك في دنياي يتبعني إنى سريت وقلبي يجحد النعما يقول تراقبينني وتلاحقينني في كل مكان، ولكنني لا أشعر بمكانتك وفضلك وقلبي يجحد النعما: حتى وقعت أسير البغى فانصرفت عني القلوب سوى قلب يسيل دماً قلب الأم هو الوحيد الذي ظل وفياً يبكي وحيداً على الولد: أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلب ضعيف ويغزو الصحو والحلما ويدخل السجن منسلاً فيدهشني إذ يستبيح من الطغيان شر حمى فإن رآني في خير بكى فرحاً وإن رآني في سوء بكى ألما فلتغفري لي ذنبي يا معذبتي أو حاكميني وكوني الخصم والحكما فكانت صورة الأم هي أول ما برز في ذهن هذا الإنسان المعذب. ب/ نموذج آخر: وهذا آخر أيضاً سجن فكانت القصيدة الوحيدة ربما التي جادت بها قريحته يخاطب فيها أمه ويصبرها ويثبتها: أماه لا تجزعي فالحافظ الله إنا سلكنا طريقاً قد خبرناه على حافية يا أماه مرقدنا ومن جماجمنا ترسو زواياه أماه إلى آخر القصيدة التي يطالبها فيها بالصبر والثبات: أماه لا تشعريهم أنهم غلبوا أماه لا تسمعيهم منك أواه أرضعتني بلبان العز في صغري لا شيء من سطوة الطاغوت أخشاه أماه رؤياك في قلبي مسطرة ونبع حبك أحيا في ثناياه ومر طيفك يا أماه يؤنسني إني وإن صفت القضبان ألقاه وثالث أيضاً قال قصيدة طويلة هذه المرة يخاطب فيها أباه: أبتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد ينتظراني لكن ضمن هذه القصيدة كان من أبرع وأروع الأبيات قوله يخاطب أباه. وإذا سمعت نشيج أمي في الدجى تبكي شباباً ضاع في الريعان وتكتم الحسرات في أعماقها ألماً تواريه عن الجيران فاطلب إليها الصفح عني إنني لا أبتغي منها سوى الغفران ما زال في سمعي رنين حديثها مقالها في رحمة وحنان أبني إني قد غدوت عليلة م يبق لي جلد على الأحزان فأذق فؤادي فرحة بالبحث عن بنت الحلال ودعك من عصياني كانت لها أمنية ريانة يا حسن آمال لها وأماني والآن لا أدري بأي جوانح ستبيت بعدي أم بأي جنان ج/ نموذج من الصحابة: ومن قبل كان أحد الصحابة رضي الله عنهم سجن في بلاد الشام في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أراد الروم أن يصلبوه، فلما علقوه على عود الصلب، تذكر زوجته وكان مسلماً في عالم كافر آنذاك فقال: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها على ماء عفرى فوق إحدى الرواحل على ناقة لم يطرق الفحل أمها مشذبة أطرافها بالمناجل يقول: ياليت من يخبر زوجتي بأنني الآن معلق على هذه الخشبة، أو مربوط إلى هذه الخشبة لأصلب وأقتل في سبيل الله تعالى صابراً محتسباً، فإذاً الرجل يتصور دائماً وأبداً صورة المرأة أماً وبنتاً وزوجةً في أحلك المواقف وأشدها، حتى عند الموت أول ما يبرز إلى ذهن الرجل ربما صورة بنياته الصغيرات اللاتي يخشى عليهن، ومن قبل كان الشاعر العربي يعتذر عن كثرة السفر والذهاب والإياب بالخوف على بنياته: لولا بنيات كزغب القطا رددن من بعض إلى بعض لكان لى مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لوهبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض وما ذلك إلا لما أحدثه الإسلام في نفسية الإنسان العربي والمسلم من الاهتمام بالمرأة والعناية بها، فهو لم يعتذر بأولاده الذكور، وإنما اعتذر ببنياته لأنهن أحوج إليه من الأولاد، فالأولاد قد يستطيعون أن يقوموا بالأعمال لأنفسهم بخلاف المرأة فهي محتاجة إلى دعم أبيها، أو أخيها، أو زوجها، أو غير ذلك. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 15 تأثير المرأة على الرجل زوجة وأماً وبنتاً كيف يستقم الرجل إذا انحرفت المرأة؟ أليست هذه المرأة المنحرفة هي زوجه التي لا تزال تجره إلى الوراء دائماً وأبداً، فكلما رأته على خير حاولت أن تثبط عزيمته وهمته، وإن رأته على غير ذلك شجعته وأيدته، فمثلاً إذا جاءت الإجازة الصيفية قالت له: نريد أن نسيح في بلاد الغرب ونرى المشاهد ونرى الطبيعة ونرى كذا ونرى كذا، فلا تزال به تضغط عليه وتحادثه في الصباح، والظهر، والمساء، وفى كل حين حتى يجد أنه مضطر إلى أن يلبي هذه الرغبة، ولكن على النقيض من ذلك لو رأت أن هذا الرجل مشغول بنشاط خيري، أو أنه يبادر إلى الصلوات حاولت أن تثبط عزيمته، فإذا سمع المؤذن فأراد أن يقوم قالت له: مهلاً، ابق حتى تسمع الإقامة بعد قليل، وما تزال به حتى يصبح من عادة هذا الإنسان أن ينشط في الأمور التي لا خير فيها، وأن يكون متأخراً متخلفاً في الأمور الخيِّرة، فهنا برز دور المرأة على الرجل باعتبارها زوجة له. كذلك لما تكون هذه المرأة بنتا له فهو يشعر بأنها تؤثر فيه، وأنها تطالبه وتلح عليه، وتصر، وتضرب له الأمثال من بنت فلان وبنت فلان، فما تزال به حتى تحصل على ما تريد، أكثر مما يحصل الولد أحياناً، وعلى سبيل المثال: عندما تريد الفتاة أن تدخل في مدرسة أو معهد، وليكن هذا المعهد أو تكون هذه المدرسة مدرسة من المدارس الأجنبية التي تعلم تعليماً غير إسلامي، بل وربما تربي الفتاة تربية منحرفة على أنماط التربية الغربية يقول الأب أول مرة: لا، وثاني مرة: لا؛ لكن عندما تظل هذه الفتاة تضرب على هذا الوتر وتتحدث عنه، ثم تستشفع بأمها فتضغط الأم وتمارس دورها، وبأختها الكبرى، وبأخيها، وتضغط عليه حتى يوافق؛ فإذا وافق ذهب للمدرسة فوجد أن العدد قد اكتمل وأنه لا إمكانية للقبول ظلت هذه البنت تكلم أباها باستمرار حتى وجد الأب نفسه مضطراً إلى أن يبذل كثيراً من الشفاعات، ويتصل بأصدقائه وأقاربه حتى يتمكن من تحقيق رغبة هذه الفتاة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 16 مما ينبغي مراعاته في النشاطات النسائية نحن نحتفل بالنشاطات الإسلامية الخيرية باعتبار أنها عودة إلى الخط الأصيل في الأمة؛ حماية للمرأة من عوامل الفساد والانحراف؛ وهي أيضاً حماية للرجل الذي تشكل المرأة هماً أكبر في حياته أماً وأختاً وبنتاً وزوجةً، فاستقامة المرأة معناها إعانة الرجل ومساعدته على الاستقامة على الطريق الصحيح، ووسط هذا الاحتفال الذي نفرح به في وجود النشاط الإسلامي النسوي، لا بد أن يكون هذا الفرح فرحاً إيجابياً معبراً، وأكتفي أن أشير إلى نقطتين أعتبر أنهما نوع من المشاركة في هذا المجال. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 17 أهمية تعاهد المسيرة النسائية وتصحيحها النقطة الأولى: أهمية تعاهد المسيرة النسائية الإسلامية وتصحيحها كما تتعاهد مسيرة الرجال ومسيرة المجتمعات الإسلامية بشكل عام، وإن مثل هذا اللقاء وغيره، والاتصال، والمراسلة وما سوى ذلك، بل وعقد الندوات في أوساط النساء لمناقشة الدعوة النسائية في وسط المرأة، وإلى أين وصلت؟ وما هي إيجابيتها؟ وما هي سلبياتها؟ وما أخطاؤها؟ وما سبلها؟ أعتبر أن هذه من أهم الواجبات التي ينبغي أن نراجعها مرة بعد أخرى. إن مسئولية كل أخت وكل امرأة أن يكون لها مشاركة، ليس في النشاط فقط؛ بل حتى في تصحيح مسيرة النشاط الدعوي ومراجعته مرة بعد أخرى، فإن النشاط الإسلامي في وسط الرجل والمرأة لا يستهدف إلغاء شخصية النساء الأخريات أو الرجال، بل على العكس يستهدف إبراز شخصية كل أنثى، كل فتاة، كل فتى، كل شاب بأن يكون له دور في الدعوة، ودور في المشاركة، ودور في التصحيح، ودور في الاعتراض أيضاً، ودور في المطالبة بالأفضل حتى نكون جميعاً عوامل مساعدة على الوصول إلى الهدف المنشود. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 18 أهمية توسيع دائرة الانفتاح على المجتمع النقطة الثانية والأخيرة -أيضاً- في حديثي هي: أهمية توسيع دائرة الانفتاح على المجتمع: ومن الأمور الملحوظة الآن أن خصوم الإسلام من النصارى، واليهود، والعلمانيين، والمنافقين، وسواهم ما عادوا يخاطبون الآن فئة معينة كالمثقفين، أو طلبة الجامعات، لا، الملاحظ أنهم بدأوا يستهدفون المجتمع بكامله، وعلى سبيل المثال: النشاط التنصيرى قد أصبح يستهدف المجتمع كله وهذا له حديث خاص، وهناك وثائق وأدلة، كذلك النشاط التخريبي ما أصبح يخاطب فئة معينة، بل أصبح يخاطب المجتمعات الإسلامية كلها ويسعى في تغييرها، ولا أدل على ذلك من مسألة الصحون التي تستقبل البث المباشر الآن من أنحاء العالم، وتؤثر به على عقلية الرجل والمرأة، والكبير والصغير في جميع البيوت، وهناك قنوات خاصة موجهة إلى ما يسمى بالشرق الأوسط، وإلى البلاد العربية والإسلامية سواء قنوات تنصيرية أو قنوات إفساد وانحلال أخلاقي. يقول بعض الخبراء والمسئولين الأمريكان: يجب علينا أن ندرك أننا لا يمكن أن نتعامل مع الحكام في البلاد العربية والإسلامية فحسب في محاولة كسب ولائهم وكسب ثقتهم، فإن هذا لا يكفي؛ فإن الحاكم قد يتغير يوماً من الأيام ويحل غيره محله، ولكن ينبغي أن نعمل على تغيير عقليات الشعوب، ونفسيتها، وإقناعها بضرورة تبني حضارتنا والقناعة بها، ومن ذلك نص على مسألة البث المباشر كوسيلة من أهم الوسائل، فضلاً عن هذا العدد الكبير من المجلات التي تغزو البيوت إلى غير ذلك. فمثلاً محاضرة كهذه المحاضرة كم يحضرها؟ يحضرها عدد محدود مهما كثر، كم الذين يشاهدون المسلسلات في التلفاز؟ كم الفتيات اللاتي يجلسن أمام الفيديو؟ يبقى العدد كبيراً جداً، وبناء عليه أقول: ينبغي على الأخوات القائمات على الدعوة أن يحرصن على اقتحام المجتمع النسائي كله، وتوسيع نطاق الدعوة فيه إلى أبعد حد ممكن، وإزالة الحواجز التي تحول بينهن وبين بعض الفتيات اللاتي ربما يبدو عليهن شيء من الانحراف في مظهرهن، في أزيائهن، في تسريحات الشعر، في بعض العادات، في بعض التقاليد، في بعض الانحرافات التي مهما كبرت فهي تظل قابلة للإصلاح والتعديل، ينبغي أن نزيل الحواجز الموجودة بين المتدينات وبين هذه الطبقة من المجتمع، ونعمل على الاتصال بهن وتحسين صورة المتدينات في نظرهن، وإقناعهن ببعض الأمور إهداء الكتاب، إهداء الشريط، دعوتهن إلى المحاضرة، إلى أي نشاط إسلامي حتى نتمكن من التأثير الأكبر على المجتمع، ومقاومة مثل تلك الوسائل التي تستهدف المجتمع المسلم. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 133 ¦ الصفحة: 20 موقف المرأة من زوجها في صلاة الفجر والجماعة السؤال زوجي لا يصلى في المسجد رغم سماعة لصوت الأذان، وقلت له مراراً بأنه يجب عليه الذهاب إلى المسجد، وأيضاً تعبت في إيقاظه لصلاة الصبح، رغم أنه يؤدي جميع الصلاة المكتوبة، فهل عليَّ إثم إذا أصبحت أصلي الصباح دون إيقاظة؟ الجواب ينبغي أن توقظيه يومياً، وأن تبذلي جهدك في إيقاظه، ولا تيئسي من روح الله؛ فإذا عجزت عنه فصلي أنت ولو كان هو لا يصلى مع الجماعة؛ لكن لا تيئسي منه، ولا بأس أن تعطيه بعض الكتيبات والأشرطة، وتحرصي على تحريك قلبه بالخوف من الله عز وجل، وتذكيره بواجبه ومسئوليته. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 21 سؤال الزوجة زوجها عن تأخره السؤال هل من حق الزوجة أن تسأل عن تأخر زوجها من البيت؟ الجواب إذا كان هناك ما يدعو إلى السؤال مثل أن يكون تأخراً مريباً أو تأخراً غير معتاد فمن حقها أن تسأله؛ لكن ليس سؤالاً محقق، لأن الرجل دائماً يشعر بالكبرياء فربما في مثل هذه الحال يعاند في أن يجيب على المرأة، لكن إذا استقبلته بالبشر والترحاب، وبعد ما هدأت الأمور تنظر في الساعة وتقول: سبحان الله! الآن تأخرت يا أبا فلان ولم يكن هذا من العادات! بحيث أنها تعرض الموضوع، وتستطيع أن تتسلل بطريقة معينة دون أن تواجهه، لماذا أنت تأخرت؟ وأنت تهرب من المنزل وأنت! وأنت!! وتصبح القضية في حالة شديدة، وربما كان الزوج في حالة غضب، أو تأخر لحادث، أو تأخر لسبب معين؛ فيكون مشحوناً، وربما تكلم بكلام في مثل تلك الظروف لا تحمد عقباه. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 22 مشكلة إيقاظ الزوج لصلاة الفجر السؤال زوجي يصلي دائماً؛ لكن بعض الأوقات يصلي في البيت، ونادراً ما يترك صلاة الفجر، وعندما أوقظه لا يصلي ويقول: أنا لست طفلاً فهل أتركه؟ الجواب لا، لا تتركيه، استمري في دعوتك. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 23 كشف الوجه في بلاد الكفار السؤال إذا تسترت المرأة في بلاد الخارج، ووضعت الغطاء على الرأس، واللبس الطويل، فهل هذا يكفي دون تغطية الوجه؟ الجواب لا، ينبغي أن تغطي المرأة وجهها، فالحكم الشرعي لا يخص الداخل، بل هو في كل مكان، ولكن هناك طرق ووسائل لتغطية الوجه تختلف من بلد إلى آخر. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 24 ميقات إحرام من كان في غير بلده السؤال ما حكم من جاءت إلى جدة من مدينه تبوك لزيارة أهلها؛ حيث أن مقر أهلها في جدة، ثم أحبت أن تعتمر فمن أين تحرم؟ الجواب إذا كانت نوت العمرة -أصلاً- فينبغي أن تحرم من الميقات، أما إن كانت نية العمرة لم تطرأ عليها إلا بعد أن دخلت جدة فإنها تحرم من جدة نفسها. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 25 اقتراح حول الكتب والأشرطة والإعلام السؤال هذا السؤال الأخير يقول: أرجو توجيه ندائي للأخوات والملتزمين عموماً من ناحية مواجهة الطوفان الإعلامي المفسد التي تحفل به مجلات وجرائد عديدة بدعم من الإعلام الإسلامي، عن طريق شراء المجلات الإسلامية، والشريط الإسلامي، والتركيز على الشراء مع أن في الإعارة، والاستعارة فائدة، ولكن ذلك الثمن الزهيد في المجلة أو الشريط، والذي لا يتجاوز خمسة ريالات، أي في الشهر عشرين ريالاً، فيما فيه من الدخل والدعم المادي لتلك المؤسسات الخيّرة، والتي قامت لتقول كلمة الحق وتدل على الخير؟ الجواب نعم نحن مطالبون بأمرين: أولاً: دعم الشريط الإسلامي والمجلة الإسلامية ليس بالشراء فقط، بالشراء وإعارته للآخرين حتى يكون هذا سبيل إلى أن يعجبوا ويشتروا فيما بعد، ومواصلاته أيضاً بالجديد من الأخبار والمقالات، والبحوث، وغير ذلك، هذا من جانب. الجانب الثاني: أن نقوم بحملة جادة ومستمرة وصابرة على تلك المطبوعات الإعلامية سواءً كانت صحفاً أو مجلات أو كتباً أو أفلاماً أو غيرها؛ من التي تسعى إلى نشر الرذيلة والفاحشة في أوساط المؤمنين، أو تحارب الله ورسوله، وتكون سيئة في عرضها، وتكون سيئة لعرض أحوال المسلمين وأخبارهم، فنقاطعها لا نبيعها، ولا نشتريها، ولا نتعامل معها، بل ونتبنى الدعوة لمقاطعتها في أوساط أقاربنا، ومعارفنا، وزملائنا، وجيراننا؛ لعل الله أن يجعل في ذلك نصراً للمطبوعات الإسلامية الخيرية، وأن يكون هذا درساً لأي مطبوعة تدرك أنها إذا حاربت الإسلام أو واجهته؛ معنى ذلك أنها حكمت على نفسها بالزوال والفناء في وسط هذا المجتمع، وأقول: إذا لم يكن مجتمعنا مجتمعاً نظيفاً ومتصافياً؛ يقبل الخير ويتشربه، ويرد الباطل ويدفعه، فأي مجتمع نطمع أن يكون هو ذلك المجتمع؟! أسأل الله أن يكون هذا الاجتماع اجتماعاً طيباً مباركاً، وأشكر الله عز وجل الذي كان هذا الاجتماع من قضائه وقدره وتوفيقه، ثم أشكر جميع الأخوات اللاتي كن سبباً في وجود مثل هذا اللقاء، وأسال الله تعالى أن يبارك في جميع الحاضرات، وأن يرزقهن الصلاح في أقوالهن وظاهرهن وسرهن وباطنهن، وأقول: ربنا هب لنا من أولادنا وأزواجنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً، وأتمنى أن يتكرر -في فرص ومناسبات- مثل هذا الاجتماع. وصلى الله وسلم على عبده ونبيه محمد وعلى آله أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 26 بث المحاضرات في الإذاعة السؤال رابعاً: لماذا المحاضرات التي تقام في المساجد لكبار العلماء لا تبث في إذاعة القرآن الكريم ليستفيد منها العالم الإسلامي؟ الجواب على كل حال هذه المحاضرات تسجل، وتلك الأشرطة تشرق وتغرب، وقد بلغني أن الأشرطة التي يقوم بإلقائها الدعاة والعلماء هنا تصل إلى أمريكا وروسيا والصين من ناس ثقات خلال أسبوع واحد وهذه نعمة كبيرة، أما كون هذه الإذاعات الإسلامية أو غير الإسلامية، تتجاهل مثل هذه المحاضرات؛ فهذا ليس أمراً غريباً، وأعتقد أن له ما يفسره، وله ما يؤوله ويبرره في نظرنا. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 27 استفسارات مديرة مدرسة السؤال تقول: أنا مديرة مدرسة في منطقة ما، وبحكم الأمانة التي وضعت على عاتقي وسأكون مسئولة هل أديتها أم لا فلدي بعض الاستفسارات وأرجو الإجابة 1- أجد بعض الضغوط على معلماتي من قبل مكتب التوجيه النسوي. فمثلاً مسألة الانتداب من مدرسة إلى أخرى إذا رفضت المعلمة الانتداب، وكان لديها ظروف قاهرة؛ فإن المكتب يلزمني بأن لا أمكنها التوقيع في سجل الحضور والانصراف، وأنا أعتبرها غائبة حتى لو حضرت وأعطت الحصص، وبطبيعة الحال أتجاوز في هذه المسألة وأمكنها من التوقيع، وكثير من الأمور الأخرى هي على هذا المنوال، والتي لا يوجد بها أي تعليمات من الرئاسة، ويلزمونني على فعلها وأن أضغط على معلماتي وأنا أتجاوز. الجواب لا شك أن من الواجب عليك أن تكوني راعية بالعدل، والعدل يوجب أن تقولي الحق، ولا شك أنه لو كان هناك أنظمة حتى ولو من الرئاسة، أو تعليمات مخالفة للعدل؛ لكنا نقول: يجب مخالفة هذه الأنظمة مراعاة للعدل؛ لأن النظام نفسه لا يهدف إلا إلى تحقيق المصلحة. فإذا تبين في حالة من الحالات أو في ظرف من الظروف أن النظام مخالف للمصلحة فأضع النظام جنباً وأسير في الطريق؛ لكن في مثل هذا الوضع مع أنه لا يوجد نظام، ومع ذلك هو ظلم فادح؛ فكيف أسمح أن تكون مدرسة حضرت وأدت الحصص وأرفض أن توقع؟ هذا لا يجوز، وهذا ظلم بل ينبغي أن توقع، وسواءً تعاملت مع التوجيه بأسلوب لبق، أو قلتِ لهم: إنني لا يمكن أن أمنعها، المهم أنه لا بد أن تمكني هؤلاء المدرسات من التوقيع، ومثل ذلك التيسير على من تحت يدك من المعلمات، ومراعاة ظروفهن، والتلطف معهن؛ هذا مما يقربك إلى الله تعالى، ومما جاء به الدين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {يسروا ولا تعسروا} ولما بعث معاذاً وأبا موسى إلى اليمن قال: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفروا} فاحرصي على التيسير ومراعاة ظروف الآخرين، والتسامح معهم، واعتبري هذا قربه من الله عز وجل. 2- بعض الحلي الضائع الذي يسقط من الطالبات في ساحة المدرسة نقوم بالإعلان عنه في الطوابير في مرات، ولكن لا تأتي أي طالبة لأخذه، ومن ضمن التعليمات أن الحلي الضائعة إذا بقي في المدرسة لمدة ثلاث سنوات فمن حق المدرسة أن تبيعه وتصرفه في أنشطتها، ولكني لا أعمل بهذا التعليم فأبيع هذا الحلي فأتصدق به إلى الأفغان أو للبوسنة والهرسك، هل تصرفي هذا سليم أم لا؟ الجواب: أرى أنه لا بأس بهذا التصرف، أيضاً متى تيقنت بأنه لن يكون هناك مسألة إداريه لك أو معاتبة بمثل هذا العمل، فلا بأس؛ لأن هذا من الضائع الذي يصرف في المصالح العامة، ولا شك أن مصالح المسلمين كالبوسنة والهرسك أو غيرها أحوج وأعظم حاجة؛ خاصة في مثل هذه الظروف من بعض النشاطات المدرسية التي يمكن أن تغطى بأسلوب آخر. 3- مسألة المقصف المدرسي التعاوني، إدارة التعليم بمنطقتنا أعطتنا كيفيه تقسيم الأرباح، فيكون نصيب الطالبة كذا إلى آخره، والباقي يصرف في الأنشطة والخدمات والمعونة الاجتماعية وغيره من الأمور. ما حكم ذلك؟ الجواب: الذي يظهر لي أنه لا بأس بهذا شريطة أن تكون الطالبات المشاركات في المقصف على علم بذلك، فيكون هناك شرح لنشاط المقصف قبل أخذ مساهمة الطالبات، فتجمعين الطالبات أول السنة وتقولين لهن: نظام المقصف كذا وكذا، والأرباح توزع كالتالي، من أحبت منكن أن تشارك على هذا الأساس فلتشارك، وحينئذٍ يكن راضيات بهذه القسمة ولا يكون في ذلك حرج. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 28 لبس المرأة البنطال أمام النساء السؤال هل يجوز للمرأة أن تلبس البنطال أمام النساء أو في بيتها؟ الجواب البنطلون فيه مفاسد عديدة من تحجيم أو بيان حجم أعضاء المرأة، وفيه من الفتنه والإثارة الشيء الكثير، ولذلك أرى أن المرأة إن استجازت -مثلاً- في بيتها الخاص أمام زوجها فقط؛ فهذا لا شك أنه لا بأس فيه، أما أمام النساء الأخريات فلا أرى أن تلبسه. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 29 موقف المرأة من الزوج المنحرف السؤال امرأة مخطوبة لرجل وهي تعرف أنه قد وقع في الفاحشة، ماذا تفعل هل تبلغ عنه؟ أم تستر عليه مع الرغم أنها امرأة غير منحرفة وهل يجوز لها أن تتزوجه؟ الجواب {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} [النور:3] فإذا علمت أن هذا الرجل يرتكب الفواحش، ويصر عليها، ويبحث عنها، فمن الدين والأمانة والنصيحة أن تبلغ المرأة المخطوبة بذلك، وأما إن كان في زلة ولعله تاب منها فلها أن تستر عليه حينئذ. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 30 سفر المرأة بغير محرم السؤال هل يجوز للمرأة أن تسافر بدون زوجها، مع العلم أن هذا الشيء خارج عن إرادتها، وفي البلد الذي هي فيه لا يوجد لها محرم غير زوجها؟ الجواب الأصل قول الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث في البخاري {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} وقوله: لا تسافر: عام يشمل كل سفر، وكل ما سمى سفراً لا يجوز للمرأة أن تخرج فيه إلا مع ذي محرم زوجها، أو أخوها، أو أبوها، أو قريبها، أو ابنها الذي هو محرم لها، أما إذا كان هذا الأمر خارجاً عن إرادتها مثل أن توجد في بلد ليس فيه محرم، وهي مضطرة إلى أن تسافر إلى بلد آخر لظروف قاهرة، وخاصة، واستثنائية؛ فالضرورة تقدر بقدرها مثل لو كانت في بلد صار فيها حرب أو قتال أو ما أشبه ذلك، واضطرت إلى السفر، أو كانت عند المشركين واستطاعت أن تنفك وتأتي إلى بلاد المسلمين؛ فقد ذكر العلماء أن لها أن تخرج، ومثله إذا كان هناك حاجة ملحة في ذهابها، وذهبت مع مجموعة من النساء مأمونات دينات موثوقات، والفتنه مندفعة حينئذٍ، فكل حالة لها أحكامها. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 31 موقف الفتاة من الانحراف والباطل السؤال نحن طالبات في المدارس نرى الباطل أكثر من الحق، فماذا نفعل ونحن نعلم أن الباطل كثير جداً؟ الجواب لماذا كان الباطل أكثر من الحق؛ لأن أهل الباطل جاهروا بباطلهم وأهل الحق استحوا أو تستروا حتى من إعلانه وإظهاره، ولذلك أقول: إنه كلما استطعنا أن نجند الفتيات في حمل الحق والدعوة إليه والمشاركة فيه -كما طلبت من قبل- في الدخول في أوساط البنات؛ حتى ممن يظهر عليهن بعض مظاهر الانحراف والتقصير، والتأثير عليهن استطعنا -بإذن الله عز وجل- أن نحول هذا الاتجاه ليكون الحق أغلب، والحق على كل حال غالب ولو كان قليلاً، فإن أهل الحق أقوياء بإذن الله. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 32 مس الكافر للمصحف في المدارس السؤال نعاني نحن المعلمات في المدارس من وجود طالبات نصرانيات، وكما تعلم أنه وجود مواد الدين ومنها حصة التلاوة، ومن قبل موظفي الرئاسة أن تؤدي الطالبة الاختبار في مادتي التلاوة والقرآن، وأن تمسك فيه؛ لأنه ليس فيه حرج، وقد طلبنا أكثر من مرة التصدي لهذا الأمر، ولكن كانت الإجابة دائماً أن تمسك الطالبة النصرانية وتتلوه مثلها مثل الطالبة المسلمة، أرجو القيام بعمل ما يمنع هذه الظاهرة وخاصة ونحن في بلاد إسلامية؟ الجواب إن شاء الله سوف نخاطب به إدارة تعليم البنات، وينبغي أن يكون الانتباه على هؤلاء الطالبات، وأن لا يكون لهن تأثير سيئ على الطالبات المسلمات، وينبغي أيضاً أن يكون هناك جهود لتحويل هؤلاء إلى فتيات مؤمنات. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 33 جهر المرأة في الصلاة السؤال هل يجوز رفع صوت المرآة في الصلاة السرية حتى لا يدخل الشيطان عليها إن كان لا يسمعها إلا محارمها؟ الجواب إن رفعت المرأة بقدر ما تسمع هي نفسها للحاجة؛ مثل أن تكون عندها شيء من الوسوسة فلا حرج. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 34 الخروج مع السائق للمحاضرة السؤال إذا حرصت المرأة على حضور المحاضرات والندوات والذهاب إلى المدارس لتعليم القرآن، وترتب على ذلك خروجها مع بعض السائقين بمفردها -أحيانا- للضرورة أو تقصيرها في بعض أمور بيتها؟ الجواب أما خروجها مع السائق بمفردها فلا أراه، وعلى أقل تقدير عليها أن تخرج مع مجموعة من النساء، وأما التقصير في أمور البيت فهذا أمر نسبي، فإذا كان هناك تقصير ظاهر يؤثر في البيت وفي نفيسة الزوج فلا شك أن الأقربين أولى بالمعروف، وبيتها أحوج بها، أما إن كان هذا التقصير يمكن تداركه أو تلافيه والمسالة مسألة استثنائية فهذا يقدر بقدره. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 35 عرض الولي موليته على الرجل الصالح السؤال تقول: لقد قرأت لأحد الأساتذة الطيبين تعليقا ًعلى مسألة الزواج، وهو أن الفتاة وأهلها عليهم أن يبحثوا عن الزوج الصالح لابنتهم، ولا ينبغي للفتاه أن تكون في انتظار متى يأتي الزوج الصالح، فهذا من أسباب العنوسة وتأخر الفتاة عن الزواج، وقد آلمني هذا الكلام كثيراً لدرجة أنني بكيت بحرارة، فكيف لي وأهلي أن يعرضوني للزواج فهل سيقبل ذلك من جميع الناس، فإنهم سوف يحتقرون هذا الفعل حتى الشباب الطيبين لا يقبلون أن تعرض عليهم الفتاه نفسها؟ الخ. الجواب في الواقع أن هذا الكلام ينبغي أن يكون فيه تفصيل، ونحن نعلم أن هناك من النساء من عرضت نفسها مثل بنت أنس بن مالك رضي الله عنها وعنه، أيضاً استغربت من أبيها وقالت: كيف امرأة تعرض نفسها، فقال: إنها كانت خيراً منك، أي: لا حرج في هذا؛ لكن قد تشعر كثير من النساء أحياناً بحكم تكوينها وطبيعتها أو حساسيتها أن هذا فيه حط من قدرها، أو نيل من كرامتها، فحينئذٍ ليس هناك ثمة داعي، والأصل أن الرجل هو الذي يبحث عن المرأة، هذا هو الأصل أن الرجل هو الذي يبحث عن المرأة ويسعى في الوصول إليها، وما قاله هذا الأستاذ فيه هذا التفصيل الذي أقوله، أما قول الأخت ادع الله أن يرزقني الزوج الصالح والذرية الصالحة، فأسأل الله أن يرزقك الزوج الصالح وجميع الفتيات المسلمات والمتدينات خاصة أن يرزقهن الناس الصالحين، وأن يملأ حياتهن سعادة وأنساً وتوفيقاً إنه على كل شيء قدير. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 36 دور الزوج في المنزل السؤال هل صحيح أن الرجل ليس له دور في المنزل غير الراحة والأكل بحجة أنه تزوج امرأة ملتزمة لكي تقوم بكل شيء من التربية والخ. ويحتجون بـ حسن البنا أنه قال لزوجته عندما كان ولده مريض: جده أعلم بطريق المستشفى وخرج؟ الجواب نعم، هذا صحيح أن الرجل ليس له دور في المنزل غير الراحة والنوم فقط، والدور الثاني له هو أن يمارس دورة في أخذ قسط من النوم، ولعل الأخت تعتبره جزءاً من الراحة على كل حال، نعم هذا هو بعض تصور الرجال أن دور الرجل في المنزل هو الراحة، وقد يسوغ لنفسه أنه داعية، وبناءً عليه؛ فهو مشغول عن المنزل، وأعتقد أنه من التضييع أن تضيع من تعول، {وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول p>} . فأنا لا أفهم أن يكون داعية والبيت أصبح له كالفندق يأوي إليه للنوم والشرب والأكل، وما سوى ذلك، بل الذي أفهمه أنه إذا كان داعية حقيقياً فبصماته واضحة على البيت، على سلوك الأهل في البيت، على الأولاد، على كل شيء في المنزل، ودوره في البيت لا يقل عن دوره في الخارج؛ حتى لو كان بقاؤه وقتاً محدوداً؛ فليس بالضروري أن يكون معنى ذلك أنه يقضي في المنزل وقتاً طويلاً، ولكن هذا الوقت القصير الذي يقضيه هو وقت مؤثر وفعال، ويعطي أهل البيت حقهم، أنا أجد الآن أن بعض التجار الكبار الذين يتحملون مسؤوليات كبيرة في المجالات التجارية؛ فإذا بحثت عن سيرتهم الخاصة في داخل البيوت وجدت أنهم أعطوا بيوتهم قسطاً لا بأس به؛ حتى أن بعضهم -مثلاً- يخصص للبيت ولو في الشهر أسبوع، في نهاية الأسبوع الأربعاء والخميس والجمعة يخرج بأهله بحيث لا يعلم به أحد، ويخصص هذا الوقت للأهل، للأولاد، للبنات ليتحدث معهم، ويباسطهم ويزيل عنهم كل أنواع الوحشة، أو الغربة، وهم ناس يتحملون مسئوليات جسام وكبار. فالداعية من باب أولى ينبغي أن يدرك أن أهله أحق بدعوته، ولذلك أقول: ليس صحيحاً أن رجلاً دوره في المنزل مجرد النوم والأكل فقط؛ وإن كان هذا الواقع بالنسبة لبعض الأزواج. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 37 وضع العدسات الملونة للمرأة السؤال ما حكم وضع العدسات الملونة ليس فقط للجمال وإنما للنظر؟ الجواب أما إن كانت العدسة من أجل النظر فلا أعتقد أن في هذا شيئاً، أما إن كانت للجمال فبعضهم قد يعترض عليها، وأنا أرى أيضاً أنه جائز أن توضع هذه الأشياء أيضاً، فلا فرق بين ألوان المكياج التي تضعها المرأة متى كان ذلك في حدود الاعتدال. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 38 قص شعر رأس المرأة السؤال ما حكم قص الشعر للمرأة حتى تجعله فوق أذنيها قريباً من الولد مع العلم أن هناك مرض للشعر لا يذهب إلا بقصه؟ الجواب بالنسبة لتجمل المرأة لزوجها أو تجملها بقص شعرها فيه كلام، فمن الفقهاء من يقول بتحريمه مطلقاً، ومنهم من يقول بكراهيته، ومنهم من يقول بإباحته، والذي أذهب إليه: أنه يجوز للمرأة أن تقص شعر رأسها كما جاء في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها {أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة} أي: يكون الشعر إلى ما فوق الكتف تقريباً، وهذا كما قال العلماء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن تراعي الفتاة في هذا أمور: الأمر الأول: ألا تتشبه في ذلك بالشباب الأولاد فالبعض تقص شعرها وتنهكه حتى يكون كشعر الولد. الأمر الثاني: ألا يكون التشبه بالكافرات، -مثلاً- بعض البنات تتابع التسريحات أولاً بأول، وكلما جاءت تسريحة جديدة قلدتها؛ حتى أن من البنات مثلاً من تصبغ شعرها بلون معين، ثم بعد أن تتغير التسريحة تحاول أن تغيره إلى ألوان أخرى، أو تحاول أن تعيده إلى اللون الأسود الذي كان عليه، وغير ذلك مما يدل أنها فقدت شخصيتها واستقلالها، وأصبحت تأخذ كل شيء عن الغرب، ولا شك أن متابعة التسريحات والتقليعات أمر مذموم، ولا يليق بالمرأة المسلمة التي لها قوتها وشخصيتها واستقلاليتها، فلا تكون مجرد سوق لرواج العادات والتقاليد الغربية. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 39 حكم ما خرج من فم الطفل السؤال ما حكم الصلاة بثياب عليها بعض ما خرج من فم الطفل الرضيع، خاصة إذا كان كثير الاستفراغ على مدار اليوم، ومن كثرته يلاحظ أن هذا الذي خرج من جوفه قد تغير؟ الجواب إذا كان الذي خرج من جوفه قد تغير بطول مكثه في جوفه فالذي يظهر لي أنه لا بد من غسله، أما إن كان لم يتغير أي أنه خرج بعد أن شربه مباشرة وخرج كما هو من غير تغير؛ فالأظهر أنه لا يعد نجساً ولا يجب إزالته. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 40 منع الأزواج زوجاتهن من الأنشطة الدعوية السؤال تمنيت أن هذا الكلام موجه إلى الرجال؛ لأنهم دائماً يمنعون النساء من الأنشطة ويقولون لها: إن البيت والأولاد ورعاية زوجك أهم من تلك المحاضرات والندوات، وخاصة أنهم لا ينقلون للنساء العلم الشرعي وما يسمعونه في المجالس الشرعية، ونتمنى أيضاً أن تكون محاضرات العلماء للمرأة ليست خاصة بموضوعات المرأة كالزواج والطلاق والحيض والنفاس وغيره حتى نستطيع الرد على أعداء الإسلام من العلمانيين وغيرهم، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب هذه المحاضرة هي جعلت للرجال والنساء على حد سواء، وليس القضية قضية مواجهة أو مغالبة بين الرجال والنساء، بل على العكس ينبغي أن يكون بين المرأة وبين الرجل قدر كبير من التفاهم والنقاش الهادئ البعيد عن المشادة، فالمرأة لا أعتقد أنها تمثل وجهة نظر النساء، والرجل يمثل وجهة نظر الرجال، لا، خاصة إذا كانت امرأة مع زوجها ينبغي أن تشعر هي وهو أنهم يمثلون شركة واحدة، ولا بد أن يكون هناك تفاهم كبير حول القضايا التي تثور حولها الخلافات فيما بينهم. أما مسألة المحاضرات: فالواقع أن هناك محاضرات للنساء ليس فقط عن القضايا التي تخص المرأة بل موضوعات كثيرة، وبالمناسبة فهناك دروس علمية مخصصة للمرأة ألقيت منها ما يزيد عن أربعة أو خمسة دروس، وأنا بصدد استكمالها، وأتمنى دائماً من الأخوات المشاركة من خلال الاقتراحات والموضوعات، وبيان الأخطاء الموجودة عند المرأة؛ لأن قابلية المرأة على معرفة عيوب المجتمع النسائي وأمراضه وسبل علاجه، ونفسية المرأة وكيفية مخاطبتها أكثر من الرجل؛ فإذا تحدثنا بالأسلوب التي كتبته المرأة وخاطبت به أختها كان ذلك أبلغ في التأثير في الغالب. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 41 طلب عنوان الشيخ وغيره السؤال تقول: تأتي علينا أوقات نجد فيها أحداثاً نود الإرسال إليكم، أو إلى الشيخ سفر الحوالي أو الشيخ ناصر العمر؛ لكننا لا نعرف العنوان وكذلك عنوانك؟ الجواب أما عنواني فأعيده مرة أخرى؛ لأني لاحظت ارتفاع الأصوات مما دل على أنه لم يكتب جيداً فصندوق البريد عندي: (2782) القصيم - بريدة أو على كلية الشريعة بالقصيم. ولكني أفضل أن يكون الاتصال عبر الفاكس ورقم الفاكس (063234101) أو رقم الهاتف (063230789) والهاتف بعد صلاة الظهر من الساعة 1 إلى الساعة 2 أما بالنسبة للشيخين فالشيخ سفر الحوالي في جامعة أم القرى. والشيخ ناصر العمر في كلية أصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض هذا الذي أعرف. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 42 هم الإسلام عند المرأة السؤال تقول ثانياً: في محاضرة (من يحمل هم الإسلام) ذكرتم أن الإحساس تجاه هموم الإسلام أصبح عند الكثير من المسلمين حتى الصالحين إلى درجة تصل إلى أقل القليل، والمرأة أحوج ما تكون إلى مثل هذه المحاضرات؛ لأن الإحساس عندها تجاه هموم الإسلام أصبح معدوماً؛ إلا من رحم ربي، ظناً منها أن ذلك لا يخصها وهو من خصوصيات الرجال؟ الجواب أولاً أعتقد أن الأمر ليس معدوماً، قد يكون أقل مما نريد، ويكفي أن بعض الأسئلة التي مرت قبل قليل تتحدث فيها بعض الأخوات عن أنها باعت نفسها لله عز وجل، وآلت على نفسها أن تسلك طريق الجهاد، والدعوة إلى الله تعالى، وطلب العلم النافع، والدعوة إليه، ونحن نطالب الأخوات بأن لا ينتظرن دائماً وأبداً أن يتحدث الرجال عن القضايا هذه بل يكون للأخوات مشاركة ودور كبير. من أهم القضايا التي ينبغي الطرق عليها أن نطالب كل امرأة أن يكون لها مشاركة في الدعوة؛ ليس شرطاً أن تكون عالماً أو فقيهاً أو مفتياً أو امرأة كاملة حتى تقوم بالدعوة؛ لا، تقوم بالدعوة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آيه} وكما قال عليه الصلاة والسلام: نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فوعاه وبلغه إلى غيره، فرب مبلغ أوعى من سامع} فنحن نطالب جميع الفتيات المتدينات ألا يوجد من بينكن امرأة بطالة لا عمل لها في مجال الدعوة، بل تدعو إلى الله تعالى بقدر ما تستطيع؛ ولو كان عندها تقصير، ولا تدعو إلا إلى ما تعلم هي، أما ما لا تعلم فتقول: الله أعلم. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 43 حول إنشاء جريدة إسلامية ل السؤال ثالثاً: في محاضرة (حقيقة التطرف) وعدتم بتدارس إنشاء جريدة إسلامية مع العلماء، فماذا عنها؟ الجواب تدارس إنشاء جريدة إسلامية مثل الذي طرح قبل قليل عن شأن معهد لإعداد النساء الداعيات هو إن شاء الله قيد البحث والدراسة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 44 العلاج بالرقى وموقعه من التوكل السؤال تقول: أولاً: جزاك الله خيراً. ثانياً: أرجو إفادتي في أنه إذا مسني الضر في أمر من الأمور وأحسست أن علىّ أمر طبيعي، وأردت الذهاب إلى شيخ موثوق ليقرأ عليّ، فهل هذا الأمر ينافي أمر التوكل على الله أم أني أتوكل على الله ولا أذهب إليه؟ الجواب أما بالنسبة للذهاب لعالم أو طالب علم ليقرأ فهذا لا حرج فيه، وهو أحد الأسباب الشرعية؛ لكن ينبغي أن تراعي الأخت حين تذهب أولاً: التحفظ، البعد عن الملابس الضيقة، البعد عن الطِّيب، ألا تذهب بمفردها بل يكون معها أبوها أو أخوها أو زوجها، ولا تسمح بأن ينفرد هذا الإنسان بها حتى ولو كان صالحاً؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} حتى لو كان هذا الرجل عالماً أو داعية أو قارئاً أو أي شيء آخر يكون الشيطان معه، والشيطان لا يوقر أحداً ولا يحترم أحداً فتراعي ذلك كله، وهذا أحد الأسباب؛ فأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رقوا المريض، ومن مرض منهم رقاه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 45 جهاد المرأة السؤال ما هو الجهاد المطلوب من المرأة في هذا الزمن العصيب، الذي يحارب فيه الإسلام جهاراً نهاراً، مع ملاحظة وجود العدو في أرض المسلمين مثل اليهود الذين يحتلون أقطار شتى من الوطن العربي، والذين يجندون جميع الشعوب من أجل خدمة الصهيونية، وكذلك وجود الصليبيين بشكل رسمي وغير رسمي في كثير من بلاد المسلمين، والله المستعان؟! الجواب أولاً: من أبرز صور الجهاد أن تصل المرأة إلى هذه الدرجة من الوعي في إدراك حقيقة الموقف الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وأن المرأة حينئذٍ ينبغي أن تكون في خندق المواجهة مع أعداء الإسلام وخصومهم. ثانياً: ينبغي أن ندرك أن هذا الوقت الذي نعيشه هو وقت الجهاد بالدعوة والإصلاح والتربية، فإن الأمة المسلمة وإن كانت تواجه حرباً في فلسطين، أو في البوسنة والهرسك، أو في أكثر من بلد إسلامي إلا أنها مع ذلك لم تصل إلى حد درجة المواجهة الواضحة المكشوفة مع العدو النصراني اليهودي، وأعتقد أن هذه المواجهة سوف تأتي غير بعيد كما تؤشر إلى ذلك كثير من الأحداث، وعلى سبيل المثال: قرأت تقريراً يتكلم عن كثير من المسلمين في دول البلقان، وأنتن تسمعن كثيراً أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك، وكيف وصل الحال إلى حد محاولة التصفية للوجود الإسلامي، هؤلاء المسلمون الذين يقتلون ليسوا من المسلمين الأتقياء الذين يقومون الليل ويصومون النهار، هم مسلمون عاديون، حتى إن بعضهم لا يصلي وبعضهم بعيد عن الإسلام، ولكن لهم انتماء ديني، وعندهم شعور بالإسلام، وعندهم استعداد للتعلم. فالنصارى لا يطيقون وجود إنسان مسلم أصلاً، أو اسمه محمد أو عبد الله أو غير ذلك، ولا بد من القضاء عليه. والمسألة الآن مسألة تصفية جسدية وقضاء على الوجود الإسلامي مع تأييد واضح من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها لهذه العملية التنصيرية، حتى نجد أن بطرس غالي هذا النصراني المتعصب أصبح يعترض على تدخل الأمم المتحدة في تلك البلاد، ويطالب بأن تتدخل في الصومال وغيرها من البلاد الإسلامية، من أجل منع المسلمين من الوصول إلى السلطة، ولكنه يمنعها ويحارب تدخلها أو وصولها إلى داخل البوسنة والهرسك؛ لأنه يريد أن يتمكن بني جنسه وبني دينه من القضاء على المسلمين. وقرأت تقريراً يقول: إن هناك مخاوف تتزايد في بلاد الغرب أن تتطور هذه الحرب إلى معركة دامية في جميع دول البلقان، وأن المسلمين مثلاً في كوسوفا وهي واقعة تحت حكم الصرب، وعددهم يزيد على مليونين ويشكلون (90%) من هذه الولاية أنهم الآن قد طالبوا باستقلالهم، وقد عينوا لهم رئيساً، ويطالبون دول العالم بالاعتراف وفي حالة ما إذا لم تعترف دول العالم بهم فإنهم يجمعون الآن أسلحة ويخزنونها، وربما يقومون بثورة عارمة وقوية، فإذا قام المسلمون فلا شك أن الصرب سوف يجدون أنفسهم بين فكي الكماشة، فالمسلمون في البوسنة والهرسك يقاتلونهم، والمسلمون في كوسوفا يقاتلونهم، فضلاً عن وجود للمسلمين في الجبل الأسود، ووجود المسلمين في ألبانيا وغيرها من الدول، وربما كانت هذه شرارة لحرب ضروس بين الإسلام وأعدائه، ولكن لا يزال الأمر دون ذلك، وهذا لا يعدو أن يكون تحليلاً أو توقعاً، فالميدان الذي نتطلب أن يكون الجهاد فيه هو الجهاد بالدعوة، الجهاد بالتعليم، الجهاد بالتربية، الجهاد بالإصلاح، الجهاد بالمشاركة المالية؛ فهذا من أكثر ما نحتاجه من الأخوات المسلمات. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 46 حضور الزواج المشتمل على مخالفات السؤال هل يجوز حضور الزواج إذا كان هناك ضرب بالدفوف ولكن معه غناء وغزل ولو كان قريب كأخ أو عم أو غير ذلك؟ وإذا أرغمتنا الوالدة على الذهاب فما نعمل؟ الجواب إذا كان هذا الزواج ما فيه إلا الدف فقط، والغناء الذي يقوم به نساء حاضرات بعيد عن الكلام الفاحش، والكلام المثير للشهوة، وفي وسط النساء، وبدون مكبر الصوت فلا يسمعها الرجال، وبدون تصوير هذه الحفلات؛ فلا أرى حرجاً في حضوره، أما إذا كان فيه تصوير الفيديو -كما هو الواقع في حال الكثير من الزواجات- أو فيه غناء من الأغاني المتداولة التي تذاع أحياناً في الإذاعات، والتي تقدم في التلفاز، وقد يكون الغناء أحياناً عبر أشرطة وعبر مكبرات الصوت التي يسمعها الرجال، وقد يكون فيه اختلاط، وقد يدخل العريس على زوجه أمام النساء، وقد يصافحها، وقد يجلس بجانبها -كما هو الواقع في بعض البيئات- فلا شك أن هذا لا يجوز حضوره إلا إذا اعتقدت المرأة أنها تستطيع أن تغير هذه المنكرات. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 47 شعور الشابات بالضيق من كثرة اللبث في المنزل السؤال بعض النساء وبالذات المراهقات يشكون مما يسمينه بالطفش لسبب عدم الخروج للتمشية أو السوق أو غيره، وأنت تعلم المنكر في هذا كله، فكيف نقنعهن بالعزوف عن ذلك أفيدونا؟ الجواب هذه القضية أصلاً بالدرجة الأولى هي قضية فراغ، فالفتاة إذا شعرت بالفراغ وأنها تظل أربعة وعشرين ساعة ليس لها عمل تؤديه في المنزل بالتأكيد سوف تشعر بما عبرت عنه الأخت (بالطفش) وأنها بحاجة إلى أن تخرج السوق أو إلى غيره للتمشية هذا جانب، فإذا استطعنا أن نملأ وقت الأخت بالنافع المفيد من الكتب، من الأشرطة، من النشاطات، من الاتصالات، من الأعمال فسوف تجد الراحة؛ حتى في استغلال مواهب الفتيات فقد تكون هذه الفتاة عندها موهبة الخط، وأخرى عندها موهبة الرسم، وثالثه ورابعة عندهن مواهب معينة؛ فنحاول أن نغرقهن في الاستفادة من هذه المواهب وتحريكها، يمكن أن تأتي بالخير الكثير عليهن هن، وعلى بعض النشاطات الإسلامية على صورة المتدينات في المجتمع، فإذا استطعنا أن نملأ وقت فراغهن فسوف يزول هذا أو على الأقل يخف. أمر آخر: ينبغي أن يكون هناك قدر من إعطاء الفتاة شيئاً من الفسحة بما لا يتنافى مع حفظ وقتها ولا مع أخلاقها، فيذهب بها -مثلاً- أبوها أو أخوها أو زوجها في جو من الحشمة، وبعيداً من المنكرات، وفي حالة أنه رأى شيئاً من عدم الحشمة أو رأى شيئاً يعيب لا يسكت بل يعيب ويبين أن هذا عيب أو هذا خطأ، فإذا وقف على مشهد غير جيد تحدث أن مثل هذا الأمر: ما هي عواقبه، وما هي نتائجه، حتى تأخذ هي العبرة من غيرها، والسعيد من وعظ بغيره. وأيضاً التربية لها دور كبير: فالمرأة إذا اعتادت على كثرة الخروج من المنزل أصبح المنزل بالنسبة لها كالسجن، تشعر بأنها مكبلة فيه حتى تخرج؛ لكن إذا كانت معتادة أن تظل في المنزل وقتاً طويلاً لم تشعر بأي كلفة أو مشقة في ذلك. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 48 دعايات ألعاب الأطفال السؤال ما رأيك فيما ينشر في الأسواق من دعايات حول بعض الألعاب مثل "باربي والسلحفاة" وغيرها وإشباع جميع الحاجات بها، وتعلق الأطفال بها، فما هو المقصود، وما هو عمل الأم تجاه ذلك وجزاك الله خيراً؟ الجواب هذه الصور أولاً بعضها صوراً مجسمة تحاكي الصورة الحقيقة، مثلاً صورة بنت كأنها صورة بنت حقيقة، هي دمية، لكن بعينين وأنف وفم، وأحياناً مكياج وأذنين وجميع التقاسيم واضحة، وهذا في اعتقادي أن مجرد اقتنائها يعتبر حراماً فضلاً عن أن كثيراً من هذه الألعاب هي عبارة: عن وسائل للإفساد، ووسائل للتخريب، ووسائل للتنصير أيضاً، فقد تجدين من هذه الألعاب صديق مع صديقته يذهبان للنزهة، ويذهب معها للسباحة وإلى الملهى، وأحياناً تكون بملابس شبه عارية، كل هذه الأشياء يتعلم الأطفال من خلالها الكثير الكثير، ولذلك ندرك إن مثل هذه الألعاب هي نوع من الغزو المركز الذي قد لا تدركه الأم لأنها كبيرة، ولكن نفسيات الأطفال تتأثر به إلى حد بعيد. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 49 اقتراح إنشاء معاهد لإعداد الداعيات السؤال تقول: نحن فتيات مسلمات نحب الإسلام والعمل من أجل الدين، وقد بعنا أنفسنا لله وإن الله اشترى من المسلمين أنفسهم وأموالهم، ولكن يقف بين إتمام أعمالنا الدعوية وبيننا عدم وجود المحرم الذي يساعد الفتاة على إتمام الدعوة إلى الله، فيا حبذا لو كان هناك معهد لإعداد الداعيات مثل معاهد إعداد الدعاة، وحتى تتم الفائدة من هذه الطاقات والقدرات التي تهدر هباءً منثوراً في وقت نحن بحاجة فيه إلى كل وقت يبذل في سبيل الله؟ الجواب أسأل الله أن يتقبلك فيمن باعوا أنفسهم لله عز وجل، وأن يثبتك بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن يكثر في المسلمين من أمثالك إنه على كل شيء قدير، وأما ما يتعلق بهذا الاقتراح فهو من الناحية النظرية اقتراح وجيه جداً متى وجدت الأنظمة التي تحكمه وتضبطه، وأما من الناحية العملية فربما يكون معه بعض الصعوبات، ومع ذلك فإنني أعد الأخت بأن أتدارسه مع إخواني من المشايخ وطلبة العلم والدعاة لعله أن يكون ثمة سبيل على تنفيذه ولو بشكل جزئي. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 50 المرأة بين الدعوة وحقوق البيت السؤال كثير من الأخوات الداعيات قصرن أعمالهن للدعوة بعد زواجهن بحجة أن واجبها نحو منزلها هو بالدرجة الأولى في حين إمكان التوفيق بين المنزل والدعوة فلو بينت ذلك؟ الجواب عملها في المنزل ومع زوجها ينبغي أن تشعر أنه جزء من الدعوة، فيجب أن تشعر به وهي تدعو زوجها، وإن كان زوجها داعية تيسر له الجو المناسب لاستمراره بالدعوة هذا جزء من عملها. ثانياً: نعم نشاهد أن هناك عدداً غير قليل من الفتيات يعتبر زواجها هو الحلقة الأخيرة من سلسلة نشاطها الدعوي، ونستطيع أن نقول: إن فلانة انتقلت إلى بيت زوجها -رحمها الله- فانتهى بذلك عملها، وكل شيء يتعلق بماضيها، وكل ما أصبحت تملكه مجرد ذكريات حلوه ترددها بين الحين والآخر وهذا لا يكفي: إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي ولا ينبغي أن تكون الفتاة (كنتية) تتلذذ فقط بترديد ذكريات سابقة، بل ينبغي أن يكون حاضرها خير من ماضيها، ومستقبلها خيراً من حاضرها. ثالثاًً: ينبغي للأخت الداعية أن تختار زوجاً مناسباً لها أي: تختار الزوج المناسب الذي ترى أن طبيعته ملائمة لطبيعتها كداعية، فمثلاً: إذا كانت الأخت الداعية اختارت أو وافقت على رجل هو الآخر تعلم أنه مشغول بالدعوة إلى أذنيه، تعتقد الصورة هنا ليست ناضجة تماماً وهذه تواجه مشكلة فعلاً, فهذا الرجل لا يستطيع أن يذهب بها إلى مجالات الدعوة، وهو نفسه مشغول، وبحاجة إلى توفير جو مناسب له في البيت، فستجد نفسها هي مضطرة إلى أن تتنازل عن دعوتها؛ من أجل أن يستمر هو في دعوته، لكن لو أنها قبلت بشاب مستقيم صالح وطيب ويمكن أن يساعدها هو؛ بل يمكن أن يكيف هو نشاطاته معها -وأعرف نماذج من هذا القبيل طيبه جداً- فإن هذا من أهم الوسائل التي تجعل الفتاة تستمر في أعمالها الدعوية، ومع ذلك هذا نوع من الجهاد في التوفيق بين الواجبات، فالواجبات كبيرة -لا شك- وأكبر من إمكانيات الإنسان فيسعى الإنسان للتوفيق بينها، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري: {سددوا وقاربوا} . الجزء: 133 ¦ الصفحة: 51 رحلات المراكز الصيفية السؤال ماذا نعمل من أجل الرحلات التي تقوم بها المراكز الصيفية التابعة لتحفيظ القرآن إلى المصانع، والملاهي، والمطاعم، والحدائق، وإلى البحر في فلة للسباحة، والفسحة، وهذا من الصباح حتى المغرب. هل أسمح لبناتي بالذهاب، وإذا كان الجواب بالنفي كيف أقنع بناتي مع أنها تابعه لتحفيظ القرآن الكريم؟ الجواب أنا لا أستطيع أن أتكلم عنها بالذات لأنني لا أعرف واقعها. في الواقع من السابق لأوانه أن أتكلم عما لا أعرف، لكنني أقول: يمكن أن نقسم هذه الأعمال إلى نوعين: النوع الأول: يوجد نشاط متحفظ وملتزم بجميع الشروط والضوابط الشرعية، فالمرأة فيه بعيدة عن الرجال، بعيدة عن الاختلاط، بعيدة عن أن ينظر الرجال إليها، بعيدة عن كل ألوان المخالفات الشرعية، ويكون هناك ذهاب إلى مكان قريب، وليس فيه أيضاً سفر يتطلب وجود محرم، يتطلب وجود مثل هذا القبيل وفيه فائدة، هذا لا بأس به. النوع الثاني: قد يكون النشاط -أحياناًُ- إسلامي، ولكن فيه مخالفات ومجازفات وتجاوزات كثيرة، وربما قرب من الرجال، أو اختلاط بهم الناس، أو حتى مع المرأة لها ضوابط وحدود، فمثلاً إذا كانت (السباحة) واقفة معبراً هل من حق المرأة فعلاًَ أنها تسبح مع نساء أخريات؛ مع أنه ربما يترتب على هذا ظهور بعض أجزاء من جسدها أو بملابس ضيقة أو غير ذلك، هذا لا يجوز!! الجزء: 133 ¦ الصفحة: 52 التطيب والخروج في الطرقات السؤال أضع العطر لأطفالي الصغار عند خروجي من المنزل، ويمكن أن أمر من أماكن يوجد فيها رجال ويشمون هذا العطر فما هو حكم ذلك؟ الجواب إذا كان هذا العطر على الأطفال وليس على المرأة نفسها فلا حرج فيه -إن شاء الله- وإن كان الأفضل أن لا تستعملينه إذا كنت تتوقعين أنكِ سوف تمرين على رجال، لاحتمال أنهم سوف يتوهمون أن هذا العطر صادر من المرأة ذاتها. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 53 التعامل مع من بعض ماله حرام السؤال ما حكم من يتعامل مع من يتعاملون بالربا إذا كان لهم مصدر آخر وهل يجوز الأكل معهم؟ الجواب الذين يتعاملون بالربا على نوعين: النوع الأول: رجل كل كسبه من مال ربا، بمعنى أن ماله (100%) من مصادر ربوية، فهذا لا يجوز الأكل منه، ولا قبول هديته حتى لو كان أباً أو زوجاً، وعلى كل حال هذا النوع قليل. النوع الثاني: إنسان يتعامل بالربا لكن له مصادر أخرى، فقد ورث بعض المال عن أبيه أو جده، وله عمارة ودكان وله كذا وله كذا فهذا يعتبر ماله مختلطاً مشوباً فيه مال حلال وفيه مال حرام فهذا يجوز التعامل معه، وقبول هديته، والأكل من طعامه وأنت تعرفين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يأكل عند اليهود، ودعاه يهودي إلى خبز الشعير وإهالة سمن فأكل عنده صلى الله عليه وسلم، وأكل عند المرأة اليهودية التي دعته في خيبر ووضعت في الشاه سماً؛ مع أن اليهود وصفهم الله تعالى أنهم من أكلة الربا، وأنهم قد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 54 كيف يكون الأب قدوة السؤال تقول: الرجاء أن تخبرنا عن دور الأب في داخل المنزل، وكيف يكون قدوة، مع توضيح دوره في تعليم زوجته الخاصة، ووضع وقت خاص لها لتعليمها أمور دينها. ملاحظة: رجاء عمل محاضرة خاصة تخص الرجل تخص أموره كاملة؟ الجواب أعتقد أن هذا السؤال ليس ضرورياً في هذا الموقع بالذات؛ لأن الحديث موجه إلى المرأة ومن الممكن أن نعالجه بمناسبة أخرى، وأتذكر موضوع السؤال عن بعض الكتب وقد ذكرت قائمة طويلة بالكتب المناسبة بالمرأة في درس خاص عنوانه (هموم فتاة ملتزمة) وسوف يطبع قريباً -إن شاء الله- وسوف يكون في كتيب في متناول الأخوات. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 55 نساء يسمعن ولا يغيرن من أحوالهن السؤال تقول أرجو توجيه كلمة إلى النساء، لأن كثيراً منهن يحضرن المحاضرات ويستمعن ثم لا يغير ذلك من سلوكهن شيئاً؟ الجواب وهذا ناتج عن سوء التربية، لأن الصحابة رضي الله عنهم ما كان الواحد منهم يسمع عن الرسول إلا ينتظر حتى ينتهي السماع ليقوم بدور العمل والتطبيق لم يكن عندهم فاصل لدور التلقي ودور التطبيق، فهو يتلقى من أجل أن ينفذ، ولذلك لا تجدين في حياة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أناساً متفرغين فقط لطلب العلم أبداً، يجلس المجلس الآن ليسمع أمراً أو نهياً ثم يقوم وينفذه، ويذهب إلى البيت فيقول لأهله أمر اليوم بكذا، ونهي اليوم عن كذا، وسبحان الله! كانوا مثل الجنود في ميدان المعركة ينتظرون أوامر من القائد فمجرد ما يصدر الأمر يتم التنفيذ حالاً، أما اليوم فأصبح كثير من المسلمين يستمع وقد يعطي حكماً على ما يستمع فيقول: والله اليوم استمعنا إلى محاضرة قيمة، وأمس استمعنا إلى محاضرة جيدة، ومرة أخرى فيقول: إلى محاضرة لكن ما كانت بالمستوى المطلوب، ومرة يقول: والله كان كذا، ومرة المحاضرة ما كانت على مستوى الحاضرين، ومرة كذا، يهمه تقييم المحاضرة على المستوى الذي صار فيه؛ لكن أن يسمع من أجل أن ينفذ ويطبق ويقول: هذا خير عرفته فسأعمل به، أو شر عرفته فأتركه؛ هذا -مع الأسف- غير موجود، وينبغي أن يكون هذا أحد القضايا التي يتحدث عنها مع المسلمين الرجال والنساء. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 56 المرأة وطلب العلم الشرعي السؤال تقول بعض النساء التي يذهبن إلى المحاضرات والندوات، والسؤال عبر الهاتف عن أحكام الدين دون أن تحث هي نفسها على القراءة وطلب العلم، فهي تكتفي فقط بسماع الحكم والسؤال عنه دون أن تبذل جهداً في طلب العلم الشرعي؟ الجواب كل ذلك حسن، فأن تحضر المرأة الدرس أو المحاضرة أو الندوة، أو تتصل عبر الهاتف وتسأل عن أمر دينها فهذا أمر لا بأس به، لكن وينبغي أن تدرك المرأة أن هذا ليس بديلاً عن أن تقوم هي بتعلم العلم الشرعي من خلال الشريط والكتاب، ومن خلال البحث، ومن خلال الوسائل الممكنة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 57 تكوين داعية مسلمة السؤال كيف تكون المرأة داعية، وما هي الكتب التي تنصحها بقراءتها؛ مع العلم أن في الزمن الحاضر أصبحت المرأة تقوم بدورها ودور الأب في المنزل لانشغال الأب بالعمل والدعوة، ولا تجد وقتاً حتى لقراءة القرآن؟ الجواب أما كيف تصبح المرأة داعية؛ فالدعوة لا تقتضي أبداً للرجل ولا المرأة أن يتخلى عن أموره وهمومه الخاصة، المهم أن تبقى الدعوة هماً في القلب بحيث يستفيد الإنسان ويستثمر كل فرصة متاحة له في الدعوة إلى الله ولو بكلمة طيبة، أو مشاركة، أو نصيحة عبر الهاتف، أو زيارة ولو جزئية، ولذلك أقول: المرأة تواجه اليوم صعوبات في القيام بالدعوة، لأن الدعوة صارت مسؤولية فئة خاصة من النساء؛ لكن لماذا لا يكون همكن أنتن -أيتها الأخوات- إخراج أعداد كبيرة من النساء الداعيات؛ بحيث لو تصورنا -مثلاً- أن النساء اللاتي يقمن بالدعوة في مدينة جدة عشرون امرأة لوجدنا بأن امرأة واحدة مطالبة: بأن تخصص للدعوة في اليوم الواحد -مثلاً- أربع أو خمس ساعات، وهذا الأمر صعب بحكم ظروفها الشخصية والاجتماعية وغير ذلك، ولكن لو تصورنا أن هذا العدد تحول من عشرين امرأة إلى مائة امرأة وأصبحت كل واحدة من هؤلاء النسوة تشعر بأن عليها مسؤولية الدعوة؛ لكان يكفينا من هؤلاء المائة أن تقوم كل واحدة منهن يومياً بساعة واحدة في الدعوة إلى الله، وتغطي مائة ساعة من التي كانت تغطيها عشرون امرأة، إذاً ينبغي أن نعمل على مشاركة عدد كبير من النساء، وليس شرطاً في المرأة لكي تكون داعية أن تكون عالمة ولا فقيهة ولا مفتية، بل ولا حتى كاملة، ولا مانع أن تدعو المرأة وهي عليها بعض الأخطاء، وتدعو الناس إلى الله عز وجل، وتدعو النساء في الأمور التي أصابت فيها، ولو قال قائل كيف تدعين وأنت عليك ملاحظة كذا وكذا؟ قالت: نعم، أنا أدعو إلى أشياء من الدين، وعليها أدلة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الأخطاء -جزاكم الله خير- أن نبهتموني عليها، وأرجو الله أن يعينني على تداركها في هذا السبيل، على فرض أني ما وافقت في التخلص منها فكما قيل خذ من كلامي ولا تنظر إلى عملي فلا يضررك قولي ولا يضررك تقصيري. أما مسألة قيام المرأة بدور الأب فهو جزء من الدعوة، فلماذا تتصورين أن الدعوة فقط هي إقامة دروس ومحاضرات من النساء البعيدات، فأنت تقومين في البيت بدور الدعوة، وتربية الولد من الدعوة، وإنشاء معاني الجهاد والتضحية عند أولادك من الدعوة، وتربية بناتك على الحياء والعفاف والتطهر من الدعوة، وينبغي فيما يتعلق بالذكر والدعاء وما إلى غير ذلك ينبغي أن تحرص المرأة على الاستفادة حتى من أوقاتها التي تقضيها في المنزل، وتستعد لاستقبال زوجها، فهي تستطيع أن تعمل بالوصية التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل الذي قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به، يقول هذا الرجل: أنا تشتت ما أدري ماذا آخذ، وماذا أدع، قال له النبي صلى الله عليه وسلم، لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى} . الجزء: 133 ¦ الصفحة: 58 التعامل مع الزوج غير الملتزم السؤال هذا السؤال يقول: أنا سيدة ملتزمة ولكن زوجي غير ملتزم، واستطعت بفضل الله أن أقنع أولادي على عدم مشاهده التلفاز، ولكن زوجي أحضر إلى البيت القمر الصناعي أو ما يسمونه (الدش) فماذا أعمل معه؟ وما هي الطريقة لإقناعه؟ مع العلم أنني حاولت معه من دون فائدة، فماذا تقول؟ الجواب يبقي الدور الذي تقومين به دوراً جباراًَ، فأولادك يمكن أن يكونوا خمسة أو ستة أو عشرة، ومعنى ذلك أننا -بإذن الله- ما دمت أنت ملتزمة فنحن على ثقة أنه سوف يخرج من بيتك عشرة أفراد ذكور وإناثاً صالحين مستقيمين، لأن الفترة التي يقضيها في البيت فترة طويلة، وتأثير الأم عليه خطير وكبير، وبناءً عليه ينبغي أن يكون لك دور كبير في دعوة أولادك وتربيتهم على الخير، وإقناعهم بضرر مثل هذا الجهاز، وأهميته تجنبه، وإذا تجنبه الأطفال والرجال والنساء وأدركوا ضرره فإن الأب سوف يدرك أن وجوده في البيت نوع من العبث، هذا فضلاً أنه ينبغي أن لا تيئسي من زوجك، وأن تظلي تضربي على هذا الوتر، فنحن ندرك أن المرأة لو هويت شيئا ًمن أمور الدنيا وظلت بلطف تطلبه من زوجها فإنها لا بد أن تنتصر في الأخير، فإذا طلبته اليوم منه واعتذر صبرت حتى تجد نفسيته مستقيمة يوماً من الأيام وقالت له: يا أبا فلان! أنا أتمنى أن تفعل لي كذا وكذا، فقد يعتذر لكن يعتذر هذه المرة اعتذاراً رخواً، فإذا قالت له في المرة الثالثة في أوساط جيدة وجدت أنه يتقبل هذا الأمر منها، فكما قد تتسلل المرأة إلى قلب الرجل في تحقيق ما ترى أنه مصلحة لها في دنياها، أو حتى مصلحة شخصية لها ينبغي أن تتسلل إلى قلبه في ما ترى أنه مصلحة عامة دينية له ولها وللأسرة كلها. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 59 النية لغسل الميت السؤال هل هناك نية عند غسل الميت، أي: هل على غاسل الميت أن ينوي عند الغسل أنه يريد أن يغسل الميت؟ الجواب هو بطبيعة الحال جاء ليغسل الميت؛ لكن هذه النية ليست شرطاً في صحة الغسل، لأن المغسل وهو الميت لا يتصور منه أن يطلب منه شيء، فبقي دور المغسل، فإن أصلح النية كتب الله له مزيد من الأجر في ذلك، واستحضار النية في مثل هذه الأمور سبب في صلاح العمل ومضاعفة الأجر. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 60 أحداث البوسنة والهرسك السؤال تقول: أرجو منك إلقاء كلمة للنساء عن أحداث البوسنة والهرسك، فهن لا يزلن كما كن يتحدثن عن الموضة، وعن اللبس، وعن الأثاث الفاخر لم تتغير الأفكار وتتجه إلى المسلمين، وماذا يعانون؟ الجواب أولاً: أحداث المسلمين الآن أصبحت -مع الأسف الشديد- يهتم بها الكفار أكثر مما يهتم بها المسلمون أنفسهم -فمثلاً- الإغاثة وهيئات الإغاثة العالمية، وخاصة الهيئات التنصيرية تبذل جهوداً مضاعفة في هذا المجال، وأنا متأكد لو أننا نجحنا في إصلاح الصورة إلى المرأة المسلمة لأصبح تأثرها أكبر وأكبر، فالمرأة ذات جانب عاطفي قوي، ولو رأت المرأة أختها المسلمة في البوسنة والهرسك وهي تغطي وجهها بطرف ثوبها وتداري دموعاً تنهل عن عينيها، أو أنها تصدر بوجهها عن المصورين بأن لا يصوروا تلك القسمات الحزينة الباكية المتفجرة لأصابها من ذلك هم وغم شديد، ولو رأت أختها المسلمة وهي في يد هؤلاء الصرب كالأمة الذليلة التي هيمن عليها عدوها وأصبح يسومها ألوان الذل والهوان، ويقودها مطأطئة الرأس إلى تلك المعسكرات التي تعاني فيها كل أنواع الذل، ولو رأت أولئك الأبرياء الذين يحملون وبعضهم ما زالت الرضاعة في فمه؛ يحملون إلى إيطاليا أو إلى روما أو إلى فرنسا أو إلى غيرها على متن طائرة -أحياناً- يحمل (140) أو أكثر من هذا العدد، أطفال أبرياء لا يدرون إلى أين هم ذاهبون، ولا يدرون أين آباؤهم، ولا أين أمهاتهم، ولا من أين خرجوا، ولا يعرفون من الأمر شيئاً، أعتقد أن الإنسان الذي قلبه من حجر لا بد أن يتفجر ويتأثر، والله نحن لاحظنا هذا يبدو جلياً حتى على هؤلاء الناس الذين ليس لهم علاقة، ولا اهتمام بقضايا المسلمين، فلا بد إذا من إثارة القضية ومحادثة النساء بها، ولا بأس أن تقوم بعض الأخوات بجمع تلك الأخبار المؤثرة ونقلها إلى النساء في مجالسهن، وسوف تحدث لهن تأثير كبيراً. هذا من جانب، أيضاً نحن لا نريد مجرد التأثر، بل نريد أن يتبع هذا التأثر نوع من العمل، ومن العمل: الدعاء لهؤلاء المسلمين المستضعفين، ومنه أيضاً المشاركة ولو ببعض التبرعات التي تجمعها النساء، فتتصدق المرأة ولو ببعض حليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {يا معشر النساء تصدقن ولو من حليكن} حتى أن تتخلى المرأة عن بعض حليها وبعض مصاغها لهؤلاء المسلمين، وهي ترجو أن يكون هذا سبباً ليكون وقاية لها من عذاب الله عز وجل، بل وحتى يكون سبباً في توفيقها في هذه الدنيا، وفي حياتها الزوجية، وفي مسيرتها الاجتماعية، مع ذلك ينبغي أن تعلم المرأة أنه حينما نطرح هذه الأمور لانطالبها، بأن تتخلى عن أنوثتها وأن تتخلى عن اهتمامها بنفسها، تجملها لزوجها، والقدر المعقول من ذلك، فعلى كل حال لا تلام عليه المرأة. الجزء: 133 ¦ الصفحة: 61 قصة مكالمة هاتفية إن من نعم الله تعالى علينا نعمة سهولة الاتصال بالآخرين التي تتم عن طريق الهاتف، فهي نعمة عظيمة إذا أُحسن استخدامها، وبالمقابل قد تكون نقمة ووبالاً، إذا أُسيء استخدامها. فله منافع كثيرة، وأيضاً مضار كثيرة، لذلك فقد تكلم الشيخ عن الهاتف من عدة جوانب أولها: اختراع الهاتف. ثم ثنى باستخدام الهاتف للتجسس والمخابرات وأنه لا يجوز، ثم ثلث بالمرأة والهاتف، وذكر خطره على المرأة، وختم الدرس بالكلام عن بعض إيجابيات الهاتف. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 1 قصة اختراع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد، فالسلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته. مع هذا الدرس التاسع والخمسين، من سلسلة الدروس العلمية العامة في الجامع الكبير ببريدة، في هذه الليلة المباركة -إن شاء الله- ليلة الإثنين، التاسع من ذي القعدة من سنة 1412هـ (قصة مكالمة هاتفية) . إنها ليست قصة واحدة فقط؛ بل هي قصص كثيرة، ولن تفهم هذه القصة إلا إذا أعرتني من وقتك واهتمامك، ما يكفل سماعك هذا المجلس حتى نهايته. أولها: قصة اختراع: فقد كان أول تليفون يعمل بصورة مُرضية في سنة 1876م، أي: قبل ما يزيد على مائة وخمسة عشر عاماً وهو من اختراع مهندس يدعى: إلكسندر جرهام بل، ولكن توصيله كان ضعيفاً، ولذلك أجرى عليه رجل آخر اسمه: توماس أديسون تعديلاً مهماً، أعطى إشارات كهربائية أقوى بكثير، ثم شملت التطورات الإرسال اللاسلكي وغيره، وأصبحت كيابل التليفون تمتد آلاف الكيلومترات؛ بل أصبح مركز التبادل الذي يسمى بالسنترال يتضمن مفاتيح إلكترونية معقدة، لتسهيل الترحيل الذاتي للرسائل الصوتية المختلفة والكثيرة. وعموماً: فقد شهد العالم في النصف الثاني من هذا القرن، ثورة في مجال الاتصالات السلكية واللاسلكية، وساهم هذا الإنجاز في تحقيق القفزات الحضارية الهائلة، وتيسير سُبل الاتصال، فأصبح بمقدور الإنسان التفاهم مع إنسان آخر، في أي مكان من الأرض، وتبادل الحديث، وعقد الصفقات التجارية والسياسية في بضع دقائق، دون أن يتجشم عناء السفر؛ بل أصبح بإمكان مجموعة أن يعقدوا اجتماعاً مشتركاً فيما بينهم، ويتبادلوا الرأي، وينتهوا على عقد اتفاقية مشتركة مكتوبة؛ بل يقومون جميعاً بالتوقيع عليها في آن واحد، ثمة عدد من التعليقات على هذه المعلومات: الجزء: 134 ¦ الصفحة: 2 من هم المخترعون أولها: أسماء المخترعين الكبار، ليس من بينهم من يسمى محمد، أو أحمد، أو علي، أو صالح، أو سليمان، والعلم -كما يقال- ليس له وطن صحيح، لكن العجيب من قوم دينهم يحث على العلم، ويقرر الله عز وجل لهم في كتابه، أنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، ثم تكون قصاراهم أن يكون بلدهم، أو تكون بلادهم سوقاً للبضاعة الأجنبية، بل حتى استخدام التقنية لم ينجحوا فيها بما فيه الكفاية! فلا غرابة إذا انفصل العلم عن الدين والخلق، أن يصبح العلم لعنة تدمر الإنسان وتأتي على حياته القنابل الهيدروجينية، والنووية، والأسلحة الكيماوية والجرثومية؛ تدمر الإنسان وتحافظ على المنشآت فقد أصبحت المباني الشاهقة والقصور والمصانع، أغلى وأنفس من الإنسان، فاخترع الإنسان سلاحاً يدمر أخاه الإنسان، ويبقي على المنشآت دون أن يمسها بأذى! ولا غرابة إذاً أن يحاول الإنسان اكتشاف الكواكب، على حين لم يفلح في تحقيق السعادة لنفسه، ولا لأخيه الإنسان على وجه الأرض، فالملايين يتضورون جوعاً، وقبل ما يزيد على عشرين سنة، صرخ شاعرٌ من شعراء الشام، يقال له: شفيق جبري، محتجاً على ما يسمونه بغزو الكواكب، غزو الفضاء، فقال ضمن قصيدة طويلة عنوانها غزو الكواكب: ما للغزاة على الأفلاك تزدحم أجرهم أمل أم غرهم حلم أضاقت الأرض عن آثام إثمهم ألم يروا كم جنوا فيها وكم أثموا يا راكب الريح تطويه وتنشره كأنه كرة تلهو بها قدم ما أنت والقبة الزرقاء تقحمها أما على جنبات الأرض مقتحم أي أنه يقول: هناك لا يوجد بشر تعتدي عليهم وتظلمهم إذا طاب لك الطغيان والظم. أتعبت فكرك ما في جوفها نسم تعدو عليها إذا طابت لك النسم لا العشب ينظر في آفاق تربتها ولا البحار عليها الموج يلتطم ما تسمع الأذن حسّاً في مسارحها ولا ترى العين ما يجري به القلم لا الجن في جوفها يعلو عزيفهم إذا سجى الليل أو ماجت به الظلم ولا على الإنس خوف من مصارعهم إذا تلهبت الهيجاء واصطدموا فما يجول بها وحش يروعها ولا يعيش بها ذئب ولا غنم ولا الأسود تدِّوي في مفاوزها ولا العنادل يبدي شجوها النغم كنا نعيش على وهم يخامرنا والناس في غبطة الأيام ما وهموا لو قلت للقبح أنت الحسن أجمعه لراح من قولك الخلاب يبتسم دنيا الحقائق ما تنفك مؤلمة فكم تمادى على أفيائها الألم لا تحسبن كمال الحسن في قمرٍ غنى به الشعر وازدانت به الكلم فما على أرضه غير التراب ولا على الأهاضيب غير الصخر ينحطم خابت ظنونك أين الحسن تطلبه فليس يفصح عن بدر التمام فم ما أعظم الكون من يدري مجاهله ضاعت على وجهه الأحقاب والأمم هل أدركت هده من سره طرفاً أليس تفنى على أطرافه الهمم غابت عن العين أفلاك مبعثرة تضنها العين فوضى ليس تنتظم لكنها إن نأت عنها وإن شمخت فما تظل على أجوازها النجم بئس العلوم إذا الإهلاك مطمحها فليت من علموا في الخلق ماعلموا متى نرى الخلق في سلطان دولتها تمضي الليالي وقد لذوا وقد نعموا أغاية العلم أن نفنى بمخترع من الصواريخ في نيرانها العدم فكم أزاحوا رجالاً عن ديارهم فهل حوتهم على جنح الدجى الخيم وكم أبادوا شعوباً في مرابعهم فسل مناهجهم في العلم هل رحموا بردٌ وجوعٌ فكل العمر في سقم فما الحياة إذا أودى بها السقم أينفق المال في الأفلاك في سعة والناس في البؤس لا نعمى ولا نعم ضاقت قلاعهم في الأرض فالتمسوا لهم قلاعاً عن الأنظار تكتتم كي يصبحوا بأمانٍ في فضائهم فلا يبالون بما هدوا وما هدموا أيزعمون سبيل العلم وجهتهم أما لهم وجهة غير التي زعموا غزو الكواكب كشف العلم ظاهره والله يعلم ما أخفوا وما كتموا إذاً: العلم لا غرابة أن يكون دماراً ووبالاً على الإنسان، وأن يضل طريقه إذا انفصل عن الدين الذي بعث به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هداية للبشرية كلها! حتى المسلمون اليوم تجد أن أنظارهم كثيراً ما تتجه نحو الصناعات التسليحية، دون الصناعات التي تساهم في تيسير حياة الإنسان. كثيرة هي الدول من العالم الإسلامي، أو ما يسمى بالعالم الثالث، التي تتجه -مثلاً- لامتلاك السلاح النووي، أو الجرثومي، أو الكيماوي، لكنها لا تتجه بالحماس نفسه، لتطوير الصناعات الأخرى المفيدة في حال السلم وامتلاكها، حتى الأسماء، لم يفلح المسلمون في اختراع أسماء عربية لهذه المخترعات الغربية، اللهم إلا في مجال التسليح، وعلى نطاق ضيق، فكلنا نعرف -مثلاً- اسم السلاح الذي استخدمه العراق، وسماه صواريخ الحسين، أو صواريخ العباس، لكن الأكثرين منا إذا أرادوا أن يعبروا عن الهاتف، فإنهم يقولون: التليفون، ولا يستخدمون ذلك الاسم العربي الفصيح الصحيح (الهاتف) أو كما يسميه بعضهم (المسرة) وذلك لانفصال العلم عن الدين والإسلام، وبُعد المسلمين عن القيام بمثل هذه الأمور. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 3 جزاء الذين قدموا للبشرية هذه الاختراعات ثانياً: هؤلاء الذين قدموا هذه الأعمال للبشرية، فاخترعوا الكهرباء، أو الهاتف، أو غيره، ما هو جزاؤهم؟ جزاؤهم أن الله -تعالى- كتب لأسمائهم الخلود في الدنيا، فصار يتحفظها صغار الطلبة في مدارسهم، فيشكرون فلاناً لأنه أخترع المصباح الكهربائي، أو فلاناً لأنه اخترع الهاتف أو غير ذلك، فهذا جزاؤهم في الدنيا أما في الآخرة فليس لهم عند الله -تعالى- من خلاق، لأنهم افتقدوا القاعدة التي يجازى على ضوئها الناس في الدار الآخرة، ألا وهي قاعدة الإيمان، يقول ربنا عز وجل: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] ويقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ويقول لنبيه، ومصطفاه عليه الصلاة والسلام: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار} . ولما سأل إبراهيم ربه -كما في صحيح البخاري- في أباه وقال: يا رب وعدتني ألا تخزيني، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد -أي كونه في النار- فقال له الله عز وجل: {يا إبراهيم إني حرمت الجنة على الكافرين} وفي الصحيح -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله -تعالى- ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر} ولما سألت عائشة -كما في صحيح مسلم- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان في الجاهلية يصل الرحم، ويقرئ الضيف، ويحسن إلى الناس فهل ينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: {لا يا عائشة إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} وفي حديث ضعيف أن عدي بن حاتم، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، وكان من أجود العرب، وكرمائهم، هل ينفعه ذلك؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {إن أباك أراد أمراً فبلغه} . أراد أن يذكر بالجود والكرم، فأصبح مضرب المثل إلى يوم الناس هذا، فيقولون: أكرم من حاتم. هذا كل ماله على عمله وهكذا من اخترع الهاتف -مثلاً-، أو المصباح الكهربائي، أو التطعيم ضد الأمراض أو غيره، كل ما له أن يذكره الناس بما عمل، فيكون له الذكر الحسن في هذه الدنيا، جزاءً عاجلاً، لأن الله تعالى لا يظلم أحداً، أما في الآخرة، فليس له عند الله تعالى من خلاق. ولهذا لا تعجب أن يكون مخترع الكهرباء يعيش في ظلمات الجحيم، وأن يكون مخترع الهاتف يعيش أصم في نار جهنم كما قال الله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} [الأنبياء:100] وأن يكون مخترع المدفأة وصانعها يقاسي برد الزمهرير، وأن يكون صانع التكييف ينضج جلده على لهيب النار، نسأل الله تعالي العفو والعافية. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 4 قصة المخبر السري الورقة الثانية: قصة المخبر السري. ربما لم يخطر في بال جرهام هذا، أن جهازه الذي اخترعه سيكون مخبراً سرياً، وحارساً غير أمين في حالات كثيرة، وأن أعداداً كبيرة من ذوي الضمائر الوحشية، والصلف المتجاوز، وقلة الإيمان، سوف يصغون بآذانهم إلى حديث بين اثنين، يستأمن فيه بعضهم بعضاً ألا يبوح به لأحد، فإذا الخيانة الكبرى تأتي من طرف ثالث، يتنصت عليهما دون علمهما، ويسجل ربما مكالماتهما، ويقدم أحياناً صوراً من هذه المكالمات، وينسخها، ويوزعها بين الناس عند اللزوم مَنْ يفعل هذا؟! الكثيرون! تفعله أجهزة الاستخبارات الدولية التي تحاول أن تعد الأنفاس، وتحسب نبضات القلب، -كما يقال- ومن يقرأ تقارير المخابرات الأمريكية، أو الـ k B G، أو الموساد، أو السافات، أو الخاد، أو غيرها من أسماء الأجهزة العالمية، يحس أنه يعيش في عالم الأشباح، وبالمناسبة فإن الاستخبارات العربية من أنجح الاستخبارات في العالم، أي أنها من أبشع الاستخبارات في أساليب الإيذاء، والوحشية والقمع، لكن على مَنْ؟ على شعوبها. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 5 الصورة القائمة المليئة بالمبالغة وهاهنا علامة تحذير كبيرة! لقد أصبح هذا الهاجس هماً مخيفاً لدى الكثيرين، فينامون ويصحون على الخوف من المخبر، وعلى الخوف من أجهزة الاستخبارات، وعلى الخوف من أشياء كثيرة، وربما أصبح الرعب شيئاً قاتلاً يطحن في دوامته آلاف المخلصين؛ فهم يخافون من كل شيء، ويحسبون حسابات طويلة لكل شيء، ويقول أحدهم للآخر: لا تنطقوا إن الجدار له أُذن وأقول: كلا فهذه الكتب التي ذكرتها، وهذه الأسماء التي تلوتها، وهذه البلاغات؛ هي أحياناً مقصودة لنوع من الحرب النفسية على الناس وعلى الشعوب، خاصة على المسلمين، فهم -أعني: رجال الاستخبارات الدولية والعربية- كلهم داخلون في عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] فالمؤمن لا يخاف إلا من الله عز وجل أما هؤلاء فيحتقرهم. لقيني قبل أيام أستاذ في كلية الطب، فحادثني قليلاً، وقال: أتمنى أن تتكلم عن موضوع مهم قلت له: أي شئ هو هذا الموضوع؟ قال: موضوع: أن الناس أصبحوا يخافون من الغرب، ويخافون من أمريكا، حتى كأنها شبح، وكأنها تقدر على كل شيء؛ وتفعل كل شيء، مع أنني عشت في أمريكا، ورأيت الرجل الأمريكي يخاف من زوجته فالرجل الذي يخاف من زوجته، هل يليق بالمسلم أن يخافه؟! لا؛ بل ينبغي أن يبين للناس أن هذه الدول إنما هي مصنوعة من الكراتين، وأن الله تعالى سوف يأذن بزوالها، فينبغي ألا نخاف منها، ولا من أجهزة مخابراتها وأمنها، وتهويلها. لقد أحدثت هذه المخاوف كثيراً من العقد النفسية، التي يجب القضاء عليها، وقديماً قال عمر رضي الله عنه: [[لست بالخبّ ولا الخبُّ يخدعني]] تبرز هذه المخاوف على لسان أحد الشعراء، وهي في الواقع هاجس في نفوس الكثيرين؛ لكنني أحببت أن أنقل لكم أبياتاً من الشعر، تعبر عن الخوف من هذا الهاجس عند أحد الشعراء، والشاعر عادة يبالغ فيقول: ومن حذري أمارس دائماً حرية التعبير في سري وأخشى أن يبوح السر بالسر أشك بحر أنفاسي فلا أدنيه من ثغري أشك بصمت كراسي أشك بنقطة الحبر وكل مساحة بيضاء بين السطر والسطر ولست أعد مجنوناً بعصر السحق والعصر إذا أصبحت في يوم أشك بأنني غيري وأني هارب مني وأني أقتفي أثري ولا أدري ويقول -نفسه- أيضاً: في زمن الأحرار أصابعي تخاف من أظفاري دفاتري تخاف من أشعاري ومقلتي تخاف من إبصاري فكرت في التفكير بالفرار من بدني لكنني خشيت من وشاية الأفكارِ وقديماً كان شاعر هارب يقول: لقد خفت حتى لو تمر حمامة لقلت عدو أو طليعة معشر فإن قيل أمن، قلت هذي خديعة وإن قيل خوف، قلت حق فشمر فينبغي أن نزيل هذه الصورة القاتمة المليئة بالمبالغة، والتي لا يمكن قبولها إلا على حد قول الله عز وجل: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224-227] . الجزء: 134 ¦ الصفحة: 6 موقف الإسلام من التجسس نحن جميعاً نؤمن بأن المطلع على كل شيء والعليم بكل شيء هو الله تعالى وحده، أما البشر فيحاولون، ويحاولون؛ ولكنهم بالضعف والنقص والغفلة موصومون؛ فلا يصلون إلى ما يطلبون، ويفوت عليهم كثير من الأمور وهم لا يشعرون: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] . وعلى كل حال فقد كان موقف الإسلام من التصنت واضحاً من البداية، فالتصنت على الناس؛ سواء أن تتصنت على مجموعة يتحدثون، أو يتسارون فيما بينهم، أو بأي وسيلة عصرية، هو تجسس، والله تعالى يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ولا تحسسوا} بل في صحيح البخاري، في كتاب التعبير عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تحلم بحلم لم يره، كلف أن يعقد بين شعيرتين -يعني يوم القيامة - وليس بفاعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، صب في أذنه الآنك يوم القيامة، ومن صور صورة عذب وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ} . والآنك هو: الرصاص المذاب، والجزاء من جنس العمل، فكما أنه تصنت على الناس بأذنه، فإنه يعاقب يوم القيامة بأن يصب الآنك -وهو الرصاص المذاب- في أذنه يوم القيامة، هذا جزاء من تسمع أو استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون، وهذا كمن نظر إلى قوم وهم لا يأذنون له في النظر في دارهم -مثلاً-، كما في الحديث: {من نظر إلى قوم ففقئوا عينه فعينه هدر} وهذا في الصحيح. ومثله حديث معاوية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم} والحديث رواه أبو داود ويقول النووي: إسناده صحيح. فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بما علمه الله تعالى أن معاوية سيكون أميراً وحاكماً، فلفت نظره إلى هذا الأمر، وهو ألاَّ يتتبع عورات الناس، وأن يأخذ الناس بالأمر الظاهر، ولا يأخذهم بالظنة؛ لأن فقدان الثقة بين الحاكم والمحكوم، هو أساس كل بلاء، ورأس كل مصيبة. ليست هذه المهمة -مهمة التصنت- هي مهمة أجهزة الاستخبارات العالمية فحسب لا؛ بل إن الكثيرين من الشباب -مثلاً- يتصنتون على جيرانهم، أو يتصنتون من خلال أجهزة الهاتف على أصدقائهم، أو على زملائهم في العمل، أو يتصنت الأخ على أخيه، أو الأخت على أختها، بل إن هناك بعض الأجهزة تمكنهم من اكتشاف أي مكالمة، وعلى سبيل المثال: كثيرون يمتلكون موجة FM، ويستطيعون أن يلتقطوا مكالمات الهاتف السيار، أو الأجهزة اللاسلكية، حتى أن الرجل قد يتصنت على أهل بيته -على بناته، أو على زوجته- دون أن يكون هناك ريبة تدعو إلى هذا. وكل ذلك يدخل في عموم النهي فيمن تسمّع إلى حديث قوم وهم له كارهون، وكل هذا يؤدي إلى النتيجة المحتومة، التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم وهي: {فإن فعلت أفسدتهم أو كدت تفسدهم} . الجزء: 134 ¦ الصفحة: 7 المرأة والهاتف الورقة الثالثة: هي ورقة المرأة والهاتف. والمرأة والهاتف موضوع يطول، لكني أُلخصه في فقرات. كثير من الفتيات تمتلك رقم هاتف خاص بها. في غرفتها، وليس لأحد أي سيطرة عليه، ومع ذلك فإنها -أحياناً- لم تتلق في البيت التربية الإيمانية، والرعاية الأبوية الكافية، أو لم تتلق من ذلك شيئاً يذكر، وهنا الخطر الكبير! الثقة في غير محلها، وقد يسيء الإنسان أحياناً الظن بالأباعد؛ ولكنه لا يتوقع أبداً من أولاده وبناته إلا الخير، لماذا؟ لأنه يعرفهم منذ الصغر يعرفهم من أيام البراءة -براءة الأطفال- ويحس بأنهم لم يكبروا بعد، ويلاحظ أنهم يتميزون بالحياء والخجل، حينما يحادثهم فالبنت -مثلاً- لو كلمها أبوها في أمر الزواج؛ لطأطأت رأسها ولم تستطع أن تتكلم، فكيف يظن بها أبوها أنها من ورائه، قد تدير قرص الهاتف على ما لا يسوغ؟ يستبعد الأب هذا كثيراً؛ لما يرى من حيائها وخجلها منه، ولكنه يلصق هذا بالآخرين. والواقع أن هذه الثقة في غير محلها، وأن الشيطان لا يوقر أحداً، ولا يحترم أحداً، ولا يقدر أحداً، وأنه يهجم على كل إنسان، وأن أي فتى، أو فتاة لم يتلق التربية الكافية، فإنه معرض لأن يسيء استخدام هذا الجهاز، خاصة حين يكون الجهاز خاصاً له في غرفته الخاصة. جهاز البيجر، يقول لي أحد الإخوة: إن حوالي (50%) من أجهزة البيجر التي تسجل الرقم المتصل، أنها سجلت بأسماء فتيات، ومعنى ذلك أنه من الممكن أن تتصل على أي أحد، ثم يقوم هو بالاتصال عليها، من داخل البلد، أو من خارجها. أصبحت المرأة الآن بحكم قعودها في المنزل، واهتمامها أحياناً ببعض أمورها، أصبحت أكثر اهتماماً ببعض هذه الأمور من اهتمام الرجل، أصبحت لا تجد غضاضة في الاتصال بجهات شتى، أكثر مما يتصل الرجل، أو ربما لا يتصل بها الرجل أصلاً. فمثلاً: تتصل بالمدرسة للسؤال عن ولدها، أو عن أخيها ومستواه، وسبب فشله وتتصل بالخياط لأي تعديل طارئ على الموديل الذي اتفقت معه على الخياطة، أو لتأكيد الموعد المحدد، أو لغير ذلك من الأغراض وتتصل على مكتب الخطوط للحجز، وتأكيد الحجز، وتغيير وجهة السفر، بل وتحجز ليس لنفسها، بل لأهل البيت كلهم جميعاً، وتتصل ببعض الصحف والجرائد للسؤال عن مشاركتها ما مصيرها؟ أو لمجرد الحديث عن الكاتب فلان، أو لمجرد الإعجاب في المشاركة الفلانية، خاصة إن كان الكاتب كاتباً رياضياً وكثيرون يملكون القدرة على جر المرأة بالثناء، والمديح والإعجاب بفكرها، والإعجاب بأسلوبها الواعد، وقديماً قال الشاعر: خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء وقل أيضاً: والغواني يجرهن الثناء تتصل بالإذاعة عبر العديد من البرامج، لمجرد إسماع صوتها، وتعويدها على التحرر من عقدة الحياء -زعموا- فمثلاً: أفراح وتهاني، هذا برنامج يذاع، تهنئ البنت أختها فلانة، التي رزقت بمولود، وأختها فلانة هذه معها في المنزل، فتهنئها عبر هذا البرنامج، تهنئ زميلتها التي تزوجت، وقد تكون ساكنة إلى جوارها، وزميلتها الأخرى التي نجحت وقد تكافأ أحياناً بأغنية في الإذاعة، أو بمقطع من أغنية يسمعه الطرفان. أما برنامج: (ألو إذاعة الرياض) فتتصل فتاة -مثلاً- لتطلب إعادة البرنامج الرياضي، الذي فاتها سماعه قبل يومين أو ثلاثة؛ لتعرف منه أخبار الدوري؛ بل في بعض البرامج حديث مع فتاة -وقد سمعت هذا بأذني- حديث مع فتاة على أبواب الزواج، يسمعه الألوف؛ بل الملايين من الناس، وهي تتكلم عن أمر الزواج، وقصة الزواج، والملابس، والأفراح، والمناسبة، وقضاء الإجازة وو إلى إلخ، وكل ذلك يتم بأصوات عذبة رقيقة، وكلمات ناعمة، وضحكات أحياناً تشق عنان الفضاء، وتبسط لا حدود له، وبدون مبالغة أقول: أكثر مما لو كان الحديث بين اثنتين في مجلس خاص، إذ أن مراعاة كسب إعجاب الآخرين، والمستمعين والمستمعات، هو أمر مهم، ونحن جميعاً ندرك مشاعر الإنسان، (الرجل، والمرأة) وما جُبل عليه من ضعف، ورغبة في الثناء والمديح، وكرهٍ لأن يقال: إن صوته كان خشناً، أو وحشاً، أو غير ذلك. وقد تتصل الفتاة بالنادي الرياضي، لتأخذ رقم اللاعب، وقد رأيت هذا في جريدة رياضية، حيث يعتذرون عن نشر هذا الرقم، والوسيلة للحصول عليه على أي حال، ممكنة من غير طريق الجريدة وقد يتحدث معها السكرتير، ويعطيها الرقم، ولك أن تكمل بقية القصة وقد تتصل أحياناً بأي رقم لمجرد حب الاستطلاع، أو تسجية وقت الفراغ، أو يرمي لها رجل ورقة في السوق، فتجد بها رقماً؛ فتتصل عليه لمجرد المعرفة، فتقع على شاب تعود على أساليب الخداع والتضليل، وأصبح لديه خبرة في أساليب وطرق جر الفتاة شيئاً فشيئاً إلى ما يريد؛ وما هي إلا أيام، حتى يصبح هذا الشاب بقدرة قادر قيساً، لا يستطيع أن يعيش بدونها أبداً، وأن تركها له يُعد حكماً عليه بالإعدام، ولا يزال يمنيها بأحلام الزواج الذي لا يجيء، حتى تنصاع معه وتمضي معه إلى نهاية المشوار الأثيم. ترق هذه المسكينة لحاله، تتلطف معه!! ويجلس معها على الهاتف أحياناً -وأنا أقول لكم عن معلومات، وليس عن ظن، ولا عن مبالغة- أكثر من ست ساعات نصف ساعة منها -على الأقل- في النهاية؛ لتحديد موعد المكالمة القادمة وجهاز التسجيل -أحياناً- يحتفظ -من حيث لا تدري- هي بكل ما يدور، وأخيراً! إذا جد الجد، وحزم الأمر، قال لها: لابد من اللقاء، فتمنعت وأصرت، فقال: لابد من اللقاء؛ وإلا فالأشرطة مسجلة عندي، وبعد اللقاء لابد من المصافحة، ولابد من وإلا، وكما يقول الأول: كل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر الجزء: 134 ¦ الصفحة: 8 سلبيات استخدام المرأة للهاتف أ/ أولاً: الخضوع بالقول: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] هذا الأدب من الله تعالى لـ عائشة، وخديجة، وزينب، وسودة، وأمهات المؤمنين، فما بالك بالناس في هذا الزمان، وقد كثرت الفتن، والمغريات، وارتفع أجيج الشهوات، وضعفت النفوس، وتسلط الشيطان، ومع ذلك يكون الخضوع بالقول سرّاً وعلانية!! ب/ ثانياً: العشق؛ وقديماً كان بشار يقول: يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحياناً وهو في الواقع عشق مزيف الخاسرة الكبرى فيه هي البنت، ولهذا يقول أحد الأدباء، واسمه فاروق جويدة عن الحب عن طريق الهاتف، يقول -ومن فمهم ندينهم-: إنه حب بارد، حتى لو وصفه الخط التليفوني في وقتها بأنه ساخن جدّاً! ومن الطرائف: أن إحداهن اتصلت، وكان صوتها عذباً رقيقاً؛ فاتصلت برجل وتحدثت معه طويلاً، ثم واعدها مكاناً قصيا، ولما اقترب منها على سيارته، رأى منها ما يكره، فمضى لحاله وهو يولول وتركها، حتى طال انتظارها؛ فانصرفت فالخاسر الأكبر هي المرأة، ثم الأسرة التي قد تجرها هذه الأمور، إلى فضيحة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل. ج/ ثالثاً: التدرج في المعصية: قال ربنا جل وعلا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] فهي خطوة تجر إلى خطوات، والذي وضع قدمه في بداية الطريق السيء، لا يلومن إلا نفسه إذا مشى في هذا الطريق، دون أن يملك التوقف فيه! نظرة، فابتسامة، فسلام، فكلام، فموعد، فلقاء! مكالمة بعد ذلك تعطيه رقم هاتفها، ثم تواعده ليراها، ثم يخلو بها ثم {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فما ظنك باثنين إبليس ثالثهما، ماذا يمكن أن يصنع رجل وامرأة؟! حقيقة لا أعرف -أنا- كيف أتصور فتاة تلتقي بفتى مراهقين خاليين، وفيهما الغريزة الفطرية التي ركبها الله تعالى في بني آدم كلهم كافة، لا أعرف كيف أتصور ألا يفكر أحدهما في الآخر؟ فهو يتصورها في أجمل هيئة، وأفضح وضع، ويتصور نفسه إلى جوارها، وهي الأخرى كذلك، شاءا أم أبيا، وشاء أولياء الأمور أم أبوا. كثيرون هم الذين وقعوا في الفاحشة الكبرى، ولم يكونوا يخططون لذلك في البداية، خاصة من الفتيات، بل الذي يضع قدمه في أول الطريق؛ يجره إلى النهاية، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] . فنهى عن قربان الزنا، وقربانه: كل وسيلة تؤدي إليه فالآية: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] نهي عن النظرة إلى الرجل، ونهي الرجل عن النظرة إلى المرأة الحرام، ونهي عن المحادثة الحرام، ونهي عن الخلوة، ونهي عن الضمة، ونهي عن القبلة، ونهي عن الضحكة التي تغري أحدهما بالآخر، كل ذلك ذرائع وبريد، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} [الإسراء:32] وفي صحيح البخاري من حديث سمرة في قصة رؤياه الطويلة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بشيء مثل التنور، أعلاه ضيق وأسفله واسع، وفيه نيران، ورجال، ونساء فإذا ارتفع بهم اللهب صرخوا وضوضوا، فإذا انخفض لم يسمع صراخهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من هؤلاء يا جبريل؟ فقال له: هؤلاء الزناة والزواني} نسأل الله تعالى العفو والعافية. الزنا -أيها الإخوة والأخوات-: سبب لكل مصيبة وباختصار: الهم، والفقر، وأولاد الحرام، وفقدان الحياء، وقلة الخوف من الله، والفضيحة، وعقوق الأولاد، وبغض الله -تعالى- للعبد، وبغض الناس له، وتكدير العيش، وحرمان البركة، وسوء الخاتمة، وفقدان لذة العبادة، وحب الدنيا، وشدة الخوف والجبن، وسوء الظن، وكل بلاء في الدنيا وفي الآخرة. وربما جر إلى تعاطي المخدرات أيضاً، بدءاً بالتدخين، وانتهاءً بالمخدرات الأخرى -أعني: الهاتف- التي تجعل متعاطيها ديوثاً ليس فيه قطرة من الغيرة، لا على نفسه ولا على محارمه، وربما قدَّم مدمن مخدرات بنته ضحية لزملائه؛ مقابل الحصول على هذه الأقراص، وفي ذلك قصص وأخبار. د/ رابعاً: ضياع الوقت: الذي هو رأس المال، وبه يحاسب الإنسان، وعليه يعاقب، والله تعالى يقول في محكم تنزيله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36] فاسمع ماذا يأتيهم الجواب من الرحيم الحليم اللطيف الخبير البر الجواد المتفضل المنعم: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] نعمركم أي: نعطيكم أعماراً، ونعطيكم أياماً، وليالي، ونعطيكم ساعات، ودقائق، وسنوات، بل وجاءكم النذير، فكثيرٌ منكم وصلوا إلى حد المشيب، وبعث إليهم الرسل، ومع ذلك هم مصرون على ما هم عليه. فبالعمر يعاقب الإنسان أو يثاب، وعليه يجازى في دار المآب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، عن ابن مسعود، وأبي الدرداء وغيرهم: {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن عمره فيما أفناه، ومنها: عن شبابه فيما أبلاه} فالإنسان يسأل عن الشباب خاصة مرتين: مرة باعتباره جزءاً من العمر، ومرة يسأل عنه سؤالاً خاصاً؛ لأهمية هذه المرحلة وخطورتها ولهذا يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي رحمه الله يقول: "الوقت سريع التقضي، أَبِيُّ التأتي، بطيُّ الرجوع". والوقت أعظم ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع من العجيب أيها الأحبة: أن الكثيرين سُرُّوا حينما أُلغيت الرسوم على المكالمات الداخلية للهاتف! وهذا أمر لا يعاتبون عليه، لما فيه من توفير المال الذي يحتاجون إليه؛ لكنني أتعجب أكثر!! هؤلاء الذين ضاعفوا من مكالماتهم باعتبار أنها بلا رسوم، ألم يدركوا أن ذلك أحدث عندهم أثراً سلبيّاً؟ وأنه جعلهم يخسرون ما هو أثمن من المال، وأثمن من الرسوم ألا وهو الوقت؟ فأصبحت الفتاة مثلاً تجلس - أو الفتى - أربع ساعات على الهاتف، في مكالمة لبنت الجيران، أو لفلانة لماذا؟ قالت: ما في رسوم -نعم هناك شيء آخر، رسوم من نوع آخر- رسوم ملزمة للإنسان بمقتضى النص الذي يقول: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] ورسوم بمقتضى النص الآخر، الذي يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] فيتخلل الكلام من ذلك الشيء الكثير الذي يعاقب عليه الإنسان، ولذلك -أحياناً- تجد الموظف مثلاً في مكتبه يتصل طويلاً، وربما قضى جزءاً كبيراً من وقته الرسمي في مكالمة لفلان أو لعلَّان، وينسى أن هذا الوقت ليس ملكاً له، بل ملك للناس ملك للمراجعين الذين ينتظرون أن يقوم بالإنجاز، وإذا انشغل بذلك؛ فلابد أنه سوف يكون ناقصاً نقصاً كثيراً بيناً في الإنتاجية، والعطاء؛ الذي ينتظره منه مجتمعه. هـ/ خامساً: كثرة الكلام في هذا الهاتف وما يعتاد عليه الإنسان من ذلك، والكلام -كما أسلفت- محسوب، ويتخلل الكلام القيل والقال، والغيبة والنميمة، والكذب، والتصنع فيتظاهر الفتى للفتاة -مثلاً- بشيء آخر، وتتظاهر هي له بغير حقيقتها والغش والغزل وكم سينطق الهاتف لو استشهدته، ينطق بعبارات الغرام، وعبارات الغزل، والقصائد، قصائد الحب وغير ذلك؛ بل قد يتطور الأمر أحياناً إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. أقول: في بلاد الغرب تمارس الرذيلة -أحياناً- من خلال الهاتف، حيث يتصل الفتى فتصف له الفتاة حالها، ولباسها وهيئتها وشكلها ووضعها إلى آخره. ويؤسفني أن أقول في قناة ليست في بلاد الغرب، بل في بلاد الشرق، بل في مهبط الوحي، في القناة الثانية وقبل فترة، كان هناك لقطة نقلت عبر الشاشة، من اختيار أحد المستمعين أو المشاهدين، تصور المشهد الذي ذكرته لكم قبل قليل، لكن في صورة أخرى فقد برز على الشاشة طفلان، بنت وولد في المهد، وكل واحد في جواره سماعة، وهم يتبادلون الحديث، إشارة إلى تلك الطريقة الموجودة في الغرب، ومكتوب على الشاشة ممنوع الاتصال لأقل من ثمانية عشر شهراً، إشارة إلى أنهم في بلاد الغرب، يمنعون أن يمارس الفساد عن طريق الهاتف، من كان أحياناً أقل من ثمان عشرة سنة. و/ سادساً: ضياع الشخصية: فلا عمل، ولا إنتاج، ولا خدمة في البيت، ولا دراسة، ولا حل واجب، ولا قراءة مفيدة، ولا سماع شريط نافع، بل الهم الوحيد هو الجلوس إلى الهاتف، ومحادثة فلان وفلان، فيوجد ذلك من التزهد، وضعف الهمة، والاسترخاء، ما يجعل هناك جيلاً من الأولاد والبنات، لا يحب الواحد منهم أن يصنع أي شيء، لأن بضاعته تبدأ وتنتهي بالكلام، والكلام ليس أي كلام، فمن الكلام ما ينفع فمن الكلام ما يدخل الجنة، كذكر الله تعالى وقراءة القرآن؛ ولكن المؤسف أنه كلام يضر ولا ينفع، فيشترون ما يضرهم ولا ينفعهم. ز/ سابعاً: الانشغال عن طاعة الله: وأضرب لكَ ولكِ مثلاً واحداً: ألا وهو (المكالمات الليلية) ، التي تبدأ غالباً بعد الساعة الثانية عشر ليلاً، وقت نزول الرب-جل وعلا- إلى سماء الدنيا، كما في الصحيحين وغيرهما، بل هو حديث متواتر حيث يقول سبحانه: {يا عبادي! هل من سائل فأعطيه سُؤله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ وذلك حتى ينفجر الفجر} على حين أن هذا الفتى وتلك الفتاة، غارقان في مكالمة هاتفية تضرهم ولا تنفعهم، وتبعدهم عن ربهم جل وعلا. ح/ ثامناً: العزوف عن الزواج: فطالما تأخرت الفتاة عن الزواج، في انتظار فارس الأحلام، الذي الجزء: 134 ¦ الصفحة: 9 دور الهاتف في وقوع الجرائم أنا أقول: كل جريمة تقع اليوم، فلا بد أن للهاتف دوراً بارزاً فيها، وأرجو أن تصغوا جيداً لهذه الكلمة، وأنا مسئول عنها، (كل جريمة تقع اليوم، فالهاتف طرف فيها، في أي مرحلة من المراحل) إما أن يكون هو السبب الأول ونقطة البداية، أو يكون دوره في المرحلة الثانية أو الثالثة، أو الأخيرة، وأعني بذلك: كل الجرائم، سواء كانت جريمة خلوة، أو جريمة زنا، أو جريمة قتل، أو أي جريمة أخرى. وهذا ثابت من خلال دراسات لمئات الحالات في هذه البلاد وفي غيرها؛ التي كشفت والتي لم تكشف أيضاً، نعرف أخباراً كثيرة منه، من خلال بعض الشكاوي وبعض المشكلات. وقد تتصل الطالبة بزميل لها في الجامعة، خاصة إن كانت منتسبة، لتسأله عن المنهج، ورقم الأستاذ، وطريقة الأسئلة، وتناقشه في الموضوعات التي تقول هي: إنها غير مفهومة، وتحتاج هي إلى شرح وبيان. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 10 الرد على الهاتف أما الرد على الهاتف: فحدث ولا حرج، فهو من مهمة البنت غالباً؛ أن تقوم بالرد على الهاتف، وهي فرصة للسؤال عن الحال كيف أحوالكم؟! وكيف الأهل؟! وكيف الجيران؟! وكيف الوالد؟! وكيف الوالدة؟! إلى غير ذلك من الأسئلة، وكثيرون يرغبون في محادثة المرأة، والاسترسال معها في الحديث، والشيطان يغريهم بذلك كثيراً. أما اتصال الفتاة بفتاة أخرى، فهذا باب آخر؛ فالصديقات يقضين وقتاً طويلاً في الحديث، وأحياناً المعجبات أيضا، فالفتاة قد تقع في إعجاب -تعجب بفتاة أخرى- ولا تصبر عنها، فإذا فارقتها في المدرسة، أصبحت تتصل بها في المنزل، وأيضاً تحدثني بعض البنات الصالحات، أن هذه المكالمات قد تمتد لثلاث وأربع ساعات أحياناً، وهي لا تخرج بطائل، إلا الإعراب لها عن محبتها والإعجاب بها، وأنها تتمنى أن تكون مثلها. وأحياناً تكون الحالة -في حقيقة الأمر- لا تعدو أن تكون حالة عشق واضحة صريحة، ولكنها قد تلبس لبوساً آخر، مثل لبوس الحب في الله، أو الإعجاب أو غير ذلك، والله -تعالى- يحب الصدق، ويقول جل وعلا: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15] والمسميات لا تغير من الحقائق شيئاً. الجارة أحياناً تتصل بجارتها، وليست المشكلة في الاتصال بذاته، فالهاتف -أصلاً- إنما يفرح به؛ لأنه ييسر سبيل الاتصال، لكن المشكلة في السلبيات الناجمة عن الاتصال، والتي يلخص بعضها فيما يلي: الجزء: 134 ¦ الصفحة: 11 الخدم والأطفال الورقة الرابعة: الخدم والأطفال. الخدم في البيوت كثير، في كثير من الأحيان هم نوع من الترف والمفاخرة، وفي أحيان أخرى قد يكونون حاجة مُلحة المهم! كيف يستخدمون الهاتف؟! الجزء: 134 ¦ الصفحة: 12 استخدام الخادمة للهاتف أولاً: الخادمة بلا زوج، وأحياناً كثيرة تكون غير مسلمة، ومن بيئة أخرى، فلا مشكلة لديها البتة في محادثة أي إنسان تعرفه أولا تعرفه، ما دامت تعرف اللغة العربية، سوف تتحدث مع أي إنسان، وإن لم تكن كذلك؛ فإنها سوف تتحدث مع بني جنسها، وتربط معهم المواعيد، وأحياناً تكون وسيطاً لبعض البنات في المنزل، وتجرهن معها في شبكة فاسدة، فضلاً عن إفشائها لسر البنت، والبوح بكل ما تعرف من أحوال أهلها. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 13 سلبيات استخدام الأطفال للهاتف أما الأطفال فثمة سلبيات كثيرة منها: أولاً: تعويد الأطفال على الرد على الهاتف عند كثير من الأسر، دون أن يعلموهم أدب الرد، فهذا يغرس في نفوس الأطفال حب أخذ السماعة، والرد على المتكلم مع عدم تعويده على الأدب في الحديث -كما ذكرت- مع الآخرين، وعدم تبصيره بطرق ضعفاء النفوس، في الوصول إلى ما يريدون. فبعض الأطفال يجرهم ذلك إلى شر، أو يكشف أحوال البيت، ولا أنكر أن هناك أطفالاً كثيرين، قد دربهم أهلهم على حسن الرد على الهاتف، فتجد أنهم يردون بعبارة مختصرة: مَنْ؟ فإذا قال مثلاً: أين فلان؟ يقول: مَنْ تريد؟ بيت مَن تريد؟ إذا قال: أريد بيت فلان أبو فلان قال له: مَنْ تريد؟ بأجوبة مختصرة بقدر الحاجة، بحيث لا يمكن أن يفوت عليهم شيء، أو يصل عابث من خلالهم إلى ما يريد. ثانياً: نقل المعلومات -أحياناً- ببراءة عن أهل البيت، فمثلاً: يتصل إنسان على طفل ويقول له: ما اسم أمك؟ ما لون غرفتها؟ ما شكل ثوبها؟ ما لون المنزل؟ ما لون الديكور؟ إلى آخره، ويكون نتيجة لذلك تدمير المنزل، وهذه قصة حصلت فبعدما يأتي رب الأسرة، يتصل الشاب الذي أخذ المعلومات كاملة، فيقول لرب الأسرة: أنت فلان؟ يقول: نعم، فيقول: أنا قبل قليل كنت مع زوجتك، ليقول له: أنت كاذب. فيقول: لا، ففي الغرفة كذا، وكان لونها كذا، وشكلها كذا، والمكان الفلاني كذا، وكانت الأزهار موجودة في المكان الفلاني، والطاولة موجودة ويعطيه التفاصيل التي أخذها عن طريق هذا الطفل؛ فيدمر البيت من خلال هذه اللعبة. ثالثاً: تعويد الأطفال -أحياناً- على سماع الكلام البذيء الفاحش، الذي لا يسمعونه أصلاً في البيت، ما دام البيت محافظاً، وربما لا يسمعونه حتى في الشارع أحياناً، ومن ثم تنحرف أخلاقهم. رابعاً: قد يكون الأطفال أحياناً وسطاء أبرياء للإيقاع بين طرفين، إما في التعريف فأحياناً يقول الطفل ببراءة للمتصل: هل تريد أمي؟! تريد أختي؟! ثم يقول ذلك: نعم، ويأتي بها إليه وأحياناً يسأله أسئلة، ويحصل من خلالها على المعلومات التي يستفيد منها في مكالمات أخرى. خامساً: بعض الأطفال يتدرب على كيفية استعمال الهاتف -أي: أن يقوم هو بالاتصال دون تربية أيضاً- فيؤذي آخرين بهذه الاتصالات، وقد يكون سبباً في التعرف على أهله، وقد يؤذي جهات أخرى رسمية، أو بيوتاً، أو غير ذلك. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 14 أرقام عشوائية يعمد الكثيرون من الضائعين والضائعات -أيضاً- إلى ضرب أرقام عشوائية على الهاتف، إما أن يكونوا أخذوها من خلال الدليل، وبذلك يعرفون اسم من له الرقم، أو بمجرد تغيير الأرقام في الجهاز، وضربها بسرعة، بحثاً عن ضحية، وغالب هؤلاء من المراهقين والمراهقات، يفعلون ذلك في غيبة الأهل. عند أحدهم رقم خاص في غرفته، أو عنده فرع متوارٍ مختلفٍ في مكان لا يشعرون به، أو في حال خروج الأهل من المنزل، وكثير من الأسر تخرج وتترك الولد المراهق، أو البنت المراهقة في البيت لوحدها، بحجة أنها تذاكر أو بحجة أنه ليس له رغبة في الخروج، أو بحجة أنها متعبة، أو بأي حجة؛ بل كثير من الناس ينامون مبكرين، وفي ساعة مبكرة، ويتركون المراهقين من الأولاد والبنات، دون حسيب أو رقيب. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 15 مفاسد الأرقام العشوائية ويحصل من جراء ذلك أمور ومشاكل قد لا يعلمها الكثيرون، لكننا نحن نعلم كثيراً منها، والجهات المعنية أيضاً تعلم الكثير من ذلك، ففي هدأة الليل يبدأ الحديث، وفي أحيان كثيرة، يحصل من جراء ذلك مفاسد أيضاً منها: أن هناك جهازاً يعيد المكالمة، فإذا اتصلت بشخص ما، ثم وضعت السماعة، استطاع صاحب الجهاز أن يعيد المكالمة، أي أن يتصل بك هو، حتى لو كان لا يعرف رقمك بالضبط. فقد تتصل الفتاة -مثلاً- برجل، وتقول له شيئاً، أو تعبث معه، ولكنها لا تريد أن تطلعه على رقمها، ولا أن يتصل بها هو؛ ولكنه من خلال هذا الجهاز يتصل بها، وعندما يرن الجرس لديها، تفاجأ بأن هذا الشخص الذي كلمته قبل قليل؛ هو الذي على سماعة التليفون وتحت التهديد يهددها بأن يمسك الحرارة حتى يحضر ولي أمرها، إذا لم تنصع لأوامره، فتوافق على ما يريد خوفاً من والدها. هذا الإزعاج الذي يحصل بالاتصالات العشوائية، هو محرم شرعاً، وهو مذموم عقلاً؛ فأما الشرع: فإنه إيذاء للمؤمنين والمؤمنات، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً َإِثْماً مُبِيناً} [الأحزاب:58] ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا ضرر ولا ضرار} . فالضرر مدفوع، والأذى ممنوع، ولا يجوز لإنسان أن يؤذي أحداً بقول ولا فعل، ولا حركة؛ حتى لو كانت يسيرة خاصة وأن هذا الإزعاج يأتي -في أحيان كثيرة- في وقت الهدوء، ووقت الراحة، ووقت الخلوة بالأهل، ووقت النوم، فيتحول الجهاز -بهذا- من وسيلة اتصال نافعة، إلى ذريعة تخريب وفساد وإذا ابتلي الإنسان بمثل هذا وطال به الأمر، فبإمكانه أن يسلك أسلوب تغيير الرقم واستبداله، كما أنه يمكن مراقبة الرقم رسمياً، لاكتشاف الإزعاج المتكرر، ومنعه من ذلك. من المفاسد: أن هذا الأمر يشغل الخط كثيراً، وقد يتصل أحد لديه ظرف طارئ، يريد الإخبار عن شيء، عن مريض، أو عن وفاة، أو عن حادث، ولكن عبثاً يحاول فالخط مشغول، ولكن بماذا؟! من مفاسده ومن أعظم مفاسده: دعاء الناس على مَنْ يؤذيهم: فبعض الشباب يحدثونني عن أشياء من هذا طويلة وعجيبة، قد يكون من يتصلون به رجلاً صالحاً، في هدأة الليل، وربما كان في صلاة، فإذا اتصلوا به؛ ظن أن هناك أمراً خطيراً، فإذا هو رجل يمزح ويعبث، أو بنت تعبث، فتجد أن هذا الإنسان الصالح يقول: أصابك الله بالموت، أعطاك الله بالسرطان، أعطاك الطاعون، أو غيره فهذا دعاء عليك من رجل آذيته، وربما في ساعة إجابة، وربما يكون من الصالحين، وقد يكون وقت قبول، وقد يكون منزعجاً لأنك أيقظته من نومه، أو قطعت عليه صلاته، أو أزعجته وأخفته، إلى غير ذلك. وأحياناً قد لا يكون الشخص المُزْعج مستقيماً، فتسمع منه ما يسوؤك، وأقلها: أن تسمع شتم والديك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن علي ّ: {لعن الله مَنْ لعن والديه} ويدخل في ذلك من تسبب في لعنهما، فكثيرٌ إذا أُوذوا؛ شتموا والدي منْ آذاهم فتكون تسببت في لعن والديك، وقد تسمع مِنْ ألفاظ البذاءة والتعيير، والقذف لك ولأهلك ولأجدادك ولأسرتك؛ ما تشمئز منه نفسك فأي خير يرجى بعد هذا؟! بل بلغني أن بعض الناس لا يكتفي بالاتصال فقط، بل يزيد على ذلك لوناً آخر من الإزعاج، لا يكتشفه إلا الشيطان أو من أملاه عليه الشيطان، فيتصل ببعض الأسر الذين يعرفهم، ويعرف أن ولدهم مسافر إلى الرياض، فيقول لهم: فلان ولدكم قد حصل عليه حادث، وهو الآن في المستشفى ينازع محتضر، أو يقول لهم: إنه قد قطعه الحادث إرباً إرباً، وعليكم المجيء سريعاً لاستلامه من الشرطة، أو من المستشفى وقد حصل هذا، وأحدث في البيت إرباكاً وإزعاجاً لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهذا العمل (الاتصال، وتكريره، وضرب الأرقام العشوائية) يتحول أحياناً إلى نوع من الإدمان، الذي يصعب علاجه، فكلما وجد الفتى، أو وجدت الفتاة وقت فراغ ولو يسيراً، امتدت الأصابع عفوياً إلى أرقام الهاتف، تضغطها دون تفكير، وهي السهم الأولى التي تجر صاحبها إلى بؤرة الرذيلة والانحراف. ومن عقوبات هذا العمل حرمان الإنسان من المتعة الحلال، وتعلق قلبه بالأصوات، وما تجره من خيالات وصور وهمية، وهي بذلك تفتح للإنسان باب السفر إلى الخارج، ومعاقرة الرذيلة في مواقعها وأماكنها، والخطوة الأولى تتلوها الثانية. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 16 خُذ الرقم أرى بعضكم أحضر ورقة حتى يأ خذ الرقم ! لا. هذا مجرد عنوان. أصبح من السهل الحصول على رقم ما، ليس عن طريق الاستعلامات، فهذا أمر معلوم؛ لكن عن طريق صاحب الرقم نفسه، فأحياناً إذا اتصل به إنسان أو بها -ولو كان اتصاله عشوائياً- أعطاه الرقم، وكل جهة رسمية أو غير رسمية يمكن أن تعطى رقم الهاتف مثلاً: عند فتح الملف في مستوصف الحي، يطلبون بيانات من ضمنها -ربما- كل أرقام المنزل، ليس هناك مسوغ مقنع لهذا الطلب، وفي حالة اللزوم يمكن الاتصال على رقم واحد إذا كان ولابد. بل أعرف أشد من ذلك! وهذه ورقة وزعت على بعض البيوت، وانظروا إليها، الآن في هذا البلد توزع!! وتباع أيضاً مع بعض الكتب أحياناً! يقول: احتفظي بهذه القسيمة، وانتظري المفاجأة السارة - هذا لربة البيت - الاسم بالكامل، السن، الحالة الاجتماعية، متزوجة، أم غير متزوجة، وظيفة الزوج، عدد أفراد الأسرة، هل الزوج يهوى المطالعة؟ بماذا؟! باللغة العربية لغات أخرى رياضة علوم كمبيوتر موسيقى أنواع أخرى بعد ذلك: عدد الأبناء ذكور إناث السن - أيضاً البنات مطلوب عددهن وأسماؤهم أيضاً - هل لديكم كمبيوتر؟ هل لديكم فيديو؟ هل هم يهوون الفيديو؟ أي نوع؟ يهوون المطالعة؟ ما هي الاهتمامات؟ خياطة نزيكو طبخ أزياء مطالعة طب تنسيق زهور اهتمامات أخرى؛ جوائز قيمة لمسابقة قادمة، هذه الورقة إلى أين سوف تذهب؟! هذه الورقة إلى شركة الديار في إيطاليا، فتصور المكر إلى أين وصل. وأعطاني آخر -أمس- ثلاث مذكرات، فيها أسئلة كثيرة عن الماركة التي تتعاطاها من التبغ، وهل تنوي تغيير هذه الماركة؟! ومن أين تشتريها؟! وأين تقرأ إعلاناتها؟! وأين تقضي وقت فراغك؟! وفي ذلك سؤال عن رقم الهاتف، وهو يوزع على الشباب، ويقوم بعض الصغار من الصبية المستأجرين لهذه الشركة، التي لا أدري ماذا وراءها؟ يقومون بالاتصال ببعض الناس، حتى في المطار وغيره، وسؤالهم، وتعبئة البيانات في مثل هذا الأمر. بعض الشباب ذوو الميول المنحرفة -يعملون استبيانات- أحياناً تطوعية من عند أنفسهم، وقد رأيت من ذلك شيئاً، ويوزعونها أحياناً على مدارس الأولاد للبنات، فيقولون: أعطِ أختك تكتب هذا البيان وفيه اسمها، وماذا تهوى؟! وماذا تشاهد من برامج التليفزيون؟! ورقم هاتفها. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 17 مؤسسات المجتمع الجزء: 134 ¦ الصفحة: 18 مراقبة الهاتف متى تراقب الهاتف؟ وما هو أسلوب المراقبة؟ أولاً: ينبغي أن نُبعد عن النفس الشك والوسوسة فإن كثيراً من الناس ابتلوا بالوسواس في أنفسهم، وفي أزواجهم، وفي بناتهم، وأولادهم، وهذا غير مطلوب، فالمطلوب -دائماً وأبداً- هو الاعتدال والعدل، فلا يغلو الإنسان في الشك والمراقبة، وأيضاً لا يغلو الإنسان في حسن الظن والغفلة، (لست بالخب ولا الخبُّ يخدعني) اجعل هذا شعارك. لكن إذا وجد الإنسان أن هناك شبهة قوية، وأوضاعاً مريبة وشكوك، أو سمع كلاماً أو غير ذلك؛ فإن له أكثر من وسيلة. فبإمكانه أولاً: تلافي هذا الأمر دون مراقبة؛ لكن إذا احتاج إلى المراقبة؛ فإن ذلك ممكن من خلال أجهزة موجودة في السوق، توضع على أحد النقاط في البيت، ويكون الجهاز -جهاز التسجيل- يشتغل بمجرد رفع السماعة، فيسجل كل المكالمات المطلوبة، وهذا نوع من التصنت -كما ذكرت قبل قليل- فهو لا يجوز! حتى الأب لا يجوز له أن يتصنت على ابنته أو زوجته، أو الرجل على زوجته، أو الأخ على أخيه، إلا إذا وجد ما يدعو إلى ذلك، مثل: الشك والريبة، أو غير ذلك. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 19 التلفاز التلفاز يشجع -من خلال ما يعرض على شاشاته من أفلام رديئة، ومن قصص الحب والغرام، التي تبدأ أحياناً بالهاتف، ومن الكلمات التي يحفظها للطلاب والمشاهدين؛ يشجع كثيراً على استخدام الهاتف فيما لا يحسن بل يسوءه الصحافة والمجلات، تجعل المهاتفات أمراً عادياً، وتبادل مشاعر الحب والغرام يتم على صفحاتها أحياناً، وبعضها -على كل حال- خير من بعض؛ ولذلك نرجع إلى أهمية ما يقرأ من الصحف والمجلات والكتب وغيرها فينبغي للأب أن يوفر لأولاده وبناته الكتب الإسلامية المفيدة، والصحف الإسلامية المفيدة، وكل ما ينفعهم، ويحذرهم ويبعدهم عما يضرهم. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 20 المدرسة الصديقات في المدرسة، وتبادل الأرقام؛ هذا يحصل كثيراً بين الشَِلل الموجودة في مدارس البنات، وخطر التهويل من شأن هذا الأمر، فهي تقول لزميلتها: الأمر سهل، الأمر بسيط، مجرد اتصال وحديث وتصبح الواحدة منهن تستحي أنه ليس لها صديق تتصل به فتستحي، وإذا كانت الشِّلة كلها على نفس النمط؛ فربما تدَّعي ذلك وهو كذب، وربما تحاول أن تتصل ببعض الشباب، ويدعو إلى ذلك شيء من الفضول. ولذلك من الضروري اختيار الصديقة الملتزمة بالنسبة للفتاة، ومن الضروري أن يكون للأهل دور في اختيار الصديقة التي تكون مع بنتهم، وألا يرضوا أن تصحبها أي فتاة، دون أن يكونوا واثقين من أخلاقها ودينها، ولابد من الإشارة إلى دور المديرة والمدرسة، والمرشدة الاجتماعية؛ في التوعية، وإقامة حلقات الذكر في المدرسة، والنصيحة في الفصول، والمراقبة أيضاً للبنات فيما يأتين به أحياناً من بعض الأمور، خاصة البنات التي تثور حولهن علامات استفهام. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 21 البيت البيت هو أهم المؤسسات، فلابد أن يقوم البيت بدوره في تعويد الجميع على النوم مبكراً، وعدم ترك المراهقين لوحدهم، ومراقبة الأطفال والخدم، وحصر أجهزة الهاتف في أماكن عامة، أو في مكان واحد فقط، وترشيد عدد الأرقام، خاصة مع الحاجة إليها من الآخرين. لماذا يوجد في بيتك أربعة، أو خمسة أرقام -في كل غرفة رقم خاص-؟! الناس يحتاجون هذه الأرقام، ومساعدة المسلم لأخيه المسلم مما يقربه إلى الله عز وجل، هذا الأمر ينفعك اقتصادياً، ويوفر عليك رسوم الاشتراكات، والأجور والمكالمات وغيرها، ثم هو يحفظ لك خلق أهل بيتك، وكرامتهم، ويجعلك تطمئن على سلوكهم، وعدم استخدام هذه الأجهزة استخداماً سيئاً. أمر مهمٌّ جدّاً في البيت وهو التربية الحسنة، من التربية: تخويفهم بالله عز وجل وترغيبهم فيما عند الله تعالى، وإقامة درس -ولو أسبوعياً- للبنين والبنات، وجَعل الكتاب والشريط في متناول أيديهم، وتعويدهم على أسلوب الرد على الآخرين كباراً وصغاراً، وأضرب لكم مثالين: أولاً: سوء الظن: بعض الناس نتيجة هذا الكلام أو غيره، يصبح عندهم سوء ظن، فكل من اتصل بهم؛ اعتقدوا فيه سوء الظن، ولهذا يردون بشراسة وقوة وقد يكون المتصل مازحاً أحياناً وهو يعرفهم، وقد يكون المتصل مخطئاً في الرقم، فيواجه أحياناً بالدعاء، أو بالشم. وأذكر لكم مثالاً حصل لي: اتصلت يوماً من الأيام على صديق لي فقال لي: نعم فسلمت عليه، فرد عليَّ السلام، فقلت له مازحاً: هل هذا بيتكم؟ فوضع سماعة الهاتف، واعتقد أنني أعبث بهذا الاتصال؛ لأنه لم يعرفني، وفي الواقع أنه لم يكن الأمر إلا مداعبة. فلا بأس! أعط المتصل فرصة لتعرف مَنْ هو؛ فإن وجدت أنه عابث، فلا داعي للانزعاج، وشد الأعصاب، والهيجان والغليان، والكلام والقيل والقال، والشتم والسب والدعاء، ضع السماعة بهدوء، وإذا تكرر الاتصال؛ فكرر هذا العمل، وإذا وجدت أنه يتصل غالطاً في الرقم أو مخطئاً، أو ما أشبه ذلك، فلتعذره. مثال آخر: -كذلك أحياناً- يتصل البعض ويقول: هذا بيت فلان فيقولون: نعم، ومن أجل أن يطمئنوا إليه ويعطوه معلومات صحيحة، يقول: معكم فلان إذا جاء قولوا له: اتصل بك فلان، وهو ليس هو في الواقع؛ لكنه يعطيهم اسماً وهمياً، حتى يعطوه المعلومات التي يريد، فيقول: متى ذهب؟ ومتى سيأتي إلى آخره؟ فإذا حصل على المعلومات التي يريد؛ استفاد منها ووظفها فيما يقصده. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 22 فتوى على الهاتف لقيت كثيراً من الشيوخ -منذ زمن طويل، وفي الأسبوع الماضي على وجه التخصيص- يشتكون كثرة الاتصالات الهاتفية! وهذا -في الواقع- بشير خير، يدل على إقبال الناس على العلم الشرعي، وثقتهم بالمشايخ والعلماء؛ حيث يسألون عن أمور دينهم ودنياهم ومشاكلهم الاجتماعية، والاقتصادية وغيرها ولكنني أود أن أقول: حتى هؤلاء الشيوخ الذين بذلوا لنا أوقاتهم، لهم خصوصياتهم ومن حقهم أن يستمتعوا بأوقات الراحة، كما يستمتع بها غيرهم، وأن يحظوا منا بالرعاية وحسن الأدب؛ أكثر مما يكون مع غيرهم مثلاً: في رمضان يقول لي أحدهم: طيلة أربع وعشرين ساعة، والهاتف يرن لا يهدأ أبداً؛ لأن من الناس من ينام في الليل، ويصحون بالنهار، فيظن أني مثله، فيتصل بالنهار -حتى بعد صلاة الظهر، في منتصف الظهر- يتصل ويقول: طبيعي؛ لأنه ما دام نام في الليل فإنه لا ينام في النهار، وبعض الناس على العكس! في رمضان ينامون في النهار، ويسهرون في الليل، فيتصل الواحد منهم ربما في الساعة الثانية والثالثة ليلاً، وهو يكون يقظ؛ لأنه ما دام نائماً في النهار؛ فلن ينام في الليل. فكل إنسان يقيس الناس على نفسه، ولا يحس إلا بقدر حاجته. هناك أمور يجب مراعاتها في موضوع الاتصالات الهاتفية، حين نتصل بمشايخنا، وعلمائنا لنسألهم عما أشكل علينا وأختصر أيضاً: أولاً: الاقتصار على الوقت المخصص، إذا حدد وقت لا تأخذ غيره. ثانياً: عدم الإطالة بالمقدمات: مثل: كيف حالكم؟ كيف الأولاد؟ كيف الصحة؟ كيف الأحوال؟ كيف الأهل؟ كيف الجيران؟ لا داعي لهذا. ثالثاً: عدم ذكر التفاصيل التي لا تتعلق بموضوعه، أو أن تكون القضية مجرد بث الشكوى دون مصلحة: امرأة -مثلاً- تعاني مشكلة مع زوجها، تقتصر على ذكر المشكلة أما كونها تتحدث عن الأمور، وعن الماضي والحاضر، والواقع، وكذا لمجرد بث الشكوى؛ فهذا من الممكن أن تشتكي إلى أمها، أو إلى صديقتها، أما أوقات الآخرين فلا يمكن أن تكون لمثل هذا. وقد يأتي الرجل ليسأل عن مسألة طلاق؛ فتجده يسرد لك قصة زواجه، من خمس وعشرين سنة إلى اليوم، وما جرى فيها وما حصل والمشكلات ولا داعي لهذا. رابعاً: عدم الاتصال على أكثر من واحد؛ فالبعض يتصل بفلان، وفلان، ويقارن بين الفتاوى. خامساً: حسن الأدب: فالبعض يخاطب الشيخ فيقول: أنت ما فهمت!! أو أنت لا تدري -مثلاً-!! أو هل أنت فعلاً فلان؟! وبعد كل قليل هل أنت فعلاً فلان؟!! ما هو السبيل لأن يثبت أنه فعلاً فلان، أو يقول: أنت أخطأت خطأ أريد أن أنبهك عليه، لا داعي لأن تجزم بأنه خطأ إلا بعد أن تذكره، ويوافقك على أنه خطأ؛ فلابد من الأسلوب المناسب. سادساً: رعاية هذا الإنسان في أهله، وولده: فلا يسيء المتصل إليهم بقول ولا يفعل. سابعاً: عدم الاتصال لغير حاجة: مجموعة يلتقون أحياناً فيثور بينهم أي سؤال، كل ما في الأمر أنه يتصل بالهاتف، ويسأل فلاناً، مع أن القضية قد لا تكون ملحة. وكثير من الناس؛ خاصة الفتيات والنساء، يتصلن من أجل السؤال عن الرؤيا عن الأحلام، وفي الواقع هناك فرق كبير بين من يتصلون للسؤال عن أحلام رأوها، وبين من يسألون عن فتاوى، ولو سأل الناس عن أمور دينهم، كما يسألون عن الأحلام التي يرونها في منامهم؛ لأصبحوا فقهاء. ثامناً: البدء بالسلام (تحية الإسلام) السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. تاسعاً: عدم المقاطعة: إذا تكلم الإنسان وأجاب، لا داعي لأن تقاطعه في الكلام. عاشراً: لا بد من وضوح الصوت: هذه تحدث مشكلة! تصور -مثلاً- أن موظف الخطوط، أو موظف البريد، أو الهاتف، الذي يستقبل مكالمات على مدى وقت الدوام، فأنه يعاني مشكلة ولابد -مع الوقت- في أذنه! فكيف بمن يكون طيلة وقته هكذا. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 23 الجانب الإيجابي للهاتف الورقة التاسعة والأخيرة: كل الحديث الذي مضى، أو غالبه أو جله، عن الجانب السلبي، أما الجانب الإيجابي في هذا الجهاز الحساس، فهو الأصل: فهو اختصار للوقت، وتسهيل للاتصال بالقريب والبعيد، وغنية عن اللقاء، حين يتعذر اللقاء أو يتعسر، أو يمتنع شرعاً أو واقعاً، وفرصة للدعوة إلى الله، وشكر من يستحق الشكر، ونصيحة من يحتاج إلى نصيحة، وتواصل بين الشرق والغرب، وأداة تيسير العلم وسهولة الحصول عليه، ومعرفة حكم الله -تعالى- ورسوله صلى الله عليه وسلم فيما ينزل بالإنسان، وقناة للتعرف على الأحوال والمتغيرات، ومجال لتبادل الناس في أمور معاشهم. وعلى كل حال: فهو من الإنجازات العلمية الهائلة بكل تقدير، وعلى رغم مضي أكثر من مائة وخمس عشرة سنة على اختراعه، فهو لا زال ينافس أحدث المخترعات الأخرى التي ساهمت في صياغة حياة الإنسان في هذا العصر، وبعد هذا وقبله لا أعجب أن يخرج علينا صحفي غداً، أو بعد غد؛ ليقول: إن فلاناً يحرم استخدام الهاتف! فقد دأب بعض الناس على تحريف الكلم عن مواضعه. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 24 الأسئلة الجزء: 134 ¦ الصفحة: 25 الفنانة السعودية ناجية الربيع السؤال يقول: الفنانة السعودية ناجية الربيع تقول: انتظر الدور المناسب بالمسرح والإخراج للسينما قريباً، هذه في جريدة الأنباء الكويتية الجمعة 6/11/1412 هـ، وقد صورها صورتين قادمة من أمريكا، درست فيها فن الإخراج السينمائي، وقامت بعدة محاولات في السعودية، وهي الآن تجرب حظها في الكويت، ولها بعض الآراء ووجهات النظر، إنها الفنانة السعودية ناجية الربيع، وماذا في جعبتها حالياً؟ الجواب على كل حال: في مقابلة طويلة، إنما هي تنتظر الدور المناسب للمسرح، للخروج بوجه سينمائي سعودي، وأسأل الله تعالى ألا يتم ذلك، وأن يكون لجهود المخلصين ما يحول دون ذلك. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 26 مشاركة شعرية أخرى السؤال هذه قصيدة لها قصة، وهي مشاركة أيضاً بعث بها إليَّ أحد الإخوة، وكنت وأنا صغير في المتوسط -أقرأ قصائد في بعض المجلات الإسلامية، وخاصة مجلة كان اسمها: الشهاب، وكانت تصدر من لبنان، فكان يشتريها بعض أقاربي فتقع في يدي، فأشتريها وأجد فيها قصائداً لشاعر فلسطيني اسمه الدكتور: عبد الرحمن بارود، فأحفظ كثيراً منها، وأكتبها في دفتر عندي، فسمعت أن هذا الدكتور يدرس في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، فتمنيت أن ألقاه لأسأله عن قصائده، ولقيته فعلاً فسألته عن تلك القصائد، فقال لي: إنها ضاعت ضمن ديوان أخذ منه حين سجن في مصر، وكان سجن فيه سبع سنوات، وضاع ذلك الديوان، فقلت: إني كنت أحتفظ بها زماناً، فدعاني إلى أن أزوده بها، فقرأت عليه بعض تلك القصائد، فوجدت أنه قد نسيها، حتى إنه أنكر أحدها وقال: ليست لي!! فلما أعدتها عليه تذكرها، ثم بعث لي -جزاه الله خيراً- ببعض القصائد التي عنده، ومنها قصيدة جميلة جداً، أقرأ عليكم شيئاً منها، عنوانها: (صريع الهوى) ، وهي مناسبة لموضوع اليوم، كما إنها مناسبة لموضوع قادم إن شاء الله بعنوان: مصارع العشاق يقول: صريع الهوى غرتك وهي غرور وعمرك طيرٌ من يديك يطيرُ رمتك ابنة للدهر في طرفها الردى تناذرها الركبان وهي نذير إذا أقبلت أنست أخا اللب لبه وهان عليه الرق وهو أمير عروس بلا قلب يطيف بها الورى لها من سويداء القلوب ستور ولولا الهوى لم يهو في النار من هوى ولا عقرت أهل الحلوم عقور لها شرك من ينج منه فقد نجا حبائله كالسيف وهي حرير تُغير وتمضي كالخيال وخلفها دماءٌ ودمع واكف وقبور عشاء ضحى والليل داجٍ ومخبر أصيلاً سُحيراً والبلاد حرور فيا لك ركباناً على البيد كالقطا وفوقك عُقبانٌ عتت ونسور أطارت رماة الدهر قوس قديمة ورام بحبات القلوب خبير فكن واحد الدنيا فأنت وريقة على طرق الركبان منك كثير لقن كل ريح في قفار مخوفة لهن عواءٌ تارةً وصفير يخاطب العاشق وصريع الهوى يقول: إلهك ليلى ما لنا فيك حيلة عليها قصرت العمر وهو قصيرُ ذللت فعزت واستقدت فقيدت فأنت بأغلال الحديد جدير قعدت وجدَّ الطيبون إلى الحمى ولذَّ لك الخطبان وهو مرير ولو حدقت عيناك حولك لحظة رأيت الرحى السود وهي تدور فيا عجباً أدبرت والدهر قُلَّبٌ ولله في الدنيا صباً ودبور أما أنت إذْ ألقى ألست بربكم علينا وللأقلام ثم صرير فقلنا بلى قال المواثيق بيننا وأنت سميع يوم ذاك بصير يعني إنك كنت موجوداً يوم أخذ عليك الميثاق {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] . قصمت عراها يا خؤون ولم تزل عليك شهودٌ منك فيك حضور الشهود هي: الجوارح. ورثت تراثاً لست تعرف قدره وأُلبست تاجاً أنت عنه صغير فسقياً لعهد بالديار إذ الحصى قناديل في جوف الظلام تنير قرونٌ خلت كانت لباباً قشورها وفي قرننا هذا اللباب قشور وذرية كالذرِّ قدراً وقدرةً على ظهر سيل حيث سار تسير إذا مجها التيار ظلت نفاية وما لنفايات السيول شعور تعهدها إبليس حتى تهودت وعلمها الملعون كيف تغيرُ أكل أبي جهل لديكم مؤلَّهٌ وأنتم قرابين له وبخور تصوغون عار الدهر تيجان عسجد وكلٌ يولي والحساب عسير تعفن وجه الأرض حتى تسمم الجنا وتعادت أفرع وجذور وإعصار جنكيز يدوي وبحره رعودٌ وليل عاصف وهدير هي الحرب في كل الميادين خلفها مراجل قار في الصدور تفور هي الحرب فانظر هل هناك بقية من الدار وانظر هل هناك ثغور يدير رحاها ألف كسرى وقيصر وألف حييّ للمدير مدير أعز ضحاياها القلوب تخالها خرائب بُصرى ليلهن دهور لك الله يا أقصى تقنعت باكياً وكل صناديد الرجال أسير بكيت وأيدي الجاهليات تلتقي عليك وعجل السامري يخور فجازاك ربي يا غثاء ألا ترى إلى أي درك في الوحول تغور ملايين يا ليت الملايين لم تكن ويا ليت أرض الجاهلية بور وسرب من الإنس السماواتُ تحته ووجهته عرش المليك يزور ربيب المقادير الأعز كأنه من القرب والحب المقدس نور على لهب المأساة أحكم صقله فليس له في العالمين نظير يروع حيياً طيفه كل ليلة إذا جاء يومي لا تقيك جحور غداً يأخذ الإيمان مجراه عنوة ويعتق أقنان ويحرق نير الجزء: 134 ¦ الصفحة: 27 بعض ما يحصل في المستشفيات من مخالفات شرعية السؤال هذه أسئلة وهي في الواقع أوراق من مجموعة من الإخوة ورقة أو ورقتان أو ثلاث، فيها ذكر ما يقع في المستشفيات، والشئون الصحية فسائقو الإسعافات -مثلاً- يحضرون مريضاً من قرية بعيدة، ويذهب السائق ليس معه إلا ممرضة. وهذا يقول: النقل الداخلي يتم عبر سيارات معينة، وفيها ضيق؛ والأدهى أنك إلى آخره! ويقول: في الصيدليات -أحياناً- لا يفصل بين الرجل والمرأة فاصل، وكثير من الممرضات تقوم بوضع أحمر الشفاه، وغير ذلك على وجهها، وتتعمد فتح صدرها وذكر كلاماً لبعض الشباب يقول: أيضاً الحديث عن الممرضين العرب لا يسعه -والله- المقام يقول: فأحدهم أصبح وقد استغنى عن تحية الإسلام، بمساء الخير وصباح الخير، إعجاباً بهن وأعظم من ذلك! الاختلاط داخل الأقسام، ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً، كموظفات الاستقبال "الرسبشن" ويقول: إحداهن تُبعد؛ لأنها ضبطت وهي تُعاكس صدفة. بل يضعون أيضاً أحسنهن وجهاً، وأزرقهن عيوناً -هكذا تقول الرسالة- وأقومهن أنوفاً، ومن ثَمَّ يدورون عليهن حجاب الحشمة، فتصبح كقمر جلل سحاب، ويقولون للمراجع: أغلق عينيك. هذه بعض المعاناة، وما تخفي جدرانهم أكبر. وهذه ورقة أخرى -أيضاً- فيها: عن وجود صالة تنس محاطة بحواجز زجاجية، ووجود سوق مركزي مشترك، ووجود ما يسمى (بكوفي شوب) ، أي: محل للبيع، فيه نساء مزينات، ويباع فيه القهوة والشاي والملاعب الرياضية: (طائرة وسلة) . وتقام حالياً دورة رياضية لمنتسبي المستشفى، نساءً ورجالاً، للنساء يوم يلعبن فيه، والرجال يتفرجون، والحكام -أيضاً- من الرجال، واليوم الآخر للرجال، والمتفرجات من النساء، وأصوات الضحكات تسمع من مسافة كيلو متر وخمسمائة متر بالضبط، أي أصوات الصراخ. وهناك الورقة الثالثة: فيها مبالغات، ويتكلم عما يتحدث به في المجالس، من وجود ألوان من الفساد، أو ما يسميه الأخ في رسالته بـ (الدعارة) . الجواب وأنا أدعو الإخوة، أولاً: إلى التثبت في مثل هذه الأمور، فنحن نقر أن ما ذكر في الرسائل الأولى صحيح وموجود، لكن لم تصل الأمور إلى الحد الذي ذكره بعض الإخوة، ووجود حالة أو حالتين، أو ثلاث حالات فساد تكتشف في المستشفى -جرائم أو غيرها- فهذا لا يعني أننا نتنكر لجهود كبيرة موجودة، ووجود أناس صالحين سواء من الأطباء، أو من العاملين، أو حتى من الشباب الذين تخرجوا من المعاهد الصحية. وينبغي أن تعالج هذه المنكرات بالأسلوب المناسب، الاتصال بالشئون الصحية، وإذا لم يُجدي هذا يتصل بوزارة الصحة، ويتصل بالعلماء أيضاً، ويبذل الجهود؛ لأن المستشفى -مع الأسف- قطاع يحتاجه الجميع، ولا يمكن لأحد أن يستغني عنه في حالات كثيرة! فينبغي أن نبذل وسعنا في تصحيح الأوضاع الأخلاقية، بل والأوضاع الفنية أيضاً. وهناك شكاوى كثيرة من أوضاع فنية، موتى يموتون تحت العمليات، وهم دخلوا أصحاء، وأمور ومشاكل كثيرة، يطول فيها الحديث، ومع الأسف أحياناً لا يكون هناك تجاوب من الجهات المختصة بما فيه الكفاية! وهو الذي يجعل هذه الأمور مجالاً لحديث الناس في مجالسهم، ويتطور الأمر إلى أمور ذكرت لكم طرفاً منها، وهي روائح تزكم الأنوف. فأدعو الإخوة -عموماً- إلى التثبت، وعدم التعجل في ذكر بعض الأخبار -خاصة المفزعة- إلا بعد التأكد منها يقيناً، وحتى عند حصولها لا داعي لأن يتكلم بها في المجالس العامة، بل يحدث بها من يعنيهم الأمر كالعلماء وطلبة العلم. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 28 كتابات جمال سلطان السؤال هذا يسأل عن كتابات جمال سلطان، ومن ضمنها كتاب تجديد الفكر الإسلامي وجذور الانحراف في الفكر الإسلامي؛؟ الجواب في الواقع أن هذه كتابات جميلة جدّاً، وأنصح باقتنائها، وقراءتها، لما فيها من العمق، وجودة الأسلوب، ونصاعة الفكرة. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 29 مشاركة شعرية السؤال هذه أيضاً بعض المشاركات التي ألح أصحابها على المشاركة فيها، منها قصيدة للشاعر عبد الرحمن العشماوي، وجهها إلى أحد قادة المجاهدين الأفغان، وهو رئيس الحزب الإسلامي قلب الدين حكمتيار، أقرأ شيئاً منها مراعاة لضيق الوقت: أزف تحية وأزف عشراً فأنت بهذه وبتيك أحرى كشفت مدى مؤامرة الأعادي فلم ترفع لهم بالصمت قدراً وكنت أمامهم سداً منيعاً وكانوا الناطحين وكنت صخراً أقلب الدين ما ناداك شعري بل القلب الذي ناداك شعرا أزف إليك إعجابي وألقي إليك تحية تنهل عطرا أخي في الله ما بدلت قلبي ولا غيرت في الأحداث ذكرا أرى الإعلام ينفخ في أناس تفوح ثيابهم حقداً ومكرا عمائمهم تلف على انحراف تباع به مبادؤهم وتشرى أراهم أزمعوا أمراً فهذي عيون المرجفين تفيض غدرا أقلب الدين قد رسموا خيوطاً لتمزيق الجهاد وأنت أدرى فلا تلق السلاح ولا تهادن ولا تفتح لما يبغون صدرا أنادي كل من رفعوا لواءً قصدوا به للدين نصرا أيا سياف لا تسمع دعاوي من اتخذوا إليك الود جسرا ويا برهان لا تركن إليهم فقد مدّوا إلى يمناك يسرا لقد أحببتكم في الله حباً أناصحكم به سراً وجهرا دم الشهداء يدعوكم فلبوا فلست أرى لكم في الصمت عذرا جهادكم العظيم جهاد جمٍ أبى أن يمنح الطاغوت أمرا أيا إخواننا صبراً جميلاً فإن لكم مع العسرين يسرا سيسقط غربهم كسقوط شرق وسوف تريهم الأيام خسرا أقلب الدين ما طوعت حرفي لأهوائي ولا أرخصت حبرا كفرت بليل حسرتنا فإني أرى في ثوب هذا الليل فجرا إلى آخر القصيدة. الجزء: 134 ¦ الصفحة: 30 أخبار المسلمين في البوسنة والهرسك هذه أخبار عن البوسنة والهرسك، وقد جاءتني أمس وهذه الأخبار نوعاً ما قديمة، عن أن الجيش يستمر في نهب المسلمين وإرهابهم في مناطق شرق البوسنة، وحصار محطات الهاتف - الاتصال الهاتفي والبث التلفزيوني - وتوجيهها إلى بلجراد، كما يهدد بشلل حركة الاتصال كليّاً، وقد تم ذلك في بعض المناطق؛ وهذا النوع من الإرهاب لم يعهده العالم من قبل؛ حيث أدى إلى عزل الجمهورية عن العالم. وفي منطقة سراييفو يجري سحب المعدات العسكرية من ثكنات الجيش، كما يستمر تهجير العوائل إلى صربيا تحت حراسة مشددة المهم: نشرت الصحف أخباراً مزعجة جداً، بل نشرت صوراً أكثر إزعاجاً نشرت صورة الصربي القناص، وهو يوجه بندقيته إلى المسلم الذي جعل له ظهره؛ فيرديه قتيلاً، برصاصات يسددها إلى رأسه، ثم تأتي زوجته لتنكب عليه فيرد بها هي الأخرى. وصورة ثالثة لصربي كافر نصراني، يضع قدمه على وجه هذه المرأة المسلمة دون رحمة ولا هوادة، كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع من العالم. الأمر الذي طال العجب منه: أن الإذاعات والصحف، ووكالات الأنباء، أعلنت أمس، أن لقاءً سرياً تم بين الصرب والكروات، وكلهم من النصارى، وقد قلت: إن أخطر ما نخافه؛ أن يجتمعوا على حرب المسلمين، وحدث هذا فعلاً؛ فقد التقوا في فينا في النمسا، التقوا واتفقوا على تقاسم الأرض الإسلامية، وتقاسم التركة الإسلامية؛ بعضها للكروات، وبعضها للصرب، والأغرب والأعجب من ذلك: أن المسلمين لم يحضروا الاجتماع، ولم يدعوا إليه، وليس لهم من الأمر شيء. ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستأذنون وهم شهود والأغرب والأدهى والأمرّ: أن دول المجموعة الأوروبية التي اعترفت سابقاً بالبوسنة والهرسك، أنها قد أقرت هذه القسمة، وأعلنت القبول بها، بل إن ذلك الاجتماع كان عن تخطيط مسبق من دول المجموعة الأوربية، وأنا أقول لكم بملء فمي: أبشروا أيها المسلمون! أتاكم نصر الله عز وجل لقد أصبح النصارى الآن أكثر وقاحة، وجرأة من ذي قبل، وأصبحوا يعلنونها حرباً صليبية شرسة! ونحن نعلم أن المسلمين من المشرق إلى المغرب، حين يعرفون، ويدركون أن الحرب حرباً دينية، تستهدف عقائدهم وأخلاقهم، والله لا يقف في وجههم شيء! فليبشر المسلمون، وليدركوا أن مثل هذه الأمور لن تزيدنا إلا يقظة -بإذن الله تعالى- وصبراً وإيماناً بوعد الله عز وجل بل معرفةً بقرب النصر: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] . الجزء: 134 ¦ الصفحة: 31 عشرون طريقة للرياء الرياء مرض خطير على دين المرء المسلم، والشيطان يحبب إلى المرء هذا المرض، وطرقه كثيرة منتشرة، وفي هذا الدرس تتعرف على كثير من طرقه لتحذرها. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 1 تكريم الله للإنسان الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد: فهذه المحاضرة عنوانها (عشرون طريقة للرياء) ومعاذ الله أن يكون ذلك معناه فتح الباب للرياء, فإن الرياء مذموم شرعاً وطبعاً، وإنما المقصود التحذير منها, والإشارة بأصابع التخويف والزجر عنها. وهذه المحاضرة تنعقد في ليلة العاشر من شهر ربيع الأول (1414هـ) في الجامع الكبير بمدينة تبوك عمرها الله تعالى بالطاعة والإيمان. أيها الإخوة: الرحمن -جلَّ وعلا- خلق الإنسان وميزه عن سائر المخلوقات, ميزه أولاً بسلاح الجسم وحسنه، كما قال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] فأنت لا ترى في سائر المخلوقات المرئية للعين ما يباري الإنسان أو يماثله في كمال الجسم، واستقامته، وتناسقه، وحسن أعضائه، وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى. ثم إنه ميزه بميزة أخرى، وخاصية ثانية أعظم من ذلك وأكبر, ألا وهي العقل والتفكير والإنسانية، التي تميز بها عن البهائم والحيوانات والجمادات وسائر المخلوقات، ولذلك قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ} [الانفطار:6] فالإنسان المخاطب ليس هو الجسم فحسب, بل هو العقل والروح والنفس قبل ذلك, بدليل أنه لا يدخل في الخطاب المجانين مثلاً، لأنه رفع عنهم قلم التكليف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أبو داود وغيره وهو صحيح: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ, والمجنون حتى يفيق} . ولهذا كان العقلاء يعلمون أن أعظم ما امتنَّ الله تعالى به عليهم هو نعمة العقل والإنسانية، وأن الله - تبارك وتعالى- من فوق سبع سماوات يخاطبهم ويناديهم ويأمرهم وينهاهم، فأعظم منّة على الإنسانية؛ أن يختار الله من بينها رسلاً، كما قال -جل وعلا- {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] . ومما زادني شرفاً وتيها وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا الجزء: 135 ¦ الصفحة: 2 العبادة في هذا المخلوق المكرم لِمَ خلق الله تبارك وتعالى هذا المخلوق الكريم المختار؟ خلقه للعبادة، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهي إرادة الله تعالى في عمل الإنسان كافة, سواء تلك العبادات المحضة الخالصة, والقرب التي يراد بها وجه الله تعالى كالصلاة مثلاً، فإن الإنسان حين يصلي، لا يصلي حتى ينجو من المرض، ولا يصلي ليكسب المال، ولا يصلي ليحافظ على مكانته الاجتماعية مثلاً، وإنما يصلي ليبحث عما عند الله تعالى، من مرضاته ويخاف سخطه, ومثل ذلك الصوم والحج ونحوها من العبادات والقرب المحضة الخالصة, التي لا تفعل إلا لإرادة الدار الآخرة فقط، أما الدنيا فليس فيها مطمع دنيوي، بل قد يفوت الإنسان بها بعض الدنيا, فالزكاة فيها إخراج بعض المال الذي تعب العبد في جمعه، وكذلك الصلاة فإنها تأخذ من الإنسان وقتاً لو صرفه في الدنيا لاستفاد مالاً، ولكنه صرفه فيما يعتقد أنه أفضل وأنفع من الدنيا، قال تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:21] هذا من العبادة، ومن العبادة -أيضاً- أن يريد الإنسان وجه ربه بسائر الأعمال الدنيوية المباحة، كالتجارة -مثلاً- أو الزرع والحراثة, أو الاختراع, أو العلم, أو العمل الوظيفي إذا احتسب في ذلك الأجر عند الله تعالى، وأخلص وأدَّى الأمانة التي اؤتمن عليها، وأدَّى العمل على وجهه الأكمل, فإنه يؤجر على ذلك، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم {وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أيكون عليه وزر؟ قالوا: نعم. قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر} . إذاً علاقة الرجل بزوجته وهو يؤدي عملاً -كما يقولون- بيولوجياً فطرياً غريزة ركبت في العبد، لكنه إذا أراد بذلك عمل الخير، وتحرَّى بذلك الاحتساب وابتعد عن الحرام، كان له بذلك أجر، فأشار ذلك إلى أن كل عملٍ يعمله العبد من الطاعات أو المباحات، إذا أراد به ما عند الله تعالى؛ فإنه يؤجر على ذلك, حتى ما يضعه في فيِّ امرأته، فالطعام الذي يكدح من أجل أن يحضره لزوجته وأطفاله يؤجر عليه، بل قال بعض الشرَّاح في معنى الحديث: {حتى اللقمة يضعها الرجل في فم امرأته} أي: أن الرجل إذا تلطَّف إلى زوجته وأطعمها بيده, أو سقاها بيده, كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع السيدة أم المؤمنين زوجه عائشة رضي الله عنها، أنه بذلك يؤجر عند الله تعالى. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 3 كل جارحة لها عبادة إذاً البدن متميز عند الإنسان عن الحيوان، وكل جارحة أو عضو في البدن له عبادة مطلوبة، فمثلاً: العين عبادتها النظر، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:185] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا} [الأنعام:11] . وهكذا , فالنظر سواءً كان نظراً في ملكوت السماوات والأرض، أو قراءة في علم, أو تأملاً في بديع صنع الله تعالى, أو نظراً للمسلمين بما ينفعهم هذا من عبادة العين. والأذن من عبادتها أن يسمع العبد ما يرضي الله تعالى، من قرآن أو ذكر أو علم أو ما أشبه ذلك، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] وقال سبحانه في الحديث القدسي {ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه, فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} أي: فلا يسمع إلا ما يرضيني, ولا يرى إلا ما يرضيني، ولهذا جاء في رواية أخرى قال الله تعالى: {فبي يسمع وبي يبصر} . وهكذا اليد عبادتها العطاء والبذل للمعروف والصدقة، ومن عبادتها أيضاً: تغيير المنكر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذلك أضعف الإيمان} كما في صحيح مسلم. ومن عبادة اليد: السلام والمصافحة على أخيك المسلم, وأن تتحاب قلوبكما، فيكون في المصافحة صفاء القلوب، وسلامة النفوس. ومن عبادة اليد: المجاهدة في سبيل الله تعالى، في مدافعة الكفار ومقاتلتهم دون حوزات الإسلام وبلاده وأهله وعقائده, إلى غير ذلك من ألوان العبادات التي يعملها العبد بيده. وهكذا المرأة المؤمنة، عبادتها بيدها هي كما سبق، ويدخل في ذلك -أيضاً- ما تعانيه من الأعمال في منزلها مما يعتبر طاعة وقربة لله تعالى، وهو مرضاة لزوجها. عبادة الرجل: المشي إلى الجمع والجماعات والصلوات، كما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:12] خطواتهم على الأرض, ولهذا لما همَّ بنو سلمة أن يسكنوا قرب المسجد؛ قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: {دياركم تكتب آثاركم} الزموا دياركم وابقوا فيها فإن آثاركم وخطواتكم إلى المساجد مكتوبة عند الله تعالى، في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى, وكذلك قال سبحانه وتعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك:15] فالمشي في الأرض والتأمل والاعتبار كل ذلك من عبادة الرجل والقدم. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 4 كل جارحة لها معصية وضد ذلك المعاصي, فإن معصية العين تسريح النظر إلى الحرام، كالصور والأشكال والمناظر. ومعصية الأذن سماع الحرام، من غيبة أو نميمة أو شتم أو غناء, أو ما أشبه ذلك, مما يسخط الله تعالى. ومعصية اليد أخذ الحرام، السرقة مثلاً، أو الأذى والاعتداء على المسلم. ومعصية الرجل المشيْ إلى الحرام، في بيتٍ أو في سوقٍ أو في محل، أو في بلد قريب أو بعيد، فكل ذلك من معاصي الأعضاء، ولهذا قال القائل: لعمرك ما مديت كفّى لريبة ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الدهر إلا قد أصابت فتىً قبلي فهو يفتخر بأنه قد حفظ جوارحه عن المعاصي، ما مد يده إلى معصية، ولا مشت به رجله إلى غير مرضاة الله جل وتعالى. وكذلك الحال في اللسان، وهو من أعظم الجوارح, وعبادته: ذكر الله تعالى، وتسبيحه، وقراءة القرآن, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك, والمعصية فيه ما يدخل في الغيبة، والنميمة، والقيل والقال, ونقل الكلام، والسب، والشتم، والاستهزاء بالمؤمنين إلى غير ذلك. ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات عند الله تعالى، لأنها جمعت كل ألوان عبادات الجوارح, ففيها عبادة العين في النظر إلى موضع السجود، وفيها عبادة الأذن في سماع تلاوة الإمام والإنصات له, كما قال الله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] وقال عليه الصلاة والسلام: {وإذا قرأ -أي: الإمام- فأنصتوا} . وفيها عبادة اليد: بحركة اليدين أثناء التكبير, والركوع والسجود وغير ذلك, ووضع اليد على الصدر، أو على الركبة، أو على الفخذ, وفيها عبادة اللسان: بذكر الله تعالى، وقراءة القرآن, والتسبيح والتهليل والتكبير، وفيها عبادة الرجل: في الوقوف والقيام, وأثناء السجود وغير ذلك؛ وفيها عبادة سائر البدن، ولهذا إذا سجد المرء فإنه يؤمر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في سجوده، أن يباعد بطنه عن فخذيه، ويباعد فخذيه عن ساقيه، وينصب قدميه, ويباعد عضديه عن جنبيه، حتى يأخذ كل عضو حقه من الطاعة والعبادة والسجود لله تعالى. وفي حديث ابن عباس المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمرت أن أسجد على سبعة أعظم} وذكر الجبهة والأنف فهذه عبادة للوجه والركبتين واليدين وأطراف القدمين، وهكذا الحال في الركوع والقيام, فإن البدن كله أثناء الصلاة يخبت لله تعالى ويعبده. ولهذا كانت الصلاة من أعظم العبادات، وأشرفها، وأنفسها، وأكثرها تقرباً إلى المولى جل وعلا. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 5 توعد بعض المصلين بالويل والعجيب أنه مع هذه الفضيلة الظاهرة للصلاة, إلا أن الله تعالى توعد بعض المصلين، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] فدَّل ذلك على أن العبرة ليست بالحركات الظاهرة فحسب, فهؤلاء القوم موصوفون بأنهم مصلون، ومع ذلك توعدوا بالويل، وهو العذاب والهلاك والنكال لهم, وما ذلك إلا لأنهم صلوا بأجسادهم وما صلوا بقلوبهم. فأجسامهم في المساجد بين الصفوف, ووجوههم إلى القبلة, ولكن قلوبهم إلى غير القبلة، فقلوبهم إلى غير الله تعالى، قلوبهم إلى فلان الذي عنده مال ينتظرون أن يثق بهم إن صلوا فيأتمنهم على هذا المال, أو قلوبهم عند فلان الذي عنده فتاة يرغبون في التزوج منها, فيصلون حتى يطمئن إليهم ويمنحهم هذه الأمانة ويأتمنهم عليها، قلوبهم عند ذلك المسئول الذي يريدون أن يثق بهم فيعطيهم وظيفة أو رتبة أو ترفيعاً أو علاوة, فلهذا وجوههم إلى القبلة لكن قلوبهم إلى غيرها، ولهذا فإن الله تعالى توعدهم بالويل، فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] لم؟! لأنهم كما قال الله تعالى في الموضع الثاني: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] . وهذا الأمر يقودنا إلى أعظم العبادات وأهمها وأكبرها, ألا وهي عبادة الباطن , عبادة القلب والسر, قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} [الروم:30] فالتوجه إلى الله تعالى والتوكل عليه، وإرادة وجهه في الأعمال، هو أعظم العبادات على الإطلاق. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 6 عبادة الباطن من المعلوم أن العقل منحهٌ وعطيةٌ من الله تعالى للإنسان، وبناءً عليه كُلِّف العبد بسائر أنواع التكاليف, وصار إنساناً محترماً مطالباً مختاراً -كما هو معروف- مميزاً على سائر الحيوانات، فصلاح العقل وصلاح القلب وتزيينه، هو بمحبة الله تعالى ومراقبته، التي هي ميزة للمؤمنين عن الفجار والمنافقين، فبعض الناس مثلاً ربما ميّز ظاهره وزينه, بحسن الملابس، والعناية بالصحة, وبالمحافظة على الرشاقة والجمال -كما يقال- بتدريبات يومية يؤديها صباحاً أو مساءً, بعضهم إذا زادت عنده نسبة التضخم، فإنه يعمل ما يسمونه (بالرجيم) وهو نوع من الحمية التي يمتنع بها عن بعض الأطعمة, حتى يعود وزنه إلى حجمه الطبيعي، ولا يلام -على كل حال- على مجرد هذه الأشياء, إنما المقصود أن العبد يحرص على تزيين ظاهره بهذا الشكل, وعلى كسب رضا الآخرين وإعجابهم، فإذا أبدوا ارتياحاً لهذا، وقالوا: ما شاء الله! فلان أو حتى فلانة تتميز بالرشاقة والجمال واعتدال القوام, وأنها ليست زائدة ولا ناقصة, ولا طويلة طولاً مفرطاً, ولا قصيرة قصراً مفرطاً إلى غير ذلك, فإن الإنسان يسر ويبهج لأنه كسب رضا الناس وثناءهم ومديحهم. فكما أنه يفعل ذلك فهو مطالب -أيضاً- بأن يزين باطنه بمحبة الآخرين, وحسن الظن بهم، وأن يفرح لهم بما يصيبهم من خير, وأن لا يكون في قلبه على أحد منهم حقد أو حسد, أو أن يكون أنانياً أو كذاباً أو مغروراً, أو ما شابه ذلك. فكما يزين ظاهره ينبغي أن يزين باطنه, وكما أنه يكره أن يراه الناس على حال يذمونه عليها, فإنه ينبغي أن يدرك أن فساد الباطن أعظم من ذلك بكثير، ولهذا قال القائل: لا يعجبن نظيماً حسن بدلته وهل يروق دفيناً جودة الكفن ماذا ينفع الميت أن يكون كفنه حسناً، فإنه ينزع نزعاً سريعاً، فكذلك لو كان الإنسان مثلاً سيء الباطن، حقوداً حسوداً أنانياً كذاباً فاسد الطبع, فإنه لا ينفعه أن يكون حسن الظاهر, وكما قيل أيضاً: يا خادم الجسم كم تسعى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان الجزء: 135 ¦ الصفحة: 7 زينة الباطن هي سر التكريم إن الإنسان لم يصبح إنساناً مكرماً مختاراً بقوته مثلاً، ولو كان ذلك كذلك لكان الفيل أقوى منه، ولم يصبح إنساناً بجماله وحسن ثيابه, ولو كان ذلك لكان الطاوس أجمل وأحسن مظهراً منه. ولم يكن إنساناً -مثلاً- بعظمه وضخامته، وقوة جسمه وفخامة هيئته وجثته, وإلا لكان البعير أكبر وأضخم منه، وكما قال أحد الشعراء الجاهليين: ترى الرجل الضعيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه فيخلف ظنك الرجل الطرير لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلات تزور فالعبرة ليست بالكثرة ولا بالقوة, ولا بحسن الظاهر, وإنما العبرة بالعقل والقلب، العبرة بباطن الإنسان لا بظاهره، ولو كانت قوة الإنسان وحسنه وفخره بقوته الجنسية وقدرته على السباق, لكانت بعض الطيور حتى العصافير أقدر على هذا الأمر منه، كما يقول علماء الحيوان والطيور. إنما قوة الإنسان في إيمانه وعقله، ولو كانت قوة الإنسان في ماله لكانت الجبال أكثر منه قيمة, لأن فيها معادن الذهب والفضة وغير ذلك, ولكانت آبار النفط والبترول أعظم ثمناً وقيمةً من هذا الإنسان المكرم المختار, لأن فيها الذهب والدينار والدولار. إن قيمة الإنسان هي في باطنه، في عقله وقلبه، ولقد كان صدِّيق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه دقيقاً نحيفاً، ومع ذلك لو وزن إيمان أبي بكر رضي الله عنه بإيمان الأمة كلها لرجح إيمانه عليهم، وكان عبد الله بن مسعود، وهو من السابقين الأولين، ومن المقربين إلى سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، ومن أقرب الناس إلى الله تعالى زلفى، كما قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: [[لقد علم المحبوبون من أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ابن مسعود من أقربهم إلى الله تعالى زلفى]] ومع ذلك كان صغيراً ضئيلاً دقيق الساقين، حتى إنه ربما هبت الريح فلعبت به، فضحك منه أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من دقة ساقيه!! والله لهما في الميزان أثقل من جبل أحد} . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 8 زينة الظاهر وخراب الداخل هذا الصنف من الناس يزينون ظاهرهم بالثياب واعتدال القوام والصحة والعافية, ولكنهم يغفلون عن بواطنهم، وهناك صنف آخر قد يزين ظاهره ببعض الأعمال الصالحة التي يراها الناس, ثم لا يخل بهذه الأعمال قط؛ لأن الناس قد اعتادوا أن يروها منه، فلو أخل بذلك لقال الناس عنه: فلان قد ضعف، أو رقَّ دينه، أو قلَّ إيمانه, أو تراجع, أو انحرف, وربما نال الناس من عرضه، أو انكسر جاهه عندهم, لأن جاهه مبني على أنه إمام, أو عالم, أو داعية, أو فقيه, أو مفتٍ, أو شيء من هذا القبيل, فلو أخلَّ ببعض الأصول التي اعتادوها منه ظاهراً, لخاف أن يتناول الناس عرضه، فيحافظ على هذه الأشياء الظاهرة أتم المحافظة؛ لئلا ينكسر جاهه عند الناس، ولكنه لا يعتني بذلك من باب الموافقة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم, أو الحرص على طاعة الله جل وعلا. أما باطنه فقد يكون مهدوماً, فربما كان ذا عقل دنيوي ضيق، لا يفكر في الآخرة ولا في الاستعداد لها، ولا يفكر في أمر الأمة ومصائبها ومشكلاتها، وطرق الخلاص منها وسبل العلاج, ولا يفكر في أمر الدعوة إلى الله تعالى والسعي في أسبابها, فأفكاره محدودة قصيرة, وطاقته العقلية ربما كانت مهدورة بغير طائل, أو هو ذو قلب لا يحمل المشاعر النبيلة العظيمة التي يجب أن تكون فيه, كمحبة الله تعالى، أو محبة عباده الصالحين، أو خوف الله, أو رجاء ثوابه, أو سوى ذلك من المشاعر المشروعة في دين الله تعالى؛ فهو يحب وكل إنسان من طبيعته أن يحب, وكل إنسان من طبيعته أن يبغض، إذ كل إنسان هو ذو قلب، والقلب هو محل الحب والبغض، والرضا والسخط، والفرح والحزن وما أشبه ذلك من المشاعر, فهو يحب, ولكنه يحب ويبغض في غير الله تعالى، فقد يحب أعداء الله تعالى, وقد يبغض أولياءه كما هو شأن المنافقين الذين يجعلون همهم وشأنهم وكيدهم مع اليهود والنصارى وسائر أعداء الدين، ويبغض الإسلام وأهله والصالحين. أو قد يحب ما يضله ويفسد عليه باطنه, كمحبة الصور الجميلة, صور النساء الجميلات, أو صور الغلمان الحسان، صورة رآها في شاشة أو شاهدها في مجلة, أو اطلع عليها، أو صورة إنسان بصر به في الطريق عياناً فأعجبه، وعلَّق قلبه بحبه, فأصبح هّمه بالليل والنهار التفكير بهذه الصورة التي ارتسمت في خياله، وتعلقت في قلبه، فهو يصحو وينام عليها، ويصلي ويسلم وهو لا يذكر سواها, فتستذل هذه الصورة قلبه وباطنه، ويتعلق بها أعظم من تعلق العابد بمعبوده, كما قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 9 التعلق بغير الله إن أحدهم -كما ذكرت- ربما صلَّى فبكى، لا لأن الإمام قرأ آيات الوعيد والزجر والتهديد، ولكن لأن صورة المحبوب مرتسمة في عينيه فهو يقول. أصلي فأبكي في الصلاة لأجلها لك الويل مما يكتب الملكان وربما ذهب إلى الحج فوقف مع الناس بعرفة والمشاعر, ورمى الجمار، وطاف بالبيت، وبين الصفا والمروة، وهلّت دموعه وصاح وناح، لا خوفاً من الله تعالى، ولا تأثراً بما يشاهد، ولكن شوقاً إلى محبوب حيل بينه وبينه، وربما كل صورة تذكره بصورة محبوبه، فكل صورة امرأة يراها تذكره بمحبوبه، أو كل صوت يسمعه يذكره، أو كل اسم ينادى به يذكره باسم من يحب, كما قال أحد المفتونين بالصور: وداعٍ دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أشجان الفؤاد وما يدري دعا باسم ليلى غيرها فكأنما أطار بـ ليلى طائراً كان في صدري وأصبح الكثيرون اليوم من الشباب ذكوراً وإناثاً، يرون أن فوات ذلك يعني فوات شيء عظيم؛ لأن أجهزة الإعلام التي تصبحهم وتمسيهم، والأفلام التي يشاهدونها بالفيديو، والمسلسلات التي يرونها في التلفاز، أو الأغاني التي تصدح وتملأ آذانهم وقلوبهم, أو الروايات الغرامية التي تباع في المكتبات والأسواق أو غير ذلك، كل هذه المعاني فضلاً عن الشلل والأصدقاء الذين جلّ حديثهم العلاقة مع فلانة أو فلان, وتبادل الأحاديث الغرامية، وكلمات الحب، أو المشاعر التي يبالغون في تضخيمها وتعاطيها؛ حتى يغروا بذلك غيرهم أو يُغرُوهم بالتعلق بمثل هذه الأمور, حتى أصبح هذا الأمر مصيبة عامة طامة لدى الكثير من الشباب, وربما تعلقت الفتاة بفتاة مثلها، فأصبحت تحاكيها وتركض وراءها, وتقلدها بحركاتها وسكناتها ولبسها وأعمالها وأقوالها وتسريحة شعرها, وكل أمورها، ولا تصبر عنها طرفة عين أو لحظةً من نهار. وربما تعلق الفتى بشاب مثله، فأصبح يركض وراءه، يركب معه في السيارة، أو يُركبه في سيارته، ويقدمه على أهله ووالديه, ويحتفل به أعظم احتفال، ولا يصبر عنه، فإذا غاب أو سافر أصابه القلق والجزع والتوتر حتى يظفر به, وربما أعلم أن بعض الشباب يسافر مسافات بعيدة من أجل حبيبه ومعشوقه، وربما طلبت أمه أو أبوه أن يذهب لقضاء حاجة من البقالة على مسافة بضعة أمتار فلا يجيب ولا يفعل ذلك، فكل هذا من تعلق القلب بغير الله، وصرف هذه المشاعر المستودعة فيه إلى بعض المخلوقين الذين لا يضرون ولا ينفعون, بل محبتهم على هذا الوجه محبة ضارة يُعذَّبون بها في الدنيا، بأن يحول الله تعالى بينهم وبين من يحبون, فيعذبهم بمن يحبون في الدنيا, أما في الآخرة فإنهم يحال بينهم وبينهم، وتنقلب محبتهم عداوة, قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] , وقال سبحانه {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} [العنكبوت:25] . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 10 كراهة ما يحبه الله أو حب ما يبغضه وقد يترتب على هذا اللون من المحبة، أن يكره الواحد منهم ما يحبه الله, أو يحب ما يكرهه الله، أو يعترض على الله تعالى في شرعه, أو يعترض على الله تعالى في قضائه وقدره, كما كان أحدهم يتمنى حصول المعصية والفجور لا لنفسه فقط, بل لنفسه ولغيره من الناس، قال قائلهم: فيا ليت كل اثنين بينهما هوى من الناس والأنعام يلتقيان فيقضي حبيب من حبيب لبابة ويرعاهما ربي فلا يريان فانظر كيف تمنى أن يتاح الفساد, وأن تتاح الصلة بين كل عاشقين أو حبيبين على طاعة الله تعالى أو على معصيته، فلا يراهما أحد ولا يشي بهما أحد, وهذا محبة لما يبغضه الله تعالى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} . ومثل ذلك أيضاً: التسخط من القضاء والقدر, كما قال أحدهم وقد حيل بينه وبين من يحب: قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا هذا اعترض على الله عز وجل، ومضادة له في حكمه القدري الكوني, وهو من عدم الرضا بالله تعالى رباً وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث سعد: {من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وجبت له الجنة أو غفر له} . ولذلك يقول محمد إقبال رحمه الله تعالى: لقد سئم الهوى في البيد قيس وملّ من الشكاية والعذاب يحاول أن يباح العشق حتى يرى ليلاه وهي بلا حجاب فلهذا قال الله تعالى عن الكافرين: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:28] فانظر كيف أصبح القلب هو المحور أو الدينمو أو الأصل الذي تنبثق منه كل الأمور، فأي قيمة لعبد ربما يعمل بعض الأعمال الظاهرة، لكنه يبغضها في قلبه؟! وربما يترك بعض المعاصي, ولكنه يحبها في قلبه ويتمناها ويفرح بحصولها، فإن ذلك -وإن كان العبد إذا أطاع الله تعالى فهو مأجور على كل حال- لكن هذا لا يزال يتمادى بالعبد حتى يفعل المعصية ويترك الطاعة. ومثل هذا الإنسان الذي أحب ما كره الله, وكره ما أحب الله, من المقطوع به يقيناً أن جوارحه سوف تكون تبعاً لقلبه وما علقه من الحب لغير الله, أو من الخوف من مخلوق، الخوف من الناس، أو من مرض، أو من فقر، أو من موت، أن يخاف من سلطان أن يضره، أن يخاف من بعض رجال السلطان أو أعوانه أن يمسوه بسوء، ومثله -أيضاً- الطمع والرجاء في المخلوقين لتحصيل منفعة دنيوية بسببهم, أو علاوة أو وظيفة، أو دفع مفسدة عن نفسه أو أهله أو ماله, فإن القلب إذا تعلق بهذه الأشياء وتأله بها فإنه الملك، يملي على الجوارح ماذا يجب عليها أن تعمل، فتكون الجوارح تبعاً له، فإذا استعبد القلب بمثل هذه الأمور حباً أو خوفاً أو رجاءً، صارت الجوارح كلها تبعاً له, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في المتفق عليه عن النعمان بن بشير: {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب} فالقلب يملي والجوارح تكتب. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 11 صلاح القلب ولما جعل الله تعالى النجاة في الآخرة, بيّن أنها مقرونة ومعلقة على صلاح القلب، فقال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] فمن أتى الله بقلب سليم نفعه ما له, ونفعه بنوه, ونفعه عمله, ونفعته جوارحه, أما من أتى الله تعالى بقلب ميت أو مريض، فإنه لا ينفعه ذلك: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] . واعتبر الله تعالى أن من لا يعمر قلبه بالمشاعر النبيلة من محبة الله, ومحبة الصالحين, ومحبة الخير, والخوف من الله تعالى ورجائه، وهذه المعاني الكبيرة العظيمة في القلوب؛ أن من خلا قلبه من ذلك فهو ميت, وإن شئت قلت: لا قلب له، فالمضغة موجودة لكنها خالية خاوية، قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر:22] أي: المؤمن والكافر والعاصي والمتقي، وقال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل البيت الذي يقرأ فيه القرآن والذي لا يقرأ فيه القرآن مثل الحي والميت} {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] فما الحيلة في من لا قلب له؟ وما الحيلة في من ليست عنده مشاعر؟ فهو لا يشعر بحب الله تعالى ولا بحب الصالحين، ولا يخاف الله ولا يرجوه، ولا يطمع فيما عنده, ولا يسأله أو يدعوه دعاء المخبت الأواه المنيب. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 12 أهمية العناية بصلاح القلب إن ذلك كله يؤكد حقيقةٌ عظمى يجب العناية بها, وهي: أن صلاح القلب وسلامة المقاصد الباطنة، هو الأساس الذي يجب أن تقوم عليه كل الأعمال، فإذا فسد القلب لم ينفع معه عمل، لأنه حينئذٍ تفسد النية، ويفسد القصد، وينحرف الإنسان، فالقلب حاسب على الأعمال الظاهرة، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في المتفق عليه: {إنما الأعمال بالنيات -كل الأعمال، أعمال العين والأذن واليد والرجل والبدن كلها بالنيات- وإنما لكل امرئ ما نوى} ولا يدخل في ذلك أعمال القلب, لأن أعمال القلب لا تكون إلا صالحة إذا كانت موجهه إلى الله تعالى, فلا يمكن أن يحب الإنسان ربه إلا بصدق, أو يخافه أو يرجوه، ولذلك الكلام في الأعمال الظاهرة؛ لأن العبد قد يصلي لله وقد يصلي لغيره, أما محبة الله -مثلاً- فلا تتصور على حقيقتها إلا لوجهه سبحانه وتعالى, وربما صلحت سريرة الإنسان فحصل على الثواب، حتى ولو حيل بينه وبين العمل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الصحيح عندما ذهب إلى تبوك, جاء إلى هذا البلد الكريم، وفي ثلة من أصحابه, فقال عليه الصلاة والسلام: {إن في المدينة أقواماً، ما سرتم مسيراً, ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر} . يا سائرين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوماً وسرنا نحن أرواحاً إنا أقمنا على عذرٍ نكابده ومن أقام على عذرٍ كمن راحا وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل الجنة أقوام لم يعملوا خيراً قط؛ حيل بينهم وبين ذلك, أسلم ولم يسجد لله سجدة, ثم قتل بعد ذلك فدخل الجنة, وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول لأصحابه: [[خبروني عن رجل دخل الجنة لم يسجد لله سجدة، فإذا عجزوا قال لهم: إنه أصيرم بن عبد الأشهل أو غيره، أسلم ثم قتل قبل أن يصلي لله صلاة واحدة]] . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 13 عقاب من يظهر الصلاح ويبطن خلافه إذاً إذا صلح القلب صلحت الجوارح، والأعمال الظاهرة تبعاً لذلك, وبضد هذا؛ فإذا فسد لم ينفع معه التكلف بتزيين الظاهر وتحسينه للناس، لأن الله تعالى يقول يوم القيامة، كما في الحديث القدسي: {اذهبوا للذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء} ويقول سبحانه في الحديث القدسي: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عملا عملاً أشرك معي فيه غيري، فأنا منه بريء وهو للذي أشرك} وفي صحيح البخاري عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار, فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه, فيجتمع إليه أهل النار فيقولون له: يا فلان مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآيته} . بعض الناس يظن أن هذا عذب لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر, وهذا من الجهل العظيم، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الشرائع التي يؤجر عليها العبد إذا نوى واحتسب، وإنما عوقب هذا الإنسان؛ لأنه يفعل المنكر ويترك المعروف، ولهذا قال: ولا آتيه، أي: المعروف، وقال: وآتيه، أي: المنكر. إذاً هذا الرجل قد أصلح الظاهر وأفسد الباطن, فمثلاً وظيفته قد تقتضي أن يأمر وينهى، ولكنه يخالف إلى ما ينهاهم عنه, أو مركزه الاجتماعي يقتضي أن ينكر على الناس ما يراه من المنكرات، ولهذا كان عقابه، أما لو أنه أمر ونهى بصدق، لكان أمره ونهيه خيراً وبراً، حتى ولو ترك المعروف وفعل المنكر، فإنه يعاقب على ترك المعروف وفعل المنكر, ولكنه لا يعاقب على الأمر والنهي. أما قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] فإن المعنى: أن الله تعالى عاتبهم ووبخهم وعاقبهم, لأنهم يتركون الحق وهم يعلمون، ويعرضون عنه، بخلاف الذي يفعل ذلك عن جهل, فإنه إذا علِّم امتثل, ولهذا ينبغي أن يُعلم أنه حق على الناس أن يأمروا بالمعروف ولو لم يفعلوه، وأن ينهوا عن المنكر ولو فعلوه. ولو لم يعظ الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد ولا أحد معصوم أن يقع في خطأ، وإنما الواجب على الإنسان أربعة أمور:- أولها: فعل المعروف. الثاني: الأمر به. الثالث: ترك المنكر. الرابع: النهي عنه. فإخلاله بواحدة من هذه المقامات الأربعة لا يبيح له أن يخل بغيرها, فواجب حتى على من يتعاطون الكؤوس ويشربون الخمر؛ أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك، وحتى الذين اجتمعوا على الفاحشة والمعصية، واجب أن يذكر بعضهم بعضاً بالله تعالى, ويحثه على ترك المعصية، والذين يتعاطون كل المحرمات حقٌ عليهم أن ينهى بعضهم بعضاً عن ذلك. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 14 مداخل الرياء على النفس إذاً الرياء في الأقوال والأعمال، هو أحد الأدواء القاتلة التي بها استحق هؤلاء النار والوعيد, فيكون ظاهر الإنسان العمل الصالح, أما باطنه فقد استقر على مراقبة المخلوقين، ورضي بثوابهم من ثواب الله تعالى, فيكفيه ما يناله من الناس من الحمد والثناء والإعجاب، وهذا نوع من النفاق كان السلف يتقونه ويخافونه, كما قال الحسن البصري رحمه الله: [[والذي نفسي بيده ما أمنه إلا منافق ولا خافه إلا مؤمن]] أي: الرياء والنفاق، فإنهم كانوا يخشون أن ترد أعمالهم، كما قال الله تعالى: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] قال البخاري رحمه الله: (باب مخافة الإنسان أن يحبط عمله وهو لا يشعر) ثم ذكر حديث ثابت بن قيس بن شماس الذي ربط نفسه في بيته، وغاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً وهو يبكي ويصيح، ويقول: [[حبط عملي أنا من أهل النار]] حتى علم بذلك النبي عليه الصلاة والسلام فقال: {أخبروه أنه من أهل الجنة} . ومداخل الرياء على النفس كثيرة جداً،, أذكر لكم في هذه العجالة أهمها، وسوف تبلغ -إن شاء الله- عشرين كما وعدت لكم في العنوان (عشرون طريقة للرياء) . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 15 إظهار الاعراض وغض البصر ومن ذلك إظهار الإعراض وغض البصر، فإذا رأى الإنسان امرأة أو شيئاً ينبغي أن يغض عنه بصره طأطأ رأسه، وكان بإمكانه أن يغض ولو لم يطأطئ رأسه, وربما دعاه الشيطان إلى مسارقة النظر يمنة أو يسرة، قال الله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19] . ومن أعظم ذلك إغراؤه بعض الناس بالعبادة لئلا يكون منافقاً، فمثلاً: شاب أعزب -والغريب أنه جاءني سؤال الآن في هذا الموضوع بالذات- شاب أعزب عنده محافظة على الصلوات، وصحبة أخيار وبر، وربما كان قارئاً للقرآن، أو معلماً أو داعية, ولكنه يمارس بعض المعاصي سراً، كالعادة السرية أو النظر؛ أو ما أشبه ذلك من الذنوب التي يرجى له أن يتوب منها, وأن يقلع عنها عاجلاً غير آجل, فلا يزال الشيطان به حتى يقول له: أنت منافق, لأنك تتظاهر بشيء وأنت في الباطن شيء آخر، وبدلاً من أن يقنع نفسه بترك المعصية والإقلاع عنها حتى يتمحض بالخير؛ فإن الشيطان يغريه بترك أعمال الخير، وترك مجالسة الصالحين, أو الصلاة, أو التعليم, أو الإمامة, بأن يقول: لا يليق بك أن تجمع بين هذا العمل الصالح في الظاهر, وذاك العمل الخبيث في الباطن، ولو علم الناس ما تعاني وتفعل وأنت في خلوتك وسرك؛ لبصقوا عليك وابتعدوا عنك وأعرضوا، فلا يزال الشيطان به حتى يترك الأعمال الصالحة، مع أن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 16 الاعتزال غرورا ً ومن هذا: أن يعرض الإنسان عن الناس ويعتزلهم ويبتعد عنهم، يظن بنفسه أنه خير منهم, والواقع لو أنه اعتزلهم، وقال: أخشى أن أضرهم أو أسيء إليهم أو أظلمهم؛ لكان ذلك معقولاً، وكان الإمام أحمد آخر عمره ابتعد عن الناس بعض الشيء، وتركهم إلا قليلاً، فقالوا له: يقال عنك يا إمام: إنك زهدت في الناس, فقال: من أنا حتى أزهد في الناس؟ إنما الناس هم الذين زهدوا فيَّ. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 17 الغرور بطاعة عابرة ومن ذلك أن يغري الإنسان بطاعة عابرة، من بكاء أو غيره ويظن أن ذلك يكفيه، فربما بعض العوام أو بعض الناس بكوا في رمضان في السنة مرة، أو حضروا صلاة تراويح أو قيام، أو ما أشبه ذلك, ثم قال لهم الشيطان: لا يغركم ما عملتم بعد ذلك قط، فجرأهم ما جرأهم على المعاصي، نسأل الله أن يكفينا وإياكم شر الشيطان وشركه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 18 الإطالة في الإنكار لإظهار الغيرة ومن ذلك أن بعض الصالحين يتكلم عن أهل المنكرات والمعاصي, فيطيل في ذلك ويصف ويفصل ويتباكى, وربما سب وشتم وتوعد، وبالغ في ذلك أتم المبالغة, وكان مراده أن يقول: إنه شديد الغيرة على الحرمات، شديد الغضب لله تعالى ورسوله والمؤمنين. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 19 الغفلة عن المظهر ومن المداخل الخفية: الغفلة عن المظهر. فربما أغرى الشيطان الإنسان بأن يكون أشعث الرأس، متبذل الثياب، متظاهراً بالتزاهد والتواضع وما أشبه ذلك, والسنة أن الإنسان يعتني بهذه الأمور، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتني بشعره ويسرّحه ويطيبه, ويقول: {من كان له شعراً فليكرمه} وكان عليه الصلاة والسلام ينهى عن الدهان إلا غباً -أي لا تدَّهن يوماً بعد يوم- ونحن نقول: يكفي للإنسان أن يدهن حتى ولو في الأسبوع مرة، أما أن يكون أشعث الرأس متبذل الثياب، ويظن أن هذا من إظهار الزهد والتواضع, فهذا قد يكون من مداخل الشيطان على الإنسان. بل الذي يليق بالداعية أن يحرص على أن يكون حسن الثياب, حسن الهيئة, حسن الشعر, حسن المظهر، طيب الرائحة, ويعتني بتسريح شعرة وتصفيفه وتزيينه بما لا يضيع وقته، أو يفضي به إلى الانشغال بذلك والانهماك به, ولكنه يحفظ له هيئته وحسنه وبعده عن كل الأشياء التي يعاب بها. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 20 التصنع بالخشوع في الصلاة ومن ذلك: أن الشيطان قد يغري المصلي أحياناً بإظهار التواضع والتخاشع والتصنع والتعمل لذلك, فيضع يديه على صدره -هذا من السنة وهو حسن- لكنه ربما أسرف في رفعها حتى كانت قريباً من نحره أو قريباً من ذلك, ثم أغراه أن يرفع كتفيه أكثر، ويميل ظهره، ويطأطئ رأسه، فيتكون من مجموع هذه الصورة نوع تكلف وتصنع, وربما قادت إلى الرياء وهو لا يدري, والسنة في ذلك معروفة, النظر إلى موضع السجود, ووضع اليدين إحداهما على الأخرى، اليمنى على اليسرى على الصدر, أو على أعلى البطن، كما هو مذهب جماهير أهل العلم, وجاء في حديث وائل بن حجر وهو أصح ما ورد في هذا الباب: {وأن يعتدل الإنسان في قامته وقعوده وركوعه وسجوده} كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 21 التظاهر بالبكاء في الصلاة وربما جاء الشيطان إلى القارئ فأغراه بالبكاء حتى يخشع الناس, خاصة إذا كثر الجمع وارتفعت الأصوات، وأكثر ما يكون ذلك في دعاء القنوت، وربما قرأ الإمام آيات عظيمات، فيها الوعد والوعيد، والزجر والتهديد والتخويف فما بكى الجميع, فإذا جاء دعاء القنوت سمعت الصياح والنياح والبكاء والعويل!!! الجزء: 135 ¦ الصفحة: 22 تعاظم بعض الأعمال ومن ذلك: أن منهم من يَعْظُمُ في عينه عمل من الأعمال الظاهرة, ويغتر بهذا العمل حتى ولو كان هذا العمل على خلاف السنة, أو على خلاف الشريعة، ربما تعلق بعض الشباب بالجهاد في سبيل الله تعالى، والجهاد عمل عظيم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجة والتي تليها كما بين السماء والأرض أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} وقال عليه الصلاة والسلام عن الإسلام: {وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} وجعل الله تعالى الجهاد من أعظم الأعمال، كما قال تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:19] ثم قال في الآية التي تليها {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة:20-22] . فالجهاد باب عظيم من أبواب الجنة، ولكن مع ذلك الجهاد له ضوابطه وأسبابه وأعماله, فالمجاهد ينبغي أن يتعلم آداب الجهاد حتى يعلم كيف يجاهد؟ وأين يجاهد؟ ومتى يجاهد؟ وتحت أي راية يجاهد؟ من ذلك أن المجاهد لابد أن يجاهد نفسه على صلاح النية, فكم من قتيل بين الصفين الله تعالى أعلم بنيته، وفي الصحيحين من حديث أبي موسى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} . وقد قتل رجل مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: {هو في النار، هو في النار} ثم ذكر أنه رآه يعذب في بردة غلها، وآخر كان منافقاً قاتل مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلما اشتدت جراحه اتكأ على السيف، وطعن به بطنه ثم اتكأ عليه حتى خرج من ظهره, فمات منتحراً -والعياذ بالله تعالى- وقد حكم النبي عليه الصلاة والسلام على هؤلاء بأنهم من أهل النار. إذاً لا بد من تصحيح النية, ولا بد من العلم والمعرفة, ومع ذلك لا بد من إذن الأبوين. كثيراً ما يأتيني بعض الشباب، يقولون لي: نريد الذهاب إلى الجهاد، أين؟ أمس كانوا يذهبون إلى أفغانستان, ونِعمَ ما فعلوا, فقد سطروا أعظم آيات البطولة والرجولة والفداء والاستعلاء على الدنيا، ورأينا الشباب الذين غرقوا في الملذات والترف، وتوقعنا أنه لا تقوم لهم قائمة, إذا هم ينتزعون أنفسهم انتزاعاً، ويذهبون من النعيم والسرور والراحة والدعة, بل من أماكن اللهو واللغو واللعب مع أقرانهم وزملائهم، حتى يبحثوا عن الموت في سبيل الله تعالى على ثرى أفغانستان أو جبالها وترابها ووديانها, ولهم في ذلك أقاصيص وبطولات امتلأت بها بطون الكتب والأشرطة. المهم أنهم أمس كانوا يجاهدون في أفغانستان, أما اليوم فمجموعات من الشباب المجاهدين في البوسنة والهرسك, أو في طاجكستان، أو في غيرها من بلاد الإسلام, التي ترفع فيها راية الجهاد, ونِعمَ ذلك. فإنه مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الجهاد قائم إلى قيام الساعة} على رغم كل الظروف والتخلف الذي يمر بالأمة, ولهذا جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونيه، وإذا استنفرتم فانفروا} . ولكن ينبغي أن يعلم أن الجهاد لا بد فيه من إذن الأبوين، فبعضهم قد يخرج للجهاد دون إذن الأبوين: {فقد جاء رجل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أفضل الأعمال قال: إيمان بالله ورسوله, قال: ثم أي؟ قال: بر الوالدين, قال: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فقدم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله تعالى, وجاء رجل من اليمن فقال: يا رسول الله، جئت إليك من اليمن مجاهداً وتركت أبويّ يبكيان, قال: {ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما، ارجع ففيهما فجاهد} . وأخرج عمر رضي الله عنه رجلاً في الغزو، فجاءه أبوه يشتكي ذهاب ولده، ويشتكي عمر رضي الله عنه، فلما سمع عمر رضي الله عنه مقالته بكى، وأرسل إلى الجيش أن يعود فلان إلى أبيه، فلازمه حتى مات، فبعضهم قد يأتيه الشيطان من جهة هذا الأمر الذي هو خلاف الشريعة، فيزين له -مثلاً- فريضة من الفرائض ولو كان غيرها ألزم منها وأوجب، فيغريه بذلك حتى يتركه، وربما قال له: إن هذا الأمر فرض عين، وهي من المسائل العويصة التي لا يستطيع أن يفتي فيها إلا أئمة أهل العلم، وربما عاب من لا يفعل ذلك ولا يعمله وعده من القاعدين. أبا خالد انفر فلست بخالد وما جعل الرحمن عذراً لقاعد أتزعم أن المؤمنين على الهدى وأنت مقيم بين لص وجاحد وربما تحدث عن مشاهد فقال: رأيت كذا، وفعلت كذا, وحصل لي من الكرامات كيت وكيت , وربما ادَّعى بعضهم ما ليس له، وقد رأيت أحدهم وقد ربط يده وزعم أنه أصيب في أحد المعارك، ولما تحققت منه تبين لي أنه كان يتشبع بما لم يعط، ويدعي ما لم يحدث له. تحدث بعضهم فقال: خرجنا مع الجماعة إلى قتال الروم، فقام رجل من الروم قوي شديد بأسه، لا يعرض له شيء من المسلمين إلا ضربه بسيفه, حتى خافه المسلمون خوفاً شديداً، فتصدى له رجل من بين المسلمين ملثم، فعرض له فضربه حتى قطعه، ثم انصرف إلى المعسكر. وهو ملثم, قال: فأقبلت عليه ففتحت لثامه لأنظر من هو، فإذا هو الإمام الجهبذ الفقيه المحدث المتصدق عبد الله بن المبارك، فغضب لذلك غضباً شديداً, وقال: حتى أنت يا فلان تشنع علينا -أي: تشهر بنا وتفضحنا بأعمالنا- فانظر كيف سعى إلى التستر بعمله وعدم إظهاره، ثم انظر كيف قدر واستطاع أن يجمع بين الأعمال الصالحة كلها، من العلم والفقه والجهاد والصدقة، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 23 التظاهر بطلب العلم ومن ذلك أن يغري البعض بطلب العلم والتوسع فيه، وقصده أن يكون مفتياً تضرب إليه أكباد الإبل, أو يشار إليه بالبنان, أو عالماً يذكر اسمه، أو مصنفاً تتداول كتبه، أو داعية يدهش الناس إليه ويتجمعون, وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: {أول من تسعّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة وذكر منهم: قارئ للقرآن، فيقول الله تعالى له يوم القيامة: ماذا صنعت في نعمتي؟ فيقول: تعلمت فيك القرآن وعلمته. قال: كذبت! ولكنك فعلت ليقال هو قارئ، فقد قيل, ثم يؤمر به فيسحب على وجهه إلى نار جهنم} . والثاني: متصدق، والثالث: مجاهد، وكلهم فعلوا ذلك في غير مرضات الله تعالى. ثم إن مثل هذا الإنسان الذي جعل له جاهاً أو منزلة علمية, قد يسأل عن مسألة فلا يعرفها ولا يدركها, فيخشى إن قال: الله أعلم أو لا أدري؛ سقطت مكانته أو هيبته عند الناس, وظنوا به الظنون وأعرضوا عنه، فيقول العوام: كيف ما تدري وأنت عالم؟ هذا مكان ليس مكان لا أدري, هذا مكان العلم. لهذا بعض أهل العلم عندما صعد المنبر فسئل, قال: لا أدري، قال أحد الحضور: هذا ليس مقام لا أدري, هذا مقام العلماء. قال: إنما علوت بقدر علمي، ولو علوت بقدر جهلي لبلغت عنان السماء، وقال الإمام مالك رحمه الله: (إذ ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله) فبعض الناس يخشى، إن قال: لا أدري أن يسقط من أعين الناس؛ فيفتي بغير علم. أحد العلماء سألته امرأة! فقالت له: يا فلان -وكان محدِّثاً ليس له بصر بالفقه- قالت له: يا فلان رحمك الله عندي دجاجة سقطت في بئر, فما الحكم فيها؟ فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون, كيف سقطت الدجاجة في البئر؟! قالت: سقطت، قال: لماذا لم تضعِ على البئر شيئاً؟! قالت: يا فلان رحمك الله ما وضعت. وإنما مراده أن يتلهى ويتسلى ويتهرب من قول لا أدري، وهو لا يستطيع أن يفتي, فقال بعض الحضور يا فلانة، إن كان الماء قد تغير بهذه الدجاجة فهو نجس، وإن كان لم يتغير فهو طاهر. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 24 الترفع ومن ذلك: أن الإنسان قد يرفع نفسه فوق منزلته, فيعتني -مثلاً- بباب من أبواب العلم، ويخوض في دقائقه ومسائله ويراجعه, ويحفظ فيه بعض النصوص، وبعض الأقوال, وبعض الكتب, فإذا وجد المجلس كبيراً تكلم، وقال: قال فلان وقال فلان، وفي كتاب كذا, وفي صفحة كذا، وفي جزء كذا ويبدأ يسرد بعض الأشياء التي تحفّظها, وما مراده إلا أن يقول للناس: إنه عالم ليشار إليه بالبنان، ثم يتكلم بما لا يعرفه من حوله من هذه الأمور، وربما تشدق ببعض العبارات التي لا تصلح إلا لأهل العلم, فربما قال: أنا أرى كذا وكذا وعندي أن الأمر كيت وكيت، وأنا أقول هكذا، والذي يغلب على ظني، والذي يظهر لي، والذي يخطر ببالي، وقلت, وما أشبه ذلك من العبارات التي هي شأن أهل العلم والتحقيق والنظر, وليست شأن الضعفاء والمبتدئين، ولهذا قال أحدهم: يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند والعالم الحق لا ينظر إلى نفسه ولا يأبه بها. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 25 الوقيعة في أهل العلم وتصنع الدعاء لهم وبعضهم قد يغريه الشيطان في الوقيعة بأهل العلم أو الرد عليهم, وهو يريد بذلك أن يبرز ويتسلق على أكتافهم, ليقال: رد على فلان، وأفحم علاناً، وناظر فلاناً فقطعه بالحجة وغلبه، أو ربما يسقطهم ليتميز هو، وربما تصنّع الدعاء لهم ليظهر الحدب والحرص عليهم، وهو يقول: فلان غفر الله لنا وله قال كذا وفعل كذا، وفلان نعوذ بالله من الخذلان، وقع في مثل هذا, وربما سمع أحداً يقرر مسألة علمية عويصة صعبة, لا يقدر هو عليها؛ فيقلده في رأيه في هذه المسألة، ثم لا يكتفي بمجرد التقليد حتى يتحمس لهذه المسألة، وينبري يرد على الخصوم بأبشع العبارات، وأقذع الألقاب والصفات والكلمات، وربما أبدى بعض الشفقة وبعض الرحمة فقال: مسكين فلان ابتلي بكذا, نعوذ بالله من الخذلان, وقال كذا، ووقع في كذا، وزل في كذا, وربما أظهر شيئاً من الإعراض، فإذا ذكر عنده هذا الإنسان أعرض عنه, أو قال: دعوه يستر الله علينا وعليه، أو اتركوه لا شأن لنا به, أو دعونا من الغيبة, وإنما مراده الغيبة وتنقص هذا الإنسان، لكن بطريقة ذكية لا يدركها إلا أرباب الفطنة. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 26 إرادة حفظ المنزلة عند الناس ومن ذلك: أنه حينما يأخذ الناس على الإنسان نظرة معينة، أنه من أهل الخير والصلاح, فإن النفس تحب كسب الجاه عند هؤلاء الناس عن هذا الطريق, ويخشى الإنسان أن تنكسر منزلته لو فرط في شيء, فيجاريهم ويباريهم في أشياء يفعلها أو يظهرها لهم, لا تديناً! لكن ليحافظ على مقامه عندهم، وربما تكلم ووعظ وهو لا يريد ذلك, ولم يجد له مناسبة ولا تنشط نفسه إليه، ولكنهم تطلعوا لذلك وخشي أن تنكسر منزلته أن يكون حضر مجلساً فلم يتكلم فيه, أو ينهى عن شيء وليس مقصوده النهي عن المنكر؛ لكن مقصوده أن يقول للناس: أنا دائماً وأبداً كما تظنون محتسب، في شخصية دينية تجعلني لا أترك شيئاً يمر إلا بينته، والأمر كما ذكرت: إنما الأعمال بالنيات، فقد يكون أراد وجه الله تعالى فيؤجر على ذلك, وقد يكون أراد حفظ جاهه عند الناس فليس له إلا ما نوى. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 27 الكلام بشيء ليدل على أنه يفعل بعض الطاعات ومن ذلك أن الإنسان ربما تكلم بشيء يدل على أنه يفعل بعض الطاعات، كمن يقول مثلا: سبحان الله! العبد إذا أكثر التلاوة وقراءة القرآن دل لسانه بالقرآن، وأصبح سهلاً عليه، خاصةً في قيام الليل, ومراده أن يقول: إني أفعل ذلك وقد جربته، أو آخر يقول: يظن بعض الناس أن في الصيام: تعب، ومشقة، وكلفه، ومن جرَّب عرف أنه لا تعب فيه ولا تكليف ولا مشقة، ومراده أن يقول: إني من أهل هذا الباب، وربما انتقل عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية، كمن يقول مثلاً: فلان أذَّن البارحة قبل الوقت بنصف ساعة. ومراده أن يقول: إني كنت يقظاً، ولهذا بعض السلف لما قال: [[أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ استدرك، وقال لجلسائه: أما إني لم أكن في صلاة, ولكني لدغت]] فهو أراد نفي ما قد يتبادر إليهم أنه كان يصلي, فقال: إني لدغت، فكان هذا هو السبب في عدم نومي. فبعض الناس يقول: فلان أذن البارحة قبل الموعد، ومراده أن يقول: إني كنت مستيقظاً آنذاك. وهذا إن كان قصده الرياء فعمله حابط، وإن لم يكن قصده الرياء -فكما ذكرت- أقل ذلك أن ينتقل عمله من ديوان السر إلى ديوان العلانية، فيقل الثواب وينقص الأجر. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 28 العمل على إظهار العبادة بأسلوب خفي ومن ذلك: أن الإنسان قد يخفي العبادة ظاهراً, لكنه يسعى إلى أن يعلمها الناس بأسلوب لطيف خفي غير مدرك, كمن يسبح سراً، أو يستغفر سراً لكنه يصفر بحرف السين حتى يسمعه الناس، فهو قد أخفى العبادة وفي نفس الوقت حاول أن يسمعه مَنْ حوله, حتى يقولوا: ما شاء الله فلان عابد، لا يزال لسانه رطباً من ذكر الله تعالى, ومع ذلك فهو بعيد عن الرياء لأنه يخفي العبادة، وإنما لاحظنا ذلك من حركة شفتيه أو وصوصة لسانه, أو من تحرك يده بالذكر أو ما أشبه ذلك. وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فقد يفعل الإنسان هذا من غير قصد الرياء فلا يضره ذلك, وبعضهم قد يتصدق باسم فاعل خير، ثم يدس بين الناس من يشيع أن فاعل الخير هو فلان بن فلان؛ ليجمع بين الصدقة والتظاهر بالإخلاص وكره الرياء، والله تعالى يقول: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13-14] . وبعضهم إذا قرب إليه طعام، قال: أنا صائم! وذاك لصوم نفل، وأشد من ذلك أن بعضهم إذا قرب إليه طعام قال: اليوم خميس, وكأنه بذلك يشير، ويقول للناس: أنا أصوم في كل يوم خميس! فلماذا لم تعلموا هذه العادة مني؟ ولماذا تقربون لي الطعام، وأنتم تعلمون أن من عادتي صيام يوم الخميس؟ والنبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى أنه إن كان مفطراً فليأكل, وإن كان صائماً فليدع لهم بالبر والبركة فيقول: بارك الله لكم في طعامكم وفي شرابكم، وفيما رزقكم، وما أشبه ذلك. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 29 التظاهر بالتواضع ولوم النفس وتوبيخها ومن هذا أن يتظاهر الإنسان بالتواضع, وعيب النفس ولومها وسبها وتوبيخها؛ فيقوم بكل مناسبة ينسب لنفسه النقص والعيب: أنا مسكين! الله المستعان ما عملنا شيئاً، وقصده إظهار التواضع، وربما سب نفسه عن اعتقاد في نفسه أنه لا يرى نفسه شيئاً، أو عن غير اعتقاد، لكن ليظهر التواضع, فيأتيه الشيطان ويقول له: أبشر قد نجوت من الرياء، وإنما سحبه الشيطان إلى الرياء على وجهه، بإظهار التواضع وذم النفس وعيبها، فلا تسب نفسك ولا تمدح نفسك أيضاً. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 30 عيب الآخرين من أجل سلامة نفسك ومن ذلك أن الشيطان يأتيه من قبل عيب الآخرين، لأنه إذا عاب فلاناً فمعنى ذلك أنه نجا وسلم من هذا العيب الذي اتهم به غيره, فيقول: فلان والعياذ بالله لا يقوم الليل أبداً, وفلان ما رأيته صائماً أبداً, وفلان لا تجود يده بالخير على الرغم أنه أكثر مالاً مني, ومراده أن يقول: أنا لست كمثلهم، فلي حظ من صلاة وصيام وصدقة، ولو عقل لقال: لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها لنفسي من نفسي عن الناس شاغل ولقال كما قال الشافعي: لسانك لا تذكر به عورة امرىءٍ فكلك عورات وللناس ألسن وعينك إن أبدت إليك معايباً فصنها وقل يا عين للناس أعين الجزء: 135 ¦ الصفحة: 31 إظهار العمل فكلما قعد الإنسان مقعداً قال: فعلت كذا، وتصدقت بكذا, وقال: أنا في الواقع لا أستطيع أن أقوم في الليل أكثر من ساعتين، أتعب إذا قمت أكثر من ساعتين، ولا أستطيع الصيام يومياً، ولكن الاثنين والخميس، يكفي ولا نزيد على ذلك. وربما أظهر العمل ففعله أمام الناس حتى يروه ويحمدوه عليه, ولهذا كان الأصل في العبادة أن يسرها الإنسان, لأن ذلك أقرب للإخلاص وأبعد عن الرياء, حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث المتفق عليه قال: {أيها الناس، صلوا في بيوتكم, فإن أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة} ولهذا كانت السنة في النوافل أن يصليها الإنسان في بيته سراً، لأن ذلك فيه طرد للشيطان، وفيه إبعاد للبيوت أن تكون شبه القبور لا يصلى فيها، وفيه تدريب للأهل والأولاد على الصلاة، وفيه بعد عن الرياء: {أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة} فجميع النوافل الأفضل أن يصليها الإنسان في بيته, اللهم إلا النوافل التي تشاع فيها الجماعة، كصلاة الكسوف مثلاً، أو الخسوف، أو الاستسقاء, أو العيدين عند من يقول باستحبابهما, أو صلاة التراويح, أو ما شابه ذلك. وكذلك الصدقة، قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فالأصل في الصدقة الإسرار، ولا يظهرها إلا إذا أمن على نفسه الرياء، ورأى أن في إظهارها خيراً، إما أن فيه مصلحة لحث الناس على ذلك, أو إحياء السنة, أو إرغام العدو، أو ما أشبه ذلك من المقاصد الشرعية, أما إظهار العمل لغير ذلك فهو خلاف المشروع. صلى رجل من الأعراب إلى جوار الأصمعي، فحسن صلاته وزينها, وأطال فيها الركوع والسجود, فلما سلّم، جاء إليه الإمام الأصمعي رحمه الله وقال له: ما شاء الله تبارك الله! ما أحسن صلاتك يا هذا! قال: نعم, فكيف لو عرفت أني مع ذلك صائم. ومثل ذلك من يتصدق أو يقدم عمل خير ليكتب اسمه في الجريدة أنه محسن كبير، أو متصدق عظيم, أو أنه تبرع بكذا أو فعل كذا, أو ليسجل في التقرير الرسمي. والمقصود أن هذه الأشياء قد تكون خيراً إذا نوى الإنسان فيها عمل خير، كحث الناس على الصدقة, أو دعوتهم إليها، أو التنافس في المعروف, أو إرغام العدو، أو ما أشبه ذلك، وقد تكون ضد ذلك إذا قصد بها الرياء، والعبرة بعمل القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى} {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:13-14] . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 32 التشبع بما ليس فيه ثانياً: أن الإنسان يتشبع بما لم يفعل, فيدعي ما ليس له، ويقول: إنه فعل أشياء, فبزعم أنه هو فاتح السند والهند, وأنه صاحب المواقف المشهورة, وربما زعم أنه حصل له أذى في سبيل الله تعالى, فإذا تحدث مع من لا يعرفون تاريخه، قال: أنا كنت خطيباً مفوهاً, وأنا سجنت في بلد كذا أربع سنوات في سبيل الله تعالى, وأنا أوذيت وكنت وكنت , ويصبح (كنتياً) يتحدث عن تاريخ مضى أكثره كذب وأقله صحيح, وإنما يتشبع بهذه الأشياء أمام الناس حتى يحظى بالجاه والمنزلة، وهذا أخبث من الأول, لأنه جمع كما يقول المثل (حشفاً وسوء كيلة) فهو مرائي وكذاب في الوقت ذاته, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} وربما ينتقل الإنسان من بلد إلى بلد آخر, ويصبح في بلد أهله، لا يعرفونه, فيقدم نفسه لهم، لا من خلال الأعمال الصالحة التي يعرفونه بها، ويثبت لهم حسن بلائه وجهاده وصبره، ولكن من خلال القيل والقال والدعاوى الفارغة، وكما قيل: والدعاوى ما لم يقيم عليها بينات أصحابها أدعياء ما مر هذا الإنسان يوماً من الأيام من عند حلقة أحد العلماء, أو سلم عليه في طريق عابر, أو صافحه أو قبَّل رأسه, فإذا جلس قال: أنا لازمت الشيخ الفلاني، وأخذت عنه من العلوم كذا وكذا، وكنت من أخلص تلاميذه، وكان يؤثرني على غيري, ويقدمني ويأذن لي في كل وقت وظرف. أعرف شخصاً يدعي أنه يحفظ القرآن بالقراءات السبع، ويقول: تعلمت العلم على يد شيخي فلان وفلان! ويذكر أئمة العلم والفتيا والدعوة في هذا الزمان، والذي أعرفه من حاله أنه كذاب كبير, لا يجيد قراءة القرآن نظراً فضلاً عن أن يحفظه، فضلاً عن أن يكون عارفاً بالقراءات أو غيرها. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 33 الزيادة في العمل عند اطلاع الناس عليه ومن ذلك أيضاً: إن الإنسان يبدأ العمل لوجه الله تعالى، فيصلي لله, أو يتصدق لله, أو يذكر الله تعالى لوجهه، فإذا علم أن الناس مطلعون عليه أو يراقبونه أو يشاهدونه زاد في عمله, فأطال صلاته أكثر مما نوى، أو تصدق بأكثر مما نوى، أو ذكر الله تعالى زيادة على ما كان في خلده أول الأمر، ومثل هذا ينبغي له أن يدفع الرياء عن نفسه، ويقول كما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضي الله عنه في دفع الرياء: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} . فإن استقر الرياء في قلبه وعمل عملاً زائداً من أجل الناس, فإن كان هذا العمل يتجزأ، كأن تصدق بمائتين، الأولى لوجه الله، والثانية لوجه زيد أو غيره. فالمائة الأولى بلغت محلها، والثانية لا يؤجر عليها بل يأثم, وإن كان العمل لا يتجزأ كالصلاة -مثلاً- فإنه لا يؤجر عليها, بل تذهب بسبب الرياء. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 34 ترك العمل خوف الرياء إن بعضهم يخاف الرياء على نفسه, ويزداد خوفه ويتعاظم حتى يتحول إلى وسواس, وربما ترك العمل الصالح خشية الوقوع في الرياء, فهو كما قيل: فر من الموت وفي الموت وقع. إن مقام الإخلاص الكامل هو مراقبة الله تعالى، والإعراض والانقطاع عن المخلوقين بالكلية، فلا يعمل من أجلهم، ولا يترك من أجلهم، وقد جاء عن الفضيل بن عياض -رحمه الله تعالى- قولاً شديداً فيمن يترك العمل من أجل الناس، وقد يكون من أسباب ذلك أحياناً -وهو كثير- أن بعض الناس يتقدم للمسجد، فإذا رآه الناس خجل وخاف من الرياء, فأصبح لا يأتي إلا متأخراً، وربما تفوته الصلاة ثم يعتاد ذلك, فيصبح التبكير إلى المسجد من أثقل شيء عليه, وبعضهم يقرأ القرآن ويحفظه، فإذا رآه الناس أو أصبحوا يستمعون لقراءته أو يدعون إليه؛ خاف من الرياء فترك قراءة القرآن. وربما يكون خطيباً أو مقرئاً للقرآن, أو معلماً، أو مدرساً، أو داعية، فيترك ذلك خوف الرياء، وهذا من الخطأ العظيم، فإن العبد ينبغي أن ينقطع عن المخلوقين، فلا يترك شيئاً لأجلهم، كما لا يجوز له أن يعمل شيئاً من أجلهم. وربما كان من أسباب ذلك: أن العمل الذي عمله عظم في عينه، قام رجل فخطب الجمعة، أو تكلم بعد الصلاة بكلمات يسيرات، أمر فيها بالمعروف أو نهى فيها عن المنكر, فخيل إليه حينئذٍ أن هذا العمل الذي قام به عمل عظيم جليل فيه صلاح الأمة، وأن الناس تحدثوا بكلامه، وذهبوا به وطاروا به كل مطار، وأنه أصبح حديث المجالس, فلذلك دخله شيء من العجب، خاف من أثره أن يتحول إلى رياء، وما ذلك إلا لأنه لم يتعود على مثل هذه الأعمال الصالحة، ولذا الإنسان الذي من عادته أن يصلي مع الجماعة, لا يرى في صلاة الجماعة رياء ولا مظنة رياء, لكن الجديد الذي يصلي لأول مره وقبل ذلك كان متخلفاً، يخشى على نفسه من الرياء، فإذا اعتاد زال خوف الرياء من قلبه, وهكذا سائر الأعمال الصالحة إذا تعودت عليها شعرت بأنها أعمال عادية كل الناس يعملونها, وأنها ليست أعمالاً عظيمة، ولا تستحق أن تخاف بسببها على نفسك الرياء، وبعض الناس يتركون الأعمال الصالحة بسبب أن الناس تكلموا فيهم وأثنوا عليهم بذلك، والواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح مسلم {تلك عاجل بشرى المؤمن} . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 35 الأسئلة . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 36 الجهاد وطاعة الوالدين السؤال أنا أريد الجهاد, ولكن والدَّي لا يوافقاني على ذلك ويمنعاني مثل هذه, فماذا أفعل؟ الجواب أسأل الله أن يرزقني وإياك وسائر المجاهدين الشهادة في سبيله، اللهم ارزقنا جميعاً الشهادة في سبيلك محسنين غير مسيئين إنك على كل شيء قدير, اللهم اجعلنا ممن يخصص لهم اثنتان وسبعون من الحور العين، اللهم اجعلنا ممن يحلَّى على رؤوسهم تاج الوقار؛ الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، اللهم اجعلنا ممن يشفَّع في سبعين من أهله, اللهم اجعلنا ممن يغفر له مع أول قطرة من دمه، اللهم اجعلنا ممن يأمن من عذاب القبر، يوم يحشر الناس في قبورهم. عليك أن تسعى إلى سماح أهلك بكل وسيلة، بالأسلوب الطيب، والكلمة، والمحاولة، والصبر، فإذا عجزت فابعث إليهم بعض الأحباب الأخيار، أو طلبة العلم يحاولون إقناعهم، وأن يكون جهادك مؤقتاً لفترة محدودة ثم تعود إليهم بعد ذلك، ولا بأس أن تقرأ عليهم بعض ما ورد من النصوص في فضل الشهادة والجهاد, وأنهم هم المستفيدون منك حياً وميتاً إن شاء الله تعالى فإن مت فأنت شفيع إن شاء الله تعالى، لهم يوم القيامة كما جاء في الحديث، وإن حييت فأنت ابنهم البار، وعليك أن تسعى في ذلك وتدعو الله تعالى حتى تتيسر لك الأبواب، وإن صدقت الله تعالى صدقك الله، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال {من سأل الله الشهادة صادقاً، بلَّغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} . والحمد لله رب العالمين. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 37 حكم التدخين السؤال ماحكم التدخين؟ وكيف يكون الإقلاع عنه؟ الجواب أولاً: أدعو الله لك بكل وسيلة مقربة مباحة لديه؛ أن يكفيني وإياك شر المعاصي كلها ظاهرها وباطنها, وأن يرزقني وإياك الإقلاع عن الذنوب كلها, وأن يعينك على التخلص من هذه الآفة السيئة, وسائر المدخنين من الحاضرين خاصة ومن المسلمين عامة, ثم إن للتخلص من التدخين أسباباً كثيرة: منها: صحبة الأخيار, ومنها: الانشغال بالأعمال الصالحة, ومنها: التقليل من كمية التدخين شيئاً فشيئاً حتى يُتخلص منه, ومنها: أن تستفيد من مناسبة رمضان في ترك ذلك، ومنها: ألا يجالس المدخنين ولا يقترب منهم، ومنها: أن يراجع العيادات المختصة بذلك، فقد تقدم له بعض النصائح، وبعض الأشياء التي تعينه عليه. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 38 حكم سماع الغناء والنظر إلى الصور السؤال أنا شاب أسمع الأغاني، وأنظر إلى الصور في المجلات, ولكني محافظ على الصلاة في المسجد، وأحب مجالس الذكر والصالحين فبم تنصحني؟ الجواب يا أخي أنت كما قال القائل: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة فأبشر بخير كثير, لأن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح فقال: يا رسول الله! أرأيت الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بهذا الحديث. قال: فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وأرجو أن أحشر معهم} . وقائل: هل عمل صالح أعددته ينفع عند الكرب فقلت: حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب عليك بصحبة الأخيار, وعليك أن تكثر من حضور المجالس, وعليك أن تزين نفسك أبداً بالطاعات، ولا تتهاون بشيء من الذنوب والمعاصي مهما قلَّ. خلِّ الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى الجزء: 135 ¦ الصفحة: 39 تعدد الزوجات السؤال مسألة تعدد الزوجات؟ الجواب مسألة تعدد الزوجات قضية ينبغي أن نتحدث عنها بشيء من التفصيل, لأن المستمعين من الطرفين الرجال والنساء؛ فنحن ينبغي أن نقول الحق دون أن نداهن طرفاً على حساب الطرف الآخر, لكن ينبغي أيضاً أن يقال الحق كله لا يقال بعضه. ولذلك أشير للإخوة إذا وقع في كلامي تقصير، على أنني ربما تكلمت عن هذا في مناسبات عديدة في مجموعة من الأشرطة المتعلقة بالرجل والمرأة, والعلاقات الزوجية، وأحكام الطلاق, وما أشبه ذلك، وهي موجودة ومتداولة، فعلى كل حال أقول: أولاً: إذا كان الإنسان يعيش مع أهله في سعادة وارتياح، وليس هناك ما يدعوه إلى تعدد الزوجات، فلماذا يتزوج بأخرى؟ لماذا يسارع في ذلك؟! أقول هذا ليس تنفيراً عن أمر أباحه الله عز وجل، ولكن لأنني أرى أن بعض الشباب قد يتعجلون في هذا الأمر وظروفهم المادية والنفسية والبيتية والاجتماعية, لا تسمح بذلك. هذا جانب. ثانياً: إن الذي يريد أن يتزوج بأخرى -غالباً- سوف تكون شروطه أقل, لأنه يقول: أنا معي زوجة، فأعلم أن الفتاة الجميلة -مثلاً- لن تقبلني، وأن الصغيرة لن تقبلني، إذاً هو سوف يتنازل عن بعض الشروط, ويتزوج بمن تكون أوصافها في نظره أقل، وهذه مقاييس كثير من الناس، مقاييش شكلية، وإلا فالواجب أن ننظر إلى مجمل المقاييس الشكلية والمعنوية: الأخلاق والدين والعلم والعقل وغير ذلك. المهم أن بعض هؤلاء ينظرون هذه النظرة، فإذا تزوج الأخرى لم تعجبه, لأن الأولى أفضل منها, أو أجمل منها, أو أحسن منها, وربما عاش معها فترة أول الزواج لأنها جديدة, وكل جديد له لذة, ثم أعرض عنها وطلقها، وكانت بعد ذلك مشكلة ترتب عليها ضياع ماله عليه، وارتكاب الديون على ظهره, أنه ربما حطَّم مستقبل هذه المرأة، ربما حملت منه وأنجبت، وترتب على ذلك مشاكل عديدة كان في غنى عنها, لو أنه درس قرار الزواج الثاني دراسة وافية. إذاً أنا لا أقول: لا تتزوج، فالله تعالى يقول وقوله الحق: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] . لكنني أقول بوضوح: ادْرِس قرار الزوجة الثانية دراسة متأنية قبل أن تقدم عليه، وإذا كنت درست قرار الزواج من الأولى شهراً, فادرس قرار الزواج من الثانية سنة، ولا يضرك أن تتأخر, فأنت لا زلت شاباً في مقتبل العمر. ثانياً: إذا تزوجت بالأخرى فعليك بالعدل مع الزوجتين, فلا تنس الأولى أو أولادها, أو تأخذ من حقها, أو تنشغل بالثانية، أو حتى تنشغل بالأولى وأولادها, وأنك تسعى إلى تطييب خاطرها وتقصر في حق الثانية. ثالثاً: على الإنسان إذا هم بالزواج وصدق عزمه في ذلك, ألا يميت زوجته الأولى مرات ومرات, كلما دخل عليها قال: يا فلانة! أريد أن أتزوج, أنا خطبت, أنا فعلت, أنا قلت, إن كان ولا بد فمرة واحدة, ولا داعي لأن يصفق قلبها صباحاً ومساءً بهذا الخبر الذي بالتأكيد لن يكون ساراً لها. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 40 التفضيل بين الأئمة السؤال بعض الناس يتكلمون في أعراض العلماء، ويفضلون بعض الدعاة على بعض، فما نصيحتنا لهم؟ الجواب يا أخي، الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه رجل من اليهود يشكو إليه بعض الأنصار أنهم ضربوه، لماذا؟ لأنه حلف بالذي فضَّل موسى على العالمين, فقام إليه رجل من المسلمين وضربه, أتقول هذا وأنت بين ظهراني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {لا تفضلوا بين الأنبياء، فإني أكون أول من يفيق يوم القيامة؛ فإذا موسى قابض بقائمة العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الصور؟؟} فالمقصود أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن التفضيل بين الأنبياء على جهة تنقص بعضهم من بعض, وإلا فإن الله تعالى يقول: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:25] وقال عليه السلام: {لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى} وهكذا ينبغي أن يقال فيما يتعلق بتفضيل بعض العلماء على بعض, أو بعض الدعاة على بعض, لا يجوز أن يكون هذا مدعاة إلى التغاير والتباعد, واختلاف القلوب والتعصب، هذا يتعصب لهذا وهذا يتعصب ضده، ثم تقوم مناظرات ومجادلات ومقالات وكلام. يا أخي! اشتغل بالعمل النافع -جزاك الله خيراً- دع عنك أهل العلم، ودع عنك أهل الدعوة, ودع عنك أهل الخير، دعهم لربهم الذي خلقهم فهو يتولَّى حسابهم, واشتغل بنفسك، قم بعمل ينفعك عند الله تعالى، دعوة، أو طلب علم أو جهاد أو خير أو بر أو معروف، فإن قلت: لا, قلنا لك على أقل تقدير قم بعمل ينفعك في دنياك، تجارة أو زراعة أو إدارة أو تعلم دنيوي, أو ما أشبه ذلك، ولا تكل لا هذا ولا ذاك، ما عملت لدينك ولا عملت لدنياك. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 41 إخفاء الأعمال السؤال هل أخفي جميع أعمالي أم في ذلك تفصيل؟ الجواب التفصيل سبق, عليك أن تسعى إلى إخفاء أعمالك الخاصة من العبادات, إلا إذا أمنت على نفسك الرياء، ورأيت في إظهارها خيراً أن يقتدي بك الناس من أهلك أو طلابك أو غيرهم, أو رأيت في ذلك مناسبة ومنابذة للعدو، وبياناً لقوة شأن الإسلام, أو رأيت في ذلك حثاً للآخرين على أن يعملوا مثل عملك. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 42 الانعزال عن منكرات البيت السؤال أرجو أن توضح موقف الشاب الذي يعيش في بيت أهله ويوجد عندهم منكرات كثيرة، لكنه منعزل عن منكراتهم في غرفة مستقلة؟ وهل تدخل الملائكة غرفته؟ الجواب إذا كانت هذه الغرفة تخلو من المنكرات؛ فيرجى أن تدخلها الملائكة، وعلى هذا الإنسان أن يحرص على أن يقيم أوثق الروابط مع أهله مع أمه وأبيه وأخواته وإخوانه، بحسن المعاملة، وطيب الحديث، والهشاشة والبشاشة ولين الكلام، وخدمتهم فيما يستطيع من أمر الدنيا والدين, ومع ذلك عليه أن يبذل وسعه في دعوتهم. فاجعل في البيت مكتبة صوتية فيها بعض الأشرطة المختارة الجذابة، ومكتبة فيها بعض الكتب والقصص البسيطة والأناشيد، والوعظ والإرشاد، والأحاديث والآيات التي تعجب أهلك كباراً وصغاراً، واجعل للبيت برنامجاً، درساً في الأسبوع تجمع فيه الصغار على آية من كتاب الله, أو حديثاً عن رسوله، أو مسابقة، أو تدريباً على عبادة من العبادات، أو تعليماً لعقيدة من العقائد, أو حكم من الأحكام, أو أبياتاً من الشعر الحكيم يحفظونها أو ما أشبه ذلك، حتى تؤثر فيهم مع الوقت وعليك ألاَّ تيأس. بعض الشباب يقولون: فعلنا فلم يستجب لنا ولكن يا أخي، أين أنت من نوح عليه السلام؟! ألف سنة إلا خمسين عاماً، أنت كم دعوت، أسبوعاً شهراً سنةً؟ اصبر فما لم يأتِ في هذا العام قد يأتي بعد عامٍ أو عامين, ولو أن كل شابٍ جعل من نفسه داعية في بيته, لاستطعنا أن نوصل الدعوة إلى كل الدنيا. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 43 ظاهرة عدم الأخلاق مع الأهل السؤال ما حكم من يحسن أخلاقه مع الناس دون أهله؟ الجواب هذا من أخطر الأشياء التي يقع فيها بعض الشباب, فأنت تجده مع الناس كالريح الهادئة, كالهواء العليل حين يدخل في النفوس ويحبه الجميع، أخلاقه طيبة, كلماته هادئة, وديع، خدوم صبور مبتسم, أما مع أهله فهو ينقلب إلى وحش ضار، أو إمبراطور يأمر وينهى في البيت؛ فهو على أمه وأبيه، وعلى زوجته وعلى أطفاله شديد عسر، وهذا خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم, فإن الأهل والأقارب أحق ببر الإنسان أدناه فأدناه، وقرابته وأهل بيته أحق بحسن صحبته, وحسن خلقه, وطيب كلامه, ولين حديثه, وعليه أن يستغفر الله تعالى, وألاَّ يتعمل ويتزين للناس بحسن الخلق, ويكون مع أهله على النقيض من ذلك. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 44 الخوف من الرياء السؤال من حديثك لنا عن الرياء أحسست أنني مرائي، فماذا أفعل فإنه أخفى مندبيب النمل؟ الجواب لا تركز على كلمة واحدة وتغفل عن كلمات, فإن الأمر لا يستدعي وسوسة, ولا تنطعاً، بل عليك أن تعمل لله تعالى وتترك الناس، فلا تأبه بهم, وتجاهد نفسك في ذلك حتى تموت: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وأعظم ما أحذرك منه أشد التحذير؛ أن تترك العمل الصالح خوف الرياء. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 45 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال كيف يمكن الجمع بين حديث الرجل الذي يدور بين أقتاب بطنه، وبين وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ الجواب هذا ليس تناقضاً ولا مجال للإختلاف بينهم، فإن الأمر بالمعروف واجب على كل إنسان, والنهي عن المنكر واجب علينا جميعاً, وهل تعتقد أن أحداً يعاقبه الله تعالى لماذا تأمر بالمعروف؟ أو تعتقد أن الله تعالى يعاقب إنساناً لماذا تنهى عن المنكر؟! إنما العقاب لماذا تفعل المنكر, ولماذا تترك المعروف مع أنك تعرف، والدليل عليك أنك كنت تأمر وتنهى, فالناس ظنوا أن هذا الإنسان سوف يكون في الدرجات العلا من الجنة, لأنهم ربما استفادوا منه وتركوا بعض المعاصي، أو فعلوا بعض الطاعات, ففوجئوا بأنه معهم في النار، هذا غريب، لم؟! قال: لأني كنت آمركم بالمعروف لكن ما كنت أفعله, وكنت أنهاكم ولكن ما كنت أنتهي، هذا هو العبرة. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 46 الرقى السؤال ما حكم الرقية؟ الجواب النبي صلى الله عليه وسلم أذن بالرقية، بل أمر بها وقال عليه الصلاة والسلام: {اعرضوا عليّ رقاكم، لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً} وهو في صحيح مسلم، وفي صحيح مسلم أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام قال: {من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل} فالقراءة على المريض المصروع بالجن أو بالعين, أو بالسحر مشروعة، ومن فعل ذلك فله عند الله أجر عظيم، وهذا من الرقية الشرعية التي يستغني بها الناس عن الذهاب إلى السحرة والكهنة والعرافين والمنجمين، الذين يأخذون أموال الناس بالباطل، ويضحكون عليهم، ويستعينون بالجن على التعرف في أحوال المريض، إذا جاء المريض لمن يدَّعي العلاج والطب قال له هذا المتطبب: أنت شأنك كذا, واسم زوجتك كذا, وعملك كذا، ويوم كذا كنت في كذا , فتحس بكذا لأن هذه المعلومات قدمها له قرينه من الجن، فإذا رأى المريض أن هذا المتطبب يعرف هذه الأسرار؛ وثق به وأسرع إليه, وصدق كل ما يقول، حتى لو ادَّعى عليه دعوى أنك مسحور من قبل شخص شأنه كذا , وصفته كذا , يأتي بعموميات قد تصدق على كل إنسان، أو أن بك عين أو جن, أو ما أشبه ذلك، فصدق هذا، وكان سبباً في الفراق بينه وبين زوجته, أو مفارقة أصدقائه, أو العداوة بينه وبين أقربائه, أو جيرانه, وأخذ أمواله وأفسد عليه دينه، وربما أغراه بأن يذبح للجن والعياذ بالله أو يتقرب إليهم بالقرابين، أو يفعل معهم الفواحش, وربما ارتكب الشرك كالذبح للجن، أو التقرب إليهم بالعبادات التي لا تفعل إلا لله تعالى، وهذا من أعظم الأمور التي ينبغي أن يوعَّى الناس بها، ويُبيَّن لهم أن هؤلاء القوم لا ينفعون، بل يضرون، وأنهم أكلة ومرتزقة يأكلون أموال الناس بالباطل، ويضحكون عليهم ولا ينفعونهم بشيء، وإنما الضار والنافع هو الله تعالى. فمن أصيب بشيء من ذلك فعليه أولاً بكثرة الدعاء، والإنكسار لله تعالى، واختيار أوقات الدعاء التي يستجاب فيها الدعاء, كالدعاء بين الآذان والإقامة, والدعاء في الثلث الأخير من الليل, والدعاء في أدبار الصلوات المكتوبات، والدعاء في أثناء الصلاة في الركوع والسجود، وكذلك الدعاء يوم الجمعة بعد دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، وفي آخر ساعة من الجمعة, وتحرِّي أيضاً الأحوال الفاضلة, كتحري نزول المطر مثلاً، والانكسار لله والخضوع له، وأن تدعو الله بالأسماء الحسنى والصفات العليا، ولا تتعدى. وأن تقدم بين يدي الدعاء الصدقة والقربان، والخروج من الذنوب والمعاصي, فحينئذٍ يستجيب الله لك كما قال سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] . ومن ذلك: أنه لا بأس أن يذهب فيسائل بعض القراء الموثوقين، المعروفين بالصلاح والتقوى والورع, ممن يقرأ على المريض شيئاً من القرآن, أو من الأدعية المشروعة وينفث عليه، فيكون سبباً في ذهاب الجن أو السحر, أو أن العين عن الإنسان, أو يخف ذلك عنه مع الوقت. ومن ذلك: أن يقرأ الإنسان على نفسه آية الكرسي، وبعض السور القصار كسورة الإخلاص والمعوذتين وينفث، ويحافظ على الورد صباحاً ومساءً، فإن ذلك ينفعه بإذن الله تعالى. ومن ذلك: فعل الأسباب المادية المباحة، كأن يظن الإنسان بشخص -مثلاً- أنه وقعت منه العين، فيأتي بشيء منه يغسل ثيابه أو يغتسل له, أو ما أشبه ذلك، ويصب على بدنه، أو يظن أن فلاناً وضع له سحراً, فيبعث إليه من يحاول أن يغريه بأن يبين له مكان السحر وما أشبه ذلك, حتى يزول عنه -بإذن الله تعالى- كما حصل بالنسبة للنبي عليه الصلاة والسلام, فإنه سحره لبيد بن الأعصم كما في الصحيح، وجاء الملكان فأخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بالذي فعل السحر, وهو لبيد بن الأعصم، وأين مكان السحر وهو بئر معروفه وهي بئر ذرمان في المدينة، وأن السحر كان في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر, ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجد حاجة لإخراج السحر وإتلافه، لأنه قال: {أمَّا أنا فشفاني الله تعالى وكرهت أن أثير على الناس شراً} . أما الذهاب إلى السحرة والعرافين والمنجمين، وتوسع الناس فيه على نحو ما يجري الآن؛ فهو من أعظم المخاطر, فإن معظم الناس يصاب بمرض عضوي في بدنه، أو مرض نفسي, أو توتر, أو قلق, أو ما أشبه ذلك, فلا يعرفون أبداً إلا أن يذهبوا للسحرة والكهنة في هذه البلاد وفي بلاد أخرى, فيعطونهم أموالهم ويصدقونهم فيما يقولون، وقد جاء في ذلك الوعيد الشديد، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من أتى كاهناً أو عرافاً لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} وفي الحديث الآخر: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم} . الجزء: 135 ¦ الصفحة: 47 حديث أضعف الرياء السؤال يقول: قرأت في حديث معناه (أضعف الرياء كالزاني بأمه تحت أستار الكعبة) إلخ فهل هذا صحيح؟ الجواب كلا هذا ليس بصحيح, وإن كان الرياء من الشرك، يصير الرياء شركاً، وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه الشرك الأصغر, سئل عنه فقال: الرياء. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 48 حكم كتمان وقوع الشرك السؤال ما حكم من يعلم أن شركاً وقع في بلدته أو عشيرته، ثم يكتم ذلك عن الدعاة؟ خشية العار؟ الجواب هذا من أعظم الذنوب، ويخشى أن يكون مقراً بهذا الأمر أو راضياً به, لأن العار في بقاء ذلك واستمراره، وليس في قيام الدعوة في أوساط قومه أو قبيلته، وأمرهم بالمعروف أو نهيهم عن المنكر, بل عليك أن تكون داعية في وسط قومك إلى إزالة هذا الشرك، وأن تنشر من الكتب والأشرطة والدعوات والمنشورات، التي تبين ذلك وتزيله. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 49 تهيب الدعوة لأجل الذنوب السؤال إنني رجل أعلم ما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام من الأهمية, ولقد منحني الله تعالى الحجة وقوة البيان، ولكنني أتهيب ذلك أو المشاركة فيه بحجة أنني مقصر فيما سوف، أنصح الناس فيه، وأعلم أن للشيطان دوراً في هذا، أرجو أن تفتوني بتخفيف ذلك عن نفسي؟ الجواب لقد بينت -لك يا أخي- أثناء الكلام أن ذلك من أعظم مداخل الشيطان, لأنه لو فتح هذا الباب على الناس ما عمل أحد طاعة، لأن الشيطان مسلط على كل الناس، وليس عليك أنت فحسب، فما من إنسان يعمل طاعة إلا ويأتيه الشيطان من أبواب عدة؛ منها: أن يقعده عن هذه الطاعة ويثقلها عليه, ومنها: أن يغريه إذا فعلها أن يكون مرائياً أثناء فعلها, أو ما أشبه ذلك، فعليك أن تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وتعتصم بهذا الدعاء: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً أعلمه، وأستغفرك لما لا أعلمه} وتستمر في هذه الأعمال، ومع الوقت يزول عنك هذا بإذن الله تعالى. الجزء: 135 ¦ الصفحة: 50 صفة الاستواء مواصلة لدروس الواسطية، في هذا الدرس شرح لآيات نفي الشرك والشركاء وتنزيه الله وتقديسه، ثم استواؤه على عرشه بأسلوب سهل، وبيان لبعض ما يتعلق بذلك. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 1 آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 2 قوله تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل:74] وهذا أيضاً نهي للناس أن يضربوا لله تعالى الأمثال. كأن يشبهوه بخلقه أو يقيسوه بخلقه، فإن الله تعالى لا يقاس بخلقه، ولا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه؛ فلهذا لا يقاس الله تعالى بخلقه، ولا نقول إن هذا الشيء حسن في حق الناس فيكون حسناً في حق الله، هذا ليس بلازم، إلا ما كان كمالاً من كل وجه، فإن الخالق أولى به، وما كان نقصاً؛ فإن الخالق أولى بالتنزيه عنه فهذا قياس الأولى. فمثلاً: العلم في الإنسان هل هو نقص أم كمال؟ كمال، وهل في العلم نقص بوجه من الوجوه؟ ليس فيه نقص فنقول: الله سبحانه وتعالى أولى بالعلم أيضاً، مع أن إثبات العلم لله سبحانه ثابت في النصوص القرآنية أيضاً. ومثله: القدرة، فكلما كان الإنسان أقدر؛ كان هذا أكمل فكذلك الله عز وجل. أما ضرب الأمثال لله تعالى، وقياسه بخلقه؛ فإن هذا لا يجوز بحال من الأحوال قال تعالى: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل:74] . الجزء: 136 ¦ الصفحة: 3 قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأعراف:33] بين أصول المحرمات في هذه الآية {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ} [الأعراف:33] الفواحش: جمع فاحشة، وهى: من فحش الشيء إذا عظم وكثر، فالفاحشة هي: الإثم العظيم؛ وغالب ما تطلق على الفواحش الشهوانية التي فيها حدود ربانية، كالزنا واللواط ونحوهما فإنها من الفواحش، فهذا من أصول المعاصي والمحرمات. وقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] ، أما الظاهر: فكما ذكرت، وأما الباطن: كالفواحش المتعلقة بالقلب، وهذا قد يخفى على كثير من الخلق، فهي موجودة. فالحسد -مثلاً- والحقد، وبغض المؤمنين من الفواحش القلبية، والعجب والغرور والكبر، من الفواحش القلبية، وهكذا: {حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33] . قوله: (والإثم) قيل: إن المقصود بها الخمر، فإن الخمر جماع الإثم، وكانت العرب تسميه: الإثم كما قال شاعرهم: سقوني الإثم ثم تكنفوني يعني سقوه الخمر ثم أحاطوا به، فالعرب كانت تسمي الخمر إثماً، وقيل: إن المقصود من الإثم: هو كل معصية لله عز وجل، فلهذا تكون أعم من الفواحش. قوله تعالى: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] فالبغي: هو الاعتداء على حقوق الناس، وهو لا يكون بحق؛ وإنما للتنفير والتقبيح منه، قال: {وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:33] أي: أن تبغي على الناس، كأن تبغي عليهم في أموالهم بغير حق فتظلمهم أو في أعراضهم؛ كأن تتكلم في أعراضهم بغير حق وتسبهم وتؤذيهم سراً أو علانية. والبغي: من الذنوب التي يعجل الله سبحانه وتعالى عقوبتها في الدنيا كما قال صلى الله عليه وسلم: {ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا مع ما يدخره لصاحبه يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم} فالبغي مما حرمه الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] أي: بغي الناس بعضهم على بعض. وقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} [الأعراف:33] فالله تعالى ما أنزل لأحد سلطاناً أن يشرك معه، إنما أنزل سلطاناً بالتوحيد وإفراده بالعبادة. وقوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] أي: أن تتكلموا في دين الله تعالى ما لا تعلمون -ونستغفر الله تعالى ونتوب إليه من ذلك- فإن في هذه الآية وعيد شديد على من تكلم في الشرع بما لا يعلم، حتى قرنه سبحانه مع الشرك: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] فكثير من الجهلة والعوام تجد الفتوى على طرف لسانه: حرام حلال! وكذلك كثير من السفهاء الذين اتبعوا أهواءهم وشهواتهم، بمجرد أن تخبرهم عن منكر وقع فيه، يقول: لا شيء ولا حرج في ذلك! لم لا شيء فيه؟ هل أخبرك الله بهذا؟ هل عندك آية أو حديث أو كلام لأهل العلم؟ يقول: لا. لكن لو كان هناك شيء، لقبل في فلان وفلان، قال تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] كونك واقع في معصية، هذا شيء يمكن أن يغفره الله لك، لكن هناك معصية أخرى عظيمة قد لا تغفر وهي وقوعك في المعصية وأنت تستحلها، أو تتكلم على الله تعالى بغير علم؛ بالحلال والحرام والدين، فهذا من أعظم الذنوب قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36] فلا تتبع شيئاً ليس لك به علم، ولا تتكلم بغير حق، فكل أولئك سوف تكون عنه مسئولاً. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 4 قوله تعالى: (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التغابن:1] وهذه الآية فيها تسبيحه جل وعلا، والتسبيح -في أصل معناه-: هو التنزيه، فقوله: (يسبح لله) كقولك: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، سبحان ربي الأعلى، أي: أنك تنزه الله تعالى وتطهره عن كل ما لا يليق بجلاله مما ادعاه عليه المشركون، كادعائهم أن له ولداً أو زوجة، أو أن له ولياً من الذل، أو أن له شريكاً في الملك أو أن فيه نقصاً بوجه من الوجوه فأنت تقول (سبحان الله) أي: أنك تعترف بتنزيه الله تعالى، أو أنك لا تؤمن إلا بالكمال المطلق لله جل وعلا؛ وتنفي عنه كل نقص. ومع ذلك فإن الله سبحانه وتعالى يسبح له كل شيء كما قال الله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن:1] كل شيء؛ من الجمادات والحيوانات، والرطب واليابس، والصغير والكبير، والعاقل وغير العاقل؛ كلها تسبح فهذا الكون كله مهرجان يضج بالتسبيح لرب العالمين، ولو قدر لأذن أن تسمع لما سمعت إلا زجلاً لتعظيم ذي الجلال في كل ما تقع عليه العين في هذا الكون فالله تعالى يسبحه كل شيء ويعظمه كل شيء، قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18] إلا بعض عصاة بنى آدم، فإنهم تمردوا وأبوا أن يعظموا الجلال والإكرام سبحانه. والتسبيح المذكور في هذه الآيات ونحوها على الراجح أنه تسبيح حقيقي، أي: أنها تسبح حقيقة لله عز وجل أما كيف تسبح، فهذا أمر لا ندري؛ لأن الله تعالى ما أطلعنا عليه، ولا كشف لنا من أمره؛ لكننا آمنا بما أخبرنا الله به من أن كل شيء في الكون يسبح بحمد الله سبحانه وتعالى، دون أن يفقه الناس تسبيحه أو يعلموا كيف يسبح؛ وجزء من ذلك بينه الله تعالى، أو بينه الرسول صلى الله عليه وسلم، فلقد ذكر الله تعالى عن داود عليه السلام {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص:18-19] فكانت الجبال والطيور تسبِّح مع داود، فيسمع تسبيحها لله عز وجل. ومنه حركة الكون: فإنها جزء من التسبيح والطاعة لله عز وجل فطلوع الشمس وحركتها وغروبها، واختلاف مراحل القمر؛ كل ذلك من التسبيح والطاعة لله عز وجل، كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر لما قال: {أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ فقال: الله ورسوله أعلم! قال: فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، وتستأذن في الطلوع، فيؤذن لها لا ينكر الناس من أمرها شيئاً، ويوشك أن تستأذن ولا يؤذن لها، ويقال لها: اطلعي من حيث غربت} أو كما قال صلى الله عليه وسلم فهذا جزء من سجودها وتسبيحها وطاعتها لله عز وجل. فهاهنا قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [التغابن:1] كل شيء! حتى ذرات التراب، وقطرات الماء، وأوراق الأشجار وحتى الدواب الصغيرة، كلها تسبح الله ولهذا من بديع ما ذكره لنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء السابقين: {أن نبياً نام تحت شجرة فقرصته نملة، فقام فأحرق بيت النمل كله، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه أمن أجل نملة قرصتك؛ أهلكت أمة من الأمم تسبح الله تعالى} أي: أن المسألة ليست هينة! هذه القرية من النمل التي أحرقتها؛ قرية يسبحون الله كيف تهلكهم بدون سبب ولا ذنب؟ {هلا نملة واحدة؟} لو قتلت الواحدة التي قرصتك وتركت الباقي! فعاتبه الله عز وجل على ذلك. فانظر كيف يربي الإسلام في نفس المؤمن النظر إلى هذا الكون، والتذكر بأن الكون كله يسبح لله عز وجل إذا كان الكفر يملك قوة وإمكانية وتقدماً في العلم والصناعة والحضارة والماديات وفي غيرها، فتذكر أن هذا الكون كله بما فيه ومن فيه -حتى مصنوعاتهم وحتى إمكانياتهم- فهي تسبح لله عز وجل وتنتظر أمره؛ فيكون عند المؤمن حينئذ من عظيم الثقة بالله والتوكل عليه ما ليس عند غيره. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 5 قوله عز وجل: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) [الفرقان:1] معنى تبارك: أنه من البركة أي: أنه تبارك في ذاته وبارك غيره، من شاء من خلقه، كما قال سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18] وقال: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود:73] إلى غير ذلك، فالله تعالى تبارك في ذاته وبارك غيره ممن شاء من خلقه، من بلاد وأرض وأناس وأعمال، فهذا معنى قوله: (تبارك) ولهذا لا تطلق على غيره سبحانه؛ فلا يجوز أن تقول لإنسان: تبارك فلان. {تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] والفرقان: هو القرآن، وإنما سمي فرقاناً؛ لأنه يفرق بين الحق وبين الباطل. وقوله: {تبارك الذي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] . وصف الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية؛ لأنها أشرف الصفات، فأشرف الصفات أن تصدق عبودية العبد لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا ذكر الله تعالى العبودية لنبيه عليه الصلاة والسلام في مواضع التنزيل، كما في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] وقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1] . كما ذكر العبودية في مقام الدعاء، قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] فالمقصود أن العبودية أشرف صفة يوصف بها إنسان؛ ولهذا وصف الله تعالى بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقد أدرك هذا المعنى القاضي عياض رحمه الله! فكان يقول: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً وقوله: {لِيَكُونَ} [الفرقان:1] هذا القرآن {لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] ، والنذارة: هي الإخبار مع التحذير؛ بخلاف البشارة: فهي الإخبار بما يسر فقوله: نذيراً أي: محذراً لهم عقوبة المعصية والمخالفة فهذا معنى النذارة، والرسول صلى الله عليه وسلم بعث مبشراً ونذيرا، فالنذارة تكون أولى للعاصين، كما في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} [الكهف:1-2] فذكر النذارة للكافرين، وذكر البشارة للمؤمنين. قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان:2] . أي: أنه أحسن كل شيء خلقه فخلقه بقدر، وهذا له أكثر من معنى: المعنى الأول: أن كل ما خلقه الله سبحانه وتعالى فهو مكتوب مقدر عنده في اللوح المحفوظ، كما هو معروف في مراتب القضاء والقدر هذا من معاني قوله: {فَقَدَّرَه تَقْدِيراً} [الفرقان:2] . المعنى الثاني: أن معنى قوله (قدره) أي: أحكمه وأتقنه وأحسنه، فجعله ملائماً مناسباً، كما في قوله: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك:3] أي: هل ترى في السماء من شقوق؟ من صدوع؟ من نقص؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4] وقال سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] وقال: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:6-7] فهو سبحانه أحسن كل شيء خلقه، كما قال عن نفسه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة:7] فهذا هو المعنى الثاني من معاني قوله: {فَقَدَّرَه تَقْدِيراً} [الفرقان:2] . الجزء: 136 ¦ الصفحة: 6 قوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ) [المؤمنون:91] المقصود في هذه الآية، هو ذكر التسبيح في قوله {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] ؛ لأن فيها تنزيه الله عز وجل عما يصفه به المشركون؛ ولكن الآية بدأت بإثبات دليل من أدلة الألوهية والربوبية في قوله سبحانه: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} [المؤمنون:91] ففي المقطع الأول من الآية فيه نفي أن يكون لله ولد لا من الملائكة، ولا من الأنبياء، ولا من سائر البشر! وقوله (وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ) أي نفي أن يكون هناك إله مع الله والمعنى الإجمالي من الآية أنه ليس له شريك في الخلق ولا في الألوهية. وقوله تعالى: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] . أي: أنه لو كان هناك أحد شارك الله تعالى في خلق هذا الكون وإيجاده؛ لكان الأمر لا يخلو من حالتين: إما أن يكون هذا الشريك الذي خلق مع الله شيئاً يكون مساوياً لله تعالى وفي مقامه، فحينئذٍ كل يستبد بما خلق، ويتفرد في خلقه، ومعنى ذلك أن الكون سوف يكون مدبراً من آلهة عديدة، وهذا قطعاً خلاف ما يشهد به الواقع؛ لأن الواقع يشهد بأن الكون كله لخالق واحد، كم له من شمس؟ كم له من سماء؟ نظام الكون واحد، حتى في دراسات العلماء لنظام الكون تجد غاية العجب! فيما يسمونه: بالذرات وتكوين الذرة وما أشبه ذلك، والتي هي أصل ويقال: إنها أقل جوهر للأشياء الموجودة فالمقصود: أن نظام الكون واحد، فمعناه: أن خالق الكون ومدبره واحد، ولو كان للكون آلهة مختلفون؛ فما الذي كان سيحدث؟ كل إله منهم سيذهب بما خلق، أي سينفرد بخلقه، فيتصرف فيه تصرفاً آخر، مثلما يفعل ملوك الدنيا، مثلاً، فإن كل واحد منهم إذا انفرد في ملكه؛ تصرف فيه بغير ما يتصرف فيه الآخر، فتجد هذا له طريقة واحدة، وذاك له طريقه أخرى، والثالث له طريقة ثالثة، ولا يتفقون على طريقة واحدة أبداً؛ ولهذا قال: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} [المؤمنون:91] أي: لو كان مع الله إلها آخر؛ لذهب هذا الإله الآخر بما خلق، واستقل به! وقوله تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون:91] . أي: حاول أحدهم أن يتغلب على الآخر -إن استطاع- كما يفعل ملوك الدنيا، {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18] . {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون:91] أي: ينزه الله تعالى عما يصف به المشركون من ادعاء الولد أو الشريك أو الصاحبة، وقد نزه الله تعالى نفسه عما وصفه به المشركون في مواضع كثيرة جداً من القرآن الكريم. قوله تعالى: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون:92] : لأن من ادعى أن لله تعالى ولداً؛ فقد أشرك مع الله تعالى غيره قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف:81] فنفى الله تعالى عن نفسه الولد والشريك، ونزه نفسه عما وصفه به المشركون والضالون. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 7 قال المصنف رحمه الله: وقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم:65] من أسمائه جل وعلا (السميع البصير) ، وكذلك الله تعالى وصف الإنسان بكونه سميعاً بصيراً كما في قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] إلى غير ذلك من الأشياء التي يطول حصرها؛ لكن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى بيان. هذا المعنى الأول في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:5] . والمعنى الثاني: أن يكون المقصود مسامياً بمعنى "هل تعلم له مسامياً" أي: أحداً يساميه وما معنى المساماة في هذه الحالة؟ مر معنا في صحيح البخاري وصحيح مسلم أيضاً. اللفظ نفسه مثلاً إذا قلنا: فلان يسامي فلاناً، أي: يعادله أو يقاربه أو ينافسه. ورد هذا اللفظ في حديث الإفك من كلام عائشة رضي الله عنها عن زينب أنها هي التي كانت تساميها تقول: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم]] أي: تعادلني أو تقاربني. فقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:5] أي: معادلاً أو نظيراً أو مشابهاً، والمعنى: لا سمي له سبحانه لا في ذاته، وصفاته، ولا في أسمائه، وأفعاله. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 8 قال المصنف رحمه الله: قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص:4] هذه الآية من سورة الإخلاص، وقد سبق الكلام على هذه السورة كلها في أول الكتاب، وإنما أعاد المصنف ذكر الآية؛ لمناسبة ذكر الأشياء المنفية عن الله سبحانه وتعالى وبعض الآيات قبلها -أيضاً- تدخل في ذلك في قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص:3] فإنها نفي {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:4] والكفء: هو النظير والشبيه، أي: لا نظير له سبحانه، ولا ند له، ولا مثل له. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 9 قوله تعالى: (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:22] وهذه أيضاً كالتي قبلها: فالأنداد: جمع ند، والند هو: النظير والشبيه، وقوله سبحانه وتعالى: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة:22] هذا يشمل النهي عن كل ألوان الشرك؛ سواء كان شركاً في الربوبية، كأن يدعي أحدٌ أنَّ لأحد شركة مع الله تعالى في الخلق، أي: يخلق مع الله أو يرزق معه، فهذا من الشرك في الربوبية، وهو من اتخاذ الند لله سبحانه وتعالى. وكذلك: هو نهي عن الشرك في الألوهية؛ بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، فهذا هو التنديد أيضاً، وأعظم وأكثر شرك حصل في بني آدم هو الشرك في الألوهية بعبادة غير الله تعالى معه أو من دونه، ومن عبد غير الله فقد اتخذ نداً. وكذلك: هو نهي عن الشرك في الأسماء والصفات، وهو أيضاً من التنديد؛ ولهذا جاء في المسند وغيره في قصة الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: "ما شاء الله وشئت" قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أجعلتني لله نداً؟} إنكاراً له على أنه قرن بين اسمه واسم الله تعالى فقال له: "ما شاء الله وشئت" وكان الأولى أن يقول: ما شاء الله وحده أو نحو ذلك. فالشرك في الأسماء والصفات بأن يعطي العبد صفة من صفات الله أو اسماً من أسمائه -التي لا تنبغي إلا له- ويعطيها لغيره، أو يشرك مع الله تعالى ولو باللفظ كقوله: "لولا الله وفلان أو ما شاء الله وشئت أو نحن بالله وبك" وما أشبه ذلك مما يسمى "بشرك الألفاظ" فالآية نهي عن ذلك كله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] أي: تعلمون أنه لا يستحق العبادة غيره ولم يكن له كفواً أحد، ولا تعلمون له سمياً، فهو المتفرد في ذاته وأسمائه وصفاته جل وعلا. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 10 قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه) [البقرة:165] هذه الآية في سورة البقرة، وفيها ينعي الله على المشركين أنهم ينددون، أي: يتخذون أنداداً، أي: يجعلونهم نظراء ومشابهين لله سبحانه وتعالى. ووجه كونهم اتخذوهم أنداداً بينه وفسره جل وعلا بقوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] لها أكثر من معنى ذكرها المفسرون منها: أولاً: يحبونهم كحب المؤمنين لله، أي: كما يحب المؤمنون الله وهذا المعنى ليس بمستقيم؛ لأنه قال بعدها: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] فيكون في هذا تناقض. إذاً: هذا المعنى ضعيف. ثانياً: أنهم يحبون آلهتهم كما يحبون الله؛ وهذا فيه دليل على أن المشركين يحبون الله تعالى، ولكنهم -أيضاً- يحبون آلهتهم كما يحبون الله تعالى. فلذلك اتخذوا آلهتهم أنداداً يحبونهم كما يحبون الله تعالى، ولهذا أنكر عليهم ذلك وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة:165] أي: أصدق في حبهم لله تعالى من هؤلاء المشركين، ومن المعاني الأخرى لهذه الآية:- ثالثاً: أن يكون المقصود في قوله: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة:165] أي: كالحب الذي يُحَبُّ به الله عز وجل، أي يعطونهم الحب الذي لا ينبغي إلا لله؛ وكأنه يقول: إن المشركين اتخذوا من دون الله آلهة يحبونهم حباً شديداً؛ هو الحب الذي لا ينبغي ولا يصرف إلا لله جل وعلا. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 11 قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) [الإسراء:111] ففي صدر هذه الآية ذكر الثناء على الله تعالى بالحمد، والحمد: هو الإقرار بالنعم لله عز وجل والثناء عليه بها -كما سبق في أول هذه الدروس في أكثر من موضع- فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وسائر من يتجه إليه الخطاب بأن يقول الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، فمن صفاته أنه لم يتخذ ولداً وذلك لأن الكون كله ومن فيه ملكه، وفي قبضته وأمره، فليس له منهم ولد ولا والد ولا زوجة ولا قريب من هذا الوجه؛ وإنما كلهم عبيده، والقريب منهم إليه هو من تقرب إليه بطاعته وعبادته وحبه. فنفى سبحانه وتعالى ما ادعاه بعض المشركين أن لله ولداً، كما زعم اليهود أن عزيراً ابن الله، وكما زعمت النصارى أن المسيح ابن الله، وكما زعمت العرب أن الملائكة بنات الله، كما ادعوا أن لله سبحانه وتعالى زوجة من الجن تلد له الملائكة -كما في أساطير العرب والجاهلين- فنفى ذلك كله بقوله: {وَقُلِ الْحمد لله الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} [الإسراء:111] ؛ وذلك لأن الولد وإن كان بالنسبة للبشر كمال؛ إلا أنه بالنسبة للخالق نقص. فبالنسبة للبشر: فإن من يكون له ولد أكمل عندهم من الذي يكون عقيماً لا ولد له، هذا بالنسبة للناس؛ وذلك لأن حصول الولد للإنسان، إنما هو لبقاء ذكره في الدنيا وعدم انقطاعه، ووراثته من بعده، ومساعدته على أموره إلى غير ذلك من المقاصد المنتفية في حق الله جل وعلا؛ لأن الله تعالى هو الذي يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، وهو الغني الغنى المطلق الذي لا يحتاج معه إلى شيء سبحانه؛ بل كل شيء مفتقرٌ ومحتاج إليه. فلهذا مجد الله نفسه بأنه لم يتخذ ولداً. وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء:111] : أيضاً نفى هنا ادعاء المشركين بأن لله شريك في الملك، إذ يدل صنيعهم في عبادتهم لغير الله تعالى؛ على أنهم يظنون أن لله تعالى شريكاً في ملكه يستحق العبادة معه، وقد نفى الله تعالى هذا في مواضع كثيرة نفى وجود شركة في ملكه -جل وعلا- على الإطلاق، قال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ:22-23] فنفى وجود الشرك له سبحانه وتعالى في الكون، أو أنهم يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض. أما الملك البشري: فهو ملك مؤقت، وهو من الله تعالى وإليه، فلست خالقاً لهذا الشيء، ولا مالكه ولا متصرفاً به على الحقيقة؛ حتى جسدك إنما المتصرف فيه حقيقةً هو الله عز وجل. وقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] : أي ليس لله تعالى ولي يتعزز به من ذل؛ لأنه هو العزيز الذي من أراد العزة؛ التجأ إليه ولاذ به فعز، ومن تخلى عنه ذل، ولو كانت مقاليد الدنيا كلها بيده. فليس لله تعالى ولي من الذل له ولي؛ ولكن ليس من الذل، أي: ليست ولايته جل وعلا لمن والاه؛ يتعزز به من ذل، أو يتقوى به من ضعف، أو يتكثر به من قلة. كيف والخلق كلهم طوع أمره! كيف وهو إذا أراد شيئاً قال له: "كن فيكون" فليس له ولي من الذل يتقوى به ويتعزز به من ذل، إنما له ولي برحمته لعباده؛ حيث يوالي منهم من يستحق الولاية، كما قال عز وجل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] وقال سبحانه: {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} [الشورى:28] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} تبعاً لقول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فقال صلى الله عليه وسلم: {الله مولانا ولا مولى لكم} والولاية في أصل اللغة العربية، تعني: القرب تقول: فلان ولي فلان، يعني: قريبه الذي يليه، ومنه ابن العم يسمي ولي، وهكذا الزوج، والسيد، والقريب والجار ومنه: المطر، إذا نزل المطر مرة تلو الأخرى متتابعاً يسمى "الولي" يقال: قطر الولي، أي: المطر المتتابع الذي ينزل ثم ينزل بعد ذلك مباشرة ولا يبطئ، فهذا يسمى ولياً؛ لأن بعضه يلي بعض، أي: يأتي بعده مباشرة. والله عز وجل من أسمائه "الولي" وهو ولي للمؤمنين، ولي لهم، أي: أن المؤمنين في حفظ الله تعالى، فهو يحفظهم ويرعاهم ويكلؤهم، ويعينهم، ويعاقب من أراد بهم سوءاً أو شراً من عدوهم -عاجلاً أم آجلاً- ويحقق لهم سؤالهم وفي الآخرة أيضاً يكون الله سبحانه وتعالى وليهم بكل خير؛ فيخفف عنهم الحساب، ويجعلهم في الجنة، ويغدق عليهم النعم، فهذا كله من ولايته سبحانه لعباده المؤمنين. وكذلك العبد المؤمن: هو ولي لله سبحانه كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] وأولياء الله عز وجل: هم المتقربون إليه بعبادته وطاعته، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي في صحيح البخاري: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: عبداً ولياً مخلصاً تعاديه وتحاربه، فمعناه: أن الله سبحانه وتعالى أعلن عليك الحرب أيضاً. ولك أن تتصور حال عبد مخلوق محتاج إلى الله تعالى في كل نفس وفي كل حركة، وفي كل مكان، وفي كل نبضة قلب، وفي كل دفقه دم؛ ومع ذلك يعلن ربنا عليه الحرب، كيف يكون حال هذا الإنسان والعياذ بالله لا تسأل عن حاله: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} أي: أعلنت عليه الحرب، لو علم أحدنا أن مسئولاً قد أبغضه، أو كرهه، أو حاربه؛ لربما ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ويقول: أين أفر؟ فكيف إذا علم أن دولة من الدول تحاربه! فكيف إذا علم أن الله جل وعلا يحاربه؟! ولهذا الإنسان يحذر ويباعد -دائماً وأبداً- أن يعادي أهل الخير، أو يبغضهم أو يسيء إليهم أو يضرهم بشيء قل أو كثر، لماذا؟ لأنك لا تدرى! فيمكن أن يكون هذا ولياً وأنت لا تدري! لأن الولاية لا يوجد لها لافتة مكتوبة على جبين الإنسان قد يكون الإنسان مقصراً في أعماله الصالحة؛ ومع ذلك فهو في حقيقته ولي لله سبحانه وتعالى، وقد يكون الإنسان زاهداً عابداً، ولكنه ليس بولي؛ لأن قلبه فيه مرض، أو لأنه مُدِلٌّ بعمله معجب بطاعته فالولاية سر، فلا أحد يعلم أن هذا ولي لله أو ليس بولي كذلك، فهذا شيء لا يعلمه إلا الله، ومن ادعى الولاية؛ فهو كاذب. فلو أن واحداً قال: أنا ولي، نقول له: أنت كاذب، لو كنت ولياً لما ادعيت هذا الأمر! لكن الولاية:- سر يعلمها الله سبحانه وتعالى، فكل مؤمن تَجَنَّبْ أن تعاديه أو تؤذيه بشيء -حتى لو كان شكلياً- خشية أن يعلن الله تعالى الحرب عليك، وقد جاء في حديث ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وأظنه في الطبراني: يقول الله سبحانه وتعالى: {إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب} إني لأثأر أي: أغضب وأنتصر وأنتقم لأوليائي، كما يثأر الليث الحرب، أي: كالأسد الجسور الذي ثار وغضب؛ فزمجر وهجم على عدوه، وهذا الحديث ولو لم يصح، فإن معناه صحيح من حيث: أن الله تعالى يغضب لأوليائه ويثأر لهم من عدوهم. إذاً: فإن الله تعالى ولي للمؤمنين في الحفظ والنصر والتوفيق والتسديد والدفع، والمؤمنون الصادقون أولياء لله تعالى على الحقيقة لا على الادعاء، وإنما المنفي في الآية هو: الولي من الذل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} [الإسراء:111] لكن له وليٌ يعبده ويدعوه، والله سبحانه تعالى يحفظه وينصره. وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] : التكبير: هو تعظيم الله تعالى بالقول والقلب والفعل. فأما التعظيم بالقلب: فأن يكون الله تعالى في قلبك أكبر من كل كبير، فتعظم الله تعالى وإذا ذكرت الله تعالى؛ اطمأن قلبك، فتحبه وتغضب لانتهاك حرماته. وأما التكبير باللسان: فهو أن تقول: (الله أكبر) . وأما التكبير بالفعل: فهي العبادات التي يكون فيها التعظيم لله عز وجل؛ كالسجود -مثلاً- والركوع. فإن هذه الأشياء فيها معنى التكبير والتعظيم لله عز وجل {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الإسراء:111] . الجزء: 136 ¦ الصفحة: 12 إثبات استواء الله على عرشه هذا السياق خصصه المصنف -رحمه الله تعالى- لسرد الآيات المتعلقة بالاستواء، وأشار إلى أن الله تعالى أثبت الاستواء في كتابه في سبعة مواضع، والمقصود بهذه المواضع السبعة: هي المواضع التي فيها ذكر استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، فيكون الاستواء فيها معدى بحرف الجر (على) أما لفظ (استوى) مطلقاً؛ فهو مذكور في القرآن الكريم في مواضع كثيرة؛ لكنه يذكر على أوجه مختلفة فهو أحياناً يذكر معدىً بحرف الجر (إلى) كما في قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] وكما في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فيأتي تارة معدى بـ (إلى) ، وقد ذكر أهل العلم رحمهم الله من المفسرين وغيرهم: أن الاستواء إذا كان معدى بـ (إلى) ؛ فإنه يحمل بمعنى قصد، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت:11] بمعنى: قصد إلى السماء بإرادة تامة. وأحياناً أخرى: يأتي الاستواء غير معدى بحرف من حروف الجر، كما في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى} [القصص:14] في مواضع كثيرة، وهذا أيضاً ليس داخلاً في المقصود، وفي أحيان ثالثه: يأتي الاستواء معدى بحرف الجر (على) ولكن ليس في حق الله سبحانه وتعالى ولكن في حق مخلوقاته، كما في قوله تعالى: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} [هود:44] يعني: سفينة نوح التي نجا الله تعالى فيها نوحاً ومن معه، فإنها رست واستقرت على جبل الجودي. وإنما المقصود بالمواضع السبعة: المواضع التي ذكر فيها استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، هذه سبعة مواضع سردها المصنف رحمه الله تعالى: الموضع الأول: في سورة الأعراف، والثاني: في سورة يونس، والثالث: في سورة طه، والرابع: في سورة الفرقان، والخامس: في سورة السجدة، والسادس: في سورة الحديد، والسابع: في سورة الرعد. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 13 مذهب أهل السنة في الاستواء فهذه المواضع كلها تنص على استواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، وأهل السنة والجماعة كلامهم في الاستواء هو ككلامهم في بقيه الصفات: يثبتون لله تعالى استواءً حقيقياً يليق بجلاله، فيفسرون (استوى) بمعنى من المعاني الشرعية التي لا تخرج به عن معناه الصحيح؛ كاستقر، وعلا، وصعد، وارتفع، ونحوها هذه العبارات الأربع التي نقلت عنهم في تفسير الاستواء. وهو على كل حال استواء حقيقي يليق بالله تعالى، ولا يلزم منه ما يلزم من استواء المخلوقين على شيء من المخلوقات، بل لله تعالى المثل الأعلى، ولا يشبه أو يمثل بخلقه، ولا يلزم من استوائه على عرشه ما يلزم من استواء الإنسان -مثلاً- على الأرض أو على الكرسي أو على غيرهما من اللوازم الباطلة؛ بل نحن نثبته كما جاء في النص دون أن ندخل في تكييفه، ولا نشبهه بأحد من خلقه، ولا يلزمنا تلك اللوازم الباطلة التي أشار إليها أهل البدعة. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 14 مذهب أهل البدع في الاستواء والرد عليهم وأما أهل البدع والضلال ممن أولوا حقيقة الصفات عن ظاهرها إلى معان أخرى؛ فإنهم يفسرون الاستواء بغير ذلك. فمنهم من يفسر الاستواء "بالاستيلاء" كما يحتج بعضهم بقول الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق ويرويها بعضهم: " قد استولى بشر " وهذا ليس بالصحيح؛ بل الصواب: " قد استوى بشر ُ على العراق ولاشك أن هذا التفسير يلزم أيضاً منه لوازم باطلة. منها: أن الله تعالى لم يكن مالكاً للكون متصرفاً فيه، ثم استولى عليه بعد ذلك وهذا لازم باطل يلزمهم لا مفر لهم منه، ومثلهم أو قريب منهم: من يفسرون الاستواء بالهيمنة والغلبة والسيطرة أو نحو ذلك من العبارات التي يرددونها، ويفسرون بها معنى (الاستواء) وذلك هروباً منهم -بزعمهم- من إثبات صفة لله يرون أن في إثباتها تشبيه له بخلقه، أو أنه يلزم فيها حلول الحوادث فيه جل وعلا، أو يلزم منها مماسة، أو يلزم منها شيء من ذلك وهذا كله ليس بلازم. بل نحن نقول: إن المسلك الأسلم في الأسماء والصفات هو أن تثبت كما جاءت في نصوص الكتاب والسنة دون أن ندخل في تكييفها؛ وما دمنا لم ندخل في تكييفها، فإننا لسنا بملزمين بشيء من تلك اللوازم التي يزعمون ويدعون. بل نقول: الله تعالى أعلم بنفسه من خلقه، وما دام أخبرنا بذلك؛ فنحن نقرؤه ونثبته، كما دل عليه ظاهر النص، دون أن ندخل في تكييفه، ولا أن نشغل عقولنا ولا قلوبنا بالبحث عن معانٍ أخرى له، غير ظاهرة، وكذلك لا نعتقد بأنه يلزم من إثباته؛ إثبات تشبيه الله تعالى أو تمثيل له بخلقه. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 15 ذكر آيات الاستواء في القرآن الجزء: 136 ¦ الصفحة: 16 قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) [طه:5] وهذه كالآيات كالتي قبلها في إثبات استواء الله تعالى على عرشه، وأنه مع استوائه جل وعلا على هذا العرش؛ فإنه له ملك كل شيء، وهو العليم بكل شيء، كما قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى * وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [طه:6-8] فمجد الله عز وجل نفسه بهذا التمجيد العظيم، وبين إحاطة علمه بكل شيء، وأنه مع استوائه على عرشه؛ فإنه قريب من خلقه، محيط بهم، عالم بأسرارهم وخفاياهم. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 17 قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ) [الفرقان:59] وهذه أيضاً كما في آية سورة طه؛ فإن فيها بعد إثبات استواء الله على العرش، وذكر اسمه الرحمن؛ خبرته وعلمه الشامل بكل شيء، قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] فهو تعالى مستو على عرشه، ومع ذلك فهو قريب من خلقه خبير بأحوالهم؛ ولهذا يكثر أن يقرن الله سبحانه وتعالى ذكر العلو والاستواء بذكر العلم والإحاطة؛ إشارة إلى أن الله تعالى قريب من خلقه، قريب منهم بعلمه وإحاطته ورحمته ونصره؛ لمن يستحق الرحمة والنصر والتأييد من المؤمنين فلا تعارض بين هذا وذاك. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 18 قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [السجدة:4] هذا الموضع في سورة السجدة، وسماها (آلم. تنزيل) بالنظر إلى أولها؛ وسماها سورة السجدة، لأن فيها آية السجدة والسجدة موجودة في أكثر من أربعة عشر موضعاً من القرآن الكريم أو تزيد، وكذلك (آلم) هي بداية لعدد من سور القرآن الكريم فجمع بينهما تمييزاً فإذا قيل: (آلم. تنزيل) عرفت بها هذه السورة، وكان صلى الله عليه وسلم يقرؤها في أول ركعة من الفجر يوم الجمعة، ويقرأ في الركعة الثانية بـ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ} [الإنسان:1] . وقد ذكر أهل العلم من أسرار اختيار هذه السورة بالقراءة في يوم الجمعة؛ ما اشتملت عليه من خلق السماوات والأرض، واستواء الله سبحانه وتعالى على عرشه، وخلق الإنسان ونشأته وأطواره ومراحله وبدايته ونهايته، فضلاً عما فيها من العبر وأخبار بعض الأمم السابقة إلى غير ذلك، ومثلها سورة الإنسان، فإنها مشتملة أيضاً على خلق الإنسان بدءاً وانتهاءً، وما يكون عليه الناس في الدار الآخرة حينما يصل أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار إلى النار. ومن ضمن ما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة " آلم تنزيل " (السجدة) ذكر خلق الله تعالى للسماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم ذكر استواؤه على العرش؛ ومع ذلك فإنه مع علوه وأنه مستوٍ على عرشه، فوق سماواته بائن من خلقه كما يقول أهل العلم؛ مع ذلك فإنه قريب منهم، عالم بأحوالهم وتقلباتهم، سميع لدعائهم {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:4-5] فهو مع استوائه وعلوه؛ قريب من خلقه؛ سامع لدعائهم؛ رحيم بهم؛ مطلع على أحوالهم. ولهذا يقول بعض أهل العلم هو: (قريب في علوه عالٍ في دنوه) أي: أنه لا تعارض بين علوه -جل وعلا- فوق سماواته واستوائه على عرشه، وبين قربه من خلقه بعلمه وإحاطته وخبرته بهم ورحمته وإحسانه وعطفه وجوده للمؤمنين منهم، فلا تعارض بين هذا وذاك ولهذا قال عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:4] و {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} [المجادلة:7] وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69] إلى غير ذلك من المواضع التي فيها إثبات المعية؛ معيته بعلمه وبإحاطته وبرحمته ونصره وتأييده للمؤمنين. وقال سبحانه في سورة الحديد: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] وهذا كالمواضع السابقة سواء؛ ففي هذه المواضع السبعة كلها ذكر (الاستواء) معدات بحرف "على" ومسبوقاً بلفظ "ثم" الذي يدل على الترتيب الزمني المتراخي، وهذا كله حق كما أخبر الله تعالى عنه. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 19 معنى الاستواء المذكور في سورتي البقرة والدخان وأما الموضعان اللذان أشرت إليهما وهما قوله تعالى في سوره البقرة: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] والموضع الثاني: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فالظاهر -والله تعالى أعلم- أن المقصود في الاستواء في هذين الموضعين غير الاستواء المذكور في المواضع السبعة التي سردها المصنف؛ بل يكون المعنى: استوى أي: قصد، كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تفسيره وغيره من المفسرين السلف رضي الله عنهم. ومنهم من ساق هذه المواضع على أنها داخلة في مواضع الاستواء على العرش؛ لكن صنيع المؤلف رحمه الله في هذا الموضع وغيره يدل على الأول، وأن المقصود بالاستواء المعدّى بـ (إلى) : هو القصد بإرادة تامة، وهو غير الاستواء على العرش المذكور في هذه المواضع السبعة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 20 آية الرعد الموضع الثالث: من المواضع التي ذكر الله تعالى فيها (الاستواء) في كتابه قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] وقد ذكر في أول الآية: رفع الله عز وجل السماوات بغير عمد ترونها، وفي تفسير ذلك قولان، الأول: أن الله تعالى رفع السماوات بغير عمد أي: أنها ليس لهما عمد؛ بل رفعهما بقدرته، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر:41] . والمعنى الثاني: أن المقصود بغير عمد مرئية، وعلى هذا يكون وجود عمد لا ترى أمراً وارداً، فكأن المعنى يختلف، فإذا قيل: {بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد:2] أي: خلق السماوات ترونها بغير عمد، فيكون في ذلك استئناف "خلق السماوات ترونها بغير عمد" أو يكون المعنى خلق السماوات بغير عمد ترونها بغير عمد مرئية لكم، فيحتمل أن يكون المعنى وجود عمد لا ترى. وعلى كل حال فالإعجاز في الخلق ظاهر في الحالين، فهذه السماء العظيمة إن كان خلقها واستقرارها وثباتها وبقاؤها بغير عمد؛ فهو معجزة للخلق دال على الخالق، ولذلك أمر الله تعالى بالنظر فيها فقال: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] وقال: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] وإن كان ثَمَّ عمد موجودة وإنها لا ترى؛ فهذه -أيضاً- معجزة أخرى تدل على عظمة الخالق وبديع صنعه، وكلا الأمرين له ما يؤيده. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 21 الاستواء والمكانية {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] فذكر الاستواء على العرش بعد خلق السماوات والأرض، والكلام في الاستواء هو كما سبق من إثباته إثباتاً حقيقياً كما يليق بجلاله عز وجل، ولا يلزم منه ما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض؛ من الحصر أو المماسة أو غير ذلك. وأما زعم بعضهم: من أنه يلزم من إثبات الاستواء؛ القول بأن الله تعالى في مكان، ويقول بعضهم: كان الله ولا ما كان وهو الآن على مكان قبل خلق المكان، أي يريدون أن ينفوا أن يكون الله تعالى في مكان فيقول بعضهم كان الله ولا مكان وهو الآن على ما كان قبل خلق المكان، أي: يروجون نفي المكان، فيقولون: في غير مكان، أو لا في مكان، فهو على ما كان عليه. فنحن نقول لهم: إن المقصود بالمكان يختلف؛ فإن قصدتم المكان الوجودي المخلوق الحادث كالأمكنة الموجودة في هذه الدنيا؛ فإننا لا شك ننزه الله سبحانه وتعالى عن أن يكون حالاً فيها، ولا يقول بوجود الله سبحانه وتعالى في هذه الأمكنة إلا الحلولية، وهم فئة من الصوفية الملاحدة. وأما إن أرادوا بالمكان: المكان العدمي الذي هو خلاء محض؛ فإن هذا لا يتعلق به خلق أصلاً، ولا يمنع أن نقول: إن الله تعالى في مكان بهذا الاعتبار، باعتبار الخلاء العدمي الذي لا يتعلق به خلق أصلاً. وأما قولهم: وهو على ما كان قبل خلق المكان؛ فإننا نقول: إن الله عز وجل ذكر أنه خلق السماوات، والأرض، والعرش، ثم استوى على العرش، فنثبت له ما أثبته لنفسه، دون أن يلزم من ذلك أيُّ لازم باطل مما يدَّعونه، أو مما يلزم من استواء المخلوقات بعضها على بعض. ولعل من حماية العقل البشري من الضياع والعبث والتشتت، وحماية عقيدة المؤمن من أن تتلاعب بها الأهواء والأقيسة المنطقية، التي لا تستقر على حال؛ أن يؤمن العبد بما أخبر الله تعالى، وبما يقرؤه في كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ويطمئن قلبه بذلك، دون أن يسمح للعقل -أصلاً- أن يتيه في هذه البيداء، التي لا هادي فيها ولا مرشد إلا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 22 دفع تعارض حديث مسلم وآيات الخلق في ستة أيام في صحيح مسلم ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى خلق التربة يوم السبت، وذكر بقية المخلوقات إلى أن ذكر آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة، فيكون المجموع سبعة أيام، فكيف نجمع بين حديث مسلم هذا وبين الآيات الكريمة التي فيها خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام؟! من أهل العلم من ضعفوا هذا الحديث بحجة معارضته لظاهر القرآن الكريم، وقد نقل هذا عن جماعة من العلماء المتقدمين نذكر منهم البخاري والبيهقي وغيرهما، ومنهم من صحح الحديث وحمله على محمل آخر غير المحمل الذي تحمل عليه الآيات، وهذا المسلك أحسن؛ لأن الحديث ظاهره الصحة والسلامة وقد صححه جماعة كبيرة من العلماء وأخرجه مسلم في صحيحه والمحامل التي حمل عليها الحديث كثيرة. لعل من أحسنها ما أشار إليه الذهبي رحمه الله! في كتابه العلو للعلي الغفار، واختاره جماعة من المحققين: أن الأيام السبعة التي ذكرها النبي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث هي غير الأيام الستة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى فإن الله تعالى ذكر السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، أما الحديث فذكر تفصيل بعض المخلوقات، كالتربة -مثلاً- والتربة ليس المقصود بها الأرض فالأرض، أشمل من التربة. أما التربة فهي: خاصة بتربة الأرض الظاهرة وقشرتها القريبة فتكون التربة هنا: غير الأرض المذكورة في الآية، وكذلك ذكر في الحديث تفصيل الجبال والشجر والماء والشر أو المكروه، فذكر تفصيل خلق أشياء؛ ومما يدل على صحة هذا المعنى أنه ذكر خلق آدم في آخر ساعة من الجمعة، يعنى: آخر يوم من الأيام السبعة. ومن المعلوم أن خلق آدم متراخٍ جداً عن خلق السماوات والأرض وبعيداً عنه فليس خلق آدم هو بعد خلق السماوات والأرض مباشرة، كلا! بل خلق آدم عليه السلام متراخ جداً عن خلق السماوات والأرض. ومن المعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض، وأنه -كما جاء في روايات كثيرة- أن الجن كانوا في الأرض ففسقوا فيها وأفسدوا وسفكوا الدماء، فقال الله سبحانه وتعالى لملائكته: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] فهذا أحسن الأقوال، وقد جاءت روايات صحيحة أشار إلى شيء منها الذهبي في كتابه القيم الذي يمكن مراجعة مختصره للألباني وهو العلو للعلي الغفار وهو في مجلد لطيف. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 23 ميزتان لأهل السنة وعقيدتهم ما أحسن عقيدة أهل السنة والجماعة ولو لم يكن في فضلها إلا هاتان الميزتان لكفتا: الميزة الأولى: أن فيها تعظيم النصوص وإقرارها وإمرارها كما جاءت، دون الاشتغال بتحريفها وتصريفها عن معانيها، مما يهون من شأن النص ويجعل الإنسان -ربما- يكره هذه النصوص، أو يكره أن يوردها أو يضيق صدره إذا مرت عليه؛ بل يكون في ذلك تعظيم للنصوص وحماية لجانبها؛ وهذه هي الميزة الأولى العظيمة. الميزة الثانية: حماية العقل البشري من أن يضيع في بيداء ليس فيها هادٍ ولا دليل، بعد ما ترك النص الشرعي، فأصبح يضرب يميناً وشمالاً في تيه بعيد، ليس مأجوراً به في الآخرة ولا محموداً به في الدنيا. فأما في الآخرة: فلن يؤجر أولئك الذين اشتغلوا بصرف النصوص عن معانيها، بل هم أولى بالإثم على ما تجرءوا عليه من النصوص. وأما في الدنيا: فإن في ذلك إضاعة للعقل، وصرف له عن مهماته الحقيقية، التي تتمثل في: فهمه للكتاب والسنة فهماً ظاهراً بعيداً عن التكلف، ومعرفة ماذا أراد الله تعالى منا، وما يجب أن نعمله، والبحث عن السبل لإعزاز هذا الدين؛ بتقوية جانبه وشد ركنه وقتال أعدائه وما أشبه ذلك من المجالات التي تأخر المسلمون فيها كثيراً؛ بسبب إغراقهم في البحث في الإلهيات بطريقة لم تبق للنصوص حرمة وتعظيماً، ولا توصل القلوب ولا العقول إلى هداية صحيحة، فأسلم طريقة يهتدي إليها المهتدون؛ هي قراءة القرآن كما أنزله الله تعالى، والسنة كما جاءت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإمرارهما وإقرارهما والإيمان بهما على ظاهريهما، دون الدخول في تأويل أو تعطيل أو صرف لهما عن معانيهما. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 24 قوله تعالى في سورتي الأعراف ويونس: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الأعراف:54] هذا الموضعان في سورة الأعراف وفي سورة يونس: آيتان متشابهتان من حيث اللفظ، فهما تثبتان خلق الله تعالى للسماوات والأرض في ستة أيام ثم استوائه على العرش {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] . وخلقه عز وجل السماوات والأرض في ستة أيام، الكلام فيه ليس هذا موضعه؛ لكن فيه إثبات خلقهما وما بينهما أيضاً -كما جاء في الآيات الأخرى-: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان:59] ففيه إثبات خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والمقصود بقوله: {وَمَا بَيْنَهُمَا} [الفرقان:59]-والله تعالى أعلم-: الأجرام التي تكون بين السماء والأرض وهي كثيرة. ومثل ذلك هذا الهواء الذي يكون بينهما، فإن الله تعالى خلق ذلك كله والسماوات والأرض في ستة أيام، وجاء تفصيل هذا الخلق في قوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت:9] فذكر أن الأرض خلقت في يومين إلى قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [فصلت:11-12] فذكر تفصيل خلق السماوات والأرض وخلق ما بينهما في ستة أيام، وهذه الأيام مما يعلمه الله سبحانه وتعالى فقد يجوز أن تكون بقدر أيامنا المعهودة، أي: في ستة أيام بقدر أيامكم المعهودة ويجوز أن يكون الأمر غير ذلك، وأن تكون أياماً يعلمها الله سبحانه وتعالى؛ خاصة ونحن نعلم: أنه عند خلق السماوات والأرض لم يكن هناك ليل ونهار وشمس، بحيث يتميز هذا من ذاك؛ وإنما خلق الله الليل والنهار بعد ذلك، ثم استوى على العرش. والظاهر من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] يدل على أن " ثم " هاهنا للترتيب الزماني؛ ولذلك تكررت في المواضع السبع كلها {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وقد سبق في صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: {كان الله ولا شيء معه} . فلا شك أن الله تعالى خلق العرش بعد أن لم يكن، ثم استوى عليه، فالعرش مخلوق لله عز وجل، خلقه الله تعالى ثم استوى عليه -كما ذكر هاهنا أو في بقيه المواضع السبعة. {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:54] وكل ما يخطر ببال العبد من صفه الاستواء أو من كيفيه الاستواء، فإنه يدفعه: بعلم أنه لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه، وكذلك لا يعلم كيفية صفاته إلا هو (وكل ما خطر ببالك، فالله ليس كذلك) -كما قال بعض أهل العلم- فكلما قفزت إلى ذهن الإنسان صورة كيفية للاستواء أو لغيره من الصفات؛ تذكَّر أن هذه الصورة صورة مخلوقة محدثة، وأن الله ليس كذلك؛ فيندفع عنه وينقطع عنه الوسواس والشبهات والخواطر، التي قد تخطر في قلبه أو تمر في ذهنه. الجزء: 136 ¦ الصفحة: 25 سلطان الأندلس تحتوي هذه المادة على بيان ما كانت عليه الأندلس يوم أن أنجبت علماء أجلاء أمثال سلطان الأندلس المنذر بن سعيد البلوطي ذلك العالم الجليل الذي له مواقف مشهورة مع حاكم الأندلس في أيامه وهو عبد الرحمن الناصر. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 1 الأندلس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة الكرام هذا يوم السبت الثامن والعشرون من شهر جمادي الأولى لعام 1412هـ، وهذا هو الدرس الثالث والثلاثون من الدروس العلمية العامة. إخوتي الكرام وقد سبق إليكم الإعلان أن هذا الدرس هو عن " سلطان الأندلس ويتساءلون من هو سلطان الأندلس؟ الجزء: 137 ¦ الصفحة: 2 مكانة الأندلس إن بلاد الأندلس كانت من خير بلاد الإسلام يوماً من الدهر، وأنجبت جحافلاً من العلماء الذين كانوا شموساً وبدوراً وأقماراً في أوقاتهم, وكل امرئ منهم كان سلطاناً للعلماء في وقته, بل إن بلاد الإسلام كلها وتاريخ الإسلام كله حافل بأولئك الرجال الأفذاذ الذين كانوا يقولون بالحق وبه يعدلون, وكانوا سلاطين حقاً بعلمهم وفقههم وشجاعتهم, وليس بسيوفهم وسياطهم وشرطهم وأعوانهم. ولا شك أن الأمة إذا شعرت بأن واقعها مرير, فإنها دائماً تلتفت إلى ماضيها وتتطلع إلى غابرها ومن أعماق الماضي ينبثق الحاضر والمستقبل المشرق لهذه الأمة. أيها الإخوة لقد كان من العلماء في كل عصور التاريخ أئمة أفذاذ شأنهم كما قال أحدهم: يقولون لي فيك انقباض وإنما أوا رجلاً عن موقف الذل أحجما أرى الناس من داناهم هان عندهم من أكرمته عزة النفس أكرما ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدى طمع صيرته لي سلما أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما الجزء: 137 ¦ الصفحة: 3 ابن حزم وملوك الطوائف أيها الإخوة يظن البعض أنني أعني بسلطان الأندلس الإمام أبا محمد ابن حزم -رحمه الله- ولا شك أن ابن حزم كان من سلاطين الأندلس، ويكفيك حتى تعرف جلالة ابن حزم وفضله, وعلمه وعظيم قدره ومنزلته وشجاعته في الحق, أن تقرأ ماذا قال الإمام ابن حزم عن ملوك الطوائف الذين كانوا يحكمون الأندلس في عصره, ويوالون النصارى ويوادونهم ويقاتلون إخوانهم المؤمنين, حتى أنه -رحمه الله- في رسالته القيمة المطبوعة بعنوان "التلخيص في وجوه التخليص" بعد أن تكلم عن شأن هؤلاء الملوك قال ما نصه: (فهذا أمر امتحنا به نسأل الله السلامة, وهي فتنة سوء أهلكت الأديان إلا من وقى الله تعالى، لوجوه كثيرة يطول لها الخطاب, وعمدة ذلك أن كل مدبر مدينة أو حصن في شيء من أندلسنا هذه أولها عن آخرها محارب لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وساعٍ في الأرض بالفساد, للذي ترونه عياناً من شنهم الغارات على أموال المسلمين من الرعية التي تكون في ملك من ضارّهم, وإباحتهم لجندهم قطع الطريق, ضاربون للجزية والمكوس والضرائب على رقاب المسلمين مسلطون لليهود والنصارى على قوارع طرق المسلمين, معتذرون بضرورة لا تبيح ما حرم الله غرضهم فيها استدامة نفاذ أمرهم ونهيهم) . ويقول رحمه الله: (فلا تغالطوا أنفسكم ولا يغرينكم الفساق والمنتسبون إلى الفقه اللابسون جلود الضأن على قلوب السباع, المزينون لأهل الشر شرهم, الناصرون لهم على فسقهم, فالمخلص لنا منها الإمساك للألسنة جملة وتفصيلاً إلا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وذم جميعهم, والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها, فنحن نراهم يستمدون النصارى ويمكنونهم من حرم المسلمين, وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً, فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس لعن الله جميعهم وسلط عليهم سيفاً من سيوفه) . ومن جميل ما يقول -رحمه الله- لما تكلم عن السكوت وذم جميع هؤلاء قال: (فمن عجز منا عن ذلك -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذم الظالمين والفاسقين والمعتدين على حدود الله عز وجل- رجوت أن تكون التقية تسعه, وما أدري كيف يكون هذا؟ مع أنه لو اجتمع كل من ينكر بقلبه لما غلبوا على أمرهم) . الجزء: 137 ¦ الصفحة: 4 من هو سلطان الأندلس على أي حال لا أعني بـ سلطان الأندلس هذا الإمام الفذ وإن كان له حديث آخر, وقد سبق ذكر شيء منه وإنما أعني بـ سلطان الأندلس إماماً آخر أشهر في القيام على السلاطين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من ابن حزم , ألا وهو الإمام الفحل الفقيه العالم المنذر بن سعيد البلوطي المولود عام (265هـ) أو (273هـ) على اختلاف المصادر، والمتوفى في عام (355هـ) , قال الإمام الذهبي: فيكون عمره حينئذٍ تسعين عاماً بالتمام، هذا إذا كانت ولادته عام (265هـ) . الجزء: 137 ¦ الصفحة: 5 مكانه ومسقط رأسه ينسب الإمام المنذر بن سعيد إلى مكان يقال: له فحس البلوط, لكثرة هذه الأشجار فيه, وهو قريب من مدينة قرطبة المدينة الشهيرة في الأندلس. هذا الإمام الكبير كان موجوداً في عهد الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر , وكان عبد الرحمن الناصر من خلفاء بني أمية المشهورين وكبار زعمائها حتى إنه حكم أكثر من خمسين سنة, وكان مشهوراً بالبنيان والعمران, وتشييد المباني والمعالم والآثار, حتى إن آثاره لا تزال باقية إلى اليوم, فارهة ظاهرة تقول لكل من رآها أو سمع بها: تلك آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار إن مدينة الزهراء التي بناها وعمرها وشيدها وأسسها وأثثها, لهي من البناء الباقي إلى يوم الناس هذا, كان معنياً بهذا البناء ولكن ذهب الباني وبقي البناء. ومن طريف ما يروى عن عبد الرحمن الناصر وهو قد حكم خمسين سنة وستة أشهر, يروى أنه وجد بخط يده مكتوب أن الأيام التي صفت لهذا الخليفة من دون تكدير هي يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا, ويوم كذا من شهر كذا من سنة كذا , فحسبت فوجدت أربعة عشر يوماً, فسبحان المتفرد بالبقاء, سبحان الذي لا يموت سبحان الملك القدوس، سبحان الذي فضح هذه الدنيا, فلم يبق فيها لذي عقل ولا لذي لب أرباًَ ولا شأنا, ملك فخم كبير يحكم خمسين سنة وتدين له الرقاب حسبت أيام سعادته التي سلمت من التنغيص فلم يوجد له إلا أربعة عشر يوماً طيلة عمره, وربما لو حسبت أيام فقير من الفقراء الذين عبدوا الله تعالى وتضرعوا إليه، ورضوا وقنعوا باليسير، وأخلصوا فيما بينهم وبين الله عز وجل وعمروا قلوبهم بحبه لوجدت أيامهم ولياليهم كلها سعادة وهناءة وسروراً وأنساً, فسبحان من خلق وفرق. من المعالم الباقية لـ عبد الرحمن الناصر مدينة الزهراء -كما أشرت إليها- وقد تغنى بها الشعراء وتكلموا عنها, وبعد وفاته وسقوط الأندلس في أيدي النصارى أصبح المسلمون يتذكرونها بعدما صارت أثراً بعد عين, يقول أحدهم: أين الرشيد وقد طاف الغمام به فحين جاوز بغداد تحداه ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه بالله سل خلف بحر الصين عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهو وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه؟ لعل الصخر ينعاه هذه معالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاه والله يعلم ما قلبت سيرتهم يوماً وأخطأ دمع العين مجراه الجزء: 137 ¦ الصفحة: 6 بداية اتصال سلطان الأندلس بالخليفة أيها الإخوة كانت بداية اتصال سلطان الأندلس المنذر بن سعيد بالخليفة عبد الرحمن الناصر، أنه جاءه رسول من ملك الروم, فنزل عنده فجمع عبد الرحمن الناصر شرطه وأعوانه ورجاله وخدمه وحشمه, واستقبلوا هذا الرسول من ملك الروم, وكلف الأمير رجلاً أديباً مشهوراً اسمه أبو علي القالي البغدادي أن يقوم بالخطابة, فقام أبو علي هذا وصعد المنبر، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله, ثم نظر في هذا الجمع الذي لا يدرك طرفه, ولا يلحق شأوه فانقطع, ولم تملكه رجلاه، ولم يستطع أن يتكلم بكلمة واحدة, فسكت مبهوراً مبهوتاً بعض الوقت, فلما رأى المنذر بن سعيد هذا الموقف، ورأى الخطيب قد أعيى وارتج عليه, قام سريعاً وصعد المنبر دونه بدرجة، ثم ارتجل خطبة من ساعته لم يكن قد أعدها من قبل, فتكلم بها بأبين كلام وأفصح عبارة وأجمل حديث, مسترسلا مترسلاً كأنه سيل يتحدر ما وقف ولا تنحنح ولا سعل ولا تلبث ولا تريث، وهو يخرج من موضوع إلى موضوع آخر, ويتكلم بكلام جزل فصيح، وبعبارة رصينة وبسجع قوي، حتى كأنه أعد هذه الخطبة أتم إعداد, وحفظها ثم جاء ليلقيها. حتى انتهى والناس كلهم مبهورون, فقال الخليفة لولده: أهذا المنذر بن سعيد؟ قال: بلى هذا هو يا أبي, قال: والله إن صنيعه هذا ليستحق أن يثاب عليه، فذكرني بحاله فإنه لا ينقطع عن مَحْمَد, والله إن كان قد أعد هذه الخطبة وتوقع أن يحصل مثل هذا الموقف إنه لذكي, وإن كان قد ارتجل هذه الخطبة من ساعته إن ذلك لأشد عجباً, ومن ذلك الوقت والخليفة معجب به، فولاه الصلاة في المسجد وولاه الخطبة، ولما توفي قاضي الجماعة بقرطبة جعله قاضياً بدلاً عنه فأصبح كبير القضاة بقرطبة، وأصبح خطيباً بجامعها الكبير وإمام جامعها الذي فيه الخليفة نفسه. كانت هذه بداية اتصاله بالخليفة, وظل معه إلى أن توفي. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 7 الخصائص والصفات التي امتاز بها سلطان الأندلس له مواقف سوف أتحدث عن شيء منها وهي تثير العجب، وقبل أن أسترسل في ذكر مواقفه, أشير إلى بعض الصفات والخصائص التي ميزه الله تبارك وتعالى بها. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 8 شجاعته في الحق من أهم وأعظم خصائصه وخصاله أنه كان صلباً في الحق, شجاعاً لا يهاب ولا يخاف في الله تعالى لومة لائم, وكان مهيباً تقشعر النفوس والقلوب لمرآه, ولذلك يقول عنه بعض المؤلفين: كان لا يراقب غير الله عز وجل في استخراج الحقوق ودفع المظالم ورفعها، أي: لا يأبه بسلطان ولا كبير ولا صغير, إذا علم أن هناك رجلاً مهضوماً مظلوماً سارع إلى رد المظلمة، وأخذ حقه واستخرجه بكل وسيلة سواء كان الذي ظلمه كبيراً أو صغيراً غنياً أو فقيراً مأموراً أو أميراً, لا يهاب في الله لومة لائم. وإلى جوار ذلك كان خطيباً مفوهاً يهز أعواد المنابر، حتى إنه كان أخطب أهل زمانه, له إشراقة في البيان، وقوة في الحجة، وبسطة في العلم والجسم، وجهارة في الصوت، وثباتٍ في العقل وحسن ترسل, فكان آية من آيات الله تعالى في قوة الخطابة وفصاحة العبارة. يقول الإمام ابن عبد البر -رحمه الله- يقول: إن الإمام المنذر بن سعيد خرج يوماً من الأيام وكان قاضياً -كما ذكرت لكم- والقاضي لا يسلم من وجود أعداء ومناوئين ممن حكم عليهم أو أخذ الحق منهم، وقد يكون البعض له شأن ومكان, وكان مثله لا يكاد يخرج إلا معه حرس, أما المنذر بن سعيد فإنه كان يخرج كثيراً, فرآه رجلاً صالحاً يوماً من الأيام على دكان المسجد في آخر الليل, قد خرج لقيام الليل أو الصلاة أو نحو ذلك, فقال له: يا إمام! إنك لمغرور بنفسك وفي الناس المحكوم عليه -أي: الذي حكمت عليه- وفيهم رقيق الدين، وأنا أخشى عليك, وكيف تفعل ذلك؟ فقال المنذر بن سعيد لهذا الرجل: ويحك أنىّ لي لمثل هذه المنزلة أنىّ لي بالشهادة, إنني لأتمنى الشهادة وأتوق إليها, لكن هيهات هيهات لمثلي أن ينالها! ثم قال: إنني لا أخرج لأعرض نفسي لذلك, ولكني أخرج متوكلاً على الله تعالى, وأنا أعلم أني في ذمته, فاعلم يا هذا أن قدر الله تعالى نافذ لا محيد عنه ولا وزر دونه, وهذا يذكرنا بالقصة التي حصلت للعز بن عبد السلام وقد سبق أن ذكرتها في موضوع (سلطان العلماء) فإن كلاً من الرجلين قد طلب الشهادة وتاقت نفسه إليها, وتعرض لها في غير موضع. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 9 العلم الخصلة الرابعة من خصاله: العلم, فكان بحراً لا يدرك ساحله في سعة العلم بالقرآن الكريم، وله في ذلك مصنفات مثل أحكام القرآن وغيرها, وكان كثير الاستشهاد بالآيات، كثير التلاوة لكتاب الله عز وجل, وكذلك كان فقيهاً كبيراً، وكان ينتحل مذهب داود بن علي الظاهري فكان فيه ظاهرية, ولعله أول من نقل مذهب الظاهرية إلى الأندلس, ومع ذلك كان يحكم بمذهب مالك لأنه كان هو المشاع المنتشر في الأندلس, وإلى هذا وذاك كان له اجتهادات فقهيه واختيارات وآراء في أمور كثيرة إضافة إلى علمه باللغة العربية, وهو الذي نقل كتاب العين للخليل بن أحمد إلى بلاد الأندلس بالرواية, وأوصله إليهم كما نقل كثيراً من كتب الفقه ككتاب الإشراق لـ ابن المنذر نقله إلى بلاد الأندلس , وهو كتاب في مذاهب الفقهاء. ومن طرائف ما يروى عنه في معرفته باللغة والأدب والشعر أنه التقى برجل يقال له: أبو جعفر النحاس بمصر, فكان أبو جعفر هذا يملي على طلابه شيئا من الشعر والعلم, فأملى عليهم قول الشاعر: خليلي هل بالشام عين حزينة تبكي على نجد لعلي أعينها قد أسلمها الباكون إلى حمامة مطوقة باتت وبات قرينها تجاذبها أخرى على خيزرانة يكاد يدانيها من الأرض لينها فقال له الإمام المنذر بن سعيد يا شيخ: قولك "باتت وبات قرينها" باتت يصنعان ماذا؟ يعني ينكر عليه ليست (باتت) فقال: إذاً ما هو البيت؟ قال: "بانت وبان قرينها" بانت، يعني: أبعدت وشط بها النوى, نوت، أي: ابتعدت عن قرينها, فأعجب به الإمام أبو جعفر النحاس وأدناه حتى جعله قريباً منه, هذه بعض خصال الإمام وبعض فضائله. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 10 العدل من خصال هذا الرجل -أيضاً- العدل, فإنه كان قاضياً وظل قاضياً زماناً طويلاً في عهد عبد الرحمن الناصر، ثم في عهد ولده بعد ذلك, ومع هذا كله فإنه لم يحفظ عليه قضية جور واحدة, في قضائه كله, ولا عدت عليه غفوة أو زلة, وقد استعفى من القضاء مراراً يطلب من الخليفة أن يعفيه من القضاء, فكان يرفض ذلك ويصر عليه. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 11 الزهد والورع والتقوى من أعظم خصائصه وصفاته: الزهد والورع والتقوى والنسك والإقبال على العبادة, فكان يميل -رحمه الله- إلى طرق الفضائل، ويوالي أهل الخير والعبادة والتقى, ويلهج بذكر الصالحين, وكان كثير التلاوة للقرآن الكريم, كثير الاستشهاد به حتى كأن الآيات بين ناظريه, يأخذ الآية فيضعها في موضعها المناسب للاستشهاد, ويسرد الآيات المتشابهة في موقف واحد, لا يعجزه بإذن الله تعالى من ذلك شيء, وذلك لكثرة تلاوته للقرآن, ومع ذلك كان مزدرياً لنفسه محتقراً لها, خطب يوماً على المنبر فأعجبته نفسه وحسنت في عينه خطبته, فأقبل على نفسه يقول: حتى متى يا نفس أعظ ولا أتعظ؟! وأزجر ولا أزدجر! أدل الطريق على المستدلين وأبقى مقيماً مع المتحيرين, إلى متى هذا؟ إن هذا لهو الضلال المبين, {إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعراف:155] ثم رفع يديه إلى السماء فقال: اللهم فرغني لما خلقتني له, ولا تشغلني بما تكفلت لي به, ولا تحرمني وأنا أسألك, ولا تعذبني وأنا أستغفرك, يا أرحم الرحمين. يقول في بعض شعره -رحمه الله- يخاطب نفسه: كم تصابٍ وقد علاك المشيب وتعامٍ عمداً وأنت اللبيب كيف تلهو وقد أتاك نذير أن كأس الحُمَام منك قريب يا سفيهاً قد حان منه رحيل بعد ذاك الرحيل يوم عصيب إن للموت سكرة فارتقبها لا يداوي إذا أتتك طبيب كم توانٍ حتى تصير رهيناً ثم تأتيك دعوة فتجيب ليس من ساعة من الدهر إلا للمنايا بها عليك رقيب ولذلك كانت له كرامات تذكر, ومن كراماته ما ذكره الإمام أبو محمد بن حزم العالم المشهور عن الحكم بن المنذر ابن هذا الجليل, يقول عن والده: أنه خرج في الحج إلى مكة المكرمة مع رفقة من أهل الأندلس, فلما كانوا في عرض الصحراء تاهوا في الطريق ضلوا وضاعوا, ولم يكن معهم طعام ولا شراب, حتى بلغ بهم العطش مبلغه, وقربت منهم المنية, قال: فأووا إلى كهف في الجبل ينتظرون فيه الموت, فوضع المنذر بن سعيد رأسه على طرف الجبل, فوجد إلى جواره صخرة ناتئة مرتفعة, وعالجها بيده فنزعها فغار الماء فشربوا عن آخرهم، فأنقذهم الله عز وجل من الموت بسبب العطش كانت هذه من كراماته، وله كرامات مشهورة مذكورة, فإن الله عز وجل إذا علم من عبده الصدق, إذا حفظ العبد ربه حفظه الله, كما أوصى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس في وصيته المشهورة: {احفظ الله يحفظك} . الجزء: 137 ¦ الصفحة: 12 مواقف سلطان الأندلس أما مواقفه فحدث ولا حرج, لعل الحديث عن مواقفه يطول ولعلها عجب من العجب, ولعلنا أحوج ما نكون في هذه الأيام التي ادلهمت الخطوب على المسلمين واختلط فيها الحابل بالنابل, والخطأ بالصواب, والحق بالباطل, وضل كثير من الناس عن سواء السبيل, وأصبحوا لا يعرفون بعض أصول عقائدهم، لا يعرفون مثلاً قضية الولاء والبراء, وأنها أصل من أصول عقائد أهل السنة والجماعة, ولا يعرفون قضية الفرق بين الشرع والسياسية، وبين الشرع والقانون, لعل المسلمين أحوج ما يكونون إلى تذكر مثل هذه المواقف، لعل الله أن يبعث من المسلمين من يجدد لهم مثل هذه المواقف الفذة. يقول المنذر بن سعيد متحدثاً عن مواقفه وشجاعته: مقالي كحد السيف وسط المحافل أميز به ما بين حق وباطل بقلب ذكي قد توقد نوره كبرق مضيء عند تسكاب وابل فما زلقت رجلي ولا زل مقولي ولا طاش عقلي عند تلك الزلازل وقد حدقت حولي عيون اخالها كمثل سهام أثبتت في المقاتل يشير إلى أنه إذا صعد المنبر لا يهاب من الناس وكثرتهم ونظرهم إليه، ولا يبالي من كان يستمع إليه كبيراً أم صغيراً, له مواقف عجيبة. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 13 من مواقف السلطان عبد الرحمن الناصر هناك نوع آخر من مواقف هذا الرجل لا بد من ذكرها والتعريج عليها: الأندلس -كما تعرفون- كانت أرضاً خصبة خضراء, وكانت من أحسن وأفضل وأجمل بلاد الدنيا, وفيها من الأشجار والأنهار والمياه والخيرات ما لا يوجد في غيرها, وكانت تحتاج إلى الأمطار كثيراً. ولذلك كثيراً ما كان المسلمون يستسقون ويستمطرون المطر من الله عز وجل, فيقيمون صلاة الاستسقاء, ولذلك أمر الخليفة عبد الرحمن الناصر يوماً من الأيام الإمام المنذر بن سعيد أن يخرج ليستسقي بالناس في يوم من الأيام, فخرج المنذر بن سعيد واستسقى فمطروا ونزل المطر, ما خرجوا من المسجد أو من مكان الصلاة وذهبوا إلى بيوتهم إلا ونزل غيث عظيم, بسبب أن هذا الرجل كان صادقاً مع الله عز وجل, مخلصاً للخاصة والعامة فاستجاب الله تعالى دعاءه. مرة أخرى تكررت العملية وأصبح عبد الرحمن الناصر كلما طرأ عليه, قال: اذهبوا إلى المنذر بن سعيد يستسقي قال المنذر بن سعيد للرسول الذي جاءه: ماذا يصنع الخليفة الآن؟ أي أن الخليفة يطلب منا الاستسقاء, فماذا يصنع هو الآن؟ قال الرسول للمنذر: إن الخليفة الآن قد لبس أخشن الثياب وافترش التراب, وأخذ التراب فوضعه على رأسه ووجهه ولحيته وبكى بين يدي الله عز وجل, واعترف بذنوبه وإني سمعته بأذني يقول: يا رب! هذه ناصيتي بيدك أتراك تعذب عبادك يسبني! يا رب إني لا أعجزك ولا أفوتك, فارحم عبادك وبهائمك وبلادك, فلما رأى المنذر بن سعيد الخليفة فعلاً قد غير وأصلح وتاب وأقبل على الله عز وجل وأناب وصدق مع ربه عز وجل, قال: يا غلام! احمل الممطرة الشمسية التي تقي من المطر ومن الشمس فقد أذن الله عز وجل بسقيانا, إذا خشع جبار الأرض رحم جبار السماء, وخرج واستسقى, فلما صعد المنبر ورأى الناس قد شخصوا إليه بأبصارهم يرمقونه وينظرونه غلبهم البكاء، فقال: سلام عليكم, ثم وقف شبه الحبيس محصوراً كأنه لا يستطيع أن يتكلم, مع أن هذا لم يكن عادته, ثم بكى ثم استرسل يقول: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54] ثم ظل يكررها حتى ضج الناس بالبكاء والتوبة ثم تمم الخطبة فسقي الناس وهم في مجلسهم ذاك. ومرة ثالثة: خرج يستسقي فلما وقف قال للناس: أستغفر الله، توسلوا بالأعمال الصالحة لديه, وأتم الخطبة فَسُقُوا. مرة رابعة: استسقى فقام يهتف بالناس وهو على المنبر وهو ينظر إليهم يمنة ويسره ويشير بأصبعه ويده إليهم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [فاطر:15-17] , فما زال يرددها حتى بكى الناس كلهم, فلما هيج الخلق على البكاء بدأ يدعو بهم فأمطروا. ومن طريف ما يذكر أنه بعد أن مات -رحمه الله- جاء بعده رجل ليستسقي فخرج للمنبر ودعا وذهب الناس إلى بيوتهم وانتظروا المطر فما نزل المطر, ثم خرجوا في الأسبوع الثاني فهم الناس بهذا الرجل ليضربوه، فصار لا يخرج إلا بالشرط والأعوان يحمونه من الناس. والواقع أن القضية ليست قضية رجل فقط, القضية قضية الأمة حاكمها ومحكومها, عالمها وعامّيها, فإن الله عز وجل يسقي عباده ويستجيب دعاءهم, إذا علم منهم الإقبال عليه والصدق, والخروج من المعاصي والمظالم, والاعتداء على حقوقه وحرماته, وعلم منهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, أما إذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلموا وجاروا واستبدوا وبغوا وطغوا، فإنه لو أغاثهم الله عز وجل لكان الغيث فتنة لهم, لأنهم يصرون على ما هم عليه, ويقولون: لولا أن الله رضي علينا لما أغاثنا, فيكون هناك ابتلاء وفتنة لهم, فبرحمته عز وجل يمنع عنهم ذلك حتى يعودوا، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] وقال: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] . الجزء: 137 ¦ الصفحة: 14 ما يستفاد من هذه المواقف في هذين الموقفين عدة وقفات: أولاً: تغيير المنكر سراً وعلانية: حال العلماء, وأن علماء هذه الأمة كان منهم عبر العصور كلها, من يتعمد الخليفة إذا وقع في المنكر علانية, فكان ينكر عليه علانية, فمن أسر في المنكر أسررنا له في الإنكار, ومن أعلن أعلنا له, وليس صحيحاً أن يعلن المنكر ويشاع ويذاع ويتسامع به الناس قاصيهم ودانيهم, ثم يطلب من الإنسان ألَّا ينكر إلا خفية وإلا سراً, بل كان العلماء يتعمدون أن المنكر إذا كان مشهوراً معلناً معروفاً للناس فإنه لا بد أن ينكر علانية, أرأيت منكراً يذاع مثلاً في إذاعة أو في جريدة أو في شاشة ويسمعه مئات الألوف بل ملايين, كيف يمنع عالم أو داعية أن ينكره؟ وقد يكون الذين يستمعون إلى هذا العالم أو الداعية بالنسبة لمن رأوا المنكر قليلاً من كثير وغيضاً من فيض. فكان العلماء يتعمدون المنكرات المذكورة المشهورة المعلنة, فينكرونها علناً لئلا تغتر الأمة, لأن الأمة لو رأت المنكر يقع والعالم يسكت ظنت أنه مباح, وطالما استشهد كثير من الناس بأن شيئاً من المنكرات مباحاً أو حلالاً لأنه موجود وما أنكره أحد ولا سمعنا من انتقده. وكم من إنسان استحل الربا أو الغناء أو التدخين أو الصور الخليعة، أو غيرها من المنكرات, بحجة أنها موجودة بلا نكير ولا أحد يقوم بتغييرها أو الحديث عن تحريمها. ثانياً: الوقفة الثانية: ميزة العلماء عن غيرهم: إن كثيراً من العلماء وخاصة أولئك الذين جعلهم الله قوامين بالحق شهداء لله, شهداء بالقسط ناطقين بالصدق محيين لما دُرس من أمر النبوة, أولئك العلماء إنما تميزوا بأنهم تخلوا عن الدنيا وزخرفها ومناصبها, فما عادت الدنيا زهرة في عيونهم, ما بالوا بها جاءت أم ذهبت, همّ أحدهم أن يُرضي الله عز وجل ولو أسخط الناس, وأن يقول كلمة الحق ولو خسر ماله أو منصبه أو حتى حياته وليس ذلك بخسارة, فإن هذا هو عين الربح، أرأيت من فارق هذه الدنيا ثم أفضى إلى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54-55] هل يقال عنه: إنه خسر الدنيا؟ بل هذا والله باع الفاني بالباقي, وباع الخزف بالذهب, وباع دنياً لا خير فيها ولا قرار لها بآخرة وجنة عرضها السماوات والأرض. يقول أحدهم: أمتّ في الله نفساً لا تطاوعني في المكرمات لها في الشر إسرار وبعت لله دنياً لا يسود بها حق ولا قادها في الحكم أبرار وإنما جزعي في صبية درجو غفل عن الشر لم توقد لهم نار قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم في المكرمات فلا ظلم ولا عار واليوم سارعت في خطوي إلى كفنٍ يوماً سيلبسه برٌ وكفار بالله يا صبيتي لا تهلكوا جزعاً على أبيكم طريق الموت أقدار تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم من يحمه الله لا توبقه أوزار قد يخاف أحدهم على أولاده من أن يربَّوا على غير الإسلام أو يقادوا إلى غير الفضيلة, فيستودعهم الله عز وجل, ثم يلتفت إلى من حوله من الأقارب والأهل والجيران، فيقول لهم: وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم أمانة عندكم هل يهمل الجار إن العالم الذي تحرر من الدنيا وتمرد على قيودها وأوهاقها ليس في فمه ماء، فهو يقول الحق ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ويعجبني أن أذكر لكم في هذا المجال والمقام قصة طريفة جداً لعالم من علماء الشام, يقال له: الشيخ صالح العقاد , جاءه الباشا وهو في الجامع الأموي جالس بين طلابه ماداً رجله, وكانت في ركبته ألم, فكان إذا جلس في الحلقة مدّ رجليه, والطلاب محيطون به محدقون من حوله وكان عالماً جبلاً لا يأخذ الدنيا ولا يقبلها, فجاء هذا الأمير أمير الشام من قبل الأتراك, ودخل المسجد وكان معه شرط وأعوان وجلاوزة وخدم وحشم وهيلمان وأصوات وإزعاج ونشيج وضجيج, فلما أقبل بدأ الطلاب يتلفتون وينظرون, أما هذا العالم فظل على درسه مقبلاً على شأنه, معرضاً عن هذا السلطان القادم, وبدأ يتكلم في أمور تتعلق بالأمير والنصيحة وهو لا يلتفت ولا ينظر إليه, وهو على حاله ماداً رجله, وقف السلطان ثم وقف ثم وقف حتى ملّ! ولم يلتفت إليه هذا العالم, فبعد أن ذهب إلى القصر بعث إليه بذهب كثير, وقال لأحد خدمه وعبيده: خذ هذا فادفعه للشيخ فلان, فلما جاءه وهو في حلقته مد إليه هذا الذهب وقال: هذه صلة من الأمير, قال له: سلّم لي على الأمير, وقل له: إن الذي يمد رجله لا يمد يده, الذي ظلت رجله ممدودة وأنت واقف عنده هذا لا يمد يده يستجليك ويأخذ منك, لأنه أكبر من أن يأخذ شيئاً من الدنيا, ولذلك ليس في فمه ماء, إذا رأى الخطأ قال هنا خطأ ولا يبالي, لأنه لن يخسر شيئاً. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 15 مواقف السلاطين من العلماء العبرة الثالثة هي مواقف السلاطين من العلماء, إن المناصب الدينية على سبيل المثال كالقضاء مثلاً, والخطابة والإمامة وغيرها, كانت طيلة عهود التاريخ مناصب شرعية, ولم يكن الحاكم أو الخليفة يتجرأ أن يبعد إماماً أو خطيباً أو قاضياً أو عالماً بسبب مواقفه وجرأته في الحق, بل بالعكس من ذلك يؤيده ويسدده ويوفقه على ذلك, ولهذا ترون أن عبد الرحمن الناصر قد عاتب ولده الحكم لما طلب منه أن يبعد المنذر عن خطابة الجامع, عاتبه على ذلك وقال: أمثل المنذر لا أم لك يبعد لإرضاء ناكبة عن الحق, هذا ما لا يكون أبداً. فكانوا يعتقدون أن العالم هو من أولي الأمر، كما قال الله عز وجل: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ليست هذه الأشياء منه يمن بها عليه, ومنحة يعطاها فإذا لم يرض عليه سحبت منه! كلا أبداً, العالم هو قوام الأمة، وهو زينة الحياة، وهو السفير بين الحاكم وبين الناس, فإن الناس أطاعوا الحاكم بطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم, والعالم كان هو السفير بين الحاكم وبين رعيته, يأمر الناس بالطاعة وينهاهم عن المعصية, ويأمرهم بالاعتدال, ويحثهم على التعقل وإدراك الأمور حق إدراكها, ومعرفة الطريق السليم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفي مقابل ذلك يحتسب على السلاطين فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, ويبين لهم كلمة الحق، ويأمرهم بأن يعطوا الناس حقوقهم وأن يبتعدوا عن الظلم, والاستبداد وأخذ حقوق الناس والطغيان, وغير ذلك من المعاصي التي قد توجد في الراعي أو الرعية. فالعالم هو القسطاس الذي وضعه الله تعالى حافظاً لهذا الميزان, فليس العالم مجرد أداة في يد عبد الرحمن الناصر أو غيره, بل كان مستقلاً له ثقله ومكانته ووزنه، ولم يكن لـ عبد الرحمن الناصر أو غيره أن يتجرأ بأن يزيل هذا العالم لسبب أو لآخر, كل ما يملك هو: والله لا أصلي بعده أبداً, هذا أقصى ما يستطيعه, أما أكثر من هذا فلا يمكن, مجرد أن يترك الصلاة وراءه. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 16 موقفه مع الخليفة عبد الرحمن الناصر من أجل بناء الزهراء أول هذه المواقف ذكره في تاريخ قضاة الأندلس وغيره, ذكر عن عبد الرحمن الناصر الخليفة أنه كان -كما أشرت- مهتماً بالعمارة وإقامة المعالم وتشييد الدور وتخليد الآثار, من ذلك أنه بنى مدينة الزهراء واستفرغ وسعه في تنميقها وتعميرها وإتقان قصورها وزخرفة مصانعها, وتشييد مبانيها بشيء عظيم, حتى إنه ترتب على هذا العمل أن عبد الرحمن تأخر عن صلاة الجمعة ثلاث جمع -أي ثلاثة أسابيع متواليات- لا يصلي الجمعة مع المنذر بن سعيد مشغولاً ببنائها وعمارتها, فصلى معه بعد ذلك، فأراد القاضي أن يعظه ويغض من غروره وكبريائه, فتناوله في أحد الجمع بالموعظة من المنبر، وقرأ أمامه في بدأ الخطبة قول الله عز وجل يخاطب هذا الحاكم وهذا السلطان: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:128-138] وقرأ قوله تعالى: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] وقوله تعالى: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] . ومضى بلهجته المعتادة وشجاعته وقوته في ذم الدنيا وذم تشييد البناء والاستغراق في الزخرف والإسراف فيه، وتلا قول الله تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:109-110] وأتى بما يشاكل هذا المعنى ويقاربه ويوافقه من التخويف بالموت، وأن الموت قد يفاجئك بكرة أو عشية, وذكر بالدنيا وسرعة زوالها والزهد فيها والرغبة في الآخرة والإخلاد إليها, والطمع فيما عند الله عز وجل، وأسهب في ذلك وأضاف ما حضره من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والآثار عن السلف والأقوال عن الحكماء والشعراء وغيرهم، حتى إن الناس بلغ بهم التأثر مبلغاً وضجوا وبكوا ونشجوا ودعوا وارتفع الصياح في المسجد, وكان للخليفة من ذلك قدر كبير, فإنه أقبل على نفسه وأجهش بالبكاء، وبدأ يمسح دموعه ويتضرع ويبتهل إلى الله عز وجل, ثم انتهت الصلاة فخرج الخليفة، فوجد في نفسه على المنذر بن سعيد بعدما تأثر بخطبته إلا أنه وجد عليه شيئاًَ، أنه قد قسى وأغلظ له القول, وبالغ في تقريعه, فشكا الخليفة هذا لولده, -الخليفة كان له ولد اسمه الحكم تولى بعده- فشكا الخليفة لولده ما لقيه من المنذر وقال: والله لقد تعمدني بالكلام، ووالله ما عنى بهذا الكلام غيري, وقد أسرف عليّ, وأفرط في تقريعي وذمي وتوبيخي، وما وفق إلى الطريقة المناسبة في نصحي وإرشادي وتوجيهي, فماذا صنع الخليفة؟ الخليفة أمام عالم قد تكلم عليه على رءوس المنابر وعلى رءوس الأشهاد، وأدبه ووبخه وقال كلمة الحق حرة قوية نزيهة, لا يمنعه من ذلك خوف أن يبعد عن منصبه أو يفصل عن القضاء أو يبعد عن الخطابة ولا أن يسجن أو يقتل, لأن هذه الأمور كلها بالنسبة للمسلم المؤمن التقي لا تعني شيئاً, بل بالعكس هي أمور هو يسعى إليها, كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري حيث ما ذهبت فهي معي لا تفارقني! أنا قتلي شهادة، وسجني خلوة، ونفيي وإخراجي من بلدي سياحة، فماذا يصنع بي أعدائي؟ ". أعيتهم الحيلة ما لهم حل! كل شيء يصنعونه به فهو عز ورفع لقدره. فلذلك لم يأبه المنذر بكل هذه المخاوف ووضعها تحت قدميه, وأقبل على الخليفة وعلى الناس ينصح مثل هذه النصيحة البليغة المؤثرة, فماذا كان موقف الخليفة؟ قال لولده هذا الكلام, ثم أقسم أن لا يصلي الجمعة خلفه, هذا عقابه, أقسم أن لا يصلي الجمعة خلف هذا الإمام, وجعل يصلي وراء خطيب آخر في قرطبة, يقال له: أحمد بن مطرف , إذا جاء وقت صلاة الجمعة ركب الخليفة وذهب أبعد من المسجد هذا, ذهب بعيداً ليصلي وراء أحمد بن مطرف , وترك الصلاة بالزهراء, فقال له ولده الحكم: يا أبتي! ما الذي يمنعك أن تعزل هذا الخطيب حتى تذهب وتصلي في المسجد القريب منك, فقال له بعدما زجره وانتهره ووبخه، وقال: أمثل منذر بن سعيد في فضله وعلمه ونبله وتقواه يعزل؟ لا أم لك -يقول لولده: لا أم لك، يدعو عليه- وهل أعزل مثل هذا العالم الجليل لإرضاء نفس ناكبة عن الحق, يقول: أنا المخطئ ليس هو, هذا لا يكون أبداً وأنا حي, وإني والله لأستحي من الله عز وجل أن يكون بيني وبينه، في الصلاة غير المنذر بن سعيد؟؟ ولكنني غضبت وحلفت, وإن وجدت سبيلاً إلى أن أكفر عن يميني وأعود لأصلي خلفه فعلته إن شاء الله وسيظل المنذر بن سعيد خطيباً وإماماً وقاضياً لنا مدة حياتنا وحياته حفظه الله وأبقاه. هكذا كانت مواقف هؤلاء الحكام مع أولئك العلماء؛ لأنهم يعرفون أن الذي يقول كلمة الحق هو الناصح, وأن الغاش حق الغش هو الذي يداهنهم، وهو الذي يجاملهم ويزين لهم باطلهم, ويسكت على فسادهم لأنه قد رآهم على ما يسخط الله عز وجل ويكون سبباً في زوالهم ووقوعهم في قبضة عدوهم فلم يغير عليهم ولم ينكر عليهم, هذا موقف من مواقفه العجيبة. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 17 موقف آخر موقف آخر له, قريب وشبيه بهذا الموقف, دخل على عبد الرحمن الناصر مرة أخرى بعد أن فرغ من بناء الزهراء أيضاً وقصورها, وبعد أن حصل له الموقف السابق، وقد قعد الناصر في قبة ضخمة كان يسمونها القبيبة؟ لأنها كانت خاصة بالخليفة, وقد جعل قراميدها من الذهب وطلاها بالذهب، وجعل على البناء البديع الذي لم يسبق إليه, وكان مع الناصر جماعة من الأعيان والوزراء والأمراء, فقال لهم: هل بلغكم أن أحداً من الملوك في التاريخ كله بنى مثل هذا؟ يقوله فقالوا: كلا والله يا أمير المؤمنين! ما سمعنا ولا رأينا ولا بلغنا أن أحداً بنى مثل هذا البناء, وإنك قد أتيت بما لم تستطعه الأوائل, وظلوا يقولون مثل هذا الكلام الذي تعود الأمراء والملوك والخلفاء أن يسمعوه ممن حوله, والقاضي مطرق لا يتكلم وقد طأطأ رأسه فاستنطقه الخليفة, قال: ما لك ساكت، تكلم ما رأيك؟ هل رأيت مثل هذا البناء؟ فدمعت عيونه رحمه الله وأجهش بالبكاء ثم انحدرت الدموع على لحيته وخده, وقال للخليفة بلسان واضح ولهجة صريحة قال: والله ما كنت أظن أن الشيطان يبلغ بك هذا المبلغ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله تعالى ومع ما فضلك به, حتى أنزلك الشيطان منازل الكافرين -عبارة قاسية غليظة جارحة- فاضطرب الخليفة وغضب، وقال: انظر ما تقول! كيف أنزلني منازل الكافرين؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين! يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] فوجم الخليفة وبكى وقال: جزاك الله خيراً، وهاهنا مواقف الخلفاء فعلاً مواقف عجيبة, جزاك الله خيراً وأكثر الله من أمثالك, ووالله إن الذي قلته لهو الحق، وأمر بنقل هذه القبة التي بنيت بالذهب، وأن تعاد وتبنى تراباً كما بني غيرها من القباب, وهذه القصة ذكرها الذهبي في السير, وذكرها ابن الأثير في الكامل، وفي تاريخ قضاة الأندلس وفي غيرها من المصادر. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 18 العبرة المستفادة من مواقف سلطان الأندلس أيها الإخوة في هذه القصص الأخيرة أو هذا النوع الآخر من المواقف للإمام المنذر بن سعيد عدة عبر: الجزء: 137 ¦ الصفحة: 19 العبرة الأولى أن المفزع في الشدائد والنكبات إلى الله عز وجل، وأنه لا ملجأ من الله تعالى إلا إليه, وأن الله تعالى متى علم من عبيده الصدق والإخلاص فإنه لا يردهم خائبين, وهذا ليس خاصاً بقضية المطر والغيث من السماء, بل في كل كارثة أو مصيبة تنزل بالأمة يجب أن يعلم الناس كبيرهم وصغيرهم, مأمورهم وأميرهم أن المفزع والملجأ لا يكون إلا من الله وإليه, ولذلك كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده كما روت عائشة وغيره في صحيح مسلم: {اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك, وبعفوك من عقوبتك, وبك منك لا أحصي ثناءً عليك} وقال الله عز وجل: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] والله ما دمنا نعتقد أن لنا ملجأ ومخرج من أزماتنا ومصائبنا سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو عسكرية أو مادية أو دينية أو دنيوية لا ملجأ من غير الله فإنه لا مخرج لنا إلا أن نتوب إلى الله عز وجل ونصدق في الإقبال عليه. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 20 العبرة الثانية قوة العلماء في الحق, وأنهم لا يهابون لومة لائم، وقد سبق أن أشرت إلى شيء من ذلك, فإنه سأل الرسول ماذا جلس الخليفة يصنع؟ هل أرسلنا نستسقي وجلس مع جواريه وخدمه وحشمه وعبيده, أم جلس في لهوه وسكره؟ قال: لا! بل هو ساجد خاشع لله عز وجل. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 21 العبرة الثالثة هي صلاح الحكام وقرب قلوبهم واتهامهم لأنفسهم, كما رأيتم في موقف عبد الرحمن الناصر حيث عرف أن وقت النكبات والمصائب هو وقت التصحيح, وهذه قضية مهمة جداً أختم بها الحديث. إننا أحوج ما نكون إلى أن نصحح أوضاعنا إذا نزلت بنا المصائب والنكبات, ليس صحيحاً أننا نؤجل ونقول: إذا زالت الأمور وهدأت وصلحت رجعنا, فإن الإنسان قد ينوي نية ثم يغير هذه النية ويقلبها, بل إن العبد إذا رأى من نفسه ما ينكر ورأى من الأوضاع ما يستنكر فإنه لا بد أن يسارع بالتصحيح, وتغيير الأوضاع, والإقبال على الله عز وجل, وإبعاد كل ما فيه حرب لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم, وهذا أمر نقوله للعامة وللخاصة على حد سواء, وليس صحيحاً أن يكون دأب الناس وشأنهم في مثل هذه الأوقات هو التلاوم فحسب, كل فئة تلوم الأخرى وكل طائفة تعول على غيرها, وكل إنسان يذم سواه, لننظر أيها الإخوة أقرب ما ننظر في واقعنا نحن, من منا غيَّر أوضاعه؟ من منا صحح أموره؟ من منا أقبل على الله عز وجل؟ من منا أحدث توبة صادقة لله تبارك وتعالى؟ من منا خرج من المظالم؟ من منا وصل رحماً قطعها؟ أو بر بأب قد عقه؟ أو رد مالاً قد أخذه بغير حق؟ أو استعفى أحداً من مظلمة في نفس أو مال أو غيره؟. أيها الإخوة النكبات اليوم محدقة بالأمة, الأمة اليوم على مفترق طرق وفي أوضاع لا يعلم ما تئول إليه إلا الله عز وجل, فهي أحوج ما تكون إلى أن تراجع نفسها وتقبل على ربها, وتصحح أوضاعها الخاصة والعامة في ذلك على حد سواء, ولا يجوز أن نؤجل أو نُسِّوف هذه الأشياء ونقول: بعد بعد , فإن العبد لا يدري فقد لا يؤجل إلى بعد! وقد يؤخذ بعقوبة عمل اليوم قبل غد. أمرٌ آخر: قد ينوي العبد أن يتوب الآن لكن إذا رجع إلى ما كان عليه في الماضي: {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر:8] ألم يكن المشركون الأولون إذا ركبوا في الفلك ورأوا الريح العاصفة: {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس:22-23] ؟! قد طلب قوم الرجعى فما رجعوا, وقد وَعدَ قوم بالتوبة فما تابوا, فيجب أن يكون العبد من ذلك كله على بال. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 22 الأسئلة الجزء: 137 ¦ الصفحة: 23 مكانة المنذر بين العامة السؤال لم تذكر مكانة المنذر بالنسبة للعامة وغيره؟ الجواب في الواقع أنني لم أقف على كلام يذكر بالنسبة لمكانة المنذر بن سعيد لدى العامة, إلا ما سمعتموه من حضورهم عنده في صلاة الاستسقاء, وتعجبهم منه وسرعة بكائهم إذا وعظ أو ذكر, وقربه من قلوبهم وثقتهم به, واعتقادهم به أنه رجل صالح مستجاب الدعوة بإذن الله عز وجل, وهذا لا شك من الأسباب التي جعلت الحاكم يهابه, ولكن مع ذلك كان الحاكم أكثر هيبة وتقديراً وحباً له من أفراد العامة, لأنه كان أصلح من كثير منهم. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 24 المذهب الظاهري السؤال فضيلة الشيخ نريد منك أن تعطينا نبذة عن المذهب الظاهري؟ الجواب الكلام فيه يطول, وهو مذهب فقهي أسسه داود بن علي الظاهري في بغداد, يعتمد على ظواهر النصوص, ولهم مبادئ وأصول ومن أشهر علمائه الإمام ابن حزم أبو محمد علي بن سعيد بن حزم الظاهري , وله كتاب المحلى وهو أهم وعمدة كتب الظاهرية. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 25 احتياج الأمة لطلبة العلم السؤال أنت تعلم ما تحتاجه الأمة اليوم من طلبة العلم, فبماذا يبدأ طالب العلم؟ الجواب الواقع طالب العلم اليوم محتاج أن يقوم بالدعوة إلى الله تعالى, أهم ما تحتاجه الأمة اليوم بعد صلاح القلب وصلاح النفس الدعوة إلى الله تعالى, أن تقوم بالدعوة إلى الله عز وجل, وأن تتصل بالناس وأن تبين لهم الحقائق، وأن تجعل لهم تصورات صحيحة عن الأمور كلها, وأهم ما نحتاجه أيضاً من طلبة العلم أن يعملوا على كسب الناس وأن يزيلوا الفجوة التي قد توجد أحياناً بين طلبة العلم وبين العامة , أو بين بعض الطوائف, مثل طائفة الشباب المنحرفين أو طائفة بعض الذين لهم أوضاع خاصة, أو حتى الذين في السجون، يجب على طلبة العلم أن يمدوا الجسور مع كل طوائف الأمة, ويتصلوا بهم ويبلغوهم دعوة الله عز وجل, ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر, لأن الأمة الآن أفلست من كل أحد إلا من العلم وطلبة العلم, فأعطونا ماذا عندكم؟ أروا الله عز وجل من أنفسكم خيراً, اصدقوا الله عز وجل, ابذلوا ما تستطيعون, احرصوا على حسن الخلق واللطف في معاملة الناس, وألاَّ يجد الناس عليكم مدخل, وتجنبوا الطيش والتسرع, وإذا هممت بأمر شر فابتعد, وإذا هممت بأمر خير فافعل, وإذا شككت في أمر فاسأل العلماء وطلبة العلم وخطباء المساجد ونحوهم, ممن تثق بهم. أتوجه إلى الله جل وعلا, فأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً, وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً, وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماًَ, اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا, وظاهرنا وباطننا, وكبيرنا وصغيرنا، وذكرنا وأنثانا, إنك تعلم منقلبنا ومثوانا. اللهم إنا عبيدك الضعفاء إليك، المفتقرون لديك, اللهم لا تؤاخذنا بذنوبنا, ولا تفضحنا بعيوبنا, اللهم لا تمنع عنا بذنوبنا فضلك, فارحمنا واغفر لنا وأنت خير الغافرين. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين, اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك, ويذل فيه أهل معصيتك, ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء, اللهم أنقذ هذه الأمة من شر أعدائها, اللهم أنقذنا من شر اليهود والنصارى والشيوعيين والمنافقين والعلمانيين, وسائر أعداء الدين يا أرحم الراحمين. اللهم لا حول ولا قوة لنا إلا بك, اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم, وندرؤ بك في نحورهم, يا قوي يا عزيز, اللهم يا من فلق البحر لموسى، اللهم يا من قال للنار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم, اللهم يا من نصر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم على قريش في بدر ونصره على الأحزاب ونصره في فتح مكة وغيرها من المواقف يا حي يا قيوم انصرنا على القوم الكافرين, اللهم إنا نستنصرك يا حي يا قيوم, اللهم إننا لن ننتصر بعدد ولا عدة ولا حول ولا قوة ولكننا ننتصر بنصرك وتأييدك يا قوي يا عزيز, اللهم انصرنا اللهم انصرنا وأيدنا وثبتنا, اللهم من أراد بهذه البلاد وأهلها سوءاً فأشغله بنفسه, اللهم انصر من نصر الدين, اللهم واخذل من خذل الدين, اللهم اخذل من عادى أولياءك. اللهم اجمعنا على الحق يا رحمن يا رحيم, اللهم إنا نبرؤ إليك من الحول والقوة إلا بك, اللهم أنت الله لا إله إلا أنت, أنت القوي ونحن الضعفاء, أنت الغني ونحن الفقراء, أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين, اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا. اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً, فأرسل السماء علينا مدراراً, اللهم لا حول ولا قوة إلا بك, اللهم وفقنا لنتوب يا حي يا قيوم يا قريب يا مجيب. اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 26 كيفية سقوط الأندلس السؤال لو تكلمت كيف سقطت الأندلس؟ الجواب هناك دراسات كثيرة لسقوط الأندلس, كتب خاصة، وهناك أيضاً محاضرة للشيخ ناصر بن سليمان العمر , عنوانها: سقوط الأندلس. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 27 مراجع ترجمة المنذر بن سعيد السؤال يقول: إن سماع قصص مثل هؤلاء الرجال الأفذاذ تشجيعاً للنفوس وتأثيراً عليها وهذا ما نحتاجه دائماً, نسأل الله أن يجعلنا وإياكم مقتدين بهم, هلّا ذكرتم بعض الكتب التي نستطيع اللجوء إليها والتي تعنى بمثل هؤلاء الأشخاص؟ الجواب بالنسبة للمنذر بن سعيد ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء, وله تراجم في طبقات النحويين, وفي كتب الأندلس, مثل كتاب قضاة الأندلس, ومثل الكامل, وهي كلها تراجم في كتب علماء وأئمة الأندلس, ومثل الذخيرة, وغيرها من المصنفات, وغالباً المصنفات الأندلسية تتكلم عن حياة هذا الرجل. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 28 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال شخص يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ولكن عنده مخالفات , فهل يجب أن يكون الآمر خالياً من جميع المخالفات, أم أن يأمر وينهى, وهل عليه إثم إن كانت عليه مخالفات؟ الجواب أبداً يجب عليه أن يأمر بالمعروف وإن قصّر فيه, وينهى عن المنكر وإن ارتكب شيئاً منه. ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد كل امرئ منا يجب عليه أربعة أشياء: 1- أن يفعل المعروف 2- أن يأمر به. 3- أن يترك المنكر 4- أن ينهى عنه. وتقصيره في واحدة من هذه الأربع لا يسوغ له التقصير في غيرها. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 29 الخلاف في المسائل الفقهية السؤال المسائل الفقهية التي فيها خلاف 95% تقريباً, فما المخرج من ذلك؟ الجواب أولاً الأمر فيها يسير, وإن وجد الخلاف في المسائل الفقهية, فالمسائل الفقهية ليس فيها هدى وضلال, وإنما اجتهاد مخطئ واجتهاد مصيب, ومن اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد, أما (95%) فما أدري على أي أساس بنيت هذه الإحصائية, فإن المسائل التي أجمع عليها العلماء كثيرة وكثيرة جداً, وقد عدها بعض العلماء بعشرات الألوف من المسائل. فإن كان الإنسان مجتهداً نظر في الأدلة, وإن كان عامياً قلد من يثق بعلمه ودينه. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 30 علاج بغض العلماء السؤال إنني والشكوى لله عز وجل أصبح في قلبي نقص من الحب لكثير من العلماء, فبماذا تنصحونني؟ الجواب أنصحك بأن تقبل على قلبك فتعالجه بالعلاج الناجح, فإن محبة العلماء من محبة الله عز وجل, فإن العلماء هم ورثة الأنبياء, والأنبياء والرسل ممن اختارهم الله عز وجل يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله. فمن أحب الله عز وجل أحب الأنبياء وأحب ورثتهم وهم العلماء, ومن أبغض العلماء يخشى أن يصل به ذلك إلى بغض من ورثوهم هذا العلم, وإلى نقص في إيمان هذا الإنسان ودينه وولائه, وأما كون الإنسان إذا وجد من عالم خطأً أو أمراً لا يعجبه أبغضه, فهذا لا يسوغ له؛ لأن العلماء ليسوا معصومين ولا ملائكة ولا أنبياء, بل هم بشر من البشر يجتهدون فيخطئون مرة ويصيبون مرات. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 31 الأمور تقدر بقدرها السؤال ما رأيك بالتصريح بأسماء الذين لهم مواقف ضد هذا الدين؟ ألا ترون أن هذا يزيد الفجوة بيننا وبينهم. الجواب الحقيقة بأن التصريح بأسماء بعض الذين يقفون ضد هذا الدين, سبق أن بينت رأيي في ذلك, أنني أرى أنه من وقف ضد هذا الدين علانية, يجب أن نقف له علانية, ونفضح زيفه وباطله ونتكلم عنه بشكل واضح, لكن بشرط أن نتكلم بناء على معلومات وحقائق وليس بناءً على مجرد أقوال أو إشاعات أو ظنون لا تثبت، أو استفاضة كلام لا دليل عليه. إذاً نحن بين أمرين: الأمر الأول: أنه ليس صحيحاً أنه دائماً نحتج بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما بال أقوام} هذا بالنسبة لمنكر لا يدرى من فعله, لكن واحد يأتيني مثلاً يتكلم في جهاز عام أو في صحيفة يطبع منها مائة وعشرين ألفاً وتوزع على الناس, ويتكلم بكلام ينقض عرى الإيمان عروة عروة, أو يهدم العقيدة من أساسها، أو ينال من العلماء أو طلبة العلم أو المشايخ أو الدعوة إلى الله عز وجل, أو يشهر منكر من المنكرات, وأقول لا أصرح به! , لا هذا لا ليس له كرامة, هذا يفضح على رؤوس الملأ باسمه ورسمه وشكله, ما دام هناك وثائق تدينه, هذا جانب. وقد كان السلف رضي الله عنهم يتكلمون عن أصحاب المنكرات والبدع بأسمائهم, ولو رجعت إلى كتب الجرح والتعديل مثلاً لوجدت أنهم يقولون: فلان كذاب, فلان وضاع لا يقبل له حديث, وفلان فيه كذا , وفلان هالك, وفلان متروك, وفلان كذا، وفلان كذا , ما منعهم الورع من هذا, ولو رجعت إلى كتب المقالات والملل والعقائد لوجدت أن العلماء يقولون: فلان جهمي, وفلان رافضي, وفلان قدري, وفلان مرجئ, وفلان من الخوارج, وفلان فيه كذا , وقد يتكلمون عن كتبهم ومؤلفاتهم ومصنفاتهم. ليس صحيحاً أن تترك الأمة بدون هذه ولا دليل ولا إرشاد, يذهب بها العلمانيون وأعداء الدين, والمنحرفون عن الصراط المستقيم كل مذهب, ونحن نظل نقول: لا تتكلم عنهم, لا، بل تكلّم عنهم واذكرهم بأسمائهم، لكن الشرط الذي لا يمكن التنازل عنه بحال, أنه إياك إياك أن تتسرع في الوقيعة في شخص وأنت لا تجد الأدلة الكافية, إذا تجمعت لديك وثائق وأدلة وحقائق وأوراق وأشياء بخطه أو بلفظه أو بنصه أو بكتابته في جريدة أو مقال أو كتاب أو شريط اجمع هذه الأشياء, والأمة اليوم أحوج ما تكون إلى أن تعرف من هو عدوها ومن هو صديقها. وكم من عدو أصبح بثياب الصديق الآن, تلبس لبوس الأصدقاء, وتظاهر بمظهر الحدب!!. واحسرتاه لقوم غرهم قرم سعى إليهم بجلد المنقذ الحدب حتى إذا أمكنته فرصة برزت حمر المخالب بين الشك والعجب وحارب الدين والإسلام قاهره وكم خلا مثله في سالف الحقب وأعمل الناب لا شرع ولا خلق في الجسم والنفس والأعراض والنشب كم من مثل هؤلاء الذين يتظاهون بالعروبة وبالدين والصلاح والورع والوطنية وهم ضد ذلك, يجب أن تعرف الأمة عدوها من صديقها, لكن يكون ذلك من خلال الوثائق، ثم إذا وجدت وثائق تدين فلان أو علان لا تبالغ تحمل الكلام ما لا يحتمل أو تعطيه أكبر من حجمه, ضعه في الإطار الطبيعي حتى يقول الناس: صدق, لا تدع فرصة لأن يقول أحد: إنك بالغت, أو حملت الأمر أكبر من حجمه أو جعلت من الحبة قبة! لا, نحن نريد أن يخرج الناس وهم يقولون: صدق فلان, هذا هو الحق, وهذا ما يجب أن يسلكه الدعاة إلى الله عز وجل. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 32 قصيدة للعشماوي السؤال يطلب قراءة أبيات للشاعر الإسلامي عبد الرحمن العشماوي بارك الله فيه وحفظه الله؟ الجواب يا أمة الإسلام لن تتسلمي رتب العلا بالمال والأحساب لن تسلكي برد الخلاص بمدفع وبكثرة الأعوان والأصحاب لن تبلغي إلا بنهج صادق وتعلق بالخالق الوهاب تفنى الجيوش وتنتهي آثارها وننال بالتقوى عز جناب تفنى القوى مهما تكاثر عدها وتظل قوة ربنا الغلاب الجزء: 137 ¦ الصفحة: 33 الدين ليس حكراً على أحد السؤال بعض الناس لا يعترفون بمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر, بل يستهزئون به من غير عذر, وخاصة إذا لم يكن من رجال الحسبة, فتأمره بالصلاة يقول: ليس لك علاقة دعني وشأني, هل نستمر في هذا النوع من الناس أم لا؟ الجواب في الحقيقة الشيء الذي يطول عجبي -أيها الإخوة- ليس أن يوجد من يقول: دعني وشأني، أو ليس لك دخل بي أو علاقة, هذا أمر طبيعي, الأمة بعيدة عن الله عز وجل تحتاج إلى زمان طويل حتى تعود, لكن الذي أتعجب منه أنه لماذا الشاب الملتزم المتدين دائماً حساس؟! كلما وجد إعراضاً أو كلمة شديدة أو عدم تقبل تضايق من ذلك, واكتئب وابتئس, وربما همّ بترك الدعوة إلى الله تعالى, أو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, لا يا أخي الطريق طويل وفيه أشواك ومصائب، لكن ليس عنه بديل: يا إخوتي درب الجنان طويل وبه المصاعب والمتاعب جمة لكنما هو ليس عنه بديل لا توجد إلا هذه الطريق, فتحمل يا أخي الكلام القاسي, تحمل العبارات السيئة, إياك أن تكون سريع الاستفزاز، الأعصاب جاهزة عندك, أي كلمة جارية أو تصرف أو إعراض أو سخرية أو ضحكة غير مسئولة تجعلك تفقد صوابك وقد تتكلم بما لا ينبغي. نريد من الشباب الدعاة إلى الله عز وجل أن يكونوا مثلاً أعلى في الصبر والتحمل والاحتساب وهدوء النفس والرفق بالآخرين والحدب عليهم, والحلم على أخطائهم وعثراتهم، وألَّا يبدر منك بقدر المستطاع بادرة غضب, أو انفعال أو تهجم أو طيش ومن كان لا يجد من نفسه هذا الأمر هذا الأمر فعليه أن يختصر في الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على المجالات التي تناسبه, لأن الناس اليوم -وأقولها لكم أيها الشباب بكل وضوح- أعينهم مفتحة جداً, لأن الأمة جربت كل الناس, وكل المذاهب وكل النظريات, فعادت للإسلام الآن, فهم لا يعتبون على شاب يجدونه في مدرج الكرة إذا تصرف تصرفاً أرعن, أو قال كلاماً بذيئاً أو فاحشاً, لا يعتبون عليه لأنهم يقولون: هذا طبيعي! الشيء من معدنه لا يستغرب, هذا ما تربى. لكن إذا وجدوا شاباً ملتحياً قصير الثوب يسارع إلى المسجد، ومن طلبة العلم ومن الدعاة ومن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر فتحوا عليه, إذا رأوا منه ما يسر مدحوا وأثنوا وهذه نعمة, لكن إذا رأوا ما لا يسر أو خطأ أو ملاحظة فالناس نقاده, وقد يكبرون الخطأ أحياناً ويستعظمون منك هذا الخطأ. ولذلك يا أخي الحبيب إياك أن تُعطِ عن إخوانك الطيبين صورة سيئة، غير حسنة, إياك أن تكون سبباً لأن ينال غيرك ويذم بسبب كلمة صدرت في حال أو انفعال منك لا، اضبط أعصابك وحاول قدر المستطاع أن تكون هادئاً, صحيح نحن لا نقول: إن الشباب الطيبين كلهم يضبطون أنفسهم 100% هم بشر, مهما ضبط الإنسان نفسه قد يفقد أعصابه في موقف من المواقف, لكن فرق بين الإنسان الذي يجاهد نفسه يبذل يحاول، وبين آخر يعرف من نفسه أن أعصابه مفلوتة لا يمكن أن يقبض عليها بحال, فهذا نقول له: ابتعد عن المجالات التي تعتقد أنها تكون سبباً في الإثارة. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 34 حكم تزكية النفس السؤال لقد قلت إن الإمام المنذر بن سعيد ذكر مواقفه وجرأته ومدح نفسه في بعض القصائد, أليس هذا من تزكية النفس؟ فما رأيك في هذا؟ الجواب في الواقع أن تزكية النفس مذمومة إلا في حالات, لا بأس بالتزكية، إذا كان هناك حاجة إليها, فـ ابن عباس رضي الله عنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله, وقبله يوسف عليه السلام قال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- لما آذوه واضطهدوه وضيقوا عليه قام موقفاً محموداً مذكوراً في كتبه, قال: من قام بالدين ونصره ومن فعل ومن ومن، وبدأ يتكلم عن جهاده وبلائه رضي الله عنه, لأن الناس تنكروا لذلك فأراد أن يذكرهم بهذا, وأنه ما جلس متفرجاً لما جاء التتار, ويوم أن جاء أعداء الدين، ويوم أن جاء المبتدعة، ويوم أن جاء المضللون, تكلم وقام خير قيام. فليس كل ثناءٍ على النفس يعتبر من المذموم, إنما المذموم ما يكون صادر من إعجاب أو غرور أو كبرياء فهذا لا شك أنه مذموم. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 35 مواقف الصحابة من السلاطين السؤال لقد أعطيتنا من العلماء مواقف مثيرة في الدعوة أو غيرها, ولكن قصص قصص الصحابة فيها الشيء الكثير من هذا, ونحن في صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نجهل كثيراً من مواقفهم؟ الجواب صحيح أن للصحابة رضي الله عنهم من ذلك مواقف كثيرة, ومن ذلك موقف عائذ بن عمر رضي الله عنه أو معقل بن يسار من عبيد الله بن زياد فإنه جاءه يعوده وهو مريض, فذكره وقال له: [[أي بني! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} فاحذر أن تكون منهم, يخاطب الأمير يقول: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن شر الرعاء الحطمة} الذي يحكم الناس ويجرهم قسراً وقهراً وبالشدة, فاحذر أن تكون منهم, فقال له: اجلس, فإنما أنت من نخالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: وهل كانت لهم نخالة, إنما كانت النخالة فيمن جاء بعدهم]] أي: فيك وفي أمثالك. ولـ عبد الله بن عمر رضي الله عنه، وأنس بن مالك وغيرهم مواقف مع الحجاج عظيمة, ولـ عبد الله بن الزبير مواقف مشابهة, وللحسن بن علي رضي الله عنه، وهي مواقف كثيرة يطول المجال بذكرها. الجزء: 137 ¦ الصفحة: 36 سؤال وجواب لاشك أن السؤال من أساليب التعلم، ولكن للسائلين في أسئلتهم عيوب ومثالب، وعليهم الالتزام بآداب السؤال، وهذه تجدها مع عدد من الأسئلة في الأحاديث وصحتها وكيفية الجمع بينها، وكذلك أسئلة متنوعة بعضها في الأمور الفقهية وبعضها عن الواقع. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 1 أمور تتعلق بالسؤال إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل لا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا الدرس الثاني والعشرون من الدروس العلمية العامة في ليلة الإثنين التاسع عشر من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) . إخوتي الأكارم سيكون هذا الدرس بإذن الله تعالى تصفية للأسئلة التي سبق أن تقدمتم بها, ولم يتح لي الإجابة عليها فيما مضى, ووعدت أن أخصص درساً لها وهذا هو الدرس, ومما يجدر التنبيه إليه أن هذا الدرس يعتبر الحلقة الثانية من الإجابة على الأسئلة, فقد سبق أن عقدت المجلس الأول يوم أن كان الدرس في الجامع الكبير, وكان بعنوان: سؤالات الجامع الكبير لكن لما انتقلنا عن الجامع، كانت هذه هي الحلقة الثانية في هذا المسجد, وقد أعلن عنها الإخوة بعنوان: الأسئلة والأجوبة. قبل أن أدخل في الأسئلة والأجوبة أود أن أذكر بأمور فيما يتعلق بالسؤال وإن كان موضوع السؤال يحتاج إلى جلسة خاصة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 2 أهمية السؤال فأولاً: السؤال مهم جداً خلافاً لما يتوقعه بعض الناس, فبعض الناس يقول لك: ما معنى أن يجلس إنسان ثم يكتب له الناس أسئلة أو يتولى الجواب عليها؟ هذا ليس من طرائق السلف وليس من طرائق العلم والتعلم, وهذا خطأ وليس بصحيح, بل إن من أهم الطرق التي كان يسلكها السلف رضي الله عنهم في التعلم والتعليم طريقة السؤال والجواب, اقرأ في القرآن الكريم في أكثر من أربعة عشر موضعاً يسألونك, يسألونك , كما في قول الله عز وجل: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى} [البقرة:220] , {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ} [البقرة:217] , {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة:189] , {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} [الأحزاب:63] , {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186] , إذاً الله عز وجل أرشد عباده إلى أن يسألوا فيما جهلوا. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 3 النبي أرشد إلى السؤال وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم أرشد أصحابه إلى السؤال، مثلاً في حديث صاحب الشجة وهو حديث معروف، الصحابي الذي كان في سرية فأصابته شجة جرح في رأسه, وأراد أن يغتسل من الجنابة, فاستشار الصحابة وخشي على نفسه, فأمروه بالغسل, فاغتسل فمات, فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه كما في سنن أبي داود وغيره: {قتلوه قلتهم الله, ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} إذا عجز الإنسان فإنه يسأل وسيجد الجواب لما عجز عنه. وكان الصحابة رضي الله عنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم حتى نهوا عن ذلك, كما في حديث أنس أنه قال: {نهينا أن نسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يأتي الرجل العاقل من أهل البادية, فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم} يفرحون إذا جاء رجل أعرابي ليس منهي عن السؤال, يسأل النبي عليه الصلاة والسلام فيستفيدوا من سؤاله, جاءه أعرابي مرة, فقال: يا رسول الله، أرأيت الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ رجل يحب الناس يحب الصالحين لكن ما وصل إلى درجتهم, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {المرء مع من أحب} وفي رواية {أنت مع من أحببت} . وقائل هل عمل صالح أعددته ينفع عند الكرب فقلت حسبي سنة المصطفى وحبه فالمرء مع من أحب إذاً كان الصحابة رضي الله عنهم يفرحون بمن يأتي ويسأل الرسول عليه الصلاة والسلام عن أشياء حتى يجيب عن هذه الأسئلة, وقد ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض الصحابة مثل ابن مسعود بقوله: {إنه فتى الكهول، له قلب عقول، ولسان سئول} ويروى عن ميمون بن مهران أنه كان يقول: حسن السؤال نصف الفقه. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 4 من فوائد الأسئلة للشيخ وما أكثر فائدة الأسئلة! وفيما يتعلق بالأسئلة التي ترد علي فإني لا أترك سؤالاً منها قط, إلا قرأته وما لا أقرأه هنا أقرأه في البيت, واستفدت من قراءة هذه الأسئلة أشياء كثيرة, إما أن يكون السؤال تنبيهاً على خطأ وقعت فيه إما في لفظ أو في جواب, أو في سبق لسان, أو ما أشبه ذلك, فينبهك عليه, وإما أن يكون السؤال تنبيهاً على صواب غفلت عنه، وكان ينبغي أن تورده أو تذكره لمناسبته, وإما أن يكون السؤال تنبيهاً إلى مشكلة واقعة بين الناس وأنت لا تدري عنها, فينبهك السؤال عليها حتى تضعها في اعتبارك, وإما أن يكون السؤال لفت نظر إلى مقال في جريدة أو برنامج أو كتاب, أو شيء يحتاج إلى أن يناقش, أو يرد عليه, وإما أن يكون السؤال اقتراحاً يستحق أن يدرس ويناقش. فالسؤال -على كل حال- هو تفاعل بين السامع والمتحدث, ليس صحيحاً أن يكون الأمر للمتحدث دائماً, بل ينبغي أن يكون للسامع دور من خلال السؤال, ومن خلال الإيراد, ومن خلال الاتصال، وكونك تأتي بقصاصة من جريدة أو مجلة أو خبر يحتاج إلى تعليق, هذا نوع من التفاعل والترابط بين المتحدث والسامع, وكونك تنبه على أمر تعتقد أنت أنه خطأ, أو تسأل عن أمر أو تنبه على صواب كان ينبغي أن يقال, هذا كله نوعٌ من التفاعل بين السائل والمتحدث. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 5 بعض المآخذ على الأسئلة لا أستطيع أن أغفل بعض المآخذ على طريقة بعض الإخوة في السؤال, وإن كان ليس هذا مجال طرحها؛ لكن أقول باختصار: الجزء: 138 ¦ الصفحة: 6 الإلحاح في السؤال فمن بعض المآخذ أن بعض الإخوة يلحون في السؤال, والإلحاح في السؤال لا ينبغي, بل ينبغي للإنسان أن يطرح سؤاله ثم يمضي, فمثلاً لا أجد داعياً أن يكتب بعض الإخوة السؤال ثم يقول: أسألك بالله أن تجيب على هذا السؤال, لماذا؟ لأنه قد يرى المتحدث ما لا يرى الكاتب, فيرى من المصلحة ألا يجيب على هذا السؤال, إما جلباً لمصلحة, أو دفعاً لمفسدة, أو لأنه سوف يجيب عنه في المستقبل, أو لأنه سبق أن أجاب عنه, أو لأي غرض, فكونك تقول: أسألك بالله؛ هذا إحراج, والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الحديث الصحيح: {من سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه} فأنت إذا قلت: أسألك أحرجت المجيب, إما أن يجيب وهو على كره, أو أن يترك الإجابة مراعاة للمصلحة فيقع أو يخشى أن يكون قد وقع في المحظور. كذلك بعض الإخوة قد يكتب سؤاله عدة مرات، أحد أحبابي من الشباب كتب إليَّ أوراق عدة في موضوع معين, يتعلق بما يمكن أن نسميه شباب الأرصفة, وفي نيتي أصلاً أن أتحدث عن هذا الموضوع, لكن بعدما تكتمل المادة عندي، وبعد ما يكون عندي إطلاع واضح وقوي وجيد على ما يعانيه أولئك الشباب, بحيث يمكن وصف الحالة، وذكر العلاج المناسب والتنبيه على بعض الأشياء, فالتكرار في مثل موضوع واحد معين يكرره الإنسان مرة ومرتين وثلاثة وأربعة وخمسة, ثم يتضايق ألاَّ يكون هناك إجابة عاجلة هذا أيضاً من الإلحاح الذي لا أرى له داعياً. وإنما على الإنسان أن يبذل جهده في إيصال المعلومات، والموافاة بالجديد المفيد, ثم بعد ذلك يترك تقدير المصلحة في الحديث عن هذا الموضوع أو إرجائه يتركها لغيره. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 7 التلميح بالجواب في السؤال ومن المآخذ على طريقة السؤال -أيضاً- أن بعض الإخوة السائلين يلمح إليك بالجواب, بحيث أستطيع أن أسمي السؤال حينئذٍ سؤالاً موجهاً, لأن الأصل في السؤال أن يكون استفساراً عن أمر يجهله الإنسان, هذا هو الأصل, فإذا كان السؤال كذلك، فإنه ينبغي ألا يتضمن الجواب, مثال يأتي واحد فيقول في سؤاله "يخطئ كثير من الناس فيقولون كذا وكذا وكذا , فما رأيك في ذلك؟ " هذا لا يحتاج إلى جواب! لأنك من يوم قلت: يخطئ كثير من الناس, فقد عرفت الجواب وبينت الجواب أيضاً, فلا حاجة للجواب حينئذٍ. أحياناً يقول بعض الإخوة في سؤاله: "يزعم بعض الناس أن الأمر كذا وكذا , أو يدعي، كذلك كلمة يزعم أو يدعي تدل على الجواب, فالأصل أن السؤال إذا كان سؤالاً للاستيضاح والاستفسار، ينبغي أن يكون سؤالاً لا يتضمن الجواب, بحيث أن السائل يعرض المشكلة ويقول: ما رأيكم في هذه المشكلة؟ هل هذا العمل صحيح أم خطأ؟ أو ما أشبه ذلك, هذا إذا كان السؤال على سبيل الاستفسار. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 8 الأسئلة الخاصة بعض الأسئلة أحياناً قد تكون أسئلة خاصة, أي أنه قد يعاني أحد الشباب مشكلة شخصية قد تكون مشكلة عويصة, أو عميقة, أو عظيمة, وتحرجه! لكنها خاصة بمعنى أنه لو حسبنا الذين يعانون هذه المشكلة في المجتمع يمكن نجد أنهم يعدون على رؤوس الأصابع, فليس من المصلحة أن يتُحدث عن هذه المشكلة على رؤوس الأشهاد حينئذٍ, وقد يقول صاحب المشكلة: أنا أيضاً لا أستطيع أن أواجه المتحدث بنفسي, أي هو يستحي أن يأتي بنفسه, حينئذٍ أقول: في الواقع أن دين الإنسان هو أغلى ما عليه, ولا مانع أن يأتي الإنسان بنفسه ولو كانت مشكلة صعبة إذا كان الأمر يستدعي ذلك؛ لأنه ليس من المصلحة أن نتحدث عن بعض المشكلات أمام الناس, وأضرب مثالاً لذلك، قد يعاني بعض الشباب مشكلة أخلاقية صعبة، كأن تورط في مفاسد وأمور معينة, ويريد الخلاص منها فنحن حين نقرأ مثل هذه المشكلة بتفاصيلها على الناس, كأننا نوحي للمستمعين أن هذه النوعية من المجتمع كثيرة ومنتشرة, فهذا يهون من خطورة الشر والفساد في نفوس الناس, ويجرئهم عليه, فليس من المصلحة طرحها مع أنها قضية كما ذكرت قضية خاصة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 9 الأسئلة لإظهار المعرفة أو مصادمة الأقوال كذلك بعض الإخوة -هدانا الله وإياهم- يسألون كل أحد، فإذا سألك إنسان، فتسرعت في الجواب عما سأل, قال لك: ولكن أنا سألت الشيخ فلاناً وقال كذا, وسألت فلاناً وقال كذا, وسألت فلاناً وقال كذا! فأصبح هذا الإنسان يمر على الناس كلهم ويسأل كل عالم, أو طالب علم, أو إمام مسجد عن هذه المسألة، ويضرب أقوال بعض الناس في بعض, وهذا ليس بلائق, بل على الإنسان أن يكتفي بسؤال واحد. أخيراً بعض الأسئلة تكون لإظهار الخبرة والمعرفة, سألني في يوم من الأيام أحد الشباب عن حديث من الأحاديث المُشْكِلة التي يسميها العلماء أحاديث مشكلة, أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد يكون معناها، غير ظاهر يحتاج إلى بيان, فسألني عن هذا الحديث فأجبته بما أعلم, وذكرت، له أقوال بعض أهل العلم التي أحفظها, فقال: ولكنني قرأت في كتاب كذا, كذا وكذا , وقرأت للبيهقي كذا وكذا , وقرأت لـ ابن قتيبة كذا وكذا , وقال ابن فورك كذا وكذا , وصار يسرد لي حوالي عشرة أقوال, فقلت له: ما شاء الله، تبارك الله! إذاً أنت يا أخي قد أحطت بالموضوع علماً, ومثلك لا ينبغي أن يسأل عن مثل هذا الموضوع, إنما يسأل الإنسان عما لا يعلم, أما ما يعلم فلا داعي للسؤال عنه. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 10 اقتراحات وذكر الدروس المسجدية الأسئلة التي أردت الإجابة عليها في هذه الليلة قسمتها إلى أقسام, أبدأها بذكر بعض الاقتراحات التي يقدمها بعض الإخوة. وهذا اقتراح جاءني الآن يطلب فيه الأخ السائل أن ألفت النظر إلى محاضرة لي سبق أن ألقيتها في الخبر في المنطقة الشرقية, ويقول: إنها صالحة ومناسبة، وهذا بحسب ظنه هو, ويقول أن عنوان المحاضرة "الأرواح جنود مجندة". وهذا يقول: أريد دروساً خاصة فيها دعوة للشباب المنحرف، لعل الله أن ينفع بها في سبيل التأثير بهم بإذن الله تعالى, وقد سبق أن ذكرت أنني سأتحدث -إن شاء الله- عن هذا الموضوع في محاضرة خاصة. وهذا أيضاً اقتراح يقول في كل درس نجد أنك تكمل الأسئلة بعد الدرس المقبل, ثم لا نجد ذلك لماذا لا يحدد درس خاص؟ هاهو الدرس الخاص لهذه الأسئلة. وهذا يقول: إن الدرسين غير كافيين فنرجو المزيد, -يقصد بلوغ المرام ودرس هذه الليلة- وأقول إن شاء الله في النية إحداث درس ثالث ويعلن عنه في حينه بإذن الله تعالى. وهذا يطلب إعادة جدول الدروس, أما بالنسبة للدروس التي هي دروس أقوم بإلقائها فقد سبق أن ذكرت أن الدروس المسائية يوم الأحد ليلة الاثنين وهو هذا الدرس, ويوم الثلاثاء ليلة الأربعاء شرح بلوغ المرام في الجامع الكبير, أما الدروس الصباحية فهي دروس يومية بعد صلاة الفجر باستثناء يومي الخميس والجمعة, أما يوم السبت والأحد والثلاثاء والأربعاء فهي شرح صحيح البخاري, وشرح صحيح مسلم, وقد وصلنا في شرح صحيح البخاري إلى كتاب الشروط أو انتهينا منه, وأما في شرح صحيح مسلم فنحن في كتاب البيوع, أما يوم الإثنين فنحن نقرأ في العقيدة الواسطية وفي نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر للـ حافظ ابن حجر , لكن هناك دروس أخرى أود أن ألفت النظر إليها، وقد سبق أن أعلن عنها في أكثر من مناسبة, فمن هذه الدروس درس لفضيلة الشيخ عبد الرحمن العجلان رئيس المحاكم في فقه المعاملات, وهذا الدرس في مسجد العامر بطريق الشاحنات يوم الثلاثاء بعد صلاة العصر, وهناك دروس للشيخ علي بن عبد الله الجمعة وهو دكتور في جامعة الإمام في قسم السنة ثلاثة دروس: فقه زاد المستقنع، ونحو ألفية ابن مالك هذا في مسجد الجمعة بالفائزية يوم الجمعة ليلة السبت بعد العشاء الآخرة, الدرس الثاني في المصطلح والتوحيد وهو في نفس المسجد مسجد الجمعة يوم الأحد ليلة الإثنين كهذه الليلة بعد العشاء الآخرة أيضاً, الدرس الثالث حديث وقراءة في زاد المعاد وهو في نفس المسجد في يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء بعد العشاء الآخر, وكذلك درس الشيخ صالح بن شاوي العنزي فقه في جامع الفائزية مخطط (ب) مسجد ابن عبد الرحيم يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بعد المغرب. كما أنوه بدرس للشيخ صالح بن سليمان المجيطيب , في مسجد المجيطيب بحي البشر, وهذا الدرس فجر الخميس اعتباراً من الخميس القادم وهو أيضاً في النحو, فألفت النظر إلى هذه الدروس وأؤمل من الإخوة الشباب أن يعمروا هذه الدروس, ويعطوا أنموذجاً حسناً في المحافظة عليها والإسراع إليها، والتنويه إليها. وهذا يقول: أغلب الحضور أئمة مساجد ويحضرون من أمكنة بعيدة, ويصعب عليهم الحضور بعد الصلاة مباشرة, فيقترح التأخر في بدء الدرس؟ سنفعل -إن شاء الله- أن نراعي الإخوة في حدود خمس دقائق أو قريباً من ذلك. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 11 الأسئلة هناك أسئلة تتعلق بالأحاديث النبوية أجيب على ما تيسر منها الجزء: 138 ¦ الصفحة: 12 غربة الإسلام والمستقبل السؤال يقول: نجد تعارضاً بين حديث {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً} وبين {أن المستقبل للإسلام} ؟ الجواب أولاً: أنبه أخي الكريم السائل إلى أنه كان يجب أن لا يعبر بكلمة تعارض, لأن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ليس فيه تعارض, وإنما التعارض في ذهن الإنسان بسبب عدم إدراكه لمعنى الحديثين, وأما دفع التعارض فأقول يكفي أن تعلم أن قوله: {وسيعود غريباً كما بدأ} أن هذا يعني به الرسول صلى الله عليه وسلم -والله تعالى أعلم بمراد رسوله- والغربة الأخيرة في آخر الزمان التي لا يكون بعدها قيام لشأن الإسلام, ولذلك قال: {وسيعود غريباً كما بدأ} حتى قال بعض أهل العلم: إن الإسلام بدأ برجل وسينتهي برجل واحد, ونحن نعلم وسبق أن قررت أنه في آخر الزمان يبعث الله ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين, ولا يبقى في الأرض أحد يقول: الله الله, ويبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 13 زمن القبض على الدين كالجمر السؤال يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم: {يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر} هل المقصود هذا الزمان أم آخر الزمان؟ الجواب هذا الحديث رواه الترمذي بسند ثلاثي ورواه غيره, وهو حديث صحيح, وهو يدل على أنه يأتي على الناس أزمنة في بلاد مختلفة يصعب على الإنسان التمسك بالدين حتى كأنه قابض على جمرة, كل لحظة يقول الآن ألقيها, الآن ألقيها, وهذا قد يكون وقع الآن في بعض البلاد ولا شك، وهو سيقع في آخر الزمان في جميع الدنيا. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 14 صحة حديث البدء بالبسملة والحمدلة السؤال يقول: ما صحة هذا الحديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو قطع} والرواية الأخرى {لا يبدأ فيه بحمد الله} ؟ الجواب أما حديث: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع} فهو ضعيف جداً, رواه الخطيب البغدادي , ورواه السبكي في طبقات الشافعية, ولا يصح, أما بلفظ: {كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله} فقد رواه أبو داود وغيره وأصحاب السنن من حديث الزهري عن أبي هريرة , والصواب الذي صوبه أبو داود والدارقطني وغيرهم أنه مرسل عن الزهري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 15 اليمن في الأحاديث السؤال هل اليمن الذي يتكلم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, هل هي اليمن الحالية؟ الجواب اليمن التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم أشمل من اليمن الحالية, فمكة تعتبر من اليمن بالنسبة لأهل المدينة, وكذلك تهامة تعتبر من اليمن, وقيل: إن مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم الأنصار, لأن الأوس والخزرج في الأصول من قبائل يمنية, ويدخل فيها اليمن المعروف اليوم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 16 أحزاب الخندق السؤال من هم الأحزاب الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق؟ الجواب الأحزاب هم: اليهود, وقريش, وغطفان, وهم الذين تألبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 17 حديث الرايات السود السؤال يقول: ما صحة حديث {إذا رأيتم الرايات السود تخرج من قبل المشرق فاتبعوها فإن فيها المهدي} ؟ الجواب هذا الحديث ليس بصحيح, فقد رواه أحمد , والحاكم عن ثوبان وسنده ضعيف. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 18 صفات فاتحي القسطنطينية السؤال ورد في صفة القسطنطينية في الحديث صفة الذين يفتحونها، وأنهم ليسوا العثمانيين، فهل القسطنطينية تفتح مرتين؟ الجواب تفتح القسطنطينية أكثر من مرة بلا شك, أما الفتح الأول فقد مضى في القرن التاسع حين فتحها السلطان محمد الفاتح , وقد جاء في حديث رواه أحمد والحاكم عن بشر الغنوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتفتحن القسطنطينية, فنعم الأمير أميرها, ولنعم الجيش ذلك الجيش} وهذا الحديث رواه أحمد -كما ذكرت- ورواه الحاكم وقال الحاكم: صحيح الإسناد, ولم يخرجه ووافقه الذهبي فقال: صحيح, وفي سنده ضعف, لعله ينجبر بشواهده. وأما الفتح الثاني: فهو فتح في آخر الزمان أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {أن مدينة نصفها في البر ونصفها في البحر, فيذهب إليها المسلمون فيكبرون تكبيرة واحدة فينهد نصفها الذي في البحر, ثم يكبرون تكبيرة أخرى فينهد نصفها الذي في البر, ويدخلها المسلمون فاتحين فبينما هم جالسين قد علقوا سيوفهم بشجر الزيتون, إذ سمعوا صارخاً يصرخ: إن الدجال قد خلفكم في أموالكم وأهليكم, وهو كاذب, فيدعون ما بأيديهم ويرجعون فإذا رجعوا خرج الدجال} . الجزء: 138 ¦ الصفحة: 19 تجمع اليهود السؤال جزمت -يقصد في محاضرة سابقة أو التي قبلها- بأن تجمع اليهود في هذا الوقت هو طبقاً لما ورد في الحديث, فهل هذا صحيح أن يفسر الحديث بما لم يحصل، ولو فرضنا أن هذا التجمع لم يكن هو التجمع الذي قصد الرسول صلى الله عليه وسلم فما هو الموقف إذن؟ الجواب في الواقع أنني لا أجزم بأن التجمع الذي يعيشه اليهود الآن هو التجمع الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث, إنما أقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبرنا أن اليهود سوف يقاتلون المسلمين, وجاء في الحديث الآخر الذي حسن إسناده جماعة من أهل العلم أنهم على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه, وهذه الأحداث تسير في هذا الاتجاه، اليهود يتجمعون في هذا الموضع ويقابلهم المسلمون في الجانب الآخر, والحديث وإن ضعفه بعض أهل العلم, فإن الواقع يشهد له وكذلك الحديث الآخر المتفق عليه عن أبي هريرة يشهد له, فالأولى أن يكون الحديث حسناً وليس ضعيفاً, فنحن نتوقع أن يكون هذا هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم, متى يحصل هذا؟ الله أعلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 20 فتنة المحيا والممات السؤال يقول: أخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ بالله من فتنة المحيا والممات, فكيف تكون فتنة المحيا والممات؟ الجواب أما فتنة المحيا: فهي فتنة الحياة، وهي كثيرة, فتنة الرجل في أهله, وماله, ونفسه, الفتن التي تصيب الإنسان في دينه فتن الشهوات, وفتن الشبهات, هذه فتنة المحيا. أما فتنة الممات: فقد اختلف فيها أهل العلم, فقال بعضهم: المقصود بفتنة الممات ما يحدث للإنسان عند الموت عند النزع, فإن الإنسان عند النزع تحضره الشياطين, وتحاول أن تصده عن دينه, ولذلك جاء في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة} فقال بعضهم: فتنة الممات ما يحصل للإنسان عند النزع, وقال آخرون: بل فتنة الممات ما يحصل للإنسان في قبره من السؤال, وقد ثبت هذا في الصحيح: {أن العبد يسأل في قبره عن ربه, ودينه, ونبيه، يأتيه ملكان -ثبت في الصحيح- أن أحدهما منكر, والآخر نكير, فيقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فأما المسلم والمؤمن فيقول: ربي الله, وديني الإسلام, ونبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم, فيقولان له: ما علمك؟ وهذا سؤال رابع, فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به, وصدقت؛ وأما الكافر أو المنافق فيقول: هاها لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس} أي: مقلد في الدنيا، كان يردد ما يقوله الناس بحكم الوراثة, بحكم البيئة, لكن ما قرأ, ولا تعلم, ولا علم, فهذا والعياذ بالله يخفق في الامتحان في قبره, ولا يوفق للجواب ويقول: نسيت كنت أذكر اسم النبي, وأذكر اسم الدين, ولكن نسيت كنت أقول ما يقول الناس، وذلك غاب عن باله وقت الحاجة إليه. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 21 معنى قوله تعالى: (والفتنة أشد من القتل) السؤال قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191] ما معنى هذه الآية؟ الجواب معناها: أن فتنة الإنسان عن دينه أشد من قتله, وذلك لأن الإنسان إذا فتن عن دينه فكفر والعياذ بالله كان مصيره النار إذا مات على ذلك, أما إذا قتل وهو مسلم؛ فإن مصيره الجنة بإذن الله تعالى، ففتنة الإنسان عن دينه أعظم من قتله. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 22 معنى حديث سؤال حذيفة عن الشر السؤال يقول: حبذا لو تكلمت بشيء من التفصيل عن حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه {كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني} إلى آخر الحديث؟ الجواب الحديث ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم لـ حذيفة حين قال حذيفة: {إن الله جاء بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم, قال: فهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن, قال: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي، ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه سوف يأتي خير ولكن فيه دخن وضعف, فيه نقص, فيه ناس يهتدون بغير هدي النبي صلى الله عليه وسلم, ويستنون بغير سنته, تعرف منهم وتنكر, يعني فيهم خير وشر, وحق وباطل, وهدى وضلال, ومعروف ومنكر, ليس خيراً خالصاً, قال حذيفة: هل بعد هذا الخير من شر؟ قال: {نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها} أي ناس يدعون إلى النار, أئمة يدعون إلى النار, يدعون إلى الكفر, دعاة إلى القومية, دعاة إلى العلمانية, دعاة إلى الاشتراكية والشيوعية, دعاة إلى الفساد, دعاة إلى الحداثة, دعاة إلى ألوان الانحراف الفكري أو الخلقي, فقال حذيفة رضي الله عنه: يا رسول الله! فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: {الزم جماعة المسلمين وإمامهم} الإمام هو الحاكم الذي يحكم بالكتاب والسنة, الحاكم المسلم الذي يطبق شرع الله, الزم الحاكم , والجماعة: العلماء والفقهاء الذين يكونون ملتقين ومحيطين بهذا الحاكم , وذلك لأن الأصل أن العلم والحكم واحد, فأولي الأمر هم العلماء والأمراء, قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] من هم أولي الأمر؟ هم العلماء والأمراء, والأصل أن العالم والأمير أمرهما واحد, والعالم هو الذي يقود الأمة ويوجهها ويرشدها, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {الزم جماعة المسلمين وإمامهم} قال: إن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ -بمعنى خسروا الاثنتين لا يوجد حاكم يحكم بالشرع, ولا يوجد علماء يرفعون راية الكتاب والسنة ويدعون الناس إلى الحق قال: اعتزل تلك الفرق الضالة كلها، لا تتبع أحد من هذه الفرق، ولو أن تعض على جذع شجرة حتى يأتيك الموت، وأنت على ذلك, إذاً الحديث أفاد أنه إن وجدت جماعة المسلمين وإمامهم الزم جماعة المسلمين وإمامهم وإن وجدت الإمام الذي يحكم بالكتاب والسنة؛ لكن ليس حوله علماء وفقهاء يرفعون الراية فالزم العالم الحاكم الذي يحكم بالكتاب والسنة, وإن لم تجده لكن وجدت العالم الذي يدعو إلى الكتاب والسنة, فالزم العالم أيضاً, وإن لم تجد لا حاكماً يحكم بالشرع ولا عالماً يدعو إلى الشرع, فاعتزل الفرق كلها إن لم تستطع أن تقوم بجهد كأن تكون عالماً ناشراً للسنة, قامعاً للبدعة, فاعتزل هذه الفرق ولا تفكر باتباع الفرق الضالة حتى لو دعاك الأمر إلى الاعتزال الكلي. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 23 كتاب الإذاعة لأشراط الساعة السؤال يقول: ما رأيك في كتاب الإذاعة لأشراط الساعة؟ الجواب كتاب الإذاعة وغيره من الكتب المؤلفة في أشراط الساعة, غالبها -كما أسلفت في المحاضرة الماضية- لا تهتم بإيراد الأحاديث الصحيحة, بل تذكر الأحاديث الصحيحة والحسنة والضعيفة, بل ربما تذكر أحاديث موضوعة, فينبغي للإنسان أن يتحرى؛ ومن الكتب التي عني فيها مؤلفوها باختيار الأحاديث الصحيحة والكلام عليها كتاب "أشراط الساعة" لـ يوسف الوابل. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 24 جمع بين حديثي فضل الصحابة والقابض على دينه السؤال يقول: كيف نجمع بين الحديثين اللذين أحدهما معناه أن القابض على دينه له أجر خمسين من الصحابة, والآخر أنه لو أنفق أحدنا مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه؟ الجواب نعم، في حديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان أن: {القابض على دينه كالقابض على الجمر} وذكر أن المتمسك بالدين يومئذٍ له أجر خمسين, قالوا: منا أو منكم؟ قال: {بل منكم} وفي حديث آخر قال: {لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه} كيف نوفق بين الحديثين؟ يكون التوفيق بين الحديثين بأمور: فيمكن أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام له أجر خمسين من الصحابة, يعني باستثناء فضل الصحبة, فإن لكل صحابيٍ من فضل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم, والجلوس معه, والاكتحال برؤيته, وسماع حديثه, وخدمته وغير ذلك, ما لا يدركه من بعده, فيكون له أجر خمسين باستثناء فضل الصحبة. الأمر الثاني: أن يكون له أجر خمسين في العمل, بمعنى أنك لو أنفقت ديناراً, لأخذت بهذا الدينار الذي أنفقته في آخر الزمان أجر خمسين ديناراً أنفقها المتقدمون, ولا يعني هذا أنك أفضل منهم خمسين مرة لا؛ لأنهم أكثر منك عملاً, وأكثر منك إخلاصاً, فالصحابة -مثلاً- تميزوا بكثرة الإخلاص, تميزوا بكثرة العمل, تميزوا بالتضحية, تميزوا بأمور, تميزوا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم, أنت ليست لك هذه الأشياء لكن ما تعمله من الأعمال الصالحة لك فيه أجر عمل خمسين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, مثل هذا العمل بالذات. فمثلاً: صليت ركعة هي لك عن خمسين ركعة, لكن لا يعني أكثر منهم؛ لأنهم أكثر منك عملاً, وأكثر منك إخلاصاً, فتميزوا عنك بجوانب أخرى, وقد ذهب أكثر أهل العلم إلى أنه لا يمكن أن يأتي بعد الصحابة رضي الله عنهم أحد في مثل فضلهم, لا فرد, ولا جماعة. وذهب ابن عبد البر وبعض العلماء إلى أنه يمكن أن يأتي أفراداً قلائل يكونون في منزلة الصحابة وفي عيارهم, أو أفضل من بعضهم, مثلاً ابن عبد البر -رحمه الله- مذهبه ومذهب بعض أهل العلم يقول: يمكن أن يأتي في الجيل الثاني أو الثالث أو الرابع أو العاشر رجل أو آحاد قد يكون الواحد منهم أفضل من بعض المتقدمين, هذا مذهب ابن عبد البر خلافاً للجماهير من أهل العلم, فإنهم يرون أن الصحابة أفضل ممن بعدهم أفراداً وجماعة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 25 عصر غربة الدين السؤال هل نستطيع أن نقول: إننا في عصر الغربة أو في بداية عصر الغربة؟ الجواب نعم لاشك أننا في هذا العصر نعيش جوانب من غربة الإسلام في أمور كثيرة، غربة الإسلام في جانب الحكم, فإن الحكم بما أنزل الله نادر في هذا الزمان، وكثير من البلاد لا تحكم بما أنزل الله عز وجل في الدماء, ولا في الأموال, ولا في الأعراض, ولا في الأبشار, ولا في غيرها, وأقل البلاد تحكم بما أنزل الله فيما يسمونه بالأحوال الشخصية, في الطلاق، والمواريث، وما أشبه ذلك, وحتى في قوانين الأحوال الشخصية أو فيما يسمونها بالأحوال الشخصية حاولوا تحويلها في عدد من البلاد إلى قوانين وضعية. غربة للإسلام في الجهاد, فإن الجهاد في سبيل الله الذي يهدف إلى رفع كلمة الله كلمة "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وقد أصبح الجهاد ألعوبة يعلنه كل يوم طاغية, أو فاسق, أو علماني, أو بعثي, أو كافر, يضحك على عقول الناس برفع هذه الكلمة, وما أكثر ما سمعنا من هذه النداءات والصيحات بالأمس أعلنها الخميني , واليوم أعلنها صدام، وقبل ذلك وبعد ذلك وما أكثر هذه الدعاوى, فأصبحنا نعيش غربة الجهاد الحقيقي، وغربة الجهاد في سبيل الله, غربة في السلوك, غربة في الفكر, ولكن مع ذلك ينبغي أن ندرك أن هذه الغربة ليست هي الغربة الأخيرة, لا, إنما هي غربة كغربة الإسلام في عهد الصحابة رضي الله عنهم -في أوائل عهود الصحابة- غربة نرجو وننتظر أن يتلوها زوال لهذه الغربة, وارتفاع لشأن الإسلام, فأنا أشبه هذه الغربة بالشمس أول ما تشرق أشعتها ليست منتشرة، لكنها قوية، وحية، ومشرقة، وتزداد لحظة بعد لحظة, وليست الغربة الأخيرة التي في آخر الزمان، والتي يمكن أن تشبه بالشمس قبيل الغروب, الشمس على رؤوس الأبنية, وأطراف النخيل, والجبال المرتفعة, وما هي إلا لحظات حتى تغيب الشمس ثم ينتهي الأمر, لا, فينبغي أن يكون عند الإنسان ثقة بوعد الله عز وجل وأن المستقبل لهذا الدين كما ذكرنا. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 26 ما معنى قيم خمسين امرأة رجل السؤال يقول: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أنس رضي الله عنه {أنه في آخر الزمان يكون قيم خمسين امرأة رجل واحد} الجواب نعم الحديث رواه البخاري كما ذكر السائل ومعنى الحديث يحتمل معنيين: المعنى الأول:- أن يكون الرجل تلوذ به خمسون امرأة, أمه, وأخته, وزوجته, وبنته, وبنت أخيه, وبنت أخته, وخالته, وعمته, يعني قريبات له ليس لهن قيم إلا هو, هذا احتمال. المعنى الثاني:- ذكره بعض أهل العلم قالوا: إن المقصود أنه يدل على قلة الرجال وكثرة النساء، كذلك يدل على انتشار الجهل, وخفاء العلم, فأصبح الناس لا يعرفون الحلال والحرام حتى إن الرجل قد يتزوج خمسين امرأة , لجهله أن النكاح بأكثر من أربع لا يجوز, والعجيب في الأمر أن هذا موجود الآن, أقصد زواج رجل بخمسين امرأة أو أكثر, موجود الآن؛ ولا أقول لكم موجود في بعض مناطق أفريقيا بين الجهلة والوثنيين, لا, بل موجود في مناطق عديدة من بين المنتسبين للإسلام, وقد سمعت من بعض المشايخ -وهم ثقات- عن أشخاص جاءوا في أعوام ماضية، وزاروا والتقوا ببعض الشيوخ, وكان أحدهم عنده خمسون امرأة, فكلموه على أنه لا يجوز ويجب أن يمسك أربعاً ويفارق سائرهن, فتلكأ وتعذر, ورفض أن يطلق منهن أحداً, فتحقق بعض ما أخبر صلى الله عليه وسلم. وكأن في الحديث إشارة إلى الحروب الطاحنة التي تقع في آخر الزمان, لأن غالب وقود الحروب هم الرجال, فيقل الرجال حتى يصبح لكل خمسين امرأة رجل واحد. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 27 الحروب بالآلات الحديثة في السنة السؤال يقول: هل ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عدة الحروب المعاصرة وما فيها من الآلات الحديثة, والدبابات, والطائرات, وغيرها, أم ذكر السيوف والخيول تكفي, وهل يمكن قياس ذلك بذلك، أم أن هذه الآلات سوف تندثر وتعود الآلات القديمة؟ الجواب أقول جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عدة أحاديث فيها ذكر الخيول والسيوف وغيرها, وهذه الأحاديث يمكن أن تحمل على أحد محملين: - إما أن يكون المقصود بالسيوف والخيول وغيرها, تعبير نبوي من النبي صلى الله عليه وسلم عن الآلات الحديثة, عبر بالأشياء التي كان الناس يفهمونها في عصره ووقته عليه الصلاة والسلام, ولو قال لهم صلى الله عليه وسلم الطائرة, والدبابة, والمدفعية, والصاروخ لكان مُلغزاً في ذلك, وكان الناس الذين حوله لا يفهمون ما قال, وقد بعث صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين, وكان الناس الذين حوله يفهمون عنه ما يقول, ثم يبلغونه إلى من بعدهم, ولم يكن من عادته صلى الله عليه وسلم أن يأتي للناس بألفاظ وعبارات لا يفهمون معانيها, وإنما يفهمها من بعدهم هذا احتمال. - والاحتمال الثاني أن يكون ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أن الحضارة الحديثة سوف تندثر, وتنهار, ويعود الناس إلى السلاح القديم, أو ما يسمونه بالسلاح الأبيض: السيف والسكين, والخنجر, وغيرها, هذا محتمل والخيول, ولذلك جاء في أحاديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الذين يفتحون القسطنطينية, وأنهم يعلقون سيوفهم بشجر الزيتون, هذا في صحيح مسلم، وذكر الخيول حين تغدر الروم بالمسلمين فيقاتلونهم ويرفع رجل من أهل الروم الصليب فيقول: غلب الصليب, فيقوم إليهم المسلمون ويقاتلونهم. وذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث أسمائهم وأسماء آبائهم وألوان خيولهم, ذكر أنهم فرسان يركبون على الخيول, فيحتمل أن يكون المقصود الخيول الحقيقة, ويكون هذا إشارة إلى أن الحضارة الحديثة سوف تندثر وتنهار, وهذا محتمل جداً متى يحدث بعد مائة سنة أو أكثر, هذا غيب من غيب الله لا يعلمه إلا الله. لكن حتى الدراسات الحديثة تتوقع أن يكون هناك أحداث وأوضاع وحروب طاحنة, تدمر الحضارة البشرية الموجودة اليوم, وتبدأ الحياة البشرية بداية جديدة. أقول تعقيباً على ذلك: لا ينبغي للمسلمين أن يتعلقوا بمثل هذه الأمور, وإن كنا نقول أنها محتملة جداً, لكن ينبغي ألا نتعلق بها؛ لأنها متى تحصل هذه، أبعد مائة سنة, بعد مائتين بعد أكثر بعد أقل؟ الله أعلم. فهل صحيح أننا نحن المسلمين سوف ننتظر انهيار الحضارة الغربية, وانهيار التقدم المادي المعاصر, وبداية الحياة من جديد حتى نرفع ديننا وندعو إليه, هل هذا يليق, أو يجوز, أو يسوغ؟! كلا, بل يجب على المسلم أن يسعى إلى نصر دينه, ورفع راية لا إله إلا الله بالوسائل الموجودة، والإسلام يمكن أن يحكم في كل عصر, وفي كل بيئة, حتى في ظل التقدم العلمي والتكنولوجي والمادي والحضاري, يمكن أن يحكم الإسلام ويهيمن, لكن بشرط أن يوجد الرجال الذين هضموا العلم المادي البشري, وفي نفس الوقت هضموا العلم الشرعي, أو أخضعوا العلم المادي البشري للشرع, وهذا الذي ننتظره من شباب المسلمين. الآن المسلمون في الواقع في ذيل القافلة, وإذا كنا نمني أنفسنا بالأماني, ونقول: الآن انهارت الشيوعية, ونحن في انتظار انهيار أمريكا الوجه الغربي الآخر للحضارة المادية, نقول: نحن في انتظار انهيار الحضارة الغربية صحيح, والدراسات الغربية الأمريكية -وقد اطلعت على شيئ منها- تتوقع بأن هناك أزمات خانقة عاصفة سوف تهدد أمريكا, وسوف تنذر بفنائها وانهيارها, لكن السؤال الذي أطرحه عليكم: افترضوا أن أمريكا انهارت اليوم وليس غداً, هل عندنا نحن المسلمين الآن القوة والاستعداد والوسائل التي تجعلنا نطمئن إلى أننا سوف نقود البشرية إلى الإسلام، وإلى كلمة الله جل وعلا؟ في الواقع نحن أقل من ذلك بكثير, نحن ضعفاء الإيمان, ثقتنا بديننا ضعيفة, علمنا ضعيف, قدرتنا على قيادة البشرية ضعيفة. بيننا نحن المسلمين الآن من المشكلات, والأزمات, والخلافات, والاهتمامات الجانبية, وضعف التفكير, قدر كبير يحتاج إلى أن ننفض هذه الأشياء عنا, ونبدأ حياة صحيحة, وحينئذٍ فإنه لا يهمنا أن يواجهنا تحديات كبيرة من أمريكا, ومن روسيا, ومن اليهود, ومن غيرهم, فإنه من كان الله تبارك وتعالى معه، فإنه لا يمكن أن يقف في وجهه أي قوة مهما كانت, {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فلو كنا مسلمين حقاً سواءً بتمسكنا بشرعنا, أو ثقتنا بالله عز وجل وتوكلنا عليه, أو في تحقيقنا لوسائل النصر المطلوبة والتي منها الحصول على التقنية, والحصول على السلاح, والحصول على الصناعة, ووحدة الكلمة, والله لا يمكن أن تقف في وجهنا أي قوة مهما كانت. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 28 الجمع بين حديثي مدح وذم آخر الزمان السؤال كيف نجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه} وبين قوله: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} والحديثان صحيحان؟ الجواب أولاً: كل قاعدة لها استثناء, فإن قوله صلى الله عليه وسلم: {لا يأتيكم زمن إلا والذي بعده شر منه} هذه قاعدة عامة لها استثناء, فمثلاً الزمن الذي يكون في آخر الدنيا زمن عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام, هذا لاشك أنه من أفضل الأزمنة, بل إن بعض أهل العلم دخلوا في مقارنة بينه وبين زمن بعض الصحابة رضي الله عنهم كالخلفاء الراشدين، وإن كان الأمر في ذلك مما لا ينبغي، لكن على أي حال المقصود أن الزمن الذي يكون فيه عيسى بن مريم والمهدي في آخر الزمان, هو من أفضل الأزمنة بعد قرون الصحابة رضي الله عنهم, والتابعين, وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الإسلام يضرب بجدرانه؟؟ في الأرض, والحقد يرفع, والأديان كلها تنمحي أو تكاد أن تنمحي ولا يبقى إلا الإسلام, ويقبل الناس على العبادة، ويهم الرجل الغني المال لا يدري من يأخذه, ولا يجد من يقبله منه لغنى الناس، ويوفق الناس بحاكم عادل منصف يحثو المال حثياً, ولا يعده عداً, يعطي الناس المال بالكوم، لا يعده بالدرهم والدينا, إلى غير ذلك مما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. مثل ذلك الأزمنة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم أنها أزمنة المجددين, أخبر {أن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها} كما رواه أبو داود بسند جيد عن أبي هريرة رضي الله عنه, فزمان المجدد -والله تعالى أعلم- أفضل من الزمن الذي قبله، إنما الغالب أن كل سنة شر من التي قبلها, كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس عام أمطر من عام, لكن يرفع العلم ويظهر الجهل, وترفع السنن, وتنتشر البدع بين الناس، هذه نقطة. النقطة الثانية:- أن المقصود بالحديث النظرة العامة للأمة، بل للدنيا كلها, أما في بلد معين فقد يكون عام خير من عام, أو يكون بعض الأوقات خير من بعض, وهذا أمر مشاهد، فمثلاً لو نظرت في الجزيرة العربية قبل ظهور دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- كانت بلداً تنتشر فيه عبادة الأوثان بشكل ظاهر, وكان الناس يعبدون أوثاناً من أشجار, أو أحجار, أو غيرها, وكانوا يحكمون عادات وسلوكاً وطرائق من أنظمة الجاهلية, وكان همهم السلب والنهب, حتى أنه لو ظهر عليهم صاحب الرسالة الأولى صلى الله عليه وسلم لما عرف من أمرهم شيئاً, فلما ظهر الشيخ بدعوته جدد لهذه الأمة أمر دينها, وتبعه الناس وأحيا ما اندرس، وظهرت معالم الشريعة, وخفيت معالم البدعة والشرك, وصارت هذه البلاد إلى خير عظيم, ولا تزال إلى يومنا هذا -والحمد لله- تعيش في وضع جيد نسبياً من آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله. كذلك يمكن أن يجاب بجواب ثالث: وهو أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أن المقصود بآخره عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام وهذا ذكره بعض أهل العلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 29 درجة حديث: رحم الله امراءاً كف الغيبة عن نفسه السؤال أرجو أن تخبرني عن صحة هذا الحديث "رحم الله من كف الغيبة عن نفسه"؟ الجواب أقول لا أعلم هذا حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أظنه حديثاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإنما الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رحم الله امرءاً كف لسانه عن أعراض المسلمين, فإنه لا تحل الجنة للعان ولا طعان} وهذا الحديث أيضاً رواه الديلمي عن عائشة وهو ضعيف لا يصح. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 30 أحاديث الفتن السؤال يقول: بعض أحاديث الفتن قد تكون ظاهرة لنا, فهل يحق لنا أن نقول: إن هذا قد حدث، عندما نقرأ حديثاً من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ونحدث به الناس؟ الجواب الأحاديث تختلف فمنها ما حدث فعلاً, كما نعلم فيما حدث من القتال بين الصحابة رضي الله عنهم, أو انتهاء عصر الخلفاء الراشدين, أو تفرق شمل الأمة, أو ما أشبه ذلك, فهذا حدث بلا خلاف، ولا بأس أن يقول الإنسان: إنه حدث, وهناك أشياء يتصور الإنسان أنها حدثت وقد لا تكون حدثت, فمثل هذه لا ينبغي أن يتسرع الإنسان فيها. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 31 سؤال عن حديث الفئتين المتقاتلتين السؤال نرجو أن تشرحوا لنا هذا الحديث {لا تقوم الساعة حتى تتقاتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة} أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم, والحديث الآخر {لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم, والحديث الذي فيه ذكر الرجل أنه سماه النبي صلى الله عليه وسلم " الجهجاه " كما في المعنى. الجواب الحديثان الأولان: الحديث الأول: {لا تقوم الساعة} , صواب، والحديث {لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان من أمتي دعواهما واحدة} والحديث متفق عليه, عن أبي هريرة ومعنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: أن الساعة لا تقوم حتى تتقاتل طائفتان من المسلمين دعواهما واحدة، والمقصود بهذا الحديث -والله تبارك وتعالى أعلم- القتال الذي وقع بين الصحابة رضي الله عنهم, فإنهما فئتان عظيمتان ودعواهما واحدة، أي: كلاً من الطائفتين كانت تدعو إلى الحق, وإلى الإسلام, وإلى إقامة الخلافة الراشدة, لكنهم اختلفوا في الاجتهاد, فكلهم مجتهدون بلا شك, ولكن منهم مصيب ومنهم من اجتهد فكان غيره أصوب منه, فكان علي رضي الله عنه أقرب إلى الحق من غيره, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر أمر الخوارج, قال: {تقتلهم أولى الطائفتين بالحق} أو {أقرب الطائفتين إلى الحق} , فالمقصود بالفئتين العظيمتين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الحديث الثاني: {لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه} فهذا الحديث أيضاً رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه, والجزم بأن هذا الأمر وقع أو لم يقع من الأمور الصعبة العسيرة, فإن من الناس من زعم أنه وقع في القديم, ومنهم من زعم أنه وقع في التاريخ الحديث, وطبق ذلك على بعض الشخصيات المعروفة, ومنهم من قال: إنه لم يقع والجزم بذلك عسير. أما الحديث الذي أشار إليه السائل وهو حديث " الجهجاه " {أنه لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل -أو يحكم رجل- يقال له الجهجاه} فإن الحديث رواه مسلم في صحيحه، ورواه الترمذي أيضاً في كتاب الفتن عن أبي هريرة وقال: حسن غريب, وذكر أنه من الموالي، يعني أنه ليس من العرب ولكنه من الموالي, ومع ذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم وهذا لا أعلم أنه حدث فعلاً. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 32 حديث في الاستعاذة من القرن الخامس عشر السؤال يقول: هل ورد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ من القرن الخامس عشر؟ الجواب كلا، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك, وإنما يتناقل العامة رواية إسرائيلية مختلقة مكذوبة, أن الذئب الذي جاء به أخوة يوسف إلى يعقوب، لما أحضروه إلى يعقوب، وقالوا: إنه قد أكل يوسف, إن هذا الذئب قال: إنني ما أكلت وإن كنت أكلته فلعلي أحشر مع القرن الخامس عشر؟ وهذه من حكايات العجائز التي تحكى ليُضحك منها, وإلا فليس حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 33 أسباب النجاة من الفتن السؤال يقول: نسمع بالفتن وأحاديثها ونخشى أن تصيبنا, فما هي الأسباب التي نطبقها حتى نسلم من هذه الفتن؟ الجواب أسباب السلامة من الفتن كثيرة, من أهمها الاعتصام بالكتاب والسنة, بأن يقبل الإنسان على فقه القرآن والسنة، علماً وقراءة وعملاً وتطبيقاً, فأقبل على القرآن فإنه هو المخرج من الفتن, أقبل عليه قراءة وفهماً وتدبراً وعملاً فهذا هو الذي يعصمك بإذن الله تعالى من الفتن. الأمر الآخر: هو الإقبال على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم, فإن الذي وصف تلك الفتن وبينها, هو الذي بين الشفاء الناجح الناجع منها. الأمر الثالث: هو الاعتصام بالعقل, فإن العقل الراجح بعد فهم الشرع هو بإذن الله تعالى من أهم أسباب العصمة من الفتنة, فإن كثيراً ممن يقعون في الفتن هم من أصحاب العقول الطائشة, الذين يركضون خلف كل ناعق, ويتأثرون بكل فتنة, ويستجيبون لكل دعوة, فهم أصحاب عقول خفيفة لا تدرك ما وراء الأكمة, وأكثر هؤلاء من السذج والجهلة والعوام, فعلى الإنسان أن يعتصم بالعقل الراجح عند هذه الفتن. أمر آخر: إذا قلت: أنا لا أستطيع أن أدرك هذه الأشياء كلها, فنقول حينئذٍ: عليك أن تكون تابعاً لمن تثق بعقله ودينه وعلمه من أهل العلم, الذين جمعوا بين العلم بالشرع, والعلم بالواقع والعقل الراجح فيسعك ما وسعهم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 34 خصائص النبي صلى الله عليه وسلم السؤال هذا يسأل عن بعض خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؟ يقول: خص الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بعشر صفات هي: 1- لم يحتلم طول حياته. 2- ليس له ظل. 3- تبتلع الأرض ما يخرج منه. 4- بدنه محرم على جميع الحشرات. 5- تنام عينه ولا ينام قلبه. 6- يرى من خلفه كما يرى من أمامه. 7- لم يتثاءب. 8- ولد مختوناً. 9- تأتي إليه جميع الدواب طائعة إذا دعاها. 10- كان ربعة ولكن قامته تعلو كل قامة مهما بلغت من الطول. هل هذه صحيحة؟ الجواب هذه فيها الصحيح, وفيها غير الصحيح, وفيها ما يتوقف فيه, فأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يحتلم طول حياته: فهذا ذكره جماعة من أهل العلم الذين ألفوا في خصائصه صلى الله عليه وسلم, وقد جاء في الصحيح عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: [[أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يصبح جنباً من جماع غير احتلام, ثم يغتسل ويصوم]] فذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع غير احتلام, وهذا الحديث استدل به بعضهم على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع منه الاحتلام, واستدل به آخرون على أن الاحتلام جائز أن يقع منه صلى الله عليه وسلم, لأنه لو لم يكن جائزاً أن يقع منه لما نفته أم سلمة رضي الله عنها, على كل حال لم يثبت شيء صحيح في عدم احتلام النبي صلى الله عليه وسلم, اللهم إلا أن يقال: إن الاحتلام من الشيطان والرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الشيطان, وهذا ليس أمراً ظاهراً. أما أنه ليس له ظل: فهذا لا أعلم فيه شيئاً. تبتلع الأرض ما يخرج منه: كذلك لا أعلم فيه شيئاً. بدنه محرم على جميع الحشرات: إن كان يقصد بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فهذا معروف أن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. تنام عينه ولا ينام قلبه: فهذا صحيح، وقد جاء في الصحيح في قصة الملكين اللذين جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: أهو نائم أم يقظان؟ فقال أحدهما: تنام عيناه ولا ينام قلبه. يرى من خلفه كما يرى من أمامه: هذا أيضاً صحيح وثابت عنه صلى الله عليه وسلم؛ أنه أمر أصحابه أن يعتدلوا في الصف وقال: {إنني أراكم من ورائي} . لم يتثاءب: هذا لا أعلم فيه شيئاً, وإن كان التثاؤب من الشيطان. ولد مختوناً: هذا فيه اختلاف, وقد جاء فيه حديث باطل لا يصح, وقال بعضهم: ولد مختوناً, وقال بعضهم: ختن بعد ولادته. أما أن تأتي إليه دواب الأرض طائعة, وكان ربعة لكن قامته تعلو كل قامة: فهذا لا أعلم فيه شيئاً. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 35 مقدار الضعف في مسند أحمد السؤال يقول: ما رأيك بمن قال بأن نصف مسند الإمام أحمد ضعيف، وعلل ذلك بأن من تأخر عنه حقق هذا المسند؟ الجواب هذا كلام باطل، فإن مسند الإمام أحمد فيه ما بين 30 إلى 40 ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وغالب هذه الأحاديث صحيح أو حسن, حتى إن الإمام أحمد قال لولده عبد الله: احتفظ بهذا المسند فإنه سوف يكون للناس إماماً، وقلّما يخرج عن المسند من أحاديث الكتب الستة, أي أن معظم الأحاديث الموجودة في الكتب الستة موجودة في مسند الإمام أحمد لا يكاد يوجد حديث في الكتب الستة إلا ويكون موجوداً في مسند الإمام أحمد. والأحاديث الضعيفة في مسند الإمام أحمد موجودة, لكنها قليلة, أما الأحاديث الموضوعة فهي أقل من القليل, وقد دافع عنه الإمام الـ الحافظ ابن حجر في رسالة مختصرة سماها "القول المسدد في الذب عن مسند الإمام أحمد" ذكر فيها الأحاديث التي قيل بأنها موضوعة, وبين أنه لا يصح الحكم عليها بالوضع, بل منها ضعيف جداً, ومنها ضعيف, ومنها حسن, وقد يكون الصواب مع الـ حافظ ابن حجر في كثير مما قال، قد يكون قد اجتهد ولم يوفق في بعض ما ذكر. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 36 البحث عن صحة الحديث السؤال يقول: ناقشت أخاً لي في مسألة صحة الأحاديث، فروى حديثاً عن الرسول صلى الله عليه وسلم, فقلت له: ما صحة هذا الحديث، فغضب مني لأنني أردت معرفة صحة الحديث؟ الجواب نعم هذا يقع مع الأسف حتى من بعض طلبة العلم, إذا قلت له: ما مدى صحة هذا الحديث؟! تمعر وجهه وغضب وتضايق من ذلك! وهذا خطأ، بل ينبغي أن تفرح إذا سألك سائل عن صحة الحديث, وكان هذا دأب الصحابة رضي الله عنهم, فأنت الآن في القرن الرابع عشر فلا غرابة أن يسأل؛ لأنه قد وجدت أحاديث كثيرة موضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم, ووجدت أحاديث كثيرة ضعيفة, فلا غرابة أن يسأل إنسان ما مدى صحة الحديث, لكن في عهد الصحابة رضي الله عنهم وهم حديثو عهد برسول الله صلى الله عليه وسلم, ولم يكن هناك أسانيد طويلة ولا رجال مجهولون ولا، ولا , ومع ذلك كان الصحابي إذا سمع حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ما مدى صحته, روى أصحاب السنن وأحمد بسند صحيح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: [[كنت إذا حدثني أحد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإن حلف لي صَدَّقته]] أي: يقول له: احلف أنك سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإذا حلف صدقه, قال علي رضي الله عنه: وقد حدثني أبو بكر وصدق أبو بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبدٍ يذنب ذنباً ثم يتوضأ فيقوم ويصلي ركعتين ويقول: اللهم إني أذنبت فاغفر لي إلا غفر له} إذاً كان علي رضي الله عنه يستحلف من حدثه من الصحابة, وفي مقدمة صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان في حضرة جماعة من التابعين، فكان فيهم رجل اسمه بشير بن كعب يقول: [[قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم]] فلقيه ابن عباس لقاه جانبه وأعرض عنه, فقال له: مالك يا ابن عباس؟! أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعرض عني, فقال ابن عباس رضي الله عنه: إنا كنا زماناً إذا سمعنا رجلاً يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأشرأبت إليه أعناقنا]] , كنا إذا سمعنا رجلاً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فرحنا، وأبدينا رغبتنا في سماع ما يريد أن يقول, لأننا ما كنا نسمع إلا الصحيح, قال ابن عباس: [[فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ إلا ما نعلم]] أي حين بدأ الناس يروون أحاديث صحيحة, وأحاديث ضعيفة, وأحاديث لا تصح, أصبحنا لا نأخذ كل ما نسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لا نأخذ إلا ما صح وثبت لدينا صحته بالإسناد المتصل. إذاً لا حرج أن يستثبت الإنسان من صحة الحديث, لكن أنبه إلى أمر, أحياناً يأتيني بعض الشباب فيقول: ما حكم كذا وكذا؟ فأذكر له الحكم, ثم يقول لي: ما هو الدليل؟ فأقول: الدليل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه كذا وكذا , فيقول لي: هل هو صحيح؟! أقول له: نعم هو صحيح, بعد هذا أنا أرى أنه عند هذا الحد يجب أن يقف؛ ما دام قلت له: أنه صحيح, يجب أن يقف, فإذا شك يبحث في الكتب للزيادة, وبعضهم يسترسل معك يقول: إذا قلت له صحيح, قال: من صححه؟! أقول: صححه فلان وفلان وفلان, قال: في أي كتاب؟! إذا قلت في كتاب كذا, قال: في أي جزء؟! بعد ذلك يقول: في أي صفحة مثلاً؟! ويمكن يقول لك: في أي سطر؟! أو لو قلت له هذا الحديث ضعيف, قال لك: ما سبب ضعفه؟ قد لا أحفظ سبب الضعف, أحفظ الحكم لكن لا أحفظ سبب الضعف, أجل قلت له: فيه فلان وهو رجل ضعيف, قال لك: من ضعف هذا الرجل؟! قلت: ضعفه أبو حاتم وأبو زرعة , قال: في أي كتاب؟!! وهكذا! صار يستطرد معك في أسئلة أقرب للتعجيز. إذاً المطلوب العدل، من حقك أن تسأل عن صحة الحديث أو من خرجه لكن الاستطراد أين رواه؟ وفي أي مكان؟ وفي أي كتاب؟ ومن صححه؟ ومن ضعفه؟ وما سبب تصحيحه؟ وما سبب تضعيفه؟ هذا أمر صعب يحتاج إلى بحث, فإذا أحببت ذلك فعليك بالرجوع إلى المطولات. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 37 إسناد القصة إلى مصدرها السؤال ما معنى هذه العبارة: هذه القصة موجودة في كتاب كذا وكذا وأصلها في الصحيح؟ - يقصد أن بعض المتحدثين أحياناً يذكر قصة طويلة ويقول: أصلها في الصحيح, ما معنى الكلام هذا؟ الجواب معناه أن القصة أصلاً في صحيح البخاري, أو في صحيح مسلم, لكنها مختصرة بخلاف السياق الذي سقته فهو طويل, فأصل القصة في صحيح البخاري, لكن هذا السياق بهذا الطول ليس موجوداً في صحيح البخاري هذا هو المعنى. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 38 التوفيق بين حديثي اتباع أهل الكتاب وفارس والروم السؤال يقول: ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستتبع سنن اليهود والنصارى وفي الحديث الآخر فارس والروم, فكيف التوفيق بين الحديثين؟ الجواب نعم، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف تتبع سُنن بضم السين جمع سنة، أو سَنن بفتح السين يعني: طريق اليهود والنصارى, وكذلك فارس والروم, والجمع بينهما أن هذه الأمة سوف تتبع سنن الجميع اليهود والنصارى, والنصارى هم الروم, فنقول اليهود والنصارى والفرس, ثلاث أمم سوف تتبع هذه الأمة سننهم وطرائقهم حذو القُذَّة بالقُذَّة من هم؟ هم اليهود والنصارى والفرس. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 39 أسئلة فقهية الجزء: 138 ¦ الصفحة: 40 الموسيقى التي مع الأخبار في الراديو السؤال يقول: عند سماع الأخبار في الراديو يصاحب ذلك أحياناً من موجة أخرى صوت موسيقى خفيفة هل في هذا حرج؟ الجواب الموسيقى لا شك في تحريم سماعها, فإذا استطاع الإنسان أن يتخلص منها فعل, أما إذا جاء صوت ضعيف ليس مقصوداً, والإنسان لا يقصد سماعه فلعله لا حرج في ذلك -إن شاء الله- لكن على الإنسان أن يبذل جهده في التخلص من هذا الصوت. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 41 المصادر الموثوقة للأخبار السؤال أرشدني إلى مصادر إخبارية موثوقة؟ الجواب في الواقع لا أعلم مصادر أخبارية موثوقة، ولعل من أكثر ما يمكن أن يوثق به بعض الصحافة الإسلامية, وكثير منها توقفت لأنها كانت في الكويت كالفرقان والبلاغ والمجتمع, وما بقي إلا صحف إسلامية قليلة, لعل منها مجلة البيان، وبعض الصحف، وهي قليلة جداً، فعلى الإنسان أن يستفيد منها. أما بالنسبة للمصادر الإخبارية فهناك إذاعات غربية يسمعها الناس كما يستمعون إلى إذاعة لندن في بريطانيا, أو مونتكارلو في فرنسا, أو صوت أمريكا أو غيرها, ومثل هذه الإذاعات هي لا شك أكثر دقة؛ لكن مع ذلك ينبغي أن ندرك أنهم يدسون السم في الدسم أحياناً, وإن كانوا يحرصون على ما يسمونه بالموضوعية والدقة, إلا أنهم أحياناً ينشرون بعض الأخبار المغرضة، ويحاولون أن ينشروا الخبر بطريقة ذكية يلبسون فيها على بعض المغفلين. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 42 عصر الغثائية السؤال هل يصح أن تطلق على عصرنا هذا بأنه عصر الغثائية؟ الجواب في الواقع يوجد غثائية كثيرة, لكن بدأ المسلمون يعون واقعهم, وبدءوا يدركون الأمر الذي يجب أن يفعلوا, فنرجو أن ننتقل من مرحلة الغثائية إلى مرحلة القوة والإعداد المادي والمعنوي. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 43 حول النصر في فلسطين السؤال ما رأيك فيمن يقول: أتمنى ألا يتحقق النصر في فلسطين الآن, لأنه لو تحقق الآن فستحكم حكماً طاغوتياً, بل ربما ضُيّق على الملتزمين بدينهم مضايقة تفوق مضايقة اليهود الآن على فرض تحقق النصر، وإلا فهو شبه مستحيل؟ الجواب في الواقع أنه لا داعي لفرض المستحيل؛ لكنني أقول: إننا يجب أن نعلم أن الله يؤتي النصر من يشاء، يقول الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] توقف عند هذه الآية وتأمل من هم الذين ينصرهم الله، قال الله عز وجل: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:41] فالمعنى -والله تعالى أعلم- أن الله تعالى يعلم من حال هؤلاء الذين يجاهدون ويرفعون راية الإسلام؛ أنهم سوف يصبرون إذا انتصروا, فإذا مكنوا وحصل لهم النصر ثبتوا وصبروا فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر, فحينئذٍ ينصرهم بمعنى أنك قد تجد أناساً يقيمون الصلاة, ويؤتون الزكاة, ويأمرون بالمعروف, وينهون عن المنكر, ويجاهدون فلا ينصرون؛ لأن الله علم أنهم لو مكنوا ما صبروا على النصر, بل لتخلوا عنه. فمن باب أولى أنك تجد أناساً يرفعون راية العلمانية مثلاً, ويرفعون راية القومية, والديمقراطية, ويرفعون راية وحدة الأديان, فهؤلاء لا ينصرهم الله عز وجل, لأنهم حتى قبل أن ينصروا ما نصروا الله تعالى؛ حتى وهم مهزومون مخذولون تقصفهم الأعداء من كل جانب, ومع ذلك فإنهم ما تابوا إلى الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون:76] ترى هتافاتهم وشعاراتهم تدور بين القومية والعلمانية والبعثية وغيرها من الشعارات الأرضية , فكيف ينصرون؟! هيهات أن ينصروا, لا ينصرون أبداً لأن نصرهم خلاف السنن الإلهية, خلاف الشرع الذي أخبرنا الله تبارك وتعالى به, لا ينصرون أبداً, لن ينتصر على اليهود إلا حملة راية لا إله إلا الله. والغريب -أيها الإخوة- أن اليهود يعرفون ذلك, لعلكم سمعتم في الأخبار -أمس أو قبل أمس- أن اليهود قتلوا مواطناً حاول التسلل إلى إسرائيل, ما صفة هذا الإنسان الذي حاول التسلل؟! قالت الإذاعات والأخبار: إن هذا الرجل من الأصوليين المتشددين, وأنه كان يحمل معه بندقية, أو قالوا يحمل معه المهم الرجل متدين, صورة الرجل الملتحي ينزعج منها اليهودي في كل مكان, المسلم أصبح رعباً ينزل على رءوس اليهود والنصارى والكفار نزول الصواعق, والله لا يخافون من أصحاب الشعارات البراقة, ولا يخافون من الوعيد والتهديد عبر أجهزة الإعلام, إنما يخافون من هؤلاء المؤمنين الذين وضع الواحد منهم روحه على يده يتمنى أن يقتل شهيداً في سبيل الله عز وجل, هذا الذي يخيفهم ويزعجهم, وهم يصرحون ويتكلمون بذلك صراحة. هذا، وأسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم إلى صالح القول والعمل, وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، ويتوب علينا ويهدينا سواء السبيل, اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا رب العالمين, ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 44 كتاب عدالة السماء السؤال هذه عدة أسئلة عن كتاب عدالة السماء، وقد سبق أن ذكرت هذا الكتاب فبعضهم يسأل عن عنوان الكتاب يقول: ماذا يقصد بالسماء؟ الجواب هذا لا شك أنه تحفظ جيد على العنوان؛ لأنه يقصد عدالة الله جل وعلا، وعبر بالسماء وهو يقصد الله تبارك وتعالى, وكان ينبغي ألا يستخدم هذا الأسلوب. تابع السؤال: ثم يقول ما تقييمكم للكتاب من ناحية صحة القصص الموجودة فيه؟ الجواب: الذي يظهر لي أن عدداً من القصص الموجودة فيه صحيحة, وشهود بعضها أحياء, ثم إنها تسير في اتجاه طيب؛ لأن القصص فيها عبر فلا يلزم أن تكون قصصاً ثابتة, لأننا لن نستخرج منها أحكاماً شرعية. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 45 الترف والجهاد السؤال سؤالي عن الشاب الذي نشأ تحت كنف والديه في غمرة النعيم والبذخ، والذي كاد يثقل كاهله الثوب الذي يلبسه, ما توجيهكم لهذا الصنف تجاه الواجب الجهادي العام عليه، وعلى غيره وأقصد بالجهاد الاستعداد وغيره؟ الجواب في الواقع أن مشكلة مثل هذا الشاب أنه ينطبق عليه المثل الذي يقول: فاقد الشيء لا يعطيه، فمثل هذا الشاب أنت تكلمه عن موضوعات عديدة وهو يبتسم ويضحك؛ لأنه في واد وأنت في واد آخر, فكيف السبيل إلى الوصول إلى قلوبهم؟! هنا لا بد من التربية, لا بد من الجهد, لا بد من التسلل إلى قلوبهم بكل وسيلة حتى نستطيع أن تخرجهم مما هم فيه, لأن القضية الأساسية -كما سبق أن نوهت- هي أننا إذا أفلحنا أن نوجد في قلوب الشباب همَّ للواقع وللإسلام وللأمة, إذا بدأ الشباب يهتم للأمة فأبشر بنجاة هذا الشاب بإذن الله تعالى, لكن مادام هذا الشاب محصوراً همه في كيفية كي الغترة وإيجاد ما يسمى بـ "المرزاب" وكيفية إصلاح السيارة, وتغسيلها وغسل الكفرات, وجعل السيارة بشكل معين ثم الدوران في الشوارع, ثم صحبة بعض الصبيان وما أشبه ذلك من المظاهر السيئة, والركض وراء الموضات وتسريحات الشعر, وإلى غير ذلك من الأمور التوافه, فمثل هذا الشاب الآن وهو في غمرة هذه الأمور في وادٍ بعيد، عندما تكلمه أنت عن مثل هذه القضايا ينظر إليك بسخرية, فهو غير مؤهل أن يستمع إليك, فهو يحتاج إلى دعوة جادة تخرجه مما هو فيه حتى يتحرك قلبه, وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} . الجزء: 138 ¦ الصفحة: 46 العقاب بالولد وعدل الله السؤال ذكرت أن الله تعالى قد يعاقب شخصاً بولده, فكيف يتفق ذلك مع عدالة الله تعالى ومع قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ؟ الجواب -هذا السؤال تكرر أيضاً وأنا أشكر الأخوين السائلين- لأنه أولاً يجب أن لا نقارن كلام المخلوق بكلام الخالق, إذا كان أحداً ادعى كلاماً وفي القرآن الكريم ما يناقضه فإننا نرد هذا الكلام؛ لأننا نقول هذا كلام مرفوض ومردود, والدليل قول الله عز وجل: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] هكذا ينبغي أن يكون, إلا أن يكون قصد السائل أنه قد يكون للكلام معنى لم يفهمه، على كل حال أقول: هذا كلامي أنا، وكلام فلان، وكلام علان (وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل) : دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر أنا استغفر الله تعالى وأتوب إليه إن كنت أخطأت, بعض أهل العلم قد يقول: إنه كما يقال الولد سر أبيه، فإن كان الأب صالحاً, فالغالب أن الأولاد يغلب عليهم الصلاح, وإذا كان الأب فاسداً فالأمر كذلك غالباً, ولذلك جاء في سورة الكهف في قصة موسى والخضر قول الله عز وجل: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82] فقد يقال: إنه إذا كان الأب فاسداً والولد مثله أيضاً؛ فإنه قد يعاقب الولد بذنب أبيه, كما في القصة التي سقتها سابقاً؛ الرجل الذي عاهد الجنود ثم لما نزلوا سحلهم في الشوارع, فبعد ذلك قبض على ولده وكان أميراً فسحل في الشارع عقوبة له ولأبيه, وذلك لأن الولد هو الآخر كان على خُطى أبيه. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 47 قتال اليهود والموقف منه السؤال أنت ذكرت أن المسلمين سيقاتلون المشركين واليهود, فهل موقف المسلم أن يركن إلى الدعة والراحة حتى إذا كان للمسلمين جولة مع اليهود؟ الجواب لا يا أخي أنا ما ذكرت أن الذين سوف يقاتلون المشركين واليهود هم الملائكة, وإنما ذكرت أن الذين سوف يقاتلونهم هم المسلمون, إذاً معناه أنه قتال بعد جهد وإعداد, إعداد مادي, وإعداد معنوي, وبعد ما يتقدم المسلمون، وبعدما يتخلص المسلمون من سلبياتهم, وعيوبهم, ويصبحون على مستوى المعركة, بعد ذلك يُقاتلون وينصرون, وليس الملائكة هم الذين سوف يقاتلون حتى نقف نحن مكتوفي الأيدي ننتظر نزول الملائكة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 48 الحزن هل هو متعبد به سؤالان يذكران: أنني ذكرت في محاضرة سابقة أننا نتعبد بالحزن, قالوا: والحزن لا يتعبد به، وليس بمشروع, لأنه لم يرد في النصوص الأمر به, وإنما قصارى الأمر جوازه لأنه فطرة وجبلة بشرية, بشرط ألا يخرج إلى اليأس لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {العين تدمع والقلب يحزن} ؟ الجواب في الواقع قبل أن أقول أننا متعبدون بالحزن, كنت قرأت كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وكلام ابن القيم في هذا الباب, وليس مقصودي أننا نتعبد الله تعالى بأن نبقى في حزن دائم, كلا، ولكنني أقصد أن الحزن الذي يصيب المؤمن بسبب غيرته على حرمات الله, أنه مما يثاب عليه ويؤجر عليه, وهو فضل بالنسبة إلى ذلك الآخر الذي يرى المنكرات فلا يتمعر وجهه, ولا يحزن قلبه, ولا يتكدر صفاؤه, وإلا فالواقع أن مسألة التعبد بالحزن أن يجلس الإنسان حزيناً ويعتبر هذه عبادة ليس هذا مما يتعبد به. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 49 أبيات عن القدس السؤال يقول: ذكرت أبياتاً في المحاضرة السابقة عن القدس أين ذُكرت هذه الأبيات؟ وأين أجدها؟ الجواب هذه الأبيات لشاعر من شعراء الشام اسمه عمر الأميري وأظنها موجودة في ديوانه. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 50 كتب عن العلمانية السؤال أرجو منك أن تذكر لنا الكتب التي تتكلم عن العلمانية؟ الجواب كثيرة منها كتاب "تهافت العلمانية" لـ عماد الدين خليل , ومنها كتاب "العلمانية" للشيخ سفر الحوالي , ومنها كتاب "مذاهب فكرية معاصرة" للأستاذ محمد قطب. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 51 تقليد الكفار فيما يستفاد من أمور الدنيا السؤال هل هناك مانع أن نستفيد من العلوم الموجودة عند الأمم الأخرى الكافرة وكتاباتهم مع ما نحمله في قلوبنا من الكراهية والبغض؟ وهناك سؤال آخر مشابه، يتكلم عن تقليد الكفار في السلاح يقول: إذا رأى الشخص أن في تقليد المشركين مصلحة ومنفعة للإسلام والمسلمين كما يرى في تقليدهم في السلاح -لعله يقصد السلاح وشكله- فهل في ذلك شيء؟ الجواب إن هذا ليس في الواقع تقليداً أو تشبيهاً بهم, بل هذه هي الحكمة التي هي ضالة المسلم أنى وجدها فهو أحق بها, والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الأشياء المفيدة الموجودة عند الأمم الأخرى -والكلام في هذا يطول- ولكن أذكر له بعض الأمثلة: لما جاءت الأحزاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حفر الخندق, وكان حفر الخندق عادة مأخوذة عن الفرس، أخذها النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة سلمان الفارسي وطبقها, لأنها عبارة عن خدعة عسكرية، وحيلة لم تكن تعرفها العرب، وهي نافعة وليس فيها تشبه بالمشركين, وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما ولي الخلافة أخذ عدداً من الأشياء المفيدة كنظم إدارية مثل تدوين الدواوين وغير ذلك, بل الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث رواه الشيخان قال: {لقد هممت أن أنهى عن الغيل -والغيل هو: وطء المرأة وهي ترضع- ثم وجدت أن فارس والروم يفعلون ذلك فلا يضرهم} يعني الرسول عليه الصلاة والسلام همَّ أن ينهى الناس عن أن يطئوا المرأة حال إرضاعها للطفل, ثم لم ينه عن ذلك, لأنه لاحظ حال فارس والروم وأنهم يفعلون ذلك فلا يضرهم، فهم أقوياء وشجعان وفرسان ولم يضرهم أن الرجل يطأ المرأة وهي ترضع, أي: خلال فترة الإرضاع. فإذاً الرسول صلى الله عليه وسلم استفاد حينئذٍ من خبرة اجتماعية أو قضية اجتماعية موجودة عند فارس الروم, وكذلك لما كانوا لا يقرءون كتاباً إلا مختوماً ختم النبي صلى الله عليه وسلم، وضع خاتماً ونقشه محمد رسول الله, إذاً المنهي عنه هو التشبه بهم في خصائصهم, في أخلاقهم, وفي عادتهم, والكلام في التشبه كلام يطول. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 52 اتباع القانون الوضعي السؤال هل اتباع القانون الوضعي يعد من العبادة لغير الله؟ الجواب القانون الوضعي, يتعلق به طرفان: الطرف الأول: من فرض القانون, يعني الحاكم الذي فرض القانون على الناس, وألزمهم به وتوعد من يخالفه أو يخرج عليه بالقتل والسجن والصغار, فهذا العمل كفر وردة عن الإسلام, لأن الله عز وجل قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] وهذا لا شك أنه نوع من الشرك في التشريع, حتى أن الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتاب "البداية والنهاية" لما تكلم عن الياسق وهو جنكيز خان , قال ابن كثير: فمن حكم بالشرائع المنسوخة من اليهودية والنصرانية فهو كافر, فكيف بمن حكم بشرائع البشر وأنظمتهم وقوانينهم؟ هذا لا شك في كفره بإجماع المسلمين, هكذا يقول: ابن كثير , فهذا يجب أن يعلم أن القوانين التي تفرض على الناس بقوة الحديد والنار والسلاح، والسلطة الذي يفرضها عمله كفر وردة. أما بالنسبة للإنسان, فإن الإنسان إذا كان يستطيع أن يتخلص من هذا القانون, ولو تنازل عن بعض حقه فهذا هو الذي ينبغي له, وإما إذا أكره على ذلك فإن المكره لا يتعلق بفعله حكم, لكن ينبغي أن يبغضه بنفسه ويسعى إلى إزالته بكل ما يستطيع من قوة, حتى لو استطاع أن يهاجر عن البلد الذي يحكم فيه بالقانون ووجد بلداً آخر يحكم فيه بالشرع، ويستطيع أن يستقر فيه لكان عليه أن يفعل ذلك؛ إذا لم يكن في بقائه في بلده الأصلي مصلحة ظاهرة من الدعوة، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 53 أزمة أم فتنة السؤال إن الناس يقولون: إننا الآن في (أزمة) , وهو تغيير للاسم الحقيقي (فتنة) , فالصحيح أن نقول أننا في زمن فتن وعفا الله عنا وعنكم؟ الجواب عفا الله عنا وعنكم أجمعين، وقول الناس: إننا في أزمة, لا أظن أنه يعارض أن يكون الناس في فتن في دينهم أو بعض أمورهم؛ فإن الأزمة هي الأمر الضيق الذي يضيق على الإنسان وليس التعبير بلفظ الفتنة مما يتعبد به. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 54 طلب مسامحة السؤال أرجو أن تجعلني في حل منك فإنني قبل عدة شهور كنت ممن يتكلم فيك, قبل أن أتبين حقيقة دعوتك؟ الجواب أقول لأخي الكريم, أنت في حل، وسامحنا الله وإياك، وعفا الله عنا وعنك, وينبغي لنا جميعاً أن نحرص على أن نتبين ونتثبت كما أمرنا الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] . الجزء: 138 ¦ الصفحة: 55 استئصال الأمة السؤال يقول: هل يمكن أن يحصل استئصال لأمة الإجابة؟ الجواب -استئصال أي: فناء تام- أقول: لا, استئصال بعذاب لا، إنما تستأصل وتنتهي أمة الإجابة -والله تبارك وتعالى أعلم- بالريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين في آخر الزمان, وإلا فأمة الإجابة باقية إلى قبيل قيام الساعة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 56 الطائفة المنصورة السؤال هل الطائفة المنصورة موجودة في كل زمان؟ وهل هي محصورة في جهة واحدة أم توجد في كل مكان؟ الجواب نعم، موجودة في كل زمان إلى وقت هبوب الريح، وليست محصورة في جهة واحدة ولا يلزم أن توجد في كل مكان, قد توجد في مكان واحد وقد توجد في أمكنة متفرقة. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 57 الحجاج بن يوسف وصدام حسين السؤال يقول: أرجو أو أود أن تذكر شيئاً من سيرة الحجاج لا سيما أن هناك من يقارن بينه وبين طاغية العراق, هل هناك مقارنة وما موقفنا من الحجاج؟ الجواب الحجاج لا شك أنه كان أميراً على العراق في عهد بني أمية, وكان ظلوماً غشوماً جباراً سفاكاً للدماء, وهو المبير الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {سيكون في ثقيف كذاب ومبير} ومبير: يعني يكثر القتل وسفك الدماء وهكذا كان، فإن الحجاج كان ظلوماً غشوماً, ولكن مع هذا فإن الحجاج كان صاحب عبادة وذكر وبكاء, فلم يكن كطغاة هذا العصر لا يعرفون الله عز وجل طرفة عين, حتى طغاة ذلك العصر الأول يختلفون عن طغاة عصرنا هذا, كان الواحد منهم مسرعاً إلى الدماء وقد يكون ظالماً وقد يكون غشوماً, لكن مع ذلك لعل كثيراً من الأحداث والقصص التي تروى في التاريخ فيها مبالغة, وذلك لأن التاريخ كَتَبَ كثيراً منه, أو كُتِبَ كثير منه بأقلام الشيعة, والشيعة كانوا حاقدين على دولة الخلافة الإسلامية, فكانوا يجعلون من الحبة قبة -كما يقال- ويضخمون بعض الأخطاء التي تقع كما ضخموا حادثة الحرة, وكما ضخموا القتال الذي حصل بين الصحابة, وكما ضخموا بعض أعمال الحجاج بن يوسف إلى غيرها, ولعلكم تعرفون أن كثيراً من مرويات ابن جرير الطبري في أحداث التاريخ الإسلامي, كانت عن طريق أبي مخنف لوط بن يحي وهو شيعي هالك محترق, فينبغي أن يتفطن لذلك. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 58 احترام الكافر وتعظيمة السؤال يقول: ما حكم تشغيل الكافر في المحل أو المزرعة أو غيرهما من المصالح, وما حكم قول الإنسان للشخص الذي لا يعرف إسلامه رفيق أو صديق أو غيرها من الكلمات الطيبة؟ الجواب كل كلمة فيها تعظيم للكافر, فإنها لا تجوز, لا يجوز أن يقال له: سيد أو قائد أو زعيم أو عظيم, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأصحاب السنن وسنده صحيح؛ قال عليه الصلاة والسلام: {لا تقولوا للمنافق سيدنا؛ فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم عز وجل} فمجرد كلمة سيد للكافر لا تجوز, فما بالك أن يكون الكافر سيداً سيادة حقيقية؟! هذا لا شك أنه أعظم جرماً وإسخاطاً لله جل وعلا, فلا يجوز أن يقال للكافر: صديق أو رفيق أو غيرهما من الكلمات المرادفة لهما. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 59 كفارة اليمين السؤال يقول: هل يجوز دفع كفارة اليمين وهي إطعام عشرة مساكين لمسكين واحد؟ الجواب لا, يجب أن تطعم عشرة مساكين، كما قال الله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أو كسوتهم} [المائدة:89] . الجزء: 138 ¦ الصفحة: 60 الصلاة خلف الصبي السؤال هل تجوز الصلاة خلف من عمره إحدى عشرة أو اثنى عشرة سنة؟ وإذا صليت وراءه فهل أعيد الصلاة؟ الجواب إذا كان هذا الإنسان أو الشاب عاقل مميز يحسن الوضوء والصلاة, وصليت وراءه فصلاتك صحيحة, وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث عمر بن أبي سلمة أنه صلى بقومه وعمره سبع أو ثمان سنوات؛ لأنه كان أكثرهم قرآناً. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 61 السنن وإيذاء الناس السؤال يقول: هناك من يتشدد في عمل السنة حرصاً منهم على أدائها, ولكنهم قد يؤذون الناس الآخرين, فهل فعلها أفضل من تركها مثل مقاربة الرجلين في الصلاة, والتقدم في الصف الأول إذا قيمت الصلاة وما شابه ذلك؟ الجواب في الواقع أن موضوع تطبيق السنة يحتاج إلى كلام طويل, وقد سبق أن تكلمت عن هذا الموضوع في أكثر من مناسبة؛ منها محاضرة خاصة بعنوان: كيف ننشر السنة، ذكرت فيها وجهة نظري التي إن أصبت فيها فمن الله -والحمد لله- وإن أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان، والتي أرى فيها أن الإنسان قد يترك السنة أحياناً مراعاة لما هو أهم منها, وقد يرى أن الفرصة مناسبة لتعليم الناس السنة فيفعلها، وهذا كله يختلف بحسب أحوال الناس, وبحسب نوعية الفاعل للسنة, فمثلاً إذا كان الذي يفعل السنة شخص معروف كبير وله شأن, فإن الناس يقبلون منه؛ لأنهم لا يمكن أن يقولوا هذا جاهل, أو متسرع, أو طائش, أو ما أشبه ذلك, لكن إذا فعلها شاب صغير، قالوا: هذا متعجل, هذا لا يدري, هذا كذا, هذا كذا , ثم بدءوا ينالون منه. فينبغي أن تسلك الطرق المناسبة في نشر السنة بين الناس, ومن الطرق المناسبة أن تقرأ عليهم من بعض الكتب، إذا أردت أن يطبق الناس السنة، يمكن أن تقرأ من كتاب لسماحة الشيخ ابن باز أو غيره من العلماء، أنه يقول كذا ويقول كذا ويقول كذا , حتى يعلم الناس أن فعل السنة ليس من عند أنفسنا بل هو أمر يعرفه أهل العلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 62 وظيفة مختلطة السؤال يقول: أنا شاب أعمل في المستشفى ويوجد في العمل اختلاط وخلوة, وأعمل مع النساء في عمل واحد, فما هو حكم هذه الوظيفة في الإسلام؟ الجواب عمل الإنسان في مثل هذه الأماكن التي فيها خلوة واختلاط يختلف، فإن كان بقاؤك في مثل هذا العمل فيه مصلحة ظاهرة مثل دفع بعض الشر والفساد, أو القضاء على بعض المنكرات, أو ما أشبه ذلك, فبقاؤك حينئذٍ فيه خير كثير, وكم من إنسان في مثل هذه الأجهزة وغيرها، يكون سبباً في القضاء على منكرات كثيرة, أما إن كان الأمر ليس كذلك، وكنت تجد في نفسك ضعفاً بحيث إنك لا تستطيع أن تصبر على هذه المنكرات, وقد تقع فيها، وتخشى على نفسك من الوقوع في الفواحش والفتن والمفاسد, فحينئذٍ ننصحك: أن تنجو بنفسك، واعمل على أن تحول عملك إلى مجال ليس فيه اختلاط بالنساء, كأن تكون في المستودعات أو غيرها من المجالات التي لا يكون فيها اختلاط. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 63 الحلف بآيات الله السؤال يقول: هل يجوز القسم بآيات الله؟ الجواب آيات الله نوعان: 1- الآية الشرعية، أي القرآن يجوز القسم بها, لأنها من صفات الله جل وعلا, فإذا أقسمت بآيات الله وأنت تقصد القرآن, جاز ذلك. 2- أما الآيات الكونية: كالشمس والقمر وغيرها, فإنه لا يجوز القسم بها. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 64 النصارى أعداء لنا أم أصدقاء السؤال يقول: سبق أن ذكرت أن النصارى أعداء لنا بدليل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51] كيف نجمع بين هذا, وبين قول الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82] ؟ الجواب الجمع يتضح من خلال قراءة الآية: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ} هذا هو السبب: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [المائدة:81-85] الآيات، إذاً هذا الكلام فيمن أسلموا من النصارى والله تبارك وتعالى أعلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 65 تحية المسجد والراتبة السؤال أنا أؤدي صلاة المغرب في أي مسجد على طريقي إلى هذه المحاضرة، فإذا جئت إلى المسجد فهل أصلي تحية المسجد ثم السنة الراتبة أم أدخل إحداهما في الأخرى؟ الجواب إذا صليت الراتية فإنها تكفيك عن تحية المسجد. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 66 استقدام العمال الكفار السؤال قد يجد أحدنا عمالة أجنبية كافرة من شرق آسيا, فهل لنا أن نحملهم وهل علينا من شيء إذا تركناهم؟ الجواب سواء كانت العمالة من شرق آسيا أو من غرب آسيا أو من أي مكان في الدنيا، بالنسبة للكفار الذين أتوا إلى هذه البلاد بطريقة نظامية؛ فإن الإنسان ينبغي أولاً أن يتذكر أنه كلما استطاع أن يأتي بمسلم فإنه لا يسعه أن يأتي بكافر, ألا اتخذت حنيفاً, كل عمل في الدنيا يمكن أن يعمله المسلمون بدلاً من الكفار, فكلما استطعت أن تأتي بمسلم بدلاً من الكافر, كان هذا هو الواجب عليك واللائق بك, وهذه الجزيرة طهرها الله عز وجل, وأمر ألاَّ يجتمع فيها دينان، فلا تكن أنت ممن غير وبدل وخالف كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسمحت لهؤلاء الكفرة من يهود أو نصارى أو غيرهم أن يأتوا إلى بلاد المسلمين, فحاول أن تستقدم عمالاً مسلمين، لكن إذا ابتليت بهؤلاء، فينبغي أن تعمل على دعوتهم إلى الإسلام بكل ما تستطيع, سواء عن طريق الكتب، أو الأشرطة، أو الدعوة, ولا شك أنك إذا أردت أن تدعوهم؛ فأنت محتاج إلى أن تتلطف معهم في الحديث، وتعاملهم بخلق حسن, أركبه معك على السيارة إذا وجدته في الطريق, لكن إذا أركبته تكلم معه وعرّفه مثلاً بأماكن الدعوة؛ كمكتب الجاليات الذي فيه دعوة لغير المسلمين, وأعطه بعض النشرات والكتب التي بلُغته, لعل الله أن يهديه على يديك: {ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} . الجزء: 138 ¦ الصفحة: 67 حكم السترة في الصلاة السؤال يقول: ما حكم اتخاذ السترة في الصلاة؟ الجواب حكم اتخاذ السترة مستحب عند جماهير أهل العلم في الحضر والسفر, وهذا هو القول الوسط، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها واجبة وهذا قول ضعيف, وذهب بعضهم إلى أنها لا تستحب إلا في الحضر أما في السفر فلا تستحب, وهذا أيضاً قول ضعيف. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 68 دعاء اللهم لا تفتنا إلا في طاعتك السؤال يقول: ما حكم قول العامة في دعائهم: "اللهم لا تفتنا إلا في طاعتك ولا تلهنا إلا في طاعتك"؟ الجواب هذا لا ينبغي إلا أن يكون على سبيل الاستثناء المنقطع, إنما هو مما ينبغي تركه, فإن الطاعة ليست فتنة ولا لهو, لو قال: "اللهم لا تشغلنا إلا في طاعتك" لكانت الطاعة شغلاً, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن في الصلاة لشغلاً} كما في حديث ابن مسعود في صحيح مسلم. الجزء: 138 ¦ الصفحة: 69 لقاء في الخرج هناك أهمية للدعوة إلى الله، وواجب الدعاة نشرها بالحكمة والموعظة الحسنة وعدم الإثارة، وهناك وسائل للدعوة، ومن بشائر الدعوة الصحوة القائمة اليوم وعلى العلماء توجيهها وإرشادها، ولا ينبغي أن تتعلق الدعوة بالأشخاص هذا هو حديث الشيخ في هذا اللقاء. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 1 أهمية الدعوة إلى الله قال الشيخ الدكتور: عبد العزيز حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه ومن والاه. أيها الأحبة في الله: نرحب بكم جميعاً في هذا المكان الطيب الذي اجتمعتم فيه، في الله ومن أجل الله، ويسرنا أن نرحب بعلامة القصيم الشيخ الهمام، صاحب القلم السيال، والسحر الحلال، إنه سلمان بن فهد العودة صاحب البيان والجودة، وهو غني عن التعريف، ولولا أنني أخشى أن يغضب؛ لزدتكم شيئاً من صفاته، ولكني أعلم أنه لا يرغب، فأنزل عند رغبته، وأدعو له بالثبات والتوفيق، وأن يحفظه في حلِّه وترحاله، وأن يصلح نيته، وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يشملنا جميعاً برحمته التي وسعت كل شيء، ونحن شيء. يا أحبتنا في الله! لا شك أن الدعوة مطلب عظيم، ووظيفة مهمة جداً، تبنتها الأنبياء منذ خلق هذا الإنسان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. قامت الأنبياء بالدعوة إلى الله، وبلغت الرسالة، وأدَّت الأمانة، حتى ختموا عليهم الصلاة والسلام بسيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وقد رزقه الله بأصحاب هم أفضل الأمم بعد الأنبياء، قاموا بالدعوة خير قيام حتى صارت راية الإسلام خفَّاقة في الآفاق -رضي الله تعالى عنهم أجمعين- ولقد تبنوا الدعوة وضحوا تضحيات منقطعة النظير؛ فتركوا ديارهم، وأموالهم من أجل الدعوة إلى الله، وانتقلوا إلى الديار، ووصلوا إلى أكثر الأمصار؛ من أجل تبليغ دعوة الله؛ لعلمهم التام أن هذه الدعوة تجارة رابحة مع الله، وأن من اهتدى بسبب دعوتهم؛ فإنهم سينالون مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيئاً، وقال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] . الجزء: 139 ¦ الصفحة: 2 شروط الدعوة إلى الله الذي أوصي إخواني به -ولست بأعرف منهم- أن يقوموا بالدعوة على هدي من كتاب الله عز وجل ومن هدي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن يقصدوا بذلك وجه الله عز وجل؛ حتى تكون هذه الدعوة صواباً، وسائر الأعمال أيضاً تحتاج إلى هذا؛ فلا بد أن يرتكز العمل على أساسين: الأول: أن يكون مستنداً إلى شيء من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يقصد به وجه الله، فقد يقصد بالعمل وجه الله (100%) ؛ لكنه مخالف للكتاب والسنة، فيصير هذا العمل بدعياً وإن كان خالصاً، وبالتالي يكون مردوداً؛ لأنه ليس على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وقد يأتي العمل مطابقاً للوحيين (100%) ، ولكن لا يقصد به وجه الله؛ فيصير شركاً، أو رياءً، فيكون عملاً غير مقبول. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 3 واجب الدعاة والمطلوب من الدعاة: أن يتحسسوا أمراض الأمة، ويعالجوها بتأني وحكمة؛ ولكن البعض من الدعاة، أو من بعض أصحاب المناهج المختلفة قد يُشِّمر عن ساعد الجد والاجتهاد، فيتتبع أخطاء وتقصير إخوانه، ثم ينتقدهم علانية، ويقصد أن يتنقص من شأنهم، ويصرف الأنظار عنهم، وهذا العمل لو تعلم عنه الدول الكافرة؛ لشجعت من يقوم به خير تشجيع؛ ولأعطتهم الهدايا السخية، مكافأة لهم على ما يفعلون؛ لأنهم اشتغلوا ببعضهم البعض دون المعادين، والمعاندين، والمخالفين. وليس معنى كلامي هذا أنني أمنع النقد البناء، والنصيحة الطيبة، بأن يسديها هذا الناصح وهذا الداعي إلى أخيه بتفهم وحب للخير، وبأسلوب لطيف، وأن يثني عليه -على صاحب هذا التقصير- بعمله، ويقول: كذا: من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط ثم يهدي له الأخطاء، فالرجل العاقل سيدعو لمن ينبهه ويقول: رحم الله من أهدى إلينا خطايانا أما أن يأخذ الإنسان على رءوس الأشهاد وينتقده؛ فهذا لا ينبغي. الناس ليسوا معصومين العصمة للأنبياء، وحتى أتباع الأنبياء ليسوا بمعصومين، كما قال الإمام مالك رحمة الله عليه: كلٌ يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، ويقصد به النبي صلى الله عليه وسلم. فالهدوء في الدعوة أمر طيب، وإن حصل اختلاف؛ لا نأخذ في الصياح والتنابز بالألقاب؛ لأن الشيطان يدخل في هذه الحالة، فإذا اختلفنا في شيء نرده إلى كتاب الله، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا لم نستطع أن نستخرج الحكم من الكتاب والسنة، نرجع إلى أهل الذكر وأهل العلم المعتبرين، ونحن -والحمد الله- بلادنا تعج بهم وهم على كثرة ووفرة، ويتمتعون بالصبر، والحلم، والأناة، والأخلاق الكريمة، وعلى رأس هؤلاء: سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله وأمد في عمره، ورزقه الأعوان الناصحين، والمستشارين المخلصين، فنرجع إلى العلماء ونستفتيهم، ثم ننتهي إلى الفتوى. أما أن يأخذ بعضنا يسب البعض الآخر، والآخر يقول: كذا، والآخر يشنع على أخيه، ويتلمس الأخطاء -والأخطاء كثيرة- والجماعات الإسلامية مقصدها الخير، قد يتبنون أمراً ما، ليس فيه خلاف أو لا دليل عليه إنما اجتهدوا فيه، وقالوا مثلاً: أنه من المصالح المرسلة، أو شيء من هذا؛ فإنهم مجتهدون في هذا، ولكنهم لم يحظوا بالصواب في هذا الاجتهاد. فتناقش المسألة بالهدوء، ويكون القصد الوصول إلى الحق؛ لا أن يكون القصد أن القضية انتصار، ويهمني أن أنتصر فقط مهما كلف الأمر! لا، أناقش وأنا هدفي الحق، وهدفي الوصول إلى الحق، فمتى ظهر لي الحق ألتزم به، والحق ضالة المؤمن. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 4 وسائل الدعوة إلى الله وسائل الدعوة كثيرة ووفيرة، فكل واحد يقوم بالدعوة في محيطه؛ فالموظف يقوم بالدعوة أمام زملائه، والرجل يقوم بالدعوة في بيته، وإمام المسجد في حيِّه وهكذا، فلا نحتقر شيئاً من الدعوة؛ كتاب أو كتيب صغير يوزع، شريط يوزع، نصيحة تسدى، زيارة لمقصر في بيته، رسالة توصل إليه، وهكذا بالحكمة واللطف، وأن يقصد هذا الإنسان إيصال الخير إلى الغير، ويتتبع الصواب، والذي ليس عنده علم في المسألة يسردها إلى من عنده علم، أو يطلب الفتوى في هذه المسألة، ويقول: فيها كذا، أو فيها كذا، وإن شاء الله أهل العلم -ولله الحمد- متوافرون في كل مكان، وفيهم الخير والبركة. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما فيه الخير والسداد، اللهم اجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، والتفرق من بعده تفرقاً معصوماً، اللهم لا تجعل فينا شقياً ولا محروماً يا حي يا قيوم. اللهم اشملنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين ارحمنا، اللهم وفق ولاة أمورنا لما فيه الخير والصلاح والنجاح، اللهم ارزقهم المستشارين المخلصين، الناصحين الذين يذكرونهم إذا نسوا، ويعينونهم إذا ذكروا، اللهم انصر المجاهدين المسلمين في كل مكان، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم يا حي يا قيوم. اللهم من أرادنا بسوء فأشغله في نفسه، واجعل تدبيره عائد إلى تدميره. اللهم رد بيت المقدس إلى المسلمين وما جاوره من الأرض إلى أهلها الشرعيين، وانصر اللهم المجاهدين المسلمين في كل مكان يا حي يا قيوم. اللهم إنا نعوذ بك من شرور الأشرار ونجعلك في نحورهم {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137] . وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى أهله وصحبه وسلم، وأشكركم على أن قدمتموني ولست بأحسنكم، ونتمنى للجميع أمسية طيبة مباركة، ولا شك أن نعتبرها فرحة، والإخوة يعتبرون -أيضاً- ذلك فرحة بمقدم الشيخ -جزاه الله خيراً- ونفعه ونفع به، وثبتنا وإياه على الصراط المستقيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال مقدم اللقاء حفظه الله: جزى الله فضيلة الشيخ الدكتور: عبد العزيز خير الجزاء على هذه الكلمة الضافية الوافية، ونسأل الله سبحانه وتعالى، أن ينفعنا وإياكم بما قال. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 5 قصيدة ترحيبية قصيدة ترحيبية للأستاذ: عبد الله العسكر: لا شك أيها الإخوة: أن مثل هذه التوجيهات هي إحدى ثمرات مثل هذا اللقاء وغيره من اللقاءات لا شك وأن الجميع فرحٌ بهذا اللقاء ومسرور به. ونيابة عن أهالي الخرج، الأستاذ عبد الله العسكر: يقدم قصيدة ترحيبية للحضور فليتفضل. بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. أيها الشيخ الفاضل، أيها المشايخ الفضلاء: أرحب بكم أجمل ترحيب وأعطره، وأحييكم في هذه الليلة المباركة؛ التي فرح الجميع -بلا شك- فيها بفضيلة الشيخ سلمان -حفظه الله- وأيده، وكثر من أمثاله. أيها الشيخ الكريم: إنك لو فتحت ما في قلوبنا جميعاً؛ لرأيت حبا عظيماً ومحبةً وتقديراً، وما ذاك إلا حباً في الله -إن شاء الله-. وما نحبك أيها الشيخ، إلا لما نعلمه عنك من صدق -نحسبك كذلك والله حسيبك- ونسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياك على طريقه المستقيم. القصيدة هي بعض ما يدور في الخاطر، وهي ذرة من مجموعة أو من حب عظيم يدور في خلجاتنا جميعاً. فاسمع منا أيها الشيخ، وتجاوز عما فيها، وما عهدناك إلا كريماً: سلمان حلَّ فقم يا شعر ملتهباً وانثر حروفكَ في دنيا الهنا شُهبا وابعثْ قصائدك الغرَّاء مُنتشياً تُعانق النجم تروي السهلَ والْهضبا هذي القوافي أتيتُ اليوم أُحكِمُها ففاضَ شعري على الأوراقِ وانسكبا ما صُغتها راجياً شكراً ومَكْرُمةٌ وما أردتْ بِها مالاً ولا ذهبا لكنَّها فرحةٌ في القلبْ قد لَجِبَت فَرُحْتُ أكتبُ ما في القلبِ قد لَجِبَا فهَاهُنا في بلادِ الخرج شرفَنَا شيخٌ على صهوةِ الأمجادِ قد وَثَبَا أبا معاذ رعَاكَ الله يا رجلاً بِهِ تألقَ فجرٌ وانتشىَ طَربَا هذا هو الخرج قد حيَّاك مبتهجاً فَلا تلُمه إذا ما مَاجَ واضطرَبَا جحافلٌ قد أتتْك وكلُها لهفٌ أتتْ إليكَ تحيي العلمَ والأدبَا هذا هو الجيلْ ظمآنٌ به عطشٌ فلْيَشْرَبِ الْعلمَ منكمْ صافياً عَذِبَا وهذه زمرٌ مِنْ خَلْفِهَا زمرٌ فَسِرْ بِها نحو فجرٍ لاحَ واقْتَربَا نُرِيدُها وثْبَةً لله خَالصَةً لَعلْنَا نُرْجعُ الْمجدَ الذي ذَهَبَا نريدها عودة بيضاء ناصعة تأسياً باسمكم لا تعرف الشوبا نُريدُهَا صَحوةً يُقُودُهَا مَعْشَرٌ أفْعَالَهُم تَسْبِقُ الأقوالَ والْخُطَبَا فقد ملِلْنَا قَراراتٍ ومُؤتَمَراً وقدْ سَئِمْنَا كلاماً يَمْتَلِيْ كَذِبَا فنحنُ مَنْ أمةٍ تَهْوَى الْجِهَادْ هوىً قد خالَطَ الْلحمَ والأحشاءَ والعَصَبا سَلْ الْمَشَاهدَ عَنَّا إنَّنَا صُبَرٌ في الْحَربِ نَسْتَسِهِلُ الأهوالَ والْكُرَبَا بدرٌ وحطينْ والْيرموكُ تَعْرِفُنَا والْقادسيةَ سَلْهَا تَسمعَ العَجَبَاَ نحنُ الذينَ سَقَيْنَا الْمجدَ مِنْ دَمِنَا مَجدَاً عَلَونَا بِهِ الأنواءَ والسُحُبَاَ نَسْتَلْهِمُ الْحقَ مِنْ يَنْبُوعِ شِرْعَتِنَاَ وَنَبْعُهَاَ مُغْدِقٌ مَاَ جَفَّ أوَ نَضُبَاَ سعد وعمرو وخباب ومعتصم أَنْعِمْ بِهِمْ سَادةً وقادةً نُجُبَاََ يا أيُّها الشيخُ عُذْراً إنْ نَبَا قَلَمِي فَإنَّ في الْقلبِ مَاَ قدْ يملأُ الْكُتُبَاَ كتبتُ شِعراً مِنْ الأعماقِ أَنْفُثُهُ لأَنَّنِي مُوقِنٌ أنَّ الضِيَاْ قَرُبَاَ غّداً نعيدُ إلى الأقصىَ كَرَامَتُهُ ونُرجِعُ القدس والجولان والنقبا صوتُ الأذانِ بروما سَوفَ نَسْمَعُهُ وذاكَ وعدٌ من المختارِ مَاَ كَذَبَاَ وسوفَ نَدخلُ بالرَاَيَاتِ أندلساً لِنَحْطِمَ الْكُفْرَ والأصنامَ والصُلُبَاَ غداً بمدريد نَتْلُوْ آي خَالِقِنا وسوفَ يَا شيخْ نُعْلِيْ الْبِيضَ واليَلَبَاَ فارْفَعْ يَديكَ إلى الرحمنِ مُبْتَهِلاً مَاَ خَابَ مَنَ سَألَ الرحمنَ أوْ طَلَبَاَ والسلام وعليكم ورحمة الله وبركاته. بارك الله فيك، وأكثر الله من أمثالك، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعناه. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 6 البوسنة والهرسك قصيدة عن البوسنة والهرسك للأستاذ: عبد الله العسكر. هذه القصيدة قلتها عندما سيطرت الدول الغربية بعد حرب الخليج، وعندما تبين ما فعلته في البوسنة والهرسك من تخاذل كشف ما يسمى "بالقانون الدولي، والنظام الدولي الجديد" ومن وجد فيها شيئاً من المبالغة فهي شعر، والشعر إذا لم يكن فيه مبالغة، وشيء من الإثارة فهو نثر. فلذلك أرجو من المشايخ، والإخوان الذين قد يعتبون عليها، لذلك أن يمروا بها مر الكرام، وأن يستروا عورها: سراييفو الجريحة سامحينا إذا قلنا لعلك تسلمينا إذا كانت إغاثتنا هباء دواء أو غذاء أو أنينا نرجي هيئة الأمم التفاتاً وقد كاد الأمين بأن يخونا ولو كنتم يهوداً أو نصارى وجدتم مجلس الأمن المعينا وغطت جوكم أسراب حرب تدمر من قنابلها الحصونا ولو كنتم خليجاً سال نفطاً لزمجر بوش إنا قادمونا وندد بالكوارث والمآسي وأجهش يذرف الدمع الثخينا وأقنع مجلساً للأمن يدعى وطوع كيده روسا وصينا هو القانون أعور حين يهوى فيبصر جانباً ويتيه حينا فأغضا عن أسى البلقان جفناً وأبصر في الخليج البائسينا ولم ير في الخليج دماء شعب ولكن أبصر النفط الثمينا وخمر النفط تسكر كل صاح وتمنح كل ذي عقل جنونا فمن في عينه منا غيوم رأى في الصرب ما فتح الجفونا أدرتم في الخليج رحى حروب تدور على جماجمنا طحونا وما جئتم لقانون وحق ولا لحماية المتوسلينا ولكن قلتمُ هبت رياح ألا نذروا بها سماً دفينا ندمر بيتهم ونقول نحمي بأسلحة ومالاً يجمعونا فهل هذي النهاية أم ستأتي فصول رواية عنها عمينا ولو كان الخليج بغير نفط لأمسى مِن تدخُّلكم أمينا تجرون الحليف لكل فخ لكي يبقى بأيديكم رهينا فلا حلفاؤكم عرفوا طريقاً ولا أنصفتموا منهم خدينا نصبتم في الخليج فخاخ مكر ليخنع في إساركمُ حزينا فيصبح شعبنا بقراً حلوباً وصيداً في شباككمُ سمينا فتبنون الحضارة في رباكم وفوق ظهورنا نبني ديونا زرعتم فتنة سقيت بظلم فجاء حصادها حقداً دفينا رفضتم في الجزائر حكم شورى وأيدتم بها جيشاً تخينا فصارت دولة الشورى حراماً علينا إن رعت خلقاً ودينا تريدون الحكومة مثل غرب أكنا في حضارتكم بنينا لنا خلق وللإفرنج خلق أيفرض دينه حتى ندينا لنا مثل وللغربي مثل وما كل الحضارة من أثينا نظامكم الجديد إذاً يرانا قطيعاً في المسارح أو زبونا شعوب الغرب ساستكم دهتكم ونحن بساسة منا بلينا فلا في الرأي قادتنا أصابوا ولا رؤسائكم صدقوا ظنونا وكان الشعب فيكم أهل شورى وكان الشعب فينا مستكينا جهلتم مرة أخرى جهلتم كما جهل الصليبيون حينا لماذا أيها الرؤساء فينا نشرتم خزيكم في العالمينا تراضيتم فأخفيتم بلايا وأبدى الخلق سركمُ المصونا فكفر بعضهم بعضاً وآخى صليبياً وصهيوناً لعينا تفرقتم إلى عرب وعجم وسودتم مذل المسلمينا نقضتم عروة ما بين عُرب وعادى كل ذي قِرن قرينا تشرذمتم إلى يمن وشام وأمسيتم يساراً أو يمينا تفرقتم على واد ومرعى وأجمعتم محبة قاتلينا تعارضت المصالح والمبادي فمد عدوناً كفي أخينا تشعبتم إلى مُلاَّك نفطٍ وقحط دمر الدنيا ودينا فيسكن في المقابر بعض قوم وفوق السُّحْب يلهو آخرونا ومات من المجاعة بعض شعب وهدت بطنة رهطاً بطينا أيا قتلاً بسيف قد سقلتم بمال قد أضعتم حدثونا أما للعرب صار لهم دماراً وصار سلاحهم لهمُ منونا فيا حرب البسوس ألا سلاماً لقد عدنا لفخرك باعثينا وحزب البعث شق لنا قبوراً لحدنا مجدنا فيها دفينا فهب أن الكويت لكم حلال أتنطح صخرة كسرت قرونا ويا حكام أندلس سلام فقد كنتم لنا سلفاً رصينا أيا عرب الخلاف ألا ائتلاف وقد صرتم حديث الشامتينا تنادوا للتصالح قبل يوم تعضون الأصابع نادمينا غداً إن جف حقل النفط تبقى حقول الحقد بركاناً سجينا ذروا نبش العداوة فهْي نار ستحرق نابشيها أجمعينا وهل أمريكيا في كل خطب ستبني حولكم سوراً حصينا ألا يا عرب أندلس أفيقوا أما فتق الصباح لكم عيونا لماذا أيها الحكام فينا تفرقتم يساراً أو يمينا وأجمعتم على شكوى شباب تدين بعد أن عرف اليقينا فبعض إن تفرنج قيل مرحا وآخر من تدينه أهينا أصار الكفر والتغريب علماً وصار العري والبالي فنونا مباح أن ترى فخذاً ونهداً ويحرم أن ترى جسداً مصونا فللفساق قد فتحوا الملاهي وللعباد قد فتحوا سجونا وما عاد التطرف غير رفض لعلمانية نشرت مجونا ترون منابر الآراء عنفاً أليس العنف قتل الواعظينا وما الإرهاب إلا رد عنف على قهر رعاه الحاكمونا تريدون الديانة حفظ نفس ونصاً لا يحرك خاملينا وليس الدين مسبحة وذكراً وهزاً للرءوس ولا سكونا ولكن نهضة تحيي وتغني وتحمي عند نكبته عرينا تعالوا صافحوا جيلاً جديداً يريد وقد أفاق بأن يكونا وهاتوا بالحوار رشيد رأي يقارع غامضاً حتى يبينا فإن الرأي ينضج بعد بحث كما أخصبت بالمحراث طينا أيا عرب التخلف هل وعيتم من النكبات درس الذاكرينا فمن رام الحياة بغير فكر تبدد في عواصفها طحينا ومن حفظ الحضارة لمع نفط لقد أهوى به حتى يهونا ومن ظن الحضارة في سلاح فقد أضحى به يوماً طعينا ومن حسب الحضارة في المباني فقد ظن الورى حجراً وطينا فلن تبني بها رأياً حكيماً ولو ربيت مخلوقا سمينا فليس حضارة زرع وصنع إذا لم تبنِ إنسانا رصينا وما شاد الحضارة غير عقل تحرر مستنيراً مستبينا ولا يبني العقول سوى حوار وشورى تقتل الرأي الهجينا ولا يبني الحضارة غير شعب تساوى الناس فيه أجمعينا فلا أمراؤه نالوا امتيازاً ولا أحراره صاروا قطينا أسأل الله سبحانه وتعالى لي ولكم التوفيق والسداد، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيراً. نعم: مسبحة بكف -جزاك الله خير-، هذا التعديل من أفضل التعديلات؛ لأن كلمة (ذكر) كان فيها نظر جزاكم الله خيراً. قال مقدم اللقاء حفظه الله: لا فض الله فاك وجزاك الله خيراً. وفي الختام كلمة للشيخ عبد الرحمن الصغير مندوب الدعوة والفتاوى في الخرج: الجزء: 139 ¦ الصفحة: 7 أهمية الاجتماع للدعوة قال الشيخ: عبد الرحمن الصغير حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: أيها الإخوة: فإننا نرحب باسمكم بأصحاب الفضيلة المشايخ الكرام الذين كان سبب اجتماعنا جميعاً هو الشيخ سلمان بن فهد العودة -جزاه الله خيراً-، ونسأل الله لنا وله العودة إلى هذا المكان، والأماكن المباركة الطيبة دائماً وأبداً. ثم أيها الإخوة: ملاحظة خفيفة كأن بعض الإخوة الحاضرين انتقد الشيخ عبد العزيز -جزاه الله خير- فقال: إن الشيخ سلمان سيصل، إن شاء الله كل الأمور ستصل، أما مسألة يا إخواني التوجيه، والترشيد؛ فهذا فضل الله علينا، أن منَّ علينا بعلماء يرشدوننا. فإننا لا بد لنا من الاجتماع، وإن سلف الأمة وخير الأمة، كانوا يجتمعون، فيجب علينا أن نبعد من أفكارنا العصمة لأحد؛ فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه لما مات النبي صلى الله عليه وسلم قال: [[إن رسول الله لم يمت]] فجاء أبو بكر رضي الله عنه وقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات]] . فلا بأس -يا إخواني- من أن يوجه بعضنا بعضاً، وأن يأخذ بعضنا من بعض. فباسمكم جميعاً أرحب بالشيخ سلمان، وبالمشايخ جميعاً؛ رئيس محكمة الحوطة الشيخ عبد الله بن الفنتوخ، وبقية المشايخ. وكذلك لأن الشيخ سلمان -جزاه الله خير- عنده كلمة، وبعده تشرفوننا في العشاء، فليتفضل؛ وجزاكم الله خيراً جميعاً، وصلى الله على محمد وعلى آله. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 8 عدم تعلق الدعوة بالأشخاص قال الشيخ: سلمان بن فهد العودة حفظه الله: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. لا أكتمكم أنني فرحت بمثل هذا الجمع، وإنني أعبر فقط عن عظيم سروري بلقياكم ورؤيتكم، وأسأل الله تعالى أن يجمعني وإياكم على طاعته. أيها الأحبة: أفرح بهذا الجمع، ليس لأنه حضر من أجل شخص معين، لكنني أفرح بهذه الوجوه المتوضئة التي عرفت طريقها إلى الله عز وجل، فقد كان عهدنا -منذ بعيد- بالشباب يتجمعون بأعداد كبيرة على مدرجات الملاعب الرياضية، أو في الساحات العامة، أو ما سوى ذلك. أما اليوم فالحمد لله لقد أصبحت الصحف تعالج قضية التهرب من الملاعب، واستخدام الأساليب والوسائل لإعادة الشباب إلى الملعب، وفي المقابل أصبحنا نجد مثل هذه الجموع الغفيرة التي فقدها الملعب قد توجهت، وعرفت طريقها إلى المسجد، هذا هو سر فرحي. أما ما عندي؛ فعندي عقيدة والله تعالى أعلم أنها موجودة، وهي أن ما عندي لا تستحقون أن تأتوا إليه، وإن ما قاله الإخوان المشايخ في حقي -غفر الله لي ولهم- إنما هو تعبير المحب الذي يحسن الظن؛ ولكنه لا يخلو من مبالغة وزيادة، وأسأل الله تعالى أن يعفو عني وعنهم. ومثل -أيضاً- تلك القصيدة التي هي جميلة في معانيها وعباراتها، إلا ما يتعلق بي، والتي قرأها أخي الكريم والشيء الوحيد الذي أريد أن أؤكده وأكرره -وقد ذكرته في المحاضرة، وذكرته في محاضرات كثيرة، وأرى أنه دين يجب إبلاغه إليكم- أن أمر الدين، وأمر الدعوة لا يجوز أبداً أن يربط بأشخاص على الإطلاق، بل يجب أن يكون أمر الدين عبادة بيننا وبين الله عز وجل، فليس في الإسلام، كما في النصرانية؛ كهنوت رجال دين وما أشبه ذلك. عندنا علماء، لكن -كما قلت- مهمة العالم أن يشرح النص ويوضحه، يخرج العلماء والفقهاء، يكثر المجتهدين؛ لكنه يخطئ ويصيب، ويقبل منه ويترك ويرد -أيضاً-، وينبغي أن نعرف للناس أقدارهم؛ فلا نرفعهم ولا نخفضهم. لا شك أن ازدراء الناس واحتقارهم، هذا من العيب وخلاف المروءة؛ حتى أخلاق الجاهلية تأبى هذا وترفضه؛ لكن -أيضاً- ينبغي أن يعرف لكل إنسان قدره، ورحم الله تعالى امرءاً عرف قدر نفسه. استثمار الجهود: أمر ثان: وهذه المسألة طويلة، ولكن باختصار أشار إليها الشيخ عبد الله بإيجاز، وهي مسألة هذه الجموع الغفيرة التي تقبل على الخير، ينبغي أن تستثمر، ويستفاد منها. فأين هذه الجموع الطيبة من الدروس العلمية؟ أعرف أن عندكم دروساً في العقيدة، ودروساً في التفسير، وفي الفقه، وفي الحديث، وفي السيرة، وفي ألوان العلوم المختلفة. أين هؤلاء الشباب من مجالات الخير، وأعمال الخير، والأنشطة الخيرية، والقيام بالدعوة -ولو على سبيل الانفراد- ببذل الوسع، وبذل الجهد، بحيث لا ينبغي أن نرفع شعار: (لا مكان للبطالين بيننا) . حب الرءوس لا يكفي يا إخوان؛ ينبغي أن نُحوِّل عواطفنا نحو الدين إلى الوجهة الصحيحة، فيوجه كل واحد منا ما يستطيع، ولا يحتقر نفسه أبداً. ثم إنني أكرر مرة أخرى شكري الكبير لأصحاب الفضيلة المشايخ جميعاً، وشكري لأهل البلد، وشكري لكم أنتم على حضوركم ومحبتكم. وصراحة! ما زال في نفسي أشياء كثيرة، وموضوعات كنت أود أن أطرحها؛ لكن ضيق الوقت، وتأخره يدعو إلى أن أؤجلها؛ على أمل -إن شاء الله- أن يأذن الله تعالى بلقاء آخر يكون أوسع من ذلك. وأسأل الله تعالى أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، وأن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 139 ¦ الصفحة: 9 المفاضلة بين الخلطة والعزلة الإنسان اجتماعي بطبعه، وما زمان يأتي إلا وهو شر مما قبله، وهناك أحاديث وردت في الحث على العزلة في مثل هذا الزمان، ثم ذكر الشيخ بعض من تجب في حقهم العزلة، وأن الخلطة هي أفضل من العزلة. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 1 الخلطة غريزة في الإنسان إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة: إن الله تبارك وتعالى الذي خلق الإنسان هو أعلم بمن خلق كما قال سبحانه: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير} [الملك:14] خلق هذا الإنسان ميالاً إلى الأنس والمجالسة والمعاشرة، تاركاً للعزلة والانفراد مستوحشاً منها، وأنزل هذا الدين ملبياً للخصائص الفطرية المركوزة لدى الإنسان. ولذلك كان الإسلام دين الجماعة، فأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد أن الله عز وجل يخاطب أمة وجماعة فيقول: (يا أيها الذين آمنوا) فالخطاب في القرآن هو للجماعة قبل الفرد، وحين تتأمل الأحكام الشرعية والشعائر العبادية، تجد أن الله تبارك وتعالى فرض كثيراً منها على الجماعة وأوجب الجماعة، فيها إما على الأعيان وإما على الكفاية، فالصلاة مثلاً تجب على كل فرد، ويجب عليه أن يصليها مع الجماعة، وقل مثل ذلك صلاة العيد، أو الاستسقاء، أو الكسوف، أو غيرها، منها ما يجب أداؤه جماعة على كل فرد، ومنها ما تجب فيه الجماعة على الكفاية. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 2 أحاديث ظاهرها تفضيل العزلة وسوف أسوق لكم بعض تلك الأحاديث ثم أبين الوجه الصحيح في فهم هذه الأحاديث والجمع بينها وبين حديث ابن عمر السابق. ففي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: {يا رسول الله: أي الناس أفضل؟ فقال: مؤمن مجاهد في سبيل الله عز وجل قيل له: ثم أي؟ قال: رجل في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره} فالإنسان حين يسمع هذا الحديث، يجد أن المؤمن المعتزل المتعبد في شعب من الشعاب، يأتي في المرتبة الثانية -بادي الرأي- بعد المؤمن المجاهد بنفسه وماله، ومثل هذا الحديث بل وأوضح منه في الدلالة ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من خير معاش الناس لهم رجل راكب على متن فرسه في سبيل الله، كلما سمع هيعة طار إليها، يبتغي الموت أو القتل مظانة، ورجل في شعب أو شظية جبل يعبد الله عز وجل ليس من الناس إلا في خير} وهذا الحديث أقوى في الدلالة على العزلة من الحديث الأول، لأن الحديث الأول اعتبر المجاهد في الدرجة الأولى، واعتبر المعتزل بعده في الدرجة، أما في هذا الحديث فقد قرن بينهما في الواقع، فقال رجل على متن فرسه ورجل في شعب أو شظية جبل، فكأن ظاهر الحديث يقتضي اشتراكهما في الفضيلة. ولهذين الحديثين شواهد كثيرة جداً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيا ترى ما هو الوجه الصحيح في فهم هذه الأحاديث؟ وهل الرسول صلى الله عليه وسلم يحثنا على الاعتزال ويرغبنا فيه؟ وكيف يكون ذلك مع ما سبق في الحديث الصحيح من أنه صلى الله عليه وسلم فضل المخالطة على الاعتزال وترك معاشرة الناس. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 3 الأخوة في الله من الخلطة وكذلك شرع الإسلام للمسلمين الاجتماع على الطاعة وعدم التفرق، وشرع لهم المؤاخاة، وجعلها طريقاً موصلاً إلى الجنة وسبيلاً للاستظلال بظل الله تبارك وتعالى يوم لا ظل إلا ظله، فالتحاب في الله، والتآخي فيه، والتزاور فيه، هي من الأمور المقربة إلى الله تعالى. ففي الحديث الذي رواه مالك في الموطأ وغيره عن أبي إدريس الخولاني رحمه الله قال: {دخلت مسجداً في دمشق فإذا فيه فتى براق الثنايا، وإذا الناس حوله فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه فيه، قال: فوقع في قلبي حبَّه، فلما كان من الغد هجَّرت فوجدته قد سبقني في التهجير، ووجدته يصلي، فانتظرته حتى إذا قضى صلاته أقبلت عليه فقلت له: إني أحبك في الله، فقال: آلله؟ -أي تحلف بالله، يستحلفه بالله على صدق هذه المقالة- قال: قلت: آلله؟ قال: آلله؟ قلت: آلله، قال: آلله، قلت: آلله، قال: فأخذ بحبوتي فجذبني إليه، وقال لي: أبشر فإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى وجبت محبتي للمتحابين فيَّ، ووجبت محبتي للمتجالسين فيَّ، ووجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، ووجبت محبتي للمتباذلين فيَّ} وهذا الحديث صحيح، صححه الإمام ابن عبد البر والحاكم، والمنذري، والنووي، وغيرهم من الأئمة، ومن العجيب أن عُمْر أبي إدريس الخولاني حين حصلت له هذه القصة كان يقل عن عشر سنوات، ومع ذلك يرى هذا الشاب الذي هو معاذ بن جبل رضي الله عنه فيقع حبه في قلبه، فيأتي من الغد مبكراً لينفردبه، ويشعره بهذا الشعور الأخوي الفياض، ثم يقول له: إني احبك في الله، بل ويحفظ عنه هذا الحديث الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى. فالأخوة شريعة ماضية، والصحبة سنة قائمة، وينبغي لكل مسلم أن يحرص عليها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 4 فوائد الأخوة ولهذه الأخوة فوائد عظيمة، فهي أولاً: امتثال لأمر الله عز وجل الذي أمرنا بالأخوة فيه، وحث عليها، ورغب فيها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وهي ثانياً: أمر يتعلق به كثير من الواجبات والعبادات، من الصلوات والحج وغيرها. وهي ثالثاً: وسيلة إلى معرفة الإنسان مدى تحليه بالخصال الحميدة والأخلاق الفاضلة التي حث عليها الشرع، فإن الله عز وجل أمرنا بالتحلي بالأخلاق الفاضلة، والتأسي بالرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك، حيث قال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم} [القلم:4] وقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْر} [آل عمران:159] وأمرنا الله عز وجل بالصبر وغير ذلك من الأخلاق. ولا سبيل للإنسان ليعرف مدى تحليه بهذه الخصال إلا بالمخالطة، وتحقيق الأخوة الإسلامية تحقيقاً عملياً، فإنك إذا اختلطت بالناس ورأيت من الأعمال والتصرفات التي تثير غضبك فكظمت هذا الغيظ، عرفت مدى تحققك بالصبر، فإن لم تستطع عرفت عدم قدرتك على تحقيق هذا الخلق العظيم، ولذلك جاء في الحديث الصحيح عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه دعاه الله عز وجل على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} وفي الحديث الصحيح المتفق عليه: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} . وهكذا الحلم، لا تستطيع أن تعرف هل أنت حليم أم لست بحليم حتى تخالط الناس، وتواجه أعمالاً وأقوالاً تستفزك، فإن ربطت أعصابك، وقابلت الموقف بهدوء وسعة بال، عرفت أنك قد اتصفت بهذه الصفة، وإن فقدت صوابك وانفعلت واستجبت لهذه المثيرات عرفت أنك بحاجة إلى أن تربي نفسك على الحلم الذي هو خصلة من الخصال المحمودة المطلوبة منك شرعاً. ولهذا كله، فإن الخلطة أصل مطلوب من الإنسان، بل هي الأصل، ولذلك قرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأصل بأحاديث كثيرة أكتفي منها بحديث واحد، وهو ما رواه الترمذي , وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم، خير من المؤمن الذي لا يخالطهم ولا يصبر على آذاهم} والحديث صحيح. وفي هذا الحديث نص واضح على أن الخلطة أفضل من العزلة، وأن المؤمن الذي يصبر على معاشرة الناس، ومداخلتهم، والقيام بحقوقهم، خير وأفضل عند الله عز وجل من المؤمن الذي لا يخالطهم، فلا يلقى منهم الأذى الذي يحتاج إلى الصبر. وهذه القضية قضية ظاهرة، ولكن قد يشكل عليها أحاديث صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 5 الجواب على أحاديث العزلة الجواب على ذلك بأمور: الجزء: 140 ¦ الصفحة: 6 اعتزال السلطان الحالة الثالثة: التي تشرع فيها العزلة: هي اعتزال السلطان عند فساده، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه ابن عباس: {من تتبع الصيد لها، ومن سكن البادية جفا، ومن أتى السلطان افتتن} وهذا إشارة إلى أن من أتى أبواب السلاطين عند فسادهم، وغشيهم في مجالسهم، فإنه عرضه للوقوع في الفتنة، سواء في دينه أو دنياه أو في الأمرين معاً، وهذا الحديث رواه أيضا أبو داود والترمذي والإمام أحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح. إذاً فهناك ثلاث حالات عامة تشرع فيها العزلة: الحالة الأولى: عند فساد الزمان. والحالة الثانية: عند وقوع الفتنة، والاقتتال بين المسلمين. والحالة الثالثة: اعتزال السلطان عند فساده، أما فيما عدا هذه الحالات فإن المشروع في حق الإنسان هو الخلطة كما سبق، وهذا هو رأي جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين وغيرهم. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 7 العزلة في الفتن بين المسلمين الحالة الثانية: هي العزلة في الفتنة، والمقصود بالفتنة القتال الذي يقع بين المسلمين، والدليل على مشروعية العزلة في مثل تلك الحال، ما رواه عمرو بن وابصة الأسدي -رضي الله عنه ورحمه الله- قال: كنت في داري بالكوفة إذ سمعت قائلاً يقول: السلام عليكم، أألج؟ أي أأدخل؟ فقلت: وعليكم السلام، ادخل، قال: فإذا أنا بـ عبد الله بن مسعود، فقلت له يا أبا عبد الرحمن أي ساعة زيارة هذه؟ وكان ذلك في نحر الظهيرة في شدة القيلولة، فاستغرب هذه الزيارة، فقال ابن مسعود رضي الله عنه طال عليَّ النهار فتذكرت رجلاً أتحدث إليه، قال: فجعل يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدثه، قال: فقال لي: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من المجري، قتلاها كلهم في النار، قلت: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: ذلك أيام الهرج، قلت: وما أيام الهرج؟ قال: حين لا يأمن الرجل جليسه، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: ادخل دارك، قلت: فإن دخل علي داري؟ قال: ادخل بيتك، -والبيت أخص من الدار كأنه غرفة تكون في أقصى الدار- قلت: أرأيت إن دخل علي بيتي؟ قال: ادخل مصلاك، ثم قل هكذا: وقبض بيمينه على الكوع -علامة على الاستسلام وعدم القتال- وقل: ربي الله حتى تموت على ذلك} قال عمرو بن وابصة وهو يروي عن أبيه قال: [[فلما قتل عثمان رضي الله عنه طار قلبي مطاره تذكر هذا الحديث، فذهبت إلى الشام فلقيت خريم بن فاتك رضي الله عنه فأخبرته بما قال لي عبد الله بن مسعود، فأقسم لي بالله والله الذي لا إله إلا هو لسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما حدثك ابن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه]]- وهذا الحديث رواه أبو داود والإمام أحمد والحاكم والزيادة التي فيه من قوله فلما قتل عثمان هي من رواية أحمد. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 8 حالات جواز العزلة المتعلقة بالمجتمع أما فيما يتعلق بالمجتمع، فهناك حالات ثلاث يشرع للإنسان فيها العزلة: الجزء: 140 ¦ الصفحة: 9 عند فسادا لزمان الحالة الأولى: هي العزلة عند فساد الزمان، فإذا فسدت المجتمعات بالكلية، وانحرفت، وابتعدت عن هدي الله عز وجل ولم يجد الإنسان فيها خيراً يأنس به، وتحققت في هذه المجتمعات الصفات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي ستأتي الإشارة إليها، شرعت للإنسان العزلة عنها، ومن الأدلة على ذلك، ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه؟ فقالوا له: كيف نصنع عند ذلك يا رسول الله؟ قال: تأخذون ما تعرفون وتدعون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتدعون أمر عامتكم} والحديث رواه أبو داود وابن ماجة والحاكم وصححه، والإمام أحمد في مسنده وغيره، وهو حديث صحيح. وقريب منه ما ورد في صحيح البخاري من قول النبي صلى الله عليه وسلم: {تبقى حثالة من الناس} وقد بوب البخاري على هذا الحديث بباب (نزع الأمانة) وذكر حديث حذيفة الذي فيه نزع الأمانة من قلوب الرجال. ففي هذا الحديث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم مجموعه من الصفات متى وجدت في أي مجتمع شرع فيه الإقبال على الخاصة والإعراض عن العامة، فتعالوا بنا نتأمل هذه الصفات. أولاً: قال: (حثالة) وسماهم حثالة، والحثالة هي ما يتبقى من الإناء بعد شربه، وهو إشارة إلى أن هؤلاء القوم هم بقية من الناس، ذهب صفوة الناس وبقى كدرهم، وذهب خيرهم وبقي شرهم، وذهب ما ينتفع به وبقيت الحثالة في قاع الماء، وسماهم في الحديث الآخر الذي أشرت إليه في البخاري: {حثالة كحثالة الشعير لا يباليهم الله تعالى بال} لأنهم حثالة. ثانياً: قد مرجت عهودهم وأماناتهم، فقد فقدت الأمانة من قلوب الرجال حتى ليقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، وهذا دليل على شيوع النفاق، لأن فقدان الأمانة والوعد الصادق، والحديث الصادق البعيد عن الكذب؛ كل ذلك من علامات النفاق والمنافقين. ثالثاً: واختلفوا فصاروا هكذا، إذاً: نحن أمام مجتمعات قد تشتت أهواؤها وفقدت الاعتصام بالكتاب والسنة، فصارت تتبع الهوى، ولذلك اختلفوا فصاروا هكذا، أي: متداخلين متفرقين لا يجمعهم جامع، ولا يؤلف بينهم رابط. وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صفات أخرى في أحاديث أخرى غير هذا الحديث لا يتسع لها المقام، ومجموع الصفات يوحي بأن هذه الأحاديث يمكن أن توجد في حالتين: الحالة الأولى: أن توجد في البلاد كلها من أقصاها إلى أقصاها، وهذا لا يكون إلا قبيل قيام الساعة -والله أعلم-، لأن هناك أحاديث وردت أنهم مع هذه الصفات {يتسافدون تسافد الحُمُر وعليهم تقوم الساعة} . فدل على أن هذه الأحاديث تصف وضعاً يكون في الناس قبيل قيام الساعة، وفي مثل هذه الحالة يشرع للإنسان الاعتزال المطلق، هذه هي الصورة أو الحالة الأولى التي توجد فيها هذه الصفات. الحالة الثانية: أن توجد هذه الصفات في مجتمع من المجتمعات، أو بيئة من البيئات، وليست عامة في البلاد كلها، وهذا يمكن أن يوجد في أي مكان، وحينئذ فعلى الإنسان أن يجاهد في إصلاح هذه المجتمع، والعودة به إلى الصورة الصحيحة المشروعة، لأن الإصلاح غير متعذر حينئذٍ، بخلاف الحالة التي تكون قبيل الساعة، فإن الإصلاح فيها متعذر، إذا: فسد الزمان شرع للإنسان حينئذ أن يقبل على خاصته، ويدع أمر العامة. والإقبال على الخاصة يقصد منه عدة أمور منها: أن تقبل على نفسك فتصلحها، وتصقلها بالعلم النافع والعمل الصالح، والاعتصام بالكتاب والسنة. ومنها: أن تقبل على أهلك ومن يلزمك القيام بشئونهم من أولادك وأقاربك فتصلح ما تستطيع من أمر دينهم وأمر دنياهم. ومنها: أن تقبل على خاصتك من أصحابك وأصدقائك وذويك، الذين تصافيهم المودة، وهم يسمون خاصة في لغة العرب، فتقول خاصة فلان أي: أصدقائه الذين يخصونه، كما قال الشاعر: إن امرءاً خصني عمداً مودته على التنائي لعندي غير مخفور فالإنسان الذي يصافيك المودة يسمى خاصتك أو من خاصتك، ولذلك ورد في الحديث وإن كان ضعيفاً وإنما المقصود الدلالة اللغوية وقد رواه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي خاصة، وخاصتي أبو بكر وعمر} والحديث ضعيف، وإنما المقصود: أن العرب تعرف كلمة الخاصة بمعنى أصحابك الذين يخصونك، فتقبل عليهم وعلى توجيههم وتربيتهم وتعليمهم، وتدع أمر العامة وما هم فيه من الهرج والمرج، هذه هي الحالة الأولى العامة التي تشرع فيها العزلة وهي عند فساد الزمان. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 10 فيما يتعلق بالفرد أولها: هناك حالات للشخص يشرع له فيها أن يعتزل الناس، وهذه الحالات منها: الحالة: الأولى: أن يكون هذا الشخص كثير الشر، قليل الخير، فإذا اختلط بالناس لم يستطع أن يوصل الخير إليهم، ولا أن يحجب الشر عنهم، فمخالطته للناس هي شر لا يكاد يكون فيه من الخير إلا القليل، فمثل هذا يشرع في حقه العزلة، لذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في المعتزل: يعبد ربه ويدع الناس من شره، وقال في اللفظ الآخر: ليس من الناس إلا في خير، فهذا الإنسان بطبيعته، إذا اختلط بالناس أساء إليهم، وظلمهم، وهضمهم، فمثل هذا تشرع في حقه العزلة متى كانت مخالطته للناس يغلب شرها على خيرها، أو تكون شراً لا خير فيه. الحالة الثانية: أن يكثر الشر والانحراف بين الناس، ويصبح هذا الإنسان لا يستطيع الصبر على رؤية الفساد والانحراف، فما إن يختلط بالناس ويرى المفاسد والمنكرات حتى ينفعل ويسارع في تغيير هذه المنكرات بطريقة غير مشروعة تضاعف من المنكر، وتزيد منه، بل ربما أدت إلى إغلاق باب الإنكار بالكلية، وجرَّت شراً على المنكرين، فمثل هذا إذا لم يستطع أن يضبط نفسه، ولم يستطع أن يبتعد عن مواطن المنكر نظراً لأن المنكر قد فشى في كل مكان، فإن العزلة في حقه أولى. الحالة الثالثة: أن يكون هذا الإنسان شخصاً ضعيف الإيمان، ميالاً إلى الشهوات، ويعرف من نفسه الرغبة في مقارفة هذه الفواحش، فإذا ما رآها أنست نفسه بها ومالت إليها، وربما واقعها، أو كاد، فمثل هذا أيضاً إذا لم يستطع أن يعتزل المنكر لفشو المنكر وانتشاره في كل مكان، فإن العزلة في حقه أولى. وهناك أيضاً أشخاص إذا رأوا المنكرات تثاقم لديهم الشعور وشده الحساسية منه والانفعال فأصابهم من ذلك هَمٌّ لا يفارقهم مع عدم قدرتهم على التغيير لضعفهم وعجزهم، فمثل هؤلاء تشرع في حقهم العزلة. والعزلة لا تعني أيضا أن يفارق الإنسان الناس بالكلية فيعتزل على رأس شظية -جبل- أو في شعب من الشعاب، بل يعتزل المنكر وموقعه، وما يؤدي إلى حصول السلبيات التي سبقت الإشارة إليها، مع قيامة بما يجب من الصلاة في الجماعة، ومن صلة الرحم، ومن القيام بحقوق الجيران، والأقارب، وما لا بد له منه، وإنما يترك فضول الصحبة، ويعتزل المنكر، ويعتزل ما لابد من اعتزاله، حتى يسلم من هذه المفاسد الموجودة، هذا فيما يتعلق بالفرد. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 11 وقفات مع حديث تفضيل الخلطة وحين نقف عند الحديث الذي بيَّن فيه النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الخلطة، وهو حديث ابن عمر: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} نجد أن في الحديث عدة معانٍ نفيسة يجب تأملها والوقوف عندها. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 12 لابد من الصبر لأنه لا محالة من الأذى النقطة الثانية هي: لا بد من الصبر إذا كان الأذى سيصدر لا محالة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أرشدك إلى الصبر، وبين لك أنه بالاختلاط والصبر تفوق مرتبة ذلك الإنسان المعتزل الذي لم يختلط ولم يلق الأذى ولم يحتج إلى استنفار رصيده من الصبر. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 13 السعي إلى كف الأذى النقطة الثالثة والأخيرة في هذا الحديث: أن الإنسان حين يختلط بالناس لابد أن يسعى إلى كف أذاه عنهم، بل إلى إيصال الخير والمعروف إليهم ما استطاع، ويذكر في هذا المجال الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه وأرضاه- قال: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أستطع؟ - أي لم أستطع أن أجاهد في سبيل الله، ولا أن أقوم بإعتاق هذه الرقاب الغالية النفيسة - قال: تعين صانعاً أو تصنع لأخرق، -والأخرق هو من لا يجيد ولا يحسن الصناعة ويحتاج إلى مساعدة الناس له- قلت فإن لم أفعل؟ قال: تدع الناس من شَرِّك، فإنها صدقة منك على نفسك} . إذاً عليك أن تسعى خلال اختلاطك بالناس إلى أن توصل البر والمعروف، والإحسان إليهم ما استطعت، دون أن تنتظر منهم رد هذا الجميل، فإن لم تفعل ولم تستطع فأقل ذلك أن تكف أذاك عن الناس فإن هذا صدقة منك لا على الناس بل على نفسك. أيها الإخوة: إن المسلم مطالب في هذا الزمان بأن يُقبل على نفسه فيصلحها، وعلى من حوله فيقوم بحقوقهم، وعلى خاصته من الأصحاب والأصدقاء والطلاب فيوجههم ويدعوهم، ويعلَّمهم مما علمه الله، ويقبل على سائر إخوانه المسلمين ممن لديهم الاستعداد لقبول الحق والامتثال والانصياع له فيوجههم، ويعلمهم، فمهما يكن بين المسلمين اليوم من المعاصي والمنكرات والانحرافات، فلا زال الخير بينهم موجوداً، ولا زال الاستعداد لكثير منهم لقبول النصح والتوجيه قاتماً، فعلينا أن لا نخادع أنفسنا بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتوجيه والتعليم والتربية، بأن نقول: إن الناس لا يقبلون، بل علينا أن نقوم بذلك بالأسلوب الجيد والطريقة المناسبة، وسنجد أن الناس يملكون استعداداً كبيراً للتقبل، ولا أدل على ذلك من أن كثيراً منهم قد اتجهوا إلى الصراط المستقيم، وأقبلوا على الخير وعلى العلم، وعلى الطاعة وعلى العبادة بفضل الله، ثم بفضل ما يسمعون أو يقرءون من العلم والذكر والقرآن والسنة. فعلى المسلم أن يكون أمَّاراً بالمعروف، نهاءاً عن المنكر، داعياً إلى الله، مختلطاً بالناس، صابراً على أذاهم. أسأل الله أن يوفقني وإياكم بأن نكون من الذين اختلطوا بالناس وصبروا على أذاهم، ودعوهم إلى الله عز وجل بالحكمة والموعظة الحسنة، فوفقوا لذلك وصبروا عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 14 الأذى فرع عن الاختلاط وهو أنواع فالمعنى الأول الذي ينبغي إدراكه من الحديث أنه لا بد لمخالط الناس من الأذى، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل وجود الأذى فرعاً عن مخالطه الناس، يخالط الناس ويصبر على أذاهم، إذن: من خالط الناس فلا بد أن يلقى الأذى، ولذلك تجدون كثيراً من المصنفين وخاصة في الأدب والشعر والطرائف يعقدون فصولاً وأبواباً في الحديث عن الناس، ونكران الناس للجميل، وضرر الناس، وإساءة الناس، ومن هو الذي أساء إلى جيرانه، ومن هو الذي أساء إلى أقاربه، ومن هو الذي عق والديه، إلى آخره، ويسردون حكايات طويلة عريضة في ذلك، يقول الشاعر في ذلك مثلاً يقول: شر السباع الضواري دونه وزرُ والناس شرهم ما دونه وزرُ كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع وما أرى أحداً لم يؤذه بشر أي: أن هناك حواجز تمتنع بها من أذى السباع، لكن لا يوجد حواجز تمتنع بها من أذى الناس، وهناك من الناس من سلم من أذى السباع، لكن لا يوجد من سلم من أذى الناس. وذكر الأصمعي أن رجلاً قيل له: هل تؤذي جيرانك؟ قال: إذا لم أؤذ جيراني فمن أؤذي إذن! أؤذي من لا أعرف، المقصود أن الأذى لا بد أن يصدر من الإنسان، فأنت أيها الإنسان مؤذٍ ومؤذىَ في نفس الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم يرشدك إلى الصبر على جميع أنواع الأذى الذي تلقاه من الناس، ومن أنواع الأذى التي يجب الانتباه لها ما يلي: أولاً: هناك الأذى المقصود الذي يقصد من أحدثه أن يسيء إليك سواءً بالقول أو بالفعل، كمن يعيرك أو يسبك، أو يغتابك، أو يعترض سبيلك بما يستطيع، وهذا نوع من الأذى لابد أن تلقاه فلا بد من الصبر عليه، وقد يكون هذا النوع من الأذى في غاية الظهور، بل من الناس من لا يفهم من كلمة الأذى إلا هذا النوع. النوع الثاني: من أنواع الأذى الذي يصدر من الناس هو: الأذى الذي تلقاه نتيجة أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله، فكم من إنسان علَّم الناس أمراً من أمور الدين، أو بيَّن لهم ما يجهلون، فلقي منهم الأذى، وقدوته في ذلك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، من الأنبياء من قُتل، ومن الأنبياء من أُخرج من بلده، ومن الأنبياء من ضُرب، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: {كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، وهو يمسح الدم عن وجهه وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} . إذن فالنوع الثاني من الأذى هو الذي تلقاه منهم بسبب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ودعوتهم إلى الله عز وجل فينبغي ألا يخرجك هذا الأذى عن طورك، ولا يدعوك إلى ترك ما أنت عليه، بل اصبر، واحتسب، وقابل ذلك بالهدوء والتعقل. النوع الثالث: من الأذى هو: الأذى غير المقصود وقد تتساءل: ما هو الأذى غير المقصود؟ فأقول: الأذى غير المقصود هو الذي يصدر عن بعض الأفراد بحكم الطبيعة، من غير قصد الإضرار أو الإساءة إلى الآخرين، وذلك أن الاجتماع يحوي عدداً كبيراً من البشر، عقولهم مختلفة، شخصياتهم مختلفة، طباعهم متفاوتة، فهذا شخص هادئ، وهذا شخص متعجل، وهذا شخص حاد، وهذا شخص متوتر عصبي، وهكذا، فمن جرَّاء اختلاط هذه النوعيات المختلفة المتفاوتة تفاوتاً كبيراً؛ يقع بينهم أنواع من الأذى غير مقصودة، فيتصرف هذا الإنسان تصرفاً عفوياً بسيطاً؛ فيخدش الآخر ويؤثر فيه دون أن يشعر المتصرف بهذا، ولذلك قلت قبل قليل: إن الإنسان يكون مؤذياً ويكون مؤذى في نفس الوقت، فقد يصدر منك تصرف عادي غير مقصود يسيء إلى بعض من حولك، والعكس قد يصدر من بعض من حولك تصرف عادي غير مقصود فيسيء إليك، ولابد أيضاً من الصبر على ذلك، وتعويد النفس على الصبر، وبغير ذلك لا يمكن أن يتم الاجتماع، وحين يكون الاجتماع واجباً يكون الصبر على هذه الأشياء واجباً، وحين يكون الاجتماع مشروعاً أو مستحباً يكون الصبر عليها مستحباً، أو مشروعاً. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 140 ¦ الصفحة: 16 المصاحبة للدعوة إلى الله السؤال يقول: أنا وبعض أصحابي الطيبين نصاحب الشباب غير الطيب، من أجل جذبهم إلى مصاحبتنا، فهل هذا الشيء طيب، أم مخالف للشباب الطيب؟ أرجو الإجابة على هذا السؤال للأهمية؟ الجواب إذا كانت مصاحبة هؤلاء الشباب غير الطيبين هي بغرض دعوتهم إلى الله عز وجل فهي لا شك أمر طيب، والدعوة إلى الله لا تحتاج إلى فتيا، فنحن جميعاً نعرف أن الدعوة مشروعة ومطلوبة، وأما إذا كانت المصاحبة نتيجة صلة سابقة، ومودة قديمة، وصداقة سالفة، ويصعب على الإنسان أن يتخلى عنها، فحينئذ ينبغي للإنسان أن يفكر جدياً في ترك هؤلاء الأصدقاء، أما بغرض الدعوة والتوجيه والتأثير فهذا ممكن؛ لكن بشرط أن يجد الشاب في نفسه الكفاية والقدرة على ذلك، أما أن يلقي بنفسه في وسط هؤلاء القوم وهو غير محصن وقد يتعرض هو نفسه لضرر، أو انجراف معهم، فهذا مما ينبغي الحذر منه. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 17 علاج المعتزل السؤال أنا لي أخ معتزل في البيت فما هو واجبي نحوه؟ الجواب واجبك أن تحسن إليه، ولا ندري بالضبط ما سبب اعتزاله حتى يمكن التوجيه بشأنه. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 18 صفات الصديق الصالح السؤال ما هي صفات الصديق الصالح؟ وكيف أجده جزاك الله خيراً؟ الجواب صفات الصديق الصالح أعتقد أنني سبق أن تحدثت عنها في هذا المركز في العام الماضي في محاضرة كانت بعنوان (من تصاحب) وإن لم تخنِ الذاكرة فإنني ذكرت بعض الصفات التي يبحث الصديق عنها. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 19 شاب يحاربه أقاربه السؤال فضيلة الشيخ أنا شاب في السادسة عشر من عمري، ولي صحبة أخيار، ولكن أهلي يحقرونني ولا يحترمونني، ويرفعون التلفاز عند حضوري، ولي إخوة ضالين -هداهم الله- ولا يَدَعونني أذهب مع أصدقائي إلا قليلاً، فما النصيحة التي توجهها لي؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب مثل هذه الحالة أصبحت كثيرة ومألوفة في هذا الزمان، بسبب إقبال الشباب على الإسلام، وعلى تعلم السنة، والعمل بها، فتجد جيل الآباء يكثر فيهم الأشخاص العاديون، بل ويوجد بينهم عدد غير قليل ممن تأثروا ببعض الموجات، والحركات، والدعوات، التي كانت تثار في مقتبل أعمارهم، فليس بغريب أن تجد الأب لا يصلي مثلاً، أو يتبنى بعض الأفكار المنحرفة، أو ينادي بخروج المرأة، وتجد الابن ملتزماً، متمسكاً، مقصراً لثوبه، تاركاً لشعر لحيته، حريصاً على الالتزام بالسنة في أقواله وأعماله وتصرفاته، وليس أمام الشاب إلا أمرين: أولاً: أن يدرك أن هذا طريق الإسلام مصاعبه موجودة، وطريق الجنة محفوف بالمكاره، لكن ليس عنه بديل، كما تسمعون ففي الأناشيد يقول: فمن المصائب والمصائب جمة لكنما هو ليس عنه بديل ثانياً: يجب على الشاب أن يتحلى بالحكمة، فبعض الشباب تثيرهم مثل هذه التصرفات، فيقابلونها بالمثل، فتجد الشاب يدير معركة داخل البيت، ومن الصعب جداً أن يقف شاب عمره خمسة عشر سنة في طرف، ويقف الأبوان والإخوة والأخوات والأقارب في الطرف الآخر، فعلى الشاب أن يكون حكيماً، وأن يفكر في الوسائل الصحيحة التي يؤثر بها في البيت، ونحن نعرف جميعاً أن هناك بيوت غير قليلة بدأت الهداية فيها على يد شاب صغير، وما زال هذا الشاب يجاهد ويجتهد في التأثير على أبويه، وعلى إخوته، وعلى أخواته، فما مرت سنوات إلا وقد تغير البيت بكامله، وتحول إلى بيت محافظ ملتزم، وعلى الشاب أن يبحث عن بعض أساتذته وإخوانه والأشخاص الذين يعتبرهم في مقام القدوة، فيشرح لهم تفاصيل ما يعاني، ويطلب منهم التوجيه المناسب، باعتبار هذه القضية لا يمكن أن تحل بين يوم وليلة، بل ربما أن هذا الشاب في كل يوم أو في كل أسبوع يواجه مشكلة جديدة. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 20 الميل إلى الشهوات السؤال أنا شاب في العشرين من عمري، ونفسي ميالة إلى الشهوات، فكيف أعتزل الناس مع العلم أن كل الوسائل مهيأة لي أن أفرغ جميع شهواتي وأن أضل وأنا الآن خائف أن تسوء خاتمتي أفتونا مأجورين؟ الجواب الخوف من سوء الخاتمة أمر يجب أن يكون قائماً في ذهن الجميع، لأن النفس أمارة بالسوء، والشيطان مسلط على ابن آدم، والوسائل والمثيرات كثيرة، ولذلك فالإنسان ما لم يمت على الإسلام فهو على خطر، وأما الوسيلة التي تجعل الإنسان يطمئن إلى الله عز وجل وإلى أن الله سيكلؤه بإذنه في حياته، وفي حال موته، وبعد مماته، فإنها تتلخص في الوصية النبوية التي أرشد إليها النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس -رضي الله عنه وأرضاه- حين قال له: {تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة} والشاب أيها الإخوة تثور في نفسه كثير من الغرائز والشهوات، أعني الغريزة الجنسية، ويجد حوله من المؤثرات الكثيرة من مشاهدة النساء المتبرجات، إلى مشاهدة الصور في المجلات، والمسلسلات التلفزيونية، والأفلام وغيرها، وليس أمامه إلا أن يعتصم بالله عز وجل ويلقي بنفسه في وسط قوم طيبين، ويحرص على الاقتباس منهم، ويرتقي شيئاً فشيئاً ويجاهد نفسه في هذا، ليس أمام الإنسان إلا سبيل المجاهدة، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وسائل القضاء على هذا الشعور المتوتر عند الإنسان، أرشده أولاً: إلى إفراغ هذه الغريزة بصورة صحيحة: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج} وعلى الإنسان أن يفكر تفكيراً جدياً في الزواج، ولو وجد أمامه عقبات، عليه أن يفكر جدياً في تذليل العقبات التي تعترض هذا السبيل، فإذا كان لا يستطيع -فعلاً- فعليه أن ينتقل إلى الخيار الثاني وهو الصيام، يكثر من الصيام، فبالصيام تضيق مجاري الشيطان في الجسد، والصيام قربة وعبادة تقرب الإنسان من الله تعالى وتبعد عنه كيد الشياطين، وعلى الإنسان أن يصرف طاقته الجسمية في الرياضة، في السفر مع الأصحاب الصالحين، في القراءة المفيدة، والأعمال المختلفة والنشاطات المتنوعة، وعلى الإنسان أن يبتعد عن المواطن التي تثير غريزته، فهذا أمر مهم جداً، أما أن يضع الإنسان نفسه في المواضع التي تثير الغريزة ثم يشتكي فحينئذ يحق عليه المثل القائل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء على الإنسان أن يحجب ويحجز نفسه عن مواطن الإثارة، التي تسبب له هيجان في غريزته الجنسية. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 21 اعتزال المجتمع السؤال الأول: ماذا ترى في مجتمعنا هذا، هل يشرع فيه العزلة؟ وإذا خالط الإنسان فإنه حتماً سوف يأتيه من المعاصي إما من المجاملة أو غير ذلك، أفيدونا وجزاكم الله خيراً؟ الجواب لعلي أشرت برأيي بإيجاز في آخر هذه الكلمة، وأضيف: أن الإنسان أدرى بنفسه وأبصر بها، فالإنسان يتصرف على حسب ما يشعر بأنه يستفيد أو لا يستفيد، فالأصل أن مخالطة أهل الخير، وهم -بحمد الله- موجودون بل وكثير، أن مخالطتهم ومشاركتهم في أعمالهم ونشاطاتهم، وسائر أمورهم أنه أمر مشروع، ولا قوام للإنسان بنفسه، لابد للإنسان من المخالطة، وهذا كما قلت هو غريزة فطرية مركوزة عند الإنسان جاء الشرع بتقريرها، وبيان الوسائل والسبل الصحيحة لها، أما المجالس والمجتمعات التي يتضرر بها فعليه أن يقدر الأمر حق قدره، فإن كان يستطيع أن يؤثر، ويأمر وينهى، ويحقق من المصلحة أكثر مما ناله من الضرر، فعليه أن يتحمل هذا الضرر البسيط، من أجل تحصيل المصلحة الأعظم، وهذه قاعدة شرعية متفق عليها عند علماء الإسلام، أن المصلحة الأكبر تحصل ولو ارتكبت في ذلك مفسدة صغيرة، والعكس بالعكس، فالمصلحة القليلة تترك إذا كان يترتب على ذلك مفسدة أكبر منها. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 22 اعتزال الفتن السؤال الثاني: ذكرت الاعتزال في الفتنة، وفسرت ذلك بالاعتزال في فتنة القتل، أو القتال، فما حكم الاعتزال في الفتن الأخرى، كفتنة النساء وغيرها؟ الجواب أما لفظ الفتنة الذي يتداوله العلماء في هذا الباب والذي وردت به كثير من الأحاديث، فهو غالباً يطلق على القتال بين المسلمين، كما هو ظاهر من حديث ابن مسعود الذي ذكرته، ومن أحاديث كثيرة في هذا الباب، وهكذا فسره العلماء كالحافظ ابن حجر، وغيره، أما غير ذلك من الفتن والتي وردت، وورد تسميتها بالفتن في بعض الأحاديث فإن هذا خاضع للقاعدة العامة، فمثلاً فتنة النساء فتنة قديمة، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من فتنة النساء في زمنه، وقالت عائشة كما في صحيح البخاري: {لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل} فالأمر ليس جديداً؛ لكن عليك أن تعتزل المواطن التي توجد فيها هذه الفتنة، كالأسواق وغيرها، إلا أن تكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، فإذا كنت آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، وتجد من نفسك نوعاً من القوة والتحمل، فعليك أن تقوم بهذا، أما إذا كنت تعرف من نفسك أيضاً ضعف، وتشعر بنفسك بميل نحو المعاصي والفواحش ميلاً يكاد يوصلك إلى الوقوع فيها، والانهماك، أو مقارفة بعض المعاصي، فعلى الإنسان حينئذ أن يبتعد إيثاراً لسلامته الشخصية. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 23 فتور عند مفارقة الصالحين السؤال الثالث: إنني شاب أحب الشباب الطيبين والجلساء الصالحين، وأنهم جلسائي دائماً سواء في حلقة القرآن، أو في المركز أو في غيره، وإنني أتحمس إلى الخير وأنا معهم، ولكن حينما أخلو مع نفسي، أو أكون منفرداً وأسير مع أقاربي في المجتمعات العائلية أقلل من فعل الخير وقد أجد نفسي غارقاً في الشهوات دونما علم مني فماذا أفعل أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب هذا مثال ودليل على أهمية المخالطة للصالحين، وكثرة الاحتكاك بهم، وغشيان مجالسهم، ومنتدياتهم، وحلقاتهم، ونحوها، فإنها تزيد الإيمان وتقويه، وتزيد علم الإنسان وحماسه، ورغبته في الخير، فعلى الإنسان أن يكثر من حضور مثل هذه المجالس، أما كونه إذا فقد هذه المجالس أو ابتعد عنها واختلط بقوم من الأقارب وسواهم ممن لا يزيدونه في العلم ولا في العمل، شعر بقسوة في قلبه، فإن هذا أمر ليس بالغريب بل هو أمر طبيعي، وعلى الإنسان أن يحرص على تكوين نفسه وبناء شخصيته بناءً قوياً بحيث يكون مؤثراً لا متأثراً، ويحرص على أن يكون في المجالس التي يوجد فيها شخصاً محترماً معتبراً ينظر إليه، ويستطيع أن يوجه هذه المجالس الوجهة الصالحة، ويدير الحديث فيها حول أمور مفيدة، أو على الأقل حول أمور مباحة لا إثم فيها، فإن كان هذا الإنسان صغيراً وغير مؤهل لمثل هذا الدور، فعليه ألا يكثر من غشيان هذه المجالس، إلا في حالات يشعر أن المصلحة ظاهرة في حضورها، ثم لا ينبغي أن يطلق العنان لنفسه بالوقوع -كما قال- في الشهوات، أو في المحرمات أو سواها. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 24 رجال اعتزلوا الناس السؤال الرابع: ما رأيك في الذين اعتزلوا في هذا الزمان وتشددوا بقصدهم أن الزمان فسد، وليس هناك أحد غيرهم صالح؟ الجواب أما قضية فساد الناس وأن الزمان لا يزداد إلا شدة، فهذا أمر لا شك فيه، والحديث في الصحيح عن أنس رضي الله عنه: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم} لكن المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المسلم الضعيف، وكذلك المؤمن، فطالب العلم ينبغي له أن يحرص على التسلح بسلاح المعرفة، والعلم، والإيمان، ويتكئ على قوم طيبين وصالحين يستفيد منهم ويتزود ويرتقي صعداً في مدارج الإيمان والكمال، ثم ينطلق جندياً مجاهداً في سبيل الله داعياً إلى الله حتى يعرف بين الناس بذلك، ويسهل عليه حينئذ أن يأمر وينهى ويوجه، ولا يدع الفرصة للفسقه، والعلمانيين، والقوميين، وأصحاب المذاهب الأرضية، وأصحاب المطامع الشخصية، ليتولوا قيادة المجتمعات وريادتها، فإن هذا لا يجدر بالمسلم القوي. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 25 أحب أهل الخير ولا أحب صحبتهم السؤال الخامس: أنا شاب طيب -إن شاء الله- ولكن لا أجد في نفسي رغبة في كثرة مصاحبتي لأهل الخير، وأحب مفارقتهم وأنا أحبهم، فما رأيكم جزاكم الله خيراً؟ الجواب الإنسان الذي يجد في طبيعته الميل إلى العزلة، عليه أولاً أن يستفيد من أوقات فراغه التي يخلو بها بنفسه، يستفيد منها بصورة صحيحة، بالعلم، والعبادة، وغير ذلك من الأعمال المشروعة، ثم عليه أن يجاهد نفسه في مجالسة أهل الخير، ومعاشرتهم، فإنه بترك مخالطتهم يخسر شيئاً كثيراً، وليسأل نفسه مثلاً السؤال الذي ورد أثناء المحاضرة، كيف يعرف إن كان حليماً وصبوراً أم كان على الضد من ذلك؟ والحلم والصبر أخلاق إسلامية مطلوب من الإنسان أن يتحلى بها، فلا بد من المخالطة، ومواجهة أشياء تستفزه، فيتربى على هذه الأشياء، ويفلت منه زمام نفسه مرة فيتلقن منه درساً للمرة الثانية وهكذا، إنما بكل حال لا يمكن أن نطلب من الناس أن يكونوا كلهم قوالب مصبوبة بالسنتيمتر لا تزيد ولا تنقص، الناس يتفاوتون ومواهبهم تتفاوت، وملكاتهم تختلف، فمن الناس من يأنس بمجالسة الآخرين ودعوتهم والاحتكاك بهم، ويجد في هذا أنس وسعادة إضافة إلى ما يجده من اللذة في التعبد بهذا العمل، وهو الدعوة إلى الله وإصلاح الناس والإحسان إليهم، وهذا لا شك مرتبة فاضلة ينبغي للإنسان أن يسارع إليها، لكن قد يوجد شخص آخر لا يجد في نفسه الرغبة، فلا نطالبه بأن يكون بنفس الصورة، لكن عليه أن يلتزم بقدر معقول من المجالسة يضمن له تحصيل مصالح الخلطة التي سبقت الإشارة إلى بعضها. الجزء: 140 ¦ الصفحة: 26 التوبة أيتها الأخت المسلمة إذا كان أنبياء الله ورسله وخيار خلقه يستغفرون الله عز وجل ويتوبون إليه، بل إن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة؛ فما بالنا نحن المذنبين؟ وقد تحدث الشيخ في هذا الدرس عن فضل الله ورحمته وفتحه باب التوبة ثم ذكر شروط التوبة التي تكون بها توبة نصوحا وختم الحديث بالعوامل التي تساعد على استمرار التوبة. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 1 الترغيب في التوبة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:1-3] . ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:53-55] ويقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8] ويقول سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] ويقول عن أبينا آدم عليه السلام: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] . ويقول تعالى على لسان نوح عليه السلام وهو يخاطب قومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 2 الأحاديث التي تحث على التوبة في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: {كنا نعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد مائة مرة: أستغفر الله وأتوب إليه} وفي صحيح مسلم عن الأغر المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه ليغان على قلبي! وإني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مرة} . وفي صحيح مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} . وفي الحديث عن ابن مسعود، والبراء بن عازب، والنعمان بن بشير، وأبي هريرة، وأنس بن مالك وغيرهم رضي الله عنهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {والله! لله أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان بأرض فلاة، ومعه راحلته عليها زاده وطعامه وشرابه، ففقد هذه الراحلة وضاعت منه حتى أيس منها، ونام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وجد أن راحلته عند رأسه، وعليها زاده وطعامه وشرابه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح} فبدلاً من أن يقول: اللهم أنت ربي وأنا عبدك، قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، فالله يفرح بتوبة عبده أو توبة أمته أشد وأعظم مما يفرح هذا الرجل براحلته وقد وجدها بعد أن أيس منها. مع أن الله عز وجل غني عن عباده يقول الله عز وجل: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} . سبحانه! لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، لكنه رحيم ومن صفاته الرحمة، وهو الرحيم الرحمن الحنان المنان، الرءوف بعباده اللطيف بهم، ولذلك يحب لهم الطاعة، ويكره لهم المعصية، يقول عز وجل: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرضى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر:7] . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 3 كثرة المطيعين لله والعابدين له وإذا كنا نجد اليوم أن كثيراً من الناس يعصون الله، ويبارزونه بالمعاصي ويجاهرونه بالخطايا، فيجب أن نعلم أن الله تعالى عنده في السماوات خلق من الملائكة لا يحصيهم إلا الله، وهذه السماوات السبع العظام ليس فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ واضع جبهته لله عز وجل، مع أننا نعلم جميعاً أن البيت المعمور فقط -وهو في السماء السابعة- يدخله كلَّ يومٍ سبعون ألفَ ملكٍ، ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، فعدد هؤلاء الملائكة لا يحصيهم إلا الله، حتى إن السماء أطَّتْ وحق لها أن تئط؛ وذلك من ثقل من عليها وكثرتهم، فالله غني عن عباده، أطاعوه أم عصوه وإنما طاعتهم لهم، ومعصيتهم عليهم، ومع ذلك فإن الله عز وجل يفرح بتوبة عبده أشد مما يفرح ذلك الرجل، وقد وجد راحلته وعليها طعامه وشرابه بعد أن أيس منها وأيقن بالموت، فهو يدعونا إلى التوبة ويحثنا عليها ويرغبنا فيها. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 4 أنواع التوبة أيتها الأخوات! كل واحد منا محتاج إلى التوبة، والتوبة نوعان: النوع الأول: توبة مستحبة، وهي التوبة من ترك المستحبات أو فعل المكروهات. والنوع الثاني: توبة واجبة، وهي التوبة من فعل المعاصي، أو التوبة من ترك الواجبات. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 5 حاجة بني آدم إلى التوبة فتلك المسلمة التي تستمع إلى الغناء المحرم، أو تشاهد المسلسلات الهابطة، أو تترك الصلاة، أو تعق والديها، أو تتكلم بكلام السوء مع زميلاتها، أو تستخدم الهاتف في معاكساتٍ وغيرها من الأمور التي لا تجوز، يجب عليها وجوباً أن تتوب من هذه الأشياء، ولو ماتت قبل التوبة فهي على خطر عظيم، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً} [النور:31] . بل تلك المسلمة التي تؤخر الصلاة، أو لا تقوم بالسنن الرواتب، أو تنام على غير طهارة؛ هي أيضاً مطالبة بالتوبة من هذه الأشياء، وإذا كانت المسلمة التي تنام على غير طهارة، أم لا تتنفل السنن الرواتب مطالبة بالتوبة، فما بالنا بمن ينام على أصوات المغنيين والمغنيات، والعياذ بالله؟! وما بالنا بمن يسهر على مشاهدة المسلسلات الهابطة المدمرة للدين، والأخلاق، والعفاف، والطهارة؟! ما بالنا بمن لا يصلي الفريضة حتى يخرج وقتها انشغالاً بالتوافه من الأمور؟! أو لأنه نائم، ولم يستعد لهذه الصلاة، ولم يرفع بها رأساً؟! أو لغير ذلك من الأسباب؟! فكل واحد منا محتاج إلى التوبة، وفي سنن الترمذي وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطائين التوابون} . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 6 خوف المؤمن وجراءة المنافق وفي صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقول: [[إن المؤمن يرى ذنوبه كرجلٍ في أصل جبل يخاف أن يقع عليه، أما المنافق فإنه يرى ذنوبه كذبابٍ وقع على أنفه لو فعل بيده هكذا وحركها لطار]] . انظري أيتها المسلمة! المؤمن يخاف الله عز وجل، ويحافظ على الصلاة، ويقرأ القرآن، ويحفظ عرضه، ويحفظ لسانه، ويحفظ جوارحه من المعاصي، ومع هذا كله إذا وقع في ذنب ولو يسيراً؛ أحس بأن هذا الذنب كالجبل العظيم يخشى أن يقع على رأسه في كل لحظة؛ وذلك لأن قلبه حي وروحه مشرقة، وهو يعرف عظمة الله عز وجل وعظيم حق الله، ويعرف ما أعد الله للطائعين من الجنان والنعيم، وما أعد للعاصين من النكال والجحيم، فيخاف من ذنوبه مهما قلَّت، وعلى الضد من ذلك المنافق، الذي لا يخاف الله عز وجل، ولا يستحي من الناس؛ فإن هذا المنافق يرى ذنوبه مهما عظمت، -ومهما كبرت حتى لو وقع في الفواحش والجرائم والموبقات- يرى أنها يسيرة، فهي مثل ذباب وقع على أنفه، فدفعه بيده فطار هذا الذباب، فكل من أحس بالتوبة ووجوبها وخطرها، فهو أقرب إلى الإيمان وكل من قال: ماذا فعلت حتى أتوب؟! فهو أقرب إلى النفاق. وفي صحيح البخاري أيضا عن ابن أبي مليكة أنه كان يقول: [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه]] . اسألن -أيتها المسلمات- أنفسكن: من منكن تخاف النفاق على نفسها؟ قليل، وربما لا يوجد، لكن أبو بكر، وعمر، وعثمان بن عفان، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وأبو عبيدة، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وفلان وفلان من الذين يحيون الليل في القيام ويحيون النهار في الجهاد والصيام، ومن الذين شُهد لهم بالجنة يخافون على أنفسهم النفاق، ومهما يكن الإنسان قد فعل من الأعمال الصالحة، فيجب أن يدرك حاجته إلى التوبة؛ ولذلك علمنا الله عز وجل إذا انتهينا من الحج أن نستغفره: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:198-199] ويقول سبحانه: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران:17] قال أهل العلم: هؤلاء قوم أحيوا الليل بالعبادة والقيام، فإذا كان السحر استغفروا الله عز وجل، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن ينصرف من صلاته يقول قبل أن يلتفت إلى المأمومين: {أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام!} كما في حديث عائشة وثوبان رضي الله عنهما في صحيح مسلم فكان يستغفر بعد الفعل الصالح، وإذا كان الإنسان مطالباً بالاستغفار بعد الطاعة: بعد الحج، بعد الصوم، بعد الصلاة، بعد قيام الليل، بعد الصدقة، فما بالكِ أيتها المسلمة بمن يقع في المعصية؟! في التقصير، في النظر الحرام، في الكلمة الحرام، في الخطوة الحرام في الكتابة الحرام، في القراءة الحرام، في المشاهدة الحرام، لا شك أنه أحوج وأحوج إلى أن يكون موصولاً بالله عز وجل ويكثر من الاستغفار؛ فإن الشيطان يقول: أحرقت بني آدم بالمعاصي، وأحرقوني بالاستغفار. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 7 توبة الأنبياء والأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يتوبون إلى الله عز وجل، فهذا آدم أبونا يقول الله تعالى عنه: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] . وآدم وحواء يقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ونوح عليه السلام يقول ذلك، ومحمد صلى الله عليه وسلم يستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة؛ ويقول في صلاته: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} ويقول: {سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي} . ويقول: {اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي} ويقول: {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، أنت المقدم وأنت المؤخر أن إلهي لا إله إلا أنت} وهو سيد العابدين، وإمام المرسلين، وأفضل الخلق أجمعين، ومع ذلك يتوب إلى الله هذا المتاب، ويستغفر الله هذا الاستغفار. فما بالكِ أيتها الأخت المسلمة! بأمثالنا من العصاة الذين يُخطئون بالليل والنهار؟! والله عز وجل يفتح لهم أبواب رحمته ويقول لهم: {يا عبادي! إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعا؛ فاستغفروني أغفر لكم} ليس بينكِ وبين الله عز وجل إلا أن ترفعي رأسك إليه بصدق، وتقولي: "اللهم إني أذنبت فاغفر لي"؛ فيغفر الله عز وجل لكِ. وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل أذنب ذنباً، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم وقع في الذنب مرة أخرى فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له، ثم أذنب مرة ثالثة، فقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله عز وجل له، وقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك!} . فأين العصاة من باب الله عز وجل، هذا الباب الذي لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 8 من قصص التائبين أيتها المسلمة! إليك نماذج من قصص التائبين اللذين أنابوا إلى ربهم وأسلموا له، فقبلهم الله تعالى وتاب عليهم، وختم لهم بخير. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 9 قصة عبد الله بن مسلمة القعنبي وأثني بالقصة الثانية العجيبة، وهي قصة عبد الله بن مسلمة القعنبي، وكان هذا من رجال الحديث النبوي، ومن تلاميذ الإمام مالك، وهو رجلٌ ثقة معروف وإمام مشهور، ماذا كان تاريخ هذا الرجل؟ وكيف كانت حياته في الماضي؟ إننا نسمع العجب العجاب، كان هذا شاباً مراهقاً طائشاً لا هم له إلا مجالسة أمثاله من السفهاء ومعاقرة الخمر وإيذاء الناس في الشوارع وغير ذلك من الأعمال التي يقوم بها أمثاله من السفهاء، وكان يلبس ثياباً تليق بأمثاله من الشباب المراهقين في ذلك العصر. وفي أحد الأيام كان واقفاً عند باب بيته، ومعه سكين كالعادة، فمر به رجل على حمار وحوله مجموعة من الشباب الذين يظهر من سيماهم الصلاح والاستقامة والاشتغال بطلب العلم، فقال القعنبي لمن حوله: من هذا الرجل الذي أقبل؟ قالوا: هذا شعبة بن الحجاج، قال: ومن هو شعبة بن الحجاج؟ وكانوا بالبصرة، وشعبة إمام علم، لا يخفى على أحد من أهل البصرة، إلا أن القعنبي لم يكن يعرفه لانشغاله بأمور أخرى، كما يجهل كثيرٌ من الشباب الضائعين في هذا العصر أخبار العلم والعلماء والدعاة وغير ذلك، فقالوا له: هذا شعبة بن الحجاج قال: ومن شعبة؟ قالوا: إمام من أئمة المحدثين، فتقدم هذا الغلام السفيه إلى شعبة، وقال له: حدثني، اقرأ علي حديثاً حتى أرويه عنك، فقال: لستَ من أهل الحديث، أنت سفيه لا تستودع العلم والحديث، وغضب هذا الغلام ورفع السكين، وقال له: حدثني وإلا ضربتك بهذا السكين! فلما رأى شعبة هذا الموقف؛ حدثه حديثاً يناسب المقام، فقال: حدثني منصور عن ربعي عن أبي مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا لم تستح فأصنع ما شئت} وهذا الحديث مناسب لحال هذا الغلام الذي لم يستح، فأقدم على تهديد هذا العالم الجليل بأن يحدثه وإلا جرحه بالسكين التي كانت في يده، فقرأ عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} . ورجع هذا الشاب إلى بيته، وقد أثر فيه هذا الحديث الذي سمعه أعظم التأثير، وقَلَبَ شخصيته قلباً تاماً، فرجع إلى البيت شخصية أخرى، وكأنه ليس هو الشاب الذي خرج قبل خمس دقائق، رجع تائباً إلى الله عز وجل خجلاً من الله تعالى، فأراق الخمور التي كانت موجودة في بيته، وكسر أوانيها، وكسر آلات اللهو والطرب التي كانت عنده موجودة وكان على موعد مع بعض جلسائه وندمائه من الفساق، فقال لأمه: إذا جاء زملائي فأدخليهم في البيت وأكرميهم وأخبريهم بما حصل مني، حتى لا يعودوا إلي مرة أخرى، ثم خرج من البصرة إلى المدينة، ولازم الإمام مالك بن أنس، حتى كان من أخص تلاميذه، وروى عنه كثيراً من الحديث، ثم رجع إلى البصرة ليروي الحديث عن شعبة وغيره من العلماء بمدينته الأولى البصرة، ولكنه حين رجع إلى البصرة، وجد أن شعبة قد مات، وهكذا لم يرو القعنبي عن شعبة إلا ذلك الحديث الذي تحمله عنه وهو في زمن فسقه وسفاهته: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 10 توبة كعب بن مالك وأبي محجن الثقفي من أعاجيب القصص في هذه الأمة، قصة كعب بن مالك رضي الله عنه وتوبته وتوبة أصحابه من التخلف عن غزوة تبوك، وهي قصة طويلة في صحيح البخاري ومسلم، لا أريد أن أطيل بذكرها. ولكني أذكر توبة أبي محجن الثقفي رضي الله عنه، وكان أبو محجن رجلاً لا يتورع عن شرب الخمر مع أنه مسلم، حتى إنه كان وهو في الجاهلية يتغنى بالخمر ويقول: إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقُها ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقُها أي أنه يريد إذا مات أن يدفنوه إلى جنب كرمة، أي: شجرة عنب حتى تروي عروقُها عظامَه بعد الموت حنيناً إلى الخمر، حتى وهو ميت، وظل هذا الرجل مصراً على شرب الخمر بعد الإسلام مع أنه أسلم، فكانوا يجلدونه في الخمر، ثم سجنوه لما لم يفد فيه الجلد، وكان مسجوناً في بيت سعد بن أبي وقاص في العراق قرب القادسية، فثارت معركة القادسية بين جند المسلمين وجند الفرس، واحتدم وطيس المعركة، وكان أبو محجن فارساً قوياً غيوراً على الإسلام، وإن كانت فيه هذه المعصية، فكان ينظر إلى المتقاتلين ويتحرق على القتال في سبيل الله عز وجل، ثم ينظر بين قدميه، فيجد هذه السلاسل والقيود التي أثقلته، فلا يستطيع أن يتحرك بها، فحزن حزناً شديداً على عدم استطاعته أن يقاتل، وقال وكان شاعراً قوياً قال: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثير وإخوةٍ فقد تركوني واحدا لا أخا ليا ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت ألا أزور الحوانيا أي أنه يعاهد الله عزوجل إذا فرجت عنه هذه الضائقة، ألا يزور الحانات، ولا يشرب الخمر مرة أخرى، وكانت زوجة سعد بن أبي وقاص واسمها سلمى قريبة منه تسمعه، فناداها وقال لها: اسمعي مني قد اشتدت المعركة بين المسلمين والفرس، ففكي وثاقي وسلميني هذه الفرس التي تسمى البلقاء، وهي فرس سعد بن أبي وقاص، وقد كانت مربوطة، ودعيني أقاتل مع المسلمين، فإن قتلت فما أنا بأول من قتل، وإن نجوت فإني أعاهدك بالله عز وجل أن أعود حتى أجعلك تضعين القيد في رجلي ويدي مرة أخرى، فقالت: إني أخاف ألا تعود فقال: أعاهدك أن أعود إن نجوت. ففكت وثاقه، وأعطته البلقاء فرس سعد، فركبها وذهب إلى الفرس، فبدأ يصول ويجول فيهم يمنة ويسرة، ويقتل فيهم قتلاً ذريعاً، وينتقل من الميمنة إلى الميسرة إلى القلب، وهو لا يعرض له أحد من الفرس إلا قتله حتى بدءوا يهابونه، ويتحامون منه، والمسلمون ينظرون إليه، ويقولون: من هذا؟! من هذا الفارس الذي لا نعرفه؟! وكان سعد وهو قائد المعركة يقول: والله لولا أن أبا محجن في الأسر لقلت: إن هذا أبو محجن، ولولا أن فرسي البلقاء مربوطة، لقلت: إن هذا فرسي البلقاء. فلما انتهت المعركة، رجع أبو محجن إلى سلمى، وجعلها تضع القيد في رجله مرة أخرى، فلما جاء سعد كان يحدث زوجته عن أخبار المعركة وقال لها: لقد ظهر فارس عجيب على فرس عجيبة، لولا أن أبا محجن في الأسر، لقلت: هو أبو محجن، ولولا أن فرسي مربوطة، لقلت: هي فرسي، فقالت له: هو والله أبو محجن، وهي والله فرسك، وأخبرته بالقصة، فذهب سعد إلى أبي محجن، وفك وثاقه بيديه، وقال له: لا جرم والله لا جلدناك في الخمر أبداً، ولا حبسناك فيها أبداً، فقال أبو محجن: وأنا والله أيضاً لا شربت الخمر أبداً، ثم تاب إلى الله عز وجل توبة نصوحاً. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 11 توبة القاتل مائة نفس وكذلك أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً، كما في الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد أن رجلاً كان جباراً طاغية معه سيفه وبندقيته، لا يمر برجل فيتشاكس معه ويختلف معه إلا قتله، فسأل وقد تحركت في نفسه التوبة إلى الله عز وجل، وخاف من الموت، وأن يلقى الله على هذه الحال السيئة، وتذكر أنه مهما تمتع بشبابه وقوته وصحته فإنه آيل إلى الهرم والمرض والعجز والشيخوخة والموت والقبر والجزاء والحساب، فخاف من ذلك كله. وبدأ يسأل الناس: أيها الناس! هل تعلمون أحداً من أهل العلم أسأله عن حالي؟ فدُل على راهب من الرهبان، فجاء إليه وقال له: إني قتلت تسعة وتسعين نفسا فهل لي من توبة؟ قال له: أنّى لك التوبة؟! اخرج لا تلوث صومعتي، وأراد أن يطرده، فغضب هذا الرجل وقت الراهب فأكمل به المائة، ثم بدأ يسأل مرة أخرى: هل لي من توبة؟ فدل على عالم، وهو أعلم أهل الأرض يومئذٍ، فجاء إليه وقال له: إني قتلت مائة نفس، فهل لي من توبة؟ قال: من يحول بينك وبينها؟! ولكن لا تعد إلى أرضك؛ فإنها أرض سوء فلا ترجع إلى البلد الذي جئت منه المدينة التي خرجت منها؛ بل اذهب إلى قرية كذا، وكذا؛ فإن لها قوماً يعبدون الله عز وجل فاعبد الله تعالى معهم، فخرج من بيت هذا العالم فمات في الطريق، وأوحى الله عز وجل إلى القرية التي هاجر إليها أن تقاربي -اقتربي إلى الرجل- وأوحى إلى القرية التي هاجر منها أن تباعدي، فلما قاسوا ما بين القريتين وجدوه أقرب إلى القرية التي هاجر إليها بشبر، وفقبضت روحه ملائكة الرحمة، وقبض عبداً تائباً صالحاً منيباً إلى الله عز وجل. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 12 توبة ذي الكفل وقد قص النبي صلى الله عليه وسلم علينا من أخبار بني إسرائيل في الأحاديث الصحاح من أخبار التوبة الشيء الكثير الطيب، فمن ذلك ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم من توبة ذي الكفل، وهي قصة صحيحة رواها الترمذي وحسنها، والحاكم، وابن حبان وصححاها وغيرهم من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الكفل كان رجلاً من بني إسرائيل لا تتسنى له معصية إلا وقع فيها -رجلٌ مقدم على الزنا والفجور وأكل الحرام وأكل الربا وقتل النفس بغير حق وعقوق الوالدين وغير ذلك من ألوان المعاصي التي تتسنى له، لا يتورع عن شيء منها قط- ففي أحد الأيام طلبت منه امرأة أن يعطيها ستين ديناراً، فوافق أن يعطيها هذا المبلغ، مقابل أن تخلي بينه وبين نفسها ليقع في الزنا بها والعياذ بالله فوافقت على ذلك فأعطاها ستين ديناراً، فلما قعد أمامها ارتعدت وبكت فقال: لها ما يبكيك؟ قالت: الخوف من الله عز وجل؛ فإن هذا أمر لم أفعله طيلة عمري، قال: ولماذا فعلتيه إذاً ووافقتِ على ذلك؟ قالت: لأنني محتاجة حاجة شديدة، فقال: أنا أحق أن أخاف الله عز وجل وأخشى منه، وقد وقعت في ألوان الذنوب والمعاصي، فقام ولم يقع في هذه الجريمة، ثم خرج تائباً إلى الله عز وجل، فمات في تلك الليلة، وأصبح مكتوباً على بابه: إن الله تعالى قد غفر للكفل} . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 13 توبة داود وهذا داود عليه السلام يخلو ببيته يعبد الله عز وجل، فيتسلق عليه رجلان فيقول أحدهما، وقد رأى الفزع بداود: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [ص:22] ثم يقول أحدهما له: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص:23] وقبل أن يستمع داود إلى كلمة الطرف الآخر حكم: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص:24] . ثم أدرك داود أنه تعجل في الحكم قبل أن يسمع كلام الطرف الآخر: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص:24] قال الله عز وجل: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص:25] . وهذا نبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يكون من شأنه مع التوبة والاستغفار ما سمعتم قبل قليل. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 14 توبة آدم وحواء هذا آدم عليه السلام يأكل من الشجرة وزوجه، فيقع لهما ما وقع، ويريان سوءاتهما، ويدركان أنهما أخطأا فيقولان: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] فيتوب الله عز وجل عليهما، ويهبطهما إلى هذه الدنيا دار الابتلاء والامتحان. ويقول سبحانه وتعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123-127] . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 15 توبة نوح وهذا نوح عليه السلام، حين يأتي الطوفان إلى هذه الأرض ليغرق أهلها، وقد وعد الله نوحاً بنجاة أهله فيقول نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] فيقول الله عز وجل له: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46] . فيقول سيدنا نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47] فيتوب الله عز وجل عليه. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 16 توبة يونس وهذا يونس يخرج من البلد والقوم الذين أرسل إليهم، بعدما رفضوا دعوته وأبوا أن يستجيبوا له، فيلقي به الله عز وجل في بطن البحر في بطن الحوت، في ظلمات بعضها فوق بعض، وحينئذٍ يدرك أنه قد وقع في أمر لا يحبه الله عز وجل، فينادي في الظلمات: {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] . الجزء: 141 ¦ الصفحة: 17 شروط التوبة أيتها الأخت المسلمة! للتوبة شروط ستة فاحفظيها: الشرط الأول: الإخلاص، ولذلك يقول الله عز وجل: {تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8] أي: خالصة من القلب، فتلك المرأة وتلك الأخت التي تتوب توبة مؤقتة بسبب مصيبة عارضة نزلت بها، أو ظرف طارئ، أو بسبب الاستعداد للامتحانات، أو بسبب أنها بلغت سناً معيناً، وفي نيتها أن تعود إلى ما كانت عليه، هذه التوبة ليست توبة نصوحاً ولا خالصة، فلابد أن تكون التوبة نصوحاً لله عز وجل. الشرط الثاني: الإقلاع عن المعصية، فلابد أن يقلع الإنسان عن الذنب الذي يفعله، أما من يقع في الذنب ويقول: أستغفر الله، فهو كالمستهزئ، ولذلك يقول الشاعر: أستغفرُ الله من أستغفر الله من كِلْمَةٍ قُلْتُها لم أَدْرِ معناها الذي يستغفر وهو مصر على المعصية هو كالمستهزئ بالله عز وجل، فلابد من الإقلاع عن الذنب. الشرط الثالث: الندم على ما مضى بحيث أن الإنسان كلما تذكر ما حصل منه في الماضي، احترق قلبه ندماً وأسفاً على ما فرط وعلى ما قصر في حق الله عز وجل، وفي الحديث الصحيح يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الندم توبة} ومن الطبيعي أن الإنسان التائب يندم على ما مضى. الشرط الرابع: العزم على ألا يعود: أن يصمم الإنسان على ألا يرجع إلى المعاصي مرة أخرى. الشرط الخامس: أن تكون التوبة في وقت القبول، وما هو وقت القبول؟ وقت القبول هو أن يكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وفي الحديث في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه} وفي حديث مسلم السابق: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} فإذا طلعت الشمس من مغربها -وهذه علامة من علامات الساعة الكبرى- فحينئذٍ لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فلابد أن تكون التوبة قبل أن تطلع الشمس من مغربها، ولابد أيضاً أن تكون قبل الاحتضار والغرغرة، فإذا تاب الإنسان قبل أن تغرغر روحه في حلقه، تاب الله عليه، أما إذا احُتضِرْ ونزل به الموت، وجاءت الملائكة لقبض روحه، وغرغرت روحه للخروج، فحينئذٍ لا تنفعه التوبة؛ لأن كل إنسانٍ قد يتوب حينئذٍ، ولذلك في الحديث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر الذي رواه الترمذي، وهو صحيح: {إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر} ويقول الله عز وجل: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء:17] {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ} [النساء:18] فهذا لا تنفعه التوبة إذا حضره الموت وغرغرت روحه قال: إني تبت الآن. الشرط السادس: إن كانت المعصية إساءة للآخرين، سواء بانتهاك أعراضهم، أو الكلام فيهم، أو أخذ أموالهم، أو ظلمهم، أو تنقصهم، فيجب أن يستسمح التائب ممن أساء إليه أو يرد الحق إليه ما استطاع. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 18 العوامل التي تساعد على الثبات على التوبة أختم هذه الكلمة بذكر بعض العوامل التي تساعد الأخت التائبة على التوبة وعلى الثبات عليها: العامل الأول: قوة العزيمة؛ بحيث لا يكون الإنسان متردداً؛ يتوب اليوم ويعصي غداً، ويتوب غداً ويعصي بعد غد، بل يحاول أن يقوي عزيمته: بالاتكال على الله عز وجل، بكثرة فعل الأعمال الصالحة، بكثرة الصيام، وبغير ذلك من الوسائل التي تقوي عزيمته. العامل الثاني: كثرة الدعاء؛ فإن الله عز وجل يقول: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} [البقرة:186] فهو قريب مجيب، قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر:60] ويقول صلى الله عليه وسلم: {من لم يسأل الله يغضب عليه} فلابد من الدعاء الحار إلى الله الملك الجبار. العامل الثالث: تجنب أسباب المعصية، فانظري أيتها الأخت! لماذا تقعين في المعصية؟ لأنك تصاحبين -مثلاً- فلانة وفلانة ممن يجرك إلى المعصية؛ لأنك تخرجين إلى السوق -مثلاً- لأنك تقتنين المجلات؛ لأنك تشاهدين المسلسلات فتجنبي أسباب المعصية، اتركي قرينات السوء، ممن يحرضك على المعصية ويدعوك إليها، واعملي بنصيحة ذلك العالم من بني إسرائيل الذي نصح التائب ألا يعود إلى قريته؛ لأنها أرض سوء وأن ينتقل إلى قرية أخرى يعبد الله عز وجل بها، فأنتِ غَيِّري البيئة، اتركي القرينات المنحرفات، وابحثي عن أخوات طيبات صالحات. العامل الرابع: عدم القنوط: لا تقنطي من رحمة الله؛ {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] مهما بلغت معاصيك، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة في صحيح مسلم: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر الله عز وجل لهم} ويقول الله عز وجل: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] . فإذا تبتِ إلى الله عز وجل توبةً نصوحاً أبدلكِ الله تعالى بكل سيئة عملتها حسنات، ويوم القيامة يعرض الله عز وجل عليك سيئاتك واحدةً واحدةً، فيقول: إنها قد بُدِلت لك حسنات فافرحي أيتها الأخت التائبة بأن الله عز وجل واسع المغفرة. العامل الخامس: أخيراً من العوامل التي تساعد على التوبة: أن تحرص الأخت المسلمة على أن تكثر من الأعمال الصالحة، ومن أعمال الخير؛ فإن كل إنسان فيه قابلية للخير؛ فتكثر من الصلاة، ومن قراءة القرآن، ومن الاستغفار، ومن الصيام، من الذكر، ومن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بر الوالدين، الإحسان إلى الناس، عدم ظلم الآخرين، وغير ذلك من الأمور التي يستطيعها الإنسان، والله عز وجل يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود:114-115] . والحمد لله رب العالمين. الجزء: 141 ¦ الصفحة: 19 المستقبل للإسلام المستقبل لهذا الدين أمر حتمي لابد منه، والاهتمام بالمستقبل لهذا الدين قضية فطرية وشرعية، اهتم بها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح من بعدهم، وأعداء الإسلام كثير، وهم يكيدون له ليل نهار ويتحالفون ضده رغبة في الوصول إلى مآربهم، لكن الأدلة الشرعية على أن المستقبل لهذا الدين قطعية لا يشك فيها اثنان. فعلينا أن نوقن أن المستقبل لهذا الدين ونأخذ بالإسباب الشرعية مع الاعتماد على الله تعالى القائل: ((وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ)) هذا جملة ما تحدث الشيخ عنه في هذا الدرس الممتع. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 1 ضرورة الاهتمام بموضوع المستقبل للإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذا هو الدرس العشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، ينعقد في ليلة الإثنين، الخامس من ربيع الأول، لعام 1411هـ، وعنوان هذا الدرس "المستقبل للإسلام". وأحمد الله تعالى، فإن الله عز وجل قد وفق إلى جمع مادة كبيرة ومفيدة في هذا الدرس، وأسأله عز وجل أن يوفقني إلى عرضها عليكم باختصار، بحيث أتمكن من ذكر كل ما لدي في هذا الوقت القصير. أول نقطة أود أن أتحدث عنها، هي: ضرورة الاهتمام الشخصي بهذا الموضوع ثم أتحدث بعد ذلك عن قضية الاهتمام بالمستقبل، على أنه خاصية من خصائص الإنسان تميزه عن الحيوان وأثلث بحديث موجز عن أعداء الإسلام، من هم؟ وما هي خططهم؟ ثم أتحدث عن الأدلة الشرعية على أن المستقبل للإسلام، من القرآن الكريم، ثم من الحديث النبوي الشريف، ثم الأدلة من التاريخ، ثم الأدلة من الواقع، ثم الحديث عن الجزيرة العربية، وأنها أرض الإسلام، وبعد ذلك نصل إلى النهاية، وهي الطريق نحو مستقبل الإسلام. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 2 مدى عنايتنا بموضوع المستقبل للإسلام ففيما يتعلق بالنقطة الأولى، وهي: ضرورة الاهتمام الشخصي بهذا الموضوع، فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه: ما مدى عنايتنا بهذا الموضوع؟ لا شك أن هناك من ينصب اهتمامه منا على سلامته الشخصية، وأسرته، وراتبه، وتوفر القوت الكافي، والمسكن الواسع، والسيارة الفخمة، والاحتياجات المتنوعة، وألا ينقص شيء من راتبه أو دخله الشهري، ومع ذلك قد تجد هذا الإنسان يؤدي عبادته وأموره الشرعية بانتظام، لكن دون أن يهمه شأن الإسلام والمسلمين. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 3 الارتباط العاطفي بقضايا الإسلام والمسلمين نحن بحاجة -أيها الإخوة- إلى أن يكون لدينا ارتباط عاطفي بقضايا الإسلام والمسلمين، بحيث أن حزن الإنسان وفرحه وسروره وغضبه ورضاه ويقظته ومنامه، تكون كلها مربوطة بشأن الإسلام، فإذا لاحظت عليه الحزن وجدته لما يصيب المسلمين، أو الفرح وجدته لانتصار الإسلام، تأملت في أحلام هذا الإنسان وهو يتقلب في فراشه، وجدتها مرتبطة بأوضاع المسلمين وأحوالهم، في يقظته تجده يكدح في شأن الإسلام والمسلمين. أما كون الإنسان يهتم بقضاياه الشخصية، ثم بعد ذلك لا يهمه شأن الإسلام ولا شأن المسلمين، فهذا لن يفكر في واقع المسلمين أصلاً، ولذلك فمن باب الأولى أنه لن يفكر في مستقبله. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 4 بعض الأمثلة على الاهتمام بشأن الإسلام أضرب لكم بعض الأمثلة من واقع الجيل الأول، وهي أمثلة سريعة وغير مقصودة، إنما هي على سبيل التذكير فقط: الجزء: 142 ¦ الصفحة: 5 قصة أم أيمن رضي الله عنه الله عنها مثل رابع: بعد ما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصاب المسلمين كلهم هم وحزن عظيم، حتى إنهم كانوا كالغنم المطيرة، وأظلم في المدينة كل شيء -كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه- ولما بويع لـ أبي بكر الصديق بالخلافة قال لـ عمر: [[انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يزورها - أم أيمن حاضنة الرسول صلى الله عليه وسلم أم أسامة بن زيد، ومن أقرب الناس إلى الرسول عليه الصلاة والسلام! فانطلقا إليها لزيارتها، فلما رأتهما بكت، فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أما إني أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي انقطاع الوحي من السماء فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها]] . إذاً هذه المرأة لا تبكي لموت حبيب لها، أو قريب، أو صديق، أو ابن، كلا! إنما تبكي لانقطاع الوحي من السماء، حتى فقدها لشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يكن هو فقط الذي يبكيها، وإن كان فقده عزيزاً عظيماً على النفوس، لكن الذي كان يبكيها هو انقطاع الوحي من السماء، وتعتبر ذلك أمراً جللاً يستحق البكاء، فهيجتهما على البكاء الخليفة ووزيره فجعلا يبكيان معها. يا أحبتي! يجب أن يفكر المرء منا، كم كتب له من العمر في هذه الدنيا؟ خمسين، ستين، سبعين سنة -مثلاً- كم مضى من هذا العمر؟ سؤال ثالث ماذا صنعت فيما مضى من العمر؟ وكم بقي؟ وماذا سوف تصنع في ما بقي من عمرك؟ هل تعتقد أن الأمور سوف تتاح لك، حتى تفعل بكامل راحتك وهدوئك وسعة بالك؟ تصور يا أخي الكريم، أنه في يوم من الأيام أصابك صداع في رأسك، وبعد ما ذهبت إلى المستشفى، وأجريت التحاليل والفحوص اللازمة، قالوا: عندك سرطان في المخ هذا وارد، كل إنسان ممكن يحدث له ذلك. ما موقفك حين ذاك؟ لا شك أن موازين الإنسان سوف تتغير، ونظرته تختلف، وتفكيره سينحو منحى آخر، لكن المشكلة أنه في ذلك الوقت قد لا يكون بإمكانه أن يعمل شيئاً؛ لأنه لم يعد في حالته الطبيعية، وربما ليس لديه من الإمكانيات ما لديه الآن. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 6 فتح خيبر وقدوم جعفر مثل ثالث: بعد فتح خيبر، وكان هذا الفتح نصراً عظيماً للإسلام والمسلمين، جاء جعفر بن أبي طالب من الحبشة، وكان قد هاجر إليها مع المهاجرين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، قام إليه واعتنقه وقال: {ما أدري بأيهما أسر أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر} إذاً سرور النبي صلى الله عليه وسلم، كان مربوطاً بقضية الإسلام، فيسر لفتح خيبر ويسر أيضاً لقدوم جعفر. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 7 الأحلام والرؤى مثلاً الأحلام والرؤى، التي كان الصحابة رضي الله عنهم يعرضونها لرسول الله صلى الله عليه وسلم. بعد صلاة الفجر -أحياناً- يسأل الرسول: من رأى منكم رؤيا؟ فيقول رجل: رأيت رؤيا فيذكر رؤيا، وثاني وثالث. ماذا كانت تدور حوله؟ لم تكن تدور حول قضاياهم الشخصية فقط، ولا مشاكلهم الخاصة فقط، بل كان الغالب على هذه الأحلام، هو أنها تدور حول أوضاع الإسلام والمسلمين، إما في علم أو عمل، أو انتصار للمسلمين، أو خطر يهددهم، أو ما أشبه ذلك، ولو أردت أن أذكر أمثلة من ذلك لطال المقام، لكنني سبق أن ذكرت شيئاً من ذلك في درس بعنوان: "الأحلام والرؤى". الجزء: 142 ¦ الصفحة: 8 خروجه إلى الطائف عندما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى الطائف فدعاهم إلى الله عز وجل، فردوه أبشع رد وكذبوه فيما قال، خرج من عندهم، أو من مكة -على اختلاف في الروايات- يقول صلى الله عليه وسلم: {فخرجت هائماً على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فإذا سحابة قد أظلتني الحديث. إذاً رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى مسافة طويلة وكأنه فيما يشبه الغيبوبة، من شدة الحزن والهم والكمد الذي أصابه بسبب ردهم السيئ عليه، حتى ما وعى على نفسه وانتبه، إلا وهو في هذا المكان، وكأنه لم يكن يقصده، لكن انتبه فوجد نفسه في قرن الثعالب. إذاً همه وحزنه صلى الله عليه وسلم، لم يكن من أجل فوات دنيا أو مطمع أو منصب أو زوجة. أبداً، كان همه مربوط بقضية الإسلام، ومدى قبول الناس أو ردهم لهذا الدين. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 9 المشاركة في صناعة مستقبل الإسلام فعلى الإنسان أن يغتنم الفرصة، ويسعى إلى أن يشارك في صناعة مستقبل الإسلام؛ لأننا لا نصنع شيئاً إذا قلنا المستقبل للإسلام. ثم لم نأتِ بجديد، هذا قاله قبلنا كثيرون من الناس، من الخلف والسلف، والمعاصرين، ومن المفكرين، ومن العلماء المسلمين، بل ومن غير المسلمين، قالوا: المستقبل للإسلام. ما صنعنا شيئاً إذا كان هذا مجرد كلام نردده ونكرره ونتلهى به، ومجرد أمانٍ نقولها. ينبغي أن يكون قولنا: المستقبل للإسلام بداية لخطوة عملية، يساهم فيها كل فرد منا في العمل على صناعة هذا المستقبل بقدر ما يستطيع. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 10 الاهتمام بالمستقبل خاصية تميز الإنسان عن الحيوان النقطة الثانية: الاهتمام بالمستقبل، خاصية من خصائص الإنسان تميزه عن الحيوان، جُبِلَ الإنسان على التفكير في المستقبل، ولذلك إذا تأملتم قول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف:23-24] فالله عز وجل في هذه الآية ما نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن تعليق الأمر على المستقبل، إنما نهاه عن أن يجزم، بل يربط ذلك بالمشيئة. إذاً الإنسان لا يستطيع أن يعمل كل ما في أمنيته الآن فيقول: بعض الأمور أعملها غداً أو بعد غد في المستقبل. لكن ينبغي أن نربط ذلك بمشيئة الله عز وجل، فلا يجزم ويقول: سأفعل ذلك غداً، بل يقول: إن شاء الله أفعله غداً. فالتخطيط للمستقبل أمر ضروري، ولا يمكن تجاهله، ولكنه ينبغي أن يُربط بمشيئة الله عز وجل. انظر إلى بعض هذه الأحاديث -وأنا أذكر لكم هذه الأشياء كلها، لا على سبيل الاستقصاء، وإنما كأمثلة مرت في خاطري وأنا أتأمل الموضوع. مثلاً الرسول صلى الله عليه وسلم يقول، في صيام يوم عاشورا: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} أي: مع العاشر يصوم يوم تسعة وعشرة من المحرم، فعلق هذا الأمر على المستقبل؛ لأنه لم يفعله في هذا العام، فوعد إن بقي إلى العام القادم، وكتب الله له حياة أن يفعله، يقول صلى الله عليه وسلم: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} ويقول: {لئن عشت إن شاء الله، لأنهين أن يسمى أفلح ويسار ورباح، ونجيح} فوعد أنه إن عاش سوف ينهى عن هذه الأمور. نحن نجد لغة العرب فيها حرف السين، وفيها سوف، لماذا وجد حرف السين وسوف؟ للتعليق على المستقبل، فإذا قلت لك: اقرأ هذا الكتاب؟ تقول: سوف أقرؤه إن شاء الله، أو سأقرؤه إن شاء الله. فالإنسان يعلق كثيراً من الأمور في المستقبل. الذي لا يمكن أن تفعله اليوم، تفعله غداً، والذي لا يمكن أن تفعله غداً، تفعله بعد غد، وهذا أمر طبيعي أن الإنسان يفكر في المستقبل، ويرتب بعض الأمور، ويعد أن يفعل هذه الأشياء في مقبلات الأيام. ولذلك جاء في السنة النبوية الخبر عن أحوال هذه الأمة، وما يمر بها من الفتن والشرور والمصائب والخيرات أيضاً، إلى قيام الساعة، وفي بعض الأحيان كان الصحابة أنفسهم يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، كما في حديث حذيفة المشهور، أنه قال: {كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني، فقال: جاء الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ وهل بعد هذا الشر من خير؟} إلى آخر الحديث. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 11 الفرق بين تفكير الجاهليين وتفكير المسلمين للمستقبل إذاً الناس قلوبهم متطلعة ومتعلقة إلى أمور المستقبل، ولا يوجد إنسان يفكر في ساعته الحاضرة فقط، لكن الفرق في ذلك: أن أهل الجاهلية -سواء كان في الجاهلية القديمة أم الجاهلية المعاصرة- يفكرون في المستقبل تفكيراً منحرفاً، فمثلاً في الجاهلية كانوا يفكرون عن طريق الكهان، والعرافين، والمنجمين، والرمالين، فيأتي الواحد منهم رجل أو امرأة إلى الكاهن، فيقول: ماذا سيحصل لي، وماذا سيحدث، وماذا تتوقع؟ فيقول له الكاهن ما أخبره به شيطانه، ويصدق مرة ويكذب تسعاً وتسعين مرة، ومثله ما نجد في العصر الحاضر ما يسمونه قراءة الكرت، أو البرج أو حظك، أو ما أشبه ذلك من الأشياء، التي شاعت وذاعت عند أهل الجاهلية، وانتشرت إلى بعض المنتسبين إلى الإسلام في هذا العصر. وكذلك أهل أوروبا، يخططون ويفكرون للمستقبل من خلال نظرات وحسابات مادية بحتة، ولذلك كثيراً ما تأتي الأمور مخالفة لما كانوا يتوقعون. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 12 الأدلة التي نستقرأ من خلالها المستقبل أما في الإسلام فأمامنا آفاق عريضة واسعة، نحاول أن ننظر إلى المستقبل من خلالها. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 13 الدليل الثاني: الرؤيا الصالحة الدليل الثاني: الرؤيا الصالحة وهي كثير، وأكثر ما تقع في آخر الزمان، وإذا تقارب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ولذلك تجدون كثيراً من الصالحين، رأوا مرائي كثيرة في مثل هذه الأوقات، وقد حدثني قريب لي البارحة قال لي: مات فلان قريبي فقلت: سبحان الله! ما علمت بذلك. قال: مات منذ ما يزيد على شهرين، وفي مرض موته يقول: إنه أفاق من غيبوبة ألمت به، فقال لأحد إخوانه: لقد رأيت دخاناً أقبل على المسلمين من قبل العراق، وأخشى أن ينزل بالمسلمين فتنة، وذكر بقية الرؤيا. المهم أن الناس كثيراً ما يشاهدون الرؤيا الصالحة، ويستقرئون من خلالها بعض ما كتب الله تعالى، من ذلك: الفراسة. وحديث {اتقوا فراسة المؤمن، فإنه يرى بنور الله} لا يصح، لكن هناك أشياء كثيرة تصدق فيها فراسة الإنسان العاقل، الخبير الورع التقي، فيصدق ما توقعه، وهناك حديث النفس أو الإلهام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن كان في أمتي محدثون أو ملهمون فـ عمر} . وقد يلهم الإنسان أحياناً كلمة فتصيب، وقد حدثني -أيضاً- رجل عن بعض الكبراء، أنه سيحدث له كذا وكذا، ظناً منه، لا رجماً بالغيب، لكن يقول: والله أعلم، فصدق ما ظنه هذا الإنسان. من ذلك الفأل الحسن، ومن ذلك الدعاء المستجاب. إذاً قضية الاهتمام بموضوع المستقبل، قضية فطرية وشرعية، والشرع أقرها. لكن رسم لها الطريق الصحيح. الاهتمام بالمستقبل -أيها الأحبة- يقتضي الاهتمام بالحاضر، فإن المستقبل امتداد للحاضر، والأمة التي لا تعي حاضرها ومخاطره، وما يخطط لها، ولا تدرك المؤامرات التي تحاك ضدها، فهي أمة لا يمكن أن تدرك مستقبلها، ما دامت على تلك الحالة، بل إنني أقول: إن الاهتمام بالمستقبل -كما يقتضي الاهتمام بالحاضر- يقتضي الاهتمام بالماضي أيضاً، بالتاريخ، فإن كل أمة إذا أرادت أن تستأنف مسيرتها، لا بد أن ترجع إلى ماضيها، كما قال الأول: استرشد الغرب بالماضي فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه التاريخ -أيها الأحبة- ليس مجرد قصص تسرد ويتلهى بها الناس، وليس مجرد أخبار للمتعة، كلا! وإنما هو توجيه وإرشاد، ولذلك قالوا: التاريخ يعيد نفسه. أي قضية أو مشكلة أو كارثة تقع في أمة من الأمم، لو قلبت أوراق الماضي والتاريخ، لوجدت حالات مشابهة كثيرة، وسوف أذكر لكم خلال الدرس إن شاء الله شيئاً من ذلك، ولهذا يقول أحمد شوقي: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عي في الناس انتساباً أي: الإنسان الذي ليس له تاريخ، أو نسي تاريخه، مثل الإنسان الذي ليس له أب، لقيط ليس له أب، فمن خلال التاريخ، نستطيع أن نعرف كيف تنهض الأمة، وكيف تقوم من رقادها، وكيف تسترد صحتها وعافيتها. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 14 الدليل الأول: استقراء السنن الإلهية من ذلك مثلاً: قضية استقراء السنن الإلهية، فإن الله عز وجل جعل في الحياة سنناً ونواميس تمشي وتمضي، مثل ما أن الشمس تطلع وتغيب، كذلك حياة الناس، وحياة الأمم، وحياة الشعوب، والنصر والهزيمة، والتقدم والتأخر، والفقر والغنى، كلها مربوطة بسنن إلهية موجودة في هذه الدنيا، والمؤمن العاقل البصير -أحياناً- يدرك من خلال هذه السنن ما سيقع. ولذلك أذكر على سبيل المثال: أن الشيخ ابن تيمية رحمه الله، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين، خافهم الناس وفزعوا منهم، فكان ابن تيمية يقول لهم: إنكم غانمون ومنصورون. فيقول له الناس: يا إمام! قل إن شاء الله. فيقول: إنكم منصورون، وأقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، أي: النصر مؤكد ومقطوع به، ولكن أقول إن شاء الله مثل ما جاء في الحديث: {وإنا إن شاء الله بكم لاحقون} بالنسبة للموت، مع أن الموت حتم لازم، تحقيقاً لا تعليقاً؛ لأنه من خلال استقراء النواميس الإهية لاحظ ذلك، وإنه أعجبني مقطع في كتاب نفيس جميل اسمه"صناعة الحياة" أحببت أن أشرككم معي في هذا المقطع الجميل، يقول فيه: علينا كمؤمنين، أن ننتظر ساعة يتضح فيها من يكذب ولا بد، ننتظرها كما ننتظر أي حدث مادي، كشروق الشمس أو نزول المطر إذا أغلقت السماء، ومن الموازين: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] وقريب منه ميزان: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] وأن الخطيئة الأولى تجلب خطيئة ثانية، والثانية تجلب ثالثة عقوبة من الله، حتى يغلق القلب على ظلمة. وبعكس هذه الموازين: التوفيق الذي يحيط المهتدي والصادق، وفق ميزان: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وأمثاله. يقول: وكل هذه الموازين نتداولها، وكأننا ننتظر الآخرة؛ ليحيق المكر السيئ بأهلة ويثاب المؤمن، وهذا جزء من الحق، أي: ما ننتظره في الآخرة هذا حق وجزؤه الآخر، هو الاعتقاد بأن الحياة البشرية الدنيا محكومة بهذه الموازين جزماً، ولكن لا يرى البعض آثارها. لأنها لا تظهر دائماً بسرعة، بل قد تمتد لفترة زمنية لتظهر، فينسى الربط بين الفعل أو العقوبة والثواب، مع اعتقادنا بأن العقوبة قد تأتي في نفس اللحظة أحياناً، مثل مئات من القصص، يرويها الثقات على مدى الأجيال، عن شاهد زور حلف بالقرآن أمام القضاء كاذباً فعمي فوراً، أو مغتاب يغتاب فيكوى لسانه بلقمة حارة فوراً يكوي الله بها لسانه عقوبة عاجلة، فهذا يحدث، لكن ليس من الضروري أن يحدث دائماً. لكن العقوبة العاجلة ليس من الضرورة أن تأتي في لحظة، قد تأتي في عشر سنين، أو مائة سنة أحياناً وأشباه ذلك. يقول فدراسة آثار موازين الإيمان على فترة ممتدة وأجيال، ترينا بوضوح نتائج مشخصة مرئية، يؤول فيها أمر أهل الباطل إلى تراجع، وأمر أهل الحق إلى تمكين، وفي القرآن الكريم شواهد، وكذلك في كتب التاريخ وفي مرويات المعمرين، ولـ محمود شيث خطاب، وهو مسلم وافر الصدق، كتاب عنوانه"عدالة السماء" هذه قصص صغيرة تباع في الأسواق يروي فيها بعض قصص مدارها على هذه الموازين. -ذكر بعض هذه القصص- ثم قال: وحدثني ثقة قال: إن جندياً تركياً -هذا لمؤلف الكتاب- انعزل عن وحدته، يوم انسحاب الجيش العثماني من بغداد، أمام ضغط الجيش البريطاني، ووقف هذا الجندي بباب جامع أبي حنيفة في بغداد، فجاء شقي سلبه، ثم قتله بظلم في وقفته في الباب، وبعد عشرين سنة تشاجر هذا الشقي مع آخر، فطعن فهام على وجهه من حرارة الطعنة لا يدري ما يفعل، وظل يهرول بلا وعي مئات الأمتار، حتى وصل باب الجامع، فخر ميتاً في نفس الموضع الذي قتل فيه التركي البريء، ولو أنا فتحنا مثل هذا الموضوع في مجلس المعمرين في الحضر أو البدو، وفي بلاد العرب أو الهند أو الصين، لأقسموا لنا على صدق عشرات من مثل هذه القصص رأوها بأنفسهم رأي العين. ومن أعجب الأمور -ولا زال الكلام لمؤلف الكتاب محمد بن أحمد الراشد - ومن أعجب الأمور: أن العقوبة قد لا تظهر في الفاعل، وإنما تظهر في ولده لحكمة ربانية، فقد حدثني أحمد جمال الحريري رحمه الله، وهو يطوف بمكة، قال: يا بني، كلنا قد استهجنا سحب جثة الأمير العراقي عبد الإله بن علي، صبيحة ثورة أربعة عشر تموز ببغداد، ولكن هل تظن أن ذلك جاء من غير مقدمة؟ قال: لقد رأيت علياً أباه صبيحة التاسع من شعبان بمكة، يوم أعلنت الثورة العربية التي قادها لورنس، قال: رأيته يصعد إلى قلعة مكة، التي ما زالت شاخصة حتى الآن، فأعطى الحامية العثمانية أماناً إذا سلمت بغير قتال، فسلموا ونزلوا آنذاك بالأمان، وكرهوا القتال بمكة، قال: فأطلق سراح الجنود، وكانوا أربعمائة، ووضع الحبال في أرجل ستة عشر ضابطاً، وسحبهم أتباعه وهم أحياء. أي: جروهم بالسيارات على الإزفلت أو غيره وهم أحياء، والغوغاء تركض وراءهم، فماتوا بعد بضع مئات أمتار، واستمروا يسحبونهم حتى بلغوا البطحاء التي بين مكة ومنى، فعلقوهم على الأشجار أمواتاً، وكل ذلك رأيته بعيني، وما أظن الذي حدث لولده إلا عقوبة مثلية لتلك السيئة. وبمقابل هذا، هل رأيت من سار على سنن العدل، ثم ساءت أموره؟ لم نرَ ذلك في فرد أو حكومة قط، وكم من رهط مؤمن عجز عن دفع ظلم يقع عليه، فينجيه الله تعالى ويبطش بالظالم تصديقاً لميزان: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] وهلاك الأمم حين يشيع المنكر، وتنتشر المعاصي، يشاهده المرء في المدن الخربة، ومدينة بومبي الفاسقة بجنوب إيطاليا، محفوظة من يوم أهلكها بركان فيزو، قبل ألفي سنة. يقول المؤلف: وقد تجولت فيها، ورأيت دنان الخمور، وصور النساء العرايا كأنها رسمت أمس، وهل ما حدث للكويت من هزة اقتصادية بسبب سوق المناخ، بعيد عن معنى عقوبة بلد شاع بين أهلها الربا، ورضي معظمهم بيع الغرر التحايلي الذي كان بالمناخ. هذا كلام المصنف، ولو كتب الكتاب بعد حادثة الكويت الأخيرة، لأشار إليها، باعتبارها نموذجاً آخر من نماذج العقوبات الإلاهية، التي تجري وفق هذه السنن. إذاً في الإسلام أول دليل نستقرئ من خلاله المستقبل: السنن الإلهية. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 15 أعداء الإسلام وخططهم ثالثاً: أعداء الإسلام. من هم؟ وما هي خططهم؟ الجزء: 142 ¦ الصفحة: 16 إظهار الإسلام للوصول إلى المآرب الخطة الثانية: إظهار الإسلام رغبة في الوصول إلى المآرب، بحيث أنهم يطبقون الخطة التي كان يقولها بعض أهل الكتاب: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:72-73] أحياناً يهود أو نصارى يعلنون أنهم أسلموا، بغرض التغلغل والدخول إلى المسلمين وذر الرماد في العيون، والأمثلة من ذلك كثيرة. مثلاً: عبد الله بن أبي بن سلول، أظهر الإسلام وهو باقٍ على كفره ونفاقه، من أجل أن يكيد للمسلمين. مثل آخر: عبد الله بن سبأ المشهور بـ ابن السوداء، كان يهودياً من أهل صنعاء، فأظهر الإسلام حتى يكيد للإسلام، وهو باقٍ في حقيقة الأمر على يهوديته. التتار كانوا وثنيين متوحشين لا دين لهم، لكن عندما جاءوا إلى بلاد المسلمين واختلطوا بالمسلمين، أعلن بعضهم الدخول في الإسلام، وقد يكون بعضهم دخل في الإسلام حقيقة، لكن كثير منهم أعلن الدخول في الإسلام حتى يطمئن المسلمون ويهدءوا، ولذلك لما جاء التتر تردد كثير من المسلمين بعد ما أسلموا، وقالوا: كيف نقاتلهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، ومعهم قضاة ومؤذنون وأئمة، ويحملون القرآن، ويعلنون الأذان ويصلون كيف نقاتلهم؟ فقام شيخ الإسلام ابن تيمية، وحسم الجدل بفتواه الشهيرة الموجودة في مجموع الفتاوى، والتي بين فيها أن هؤلاء التتر يجب أن يقاتلوا ويقتلوا. حتى إنه -رحمه الله- كان يقول للمسلمين: لو رأيتموني في ذلك المعسكر -أي: معسكر التتار- وعلى رأسي عمامة، وفي يدي مصحف، فاقتلوني. إذاً لا ينفع هؤلاء أن يتظاهروا بالإسلام؛ لأنهم يحاربون المسلمين ويقاتلونهم؛ طمعاً في دنياهم، وهم يحكمون غير شريعة الله عز وجل، لأنهم كانوا يحكمون بما يسمى "الياسق"، وهو نظام قانوني كافر، فيه من الإسلام؛ ومن اليهودية، ومن النصرانية، ومن آراء الناس وأقوالهم وظنونهم الشيء الكثير، وكانوا يحكمون به ويسمونه "الياسق". حتى قيل: إن نابليون لما جاء إلى مصر في حملته الشهيرة، أعلن الإسلام حتى يهدأ الناس، وكان يخاطب الناس -أحياناً- بالخطابات، من عبد الله نابليون إلى من يراه من إخواننا المسلمين. ويكتب لهم خطابات وهو كافر عنيد، لكن يضحك على عقول السذج بذلك فترة من الزمن، وكثير من الجواسيس تسللوا إلى المسلمين، وكانوا يعلنون إسلامهم حتى يقبلهم الناس، وينتشروا في أوساطهم دون أن يكون هناك تحفظ عليهم، هذه بعض خطط الأعداء. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 17 أعداء الإسلام الأعداء التاريخيون للأمة المسلمة أربعة أصناف:- أ/ الصنف الأول: اليهود: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] وتاريخهم مليء بالعداوات للمسلمين. ب/ الصنف الثاني: المشركون وأعني بالمشركين، أولاً: عبدة الأوثان. فهم أعداء، بل هم من أشد الناس عداوة، كما في الآية السابقة {الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] ويدخل في المشركين الشيوعيون الملحدون، فإنهم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا. عداوة الشيوعيين للدين راسخة، وإذا هادنوا الدين في وقت من الأوقات، فإنما هي هدنة مؤقتة، ولذلك نعرف كيف فعلت الأنظمة الشيوعية التي حكمت، كيف فعلت بالمسلمين، كيف صنع النظام الشيوعي في روسيا بالمسلمين؟ لقد قتلت من المسلمين عشرات الملايين في الولايات الإسلامية، وفي عام واحد قتلوا ما يزيد على ثلاثة ملايين مسلم في جمهورياتهم، ألبانيا بلغاريا، أفغانستان، وفي عدن وفي سواها. الشيوعية عداوتها للإسلام عداوة راسخة لا تراجع عنها، ولا تردد، فيها وإن هادنوا الدين وقت من الأوقات أو أعطوه بعض الفرصة، فإنما هذا مجرد توعية أو، استراتيجية أو خطة مؤقتة، وبعد ذلك يعودون إلى عداوتهم للإسلام. ج/ الصنف الثالث من أعداء الدين: النصارى: وهم أولياء لليهود وحلفاء تاريخيون لهم، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] إذاً اليهود حلفاء للنصارى وأولياء لهم والنصارى حلفاء لليهود وأولياء لهم، وهذه عداوة تاريخية، وبينهم حلف لا ينقطع. وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تعددا وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الحق صفاً موحدا فاليهود والنصارى حلفاء تاريخيون، والمثل القائم الآن في إسرائيل دولة اليهود، فإنها قامت بوعد من النصارى ودعم منهم، وجهود الغرب الصليبي في دعم إسرائيل بالمال والصناعة والعلم والتقنية والتمكين والسياسة لا تخفى، فهم يدعمونها دعماً سياسياً وعسكرياً ومادياً هائلاً رهيباً لا ينقطع، أما الشرق الشيوعي الملحد، فجهوده أيضاً في دعم إسرائيل لا تخفى، فإنه يدعمها بالطاقة البشرية، وما أخبار الهجرات اليهودية المتتالية من روسيا إلى إسرائيل، والتي تتم الآن أعظم وأكبر هجرة لمئات الألوف من روسيا إلى إسرائيل، إلا نموذج لدعم الشيوعية لليهود. إذاً الشيوعيون والنصارى واليهود، يتحالفون جميعاً ضد الإسلام. د/ الصنف الرابع: المنافقون: والمنافقون عداوتهم من داخل الصف، ولذلك قال الله عز وجل: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] أي: هم من أشد الناس عداوة وأفتك الناس، لأنه يصعب الحذر منهم بسبب أنهم مندسون في داخل المسلمين. من المنافقين الرافضة -مثلاً- وسائر الفرق الباطنية، فإنهم يتظاهرون بالإسلام، ويبطنون الكيد له على الخفية، وهم مع كل عدو ضد الإسلام، وأخبارهم في إدخال التتر للمسلمين أخبار معروفة. العلمانيون الذين يريدون فصل الدين عن الحياة، فصل الدين عن السياسة، عن الحكم، وعن التعليم، وعن الإعلام، وعن الأخلاق، وعن أمور الاجتماع، وجعل الدين معزولاً في زاوية أو مسجد أو رباط، هؤلاء العلمانيون هم من المنافقين، لأنهم إذا كانوا من المتسمين بالإسلام يتظاهرون بالدين وأسماؤهم: محمد وأحمد وصالح وعلي وكذا وكذا، فإن حقيقتهم أنهم يكيدون للإسلام وأهله. من الأعداء المنافقين الذين يتسترون بأسماء مذاهب منحرفة، كالحداثة أو اليسارية أو القومية أو غيرها، ويعتبرون هذا وعاءً للأدب والشعر، والقصة والفن، ولكنهم ينفثون سمومهم من خلال هذه القوالب، التي استغلوها أبشع استغلال، وصاروا لا يستطيعون أن يصرحوا بأنهم أعداء للدين، أو مناوئين أو شيوعيين، فيأتون بأسماء لطيفة مثل: اليسارية، أو الحداثة، أو العلمانية، -كما ذكرت- أو القومية أو غيرها من الأسماء البراقة، التي تخفي وراءها عداءً للإسلام مستحكماً. ولست أستطيع أن أتحدث عن خطط هؤلاء الأعداء لكنني، رأيت أن من المناسب جداً أن أذكر خطتين فقط. الخطة الأولى، أشرت إلى شيء منها، وهي: قضية التحالف ضد الإسلام، فهذه الأسماء وهذه الجهات المختلفة، قد يكون فيما بينها عداوات أحياناً، ولكن حينما يبرز الإسلام كعدو لها، فإنها توحد صفوفها لتواجه الإسلام وتحاربه. شيوعيون جذر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب الجزء: 142 ¦ الصفحة: 18 العداوة سنة ماضية أولاً: العداوة راسخة لا حيلة فيها، سنة ماضية، ليس هناك أحد في الدنيا ليس له أعداء، يقول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] والله عز وجل له أعداء! اسمع! يقول تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] وفيما يتعلق بقصة موسى {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} [طه:39] عدو لله عز وجل {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:98] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت:28] . إذاً الله تعالى له أعداء، وكل إنسان له أعداء، المسلم له أعداء، والكافر له أعداء، والطيب والخبيث، والتقي والفاجر والمنافق، واليهودي، والنصراني، والغبي والذكي، ما هناك أحد إلا وله أعداء. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 19 الأدلة الشرعية على أن المستقبل للإسلام الأعداء يكيدون ويتآمرون ويخططون، ولكن مع ذلك نحن نقول بملء أفواهنا، وكل قلوبنا ثقة وطمأنينة، نقول: المستقبل للإسلام. وإليك الدليل، والأدلة كثيرة جداً، ولذلك اسمحوا لي إذا عرضتها عليكم بسرعة؛ لأنني أود أن ننتهي من الموضوع في هذه الجلسة. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 20 الأدلة من الواقع الأدلة الرابعة أوالقسم الرابع: الأدلة الواقعية، وتشمل نوعين: أ/ انهيار الحضارة المادية الغربية: النوع الأول: انهيار الحضارة المادية الغربية، بشقيها الشرقي والغربي، فأما الشرقي أعني الشيوعية، فقد أعلنت إفلاسها وبدأت تتهاوى وكأنها عقد انفرط نظامه، والكلام في موضوع انهيار الشيوعية كلام يطول، ولكنه مشهور معروف. أما الشق الغربي، فهناك دراسات كثيرة عن الجوع الروحي، والإفلاس الأخلاقي، وارتفاع نسب الانتحار، والجرائم في أرقى بلاد العالم وأكثرها تقدماً. هناك كتب كثيرة، هناك -مثلاً- كتاب "أمريكا كما رأيتها" لـ محمود المسلاتي، هناك: أمريكا من الداخل بمنظار سيد قطب لـ صلاح الخالدي، هناك: الإنسان ذلك المجهول لـ كيسكاريل، هناك كتب كثيرة جداً، تتكلم عن انهيار الحضارة الغربية. يكفينا قول ماكينل، أحد المفكرين الغرب، يقول: إن الحضارة الغربية في الطور الأخير من أطوار حياتها، أشبه بالوحش الذي بلغت شراسته النهاية في انتهاكه لكل ما هو معنوي، وبلغ اعتداؤه على تراث السلف، وعلى كل مقدس محرم قمته، ثم أغاص مخالبه في أمعائه، فانتزعها وأخذ يمزقها ويلوكها بين فكيه، بمنتهى الغيظ والتشفي. أي أن: الغرب دمر العالم، ثم رجع إلى نفسه فبدأ يدمرها. من مصائب الفراغ الروحي في الغرب ما يلي: أولاً: الولوغ في المشروبات الكحولية. ثانياً: الإدمان على المخدرات. ثالثاً: الأمراض العصبية والعقلية. رابعاً: التمرد والقلق والتدمير. خامساً: الجرائم. سادساً: السعار الجنسي وأمراض الجنس. سابعاً: الانتحار. وإليك بعض الأرقام الخفيفة: في أمريكا في الأربعينيات، عدد مدمني الخمر سنوياً اثنين وأربعين مليوناً. ثانياً: الذين يتعاطون المخدرات سنة 75م، (19%) من الأمريكان، لكن في سنة 78م، بعد ثلاث سنوات فقط ارتفعت النسبة إلى (49%) ، فما بالك بالعدد الآن! أشك أنه يوجد في أمريكا من لا يتعاطى المخدرات، اللهم إلا العدد القليل. ثالثاً: عدد المرضى في مستشفيات الأمراض العقلية، أي: شبه جنون، أو أمراض نفسية أو عقلية في الولايات المتحدة الأمريكية، سبعمائة وخمسين ألفاً، وهذه مصحات خاصة بهم، ومع ذلك فهم يشغلون (55%) من أسرة المستشفيات الأخرى. رابعاً: عدد من أعفتهم القوات المسلحة الأمريكية في الحرب الثانية، بسبب الاضطرابات النفسية والعقلية، (43%) من المجموع الذي تساوي 980 ألف جندي، وعدد من رفضوا الامتحان لاختبار الخدمة العسكرية في الولايات المتحدة الأمريكية، 860 ألفاً. خامساً: تقول دائرة المعارف البريطانية: أن في الأربعينيات، كان (90%) من الشباب الأمريكي مصاب بمرض الزهري، (60%) مصاب بمرض السيلان، و (40%) مصاب بالبرود الجنسي. سادساً: صرح كندي -وهو زعيم أمريكي معروف سنة 1962م- أن (85%) من الشباب الذين يتقدمون للجندية في أمريكا غير صالحين لذلك، لأن الشهوات التي غرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية. ولذلك نقول: إن مستقبل أمريكا في خطر، لأن شبابها مائع منحل غارق في الشهوات، الأمر الذي سيجعلهم عاجزين عن القيام بالمهمات الملقاة على عواتقهم. انظر كتاب الثورة الجنسية، وكتب كثيرة. هذا جانب لا أطيل فيه، جانب فشل الحضارة الغربية، وقد أصبح الغرب نفسه يعترف بذلك ويؤمن به. ب/ الصحوة الإسلامية: الجانب الثاني: الذي يدل على أن الإسلام قادم من الواقع، هو جانب الصحوة الإسلامية. إن سحر الحضارة الغربية لم يعد يبهر الأبصار، ويأخذ بالألباب، كما كان في الماضي، فلقد تفتحت عيون الشباب على نور الإسلام، وبطل السحر والساحر. إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر جاء نهر الله فبطل نهر معقل، وانكشفت الحقائق، وعاد شباب الجيل إلى الله عز وجل وهم يقولون: آيبون تائبون عابدون ساجدون، لربنا حامدون. يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله، في كتاب له اسمه: الإسلام ومستقبل البشرية، يقول: كنت في القاهرة أيام إعدادي رسالتي للدكتوراه عام 1971م -أعتذر عن التقويم الميلادي إذا ذكرته، لأنه ما يكون عندي إلا الميلادي- يقول: كنت في القاهرة في ذلك العام 1971م، وكان في جامعة القاهرة 120 ألف طالب، -أي: طالب وطالبة، لأنها جامعة مختلطة- يقول: وكانت طالبة واحدة فقط هي المتحجبة، -وهو حجاب غير كامل، لا تغطي وجهها، لكن تغطي شعر رأسها وبقية بدنها- يقول: واليوم العدد يفوق خمسة عشر ألفاً من الطالبات المحجبات، ويوجد من بينهن مجموعات يغطين حتى وجوههن، وقل مثل ذلك في جامعة الإسكندرية، وأسيوط وغيرهما. مثال آخر أو جانب آخر: الكتاب الإسلامي أكثر الكتب رواجاً، حتى أن تجّار الكتب في بيروت إذا أشرف أحدهم على الإفلاس، يقول له زملاؤه: اطبع لك كمية من كتاب: تفسير سيد قطب في ظلال القرآن، يرفع المال الموجود عندك وليس المقصود فقط الظلال، الكتاب الإسلامي، كتاب الحديث، التفسير، التاريخ، التوحيد، العقائد، الكتب الإسلامية هي أكثر الكتب رواجاً، ولذلك غيرت كثير من المكتبات معروضاتها من كتب أدبية، وتاريخية، وعلمية وغير ذلك، إلى كتب إسلامية. مكة أصبحت قبلة الشباب، ليس فقط في الصلاة، بل حتى في العمرة والحج والزيارات وغيرها، ومن ذهب إلى الحرم في المواسم والمناسبات، تعجب من هذه الزهرات المتفتحة التي أصبحت لا يحصى عددها، ممن أقبلوا على الله عز وجل وقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)) [الكهف:14] . التحول في الأحزاب العلمانية، والقومية، واليسارية، كلنا نعلم كثيراً من الشباب مر عليهم وقت من الأوقات، تأثروا فيه بالدعوات الناصرية، والقومية، والبعثية وغيرها، وقرءوا لـ طه حسين، وسلامة موسى، وأمثالهم من المفكرين المنحرفين الضالين، واليوم عاد هؤلاء الشباب، أو كثيرٌ منهم إلى الله عز وجل وأصبحوا من رواد المساجد، أطلقوا لحاهم، وصاروا يقرءون الكتب الإسلامية، ويصلون مع الجماعة، ويحافظون على الدين، وتجد مع الواحد منهم مسواكاً في جيبه، وقد تجده يصلي في روضة المسجد، ويحافظ حتى على صلاة الفجر، وتأتي إلى بيته فربما لا تجد فيه تلفازاً، وكان لهم تاريخ كما ذكرت. فعاد الناس إلى الله، وأعلن كثير من أصحاب الأفكار، والمبادئ المنحرفة إفلاسهم، حتى في مجال الصحافة، والكلام في هذا أيضاً يطول. الشعائر التعبدية انتشرت، الصلاة -مثلاً- تجد وأنت ذاهب في الطريق إلى الرياض، كل مسافة أمتار -إذا كان وقت صلاة- تجد مجموعة قد وقفوا يصلون على جانب الطريق، اللحية أصبحت أمراً عادياً مألوفاً، على أنها كانت مستغربة في كثير من البيئات. عزل النساء عن الرجال، ومنع الاختلاط في المدارس، والجامعات والأسواق وغيرها، أصبح ظاهرة طبيعية الآن. ترك التدخين -مثلاً- والامتناع عن تقديم السجائر والطفايات وغيرها، مراعاة الأكل الحلال سواءً بالذبح على الطريقة الإسلامية، أو تجنب الخنزير، أو تجنب الأشياء التي يكون فيها مشتقات محرمة، انتشار الشريط الإسلامي، كثرة المساجد وروادها إلى غير ذلك. الإسلام أصبح يعرض الآن بقوة وشجاعة، ليس مثلما كان في الماضي، فقد كان الواحد يتكلم عن الإسلام على حياء، ويحاول إيقاف بعض الأمور، أما الآن فالناس أصبحت تتكلم عن الإسلام بقوة وشجاعة ووضوح، ولا تستحي من هذا الدين، بل تعرضه بغاية الشجاعة والقوة. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 21 الأدلة التاريخية النوع الثالث من الأدلة هي: الأدلة التاريخية، وخلاصة كلامي أو قصدي بالأدلة التاريخية: أننا تعلمنا أن الله عز وجل كلما ادلهمت الخطوب على هذه الأمة كتب لها الفرج، وهذه حقيقة تاريخية أو سنة إلهية، فعندما خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة، لحق به المشركون وتابعوه، وكان صلى الله عليه وسلم وحيداً طريداً فريداً، فلحق به سراقة بن مالك الجعشمي -والرواية في الصحيح- وساخت قوائم فرسه في الأرض. المهم في رواية ذكرها الحسن البصري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ سراقة بن مالك: {كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى} الآن الرسول عليه السلام وحيد، ما معه إلا أبو بكر، وخارج من بلده، لا مال ولا أتباع ولا أصحاب ولا شيء، ومع ذلك يعد سراقة بن مالك -وكان كافراً يوم ذاك- يقول له: {كيف بك يا سراقة، إذا لبست سواري كسرى} قال: فلما أتي عمر بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، دعا سراقة فألبسه إياه. وكان سراقة كثير الشعر في الساعدين، فقال: [[ارفع يديك، وقل: الله أكبر، الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز والبسهما سراقة الأعرابي]] والحديث له طرق أخرى، أشار الإمام الحافظ ابن حجر في الإصابة إلى شيء منها. مثل آخر، يؤكد لنا أن الأمة تتمرد على القيود، والسدود والحدود والأغلال، وكلما ادلهمت الخطوب جاء الله بالفرج من عنده: الأحزاب، قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:10-11] في غزوة الأحزاب، الأعداء من فوقكم ومن أسفل منكم، ومن كل جهة، تحالف اليهود من الداخل مع المشركين من الخارج، ونجم النفاق، وضعف المؤمنون ضعفاً شديداً. ومع ذلك اسمع هذه الرواية العجيبة، التي نقلتها من مسند أحمد وأصلها في البخاري ومسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه، قال: {أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق، فعرضت لنا صخرة في مكان من الخندق، لا تأخذ فيها المعاول -عجزوا عنها- قال: فشكوناها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فقال: أحسبه قال: ووضع ثوبه. ثم هبط إلى الصخرة، فأخذ المعول، فقال بسم الله. فضرب ضربة فكسر ثلث الحجر، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا} قصور الشام يراها من أثر ضربة المعول وهو في مكانه ذاك. ثم قال صلى الله عليه وسلم: {بسم الله، وضرب ضربة أخرى فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا. ثم ضرب صلى الله عليه وسلم ضربة ثالثة، وقال: بسم الله، فكسر بقية الحجر وقلعه، وقال: الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا} والحديث قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: إسناده حسن وهو كما قال. إذاً في شدة الأزمة، اليهود والمنافقون من الداخل، والمشركون من الخارج، مع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: الآن أعطيت كنوز كسرى وقيصر والمدائن، وغيرها من بلاد الروم والفرس وسواها. في قضية التتار، لما جاء التتار إلى بلاد المسلمين كانت حادثة عظيمة، وانتشر الكلام والمشكلات، وتكلم في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية تكلم في الفتاوى بكلام أدعوكم جميعاً إلى مراجعته، في (ج:28/440) وما بعدها. كلام في غاية العجب، ومن خلال ذلك الكلام اكتشفنا ما هو الكلام الذي كان يجب أن يقال للناس في مثل هذه الأوقات، حتى يُطمئن قلوبهم، ويرسم أمامهم السبيل، ويزيل ما في نفوسهم من الخوف والهلع. ويؤسفني أن أقول: لم يقم من بيننا -نحن طلبة العلم فيما أعلم- من قال مثل هذا الكلام الجزل القوي المتين الموفق الذي قاله شيخ الإسلام، وهو كلام طويل يمتد من ص (440-467) لا أستطيع أن أقرأ عليكم منه إلا نتفاً يسيرة، يقارن فيها ابن تيمية حال التتار لما غزوا الشام، مع حال الأحزاب لما غزوا المدينة. ذكر تحزب الأحزاب على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قال: كلام منقول وفي هذه الحادثة -أي: مجيء التتار إلى الشام- تحزب هذا العدو من مغول وغيره، من أنواع الترك، ومن فرس ومستعربة، ونحوهم من أجناد المرتدة، ومن نصارى الأرمن وغيرهم، ونزل هذا العدو بجانب ديار المسلمين، وهو بين الإقدام والإحجام، مع قلة من بإزاءهم من المسلمين، ومقصودهم الاستيلاء على الدار واصطدام أهلها، كما نزل أولئك بنواحي المدينة بإزاء المسلمين. ودام الحصار على المسلمين عام الخندق على ما قيل: بضعاً وعشرين ليلة، وقيل: عشرين ليلة، وهذا العدو -أي: التتار- عبر الفرات سابع عشر ربيع الآخر، وكان أول انصرافه راجعاً عن حلب، لما رجع مقدمهم الأكبر " قازان " بمن معه، يوم الإثنين، حادي أو ثاني عشر جمادى الأولى، يوم دخل عسكر المسلمين إلى مصر المحروسة، واجتمع بهم الداعي، وخاطبهم في هذه القضية، وكان الله سبحانه وتعالى لما ألقى في قلوب المؤمنين ما ألقى من الاهتمام والعزم، ألقى في قلوب عدوهم الروع والانصراف. وكان عام الخندق عام برد شديد وريح شديدة منكرة، بها صرف الله الأحزاب عن المدينة، كما قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] وهكذا هذا العام -أي: الذي وقع فيه غزو التتار، وابن تيمية كان يتكلم واللحظات قائمة وموجودة، أي: في الحال؛ لأنه قال في آخر الكلام: كتبت هذا الكتاب بعد رحيل قازان وجنوده، لما رجعت من مصر، في جمادى الآخرة وأشاعوا أنه لم يبق منهم أحد إلى آخر الكلام. يقول: وهكذا هذا العام أكثر الله تعالى فيه الثلج والمطر والبرد على خلاف العادة، حتى كره أكثر الناس -أي: من المسلمين- ذلك، وكنا نقول لهم: لا تكرهوا ذلك، فإن لله فيه حكمة ورحمة، وكان ذلك من أعظم الأسباب التي صرف الله به العدو، فإنه كثر عليهم الثلج والمطر والبرد، حتى هلك من خيلهم من شاء الله، وهلك منهم أيضاً من شاء الله، وظهر فيهم وفي بقية خيلهم، من الضعف والعجز بسبب البرد والجوع، ما رأوا أنهم لا طاقة لهم معه بقتال، وحتى علموا أنهم كانوا صيداً للمسلمين لو يصطادونهم، لكن في تأخير الله اصطيادهم حكمة عظيمة. يقول: وقال الله تعالى في شأن الأحزاب: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] وهكذا هذا العام، جاء العدو من ناحيتي علو الشام، وهو شمال الفرات وهو قبلي الفرات، فزاغت الأبصار زيغاً عظيماً، وبلغت القلوب الحناجر؛ لعظم البلاء، لا سيما لما استفاض الخبر بانصراف العسكر إلى مصر -أي: رجوع عساكر المصريين- وتقرب العدو وتوجهه إلى دمشق، وظن الناس بالله الظنونا. قارنوا كلام ابن تيمية -أيها الإخوان- بواقعنا اليوم، سواءً من طلاب العلم أو من عامة الناس، يقول: وظن الناس بالله الظنونا، هذا يظن أنه لا يقف قدامهم أحد من جند الشام، وهذا يظن أنهم لو وقفوا لكسروهم كسراً، وأحاطوا بهم إحاطة الهالة بالقمر، وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن. مثل هذا الكلام قيل في هذا العصر لما جاء الكلام عن قضية الغازات السامة والأسلحة الكيماوية، وتوهم كثير من الناس أن هذه الأشياء تتلف الأرض وتهلكها، وما بقيت تسكن بعد اليوم، نفس الكلام قاله السابقون في القرن السادس، والسابع لما جاء التتر إلى دمشق. يقول ابن تيمية: وهذا يظن أن أرض الشام ما بقيت تسكن، ولا بقيت تقوم تحت مملكة الإسلام، وهذا يظن أنهم يأخذونها، ثم يذهبون إلى مصر، فيستولون عليها فلا يقف قدامهم أحد، سبحان الله! أقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، تصور من الناس من تصور أن التتار سيل كاسح، سوف يجتاح الشام، وإذا انتهى منها انتقل إلى مصر، فلا يقف قدامهم أحد، فيحدث نفسه بالفرار إلى اليمن ونحوها، وهذا إذا أحسن ظنه، قال: إنهم يملكونها هذا العام، كما ملكوها عام هولاكو، سنة سبع وخمسين، ثم قد يخرج العسكر من مصر، فيستنقذها منهم كما خرج ذلك العام، وهذا ظن خيارهم. وهذا يظن أن ما أخبره به أهل الآثار النبوية، وأهل التحديد والمبشرات، أماني كاذبة وخرافات لاغية، وهذا قد استولى عليه الرعب والفزع، حتى يمر الظن بفؤاده مر السحاب، ليس له عقل يتفهم ولا لسان يتكلم. وهذا قد تعارضت عنده الأمارات، وتقابلت عنده الإرادات، لاسيما وهو لا يفرق من المبشرات بين الصادق والكاذب، ولا يميز في التحديث بين المخطئ والصائب، ولا يعرف النصوص الأثرية معرفة العلماء، بل إما أن يكون جاهلاً بها وقد سمعها سماع العبر، ثم قد لا يتفطن لوجوه دلالتها الخفية، ولا يهتدي لدفع ما يتخيل أنه معارض لها في بادئ. فلذلك استولت الحيرة على من كان متسماً بالاهتداء، وتراجمت به الآراء تراجم الصبيان بالحصباء: {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب:11] . ثم تكلم عن المنافقين وظهورهم إلى آخر ما قال، كلام أنا لا أريد أن آخذ وقتكم بقراءته، لكنني أريد أن أقول بعد ما قرأت عليكم شيئاً منه، أن تطبقوا هذا الكلام على واقعنا، وظنوننا ومخاوفنا، والأشياء التي تعجلنا فيها في هذا الواقع، وظنون خاصتنا وعامتنا في هذا المجال، ثم أنصحكم أن ترجعوا إلى ذلك الكلام وتقرءوه قراءةً متأنية فاحصة، فإنه كلام طويل مفيد. يقول في بعضه ص (425) يقول: الجزء: 142 ¦ الصفحة: 22 الأدلة من الحديث النبوي أما النوع الثاني من الأدلة الشرعية فهو الأدلة من الحديث النبوي، والأدلة من الحديث النبوي أيضاً كثيرة جداً لكن أذكر طائفة منها: أولاً: عن ثوبان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى زوى لي الأرض -أي: صغرها وقربها- فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها} ملك هذه الأمة سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها. ثانياً: عن تميم الداري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار} أي أن كل مكان في الدنيا يمر عليه الليل والنهار، سوف يبلغه الإسلام، وهل تحقق هذا الوعد الآن؟ كلا! لم يتحقق بعد. صحيح أن الإسلام بلغ بلاداً كثيرة، لكن هناك بلاد فيها الليل والنهار، ومع ذلك لم يصل إليها الإسلام. إذاً لازال الوعد النبوي هذا قائماً أن يبلغ هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، أكمل الحديث: {ولا يترك الله تعالى بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين} كل بيت يدخله هذا الدين {بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر} إذاً الحديث وعد نبوي صريح، أن الله عز وجل سوف يوصل الإسلام إلى كل نقطة في الدنيا، وكل بيت يدخله الإسلام، فيسلم كل أهله أو بعض أهله. الحديث صحيح، رواه أحمد والطبراني وابن مندة والحاكم والبيهقي، وقال الحاكم: الحديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، ووافقه الذهبي، وقال المقدسي: هذا حديث حسن صحيح، وهو كما قالوا. إذاً الحديث صحيح والوعد صريح. ثالثاً: عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فسئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ السائل كان مستقراً عنده من خبر نبوي آخر، أن الله سوف يفتح للمسلمين مدينة القسطنطينية، وكذلك سوف يفتح لهم روما، لكن المشكلة التي ثارت في نفس السائل، الذي يسأل عبد الله بن عمرو بن العاص، أيهما تفتح أولاً القسطنطينية أم روما؟ فدعا عبد الله بن عمرو بن العاص بصندوق له حلق، فأخرج منه كتاباً ثم قال: {بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب، إذ سئل: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً، مدينة هرقل هي القسطنطينية} . الحديث صحيح رواه أحمد والدارمي والحاكم، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالاً. القسطنطينية فتحت عام ثمان مائة وسبع وخمسين للهجرة، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح. هذه القسطنطينية فتحت الفتح الأول، أمَّا روما فلم تفتح حتى اليوم، لم يدخلها الفتح الإسلامي، لا تزال عاصمة الكاثوليكية عاصمة النصارى الآن، روما وفيها الفاتيكان. روما ما دخلها الإسلام حتى الآن، والوعد النبوي ما يزال قائماً، ومن الطريف والعجيب، يذكر بعض المؤرخين أن المسلمين لما فتحوا بلاد الأندلس، هجموا على فرنسا هجمة شرسة قوية، ولو انتصروا في تلك المعركة المشهورة التي يسميها المسلمون -معركة بلاط الشهداء لكثرة من قتل فيها من المسلمين- لو انتصروا في تلك المعركة، لفتحوا أوروبا كلها ودخلوا إلى روما، لكن وعد الله عز وجل أنه لا تدخلون روما حتى تدخلوا القسطنطينية. إذاً هذا وعد الله عز وجل عالم الغيب والشهادة، إذاً ينهزم المسلمون في بلاط الشهداء، ويتحقق وعد الله عز وجل، أن تفتح القسطنطينية بعد ذلك على يد محمد الفاتح، ويبقى الوعد بفتح روما لم يتحقق حتى الآن، وإنه لخبر يقين {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] . رابعاً: من الأحاديث: أحاديث الطائفة المنصورة، وهي أحاديث متواترة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق إلى قيام الساعة، يقاتلون في سبيل الله} . خامساً: أحاديث بقاء الجهاد إلى قيام الساعة، وهي كثيرة أذكر منها فقط الحديث المشهور، بل المتواتر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم} والحديث متواتر، وفيه أن الله عز وجل سوف يبقي الجهاد إلى يوم القيامة، كما قال الإمام أحمد والبخاري: في فقه الحديث أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة. سادساً: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره} والحديث صحيح رواه أحمد وابن حبان وأبو يعلى، وله شاهد من حديث عمار بن ياسر عند أحمد وغيره، والحديث كما ذكرت صحيح. سابعاً: حديث المجدد: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها} رواه أحمد وأبو داود وغيرهم، من حديث أبي هريرة، وقد أجمع العلماء على أنه حديث صحيح. ثامناً: حديث أبي هريرة الذي رواه مسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي وراءي، تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجر اليهود} والحديث رواه مسلم والبخاري وغيرهما. وهذا حديث عجيب، اليهود الآن يتجمعون في فلسطين، والعجيب أنهم يغرسون شجر الغرقد في إسرائيل، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. نقل بعض الكتاب المعاصرين رواية للحديث، من أعجب العجب، يقول هذا الكاتب: في كتاب: الإسلام ومستقبل البشرية (صفحة:46) يقول: في رواية للبزار عن هذا الحديث، نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج/7) ورجالها ثقات رجال الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تقاتلون اليهود أنتم شرقي الأردن وهم غربيه} ويعقب راوي الحديث فيقول: [[ولم نكن نعرف أين الأردن يوم ذاك]] فإذا صحت هذه الرواية الأخيرة، وقد بحثت عنها في المجمع، ولم يتيسر لي الوقوف عليها، وبحثت عنها في عدة مصادر، تعبت وراءها وكنت سمعتها منذ زمن طويل، لم يتيسر لي الوقوف عليها في الكتب المعتمدة. حتى لو كان الحديث ضعيفاً، فإنه يعتضد بالواقع، أنتم شرقي الأردن وهم غربيه، فاليهود يتجمعون الآن، ليوم الملحمة الذي يبيد المسلمون فيه خبرهم. تاسعاً: أحاديث الملاحم، وهي كثيرة في قتال المسلمين للروم في الشام وغيرها، وفتحهم للقسطنطينية بالتكبير إلى غير ذلك، إذاً هذه هي الأدلة الشرعية، من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم، أو هذا شيء منها. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 23 الأدلة من القرآن أولاً الأدلة من القرآن قال الله تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:23] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] لاحظ هذه الآية {عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] ولذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله: ليظهرن الله دينه على الأديان كلها، حتى لا يدان لله إلا به وذلك متى شاء الله. إذاً ظاهر الآية يدل على أن الإسلام سوف يظهر على الأديان كلها، ويأتي وقت لا يدان فيه إلا بالإسلام، لا يعبد فيه إلا الله عز وجل. ثانياً: قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] فذكر الله عز وجل أن الحق إذا ظهر، قذف الله به على الباطل، فأزاله ودمغه وأصابه في دماغه، فزهق ومات قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً} [إبراهيم:24] هي كلمة التوحيد لا إله إلا الله: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] . إذاً في كل أمة وفي كل جيل وفي كل زمن، يظهر الحاملون لكلمة لا إله إلا الله، يقاتلون في سبيل الله، يدعون إلى الله عز وجل، يعلمون الناس العلم والشرع والدين، ويذمون تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين: {كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:24-26] كلمة الكفر والظلال: {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] . ولذلك قيل: دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة. رابعاً: قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17] وهذا مثل ضربه الله للحق والباطل، كما ذكر في أول الآية، فالزبد مثال للباطل مجرد هواء، فقاعات من الهواء تزول بسرعة، أما ما ينفع الناس، وهو العلم والعمل والدين والصلاح، فيمكث في الأرض ويبقى، فهو مثل المطر. خامساً: قوله تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] هذا كلام موسى لقومه: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128] أي: العاقبة في الدنيا والآخرة للمتقين. سادساً: قوله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [القصص:37] {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وقال الله عز وجل: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5-6] ويقول عز وجل: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39-40] إلى آخر الآيات، ويقول تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:87-88] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] أنت أمام حشد هائل من النصوص القرآنية، والقرآن كلام الله عز وجل، {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] أمام حشد هائل، خلاصته: أن الله عز وجل كتب البقاء والغلبة والنصر والتمكين للإسلام وأهله، وكتب الذل والصغار والفشل والهزيمة على الكفر وأهله، وهذا وعد الله عز وجل لا يتخلف. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 24 الجزيرة العربية أرض الإسلام شالنقطة الآتية هي: قضية الجزيرة العربية أرض الإسلام، لا حيلة في ذلك، هذا قضاء الله وقدره، فنقول لأعداء الدين، وللمشبوهين، وللمنافقين، والعلمانيين، والحداثيين، واليساريين، والقوميين: لا حيلة في ذلك، هذا قضاء الله، وقدره، وهذا دينه وشرعه. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 25 الجزيرة عاصمة الإسلام هذه الجزيرة هي جزيرة الإسلام، وعاصمة الإسلام، ومنطلق الإسلام، منها بدأ وإليها يعود، وإليك البيان: 1- روى مالك في الموطأ بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} إما نهي أو خبر، أي: نهى عن أن يجتمع في جزيرة العرب دينان دين الإسلام ودين آخر. أو أخبر أنه لن يجتمع فيها دينان على سبيل البقاء والثبات والاستقرار. يروي ابن عباس وجويرة بن قدامة، كما في سنن أبي داود بسند صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وهو في صحيح مسلم، بل هو متفق عليه، من حديث ابن عباس رضي الله عنه، ففيه الأمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب. مثله أيضاً: قوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن عمر: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلماً} إذاً هذه النصوص، تدل على أن شريعة الله جاءت بخاصية لجزيرة العرب، ليست لغيرها من البلاد، هذه الخاصية، هي: أن الجزيرة لا يقبل أن يكون فيها اليهود والنصارى، ولا أصحاب ديانة أخرى من المجوس أو غيرهم، هي جزيرة الإسلام خالصة له من دون الملل والأمم والشعوب الأخرى. هي جزيرة الإسلام إذاً، وهذا الحكم ليس لبلد آخر غير الجزيرة، فدل على أن الجزيرة أرادها الله عز وجل أن تكون للإسلام، قال سعيد بن عبد العزيز: جزيرة العرب، ما بين الوادي إلى أقصى اليمن، إلى تخوم العراق، إلى البحر، هذه جزيرة العرب. 2- قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم} رواه مسلم، وفي رواية عند الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: {إن الشيطان يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم} . إذاً الشيطان ما يئس من بلد من بلاد الدنيا كلها، إلا الجزيرة العربية، يئس أن يعبد فيها، لا يزال فيها راية مرفوعة لا إله إلا الله محمد رسول الله. 3- أن الدين يعود إلى الجزيرة العربية في كل آن وحين، حتى في أزمان الغربة، فالغربة قد تستحكم، غربة الإسلام، يقل الدين، يضعف أهله، هذا يحدث، وقد حدث الآن. ففي أزمنة الغربة هناك مواطن يفيء إليها الإسلام، ويعود إليها مهما كان الأمر، منها الجزيرة العربية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في حجرها} أي: بين مكة والمدينة. إذاً الإسلام ينضم ويجتمع ويرجع إلى الجزيرة العربية، كلما ضيق على الإسلام، أو اضطهد في أي مكان في الدنيا، فاء ورجع إلى الجزيرة العربية، منها بدأ وإليها يعود، ومنها ينطلق مرة أخرى. فالجزيرة العربية من مواطن الإسلام في أرض الغربة. فإذا كانت الجزيرة العربية من مواطن الإسلام في أرض الغربة، وفي زمان الغربة، فما بالك بالجزيرة العربية في عز الإسلام، إنها هي التي ترفع راية الإسلام، ويجب أن تكون كذلك. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 26 الجزيرة هي الصخرة التي تتحطم عليها جميع الفتن ولذلك أقول -أيها الإخوة-: من الأشياء التي أراها وأظنها، وسبق أن ذكرتها في محاضرة لي بعنوان: (الإسلام قدر الله في هذه الجزيرة) إن كل فتنة تنزل بالمسلمين، إذا أراد الله عز وجل لهذه الفتنة أن تنتهي وتنقمع وتنمحي، أوصلها إلى الجزيرة العربية، فكأن الجزيرة العربية هي الصخرة التي تتحطم عليها الفتن كلها. مثلاً: أعظم فتنة وهي المسيح الدجال، ما جاء في التاريخ قبله ولا بعده فتنة أعظم منه، ما من نبي إلا أنذر قومه منه، أكثر النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من ذكر المسيح الدجال، حتى خشي عليهم ألا يفقهوا. من ضمن ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال، أن مكة والمدينة على أنقابها ملائكة، لا يدخلها الطاعون ولا الدجال. فإذا جاء الدجال إلى المدينة المنورة، وهي جزء من هذه الجزيرة، جلس الدجال في بعض السباخ المحيطة بالمدينة، فتزلزلت المدينة، وخرج منها كل منافق ومنافقة، هذه بداية النهاية بالنسبة لهذا الخبيث المسيح الدجال، كيف؟ يخرج إليه رجل من أهل المدينة، هو أعظم الناس شهادة عند رب العالمين، وحديثه في صحيح البخاري، فيأتي إليه ويردونه المسالحة، الجنود والحراس يردونه فيقول: أريد أن أذهب. فيقول: دعوه. فيتركونه يأتي إليه، فإذا وقف أمامه، قال: أشهد أنك الدجال، الذي أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم. فيمسك به ويقول: أيها الناس! إذا قتلت هذا الإنسان، تشهدون أنني أنا الله. فيقولون: نعم. فيقطعه قطعتين ويمشي بين قطعتيه، ثم يقول له: قم. فيستوي قائماً حياً بشراً بإذن الله عز وجل فيقول: أتشهد أني أنا الله؟ فيقول له هذا الشاب المؤمن: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة. الآن ازددت يقيناً؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن القصة هذه تقع، فلما وقعت القصة، ازددت يقيناً أنك أنت الدجال، الذي أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيريد الدجال أن يقتله فلا يسلط عليه، يضع الله عز وجل على رقبته شيئاً من النحاس، فلا يستطيع أن يقتله، فينطلق منه هذا الشاب. وهذه بداية النهاية بالنسبة للدجال. بعدها ينهار أمره، ويخرج يجر أذيال الخيبة من المدينة، لأنه يعرف القضية، يخرج إلى الشام، وحينئذٍ جنوده يضمحلون شيئاً فشيئاً، وينزل بعد ذلك عيسى بن مريم، فيقتله بباب لد. المقصود أن نهاية الدجال كأعظم فتنة في التاريخ، كانت في هذه الجزيرة. وكذلك أظن إن شاء الله، أن كل فتنة تمر بالمسلمين سواء كانت فتنة فكرية مثل فتنة الشيوعية، أو فتنة الحداثة، أو العلمانيين، أو القومية، أو البعثية، كل فتنة إذا أراد الله عز وجل لها أن تنتهي وتنمحي من الوجود، كانت هناك أسباب تحاول هذه الفتن من خلالها أن تصل إلى جزيرة العرب، فيقطع الله -تعالى- دابرها، وينهكها، ويحمي بلاده وأرضه وأهله والله على كل شيء قدير. وهذه قاعدة طبقوها على أشياء كثيرة، وإن شاء الله ما تخلفكم هذه القاعدة، ممكن نطبق هذه القاعدة على البعثية -مثلاً- كقضية واقعية الآن، فنقول: إن ما يجري الآن، يدل إن شاء الله على نهاية البعث كحزب ونظام ومذهب ودين يدان به، وأن أمره إلى زوال وانتهاء. طبق هذا على الأفكار المادية المنحرفة، العلمانية، القومية، الحداثة، تجد أن هذه القاعدة -إن شاء الله- سارية المفعول بإذن الله عز وجل فإذاً أقول: لا حيلة، فالحداثيون، والعلمانيون، واليساريون، وسائر أعداء الدين، ليس لهم مكان في هذه الجزيرة، فليبحثوا عن موطن آخر، أو ليبشروا بالخيبة والخسران، أو ليتوبوا إلى الله عز وجل، فإن العبد إذا تاب إلى الله -تعالى- تاب الله عليه. من خصائص الجزيرة العربية: أن فيها الحرمين الشريفين، وهما أفضل بقاع الأرض على الإطلاق، ولهما من المزية ما ليس لغيرهما -كما هو معروف- والكلام في فضائلهما يطول. راجع مثلاً صحيح البخاري وصحيح مسلم في فضل مكة والمدينة. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 27 الطريق إلى مستقبل الإسلام نقطة أخيرة مهمة: الطريق إلى مستقبل الإسلام. الكلام في الطريق يطول، لكني ذكرت لكم ست نقاط أرى أنها من النقاط البارزة، وسأتكلم عنها باختصار أيضاً: الجزء: 142 ¦ الصفحة: 28 تحطيم الرهبة من الأعداء رابعاً: تحطيم الرهبة من الأعداء. أنتم سمعتم كلام ابن تيمية فيما سبق، المظفر قطز وهو قائد من قادة المسلمين في حروب التتار، كيف استطاع أن يحطم الخوف من التتر الذي وصل الأمر -كما ذكر ابن الأثير في تاريخه -إلى أن المرأة ليس الرجل- من التتار كانت تمشي في الشارع، فتجد عشرة من المسلمين يمشون، فتقول لهم: ناموا، أريد أن أقتلكم، فلا يملكون إلا أن يناموا، فتنظر ليس معها سكين، فتقول: انتظروا قليلاً لأذهب إلى البيت وآتي بسكين حتى أقتلكم، فتذهب للبيت وتأتي بالسكين، ولا أحد منهم يفكر بأن يرفع رأسه أو يقوم. إلى هذا الحد بلغ الذل، سواءً كانت هذه القصة حقيقة، أو كانت قصة رمزية، فالمؤكد أن المسلمين أصيبوا بخوف وذل وذعر شديد من التتار. ماذا فعل المظفر قطز حتى يزيل هذا الرعب من نفوس المسلمين، ويزيل الهزيمة النفسية والوهن؟ جاءه مجموعة من رسل التتار-كما تقول بعض الروايات التاريخية- فقام -جزاه الله خيراً- وقطع رءوسهم، وعلقهم على المشانق في الساحات العامة حتى يراهم الناس، ويقولوا: هؤلاء هم التتر، أنتم خائفون من التتر، انظروا أول مرة يرون التتري مقتولاً معلقاً، بصورة ذليلة مهينة، وأراد أن يقول للناس، إنهم ليسوا أكثر من بشر عاديين، انتصروا في ظروف غير عادية تمر بها الأمة الإسلامية، فكان النصر له، لأسباب: أولها: أنه انتصر على الهزيمة الداخلية في نفوس المسلمين. الأمر الثاني: أنه انطلق في الإعداد للجهاد من منطلقات شرعية صحيحة، الإعداد للجهاد، وتقوية العقيدة، وتقوية العزائم، ربط الناس بمثل أعلى، بالشهادة في سبيل الله وبالجنة، إلى غير ذلك. الأمر الثالث: أن الأمة كلها قاتلت معه، وكان يقودها في هذا القتال العلماء تحت راية، واإسلاماه، فانتصرت الأمة، وانتصر العلماء، وانتصر المظفر قطز. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 29 التربية البطيئة الأمر الخامس، الذي يمكن أن نعمله: الدعوة والتربية البطيئة كلمة أو تربية أو جلسة أو صحبة أو رحلة أو درس، تقصد من ورائها أن تخرج للأمة شباباً صالحين. التربية بطيئة قد لا تظهر نتيجتها في سنة ولا عشر، لكن هذا الطريق مهما طال لابد منه، والتربية أمرها خطير، لكن لا أستطيع أن أطيل أكثر من هذا. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 30 العمل على كافة الأصعدة سادساً: العمل على كافة الأصعدة. نحن نكتشف الآن -مثلاً- أننا بأمس الحاجة إلى سلاح ندفع به عدونا، كيف نستطيع أن نحصل على السلاح؟ الأمر بسيط. نحن لنا عقول مثل أعدائنا، ونستطيع أن نصنع كما يصنعون. الصناعة بشكل عام، الأمة الإسلامية متخلفة فيها، لماذا؟ لدينا إمكانيات بشرية، وإمكانيات مادية، وأقرأ عليكم الآن صفحة من كتاب: رؤية إسلامية في الطريق إلى القدس، لـ عبد الحليم عويس، وهو كتاب جميل أنصح بقراءته، يقول في ص (51) : إن أي سلاح محلي يعطى للناس -وقد أتصرف في كلامه؛ لأن فيه بعض العبارات التي لا أرتضيها، فأعدلها بكلمة فقط- إن أي سلاح محلي يعطى للناس، وتضمن الجماهير وجوده دائماً، لأنه منها ولأنها هي التي صنعته. إن أي سلاح يصنع محلياً على هذا النحو، سيكون البداية الرمزية والعملية لاستقلالنا الحقيقي، والبداية الحقيقية لسيرنا في طريق الحضارة الطويل. إننا يجب أن نصر على صناعة المركبة الفضائية، والرءوس النووية، انطلاقاً من صنع قنبلة يدوية مسلمة، أو مدفع رشاش، أو طائرة هيلوكبتر. إن أمريكا لم تبدأ مسيرتها بصنع صاروخ عابر للقارات، أو طائرة تجسس، لقد بدأت من النقطة نفسها، التي سنبدأ منها إذا أردنا السير في الطريق الصحيح، ومع الاتفاق في البداية، ثمة فروق كثيرة لصالحنا، -أي: نحن نبدأ كما بدؤا، ومع ذلك هناك ميزات عندنا لا يملكونها هم-. أجل هناك فروق كثيرة لصالحنا أهمها: أننا سنختصر المسافة بين القنبلة اليدوية والقنبلة الذرية، مستفيدين من كل ما يصلنا من إنجازاتهم وخبراتهم، وسنكون في الوقت نفسه أسرع في التدريب على الصنع، وليس على مجرد الاستعمال، وسنحرص على امتصاص كل معارفهم، وكسب من نستطيع من علمائهم وخبرائهم. تكلم عن إنفاق مصر وسوريا والعراق على التسلح، ما بين (48م) ، (71م) وأنهم أنفقوا ما قيمته تسعة آلاف وستمائة وست وسبعين مليون دولار، ومع ذلك فإن شبراً واحداً من الأرض المحتلة لم يعد إلى المسلمين، بل إنهم قد فقدوا أجزاءً كثيرة من أرضهم، فإذا أضيف إلى هذا الرقم ما أنفقته البلدان العربية الأخرى -ولا يزال الكلام له- على شراء الأسلحة خلال هذه الفترة، وما أنفق على شراء الأسلحة في كل البلدان العربية بعد هذه الفترة، إذا أخذنا هذا كله في الاعتبار، ووضعنا الإمكانات العربية المتوفرة والمعطلة، والمبعثرة في الاعتبار؛ لتأكد لدينا أننا نملك البداية القوية العملية، لتصنيع السلاح محلياً. ويتأكد لنا، أننا أضعنا ربع قرن من عمر أمتنا في عملية تعطيل لطاقتها، وتجميد لإمكاناتها، ووضعها في موضع مذبذب سيئ، وربطها ربطاً خادعاً لحسابات ومصالح الآخرين. يقول: إن تجربة التاريخ كله لا تثبت حالة واحدة، استحال فيها على شعب متخلف اكتساب التكنولوجيا، والتفوق فيها، وإذا كانت الثروة العقلية للشعب الياباني، والثروة البشرية للشعب الصيني، قد مكنت شعبين شرقيين من اجتياز مرحلة الخطر، ومن الدخول في مضمار السباق الحضاري، فإننا نحن المسلمين نملك هذين المقومين، ونملك غيرهما من المقومات، التي لا يتوافر كثير منها لدى الشعوب الأخرى، التي حققت تقدماً وتفوقاً ملحوظاً. إن لدينا طاقات حيه كثيرة، ومواد خام، ورءوس أموال، وعقولاً مبعثرة في العالم كله، ولدينا احتياطي بشري واقتصادي يتمنى أن يجدنا في المكان الذي يسمح باستغلاله وحمايته، سواءً في أفريقيا أو آسيا، أو الأرض الإسلامية الفسيحة، إن هذا كله يجعلنا في المكان الذي يجعل نجاح تجربتنا الحضارية مضموناً، على نحو لم يكن متوفراً لدى معظم التجارب الحضارية المعاصرة. ربما تكون القراءة من هذه الورقة سبباً في كون بعضكم لم ينتبه للكلام، وكذلك قراءتي في الأوراق السابقة، ولذلك أدعو الإخوة إلى تأمل الكلام الذي قلته مرة ومرة، فإن الكلام له معاني، ودلالات عميقة، قد لا يدركها الإنسان حين يسمعه لأول مرة، خاصة إذا كان يسمعه من قارئ كما هو الحال بالنسبة لي. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 31 أن نكون إيجابيين أول نقطة: أن نكون جميعاً إيجابيين؛ لا تقل أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً، أو هذا لا يمكن، أو مستحيل، كل هذه الأشياء اتركها بعيداً. إذا قال لك أحد: لا أستطيع قل له: حاول. وإذا قال لك: لا يمكن. مستحيل قل له: جرب، إذاً أنت حاول وجرب، واعمل ما تستطيع. وأضرب لكم أمثلة على ما يستطيعه الإنسان: قصة الغلام. في الصحيحين، والساحر والراهب، والقصة طويلة معروفة، في آخر القصة، الغلام الذي أسلم وآمن بالله عز وجل جاء الملك ليقتله، فما استطاع أن يقتله بأي طريقة، فجاء إليه الغلام وقال: أنا أدلك كيف تقتلني؟!! الآن غلام واحد، تصور عمره ستة عشر عاماً -مثلاً- هل تتوقعون أن هذا الغلام، وهو في وسط دولة تحاربه، وتحارب دينة، ولها بطش وقوة وإمكانيات وأجهزة، هل يمكن أن تسلم الأمة بأكملها على يديه؟ ممكن. لماذا؟ لأنه ما قال: لا يمكن أو مستحيل. جاء للملك وقال له: أنا أخبرك كيف تقتلني، اصلبني على جذع شجرة، ثم خذ سهماً من كنانتي، وقل: باسم الله رب الغلام، ثم اضربني به. ففعل الملك، جمع الناس كلهم في صعيد واحد، وصلب الشاب على جذع شجرة أو نخلة، وأخذ سهماً من كنانته، وقال: باسم الله رب الغلام، ثم أطلق السهم عليه، فمات الغلام، فما الذي حدث؟ انظر كيف المصيبة على الملك، ظن أنه تخلص من عدوه، غلام واحد دعا إلى الإسلام، وأزعج هذا الحاكم فتخلص منه، لكن ما الذي حصل؟ لما رأوه مات، قالوا كلهم بلسان واحد: آمنا برب الغلام. وحينئذٍ حفر لهم الأخاديد ووضعهم فيها {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج:4] . فهذا الغلام استطاع أن يصنع شيئاً، ويعجبني أن أذكر لكم حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح، رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وعبد بن حميد وغيرهم، عن أنس بن مالك، وهو صحيح، يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة -نخلة صغيرة- فاستطاع ألَّا تقوم الساعة حتى يغرسها، فليغرسها، فله بذلك أجر} . يغرسها لأن غرس النخل مطلوب، وعمل نافع، فيه خدمة وخير، فإذا قامت الساعة لا تجدع الفسيلة وتقول: الآن قامت الساعة، ومتى تنبت هذه الفسيلة؟ ومتى تكبر؟ ومتى تثمر؟ ومتى لا تقل هكذا أبداً، احفر لها واغرسها بكل اطمئنان، لماذا؟ لأنك مأجور بهذا الفعل. وكونها تثمر أو لا تثمر، هذا موضوع آخر ليس لك به علاقة، أنت حصلت الأمر الآخر؛ الأجر: {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألَّا تقوم حتى يغرسها فليغرسها، فله بذلك أجر} . لو أن كل مسلم تصور هذا الحديث، فستنطلق بعمل جليل، عمل جاد، عمل قوي مثمر. أذكر نكتة قرأتها في كتاب صناعة الحياة، وقد نوهت به قبل قليل، وسألني بعض الإخوة أن أعيد ذكره، وهو كتاب فيه فوائد عظيمة، وإن كان فيه بعض الأشياء. في هذا الكتاب ذكر نكتة تصلح لهذا الموضوع الذي أقوله، كون الإنسان إيجابي، يقول: إن أحد دعاة الإسلام في إحدى البلاد حكم عليه بالإعدام، وأرادوا أن يقتلوه شنقاً، خرجوا به في الساحة العامة في وسط البلد، ووضعوا مشنقة وحبلاً ثم أرادوا أن يخنقوه ويشنقوه، يقول: فلما شدوا الحبل وهو معلق، انقطع الحبل وسقط الرجل، فقام الرجل واقفاً يتلفت ماذا يقول؟ يقول لهم: كل جاهليتكم رديئة، حتى حبالكم رديئة، كل الجاهلية التي أنتم فيها رديئة. إذاً استغل خمس دقائق منحه الله -تعالى- إياها، في هجاء الجاهلية والكفر الذي كان يوجد في ذلك البلد، ولم يقل هذه أمور انتهت، بل عمل واستغل ذلك الوقت. إذاً النقطة الأولى: كن إيجابياً اعمل أي شيء تستطيع فعله للإسلام، قليل أو كثير أي شيء تستطيع أن تعمله للإسلام اعمله، ولا أستطيع أن أذكر ماذا تعمل، لأن ماذا تعمل، هذا باب واسع جداً. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 32 الكلمة سلاح قوي شيء آخر: الكلمة. الكلمة سلاح الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا تقل الكلمة لا تجدي شيئاً: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] الأنبياء كانوا يأتون الناس بكلمة، يدعونهم إلى لا إله إلا الله، فلا تيأس من كلمة طيبة تقولها بنية صالحة. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 33 التفاعل ثالثاً: التفاعل والهم والتعاطف مع الواقع، وترك العزلة. هل أنت صاحب قلب يحترق للإسلام؟ أنا -أحياناً- أفكر في نفسي وحالي، إلى متى نحن معمرون؟ إلى متى نحن نعيش؟ ماذا صنعنا للإسلام؟ وماذا سنصنع ومتى نصنع؟ هناك إنسان يقول: الموضوع هذا كله لا يعنيني، عندي أولاد وعندي زوجة وعندي وظيفة. لماذا لا ننسى خصوماتنا الشخصية وضغائننا؟ ونقوم بعمل جاد لصالح الإسلام في هذا الزمان. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 34 الأسئلة . الجزء: 142 ¦ الصفحة: 35 مرض الزهري السؤال هذا يسأل عن مرض الزهري والسيلان؟ الجواب هذه أمراض جنسية، تكون بسبب ارتكاب الزنا والعياذ بالله. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 36 فتح القسطنطينية السؤال ورد في الحديث أن المسلمين في القسطنطينية يسمعون بخروج المسيح، فيرجعون سراعاً، فيجدون عيسى قد نزل، كيف نوفق بين هذا، وفتح القسطنطينية على يد الفاتح؟ الجواب صحيح، لكن لا تعارض، لأن فتح القسطنطينية تم مرتين: أول مرة على يد الفاتح، وهذا هو الفتح الذي سبقت الإشارة إليه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم، أوورد عنه أنه قال: {لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش} وأما الفتح الثاني فهو الذي يكون قبيل نزول عيسى عليه السلام. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 37 الحرقة من أجل الدين السؤال إذا نظرت إلى بعض حال شبابنا اعتصر قلبي من شدة الألم والاحتراق، وإنني من شدة ما أرى، لا أستطيع أن أعمل شيئاً أحس أنه مفيد، فماذا أفعل؟ الجواب بينت لك بعض ما تفعل، وما ذكره الأخ يذكرني ببعض الشباب الذين يرسلون لي أوراقاً تصلني في البيت أو في السيارة أحياناً، وإن كنت لا أعرف شخصيتهم يشتكون فيها من شباب الأرصفة وأوضاعهم، في الأرصفة والأسواق والمدارس والحدائق وغيرها، وسأتحدث عن هذا الموضوع إن شاء الله في الوقت المناسب. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 38 ضعف عقيدة الولاء والبراء السؤال يلاحظ أن الإحساس بعداوة الكافرين ضعيف في نفوس الكثيرين، فما أسباب ذلك؟ وما علاجه؟ الجواب الأسباب كثيرة، ولذلك أدعو إخواني من طلبة العلم والخطباء وغيرهم، إلى التركيز على قضية الولاء والبراء، وأهميتها في هذا العصر، باعتبارها جزءً لا يتجزأ من عقيدة السلف الصالح. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 39 كتب تتكلم عن مستقبل الإسلام السؤال ما هي الكتب التي تنصح بها في موضوع المستقبل الإسلامي؟ الجواب الكتب كثيرة جداً، من هذه الكتب كتاب أشرت إليه للشيخ عبد الله عزام، الإسلام ومستقبل البشرية، والمستقبل لهذا الدين، لـ سيد قطب، الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، له كلام في هذا الموضوع، هناك كتاب رؤية إسلامية لـ عبد الحليم عويس، وقد أشرت إليه، وهناك كتاب الإسلام ومشكلات الحضارة، لـ سيد قطب أيضا، وهناك كتيب اسمه: البشائر بنصرة الإسلام، لأحد الإخوة الأساتذة في معهد الرياض، للأستاذ محمد بن عبد الله الدويش. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 40 الثقة بالله وعدم الخوف من إمكانيات الغرب السؤال عند التفسير العقلي للأحداث، نجد أن التقنية التدميرية للغرب كافية لسحق الإسلام، فهل تتصور حرباً مادية محسوسة، أم كرامات من الله بلا قتال؟ الجواب إذا كنا صادقين مع الله، بالتضرع والدعاء، والدعاء مما نملكه، والصدق والإخلاص لنثق بالله عز وجل، فالله قد يصنع لنا كرامات ليست في حسابنا، قد يصنع لنا حظاً لم نكن نتوقعه، ريحاً، جنوداً لم تروها، قد يدمر قوة العدو، قد يسلم بعض الأعداء، احتمالات كثيرة، فالإنسان لا يشتغل بهذا، لكن عليه أن يشتغل بمدى صدقه مع الله عز وجل. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 41 حديث: (من لم يهتم بأمر المسلمين) السؤال حديث من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؟ الجواب الحديث رواه الطبراني، وفي سنده ضعف. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 42 دعاء النوازل السؤال بعض المساجد يدعون دعاء القنوت؟ فما حكمه؟ الجواب لا بأس أن يدعو الإنسان بدعاء القنوت، للأزمات التي يمر بها المسلمون. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 43 أهل الفترة السؤال ما حكم الشخص الذي يموت في الوقت الحاضر؟ ولم يسمع بالإسلام؟ الجواب هذا من أهل الفترة أمره إلى الله. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 44 نصيحة أهل المعاصي السؤال يقول: في جميع دروسك العلمية العامة وغيرها، لا أراك تؤدي نصيحة خاصة لأهل المعاصي للإقلاع عنها، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأهل الطاعات والمتمسكين، وخاصة أنت، ويزعم أنني أكثر قبولاً عند الناس؟ الجواب أولاً: بالنسبة للقبول، ليس ما ذكرته بصحيح. ثانياً: اسمح لي يا أخي الكريم أن أقول: سبق أن تكلمت مرات كثيرة عن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيما يتعلق بموضوع المعاصي والذنوب بالذات، تكلمت في هذه الإجازة بمحاضرة في الشرقية عنوانها: (المعالم المنجية من شؤم المعصية) يمكن أن تراجعها، ومع هذا فعندي موضوع سأتحدث عنه، وفيه أفكار وموضوعات جديدة، عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بعد زمن ليس بالطويل إن شاء الله. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 45 حكم مجالسة الكفار السؤال ما حكم مجالسة الكفار والنصارى، خصوصاً وأنهم يتعرضون لنا في أماكن العمل؟ الجواب إذا كان وجودهم وجوداً طبيعياً، فيجوز أن تجلس معهم، لكن ينبغي أن تستغل ذلك بدعوتهم إلى الله عز وجل وبيان الإسلام لهم. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 46 بشرى قيام الدولة الإسلامية السؤال يدور في مخيلة كثير من المسلمين بشرى قيام الدولة الإسلامية، مع أننا نشاهد الأحداث التي تدور في الواقع، ونشاهد واقع المسلمين واختلافهم، فما تعليقكم على هذه الفكرة؟ الجواب تعليقي على هذه الفكرة أن أقول: رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة، ابدأ الآن، احمل هم الإسلام، والبقية تأتي إن شاء الله. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 47 الترغيب في كتب الحديث المتقدمة السؤال بعض الشباب يزهد في أمهات الكتب في الحديث، ويرغب في الكتب المصححة، مثل صحيح الترمذي وغيره؟ الجواب الواقع أنه لا ينبغي الزهد في الكتب الأصول مثل: سنن الترمذي، صحيح البخاري، صحيح مسلم، سنن أبي داود، سنن ابن ماجة، سنن النسائي، لا تغني عنها الكتب المتأخرة، ككتب الشيخ الألباني، بل ينبغي لطالب العلم أن يقتني هذا وهذا. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 48 كتاب الياسق السؤال ما هو الياسق؟ الجواب الياسق له كلام طويل، يمكن تراجع -مثلاً- الخطط المقريزية، أو البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو حتى تعليقات الشيخ أحمد شاكر، في كتابه عمدة التفسير، فقد تكلم عن الياسق وذكر معلومات كثيرة عنه. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 49 كتاب المستقبل لهذا الدين السؤال كتاب: المستقبل لهذا الدين لـ سيد قطب، هل عليه ملاحظات؟ الجواب في الواقع كتاب جيد خاصة لطالب العلم، والقارئ. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 50 المستقبل للإسلام على يد من؟ السؤال كيف نتفاءل اليوم بأن المستقبل للإسلام، والدعوة في هذه الأيام هي دعوة وطنية، بل الأدهى من ذلك أننا نقرأ هذا الكلام: الفن يحارب من أجل الكويت، والفنانون يحاربون بحناجرهم في جبهات القتال؟ الجواب ليس هؤلاء هم الذين يتم على أيديهم مستقبل الإسلام، فمستقبل الإسلام يتم من خلال الأيدي المتوضئة، من خلال الجبهات التي تعفرت بطول السجود، ومن خلال القلوب التي اعتصرت بهم الإسلام وألمه، هؤلاء هم الذين يقوم عليهم مستقبل الإسلام. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 51 موقفنا من المنافقين السؤال ما موقفنا من بعض الأشخاص الذين نتأكد من نفاقهم؟ الجواب التأكد من النفاق صعب، لكن إذا ظهر أن هذا الإنسان غير مسلم، فإنك تهجره، ولا تصلى عليه، ولا تجالسه، ولا تؤاكله ولا تشاربه، بل تبتعد عنه. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 52 كتاب عدالة السماء السؤال كتاب عدالة السماء، ما رأيك في هذا الكتاب؟ الجواب الكتاب جيد، وفيه عبر عجيبة. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 53 حال المسلمين يبشر بالنصر السؤال هل حال المسلمين يبشر بالنصر؟ الجواب نعم، متى يأتي النصر أصلاً؟ النصر يأتي عن اشتداد الأزمة، اشتدي أزمة تنفرجي، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] . الجزء: 142 ¦ الصفحة: 54 الانتفاضة السؤال هل نستطيع أن نقول: إن الانتفاضة مقدمة للحديث الوارد في قتال اليهود؟ الجواب الله أعلم، يجوز هذا. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 55 المهدي المنتظر السؤال هل صحيح أنه يخرج في آخر الزمان رجل، أو منقذ رباني، يوحد المسلمين ويفتح الدنيا كلها؟ الجواب نعم، هذا هو المهدي الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأحاديثه كثيرة، جاء فيه أكثر من ثلاثين حديثاً، وصرح جماعة من أهل العلم أن أحاديث المهدي متواترة: {ينزل في آخر الزمان من ولد فاطمة - من نسل الرسول صلى الله عليه وسلم - يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، كما ملئت جوراً وظلماً، ويعيش سبع أو ثمان أو تسع سنين} وله صفات وخصال ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا علاقة لهذا المهدي الذي أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بمهدي الشيعة الذي يدعونه، ولا بالذين يدعون المهدية أيضاً، كما ادعاها ابن تومارت، وكما ادعاها بعض خلفاء بني العباس، وكما ادعاها بعض المتأخرين، فهذا كله كذب، وإنما المهدي الذي أخبر عنه الرسول، إنسان عادي يخرج مثل غيره من الناس، ويدعو إلى الله عز وجل ويكون له ثقل وقوة ومعرفة، وشيئاً فشيئاً، وليس الناس مطالبون بمعرفته إلا إذا بان الأمر بياناً لا لبس فيه، حتى نقطع الطريق على بعض من يقولون: هذه فرصة لعبث بعض المتسرعين. أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا ممن يساهمون في بناء الإسلام، وأن يقيني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 142 ¦ الصفحة: 56 الصحوة الإسلامية بشائر ومحاذير الصحوة خير عميم، وروح سرت في الأمة أحيت فيها نوازع الدين ولكن البشر غير معصوم، والأخطاء واردة في كل حين، وهنا تجد ذكراً لبعض المحاذير التي ربما وقعت فيها الصحوة الإسلامية. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 1 مقدمة في انحطاط المسلمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. يقول الله عز وجل: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] لقد مس المسلمين القرح في أزمنة طويلة، وخلال قرونٍ مضت كانت الأمة الإسلامية تعاني من ألوان الضعف والتخلف والهوان ما لم تعهده منذ وجدت؛ حتى دب اليأس إلى كثيرٍ من أبناء هذه الأمة وتطاول هذا الليل الذي يضرب بظلامه في كل مكان، فكان قائلهم يقول: بلي الحديد ومسنا القرح فمتى تفيق أخي متى تصحو والوعتاه كم انقضت حقبٌ وامتد ليلٌ ما له صبح وبغى وحوش ليس يردعهم خلقٌ ولا دينٌ ولا نصح ألفاظهم مطلية عسلاً وقلوبهم بسمومها رشح والوحش وحشٌ دينه فمه والغدر لا يمحوه من يمحو وصحا التراب أخي ولم تصحُ وَيْليْ عليك أينفع النوح الجزء: 143 ¦ الصفحة: 2 آثار التجديد في العصر الحاضر ولذلك فإننا ونحن الآن نعيش في مطلع هذا القرن وبعد مضي سنوات ليست بالطويلة نتلمس ونتلفت يمنةً ويسرة، وننتظر صورة هذا التجديد الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وعده عليه الصلاة والسلام هو في الحقيقة إنما هو وعد من الله عز وجل على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن أن يتخلف، ولذلك يتلفت الناس ينظرون أين آثار التجديد ومن هو المجدد، وليس ثمة حاجة إلى أن يسمى شخصٌ بعينه، على أننا نعرف أن هذه الأمة الإسلامية الخير فيها باقٍ ولا تعدم في كل عصرٍ ومصر من رجالاتها وفضلائها وعلمائها ودعاتها ممن يكونون مشهورين كالشامة في الناس، لكن مع ذلك فإننا نجد اليوم أن من أبرز معالم التجديد لهذا الدين هي هذه الصحوة المباركة، وهذا التوجه الخيّر الذي لم يقتصر على مجال دون مجال أو بلد دون بلد أو مستوى من الناس دون مستوى، بل أصبح شاملاً لكل هذه الأشياء. فنحن الآن نلمس آثار هذه الصحوة وآثار هذا التجديد في هذه الأمة، ويبرز ذلك في صورٍ شتى لا أستطيع أن أحصيها لكن أشير إلى شيءٍ منها. 1- شعور المريض بالمرض: فأبرز آثار هذا التجديد الذي بدأنا نلمسه هو شعور المريض بالمرض، وشعور المريض بالمرض هو أول خطوات العلاج، فالمصيبة حين يخيل إلى المريض أنه سليمٌ معافى ما به سوء، وحينئذٍ يستعصي على الأطباء ويرفض نصحهم ويصر على ما هو عليه، وهكذا كان حال المسلمين في وقتٍ مضى، لكن اليوم أصبح المسلمون أو أصبح كثيرٌ منهم يحسون بحقيقة المرض ويتململون تحت وطأته، ويتلفتون يبحثون عن العلاج وعن المخرج مما هم فيه، وبغض النظر عن كونهم استطاعوا فعلاً أن يجدوا المخرج أو لم يجدوه، وعن كونهم سلكوه أو لم يسلكوا، فإن الشعور ذاته بهذا الألم وبهذه الحرقة على الواقع هو في حد ذاته من أبرز مظاهر التجديد التي تعيشها الأمة الإسلامية. يوماً من الأيام كنا نجد من شباب المسلمين من يقول: إن الأمة الإسلامية إذا أرادت أن تتقدم وتتحضر؛ فإن عليها أن تسير خلف أوروبا حذو القذة بالقذة وتقلدها في حضارتها خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وفي يوم من الأيام كنا نجد من الناس الذين انسلخوا عن هذه الأمة، وتخلوا عن التزامهم ودينهم وصلاحهم، من أصبحوا يسخرون من الإسلام وأهله ويرمونهم بالألقاب والأسماء التي لا تليق بهم، أما اليوم فقد أصبح كثيرٌ من شباب الأمة يحسون بالألم من واقع هذه الأمة ويعبرون عنه بصورٍ شتى ويبحثون عن المخرج. 2- الإقبال على المادة الإسلامية الفكرية: صورة أخرى، هذا الإقبال الكبير على المادة الإسلامية التي تقدم للناس، كتاباً، شريطاً، مجلةً، برنامجاً، محاضرةً، أي مادة تقدم للناس وتكون ذات محتوى إسلامي تجد الإقبال، انظر كم معرض كتاب إسلامي يقام، كم معرض شريط، كم محاضرة، كم ندوة، كم كتاب؟ تجد أنك أمام حجم هائل جداً، وأيضاً أقول بغض النظر عن التقييم لهذه الأشياء أن هذا منها الغث والسمين، ومنها شيء أفضل من شيء ومنها ومنها، هذا أمر ليس هذا مجال الحديث عنه، إنما مجال الحديث النظرة العامة أنه الكم الهائل وهذا الإقبال على كل ما هو إسلامي يؤكد فعلاً أن الأمة بدأت تعي ضرورة الولاء الحقيقي للإسلام، ولذلك أصبح كثير من الناس الذين يريدون -مثلاً- الربح المادي يهتمون بطبع الكتاب الإسلامي، وأصبح كثير من الكتَّاب والمفكرين الذين كانوا بالأمس ربما ضد الإسلام؛ فمنهم من كان ماركسياً، ومنهم من كان علمانياً ومنهم ومنهم، ومع ذلك اليوم ركبوا الموجة وصاروا يتكلمون باسم الإسلام ويتحدثون عنه، ولا حاجة إلى ذكر الأسماء أيضاً، ولا يعني هذا أننا نغلق باب التوبة في وجوه الناس، لا مانع أن يكون كاتباً منحرفاً بالأمس وتاب إلى الله عز وجل اليوم، وصار يكتب عن الإسلام الكتابة الصحيحة، لا مانع من هذا، إنما المقصود أن منهم من يركب الموجة ويتحدث باسم الإسلام وربما يكون محتفظاًً بآرائه وأفكاره، وربما يصوغها بقالبٍ آخر. 3- الإقبال على العلم الشرعي والاستفتاء: الصورة الثالثة: مسألة الإقبال على العلم الشرعي: ففي وقتٍ مضى لم يكن أحد يستطيع أن يستقطب الناس إلا من خلال الإشارة، فمثلاً لو وجد خطيب يتحدث عن قضايا الواقع بتهجم وبشده وبحرارة كان الناس يأتون، من باب حب الاستطلاع في كثير من الأحيان أو لأي غرض، لكن اليوم أصبحت تستغرب أنك قد تجد عالماً في حلقة علمه متكئاً على أسطوانته في المسجد، فتجد أن حوله عدداً غير قليل من الطلاب من كافة المستويات يعدون بالمئات أحياناً؛ يجلسون ليسمعوا كلاماً علمياً ربما يكون فيه جفاف، وثقل يحتاج إلى صبر، ويحتاج إلى كدّ، ومع ذلك تجد عندهم الصبر والمثابرة، وتجدهم قد تعودوا حني وثني الركب في مجالس أهل العلم. كثرة الاستفتاءات: فتجد الناس أصبح الواحد منهم يسأل عن كل ما يمر به، بل ربما تجد الناس أصبحوا يسألون عن قضايا حدثت لهم من عشرات السنين طيلة المدة الماضية، الناس منهم من كان في غفلة ما سأل أو ما مر الأمر في خاطرة؛ لكن الآن وعى وتيقظ وأصبح يسأل، ولذلك تجد أن أهل العلم الذين وضعوا أنفسهم لهذا العمل الجليل: (موضع الفتيا وبيان أحكام الإسلام والحلال والحرام للناس) أصبح بعضهم ربما لا يجد وقتاً ليرتاح من كثرة إقبال الناس عليهم وسؤالهم واستفتائهم، وما نجد مثلاً فيما يتعلق بهيئة كبار العلماء أو اللجنة الدائمة أو غيرها من الجهات التي قامت بهذا العمل ما هو إلا نموذج من ذلك. 4- إحياء الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من الصور أيضاً -وهي صورة مهمة في نظري-: إحياء شريعة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي ضعفت في نفوس كثيرٍ من الناس، فأحيا المسلمون هذه الشعيرة في هذا العصر وقامت حركات جهادية في أكثر من بلد، وانتعشت في هذا الوقت بالذات، واستطاع المجاهدون الأفغان بفضل الله تبارك وتعالى أن يحققوا نصراً على عدوهم، إضافة إلى أن المسلمين في بلادٍ أخرى كثيرة ممن وقعوا زمناً طويلاً تحت تسلط النصارى، وغيرهم بدءوا يفكرون: إلى متى نظل تحت تسلط هؤلاء الكافرين؟ ولعل ما نسمع فيما يقع في روسيا نفسها من تحرك في أوساط المسلمين أو الأمم التي كانت موالية للإسلام فسيطر عليها الروس وحاولوا سلخها ومسخها يمت إلى هذا الأمر بصلة. كذلك موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثرة السؤال عن هذا الأمر، كثرة الحديث عنه، ويقظة الناس تجاهه، شعور الابن -مثلاً- وهو في بيته أنه لابد أن يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقدر ما يستطيع، وشعور كل إنسان في أي مكانٍ أنه لابد أن يقوم بهذه المهمة، لم يعد الإنسان المستقيم مجرد إنسان سلبي يتردد على المسجد للصلاة فقط، لا، أصبح يحس بأنه لا يمكن أن يرضى بالتناقض بين ما يعتقد وبين ما يشاهد في الواقع، وأنه لابد أن يعمل على تحويل هذا الأمر إلى الصورة الإسلامية. 5- صياغة الحياة كلها إسلامياً: ولذلك جاءت الصورة الخامسة وهي: العمل على صياغة الحياة كلها صياغة إسلامية بكافة مجالاتها؛ الأب يصوغ بيته صياغة إسلامية، المدير يصوغ مدرسته، المدرس يصوغ طلابه، الزوج يؤثر في زوجته، الموظف في إدارته، المسئول في أي قطاعٍ كان، أصبح هناك هَمُّ كبير. وأنا أقول: إن هذا الأمر ربما يكون النتيجة، هَمٌّ في محاولةِ صياغة الحياة صياغة إسلامية وإزالة كل ما يعارض الإسلام وجعل المجتمع أقرب إلى الالتزام بشرائع الإسلام وأصوله، وهذا لا يعني أن هذا الأمر حصل فعلاً وانتهى وأصبح كل شيء كما يحب الله ويرضى، لكن أقول: إنه وُجِدَ هَمٌّ في نفوس الناس هو هكذا، هَمُّ محاولةِ صياغة الحياة صياغة إسلامية في جميع مجالاتها، أصبح الطبيب مثلاً يفكر كثيراً في محاولة تحويل هذا المستشفى الذي يعمل فيه إلى مستشفى ملتزم بأوامر الله بفصل الرجال عن النساء مثلاً، تجنب الاختلاط بقدر ما أمكن، وتجنب الأمور التي لا ترضي الله ورسوله من المحرمات بأنواعها، أصبح المسئول في إدارته يحرص على تحويل هذه الإدارة إلى إدارة ملتزمة بأوامر الله ورسوله. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 3 الأمل بحديث التجديد ومع ذلك فإن المنصرين يدركون أنه لابد لكل ليلٍ من نهار، وهذه الأيام يداولها الله تعالى بين الناس، وكيف يدب اليأس إلى قلوب المسلمين وهم يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وغيره بسندٍ حسن: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فيؤكد عليه الصلاة والسلام أن التجديد شريعة إلهية وسنة ربانية لا يمكن أن تتخلف بحالٍ من الأحوال، وبعد كل قرن يكتب الله لهذه الأمة تجديداً، ولا يعني أن يغير من الدين شيئاً فإنه إذا غير كان هدماً له ولم يكن تجديداً، وإنما يعني أن يجدد فَهْمَ الناس للدين وتمسكهم به والتزامهم به، فيكونون أقرب إلى الالتزام بالكتاب والسنة، وهذا التجديد الذي أخبر عنه صلى الله عليه وسلم هو تجديد شامل لكل مجالات الحياة بدون استثناء، أي تجديد في جميع المجالات الدينية والشرعية، علمية كانت أو عملية. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} و (من) كما هو معروف تطلق على المفرد وعلى الجمع، ولذلك فإن المجدد لهذا الدين ليس بالضروري أن يكون فرداً يشار إليه بالبنان، كما قال الإمام السيوطي في منظومته: يشار بالعلم إلى مقامه وينصر السنة في كلامه وأن يكون حاوياً لكل فن وأن يبز علمه أهل الزمن من الممكن أن يقوم بهذه المهمة الجليلة أمة من العلماء والدعاة والمصلحين والمجددين، ولئن جاز أن يقول بعض أهل العلم: إن المجدد في القرن الأول مثلاً فرد هو عمر بن عبد العزيز وأن المجدد في القرن الثاني فرد واحد كما قال بعضهم أنه الإمام الشافعي، لئن جاز أن يقال في مجدد القرن الأول مثلاً أنه عمر بن عبد العزيز فإن ذلك أبعد فيمن جاء من بعده، فإنه لا يكاد يوجد إنسان جمع القرآن والسلطان، أي: جمع العلم والسلطة بحيث استطاع أن يجدد الدين علماً وعملاً وتطبيقاً في حياة الناس، ونظراً لأن الأمة الإسلامية قد انتشرت وتوسعت ودخل في الإسلام أمم وشعوب بأكملها، ونظراً أيضاً لأن الشر قد كثر وفشا وانتشر، وأعداء الإسلام استطاعوا أن يصلوا إلى بعض مآربهم في إدخال الشهوات والشبهات على الأمة الإسلامية، ونظراً أيضاً لأنه كلما تقدم الزمن قل جودة النوعيات التي تقوم بالمهمة، فنحن نقطع أنه لا يمكن أن يوجد جيل مثل جيل الصحابة رضي الله عنهم أو كجيل التابعين، وهيهات أن يوجد حتى أفراد في الأمة يكونون بمنزلة بعض رجالات الإسلام المعروفين من كبار الصحابة أو من الصحابة والتابعين وغيرهم، فحتى نوعية الأفراد الذين يقومون بمهمة التجديد تقل، والمجالات التي يحتاج فيها إلى التجديد تكثر وتتسع، ولذلك فإن من المنطق أن يكون القائم بمهمة التجديد لهذه الأمة خاصةً في العصور المتأخرة أن تكون طائفة من الناس ما بين فقيهٍ ومحدثٍ وداعية ومصلح ومجاهد إلى غير ذلك من ألوان وأنواع الخير التي تحتاجها الأمة الإسلامية في كافة مجالاتها، ولذلك كان العلماء حتى منذ قرون يقولون مثلاً: مجدد القرن الفلاني في الفقه فلان، وفي الحديث فلان، وفي العقيدة فلان، وفي التفسير فلان، فيذكرون أفراداً كل فردٍ يعتبرونه مجدداً لنوع من أنواع العلم أو العمل. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 4 أمور لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار في الصحوة الإسلامية وهكذا النوعيات التي أشرت إلى شيءٍ منها، فهذه صور يمكن أن تعبّر إلى حدٍ ما عن وجود هذا التوجه الإسلامي، وهذا الإقبال على الإسلام وعلى الخير في هذه الأمة وبهذا الوقت بالذات. ولذلك أقول: إن هذه الصحوة التي بدأت هي أمانة في أعناق العلماء والمصلحين. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 5 حماية ظهور الشباب ورجال الدعوة أولاً: أمانة توجب على العلماء والمصلحين والدعاة حماية ظهور هؤلاء الشباب وغيرهم أيضاً من كافة النوعيات المقبلة على الإسلام، وعدم الرضا بالنيل منهم أو تشويه صورتهم في نفوس الناس، وتعمل على قطع الطريق الذي يحاول الوقيعة بين أهل الخير، فلا شك أن هناك من يعمل على الوقيعة بين العلماء وبين غيرهم من سائر الطبقات، فكثيراً ما تسمع مثلاً من ينال من أهل العلم ويقول: هؤلاء متكاسلون متقاعدون، هؤلاء متملقون، هؤلاء لا يفعلون، لا يأمرون، لا ينهون، وكثيراً ما تسمع من بعض الناس من يتناول العلماء بهذه الطريقة وهو لا يدري أي جهد يقومون به وأي عمل يؤدونه، بل أي جهاد يمارسونه؛ لأنه لم يفهم إلا ما يعلم ولا يمكن أن يتصور أن هناك جهوداً كبيرة يقوم بها هؤلاء الناس وغيرهم دون أن يعلم بها، ولو كان جاهلاً لقلنا من حقه أن يسكت ولا أحد يؤاخذه، لكن المصيبة أن يكون جاهلاً ويتحدث في الوقت نفسه فيما يجهل ولا يعلم. وبالمقابل هناك من قد يحاول تشويه صورة الشباب والدعاة والصالحين عند شيوخهم وعلمائهم وأساتذتهم، فلابد من حماية ظهور شباب ورجال الدعوة الإسلامية وقطع الطريق على من يحاول الوقيعة بينهم. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 6 التوجيه السليم وثانياً: لابد من توجيه هذه الصحوة توجيهاً سليماً يضمن لها القوة والاستمرار، وهذا التوجيه قد يكون بتعليمهم ما يجهلون، بنصيحتهم، بإرشادهم، بإتاحة الفرص والوسائل التي قد لا يتمكنون منها، فإننا نعلم أن الشاب مثلاً بمفرده أو الداعية مدرساً كان أو موظفاً لا يستطيع أن يقوم بواجبه كما يريد بمفرده، لكنه يستطيع أن يستنجد بالعلماء والمشايخ والناس المعروفين بالخير والصلاح ممن لهم مكانة وقدر ليقوموا هم بهذا الدور أو ليساعدوا على القيام بالدور الذي يريد، فلابد من هذا الأمر. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 7 الوقاية من المخاطر وثالثاً: لابد من وقاية هذه الصحوة وحمايتها من المخاطر التي يمكن أن تقع فيها -والمخاطر من الطبيعي جداً أن تقع- أولاً: لأن الشيطان مسلط على بني آدم، وثانياً: لأننا نعلم أن من طبيعة النفوس أنه قد يدب إليها شيء من الضعف، الضعف قد يكون إلى إفراط وقد يكون إلى تفريط، فمن الضعف مثلاً: أن الإنسان قد يصيبه تأخر ونقص في دينه، ومن الضعف أيضاً أن الإنسان قد يصيبه زيادة وغلو وتكلف في أمور ما أنزل الله بها من سلطان، ووجود هذه القضية أمر طبيعي في أصله بمعنى أن هذا الأمر يغلب أنه لابد أن يوجد قدرٌ منه، لكن فرق بين أن يوجد قدر فيقاوم ويعالج ويعمل على تلافيه بكل وسيلة، وبين أن يوجد فلا يكون هناك من يحذر الدعاة والشباب من هذا الأمر أو يبين لهم مخاطره، وفي أواخر عهد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وجدنا أنه تظهر طائفة الخوارج، الذين كانوا يكفرون الناس بالمعصية، ويشددون على الناس بأمور ما أنزل الله بها من سلطان، وإلى جوارهم كان يوجد المرجئة الذين كانوا يتهاونون بالأعمال ويكتفون من الناس بمجرد النطق بالشهادتين ولو لم يكن لهم بعد ذلك عمل ولا عبادة ولا قيام بشيء من الشعائر، إضافة إلى وجود القدرية مثلاً، فوجود مثل هذه الظواهر أمر متوقع، وهذا يؤكد أهمية توجيه الصحوة وحمايتها من المخاطر التي تهددها وهي إما إلى زيادة وإما إلى نقصان وكما قيل: ولا تغل في شيءٍ من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وكما قيل: (الزيادة أخت النقصان) . إن وجود الانحراف أيها الإخوة يمكن أن يحول هذه الصحوة التي يستبشر بها المسلمون بكافة مستوياتهم أو جزءاً من هذه الصحوة إلى اتجاه يكون فرصة لضرب الإسلام وأهله والوقيعة فيهم، وربما خطأ يرتكبه إنسان أو أفراد تلقى بمسئوليته على المسلمين بأكملهم أو على الدعاة والصالحين بأكملهم، وهذه مشكلة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 8 التفريق بين الناصح والمتربص إن هناك من يتربص بالإسلام، ويتمنى الوقوع في الخطأ، وهناك من يضخم الخطأ ويحاول أن ينشره بكل وسيلة. وعلى كل حال فالحديث عن هذا الموضوع أيضاً لا يخلو من حساسية؛ لأن هناك من لا يستطيع أن يفرق بين المتكلم على سبيل النصح والإرشاد والتحذير ومن يضيء الإشارات الحمراء ويقول: انتبه، إياك أن تخطئ، قد لا يفرق البعض بين هذا وبين من يشتهي الوقوع في أعراض الصالحين، هناك مع الأسف اليوم ممن ينتسبون إلى العلم والدعوة في كثير من البلاد الإسلامية من يجد لذة حين يتناول أهل الخير الملتزمين بالسنة فيسخر منهم؛ لأنهم يهتمون مثلاً في زعمه بقضية اللحية، يهتمون بقضية تقصير الثياب، يهتمون بالسنن في الصلوات، يهتمون بقضية المرأة، يهتمون بكذا وكذا، فيتناولهم بطريقة معينة ليست في الواقع طريقة تؤدي إلى الإصلاح وتعديل الخطأ، بل ربما تؤدي إلى خطأ آخر في حين أنه قد يتناول أموراً ليس فيها خطأ في الواقع، فليس من خطأ الصالحين والدعاة أن يهتموا باللحية أو يهتموا بتقصير الثياب أو يهتموا بحجاب المرأة، هذه أمور هي جزء من الدين، ونحن لا نعرف أن الدين فيه قشور يمكن أن يتخلى عنها أو تترك، الدين كله من عند الله عز وجل، ولا معنى أن نقول اهتم بالأهم واترك ما عداه، نحن لا نقول اترك قضية العقيدة واترك قضية دعوة الناس إلى أصل الدين واهتم بقضية الحجاب أو بقضية اللحية، لا، لكن نقول اهتم بهذا وهذا وهذا، فإذا تعارضت هذه الأمور فيمكن أن تقدم الأهم على المهم كما هو معروف. فلابد من التفريق بين هؤلاء وبين هؤلاء، التفريق بين من يتحدث عن الأخطاء على سبيل التحذير منها والوقاية كما يقول الأطباء: (الوقاية خيرٌ من العلاج) والفقهاء لهم عبارة أخرى يقولون: (الدفع أسهل من الرفع) بمعنى أن دفع الأمر قبل وقوعه أهون من رفعه بعدما يقع. فلذلك التحذير من الأخطاء قبل وقوعها أو قبل استفحالها وانتشارها في الواقع أمانة ومسئولية وضعها الله عز وجل، لا أقول فقط: في عواتق العلماء؛ بل في عاتق كل من يعلم أمراً لابد أن يتحدث عنه. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 9 المحاذير في طريق الصحوة والحديث إخواني الكرام عن موضوع المحاذير حديث ذو شجون، لكنني سوف اجتزأ بثلاث نقاط أرى أنها من أبرز هذه المحاذير، أما النقطة الأولى في موضوع المحاذير فهي: الجزء: 143 ¦ الصفحة: 10 عدم الضيق والحساسية بسبب الخلاف أيها الإخوة: إنه لابد من تطبيع الخلاف في مثل هذه الأمور بحيث لا يكون عندنا حساسية تجاه هذا الخلاف، المشكلة أحياناً أن الناس يضيقون ذرعاً من خلاف لابد منه، وأذكر أنه حتى بعض صحفنا كانت تعقد مقابلات وحوارات وتجعلها قضايا، العالم الفلاني يفتي بشيء والعالم الآخر يفتي بشيءٍ آخر، وهذا يقلق قلوب الناس، ليس الحل أن لا يختلف العلماء، سيختلف العلماء شئتم أم أبيتم، لكن الحل هو أن نوعي الناس بالأسلوب الصحيح في معالجة الخلاف، وفي مواجهته، فيما يمكن أن نسميه فقه الخلاف سواء أكان خلافاً في فروع، أم خلافاً في الوسائل، أم خلافاً في معالجة القضايا الاجتهادية إلى غير ذلك. وكذلك لابد أن ندرك أن هذا الخلاف لابد أن لا يؤدي إلى التناحر والتباغض وتناقض الجهود وتسليط الأعداء، لأن كون كل مخالفٍ يجعل همه الأكبر هو أن ينتقد مخالفه ويرد عليه ويبين خطأه؛ هذا من شأنه أن يجعل المسلمين والصالحين مشغولين بعضهم ببعض ويعطي الفرصة للأعداء. ومن المؤسف فعلاً أنك تجد أحياناً الداعية الغيور الحريص على الكتاب والسنة تجده مشغولاً بإخوانه من الدعاة والعلماء، في تخطئتهم في أمور معينة، أو بيان أن ما رجحوه غير راجح وهي قضايا مهما كانت فهي جزئية، ومع ذلك تجده مشغولاً عن الصوفية، والباطنية، والإباحية، والعلمانية، والحداثة وغيرها من المذاهب التي تنخر في الأمة، مشغولاً عن الفساد الخلقي الذي يعيه في قلوب الناس وفي واقعهم، مشغولاً عن الجهل بالدين الذي أصبح معششاً في كثير من المجتمعات. والله إن من المؤسف أيها الإخوة أنك تجد الدعاة مشغولين بعضهم ببعض والمجتمع لا علاقة لنا به، المجتمع سلَّم للصوفية، والمنحرفين، والضالين والمفسدين. حتى لو كنت تعتقد أن ما تقوم به تجاه إخوانك من العلماء والدعاة والمصلحين واجب، فالنزول للمجتمع والإصلاح فيه أوجب منه، فإذا قمت بالواجبين معاً فإن الله يقويك، لكن أن تترك الواجب الأعظم المتفق على وجوبه وضرورته وخطورته مشتغلاً بمن تعرف، قد يقول قائل: ما هو السبب؟ في نظري أن السبب هو وجود نوع من العزلة عن الواقع، لأن الإنسان دائماً يقبل على الأشياء المهمة بحسب ما يعرف، فلأنه يقضي حياته بين إخوانه من الدعاة والعلماء ويسمع ما يدور في أوساطهم صار مهماً عنده أن يخطئ الخطأ عندهم، لكن ما يجري في المجتمع هو مشغولٌ عنه، وربما لا يدري به، وإن علم فليس أمراً ملحاً عنده يطرق أذنه صباح مساء ليل نهار، ولذلك لم يعطه الاهتمام الكافي، وهذا لا شك نقيض الحكمة التي أمر الله تعالى بها، الحكمة هي وضع الأمور في مواضعها. مسألة الخلاف من القضايا الخطيرة ولا أعتقد أنني قلت فيها شيئاً، ولكن نسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الكلمة بداية خير، وأن يجمع أمر المسلمين على كلمة سواء، وأن يوحد صفوفهم، ويصلح ذات بينهم، ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور إنه على كل شيءٍ قدير. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 11 الاختلاف وكيفية التعامل معه المحذور الرابع من هذه المحاذير هو الاختلاف، والاختلاف من الأمور التي يتحدث عنها الإنسان وهو يشعر بالأسى والحزن على واقع الأمة الإسلامية التي أصبحت كما قال القائل: وتفرقوا شيعاً فكل قبيلةٍ فيها أمير المؤمنين ومنبر وكما قال الآخر: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد أصبحت مسألة التفرق والاختلاف والتنازع بين المسلمين من أخطر المسائل وأهم القضايا، ولذلك لابد من إلقاء الضوء على هذه النقطة. فمسألة الاختلاف من حيث الأصل هي قضية لا بد منها، وهذا أمر يخفى على كثير من الناس، ومع أن الأمة الإسلامية تعيش حالة من التمزق والاختلاف عظيمة إلا أنك مع ذلك تجد من الدعاة والمصلحين وطلاب العلم من يقول لك: يا أخي يمكن جمع المسلمين كلهم على كلمة واحدة ورأي واحد في الأصول وفي الفروع، وأنا أعتقد أن هذا الأمر غير صحيح ولا ممكن، بل إنني أقول: إنه مستحيل، صحيح جمع الناس على الأصول لابد منه ولابد من الدعوة إليه سواءً استجابوا أو لم يستجيبوا. أما فيما يتعلق بالفروع الفقهية، فإذا كنا نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه الفروع أبو بكر الصديق وعمر والعشرة المبشرون بالجنة وأصحاب بدر وبيعة العقبة وبيعة الرضوان وكذا وكذا، أفضل جيل فيهم اختلافات في الفروع في قضايا فقهية كثيرة، كما حدث لمن بعدهم، ولذلك تجد أن الأقوال الفقهية إذا ذُكرت قيل: وهذا القول قال به أبو بكر وفلان وفلان، والقول الآخر قال به عمر وابن مسعود وفلان وفلان. وإذا حدث الاختلاف في عهد الصحابة وهم أفضل الناس وأعلم الناس وأكثر الناس تجرداً وأوسع الناس عقولاً، فمن البديهي أن يقع الاختلاف فيمن بعدهم، بل أن يزيد ويكثر وينمو، ولذلك فإن الاختلاف أمرٌ واقع ليس في القضايا الفقهية الفرعية فقط، بل في أمور عديدة سوف ترد الإشارة إليها. وليس المهم إخواني الكرام القضاء على الخلاف، لكن الشيء المهم الذي يجب أن يكون همّا لكل غيور على الإسلام هو إيجاد منهج سليم للتعامل مع الخلاف الواقع، كيف نتعامل مع هذا الخلاف؟ هذا هو المهم، لا يكون السؤال عندك كيف نقضي على الخلاف، لا، ليكن السؤال عندك كيف نتعامل مع الخلاف؟ وسأحاول الإجابة على جزء من هذا السؤال. 1- البعد عن التعصب لغير الحق: فأولاً: لابد من البعد عن التعصب لغير الحق، فإن من أسباب الخلاف التعصب لشخص سواءً كان هذا الشخص عالماً أم شيخاً تتلمذت عليه، أم كان داعيةً تدور في فلكه وتتلقى عنه وتتعلم منه وتستشيره في أمورك، بحيث تتعصب لهذا الإنسان وترى أن ما يقوله هذا الإنسان حق، فإذا والى هذا الإنسان أحداً واليته، وإذا عادى أحداً عاديته، أحب أحداً أحببته، أو أبغض أحداً أبغضته، مدح مدحت أو ذم ذممت، وهذا تقليد غير سليم؛ لأن المفروض أن يكون الولاء في الحق، نوالي أهل الإسلام وأهل الخير مهما كانت ألوانهم وأشكالهم وأحوالهم، ونخطئ الخطأ مهما كان مصدره. فالتعصب لشخص أو التعصب لراية أو التعصب لحزب أو جماعة أو طائفة، هذا من أعظم أسباب شيوع الاختلاف وانتشاره، ونحن أيها الإخوة أمام أمانة حملنا الله تبارك وتعالى إياها وسوف يسألنا عنها، من واجبنا أن نساهم في علاج جراحات هذه الأمة الإسلامية وآلامها بأن يكون تعصبنا للحق وحده، وأن نخلع التعصب للأشخاص وللطوائف، والهيئات، والأحزاب، والشيوخ إلى غير ذلك. المسلمون الغيورون على وحدة الأمة يعلنون أساهم وحزنهم من التعصب المذهبي، واليوم حل محل هذا التعصب المذهبي التعصب للفئات والجماعات، وأصبحت تمزق كثيراً من المسلمين وتفرق بينهم، وتوجد الحواجز في نفوسهم وفي واقعهم، ولذلك لابد في موضوع معالجة الخلاف من التجرد للحق بقدر ما يستطيع الإنسان، لا شك أن الإنسان ليس ملكاً لكنه يحرص على أن يتجرد للحق من جميع الملابسات الأخرى الثانوية من التعصب لشيخ أو طائفة، أو مسلك أو راية، أو ما أشبه ذلك. 2- عدم تضخيم الخلاف: ثانيا في قضية معالجة الخلاف: مسألة عدم تضخيم الخلاف في القضايا الفرعية، الخلاف في الفروع أمر موجود منذ فجر الإسلام، موجود حتى في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحين قال عليه الصلاة والسلام، كما في الصحيحين: {لا يصلين أحدٌ العصر إلا في بني قريظة} اختلف الصحابة في كيفية تطبيق هذا الحديث فبعضهم قالوا: لا نصلي العصر إلا في بني قريظة حتى لو فاتت الصلاة، وبعضهم قالوا: إنما أراد منا الإسراع فصلوا في الطريق، ومع ذلك لم يعنت النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، وبالتالي اختلف العلماء من بعدهم أيهم المصيب: الذي صلى في الطريق أو الذي صلى في بني قريظة، فالخلاف موجود. الخلاف الفقهي الفرعي موجود ولا شك أن له ضوابط، فما كل من قال بقول يقبل منه هذا القول، أو رجح شيئاً يقبل منه، لكن المقصود أن أصل الخلاف بين أهل العلم الذين هم أهل العلم فعلاً؛ أصل هذا الخلاف موجود، لا ينبغي أن يتحول هذا الخلاف الفرعي إلى عداوات وخصومات وولاء وبراء، مثلاً بعض الشباب يجعل سنة من السنن أصلاً، من فعلها أحبه ومن تركها أبغضه، تقول له: لماذا؟ قال لك: لأن هذه السنة أصبحت شعاراً للصالحين، فمن لا يجلس جلسة الاستراحة مثلاً ينظر إليه نظرة ريبة، هذا لا يحب السنة ولا يعمل بها، لماذا يا أخي؟ قال لك: صحيح أن العلماء اختلفوا وأحمد قال كذا، والشافعي قال كذا، ولكن اليوم أصبحت جلسة الاستراحة شعاراً لمن يطبق السنة، من قال هذا؟ ومن الخطأ أن تصبح شعاراً، عيب أن تصبح هذه شعاراً، صحيح أنها سنة على رأي جماعة من أهل العلم ورجح ذلك بعض شيوخنا المعاصرين كسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز ولا ينبغي التضييق على من فعلها ولو أحياناً، بل ينبغي أن يفعلها، لكن فرق بين هذا وبين أن تتحول إلى شعار. السنة أصبحت شعاراً!! هذه من المعضلات أن توضع الفروع مكان الأصول، وضع اليدين مثلاً بعد القيام من الركوع، كيف يخر الإنسان إذا هوى إلى السجود يقدم ركبتيه أم يقدم يديه؟ هل يرفع يديه عند تكبيرات الجنازة أو لا يرفع يديه؟ هل يغتسل للجمعة وجوباً أو لا يغتسل؟ مصيبتنا أن هذه القضايا أصبحت هماً مسيطراً على نفوس كثير من الشباب، وهي التي تملأ وقتهم وحياتهم، وليس هذا فقط بل الولاء والبراء يدور حول هذه القضايا حتى أني وجدت في كتاب كتبه أحدهم، كاتب هذا الكتاب قد يرجح مسألة من المسائل ثم يقول بعد الترجيح وهذا دين الكتاب والسنة، أي: الذين خالفوك في هذا القول الذي اخترته أتوا بآرائهم من التوراة والإنجيل، وإلا من أين أتوا بها، والغريب أنه قال هذه الكلمة وفي رأيي أنه رجح خلاف ما عليه أهل الحق، وخلاف القول الصحيح لمجرد فهمٍ تبادر إلى ذهنه من ظاهر آية، وصار يقول هذا دين الكتاب والسنة، معنى ذلك أنه يوالي فيه ويعادي فيه ويعتبر من قال بهذا فهو مخالف للكتاب والسنة، وربما يحمل عليه وربما ينكر جميع فضائله ومحاسنه وما قدمه للإسلام والمسلمين من خدمات. من الخطأ أن يتحول الاختلاف الفقهي إلى حزازات وخصومات وعداوات. 3- الخلاف لا يضر: ثالثاً: في موضوع الخلاف أيضاً يجب أن نعلم أن هناك خلافاً في معالجة بعض الأمور الاجتهادية الواقعية، وهذا خلاف لا يضر ما دام مبنياً على المصلحة، خلاف مثلاً في التعامل مع بعض القضايا الواقعية، خلاف في تقدير المصلحة، خلاف هل أنكر الآن أو غداً واليوم جدت أشياء كثيرة جداً يختلف الناس حولها، وقد يختلف الدعاة في التعامل مع هذه الأشياء، سواء أكانت منكرات أو أمور أخرى، وقد يختلفون في نوعية التعامل معها وفي الأسلوب وكيفية طريقة التغيير؟ فالخلاف في الأمور الاجتهادية هو الآخر وجد في عهد الصحابة رضي الله عنهم، بل نحن نعرف أن الصحابة اختلفت مواقفهم لما حدثت الفتنة في أواخر عهد الصحابة فمنهم من كان مع علي رضي الله عنه، ومنهم من كان في الطرف الآخر مع معاوية رضي الله عنه، ومنهم من اعتزل وانفرد وقال: لا أدخل مع هؤلاء ولا مع هؤلاء حتى تنزل القضية وتتضح لي، ومع ذلك فكانوا كلهم على خير ولهم فضل وإحسان ومكانة وكان منهج أهل السنة والجماعة اعتقاد أن الكل من هؤلاء مجتهدون لهم أجر اجتهادهم، والمصيب منهم له أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، وما كان هذا مدعاة إلى أن ينال أهل السنة من أحدٍ منهم. ولذلك فإن القضايا الواقعة قد يختلف الناس في تقدير المصلحة فيها أو التعامل معها، فهذا الاختلاف المبني على الاجتهاد هو الآخر اختلاف يجب أن يكون مقبولاً، ولا يمنع أني اعتبر أنك مخطئ في اجتهادك، لكن هذا الخطأ في اعتقادي لا يوجب أن يكون بيني وبينك خصومة أو عداوة وتباعد. 4- الاختلاف في الوسائل مباح: النقطة الرابعة أن هناك اختلاف في الوسائل، والأصل في الوسائل أنها مباحة إذا لم يكن هناك دليل واضح على تحريمها، ولذلك استفاد الصحابة رضي الله عنهم من وسائل كثيرة ما كانت موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مسألة تدوين الدواوين، بل إننا نجد أن هناك أموراً نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث، مثل مسألة كتابة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كان ينهى عن كتابة الحديث يقول: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن} إلى جوار أحاديث أخرى بينت جواز الكتابة كما قال عليه الصلاة والسلام: {اكتبوا لـ أبي شاة} ولذلك كان الصحابة والعلماء مختلفون هل تجوز كتابة الحديث أو لا تجوز، لكن الغريب أنه حصل إجماع بعد ذلك من العلماء على جواز كتابة الحديث، بل على مشروعيته، هذا الإجماع ما هو الداعي إليه بعد وجود الخلاف؟ الداعي إليه أنهم رأوا أن هذه وسيلة ضرورية لحفظ السنة النبوية وبرزت هذه الحاجة إلى العيان، فلم يعد هناك مجال للاختلاف فيه، ولذلك قد يختلف العلماء يوماً من الأيام في مسألة، ثم يجمعون على حكم فيها بعدما بان الأمر واتضحت الحاجة والمصلحة فيها. وهناك قضايا واقعية كثيرة جدت اليوم في هذا العصر الجزء: 143 ¦ الصفحة: 12 التعجل وصوره أنتقل إلى المحذور الثالث وأقول: إن المحذور الثالث هو تعجل الخطوات، والعجلة من حيث الأصل جبلة مركوزة في نفس الإنسان قال تعالى: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] وقال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] ولذلك في قصة موسى والخضر كما قصها الله جل وعلا علينا، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {لولا أنه عجل لرأى العجب} وأيضاً في الحديث الآخر يقول عليه الصلاة والسلام كما في مسلم وغيره {يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي} فالعجلة تفوت على الإنسان الخير، وهذا مصداق قولهم: (من تعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه) . مثال ذلك الدعاء إذا تعجل الإنسان الدعاء ربما عوقب بحرمانه من الدعاء، ولذلك قال: يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، ومفهوم الحديث أنه إذا عجل فقد لا يستجاب له، ولعل الحديث المناسب أيضاً في موضوع التعجل الحديث في صحيح البخاري في قصة خباب بن الأرت رضي الله عنه: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسدُ بردة له في ظل الكعبة -جاء إليه الصحابة مقهورون متضايقون من قريش، طال صبرهم وانتظارهم فجاءوا بقلوب محروقة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وجلسوا عنده وهو نائم عند الكعبة -فقالوا له: يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فجلس ولم يدع لهم عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ بل التفت إليهم لأنه عليه الصلاة والسلام أدرك الشعور الذي جعلهم يقولون هذا الكلام- فقال: لقد كان من قبلكم يؤتى بالرجل منهم فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيشق إلى نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه ما يثنيه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون} والاستعجال يأخذ صوراً عديدة: 1- استعجال النتائج: من الاستعجال: استعجال النتائج بحيث إذا عمل الإنسان شيئاً يريد أن يرى نتيجته، ونحن نعرف في حديث ابن عباس المعروف في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرجل والرجلان والنبي ليس معه أحد} هناك نبي يأتي يوم القيامة وحده لم يتبعه إنسان واحد، أقام الحجة، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وبلغ هذا الواجب عليه، فما استجاب له الناس، هذا أمره إلى الله تعالى. نوح عليه السلام دعا ألف سنة إلا خمسين عاماً ولم يستجب له إلا أناس يعدون على الأصابع، فأحياناً كثيرة الداعية قد يتعجل النتائج ويريد أن يرى نتيجة دعوته أو أمره أو نهيه، فإذا فعل مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: والله ما رأيت النتيجة، وربما يستحسر ويدع العمل، والمفروض على الإنسان الذي يعمل لوجه الله عز وجل أن لا ينظر إلى النتيجة دائماً، أما إني أقول أن رؤية النتائج مما يزيد من حماس الإنسان وهذا أمر معروف، كما أننا قد عرفنا من تجارب الواقع أن هذه الأمة فيها خير كثير، ولذلك فإن كل داعية حكيم لابد أن يجد نتيجة عمله؛ لكن مع الصبر، إنما على الإنسان ألا يعجل وأن يربط نفسه بالأجر والثواب عند الله جل وعلا، أما النتائج الدنيوية فإن لم تأت اليوم أتت غداً، وإذا ما جاءت على يديك فستأتي على يد غيرك من الدعاة. 2- التعجل في خطوات الإصلاح: الصورة الثانية من استعجال النتائج: أن بعض الناس قد يتعجل في الخطوات في ميادين الإصلاح، وهذا التعجل ربما يتسبب في قطع الطريق عليه، فمثلاً ربما يريد الإنسان أن يصلح في ليلة ما فسد في دهر، وهذه الطريقة يمكن أن تؤدي إلى أن تكثر العداوات والخصومات، ويستفز الناس فيقفون ضده، وبالتالي لا يستطيع أن يواصل في هذا الطريق. أضرب لذلك بعض الأمثلة: قد يأتي إنسان إلى مؤسسة من المؤسسات دخل فيها الآن وهي جديدة، فوجد فيها من المنكرات ما الله به عليم، تضايق هذا الإنسان وتبرم، ومن حقه بل ومن واجبه أن يكون كذلك، لأن هذا من الإنكار بالقلب, والمؤمن لابد أن يغتاظ إذا رأى المنكر، لكن كيف يغير هذا المنكر؟ ربما يتعجل الخطوات فيريد أن يغير هذه الأمور كلها فيقول: يا أخي أنا مسئول في هذا القطاع في هذه المؤسسة لماذا لا أغير؟ سأغير كل شيء، ربما يغير طاقم الموظفين أحياناً، وربما يقلب الأنظمة رأساً على عقب، ما الذي يحدث؟ قد ينجح أحياناً إذا كان واثقاً من هذا الأمر؛ لكن في أحيان كثيرة لا يستطيع الإنسان أن يقدر المصلحة، فيجد أن هذا العمل كان من نتيجته أنه استطاع أن يستقطب عداوة كثير من الناس، وبالتالي أصبح هؤلاء الناس وقد وضعوا على عواتقهم أنه لابد أن يعملوا ليل نهار على إبعاد هذا الإنسان عن هذا العمل والحيلولة بينه وبين تحقيق ما يريد، ما أصبحت القضية قضية فرد واحد، كما يقول الشاعر: فلو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثانٍ وثالث حينما يأتي واحد فرضاً إلى مسؤول أعلى منه ويقول له: إن فلاناً فعل وفعل، يمكن أن يرده؛ لكن جاء الثاني والثالث والرابع والخامس والعاشر لا يمكن أن يردهم، وحتى لو فرض أنه مقتنع بأنك على صواب وهم على خطأ سيقول نحن لسنا في حاجة لهذه المشاكل، نحن في غنىً عنها، وبالتالي يقطع الطريق على هذا الإنسان باستمرار عملية الإصلاح، والقليل الدائم خيرٌ من الكثير المنقطع. مثلٌ آخر: قد يوجد إنسان مسئول إداري أو قاضٍ أو غيره ربما يعرض إليه إنسان يحتاج إلى تعزير، قام بذنب يحتاج إلى عقوبة تعزيرية، الناس في بلد من البلدان تعودوا على حكمٍ ضعيف، قد يؤتى بإنسان وقع في ذنبٍ عظيم فيجلد خمس جلدات مثلاً، فأتى إنسان غيور وحريص على إيقاف الناس عند حدود الله فصار يعاقب من كان يعاقب أمس بخمس جلدات صار يعاقبه اليوم بألف جلدة ويقول: هذا حقه الذي يستحقه، ما الذي يحدث؟ قد لا يستطيع أن يستمر في هذا الطريق، ولو وزعت هذه الجلدات على مجموعة من أصحاب الجرائم، وما دام في نفسي أن أقوم بهذه الجلدات لهذا الإنسان ممكن أنني أزيد العقوبة لكن بقدر تدريجي، وكما يقال: خذ وطالب زد الجرعة، ولا يعني هذا أنك توقفت عنده، لكن حتى يتعود الناس عليها، ثم تنتقل إلى ما هو أولى وأكثر منها، والناس يمكن أن يتعودوا على الأشياء الصالحة بالتدريج كما تعودوا على الأشياء السيئة بالتدريج. الآن كثيرٌ من المعاصي والمنكرات أصبحنا نألفها لماذا؟ لأنها تدريجياً فرضت علينا وأصبحت تنمو كما ينمو الطفل نمواً تدريجياً لا يشعر به من يراه على الدوام. الخير يمكن أن يطبق بنفس الطريقة، وهذا الذي كان يفعله المسلمون الأوائل، لما وجد الإسلام في مكة كيف استطاع المسلمون أن يفرضوه؟ كانت هناك حرب لا هوادة فيها ضد المسلمين، لكن لما أسلم أبو ذر قام أبو ذر وصاح في ملإٍ من قريش: أني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قاموا عليه وضربوه وآذوه وأدموه، المهم أنه خرج من بين أيديهم. غداً أسلم شخص آخر وما صبر على السكوت فقام وأعلن القضية، كثرت هذه العمليات، كل يوم يقوم شخص بهذه القضية، أصبحت شيئاً فشيء تهون في نفس القرشيين، ولم يعد واحد منهم يقوم بهذا العمل، ولذلك لما أعلنها عمر بن الخطاب رضي الله كما هو في المستدرك ومسند أحمد بن حنبل وغيره بسندٍ صحيح: أنه لما أسلم عمر ذهب إلى رجل من قريش وكان هذا الرجل مشهور بإشاعة الكلام اسمه جميل بن معمر، فأخبره عمر أنه قد أسلم، فذهب هذا الرجل يجر رداءه ويمر بالناس ويقول: هل علمتم أن عمر بن الخطاب قد صبأ، وعمر وراءه يقول له: كذبت ولكنني أسلمت فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتجمع الناس على عمر وصار يضاربهم ويضاربونه، وعمر كان رجلاً جلداً قوياً في الحق يضاربهم ويضاربونه من طلوع الشمس حتى الزوال، فتعب ولما تعب أعيا وقعد، وكان الناس معرشون حوله واقفون، وهو يلتفت إليهم ويقول: يا أعداء الله اصنعوا ما بدا لكم، والله لو بلغنا ثلاثمائة رجل لنخرجنكم من مكة أو تخرجوننا منها، ثم جاء العاص بن وائل وكان حليفاً لـ عمر فوجد هذه المجموعة من الناس فقال ما هذا؟ قالوا: هذا عمر بن الخطاب أما علمت أنه قد صبأ؟ قال: فمه؟ يعني ثم ماذا؟ رجلٌ اختار لنفسه ديناً فدعوه وما اختار لنفسه. ما كان القرشيون يقولون مثل هذا الكلام بالأمس، لكن لكثرة فرض الخير، وكثرة من يعلن إسلامه هانت القضية عليهم شيئاً فشيئاً حتى صاروا يتشدقون بما يسمونه اليوم حرية الاعتقاد. فكما أن الشر يفرض على المسلمين بصورة تدريجية حتى يألفوه، كذلك الخير يمكن أن يفرض في المجتمع بصورة تدريجية هادئة لا تدعو إلى استفزاز الناس واستثارتهم ومواجهة الخير وحربه والقتال ضده. بعض الدعاة في البلاد الإسلامية يخيل إليهم أنهم يملكون أحياناً من القوة ما يغيرون به الدنيا، في الوقت الذي قد تجد فيه أن الداعية لم يستطع تغيير بيته الذي يعيش فيه، لم يستطع أن يؤثر في الحي الذي يعيش فيه، لم يستطع أن يؤثر في المدرسة أو المؤسسة التي يعمل فيها، وهذه أحياناً من الأحلام التي يتعلق بها الإنسان، فالداعية لا ينبغي أن يغتر بنفسه وبقوته، ويظن أنه يستطيع أن يقلب الدنيا كلها رأساً على عقب، كلا، بل عليه ألا يتعجل الخطوات وأن يسير إلى هدفه بصورة تدريجية هادئة و (5%) مستمرة أفضل من (50%) منقطعة وهذا مما تقتضيه الحكمة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 13 الانحرافات في المنهج النقطة الثانية: أن هناك انحرافات أصبحت بارزة وبدأت تتسلل إلى نفوس بعض الشباب بأسباب معروفة، المنكرات التي عمت وطمت اليوم وانتشرت بين المسلمين؛ بسبب غياب العلم الشرعي عن كثير من البلاد الإسلامية وعن كثير من البيئات الإسلامية، جعل من الناس من يكتفي بقراءة بعض الكتب، ثم يوجد عنده هذا الحماس في قلبه للدين، فإذا نظر إلى هذا الواقع حدث عنده ردة فعل لهذا الواقع، فصار عنده غلو قد يصل إلى حد تكفير الناس، وقد وجد في عدد من البلاد من يعتبرون أنفسهم -كما يقال- جماعة المسلمين ويعتبرون أن غيرهم كفار، وأن من لا يبايع أميرهم فهو كافر، وقد رأينا بعض الطوائف من الأعاجم من يقولون: بتكفير الخلق كله إلا من كان مبايعاً لزعيمهم، وهو زعيمٌ يوجد في الهند حتى إن أحدهم قال: قل لي أنا حنبلي أقول لك أنت مشرك، وكانوا لا يصلون مع الناس جمعة ولا جماعة، بل ولا يلتفتون إلى رؤية المسلمين للهلال ولا إلى تحديدهم الوقوف بعرفة ولا إلى أعيادهم ولا غير ذلك، وأنت قد تضحك حين تسمع مثل هذه الأفكار لسذاجتها، لكن المصيبة كل المصيبة أنه في غيبة العلم. 1- أهمية اللغة العربية للأعجمي: يمكن أن يروج وينتشر كل مذهب خاصة عند من لا يكون عندهم فهم صحيح للغة العربية، ولذلك قال بعض السلف: " إن من سعادة الحدث والأعجمي إذا تمسك أن يوفق بصاحب سنة" أي: الشاب في أول هدايته عنده استعداد أن يسير في أي اتجاه، عنده حماس، عنده عاطفة، فلو ابتلي بصاحب بدعة لأشرب هذا الشاب حب البدعة وكان لسان حاله يقول: أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلباً خالياً فتمكنا وكذلك الأعجمي؛ نظراً لعدم قدرته على فهم النصوص فهماً صحيحاً، أصبح ربما يقع منه أحياناً سوء فهم للنصوص، فيأخذ عمومات ويطبقها على غير وجهها، مثلاً يأخذ قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فيحكم على كل من اتبع عالماً أو قلده في مسألة من المسائل بأنه اتخذه ربّاً من دون الله وبالتالي فهو مشرك، فقهٌ أعوج وجهل بالدين، فالأمة متفقة على أن العامي مذهبه مذهب مفتيه يقلد من يثق بدينه، ومن غير المعقول أن نطلب من الناس أن يتخلوا عن بيعهم وشرائهم وتجارتهم ليتفرغوا لمعرفة العلم والأحكام والحلال والحرام بالدليل، حتى الصحابة رضي الله عنهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا سألوا إذ لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} . المهم أن الأعجمي إذا لم يكن عنده فهم للغة العربية ولا فقه في الدين قد يقع في هذا الانحراف، وإنني أقولها صريحة في حدود ما أعلم: لا أعتقد أنه يعلم في هذه الجزيرة العربية بالذات غلو أو ما يسمونه بالمصطلح الصحفي اليوم "تطرف" من هذا النوع، اللهم إلا أن يكون حالات فردية نادرة إن وجدت فهي لا تستحق أن يشار إليها، لكن نحن اليوم نعرف أن العالم أصبح جزيرة واحدة كما يقال، وما يوجد في بلد قد يوجد في بلد آخر أو قد ينتقل إلى بلدٍ آخر؛ سواء بواسطة أشخاص أم كتب أم وسائل متعددة، ولذلك كان هذا التحذير، وإلا فإننا لا نعلم أن هذه الجزيرة يوجد في شبابها ودعاتها ومخلصيها شيئاً من ذلك، والفضل لله عز وجل حيث قيض لهذه الجزيرة من العلماء من يضبطون مسيرة الشباب، فكل شاب مهتد يعتبر المثل الأعلى له من الأحياء هو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أو الشيخ محمد بن عثيمين أو الشيخ عبد الله بن جبرين، أو فلان أو فلان، من العلماء الذين هم من علماء أهل السنة والجماعة ومن رءوس الطائفة المنصورة والفرقة الناجية فيما نحسبه والله تعالى حسبهم ولا نزكي على الله أحداً. ولذلك سلم الشباب المسلم في هذه الجزيرة من هذا الأمر، ولكن هذا لا يمنع من التحذير؛ خاصة أننا قد نجد حتى من غير أهل هذه البلاد من يكون عنده شيء من ذلك، فقد حدثني بعض الإخوة أن هناك من الإخوة من بلادٍ أخرى من ينادون ببعض هذه الأفكار ويحاولون نشرها، وقد يبتلى بهم جاهل فيقع ضحية تضليلهم وخداعهم. 2- المنهج الفقهي: لا بد من الوضوح في المنهج الفقهي وأعني بالمنهج الفقهي: معرفة الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية، معرفة الحلال والحرام، لابد من الوضوح في هذا المنهج بأن يتبع الإنسان كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمعت عليه الأمة واتفقت عليه من الأحكام، أو ما قرره العلماء نتيجة الاستنباط أو القياس الصحيح أو ما شابه ذلك، وهذا الأمر الناس فيه على درجات فبالنسبة للعلماء والفقهاء المجتهدين يأخذون الأحكام من أدلتها مباشرة ولا حاجة أن يوجد بينهم وبين النص واسطة، فهم يختارون من أقوال العلماء قبلهم ما يعتقدون أن الدليل يساندهم فيه. بالنسبة لطالب العلم الذي لا يستطيع، يمكن أن يسأل العالم عن الحكم ويسأله عن الدليل أيضاً، فيكون متبعاً على بصيرة وليس على جهل، قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل:43-44] أما العامي الذي لا علم عنده ولا يستطيع معرفة الدليل ولا فقهه فإنه يسأل عن الحكم من يثق بدينه. وفي مجال عملية التفقه لابد من ضبط هذه العملية لتجنب الشطط، فإن من الناس من يشتط فيه ذات اليمين أو ذات الشمال، ومن الناس مثلاً من يشتط في مسألة التعصب المذهبي، والتعصب المذهبي أمر خطير على مدار التاريخ، كم خرب من بلدان وأحدث من فتن، ولله در المنذر بن سعيد الذي كان يتبرم من هذا التعصب ويقول منتقداً على من يتعصبون لمذهب الإمام مالك وينتقدون من خالفه بمقتضى الدليل عنده يقول: عذيلي من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب ٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا أنت قرم مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك وأحد القضاة في بغداد في عصر من العصور وهو القاضي الكرخي كان يقول: كل نصٍ خالف مذهبنا فهو منسوخ أو مؤول، إذاً لا قيمة للقرآن والسنة من حيث الاستنباط لأن المهم أن تأخذ بالمذهب، وهذا اشتطاط في جانب. هذا الاشتطاط يقابل اشتطاطاً آخر عند بعض الناس حيث يحملون على هذه المذاهب، وقد يهونون من شأنها ومن شأن أصحابها، ونحن لا نشك بأن الله عز وجل وفق هذه الأمة للاقتداء بالأئمة الأربعة لأنهم أهلٌ لذلك؛ بعلمهم وعملهم وجهادهم واجتهادهم، ولا يعني هذا أن الواحد منهم معصوم، لكن اتفاق العلماء حجة وبعض العلماء يقول: واختلافهم رحمة، لكن المهم أن الإنسان إذا اختلف هؤلاء العلماء لا يسعى إلى الخروج على اختلافهم إلى أقوال حادثة لم يقل بها أحدٌ من قبل. 3- إجلال العلماء: إن المهم تقدير هؤلاء العلماء وعدم الاشتطاط في الحط من قدرهم، أحياناً تجد شاباً ربما يكون عمر هذا الشاب خمس عشرة سنة, وربما يكون علمه بالقرآن الكريم ضعيفاً وفقهه بالسنة ضعيف، ومعرفته بالقواعد الأصولية ضعيف، ومقدرته اللغوية ضعيفة، لكنه قد يقرأ في بعض الكتب أن هذا حديثٌ صحيح وهذا حديث حسن، ثم يستنبط من هذا أحكاماً معينة، وبالتالي من وجده يخالف هذا الحكم الذي استنبطه، ربما اتهمه بأن هذا ليس على صواب، هذا يخالف الدليل، هذا يخالف الحديث، هذا لا عبرة به، اضرب بقوله عرض الحائط وما أشبه ذلك. وفي الواقع يجب تربية الإخوة الأحباب الشباب على أنه حتى حين تتبع عالماً وتترك عالماً آخر فإنه يجب عليك أن تدرك أن هذا العالم الذي تبعته في نظرك ينبغي أن تكون كما قال الإمام الشافعي رحمه الله، وهو جليل القدر كان يقول: " قولي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب " ونحن نجد العلماء في مسائل كثيرة يرجع بعض منهم إلى قول الآخر، مثلاً ذكر العلماء أنه حصلت مناظرة بين الشافعي وبين إسحاق بن راهويه الحنظلي في مكة، حصلت مناظرة بينهما في جلود الميتة هل يطهر جلد الميتة أو لا يطهر؟ فكان إسحاق بن راهويه يقول: "لا تطهر جلود الميتة أبداً" أما الشافعي فكان يرى أن جلود الميتة تطهر بالدباغ، فقال الشافعي رحمه الله: حجتي في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها فقال: {هلا انتفعتم بإهابها؟} أي: بجلدها، فهذا دليل أنه يمكن الانتفاع بجلود الميتة وكان الإمام أحمد رحمه الله حاضراً، فقال إسحاق بن راهويه: لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث عبد الله بن عكيم {لا تنتفع من الميتة بإهابٍ ولا عصب} وكان هذا قبل أن يموت بشهرٍ، فأشبه أن يكون ناسخاً للأول، وبناءً على هذا الحديث فإنه لا يجوز الانتفاع بجلد الميتة باعتبار أن الحديث الأول منسوخ بالحديث المتأخر، فقال الإمام الشافعي: هذا كتاب وذاك حديث مشافهة، "أي: حديث لا تنتفع من الميتة" كتاب كتبه الرسول صلى الله عليه وسلم كما قال عبد الله في حديثه: {أتانا كتاب رسول الله قبل أن يموت بشهر في جهينة} فقال هذا كتاب فلا يؤخذ به ويقدم عليه الرواية، قال له إسحاق بن راهويه: فقد كتب الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى المقوقس وإلى غيرهم يدعوهم إلى الله عز وجل فكانت حجة عليهم، إذاً فكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم حجة على من بلغه الكتاب فسكت الشافعي رحمه الله، قال العلماء: فرجع الشافعي إلى قول إسحاق بن راهويه، ورجع إسحاق بن راهويه إلى قول الشافعي. وهناك أمثلة عديدة طريفة لكن هذا مثال واحد، ليس قصدي الآن الحديث عن هذه المسألة الفقهية فهي مسألة جزئية، لكن أقصد أن ال الجزء: 143 ¦ الصفحة: 14 عدم وضوح المنهج عدم وضوح المنهج لدى كثير من الدعاة، فكثير من الدعاة يعتمدون على الحماس المجرد، وقد مر على الدعوة الإسلامية وقت غير قصير كان البارزون المتصدرون للدعوة أناس قد لا يكون لدى الواحد علماً شرعياً صحيحاً، ولا فقهاً عميقاً في الدين، لكن عنده عاطفة إسلامية وعنده حماس للدين، وهذه العاطفة والحماس أدت دورها -لا شك- في إحياء الإيمان في نفوس بعض الناس، وفي دعوتهم إلى الإسلام، وفي ردهم إلى الدين، لكن الناس لما رجعوا إلى الدين صاروا يريدون أن يعرفوا حدود ما أنزل الله إلى رسوله، يريدون أن يعرفوا تفاصيل الحلال والحرام، يريدون أن يعرفوا كل ما يتعلق بهذا الدين، فأصبحوا محتاجين إلى أن ينتقلوا من مجرد الحماس والعاطفة إلى منهج واضح مبني على أصول لا غبار عليها. 1- وضوح المنهج العقدي: لا بد من وضوح المنهج في مجال الاعتقاد بأن يكون الإنسان واضحاً في عقيدته، سواءً ما يتعلق من ذلك بتوحيد الربوبية وهو إفراد الله تبارك وتعالى بأفعاله، واعتقاد أن الله تبارك هو الخالق المالك المدبر، أو بتوحيد الألوهية وهو: توحيد الطلب والقصد وإفراده جل وعلا بأفعال العباد والتوجه بالعبادة لله تبارك وتعالى وحده، أو بتوحيد الأسماء والصفات وهو الإيمان بأسماء الله عز وجل وصفاته، كما أخبر الله عنها في كتابه، وكما أخبر عنها رسوله صلى الله عليه وسلم دون تحريفها أو تأويلها عن معانيها الحقيقية، وفي هذا توجد أخطاء عديدة. وبطبيعة الحال من الناس من لا يدرك هذه القضايا، فقد يكون داعية ومصلحاً في نظر الناس، لكنه لا يفهم توحيد الألوهية ولو سألته عنه لفسره بتوحيد الربوبية، ويوجد من الناس من لا يفرق بين هذه الأشياء، ويوجد من الناس من يؤول أسماء الله وصفاته، هذا كله لا شك موجود، وهو خطأ لا غبار عليه ولا شك فيه، لكن هناك أخطاء أخرى قد تلتبس عند كثير من الناس، وهي التي أريد أن أركز عليها الآن. من هذه الأخطاء: أن من الناس من يؤمن بهذه الأشياء، أو يملك نوعاً من الوضوح في عقيدته، لكنه لا يملك الحماس لهذه العقيدة، مثلاً قد تجد داعية صنف كتاباً في العقيدة الإسلامية، تقرأ في هذا الكتاب من أوله إلى آخره تجد أن الكتاب لا غبار عليه، يتحدث عن العقيدة الإسلامية، ويعرض العقيدة بأقسامها عرضاً صحيحاً، لكن حين تنتقل إلى واقع هذا الإنسان، وحياته لا تجد أن لهذه العقيدة تأثيراً في حياته، بمعنى أنه لم يعط هذا الجانب اهتماماً كافياً، فتجد أنه يعيش بين قبوريين مثلاً، يعيش بين خرافيين، يعيش بين صوفية، يعيش بين مؤولة والوضع عنده طبيعي، ويعتبر أن التركيز على مثل هذه القضايا، هو مدعاة لإثارة الخلاف وتفرق الصفوف ولذلك لا داعي للتركيز عليه، فيقع عند الناس التباس، فلان يا أخي كتابه جيد، صحيح أن كتابه جيد لا غبار عليه، لكن المشكلة أن واقع هذا الإنسان لم يصغ على أساس أنه يوالي في هذا المعتقد السلفي الذي التزمه. هذه نقطة وهي قضية مهمة وواقعة في كثير من الأحيان. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 143 ¦ الصفحة: 16 الإقبال على الكتب الفكرية الثقافية وإهمال العلم السؤال كثير من شباب الصحوة تكون قراءتهم قراءة منصبة على القراءة الفكرية على حساب كتب العقيدة والحديث والفقه، ولذلك نجد كثيراً من الشباب متكلماً طليقاً، أما من ناحية العلم الشرعي فإن حصيلته قليلة جداً، فهل من نصيحة لهؤلاء الشباب؟ الجواب نعم، مر وقت من الأوقات كان كثير من الناس ينطلقون من الحماس فحسب، وكانت بضاعتهم غالباً تتراوح بين الكتب الفكرية مثل كتابات حسن البنا وسيد قطب وأبي الأعلى المودودي وأبي الحسن الندوي وغيرها من الكتب التي عنيت ببيان القضايا العامة في الإسلام والمناهج الكلية، وهذه الكتب أدت دوراً في وقت من الأوقات، ولا زالت تؤدي دوراً معيناً لبعض الناس، لكن الشاب الذي اهتدى وتوجه عليه أن يحرص على تكوين علم شرعي صحيح، بمعرفة حقيقية بالحديث، بالفقه، بالكتاب والسنة حتى لا تكون القضية مقصورة على مجرد الحماس، فكونه خطيباً متحدثاً هذا لا يعني أنه يتحول إلى عالم، يجب التمييز بين متحدث وبين من عنده علم، يمكن أن يكون الإنسان خطيباً مؤثراً ولا يكون فقيهاً، وقد يكون فقيهاً عالماً ولا يكون خطيباً فلابد من التفريق بين هذا وهذا. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 17 أساليب الدعوة السؤال خرج أناس ملتزمون لكنهم يقولون لا داعي للمحاضرات وللتحدث في المساجد بحجة أن هذه الطريقة لا تنفع؟ الجواب هذه الطريقة تنفع لا شك، لكن نفع هذه الطريقة لا يعني الاستغناء عن غيرها، هذه الطريقة قد تخاطب فئة من الناس، هناك ناس لا يحضرون إلى المساجد في المحاضرات، يحتاجون إلى وسائل، والمفروض أن يعمل أهل الإسلام على إيصال صوت الحق إلى كل ناحية، الشباب المتجه إلى الخير يأتي حين يعلم أن هناك محاضرة، لكن جمهور الناس يأتي إلى الخطبة فقط، وهناك طبقة من الناس قد لا تحضر حتى للخطبة، فكلما أمكن أن نوصل صوت الحق إلى كل طبقات الناس رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، فجاراً وفاسقين وصالحين، كلما أمكن أن نوصل صوت الحق إلى كافة الطبقات كان هذا هو المتعين علينا. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 18 جيل الصحوة والجيل السابق السؤال ألا توافقني في أن هذه الصحوة جعلت هناك فجوة بين جيل الصحوة وأبناء الجيل السابق مما جعل الكبار ينالون من جيل الصحوة، وذلك في رأيي ناتج من الأسلوب الذي يتبعه جيل الصحوة وتحديد كبار السن لهذا الدين؟ الجواب هذا السبب يعود بلا شك إلى خطأ يرتكبه بعض الشباب وهو أنهم ينسون الطريقة المناسبة لمخاطبة من أمامهم، أحياناً قد يكون الشاب عنده علم ليس عند الكبير، فتجد هذا الشاب يخاطب الكبير بهذا العلم الذي عنده، كما يخاطب أحد زملائه، وهذا لا شك من عدم الفقه، لأن من الفهم والحكمة أن تعرف من تخاطب وما هو الأسلوب الصحيح الذي تخاطبه فيه. ولذلك يذكر أن الحسن والحسين رأيا رجلاً كبيراً يخطئ في الوضوء، فما أحبا أن يقولا له: أخطأت في الوضوء، والصفة الصحيحة كذا وكذا، فقال له أحدهما: اختلفت أنا وأخي في الوضوء ونريد أن نتوضأ لتحكم لنا، فتوضأ الأول ثم توضأ الآخر فقال: أصبتما وأخطأت أنا. بغض النظر القصة صحيحة أم لا المهم أنه بلا شك أن هناك وسائل كثيرة جداً، يستطيع الشاب أن يوصل فيها ما يريد إلى الكبار بأسلوب مناسب، فبدلاً من أن تقول الكلام من عندك لوالدك أو للرجل الكبير وتخبره بالحكم أو الطريقة هات كتاب من تأليف العالم الجليل فلان واقرأ عليه الكلام مرة ومرتين وثلاثاً، حتى يفهم أن هذا كلام ليس من عندك ولكنك أنت قرأته في هذا الكتاب عن هذا العالم فأوصلته إليه. فتتلطف في تعليم هذا الإنسان، فإن رأيت أنه لا يقبل منك، يمكن أن توصي إنساناً آخر يكون أكثر قدرة على مخاطبة هذا الإنسان، لأنه ليس المقصود أن تفرض شخصيتك وكلامك على هذا الإنسان، المقصود الوصول إلى الحق فإن أمكن فبها وإن أمكن عن طريق غيرك فهو كذلك. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 19 وسائل المنهج السليم السؤال ما هي الوسائل التي تجعل الشاب على منهج سليم؟ الجواب من أعظم الوسائل: التتلمذ، أن تختار لك الشيخ الذي تطمئن إلى علمه وفهمه وفقهه، وصلاحه وعقيدته واستقامته، وكذلك اختيار الكتاب الذي تقرأه، وكذلك من أهم الوسائل: مراجعة الإنسان لسيرته بين الحين والحين ارجع إلى الوراء وفكر في أعمالك وخطواتك والأوضاع التي أنت عليها، والتصرفات التي قمت بها، اعمل تنقية من جديد حتى تستطيع أن تكتشف الخطأ بنفسك، إضافة إلى مسألة المناصحة التي مرت الإشارة إليها. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 20 الغاية والوسيلة واختلاف الفهم السؤال إنها حيرة واختلاف في الفهم، إنه يوجد بين شباب الصحوة من يتنازل عن بعض الواجبات الإسلامية فيقع أحياناً في بعض المحظورات الشرعية كتخفيفٍ اللحية أو حلقها، والرضا بالعمل والاختلاط بالنساء في بعض الشركات والمؤسسات وغير ذلك، وعندما ينبه إلى ذلك يقول: أنه لا بد من المكر والكيد مع من يكيد للإسلام ما دام الأمر أنه ليس في أيدينا حتى نصل إلى المناصب والثغرات القيادية فنؤثر ونغير الواقع، فهل هذا الفعل يجوز؟ وما معنى القاعدة التي تقول: الغاية لا تبرر الوسيلة مع التدليل على هذه القاعدة؟ الجواب لا شك أن الغاية والوسيلة، فكما أن الغاية شريفة لابد أن تكون الوسيلة إلى هذه الغاية شريفة، وكون هناك طبقة من الشباب اليوم تجد الواحد منهم يحلق لحيته أو يخففها مثلاً ويطيل ثوبه ويتظاهر بأنه غير متمسك بالإسلام من أجل أن يصل إلى بعض الناس، فهذا نوع من التنازل غير حميد، وإذا كنت تريد أن تدعو هؤلاء الناس، فمن غير المعقول أنك ستدعوهم يوماً من الأيام إلى هذه الواجبات الشرعية وأنت مقصرٌ فيها. إضافة إلى أننا وجدنا من يتحججون بهذه الحجة، وجدنا أنهم في الواقع ما استطاعوا أن يصلوا إلى شيء، في الوقت الذي كان الذي يتمسك بالإسلام كله جملة وتفصيلاً ولا يتنازل عن شيء منه في قضاياه وأموره الشخصية وغيرها؛ وجدنا أنهم هم الذين استطاعوا فعلاً أن يوصلوا الإسلام إلى الناس في أفعالهم وأقوالهم وشخصياتهم، فالإنسان الجاد في أمر تجده جاداً في كل أمر، جاد في تطبيق الإسلام في نفسه وفي بيته وفي مجتمعه، والإنسان الذي يكون متسامحاً ويبحث عن الرخص والمعاذير، وعن المسوغات التي يتحجج بها لترك أمر الله ورسوله تجد أنه لم يقم بشيء يذكر؛ لا في نفسه ولا في بيته ولا في مجتمعه، فحين تأتي إلى بيت هذا الإنسان تجد فيه منكرات كثيرة لم يغيرها من سنين، تجد في مدرسته أو في مجتمعه ما أحدث أي تغيير، فالقضية أحياناً مجرد مسوغ يلقي به هذا الشاب حتى يتخلص من العتاب الذي يمكن أن يوجه إليه، وهناك فرق لا شك بين هذا وبين التدرج في إنكار المنكر بضمان زوال منكرٍ قائمٍ موجود. ويحرص على أن يكون في خلوته مع الله عز وجل في اتقاء المنكرات والصدق والإخلاص بالمنزلة، الرفيعة والداعية عليه أن يدرك أن هذه ضمانة لاستمراره، لأن الإنسان الذي تظاهر بشيء وهو على خلافه لا يمكن أن يستمر، لكن ينبغي أن نفرق أيضاً بين هذا وبين كون الداعية أحياناً يدعو إلى أمر من الأمور ويعمل على إصلاحه، وربما يكون في داخله تقصير لا يعلمه الناس، هذا التقصير لا يجوز أن يمنعه من الجهاد في الواقع، بمعنى أن الإنسان الواقع في المنكر يجب عليه أن ينكر حتى هذا المنكر الذي هو واقع فيه، والإنسان التارك للمعروف يجب أن يأمر حتى بهذا المعروف الذي تركه، وإلا غير معقول أنه نكون كما يقال: (حشفاً وسوء كيلة) ما دام أنت واقع في منكر لا تنهى عنه، ومادام أنت تارك للمعروف لا تأمر به، هذا غير معقول، بل يجب حتى على من يقع في المنكر أن ينهى عنه، ولذلك قال بعض الأصوليين: واجب على من يتعاطى الكؤوس أن ينهى بعضهم بعضاً. ولو لم يعظ في الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمدِ لكن الأكمل والأمر الذي يجعل الناس يتقبلون منك هو أن تكون أنت أول الممتثلين، ولذلك كان منهج الأنبياء وهديهم كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] . الحديث في هذه المسألة يطول كما سبق وأن أشرت إليه في أكثر من مناسبة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 21 شروط الداعية السؤال ما هي شروط من يريد الدعوة إلى الله عز وجل في هذه الأيام؟ الجواب شروط من يريد الدعوة إلى الله عز وجل في هذه الأيام، أولاً: أن يكون عالماً بما يدعو إليه، لئلا يدعو إلى خطأ يظنه صواباً، وهو خطأ، أو بدعة يظنها سنةً. الأمر الثاني: أن يدعو بالحكمة والموعظة الحسنة والأسلوب المناسب، بحيث يستطيع أنه يحقق بدعوته المصلحة المرجوة من خلال هذه الدعوة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 22 طاعة الوالد في الكف عن الدعوة السؤال هل أطيع والدي إذا نهاني عن دعوة غيري إلى الله عز وجل فهو يقول لي: لا تتدخل في غيرك؟ الجواب كلا لا تطعه، فالدعوة إلى الله عز وجل واجب، وليس من حق أبيك أو غيرك أن يلغي هذا الواجب عنك، ولكن لا يعني هذا أيضاً أن تخاطب والدك بأن تقول: سوف أعصيك وآمر شئت أم أبيت أو ما شابه ذلك، تلطف مع والدك ودم على ما أنت عليه بواجب الدعوة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 23 الجهاد في الأفغان دون إذن الوالد السؤال هل يجوز لي الذهاب إلى أفغانستان بدون استئذان والدي؟ الجواب لا يجوز لك الذهاب إلى أفغانستان، إلا بإذن ورضاء والديك. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 24 توجيه للشباب السؤال أرجو تقديم نصيحة للشباب الذين دخلوا عن قريب في الخير والصحوة الإسلامية ليحصلوا على بشائر هذه الصحوة ويتجنبوا محاذيرها؟ الجواب هؤلاء الشباب وضعوا أقدامهم في بداية الطريق ونقول: هنيئاً لكم ما خصكم الله تعالى به، وما قادكم إليه من هذا الخير، ونقول لهم: إن هذه البداية تحتاج إلى أن تواصلوا السير في هذا الطريق الذي بدأتموه، إنكم أيها الشباب لا تستطيعون أن تسيروا بمفردكم إلا أن تحاولوا أن تبحثوا عن إخوة لكم تصطفونهم كأصدقاء يعينونكم على متاعب هذا الطريق. فإن الإنسان إذا كان مفرداً قد يتخطفه الشيطان، إن الإنسان لا يستطيع أن يعيش مفرداً، بل لا بد له من أصدقاء، ولذلك فعليه أن يبحث عن الأصدقاء الصالحين الذين يعينونه على هذا الطريق ويثبتونه عليه. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 25 الأصدقاء الصالحون والوالد المتساهل السؤال أنا شاب أعاشر شباباً طيبين، وأبي كثيراً ما يتكلم عليهم ويذكرهم بسوء ويستهزئ بأشكالهم، ويؤيد العلماء المبتدعين في تحليل الغناء، فماذا أقول؟ أجيبوني جزاكم الله خيراً؟ الجواب عليك بوعظ والدك، وسعة البال معه وطول النفس، تلطف مع الوالد ومع ذلك ناقشه في بعض الأشياء التي يقولها، إذا تحدث عن بعض المظاهر الطيبة عند إخوانك الطيبين، ذكره بأن هذه سنن مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن حصل منه تقصير فيها فعسى الله أن يهديه ليقوم بتلافيها، وحاول أن لا تستفزه أو تستثيره بحيث أنه ربما يخرج منه كلمات تكون قاسية وشديدة، وربما تكون سبباً في خروجه من الإسلام كما يقع لبعض الشباب الذين يحاولون أن يصادموا أهاليهم أو غيرهم مما يسمعون من كلمات؛ فيكون نتيجة الصدام أنهم يجرون هذا الإنسان ويستفزونه بالوقوع في كلمات نابية وخطيرة، حاول أن تتلطف في الموقف، تتحدث بهدوء، لا تنفعل، وكذلك فيما يتعلق بالبدع التي تنقلها عنه تبين له وجه الحق فيها بقدر ما تستطيع بنفسك أو بغيرك إن استطعت. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 26 قلب مفعم بحب الشهادة السؤال أنا موظف حكومي ولدي طفل وطفلة وأنا وزوجتي نتمنى الشهادة، أنا في حيرة من أمري هل أفصل وأجعل أطفالي عند أهلها وأذهب أنا وزوجتي إلى أرض الجهاد في أفغانستان أم أبقى كما أنا، وكيف أحوز على درجة الشهادة وأنا هنا، نورني وأرشدني إلى الطريق الصحيح جزاك الله خيراً؟ الجواب أولاً هذه فضيلة كبيرة -نسأل الله عز وجل أن يكتبها في ميزان حسناتك وحسناتها- فإن من تمنى الشهادة قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح {من سأل الله الشهادة صادقاً بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} أما فيما يتعلق بمسألة أطفالكم ومسألة الذهاب إلى أفغانستان فأرى أن تبقى أنت وزوجتك وأطفالكم وأن تحرص على بناء البيت المسلم، وعلى تربية هؤلاء الأطفال لعله أن يخرج من بينهم من يجدد لنا سيرة خالد بن الوليد والقعقاع والنعمان بن مقرن وصلاح الدين وغيرهم من أبطال الإسلام، أو سير العلماء الذين جددوا لهذه الأمة أمر دينها في مجال العلم والتعليم، وإذا استطعتما أن تصلا أمر المجاهدين بوسيلة ما فعليكما بذلك. فمثلاً دعم المجاهدين بالأمور المالية كأن تعطيهما شيئاً من راتبك أو من راتب زوجتك مثلاً، الدعاء للمجاهدين بالنصر والتمكين، محاولة الدفاع عن المجاهدين وعن قضاياهم، وتبني قضيتهم من الناحية الإعلامية، إلى غير ذلك من الوسائل الممكنة حتى المناصحة، مراسلتهم ومناصحتهم بجمع الكلمة والوحدة وتجنب المعصية، وغير ذلك من الأمور التي لا شك أن كل مجاهد بحاجة إليها. وإذا استطعت أن تذهب بين حينٍ وآخر للجهاد لمساعدتهم فافعل فربما يرزقك الله الشهادة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 27 أفضل المذاهب السؤال ما هو أفضل المذاهب الأربعة؟ الجواب كلها أفضل، فالمذاهب الأربعة هي مذاهب إسلامية أئمتها متبعون، لكن الحق ليس محصوراً في مذهب من هذه المذاهب، وليس هناك واحد أفضل من الآخر بحيث نقول الشافعي أفضل من أبي حنيفة، أو مالك أفضل من أحمد، ولكن هناك مسائل الحق فيها مثلاً مع هذا المذهب، ومسائل أخرى الحق مع مذهبٍ آخر بحيث أن الحق ليس محصوراً في واحد من هذه المذاهب، ومن قال: إن الحق منحصر في مذهب من هذه المذاهب فهو مبتدع وضال وقال بقولٍ لم يسبق إليه، فالحق إن أجمع العلماء على أمر فالحق معهم لا شك، وإن اختلفوا فالحق مشاع بينهم، بمعنى أن هناك مسائل الحق فيها مع أبي حنيفة، وأخرى الحق فيها مع مالك، وأخرى الحق فيها مع الشافعي، ورابعة الحق فيها مع أحمد هذا إذا اختلفوا، وإذا اتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على أمر فإجماعهم حجة كما سلف. فليس الحق محصوراً في واحد منهم دون آخر، وكل إنسان متمذهب بمذهب لا نقول له بالضرورة أن تترك مذهباً وتنتقل إلى مذهب آخر، لكن نقول له: لا تتعصب لهذا المذهب، فإذا علمت أن الحق في غير المذهب في مسألة من المسائل فيجب عليك أن تنصاع لهذا الحق ولو كان خلاف مذهبك. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 28 جار نصح بالصلاة فلم ينتصح السؤال لنا جار لا يؤدي الصلاة في المسجد، وقد نصحناه بكل الطرق، وهو يقول: إذا تزوجت سوف أصلي في المسجد؟ الجواب عذر أقبح من فعل. السؤال الثاني: وقد وجه لنا الدعوة للحضور في زواجه ما هو الحل مع هذا الجار، وأنا أصبحت أقاطعه لا أسلم عليه لأنني حاولت معه بكل الطرق، فهل عليَّ حرام في هذا؟ وهل ألبي الدعوة جزاك الله خيراً؟ الجواب: أنت ذكرت أنه لا يصلي في المسجد وقد نصحته ووعد أنه سوف يصلي إذا تزوج، ومعنى ذلك أن هذا الإنسان قد يصلي في البيت، فالذي أراه أن لا تقاطع هذا الإنسان، وأن تسلم عليه، وأن تحرص على الجلوس معه أحياناً، فلا زال هناك إمكانية في استجابته، والواقع فعلاً أن بعض الناس بعد أن يتزوج تتغير أوضاعه، خاصة إذا وفق بامرأة فيها خير وفيها صلاح، ولذلك فإنه لربما تكون عوناً له على نفسه لو تلطفت معه، وحاولت أن تناصحه، ولا تيأس منه، لأنه ما دام أن هجره لا يفيد فيه، وربما يكون استمرار الصلة معه يدعوه مع طول الزمن إلى الحياء، وإلى قبول ما تقول، والاستجابة لك، فأنا أرى استمرار الصلة معه مع استمرار النصيحة خيرٌ من تركه وهجره ما دام أنه لم يثبت لديك أن هذا الإنسان تارك للصلاة بالكلية. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 29 ترشيد الصحوة عن طريق أئمة المساجد السؤال تحدثت عن أهمية ترشيد هذه الصحوة، ونحن نعلم أن ترشيدها يكون بوجود الإمام في المسجد الذي يوجه هؤلاء الشباب إلى كيفية فهم الكتاب والسنة علماً وعملاً، ونحن نعاني من التقصير من خريجي الكليات الشرعية وغيرهم في عدم إعطاء الدروس في الفقه والحديث والتفسير فنرجو توجيه كلمة لنا ولهم؟ الجواب صحيح، ولذلك من المهم على الشاب المتعلم بالعلم الشرعي، خريجي الكلية الشرعية أن يحرص على أن يؤدي دوره في هذا المجال، إمام المسجد -مثلاً- يجب أن يقوم بدروس للشباب الذين يصلون معه في المسجد، يجب أن تكون خطبة الجمعة موجهة وتكون وجبة لدعوة الناس وتوجيههم تجاه أمر من الأمور ورسم المنهج الصحيح لهم، لكن هل يتم القيام بهذا الأمر أو لا يتم؟ قد نرجع ونقول: إن المشكلة أحياناً مشكلة ندرة من يقوم بهذه الأشياء، وهذا يجعلني أؤكد مرة أخرى على ضرورة طلب العلم الشرعي لمن يجد في نفسه الكفاءة والحماس لذلك، بحيث على الأقل إن لم نحل هذه المشكلة حلاً نهائياً الآن فإننا نستطيع أن نحلها ولو بعد حين. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 30 الحسد بين الصالحين السؤال ما قولكم في الحسد بين الشباب الصالحين وكيف يكون علاجه؟ الجواب الحسد داءٌ عظيم أمر الله تعالى بالاستعاذة منه، وهو يوجد في بعض النفوس التي فيها ضعفٌ وشر، وخاصة بين الأقران الذين قد يفوق بعضهم بعضاً من الشباب وغيرهم، أما علاجه فمن شعر بشيء من ذلك فعليه أن يقاومه بكل وسيلة، الاستعاذة بالله كما أرشد الله عز وجل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:1-5] كذلك محاولة دفع هذا الأمر عن نفسه بكل وسيلة، الدعوة لهذا الإنسان الذي قد يشعر بالحسد تجاهه، الثناء عليه، تشجيعه على المجالات التي هو فيها، وبالمقابل فإن هذا الإنسان إذا لم يعمل هذا الحسد أثراً في نفسه ولم يستقر في قلبه، بل دفعه بقدر ما يستطيع فإن الله تبارك وتعالى ييسر له كافة هذا الأمر، وهذا أمر مجرب في الواقع، فلا تقبل أن تكون نداً لهذا الإنسان تتكلم فيه وتحاول النيل منه بكل وسيلة، وإذا جاءت فرصة تحاول أن تهون من قدره ومن شخصيته بحيث ينمو هذا الحسد وينبت في قلبك، لا، حاول العكس أن تقاوم هذا الشعور بأن تعمل ضد ذلك، فتثني على هذا الشخص وتدعو له وتبارك خطواته، حتى ترغم نفسك على أن تستسلم لهذا الأمر الواقع، وألا تنظر إليه على أنه ند إذا سبقك خطوة حسدته على ما أتاه الله من فضله. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 31 الصحوة والانحراف السؤال بعض الشباب الذين التزموا بالكتاب والسنة قد انحرفوا لسبب أو لآخر، فكيف يوفق بين أن الصحوة انتشرت وبين انحراف بعض الشباب الطيب؟ الجواب ليس هناك تعارض، الإسلام وجد بعد أن لم يكن موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام دعا هؤلاء الناس فأخرجهم من الجاهلية إلى الإسلام، ومع ذلك وجد من بينهم عدد قليل ارتدوا على أدبارهم، مثلاً ابن جحش الذي ارتد نصرانياً في الحبشة ومات فيها، الرجال بن عنفوة الذي تبع مسيلمة الكذاب، حالات معينة حصل فيها من بعض الذين أظهروا الإسلام ولما يدخل الإسلام في قلوبهم وجد عندهم ردة، لا يعني هذا أن الإسلام ما قام قياماً صحيحاً، بل قام الإسلام وزالت غربته وانتصر وعم الجزيرة كلها، فالصحوة الإسلامية موجودة، وهذا لا يعارض أن يوجد واحد أو اثنان أو عشرة من الشباب في بلادٍ شتى قد يحدث لهم ضعف أو تردد أو تأخر. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 32 حدود السنة السؤال يظن بعض الشباب الملتزم في بعض الأفعال التي يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم أنها سنة واردة عنه وهي ليست إلا من قبل العادات مثل لبس العمامة، وفتح أزارير الثوب حتى إني رأيت أحد الشباب يضع حذاءه تحت إبطيه ويأتي حافياً إلى المسجد فما رأيكم في هذا الأمر وما هي حدود السنة وحدود التقليد التي نستطيع أن نفرق بينها؟ الجواب نعم، هناك أشياء ليست بسنن وإنما هي عادات فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة ولم تكن شريعة يأمر بها صلى الله عليه وسلم أو يشرعها ويسنها على الناس، فمثلاً مسألة العمامة، العمامة كانت العرب تلبسها فلبسها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن يأمر بلبسها أو يحافظ عليها، بل لبسها أحياناً وخلعها أحياناً، ولذلك يتعبد الإنسان في الحج بأن يكشف رأسه ولا يغطيه، فليس لبس العمامة من قبيل السنن التي يحرص عليها. كذلك كون الإنسان يضع حذاءه تحت إبطيه، بطبيعة الحال الرسول عليه الصلاة والسلام، قال كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين أمر من أراد أن ينتعل أن يبدأ بالرجل اليمين، وإذا أراد أن يخلع يبدأ باليسار لتكون اليمنى أولهما تنعلاً وآخرهما خلعاً، فدل هذا على أن لبس النعل من الأمور الطيبة المحمودة التي يبدأ فيها باليمين، ولكن لا يمنع أن الإنسان يمشي حافياً أحياناً إذا لم يتيسر له النعل، فقد حدث هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كون النعل في إبطيه وهو يمشي حافياً، فلا أرى أن هذا من السنة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 33 مؤلفات الشيخ سلمان العودة السؤال هل لك شيء من المؤلفات؟ الجواب إنما هي رسائل يسيرة منها كتاب المسلمون بين التشديد والتيسير، ومنها رسالة نداء الفطرة، ومنها تحقيق كتاب اسمه التشيع والشيعة) ألفه عالم إيراني اسمه أحمد كسروي يرد فيه على دين الشيعة رداً علمياً منطقياً عقلياً، وقد دفع مؤلف هذا الكتاب حياته ثمناً لهذا الكتاب حيث اعتدى عليه الرافضة في الشارع وأردوه قتيلاً وصادروا كتابه وحاربوه بكل وسيلة، حتى لم ينتشر، وحققت مع أحد العلماء والمشايخ، ومنها كتاب الغرباء الأولون وقد قامت مكتبة ابن الجوزي بطباعته، وهو طريقة جديدة في دراسة السيرة النبوية، وأخيراً منها كتاب حوار هادئ مع محمد الغزالي وسينزل السوق قريباً إن شاء الله. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 34 اسم رسالة الماجستير والدكتوراة للشيخ العودة السؤال ما اسم رسالة الماجستير، ورسالة الدكتوراه؟ الجواب رسالة الماجستير عنوانها: غربة الإسلام وأحكامها في ضوء السنة المطهرة. ورسالة الدكتوراه عنوانها: أحاديث التشبه جمع ودراسة وتحقيق. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 35 كتب تقرأ في العطلة السؤال ما هي الكتب التي تنصح بقراءتها في هذه العطلة الطويلة؟ الجواب الكتب كثيرة والإجازة ينبغي أن يستفيد الشاب منها ويستثمرها، وأقترح أن يقوم الشاب أولاً بمحاولة ولو أن يحفظ شيئاً من القرآن الكريم، وكذلك يحاول أن يقرأ كتاباً ولو مختصراً في التفسير، سواء قرأ تفسير ابن كثير أو عمدة التفسير لـ أحمد محمد شاكر، أو نحوهما من المختصرات، وكذلك يقرأ كتاباً أو أكثر في السنة النبوية وأرشح كتاب رياض الصالحين، وكذلك كتاب جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي، إضافة إلى أن يقرأ شرحاً لبعض الكتب المتعلقة بالأحكام التي يحتاجها مثل أحكام الطهارة أو أحكام الصلاة في كتابٍ مستقل أو في أحد الكتب المشهورة كتاب نيل الأوطار مثلاً، أو صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، أو غيرهما، وكذلك يقرأ في بعض الكتب المتعلقة في إيضاح العقيدة الصحيحة، أقل ما يمكن أن يقرأ كتاب العقيدة الواسطية، أو كتاب التوحيد أو أحد شروحه للشيخ محمد بن عبد الوهاب وشروح لبعض تلاميذه وأحفاده، ممكن أن يقرأ كتاباً في الثقافة الإسلامية العامة، كذلك المرأة هناك كتب مخصصة لمعالجة قضايا المرأة، وهي كثيرة معروفة. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 36 المراكز الصيفية السؤال ما رأيكم في المراكز الصيفية؟ وهل تحثون الشباب على الالتحاق بها، وهل بها مساوئ؟ الجواب أما المساوئ فلا أعتقد أن هناك عملاً إلا وفيه بعض المساوي قلَّتْ أو كثرت. بالنسبة للمراكز الصيفية أرى أنها مناسبة لطبقة من الشباب، ممن ربما لو لم يشترك في هذه المراكز لضاع عليه كثير من الوقت، وكذلك من الشباب الذين لهم دور في التوجيه؛ لأن المراكز يقبل عليها عدد كبير من الشباب فيحتاجون إلى من يقوم بتوجيههم وإرشادهم، ولو لم يوجد هؤلاء الموجهون والمرشدون ربما لم يستفد من هذه المراكز، لكن هناك إنسان يقول أنا والله مشغول مثلاً بأعمال طيبة، بطلب علم، بأمور خيرية، بدعوة إلى الله عز وجل في كلٍ خير، والإنسان يمكن أن يشارك بأكثر من ميدان بحسب ما تتحمل طاقته، ليس من الضروري أن يكون كل إنسان مشتركاً مثلاً في المركز الصيفي، كما أنه ينبغي على الشباب ألا يبتعدوا عن المراكز الصيفية، من خلال مشاهدتي لعدد من المراكز في زيارتها لاحظت أن فيها خيراً، فيها أنشطة مفيدة، فيها ترفيه، فيها فرصة للتعارف بين الشباب وإيجاد صداقات طيبة، فيها موجهون صالحون، فينبغي الاستفادة من هذه المجالات. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 37 أهمية التواصي السؤال أرغب أن تبين للشباب أهمية التواصي والسؤال فيما بينهم؟ الجواب التواصي من صفات المؤمنين الذين حكم الله عز وجل لهم بالنجاة قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والإنسان ضعيف بنفسه قويٌ بإخوانه، ولذلك على الإنسان أن يتخذ له أخاً يصطفيه، ويكون فيما بينهم أخوة ومناصحة، كما أن عليه أن يناصح إخوانه المؤمنين عموماً فيما يرى عليهم من أخطاء، وينصحهم في الله عز وجل وهذا كان سمتاً يتحلى به السلف الصالح رضوان الله عليهم. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 38 الرد على المتعالين السؤال لقد تطفل على الإسلام كثيرٌ من الناس الذين اندسوا فيه وأصبحوا فيما بعد أعلاماً يعرف الإسلام بهم لدى الطبقات المتوسطة في معرفتهم بالإسلام، فما هي الطريقة المثلى لرد عدوان مثل هؤلاء المتعالمين بشتى أنواعهم سواءً المنحرفين في مجال العقيدة أو الفقه أو غيرها وجزاك الله خيراً؟ الجواب المصيبة أيها الإخوة أن أجهزة الإعلام اليوم أصبحت هي التي تحدد أفكار الناس وتتحكم في عقولهم حتى في القضايا الإسلامية، فالناس بل كثيرٌ منهم أصبحت معرفتهم بالشخصيات من خلال أجهزة الإعلام فإذا رضيت أجهزة الإعلام العالمية، وفي العالم الإسلامي أيضاً عن أشخاص أو شخص أبرزته بالصورة التي تجعل الناس ينظرون إليه على أنه شخصية لها قيمتها ومكانتها، وإذا سخطت عن شخص فإنها تكتفي بأن تتجاهله حتى لا يكاد يعرفه أحد، وهذه مصيبة تؤكد على غفلة المسلمين عن أجهزة الإعلام، وأهمية أن يوجد للمسلمين مشاركة حقيقية في هذه الأجهزة وأن يوجد لهم جهود إعلامية تضمن ظهور العلماء الحقيقيين واشتهارهم ووصولهم إلى الناس في كل مكان، بحيث لا يكون الناس تحت سيطرة ورحمة هذه الأجهزة المنحرفة، التي قد تظهر الأشخاص الذين يتميزون بما يمكن أن نسميه بمرونة وبمجاراة الناس في إعطاء أحكام ميسرة فيما يزعمون، وتناسب رغبات وأمزجة ومطالب أولئك القائمين على تلك الأجهزة والوسائل، وعلى العلماء -على كل حال- أن يقوموا بدورهم في إيضاح الحق بالوسيلة التي يستطيعون، والله عز وجل يقيض للحق من يقبله مهما كان هناك ضجيج وصراخ، ووسائل الباطل كثيرة، فإن ذلك الحق له جاذبية وله قوة، والقلوب تهفو إليه وتتطلع إليه مهما كان الإنسان أحياناً يحاول أن يتهرب منه. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 39 الوقوع في بعض الشهوات السؤال أنا شاب ملتزم، والشباب المحيط بي ملتزم لكن عندما أكون في بيتنا في أهلي أسمع أغاني في التلفاز وأحرص على أن لا يعرف ذلك أحد، هل هذا نفاق؟ وهل أستتر مع محاولة معالجة تلك المشكلة؟ الجواب أما أن هذا كونه نفاقاً فلا أعتقد أن هذا نفاق ما دمت تدرك أن هذا خطأ وتعمل على التخلص من هذه المشكلة، ولكن هذا يدل على أنك تحس أنك في خطأ، ومن الطبيعي أن الإنسان المخطئ لا يحب أن يعرف الناس خطأه، ولا يشرع له أن يشهر خطأه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم {كل أمتي معافى إلا المجاهرين} فالذي يعمل العمل بالليل ويصبح يقول فعلت كذا وفعلت كذا، ارتكب جرماً مضاعفاً، ولذلك توعده النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يعافى في هذا الحديث، أما طريقة العلاج فصحبة هؤلاء الشباب أمرٌ طيب، وعليك أن تستعين بالقرآن الكريم، لأن القلب مثل الوعاء إذا ملأته بمادة طيبة أصبح غير قابل للمواد السيئة، وإذا ملأته بمادة سيئة فإنه غير قابل للأشياء الطيبة، ولذلك الإنسان الذي يتلذذ بالغناء ويكثر من سماعه ربما لا يجد لذة في القرآن الكريم، يقول الإمام ابن القيم: حب الكتاب وحب ألحان الغنا في قلبٍ عبدٍ ليس يجتمعان وعلى الأخ أن يشغل قلبه بالقرآن الكريم ويكثر من سماعه وقراءته وترتيله وحفظه وتفسيره ويعوضه الله تبارك وتعالى عن هذه الأشياء الهابطة التي يسمعها. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 40 الدعاة بين التفاؤل والتشاؤم السؤال ينحو بعض المصلحين والدعاة منحى التفاؤل والنظر إلى إيجابيات المجتمع في الأمة، وينحو بعضٌ آخر منهم إلى إبراز المظاهر السلبية في المجتمع، وما أكثرها! وحجة الفريق الأول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب الفأل، وحجة الثاني أنه يجب عدم الغفلة عن الواقع، ودس الرءوس في التراب، أرجو منكم التحدث حول هذا الموضوع؟ الجواب يقولون في المثل أنه لو وجد اثنان، ووضع أمامهم كأس فيه ماء إلى نصفه، فإن الإنسان المتفائل منهم يقول هذا الكأس نصفه ملآن، والآخر يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، وكل واحد منهم ذكر نصف الحقيقة، فنحن نقول: المتفائلون الذين يتحدثون عن مظاهر الإيجابية ذكروا نصف الحقيقة، والمتشائمون ذكروا النصف الآخر والمعتدلون هم الذين يذكرون النصفين معاً، فلا يغفل عن المظاهر السلبية انشغالاً بالحديث عن المظاهر الإيجابية، ولكن هذا الحديث له ضوابط، الحديث عن المظاهر السلبية له ضوابط: الضابط الأول: ألا تكون الشهوة في نفس الإنسان، فإن بعض الناس يكون عنده مرض في قلبه والعياذ بالله يجعله يرتاح للحديث عن السلبيات، وإذا جلس معك قال: يا أخي في مكان كذا حدث كذا، وعلى شاطئ البحر كذا، وفي السوق رأيت كذا ويبدأ يسرد لك سلسلة طويلة عريضة، وهذا ينظر بعين سوداء، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: {من قال هلك الناس فهو أهلكهم} أي: من قال على سبيل التقنيط والتيئيس والمبالغات في ذكر المنكرات، وهذا أمر مشهود أن بعض الناس يكون عنده مرض في قلبه، بل إن بعضهم وإن كان يذكرها على سبيل الألم إلا أن في قلبه شيئاً من اللذة بها، خاصة إذا كانت منكرات أخلاقية. الضابط الآخر: أن ذكر الإنسان لهذه السلبيات يجب أن لا يكون مع التيئيس والتقنيط بمعنى أنه يذكر السلبيات للعمل على إزالتها، لكن حين ينظر إلى المستقبل يجب أن ينظر بتفاؤل، يجب أن يكون عنده ثقة بوعد الله عز وجل، لأن هذا التفاؤل هو الحادي الذي يحدو الإنسان للعمل، فإن الإنسان إذا يئس وقنط لا يعمل شيئاً، لكن إذا كان عنده تفاؤل وطموح، وتطلع؛ فإن هذا يكون دافعاً له إلى أن يعمل الكثير. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 41 انتشار الفساد مع وجود الصحوة السؤال تتحدث عن الصحوة الإسلامية بأسلوب يوحي بأنها الوحيدة على الساحة، مع العلم بأن الفساد الاجتماعي والفكري والإعلامي يسير بجانب الصحوة جنباً إلى جنب كفرسي رهان، بل إنه يسبقها أحياناً في بعض المجالات، وهذا يراه رجل الشارع العادي في الأسواق والأماكن العامة، إلى أي شيء تعزون هذا الانفتاح الفاسد في المجتمع جنباً إلى جنب مع العودة الأصلية إلى دين الله عز وجل وجزاكم الله خيراً؟ الجواب صحيح أن الفساد الأخلاقي والاجتماعي والإعلامي وغيرها من ألوان المفاسد هي الأخرى موجودة، ونحن حين نتحدث عن الصحوة الإسلامية لا نعني أن الأمة أصبحت كلها تحت راية هذه الصحوة إنما طوائف من هذه الأمة، أصبحت الأمة، ممثلة في جيلٍ منها تتجه في الوقت الذي كثير من الناس يشاهدون مظاهر الفساد ولا يشاهدون في مقابله مظاهر الخير والصلاح، وهناك جزء من هذا الموضوع سأشير إليه غداً إن شاء الله في المحاضرة التي هي بعنوان (الصراع بين الحق والباطل) وهو باختصار أن الوضع الذي وجد اليوم سيسير بالمجتمعات الإسلامية إلى النهاية تقول: لا مكان لأحد في الوسط، لا يوجد مكان في الوسط، أنت الآن بين طريقين، إما أن تسلك طريق الخير والحق والاستقامة، أو طريق الفساد والانحراف، في الماضي كان معظم الناس ربما في الوسط، إذا جئت إلى مجال الخير والعلم والدعوة لا تجد إلا القليل، وكذلك إذا جئت إلى مجال الشر والفساد الخلقي والفكري قد لا تجد إلا القليل، هذا في وقتٍ مضى، الآن المجتمعات تسير إلى صورة أنها تتميز إلى مجتمع إيمان لا نفاق فيه، ومجتمع نفاق لا إيمان فيه. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 42 توجيه للنساء المصلحات السؤال لا شك أن المرأة في الوقت الحاضر لها دورٌ كبير في توجيه الصحوة الإسلامية، فما توجيه الشيخ لهؤلاء النساء وخاصة المصلحات؟ الجواب نعم المرأة كما يقول فيها حافظ إبراهيم: الأم مدرسةٌ إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاق المرأة ربما نقول إنها حجز الزاوية في الإصلاح، لأسباب منها: أننا نجد الآن أن المرأة هي أعظم وسيلة هدم يستخدمها الأعداء، اليهود وغيرهم من المفسدين يحاولون أن يلقوا بشباكهم لاصطياد المرأة المسلمة، لأنهم يدركون أنه إذا فسدت المرأة فإن من الصعب على الرجل أن يستقيم، وبإمكانهم من خلال وقوع المرأة في أيديهم أن يفسدوا بها أجيالاً من الشباب، وهذا أمر مشاهد وملحوظ، ولذلك فالعكس بالعكس استقامة المرأة وصلاحها يؤدي إلى نتيجة إيجابية وعظيمة في قوة الصحوة الإسلامية. دعم المرأة لزوجها وكونها تقف وراءه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قيض الله له امرأة تقول له في أول موقف يواجهه: {أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق} المسلمة الداعية تكون خلف زوجها تؤيده، وتسدده، وتسد غيبته. دورها في تربية أطفالها؛ لأن الأطفال هم جيل المستقبل، ومن الخطأ أن نعتبر أن الأطفال أمر لا نتحدث عنه، الأمم الغربية أصبحت تعتني لا أقول بالأطفال، بل تعتني بالأجنة في بطون أمهاتهم، تعليم الأجنة، فما بالك بالأطفال، اليوم تجده طفلاً، وبعد سنوات أصبح رجلاً. الأمر الثالث: دور المرأة المسلمة مع زميلاتها، سواء بالقدوة الحسنة، في شكلها، في سلوكها، في أخلاقها أو بالدعوة من خلال وسائل كثيرة معروفة، هذا كله واجب ملقى على عاتق المرأة، ولا شك أن المصلحين الآن يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً مما يدور في عالم النساء، لأننا نجد بلا شك أن الشاب لديه فرص كثيرة للتعلم من خلال المسجد والمدرسة والمركز، ووسائل كثيرة جداً؛ لكن المرأة ليس هناك نفس الوسائل، وبالمقابل هناك كيد مسخر لإفساد المرأة من خلال أجهزة ووسائل كثيرة، فهناك خطر محدق فيما يتعلق بالمرأة، والواجب على الأخوات المؤمنات واجبٌ مضاعف. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 43 الداعية وبيئة المنكر والرذيلة السؤال إلى أي حد يجوز لشباب الصحوة مخالطة بيئات المنكر؟ وهل يجوز لهم أن يبقوا في مثل هذه البيئات، حتى وإن لم يلاحظوا تغيراً يذكر؟ وهل هناك فرق بين الدعاة وبين غيرهم ممن يحاولون الالتزام بالشرع المطهر قدر الإمكان؟ وهل يجوز للمسلم مخاطبة المسلمة المتبرجة والتي تعمل معه في الشركة أمراً بالمعروف ونهياً عن منكر أرجو منكم التفصيل وجزاكم الله خيراً؟ الجواب مخالطة هذه البيئات بغرض إصلاحها أمرٌ مطلوب، لأن المصلح بطبيعة الحال لن يصلح هذه البيئات وهو من خارجها، وكون الإنسان في هذه البيئة قادراً على أن يقلص المنكر، فبدلاً من أن يكون المنكر (40%) وبسبب وجودك خفَّ مبدئياً إلى نسبة (30%) وأنت تطمع أنه خلال فترة سينقص إلى نسبة (20%) هذا عمل طيب تقوم به وبهذه الطريقة يحصل زوال المنكر، هذا جانب. الأمر الثاني: أنك خلال وجودك لن يكون وجودك سلبياً بطبيعة الحال، فحتى المنكرات التي لم تزل أنت لم تقر هذه المنكرات أو ترض بها، وإنما أنت تنكرها بقلبك من جهة وتفكر ما هي الوسيلة لتغيير هذه المنكرات وإزالتها بالطريقة التي تحقق المصلحة من جهة أخرى. بالنسبة للمرأة المتبرجة يجب على من رآها أن يخاطبها بأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وبيان الأدلة لها في ذلك، إذا لم يخاطبها أو رأى في خطابها ما يريب فإنه يستطيع أن ينكر عليها، سواء بواسطة الهاتف أو بواسطة كتاب، أو بواسطة شريط يوصله إليها ليكون في ذلك بيان أن ما هي عليه حرام ولا يرضي الله ورسوله. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 44 حكم المتمسكين بالأخطاء السؤال من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن هناك نوعية من الأشخاص يصرون على تمسكهم بالمفاهيم الخاطئة ولو حاولت معهم بجميع الوسائل وجميع الطرق، ويبقى متمسكاً بمبدئه تمسكاً كبيراً، فهل يترك أم ماذا أفعل معه؟ الجواب لا يترك ما دام أن هذا الأمر الذي يتمسك به ليس انحرافاً يدعو إلى هجرانه وتركه ومباعدته، فالأولى أن تستمر معه وتبذل معه الوسائل الممكنة، اللهم إلا إن كنت تعتقد أن هجرانك له وتركك له قد يؤدي إلى أن يعيد النظر في هذا الأمر، فإن مسألة الهجر من المسائل الخاضعة للمصلحة، فأنت لو رأيت أن في هجرك لإنسان مدعاة إلى أن يترك ما هو عليه فاهجره في الله، لكن لو رأيت أن هجرك له قد يدعوه إلى الوقوع في منكر آخر فلا يجوز لك أن تهجره في هذه الحال. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 45 العلماء بين القيادة والتشنيع السؤال لا شك أن للعلماء فضلهم وقدرهم من التقدير، ولكن الساحة الإسلامية تحتاج إلى العلماء لكي يقوموا بتوجيه الصحوة وقيادتها وعدم تركها لأناس متحمسين، في المقابل للأسف نرى من البعض النيل من العلماء ورميهم بالتبديع والإحداث والخطأ، ثم يكيل لهم العديد من ذلك والأخذ من أعراضهم، فأرجو تقديم نصيحة إلى الشباب؟ الجواب بالنسبة لما يتعلق بالعلماء: العلماء لهم مكانتهم وهم قادة الموكب المسلم، ولذلك فإن النيل منهم لا يجوز، والذب عنهم واجب ممن يسمع أحداً يتعرض لهؤلاء العلماء بسوء، ونقول ما ينسب إلى هؤلاء العلماء من خطأ فبعضه مكذوب والبعض الذي يمكن أن يصح منه فنقول: إن كان فيهم خطأ فغيرهم أكثر خطأً، فلماذا يركز البعض على أخطاء هؤلاء إن صح أنها أخطاء ولا أبرئ أحداً فليس أحدٌ من البشر معصوماً إلا الأنبياء، لكن أقصد أن من الناس من ينسب إليهم أموراً يعتقد أنها أخطاء وهي في الواقع ليست بأخطاء، ومنهم من يتهمهم بالتقصير وهو لا يدري ما هو الجهد الذي يقومون به. على كل حال مسألة التقصير واردة، ولا أقول التقصير فقط، بل إنني أقول: إن القضية قضية ندرة في العلماء، الوضع الذي نعانيه الآن -أيها الشباب- هو ندرة العلماء الشرعيين، بحيث أن الحمل أصبح في عدد من العلماء يعدون على أصابع اليدين أو يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً، والحمل ثقيل، والسبب في ذلك ندرة العلماء المخلصين المتمسكين بالكتاب والسنة، وهذا يوجب علينا أن ينبري من بيننا من يعتقد في نفسه القدرة والكفاءة بتعلم العلم الشرعي والتفرغ لهذا العلم والعناية به حتى يسد هذا الفراغ ويحل مشكلة هذه الأمة ولو في المستقبل، فليس كل المشكلات تحل اليوم، ولو نجد بعد عشر سنين أو بعد خمس عشرة سنة مجموعة من الشباب تفرغوا للعلم وأصبحوا يسدون هذا الأمر ويلبون حاجة الأمة في الفتيا والتعليم وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 46 التجديد في العمل السؤال إن القرون الذين خلوا كانوا يضعون مجدداً في الفقه والحديث ثم ذكرت العمل، فكيف يكون التجديد في العمل؟ الجواب أعني أن المجدد يكون في مجال معين، فمثلاً في ميدان الجهاد قد يوجد إنسان متخصص في هذا الأمر أكثر من غيره، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجد شخصاً آخر، في ميدان العلوم الشرعية تجد فيها أو في بعضها مجدداً يختلف عن غيره وهكذا. الجزء: 143 ¦ الصفحة: 47 الإسلام قدر الله تعالى في الجزيرة الجزيرة العربية هي مهبط الوحي وبلد النبي الخاتم ولها ميزات ميزها الله بها، ومن ذلك ما جاء في الأحاديث وما فيها من الدعوات التجديدية والعقيدة الصحيحة تجد هذا موضحاً في هذا الدرس. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 1 أهمية جزيرة العرب الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: أيها المسلمون والمسلمات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إخواني: إن هذه الجزيرة المباركة التي اختصها الله تبارك وتعالى واختارها، تتعرض -منذ فجر الإسلام وإلى قيام الساعة- إلى شتى الحملات، والمؤامرات من أعداء الإسلام، على اختلاف مشاربهم ومللهم ونحلهم، ما بين مؤامرات وحروب عسكرية طالما أقضَّت مضاجع المؤمنين، وما بين حروب وحملات فكرية تحاول أن تجتاح الإسلام في هذا البلد المبارك، وأهل الإسلام وجيران بيت الله عز وجل في هذه البلاد؛ هم في حاجة إلى من يذكرهم دائماً وأبداً بالميزة الكبرى التي جعلها الله لهذا البلد والواجب العظيم الملقى على عواتقهم. أيها الإخوة والأخوات إن الله عز وجل يخلق ما يشاء ويختار، ويصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، وكذلك يختار سبحانه من البقاع ما يشاء، وقد اختار الله هذه الجزيرة لتكون مكاناً للحرم الذي جعل الله أفئدة من الناس تهوي إليه، وجعله مثابة للناس وأمنا، ولتكون مكاناً للرسالات السماوية، أو لعدد من الرسالات السماوية السابقة، ولتكون مهبطاً لوحيه على نبيه صلى الله عليه وسلم. وهذه كلها أشياء قدرية عرفها الناس كلهم، فلو تأملت؛ لوجدت أن الله عز وجل بعث هوداً عليه الصلاة والسلام في عاد في بلاد الأحقاف، وجعل إسماعيل في مكة نشأةً وحياة ووفاةً، وجعل عدداً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأتون إلى هذه الجزيرة، ويأوون إليها بعد أن يجدوا الاضطهاد في بلاد أخرى. فهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام يأوي إلى هذه الجزيرة ويودع فيها ابنه وزوجه كما حكى الله عنه: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] وهذا موسى عليه السلام يأتي إلى مدين كما حكى الله عز وجل في كتابه، ومدين -على رأي بعضهم- تعتبر داخل حدود الجزيرة العربية. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 2 الجزيرة مأوى المضطهدين والمشردين إن كثيراً من أتباع الديانات السماوية السابقة كانو إذا اضطهدوا؛ لجئوا إلى هذه الجزيرة، فقد لجأ إليها اليهود بعد أن اضطهدهم الرومان، فعاشوا في اليمن وما حولها، ولجأ إليها بعض النصارى فراراً من اضطهاد القياصرة، وعاشوا في نجران وما حولها. والبعثة المحمدية حيث تنزّل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي اختار الله له هذه الجزيرة، وكما أن هذه الرسالة هي خاتمة الرسالات؛ فقد اختار الله لها بلداً جعله عاصمة الإسلام إلى قيام الساعة. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 3 حركة التجديد في الجزيرة هذا الأمر الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم هو أمر ممتد في الماضي والحاضر والمستقبل؛ وليس أمراً مضى وانتهى، وكما أن هذه الجزيرة شهدت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فبالأمس القريب شهدت تجديداً أو شهدت آخر حلقة من حلقات التجديد في هذا الدين على يد الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، والذي أحيا ما اندرس من شأن الدين؛ لا أقول في هذه الجزيرة بل في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه. وكانت حركته ودعوته تنبثق من هذه الجزيرة المباركة، فجدد الله به شأن الإسلام، وأحيا به العقيدة السلفية الصحيحة، وحطم به رؤوس الطواغيت والأوثان، التي كان الناس يعبدونها من دون الله، يعبدونها بالسجود لها، أو بإعطائها الدينونة والحاكمية من دون الله تعالى، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الرجل الذي تتحطم على يديه أسطورة المسيح الدجال في آخر الزمان هو من هذه الجزيرة. ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه، {أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المسيح الدجال، وأنه لا يدخل مكة ولا المدينة، فيقف على أنقاب المدينة فيخرج إليه كل منافق ومنافقة، ويقيض الله له رجلاً مؤمناً هو خير أهل الأرض يومئذٍ أو من خير أهل الأرض يومئذٍ، فيخرج إليه ويقول على ملأ من الناس بعد أن يتخطى جموع هؤلاء الحراس والسدنة والجنود الذين أجلب بهم المسيح الدجال، فيقول: أشهد أنك المسيح الدجال الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم فيبهت الدجال، ويهتز موقفه فيقول للناس: أرأيتم إن قتلته ومشيت بين قطعتين! تشهدون أني أنا الله! فيقطعه، ويمشى بين قطعتين من جسده، فيبعثه الله عز وجل مرة أخرى ويقول: والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، أشهد أنك المسيح الدجال يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فهذا أعظم الناس شهادة عند رب العالمين} وهذا الموقف العظيم الصحيح الثابت برواية البخاري ومسلم هو إيماء وإشارة إلى أن كل فتنة عمياء صماء تجتاح بلاد الإسلام؛ تتحطم على صخرة هذه الجزيرة. وإذا كانت فتنة المسيح الدجال هي أعظم فتنة من لدن نوح إلى قيام الساعة؛ فإن كل فتنة أهون منها وكل فتنة تجتاح المسلمين ستتحطم-وهذا أمر يؤمن به كل مسلم- على أيدي أبناء هذه الجزيرة كما تحطمت فتنة المسيح الدجال على يد هذا المؤمن الموحد الذي هو أعظم الناس إيماناً أو من أعظم الناس إيماناً. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 4 من خصوصيات هذه الجزيرة ولذلك اختصها بأحكام ليست لغيرها، روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} وهذه الكلمة هي من الوصايا الخالدة التي رددها النبي عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت، أوصاهم بثلاث منها: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} . وفي الحديث الآخر عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} والحديث رواه مالك وأحمد. وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} والحديث رواه مسلم، إذاً نحن أمام نصوص تحرم على غير المسلمين البقاء والسكنى في هذه الجزيرة، سواء كانوا مشركين، أم يهوداً، أم نصارى، وتجعل السكنى في هذه الجزيرة الطيبة المباركة وقفاً على من قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. فأما من لم يشهد بالشهادة الحق؛ فإنه يحرم عليه البقاء في هذه الجزيرة، ويحرم علينا نحن المسلمين أن نمكنه من البقاء والسكنى في هذه الجزيرة، فلا يجوز أن يوجد فيها إلا كيان واحد، وهو: كيان الإسلام. وقد أخبر صلى الله عليه وسلم: أنه لا يزال في هذه الجزيرة أمة تدعو إلى الحق، وتؤمن به، وتنافح عنه، حتى قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه: {إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن بالتحريش بينهم} . وهذه خصيصة كبرى؛ أن المؤمنين الموحدين الذين يترددون على المساجد، ويعفرون جباههم لله تعالى، قد يئس منهم الشيطان أن يعبدوه في هذه الجزيرة، ورضي منهم بما دون ذلك وهو التحريش فيما بينهم. وبين صلى الله عليه وسلم أنه حين تضيق الدنيا بالإسلام ويحارب في مشارق الأرض ومغاربها فإنه يأوي إلى هذه الجزيرة، كما أوى الرسل السابقون إليها بعد أن اضطهدوا فقال عليه الصلاة والسلام: {إن الدين يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} جاء هذا في صحيح مسلم من حديث ابن عمر ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنهما، وهو مقيد في أحد الحديثين في حال الغربة: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، وإنه ليأرز بين المسجدين} . إذاً: حين يضطهد الإسلام في فجاج الدنيا كلها؛ فإنه يجد متنفسه في هذه الجزيرة. هذه القضايا الشرعية الثابتة تاريخاً والثابتة شرعاً في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ يجب أن نقف عندها في هذه الجلسة القصيرة وقفات سريعة. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 5 خصائص الجزيرة وميزاتها أيها المسلمون: وحين ننظر في واقع هذه الجزيرة اليوم؛ نجد أن الله تعالى اختصها من بين بلاد العالم الإسلامي بميزات وخصائص لا بد من الإشادة بها. فمن أعظم هذه الخصائص: الجزء: 144 ¦ الصفحة: 6 عقيدة التوحيد الصافية إن عقيدة التوحيد الصافية هي: التي ما زالت تهيمن على هذه الجزيرة وهي أثر من آثار دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فما زال الناس -حتى عوامهم- يملكون الإحساس الصحيح في العقيدة، ويملكون الكراهية لكل ما يناقض هذه العقيدة، أو يكدر صفاءها، وما زالت هذه الجزيرة وفيةً لعقيدة التوحيد، فلا مكان فيها للباطنية المنحرفة التي تؤله البشر من دون الله، ولا مكان فيها للصوفية الغالية، ولا مكان فيها لأي نِحْلةٍ أو مبدأ مناقض للعقيدة الصحيحة، ومن باب الأولى أنك لا تجد في هذه الجزيرة ولاءً للمعتزلة -مثلاً- ولا للأشاعرة ولا لغيرهم من العقائد التي خرجت عن منهج أهل السنة والجماعة. وهذه ميزة من جهة، ولكن يجب أن لا تكون مخدراً لنا من جهة أخرى؛ فالغزو والتآمر مازال على هذه الجزيرة، والشيطان يحاول أن يُضل الناس بعبادة غير الله، من الدرهم والدينار والدنيا، وبغير ذلك من ألوان العبادات التي يحاول أن يدخلها إلى قلوب المسلمين في كل مكان. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 7 السلوك الاجتماعي الميزة الثانية التي اختص الله بها هذه الجزيرة هي: السلوك الاجتماعي الذي ما زال وفياً للإسلام، ولو في بعض جوانبه؛ فإن هذه الجزيرة هي البلد الوحيد الذي لا زِلَتَ تجد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له كيان رسمي، مهما يكن فيه من الضعف، ومهما يكن في حاجة إلى الدعم فإنه لا زال موجوداً وقائماً. وكذلك تجد كثيراً من الأشياء، ومن التعليمات الإسلامية في شأن الأمور الاجتماعية، في شأن المرأة، وتحريم الاختلاط ووجوب الحجاب وتحريم الخلوة، لا زالت موجودة إلى حد كبير في هذه البلاد، والمرأة اليوم التي تكشف وجهها من نساء هذا المجتمع؛ تجد أنها تتلفت يمنة ويسرة كما يتلفت السارق، وتجد أن كثيراً من الناس يمقتونها ويزدرون ما جاءت به، حتى في أوساط النساء المؤمنات. فهذا السلوك الاجتماعي الوفي للإسلام في عدد من جوانبه هو ميزة لا تكاد توجد إلا في هذه الجزيرة. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 8 الحركة العلمية الميزة الثالثة هي: الحركة العلمية. فإننا نجد أن كثيراً من علمائنا هم ممن تفتخر بهم هذه البلاد، وأن آراء العلماء في هذه البلاد وأقوالهم وبحوثهم، تجد أصداءها في العالم الإسلامي، وتؤثر في شباب المسلمين وفي الدعوات الإسلامية، وفي المجامع العلمية في كل مكان، فرأي هؤلاء العلماء هو المعتبر، وهو المقدم، إضافة إلى أننا نجد بادرة مهمة، وهي بادرة الاجتهاد الجماعي، الممثل -مثلاً- في المجامع الفقهية في هيئة كبار العلماء وغيرها من الجهات الموثوقة التي ينتظر المسلمون رأيها في كل ما يعرض لهم من مشكلات في شئون دينهم ودنياهم. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 9 الصحوة المتميزة الميزة الرابعة في هذه الجزيرة هي: هذه الصحوة الإسلامية التي عمت أصقاعها، وقد يقول قائل: إن الصحوة الإسلامية موجودة في كل مكان؟ وهذا صحيح لكن المتأمل يجد أن الصحوة الإسلامية في هذا البلد تتميز أيضاً عن غيرها من الصحوة في كثير من البلاد بأشياء كثيرة. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 10 مميزات الصحوة في الجزيرة منها: أن هذه الصحوة استفادت من الميزات الموجودة في مجتمع هذا البلد، في صفاء العقيدة، وعدم الاختلاف في المنهج، وفي السلوك المستقيم البعيد عن التميع أو الانحراف، في التوجه العلمي؛ فإنك تجد شباب هذه البلاد الذين اهتدوا يتجهون إلى تحصيل العلم، ومعرفة حدود ما أنزل الله، والتتلمذ على العلماء، وحفظ النصوص الشرعية، وفهمها، والعمل بها، والدعوة إليها. فهذه الحركة العلمية الشبابية موجودة في المساجد والمدارس والجامعات، وهي نبتة نرجو أن تؤتي أكلها كل حين، وثمارها في القريب العاجل فهذه ميزة لهذه الصحوة لا تغفل. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 11 عمومها للنساء والرجال الميزة الرابعة لهذه الصحوة هي: أنها تُسير بجناحيها -الرجل والمرأة- فإننا نجد أن الصحوة الإسلامية ليست حكراً على الرجال؛ بل في أوساط النساء في هذه البلاد، وفي كل بلد صحوة إسلامية عارمة وقوية، وهي تقارع الدعوات التي تدعوا إلى تحرير المرأة وإخراجها من بيتها، ومن دينها، أو من كرامتها وعفافها، ونجد أن المرأة المسلمة اليوم هي التي تحارب بما يسمى تحرير المرأة، في حين أنه في بلاد أخرى كانت المرأة هي التي ترفع هذه الراية، والرجل هو الذي يحاربها. أما في هذه البلاد فإن الذين يرفعون راية تحرير المرأة في غالب الأحيان هم من الرجال، أما الذين يحاربونها فهم أيضاً من الرجال، ولكننا نجد كثيراً من المسلمات يدركن خطر هذه الدعوة ويقمن بالتصدي لها عبر وسائل عديدة. وهذه الظاهرة تستحق الإشادة والذكر في هذا الموقع. تلك أربع ميزات تميزت بها هذه الجزيرة ثم هذه أربع ميزات تميزت بها هذه الصحوة الإسلامية في هذه الجزيرة، وهذا كله يؤكد أن المستقبل في هذه الجزيرة هو للإسلام، وأن كل حركة أو دعوة تحارب الإسلام في كل مكان وفي هذه الجزيرة خاصة فإن مآلها إلى الهزيمة والانهيار، وأن هذه الجزيرة للإسلام سابقاً وحاضراً ومستقبلاً، ولكن هذا الكلام لا يجوز أن يكون دعوى؛ بل لا بد أن نصدق قولنا بالفعال. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 12 السلامة من الغلو والتطرف الميزة الثالثة هي: أن هذه الصحوة سلمت مما وقعت فيه التوجهات الإسلامية في كثير من البلاد مما يسمونه (بالتطرف) وأريد أن أنبه إلى أن التطرف اسم يطلق ويراد به أكثر من معنى فكثير من الناس اليوم ممن يصطادون في الماء العكر، ويحاولون أن يشوهوا وجه الإسلام يرمون الإسلام بالتطرف، فإذا وجدوا إنساناً متمسكاً بالإسلام حقيقة وسموه بالتطرف، فمن يقصر ثوبه -مثلاً- فهو في مقياسهم متطرف، ومن يعفي لحيته فهو في مقياسهم متطرف، ومن يستعمل السواك فهو في مقياسهم متطرف، ومن يحرص على الالتزام بالسنن الإسلامية فهو في مقياسهم ومعيارهم متطرف، وهؤلاء لا عبرة بهم، فهم ممن يسمون الأمور بغير أسمائها الشرعية، وهؤلاء على النقيض قد يسمون الهوى المحرم حباً وغراماً، وقد يسمون الخمر مشروبات روحية. فالأسماء عندهم والمقاييس مختلة فلا عبرة بهم وإنما أعني بالتطرف: أن يأخذ الإنسان طرفاً بعيداً عن الاعتدال في الإسلام، وهو ما يعرف في الاصطلاح الإسلامي الصحيح بالغلو، والغلو وجد في أكثر من بلد إسلامي، ولنسأل: ما هو السر في هذا الغلو الذي وجد، والذي ربما سلك مسالك العنف في تغيير الواقع المخالف للإسلام؟ لو تأملنا سبب ظهور هذا التطرف في البلاد الإسلامية، لوجدنا أنه يعود: أولاً: إلى لجهل بالإسلام، والمسئول عن الجهل بالإسلام في تلك البلاد هي المؤسسات التعليمية من وسائل إعلامهم، ومدارسهم، وجامعاتهم التي تنكرت للعلم الشرعي، وأصبحت تدرس سائر العلوم إلا الإسلام، فصار الشاب حين يعرف الإسلام؛ يجد أن الجو من حوله لا يعلمه الدين ولا يعرف الشاب من أمور الإسلام إلا أقل القليل. أما في بلادنا والحمد لله فإن الشاب -كما أشرت- يجد العلم الإسلامي الصحيح في المساجد، والمدارس، والجامعات، وفي وسائل كثيرة، ولذلك فإن كل إنسان يجد أن من السهل عليه أن يتبصر بدينه، ويعرف الطريق الصحيح فيسلم بذلك من التوجه نحو التطرف والانحراف. السبب الثاني الذي جعل بعض البلاد الإسلامية تشهد حركة من حركات التطرف هو: أن كثيراً من الشباب المسلم في تلك البلاد إذا أرادوا أن يدعوا إلى الله عز وجل، أو يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، أو يقوموا بما يجب عليهم ديناً وشرعاً وجدوا أن القنوات والطرق أمامهم مسدودة، ووجدوا أنه في الوقت الذي يمرح ويسرح فيه العلمانيون والشيوعيون وغيرهم من حملة المبادئ الأرضية، والأفكار الهدامة، ويلعبون بشباب هذه الأمة وبناتها، وجدوا أن الطريق أمامهم مسدود، والقنوات الشرعية مغلقة، ففكروا أنه لا بد أن يبحثوا عن طريق، وحينئذٍ السيل إذا أغلقت أمامه الأبواب، فإنه يتجه نحو العمران فيهدمه، أي: إذا أغلق أمام السيل الطريق الذي يمكن أن يكون نافعاً للري والزراعة وغيرها، فإنه يتجه نحو العمران فيهدمه ويغرق كل ما فيه بما في ذلك الناس. وكذلك هذا التوجه الإسلامي الذي وجد في أكثر من بلد؛ لما وجد أن الطرق الشرعية أمامه مغلقة، اتجه نحو الطرق الأخرى غير الشرعية، أما في هذه البلاد فإن الدعاة إلى الله عز وجل، والعلماء، والمشايخ، وطلاب العلم لا يزالون بحمد الله يجدون أمامهم وسائل كثيرة للدعوة إلى الله عز وجل، ونشر العلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا وذاك فإن هذه البلاد وهذه الصحوة الإسلامية سلمت من هذا التطرف الذي وقعت فيه بعض الفئات من الشباب المسلم في بلاد أخرى، وهذه نعمة كبرى. ولذلك فإنني أقول: إن الصحوة الإسلامية في هذا البلد خلت وسلمت من هذا الغلو بفضل الله تعالى ثم بفضل ما يتمتع به هذا المجتمع من وسائل وإمكانيات للدعوة إلى الله بالطريقة الشرعية الممكنة. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 13 السبق وهناك ميزة أخرى لهذه الصحوة المباركة في هذه الجزيرة وهي: ميزة السبق فإن الصحوة الإسلامية في كثير من البلاد الإسلامية، جاءت بعد أن غزت تلك المجتمعات موجات الانحلال، والإلحاد، والانحراف، والفكر الكافر، فاستيقظ المسلمون على طلقات أولئك الغازين، وبدءوا يعودون إلى دينهم، أما في هذه البلاد فإن التوجه إلى الإسلام لم يكن نتيجة للانحراف والغزو المعادي؛ بل إن هذه البلاد عرفت الاتجاه للإسلام والإقبال عليه والدعوة إلى مبادئه منذ القديم، ولم يحصل منذ قام الشيخ محمد بن عبد الوهاب بدعوته إلى اليوم أن عاشت هذه البلاد جاهلية كما عاشت غيرها من البلاد. فالصحوة الإسلامية في هذه البلاد هي امتداد لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وليست أثراً أو ردة فعل للانحراف الموجود. فالصحوة الإسلامية في هذه البلاد سبقت الانحراف، ولذلك فهي تقارع وتصارع موجات الانحراف، سواء أكان انحرافاً أخلاقياً متمثلاً في التحلل والتقليد، أم كان انحرافاً فكرياً يتمثل في مذاهب، ومدارس، ونظريات فكرية، وأدبية، وفنية تحاول أن تقتحم على أهل هذه البلاد دينهم وإسلامهم، وتخرجهم من هذه النعمة التي اختصهم الله تبارك وتعالى بها، فهذه ميزة أخرى لهذه الصحوة المباركة! الجزء: 144 ¦ الصفحة: 14 دعوة لأهل الجزيرة ولذلك فإنني أدعو نفسي وإخواني من أهل الإسلام في هذه الجزيرة إلى أمور عدة: الجزء: 144 ¦ الصفحة: 15 العمل لتحقيق وعود الله أولاً: لابد أن ندرك أن قدر الله عز وجل بنصر دينه يتحقق من خلال جهود الناس أنفسهم، وأن قدر الله بنصر الإسلام يتحقق من خلال جهودنا نحن، ولذلك فإن علينا أن نكون جنوداً لهذا الدين، نحارب دونه حتى يحقق الله بنا ما وعد رسوله صلى الله عليه وسلم من نصر الإسلام في هذه الجزيرة، فقدر الله يتحقق من خلال جهادنا نحن، وكل امرئ منا يجب أن يكون مجاهداً ضد الأفكار الهدامة المعادية للإسلام وضد حركات التحلل الاجتماعية التي تجتاح العالم الإسلامي اليوم. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 16 تطهير الجزيرة من الكفر وما شاكله ثانياً: أن هذه الجزيرة التي اختصها الله عز وجل بالإسلام، يجب أن نطهرها من غير المسلمين، ونحن نجد اليوم كثيراً من المسلمين يحضرون إلى هذه البلاد أناساً ممن لا يدينون بدين الإسلام، سواء أكانوا على شكل خبراء أم عمال أم سائقين، أم خدم، أم أي شيء آخر، فيقيمون في هذه الجزيرة، ويلوثون صفاءها ويكدرون نقاءها، وربما حاولوا أن يجدوا لهم موطأ قدم في هذه البلاد. فالواجب علينا أن نحمي هذه البلاد من أمثال هؤلاء، وأن نتخذ الحنفاء المسلمين، وهذا المنطلق يدعمه ويؤيده جوانب أخرى، فإن استقدام المسلمين فيه نفع للمسلمين في كل مكان. فأنت إذا استقدمت عدداً كبيراً من المسلمين؛ تكون قد ساهمت في نفعهم، وإعالة أولادهم وذرياتهم ودعم اقتصادهم، وإذا استقدمت نصارى أو بوذيين أو غيرهم من الألوان والطوائف؛ فتكون أعنتهم حينئذٍ على المسلمين. ثالثاً: أن هناك كثيراً من الحركات تحاول أن تقتحم هذه الجزيرة، بما في ذلك الحركات الباطنية المتمثلة في الرافضة التي تحاول أن تكدر صفاء هذه البلاد الطاهرة وهذا البيت العتيق، وهم يؤمنون بما جاء في كتبهم المقدسة من أن إمامهم الغائب سوف يقتل الحجاج بين الركن والمقام، وبين الصفا والمروة، ويؤمنون بأن شيوخ ضلالتهم في هذا العصر هم النواب، والأوفياء الذين يقومون بالمهمات والصلاحيات المسندة إلى ذلك الإمام الغائب المعدوم، فسيحاولون أن يقوموا بما أسند إلى ذلك الإمام ويحققوا ما تنبأت به كتبهم المقدسة في زعمهم. وهناك حركات أخرى فكرية تحاول أن تجتاح هذه البلاد باسم: التحديث والتجديد في الأدب، والشعر، والفكر، والمضمون، والشكل وغير ذلك، وتحاول أن تربي شباب هذه البلاد وفتياتها على الاقتداء بالفكر الغربي الذي نشأ في بلاد لم تعرف للدين طعماً، ولم تتذوق طعم الإسلام، ولم تعرف اللغة العربية، فهؤلاء الذين تنكروا لعروبتهم وإسلامهم وبلادهم، وتتلمذوا على أفكار وموائد غربية -أيضاً- لا مكان لهم في هذه البلاد. وأي نحلة أو مبدأ يحاول أن يجد له موطأ قدم في هذه البلاد فمآله إلى الخسران، وهذا يُوجد لدى كل داعٍ إلى الإسلام الحماس والرغبة والقوة في مجاهدة هؤلاء وأولئك، ومعرفة أن النصر والعاقبة للمؤمنين، فلا يأس، فـ {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] . الجزء: 144 ¦ الصفحة: 17 الدفاع عن هذه الجزيرة أيها الإخوة والأخوات هذه البلاد التي اختارها الله -أولاً وأخيراً- لدينه، والتي شرفنا الله عز وجل بأن نكون من أهلها، ومن جيران بيته العتيق وحرمه الآمن، يجب أن يكون كل فرد منا جندياً على ثغراتها، يدافع عنها ضد كل كيد ظاهر أو مستتر، وأن نركن إلى هذه الأشياء التي أخبر بها الشرع، فإن هذه الأمور كما ذكرت هي حق وصدق بلا شك، ولكنها إنما تتحقق من خلال جهود الناس أنفسهم -من خلال جهودنا نحن- فيجب أن يكون كل امرئ منا جندياً مدافعاً عن حرمات الإسلام في هذه البلاد، وإلا فقد يعاقبنا الله عز وجل بأن يسلط علينا بعض أعدائنا لفترة من الزمن حتى نؤوب إليه ونصدق معه. أيها الإخوة: هذه لمحات حول هذا الموضوع المهم، وأسأل الله عز وجل أن يحمي حرمه وبلاده، وأن يحمي الإسلام والمسلمين من كيد الكائدين وعبث العابثين، وأن يحمي هذا المجتمع الآمن الطاهر من الأفكار الملوثة التي تريد أن تتسلل إليه، ومن الحركات الانحلالية التي تحاول أن تقتحمه، وأسأل الله عز وجل أن يجعل شباب هذه البلاد -ذكوراً وإناثاً- جنوداً مجاهدين يحمون هذا الدين، وتتحطم أمام جهادهم مؤامرات الأعداء الظاهرين والمستترين. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة . الجزء: 144 ¦ الصفحة: 19 واجب المسلمين نحو المسلمين الأجانب السؤال ما هو دوري كمسلم في هذه البلاد تجاه المسلمين الموجودين في هذه البلاد وهم من خارجها؟ الجواب أولاً: دورك مسلماً وليس كمسلم، فأنت مسلم -فعلاً ولله الحمد- والكاف هذه التي في السؤال (دوري كمسلم) يقولون: إنها غير فصيحة، أما دورك تجاه المسلمين في هذه البلاد، وتجاه زملائك، فهو الدعوة إلى الله عز وجل، وتعليمهم العقيدة الصحيحة، ومساعدتهم فيما يحتاجون إليه، وأقول: بصفة خاصة فيما يتعلق بالشباب الذين يأتون إلى هذه البلاد للدراسة -مثلاً- وهم موجودون ربما في كل بلد من بلادنا، هؤلاء الشباب لهم حق في عنق كل إنسان منا، لأنهم بحاجة أولاً إلى التوعية الإسلامية الصحيحة. وأقول: لو كان هؤلاء الشباب الذين يقدمون إلينا من أنحاء العالم، في طهران أو قم في جامعاتهم المخصصة لاستقبال الوفود من أنحاء العالم الإسلامي؛ لوضعوا برامج ثقافية مكثفة لغسيل أدمغة هؤلاء الشباب وتحويلهم من مسلمين سنة إلى رافضة، ويبذلون في سبيل ذلك الجهود الجبارة، وإذا وجدوا من أي شاب نوعاً من التوقف فإنهم يلغون منحته ويعيدونه إلى بلاده فوراً، ولذلك رجع كثير من هؤلاء الشباب حتى في البلاد العربية دعاة إلى هذا الدين المنحرف الزائغ الممسوخ. ونحن اليوم نجد بين ظهرانينا كثيراً من الشباب المسلمين، وكثير منهم متطلعون يريدون العقيدة الصحيحة، ويريدون أن يعرفوا الأحكام الشرعية، ويريدون منا مساعدتهم؛ فتجدنا نبخل عليهم بهذه الأشياء، وهذه مشكلة يجب أن ينظر فيها المسئولون عن التعليم، وأهلُ العلم في محاولة تقديم التوجيه، وأيضاً المساعدة المادية لهؤلاء الشباب. وصلى اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 20 الإساءة إلى الجزيرة من أبنائها في الخارج السؤال كثير من أبناء هذه الجزيرة يسيء إليها حين يسافر إلى خارجها، فما هو تعليقكم على ذلك؟ الجواب هذا صحيح والغريب أيضاً أن مجلات أولئك القوم وصحفهم تفرح حين تكتشف فضيحة -مثلاً- على أحد أبناء هذه الجزيرة! فيصورونهم في أوضاع سيئة، وينشرونهم رغبة في التشهير ليس بهؤلاء الأفراد فقط بل بالجزيرة كلها، وهذا الأمر الذي يشير إليه السائل واقع؛ لكن ما الحيلة وقد اتسع الخرق، وأصبح كثير من الناس يجدون من التحريض على السفر إلى الخارج، وقضاء إجازاتهم في المتعة هناك أضعاف أضعاف ما يجدون من التحريض على الزواج المشروع؟ لا؛ بل أقول: يجدون التحريض على السفر وتسهيل هذا الأمر بكافة الوسائل؛ في الوقت الذي يجدون فيه الحث على تأخير الزواج ووضع العقبات والعراقيل المادية والاجتماعية والنفسية أمام الزواج. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 21 الأوضاع الاجتماعية السؤال طرحتم في المحاضرة الماضية كثيراً من المشاكل والأوضاع الاجتماعية، ولكن خرجنا بدون حل، فهل يمكن أن تحددوا وقتاً لطرح حلول لمثل هذه القضايا المهمة؟ الجواب أما الحلول فإنني أعتقد أني أشرت إلى حلول إجمالية، أما الحلول التفصيلية كأن يعيش إنسان مشكلة معينة، فالصحيح أن حل مثل هذه المشكلة يتطلب وقتاً طويلاً، فإذا تصورنا-مثلاً- إنساناً يعيش مشكلة في البيت، عمرها سنوات، ولها أطراف عديدة، وأبعاد خفية، فالذي يريد أن يشخص هذه المشكلة ويوضحها يتطلب وقتاً طويلاً، فكيف بالذي يريد أن يحل هذه المشكلة! إنما كان المقصود: الإشارة إلى بعض المشكلات الأساسية، والإشارة إلى بعض الحلول العامة وبعض التصورات عنها، أما استقصاء الحلول فلم يكن من هدفي في محاضرة الأمس أن أستقصي ذلك. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 22 التجديد في أسلوب الدعوة السؤال هناك مقالة تنتشر على ألسنة بعض الشباب وهي: أسلوب الدعوة للإسلام قابل للاجتهاد، وترك طريقة الأنبياء في الدعوة لتغير الزمن، فما ردكم على ذلك؟ الجواب أما طريقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في الدعوة إلى الله عز وجل فهي الطريقة التي يجب أن يسير عليها كل مسلم بلا شك {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] فكل من اتبع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو يدعو على بصيرة كما كان يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم، فمثلاً: البداءة بالعقيدة، وعدم التنازل في شيء من أمور الدين، والوضوح في الدعوة إلى الله عز وجل والأصول العامة والمنطلقات، لا تتغير بين وقت ووقت لكن؛ قد توجد وسائل جديدة وتستخدم ولا بأس بذلك. فمثلاً: وسائل الكتابة، لم تكن الكتب موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكن لما خاف المسلمون من ضياع السنة النبوية صنفوا المدونات في السنة، ولما وجدت البدع صنفوا في الرد عليها، فأجمع العلماء بعد ذلك على جواز كتابة الحديث والسنة بعد أن كانوا مختلفين في ذلك قبل. وهكذا كلما وجدت وسائل جديدة مناسبة جاز استعمالها بشرط أن لا تكون هذه الوسيلة محرمة، فمن يستخدم وسيلة محرمة مثل الغناء في الدعوة إلى الله؛ كمن يتراقصون ويتغنون تعبداً وتديناً كما تفعله الصوفية فمثل هذا الأسلوب محرم، فكيف يكون وسيلة للدعوة؟ لكن لو وجد أسلوب مباح، كأسلوب المحاضرة، أو الكتابة، أو الجمعيات الخيرية، أو المراكز الصيفية أو المدارس، فهذه الأساليب لا شيء فيها وربما يسأل السائل عن وسائل أخرى مثل -مثلاً- الأناشيد الإسلامية، فأقول: فيما يظهر لي أن الأناشيد الإسلامية إذا كانت معانيها صحيحة وليست مصحوبة بشيء من الموسيقى أو الطبل، وليس فيها تغنج أو تكسر أو تقليد لألحان غنائية معروفة، فإن هذه الأناشيد لا بأس بها؛ لأنه لا يقصد من ورائها التعبد، فليس الذي يسمع النشيد أو ينشد يتعبد لله عز وجل بذلك، إنما هذا أسلوب أو طريقة عادية، وإنما الشعر كما قالت عائشة [[حسنه حسن وقبيحه قبيح]] ولكن لا يجب أن تغلب على حياة الإنسان وأن تصبح ديدنه في غدوه ورواحه. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 23 التقصير في الدعوة إلى الله السؤال كثير من شباب هذه الجزيرة عندما تقول له: لماذا لا تدعو إلى الله؟ يقول لك: نحن بخير ونعمة، فنحن نصلي ونصوم، فما هو الرد على مثل هذا؟ الجواب الصلاة والصوم -لا شك- من أركان الإسلام، والدعوة إلى الله -أيضاً- واجب والمصلي الصائم فيه خير ونعمة، لكن المؤمن لا يشبع من الخير حتى يكون منتهاه الجنة، ولذلك فإن المصلي الصائم تطلب منه الدعوة أكثر مما تطلب من غيره ممن قصروا في هذه الأشياء، فكونه مصلياً يوجب عليه أن يقوم بالالتزامات الأخرى من دعوة غيره إلى الصلاة وإلى الصيام وإلى غيرهما من شرائع الإسلام. فعلى المصلي أن يدعو نفسه -أولاً- إلى ما قد يكون مقصراً فيه من أمور الدين، وأول أمر مقصر فيه هو الدعوة إلى الله عز وجل، ثم عليه أن يدعو أهله وجيرانه إلى هذه الأشياء، وكلما استطاع أن يتحرك بالدعوة إلى الله عز وجل في نطاق أوسع كلما كان أكثر نفعاً لنفسه، {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة:272] . الجزء: 144 ¦ الصفحة: 24 تفضيل الكافر بسبب الدنيا السؤال كثير من أصحاب الأعمال يقولون: إننا نستقدم عمالاً كافرين؛ لأنهم أكثر إنتاجاً من المسلمين، حيث إن الكفار لا يصلون ولا يصومون وغير ذلك، فأستغفر الله مما يقولون، وماذا نرد عليهم؟ الجواب هذه مصيبة تدل على انسلاخٍ من الولاء للإسلام! وتدل على أن الإنسان يؤثر الحياة الدنيا على الآخرة، وإيثار الدنيا على الآخرة من علامات الكافرين قال تعالى: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى:16] وقال تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17] . فالمسلم الذي ولاؤه لدين الله لا يستعمل إلا حنيفاً مسلماً ولو كان يصلي، ولو كان يصوم، ولو طلب أن يحج أو يعتمر، بل إنه يتقرب إلى الله عز وجل بأن يمكنه من هذه الأشياء، فتقديم الدنيا على الدين أمر في منتهى الخطورة على دين الإنسان، خاصة إذا تبجح بذلك أيضاًَ في لسانه كما ذكر السائل عن بعضهم، فالإنسان عليه أن يتقي الله عز وجل، ويدرك أن هذه النعمة التي بين يديه قد يسلبها الله منه بكرة أو عشياً، أو يخرجه منها أيضاً إلى دار الجزاء والحساب، فيسأل عن استخدام هؤلاء الكفار واستبعاد المسلمين، وبكل حال فالمسلم الذي يعرف أن ولاءه للإسلام لا يقبل أن يستخدم هؤلاء الكفار لأسباب كثيرة منها ما سبق. ومنها هذه الأموال التي يستلمها أولئك الكفار إنما هي خناجر تسدد إلى صدور المسلمين في بلادهم، فأنت حين تستقدم نصارى من الفلبين، أما تعرف أن المسلمين مضطهدون في الفلبين وأن النصارى يحاربونهم؟! وقل مثل ذلك في الهند أو غيرها من بلاد العالم، فالمسلم أخو المسلم لا يخذله، ومن الخذلان أن تتركه وتستقدم كافراً وتمده بالمال، حتى يكون هذا المال عوناً له على قتال إخوانك المؤمنين، فأين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأين قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] . الجزء: 144 ¦ الصفحة: 25 حكم بقاء الرافضة في الجزيرة السؤال هناك أسئلة كثيرة وردت عن حكم بقاء الرافضة في هذه الجزيرة. الجواب هذه الجزيرة في الأصل جزيرة للإسلام -كما سلف- ولا يجوز أن يبقى فيها دين آخر غير دين الإسلام، ولا شك أن هناك طوائف موجودة في هذه الجزيرة فهناك طوائف الروافض والباطنية وغيرهم. فمثل هذه الطوائف قد يكون إخراجهم منها أمراً ليس بالسهل، بحكم أنهم وجدوا منذ زمن؛ وربما يكون بعضهم أصلاً في هذه الجزيرة واعتنق هذا المذهب الخبيث، ولكن الأولى والأوجب أن نعمل -نحن العلماء هنا وفي غير هذه البلاد- على دعوة هؤلاء إلى الدين الصحيح، ونشر العقيدة الصحيحة بينهم، وبيان ما في عقائدهم من الانحراف والبطلان والظلال، حتى تستبين سبيل المجرمين، ويهدي الله عز وجل من أراد هدايته منهم. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 26 طرد اليهود من الجزيرة في عهد عمر السؤال قلت: إن عمر بن الخطاب قد طرد اليهود والنصارى، أليسوا قد ذهبوا إلى خيبر؟ الجواب ذكرت الحديث عن عمر رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وقد عمل أمير المؤمنين رضي الله عنه بهذا الحديث النبوي فأخرج اليهود من خيبر فذهبوا إلى بلاد الشام، هذا هو المعروف. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 27 مذهب الحداثة السؤال تعلمون أن هناك في هذه الجزيرة من يتسمى بأسمائنا ويتكلم بلغتنا، ولكنهم يتبنون أفكاراً هدامة، ومن ذلك مذهب الحداثة الذي أخذ ينتشر هنا وهناك، فما موقف المسلم من ذلك؟ الجواب الحداثة فيما أعلم أنها تعني: التحديث أوالتجديد في الأدب والشعر، وهذا التجديد قد يكون تجديداً في الشكل؛ بحيث يغير الإنسان -مثلاً- في أسلوب التعبير، فيدخل -مثلاً- أسلوب الرواية، وأسلوب ما يسمى بالشعر الحر، أو أي أسلوب أدبي آخر. والتجديد في المضمون: يعني: في الأفكار والمفاهيم والفلسفات التي يمكن أن تتغير في حس الشاعر ونفسه، والذين درسوا أدب الحداثة وشعره يعرفون التلازم التام بين الشكل والمضمون. وإن الذين يدعون إلى أدب الحداثة، وشعر الحداثة ويكثرون من الثناء على رموز هذه الحداثة سواء أكانوا من العرب أم من الأوروبيين؛ إنهم يحملون في كثير من الأحيان فكر الحداثة كما يحملون الشكل الظاهر لها. وهذا هو الواقع في غالب الأحيان، فإنهم يتكلمون عن أن هذا اللون من الأدب والشعر، هو ثورة على كل ما هو سائد في المجتمع؛ بما في ذلك الأيديولوجيات ويعنون بهذه الأيديولوجيات النظم والعقائد التي يؤمن بها الناس، وهذا يبين أن منطلق الحداثة منطلق فلسفي، وليس مجرد قصيدة من الشعر الحر، أو رواية طويلة أو قصيرة، أو نمط من أنماط الأدب الشكلي. فيجب علينا أن ندرك أن هذا هو الواقع، أما كون إنسان يكتب قصيدة -مثلاً- من الشعر الحر، وفيها معانٍ وأفكار إسلامية، وفيها دعوة إلى الله عز وجل، وتعبير عن شعور إسلامي، ففي اعتقادي أن هذا أمر عادي، وليس قضية تستحق الإثارة، لأن هذا لون من التجديد في ألوان الشعر، وسواء قبلناه أو رددناه، فالقضية في هذا الإطار أمرها سهل، لكن المصيبة هي الفلسفات والأفكار التي يحملها أولئك الحداثيون، وكثير منهم -بحكم الانتساب الأصلي للإسلام- يؤيدون ما يسمى"بعصرنة الإسلام" وعصرنة الإسلام -كما أسلفت- هي محاولة صبغ الإسلام بصبغة عصرية. وقد كتب عن هذا الموضوع عدد من الكتاب وأشير إلى ما كتبه الأستاذ بسطامي محمد سعيد في كتابه حركة تجديد الدين، وإلى ما كتبه محمد بريش في مجلة الهدى المغربية، حيث كتب عدداً من المقالات نقد فيها فكر المفكر أو المستشرق محمد أركون الذي كتب كتاباً بالفرنسية سماه: قراءة جديدة للقرآن، وطرح فيه أفكار التطوريين الذين يعتقدون أن الدين هو عبارة عن شيء بشري خاضع للتطور، وهذه فكرة لا شك منافية لأصل الإسلام، وهناك كتابات أخرى في مجلة الندوة السعودية وغيرها. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 28 استقدام المشركين إلى الجزيرة والتعامل معهم السؤال هناك أسئلة كثيرة جداً وردت حول التعامل مع الكفار الذين يوجدون في هذه الجزيرة، وحكم استقدامهم كسائقين أو عمال أو خادمات؟ الجواب سبقت الإشارة إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أخرجوا المشركين من جزيرة العرب} و {لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يجتمع في هذه الجزيرة دينان} ولذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى تحريم سكنى المشركين في هذه البلاد، وعليه فإن بقاء هؤلاء في هذه الجزيرة لا يجوز إلا أن يكون لضرورة، في أشياء وأعمال لا يجيدها ولا يتقنها إلا هم، فبقدر هذه الضرورة يمكن، أما ما عدا ذلك فلا. فإذا وجد هؤلاء أو فرضوا في الواقع؛ فحينئذٍ أحكام معاملة الكفار معروفة، أنه يجب على الإنسان أن يدعوهم إلى الله متى استطاع، فيستفيد من فرصة وجودهم في دعوتهم. ونحن -بحمد الله- نجد اليوم في عدد من البلاد مؤسسات وأجهزة تقوم على دعوة هؤلاء إلى الإسلام من خلال وسائل كثيرة، وقد هدى الله كثيراً منهم إلى الإسلام، وهذه نعمة يجب أن نستفيد من وجودهم بيننا ما داموا قد وُجدوا في هذه البلاد. الأمر الثاني: أن الله عز وجل بين حكم معاملة الكفار بقوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8] . فالإسلام الذي يأمرك بالإحسان إلى الكلب، وإن سقيته أجرك الله؛ يأمرك أيضاً بأن تحسن إلى هؤلاء بأوجه الإحسان الدنيوية، وتستفيد من هذا الخلق الحسن، بدعوتهم إلى الدين الذي علمك هذه الأخلاق. أما من كان منهم داعياً إلى دينه؛ كبعض القسس -مثلاً- الذين يدعون إلى النصرانية، أو دعاة الهدم والتخريب من المرتدين، أو دعاة الكفر والضلال أيّاً كانوا، فهؤلاء يجب إبعادهم قدر الإمكان وتبليغ الجهات المختصة لاتخاذ اللازم، فإننا نسمع أحياناً أنه يوجد -مثلاً- نصارى يدعون إلى دينهم، ويحاولون أن يقيموا بعض الطقوس، فهؤلاء يجب على من يكتشف أمرهم أن يسعى إلى إبعادهم بكل وسيلة ممكنة، ومثل هؤلاء أيضاً لا يجوز الإحسان إليهم ولا مساعدتهم بأي لون من ألوان المساعدة. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 29 التطرف والالتزام بالسنة السؤال ذكرتم التطرف في كلامكم، ويوجد من يطلق كلمة التطرف على كل من يلتزم بكتاب الله وسنة رسوله، فما ردكم على مثل هذه؟ الجواب سبقت الإشارة إلى هذا، وأن قضية المصطلحات قضية شرعية، والاصطلاح الشرعي هو: مصطلح الغلو، ومصطلح التطرف جائز لغة؛ لكن الأولى أن نستعمل اللفظ الوارد في الشرع وهو لفظ: الغلو، ثم إننا نجد الأمر كما ذكر الأخ، وأضرب لذلك أمثلة: أحدهم -مثلاً- يعتبر أن من يناوئون الدعوات الهدامة المنحرفة؛ كالدعوة إلى ما يسمى بعصرنة الإسلام، وتطويع الإسلام إلى الحضارة الغربية، وقراءة القرآن بطريقة عصرية لم تكن معروفة حتى للرسول صلى الله عليه وسلم، يعتبر أن من يحارب مثل هذه الدعوات أنه متطرفاً ومنغلق الفكر. وكتب آخر -أيضاً- مقالاً يقول فيه-ما معناه-: إن المسلمين اليوم بلغوا حداً من البعد عن الرقي، والتهذيب، والحضارة فاق الوصف، حتى إن كثيراً من البوذيين والنصارى أصبحوا أكثر منهم تهذيباً وأخلاقاً. يقول: فالبوذي والنصراني لا يستطيع أن يقتل عصفورة بغير حق، والبوذي والنصراني يؤثر في قلبه ويزعجه أن يشرد أولاد هرة (قطة) أما المسلم سواء كان سنياً أو شيعياً -والكلام لا يزال للمذكور- فإنه يقتل ويقتل، ويعتبر أن أقرب طريق لدخول الجنة هو القتل! ماذا يعني هذا الكلام؟! إنه طعن في الإسلام والمسلمين في عقر دارهم! وكيف نسينا جرائم النصارى التي اعترفوا بها بأنفسهم، وهذا الشاعر النصراني المشهور الذي ينزل على النصارى في لبنان ويخاطبهم ويقول: بربك قل متى لبنان ثارا ليدرك من علوج الروم ثارا متى ابتدرت إلى السيف النصارى لتغسل بالدم المسفوح عارا وتدرك مرة شرف الجهاد إلى أن يقول مدافعاً عن المسلمين ومهاجماً للنصارى: نقول المسلمون المسلمون فنلعنهم ونحن الخائنونا فالواقع أنهم أجدر بهذا، فكيف نسينا جرائم النصارى في كل بلد، والتي لا تزال تقام، وكيف نسينا الحروب الصليبية وأصبحنا نقول: إن النصراني مهذب، ومتحضر لا يريد أن يقتل عصفورة، أو يشرد أولاد قطة!!. وكتبت إحداهن وهي تعتقد أن الفتيات اللاتي يرفضن دراسة الأدب الإنجليزي الذي يعرض الجريمة، والفاحشة، والعري، والإباحية الجنسية بأبشع صورها: أنهن متطرفات-هذا موجود ومع الأسف الشديد ويقرؤه الكثير من شبابنا وفتياتنا-. فعلى الإنسان ألا ينخدع بالألفاظ، وهم سيقولون هذا وغيره!! فهم يسمون الأمور بغير اسمها، يسمون الخمر مشروبات روحية، والزنا فيسمون بيع الحب، أو بيع الهوى وكذلك التمسك بالسنة يسمونه تطرفاً. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 30 العلمانية في الجزيرة السؤال بدأ يظهر في مجتمعنا بعض آثار التيارات العلمانية مثل الدعوة إلى خروج المرأة والاختلاط، وما يحصل في بعض وسائل الإعلام، فما رأيكم في ذلك؟ الجواب الإسلام، وهو الاستسلام لله تعالى يعني: أن المسلم يسلم نفسه قلباً وقالباً، جسداً وروحاً لله تعالى، بحيث أن جميع تصرفاته تخضع لأوامر هذا الدين، أما العلمانية فهي منهج آخر مناقض للإسلام، فالعلمانية -كما يفسرها الغربيون- هي: فصل الدين ليس عن الدولة؛ وإنما فصل الدين عن الحياة، فالعلمانيون يقولون: ما دخل الدين بالاقتصاد والسياسة؟ وما دخله في الأمور الاجتماعية وما دخل الدين بالأدب والشعر؟ وهكذا، فيريدون أن يحصروا الدين في المسجد. وهذه التيارات العلمانية لا شك أنها موجودة في العالم الإسلامي منذ القديم، بل إن أتاتورك حين أسقط الخلافة الإسلامية جعل هذا الدين الجديد بديلاً عن الإسلام، وسار على نهجه من بعده ممن تأثروا به. ولكن، أقول: إن هذه الدعوة العلمانية التي تحاول أن تتسرب إلى هذه البلاد، وإن كانت موجودة ولا سبيل إلى تجاهلها، والدعوة إلى خروج المرأة، والدعوة إلى منع الطلاق -مثلاً- والدعوة إلى اختلاط الرجال بالنساء، وسفر المرأة بغير محرم وإلغاء هذه القيود الشرعية، والدعوة إلى دراسة آداب الغربيين دراسة موضوعية بعيدة عن الدين، -أي: إبعاد الدين عن الآداب التي ندرسها- والدعوة إلى فصل الاقتصاد عن الإسلام، وإباحة الربا بسائر صوره وأشكاله، كل هذه الأشياء تظهر بين الفينة والفينة، ودعاتها موجودون بلا شك، ولكن المهم أن يتصدى أهل الإسلام لهذه الدعوات، ليميتوها في مهدها، بعد أن عرفوا أنه لا مكان في هذه الجزيرة إلا للإسلام. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 31 الشام دار المؤمنين آخر الزمان السؤال سمعنا أن بلاد الشام هي آخر معقل للإسلام بعد أن يندثر من سائر أرجاء الأرض، هل هذا صحيح أم لا؟ الجواب نعم صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {وعقر دار المؤمنين الشام} وصح عنه صلى الله عليه وسلم كما سمعتم قبل قليل: {إن الدين يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها} . والجمع بين هذه الأحاديث وما شابهها أن هناك عدة مواطن في آخر الزمان هي مواطن للإسلام، منها بلاد الحجاز ومنها: بلاد اليمن، ومنها: بلاد الشام، ولكن المؤمنين يجتمعون في الملاحم الكبرى التي تسبق قيام الساعة بقليل يجتمعون في الشام حيث يخرج المهدي ثم ينزل عيسى بن مريم عليه السلام، فيؤمهم ويقودهم بكتاب الله عز وجل، وهناك يقاتلون المسيح الدجال ويقاتلون اليهود وغيرهم. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 32 الأرض لا تقدس أحدا ً السؤال الجزيرة العربية منذ العصور القديمة قد اختارها الله مهداً للرسالات، ومهبطاً للوحي، وقام رجالها بالدعوة وفتح البلاد، هل هذا ثابت -بالقرآن والسنة- أن رجالها وشبابها لهم صفات يمتازون بها عن غيرهم، أم لأسباب أخرى نأمل توضيحها؟ الجواب الواقع أن الأرض كما قال: سلمان رضي الله عنه لـ أبي الدرداء لما سمع أنه يريد أن يخر ج إلى الأرض المقدسة، قال له: [[إن الأرض لا تقدس أحداً وإنما يقدس الإنسان عمله]] وكان اثنان من الصحابة دخلا على بيت امرأة نصرانية، وحضرتهما الصلاة فقالا: هل هاهنا مكان طاهر نصلي فيه؟ فقالت لهما: طهرا قلوبكما وصليا حيث شئتما، فنظر بعضهما إلى بعض وصدقاها فيما قالت، فمجرد وجود الإنسان في بلد فاضل لا يجعله يتميز بخصائص، وإنما يلقي عليه مزيداً من التبعة. ولذلك فإن الإنسان إذا عصى الله عز وجل في الحرم، فمعصيته أعظم، وخطيئته أكبر مما لو فعلها خارج الحرم، كما قال الله عز وجل: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] . فالسيئة في الحرم لا أقول إنها مضاعفة لكنها أعظم من السيئة في غير الحرم، لأن للحرم مكانة وقدسية. لماذا أختار الله عز وجل هذه البلاد؟ الله أعلم، كما أن الله عز وجل هو أعلم! حيث يجعل رسالته، وهو أعلم حيث اختار محمداً صلى الله عليه وسلم من بين الخلق كلهم للرسالة، وكذلك من سبقوه من المرسلين، فهو أعلم حيث اختار هذه الجزيرة للرسالة الخاتمة، وجعل هذه الجزيرة عاصمة الإسلام. كما أن الإسلام هو خاتم الأديان، فالجزيرة التي هبط فيها الوحي آخر مرة هي عاصمة الإسلام إلى قيام الساعة -كما سبق- وهذا يلقي مسئولية كبرى على أهل هذه البلاد، وليس يقدسهم أو يجعل لهم ميزات وخصائص ليست لغيرهم. الجزء: 144 ¦ الصفحة: 33 ألا إن نصر الله قريب لا ينبغي لأي مسلم أن يغتر بكثرة عدد الكفار أو تعدد أسلحتهم، وتفوقهم الحضاري والتكنولوجي، فإن كل هذه العوامل ليست أسساً صحيحة للمقارنة الواعية بين قوة الإسلام والقوى الأخرى، لأن النظر في مصير المسلمين وغيرهم في الدار الآخرة هو من عوامل النظرة الصحيحة، وكذلك التفكر في عدد أنصار الحق وكثرتهم: ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)) فمنهم مثلاً الملائكة، وكذلك النظر في التاريخ وفي مستقبل موعود الله ورسوله، وهذا الزمان رغم أنه زمان التأخر إلا أن فيه ومضات مشرقة من جماعات تنصر الدين، فينبغي فيه عدم اليأس، فإن الأيام دول، ودولة الإسلام قد بدأت تعود، وإرهاصات النصر قد لاحت. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 1 حقيقة النصر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه الطيبين الطاهرين الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وسلّم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة الكرام! فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وشكر الله لأخي الحبيب فضيلة الدكتور عبد الله الطيار وبقية المشايخ الأكارم الذين استضافوني في هذا اللقاء الطيب, وتسببوا في هذا الاجتماع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يكتب أجر هذا الاجتماع لي ولهم ولكم أجمعين إنه على كل شيء قدير. إخوتي الكرام! عنوان هذه المحاضرة هو جزء من آية في كتاب الله عز وجل {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] والحديث حول هذا الموضوع حديث شيق من جهة، خاصة في مثل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الأمة؛ فإن كل مسلم يتطلع إلى نصر الله عز وجل لأوليائه وللمؤمنين العاملين المجاهدين، الذين يرفعون راية الإسلام, لا يريدون إلا وجه الله عز وجل. كما أن الحديث عن مثل هذا الموضوع أيضاً حديث يطول؛ فإن هذه الآية تطوي في معناها الحياة الدنيا كلها, فإن مسرح الحياة وليس مسرح الأحداث أو مسرح العمليات فحسب, إن مسرح الحياة كلها هو المجال العملي لتطبيق هذا المعنى القرآني الذي أثبته الله تعالى في كتابه {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . فكل لحظة من تاريخنا، وكل ذرة من ترابنا، وكل كلمة في حياتنا تقول ما تقوله هذه الآية، وتؤكد هذا المعنى أن نصر الله تعالى قريب, ونصر الله تعالى له صور كثيرة شتى, النصر في الميدان العسكري هو أحد معانيها، وهناك ألوان وألوان من هذا الانتصار قد لا يعيها الإنسان ولا يدركها. ولعل الآيات التي عشنا معها ونحن نؤدي هذه الفريضة العظيمة (صلاة المغرب) هي نموذج للنصر الذي يمنحه الله تعالى لأوليائه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] , وأي نصر في الدنيا أعظم من أن يفتن الإنسان ويبتلى في دينه فيصبر صبراً تعجز عنه الجبال الراسيات! وأي صبر أعظم وأكبر من أن تأتي المرأة -وفي المرأة ما فيها من الرقة والحنان، وفيها ما فيها من العطف والحنو على أطفالها- تحمل رضيعها على كتفها فلما تقبل على النار التي أوقدها أصحاب الأخدود يحدث عندها بعض التردد فيُنطِق الله تعالى، الذي أنطق كل شيء، يُنطِق رضيعها الصغير فيقول: يا أماه اصبري فإنك على الحق! هذا هو النصر العظيم, هذا هو النصر المبين!! إذا، ً النصر الذي وعد الله تبارك وتعالى به المؤمنين له صور شتى، وله ألوان مختلفة وفي كل لحظة في تاريخ هذه الأمة، فهي تحقق ألواناً من الانتصارات. إخوتي الكرام! وأود أن أقف باختصار في هذه المحاضرة عند عدد من النقاط المهمة, والأفكار الأساسية: الجزء: 145 ¦ الصفحة: 2 الحق أساس القوة أولها: أن الحق والعدل أساس في هذا الكون, وأصل في بناء السماوات والأرض, فبالحق قامت السماوات والأرض, ولذلك يقولون: (الحق أبلج والباطل لجلج) , ويقولون: (دولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة) ! إذاً، الحق أصل والعدل أساس تعود إليه هذه الدنيا ويوم بدأت الدنيا بدأت بالحق, وتنتهي الدنيا أيضاً إلى الحق, وبعد الدنيا يتجلى الحق في أوضح وأظهر صوره يوم ينزل الله تعالى لفصل القضاء بين عباده، وتوضع الموازين القسط ليوم القيامة قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] . فالحق أصل عظيم بدأت منه هذه الحياة وتنتهي إليه, وكثير من الناس يترددون في قبول هذا الكلام, ويتعجبون وربما رمونا بشيء من قلة الفهم وقلة الإدراك، وقالوا: كيف تزعمون هذا الزعم وأنتم ترون أن هذه الدنيا بطولها وعرضها تسيطر عليها حضارات مادية، وأمم كافرة، وقد مد الله تعالى لهم وأعطاهم، ووسع لهم في الرزق وفتح عليهم أبواب كل شيء، ومع ذلك لا زلتم تقولون: الحق والعدل؟!! الجزء: 145 ¦ الصفحة: 3 أسس المقارنة الصحيحة في عوامل القوى بين المسلمين والكفار فأقول: إن سر هذه الضلالة الكبيرة التي يرددها بعض الناس هو أنهم ينظرون إلى لحظة محدودة من الزمان، وفي رقعة محدودة -أيضاً- من المكان, فيرى الواحد منهم -لضيق أفقه وقلة إدراكه- في هذا القرن غلبة الباطل والشر، وغلبة الدول الكافرة، وشموخ الحضارات المادية غربيها وشرقيها, فيتشكك في صدق الله عز وجل, فلا بد من تصحيح هذه النظرة بالمقارنة الصحيحة, وكيف تكون المقارنة؟ الجزء: 145 ¦ الصفحة: 4 المقارنة التاريخية الوجه الثالث للمقارنة هو: المقارنة مع الحياة البشرية كلها, لا نريد منك يا أخي الحبيب أن تكون محصوراً في مكان معين أو زمان معين، لا, نريد أن تمد بصرك إلى الماضي كله, في الأرض كلها, وأيضاً أن تمد بصرك إلى المستقبل في الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. السابق مثلاً: هل تدري أنه بعدما أهبط آدم من الجنة إلى الدنيا كان آدم حنيفاً مسلماً موحداً؟ لا بد أنك تعلم ذلك بل كان نبياً مكلماً عليه الصلاة والسلام, ثم ظل بعد آدم عشرة قرون كلهم على الهدى كما قال الله عز وجل: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213] قال ابن عباس وغيره: [[كان بعد آدم عليه الصلاة والسلام عشرة قرون كلهم على الهدى]] . إذاً: كيف تأتينا بمائة سنة أو خمسين سنة سيطرت فيها حضارات مادية زائلة منحرفة, وتنسى عشرة قرون. أي: ألف سنة كان المهيمن فيها هو دين الله وشرع الله، والتوحيد الذي لا يشوبه شائبة شرك, هل تنسى هذا؟! لا يجوز نسيانه, وأن يستغرق الإنسان في لحظة حاضرة. كذلك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كم مكثت هذه الأمة المحمدية ظافرة منصورة؟ لقد مكثت هذه الأمة أكثر من اثني عشر قرناً، وهي أمة ظافرة منتصرة بيدها تدبير كثير من أمور الأمم، حتى الكافرة, وهذا هو التاريخ الذي يتغنى به كثير من الشعراء, ويتحدثون عن تاريخ هذه الأمة، ومآثرها الخالدة الباقية, ودولها الراسخة, التي مازال التاريخ يذكرها, كما يقول أحدهم: ملكنا هذه الدنيا قروناً وأخضعها جدود خالدونا وسطرنا صحائف من ضياءٍ فما نسي الزمان ولا نسينا حملناها سيوفاً لامعات غداة الروع تأبى أن تلينا إذا خرجت من الأغماد يوماً رأيت الهول والفتح المبينا وكنا حين يأخذنا ولي بطغيان ندوس له الجبينا تفيض قلوبنا بالهدي بأساً فما نغضي عن الظلم الجفونا وكنا حين يرمينا أناس نؤدبهم أباة قادرينا وما فتئ الزمان يدور حتى مضى بالمجد قوم آخرونا وأصبح لا يرى في الركب قومي وقد عاشوا أئمته سنينا إذاً: ليست سنيناً ولا عشرات أو مئات السنين! بل أكثر من ذلك, أكثر من ألف ومائتي سنة والأمة الإسلامية كانت أمة عظيمة يرهبها الشرق والغرب, ومثلما حفظ لنا التاريخ من مآثر بني أمية وبني العباس بل وبني عثمان، خاصة في عصورهم الأولى، وكيف كانوا نموذجاً للهداية الربانية, على سبيل المثال القصة المعروفة لـ هارون الرشيد رحمه الله! الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً, وكان ربما قطع الليل كله تسبيحاً وقرآنا, ومع ذلك كان يحكم دولة واسعة مترامية الأرجاء, فلما مرت السحابة ببغداد وتجاوزت بغداد ولم تمطر, كان يقول لها: [[أمطري حيث شئت، فسوف يجبى إليّ خراجك]] أين الرشيد وقد طاف السحاب به فحين جاوز بغداداً تحداه بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا عبد الرحمن الناصر والداخل في الأندلس كيف بنوا القصور العامرة التي لا تزال باقية إلى اليوم, وخلدوا الحضارة ودعوا إلى الدين, ونشروا هداية الله تعالى في أرجاء الدنيا, ولم يبقَ بينهم وبين دخول عاصمة النصارى إلا أكيال معدودة على مشارف باريس، تراجع المسلمون في معركة بلاط الشهداء المعروفة في التاريخ بمعركة "تور بواتيه" ولو انتصروا -والأمر لله من قبل ومن بعد- في تلك المعركة لدخلوا أوروبا كلها واكتسحوها ولدخلوا إلى روما أيضاً. ولكن من حكمة الله عز وجل أن يتراجع المد الإسلامي من عند بلاط الشهداء، لأن الله تعالى قضى وقدر أن تفتح القسطنطينية في القرن التاسع قبل أن تفتح روما متى شاء الله عز وجل, كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم حينما سئل: {أيهما يفتح أولاً: القسطنطينية أم روما؟ فقال: مدينة هرقل تفتح أولاً} أي: القسطنطينية. بالله سل خلف بحر الروم عن عرب بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا وإن تراءت لك الحمراء عن كثب فسائل الصرح أين العز والجاه؟! وانزل دمشق وسائل صخر مسجدها عمن بناه لعل الصخر ينعاه! هذي المعالم خرس كل واحدة منهن قامت خطيباً فاغراً فاهُ ماضٍ تعيش على أنقاضه أمم وتستمد القوى من وحي ذكراه الجزء: 145 ¦ الصفحة: 5 المقارنة بالمستقبل هذا الماضي! أما المستقبل وهو غيب لا شك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن بعض هذا المستقبل, فمما أخبرنا عنه النبي صلى الله عليه وسلم: المعركة الظافرة مع اليهود وهي على نهر الأردن كما حدد النبي صلى الله عليه وسلم: {على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي فاقتله} ومثله: أن المسلمين يتجمعون، حين ينزل عيسى عليه الصلاة والسلام على المنارة البيضاء شرقي دمشق, وكذلك يقودهم المهدي عليه السلام الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه في أحاديث متواترة، كما حكم على ذلك جماعة من أهل العلم بالحديث؛ أن أحاديث المهدي متواترة, وكذلك أحاديث نزول عيسى عليه السلام فهي متواترة أيضاً بلا شك, والقرآن الكريم أشار إلى نزوله, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} أولها محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وآخرها عيسى بن مريم والمهدي عليهما السلام. إذاً: هذه أمة خير! أولها خير وحق وعدل, وآخرها خير وحق وعدل {يأتي خليفة يحثي المال حثياً ولا يعده عداً، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً} . ولا شك أن هذا الكلام يجب أن يفهم فهماً صحيحاً، أنا أذكر هذا الكلام لمجرد تذكير الناس بأنه لا يجوز أبداً أن نقارن في لحظة محدودة من الزمان والمكان، وننسى الماضي كله والمستقبل كله, هذا لا يجوز! وإلا: فالواقع أن الله عز وجل لم يتعبدنا أبداً بأن نقف في انتظار عيسى أو في انتظار المهدي أبداً فمتى جاءوا فكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو من جنودهم, وتحت رايتهم, وينصرهم بنفسه، ودمه، وماله، وأهله، وما ملك. لكن ليس هناك مسلم على ظهر الأرض مطالب بأن يجلس واضعاً خده على يده ينتظر متى ينزل عيسى أو متى يخرج المهدي! هذا أمر علمه عند الله عز وجل, فقد يخرج بعد مائة سنة أو ألف سنة أو أقل أو أكثر، هذا غيب! لا أحد يستطيع أن يتنبأ به أو يعرفه إلا الله عز وجل, فهو غيب عند الله وحده. فمن الخطأ كل الخطأ أن يجلس المسلمون في انتظار هذا الأمر الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم! لا, بل يجب أن يقوم كل مسلم بدوره وواجبه، ويحرص على أن يكون ملتزماً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, سائراً على طريقته, دون أن يكون منتظراً لفرج لا يستطيع أن يفعله بذاته اللهم إلا أن دور المسلم هو الدعاء الصادق. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 6 المقارنة بتعدد الأنصار هناك مقارنة أخرى أيضاً تجعل الميزان يعتدل في حس المسلم وهي: المقارنة مع الملأ الأعلى- مع الملائكة- فإن الإنسان قد ينظر في أنصار الباطل فيجد هذا الزبد الطافي الذي يجرفه السيل من المصفقين للباطل في كل مكان! قد يقول لك: عدد الكفار عدد النصارى عدد اليهود عدد الكافرين والمشركين أعداد هائلة وكبيرة لا يحصيهم إلا الله عز وجل, وإذا قستهم بعدد المسلمين -حتى المسلمين اسماً- وجدت أنهم قلة، قد لا تصل إلى نسبة (25%) نسبة المسلمين في الدنيا, مع أن هذا الرقم الإحصائي -إحصائية المسلمين- فيها المسلم الحقيقي وفيها المسلم على الورق كما يقال. فيقول لك: عدد الكفار إذاً أعداد هائلة وكبيرة وكثيرة وخطيرة, فكيف والمسلمون قلة، وهم أيضاً في داخلهم الدخن، وداخلهم من ينتسب إلى الإسلام وليس منه وفيهم وفيهم! فنقول: لا يجوز هذا القياس وهذه المقارنة؛ لأنها غير عادلة ولا صحيحة. فأنت إذا كنت تنظر في جنود الله عز وجل، فيجب ألا تستبعد من حسابك نوعاً من الجنود، وهم الملأ الأعلى (الملائكة) إن كان أنصار الباطل يشكلون في هذه الدنيا كذا ألف مليون في الدنيا، فانظر في أنصار الحق الذين يسخرهم الله تعالى لئلا ترهبك هذه الكثرة والسطوة, وأنت تعلم عدد أنصار دين الله تعالى. انظر على سبيل المثل إلى الملائكة في السماء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في مستدرك الحاكم وعند ابن جرير في التفسير، وابن المنذر، وصححه الحاكم، وذكره البيهقي في شعب الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: {إن البيت المعمور في السماء السابعة} كما قال الله تعالى: {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور:1-4] , {البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون فيه إلى يوم القيامة} , فإذا كنت ممن يؤمن بما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم -وأنت كذلك بحمد الله- فعليك أن تجري عملية حسابية بالأرقام, كل يوم سبعون ألف ملك, ففي الشهر أكثر من مليونين ومائة ألف ملك هذا في الشهر الواحد, فإذا حسبت في السنة كم يدخله؟ احسب في عشر سنوات، أو مائة سنة، أو ألف سنة أو في عشرة آلاف سنة!! كم مضى من الدنيا؟ وكم بقي؟ الله أعلم! فلو تصورنا -مثلاً- مائة ألف سنة والله تعالى أعلم، فهذا الأمر لا يعلمه إلا الله. أما حسابات البشر فهي حسابات مجرد تخمين وإلا فالله عز وجل أعلم, كالذين يأتون إلى صخرة أو إلى جذع شجرة، فإننا رأينا بعض جذوع الأشجار في بعض البلاد مكتوب عليها (عمر هذه الشجرة عشرة آلاف سنة) وهذه الصخرة عمرها (خمسون ألف سنة) وهذه كلها تخمينات، وإلا فالله عز وجل يقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف:51] . المهم: لو تصورنا الدنيا كم هي من ألف سنة, ثم تصورنا في كل يوم سبعون ألف ملك يدخلون في البيت المعمور, فكم عدد الملائكة الذين دخلوا البيت المعمور؟! {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] . وفي الحديث الآخر أيضاً الذي رواه الترمذي وصححه، ورواه أيضاً ابن ماجة وأحمد حديث أبي ذر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو ساجد} والأطيط هو: أزيز وصرير الرحل من ثقل الراكب. السماوات السبع، ولا يعلم مدى السماوات السبع إلا الله عز وجل الذي خلقهن, ومع ذلك كل موضع في السماوات فيه ملك راكعٌ أو ساجدٌ لله عز وجل، يقولون: سبحان ذي العزة والجبروت, سبحان ذي الملك والملكوت، سبحان الحي الذي لا يموت. فتصور! هؤلاء الملائكة كلهم من أنصار الحق، وكلهم من جنود الله عز وجل الذين وصف الله تعالى طائفة منهم وهم خزنة النار بقوله: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] إذاً الله تعالى أقدرهم على أن يفعلوا كل ما كلفوا به من لدنه سبحانه, قال تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال:12] هؤلاء كلهم مجندون لنصرة الحق والدفاع عنه وخذلان الباطل والزلزلة بأهله, ولهذا لما كان في الخندق، ورد الله تعالى الذين كفروا بغيضهم لم ينالوا خيراً جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضع سلاحه يريد أن يغتسل ويزيل عنه غبار المعركة, فقال: {أو قد وضعت السلاح؟ قال: نعم، قال جبريل: أما نحن فوالله ما وضعنا السلاح بعد. فأشار النبي صلى الله عليه وسلم: إلى أين؟ فأشار جبريل بيده صوب بني قريظة قال: اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم فمزلزل بهم} . إذاً إذا أردت المقارنة لا تقل عدد المؤمنين كذا وعدد اليهود كذا وعدد النصارى كذا! لا بد أن تضم إلى عدد المسلمين الصادقين نوعاً من المؤمنين وهم الملائكة. بل ومع ذلك تذكر أن لله عز وجل مخلوقات أخرى غير الإنس وهم الجن, وفيهم المؤمنون وفيهم من يكون أحسن وأفضل وأتقى من بعض الإنس, كما ذكر الله تعالى عنهم في كتابه: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً} [الجن:1-2] , ولما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الرحمن: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] كانوا أحسن ردوداً من الإنس، فقالوا: [[ولا بشيء من آلائك ربنا نكذب ولك الحمد]] . وكذلك أخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن هؤلاء الجن استمعوا القرآن فآمنوا، قال تعالى: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] أي: يدعون إلى الله تعالى ويبشرون بالرسالة الخاتمة. إذاً، لا يجوز أن تعقد مقارنة بين عدد المسلمين مثلاً وعدد اليهود والنصارى, وتقول: معنى ذلك أن عدد الكفار أكثر , وتنسى أن هناك جنوداً لا يعلمها ولا يحصيها إلا الله عز وجل، وكل هؤلاء مجندون لنصرة الحق متى وجد البشر المكلفون الذين يقومون به حق القيام. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 7 المقارنة بالدار الآخرة أولاً: تكون المقارنة مع الدار الآخرة: فإن الله عز وجل يقول: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] , وهذا القليل مما لا يمكن أن يخضع لحساب أيضاً, فإننا نعلم أن الدنيا محدودة, مهما طالت فهي عدد من السنوات محدود لا يعلمها إلا الله عز وجل؛ لأنه لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله! لكن الآخرة غير محدودة، فأهل الجنة كما في قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:108] , وأهل النار كما قال تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] . إذاً هي الجنة أبداً أو النار أبداً, جعل لهم الأبد ولو علم أهل النار أنهم يمكثون في النار عدد رمل عالج, أي: رمال صحراء الربع الخالي -مثلاً- لفرحوا، ولكن جعل لهم الأبد! قال سبحانه: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [النساء:169] وقال: {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] وقال: {لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً} [النبأ:23] . إذاً: هل يمكن المقارنة بين رقم محدود معروف ينتهي، وبين رقم لا يتناهى أبداً؟! إن المقارنة مستحيلة, لأنه لا يمكن المقارنة بين شيء ينتهي وشيء لا ينتهي. فكيف يجعل الإنسان تفكيره وهمه مقصوراً على هذه الدنيا الفانية المحدودة، وينسى تلك الآباد والآماد المتطاولة التي لا تتناهى أبداً في الدار الآخرة؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم يرجع} أدخل إحدى أصابعك في البحر ثم أخرجها، فانظر ماذا أخذت أصبعك من البحر؟ هذا البلل البسيط الموجود في أصبعك هل يقاس إلى هذا البحر المتلاطم؟! أبداً! ومع ذلك فإن هذا لمجرد التقريب لذهن الإنسان, وإلا فالواقع أن الدار الآخرة لا يمكن أن تقاس أو تقرن بهذه الحياة الدنيا الفانية المحدودة في الزمان والمكان. ولهذا يقول الله عز وجل مرشداً عباده المؤمنين لئلا يغتروا بهذه الدنيا وغلبة الباطل والكفر في وقت محدود أو زمان أو مكان محدود، يقول الله عز وجل: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] . إذاً، المؤمن حين يغفل عن الدار الآخرة؛ يختل الميزان في عينه, وتضطرب المقاييس في نظره، لماذا؟ لأنه أصبح ينظر إلى هذه الحياة الدنيا فقط، وينسى الدار الآخرة، وهو بذلك قد أخل بقضية في غاية الخطورة, فما الفرق بينك وبين الكافر؟ الفرق: يتلخص بأنك تؤمن بموعد غيب لم تره، ألا وهو الدار الآخرة, وهو لا يؤمن, ولهذا قال موسى: {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} [غافر:27] , ومدح الله رسله وأنبياءه وأولياءه فقال: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] . إلى أي مدى تعيش الدار الآخرة في قلبك؟ إلى أي مدى تدخل الآخرة في حساباتك بحيث تقول: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:196-197] وأيضاً حينئذٍ يقول الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة يقولون: نعم أنتم تتسلون بهذا الكلام, حينما رأيتم أن الدنيا قد أخذها الغرب والشرق، وهيمنت عليها حضارات الكفر والإلحاد، أصبحتم تتسلون بهذا الكلام. وأقول: كلا! مع أن هذا الكلام فيه تسلية لقلوب المؤمنين، وفيه تسرية لأرواحهم، وشد لعزائمهم وهممهم، وتثبيت لهم، ومع ذلك كله فإن هذا الكلام لا يقال لمجرد التسلية؛ بل هو حساب منطقي جيد حتى في نظر غير المؤمنين. ألم تر أن الكفار أحياناً يرضون بذل مؤقت طمعاً في نصر كبير؟! هذا موجود, وأقرب مثال: اليهود الآن؛ حين لم ينتقموا من الصواريخ العراقية التي أرسلت إليهم لماذا؟ ليس ذلك عجزاً، وإنما لأنهم يتحملون أن يظن أحد أنهم في فترة معينة سكتوا أو صبروا على شيء لحقهم طمعاً في نصر أكبر من هذا يحققونه. إذاً قد يؤجل الإنسان أمراً من أموره طمعاً في ما هو أكبر منه, حتى في المقاييس المادية الدنيوية البحتة, فما بالك بالمقاييس الأخروية؟ إن الأمر بالنسبة لها أوضح وأعظم. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 8 ومضات مشرقة في زمن التراجع الإسلامي ومع هذا كله -مع المقارنة بالدار الآخرة، ومع المقارنة بالملائكة عند الله عز وجل، ومع المقارنة بالماضي كله وبالمستقبل كله -فإنه حتى هذا البرزخ المظلم الذي عاش المسلمون فيه زماناً من التخلف في جميع مجالات الحياة: التخلف الديني عن دينهم وشريعة ربهم, وتبع ذلك التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي، والتخلف الصناعي، والتخلف العسكري، والتخلف الإعلامي، وكل صور التخلف التي هي أثر -أصلاً- عن تخلفهم عن الموقع الشرعي الذي أراد الله تعالى شرعاً أن يكونوا فيه؛ حتى هذا البرزخ المظلم لا يخلو من ومضات وإشراقات تصدق ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله} . فمثلاً: في هذا البرزخ المظلم منذ عشرات السنين الحركات الدعوية التي قامت في كل مكان تدعو إلى الله عز وجل, وتبصر الناس بأمر ربهم, وسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام, وآتت ثماراً حسنة في كل قارة؛ بل في كل بلد إسلامي, في الدعوة إلى الله وتربية الشباب على الإسلام, وعلى الدين وعلى الهدى، وحماية الشباب من لوثات الإلحاد والمادية والتشكيك، وحمايتهم -أيضاً- من الشهوات التي حاول الغرب بحضارته المادية أن يغرقهم فيها, هذه الدعوات هي إشراقات وإضاءات. لا يخلو الواقع من حركات جهادية، ترفع السلاح في وجه الباطل في أكثر من بلد إسلامي, ليس أفغانستان هي المثال الوحيد، وإن كانت من أبرز الأمثلة وأوضحها, وفيها حركة جهادية طالت، ونرجو أن تثمر -بإذن الله تعالى- ما يتمناه كل مسلم من نصر مبين للمجاهدين, ليست هي المثال الوحيد؛ بل هناك أمثلة كثيرة في إرتيريا وفي الفلبين وفي فلسطين وفي عدد من بقاع العالم الإسلامي؛ بل إن الحركات التي طردت المستعمر من بلاد المغرب والشام وغيرها هي حركات جهادية كان يقوم عليها علماء أفاضل كالشيخ عبد الحميد بن باديس -مثلاً- وعز الدين القسام، وأمثالهم من الأبطال العلماء المشايخ، الذين طاردوا فلول الاستعمار حتى أجلوه عن تلك الديار. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 9 صور اليأس في بعض القلوب لا يخلو هذا الواقع من علماء مجاهدين يهدون بالحق وبه يعدلون، وهم كانوا ولا يزالون ولن يزالوا موجودين إلى أن يشاء الله عز وجل وإلى قيام الساعة, فإن هؤلاء هم الحجة على عباد الله تعالى, قال الله تبارك وتعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] . ومع ذلك، فما أسرع أن تسلل اليأس إلى كثير من القلوب والنفوس, فأحبطها وأثر فيها, فوجدنا كثيراً من المسلمين -ومع الأسف من المسلمين الذين يتحرقون لواقعهم، ويتأسفون على واقع الأمة- أصبحوا يعيشون اليأس. واليأس له صورتان يجب أن نقرن بينهما: الجزء: 145 ¦ الصفحة: 10 التصرف غير المدروس الصورة الثانية: ومن الناس من أوصله اليأس إلى شيء آخر، وهي تلك الحركات العشوائية الطائشة التي لا تفقه سنن الله تعالى في خلقه, فتريد أن تبذر الزرع وتسقيه لينبت ويستوي ويثمر ويحصد في ساعة واحدة, وهذا لا يكون في الدنيا إنما يكون في الجنة فقط!! كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع, فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون بذره واستواؤه واستحصاده في لحظة واحدة, فقال رجل من الأعراب عند الرسول صلى الله عليه وسلم والله يا رسول الله! لا تجد هذا الرجل الذي استأذن ربه أن يزرع في الجنة إلا قرشياً أو أنصارياً, لأنهم هم أهل الزرع، فأما نحن فأهل ماشية} . فالله تعالى وضع في الدنيا سنناً لا بد أن تمشي وفق هذه السنن الإلهية, فالعمل لا بد أن يأخذ مجراه الطبيعي، تدرجه الطبيعي، ينتقل المسلمون تدريجياً وفق سنن مرسومةٍ وطريقة واضحة, أما تعجل الخطوات والارتباك والطيش والتعجل، فهذا لا يمكن أن ينفع إنما ينفع الأعداء فقط! فمثلاً: كثير من المسلمين يخيل إليهم أن المسلمين يجب أن يتجاوزا كل هذه الأمور، وأنه بين يوم وليلة سوف يتحقق لهم نصر للإسلام ساحق لا يخطر في بالهم! هذا لا يكون, وإن كان الله تعالى على كل شيء قدير، لكن السنن الإلهية ماضية والتدرج قائم, ومن الممكن جداً أن ينتقل المسلمون من الوضع السيئ الذي يعيشونه اليوم إلى وضع أحسن, وأن يتيح الله لهم أمماً ودولاً من الكفار يستطيعون أن يتعاملوا معها، ويستفيد المسلمون من التناقض الموجود بينها, بمعنى: أنه لو ظهر على مسرح الأحداث بعد حين مجموعة من الأمم الكافرة كالألمان والصين واليابان وغيرهم وأصبحوا يتنافسون على مراكز الصدارة في هذه الدنيا؛ لاستطاع المسلمون أن يستفيدوا من هذا التنافس في تحقيق نصر لهم, وبعد فترة أخرى الله أعلم بها يمكن أن يحقق المسلمون حضارة قوية وعلماً وتعليماً، ويكون لهم ريادة في هذه الحياة. أما تصور أن الأمور تأتي ارتجالاً هكذا وبصورة عفوية وعشوائية؛ فهذا مناقض ومخالف للسنن التي ركبها الله تعالى في الكون, قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة:114] يقولونه استبطاءً طال عليهم الأمر, حتى وهم الرسل الذين فقهوا سنة الله عز وجل استبطئوا النصر، وقالوا: متى نصر الله؟ فهنا يأتي نصر الله كما قال جل شأنه: {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . حتى وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] . الجزء: 145 ¦ الصفحة: 11 العزلة والانقطاع عن العمل الديني الصورة الأولى: صورة العزلة والانقطاع عن العمل، وعن الدعوة، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول كلمة الحق بحجة أن هذا العمل غير مثمر, وأن الذي يقوم بهذا العمل هو كالذي يحرث في البحر -كما يقولون- حتى يتمثل أحدهم بقول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادِ حتى سمعت بعض اليائسين يقول: هؤلاء الناس وهذا الجيل، لا أمل فيه إلا بطوفان يكتسحه ثم يأتي الله تعالى بجيل من عنده, هذا كلام غير صحيح بحال من الأحوال, هذا كلام النفوس الضعيفة, وكلام القلوب التي ما أشرق عليها نور الإيمان, وما أشرق عليها نور الوعد الإلهي بنصر المؤمنين. معي الأمة خير كثير, وفي الأمة قوة وعزة وإيمان، تحتاج -فقط- إلى أن ينفخ هذا الغبار، حتى ينصقل قلب المؤمن وتظهر الأمة على حقيقتها. في الواقع أن هذه الأمة أمة خير أمة جهاد، أمة بركة، أمة علم وتعليم, ألم تر إلى هذه الأمة وقد أصبحت لا ترضى بالعلماء بديلاً؟! هذا لا يدل إلا على أنها أمة الدعوة والعلم والجهاد, حتى البعثي اليوم أصبح لا يقول: أنا بعثي واشتراكي, ولا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما أصبح يرفع راية الإسلام ويلبس لبوسه ويتكلم بقضايا الجهاد, لماذا؟ لأنه رأى أن الإسلام هو العملة الرائجة -كما يقال- وأنه لا يحرك الشارع إلا الإسلام, ورأى أن الشعارات كلها تآكلت وانتهت, فأصبح العلماني الذي كان بالأمس لا يجيد إلا فن الغناء والطرب واللهو والكلام الفارغ, أصبح يتكلم قال الله قال رسول الله رواه البخاري رواه مسلم متفق عليه صححه الألباني!. وأصبح الذي كان بالأمس بعثياً يحارب الله ورسوله، أصبح لا يقول: حزب البعث العربي الإشتراكي, إنما يعلن الجهاد المقدس والحرب بين المسلمين والكفار، ومثل ذلك, فعلى ماذا يدل هذا؟! يدل على أن الجميع عرفوا أن هذه الأمة هي أمة الدعوة وأمة الجهاد, أنها أمة الإسلام بدءاً وانتهاءً، ولهذا أصبحوا يخادعونها على هذا الدين, وكل واحد منهم يرفع الإسلام، يريد أن تعطيه الأمة شهادة حسن سيرة وسلوك. إذاً: الأمة فيها خير كثير، وعندها استعداد كبير، ووعد الله تعالى بها، ووعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، لا يزال قائماً أبداً, ولا ينبغي للإنسان أن يغفل أو ينخدع عن هذا الأمر, فكثيراً ما نسمع التهويل من شأن الناس, وشأن الأمة, وأن هؤلاء دهماء وما أشبه ذلك! لا يا أخي! هؤلاء المسلمون الواحد منهم له عند الله تعالى أعظم المنزلة؛ لأنه من أهل لا إله إلا الله, إذا كان لم يأت بما ينقضها, فهو من الموعودين بالجنة, وكلمته لها ثقل, ودعوته تفتح لها أبواب السماء, وله ثقل في الدنيا وفي الآخرة، وفي السماء والأرض. إذاً: من الناس من آثر العزلة عن هذا الواقع, وقال: هذا واقع لا خير فيه! مع أنه يرى بعينه ثمرة العمل, وأن الذين عملوا وجدوا واجتهدوا ودعوا، وجدوا، واستجاب الناس لهم بل حتى من الكفار، وجدنا من تقبل الدعوة إلى الله تعالى, فضلاً عن المسلمين، وما قام داعٍ إلى الله تعالى مهما كان أسلوبه غير مناسب, ومهما كان عنده من النقص ومهما كان عنده من الخطأ, ما قام داعٍ إلى الله تعالى في بلد إسلامي، ثم ظل وحده أبداً مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر عن الأمم السابقة فقال: {يأتي النبي ومعه الرجل والرجلان ويأتي النبي وليس معه أحد} الحديث. إذاً: هذه الأمة أمة مُجرَبةٌ، أنها تملك الاستعداد، وأنها تملك قلوباً حية متى سمعت المنادي الصادق, متى سمعت الحق, قالت: لبيك لبيك هاأنا بين يديك. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 12 استبطاء النصر في كثير من الأحيان حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام يستبطئون النصر، فيقولون: متى نصر الله؟ وهنا يأتي نصر الله. فعلى الإنسان ألا يتعجل، وأن يدرك أن العاقل ينبغي أن يعرف سنن الله تعالى في الكون، ويعمل وفق هذه السنن, حتى يصل إلى النتيجة التي يريد, فكل شيء له سبب, فما لم تفعل الأسباب، لا تطمع في حصول النتيجة، وإن كنا نعلم يقيناً أن الله تعالى قادر على كل شيء, وإذا فعلت ما تستطيع كفاك الله ما لا تستطيع, ولهذا قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] أما ما لا تستطيعون فالله تعالى يمدكم بجند من عنده، ويمددكم بروح من عنده. ولهذا جاء في الصحيح؛ من حديث خباب رضي الله عنه قال: {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة} الصحابة رضي الله عنهم ضاقوا من الإيذاء والاضطهاد، ومن التكذيب والتعذيب, وقريش مهيمنة، وليست قريشاً فقط؛ بل الدنيا كلها من وراء قريش، فارس والروم والدول الكبرى كلهم مجمعون على حرب الرسول صلى الله عليه وسلم وحفنة من المؤمنين معه, فضاقت عليهم السبل، فجاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع متوسداً بردة, قالوا: {يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقعد النبي صلى الله عليه وسلم واحمرّ وجهه} . فلم يكن احمرار وجهه عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم طلبوا منه الدعاء فإنه كان بالمؤمنين رؤوفاً رحيماً, فإذا طلبوا منه الدعاء أسرع إليه واستغفر لهم, كما قال الله عز وجل: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] لم يكن احمرار وجهه عليه الصلاة والسلام ولا غضبه؛ لأنهم قالوا له: ادعُ لنا, إنما لأنه أحس عليه الصلاة والسلام من قولهم: ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ بأن القوم قد استبطئوا الأمر, واستثقلوه, وضاقت عليهم السبل, وضاقت صدورهم, فقال: {إن من كان قبلكم كان يؤتى بالرجل منهم فينشر بالمنشار من دون عظمه ولحمه وعصبه, ويحفر للواحد منهم في الأرض فيجعل فيها ويشق إلى نصفين ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر} إذاً الكلام الأول أثبت النبي صلى الله عليه وسلم فيه قضية السنة الإلهية. السنن الإلهية كائنة على الجميع, فالشمس تشرق على المسلمين والكفار, وتغرب عن المسلمين والكفار، ليست بلاد المسلمين خاصة لها شمس لا تغيب عنها أبداً! السنة الإلهية ماضية على الجميع, فبين النبي صلى الله عليه وسلم السنة، ثم قال مبيناً مستقبل هذا الدين وأن النصر في النهاية للمؤمنين الصابرين: {والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون} . وزاد في رواية: {وهو صلى الله عليه وسلم متوسد بردة وقد لقينا من المشركين شدة} إذاً: هم ضاقوا من مضايقة، وضاقوا من بلاء نزل بهم, ضاقوا من إيذاء، ومن اضطهاد ومن تعذيب ومن تكذيب فجاءوا، وقالوا: يا رسول الله! ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال: على رِسلِكم. فالمستقبل للإسلام, الإسلام منصور, أنا وأنت، والثاني والثالث، والأمم والدول، والأسماء والرايات، واللافتات تذهب وتجيء, كم مضى منذ وجد الإسلام؟ منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم؟ كم مضى من أمة ومن اسم ومن شعار والإسلام باقٍ؟!! والذي يريد أن يواجه الإسلام -يحارب الإسلام- هذا مسكين! فهو كصبي صغير يريد أن يواجه السيل الجارف بيده, أو كإنسان يريد أن يحجب أشعة الشمس بيده الضعيفة! أتطفئ نور الله نفخة فاجر تعالى الذي بالكبرياء تفردا نور الله تعالى لا يمكن أن يطفئه أحد, قال تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] . وهذا الدين هو روح هذه الأمة وهو حياتها وسر بقائها، ووجودها, وهي للإسلام مهما غضب الغاضبون, وأرغوا وزمجروا وأزبدوا! هذه الأمة أمة الإسلام! فالذي يريد أن يقضي على الإسلام عليه أن يقضي على هذه الأمة, وهل يستطيع أن يقضي على هذه الأمة؟! هيهات هيهات! لا يستطيع، ونقول: محال, لماذا؟ لأن هذه الأمة موعودة بالبقاء, وليس بالبقاء فقط؛ بل موعودة بالسناء والنصر والتمكين, ولا يزال الله تعالى يغرس لهذا الدين غرساً يستعمله في طاعته, والعزة لهذا الدين، لا يترك الله عز وجل بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله تعالى الإسلام, بعز عزيز أو بذل ذليل, عزاً يعز الله به الإسلام وذلاً يذل به الكفر. إذاً: أمة الإسلام باقية، والإسلام باقٍ, والقرون التي مضت؛ مضى من هو أشد منهم قوة, وأكثر منهم بطشاً وأشد منهم بأساً وأكثر طغياناً، ومع ذلك مضوا وبقي الإسلام. كم دفن الناس من طاغية؟! كم دفنوا من محارب لله ورسوله؟! كم دفنوا من عدو للإسلام؟! كم دفنوا من ملحد؟ من زنديق؟ من محارب فـ هولاكو مضى! وجنكيز خان مضى! أولئك كلهم مضوا، وقرون بين ذلك كثيرة مضت وبقي الإسلام شامخاً, لأنه دين الله عز وجل؛ موصولة جذوره وضاربة في الأرض وفروعه في السماء قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] هذا مثل الكلمة الطيبة، ولا إله إلا الله هي الكلمة الطيبة. فالابتلاء وارد, قد يؤذى المؤمنون، وقد يضعفون في وقت من الأوقات، وهذه سنة الله عز وجل كما حصل وكما عرف، لكن في النهاية النصر مع الصبر, وكم من أمة عاشت ما عاشه المسلمون في هذا الوقت؟ اليهود الآن لهم تمكين في دولة إسرائيل، ولهم نفوذ في الغرب في أمريكا وغيرها وفي الشرق -أيضاً- وقد أصبح اليهود يأتون إلى إسرائيل من روسيا مئات الألوف من المهاجرين, ويتجمعون, ولا شك أنها دولة تملك من القوة ما تملك, لكن! تساءل يا أخي الكريم! كم مضى على اليهود وهم مشردون مطرودون في الدنيا؟ مضى عليهم قرون طويلة واليهود كانوا أقليات تطارد في كل بلد, ولعلكم تسمعون ما يشاع عن هتلر في ألمانيا وماذا صنع باليهود, وقد يكون بعض ما قيل مبالغة لكن له أصل. اليهود عاشوا كما أخبر الله تعالى عنهم {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران:112] , عاشوا قروناً طويلة في غاية الذل، ومع ذلك -الآن- أعطوا بعض التمكين المؤقت، ومثلهم الرافضة الباطنية عاشوا أزمنة طويلة وهم أقليات مضطهدة مشردة, والآن قامت لهم دول تحميهم. هذه هي القضية الأولى التي يجب أن تكون واضحة في أذهاننا، وهي: أن من أراد أن يقارن بين الإسلام والكفر, فعليه أن يستحضر كل هذه المقارنات، حتى يعتدل الميزان في نظره. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 13 سنة المداولة أما النقطة الثانية التي أود التركيز عليها فهي: أن عندنا في كتاب ربنا عز وجل سنة عظيمة جداً من سنن الله تعالى اسمها "المداولة"، قال الله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه في صحيح البخاري عندما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وصار الكلام بينهما, سأله هرقل عن حالهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم, فقال: الحرب بيننا وبينه سجال, يدال علينا وندال عليه, مرة لنا ومرة له, انتصر علينا في بدر وانتصرنا عليهم في أحد: فيوم علينا ويوم لنا ويوم نساء ويوم نسر إذاً: مسألة المداولة: أمر طبيعي وكم مضى من الأمم والدول تتغير ويخلف بعضها بعضاً، ولذلك فإن المسلمين الذين شاهدوا أفول نجم الإسلام في بلد أو في أمة؛ يتكلمون عن هذه السنن؛ لأنهم لمسوها بأيديهم مثلما حصل في الأندلس, تسمعون وتعرفون القصيدة الشهيرة في رثاء الأندلس المنسوبة لـ أبي البقاء الرندي وفيها يتكلم عن سنة إلهية (سنة المداولة) {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] : لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان يمزق الدهر حتماً كل سابغة إذا نبت مشرفيات وفرسان وينتضي كل سيف للفناء ولو كان ابن ذي يزن والغمد غمدان حركة التاريخ -أيها الإخوة- لا تتوقف أبداً، التاريخ يمضي, وحركة التاريخ لا تتوقف, لم تتوقف هذه الحركة عند المسلمين, فالمسلمون أنفسهم لما أخلوا بالسنة الإلهية وقصروا في الواجب وأخلدوا إلى الراحة، أصابتهم وحقت عليهم السنة فتأخروا وتركوا المجال لغيرهم لم يتوقف التاريخ من أجل المسلمين، وهم أقرب الناس إلى الدين وإلى الله عز وجل وإلى الحق؛ فضلاً عن غيرهم من الأمم الأخرى. من يملك القوة في كثير من الأحيان يغتر بها، ويفرح بما عنده، ويظن أن حصونه تمنعه من الله عز وجل, قال تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر:2] أمر ليس في حسبانه، وليس واضعاً هذا الشيء في الاعتبار، وهذا الشيء الذي غفل عنه يكون هو سر زواله وانحلاله. يقول الله تعالى: {إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا} [يونس:24] هنا تحققت السنة الإلهية {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24] . خذ على سبيل المثال: الشيوعية، هل تدري -يا أخي الحبيب- أن الناس كانوا يقولون: الشيوعية الآن مبدأ يقوم على الإلحاد وإنكار وجود الله، ومع ذلك لها دول تحميها ودول قوية عظيمة ممكنة؟ وما علموا أن مدة هذه الدول هي عشرات السنين، أي: ما يقارب السبعين سنة أو تزيد قليلاً, ثم بعد ذلك بدأ العد التنازلي لـ الشيوعية وزوالها. هل تعرف يا أخي الحبيب! أن الشيوعية نفسها كانت تقوم على مبدأ يسمونه "ديالكتيك" ولا أريد أن أشرحه لأنه لا يناسب شرحه في هذا المقام, لكنه مبدأ يقول: إن هناك تغيراً دائماً في الكون، وفي النهاية إذا وصلوا إلى الشيوعية يقول لك: وصلوا هنا إلى الفردوس المنتظر وبعد ذلك ينتهي. أي: أنهم يرون أن التاريخ يمشي حتى إذا وصل إلى الشيوعية توقف, فتتولى الشيوعية إلى الأبد هذا تفسيرهم وهذا منطقهم، ومع أنه منطق أعوج، فقد اغتر به من اغتر, وإذا بالتاريخ لا يبالي بهؤلاء ولا بغيرهم، فتبدأ الشيوعية تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 14 خداع الغرب الغرب الممثل في أمريكا وغيرها من الدول الغربية تقع في الفخ نفسه, فإنهم يتبجحون الآن بما كانت تتبجح به الشيوعية من قبل (بالفردوس المنتظر) فهم يتبجحون بما يسمونه بـ (السلام العالمي والنظام العالمي) ومع ذلك يردده مع الأسف بعض بني جلدتنا من الأغبياء والسذج والبله والمغفلين يرددون السلام العالمي والنظام العالمي, ولا يعلمون ما هو المقصود بالسلام العالمي؟!! إنه هراء!. هل تدري يا أخي الحبيب! أن هؤلاء الذين ينادون بالسلام العالمي يعنون أن يستسلم العالم لهم!! وإلا فلماذا ميزانياتهم الضخمة في التسليح؟ ولماذا ميزانيتهم الضخمة في الدفاع؟ ولماذا هذه الجهود الجبارة في ابتكار أخطر وأحدث أنواع الأسلحة البرية والبحرية والجوية؟!! إذا كانت المسألة مسألة سلام، فلماذا سباق التسلح؟ ولماذا هذه الجهود الهائلة عند هؤلاء الغرب والشرق المنادين بالسلام العالمي؟ هذه الجهود لأنهم يقصدون السلام أن يظلوا هم سادة العالم وألا يوجد أحد ينافسهم على السؤدد، وعلى القوامة أو الوصاية على البشرية, ولذلك هم يرفعون بيد غصن السلام أو غصن الزيتون -كما يقال- وباليد الأخرى البندقية, بل إنهم يدخرون ويمتلكون أفتك ألوان الأسلحة بما في ذلك الأسلحة التي يقولون عنها: إنها محرمة دولياً -على حد تعبيرهم- مثل الأسلحة الجرثومية والكيماوية والبيولوجية والنووية، يتكلمون عن هذه الأسلحة أنها محرمة, وأنه لماذا تمتلك الباكستان منها مثلاً؟. حتى أنهم منعوا المعونة عن باكستان! فخفضوها من خمسمائة مليون إلى مائتين وثمانين -تقريباً- وحتى المائتين والثمانين هذه لا تصل إليهم؛ بل تمنع حتى يثبت أن باكستان لا تحاول أن تمتلك السلاح النووي, لماذا؟ لأن المسلمين لا ينبغي أن يمتلكوه! أما هم فيمتلكون أفتك الأسلحة. فهل المسلمون هم الذين ضربوا اليابان في هيروشيما ونجازاكي بالقنبلة الذرية؟! ليس المسلمون؛ بل ضربها الغرب, والتاريخ يشهد بأنهم ليسوا على مستوى أن يمتلكوا هذا السلاح؛ لأنهم يستخدمونه بغير محله, أما المسلمون فلا شك أن تاريخهم في هذا الأمر لا يزال لا يقاس بغيره. إذاً هم ينادون بهذه الشعارات البراقة السلام العالمي والنظام العالمي! ويتلقفها بعض بني جلدتنا وينسون أن هذا الأمر حتى شرعاً مستحيل, فعندنا نص يقول: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] , لم يقف التاريخ عند دولة الخلفاء الراشدين، ولم يقف التاريخ عند بني أمية، ولم يقف عند بني العباس، ولا عند بني عثمان، ولا عند أحد! فكيف يقف عند الغرب أو روسيا أو أمريكا أو فرنسا أو غيرها؟! التاريخ لن يتوقف وسنة الله جارية، يداول الأيام بين الناس, ولا يمنع ولو بعد خمسين أو أقل أو أكثر، أن الله يكتب للأمة الإسلامية نصراً وتمكيناً، وتصبح أمة ظافرة ممكنة متى قامت بالأسباب الشرعية الممكنة. ونحن نجد أن هناك أمماً كاليابان والصين بدأت من الصفر وهي مسبوقة واستطاعت أن تستورد التقنية والتصنيع, وأن تبتكر وأن تنافس أرقى المنتجات العالمية, بل إن اليابان غزت حتى أمريكا في كثير من صناعاتها, مع أنهم سبقوا في البداية وضربوها، ولا زالت اليابان تعيش آثار وضع سابق. إنما هذه شعارات ترفع ولا ينخدع بها إلا السذج، أما العاقل فيقول: اصنعوا ما أردتم من بنود وارفعوها على حراب الجنود واستروا من ورائها أنياب الذئب بزيوف المنى وبرق الوعود ثم سوقوا لنصرها زمر الأنعام من كل جاهل وحقود فالأباطيل للزوال وإن أمهلن والحق وحده للخلود إذاً: فالاغترار بالقوة هو أعدى أعداء القوة نفسها, فالمؤمنون أنفسهم عاتبهم الله بقوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25] . الجزء: 145 ¦ الصفحة: 15 إرهاصات النصر أمر ثالث وأختم به وهو موضوع (إرهاصات النصر وبشائر النصر) : إرهاصات النصر وبشائره كثيرة، هذه القلوب الحية التي تؤمن بالله عز وجل وتؤمن بوعده، وتنتظر موعود الله تعالى وموعود رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعمل على تحقيقه بقدر ما تستطيع؛ هذه القلوب هي الأرضية الخصبة الصلبة لتحقق وعد الله تعالى, وصناعة المستقبل الإسلامي. هذه الجموع من الشباب المؤمن المتطلع إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، والذي يتحرق إلى الشهادة، فإذا ذكر الجهاد وذكرت الشهادة ارتفعت روحه, وارتفعت من فمه الدعوات الصادقة بأن يرفع الله تعالى علم الجهاد. هذه الدعوات الصادقة أيضاً من القلوب التي ترتفع في جوف الليل, تتحرى بصدق، وكل ما تدعو به هو أن يعز الله الإسلام والمسلمين ويذل الشرك والمشركين؛ وهذا لا شك أنه مبشر بوعد الله تعالى وتحقق الإجابة بإذنه عز وجل. وكذلك هؤلاء الجنود المرابطون في كل مكان، وأعني بذلك: أولئك المرابطين على كل ثغر ثغر الجهاد باللسان، بالكلمة الطيبة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثغر المال والجهاد بالمال في سبيل الله عز وجل على الفقراء والمساكين والمحتاجين والضعفاء والمجاهدين في كل مكان, ثغر الجهاد العسكري والذين يحملون السلاح في سبيل الله تعالى، لا يريدون إلا نصرة دين الله وإلا حماية شريعته وإلا الحفاظ على المؤمنين وحمايتهم من عدوهم. الذين يجاهدون في ميدان الجهاد الاقتصادي، الذين يجاهدون ويرابطون في ميدان الجهاد الإعلامي, وكل ميادين الدعوة إلى الله عز وجل, هؤلاء الذين أصبحوا لا تخطئهم عينك في كل مكان, أي إدارة تدخلها أو مؤسسة أو مدينة أو بلد لا يمكن إلا أن تجد فيها نماذج حية من المؤمنين المتدينين الصادقين, وليس تديناً عادياً؛ بل تديناً على علم وبصيرة ووعي وإخلاص, وتجد الواحد منهم داعية إلى الله عز وجل فيمن حوله, من خلال نشر الكتب والأشرطة، والكلمة الطيبة، والدعوة، وإقامة حلقات تحفيظ القرآن والدروس العلمية إلى غير ذلك من الوسائل والأسباب. بل إن من أكبر الأدلة والإرهاصات على مستقبل الإسلام هذا الرعب العالمي والخوف العالمي الذي قذفه الله تعالى في قلوب الكافرين من الإسلام, على رغم أن المسلمين في وضع معلوم، ومع ذلك الغرب والشرق يتنادون بخطر الإسلام القادم, حتى إنهم يطلقون على العالم الإسلامي اسم (العملاق النائم) الذي يخشون ويخافون أن يستيقظ في أي لحظة فيأتي على بنيانهم من القواعد, فيخر عليهم السقف من فوقهم ويأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهذا واقع بإذن الله تعالى كما قال جل شأنه: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة:51] وقال: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] . وكذلك هذا التقدم في المواقع التي يشهدها المسلمون -بإذن الله تعالى وعونه ونصره- يوماً بعد يوم. إذاً: العالم يشهد الآن ميلاداً قوياً -إن شاء الله- لمستقبل مشرق لهذا الدين، ويجب على المؤمنين أن ينطلقوا بالعمل الصادق، وهم مؤمنون بأن هذا الوعد الإلهي سيتحقق -بإذن الله تعالى- وإن لم نشهد هذا نحن بأعيننا، فسيشهده أولادنا أو من يأتي بعدنا, وليس لأحد منا أن يقترح على الله تعالى تحقيق الوقت الذي يتحقق به, وإن كان الإنسان كما ذكر الله تعالى: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ عَجُولاً} [الإسراء:11] . فالعبد يتمنى أن يرى نصر الإسلام بعينه، وكلنا ذلك الرجل, ومع ذلك فقد يتحقق هذا لنا أو يتحقق لأولادنا، المهم أننا قد ضمنا وآمنا وقطعنا بمقتضى علمنا بشريعة ربنا وعلمنا بسنن الله تعالى في الحياة, ومعرفتنا بواقع البشرية اليوم -أيضاً- بأن المستقبل قادم لهذا الدين, وأن نصر الله قريب غير بعيد. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 16 الأسئلة الجزء: 145 ¦ الصفحة: 17 تأييد كثير من المسلمين للنظام العراقي السؤال يلاحظ أن جمعاً كبيراً من المنتسبين لهذا الدين يؤيدون النظام العراقي, نرجو بيان أسباب ذلك ولا سيما أنه على باطل؟! الجواب نعم هذه ظاهرة ملفتة للنظر، وقد كان الذين يؤيدون العراق قليل, لكن الآن بعدما وقعت الحرب أصبحنا نسمع -وهذا كلام الإعلام- المظاهرات في عدد من بلاد العالم الإسلامي، تؤيد العراق فما هو السبب في ذلك؟! أعتقد أن الأسباب كثيرة: قد يكون جهل المسلمين سبب في ذلك. ولكن هناك سبب آخر وهو: ما ذكرته أثناء المحاضرة أن العراق أصبح يجيد فن الكذب والخداع, والكذب والخداع له أصول, فالذي يضبط أصول الكذب يستطيع أن يخدع الناس ولو لفترة من الزمان, كما يقولون في المثل: (تستطيع أن تخدع الناس كلهم جزءاً من الوقت, وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت, لكن لا تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت) فالعراق الآن يمارس خداع بعض الناس بعض الوقت, لماذا؟ لأنه تاجر بقضية الدين رفع شعار الدين وقضية الجهاد المقدس -كما يعبرون- وما أشبه ذلك، فاغتر به كثير من الناس الذين لم يسمعوا هذا الكلام منذ زمان طويل, وهذه لعبة لا شك أنها تحتاج إلى من يجيدها, فمن أجادها استطاع أن يستفز كثيراً من المشاعر، ويلهب كثيراً من النفوس والقلوب التي طالما اشتاقت وتطلعت إلى القضاء على اليهود مثلاً وإلى نصرة الإسلام وإلى الدفاع عن حقوق المضطهدين والمشردين من الشرق والغرب كفلسطين أو غيرهم. فالذي يستطيع أن يستخدم هذه الأمور بطريقة ذكية فقد يضلل الناس لفترة من الزمان, أعتقد أن هذه من أهم الأسباب وقد يكون هناك أسباب أخرى. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 18 ضرورة تثبيت عقيدة الولاء والبراء السؤال ماتعليقكم على هذه الأحداث التي تزعزعت فيها عقيدة الولاء والبراء عند كثير من الناس؟ الجواب نعم هذه من أعظم المشكلات التي يجب أن يتكلم عنها الدعاة وطلبة العلم والخطباء، وأن يخافوا الله عز وجل, لأن قضية الولاء والبراء قضية جوهرية ولب في الإسلام, حتى إنه لم يرد من النصوص بعد الشهادتين في القرآن أكثر مما ورد في موضوع الولاء والبراء. والقضية واضحة أن الكون منقسم إلى قسمين: "مسلمين" و"كفار", المسلمون بعضهم أولياء بعض, والكفار بعضهم أولياء بعض, قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] . وحتى الكفار الكفر ملة واحدة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [المائدة:51] وقال: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1] وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] لا توجد حيلة يا إخوان! هذا كلام رب العالمين ولن: بنفي التأبيد, {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] . إذاً أمم الكفر -بعثيّها وشيوعيّها واشتراكيّها ونصرانيّها ويهوديّها- كلهم لن يرضوا عن المسلمين، حتى يتبع المسلمون ملتهم, وهذا لن يحدث إن شاء الله تعالى, فالمسلمون يثبتهم الله بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. المهم: توضيح هذه العقيدة، ورسم معالمها من خلال القرآن الكريم، والسنة النبوية والتاريخ من أهم المهمات التي ينبغي أن تطرق في مثل هذه الظروف. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 19 حكم دعاء القنوت السؤال يسأل عن دعاء القنوت وما يتعلق به؟ الجواب مقصود السائل القنوت في الفريضة, قنت النبي صلى الله عليه وسلم في النوازل في الصلوات كلها ظهراً وعصراً ومغرباً وعشاءً وفجراً, ولا بأس أن يقنت الإنسان في النوازل التي تنزل بالمسلمين, ولا شك أن المسلمين الآن يعيشون نوازل وليست نازلة واحدة. فالقنوت في مثل هذه النوازل في الفريضة لا بأس به, لكن ينبه في هذا على أمور: 1- الدعاء ليس مخصوصاً في القنوت بل يدعو في كل حال, وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وجوف الليل الآخر من أقرب أوقات الإجابة, والدعاء الخفي من أوقات الإجابة، قال تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} [مريم:3] , فلا تنسى هذا. 2- أن الإنسان ينبغي أن يدعو بالجوامع من الدعاء, فبعض الناس يدعون ويتكلفون في الدعاء وقد يعتدي أحدهم في الدعاء ويطيل بما لا جدوى منه, وكان يمكن أن يختصر دعاءه بكلمات مختصرة يدعو للمؤمنين ويدعو على الكافرين. وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بالجوامع من الدعاء, أي الكلمات المختصرة التي تجمع معنى عظيماً في لفظ موجز!! 3- أنه لا ينبغي المشقة على الناس؛ لأنه ما دام أنك تقنت في كل الأوقات أو أكثرها، يشق على الناس أن تقنت ربع أو ثلث ساعة, ولا ينبغي أن تبغض إلى الناس هذه العبادة؛ بل اقنت خمس دقائق أو أقل من ذلك -كما ذكرت- بجوامع من الدعاء, ولعل الله يجعل فيها البركة. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 20 من شروط الجهاد السؤال هذا يسأل عن الذهاب إلى أفغانستان؟ الجواب لا شك أن الذهاب إلى أفغانستان للتدريب أمر طيب في كل وقت, وأما الذهاب للجهاد، فلا ينبغي أن يذهب الإنسان إلا بإذن والديه، فإن لم يأذنا له بذلك فلا يذهب. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 21 الجهاد للمذنب والمديون السؤال يريد الجهاد لكن يمنعه من ذلك كثرة المعاصي والدَّين، فماذا يفعل؟ الجواب أما الدين فنعم, وأما كثرة المعاصي فيا أخي: الجهاد يذهب الله به المعاصي, {ألم تعلم بأن الشهيد يغفر له مع أول قطرة من دمه؟ إلا الدّين كما أخبرني بذلك جبريل آنفاً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 22 الخوف من المعارك والحروب السؤال بعض الناس لا ينام ولا يأكل إلا القليل لشدة خوفه من هذه الأحداث, فما نصيحتك لمثل هؤلاء؟ الجواب نصيحتي بالنسبة للأكل لا بأس أن يقلل أحدهم من الأكل, ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه, وأما النوم إن كان قد قضى وقته بقيام وذكر وقراءة قرآن؛ فحبذا، قال تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17] . أما بالنسبة للأحداث، فأقول: إننا نحن في هذه البلاد بالذات منذ زمن طويل لم نتعود على الحروب, ولذلك وقعت على كثير من النفوس وقعاً شديداً, حتى اتصلت بي إحدى النسوة في أحد البلاد تقول: بسبب صفارات الإنذار أصبحت أخاف من كل شيء, فإذا سمعت صوت الطفل وهو يبكي؛ أصابني فزع, وإن سمعت صوت السخانة فزعت! وإذا سمعت أي صوت. فزعت! بسبب شدة الخوف, وهذا باعتقادي أنه أمر طبيعي لأنه ما اعتاد الناس على ذلك، ومع الوقت يتحول الأمر إلى عادي ويتأقلمون مع هذا. إضافة إلى هذا نقول: هذا بسبب ضعف الإيمان وشدة الخوف من غير الله تعالى. فينبغي أن يحث الناس ويربوا على الخوف من الله والثقة بوعد الله والإيمان بالقضاء والقدر, وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 23 دعم المجاهدين الأفغان السؤال المجاهدون الأفغان وحالهم ولا سيما في هذا البرد القارس, والصدقة تدفع البلاء, فهل تحث الحضور على الإنفاق لهم؛ لا سيما أنه سيجمع لهم في نهاية المحاضرة؟ الجواب نعم, كما ذكرت في أثناء المحاضرة وسبق أني ذكرت في مناسبات كثيرة, من أهم أسباب دفع البلاء أن نلتفت إلى المستضعفين, والمستضعفون قد يكونون بيننا، وقد يكونون شعوباً إسلامية أخرى مسها البلاء, وصاحوا ونادوا وما التفتنا إليهم! فينبغي أن نستدرك ما حدث من تقصير بدعم إخواننا المجاهدين الذين يستغيثون بنا في كل مكان: كم يستغيث بنا المستضعفون وهم أسرى وقتلى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان فينبغي أن ننصر إخواننا المجاهدين، ولا شك أن نصرهم بالمال خاصة في هذه الظروف من أهم أسباب دفع البلاء. فأدعو إخواني إلى مساعدتهم بذلك دون أن نتبع ما أنفقنا مناً ولا أذى، وإنما هو مال الله استخلفكم فيه، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] وقال: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] . اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك, اللهم أعز الإسلام والمسلمين, اللهم أعلِ بفضلك كلمة الحق والدين, اللهم أذل الشرك والمشركين, اللهم اخذل أعداء الدين, اللهم انصر من نصر الدين واخذل من خذل الدين, اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك, اللهم عليك بهم, اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف, اللهم اشدد على الكافرين وطأتك, اللهم اشدد عليهم وطأتك, اللهم ارفع عنهم يدك، اللهم من أراد الإسلام أو بلاد الإسلام أو المسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره, اللهم اجعل تدبيره تدميراً عليه يا حي يا قيوم يا من قال في محكم تنزيله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:16-17] !! اللهم اخذلهم، اللهم أنزل عليهم بأسك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم آمنا في أوطاننا, اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضوانك يا حي يا قيوم. اللهم إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا وما فعل السفهاء منا، إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. اللهم اكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار, اللهم استجب اللهم استجب. اللهم صلِ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 24 دورنا نحن وماذا نصنع السؤال كلنا يحب نصر الدين وبوده أن يعمل شيئاً ينصر به دين الله تعالى. ما دورنا وماذا نفعل؟! الجواب في الواقع!: إن الذي لا يحب نصرة الدين هذا ليس بمؤمن, ولذلك قال بعض أهل العلم عندما ذكروا الأدلة أو صفات المنافق نفاقاً اعتقادياً: أنه يفرح بانخفاض دين الرسول ويسر ويحزن لارتفاعه وانتصاره. إذاً: قضية أصلية في الإسلام، في الإيمان، في العقيدة؛ أن تكون ممن يتمنى نصرة الدين. أما ماذا تفعل؟ فأنا أريد أن أقف معك عند بعض الوقفات اليسيرة, يقول الله عز وجل في ذكر يوم القيامة: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:33-37] . إذاً: يوم القيامة كل إنسان له شأن يغنيه عن غيره، يلهو الرجل عن أمه وعن أبيه وزوجته وأخيه وقريبه وعن حبيبه، له شأنه يغنيه. وكذلك الحال في الدنيا! فكل إنسان عليه واجب لا يقوم به غيره, فالأب عليه واجب لا يقوم به الولد؛ واجب التربية والتعليم والرعاية, والولد عليه واجب لا يقوم به الأب، وهو واجب البر والصلة والإحسان, والزوج عليه واجب لا تقوم به الزوجة والعكس, والحاكم عليه واجب لا يقوم به المحكوم, والمحكوم عليه واجب لا يقوم به الحاكم, فكل إنسان عليه دور يجب أن يقوم به, هذا أولاً. ثانياً: المسلمون الأوائل كان الواحد منهم يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة وهو مستخفٍ تجرأ عليه قومه فلا يستطيع أن يصلي أحياناً إلا سراً, ومع ذلك يأتي الرجل من البادية فيجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ربما ساعة أو نصف ساعة مجلساً أو مجلسين يسمع آيات معدودات قد لا تتجاوز الخمس أو العشر، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله, ويخرج من مكة مستخفياً إلى قبيلته، وهناك يتحول إلى داعية من طراز فريد, فلم يتحول من الكفر إلى الإسلام فقط، لا؛ بل تحول من كافر محارب إلى داعية مجاهد مناضل في سبيل الله تعالى. الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه من قبيلة دوس، يأتي إلى قريش فلا يزالون به حتى وضع في أذنيه القطن, لئلا يسمع الرسول صلى الله عليه وسلم, قالوا له: هذا يفتنك عن دينك, فلما وصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: والله إني رجل لبيب عاقل, انتقد نفسه في هذا التصرف أتعير عقلك غيرك وتقلد في هذه القضية الخطيرة؟! لا, فأزال القطن، وقال: أسمع من محمد عليه الصلاة والسلام، فإن كان ما قال حقاً قبلت, وإن كان باطلاً رددت, وأنا رجل أعرف الشعر من غيره وأعرف الهجر والرجز والقصيد والنظم والنثر. المهم: أنه استمع من الرسول صلى الله عليه وسلم فرأى حقاً لا يقبل الجدل في الوجه مباشرة, فآمن وأسلم ودخل الإيمان قلبه. ماذا صنع الطفيل بن عمرو الدوسي؟! إنه ما جلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلا ربما جلسة واحدة, فرجع إلى قومه، فأقبلت إليه زوجته، فقال: إليك عني! فلست منك ولست مني! فتقول: ولم بأبي أنت وأمي؟ قال: فرق الإسلام بيني وبينك أنا مسلم وأنت كافرة, قالت: ديني دينك! قال: إذاً اذهبي واغتسلي, فجاءه أبوه وجاءته أمه، فقال لهما مثل ما قال لزوجه، وجاءه قومه -وله عندهم مكان- فقال: اذهبوا لست منكم ولستم مني, قالوا: ولم؟ قال: أنا مسلم وأنتم كفار, قالوا: ديننا دينك , فأسلموا عن آخرهم!! فما كان هناك أحد أكثر بركة على قومه من هذا الرجل, تحول إلى داعية من طراز فريد خلال جلسة واحدة. بل الأعجب من ذلك: الجن الذين حكى الله عنهم: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف:29] فلما منعوا من استراق الوحي من السماء، قالوا: هناك أمر قد حدث، فتفرقوا في البلاد ينظرون ماذا حدث؟ جاء مجموعة أو دورية من دورياتهم جاءت ووجدت الرسول عليه الصلاة والسلام في بطن نخلة يصلي الفجر ويقرأ القرآن, قالوا: أنصتوا, فلما سمعوا القرآن وجدوا شيئاً لذيذاً {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29] جلسة واحدة يا أخي الكريم! فقط وسمعوا من الآيات آيات محدودة, أي: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر ما بين الستين إلى المائة، ولنفترض أنهم أدركوا الصلاة من أولها وسمعوا مائة آية -هذا إن كانوا سمعوا مائة آية- بعد ذلك لما قضي، قال تعالى عنهم: {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] لاحظ لم يقل: مسلمين، ولا قال: مؤمنين, أي: تحولوا من كفار إلى مسلمين بل إلى دعاة مباشرة بدون حواجز ولا واسطة {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف:29] (ولوا) أي: مسرعين, يركضون, وليس في قلوبهم إلا الإنذار، نسوا كل شيء، حتى الموضوع الذي جاءوا من أجله نسوه، فكل همهم الآن هو قضية الدعوة: {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:30-32] إلى آخر الآيات. فهؤلاء القوم صاروا متحمسين صاروا غيورين تشتعل في قلوبهم نار الغيرة على الدين, والغيرة على قومهم أن يموتوا على الكفر, فينادونهم بهذا الشكل. لكن أنا وأنت كم ختمنا القرآن من مرة؟! كم سمعناه في رمضان وغير رمضان؟! كم حضرنا من مجلس؟! كم سمعنا من خطبة؟! كم قرأنا من كتاب؟! كم سمعنا من شريط؟! ومع ذلك تجد أغلب المسلمين؛ بل كثيراً حتى من رواد المساجد تجده سلبياً يقول: لا شأن لي ولا دخل لي ولا علاقة, إنما نلقي المسئولية على الآخرين, ونوزع المسئوليات, هذه مسئولية العالم وهذه مسئولية الحاكم، وهذه مسئولية قاضي البلد وهذه مسئولية فلان!! إذاً أين أنا وأنت؟ أصرنا خارج الدائرة؟ أين قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] ؟ أين قوله تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] ؟! يجب أن يكون كل واحد منا داعية وطالب علم, وألا نكتفي بإلقاء المسئولية على فلان, أو علان من الناس, وإن كان عالماً جليلاً, ولو كان في منزلة أبي بكر رضي الله عنه -ولا يكون أحد في منزلة أبي بكر من بعده رضي الله عنه؛ لأنه لو وزن إيمانه بإيمان الأمة لرجح بهم- ولكن مع ذلك في عهد أبي بكر ما كان واحد من الصحابة يقول: قد كفينا بـ أبي بكر ولا يصنع شيئاً, بل كان كل صحابي يقوم بدوره في الدعوة وفي الجهاد وفي الأمر بالمعروف في النهي عن المنكر، وفي الإصلاح بقدر ما يستطيع، وهذا هو الأمر الذي ننتظره منك يا أخي الكريم! أدِّ الدور الذي تستطيع في بيتك، أو في الفصل الذي تدرس أو تدرس, أو في المدرسة، أو المسجد, أو الحي أو الأسرة والعائلة, بأي وسيلة، ولا شك أن الإنسان الجاد يعرف كيف يخدم دينه، والعرب يقولون: الحاجة أم الاختراع. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 25 الدعوة في المناطق المحتاجة للدعوة السؤال منطقة شرقي الزلفي يوجد فيها مخيمات كثيرة جداً قدموا من جميع المناطق، ويوجد في بعضهم الجهل، ويحتاجون إلى أن يعرفوا كيفية الوضوء وكيفية الصلاة، وإلى التوعية والتوجيه، ويفرحون بمن يقدم عليهم لذلك! ويأمل الأخ حث طلبة العلم والدعاة أن يحتسبوا الأجر عند الله تعالى في زيارة هؤلاء وتوجيههم؟! الجواب في الواقع أن هذه من الفرص التي تتاح للعباد وقد لا تتاح لك في وقت آخر, فنقول: هذه المسئولية على أهل هذا البلد والبلد القريبة -بصفة خاصة- وطلبة العلم والمشايخ والقضاة وغيرهم، أن يخافوا الله عز وجل في هذه المسئولية التي قد نقول: إنها عليهم أوجب من غيرهم, فهؤلاء نزلوا بساحتكم وقريب منكم, فأصبح حقهم عليكم بالذات أن تقوموا وأن تعملوا على بذل الذي تستطيعون لهم, وقد عهدنا من أهل هذا البلد أنهم أهل الكرم والضيافة, وليس كرم الضيافة فقط بالأكل والشرب؛ بل إن أعظم كرم الضيافة: أن تقدم لهم العلم الذي يكون هادياً لهم إلى طريق الجنة! هذا كرم الضيافة أن تبذل من وقتك الثمين جزءاً تقتطعه، وأن تقدم لهم تعليماً كشرح آية أو حديث أو حكماً من أحكام الإسلام, فينبغي أن تكونوا كما عهد الناس عنكم في هذا, وأن ترتب هذه الأمور بشكل مستمر، وهي فرصة لا تعوض وينبغي أن يستثمرها الإخوة في هذا البلد خاصة, أو من يستطيعون أن يستدعوه ليشارك معهم في هذا المشروع الكبير. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 26 تتبع الأخبار والحذر من أجهزة إعلام الغرب السؤال الإذاعات الكافرة ووكالات الأنباء لها دور كبير في بث الإشاعات من خلال الكذب والتحليل للأحداث حسب ما يريدون, والناس الآن عاكفون على سماع الأخبار وتتبع الأحداث, أرجو توجيه المسلم كيف يكون واعياً لمكائدهم وألا يصدق كل ما يسمع، وأن يكثر من الدعاء والاستغفار؟ الجواب في نظري أن مجرد المتابعة أو سماع الأخبار إذا كان في حدود الاعتدال، فهو أمر طبيعي؛ لأن المسلمين الآن جميعهم أمام قضية تتعلق بهم قبل أن تتعلق بغيرهم, فالمشكلة التي تعانى الآن ويتكلم البشر كلهم عنها ليست مشكلة في الشرق أو الغرب أو بنما أو جواتيمالا أو غيرها, إنما هذه مشكلة في عمق بلاد العالم الإسلامي, ومن حق المسلم؛ بل ينبغي عليه أن يهتم بهذه القضية بوصفها إحدى قضايا المسلمين الحساسة والكبيرة والخطيرة؛ وليس صحيحاً أن يصبح المسلم مغفلاً، في حين أنك تجد المواطن الغربي يدري من هذه الأحداث أكثر مما تدري أنت. فالمتابعة متى كانت معقولة ومعتدلة فهي أمر طبيعي -المتابعة بحد ذاتها-؛ لكن المشكلة أن كثيراً من الناس يتابعون بدون وعي, فهو لا يميز بين الأخبار الصادقة والأخبار الكاذبة؛ بل إن بعض المسلمين صار عندهم -مع الأسف- إحساس بأن الغرب صادق, فكثير من المسلمين يتصورون -مثلاً- إذاعة لندن ومونتكارلو وصوت أمريكا هذه إذاعات موثوقة, وبعضهم يضيف إسرائيل!! ولا شك أن هذه الإذاعات قد تأتي بقدر كبير من الحقيقة, ولكن مع ذلك من المؤكد أنه حتى الغرب والشرق الآن أصبح يصنع الأخبار بطريقة ذكية خادعة يغتر بها كثير من الناس، ولذلك عليك بالتمحيص, وألاَّ تقبل كل ما تسمع على أنه حق, وأن تضرب الكلام بعضه ببعض, فقد يكون نصف الكلام صحيحاً أو ثلثه أو ربعه أو أقل أو أكثر. فعليك أن تكون معتدلاً فيما تسمع، ولا تغتر بمجرد أن تسمع أن هذا نشر في إذاعة لندن أو نشر في صوت أمريكا أو نشر في مونتكارلو أو غيرها. فبعضهم إذا قلت له: هذا غير صحيح! قال: يا أخي! أنا سمعته في إذاعة لندن!! وإذا سمعته في إذاعة لندن كان ماذا؟ هؤلاء كذبة في كثير من الأحيان، لكنهم يجيدون فن الكذب والخداع والتضليل, ويسوغون الكذب بطريقة ذكية تنطلي على السذج. فعلى الإنسان حين يتابع الأخبار أن يتابعها بعقلية المؤمن. كذلك هناك أمر في غاية الأهمية، وإن كان يحتاج إلى جهود وإلى كلام أكثر من هذا، وهو أن يتابع الإنسان هذه الأحداث، بروح المؤمن الذي يعرف سنة الله في عباده, فلو سألت كثيراً من الناس عما يجري وماذا يتوقعون أن تؤول إليه الأمور وما هي أفضل صورة يتحقق بها نصر الإسلام؟! لوجدت أنهم يقلبون أيديهم ولا يعرفون شيئاً. بل إن عدوهم -في كثير من الأحيان- قد التبس عليهم بصديقهم، وأصبحوا لا يميزون النافع من الضار, وهذه مشكلة، فلا بد أن يستنير الإنسان بنور الله عز وجل, ويهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون عنده معرفة بالسنن ومعرفة بأفضل وضع يمكن أن يتحقق فيه مصلحة كبيرة للإسلام والمسلمين. ثم مع ذلك على العبد أن لا يكون اهتمامه بالقضايا المادية الدنيوية والاعتماد على القوة, يا أخي أين الدعاء؟! هل تتصور هذه الأمة الطويلة العريضة التي يقولون عن إحصائياتها، لو صدقت أنها ألف مليون مسلم! ألا يوجد فيها شخص واحد صادق؟ ألا يوجد فيها صاحب قلب حي؟ أليس فيها صاحب سر مع رب العالمين يرفع دعوة صادقة تفتح لها أبواب السماء؟! سبحان الله! ما أظن هكذا إلا أن الناس أصيبوا بالذل، ورموا بشيء من الوهن, وأصبح كثير منهم يائساً. حتى يقول لي أحد الإخوان: أكثرنا من الدعاء، ومنذ سنين ونحن نقول: اللهم أعز الإسلام والمسلمين، ولا نرى المسلمين يزدادون إلا ذلاً, فقلت له: ومع ذلك -يا أخي- علينا أن ندعو وندعو وندعو ونصدق مع الله تعالى, ونبكي بين يديه, ونجرد قلوبنا من كل مطامع الدنيا, حتى يعلم الله عز وجل أنه ليس في قلوبنا إلا حب الإسلام, وإلا الغيرة على الإسلام, وإلا التطلع لنصر الإسلام, ولا يهم الواحد منا بعد ذلك أن يكون هو نفسه وقوداً لهذا الأمر, وأن يكون على حسابه، وعلى حساب غيره أن يموت شهيداً في سبيل الله عز وجل مقابل أن ترتفع راية لا إله إلا الله, فأنعم وأكرم ويا حبذا! فمتى وجد هؤلاء وجد أصحاب القلوب الحية, المتوكلون على الله تعالى الواثقون بنصره, الذين لا يعنيهم إلا مستقبل الإسلام, فلنثق بوعد الله تعالى. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 27 ضرورة ترك المعاصي لنهوض الأمة السؤال سؤال يحز في النفس رغم الأحداث المؤلمة والمصائب والنكبات التي حلت بنا، إلا أنه ما زال الكثير منا مصراً على معاصيه, من ترك الصلاة وأكل الربا والتبرج وسماع الغناء وسائر المعاصي, مع أنها سبب لحلول ما حلَّ بنا الجواب نعم بالنسبة للذنوب والمعاصي التي تحل بنا, والتي هي سبب ما نزل, كما يقول العباس رضي الله عنه: [[ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة]] . فلا بد للمسلمين أن يعلنوا التوبة بصدق من جميع الذنوب والمعاصي, التوبة مما ذكره الأخ من المعاصي التي لا يكاد يخلو منها بيت؛ بل قد لا يخلو منها إنسان إلا من رحم الله, فيعلن العبد توبته إلى الله عز وجل, ولا بأس بل ينبغي أن يتصور العبد: من الذي ربما يكون سبباً فيما نزل بالمسلمين من عذاب؟ ربما السبب معصية وقعت مني!. يا أخي! أصحاب القلوب الحية السلف الصالح كان الواحد منهم إذا رأى السماء قد احمرت، والرياح قد عصفت رجع إلى نفسه، وقال: ربما أن الله تعالى قد سخط عليّ, وربما عذب الناس كلهم بسببي. ولعلكم تعرفون قصة عبد الرحمن الداخل لما قحط المطر، وأجدبت الأرض ولم يحصل للناس ما تمنوه وطلبوه وسألوه من الغيث, أرسل إلى القاضي يقول له: نريد أن نستسقي غداً الاثنين, فقال القاضي: مالنا ولـ عبد الرحمن كل يوم يقول: نستسقي نستسقي!! ثم يقول للرسول: اذهب وانظر ماذا يصنع عبد الرحمن يقول: تستسقون وهو جالس في لهوه ولعبه وفساده، هذا لا يصلح! فذهب الرسول، ولما جاء وجد أن عبد الرحمن -وهو الخليفة المظفر المنصور الكبير- وجد أنه ساجد على الأرض على التراب وهو يبكي ودموعه تتحادر وهو يقول: يارب أنا عبدك ناصيتي بيدك، هأنذا بين يديك أتراك تعذب الخلق كلهم لأجلي، فرجع الرسول إلى القاضي وقال له: رأيته على هذه الحال. فقال له: احمل الممطرة وهلمّ إلى المسجد لنصلي نستسقي، فإذا خضع جبار الأرض رحم جبار السماء. إذاً: كل إنسان منا ينبغي أن يخطر بباله احتمال أنه قد يكون ما أصاب المسلمين بسببه هو؛ هذا أمر. الأمر الثاني: هناك ذنوب عامة، ومعاصي أمم, هناك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وترك الجهر بكلمة الحق, وترك الأخذ على يد السفيه, هناك ترك الأخذ بالأسباب من التقدم والتصنيع وبذل الوسع, هناك الظلم الذي يخيم في كثير من البلاد، وهو من أعظم أسباب أخذ الأمم والقرى, هناك الغفلة عن الضعفاء, الذين طلب النبي صلى الله عليه وسلم العناية بهم {أبغوني ضعفاءكم فإنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم -بدعائهم واستغفارهم} وهناك وهنا! فينبغي للأمة أفراداً وأمماً ودولاً وجماعات: أن تعلن التوبة إلى الله تعالى, وإعلان التوبة لا يكون باللسان؛ بل يكون مع إعلان التوبة باللسان بداية جادة لتصحيح كل وضع لا يرضي الله عز وجل. الجزء: 145 ¦ الصفحة: 28 مسئوليتنا عن انحراف الشباب فيه بيانٌ للعوامل الداخلية لانحراف الشباب، وبيان دور الأسرة في إصلاح الشباب، ودور الدعاة وطلاب العلم في إصلاح الجيل. ويحتوي على تفصيل لأسباب انحراف الشباب، وطريقة علاجها. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 1 تعليق على الأحداث السابقة الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً … أما بعد: موعدنا هذه الليلة مع عنوان أو موضوع وهو (مسئوليتنا عن انحراف الشباب) ، ولكنني أود قبل الدخول فيه أن أعلق تعليقاً خفيفاً على الأسلوب الذي تمت به معالجة الحدث الذي تكلمت عنه في الحلقتين الماضيتين، وذلك لأن الذي لا يستفيد من أخطاءه فإنه سوف يكرر أخطائه بنفسه، ولا شك أن المسلمين عاشوا مشاعر عصيبة في تلك الأيام الماضية، ومع هذا فإني أود أن ألفت النظر إلى عدد من الأمور وأهمها: الجزء: 146 ¦ الصفحة: 2 قيادة المرأة للسيارة ليست مسألة وقت الأمر الرابع: أننا قرأنا في الصحف، وسمعنا في الإذاعات، عدداً من المقالات والكتابات، والمقابلات الإذاعية، من أناس لهم وزنهم، وغالب ما قرأت وما سمعت يدور حول نقطة واحدة لها خطورتها، إنها مسألة قيادة المرأة للسيارات، وأنها مسألة آتية لا ريب فيها، وإنما هي كما يقولون: مسألة وقت، بسبب رفض رجال الدين، أو رفض المجتمع، وكما أن المجتمع بالأمس رفض اللاسلكي، أو المذياع، أو مدارس البنات، أو رفض التلفاز، فإنه يرفض هذه الأشياء اليوم، ويرفض تحرير المرأة اليوم، لكنه سوف يقبل ذلك ويوافق عليه غداً وهذا المنطق في الواقع سمعته وقرأته من كثيرين، وهو منطق خطير، لأن معنى ذلك أننا لا نميز بين الأمر الذي يرفضه المجتمع لأنه يخالف أصولاً شرعية أو أحكاماً شرعية، وبين الأمر الذي يرفضه المجتمع لأنه يخالف عادات وتقاليد، فنحن حين نتحدث عن القضية السابقة وخطورتها، ننطلق من منطلق الشرع، وننطلق من منطلق المخاطر التي تهدد واقع المرأة، وننطلق من منطلق ما وراء قيادة المرأة للسيارة، كما أسلفت في المحاضرة الأولى (قيادة المرأة للسيارة) إن القضية ليست أن تقود المرأة السيارة أو لا تقود فقط، بل الأمر أكبر من ذلك، إذاً فقضية تحرير المرأة واختلاط المرأة بالرجل، وعمل المرأة، وغير ذلك من الأشياء التي ينادي بها العلمانيون في مجتمعنا، لسنا نقول: إنها مسألة وقت، بل إننا نقول: إن الله سوف يحمي هذه البلاد من مثل هذه اللوثات، وسيظل أهلها أوفياء لهذا الدين. بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمداً فينبغي أن ننطلق من منطلق الثقة، وأن ندرك أن هؤلاء الذين يقولون: إن المسألة مسألة وقت، ونحن نؤيد قيادة المرأة للسيارة، وإن رفضها رجال الدين، أن هؤلاء يعبرون عن فساد في قلوبهم، ومرض في نفوسهم، وتمنيات ورجاء، (وكم دون ما يبغون لله من سر!) فإننا نسأل الله عز وجل -وهو الذي عودنا كل خير وحمى بلاده من شياطين الجن والإنس، حماها من أبرهة الذي غزاها بجيشه: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:3-5] ، وحماها من الاستعمار، الذي غطى على بلاد العالم الإسلامي كله، إلا هذه البلاد فإنها سلمت منه، وحماها من المسيح الدجال الذي لا يدخل المدينة ولا مكة، وحماها من جيوش الغزاة المحتلين، نسأل الله عز وجل أن يحميها من كيد أعدائها الداخليين والخارجيين، نسأل الله أن يحمها من كيدهم، وأن يجعلها قلعة حصينة للإسلام في كل وقت وفي كل حين أما بعد: فموضوع هذا اليوم: هو مسئوليتنا عن انحراف الشباب، وهو موضوع يطول، أتحدث عن هذا الموضوع في عدة نقاط: 1- العوامل الداخلية لانحراف الشباب. 2- أسباب انحراف الشباب. 3- دور الأسرة. 4- دور الدعاة وطلبة العلم. 5- دور الإعلام. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 3 وجوب الحذر من الشائعات أولاً: وجوب الحذر من الشائعات، فإننا لاحظنا في الأيام الماضية كيف أن الشائعات تعمل بطريقة غريبة، ويتناقلها الناس على كافة المستويات، وقد ينسبونها لأشخاص معروفين مرموقين، وبعد التبيين، والتثبت، يظهر أن هذه الإشاعات ليس لها أي رصيد من الصحة، وهذا يعطينا درساً لوجوب التثبت من الأخبار بكل وسيلة، وألا ينشر الإنسان خبراً بمجرد أنه سمعه وقيل له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} وقد سبق أن تكلمت عن هذا الموضوع. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 4 جواز التشهير بأعداء الدين الملاحظة الثانية: أن عدداً من الناس غير قليل يتناقلون هذه الأوراق التي فيها معلومات عن الحدث، ومن قام به، وتفاصيله، إلى أشياء أخرى في هذا الموضوع، ولاشك أن أسئلة كثيرة وردت إليّ، تسأل: هل يجوز التشهير بمثل هؤلاء؟ والجواب على هذا بأن أقول: إن التشهير مطلوب بمن نعتقد أنهم يسعون إلى خراب وفساد في المجتمع، وقد كان سلف هذه الأمة يشهرون بمن هم أقل خطراً على الإسلام من هؤلاء، كما تكلم علماء أهل السنة والجماعة -مثلاً- في أهل البدع والضلال، وسموهم بأسمائهم، وحذروا منهم، وكما تكلم علماء السنة، وعلماء الحديث، عن الرواة جرحاً وتعديلاً فيقولون: فلان كذاب، وفلان ضعيف، وفلان سيئ الحفظ، حتى يحذر الناس الرواية عنهم، لكن هذا كله يجب أن يكون بعد التثبت والتحري والدقة، يجب أن يكون بعد التتبع، فإنه ربما انتشر بين الناس معلومات، وأسماء وعلاقات، وأشياء ليست على وجه الدقة، بل فيها ما هو صحيح وفيها ما هو غير دقيق، ولاشك أننا الآن في معركة مع الباطل، ومع أعداء الله ورسله، ولذلك فهنالك من يتربص ويبحث عن أي خطأ يقع في هؤلاء، حتى يقول: إن هذا الكلام غير دقيق، ويعطي صورة سيئة، ربما كان سبباً لفقد الثقة في المستقبل، ولهذا فحري بنا وجدير أن نكون على غاية من التثبت والتحري، فيما نقول، وفيما ننقل، وفيما تنداول، من أسماء، أو معلومات، أو حقائق، أو أخبار، أو غيرها، ووسائل التثبت والحمد لله ممكنة، وليس بالضروري أن نوفر معلومات كافيه وواسعة ومفصلة عن كل شيء، فينبغي أن نتفطن لذلك ونتحرى. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 5 تحذير من التعليقات الضعيفة الأمر الثالث: أن كثيراً من الإخوة من فرط غيرتهم وحماسهم، يعلقون تعليقات على بعض الأوراق تعليقات ليس لها لزوم، بل هي تعبر أحياناً عن ضعف المستوى العلمي، والعجلة، والحماس، وما أشبه ذلك، وقد وقفت في بعض الأوراق على تعليقات -على أشخاص أو على مؤسسات، أو معاهد، أو غيرها- في الواقع لا يسرنا أن تنقل عنا ولا عن الطيبين الصالحين الملتزمين، فعلى الإنسان أن يعلم أن ما تكلم به، أو كتبه، لا يتكلم به في مجلس فيه عشرة أو عشرين، قد ينتقده نصفهم، أو يوافقه نصفهم، لا، إنه حين يكتب ورقه، أو يتكلم بكلام يتناقله الناس في المشرق والمغرب فيكون سبباً في سوء الظن بهؤلاء، أو بهذا الذي كتب، أو يكون سبباً في سوء الظن بجملة من الناس الطيبين، فعلى الإنسان أن يدرك أنه مسئول عما يقول، أو يكتب، أو يفعل، أو يعلق. وأضرب لذلك مثلاً: قد يكتب كاتب قصيدة، هذه القصيدة من حيث المعاني رديئة وسيئة، ومعانيها مذمومة، لكن القصيدة من حيث البيان والبلاغة والكلمات جميلة، فإذا قرأها إنسان قال: هذا شعر لفظه حسن، ومعناه قبيح! فإذا أتيت أنت وعلقت على هذا الشعر مثلاً، الذي يستجيد الناس لفظه، ويستقبحون معناه، علقت عليه بألفاظ بذيئة، أو كلمة سيئة، استهجن الناس مثل هذا الأمر وذموه وعابوه، وقالوا: هذا يدل على ضعف المستوى العلمي والثقافي لمن كتب مثل هذه الأشياء. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 6 العوامل الداخلية لانحراف الشباب أما فيما يتعلق بالنقطة الأولى وهي: العوامل الداخلية، فإننا في كثير من الأحيان نحاول أن نلقي بمسئولية انحراف الشباب على العوامل الخارجية، فمثلاً نتكلم عن خطط اليهود، ودورهم في إفساد الشباب، وهذه الخطط لا شك أنها صحيحه، لكن لا يعني أن هذه هي الوسيلة الأولى، ولا أنها هي السبب الأكبر، أو نتحدث عن عصابات المخدرات والفساد مثلاً، التي أصبحت تغزو بلاد المسلمين، وتسعى سعياً حثيثاً إلى إيقاع الشباب في حبائلها وشراكها، أو نتحدث عن أوكار الرذيلة، وما يمكن أن نسميه الفساد بالمراسلة، وقد نشرت الصحف كثيراً من المؤسسات، والمدارس، والأوكار، التي تراسل الشباب في العالم الإسلامي، وتزودهم بالصور الخليعة، والأفلام المنحطة، والمعلومات الخاطئة، وتشككهم في دينهم، وتعطيهم عناوين للاتصال والمراسلة، وتحاول أن تسهل لهم الفساد بكل وسيلة. نتحدث عن الصحف الخارجية، وما أكثر هذه الصحف التي تعد بالمئات! وقد دخلت في يوم من الأيام في إحدى المكتبات في الرياض، فوجدت فيها مكاناً ضخماً جداً، وفيه صُفّت ألوان المجلات من أنحاء الدنيا، كل هذه المجلات تدور حول أمر واحد وهو المتاجرة بصورة المرأة، قائمة وقاعدة وعلى جنب! وتحاول أن تغري الشباب بالصورة عن أي أمر آخر، وهذه لا شك لها دور كبير في الإفساد أيضاً، لكنها ليست هي السبب الأكبر أو الأول، قد نتحدث أحياناً عن العناصر المندسة في مجتمعنا من الجنسيات غير المسلمة، التي كثيراً ما يقبض عليها من قبل الهيئات -هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو غيرها- يقبض عليها متورطة في مخدرات وترويجها، أو في تصنيع الخمور وبيعها مثلاً، أو في تنظيم الدعارة، أو في بيع الأفلام الخليعة، إلى غير ذلك، وهذه الأشياء كلها لها دور في انحراف الشباب، لا أعتقد أننا نختلف عليه، لكنني أقول: لم تكن هذه الأشياء لتفعل فعلها، وتؤدي دورها في الشباب، لولا أن الجبهة الداخلية في مجتمعنا نفسه أصبحت مفككة وضعيفة، بمعنى أن الأسباب الداخلية تأثيرها أكبر وأعظم من الأسباب الخارجية، ولذلك لا بد أن نتساءل: ما هي الأسباب الداخلية لانحراف الشباب؟ الجزء: 146 ¦ الصفحة: 7 المؤسسات غير الملتزمة السبب الرابع: المؤسسات التي لا تلتزم بشرع الله عز وجل، ولا شك أن هذه المؤسسات كثيرة، وهي آخذة في الازدياد، فكم من مؤسسة تظهر فيها صورة المرأة وهي كاسية عارية! قد لبست أحسن ثيابها، وقد وضعت المكياج على خديها وشفتيها، وسرحت شعرها وكشفته، وهي تحادث الرجال وتضاحكهم وتمازحهم، وضحكاتها تتعالى، تشق الفضاء، وهي تمزح مع الغادين والرائحين، والمراجعين لهذا الطبيب أو ذاك! وكم من مؤسسة تهتم بجانب واحد فقط من الشباب، بل تهتم بفئة واحدة فقط، ولو نظرنا على سبيل المثال الجهود المبذولة فيما يتعلق بالشباب، لوجدنا أن الذين يستفيدون من هذه الجهود عدد قليل، أعني يستفيدون منها في تنمية أجسامهم فقط، فكم الذين يلعبون الكرة؟ عدد محدود، أما الجماهير الغفيرة فإنها جالسة على هذه المدرجات على أعصابها، تشتغل بالتصفير وتوجه همها وعنايتها وتركيزها على من يفوز، هذا أو ذاك، مع الصراخ والتصفيق وغير ذلك، حتى في مجال تربية الأجسام، المستفيدون منه قليل، وليس المهم أن نربي أجساماً فقط، ما قيمة الأجسام إذا لم يكن هناك أخلاق، وإذا لم يكن هناك عقيدة صحيحة، وإذا لم يكن هناك دين قوي؟! يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ لو كان الإنسان كرمه وشرفه بجسمه، لكان الفيل والأسد أشرف وأكرم منه، ولو كان بجماله لكان الطاوس أجمل منه، ولو كان لقوته على الجنس، لكان العصفور -كما يقول بعضهم- أقوى منه، وهكذا. إذا الإنسان كماله وقوته ورجولته، في خُلُقه ودينه وكرمه، وعقيدته، ليس في جسمه فقط. نشرت جريدة الجزيرة قبل سنوات مقالاً عنوانه: "ضحايا الكرة"، وتحدثت فيه عن عدد ممن ماتوا في سبيل الكرة! منهم تاجر كبير، كان في نادٍ أو ملعب يقال له ملعب الزمالك في مصر، فلما جاء هدف لصالح الفريق الذي يشجعه قفز من شدة الفرح، وسقط جثة هامدة! وبعد قليل جاء هدف آخر على الفريق وانتهت المباراة بالتعادل، فذهبت حياة هذا الإنسان خسارة، نسأل الله العفو والعافية، وبعضهم من الطيش يسمى هؤلاء شهداء، فيقول: شهداء الكرة، ماتوا في الملاعب في سبيل هذه الكرة! الجزء: 146 ¦ الصفحة: 8 فساد الإعلام السبب الثالث: الإعلام لا شك أنه يمارس دوراً كبيراً في انحراف الشباب، وذلك لأنه يصور لهم مباهج الحياة المتحللة، حتى يرسخ في ذهن الشاب، أن الدنيا كلها تجارة وكأس وغانية، وهذا غاية ما يطمع إليه، أو ما يتطلع إليه! حتى الطفل الصغير، فيما يسمى بأفلام الكرتون، كثيراً ما تدور أحداثه حول هذا الأمر، ولعل أكثر الشباب شاهدوا الفلم الذي يسمى (عدنان ولينا) ، حيث كل الأطفال يحبون هذا الفلم، وهو عبارة عن بطل يتسلق المباني الشاهقة التي تتحرك كهربائياً، حتى يصل إلى معشوقته وحبيبته، وقد يسجن في سبيل ذلك ويضرب، ويقطع لها المحيطات الطويلة بسرعة، وتحت الماء، ويركب السفن، وكل ذلك من أجل هذه المرأة التي يحبها، حتى إذا وصل إليها، ولو في قاع البحر، فإنه يكون لباساً لها وتكون لباساً له، وقل مثل ذلك كثير، لكن هذا الفلم من أشهر الأفلام، حتى ربما تقرءون اسمه أحياناً في بعض الجدران، وبعض المدارس. أما فيما يتعلق بالصحف والمجلات، وهي لا شك من الإعلام، وقد أشرت إلى جزء من دورها، وحتى الصحف الداخلية، تبث دعايات للعطر، أو دعايات للملابس النسائية أو غيرها، بصور نساء جميلات، وبصور ملونة، ولو قرأت جريدة الرياض مثلاً، أو جريدة عكاظ، أو غيرها من الجرائد، لوجدت أنها أصبحت تتجرأ شيئاً فشيئاً على نشر صور النساء بصور ملونة، دعاية لعطور، أو ملابس، أو حتى دعاية لسيارات، أو أي شيء، المهم أن تحضر صورة المرأة، بمناسبة وبغير مناسبة! وكذلك الحال في المجلات، ولعل من أسوأ المجلات التي ينبغي إعلان الحرب عليها المجلة التي يسمونها سيدتي، وقد عتب عليَّ بعض الإخوة لماذا أنطق اسمها كما هو مكتوب على غلافها، وأنا أقول لكم: العتبى، فإنها مجلة سيدتهم! هذه المجلة بصراحة تتاجر بصورة المرأة الجميلة، وقد دفع إلي اليوم بعد العصر أحد الإخوة الأكارم عددين من هذه المجلة تصفحتها على عجل، فوجدت أن هذه المجلة ليس فيها شيء إلا صور النساء الجميلات، امرأة على اليمين وامرأة على اليسار، هذه قائمة، وهذه مضطجعة، وهذه قد ظهرت ساقها، وهذه قد ظهر شعرها، وهذه فنانه، وهذه مطربة، وهذه ممثلة، وهذه وهذه! وأبشع من ذلك كله أن في أحد العددين صوراً عن اغتصاب النساء من قبل الجنود العراقيين، وقد رسم باليد صورة رجل قد جلس بين شعبها الأربع، إلى هذا الحد، وأعتقد أنه كما يقال: بلغ السيل الزبى، وإذا لم نستطع أن نقاطع هذه المجلة، ونعلن للمسلمين كلهم وجوب الحرب عليها، بل ومقاطعة من يبيعونها، فإننا لا شك ضعفاء. أما الفيديو فحدث ولا حرج، ولن أتكلم عن الأفلام الممنوعة، فإن هذه الأفلام الممنوعة تعرض كل شيء، تعرض كيفية صناعة المخدرات، تعرض الجنس والرذيلة والشذوذ والفاحشة، ولكن حتى الأفلام غير الممنوعة فيها أشياء كثيرة مما يثير غرائز الشباب، ولا شك أن الشاب يجد فارقاً كبيراً بين المجتمع الذي يعيش فيه، والذي يجد المرأة محجبة من رأسها إلى قدميها، وبين ما يشاهد من صور النساء في هذه الأفلام الهابطة، التي أهم ما تغري به الشباب المرأة الجميلة، فهذه الأجهزة التي يعبر عنها بالإعلام هي من أهم وسائل إفساد الشباب. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 9 مصاحبة قرناء السوء السبب الثاني: هو قرناء السوء، وقرناء السوء إذا ارتبطوا بالشباب فإنهم يجرونه إلى الجنس، والفاحشة، يجرونه إلى المغامرات التي لا يدري ما عواقبها، وإلى المخدرات، والوقوع في عصاباتها وتهريجها وترويجها، بل وتصنيعها أحياناً، يجرونه إلى السفر إلى الخارج، وأقل ما يميلونه إليه هو التدخين، فإنه لا بد أن يوافقهم على ذلك، حتى يثبت لهم أنه رجل، يدخن مثلهم، أو (التفحيط) أو تضييع الوقت فيما لا فائدة فيه. وفيما يتعلق بقرناء السوء، قضية تلك التجمعات الفاسدة، تجمعات الشوارع، والأحياء، والمطاعم، وغيرها، فإنها تجمع من هب ودب من هؤلاء الشباب، وتربط بينهم، وتكون سبباً في إقامة العلاقات، وتبادل الخبرات في مجال الشر والفساد، ولعل من الطريف أنه وقعت في يدي وريقة صغيرة لأحد المطاعم، مكتوب في الوجه الأول من هذه الورقة "جدول الحصص الدراسية"، وتحته "من طلب العلا سهر الليالي" أما إذا قلبت الورقة فإنك تجد دعاية لهذا المطعم: (وجبات الكناري) (نعمل حتى أذان الفجر) إذاً من طلب العلى سهر الليالي، إذاً سهر الليالي أين يكون؟! يكون في المطاعم حتى أذان الفجر! الجزء: 146 ¦ الصفحة: 10 إهمال الآباء للأبناء السبب الأول: هو إهمال الآباء، فإن كثيراً من الآباء أصبحوا مشغولين بالعمل، سواء أكان في دكان، أم وظيفة، أم مزرعة، أم غير ذلك، أم مشغولاً بالزوجة الثانية، وهذه مشكلة أخرى، فإن بعض الآباء بعد أن يتزوج زوجة أخرى، تجد أنه ينغمس معها وينسى بيته الأول وأهله الأولين، وينسى أولاده، حتى ربما تمر به الأيام وهو لا يمر عليهم، وإن مر لا يلتفت إليهم، وأصبح الأبناء ليسوا له في حساب. وقد يكون إهمال الأب أحياناً بسبب ضعف الشخصية، فإن فاقد الشيء لا يعطيه، فإن بعض الآباء أحياناً لا يستطيع أن يأمر أولاده بشيء، أو ينهاهم عن شيء، لأنه أضعف من ذلك، لأنه ليس له شخصية قوية أمام أولاده، وبعضهم يملك شخصية قوية لكن عنده شيء من عدم المبالاة، لا يبالي ولا يهتم، وكم هو مزعج ومحزن ومزرٍ أن نجد في مجتمعنا اليوم آباءً إذا أتيت إلى أحدهم وقلت له: إن ولدك مع شباب مراهقين وفساق، وقد حصل كذا وكذا، قد يصل الأمر أحياناً إلى الفاحشة والعياذ بالله فتظن حين تتحدث مع الأب - وأنت تتحدث معه بالتدريج وبهدوء لئلا ينصدم- تظن أن الأب سوف يغمى عليه إذا سمع مثل هذا الكلام، فإذا انتهيت من ما عندك فإذا بالأب بكل برودة، وبساطة ولا مبالاة، يقول: يكبر ويهتدي! أو هكذا الشباب! أو ما أشبه هذه العبارات التي تدل على عدم المبالاة، فهذا من أهم الأسباب وهو إهمال الآباء. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 11 دور الأسرة في إصلاح الشباب النقطة الثالثة: دور الأسرة في إصلاح الشباب، الأب، الأم، الأخ، الأخت، الأقارب، أيها الأب! إنك أنت المسئول الأول عن صلاح الأولاد أو فسادهم، وأنت أكثر المستفيدين من صلاحهم، وأكثر المتضررين من فسادهم، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يلفت نظرك إلى أهمية صلاح ولدك، حتى يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} ، وقد علمنا الله عز وجل أن ندعو: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . فالمؤمن يدعو، بأن يجعل الله من ذريته وأولاده قرة عين له، ذلك أن الولد قطعة من أبيه، ولذلك فإن الابن إذا مات، فإن موته يكون في قلب الأب جرحاً نازفاً لا يهدأ أبداً، وكم من الآباء يمضي على وفاة ولده عشرات السنين، كل ما ذكره هلت دموعه! لأنه قطعة منه، ولدك جزء منك، هذا إذا مات، فما بالك إذا كان الولد حياً ومع ذلك الأب يتقطع حسرات في الصباح والمساء على انحراف ولده، وفساده، وضلاله، ومخالفته له! عن قرة بن إياس رضي الله عنه {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له: فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم مازحاً ومداعباً: أتحب هذا؟ قال: أجل يا رسول الله! أحبك الله كما أحببته -أحبه حباً شديداً لا يوصف- ففقده النبي صلى الله عليه وسلم ثم وجده بعد حين وليس معه ولده، فسأل، فقيل له: مات يا رسول الله! فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الرجل، وقال له: ألا يسرك أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة يوم القيامة إلا وجدته سبقك يفتح لك، فسري عن الرجل} والحديث رواه النسائي وسنده صحيح، على شرط الصحيح. فالولد قطعة من أبيه، جزء من قلبه وروحه وحياته وبدنه، ولذلك الذين يقرؤون الشعر لا يجدون أصدق ولا أبلغ من شعر الآباء الذين يرثون أولادهم، وهو كثير، أذكر منهم قصيدة ابن الرومي لما مات ولده محمد، قال قصيدة طويلة مشهورة يقول: بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي محمد ما شيء توهم سلوةً لقلبي إلا زاد قلبي من الوجدِ أرى أخويك الباقيين كليهما يكونان للأحزان أورى من الزندِ وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقدِ لكل مكان لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلدِ يقول: الأولاد مثل الجوارح، اليد لا تكفي عن الرجل، واليمنى لا تكفي عن اليسرى، والعين لا تكفي عن الأذن، وكذلك الأولاد، لو كان الرجل عنده مائة ولد، وفقد واحداً منهم، لحزن لذلك أشد الحزن! حتى أن من الطرائف: يذكر أن امرأة أتت بسبعة أولاد توائم، فأخبر بذلك السلطان في بلدها، فطلب أن يؤخذ واحد منهم لينظر ما موقفها، فلما جاءت عدت الأولاد فوجدتهم ستة صرخت، وبكت، وصاحت! فضحك وأمر بإعادته إليها: وأولادنا مثل الجوارح أيها فقدناه كان الفاجع البين الفقد لكلٍ مكانٌ لا يسد اختلاله مكان أخيه من صبور ولا جلد أي مقارنة أيها الإخوة! وبصفة خاصة -أيها الأب- أي مقارنة بين رجلين، أب يفخر بابنه إذا ذكر في المجلس لأن ابنه خطيب جامع، يأتي إليه الناس ليسمعوا كلامه، ويسمعوا الحكمة من لسانه، أو مدرس في حلقة يتحلق حوله الطلاب، أو داعية إلى الله عز وجل، أو شيخ يتلقى عنه العلم، أو محسن كبير، أو عالم شهير، أي مقارنة بين هذا وبين إنسان آخر، إذا ذكر توارى أبوه خجلاً وحياءً، يتوارى من القوم من سوء صنيع ولده، لأنه إما قعيد السجن، وإما ضمن عصابة مفسدة، وإما صاحب تاريخ أسود، وإما وإما، فإن الفرق بين هؤلاء كالفرق بين الليل والنهار، وكالفرق بين الثرى والثريا، ولذلك فإني أوصيك -أيها الأب الحنون- بوصايا، فاحفظها عني: الجزء: 146 ¦ الصفحة: 12 وصايا للأب الحنون الجزء: 146 ¦ الصفحة: 13 الدعاء للأبناء بالصلاح والهداية النصيحة السادسة: وهي نصيحة ذهبية، بعد الأسباب هذه كلها، وبعدما تضع الحب في الأرض، وتدفنه وتسقيه، تتجه إلى الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:63-65] . فبعد هذه الأسباب كلها تتجه إلى الله عز وجل وتدعو الله تعالى بصلاح ولدك، كما كان الصالحون يفعلون: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الاحقاف:15-16] . ادع ربك جل وعلا بعد أن تعفر وجهك وتطيل السجود: (اللهم اصلح لي ذريتي) ، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . روى ابن أبي حاتم في تفسيره، عن مالك بن مغول: قال شكا أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف، أنه لا يستقيم له على الحال الذي يحبها ويرضاها، فقال له طلحة: [[استعن عليه بهذه الآية وهي قوله عز وجل: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل:19] . ]] الجزء: 146 ¦ الصفحة: 14 الحذر من التدليل الوصية الخامسة: هي الحذر من التدليل، وأهم مظهر من مظاهر التدليل الموجود في مجتمعنا هو شراء السيارة للولد، سواء كان شراء السيارة لسبب مناسب، لكونه نجح في الامتحان أو غير ذلك، أو لغير سبب، وأستطيع أن أقول بناءً على تقارير، ودراسات ومقابلات: إن شراء السيارة للولد من أهم عوامل الانحراف، والولد المقصود به الذكر أم الأنثى؟ (الذكر) بين قوسين في مجلة سيدتي في هذا العدد، مكتوب على الغلاف، هل حجزت سيارتك! قد يكون خطاباً للمذكر أو خطاباً للمؤنث، تمشياً مع الدعوة التي نعقت بها الفئة الباغية في منح المرأة قيادة السيارة، المهم أنك لا تشتري السيارة لا للولد ولا لغير الولد، لأن الولد إذا لم يكن معه سيارة فسيبقى في الحي، ولا يمكن أن يبعد، ولذلك تجد أن علاقاته معروفه مع والده ومن حوله، وإذا كان في الحي شباب منحرفون فإنه يستحي من مصادقتهم، لأنه لا يريد أن يراه الناس معهم، حفاظاً على سمعته، أو حياءً وخجلاً، أو خوفاً من والده أيضاً، وبناءً على ذلك تستطيع أن تضمن أن علاقات الولد علاقات -إلى حدٍ ما سليمة- لكن إذا اشتريت للولد سيارة، فإن علاقة الولد بأصدقائه تنتقل من الحي والحارة إلى مكان بعيد، فسيذهب ويقيم علاقات مع أصحاب السيارات الأخرى، وكثيراً ما ينحرف وذلك لأسباب: منها ما ذكرت من تشجيعه على التعرف على أصدقاء آخرين سيئين دون أن يعلم الأب بذلك، لأنه إذا كان الولد يركب السيارة في الصباح ولا يأتي إلا الظهر -في الإجازة مثلاً أو يركبها العصر ولا يأتي إلا وقت العشاء، لا تدري أين يذهب، ولا مع من يجلس، وقد يقيم علاقات مع أناس غير طيبين! السبب الثاني في تأثير السيارة: المراهق عادة يحب الظهور، فهو يهتم بمظهر السيارة، وتغسيلها وتلميعها، وتحسينها، وإجراء التعديلات عليها يوماً بعد يوم، هذه بداية، بعد ذلك ينتقل إلى الاهتمام بالمظهر الشخصي، مظهره الشخصي، ويكون هذا مدعاة إلى لفت أنظار الآخرين إليه، ويجره هذا إلى مفاسد كثيرة. السبب الثالث: أن الولد إذا انحرف بسبب السيارة، قد يصعب سحب السيارة منه، فإذا رأيت أن السيارة بدأت تجني عليه جناية كبيرة، وأردت أخذ السيارة منه، فلن تستطيع؛ فهناك صعوبة، لأنك لو أخذتها فمعنا أنك حطمت آخر جسر من العلاقة بينك وبين ولدك، فأصبحت تداريه، وتخشى أن أخذ السيارة، قد يدعوه إلى مزيد من الانحراف، فتضطر إلى إبقائها معه على كره منك، لكن كما يقولون: الوقاية خير من العلاج. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 15 الإشراف على الأبناء الوصية الرابعة: هي الإشراف على الولد ولو كان من الصالحين، بعض الآباء إذا رأى على ولده أو بنته الصلاح والاستقامة، فإنه يمنحه ثقة مطلقة، وأنا أحذر من ذلك، خاصة إذا كان الشاب أو البنت في مرحلة المراهقة، لكن إذا كان طيباً، ليس من الضروري أن تتدخل في كل شيء، إنما اجعل لك نوعاً من الإشراف من بعيد، إشراف غير مباشر، انتبه له جيداً، ولا يشعر أنك تلاحقه أو لا تثق فيه، لكنك في الحقيقة لا بد أن يكون لك نوع من الإشراف عليه، فإن الثقة العمياء بالمراهقين خطأ، وذلك لأن المراهقين يجيدون التمثيل، فقد يخادعك، ويظهر أمامك -مثلاً- بمظهر أنه حيي خجول، ولذلك لا يظهر أمامك منه شيء، سواء كان ذكراً أو أنثى، لكن إذا كان مع زملائه وأصدقائه قد يكون الأمر على خلاف ذلك. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 16 الاهتمام ببوادر الصلاح التي تظهر على الأبناء الأمر الثالث: الاهتمام بأي بادرة صلاح تظهر عند الولد، وبعض الآباء قد يظهر على ولده شيء من الصلاح، يكون مع رفقة صالحين في حلقة للقرآن الكريم، أو مع زملاء في المدرسة، أو مع زملاء في الحي، فيهم خير وصلاح، فهنا يأتي دورك، وهو دور كبير جداً، تثني على الولد في وسط زملائه، وفي وسط الأهل، وأمام إخوانه أن فلاناً -ما شاء الله! - إنه مع رجال فيهم خير، فلان بن فلان، وفلان بن فلان، ما شاء الله تبارك الله! وتثني عليه، فترتفع معنوياته بمثل هذا الثناء. كذلك عدم إثقال الولد بالأمور الشكلية التي لا لزوم لها، فإذا كنت -مثلاً- في دكان أو مزرعة، فإذا وجدت ولدك منصرفاً إلى أعمال طيبة، مثل حفظ القرآن، وطلب العلم، وصحبة الأخيار، فلا تمنعه -من منطلق أنه متدين يشعر بوجوب السمع والطاعة لوالده- وتقول له: لا أسمح لك بالخروج، لا أسمح لك بالذهاب في الليل، لا أسمح لك بالذهاب في هذه الرحلة، لا أسمح لك بالذهاب للحج أو العمرة، لا أسمح لك بشراء كتاب، وتصبح القضايا كلها عبارة عن لاءات متتالية أمام الولد، كلما قال لك شيئاً تقول: لا. لا. لا! فما هي النتيجة؟! أحدثكم عن تجارب رأيتها بعيني، صحيح أنه من الأولاد من يصبر، ويحتسب، ويرزقه الله عز وجل طمأنينة، ويحاول أن ينجح، لكن هناك كثيراً من الأولاد إذا وصل الأمر إلى هذا الحد، غضبوا وانفعلوا، ولم يطيقوا صبراً على مثل هذا الأمر، فانحرفوا وضلوا، وتركوا زملاءهم الطيبين، فما هي النتيجة؟ النتيجة أن الولد ما عاد يهتم بوالده، رضي أو سخط، فيصبح الود الذي بالأمس مفقوداً. كان يمنعه أبوه أن يتأخر ساعة بعد العشاء مع زملاء طيبين، فأصبح يجلس أسبوعاً في البر، أوفي سفر، ووالده لا يدري أين هو، كل يوم يخشى أن يفاجأ بخبر مزعج عن ولده، والولد الذي منعه أبوه من السفر إلى حج أو عمرة، أصبح يسافر إلى بانكوك، وتايلاند، ومانلا وباريس وكازبلانكا وغيرها من بؤر الرذيلة والفساد، وكذلك الفتى الذي منعه أبوه من السفر إلى أفغانستان للتدرب أو للجهاد، أو لغير ذلك، أصبح يذهب مع قرناء السوء في مشارق الأرض ومغاربها، وهكذا يساهم الأب من حيث لا يشعر في جر ولده إلى الانحراف. إذًا يجب عليك أن تشجع أي بادرة صلاح تلحظها في ولدك، ومن تشجيعك له ألا تشغله ببعض الأمور الجزئية أو الشكلية التي يمكن الاستغناء عنها، ويمكن أن تقوم بها أنت أو أحد إخوانه، أو حتى موظف آخر، حتى لا تكون هذا سبباً في انقطاعه عن زملائه الطيبين. ومن التشجيع أيضاً تحسين صورة الولد عند أصدقائه، مثلاً أن تقول للولد: ادع أصدقاءك الطيبين إلى وليمة، وخذ هذه مائة أو مائتين أو ثلاثمائة ريال اشتر بها ما تحتاجون، وادعهم الليلة أو غداً إلى غداء أو عشاء أو ما أشبه ذلك، وإذا حضر هؤلاء الأصدقاء تأتي أنت وتسلم عليهم، وتدعو لهم وتشجعهم ثم تخرج، لأن الكلام الذي تقوله أنت قد لا يصلح لهم، خاصة إذا كنت كبير السن، والكلام الذي يريدون أن يقولوه هم لا يستطيعون أن يقولوه وأنت حاضر، فأنت من جيل وهم من جيل آخر، فلا مانع أن تدعهم يأخذون راحتهم بكلام طيب، ما داموا طيبين، لكن تأتي وتسلم وتطمئن على الوضع، وأنه وضع جيد، ثم تتركهم بعد ذلك، فهذه ترفع معنوية الولد عند زملائه، المهم أن تبذل كل وسيلة ممكنة لتعميق وتوطيد صلة ولدك بزملائه الطيبين، ولا تعترض على هذه الصلة وإن خسرت منها أشياء، قد لا يذهب معك في بعض الأحيان إلى الدكان، قد لا يشتغل معك في المزرعة، هذا كله صحيح، لكنَّ صلاح الولد أهم من كل هذا. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 17 أهمية بناء الرجولة في نفوس الأبناء الوصية الثانية: هي أهمية بناء الرجولة في نفوس هؤلاء الأولاد، وغرس الثقة في أنفسهم، وغرس الثقة في نفوس الأولاد يكون بوسائل كثيرة، مثلاً: درب أولادك على شراء بعض الأشياء البسيطة للبيت، دربهم على دعوة الأقارب إلى وليمة أو مناسبة، دربهم على استقبال الضيوف والترحيب بهم، وإدخالهم إلى المنزل، وما أشبه ذلك، أشركهم في بعض الصفقات التجارية التي تقوم بها، ولا مانع أن تجعل لهم نصيباً في الربح ولو قليلاً، شاورهم في الأمر، شاورهم في صفقة تجارية ولو لم تأخذ بآرائهم، لكن شاورهم، ثم اعرض عليهم رأيك وما لديك ووجهة نظرك، شاورهم في بعض الأمور المنزلية، شاورهم في أي مشكلة تحصل، وليس المقصود بالمشاورة أن يعطوك رأياً ليس عندك، لكن حتى يتدربوا على استخدام عقولهم، لئلا يشعروا بالحقارة، ويتفرغوا للتفكير في الأشياء الهامشية، لأن الإنسان لا يترك شيئاً إلا بشيء، فإما أن تشغله بالأمور الحسنة الجميلة، وإما أنه سوف ينصرف بعد ذلك إلى الانشغال بالسيارة، والهندام، والشكل، والمظهر، وتسريحة الشعر، والثياب، إلى غير ذلك! الجزء: 146 ¦ الصفحة: 18 لا تجعل صلتك بولدك رسميةً فحسب الوصية الأولى: ألا تكون صلتك بولدك صلةً رسميةً فحسب، كأنك شرطي يوجه الأوامر إلى من تحته، أو مسئول عنده مجموعة من الموظفين، لا يكن همك أن يهابك الولد فقط، فإن هذا لا يصلح أبداً، بل احرص أن تبذل لولدك الوقت، وتمزح معه، وتجعل من نفسك صديقاً له، وتحادثه في أمورك، وأن تجعل العلاقة بينك وبينه علاقة ود وحنان، وعطف، ورحمة، وشفقة، ليست علاقة رسمية فقط، تأمره ويطيع، وتنهاه فينتهي، وتتكلم فيسكت، وتظهر فيختفي، هذا لا يصلح أبداً، وإني أقول لكم أيها الإخوة: لقد حدثني كثير من الشباب، ومن الفتيات أيضاً، من بيوت صالحة، وآباؤهم صالحون، وقد يكونون من أهل الخير المعروفين المرموقين، ومع ذلك يقع الولد -أو تقع البنت- بفساد عريض عظيم والأب لا يدري! ولعل من الأسباب: هذه العلاقة الرسمية، التي تجعل الولد يبحث عن العطف والحنان والمحبة خارج البيت إذا لم يجده من والده، فيقع في أيدي قرناء السوء، الذي يجد عندهم المزاح، ويجد عندهم الدعابة، ويجد عندهم الابتسامة، ولا يزالون به حتى يجرونه خارج المنزل، ويجرونه إلى الهاوية، فعليك أيها الأب أن يتعدى دورك مع ولدك توفير المال له، أو إصدار الأوامر والنواهي إليه، إلى توفير الرعاية الصحية له. وقد نشر في أمريكا كتاب في الأيام الأخيرة وتكلمت عنه الصحف، هذا الكتاب عنوانه "النجدة من أبنائي المراهقين" وقد ألفه أبوان عندهما خمسة أطفال، دللوهم وأعطوهم المال، ووفروا لهم وسائل الترفيه كلها، فكانت النتيجة ضياع هؤلاء الخمسة الأبناء كلهم، وكونهم وبالاً على والديهم، فكتب الوالدان هذا الكتاب عبارة عن نصيحة مجرب للأبوين، ومن أهم ما قال هؤلاء الوالدان: إن التدليل للولد، وتوفير الأشياء المادية له فحسب، هو من أخطر ضياع الأبناء، وإن المال وحده لا يكفي لتنشئة أبناء أصحاء من الناحية النفسية، ومن الناحية البدنية والاجتماعية، بل على العكس من ذلك، بل قد يكون توفير المال سبباً رئيسياً في انحراف الأبناء، ويقول هذان الأبوان: إن أحسن ما تنفقه على ولدك ليس المال، وإنما الوقت، فالأبناء بحاجة إلى الرعاية الشخصية، ومن المؤسف أيها الإخوة أن كثيراً من الآباء لا يلتقون بأولادهم وبأزواجهم، إلا على مائدة الطعام، هذا إن لم يكن أحدهم مدعوّاً على الغداء أو العشاء، فقد يلتقي مع أولاده على مائدة الطعام، لمدة عشر دقائق، أو ربع ساعة، أما بقية الوقت فقد تركهم في لا شيء، ثم بعد ذلك ينزعج ويغضب ويفاجأ إذا وجد من أبنائه شيئاً من الانحراف! الجزء: 146 ¦ الصفحة: 19 دور الأم في تربية الأبناء ما دور الأم؟ ما دوركِ أيتها الأم؟! من لي بتربية النساء فإنها في الشرق علة ذلك الإخفاقِ الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراقِ لماذا التركيز على المرأة؟ لأن المرأة هي معلمة الأجيال، وكان دورها في التاريخ الإسلامي بارزاً، ذلك لأن الرجل جلس للجهاد، وربما كان يذهب للجهاد أشهراً طويلة، وكان يذهب في طلب العلم، وكان يسافر للتجارة كما ذكر الله عز وجل في كتابه، وكانت الأم قعيدة البيت، تربي الشباب وترعاهم وتراقبهم، وتحسن تربيتهم. ماذا صنع الغرب اليوم؟ لقد أخرج الأم من البيت إلى العمل، بحجة ألا يكون نصف المجتمع معطلاً، فالغرب فعل هذا بالمرأة وأخرجها من البيت من أجل أن تعمل، لذلك بقي البيت فارغاً ليس فيه أحد، فماذا يصنع الغرب إذاً؟ أتى بما يسمى بالأم البديلة! (الحاضنة التي تربي الأطفال) ، والذين يريدون من الأمة الإسلامية أن تصنع هذا بالأمهات، يريدون أن يعيدوا لنا قصة أطفال المفاتيح، أتدري ما قصة أطفال المفاتيح؟! امرأة مدرسة في بلاد الغرب عندها ثمانية وعشرون طفلاً؛ أربعة وعشرون منهم لما سألتهم وجدتهم من أطفال المفاتيح، أعمارهم من ست إلى عشر سنوات، كل واحد في جيبه مفتاح، إذا جاء للبيت ليس في البيت أحد، يفتح ثم يغلق على نفسه، ويجلس أحياناً أربع أو خمس ساعات في البيت وحده خائفاً فزعاً، إذا جاءت الرياح وبدأت تصفر بالنوافذ، أو طرق الباب، أصابه الفزع والرعب! وقد يحصل حريق في المنزل، وقد يكون ضحية المخدرات إلى غير ذلك من الأعمال، فالذين يريدون من المرأة أن تخرج، يريدون كهذا المصير، لأولاد وبنات المسلمين! الجزء: 146 ¦ الصفحة: 20 مراقبة سلوك الأولاد دورك -أيتها الأم- مراقبة سلوك الأولاد، بحيث إذا وجدت عليهم ملاحظة لا تقولي: أخاف عليهم، لا أريد أن أخبر والدهم! بل أخبريه، حتى يعالج الموضوع بصورة صحيحة، واحذري من كتمان أي ملاحظة. كثير من الأمهات قد تجد على الولد، ملاحظة -مثلاً يدخن- فلا تخبر الوالد، تخشى أن يضربه! فينبغي لها أن تخبره وتنصحه بألا يضرب الولد، ولا يستخدم معه الأسلوب القاسي، بل يبدأ معه باللين، عسى أن يكون أجدر وأنجح من القسوة. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 21 عدم الحديث عن الأخطاء بحضرة الولد كذلك عدم الحديث بحضرة الولد، فبعض الأمهات على العكس إذا جاء الولد يجتمع مع أبيه، قالت الأم للأب: ابنك فلان هذا فعل وفعل وفعل، وآذاني، ورفض أن يصلي، وابنك يدخن، وابنك وابنك! وبدأت تقدم تقريراً كاملاً عن الولد، والولد يسمع، وتريد من الأب أيضاً أن يقوم في الحال بموقف، فإذا سكت الأب قالت: أنت غير مبالٍ وليس لديك اهتمام، وكأنهم أولاد الناس، فهذا ليس بصواب أن تنتقل إلى جبهة أخرى وهي الهجوم على الوالد! لا يصلح هذا، بل ينبغي أن يكون إخبار الأم الحنون للوالد، بأخطاء الولد، في مجلس خاص بينها وبينه، بل تعاهدي ولدك على الصلوات الخمس، حرضيه عليها، أيقظيه لصلاة الفجر، أخرجيه من البيت إذا جاء وقت الصلاة وحرضيه ومريه، وإذا جاء فاسأليه: هل صلى مع الجماعة أم لم يصلِّ؟ وإذا شعرت أنه قصر أو فرط، فمريه بأن يصلي ويتدارك ما فاته، يجب أن لا تكوني في صف الابن أحياناً على الأب. ولعلي ذكرت ضربت قضية السيارة مثلاً: أحياناً الأب يشتري السيارة، ويقول: اشتريتها وأنا مكره، لأن أم الولد ضغطت عليّ، وأكثرت من الحديث، حتى وجدت أنني مضطر لشراء السيارة لأسلم من القيل والقال، كثيراً ما يقال لي: اشترِ لابنك سيارة، دعه يفرح مثل أولاد الجيران، لا تكدر خاطر فلان، كل الناس معهم! وتحاول الأم أن تضغط على الأب لشراء السيارة، ولا تدري أن شراء السيارة وبال عليها هي قبل أن تكون وبالاً على الأب، لأن المتضرر من عقوق الولد الأم أكثر من الأب، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث الصحيح- أوصى بالأم ثلاثاً، وبالأب واحدة، لأن حاجة الأم إلى الولد أكثر من حاجة الأب إليه. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 22 دور الإخوة والأخوات والأقرباء ما دور الإخوة والأخوات في التربية؟ الجزء: 146 ¦ الصفحة: 23 دور الأخت في التربية أما بالنسبة للأخت، فإنها تستطيع أن تملك قلب أخيها ببعض الخدمات التي تقدمها، وهو يحتاج إليها، لأن الشاب الصغير يحتاج إلى أخته، في غسيل الملابس في كي الملابس، في الشاي وصناعته لزملائه إن جاءوا، كذلك تستطيع أن تملك قلبه بمساعدته على بعض الواجبات المدرسية أو حل بعض المسائل أو ما أشبه ذلك، وتستطيع أن تؤثر عليه إذا تحدثت معه حديث المشفق الذي يبين له ضرر هذا الشيء ونفع هذا الشيء، ويأمره بالخير، وينهاه عن الشر، ويحرضه، ويذكر له القصص والأخبار والأحاديث وما أشبه ذلك، كذلك تجعل في متناوله الكتاب والشريط، في غرفته مثلاً تجعل كتابًا أو شريطاً أو قصة مفيدة، إذا جاء وأوى إلى فراشة يقرؤها، أو يستمع إليها، فيستفيد منها. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 24 دور الأقرباء في التربية ما دوركم أيها الأقرباء من أبناء العم والخال وسائر الأقارب؟ الأقرباء لا شك صلتهم كثيرة، وهي صلة غير مستغربة، مثلاً: الأب قد يستغرب أن يجد ولده مع ناس لا يعرفهم إذا كانوا منحرفين، لكن إذا وجده مع ابن عمه ولو كان منحرفاً، فإن لا يستغرب أحياناً، ولو كان أكبر منه سناً، والمطلوب الحماية، لكن أقول: هذا هو الواقع عند الناس اليوم مع الأسف، فلذلك ينبغي للأب حضور المناسبات -مناسبات الزواج والعزائم وغيرها- حتى يستطيع أن يشرف على ولده وعلى الأولاد الآخرين أيضًا عن كثب، وعن قرب، كما يجب إحكام الروابط بين الأسر تحت إشراف جيد، بعض الأسر -بل الكثير من الأسر- أصبح بينها روابط (عزيمة) نصف شهرية، أو شهرية حتى إن بعض الأسر أصبحت تجعل هناك مخيماً سنوياً، تجتمع فيه الأسر من كافة المناطق، قد يجتمع ثلاثمائة أو أربعمائة فرد من أفراد الأسر، فإذا أمكن أن يكون هذا الاجتماع تحت إشراف، بأن يقوم مجموعة من الشباب الطيبين من الأسرة بتنظيم برنامج. فالطلاب الذين يحفظون القرآن من الأسرة يقدمون بعض حفظهم، حتى يكونوا نموذجاً لغيرهم، وتكون هناك مسابقات، وتوزيع بعض الكتب وبعض الأشرطة، وتكون هناك كلمات مفيدة وأشعار وقصائد إلى غير ذلك، مثل هذا النمط يربط الأسرة، يمنع الشاب من الشذوذ، يجعله يحس بشيء من الانتماء، ويفيده فائدة عظيمة، ويجعل الروابط بين الأقارب روابط إيجابية وليست روابط سلبية، وبعض الأسر بدأت بطريقة أخرى، وهي أن تجعل الرابطة بين شباب الأسرة، يعني في البلد قد يكون هناك خمسة عشر شاباً من الأسرة الفلانية، تجد واحداً من الشباب الغيورين المتحمسين، يجعل بينهم رابطة لقاء شهري، في رحلة أو في جلسة وما أشبه ذلك، تكون فيها أمور مفيدة، وأمور مسلية ومرفهة عنهم، حتى يمنعهم من مجالس السوء، وهذه أيضاً فكرة جيدة. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 25 دور الأخ في التربية الأخ أحياناً يقوم بدور الأب، إذا توفي الأب أو سافر، أو غاب، أو كان ضعيفاً، فإن هنا دور الأخ الأكبر يقوم مقام دور الأب في ذلك، ولذلك فيجب على الأخ أن يراعي عدم اختلاط إخوانه الصغار بزملائه هو، فأحياناً بعض الإخوة يكون له زملاء غير طيبين، أو عاديين، أو عندهم شيء من الانحراف، يزورونه في البيت، فيتساهل، في أن أخاه الصغير يجلس معهم في المجلس، ويتضاحك معهم، ويمزح معهم، وقد يخرج معهم، وقد يأتون أحياناً والأخ الأكبر غير موجود، فيدخلهم الصغير ويجلس معهم وهذا خطر كبير، قد يؤدي إلى أن يأخذ الصغير من أخلاق هؤلاء الزملاء المنحرفين، بل قد يؤدي إلى الوقوع في الرذيلة، والفاحشة، والانحراف، وهناك شواهد عديدة أحفظها على مثل هذا الأمر؛ على الأخ الأكبر أن ينتبه إلى ضرورة حماية إخوانه الصغار من زملائه إذا كانوا غير طيبين، أو كان عندهم شيء من الانحراف، مع أنه يجب أن يترك أو يصلح هؤلاء الزملاء المنحرفين، كما هو معروف. كذلك ينبغي أن يكون الأخ صديقاً لأخيه الصغير، وليس مجرد شرطي يأمر وينهى. بعض الإخوة الطيبين يريد من أخيه الصغير أن يكون طيباً، بمجرد أن يقول له: امشِ للصلاة، اترك فلاناً، افعل كذا، فإنه يتعوذ، هذا لا يكفي، المسألة مسألة تربية، ليست أوامر فقط، اذهب به معك، تعطيه أشياء، تهدي له أشياء، تمازحه، تضاحكه، ترفه عنه في أمور مباحة، ثم بعد ذلك تأمر وتنهى، هذا لا مانع منه، لكن ينبغي أن تكون مربياً وليس شرطياً، كذلك يجب مراعاة فارق السن، أضرب مثلاً صغيراً: هناك محاضرات للكبار، بعض الناس قد يأتي بأخيه الأصغر بالقوة، هو لو جاء راضياً مختاراً لا بأس، فحضور المجالس -إن شاء الله- لو لم يكن فيها إلا بركة المجلس، ونزول الرحمة بإذن الله جل وعلا، لكان هذا كافياً، لكن إذا كان لا يرغب في المجيء فلماذا تكرهه على المجيء؟! فقد يسمع كلاماً لا يفهمه، ولا يدري ما مضمونه، لا داعي لأن تلزمه بذلك. وأذكر رجلاً كان أبوه يأتي به بالقوة والقسر إلى الدرس، ويجلسه حتى يتعالى النهار ويرتفع، فبعد ذلك استطاع الولد أن يتخلص من أبيه، فانحرف انحرافاً عظيماً، وفسد فساداً لا يوصف، ثم بعد ذلك مَنَّ الله عز وجل عليه وعاد، ولكنه مع عودته أصبح يكره والده، ولا يطيق رؤيته لزمن، حتى جاهد نفسه في ذلك وأصبح مثل غيره من الناس، فيحذر الإنسان ألا يراعي فارق السن للصغار. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 26 دور الدعاة وطلاب العلم في تربية الشباب ما هو دور الدعاة في المجتمع، وطلبة العلم؟ والدعاة لا شك أنهم هم الشامة في وسط الناس، كما كان يقول عبد الله بن المبارك: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد هم ملح البلد، هم ملح الطعام، ما قيمة الطعام إذا لم يكن فيه ملح؟! وهم المحاضن التي ينشأ فيها كثير من الشباب، خاصة الذين فقدوا حنان، الأبوين أو فقدوا رعاية الأب، وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه! وكم من أسير بإذن الله قد فكوه! فهؤلاء ننتظر منهم ما لا ننتظر من غيرهم، لأن الآمال معقودة بعد الله عز وجل على هؤلاء الشباب المؤمن: كأني أراهم والدنا ليست الدنا صلاحاً ونور الله ملء المشارقِ أقاموا عمود الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحق فوق الخلائقِ هم الأمل المرجو إن خاب مأمل وأوهن بعد الشوط صبر السوابقِ هم الحلم الريان في وقبة الظما وليس على الآفاق طيف لبارقِ الجزء: 146 ¦ الصفحة: 27 دور الشباب وطلاب العلم نحو المنحرفين أما الشباب الملتزمون فلهم دور كبير وواجب آخر يتمثل أولاً في ملاحظة حالات الانحراف على الشباب، ومعالجتها عن طريقهم بالاتصال والصداقة إن استطاعوا، وإلا فبتبليغ آبائهم بأن فلاناً عليه بوادر غير جيدة أو يمشي مع أناس غير طيبين، حتى يعالج الأب الحالة منذ أولها، وكذلك ينبغي أن يكون هناك نشاط دائم للشباب العاديين ومن دونهم في الحي، وأن يكون هناك صلات، وزيارات، ورحلات، وتبادل الحديث، ومفاتحة في أمور، لعل الله عز وجل أن يهديهم ويحفظهم من الانحراف، وكذلك الوقوف بحزم وقوة وصرامة، ضد بعض الشباب المنحرفين الذين يترددون على الحي، كثير من الأحياء أفسدها أناس من غيرها، شاب منحرف يأتي بسيارته ويدور، ويحمل بعض الشباب، كما نبهت إلى ذلك، فيجب على الشباب الذين في الحي أن يقفوا بقوة وصرامة وحزم ضد مثل هذا الشاب، ويمنعوه من المجيء إلى الحي، وإن استدعى الأمر الاتصال بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو نحوها، فهذا أمر حسن أيضاً، كذلك توسيع نشاط الحلقة، فإن كل حي فيه حلقة لتحفيظ القرآن الكريم، فينبغي أن يتوسع نشاط الحلقة، ولا يكون مقصوراً على الطلاب الذين فيها، بل ينبغي أن تكون مصدراً مشعاً لكل شباب الحي بقدر المستطاع. خامساً: ينبغي مقاومة المنكر الموجود في الإعلام أو المكتبة أو البقالة أو المستشفى أو النادي أو أي مكان، وأضرب لكم بعض الأمثلة اليسيرة، مثلاً: أحد الشباب دخل البقالة، فوجد فيها مجلات أزياء وصوراً خليعة، فقال لصاحب البقالة: أريد أن أشتري منك هذه الأشياء، شريطة ألا تشتريها مرة أخرى، فقال له صاحب البقالة: تشتريها لماذا؟! قال: لأحرقها، قال: أنا سأعيدها إليهم وأعدك بأنني لا أشتريها مرة ثانية. كذلك الاتصال بصاحب المكتبة بالهاتب بالكلمة الطيبة، وبالحسنى، نستطيع -بهذه الطريقة، وبالتضافر، وأن يشعر كل واحد منا أنه مسئول عن إنكار المنكر- نستطيع إن شاء الله القضاء على كثير من المنكرات. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 28 دور المدرس في تربية الأبناء أيها الإخوة لا شك أن معظم الشباب -إن لم يكن كلهم- هم عبارة عن طلاب في المدارس وهذا يذكرني بدور المدرس في فصله ومدرسته: أولا: ً بإقناع الطلاب بقدرته العلمية، من المهم أن يدرك الطلاب أنك ذا قدرة علمية، وأنك ناجح في مادتك التي تدرسها لهم. ثانياً: أن يقتنع الطلاب أنك -فعلاً- تسعى لمصلحتهم، لأن بعض المدرسين قد يكون حقيقة يسعى لمصلحة الطلاب، لكن انطباع الطلاب أن هذا المدرس حقود، أو حسود، إلخ! لا يدرون أنه يسعى للمصلحة، لماذا؟! لأنه لم يقنعهم بأنه يسعى للمصلحة، كيف تُشْعِرهم؟ الاعتدال مثلاً: الاعتدال في الشرح، الاعتدال في وضع الأسئلة، الاعتدال في التصحيح، الاعتدال في وضع الدرجات، الحرص على مطالب الطلاب، تقديم الخدمات لهم بما لا يضرهم في المادة، بحيث تكسب محبة الطلاب دون أن تخل بواجبك التعليمي، هذا مهم جداً. الثالثة: التربية على الرجولة، فإن من المظاهر المحزنة جداً أن كثيراً من شبابنا الآن أصبحت تظهر عندهم مظاهر الترف، والميوعة، والتأنث! خاصة في المرحلة المتوسطة، وهذا يلقي على المدرسين مسئولية عظيمة جداً في ضرورة وجود جو رافض لمثل هذا السلوك، وتربية الطلاب على معاني الرجولة، سواء من خلال سرد القصص، أو تحريك المعاني العاطفية، أو ربطهم بمعالي الأمور، أو بيان آثار وسلبيات هذا الشيء، حتى يبتعدوا عنها، ويتدربوا على الرجولة منذ صغرهم، مثل ذلك معالجة الحالات الخاصة، وقد تكون في الفصل وعندك طالب ظهرت عليه مظاهر الانحراف، بدأ يغيب عن المدرسة، بدأ ينام في الفصل، بدأ لا يؤدي الواجبات، معنى ذلك أن عنده مشكلة، فتأتي به عندك في الغرفة، وتسأله: ماهي المشكلة؟ ما هي القضية؟ أذكر في يوم من الأيام طالباً كان هكذا، فلاحظت عليه أمراً فدعوته وسألته، فبعد قليل انفجر باكياً، وقال: إن والدي مبتلى بشرب الخمر، وأمرنا في البيت كذا وكذا وكذا، فأصبح من الممكن علاجه وتدارك الأحوال التي تواجهه. إذاً إذا لاحظ المدرس مشكلة على الطالب فعليه أن يفاتحه بها، إن حلها فبها، وإلا يبلغ والده وأهله، حتى يكونوا في الصورة، ويستطيعوا أن يقوموا بواجبهم في رعاية الولد. ومن المهم التجديد في أساليب الجمعيات الإسلامية الموجودة في المدارس، بكافة الوسائل، حتى تستطيع أن تحتوي عدداً كبيراً من الطلاب وبشكل عام، فدور المدرسة كبير، ونحمد الله عز وجل أنه يوجد في مدارسنا عدد غير قليل من المدرسين الصالحين الأخيار والمسئولين، وينبغي أن نحرص دائماً وأبداً على أن تكون المدرسة نظيفة، وأن يكون جوها نظيفاً، مكملاً لدور البيت، ومكملاً لدور المسجد. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 29 الآمال في التغيير معقودة على الشباب هؤلاء المؤمنون الصادقون من الشباب هم الذين تعقد عليهم الآمال بعد الله عز وجل، ولذلك نقول لهؤلاء الإخوة الأحبة: إننا ننتظر منكم الشيء الذي لا ننتظره من الآخرين، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، لا بد أن تتحلوا بالأخلاق العالية مع من تريدون دعوتهم من هؤلاء الشباب، الابتسامة الحلوة صدقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} يقول جرير بن عبد الله: {ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم، ولا حجب لي منذ أسلمت} يقول لي بعض الشباب: والله إني ألتقي ببعض الناس، فإذا تبسم في وجهي فكأنه فتح قلبي ووضع هذه الابتسامة، فيه فلا أنساها أبداً، مع أنك ما خسرت شيئاً، لا درهماً، ولا ديناراً، ولا وقتاً، ولا شيئاً، فاجعل الابتسامة شعارك، واعلم -يا أخي الحبيب- أن الابتسامة جعل الله فيها من الأسرار الشيء العظيم، حتى أنها تغسل القلب غسلاً، وكم من إنسان يكون في نفسه شيء عليك، أو يكرهك، أو لا يحبك، أو قد يسوء ظنه بك، لكنه إذا التقى بك فتبسمت -خاصة إذا كنت من أصحاب القلوب التي نقاها الله سبحانه وتعالى من الحقد فلا تعرف الحقد- فإنه يزول كل ما في نفسه، قبل أن تتكلم بكلمة. فاجعل الابتسامة شعارك، واجعلها ابتسامة صادقة، وليست ابتسامة متصنعة، كذلك رد السلام بحرارة، إذا سلم عليك إنسان وصافحك، فلا تمد طرف الإصبع أو طرف اليد، أو تسلم عليه وأنت معرض عنه، هذا لا يصلح، لأن السلام إنما شرع لتقوية الروابط، وأنت إذا سلمت على إنسان بطرف يدك، أو سلمت عليه وأنت صاد عنه، فإنه يحمل في نفسه عليك الشيء الكثير بل إذا سلم عليك إنسان فاتجه إليه بوجهك، وانظر إليه بعينك وصافحه بحرارة، واضغط على يده بما لا يضره -انتبه لهذه- المهم أنه يشعر أنك تسلم عليه سلام محب، سلام أخ مسلم، ثم تتكلم معه بالكلام الطيب. كيف أصبحت كيف أمسيت مما يغرس الود في فؤاد الكريمِ فلا بد من هذه الأشياء كلها، وبعض الشباب المنحرفين ينتقدون بعض الصالحين بانتقاد يعبرون عنه بالكبر وعدم البشاشة وعدم التواضع، وهذا في الواقع ليس كبراً، ولكنهم يعتبرون عدم إقبالك عليهم نوعاً من الإعراض والكبر عليهم، وبعضهم قد ينتقد: الغلظة والقسوة والأسلوب الجاف في النصيحة من قبل بعض الصالحين، ومنهم من يعبر عنه بالاستخفاف بنا، والازدراء، هكذا يفهمون أو يتصورون، لأن الشاب المنحرف عنده شعور بالنقص أحياناً، فإذا نظرت إليه أنت شزراً، أو أعرضت عنه، أو قمت تجاهه بموقف معين، فَسَّره دائماً على أن هذا نوع من التكبر، وعدم الاهتمام به، أما الذين يحبون الشباب المتدينين من المنحرفين، وهم كثير، فإنهم يحبونهم لحسن خلقهم، كالتواضع والبساطة والكرم. ومن المهم جداً بذل المعروف في أشياء كثيرة، مثل: تصوير الملخصات، فهناك زملاء في مدرسة عندهم ملخصات، مذكرات دراسية، صَوِّر وأهدِ له ملخصاً، فضلاً عن إهداء شيء مفيد كشريط، أو كتاب، أو أمر آخر. كذلك تلخيص بعض المعاملات له، قد تكون موظفاً وله معاملة عندك، تستطيع أن تخلصها بما لا تضر بها الآخرين، ولا تخالف في أنظمة مطلوب مراعاتها، فهذا أيضاً يعتبر خدمة جليلة له. أيضاً تدعوه إلى بعض المناسبات الخاصة بك، ليأكل عندك، ولهذا يقول بعض الذين كتبوا عن الأخوة: إن مما يقوي الأخوة ثلاثة: دخول المنزل، والأكل عندك، والنوم، فإذا دخل منزلك، وأكل ونام في منزلك، فقد اكتملت بعض خصال الأخوة كما يقول الغزالي وغيره. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان ثمامة بن أثال رضي الله عنه كان مشركاً عدواًًً لله ورسوله، أمسك به المسلمون وربطوه كما في الصحيحين في سارية المسجد، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {ما عندك يا ثمامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم -مستحق للقتل أو له من يأخذ بثأره- وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال، فسل تعطَ منه ما شئت، فتركه النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اليوم الثاني والثالث مثل ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطلقوا ثمامة، فلما أطلقوه خرج إلى ماء قريب، فاغتسل منه عند النخل، ثم رجع وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي، والله يا محمد ما كان على ظهر الأرض دين أبغض إليَّ من دينك، وقد أصبح دينك أحب الدين كله إلي، والله يا محمد! ما كان على الأرض بلد أبغض إلي من بلدك فقد أصبح بلدك وإنه لأحب البلاد كلها إلي} انظر كيف يصنع الجميل بالإنسان! وهذا سيدٌ وزعيمٌ، مجرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقال عثرته، وفك أسره، أسلم وأصبح لا يحب الإسلام فقط، بل يحب الإسلام، وأرض الإسلام، وبلاد الإسلام، لا يحب شيئاً أكثر مما يحب تلك البلاد، يقدمها على كل بلاد، أصبحت أحب كل البلاد إليه، ووجه النبي صلى الله عليه وسلم أحب الوجوه كلها إليه، والإسلام أحب الأديان كلها إليه. إذاً: أوسع باب أو مدخل إلى دعوة الناس أن تدخل إلى قلوبهم وتكسب ودهم من خلال الكلمة الطيبة والبسمة والإحسان إليهم وبذل المعروف، ثم بعد ذلك تربطهم بالمجالات الخيرية، وليس من الضروري أن تفاتح هؤلاء الإخوة، لأول وهلة بأنهم منحرفون، أول ما تبدأ معه ضربة في الوجه بأنك فيك، وفيك، وفيك! فما دامت عندك فرصة، وعندك وقت، ابدأ معه، ثم انتقل خطوة بعد خطوة حتى تأتي البيوت من أبوابها، فإن الإنسان إذا قفز أحياناً فقد يسقط أحياناً وتتكسر أقدامه، كذلك ليس من الضروري أن تبدأ بتحطيم بعض الرموز التي يحبها، قد يكون هذا الشاب مشغوفاً بالرياضة، فلو بدأت أول جلسة معه قلت: اللاعب الفلاني فيه كذا، والنادي الفلاني فيه كذا، والكرة فيها كذا، وأكثرت عليه في هذا الأمر، فمعناه كأنك وضعت حاجزاً من البداية، لكن لا مانع أن تصبر معه، فابدأ معه بكلمة طيبة، وجره إلى المسجد بالكلمة وبالحسنى، وادعه إلى الله عز وجل، ثم بعد ذلك تبدأ معه بمعالجة الانحراف الذي عنده أولاً بأول، كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً -في حديث ابن عباس - حين بعثه إلى اليمن: {فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن هم أطاعوك إلى ذلك فأخبرهم بالصلاة} ولذلك أوصي بتنظيم زيارات إلى مواقعهم. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 30 الأسئلة الجزء: 146 ¦ الصفحة: 31 حكم السلام على العاصي السؤال إذا سلَّم عليَّ إنسان منحرف كثير الانحراف فماذا يجب علي؟ هل يجب أن أرد عليه؟ وهل يجب أن أسلم فإني علمت أنه يذهب إلى مجالات غير طيبة؟ الجواب إذا كان مسلماً فإنك ترد عليه السلام، إلا في حالة واحدة، إذا كان ترك الرد سبباً في هدايته، فبعض الناس إذا عرف أنك لا ترد عليه السلام بدأ يقول: ماذا فعلتُ؟ ثم رجع إلى نفسه وتاب، وهذا قليل جداً اليوم، بل بالعكس كثير منهم إذا فعلت مثل هذا معه فإنه يزيد في عدوانه. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 32 رسالة إلى فتاة الجزيرة هذه قصيدة جميلة لأخينا الدكتور/ عبد الرحمن بن صالح العشماوي بارك الله فيه، يقول في مطلعها: رسالة إلى فتاة الجزيرة: أختاه دونك حاجز وستارُ ولديك من صدق اليقين شعارُ عودي إلى الرحمن عوداًَ صادقاً فبه يزول الشر والأشرارُ وبه يعود إلى البلاد أمانها وبه يفك عن الخليج حصارُ أختاه دينك منبع يروى به قلب التقي وتشرق الأنوارُ ألفت النظر إلى هذه القصيدة والمساهمة في نشرها، وجزى الله الشاعر خيراًَ. أسأل الله عز وجل أن يهدينا إلى سواء السبيل، اللهم اهدِ شباب المسلمين وفتياتهم، اللهم اهدِ شباب المسلمين وفتياتهم، الله اجعلهم دعاة إليك، مجاهدين في سبيلك، وأقر بهم عيون آبائهم وأمهاتهم يا أرحم الراحمين، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، اللهم صلِ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 33 الجلوس مع الشباب من مهامنا الدعوية السؤال يقول: ثلة من شبابنا يعدون من الشباب الملتزم نستطيع أن نسميهم عاديين، ليس عندهم شغف للعلم، بل يكثرون الجلسات والرحلات البرية والضحك، ومع ذلك لا يسمعون الغناء، بل يسمعون القرآن والمحاضرات وغيرها، فما موقفنا منهم إذا طلبوا أن نذهب معهم؟ الجواب مثل هؤلاء ينبغي الجلوس معهم، وتبادل الصلات والود، كما قلت لكم قبل قليل، مهمتنا اليوم مهمة دعوية، بالدرجة الأولى نحن نريد أن نثبت للعالم أن المجتمع كله مجتمع مسلم، لا تريد غير الإسلام في أي شأن من شئون الحياة، وأرجو أن تعوا هذا الأمر جيداً. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 34 كيفية التعامل مع الابن المنحرف السؤال بعض الآباء يجتهدون في تربية أبنائهم بشتى الوسائل فلم يستطيعوا، حتى أن بعض الشباب قال لأبيه: إذا لم تتركني في حريتي فسأحرق نفسي، فما رأيكم في هذا؟ وما الطريق السديد الذي تحث به الآباء على تربية أبنائهم؟ الجواب الطريقة السليمة لعلي ذكرت جوانب منها، يحتاج الأب إلى الحكمة، لأن الشباب يكون في كثير من الحالات في حالة طيش، ويكون له أصدقاء منحرفون، يحرفونه ويسخرون منه، فإذا تأخر يوماً من الأيام تضاحكوا، وقالوا: هاه منعك أبوك! فهذه تثير عند الشاب أن يقول: هل أنا طفل يمنعني أبي؟! بل سأحضر وليس له دخل، ولا علاقة له بي من قريب ولا بعيد؛ فهم يحرضونه على أن يتخذ مواقف شديدة من والده، فعلى الأب أن يكون حكيماً، ويضع الأمر في موضعه، وإذا وجد أنه لم يفلح في المعالجة، فلا مانع أن يجعل غيره يتولى معالجة مثل هذا الموضوع، مثل الأخ الأكبر، أو زميل، أو مدرس، أو ما شابه ذلك. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 35 الطريقة المناسبة لترك المعاصي السؤال أنا شاب لا يتجاوز عمري خمس عشرة سنة، أفعل المعصية ثم أندم، وأسأل الله أن يتوب علي، ثم أرجع إلى تلك المعصية، ما هي الأمور التي تجعلني أقلع عنها؟ الجواب هي كثيرة، منها صحبة الطيبين والإقلاع عن الأشرار، وترك النظر إلى الحرام، وكثرة الاستغفار، وكثرة قراءة القرآن، وكثرة الذكر، والابتعاد عن الأفكار والهواجس، والوساوس السيئة، لا تخلُ بنفسك إلا مع قوم صالحين، ومع ذلك إذا وقعت فأحسن، إذا أسأت فأحسن، وإذا أذنبت فاستغفر، فإن الله تعالى يغفر الذنوب جميعاً، ولو كررت ذنبك مائة مرة، لا تقل: لا يغفر الله لي: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53] . الجزء: 146 ¦ الصفحة: 36 استهزاء الشباب بالملتزمين السؤال العديد من الشباب يأتي إليهم الشخص يلقي إليهم النصح، فيستهزئون به ويردون عليه؟ الجواب قابل هذا بلطف، لا ترد عليهم، لا تغضب لنفسك، دعهم هذه المرة، وأعرض عنهم، وكرر هذا الأمر مرة أخرى، نحن بحاجة إلى سعة البال. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 37 توبة شاب من العقوق السؤال أنا شاب بالغ قد هجرت أبي، أعانده ولا أطيعه، ولكني أحب الآن أن أصالح أبي، فما هي نصيحتك لي، وقد هداني الله وأخاف أن يعاقبني على عملي هذا؟ الجواب أنا أقول: هذا نموذج للآباء، انظر كيف الولد إذا هداه الله عز وجل يشعر بالعقوبة تجاه تقصيره أمام والده، فأعظم نفع يقدم للوالد هو هداية ولده، وأقول للأخ السائل ولغيره: دائماً الإنسان قد يستصعب بعض الأمور وهي سهلة هينة، تعودت في البيت مثلاً أن أسلوبك مع الوالد جاف، حتى لو أردت أن تقول له: صبحك الله بالخير، تحس أن الأمر صعب عليك، ولو أردت أن تقبل رأسه، تحس أنك تريد أن تفعل شيئاً ما تعودت عليه، والإنسان الذي لم يتعود على الشيء، يحس أنه يعمل شيئاً خارجاً عن طبيعته، لكن الأمر سهل، جرِّئ نفسك أول مرة، وستجد أن الأمر سهل جداً، إذا أتيت إليه: صبحك الله بالخير، مساك الله بالخير، قبل رأسه، قل له الكلام الطيب. أعرف أناساً في غاية الشدة والحرارة والعنف في طباعهم، أناساً عصبيين، لكن لما ألجم الإنسان نفسه بلجام الخوف من الله عز وجل، كان مع والده ووالدته كالعسل، قد يقسو عليه والده، وقد يوبخه، وقد يكون هذا بحضرة الناس، فتجد الولد وإن تمعر وجهه، إلا أنه يكتفي بترديد: عفا الله عنك، جزاك الله خيراً، الله يعفو عنك، الله يسامحك، وما أشبه ذلك. إن الإيمان -يا إخواني- يهذب الطبائع، فجرئ نفسك على استقبال الوالد، وقبل رأسه، وابكِ بين يديه، واعتذر منه، وعده بأنك لن تعود إلى مثل هذا الأمر، والوالد قريب الرضا. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 38 لا يلزم من التحذير المشاهدة السؤال عندما يسمع بعض الشباب كلامك عن (مجلة سيدتهم) وأنك قرأتها، يقولون: كيف يقرأها الشيخ؟! إذاً سنقرؤها، وأقل ما يقولون: سننظر للخطر ونحذر منه، فما رأيك؟ الجواب لا. أبداً، أنا الحقيقة لم أقرأها ولم أشترها، وأستغفر الله وأتوب إليه، أنَّ مثل هذه المجلة توجد في بيت امرئ مسلم، فتهرب الملائكة وتدخل الشياطين، لأنها مجلة تتاجر بصورة المرأة، وكل من يحترم نفسه، ويحترم دينه، يستحي أن ينظر إليها فضلاً أن يشتريها، وكفى تجريحاً لإنسان أن يقال: فلان يشتري مجلة كذا وكذا، وإنما ذكرت هذا لمناسبته، التي أرى أنه لا بأس بذكرها، لأنه مع الأسف هذا أمر موجود، وليس أمراً غائباً لا يعرفه الناس. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 39 حكم الذهاب إلى الملاعب لمشاهدة المباريات السؤال ما حكم الذهاب إلى الملاعب لمشاهدة المباريات إذا كان اللاعبون يلبسون (الشرت) القصير، ومع العلم أن الدفوف تستعمل؟ الجواب سماع الدفوف لا يجوز، كذلك عورة الرجل ما بين السرة والركبة عند كثير من أهل العلم، وقد جاء في هذا أحاديث عند الدارقطني وغيره، وصححها جماعة من أهل العلم، وإضافة إلى هذا وذاك ففي الملاعب من اختلاط الكبار بالصغار، وغير ذلك ما هو معلوم لا يخفى. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 40 شابة ترفض الزواج من شاب متدين السؤال أنا شاب متدين، ولي أخت على أبواب الزواج، وقد تقدم إليها شاب ملتزم، فرفضته إدعاءً بأنه إمام مسجد، وأنه لا يجعل وقتاً لها إن تزوجته، فما نصيحتك لها لأن تغير فكرتها؟ الجواب ينبغي أن تتحدث مع أختك بصراحة عن الزوج الصالح والزوج المنحرف، وأيهما أجدر وأنسب لها، كم من امرأة تزوجها شاب منحرف، فكان يسافر إلى الخارج في الإجازات، ويدخن، وقد يشرب الخمر، وقد يأتي بزملائه السيئين في البيت، ويتعاطى معهم الخمر، وتكون المرأة في حالة خطر، وأقول لكم: كثيراً ما يتصل بي نساء يشكين أزواجهن: أن الزوج قد يسمح أن ينام زملاؤه في المنزل، وقد يسمح أن يشربوا الخمر في المنزل! وقد يسافر ويرجع ومعه صور خليعة، ومعه ذكريات رديئة، بل قد يرجع ومعه جراثيم الأوبئة والأمراض الفتاكة كالهربس والإيدز وغيرها من الأمراض الجنسية! فالآن -الحمد لله- حتى الفتاة غير المتدينة أصبحت تريد متديناً، ولابد أنكم قرأتم مقابلات كثيرة في الصحف مع هؤلاء، تريد شاباً متديناً ملتزماً، لأنه حتى من الناحية الدنيوية البحتة المتدين أحسن وأفضل لها من غيره، فالمتدين إذا أحبها أكرمها، وإن كرهها لم يهنها، ولا شك أنه خير لها على كل حال. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 41 كيفية القضاء على المنكرات السؤال كيفية القضاء على المنكرات كالمجلات والأشرطة وغيرها؟ الجواب أما بالنسبة لأشرطة الفيديو فأنا أود أن أنبه الإخوة إلى أمر، نحن محتاجون إلى الدعوة اليوم، اليوم أهم شيء نحتاجه الدعوة في أوساط الرجال والنساء، المنحرفين وغير المنحرفين، ينبغي أن نقوم بحملة لا تهدأ، شعارها الدعوة إلى الله عز وجل، لماذا؟ لأنه حتى إذا فرض أنه قضي على بعض الصور، أو الفيديو أو غيرها، فهناك وسائل غيرها وأشد منها فساداً. ذكرت لكم في المجلس السابق أن هناك إعلاناً رسمياً في مصر، أنه خلال شهر سوف ينقل البث المصري إلى أنحاء المملكة، ويرى في جميع أنحاء المملكة وتعرفون التلفزيون المصري ماذا يعرض فيه، الرقص الخليع هذا أقل ما يعرض فيه، البرامج التافهة، إلى آخره، الناس هناك ضجوا منه وتذمروا، وسوف يأتي إلى هنا، فضلاً عن البث الأجنبي، فنحن بحاجة إلى أن نبذل الجهد في تحصين قلوب الناس، لأن الإنسان المحصن أينما تلق به فهو محصن، الآن الشباب المبتعثون إلى أوروبا وأمريكا -زرتهم وذكرت هذا في أحد المرات- أكثر من (70%) أفضل من شبابنا في هذه البلاد، دين وحماس، وغيرة، وصبر وورع عجيب! حتى إنهم يتورعون -مع أنهم في بلاد كفر- عن أمور أتعجب منها غاية العجب، واستغرب كيف يتورعون عن أشياء مباحة لا شيء فيها، وهم يسألون عنها، فضلاً عن أمور مكروهة، فضلاً عن الحرام، فالمهم الآن أن نكون قائمين بواجب الدعوة إلى الله عز وجل بقدر ما نستطيع، في كافة المجالات، وعلى كافة المستويات، والاستفادة من كل وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله تعالى. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 42 تحذير من جريدة (المسلمون) السؤال ما رأيكم في جريدة (المسلمون) لأن كثيراً من الناس يثقون بها ويدمنون قراءتها؟ الجواب في الواقع لن أقدم رأيي في هذه الجريدة، لكني أريد أن أنبه إلى أمر كنت متردداً في التنبيه عليه، لكن لما سألني الأخ وجدتها فرصة سانحة، فقد جاءتني أسئلة من هذه الجريدة قبل ثلاثة أسابيع، وألحوا عليَّ كثيراً حتى زارني مسئول منهم في المنزل جزاه الله خيراً، وطلب التعاون مع طلبة العلم، والدعاة في هذا المجال، ونتيجة لذلك، كتبت إجابة على هذه الأسئلة وأرسلتها إليهم، وبعد ذلك نشر بعض هذه الأسئلة بصورة محرفة، ونسبوا إليَّ ما لم أقل، واتصلت بهم في الأسبوع قبل الماضي، رجاءَ أن يكتبوا تصحيحاً في العدد قبل الماضي، فلم يفعلوا، ثم اتصلت بهم في الأسبوع الماضي رجاء أن يكتبوا تصحيحاً فلم يفعلوا، وبناءً على ذلك أجد أني مضطر لأن أقول لكل من يستمع إليَّ الآن: إنهم نسبوا إليَّ أنني قلت: إننا يجب أن نربي الشاب تربية عسكرية، حتى يكون قوياً في الدفاع عن وطنه، فإن الدفاع عن الوطن -من معنى الكلام- من أهم الواجبات، وهذا في الواقع كلامٌ لم أقله، ولست ممن يقولون مثل هذه العبارات: الوطن والوطنية! لأننا نتحدث في مثل هذا المجال بالتفصيل، فأقول: إن كان المقصود الدفاع عن الوطن الدفاع عن دولة تحكم شريعة الله عز وجل، وبلاد تحكم بالكتاب والسنة، فهذا الدفاع واجب، لأنه دفاع عن الإسلام، ودفاع عن المسلمين، دفاع عن الركع السجود، ودفاع عن الأعراض، ودفاع عن الحرمات، ودفاع عن كبار السن، والشيوخ، ودفاع عن تراث الإسلام، أما مجرد تراب أو وطن، فهذا ليس هو الشعار الذي يدافع المسلم عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ولذلك ألفت الأنظار، ولم يكن بودي أن أتحدث في هذا الموضوع، لكنني وجدت نفسي مضطراً لذلك. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 43 الحماس المؤقت السؤال ما رأيك في من يشعر بالحماس فترة ثم يزول، وهذه عادته دائماً، وهذه مشكلة أعاني منها؟ الجواب الحماس ينبغي أن يكون مرتبطاً بمعانٍ مستقرة لا تزول، لأن بعض الناس حماسه مأخوذ من حادثة، بأنه حصلت مشكلة فتحمس، وانتهت المشكلة ففتر، فمن أهم الوسائل التي تجعل الإنسان يتحمس بصورة مستمرة: أن يعرف ماذا يجري في واقع الأمة الإسلامية، لأن الواقع الذي ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم يدعو بعض الناس أن يفجروا قلوبهم، وليس أن يتحمسوا فقط، لكن المؤمن لديه من الثقة بالله عز وجل، والثقة بالنصر، والثقة بمستقبل الإسلام ما يعطيه نوعاً من الطمأنينة، وإلا فوالله الذي لا إله غيره، أن الأوضاع التي يعيشها المسلمون الآن، أوضاع من السوء والتشابك والتعقيد والضعف والتخلف، مما يجعل الحليم حيراناً، ويجعل الكثير من العقلاء كأنهم ينتظرون آية إلهية تنزل من السماء، ولكننا واثقون بالله عز وجل، وهذه الثقة تجعلنا نتصرف بحكمة، وليس باندفاع، وتجعل الإنسان أيضاً من خلال معرفته بالواقع يتحمس حماساً موزوناً. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 44 الحكم على الآخرين يحتاج إلى بينة السؤال وزعت منشورات تحمل أسماء البنات المشاركات في المسيرة وأزواجهن، ووضع أمام اسم الزوج أنه شيوعي أو علماني، فهل يجوز أن أتهم المرء بدينه قبل التأكد من ذلك، حيث أن جميع الأزواج شيوعيون أو علمانيون؟ الجواب هذه الورقة ساءتني لأسباب، أولها: أنها غير دقيقة في المعلومات المذكورة فيها، فيها نسبة وإن كانت قليلة من الخطأ. الأمر الثاني: أننا -فيما يتعلق باتهام هؤلاء الأشخاص بأن هذا شيوعي وهذا علماني- نحن نريد أدلة، لأننا لا ننكر أنه يوجد في مجتمعنا الشيوعيون، ويوجد في مجتمعنا علمانيون، لكن ينبغي أن نتعلم ونعلم الناس على ألا نتكلم إلا من خلال وثائق، وأنا أنصح إخوتي -شباب الدعوة الإسلامية- أن يجعلوا هذا الأمر في غاية الأهمية بالنسبة لهم، لا تتكلم عن شخص أبداً مهما كان معروفاً ومستفيضاً فساده، لا تتكلم عنه إلا من خلال وثائق: كتاب، مقالة في صحيفة، قصيدة أو شريط، أو أي شيء، المهم إن كان أن عندك وثيقة فلا بأس، تكلم وافضح رموز الفساد والزندقة والإلحاد سراً وجهاراً، وبأسمائهم أيضاً، بشرط أن تكون لديك وثيقة، أما أن تقول: شيوعي، علماني، هذا شيوعي، هذا علماني، على هذه الصورة، فلا يصلح هذا، إلا أن تعطينا وثائق على ما ذكرت، ومن الخطأ انتشار مثل هذه الأشياء إلا بعد التوثق منها، وينبغي أن نتفطن لمثل هذه السلبيات التي ذكرتها في مقدمة هذه المحاضرة. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 45 شر البلية ما يضحك السؤال هذا السؤال طريف، يقول: أبي على وشك أن يشتري لي سيارة، وهو حاضر هنا، وأعتقد أن أبي دخله شيء من الشك، وأنت الآن تحسس أبي علي وأنا ملتزم. الجواب الصراحة أنني توقعت مثل هذه الحالة وأنا أتكلم، لكن أقول: إن تحسس أبوك عليك، فاجعل والدك يراجعني وإن شاء الله نقنعه بذلك. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 46 واجبنا تجاه المناهج الدراسية السؤال هذا يسأل عن موضوع الكتب المدرسية، وما يوجد فيها -أحياناً- وكيفية توجيه الشباب والطلاب والطالبات حيالها. الجواب أولاً: ينبغي أن نعمل جميعاً على تنظيم المقررات الدراسية، وفي الواقع أن الذي أعلمه أن الجهات المسئولة التي هي إدارات التعليم ووزارة المعارف وتعليم البنات، تتقبل الملاحظات بما يتعلق بالمناهج، ولي تجربة شخصية في هذا المجال، وأتكلم من معرفتي بهذا الأمر، وعدد من الإخوة كذلك، فينبغي أن نتفطن لذلك. ثانياً: إذا وجد في المقرر شيء غير صحيح، أو مخالف، ينبغي إلغاؤه عن الطلاب، وبيان وجه الخطأ فيه، والأخ زودني هنا بصورة عنوانها: ممارسة الإنجليزية خارج الفصل، وفيها شاب سعودي يلبس الغتره والعقال، ومعه رجل خواجة كما يقول، ومعه زوجته أيضاً، وهي في صدرها صورة عليها قلب، مكتوبة باللغة الإنجليزية، والشاب هذا يضع يده على الرجل، بجوارهم طفل ينام، وهو يستمع إلى الإذاعة باللغة الإنجليزية، هذه الصورة زودنا بها أحد الإخوة ويسأل عنها، والجواب مثل ما ذكرت. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 47 وفق بين الأعمال الدعوية وطاعة الوالدين السؤال يقول: والدي من العلماء، ولكني أخافه وأخشاه، لأنني لا أستأذن عند خروجه، وبالتالي فقد منعني من الرحلات البتة، وأنا طالب في حلقة، فماذا أفعل؟ الجواب ينبغي إقناع الوالد بذلك، ومن الوسائل في إقناع الوالد أن تعرفه على أصدقائك، لأن الأب أحياناً لا يمنع الولد إلا خوفاً عليه، فإذا عرف الأصدقاء الذين تذهب معهم وتجيء معهم، فالغالب أنه يوافق على ذلك، كما أنني أنصح الإخوة أن يحرصوا على أن يقوموا بحقوق أهلهم، لأنه قد يمنعك لأنه محتاج إليك، فقد زارني يوماً من الأيام بعض الشباب في أحد المراكز، وقالوا: إننا لا نستطيع أن نقوم بحقوق البيت بسبب انشغالنا في المركز أو المدرسة أو غير ذلك، فقلت: إذاً أسألكم سؤالاً: إذا كنا نصلي الفجر وكان وقتها الساعة الرابعة، ماذا تصنعون بعد صلاة الفجر؟ قالوا كلهم: ننام. فقلت: إلى متى؟! فقالوا: إلى الساعة الثامنة، أو التاسعة! إذاً عندك أربع أو خمس ساعات متواصلة، تنام ما يسمى بنوم الصفرة، هذا اليوم الذي يضيع عليك النوم كله، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {بورك لأمتي في بكورها} وتخسر الجلوس في المسجد حتى تطلع الشمس وترتفع، وتصلي ركعتين كأجر حجة وعمرة، تامة، تامة، تامة، وتخسر بقية اليوم، فلا تنم هذا الوقت، اذهب في قضاء حقوق الوالدين والأهل، واخدمهم، حتى إذا خرجت تخرج بالصورة الطبيعية. الجزء: 146 ¦ الصفحة: 48 لقاء مفتوح بجامعة الإمام بالقصيم أمورٌ مؤسفة يعانيها أهل الفكر وطلاب الجامعات؛ وهو الشعور بالهزيمة والإحباط والتخلف العلمي، الذي يعاني منه المسلمون في قضايا التكنولوجيا وقصورٌ في الاستفادة من الغرب، هذا والمسلمون يملكون كثيراً من الإمكانيات التي يفتقدها الغرب ولكنها نظرة التشاؤم والشعور بالضعف، حتى تسربت إلى أن الغرب قوة لا تقهر وحضارة سرمدية، لكن عزاء أهل الحق أن السنن الإلهية تقف في وجه هذه النظرة، وأن موعود الله أصدق وأبلغ. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 1 نظرة سلبية ومصيبة كبرى إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد فنشكر لكلية العلوم الاجتماعية واللغة العربية هذه الجهود الطيبة في مجال النشاط الطلابي، ونسأل الله تعالى أن تحذو الكليات الأخرى حذوها في هذا المضمار الطيب الذي يحتاج إليه الطلاب. أيها الأحبة دارت في رأسي وأنا أسير إلى الكلية عدة أمور أعتقد أن الحديث فيها مهم، وشعرت بأن الوقت قصير، فهو لا يكاد يتجاوز نصف ساعة فماذا على الإنسان أن يقول في نصف ساعة من خلال عامٍ دراسيٍ كامل؟ إن الهموم والقضايا التي تحتاج إلى محادثة بيننا، ومشاجاة ومناجاة كثيرةٌ جداً. أحبتي الكرام: أليس مما يؤسف له أننا نجد الجامعات في العالم منطلقات للوعي الاجتماعي، والتربية والإصلاح وقيادة الأمة، من الناحية الفكرية، وغيرها، ومن الناحية العملية، وأن طلاب الجامعات في بلاد الدنيا يعتبرون من أهم الطبقات، التي يتنافس أصحاب الفكر إلى الوصول إلى عقولهم، في الوقت الذي نجد فيه طلاب الجامعات في عددٍ من البلاد الإسلامية، لا يعدون أن يكونوا مجرد قراء ثم يتخرجون من الجامعة مجرد كتبة، هذه النظرة تعتبر مصيبة كبرى في الواقع على الجميع، لأن المجتمع يبدو أنه يكوِّن لدى الطالب، بل لدى الإنسان سواء كان طالباً، أو متخرجاً، أو أستاذاً أو أي شيءٍ آخر، يكوِّن لديه شعوراً بعدم الثقة بالذات، وعدم القدرة على الإبداع، وعلى ممارسة الجهود والواجبات الملقاة عليه، ولذلك فنحن بشكلٍ مستمر لا أقول فقط كطلاب جامعة، بل نحن بوضعنا مسلمين، ونحن بوصفنا من البشر نمارس هروباً دائماً من مشكلاتنا، ونمارس تخلياً مستمراً عن مسئولياتنا، ولو أننا ونحن نتكلم في أوساطٍ علمية متخصصة لو أننا عملنا استبيانات لقراءة عقول الشباب، وماذا يحملون في رءوسهم، وكيف ينظرون إلى الأمور، وكيف يفكرون، وكيف يحللون الأحداث، لوجدنا أن كثيراً جداً من يعتبر نفسه خارج الدائرة، وأنه ليس له أي تأثيرٍ في وجود، الأحداث وليس له أي تأثيرٍ في دفعها، سواءً في ذلك الأحداث الكبرى العالمية، أو الإقليمية، أو الأحداث المحلية، أو حتى الأحداث البيتية، فلو تأتي إلى إنسانٍ تحدثه عن مشكلةٍ في داخل البيت، سيفاجئك ويقول لك: يا أخي أنا ليس لي دور في الموضوع مطلقاً، هذا القرار بيد والدي أو بيد والدتي، أو بيد أختي أو بيد أخي، وأنا في الواقع لا أملك أي شيء حتى وهو قرارٌ يخص بيته، أما إذا كان أمراً يتعلق بمجتمعه أو ببلده، أو بإقليمه أو بأمته فهو أبعد من أن يشعر بأنه مشاركٌ فيه. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 2 عجز المسلمين مع كثرة الإمكانيات المادية إن المسلمين والعرب، لم يستطيعوا أن يستوردوا من هذه الأسرار المهمة في مجال التسليح والتصنيع، ولا يزالون قاعدين في مكانهم، على رغم كثرة إمكانياتهم المادية، فبلادهم تزخر بموارد لا توجد على الإطلاق في أي بلدٍ في الدنيا، وعلى رغم كثرتهم العددية التي لا تقارن بها أي دولةٍ في الدنيا أيضاً، ومع ذلك رضوا أن يكونوا مجرد أسواق لاستقبال بضائع الآخرين، حتى عقولهم أصبحت مستعمرات فكرية، فالطريقة التي نفكر فيها نحن مستوردة من الغرب، والتحليل الذي نحمله للأشياء هو تحليل غربي غير إسلامي في الغالب. إن نظرتنا للأمور نظرة مقتبسة من أجهزة الإعلام التي تعتمد على وكالات الأنباء العالمية، وقلما تجد إنساناً يعرض الأمور التي يسمعها على ما يفهمه من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما تكون ثقة كثير منا بما يسمعونه من وسائل الإعلام الغربية والشرقية، أعظم مما يسمعونه ويقرءونه ويعلمونه من السنن الإلهية الاجتماعية والكونية الموجودة في القرآن الكريم، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 3 تطور النظرة السلبية هذه النظرة السلبية تطورت، وصرنا نقول أحياناً: لماذا نعالج قضايانا العامة؟ ما دمنا أصفاراً على الشمال كما يقال، ليس لنا تأثيرٌ في وجود الأحداث، كما أنه ليس لنا تأثيرٌ في إزالتها ودفعها، أو تقليلها على الأقل، فلماذا نعالج قضايانا؟! يسمعك إنسان مثلاً وأنت تتحدث عن قضية مزمنة، وهي قضية التخلف العلمي في العالم الإسلامي، بحيث أن العالم الإسلامي حتى الآن لم يستطع ولو أن يستورد -كما يقال- (التكنولوجيا) من الغرب، في الوقت الذي استطاع فيه اليهود وهم حفنةٌ لا يقاس عددهم بأصغر دولةٍ إسلامية أو عربية، استطاعوا أن يقطعوا في هذا المضمار شوطاً بعيداً. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 4 نظرة مهيمنة هناك نظرةٌ هيمنت على كثيرٍ من الناس، وهي نظرة الشعور بأن الغرب باقٍ لا يزول، وأن حضارته حضارة خالدة، وأذكر أن مفكرين كباراً كانوا يفكرون بهذه الطريقة، ويعتقدون أن حركة التاريخ قد توقفت عند العالم الغربي الرأسمالي، وأنه لن تدور دورتها، وأن التاريخ لن يعيد نفسه، لكنه سوف يقر ويثبت عند هذا المستوى، والغريب أن هذه النظرة هي نفسها النظرة التي كانت موجودة عند الشيوعيين في روسيا، فكانوا يعتقدون أنهم هم المطاف والفردوس المنتظر وأن التاريخ ما زال يعمل فيه مبدأ النقيض، حتى وصل إلى الشيوعية، فاستقر قراره عند ذلك. هذه النظرة الآن انتقلت إلى الغرب، فصار عندهم شعورٌ بالخلود والبقاء والأبدية، وكأن السنن الإلهية في نظرهم تعطلت، ليس غريباً أن يشغل الغرب هذا الشعور، أو ينظر هذه النظرة؛ لأنه مستكبرٌ قد عظم في عين نفسه، وتغطرس ورأى أنه قد ملك أزِمَّة الأمور، وانتهت إليه النوبة وأن الحال الذي يعيشه سرمدٌ لا يزول؛ لكن الغريب أن هذه النظرة انتقلت إلى عقول كثيرٍ من المسلمين، فصاروا ينظرون إلى هذا الواقع الذي يعيشونه الآن على أنه خالدٌ لا يزول. وعلى أن هذا النظام الذي استقر الآن سيستمر ولا داعي لمقاومته، أو حتى للحديث عنه بأي شكلٍ أو بأي صورة، ونسوا في غمرة هذه النظرة التي أوحاها إليهم العالم الغربي ومن ورائه الإعلام في البلاد الإسلامية، الذي ظل يمجد ويتحدث حديث المبهور عن المنجزات الغربية، وعن العالم الرأسمالي، وعن ديمقراطيته وعن، وعن، من إنجازاته وحضارته، وظلوا يحشون عقولهم، ويتقبلون مثل هذه الأفكار، ونسوا في غمرة ذلك القوانين والسنن والنواميس الإلهية الصريحة في أن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، فالله عز وجل يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . الجزء: 147 ¦ الصفحة: 5 الكرامات لا تأتي هدية بدون جهد هل نتوقع أن تأتينا الكرامات هدية هكذا، دون جهد ودون عمل؟ فهذا الإنسان لا يكون جديراً بذلك إذ لو منح نصراً رخيصاً لتخلى عنه بكل سهولة، فالنصر الرخيص لا يمكن أن يأتي، ولو فرض جدلاً أنه جاء، فلا يمكن أن يدوم، لأن النصر بحاجةٍ إلى السواعد التي تحافظ عليه، وأنا والله أستغرب أشد الاستغراب!! الآن نحن أمة مهزومة، من الناحية الفكرية والعقدية، بحيث أننا نجد أن أفكار الغرب تؤثر في عقولنا أبلغ التأثير، وفي عقول الناشئة، ولا تؤاخذوني إذا قلت على سبيل المثال: في جامعاتنا ماذا ندرس لطلابنا، خاصةً في العلوم التي لم يكن فيها تأصيلٌ إسلامي، كعلوم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التربية، والإدارة، والاقتصاد … إلخ، صحيح أنا لا أنكر أن هناك محاولات وهناك جهود؛ لكنها ما زالت أقل من المستوى المطلوب، ولذلك تجد أننا قد ندرس لطلابنا آراء ونظريات، واجتهادات غربية مترجمة. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 6 سنة الله في التدرج وينبغي أن نعلم أيها الأحبة أن هذه الأمة لا يمكن أن تبدأ بدايةً صحيحة إلا من خلال وجود حركة في قلوب أبنائها، فمن سنن الله تعالى، سنة التدرج، فليس صحيحاً أن هذه الأمة التي قضت الآن عشرات السنين في تخلف مرير، وهي تعتمد على عدوها في كل شيء، ليس صحيحاً أنها ستتحول بين عشية وضحاها إلى أمة قوية راسخة ممكَّنة تستطيع أن تستغني عن عدوها، بل وتهدد عدوها في عقر داره. هذا خيالٌ ولا يجب أن يشطح بنا الخيال، فالتدرج سنةٌ إلهية يجب أن توضع بعين الاعتبار، لكن التدرج يبدأ بخطوة، فأنا أريد أن أسأل نفسي، وأسأل إخواني، ونحن الآن طلاب جامعة، أو أساتذة جامعة، والمجتمع بل الأمة كلها تنظر إلينا، هل بدأنا الخطوة الأولى المفروضة؟! أم أننا لا نزال نفكر حتى الآن في الخطوة الأولى نبدأ أو لا نبدأ؟! وهل هي مجدية أم غير مجدية؟ أعتقد أن الخطوة الأولى يجب أن تبدأ في قلوبنا نحن، في شعورنا بأننا نحن المسئولون عن واقع الأمة، ونحن المسئولون أيضاً عن إنقاذ الأمة من واقعها، أما فكرة أن هذه المصائب التي تعيشها الأمة هي من آثار الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق، فهذه الفكرة لا يمكن أن تصنع شيئاً، لأن معنى ذلك أن كل ما نحاوله الآن هو أن نتخلص من هذا العبء الثقيل، لنلقيه على ظهور غيرنا، هذا كل ما نحاوله، وهذه طريقةٌ في التفكير خاطئة، لن ننجح إلا إذا شعرنا نحن بأننا جزءٌ من المشكلة، ويجب أن نصحح أوضاعنا، حتى الأوضاع الفردية. أرسل لي أحد الشباب مجموعة من الأوراق من إحدى المجلات، وإذا بها تتحدث عن لعبة البلوت، ومشاكل لعبة البلوت، والأوقات التي تقضى مع هذه اللعبة، والسهرات الطويلة حتى الفجر، بل ربما حتى ساعة متأخرة لا أقول من الليل بل من النهار … إلخ!! وربما يكون الذين يقضون أوقاتهم مع لعبة البلوت، ليسوا هم شر طبقات المجتمع، بل هناك دركات ودركات دون هذا المستوى. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 7 إذا سقط الغرب فأين البديل لكن يبقى السؤال الذي يجب أن نكون صرحاء في الإجابة عليه، ثم ماذا إذا سقط الغرب -أيضاً- أين البديل؟! حسبما يظهر لي الآن أنه على فرض انهيار جزء من الغرب، فستبقى أجزاء أخرى هي التي تقوم مقامه، فإن هناك دولاً الآن في طور القوة، واستكمال العدة، من الناحية السياسية والاقتصادية والعسكرية، كأوروبا مثلاً الموحدة، أو بعض الأحلاف التي بدأت تظهر الآن على الساحة وتتضايق منها الولايات المتحدة؛ لأنها تعتبر أنها المستهدفة فيها. والمسلمون هل سيظلون ينتقلون من سيدٍ إلى سيد، ومن مولى إلى مولى، يستدينون من فلانٍ، فإذا افتقر ذهبوا يستدينون من غيره، ولسان حالهم يقول كما كان يقول ذلك الرجل المغفل: اللهم اغنِ بني فلان حتى أستدين منهم، إذاً لماذا لم تطلب الغناء لك أنت؟. هذه القضية الكبيرة -أيها الإخوة- ربما أقول المؤسف أن كثيراً من المسلمين، ودعك من عامة المسلمين المشغولين بلقمة العيش، لكن حتى من المثقفين، حتى من طلاب الجامعات، بل ربما حتى من الأساتذة والمختصين، في أعلى المستويات في المجامع العلمية، والمنتديات وغيرها، قد يحسون أن مثل هذه الأمور لا تعنيهم في كثيرٍ أو قليل، وغاية ما يكون أن الإنسان ربما يشعر بالحرقة حين يسمع مثل هذا الكلام أحياناً؛ لكن أن يكون هذا الكلام شيئاً مستقراً في قلبه، وشعوراً دائماً يحدوه ويحركه ويدعوه فهذا لا يزال أقل من المستوى المطلوب. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 8 واقع اليوم ليس إلى الأبد إذاً: لا يجوز أبداً أن ننظر إلى هذا الواقع الذي نعيشه في هذه السنوات، وهذه الشهور، والأيام، واللحظات، من هيمنة الحكم الرأسمالي على العالم، ومحاولة إمساكه بأزمَّة الأمور، وإمساكه بخناق الشعوب الإسلامية على وجه الخصوص، ومصادرة خيراتها، بل مصادرة إنسانيتها، وعقولها، ومحاولة تحطيم أخلاقها، لا يجوز أن ننظر إلى هذا الواقع على أنه سرمد لا يزول، بل يجب أن ننظر إليه على أنه بداية انفراج، لأنك حين ترى هذه الغطرسة وهذا التسلط، والطغيان، وهذا الاستكبار تدرك أن سنة الله بدأت تتحقق على هؤلاء القوم الظالمين، وأن هذه نهاية الأمر بالنسبة لهم، وبعدها سيبدأ العد التنازلي. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 9 زوال الغرب ليس كزوال الشيوعية صحيح أن زوال الغرب لن يكون كزوال الشيوعية بهذه الطريقة، لأن الشيوعية كانت تقوم على أساس الديكتاتورية، والتسلط، والحديد والنار، وهذا الأمر يثير في النفوس كثيراً من المقاومة، التي إذا لم تتحرك الآن تحركت فيما بعد. لكن الغرب يقوم على أساس الديمقراطية، وإشعار الأفراد بأن لهم حقوقهم المحفوظة، وإنسانيتهم المحترمة، لكن هذا لا يعني أن الغرب يزول بسببٍ آخر، ليس من الضروري أن تكون نهاية الغرب هي كنهاية الشرق، قد تكون نهاية الغرب بصورة أخرى، لا تخطر لي ولك على بال، ولا داعي أن نفترض حروباً مدمرة، أو صراعات داخلية، أو أي شيءٍ آخر، لا داعي أن نترك المجال لعقولنا للتفكير في هذه الأمور، وإن كان المختصون فيها قد يرسمون عدة صور، وعدة احتمالات؛ لكن ينبغي أن نشعر في نفوسنا ببرد السكينة والإيمان، في أن السنة الإلهية التي عملت عملها في الشرق فجعلت هذه القوة الهائلة الشيوعية التي كانت تهدد الإسلام، جعلتها حطاماً خلال سنواتٍ يسيرة، فنؤمن أيضاً أن هذه السنة الإلهية تعمل عملها في الغرب الآن، وقد يظهر أثرها واضحاً اليوم، أو غداً أو بعد غد. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 10 الأيام دُول إذاً الأيام مداولة: فيومٌ علينا ويومٌ لنا ويوم نُساءُ ويومٌ نسر فلم تدم الدنيا للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فمن الأنبياء من كانت لهم حكومات، ودانت لهم البلاد وطبقوا شريعة الله عز وجل في الأرض وفي الناس، ولا شك أنه لا أحد يتصور أبداً أن هناك ما هو أحسن للبشر من شريعة ربهم، ومع ذلك دارت الدورة، وصار للجاهلية مكانٌ في بعض الوقت، ثم جاء الإسلام وهكذا: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] هذه السنة إلهية واضحة، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لما سُبِقَتْ العضباء وهي ناقته، سبقها أعرابي، فتأثر لذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {حقٌ على الله ألا يرتفع شيٌ إلا وضعه} فالدنيا ليس فيها خلود، وحقٌ على الله ألا يرتفع شيٌ إلا وضعه. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 11 نحن أمة مهزومة فكرياً على كافة المستويات إذاً نحن أمة مهزومة فكرياً على كافة المستويات. ومن مظاهر انهزامنا: الجزء: 147 ¦ الصفحة: 12 قناعة منبثقة من عقيدتنا وديننا مع ذلك يجب أن أقول: إن عندنا قناعة ليست مجرد تفاؤل نهدئ به قلوبنا ونفوسنا، لا، وإنما هي قناعة منبثقة من ديننا وعقيدتنا وشريعتنا، ومعرفتنا بسنن الله تعالى في الكون والحياة، وثقةً بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، أن هذا الواقع الذي نعيشه سيتغير لا محالة. وأقول إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً: إنَّ هذا حقٌ لا شك فيه، وقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو وعدٌ من الله عز وجل، والله تعالى لا يخلف الميعاد، لكن هذا الوعد لن يأتي هدية على طبقٍ من ذهب للكسالى والقاعدين، إنما يأتي هديةً وثمناً للجهود والتضحيات، والصبر وطول النفس والاحتمال، ومعرفة الهدف ووجود الإنسان الذي يشعر بأنه مسئول، بل يشعر وكأن المسؤولية عليه وحده دون غيره، حتى يستطيع أن يستثمر كل طاقاته في هذا السبيل. على كل حال هذا الموضوع موضوع طويل، وكما قلت لكم إني شعرت أن نصف ساعة غير كافية لمثل هذا الحديث، لكني قلت على أقل تقدير ولو إشارة عابرة، وأجيب على بعض الأسئلة في العشر الدقائق الباقية:- الجزء: 147 ¦ الصفحة: 13 الخوف من الإسلام عقدة الضرب القوي لكنني أعجب الآن وأقول كيف الأمم الغربية الممكَّنة بما في ذلك إسرائيل، تحس بالتحدي وتحس بالخطر منا نحن المسلمين، فتستنفد قواها، وتستفرغ جهودها، وتعد الدراسات والخطط، حتى أنه قبل أسبوع، وقع اجتماعٌ على أعلى المستويات، وكان من ضمن توصيات الاجتماع، ضرورة التنبه للخطر العسكري القادم من الشرق الأوسط. والله يا إخواني نحن نقلب أيدينا، أين الخطر العسكري القادم من الشرق الأوسط؟! الله يرحم أحوالنا. المسلمون الآن على حال مؤسف ومخيف وكلنا نستغرب لماذا يخاف الغرب من الإسلام والمسلمين والحال هذا؟! ومع ذلك الغرب يخاف وهو في أوج قوته وانتصاره ورسوخه، يخاف أن ينبعث المسلمون، فيظل يدعم قوته، ويعمل على توحيد جهوده، وعلى توحيد دوله، وعلى إيجاد أحلاف مشتركة، وعلى وعلى وبالمقابل يعمل على إنهاك المسلمين وإضعافهم، هذا وهو قوي، أما نحن ونحن ضعفاء فكأننا أخلدنا إلى الراحة، ورأينا أن هذا الواقع الذي نعيشه لا سبيل إلى إزالته، ولهذا ليس في الإمكان أبدع مما كان، وعلينا أن نظل حيث كنا! الجزء: 147 ¦ الصفحة: 14 الانهزام الاقتصادي والعسكري وحين تنتقل إلى الاقتصاد تجدنا مهزومين، وعندما تنتقل إلى المجال العسكري تجد الهزيمة أبرز وأوضح، ولا أدل عليها من أن إسرائيل، وهي بلا شك صنيعة الاستعمار الغربي في البلاد الإسلامية، وهي تعتبر الحليف التاريخي للغرب، أصبحت تملك من وسائل القوة، وأسلحة الدمار الشامل، شيئاً لا أقول لا تملكه الدول العربية والإسلامية مجتمعة، لكنها لا تفكر بامتلاكه، بل ولا تسعى لامتلاكه، وقد هزم العرب أمام إسرائيل في عدة معارك، ولا شك أن تهالكهم على السلام، ولهاثهم وراء أحلام السلام، هو تعبيرٌ عن الفشل العسكري الذي عاشوه، وتعبيرٌ عن الهزيمة، وشعورٌ بالعجز عن المقاومة، هذه الأمة المهزومة على كافة المستويات. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 15 الشعور بالهزيمة يولد التحدي والمقاومة إن شعورنا بالهزيمة والمرارة من الممكن أن يولد عندنا التحدي، والقوة وأنتم تعرفون أن شعب إسرائيل كان شعباً مطروداً في أنحاء العالم مضطهداً، يمارس كل إنسانٍ دوره بتعذيبه واضطهاده، وتعرفون بعض المآسي التي تعرضوا لها في ألمانيا وغيرها، ومن شدة الهزيمة والاضطهاد، تولد عندهم الشعور بالتحدي، وضرورة وجود كيان مستقل لحماية اليهود، حتى مكن لهم في هذه الفترة بحبلٍ من الله وبحبلٍ من الناس: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} [آل عمران:112] وهي على كل حال فترةً مؤقتة إلى زوال، لكن المقصود أن مجرد الشعور بالهزيمة، ما دامت الهزيمة واقعاً ملموساً مجرد الشعور بها، هو في الغالب السبيل إلى الخلاص والخروج منها. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 16 الانهزام الإعلامي والإعلام الذي دخل كل بيت، ينقل لعقول الأمة، رجالاً ونساءً، وشباباً وشيوخاً وأطفالاً، ينقل إليهم أنماطاً من الحضارة الغربية، ويعطيهم تصوراً عن الغرب، فالذي يعرض في التلفاز ليس هو واقع المجتمع، ولا هو الواقع المطلوب إسلامياً، الذي يعرض في الغالب هو نمطٌ من الغرب، الحياة الغربية التي يتطلعون أن تصطبغ بها الحياة الإسلامية، حتى تكون الدنيا كلها نمطاً واحداً، لا يوجد حضارة أخرى، أو نمط آخر من الحياة يعارض ما عليه الغرب، نحن أمةٌ مهزومة فكرياً، لم نستطع أن ننقل ديننا حقيقةً إلى الغرب، وأن نقدمه لهم غضاً طرياً كما أنزل، بل إنني أقول: إن اليهود والنصارى، وأعداء الإسلام، هم الذين ينقلون الإسلام للغرب، فينقلونه مشوهاً، مزوراً، مغيراً محرفاً مبدلاً، وقد دخلت في عدد من مكتبات الجامعات في أمريكا وغيرها، فوجدت بأنها تزخر بالكتب عن الإسلام، وغالبها كتب كتبها يهود أو نصارى أو على أحسن الأحوال كتبها ناسٌ من الرافضة، لكن يندر أو يقل أن تجد كتاباً إسلامياً نظيفاً يعرض الإسلام بصورته الصحيحة، على حين أن الغرب نجح في عرض بضاعته الكاسدة علينا في مختلف الوسائل، حتى أصبحت تخلب الألباب، وتهز العقول وتبهر النفوس، هزمنا على أرقى المستويات، من الناحية الفكرية، ومن الناحية العقلية. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 147 ¦ الصفحة: 18 تخفيف حدة التأثر بالغرب السؤال ما هو الحل لتخفيف حدة التأثر بالغرب، خصوصاً أن الأحداث الأخيرة عمقت من التأثير، وأصبح الكبار والصغار يتصورون أن الهواء الذي نستنشقه يأتينا من الغرب؟ الجواب هذه مهمة رجال العلم والفكر والأدب، وأساتذة الجامعات، بل وأساتذة المدارس، والآباء في بيوتهم، عليهم أن يدركوا أن عقلية الإنسان مستهدفة، لتعبيده إلى الغرب، وعليه أن يضع الغرب في حجمه الطبيعي، ويبينوا أنهم بشر وأن فيهم من النقص والتناقض والسلبيات الكثير. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،،، الجزء: 147 ¦ الصفحة: 19 شخص ليس له قيمة السؤال بأي صورةٍ وصل الحكم بمن يمثلون العرب، حتى يكون لهم أن يتكلموا بلسان الأمة؟ هذا هو في نظري أصل القضية. الجواب نعم، وهذا السؤال من هذا الذي فوضهم أن يتكلموا باسم الأمة، وهذه من المعضلات، مصادرة إنسانية للإنسان، ومصادرة شخصيته، بحيث أصبح يشعر أن هناك من يتحرك بالنيابة عنه، ويتكلم بالنيابة عنه، ويفكر، وهو ليس له هم إلا أن يأكل ويشرب وينام، ويمارس غرائزه الفطرية بشكل عادي، فبذلك صودر من الإنسان أعز ما فيه دينه، وإيمانه، وإنسانيته، وكرامته وبقي شخصاً ليس له قيمة. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 20 المنكر المتعدي وغير المتعدي السؤال رجل يعمل المنكر، وضرره غير متعدٍ لغيره، وهو ساتر على نفسه غير مجاهر، وقد قمنا بمناصحته عدة مرات، ما رأيك في التصرف معه، هل نبلغ أمره إلى الجهات المختصة، أم نستر عليه من (منطلق كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ؟ الجواب في الواقع أنه ينبغي أن تستمروا في نصيحته، ولا تيأسوا، فإنني أعجب من بعض الإخوة يقول لك: نصحته ثم نصحته وما أفاد، يا أخي لا يكفي ما دام أن النَفس يتردد في صدره، فمعناه أن إمكانية القبول قائمة، وعليك أن تستمر معه في النصح، فإذا كان هذا المنكر يخشى أن يتعدى إلى غيره، فينبغي أن يُبحث عن الوسائل، مثل إخبار من حوله، أو أقاربه أو أحد يمكن أن يؤثر عليه، وإذا كان المنكر متعدياً فينبغي أن تبلغ الجهات المختصة. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 21 الفقه بالواقع السؤال هل يمكن أن تبين الطرق والأسباب التي تجعلنا فقهاء في واقعنا فقهاً سليماً، خالياً من المفهومات الخاطئة؟ الجواب الفقه بالواقع جزءٌ من الفقه بالشرع، فإذا كان عند الإنسان معرفة ولو إجمالية بالشرع استطاع أن يفهم الواقع إلى حدٍ ما فهماً صحيحاً، وليس فهم الواقع يا أخي أنك تفهم تحليل الأحداث، على سبيل التفصيل، فهذا قد تخطئ أنت وغيرك فيه، وهذا واردٌ جداً؛ لكن المقصود أن تستطيع أن تفهم الأمور العامة. على سبيل المثال: الآن هناك دعوة قوية حتى من أناس من هذه البلاد مع الأسف الشديد ومن رموز الأدب والشعر والوطنية في نظر البعض، يتحدثون عن الواقع الذي يعيشه العالم اليوم، وما يسمى بالنظام العالمي الجديد، على أنه نوعٌ من الأخلاقيات الجديدة، التي أصبحت تحكم العالم، ونوعٌ من الاعتدال الذي فرضته أمريكا على العالم، وأن أمريكا لها التزامات أخلاقية أمام الشعوب لابد أن تفي بها، ما هذا الكلام؟ إنك بوضعك مسلماً عادياً -دعنا من كونك طالب جامعة أو فقيهاً- تقرأ في القرآن الكريم قول الله عز وجل: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وتقرأ قول الله عز وجل: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] فتعلم أن نصارى الأمس، هم نصارى اليوم، وهم نصارى الغد، واليهود هم أيضاً كذلك. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 22 مساهمة فعالة السؤال لا شك أن في جامعة الإمام منهجاً علمياً فريداً قلما يوجد في جامعة أخرى، خاصةً في أقسام العلوم الاجتماعية، إلا أننا نطمح أن تساهم في التأصيل الإسلامي للعلوم المختلفة مساهمةً تليق بمكانتها، وسؤالي ما هي أفضل الوسائل لتحقيق ذلك؟ الجواب أعتقد أن المساهمة مسؤولية الجميع، والجامعات مهما كانت إمكانياتها أعتقد أنها لا تستطيع أن تساهم مساهمة، فعالة إلا من خلال وجود أشخاص لديهم عدة صفات. الصفة الأولى: الحماس في ما هم بصدده. الصفة الثانية: القدرة على الإبداع، لأنه ليس كل إنسان قادراً على التأصيل، والتأصيل مهمة لفئةٍ من الناس. الصفة الثالثة: القوة والنبوغ في التخصص، الذي هم فيه، وقد تجد إنساناً قد هضم العلم الذي هو فيه، لكن ليس عنده إبداع وليس عنده قدرة على تطويع هذا العلم للقضايا والأصول الشرعية، ونحتاج أيضاً أن يكون مع هذا وذاك لديه خلفية شرعية أو قاعدة شرعية تمكنه من التوفيق بين العلوم النظرية، أو المادية، وبين العلوم الشرعية. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 23 علم الإدارة بصورة إسلامية السؤال إن مصادر علم الإدارة من علماء غربيين مثل تايورو، وغيره من رواد الإدارة، ونجد هنا في هذه الكلية أن قسم الإدارة يأخذ العلوم من هذه المصادر، ولا ننسى أنه توجد مادة اسمها الإدارة في الإسلام، فما توجيهكم للتوجه إلى "الإدارة في الإسلام" بكثافة أكبر، وترك المصادر الغربية، لأن لدينا معاني عظيمة في ديننا الإسلامي للإدارة وغيرها؟ الجواب هذا هو الموضوع الذي أشرت إليه باختصار أثناء الكلمة، أننا نجد من صور الهزيمة الفكرية أنه حتى في جامعات المسلمين -ليس هنا فقط، بل ربما في معظم الجامعات- تجد كثيراً من هذه العلوم تدرس بالصورة الغربية، دون أي تعديل، وأعتقد أنه على الأقل مهمة الأساتذة ولو لفترة مؤقتة تعديل بعض الأشياء، وتصحيح الصورة، والتعاون مع الطلاب أيضاً في بعض الأمور، فأنا أعرف بعض الأساتذة مثلاً يستفيد من طلابه في تصحيح بعض الأشياء، ويقدمون له بحوثاً، وقد اطَّلَعْتُ على هذه البحوث فوجدتها بحوثاً قيمة، قام بعض الطلاب بإعدادها؛ لأنهم يجدون من الوقت ما لا يجده الأستاذ، وقد يستطيعون أن يتصلوا ببعض العلماء، ويراجعوا بعض الكتب، ويعدوا بحثاً ولو صغيراً في خمس أو في عشر صفحات يتحدث عن قضية معينة، ويقدمون فيها بديلاً شرعياً وتصوراً إسلامياً. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 24 حاجتنا إلى التخصصات السؤال يذم بعض الناس التوجه إلى الأقسام غير الشرعية، ويقول: إن فيها مضيعة للوقت، وما أدري ما هي وجهة نظركم تجاه هذا؟ الجواب هذا ليس بصحيح، نحن ندري أن المجتمع يحتاج إلى الفقيه الشرعي الذي يقول له: هذا حلال وهذا حرام، بل ندري أن المهندس والطبيب، والسياسي، والاقتصادي، وعالم النفس، وعالم الاجتماع، بل وعالم الذرة، وكل إنسانٍ يفتقر إلى العالم الشرعي ليقول له: هذا حلال وهذا حرام، هذه تهيمن على كل حياة المسلم، وليس صحيحاً أبداً أن أي مختصٍ بأي اختصاص، سيقول: أنا لا يعنيني كون الأمر حلالاً أو حراماً، أنا يعنيني أن أشرح لك مثلاً. ليس هذا بصحيح، بل يجب أن يدرك كل إنسان أنه في الدين الإسلامي مظلة الإسلام تهيمن على الجميع. ليس عندنا كهنوت كالنصارى، عبادة في أيام معينة، وبعد ذلك يعبد الدرهم والدينار والدولار في بقية أيام الأسبوع، لا، المسلم يعبد الله في كل أحواله، يعبد الله وهو في مصنعه، أو في مختبره، أو فصله أو مدرسته، ويعبد الله تعالى وهو في المسجد. وكل أعمال المسلم ينوي بها وجه الله عز وجل، ويراعي فيها حدود الله فلا يرتكب ما حرم الله، ولا يخالف أمر الله عز وجل، وتجده وهو يتكلم في أدق التخصصات وأبعدها في نظر العلمانيين، عن الدين، فيتكلم فيبدأ كلامه ببسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وإذا تكلم ليس هذا فقط، وإنما إذا تكلم راعى في كلامه أن يكون منضبطاً بالضوابط الشرعية، وإذا جهل أمراً أسنده إلى المختصين، والعارفين ورجع إليهم، وهكذا. ويربط القضايا كلها بمسألة الدين، فالدين عندنا ليس محصوراً في نطاقٍ من الحياة، الدين مهيمن على كل شيءٍ في حياة المسلم، فليس عندنا شيء اسمه: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) قيصر ليس عندنا، نحن عندنا كل شيء لله عز وجل، هذه يجب أن تكون قائمة في اعتبار الجميع. ولذلك أقول: إننا كما نحتاج إلى الفقيه الشرعي الذي يرجع إليه الجميع فيما أشكل عليهم، كذلك نحتاج إلى عالم الاقتصاد الذي ينطلق من منطلق شرعي، وعالم الاجتماع الذي ينطلق من منطلق شرعي، وعالم النفس … إلخ، إذاً كل تخصصات الحياة نحتاجها. وأيضاً يجب أن أقول: إن الفقيه نفسه الذي يرجع إليه هؤلاء، هو أيضاً يرجع إليهم في كثيرٍ من الأحيان، فربما احتاج الفقيه إلى تصور مسألةٍ طبية فالتقى بالطبيب، وقال له: اشرح لي هذه القضية (قضية طفل الأنابيب) مثلاً أعطني تفاصيل عنها، حتى أستطيع أن أطبق عليها ما أعلمه من أحكام الدين. وربما احتاج إلى فهم قضية اقتصادية في معاملات البنوك، وغيرها فتحدث مع مختصٍ في مجال الاقتصاد ليشرح له. وربما احتاج إلى فهم نظرية في علم الاجتماع، أو في علم النفس، أو في غيرها، فالمسألة مسألة تكامل، يكمل بعض المسلمين بعضاً، وبعض العلماء بعضاً، ويهيمن على الجميع روح السعي لخدمة الإسلام وأنهم يأتمرون بأوامر الله عز وجل وينتهون عن نواهيه ويعتبرون أنفسهم يحاولون أن يطوعوا كل العلوم للإسلام، وإذا كانت هذه الصورة واضحة في أذهان الجميع، فأنا أعتقد أننا نحتاج إلى التوكيد على أن الحاجة ماسة إلى كل التخصصات. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 25 قيام الحجة على العبد السؤال أحياناً أنصح أخي بأن يسمع شريطاً معيناً، أو يقرأ كتاباً، فيرد عليَّ بقوله: لماذا تريدني أن أسمع الشريط وأقرأ الكتاب؟ تريدني أن أفعل ذلك لكي تزداد عليَّ الحجج، دعني أجهل ببعض الأمور، لكي لا تقوم عليَّ حجة معرفتها، فما رأيكم في هذا؟ الجواب الإنسان إذا استطاع أن يعلم فتجنب العلم حتى لا تقوم عليه الحجة، فقد قامت عليه الحجة مضاعفةً، فسوف يكون محاسباً على اثنين: أولاً: لماذا لم تتعلم وقد أتيحت لك أسباب التعلم؟ ثم لماذا لم تعمل؟ بخلاف ما إذا تعلم حتى ولو لم يعمل مثلاً، فإنه لا يقال له لماذا لم تتعلم؟ لأنه قد تعلم، ولكن سيقال له لماذا لم تعمل؟ ثم لماذا يسيء الإنسان الظن بنفسه إلى هذا الحد، لماذا تعتقد أن العلم الذي تحصل عليه هو حجةٌ عليك؟ لماذا لا تفترض أن يكون هذا العلم حجة لك؟ وأنك قد تسمع كلمة ينفعك الله بها، وقد رأى بعض الطلاب أحد علماء السلف الكبار، وقد شاب شعره وهو يحمل المحبرة في يده، ويحمل الدفتر في اليد الأخرى، فقال له: إلى أين يرحمك الله؟ قال: إلى مجالس العلم، فقال له: ما مللت؟ قال: لا. لعل الكلمة التي سوف أنتفع بها لم أسمعها بعد. أيضاً: لماذا تفقد الثقة بهذه العلوم الشرعية، وتظن أنها لن تؤثر في قلبك، ينبغي أن يكون عندك إقبال على العلم وحرصٌ على معرفته، وأن تعلم أن العلم بحد ذاته عبادة، وسماعك لشريط، أو قراءتك لكتاب، أو حضورك لجلسة علمية هو أمرٌ تؤجر وتثاب عليه عند الله عز وجل، هذا فضلاً عما يتفرع منه من آثار، مثل أن تعمل بهذا العلم، أو تدعو إليه، أو ما أشبه ذلك فتؤجر على هذا كله. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 26 مبشرات السؤال يحتاج الحاضرون إلى مبشرات ترفع من معنوياتهم، إن رأيتم الإشارة إلى بعض هذه المبشرات؟ الجواب على أية حال يكفي أنني قلت في آخر الحديث إجمالاً، أننا على يقين من ربنا عز وجل على أن هذا الواقع سيتغير، والذي أتوقعه أن تغير هذا الواقع ليس بالبعيد أيضاً، وربما خلال سنوات يشهد الناس تحولاً كبيراً وليس من المستبعد أن يخرب الغربيون بيوتهم بأيديهم، وأن يكون بينهم صراعٌ مستمرٌ مميت، كما هي الحال في كل حقب التاريخ، ويظهر المسلمون كقوة، وليس غريباً أيضاً أن تظهر قوى عديدة متنافسة في العالم، فيستطيع المسلمون أن يستفيدوا من هذا التناقض الذي يحدث، لأن المسلمين يملكون المصادر الطبيعية، والثروات، كما يملكون الطاقة البشرية والأسواق، ويملكون حتى في الجو، والبحار ميزات لا توجد لشعب من الشعوب، وقد تحدثت عن هذا في محاضرة أو في كتاب المستقبل للإسلام كما تحدثت عن المبشرات في درس عن (المستقبل للإسلام) . الجزء: 147 ¦ الصفحة: 27 أحلام وأطماعٌ لن تتحقق السؤال ذكرت -عفا الله عنك- في درس سابق، أن اليهود لن يمتدوا أكثر مما هم عليه الآن، وأن مخططهم لن يستطيعوا تنفيذه كما يريدون، أرجو التوضيح؟ الجواب في الواقع لا أقول إنهم لن يمتدوا إلى أكثر مما هم عليه الآن يقيناً وقطعاً وجزماً، لكنني أقول: إن المعركة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم ستدور رحاها في المنطقة التي يتواجد فيها اليهود اليوم، ويحيط بهم المسلمون في الأردن وما حولها، فكونهم قد يمتدون وينكمشون بعد ذلك هذا احتمالٌ قائم، وكون المعركة التي وعد بها النبي صلى الله عليه وسلم ليست هي المعركة القريبة، هي معركة بعيدة مثلاً هذا أيضاً احتمال قائم، لكن المقصود على كل حال أن أحلام اليهود التوسعية في إقامة إسرائيل الكبرى، ومن ثم الهيمنة على العالم كله، يبدو أن هذه الأحلام لن تتحقق بإذن الله تعالى. الجزء: 147 ¦ الصفحة: 28 يا شباب في هذا الدرس ذكر لكثير من مشاكل الشباب، وأسباب حلها، ووسائل علاجها. وفيه صرخات إلى الشباب الغارق في اللهو والغفلة، وتحذير من وسائل الإعلام الساقطة، كما أنه يحتوي على القصص الواقعية التي توحي بأن شباب الأمة الإسلامية في خطر إضافةً إلى قصص للتائبين، وقصيدة تخاطب الوجدان لعبد الرحمن العشماوي. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 1 ابتهال وتضرع الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة: هذا هو الدرس الثاني والتسعون لهذه الليلة ليلة الإثنين السابع من شهر صفر من سنة (1414هـ) وعنوان هذا الدرس: يا شباب! إلهي كيف أدعوك وأنا أسير الذنوب رهين المعاصي، وكيف لا أدعوك وأنت رب العالمين! إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني وما لي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوت وحسن ظني فكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضلٍ ومنِّ إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي وقرعت سني يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعفُ عني أجن بزهرة الدنيا جنوناً وأفني العمر فيها بالتمني وبين يدي محتبسٌ ثقيلٌ كأني قد دعيت له كأني اللهم إنا نخاطبك بألسنٍ أثقلتها الأوزار، وندعوك بقلوبٍ سودتها الذنوب، فيا من لا يعاجل بالعقوبة! ويا من شيمته الصفح! أنزل علينا من بركاتك، وفيض جودك، ما تمن به علينا بالهداية، وترفعنا به عندك درجات يا أرحم الراحمين! {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ * وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر:53-61] . الجزء: 148 ¦ الصفحة: 2 الأسى والحزن يا شباب! لقد بت الليالي والأيام الماضية حزيناً مهموماً، لأنني سأخاطبكم بكلامٍ أحتاجه أكثر مما تحتاجونه، فلعمر الله إني لأحوج إلى الوعظ منكم، ولكن المودة في قلبي جعلتني أتجرع هذا الحديث إليكم، ولسان حالي يقول: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليمُ تصف الدواء لذي السقام وذي الظنا كيما يصح به وأنت سقيمُ ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيمُ فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليمُ لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله عارٌ عليك إذا فعلت عظيمُ يا شباب! إنها كلمات ألقيها عليكم من غير ترقيم ولا تبويب، ولكنها -إن شاء الله- حديث الروح إلى الروح، وهتاف القلب إلى القلب، وأؤمل ألا تكون ثقيلة على مسامعكم، بل هي بستان أخضر ننتقل منه كالطائر من غصن إلى غصن، ومن زهرة إلى زهرة، وتسرح طرفك وعيونك في هذه الخضرة الكافية، والماء الجاري، والمنظر البديع. ولقد حاولت جهدي -أيها الأحبة- أن أقدم لكم شيئاً جديداً مفيداً في هذه الكلمات واللحظات، فاعذرني أخي الشاب! إذا كان أسلوبي لا يلائمك، أو كانت بعض المعلومات غير مهمة، أو حتى غير مقبولة بالنسبة لك، فإني لا أخاطبك أنت بالذات، وإنما أخاطب شريحة من الشباب. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 3 احتجاج أمريكي على الفساد الإعلامي نحن ساخطون! ولن نتحمل المزيد، هذه عريضة جماعية إلى أعضاء مجلس إدارة شركات الإنتاج: إنتاج الأفلام، وتوزيع الأغاني. تقول هذه العريضة: ساعدونا للحصول على مليون توقيع فقط على هذه العريضة، وعنوانها: نحن ساخطون ولن نتحمل المزيد. نعم. نحن مجموعة من الأمهات والآباء والأجداد المواطنين، ساخطون من الأفلام وبرامج التلفاز التي تظهر في الفيديو وضررها بالنسبة لأبنائنا وعائلاتنا وبلدنا. نحن مرعوبون! حيث إن أكثر من مليون فتاة بين الأعمار: خمس عشرة، وتسع عشرة، تحمل سنوياً من سفاحٍ لا من نكاح! نحن مذهولون! حيث نعلم أن ثلثي الولادة التي تتم للبنات بين خمس عشرة، وتسع عشرة سنة، تتم خارج قانون الزواج! نحن متخوفون! من طريقة انتشار العنف والجريمة في كل مكان، التي أصبحت تهدد عائلاتنا وبيوتنا، فعار على المسئولين في هوليود، هذه السلسلة الطويلة من الأفلام المملوءة بالكلام البذيء والعري والجنس والعنف والقتل. فمثلاً: هناك فلم أنتج مؤخراً، ظهرت فيه لقطة لعملية قتل خلال عملية جنسية، وبذلك يضربون مقياساً جديداً للانحراف، حتى على المستوى الرديء في الأفلام الموجودة اليوم. عار على مخرجي برامج التلفاز، لسماحهم للطفل أن ينظر من خلال التلفاز إلى ما معدله مائة ألف لقطة عنف، وثلاثة وثلاثين ألف جريمة قتل، وذلك منذ بدأ يشاهد إلى أن بلغ السادسة عشرة من عمره فقط، مع علم أولئك المخرجين أن العنف الذي يظهر في التلفاز هو المسئول عن (22%) من جرائم الأطفال، وعن نصف حالات الانتحار في أمريكا. عار على مخرجي الأفلام الذين توقفوا منذ زمن بعيد عن إظهار القيم المثلى لأكثر العائلات، لسماحهم بإلغاء تصنيف الأفلام إلى أشياء يشاهدوها الأطفال، وأشياء يمنعون من مشاهداتها. نحن نقول: إن الثمن المأساوي الذي يدفعه أبناؤنا، وعائلاتنا، وبلدنا، يدعو إلى فعل شيء لوقف ما يحدث، ولكن لا نستطيع أن نوقفها لوحدنا، إنما نعتقد أننا السبب لكل هذا الجنس، والعنف، والقذارة، أن ذلك هو بسبب المخرجين والمغنين والممثلين. نستطيع أن نتحكم بهم وكل ما في الأمر أن يأمرهم مجلس إدارة شركات الإنتاج بالتوقف عن هذه الأشياء، وهذه نحن جميعاً نستطيع أن نفعلها، ونطلب من كل قارئ لهذا الإعلان أن يساعدنا في نشره في كل أمريكا، وإرسال هذه العريضة كل شهرين بالتكرار، لكل عضوٍ من أعضاء مجلس إدارة شركات إنتاج الأفلام والأغاني مع عدد الموقعين عليها لكي يعلموا أن العائلات الأمريكية ساخطة. أيها العاملون في صناعة الأفلام! وفروا على أنفسكم خطب التحذير من المرأة، ونحن لا نطالبكم بالاحتشام، كل ما نريده منكم أن تجعلوا شركات الأفلام، والتلفاز، وإنتاج الأغاني، تتصرف بمسئولية. إن أطفالنا وعائلاتنا وبلادنا تتضرر بسكوتنا، الآن أرسل العريضة الموجودة بأسفل هذا الإعلان، ونرجو أن ترسل تبرعاً مخصوماً من ضرائبك لمساعدتنا في دفع تكاليف إعلان مماثل، ونحن نقوم بالباقي. وهذا الإعلان ينشر في أمريكا. إنه تعبير من الآباء، والأمهات، والأجداد، والجيل السابق، عن خطورة مثل تلك الأفلام، وأشرطة الأغاني الهابطة، على مستقبل الأولاد والبنات في أمريكا، وإنه شعور جماعي بالمسئولية، والواجب في محاسبة المسئولين عن تلك الشركات ومخاطبتهم بصورة جماعية، ودعوتهم إلى احترام القيم والمثل والأخلاق المتوارثة في ذلك المجتمع. أفيكون أولئك القوم أدرى بضرر هذه الأشياء وخطرها، أكثر من أولئك المؤمنين المسلمين الفاهمين، القارئين للقرآن! الجزء: 148 ¦ الصفحة: 4 اعرف نعمة الله عليك أخي الشاب! هلاَّ شكرت نعمة الله عليك، لقد أنعم عليك بالصحة، وأنت تعلم من أصيب بالجلطة أو السرطان أو الإيدز. هلاَّ شكرت نعمته عليك بشبابك، وأنت تعرف شيوخاً هرموا وشابوا، وسقطت حواجبهم على أعينهم من الكبر، وهم ممددون على فرشهم، ينتظرون الموت صباحاً أو مساءً وقد غسلوا أيديهم من الدنيا، بل قل: غسلت الدنيا أيديها منهم. هلاَّ شكرت نعمته عليك بغناك، وأنت تعرف وربما ترى بعينك من يقلبون صناديق القمامة، يبحثون عن كسرة خبزٍٍ، أو لقمة عيش. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 5 استمع إلى الزهاد شرب ابن عمر رضي الله عنه يوماً ماءً بارداً فبكى، واشتد بكاؤه، فقيل له: [[يرحمك الله ما يبكيك؟ قال: ذكرت قوله عز وجل: ((وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ)) [سبأ:54] ((أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ)) [الأعراف:50]] ] . وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: [[أين الذين أملوا بعيداً، وجمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، وبيوتهم قبوراً]] . قال أبو حنيفة رحمه الله: كفى حزناً أن لا حياة هنيئة، ولا عمل صالح يرضى به الله، قال الله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] . شرب النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر كأساً من الماء البارد، وأكلوا من التمر، وقعدوا في الظل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: {ماءٌ بارد، وظلٌ ظليلٌ، ورطبٌ طيب، والله لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة} {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8] . الجزء: 148 ¦ الصفحة: 6 زهد جاهلي قال ابن حذاق، وكان رجلاً جاهلياً، وشاعراً حكيماً فاهماً واعياً، مات أبوه وجده وقريبه وجاره، وماتت حليلته، فعرف أن الموت آت لا محالة، فقلّب طرفه، ثم أنشأ يقول: هلل للفتى من بنات الدهر من راقِ أم هل له من حسام الموت من واقِ قد رجلوني وما بالشعر من شعث وألبسوني ثياباً غير أخلاقي فصوَّر نفسه وقد مات، ثم بدأت تعبث فيه الأيدي: ورفعوني وقالوا: أيما رجلٍ وأدرجوني كأني طي مخراقِ وأرسلوا فتية من خيرهم حسباً ليسندوا في ضريح القبر أطباقي وقسموا المال وارفضت عوائدهم وقال قائلهم: مات ابن حذاق هون عليك ولا تولع بإشفاق فإنما ما لنا للوارث الباقي الجزء: 148 ¦ الصفحة: 7 صرخة إلى الشباب أخي أيها الشاب! هل أنت ممن يسهر الليل على الهاتف؟ يعاكس هذه، ويسخر من تلك، ويتبادل ألفاظ الحب والغرام مع كل فتاة تطاوعه، أو تسكت له! أما خشيت دعوة من إنسان صالح أزعجته في هدأة الليل، أو أيقظته من هجعة الفراش، أو أفسدت عليه بنته، أو خربت عليه ولده وفلذة كبده! أما استحييت من الملك القاعد عن يمينك أو عن شمالك، لا يغادرك في يقظة، ولا يفارقك في منام؟ {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] . {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} * {كِرَاماً كَاتِبِينَ} * {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12] . الجزء: 148 ¦ الصفحة: 8 احذروا التقليد والأغاني يا شباب! لماذا يستطيع شباب الصين، واليابان، أن يتعلموا ويبتكروا ويخترعوا ويصنعوا، ويحققوا التقدم لبلادهم وهم وثنيون أو بوذيون أو لا دينيون، أو شيوعيون، ويبقى شباب الإسلام لا يحسنون إلا التقليد، حتى في قصات الشعر، وموضات الأزياء، وطرق الغواية، لا يحسنون إلا التقليد، لما يشاهدونه في الأفلام والإعلام؟! يا شباب! لماذا يفلح شباب الصرب في إقامة صربيا الكبرى، ويفعلون الأفاعيل، وينتصرون؟! ويعجز شباب المسلمين حتى عن متابعة ما يجري لإخوانهم، أو إرسال دعوة صادقة، أو تبرع سريع إليهم يكون عوناً لهم! يا شباب! شريط الغناء الذي تسمعه، عربياً كان أو أجنبياً، وقد رأيت من إخوانك من يستمع أشرطة غناء أجنبية هندية، أو إنجليزية، وهو لا يجيد لغتهم، وإنما حب التقليد، أو التعلق بمغنٍ معين، أو مغنيةٍ معينة. مَن هؤلاء المغنون؟ أتدري ما هي سيرهم الذاتية؟ ما هي حياتهم الخاصة؟ ما هي أوضاعهم الشخصية؟ ما نوع علاقاتهم التي يديرونها؟ سوف أنبئك طرفاً من أخبارهم بعد قليل. ماذا قدم هؤلاء لبلدهم؟ بل ماذا قدموا لأنفسهم؟ ماذا قدموا لأسرهم؟ ماذا قدموا لزوجاتهم أو أطفالهم؟ إن معظم الأغاني التي تحفظها وترددها تدور حول الحب والغرام، ولا شيء آخر بعد ذلك. أتغضب مني لو قلت لك: إن بعض إخواننا، وأحبائنا من الشباب، جل ثقافتهم هي عبارة عن مقاطع من أغانٍ، يرددونها بعد ما سمعوها في شريط التسجيل، أو عبر الأثير؟! في مكان ما يخلطون الأغاني مع مجموعة أو كلمات ملتقطة من محاضرات، أو مقاطع من خطب إسلامية، فتسمع صوت الموسيقى والغناء، ثم تسمع بعد ذلك صوت الواعظ أو الخطيب، فأي سخريةٍ هذه! أغانٍ أجنبية فاجرة توجد عند الشباب، وبعضها أغاني عندي مكتوبةٌ على ورق، من قبل بعض الإخوة الشباب، وهي أغانٍ تتحدث عن لحظة الجنس الحيوانية البهيمية، وتطالب بالإباحية، وتتحدث عن المجتمع، والأخلاق، والقيم، وضرورة الثورة عليها وتحديها، وهي أغانٍ تتمرد على الفضيلة والعفاف ولا تتعدى ما بين السرة والركبة، وكلماتها ساقطةٌ بذيئةٌ تختصر الحياة كلها في خلوةٍ فاجرةٍ، والدنيا كلها في مضجع أو مخدعٍ، يفوح منه رائحة الحشيش والأفيون، وتختصر قوة الإنسان كلها وطاقاته في قدرته الجنسية فحسب!! إنها دعوة صارخة إلى البغاء والفساد للشباب والفتيات، ما هذا الشيء الذي تحويه -مثلاً- أغاني الراقصة الأمريكية المعروفة مادونا، والتي تباع في كل مكان بدون استثناء، وقد منعتها الصين الشيوعية من الزيارة، أتدري لماذا؟ لأنها تقوم بحركات خليعة وإباحية، مرفوضة في المجتمع الصيني، وإباحية، وكلماتها بذيئة، أما في بلاد الإسلام الحبيبة فإن أشرطتها تباع. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 9 إلى من كان له قلب يا راكبين عتاق الخيل ضامرةً كأنها في مجال السبق عقبانُ وساكنين القصور البيض في دعةٍ لهم بأوطانهم عز وسلطان أعندكم خبرٌ من أهل بوسنة فقد جرى بحديث القوم ركبانُ تبكي الحنيفية البيضاء من أسفٍ كما بكى لفراق الإلف هيمان ُ حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصلبانُ حتى المآذن تبكي وهي جامدةٌ حتى المنابر ترثي وهي عيدانُ كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسانُ فلو تراهم حيارى لا دليل لهم عليهمُ من ثياب الذل ألوانُ ولو رأيت بكاهم عند قتلهمُ لَهَاَلكَ الأمر واستهوتك أحزانُ رُبَّ أمٍ وطفلٍ حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدانُ وطفلةٍ مثل حسن الشمس قد برزت كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ يقودها الصرب للمكروه مرغمةً والعين باكيةٌ والقلب حيرانُ لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمانُ الجزء: 148 ¦ الصفحة: 10 أيها الشاب أمتك كلها جراح أيطيب لك -أيها الأخ الشاب- أن تعيش في حياة لاهية، وأنت تسمع الحقائق التالية: نشرت صحيفة بريطانية اسمها "اند بندنت" أن محامياً كرواتياً يحتفظ بوثائق خطيرة عن تعذيب المسلمين في يوغسلافيا السابقة، وفي إحدى هذه الوثائق، أنه تم تجميع حوالي أربعة آلاف مسلم في ورش عمل، وتم قتل تسعين منهم، ليس بواسطة الرصاص، بل بواسطة وضع رقابهم تحت المناشير الكهربائية، التي تقطع بها الأخشاب السميكة، ثم ووروا تحت التراب! أتدري من هؤلاء؟ إنهم من أهل لا إله إلا الله، إخوانك الذين يستغيثون بك ويستصرخون. وهناك آخرون قتلوا عن طريق صب محلول الأسيد على رءوسهم، وتحتوي هذه الوثائق على أساليب بشعة لقتل ما يزيد على عشرين ألف ضحية من المسلمين، وتدمير ما يزيد على مائة وسبعين قرية بالكامل، وهدم مئات المساجد والمدارس والمؤسسات!! مثلٌ آخر: بلغ عدد المسلمات المغتصبات الحوامل من الزنا بالقهر والإكراه، من قبل جنود الصرب، ما يقارب ستين ألف فتاة مسلمة، منهن مجموعة كبيرة ما بين سن السادسة عشرة إلى سن الثلاثين، وقد أنجبت بعض هؤلاء المسلمات أطفالاً سمينهم أطفال العار!! أتسبى المسلمات بكل ثغر وعيش المسلمين إذاً يطيبُ أما لله والإسلام حقُ يدافع عنه شبانٌ وشيبُ فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا سبع مسلمات هجم عليهن جنود الصرب فلذن بالفرار، فحاصروهن إلى النهر، وأمسكوا باثنتين منهن لفعل الفاحشة، أما الخمس الباقيات فقد آثرن الموت غرقاً، وألقين بأنفسهن في وسط المياه، وابتلعهن الماء، وكان هذا أهون عليهن، وأرحم بهن من أن يقبضهن جنود الصرب، فيتبادلونهن ويتعاقبون عليهن في الليلة الواحدة مرات، لا لشيء إلا لأن الواحدة منهن مسلمة، تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله! أفيطيب لك عيش هنيء، حتى بالحلال فضلاً عن الحرام، وأنت ترى وتسمع ما تعانيه أخواتك المسلمات هنا أو هناك؟! صحيفة اسمها التايمز اللندنية تذكر مآسي مفزعة عن الاغتصاب، هذه أحدها: مسلمة في الثلاثين من عمرها، اسمها صفا، خرجت من محنة الاغتصاب بعدما تعاقب عليها جنود الصرب الكفرة بوحشية بالغة وقسوة لا حدود لها، لكنها خرجت من هذه المحنة إلى محنة أعظم منها وأطم، حيث تحمل بين أحشائها جنيناً تكرهه كل الكره، لأنه جاء سفاحاً من أعدائها الكفرة، الذين دنسوا شرفها وانتهكوا عرضها. يقول المراسل: عندما تشعر صفا بحركة الطفل، الذي لم يولد بعد، وهو في رحمها، وهو يحرك أطرافه في بطنها، تعود إليها الذكريات المريرة، التي كابدتها في محنةٍ استمرت معها طيلة خمسة أشهر في سجون الصرب، تلاحقها الذكريات وتطاردها بلا رحمة، هذا الجنين تقول: ليس جزءاً مني، إنه أشبه بحجرٍ أحمله داخل جسمي، وبمجرد أن ألده يجب أن يأخذه الأطباء، لا أطيق رؤيته لحظةً واحدةً من نهار، هكذا تقول المسلمة صفا. تشير آخر إحصائية وصلت إلىَّ اليوم من أجهزة الأمن في البوسنة أن سكان البوسنة عام (1991م) ، كانوا أربعة ملايين وأربعمائة ألف تقريباً، أما اليوم فبسبب القتل والإجلاء لم يبق منهم داخل بلادهم إلا حوالي مليون وستة آلاف إنسان فقط، أما البقية فهم ما بين قتيل وفار بدينه إلى هذا البلد أو ذاك. قامت القوات الصربية بقصف مستشفى للمتخلفين عقلياً، يقطنه عشرات من الأطفال ذكوراً وإناثاً، ممن ليس لديهم عقول ولا تفكير ولا قدرة على أن يتصرفوا، إنما يقوم عليهم أطباء وحاضنات ومشرفون، ولما قصف ذلك المستشفى هرب الأطباء، وهرب المشرفون، وبقي هؤلاء الأطفال الصغار الأبرياء، يقلبون أعينهم ويديرون رءوسهم، ويخرجون إلى الشوارع عراة، ويأكلون التراب، ولا يملكون أن يصنعوا شيئاً، والعالم كله يشاهد ذلك ويتفرج عليه!! أتدري من هؤلاء؟! إنهم إخوانك المسلمون، وأولاد إخوانك المسلمين! الجزء: 148 ¦ الصفحة: 11 إياك والغفلة هل أنت ممن يسهر الليل على مشاهدة المسلسلات والأفلام، التي هي في الغالب مدارس لتعليم الانحلال، وغرس الرذيلة، وقتل الحياة، وتدمير العفاف؟ ألم يخطر في بالك يوماً ما إذ بليت بهذا، أن تشاهد على الأقل المآسي المفجعة التي يعيشها إخوانك المسلمون في البوسنة والهرسك، أو فلسطين، أو الصومال، أو في أي مكان آخر من الأرض؟! أم تراك ممن يسمع صرير (كفراتهم) وأصوات سياراتهم على بعد بضع كيلو مترات، وهم يستعرضون ويعتقدون أن هذه هي الفتوة والقوة، وهي المجال المناسب لكسب إعجاب الكثير وتصفيقهم أو ضحكاتهم، وربما صلى الناس الفجر وهم ساهرون سادرون، فلم يجيبوا داعي الله: حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح. هل هان الله تعالى في عينك إلى هذا الحد؟!! يا من أغراه قرناء السوء بتعاطي الدخان أولاً، ثم الخمر بعد ذلك، ثم المخدرات! إن باب التوبة مفتوح، فسارع قبل الفوات، قبل أن يختم لك بخاتمة السوء، فإن الطريق الذي تسلكه طريق النار، قال صلى الله عليه وسلم: {وحفت النار بالشهوات} . لا أشرب الخمر والنيران تعقبها لا خير في لذةٍ من بعدها النارُ الجزء: 148 ¦ الصفحة: 12 أيها الغافلون اعتبروا قيل لـ إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟! قال: [[لأنكم عرفتم الله تعالى فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول صلى الله عليه وسلم فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وعرفتم نعم الله تعالى فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه وتعادوه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم فلم تعتبروا بذلك، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس، فبهذه الأشياء العشرة ماتت قلوبكم، فلا ينفع فيها وعظٌ ولا تذكير!!]] قال مالك بن دينار: أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر وأين المدل بسلطانه وأين العزيز إذا ما افتخر تفانوا جميعاً فلا مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور فيا سائلي عن أناس مضوا أما لك فيما ترى معتبر أيها الغافلون عن الموت اعتبروا! قال صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هاذم اللذات} أي: الموت، فكل لذة في الدنيا إلى انقطاع، ولو طالت فالموت غايتها، إلا لذة العبادة، والطاعة والتقوى والدعوة والجهاد والبر والقرب من الله تعالى، فهي لذات باقيات إلى يوم المعاد. كم من فتاة مثل ليلى وفتى كـ ابن الملوح أنفقا الساعات في الشاطئ تشكو وهو يشرح كلما حدث أصغت وإذا قالت ترنح فإذا الموت ينقض سريعاً كالعقاب ولقد قلت لنفسي وأنا بين المقابر هل رأيت الأمن والراحة إلا في الحفائر فأشارت فإذا للدود عيث في المحاجر واختفى الحزن رهيناً بين أطباق الترابِ انظري كيف تساوى الكل في هذا المكان وتلاشى في بقايا العبد رب الصولجان والتقى العاشق والقالي فما يفترقان أدركوا أن اللذاذات سرابٌ في سراب أيها القبر تكلم أخبرينا يا رمام من هو الميت من عامٍ ومن مليون عام من هو الميت من عام ومن خمسين عام كلهم ينظر وعداً صادقاً يوم الحسابِ الجزء: 148 ¦ الصفحة: 13 احذروا رسائل الغرام يا شباب! إن كلمات الحب والغرام التي يوزعها الإنسان بالمجان، مرة عن طريق رسالة بالبريد، لفتاةٍ تعرف عليها عن طريق الإذاعة، أو الجريدة أو المجلة، ومرة أخرى عبر الهاتف، ومرة ثالثة يغامر ويلقيها على فتاة يبصرها في الشارع أو السوق أو الحديقة، أو خارجةً من بيتها أو مدرستها، هذه الكلمات قد ترضي رغبتها، أو توافق هواها، لولا أن فيها عيوباً ثلاثة: العيب الأول: أنها قلق في الدنيا، فإن حصلت على ما تريد فأنت تقلق للشعور بالخطيئة، وإن لم تحصل على ما تريد تقلق بسبب فوات شيء كنت ترغبه وتتمناه. العيب الثاني: عذاب في القبر، وعذاب في الدار الآخرة، قال الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقال: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] . وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الرجل يدخل الجنة بكلمة، أو يدخل النار بكلمة} افترض أنك تكلم فتاة، وأنها تسجل عليك ما تقول، وأنها تريد فضيحتك، ونشر صوتك وهو معروف؛ لغرض أو لآخر، كم كان يزعجك أن ينشر خبرك بين الناس، وأن يتسامع القاصي والداني بأن فلاناً يغازل أو يعاكس أو يتكلم بالفحش والسوء! أفلا تخاف أن ينشر هذا الخزي؟! وهو مسجل يقيناً من قبل الملك: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} [الكهف:49] وربما نشر عارك أو خزيك بين الأشهاد يوم القيامة: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] . ومن الممكن أن تكون هذه الكلمات وقوداً تعذب بها في جهنم وبئس المصير. العيب الثالث: أنها تدمر مخزون الحب الحقيقي في قلبك الذي وزعته بالمجان على كل أحد، فكلمة: أحبك، أو كلمة: الغرام، أو كلمة: أنا ساهر أتقلب في فراشي، أو كلمة: صورتك في مخيلتي لا تفارقني، أو كلمة: أنا لا أهنأ بعيش ولا طعام ولا شراب، فهذه الكلمات التي تقولها صادقاً أحياناً وكاذباً أحياناً أخرى، إنها تدمر مخزونك من الحب الحقيقي، فإذا احتجته لتحب زوجتك التي أحل الله لك لم تجدْ، أو أن تحب ولدك لن تجد ذلك، وأصبح التعبير عن مشاعر الحب أثقل عليك من جبل أحد. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 14 صور من حياة التائبين الجزء: 148 ¦ الصفحة: 15 توبة آدم بن عبد العزيز وكان آدم بن عبد العزيز خليعاً منهمكاً في الشراب، ثم تنسك بعد وتاب، فأقبل على قومه ومعهم خمر، فلما رأوه رفعوا الخمر تكريماً له، وسألوه هل قلت فيها شيئاً بعد أن غادرتها، وتبت منها؟ قال: نعم ألا هل فتىً عن شربها اليوم صابرُ ليجزيه يوماً ما بذلك قادرُ شربت فلما قيل ليس بنافعٍ نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهرُ أحضره المهدي الخليفة وضربة ثلاثمائة سوط، حيث اتهم بأنه زنديق، يبطن ما لا يظهر، فأصر على إيمانه وقال: والله الذي لا إله غيره ما أشركت بالله تعالى طرفة عين، ولكني كنت شاباً من قريش أشرب الخمر، وأقول المجون، ثم تاب الله علي، وبدلت سيئاتي حسنات. تتجافى جنوبهم عن وطيئ المضاجع كلهم بين خائفٍ مستجيرٍ وطامع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع لو تراهم إذا همُ خطروا بالأصابعُ وإذا هم تعوذوا عند مر القوارع وإذا باشروا الثرى بالخدود الضوارع واستهلت عيونهم فائضات المدامع الجزء: 148 ¦ الصفحة: 16 توبة الوراق كان محمود الوراق لا هياً عابثاً ماجناً، يتردد على الحانات، ثم أذن الله له بالتوبة، فزهد وتنسك، وتاب إلى ربه وأخلص، وكان يبكي كلما تذكر الموت، وأحس بوهن القوى. بكيت لقرب الأجل وبعد فوات الأمل وواكف شيب طرى بعيد شباب رحل شبابٌ كأن لم يكن وشيبٌ كأن لم يزل طواك بشير البقاء وجاء نذير الأجل وكان ينظر إلى العصاة فيحزن، ويخاطبهم ويعاتبهم، فيقول: يا ناظراً يرنو بعيني راقدِ ومشاهداً للأمر غير مشاهدِ تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان بها وفوز العابدِ ونسيت أن الله أخرج آدماً منها إلى الدنيا بذنبٍ واحدِ الجزء: 148 ¦ الصفحة: 17 تحذير من الشذوذ يا شباب! لقد عاقب الله تعالى قرى سدوم، وأمر الملك أن يرفعها إلى السماء، ثم يقلبها على أهلها: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:82-83] . إنها العقوبة الربانية التي تنتظر كل الشاذين والمنحرفين عن سواء السبيل، وكل المعاندين للفطرة والخارجين عن قانونها، والمخالفين لشريعة الله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83] {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165-166] . وها نحن نرى بوادر التفكك والانهيار الاقتصادي والسياسي والعسكري في أمريكا، حيث انتشر فيها الشذوذ الجنسي وعقد لهم مؤتمر حضره أكثر من مليون، وكان قيصرهم الجديد ينادي بإباحة الشذوذ، وإدخال الشاذين في الجيش ولكنه تراجع عن ذلك، واكتفى بمجرد رد الاعتبار لهم. إنها آيةٌ على انهيار تلك الامبراطورية القيصرية الباغية الطاغية، وكل مجتمع انتشرت فيه هذه الفاحشة والرذيلة الموبوءة فإن ذلك ينذر بانهياره وفساده. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 18 مرض أخطر من الإيدز أما المرض الجديد والذي يعتبر الإيدز بالنسبة له موضة قديمة كما يقال، فهو مرض يسمى اليوم: مرض الحب، نعم. مرض الحب، هكذا سماه الأطباء الذين اكتشفوه! إنه أشد افتراساً وأعظم وطأة من الإيدز. يقول أحد الأطباء: إن الإيدز مقارنة بهذا المرض الجديد يبدو كما لو كان مجرد جولة في أحد المنتزهات العامة، لا تضر شيئاً! بعد ستة أشهر من استلام الجسم لهذا الفيروس العجيب -لمرض الحب- يمتلئ جسم المريض بأكمله بالبثور والقروح والجروح، ولا يبقى فيه رقعة، مهما كانت صغيرة إلا وفيها قروح وتقيحات، ويستمر المريض في النزيف إلى أن يموت أو هو يئن تحن وطأة آلام مبرحة، لا طاقة له بها ولا قبل. إنها عقوبة الله جل وعلا: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وإذا تغلل هذا الجرثوم في جسم الإنسان فإن العلوم الطبية كلها تقف عاجزةً تماماً بإزائه، ومما يجعله خطيراً أكثر أنه يختفي ويكمن في الجسم طويلاً -ستة أشهر- وهذه تعتبر فترة حضانة لهذا الجرثوم، ثم أتدري متى ينقض؟ ومتى يغرس أنيابه في الجسد؟ ومتى يظهر قوته؟ ومتى يصرع ضحيته؟ فلاحظ حكمة الحكيم العليم، وانتقامه جل وعلا. إن هذا الجرثوم لا يظهر ويقوى، إلا في لحظة التهيج الجنسي فإذا تهيج الجسم عند ممارسة الرذيلة والحرام، تهب الحياة في هذا الفيروس المختفي في الحضانة، ثم ينقض على الجسم، فهذه ناحية. الناحية الأخرى: إذا كان مرض الإيدز ينتشر بسبب الممارسة الجنسية الخاطئة، أو الشذوذ الجنسي كاللواط، أو نحوه، فإن هذا المرض الجديد لا يحتاج إلى كل ذلك. إن مجرد قبلة أو احتضان حرام، أو حتى تشبيك الأيدي، يمكن أن يؤدي إلى ثوران الهرمونات الجنسية، التي تنشط فيروس الحب، فينقض على فريسته. نعم! بالأمس عاقب الله تعالى الذين يمارسون الشذوذ أو المعصية، واليوم يعاقب ربنا جل وعلا حتى أولئك الذين يهمون بالممارسة، أو يبدءون الخطوة الأولى بقبلة أو ضمة أو احتضان، أو حتى ما هو أقل من ذلك. وعلى رغم حداثة هذا الاكتشاف، فقد استضافه ما يزيد على أحد عشر قطراً في العالم، أي: أن هذا المرض انتشر في أكثر من عشر دول في العالم، وضحاياه اليوم بالعشرات، والمتوقع أن ينتقل بسرعة هائلة إلى أماكن كثيرة. إنها عقوبات الله تعالى تنتظر المصرين على المعصية، قال الله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:39-40] . نعم! يتحدى الأطباء، ومراكز العلم، وأماكن الاختبار، وكل وسائل التطبيب والعلاج على رغم تقدمها يتحداها: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:39-40] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، الذين مضوا من قبلهم} . فلقد أعلن أولئك بالفواحش، وعن بيوت الدعارة وأماكن الرذيلة، وسموها أماكن ممارسة الحب، وفرضوا عليها الضرائب، وجعلوا لها وقايات طبية وصحية، وإشرافاً، ولكن ما ينفعهم هذا وقد نزل بهم عقاب الله تعالى. أيها الأخ الكريم: أتدري أنني قرأت تقريراً سرياً عن بلد ما أن ضحايا الإيدز فيه يزيدون على خمسمائة ضحية؟! ومع الأسف أنه بلد من البلدان العربية الإسلامية. أتدري أن كثيراً من أولئك الضحايا لا يظهر عددهم، ولا يتحدث عنهم لغرض أو لآخر؟! وأن هذا المرض لا يجامل أحداً قط أبداً، بل ينتشر بين العربي وغيره، والمسلم والكافر، وكل أحد يتعرض لأسبابه فإنه قد يقع ضحيته. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 19 الإيدز يحصد الشباب في أمريكا يا شباب! جريدة الحياة بتأريخ: 23/7 تقول: توقعت دراسة نشرها مركز مراقبة الأمراض في اطلنطا في ولاية جورجيا الأمريكية، أن ثلاثمائة وثلاثين ألف أمريكي سيموتون بالإيدز في نهاية عام (95م) أي: بعد أقل من سنتين! ورأى المركز أنه من الآن وإلى ذلك العام، سيكون عدد الأمريكيين الذين تم تشخيصهم بأنهم حاملون لفيروس الإيدز أكثر من نصف مليون إنسان. وفي جريدة اليوم في (27/12عام 1413هـ) أظهرت دراسة اتحادية أن مرض الإيدز أصبح الآن أكبر سبب للموت بين الشباب في خمس ولايات من الولايات الأمريكية، وفي عشرات المدن هناك، وكان هو السبب الثاني للوفاة في ثمان ولايات أخرى. وقالت الدراسة: إن الإيدز أصبح هو السبب الرئيسي للوفاة بين الشباب في أربع وتسعين مدينة أمريكية، ووصلت نسبة الوفيات بين الشباب نتيجة لهذا المرض الجنسي الخطير إلى (61%) . يا شباب! عندما ظهر الإيدز -وهو مرض فقدان المناعة الذي هو أخطر الأمراض على الإطلاق، ومصابه ميت لا محالة بحسب المقاييس البشرية- عندما ظهر صار الناس يترحمون على زمان الزهري والسيلان. إنه مرض محير للأطباء، لم يكتشفوا له أي علاج، اللهم إلا بعض العقاقير التي تخفف شيئاً من المعاناة القاسية، ومن شراسة هذا الوباء، وتقلل من سرعة استشرائه في البدن. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 20 قصص فيها عبرة يا شباب! رحلة الكفر والخروج النهائي من الدين تبدأ بخطوة بسيطة في نظري أو نظرك. 1- سافر للمعصية، وشرب الخمر، وثقلت عليه الصلاة، فصار يؤخرها، ثم يجمعها، ثم يتركها أحياناً ويصليها أحياناً وهو جنب، أو يصليها في غير وقتها، وأخيراً رأى أن لا فائدة من صلاة كهذه، فغادر الصلاة إلى غير رجعة وكان مصيره أن يُلقى جثةً ميتة في دورة مياه في إحدى المستشفيات! 2- مجاملةً لصديقته الكافرة علّق الصليب على عنقه، وكان صليباً من ذهب إنه يريد أن يثبت لها فعلاً أنه متحضر ومرن وفاهم وغير معقد، حتى يحصل منها على ما يريد! 3- استطاعت المجندة المنصرة -وقد قرأت بعيني رسائلها إليه، وكلمات الحب والغرام التي بعثت بها عبر البريد- أن تغير عقله ودينه، وعاهدته على الحب والزواج، ووشم كل واحد منهما اسمه على الآخر، ووافقها على اعتناق النصرانية، وذهب معها إلى كنيسة من كنائس قومها الأرمن، وهو من أهل هذه الجزيرة، ولكن الله تعالى يهدي من يشاء، وإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر. 4- أقل ما يخاطب به حبيبته أنتِ معشوقتي! أنتِ معبودتي! أموت من أجلك! 5- علق تمثال بوذا على رقبته، وأصبح يحلف به معظماً له، كما يحلف المؤمن بالله العظيم جلّ وتبارك وتعالى! 6- فهي فتاة ذهبت إلى كندا هاربةً، طالبةً الإقامة والجنسية هناك، لأنها تعتبر أن تدين المجتمع في بلد كهذا البلد يحرمها من تحصيل شهواتها. إن رحلة الكفر والخروج المطلق من الدين تبدأ ربما بخطوة صغيرة، تبدأ بحجزٍ في فندق، أو تذكرةٍ في طائرة، أو في رحلةٍ ليست بعيدة، أو حتى ربما جلسة مع قرناء يتحدثون عن أفكار ومغامرات ومؤامرات وأحاديث وأخبار. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 21 إليك يا صديق القلب عزيزي يا صديق القلب عندي سؤال لو تجيبون السؤال أخير أن أموت وفوق ظهري ذنوب لا أطيق لها احتمال لواطٌ أو زنا أو أغنيات أزلن الخير من قلبي فزال وعند القبر لا أدري مكاني إلى الجنات أم ألقى النكالا يقول السائلان: أكنت تلقي لذكر الموت والنيران بالا أضعت شبابك الغالي هباءً وملت مع المضيع حيث مالا ولم تنفعك موعظةٌ ينادي بها من تاب في زمن توالى وأبصرت الشباب اللاء ماتوا ولبوا هادم اللذات حالا ولما يبلغوا العشرين أو قد أتموها فجادتهم خيال وغرك أن ترى بشراً كثيراً من الفساق يبغون الضلالا وأنك إن تمت ستموت معهم وأنك لست أسوأهم فِعالا عصيت الله جهراً بافتخارٍ لتضرب في شجاعتك المثال عصيت الله جهراً لست تدري بأن الله جبار تعالى وألقيت الزمام لكل وغد خبيث القلب لا يسوى نعالا وخادعت الصغير بكل مكر تعال فلست أطلب منك مال فأجريت الدموع بهتك عرض يعز عليه حقاً أن يزال ودنست الشريف فليت شعري أما تخشى بإخوتك الوبال تذكَّر أمه لا بل أباهُ وقد تعبا لياليه الطوال تنادي أمه رباه ابني مطيع لي فبلغه المنال ووالده يرجِّي طول عمر لينظره وقد سامى الرجال فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ لمثلك هل ستنجو أنت لا لا ستلقى الله بعد الموت فاصبر وتلقى عنده الأمر العضال وتعلم عندها يا خل حقاً أجرماً كان فعلك أم حلالا الجزء: 148 ¦ الصفحة: 22 فتنة الشاب الأمرد يا شباب! التمتع بالنظر إلى الشاب الأمرد الجميل، واستحسان صورته؛ هذه خطوة. محاولة افتعال أي مشاكسة أو معاكسة أو مزاح سخيف مع هذا الشاب؛ خطوة أخرى. التخطيط للفاحشة الاتصال بالهاتف إركابه بالسيارة تعليمه القيادة ترغيبه بالمال توريطه بالمخدرات تهديده بالفضيحة كل هذه الأشياء خطوات في طريق يؤدي إلى الفاحشة وإلى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود:82] . تنتكس الفطرة ويفسد القلب وتصعب التوبة ويغضب الرب جل وعلا ويأذن بالعقاب وتحكم الشريعة بقتل هذا وذاك، جزاءً وفاقاً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] . كم هو محزن أن تمر بالشوارع التي يتجمع فيها الشباب، أو تمر بشواطئ البحار، أو في أسواق أو غيرها، فترى شاباً صغير السن وربما وسيماً حسن الصورة، متزيناً بأحسن ما يستطيع مسرحاً لشعره معتنياً بهندامه، وإذا بجواره آخر يكبره بسنوات، ربما عشراً! هل تظن أن الناس مغفلون أو أنهم لا يعرفون؟! إنهم يعرفون كل شيء، لكن دع الناس واتركهم، فما لك ولهم، ألا تخاف الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم ما توسوس به نفسك، وهو أقرب إليك من حبل الوريد!! ألا تخاف على أخيك الأصغر أن يقع فيما أوقعت فيه أولاد الناس؟ ألا تخاف على ابن أخيك؟ أو ابن أختك أو حتى ولدك؟! فأنت اليوم أو غداً متزوج ومنجب، ألا تخشى العار والنار؟! عزيزي أيها الشاب! هل تعتقد أن مكانك الطبيعي هو الأرصفة أو التفحيط؟! أو الأحياء ذات الأضواء الخافتة؟! أو صالونات الحلاقة؟! أو المطاعم التي تستقبل أعداد الشباب كل وقت؟! أو أماكن تعاطي الدخان أو الشيشة؟! هل تعتقد أن هذه أماكن طبيعية يجب أن تقضي وقتك فيها؟! كلا. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 23 وصايا نبوية عن معاذ رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أوصاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشر كلمات:} الجزء: 148 ¦ الصفحة: 24 خطورة شرب الخمر رابعاً: {ولا تشربن خمراً فإنه رأس كل فاحشة} قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً فإن تاب تاب الله عليه، فإن شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن شربها لم تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن شرب لم تقبل له صلاة، وكان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من طينة الخبال، وإن تاب لم يتب الله تعالى عليه} وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل شارب الخمر في المرة الرابعة. فإياك والخمر فإنها مفتاح كل إثم، فلا تشربها عند طبيب، ولا مجاملة، ولا في فندق، ولا لسبب، وإياك إياك أن تشربها في بيتك فتؤذي زوجتك، وتعود أطفالك، وتجر إلى بيتك العار، والنار وبئس القرار. خامساً: قال صلى الله عليه وسلم: {وإياك والفرار من الزحف، وإن هلك الناس إلى آخر الحديث} . الجزء: 148 ¦ الصفحة: 25 التحذير من الشرك الأولى: {لا تشرك بالله شيئاً، وإن قتلت أو حرقت} . إياك أن تستحسن دين النصارى أو المشركين، أو تستثقل الإسلام، أو تعجب بهؤلاء القوم الذين وجوههم وجوه أهل النار، بل عليك أن تجعل بينك وبينهم حاجزاً يفصلك عنهم، ويباعدك عن سيرتهم. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 26 وجوب طاعة الوالدين ثانياً: {ولا تعصين والديك وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك} . وكم من فتى فرط في حق والده أو أمه: {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف:17] . فهما لم يأمراه بمعصية، ولا جاهداه على أن يشرك بالله ما ليس له به علم، بل ولا أمراه أن يخرج من أهله وماله، وإنما أمراه بطاعة الله تعالى، فقالا له: لا تذهب إلى هذا المكان، وإياك وجلساء السوء، أو لا تسهر في الليل. يا أخي الشاب! إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن بمعصية الوالدين حتى في الجهاد فما بالك بالفساد! الجزء: 148 ¦ الصفحة: 27 خطورة ترك الصلاة ثالثاً: {ولا تتركن صلاة مكتوبة متعمداً} . فإن من ترك صلاة مكتوبة متعمداً فقد برأت منه ذمة الله تعالى: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] . إن التباطؤ عن الصلاة هو من أسباب تركها، فالرجل قد تدركه الصلاة وهو على غير طهارة فيؤجلها، أو يفوتها فتكثر عليه، ثم يعجز عنها، وأخيراً يتركها في سمر، أو سهر، أو لهو، أو لعب، وربما تركها بعض الشباب في مدرجات الكرة لمشاهدة مباراة، أو وهو مسمر على شاشة التلفاز أو الفيديو، وربما صلى المسلمون وسلموا وذكروا الله تعالى، وصرير (الكفرات) يسمع عند الفجر! الجزء: 148 ¦ الصفحة: 28 باب الزواج مفتوح يا شباب! باب الزواج مفتوح، فابحث عن بنت الحلال، واسمع هتاف أمك الكبيرة التي تريد أن ترى أطفالك قبل أن تموت. أبني إني قد غدوت عليلة لم يبق لي جلد على الأحزان فأذق فؤادي فرحة بالبحث عن بنت الحلال ودعك من عصياني كانت لها أمنيةً ريانةً يا حسنَ آمالٍ لها وأماني فعجل -أخي الشاب- بتحقيق أمنية أمك قبل أن تموت وفي قلبها حسرة، ولوعة ولهفة وعتاب! أفتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! إن الذي يفعله المتزوج مع فتاته وحليلته أضعاف أضعاف لذة الزاني مع فاجرته، وهذا يتزوج فيضع عقود الكهرباء في الشارع، ويطبع البطاقات، ويهنئه الناس في كل مكان، وذاك يتستر ويستخفي من كل أحد! إنه يعرف أنه يرتكب إثماً وحوباً كبيراً، ولكنه إن استخفى من الناس لا يمكن أن يستخفي من الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود:5] حتى وأنت في فراشك، وفي مخدعك، حتى وأنت ملتف بثوبك إنه يعلم ما يسرون وما يعلنون. يا شباب! إن كان لا بد من السفر فليكن إلى مباح، وإن كان لا بد من الرفقة فليكونوا أهل خير وصلاح وفلاح، وإياك أن تضيع قرشاً أو ريالاً جمعته بسبيل أو بآخر؛ في حضن فاجرةٍ تأخذ مالك وتعطيك بدلاً منه الإيدز والسيلان والزهري والقروح، أو تهديك مرضاً جديداً اسمه (مرض الحب) ويا قبح ذلك المرض! يا شباب! ربما تعلمون من المفاسد والمنكرات ما لا نعلم، وربما تدركون من طرق الغواية ما لا يدركه غيركم، وربما تعرفون من أسباب الانحراف في مجتمعنا ما لا يعرفه الغافلون، فلماذا لا تكفرون عن بعض تلك الذنوب بمواصلة أهل الدعوة والصلاح والإصلاح، ومراسلتهم ومحادثتهم، وبيان تلك المخاطر لهم! وكشف المنكرات التي لا يعرفون، فهذا مسلسل فاسد يجب أن يتحدث عنه، وهذا شريط ماجن يجب أن يفضح، وهذا بيت مشبوه! وهذا حي يكثر رواده المغرضون! وهذا إنسان تدور حوله الشبهات! وهذه الأشياء ربما تعرفها، أو تسمعها من زملائك أو جلسائك، فلماذا لا تقوم بإنكار المنكر، لعل الله تعالى أن يرحمك، أو يكفر بعض ذنوبك بأمر قمت به بمعروف، أو نهي قمت به عن منكر. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 29 أحسنوا الظن بالله يا شباب! أحسنوا الظن بالله تعالى، ومن أحسن الظن بالله تعالى أحسن العمل، إن حسن الظن من حسن العمل، وأكثروا الاستغفار، فإن في سنن الترمذي، وأبي داود، بسند فيه ضعف، عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما أصر من استغفر، ولو عاد في اليوم سبعين مرة} وفيهما أيضاً من حديث أبي بكر رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من عبد يذنب ذنباً، ثم يقوم فيتطهر ويصلي، ويستغفر الله تعالى، إلا غفر الله له، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] } {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] ولا تقنطوا من رحمة الله، فإنه لا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 30 مع موكب التائبين يا شباب! موكب التائبين إلى الله يضم كل يوم عدداً جديداً، التحقوا به من الشاردين ممثلون بارزون وفنانات ومغنيات وضحايا مخدرات، عادوا إلى الله تعالى بعد الشهرة والتجربة، وبعدما عرفوا الطريق، وخبروه وسبروه فرجعوا منه بخفي حنين، وعرفوا أن الطريق الحق طريق الله تعالى، ففي كل يوم راكب وضيف جديد، على طريق الإيمان والعبادة، والتقوى، فعجل قبل أن يفوتك القطار، واعلم أن راحة الإيمان لا تعدلها راحة، ولذة العبادة لا تماثلها لذة، وإذا كان العبد قد يجد حباً في لحظة من اللحظات فإن أعظم الحب حب الله جل وعلا. هذا أحد التائبين يخاطب ربه بعد ضياع وضلال: وكان فؤادي خالياً قبل حبكم وكان بذكر الخلق يلهو ويمرحُ فلما دعا قلبي هواك أجابه فلست أراه عن فنائك يبرحُ فهذا هو الحب الحقيقي، محبة الله تعالى، ومحبة دينه وأوليائه الصالحين، وجنده المفلحين. أصبت ببينٍ منك إن كنت كاذباً وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرحُ وما كل شيء في البلاد بأسرها إذا غبت عن عيني بعيني يملحُ فإن شئت واصلني وإن شئت لا تصل فلست أرى قلبي بغيرك يصلحُ إن القلب لا يصلح إلا بالله وتعالى، فإذا أقبل على الله تعالى اجتمع، وانضم بعضه إلى بعض، ووجد نفسه، وسلمت فطرته، أما إذا ابتعد فإنه يتفرق في أودية الدنيا فيهلك فيها، ويصبح قلبه مثل الرجل الذي أخبر الله تعالى عنه: {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر:29] . الجزء: 148 ¦ الصفحة: 31 التدين ليس ملكاً للملتزمين يا شباب! التدين ليس ملكاً للملتزمين، ولا حقاً خاصاً للمشايخ، ولا ميراثاً للآباء والأجداد، ولا شيئاً خاصاً بالمجتمع، ولا وقفاً على القضاة، ولا هو من شأن هيئات رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا أخطأ عليك شخص من هؤلاء، أو ظننت أنه لا يمثل الدين، فلا يكن هذا سبباً في أن تبتعد عن الدين أو تجافيه، وتقول: هؤلاء أهله. بل أنت من أهل الدين، وأنت من المخاطبين بالقرآن، ومن المدعوين إليه، وأنت من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن الذين أمروا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين، فكن أنت المثل الحق الحي لهذا التدين الذي هو للجميع، لا يحتكره أحد عن أحد. فالناس لا يملكون إلا أنفسهم، ولا يمثلون إلا أنفسهم، والدين دين الله عز وجل، فإذا وجدت -أيها الشاب- جفوة من رجل تعتبره أنه محسوب على المتدينين، فلا تقل: هؤلاء هم المتدينون، إذاً فلا حاجة إلى تدينٍ هذا شأن أهله! بل عليك أن تكون أنت نموذجاً حياً للتدين والإيمان والخلق الفاضل، والسلوك النبيل. أخيراً: هذه بعض الكتيبات والأشرطة التي أنصحكم باقتنائها، لتكون مكملة لهذا الموضوع: أولاً: خطبة الجمعة في الأسبوع الماضي في المسجد الحرام، وعنوانها "فلسطين القضية والحل" لصاحب الفضيلة الشيخ/ صالح بن عبد الله بن حميد، وهي خطبة قوية مؤثرة. ثانياً: "رسالة خاصة"، وهي عبارة عن كلمة في رمضان، ألقاها محدثكم في مسجد المحيسني، وهي توزع في شريط خاص. ثالثاً: "شريط الإيمان والحياة" للشيخ/ علي عبد الخالق القرني. رابعاً: "رسالة إلى مسافر" للشيخ/ محمد المختار الشنقيطي. أما الكتب فهناك كتاب "إضاءات على طريق الشباب" للأستاذ/ يوسف بن عبد الله اللاحم، وهناك كتاب "رسالة إلى الشاب" للأخ/ عادل العبد العالي، وهناك كتابٌ جيد مفيد خاصة في علاج ما يتعلق بالشهوة اسمه "العفة ومنهج الاستعفاف". الجزء: 148 ¦ الصفحة: 32 الأسئلة الجزء: 148 ¦ الصفحة: 33 قصيدة شعرية للعشماوي هذه قصيدة للشاعر عبد الرحمن العشماوي نشرت في المجتمع عدد (1650) بعنوان "رسالة شعرية مفتوحة إلى كل الذين يحرقون ثياب الصحوة الإسلامية، وهم يشعرون أو لا يشعرون: ما لكم أعطيتم الظلم المجالا وشددتم للخلافات الرحال ما لكم أسرجتم الغدر حصاناً قاتم الغر يقتاد الوبال ما لكم ألقمتم الرعب الضحايا وارتجلتم نغم الحكم ارتجالا أتريدون من الناس نكوصاً عن كتاب الله فسقاً وضلالا ما لكم أوقفتم النار وقلتم الأصوليون زادوها اشتعالا إنما أشعلها الظلم ولكن ما تزالون تثيرون الجدالا كلما قام على المنبر داعٍ يرشد الناس إلى الله تعالى صاح منكم صائح هذا خطير أوثقوا الشيخ وزيدوه نكالا ما لكم صيرتم الدين تكايا وزوايا وادعاءً وانتحالا ديننا دنيا وأخرى ضل عقلٌ يفهم الدين عن الدنيا انعزالا أيها الواهم قد جاوزت حداً حينما أكثرت في الحق الجدالا كيف تستصفي من الناس خليلاً حينما تضرب بالسوط الرجالا كيف ترجو عندما تلطم وجهاً أن ترى من صاحب الوجه امتثالا عندما تقتل حرية جيلٍ فستلقى منه في الأمر اختلالا من يلاقي النار بالنار يزدها لهباً إطفاؤه يغدو محالا أعطني حباً وخذ مني وفاءً أعطني عدلاً وخذ مني اعتدالا ما عهدنا أن نرى في الليل شمساً أو نرى في وهج القيظ هلالا ما عهدنا أن نرى في الشرق غربا أو نرى في راحة اليمنى شمالا ربما يحمد في الأرض مقالٌ ذكره في غيرها يغدو خبالا آه منا لم نزل نلبس زيداً ثوب عمرو ونرى القرد غزالا لم نزل نضرب بعضاً وكأنا ما سمعنا رجع آهات الثكالى وكأنا ما نرى الأقصى أسيراً يشرب الحسرة قهراً واحتلالا وكأنا ما نرى عرض الصبايا قد غدا في منطق الصرب حلالا وكأنا ما نرى كشمير تبكي أو نرى طاجاكستان قتالا ما لقومي كلما حطوا رحالاً في سراديب الهوى شدوا رحالا أغلقوا بوابة المجد وناموا عند باب الذل يبلون الرمالا وكأنا ما ملأنا الأرض عدلاً وانتشلناها من الظلم انتشالا وكأنا ما سمعنا في حراءٍ قارئا يتلو ولم نسمع بلالا ما لقومي استمرءوا الذل وصاروا لعبة الباغي الذي صالَ وجالا أيها الراضع من ثدي الدعاوى إنما ترضع وهماً واحتيالا عد إلى الروض فإن الغيث يهمي في روابيها ويكسوها جمالا قل لمن يصغيه جاهٌ ونعيمٌ إن طغيان الفتى يعني الزوالا لا تسلني عن مدى حزني فإني لا أرى في خاطري منه جبالا أخيال ما أرى من حال قومي في زمان ليته كان خيالا يا سؤالاً لم يزل يحرق قلبي ليتني لم أسمع اليوم السؤالا الجزء: 148 ¦ الصفحة: 34 الفترة الحرجة في مرحلة الشباب السؤال ألا تعتقد أن سن البلوغ هي الفترة الحرجة لسن الشباب، بأن يفرغ فيه طاقته، وعلاجه هو الزواج المبكر؟ الجواب في الواقع أن الشباب ينتقل من سن إلى أخرى، فمرحلة الصبا والطفولة المتأخرة، هي مرحلة حرجة، لأنها مرحلة انتقال، ثم مرحلة المراهقة فيها حرجة أيضاً، وما بعدها هو حرج، حتى يتجاوز الإنسان الأربعين، وربما إذا تجاوز الأربعين يكون قد اكتسب عادات، وأخلاقاً وطرائق وأموراً، وألف أشياءً من الصعب أن تُعدل أو تُزول. ولهذا ينبغي لأولئك الإخوة الذين يقعون في المعاصي، ويقولون: إذا كبرنا تبنا؛ أن يراجعوا أنفسهم، فإن المعصية مثل الشجرة، هي اليوم صغيرة تستطيع أن تقلعها، لكن كل يوم يمر عليها تكبر، ويتضخم جذعها، وتضرب جذورها في التربة، ويصبح اقتلاعها أمراً صعباً، عسيراً عليك، وأنت أيضاً كلما كبرت ضعفت قوتك، ووهنت قواك، وأصبحت أكثر عجزاً، فعليك أن تبادر إلى قلع المعصية اليوم قبل الغد. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 35 احذر هذه الأفلام السؤال أنا شاب متزوج، ولكني أشاهد الفيديو والأفلام العربية، على أنني ملتزم وأحافظ على الصلاة! الجواب عليك أن تكف عن ذلك، فإن هذه الأفلام شرٌ كلها، لا تبني خلقاً، ولا علماً ولا ثقافةً، ولا معرفة دنيوية أو دينية، ولا ترشد إلى طريقة الحياة الزوجية السعيدة، ولا إلى طريقة العمل السعيد، كل ما في الأمر أنها تدرب الإنسان على أن يكون إنساناً ممثلاً، أقواله تمثيل لا حقيقة لها، وأفعاله تمثيل، وأفكاره خيالات وأحلام، وأشياء بعيدة عن الواقع، إنها لا تصنع الإنسان الواقعي الإنسان العملي الإيجابي المثمر، الذي إما أن يعمل لدنيا أو لدين، جاد في عمله، وفي دنياه، وجاد في علاقاته، إنما تصنع إنساناً وهمياً خيالياً، ولذلك فهي مدمرة، وأستطيع أن أقول بوضوح، ومن خلال دراسات وتقريرات موجودة عندي: إن الأفلام العربية أكثر تدميراً للإنسان من الأفلام الأجنبية في كثير من الأحيان. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 36 الشكر وأركانه السؤال أرجو التنبيه إلى أن الشكر يكون بالعمل لقول الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] حيث إن كثيراً من الشباب حين تقول لهم: اذكروا الله يقولون بألسنتهم: الحمد لله والشكر؟ الجواب الشكر يكون بالقول وباللسان، وكذلك الشكر بالعمل وبالقلب، ولا بد أن تتواضع هذه الأشياء القلب واللسان والعمل: أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] . الجزء: 148 ¦ الصفحة: 37 حكم النظر إلى المردان السؤال يقول: شاب محافظ على دينه، ولكنه مع الأسف ابتلي بتقليب نظره في المردان، أرجو توضيح العلاج النافع في هذه البلوى، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب نعم إنها بلوى وأي بلوى فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر إن هذا النظر يورث في قلبك حزناً طويلاً، فأنت لا تستطيع أن تفعل شيئاً، على الأقل أنت ملجمٌ بلجام الشريعة، ثم بعد ذلك لا تستطيع، حتى لو أردت معصية الله، أن تحصل على كل ما تريد، فيكون في ذلك حسرة في قلبك لا تنتهي أبداً، ويكون الإنسان إذا مرَّ من عنده شخص، حسن الصورة ذكر أو أنثى، فلم ينظر إليه أو لم يمعن النظر، ويطيله فيه؛ فإنه يعتقد أنه خسر بذلك شيئاً، وأنه فاته شيء كثير، لأنه لم ينظر إلى فلان! وكأن هذا الأمر أصبح حقاً مباحاً متاحاً له! وحينئذٍ تصبح العين تتحرك بصورة آلية، لا تحتاج إلى تفكير، ولا يجاهد الإنسان نفسه ولا يقاومها، ولا يستعيذ من الشيطان، بل كل ما في الأمر متى يتاح له أن ينظر إلى صورة حسنة جميلة صورة أمرد صورة امرأة، وهذا النظر يترتب عليه استحسان، وهذا الاستحسان يترتب عليه التمني، ويترتب عليه اشتياق ورغبة ولهفة، تتطور حتى تكون حباً، وربما تكون عشقاً، وربما يؤدي الأمر إلى ارتكاب الفاحشة، كما سبق وأن أسلفت، وعلى كل حال فمسألة العشق، وعشق المردان، هي إحدى المسائل التي سوف أعرض لها إن شاء الله الأسبوع القادم. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 38 نصيحة لشاب ترك الالتزام السؤال شاب عفيف كنت أسير معه في طريق الاستقامة، ثم تركه، وأعرض عنه، وأعرض عني، فما نصيحتك لي وله، وقد يكون من بين الحاضرين؟ الجواب أما نصيحتي له فهي أن يعود أدراجه إلى حيث كان، ويعود إلى الطريق الذي كان فيه، ومكانه ينتظره ليعود إليه، وهناك مصعد عمل في السماء، وموضع عمل في الأرض لهذا الإنسان، يجب أن يعود إليه، حتى يبكي عليه موضع عمله في الأرض، ومصعد عمله في السماء، إذا مات هذا الإنسان، قال الله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29] على هذا الإنسان أن يعود إلى الله تعالى، قبل أن يختم له بخاتمة سوء، فإن العبد لا يدري متى يهجم عليه الموت، والله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده في النهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها. أما نصيحتي لك أن تصادقه بإحسان، وترفق به اجلس معه تحدث إليه لا تكثر من تذكيره بالماضي يا فلان أنت كنت كذا وكنت كذا وعدت هذا الأسلوب المباشر ربما يؤذيه أو يجرحه أو يضايقه، وبالتالي يبتعد عنك، ولا يحب أن يراك، ولا أن يسمع منك هذا التقريع والتوبيخ تسلل إليه برفق هو يعرف كما تعرف، وعاش كما عشت، وجلس كما جلست، وصلى معك، وربما حضر حلقة، أو درساً، أو محاضرة، أو قرأ كتاباً، أو اشترك في مركز، أو غير ذلك. إذاً: هو يعرف كما تعرف أو أكثر، إنما يحتاج إلى من يخاطب قلبه بكلمات مؤثرة هادئة، ولو على المدى الطويل، فعليك ألا تسلمه للشيطان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تعينوا الشيطان على أخيكم} بل قف إلى جانبه في هذه المحنة والأزمة، وكن له صديقاً، وخلاً وفياً، وحاول أن تساعده في أموره الدينية والدنيوية، وفي حل مشكلاته ليبوح إليك بما في نفسه، وربما اكتشفت السبب فسارعت إلى علاجه. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 39 أساليب جماعة التبليغ السؤال بعض أفراد جماعة التبليغ يستخدمون أساليب في جذب الناس إلى جماعتهم، والخروج معهم، ما قولكم في ذلك؟ الجواب على الداعية أن يستخدم الأساليب الشرعية المباحة في الدعوة، فيحرص على دعوة الناس بالخلق الفاضل، والسلوك الحسن، ويصبر عليهم، فهذا لا بد منه، ومعاجلة بعض الشباب ورفع الأصوات، والسخط والتلون، التي يفعلها البعض، هي من أسباب النفور ومباعدتهم عن الخير وأهله فمهاداة هؤلاء القوم، وتأليف قلوب الشباب الشاردين لا بد منها، ولا شك أن للإخوة في جماعة التبليغ أساليب مؤثرة في هذا المجال، ولا بأس أن يستفاد منها. أما استخدام أساليب أخرى غير شرعية كأسلوب الكذب، كأن يكذب في حديث، أو حتى يكذب في الرؤيا، فإذا رأى شخصاً منحرفاً قال: رأيتك البارحة في المنام، وأنت خرجت من الظلمة إلى النور، وإذا قيل له لماذا كذبت؟ قال: حتى يهديه الله تعالى! يا أخي! الله تعالى غني عن هذا الكذب، وغني عن هذا الإنسان، والدعوة لا تكون بالحرام، بل يجب عليك أن تكون صادقاً واضحاً، وتبتعد عن مثل هذه الأساليب الملتوية، وإذا أراد الله تعالى بهذا الإنسان هداية فسوف يهديه، وإذا أراد له ضلالاً فمن يهديه من بعد الله، فلا داعي أن تحبط عملك بمثل هذه الأكاذيب. كما أن على الإخوة جميعاً من جماعة التبليغ وغيرهم، أن يحرصوا على طلب العلم النافع وتحري الأساليب الشرعية، والحرص على مواصلة إخوانهم من الدعاة، وتبادل الخبرات معهم، يستفيد هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 40 فيقوا يا شباب الصحوة السؤال اتقوا الله، ثم اتقوا الله يا شباب الصحوة! انتشرت الدشوش في القرى عندنا في القصيم، فيوجد عندنا الكثير والكثير وفي بيت واحد ثلاثة دشوش، والوعاظ نقوم الأشهر بعد الأشهر لا يأتي إلينا أحد منهم، لماذا؟ أما تستحون؟ أما تخجلون؟ فإن لم تفعلوا فاعلموا أن من صفات النفاق كثرة السماع وقلة العمل، فوالله يوجد خلق بالمئات هجروا الصلاة، وكثيراً من أمور الدين، أين أنتم يا حفظة القرآن؟! أين أنتم يا حفظة السنة؟! أين أنتم يا طلبة العلم؟! أين أنتم يا شباب الصحوة؟! بل هو الخمول والتكاسل! هذه الكلمة لأحد الإخوة. الجواب جزاك الله خيراً على هذا الشعور الحي والكلمات والسياط المؤثرة، وأرجو أن أسمعها أنا، ويسمعها إخواني من المقصرين، ليكون ذلك عوناً لهم على أن ينفضوا عنهم غبار النوم والكسل، وينطلقوا إلى الدعوة إلى الله تعالى. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 41 مشاركة هادفة السؤال سمعت من فضيلة الشيخ/ محمد المختار الشنقيطي أنه يقول: إن أحد الشباب -ويعرفه- من أهل التقى والصلاح وقيام الليل وقراءة القرآن, قد سافر إلى إحدى البلاد الغربية، وكان يغض بصره عما حرم الله، ولكن الشيطان قد أغراه فأطلق بصره نظرةً واحدة، فيقول للشيخ: والله إني لم أجد لذة قراءة القرآن منذ تلك النظرة! وقد ذكر ذلك في شريط "وصية إلى مسافر". الجواب نعم نظر نظرة فحرم بها لذة العبادة سنة. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 42 التأثر المؤقت السؤال كثير من الشباب، وكاتب هذا السؤال واحد منهم، حينما يسمع لمثل هذه المحاضرة يتحمس لها، ويحاول الالتزام، ولكن عند الخروج من المحاضرة كأن شيئاً لم يكن؟ الجواب المواعظ سياط تلهب الظهر وتوجعه، ولكن إذا هدأت السياط ذهب الألم، فعلى الإنسان أن يتعرض للمواعظ باستمرار، وعليه أن يعمل على أن يكون الواعظ في قلبه، فالقرآن واعظ، فعليه أن يديم النظر في القرآن، والموت واعظ، فمن لم يعظه القرآن، والموت فلا حيلة فيه، فعليك بزيارة القبور لترى الموت، وأنت غداً واحد منهم، وعليك بزيارة المستشفيات لترى المرضى بألوان الأمراض والآفات، وأنت سليم معافى، وربما تكون غداً من بينهم، وعليك أن تقرأ القرآن لتعلم ماضيك، وحاضرك، ومستقبلك، ودنياك، وآخرتك. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 43 الحل الأمثل لمكافحة انحراف الشباب السؤال ما هو الحل الأمثل لمكافحة الشباب الذين يقفون في الطرق لأغراض مشينة، علماً أنهم قد يكون آباؤهم وإخوتهم الكبار ملتزمين؟ الجواب هناك حلول كثيرة، منها: مناصحتهم مباشرة وبصورة فردية، ودعوتهم إلى أن يبتعدوا عن ذلك، وإلى أنهم مراقبون ومعروفون. ومنها مخاطبة أهاليهم وآبائهم وإخوانهم وأقاربهم، ليضغطوا عليهم بالكف عن ذلك. ومنها: أن يقوم إمام المسجد، والمؤذن، وطالب العلم في الحي؛ ويشكلوا لجنة تشرف على الحي، تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتدعو هؤلاء إلى الله، وتحذرهم مرة وأخرى، وثالثة، فإذا لم يستجيبوا رفعت بهم إلى الجهات المختصة، وتلتفت إلى هؤلاء الشباب الصغار، فتبين لهم مخاطر صحبة أولئك، وكيف يمكن أن يجروهم، فتقوم بعملية التوعية، وتقوم بعملية الحماية للمجتمع والحي من جهة أخرى. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 44 شاب عرف طريق الاستقامة السؤال لقد كنت من مدمني معاكسة الهاتف، ولقد أدى بي ذلك إلى ارتكاب بعض المعاصي، وبعد سماعي لبعض الأشرطة الخاصة، فتح الله على قلبي وعنوان الشريط هو "أهوال القبر" أرجو الدعاء لي ولإخواني الشباب بالهداية والسير على طريق الله تعالى؟ الجواب أسأل الله تعالى أن يثبتك على الهداية، وأن يهدي قلبك وقلوب إخوانك من الشباب، وأن يجعلكم هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، بل أسأله تعالى أن تكون من الدعاة إليه على بصيرة، وأن تكفر تاريخك الماضي بالدعوة إليه، ونشر الخير في أوساط أولاد جنسك. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 45 حكم من يتوب ثم يرجع إلى المعصية ثم يتوب وهكذا السؤال ما حكم من يفعل معصية، ثم يندم ويتوب، ثم يفعلها مرة أخرى، ثم يتوب، وهكذا، وما هو الحل والعلاج؟ الجواب عليه أن يبادر بالتوبة مرة أخرى، فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، حتى لو تكررت منه المعصية وتكررت منه التوبة، فإن الشيطان يأتيه أحياناً ويقول له: لا داعي للتوبة لأنك سوف تنقضها، كلا. بل عليه أن يتوب، حتى لو وقع في المعصية مرة أخرى، وأن يسارع إلى التوبة، ويستغفر الله تعالى، لئلا يكون مصراً على المعصية، كما قال الله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وكذلك عليه أن يستغفر الله عز وجل فيقول: "اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم" أو يقول: "ربِ إني ظلمت نفسي فاغفر لي"، أو ما أشبه ذلك من أدعية الاستغفار، والبراءة إلى الله عز وجل والتنصل من ذنبك وعيبك ومعصيتك، فإن الله تعالى قريب مجيب، وهو غفور رحيم، خاصة لمن أقلع، وتاب، وأناب إليه. وعليك أن تبحث عن السبب الذي يجعلك تقلع ثم تعود، وتقلع ثم تعود، فإن هناك سبباً ولا بد يدعوك إلى ذلك، قد يكون السبب العادة، فقد يكون هذا الأمر أصبح إدماناً بالنسبة لك، فعليك أن تتعلم العادات الحسنة، ليكن من عادتك التبكير إلى المسجد، وسماع الأشرطة، وقراءة القرآن، وصلة الرحم، وحضور جلسات الذكر، واجعل عاداتك كلها عادات حسنة. فالعادات مثل الأشجار التي يغرسها الإنسان في التربة، فتساهم في عدم انتقالها إلى مكان آخر، فتثبت وتبقى حيث هي، فتعلم العادات الحسنة، وحاول أن تتخلص من العادات السيئة. وقد يكون من أسباب ذلك قرناء السوء، فحاول أن تستبدل بهم القرناء صالحين، وتتخلص من قرناء السوء شيئاً فشيئاً، بل أن تدعوهم إلى الله تبارك وتعالى، وتجرهم إلى الخير والصلاح، وتأتي ببعض الصالحين لدعوتهم ونصحهم. وقد يكون من الأسباب أنك تعاني مشكلة في البيت مع زوجتك مثلاً، أو أبيك، أو قريبك، فحاول أن تحل هذه المشكلة، فإذا عجزت فحاول أن تبوح بها لبعض من تثق بعقله وعلمه ونصحه وخبرته، حتى يدلك على سبيل حلها وعلاجها. وبالمناسبة فإن درس الأسبوع القادم سوف يكون عنوانه "حور مع الشباب" وسوف أخصصه لمجموعة كبيرة من المشكلات التي وصلت إليَّ منذ زمن بعيد، وإذا وصل إليَّ شيء خلال هذا الأسبوع سوف أضيفه، ويكون عنوانه كما أسلفت "حور مع الشباب". الجزء: 148 ¦ الصفحة: 46 انتشار الموضة السؤال هذه رسالة من أحد الإخوة يقول فيها: ملاحظتان شاهدتهما بعيني بعد عصر يوم الخميس الفائت، في شارع الخبيب في بريدة، أرجو التعليق عليهما، وتوضيح كيفية تعامل الشباب في هذه الحالة. الملاحظة الأولى: لقد شاهدت مجموعة من شباب منطقة شرق آسيا، والظاهر أنهم من النصارى، وهم يلاحقون مجموعة من الممرضات اللواتي خرجن للتسوق، وهن أيضاً من نفس المنطقة، وهذه ظاهرة جديدة هنا تستدعي الوقوف عندها ومناقشتها، وإلا زادت وانتشرت وأصبحنا نراها كل يوم كما هو الحال في مناطق أخرى في هذه البلاد. التعليق: نعم! وهذا يوجب أن نقوم جميعاً بالمسئولية في هذا الباب، وألا يقتصر الواجب على جهاز رسمي خاص، فهو يقوم ببعض الواجب ويعجز عن بعض، فمسئولية إنكار المنكر والوقوف دونه مسئوليتنا جميعاً. الملاحظة الثانية: انتشار موضة لبس الثياب القصيرة، والقصيرة جداً، للبنات الصغار، فقد شاهدت ثلاث بنات صغار وهن يلبسن الثياب القصيرة جداً، إلى ما فوق منتصف الفخذ، وعندما توجهت إلى أبيهن لأنصحه، إذا هو يبادرني بقوله: ما في مشكلة أنا هندو، يعني: هندوسي كافر، وكأن حال لسانه يقول: لكم دينكم ولي دين! فتذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أترك فيها إلا مسلماً} وتذكرت أيضاً كيف أن إخوة لنا مسلمين يتمنون استخدام زوجاتهم ليحصنوا بها أنفسهم، ولكن هيهات! التعليق: على كل حال مسألة موضة انتشار الثياب القصيرة، والقصيرة جداً، أيضاً ينبغي أن نعالجها، سواء فيما يتعلق بالأسر المسلمة، أو ما يتعلق بالأجانب أيضاً، إذ يجب أن يلتزموا بأنظمة البلد وقوانينه المرعية، كما يلتزم أي إنسان يأتي إلى بلادهم بأنظمتهم، أما ما يتعلق بالهندوس وأوضاعهم وأحوالهم، فلا شك أن عندي وثائق كثيرة تتجدد يوماً بعد يوم، عن أوضاعهم في الجزيرة العربية وغيرها، وقد سبق أن وعدت أن أخصص درساً لهم، أسأل الله تعالى أن يكون ذلك غير بعيد. الجزء: 148 ¦ الصفحة: 47 حكم تزويج الشباب المنحرفين السؤال تقدم شاب لخطبة أختي وهو لا يصلي الفجر، ويتبادل الأفلام الهابطة مع أصحابه، ومشترك في محلات الفيديو، وأبي يرغبه لأنه قريبه فما العمل؟ الجواب لا شك أن من كمال الأمانة أن يحرص الأب ألا يضع ابنته إلا عند الرجل الذي يطمئن إلى صلاحه وتقواه، فإنها أمانة في عنقه، ينبغي ألا ينتقل بها إلا إلى البيت الذي يطمئن أنها سوف تربى فيه على طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وخاصة عندما تكون فتاة مؤمنة ملتزمة، فإن كثيراً من هؤلاء تعيش في بيت منحرف، فتضيق بذلك ذرعاً، فيأتي الأولاد فتشعر أن أباهم يؤثر فيهم أبلغ تأثير، ويسمع الزوج الغناء، فتضطر إلى السماع مثله، ويشاهد التلفاز والمسلسلات، فتشاهدها معه مضطرة، بل وربما تأثرت المرأة بخلق زوجها وسلوكه، فضاع كثير مما كانت تدعو إليه من قبل، وتعتز به، وإلى الله تعالى المشتكى، وهو وحده المستعان! الجزء: 148 ¦ الصفحة: 48 كيف نربي أنفسنا؟ خلق الله تعالى الإنسان قابلاً للخير والشر، وخلقه مفطوراً على الفطرة السليمة المستقيمة، وجعل الله تعالى وسائل الخير أكبر من وسائل الشر، من إرسال الرسل وإنزال الكتب وغيرها، فلا بد على الإنسان أن يسعى إلى تزكية نفسه وتهذيبها بكل ما يستطيع، فكيف يزكي الإنسان نفسه؟ هذا ما تكلم عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر أموراً يزكي بها الإنسان نفسه، منها: النية الصالحة، وطلب العلم النافع، والعمل بالعلم. ثم تكلم الشيخ سليمان العطيس وذكر أهمية التزكية، ثم ذكر خطر الشيطان الرجيم، وبين السبل التي يسلكها الشيطان ضد الإنسان المسلم بشيء من التفصيل. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 1 خلق الله الإنسان قابلاً للخير والشر قال الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله: إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] , {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] . أيها الإخوة، إن كثيراً من الناس -وخاصة في هذه الأزمنة- يتذمرون من كثرة الوسائل والأسباب والعوامل التي تدفع الناس إلى الشر والفساد والرذيلة والانحلال, ويقولون: إن هذا الزمان هو زمن الفتن والانحرافات, ويعللون جميع ما يرون من مظاهر الشر بهذا التعليل, ولو سألت أحداً منهم، فقلت له: ما هي عوامل الشر التي طرأت في هذا العصر؟ لبدأ يعدد عليك مما يعرف, أو يسمع من هذه الوسائل, وينسى هؤلاء القوم -في مجال تبرير ما يرون من الفساد- ينسون أن الله تبارك وتعالى، الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، خلقه قابلاً للخير والشر, قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] , وقال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:1-10] . والله سبحانه الذي خلق الإنسان بهذه الطبيعة، لم يخلقه ملكاً مجبولاً على فعل الخير, ولا شيطاناً وجهته فعل الشر، إنما خلقه إنساناً قابلاً للهداية وقابلاً للضلال, لم يترك هذا الإنسان سدى, يبحث عن الحق بنفسه, بل أوجد من الوسائل ما يعين هذا الإنسان ويرشده ويبين له الطريق. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 2 الإنسان مخلوق على الفطرة السليمة فأولاً: خلق هذا الإنسان على الفطرة السليمة المستقيمة, كما في حديث أبي هريرة، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مولود يولد إلا على الفطرة, حتى يبين عنه لسانه, فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أو يشركانه} إذاً: الإنسان خلق أولاً على الفطرة, وعلى الخير , ثم إن الله عز وجل جعل لهذا الإنسان من الآيات والدلائل، ما يرشده إلى الله تبارك وتعالى, وإلى الحق؛ الآيات في النفس والآيات في الكون وفي كل شيء، قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:21-23] . وهذه الآيات المبثوثة في النفس الإنسانية وفي الكون, لا يتأملها إنسان إلا آمن بالله عز وجل، حتى إن المشرك أو الكافر الذي لم يبلغه دين سماوي ولم يعلم ببعثة الرسل، إذا تأمل في هذه الآيات آمن بوجود خالق مبدع حكيم سبحانه, فضلاً عن المسلم الذي علم ببعثة الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام, ومع أن الإنسان خلق على الفطرة, وبث الله حوله من الآيات ما يدل عليه, ومع هذا وذاك فإن الله عز وجل بعث الرسل مبشرين ومنذرين, ليقيموا الحجة على الناس, ومع هؤلاء الرسل من الوسائل التي تساعد الإنسان على الهداية الشيء الكثير. معهم أنهم يدعوننا إلى الله الذي خلقنا ورزقنا, وهو الذي نرجع إليه في نهاية أمرنا, ومعهم أنهم يذكروننا بوجود الموت الذي لابد أن يلاقينا طال الزمن أم قصر, وأنهم يخبروننا بالجنة والنار، وما يتبعهما من جزاء وحساب وعقاب وثواب وغير ذلك, وهذه الأشياء هي وسائل قوية جداً في دعوة الإنسان إلى الخير, أقوى بكثير من وسائل الشر المبثوثة بين الناس اليوم, لو عمل الناس على تفهم هذه الأشياء ونشرها وإلقاء أسماعهم لها. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 3 وسائل الخير أكثر من الشر إن وسائل الخير أكثر بكثير من وسائل الشر, وإن كان الله عز وجل ابتلى هذا الإنسان بخلق إبليس وجنوده وأتباعهم من شياطين الإنس, الذين ينشرون الشر والرذيلة، ويدعون إلى الفساد والانحلال. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 4 تزكية الإنسان لنفسه ولذلك فإن الإنسان بحكم هذه الطبيعة القابلة للخير والشر, بحاجة إلى أن يبدأ بتزكية نفسه أولاً, بحاجة إلى أن يعلم أن الرسل كلهم -من أولهم إلى آخرهم- من لدن نوح عليه الصلاة السلام، إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أنهم ما بعثوا إلا لدعوة الناس لتزكية النفوس قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ} [البقرة:151] , {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129] . إذاً الرسل بعثوا للتزكية ,بعثوا لتقوية عوامل الخير في نفسك أيها الإنسان, {روى ابن عباس رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم أول ما بعث كان الناس يقولون عنه: "كاهن ساحر مجنون" فقدم رجل من العرب يقال له: ضماد، من قبيلة يقال لها: قبيلة أزد شنوءة, ودخل هذا الرجل مكة، فسمع الناس يقولون: محمد ساحر شاعر مجنون, وكان يتطبب ويستعمل الرقية، فيرقي من به جنون أو سحر أو غير ذلك, فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد، إني سمعت ما يقول الناس فيك, وإنني رجل أرقي, فهل لك؟ -أي: يعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرقيه, يقول لعل الله أن يشفيه على يدي- فلما فرغ من كلامه، قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الحمد لله" وقرأ خطبة الحاجة التي تفتح بها الخطب والكلمات والمناسبات وهي التي قرأتها في بداية هذه الكلمة، ولكنني أظن أننا لكثرة ما نسمعها صرنا نعتقد أنها شيئاً روتينياً لا ينتبه إليه, إنما ينتظر ما يأتي بعد, مع أنها من أفضل الذكر وأعظمه. قرأ الرسول صلى الله عليه وسلم على ضماد خطبة الحاجة، وخطبة الحاجة هي: {إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا إلى آخر الخطبة, فلما سمعها هذا الرجل، تأثر منها أشد التأثر, وقال: والله لقد سمعت الشعراء والسحرة والكهان فما سمعت مثل هذا الكلام, ولقد بلغنا قاموس البحر أو ناعوس البحر, ابسط يدك أبايعك فبسط الرسول صلى الله عليه وسلم يده فبايعه على الإسلام, وقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: وعلى قومك -أي: وتبايعني عن قومك أن تدعوهم إلى الإسلام فيسلموا- قال: وعلى قومي، وبايعه عن قومه وذهب إلى قومه فأسلموا, قال ابن عباس رضي الله عنه: فبعث الرسول صلى الله عليه وسلم سرية، فأصابوا هؤلاء القوم، فقال قائد السرية: إن هؤلاء قوم ضماد، وإنهم قد أسلموا، فهل أصبتم منهم شيئاً؟ قال رجل: أنا أصبت منهم مطهراً -أي إناءً يتطهر به- قال: ردوه، فردوه إليهم} . الجزء: 149 ¦ الصفحة: 5 وسائل تزكية النفس هذه الكلمة التي تفتتح بها المحاضرات والكلمات, هي أيضاً يجب أن نقف عندها قليلاً، وبالذات عند قوله صلى الله عليه وسلم: {ونعوذ بالله من شرور أنفسنا} ففي النفس شر, وقابلية للشر, وقابلية للوسواس والكيد, ولذلك صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم} . فشرور النفس هذه هي التي تقصد بالتزكية، أن يعمل الإنسان على دفع هذه الشرور ودرئها وإبعادها ما استطاع، عن طريق الوسائل الشرعية، من عبادة وطلب علم وغير ذلك. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 6 خلاصة ما سبق إذاً تزكية النفس تكون بأمور ثلاثة: أولاً: النية الصالحة الصادقة. ثانياً: العلم الصحيح، الموافق لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: العمل الموافق لهذا العلم. أسأل الله عز وجل -في ختام هذه الكلمة- أن يوفقني وإياكم إلى العلم النافع والعمل الصالح وأترك الفرصة للشيخ سليمان جزاه الله خيراً. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 7 طلب العلم النافع الوسيلة الثانية هي: طلب العلم النافع. وقد ظن كثير من الناس اليوم، بل ومنذ أزمنة طويلة، أن طلب العلم يعني معرفة الإنسان بالأحكام والفروع, وأن هذا مباح وهذا مستحب, وهذا مكروه وهذا محرم وما أشبه ذلك, أو أن الإنسان يقرأ القرآن أو يقرأ الحديث, وهذا ليس هو العلم فقط, هذا جزء من العلم, والعلم أوسع من هذا كله. كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوما جالساً في أصحابه، كما في حديث أبي الدرداء، الذي رواه الترمذي وقال حسن غريب، ورواه الدارمي عن عدد من الصحابة، في رواية أبي الدرداء رضي الله عنه وأرضاه: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم رفع رأسه مرة إلى السماء، ثم قال: هذا أوان يختلس العلم حتى لا يقدر منه على شيء. وكان هناك رجل من الأنصار، اسمه زياد بن لبيب، فقال: كيف يا رسول الله وقد قرأنا القرآن وعلمنا السنة، فوالله لنقرأنه ولنقرئه نساءنا وأبناءنا؟! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم -بلهجة المستغرب بما سمع- قال له: "ثكلتك أمك يا زياد " -أي: فقدتك وهذه كلمة لا يراد بها حقيقة معناها, إنما تجرى على الألسنة- "ثكلتك أمك يا زياد، إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة" -أي: كيف تقول هذا الكلام، وأنت تحسب من الفقهاء؟ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـ زياد: "هذه التوراة والإنجيل في أيدي اليهود والنصارى، فما أغنت عنهم} أي: لم تغنِ عنهم شيئاً، وهي موجودة في أيديهم قال جبير أحد رواة الحديث: [[فانطلقت إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء؟ قال ما يقول: فذكر له الحديث, فقال: صدق أبو الدرداء , لو شئت لأخبرتك بأول علم يرفع من الأرض -انظروا ما هو أول علم يرفع من الأرض؟ - إنه علم الخشوع]] . فهل نحسب نحن هذا من العلم؟ لا نحسبه من العلم, إنما يحسبه الناس اليوم من العبادات, فيقال: فلان عابد إذا كان مصلياً خاشعاً قانتاً, والآخر عالم، إذا كان عالماً بالأحكام التفصيلية, ولو لم يكن عابداً, ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفهمون العلم هذا, ولا كانت في القرآن والسنة هكذا مفاهيم العلم. بل كان مفهوم العلم عندهم أنه العلم الموصل إلى الله, أن تعرف شيئاً يقربك إلى الله, وأن تعلم مسألة فتعمل بها؛ لتدخل الجنة وتنجو من النار, هذا هو العلم عندهم. ولذلك الله تبارك وتعالى تعبدنا في كل ركعة من صلاتنا نفلاً أو فرضاً, أن نقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6-7] ولكن هذه -أيضاً- من الأشياء التي كررناها, حتى صرنا نقولها دون أن نعي معناها, ما هو صراط الذين أنعم الله عليهم؟ إنه المخالف لصراط المغضوب عليهم، والمخالف لصراط الضالين. الذي يتعلق بموضوعنا الآن، أن الله عز وجل حذرنا من طريقة اليهود, ومن كان على شاكلتهم, ممن يعلمون ولكنهم لا يعملون. فمن كان من هذه الأمة المحمدية، عارفاً بالحق ثم لم يعمل به؛ ففيه شبه كبير من اليهود, وهم المغضوب عليهم, لا أقول: هم المغضوب عليهم، كل من ضل واتبع الهوى وهو يعلم؛ غضب الله عليه, ومن هؤلاء اليهود، والسلف حينما عرفوا المغضوب عليهم بأنهم اليهود، قصدوا المثال ولم يقصدوا حصر المغضوب عليهم في اليهود, وإنما بقصد التمثيل فقط: من أمثلة المغضوب عليهم اليهود, وكل من عرف الحق فأعرض عنه فهو مغضوب عليه, إلا من رحم الله وتاب وأقلع عن هذا الأمر. وقد يقول قائل: نحن لا نعلم فأقول: نحن نعلم أشياء كثيرة، لم نستفد منها حق الاستفادة, نحن نعلم أننا سنموت ثم ننسى ذلك, ونعلم أن هناك بعثاً وحشراً، وجزاءً وحساباً، وجنةً وناراً وخلوداً, ومع ذلك ننسى كل هذه الأشياء، حينما يبرز لنا طمع من طمع الدنيا, أو حينما تتحرك في النفس شهوة من الشهوات, ونغفل عن هذه الأشياء كلها, وننشغل بما نحن بصدده, فهذا من العلم الذي يكون حجة على صاحبه. فلنعلم أننا مطالبون بأن نعمل، وما شرف العلم إلا بشرف العمل الذي يقود ويدعو إليه هذا العلم. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 8 الحرص على إضمار النية الصالحة وأول وأعظم وسيلة لتزكية النفس، وإبعاد هذه الشرور عنها, هي: أن يكون الإنسان حريصاً على إضمار النية الصالحة. فالنية كما يقول بعض العلماء مثل الإكسير, والإكسير هو: مادة عند بعض الطبيعيين، يزعمون ويدعون أنهم إذا وضعوا هذه المادة على مادة أخرى، فإنها تحولها إلى ذهب, فلو وضعوها على حجر أو غيره, فإنها تحول هذا الحجر إلى ذهب. أقول: إن النية هي في الحقيقة هذا الإكسير، الذي يوضع على الأشياء العادية، فيحولها إلى عبادات يؤجر عليها الإنسان, ويؤخذ من العبادات والأعمال الصالحة، فيحولها إلى أعمال مردودة يعاقب عليها الإنسان, عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الخيل لثلاث} يتكلم صلى الله عليه وسلم عن الخيل، وربط الخيل، ومن تكون الخيل له أجراً، ومن تكون له وزراً، فيبين أن مدار ذلك كله على النية: {الخيل لثلاث: الخيل لرجل أجره, ولرجل ستره, وعلى رجل وزره} فهي نوع من الدواب، بالنسبة لهذا وبالنسبة لهذا, الخيل هي الخيل لا تختلف، لكن هذا يربطها فيؤجر، وهذا يربطها فيأثم, ويربطها الثالث فلا يؤجر ولا يأثم. {فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، ربطها من أجل الجهاد في سبيل الله -فأطال لها في مرج أو روضة- أي: أطال حبلها في مرج أو روضة, فلو أنها قطعت طيلها -أي: قطعت هذا الحبل الذي ربطت فيه- فاستنت شرفاً أو شرفين -أي: قطعت هذا الحبل، فعادت وتجاوزت شرفاً أو شرفين من الأرض -ثم جاءت إلى نهر فشربت منه، كانت خطواتها له حسنات، وكانت أرواثها وأبوالها له حسنات، وكان ما شربت من هذا الماء له حسنات} هو لم يرد أن تشرب, ولم يرد أن تنطلق من هذا الحبل, ولكنها فعلت ذلك بغير إرادته، ومع ذلك فكل ما ترتب على هذا الفعل وهو ربط الخيل في سبيل الله، عده الرسول صلى الله عليه وسلم عملاً يؤجر عليه صاحبه، كما ذكر في هذا الحديث. حتى الأعمال التي لم يردها، ويمكن أن نقيس على ذلك فنقول: إن الإنسان لو خرج للصلاة، خرج من بيته لا ينهزه ولا يدفعه إلى الخروج إلا الصلاة, هنا كانت نيته صالحة وفي سبيل الله عز وجل, فلو كتب الله على يده في مسعاه هذا عملاً لم يرده, فإن من رحمة الله عز وجل أن يثيبه الله على هذا العمل، فلو خرج إنسان يريد شراً، إما سرقة أو إساءة أو معاكسة لامرأة أو غير ذلك, فرأى هذا الإنسان فأقلع عن عمله, فإننا نطمع أن يكون الله عز وجل يثيب هذا الإنسان، حتى في هذه الأعمال التي لم يقصدها, بل ربما لم يدر ولم يشعر بها, لأن أصل العمل ومنطلقه كانت نية الخروج إلى الصلاة، فأصل النية صالحة. هذا هو النوع الأول الذي ربط الخيل في سبيل الله عز وجل. والنوع الثاني هو: الذي ربطها مناوأة لأهل الإسلام, ومحادة لله ورسوله فهذا الفرس عليه وزره. وأما الثالث -الذي ليس له أجر ولا وزر- فرجل ربطها تغنياً وتعففاً، إما للتجارة وإما لغير ذلك من الأغراض العادية، التي لا تدخل في الدعوة إلى الله والجهاد في سبيل الله, ولا تدخل في مناوأة الإسلام وحرب أهل الدين, فهذا ليست الخيل له أجر ولا وزر، وإنما هي له ستره. فأنتم ترون أن العمل الواحد يثاب عليه شخص ويعاقب عليه آخر، ويكون بالنسبة للثالث لا خير ولا شر، لا ثواب ولا عقاب, وأعمال العبادات والشعائر من صلاة وصيام وزكاة وحج وغيرها, يجري فيها هذا الأمر أو قريباً منه, فقد توعد الله تعالى المصلين في كتابه الكريم، والصلاة عبادة في أصلها، فلماذا توعدهم؟ توعدهم لأنه وصفهم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:5-7] هذا المصلي، الذي قام بهذه العبادة من أجل الناس رياء وسمعة, يتمنى يوم القيامة أنه لم يصل, لأن الصلاة لم تزده من الله إلا بعداً ولم تزده في جهنم إلا سفلاً وتوغلاً. ولذلك توعد الله تبارك وتعالى المنافقين بأنهم في الدرك الأسفل من النار, تحت الكفار، مع أن المنافقين كانوا يصلون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويصومون معه في الظاهر، بل كانوا يجاهدون, بل منهم من يقتل في المعركة, ويظهر للناس الذين حوله أنه قتل شهيداً في سبيل الله, وهو لا يزداد بهذه الأعمال من الله إلا بعداً, ولا يزداد في جهنم ودرجاتها إلا سفلاً وانحطاطاً والعياذ بالله، مع أن أصل العمل عبادة، لكن افتقد الشرط الأساس وهو النية، الذي هو (إكسير) يحول الأعمال العادية إلى عبادات يؤجر عليها صاحبها. وقد كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يفقهون هذا المعنى فقد بعث الرسول عليه الصلاة والسلام أبا موسى الأشعري رضي الله عنه إلى اليمن، معلماً وقاضياً، ثم بعث صلى الله عليه وسلم في إثره معاذ بن جبل , فلما جاء معاذ رضي الله عنه، سلّم على أبي موسى، فوجد رجلاً مربوطاً عنده, وقبل أن ينزل عن راحلته قال: ما هذا؟ قال: هذا يهودي راجع دينه القديم, أسلم ثم ارتد إلى اليهودية والعياذ بالله، قال معاذ: لا أنزل عن راحلتي حتى يقتل، حكم الله ورسوله قال أبو موسى: نعم انزل، قال: لا أنزل حتى يقتل كأن أبا موسى قال له: إننا سنقتله فانزل وإننا لم نأتِ به إلا لنقتله، قال: لا أنزل عن راحلتي حتى يقتل فقتلوه ثم نزل معاذ رضي الله عنه, فتحدث مع أبي موسى رضي الله عنه، ما تفعل في صلاتك؟ ما تفعل في بيتك؟ فذكر معاذ رضي الله عنه وأرضاه من عبادته وقيامه في الليل شيئاً، ثم قال: [[وإني لأحتسب في نومتي كما أحتسب في قومتي]] وهذا الحديث فيالصحيح، أي: أنه يحتسب وهو نائم، من الأجر مثل ما يحتسب وهو يقظ يصلي, لأنه وهو نائم يشعر أنه في عبادة. ومعاذ من كبار فقهاء الصحابة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {معاذ إمام العلماء برتوة} والرتوة هي: مسافة من الأرض، وهذا فقهه وعلمه رضي الله عنه, أنه يحتسب في نومته كما يحتسب في قومته من العبادة, وهذا جزء من معنى قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] . فالنوم أخو الموت, فالإنسان وهو نائم يتقلب في فراشه، ويؤجر إذا كان نومه بنية صالحة؛ نام ليتقوى على عبادة الله, نام وهو يذكر الله, ونام على جنبه الأيمن متطهراً مستقبل القبلة, كلما تعار من الليل قال: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير", ثم إن استيقظ قام وتوضأ وصلى ركعتين، وعاد إلى فراشه وهكذا يتقلب في نومه، والملك يكتب له حسنات, وفضل الله أوسع وأعظم. هذه صورة من صور أثر النية في العمل، وكثير من الناس تجد عندهم صلاح النية والقصد، فتجد أنهم يبلغون بهذا العمل الطيب، الذي هو من أعمال القلب, يبلغون به ما لم يبلغ الآخرون المكثرون من العبادة والصيام والصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك, وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إذاً الأمر الأول والمهم في موضوع تزكية النفس وصلاحها، هو: إصلاح النية، وأن يكون الإنسان في كل ما يأخذ وما يدع, لا ينظر إلا إلى هم واحد وإلى أمر واحد, وهو أن يكون هذا الأمر في مرضاة الله تبارك وتعالى. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 9 كل إنسان يسعى لأن يزكي نفسه قال الشيخ سليمان حفظه الله. أحمد الله، وأصلي وأسلم على رسول الله وعلى آله وأصحابه, ومن اتبع هداه إلى يوم الدين. أيها الإخوة في الله: دائماً يسعى الإنسان بجهده إلى إصلاح نفسه وتزكيتها, ودائماً يتساءل: لماذا لا أستفيد كثيرا ًمن علمي؟ ولا أستفيد كثيراً من أعمالي التي أعملها وأكدح فيها ليلاً ونهاراً؟ ومقصودي في ذلك أولاً وآخراً هو رضا الله سبحانه وتعالى؟ والقدوم على الله على أحسن حال, وهذه أمنية وحال يتمناها كل إنسان, يتمنى أن يغادر هذه الدنيا, ويخرج منها بعمل صالح مقبول عند الله سبحانه وتعالى، يوافي به هذا الصندوق وهذا المكان الذي سينزل فيه ألا وهو القبر. وقد قدم أخي فضيلة الشيخ سلمان بعض الجوانب، التي كل مسلم بحاجة إلى معرفتها وإلى تفهمها, وتطبيقها، عملاً وقولاً، حسب وفق شريعة الله سبحانه وتعالى. قد يسأل كل واحد منا متى تكون النية خالصة لوجه الله الكريم؟ ومتى يكون العلم نافعاً؟ ومتى يكون العمل صالحاً؟ هل كل إنسان يمارس هذه الأشياء الثلاثة، يتساوى فيها إنسان وإنسان أم أن الحالة تختلف من إنسان لآخر؟ الجواب لاشك أن الإنسان إذا كان يريد نية خالصة يعمل بها الأعمال, تكون مقبولة عند الله سبحانه وتعالى, ويتقدم بهذا العلم الذي عمله، سواء أكان في المدرسة أم كان عند شيخ أم في أي مكان, متى يكون العلم نافعاً؟ والعمل الصالح الذي كل إنسان في هذه الحياة الدنيا -إلا من حجب عن رحمة الله سبحانه وتعالى- كل إنسان ينشد هذا العمل الصالح؛ ليواجه به ربه سبحانه وتعالى. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 10 المقصود بالتطهير والتزكية ما معنى التطهير والتزكية؟ التطهير والتزكية كما يقول ابن القيم رحمه الله: إن أفضل الأعمال وأرفعها هو مقام الصدقة؛ وذلك لأن الصدقة فيها أسرار، تختلف بين الناس من حال إلى حال، فالله سبحانه وتعالى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منهم صدقة ليطهرهم ويزكيهم بها, ولينظف قلوبهم من الأشياء التي اختلطت بها فأفسدتها. والله سبحانه وتعالى يرشد عباده المؤمنين إلى وسيلة من الوسائل، التي بها تزكو نفوسهم، وتزكو قلوبهم, فيقول سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30] والله سبحانه وتعالى يقول أيضاً: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] إذا جاء إنسان وطرق عليك الباب, وكان لك شغل, وأرجعت هذا الإنسان، فهل الخير في رجوع هذا الإنسان، أو الخير في غضب هذا الإنسان؟ فالله سبحانه وتعالى قال: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] فالذي يرجع ويعيد هذه الخطوات التي مشاها، لاشك أن هذا العمل هو أزكى له, والرجل الآخر، الذي إذا قيل له: ارجع، أصبح عنده ردة فعل وتغير وجهه, لا يكون هذا الرجوع هو زكاة له، لماذا؟ لأن قلب هذا يختلف عن قلب هذا. إذاً، فلنبحث عن قلوبنا، ونطهرها من الأخلاط التي حلت فيها, حتى تكون قابلة للخير. والحديث الذي ألم به فضيلة الشيخ، وهذه المعاني الجليلة التي ذكرها, تدعو كل واحد منا أن يتساءل: ما هي الوسائل التي أنظف قلبي بها وأزكي قلبي بها؟ والشيطان دائماً ينصب الشراك للإنسان, والشيطان دائماً هو الذي يجاهد الإنسان, ويحاول أن يطمس هذا القلب ويلوثه, ليصبح أسوداً، هذا هو حرص الشيطان، وهو دائماً في معركة مع الإنسان ليخرب هذا القلب ويصده، ويجعله مغلفاً، ويجعله مصفحاً، بل ويجعله منكوساً, كما هو قلب الكافر والمنافق والعياذ بالله. والشيطان دائماً يحرص على أن يصد هذا الإنسان عن الخير، فيشوه هذا القلب ويجعله أسوداً, ويجعل المعاصي تتراكم على هذا القلب ذنباً بعد ذنب, حتى يصبح الران وهو الغلاف الذي على القلب فيصبح القلب مغلفاً لا يقبل الخير، وإنما يقع فيه الشر قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:14-15] . والأمر المهم في التزكية هو أن ينتبه الإنسان دائماً إلى العداء الذي يبثه أصحاب العداء, ولا تظنوا أن هذا الأمر بسيط, لا والله. إن الذي يريد الخير لنفسه، ويريد أن يسلك صراطاً مستقيماً, وأن تكون نيته حسنة وعلمه نافعاً وعمله صالحاً, لا يستمر على الحال التي هو عليها. نحن بحاجة إلى أن ننظف قلوبنا عما حل فيها، يدعو الإنسان دائماً ربه سبحانه وتعالى ويصلي، لكن يشاهد أنه يدخل في هذه الصلاة، ويخرج من الباب، والصلاة لا تغير فيه شيئاً, لماذا؟ لأن قلبه غير متحرك وغير نظيف. يدعو الإنسان وربما أنه يستبطئ الإجابة، ويقول: دعوت دعوت فلم يستجب لي، وربما -والعياذ بالله- أن الإنسان ييأس من الدعاء ولا يدعو الله سبحانه وتعالى, لماذا؟ فتش عن قلبك يا أخي، تجد قلبك غير نظيف. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 11 أهمية تزكية النفس وتطهيرها الحديث عن تزكية النفس, وعن تطهير النفس, وإجلاء النفس من المعاصي والخبائث الدغل الذي حل فيها وموطن العلم والعمل وجميع الأمور، موطنها هو هذا اللب وهذا القلب, الذي تتكون فيه جميع الأعمال، التي تنطلق من هذا الملك وهذا القلب. هل يعمل الإنسان العمل أو يطلب العلم وقلبه غير نظيف؟ الجواب كلا. هل يفعل الإنسان ويتعب نفسه ويعمل أعمالاً صالحة، ويقضي ليلاً ونهاراً في طلب العلم، والقلب أسود؟ لا يجتمع هذا. بل لابد أن ينظف الإنسان قلبه من الأشياء التي حلت فيه, ولابد أن يزكي نفسه من الأشياء التي حلت فيها, إن الله سبحانه وتعالى يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] فأصبح أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم للصدقة من هؤلاء, أصبح فيها تطهير وتزكية. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 12 السبل التي يسلكها الشيطان لإضلال الإنسان الشيطان دائماً يعطي الإنسان الضوء الأحمر, ويريد إضلاله، وأن يصد هذا القلب، إن الشيطان ليغضب غضباً شديداً عندما يشاهد الإنسان يفعل أفعال الخير, ويحاول أن يطهر قلبه مما حل فيه, فيغضب وتشتد ناره إذا رأى الإنسان ولج هذه العبادة أو عمل العمل الصالح. يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {قد أفلح من هُدي إلى الإسلام، ورزق كفافاً، وقنعه الله بما أتاه} . الجزء: 149 ¦ الصفحة: 13 كثرة المباحات إن الشيطان إذا سول لك هذه المعاصي، وجعلك تتساهل في هذه الصغائر، ومع ذلك لا يتركك في المعركة لوحدك ولا ييأس، بل يسلك معك معركة سادسة، هذه المعركة هي: الإيغال في المباحات، التي ابتلي بها المسلمون اليوم، المباحات التي توغل فيها الإنسان فصدته عن كثير من الأمور المشروعة التي تطلب من الإنسان, يتصور الإنسان أنه إذا عمل مباحاً أنه طائع لله سبحانه وتعالى, وهذه حقيقة، ولكن الشيطان له حظ ونصيب من هذه المباحات, وذلك بأن يسول الشيطان للإنسان بأن يكثر من هذه المباحات، ويصده عن الأمور المشروعة الأخرى, بذلك يتساهل الإنسان ويصعد من درجة المباحات إلى درجة المكروهات, ثم ينتقل من درجة المكروهات إلى درجة المحرمات, ثم بعد ذلك يقع في الكبائر, يقع في المعركة الخامسة التي سنها له شيطانه، وبذلك يقع في الحرج ما لم يتب ويستغفر الله سبحانه وتعالى. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 14 تسليط الجنود والأعداء أما المعركة السابعة -وما أدراك ما المعركة السابعة! - التي لم يسلم منها أحد من المخلوقين أبداً، حتى الأنبياء والصالحون لم يسلموا من معركة الشيطان هذه، ألا وهي معركة تسليط الجنود والأعداء ذرية إبليس الذي إذا جلس على عرشه في البحر أرسل جنوده, فتسلط على عباد الله وعلى أوليائه, ومن ضمنهم الأنبياء والصالحون, فالأنبياء والصالحون لا يسلمون من تسلط جنود الشيطان, وإغوائه. ولكن الأنبياء والصالحين، لهم معهم جهاد وعراك فيما بينهم, فالذي يعمل الأعمال الصالحة، ويرى أن شيطانه يصده عن الأعمال الصالحة, لِيَعْلمْ أن له أسوة بالأنبياء, فالأنبياء لم يسلموا من هذا، بل جاهدهم الشيطان وذريته حتى يصدهم عن هذا العمل, ولكنهم وقفوا ورفعوا سيوفهم تجاه الشيطان وذريته, فأبطلوا كيده. يقول: الله سبحانه وتعالى في معرض التمدح للذين يخرجون يجاهدون في سبيل الله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} [النساء:100] المراغمة من أين تكون؟ المراغمة تكون من الشيطان الذي أرغمه بهذا العمل, ودائماً الله سبحانه وتعالى يذكر أن الأعمال الصالحة التي يعملها الإنسان ويجاهد فيها الشيطان, أنها تغيظ الشيطان والكفار. الكفار تابعون للشيطان، وهم من أعوان الشيطان, فهذه ساحات ومعركة، ربما أني لم أوفها حقها من الكلام، ولكنكم تصورتم ما أقوله وما أنشده في هذا، وأقول: إن الشيطان دائماً يجاهد الإنسان، ودائما يريد أن يضله. فعلى الإنسان أنه يجاهد عدوه (شيطانه) في هذا، وأختم هذه الكلمة التي أرجو من الله سبحانه وتعالى أن ينفعني وإخواني بها كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يجنبنا كيد الشيطان وضلاله, إنه سميع مجيب. وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 15 صغائر الذنوب هذه أربع ساحات في الحرب، ثم هل يتركه الشيطان؟ لا بل ينتقل معه إلى ساحة خامسة, ألا وهي الصغائر التي يعملها الإنسان ولا يبالي بها، وهذه الصغائر التي يعملها الإنسان هي ما لم تصل إلى حد الكبيرة, وقد مثل لها العلماء: أن الصغيرة هي مثل النظرة التي ينظر بها الإنسان إلى محرم, أو الخطوة التي يخطو بها, أو البطشة التي يبطش بيده, أو بأذنه التي يستمع بها إلى محرم, قال العلماء: إن هذه صغيرة، ولكن إذا توغل الإنسان وباشر المعصية واستمر فيها، تحولت الصغيرة إلى كبيرة, وكما يقال: لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار. وبعض العلماء قال: إن الإنسان ربما يتهاون بهذا العمل؛ فتكون الصغيرة أقبح من الكبيرة، ولا شك أن الصغيرة هي أقل درجة من الكبيرة, ولكن متى تكون الصغيرة أقبح من الكبيرة؟ قال العلماء: إذا استجاب الإنسان لنداء الشيطان، وتساهل بالمعصية ولذلك يقول بعض العلماء -وهذا مثل أصبح راجحاً عندهم-: "إن الإنسان ليعمل الحسنة يدخل بها النار, ويعمل السيئة يدخل بها الجنة"، فهل هذا الكلام صحيح أو غير صحيح؟ يعني هل الإنسان إذا عمل حسنة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى يدخل بها الجنة أو يدخل بها النار؟ قال العلماء: إن هذا المعنى صحيح حيث إن الإنسان دائماً يعمل المعصية ويأخذه التهاون بهذه المعصية, فتصبح المعاصي عنده حقيرة كما جاء في الأثر الذي فيه تشبيه حالة الكافر أو المنافق إذا عمل المعصية كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا فطار، فلا يبالي الكافر بالمعصية, فالمسلم إذا تهاون بالمعصية سواء كانت صغيرة أم كبيرة, فإن هذا الأمر عظيم عند الله سبحانه وتعالى. وربما أن الإنسان يكون طوال عمره مواظباً على الأعمال الصالحة، ولكن يعمل سيئة واحدة, قال العلماء: يدخل بها الجنة. فكيف أن هذا المؤمن الذي يعمل عملاً صالحاً ويعصي هذه المعصية يدخل بها الجنة؟ إن المعصية لا يدخل بها الجنة, بل تقرب من النار, لكن هذا المؤمن لما عمل هذه المعصية، أصبحت بين حاجبيه وبين عينيه, وأصبح يرى هذه المعصية -ولو كانت صغيرة- أصبح يراها ويتصورها كأنها جبل عظيم، يكاد أن يسقط على رأسه. فما تزال هذه المعصية بين عينيه، فدائماً يلح ويستغفر الله سبحانه وتعالى، فيعفو الله سبحانه وتعالى عن هذا الإنسان. فيجب على الإنسان ألا يتساهل في المعصية أياً كانت، ولا يفتح المجال لنفسه بالتساهل في المعاصي, فما أهلكنا وأبعدنا وما أمرض قلوبنا، بل أماتها التساهل بالمعاصي, وهذا الجانب جانب عظيم لابد أن ينتبه له كل إنسان منا. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 16 المعاصي والكبائر التي يعملها الإنسان ثم إذا نجى الله سبحانه وتعالى الإنسان، وعصمه باتباع السنة من البدعة, هل يترك الشيطان الإنسان في المعركة، أم يسلك معه معركة ثالثة؟ ينتقل الشيطان من هذه المعركة الثانية إلى المعركة الثالثة، وهي معركة المعاصي والكبائر التي يعملها الإنسان, ومن منا يا إخواني اليوم لم يعمل المعاصي والكبائر؟ المعاصي والكبائر هي التي تلوث القلب، والتي تفسده, وهي التي تحبط الأعمال, والتي تزيد في ظلمة القلب, ويصبح القلب بعيداً عن الخير قريباً من الشر, وكل معصية يعصيها الإنسان مثل هذه (اللمبة) الكبيرة المكونة من أربعين (لمبة) هذه اللمبة الكبيرة هي مثل القلب, كل لمبة تُطفأ يزيد الظلام، إلى أن تنطفئ هذه اللمبة الكبيرة فيصبح هذا الضوء أسود. فكذلك القلب كل معصية وكل كبيرة يعملها الإنسان تنكت نكتة سوداء، وتجعل بعدها نكتة سوداء, حتى يصبح القلب أسود من أثر هذه المعاصي والكبائر. والشيطان له غرض من الإنسان بإدخال هذه المعاصي وهذه الكبائر. ومن ضمن هذه المعاصي التي يعملها الإنسان، والتي ابتلى بها كثير من المسلمين -هداهم الله- والمعاصي والكبائر كثيرة، وليس هذا المجال مجال طرح لهذه الأشياء. إنما من المعاصي التي تهاون بها المسلمون اليوم، هي التهاون بالصلاة, فالتهاون بالصلاة كبيرة من كبائر الذنوب, والشيطان له أربع حالات مع الإنسان في التهاون بالصلاة وترك الصلاة: الحالة الأولى: أن يصلي الإنسان في بيته -كما يحصل لبعض الناس- فيصلي الإنسان في بيته، وبذلك يخرج عن الأوامر التي أمر الله سبحانه وتعالى عباده أنهم يصلون في جماعة المسجد, والذي يصلي في بيته قد خرج عن الأوامر, ولكن هل يطلق على الإنسان الذي يصلي في بيته أنه كافر؟ الجواب نقول: لا, لا يطلق عليه أنه كافر, ولكن يطلق عليه أنه مرتكب لهذه الكبيرة من كبائر الذنوب. الحالة الثانية: أن يصلي الإنسان أحياناً ويتركها أحياناً، سواء كان تهاوناً وكسلاً, أم كان جحوداً. فالإنسان إذا تركها أحياناً وفعلها أحياناً -كما يحصل لبعض الناس- فإن هذه كبيرة أعظم من الكبيرة الأولى, ولكن الإنسان لا يوصف بالكفر ما لم يتركها بالكلية. الحالة الثالثة: إذا ترك الإنسان الصلاة ولم يصلها, فهل هذا الإنسان يحكم عليه بالكفر أم لا؟ هو لا شك أنه أشد من المرحلتين السابقتين, ولكن لماذا يحكم على هذا الإنسان بأنه كافر؟ هل لأنه ترك الصلاة؟ نقول: يحكم عليه بأنه كافر؛ لأن أصل الإيمان الذي في قلبه مفقود، فإذا فقد أصل الإيمان حل بدله الكفر, ولذلك إذا ترك الإنسان الصلاة يحكم عليه بالكفر. الحالة الرابعة: أن يترك الإنسان الصلاة، ويقول لا أصلي أبداً, وأعجب من هذه الحال أن يدعى الإنسان إلى الصلاة، بل تعصب عينا الإنسان، ويرفع السيف فوق رأسه، ويقال له: تصلي وإلا قتلناك! فيقول: لا أصلي أبداً! فهل هذا الإنسان يحكم عليه بأنه ارتكب معصية، كما في الحالة الأولى, أو أنه كافر بالله سبحانه وتعالى؟ لا شك أنه أشد هذه المراحل، وأنه يكون كافراً بالله سبحانه وتعالى, وهذا من عمل الشيطان ومن وسوسته. ثم هل الإنسان إذا عمل هذا الشيء يتركه الشيطان؟ لا. بل يزيد الشيطان من إغوائه، ولكن إذا تاب واستغفر الله سبحانه وتعالى من هذا تاب الله عليه. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 17 إخراج الإنسان من الإسلام أول عقبة يسلكها الشيطان، وأول ساحة حرب يسلكها الشيطان مع الإنسان، هي: أن يخرجه من دائرة الإسلام, التي نحن -ولله الحمد- الآن يحسدنا أعداؤنا عليها. هذه الدائرة التي نحن في وسطها ولله الحمد -دائرة الإسلام ودائرة الإيمان- هي والله لا تفرح الشيطان، بل تغضبه, ونحن في جهاد معه, والشيطان إذا رأى الإنسان كافراً بالله سبحانه وتعالى استراح من متابعه، وإذا كان الإنسان كافراً خلى الشيطان بين الإنسان وبين أتباعه وجنوده, وقال: دعوكم من هذا الإنسان فقد استرحنا منه, لماذا؟ لأنه أصبح كافراً في هذه الحياة الدنيا, ويوم القيامة سيكون حطباً لنار جهنم, فليس للشيطان غرض في هذا الإنسان, ولكن إذا عصم الله سبحانه وتعالى الإنسان بالهداية إلى دين الإسلام, التي رتب عليها الفوز والفلاح، وهذه نعمة -والله يا إخواني- ما يحسدنا عليها إلا صنف واحد, وهو الكافر الذي لم يهتدِ إلى هذا الإسلام, ولم يهده الله سبحانه وتعالى إلى هذا الإيمان. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 18 البدع التي يعملها الإنسان ثم بعد ذلك إذا رأى الشيطان الإنسان مؤمناً بالله ولم يكفر، هل يتركه في المعركة؟ لا, بل يسلك معه معركة غير هذه المعركة, وهي معركة البدع التي يعملها الإنسان. والبدع التي يعملها الإنسان للشيطان غرض ونصيب منها، سواء كانت بدعاً في الأقوال, أم بدعاً في الأعمال, والعالم الإسلامي اليوم مصاب بهذا الداء، وهو داء البدع، سواء ما يتعلق بتغيير حكم الله سبحانه وتعالى, أو ما يتعلق بالاعتقاد وهذا من الأقوال, أو ما يتعلق بالرسوم والعبادات والمظاهر التي يتعبد الإنسان بها ربه سبحانه وتعالى, وتسمى هذه بدعة الأفعال. أيها الأحبة: الشيطان يفرح ويستبشر إذا رأى الإنسان يعمل البدعة, بل يزداد فرحه إذا رأى الإنسان يعمل ويدعو لهذه البدعة, كما يحصل لأناس جعلوا أنفسهم في هذا المضمار، يقول ابن القيم رحمه الله: إن بدع الأعمال وبدع الأقوال حصل بينهما عرس، فلم يفاجأ العريسان -أي: بدعة الأفعال وبدعة الأقوال- إلا وولد الزنى بينهما، فرجعت الخليقة المسلمة تجأر إلى الله سبحانه وتعالى بالبعد عن ولد الزنى المولود. أتدرون ما هو ولد الزنى؟ الذي تولد من بدعة الأقوال وبدعة الأعمال؟ ولد الزنا هي هذه الأعمال التي يستحسنها الإنسان, ويجعلها صالحة وهي غير صالحة، لماذا؟ لأنها كانت تخالف الأعمال الصالحة, وتخالف النهج الذي شرعه الله سبحانه وتعالى. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 149 ¦ الصفحة: 20 أفضل العلوم أجاب على هذا السؤال الشيخ سلمان بن فهد العودة. السؤال فضيلة الشيخ: ما هي أفضل العلوم التي يحتاجها الإنسان؟ الجواب إن أفضل العلوم هي ما يحتاجه الإنسان كل بحسبه, فطالب العلم غير المتمكن في الطلب غير طالب العلم المبتدئ, وغير العامي, وكل إنسان من هؤلاء يحتاج إلى نوع من العلم هو الذي يقوده إلى العمل, ففيما يتعلق بالعامي -مثلاً- يجب عليه أن يتعلم العلوم التي يحتاجها في عباداته, يتعلم الصلاة, كيف يصلي كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي, ليس كما عهد الناس يصلون, بل كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يصلي, وماذا يقرأ من الأدعية والأذكار, وما معنى كل ذكر أو دعاء منها. وإنني أذكر مجلساً من المجالس, كان فيه عدد من إخواننا الصالحين, ولكن ممن لم يوفقوا في طلب العلم, فتساءلنا عن معنى الأدعية والأذكار التي يقولها الإمام, أنت تردد في صلاتك في الصلاة الواحدة مرات كثيرة, تردد أدعية ربما لو سئلت؛ لوجدت أنك لم تفقه معناها, فما معنى ترديد؟ يضرب بعض العلماء مثلاً لمن يردد الشيء دون أن يفقهه برجل ذهب إلى طبيب, فشكا إليه صداعاً في رأسه, فقال له الطبيب: إن علاجك هو كذا وكذا وذكر له نوعاً من العلاج, كالإسبرين مثلاً, فهذا الرجل بدلاً من أن يذهب ويشتري هذا العلاج ويتناوله, بدأ يردد هذه الكلمة، فيقول: إسبرين إسبرين، وظن أنه بذلك سيشفى قد تضحكون من هذا المثال، ولكن واقعنا في كثير من الأحيان هو هذا المثال, ومع ذلك لا نضحك من واقعنا. فكثير من المسلمين لو سألته عن معنى (السبحان) لما عرف معنى السبحان: سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي العظيم, لوجدته لا يعرف. ولو سألته عن معنى التحيات لله, ما معنى التحيات, ما هي التحيات لله؟ لما عرف, ولو سألته وهو يقول: أهل الثناء والمجد, بعدما يرفع رأسه من الركوع يقول: ربنا ولك الحمد أهل الثناء والمجد, أحق ما قال عبد, وكلنا لك عبد, اللهم لا مانع لما أعطيت, ولا معطي لما منعت, ولا ينفع ذا الجد منك الجد, لو سألته عنها, قال لك: والله لا أدري هذا إن كان علم بأنها مسنونة ومشروعة وكان يقرءوها, فضلاً عن أن يفقه معاني الآيات القرآنية التي يقرءوها. فأقول: تعلم الصلاة وأحكام الصلاة وما يتعلق بها فرض عين على كل مسلم، ويجب أن يبدأ بها ثم إن كان عنده أمر آخر كالزكاة, فيجب عليه أيضاً أن يتعلم ما يتعلق به من أحكام, وكذلك إذا جاء الصيام، يتعلم أحكام الصيام, ثم الحج إلى آخر ما يتعلق به من أمور الدين. وقبل هذا كله، من الطبيعي أنه مسلم ومعناه: أنه لابد أن يعرف عقيدته, أن يعرف معنى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر, وأن يعرف الأمور المهمة فيما يتعلق بأمور الإسلام, وأعتقد أن المجال لا يتسع لذكر أكثر من ذلك, وهذا كمثال كما ذكرت للعامي. أما طالب العلم، فبإمكانه أن يستزيد من العلوم في كل مجال, ويعرف الأصول والفروع، والأدلة وصحة الأدلة، والمراجع في ذلك كثيرة معلومة. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 21 مجاهدة الشيطان أجاب على هذا السؤال الشيخ سليمان حفظه الله السؤال فضيلة الشيخ سليمان قد يكون الشخص في نيته قاصداً كل خير, لكن يرد عليه طرق من طرائق الشيطان فيصرف نيته في تلك الحالة, هل يعمل على مدار نيته والقصد منها أم يترك العمل في نفس الوقت، وإذا أعادها وسوس له وجعله ينشغل عن قصده فما هو السبيل؟ الجواب أرشد هذا السائل إلى ما حدثنا به الصادق المصدوق، فدائماً يحدث هذا الشيء, والشيطان -كما أشير في الحديث السابق- له المعارك الكثيرة, التي يريد أن يصرف الإنسان عن أي عمل يعمله وقد أخبر صلى الله عليه وسلم، عن حالة أناس استقرت النية في قلوبهم, وأصبحوا وهم جالسون في مجالسهم، يبلغون في جلوسهم مثل الذين يعملون ويكدحون ويسيرون, وقد أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله في حديث طويل: {إن قوماً بالمدينة، ما سرتم مسيرة ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم حبسهم العذر} وهؤلاء فيمن حبسهم العذر لا شك أن هذا العذر عذر شرعي، يعذرون فيه, والله سبحانه وتعالى عالم لو أنهم انطلقوا من هذا العذر أو انفكوا من هذا العذر لصاروا وعملوا مثل ما عمل إخوانهم. ولكن إذا كان الإنسان يعمل العمل, ويتجه بهذا العمل لله سبحانه وتعالى، ويسير ثلثي الطريق في هذا العمل, ثم في بقية الطريق يأتي الشيطان ويصده ويخالفه في هذا العمل, لا شك أن الإنسان من أول وهلة عليه أنه يجاهد ويراغم ويكيد عدوه، ولا يستسلم لعدوه من أول مرة, وينهزم في أول معركة مع عدوه, بل عليه أن يجاهد العدو, فهو بجهاده لهذا العدو الذي يريد أن يحبط هذا العمل هو مأجور من هذه الناحية، مأجور لمجاهدته لهذا العدو, فإن أكمل عمله، وتغلَّب على هذا العدو, فالحمد لله هذا خير على خير, وإن لم يكمل عمله ولكنه جاهد العدو وبذل جهده في مجاهدة العدو فالله سبحانه وتعالى يؤتيه ويجازيه على قدر هذا النصيب الذي بذله. والقلب هو الملك، والأعمال هي التي تكون صورة طبيعية لما في القلب، فمدار الأعمال كلها على ما في القلب، والإنسان لا يتساهل أبداً في الأعمال الصالحة التي يعملها, ولا يقول: أخشى أن يصلني في هذا العمل خطر من الشيطان, أو مكيدة من الشيطان، يجب على الإنسان ألا يستسلم للعدو, فلو أن الإنسان أراد أن يتصدق بصدقة، فأدخل يده في جيبه وأراد أن يخرج الدراهم, بدا له في هذا الأمر أنه لا يتصدق على هذا الرجل, يقول له الشيطان: هذا الرجل غني، هذا الرجل فيه كذا وكذا, هذا الرجل لا يستحق، إلى آخر هذه الأشياء, فيترك الصدقة، هذا الإنسان استسلم لعدوه من أول معركة, لكن الإنسان إذا جاء الشيطان، وسول له بهذا الأمر، ثم جاهد الشيطان وأخرج هذه الدراهم, فهو يؤتى أجراً على هذه الصدقة, وعلى هذه المجاهدة المطلوبة, لذلك، والله سبحانه وتعالى يوفقني وإياكم في أن نرغم أنف الشيطان في هذا العمل، ونستمر في عملنا, ولا يتغلب علينا. كيد الشيطان لأبينا آدم وأمنا حواء معروف، والله سبحانه وتعالى قد شرع التوبة بعد هذا الكيد, وشرع أن الإنسان يجاهد عدوه بعد هذا الكيد, وأعطانا الصورة والطريق، وما بقي علينا إلا أن نعمل وألاَّ نستسلم لعدونا, فهو والله لا يريد الخير لنا. إلا أن الشيطان أحياناً يكون مثل الكلب -أعزكم الله- علاجه في هجرانه، وعدم الالتفات إليه، ولذلك فإن الإنسان إذا وسوس إليه الشيطان، فهجر هذه الوساوس واستمر في عمله, فإن الشيطان حينئذٍ يرجع مدحوراً ولا يعيد المحاولة, لكن إذا لاحظ أن الإنسان بعدما وضع الشيطان عنده هذا الشك في النية، ضعف حماسه للعمل أو ترك العمل؛ فإن الشيطان سيكرر المحاولة معه. فأنصح الأخ السائل وغيره من الناس، أنه -كما أشار الشيخ- إذا أقدم على عمل وأصل النية عنده لله, فجاء الشيطان يحاول أن يشككه في هذه النية, ألاَّ يلتفت للشيطان أصلاً, وألاَّ يستقر في قلبه أصلاً إلا نية العمل الصالح, لا نية الرياء أو السمعة أو غير ذلك. فإن الشيطان يكون رابحاً في الحالين, وإن استقرت نية الشر والرياء, فهذه مصيبة، وإن ترك الإنسان العمل الصالح, فهذا ما كان الشيطان يتمناه ويطلبه. أستودعكم الله سبحانه وتعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 22 أنواع تزكية النفس أجاب على هذا السؤال الشيخ: سليمان حفظه الله. السؤال ذكرت أنه لابد من تزكية النفس، فماذا نقول في قوله تعالى "ولا تزكوا أنفسكم"؟ الجواب بسم الله الرحمن الرحيم: ذكر العلماء رحمهم الله أن التزكية على نوعين: النوع الأول: التزكية بالعمل، وهو المطلوب للإنسان، أن يزكي نفسه بالعمل الصالح. النوع الثاني: التزكية بالإخبار، وهذا هو المنهي عنه في قوله سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] وقوله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] إن الإنسان عندما يطلق العنان لنفسه في ناحية العمل الصالح, فيكبر هذا العمل الصالح في عينه, ويكبر هذا العمل الذي يقدمه, ثم بعد ذلك إذا جاء أي أمر من الأمور، من ناحية المدح, بذل نفسه في هذا، وقال: أنا وأنا وأنا, فهذا هو التزكية المنهي عنها. أما التزكية المطلوبة، وهي من ناحية العمل، فالإنسان لابد أن يزكي نفسه ويطهرها, ومعنى التزكية: الطهارة والنماء والزيادة قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:28] أي: أطهر لقلوبكم, فالإنسان عندما يسعى في هذا المجال ويصلح ويزكو قلبه, ويكون محلاً للتوسل, وللذكاء, وللفراسة, التي ذكرها العلماء. قلوب الناس تختلف، بعض العلماء يصبح قلبه يدرك الأمور من بعد, كما حصل لـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن يكن في أمتي محدثون فـ عمر} بمعنى: أن عمر فيه حداثة قوية, وفيه معرفة لبعض الأمور التي لم تقع وهي في علم الله سبحانه وتعالى, ولكنه يدرك ذلك, ولذلك يقول: وافقت ربي في ثلاث وذكر هذه الثلاث التي وافق الله سبحانه وتعالى بها، فيتحدث بها عمر، بناء على قوة الحدث الذي عنده. هنا نسأل من أين أتاه هذا الحدث؟ ومن أين أتاه التخمين الذي يدرك الإنسان في هذا الأمر؟ يدركه من طهارة القلب, ولذلك في سورة الحجر، الله سبحانه وتعالى لما ذكر قصة قوم لوط قال في آخر القصة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر:75] والمتوسمون -كما قال العلماء- هم النظار, وقال بعضهم: هم المتفرسون, وقال بعضهم: هم المعتبرون, والاعتبار والنظر وهذه الأشياء وما في معانيها لا تأتي من القلب الذي يزكَّي، بل تأتي من القلب النظيف, فمعنى تزكية النفس هو: طهارتها من ناحية العمل, لا من ناحية الإخبار, ففرق بين الأمرين، ومن أراد الاستزادة عليه أن يرجع إلى كتاب ابن القيم رحمه الله في إغاثة اللهفان، في الجزء الأول، في الباب السابع حول هذا الموضوع. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 23 من وسائل التزكية أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة حفظه الله: السؤال ما هي وسائل التزكية؟ الجواب إن من وسائل التزكية: مجاهدة النفس في الداخل, وحرص الإنسان على استحضار النية في كل عمل يعمله بقدر الإمكان. ومن الوسائل: حرص الإنسان على الاستتار بالأعمال التي يمكن الاستتار بها، فيحرص على أن تكون أعماله خفية عن أعين الناس, وألا يحرص على إظهارها. ومن الوسائل: الإكثار من الأعمال الظاهرة، كالصلاة والصيام والصدقة وغيرها, لأن هذه الأعمال الظاهرة -كما ذكرت- لها تعلق وتأثير في القلب. ومن الوسائل المفيدة والمهمة: كثرة الدعاء فإن الإنسان إذا دعا؛ انكسر قلبه لله تبارك وتعالى, ولذلك من أعظم أحوال العابدين حال الدعاء, لأن الإنسان قد يصلي وهو يشعر أحياناً والعياذ بالله، أو يغويه الشيطان فيجعله يشعر بأنه يدلي على الله بهذه العبادة, بأنه قد أتى إلى الصلاة، في حين أن غيره من الناس لا يأتي, لكن بطبيعة الحال إذا كان يدعو يشعر بالانكسار, ويشعر بالفقر والحاجة والضعف, وأنه يدعو الملك القوي القادر, الذي بيده مقاليد كل شيء. فمن أرقى وأعظم أحوال العابدين حال الدعاء, والدعاء قد جرب في شفاء كثير من أمراض القلوب, ويبقى بعد هذا وذاك، أن الإنسان يجب أن يعلم أنه لن يصل إلى حال يرضى عليها من النية حتى يلقى ربه, حتى يموت, وهو يجاهد الشيطان في هذا المجال, ويوم يلقي المؤمن السلاح، ويرى أنه قد انتهى وجاهد الشيطان -كما تفضل الشيخ- فإنه حينئذ يكون قد حكم على نفسه بالهزيمة في هذه المعركة. ولعلكم سمعتم جميعاً قصة الإمام أحمد رحمه الله، وهو المجاهد الذي سطر صفحات من الصبر في سبيل الله عز وجل, ومن التقوى والورع, والعبادة, إذا قرأتم سيرة هذا الإمام، تذكرتم سير أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وأحيلكم فيما يتعلق بترجمته على ما كتبه الإمام الحافظ الذهبي في تاريخ الإسلام, ونقله الشيخ أحمد شاكر في مقدمته لمسند الإمام أحمد, فقد ذكر ترجمة وقصصاً وأخباراً عجيبة لهذا الإمام. الشاهد: أنه في مرض موته أغمي عليه، فكان يقول: بعدُ بعدُ فلما صحا من إغمائه, قيل له: يا إمام، إننا سمعناك تقول: بعدُ بعدُ، قال: إن الشيطان قد عرض لي يقول لي: فُتَّني يا أحيمد، نجوت يا أحيمد نجوت يا أحيمد , الشيطان في المرحلة الأخيرة -مثلما تفضل الشيخ- في تصوير المراحل، يريد أن يظفر من الإمام أحمد -على الأقل- في لحظة بسيطة من لحظات الإعجاب بالنفس, شعوره بأنه قد فات الشيطان ونجا، لكن الإمام أحمد لقوة إيمانه ومجاهدته للشيطان في طول حياته, نجاه الله في هذا الموقف فكان يقول: بعدُ بعدُ، أي: لا، ما نجوت ما دامت الروح في الجسد, وهذا مصداق قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت:30-31] قال بعض المفسرين: تتنزل عليهم الملائكة حال الاحتضار، ألاَّ تخافوا مما أمامكم, ولا تحزنوا على ما خلفتم وراءكم, وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 24 صلاح النية يؤثر في صلاح العمل أجاب على هذا السؤال فضيلة الشيخ: سليمان حفظه الله السؤال هل صلاح النية يؤثر في صلاح العمل؟ الجواب أيها الأحبة، اعلموا أن صلاح النية يؤثر في صلاح العمل، وصلاح العمل يؤثر في صلاح النية, وقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} . هذه بعضها أعمال ظاهرة, أو يترتب عليها أعمال ظاهرة, فالمحبة يترتب عليها إلفة وزيارة ومؤاخاة ومصاحبة ومساعدة وغير ذلك. كما أن حب الاستمرار على الخير والصلاح والإسلام، وكراهية العودة إلى الكفر يترتب عليها محافظة على شرائع الدين وأوامره ونواهيه. كما أن محبة الله ورسوله يترتب عليهما تكاليف كثيرة جداً. الجزء: 149 ¦ الصفحة: 25 فضائل آخر الزمان الأمر يختلف من زمان إلى آخر، وكما يكون الناس يولى عليهم، ولا ينبغي إلغاء اللوم على الزمان عند حصول مالا يحمد ولا سبه، علماً أن هناك مميزات لهذه الأمة في كل تاريخها، وأنها لا تخلو من الصالحين الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 1 التفاوت بين زمان وزمان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الأحبة عنوان هذه الكلمة هو: (فضائل آخر الزمان) ولعل الكثيرين منا لم يسمعوا عن آخر الزمان إلا الذم والعيب، حتى صارت هذه الكلمة عذراً كبيراً لتقبل وتسويغ كل الأخطاء والمخالفات، والقعود عن أداء الواجبات، فحسبنا أننا في آخر الزمان، ولعل سامعاً يسمع هذا العنوان، فيقلب رأسه يمنة ويسرة، ويقول: الله المستعان! هذه من موضوعات آخر الزمان. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 2 من أشراط الساعة (رفع العِلْم نعم نحن نفرق -ولا شك- بين زمان وزمان، فالزمان مختلف، وكلما بعد العهد بالناس، وطال الأمد قست القلوب، ورفع العلم ووضع الجهل، وضعفت أنوار النبوة، ويكفيك حديث أنس المتفق عليه في صحيح البخاري، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم، ويثبت الجهل، ويشرب الخمر، ويفشو أو يظهر الزنا} وقوله عليه الصلاة والسلام: {أن يرفع العلم} تحتمل معنيين: المعنى الأول: أن يكون بمعنى: قبض أهل العلم، وموت العلماء، حتى لا يبقى في الأرض عالم، وحتى يقل بين الناس نشر العلم وتداوله وهذا هو المعنى الأقرب، بل لعله المعنى الصحيح، ولذلك جاء في رواية أخرى، في الحديث نفسه: {أن يقل العلم} بدل من قوله: {أن يرفع العلم} ويؤيده قوله -أيضاً-: ويظهر الجهل، فكلما رفع العلم وزال حل الجهل محله. وهناك معنى آخر للحديث: أن يكون المقصود برفع العلم: (رفع مكانة أهله) ، وأن يعظم حملته، وأن يعلى قدرهم، وما ذلك -أيضاً- إلا لقلتهم وندرتهم بين الناس فإن الناس كلما قل العلم والعلماء، احتاجوا إلى من يكون في المرتبة الثانية أو الثالثة. ولهذا جاء بعض الشباب إلى بعض السلف يسألونه، فقام فزعاً ينفض ثوبه، ويقول: احتيج إلي، احتيج إلي، إن زماناً يحتاج إلي فيه لزمان سوء. وقال آخر يعاتب نفسه ويخاطبها: وما سدت فيهم أن فضلك عمهم ولكن الحظ في الناس يقسم يعني: ما كان سؤددك لفضلك، وإنما لقلة وندرة العلماء العاملين والدعاة والمصلحين فهذا -أيضاً- معنىً محتمل، وكلا المعنيين يعودان إلى الإشارة إلى قلة العلم وندرته في آخر الزمان، وقبل قيام الساعة. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 3 تفاوت مستوى التكاليف بحسب الزمان والمكان إذاً: نحن لا نجادل أن الزمان يختلف، وأن الأمر يتفاوت بين عصرٍ وآخر، ولذلك فليس صحيحاً أن نطالب المسلم في هذا القرن بنفس مستوى المطالبة التي كانت في القرون المفضلة التي شهد النبي صلى الله عليه وسلم بخيريتها، ولا أن يطالب المسلم في جوار البيت العتيق، وفي عواصم العالم وحواضره بمثل ما يطالب به المسلم في جمهوريات الاتحاد السوفيتي -مثلاً- أو في يوغسلافيا، أو في مجاهل أفريقيا حيث يقل العلم، ويقل الكتاب، وتندر مجالس الذكر، ولا يكاد الناس يقفون من ذلك على جلية من الأمر أو بينة؛ فإن الحساب في الدار الآخرة يكون بقدر ما أعطاك الله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} [الطلاق:7] . وقال عز وجل في الآية الأخرى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] . فالغني الذي أعطاه الله تعالى مقاليد المال، ليس المطلوب منه في العطاء كالمطلوب من الفقير الذي لا يملك إلا قوت يومه وليلته وهكذا العلم في شأن العالم، فالعالم غزير العلم يطالب بما لا يطالب به طويلب العلم، وطويلب العلم يطالب بما لا يطالب به العاميون من الناس، وهكذا الأمر بالنسبة للمجتمع أو المجموعة أو الأمة، وإن شئت فقل: إن الأمر الذي يطالب به الناس في القرون التي كثر فيها العلم والعلماء، وذاع واشتهر وشاع، ليس كالزمان الذي تقلص فيه العلم وقل حملته ودعاته، لكن مع هذا، ومع اعترافنا بالتفاوت بين هذا العصر وغيره من العصور، وبين مكان ومكان، إلا أن ذم الزمان وعيبه، لا يجوز أن يكون تكئة للقعود وترك العمل، ونشر العلم والدعوة والجهاد في سبيل الله تعالى، هذه مسألة. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 4 ذم آخر الزمان والمسألة الثانية: ذم آخر الزمان لقد وردت أحاديث كثيرة في ذم آخر الزمان، وذم أهل ذلك الوقت، وهذه الأحاديث ليست موضوعنا الليلة، فهي تراجع في كتب الفتن والملاحم وأشراط الساعة وغيرها، وقد أكثر أهل العلم من ذكرها وتخريجها، ولعل من أبرز هذه الأحاديث -على سبيل المثال مما يناسب المقام- الحديث المشهور، الذي رواه مسلم وغيره {إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبا للغرباء} وهذا الحديث: أكد أن الأمر سيعود كما بدأ، غربة للإسلام مستحكمة، وقلة في الدعاة والعلماء، ولكن تلاحظ في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد متى يقع هذا، أو متى يكون زمان الغربة؟ هل هو في القرن الثالث أو الرابع أو الخامس أو العاشر أو العشرين، أو ما بعد ذلك؟! هذا أمر الله تعالى أعلم به، ولذلك فتطبيق هذا الحديث على واقعٍ بعينه زماناً أو مكاناً، مما هو موضع اجتهاد وتأمل، ولا يستطيع أحدٌ أن يجزم ويقطع بأن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، اللهم إلا ما يتعلق بالأزمنة التي تكون قبيل الساعة حينما يبعث الله تعالى الريح الطيبة، فتقبض أرواح المؤمنين، ولا يبقى إلا شرار الناس، وحين يتهارجون تهارج الحمر، وعليهم تقوم الساعة، فإنه لا شك أن ذاك الزمان من الأزمنة التي استحكمت فيها غربة الإسلام بكل وجه. كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدد في ذلك الحديث: هل يكون بعد الغربة الثانية تمكين للإسلام وعزٌ لأهله أم لا؟ وإن كان قوله: {وسيعود غريباً كما بدأ} يومئ ويوحي بأن الغربة الأخيرة التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، غربة لا عز بعدها للمسلمين. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 5 خيرية القرون الأولى إن هذه النصوص وغيرها كثير، تقتضي -بلا شك- التسليم بخيرية القرون الأولى، وأفضليتها، وهذا محل إجماع، فقد جاء في الصحيحين من حديث عمران وابن مسعود وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم} الحديث، فليس من شكٍ في أن تلك القرون قد ذهبت بالخيرية والفضيلة، لقربها من عهد النبوة، وحملها للرسالة، وحفظها للقرآن والسنة، وجهادها في سبيل الله، وتثبيتها في أمر الإسلام، ولكن ليس في شئ من الأحاديث المذكورة، ولا فيما يشبهها حكم على جميع الناس، في جميع العصور وفي جميع الأزمنة، ولا في شئ منها تسويغ للقعود وترك العمل، أو وصم الأمة كلها بوصمة الانحلال من ربقة الدين، أو الانحراف عن شريعة سيد المرسلين عليه صلوات الله تعالى وسلامه. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 6 المروج والاختلاف في آخر الزمان ومثله -أيضاً- الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن وغيرهم، وذكره البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {كيف أنت يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس قد مرجت عهودهم، وخفت أماناتهم واختلفوا فكانوا هكذا، -وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه- فقال: ما تأمرني يا رسول الله، قال: تأخذ ما تعرف وتدع ما تنكر، وتقبل على أمر خاصتك وتدع عوامهم} فهذا الحديث فيه: أن الناس قد يصيرون إلى هذا الأمر الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم حثالة من الناس، مثل الحثالة التي في آخر الإناء، قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا واضطربوا وتشابكوا، وكثر بهم القيل والقال، ولكن -أيضاً- نلاحظ في هذا الحديث أموراً: أولاً: أنه -مع ذلك- هناك بقية من أهل الخير والهدى يدعون إلى الأمر الأول وينهون عن الفساد في الأرض، ولمثل هؤلاء جاء التوجيه النبوي أن تقبل على خاصتك، وتذر العامة، وأن تأخذ ما تعرف، وتذر ما تنكر. ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن هناك خاصة للمؤمنين وللدعاة، وهؤلاء الخاصة هم القريبون منهم الذين انتفعوا بعلمهم ودعوتهم وجهادهم، فهداهم الله تعالى وبصرهم وأرشدهم، فكانوا دعاة يقيمون الحجة على العالمين، وهؤلاء يجدون من الروح والسعادة والإيمان واليقين في قلوبهم، ما لا يجده حتى المجاهدون في ميادين المعارك -أحياناً- فإن الله تعالى ينزل عليهم من برد اليقين، ولذة العيش في الدنيا ما يعوضهم خيراً مما فقدوه من الناس، فهم وإن كانوا قلة في عددهم إلا أنهم كثرة في قوة إيمانهم وصبرهم ويقينهم وتعززهم بالإيمان، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] . الجزء: 150 ¦ الصفحة: 7 لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه ومن الأحاديث الواردة في ذم آخر الزمان، ما رواه البخاري، عن أنس رضي الله عنه، قال: {لا يأتي زمان إلا والذي بعده شرٌ منه؛ حتى تلقوا ربكم، سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم} فهذا الحديث صريح في أن الزمان كلما بَعُدَ العهد، قلت فيه الخيرية وكثر فيه الشر، فالذي بعده شرٌ منه، وهذه قاعدة عامة، وليس المعنى أنه عام أقل مطراً من عام أو أقل خصباً، أو أقل خيراً من حيث الدنيا، وإنما المقصود من الناحية الشرعية وهذه القاعدة يقابلها قواعد أخرى أثبتت أن للأمة -أيضاً- أزمنة يكثر فيها الخير، ويأذن الله تعالى بتجديد الدين وإحياء الشريعة، وإقامة الملة العوجاء، ودعوة الناس وجمعهم على الحق والخير والهدى. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 8 وجود المتمسكين بالدين وقت الغربة وحتى في هذه الأحاديث (أحاديث الغربة) فيها معنى مهم؛ وهو أنه مع وجود الغربة، ومع كثرتها ومع استحكامها، إلا أن الحديث أشار إلى وجود المتمسكين بالدين، الرافعين لرايته، المنافحين عنه، وهؤلاء يقومون بالدعوة والإصلاح، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فطوبى للغرباء} وفي بعض الروايات أنه وصف الغرباء {بأنهم النزاع من القبائل} وفي رواية أخرى وصف الغرباء بأنهم: {الذين يصلحون إذا فسد الناس} وفي رواية: {الذين يصلحون ما أفسد الناس} وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {هم قوم صالحون قليل في أهل سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم} فقد ذكر عليه الصلاة والسلام أنه حتى في أزمنة الغربة، هناك دعاة مصلحون، يأمرون الناس بالبر، ويأمرون بالمعروف، فيطيعهم من يطيعهم، ويعصيهم من يعصيهم، وإن كان العصاة لهم أكثر من المطيعين. والكثير من الناس لا يفقهون من معنى أحاديث الغربة إلا أن الإسلام سيعود غريباً، وأن هذا الأمر عذرٌ لهم في القعود، وعذر لهم في ترك العمل، وعذر لهم في ترك الجهاد، ولا يفقهون، ولا يطمعون؛ أن يكونوا من الغرباء من النزاع من القبائل من الذين يأمرون بالقسط من الناس، فيعصيهم من يعصيهم ويطيعهم من يطيعهم من الموعودين بطوبى: وهي الخير الكثير الطيب المبارك في الحياة الدنيا، بالتوفيق والتسديد والتصبير والتثبيت، وفي الآخرة بشجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 9 سب الزمان مسوغ للعجزعن العمل إن كثيرين قد أساءوا فَهْم هذه النصوص، وأصبحوا يرددونها بغير وعي منهم، ويسلكون بها طرائق أهل الجاهلية. وهي أن الكثيرين يسوغون ما هم عليه من قعودٍ عن الدعوة والجهاد، ويكثرون من عيب الزمان وذمه، وينحون باللائمة على الأيام والليالي، معتمدين على هذه النصوص وعلى ما أشبهها وقد أكثر الأدباء والشعراء، بل وبعض المحدثين، وبعض الفقهاء من ذم الزمان وعيبه، قال محمد بن الحسين اللخمي: دهرنا دهر افتراقٍ ليس ذا دهر تلاقي قَلَّ من يلقاك إلا بسلام واعتناق فإذا وليت عنه بِنْتَ منه بطلاق وهذه الأبيات نقلها الإمام الخطابي، مستحسناً لها مقراً، ومثله -أيضاً- الإمام ابن حبان في كتابه نزهة العقلاء، فإنه نقل أبياتاً منها قول بعضهم: كنا على ظهرها والعيش ذو مهل والدهر يجمعنا والدار والوطن ففرق الدهر بالتصريف ألفتنا فاليوم يجمعنا في بطنها الكفن كذلك الدهر لا يبقي على أحدٍ تأتي بأقداره الأيام والزمن الجزء: 150 ¦ الصفحة: 10 كما تكونوا يولى عليكم ولعل من أكثر ما يقصدون بفساد الزمان؛ فساد السلطان أو الحاكم وغير ذلك، يقول الله تعالى في محكم التنزيل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] . فبين الله عز وجل أن فساد السلطان من فساد الرعية، وأن الله تعالى بحكمته جعل الوالي منسجماً مع الرعية في قدر صلاحه أو فساده، أو عدله أو ظلمه، أو علمه أو جهله، وغير ذلك من الصفات والخلال. فلما كان الناس في العصور الأولى أهل صلاح واستقامة وهداية، سخر الله تعالى لهم أمثال أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، فلما اختلفوا اختلفت ولاتهم عليهم: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونََ} [الأنعام:129] . وأما الحديث المشهور: {كما تكونوا يولى عليكم} ؛ فإن هذا الحديث ضعيف رواه الديلمي في مسند الفردوس عن أبي بكرة ورواه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي اسحاق السبيعي مرسلاً، ولا يصح، لكن تغني عنه الآية، فإنها دليل صريح على أن هناك تناسباً بين وضع الحكام وبين وضع الشعوب. فلو نظرنا إلى مستوى الشعوب؛ لوجدنا أنه منطبقٌ تماماً مع الحكام، نعم وهذا أمرٌ لا يشك فيه عاقل؛ لأن الشعب -أي شعب- لو كان قوياً فطناً فهماً عادلاً راسخاً، لكان يؤثر تأثيراً يقينياً في نوع الذين يحكمونه، ولم يكن يتمكن أحد -ممن هو مخالف لهذه الخصال- أن يصل إلى مستوى عالٍ في الإدارة والحكم في تلك الشعوب؛ لكن عندما تكون الشعوب شعوباً ضعيفة مستخذية ذليلة جاهلة، فإنها تستسلم لكل حاكم، وتقر له، وتذعن له، ولا تؤثر فيه، ولا تغير من قراراته؛ لأنها قد رضيت بالهوان والصغار؛ ولأنها رضيت بالحياة الدنيا من الآخرة. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 11 من عجيب ما نقل عن فساد آخر الزمان والغريب أن الإمام الخطابي رحمه الله عقد باباً سماه (باب فساد الزمان وأهله) ، ثم ساق فيه نصوصاً في غاية العجب! أذكر نموذجاً منها قال: عن حذيفة رضي الله عنه، أنه قال: [[ما أبالي بعد سبعين سنة لو دهدهت حجراً فوق مسجدكم فقتلت منكم عشرة]] سبحان الله! حاش لصحابي من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام أن يقول مثل هذا الكلام، وأن يتعمد أن يسقط حجراً على من؟! هل على أهل الغناء واللهو والطرب؟! كلا. هل على أهل السوق الذين يبيعون ويشترون؟! كلا، بل على أهل المسجد فيقتل منهم عشرة بغير ذنبٍ، وهو الذي سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث} والحديث الآخر: {حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله فإذا قالوها عصموا عني دماءهم وأموالهم إلا بحقها} وهذا الأثر عن حذيفة لا شك أنه أثرٌ مكذوبٌ، يقطع العاقل بكذبه، ومع ذلك فإن في إسناده رجلٌ مجهول. ومثله -أيضاً- أنه نقل عن جعفر بن محمد -وهو جعفر الصادق - أنه قال: [[إذا كانت السنة ثلاثين ومائة، فخير أولادكم البنات، وخير نسائكم العقر]] . فأما البنات فيا حبذا ميلاد البنات! فلسنا من أهل الجاهلية الذين إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، بل نحن نفرح بميلاد البنات؛ لأن فيهن من العون والتوفيق والتسديد في الدار الآخرة لمن رباهن وقام عليهن الكثير، وهن ممن يتقرب الإنسان إلى الله تعالى بحفظهن ورعايتهن والقيام عليهن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم} وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفرح ببنته فاطمة، ويقوم لها إذا أقبلت، ويقبلها بين عينيها ويجلسها في مكانه، وكانت من أشبه الناس به صلى الله عليه وسلم في حركاتها ومشيتها وكلامها وسلوكها وهديها وغير ذلك فيا حبذا أمر البنات!! ويا حبذا ميلاد البنات، والتشاؤم من البنات من شأن الجاهلية؛ لكن -أيضاً- المؤمن يفرح بالذكور، لأنهم المرابطون على الثغور، ولأنهم المجاهدون في سبيل الله، ولأنهم المنكَبُّون على حلق العلم؛ ولأن فيهم من الخير الشيء الكثير، وأيضاً المؤمن يفرح -عموماً- بالذرية، ويدعو الله عز وجل: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74] . ولو لم يكن له ذرية لم يكن لهذا الدعاء معنى، وقد حبب وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة المرأة الولود الودود، وكان أفضل هذه الأمة أكثرها نساء، وكان عليه الصلاة والسلام يفرح بالأولاد، ويؤتى بهم إليه فيضعهم في حجره ويقبلهم، وربما مضغ شيئاً من التمر، فوضعه في أفواههم وحنكهم به ودعا لهم وبارك عليهم، وسماهم إلى غير ذلك من المظاهر التي تدل على فرح الرسول صلى الله عليه وسلم بولادة أو ميلاد أحد من المسلمين ذكراً أو أنثى؛ وأن ذلك تكثير للأمة، وإرغام للكافرين، وهذا حكم باقٍ إلى قيام الساعة. ومثله -أيضاً-: أن الإمام الخطابي، نقل عن ابن أبي ليلى، أنه قال: سيأتي على الناس زمان يقال له (زمن الذئاب) ، فمن لم يكن في هذا الزمان ذئباً أو كلباً؛ أكلوه. وهذا الكلام هو من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل، ولم يأتِ فيه نص من كتاب الله، ولا حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من الظن والتوقع الذي لا دليل عليه. ومثل ذلك: أنه رحمه الله نقل عن علي بن خالد الضبي، أنه كان يقول لزوجته أو غيرها: أقلي علي اللوم يا أم مالكٍ وذمي زماناً ساد فيه الفلافس وساع مع السلطان ليس بناصحٍ ومحترس من مثله وهو حارس ويقصد بالفلافس هذا: رجلاً كان مديراً للشرطة في وقته، وكان رجلاً سكيراً عربيداً مشهوراً بالفساد، فيقول: كيف آل الأمر إلى أن يكون هذا الرجل سيداً يمشي مع الأمير ومع السلطان، ويظهر النصيحة، وفي الواقع أنه ليس بناصح. فذكر الإمام الخطابي مثل هذه النصوص وغيرها كثير، مما يدل على فساد الزمان. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 12 ذم الزمان مخالفة للشريعة إن ذم الزمان وعيبه وشتمه منهج مخالف للشريعة من وجوه عدة: الجزء: 150 ¦ الصفحة: 13 عيب الزمان ليس حجة في التقصير إذاً: عيب الزمان ينبغي أن لا يكون سبباً في التستر على العيوب والأخطاء، والسكوت على ألوان التقصير التي نقع فيها، سواء كان هذا التقصير -تقصيرنا كأفراد- في القيام بالمسئوليات الفردية التي حملنا الله تعالى مثلاً: المسئولية تجاه الزوجة، أو الولد أو في العمل الوظيفي، أو الحكومي المسند إلى الإنسان، أو في واجب الدعوة والجهاد، أو في واجب التعلم، أو في واجب المناصرة لقضايا المسلمين، أو في أي واجب من الواجبات الفردية أو كان هذا التقصير على مستوى الجماعات الإسلامية، التي حملت على عاتقها أمر الجهاد، وأمر الدعوة إلى الله عز وجل، فكان حرياً بها أن تعد للأمر عدته بحسن التربية للأفراد، وحسن الإدارة والتنظيم، والقدرة على إقامة المؤسسات الإسلامية في المجالات الاقتصادية، وفي المجالات الدعوية، وفي المجالات الإعلامية، وفي المجالات الإدارية، وفي غيرها من المؤسسات التي تستطيع أن تستثمر إمكانيات المسلمين استثماراً صحيحاً، وتصل إلى عقولهم وقلوبهم، وتقارع وتواجه كل قوى الكفر والشر والطغيان والعداوة للإسلام أو كانت هذه المسئولية مسئولية الدول، التي نيط بها بناء شعوبها وإعدادهم إعداداً صحيحاً، وإقامة الاقتصاد النظيف القوي، البعيد عن هيمنة القوى الشرقية أو الغربية، وإقامة الجيوش التي لا تكون مهمتها إهدار كرامة الشعوب ولا تخويفها، وإنما مهمتها حماية الحصون والثغور، وحماية البلاد، وحماية مكاسب الأمة من أعداء الأمة الخارجيين كاليهود والنصارى والمنافقين والشيوعيين والعلمانيين وغيرهم وهكذا هي المسئوليات الكبيرة المنوطة بالأمة وبالجماعة وبالفرد؛ فلا يجوز أبداً أن نتهرب من الاعتراف بتقصيرنا وبخللنا وبإهمالنا وبغفلتنا، ونتعلل من ذلك كله بكلمة واحدة نلقيها، دون أن نحسب لها حساباً (الله المستعان! هذا زمان الغربة) !. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 14 ذم الزمان فيه التنصل من المحاسبة والمعاتبة ثانياً: إن في نسبة الشيء إلى غير فاعله تنصلاً من المحاسبة والمعاتبة وتحمل المسئولية، والكثيرون يرون أنه لا مسئولية عليهم، ولا عبء على كواهلهم، وأنه آن الأوان لهم ليعتزلوا الناس ويتركوهم حيث قد فسد الزمان، قال قائل: هذا الزمان الذي كنا نحاذره في قول عمر وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يفرح بمولد والشرع صريح في مسئولية الإنسان، وعتابه وتكليفه بكل شيء من الأمور الاختيارية، والزمان ما هو إلا وعاءٌ وإناءٌ وظرفٌ لأعمال الناس؛ سواء كانوا أفراداً أم جماعات أم دولاً أم شعوباً أم غير ذلك، يقول الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] ويقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الانسان:2] ويقول: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ [الانشقاق:6-7] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق:10] . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته الحديث} وفي حديث أبي الدرداء عند أهل السنن {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة؛ حتى يسأل عن أربع} الحديث. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 15 الإنسان مسئول عن كل أعماله أقول: كل أعمال الإنسان فرديها وجماعيها على مستوى الشعوب، وعلى مستوى الجماعات؛ الإنسان مسئول عنها كلها، بل حتى بعض الأشياء التي قد يبدو لأول وهلة أنها أمور قدرية ولا يد للإنسان فيها، فعند التأمل يبدو أن للإنسان دوراً كبيراً في حدوثها على سبيل المثال: الأمراض الوبائية التي تنتشر في كثير من الأحيان: لو تأملت؛ لوجدت أن سبب هذه الأمراض. ربما كان الحروب المدمرة التي ألقت بكثير من الجثث على سطح الأرض، دون أن يمكن مواراتها في التراب، أو أن السبب في ذلك: تلوث البيئة بدخان المصانع، أو تلوث البحار بالمخلفات الصناعية وغيرها التي تلقى فيها، حتى ثقب الأوزون الذي يتكلم عنه العلماء، والذي يقولون: أنه يهدد الكرة الأرضية، وقد يكون سبباً في كثرة أو ارتفاع منسوب المياه، وفي تغيرات كثيرة، ويتحدثون عنه بشيء من المخاوف، حتى هذا الثقب -حين يتكلمون عنه- تشير كثير من الدراسات العلمية إلى مسئولية الدول الصناعية وغيرها، وإلى أن كثيراً من الأشياء التي يستخدمونها كانت سبباً لها. إذاً: الشرع واضح وصريح في مسئولية الإنسان عن أفعاله، فردية كانت أو جماعية، على مستوى الشعوب أو على مستوى الحكومات. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 16 ذم الزمان فيه تزكية للنفس ثالثاً: إن ذم الزمان وعيبه، فيه معنى تزكية النفس ومدحها، فإن ذمك أيها الإنسان للزمان، ربما يعني ذم أهل الزمان، وكأنك تخرج نفسك من دائرتهم، وتخص ذاتك بفضيلة ليست لهم نعم كانت عائشة رضي الله عنها وأرضاها تتمثل بقول لبيد: ذهب الذين أعيش في أكنافهم وبقيت في جلد كجلد الأجرب يتحدثون مخافة وملاذةً ويعاب قائلهم وإن لم يشغب كانت تقول ذلك؛ لكن! من يكون في مثل عائشة، ومن يكون في عيار عائشة؛ فضلاً وتقوىً ونبلاً وعلماً وفصاحةً وعبادةً وإيماناً، وإخلاصاً لله عز وجل؟! فحين يقول الواحد منا مثل هذا؛ كأنه يزكي نفسه ويمدح نفسه، والله تعالى يقول: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم:32] ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النساء:49] . كما أن كثيرين قد أصابهم داء التعاظم وداء العجب، فهم يزكون أنفسهم ويدَّعون صلاح قلوبهم ونياتهم ومقاصدهم، فيقول الواحد منهم: علم الله تعالى صدق نيتي، وسلامة مقصدي، وحسن ما في قلبي؛ فرزقني كذا، وأعطاني كذا، ووفقني بكذا ثم يزكون آراءهم، وأعمالهم، واجتهاداتهم، فيقولون: لما علم الله تعالى منا الصدق؛ بارك في علمنا وإن كان قليلاً، وبارك في عملنا وإن كان قليلاً، وينسون أنهم مدحوا أنفسهم بشيء قد لا يكونون تحققوا به وهكذا يظن الإنسان في نفسه خيراً كثيراً، ثم يلجأ -بعد ذلك- إلى اعتزال الناس ومباعدتهم وتركهم لا لأنه يرى في نفسه عيباً ونقصاً، ولا لأنه يقول: عجزت عن التأثير في الناس أو خفت على نفسي من الفساد، لا لهذا ولا ذاك؛ ولكن لأنه يرى أن الناس ليسوا أهلاً بأن يجالسهم، ولا أهلاً ليصحبهم، ولا أهلاً ليكون بينهم وهكذا ترى أنه أصابه نوع من التعاظم، وهذا الذي حذر منه الإمام ابن قتيبة رحمه الله، حين كان يقول: أحببت لك أن تجري على عادة السلف، في إرسال النفس على سجيتها، والرغبة بها عن لبس الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت أنت، ولا أن القوم ثلموا وتورعت أنت، يعني: إياك إياك أن تظن أن الناس تلطخوا وأنت بريء، ووقعوا وأنت سالم، وارتكبوا بعض الموبقات والذنوب وأنت بعيدٌ عنها؛ فإن هذا داء العجب والكبر الذي ربما كان محبطاً للأعمال!!! الجزء: 150 ¦ الصفحة: 17 ذم الزمان فيه اتهام للآخرين الأمر الرابع: أن ذم الزمان وعيبه، فيه اتهام للآخرين، -بقدر ما فيه تزكية للنفس، ومدحٌ لها وثناء عليها- فهو يتهم الناس بالتردد والعيب والهلاك، ويهون من شأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو داء مهلك، ولهذا جاء في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من قال: هلك الناس فهو أهلكُهم} بالضم يعني: هو أكثرهم هلاكاً وانحرافاً وفساداً، وجاء في رواية: {فهو أهلكَهم} بالفتح، يعني: هو الذي تسبب في هلاكهم؛ لأنه قنطهم ويأسهم من رحمة الله تعالى، وجرهم إلى القعود وترك العمل. وهذا محمولٌ على من قال: هلك الناس، على سبيل التيئيس والتقنيط، لا على سبيل الدعوة إلى العمل، والدعوة إلى العلم، والدعوة إلى الجهاد، والدعوة إلى الإصلاح. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 18 ذم الزمان فيه تبرير الفشل والإخفاق والعجز العيب الخامس: أن عيب الزمان -وهذا من أخطر الأمور-: تبريرٌ للفشل والإخفاق والعجز فكلما عانى الواحد منا أمراً من أمور الدعوة أو الجهاد أو العلم، ففشل فيه بعض الفشل أو كله، كان أسرع ما يمر بخاطره، وأول ما يقول على طرف لسانه: (الله المستعان هذا زمان الغربة) ، نعم قد يكون الأمر كذلك، وقد تكون تعيش زمناً من أزمنة الغربة؛ لكن سلفك الصالح رضي الله عنهم لم يكونوا يقولون هذه الكلمة: (هذا زمان الغربة) ، وحاشاهم أن يقولوه فراراً من الاعتراف بالتقصير أو العجز، أو تهرباً عن المراجعة والتصحيح، بل كانوا يقولون ذلك؛ لتصبير النفس على دين الله عز وجل، وتعزيتها على ما فاتها من الخير، ولم يكونوا يتوقفون عن الدعوة لهذا السبب، أو لاقتناعهم بهذه الكلمة أما اليوم: فالكثيرون يكتفون بهذه الكلمات، يكتفون بها عن الرجوع إلى أنفسهم، أو عن معرفة أخطائهم، أو عن تفسير الفشل والإخفاق -الذي منوا به- تفسيراً علمياً موضوعياً صحيحاً. هذا داعية يخطئ في أسلوب الدعوة، ولا يملك التسلل إلى قلوب الناس، ويتجاوز الصفات والأخلاق الشرعية، فإذا رُدَّتْ دعوته، هز رأسه يمنة ويسرة، وقال: (هذا زمان الغربة) ، وهذا آخر: ينكر المنكر بشدة وقسوة وتعسف، ويتعدى ما أمر الله تعالى وما نهى، فإذا وقع عليه لومٌ أو عتابٌ أو تقريعٌ، أو ذمه الناس أو عابوه، أظهر التصبر والتجلد، وقال: (هذا زمان الغربة) ، وهذا ثالث: يخوض معركةً جهادية مع أعداء الإسلام أياً كان لونهم، وأياً كانت مذاهبهم، ولم يعد لهذه المعركة عدتها ولم يحمل لها سلاحها، فإذا لم يتجاوب الناس معه أو لم يجرِ النصر سريعاً؛ قال: (هذا زمان الغربة) !. بل ربما رأى الإنسان من ولده انحرافاً؛ لأنه قصر في تربيته، أو من زوجته سوء خلق؛ لأنه لم يعتنِ بها، ولم يؤدِ حقها؛ فحينئذٍ يعزي نفسه عن ذلك كله، بقوله: (هذا زمان الغربة) ، وقد نسي أنه قصر في حق الزوجة، أو قصر في تربية الولد، أو قصر في إعداد العدة للجهاد، أو قصر في القيام بأمر الدعوة، أو قصر في التزام الشريعة -بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وستر ذلك التقصير كله بهذه الكلمة، بل ربما أخطأ في حق صديقه أو زميله، فإذا رأى منه إعراضاً أو جفوة، تعذر بأن (هذا زمان الغربة) ، وهكذا يظهر جلياً أننا نتذرع بهذه الكلمة، ونتترس بها -أحياناً- لنستر بها عيوبنا وأخطاءنا، ونفر من الاعتراف بذلك، وحاشا أن يكون سلفنا الصالح قصدوا هذا المعنى أو أشاروا إليه. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 19 ذم الزمان فيه نسبة الأشياء إلى غير فاعلها أولها: أن ذلك نسبة للأشياء إلى غير فاعلها الحقيقي وهو الله تعالى بل فيه تشبه بالمشركين الذين كانوا يقولون: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] ولذلك نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم عن ذم الزمان وعيبه، ففي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} فبين الله عز وجل أن سب الدهر لا يجوز، وأنه أذية لله عز وجل، وأنه وضع للشيء في غير موضعه، فلا ذنب للدهر، وإنما الدهر مخلوق مدبر مسير بيد الله عز وجل الذي يقلب الليل والنهار، كما قال الله عز وجل: {يقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [النور:44] . وفي رواية قال الله تعالى في الحديث القدسي: {لا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر} وليس المعنى: أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى -كما فهم الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى! مخالفاً في ذلك رأي كافة أهل العلم- وإنما المقصود بقوله تعالى: {أنا الدهر} ما فسره قوله: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} ، وإلا فالدهر ليس من أسماء الله تعالى. ولهذا كان بعض الشعراء مفصحاً عن الحقيقة، منكراً على الذين يعيبون على الدهر؛ حين قال: يا لائم الدهر إذا ندى لا تلم الدهر على غدره الدهر مأمورٌ له آمرٌ ينصرف الدهر إلى أمره كم كافرٍ بالله أمواله تزداد أضعافاً على كفره ومؤمنٍ ليس له درهماً يزداد إيماناً على فقره لا خير في من لم يكن عاقلاً يبسط رجليه على قدره وقال آخر: ما الدهر إلا ليلة ويوم ما العيش إلا يقظة ونوم يعيش قوم ويموت قوم والدهر قاض ما عليه لوم أو: والدهر ماضٍ ما عليه لوم. فإنما هو مسيرٌ بيد الله عز وجل الذي يقلب الليل والنهار. إذاً: نسبة الأمور إلى الزمان، وعيب الدهر وذمه وسبه، هو خطأ شرعي من جهة أنه نسبة الشيء إلى غير فاعله الحقيقي وهو الله عز وجل. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 20 فضائل آخر هذه الأمة النقطة الرابعة: من فضائل هذه الأمة: الأمة الباقية إلى قيام الساعة لها فضائل كثيرة، وسوف نذكر نماذج عامة، ونماذج مما يتعلق بفضائل آخر هذه الأمة؛ لندرك أنه ينبغي أن تفهم الصورة بجانبيهما كليهما. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 21 ألا نعذب عذاب استئصال الأمر السادس: أن الله تعالى وعد نبيه صلى الله عليه وسلم ألا يعذب هذه الأمة عذاباً يستأصلها به عن آخرها، كما في الحديث الذي رواه مسلم عن سعد بن أبي وقاص ورواه الترمذي عن خباب رضي الله عنه: {أن النبي سأل ربه ثلاثاً، فأعطاه اثنتين ومنها: ألا يعذب هذه الأمة أو ألا يهلك هذه الأمة بسنة بعامة} فهذه الأمة أمة محفوظة، أمة باقية، ختم الله عليها بخاتم البقاء إلى قيام الساعة، إلى آخر الزمان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي موجودة: إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قؤول لما قال الكرام فعول إذا ما راية رفعت لحرب تلقاها عرابة باليمين فنحن أمة باقية، أمة ضاربة في مجاهل التاريخ، وباقية إلى آباد الزمان وأحقابه، وإلى أن يشاء الله عز وجل، وكلما فَرَط جيلٌ وذهب؛ خلفه جيلٌ آخر يحمل عنه الراية، ويجاهد عنه الجهاد ذاته، هذه الأمة: هي التي سوف تفتح بيت المقدس مرة أخرى -كما وعد الصادق المصدوق- وهي التي سوف تقاتل اليهود -كما في الصحيح أيضاً- وهي التي ستقتل الدجال، وهي التي ستفتح القسطنطينية مرة أخرى، كما فتحت أول مرة، بل هي التي سوف تفتح روما، كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم، وهي التي سوف تحقق الملاحم الكبرى وتقاتل الروم وتنتصر عليهم بإذن الله عز وجل. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 22 فضائل أخرى ثم هناك فضائل أخرى تتعلق بآخر الزمان منها: قوله عليه الصلاة والسلام، كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره عن أنس، وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه -أيضاً- أحمد عن عمار بن ياسر، وجاء عن عبد الله بن عمر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أمتي كالغيث، أو مثل أمتي كمثل المطر لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره} إن هذا لا يعني أن آخر الأمة كأولها في الفضيلة سواء بسواء، فأول هذه الأمة أفضل -بلا شك- ولكنه إشارة إلى فضيلة آخر هذه الأمة، وأنها -أحياناً- تشبه أولها في الفضل فأول هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان، وآخر هذه الأمة المهدي عليه السلام، وعيسى بن مريم، وأولئك الرجال الأفاضل الأشاوس الذين يقتلون الدجال، وأولئك الأبطال الذين يفتحون بيت المقدس، وأولئك الفرسان الذين يقتحمون القسطنطينية، فمن رآهم ورأى فضائلهم، وإشادة النبي صلى الله عليه وسلم بهم تذكر قوله: {أمتي كالغيث لا يُدرى أوله خيرٌ أم آخره} فهو كقول الإنسان: هذا الثوب أفضله أعلاه أم أسفله مع أنه يدري أن أعلاه أفضل؛ لكنه يقصد الإشارة إلى أن أسفل هذا الثوب -أيضاً- نظيفٌ وجميل وحسن. ومن ذلك -أيضاً- ما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {من أشد أمتي لي حباً ناسٌ يكونون بعدي يودُ أحدهم لو رآني بأهله وماله} ، فهؤلاء الناس الذين أحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ود الواحد منهم أن يكون رأى الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لو اقتضى ذلك أن يتخلى عن أهله وماله؛ لشدة محبتهم له، فهؤلاء: من أشد أمته حباً له، ومن أفضل أمته عليه الصلاة والسلام، فلو قارنت هؤلاء بأقوام عاشوا معه صلى الله عليه وسلم فما نشطوا بصحبته، وما ذهبوا إليه، وربما أسلموا وبقوا في قبائلهم، وبقوا في ديارهم، وربما جلسوا معه ثم غادروه بعد ذلك فلم يقتبسوا منه علماً، ولم يرووا من حديثه، ولم يهاجروا معه، ولم يجاهدوا معه، ولم يحجوا معه، ولم يشهدوا معه المشاهد؛ لأدركت أن في آخر هذه الأمة فضلاً كثيراً، كما هو في أولها. ومن ذلك ما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: {السلام عليكم دار قومٍ مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنّا رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟! قال: أنتم أصحابي، وإخواني هم الذين لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله، كيف تعرف من لم يأتِ بعد من أمتك؟! قال عليه الصلاة والسلام: أرأيتم لو أن رجلاً له خيل غرٌ محجلة بين ظهري خيل دُهْم بُهْم ألا يعرف خيله؟! قالوا: بلى، قال: فكذلك هم، يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، قال: وأنا فرطهم على الحوض وليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، فأقول: ألا هلم ألا هلم، أناديهم، فيقال: إنهم قد غيروا -أو قد بدلوا- بعدك، فأقول: سحقاً سحقا} فهذا دليلٌ على أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رأى من لم يأتِ من أمته من الأخيار والصالحين، وأهل الوضوء، وأهل الصلوات، وأهل الذكر، وأهل الأوراد، وأهل التسبيح، وأهل الجهاد، وأهل الصبر، وأهل الصدقة، حسبهم شرفاً وفخراً أن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى أن يكون رآهم: {وددت أنّا رأينا إخواننا} وحسبهم شرفاً أن النبي صلى الله عليه وسلم وسمهم بوسم الأخوة، فهم إخوة النبي صلى الله عليه وسلم، وإخوة أصحابه في الإسلام والتوحيد والاتباع، الذي جمعهم عليه جميعاً. وفي حديث آخر، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وقال: {للصابر منهم أجر خمسين، قالوا: أمنا يا رسول الله، أم منهم؟ قال: بل منكم} فذكر أن الإنسان من آخر هذه الأمة إذا عمل عملاً أُجِرَ عليه أجر خمسين من الصحابة لو عملوا العمل ذاته فإذا تصدق بصدقه ضوعفت له خمسين ضعفاً عما يكتب للصحابي -مثلاً- لو تصدق بالصدقة ذاتها، وإن كان الصحابة يتميزون بفضل الصحبة، وأنهم قد اقتربوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبوا أنفاسه، ورأوا وجهه الشريف الطاهر المنور، وسمعوا الوحي من فمه، وجاهدوا معه وصبروا، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] . فلهم جميعاً فضل الصحبة، ولكن من جاء بعدهم فإنه يضاعف له الأجر، وإن قلت أعماله بالقياس إلى أعمال الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن ذلك حديث أبي عنبة الخولاني وهو ممن صلى إلى القبلتين، وشرب الدم في الجاهلية أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يزال الله تعالى يغرس في الدين غرساً يستعملهم في طاعته} وهذا الحديث رواه أحمد وابن ماجة وابن حبان في صحيحه، وصححه، وقال الإمام البوصيري في زوائد ابن ماجة: إسناده جيد، ورجاله كلهم ثقات فهذا الحديث دليل على أن الله تعالى يغرس للدين والتوحيد والدعوة غرساً في كل زمان يستعملهم في طاعته، ويوفقهم في مرضاته، ويجعل همهم وديدنهم وسرورهم وقرة عيونهم في الجهاد في سبيل الله، والصبر على ما يلقون في ذات الله تعالى، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم. الخاتمة: وأخيراً: فإن الأحاديث الواردة في الفتن فيها افتتاح القسطنطينية، وفيها قتال الدجال، وفيها قبض أرواح المؤمنين قبيل قيام الساعة، وفيها فتح بيت المقدس، وفيها قتال اليهود، وفيها قتال الروم، وفيها فتح روما، وكل هذه لن تتم إلا على أيدي الرجال الكبار الكرام الأشاوس الأبطال المخلصين، بل إنني أقول: إن الذين يقاتلون إلى جانب المهدي ويقاتلون إلى جانب المسيح بن مريم لم يكونوا إلا رجالاً أقوياء أشداء، ولم تكن إلا أمة تقوم بقادتها، وتقوم برجالها، وتقوم بأبطالها ولو أن قائداً عظيماً محنكاً وجد في أمة ذليلة مهزومة مقهورة محطمة؛ لم يستطع أن يقوم بشيء ولا يصنع شيئاً قال الشاعر: ولو أن قويماً أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت فكيف ترى في هذه الأمة؛ التي هذا أولها وهذا آخرها إنها ولا شك أمة خير. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 23 أكثر أهل الجنة الصفة الخامسة: أنهم كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم {نصف أهل الجنة أو أكثر من ذلك} كما جاء في الصحيحين عن ابن مسعود ٍ رضي الله عنه، بل إن من هذه الأمة من يدخل الجنة بلا حساب، كما في حديث عمران بن حصين، وفي صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال؛ كما في حديث سهل بن سعد ٍ: {ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً، أو سبعمائة ألفٍ متماسكين آخذ بعضهم ببعض حتى يدخل أولهم وآخرهم الجنة، ووجوههم على صورة القمر ليلة البدر} إن هذه الفضيلة العظيمة، وهذا المكان الكبير في الجنة، من المقطوع يقيناً أن الأمة لم تدخله إلا بفضل الله تعالى، ثم بعملها الصالح. إن من المعلوم أن دخول الجنة يكون بفضل الله تعالى ورحمته، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {لن يدخل أحدكم الجنة بعمله} الحديث، ثم يكون بعمل الإنسان الصالح الذي هيأه لرحمة الله تعالى، كما قال الله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] . هذا دليل على أن الأمة قد عملت الصالحات من الطاعات من الصلاة والصيام، والشهادتين، والحج، والعمرة، والنسك، والخير، والصدقة، والبر، والإحسان، والجود، والكرم، والعدل، إلى غير ذلك -ومع ذلك- فينبغي أن نعلم أن لفظ الصالحات ليس مقصوراً على هذه الأمور فحسب، بل لفظ الصالحات أوسع من ذلك وأشمل فمن الصالحات -مثلاً- نَفْعُ الناس في دينهم ودنياهم، ومن الصالحات: تحقيق المكاسب للمسلمين، ومن الصالحات: القيام بفروض الأعيان، كتعلم العلوم التي يحتاج إليها في هذا الزمان، كالطب -مثلاً- أو الهندسة، أو الصناعات التي يحتاج إليها المسلمون إلى غير ذلك مما يدخل في إطار الإعداد الذي أمر الله تبارك وتعالى به: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال:60] . الجزء: 150 ¦ الصفحة: 24 ظهور المجددين على رأس كل مائة سنة فضيلة ثانية لهذه الأمة: ظهور المجددين على رأس كل مائة سنة وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهم، وسنده حسنٌ، وأجمع العلماء على صحته، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى يقيّض لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها} فكما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أمر الغربة، وكما بين عليه الصلاة والسلام فقال: {إنه لا يأتيكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌ منه} فقد ذكر في المقابل: أنه على رأس كل مائة سنة، إما من الهجرة، وإما من موت النبي صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يبعث لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها (منْ) ! المقصود الذين تقوم بهم الكفاية في تجديد الدين، فقد يمكن في عصرٍ من العصور أن يكون تجديد الدين لفردٍ واحد، كما كان في العصر الأول حين كان المجدد عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، لكن ربما جاءت عصور استحكمت فيه غربة الدين وكثر الجهل، وكثرة المخالفات، فأصبح أمر تجديد الدين لا يقوم به إلا العصبة أولي القوة من الخلص المؤمنين الندباء الأقوياء الشجعان، فهؤلاء وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى سوف يبعثهم وينتدبهم. إذاً: وعد الله تعالى أن يبعث من تقوم بهم الكفاية في أمر كبيرٍ جليلٍ خطير وهو: تجديد أمر الدين لهذه الأمة لم يقل تجديد الدين لبلد معين، أو لفئة معينة، أو لمنطقة معينة، أو لقبيلة معينة، وإنما قال: لهذه الأمة كل الأمة من أقصاها إلى أقصاها الأمة التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام دينا، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيا. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 25 الآخرون السابقون يوم القيامة الميزة الثالثة: أن هذه الأمة هم الآخرون السابقون يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، وهذا هو اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فهم لنا فيه تبع -يعني يوم الجمعة- اليهود غداً والنصارى بعد غد} نعم! نحن الآخرون وجوداً، فأمتنا ناسخة للأمم كلها، قاضية عليها ملغية لقيادتها وسيادتها، فقد انتزعت هذه الأمة الراية من النصارى، ومن اليهود، ومن أمم أهل الكتاب، وتفردت بها بأمر الله عز وجل الشرعي، حيث نزل هذا القرآن المهيمن على الكتب كلها، وبأمر الله تعالى القدري الكوني، حيث قضى الله تعالى وقدر أن تكون هذه الأمة هي آخر الأمم، وهي الأمة المهيمنة على الأمم كلها، والموعودة بالنصر والتمكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إن هذا يعني خيرية هذه الأمة، وهذه الخيرية لا تعني أن نتكل على مجرد الانتساب؛ بل الأمر كما قيل: كن ابن من شئت واكتسب أدباً يغنيك محموده عن النسب إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من قال كان أبي الجزء: 150 ¦ الصفحة: 26 الخيرية لا تكون بمجرد الانتساب إن من أصول الشريعة المتفق عليها والمقررة: أن فضل الإنسان -فرداً كان أو جماعة أو أمة- لا يكون بمجرد الانتساب؛ إنما يكون بالعمل، قال الله تعالى في محكم التنزيل: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] وقال الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} [الأنبياء:94] وقال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] وقال جل شأنه: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] . إذاً: فالخيرية لا تكون بمجرد الانتساب، ولسنا نحمل نظرية كنظرية بني إسرائيل، الذين يزعمون أنهم شعب الله المختار، وأن لهم فضيلة، بمجرد كونهم يهوداً، كلا! إن هذه الأمة إنما كانت أفضليتها وخيريتها بقيامها بأمر الله عز وجل، واتباعها للرسول صلى الله عليه وسلم، وأمرها بالمعروف، ونهيها عن المنكر، وشهادتها على الأمم كلها. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 27 شهداء الله في الأرض الميزة الرابعة: أن هذه الأمة هم شهداء الله تعالى في الأرض، كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أنتم شهداء الله في الأرض} . إن معنى الشهادة: هو أن نشهد على الناس بحسن القول والعمل إن أحسنوا، وبضد ذلك إن أساءوا أو فرطوا معناه: أن هذه الأمة أمة العدالة أمة الحق أمة الإنصاف لا تنساق وراء الهوى، ولا وراء العواطف، ولا وراء القرابات، ولا وراء المجاملات؛ وإنما تشهد للمحسن بأنه محسن، حتى ولو كان بعيداً، وتشهد على المسيء بأنه مسيء، ولو كان من أقرب الأقربين. ولذلك: إذا رأيت هذه الأمة قد شهدت شهادة الزور، وغيرت وبدلت؛ فاعلم أن هذه الأمة قد انحرفت عن سواء السبيل، ولم تعد جديرة بالوعد الإلهي والتمكين الذي وعده الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات حين ترى هذه الأمة تضلل الصالحين، فتصفهم -أحياناً- بأنهم من المتطرفين، وأحياناً بأنهم من الأصوليين، وأحياناً بأنهم من الإرهابيين، أو أنهم من أهل الفساد والإفساد، كما نجده في الإعلام العربي في جميع بلاد الإسلام؛ فإن هذا آية على أن هذا الإعلام ومن يقف وراءه على الأقل؛ قد انسلخوا عن حقيقة الانتماء إلى هذه الأمة، وغيروا وبدلوا، وأتوا بمذاهب ونظريات، ونظم غريبة دخيلة على هذه الأمة وحين ترى هذه الأمة قد أصبحت تلهج صباح مساء بالثناء على من غيروا شريعة الله تعالى، وحكموا بغير هديه، واستنوا بغير سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وحكموا بالجبت والطاغوت، ووالوا أعداء الله تعالى، ومدوا أيديهم إلى الكفار من اليهود والنصارى؛ فإن ذلك آية ودليلٌ على أن الشهادة التي أؤتمنت عليها هذه الأمة، لم تعد جديرة بها؛ فقد وضعتها في غير محلها، وشهدت شهادة الزور على أولئك المغيرين المبدلين. ومثله: حين ترى هذه الأمة قد أبرزت المشبوهين فكرياً من أهل الحداثة، وأرباب العلمانية وغير ذلك من المذاهب الأدبية، أو المذاهب الفكرية، وقدمتهم على أنهم نماذج للجيل، يحتذى بفكرهم، ويتبع علمهم، وتقرأ مؤلفاتهم، وتدرس نظرياتهم، وتحفظ نصوصهم، فإن ذلك دليل على تغيير هذه الأمة للشهادة الذي أؤتمنت عليها وحين ترى هذه الأمة قد مدحت أهل الدنيا، ومدحت أهل الانحراف وأهل الفن، وأهل الكرة، وأهل الرياضة، وغير ذلك، ومدحتهم بما لم يكونوا جديرين به، وقدمتهم للشعوب والأجيال على أنهم هم الأسوة والقدوة الذين ينبغي أن يتربى الجيل على نمطهم، فإن ذلك نوعٌ من الانحراف في الشهادة. ومثله: حين تركض الأمة وراء رايات الجاهلية، الراية اليهودية: المتمثلة في السلام العالمي الذي ينادي به اليهود، ومن يدور في فلكهم؛ لجعل المنطقة الإسلامية -خاصة- منطقة نفوذ إسرائيلية، وتطويع الشعوب المسلمة، والثروات المسلمة، والعمالة المسلمة، للسيطرة اليهودية، والخبرة اليهودية، والإدارة اليهودية، أو تركض الأمة أحياناً وراء الرايات النصرانية: المتمثلة بما يسمى بالنظام الدولي الجديد الذي أصبح مفضوحاً -من يومه وليلته- في مواقفه السوداء من المسلمين المضطهدين، في البوسنة والهرسك، أو المضطهدين في أي بلدٍ في العالم، أو من مأساة المسلمين في الصومال، أو من موقفه من اليهود، أو من مواقفه الأخرى، التي أصبح مفضوحاً بها للقاصي والداني. إذاً: حين تشهد الأمة شهادة الزور؛ يتبين أنها قد بدلت وغيرت، وانحرفت عن سواء السبيل ومثله -أيضاً-: حين تتأخر الأمة عن موقعها، وعن مركزها في القيادة والتوجيه والريادة، وتصبح في آخر القائمة، وفي ذيل الشعوب والأمم، لا تشهد أصلاً، ولا تستشهد بل أمرها كما قيل: ويقضى الأمر حين تغيبُ تيمٌ ولا يستأمرون وهم شهودُ لأنه لا وزن لها، ولا قيمة لها، مع أنها أكثر الأمم عدداً وعدة فهم كعدد الرمل والحصى والتراب، وهم أكثر الشعوب إمكانيات اقتصادية وثروات طبيعية، وهم يحتلون أفضل المواقع الجغرافية والاستراتيجية، ويملكون من الإمكانيات التي منحت لهم من الله عز وجل، ما هو مصداقٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينا أنا نائم إذ أُتيت بمفاتيح الأرض أو مفاتيح خزائن الأرض، فوضعت في يدي} ولكنهم -مع ذلك- لم يكونوا جديرين بإنسانيتهم، وبعلمهم وبمواقفهم وبرجولتهم وبقدرتهم على اغتنام الفرص، وبتمسكهم بدين الله تعالى، وبطاعتهم لله عز وجل، وبالتزامهم بشريعته، وباتباعهم لسنة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فلم يكونوا جديرين بذلك كله حتى يجعل الله تعالى لهم قيادة الشعوب والأمم، كما جعلها للذين من قبلهم. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 28 بقاء الطائفة المنصورة فمن فضائل هذه الأمة: بقاء الطائفة المنصورة فيها إلى قيام الساعة، كما تواتر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس} وهذا الحديث متواتر، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أمر هذه الطائفة أموراً منها: أولاً: أنها جماعة مجتمعة على الحق داعية إليه، لم تجتمع على قبيلة، ولا على أسرة، ولا على وطن، ولا على دنيا، وإنما اجتمعت على الحق الذي تنادي به وتدعو إليه، وتنافح عنه وتجاهد في سبيله. ثانياً: أنها قائمة على الحق، فهي تحمل الحق المجرد الذي يشاب بشائبة من باطل، ولا ينتمي إلى فكرٍ غربي أو شرقي مستورد، وإنما ينبع من صميم هذه الأمة وسر وجودها، وهو الإسلام (القرآن والسنة) . وثالثاً: أنها ظاهرة على الناس فهي ليست مجموعة مستترة خفية لا يعلم بها إلا آحاد الناس أو أفرادهم، وليست -أيضاً- فئة قليلة نادرة توجد في بلد، ولا توجد في بلد آخر، وإنما هي ظاهرة معلنة معروفة منصورة مؤيدة من الله. رابعاً: أنهم يدعون إلى الله تعالى، ويقاتلون في سبيل الله، وإذا كنا نعلم أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث معاذ: {وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله} وهذه الطائفة تقوم بهذه الشعيرة العظيمة، وهذه الفريضة الكبيرة، وهي فريضة الجهاد في سبيل الله، فمعنى ذلك: أن غيرها من الفرائض والشعائر والشرائع قد قاموا بها من باب الأولى والأحرى والأجدر فمن قام بأمر الجهاد؛ فقد قام بما دونه من الدعوة والعلم والتعليم وغير ذلك من ألوان الفروض، سواء كانت فروضاً عينية، أم كانت فروضاً كفائية، قال الله عز وجل: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:181] . إنه لا يخلو عصرٌ من قائمٍ لله تعالى بحجة، ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وتأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، كما جاء في بعض الأحاديث عن سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام: {إن الله تعالى يقيض لهذا الدين من كل خلفٍ عدوله} ففي ذلك توثيق وتعديل لأهل العلم، ولهذا أقول لنفسي ولغيري: ينبغي علينا مع استفراغنا للجهد في القيام بأمور الإسلام وتكاليفه وتبعاته، ينبغي مع ذلك كله أن نعمل ونحن قريرو الأعين، مطمئنو النفوس، واثقون أن الله تعالى لم يكل هذا الدين إلينا، وأن الله تعالى لا يزال يحفظ دينه بمن ينتدبهم لذلك ويخلقهم له، كما وعد عز وجل في محكم التنزيل، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وقال عز وجل: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] . الجزء: 150 ¦ الصفحة: 29 الأسئلة الجزء: 150 ¦ الصفحة: 30 المجتمع ميدان سباق بين الأخيار والأشرار السؤال لقد فرحنا فرحاً شديداً بما حصل في يوم الجمعة والخميس الماضيين من اجتماع العلماء والشباب، ولكن الذي نغص علينا ما حصل من شغبٍ في الرياضة أعني: (المباريات الرياضية) ثم يوم الثلاثاء الماضي عندما أكرمَ أولئك الكفرة؛ بل مصافحتهم وتعظيمهم والتبسم في وجوههم، فما هو واجبنا تجاه مثل هذه الأمور؟ الجواب واجبنا أن نضاعف الأعمال الصالحة المجتمع -كما قلت لكم مراراً-: المجتمع ميدان منافسة، وميدان سباق بين الأخيار والأشرار كل مجتمع فيه قوتان: قوة مؤمنين تدعو إلى الخير، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر كما قال سبحانه وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] . وقوة المنافقين تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] والمجتمع هو لمن غلب عليه من هاتين القوتين، فإن غلبت عليه مادة الإيمان؛ كان مجتمعاً مؤمناً مسلماً ناضجاً سليماً، ونجا -بإذن الله تعالى- من عقاب الله في الدنيا والآخرة، وإن كانت الأخرى، فلا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 31 فساد الزمان السؤال مع كثرة الجهود الفردية والجماعية؛ فهي مخفقة في كثير من الأحيان، أو في غالب الأحيان، أليس هذا دليلاً على أن الزمان قد فسد؟ الجواب يا أخي ليس الزمان، بل الأمر: كما قال الشافعي: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا ونهجو ذا الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا الزمان ليس إلا الأيام والليالي، والشمس التي أشرقت على الصحابة؛ هي نفسها التي تشرق علينا، والقمر نفسه، والنجوم والكواكب نفسها، والأرض هي ذاتها، وإنما الذين تغيروا هم الناس، هم البشر هي الأوضاع الدول الأمم الحكومات المؤسسات، هذا الذي تغير. إذاً: نحن الذي تغيرنا وليس الزمان الزمان عنصر حيادي، إن استفدت منه في عمل صالح؛ كان معادك الجنة في الآخرة، وأدركت النجاح في الدنيا وإن كانت الأخرى؛ كان الإنسان إلى النار والعياذ بالله في الآخرة، وكان إلى البوار والشقاء في الدنيا، لكن علينا أن نكون صرحاء مع أنفسنا، وشجعاناً مع أنفسنا، ولدينا استعداد أن ننتقد أنفسنا، ونصحح أوضاعنا، ونراجع أعمالنا، ونعرف ما هي الأسباب الموصلة إلى النجاح فنعملها، وما هي الأسباب الموصلة إلى الفشل، فنتجنبها. هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 32 تزكية النفس السؤال انتشرت ظاهرة قول بعض الناس: أنا فلان، من باب التزكية، فما قول الشرع؟ الجواب -على كلٍ- أرى أن تزكية الإنسان نفسه لا تنبغي، وينبغي للإنسان أن يتواضع، وكلما كان الإنسان أكثر هضماً لنفسه، وأبعد عن مدحها، وأقرب إلى نقدها؛ كان ذلك أدعى إلى إخلاصه، وإلى قربه من الله عز وجل. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 33 أخذ الكروت المجانية السؤال أنا شاب أعمل بإحدى الدوائر، وتأتيني كروت تعبئة بنزين من أحد أقاربي العاملين بذلك القطاع، علماً أنني من عملي لا يحق لي أن آخذ هذه الكروت المجانية، هل هذا جائز؟ الجواب لا أرى أن لك أن تأخذ هذه الكروت. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 34 حكم من لم يعقل في صلاته السؤال إذا صلى شخصٌ صلاة فرضٍ مع جماعة، ولم يعقل من صلاته شيئاً، هل يجوز له أن يعيد الصلاة، عن صلاته تلك؟ الجواب إذا كان قام بصلاته بواجباتها وأركانها وشروطها، فلا أرى أن يعيد الصلاة، ولكن عليه أن يحرص على استحضار قلبه للصلاة، فإنه ليس لك من صلاتك إلا ما عقلت، وإن العبد كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه أهل السنن وهو صحيح: {إن العبد ما كتب له من صلاته إلا نصفها ثلثها ربعها خمسها سدسها} الحديث. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 35 مراجع الموضوع السؤال نرجو أن تدلنا على بعض الكتب التي تتكلم عن هذا الموضوع؟ الجواب هناك كتب كثيرة منها كتاب: مشاكلة الناس في زمانهم، ومنها كتب الفتن، ومنها كتاب: عقد الدرر في أخبار المنتظر، ومنها كتاب: جامع الأصول في الجزء الثاني، إلى غير ذلك من الكتب. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 36 التخاذل حول قضية فلسطين السؤال من أهم القضايا التي أشغلتني ولم أجد لها حلاً، ما أراه من تخاذل كثير من المسلمين عن قضية ثالث المساجد وقبلتهم القدس الشريف، ما هو موقفنا نحن تجاههم؟ وهل هذا التخاذل والتغافل المصطنع له واقع في حياتنا؟ الجواب أريد أن تنتبه -جزاك الله خيراً- إلى قضية، أن الأمة الإسلامية اليوم تعيش فترة غيبوبة ليس فقط عن قضية القدس، فقضية القدس إحدى القضايا، لكن الأمة المسلمة اليوم تغيب عن معظم قضاياها، ولذلك سميتها (الأمة الغائبة) في أحد المناسبات؛ لأنها أمة أصبحت تقبل قضايا كثيرة يعني قضية السلام -مثلاً- مع إسرائيل، مع ما يسمى بالكيان اليهودي، كنا نتصور أن هذا الأمر من أصعب الأمور، أن يتم، وأنه لا يتم إلا في وسط تيار من الصخب والضجيج، والغضب الذي تنادي له الأمة من مشرقها إلى مغربها، فإذا بنا نرى أن هذه الأمة تواجه مثل هذه الخطة الرهيبة العظيمة الخطيرة، التي تستهدف عقيدتها ووجودها وكيانها ودينها واقتصادها، تواجه ذلك كله بردود فعل ضعيفة، لا تعدو أن تكون محاضرة هنا، أو كلمة هناك أو مقالاً هنا أو كتيباً هناك! نحن بحاجة إلى أن نصرخ بهذه الأمة، ونخاطبها بكل ثقة، ونزيل الغبار عنها، وندعوها إلى أن تمارس وجودها الحقيقي، وأن تعود إلى دينها، فإن هذه الأمة لا خير فيها ما لم ترجع إلى دين ربها، وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 37 الحروب والفتن السؤال هل الحروب والمذابح التي يلاقيها المسلمون في هذا الزمان تعتبر من فضائل الزمان لإظهار الدين أنه الدين الصالح؟ الجواب كلا، بل إن هذه من الفتنة التي يستعيذ منها المؤمنون: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة:5] . فإننا وجدنا أن من المسلمين من يكفرون، لأنهم رأوا أنهم في حال المجاعة؛ مد النصارى إليهم الأيدي، وتخلف عنهم المسلمون. ورأينا من المسلمين من يكفرون؛ لأنهم يُقتلون على الإسلام، ولا ينتصر لهم إخوانهم المسلمون، فهذه من الفتن التي نسأل الله عز وجل أن يرفعها عن عباده بمنه وكرمه. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 38 التوفيق بين أخبار آخر الزمان السؤال كيف يمكن التوفيق بين وجود فئة قليلة في آخر الزمان متمسكين بالدين، مع وجود نصوص تخبر عن نزول عيسى، والمهدي عليهما السلام، وبلوغ الإسلام المشرق والمغرب؟ الجواب هذا ظاهر! فإن الإسلام له إقبال وإدبار -كما جاء في حديث، وإن كان فيه ضعف- فمن إقباله أن تسلم القبيلة بأسرها، ومن إدباره أن تكفر القبيلة بأسرها. فمن إقبال الإسلام: أن يكثر أهل الخير، وينتشر العلم، ويقوم الجهاد في كل بلد هذا من إقباله، ومن إدباره أن يضعف هذا الأمر ويقل القائمون به. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 39 توسيد الأمر إلى غير أهله السؤال هل يصح الحديث الوارد أنه في آخر الزمان يوسد الأمر إلى غير أهله؟ الجواب نعم فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة} والحديث في الصحيح. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 40 غربة الإسلام السؤال ذكرت قوله عليه الصلاة والسلام {بدأ الإسلام غريباً} ألا يدل هذا الحديث على عودة الإسلام، وتمسك الناس به، وعلى انتشاره مرة أخرى، كما تدل عليه عبارة (كما بدأ) ، ومعلومٌ أنه بدأ أول مرة قليلاً، قليلاً، حتى عم أصقاع المعمورة؟ الجواب هذا ليس بلازم؛ لأنه قال: {وسيعود} والظاهرأن قوله: {وسيعود} يدل على أنها عودة لا قيام للإسلام بعدها؛ ولكن إذا كان ذلك هو معنى الحديث فيكون في الحديث، إشارة إلى الغربة الأخيرة التي تكون بعد قبض أرواح المؤمنين، وهناك ألوان أخرى من الغربة تقع قبل ذلك، ويكتب للإسلام بعدها عزٌ ونصرٌ وتمكين. إذاً: نستطيع أن نقول: إن الغربة نوعان: النوع الأول: الغربة الأخيرة المستحكمة التي لا قيام للإسلام بعدها وهذه لا تكون إلا في آخر الزمان قبيل قيام الساعة، ومع الأشراط الكبرى، وبعد قبض أرواح المؤمنين. أما النوع الثاني: الغربة النسبية: التي توجد في بلد دون بلد، فقد تكون غربة للإسلام في هذا البلد، وهو عزيز في بلد آخر -كما نراه اليوم واضحاً جلياً- وقد تكون في زمان دون زمان فتكون الأمة في زمن -مثلاً- قوية عزيزة منيعة ممكنة، ثم يمر عليها بعد ذلك زمان غربة، ثم زمان تمكين، ثم زمان غربة، وهكذا الجزء: 150 ¦ الصفحة: 41 توجيه السؤال كما هو الملاحظ: التغطية الإعلامية تتجه نحو المناسبات الرياضية أو البرامج الغنائية وبصورة مبالغ فيها، مما هي مدعاة لضياع العقل؛ بينما النقل الإعلامي التلفزيوني للمحاضرات العلمية والأمسيات والندوات التي يرجى منها الفائدة عديم، ولا أثر لتلك البرامج ضمن الدورات، نريد توجيهاتكم في ذلك؟ الجواب هذا أحد السلبيات، لكن مجرد قراءة هذا السؤال -مثلاً- أو الإقرار بمثل هذا الواقع لا يغير شيئاً، ولذلك أقول: أين المختصون؟! أين ذوو القدرات والإمكانيات، الذين يشعرون أنهم يستطيعون أن يقوموا بمثل هذا الواجب الكفائي، ويسدوا هذه الثغرة التي تحتاجها الأمة؟! الجزء: 150 ¦ الصفحة: 42 الدليل على أخذ ما جاء به الرسول السؤال بعض الناس إذا أمرتهم بواجب، أو نهيتهم عن محرم، قالوا: ما الدليل من القرآن؟ الجواب -على كل حال- القرآن أشار أو أحال إلى الأخذ من السنة قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . والرسول صلى الله عليه وسلم، والقرآن -أيضاً- أحال إلى الإجماع، كما في قوله تعالى: {فإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] . دلت الآية بمفهومها على أن الإجماع حجة، وأما التنازع؛ فيتم الرد فيه إلى القرآن والسنة وكذلك وردت أحاديث كثيرة تدل على أن الأمة لا تتفق على ضلالة، وهي بعض أحاديث الليلة التي أعرضت عنها اختصاراً. فبناء عليه نقول: ما جاء في القرآن، أو في السنة، أو بإجماع أهل العلم، أو كان الدليل الصحيح يعضده؛ فيجب على الإنسان أن يعمل به إن كان واجباً؛ فواجب، وإن كان مستحباً؛ فمستحب. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 43 الإنفاق السؤال إن هذه الأمة في هذا الزمن، وصلت إلى ذل لا يعلمه إلا الله، ومن ذلك أن أمتنا جرحها في كل أضلاع الأمة نازف، ومع ذلك يقوم بعض التجار بصرف مبالغ بمئات الدولارات، في مباراة واحدة لأحد الفريقين هل هذا جائز أم لا؟ الجواب -لا شك- أن هذا هو أحد الأمور المشكلة، أولاً: أن الناس يراعون دائماً الشيء الذي قد يكون الإنفاق فيه يرضي بعض ذوي النفوذ؛ فينفقون فيه، وهذه مأساة! وكذلك: الأمر الذي يستحب العامة الإنفاق فيه؛ فينفقون فيه فنعود لنقول: {كما تكونوا يولى عليكم} وكما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فإذا تكلمنا عن هذه الأمة، فهذه الأمة الكلام عنها بحكامها، بتجارها، بلاعبيها، بعلمائها، بدعاتها، بعامتها، برجالها، بنسائها، نحن لا نجزئ هذه الأمة، نتكلم عنها بكل أفرادها، بكل مستوياتها بكل طبقاتها وعلينا -معشر دعاة الإسلام- أن نحرص على أن نقيم الجسور مع كل الطوائف وكل الفئات، بدعوتهم إلى الله تعالى، وإصلاحهم، وإتاحة الفرصة لهم لأن ينفقوا في سبل الخير فقد رأينا الكثيرين ينفقون حتى في مجالات الخير إذا رأوا في الإنفاق نفعاً لهم دينياً أو دنيوياً، أو رأوا فيه مصلحة ظاهرة، أو رأوا أنه مشروع مناسب ومقنع فعلينا -معشر دعاة الإسلام- ألا نكتفي بمجرد النقد؛ بل أن نقدم للناس البديل الصالح من الأعمال المؤسسية، القائمة على الدراسة والتخطيط وبعد النظر، والأعمال الجماعية المدروسة، وأن نحرص على هذا وندرك أنه آن الأوان لأن نخوض في المجتمع كما خاض غيرنا. وأقول لكم: من أسهل الأمور أن ننتقد الواقع، وقد رأيت كثيرين ممن يجيدون فن السب والعيب للواقع، فينتقدون -مثلاً- الاقتصاد؛ ولكنهم يعجزون عن إقامة مؤسسة إسلامية نظيفة، وينتقدون الإعلام؛ ولكنهم يعجزون عن أن يقدموا برنامجاً إعلامياً صالحاً مؤثراً، وينتقدون أوضاع المستشفيات؛ ولكنهم يعجزون عن أن يقوموا بعمل طبي نافع وهكذا والمثل الصيني يقول: (أن تضيء شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف لعنة) . إذاً: نحن ينبغي أن ننتقل من مجرد النقد والعيب والذم والتجريح المجرد؛ إلى أن نقدم للناس للمجتمع للأمة عملاً مؤسسياً نافعاً ناجحاً مدروساً في كل المجالات: في المجال الإعلامي: إعلام إسلامي يقدم الشريط شريط الكاسيت، شريط الفيديو البرنامج المفيد المجلة الكتاب النشرة الدورية إلى غير ذلك. وفي المجال الاقتصادي: يقيم الشركة المؤسسة، بل حتى البنك الإسلامي البعيد عن شبهة الربا، ويوظف المسلمين في هذه الأعمال. وفي مجال العمل الطبي: إقامة المستشفيات النظيفة؛ مستشفيات نسائية -مثلاً- مستشفيات بعيدة عن الحرام، مستشفيات قوية، مستشفيات متخصصة، وتوظيف هذا الكم الهائل من الأطباء في ألوان من الأعمال التي تنفع المسلمين دنيا وآخرة. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 44 الريح التي تقبض أرواح المؤمنين السؤال الريح الطيبة التي تقبض أرواح المؤمنين هل هي بعد العلامات الكبرى؟ أم لا؟ وهل هي قبل نزول عيسى، وحكمه في الأرض، أم بعد ذلك؟ الجواب -لا شك- أنها بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام، أما هل هي بعد العلامات الكبرى؟ فالله تعالى أعلم، قد يكون بعدها -أيضاً- علاماتٌ كبرى. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 45 ذم الزمان بالشعر السؤال لقد استشهدتَ على ذم الزمان بأشعارٍ تسب الدهر، وفي الحديث: {لا تسبوا الدهر} ؟ الجواب لعلني أجبت على ذلك، فإن الأشعار التي استشهدت بها؛ إنما استشهدت بها منتقداً لها لا مقراً. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 46 أخبار المسلمين السؤال ما هي أخبار البوسنة والهرسك وأفغانستان والصومال؟ وما هي أخبار الشيخ عائض؟ ويقول أسألكم بالله العظيم: أن تقروا عيني وتشرحوا صدري بقراءة هذا السؤال. الجواب أما أخبار البوسنة فالأمر مداولة ومحاولة ومصاولة بين هؤلاء وأولئك، فهناك انتصارات للمسلمين في مواقع عدة، وسيطرت على بعض مناطق النفوذ والإمداد التي كان يحتلها الصرب، وهناك قتلى -في أوساط الصرب- كثيرون، وهناك تخوف غربي كبير من استقرار وقيام حكومة إسلامية في تلك البلاد، وبالمقابل هناك انتصارات للصرب، وهناك -أيضاً- خيانة من الكروات في أكثر من موقع ومناوشات بين المسلمين، وبين الكروات، وهذا من الأخبار الجديدة. هناك من المبشرات قيام جبهة إسلامية اسمها (القوات المسلمة) وصل عددها إلى ما يزيد على خمسة آلاف مقاتل من العرب والترك والأفغان، ومن أهل تلك البلاد، وهي جبهة إسلامية يشترط أن يكون المنتمي إليها: من المقيمين للصلاة، ومن المحافظين على شعائر الإسلام، ومن المتجنبين للكبائر وللمنكرات وهذه الجبهة أصبحت تنمو وتزداد وتحقق انتصارات، وقد قرأت في بعض الصحف الغربية وصفاً لـ أبي عبد العزيز أحد القادة في تلك الجبهة؛ كأنه وصف لبعض أبطال الأساطير، وكيف أن رجال تلك البلاد ونساءها وأطفالها إذا ظهر أبو عبد العزيز بسيارته الجيب في الشوارع، ظهروا إليه من النوافذ والأبواب والسطوح؛ يصوتون له ويلوحون ويشيرون إليه، ويدعون له، ويحبونه، ويطوقون المنطقة المحيطة به فهناك انتصارات كبيرة، ولعل من أكبر الانتصارات -أيضاً- هي بوادر عودة صحوة إسلامية في وسط ذلك الشعب، الذي طالما عانى من الجهل والتضليل، ولأول مرة -منذ قرون- يبدأ هذا الشعب في اليقظة والوعي، والإقبال على العلم، فهناك رسائل كثيرة وصلتني تطالب بأحجبة للنساء، وتطالب بالوسائل والكتب التي تساعدهم على فهم الإسلام، والمصاحف التي تعينهم على القراءة، وهناك مدارس كثيرة قد أقيمت، والأولاد والبنات يتعلمون، وهناك ظاهرة كبيرة في إقبالهم والتزامهم وهذا -أيضاً- هو أحد الأشياء التي أصبحت تخيف الغرب، وتجعله يسعى حثيثاً إلى محاولة إنهاء تلك الحرب بأي وسيلة. أما ما يتعلق بالصومال فليس في الأمر جديد، وأرجو أن يكون هناك بعض التحسن في أوضاع المسلمين. وأما أفغانستان فهناك بعض التقدم -أيضاً- حيث التقى رئيس الدولة رباني برئيس الحزب الإسلامي حكمتيار، واتفقوا على بعض الأمور، وهناك مسودة -ما يسمى- بمجلس الشورى قد وضعت واتفق عليها، وقد يتم إجراء بعض الاتفاقيات خلال شهور، ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمتهم، وأن يكفيهم شر أعدائهم. أما فيما يتعلق بفضيلة الشيخ عائض: فقد كان في هذه المنطقة في الأسبوع الماضي، وودت أن الأخ التقى به وسأله -وعلى كل حال- فالشيخ بخيرٍ، وهو في الرياض وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز يعد إن شاء الله أن الأمر سينتهي خلال فترة قصيرة. الجزء: 150 ¦ الصفحة: 47 طبقات الفائزين بدأ الشيخ بمقدمة لطيفة عن التفاوت الحاصل بين الخلق، وأن من شأن هذا التفاوت أن يوجد التنافس، ولكن لابد أن يكون هذا التنافس فيما يقرب إلى الله، وأن نلتزم بنصيحة رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، ثم قسم الشيخ طبقات الفائزين إلى ثلاث طبقات: المسلمون، والفرقة الناجية، والطائفة المنصورة وتحدث عن كل فرقة بما يميزها وختم بذكر آيات من القرآن الكريم تشتمل على هذا التقسيم. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 1 ميدان التنافس الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين: أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن ميدان هذه الحياة هو ميدان سباق بين الأفراد، وسباق بين الأمم والجماعات، وهو ميدان سباق في المجال الدنيوي، وميدان سباق في المجال الأخروي، يقول الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] . وإن من حكمة الله عز وجل أنه أوجد بين خلقه من التفاوت الشيء الكثير، يقول عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:32] فالناس متفاوتون في خَلقهم، وفي رزقهم، وفي خُلقهم، وعقولهم، وفي كل شيء. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 2 التنافس فيما يقرب إلى الله وهذا التفاوت هو لحكم كثيرة ظاهرة، وقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في سنته إلى هذا المعنى المهم الذي يجب أن نفهم هذا التفاوت على ضوئه، وهو أننا يجب أن ننظر في أمور الدنيا إلى من هو دوننا حتى لا نزدري نعمة الله عز وجل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {إذا نظر أحدكم فلا ينظر إلى من فضل عليه في المال والخلق، بل لينظر إلى من هو دونه} وفي لفظ: {فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم} . وفي مقابل ذلك فإننا يجب أن ننظر في أمر الدين والعلم والعبادة إلى من هو فوقنا، حتى يكون هذا حافزاً لنا على البلوغ إلى مرتبة أعلى. ويقول الله عز وجل بعد أن ذكر ما فضل به بعض الناس وما أعطاهم من شأن الدنيا العاجلة: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:21] انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض -أي في الدنيا- فضل بعض الناس على بعض، فضلوا بالمال أو بالخلق أو بالدين، وهذا لا يظهر في الدنيا ظهوراً تاماً، وإنما يظهر في الآخرة، ولذلك عقب بقوله: (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) فالإنسان يجب ألا يقنع بواقعه الذي يعيشه في أمر الدين، بل يتطلع إلى الأعلى دائماً. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 3 التنافس على حظوظ الدنيا ولو نظرنا إلى واقع المسلمين اليوم لوجدنا أن حالهم على نقيض ما يشير إليه الحديث النبوي، فهم في مجال الدنيا، ومجال المال، وفي مجال الخلق، ومجال الصحة، ينظرون إلى من هو فوقهم فيصيبهم الحسد، وقد يصيبهم التسخط وعدم الرضا بقضاء الله عز وجل. أما في أمر الدين فتجد كثيراً منهم ينظرون إلى من هو دونهم، يقول الشاب المصلي إذا أمر بخير قصر فيه، أو نهي عن منكر وقع فيه، يقول: يا أخي! الحمد لله أنا محافظ على الصلوات الخمس في مواقيتها مع الجماعة، وزملائي من الشباب كثير منهم لا يصلون، لا في بيوتهم ولا مع الجماعة، فينظر إلى من هو دونه. وتقول الفتاة المتحجبة إذا أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر: أنا والحمد لله ملتزمة بالحجاب الشرعي، في الوقت الذي أجد بنات جنسي وقد أزلن هذا الحجاب كله أو بعضه، وظهرن سافرات في الأسواق أو في المناسبات أو في المدارس أو في غيرها. وتنسى أن المرأة المسلمة والرجل المسلم يجب أن يكون له مثل أعلى، يجب أن يكون مثله الأعلى في الدين أن ينظر إلى حال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وحال التابعين والعلماء العاملين، وأن يجعل همه أن يصل إلى ما وصلوا إليه، ليحافظ على مستواه الإيماني أولاً، وليرتقي بإيمانه ثانياً، أما حين ينظر إلى من هو دونه، فإنه في الغالب لن يحافظ على مستواه، بل سيظل يهبط درجةً بعد درجة، وهو يسوغ لنفسه في كل مرة ينزل فيها أنه لا يزال هناك من هو أقل منه وأنزل منه، فلا يزال يتردى حتى يصل إلى الحضيض، والعياذ بالله! الجزء: 151 ¦ الصفحة: 4 طبقات المسلمين المتصفين بصفة الإسلام أيها الإخوة إن موضوع هذه المحاضرة يمت بسبب كبير إلى هذه المقدمة، فإن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم قد بينا لنا أتم بيان أن الفائزين هم على طبقات ودرجات، بعضها فوق بعض، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري عن أبي هريرة: {إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى؛ فإنه أعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن} فهذه إشارة إلى أن المؤمنين والمسلمين والفائزين هم طبقات الله أعلم بها! طبقات كثيرة، وأن سلم الإيمان والترقي في هذه الدرجات لا ينتهي إلا بموت الإنسان، فلا يزال أمام المسلم مقامات ينبغي أن ينظر إليها، ويعمل على بلوغها حتى تخرج روحه من جسده، كما قال عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] . ولكن هذه الطبقات أو المقامات الكثيرة يمكن تصنيفها في ثلاث طبقات رئيسية: الطبقة الأولى: هي طبقة المسلمين المتصفين بصفة الإسلام فحسب، وأعني بهذه الطبقة من اقتصروا على تحقيق شرط الإسلام بحيث قاموا بالأقوال والأعمال التي لا بد منها ليكون المرء مسلماً، والتي إذا أخل بها الإنسان، خرج من دائرة الإسلام، ودخل في دائرة الشرك والكفر، ونحن نعلم جميعاً أن هناك جوازاً لا يمكن لإنسان أن يدخل الجنة إلا به وهو الإسلام، فمن لم يكن معه هذا الجواز؛ فإن الله عز وجل قد حرم عليه الجنة، وأوجب له الخلود في النار. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 5 استحقاق الكفار للنار وهذه الحقيقة هي من البدهيات المعلومات بالضرورة من دين الإسلام، والتي لا يختلف فيها المسلمون في قديم الدهر وحديثه، والنصوص القرآنية والنبوية فيها أكثر من أن أتذكر، وأشهر من أن تحصر، ولكن لعل من المناسب أن نقف عندها قليلاً لذكر بعض النصوص؛ لأننا نجد في هذا العصر أن بعض الكتاب يشككون في هذه الحقيقة، ويقولون: إن نظرة المسلم في هذا العصر إلى نفسه على أنه أفضل من كل الناس غير المسلمين نظرة فيها كثير من المبالغة والتعالي الذي لا يوجد ما يشهد له. ولعل من المناسب أن أذكر أن هناك مجلة كويتية هي مجلة العربي دأبت في كثير من أعدادها على التشكيك في هذه الحقيقة، حقيقة أنه لا يدخل الجنة إلا مسلم، وأن الكافر مخلد في النار، فهي تتحدث كثيراً عما يسمى بالحوار الإسلامي المسيحي، أي: اللقاء بين المسلمين والنصارى في مؤتمرات عقدت في لبنان أو قرطبة أو ليبيا أو في الفاتيكان أو في غيرها للتقارب بين أعظم ديانتين في الأرض -كما يقولون- الإسلام والمسيحية -أي النصرانية. وقد كتب أحد كتاب هذه المجلة مقالاً في أحد أعدادها بعنوان (المسلمون والآخرون) ولعل من المناسب أيضاً أن أقرأ عليكم قليلاً مما قال، لتدركوا خطورة هذه الدعوى. يقول: هذا الكاتب في مقاله هذا: (ليس صحيحاً أن المسلمين في هذه الدنيا صنف متميز ومتفوق من البشر بمجرد كونهم مسلمين، وليس صحيحاً أن الإسلام يعطي أفضلية للمسلمين ويخص الآخرين بالدونية، وليس صحيحاً أن ما كتبه أكثر الفقهاء في هذا الصدد هو دين ملزم وحجج لا ترد، إنما هو اجتهاد يخطئ ويصيب) . إن هذا الكاتب يجعل من النصوص القرآنية المحكمة والأحاديث النبوية الصحيحة الصريحة اجتهاداً لبعض الفقهاء يخطئ ويصيب، وهو يشكك في قضية ليست موضع خلاف، بل هي معلومة من الدين بالضرورة، ومن أنكرها فقد أنكر جزءاً لا يتجزأ من دين الإسلام، وقد يكون هذا الإنكار مؤدياً إلى الكفر بالله عز وجل. ثم إن هذا الكاتب الآن يحدثنا عن سبب الشبهة الخطيرة التي وقعت في فكره، وهو أنه رأى المسلمين في هذا الزمان متخلفين في شئون الدنيا في الصناعة وفي العلوم الطبيعية، ورأى أن أعداءهم من اليهود والنصارى قد تفوقوا عليهم في هذا المجال فالتبس عليه هذا بذاك، ونسي أن العزة التي ينفخها الإسلام في أتباعه ليست بسبب تفوقهم الدنيوي، إنما هي بسبب تميزهم بالانتساب إلى الدين الوحيد المقبول عند الله عز وجل في يوم القيامة. يقول: (لقد سمعت واحداً من خطباء الجمعة اعتلى المنبر ليحدثنا في أن المسلمين خير أمة أخرجت للناس، وذهب به الحماس إلى حد دفعه أن يسفه غير المسلمين جميعاً، ويتهمهم بمختلف النواقص والمثالب، ثم يدعو الله في الختام -وحوله مئات من المصلين يؤمنون- أن يدك بيوتهم، ويزلزل عروشهم، ويفرق شملهم، ويهلك نسلهم وحرثهم، ونحن جميعاً نؤمن مع هذا الخطيب على هؤلاء الكفار، مهما يكن في أيديهم من المال أو السلطان) . ويقول الكاتب: (كنت جالساً في الصف الأول في مسجد فرش بسجاد مصنوع في ألمانيا الغربية، وترطب حرارته مكيفات أمريكية، وتضيئه لنبات هنغارية، بينما كلمات الخطيب تجلجل في المكان عبر مكبر للصوت هولندي الصنع، وعندما هبط شيخنا ليؤمنا في الصلاة، تفرست في طلعته جيداً؛ لأجد أن عباءته من القماش الإنجليزي، وجلبابه من الحرير الياباني، وساعته سويسرية، وقد وضع إلى جوار المنبر حذاءً إيطالياً لامع السواد. وذهب يكتب خمس صفحات كلها تدور حول هذا الموضوع، وختم مقاله بالحديث عن الآيات والأحاديث التي فيها تفضيل جنس الإنسان من حيث هو إنسان، ونسي هذا الكاتب الآيات والأحاديث التي حكم الله عز وجل بها على الكفار بأنهم كالأنعام بل هم أضل) . الجزء: 151 ¦ الصفحة: 6 الرد على المشككين في هذه الحقيقة يقول سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فقد حكم الله الذي ميز الإنسان بأن الذي كفر انحط إلى رتبة أقل وأحط من رتبة الأنعام، ولا أدري ما موقف هذا الكاتب من مثل هذه الآيات! إننا نجد النصوص القرآنية والنبوية صريحة في أن الجنة حرام على الكافرين، يقول الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة: {إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله ليعز هذا الدين بالرجل الفاجر} . وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام يلقى أباه يوم القيامة، فيرى إبراهيم في وجه أبيه القترة، فيقول: ألم آمرك فعصيتني؟! فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيذهب إبراهيم وقد أمسك أبوه به، فيقول: يا رب، لقد وعدتني ألا تخزيني يوم القيامة، وأي خزي أخزى وأعظم من خزي أبي الأبعد؟! فيقول الله عز وجل: يا إبراهيم، إني حرمت الجنة على الكافرين، ويأمر الله عز وجل إبراهيم أن ينظر، فيجد أباه وقد مسخ ضبعاً أو ذيخاً، فيراه متلطخاً بنتنه فتستقذره نفسه، ويطيب خاطره، فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار} . فهذا أب لنبي من أنبياء الله يأمر الله عز وجل به إلى النار، ولا ينفعه أن يكون ابنه نبياً، وذلك لاختلال الشرط عنده وهو أنه مات كافراً، وكذلك كان والد النبي صلى الله عليه وسلم ووالدته، ففي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم {استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي} . وقد جاء رجل كما في كتاب الضياء المقدسي، وكما في الطبراني وغيرهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {فقال: يا رسول الله! إن أبي كان يصل الرحم ويكرم الضيف ويفعل كذا وكذا، فأين هو؟ قال له صلى الله عليه وسلم: أبوك في النار، فكأن الرجل وجد في نفسه، فقال: وأبوك يا رسول الله؟ قال: وأبي! ثم قال صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل: حيثما مررت بقبر كافر فبشره بالنار، فكان الرجل يقول: لقد كلفني رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراً عسيراً، ما مررت بقبر كافر إلا بشرته بالنار} . ويجب أن نعلم أن قضية تحريم الجنة على غير المسلمين وأن خلود الكافرين في النار هي من القضايا الثابتة المستقرة لدى المسلمين عموماً، لدى أهل السنة والجماعة، بل ولدى غيرهم من سائر طوائف المسلمين، فهذه القضية ليست موضع خلاف. هذه هي الدائرة الواسعة، دائرة من حكم لهم بدخول الجنة ولو عذبوا في النار بقدر ذنوبهم وخطاياهم ونقوا، ثم أخرجوا منها ليدخلوا الجنة، والفائزون بهذا هم من حققوا شرط الإسلام، من حققوا الشرط الذي من أخل به فهو غير مسلم، فشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأقاموا الصلاة، ولم يأتوا بأي ناقض من نواقض الإسلام الذي يكون من أتى به كافراً، كعبادة غير الله، كالطواف بالقبور، وكدعاء الأولياء والصالحين إلى غير ذلك من النواقض، وهذا الشرط نجد أن كثيراً ممن ينتسبون اليوم إلى الإسلام قد حققوه ظاهراً، وإن أخل بعضهم أو كثير منهم ببعض مقتضياته. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 7 طبقة الفرقة الناجية ننتقل بعد ذلك إلى دائرة أضيق وإلى طبقة أخرى من طبقات الفائزين، وهي طبقة الفرقة الناجية، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ثابتة عن أربعة عشر صحابياً: {أن اليهود افترقوا في دينهم على إحدى وسبعين فرقة، وأن النصارى افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين فرقة، وأن هذه الأمة ستفترق في دينها على ثلاث وسبعين فرقة، وهي الأهواء، وأنه سيكون في هذه الأمة أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} الَكَلب: داء السعار الذي يصيب الإنسان من عضة كلب مصاب بهذا الداء، فلا يزال يسري في دمه وعروقه حتى يموت بعد ذلك. وأخبر صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية بأنها الجماعة التي هي على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومن الظاهر جداً أن الكلام عن هذا الافتراق جاء في ميدان الأهواء والاختلاف والفرق، وهكذا كان، فإننا نجد أن هذه الأمة قد افترقت في دينها فرقاً كثيرة ما بين رافضة وخوارج ومعتزلة وغيرهم من ألوان الطوائف المنتسبة ظاهراً إلى الإسلام، والتي تفارق سائر المسلمين أهل السنة والجماعة في أصولهم الاعتقادية التي تلقوها عن الكتاب والسنة. ولو نظرنا في الخصائص والصفات التي ميزت الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة عن سائر الفرق لأمكن أن نذكر لها ثلاث خصائص على سبيل الإجمال والاختصار: الجزء: 151 ¦ الصفحة: 8 الخاصية الثانية: التأثر بالوحي التأثر القلبي الوجداني بالوحي، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المروي من طرق كثيرة: {أنه نظر إلى السماء فقال: هذا أوان يختلس العلم من الناس حتى لا يقدروا منه على شيء، فقال له زياد بن لبيد: كيف يا رسول الله، وقد قرأنا القرآن وحفظناه؟! فوالله لنقرأنه ولنقرئنه نساءنا وأبناءنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ثكلتك أمك يا زياد! والله إن كنت لأعدك من فقهاء أهل المدينة! هذه التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى فما أغنت عنهم} أي: ليس المقصود أن يقرأ الإنسان القرآن فحسب، أو يقرأ السنة فحسب دون أن يتأثر تأثراً قلبياً حقيقياً بما يقرأ. يقول جبير بن نفير أحد رواة الحديث -وهذا شاهد مهم- يقول: [[فلقيت عبادة بن الصامت رضي الله عنه، فقلت له: ألا تسمع ما يقول أخوك أبو الدرداء، راوي الحديث؟ قال: وما يقول؟ فذكر له الحديث، قال عبادة: صدق أبو الدرداء! إن شئت لأحدثنك بأول علم يرفع من الأرض، قال: علم الخشوع! يوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] . وهاهنا أشار عبادة رضي الله عنه وأشار من قبله أبو الدرداء فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن المهم في العلم ليس هو العلم الذي يقال باللسان، وإنما هو العلم الذي يصل إلى القلب، فتكون ثمرته الخشوع والخوف من الله تبارك وتعالى، فالخاصية الثانية من خصائص الفرقة الناجية التأثر القلبي الوجداني بالوحي. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 9 الخاصية الثالثة: صياغة الحياة العملية الفردية والاجتماعية على وفق ما تقتضيه النصوص بمعنى أن يكون الإنسان مسلماً لله عز وجل، مُسلِّماً عاملاً بأمر الله، تاركاً لنهيه فيما صغر أو كبر دون تردد أو اختيار، ممتثلاً لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وهذه الأشياء الثلاثة هي متلازمة فيما بينها، فمن يقرأ النص أو الوحي قراءة صحيحة، ويتلقى عنه فلا بد أن يتأثر به تأثراً وجدانياً عميقاً، ومن يتأثر بالوحي تأثراً عميقاً لا بد أن يجعل حياته تطبيقاً عملياً لما في قلبه. ولكن لننظر -أيها الإخوة- في واقعنا وواقع المسلمين اليوم، انظر إلى مسلم نشأ في بيئة يوجد فيها انحرافات عقائدية كثيرة، يوجد فيها عبادة لغير الله، يوجد فيها تقديس للأولياء والصالحين، يوجد فيها سؤال لهؤلاء فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل وهم أموات في قبورهم، يوجد فيها الذبح والنذر لغير الله، والحلف بغير الله، يوجد فيها الانحراف في أسماء الله وصفاته، إلى آخر ما يمكن أن تتصوره من أخطاء عقائدية، فهذا المسلم الذي نشأ في هذه البيئة إلى أي حد تجد لديه الاستعداد الحقيقي للتخلي عن هذه الموروثات التي نشأ عليها منذ نعومة أظفاره حين يعلم أن النص الشرعي يصادم ما وجد عليه مجتمعه؟! الواقع أن كثيراً من هؤلاء بدلاًُ من أن يترك ما عهد عليه الآباء والأجداد، ويستجيب لما دلت عليه النصوص، أنه يلجأ إلى تأويل النصوص وتحريفها، والبحث عن أحاديث واهية أو مكذوبة أو تأويلات منحرفة خاطئة يُسوِّغ بها ما يجد عليه آباءه وأجداده ومجتمعه، ليقول: إن ما هو قائم في هذا المجتمع هو أمر حق ولا غبار عليه، وهذا محك حقيقي لمن يستسلم فعلاً للنصوص ويسلم لها ويتلقى عنها ولمن يطوع النصوص ويؤولها لما قام واستقر في ذهنه. وخذ مثلاً آخر: انظر إلى واحد من بيننا يجد في مجتمعه عادات وتقاليد وموروثات في أمور اجتماعية، وهذه العادات يعلم أن النصوص الشرعية تناقضها وتصادمها، فلا تجد أن هذا الإنسان يحارب هذه العادات، ويعمل على إزالتها، وتوعية الناس بخطرها، بل يبحث عن تأويلات ونصوص لجعل هذه العادات أموراً يقرها الشرع، أو لا يخالفها. من أبسط الأمثلة على ذلك: قد ينشأ الإنسان في بيئة المرأة فيها سافرة، تسلم على الرجل وتخلو به ولو كان أجنبياً، فبدلاً من أن يعلم الناس أن الشرع خلاف هذا، تجد أنه يبحث عن أقوال لأحد الفقهاء أو تأويلات تسوغ ما وجد عليه ذلك المجتمع، والأمثلة كثيرة جداً، وأنا أدعو نفسي وأدعو كل واحد منكم إلى أن ننظر في مألوفاتنا العقائدية والعملية وأن نعرضها على الكتاب والسنة؛ حتى يكون اعتقادنا وعملنا موافقاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. والمتصفون بهذه الصفات هم الدائرة الثانية من دوائر النجاة، ولذلك سمى النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفرقة بالفرقة الناجية، وحكم على غيرها أنها في النار، أي: تعذب في النار بقدر انحرافها، ثم تخرج منها ما دامت مسلمة متى شاء الله عز وجل. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 10 الخاصية الأولى: التلقي عن الوحي أي: عن القرآن والسنة، في حين أن غيرهم لا يتلقى عن الوحي، أو يتلقى عنه وعن غيره من الفلسفات المنحرفة والآراء الضالة، ولا يأخذ من القرآن والسنة إلا ما يوافق هواه، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج وهم إحدى الطوائف المنحرفة ذكر أنهم: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم} ومن العجيب أن النبي صلى الله عليه وسلم وصف خروج الخوارج من الدين وصفاً بليغاً، فقال في وصفهم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية -والرمية يُقصد بها الصيد المرمي- ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، وينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، وينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، وينظر إلى قِدحه فلا يوجد فيه شيء، قد سبق الفرث والدم} . ومعنى هذا التشبيه باختصار: أن السهم الذي أصاب هذه الرمية قد دخل وخرج بسرعة فائقة، بحيث أنك تجد السهم بعد خروجه من الرمية ليس فيه أثر للدم، ولا أثر للفرث، وكأنه لم يدخل أصلاً في هذه الرمية؛ لسرعة خروجه منها، وهكذا أهل الأهواء لسرعة خروجهم من الدين، وعدم عملهم بالقرآن والسنة، تنظر فلا تجد أدنى أثر لنصوص القرآن والسنة في آرائهم ولا في حياتهم. فالخاصية الأولى للفرقة الناجية هي التلقي عن الوحي. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 11 طبقة الطائفة المنصورة الدائرة الثالثة: وهي أضيق الدوائر هي دائرة الطائفة المنصورة، التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة عنه نقلت وثبتت عن نحو تسعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم كثير من أهل العلم بأن أحاديث الطائفة المنصورة متواترة، حكم بذلك ابن تيمية والسيوطي والزبيدي والكتاني وغيرهم. فقد قال صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي، قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك} . هذا الحديث يشير إلى دائرة أضيق من دائرة الفرقة الناجية، يشير إلى طائفة من الفرقة الناجية قامت بفروض الكفايات التي لم يقم بها غيرهم، فهي طائفة على الحق، وهذا يعني أنها جزء من الفرقة الناجية ولا بد، ولكن ليست هي جميع الفرقة الناجية لزاماً وإنما هي طائفة منها. ميزة هذه الطائفة عن بقية الفرقة الناجية أن هذه الطائفة قائمة بأمر الله، مجاهدة في سبيل الله، آمرة بالمعروف، ناهية عن المنكر، تعلم الناس علم الشرع، تدعو إلى الإسلام، تحارب البدع، تقاتل في سبيل الله بالسيف إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن ذلك جاهدت باللسان وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فميزتها القيام بأمر الدين، القيام بشأن الدين، ولذلك لم يصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالنجاة فقط كما وصف الفرقة الناجية، وإنما وصفها بوصف أعلى من النجاة، وهو النصر، أي أنهم يخوضون المعركة ضد الباطل، فهم الذين يمثلون الحق ويدعون إليه ويعلمونه، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبالجملة هم الذين يقومون بالفروض الكفائية التي لم يقم بها غيرهم. ولذلك وصفوا بالنصر، وأنهم قائمون بأمر الله، وأنهم صابرون لا يضرهم من خذلهم، فالذين يخذلونهم كثير، ولا يضرهم من خالفهم، فالذي يخالفهم كثير، وأنهم باقون حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 12 القرآن الكريم يتحدث عن هذه الطبقات وقد ذكر الله عز وجل هذه الدوائر الثلاث: دائرة المسلمين، ثم دائرة الفرقة الناجية، ثم دائرة الطائفة المنصورة في القرآن الكريم، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فهذه الآية إشارة إلى الدائرة الأولى وهي دائرة الإسلام التي يطالب بها كل إنسان، أن يكون مسلماً وأن يموت على الإسلام، ثم أشار إلى الدائرة الثانية، وهي لزوم الفرقة الناجية وترك الفرق المفترقة المخالفة لأهل السنة والجماعة، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] . ثم أشار سبحانه إلى الدائرة الثالثة، وهي دائرة الطائفة المنصورة، فقال: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104] . وأنت لو تأملت سياق الآيات، وجدت أن الآيات الأولى والثانية أمر لجميع المسلمين: (اتَّقُوا اللَّهَ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ) منهج أهل السنة، لكن لما انتقل الحديث إلى الكلام عن الطائفة المنصورة القائمة بفروض الكفاية، صار مطالبة للجميع أن يكون منهم -أي: أن يكون بعضهم- فقال: (ولتكن منكم -أي من بينكم- أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) أي: هم الذين استولوا على جميع أنواع الفلاح، فهم المفلحون لأنهم مسلمون، وهم المفلحون لأنهم لزموا منهج الفرقة الناجية، وهم المفلحون لأنهم سلكوا سبيل الطائفة المنصورة. أيها الإخوة إن وعي المسلم بهذه الدوائر يجعله يحرص دائماً على بلوغ الرتبة الأعلى، ويعلم أن المسلمين إذا قصروا في فروض الكفاية: من تعليم العلم الشرعي، من الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحاربة البدع، أصبحوا جميعاً آثمين بهذا التقصير، وأصبحوا جميعاً مطالبين بهذه الفروض، وهذا يجعل كل مسلم حريصاً على تحقيق الإسلام، حريصاً على تحقيق معنى انتسابه للفرقة الناجية، حريصاً على أن يكون فرداً من أفراد هذه الطائفة المنصورة التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تزال باقيةً إلى قيام الساعة. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم منهم، وأن يختم لي ولكم بالسعادة والشهادة، وأستغفر الله لي ولكم وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 13 الأسئلة الجزء: 151 ¦ الصفحة: 14 كشف المرأة لأقارب زوجها السؤال ما حكم كشف المرأة وجهها أمام أعمام زوجها وأقارب زوجها من أبناء عمومته؟ وهل يعتبر عم الزوج بمثابة الأب؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال في الحديث الصحيح: {إياكم والدخول على النساء! قالوا: يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت} إشارة إلى شدة خطره، والأحماء هم أقارب الزوج ممن ليسوا بمحارم للزوجة، كأخيه وعمه وابن عمه وسائر أقاربه، فخطرهم أشد، وشدة الخطر لكثرة ملابستهم وقربهم من المرأة وصعوبة التحرز منهم، وإمكانية وقوع الفتنة والفساد منهم أكثر من غيرهم، فالحذر منهم أوجب. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 15 التقصير في صلاة الفجر السؤال ليس لي ما أسأله إلا أن أقول: بماذا تنصحنا من ناحية تقصيرنا بصلاة الفجر وإهمالنا لأدائها مع الجماعة؟ الجواب في حديث رواه ابن حبان عن أنس قال: {كنا إذا فقدنا الرجل في صلاة الفجر أسأنا به الظن} وأثر ابن مسعود في صحيح مسلم في صلاة الجماعة: [[وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]] وإذا كان الكلام قبل قليل جاء في تحديد الفرقة الناجية وأنها من كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهذا ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: محافظتهم على صلاة الفجر في الجماعة حتى إنهم إذا فقدوا واحداً منهم أساءوا به الظن، وقالوا: لعله من المنافقين، فما بال كثير من المسلمين اليوم يسهرون إلى ساعات متأخرة من الليل سهراً في غير طائل، إما على كلام فارغ أو غيبة أو مشاهدة تلفاز أو غيره، أو لعب ورقة أو ما أشبه ذلك من الأمور التي يقولون نقتل بها الوقت؟! والله أعلم ما هي جريمة الوقت حتى يستحق أن يقتلوه! ثم إذا جاء وقت صلاة الفجر، وجدت الواحد منهم لا يستيقظ، ولا يرفع رأساً لها، وربما استمرأ بعضهم ذلك، فلم يعد يجاهد نفسه فيه، نسأل الله السلامة. فأنصح نفسي وإخوتي بالحرص والمحافظة على صلاة الفجر، فهي دليل عملي على الإيمان، استيقاظ الإنسان من فراشه على رغم رغبته في النوم في مثل هذا الوقت، وذهابه للوضوء ثم للصلاة دليل عملي على أنه إن شاء الله مؤمن، يوجد في قلبه من الدافع ما يدعو إلى إيثار الآخرة على الدنيا. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 16 الحكم بالتكفير على غير أهل السنة وأحوال بعض العلماء السؤال هل يصح أن يحكم على الفرق غير أهل السنة والجماعة بأنها كافرة؟ نسمع أن بعض العلماء كالحافظ ابن حجر والنووي وغيرهم أشعري العقيدة فهل هذا صحيح؟ الجواب أما فيما يتعلق في السؤال الأول فالرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سبقت الإشارة إليه قال: وستفترق هذه الأمة، وقال في آخر الحديث: {كلها في النار إلا واحدة} فذهب بعض المصنفين إلى أن هذه الفرق كافرة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم حكم عليها بالنار، ولكن الصحيح أنه لا يحكم على هذه الفرق بالكفر، بل هي فرق داخلة في الجملة في المسلمين. ولذلك جعلها واعتبرها النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأمة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن من حكم على جميع الفرق الثنتين والسبعين بأنها كافرة فقد خالف إجماع الأئمة الأربعة، بل إجماع الصحابة والتابعين وغيرهم، ولكن لا يمنع هذا أن نتصور أن بعض الفرق الثنتين والسبعين غلت في انحرافها حتى كفرت في الجملة، ولا يعني هذا بالضرورة تكفير أفرادها بأعيانهم؟ فقد يكون فيهم من لا يفقه عقيدتهم ولا يعرف انحرافهم. أما فيما يتعلق في الحديث عن الأشخاص كـ ابن حجر أو ابن تيمية أو غيرهم من العلماء، فهناك قضية مهمة جداً يجب أن ينتبه لها الدعاة إلى الله عز وجل وطلاب العلم، وهي أن الحكم بالبدعة أو بالكفر إنما هو على الجملة، ولسنا مطالبين بأن نحكم على الأفراد، فننزل الناس منازلهم في الجنة أو النار، في الهدى أو في الضلال، إلا أن يكون ثمة إنسان داعية إلى ضلال أو داعية إلى بدعة ومعروف بذلك، فيبين ما وقع في ذلك من بدعة أو ضلالة ليحذر منها الناس. أما الاشتغال بتصنيف العلماء، وأن فلاناً أشعري، وفلان ليس بأشعري، فلا أرى له ضرورة إلا في الأمور الواضحة؛ وذلك لأن كثيراً من العلماء قد يكون لديه موقف واحد أو رأي واحد حكم العلماء بأنه قد خالف مذهب أهل السنة والجماعة، أو موقفان أو عشرة، لكن ليس هذا بناء على منهج يعتبر مخالفاً لمنهج أهل السنة والجماعة، فهل يستطيع أن يقول أحد: إن الحافظ ابن حجر رحمه الله المعروف تعظيمه للكتاب والسنة ووقوفه عند النصوص أنه ملتزم بمذهب الأشاعرة مثلاً. الظاهر من تتبع أقواله في الفتح وغيرها أن الجواب بالنفي، وإن كان يوافق الأشاعرة في بعض جوانب الاعتقاد، لكنه يوافق أهل السنة في جوانب أخرى وفي أصول كثيرة كنبذ علم الكلام وتقديم النصوص وما أشبه ذلك، وهكذا الحال في كثير من أهل العلم، فينبغي أن ننتبه لذلك وألا نعتقد أننا ملزمون بأن نضع كل عالم من العلماء أن نحشره ضمن قائمة من القوائم، قد نقول: إن هذا العالم لا يمكن تصنيفه؛ لأنه في مجال الاعتقاد غالب ما لديه على مذهب أهل السنة، لكن لديه أشياء انتقدها عليه أهل العلم، وقد يكون دافعه فيها الاجتهاد، والله عز وجل يغفر لنا ولهم أجمعين. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 17 كتب لطالب العلم السؤال ما هي الكتب التي ينصح بها فضيلة الشيخ بعد كتاب الله تعالى، والتي يستطيع أن يستفيد منها طالب العلم المبتدئ؟ الجواب الكتب كثيرة، وقد أصدر أحد المراكز في القصيم قائمة طيبة فيها مجموعة من الكتب المنتقاة في كل فن من الفنون، ومن هذه الكتب كتاب معارج القبول للـ حكمي، وكتب الشيخ الأشقر في العقيدة الإسلامية، وكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب مع شرحه فتح المجيد، ومن هذه الكتب في مجال الحديث رياض الصالحين ومختصر صحيح البخاري، ومختصر صحيح مسلم، وكتاب الترغيب والترهيب وخاصة مع صحيح الترغيب والترهيب والذي صدر منه جزء واحد للشيخ الألباني، ومن هذه الكتب في مجال التفسير تفسير الحافظ ابن كثير، وهو من أنفع كتب التفسير وأوضحها وأكثرها قبولاً، ويتميز بترجيح الآراء بعضها على بعض، ومن الكتب المعاصرة المفيدة كتب أبي الحسن الندوي ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، وإلى الإسلام من جديد، وكتب الشيخ أبي الأعلى المودودي، وكتب سيد قطب ومحمد قطب وغيرها؛ مع أن هذه الكتب وغيرها لا تخلو من أخطاء، أبى الله أن يكون الكمال إلا لكتابه، فالإنسان يأخذ ما في هذه الكتب من النافع، وينتبه إلى بعض الملحوظات، خاصة ما يتعلق بجوانب التصورات الاعتقادية فيها. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 18 دخول الحائض إلى المسجد السؤال هل يجوز للمرأة دخول المسجد لا ستماع المحاضرة وهي حائض؟ الجواب الأصل منع النساء من دخول المسجد إذا لم تكن طاهراً، فلا يجوز لها دخول المسجد في هذه الحال إلا لو كان هناك حالات اضطرارية كما ذكر بعض أهل العلم، أما دخول المسجد للمحاضرة فليس أمراً ضرورياً، وبإمكان المرأة أن تسمع المحاضرة في شريط ولو بعد حين من إلقائها، أو أن تسأل بعض من حضرنها عن مجمل ما ألقي فيها أو غير ذلك، وحتى لو لم يتيسر هذا ولا ذاك؛ فإنه لا يجوز للحائض دخول المسجد. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 19 جزاء الكفار على ما قدموه للبشرية السؤال ما دامت الجنة محرمة على الكفار والمشركين، ونحن نرى أن بعضهم قد أدى خدمات وأعمالاً نافعةً للبشر كصناعة الكهرباء والآلات الناجحة وغيرها، ونعلم أن الله يجزي كل من أحسن عملاً بالحسنى، فكيف يكون جزاء أولئك الكفار مع أن الجنة محرمة عليهم؟ الجواب هذا السؤال يذكرني بكلمة للدكتور السابق في نفس الموضوع السابق، يقول هذا الكاتب نقلاً عن محمود أبي رية في كتاب له اسمه "دين الله الواحد" يقول: روى أنه شهد مجلساً لبعض المشايخ، وجرى الحديث في من سيدخلون الجنة ومن سيحرمون منها، فسألهم وما قولكم في أديسون مخترع النور الكهربائي؟ فقالوا: إنه سيدخل النار، فقال لهم أبو رية -وهو من مشاهير المبتدعة في هذا الزمان- قال لهم: بعد أن أضاء العالم كله حتى مساجدكم وبيوتكم باختراعه؟! قالوا: ولو! لأنه لم ينطق بالشهادتين، ونقول: لا شك أن الجنة حرام على الكافرين، أما من يقدم خدمات في هذه الدنيا فإن الله يجزيه بها عاجلاً. ولذلك أديسون اسمه على كل لسان، والناس يلهجون بذكره؛ لأنه -كما يقولون- قدم خدمة للبشرية وللإنسانية، فجازاه الله جزاءً عاجلاً في هذه الدنيا كذلك الإنسان المسلم الذي ينفق المال رياءً وسمعةً يحبط عمله، فيجازيه الله عز وجل بأن يكتب اسمه في الصحف والجرائد بأنه تبرع بكذا وكذا، هذا جزاء عاجل؛ ذكرٌ حسنٌ للإنسان، وقد يجازى بأشياء أخرى في هذه الدنيا. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 20 من فضائل الشام السؤال نسمع عن الطائفة المنصورة وأنها توجد في الشام، هل يتفضل فضيلة الشيخ بتحديد الطائفة المنصورة، فمن يمثلها في هذا العصر؟ الجواب أما أنهم بالشام فنعم، ثبتت أحاديث منها حديث عن معاذ في صحيح البخاري عن مالك بن يخامر قال سمعت معاذاً يقول: [[وهم بالشام]] ومنها أحاديث كثيرة صحيحة، لكن قوله: وهم بالشام يحمل على عدة محامل، منها -ومن أقواها فيما يظهر- أن هذا إشارة إلى وجودهم في الشام في آخر الزمان؛ لأن الأحاديث الكثيرة صرحت بأن المؤمنين المقاتلين في آخر الزمان الذين يكونون مع المهدي عليه السلام، والذين يكونون مع عيسى بن مريم عليه السلام، والذين يقاتلون الدجال، ويقاتلون الروم، أنهم بالشام، فيكون هذا الحديث إشارة إلى أن آخر أمرهم أن يجتمعوا بالشام، ومنها تقبض أرواحهم قبيل الساعة. أما فيما عدا ذلك، فالطائفة المنصورة ليست محصورة في نوع معين من الناس، شجعان مقاتلون، ومنهم علماء، ومنهم دعاة، ومنهم أصناف مما يحتاج إليه المسلمون ممن يقومون بفروض الكفاية ويلتزمون بمنهج أهل السنة والجماعة، وكذلك فهم ليسوا محصورين في بلد واحد، بل هم في بلدان شتى، وقد يجتمعون في وقت من الأوقات في بلد واحد كما هي الحال فيما يتعلق بالشام. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 21 علاج الفتور السؤال ما هي نصيحتك لبعض الشباب الذين يجدون في أنفسهم أحياناً بعض الضعف من حيث التكاسل عن الدعوة والحماس لها، وما هي الوسائل التي تجعل الحماس دائماً في نفس الشخص لا يخمد ويتلاشى؟ الجواب من الوسائل أن يحرص الإنسان على أن يستعين في هذا الباب بمن هو على شاكلته، فإن الإنسان يأخذ ممن حوله، فالنشاط يعدي، والكسل يعدي، فإذا جالس الإنسان قوماً نشطين في مجال الدعوة إلى الله عز وجل أخذ منهم هذا الأمر واستفاده، وإذا جالس قوماً قاعدين أو كسالى أو بطالين، أخذ هذا منهم واستفاده، كما أن على الإنسان أن يستحضر النية؛ لأن استحضار النية يجعل الداعي يشعر بأنه يعبد الله عز وجل، وكذلك الاستمرار يجعل الإنسان يرى بعض النتائج القريبة التي تشجعه على الاستمرار في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، هذه بعض الوسائل. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 22 إنكار المنكر لمن يفعله السؤال أحياناً أرى منكراً وأريد أن أنكره، ولكن يوسوس لي الشيطان بألا أنكره؛ لأني أفعل هذا المنكر، والسؤال: هل أنكر المنكر مع أني أفعله؟ أم لا أنكر إلا بعد التخلص من هذا المنكر؟ الجواب الواقع في المنكر يجب عليه أمران: الأمر الأول أن يترك المنكر، والأمر الثاني: أن ينهى عن المنكر، وهذا هو الواجب، وقد عير الله عز وجل بني إسرائيل حين أمروا بالمعروف ونسوا أنفسهم فقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] وبين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة في البخاري ومسلم قصة الرجل الذي يلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه. لكن يجب أن يُعلم أن الإنسان -وإن قصر فوقع في المنكر- يجب أن ينهى عنه ولو كان واقعاً فيه، ولو قصر فترك المعروف الواجب يجب أن يأمر به ولو لم يفعله، وهذا القول الصحيح لجماهير السلف والخلف، وشواهده كثيرة جداً أكتفي منها بدليل واحد، وهو قول الله عز وجل: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] . فأسند التناهي إلى الفاعلين، فدل على أنه كان يجب عليهم وهم يفعلونه أن يتناهوا عنه، ولذلك ذكر المفسرون عند هذه الآية قول بعض الأصوليين: واجب على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، أي أن القوم المجتمعون على شرب الخمر يجب أن ينهى بعضهم بعضاً عن هذا الفعل. وقال الإمام مالك: لو لم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن المنكر إلا إذا سلم، لم يؤمر بمعروف ولم ينه عن منكر، من ذا الذي ليس فيه شيء؟! فهذه الواجبات منفصلة، كل مسلم عليه أربع واجبات: فعل المعروف، والأمر به، وترك المنكر، والنهي عنه، وإخلاله بواجب لا يعني أن الشرع يعذره في الإخلال بالواجب الثاني، افترض أن أباً في بيته يفعل المنكر؛ أنقول له: دع أولادك يفعلون المنكر؟! افترض أن أميراً أو مسئولاً في إدارة هو فاعل للمنكر، نقول له: اترك من تحت يدك يفعلون المنكر؛ لأنك واقع فيه؟! كلا! افترض أن شخصاً يفعل المنكر وهو يعلم، وآخر يفعله جاهلاً، نقول: دعه لأنك واقع فيه؟! كلا! نقول: علمه. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 23 تقسيم طبقات الفائزين السؤال هل يمكن ترتيب طبقات الفائزين إلى طبقات معلومة؟ الجواب ظهر خلال المحاضرة أنه يمكن تقسيم الفائزين في الجملة إلى ثلاث طبقات أو ثلاث دوائر؛ لكن ربما يقصد السائل هل يمكن تقسيم كل طبقة من هذه الطبقات إلى دوائر أخرى. فأقول: إن مما لا شك فيه أن الناس داخل هذه الطبقات متفاوتون، ولا أدل على ذلك من أننا نجد أن الطائفة المنصورة التي هي أعلى طبقات الفائزين في الجملة يوجد من بينها أفراد يمتن الله سبحانه وتعالى عليهم، ويختصهم بخصيصة ليست لغيرهم، وهي أنهم يقومون بتجديد الدين لهذه الأمة كما أخبر عنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن الذي رواه أبو داود عن أبي هريرة. لكن من الصعب تحديد هذه الطبقات، إنما يلحظها المتأمل في تفاوت الناس وتفاضل بعضهم على بعض. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 24 الجمع بين الدعوة والعلم السؤال ما نصيحتك للشباب الذين يقولون: إن الجمع بين الدعوة والعلم شيء صعب؟ الجواب نصيحتي أن يدرك المسلم والشاب خاصة أنه مطالب بواجبات كثيرة، وأن عليه أن يستفرغ أوقاته في أداء هذه الواجبات بصورة متوازنة، وألا يكون أداؤه لأحد الواجبات على حساب الواجب الآخر، وإن كان الإنسان قد يجد في نفسه ميلاً لبعض الأشياء أو يحس بأن شخصيته تتناسب مع بعض الأمور، إلا أنه مع ذلك ينبغي أن يحرص على التكامل في شخصيته. فالداعية يمكن أن يطلب العلم، وطالب العلم يمكن أن يدعو إلى الله عز وجل، والعلم إنما كان طلبه مهماً حتى تكون دعوة الإنسان إلى الله على بصيرة، فمن دعا إلى الله عز وجل بلا علم فقد أخل بالوسيلة الأساسية للدعوة، ومن علم ولم يدع إلى الله فقد تمكن من الوسيلة، ولكنه لم يستخدمها فيما هي له، فلا بد من التوازن والتكامل في شخصية المسلم. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 25 المتساقطون على طريق الدعوة السؤال أشهد الله على حبك فيه، وأسأل الله أن يجمعني وإياك وسائر إخواني المسلمين في جنته، إن لي أحد الإخوة في الله، وقد ترك إخوانه بسبب تنفير بعضهم له، هل من نصيحة تتفضلون بها لكلا الفريقين، أعني الأخ المنفر والإخوة الآخرين؟ وما الطريقة المثلى لإعادته إلى الإخوة؟ الجواب الحديث في هذا الموضوع يطول، ولكن إشارات عابرة. الأولى: إن الله عز وجل قد أمرنا بحسن الخلق، وأن يحسن بعضنا إلى بعض في القول وفي العمل، حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة صحيحة: {أن العبد يبلغ بحسن الخلق درجة الصائم القائم} وأن حسن الخلق يرفع العبد درجات يوم القيامة ويقربه من النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث في الترمذي وغيره. الإشارة الثانية: أنه مع ذلك فإن طبيعة التجمع البشري ألا يخلو من أخطاء، فهذا قد يخطئ على أخيه خطأً غير مقصود بسبب اختلاف الطبيعة فيما بينهما، فهذا شخص بطبيعته سريع الانفعال، وذاك شخص بطبيعته شديد الحساسية، فتجد أن هناك أشياء يشعر البعض أنها أخطاء، وقد لا تكون الأخطاء مقصودة، إضافة إلى أن هناك أخطاءً مقصودة لا بد أن تقع من البشر، ومجتمع البشر ليس مجتمع ملائكة، فالإنسان يجب أن يوطن نفسه على أنه يتحمل أخطاء الآخرين كما يتحمل الآخرون أخطاءه، ولا مانع من المناصحة -بل هي واجبة- والتنبيه على الخطأ برفق ولين وأدب. أما الطريقة المثلى فهي أن يحادثه شخص يثق به ويحترمه في الموضوع، ويبحث عن السبب، فإن كان هناك أخطاء من أطراف أخرى، فإن الخطأ يبين وينبه صاحبه عليه، وإن كان هناك خطأ من الشخص نفسه، فإنه يبين له أن هذا الخطأ لم يقع موقعاً عظيماً، وأن الآخرين قد نسوا هذا الخطأ أو تناسوه، وبذلك يمكن -ومع استمرار المحاولة- إعادة هذا الإنسان إلى المجال الخيري. الجزء: 151 ¦ الصفحة: 26 أولئك هم الصابرون الصبر ضرورة من ضرورات الحياة، فإنه لابد من البلاء لكل إنسان، فمن رضي واحتسب كان على خير، ومن سخط مر عليه القدر وكُتب غير صابر، والصبر أنواع يجب معرفتها، وهو درجات، وأحوال الناس فيه مختلفة، وللناس فيه نماذج مشرقة في الأنبياء والصالحين، والجنة لا يلقاها إلا الصابرون. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 1 ضرورة الصبر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام الصابرين وقدوة الخلق أجمعين عليه صلوات الله تعالى وسلامه إلى يوم الدين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه وأتباعه إنه تعالى جواد كريم بر رءوف رحيم. ثم أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:- أيها الإخوة والأخوات عامة! ويا أهل البكيرية خاصة! إني والله لأحبكم في الله، وأحب ذكركم وزيارتكم ومجالستكم ومحادثتكم، وأفرح بسماع أخباركم وأخبار بلدكم الطيب المبارك هذا، فالحمد لله تعالى الذي جمعنا في هذا المكان الذي هو أطيب وأحب البقاع إلى الله تعالى، في هذا المسجد العامر المبارك، العامر بذكر الله تعالى ودعائه واستغفاره، ثم الحمد لله أيضا على أن جعل في بلاد الإسلام أمثال هذه البلاد المباركة، البلاد الودود الولود التي تأتي بالأكابر الأفاضل الكرام البررة الأخيار في كل ميدان وفي كل مجال. فأسأل الله تعالى أن يجعلكم وسائر بلاد المسلمين جميعاً بلاداً عامرة بالإيمان والتقوى، وأسأل الله تعالى أن يجمع القلوب على طاعته، ثم إن حديثي إليكم هذه الليلة هو بعنوان: أولئك هم الصابرون وهو درس ضمن سلسلة الدروس العلمية العامة، رقمه سبع وتسعون، في هذه الليلة ليلة الإثنين الثالث عشر من شهر ربيع الأول من سنة (1414هـ) في هذا المسجد العامر الجامع الكبير بالبكيرية. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] . كيف يُحتاج التواصي بالصبر بعد هذا البيان الرباني العظيم، كيف يحتاج إلى تسويغ أو تدليل، وهل نفتقر بعد هذا إلى ذكر أسباب أو دوافع تدعو إلى طرق هذا الحديث، أو الكلام عنه، أو التفصيل فيه، كلا، إن الحياة كلها لا تقوم إلا على الصبر، وإن المشكلات كافة لا دواء لها إلا بالصبر. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 2 صبر أهل الكهف هؤلاء فتية آمنوا بربهم وزادهم الله تعالى هدى، فرفعوا رءوسهم وقالوا: {هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّن} [الكهف:15] فسلطت عليهم ألوان العذاب والنكال، وأوذوا في سبيل الله تعالى وطردوا وشردوا فوق كل أرض وتحت كل سماء، فهذا قتيل يتشحط بدمه، وهذا جريح، وهذا شريد، وهذا طريد، وهذا كسير، وهذا أسير، وهذا فقير، وهذا وهذا، مالهم بعد الله تعالى إلا الصبر؛ به يعتصمون، وإليه يلجئون، ومنه ينطلقون. وهؤلاء قوم ناضلوا في دنياهم وكابدوا وجاهدوا فاحتاجوا بعد ذلك إلى صبر يتمنطقون به ويعتصمون به حتى يستمروا على طريقهم الطويل. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 3 ضرورة صبر الداعية إلى الله وهذا داعية إلى الله تعالى دعا قومه ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً، وسلك كل سبيل، وطرق كل جادة، واستخدم كل أسلوب فربما أبطأ عنه النصر، وربما تأخرت الإجابة؛ فهو محتاج إلى الصبر ليعلم أنه لا نجاح لدعوته ولا قبول لندائه إلا بصبر في هذا السبيل: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4-5] الجزء: 152 ¦ الصفحة: 4 صبر المرأة في بيت زوجها وهذه امرأة في عقر بيتها تجد زوجاً تقدم إليه الجميل فيقدم لها ضد ذلك، وتطلب منه اليسير فيعاملها بغير ما أمر الله تعالى وغير ما شرع، فتبحث عن علاج أو حل هنا أو هناك، وتمارس كل أسلوب وطريقة وسبيل، لكنها لا تجد إلا أبواباً مغلقة، فتشتكي إلى الله تعالى؛ والله تعالى يسمع تحاورهما إن الله سميع بصير، فما بقي لها بعد الله تعالى إلا الصبر تزين به حياتها، وتجمل به علاقتها بزوجها. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 5 صبر الرجل على زوجته وهذا أيضاً رجل ابتلي بزوجة نغصت عليه عيشه، وكدرت عليه حياته. وقلبتها إلى جحيم لا يطاق إلا بصبر يلين كل شديد، ويسهل كل عسير، ويقرب كل بعيد. إن حياة الفرد في مجتمعه، وحياة الزوج مع زوجه رجلاً أو امرأة، وحياة الولد مع أبيه، وحياة الداعية، والعالم، والمجاهد، وحياة الإنسان، بل وحياة التاجر والمدير والأمير والكبير والصغير، إنه لا نجاح لهذه الحياة إلا بالصبر، وقديماً قال الإمام الكبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]] . الجزء: 152 ¦ الصفحة: 6 جولة قرآنية في مدلولات الصبر الوقفة الثانية: جولة قرآنية. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "ذكر الله تعالى الصبر في تسعين موضعاً"، قال ابن القيم في مدارج السالكين: "وهو مذكور في القرآن على ستة عشر نوعاً"، ثم أوصلها في عدة الصابرين إلى اثنين وعشرين نوعاً، ومن هذه الأوجه والأنواع التي جاء ذكر الصبر فيها في القرآن والسنة، منها على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل:- الأمر بالصبر: كما قال الله تعالى: (فَاصْبِرْ) في مواضع كثيرة والنهي عن ضده، وما هو ضد الصبر؟ الجزع ضد الصبر: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] . إن الاستعجال ضد الصبر، قال الله تعالى: {اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35] فاستعجال الخطوات، والطريق، والعذاب الذي ينزل بالكافرين كل ذلك نقيض الصبر، والله تعالى أمر رسله الكرام بالصبر ونهاهم عن الاستعجال، ولهذا جاء في الصحيحين أن الصحابة رضي الله عنهم اشتكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقالوا: {ألا تدعو لنا؟ ألا تستنصر لنا؟ فقال لهم عليه الصلاة والسلام إن من كان قبلكم كان يحفر له في الأرض فيوضع فيها، ثم يمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يثنيه ذلك عن دينه، ويشق نصفان لا يصده ذلك عنه دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يصير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله تعالى والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} فالاستعجال نقيض الصبر. واليأس نقيض الصبر: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] أما المؤمن فصبور مؤمن بوعد الله تعالى لا يجد اليأس إلى قلبه سبيلاً. والاستخفاف نقيض الصبر، قال الله تعالى: {وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] . وكذلك الاستفزاز قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ} [الإسراء:76] . والفتنة عن المنهج والطريق قال الله: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] . أما الصبور فهو لا يراوح في مكانه، صابر يموت مثلما تموت الشجرة، بقوتها وقامتها وصبرها وثباتها تواجه الرياح والعواصف والأعاصير والرمال والنكبات، وهي ذات جذع غليظ ضارب في التربة راسخ لا يتزعزع ولا يتزلزل، ولا تنكفئ به الرياح ذات اليمين وذات الشمال. فهو لا يجزع؛ إن مسه الخير صبر وشكر، وإن مسه الشر صبر وثبت، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: {عجباً لأمرالمؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} . ولذلك جاء في الأثر [[إن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر]] فالصبر في الضراء والشكر في السراء، قال عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه: [[لو أن الصبر والشكر كانا جملين ما أبالي أيهما ركبت]] إما أن يبتلى فيصبر أو أن ينعم عليه فيشكر. فالمؤمن لا يجزع ولا يستعجل الخطوات، ولا يستبطئ النصر، ولا ييأس من روح الله، ولا يستخفه الذين لا يوقنون فيحملونه على أن يترك منهجه، أو ييأس من طريقه، أو يشكك في دعوته، أو تأتيه الظنون وتراوح به الخواطر في قلبه، فيشك فيما وعد الله، وما وعد الله تعالى حق وصدق: {ولَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] . ولا يستفز المؤمن فيستعجل طريقه، أو يبطئ في خطواته، أو يترك منهجه، أو يفتن عن شيء منه. ومن الصور الواردة في القرآن الكريم، أن الله تعالى علق الإمامة في الدين بالصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] وكذلك علق الله تعالى به الفلاح، وأخبر أنه يحب الصابرين، وأنه مع الصابرين، وأنه تعالى جعل الصبر عوناً وعدة، وأمر بالاستعانة به في كل نازلة تنزل بالعبد، مصيبة دنيوية أو دينية، أو هم أو غم أو كرب أو حزن، كما قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46] . وبين سبحانه أن الصبر مع التقوى سبب للنصر والثبات، كما قال سبحانه: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيئَاً} [آل عمران:120] وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {واعلم أن النصر مع الصبر} وأخبر أن الصبر جنة عظيمة من كيد العدو، كما قال الله فيما سبق: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} [آل عمران:120] فلم يتوقف كيدهم ساعة من نهار. اليهود والنصارى والمشركون والوثنيون، وسائر أعداء الدين ما فتئوا يكيدون لهذا الدين ويحاربون أهله، ويرسمون الخطط سراً وجهارا بالتكفير والتضليل والتجويع والتفريق بين المؤمنين، لكن الله تعالى جعل الجنة والعصمة للصابرين المتقين، وأخبر أن ما حصل للأمم السابقة من التمكين والنصر والتثبيت في الأرض إنما هو بصبرهم، كما قال سبحانه: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} [الأعراف:137] . فهؤلاء الطغاة الذين كادوا ودبروا وصنعوا وتآمروا دمر الله تعالى عليهم تدميراً، وللكافرين أمثالها: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} [الأعراف:137] وعلى غيرهم من الأمم المؤمنة بما صبروا، فنصرهم الله تعالى ومكن لهم في الأرض، وجعل الله تعالى ما حصل لنبيه يوسف عليه الصلاة والسلام من العز والتمكين في الأرض بعد البلاء والغربة وما جرى له في قصر العزيز إنما هو بصبره وتقواه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فإن اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] . وجمع للصابرين من الأمور ما لم يجمع لغيرهم، قال سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45-46] {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] ثم أخبر عن مضاعفة الأجور للصابرين وأنهم يجزون بأحسن أعمالهم: {وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:96] . ورتب الأجر الكبير والمغفرة على الصبر والعمل الصالح: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [هود:11] وأخبر سبحانه أن الملائكة تدخل عليهم يوم القيامة من كل باب تسلم عليهم، وتهنيهم بالأجر العظيم والثواب الجزيل الذي حصل لهم بصبرهم: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23-24] . وجعل الصبر على المصائب من عزائم الأمور الذي ينبغي على كل امرئ مسلم رجلاً أو امرأة كبيراً أو صغيراً أن يلجأ إليه ويسعى له: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] كما أخبر أن خصال الخير والحظوظ العالية لا يلقاها إلا الصابرون: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35] كما أخبر سبحانه أن خصال الخير كما ذكرت إنما ينالها الصابرون {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] . وذكر أن الذين ينتفعون بالآيات ويعتبرون هم أهل الصبر والشكر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [لقمان:31] ثم اثنى على بعض عباده بالصبر؛ كما اثنى على أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص:44] وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} وقال عليه الصلاة والسلام: {ومن يتصبر يصبره الله} وقال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي مالك الأشعري: {والصبر ضياء} ضياء ينير لك الظلام، ويمهد لك الطريق، ويفتح لك السدد والأبواب بإذن الحي القيوم الوهاب. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 7 أحوال الناس مع الصبر ثالثاً: ((فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)) [التغابن:2] . قال الله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} [الحديد:20] ولهذا تجد أن الكافر الذي كان في الدنيا منتهى قصده وغاية مراده ومطمح نظره، أن يعب من اللذات ما استطاع لأنها فرصته الوحيدة، فيسكر بخمر اللذة والشهوة، ثم يسكر وهو ينادي: سمعت صوتاً هاتفاً في السحر نادى من الغيب رفات البشر هبوا املئوا كأس الطلا قبل أن تملأ كأس العمر كف القدر أفق وهات الكأس أنعم بها واكسب خفايا النفس من حجبها وروي أوصالي بها قبل ما يصاغ دن الخمر من تربها ويفرق الكافر من البلاء والعناء، ويضيق بكل مصيبة تنزل به فتمتلئ نفسه كآبة وحسرة ويمتلئ قلبه هماً وغماً وندماً، وتنتهي حياته نهاية بائسة محطمة أليمة دون أن يدري لماذا ابتدأت؟ ولا لماذا تنتهي؟ فأنت تجد الكافر هلوعاً جزوعاً منوعاً، ربما غابت عنه صديقته أو حبيبته أو ذهبت إلى عشيق آخر فلا يجد مخلصاً إلا أن ينتحر أو ينهي حياته بشر حال؛ لأنه جعل الحياة كلها ملخصة مقتصرة بهذه العشيقة أو الكأس أو الصفقة أو هذا المنصب أو الكرسي، فهو يقول: أوراء القبر بعد الموت بعث ونشور فحياة فخلود أم ثناء ودثور أكلام الناس صدق أم كلام الناس زور أصحيح أن بعض الناس يدري؟ لست أدري أما المؤمن فنظرته الصادقة الملتزمة المتزنة تؤكد له ألاَّ يجزع عند مصيبة، ولا ييأس عند ضائقة، ولا يبطر عند نعمة، وأن يقتصر من متاع الدنيا على المباح طلباً للمتعة الكاملة عند الله تعالى في الدار الآخرة. قرب لـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وهو من أثرياء الصحابة وأغنيائهم، وأصحاب الملايين منهم، قرب له طعام فلما نظر إليه تذكر ماضي حياته، فبكى ثم بكى ثم بكى، وأمر بالخوان فرفع، قيل له: ما يبكيك رحمك الله؟ قال: [[كنت مع أخي مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وكان خيراً مني وأفضل، ومات ولم نجد ما نكفنه به إلا بردة إن غطينا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطينا رجليه ظهر رأسه، فأمرنا النبي عليه الصلاة والسلام أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه الإذخر، ثم أصابنا من الدنيا ما أصابنا فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا في الحياة الدنيا]] . إن التصور بين المؤمن والكافر كبير، والمنهج والطريق متباعد، ولهذا صارت الحياة صراعاً بين المؤمنين والكافرين بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال، بين أهل الدنيا وأهل الآخرة، فيبتلي الله تعالى بعض الخلق ببعض، يبتلي المؤمن بالكافر، كما يبتلي الكافر بالمؤمن، وهذا النوع من الابتلاء هو قاسم مشترك بينهم جميعاً، قال الله تعالى: {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد:4] وقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253] وقال سبحانه في الحديث القدسي الذي رواه مسلم، قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك} فالله تعالى يداول الأيام بين الناس، يديل للمؤمنين من الكفار تارة، ويديل للكفار من المؤمنين تارة، ويجعل الكفار تحت سلطة المؤمنين وقهرهم أحياناً، كما جرى ذلك عبر أكثر من عشرة قرون؛ حيث كان اليهود والنصارى تحت سلطة المسلمين، كأهل ذمة أو أهل عهد أو مقهورين مأسورين محاربين يشرد بهم المؤمنون من خلفهم في كل مكان. وأحياناً يجعل الله المؤمنين تحت قهر الكفار أو المنافقين وتسلطهم، والدهر هكذا لا يدوم على حال له شأن، كما قال الشاعر: وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان وهذا البلاء الذي يلقاه المؤمن في سبيل الدين أثر من آثار الاستقامة على المنهج، فإذا أصابه في سبيل دينه ما أصابه من أذى سواء كان هذا الأذى من قريب، من والد أو زوج أو أخ أو صديق، أو من المجتمع كله، من أسرة، دولة، أمة، من جهة، فإن هذا البلاء يجعل المؤمن بين موقفين لا ثالث لهما: الموقف الأول: النكوص والتراجع عن هذا الطريق الذي سبب له الآلام وعرضه للمحن، وهذا حال صنف من الناس وصفهم الله تعالى في كتابه فقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10] وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] أي: على طرف أو على حال معينة، يعبد الله على حال السراء فقط، أما إذا جاءت الضراء تغيرت عبادته {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فإن أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11] . جاء في الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنه: [[أن الرجل من الأعراب كان يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ولد له بعد الإسلام غلام، ونتجت خيله وكثر ماله، قال: هذا دين حسن، هذا دين جيد فآمن وثبت، أما إذا لم يولد له غلام، ولم تنتج خيله، ولم يكثر ماله، أو أصابه قحط، أو جدب، قال: هذا دين سيئ ثم خرج من دينه وتركه إلى كفره وعناده]] . وبعض الناس يقول: لو كان هذا الدين خيراً ما تسبب في حرماني من وظيفتي -مثلاً- أو حرماني من الترفيع والعلاوة، أو مصادرة حريتي، أو كساد تجارتي، أو فراق زوجتي، أو إيذائي، أو قحط أرضي، فيفرق فيترك الطريق. أما الموقف الثاني: فهو موقف الصبر والإصرار، والثبات مهما تطلب الصبر من الجهود والتضحيات، ومضاعفة الصبر كلما تضاعف الألم، والاستمرار على الصبر مهما طال الطريق، ولهذا قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا} [آل عمران:200] فأمر بالصبر، ثم قال: {وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فهي أربعة أمور: الأول: (اصْبِرُوا) : وهذا أمر بالصبر، ثم ترقى بعد ذلك فقال: (وَصَابِرُوا) أي: إذا واجهتم قوماً صبروا كما صبرتم، لأن الكافر يصبر أيضاً في سبيل دينه. إذاً المؤمن لا يكفي منه الصبر، بل لا بد أن يصابر حتى يتغلب على الكافر، ثم قال: (وَرَابِطُوا) أي: استمروا على المصابرة، فإن الكافر أيضاً قد يصابر ولكنه لا يرابط، فيصابر ساعة أو ساعتين أو يوماً أو يومين ثم يزول بعد ذلك، ولهذا قال الله عز وجل: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنهم يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] . وأخيراً: (وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فإنه لا بد مع الصبر من تقوى، وبعض الناس قد يكون عنده صبر، ولكن ليس عنده تقوى كما سوف يأتي، وهذا هو موقف المؤمنين الصادقين في عقد الإيمان، الذين لا تزيدهم المحن إلا إيماناً بالله وتسليماً وتصديقاً بوعده ووعد رسوله عليه الصلاة والسلام، كما حصل للمؤمنين يوم الأحزاب، وذلك لتميز مدعي الإيمان من الصادقين في إيمانهم، كما سمى الله عز وجل الابتلاء فتنة، لأنه يمحص الصادق من الكاذب، ويبين للإنسان قوته من ضعفه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وقال الله تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1-3] . ومن رحمة الله بعباده المؤمنين أن الله تعالى يسلط عليهم البلاء، ليربيهم به، ويرقيهم به شيئاً فشيئاً، ثم يرزقهم الثبات عليه لينالوا عنده عظيم الأجر وجزيل الثواب، فيربيهم بالمحن والشدائد، ويصفي قلوبهم من الدخل والدغل والغش والريبة والنفاق والضعف، وكلما خرجوا من محنة أو فتنة بالصبر والثبات والإصرار قيض لهم أخرى أشد منها وأقوى، بعد أن وعوا درس المحنة الأولى، وارتقى مستوى إيمانهم ويقينهم، ولهذا جاء في حديث سعد بن أبي وقاص، الذي رواه أهل السنن وهو صحيح أنه قال: {يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه؛ وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي في الأرض ما عليه خطيئة} . وفي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك تصيبه الحمى، ويشتد عليه الوعك والبلاء، قال: فوضعت يدي عليه فوجدت حره في يدي من فوق اللحاف، فقلت: يا رسول الله! ما أشدها عليك؟ قال: نعم إنا كذلك يضاعف لنا البلاء ويضاعف لنا الأجر قلت: يا رسول الله! أي الناس أشد بلاءً، قال: {الأنبياء} قلت: ثم من؟ قال: ثم الصالحون، وإن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء} . الحديث رواه ابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم وهو حديث صحيح، ومثله أيضاً حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إني أوعك كما يوعك رجلان منكم قال: ذلك يا رسول الله أن لك أجرين؟ قال: أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى؛ شوكة فما فوقها إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها} والحديث رواه الشيخان الجزء: 152 ¦ الصفحة: 8 صور الفتنة الرابعة: صور الفتنة. إن الفتنة تأخذ صوراً شتى، منها: أن يتعرض المؤمن للأذى من الباطل وأهله، ثم لا يجد النصير الذي يسانده ويساعده ولا القوة التي يواجه بها الأذى والطغيان من أعداء الله تعالى ورسله. ومنها: فتنة الأهل والأحباب الذين يخشى عليهم الإنسان أن يصيبهم بسببه أذى وهو لا يملك لهم دفعاً، وقد يهتفون به ليسالم أو يستسلم أو يحفظهم في قرابتهم. ومنها: فتنة إقبال الدنيا على أهل الباطل وأهل الكفر، وتعظيم الناس لهم وهم ملء سمع الدنيا وملء بصرها، وهو مهمل منكر لا يحس به أحد ولا يشعر بقيمة الحق الذي معه إلا القليل. ومنها: فتنة الغربة، غربة الإنسان في بيته، استيحاشه في عقيدته حين ينظر المؤمن فيرى ما حوله غارقاً في الضلالة وهو وحده موحش غريب طريد. ومنها: فتنة ظهور الأمم الكافرة المنحلة الغارقة في الرذيلة ورقيها في مجالات الحضارة المادية رقياً هائلاً، وهي مع ذلك محادة لله تعالى. ومنها: فتنة إبطاء النصر عن المؤمنين وتعرضهم للأذى والضرب والتنكيل والقتل والتشريد على أيدي أعداء الله تعالى وأعداء رسله. ومنها: فتنة فتح الدنيا على الإنسان بالمال، أو الجاه، أو الوظيفة، أو المنصب، كما قال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فيما رواه أهل السنن وهو صحيح، قال: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] . إذاً: هي فتن عظيمة، منها فتن الدنيا، وفتن الدين، وفتنة السراء والضراء، وفتنة الأهل والمال والولد، والمجتمع، وفتنة موت الأقارب والأحبة، والأصحاب، وفوات المال والفقر والجوع، كما قال الله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة:155] . ومنها فتنة ضعف الإنسان وقلته وذلته وعدم وجود الناصر والمعين، ولا بد للعبد أن يصبر على هذا كما يصبر على ذاك. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 9 وما يلقاها إلا الصابرون خامساً: وما يلقاها إلا الصابرون. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 10 الصبر على أعداء المؤمنين بجميع أصنافهم وإذا كانت ضرورة للمسلم العادي فما بالك بالداعين إلى الله تعالى، أو المجاهدين الصابرين في سبيله، إنهم أحوج إلى الصبر، وكيف لا يحتاجون إلى الصبر وهم يواجهون ألواناً من الأعداء الظاهرين والمستترين. فمن أعدائهم المحادون لله ورسله، النابذون شريعة الله تعالى وراءهم ظهرياً، من أهل التمكين والنفوذ الذين يحاربون السنة وأهلها، لعلمهم أن التمسك بالإسلام يهب المسلمين الاستعلاء والعزة والتحرر من العبودية للمخلوقين، أو الخوف منهم، وهذا يحملهم على رد الباطل على أهله، حتى ولو كان أهله هم السادة والقادة، وأن التمسك بالإيمان يجعلهم أمة واعية داعية متميزة، عارفة بحقوقها التي يجب أن توصل إليها، عارفة بواجباتها التي يجب أن تؤديها، فهي لا تجهل حقها فتقصر عن المطالبة به، ولا تجهل واجبها فيلبس عليها بجعل ما ليس بواجب واجباً. لعلمهم أن التمسك بالإسلام يجعل المسلمين أمة عقيدة لا يقر لها قرار؛ إلا بتطبيق شريعة الله تعالى في أرضه، فالمسلمون ليس همهم -مثلاً- الرفاهية المادية فحسب، ولا همهم فقط التيسيرات الدنيوية فحسب، وإنما همهم الأول والأخير أن تطبق شريعة الله تعالى في عباده. ولعلمهم أن التمسك بالإسلام الصحيح يحملهم على القيام بالقوامة على المجتمع ومراقبة سيره، ومعالجة انحرافه، ومقاومة القوى الخفية العلمانية التي تسعى إلى إضلال الناس وتخريب عقولهم وأديانهم، وإغراقهم في الشهوات، وهذه شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهر بكلمة الحق، والقيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، وهؤلاء المتسلطون على المسلمين يعملون على إغراء العلماء والدعاة بالمال والمنصب والجاه، وسائر الحظوظ الدنيوية لصرفهم عمَّا هم عليه، وواجب العالم والداعية حينئذٍ الصبر ومقاومة الإغراء، كما يتعرض العالم إذا استعلى على المادة والإغراء يتعرض للتهديد والتخويف والتضييق، وربما أخرج من بلده، أو أوذي أو قتل أو أوذي في نفسه أو أهله أو ماله، ولا بد من احتمال ذلك كله في الضراء والسراء. ومن ألد أعداء المؤمنين حملة المذاهب الأرضية، من الشيوعيين والاشتراكيين والقوميين والبعثيين والعلمانيين الذين يستخدمون كل سبيل لنشر مذهبهم، كالإذاعة والتلفاز والجريدة والمقالة والقصة والكتاب والديوان والشعر وكل سبيل، وقد أصبحت اليوم وسائل كثيرة مما يتمكنون بها أن يخاطبوا المسلمين، وغالب هؤلاء قد تشبعوا بالمبادئ الغربية أو الشرقية، وتربوا عليها خلال فترة دراستهم أو طلبهم؛ ومُنُّوا بالأماني الباطلة أن الدولة ستكون لهم، وأنهم سيتمكنون من قلب الأوضاع السياسية في العالم الإسلامي، والأوضاع الفكرية والاجتماعية وصياغتها وفق ما يريدون، وهم يعلمون أن الخطر الحقيقي على مخططاتهم من دعاة الإسلام وعلمائه الصادقين، الذين يستفرغون جهادهم وجهدهم وطاقتهم في تجديد أمر الدين والدعوة إليه. فيسعى هؤلاء العلمانيون وغيرهم جاهدين إلى الحيلولة بين العلماء وبين الأمة، بتشويه سمعتهم، وإلصاق التهم بهم، فهم حيناً يصفونهم بالجمود والتخلف والرجعية، وحيناً يصفونهم بأنهم متطرفون إرهابيون، أصوليون، وحيناً يصفونهم بأنهم يسعون إلى قلب الأوضاع، والسيطرة على مقاليد الأمور والوصول إلى مقاليد الحكم، وأنهم لا يريدون ديناً ولا إصلاحاً ولا أمناً ولا إيماناً وإنما همهم الدنيا ووظائفها ورئاساتها. وحيناً يتهمونهم بأنهم خطر على الأمن، وأنهم سوف يمزقون المجتمع إلى شيع وأحزاب وطوائف. ويستغلون في ذلك سائر الوسائل التي يسيطرون عليها، من أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والصحافة والكتابة وترويج الإشاعات وغير ذلك مما قد أصبح معروفا ًمكشوفاً، ولعل هؤلاء الذين يحاربون الدعوة داخلون فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث حذيفة الشهير: {دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، قال حذيفه: صفهم لنا يا رسول الله؟ قال: قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا} قال ابن حجر قال القابسي: "معناه أنهم في الظاهر على ملتنا؛ وفي الباطن مخالفون لنا". ومن أعداءالمسلم أصحاب الفرق والأهواء من الفرق الضالة المخالفة للسنة، كالصوفية والباطنية بشتى فرقها وشيعها، والمعتزلة وغيرهم، فهؤلاء منهم، وهم على الباطل بلا خفاء وهم يلبسون الحق بالباطل، فيغتر الناس أحياناً بما معهم من الحق، ويقبلون كل ما عندهم من حق أو باطل بلا تمييز. وكثيراً ما تقف هذه الطوائف الثلاث: الحكام المتسلطون، ودعاة المذاهب الأرضية من العلمانيين وغيرهم، وشيوخ البدعة والضلالة وأتباعهم، يقفون في خندق واحد ضد السنة وأهلها، ويتعاونون في تضييق الخناق على أهل الحق والاتباع حتى يصل الحال إلى ما قيل: وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكمُ وهناك الأعداء الخارجيون من اليهود والنصارى والمشركين، الذين هم أشد عداوة وكيداً ومكراً وخبثاً، وبيدهم اليوم مقاليد الإعلام والاقتصاد في العالم، وبواسطتها يؤثرون تأثيراً بالغاً في سياسات الدول الشرقية والغربية، ولهم جمعيات سرية، ومنظمات خفية يتحركون باسمها حتى في بعض البلاد التي تتظاهر بحرب اليهود والنصارى، تجد أن لهم الماسونية، ويهود يوه، ونوادي الروتاري، وبعض الجمعيات النسائية، والجمعيات الفنية، والجمعيات الرياضية، والنقابات وغيرها، ومثلهم النصارى أيضاً وهم حلفاء اليهود الذين يهيمنون على بلاد الغرب كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا بل وروسيا، يحاربون المسلمين علانية في كثير من البلاد، فيحملون السلاح في البوسنة والهرسك، وفي الصومال، وفي طاجكستان، وفي كثير من البلاد. حتى إني قرأت خبراً قديماً أوصله إلي أحد الإخوة يذكر أن بعض الوسطاء الدوليين في قضية البوسنة والهرسك يجلس جلسات خاصة مع رادوفان كراديتش زعيم الصرب، ويتباسطون ويتبادلون الحديث، وأنه صار بينهم رهان على أن المسلمين يقبلون بتلك المؤامرة، وأن الأرض الذي أعطيت للصرب تشكل (28%) أو (30%) ، فقال: إن الفائز بالرهان له قارورة ويسكي! وقد قال وسيط من الوسطاء الدوليين إنه قد خسر الرهان واضطر إلى أن يدفع قيمة هذه القارورة! ونسي هذا المجرم الكبير أن المسلمين خسروا مئات الآلاف من الأرواح، وخسروا عشرات الآلاف من المسلمات المغتصبات، وخسروا آلافاً من الأطفال الأبرياء الذين قتلوا، وخسروا مسافات شاسعة من الأراضي، أما هو فكل خسارته أنه خسر زجاجة (وسكي) في مقامرة فعلها أو مراهنة مع صديقه الصربي الكافر! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] إن اليهود والنصارى الذين يملون سياسة غريبة علىالمسلمين، فيطالبونهم بموالاة أعداء الإسلام وبالمصالحة معهم، وبتطبيع العلاقة مع هؤلاء وأولئك، وبفرض لون من التغريب والتخريب على عقول المسلمين، وفرض التعاسة الأخلاقية على المجتمعات الإسلامية، وتضييق الخناق على الدعاة إلى الله تعالى، وتقليص مكانة العلماء المصلحين الصادقين، إن هؤلاء اليهود والنصارى حينما يملون مثل هذه السياسات إنما يريدون أن يضربواالمسلمين بعضهم ببعض. وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحرُ بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحدا الجزء: 152 ¦ الصفحة: 11 الصبر في اللغة والشرع الصبر في اللغة هو الحبس، تقول: صبرت نفسي على ذلك، أي: حبستها عليه، ومعنى الصبر المشروع: هو صبر النفس عن الجزع، وصبر اللسان عن الشكوى، وصبر الجوارح عن شق الجيوب، أو خمش الوجوه، أو الدعاء بدعوى الجاهلية. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 12 أنواع الصبر وهو على ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله تعالى، وصبر عن معصيته، وصبر على امتحانه وقضائه وقدره. ومعنى النوعين الأولين: الصبر على الطاعة والصبر عن المعصية: معناه الثبات على الدين فعلاً لما أمر الله تعالى وتركاً لما نهى، واستمراراً على ذلك فلا تصرفه عنه الصوارف، وهذا أكمل وأعظم من النوع الثالث الذي هو الصبر على المصيبة، إذ أن صبر الإنسان على المصيبة كصبر المضطر الذي لا يملك إلا الصبر، فالمصيبة واقعة كالموت مثلاً، أو المرض أو البلاء الذي ينزل بالإنسان بلا رغبة ولا اختيار، وبالمناسبة فإن من المصادفة أن تأتيني رسالة من إحدى الأخوات في بلد إسلامي منكوب -في الجزائر- لإحدى بنياتي تعزيها بوفاتي، وتقول: بلغنا وفاة فلان فإنا لله وإنا إليه راجعون، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، وتدعوها إلى أن تصبر وتحتسب ما أصابها في ذات الله تعالى، فالحمد لله الذي أحياني بعدما أماتني وإليه النشور. أقول: إن الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصية الله تعالى، أعظم وأكمل من الصبر على القضاء والقدر لأن الصبر على القضاء والقدر صبر اضطراري لا بد منه، ولهذا كان صبر يوسف عليه السلام عن امرأة العزيز، ورفضه الاستجابة لإغرائها لما غلقت الأبواب وتزينت وتجملت وتعطرت وانفردت به، وقالت: هيت لك، تعالَ، هلم. أعظم وأكمل من صبره على كيد إخوته وما صنعوا به من الأذى. والمؤمن مطالب بأنواع الصبر الثلاثة كلها، خاصة وأنها قد تتداخل فتصبح لحمة واحدة، وذلك حين يلحق أعداء الإسلام الضرر بالمؤمن أو ببعض أفراده، بالقتل، أو التشريد، أو السجن والاعتقال، أو الإخافة، أو سلب المال، أو قتل الأولاد والأزواج وغير ذلك، فيحتاج المؤمن إلى صبر على قضاء الله، وعلى طاعته، وعن معصيته. فهاهنا يكون الأمر القدري الواقع الذي لا حيلة للإنسان في دفعه ناتج عن الصبر على الطاعة والثبات عليها، والصبر عن المعصية والعزوف عنها، فهو صبر على القدر، وهو -أيضاً- صبر على الطاعة والإيمان والاتِّباع، إذ لو تخلَّى المؤمن عن دينه، ووافق هؤلاء الكفار ومن في حكمهم فيما هم عليه لسالموه وتركوه، بل ربما والوه وصاحبوه، ودافعوا عنه بما يملكون وما يستطيعون. ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج الجزء: 152 ¦ الصفحة: 13 أنواع الصبر الضروري إن الصبر على الدين لا بد منه، ومن لم يكن عنده صبر لا يكون عنده إيمان، وكلما ترقى العبد في مدارج العبودية والجهاد، واشتدت عليها التكاليف وثقلت وطأتها زادت حاجته إلى الصبر، وكلما فسدت الحياة وأسن المشرب، واستحقرت غربة الدين، وقل الأنصار، وكثر الأعداء والمناوئون والكائدون، زادت الحاجة إلى الصبر، حتى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في حديث أبي ثعلبة الخشني، قال لأصحابه: {فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن كقبض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عمله قالوا: يا رسول الله! أجر خمسين منا أو منهم. قال: بل أجر خمسين منكم} وهو حديث رواه أهل السنن وهو حسن بشواهده، ومثله أيضاً حديث عتبة بن غزوان: {إن من ورائكم أيام الصبر للمتمسك فيهن يومئذٍ بما أنتم عليه أجر خمسين منكم قالوا: يا نبي الله! أو منهم؟ قال: بل منكم} وهو حديث حسن أيضاً. الصبر على الدعوة إلى الله، والجهاد في سبيل الله، والإنفاق، وسائر الأعمال التي تحتاجها الدعوة، من التضحية بالنفس أو بالمال، أو بالأهل والعشيرة، أو بالوقت أو بالراحة، والصبر على أذى المشركين والمنافقين والفاسقين والمناوئين، فلا يخرج الإنسان عن طوره، ولا يتسرع أو يتهور أو يستعجل، بل يظل على منهجه الذي آمن به، واطمأن إليه، ولا يستجيب لاستفزاز الذين لا يوقنون. الصبر على ما يلقاه الإنسان داخل الصف المؤمن أحياناً من النقائص بين المؤمنين والتناقض والمآخذ والعيوب، حتى من إخوانه وأصحابه وأقرب الناس إليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: {المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} . إن من الطبيعي أن يجد الإنسان تخلخلاً في الصفوف، أو ضعفاً في العزائم، أو قلة في الاتباع، أو إخلاداً إلى الراحة، أو تناقضاً في الجهود، فيكون دأب المؤمن الصابر العمل على الإصلاح وتلافي العيوب ما وجد إلى ذلك سبيلاً. والصبر عن المعاصي التي تنتشر وتفشو ويصبح التحرز منها أمراً صعباً، فمعصية في البيت، ومعصية في السوق، ومعصية في الطائرة، ومعصية في البر، ومعصية في البحر، ومعصية عبر الهاتف، وأخرى عبر المذياع، وثالثة على شاشة التلفاز، ورابعة في الجريدة، وخامسة في كتاب، وسادسة في المدرسة، وسابعة في العمل، وثامنة في الحي، وتاسعة ربما كانت على أبواب المساجد، فيحتاج الإنسان إلى أن يتمنطق بالصبر على هذه المعاصي لينال رضا الله سبحانه وتعالى. وهذا الزمن الذي تفاقمت فيه الأمور، وكثرت الفتن، واشتدت فيه الكروب على المسلمين، وأصبح المسلم يخاف على دينه صباحاً أو مساء، وأصبح المؤمنون يشردون في مشارق الأرض ومغاربها، ويودعون غياهب السجون بغير ذنب اقترفوه، ولا جرم افتعلوه إلا أن يقولوا: ربنا الله، ولينكل بهم غيرهم، فلا يقوم إلى الله تعالى داع، ولا يتحرك إلى الله تعالى ناصح، ولا يأمر أحد بمعروف، ولا ينهى أحد عن منكر، ولا يطالب أحدٌ بتحكيم شريعة الله تعالى، فيشرد بهؤلاء، وينكل بهم، ويؤذون، ويضيق عليهم ويضطهدون، ويجد الإنسان من ذلك شيئاً كثيراً عظيماً في سائر بلاد الإسلام، ويجد هذه المعاصي المنتشرة الكثيرة الظاهرة، بينما تجد الطاعات قد أغلقت أبواب كثير منها، أو كادت، فيحتاج إلى الصبر على ذلك كله. وهاهنا يأتي مصداق ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك الذي رواه الترمذي وغيره: {يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر} . وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبض على جمر فتنجو من البلا وفي حديث أبي هريرة قال عليه الصلاة والسلام: {ويل للعرب من شر قد اقترب، فتن كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا قليل} نعم فقد باع دينه بوظيفة، أو راتب، أو مقابل، أو جعل، أو عطاء، أو مرتبة، أو ما أشبه ذلك مما يتقرب به من الناس ويباعده عن رب العالمين. وكثير من الناس يحاول الواحد منهم أن يثبت ولاءه، وإخلاصه لهذا بأن يطعن في هذا، ويشتم ذاك، ويسب هؤلاء، ويتهم أولئك، ولسان حاله يقول: أنا وحدي المخلص الصادق الوفي لك أو لفلان أو لزيد أو عبيد، فيشتري الدنيا ويبيع الآخرة -والعياذ بالله- ويبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، قال عليه السلام: {المتمسك يومئذٍ بدينه كالقابض على الجمر -أو قال- على الشوك} . وفي مثل هذه الحال يتأكد الصبر ويتحتم ويصبح من أوجب الواجبات، لأنه ضرورة بالنسبة للمسلم العادي، ليحافظ على إسلامه ويحتمي من الردة التي تطل برأسها على صورة مبادئ ومذاهب إلحادية، أو موجات تشكيكية، أو انجراف في الحياة المادية، أو على صورة تخل بالشعائر من الصلاة والزكاة وغيرها، أو الغفلة عن المعتقدات التي بعث الله بها رسله الكرام عليهم الصلاة والسلام أو على أي صورة أخرى. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 14 مواقف الناس تجاه الأقدار الجارية سادساً: الناس أربعة. إن الأقدار تجري على كل إنسان، ولكن الفرق في مواقف الناس، وأنت لو تأملت الناس كل الناس لوجدتهم لا يخلون من أحد أربعة أصناف: الجزء: 152 ¦ الصفحة: 15 شر الأقسام أما القسم الرابع: وهو شر الأقسام، فهم الذين لا صبر لديهم ولا تقوى، لا يتقون إذا قدروا، ولا يصبرون إذا ابتلوا، بل هم كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:19-22] فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس وأجبرهم وأكثرهم طغياناً وظلماً إذا ملكوا وقدروا، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قهروا وغلبوا:- ملكنا فكان الصفح مِنَّا سجية فلما ملكتم سال بالدم أبطح ولا عجباً هذا التغاير بيننا فكل إناء بالذي فيه ينضح فهؤلاء القوم إذا قهرتهم ذلوا لك ونافقوك، وقدموا لك جميل الكلام ومعسول القول، أما إذا غلبوا فإنهم يكونون أظلم الناس وأقساهم قلباً وأبعدهم عن الرحمة واللين والعدل والإنصاف وأقلهم إحساناً وعفواً، كما جرب ذلك المسلمون على كل من كان أبعد من الإيمان، سواء من الكفار المعلنين كالتتر الذين قاتلهم المسلمون ووجدوا منهم الأذى العظيم، أو الصليبيين النصارى، أو اليهود، أو من بعض المنافقين المنتسبين إلى الدين المتظاهرين بلباس المسلمين وزهادهم، وحقائقهم خلاف ذلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم} . الجزء: 152 ¦ الصفحة: 16 أهل الصبر بلا تقوى الثاني: الذين لهم نوع من الصبر بلا تقوى، مثل أولئك الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم من الأهوال، فاللصوص -مثلاً- وقطاع الطرق، ومدمنو المخدرات قد يسجن الواحد منهم ويضرب ويؤذى، وقد يتعرض للقتل أو الإعدام في عدد من البلاد، ومع ذلك فهم يصبرون ويصابرون ويستمرون في هذا الطريق، بل أقول بأسف شديد: أحياناً صبرهم وتجلدهم وإصرارهم يفوق حتى صبر بعض ضعفاء الإيمان على ما يلقونه في سبيل الله تعالى. فهؤلاء يغتصبون، ويأخذون الحرام، وتحصل لهم أموالٌ بالخيانة وغيرها، ومثل هؤلاء أيضاً في الصبر بلا تقوى، طلاب الرئاسة والحكم والسلطة والعلو على غيرهم، فإنهم يصبرون على ذلك وعلى ألوان من الأذى لا يصبر عليها أكثر الناس. ومثلهم أيضاً أهل المحبة -محبة الصور المحرمة- العشاق فإن العاشق يصبر على ما يلقى من معشوقه من الأذى والنكال والإعراض والإيذاء، كل ذلك من أجل الدنيا وهؤلاء هم كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83] فهؤلاء إما أنهم يريدون علواً في الأرض -كما يكون حال الحكام- أو يريدون فساداً -كما هو حال أهل الشهوات- أما المؤمنون أهل الآخرة فهم عن هؤلاء وأولئك بمعزل. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 17 أهل التقوى بلا صبر أما القسم الثالث: فهم الذين لهم نوعٌ من التقوى بلا صبر، وهم الذين يصلون، ويتركون المحرمات، ويصومون ويزكون، لكن إذا أصيب أحدهم بمرض في بدنه أو في ماله أو في عرضه أو ابتلي بعدو يخيفه، فإنه يعظم جزعه ويظهر هلعه، وهذا حال أكثر الناس اليوم، فإن الواحد منهم إذا ابتلي ولو بشيء يسير في دينه أو في دنياه، ظهر عليه الخوف والتوتر والقلق، حتى أن منهم من يترك الصلاة مع الجماعة، ومنهم من لا يتعاطى الكتب، ومنهم من يبتعد عن الأشرطة، ومنهم من يترك صحبة الأخيار، ومنهم من يتجنب السلام على بعض أصدقائه أو زملائه خشية أن يصيبه من ذلك سوء. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 18 أهل الصبر والتقوى الصنف الأول: من أهل الصبر والتقوى، يقول تعالى: {لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] وهؤلاء هم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة، ممن صبروا على أقدار الله، وعلى طاعته، وعن معصيته، واتقوا الله تعالى فكفاهم شر ما يخافون في الدنيا والآخرة، قال قائلهم: قد عشت في الدهر أطواراً على طرق شتى وقاسيت منها اللين والشبعا كلاً بلوت فلا النعمى تبطرني ولا تخشعت من لأوائها جزعا لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه ولا أضيق به ذرعاً إذا وقعا الجزء: 152 ¦ الصفحة: 19 أسباب تقوي القلب سابعاً: أسباب تقوى القلوب. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 20 استشعار حسن الجزاء في الآخرة الخامس: تذكر حسن الجزاء في الآخرة للصابرين، يوم يتمنى أهل العافية أن لو قرضت أجسادهم بالمقاريض -كما جاء ذلك في الأثر الصحيح- وحين يكون عظم الجزاء مع عظم البلاء يوم القيامة، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: {ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه} وفي حديث آخر: {ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه من خطاياه} . الجزء: 152 ¦ الصفحة: 21 استشعار قرب الفرج السادسة: أن يعلم قرب الفرج مهما طال البلاء: عسى فرج يأتي به الله إنه له كل يوم في خليقته أمر وقال آخر: عسى الكرب الذي أمسيت فيه يكون وراءه فرج قريب قال الله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . إن أراك الزمان وجهاً عبوساً سوف تلقاه بعد ذلك طلقا لا يهمنك حاله إن في طرفة عين يرتاح فيه ويشقى أي عز رأيت أو أي ذل بذوي الحالتين في الدهر يبقى سل نجوم السما إذا ما استنارت ما الذي وسط الظهيرة تلقى وتفكر وقل بغير ارتياب كل شيء يفنى وربك يبقى الجزء: 152 ¦ الصفحة: 22 اليأس مما فات السابع: اليأس مما فات الإنسان: فإن اليأس قوة وصبر لقلب الإنسان، وربما تمنى الإنسان شيئاً فطال شوقه وتلهفه إليه، زوجة -مثلاً- أو ولداً أو مالاً أو جاهاً أو وظيفة، فإذا يئس منه رزقه الله تعالى الغنى عنه وقوى قلبه، وأعزه بالغنى، ولذلك يروى أن رجلاً كان يحب ولده ويشتاق إليه في غيبته، فلما مات رُزِقَ صبراً، فكان يقول: عجبت لصبري بعده وهو ميت وقد كنت أبكيه دماً وهو غائب على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب ومن ذلك الاستعانة بالله تعالى، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا كان المؤمن دائماً وأبداً يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فلا بد من أن يستعين بالله تعالى على تحمل المصائب الدينية والدنيوية، فالاستعانة بالله تعالى تهون على العبد المصيبة فلا يجد وقعها ولا يتبرم منها، بل ربما تحولت إلى نعمة وربما سر بها، واعتاد عليها وألفها، كما يألف الإنسان البلد الغريب إذا أقام فيه واختلط بأهله، وكما يألف السجن إذا طال مكثه فيه، وكما يألف الفقر فلا يحب الغنى، والمهم هو أن تحصل السعادة للإنسان في الحالين في قلبه، ومن ذلك أيضاً أن في الجزع شماتة العدو وحزن الصديق، وفي الصبر إبرار الصديق وغيض العدو فإن تسأليني كيف أنت فإنني صبور على ريب الزمان صليب يعز علي أن ترى بي كآبة فيشمت عاد أو يساء حبيب ومن ذلك تذكر الموت فإنه نهاية الحياة، وهو قمة الابتلاء، وآخر ما يلقاه الإنسان في هذه الدنيا، لا حزن ولا كرب على الإنسان بعد ذلك من المؤمنين بإذن الحي القيوم، قال عليه الصلاة والسلام: {ليس على أبيك كرب بعد اليوم} والموت حتم على الجميع، وأحسن الموت، الموت في سبيل الله تعالى، فإنه حياة {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169] . عجباً لمن يلقى الحروب فلا يقاتل أو يجالد لا سيما إن كان يوقن أنه إن مات عائد خوفاً وإشفاقاً وإرصاد الحتوف له رواصد إن قال إن النفس واحدة فإن الموت واحد ومن ذلك التأمل فيمن أصيبوا بأعظم مما أصاب الإنسان، فإنه من أردأ المشاعر في النفس التطلع إلى ما عند الآخرين، والنظر إلى من فوقه، ومن أحسن المشاعر أن ينظر إلى من دونه، فمن مرض مرضاً يسيراً ينظر للمرض الخطير، ومن مرضه خطير ينظر للموت، ومن أصيب بقريب أو حبيب ينظر إلى من أبقى الله تعالى له من الأحياء والأحبة، ومن أصيب بدنياه ينظر إلى من أصيب بدينه، فله الضلال والعار والنار، ومن نقص ماله أو ثمرته، يقارن ذلك بمن ركبته الديون العظام. ومن ذلك أن يعلم أن المصيبة اختبار واختيار من الله سبحانه وتعالى، فإنما يبتلى الأقوياء، والمجاهدون، والدعاة، والصادقون، والمغامرون، أما الذين يسايرون الأوضاع فقد لا يتعرضون لشيء، لكن حياتهم تختصر وتختزل في رفاهية العيش، وكثرة المال، ورفعة المنصب، ولحظة جنس، أو لحظة طعام أو شراب، وهي أيام قلائل وليال ثم ينتهي، ولذلك قال بعض المغامرين الدنيويين، قال: تَغَرّب، أي ابحث عن بلد آخر، ليس شرطاً أن تجلس في بلدك وتحيا وتموت فيها، ابحث عن العز والقوة ولو كانت في بلد غريب:- إني رأيت ركود الماء يفسده إن ساح طاب وإن لم يجرِ لم يطب تغرب فما الدار الحبيبة دار وفك المطايا فالمناخ أسار ولا تسأل الأقدار عما تجره مخافة هلك فالسلامة عار إذا لم يسعك الأمن في عقر دارها فخاطر بها إن العلاء خطار مقامي مع الزوراء وهي حبيبة مع الظلم غبن للعلا وخسار وكم حلة محفوفة ولها الهوى وأخرى لها البغضاء وهي تزار إذا حملت أرض التراب مذلةً فليس عليها للكرام قرار ولا عيب إن أهزلت وحدي وأسمنوا إذا أنا أنجدت العلا وأغاروا ولست أرى الأجسام وهي نواحل تضاءل إلا والنفوس كبار ومن ذلك أيضاً أن يعرف الإنسان ما وراء الصبر من الشرف في الدنيا، والعزة، والرفعة، والمقام، والمنزلة، وأنها لحظات وتنتهي، وما وراء الصبر من الجنة والثواب في الدار الآخرة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ولهذا كان من منهج السلف سلوك مسلك الترغيب والترهيب، حتى يعرف الإنسان ما له من الصبر على الطاعة فيصبر عليها، وماله من الصبر على المعصية فيكف عنها، وماله من الصبر على ما قضى الله تعالى وقدر. قال العبد الصالح لموسى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} [الكهف:68] . الجزء: 152 ¦ الصفحة: 23 الاقتداء بسير الرسل الكرام الثالث: الاقتداء بالرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، فإنهم أصيبوا؛ بل هم أعظم الناس مصاباً، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] لقد أوذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنتيه عليه الصلاة والسلام، وجرح قدمه حتى سال منها الدم، وأوذي وضرب بالحجارة، وأخرج من بلده، وأوذي في زوجته، ونسبت إليها قالة السوء، وأوذي في ولده وقيل له: أبتر، وقيل له: فقير، وطرد وأوذي وحبس وهدد عليه الصلاة والسلام، وجرت عليه مؤامرات بقتله أو حرمانه من السفر والخروج من مكة، أو إخراجه منها وطرده في الأرض، ومع ذلك كله صبر وصابر، حتى جعل الله تعالى له العاقبة، وحتى حكمه الله تعالى في هؤلاء القوم الذين كانوا بالأمس سادة وقادة، فقال عليه الصلاة والسلام: {ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فأنتم الطلقاء} . نعم، الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام لقوا من الأذى ما لم يلقه أحد قط، وهذا دليل على أن الدنيا ليست مقياساً ولا ميزاناً، فإن الرسل هم أفضل الخلق على الله، ولو كانت الدنيا هي المقياس، لجعلهم الله تعالى في الدنيا أهلها وسادتها، فقد خير النبي صلى الله عليه وسلم بين الخلد في الدنيا والجنة أو الموت، فاختار ما عند الله عز وجل. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 24 استشعار حسن العاقبة في الدنيا الرابع: أن يتذكر حسن العاقبة في الدنيا، على الصبر على ما ابتلاه الله تعالى، قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] وقال: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137] ومن ذلك أن يعلم أن له مع الصبر الإمامة وحسن الذكر، كما قال عز وجل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء:73] . الجزء: 152 ¦ الصفحة: 25 استشعار عموم البلاء الثانية: أن يعلم أن الأمر لا يخصه هو، بل ما من أحد في الدنيا إلا وهو أحد اثنين، إما مصاب أو ينتظر مصيبة، قال الله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فإنهم يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] إذا ما الدهر جر على أناس بكلكله أناخ بآخرينا فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا كل الناس وأهل الأديان كلها، وكل العقائد، والمذاهب، والأمم، وكل الرجال، والنساء، لا بد لهم من المصائب: المرض والفقر والموت والخوف والهلع والجزع، قاسم مشترك بين البشر كلهم، فالأمر لا يخصك وإنما الشيء الذي يمكن أن تختص به هو الصبر على قضاء الله تعالى والرضا والتسليم، لترتفع بذلك درجات عند الله الكريم. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 26 الإيمان بالقضاء والقدر أول ذلك الإيمان بالقضاء والقدر قال الله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:22-23] إنه ما أصاب من مصيبة للإنسان في نفسه ولا في أهله ولا في ماله ولا في زوجه ولا في ولده؛ إلا وقد كتبت في كتاب عند ربي لا يضل ولا ينسى. والخوف والجزع لا يزيل هذه المصيبة، ولكنه يحرم الإنسان من أجرها وثوابها، قال علي رضي الله عنه: أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر يوم لا يقدر لا أرهبه ومن المحذور لا ينجو الحذر دفن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ولده عبد العزيز، فلما دفنه قام على قبره فقال: يا ولدي والله نعم الولد لي كنت، صبوراً، براً، قواماً، صواماً، عالماً، فاضلاً، أبياً، حيياً، والله يا ولدي ما كنت أسعد بك مني اللحظة وقد واريتك التراب، فلأجرك عند الله أعظم عندي من ثوابك في الدنيا. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 27 الأسئلة الجزء: 152 ¦ الصفحة: 28 توزيع الأشرطة في الأماكن البعيدة السؤال نحن مجموعة من أهل الخير في المنطقة الشرقية، ولا توجد طريقة لوصول أشرطتكم إلينا بالشكل المطلوب، فهل عندكم خطة مقترحة لوصولها إلينا؟ علماً أن شباب الشرقية يحبون سماع الخير؟ الجواب سبق أن ذكرت شيئاً من ذلك، وعلى كل حال لا يعدم المؤمن وسيلة أو ذريعة إلى تحصيل الخير وإيصاله إلى من أراد، وهذا الأشرطة بحمد لله ليست مخدرات تلاحق وتحارب، وليست أشرطة (إباحية) تتابع في محلات الفيديو، ويغرم من وجدها خمسمائة ريال أو يغلق محله يوماً أو أسبوعاً، وليست مواداً مدمرة، وليست تحمل أفكاراً معادية للدين، وليست تحمل عقائد مخالفة لما هو معلوم عند المسلمين وأهل السنة والجماعة، إنما فيها قال الله، وقال رسول الله. ومن ذا الذي يعلن أنه يحارب قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يتابع ذلك، نعم قد تكون هناك ظروف خاصة جعلت أنها لا تباع الآن في محلات التسجيلات، بناءً على أوامر صريحة من وزارة الإعلام، ومن غير وزارة الإعلام، لكن يبقى أن المؤمنين والشباب الأخيار، لا أقول: أنهم ألوف، ولا أقول: أنهم عشرات الألوف، بل أقول: إنهم مئات الألوف، فلو أن كل واحد منهم طبع ثلاثة أشرطة، ووزعها على أحبته أو أقاربه، لكان ذلك الأمر كافياً ومغنياً بحول الله تعالى وقوته، حتى يأذن الله تعالى بالفرج ويفتح المجال أمام هذه الأشرطة، وأرجو الله تعالى أن يكون قريباً غير بعيد. اللهم أعطنا ولا تحرمنا، اللهم أعِنَّا ولا تعن علينا، اللهم أكرمنا ولا تهنا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم إنا نسأل للمسلمين في كل مكان أن تفرج عنهم يا حي يا قيوم، اللهم فك أسر المأسورين، اللهم أطلق سراح المعتقلين، اللهم أخرج المساجين يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك من كان فقيراً فأغنه يا حي يا قيوم، ومن كان جائعاً فأطعمه، ومن كان عارياً فاكسه، ومن كان ذليلاً فأعزه، ومن كان ضالاً فاهده يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم اجمع كلمتهم يا حي يا قيوم، اللهم وحد صفوفهم، اللهم ارزقهم سعة البال، اللهم ارزقهم سعة القلب، اللهم ارزقهم عمق النظرة، اللهم ارزقهم بعد التفكير، اللهم ارزقهم الصواب في أقوالهم وأفعالهم يا حي يا قيوم يا قدوس يا سلام يا ذا الجلال والإكرام. اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم وحدهم يا حي يا قيوم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة، اللهم اجعل رايتهم واحدة، اللهم اجعل طريقهم واحدة، اللهم أزل كل أسباب الفرقة والخلاف بينهم، اللهم من أراد أن يشتت شملهم أو يفرق صفهم يا حي يا قيوم فخذه أخذ عزيز مقتدر، وافضحه في عقر بيته يا ذا الجلال والأكرام. اللهم إنا نسألك لإخواننا المضطهدين في كل مكان أن تنزل عليهم نصرك يا حي يا قيوم، اللهم أنزل عليهم السكينة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم فرج عنهم يا رب يا كريم، اللهم إنا نسألك للمسلمين في البوسنة والهرسك وفي الصومال وفي طاجكستان وفي أفغانستان وفوق كل أرض وتحت كل سماء، اللهم إنا نسألك للمسلمين في بلاد العرب وفي بلاد العجم وفي البلاد القريبة والبعيدة يا حي يا قيوم، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، وانصرهم على من اعتدى عليهم. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحا ورزقاً حلالا واسعاً يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم أصلح أزواجنا يا حي يا قيوم {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] اللهم إنا نسألك لإخواننا الحاضرين خاصة، وقد مشت أقدامهم إلى هذا المكان الطيب إلى بيت من بيوتك يا حي يا قيوم، اللهم إنا نسألك أن تحرم وجوههم على النار رجالاً ونساءً كباراً وصغاراً يا حي يا قيوم، اللهم اكتب لهم الجنة والرضوان يا رحيم يا رحمان، اللهم اغفر لهم ذنوبهم، اللهم كفر عنهم سيئاتهم، اللهم ارفع درجاتهم، اللهم ثقل موازينهم، اللهم وفقهم لكل خير يا حي يا قيوم، اللهم أصلح ظاهرهم وباطنهم سرهم وعلانيتهم، اللهم ارزقهم المال الحلال الطيب المبارك يا حي يا قيوم، اللهم وفقهم للإنفاق في سبيلك. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 29 الصبر وإذلال النفس السؤال ما الفرق بين الصبر وإذلال النفس؟ الجواب لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، إذلال النفس هو أن يتعرض المؤمن من البلاء لما لا يطيق، أما تعرضه لما يطيق من البلاء فهذا احتساب عند الله تعالى. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 30 خطورة العمالة الكافرة في بلاد المسلمين السؤال ما رأيكم في طبيبة هندوسية عملت عملية لزوجتي وبعد العملية طلبت مني إحضار علاج من السوق، ولما طلبته أفاد الصيدلي أن هذا العلاج مسحوب حيث أنه يحتوي على فيروس، فإلى متى وهؤلاء الخبثاء يعملون بيننا، وهم لا يريدون بنا ولا بالإسلام خيراً؟ الجواب أولاً: أرجو من الأخ صاحب الحادثة أن يتصل بي حتى أتثبت منها، وثانياً: أزيدك من الشعر بيتاً، أنهم يتزايدون الآن خاصة في مستشفياتنا رجالاً ونساءً عشرات بل مئات، وأحياناً تكون لهم المسئولية ولهم الرئاسة على المسلمين أحياناً، وقد يوجد ممرضون وممرضات وأطباء مسلمون تحت تسلطهم، فيسومونهم سوء العذاب، ويكتبون عنهم التقارير السيئة، ويطالبونهم بأعمال شاقة، ولا يقدرون لهم شيئاً، ولا يهتمون بهم أدنى اهتمام. فإلى الله تعالى المشتكى أن يوجد مثل هذا، ويُكتب ويُخطب ويُنصح ويُكلم، ولا يزيد الأمر إلا شدة، ومع ذلك فلا زال الأمر يتطلب منا الصبر، وأن نصبر ونصابر ونرابط ونتقي الله تعالى، فنكتب للمسئولين، ونخاطبهم، ونذكرهم بالله تعالى، ونطالبهم بإبعاد جميع الهندوس عن المسلمين، واستبدالهم بمسلمين من الأطباء والطبيبات، والممرضين والممرضات، سواء كانوا في مجال العلاج، أو في غيرها من الخدمات الطبية والعلاجية، علينا ألا نيأس ونخاطب المسئولين هنا أو في وزارة الصحة أو في غيرها، ونكاتب العلماء. كما أن علينا أن نخاطب أصحاب الشركات والمؤسسات الذين يستقدمون هندوساً أو غيرهم إلى بلاد المسلمين، ومطالبتهم بمجرد انتهاء العقود ألا يجددوا لهم، بل أن يستقدموا مسلمين حنفاء. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 31 ذكرى المولد النبوي السؤال من يبشر غيره من إخوانه بذكر المولد النبوي، حيث يوافق هذا اليوم، وإذا حصل ماذا أرد عليه وهل يشرع شيء شرعي؟ الجواب أبداً لا يشرع شيء البته، لا احتفال ولا تهنئة، ولا إقامة مساجد تفتح في هذه الأيام، ولا احتفالات، ولا تجمعات، ولا قراءات، ولا غير ذلك، بل هو يوم كسائر الأيام مر على أبي بكر وعمر، ومر في فترة الخلافة الراشدة، ومر في عصور بني أمية فما أحدث المسلمون فيه شيئاً، وحتى القول بأن هذا اليوم هو يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى إثبات من الناحية التاريخية، ولو ثبت لم يكن فيه شيء مشروع قط، وإنما المسلم يعيش النبي عليه السلام في ذهنه أبداً، وفي قلبه يحبه ويثني عليه، ويصلي عليه -عليه الصلاة والسلام- ويدعو له، ويدعو إلى دينه، ويحيي سنته وشريعته. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 32 الصبر على المنع من الدعوة السؤال من مُنع من الدعوة وكلمة الحق هل له أن يصبر ويسكت وهل ذلك محمود، وهل نفرق بين الصبر وعمل الواجب؟ الجواب إذا كان يستطيع أن يصبر فعليه أن يدعو إلى الله تعالى، ولو أوذي فإني رأيت بعض الناس لا يصبرون، كثيرون يسمعون عن الصبر دروساً ومحاضرات، لكن إذا جاء المحك العملي لا يصبرون. هذا إنسان طلب منه هل معك ترخيص؟ قال: ما أدعو، لماذا؟ قال: سئلت، وماذا إذا سئلت؟ وآخر سجن لأنه نصح بدون ترخيص، وماذا إذا سجنت؟ وفي سبيل الله ما لقيت، هذا أخ يقول: دعوت أخي، ودعوت ودعوت وما استجاب لي، فماذا تصنع؟ قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فإن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] . يا أخي: ما معنى الصبر إذا كان الواحد منا إذا دعا ثم دعا ثم دعا ترك الدعوة. المطلوب منك الاستمرار، فهذه زوجة تقول مثلاً: زوجي دعوته وقدمت له شريطاً وكتاباً ودعوت الله تعالى وهو لا يزيد إلا انحرافاً، ونقول: بقي شيء آخر، وهو الصبر والاستمرار حتى يأذن الله تعالى بالفرج، وما يدريك أن ما لا يتم اليوم يتم غداً، وما لا يتم هذا الشهر يتم في الثاني، ومالا يتم هذا العام يتم في العام القادم أو الذي بعده. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 33 من أخبار المسلمين السؤال هل لنا ببعض الأخبار السارة في البلقان والصومال وكشمير وطاجكستان؟ الجواب الأخبار السارة هي أن المسلمين بدءوا، نعم بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا كما بدأ التائهون بدأنا كما بدأ الميتون إذ الصور في جانبيهم ألم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم ولكننا بدأنا، بدأ المسلمون بداية لا مرد لها من الله بإذنه تعالى، إن النصر لهذه الأمة ولو طال الزمان، نعم توجد الأخطاء، ويوجد التسرع، ويوجد الطيش، وتوجد العجلة، ولكن المسلمين بدءوا وعلينا أن نوقن بنصر الله تعالى إن عاجلاً أو آجلا {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:4-5] . إذا ما التقى الجمعان جمع يقوده غرور أبي جهل كهر تأسدا وجمع عليه من هداه مهابة وحاديه بالآيات فالصبر قد حدا وشمر خير الخلق عن ساعد الفدى وهز على رأس الطغاة المهندا وجبريل في الأفق القريب مكبرٌ يلقي الونا والرعب في أنفس العدا هنالك قد فر العداة بجمعهم وعافوا أبا جهل صريعاً ممددا الجزء: 152 ¦ الصفحة: 34 الكيل الغربي للمسلمين السؤال هناك إخوة لنا في بعض البلاد يلقون أذى ومحناً ويشردون ويطردون ويشهر بهم في أجهزة الإعلام، فما رأيكم في ذلك؟ الجواب نعم أصبح الإعلام العالمي كله، أصبح وتيرة واحدة للتشهير بالشباب المسلم المؤمن، وأصبحت ألقاب التطرف والأصولية والإرهاب تلصق بكل متدين، فمثلاً: بلدٌ يشرد فيه ملايين المسلمين كما يقع في البوسنة والهرسك، لم نسمع لفظ الإرهاب يلصق بالصرب، ورأينا أنهم يستقبلون زعماءهم بالأحضان، ويعقدون معهم الجلسات السرية الخاصة، ويتبادلون معهم زجاجة اليوسكي والخمر والليالي الحمراء، أما بلد كالسودان -مثلاً- إذا قاتل بعض النصارى الذين يدمرون أمنه ويحاربونه، فإنه سرعان ما يلصق بالدول التي تدعم الإرهاب كما سمعتم، من هذه الدولة الكافرة الفاجرة حامية النصرانية والصليب أمريكا، نسأل الله تعالى أن يسقطها عاجلاً غير آجل، وأن يجعل ولاياتها دولاً، وأن يلبسها شيعاً، ويذيق بأسها بأس بعض، ونسأله جل وعلا أن يدمر اقتصادها ويخرب اجتماعها وأن يجعلها عبرة للأمم كلها. أقول: إن هذه الدولة ومن ورائها العالم كله أصبح يعلن الحرب على المسلمين وخاصة على المتحركين منهم، ويتهمهم بشتى التهم، وأصبح اليوم لا يقع حادث تفجير، ولا اغتيال، ولا تخريب ولا قتل، ولا مشكلة إلا وتلصق بالمتدينين، حتى ولو كان وراءها اليهود، أو كانت وراءها أجهزة المخابرات، أو كانت وراءها بعض الأجنحة المتصارعة في بعض الدول، أو كان وراءها أعداء داخليون، أو ما أشبه ذلك، حتى قال أحدهم متندراً: والله لولا خشية العذال لقلت أنتم سبب الزلزال الجزء: 152 ¦ الصفحة: 35 غفلة الناس عن سبب البلاء السؤال ما يراه بعض الناس من أن محنة المسلمين في بلادهم بسبب ذنوبهم ولا يعلمون أنه ابتلاء؟ الجواب نعم، هو ابتلاء، وهو أيضاً بسبب الذنوب، ولهذا كان من أعظم الأسباب التي ترفع بها المحن، عودة الناس إلى دينهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل، وصدقهم معه، وتصحيح عقائدهم، وجمع كلمتهم، وإزالة الخلافات فيما بينهم، وتطهير قلوبهم من الأحقاد والضغائن، والإحن، والبغضاء، والاختلاف، والتناحر، فإن تأليف القلوب ووحدة الصفوف، من أعظم ما يستنزل به نصر الله تعالى من المؤمنين. فعلى من أبطأ عليهم النصر في بلاد الإسلام -في كل بلد من بلاد الإسلام- عليهم أن يعلموا أن الداء فينا نحن، في اختلافنا وتفرقنا وأهوائنا، وشتاتنا، وفي عدم تجردنا لله عز وجل، وربما كان في جهلنا، أو في خطأٍ موجود عندنا، أو في تقصير في طاعة الله سبحانه وتعالى. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 36 ظاهرة الانتكاس السؤال ظاهرة كثرت في أوساط الشباب الذين يلتزمون فترة، ثم لا يلبثون أن ينحرفوا إلى حالتهم السابقة، فأرجو توجيه النصيحة إلى مثل هؤلاء، ونصيحة إلى من لديه القدرة من أصدقائهم وأقاربهم لردهم إلى الطريق المستقيم. الجواب هذا سبق أن تكلمت عنه، أولاً: في محاضرة "الثبات حتى الممات"، وثانياً: في مجموعة من الأشرطة في أول هذه الإجازة "يا شباب! "، و"حوار مع الشباب"، و"مصارع العشاق"، فأرجو من الأخ الكريم أن يستمع إليها، ويبعث بها إلى بعض من يلاحظ عليهم ذلك من الشباب. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 37 سبب البلاء السؤال كيف نجمع بين هذين القولين: [[ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة]] وأن الابتلاء سنة من سنن الله تعالى في عباده الصالحين. الجواب نعم ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة، هذا قاله العباس رضي الله عنه لما طلب منه عمر رضي الله عنه أن يستسقي للمسلمين، والجمع بينهما من وجوه أحسنها في نظري أن يقال: إن المصائب العامة ما نزلت إلا بسبب الذنوب كالقحط والجدب والفقر وتسليط الحكام الظالمين، وتسليط الأعداء الخارجيين، وتفرق الكلمة، وما أشبه ذلك من المصائب العامة التي تنزل بالأمة هذه سببها الذنوب والمعاصي. أما المصائب الخاصة الشخصية، فهذه قد تكون بسبب الذنوب، وقد تكون لرفعة الدرجات، كما هو الحال بالنسبة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 38 التربية على الصبر السؤال ذكرت الصبر وأنه يُحتاج إليه في كل الأوقات، فهل هناك تربية معينة للنفس لأن الابتلاء يأتي فجأة أحياناً ولا يحسب الإنسان له حسباناً؟ فهل تذكر شيئاً من ذلك؟ الجواب العبادات كلها تربية على الصبر، وترك المعاصي تربية على الصبر، وقراءة سيرة الأنبياء والصالحين تربية على الصبر، وصحبة الأخيار تربية على الصبر، وهذه المصائب والنوازل -حتى لو كانت مفاجئة- هي أيضاً تربية على الصبر، فإن الله تعالى يختار لعباده ويربيهم. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 39 أخبار البوسنة والهرسك السؤال ما هي آخر أخبار البوسنة والهرسك؟ الجواب آخر الأخبار أن العالم الغربي الكافر النصراني قد قر قراره على أن يحفظ ماء الوجه بمثل هذا الاتفاق الذي هو ورقة توت يستر بها سوءته وعورته وعيبه وعجزه أمام العالم فيما يسمى بمؤتمر جنيف، الذي أقر العدوان الصربي والكرواتي على المسلمين، وقدّم البلاد التي تعرضت للتطهير العرقي -كما يسمونه- والتطهير الديني، وقتل المسلمين، قدمها هدية لأعداء الله تعالى الصرب ليقيموا فيها دولتهم، وقد أعلن الكروات أمس جمهورية مستقلة لهم هناك، وحاربوا المسلمين وقتلوهم. وقد جرت البارحة في بعض الإذاعات مقابلة مع اثنين من النصارى العاملين في الإغاثة ثبت أنهم يدعمون المسلمين بالأسلحة، وقالوا: رأينا شيئاً لا صبر لنا عليه، ونحن مستعدون أن ندعم المسلمين حتى آخر لحظة، فإذا صح هذا الخبر فإنه تحدٍ لنا نحن المسلمين، في الوقت التي بلغت ضراوة وشراسة الحرب على المسلمين أن بعض النصارى غاضهم ما يرون، فقالوا: لا بد أن ندعم المسلمين ونساعدهم، في هذا الوقت يتخلى المسلمون عن إخوانهم، والجيد هو من يعطيهم طعاماً أو شراباً أو كساءً فقط، ثم يتركهم حتى يقتلوا ويذبحوا وتغتصب نساؤهم، ويقتل أطفالهم ويشردون وينصّرون، لا، نريد أن يكون هناك دعمٌ متواصلٌ للمسلمين، من خلال القنوات الخاصة التي توصل إلى المسلمين السلاح الذي يدافعون به عن أنفسهم ويقتلون به عدوهم ويقاتلون. وقد أعلن برلمان المسلمين البارحة أيضاً رفضه للخطة التي قررها مؤتمر جنيف، وإن كان يوافق على استمرار المفاوضات، فعلينا ألا نمل من الدعاء لإخواننا، ودعمهم بما نستطيع من المال وغيره، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله تعالى في عون العبد مادام العبد في عون أخيه} . الجزء: 152 ¦ الصفحة: 40 طريقة الدعوة السؤال نرى في الآونة الأخيرة كثرة الكتابة عن خطب الجمعة والخطباء، وأنهم متسرعون في التحريم والتكفير ويكثرون من إثارة الناس، وأنه لا بد من الإشادة بالمشاريع الإنشائية وحث الناس على الوحدة الوطنية، فما رأيكم؟ الجواب ربما كان هؤلاء يريدون أن تتحول خطبة الجمعة، إلى نوع من نشرات الأخبار التي تذاع هنا أو هناك، وبعضهم يريدون أن تكون خطب الجمعة في مجالات معينة فحسب، في الترغيب في الجنة، والتخويف من النار وهذا صحيح، لكن إذا رغبنا الناس في الجنة لا بد أن نبين لهم طريق الجنة، وإذا رهبنا الناس من النار، لا بد أن نبين لهم طريق النار ليجتنبوه ويبتعدوا عنه. والدين ما جاء ليكون في الزوايا، ولا ليحكم التكايا، وإنما جاء الدين ليهيمن على الحياة كلها، في اقتصادها، وسياستها، واجتماعها، وإعلامها، وتعليمها، شاء من شاء وأبى من أبى، وكلمة "لا إله إلا الله" منهج حياة تهمين على الدقيق والجليل، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] وقال: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] . فليس صحيحاً أن خطيب الجمعة يجب أن يكون مقصوراً على شيء، ولا أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون محصورة، بل الدعوة والخطبة والكلمة ينبغي أن تنطلق هادية إلى كل مكان، نعم نقول بملء أفواهنا: حق على كل داعية أو خطيب أو كاتب، حق عليه أن يكون هادئاً في كلمته، متأملاً فيها، دارساً لأبعادها، متثبتاً مما يقول، مدللاً عليه، منطقياً، بعيداً عن التعميم، والمبالغة، والتهويل، وعن كل ما لا يتوافق مع المهمة الجليلة التي أسندت إليه. لكننا نقول أيضاً: هذا حق ليس على الخطباء فقط، بل حق على الصحفيين، والإعلاميين، وكل متحدث ومتكلم، وكل إنسان، كبيراً أو صغيراً، رئيساً أو مرءوساً، حق علينا جميعاً أن نتحلى بذلك، فلم يقال هذا الكلام في حق الخطباء وكأنهم هم فقط الفئة التي تخطئ أو تزل؟ الجزء: 152 ¦ الصفحة: 41 أخبار الشيخ عائض القرني السؤال ما هي آخر أخبار الشيخ عائض بن عبد الله القرني؟ الجواب لقينا الشيخ خلال هذا الأسبوع في اجتماعنا الشهري ليلة الخميس الماضي في الطائف عند الشيخ المفتي عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وهو طيب وبخير ويقرأ عليكم السلام، ولا يزال يستعذب أيامكم التي عاشها معكم وذكرياتكم ويرددها ويذكركم بخير ويدعو لكم ويثني عليكم، وهو إن شاء الله على ما عهدتم يقرأ ويذاكر ويراجع ويكمل فضائله ومحاسنه، وينتظر فرج الله تعالى له، بأن يطلق سراح كلمته لتنطلق صادحة مدوية في مشارق الأرض ومغاربها، أسأل الله تعالى أن يعجل فرح المؤمنين وفرجهم بإطلاق أسر الكلمة الحرة الصادقة من الشيخ عائض القرني ومن غيره، كما أسأله تعالى أن يفرج كرب المكروبين وأسر المأسورين من المسلمين في كل مكان. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 42 السماح ببيع أشرطة بعض الدعاة السؤال يقول: هل هناك بوادر انفراج للسماح لبيع أشرطتكم وأشرطة بعض المشايخ الممنوعة؟ وما توجيهكم في هذا الموضوع؟ الجواب في الواقع أنه ليس هناك شيء جديد، والذي أعلمه أن اللجنة الخماسية التي يرأسها سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز سبق أن أحيل إليها الموضوع وأصدرت توصيات أن يكون هناك لجنة من المشايخ والعلماء تتولى أمر الأشرطة والترخيص لها، لكن لم يحدث من ذلك شيء، أما ما يتعلق بموضوع الأشرطة فإنه لم يأتِ فيها جديد، إنما الذي أعلمه وأنتم تعلمونه أيضاً أن تسجيل المحاضرات ليس ممنوعاً، وأن سماعك هذا الشريط الذي سجلته في سيارتك ليس ممنوعاً، وأن إهداءك هذا الشريط الذي سجلته لجارك أو زميلك ليس ممنوعاً، وأن قيام هذا الإنسان بتسجيل نسخة له أو لن يعرف ليس ممنوعاً. إنما الممنوع أن يتم بيع ذلك في المحلات العامة على الملأ والإعلان عن ذلك، وإصدار التراخيص، وهي أشرطة لا نستطيع أن نقول هي ممنوعة، لكن الصواب أنها غير مرخصة فقط، وهذا لو كنا أقوياء وقادرين وأهل همم عالية، لاستطعنا أن نصنع شيئاً كثيراً في هذا المجال فما دام أن التسجيل ممكن بحمد الله تعالى من خلال الدروس والمحاضرات فليس هناك منع للتسجيل، وأن الإهداء ممكن أيضاً، وأن كون الإنسان يتولى هذا الأمر مع أهل حيه أو زملائه أو جيرانه أو زملاء عمله، أن ذلك كله لا شيء فيه، فحينئذٍ نحن نود لإخواننا أصحاب التسجيلات كل خير، ونتمنى أن يكون هناك فسح ليتمكنوا من البيع، وذلك مفيد لهم في الدنيا بلا شك، ومفيد لهم في الدين، وإن شاء الله مطامحهم الدينية أعظم من المطامح الدنيوية. لكن إذا لم يتيسر هذا فعلى كل إنسان أن يقوم بدوره في هذا السبيل، وهو دور مسموح ليس ممنوعاً، ولا محرماً، ولا حظر فيه، ولا حكر على أحد. فآمل من الإخوة الشباب أن يقوموا بدورهم في هذا الميدان حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولعل بعض الجهود تفلح في إعادة بعض الأمور إلى مجاريها، والسماح ببيع الأشرطة على النطاق العام من خلال محلات التسجيلات الإسلامية وغيرها، كما أرجو من الإخوة الذين مكنهم الله تعالى من شيء، ممن يكون عندهم أجهزة تسجيل، أو عندهم مال، أو عندهم وقت، أو عندهم اتصالات واسعة، أن يستغلوا ما أعطاهم الله تعالى في التمكين لنشر الخير، شريطاً أو كتاباً أو فتوى أو نصيحة أو ما أشبه ذلك. الجزء: 152 ¦ الصفحة: 43 أسئلة وأجوبة حول الإسلام تحتوي هذه المادة على إجابات موجزة تقدم بها بعض المدعوين إلى الإسلام، وقد تناولت ذكر الفروقات الأساسية بين الإسلام والنصرانية، وتقرير أن الإسلام هو الدين الصحيح، وأن الله إله واحد. وتناولت كذلك موضوع تعدد الزوجات والحكمة منه، والحجاب والحكمة منه، وتناولت كذلك تلخيصاً رائعاً لحياة النبي صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته وإنجازاته ومنزلته بين الأنبياء، وتناولت موقف المسلم من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 1 الاختلاف بين الدين الإسلامي والدين المسيحي الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فهذه أجوبة على بعض الأسئلة المقدمة من بعض المدعوين إلى الإسلام، نستعين الله تبارك وتعالى في الإجابة عليها بما تيسر. السؤال ما هو الاختلاف بين الدين الإسلامي والدين المسيحي؟ الجواب إن الديانات السماوية التي نزلت من عند الله تعالى عقيدتها واحدة، فالعقيدة التي جاء بها موسى هي العقيدة التي جاء بها عيسى، وهي العقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، وهي العقيدة التي جاء بها جميع الأنبياء والمرسلين من عند الله تبارك وتعالى، لأنها حق، والحق لا يختلف بين وقتٍ وآخر وبين نبيٍ وآخر، فكلهم دعوا إلى عبادة الله تبارك وتعالى وتوحيده، ونهوا عن الشرك به، وكلهم دعوا إلى الإيمان به، وكلهم دعوا إلى الإيمان بالملائكة والكتب والرسل والجنة والنار والبعث والحساب وغير ذلك، فهذا الأمر وهو العقيدة لا يختلف بين نبيٍ وآخر، لكن الشريعة تختلف بين نبيٍ وآخر، فقد يحل في دين نبيٍ ما كان حراماً في دين غيره، وقد يحرم في دينه ما كان حلالاً في دين غيره، لأن الشرائع تختلف من نبيٍ إلى آخر؛ إذ أن القوم الذين تنزل إليهم الشريعة، والظروف التي تنزل لمعالجتها تختلف، حيث كانت الشرائع السابقة كلها مؤقتة، في وقتٍ معين ولبلادٍ أو قومٍ معينين، إلا الشريعة الإسلامية الخاتمة فإنها دائمة وهذه هي الميزة الأولى، فليست مؤقتة بوقتٍ محدد ويستحيل أن يأتي نبيٌ آخر ينسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم. الميزة الثانية: هي أنها لكل البشر، فليست خاصةً بالعرب مثلاً، وإنما هي عامةٌ لجميع الشعوب والأجناس والألوان، منذ أن بُعِثَ صلى الله عليه وسلم وإلى أن تقوم الساعة، فشريعته ثابتة محكمة شاملةٌ عامة، وحين تنظر إلى الفرق بين الإسلام وبين الديانات السماوية في العصر الحاضر؛ تجد أن هناك فروقاً كثيرة، حتى في العقيدة، فإن اليهود والنصارى قد حرفوا دينهم وغيروه وبدلوه، حتى قبل ذلك بقرونٍ طويلة كان دينهم محرفاً حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك نزل القرآن الكريم يعيب على اليهود والنصارى ما أدخلوه في دينهم من تحريفات وتبديلات، سواء في ذلك جوانب العقيدة، كما ذكر الله عز وجل عن النصارى أنهم يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، وإن الله هو المسيح ابن مريم، أو المسيح بن الله، وكما ذكر الله سبحانه عن اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله وقالوا: إن الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وغير ذلك من التحريفات التي كانت موجودة منذ عصر الرسالة الأولى، عصر النبي صلى الله عليه وسلم بل قبل ذلك. فدين اليهود محرفٌ منسوخ، ودين النصارى محرفٌ منسوخ، ودين الإسلام محكمٌ باقٍ غير منسوخ، وهذه دعوى قد يقول قائل: ما هو الدليل عليها؟ فنقول: الدليل على هذا الدعوى أن هذه الديانات اليهودية والنصرانية يوجد بينها التناقض، فيوجد بين نصوص الإنجيل مثلاً من التناقض ما يعلمه كل أحدٍ له اطلاع على هذا الإنجيل، ويوجد بين نصوص التوراة أيضاً من التناقض، ما يعلمه كل أحدٍ له إطلاع على التوراة، ويوجد فيهما من مناقضة العقل، ويوجد فيهما من مناقضة الواقع والأحداث التاريخية ما يدل على أنهما ليس من عند الله؛ لأن الذي من عند الله يستحيل أن يكون متناقضاً، ويستحيل أن يكون مناقضاً للواقع، ويستحيل أن يكون مناقضاً للتاريخ، ويستحيل أن يكون مناقضاً للعقل. أما دين الإسلام فليس فيه شئٌ من ذلك، ليس فيه شيء يناقض التاريخ، وليس فيه شيء يناقض العقل، وليس فيه شيء يناقض الواقع، وليس فيه شيء يناقض شيئاً آخر من نفس الدين، بل هو دينٌ متكامل يؤيد بعضه بعضاً. وإن مما يجب أن يعلم؛ أن القرآن الكريم الذي هو كتاب هذا الدين، محفوظ مكتوب منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، تنتشر عشرات ملايين النسخ في العالم كله، ولا يوجد بين نسخةٍ وأخرى منها أي اختلاف لا في كلمة ولا في حرف ولا في ضمة أو فتحةٍ أو كسرة، بل هو متفق تمام الاتفاق يقرؤه المسلم في الشرق كما يقرؤه المسلم في الغرب؛ أما حين تنظر إلى كتب الديانات الأخرى، فانظر -مثلاً- إلى الإنجيل، بل إلى الأناجيل التي كانت كثيرة جداً، وأقر مجمع نيقية المنعقد سنة (325م) أربعة منها هي المعتبرة عند النصارى المقدسة لديهم، وهي: إنجيل متَّى وإنجيل مرقص وإنجيل لوقا وإنجيل يوحنا، وهذه الأناجيل الأربعة مختلفة فيما بينها، ليست وحياً منزلاً من عند الله، بل هي من كتابة البشر، ومعظمها عبارة عن تراجم وسير وأحداث، يتخللها بعض العقائد والتعاليم، ولا يعرف من كتب هذه الأناجيل ولا في أي زمن كتبت، ولا بأي لغةٍ كتبت ولا لمن كتبت، ولا يعرف إن كانت مترجمة، وأين ترجمت، وإن كانت ترجمت فمن الذين ترجمها، وفي أي سنة وما هي اللغة الأصلية التي كتبت بها؟ كل ذلك لا يكاد يعرفه أحد من الباحثين، لا من النصارى ولا من غيرهم، ثم إنها متناقضة فيما بينها، في عرض الأحداث التاريخية وفي عرض العقائد. إن الإنجيل الوحيد الذي فيه التصريح بأن عيسى ابن الله -تعالى الله عما يقولون- هو إنجيل يوحنا، وقد نفى كثيرٌ من علماء النصارى نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الصياد، الذي هو حواري المسيح، وقالوا: إن هذا الذي كتبه أحد تلاميذ مدرسة الإسكندرية، ومن المصادر التي نفت نسبة الإنجيل إلى يوحنا الصياد دائرة المعارف البريطانية، التي ألفها أكثر من مائتين من علماء النصارى، وقد قطعوا بأنه لم يكتبه يوحنا وإنما كتب ونسب إليه. ثم إن هناك إنجيل برنابا، وبرنابا اسمه يوسف وهو قسيس من القديسين الأوائل عند النصارى، أو حواري من الحواريين، وهذا الإنجيل له أهمية خاصة، حيث حرص النصارى على إخفائه وإحراقه، وحرم الباباوات تداوله بين رعاياهم، وشنت عليه الكنائس حملة ضارية، ولكن لا يزال هذا الإنجيل باقياً إلى اليوم، منتشراً مترجماً إلى لغاتٍ عديدة، ومنها اللغة العربية حيث ترجم إلى العربية وطبع. هذا الإنجيل يبين الديانة النصرانية الحقيقية غير المزيفة، ومن الحقائق الموجودة فيه التي حاربه النصارى من أجلها: أنه يقر بأن عيسى بشر وليس إلهاً، يقول فيه عيسى -مثلاً- "إنني أشهد أمام السماء، وأشهد كل ساكن على الأرض، أني بريءٌ من كل ما قال الناس عني من أني أعظم من بشر، لأني بشرٌ مولود من امرأة عرضة لحكم الله، أعيش كسائر البشر عرضة للشقاء العام". ثانياً: في إنجيل برنابا: أن من قال إن عيسى إله فهو كافر. ثالثاً: يقرر إنجيل برنابا، أن الذبيح هو إسماعيل أبو العرب وليس إسحاق، وهذا ما يقرره الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم في مواضع عديدة. رابعاً: في إنجيل برنابا البشارة بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم وبعثته من نص صريح، في مواضع متعددة من هذا الإنجيل. خامساً: لا يقول هذا الإنجيل بصلب المسيح، بل يعتبر من قال بذلك جاهلاً، إلى غير ذلك من المعلومات الموجودة في هذا الإنجيل. إذاً: فالأناجيل متعارضة فيما بينها، والأولى أن نقبل ما في إنجيل برنابا بما يوافق القرآن الكريم، ونعتبر أن ما في الأناجيل الأخرى مزيفٌ محرف، وخاصة وقد جاءت الرسالة السماوية (الإسلام) لتقر ما في هذا الإنجيل، وتنفي ما في غيره. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين الإسلام والدين المسيحي إذاً: خلاصة الجواب في الفرق بين الإسلام والدين المسيحي: أولاً: العقيدة التي جاء بها عيسى عليه الصلاة والسلام والعقيدة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم واحدة، ولكن العقيدة الموجودة اليوم عند النصارى مخالفة تماماً للعقيدة التي جاء بها عيسى، ولا يقر عيسى عليه الصلاة والسلام ما عليه النصارى اليوم، من التبديل والتحريف وادعاء الألوهية له أو لأمه، أو ادعاء أن الآلهة ثلاثة: الأب والابن وروح القدس: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النساء:171] . ثانياً: دين النصرانية فيما يتعلق بشريعته والأحكام التفصيلية التي تنظم حياة الناس منسوخ بدين الإسلام. فهذان الفرقان يجب أن يعلمهما كل إنسان. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 3 الإسلام هو الدين الصحيح السؤال هل تعتقد أن الإسلام هو الدين الصحيح؟ الجواب أما عن العقيدة، فلا شك أن كل مسلم إذا وجه إليه هذا السؤال يعتقد أن الإسلام هو الدين الصحيح، ولو شك في ذلك لما كان مسلماً أصلاً، أما إن كان السؤال: لماذا تعتقد أن الإسلام هو الدين الصحيح؟ فالجواب على هذا هو: أن الإسلام يحمل الأدلة على أنه الدين الحق، ولا يمكن لإنسان أن يبحث بصدق وإخلاص عن الدين الحق إلا ويصل إليه، والدليل على ذلك: هذه الأعداد الهائلة التي تدخل في الإسلام يوماً بعد يوم في هذه البلاد، بل وفي أنحاء العالم، والدليل على ذلك أن كثيراً من رجال الديانات الذين طافوا على الديانات كلها، فجربوا اليهودية والنصرانية والماركسية وغيرها، ثم انتهوا إلى الإسلام وآمنوا به، واقتنعوا اقتناعاً كاملاً بأنه الدين المنزل من عند الله. أما الأدلة على صدق هذه العقيدة فهي كثيرة: أولاً: بعث الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال إنه مرسل من عند الله، وجاء بكتاب هو كلام الله عز وجل ودعا الناس إلى ذلك، فحاربه الناس الذين في عصره، وآمن به منهم قليل، وما زال نجمه يرتفع شيئاً فشيئاً وسلطانه يقوى حتى حكم الجزيرة العربية، ثم حكم العالم كله أصحابه من بعده، وهم في ذلك يقولون: إنهم يدعون إلى دين الله وينشرون هذا القرآن، وما زال الله عز وجل ينصر نبيه وأتباعه يوماً بعد يوم، ويعلي شأنهم ويخذل أعداءهم، ويحقق لهم ما يريدون من نصرة الدين، بل ويجري على أيديهم المعجزات الكثيرة، التي لا عهد للناس بها في الماضي وفي الحاضر من المعجزات أو من الكرامات، فلو كان ما ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه من بعده باطلاً؛ لانتقم الله منهم، ولما مكن لهم في الأرض ونصر دينهم، ورفع رايتهم وخذل أعداءهم. ثانياً: جاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن باللغة العربية على قومٍ فصحاء، وتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بعشر سور من مثله أو بسورة أو بآية وهي أقل مقدار من القرآن الكريم، فما استطاعوا مع شدة حرصهم على ذلك، ومحاولتهم الشديدة أن يتغلبوا على الرسول صلى الله عليه وسلم، فعجزوا عن ذلك وبهتوا وحاروا، فدل ذلك على أن هذا القرآن ليس من كلام البشر، بل هو من كلام الله تبارك وتعالى. ثالثاً: هذا القرآن الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون من عنده هو عليه الصلاة والسلام؛ لأن في القرآن أشياء تقطع بأنه من عند الله، منها: أولاً: في القرآن إخبار عن أمور غيبية، لا يعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم، من أخبار الأمم السابقة، وقد وجد علماء اليهودية والنصرانية، أنها موافقة لما هو الصحيح والحق مما في كتبهم وأخبارهم، ولذلك آمن به كثيرٌ من أهل الكتاب في عصره صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك. ثانياً: في القرآن الكريم كثير من الأخبار عن أمور من الغيب التي ستقع والتي لا يعلمها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لولا أن الله تبارك وتعالى أخبره بها وأطلعه عليها، من ذلك -مثلاً- ما يكتشفه العلماء يوماً بعد يوم من الإعجاز الموجود في القرآن الكريم، حيث يخبر القرآن عن قضايا علمية خفية لم يعلمها الناس إلا في هذا العصر، بل وربما أشياء لم يعلمها الناس حتى اليوم، وقد يعلمونها في العصر القادم أو في الذي بعده أو متى شاء الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فدل هذا على أنه ليس من عنده وإنما هو من عند الله. ثالثاً: في القرآن الكريم نفسه عتاب للرسول صلى الله عليه وسلم، على بعض المواقف التي فعلها، وبيان أنه كان ينبغي أن يفعل كذا ولا يفعل كذا، وهذا لا يمكن أن يكون من عند الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعاتب نفسه ثم ينشر هذا على الناس، بل لم يكتم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا عن الناس، بل أعلنه؛ لأنه لابد أن يعلن جميع ما جاءه من عند الله ولو كان تنبيهاً له على أمرٍ حصل منه فعلى سبيل المثال: يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1-10] فيعاتب الله رسوله عليه الصلاة والسلام على موقفه من هذا الرجل الأعمى، حين جاء إليه يقول له: علمني الإسلام، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً بدعوة كبراء قريش لعل الله أن يهديهم، كأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعجب، ولم يرتح لدعوة هذا الرجل وقوله: علمني مما علمك الله؛ لأنه كان مشغولاً بما كان يرى أنه أهم منه، فنزلت آيات من عند الله، تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف. مثال ثانٍ: لقد أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيتزوج زينب بنت جحش، وكانت في ذلك الوقت زوجةً لـ زيد بن حارثة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم، يعلم ما يجري من مشاكل زوجية بين زيد بن حارثة وبين زينب بنت جحش، فجاءه زيد يشكو إليه ما يلقى من زينب، فاستحى أن يقول له صلى الله عليه وسلم: طلقها، أو ما أشبه ذلك، بل قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} [الأحزاب:37] أمره بأن يمسكها وأن يعمل على حل هذه المشكلات، مع أنه يعلم صلى الله عليه وسلم أن الأمر سيئول إلى الطلاق، وأنه سيتزوجها بعده، لكن لأن هذا مجال يتكلم فيه المنافقون واليهود، فقال له صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك زوجك واتق الله} "، فنزلت آيات من السماء تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الموقف، يقول الله تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب:37] فعاتبه الله تبارك وتعالى على هذا الموقف. مثالٌ ثالث: بعد معركة بدر، وقد قبض المسلمون على عددٍ كبيرٍ من الأسرى، استشار الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، ما يصنع بهؤلاء الأسرى؟ فكان رأي عمر أن يقتلوا، وكان رأي أبي بكر ٍ ألا يقتلوا، بل يؤخذ منهم الفداء، لعل الله أن يهديهم إلى الإسلام، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر، وأخذ من هؤلاء الأسرى فداءً، فنزلت آيات من القرآن الكريم، تعاتب الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على هذا الأمر، يقول الله عز وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67-68] فعاتب الله رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المواضع وفي غيرها. فلو كان هذا القرآن من عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لما تصور أن يعاتب الشخص نفسه في شيءٍ مكتوبٍ يتلى إلى يوم القيامة، لكن هذه آيات وضعها الله عز وجل علامة على أن القرآن من عند الله منزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول مهمته البلاغ فقط، ولا يستطيع أن يكتم شيئاً من هذا القرآن، ولو حرفاً واحداً كما سبق. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 4 الحكمة من تعدد الزوجات السؤال لماذا يستطيع المسلم أن يتزوج واحدة أو أكثر إلى أربع؟ الجواب الإسلام يبيح للمسلم أن يتزوج واحدةً واثنتين وثلاثاً وأربعاً، ولا يجوز للمسلم أن يزيد على أربع نسوة، وهذا صريح في القرآن الكريم: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء:3] ولكن بشرط العدل بينهن، ولذلك قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فإذا خاف الإنسان من عدم العدل، وغلب على ظنه أنه لن يعدل، فحينئذٍ يلزمه الاقتصار على واحدة. أما الأسباب فهي كثيرة جداً، ولننظر في حياة الناس ونجد من الأسباب ما يلي: أولاً: عدد الرجال في كل مجتمع أقل من عدد النساء، وهذا يوجب أن يسمح للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة؛ لئلا يبقى نساء عوانس في المجتمع. ثانياً: الرجال عرضة للموت في الحروب والحوادث أكثر من النساء، فإذا قامت حروب أو أشياء معينة، يموت فيها الرجال بشكلٍ جماعي، فحينئذٍ تجد أنك أمام عدد كبير من النساء، وعدد قليل من الرجال، ومن الرأفة بالمرأة في مثل هذه الحال؛ أن يبيح الإسلام للرجل أن يضم إليه امرأة واثنتين وثلاث إلى أربع نسوة، فيقوم عليهن ويكفلهن ويطعمهن ويؤويهن إليه، ويحقق لهن الرغبة الفطرية الجنسية الموجودة لدى كل إنسان. ثالثاً: في كثير من الحالات يتزوج الرجل بامرأة، ثم يشعر بأنه يحتاج إلى أخرى؛ لأن هذه المرأة لا تكفيه؛ إما لأنها عقيم لا تلد، أو لأنها ليست جميلة بل دميمة، أو لوجود عيب فيها أو لأن فيها شيئاً من سوء الخلق، أو لأنها مشغولةٌ ببعض الأشياء التي لا يستطيع معها الرجل أن يحقق ما يريده من المرأة، ففي مثل هذه الحالات الرجل مخير بين أمرين؛ إما أن يطلق هذه المرأة، ويبعدها عنه ليتزوج بأخرى، وإما أن يبقيها في عصمته ويضم إليها أخرى، وفي الغالب فإن المرأة ترضى أن تبقى في عصمة الزوج ورعايته وكفالته، ويضم إليها أخرى أو حتى ثالثة، وتفضل ذلك على الطلاق. ولذلك أباح الإسلام هذا الأمر، وقد يقول قائل: ولماذا الطلاق إذاً؟ فنقول: إن في حالات كثيرة جداً يعلمها المجربون، أن الزواج يصل إلى طريقٍ مسدود، وإذا كانت الشركات -مثلاً- التجارية تعقد اليوم، ثم تنقض غداً بسبب تشاكس بين الشركاء في أنحاء العالم، فإن الزواج عبارة عن شركة في الحياة، فإذا كان هناك عدم وئام وعدم انسجام بين الزوجين، وهذا كثيراً ما يحدث أو نشأت مشكلات ومشاجرات، فالذي يحصل أن الزوج يطلق المرأة، فإذا كان النظام يمنع من الطلاق، فماذا يفعل الزوج؟ إنه يلجأ إلى الحيلة حينئذٍ، فقد يحتال لقتل المرأة حتى يرتاح منها، وقد يضايقها ويضطهدها ويسيء إليها بألوان الإساءة، حتى يتحقق له الفراق، وربما ترفع هي إلى المحاكم مطالبةً بالفصل بينهما، إلى غير ذلك من الوسائل التي يتقنها الناس، إذا أرادوا أن يتخلصوا من زوجاتهم. فالإسلام -مراعاةً للناحية الواقعية في الرجل وفي المرأة- أقام بناءً أسرياً متكاملاً، الزوج يتزوج بامرأة لها حقوق على الرجل، يكلمها ويحترمها، ولا يجوز له أن يهينها، والطلاق ممكن إذا احتاج إليه الرجل، لكنه أمرٌ غير محبوبٍ في الشرع، والله عز وجل يبغض هذا الطلاق إذا كان لغير حاجة، وفي الحديث الصحيح: {إن الطلاق إنما يأمر به الشيطان} هذا إذا كان لغير سببٍ وجيه، فإذا اضطر الرجل إلى الطلاق؛ فله الحق أن يطلق حينئذٍ، حفاظاً على حياته وعلى حياة المرأة نفسها، لأن من المصلحة أن تبتعد المرأة عن الرجل في أحيان كثيرة؛ لئلا يضايقها ويضطهدها، فإذا كان يستطيع أن يبقيها في عصمته ويحفظ لها حقوقها، ويضم إليها أخرى تسد الفراغ أو النقص الموجود لدى الأولى، فقد أباح له الإسلام ذلك. ولو نظر الإنسان نظرة معتدلة؛ لوجد أن هذا أمر طبيعي، وهانحن نجد أن كثيراً من الدول، بل جميع الدول التي تمنع تعدد الزوجات، تسمح بتعدد الخليلات، فتجد أن للرجل زوجة واحدة وله عدد كبير من الصديقات، يعاشرهن معاشرة الزوجة، ولكنه لا يلتزم نحوهن بأي التزامٍ قانوني أو اقتصادي، فهذا إهانة للمرأة وحطٌ لكرامتها، وفي مثل تلك المجتمعات، تجد المرأة معها ولدٌ واحد من صديقٍ، أو أكثر من صديق لها، ليس بزوج، ولا يلتزم تجاه هذا الولد بأي التزام، وهذه تسبب مشكلة في المجتمعات الغربية. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 5 الله واحد السؤال هل الله واحدٌ فقط؟ الجواب نعم، إنما الله إلهٌ واحد سبحانه لا شريك له في ربوبيته، ولا شريك له في ألوهيته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، ولا يمكن أن يكون في الكون أكثر من إله، فلو كان في الكون أكثر من إله؛ لفسد الكون واختلف واضطرب، لأن العمل-ولله المثل الأعلى- حين يكون فيه أكثر من شخص كلهم مسئولون عنه وبدرجة واحدة، فإن هذا العمل يضطرب ويختلف، فهذا المدير يأمر بأمر وهذا المدير ينقض الأمر والمدير الثاني ينهى عن شيء والمدير الأول يأمر به، وهذا مدير يرفع هذا الموظف رتبة، والمدير الثاني يقوم بفصله عن العمل نظراً لوجود التناقض الطبيعي في عقول البشر وشخصياتهم ونظرياتهم وميولهم، فما بالك بهذه المملكة الواسعة العريضة، بسمائها ونجومها وأرضها وأفلاكها وعوالمها المختلفة، وبرها وبحرها، وهذه البشر، وهذه المخلوقات العظيمة؟! إن المدبر لها واحد سبحانه هو الخالق لها والمدبر لجميع شئونها، وهذا الإله الواحد الذي أقرت جميع الرسالات السماوية، بل جميع الأديان حتى الأرضية، بأن الخالق في الأصل واحد هو المستحق للعبادة، لأننا إذا اعترفنا بأنه هو الذي خلق هذه الأكوان وأبدعها، وسخر ما فيها وأقامها على هذا النظام البديع، فإنه هو وحده الذي يستحق أن يتوجه إليه الإنسان، فيعبده ويصلي له ويدعوه ويطيعه فيما يأمر. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 6 الأدلة على وجود الله تعالى السؤال كيف تقنعني بوجود الله؟ الجواب أولاً: قبل الخوض في الأدلة على وجود الله، الإنسان يدرك أن قضية الدين قضية خطيرة في حياته، وأنه إذا صدق ما يقوله أهل الأديان، فإن من الخطورة بمكان أن يبقى الإنسان بعيداً عن هذا الدين، ولذلك فعلى كل إنسان يهودياً أو نصرانياً أو بوذياً، أو من أي ديانة، أن يفكر تفكيراً جدياً صحيحاً في الدين، ويبحث عنه بحثاً جاداً، لا يكتفي بأن يوجه سؤالاً بمناسبة محاضرة مثلاً، لا، بل يحاول أن يبحث بجدية في هذا الأمر، أكثر من أن يبحث عن الشراب والطعام؛ لأن الدين يقول للإنسان: إن الإنسان بعد موته مقبل على جنة ونار، فإن كان مؤمناً فهو في الجنة له فيها كل ألوان النعيم، لا يخرج منها أبداً، وإن كان كافراً فله نار وعذاب، فيها ألوان النكال والخزي لا يخرج منها أبداً، فالأمر إذاً صعب وخطير، فعلى كل إنسان أن يبحث بصدق عن الدين، ويجتهد في الوصول إليه ومعرفة أدلته، حتى يقتنع به بوضوح، أو يرده إن كان لديه عدم قناعة، لكن عندنا نحن المسلمين قناعة بأن أي إنسان متجرد، فإنه لا يمكن -بحالٍ من الأحوال- أن يبحث بصدق عن الدين الحق إلا ويهتدي للإسلام، وهذا عهد قطعه الله سبحانه وتعالى على نفسه، قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فمن جاهد، وبذل جهده في الوصول إلى الحق بتجرد وإخلاص، فإن الله عز وجل تكفل بأن يهديه إلى الحق، الذي تعب في البحث عنه، فلابد أن نعطي قضية الدين اهتماماً حقيقياً، أكثر من اهتمامنا بأمورنا الدنيوية العاجلة. أما حول قضية الإيمان بوجود الله، فالأدلة كثيرة جداً، ومثل هذا الموضوع يتطلب محاضرات خاصة، وهناك كتب خاصة أيضاً مؤلفة في هذا الموضوع، لكن أضرب مثلاً واحداً وهو: هذا الإبداع الموجود في الكون، هذه النجوم والكواكب والقمر والشمس والكون بما فيه هذا الإنسان، لو نظرنا في الحياة كلها؛ لوجدنا فيها من دقة الصنع وبديع الخلق وإحكام التنسيق ما يبهر العقول، واسأل الأطباء -مثلاً- عما في جسم الإنسان من الإبداع، اسأل الفلكيين عما في الكون ونجومه وأقماره وعوالمه من الإبداع، واسأل كل أهل صنعة عما يجدونه من الدقة والحكمة والإبداع. هذه الحكمة التي قام الكون عليها، ووجد الإنسان ووجدت الحياة، وهذه الدقة هل يتصور أن تكون حصلت بمحض الصدفة؟ هذا مستحيل! انظر -مثلاً- لو أنني سلمتك الآن كتاباً مطبوعاً من ستمائة صفحة بعنوان واسم المؤلف وعنوان الكتاب وعنوان الباب، وفصول ومعلومات منظمة وحقائق علمية وطباعة فاخرة، وفهارس ممتازة وكتاب مطبوع طباعة فاضلة جداً وراقية، سلمتك هذا الكتاب، هل يمكن أن يخطر في بالك أو أن تصدق يوماً من الأيام أن هذا الكتاب انطبع بنفسه؟! وضعت آلة كاتبة مثلاً، ووضع عندها ورق، ومتطلبات أخرى، ثم أُغلقَ باب الغرفة التي فيها الآلة، وبعد فترة وجيزة وجد أن هذا الكتاب قد طُبِعَ، لا يدرى من الذي جمع المعلومات التي فيه، ولا من الذي أبدع الأفكار الموجودة فيه، ولا من الذي قام بالطباعة، ولا من الذي قام بالصف، ولا من الذي قام بالتصوير، ولا من الذي قام بترتيب الصفحات، ولا من الذي قام بتجليد الكتاب، ولا يعرف شيئاً من ذلك إطلاقاً، بل لا أحد قام به! إن هذا ضربٌ من الخيال! والإنسان بطبيعته إذا ترك شيئاً من الأشياء، ثم رجع فوجده قد غير عما في عهده، يعلم بأن هناك أحداً تدخل فغير الأمر. انظر في نفسك كموظف، لو أتيت إلى طاولتك من الغد، فوجدت أن الأوراق التي فيها، قد أخذت وعدلت وبدلت ووضع غيرها، وأن محتويات المكتب قد غيرت عما عهدت، فإنك حينئذٍ تقطع قطعاً؛ بأن هناك أحداً قد جاء بعدك، وغير هذه الأشياء. فعند الإنسان فطرة، أن كل شيء يحدث في الكون لابد له من محدث، فالكون كله بما فيه الإنسان العاقل، الواعي الفاهم المدرك من الذي خلقه؟ لا يوجد أحد يدعي أنه خلق هذا الكون، أو أحد يتصور أنه خلق هذا الكون إلا الله عز وجل وحده لا شريك له، والأدلة على ذلك كثيرة جداً لا يتسع المجال لذكرها. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 7 أوصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم السؤال من هو النبي محمد؟ الجواب النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، من قبيلة قريش العربية، التي كانت تسكن في مكة، والعرب من ذرية إسماعيل بن إبراهيم الخليل، عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، ولد النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، وقد مات أبوه قبل أن يولد، ثم ماتت أمه وهو طفلٌ صغير فكفله جده، ثم مات جده فكفله عمه أبو طالب. في مطلع حياة هذا النبي صلى الله عليه وسلم كان رجلاً فاضلاً محسناً إلى الناس، حريصاً على إيصال الخير إليهم، وكان لا يشارك أهل الجاهلية في الأعمال السيئة التي يقومون بها، من الرقص والغناء، وشرب الخمر والفساد وغير ذلك، فكان لا يشارك في هذه الأعمال ولا يقر بها، ثم بدأ هذا النبي صلى الله عليه وسلم، يخرج إلى جبلٍ قريب من مكة، فيقيم فيه يتعبد ويصلي ويذكر الله عز وجل فترةً طويلة، ثم نزل عليه الوحي وهو في هذا الجبل، في هذا الغار الذي هو غار حراء، فجاءه الملك من عند الله عز وجل، على غير انتظار منه صلى الله عليه وسلم، ففوجئ بنزول الملك عليه، فقال له الملك: اقرأ اقرأ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب لحكمةٍ يعلمها الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ما أنا بقارئ -أي لا أحسن القراءة- فضغطه الملك، ثم أرسله وقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، فضغطه الملك مرة ثانية، حتى بلغ منه الجهد، ثم قال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ -أي لا أحسن القراءة- في المرة الثالثة قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآيات إلى زوجته خديجة، وهو يرتجف من الخوف ويقول: دثروني دثروني -أي غطوني غطوني- فضمته خديجة إليها، وقالت له: أبشر يا ابن أخي، فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتقرئ الضيف وتعين على نوائب الحق، وتحمل الكَلّ، ثم ذهبت به إلى رجلٍ نصراني في مكة، اسمه ورقة بن نوفل، فأخبره بما رأى، وقد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم الخوف من ذلك، فقال له: ورقة بن نوفل: هذا هو الناموس الذي أنزل على موسى عليه السلام، هذا جبريل وأنت نبي، ويا ليتني أكون حياً إذا يخرجك قومك، فإنني حينئذٍ أنصرك نصراً مؤزراً، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهل سيخرجني قومي من بلدي؟! قال: نعم، ما جاء رجلٌ بمثل ما جئت به إلا عودي وحورب، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً} . وهكذا بدأ يتنزل الوحي على الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً حتى مكث بمكة ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى الله، ويلقى منهم الأذى والصد والتكذيب والسخرية والعناد، حتى أن منهم من يأتي إليه وهو ساجد فيضع القذر على ظهره، ومنهم من يبصق في وجهه، ومنهم من يضع التراب على رأسه، ومنهم من يؤذيه بألوان الأذى، وهو يقابل ذلك كله بالصبر؛ حتى أذن الله له بالهجرة إلى المدينة المنورة، فهاجر بعد ثلاث عشرة سنة من بعثته صلى الله عليه وسلم، واستقبله المؤمنون هناك، ومكث في المدينة عشر سنوات يدعو إلى الله عز وجل، فآمن به أهل المدينة إلا اليهود والمنافقون، وبدأ الإسلام ينتشر في أنحاء الجزيرة العربية، ثم بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم يواجه الكفار والمشركين، الذين آذوه وحاربوه، بالقتال والحرب، حتى يتمكن الناس من معرفة الحق من الباطل، وقبول الدين بدون أن يكون هناك أحد يمنعهم من ذلك، أو يضغط عليهم بتركه، فقاتل المشركين في معارك كثيرة، منها: معركة بدر، ومنها: معركة أحد، ومنها: معركة الخندق أو الأحزاب، ومنها معركة فتح مكة وغير ذلك من المعارك، وكان النصر حليفه في معظم هذه المعارك، بل في جميع هذه المعارك إلا في معركة أحد، حيث خالف أصحابه أمره، فأصابهم الله عز وجل بالهزيمة، تربيةً لهم على طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولما مات أو قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم دانت الجزيرة العربية كلها للإسلام، بل وبدأ الإسلام ينتشر خارج أصقاع الجزيرة العربية، وواصل أصحابه من بعده حركة الدعوة إلى الله والفتوح، حتى خضعت لهم معظم أنحاء المعمورة في ذلك العصر، والملاحظ أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يطلب في ذلك كله شيئاً لنفسه، بل كان رجلاً متواضعاً بعيداً عن التكلف والكبرياء، متواضعاً سهلاً قريباً من الإنسان، لمّا رآه عبد الله بن سلام -وهو يهودي- قال: لما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وجاءه يوماً أعرابي، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، ارتعد من التوقير والإجلال للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {هون عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة} . وكان يمازح أصحابه ويحادثهم، ويكره كل مظاهر التكبر والغرور والغطرسة، وما ادعى لنفسه شيئاً ليس له، بل إننا نجد في القرآن الكريم، أن الله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام:50] وإلى غير ذلك من الآيات قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف:110] فالرسول صلى الله عليه وسلم كان بشراً رسولاً، يدعو الناس إلى ربهم، وكان يعطي الناس ولا يأخذ منهم، وكان كثير الإحسان إلى الناس والصدقة، يتصدق على الواحد منهم بمائة بعير مثلاً، أو بوادٍ من الغنم، أو بمبلغ كبير من الذهب أو من الفضة، ولا يرى في ذلك شيئاً على الإطلاق، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند رجلٍ يهودي، مرهونة بدين عند هذا اليهودي. فهذا النبي الذي اختاره الله تبارك وتعالى نبياً ليس للعرب، بل للبشرية كلها منذ بعث، وإلى قيام الساعة، ولا يمكن أن يدخل الجنة أي إنسان لم يؤمن بهذا النبي بعد بعثته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 8 الحج على من يستطيع السؤال إن الحج من أركان الإسلام، فكيف الوضع بالنسبة لمسلمي الفلبين الفقراء، الذين لا يستطيعون الذهاب إلى مكة، وهل هم ليسوا بمسلمين حقيقيين بعدم الحج؟ الجواب الحج ركنٌ من أركان الإسلام، لكن بشروط، لا يجب الحج على المسلم إلا إذا استطاع، وذلك بأن يجد من المال ما يمكنه من السفر إلى مكة، ويمكنه من الحاجات الضرورية التي يحتاجها في هذا السفر، من الطعام والشراب ونحوها من الحاجات الضرورية، التي لا بد للإنسان منها، ومن الاستطاعة: أن يكون مستطيعاً ببدنه، فلو كان عاجزاً عن السفر لمرض مثلاً، أو لغير ذلك، فإن الحج يسقط عنه بنفسه، وينيب من يحج عنه. إذاً: المسلم الذي يجب عليه الحج بنفسه، هو من كان مستطيعاً استطاعة بدنية واستطاعة مالية، أما من كان يستطيع استطاعة مالية، عنده مال، لكن لا يستطيع أن يحج ببدنه؛ لأنه مريض، فإنه ينيب ويوكل من يحج عنه، أما من كان عنده استطاعة بدنية، لكن ليس عنده مال فإنه لا يلزمه الحج حينئذٍ إلا إذا وجد المال. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 9 الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو أفضل الأنبياء والمرسلين السؤال لماذا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرسول الذي يمجد من بين الرسل؟ وما هي إنجازاته؟ الجواب هذا السؤال يفترض أن الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الرسول الوحيد الذي يحبه المسلمون، والواقع أن المسلمين يختلفون عن غيرهم من أصحاب الديانات في هذه الناحية، فنحن -المسلمين- نعتبر أن من كفر بموسى صلى الله عليه وسلم؛ فإنه لا يدخل الجنة أبداً، ونعتبر أن من كفر بعيسى صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدخل الجنة أبداً، ومن كفر بداود أو سليمان أو بإدريس أو بإسماعيل أو بغيرهم من أنبياء الله ورسله، فإنه لا يدخل الجنة أبداً، وكذلك من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدخل الجنة أبداً، لا يدخل الجنة إلا من آمن بجميع الرسل، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] فنحن نحب الرسل جميعاً عليهم الصلاة والسلام، ونحترمهم جميعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم، جاء مجدداً للعقيدة والتوحيد الذي جاء به أولئك الرسل، ومجدداً للتشريعات والأحكام، ومغيراً لما أمر الله عز وجل بتغييره من تفاصيل الأحكام، وناسخاً لها، ولذلك فإن المسلمين يمدحون جميع الرسل، ويحبونهم ويمجدونهم ويعتبرونهم أفضل البشر على الإطلاق، ولكن هذا لا يمنع أن يقول المسلمون أيضاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم واحدٌ من هؤلاء الرسل بخلاف ما ينكره اليهود والنصارى، حيث ينكرون بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ويجحدونها، وأيضاً يقول المسلمون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل وأفضلهم، والدليل على ذلك أن جميع الرسل جاء بعدهم من ينسخ شرائعهم، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فشريعته باقية لم تنسخ، ولم يبعث نبيٌ بعده صلى الله عليه وسلم ينسخ شريعته، بل ولن يبعث نبيٌ إلى قيام الساعة. من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم ومميزاته: أنه جاء بهذا القرآن، الذي هو معجزة باقية إلى أن يشاء الله، هذا القرآن الباقي، هو معجزة باقية للرسول صلى الله عليه وسلم، يتحدى الله سبحانه وتعالى البشر كلهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن في بلاغته، وفي إعجازه، وفيما فيه من الحق، وفيما فيه من التأثير، وفيما فيه من العلم، وهذه معجزة باقية للرسول صلى الله عليه وسلم. أما إنجازات الرسول صلى الله عليه وسلم: فإن من أعظم إنجازاته صلى الله عليه وسلم أنه بلغ هذا الدين الذي أمره الله تعالى بتبليغه كاملاً، لم يُنقص منه شيئاً، وحفظ الله هذا الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم على يد أصحابه، فما زال المسلمون اليوم يعرفون أدق تفاصيل هذا الدين، وعن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى حد أنهم يعرفون الأشياء الشكلية في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون كم عدد الشعرات البيض في لحية الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون شكل الرسول صلى الله عليه وسلم، يعرفون مقدار طوله ولون بشرته، وشكل ثيابه صلى الله عليه وسلم، وماذا كان يلبس على رأسه، وكيف كان يفعل في داخل بيته، حتى مع زوجاته صلى الله عليه وسلم، وكيف كان يفعل في خارج البيت، وكيف كان يفعل في المسجد، وفي السوق وفي الحرب وفي السلم، وفي جميع التفاصيل لا تزال مضبوطة بوثائق ومستندات لا يرقى إليها شك، وهذا بخلاف ما هو حاصل بالنسبة للأنبياء الآخرين، فقد نسي الناس سيرتهم وتفاصيل حياتهم، ولا يذكرون منها إلا معلومات قليلة، وهي معلومات ظنية غير مؤكدة ولا مجزوم بها، بل بعضها أشياء مكذوبة لا تليق بهؤلاء الأنبياء، فهي تحط من قدرهم وتصورهم كما لو كانوا بشعين مثلاً، أو أصحاب شهوات أو شراب خمور، أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي يتنزه عنها الإنسان الفاضل فضلاً عن النبي المصطفى المختار المبعوث من عند الله تعالى، فهي أشياء اختلقها اليهود، ولفقوها وألصقوها في شخصيات الأنبياء حتى يشوهوا صورتهم أمام العالم، أما الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا تزال سيرته نقية واضحةً معروفة. ومن إنجازاته: أنه بلغ هذا الدين بهذه الصورة الكافية المحفوظة، ومن إنجازاته صلى الله عليه وسلم: أنه جمع الأمة التي آمنت به على هذا الدين، وجعلهم أمةً واحدة، مهما تكن جنسياتهم وألوانهم من السود والبيض، من العرب والحبش والفرس وغيرهم، جميعهم إخوة متحابون متآخون، يساعد بعضهم ويعاون بعضهم بعضاً، يتصدق غنيهم على فقيرهم، ويتكافل هؤلاء فيما بينهم، ثم أقام بهم الإسلام نظاماً ودولة، وظلت دولة الإسلام قائمة ترفع شعار هذا الدين وتدعو إليه، وتحارب الدول التي تمنع الناس من الدخول في الإسلام، حتى يتمكن الناس بحرية من قبول الإسلام أو عدم قبوله، وفي حالة عدم قبولهم الإسلام، فإن الدولة الإسلامية تطلب من الناس أن يدفعوا مبلغاً بسيطاً من المال، مقابل أن تقوم الدولة الإسلامية بحفظهم وحمايتهم من الأعداء وكفالتهم في حالة كبرهم وعجزهم عن الكسب، وعدم وجود من يعولهم. ومن إنجازاته صلى الله عليه وسلم: أنه قضى على سائر ألوان الانحراف الموجود في الحياة البشرية، الانحراف الاجتماعي، والاقتصادي والديني، وجعل للناس ميزاناً حقيقياً يرجعون إليه، ألا وهو هذا القرآن الذي أنزله الله تبارك وتعالى عليه، ونقله الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وأحاديثه المنقولة عنه بدقة وضبط كما سبق بيانه. وكفاه صلى الله عليه وسلم فخراً وشرفاً، أنه مع كل ما عمل لم يدّع لنفسه شيئاً ليس له، بل كان يعاتب الناس إذا مدحوه مدحاً مبالغاً فيه: {جاء رجل إليه وقال: يا رسول الله، ما شاء الله وشئت، فقال له: أجعلتني لله نداً؟! قل: ما شاء الله ثم شئت} وقال صلى الله عليه وسلم: {لا تطروني -أي لا تبالغوا في مدحي، وترفعوني فوق منزلتي- كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله} إلى غير ذلك من الأشياء التي تدل على تواضعه وزهده، وبعده عن التكبر والعلو في الأرض صلى الله عليه وسلم، وكان يعرف للأنبياء السابقين حقهم وقدرهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: {لا ينبغي لأحدٍ أن يقول إني خيرٌ من يونس بن متى} ، ويونس هو أحد أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فنهى الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفضل أحدٌ بين الأنبياء تفضيلاً يقصد منه الحط من قدر بعضهم، وإلا فالأنبياء -كما في القرآن الكريم- قد فضل الله بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، ولكن كلهم في منزلة سامية وتفضيل بعضهم على بعض، ليس لأن بعضهم عنده نقص أو انحطاط في منزلته، بل لأن الله عز وجل رفع بعضهم درجات، فكلهم فضلاء، وكلهم أنبياء، وكلهم مختارون من عند الله عز وجل، فالذي يفضل بين الأنبياء وقصده أن يحط من قدر نبي، أو ينسب إليه شيئاً من النقص، يخطئ في ذلك، وإنما الصواب أن الأنبياء كلهم فضلاء وأنبياء ومختارون، والرسول صلى الله عليه وسلم أفضلهم وهم بعضهم أفضل من بعض، لكن لا يعني ذلك انحطاطاً في رتبة أحدهم. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 10 من فوائد لبس العباءة والحجاب السؤال يقول: نحن نعتقد أن لبس العباءة والطرحة مزعج وغير ملائم، عندما نذهب لشراء بعض ما نحتاجه، فلماذا نرتديها؟ الجواب يجب أن نعلم أن المسلم إذا اقتنع بالإسلام، وأنه هو الدين الحق الذي أنزله الله عز وجل على رسوله، اقتنع بهذا الأمر قناعة عقلية صحيحة، فحينئذٍ العقل يقتضي أن يسلم هذا الإنسان بكل ما جاء به الإسلام؛ لأنه ما دام العقل دلك على أن الإسلام هو الدين الصحيح، فحينئذٍ عليك أن تأخذ هذا الدين الصحيح جملةً وتفصيلاً؛ لأنك مؤمن ومقتنع بأن الذي وضع هذا الدين -وهو الله عز وجل- أعلم من خلقه وأدرى منهم بمصالحهم، ولذلك وضع هذا النظام. أما بالنسبة لغير المسلم أو غير المسلمة، فبشكلٍ عام الإنسان إذا أقام في بلد، فإن من المعلوم أنه يجب أن يلتزم بنظام هذا البلد، مهما يكن شاقاً عليه ومكلفاً، لسبب وهو: أنه باختياره رغب أن يقيم في هذا البلد؛ لمصلحةٍ معينة يراها، فحينئذٍ عليه أن يلتزم بجميع ما تقتضيه نظم هذا البلد وتعاليمه، ويلتزم مثلاً بنظام المرور، ويلتزم بالنظام العام الاجتماعي، وبالنظام الأخلاقي، ويلتزم بالنظام الاقتصادي، ويلتزم بنظام العمل، ويلتزم بكل شيء يقتضيه هذا البلد. أرأيت لو أنك ذهبت إلى بريطانيا، هل يسعك أن تقول: يزعجني أن أسير في الشوارع بطريقة مخالفة عما هو موجود في بلاد العالم الأخرى، فيكون النظام معاكساً لذلك، فيكون الذاهب يأخذ جهة اليسار، هذا لا يمكن أن يقوله أحد؛ لأن هذا هو نظام البلد، ويجب على كل من دخل البلد أن يلتزم به، وهكذا الأمر فيما يتعلق بلبس العباءة والطرحة وغيرها، فإنها نظامٌ عام. أما حين ننظر إلى فوائدها وإيجابياتها، فهي مفيدة للمرأة كما هي مفيدة للرجل، أما أنها مفيدة للمرأة: فهي تجعل المرأة مثل الدرة الثمينة، الصدفة المحفوظة، التي لا يمكن للناس أن يتبادلوها ويتلاعبوا بها، فهذه الدرة المحفوظة، تحفظ صيانةً لها وتكريماً لها من عبث العابثين، وكذلك الإسلام وضع للمرأة هذا الحجاب؛ ليحفظها عن أعين الفضوليين، والناس الذين ليس لهم هم إلا النظر في وجوه النساء. ناحية ثانية: المرأة حين تكون زوجة تحب ألا ينظر زوجها إلى من هي أجمل منها، وحينئذٍ فإن في وجود هذا الحجاب وهذه العباءة، فرصة للمرأة ألا يرى زوجها وجوه النساء الجميلات، فيذهب إليهن ويرغب عنها إلى غيرها، وكذلك هي مفيدة للرجل؛ لأنها تحفظ عليه طاقته، وتجعله يصرف هذه الطاقة فيما هو منتج ومفيد، بدلاً من أن يضيعها في النظر إلى هذه المرأة وإلى تلك، ومفيدة للرجل؛ لأن الرجل قد ينظر إلى امرأة فيعجب بها ويتعلق بها ويحبها، وهذا الرجل له زوجة، وهذه المرأة لها زوج، وحينئذٍ قد تكون هذه النظرة سبب في هدم بيوت، وفي تعاسة عدد من النساء، وعدد من الرجال، ولذلك حسم الإسلام مادة هذا الأمر من أساسه، وأمر المرأة بأن تحتجب وأمر الرجل بأن يغض بصره. وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 153 ¦ الصفحة: 11 لقاء مفتوح مع الشيخ سلمان العودة فيه إشارة عابرة حول علم الاجتماع ، وإجابة على أسئلة متفرقة للشباب، وعرض لبعض قضايا الشباب ومناقشتها، وحل لبعض مشاكلهم. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 1 إشارة عابرة حول علم الاجتماع إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له هادياً. أما بعد: تمخض قسم الاجتماع في فرع الجامعة بالقصيم عن إنتاج فذ من الثقافة الإسلامية، وهي إطلالة عن تلك الثقافة الإسلامية، وحاول أن يفتح بينها وبين الشباب من أجل الإفادة من هذه الثقافة، فالمسئولون في قسم الاجتماع أقاموا محاضرة بعنوان لقاء مفتوح مع فضيلة الشيخ: سلمان بن فهد العودة. فليتفضل فضيلة الشيخ: سلمان وجزاه الله خيراً. إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أيها الإخوة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه الأمسية هي -كما قرأتم وسمعتم- لقاء مفتوح للمناقشة والمباحثة حول ما يدور في أذهان الشباب، ولذلك فإنني أقول: إذا كان عند أحد من الإخوة سؤال سواء كان شفهياً أو مكتوباً، فليتحفنا به في هذا الوقت، فإذا كانت الإجابة حاضرة أجبته، وإلا ففي العذر متسع وكما يقال: لا أدري نصف العلم. أيها الإخوة: وقد خمرت في ذهني كلمة عابرة وسريعة، حول موضوع مهم في جامعاتنا الإسلامية اليوم، وهو الحديث عمَّا يسمى أو ما يدخل تحت مسمى العلوم الإنسانية، كعلم الاجتماع وعلم النفس وغيرها من العلوم المتعلقة بدراسة الإنسان، فرداً كان أو جماعة، ومدى أهمية هذه العلوم. فإنني أسمع من بعض المتحدثين والمفكرين من ينظرون إلى هذه العلوم نظرة فيها كثير من التشاؤم، ويصنفون هذه العلوم في عداد تلك العلوم التي نشأت ووظفت لهدم الإسلام، وأنها علوم طبيعتها منافية لهذا الدين، فينظرون إلى علم النفس مثلاً، أو علم الاجتماع، أو علم الاقتصاد، أو أي علم من هذه العلوم، ربما ينظرون إليه على أنه كالسحر، علم لا يمكن أن يستفاد منه بصفة إسلامية، أو ينظرون إليه كعلم الكلام الذي هدم جزءاً كبيراً من العقيدة الإسلامية في أذهان كثير من المفكرين المسلمين، ولذلك يسيئون الظن به وبحملته، ويحذرون من تعلمه وتعليمه، وقد سمعت هذا في بعض المحاضرات. وفي نظري أن هذا المفهوم غير سليم؛ لأن هذه العلوم هي أشبه بالظروف القابلة لأن تعبأ بتصورات إسلامية أو بتصورات منحرفة، ويمكن أن يستفيد المسلم من دراسة هذه العلوم وبنائها على أسس إسلامية وأن يفيد المجتمعات الأخرى. نجد -مثلاً- أن الإسلام قدم نظرة متكاملة عن الإنسان، وما أكثر ما تجد في القرآن الكريم من إشارات تتحدث عن طبيعة الإنسان وحالته ونفسيته في كل الظروف، وعن طبيعة المجتمعات وسننها ونواميسها التي ركبها الله تعالى فيها، كما تتحدث عن النواميس الكونية، من طلوع الشمس وغروبها، وعن غير ذلك من الأحداث والسنن القائمة المستمرة. ونجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في حياته وسيرته ودعوته، يراعي هذه الأشياء في تربية أصحابه وبنائهم، ومعاملة الناس كأفراد ومجتمعات، ثم حين دونت العلوم الإسلامية نال علم الاجتماع حظاً من التدوين، حيث كان هناك ومضات متفرقة عند كثير من المؤرخين والكُتَّاب، ثم تبلور هذا العلم على يدي ابن خلدون في مقدمة كتابه: العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، فقد وضع لهذا الكتاب مقدمة فذة، تعرف اليوم بمقدمة ابن خلدون، وتكلم فيها عن أنظمة ونواميس العمران البشري، وتحدث عن قضايا متعددة في علم الاجتماع، بل صرح في تلك المقدمة بأن هذه الأمور تعتبر -في نظره- علماً مستقلاً، له أصوله وقواعده وأهدافه وغاياته وموضوعه، كسائر العلو م الأخرى. وقال: إنني لم أجد من تكلم عليه من قبلي، ولا أدري هل هذا ذهول من الناس ولا أظنه، ولكن ربما قد تحدث غيري عن هذا الموضوع ولم يصل إليّ. هذا مؤدى كلام ابن خلدون، فلم يكن وقوعه على علم الاجتماع صدفة، أو فلتة غير مقصودة، بل كان أمراً مقصوداً تحدث عنه بصراحة. وحين ابتلي المسلمون في هذا العصر بإنتاج الحضارة الغربية، وما تحمله من نظريات ومذاهب وتحليلات بشأن الفرد والمجتمع، بلي المسلمون بنظريات عديدة فيما يتعلق بالإنسان وتفسير الإنسان، منها: نظرية داروين ونظريات فرويد ودور كايم وماركس، وغيرها من النظريات التي تنظر إلى الإنسان نظرة منحرفة من جهة، وهكذا الحضارة الغربية كلها تنظر إلى الإنسان من جهة على أنه حيوان، وتلغي الروح والخلق والتسامي في الإنسان، فإذا حللت الإنسان حللته على أنه حيوان. وقد يهتمون -مثلاً- بتشريح الإنسان جثةً، وتحليل منطلقات الإنسان تحليلاً حيوانياً، وإشباع رغبات الإنسان إشباعاً حيوانياً، لكن أغفلوا جانب الروح وجانب الفكر وجانب السمو في الإنسان، هذا لا وجود له عندهم، وقد ينظرون إلى الإنسان من جهة أخرى على أنه مسير كالآلة. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 2 نظرة الإسلام إلى الإنسان ولذلك تجدون الفارق الكبير بين نظرة الإسلام للإنسان وبين نظرة الحضارات المادية، فالإسلام ينظر للإنسان على أنه كائن له إرادته، وهذه الإرادة لا شك أنها ليست إرادة مستقلة، بل هي خاضعة لإرادة الله تعالى قال الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:29] ولكن له إرادة، أما تلك الحضارات الغربية والنظريات، فإنها تنظر للإنسان على أنه مجبر، يقع تحت حتميات معينة، قد تكون حتميات اقتصادية كما في نظرية ماركس، وقد تكون حتميات اجتماعية كما هي عند دور كايم، وقد تكون حتميات نفسية، المهم أن الإنسان يقع تحت طائلة حتميات معينة، وكأنه نزس في آلة مسير غير مخير عند هؤلاء القوم، وبذلك يفقد الإنسان قيمته وإنسانيته، وقدرته على الارتفاع والتسامي والإشراق، يفقد ذلك كله. وينظر الإسلام إلى الإنسان على أنه خلق بصفة معينة، وله خصائص معينة لا يمكن أن يغادرها، وهي مقتضى إنسانيته، في مقابل أن أمامه مجالات رحبة للارتفاع، ولذلك -مثلاً- في الوقت الذي يذكر الله تبارك وتعالى فيه في القرآن الكريم صفات الإنسان وخصائصه، يبين الله عز وجل في القرآن، وكذلك يبين الرسول عليه الصلاة والسلام في السنة أن أمام الإنسان مجالات واسعة للارتفاع والإشراق، حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن في الجنة مائة درجة، بين كل درجة وأخرى كما بين السماء والأرض} هذه الدرجات بحسب إشراق الإنسان، وارتفاعه وإيمانه وأعماله الصالحة. هذه هي نظرة الإسلام للإنسان، في حين أن تلك النظريات تخضع الإنسان لعوامل التطور بلا حدود، كما تخضع جميع الكائنات الأخرى، وهذه النظرية نظرية التطور التي يطبقونها على كل شيء، أصبحوا يطبقونها على الإنسان دون تمييز، إضافة إلى أنهم ينظرون إلى الإنسان باعتباره حيواناً ولا يميزونه عن غيره، وقد يجرون دراسات على القردة مثلاً، ويعتبرون أن هذه الدراسات قد تكون منطبقة على الإنسان الذي كرمه الله تبارك وتعالى. فنحن ننظر باعتبارنا مسلمين إلى الإسلام على أنه مميز على جميع المخلوقات الأخرى، من الحيوانات وما شاكلها، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] ولست أقصد الآن الدخول في التمييز بين الإنسان والملائكة، فهذا مبحث آخر. لكن أقول: إن الإنسان في الإسلام كائن له قيمته وتميزه وسيادته في هذا الكون، الذي خلقة الله تعالى وسخره للإنسان، فالنظرة إلى الإنسان على أنه حيوان أو على أنه آلة مسيرة، نظرة تنحط بالإنسان عن وضعه الطبيعي الذي وضعه الله تعالى فيه. وكثير من الجامعات الإسلامية تدرس الآن علم الاجتماع كما عرضه دور كايم الفرنسي، أو غيره من علماء الاجتماع الغربيين، وتغفل النظرة الإسلامية للإنسان وللمجتمع، ومهمة الباحث المسلم ليس أن يتلقى ما كتبه الغربيون بروح المهزوم، الذي يعتبر أنهم وصلوا إلى النهاية، وأنه مجرد مترجم لأفكارهم، بل مهمته أن يصوغ علم اجتماع إسلامي وعلم نفس إسلامي وعلم اقتصاد إسلامي من واقع القرآن والسنة، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتابات العلماء السابقين المتفرقة، الموجودة كما أسلفت في بعض الكتب التاريخية، وفي بعض الكتب الحديثية، وفي بعض الدراسات الدعوية، وهناك كتب مستقلة مصنفة في هذا الباب منذ القدم، وفي بعض الكتب الأدبية التي تحدثت عن جوانب معينة من الإنسان. هذه إشارة عابرة حول موضوع علم الاجتماع، والواجب الذي يتحمله الدارس في هذا العلم، وأترك المجال للأسئلة، سواء كانت مكتوبة أم شفهية. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 3 الأسئلة . الجزء: 154 ¦ الصفحة: 4 حكم الكذب على الصغار السؤال ما حكم الكذب على الصغار؟ الجواب الكذب كله لا يجوز، إلا ما ورد استثناؤه النصوص في الكذب لمصلحة ظاهرة، كالكذب لإنقاذ مسلم، والكذب لحل مشكلة قائمة، والكذب لإصلاح ذات البين، بحيث تكون معاريض وكلاماً عاماً، والكذب على الصغار لا يجوز، وهو ذو مردود سيئ في التربية، ولذلك في الحديث الصحيح الذي ورد من طرق {أن امرأة قالت لابنها: يا عبد الله تعال أعطيك. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما تعطينه؟ قالت: تمرة. قال: أما أنكِ لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة} فالكذب على الصغار إضافة إلى أنه محرم، كذلك ذو تأثير سيئ على نفسية الطفل، يربيه على الكذب، ويربيه على عدم الثقة بالوالدين، وينشئه تنشئة سيئة. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 5 حكم الانتساب إلى المذاهب الفقهية السؤال ما حكم الانتساب إلى المذاهب الفقهية؟ الجواب مسالة أن يقول الإنسان: أنا حنبلي، أو مالكي، أو شافعي، أو حنفي، هذه من حيث الاسم قضية عادية، لأنها مجرد انتساب، ولكن الشيء المهم هو فهم الإنسان عن هذه المذاهب، فإذا كان الإنسان وينتسب إلى مذهب، ويأخذ ما في هذا المذهب من غير نظر ولا استدلال، وقد يعلم أن الحق ليس في هذا المذهب ويصر على مذهبه؛ فهذا تعصب مذهبي لا شك أنه محرم، لأن الواجب اتباع ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان الإنسان نشأ في بيئة حنبلية أو شافعية، وأخذ هذا المذهب من خلال البيئة ودرسه في المدارس، لكنه بعد أن أخذ شيئاً من العلم، وبدأ يستطيع أن يفهم؛ عود نفسه على أنه كلما عرف الدليل في مسألة من المسائل؛ أخذ بهذا الدليل وإن كان مخالفاً لمذهبه، هذا في نظري لا بأس به. وأحياناً يكون اتباع هذه المذاهب ضرورة لأن الإنسان لا يمكن أن يجتهد في هذه الأمور، أمامه الآلاف بل عشرات الآلاف من المسائل المشكلة، ولا يستطيع أن يجتهد فيها في يوم وليلة، بل إنه ربما يمضي عمره كله وهو ما استطاع أن يجتهد في كثير منها. فهناك مرحلة وسط بين من يتعصبون للمذاهب، ويأخذ بالمذهب بقضه وقضيضه، ولا يقبل الخروج عنه قيد أنملة، حتى مع المعرفة بالدليل، وبين من يتشددون في الجهة الأخرى، فيعلنون حرباً على اتباع المذاهب أو الانتساب إليها، بل يصل الحال إلى أنهم يكفرون كل من ينتسب إلى مذهب من هذه المذاهب! الجزء: 154 ¦ الصفحة: 6 معنى حديث: "لا تجعلوا قبري عيداً " السؤال ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تجعلوا قبري عيداً} . الجواب العيد هو ما يعتاد ويتكرر، وقد يكون العيد مكانياً كما في قوله {لا تجعلوا قبري عيداً} وقد يكون زمانياً كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {هذان اليومان عيدنا أهل الإسلام} وقد يكون عبارة عن الزمان والمكان والهيئة والحال، كما في قولهم: {في يوم عيد يلعب السودان فيه بالدرك والحرب} . والمعنى: أن الإنسان لا يشرع له أن يشد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعتاد ذلك في أوقات معلومة، كما يزور الكعبة المشرفة، وكما يزور المسجد النبوي، بل لا يجوز شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد} فكل بقعة لا يجوز التعبد بشد الرحال إليها إلا هذه المساجد الثلاثة، لاحظ التعبير: لا يجوز التعبد بشد الرحال إلى بقعة إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، لكن لو ارتحل الإنسان لطلب علم أو لتجارة، أو لزيارة مريض، فهذا باب آخر وكذلك قبر الرسول عليه الصلاة والسلام لا يجوز شد الرحال إليه، ولا اتخاذه عيداً يزار في أوقات مخصوصة معلومة، بل إذا ذهب الإنسان إلى المدينة، وزار المسجد النبوي وصلى فيه فإنه لا بأس أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبري صاحبيه، ويسلم ويقول: السلام عليك يا رسول الله، والسلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا عمر. والله أعلم. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 7 شخصيات منحرفة السؤال ما هو رأيك في كل من: إخوان الصفا وابن سينا والفارابي وابن خلدون؟ الجواب هذه الشخصيات التي سأل عنها السائل هي من الشخصيات التي يكثر حولها الجدل، كما أسلفت في موضوع الغزالي، والكلام في إعطاء تصور كامل عنها يفتقر إلى دراسة واسعة، ولكن من خلال قراءات عامة في إخوان الصفا وابن سينا، والفارابي. يبدو لي أن هؤلاء ينتسبون إلى الباطنية الزنادقة، وإن كانوا يطرحون ما لديهم -أحياناً- من وراء ستار، وقد يتقمصون شخصيات معينة، أو يطرحون بطريقة معينة، لكن حقيقة مذاهبهم الزندقة، ومن قرأ تراجمهم الموسعة في الكتب، كسير أعلام النبلاء وغيره، أدرك هذا الأمر جلياً، وأن هذه الطوائف تنتسب إلى المذهب الباطني، الذي خلاصته أن جميع الأديان والتكاليف لا حقيقة لها، فهو لا يؤمن بدين، ولا إله، ولا ببعث، ولا نشور! وإن كان يخادع العامة، بإقرار هذه الأشياء التي يعتبرها من الرسوم، أما ابن خلدون فهو أفضل من الجميع، وكتاباته تدل على أن الرجل له فضل وعلم ومكانه، وإن كان الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة، أشار إلى جوانب معينة في مسلك هذا الرجل. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 8 دراسة علم النفس مطلوبة السؤال يوجد بعض الشباب في قسم علم النفس، تركوا هذا القسم وانتقلوا إلى أقسام أخرى بسبب تثبيط بعض الشباب لهم، فهل يأثم الشباب المثبط لذلك أم لا؟ الجواب مسألة التأثيم علمها عند الله، ومن الصعب أن نقول: إن فلاناً يصلح لعلم النفس، وفلاناً يصلح لعلم الاجتماع، والطالب حين يتخرج من المستوى الثانوي يكون على مفرق طرق، وأحياناً قد يكون اختياره غير مناسب، فيكتشف بعد فصل أو فصلين أن القسم الذي هو فيه غير مناسب له، ولا يستطيع أن ينجح فيه، ولا يستطيع أن ينجز، ولا يفهم، فمن الصعب أن نفرض على الناس أن يستمروا، لكن بصفة عامة أسلفت أن المطلوب من أهل الخير والصلاح وأهل الاستقامة؛ أن يكون لهم سهم في مثل هذه العلوم والتخصصات. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 9 علاقة الداعية بعلم الاجتماع السؤال فضيلة الشيخ: هل يحتاج الداعية المسلم إلى معرفة علم الاجتماع وعلم النفس، كوسيلة لتبليغ دعوته الإسلامية أم لا؟ الجواب أولاً: هناك جزء فطري من هذه العلوم يكون موجوداً لدى كل إنسان يملك قدراً من الذكاء، فتجد أن الإنسان إذا تعود معايشة الناس والأخذ معهم والعطاء؛ تكونت لديه خبرة بنفوس الناس وأحوالهم وعوائدهم، وما يناسبهم كأفراد، وكذلك خبرة بالعوامل الاجتماعية المتشابكة فيما بينهم، وهذا القدر يستفيد منه الداعية، وقد لا يكون تلقاه من خلال دراسة أو قراءة، بل تلقاه بفطرته واكتشفه بذكائه، واستفاده من تجربته مع الناس، وقد يستفيد الإنسان أكثر وأكثر من خلال بعض القراءات، وهذا أمر مجرب، خاصة في تحليل بعض الظواهر وبعض المواقف، ومعرفة ما وراء الأحداث والتصرفات، فقد يحتاج الإنسان إلى دراسة بعض العلوم وقراءتها، أما أن نقول: إن كل داعية يحتاج إلى أن يكون دارساً لعلم الاجتماع وعلم النفس؛ فهذا مرتقى صعب لا أقول به، لكني أقول: إن هناك قدراً من هذه العلوم يوجد عند الإنسان الفطن، حتى لو لم يكن تلقاه عن شيخ أو قرأه في كتاب. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 10 كيف تدعو مجموعة من الشباب؟ السؤال أنا شاب أرجو من الله أن يمن عليَّ، وأن أكون داعية مسلماً، وإنني -أحياناً- أذهب مع شباب غير ملتزمين، فإذا ركبت معهم سيارة أسمع أصوات المغنين والمغنيات، فأقوم بتبيان أن هذا الشيء محرم، وأكثر عليهم وألح عليهم في ذلك، فأحياناً يطفئون المسجل وأحياناً يعاندون، ولكن أنا أشغلهم عنه بالكلام، فهل أستمر مع هؤلاء الشباب لعل الله أن يهديهم، أم أتركهم وأدعو لهم بالهداية؟ أفتونا جزاكم الله خيراً. الجواب أفتيك أن تدعو لهم بالهداية، فإن الدعاء بالهداية لا يحتاج إلى فتوى. أما موقفك معهم فإنني أرى أن الشاب إذا أراد أن يدعو مجموعة، عليه أن يبدأ بهم فرداً فرداً، لأنني أخشى إن ألقى بنفسه بينهم وهم مجموعة؛ أن يؤثروا عليه بدلاً من يؤثر عليهم. فأنصح الشاب أن يبدأ بهم واحداً واحداً، لأن هذأ أقوى في التأثير، وأسلم من مغبة الاختلاط بهم إذا كانوا مجموعة، ثم إذا حصل التأثير على بعضهم، انتقل بعد ذلك مع هذا الذي أثر عليه إلى بقية المجموعة للتأثير عليهم، وعلى الإنسان إذا ركب مع هؤلاء، ورأى أو سمع منكراً؛ أن يبادر إلى تغييره وإزالته، وبيان حكمه بقدر ما يستطيع، أما كونه يركب معهم ويسافر معهم، وقد يسمع أصوات الغناء أو الطبول، أو يشاهد منكرات، فهذا قد يضعف إيمانه ويضعف حماسه لتغيير هذا المنكر. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 11 من الكتب المختارة السؤال ماذا عن الكُتَّاب الذين يُنصح بأن تقرأ كتبهم والذين يُحذر منهم؟ الجواب في مجال التفسير: هناك كتب لعل من أهمها تفسير ابن كثير. وفي مجال الحديث: هناك كتب لعل منها كتاب جامع الأصول وهو كتاب موسع، وكتاب رياض الصالحين في الآداب، وكتاب بلوغ المرام في الأحكام. وفي مجال العقيدة: هناك كتب كثيرة وعديدة، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتب ابن القيم، وكتب الأشقر العقيدة في الله، وكتاب معارج القبول للحكمي. في مجال المرأة: كتاب حسن الأسوة لصديق حسن خان، وكتب أخرى كثيرة. أما الكُتَّاب الذين يحذر منهم، فهم كالجراد لا يمكن حصرهم، ومع الأسف الشديد أن المكتبات تمتلئ بإنتاج هؤلاء الكتاب، من مفكرين إلى أدباء إلى شعراء إلى غير ذلك، فالساحة تضج بكتب أمثال هؤلاء، ومن المستحيل حصر أسمائهم. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 12 زيادة كلمة (تعالى) في: رحمة الله السؤال كلمة تعالى في قولنا: رحمة الله تعالى، هل هي واردة؟ الجواب ليست واردة في نفس السلام، لكنها ثناء على الله تعالى، والثناء على الله تعالى مطلوب، إنما لا ينبغي أن يقولها إنسان في المواضع التي ورد فيها التوقيت، كأن يقولها في السلام من الصلاة، السلام عليكم ورحمة الله تعالى، فهذا لا يشرع. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 13 الفرق بين الزندقة والإلحاد السؤال ما الفرق بين الزندقة والإلحاد؟ الجواب الإلحاد هو إنكار وجود الخالق جل وعلا، وهو مشتق من اللحد وهو الميل؛ وذلك لأن الملحد يميل عن الفطرة المستقيمة، ويميل عن الحق إلى الباطل، ويكابر الأمور. أما الزندقة: فهي مذهب أشبه وأقرب ما يكون إلى النفاق، وهي تعبير عن طائفة من الناس في التاريخ الإسلامي، وفي واقع المسلمين اليوم يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر والعياذ بالله ويحاولون أن يدسوا في الإسلام أفكاراً منحرفة بقوالب إسلامية، هؤلاء هم الزنادقة، وللعلماء كلام طويل في أصل اشتقاق هذه الكلمة، وهل هي فارسية أو غير ذلك. لا طائل تحته. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 14 من تتبع الرخص تزندق السؤال (من تتبع الرخص تزندق) هل هذا حديث؟ الجواب هذا ليس بحديث، إنما هو كلام لبعض الفقهاء: من تتبع الرخص فقد تزندق، والمقصود بالكلمة هذه أن الزنادقة الذين أشرت إليهم، بحكم أنهم يتظاهرون بالإسلام ويبطنون الكفر، أحياناً يجدون في بعض الأقوال الشاذة مخرجاً لهم وهذه قضية ملحوظة حتى في أسلوبهم في الحياة، فيجدون في بعض الأقوال والآراء الشاذة التي قال بها أحد العلماء مخرجاً لهم، فيتمسكون بهذا القول الشاذ ويأخذون من كل عالم شذوذه، فيعكسون القضية، لأن الأصل في المنهج السليم أن الإنسان يأخذ من العالم كل شيء إلا ما شذ فيه. ولذلك ورد في الأحاديث التحذير من زلة العالم، كما قال عمر: [[إنما يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين]] فالإنسان ينبغي أن يأخذ من العالم كل شيء إلا ما زل فيه، أما هؤلاء فيعكسون فلا يأخذون من العالم أي: شيء إلا ما شذ فيه أو زل فيه، فيجتمع فيهم الشر كله، كما قال بعض السلف: [[من أخذ بزلات العلماء اجتمع فيه الشر كله]] . لأن هذه زلة، وهي أصلاً زلة فإذا أخذت هذه الزلة، وهذه الزلة، أصبحت مجموعة من الزلات، وبعض الناس يأخذون هذا عن قصد، فتجد الواحد منهم يعمل عملاً منافياً للإسلام، فإذا قلت له في ذلك، قال: يا أخي! هذا أفتى به فلان. فيعمل عملاً آخر منافياً، ويقول: هذا أفتى به فلان بل إن بعضهم قد يعمل عملاً منافياً لإجماع العلماء، فإذا قلت له في ذلك قال: يا أخي هذا الإجماع من قال إنه ملزم لنا؟! هو إجماع لهم في ظرف من الظروف وفي وقت من الأوقات، ولا يلزم أن يكون هذا الإجماع صحيحاً! فإن أجمعوا رفض الإجماع، وإن لم يجمعوا أخذ بالقول الشاذ، وهنا لا حيلة في مثل هذا الإنسان. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 15 رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه السؤال لقد سمعت من بعض الزملاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الله سبحانه وتعالى، هل هذا صحيح؟ الجواب رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه تبارك وتعالى رويت عن ابن عباس رضي الله عنه، ولكن الصحيح الذي عليه جماهير الصحابة وكافة العلماء؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينه، أما هذا الكلام فإنه اعتمد على ما ورد في حادثة الإسراء، وسؤال الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم: {هل رأيت ربك؟ فقال: رأيت نوراً} وفي لفظ: {نورٌ أنَّى أراه} كما عند مسلم. فالصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه تبارك وتعالى، وأن أحداً لا يرى الله في هذه الدنيا، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث المسيح الدجال، حين ذكر أنه يدعي الألوهية قال: {واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا} . الجزء: 154 ¦ الصفحة: 16 حكم تتبع الرخص في المذاهب الأربعة السؤال هل يجوز تتبع الرخص في المذاهب الأربعة أم لا يجوز؟ الجواب تتبع الرخص في المذاهب الأربعة أو في غيرها لا يجوز، إذا كان قصد السائل في تتبع الرخص أن يأخذ الإنسان بالأسهل، لأنك أيها المسلم، إذا علمت أن الدين دين الله، وأن أحمد، والشافعي، وأبا حنيفة، ومالكاً، والأوزاعي، والثوري، وأبا ثور، والطبري، بل وأبا بكر، وعثمان، وعلياً، حين يقولون: هذا حلال وهذا حرام. إنما يقولون ما يعتقدون أنه حكم الله ورسوله، فحينئذٍ تعلم أن الاختيار بالمزاج أمر ليس له موقع في الإسلام. كونك تأتى بمجموعة آراء في مسألة. وتقول: ذوقي ومزاجي أن هذا القول هو الصحيح. فنقول لك: ما هو السبب؟ تقول: هذا ذوقي. أو تقول: هذا القول هو الصحيح أو أنا أختاره لماذا؟ تقول: لأنه أيسر ولأنه رخصة، وفيه تيسير على الناس. فلا شك أن هذا لا يجوز، لأن مجرد التشهي دون مسوغ لا يشرع أبداً إذا كنت تعبد الله عز وجل. بل على الإنسان أن يختار من هذه الأقوال ما يعتقد أنه حكم الله، وكيف تعرف أنه حكم الله، أو تعتقد أنه حكم الله؟ يكون ذلك من خلال الدليل الشرعي. ولذلك نقول: يجوز للإنسان أن يختار من المذاهب الأربعة وغيرها ما يعتقد أنه الصحيح، بمقتضى الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، والقواعد التي يشهد النص بصحتها. ولا يلزم الإنسان أن يلتزم مذهباً بعينه، أما اختياره بحسب الهوى، أو بحسب الترخص، فهذا غير جائز. أما أصل الرخص في الشرع فهي: ما جاء الدليل فيه على خلاف العزيمة، بدليل استثنائي فمثلاً: الجمع في السفر رخصة، كون الإنسان المسافر يجمع بين الظهر والعصر، ويجمع بين المغرب والعشاء في وقت إحداهما، هذه رخصة للإنسان، لأن الأصل "العزيمة" أن يصلي الإنسان الصلاة في وقتها، فالجمع بينهما رخصة للحاجة، وإتيان هذه الرخصة جائز إذا احتاج إليها الإنسان، فهذا أصل معنى الرخصة. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 17 حفظ المتون دون الرجوع إلى الشروح السؤال فضيلة الشيخ: ما رأيك في حفظ الحديث دون الرجوع إلى شرحه، مع السؤال عما يشكل فيه، هل هذا أمر محمود أم لا؟ الجواب حفظ القرآن والسنة، إن كان في الصغر، في وقت تحرك وإمكانية الاستفادة من الذاكرة، ولو بدون فهم، فهذا جيد، ومن المعروف في القديم وفي الحديث أن كثيراً من الصغار كانوا يحفظون، فيحفظ القرآن، ويحفظ صحيح البخاري وصحيح مسلم، وعدداً من المصنفات، وكذلك المتون والمختصرات، فيحفظها، فإذا كبر كانت الثروة عنده بعد أن فهمها، أما إذا كان هذا بعد كبر الإنسان وبعد أن استوى على ساقه، فإنني أرى أن يجمع الإنسان بين الحفظ والفهم، لأن الحفظ اليوم إذا فات الإنسان أو فاته بعضه يمكن أن يعوض شيئاً منه، من خلال المفاتيح والوسائل التي سهلت للإنسان الوصول إلى الحديث، فأنت الآن لو أحببت أن تعرف حديثاً، يمكن بالوسائل المعاصرة، ومن خلال المعاجم، والمفاتيح والفهارس وغيرها؛ أن تصل إلى الحديث في دقائق، بعد التدرب والخبرة، لكن يبقى موضوع الفهم والاستنباط هو الذي لا يمكن أن تقوم به هذه المفاتيح والفهارس والمعاجم بل لا بد أن يقوم به الإنسان بذاته، فإذا أمكن الجمع بين الأمرين فهو أولى، وإلا فعلى الإنسان أن يهتم بالفهم ولو لم يكن له من الحفظ الشيء الكبير. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 18 أهمية الأنشطة الطلابية والمخيمات التربوية السؤال فضيلة الشيخ: إننا نسمع من بعض الشباب، حين ندعوهم للاشتراك في المخيمات التربوية والرحلات والأنشطة الطلابية، نسمع منهم أن هذا مضيعة للوقت،،وأنه لا فائدة فيها، وأن الأفضل هو الجلوس واستغلال الوقت بالقراءة والدروس العلمية. ما رأيكم جزاكم الله خيراً؟ الجواب لا شك أن المخيمات والنشاطات الطلابية من الأشياء المفيدة، التي تساهم في بناء شخصية الإنسان، والشاب -أحياناً- قد يقبل على العلم الشرعي، وهذا لا شك أنه إقبال حميد، وإنما يغفل عن أن بناء الشخصية أمر مهم، والإنسان قد يكون عنده علم شرعي. لكنه لم يتعود على أن يلقي هذا العلم في الناس، ولا أن يواجههم به، فتجد أن هذا العلم حبيساً في صدره لكن لو أنه اشترك في أنشطة وأعمال ومخيمات تربوية وسواها؛ لكانت فرصةً للتدرب على كثير من الأعمال التي تفيد في نشر علمه، كذلك التعرف على الناس، وآرائهم، واتجاهاتهم، ومشاكلهم وأساليب معاملتهم، هذه كلها لا تتحقق إلا من خلال معايشة الإنسان للآخرين. ولذلك يا إخوة، علينا -دائماً- أن نرجع إلى هدي الرسول عليه الصلاة والسلام وهدي الصحابة رضي الله عنهم من بعده، هل كانوا يعتزلون في طلب العلم ويتركون شئون الناس، وشئون المجتمعات؟ كلا! بل كانوا يتلقون العلم من خلال معايشة الناس، والاحتكاك بالمجتمع، ومواجهة مشكلاته وإدارته، وهكذا ينبغي أن يكون طالب العلم داعية اليوم. وعلى الإنسان أن لا يضع في نفسه صورة محددة، أنا كطالب علم قد أنظر -مثلاً- إلى فلان بن فلان من الأفذاذ المشهورين، وأرشح نفسي أنني سأقوم مقام فلان، وأضع لنفسي برنامجاً قوياً في تلقي العلم والحفظ، وهذا البرنامج يستغرق عليّ وقتي، بحيث لا يصبح لدي وقت -أحياناً- ربما ولا لبعض النوافل، ولا لزيارة الأقارب، ولا لزيارة الرحم، ولا للتعرف على زملائي، فيحصر الإنسان نفسه، وهو يظن أنه قد ينفتح على الناس يوماً من الأيام، والواقع أن الإنسان إاذ حضر نفسه في وقت معين قد يصعب عليه أن يقبل على الناس في وقت آخر، بل اجعل مثلك الأعلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال الله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وانظر كيف كان يربي أصحابه، وكيف كان يعلمهم، وكيف انتقل العلم من الصحابة إلى من بعدهم من التابعين اقرأ في الكتب وانظر، لم يكونوا يعتزلون الناس في مكتبات أو صوامع للحفظ والتلقي فحسب، بل كانوا يتعلمون ويعلمون ويوجهون ويحتكون بالناس ويدعونهم في وقت واحد. وما أتصور كطالب العلم جاد يقرأ في الكتب، ثم يمشي إلى المسجد، أو إلى المكتب، أو إلى مكان الوظيفة، ويرى الناس وما هم عليه من أخطاء وانحرافات، ثم تطيب نفسه وتقر عينه أن يظل في عزلته ويترك شأن الناس للناس! الجزء: 154 ¦ الصفحة: 19 واجبنا نحو أهل الغيبة السؤال أواجه الكثير من الإحراج في سماع الغيبة في شخص، فهل أنا مكلف أن أرد على كل مغتاب، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب الغيبة وهي ذكرك أخاك بما يكره، هي معصية، وقد نهى الله عنها في كتابه حيث قال: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] ونهى عنها الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، وعرفها بأنها: {ذكرك أخاك بما يكره. قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} أي: أتيت بالبهتان، لأنك قلت فيه ما ليس فيه في غيبته. ولذلك فلا يجوز للإنسان أن يُمَكِّن أحداً أن يسمعه الغيبة، فإذا سمع الغيبة فعليه أن يبادر بإنكارها بالأسلوب المناسب، وإن لم يستطع فعليه أن يصد المتكلم عن الوقيعة في هذا الشخص، بأن يصرفه إلى موضوعات أخرى الكلام فيها مفيد ونافع، أما أن يجلس الإنسان ساكتاً يستمع الكلام، فإنه حينئذٍ شريك، لأن المغتاب ما كان ليتكلم في فلان وفلان وهو منعزل بين أربعة جدران، ما كان ليتكلم إلا عندما يجد من يستمع إليه. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 20 الجمع بين الكتب القديمة والحديثة السؤال هناك بعض الطلاب أو الشباب انصرفوا نحو الكتب الفكرية، ونبذوا كتب السلف وراءهم ظهرياً، وهذا منزلق خطير. فما نصيحتكم لهؤلاء؟ الجواب الحقيقة -أيها الإخوة- إن تصنيف الكتب إلى قديمة وحديثة، في نظري أنه تصنيف غير سليم، لأنه تصنيف لا يعتمد على أسس، بل الصواب أن نعلم أن الكتب القديمة فيها الغث والسمين، فكم من الكتب القديمة ما يكون محشواً بالأفكار المنحرفة، والمبادئ الضالة، والآراء الخاطئة، والأحكام الجائرة! وكم من الكتب القديمة ما يكون مليئاً بالعلم والتوجيه والفهم والنصح والحكمة! وقل مثل ذلك في الكتب الحديثة، فكم فيها من كتاب مليء بالعلوم والمعارف والآداب! وكم فيها من كتاب آخر مليء بالأخطاء والانحرافات! فعلى الإنسان أن ينتقي الكتاب الذي يقرؤه، سواءً كان قديماً أم حديثاً، وبعد الانتقاء على الإنسان أن يحرص على أن يكون متوازناً، وأعني بالتوازن ألا يخل بشيء على حساب شيء آخر، فمثلاً كون بعض الشباب في هذا العصر يركزون على الكتب الفكرية البحتة، مثل: كتب سيد قطب، أو كتب محمد قطب، أو أبي الأعلى المودودي، أو أبي الحسن الندوي، أو غيرهم من الكتاب الإسلاميين. وقد تكون علاقة الإنسان بكتب التراث وكتب السلف علاقة ضعيفة أو معدومة أحياناً، في نظري أن هذا غير سليم، والعكس كذلك، فكون الإنسان يغمر نفسه في بطون الكتب القديمة، وينعزل تماماً عن الكتب الحديثة، التي تتحدث عن مشكلات العصر، وواقع العصر، في نظري أن هذا -أيضاً- غير سليم، لأن الإنسان ينبغي أن يعيش عصره، ويدرك مشكلات الواقع وحلولها، والرد على المذاهب المنحرفة، ومعرفة ما يدار حول الإسلام والدفاع عنه، وما أشبه ذلك. فلابد من التوازن. ثالثاً: لابد من مراعاة التخصص، لأننا حين نقول: لا بد من التوازن. لا نعني أن الإنسان يحاول أن يقرأ هنا وهناك، فيضيع هذا الإنسان دون أن يحصل شيئاً، لا بد أن يكون عند الإنسان قدر من المعرفة في علوم شتى مما يحتاج إليه، ثم يكون عنده تخصص في مجال معين، سواء كان هذا التخصص في مجال علوم شرعية أو غيرها، أو كان تخصصاً داخل تخصص، فقد يتخصص في السنة النبوية، أو يتخصص في التفسير، أو يتخصص في الفقه، أو ما أشبه ذلك، والعلوم قد توسعت اليوم، وأصبح الإنسان لو أمضى عمره في تخصص جزئي لاستنفد عمره ووقته، وكان يستطيع أن يأتي بأشياء مفيدة للناس. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 21 أبو حامد الغزالي بين ذاميه ومادحيه السؤال فضيلة الشيخ: ما رأيك في كتب أبي حامد الغزالي، حيث وإني وقعت في ريب إذا قرأت بعض الكتب التي تمدح هذا الرجل وتثني عليه كثيراً، وتجعله من العلماء الأفذاذ، وبالمقابل رأيت كُتَّاباً ألفوا في هذا الرجل ذماً، حتى لقد أوصلوه إلى الزندقة والكفر، فتحمست وقرأت في هذا الكتاب ووقعت في حيرة كبيرة فأرشدونا أثابكم الله؟ الجواب صحيح أن كتب أبي حامد الغزالي، بل شخصية أبي حامد الغزالي مثار لجدل كبير في القديم والحديث، والكلام فيها في القديم معروف، وفي الحديث أذكر مثلاً أنني قرأت كتاباً عن أبي حامد الغزالي والتصوف وهو كتاب ضخم، حط فيه الكاتب من قدر أبي حامد الغزالي، وبين مثالب عظيمة عليه، وبالمقابل اطلعت على بحث آخر للدكتور يوسف القرضاوي حول أبي حامد الغزالي وشخصيته، وقد حاول المؤلف أن ينصف أبا حامد الغزالي من وجهة نظره الخاصة بطبيعة الحال، أما رأيي الخاص في كتب أبي حامد الغزالي، فإن كتب أبي حامد الغزالي فيها الغث والسمين، فإنه قد قرأ الفلسفة وتأثر بها تأثراً كبيراً، وإن كان ألف كتاب تهافت الفلاسفة، لكنه كما يقول عنه أبو بكر بن العربي: إنه ابتلع الفلسفة ولم يستطع أن يتقيأها. فهو في نظري كشأن محمد إقبال الذي درس في أوروبا ودرس العلوم الغربية ثم جاء وقال: إنني قد خرجت من تلك العلوم كما خرج إبراهيم من نار النمرود. وهذا التشبيه غير صحيح، فإنك تجد في تراث محمد إقبال، وخاصة كتاب: تجديد الفكر الديني في الإسلام، الذي ترجمه عباس محمود العقاد؛ تجد فيه انحرافاً كثيراً في التصور العقدي عند محمد إقبال، وقل مثل ذلك في عدد من كتبه الأخرى. وأبو حامد تأثر بالفلسفة، وهذا أمر ظاهر في تراثه. هناك أمر آخر هو أن أبا حامد الغزالي التزم بالعقيدة الأشعرية وكتبها في كتبه، بما في ذلك إحياء علوم الدين. أمر ثالث: أن أبا حامد الغزالي كان ضعيف البضاعة في السنة النبوية كما يقول عن نفسه، ولذلك كثيراً ما يستشهد بأحاديث ضعيفة وبل موضوعة، وخاصة في كتاب إحياء علوم الدين، وقد تعقبه الإمام الحافظ العراقي في كتاب خرج فيه الأحاديث التي استشهد بها أبو حامد الغزالي، وعنوان هذا الكتاب: المغني عن حمل الأسفار -أي: الكتب في الأسفار -في تخريج ما في الإحياء من الأحاديث والآثار، وهذا الكتاب طبع عدة طبعات. وبقراءة المغني تدرك ضعف بضاعة الغزالي في الحديث النبوي، وكذلك بعض كلام الغزالي في الإحياء يتوجس الإنسان منه خيفة، وبالمقابل فـ للغزالي إشراقات وحكم، واستنباطات، وغوص في المعاني في هذا الكتاب لا يكاد يوجد في غيره من الكتب، خاصة في قضايا التربية والتصنيف والمفاضلة بين الأشياء وما شابه ذلك. فإذا كان الباحث ذا قدرة على التمييز والنقد، فلا بأس أن يقرأ هذا الكتاب، وإلا فمن الممكن أن يقرأ بعض المختصرات التي اختصرت هذا الكتاب، منها مختصر منهاج القاصدين، أو كتاب القاسمي، أو غيره من المختصرات المعاصرة، وإن كان المختصر لا يقوم مقام الأصل. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 22 وصف المجتمع السعودي بأنه وهابي النقطة الثانية: كيف نرد على من يقول: إن المجتمع السعودي مجتمع وهابي؟ من المعلوم أن المقصود بهذه الكلمة أنها تنسب إلى الإمام الداعية المجدد الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، ولا شك أن آثار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه الجزيرة ظاهرة وباقية إلى اليوم في مجالات عديدة، في مجال تجريد الاعتقاد وتصحيحه، فإننا نعلم أن كثيراً من البلاد الإسلامية بل وهذه الجزيرة نفسها قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه الجزيرة كغيرها كانت تشيع فيها ألوان الوثنية إلى حد أنهم كانوا يطوفون بالقبور، ويصلون لها، ويسألون المقبورين كشف الضر وجلب النفع! وربما قد يبطئ عن المرأة الزواج فتذهب إلى قبر فتطلب منه زوجاً، وإذا مرض الإنسان فقد يتردد على هذه العتبات وهذه البقاع، إلى غير ذلك مما هو موجود اليوم في كثير من البلاد الإسلامية، إضافة إلى أنواع أخرى من الشرك، كشرك التصورات والشرك في الألفاظ. فلما قامت دعوة الشيخ كانت تهدف إلى تجريد العقيدة وتصحيحها، وإبعاد ألوان الشرك عن المجتمع، وقد نجح الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، في نشر دعوته، ليس في الجزيرة فحسب، بل كانت أصداء دعوته تنتقل إلى الهند والسودان ونيجيريا والعراق، وإلى كثير من بلاد العالم، والآثار التي تركها الشيخ في تلك البلاد معروفة، ولا زال أهل هذه البلاد يتمتعون بحساسية قوية -ولله الحمد- ضد كل ما يخدش العقيدة، سواءً مما كان يؤثر في صلب العقيدة وينافيها بالكلية، أو ما كان ينافي كمالها ويخدش صفاءها ونقاءها، وهذه خاصية لا شك إيجابية. ومن الآثار التي لا زال المجتمع يتمتع بها بدعوة الشيخ: حماية البيئة والمجتمع من الانحرافات السلوكية، وتقويم أخلاق الناس على وفق أخلاق القرآن والسنة، ولا يعني هذا أن أخلاق الناس أخلاق صحابة، لكن أقول: كل من زار هذا المجتمع أو عاش فيه، ثم زار غيره من المجتمعات الأخرى، يحس أن هناك فرقاً واضحاً. صحيح أن التأثيرات موجودة في كل مكان، والانحرافات موجودة في كل مجتمع، ولكن يبقى أن التميز موجود ولو بنسبه معينة، فأنت إذا كنت تقول: إن الانحراف موجود في مجتمع ما بنسبة (60%) ، فقد تقول: إنه موجود في المجتمع الآخر بنسبة (50%) أو (40%) ، وليس المقصود التفضيل المطلق، لكن المقصود أن هناك نوعاً من الأفضلية. فهذه من آثار دعوة الشيخ. فإذا كان هذا هو القصد من وصف هذا المجتمع بأنه وهابي فالمعنى صحيح، ولكن الاستعمال غير سليم، لأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لم يأتِ بدعوة من كسبه الخاص أو من جيبه، وإنما كان دوره هو دور أي عالم، أو مجدد، أو مصلح. مجرد أنه نفض الغبار عن التعاليم الحقيقية للإسلام، اقرأ -مثلاً- كتاب التوحيد لـ محمد بن عبد الوهاب، انظر إلى أي حد تدخل الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذا الكتاب، فإنك تعجب فعلاً: كل ما جاء به الشيخ رحمه الله أنه يضع ترجمة عنوان الباب، ثم يسوق آيات وأحاديث ثم يقول: فيه مسائل، ويعطيك الفوائد المستخرجة من الآيات والأحاديث. ولذلك يفهم هذا الكتاب العالم والعامي والمجتهد والمقلد، والناس على اختلاف طبقاتهم، وتحس أن الشيخ رحمه الله لم يكن له تعاليم خاصة يريد أن يحوز الناس إليها، كل ما كان يهدف إليه أن يربط الناس بتعاليم القرآن والسنة، ولذلك كان يدعو إلى الاجتهاد وترك التقليد الأعمى، وربط الناس بالنصوص الشرعية، وهذا مدار دعوته، وهو ظاهر تراثه وتراث أبنائه وأحفاده وتلاميذه، ومن جاء بعده من حملة هذه الدعوة. فتسمية مجتمع بأنه مجتمع وهابي، غير سليم لأننا نقول: لماذا تنسبه إلى هذا الداعية أو هذا المصلح؟! فهو مجتمع يحاول أن يعود إلى الإسلام. أما إن كان القصد من إطلاق هذه الكلمة على المجتمع الوهابي، أنه مجتمع متعصب لأشياء معينة فلا أحسب أنه كذلك، ولا يظهر هذا في هذا المجتمع، لا اليوم ولا قبل اليوم، بل إننا نجد أن هذا المجتمع يتقبل الأفكار الصحيحة، يتقبل أي إنتاج صحيح، ويتقبل العلم الصحيح، سواء في مجال الصناعة، أو في مجالات العلوم النظرية أو غيرها، ولكن ينبغي أن نكون واقعيين حين ننظر إلى إي مجتمع من المجتمعات. فالمجتمع يوجد فيه أشخاص يمكن أن يحسبوا أنهم من عامة الناس، وقد لا تكون نظراتهم وتصوراتهم معبرةً عن حقيقة الدعوة، إلى الإسلام نفسه كم ينتسب إلى هذا الإسلام من أناس، وينسبون إليه من الآراء والأقوال ما ليس منه! فنحن يجب أن ننظر إلى حقيقة الدعوة، وإلى تراث الدعوة، وإلى رجال الدعوة الأصليين، الذين مثلوها حق التمثيل. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 23 الإقلال من قيمة علم الاجتماع السؤال نلاحظ أن بعض الزملاء في الأقسام الشرعية لديهم نوع من الإقلال بقيمة علم الاجتماع وخدمته الاجتماعية، وذلك بدعوى أن هذه العلوم تستند في بعض النظريات على الأفكار الغربية، وبالتالي تقلل من قيمة هذا العلم، والسؤال هو: ما رأيك في هذا الموضوع باعتبارك داعية إسلامي ومصلحاً اجتماعياً؟ وكيف نرد على من يقول: إن المجتمع السعودي مجتمع وهابي؟ الجواب السؤال فيه أكثر من نقطة: النقطة الأولى: موقف بعض الدارسين في المجالات الشرعية من هذه العلوم، وقد أومأت في حديثي السابق إلى شيء من ذلك، فأنا أسمع من بعض الدعاة، وبعض الشيوخ، من قد ينتقد هذا العلم نقداً إجمالياً، حتى أن منهم من يصم من يَدْرُسون أو يُدَرِّسُون بوصمات لا يوافًق عليها، وينظر إلى هذا العلم على أنه علم يخدم أهداف اليهود، باعتبار أن جوسكوند ودور كايم وغيرهم ممن يحسبون على طائفة معينة، ولكن الذي أراه أنا أن هذه العلوم وإن كان واقعها الآن واقعاً مراً، وهذا يجب أن نعترف به، لأن كثيراً من كتبها ودراساتها حتى في الجامعات العربية مترجمة كأفكار، ولا زال الميدان فسيحاً واسعاً أمام الدراسات الإسلامية الأصلية، ولا شك أن الإنسان قد يكون عالماً في مجال وهو في نفس الوقت أمي في مجال آخر، وحتى نكون واقعيين وعمليين، قد تجد إنساناً متخصصاً في أي علم من العلوم أو في التاريخ أو في الاجتماع أو في الاقتصاد أو في السياسة أو في أي علم، ولو جئته في المجالات الشرعية وهي مجالات ينبغي أن يهتم بها كل إنسان، قد لا تجد لديه الكفاية في مجال العلوم الشرعية، على الأقل فيما يحتاجه هو ومن حوله في تقديم هذا العلم الذي يملكه؛ بحيث يقدمه بصورة إسلامية. ونفس الوضع قد يوجد لدى بعض الدارسين في المجالات الشرعية، فقد تجده عالماً أو متخصصاً في الحديث أو الفقه، أو التفسير، لكن معلوماته عن هذه العلوم الأخرى ليست كما ينبغي، ولذلك قد يكون حكمه عليها ليس حكم الدارس الفاحص المدقق، بل حكماً ربما يكون حكماً مزاجياً أو حكماً عاطفياً، والناس بصفة عامة قد يعذرون في هذا، لأنهم يحكمون على الواقع. وإذا كان واقع كثير من هذه العلوم كما هو معروف، فإن دورنا -في نظري- يتركز في أمرين: الأمر الأول: إرساء قواعد علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التربية وعلم الاقتصاد وغيرها، على أسس إسلامية، بحيث نقدم للناس بديلاً صالحاً في هذه العلوم، يقوم على الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح، حتى نقنع الناس إقناعاً عملياً بأن كل هذه العلوم يمكن أن تصاغ بصورة إسلامية، وتخدم الإسلام وتخدم الدعوة إلى الله عز وجل. الأمر الثاني: توعية الناس بأن هذه العلوم قابلة لأن تصاغ صياغة إسلامية، وأن هذه العلوم في أصلها يمكن أن نقول عنها: إنها علوم محايدة، لكن يكتب فيها -مثلاً- عالم يهودي، فيفرز وينقش فيها تعاليم التلمود، وأهداف اليهود، ويكتب فيها عالم مسلم فيستطيع أن يصوغها بصورة إسلامية، ويستدل لها من القرآن والسنة. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 24 دور الطالب والأستاذ في قسم الاجتماع السؤال ما هو الدور المتوقع من الطالب المسلم في قسم الاجتماع، وما هو الدور المتوقع من الأساتذة الذين يدرسون في قسم الاجتماع؟ الجواب أقول في رأيي الخاص، إن علم الاجتماع والتربية وعلم النفس، من العلوم التي غزي المسلمون فيها اليوم، بسبب أنها علوم ترجمت ونقلت إلى المسلمين، وتشبع بها كثير ممن كتبوا في هذه العلوم في البداية، ولذلك فالحاجة ماسة إلى وجود الكاتب المسلم، الذي يصوغ هذه العلوم صياغةً إسلامية، ويبعد عنها لوثات الفلسفة والتصورات المنحرفة التي أدخلها إليها العلماء الغربيون. لكن ينبغي أن نلاحظ -أيضاً- أن مستويات الناس تتفاوت، فهناك إنسان يحس بأن لديه إمكانية واهتماماً وجودةً، بحيث يستطيع أن يفهم جيداً، وينقد جيداً ويكتب أيضاً، فيثري المكتبة الإسلامية بالكتب النافعة في هذا الباب، ولا شك في أنَّ هناك كتباً موجودة الآن، لكن المكتبة الإسلامية تحتاج إلى المزيد. هناك كتاب اسمه: المدخل إلى علم الاجتماع الإسلامي، وهناك كتاب آخر اسمه: علم الاجتماع الديني، وهناك عدد ليس كثيراً من الكتب في هذا الموضوع، فإذا كان الإنسان يجد في نفسه الكفاءة في النقد البَنَّاء والتأليف، فإن عمل الإنسان في مثل هذا الميدان يعتبر من الجهاد في رأيي، الذي ينبغي أن ينذر الإنسان فيه نفسه، سواءً كان طالباً أم أستاذاً أم غير ذلك. أما إذا كان الطالب عادياً في كفاءته وجودته، فهو نافع في الميدان الذي يعمل فيه، في الوظائف والمجالات المحددة في مجال علم الاجتماع، يخدم الطلاب -مثلاً- من خلال التعرف على مشكلاتهم وحل ما يواجهونه، ومعرفة أسباب الانحراف ومعالجتها، إلى غير ذلك. الجزء: 154 ¦ الصفحة: 25 سلسلة دروس رمضانية فيه ذكر ل فوائد العبادة الدنيوية والأخروية، وذكر لأحوال الناس في رمضان، وبيان أن شهر رمضان فرصة للقيام بالأمانات بكل صورها وأشكالها. كما أنه يحتوي على ذكر بعض الأخطاء السلوكية للنساء في رمضان. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 1 فوائد العبادة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, اللهم صلِّ الله وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. شهر رمضان ما أجمل لياليه! وما أحلى أيامه! جعلنا الله وإياكم ممن صامه فأحسن صيامه, وقامه فأحسن قيامه, ورزقنا فيه التوبة والإنابة والاستقامة, ليكون لنا شهيداً مشفعاً يوم القيامة. أما بعد: عباد الله: هذه وقفة مع بعض الأعمال والسلوكيات، والتصرفات الخاطئة, التي يعملها كثير من المسلمين في هذا الشهر الكريم، رجالاً كانوا أو نساءً. أحبتي في الله: يجب أن نسأل أنفسنا، لماذا أوجب الله علينا الصيام والإمساك عن الشراب والطعام طيلة النهار؟ فالله تعالى لا يريد أن يعذبنا بهذا, وهو غني عنا، ورزقنا هذه النعم وأحلها لنا ثم قال لنا: أمسكوا عنها من طلوع الفجر إلى غروب الشمس, وبين لنا العلة في ذلك {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] . الجزء: 155 ¦ الصفحة: 2 الفوائد الأخروية للعبادة إخواني الكرام: كل العبادات، من صلاة وصيام وحج وزكاة وقيام ليل وذكر وتسبيح الخ لها فوائد دنيوية, وفوائد أخروية, أما الفوائد الأخروية فلا مجال للكلام عنها؛ ويكفيك من الفوائد الأخروية أن تعلم أن الله جل وعلا يدخل أصحاب العبادة الصالحة الجنة, ويدخل المعرضين عن العبادة النار {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] . إذاً يكفي هذا ولذلك لا يحتاج أن نقول: الصيام يهذب النفس, أو يهذب الجسد, أو يصحح الإنسان, أو أنه حمية من الأمراض, يكفي في فوائد الصيام الأخروية، وغيره من العبادات، أنه سبب للنجاة من عذاب الله، والفوز بمرضاته, هذا كاف. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 3 الفوائد الدنيوية للعبادة أما إذا انتقلت إلى الفوائد الدنيوية في العبادات فأنت تجد فوائد عظيمة منها: أولاً: تهذيب النفس: لأن العبد إذا صلى وصام وتعبد لله عز وجل يصبح عنده ورع, وخوف، ومراقبة, فيتق الله عز وجل في جميع أموره, ولذلك لا تجتمع العبادة الحقيقية الصادقة لا تجتمع مع الفجور أبداً، اسمع ماذا يقول الله تعالى عن الصلاة، يقول تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] . فإذا رأيت إنساناً يصلي ويرتكب الفحشاء والمنكر, فاعلم أن صلاته فيها دخل وفيها دخن, وإنما هي صورة بلا حقيقة, صحيح أنها تُجزِئُه ولا يحسب كافراً ما دام يصلي, لكنه ما حقق الصلاة الشرعية الكاملة، التي تنهى عن الفحشاء والمنكر. فالعبادة فيها تهذيب للنفس, فتجد العابد لله عبادة صحيحة نزيهاً ونظيفاً, ولا تجد -مثلاً- في قلبه غلاً, أو حقداً, أو حسداً, أو بغضاء, أو كبراً, أو عجباً, أو غروراً, أو غشاً للمسلمين؛ لأن قلبه نظيف وهو يقرأ القرآن، ويقرأ قول الله عز وجل: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] . ولذلك كان العابدون الأولون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم, آية وأعجوبة في تهذيب نفوسهم وصلاحها, يتعاملون مع القرآن معاملة حقيقية, إمامهم وقدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم قام ليلة حتى أصبح بآية واحدة يكررها، وهي قول الله عز وجل: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] حتى الفجر وهو يرددها ويبكي! فقال له أبو ذر: يا رسول الله! مازلت تردد هذه الآية؟ قال: {إني سألت ربي الشفاعة لأمتي فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} . ثانياً: العبادة العبادة من صوم، وصلاة، وغيرها، فيها تهذيب للمجتمع, فالمجتمع العابد لا تنتشر فيه الجرائم والموبقات, وغير صحيح أنك تجد الناس الآن في المساجد، ثم ما إن يتفرقوا من المسجد حتى يذهب كل إلى حال سبيله, هذا يغش, وهذا يخدع, وهؤلاء يجتمعون على لهو ولعب, وهؤلاء يجتمعون على سكر, وهؤلاء يجتمعون على غيبة, وهؤلاء يجتمعون على حرام, وقبل قليل كانوا في المساجد! هذا تناقض عظيم في حياة المسلمين اليوم! ثالثاً: العبادة فيها جمع لكلمة المسلمين، لأن الأمة كلها تصوم في وقت واحد، وتفطر في يوم واحد، وتجتمع في المساجد للصلاة, وتجتمع في عرفات ومنى وغيرها للحج, فتجتمع كلمة الأمة, وتتوحد قلوبهم, ولا يكون عندهم أهواء، ولا اختلافات، ولا نزاع فيما بينهم. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 4 أحوال الناس في رمضان انظر -يا أخي المسلم- إلى العبادات -اليوم- هل تؤدي هذا المفعول في واقعنا أم لا؟ وما دمنا بصدد الحديث عن الصيام فانظر إلى واقع المسلمين خلال شهر الصيام, كيف يكون واقعهم؟! يعني إذا كان الصيام صياماً حقيقياً شرعياً فلا بد أنه سوف يقلب حياة المسلمين, ويجعلها أفضل مما كانت في بقية العام، وهذا هو الطبيعي, خاصة وأن الشيطان يسلسل في شهر رمضان كما في الصحيح: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة -وفي لفظ- فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب النار وسلسلت الشياطين -يعني وضعت في السلاسل- وصفدت الشياطين -يعني وضعت في الأصفاد-} فلا يَخْلُصُون في رمضان إلى ما كانوا يخلصون في غيره, لكن انظر إلى مجموعة من السلبيات والأخطاء التي تقع في واقع حياة المسلمين اليوم، أفراداً وجماعات. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 5 اعتبار رمضان فترة مؤقتة أول ما يلفت النظر أن كثيراً من الناس يعتبرون رمضان فترة مؤقتة، يؤجلون فيها أهواءهم وشهواتهم حتى ينتهي! فإذا دخل رمضان امتلأت المساجد وازدحمت بالمصلين، وما يزالون يتناقصون حتى ينتهوا! فأين هؤلاء في شعبان؟! أما يعلمون أن الصلاة هي العمود الذي يقوم عليه الإسلام؟! وأنها الفيصل بين الإسلام والكفر؟! وأن {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وأن {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} بحيث نقول: إن التارك للصلاة بالكلية مرتد عن الإسلام، فإذا كان كذلك فما بال أقوام لا يُعرفون في المساجد! وربما يَشتكي الواحد منهم, ويُزار في بيته ويُناصح، ويُستخدم معه كافة الأساليب فلا ينقاد إلى المساجد, بل يهرب منها, كما يفرق الشيطان من الحق! فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد, أين أنتم؟! رب رمضان ورب شعبان واحد, والدين لا يتغير, والإسلام ليس ألعوبة مثل دين النصارى واليهود, فإن اليهود والنصارى الآن يزعمون أنهم يعبدون الله تعالى يومًا في الأسبوع، يوم السبت عند اليهود, ويوم الأحد عند النصارى, ففي هذا اليوم يذهبون للكنائس، خاصة كبار السن, ويتعبدون على طريقتهم, فإذا انتهى ذلك اليوم, رجعوا إلى ما كانوا عليه من فجور, وانحلال, وتفسخ, وأكل للربا, وغش, ومشاهدة الحرام, وسماعه, والانغماس في أنواع الموبقات والمحرمات! فهم كما قال أحد النصارى: إننا نعبد الله في يوم واحد ونعبد بنك إنجلترا في ستة أيام، أي يعبدون المادة في بقية أيام الأسبوع. فهل حق على هذه الأمة أن سلكت وأخذت مأخذ الأمم قبلها, فأصبحت تعبد الله تعالى في المسجد، فإذا خرجت خلعت جلباب العبادة والخوف من الله وبدأت تعمل بمقتضى أهوائها وشهواتها؟! هذا هو الواقع عند كثير من المسلمين, وهو مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!} أي: هم اليهود والنصارى, أنتم تأخذون مأخذهم- قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] . الجزء: 155 ¦ الصفحة: 6 حال القلوب في رمضان يا أخي: التمس قلبك في رمضان عند قراءة القرآن، وذكر الله, وعند الصلاة، وعند ذكر الموت والجنة والنار, فإن وجدت قلبك يتحرك وينتعش, وإلا فاعلم أنه لا قلب لك! فاسأل الله أن يرزقك قلباً: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37] فقد يوجد إنسان حي لكن ليس له قلب! لأن القلب في الشرع ليس فقط هذه المضغة التي تنبض الدم وتضخه إلى الجسم, القلب شيء آخر وراء ذلك, هو حياة الروح, والإشراق, والإقبال على الله, والخوف من الله, والرغبة فيما عند الله, هذا هو القلب السليم {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فهذه سلبية يجب أن تنتهي من قلوب المسلمين. فيقال لكل إنسان: يجب أن تعرف طريقك، إما أن تكون عبداً لله, أو عبداً للشيطان, ليس هناك حل ثالث, يقول الله عز وجل: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60-61] لا توجد أنصاف حلول, إما أن تكون عبداً لله، ملتزماً بأوامر الله, وحتى لو غلبك الهوى فأخطأت, تب سريعاً إلى الله, فتلقي بنفسك بين يديه, وتمرغ خدك ساجداً لله عز وجل وتقول: يا رب! اقبلني, فحينئذٍ تكون عبداً لله حقا, وإما أن تكون عبداً للشيطان, فتفعل ما تشاء والموعد أمامك! الجزء: 155 ¦ الصفحة: 7 تذكر أنك عبد يروى أن بشراً الحافي مر على بيت فسمع فيه صوت الدفوف, والمزامير, والغناء! فقرع الباب، فخرجت إليه امرأة, قال لها: من صاحب هذا البيت؟ قالت: ماذا تريد منه؟ قال: أريد أن أعلم أعبد هو أم حر؟ قالت: لا بل هو حر, قال لها: أخبريه بأن بشراً الحافي يقول لك: إن كنت حراً فاصنع ما شئت, وإن كنت عبداً فلا تتصرف إلا بإذن سيدك. فضحكت المرأة وذهبت للرجل، وقالت: في الباب رجل مخبول! يقول: كذا وكذا, قال: كلا والله! هذا هو عين العقل، صدق, أنا عبد ولست حراً, أنا عبد لله عز وجل, وما عندي من مال ومتاع, لا يجوز لي أن أتصرف فيه إلا بإذن سيدي وهو الله تعالى, فتاب إلى الله تعالى، وكسر مزاميره, وطنابيره, وأقلع عما كان يفعله. ينبغي أن نحدد موقفنا بوضوح إن كنا عبيداً لله, فالعبودية لله لا تقبل الشركة، أن تكون عبداً لله ولغير لله, يقول الله عز وجل: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء، وهو للذي أشرك} , والله عز وجل هو أكرم الأكرمين. فبالنسبة لعبيده الذين رضوا بعبوديته، فالله تعالى يجود عليهم, فإذا أخطئوا أو قصروا, أو فرطوا, ثم قالوا: يا رب! أخطأنا، وقصرنا، وفرطنا يفتح لهم أبوابه, ويقول لهم: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] ويقول لهم: {يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني, فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي} قوله كلام، عطاؤه كلام، ومنعه كلام: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] كل شيء يكون بهذه الكلمة, ويقول: {يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا -يعني ملء الأرض- ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً, -لاحظ الشرط لأتيتك بقرابها مغفرة} . فهو جل وعلا واسع, كريم, جواد, وهاب, وكفى من سعة كرمه جل وعلا أن يعطي الجنة! هل يستحق أحد الجنة؟ لا والله، لا أحد يستحق الجنة, يعني: يستحق أن يكون مخلداً في الجنة آماداً وآباداً متطاولة لا نهاية لها، في نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع, وحرير، وصحاف، ودر، ونعيم، ما تجلى لقلب بشر، أو دنا منه فكر! لا أحد يستحق هذا البتة, إلا بفضل الله تعالى. فالله تعالى يعطي " {هَذَا عَطَاؤُنَا} [صّ:39] المهم أن تكون عند لله -فعلاً- في رمضان وفي غير رمضان، رمضان فرصة لنحدد أمورنا، فلا تبقى المسألة هكذا في المناسبات فقط، لابد أن نحدد الموقف جيداً إذا كنا عبيداً لله من الآن، نحدد طريقنا أننا عبيد لله, ونحرص على مرضاته, وحتى حين نخطئ نسرع بالتوبة إلى الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . الجزء: 155 ¦ الصفحة: 8 رمضان فرصة للقيام بالأمانات أيها الإخوة: إن مقتضى صيام المسلم في رمضان, أن يجعل شهر رمضان فرصة للقيام بالأمانات التي كلفه الله تعالى بها, وما أكثر الأمانات! الجزء: 155 ¦ الصفحة: 9 أمانة الدين والمفروض -أيضاً- أن الصيام يقوي ويغذي الشعور بهذه الأمانة, لكن الذي يقع من كثير من الصائمين -هدانا الله وإياهم- أنهم في شهر الصيام يفرطون في واجبات الإسلام, فالصلاة -مثلاً- كثيراً ما يتركها البعض لأنه نائم, وقد يأتي عليه وقت أو وقتان أو أكثر فلا يصلي, وحتى صلاة الفجر بلغني أن من الناس من يتسحر قبل الفجر بساعة أو أقل، أو أكثر، ثم ينام حتى عن صلاة الفجر والعياذ بالله، وقل مثل ذلك في بقية الصلوات! وربما يفرطون في أمانات الدين الأخرى, وربما يرتكبون المحارم, وهذا يدل على أن صيامهم أصبح صياماً شكلياً لا حقيقياً, فهم أخذوا من العبادات أشكالها ومظاهرها، وغفلوا عن حقائقها ومعانيها. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 10 أمانة المال خذ أمانة المال في هذا الشهر، حين يأتي رمضان تجد الأثرياء، والأغنياء، والمتوسطين، يذهبون إلى المحلات التجارية ليتزودوا لهذا الشهر الكريم بألوان الأطعمة, والمشروبات, والمكسرات, والحلويات, وينوعون ويتفننون بصورة غريبة وعجيبة فيما يأكلون في هذا الشهر! فإذا أتيت وجبة الإفطار وجدت عليها عشرات الأنواع من المطعومات والأغذية, ثم إذا أتيت إلى وجبة العشاء! بعد صلاة المغرب، وجدت ما شاء الله تبارك الله, فإذا أتيت بعد التراويح وجدت مثل ذلك, فإذا أتيت وجبة السحور وجدت مثل ذلك! حتى يصاب الواحد منهم بالتخمة من كثرة ما يتناول من الأطعمة والأشربة في هذا الشهر, وربما بعض الناس لا يتذكرون من رمضان إلا تلك الأغذية والأطعمة, حتى الصغار والصبيان تعودوا أنهم في هذا الشهر يجدون أطعمة وأغذية لا عهد لهم بها, فيفرحون برمضان لذلك! وهذا الإنسان الذي يبذخ ويسرف؛ تجد أنه لم ينفق في سبيل الله تعالى, ولم يتعاهد المساكين، والمعوزين، والمحتاجين, لم تحدثه نفسه أن يصل المجاهدين في سبيل الله في أفغانستان, أو فلسطين, أو إرتيريا, أو الفلبين, أو غيرها. أولئك الذين يحمل الواحد منهم سيفه على عاتقه، أو يحمل بندقيته على عاتقه, وينام على الثرى، ويلتحف السماء، وربما لا يجد الواحد منهم كسرة خبز يسد بها جوعته, لا يلتفت إليهم, وهذا أيضا يؤكد أن الصيام لم يحقق غرضه وحكمته في مثل هؤلاء, لأن الصوم جوع، وبالجوع يتذكر الإنسان المحتاجين والجائعين، كما قال الأول: لعمري لقد عظني الجوع عظة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً فمن العادة أن الإنسان إذا مسه الجوع والعطش تذكر المساكين، والمحتاجين، والفقراء, فجادت نفسه بالبذل والعطاء, أما أن يوسع الإنسان على نفسه هذه التوسعة, ويبذخ هذا البذخ, ويسرف هذا الإسراف، في ألوان الطعام والشراب, ثم ينسى المساكين, والفقراء, والمحتاجين, والمجاهدين, فلا شك أن هذا يدل على أنه ما راعى الأمانة حق رعايتها. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 11 أمانة الأهل والولد وأخيراً: خذ أمانة الأهل والولد، فهل نجد رعاية لأولادنا وأهلينا في رمضان أكثر مما نجد في غيره؟ أم أن الحال العكس من ذلك؟ الواقع يقول لنا: لا, الحال على ضد ذلك, فإن رمضان مجال لتسيب أولادنا، وبناتنا، وأزواجنا! فالأب في الليل مشغول بالسهر مع زملائه وأصدقائه, وفي النهار مشغول بالنوم بعض الوقت, والوقت الآخر يقضيه في أعماله إن كان موظفاً أو غير موظف, أما الأولاد وأهل البيت، فلا شأن له بهم ولا يدري! بل قد يكون بعض الطيبين والصالحين، ممن يبكرون إلى المسجد ويصلون التراويح, لا يدري ما شأن أولاده ولا بناته, فالأولاد الصغار يلعبون مع أمثالهم ونظرائهم, وربما يترتب على لعبهم هذا تورطهم في عصابات المخدرات, ووقوعهم في الجرائم الأخلاقية، من اللواط والسرقة وغيرها, وتعرضهم للاختطاف, وتعرضهم لحوادث السيارات والدهس وغيرها. وكذلك البنات، قد يتعرضن لأمور كثيرة, باختيارهن أو بغير اختيارهن, والأب لا يدري من ذلك شيئاً, فهو إما في المسجد يصلي, أو مع شلته وأصحابه, أو نائم, أو في عمله! أين رعاية الأمانة في هذا الشهر الكريم؟ إذا فرطت في أغلى ثروة تعتز بها في أولادك وبناتك! فهذه من السلبيات التي يقع فيها الصائمون, ولا يجوز أن تحدث لا من الصائم ولا من غيره, لكن إن فُرِضَ جدلاً أنها حدثت من غير الصائم, فإنه لا يجوز بحال أن يتصور حدوثها من الصائم, الذي هو متلبس بعبادة, من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فهذه نقطة وهي قضية التفريط في الأمانات التي حملنا الله إياها في هذا الشهر الكريم. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 12 أمانة الوقت إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {من صلى عليّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، ما تعاقب الليل والنهار, وما كرت الأدهار ومرت الأعصار. أما بعد: عباد الله: إن هذه الجلسة التي هي بعنوان (سلوكيات خاطئة في شهر الصيام) أود أن أتحدث فيها عن ثلاث ملاحظات جوهرية في حياة الصائمين. الملاحظة الأولى: أن الصيام شُرِعَ في ضمن ما شُرِعَ له لتدريب الإنسان على الأمانة, فالصوم أمانة بين العبد وبين الله, وإنما يصوم العبد ابتغاء مرضاة الله، وطلباً لثوابه، وخوفاً من عقابه. ولذلك فإن من المتناقضات الغريبة أن يكون الصائمون الذين يفترض أنهم أكثر الناس رعاية للأمانة, وحرصاً عليها, وخوفاً من الإخلال بها, أن يقع من كثير منهم التفريط في الأمانات العظمى، التي ائتمنهم الله تعالى عليها! فأمانة الوقت مثلاً، الذي به يحاسب الإنسان، وينعَّم أو يعذب, هذا الوقت الذي هو أثمن ما مُنح الإنسان, من دخل الجنة فإنما دخلها لأنه حفظ وقته, واستثمره فيما يرضي الله، ومن دخل النار فإنما دخلها لأنه ضيع وقته فيما يسخط الله, يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:36-37] هكذا يزعمون، ويدعون ويتمنون، ويطلبون، فيأتيهم الجواب (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ) أما أعطيناكم أعماراً, أما خلقتم, أما مُتّعْتُم حتى بلغتم سن الرجولة, وعقلتم, وفهمتم, وعرفتم, ثم أعرضتم وضللتم, ألم يحصل هذا؟ بلى حصل, {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37] . فالوقت: هو الذي يحاسب به الإنسان، فَيُنَعَّم أو يُعَذَّب, ومع ذلك فهذه الأمانة العظيمة يفرط فيها كثير من الصائمين, فيقضون ليلهم في السهر على مشاهدة المسلسلات التافهة, أو سماع الأغاني, أو لعب الورقة, أو الجلسات الضائعة, واسأل الأرصفة فإنها خير شاهد على ما يفعله الناس, وخاصة الشباب في شهر الصيام! فإذا جاء النهار كانوا نائمين، جثثاً هامدة, وهذا هو شأن من سهر ليله، فأحيا ليله -بل أماته- في عبث في غير طائل, وجعل نهاره وقتاً للنوم, وربما فرط فيه في كثير من الواجبات, فليس هذا من رعاية الأمانة، أمانة الوقت. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 13 أمانة القيام بالأعمال من الأمانات التي كلفت بها أمانة العمل، وكثير من الناس، في نهار رمضان لأنه صائم ليس لديه استعداد أن يعمل, فقد يكون -مثلاً- موظفاً في إدارة معينة, فتجد أنه نائم وقت الدوام, لماذا؟ لأنه معذور, والمراجعون يأتون ويذهبون فلا يجدون من يستقبلهم! هذا ليس من رعاية الأمانة, ولا يتناسب مع كونك صائماً متلبساً بعبادة, وربما إن اشتغل واستقبل الناس يستقبلهم بأخلاق سيئة, ويشتد عليهم, وليس لديه استعداد أن يسمع من أحد شكاية, أو مناقشة, أو مراجعة, لأن نفسه وأخلاقه رديئة, وأعصابه مشدودة, فتجد أنه مستعد أن يتكلم على هذا, ويسب هذا, ويشتم هذا, وينال من هذا, والحجة أنه صائم!! إذاً أين قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم} الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرك ما دمت صائماً إذا تعرضت لأحد ينال منك, أو يتعرض لك, أو يؤذيك, ألا ترد عليه بالمثل, فلا ترد النار بمثلها, بل قابل ذلك بالإعراض, وقل له: إني صائم، حتى تبين له: أنك تستطيع أن ترد عليه، لكن عندك من الورع، والخوف، ما يمنعك من ذلك, فإنك صائم متلبس بعبادة، لا تريد أن تفسدها على نفسك, وتخاطبه بما لا يليق, فما بال كثير من الناس ربما يقابلون من لم يحدث منه إساءة, ولا سابهم, ولا شاتمهم, بأسلوب عنيف, وعبارة جارحة, وأخلاق لا تليق, هذا ليس من رعاية الأمانة التي ائتمنك الله تبارك وتعالى عليها! الجزء: 155 ¦ الصفحة: 14 أمانة العمر هذه النقطة تتعلق بأعظم أمانة على الإطلاق, وهي أمانة العمر التي أُعطيناها على أن نستغلها فيما يرضي الله, على أن نصرف هذا العمر في طاعة الله تعالى, ومع ذلك انظروا كيف نتلف هذه الأمانة في رمضان خاصة, ما لم نتلفها في غيره! ففي رمضان اعتدنا على أن الليل للسهر, والسهر على ماذا؟! لا أحتاج إلى أن أجيب, لأن بإمكان أي واحد أن يأخذ جولة على عدد من الشوارع والمناطق خارج البلد, وفي حدود البلد, ليرى أكواماً هائلة من المجموعات من الشباب قد اجتمعوا على أمور بعضها محرم, مثل مشاهدة التلفاز وما فيه من أغانٍ، وموسيقى، ومسلسلات أحياناً رديئة, وبعضها على غيبة ونميمة, وبعضها على لعب كرة, وبعضها على أمور لا جدوى منها, ويظلون هكذا طيلة الليل! وربما أسعد لحظة عندهم في رمضان هي تلك اللحظة! ولا يتذكرون من ذكريات رمضان إلا تلك الليالي، التي قضيناها في مكان كذا، أو في محل كذا, نلعب، أو نتحدث، أو ما أشبه ذلك! فإذا جاء النهار تحولوا إلى نيام, لا يعون ما حولهم, وربما ينام أحدهم حتى عن الصلوات, فأين رعاية الأمانة التي اؤتمن عليها الإنسان؟! - الرسول في رمضان: وحتى تدرك خطورة هذا الأمر انظر كيف كان الرسول عليه الصلاة والسلام في يومه في رمضان، حتى كأنني أتصور الرسول عليه الصلاة والسلام على مدى يوم كامل في رمضان, ماذا كان يفعل؟ قبل صلاة الفجر كان عليه الصلاة والسلام يتسحر، ولم يكن بين سحوره وبين صلاته إلا وقت يسير، قدر قراءة خمسين آية, ثم يصلي بالناس عليه الصلاة والسلام, ثم كان يجلس كالعادة في مصلاه بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس, ويصلي ركعتين, كما ثبت في صحيح مسلم، أنه كان يفعل ذلك عامة، وهو في رمضان خاصة, لكن رمضان كغيره في ذلك, ثم يصلي ركعتين، ثم كان عليه السلام يسافر في نهار رمضان للجهاد, كما سافر في غزوة بدر, وفتح مكة وغيرها, وكان يجلس للسائلين والمستفتين, وكان يعطي السائلين والفقراء, وكان يكثر من تلاوة القرآن؛ حتى إنه كان يأتيه جبريل فيدارسه القرآن في كل ليلة, معنى ذلك أنه عليه الصلاة السلام كان يسهر في الليل مع جبريل لمدارسة القرآن, فيختم القرآن مع جبريل -يعني في رمضان- وفي آخر رمضان صامه عليه الصلاة والسلام, عارضه جبريل بالقرآن مرتين, كما ورد في الصحيح من حديث فاطمة رضي الله عنها, وكان يكثر من تلاوة القرآن, والصدقة، ومناصحة أصحابه, وأمرهم ونهيهم, وقلما كان ينام عليه الصلاة والسلام, بل كان نومه، فإذا جاءت العشر الأواخر حدث ولا حرج, أي أنه في أول رمضان كان يقوم وينام، لكن إذا جاءت العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه عليه الصلاة والسلام، فلا ينام ليلا أبداً! كان إذا دخل العشر شد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا ليله, عليه الصلاة والسلام, فكيف تجد أن أتباع هذا النبي عليه الصلاة والسلام أصبح أرخص شيء عليهم هو الوقت! نجلس ليلة كاملة من بعد التراويح إلى وقت السحور على لعب ورقة, أو مشاهدة البرامج التافهة, أو سماع الكلام الرديء, أو لعب، وأحسن ما يقال فيه: أنه مباح! وقد يتعدى ذلك إلى أمور ممنوعة, هذا غير لائق. فأنصح الإخوة بأن يرعوا الله حق رعايته، وأن يخافوا الله فيه, ينبغي أن يكون لك في الليل قدر تنام فيه؛ لأن نوم الليل لا يعادله شيء من نوم النهار, فتنام ما تيسر لك من الليل, ولو ثلاث ساعات أو أربع, حتى تكون في النهار طبيعياً، يمكن أن تجلس بعد الفجر في المسجد, وتؤدي الصلوات في أوقاتها, وتقوم بالعمل، سواء كنت موظفاً أو طالباً أو مدرساً, وتقرأ القرآن, أما كون الإنسان طيلة الليل سهراناً، فإنه في النهار حتى لو نام قبل السحور بنصف ساعة عندما يُوقظ للسحور يتمنى ألا يوقظ! فإذا أوقظ للصلاة يتمنى ألا يوقظ, فإذا أوقظ للعمل يتمنى ألا يوقظ! ويذهب يؤدي عمله بسرعة، ثم يرجع وينام؛ لأن وضعه غير طبيعي, وهذا لا يليق أبداً, ينبغي أن ننظم وقتنا في رمضان بصورة صحيحة، تجعل الإنسان يستفيد من شهره. وأهم قضية هي أن ينام الإنسان من ليله ولو قدراً يسيراً، بقدر ما يستطيع, ولا يسهر الليل كله, ومن المعروف أن السهر أصلاً لغير حاجة مكروه، حتى في غير رمضان {وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره النوم قبل صلاة العشاء, ويكره الحديث بعدها} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لا سمر -يعني سهر- إلا لمصلٍ أو ذاكر أو مسافر} مثل طالب العلم, أو الذي يسهر مع ضيوفه, أو مع أهله، في أمور خاصة, فهذا لا حرج فيه, أما سهر لا طائل وراءه فالأصل أنه مكروه في غير رمضان، فما بالك في رمضان!. إخواني الكرام: رمضان فرصة لا تعوض, لأن نجدد العهد مع الله جل وعلا, ونصحح أوضاعنا, ونصفي قلوبنا، وفرصة لأن نصلح ما فسد من أمورنا, والخائب كل الخيبة من خرج منه رمضان فعاد كما كان. نسأل الله أن يقبل منا ومنكم الصيام والقيام, وأن يغفر لنا ولكم الزلل والإجرام, ويمحو عنا الذنوب والآثام, إنه هو الحي القيوم القيَّام. اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, اللهم اهدنا صراطك المستقيم, اللهم أصلحنا وأصلح لنا وأصلح بنا, اللهم توفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 15 أمانة تربية الأولاد قد يكون الكثير منكم أيها الإخوة -والكثير منكن أيتها النساء- قد يأتي في رمضان إلى المسجد أحياناً ليعبد الله، لكن عنده أولاد كبار وصغار, ترك الحبل لهم على الغارب, يسرحون ويمرحون في الشوارع, ويتعرضون للمارة, ويلعبون فيما بينهم, ويختلطون بمن هم أكبر منهم سناً, وقد يتدربون على تعاطي المخدرات, وقد يتدربون على الفساد الأخلاقي, والانحلال واللواط, والجرائم وغيرها! وقد يتدربون على السرقة, وقد يتعرضون لحوادث اختطاف، أو إيذاء، أو اعتداء, أو غير ذلك! وهذا ليس من رعاية الأمانة, لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته} فيفترض أنك في رمضان تضاعف من اهتمامك بأولادك باعتبارهم أمانة! وحفظ الأبناء يتمثل في الآتي: - تعليمهم العبادة الحقيقية: ومن الاهتمام بهذه الأمانة أن تدربهم على العبادة الحقيقية, فتدربهم على الصيام مثلاً, لأن كثيراً من الأولاد والبنات يبلغون حوالي عشر أو إحدى عشرة سنة، وخاصة من الفتيات، تبلغ ولا تصوم, لماذا؟! لأنها تستحي أن تقول لأهلها إني قد حضت! وربما لا تعرف الأحكام, وبعض البنات قد تبلغ لتسع سنين, أو عشر سنين, أو إحدى عشرة سنة, أو اثنتا عشرة سنة, وأهلها ينظرون إليها على أن هذه طفلة, لا يراقبونها, ولا يراعونها, ولا يعرفون أحوالها, وكثير من هؤلاء الفتيات بعدما تبلغ سن العشرين والثلاثين, تتصل وتسأل، وتقول: أنا يوم كنت صغيرة بلغت وما صمت سنتين أو ثلاث سنوات, والأهل لا يدرون, وهي لا تعرف الحكم, أو ما أشبه ذلك, أو تكتم الأمر عن أهلها أحياناً! وحتى من لم يبلغوا الحلم ينبغي أن يعودوا على الصيام، سواءً أكان ابن عشر, أم إحدى عشرة, أم اثنتا عشرة, فإنه يعود على الصيام حتى إذا لم يبلغ الحلم، ولو بعض الأيام, وفي صحيح مسلم من حديث الرُّبيع بنت معوذ: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر الناس بالصيام في يوم عاشوراء, قالت: فكنا نصوم ونُصَوِّمُ صبياننا} حتى إن الصبي إذا صاح محتاجاً إلى الطعام والشراب، يعطونه اللعبة من العهن وهي لعبة مصنوعة من صوف, أو من قطن, ويجعلونه يلعب بها ويتلهى بها، حتى يأتي موعد الإفطار, هذا في يوم عاشوراء, فما بالك بشهر رمضان؟! ويعود الصبي الصلاة، فتأخذه معك إلى المسجد, وتعلمه آداب دخول المسجد, وآداب الصلاة, وآداب الخروج, وآداب القراءة, أما أن تأتي وتترك أولادك وبناتك، لا تدري ماذا يحدث لهم، فهذا خطأ كبير. - عدم تركهم لوحدهم: ومما يلتحق بهذا بل هو أشد منه خطورة أن كثيراً من الآباء يسافرون إلى العمرة، خاصة في العشر الأواخر من رمضان, والعمرة لا شك فيها فضل عظيم، ويكفي في فضلها أن الله تعالى أمر بها فقال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصارية: {إذا كان رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة معي} والحديث في صحيح البخاري ومسلم , وهذا فضل عظيم أن تكون كأنك حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشهدت معه المشاهد, ووقفت معه بـ عرفة, وصليت وراءه، هذا فضل عظيم, لكن هل يصح أن يذهب الأب مثلاً بأسرته إلى مكة، وعنده بنات بالغات, مراهقات, ربما غير مؤدبات, ولا مُعلَّمات, ولا واعيات, ولا مدركات, فيذهب هو، وربما يعتكف في الحرم, ويترك الحبل على الغارب لهؤلاء البنات في الأسواق؟! في البيع والشراء, ومعاكسة الشباب, والتسكع حتى في داخل الحرم! كم تؤذي كثير من النساء الصالحين والمعتمرين بمظهرها، وشكلها وسفورها وتبرجها، وروائحها إلى غير ذلك! إنني أذكر أن بعض الشباب من الصالحين, بل ومن المتزوجين، رأيتهم وقد رجعوا من الحرم إلى بلادهم, وشفاههم يابسة, ووجوههم مكفهرة, ونفوسهم حزينة, وكأنني أعرف ماذا يريدون أن يقولوا! يريدون أن يقولوا: أتينا إلى هذا المكان, أتينا إلى بيت الله الحرام نريد سعادة النفس, والقرب من الله تعالى, والعبادة الصالحة, فإذا بنا نفاجأ أن بعض النساء اللاتي لا خوف عندهن من الخالق, ولا رقابة عليهن من المخلوق, قد لوثن هذا الجو، وهذه البيئة! فأصبح الإنسان يجد مناظر مثيرة ومؤثرة, فما بالك بالشباب غير المتزوجين؟! هل هذا من الأمانة التي كلفت برعايتها؟! وهل يتناسب مع كرامة شهر رمضان أن تتوجه أنت للعبادة وتترك من وراءك! هذا غير صحيح. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 16 الاهتمام بالشكليات والمظاهر السلبية الثانية: هي أن كثيراً من الناس صاروا يهتمون بالشكليات والمظاهر ولا يهتمون بالحقائق, والدين حقائق ومظاهر, لسنا نقول: إن الدين حقيقة فقط, بل الدين حقيقة ومظهر, فالإسلام جاء لتربية القلوب والضمائر والنفوس، وإيجاد الحب والبغض في الله, وإيجاد محبة الله, والرجاء فيما عنده, والخوف من عقابه, كذلك الدين جاء لتربية المظهر, ولذلك تجد أن الإسلام أمر بإعفاء اللحية, وأمر بتقصير الثوب بالنسبة للرجل, وبالنسبة للمرأة أمرها بالتستر والتصون والعفاف. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 17 تدبر القرآن لا كثرة التلاوة قل مثل ذلك في القرآن الكريم، فقد اعتاد الناس أن الإنسان يستحب أن يختم القرآن في رمضان, أقصد بمفرده، كل واحد منا حريصٌ على أن يختم في رمضان ثلاث أو أربع أو ست مرات، وهذا لا شك أنه حسن، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل, وكان يلقاه في كل ليلة فيدارسه القرآن, قال: ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} . ومن هذا الحديث أخذ أهل العلم أنه يستحب للإنسان أن يختم القرآن في رمضان ما تيسر له, بقدر ما يطيق، وأن يكثر من تلاوة القرآن في رمضان؛ وذلك لأن رمضان هو شهر القرآن قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] فيه نزل القرآن، من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا, وفيه ابتدأ نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم, فيستحب للعبد أن يكثر من قراءة القرآن وتلاوته ومدارسته, إما بنفسه أو مع الصالحين من عباد الله, لكن يقرأ القرآن بخشوع كما أنزل, ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما قام ليلة كاملة بآية واحدة من كتاب الله يرددها حتى الصباح, وهكذا كان أصحابه من بعده. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سمع القرآن بكى! كما في الصحيح عن ابن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: {اقرأ عليّ القرآن، قلت: يا رسول، أأقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري قال: فقرأت عليه من سورة النساء, حتى أتيت على قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال النبي صلى الله عليه وسلم: حسبك الآن قال: فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم فإذا عيناه تذرفان} فكان عليه الصلاة والسلام يبكي ويخشع لقراءة القرآن, وكذلك الصالحون من بعده عليه الصلاة والسلام, فكان أبو بكر إذا صلى بالناس صلاة الفجر بكى حتى يسمع نشيجه من وراء الصفوف, وربما خنقته العبرة حتى لا يدري من وراءه ماذا يقرأ أبو بكر رضي الله تعالى عنه من القرآن! بل عمر رضي الله عنه القوي الشديد الأيّد, كان يخشع للقرآن أعظم الخشوع, حتى ربما قرأ آية من كتاب الله فاهتز لها واضطرب, وجلس في بيته مريضاً أياماً يعاد. - حال الناس مع القرآن: أما أن يكون هم الواحد منا متى يصل إلى آخر السورة, أو آخر الجزء، أو آخر القرآن ومتى يختم! وربما هَذَّ القرآن هذّاً كهذّ الشعر, لا يقف عند وعده ووعيده, وحلاله وحرامه, ومعانيه, بل يهذّه هذا، لا يدري ما معنى القرآن, ولا يعتبر به ولا يتأثر! , فلا شك أنه ليس لهذا أنزل القرآن, والله عز وجل يقول: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] ويجب أن نعلم -أيها الإخوة- علم اليقين أن القلب الذي يسمع آيات الله عز وجل, ثم تتلى عليه ولا يتأثر ولا ينكسر ولا يخشع, أنه قلب مريض إن لم يكن قلباً ميتاً، قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية:7-8] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] وقال: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] أليس من العجب وكل العجب أن نبكي عند دعاء القنوت؟ -مثلاً- وتسكب العبرات، وربما ارتفعت الأصوات والصيحات! وقبل ذلك بدقائق كنا نسمع الآيات البينات المزلزلات، التي لو أنزلت على الجبال الراسيات؛ لتصدعت من خشية الله عز وجل، ثم لا ترق قلوبنا، ولا نتأثر ولا ندمع ولا نبكي! أين نحن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} هذا البكاء الذي نتصنعه أحياناً وربما نتأثر به بسبب حسن الصوت وجماله، أو خشوع الإمام, يجب أن نعلم أن هذا البكاء قد يدخل أحياناً في باب الرياء, لأن التكلف والتعمل من خلال الاجتماع، وارتفاع الأصوات له تأثير، والشيء الذين ينفعك عند الله هو الحقيقة التي ليس فيها بهرج ولا خداع ولا رياء ولا مجاملة, وإنما لله, ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} فالعين التي يخرج منها، مثل رأس الذباب، من البكاء من خشية الله، لا تمسها النار, كما قال عليه الصلاة والسلام لكن ما يدريك أن بكاءك من خشية الله؟! إذاً: يجب ألا نغفل عن حقيقة العبادة، سواء حقيقة الصيام, أم حقيقة الصلاة, أم حقيقة قراءة القرآن, ولا شك أن أربع تسليمات، أو خمس تسليمات، تستغرق فيها ساعة كاملة في خشوع, وطمأنينة في القيام والركوع والسجود, أفضل من أربعين ركعة في نفس الساعة ليس فيها خشوع ولا طمأنينة ولا تسبيح ولا ذكر لله عز وجل. ولا شك أن ساعة تقضيها في قراءة نصف جزء من القرآن بتدبر وتمعن وتعيد الآية التي تتأثر بها, وتحاول أن تعرض الآيات على قلبك، أفضل من نفس الساعة التي تقرأ فيها جزأين أو ثلاثة، هذّاً كهذِّ الشعر, إنما همك رأس السورة أو رأس الجزء, أو متى تختم القرآن! الجزء: 155 ¦ الصفحة: 18 الدين مظهر ومخبر إذاً: الدين مظهر ومخبر, لا يقتصر على شيء دون شيء, لكن بعض الناس مع الأسف أخذوا من الدين مظهره ونسوا منه مخبره, ويتجلى هذا في شهر الصيام, حينما ننظر في هذه العبادة التي يختص بها شهر رمضان، وهي الاجتماع على صلاة التراويح والقيام, تجد أن كثيراً من الناس لا يفهمون من هذه العبادة حقيقتها أنها إقبال على الله بالقلب والروح, وخشوع له, وتمسكن, وأن يضع الإنسان أعز وأشرف ما فيه (جبهته) في الأرض لله عز وجل، إنما يفهمون أنه وقت يقضونه في العبادة! ولذلك تجد كثيراً من الناس يسلكون مسلك الاستعجال في العبادة, في صلاة التراويح، فما بين قيام وركوع وسجود, المهم أيهم ينتهي أولاً! وكثيراً ما تجد في المساجد أناساً يتسابقون في صلاة التراويح، وربما يقرأ الإمام آية واحدة أو آيتين, فإذا قرأ نصف وجه اعتبر مطيلاً للصلاة! وحدثني بعض الشباب الثقات أنه في بعض البلاد، كان الإمام يقرأ في كل ركعة آية واحدة من قصار الآيات, فمثلاً يقرأ في الركعة الأولى (ألم) الله أكبر, ثم يقوم في الركعة الثانية فيقول: (ص) الله أكبر, وهكذا طيلة الشهر الكريم! يقرأ آية واحدة من قصار الآيات, بل ربما يقرأ من الحروف المقطعة في أوائل السور ثم يركع ويسجد, وكثير من الأئمة لا يتمكن الذين يصلون خلفه من قراءة الفاتحة, ولا من التسبيح في الركوع والسجود, ولا من قول "ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه" ولا من قراءة التشهد في جلسة التشهد, ولا من غير ذلك, فهو يسرع, المهم: أنه متى ينتهي من الصلاة! ولا شك أن هذا أَخْذٌ بشيء من مظهر العبادة، وغفل عن جوهرها, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في رمضان وغيره إحدى عشرة ركعة, يطيلهن ويتمهن، ويطيل القراءة فيهن, ومن بعده كان أصحابه لما جمعهم عمر رضي الله عنه على صلاة التراويح، كانوا يطيلون القيام حتى يتكئون على العصي من طول القيام! فالعبادة ليست عبثاً أو لعباً أو لهواً, العبادة خشوع ووقوف بين يدي الله تعالى, ولا بد أن يكون الإنسان محتسباً لهذه العبادة, أما أن تتحول العبادة إلى تسابق ومسارعة, فهذا لا شك أنه لا يجوز. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 19 من أخطاء النساء في رمضان السلبية الثالثة التي أود أن أنبه عليها وهي: تتعلق بأوضاع الأخوات المسلمات في هذا الشهر الكريم, ولا شك أن شهر رمضان مميز بالنسبة للمرأة المسلمة, فإننا نعلم أنه فرصة لخروج النساء إلى المساجد لصلاة التراويح, والقيام والذكر وسماع القرآن والمواعظ, وهذه ناحية طيبة, وينبغي الاستفادة منها، وحبذا أن يقوم الأئمة والوعاظ، والمرشدون بالعناية بالمرأة, لأننا نعلم أن هناك كيداً عالمياً مدبراً لإخراج المرأة المسلمة من بيتها, وإخراجها من دينها, ومحاولة إخراجها من عفافها، وطهرها، وحيائها أيضاً, فهي فرصة لا تعوض أن يستثمر الأئمة والدعاة والخطباء والمرشدون فرصة خروج النساء إلى المساجد في رمضان، للوعظ والتوجيه, ولكنني أود أن أشير فيما يتعلق بموضوع النساء إلى بعض السلبيات والأخطاء التي تقع فيها بعض الأخوات. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 20 الخروج بالثياب المثيرة المعطرة الناحية الثانية: أن بعض النساء تخرج بثياب جميلة مثيرة جذابة, وهذا لا شك أنه محرم أيضاً, فإن المرأة إذا خرجت يجب أن تخرج بعيدة عن الزينة، كما قال عليه الصلاة والسلام: {وليخرجن وهن تفلات} أي: بعيدات عن الزينة, والتبرج بها, ومن النساء من تخرج متطيبة أيضاً، وروائح عطرها تفوح على مسافة أمتار! وهذا لا يجوز, فإنها إن كانت خرجت فعلاً للصلاة فيجب أن تدرك أنها لا يجوز أن تكون كمن يبني قصراً ويهدم مصراً, تصلي خمس تسليمات أو أكثر, ولكنها ارتكبت عشرين منكراً في خروجها هذا! وبعض النساء تأتي بالطيب معها إلى المسجد, سواء كان من الطيب الذي يبخ, أو من البخور أو غيره, فتوزعه على زميلاتها وأخواتها في المسجد! وهذا أيضاً من الطيب الذي لا يجوز تعاطيه في المسجد، ولا يجوز تعاطيه لمن أرادت الخروج من بيتها, سواء خرجت للمسجد أو لغير المسجد. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 21 الخروج بالصبيان الصغار بعض الأخوات تخرج ومعها صبيانها الصغار, دون أن تعتني بهم, أو تراعيهم, بل تأتي بهم وتتركهم في المسجد, فيحدث من جراء ذلك إزعاج، وأصوات، وإيذاء للمصلين والمصليات, وربما هي نفسها لا ترتاح في صلاتها، لأنها لا تدري أين ذهب أولادها, فتخاف عليهم, فربما تصلي وقلبها معهم, وربما قطعت الصلاة بحثاً عنهم, وربما حصلت مفاسد عديدة من جراء ذلك, فعلى الأخت المسلمة إما أن تضع أولادها في أيدٍ أمينة, لتطمئن إلى وجودهم عندها, وإما أن تجلس عندهم هي وتراقبهم في بيتها، وتصلي ما شاء الله لها, فإن صلاة المرأة في بيتها أفضل لها من صلاتها في المسجد, وهذه القضية يجب أن تعلن، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وبيوتهن خير لهن} وأين قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قاله في المدينة, يعني صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد النبوي, مع أن صلاتها في المسجد النبوي أفضل من صلاتها في سائر المساجد بألف صلاة, فما بالك أيتها المسلمة بصلاتك في بيتكِ في غير المسجد النبوي. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 22 الخلوة بالسائق الأجنبي فأولاً: فيما يتعلق بالخروج إلى المسجد, لا شك أن ما عند الله لا ينال بمعصيته, وبعض الأخوات كما بلغني وعلمت ذلك, تقدم من بيتها مع السائق الأجنبي ليوصلها إلى المسجد, دون أن يكون معهما شخص ثالث! وهذه خلوة , فإن السيارة خلوة إذا أغلقت النوافذ, أو حتى لم تغلق، فإن بإمكان المرأة أن تخاطب الرجل, ويخاطبها بما يشاء, وقد يترتب على ذلك مفاسد عديدة، كيف لا والشيطان ثالث! كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام, فإذا كنت أيتها المسلمة خرجت لابتغاء ما عند الله, فاعلمي أن ما عند الله لا ينال بمعصيته, فلا يجوز أن تخرجي مع السائق الأجنبي عنك, سواءً أكان أجنبياً، أم قريباًَ لكِ ولكنه أجنبي من الناحية الشرعية, كأن يكون ابن عم, أو ابن الخال, أو من الجيران, أو ما أشبه ذلك, لا يجوز أن تخرجي معه إلى المسجد. الجزء: 155 ¦ الصفحة: 23 تلكم السكينة إننا نعيش في هذه الأيام في عصر القلق والاضطراب، والأمراض النفسية التي لم تكن موجودة من قبل، وذلك دليل على أن الإيمان بالله تعالى إيماناً كاملاً لم يرسخ في النفوس والقلوب ولم يكتمل فيها الاكتمال المطلوب، لذلك لابد من الإيمان بالله تعالى، الإيمان الصحيح حتى تحصل السكينة والاطمئنان، لذلك فقد تكلم الشيخ سلمان -حفظه الله تعالى- عن هذا الموضوع، وأحاط به، فعرف السكينة، ثم ذكر أنواعها، وذكر حاجتنا إلى السكينة، وأنها حاجة ملحة في جميع أحوالنا وأعمالنا، ثم أجاب على الأسئلة. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 1 انتشار القلق والاضطراب في هذا العصر إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هذه ليلة الخميس من هذا الشهر المبارك الكريم، نسأل الله أن يجعله شهر خير ورحمة لنا ولكم وللمسلمين أجمعين. أيها الإخوة الكرام: هذا العصر الذي نعيش فيه يتميز بأنه عصر القلق والاضطراب والأمراض النفسية التي عبثت بالناس أيما عبث، فأصبحت تجد في كل مدينة وقرية ومستشفى قسماً خاصاً للأمراض النفسية، وعيادات مخصصة للأطباء النفسانيين، يتردد عليها مئات بل ألوف من الناس، لا أقول من الفقراء والمعدمين، بل منْ علية القوم، من أهل الجاه والثراء والنفوذ والقوة، ممن يملكون بأيديهم الدنيا ولكنهم لم يجدوا للسكينة والسعادة في قلوبهم موضعاً، فهو عصر القلق والاضطراب والحيرة والتردد. وكان من ثمرات ذلك أن نسبة المنتحرين في العالم تزداد يوماً بعد يوم، وكلما تقدم الناس في المادة والثراء، وارتفع دخل الفرد، ازدادت نسبة المنتحرين، ففي أكثر دول العالم ومناطقه ثراءً يكون أكثر معدل للانتحار، هذا فضلاً عن غيره من مظاهر القلق الموجودة في العالم، فهو بحق عصر القلق. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 2 هذا العصر هو عصر السرعة كما أن الميزة الأخرى المرادفة لهذه الميزة هي كما يقولون: بأنه عصر السرعة، فالناس فيه يركضون كأن وراءهم شيئاً يلاحقهم أو يطاردهم، وهم يبحثون عن لا شيء، أو يبحثون عن شيء لا يستطيعون أن يحددوه بالضبط. فتجد كثيراً من الناس يركضون ويلهثون، ولكن الواقع أنهم لا يعرفون طريقهم، ولا يدرون إلى أين يتجهون، ولأجل علاج كل الأمراض التي يعانيها كل الناس؛ شرع الله تعالى العبادات، سواء كان ذلك في الصيام أو الصلاة أو الحج أو الذكر، أو غيرها من العبادات، من أجل أن تكون السكينة مستقرة في قلوب الناس، فيكون الإنسان ليس في حال الغنى والأمن والثرى والجاه والنفوذ سعيداً، لا، بل حتى في حال الفقر والمرض والخوف والقلق مطمئناً هادئ القلب؛ لأنه يتلمس السكينة في قلبه. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 3 ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله تعالى من المؤسف جداً أن هذا القلق الذي يعيشه الناس، إنما يعالجه أطباء هم في كثير من الأحيان في أمس الحاجة إلى من يعالجهم أيضاً، لماذا؟ لأن القلق هو ثمرة من ثمرات عدم الإيمان بالله عز وجل، والبعد عن طريقه وهدايته وأنوار الوحي التي أنزلها الله تعالى على رسله وأنبيائه، فمن قال أن طبيباً نصرانياً أو ملحداً أو كافراً يفلح في علاج حالات القلق هذه؟! بل إن المريض يخرج من عنده وقد ازداد قلقاً وحيرةً وتردداً. وقد بلغني أن من يسمون بالأطباء النفسانيين يدخل عليهم المريض أو تدخل عليهم المريضة، فيبدءون يحادثونهم في قضايا الدين، ويشككونهم في دينهم وفي عقائدهم وفي أخلاقهم وفي سلوكهم، حتى يخرج المريض وهو مصاب بمرض -فضلاً عن مرضه الأول- الشك. فهؤلاء المرضى الذين يسمون بالأطباء هم بحاجة إلى من يعالجهم وكما قيل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنا كيما يصح به وأنت سقيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم كما أننا نجد كثيراً من الناس يذهبون إلى من يعالجونهم بقراءة القرآن والأدعية والأذكار والرقية الشرعية، وهذا لا شك علاج حسن متى كان مقتبساً من نور النبوة والسنة الصحيحة، فضلاً عن أعداد كثيرة من المرضى الذين يذهبون إلى المشعوذين والدجالين والمرتزقة، الذين يمدون أيديهم بالباطل إلى جيوب الناس بحجة العلاج، ويذهب أعداد كبيرة من الناس إلى من يدَّعون أنهم كهان، أو إلى من يدَّعون أنهم عرافون، يزعمون علم شيء من الغيب، وهؤلاء وأولئك كلهم همهم أن يأخذوا أموال الناس بالباطل، فهذه ميزة من ميزات هذا العصر. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 4 تعريف السكينة وأنواعها فيا ترى ما هي السكينة؟! السكينة هي: طمأنينة القلب واستقراره. وأصلها في القلب ثم تفيض بعد ذلك على الجوارح، فترى على جوارح الإنسان المطمئن بذكر الله تعالى وعبادته أثر السكينة والهدوء والخشوع، وهي أنواع: الجزء: 156 ¦ الصفحة: 5 السكينة التي تكون حال الحج وكذلك تكون السكينة في حال الحج أيضاً، ولذلك أفاض النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة، وعليه السكينة، ومعه ما يزيد على مائة ألف حاج، فكان يقول: {أيها الناس عليكم بالسكينة، عليكم بالسكينة، عليكم بالسكينة} كما في الصحيحين. فأفاض النبي عليه الصلاة والسلام وعليه السكينة وأمر أصحابه بالسكينة وبالهدوء الذي يتناسب مع حرمة الحج وحرمة العبادة. إذاً: هذه السكينة مطلوبة من العبد في كل حال وينبغي للإنسان أن يحرص عليها في حال العبادة كما يحرص عليها في جميع الأحوال. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 6 السكينة التي تنزل حال الصلاة وكذلك السكينة تنزل حال الصلاة، وينبغي للعبد أن يحرص عليها، ولهذا جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا} فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يركض الإنسان إلى الصلاة، وأمر أن يأتي للصلاة وعليه السكينة؛ لأن العبادة ينبغي أن يقبل عليها العبد بهدوء وبسكينة وبطمأنينة نفس، أما الإنسان الذي يلهث من شدة الركض والعناء؛ فإنه لا يقبل على صلاته كما ينبغي. ولهذا جاء في البخاري، من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: {أنه جاء والرسول صلى الله عليه وسلم راكع، فأسرع وقد حفزه النفس، ثم ركع ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم سأل من الذي أتى وهو راكع؟ فقال: أنا يا رسول الله، وذكر له الحال. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد} لا تعد لمثل هذا وائت إلى الصلاة وعليك السكينة والوقار، فما أدركت فصل وما فاتك فاقض. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 7 السكينة التي تنزل حال نزول القرآن ومنها السكينة التي تنزل حال نزول القرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي تغشته السكينة، ولهذا روى أبو داود عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: {بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم وكنت إلى جنبه فغشيته السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، قال: فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كادت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ترض فخذي -كما في بعض الروايات- من شدة ثقلها} . {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغشاه من شدة الوحي شيء عظيم حتى يتفصد من جبهته عرقاً في اليوم الشاتي من ثقل الوحي عليه، فوقعت فخذه صلى الله عليه وسلم على فخذ زيد، قال: {فما رأيت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فأملى عليَّ وقال: اكتب. قال: فكتبت في كتف كان معه قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء:95] قال: وكان في المجلس عبد الله بن أم مكتوم، وكان رجلاً أعمى، فلما سمع فضل الجهاد والمجاهدين قام وقال: يا رسول الله! فكيف بمن لا يستطيع الجهاد كالأعمى والأعرج والمريض وغيرهم، قال: فنزلت السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته مرة أخرى، ووقعت فخذه على فخذي، فما وجدت شيئاً أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ثم سريَّ عنه فقال: اكتب. قال: فكتبت {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله} [النساء:95] فاستثنى الله تعالى أولي الضرر، كالأعمى والأعرج والمريض، كما قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:17] } . المهم: أن السكينة كانت تنزل برسول الله صلى الله عليه وسلم، عند نزول الْمَلَك عليه بالقرآن، وكذلك كانت السكينة تنزل عند قراءة القرآن، كما في الصحيحين، في قصة أُسيد بن حضير رضي الله عنه -وهو من كبار الأنصار- أنه كان ذات ليلة يصلي صلاة الليل في مربد، فقرأ سورة البقرة -وفي رواية في الصحيحين أنه قرأ سورة الكهف- وكانت الخيل مربوطة قريباً منه، فقرأ ورفع صوته بالقرآن -وكان حسناً جميل الصوت- فجالت الفرس وبدأت تذهب وتقبل وتدبر، حتى خشي أن تفك رباطها، وكان ولده يحيى إلى جنبه -وهو طفل صغير- فخشي عليه من الخيل، فسكت عن قراءة القرآن فسكنت الخيل، فعاود القراءة بعد ذلك، فجالت الفرس وبدأت تقبل وتدبر، حتى خشي على ولده فسكنت، فرفع صوته بالقرآن مرة أخرى، فتحركت الخيل وجالت حتى خشي على ولده فسكت، ثم صلى فرفع رأسه إلى السماء، فإذا مثل الظلة فوق رأسه، وإذا فيها أمثال المصابيح. فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: يا رسول الله! إنه حصل البارحة كذا وكذا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ يـ ابن حضير اقرأ، قال: فقرأت يا رسول الله، فجالت الخيل حتى خشيت على ولدي يحيى فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى قال: فقرأت يا رسول الله، حتى جالت الفرس، فخشيت على ولدي فسكت، قال: اقرأ أبا يحيى، قال: قرأت يا رسول الله حتى خشيت على ولدي فسكت، قال صلى الله عليه وسلم: تلك السكينة -وفي رواية: تلك الملائكة- تنزلت لقراءة القرآن ولو قرأت؛ لأصبحت ينظر الناس إليها، لا تتوارى عنهم} فنزلت السكينة، ونزلت الملائكة لقراءة أسيد بن حضير رضي الله عنه القرآن الكريم. 1- أسباب نزول الملائكة: وإنما كان نزول الملائكة لأسباب: السبب الأول: هو عَظَمَةُ ما قرأه أسيد سواء كان قد قرأ سورة البقرة أم سورة الكهف، فأما سورة البقرة فهي الزهراء التي لا تستطيعها البَطَلَة ولا يدخل الشيطان بيتاً قرأت فيه، وأما سورة الكهف فهي السورة العظيمة، التي بين النبي صلى الله عليه وسلم أن من قرأها في جمعة أضاءت له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. السبب الثاني: أن القارئ كان يفهم معنى ما يقرأ ويتأثر به ويخشع له، فكان هذا سبباً وجيهاً لنزول الملائكة ونزول السكينة. السبب الثالث: أنه كان يرفع صوته بقراءة القرآن، وكأنه -والله أعلم- كان حسن الصوت بالقرآن، كما كان أبو موسى واستمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة إلى قراءته، فأنصت وأُعجب بقراءته أيما إعجاب وقال له: {يا أبا موسى، كيف لو رأيتني وأنا أستمع إلى قراءتك البارحة؟! لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود -صوتك بالقرآن جميل جدُّ جميل- فقال: يا رسول الله، والله لو علمت أنك تسمعني؛ لحبَّرته لك تحبيراً} أي: لزينته وحسنته أكثر مما زينته. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 8 السكينة التي تنزل عليهم عند القيام بالعبودية ومن السكينة التي تنزل على أتباع الأنبياء، السكينة التي تنزل عليهم عند القيام بوظائف العبودية لله عز وجل، من ذكر وصلاة وصوم وحج وعبادة ونسك وغير ذلك. وهذه السكينة تكون في حال أداء العبادات كالصلاة والصيام والحج، كما أنها تكون بعد ذلك أثراً من آثار العبادة في قلب المتعبد وجوارحه، ولذلك كانت العبادات تورث العابد الذل والخشوع لله عز وجل، وغض الطرف، واجتماع القلب على الله تبارك وتعالى، ومحبته والإخبات بين يديه، فمثلاً: السكينة حال الذكر جاء فيها قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله تعالى فيمن عنده} . فإذا تجمع القوم على قراءة القرآن؛ نزلت السكينة من السماء على هؤلاء وغشيتهم رحمة الله عز وجل، ونزلت الملائكة فحفت بهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، تأنس بالقرآن وتستمع إليه من أفواه المؤمنين غضاً طرياً رطبا، كأنما أنزل الآن. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 9 السكينة التي تنزل عليهم في الجهاد في سبيل الله منها أنه أنزلها عليهم في أصعب المواطن وأحرجها، وذلك في يوم الحديبية حينما رَدَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن دخول مكة وأصابهم من الهم والقلق ما أصابهم، حتى إن عمر رضي الله عنه وهو القوي المؤمن الصابر الجلد أصابه ما أصابه، ففزع وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يا رسول الله! أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى قال: أوليسوا بمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال: أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني. فلم يصبر فجاء إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى قال: وأليسوا بالمشركين؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟! قال يا رجل: الزم غرزه؛ فإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن الله ناصره وحافظه} . فحينئذٍ {جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26] {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] فأنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين أتباع رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مثل هذا الموقف القلق العصيب، ولهذا كانت السكينة تنزل على المؤمنين في مواقف الجهاد والقتال كما روى أبو داود عن سمرة بن جندب رضي الله عنه وأرضاه قال: {سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلنا في الجهاد خيل الله} لماذا؟ لأنها الخيل التي أوقفت في القتال في سبيل الله، وحملت المجاهدين الصابرين الذابين عن حوزة الإسلام، وأعراض المؤمنين، وبلاد الإسلام، فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم خيل الله {سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلنا خيل الله، وكان يأمرنا إذا فزعنا بالجماعة والصبر والسكينة} فإذا أصابهم الفزع والقلق والخوف، أوصاهم صلى الله عليه وسلم بالسكينة، وبالهدوء، وبالاطمئنان، وبالذكر الذي يحفظهم به الله تعالى، وكذلك إذا قاتلوا كان يأمرهم بالسكينة. ولهذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا كانوا في حال المعارك وكانوا يرتجزون بالشعر، يسألون الله تعالى أن ينزل عليهم السكينة، فكان من حدائهم: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا فأنزلن سكينة علينا وثبت الأقدام إن لاقينا إن الذين قد بغوا علينا إذا أرادوا فتنة أبينا فيسألون الله تعالى أن ينزل السكينة في قلوبهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يردد وراءهم، يقول: {أبينا أبينا} والحديث في الصحيح. فهذه السكينة التي تنزل عند أتباع الأنبياء في حال القتال والشدة والخوف من عدوهم، وهي لا تعارض القوة في الحق، فإن عمر رضي الله عنه -كان مشهوراً بالقوة والشدة- في يوم الحديبية كان يلحق ببعض المؤمنين، كـ أبي جندل -الذي خرج من المشركين- ويعطيه السيف ويقول له: يا أبا جندل، إنما هؤلاء مشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب! ويعطيه السيف، يعني: خذ السيف واقتل والدك؛ فإنه من المشركين، فكان عمر قد غضب غضباً شديداً في ذات الله عز وجل في ذلك الموقف، ومع ذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يرون أن السكينة تنطق على لسان عمر. روى أحمد في مسنده، عن وهب السوائي قال: خطبنا علي رضي الله عنه، فقال لنا: [[من خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقيل له: أنت يا أمير المؤمنين قال: لا، خير هذه الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر رضي الله عنه، وإن كنا لنقول: إن السكينة تنطق على لسان عمر. ]] إذاً: عمر، القوي في الحق الذي يَفْرَق الشيطان من ظله، وإذا رآه قد سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر، كانت السكينة تنطق على لسانه رضي الله عنه. فليست السكينة ذلاً ولا تماوتاً ولا خضوعاً، وإنما السكينة طمأنينة في القلب، وإيمان بالرب جل وعلا، وثقة به وتوكل عليه مع القوة والجراءة في الحق. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 10 سكينة أتباع الأنبياء سكينة الأنبياء يأتي دونها سكينة أتباع الأنبياء، التي يجعلها الله تعالى في قلوب الصديقين والمهتدين والمؤمنين، فيورثهم بدلاً من خوفهم أمنا، وبدلاً من فقرهم غنى، وبدلاً من ذلهم قوة وعزة، فهذه السكينة -سكينة أتباع الرسل- ينزلها الله عليهم في المواقف العصيبة، والشدة، والخوف، فيحفظهم بها من الشك والرَّيب، ولهذا أنزلها الله تعالى على صحاب نبيه صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة: الجزء: 156 ¦ الصفحة: 11 سكينة الأنبياء منها: سكينة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام: 1- موسى عليه السلام: كالسكينة التي ألقاها الله على موسى عليه الصلاة والسلام في مواقف الشدّة، حينما لحق به فرعون وجنوده بغياً وعدواً، فقال بنو إسرائيل لموسى: يا موسى إنا لمدركون، البحر من أمامنا، والعدو من ورائنا، فإلى أين المفر؟ {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] وألقى الله تعالى في قلبه وفي قلوب المؤمنين معه السكينة، فازدادوا إيماناً مع إيمانهم. ووجدها موسى عليه الصلاة السلام حينما خاطبه الله عز وجل، فلما أتى إلى تلك الشجرة التي وجد عندها النار، وقد تاه في الصحراء البعيدة، الظلماء المتسعة الأرجاء قال له الله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه:11-16] فلما سمع كلام الرب عز وجل -وهو كلام عظيم، لا يقدر أحد قدره إلا الله عز وجل- ألقي الله في قلبه السكينة، مع أن الله إذا تكلم بالوحي أخذت السماوات رجفة لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، حتى إذا زال عن الملائكة ما وجدوا، وفُزِّعَ عن قلوبهم، قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق، فسمع موسى كلام الله عز وجل بطمأنينة قلب، وثبات جأشٍ، وسكينة نفس، ألقاها الله عليه في مثل هذا الموضع. كما ألقى الله عز وجل عليه السكينة حينما جاء إلى يوم الزينة وحشر السحرة، قال تعالى: {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} [طه:66-67] فألقى الله في قلبه السكينة حينئذٍ وقال له: {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:68-69] . 2- إبراهيم عليه السلام: سكينة الأنبياء وجدها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حينما وُضع في فوهة المنجنيق، وقُذف به إلى تلك النار التي جلسوا يضرمونها أياماً وليالي، فوجد في قلبه السكينة والطمأنينة، وألقى الله في نفسه الهدوء والراحة حتى اكتفى بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه حين ((قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) [آل عمران:173]] ] فما عادوا يهتمون بأحد يجمع، أو يكيد، أو يحشد أو يستعد لهم، أو يحاربهم، حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] . 3- محمد صلى الله عليه وسلم: هذه السكينة سكينة الأنبياء وجدها محمد صلى الله عليه وسلم حينما خرج من مكة مستخفياً فاراً بدينه إلى المدينة، ما معه إلا أبو بكر الصديق، فأووا إلى الغار هاربين مستخفين، فبحثت عنهم قريش حتى وصلوا إلى فم الغار، فقال أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {والله يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى نعله لرآنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما} وقال الله تعالى: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:40] فهذه السكينة التي وجدها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهما في الغار، وهما فريدان أعزلان مستخفيان، وجدا بردها في صدورهما، فرضيا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً، وآمنا أنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وأنه من حفظه الله فلا خوف عليه. ووجدها صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر وأحد والخندق، وفتح مكة وحنين، حينما كان الأعداء يكيدون له ويجمعون قوتهم، فكان صلى الله عليه وسلم يجد السكينة في قلبه، فيأتي إليه أصحابه وهم في حالة من القلق والفزع والخوف، فيطمئنهم ويصدرون عنه وهم في غاية السرور والرضا، فهذه سكينة الأنبياء. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 12 حاجتنا إلى السكينة إن العبد -أيها الإخوة- محتاج إلى السكينة في كل ظروفه وكل أحواله. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 13 الحاجة إلى السكينة لدفع الشك في الإيمان بالله فهو محتاج إلى السكينة في حال الوساوس التي تعترض الإيمان وتشككه بربه عز وجل، أو باليوم الآخر أو البعث والنشور، فإن هذه السكينة هي التي تحفظ قلب العبد بإذن الله تعالى من الزيغ والضلال، أما إذا ساق الشيطان العبد إلى هذه الوساوس والخواطر واستجره بها وأَجْلَب عليه بخيله ورَجِله، فإنه يُخشى على قلب العبد أن يزيغ ويفقد الإيمان بالله عز وجل، فيحتاج إلى السكينة في حال ورود الوساوس والخواطر، التي تداهم قلوب المؤمنين ولا يكاد يسلم منها أحد، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقد شكوا إليه ما يجدون: {أوجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة} وفي الرواية الأخرى قال عليه الصلاة والسلام: {ذاك محض الإيمان، ذاك صريح الإيمان} لأن الشيطان لا يوسوس في القلب الخرب، وإنما يوسوس في القلب العامر بالإيمان. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 14 الحاجة إلى السكينة لدفع الوساوس قلب العبد محتاج إلى السكينة من الوساوس التي تعترضه في الأعمال الصالحة، من صلاة وصيام وحج وعمرة وغير ذلك، فيحتاج إلى السكينة؛ ليدفع الوساوس التي تعترضه في الأعمال، لئلا تتحول هذه الوساوس إلى هموم وغموم وأشياء تقلقه وتفسد عليه عبادته. وكم من إنسان يشتكي من الوسوسة في الطهارة أو في النية، أو في الصلاة أو في الصيام -نية الصوم مثلاً- أو في خوف أن ينقطع صيامه، أو في أي عمل من الأعمال فضلاً عن الأعمال الأخرى، كأعمال البيع والشراء والنكاح والطلاق وغيرها، فكثيراً ما يشتكي الناس من ذلك؛ وما هذا إلا لفقد السكينة في قلوبهم. ومن يكون في قلبه سكينة، وفي روحه إيمان، وفي نفسه إشراق، وله ورد من الذكر وورد من القرآن، وإقبال على الله عز وجل، وسكينة في قلبه؛ فإن الله تعالى يحفظ قلبه بهذه السكينة من وساوس الشيطان التي تهجم على أعماله الصالحة فتفسدها. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 15 الحاجة إلى السكينة حال الخوف كما أن القلب والعبد محتاج إلى السكينة في حال الخوف؛ ليثبت قلبه ويسكن ويطمئن، فإن القلب قد يصيبه الخوف والهلع والفزع، فيفقد إيمانه بالله عز وجل وتوكله على الله، فيحتاج إلى السكينة حتى يزول هذا الخوف من قلبه، ولهذا كان شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله يقول: كان يصيبنا الخوف، فنأتي إلى الشيخ الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإنه لغير مكترث، وكأن الأمر لا يهمه في قليل ولا كثير، فلا نخرج من عنده إلا وقد امتلأت قلوبنا طمأنينة وسكينة وثقة بالله عز وجل. فيحتاج القلب إلى السكينة والطمأنينة في حال الخوف، سواء كان الخوف من غريب يطالبه بِدَين أم من عدو يخشى من بأسه وسطوته، أم من سلطان أو قريب أو بعيد، أو مرض أو غير ذلك، وما أكثر المخاوف التي تقلق قلوب الناس، بل إن الخوف هو من أعظم أسباب الأمراض النفسية التي أشرت إليها. الخوف من المرض هو مرض بحد ذاته، ولهذا يحكى في الأساطير: أن رجلاً مر من عنده الوباء، فقال: إلى أين أنت ذاهب أيها الوباء؟ فقال: ذاهب إلى قرية كذا وكذا. قال: ماذا أُمرت؟ قال: أُمرت أن أقتل منهم خمسة آلاف. فلما رجع مر من عند الرجل فقال له: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من قرية كذا وكذا، قال: كم قتلت منهم؟ قال: خمسة آلاف، قال: لا، بل قتلت منهم خمسين ألفاً قال: لا، أنا قتلت خمسة آلاف أما خمسة وأربعون فإنما قتلهم الخوف والوهم!! فكثير من الناس يعيشون من خوف المرض في مرض، ومن خوف الداء في أعظم داء، حتى إن هذا المرض لا يكاد يوجد له علاج إلا الإيمان بالله عز وجل والثقة به والتوكل عليه. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 16 حاجة المؤمن إلى السكينة حال الفرح كما أن العبد محتاج إلى السكينة في حال الفرح؛ لئلا يتجاوز هذا الفرح ما يحبه الله إلى ما لا يحبه الله، كما قال قوم قارون له {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص:76] فالله عز وجل لا يحب الفرح الذي ينقلب إلى فسق وإلى فرح وإلى فساد وإلى اعتداء، وإنما الفرح المطلوب هو الفرح المعتدل الذي يكون بسبب صحيح، فحتى في حال الفرح، يحتاج الإنسان إلى السكينة؛ لئلا يتحول فرحه إلى فرح يبغضه الله عز وجل ولا يحبه ولا يحب أهله. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 17 حاجة المؤمن إلى السكينة في حال الألم كما أن العبد محتاج إلى السكينة في حال الألم، فكم من إنسان يتلوى من شدة الألم والمرض الذي يعانيه، ومع ذلك يضع الله السكينة في قلبه؛ فيصبح وكأنه يتقلب على فرش الحرير والديباج، وفي أعظم نعمة؛ وذلك لأن الله تعالى متعه بنعمة الإيمان في قلبه، ونعمة السكينة في نفسه، ونعمة الثقة في ضميره؛ فأصبح مطمئناً إلى الله عز وجل واثقاً به راجياً ما عنده خائفاً من ذنبه، بخلاف أولئك الذين وهبهم الله تعالى وحباهم من العافية والصحة والمال والجاه والنفوذ والقوة، ومع هذا كله تجد في قلوبهم من القلق والفزع والهلع ما ذكرت لكم. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 18 حاجة المؤمن إلى السكينة عند أداء العبادة كما أن العبد محتاج إلى السكينة عند أدائه للعبادة؛ لئلا تتحول عبادته إلى نوع من الاغترار والإعجاب بما وهبه الله عز وجل، فكم من إنسان تحولت عبادته إلى ذنب يعاقبه الله تعالى عليه في الدار الآخرة، وذلك لأنه أدل على الله تعالى بعمله، ورأى أنه قد عمل شيئاً يستحق به الجنة، ويستحق به رحمة الله عز وجل، فعاقبه الله عز وجل على ذلك. وليس هناك باب يدخل منه العبد على الرب، أعظم من باب الذل والانكسار والاعتراف بالذنب، ولا باب يؤدي بالعبد إلى النار أعظم من باب العجب والغرور والإدلال بالعمل. وفي الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل، كان عابداً، وكان يأتي إلى رجل مسرف على نفسه بالذنوب والمعاصي، فيقول له: يا فلان، اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، فيقول له: خلّ بيني وبين ربي -أي: دعني وربي- فغضب منه العابد وقال: والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليَّ أن لا أغفر له، فإني قد غفرت له وأحبطت عملك} . فيا أيها العبد: إذا كان لسانك الذي تذكر به ربك، وجسدك الذي تستخدمه في طاعته، وعقلك الذي تفكر به، ومالك الذي تنفق منه، وكل ما بيدك، فإنما هو فضل امتنان من رب العالمين، فكيف تدل على الله تعالى بيسير شيء مما أعطاك الله؟! وكيف تدل على ربك، وإنما العبادة التي وفقك الله إليها هي نعمة منه عليك تستحق منك الشكر؟! فإن شكرتها بعبادة أخرى، كانت هذه العبادة الأخرى نعمة جديدة تستحق منك له الشكر وهكذا، فلا يزال العبد ينتقل من نعمة إلى نعمة، ومن شكر إلى شكر، ومن عبادة إلى عبادة. اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين، اللهم أنزل السكينة في قلوبنا، اللهم زدنا إيماناً على إيماننا، ووفقنا إلى ما تحب وترضى، واهدنا سواء السبيل، واهدنا ولا تضلنا، اللهم أصلح سرنا وعلانيتنا وظاهرنا وباطننا، وأصلح ذرياتنا ونياتنا وباطننا، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، اللهم تقبل منا الصيام والقيام، اللهم تقبل منا القليل واغفر لنا الذنب الكثير يا حي يا قيوم يا قدير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 156 ¦ الصفحة: 20 المقصود بانصراف الإمام الوارد في الحديث السؤال هل ننتظر الإمام حتى يقوم من مصلاه حتى يكتب لنا قيام ليلة، أو نخرج قبله؟ الجواب الأولى أن تنتظر بعده وتستمع إلى الذكر والفائدة، لكن المقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم {من قام مع الإمام حتى ينصرف كتبت له قيام ليلة} المقصود: حتى ينصرف من صلاته، أي: حتى ينتهي من صلاته. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 21 حكم بيع الدخان السؤال هل يجوز بيع الدخان في المحطات؟ الجواب لا شك أن هذا لا يجوز، فإن الدخان محرم تعاطيه، وبيعه من التعاون على الإثم والعدوان، ولا يجوز لأصحاب المحلات بيع الدخان، سواء أصحاب المحطات أم غيرهم. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 22 أخذ إجازة اضطرارية لأداء العمرة السؤال هل يجوز أن آخذ إجازة خمسة أيام اضطرارية؛ لأداء العمرة؟ الجواب لا يجوز لأحد أن يأخذ إجازة اضطرارية لأداء العمرة، وذلك لأن الإجازة الاضطرارية إنما تكون للضرورة، مثل إنسان عنده مريض أو ميت، أو حالة تستدعي أن يأخذ إجازة ولا بد له من ذلك والضرورة معروفه، أما أخذ إجازة للعمرة أو لسفر لا يلزم، فإنه لا يجوز، وكذلك السفر لإعداد العدة، من يسافر إلى أفغانستان مثلاً من أجل التدرب لإعداد العدة للجهاد، والتدرب على مقاومة أعداء الله تعالى، فإن هذا يمكن أن يأخذه الإنسان بغير إجازة اضطرارية، كأن يذهب إلى هناك في أوقات الإجازات العادية التي يتمتع بها الموظف، أو الإجازات العامة التي تكون للجميع. هذا وأسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحب ويرضى، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 23 إسبال الثوب تحت الكعبين السؤال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما أسفل من الكعبين من الإزار، ففي النار} المشاهد على كثير من الناس، أنهم يصلون التراويح وهم مسبلو الأُزُر أرجو أن تقدم لهم النصيحة؟ الجواب لقد قدمت يا أخي الكريم فما بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قول. دعوا كل قول عند قول محمد {ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار} فهذا دليل على تحريم الإسبال إسبال الإزار أو السراويل، سواء كان هذا لخيلاء أم غيره، فعلى الإخوة أن يتقوا الله عز وجل ويرفعوا أزُرهم، وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم، رجلاً يمشي مسبلاً إزاره فقال له: {يا عمرو، إزارك فالتفت وقال: يا رسول الله، إني رجل حمش الساقين -أي في سيقانه تشويه- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو إن الله أحسن كل شيء خلقه} . الجزء: 156 ¦ الصفحة: 24 نصيحة للكويتيين السؤال ما نصيحتك لنا نحن معشر الكويتيين بعد العودة -إن شاء الله- إلى الكويت من رجال ونساء؟ الجواب النصيحة بعد العودة هي النصيحة قبل الخروج من الكويت، وهي ضرورة مراجعة المسيرة والعودة إلى الله تعالى من جميع الذنوب والمعاصي، والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كل بحسب ما يستطيع، وأن تجمعوا كلمتكم وتوحدوا صفكم، وتكونوا يداً واحدة على من ناوأكم وخالف أمركم، من دعاة الضلالة والعلمانية والشيوعية وغيرها. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 25 حقيقة المعارضين العراقيين السؤال يقول: ما رأيك في الأكراد المعارضين في العراق، هل هم من أهل السنة والجماعة، خاصة وقد كثر الكلام عن قادتهم؟ الجواب بالنسبة للأكراد المعارضين في العراق، والموجودين في العراق، وغيرها، فإن منهم من أهل السنة والجماعة ومنهم غير ذلك، وكثيراً ما تحرص وسائل الإعلام الغربية على أن تبرز أسماء بعض القادة من الذين لا يعتبرون حقيقة من أهل السنة والجماعة، أما المعارضون من أصحاب الاتجاهات الإسلامية والمشايخ والعلماء فكثيراً ما يطوي الإعلام خبرهم. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 26 أفضل وقت للورد والدعاء المأثور السؤال ما هو أفضل وقت للورد والدعاء المأثور في ذلك؟ الجواب الورد له وقتان في الصباح والمساء، في الغدو والعشي، فوقته في الصباح من بعد طلوع الفجر إلى طلوع الشمس وما بعد ذلك أيضاً، وفي المساء بعد الزوال إلى غروب الشمس وما بعد ذلك، وقد اختلف العلماء في تحديد وقت لهذا، ولعل الإنسان لو قرأ الورد بعد صلاة الفجر وبعد صلاة المغرب لكان ذلك حسناً، أما الدعاء المأثور في ذلك فهو يطول لكن بإمكان الأخ القارئ أو السائل مراجعة صحيح الكلم الطيب أو الكلم الطيب نفسه لشيخ الإسلام ابن تيمية، وصحيح الكلم الطيب للشيخ الألباني، أو غيره من أوراد الصباح والمساء. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 27 دعاء ختم القرآن السؤال ما حكم دعاء الختمة التي يفعلها الأئمة في صلاة التراويح؟ الجواب سبق أن بينت باختصار ما يتعلق بالختمة تفصيلاً، وخلاصة الكلام المتعلق بذلك: أن الختمة إن قرأها الإمام في صلاة ثنائية من صلاة التراويح، ثم أوتر بعد ذلك، فإن هذا يعتبر لا أصل له، وينبغي أن لا يفعله الأئمة، أما لو جعل الختمة في الوتر قبل الركوع أو بعده، وأطال في الدعاء، وأتى ببعض الأدعية المناسبة لختم القرآن، مثل اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، اللهم اجعل القرآن لنا شفيعاً، إلى غير ذلك، فإنَّ هذا لا حرج فيه. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 28 خروج المذي في نهار رمضان السؤال ما حكم المذي في نهار رمضان؟ الجواب اختلف العلماء في المذي في نهار رمضان، فمنهم من قال يفطر به، ومنهم من قال لا يفطر، والصحيح أنه لا يفطر بذلك، لكن على العبد أن يتجنب أسبابه لأنه يخشى أن يؤدي إلى الإنزال. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 29 حكم الذهاب إلى من يستخدمون الجن في معالجة المرضى السؤال بمناسبة ذكرك للرقية الشرعية؛ فهناك سؤال حيرني وهو: أن رجلاً يرقي المرضى، ولكنه يسأل المريض عن اسمه واسم أبيه، فيعد المريض بعد يوم أو يومين بإخباره عن مرضه، فلما سأله الناس هل أنت مشعوذ؟ قال: لا، وإنما أنا أسأل بعض الجن الذين أسلموا وخرجوا من بعض المرضى، فهل يعتبر هذا من الشعوذة؟ وهل يجوز هذا العمل، وما حكم الذهاب إليه؟ الجواب في الواقع أن كثيراً ممن يرتادهم الناس وينتابونهم للقراءة والرقية يحصل منهم تصرفات شائنة لا تليق بمثلهم، فمنهم من يخلو بالمريضة، ومنهم من يمس بعض أعضائها، ومنهم من يتكلم معها بكلام لا يليق، ومنهم من يدعي أن المريض فيه مجموعة من الجن يتكلمون على لسانه في وقت واحد، ومنهم من يزعم أنه يسأل الجن ويخبرونه عن أخبار المريض إلى غير ذلك، وهذا كله مما يورث كثيراً من الشكوك والتساؤلات، حول هؤلاء الذين يرتادهم الناس، وأنا أحذر المسلمين منهم، وأدعو إلى تجنبهم وعدم الذهاب إليهم، وألا يذهب الإنسان إلا لمن عنده معرفة وعلم في الشرع، ومعروف بالتقوى والورع والبعد عما يثير الشكوك والشبهات حوله. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 30 استخدام البخاخ في نهار رمضان السؤال هناك امرأة يصعب عليها أحياناً الصوم؛ لما تجده من الحساسية في صدرها، فتضطر إلى استخدام بخاخ ليوسع مجال التنفس عن طريق الفم؟ الجواب إذا كان هذا البخاخ الذي تستخدمه المريضة للربو، هو مجرد هواء أو غاز فقط، فإنه قد أفتى كثير من علمائنا المعاصرين أنه لا تفطر به، فإذا احتاجت إلى استخدامه فإنها تستخدمه، أما إذا كان في هذا البخاخ شيء من المواد التي هي غير الهواء وغير الغاز الذي يوجد في بعض البخاخات فإنها تفطر به، فإذا احتاجت إلى استخدامه أفطرت وتقضي يوماً مكانه. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 31 حكم المريض الذي لا يستطيع الصوم السؤال أجريت لي عملية في استبدال شرايين في القلب، كما أن عندي حالة ارتفاع السكر والضغط، وقد اعترض على صيامي ثلاثة أطباء أخصائيين منهم واحد مسلم، وأخبرتهم أني لا أحس بشيء، فأفادوا أن هناك خلفيات ومضاعفات تحدث، فهل يجوز لي الإفطار؟ وهل عليَّ قضاء أو إطعام مساكين؟ أرشدونا وجزاكم الله خيراً؟ الجواب في الواقع إذا تبين لك من خلال نصيحة الأطباء الموثوقين، أن الصوم يضر بصحتك ولو مستقبلاً، لكن لا تجد مضاعفاتها الآن، إنما يمكن أن يكون لها آثار مستقبلية فإن عليك الإفطار. أما بالنسبة للقضاء أو الإطعام، فإن كنت تستطيع أن تقضي في وقت آخر، كوقت البرد مثلاً أو بعد العملية بفترة، فإن عليك الانتظار حتى يأتي الوقت والقضاء. أما إن قالوا لك: إن هذه الحالة التي معك سوف تكون مستمرة بشكل دائم؛ فإن عليك الإطعام. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 32 حكم من أفطر قبل الغروب دون أن يعلم السؤال في اليوم الثاني من شهر رمضان المبارك قدمنا إلى هذه المدينة من حائل، وأذن المؤذن في حي من أحياء المدينة لصلاة المغرب عند الساعة السادسة، وأفطر الكثير من أهل الحي، وأفطرنا بالطبع معهم دون أن ننظر للساعة؛ لأننا لا نعرف توقيت الأذان لبريدة، علماً أن الجو غائم وتحجب الغيوم رؤية الشمس فما حكم صومنا لذلك اليوم، بعد أن عرفنا أن غياب الشمس عند الساعة السادسة والربع؟ الجواب إذا عرفتم أنكم أفطرتم قبل الغروب وكان فطركم جهلاً بسبب هذا المؤذن الذي غركم؛ فإنه لا شيء عليكم إن شاء الله تعالى، ومن أهل العلم من يقول: عليكم القضاء، فالمسألة فيها خلاف، لكن الأظهر أنه لا قضاء -إن شاء الله تعالى- أما إن كنتم علمتم قبل الغروب، ولم تمسكوا فإن عليكم القضاء بلا شك. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 33 الفرق بين الزهد والورع السؤال ما الفرق بين الزهد والورع وكيف يكون الإنسان زاهداً في هذه الدنيا؟ أرجو بأن تدعو لي أن يرزقني الله زوجة من الحلال، وأن يبعدني من الحرام؟ الجواب نسأل الله أن يرزقك الزوجة الصالحة، التي تعينك على أمر دينك ودنياك، وأن يجمع بينك وبينها في خير، ويرزقكم الذرية الصالحة، وكذلك سائر الحاضرين من العزاب خاصة، ثم المتزوجين عامة. أما الفرق بين الزهد والورع: فإن الزهد هو الإعراض عن فضول المباح التي لا تنفع الإنسان ولا تقربه إلى الدار الآخرة، كالزهد فيما لا يحتاجه الإنسان من الملابس والمراكب والسكن وغيرها. أما الورع فهو إعراض الإنسان عما قد يضره في الدار الآخرة، مثل الأشياء التي يخشى أن يكون فيها ضرر على الإنسان في دنياه، أو يكون حكمها غير ظاهر يحتمل أن تكون مشتبهة أو مكروهة أو محرمة. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 34 حكم قراءة المأموم مع الإمام في التراويح السؤال هل يصح أن يقرأ الإنسان عن ظهر قلب مع الإمام في التراويح، من أجل مراجعة الحفظ؟ الجواب كلا، لا ينبغي للإنسان أن يقرأ مع قراءة الإمام، قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204] . الجزء: 156 ¦ الصفحة: 35 توزيع الأشرطة النافعة السؤال ما رأيك لو أن بعض الأشخاص قاموا بنقل الأشرطة معهم عند قضاء العمرة؛ لتوزيعها على الحجاج والعمار، حتى ترسخ العقيدة عندهم؛ لما يرى من بعض البدع والمنكرات، أرجو تقديم النصيحة لهؤلاء الشباب وإخبارهم بأشرطة تصلح لهذا الغرض؟ الجواب أما فكرة نقل الأشرطة وتوزيع الأشرطة الطيبة المفيدة في كل مكان، فهو من أنفع الأعمال التي يستفيد منها الخاص والعام والمتعلم والجاهل، أما الأشرطة التي تنفع لهذا العرض، فهي كثيرة وربما لا يحضرني الآن قائمة مناسبة بأسماء هذه الأشرطة، لكن يمكن تحديدها عن طريق بعض الإخوة. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 36 الأكل من المكسب الحرام السؤال هل يجوز لأصحاب محلات التسجيل الغنائية، ومحلات الفيديو والتلفاز، أن يفطروا أولادهم في رمضان من مكسب هذه المحلات؟ الجواب إذا عرف الإنسان أن الطعام الذي يأكله -سواء كان إفطاراً أم غير إفطار- قد جاء من مال حرام، فإنه لا يجوز له أن يأكله حينئذ، أما إن كان مكسب الرجل مختلطاً فيه الحلال والحرام، فإنه يجوز للإنسان أن يأكل منه. الجزء: 156 ¦ الصفحة: 37 معركة الإسلام والعلمانية فيه بيانٌ لحتمية الصراع بين الإسلام والعلمانية، وبيان أنها تناقض الإسلام جملةً وتفصيلاً، كما أنه يحتوي على ذكر أوجه الخلاف بين العلمانية والإسلام، ويبين كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين، وفيه تعريفٌ بوسائل العلمانية وأهدافها. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 1 جئت صحبك يا أغلى الرجال تقديم الشيخ/ عائض القرني الحمد لله رب العالمين ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته وأسعد الله مساءكم بالمسرات وقد فعل، يوم زارنا شيخ من شيوخ الصحوة، وعالم من علماء البلاد، فمرحباً وأهلاً وسهلا، مرحباً باسم رئيس محاكم منطقة عسير وباسم نائبه، مرحباً باسم العلماء والدعاة، مرحباً باسم القبائل التي أعلنت توحيدها وصمودها في وجه الزندقة، مرحباً باسم الجبال الشامخة شموخ أبنائها في هممهم، والراسية رسوَّ مبادئهم الخالدة، مرحباً يا أبا معاذ، ومرحباً يا مشايخ الرياض، ومرحباً يا مشايخ القصيم، حياك الله يا شيخ سلمان بن فهد العودة، الذي طالما سمعناك وأحببناك وعرفناك، وإذا لم يعبر شعري هذه الليلة مرحباً بشيخنا وأستاذنا، فمتى أدخره؟! أتاني رسولك مستعجلاً فلباه شعري الذي أذخرُ ولو كان يوم وغىً قاتم للباه سيفي والأشقرُ أصرِّف نفسي كما أشتهي وأملكها والقنا أحمرُ هنا قصيدة بعنوان (وجئت صحبك يا أغلى الرجال) : هذا اللقاء الذي قد كنت أنتظرُ وهذه ليلة في متنها عبر وهذه أعين الأحباب قد نظرت إليك يا من به يستمتع النظر وجئت صحبك يا أغلى الرجال فيا أبا معاذ رعاك السمع والبصر نظمت فيك مُنَاي اليوم أجمعها يزهو مع ذكرك الياقوت والدرر بك الجنوب تباهت في مطارفها والأقحوان على الأغصان يفتخر والجيل حياك يا سلمان منتشياً هم الشباب إلى رؤياك قد عبروا يا أقرب الناس من قلبي مودته مكتوبة في دمي تجري وتنتشر محبة رسمت والله سطرها في موكب أهله سلمان أو عمر أكارم غرباء أنت تعرفهم وأنت في ركبهم يا صاحبي قمر هادي الحوار به الأرواح قد علقت إذ كان في مقلتيه السحر والحور أوردتها يا أبا العلياء هادئة لكنها ثَمَّ لا تبقي ولا تذر صَلَّت على شفتيك الضاد وارتسمت على محياك آيُ الذكر والسور ورافقتك براهين مسددة أمضى من السيف في هام الأُلى كفروا ماذا عن القوم يا سلمان ما فعلوا أعني القصيم لهم في مجدنا خبر أعني الأباة حماة الدين هل بقيت أرواحهم في سبيل الله تبتدر أعني الأشاوس كل الناس تعرفهم تروي مكارمهم قحطان أو مُضَرُ هم القوادم والأذناب غيرهم هم الأبوة والتاريخ والظفر يا شيخ هذي رجال الأزد قد سعدت بكم وفي حبكم يا شيخ قد حضروا الأوس والخزرج الأبطال سالفهم وهؤلاء بنوهم للسلام سروا يا شيخ بشر عيون المجد إن نظرت بفتية في علاها ينسج الخطر قامت على كعبة التوحيد قبلتها وفي فم العلمنات الطين والحجر يا شيخ أول ما نهدي جماجمنا لا ذاقت العيش والإسلام يعتصر قل للفروخ دعوا الميدان ويحكُمُ من قبل أن تكسر العيدان والعشر يوم يعز به الرحمن ملته ويدحر الناكث المأفون والأشِرُ هناك يا شيخ طعم الموت غايتنا وما لنا عن حياض الموت مقتصر أولى لمن حارب الإسلام إن عقلوا من قبل أن تلتقي في رأسه السَّمُرُ أيها الأحباب! أنا أعرف أن آذانكم تستأذن لتسمع من فضيلة الشيخ، فليتفضل على بركات الله وباسم الله، ليتبوأ مكانه الطبيعي، وليتحدث للقلوب، فأهلاً وسهلاً، واسمعوا لـ أبي معاذ. يقول الشيخ سلمان: الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله، بعثه الله تعالى على حين فترةٍ من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وجمع به من الفرقة، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، ما تعاقب الليل والنهار. مشايخي وأساتذتي الكرام! إخواني! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. إن المشاعر لتتداخل في نفسي وأنا أقف بين يديكم الآن، فما أدري عم أتحدث، هل أتحدث عن هذه المشاعر الفياضة التي غمرتمونا بها وهذا الكرم الكبير، وهذه الابتسامات الصادقة، وهذه البشاشة المعبرة، أم أتحدث عن هذا الحرص على المشاركة في مثل هذا المجلس الطيب المبارك، خاصة من آبائنا المشايخ والقضاة، الذين يعتبر وجودهم بين أظهرنا الآن إعلاناً عملياً على أن هذه الصحوة الإسلامية صحوة راشدة مباركة موفقة، إن صحوة يكون العلماء في مقدمتها وفي طليعة ركبها لصحوة مضمونة معصومة بإذن الله عز وجل أن تطيش بها السهام أو تتفرق بها السبل. إخوتي الكرام! وأدع هذا الحديث جانباً، فإنه حديث يطول، وهو حديث ذو شجون، وأنتم أرباب صناعة الكلمة والحرف والشعر، ولذلك فإنني لا أستطيع أن أتقدم بين أيديكم بأكثر من أن أدعو لكم دعوة صادقة حاضرة، فأقول لكم: جزاكم الله خيراً، ثم دعوة أدخرها بظهر الغيب. أما بعد: فإن موضوع حديثنا هذه الليلة معركة الإسلام والعلمانية. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 2 معركة الإسلام مع العلمانية هي معركة مع الجاهلية إن المعركة بين الإسلام والعلمانية هي نفسها المعركة بين الإسلام والجاهلية، فإن الجاهلية تتزين بأزياء شتى، وتتصور بصور مختلفة، تتنوع في لافتاتها وأسمائها وعناوينها ورموزها، ولكنها تتفق في حقيقتها، وحقيقتها الشرك بالله عز وجل، فمعركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الشرك والمشركين، وأعداء الأنبياء والمرسلين، منذ بعث الله تعالى أول نبي على ظهر الأرض وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. إنها معركة الإسلام مع الجاهلية، تلك الجاهلية التي إن قاتلت فإنما تقاتل بعصبيتها وحميتها الجاهلية، لا تقاتل من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح:26] فهي تدعو إلى حمية الجاهلية، وترفع دعوى الجاهلية، التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: {أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة} . الجزء: 157 ¦ الصفحة: 3 العلمانية تحلل الأحداث هذه الجاهلية التي إن حللت الأحداث والأخبار فإنما تحللها وفق ظن الجاهلية {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] كما أخبر الله تعالى عنهم: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52] ، فظنوا أن الإسلام لا تقوم له قائمة، وظنوا أن شوكة الإسلام سوف تكسر، وأن راية التوحيد سوف تنكس، وأن كلمة التوحيد لن ترفع من المنابر والمنائر والمآذن، فإذا بالله عز وجل يخيب ظنهم، فكلما تقدم الزمن ازدادت رقعة الإسلام اتساعاً، ودخل فيه قوم آخرون، وارتفعت أصوات المؤذنين حتى في قلب أوروبا وأمريكا، تنادي في اليوم والليلة خمس مرات: الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله! ظنت أن لا مستقبل للإسلام، وتجاهلت هذا المد الإسلامي الذي يتسع، حتى إننا نجد اليوم تلك الجاهلية المعاصرة تتكلم عن كل القوى وكل الاحتمالات، ولكنها لا تضرب للإسلام حساباً، تحاول أن ترفع شرذمة قليلة من الذين خرجوا عن هذه الأمة، وانسلخوا عنها، وخالفوا حقيقتها وروحها، وخرجوا على دينها وأخلاقها، فتحاول أن تجعلهم في طليعة الركب، وأن تجعلهم أنموذجاً للجيل الجديد المثقف -كما تعبر- وتتجاهل هذه الجموع الهائلة الهادرة المائجة، التي تعلن صبحاً ومساءً أنها لا ترضى إلا الإسلام، ولا تعيش إلا للإسلام وبالإسلام. إذاً: معركة الإسلام مع العلمانية هي معركة الإسلام مع الجاهلية بكافة صورها وألوانها. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 4 كل راية غير راية الإسلام راية جاهلية إن كل راية ترفع غير راية الإسلام هي راية جاهلية، فراية الوطنية التي تقول: تموتون في سبيل التراب وفي سبيل الوطن فقط، هذه ليست راية إسلامية، لأنها ليست مما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم، حين قال كما في حديث أبي موسى: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ذلك أن الوطن أصبح في نفوس كثير من علمانيي هذا الزمان وثناً يعبد، حتى قال قائلهم: وطني لو صوروه لي وثنا لهممت ألثم ذلك الوثنا وقال آخر: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أُدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا فأي راية ترفع غير راية الإسلام فهي راية جاهلية، فراية الإقليمية، وراية العصبية، وراية القومية، التي تؤمن بالعروبة ديناً ماله ثاني، كلها رايات مرغت بالتراب منذ أن بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فجعله فرقاً بين الناس، والتقى على دعوته الأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والقريب والبعيد، والوضيع والشريف، كلهم يقولون: لا إله إلا الله، فيصطفون إخوة لا يفرق بينهم مفرق، على حين نصب الرسول صلى الله عليه وسلم العداوة الصراح البواح لـ أبي جهل، وأبي لهب، وأمثالهما من صناديد قريش وزعمائها، على أنهم في الذروة من النسب والمكانة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 5 العلمانية تريد حكم الجاهلية هذه العلمانية التي إن حكمت فبحكم الجاهلية قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] فهي تعتقد أن أمر الناس لا يجتمع ولا يصلح وينضبط إلا بحكم الجاهلية المستورد من شرق البلاد أو غربها، حيث أصبح دعاة العلمانية متسولين على موائد الشرق والغرب، لا يحسنون إلا التقليد، شأن إخوانهم من القرود، فينقلون لهذه الأمة تعاسة الغربيين أو الشرقيين، بحجة التقدم والتطور والمدنية، هذه الجاهلية التي إن دعت إلى التحديث والتطوير، فإنما تدعو إلى التغريب والتخريب والانحلال، باسم حرية الفرد، أو باسم حرية المرأة التي لو أنصفوا لسموها فوضى. حرية زعموها واسمها لغة فوضى وسيان جاءوا الحق أم جاروا إن هذه الحرية لو سموا الأشياء بأسمائها الحقيقية لسموها تبرج الجاهلية الأولى {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] ولو أنصفوا لسموها نعرة الجاهلية التي لم يكن يحكمها دين ولا خلق ولا نصح. هذه الجاهلية التي إن درست الاقتصاد درسته على ضوء أنظمة ومفاهيم الجاهلية الأولى، التي أبطلها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته الشهيرة في حجة الوداع، حين كان يستمع إليه ما يربو على مائة وعشرة آلاف من المؤمنين، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: {إن ربا الجاهلية كله موضوع، وأول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب} فأصبحت هذه الجاهلية أو العلمانية تحيي ما اندرس من أمر الجاهلية الأولى، وتدرس شئون الاقتصاد على ضوء أنظمة الجاهلية العربية الأولى، وعلى ضوء أنظمة الجاهلية العالمية المعاصرة، فتجعل الربا أساساً لا بد منه في الاقتصاد، وكأن الاقتصاد لا يقوم إلا على الربا! الجزء: 157 ¦ الصفحة: 6 الخلاف مع العلمانية خلافٌ جوهري إخوتي الكرام: الخلاف بين الإسلام وبين العلمانية خلاف جوهري، لأنه خلاف بين التوحيد والشرك كما ذكرت لكم، ولذلك فإن الكلمة التي رددها المشركون والنصارى وغيرهم حين كانوا يقولون: (ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) هي التي فعلها المشركون الذين بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم حين كانوا يقولون كما أخبر الله تعالى عنهم: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} [الأنعام:136] وقال: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} [الزخرف:15] وقال: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ} [النحل:62] . إن هذه الجاهلية المعاصرة هي نفسها الجاهلية الأولى، فهي تنادي أن يكون المسجد لله، والمحراب لله، وما عدا ذلك يكون لقيصر، تنادي أن تكون المدرسة لقيصر، وأن يكون المنبر الإعلامي لقيصر، وأن يكون المصرف لقيصر، وأن يكون السوق لقيصر، وأن تكون الراية، وكل شيء لغير الله عز وجل، فهي تنادي بحصر الإسلام في زاوية، أو مسجد، أو معبد، أما ما سوى ذلك، فهي تطالب أن يحكم ويدار بغير شريعة الله عز وجل وهذا هو الشرك بعينه. إذاً: فالتناقض بين هذا المعنى وبين المعنى الحقيقي للإسلام، لكلمة التوحيد التي نرددها صباح مساء، هو تناقض صارخ وصريح. كيف يمكن أن نوفق بين هذا المعنى الجاهلي الصريح، وبين قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] كيف نوفق بين هذا وهذا؟! كيف نوفق بينها وبين كلمة لا إله إلا الله، التي تعني أن العبادة بجميع صورها وأشكالها وأنواعها لا تصرف إلا لله عز وجل، وأن كل عبادة تصرف لغيره هي عبادة باطلة، مردودة على صاحبها!! وهي شرك بالله عز وجل. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 7 لا للعلمانية في بلاد الإسلام أيها الإخوة: لا مكان للعلمانية في بلاد الإسلام، ولا مكان للعلمانية في هذه البلاد خاصة، وذلك لسببين: أولهما: أن الإسلام دين شرعه الله عز وجل، وأنزله مهيمناً على الحياة كلها، مهيمناً على الأديان السابقة، ومهيمناً على جميع شئون الحياة، فإن المسلم العادي البسيط المغفل يدرك أن الإسلام فيه تفصيل لكل شيء، وبيان لكل شيء، وأنه يستحيل في حس المسلم أن الدين الذي نظم العلاقة بين الرجل وزوجته، والذي نظم للإنسان كيف ينام، ونظم للإنسان كيف يكون في حال قضاء الحاجة، لا يمكن أن يترك إدارة الأمور الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وغيرها لغير الله عز وجل {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] فهذه القضية غير قابلة للمناقشة، أن الدين الخاتم هو الدين المهيمن على الأديان كلها وعلى الحياة كلها، ومن ثم ففي بلاد الإسلام وبين المسلمين لا مكان للعلمانية. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 8 لم يعرف الإسلام تعاسة أوروبا وثمة أمر آخر ناتج عن الأمر الأول وتبع له، وهو أن التاريخ الإسلامي كله لم يعرف تلك التعاسة التي عاشتها أوروبا، لقد عاشت أوروبا بسبب دينها المحرف المبدل، انفصاماً رهيباً بين العلم والدين، فكان الدين يحارب العلم، حتى إن كثيراً من علماء أوروبا قد أحرقوا بالأفران، وسملت أعينهم، وعلقوا على أعواد المشانق، بحجة أنهم خالفوا كلمة الله، وكذلك لم يعرف التاريخ الإسلامي مثل هذا، فإن الإسلام فتح للعلم أبوابه وذراعيه، حتى وجدنا العلماء يترددون على بلاط الخلفاء، ويحضرون مجالسهم، ويحظون بهباتهم وأعطياتهم. لم يجد المسلمون في تاريخهم الطويل اضطهاداً للعلم ولا تضييقاً عليه بأي حال من الأحوال، لم يعرف المسلمون محاكم التفتيش التي عاشتها أوروبا، ولم يعرف المسلمون طغيان الكنيسة التي كانت تأخذ الأموال الهائلة الطائلة من الناس باسم الدين، ولم يعرفوا استبدادها وطغيانها المادي ولا السياسي ولا غيره، فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ التلاحم بين الدين الذي كان أول ما نزل منه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] وبين العلم الذي هو ثمرة من ثمرات التمسك بهذا الدين، واستجابة لأمر الله عز وجل بالعلم والتعلم والقراءة، لذلك فإن الذين يريدون نقل العلمانية إلى بلاد المسلمين يتجاهلون هذا الفرق الكبير بين تاريخ الإسلام ودين الإسلام وبين تاريخ أوروبا ودين أوروبا. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 9 العلمانية هي الشرك بالله إذاً: العلمانية الحقيقية هي الشرك بالله تعالى، الشرك الذي يريد أن يكون المسجد لله، والمسجد للعبادة فقط، للصلاة فقط، أما ما سوى ذلك فهي تنادي أن يكون لغير الله، أن يكون للشيطان، أو كما تقول الكلمة النصرانية: أن يكون لقيصر. كيف يستطيع مسلم -يتردد على المسجد ويصلي في المسجد- أن يفهم ذلك؟! والمسجد في حسه ليس كنيسة تقع فيها بعض الطقوس ثم يخرج منها، بل المسجد في حسه منبر إعلامي، يجلس المسلمون في كل جمعة، وفي أوقات أخرى، ليستمعوا من خطيب المسجد، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خلفاؤه من بعده يخطبون على هذا المنبر، فيستمع الناس إلى توجيهات الإسلام وحكمه، وما يتعلق به في جميع شئون الحياة. كيف يستطيع المسلم الذي يتردد على المسجد أن يقبل بالعلمانية وهو يعلم أن المسجد مؤسسة تعليمية تلقى فيها الدروس، ويسمع فيها كلام الله عز وجل وتلقى فيها السنة، ويتحدث فيها عن الحلال والحرام؟! كيف يستطيع أن يفهم ذلك وهو يدرك أن المسجد مجلس للشورى يلتقي فيه المسلمون، كما كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وإلى يوم الناس هذا، فيتبادلون أطراف الحديث، ويتشاورون في كل ما يهمهم من أمر دينهم ودنياهم؟! كيف يستطيع أن يفهم ذلك والمسجد في حسه ليس معبداً للطقوس فقط، بل هو مؤسسة أمنية، ومؤسسة اجتماعية، ومؤسسة صحية، ومنطلق للحياة كلها؟! الجزء: 157 ¦ الصفحة: 10 كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين سؤال يطرح نفسه: كيف تسللت العلمانية إلى بلاد المسلمين؟ وأتبع هذا السؤال بسؤال آخر: كم من بلد إسلامي سقط في أيدي الكفار؟ لقد سقطت ولا شك قلاع كبيرة من قلاع المسلمين بأيدي الكفرة من النصارى أو اليهود أو المشركين، سقطت الأندلس وقد كانت جنة للمسلمين، وسقطت فلسطين، وسقطت أفغانستان، سقطت بلاد كثيرة، وسقطت بلاد أخرى في أيدي الشيوعيين، لكن هذه البلاد تبقى محدودة معلومة، لكن حين نسأل: كم من بلد إسلامي سقط في أيدي المنافقين وفي أيدي العلمانيين؟ فإن هذا مما لا يأتي عليه الحصر، بل إن كثيراً من البلاد الإسلامية هي التي سقطت في أيدي المنافقين، وليس في أيدي الكفار، وذلك لأن المنافقين يعرفون كيف يحكمون القبضة، ويعرفون كيف يتسللون في الظلام، حيث يعمدون إلى مواقع التأثير حتى يؤثروا في البلاد الإسلامية، ويمسخوا تلك البلاد، وهذا يؤكد خطورة النفاق والمنافقين، حيث يجيدون السباحة في كل بحر، يجيدون العوم في كل بحر، ويلبسون أكثر من ثوب، ويتكلمون بأكثر من لغة، ويمثلون أكثر من دور، ويتقمصون أكثر من شخصية! له ألف وجهٍ بعد ما ضاع وجهه فلم تدر فيها أي وجه تصدِّقُ هذا شأن العلماني، قلب متقلب، ومن ثم فإنه يجب كشفهم وتعريتهم، قال الله عز وجل: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4] . الجزء: 157 ¦ الصفحة: 11 صناعة الأبطال وتلميعهم لقد صنع اليهود الأبطال كما فعلوا بـ كمال أتاتورك، الذي صنعوا بطلاً منه أجوف منفوخاً، وجعلوه يخوض معركة مع اليونان يخرج منها ظافراً منتصراً، حتى يلمعوه ليقوم بالدور المطلوب منه، في تقويض بناء الإسلام وإحلال العلمانية بدلاً منه. ثم خطوا خطوة أخرى حين نصبوه، وأعلنوا إلغاء ما يسموه بالخلافة يومئذٍ، فأفلحوا بذلك في عزل تركيا عن العالم الإسلامي، وأصبح العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه لا يبالي ماذا يجري في تركيا، بالأمس كان الحدث الذي يقع في اسطنبول يقلق كل مسلم في أقصى الأرض، لأنه يحس أنه حدث يتعلق بجزء من الأمة، وكان كثير من المسلمين مرتبطين مع هذه الخلافة، على رغم ما كان فيها من انحرافات عقدية، وسياسية، واقتصادية، وغير ذلك مما هذا ليس مجال بيانه، لكن المقصود أن جماهير غفيرة من المسلمين كانت حقيقة مرتبطة ارتباطاً عاطفياً بذلك الرمز، فلما أسقطوها انفض المسلمون من حولها، وأصبح الأمر الذي يجري في تلك البلاد، إنما يهم أهل تلك البلاد ولا يهم المسلمين في قليل ولا كثير، وهكذا يصنعون دائماً وأبداً، يحاولون أن يعزلوا بلاد الإسلام بعضها عن بعض، حتى إذا أصيب هذا البلد لم يحزن له أحد، ولم يتأثر لمصيبته أحد، ولم يقم له أحد لأنهم قد أفلحوا في إلهاء كل واحد بنفسه، وإشعار المسلمين بأنه ليس ثمة رابطة، ضاع من المسلمين ذلك المعنى الذي يقول: ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين وبالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحة تسمو بروحي فوق العالم الفاني دنيا بناها لنا الهادي فأحكمها أكرم بأحمد من هادٍ ومن باني ضاع هذا المعنى، وأصبح المسلم يبغض أخاه المسلم، ويحقد عليه، بل ويتمنى أن تنزل به النوازل، كل بلد لا يعبأ ولا يأبه بما يصيب بلاد المسلمين الأخرى، بل أكثر من ذلك أنهم استغلوا هذا لتأجيج العداوات وتعميقها، وتوسيع هوتها بين المسلمين، فربما عملوا على نشر كل أمر من شأنه أن يجعل المسلم في تركيا يبغض المسلم في أي مكان، ويحس أنه عدو له، ويكيد له، وهكذا المسلم في هذه البلاد، قد يجد الشعور نفسه نحو المسلم في تلك البلاد، وما ذلك إلا تمهيداً لعزل المسلمين، لأن مواجهة المسلمين كأمة كاملة من الأمور الصعبة عليهم، ولكن كما قيل: تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت آحاداً لقد كان من أعظم الأعمال التي قام بها مصطفى أتاتورك أنه اضطهد العلماء وقتلهم، وزج بهم في غياهب السجون، بل وعلق جثثهم على الأشجار في الشوارع، وطمس معالم الدين كلها، حتى منع الأذان، ومنع التعليم باللغة العربية، ومنع أي لباس يدل على الانتماء والانتساب للإسلام، وفرض على الناس اللباس الأوروبي الغربي، وفرض عليهم لغة مختلفة، وحاول أن يمسخ الناس، وأن يصبغهم بصبغة قومية جديدة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 12 تأثير الصراع بين الإسلام والنصارى لعل من أوائل الدول التي سقطت في أيدي العلمانيين تركيا، التي كانت في يوم من الأيام مركزاً للحكم، وكان المسلمون يذعنون لحكمها في بلاد الأرض، فسقطت تركيا في أيدي العلمانيين، كيف سقطت؟ سقطت نتيجة الكفاح كما يقال أولاً بين الهلال والصليب، وهذا تعبير من النصارى يعبرون به عن الصراع بين الإسلام والنصرانية، يقول رئيس الإرساليات التنصيرية الألمانية: إن ثمار الكفاح بين الصليب والهلال لا تؤتي أكلها في البلاد البعيدة ولا في مستعمراتنا في آسيا وأفريقيا، بل ستكون في المراكز التي يستمد الإسلام منها قوته، وينتشر وينبثق منها، سواء كانت في أفريقيا أو في آسيا، وبما أن الشعوب الإسلامية التي نواجهها تولي وجهها نحو الأستانة وهي يومئذٍ عاصمة تركيا وعاصمة الخلافة- فإن المجهودات التي نأتي بها لا تأتي بفائدة إذا لم نتوصل إلى قضاء رغباتنا في مركز الخلافة وعاصمة المسلمين، هكذا يقول، ولذلك عمل النصارى بالتعاون مع إخوانهم اليهود على إسقاط الخلافة العثمانية، فاندس فيها أمثال مدحت باشا وهو يهودي، كان له دور كبير في الخلافة العثمانية، حتى إنه ساهم أحياناً في إسقاط خليفة ونصب خليفة آخر والمصادقية على الدستور، وكان ينادي بإتاحة الحريات وتبين فيما بعد كما قال السلطان عبد الحميد قال: تبين أنه كان ينادي بالحريات له ولقومه من اليهود ولحزبه وطائفته، ولا ينادي بالحريات الحقيقية للناس كلهم أجمعين، ولذلك كان اليهود يتربصون سقوط الخلافة حتى ينفذوا مخططاتهم في فلسطين، حتى أنهم أعلنوا الإسلام كما هو معروف في يهود الدونمة، وتغلغلوا في الخلافة بالطريقة التي سوف أتحدث عنها الآن. مدحت باشا هذا هو يهودي، كان الغربيون يسمونه في أوروبا أبا الحرية، لماذا؟ لأنه كان ينادي بالحرية، ويطالب بالمصادقة على ما يسمونه بالدستور، الذي يضمن حقوق الأقليات، يضمن حقوق اليهود في التمتع بحرياتهم كما يشاءون، داخل ستار وراية الدولة العثمانية. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 13 خطط العلمانيين في تركيا نقطة مهمة جداً: ما هي خطط العلمانيين في تركيا وغيرها؟ كيف توصل العلمانيون إلى هذا المستوى في تركيا منذ أن بدأت حركة العلمنة وإلى أن أعلن مصطفى أتاتورك دولته وجمهوريته العلمانية؟ أولاً: مما ينبغي أن يعلم أن العلمانيين -في تركيا وفي كل بلد- غالباً ما يحاول أعداء الإسلام من اليهود والنصارى الذين يتحالفون معهم حلفاً تاريخياً ظاهراً وباطناً أن ينتقوا وينتخبوا من رموز العلمانية طوائف، ويرسلوهم إلى بلاد الغرب ليتعلموا هناك، فيرجعوا بالخبرة، ويرجعوا بالعلم المادي، ويرجعوا ببعض التقدم، -بعض المهارات الإدارية أو العلمية أو الصناعية التي تميزهم عن باقي المجتمع- بحيث يصبحون طبقة متميزة، قد يسمونهم المثقفين أو المتنورين، وقد يطلقون عليهم أي لفظ براق، لكن المهم أن الغرب عمل على أن يكون لهؤلاء تميز بخبرات ومهارات إدارية وعلمية وتقنية وغير ذلك، تمهيداً لقيامهم بالدور الذي يوكل إليهم. إذاً فالغرب اختارهم أولاً، ثم حاول أن يزودهم بالمهارات، في مقابل محاولة تجهيل غيرهم، وفرض الغيبوبة عليهم، بعد ذلك يتركهم ليمارسوا الدور الذي يريد، هذا الدور الذي يتلخص في أمور: منها أنهم أول ما بدءوا يتحركون في تركيا، وفي غيرها من البلاد التي تغلغلوا فيها، ودخلوا فيها، وحاولوا الإفساد، دخلوا مع ما كان يسمى بالخلافة ضد العلماء، وبذلك كسبوا أموراً كثيرة: الجزء: 157 ¦ الصفحة: 14 بسط النفوذ ونشر الفكر الأمر الأول: أنهم استغلوا الفرصة التي مكنوا منها بواسطة ثقة الحكومة التركية بهم، استغلوا ذلك في بسط النفوذ، ونشر الرذيلة، ونشر الفكر المنحل بين المسلمين، تحت ستار وجودهم ضمن إطار الحكومة، ولذلك ضعفت، حال الحكومة التركية حينئذ وغيرها من الحكومات التي تواطأت معهم، كحال أبي سفيان حين كان يقول: [[ما أمرت بها ولم تسؤني]] يرون نشر الرذيلة والانحلال ولا يمانعون في ذلك في حدود معينة على حد قول أبي سفيان: [[ما أمرت بها ولم تسؤني]] ليس بالضرورة أنه أمر مخطط أساساً، لكنه موافق عليه ضمناً. الأمر الثاني: من الأمور التي كسبوها أيضاً كونهم كانوا في بداية الأمر مع الحكومة العثمانية، ضد العلماء وضد الأمة، فقد أفلحوا في تشويه صورة تلك الحكومة، وملء نفوس الناس عليها، وتمهيد نفوسهم للقضاء عليها، فإن الناس ضجوا، وبعد أن تغلغل العلمانيون في دولة بني عثمان أبغضها كثير من الناس، بل ربما أكثر الناس حتى المتدينون أبغضوها، لأنها أصبحت تحاربهم، والمفسدون أبغضوها لأنها لا تحقق لهم مآربهم، وهكذا تهيأت الظروف والفرص لإحداث نوع من التغيير الذي كان ينشده العلمانيون آنذاك. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 15 تضييع الفرصة على علماء الإسلام كما أن من أهدافهم تضييع الفرصة على العلماء، فإنهم يدركون أن المجتمع دائماً -كل مجتمع- فيه قوتان: قوة المؤمنين العلماء، وطلبة العلم، والدعاة المخلصين، والغيورين، هذه قوة المؤمنين والمؤمنات: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْض} [التوبة:71] وهناك قوة أخرى في المقابل هي قوة المنافقين، وقوة العلمانيين والعلمانيات: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} [التوبة:67] إذاً فهم يحاولون أن يسبقوا ويقطعوا الطريق على غيرهم، من خلال قيامهم بحركة الفساد والإفساد، تحت ستار ولائهم لتلك الدولة التي كانوا في الظاهر جزءاً منها، وقد عملوا على مراحل، بدءوا أولاً بما يسمى بالتنظيمات، وانتهوا أخيراً بجمهورية أتاتورك العلمانية. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 16 مراحل قيام نظام أتاتورك الجزء: 157 ¦ الصفحة: 17 استغلال الأحداث والأزمات المرحلة الرابعة: هي أنهم يستغلون -والغريب أن هذا الكلام مكتوب في عدد من الدراسات والتقارير- يستغلون الأحداث الجدية التي مرت، والأزمات الخانقة التي مرت بالدولة العثمانية، خاصة الأزمات الدفاعية، والسياسية، والاقتصادية، التي مرت بها في آخر فتراتها، قبيل عهد السلطان عبد الحميد، وفي عهده وما بعد ذلك، فيتخلون عن حلفهم السابق، وولائهم المعلن، ويتحركون في أوساط القوى المعارضة والمعادية، تمهيداً للهيمنة الكاملة التي حصلت فيما بعد لهم، حيث تمكنوا من إعلان الدولة العلمانية، وفي سبيل ذلك كونوا الجمعيات، كما هي معروفة لدارسي التاريخ، ونظموا المسيرات، وأصدروا المجلات، وعقدوا المؤتمرات، وتحالفوا مع الأعداء الخارجيين، كاليهود والنصارى كما هو معروف من وثائق تلك المرحلة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 18 العمل على نشر الانحلال والفساد المرحلة الثانية: بعد ما تمكنوا وتغلغلوا وتأصلوا وتجذروا، بدءوا يضغطون للسير بسرعة أكبر في طريق الانحلال وطريق الفساد، وما عاد يكفيهم الجرعات التي كانت بالأمس يأخذونها برضى، أصبحوا يريدون سرعة أكثر، فإذا كانوا يسيرون بسرعة ستين ميلاً مثلاً، فالآن يريدون أن يسيروا بسرعة مائة وعشرين ميلاً، يريدون أن يضاعفوا السرعة، ويريدون من ذلك إحداث شيء من التخريب والتغريب الذي لم يألفه الناس، وهنا يسير معهم الحكام أيضاً مع وجود شيء من المخاوف. في المرحلة الأولى كان حكام بني عثمان وغيرهم من الحكام هم الذين يقودون، والعلمانيون في ركابهم، أما في المرحلة الثانية فقد انعكست الآية، وأصبح العلمانيون هم الذين يقودون ويجرون إلى الفساد، وأصبح بنو عثمان وغيرهم من الحكام ممن مالئوهم وواطئوهم، يسيرون في ركابهم على شيء من التخوف، خاصة حين ننتقل إلى المرحلة الثالثة التي يبدءونها. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 19 التعدي على القيم الحساسة المرحلة الثالثة: وهي أنهم يبدءون بعد ذلك بالتعرض والتعدي على ما يسميه بعض المؤلفين والمصنفين الذين كتبوا في تاريخ الدولة العثمانية بالقيم الحساسة، سواء كان المقصود بهذه القيم، القيم السياسية للدولة، كأسس النظام السياسي، والصلاحيات، أو القيم الشرعية، مثل القواعد الشرعية، والثقافية، للسلطة أو للمجتمع. فيتعرضون للدين مثلاً، ويتعرضون للعلماء، ويتعرضون للقضايا الكبيرة الخطيرة، في هذه المرحلة الثالثة، رغبة في إحداث شيء من التوتر الجِدِّي، والإنشداد للمجتمع، وهذا أيضاً تمهيد عندهم لما بعده، وفي هذه المرحلة لا شك يملكون جراءة على الشرع، في وسائلهم وخطبهم وأحاديثهم وكلماتهم، ولو قرأت الصحف التركية التي كانت تصدر في تلك المرحلة؛ لوجدتها قريبة الشبة جداً بالصحف التي تصدر في هذا الوقت في عدد من البلاد الإسلامية، وأصبحت تحاول أن تنال في كل عدد من بعض القيم الدينية، وتشكك المسلمين في عبادة من العبادات، أو في جانب من جوانب الإسلام، أو تنال من عالم من العلماء، أو تحط من قدره، أو تحاول أن تكرس العلمانية "أن الدين لله والوطن للجميع"، أو " ما لقيصر لقيصر وما لله لله ". ومما يجعل مواجهتهم صعبة في هذه المرحلة، أنهم لا يظهرون لتلك الدول على أنهم قوة واحدة متآلفة تخيف، بل تحالفهم خفي، يصعب إدراكه أو كشفه، ولذلك ينظر إليهم على أنهم أفراد، قد يكون لديهم نوع من الانحلال، قد يكون لديهم نوع من رقة الدين، قد يكون عندهم أفكار غريبة، لكن ليس هناك بينهم أي روابط تربط بينهم، فقد أفلحوا في إخفاء الروابط التي تربطهم، حتى لا يثيروا مخاوف الآخرين، وفي بعض تلك الفترات كانت الدول تعتمد عليهم في تحقيق قدر من الفساد الذي تريد، فتسند إليهم مهمة معينة، وتعطيهم الضوء الأخضر أن يفعلوا بعض الفساد، افعلوا، جربوا جرعة هنا، فإذا هضمها المجتمع يعطى جرعة أكبر منها، أما إذا عجز عنها فإنه من السهل التراجع عنها، على أن هذا العمل ليس عملاً رسمياً قامت به السلطة الرسمية، إنما هو عمل قامت به جهة معينة، ويمكن أن تردع وتوقف عند حدها، حتى قال أحدهم: إن حالهم في تلك المرحلة سواء في الدولة العثمانية أم في غيرها، كحال ذلك الرجل الذي كان يسرق الحجيج؟ فقد كان معه عصى، في نهايته محجن، فكان يمشي فيمر بالحجاج، فيجعل المحجن يتعلق ببعض المتاع ثم يجره إليه ويمشى، فإذا تفطن الحجاج لذلك التفت وقال: سبحان الله! ما علمت، إنما تعلق بمحجني من غير قصد، فرد إليهم مالهم، وإن لم يتفطنوا له أخذ المتاع وهرب به، أي أنها سرقة بطريقة ذكية مغلفة، يسهل التراجع عنها، هذه هي طريقة العلمانيين، يسرقون على طريقة صاحب المحجن، إن فُطِن قال: تعلق بمحجني وما علمت به، وإن لم يُفطن له مضى وحاول أن يسرق شيئاً آخر. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 20 وضع الخبرات لخدمة الإصلاحات الإدارية المرحلة الأولى: أنهم وضعوا خبراتهم في خدمة الإصلاحات الإدارية، وما يسمى بالتحديث والتطوير، وذلك ضمن حكم آل عثمان أو الدول الأخرى التي عملوا فيها كما عملوا في تركيا أيضاً، فوضعوا تلك الخبرات التي أخذوها عن الغرب في خدمة الدولة التي يعملون ضمنها، بحيث أنهم ظهر لهم جدوى، وقيمة، وأن عندهم خبرة وعلماً وتميزاً، وأنه لا أحد يمكن أن يسد مسدهم، أو يقوم مقامهم. هذه هي الخطوة الأولى، أو الحركة الأولى وقد لا يتفطن لها كثير من الناس، لأن الدور الذي يقومون به غالباً لا يستطيع أن يقوم به العلماء ولا طلبة العلم ولا الدعاة، لأسباب: منها انشغالهم عنه، ومنها أنهم لم يمكنوا من الخبرات والدراسات التي مكن منها هؤلاء، فأصبح لديهم تميز، جعل كثيراً من الناس لا يكترثون بهذه الخطوة الأولى ولا يهتمون لها، بل بعض الناس كان يقول: (إذا تركتما لي عقيلاً فاصنعا ما شئتما!) إذا تركتم لنا المسجد والمدرسة، فاصنعوا ما شئتم، هكذا كان منطق كثير من المسلمين في تلك المرحلة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 21 أساليب العلمانيين أساليب العلمانيين كثيرة لكن منها: الجزء: 157 ¦ الصفحة: 22 استغلال الأقليات العرقية من أساليبهم أيضاً استغلال الأقليات العرقية أو الدينية -كما يقال- اليهود أو النصارى أو النصيرية، أو الإباضية أو الشيعة أو غيرهم من الأقليات العرقية أو الدينية، وذلك لأن هذه الأقليات غالباً ما تكون أكثر إخلاصاً، وأكثر ولاءً لهم، وأكثر صبراً على تحقيق أهدافهم ومآربهم، بخلاف من ينتسبون إلى أصول إسلامية صحيحة، فهم قد يسيرون معهم شوطاً بعيداً، ثم يخذلونهم في نهاية المطاف، فلذلك لا يثقون بهم مهما قدموا لهم من قرابين الولاء والطاعة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 23 تحطيم الشعائر الدينية والمظاهر الإسلامية أولاً: تحطيم الشعائر الدينية والمظاهر الإسلامية، واستبدال قيم الإسلام وأخلاقياته بقيم غربية، حتى المظاهر دعك من الإعلام، والتعليم، والاقتصاد، والسياسة، فهذه الأشياء أول ما يبدءون بها، ولكنهم لا يرضون بشيء دون المسخ الكامل، ولذلك حتى المظاهر حاولوا مسخها، اللباس -كما أشرت- واللغة، والأذان إلى غير ذلك من الأشياء المعروفة، التي كان مصطفى أتاتورك يصدرها في قرارات، ويلزم ويحارب الناس عليها، ويمنع أرزاقهم بسببها! الجزء: 157 ¦ الصفحة: 24 تحريك الوضع الاجتماعي من أساليبهم تحريك الوضع الاجتماعي، من خلال اللعب بورقة اسمها المرأة، بوصف المرأة مؤثراً قوياً في هز المجتمع من وجهين: الوجه الأول: جر المجتمع إلى الخراب، ومسخ هويته، فإن المجتمع الذي فسدت فيه المرأة قُلْ: عليه السلام، أي مجتمع يستطيع أن يحافظ على استقامته وصلاحه، والمرأة تبدو سافرة كاشفة تذهب وتجيء بالروائح الجميلة النفاذة، وقد كشفت عن حسنها وجمالها، وتعرضت للغادين والرائحين، وحاولت أن تفتن الرجال؟! كم من العزائم الصلبة تستطيع أن تقف أمام هذا الإغراء؟! ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} . إذاً: إفساد المرأة هو إفساد للمجتمع، ومن جهة أخرى فإنهم يعرفون أن البدء بموضوع المرأة يعتبر تمزيقاً لوحدة المجتمع، وذلك أن قضايا المرأة والأمور الاجتماعية من الأشياء الحساسة، التي تستثير في كثير من الأحيان ليس المتدينين فحسب، بل أصحاب النخوة والغيرة والشهامة والمروءة، حتى من غير المتدينين، فرب إنسان يغضب غضبة الأسد الهصور لو رأى امرأته -مثلاً- أو بنته أو أخته أو قريبته سافرة، أو رآها مع رجل أجنبي، أو رآها تمارس بعض ما لا يليق بالمروءة وبخصال المروءة وخصال الفطرة، فهم بذلك يعملون على تمزيق المجتمع وتفتيت وحدته، وتحويل الأمة إلى أمتين، وهم وإن فعلوا ذلك بقصد الإفساد إلا أنهم يسعون إلى حتفهم بظلفهم، فإن هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام لا تزال تعلن صباح مساء أنها لا تريد إلا الإسلام، وأن كل صوت يرتفع بغير الإسلام في هذه البلاد وفي غيرها، فهو صوت آيل إلى الزوال والفناء، وأن كل راية ترفع غير راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فهي راية منكسة، هذه البلاد قالتها: إنها لا تريد إلا الإسلام، والله عز وجل قاله، ورسوله صلى الله عليه وسلم بين لنا أن هذه البلاد للإسلام، منها بدأ الإسلام وإليها يعود. فكم حاولوا إطفاء نور كتابه لكنه أبقى على الأزمان كم حاولوا وكم مكروا، فكان كيدهم في نحورهم، استجابة لدعاء المؤمنين الذين يقولون صباح مساء: (اللهم إنّا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم) . الجزء: 157 ¦ الصفحة: 25 من هو العلماني؟ ليس العلماني ملحداً بالضرورة كما يتصور بعضهم، بل قد يكون العلماني ممن يصلي أحياناً، ولكنه يعتقد أن الدين في المسجد وفي الزاوية، وأن مهمة رجال الدين تقتصر على تغسيل الموتى وتخدير مشاعر الناس فحسب، ولا يتعدى ذلك بحال من الأحوال، أما السياسة فليست من الدين، ومن قبل كتب علي عبد الرزاق -كما هو معروف وهو من الأزهر- كتب كتابه المعروف الإسلام وأصول الحكم ينفي فيه أن يكون للإسلام علاقة بالسياسة، وأن تكون الخلافة الإسلامية نظاماً شرعياً إلهياً، وإنما هي عادة أو اجتهاد فردي من الممكن الاستغناء عنه، والإسلام ليس له علاقة بالساسة، ثم ضرب على نفس الوتر خالد محمد خالد في كتابه المشهور من هنا نبدأ، وإن كان الجميع يعرفون أن خالد محمد خالد قد أعلن رجوعه عن الأفكار الكفرية الموجودة ضمن هذا الكتاب. وقد يكون العلماني أحياناً كافراً لا يدين بدين، لكن لا مانع عنده من مجاملة عواطف الناس، والتربيت على عواطفهم وركوب الموجة كما يقال، ويوم أن كانت الصحف الكويتية تصدر كنا نقرأ لكثير من رموز العلمانية ورءوسها من مصر وغيرها، كانوا يتكلمون، وبالأمس كانوا ضد الإسلام على طول الخط، أصبحوا بعد ذلك يتكلمون عن الإسلام الاشتراكي، والإسلام الديمقراطي، والإسلام العلماني، والإسلام الناصري، بل والإسلام الشيوعي، يقول الواحد منهم: ليس هناك مانع، إسلام شيوعي، هكذا موجود في قصاصات مضبوطة وموجودة، وبعضهم صرح وقال: إن القضية قضية ركوب الموجة، اليوم الأمة مقبلة على الإسلام، ليس هناك مانع، نحن نرفع راية الإسلام حتى نركب الموجة ونمشى مع التيار إلى أمد معين، ثم بعد ذلك نحقق مآربنا ومطالبنا. إذاً لا مانع أن نستشهد بالآيات وبالأحاديث، ووفق ديننا الحنيف وشريعتنا السمحة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 26 عزل الدين عن السياسة العلماني ينادي بعزل الدين عن السياسة، فالدين في نظره أرقى وأنظف وأسمى من أن يدخل في السياسة، فليبق الدين على الرف! ولتبق الحياة تحكم بشريعة الطاغوت، قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] والمتحدثون باسم الإسلام عند هؤلاء هم من أصحاب الأغراض الشخصية، أو المطامع، كما قال أحدهم في كتابه أزمة المثقفين العرب حين تكلم عن التيارات الدينية وقال: "عادة أصحاب هذه التيارات الدينية هم من أصحاب المطامع السياسية، والأغراض الشخصية، والمنطلقات العرقية، الذين يريدون تحقيق مآربهم ومقاصدهم باسم الدين وباسم استغلال المشاعر الدينية، والعواطف الدينية عند الدهماء" والكتاب مطبوع متداول بالأسواق، بإمكانكم مراجعة تلك الفقرة فيه. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 27 عزل الدين عن التعليم العلماني ينادي بعزل الدين عن التعليم، حتى يقول أحدهم مثلاً: إن التعليم في أمريكا تعليم راقٍ، لماذا؟ قال: لأنه يعلم ويدرب الطفل على الشك في كل شيء منذ نعومة أظفاره، فينشأ الطفل علمياً لا يقبل شيئاً إلا بدليل، ينشأ ويتدرب على الشك، أما في بلادنا يقول: فإنما يتعلم الأطفال الاستنجاء والاستجمار، وأحضر إناءً من الماء، وقل: بسم الله، هذا الذي يتعلمونه، أما في أمريكا فهو تعليم راقٍ، لأنه يربي الطفل على الشك في كل شيء حتى في الدين، والغريب أنه منذ سنوات صدر كتاب خطير اسمه "أمة مهددة بالخطر" كتبه ثمانية عشر كاتباً كونوا لجنة اشتغلت ثمانية عشر شهراً من جهات شتى، وكان من أهم التوصيات التي خرجوا بها لدعم مسيرة الأمة الأمريكية وحمايتها من الانهيار؛ أنه لا بد من تعميق التعليم الديني، وتكثيف المعاني الدينية والعاطفية في نفوس الطلاب؛ لحمايتهم من ألوان الفساد والرذيلة والانحلال، الذي يجعلهم لا يستطيعون أن يخدموا أمتهم وبلادهم كما يراد لهم، ففي الوقت الذي يطالب الأمريكان فيه والروس أيضاً وغيرهم، بإعطاء جرعات من الدين والتدين للطلاب، وهؤلاء ينادون بعزل الدين عن التعليم وتكثيف المواد الرياضية أو العلمية البحتة مثلاً، وتقليل المواد الشرعية، كالحديث والثقافة الإسلامية وغيرها. يطالبون بعزل الدين عن الإعلام مثلاً، يطالبون بعزل الدين عن الفن، يطالبون -بكل اختصار- بعزل الدين عن الحياة كلها. إذاً: فالعلمانية هي: عزل الدين عن الحياة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 28 حتمية المواجهة أخيراً أيها الإخوة! لابد من المواجهة، فإننا حين نتكلم عن هؤلاء القوم لا نريد أن نعطيهم أكبر من حجمهم، فإننا نعلم بمقتضى شريعة الله عز وجل بأن الإسلام أقوى منهم، وأن الإسلام راسخ في هذه البلاد رسوخ الجبال الراسيات، وكم من موجة تحطمت على صخرة الإسلام وارتدت! موجات كاسحة، عسكرية وفكرية، وفتن كبرى، حتى فتنة الدجال -وهي أعظم فتنة- إنما تتحطم حين تصل إلى هذه الجزيرة، فهذه جزيرة الإسلام، والإسلام قَدَر هذه الجزيرة، لكن مع ذلك فإن هذا يتحقق من خلال جهودنا نحن في مواجهة العلمانيين في هذه البلاد ومحاربتهم بكل وسيلة. وأقتصر في نهاية هذه المحاضرة على أسلوبين من أهم أساليب المواجهة: الجزء: 157 ¦ الصفحة: 29 ضرورة العمل الجاد الأمر الثاني: هو ضرورة العمل الجاد، فإن سنة الله عز وجل أنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله لا يضيع أجر المحسنين، كما أن الله عز وجل لا يصلح عمل المفسدين، فهؤلاء مفسدون، عملهم في ضياع وفي بوار، أما المؤمنون الصادقون الصالحون فليعلموا أن عملهم في الدنيا والآخرة محفوظ: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] . إخوتي الكرام! إن هذا التاريخ الذي سمعناه عن تركيا وعن غيرها من البلاد الإسلامية التي سقطت في أيدي العلمانيين يعيد نفسه. ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمرهِ فينبغي أن نتعظ بغيرنا، وأن ندرك جيداً الخطط التي يبرمها علمانيو هذه البلاد للهيمنة على المجتمع، وجره إلى التعاسة والشقاء، ومحاولة مسخ دين هذا البلد وعقائده وأخلاقه، بل وحتى عاداته الاجتماعية، وجعله قطعة من بلاد الغرب التي فيها درسوا، والتي من ألبانها رضعوا. أسأل الله عز وجل أن يكفي المسلمين شرهم، وأسأله -جل وعلا- أن يفضحهم وأن يكشف عوارهم للمسلمين عامة حتى يحذروهم، ويدركوا خطرهم، كما إني أسأل الله تعالى وأتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا، أن يجعل في قلوب المؤمنين الحماس والرغبة الصادقة في العمل الجاد لما يرضيه، وفي الجهاد الصادق في سبيله، وفي قول كلمة الحق، وفي الدعوة إلى الله تعالى، وفي جمع الكلمة، وفي بذل النصيحة، وفي محاولة رد كيد الكائدين، سواء كانوا من العدو الداخلي المستتر، أم من العدو الخارجي المعلن، وأسأله تعالى أن يكلل العاملين بالنجاح، وأن يرزقنا جميعاً الإخلاص؛ إنه على كل شيء قدير، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 30 ضرورة الكشف عن العلمانيين الأول: ضرورة الكشف، فإن الله كشف المنافقين، وأنزل سوراً عديدة منها التوبة، حتى كانت تسمى "المقشقشة" ما تركت أحداً إلا ذكرته منهم، حتى بينتهم وفضحتهم، وكانت تسمى "الفاضحة" أيضاً، فنريد من أهل الإسلام -علماء الإسلام وطلبة العلم والدعاة- أن يترسموا ويستلهموا منهج هذه السورة في فضح العلمانيين، نريد أحداً يقول لنا في هذا الزمان: ومنهم ومنهم، فيذكر لنا علاماتهم التي يعرفون بها، خاصة وأنهم يتكلمون بكلام حسن جميل، شأنهم في ذلك شأن إخوانهم الأولين، كما حكى الله عنهم: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون:4] لفصاحتهم وبلاغتهم، ويقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] . إذاً لا بد من فضحهم وكشفهم، وبيان عوراتهم، خاصة وأن كثيراً من العامة ينخدعون بهم، وهذه مصيبة، أن تسير الأمة خلف ركابهم مخدوعة، لأنهم يستخدمون ألفاظاً إسلامية، وقد يستشهد أحدهم بآية أو حديث، أو كتاب لأهل العلم، وقد ينقل قاعدة فقهية، وقد يتكلم، وقد يصلي أحياناً، وهذا الفضح لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون من خلال التشويش والتهويش والغضب والانفعال والصراخ أبداًَ، يجب أن يكون من خلال الوثائق والحقائق والمعلومات الدامغة التي تجعل حتى عدوك لا يملك إلا أن يوافقك على ما تقول. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 31 الأسئلة الجزء: 157 ¦ الصفحة: 32 علاقة العلمانيين بالحداثيين السؤال ما علاقة العلمانيين في البلد بالحداثيين، والحداثيين بالأحداث القائمة بالخليج؟ الجواب علاقتهم أنهم يصطادون في الماء العكر، ويستغلون كل فرصة للانقضاض والاستفادة من انشغال الأمة بالأحداث الكبرى، كما فعلوا حين وجدوا الأمة مشغولة بأحداثها الكبرى، ففاجئوا الأمة بهذا الحدث الذي أنسى ما قبله، وجعل أعصاب الناس كلها مشدودة تجاه هذا الحدث الجديد. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 33 كشف رءووس العلمانية السؤال الرجاء أن تذكر أسماء رءوس العلمانية في هذا البلد، وفي بعض البلاد الأخرى؟ الجواب في الواقع أن ذكر رءوس العلمانية وأسمائها واجب شرعي، وكما أن علماء هذه الأمة في الماضي كشفوا أهل البدعة وتكلموا عنهم ولا كرامة، وفضحوهم بفسقهم، واعتدائهم على كلمة الله عز وجل بتعريتهم وحماية الأمة من شرهم وفسادهم، وكما أن علماء الأمة في الماضي تكلموا عن رجال الحديث جرحاً وتعديلا، فقالوا: فلان ضعيف، وفلان سيئ الحفظ، وفلان كذاب، وفلان متهم، وفلان يسرق، وفلان وفلان، كذلك واجب على علماء هذا الزمان فضح وتعرية رءوس العلمانية، ولكن من خلال الوثائق كما ذكرت لكم، وبناءً عليه فلو ذكرت لكم رموز العلمانية الآن، لما كنت موافقاً للمنهج الذي قلته، أن يكون الفضح من خلال الكلام والحقائق والوثائق، لا من خلال حكم أطلقه دون أن أقدم لكم دليلاً عليه. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 34 مراحل ظهور العلمانية السؤال متى ظهرت العلمانية هنا، وما مراحل ظهورها، ومن هم أشهر قادتها؟ الجواب لقد سبقت الإجابة على بعض هذه الأسئلة، أما متى ظهرت؟ يعتبرون أن حركة مسيرتهم التي أعلنوها بداية لظهور العلمانية، والتغريب والتخريب، وتحرير المرأة بصورة واضحة مكشوفة، على أنهم كانوا قبل ذلك يعملون في السراديب المظلمة، كالخفافيش التي لا تعمل إلا في الظلام. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 35 زيارتي للولايات المتحدة الأمريكية يقول: كنت في زيارة في شهر ثلاثة لعام 1411هـ للولايات المتحدة الأمريكية في مهمة لحضور مؤتمر إسلامي، وقد أقيمت محاضرة لقسٍ كبير في إحدى القاعات، وكان يتكلم عن أزمة الخليج، وفي أثناء حديثه قال كلاماً نصه: إنه ليس الخوف من قبل أي قوة أخرى، إنما الخوف من نجد والجزيرة، وقد سأله الحاضرون، ما هي نجد والجزيرة؟ فقال لهم: إنها تقع في قلب الجزيرة، وهي منبع الأصولية، إذاً فالخطر من الأصولية، وهذا يؤيد ما ذكرت، فالأصولية التي يذكرونها هي هذه الديار حفظها الله من كيدهم ومكرهم. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 36 دور التغيير يقع على الجميع السؤال طرق العلمانيين كثيرة، وهم يشنونها بواسطة حملة شرسة قوية على الإسلام والمسلمين، فأين دور الهيئات العلمية في إيقافهم عند حدهم في هذا البلد الطيب، واستغلال الأجهزة نفسها؟ الجواب لي رجاء للأخ الذي كتب السؤال، والإخوة جميعاً، أن ننهي كلمة: أين دور، أين دور هذه اجعلوها مؤقتاً على الرف، أين دور فلان؟! أين دور كبار العلماء؟! أين دور هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! أين دور المسئولين؟! هذه ينبغي ألا نقولها، ينبغي أن ننصح من نستطيع نصيحته، وهذا مطلوب، الشيء الثاني: أن نقوم بما نستطيع أن نقدمه، عندك شيء تستطيع أن تقدمه للإسلام أسرع به، فالنار تشتعل في بلاد الإسلام، غير هذا ليس هناك داعٍ؛ فعلى رغم أن العدو يدق الأبواب ما زلنا في مرحلة التلاوم، المسئولية على فلان، أين دور فلان؟ أين دور علان؟! بالأمس جاءني أحد الشباب مغضباً، والشرر يتطاير من عينيه! فقال أين دوركم؟ ماذا تصنعون؟ من لم يتحمس في الوقت فمتى يتحمس؟! وأصبح يرتجل عليَّ خطبة عصماء قوية، فلما انتهى قلت: بارك الله فيك، نحن نريد أن نعمل شيئاً لكن نريد أن تشارك معنا، نريد أن تقوم معنا بعمل، هل لديك استعداد؟ فبدأ ينسحب شيئاً فشيئاً، قال: والله إذا كان على الكتاب والسنة، وهل نحن سنأمرك بما في التوراة والإنجيل؟! نحن لا نأمرك إلا بما في الكتاب والسنة، وإن وجدت ما يخالف فاعترض. فكثير من الناس يجيدون تحديد مسئوليات الآخرين، وتوزيع الصلاحيات، ويخرجون هم أبرياء، وكثيراً ما أذكر لبعض الإخوة، وربما سمعتموها مني في بعض المحاضرات، كلمة أو مثلاً يُضْحَكُ به، ويتندر على أمثالنا، أننا نقول: المشاكل التي نعيشها من صنع الجيل السابق، وسيحلها الجيل اللاحق، إذاً نحن خرجنا خارج الدائرة، ولا يرضى امرؤ عاقل -وهبه الله عز وجل نعمة الإسلام- لا يرضى لنفسه هذا الدور، أن يكون صفراً على الشمال، يجب أن يقوم كل امرئ منا بدوره ولو كان صغيراً. في ختام هذه الجلسة الطيبة المباركة أكرر وأجدد شكري القلبي العميق لمشايخي وإخواني المشايخ، من رجالات هذا البلد، وفضلائه وعلمائه، ولإخواني المشايخ الذين قدموا من بلاد أخرى، وأسأل الله أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً. اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا والآخرة، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 37 أفضل طريقة لمعرفة العلمانيين السؤال ما أفضل طريقة لمعرفة العلمانيين وإن كان هناك كتب؟ الجواب هناك كتب للتعريف بالعلمانية لعل من أفضلها وأوسعها، خاصة من الناحية التاريخية وعرض كيف نشأت العلمانية في أوروبا، كتاب الدكتور الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي حفظه الله العلمانية وأثرها في الحياة الإسلامية المعاصرة وكذلك هناك كتاب مفيد جداً لـ إسماعيل الكيلاني، اسمه فصل الدين عن الدولة وهناك تهافت العلمانية لـ عماد الدين خليل، إلى غير ذلك من الكتب، أما أفضل طريقة لمعرفة العلمانيين فهم كما حكى الله عز وجل عن المنافقين {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:30] اجمع تراثهم وكتاباتهم ومقالاتهم الصحفية ودواوين شعرهم وتعليقاتهم ومشاركاتهم، واقرأها جميعاً، تستخرج منها معالم واضحة يدورون حولها. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 38 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسباب دفع العذاب السؤال يقول: ما هي نظرتكم إلى الأحداث مع العلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضئيل في هذه المنطقة وفي غيرها فما نصيحتكم؟ الجواب في الواقع أن موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مما يجب أن نتذكر أنه من أهم الأسباب التي يدفع الله تعالى العذاب عن الأمم، كما نص على ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها حديث زينب في الصحيحين: {لا إله إلا الله! ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث} متى يكثر الخبث؟ إذا تُرك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجب أن يكون هذا هماً عند كل امرئ منكم، بدءاً بالعلماء وطلبة العلم وغيرهم، فإنهم قادة الناس في هذا الأمر، وقد حملهم الله عز وجل من المسئولية ما ليس على غيرهم، ومروراً بالشباب المتدين وسائر الأمة، تأمر نفسك وتأمر غيرك، وتأمر مَنْ في بيتك، وتأمر جيرانك، وتأمر زملاءك في العمل، وتأمر سائر الناس، ولو قمنا بهذا الدور لتغيرت أشياء كثيرة كما ذكرت في الجواب قبل قليل. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 39 أشد الناس عداوةً للذين آمنوا السؤال بماذا توحي هذه الآية {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] ولا سيما أن بعضهم قد يفهمها خلاف ما هدفت إليه؟ الجواب الآية ذكر الله عز وجل فيها أن أشد الناس عداوة للمؤمنين هم اليهود والمشركون، وأن أقرب الناس مودةً للذين آمنوا هم الذين قالوا: إنا نصارى، وعلل الله عز وجل ذلك بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} [المائدة:82-84] إلى آخر الآيات، المهم إذا جاءنا شخص وكان نصرانياً قال: آمنت بالله، وبرسل الله، وبما جاء من الحق، ودمعت عيناه من قراءة القرآن، وشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهو أخونا وإن كان بالأمس نصرانياً، لكن اليوم أصبح مسلماً، له مالنا وعليه ما علينا، هذه واحدة، وإلا فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فاليهود والنصارى وإن كانوا أعداءً في مرحلة من مراحل التاريخ إلا أنهم حلفاء حين يكون العدو هو الإسلام، وما الحلف الذي نشهده اليوم بين إسرائيل والدول الغربية، وبين إسرائيل والدول الشرقية، بإمدادها بالأموال وبالصناعات وبالخبرات وبالرجال وبالمعلومات، إلا دليل صارخ على أن هذا الحلف لا ينفك أبداً، حتى والمسلمون في أضعف فترات تاريخهم، حلف كبير وعميق وراسخ، وثقوا بأن أوروبا لا تثق بالعرب وإن جاملتهم، وأمريكا وإن جاملتهم وسايرتهم، إلا أن حليفها التاريخي الذي تطمئن إليه هو إسرائيل، وتعتبر أنها هي الورقة الرابحة دائماً وأبداً بيدها في المنطقة، ومن خلالها تحاول أن تنفذ ما تريد من مخططاتها. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 40 دعوة إلى إنشاء مجلات إسلامية السؤال إلى متى توجد المجلات الفاسدة؟ وهذا سؤال مشابه، يقول: قلت: لا مكان للعلمانية، ونسأل الله ذلك، لكن الملاحظ أن البلاد تعج بكثير من المغريات على شكل مجلات هابطة خليعة، وكتب مملوءة بالأفكار العلمانية الصريحة، وغيرها كثير، وهذه الأشياء متوفرة في كل مكان، ويقرؤها كثير من الشباب غير الواعي، مما يكون له أثر سلبي، لماذا لا تصدر مجلات إسلامية من عندنا لترد على أي مخرب، وليعي الشباب المسلم ما يدور حوله؟ الجواب إن الدعوة لإصدار مجلات إسلامية أو جرائد إسلامية أصبح مطلباً ملحاً، واجهني في عدد من البلاد التي زرتها، خاصة بعد الأحداث الأخيرة، أحداث الخليج، ثم بعد الأحداث الداخلية، أما وجود هذه المجلات الخليعة، فلا شك أن المسئولية عندنا على شقين: الشق الأول على ولاة الأمر، ولا شك أن دخول مثل هذه المجلات لا يجوز، لما فيه من تعريض المؤمنين للخطر والفتنة سواء الفتنة، في أديانهم بما فيها من الشبهات، أو الفتنة في أخلاقهم بما فيها من الشهوات، التي تدعو إلى الرذيلة، ولا شك أن مجرد النظر إلى تلك الصور فيه من الفتنة ما فيه، وكثير منها تتاجر بصورة المرأة، لا تملك أكثر من هذا، وكلما كانت المرأة، التي في الغلاف أجمل كانت المبيعات أكثر، هذا كل ما عندهم، أفلسوا من كل شيء، وأصبحوا يدغدغون عواطف الشباب ومشاعرهم، برسم صور الجميلات على أغلفة المجلات. أما المسئولية الثانية وهي تعنينا الآن، لأنه ليس هناك داعٍ أن نقول: لماذا توجد؟ ثم نقف متفرجين! هو أن نكون نحن إيجابيين في التغيير، وأعلم أيها الإخوة عدداً من البلاد أغلقت محلات الغناء فيها أبوابها عن آخرها، أكثر من بلد، لماذا؟ لأن أهل البلد تضافروا وتعاونوا على إزالة هذه المحلات بالنصيحة، فأثرت النصيحة في جماعة من هؤلاء، وتركوا المحلات، بعضهم أراد أن يبيعها فاشتروا منه وأغلقوه، أو حولوه إلى محل لبيع المواد الطيبة المفيدة، وبذلك أصبح لا يوجد فيها محل للغناء، أماكن أخرى لا تجد فيها مجلات سيئة، حتى أصحاب المحلات مثلاً، صار أهل البلد نتيجة التوعية والدعوة، صاروا يشترون بضائعهم من عند صاحب البقالة الذي لا يبيع الدخان، لا يبيع المجلة السيئة، ولا يبيع الشريط السيئ المنحل، ولا يبيع مجلات الأزياء، حتى إن أحدهم يأتي إلى البقالة مثلاً فيشتري بضاعة بأربعمائة ريال، فإذا اشتراها رفع رأسه فقال: هاه سبحان الله! تبيع الدخان! لا نأخذ شيئاً، خذ بضاعتك، أبقها عندك، لا يشتري، يذهب ويتركها، فيصاب هذا بصدمة. مرة من المرات قال أحدهم: نحن لا نحب أن نبيعها، لكن لأجل الزبائن، لكن قلت له: أنا لست من الزبائن؟ تجاملهم ولا تجاملني؟ أنا أترك بضاعتك، إذاً نستطيع إذا كان كل واحداً منا إيجابياً، فقط نريد منكم شيئاً واحداً هو أن نكون إيجابيين جميعاً، لا نلقي بالمسئولية على أحد، ثم نمشي ونقول انتهينا: لا، نريد من كل واحد أن يكون إيجابياً بقدر ما يستطيع. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 41 حكم الدعوة إلى الوطنية السؤال يقول: انتشرت الدندنة بالموت من أجل الوطن، فما حكم من يدعو بهذه الشعارات؟ الجواب على كل حال مسألة الدعوة إلى الوطنية أصبحت معروفة على أنها نعرة قومية جاهلية، باعتبار أن الذين تبنوا الدعوة الوطنية -كما ذكرت لكم بعض أقوالهم- أنهم ليسوا من أولياء الإسلام وأهله وحزبه، لكن إذا جردنا هذا الموضوع، ونظرنا إلى قضية الدفاع عن الأرض التي يقيم بها المسلمون: ما حكمها؟ فحينئذٍ لا شك أن الدفاع عن هذه الأرض ضد المعتدي مشروع، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، من قتل دون نفسه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد} لكن عليك أن تدرك أن القتال حينئذٍ ليس فقط من أجل التراب لأنه الوطن الذي نشأت فيه، وأقلتني أرضه وأظلتني سماؤه. الشمس أجمل في بلادي حتى السماء هناك أجمل إنما من أجل أن تظل البلاد بلاد الإسلام، من أجل حماية القائمين والعاكفين والركع السجود، من أجل حماية أعراض المؤمنات، من أجل إقامة حكم الله عز وجل في جميع شئون الحياة، من أجل تطبيق شريعة الله تعالى، وليس من أجل ترابها كما يقولون! الجزء: 157 ¦ الصفحة: 42 دور الشباب المستقيم تجاه الأحداث السؤال ما دور الشباب المستقيم في مثل هذه الظروف، ماذا تعني الأحداث الأخيرة التي حصلت ومن وراءها؟ وهل كان للشباب ردة فعل؟ الجواب في الواقع أن المسلمين كلهم من الشباب والشيب والرجال والنساء، كان لهم ردة فعل، لا أبالغ إذا قلت: إنني لا أعلم أنني رأيت في قلوب الناس وفي نفوسهم وعلى سحناتهم من الغضب والتأثر ما رأيته في تلك الحادثة، وأحلف بالله الذي لا إله غيره، إنني لا أذكر أنني رأيت في الناس الإجماع على رفض أمره، والامتعاض منه والتذمر والإنكار بكل وسائل الإنكار مثلما رأيت في تلك الأيام، أمر غريب في الواقع! وهو ترمومتر كشف لنا فعلاً عن أصالة هذه الأمة، وأنها وفية للإسلام أبداً: بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمدا هذه بلاد محمد صلى الله عليه وسلم، هذه وفية لمحمد صلى الله عليه وسلم، فيها دينه، فيها القبلة، فيها المسجد الحرام، فيها مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فيها درج أتباعه، فيها قام بنيانه، وهي للإسلام إلى قيام الساعة، أما من وراءها، فلا شك أن وراءها كثيرين، منهم نحن، فإننا بتفريطنا في مقاومة المنكرات التي سرت في مجتمعنا، وفي كشف رموز الفساد في مجتمعنا، وفي القيام بواجب الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ساهمنا في صناعة هذا الحدث، لم يكن ما حدث ليحدث لو كنا يقظين واعين، لو كان كل امرئ منا يعلم أنه على ثغرة من ثغور الإسلام؛ فيجب أن يظل منتبهاً لا ينام يحرس هذه الثغرة لئلا نؤتى من قبلها. ما الذي يدري الإنسان؟ ربما تحدث أحداث في المستقبل، قد يكون أقرب قريب لك مشاركاً فيها، لماذا؟ لأنك لم تقم بدورك، قد يكون الواحد منا في بيته لغزاً، مهمته أن يأكل ويشرب وينام، أما ما سوى ذلك فخارج البيت، إما في العمل، أو الوظيفة، أو المزرعة، أو المتجر، أو ما أشبه ذلك، لا يراه أطفاله إلا على وجبة الغداء أو العشاء، إذا لم يكن معزوماً على الغداء أو العشاء، فنحن ساهمنا بذلك. العلمانيون في البلاد لا شك أنهم وراء الموضوع، الأعداء في الخارج دائماً وأبداً يتحالفون مع من يوافقهم في الداخل، ولذلك أجهزة الإعلام الغربي طبلت كثيراً وراء هذا الحدث، وتكلمت عنه وضخمته، وجعلت من الأربعين تسعين، واعتبرت هؤلاء النسوة نموذجاً للمرأة السعودية المثقفة نموذجاً للجيل الجديد، وتناست وتجاهلت هذه الحشود الهائلة الرافضة، وهي والله بعشرات الألوف الرسائل والبرقيات -كما بلغنا- للاستنكار من هذا العمل، تجاهلوا كل هذا، وأبرزوا ثمانين، امرأة، ثم قالوا: المرأة السعودية الجديدة المثقفة أصبحت تتمرد على القيود! الجزء: 157 ¦ الصفحة: 43 كيفية التعامل مع المناهج العلمانية السؤال يقول: ما هو الحل لتلك المناهج العلمانية، التي تدرس، ويتخرج منها الأجيال، سواء من البنين أو البنات؟ الجواب أقول: الحل هو واجب الجميع، وليس واجب جهة واحدة فقط، فإن من السهل أن نجعل المسئولية على جهات مختصة، وندع ما سوى ذلك، لكن أليس أولادي وأولادك وبناتي وبناتك هم الذين يدرسون في هذه المدارس؟! فلماذا لا نسهر على تصحيح هذه المناهج؟! لماذا لا نسهر على تنقيتها؟! والواقع يقول: إن التنقية ما زالت ممكنة، الآن ما زالت التنقية ممكنة، وقد جربت وجرب غيري أن تدوين بعض الملاحظات على بعض المناهج الدراسية، أو حتى على أسس المناهج وإيصالها إلى الجهات المختصة، كوازرة المعارف مثلاً، أو رئاسة تعليم البنات، إنها تثمر بكل حال، فهذه مسئوليتنا جميعاً، كما أن على الإنسان ألا يعمد إلى أولاده، فيسلمهم لغيره ليربيهم، بل عليه أن يشارك هو في تربيتهم حتى لو فرض أن المناهج قاصرة، أو فيها أشياء يريد أن يمسحها من أذهان بنيه وبناته، فإن عليه أن يقوم بدوره هو في ذلك، في التربية، وفي تكميل المهمة. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 44 أقنعة العلمانيين السؤال هل من الممكن اعتبار أحداث مصر الأخيرة من الصراع بين الإسلام والعلمانية؟ هل من الممكن أن تذكر بعض رموز العلمانية في بعض البلدان الإسلامية، التي تقوم بدور في هتك أستار الإسلام والمسلمين؟ ما هي الأقنعة التي ترتديها العلمانية متمثلة في رموزها لكي تخدر الأمة بأسلوب الصحافة أو غيرها؟ الجواب ترتدي كل قناع دون حياء كما ذكرت لكم، حتى الإسلام يمكنه أن تتاجر به في فترة من الفترات، وهم غالباً يظهرون على أنهم رموز وطنية، مخلصة، مع الوطن في أزماته وشدائده، وهم الذين أثبتت الأحداث ولاءهم، هذا الذي يحاولون أن يلقوه في قلوب الناس. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 45 لابد من ضبط النفس السؤال لماذا يطلب من الملتزمين وحدهم ضبط النفس في ظل الأحداث الأخيرة، بعكس ما يحدث مع غيرهم كالحداثيين والعلمانيين ومن سار على نهجهم؟ الجواب نحن نطالب المؤمنين ونطالب الشباب المتدين دائماً بأن ينطلق من منطلقات إدراك المصلحة، وذلك أن الإنسان قد يتصرف بأحد سببين، وأود من أحبتي الشباب أن يدركوا ذلك جيداً؛ أحياناً قد يتصرف الإنسان من منطلق أني أريد أن أُنَفِّسَ عن نفسي، أنا أجد في نفسي شيئاً أريد أن أنفس عنه، فهنا عليه أن يدرك جيداً ما هو الدافع، ليس الدافع دافعاً شرعياً مصلحياً، إنما هو دافع غضب شخصي ذاتي، هذا لا كلام لنا فيه، ولا أعتقد أن مسلماً يرضى لنفسه أن يكون هذا منطلقه. الأمر الآخر: أنك تجد الشاب يقول: أنا دافعي الغضب لله ورسوله، والغيرة على الحرمات، والحرص على مصلحة الإسلام، حينئذٍ نقول له: الحرص على مصلحة الإسلام يتطلب منك أن تدرس أي أمر قبل أن تقدم عليه، لأن نفسك قد تدعوك إلى أمر العاطفة القوية، أو الغضب لله ورسوله، أو الاستفزاز من قبل الأعداء، فتتصرف تصرفاً هو في الحقيقة ليس في المصلحة، وأود أن أقول: إن العلمانيين من خططهم -كما أشرت أثناء المحاضرة- في ضمن سياق تاريخهم، أقصد به التطبيق على الواقع- أن العلمانيين من ضمن وسائلهم في كثير من الأحيان، يحاولون أن يقوموا بحركات استفزاز، حركات استفزاز لمشاعر الأمة، لمشاعر المتدينين، لمشاعر العلماء، لأنهم يتمنون أن يحصل الخطأ، حتى يرقصوا على هذا الأمر، ويجعلوا من الحبة قبة، ويبنوا هناك جبالاً من المخاوف، مبنية على أمر واحد، أو تصرف واحد، والغريب أنني لا أعلم في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، أن هناك ثورة قامت في بلد باسم الإسلام، لكن كم من الانقلابات كشفت شيوعية، أو علمانية، أو لا دينية، أياً كان لونها! ومع ذلك تجد الخوف الشديد عند كثير من هؤلاء من الإسلام، ولعل من أهم الأسباب هؤلاء العلمانيون الذين يحاولون أن يدقوا طبول الخطر من الإسلام باستمرار. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 46 علمانية أم جاهلية السؤال يقول: لا أدري لماذا يطلق على العلمانية هذا الاسم، ولا يطلق عليها جاهلية، حيث إن العلمانية مشتقة من العلم، وقد يكون محبباً إلى النفوس؟ الجواب إن كانت العلمانية مشتقة من العلم كما ذهب إليه بعض الباحثين فنعم، هذا من باب تسمية الشيء باسم ضده، أو باسم لماع جذاب مؤثر في نفوس الآخرين، وأما إن كان مشتقاً من أمر آخر كما ذهبت إليه بعض الدراسات الدقيقة، فالأمر يختلف. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 47 طرق العلمانيين في نشر الأفكار السؤال ما هي طرق العلمانيين في الدخول إلى أفكار الشباب؟ وما هي طرق الحصانة منها؟ الجواب من أهم وسائل العلمانيين أنهم يحاولون الهيمنة على وسائل التأثير، التي تدخل إلى كل بيت، بل إلى كل عقل، كالجريدة والصحيفة والمذياع والتلفزة والكتاب، فضلاً عن المؤتمرات، فضلاً عن الندوات وغيرها، ومن خلال ذلك يحاولون أن يؤثروا في عقول الشباب، كما أنهم يستغلون الأدب والشعر، لمحاولة إيصال هذه الأفكار التعيسة إلى عقول عاشقي الأدب والشعر. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 48 الأصولية والولاء للعراق السؤال يقول: كاتب جمع بين متناقضين هما الأصولية والولاء للعراق، فما تعليقكم على ذلك؟ الجواب في الواقع أن لفظ الأصولية ينبغي أن يعلم الجميع أنه مصطلح نصراني، ولم نعلم هذا المصطلح إلا في دوائر المخابرات الغربية، التي أطلقت هذا المصطلح على المسلمين، وتعني بالأصولية ما نسميه نحن في هذه البلاد بالسلفية، فالأصولية أصلاً تعني أن فئة من النصارى أنفسهم، وهم يسمون بالحرفيين، حسب ما ذكرت بعض الدراسات أنهم الذين يفهمون الكتاب المقدس عند النصارى فهماً حرفياً، ولا يقبلون أي تأويل فيه، فأطلقوا هذا الاسم على المسلمين الذين يعتبرون أنهم سلفيون، مثلاً الحركة الوهابية التي قادها الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، هذه تسمى أصولية عندهم، لأنها حركة جهاد وليست حركة سياسية، أي: ليست بحركة سياسية تؤمن بالوسائل الدبلوماسية والمداهنة والمجاملة على حساب الدين، لا. بل هي حركة صريحة واضحة متميزة، من أهم أصولها الولاء والبراء وتمحيص ذلك، قضية تحقيق العبادة، قضية البراءة من الطاغوت إلى غير ذلك من المعاني والأسس التي قامت عليها. فنقلها بعض بني قومنا إلى صحفهم، وبدءوا يتداولونها ويطلقون لفظ الأصولية، واستغل بعضهم الخطأ الذي وقعت فيه بعض الطوائف الإسلامية، في ضجيج المشاكل القائمة، حين أيدت العراق في مواقفه، وحاولوا أن يستغلوا ذلك بإلصاق شتى التهم بكل من ينتسب إلى الدعوة الإسلامية، وأطلقوا عليه لفظ الأصولية، مع أن المقصود بلفظ الأصولية في دوائر الإعلام الغربي بالدرجة الأولى هذه البلاد، فهم قد يقولون: الأصولية في مصر تتمثل في جماعات أو فئات، وكذلك في أفغانستان، لكن في السعودية كما يقولون: يعتبرون أن الأمة أمة أصولية. الجزء: 157 ¦ الصفحة: 49 قضايا تربوية للشباب إن مرحلة الشباب مرحلة مهمة وخطيرة، ذلك لأن الشباب هو مرحلة قوة الإنسان وفتوته، فإن استغله في الخير عاد عليه بالخير الكثير، وإن استغله في الشر خسر والعياذ بالله، فالشباب هم الذين ينصر الله بهم الدين. لذلك كان لا بد من تربيتهم تربية إيمانية صحيحة حتى ينصر الله بهم الإسلام، فما هو السبيل إلى تربيتهم؟ وكيف تتم؟ هذا ما تحدث عنه الشيخ حفظه الله، فقد ذكر أهمية الحديث عن الشباب ، ثم ذكر بعض القضايا التربوية التي تهم الشباب بشيء من التفصيل. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 1 أهمية الحديث عن الشباب إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة: إن الحديث عن موضوع الشباب حديث ضروري ومهم، وذلك لأسباب عديدة: أولاً: يعيش الشباب في هذه المرحلة، كثيراً من التغيرات الجسمية والنفسية والعقلية وغيرها، وهذه التغيرات تسبب للشباب كثيرا ًمن المشكلات التي يحتاج معها إلى من يأخذ بيده إلى جادة الصواب، وإلى طريق السلامة. ثانياً: إن الشاب يتمتع في شبابه بطاقات هائلة جبارة، هذه الطاقات المتنوعة، من الطاقة الجسمية، والقدرة الفكرية، والاستعداد للتضحية؛ يمكن أن تكون طاقة بناءة مثمرة إذا وجدت من يوجهها التوجيه الصحيح، ويمكن أن تكون طاقة هدامة للفرد والمجتمع إذا لم تحض بالعناية والتوجيه. إن الطاقة التي يمتلكها الشاب أشبه ما تكون بالسيل الجارف، فهذا السيل إذا وضعت له السدود والمعابر وصرف بطريقة صحيحة؛ فإنه يكون خيراً للإنسان ولما يمتلكه الإنسان من الحيوانات والزروع وغيرها، وإذا أُهْمِلَ؛ فإنه يكون تياراً جارفاً يكتسح الإنسان والحيوان والزروع وغيرها من المنشئآت، وهكذا طاقة الشباب. ثالثاً: إن الشاب يمتلك قدراً كبيراً من الفراغ لا يمتلكه غيره، وقديماً قيل: إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة نعم! إن الفراغ إذا صاحبه إهمالٌ في التوجيه وغفلة؛ فإنه يصبح مفسدة أي مفسدة، لكن إذا وفق الشباب بمن يوجهه إلى تصريف فراغه بطريقة صحيحة؛ فإنه يكون مصلحة أي مصلحة ومنفعة أي منفعة، وليس المقصود بالفراغ هو وجود أوقات لا يعرف الشاب كيف يصرفها، بل إن الفراغ يشمل أمراً آخر: وهو أن الشاب قد تعدى مرحلة الطفولة، التي كان فيها مجرد كائن بسيط تابع للبيت الذي يعيش فيه، وهو مستعد لقبول التوجيهات التي يلقيها إليه أبواه، تعدى الشاب هذه المرحلة، ولم يدخل بعد إلى المرحلة التي يرتبط فيها ارتباطاً كبيراً ببيت وأسرة وزوج وأعمال كثيرة تأخذ عليه وقته، فهو في مرحلة وسيطة بين هذه وتلك، فلهذه الأسباب الثلاثة؛ يصبح الحديث عن الشباب حديثاً ضرورياً ومهماً. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 2 وقفات مع حديث: (لن تزول قدم ابن آدم) وإن مما يلفت نظرك أيها الشاب، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال -في الحديث الذي رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه- أنه عليه الصلاة والسلام قال: {لن تزول قدم ابن آدم من عند ربه يوم القيامة، حتى يسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وماذا عمل فيما علم} . وحين تتأمل هذا الحديث يلفت نظرك إلى أمور منها: الجزء: 158 ¦ الصفحة: 3 السؤال عن العمر أولاً: إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة، ليس العلم ولا العمل ولا المال، وإنما يسأل أول ما يسأل عن العمر، والسر في ذلك واضح؛ لأن هذا العمر الذي أعطيته هو الذي من خلال عملك فيه تكسب العلم، وتكسب المال وتعمل وتكد وتكدح، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو مالك الأشعري: {كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} فهذا العمر الذي أعطيته هو ورقة الامتحان، تكتب فيها الجواب الذي تراه، فقد تكتب جواباً صحيحاً فتكون النتيجة النجاح، وقد تكتب جواباً غير صحيح فتكون النتيجة الإخفاق. العمر هو الوسيلة لكسب جميع الأشياء، وإنما سعد من سعد في الدنيا وفي الآخرة؛ باستغلال أوقاتهم فيما يرضي الله عز وجل، وشقي من شقي في استغلال أوقاتهم فيما يسخط الله عز وجل، ولهذا فإن من الطبيعي والمنطقي، أن يسأل الإنسان عن عمره قبل أن يسأل عن علمه، وقبل أن يسأل عن عمله، وقبل أن يسأل عن ماله. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 4 السؤال عن الشباب الوقفة الثانية: هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام، أخبرنا أن الإنسان يسأل عن عمره، ثم يسأل أيضاً سؤالاً آخر عن شبابه. فالسؤال عن العمر يشمل السؤال عن الشباب وعن الكهولة والشيخوخة والهرم، أما الطفولة فمن المعروف أن الإنسان فيها غير مكلف، وقد رفع عنه قلم التكليف فلا يسأل عن تلك المرحلة، وإنما يسأل عن الوقت الذي بدأ فيه بدخول سن التكليف، يسأل عن عمره بما في ذلك الشباب، ثم يسأل مرة ثانية سؤالاً خاصاً عن مرحلة الشباب، وهذا يدل دلالة واضحة على أهمية الشباب، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بيَّن أن الإنسان يسأل عن شبابه مرتين، مرة باعتباره جزءاً من عمره، ومرة يسأل عنه سؤالاً خاصاً. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 5 حملة الدعوة وأعداء الدعوة هم من الشباب ولهذه الأهمية لفترة الشباب؛ فإننا نجد أن حملة الدعوات، وأنصار الرسالات، وقادة الموكب هم دائماً من الشباب، فلو نظرت إلى أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدتهم غالباً من الشباب، ونجد أن الله عز وجل حين ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام قال: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ} [يونس:83] . يقول مجاهد بن جبر رحمه الله -أحد أئمة التابعين في التفسير- في تفسير هذه الآية، أي في تفسير الذرية: [[إنهم أبناء الذين بعث إليهم موسى بعد طول الزمان وبعد موت آبائه]] وهذا القول يفهم منه أن غالب الذين آمنوا بموسى واتبعوه، كانوا من الشباب، من أبناء الجيل الذي بعث فيه موسى، أما الكبار الذين بعث فيهم، فلم يؤمن منهم معه إلا قليل. وحين ننظر في دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، نجد هذه القضية واضحة كل الوضوح، فأنت لو تأملت أسماء الذين عذبوا في الله بمكة، أو أسماء الذين هاجروا إلى الحبشة، أو إلى المدينة، أو الذين حضروا الغزوات، أو الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل؛ لوجدت أن غالبهم من الشباب. وأضرب لذلك مثلاً واحداً، وهو ما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه، في بيعة العقبة، يقول رضي الله عنه وأرضاه: [[إن العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم، أحب أن يستوثق لابن أخيه، أحب أن يعرف من هم هؤلاء القوم الذين جاءوا من المدينة؛ ليبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم، ليبايعوه على الإسلام وعلى الهجرة، وعلى أن يمنعوه إذا قدم إليهم مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فقال العباس: يا ابن أخي، إني ذوا بصر بأهل يثرب، فما أدري من هؤلاء النفر الذي جاءوك -قال جابر بن عبد الله -: فتوافدنا على النبي صلى الله عليه وسلم من بين رجل ورجلين حتى اجتمعنا إليه، فقال العباس: هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث]] . لقد أبدى العباس دهشته حين نظر في طلعات هؤلاء المبايعين، وربما كان يظن أنه سيجد مجموعة من كبار الشيوخ الذين خطهم الشيب، أو الشيوخ الذين عرفهم في المدينة، من خلال مجيئه إليها ومروره بها في أعمال التجارة وغيرها، وإذا به يفاجئ أن هذه الطليعة المؤمنة، التي تبايع النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من الشباب، فلم يُخف هذه الدهشة وهذا الاستغراب، فقال أمامهم وهم يسمعون: [[هؤلاء قوم لا نعرفهم، هؤلاء أحداث]] والحديث رواه الإمام أحمد والحاكم في مستدركه وصححه ووافقه الذهبي، ورواه ابن حبان في صحيحه، وله طرق يتقوى بها. وحين ننتقل إلى الحركات التجديدية، التي جدد أصحابها ودعاتها ما اندرس من شأن الدين؛ نجد أيضاً أن أنصار هذه الدعوات والذين يمشون خلف هؤلاء القادة والزعماء، أنهم كانوا -أيضاً- من الشباب، ومالنا نذهب بعيداً في التاريخ، ونضرب الأمثلة من الماضي السحيق، ونحن نجد اليوم في هذه الأزمنة وفي مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بل في مختلف أنحاء العالم، نجد الذين رفعوا راية الإسلام، وأقبلوا على العلم والتعليم، والدعوة إلى الله عز وجل، ومعرفة السنة والعمل بها، والدعوة إليها، نجد أن غالبيتهم من الشباب. وكل متأمل في أوضاع المسلمين اليوم، يجد أنهم يعيشون توبة وأوبة إلى الله عز وجل، وصحوة لا عهد لهم بمثلها، ليس على مستوى الشباب فحسب ذكوراً وإناثاً، كلا، بل وحتى على مستوى الكبار، وعلى كافة المستويات، ولكن للشباب في هذه الصحوة دور بارز ليس لغيرهم، وما كان لهذا العلم أن ينتشر لولا إقبال الشباب عليه ورغبتهم فيه بتوفيق الله تعالى. إذاً فالذين يحملون مشعل الهداية، ويقبلون على الخير، هم في الغالب من الشباب. وحين نقلب الصفحة نجد في المقابل، أن أعداء الأنبياء والرسل الذين يجاهرون بالعداوة ويستميتون في سبيلها؛ نجد أن من بينهم شباباً ممن لم تستنر قلوبهم بنور الإيمان، ونجد لهؤلاء الشباب من القوة في مقاومة دعوة الأنبياء وأتباعهم ما ليس لغيرهم من الشيوخ الكبار، ونجد في واقع المسلمين اليوم، وفي ماضيهم القريب أيضاً. إن كثيراً من حملة المبادئ المنحرفة، ومن دعاة الأفكار الهدامة، كالشيوعية والقومية والبعثية وغيرها من المذاهب التي عرفها المسلمون في ماضيهم القريب وفي حاضرهم، نجد أن كثيراً من الذين نعقوا بهذه الدعوات، وصرخوا بها بين أظهر المسلمين، أنهم كانوا من الشباب. ولا غرو أن نجد أعداء الإسلام من المستعمرين، يحرصون على أن يكون دعاة المبادئ المنحرفة من شباب المسلمين؛ لأنهم يعرفون أن شجرة الإسلام لا تجتث إلا بغصن من غصونها. أيها الشباب! لقد عرفتم الآن أن للشباب أهمية كبيرة، وأن الشباب هم قادة الموكب، وأن الخير التي تنتظره الأمة يكون بإذن الله على يد الشباب ذكورهم وإناثهم، وبناءً على ذلك: فإن من حق الشباب الحديث عن المشكلات والقضايا التي يحتاجون إلى التنوير بشأنها. وسأتحدث في هذه الدقائق عن أربع قضايا تربوية مهمة، يحتاج كل شاب إلى تفهمها: الجزء: 158 ¦ الصفحة: 6 قضية القدوة من المعروف أن في فطرة كل إنسان الميل إلى التقليد والمحاكاة، وهذا يبرز أكثر ما يبرز في الطفل مثلاً، حيث تجده حريصاً على تقليد أبويه أو أستاذه أو غير ذلك، ويظل هذا الميل موجوداً عند الإنسان في جميع مراحل عمره، الميل إلى التقليد والمحاكاة، وهذا الميل إذا ارتقى وأصبح مبنياً على البصيرة والوعي، فإنه ينتقل عن كونه تقليداً إلى كونه اتباعاً، ولذلك يقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] فسمى التأسي على بصيرة، سماه اتباعاً، ولم يسمه تقليداً، وهذا هو الفرق بين التقليد والاتباع، فإن التقليد هو: محاكاة الغير واتباعه بغير معرفة الدليل والحجة، بغير بصيرة ووعي. أما الاتباع: فهو التأسي بالغير مع معرفة الدليل مع البصيرة، والإنسان لا بد له من هذا أو ذاك، فإما التقليد وإما الاتباع. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 7 مزلق خطير في باب القدوة ولكن هاهنا مزلق يقع فيه الكثير، وهو أن الاقتداء مبناه على الإعجاب، فأنت حين تقتدي بالشخص إنما اقتديت به لإعجابك به، وهذا الإعجاب قد يتحول من حيث لا يشعر الإنسان، إلى نوع من التعظيم والتقديس الذي لا يجوز، حتى تجد كثيراً من الناس إذا أعجبوا بشخص واقتربوا منه، لا يقتصرون على الإقتداء به في الأمور الحميدة المعروف مشروعيتها بأصل الدين، وإنما يتعدون إلى الإقتداء به حتى في الأمور العادية البحتة. فتجد الواحد منهم يقتدي بهذا الشخص -مثلاً- في طريقة تحريك اليدين، في طريقة النطق بالكلام، وفي ترديد عبارات معينة يكون هذا الإنسان قد درج على تكرارها، حتى في الخط، وفي طريقة المشي، وفي أشياء كثيرة عادية جداً، بل يتعدى الأمر إلى أن يقتدي به في الأمور غير الصحيحة، فيصبح من الصعب على التلميذ أن يخالف أستاذه حتى في أبسط الأشياء، فتذوب شخصية التلميذ في أستاذه، ويفنى فيه فناءً مطلقاً، وهذا خطأ، وبهذه الطريقة لا يمكن أن يبرز الشاب، ولا أن توجد الإمكانيات والقدرات القيادية لديه. هذه هي القضية الأولى وهي قضية القدوة. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 8 الحرص على الاستفادة والقرب من القدوة أما المستوى الثالث من مستويات القدوة: فهو أن تبحث عن شخص من الأشخاص الأحياء المحيطين بك، ممن استجمعوا قدراً كبيراً من الفضائل والصفات، فتحرص على القرب منه، والاستفادة مما عنده، ومحاكاته في أمور الخير، من العلم والعمل والدعوة وغير ذلك من الفضائل، كما تحرص على الاستفادة من عقله ورأيه ومشورته، فيما يلم بك من أحداث ومواقف وتغيرات. وقد يسأل سائل: وهل نحن بحاجة إلى هذا النوع من القدوة، بعد أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوتنا؟ فأقول: ارجع إلى الحديث السابق الذي رواه جرير بن عبد الله. إننا نعلم جميعاً أن الصدقة مشروعة بنصوص كثيرة من القرآن والسنة، ومع ذلك لما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بالصدقة، فجاء هذا بصرة كادت يده تعجز عنها، وجاء آخر بقليل، وجاء ثالث بما يقدر عليه من المال أو التمر أو غيره، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: {من سن في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها} . إذاً حتى الأمور المشروعة الثابت مشروعيتها في الكتاب والسنة، نحن بحاجة والناس جميعاً بحاجة، إلى أن يروا في واقع الحياة أشخاصاً أحياء يعملون هذه الأشياء المشروعة؛ فتثور أريحية الناس للقيام بهذه الأعمال وأدائها، ولذلك فإن الله عز وجل لما أراد إقامة الحجة على الناس، لم ينزل إليهم الكتب فحسب، بل أنزل إليهم الكتب وأرسل إليهم معها الرسل، فالكتاب منزل على رسول، وهذا الرسول لم يكن ملكاً، وإنما كان بشراً حتى يتحقق للناس كمال الاقتداء، أما لو كان الرسول ملكاً من الملائكة؛ لقال الناس: هذا ملك لا طاقة لنا بأن نعمل كما عمل. الخلاصة: أنه لا بد لك أيها الشاب أن تنظر فيمن حولك، إلى إنسان تتحقق فيه الصفات الحميدة جملة، فتحرص على القرب منه، والأخذ عنه، والاستفادة مما عنده، ولقد كان سلفنا الصالح يعتبرون هذا شرطاً من شروط العلم والتحصيل والتربية، فيقولون -مثلاً- في الشروط التي لا بد منها لتحصيل العلم، بعد أن يذكروا -مثلاً- الذهن الثاقب، يذكرون المعلم الحاذق، وكلكم يحفظ قول الإمام الشافعي: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان فصحبة الأستاذ والمربي والموجه لا بد منها. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 9 السبيل إلى القدوة الحسنة وإذا كان الأمر كذلك وكانت القدوة تكون في الخير وفي الشر، فإن هاهنا سؤالاً لا بد منه، وهو: كيف نستطيع أن نوجد للشاب قدوة في الخير سالمة من الشر، وسالمة من الخطأ ومن النفس، كيف السبيل إلى هذه القدوة؟ هذا سؤال أريد الإجابة عليه. مرة أخرى: إذا كنا نعرف أن القدوة تكون في الخير كما تكون في الشر، فكيف السبيل إلى تحصيل القدوة السالمة من الخطأ، السالمة من النقص، السالمة من الشر؟ السبيل إلى ذلك هو أن يكون قدوتك الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنك إذا اقتديت بغيره اقتداءً مطلقاً، لا محيد لك عن الوقوع في الخطأ، أما الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم فهو سالم من ذلك، ولذلك قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . هذا هو المستوى الأول والأعلى والأسمى من مستويات القدوة، ولكن هل هناك مستويات للقدوة تأتي بعد هذا المستوى؟ يمكن أن نجد مستويات أخرى، فمثلاً: يكون الشاب في كثيرٍ من الأحيان ذا ميل إلى نوع معين من أنواع النبوغ، كالعلم أو العمل أو الدعوة، أو التخصص أيضاً في علم من العلوم أو ما أشبه ذلك، فيحتاج إلى أن يكون أمامه شخص بارز بصفة خاصة في هذا المجال؛ ليسير على خطاه، ويجعله مثلاً أعلى له في هذا المجال، وهذا أمر طبيعي، فمثلاً الاقتداء بـ عمر بن عبد العزيز في العدل، أو بالإمام ابن تيمية في الجهاد والدعوة، أو بالإمام أحمد في الزهد أو في الصبر على العقيدة الصحيحة والثبات عليها، أو الاقتداء مثلاً بالإمام محمد بن عبد الوهاب في الدعوة إلى الله تعالى، وإقامة مجتمع صالح على أساس الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الشخصيات الكثيرة التي يمتلئ بها التاريخ الإسلامي. هذا النوع من الاقتداء، يلبي رغبة وناحية جبلية وفطرية موجودة لدى الإنسان، وينبغي للإنسان أن يجعل له مثلاً أعلى من هؤلاء الأئمة ومن غيرهم، ولذلك روى أبو نعيم في الحلية، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه كان يقول: [[من كان متأسياً فليتأس بمن قد مات]] وكذلك تجد أن الفتاة المسلمة -مثلاً- هي بحاجة إلى أن تجعل من خديجة أو عائشة أو أسماء بنت أبي بكر، أو غيرهن من المسلمات مثلاً أعلى لها. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 10 القدوة تكون في الخير والشر التقليد يكون في الخير كما يكون أيضاً في الشر، ويكون في الحسنة كما يكون في السيئة، وفي القصة التي رواها أبو عمرو جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، كما في صحيح مسلم: {أن قوماً جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مجتابي النمار، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، وكان يظهر على هؤلاء القوم أثر الجهد والفقر والفاقة، فتأثر النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى ما عليهم من أثر الفاقة، فأمر بلالاً فأذن وأقام الصلاة، ثم صلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قام فخطب الناس، وحمد الله وأثنى عليه، ثم دعا الناس إلى الصدقة، فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمره، فبدأ الناس يتصدقون حتى جاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها، وصار هذا يأتي بثوب، وهذا يأتي بصاع تمر، وهذا يأتي بصاع بر، حتى صار أمام النبي صلى الله عليه وسلم كومين من طعام وثياب، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه سلم حتى كأنه مُذهبة من شدة الفرح والسرور، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء} . تأمل هذه السنة الحسنة الواردة في هذا الحديث وهي الصدقة، فإن الناس اقتدوا فيها بمن سبقهم فتصدقوا، وتجد في مقابل ذلك -أيضاً- من أعرض عن الصدقة، أو سخر من المتصدقين، فقال لمن أتى بمال كثير: إن هذا إنما أراد الرياء والسمعة. وقال لمن أتى بصاع من تمر مثلاً: إن الله غني عن صاع هذا، كما حكى الله عز وجل عن المنافقين الذين يلمزون المطّوعين من المؤمنين في الصدقة، قال: {وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} [التوبة:79] . فالقدوة تكون في الخير وتكون في الشر، ويقول صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه: {لا تقتل نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها؛ لأنه أول من سن القتل} وهو عليه الصلاة والسلام يشير بهذا إلى قصة ابني آدم، التي حكاها الله عز وجل في كتابه، في قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ الآية} [المائدة:27] وهي المشهورة بقصة قابيل وهابيل. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 11 قضية اختيار الجليس فإن الشاب في مرحلة الشباب بصفة خاصة، يميل إلى تكوين الصداقات المستقرة الثابتة، وإلى الانتماء إلى مجموعات معينة يشعر بأنه فرد فيها وعضو منها، لا أقول: إن هذا الأمر خاص بفترة الشباب، بل حتى الطفل يميل إلى الخلطة، وحتى الكبير كذلك، ولذلك قال ابن خلدون -تبعاً لـ أرسطو -: الإنسان مدني بالطبع. وهو يقصد أن الميل إلى المخالطة والاحتكاك بالناس، أمر فطري غريزي مركوز في الإنسان، ولكنه يبرز في الشاب أكثر من غيره، فالشاب يميل إلى تكوين صداقات من نوع معين، ومن الشباب الذين يكونون في مثل سنه. وهذه الصداقات تتميز بالاستمرار والاستقرار، فالطفل مثلاً يكون مع زملائه في الحي، فإذا انتقل أهله إلى حي آخر بدأ يلعب مع الأطفال في الحي الثاني، ونسي أصدقاءه السابقين، يكون في فصل في المدرسة -مثلاً- ويلعب مع زملائه، فإذا انتقل إلى فصل آخر نسي زملاءه السابقين وكوَّن صداقات جديدة، فصداقاته غير مستقرة ولا ثابتة، أما الشاب فصداقته تميل إلى الاستقرار والثبات. الأمر الآخر: أن الشاب يحرص على الشعور بالانتماء إلى هذه الجماعة، سواءً كانت المجموعة مكونة من زملاء في المدرسة، أو في الحي، أو في المكتبة، أو في الحلقة، أو في المسجد، أو في غير ذلك، ويشعر بالأمن والطمأنينة بينهم، ويبثهم شجونه وآلامه وأحزانه، ويتحدث معهم في المشكلات التي يواجهها، وفي الطموحات التي يطمح إليها، وهو ينتظر من هؤلاء الشباب، لا أن يكونوا زعماء متسلطين يفرضون رأيهم عليه بالقوة، فإنه يكره مثل هذا النوع من العلاقة، وإنما ينتظر مجموعة من الأصدقاء الذين هم نظراء له يبادلونه الود والمحبة والمشورة. والشاب أيضاً يكره الصداقة المفروضة عليه، فمن الصعب أن يفرض عليه أبوه أصدقاءً معينين، بل هو يختار لنفسه صداقة بنفسه، وهنا تكمن الخطورة، فإن الشاب لم يتدرب على اختيار الأصدقاء، وكثيراً ما يختار أصدقاء ويحسن بهم الظن، فيفاجئ بأنهم برزوا بصورة غير ما توقع؛ ولذلك يُحكى أن أعرابياً بالكوفة. اختار صديقاً له، وكان يحسن الظن به أي إحسان، ويتخذه من عدده في الشدائد، فنزلت بهذا الأعرابي نازلة، فجاء لصديقه يطمع منه أن يعينه فيها، فتنكر له هذا الصديق وقلب له ظهر المجن، وكأنه لم يعرفه يوماً من الأيام، فولى هذا الأعرابي وهو يقول عن صديقه: إذا كان ود المرء ليس بزائد على مرحباً أو كيف أنت وحالك أو القول إني وامق لك مشفق وأفعاله تبدي لنا غير ذلك ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً فأف لود ليس إلا كذلك لسانك معسول ونفسك هشة وعند الثريا من صديقك مالك وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قابلتها شمالك فكم من إنسان يختار الأصدقاء ويحسن الظن بهم؛ فيجدهم على خلاف ذلك. والضابط في اختيار الجليس الصالح هو أن تختار الشاب المتدين، الذي تزيدك صداقته قرباً من الله عز وجل، وتقوى له وعلماً وعملاً، وكم من الشباب كانوا منحرفين، فكانت هدايتهم -بعد توفيق الله وإرادته- على يد قرناء صالحين، وكم من شاب كان صالحاً فكان انحرافه وفساده، ووقوعه في المخدرات والمسكرات، وفي السفر وغيرها من ألوان الانحراف، على يدي قرناء سيئين. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 12 الوساوس التي تواجه الشاب القضية الثالثة -التي أحب أن أتحدث عنها- فهي: الحديث عن الوساوس التي تواجه الشاب. فإن الشاب في هذه المرحلة له طاقات كثيرة، منها: الطاقة العقلية حيث تنمو طاقته، ويتسع تفكيره؛ فيصبح الشاب ميالاً إلى القراءة والاطلاع بشكل كبير، كما تبرز لديه بسبب هذه الحركة الفكرية، بعض الوساوس والمشكلات، التي يسميها العلماء والباحثون، أو يسميها بعضهم بالشك الديني. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 13 علاج الوساوس أما فيما يتعلق بالشك الذي ينتاب الشاب في هذه المرحلة، فإن على الشاب أن يدرك أن هذا في الحقيقة ليس شكاً، وإنما هو نوع من الوسواس الذي يلقيه الشيطان في قلبه، وعلاجه يكون في الانتهاء وعدم الالتفات إلى هذا الكيد، ولذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، أنه عليه الصلاة والسلام قال: {يأتي الشيطان أحدكم فيقول له: من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول له: من خلق الله، فإذا وصل إلى ذلك فليستعذ بالله ولينته} . فأرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الانتهاء، وبالتجربة ثبت أن أعظم علاج يواجه به الشاب هذه المشاعر أو الوساوس، هو ألَّا يعيرها اهتمام، ولا يكترث لها ولا يعظمها في نفسه، فإن الشيطان إذا رأى أنك قد تأثرت وانزعجت من هذه الوساوس؛ فإنه يحرص على الزيادة منها والتركيز عليها، أما إذا رأى أنك لم تكترث لها؛ فإنه يلتفت أو يتجه إلى نوع آخر من التأثير أو الوسوسة. الأمر الثاني: هو كثرة الاستعاذة بالله من كيد الشيطان، ويتمثل ذلك في الأوراد الصباحية والمسائية، والاستعاذة بالله في كل حال، وبالذات إذا خطر الشيطان بينك وبين نفسك، فتستعيذ بالله منه في جميع الأحوال. الأمر الثالث: قراءة الكتب التي تزيد في تثبيت العقيدة، فإذا كانت الوسوسة في ذات الله تبارك وتعالى؛ فاقرأ الكتب التي تتحدث عن إثبات وجود الله، وتذكر ذلك بالأدلة العقلية والنقلية، وتؤكده بسرد الآيات الكونية التي تزيد الإيمان وتركزه وتؤكده في القلب. الأمر الرابع: هو أن تفضي بما لديك إلى ثقة من الثقات، فتبحث عن إنسان تثق إليه وتطمئن به، وليكن -مثلاً- هو أستاذك وقدوتك التي اخترتها؛ لتقتدي بها في الحياة، فتفضي إليه بما تجده في نفسك، حتى يكون عوناً لك على الخروج من هذه المشكلة التي تعانيها. هذا هو الجانب الأول: وهو الجانب العقلي الذي يحتاج الشاب إلى الحديث عنه، وقد كان الحديث عنه من شقين: الشق الأول: الحديث عن إشباع رغبة حب الاستطلاع؛ لتوجيه الشاب إلى الكتب المفيدة التي تناسب هذه المرحلة. الشق الثاني: هو الحديث عن المشكلات أو الوساوس التي تعتري الشاب في مثل هذا الوقت. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 14 الشك فيما يتعلق بالقراءة والاطلاع فأما ما يتعلق بالقراءة والاطلاع، فإن الشاب يميل إلى قراءة القصص، وكثير من القصص اليوم، هي قصص منحرفة تهيج في الشاب الغرائز الجنسية، وتشحذ فيه الشهوة الحيوانية، ولذلك فإن على الشاب أو الموجه أن يحرص على اختيار القصص المفيدة، ومن القصص التي ينصح الشباب بقراءتها: كتب الكيلاني، وكتب المجذوب، وكتب الحمصي، وغيرها من القصص المفيدة، وكذلك قراءة قصص الأنبياء والعظماء والصالحين، ككتب السيرة النبوية، سيرة ابن هشام مثلاً، أو سيرة ابن كثير، أو تهذيب السيرة لـ عبد السلام هارون، ومثلها سير الصالحين، كسير أعلام النبلاء للذهبي. وعلى الشاب أيضاً أن يكثر من قراءة قصص الرحلات الإسلامية، التي كتبها الرحالة المسلمون عن مشاهداتهم في رحلاتهم؛ لأن هذا يشبع لديه غريزة حب الاستطلاع. كما أن عليه أن يختار في كل فن من الفنون أو علم من العلوم كتاباً أو أكثر، يكون موثقاً ويختاره بواسطة أستاذه أو معلمه، فتقرأ في العقيدة كتاب التوحيد، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، أو شرحه فتح المجيد، أو تيسير العزيز الحميد أو غيرهما من الشروح، وكذلك كتاب: معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وتقرأ في الحديث -مثلاً- كتاب رياض الصالحين، أو كتاب مختصر صحيح البخاري، أو مختصر صحيح مسلم، أو شرح خمسين حديث، المسمى بجامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي، أو غيرها من كتب ابن رجب رحمه الله، فهي كتب نفيسة مفيدة، وتقرأ في العلوم الأخرى أيضاً كتباً موثقة مختارة. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 15 الغريزة الجنسية هي أن الشاب يعيش في فترة الشباب زمن فوران الغريزة الجنسية، كما لم يعشه من قبل، وكثيرٌ من الشباب يعانون من هذه الغريزة، ويعيشون على نار ملتهبة، بين هذه الغريزة المتأججة، وبين ما يواجههم من الصعوبات في إشباع هذه الغريزة بطريقة شرعية صحيحة، مع علمهم من جانب ثالث بأن الله عز وجل قد حرم عليهم إشباع هذه الغريزة عن طريق الحرام. والحديث عن الغريزة الجنسية ذو شجون، وكثير من الشباب يكتبون مئات، بل آلاف الأسئلة حول هذا الموضوع، وإن التوجيه الذي يمكن أن يقال بهذه المناسبة يتلخص في النقاط التالية: الجزء: 158 ¦ الصفحة: 16 دور الشيطان في إثارة الغريزة الجنسية من جهة أخرى يقع بعض الشباب أيضاً في حرج آخر، فهو يعيش في وسط مجموعة طيبة من زملائه، وحين يخلو بنفسه قد يقع في مثل هذه القاذورات، فيقول له ضميره: أنت منافق! أنت قذر ملوث، لا يجوز أن تعيش في وسط ناس طيبين! كيف تجالس نأساً أبراراً أطهاراً أتقياء أنقياء، ثم إذا خلوت بنفسك وقعت في هذه الأشياء المحرمة الشيطان حين يقول للإنسان هذا وذاك، يريد أن يحصل منه على أمرين انتبه لهما: الأمر الأول: أن يغري الإنسان بترك التوبة، لأنك تتوب ثم تنقض التوبة، والجواب الصحيح أن نقول: كلا، بل يجب على الإنسان أن يتوب من كل ذنب، وحتى حين يذنب ثم يتوب، ثم يذنب عليه أن يتوب، حتى يموت، وهو مطالب بالتوبة في كل حال، ومطالب بأن يجدد التوبة ويصبر عليها. الأمر الثاني الذي يريده الشيطان من الإنسان: هو أن يترك الجلساء الصالحين؛ لأنه يشعر بأنه متناقض إذا جلس معهم، فيغريه الشيطان بالبعد عن المجالس الطيبة، فإذا ابتعد عن هذه المجالس انفرد به الشيطان؛ لأنه إنما يأكل من الغنم القاصية، فأغراه بما هو أعظم وأطم من ذلك، فربما دعاه إلى الوقوع في الفواحش، وربما دعاه إلى السفر إلى بلاد الكفر والإباحية، وربما دعاه إلى ألوان ودروب أخرى من الرذيلة، فعلى الإنسان ألَّا يستجيب لهذه الوسوسة التي تدعوه إلى ترك التوبة، أو تدعوه إلى ترك مجالسة الناس الطيبين. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 17 مجاهدة النفس الأمر الثالث: عليك أن تجاهد نفسك في ترك الحرام، وتعرف أن سبيل المجاهدة هو السبيل الوحيد الموصل إلى ما تحب، لماذا؟ لأن القضاء على هذه الغريزة قضاء مبرماً، غير مطلوب شرعاً ولا منطقاً، ليس مطلوب منك شرعاً أن تقضي على هذه الغريزة، وكثير من الشباب يقول حين تحاصره هذه الغريزة، وينزعج من ضغطها، يقول: إنني أتمنى أن أقضي عليها حتى أسلم منها وأرتاح وأنجو بديني. لكن هذا تفكير غير صحيح؛ لأن القضاء على هذه الغريزة غير ممكن ولا مطلوب، وإذا كان ذلك كذلك، ولم تستطع تصريفها بالطريق الصحيح، فليس أمامك إلا طريق المجاهدة، مع فعل الأشياء المعينة التي سبقت، لكن لا بد من المجاهدة، وضبط النفس على العفاف والبعد عما حرم الله، وهذا ليس كبتاً -كما يسميه بعض المنحرفين- أبداً، لا يجد الإنسان السعادة إلا بذلك، وبالعكس إذا وقع الإنسان في المعصية، أصابه من توبيخ الضمير وتقريعه والشعور بالندم، ما لا يخطر له على بال. أما إذا امتنع، فإنه كلما تذكر أنه منع نفسه من الحرام، شعر بلذة قلبية غامرة، فلا بد من المجاهدة وهي السبيل الوحيد أمام الشاب، ومع المجاهدة يقع الخطأ أيضاً، قد يقع من الإنسان نظرة محرمة غير دائمة ولا مستقرة، بل قد يتعدى الأمر إلى وقوع الشاب -أحياناً- في بعض الأشياء التي يكرهها، كثير من الشباب يشتكون -مثلاً وخاصة الشباب المنحرف أو العادي الذي لم يوفق بتوجيه سليم- يشتكون مما يسمونه بالعادة السرية، وأن الإنسان يقع فيها، ثم قد يتوب، ولكن ما إن يزول توبيخ الضمير وتقريعه، تبدأ المثيرات وتتحرك الغريزة من جديد، حتى يقع الشاب مرة أخرى وهكذا، فهو يشعر أنه بين شد وجذب، وبين توبة ونقض للتوبة. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 18 الزواج أولاً: على الشاب أن يحرص على إشباع الغريزة بالطريقة الشرعية الصحيحة وهي الزواج، وهذا هو الأمر الذي أوصى به الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج} . وإذا كنت تعرف أن الإحصان هو الطريق الصحيح للسلامة من آثار هذه الغريزة المدمرة في كثير من الأحيان، فإن عليك أن تفكر تفكيراً جدياً في موضوع الزواج، وإذا فكرت في هذا الموضوع تفكيراً جدياً، فكرت أيضاً في إزالة وزحزحة العقبات التي تحول بينك وبينه. كثير من الشباب يفترضون آلاف العقبات: لا أستطيع الزواج، أو لا أملك المال، أو لا أستطيع أن أتزوج وأبقى في البيت، أو أنا شابٌ صغير السن أمامي عدد من الإخوة يكبروني ولم يتزوجوا بعد، أو أريد أن أكمل الدراسة، إلى غير ذلك من العقبات التي يفترضونها بل ويضخمونها، ومثل ذلك عند الفتيات بل وأكثر منه أيضاً. فيجب على الشاب الذي يشعر أن التفكير الجدي في الزواج أمر ضروري له، يجب أن يفكر فيه بصفة جدية ويفكر في إزالة العقبات التي تحول بينه وبينه. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 19 الصوم الأمر الثاني: إذا لم تستطع الزواج فعليك بالصوم، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} عليك بالصوم؛ لأن الصوم يضيق مجال الدم الذي يجري فيه الشيطان من ابن آدم، فيضعف تأثر الشيطان على الإنسان، والصوم أيضاً عبادة تقرب الإنسان إلى الله تبارك وتعالى، وتبعد الشيطان عنه، وعليك أيضاً بتصريف هذه الطاقة الجبارة التي تمتلكها، بالأمور المطلوبة وبالأمور المباحة، اصرف طاقتك بالرياضة مثلاً، أو بالقراءة، أو بالأعمال المفيدة، أو بمجالسة الصالحين، أو بطلب العلم، أو بالمشاركة في المجالات الخيرية، والنشاطات الطلابية، والمراكز الصيفية وفي غيرها بحيث تجد هذه الطاقة مصرفاً صحيحاً وتملئ وقت فراغك؛ فلا تجد فراغاً تفكر فيه بهذه الأمور التي يزعجك التفكير فيها. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 20 الخاتمة أختم هذه المحاضرة بالإشارة إلى قضية أساسية جداً، يتعرض لها الشباب: وهي أن الشاب يحس بالاستقلالية عن بيته ومجتمعه، ويحس بعدم الارتباط بما حوله، ولذلك فهو مستعد للتخلي عن جميع الأشياء التي وجد عليها أهله وبيئته، ومستعد لتقبل جميع الأشياء التي يعرف أنها أشياء صحيحة، ولذلك نجد كما سبق أن أتباع الأنبياء كانوا شباباً؛ لأن الشاب غير متعصب لموروثات الآباء والأجداد، بخلاف كبير السن فهو في الغالب متمسك بالأشياء التي ورثها، ومتعصب لها، وهذه القضية سلاح ذو حدين، يمكن أن يستفيد منها الشاب وقرناؤه الطيبون وقدوته الحسنة، في توجيهه نحو المعلومات الصحيحة عن الدين. ولذلك مثلاً إذا علم الشاب أن الطريقة الصحيحة في الصلاة هي كذا وكذا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بهذه الطريقة، فيضع -مثلاً- يده اليمنى على يده اليسرى على صدره أثناء القيام وبعد القيام من الركوع، فإن الشاب لا يجد أي صعوبة في تطبيق هذه السنة، لكن الشيخ الكبير السن، فمهما اقتنع بأن هذا صحيح، يصعب عليه أن يمتثل ذلك، في كثير من الأحيان، ويجد نفسه مقوداً إلى تطبيق الأشياء التي اعتادها والتي وجد عليها من حوله، وهذه مزية عند الشاب، تدعو إلى ضرورة حرص الشاب ومن حوله على تلقي المعلومات الصحيحة عن الدين. ومن الجانب الآخر: فإن الشاب لو تلقى معلومات منحرفة عن الدين -مثلاً- فإنه يتمسك بها ويسهل عليه قبولها، ولو تلقى أفكاراً منحرفة ومبادئ وضعية، كالمبادئ التي يدعو إليها أهل الضلالة، من الشيوعيين أو الاشتراكيين أو القوميين، فأنه يتقبلها بسهولة أيضا. فهذه القضية سلاح ذو حدين، فعلى الشاب أن ينتبه لهذا من نفسه، ويحرص على تلقي العلم الصحيح، وعلى الحرص على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى التأسي بالقدوة الصالحة. وأرجو أن تسامحوني على هذه الإطالة؛ لأنني أحببت أن أعرض الموضوع بشكل متكامل، وأستغفر الله لي ولكم، وأشكركم على حسن إنصاتكم، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 21 الأسئلة . الجزء: 158 ¦ الصفحة: 22 كتب في الأذكار والأدعية السؤال فضيلة الشيخ: أنا شاب في السادسة عشرة من عمري، وكنت في سابق عمري مع أناس ليسوا بصالحين، ولكن الله منَّ علي بالهداية وبمفارقتهم، والآن أنا وحدي أنام بكثرة وإذا خرجت للشارع لم ألق لي صديقاً، فأرجع إلى البيت فأحس بالخواء، فأشعر بهواجس في نفسي، فما الأذكار والآيات والأوراد التي تعين على الطاعة وتذهب الهواجيس؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب أما الأذكار فهي كثيرة، ويمكن للشاب أن يختار كتاباً في هذه الأذكار، فيقتنيه ويقرأ فيه ويحفظ الأذكار الموجودة، ومن الكتب المرشحة في هذا المجال، كتاب: الكلم الطيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو محقق، وقد انتقى الشيخ ناصر الدين الألباني صحيحه في كتيب صغير سماه صحيح الكلم الطيب، فيمكن أن يقتنيه الشاب، ويحفظ الأذكار الواردة فيه، سواءً الأذكار التي تقال في الصباح أو في المساء، أو الأذكار التي تقال في تقلب الأحوال، عند دخول المنزل، وعند الخروج، وعند دخول الخلاء، وعند النوم، وعند الاستيقاظ إلى آخره. لكن لا بد لهذا الشاب أن يبحث عن مجموعة من الناس الصالحين، يقضي وقت فراغه معهم؛ لأن الإنسان لا بد له من جليس كما سبق، ومن الصعب جداً أن يعيش الفرد في عزلة، فلينظر لمجموعة من الأصدقاء الصالحين في حيه مثلاً أو في مدرسته، وليطلب منهم أن يشاركهم في أنشطتهم وأعمالهم وذهابهم وإيابهم، حتى يستفيد من وقته معهم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 23 القرب من القدوة الحسنة السؤال عندما يتلفت الإنسان إلى قدوته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحياء، ولكن يستحي أن يفشي له بعض الأمور؛ نظراً لبعده منه وعدم اتصاله به اتصالاً مباشراً، ماذا يفعل الإنسان إذا كانت حالته تلك؟ أفتونا مأجورين. الجواب أن يقترب من هذا الشخص إن استطاع، ويستفيد منه بشكل أوسع، حتى تزول الموانع النفسية والحواجز، التي تحول بينه وبين محادثته بما قد يوجد لديه من هموم أو تساؤلات أو مشكلات، ولذلك فإننا نجد في السلف الصالح رضي الله عنهم حين تحدثوا عن طلب العلم، وضرورية التلقي عن أستاذ، تحدث أنه بقدر قربك من هذا الأستاذ، وملازمتك له يكون تحصيلك، ولذلك كان يزيد بن هارون رحمه الله يقول: [[من غاب خاب وأكل نصيبه الأصحاب]] ذكر هذا أبو هلال العسكري في كتاب الحث على طلب العلم، فحاول أن تقترب من هذا الشخص؛ لتستفيد منه أكثر من جهة، ولتتمكن من عرض ما لديك من مشكلات من جهة أخرى. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 24 مجاهدة النفس على ترك المعاصي السؤال أنا شاب أبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة، وأنا -ولله الحمد- محافظ على الصلوات، ملتحق بأحد حلق القرآن وأحب الخير وأهله، إلا أنني أعاني من مشكلة، وهي: أرغب في مشاهدة أفلام الفيديو، وأنا محتار وأجد صعوبة في مجاهدة النفس وفي ترك ذلك، فالرجاء من فضيلتكم مساعدتي في حل هذه المشكلة، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب لعل هذه المشكلة جزئية داخلة في عموم الكلام الذي ذكرتُه أثناء المحاضرة، ماذا يمكن أن يقال لمثل هذا الشاب، نرجع ونقول: لا بد من المجاهدة، هذا هو الطريق الذي ذكره الله عز وجل لنا: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] لا بد من سلوك هذا الطريق، وفي خلال المجاهدة، حصلت سقطة، أتجنب هذه العثرة وأحرص على أن أنهض سريعاً وألحق بركب الإيمان والمؤمنين. ينبغي للشاب أن يحرص على البعد عن الأماكن والأسباب التي تثير غريزته؛ لأن الإنسان إذا تسبب في إثارة الغريزة؛ فعليه ألَّا يأمن من الوقوع في المحرم، سواءً كانت إثارة الغريزة عن طريق مشاهدة صور النساء، أو صور الشباب، أي صور تثير غريزة الإنسان، أو مشاهدة الأفلام، أو مشاهدة المجلات، أو سماع الأغاني أو أي أمر يتسبب في إثارة الغريزة؛ فيجب أن تركز جهادك على تجنب هذا الأمر، فإذا أفلحت في تجنبه؛ فإنك ترتاح حينئذٍ راحة كبيرة، لكن إذا أرخيت لنفسك العنان في المرحلة الأولى، فأطلقت النظر إلى النساء، وإلى الصور، وسماع الأغاني، وغيرها من الأشياء التي تشحذ الغريزة، فحينئذٍ ستجد صعوبة كبيرة في الامتناع عن إشباع هذه الغريزة. وليس هناك من حل سحري ينتظره هذا الشاب، ليس هناك وصفة طبية تذكر للشاب، فيذهب ليشتريها غداً أو بعد غد؛ ليتعاطاها ثم يصبح بحمد الله بارداً أبداً!! الله عز وجل أوجدنا في هذه، الدار وسلَّط علينا النفس الأمارة بالسوء، والشيطان والقرناء السيئين أيضاً، وبين لنا طريق الخير، وأرسل لنا الرسل، وأنزل الكتب، وجعل في نفوسنا دوافع للخير، وقيض لنا أيضاً قرناء صالحين، وأقام علينا الحجة، وعلى الإنسان أن يختار، قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] هذا طريق الهداية وهذا طريق الضلال. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 25 كتب نجيب الكيلاني السؤال هناك أسئلة كثيرة، حول كتب نجيب الكيلاني؛ لأن الشيخ تعرض لها في عرضه لبعض الكتب القصصية التي يهتم بها الشباب، فما هو رد فضيلة الشيخ على ذلك؟ الجواب الحقيقة أنا ذكرت عدداً من الكتب، وليس معنى ذكر كتاب ما أو النصيحة بقراءة كتاب ما، أن هذا الكتاب كتاب موثق من جميع الجوانب ومأمون من الأخطاء، فطالب الكمال في غير القرآن يطلب المحال، كل كتاب غير كتاب الله لا بد فيه من النقص، أبى الله أن يتم إلا كتابه، كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله، ما عدا ذلك فيه نقص، فيه خطأ ولابد، والخطأ يقل ويكثر، وما ذكري للكتب السابقة إلا لأنها مناسبة للشباب، مع الإشارة إلى أن في هذه الكتب أخطاء ينبغي للشاب أن يتجنبها، سواءً كتب الكيلاني، أو كتب غيره من المؤلفين القدماء والمعاصرين. الكتب من الخطأ أن نصنفها إلى كتب قديمة وكتب معاصرة؛ لأن هذا التقسيم تقسيم زمني ليس له ثمرة كبيرة، بل الصواب أن نقسم الكتب إلى قسمين: كتب مفيدة وكتب غير مفيدة، لأننا نجد فيما يسمى بكتب التراث أو الكتب القديمة، نجد كتباً فلسفية، ونجد كتب الأدباء والمؤرخين، المشحونة بقصص الخلاعة والمجون والفساد، ونجد دواوين الشعراء المنحرفة، ونجد كتب الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم. فالكتب قسمان: كتب مفيدة وكتب غير مفيدة، والكتاب إذا كان في جملته مفيداً ونافعاً يتغاظى عما فيه من الأخطاء، ليس معنى التغاظي عما فيه من الأخطاء، أنها تقبل أو يسكت عنها، كلا. بل يقرأ ويستفاد منه وينبه على ما فيه من خطأ. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 26 احتقار النفس السؤال يقول: فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، هناك بعض الشباب يحتقر نفسه ويتنقصها بأنه ليس أهلاً لفعل الخير والعمل الصالح، فنريد من الشيخ توضيح ذلك، وإرشاد مثل هؤلاء الشباب؟ الجواب هذه المشكلة وهي قضية احتقار الإنسان لنفسه -فعلاً- مشكلة حقيقة، ويجب على من يشعر بها أن يحرص على التخلص منها، والواقع أن أكثر الناس ضعفاً، وأقل الناس مواهب، لو بحثت لوجدت لديه جانباً من الإبداع قد لا يوجد لدى غيره. أضعف الناس لو فكر في نفسه، لوجد أنه يتمتع بمواهب وقدرات لا توجد عند غيره، ولكنه أهملها فضمرت وذبلت، ودفنت بركام من الغفلة عنها، ومن الشعور بالنقص واحتقار الذات، وعلى الإنسان أن يكون واثقاً بنفسه، وفرق بين الثقة بالنفس وبين الكبرياء أو الغرور، فثقة الإنسان بنفسه أن يحاول في كل مجال، إذا وجدت أن أمامك أمراً من الأمور، نشاطاً من الأنشطة، طموح من الطموحات تسعى إليه، فعليك أن تحاول بكل ما تستطيع من وسيلة، وتستعين بالله عز وجل، ثم بمن حولك من أهل الخبرة الذين سبقوك في هذا المجال، وستجد من النجاح بإذن الله ما يغريك بمواصلة الطريق. والواقع أيها الإخوة، أن الإنسان إذا ابتلي باحتقار النفس، مهما يكن لديه من المواهب والطاقات؛ فإنه لا يمكن أن يستفيد منها، ولذلك أقول: فعلاً أن هذه مشكلة حقيقة، لأن الإنسان إذا لم يكن لديه ثقة بنفسه مهما يكن موهوباً؛ فإنه لا يستفيد من هذه المواهب، واعلم أيها الشاب! أن أي موهبة أعطاك الله إياها، فإن الله سيسألك عنها، وبهذه المناسبة أذكرك بقول الله عز وجل: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] . إذا تأملت هذه الآية؛ وجدت أن الله عز وجل ذكر أنه رفع بعضنا فوق بعض درجات بكل شيء، سواءً بالعلم أو بالمنزلة أو بغير ذلك، ومن ذلك اختلاف الناس في القدرات والمواهب والإمكانيات، ثم قال: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165] وأشار بعد ذلك إلى الحساب والعقاب والمغفرة والرحمة، إشارة إلى أن الإنسان سيحاسب على الطاقة التي أعطيها، والشخص الذي يستطيع أن يعمل شيئاً كثيراً، يحاسب على تقصيره بهذا الشيء الكثير الذي عمله، لكن الشخص الذي لا يستطيع أن يعمل إلا شيئاً قليلاً وعمل هذا الشيء القليل، لا يطالب بأكثر مما يستطيع، ولا يحاسب على ما لا يستطيع، فانتبه لهذا الأمر، فكل موهبة أو ملكة موجودة عندك؛ فأنت مطالب بتصريفها في خدمة الإسلام والدعوة إلى الله عز وجل ومحاسب على التقصير. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 27 ملازمة العلماء وطلب العلم السؤال الشيخ سلمان، حفظه الله وبارك له في عمله، دائماً نسمع منك ومن غيرك النصيحة في ملازمة العلماء والمشايخ وطلبة العلم، ولكننا نعجز عن تنفيذ ذلك؛ لأن العلماء والمشايخ في شغل دائم، وليسوا متفرغين لنا نحن الشباب، فما هو رأيكم في ذلك؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب أولاً: يجب أن نوسع مفهوم طلب العلم الشرعي، والواقع أيها الإخوة، أنك إذا نظرت اليوم إلى الإمكانيات المتاحة للشاب في تحصيل العلم، وجدتها إمكانيات لم يسبق أن توفرت للشاب المسلم في زمن من الأزمنة، فطلبة العلم كثيرون، والفرص للدراسة مهيأة للشاب على كافة المستويات، والأشرطة التي تسجل فيها دروس العلماء، في الفقه أو في العقيدة أو في التفسير، أو في غيرها من ألوان وفنون العلم وضروبه متوفرة، فأنت تستطيع وأنت في هذا البلد -مثلاً- أن تسمع دروس الشيخ عبد العزيز بن باز، أو الشيخ عبد الله بن جبرين في الرياض، أو الشيخ محمد بن عثيمين في عنيزة، بل أن تسمع فيها دروس مشايخ وعلماء في شتى أنحاء الأرض، وأن تسمع فيها محاضرات وندوات ألقيت في أماكن مختلفة. إذاً فالوسائل الممكنة للشاب لطلب العلم وتحصيله كثيرة، وعلى الإنسان أن يفكر بصورة معتدلة وواقعية، ما هو السبيل المناسب له هو شخصياً لتحصيل العلم، ويرسم لنفسه برنامجاً يتناسب مع ظروفه، ويسعى في تحقيق هذا البرنامج، وإزالة العقبات التي تحول بينه وبينه، ولا أعتقد أن ما يشير إليه السائل متحقق -فعلاً- من إنزواء العلماء أو بعدهم. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 28 علاج تخلي الشاب عن المسئوليات السؤال يقول: فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: نجد بعض الشباب كثيراً ما يتخلون عن مسئوليات، ويظهر منهم الملل في أقرب وقت، مع أنه قادر على أن يوكل إليها، فسرعان ما ينزوي وينفرد بنفسه ويمشي وينفر يده من كل شيء، فما رأيك في هؤلاء وما نصيحتك لهم؟ الجواب الحقيقة أن هذا المشكلة التي يتحدث عنها السائل قائمة، ولا بد من معرفة الأسباب التي تدعو إليها، قد يكون السبب -مثلاً- شعور الشاب -أحياناً- بأنه قد فاته شيء ما، فيستيقظ بشكل مفاجئ، ويحرص على تدارك الأمر الذي فاته. مثلاً: يكون الشاب مشتغلاً بالدعوة إلى الله عز وجل صارفاً وقته لذلك، ثم تفاجأ يوماً من الأيام بأنه قد ترك الدعوة إلى الله، وقال: أنا أريد أن أطلب العلم الشرعي، الناس قد حصلوا العلم ووصلوا منه إلى كذا وكذا، وأنا ضاع عمري في الذهاب والإياب، ولم أحصل على شيء، وهذا مظهر من مظاهر فقدان التوازن. فالإنسان مطالب -أصلاً- بأن يحرص على أن يكون متوازناً، وألا يلهيه القيام بالدعوة عن العبادة، ولا عن طلب العلم الشرعي، ولا عن القيام بحقوق الأهل، ولا غير ذلك، ثم على الإنسان حين ينتبه إلى أنه قصر في مجال من المجالات، أن يحرص على استدراكه بطريقة تدريجية، ولذلك قال بعض السلف: من ظن أنه سيحصل العلم كله في يوم وليلة فهو مجنون. الإنسان الذي يعتقد أنه سوف يحصل على العلوم، ويصبح شخصاً مشاراً إليه مرموقاً في العلم، نافعاً للناس خلال فترة وجيزة مخطئ في حسابه، أما إن كان السبب الداعي إلى الإنزواء سبباً آخر غير هذا، فلا بد من معرفته حتى يمكن معالجته. وعلى كل حال فكم من إنسان يندفع بدافع حماس الشباب، وطفرة الشباب، ثم إذا تقدمت به السن بعض الشيء، وارتبط ببيت وزوج وأهل ومسئوليات وعمل، أصابه فتور وملل وتأخر، والمنة على من وفقه الله للاستمرار، ورزقه العزيمة الصادقة، والصبر على المبدأ والاستمرار على الطريق. الجزء: 158 ¦ الصفحة: 29 صراع الحق والباطل الصراع بين الحق والباطل حقيقة ماثلة للعيان عبر العصور، وفي عصرنا الحاضر شاعت مقولة بأن عصر الأديان قد ولى، وأن الصراعات القائمة ستكون على الماديات والمصالح لكن الدلائل تشير إلى غير ذلك خصوصاً بعد سقوط الشيوعية حول هذه الدلائل وحول ما ينتظر الامة الإسلامية من العداء وواجبها تجاه ذلك يدور هذا الدرس. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 1 قدم الصراع بين الحق والباطل الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] . عباد الله! إن تاريخ الحياة البشرية منذ آدم عليه الصلاة والسلام إلى اليوم، هو تاريخ الصراع بين الحق والباطل، ولقد مضى اليوم من عمر البشرية كثير، كما دلت على ذلك النصوص، بل إن هذا العمر قد ذهب معظمه وبقي أقله، قال الله عز وجل: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1-2] وقال سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء:1] وقال: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف:187] إلى غير ذلك من النصوص والآيات. وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في الصحيح: {بعثت أنا والساعة كهاتين، وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى} مشيراً إلى أن بعثته صلى الله عليه وآله وسلم، كانت من علامات قُرب الساعة، ودنو القيامة، وقرب نهاية هذا العالم الدنيوي. وإذا أدركت ذلك، ثم التفت إلى الوراء لتقرأ في تاريخ الأمم والشعوب كلها، لوجدت أن معظم هذا التاريخ، لم يكن تاريخ الصراع على المرعى، ولا كان تاريخ الصراع بين القبائل، ولا كان تاريخ العُشاق الذين ذهب الواحد منهم يضرب البحار والفيافي والقفار بحثاً عن معشوقته كلاَّ!! وإنما كان تاريخ الصراع والحرب بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والإيمان والكفر، والنبوة والشرك، هذا هو التاريخ. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 2 انتصار الحق واندحار الباطل ولم يكن للباطل ظهور ولا انتفاش ولا انتشار ولا امتداد إلا في غيبة الحق؛ فإن أمامنا قاعدة ربانية راسخة، أنه كلما ظهر الحق خنس الباطل واختفى وهرب، قال الله عز وجل: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] وقال تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] . ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، كان في مكة، بل كان في الكعبة ثلاثمائة وستون نُصباً -صنماً- فكان عليه الصلاة والسلام يطعن هذه الأنصاب والأصنام بعودٍ في يده، فتتهاوى وتتساقط واحداً بعد الآخر، وهو يقول صلى الله عليه وسلم: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] وقال تعالى: {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} [سبأ:49] . إن تاريخاً طويلاً من الوثنية في جزيرة العرب ومن الشرك ومن عبادة الأوثان، حين كان العرب يعتبرون الصنم هو إلههم ومعبودهم ومرجعهم ومستشارهم، ومع ذلك هذا التاريخ الطويل العريض كله مسح في غداةٍ واحدة، حينما دخل النبي المصطفى المختار عليه صلوات الله وسلامه مكة فاتحاً، فكان يطعن الأصنام بعود، ما احتاجت إلى شيء آخر، ما احتاجت إلى فأس ولا إلى منجل، وإنما كان يطعنها بعود في يده، فتتهاوى وتتساقط، وكان ذلك إيذاناً بأن بنيان الباطل زائل مهما ضُربت حوله الطبول، ورفعت حوله الأعلام، وجندت له الجنود، فإن بناء الباطل مبنيٌ على شفا جرفٍ هار، فانهار به في نار جهنم فمتى ظهر الحق اختفى الباطل، ومتى علت كلمة التوحيد اندحر الشرك، إن كلمة الله تعالى لا يقف في وجهها أحد، وإن دين الله تعالى منصورٌ بقوة الحق الذي يحمله، ومنصورٌ بأن الله تعالى معه، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] . الجزء: 159 ¦ الصفحة: 3 رجوع البشرية إلى التدين لقد خُيل للناس خلال فترة مضت، أن عصر (الإيديولوجيات) كما يقولون قد انتهى، وأن المرحلة الجديدة هي مرحلة تبادل المصالح، أو مرحلة الصراع على الماديات وعلى الدنيويات، وخدعنا العلمانيون كثيراً بمثل هذا الكلام، وكتبوه في الصحف، ونشروه في الكتب، وروجوا له في أجهزة الإعلام، في طول العالم الإسلامي وعرضه، وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، وأن هذا الكلام سوف يدخل إلى عقول الناس، وما علموا أن أول مكذبٍ لدعاويهم هو العالم العلماني الذي درسوا فيه، وأخذوا عنه وتخرجوا من جامعاته، ورددوا في بلاد الإسلام أطروحاته وأفكاره، فإذا بالعالم العلماني الغربي يكون أول مكذبٍ لهذه الدعوى الباطلة، فبعد سقوط الشيوعية، التي كانت تواجه الغرب بدأ العالم كله غربيه وشرقيه يتمحور حول العقائد. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 4 ميدان الصراع بين الأديان إنها معركة واضحة، ميدانها اليوم الإنسان الذي تتنافس عليه القوى المختلفة، فكل أصحاب الأديان رجعوا إلى أديانهم، وبدءوا يدعون إليها، ويسعون إلى تأليف الناس وتأليبهم حولها، وهذا يدل على أن هناك معركة حقيقية تدور في الخفاء، ميدانها العقل، وميدانها القلب، ولكن عقل مَنْ؟ وقلب مَنْ؟ إنه عقل الإنسان وقلبه، الذي هو مدير المعارك العسكرية، والقائم على الإعلام، والمسئول عن السياسة، والمتصرف في أجهزة الدول. إذاً، وهي وإن كانت معركة خفية إلا أن شررها يتطاير وآثارها تظهر بين آونة وأخرى، بل في كل وقتٍ وفي كل حين. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 5 تقليص الإسلام وتوطيد النصرانية إننا في الوقت الذي نجد فيه المطالبة على أشُدها في بلادٍ إسلامية كثيرة بتقليص الإسلام، وتحجيم دعوته، وإغلاق مجالات النشاط الشرعي بأوهى الحجج، بحجة أنها مكان لنفوذ الأصوليين، أو مكان لتغلغل المتطرفين، أو أنها تُعتبر منابع يتخرج منها المتدينون، ولا بُد من تجفيف المنابع، بتغيير التعليم، وتغيير الإعلام، وعلمنة أجهزة الدول كلها، والقضاء على كل الجمعيات والمؤسسات والمراكز والمساجد التي تكون منطلقاً للدعوة الإسلامية، إننا في الوقت نفسه نجد أن العالم الغربي يقطع خطوات كبيرة في تيسير عملية التعبد على الطريقة النصرانية للمواطن العادي. فقد أصبح بإمكانه أن يتعبد زعماً وإلا فهي عبادة للشيطان حقيقةً، أن يتعبد وهو متكئ على أريكته في عقر بيته، من خلال متابعة برنامج تلفزيوني، أصبحت البرامج التلفزيونية بالمئات بل بالآلاف في دولة واحدة فقط مثل أمريكا!! فضلاً عن الجهود الأخرى المكثفة والكثيرة، التي تُنادي بالقضاء على العلمنة في التعليم وفي الإعلام وفي الحياة العامة، وقد أصبحت هناك مطالبات كثيرة بإتاحة فرص أوسع للطلاب، للتعليم الديني، ولأداء الطقوس في مدارسهم وأماكن عملهم. إنها مفارقةٌ عجيبة ففي الوقت الذي ينكفئ العالم الغربيُّ إلى دينه الفاسد المحرَّف المبدَّل المنسوخ، فإننا نجد أن من المسلمين اليوم من لا يزال يغط في سُباتٍ عميق، ويستكثر على المسلمين عودتهم إلى دينهم، ويحاول أن ينفخ الحياة من جديد في جسدٍ ميت، إنه جسد العلمانية التي هي كما قال الله تعالى عنها وعن غيرها من الباطل: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] . إن المسلمين اليوم في أمس الحاجة إلى أن يتلمسوا مواقع أقدامهم، ويدركوا أي حالٍ هم قادمون عليها، وأية خطةٍ تدار بشأنهم، يتنادى إليها الغرب والشرق على رغم أن المسلمين لا يملكون الكثير، ولكن أعداء الله تعالى هم كما وصف الله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:10] وقال تعالى: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّاً وَلا ذِمَّةً} [التوبة:8] وقال تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً} [الكهف:20] . خياران لا ثالث لهما {يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] . فأسأل الله تعالى أن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يرزق المسلمين الوعي والبصيرة في دينهم، وأن يثبت أقدامنا وأقدام المسلمين في كل مكان، إنه ولي ذلك والقادر عليه أقول ما تسمعون، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروا الله يغفر لكم ويتُب عليكم؛ إنه هو التواب الرحيم. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 6 أسباب عودة العالم الغربي إلىالنصرانية فالعالم الغربي أدرك أنه مهددٌ بالعقيدة الإسلامية، وهي عقيدة تحمل من القوة والصفاء والسلامة والتأثير والعمق، والكمال ما يجعلها محل إغراءٍ للكثيرين ممن سلمت فطرهم وعقولهم، وأقبلوا على الحق، وليس هذا بحاجةٍ إلى تدليل؛ لأنه يكفي المسلم أن يعرف أن الإسلام دين الله تعالى، وأن هذه العقيدة يتلقاها المسلم اليوم كما تلقاها المسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، غضةً طرية، من القرآن الكريم مباشرة، ومن الحديث الشريف مباشرة، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . فشعر العالم الغربي أن الإسلام يملك بذاته من وسائل القوة والتأثير والجاذبية الكثير، ولو كان الإسلام محجوباً بمساوئ أهله وعيوبهم، ولو كان الكثيرون يعزفون عن الإسلام لِأنهم يرون في المنتسبين إليه رداءة الأخلاق، أو التخلف العلمي، أو الغباء السياسي، أو التبعية للغرب أو الشرق، أو غير ذلك من الآفات والأمراض الكثيرة التي حاول الغرب أن يحجب بها مساوئ الإسلام، لكن رغم هذا كله، فإننا نجد عند العالم الغربي حركة في التوجه إلى الإسلام والالتزام بدين الله تعالى، ليس على مستوى العمال مثلاً، ولا على مستوى شعب من الشعوب، وإنما في قلب العالم الغربي وفي منطلق الحضارة، بل في مهد الحضارة في الجامعات الغربية وفي مراكز البحوث والدراسات!! وقد زرتُ أحد المراكز هناك، فأخبروني أنه يسلم عندهم أسبوعياً ما يزيد على عشرين، بعضهم من أساتذة الجامعات، وقد لقيت بعض هؤلاء، فرأيت فيهم الحماسة للدين والاغتباط بهداية الله تعالى والفرح برحمته: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] . لقد بدأ العالم الغربي يشعر بخطورة الإسلام، ولهذا لم يجد أمامه إلا أن ينكفئ إلى الوراء، ليعود إلى العقيدة النصرانية بتحريفها وتبديلها وتغييرها، وما فيها من التناقض، وما فيها من المخالفة للعقل، وما فيها من المخالفة للدين، ولكنها هي الحل الوحيد أمامه. يريد أن يعود إليها وينفخ فيها روح الحياة من جديد، وقد ظهرت في العالم جماعات ودعوات ومنظمات تدعو إلى تجديد النصرانية، ولعل من أحدثها وأشهرها (جماعة بورٍ أجن) التي تدعو إلى الدخول في النصرانية أو اكتشاف الدين النصراني من جديد. إنهم يشعرون أن دينهم بحاجة إلى دماء جديدة، وإلى تغيير جديد ولأنه ليس ديناً حقيقياً، بل هو محرف، وهو منسوخ، فإنه لا مانع عندهم أن يجروا له عدداً من العمليات الجراحية؛ حتى يتلاءم مع الهدف المحدد الذي حركوه لأجله؛ لأنهم حركوه من أجل أن يوظف هذا الدين في مواجهة الإسلام وفي مقاومة المد الإسلامي، وليكون حصانةً فكرية وعقائدية ودينية، يغرون بها بسطاء العقول والسذج من بني قومهم لئلا يتأثروا بالإسلام. إننا في الوقت الذي نجد فيه أن كثيراً من الناس في بلاد العالم الإسلامي، يستكثرون علينا صحوتنا الإسلامية، وعودتنا إلى دين الله تعالى، وتمسكنا به وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على رغم أنه الدين الحق، وأن هذه الأمة بحمد الله مازالت راية الإسلام فيها مرفوعة هنا أو هناك لم تسقط أبداً: إذا مات فينا سيدٌ قام سيدٌ قئولٌ بما قال الكرام فعولُ فهذه الأمة في مجملها أثبتت أنها أمة الإسلام، وأنه إن تخلى منها قوم، خرج آخرون، كما وعد الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] . هذا وعد قائم؛ قائم للجيل الأول، وقائم لي ولكم، وقال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] . إننا نجد اليوم أن رؤساء الدول الغربية وأن كبار العلماء، وكبار المتخصصين، وأصحاب الفكر، وأصحاب النفوذ، وغيرهم أنهم أصبحوا يطالبون بأن تقوم الدول الغربية بإشباع الحاجات المعنوية والروحية للإنسان، وقد قال كبير من كبارهم، ورئيسٌ لحامية الصليب في العالم، رئيسٌ سابق، قال: إننا لا يجوز أن نقصر مهمتنا على دعم العالم بالمساعدات المادية التي أثقلت ميزانياتنا، ولم تُجد نفعاً، ولكننا ينبغي أن ننتقل إلى تقديم المساعدات الروحية للعالم، وإلى إشباع الحاجات العاطفية للناس، ويجب أن نقدم لهم الإنجيل بيد، ونقدم لهم المساعدات باليد الأخرى. ولهذا أصبحوا اليوم، يبتزون الناس بأموالهم ومساعداتهم، لصرف الناس عن دينهم، مقابل أن يشبعوا جوعتهم، أو يرووا ظمأهم، أو يكسوهم من عُري، أو يعالجوهم من مرض، أو يمنحوهم مساعدة، أو جنسية، أو منصباً، أو علاوة، أو رتبة، أو أي شيء آخر. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 7 أصداء سقوط الشيوعية الحمد لله رب العالمين، لقد كان سقوط الشيوعية انتصارا للإسلام حقاً، ولكن الكل يعرفون أن أكبر عدوٍ وقف في وجه الشيوعية هو الإسلام، ليس في أفغانستان فقط، بل في كل بلاد الإسلام، وليس سِراً أن عدد الذين دانوا بالشيوعية في العالم الِإسلامي كله لا يزيدون على (2%) فقط، وأن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي كانت منبوذةً مركولة، وكانت تميل إلى السرية والعمل تحت الظلام، وتسعى إلى هذه الأساليب الخفية، ولكن العالم الغربي اعتبر سقوط الشيوعية ضربةً على الإسلام، ووجه السهام التي كانت موجهةً إلى الشرق الشيوعي، إلى العالم الإسلامي، وبدأ يعتبر أن الإسلام هو العدو القادم الذي يهدده في كل النواحي وفي كل المجالات. إننا نقول بحقٍ وصدق لقد صدقوا؛ فإن الإسلام عدوهم وخصمهم، وخاصةً ذلك المسلم الواعي الذي أصبح يُدرك ما معنى أن يكون الغرب كافراً؟! نصرانياً أو يهودياً أو علمانياً إن المسلم الذي بدأ يعي دينه، ويقرأ قرآنه، ويتلقى عن الله تعالى العقائد والشرائع والأحكام، أصبح يقرأ في القرآن قول الله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] ويقرأ قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] ويقرأ قوله تعالى: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} [الكهف:20] . الجزء: 159 ¦ الصفحة: 8 اليقين بنصر الله لدينه لا يجوز إلا أن نؤمن بأن الله تعالى سوف يدير لدينه فلك النصر والتمكين، شاء من شاء، وأبى من أبى، وأن ندرك أن الله تعالى يصنع لدينه وإن غفل الناس، قال الله عز وجل في كتابه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة:216] إن القتال تكرهونه ولكن الله تعالى كتبه عليكم، فعسى أن يكره الإنسان شيئاً -القتال أو غيره- ويكون فيه الخيرُ للناس، إن موازين البشر قصيرة وقريبة المدى وسريعة، أما الأمور في علم الله تعالى وفي قدره، فهي شيءٌ آخر مختلف تماماً عمّا يقدر الإنسان، وعما يظن الإنسان، وكم قدر الإنسان وظن وحسب، فجاءت النتائج مناقضةً لتقديره وظنه وحسابه، حتى لو لم يكن فرداً، حتى لو كان مركزاً دراسياً، أو منطلقاً لدراسة المستقبل، أو مجموعة من المتخصصين، بل حتى لو كان إجماعاً من المحللين والمراقبين: وأستار غيب الله دون العواقب أيها الأحبة: هل يجوز أن يكون دور المسلم هو مجرد انتظار المعركة الحاسمة التي ينتظرها النصارى، وينتظرها اليهود. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 9 توجه العداوة إلى الإسلام لقد قرأتُ بنفسي مقالاً لرئيسٍ من أعظم رؤساء الدول الغربية، يقول: "ليس أمامنا بالنسبة للمسلمين إلا أحد حلين: الأول: هو تقتيلهم والقضاء عليهم. الثاني: فهو تذويبهم في المجتمعات الأخرى المدنية العلمانية". ومع أن هذا الرئيس المفكر الكاتب المستشار رجح الحل الثاني، إلا أن لهجة الحديث تدل على أن الاحتمال الأول عنده واردٌ وقائم، بل ويمكن استخدامه في حالات كثيرة، ونحن نرى اليوم بوادر التطبيق العملي لهذا الأمر في تدخلات غربية في بلاد عدة، وفي مواجهات ساخنة مباشرة بين الإسلام والكفر، فأحداث البوسنة والهرسك -مثلاً- هي نموذج للحقد الصليبي، الذي يتنامى ويشتد يوماً بعد يوم، ويعصف بما يسمى حقوق الإنسان، وما أشبه ذلك من العبارات التي طالما خدَّرنا بها الغرب، وطالما أقام لها الجمعيات، ووضع لها الإعلانات، وتحدث عنها، ولكنه كان أوَّل من يخرق هذه الاتفاقيات، ويهدم هذه الحقوق، ويقضي على هذه الإعلانات بفعله، وإن كان يرددها بلسانه. ومع أحداث الصومال القريبة، التي تنم كما تعبر الصحف بحروفها عن وصاية غربية أو حماية، إنها عودة لعصور الاحتلال والاستعمار والمواجهة العسكرية المباشرة بين المسلمين والكفار. وأعتقد أن ثمة بلاداً إسلامية أخرى يمكن أن تكون تحت طائلة هذه العداوات المتكررة في شرق البلاد وغربها، إن العالم الغربي ليس لديه مانع أن يضرب عرض الحائط بكل دعاوى الحرية والإنسانية والكرامة والمساواة، متى ما شعر أن هناك قوةً إسلامية يمكن أن تظهر. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 10 دور المسلمين تجاه الأحداث ففي دين اليهود والنصارى، وكتبهم التي يسمونها مقدسة في دينهم، أن ثمة معركة فاصلة بين الحق والباطل، كما يسمونها بين قوى الخير وقوى الشر، وهذه المعركة هي معركة هرمجدون، وموطنها في العالم الإسلامي، وبالذات في أرض فلسطين التي لا يزال الغرب والشرق واليهود والنصارى، يتحالفون من أجل إحكام طوق الحماية الأمنية لها، ودعمها عسكرياً واقتصادياً وبشرياً، لتظل قوة تمثل الكفر في العالم الإسلامي. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 11 تحرك المراكز العلمية والجامعات يجب أن ننتقل إلى الخطوة التالية: وهي أن يكون لنا مشاركات عملية في المعركة الخفية بين الحق والباطل، المعركة على العقول، والقلوب، والمجتمعات، سواء كانت المجتمعات الإسلامية، أم المجتمعات الغربية، إننا ننظر إلى الجامعات الإسلامية فنجدُ أنها أصبحت جامعات عريقة، وفيها دراسات وتخصصات كبيرة، وفيها خبراء وأساتذة على أرقى المستويات، وأن هذه الجامعات -سواء في هذه البلاد أم في غيرها- أصبحت تملك من الوسائل العلمية، والتقنية، والطاقات البشرية، شيئاً كثيراً، وأصبحت تستقطب أعداداً كبيرةً من الطلاب من كافة الطبقات، وهاهنا يبرز السؤال ما هو دور مثل هذه المراكز العلمية في الدعوة إلى الإسلام، وفي نشر الحق، وفي مقاومة الباطل، وفي تهيئة المجتمعات الإسلامية كلها للمواجهة التي هي آتية لا محالة، رغبنا أم كرهنا، بيننا وبين أعداء الإسلام، اليوم أو بعد سنة أو بعد خمسين سنة أو في أي زمن يعلمه الله تعالى فإن الجهاد قائم إلى قيام الساعة، كما أخبر صلى الله عليه وسلم: {لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيَّة} . فالجهاد قائم إلى قيام الساعة، ولا تزال طوائف من هذه الأمة تُقاتل الكفار، فيرزقها الله تعالى منهم، وينصرها عليهم، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم ظاهرون على الناس. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 12 فعل الأسباب وعدم الانتظار لا يجوز أن يكون دورنا مجرد انتظار هذه الأحداث!! بل ينبغي أن ننتقل إلى الخطوة العملية التي تعبدنا الله تعالى بها، وهي أن نفعل الأسباب، ونبذل ما في وسعنا، ثم ننام قريري العيون، مدركين أن النصر بيد الله تعالى؛ فالله يؤتي النصر من يشاء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51-52] وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] . الجزء: 159 ¦ الصفحة: 13 دور أستاذ الجامعة يا أستاذ الجامعة! إنك تتبوأ منصباً رفيعاً، ومكانةً عالية، وقيمةً اجتماعية وعلمية، لا يكاد ينافسك فيها إلا من كان على مثل ما أنت عليه، والأمة تنتظر منك دوراً كبيراً. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 14 اقتران التقدم العلمي بالالتزام بالإسلام أمرٌ آخر: إنه مما يُسعدنا كثيراً أن يكون التقدم العلمي قرين الالتزام بالإسلام، والتمسك به عقائد وأحكاماً، أصولاً وفروعاً، أخلاقاً وعبادة وسلوكاً؛ لأن الإسلام دينٌ مهيمن على كل مجالات الحياة. فمن الواجب علينا جميعاًً وعلى الطلاب خاصة، أن يكون لديهم حرصٌ على التزام مكارم الأخلاق ومعاليها، وعلى التمسك بالدين كله، وعلى أن يُقدموا أنفسهم على أنهم في الوقت الذي يدرسون فيه التخصصات العلمية، إلا أنهم أيضاً يقدمون أنفسهم كطلبة علمٍ شرعي، أو يقدمون أنفسهم كدعاة إلى الإسلام بحسب ما يعرفون، أو يقدمون أنفسهم على أنهم ينتمون إلى هذا الدين انتماءً قلبياً عميقاً، وأن هَمَّ الإسلام يقوم معهم ويقعد، ويصحو معهم إذا صحوا، أما إذا ناموا فهو يخايلهم في أحلامهم! إن أمر الإسلام لا يتم ولا يستوثق، إلا إذا وجدت القلوب التي تتحرق له، والعقول التي تفكر له، والأجساد التي تجهد نفسها في خدمته، وحينئذٍ لا خوف على الإسلام؛ لأنه دينُ الله، ولو كان ديناً فاسداً وجد له أتباعاً يجاهدون في سبيله لرفعوه، فكيف وهو دين الحق الذي معه الله تعالى؟! إننا لا نشك طرفة عين في أن أهل الحق وأهل الإسلام لو جدوا واجتهدوا، لحققوا في سَنَةٍ ما حققه أعداؤهم في خمسين أو عشرين سنة. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 15 العناية بمعالي الأمور والابتعاد عن سفاسفها إنه ليس بلائقٍ بإنسانٍ يخوض معركة مع الباطل، أن يشتغل ببنيات الطريق، ويثير معركةً خاصةً مع هذا، ومعركةً أخرى مع هذا، أو يتراشق مع فلان أو علان بالألقاب والكلمات، أو يجعل من الخلافات الجزئية التي هي محتملةٌ وممكنة ومحل اجتهاد، وليست مخالفةً لأصل من أصول الشرع ولا لقاعدة، ولا لنص شرعي، أن يجعل منها مجالاً للتنافس أو للقيل والقال. فينبغي للإنسان أن يسلك أسلوب النصيحة، والكلمة الطيبة، والدعوة بالتي هي أحسن، وتأليف القلوب على الحق مهما أمكن، فإن المقصود هداية الناس وليس إبعادهم أو تنفيرهم عن الحق، فكلما رأيت إنساناً تعيب عليه بعض الشيء، فعليك أن تسلك معه أسلوب الدعوة والرفق والحلم والصبر، ومن لم يهتد اليوم فسوف يهتدي غداً أو بعد غد أو بعد سنة أو ما زاد عن ذلك {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] . لماذا أنت في عجلة من أمرك؟ ولماذا تعيب فلاناً أو تنتقده لأنك نصحته فلم ينتصح؟ اصبر عليه لعل الكلمة التي فيها هدايته لم يسمعها بعد! الجزء: 159 ¦ الصفحة: 16 المشاركة من الجميع ثم لا بد من المشاركة البنّاءة أيضاً، لا بد للجميع من المشاركة؛ لأن قضية الإسلام ليست قضية العالم الفلاني، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] . وهذا الحِمْل الذي تحمله عليه السلام، وسهر له بالليل، وتعب له بالنهار، وجهد من أجله قد أُلقي على عواتقنا جميعاً، فنحن ورثته، وحملة شريعته، ونحن الذين طولبنا بتبليغ الرسالة للأجيال التي بعدنا، فضلاً عن الأجيال التي نعايشها اليوم، فواجبٌ على كل جيل أن يحمل أمر الإسلام إلى من بعده، وواجبٌ علينا جميعاً أن نشارك في الدعوة إلى الإسلام، وأن نشارك في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وألا نقبل من أنفسنا عذراً مهما كان، فكل من قال: لا أستطيع، نقول له: حاول، وكل من قال: مستحيل، نقول له: جَرِّب، وعلينا أن ندرك أن الحاجة أم الاختراع. جاء رجلٌ إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حينما دعا الناس إلى الجهاد، ومعه أخوه، فقال له: هذا أنا، وهذا أخي، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] وموسى عليه الصلاة والسلام قالها من قبل {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] والله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] . فعلينا جميعاً أن نُجند إمكانياتنا في الدعوة إلى الله، وأن نصدق الله تعالى في أن نقوم بالعمل الذي نستطيعه، فإن الحساب عسير. يقول الله عز وجل: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] نعم إن الآية لها منطوق ومفهوم: أولاً المنطوق: فهو أن الإنسان لا يكلف مالا يستطيع. ثانياً المفهوم: فهو أن الله تعالى قد كلَّف كُل إنسانٍ وسعه كله، وطاقته كلها، وجهده كله. ونحن نقول لك: متى بذلت وسعك وطاقتك، فكثَّر الله خيرك! وجزاك الله خيراً! ولا تُطالب بأكثر من ذلك، لكن من مِنّا ولو كان من أقوانا، وأكثرنا دعوة، وجهاداً، وعملاً، وتضحية من هو الذي يستطيع أن يقول: إنني بذلت كل طاقتي؟! فأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يستعملني وإياكم في طاعته، وأن يجعلني وإياكم هُداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ فأشغله بنفسه، اللهم أرنا في الظالمين عجائب قدرتك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم انصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، ربّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لنا أجمعين، وهَبِ المسيئين منا للمحسنين برحمتك يا أرحم الرّاحمين، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 17 القدوة للطلاب ودورك يبدأ أولاً بالقدوة لهؤلاء الطلاب الذين هم مستقبل الأمة، وهم بين يديك، تعلمهم ما شئت، وتطبعهم من الأخلاق على ما شئت، وتلقي في عقولهم وقلوبهم من المعاني والأفكار والأخلاق ما وفقك الله تعالى إليه، فأي توفيقٍ أعظم من أن يمكنك الله تعالى من أذن خمسين أو مائة أو خمسمائة طالب، تستطيع أن تحدثهم، وتوجههم، وترشدهم، بل وتستطيع أن تبنيهم بناءً شرعياً تاماً، وبناءً علمياً في التخصص الذي يدرسون ليتخرجوا كوادر، يملئون الميدان، ويسدون الحاجات، ويكونون حماية لظهر الأمة، من أن تكون محتاجةً إلى عدوها، في صناعتها، في أسلحتها، في علومها، في اقتصادها، وفي غير ذلك. فهذه المهمة العظيمة مهمة القدوة الحسنة لهؤلاء، ومهمة التأثير عليهم، ومهمة أن تحمل هَمَّ الدعوة إلى الله تعالى وتلقي به بين هؤلاء الشباب، وتبنيهم وتتعاهدهم وتربيهم، وتحتسب عند الله تعالى أن يخرج منهم ولو طائفة تحمل مشعل الهداية، وتحمل هَمَّ الدعوة إلى الله تعالى، وينفع الله تعالى بها الأمة، وكم يصيبك من الغبطة والسرور أن ترى بعض طلابك وقد تبوءوا مناصب كبيرة، ونفع الله تعالى بهم وأصلحوا، وتعلموا، وبرزوا، وأصبحت الأمة تردد أسماءهم وتلهج بذكرهم. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 18 التشجيع على الإبداع أمرٌ آخر، أمر الإبداع إن العالم الإسلامي اليوم يعاني من ضمن ما يعاني من التخلف العلمي، ونحن نجد أن هناك الكثيرين من أصحاب العقول الجبارة، والمواهب الفذة، والذين مكنهم الله تعالى من ناصية العلم، ولديهم القدرة على الإبداع، ولكننا نجد أننا بأنفسنا كثيراً ما ندفن مواهبهم، ونحطم إبداعهم، وهاهنا يحتاج الأستاذ إلى أن يملك القوة، والإرادة، والصبر، والاستماتة، حتى يحقق في مجال عمله وتخصصه شيئاً ينفع المسلمين، إنه لأمرٌ كبير أن نثبت للناس، أن لا تناقض بين الدين والعلم، وأن لا خصومة بين الإسلام والكون، الذي هو ميدان البحوث العلمية، وكذلك الإنسان. ولن نستطيع أن نفعل ذلك بمجرد الحديث والمحاضرات، وإنما من خلال تقديم النماذج الإنسانية البشرية، التي يراها الناس، فيرون العقيدة الحقة، ويرونها فيرون الخلق الفاضل، والعبادة الصالحة، والعلم، والإبداع، والدقة، والإنتاجية، والتقدم، والسبق، في ميادينها ومجالاتها. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 19 التأثير في المجتمع بالنزول إليه الأمرالثالث: النزول للمجتمع، إن أساتذة الجامعات في العالم كله، هم في المجتمع أساتذة أيضاً ومنطلق للتعليم والإشعاع، يأتي الناس إليهم، ويأخذون منهم، ويتعلمون، ويستشيرونهم، وينظرون إليهم نظرةً خاصة، ويساهمون مساهمةً فعالة، في صناعة العقول البشرية، فهل يجوز أن يكون الانعزال عن المجتمع هو نصيب أساتذة الجامعات في العالم الإسلامي فحسب؟ إن هذا لشيءٌ عجاب!! إن من الواجب على أستاذ الجامعة أن ينزل للمجتمع ويحتك بالناس، ويختلط بكل الفئات، ويتعامل معهم جميعاً، ويأخذ منهم ويعطي، ويفيدهم ويستفيد منهم، ويعمل ليكون، لبنة قوية، وأداةً فعّالة، في كل عمل خيرٍ في المجتمع، وألا يتردد في دعم أي مشروعٍ يرى أن فيه مصلحةً للإسلام والمسلمين، هذا مع أن الدور الأكبر ولا شك لأستاذ الجامعة، داخل أروقة الجامعة حيث يستطيع أن يقوم بدور كبير في تصحيح الأوضاع، وتحسينها، وصياغة الطلاب والمناهج وغيرها، ولكن هذا لا يمكن أن يعفيه أبداً من المسئولية الكبيرة في النزول إلى ميدان المجتمع والتأثير فيه والاحتكاك بأفراده. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 20 أهمية وجود التخصصات العلمية أما أولئك الطلاب الذين هم مستقبل الأمة الواعد، لا بد لهم من الجد في الطلب، وأن يقووا عزائمهم، ويشدوا عقولهم لتحصيل هذا العلم الذي يسعون إليه، ويبذلون في سبيله الأوقات، وهم يشعرون أنهم يتعبدون الله تعالى بتحصيل هذا العلم، فإن هذا العلم متى كان من العلوم المباحة التي يحتاج إليها المسلمون، فإن طلبه بنية خالصة هو من القربات إلى الله تعالى، والذي يجلس في مختبره، أو أمام جهاز من أجهزته، أو معتكفاً على بحثٍ من البحوث التي يحتاجه المسلمون، يجلس ونيته أن ينفع الأمة، لا أعتقد أن أحداً يشك أن الله يمنحه الأجر الكبير، كيف لا، والله تعالى يأجر الفلاح في مزرعته، ويأجر كل إنسان في ميدان عمله؟! بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخبرنا أن كل معروفٍ صدقة، ولو قلّ، فكيف بهذا المعروف الكبير الذي هو خدمة للأمة، وحماية لها! وتحصين من عدوها، وتقديم خدمات جليلة لها، وسير بالدعوة الإسلامية من الكلام النظري إلى الواقع العملي؟! فإن الناس لا يستغنون أبداً عن الطبيب الذي يُصدقُ قول العالم، والاقتصادي الذي يصدق قول الخطيب، فحينما يقول الخطيب لنا مثلاً: إن الربا هو سببُ الكساد والفساد في الاقتصاد، وهو سبب الأزمات، وهو سبب البلايا، فإن الكثير من الناس، وإن صدقوا بذلك إلا أنه لم يبلغ عندهم مبلغ اليقين، فإذا جاءنا المختص في الاقتصاد، وقدم لنا من خلال الوثائق والأدلة والإحصائيات، أن هذا الأمر حقيقةٌ قائمة في العالم اليوم، مبنية على مُقدمات وأسباب، وهذه هي النتائج؛ فإن الكثيرين يديرون رءوسهم ويتعجبون، ويقولون: سبحان الله العظيم!! وإذا حدثنا الواعظ عن الزنا وخطره، وأثره في انتشار الأمراض والآفات والعقوبات، فإن الكثيرين يصدقون، لكن لا يصل تصديقهم إلى درجة اليقين، فإذا جاءنا الطبيب المختص، ليثبت لنا من خلال الحقائق والأرقام، أن الأمراض الخطيرة اليوم التي تُهدد البشرية، وتجتاح مئات الملايين من البشر، كالهربز والإيدز وغيرها، هي نتيجة عقوبة إلهية للشذوذ الجنسي، أو للاتصال الجنسي المحرم أو غير ذلك، فإن الكثير من الناس يعتبرون هذا آية من آيات الله تعالى، ويقولون: سبحان الله العظيم! سبحان الله وبحمده! فنحنُ نحتاج إلى المختص الذي يصدق قول العالم وقول الفقيه، وأنت أيها الطالب تسير في هذا السبيل، وتنحو ذلك المنحى، فالجدَّ الجدَّ! والاجتهاد الاجتهاد! في الدأب والطلب والتحصيل، وإدراك أن هذا العمل الذي تقوم به هو تهيئة للقيام بدور كبيرٍ في الدعوة إلى الله تعالى. الجزء: 159 ¦ الصفحة: 21 لماذا نخاف من النقد؟ إن النقد من مهمات مسيرة الحياة البشرية، ذلك لأن النقص هو صفة كل إنسان بدون استثناء، وكل إنسان يقر بالنقص ويعترف به، إذاً مادام أن النقص موجود، فلا بد من انتقاد هذا النقص حتى يستقيم ويكتمل، وقد تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن النقد، وبين معناه، وبين لماذا نخاف من النقد مع أن طبيعتنا طبيعة بشرية تحتاج إلى النقد البناء دائماً وأبداً، وإذا غاب النقد البناء، فإن الحياة بطبيعة الحال لن تستقيم ولن تسير على المنهج الصحيح لأن كل إنسان سيعمل ما يراه هو دون أن يرى أي خطأ أو عيب في عمله، وتحدث الشيخ عن مسألة التأصيل الشرعي للنقد، وذكر الأدلة على ذلك، وموقف الناس من النقد على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، ثم تحدث عن أنواع النقد وأنه ينقسم إلىعام وخاص، ونقد الذات ونقد الغير، ثم تطرق إلى صور النقد المذموم منها: الذي يستهدف حياة الإنسان الخاصة وفقدان العدل والإنصاف وغيرها. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 1 أولاً: لماذا اختيار هذا الموضوع إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيراً {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] . أما بعد: هذا هو الدرس الخامس والأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين (12) جمادي الأولى لعام (1412هـ) . أيها الأحبة الكرام، حديثي إليكم هذه الليلة عنوانه: (لماذا نخاف من النقد) ؟ الجزء: 160 ¦ الصفحة: 2 المسلمون والنقد أمر ثالث: إننا -أيها الأحبة- نملك تراثاً إسلامياً عظيماً، بل نملك -قبل هذا التراث الإسلامي العظيم من تاريخ الأمة- تاريخ الرسول عليه الصلاة والسلام، وتاريخ الصحابة رضي الله عنهم، وتاريخ الخلفاء المؤمنين الصادقين، وتاريخ العلماء العاملين الداعين إلى الله على بصيرة. قبل هذا نملك منهجاً إلهياً ربانياً، وضح لنا كيف نتعرف على الخطأ في أنفسنا وفي غيرنا، وكيف نقوم بتصحيح هذا الخطأ، سواء كان هذا خطأنا نحن أم كان خطأ الآخرين -كما سوف تأتي الإشارة إلى شيء من ذلك - والمؤسف جداً أن هذا المنهج الذي هو في أصله منهج إسلامي ينبثق من هذا القرآن الكريم، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أن الغرب أفاد من هذا المنهج على الأقل في الناحية الدنيوية، فأرسوا قواعد النقد بين الحاكم والمحكوم، ووضعوا أسسه وضوابطه، سواء في المجال الإعلامي، أم في المجال العلمي، أم في المجال السياسي أم غيرها، بحيث أصبح كل فرد منهم يعرف كيف ينتقد، وكيف يوجه، وكيف يشارك برأيه في كل قضية صغرت أم كبرت، جلت أم عظمت، فأصبح كل إنسان منهم يحس أنه يشارك مشاركة فعالة في إدارة دفة المجتمع، وفي تصحيح الأخطاء، وفي توجيه الناس، أفادوا من المنهج الإسلامي من الناحية الدنيوية، أما المسلمون، فإن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام أقرب ما يكونون -وأقولها مهما كانت ثقيلة على لساني- أقرب ما يكونون إلى سلوك المنهج الفرعوني، الذي يقول: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29] ومن الصعب جداً على كثير من الناس اليوم، ممن ينتسبون إلى هذا الدين أياً كانوا، سواء كانوا من أصحاب النفوذ والسلطان، أم كانوا من العلماء، أم كانوا من الدعاة، أم كانوا من عامة الناس، فمن أصعب الأمور على الواحد منهم أن يصغي أذنه لتقبل نقداً أو ملاحظة، فضلاً عن أن يوافق على ذلك أو يسعى إلى تصحيحه. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 3 الاعتراف بالنقص والتقصير وهناك نقطة أخرى، أننا نجد لدى بعض الناس على كافة المستويات بدون استثناء، اعترافاً مجملاً بالنقص أو التقصير، فليس غريباً أنك تجد إنساناً ما سواء أكان عالماً، أم حاكماً، أم داعية، أم تاجراً أم أي شيء آخر، قد تجد أن من السهل أن يقول هذا الإنسان: أنا بشر، أو نحن لسنا بمعصومين، أو قد يقول: نحن جميعاً عرضة للخطأ لكنه يقف عند حد هذا الاعتراف المجمل الغامض المبهم، فلا ينتقل من هذا الكلام العام إلى تشخيص الأخطاء، وتحديد هذه الأخطاء وما هي؟ والاعتراف بها، وهذه الأخطاء ونوعياتها وعيناتها، ومن ثم السعي إلى التصحيح، نعم، نحن نقول: لم يدَّعِ أحد لك - مثلاً - أنك ملك، حتى تقول: أنا بشر، ولم يدعِ لك أحد أنك نبي أو رسول حتى تقول: إنك لست بمعصوم، كل الناس يعرفون أنك بشر، وأنك إنسان، وأنك لست بمعصوم، وأنك عرضة للخطأ، وكل إنسان يعترف بهذا، بل ربما أقول: إن كثيراً من الناس -وهم بصدد تجاهل الأخطاء، والدفاع عنها، ومحاولة إظهارها، وإلباسها بثوب الصواب- تجد أنهم يبتدئون حديثهم بقولهم: لسنا معصومين، نحن بشر يخطئ ونصيب، نحن عرضة، نحن كذا، نحن كذا، ثم بعد ذلك ينتقل إلى محاولة فلسفة الأخطاء، وتحويلها إلى نوع من الصواب؟ وبناءً عليه نقول: هذا الاعتراف الغامض المبهم بأنك بشر، أو لست بمعصوم، أو عرضة للخطأ، هذا الاعتراف لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا ينفعنا في قليل ولا في كثير. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 4 اعتبار النقد جريمة عند بعض الناس أولاً لماذا الحديث عن هذا الموضوع بالذات؟ لعله ليس بغريب على أسماعكم، الحديث عن التخلف المطبق في العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، سواء من الناحية العلمية، أو من الناحية الدعوية، أو من الناحية الاجتماعية، أو من الناحية السياسية على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي فإننا نعلم جميعاً وهذا مما لا يحتاج إلى إعادة أو تكرار أن المسلمين يعيشون اليوم أحط عصورهم، وأردأ أيامهم، ولعله ليس من قبيل المبالغة أن نقول: إنه لم تمر بالأمة الإسلامية منذ بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وقامت دولة الإسلام في المدينة، وعبر حقب التاريخ في عصوره، مثل هذه الأيام الكالحة المظلمة، التي استحكمت فيها غربة الدين، وأطبق الأعداء بفكيهم على المسلمين، فهم يعيشون في تخلف مريع لا يعلمه إلا الله. ومع ذلك كله، ومع أن التخلف في عالم الإسلام شامل لكل مجالات الحياة دون استثناء، إلا أننا نجد من المسلمين عموماً، مقتاً وبغضاً وكراهية لأي لون من ألوان النقد، أو المراجعة أو التصحيح بل إنك تجد المسلمين اليوم أفراداً وجماعات وأمماً ودولاً، يعتبرون النقد في كثير من الأحيان جريمة، فيجرمون المنتقد ويعتبرونه -كما يعبر بعضهم- خارجاً عن القانون، أو أنه مشكك في المكتسبات التي حققتها هذه الأمة، أو هذه الفئة، أو تلك الجماعة، أو تلك الدولة، أو أنه يسعى إلى زعزعة أمن البلد والمجتمع واستقراره، أو أنه يحمل أهدافاً سياسية، وهو يعبر عنها من خلال النقد والتصحيح والمراجعة، ولذلك نجد أن الدول تصنف الذين ينتقدون أو يصححون أو يراجعون، أو- بأسلوب آخر- تصنف الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أنهم ضمن الخصوم. وكذلك أقول: مع الأسف إن كثيراً من الجماعات الإسلامية قد تعتبر من ينتقدونها هم أعداء لها، بل ربما تعتبرهم أحياناً أعداءً للإسلام ذاته، أما الأفراد فغالبنا يعتبر من ينتقده، أو يستدرك عليه أو يصحح خطأ وقع فيه، يعتبره عدواً له، أو حاقداً عليه. هذه نقطة. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 5 ما المقصود بالنقد، لماذا نخاف من النقد؟ ما هو النقد؟ النقد في لغة العرب يطلق على معنيين: الجزء: 160 ¦ الصفحة: 6 بيان المعنى الأول للنقد فالمعنى الأول في النقد، الذي هو: تمييز الطيب من الخبيث، والحسن من القبيح، والصالح من الطالح، والزيف من الحقيقي، هذا المعنى هو الذي ينطبق على المفهوم الشرعي للنقد، فالنقد في الشرع يعني: معرفة الخطأ والصواب، ويعني: الثناء على الخير ومدحه وذم الشر ونقده، سواءً كان هذا الخير أو الشر في شخص، أم في كتاب، أم في عمل، أم في هيئة، أم في دولة، أم في جماعة، أم في أمة، أم في غير ذلك، وهذا هو المعروف لدى أهل العلم والإيمان، أفراداً وجماعات، خاصة لدى أهل القرون الأولى المفضلة، فإن الغالب على نقدهم أنهم كانوا ينتقدون لبيان الحق والأمر به، وبيان المنكر والنهي عنه، وهذا هو المعروف من سيرتهم وأقوالهم رضي الله تعالى عنهم. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 7 بيان المعنى الثاني للنقد أما المعني الثاني في النقد، الذي هو: الثلب والثلم والعيب والتجريح، فهذا هو الغالب على هذا الزمان، الذين يعتبرون النقد -كما أسلفتُ- صورة من صورة العداوة والحقد والبغضاء، والتشهير والتأليب على الشخص المنقود، أو على الجهة المنقودة، ولذلك لا يقبلون النقد؛ لأنهم يعتبرونه نوعاً من التنقص، وكذلك هم لا ينتقدون إنساناً إلا إذا أبغضوه وحاربوه ومقتوه فهم ينتقدونه؛ لأنهم يسعون إلى إسقاطه فهم لا يسعون إلى معرفة الحق من الباطل والخطأ من الصواب والخير من الشر، بل همهم جمع المثالب على فلان وعلان، أو على الجهة الفلانية وحشد المعايب. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي الدرداء: {اللاعنون لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة} فاللعان هو الذي لا يعرف الناس إلا موضع العيب، كل ما ذكر عنده شخص عابه فإن ذكر عنده شخص بعبادة، قال: نعم عابد، ولكنه ليس بعالم، والعبادة بلا علم تضر أكثر مما تنفع، فإن ذكر عنده شخص بعلم، قال: نعم هو عالم، ولكن المشكلة في النية، إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن ذكر عنده شخص بجهاد قال: ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته، فإن ذكر عنده شخص بالإنفاق في سبيل الله، قال: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} [الأنفال:36] وهكذا كلما ذكر عنده شخص بمحمدة أو مدح أو ثناء، بحث عن عيب ويلصقه به، وكأنه لا يسره إلا ذكر الناس عنده بالشر والسوء هذا الموجود على غالب الناس اليوم. وهذا يشبه القصة التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما، في قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وفيها عبرة، فإن أهل الكوفة شكوا سعداً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأرسل عمر إليه فجاءه، فقال له: يا أبا إسحاق، لقد شكوك في كل شيء حتى قالوا: لا يحسن يصلي- حتى الصلاة قالوا: لا يعرف كيف يصلي- فقال سعد رضي الله عنه وأرضاه: أما والله يا أمير المؤمنين، إني لا آلو أن أصلي بهم، كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا، أطيل في الأوليين، وأخف أو أحذف في الأخريين، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: هذا هو الظن بك يا أبا إسحاق -هذا ظني بك-، لكن عمر رضي الله عنه وأرضاه، لم يكتف بمجرد قناعته الشخصية بـ سعد بن أبي وقاص؛ لأنه أمام شكوى من الشعب، من المواطنين، فلا بد أن يتثبت من هذه الشكوى بروح المحايدة، والعدل، والإنصاف، ويعتبر أن سعداً طرف وخصم، وأن أهل الكوفة طرف وخصم آخر، فيرسل عمر رضي الله عنه لجنة لتقصي الحقائق، وتذهب هذه اللجنة لا لتسأل أعيان البلد أو خواصهم، الذين يفترض أن الأمير قد يدنيهم إليه، وقد يكسب رضاهم بأي وسيلة وبأي ثمن! لا بل تذهب هذه اللجنة، لتقف في المساجد والأسواق، ويقولون لأهل المساجد: ماذا تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؟ فكلما ذكروه في مسجد أثنوا عليه خيراً، حتى جاءوا إلى مسجد من مساجد بني عبس، فقالوا: ما تقولون في أميركم سعد بن أبي وقاص؟ فسكتوا وأثنوا خيراً فقال رجل، يقال له: أسامة بن قتادة: أما إذ سألتنا فوالله إن أميرنا سعد بن أبي وقاص لا يعدل في القضية، ولا يحكم بالسوية، ولا يسير بالسرية وصفه بالجبن، والظلم، والحيف، وعدم الإنصاف والعياذ بالله، فغضب سعد بن أبي وقاص من ذلك أشد الغضب؛ لأنه يعلم أن هذا الرجل كاذب، فقال: [[اللهم إن كان هذا قام رياءً وسمعة وكذباً، فإني أسألك ثلاثاً: اللهم أطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن]] يقول أحد رواة الحديث: فأنا والله قد رأيتُ هذا الرجل شيخاً كبيراً قد عمي، وهو يقف في الأسواق يتعرض للجواري يغازلهن ويغمزهن، وقد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وهو يقول: شيخ كبير مفتون أصابته دعوة سعد، فأنت تلاحظ هاهنا، كيف أن هذا الرجل لم يعرف لـ سعد بن أبي وقاص، أنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا بلاءه وجهاده في الإسلام، ولا أنه من أهل الجنة، ولا شيئاً من ذلك، إنما ذكر مثالبه ومعايبه التي هي -في الواقع- كذب وافتراء، وإلا فإن سعداً بريء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ولا شك أن النقد بهذا المعنى محرم، لأنه نوع من الغيبة، والله عز وجل يقول: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] . وفي صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل ما الغيبة؟ فقال: {ذكرك أخاك بما يكره. قال: يا رسول الله أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} . وقد ذكر القرطبي رحمه الله، إجماع العلماء على أن الغيبة من كبائر الذنوب، فهي إما أن تكون غيبة بهذا الاعتبار، وذلك كالذين يبحثون عن عيوب الناس ومثالبهم، ويفترض أن هذه العيوب والمثالب موجودة فيهم، فيتكلمون بهم في المجالس ويغتابونهم، ويقعون في أعراضهم، ويبتغون للبرآءِ العيب، فهي غيبة حينئذٍ فإن كانوا أبرياء مما وصفوهم به فهو بهتان وظلم، والله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الظالمين، يقول عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا} لا يظلم بعضكم بعضاً، وليس دافع هؤلاء بكل حال الإصلاح، لا. ولا تصحيح الأخطاء وإنما دافعهم الحسد والبغي والحقد والظلم، وما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا -مع ما يدخره لصاحبه في الدار الآخرة- من البغي وقطيعة الرحم، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحيح أن هناك حالات قد يجوز للإنسان فيها أن يغتاب، والقاعدة العامة والضابط العام في مثل هذه الحالات، هي ما إذا كانت مصلحة الغيبة أعظم من مفسدتها، راجحة على مفسدتها، وذلك لأن الغيبة مفسدة ظاهرة في إيذاء الإنسان الذي اغتبته، إيذاءه وظلمه، والحط من قدره فهذه، مفسدة ظاهرة، ولذلك حرم الله تعالى الغيبة. لكن إذا كان في الغيبة مصلحة أعظم من ذلك، فحينئذٍ تجوز الغيبة، وقد ذكر العلماء ست حالات، بل ذكر بعضهم تسع حالات، قالوا: إنه يجوز فيها أن ينال من الشخص بعينه وبذاته؛ لأن مصلحة الغيبة حينئذٍ راجحة ظاهرة، وذلك كالتحذير من الفساق والتحذير من المنافقين، والتحذير من أهل البدع وغير ذلك. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 8 معاني النقد المعنى الأول: تمييز الجيد من الرديء من الدراهم والدنانير - يعني: من النقود-، فأنت تقول: نقدت الدراهم وانتقدتها، إذا ميزت جيدها من رديئها، وأخرجت زيفها، ولذلك قال الشاعر: الموت نقاد على كفه دراهم يختار منها الثمين فهذا معنى للنقد: اختيار الجيد وتمييز الزيف. المعنى الثاني: هو العيب والتجريح فأنت تقول: نقدت فلاناً بإصبعي إذا ضربته به، ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[الناس إن نقدتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك]] أي: إن عبتهم عابوك، وإن سكت عنهم عابوك أيضا- فلا سلامة منهم (سلمتُ وهل حيٌ على الناس يسلمُ) الجزء: 160 ¦ الصفحة: 9 مسألة التأصيل الشرعي لموضوع النقد ما هو الأصل في موضوع النقد من الناحية الشرعية؟ مما يدخل في باب النقد من الناحية الشرعية، أمور: الجزء: 160 ¦ الصفحة: 10 محاسبة النفس كذلك مما يدخل في باب النقد: محاسبة النفس. فإن الإنسان قد ينتقد نفسه دون أن يحتاج إلى غيره، وكذلك الجماعة قد تنتقد نفسها، بل الدولة من الدول، قد تنتقد نفسها، وتجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها المتابعة، والمراقبة والمراجعة، والتصحيح والتعديل، على سبيل الحقيقة لا على سبيل التغطية أو التورية أو التسكيت. كلا، فإننا قد نجد في كثير من الدول، أنها قد تضع مؤسسات للإشراف، أو التفتيش أو المراجعة، لكن تكون مهمة هذه الأشياء مهمةً شكلية، فإن الدولة في الإسلام تجعل هناك مؤسسات وأجهزة، مهمتها مهمة نزيهة نظيفة حرة مستقلة، تقوم بالمراجعة والتصحيح على الكبير والصغير والمأمور والأمير، دون أن تجد في ذلك حرجاً أو غرابةً، بل هذا هو عين الكمال وعين القوة وعين الصواب. موقف السلف من محاسبة أنفسهم: إذاً الفرد والجماعة والدولة والأمة، كلها تراقب نفسها، ولذلك قال عمر رضي الله عنه -كما في سنن الترمذي- قال: [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً عند الله عز وجل، أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتهيئوا للعرض الأكبر {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]] ] والحديث أيضاً رواه ابن أبي الدنيا في كتابه محاسبة النفس والإزراء عليها. كذلك حنظلة بن الربيع الأسيدي كما في صحيح مسلم جاء إلى أبي بكر رضي الله عنه وهو حزين يبكي، وقال: يا أبا بكر نافق حنظلة -أنا منافق-. قال: وما ذاك؟ قال: أكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا ذهبنا منه عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات، ونسينا كثيراً. إذاً: هو انتقد نفسه وحاسبها، حتى اتهم نفسه بالنفاق، وقال أبو بكر: والله إن كلنا كذلك، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لو تكونون على كل حال كما تكونون عندي، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} . إذن الإنسان أول ما ينتقد ينتقد نفسه، وكذلك الفئة والجماعة، والطائفة والأمة والدولة، تنتقد نفسها قبل أن تترك فرصة لينتقدها الآخرون، أو تترك فرصة لاستفحال الأخطاء والأمراض والآفات والمنكرات، بحيث يصعب بعد ذلك تصحيحها أو استدراكها. ورضي الله عن سلف هذه الأمة الكرام، كيف كانوا في صدق عبوديتهم لله عز وجل، وخالص إيمانهم وحرارة تقواهم وصفاء قلوبهم، ومع ذلك كله لم يكن هناك أحدٌ أكثر منهم محاسبةً لأنفسهم، وإننا نجد اليوم من الناس من يكون والغاً في المعاصي والفسوق، ومع ذلك لو أُنكر عليه أو صُحح، لقال: أنا. أما هم فمع صيام النهار، وقيام الليل، وصدق التعبد، وحرارة التقوى، مع ذلك، اسمع ماذا يقول مطرف بن عبد الله رضي الله عنه وهو من عباد السلف وزهادهم في يوم عرفة، يقول: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]]- رأى الحجاج وما هم فيه من البكاء والابتهال، فأنحى على نفسه، وخشي أن يُرد الحجاج بسببه هو- فقال: [[اللهم لا ترد هذا الجمع كله من أجلي]] ومثله بكر بن عبد الله المزني، يقول: [[لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أن الله غفر لهم لولا أني كنت فيهم]] . يونس بن عبيد رحمه الله، يقول: [[والله إني لأعد مائة خصلةٍ من خصال الخير ما أعلم في نفسي واحدةً منها]] فليس عندهم كبرياء، ولا غطرسة، ولا غرور، وما فيهم أحد يقول: أنا أنا. يقول ابن أبي مليكة: [[لقد أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ما فيهم واحد إلا يخاف النفاق على نفسه، وما منهم أحد يقول: إن إيمانه كإيمان جبريل وميكائيل وإسرافيل]] . هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء هم التابعون لهم بإحسان. هذا محمد بن واسع يقول - وقد مدحه الناس وأثنوا عليه وهو مريض- قال: [[وما يغني عني ما يقوله الناس، إذا أُخذ بيدي ورجلي وذهب بي إلى النار]] . إذاً مدح الناس وثناؤهم والضجيج الإعلامي، حول فلان من العلماء أو فلان من المسئولين، أو مدح الناس لفلان؛ لأنه مشهور أو معروف، هذا لا يغني عنه شيئاً إذا كان ما بينه وبين الله غير مستقيم، وإذا كان ما بينه وبين الله حسن فلا يضره أن يكون الناس بخلاف ذلك. وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب فوائد محاسبة النفس سراً وعلانية: وقد يحاسب الإنسان نفسه سراً بينه وبين نفسه، فيعاتبها ويوبخها، وهذا لا شك أنه أبعد عن الرياء، وهو يدعو الإنسان إلى أن يتواضع ويعترف بالخطأ، ويراجع نفسه أولاً بأول، وقد يحاسبها علانية وعلى ملأ من الناس، وعلى مرأى ومسمع منهم، وهذا له إيجابية ومنافع كثيرة، منها: الفائدة الأولى: أنه يعترف بهذا الخطأ لئلا يُتابع عليه، وذلك إذا كان خطأ مشهوراً معروفاً متداولاً عند الناس، فيعلن أنه رجع عنه أو تاب منه؛ لئلا يتابعه الناس عليه، كأن يكون صاحب بدعة تاب منها، فيقول للناس: من كان يعرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فلان بن فلان، كنت أقول كذا وكذا والآن تبت منه مثل ما قاله أبو الحسن الأشعري في خطبته المعروفة. الفائدة الثانية: والاعتراف علانية أيضاً من فوائده: أنه يعود الآخرين على ذلك. فإن الناس يحن بعضهم إلى بعض، ويقلد بعضهم بعضاً، فإذا كان العالم أو الحاكم أو الداعية، عود الناس أنه يعترف بالخطأ علانية وأمامهم، يقول: قلت كذا وهذا خطأ، وفعلت كذا وهذا خطأ وأنا أتوب، فإن الناس حينئذٍ يتعودون على أن يعترفوا هم أيضاً بأخطائهم، ويرجعوا عنها، ويحاولوا تصحيحها أولاً بأول. الفائدة الثالثة: من الاعتراف العلني: أنه يقطع الطريق على خصومك؛ لأنهم قد يأخذوا هذه الأخطاء ويشنعون بها عليك، فإذا اعترفت بها علانية قطعت الطريق عليهم. الفائدة الرابعة: أنه يضع الإنسان في مكانه الطبيعي، فلا يكون هناك تعصب لفلان من الناس، فإننا نجد -مثلاً- من الطلاب من يتعصب لعالم من العلماء، لماذا؟ لأنه لا يعرف إلا الصواب من أقواله. لكن لو أن هذا العالم قال: أنا أخطأت في كذا وكذا. عرف الناس حينئذٍ أنه ينبغي ألا يتعصبوا، وأن يأخذوا أقواله باعتدال ودراسة ومقارنة ولا يغلوا فيه أو يفرطوا. وكذلك الحال بالنسبة لغيره، مثلاً: المتنفذ أو المسئول، إذا كان يعترف بخطئه ويتراجع عنه، فإنه بذلك يشجع الناس على أن يوافوه ويواصلوه بالخطأ ويناصحوه، كلما رأوا عليه شيئاً يحتاج إلى مناصحة. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 11 الأمر بالمعروف والنهي والمنكر الأمر الثاني: موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو شعيرة عظيمة، ألَّف فيها خلق من أهل العلم كتباً كثيرة، ونصوص هذا الباب أكثر من أن تذكر وأشهر من أن تحصر، منها قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] وذكر عن المؤمنين: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] إلى غير ذلك. وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا يعتبرون أن أحداً يُقصر في ذلك، لا أميراً ولا مأموراً، ولا كبيراً ولا صغيراً، ولا يجاملون فيها أحداً قط، وما قصص الصحابة رضي الله عنهم من ذلك بأمر قليل، فإنهم قد انتقدوا على بعضهم بعضاً أموراً كثيرة، كما انتقد علي رضي الله عنه على عثمان أنه نهى عن المتعة في الحج، ولما سمع أنه ينهى عنها، أهلَّ بها علي بأعلى صوته: لبيك عمرةً متمتعاً بها إلى الحجِ، ولم يقُل: هذا أجامله، أو أستحي منه أو أقره؛ لأنه لا يرى أن في هذا حطاً من قدره؛ لأن فيه إحياءً لسنةٍ من سنن النبي صلى الله عليه وسلم. وكذلك لما رأى ابن عباس ٍ معاوية َ يستلم أركان البيت كلها، ويقول: ليس شيء من البيت مهجوراً انتقده ابن عباس علانيه، وهو كان له مكانة عالية وأمير، وقال له ابن عباس: [[لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يستلم إلا الركنين]] . ولم ير معاوية َ أن في هذا حطاً من قدره ولا بخساً لمكانته، كما لم ير ابن عباس أن مكانة معاوية َ تمنع من أن يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، ويُقال له: هذا هو الطريق فالزمه. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 12 النصيحة الأمر الأول: النصيحة فإن النقد هو نوع في حقيقة الأمر من النصيحة، وقد قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:91] فذكر النصيحة لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك النصيحة للمؤمنين. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه مسلم عن أبي هريرة في حق المسلم على المسلم، قال: {وإذا استنصحك فانصحه} وفي الحديث الثالث، وهو صحيح أيضا: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً وذكر منها: أن تناصحوا من ولاه الله أمركم} والحديث المشهور حديث تميم بن أوس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الدين النصيحة -ثلاثاً- قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم} بل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال، في الحديث الذي رواه أبو داود بسند حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، يقول: {المؤمن مرآة أخيه المؤمن} فانظر كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم شبه المؤمن بالمرآة، إذا وقف أمامها الإنسان رأى صورته الحقيقية، بما فيها من حسنات وما فيها من عيوب؟! فإننا نعرف أن المرآة تعكس صورة الشخص بحسنها وقبيحها، وحلوها ومرها، وجيدها ورديئها؛ وذلك لأن الإنسان ربما لا يستطيع أن يعرف نفسه، ولا يرى نفسه جيداً، إلا من خلال رؤيته لنفسه في أخيه المسلم الذي هو مرآة له. فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآةِ الجزء: 160 ¦ الصفحة: 13 موقف الناس من النقد الإنسان بطبيعته يحب المدح ويكره الذم، وقد قال أبو ذر رضي الله عنه: {يا رسول الله! الرجل يعمل العمل الصالح فيمدح به، فيعجبه ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن} فلا تثريب على الإنسان أن يكون بطبعه يحب أن يمدح، أو على أقل تقدير لا يحب أن يُذم؛ وذلك لأن في النقد نسبة الخطأ إلى الإنسان، وكذلك الذم فيها نسبة الخطأ إليه والخطأ مكروه فطرة. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 14 الاستعداد لقبول النقد يا أخي: القضية قضية أن هؤلاء الناس لديهم استعداد لأن يقبلوا الخطأ من أي إنسان، كائناً من كان حتى ولو كان من عمر رضي الله عنه شخصياً، أن يقوموا منه الخطأ، ويراجعو فيه ويصححوه، ومن المعروف أن المسلمين في كل زمان ومكان، إذا كان الخطأ يستدعي أن يقوموه بالسيف قوموه بالسيف ولا حرج، وإذا كان الأمر لا يستدعي ذلك ولا يوجب منابذة الحاكم، فلا شك أن المسلم -فضلاً عن صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يفكر بأنه سوف ينابذ الإمام في أمر لا يستحق ذلك، فهذه قضية معروفة. وإنما أنبه على هذا؛ لأن بعض الإخوة يستدرك إيراد مثل هذه القصص دون بيان، وإن كان المعنى فيها واضحاً لا لبس فيه. ومع ذلك كان عمر رضي الله عنه يراجع نفسه دائما وأبداً، حتى يتعود على قبول ما يلاحظه الناس عليه، فمرة من المرات كان عمر في بستان فنظر إلى نفسه وقال: بخ بخ عمر بن الخطاب أمير المؤمنين!! - كأنه يقول: انتبه لا تعجبك بنفسك، أو تغتر أو تتعاظم، أو تصيبك عظمة السلطان والرياسة، فتجحد الحق أو ترده-[[عمر بن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ! والله لتتقينَّ الله أو ليعذبنك الله]] إذاً انتبه يا عمر، واجعل عليك رقيباً من نفسك قبل أن يكون عليك رقيب من الآخرين، وقبل ذلك كله، فإن الله تعالى هو الرقيب على عباده، وعلى مدار التاريخ كان المسلمون يحرصون على التصحيح والتوجيه، والنقد الهادف البنّاء الرشيد، ويعتبرون هذا أساساً لبقاء الأمة وبقاء الإسلام، وعدم زواله. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 15 غياب النقد عند أناس ووجوده عند غيرهم وإذا غاب هذا المعنى عن الحاكم في بعض الظروف وفي بعض الأحوال، وهيمنت النظم الاستبدادية والنظم الدكتاتورية المتسلطة، التي تكتم أنفاس المسلمين، وتمنعهم من أن يقولوا كلمة الحق، وتحول بينهم وبين النطق بها، وتمنعهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو تمنعهم من النصيحة، أو تمنعهم من النقد الهادف البناء، لأنها لا تريد نبش التاريخ، ولا كشف الحقائق، ولا مصارحة الشعوب بالأمور وأبعادها وخلفياتها ومجرياتها، إذا غاب هذا عن الحكام في حقبة من حقب التاريخ، أو في رقعة من الواقع الموجود اليوم، فإن هذا لم يكن ليغيب عن العلماء والدعاة، بل كان العلماء والدعاة ينصحون بعضهم بعضاً، وينصحون عامة المسلمين، بل وينصحون حكام المسلمين، وإن لقوا في ذلك ما لقوا. ولو ذهبت أذكر لكم مواقف من نصيحة العلماء بعضهم لبعض، أو للمسلمين من العامة، أو للحكام سراً وعلانية، سواءً من خلال المخاطبة، أو الخطبة، أو الكتاب؛ لطال بي المقام، وأحيلكم على كتاب واحد فقط، وهو كتاب: الإسلام بين العلماء والحكام للشيخ عبد العزيز البدري، ففيه من ذلك شيء كثير. أما اليوم فنقول -وبكل أسف-: إن عيوب الأمة الإسلامية اليوم، ليست محصورة في طبقة معينة، لا نخدع أنفسنا، ليس العيب اليوم في الحاكم، وليس العيب في العالِم، أو في الداعية، لا. العيب اليوم موجود في الجميع بدون استثناء، من القمة إلى الهرم عند الجميع، فداء التسلط والدكتاتورية -كما أسلفت- وكتم الأنفاس وسلب الحريات، ليس موجوداً في الحاكم فقط، وهو موجود في الحاكم، ولكنه أيضاً، موجود عند كثير من العلماء والدعاة والمجتهدين، من حيث يشعرون أو لا يشعرون، فتجد أن المعلم - مثلاً - يستثقل أن يصحح الطالب له خطأً، وقد يضطرب إذا صحح الطالب له خطأً في مجلس من مجالس درسه. وتجد الداعية يستغرب ويستثقل أن يصحح أحد الأتباع عليه شيئاً وقع فيه، ولا يعطيه من الحرية إلا هامشاً صغيراً جداً، هو نفسه الهامش الذي تعطيه الحكومات لبعض الشعوب. فمثلاً قد يُسمح في بعض البلاد للإنسان بأن ينتقد عمل البلدية، فيقول: الشارع الفلاني مائل والشارع الفلاني معتدل والشارع الفلاني نظيف والشارع الفلاني غير نظيف - مثلاً - والبيت الفلاني يحتاج إلى هدم، والبيت الفلاني لا يحتاج، والمكان الفلاني وقع في خطأ، وما أشبه ذلك- من الهامش الصغير الذي قد يرضي بعض السذج والبسطاء والمغفلين. وكذلك قد يعطي الداعية أو العالم أحياناً، من حوله هامشاً صغيراً من الحرية يخدعهم به عن ضرورة النقد البناء العميق الصحيح، وضرورة المراجعة. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 16 الاشمئزاز من النقد ولذلك أقول: إن الأمة اليوم ما زالت تعتبر النقد نوعاً من الاستفزاز، أو حط المكانة، أو مخالفة المألوف، لم يتعود الناس على هذا، لم تتعود آذانهم عليه، ولهذا صاروا يشمئزون منه، يستغربونه، يعتبرونه شيئاً عظيماً. يا أخي! كل الدنيا هكذا، هل كتب على المسلمين فقط أن يظلوا في مثل هذه الأمور، ليس لديهم قدرة على تصحيح أخطائهم، ولا على اكتشافها؟! هل كتب علينا أن نظل نواجه هذه الأخطاء، وهي تتراكم وتزداد يوماً بعد يوم؟! ونحن إن نصحنا رأينا أن هذا فيه ما فيه، وتجد أن الواحد منا لا يفعل شيئاً، لكنه لو سمع إنساناً ينصح لقال: يا أخي، لماذا لم تفعل كذا؟ لماذا لم تأت النصيحة بالطريقة الفلانية؟ يا أخي! افعل أنت ما تقتنع أنه صحيح؛ لأن المسئولية مسئولية الجميع، وليست مسئولية فرد معين أو فئة معينة، وكأن الكثيرين ظنوا أن الدين لم يأت بهذه الأمور، أو أنهم غير مكلفين، أو غير محاسبين على مثل هذه الأشياء، وكأنهم نسوا أن الصحابة رضي الله عنهم كان بعضهم يستدرك على بعض، وبعضهم يصحح لبعض، علانيةً إذا كان الأمر يقتضي الإعلان، وسراً إذا كان الأمر يقتضي الإسرار. لاشك أن النقد يحتاج أحياناً إلى سرية فإذا كان الإنسان مستتر بذنب فلا تفضحه على الملأ، بل بينك وبينه، لكن إذا كان الخطأ معلناً على رءوس الأشهاد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جيء بإنسان ميت، فأثنى الناس عليه شراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {وجبت وجبت، وسمعه الصحابة فقالوا: وما وجبت؟ فقال: وجبت له النار، أنتم شهود الله في أرضه} لم يمنعه عليه الصلاة والسلام، ما دام أن الأمر مشهور تداوله الناس وتناقلوه فيما بينهم، والمجتمع كله يتحدث عن هذه الأخطاء، فلا تقل: لا تتكلم فيها ولا تشهرها ولا تنشرها. هي معروفة أصلاً وكل الناس يعرفونها. خذ -مثلاً- أجهزة الإعلام التلفاز، قلما بيت إلا وفيه تلفاز، يقف أمام هذا الجهاز الكبير والصغير، والرجل والمرأة على حد سواء، ابتليت به كثير من البيوت مع الأسف الشديد، حتى إنك قد تدخل بيوت أناس صالحين، بل ربما يكون ممن يشار إليهم بالبنان، وفيها هذا البلاء، ومع ذلك لو أن إنساناً قام في خطبة أو مناسبة أو في محاضرة، وتكلم عن برنامج يذاع في التلفاز وانتقده، لقال بعض الحضور: يا أخي، ليس من الضرورة نشر هذا الكلام، ليس فيه مصلحة، يا سبحان الله! أين نحن؟! في أي عالم نعيش؟!! أليس هذا البرنامج الذي ينتقده فلان عُرض على ملايين المشاهدين، أقول: ملايين في حين أن الذين سمعوا هذه الخطبة ألوف أو مئات أحياناً، فلماذا نعتبر أن هذا الخطأ الذي شاهده ملايين، أو سمعه ملايين أو علم به ملايين، نعتبر أن الحديث عنه مع عشرات أو مئات أو ألوف، أنه نوع من التشهير؟! أو أنه غير مناسب؟! السبب في ذلك أن الأمة لم تتعود على النقد الصحيح، ولذلك صارت تعتبر أن النقد -كما قلت سابقاً- نوع من الاستفزاز، أو من التشهير، أو من إثارة الفتنة في بعض الأحيان وهذه كلها مفاهيم خاطئة. وقبل قليل ذكرت لك أن الصحابة يصحح بعضهم لبعض علانية، دون حساسية ولا حرج، ومن بعدهم كلهم كانوا كذلك، وإذا كان الخطأ ظاهراً مشهوراً، فلا معنى لإنكاره سراً، فإن الناس يقولون: أين العلماء؟! أين الدعاة؟! أين الخطباء؟! أين المصلحون؟! والأخطاء تقع صباح مساء، وهم ساكتون عنها لا يحركون ساكناً، وما يدري الناس أنك قلت لفلان أو علان، أو كتبت أو رفعت سماعة الهاتف، وخاصةً إذا تكررت هذه الأمور، ولم تزل تفعل الطريقة التي تعجبك، لكن إذا ظل الأمر موجوداً، على أقل تقدير حتى يعذرك الناس، ويعرفوا أنك بذلت ما تستطيع، وأعذرت إلى الله، وحتى تحذر الناس من هذا الأمر وتبين لهم خطورته وعواقبه. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 17 الصحابة الكرام والاعتراف بالخطأ أبو بكر رضي الله عنه، سمع الناس يثنون عليه، فكان يقول: [[اللهم اجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي مالا يعلمون]] فلا يغتر بثنائهم، وإنما يسأل الله تعالى أن يغفر له ما لا يعلمون من عيوبه. وفي صحيح البخاري، أن أبا بكر رضي الله عنه، وعمر اختلفا في مسألة، فجاء أبو بكر وقد رفع ثوبه وجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر أنه صار بيني وبين عمر بن الخطاب خصومة، وطلبت منه أن يسامحني فأبى، وإذا بـ عمر يجيء، فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ورأى أبو بكر التغير في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، والغضب لـ أبي بكر على عمر، لماذا ما سامحت أبا بكر؟ ولماذا وقفت منه هذا الموقف؟ فلما رأى أبو بكر ما برسول الله صلى الله عليه وسلم، أشفق عليه وأشفق على عمر، وقام وقال: والله يا رسول الله، أنا كنت أظلم. -يعني أنا أخطأت من أجل أن لا ينال عمر رضي الله عنه شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله بعثني فقلتم: كذبت. وقال أبو بكر: صدقت. فهل أنتم تاركو لي صاحبي} فما أوذي أبو بكر رضي الله عنه بعدها أبداَّ. الشاهد أن أبا بكر رضي الله عنه، كان سريعاً إلى الرجوع إلى الحق والاعتراف به. وقصته مع ولده أيضاً وهي في صحيح البخاري قصة طويلة، لا أطيل بذكرها وسرعان ما كان يعود إلى الحق، ويعتذر من الخطأ ممِن أخطأ عليه رضي الله عنه إن سراً فسراً وإن علانية فعلانية، ولا يزيد في هذا غضاضة ولا حرجاً. أما عمر رضي الله عنه فكما كان شديداً في الحق كان شديداً على نفسه، ولذلك أعلنها صيحة مدوية [[رحم الله امرءاً أهدى إلينا عيوبنا]] فاعتبر أجمل ما تهدي إليه، أن تهدي إليه عيباً، ولم يشترط عليك عمر أن تسر أو تعلن، وأي طريقة وأي كلام وأي أسلوب، المهم أنك تهدي له عيباً بأي شكل، وكان رضي الله عنه يتقبل النصيحة حتى وهو على المنبر، فربما صعد وقال [[أيها الناس! اسمعوا وأطيعوا. فقام رجل من الرعية من عامة الناس، وقال: لا سمع ولا طاعة. فقال: لِمَ رحمك الله؟ قال: لأنك أعطيتنا ثوباً ثوباً. ولبست ثوبين. فقال: قم يا عبد الله بن عمر. فيقوم ابن عمر، ويشرح القضية أنه قد أعطاه ثوبه، فلبس ثوبه ولبس ثوب ولده عبد الله]] ؛ لأنه رجل كبير جسيم. ومرة أخرى يقول: [[لو رأيتم فيّ اعوجاجاً. يقول له رجل: لو رأينا فيك اعوجاجاً لقومناه بسيوفنا]] فخذ هذه القصة ولا تظل تنظر فيها وتحللها، وتقول: هل المعنى أنهم سوف يخرجون عليه؟ لا. لا أبداً. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 18 الأنبياء نماذج للاعتراف بالخطأ أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، كلهم كانوا نماذج للاعتراف بالخطأ إذا وقع والخروج منه، فموسى عليه الصلاة والسلام يقول، كما في قصته مع الخضر: {لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} [الكهف:73] ويقول: {قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً} [الكهف:76] بل إنني أعجب حين أقرأ قصة عيسي عليه الصلاة والسلام، التي رواها البخاري في صحيحه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {رأى عيسى بن مريم رجلاً يسرق -رآه بعينه- فقال له عيسى: أسرقت؟ قال: كلا والله الذي لا إله إلا هو ما سرقت قال له عيسى عليه السلام: آمنت بالله وكذبت عيني} كذبت نفسي فيما رأيته، يحتمل أن يكون وضع للقضية ألف احتمال، يمكن أن يكون أخذ هذا المال لأنه محتاج إليه، أو يكون له، أو يكون ظفر بماله فأخذه. كلام كثير لأهل العلم المقصود أنه عليه الصلاة والسلام في شدة تواضعه واعترافه أنه يرى السارق، ثم يقول لما حلف بالله الذي لا إله إلا هو: آمنت بالله وكذبت عيني. أما محمد صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب القدح المعلى في ذلك، وكيف لا! وقد خاطبه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، يأمره بالاستغفار ويأمره بالتقوى، يقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] ويقول: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} [النساء:105-107] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب:1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] . وهكذا عاتب الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأمره بالاستغفار، وأمره بالتقوى، ونهاه عن طاعة الكافرين والمنافقين، ولهذا كان من شأنه صلى الله عليه وسلم أمر عجيب من تواضعه، وقبوله للرأي الآخر، وإعراضه عن الجاهلين، وتحمله، ورجوعه إلى ما يرى أنه صواب إذا قاله أحد، من ذلك أن بعض الناس شككوا في قسمة النبي صلى الله عليه وسلم للمال -وهذا موجود في كل زمان- شككوا في قسمة المال، وأنها قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} والثابت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالقبض على هذا الرجل الذي قال تلك الكلمة، وشكك في القيادة العليا -قيادة النبي صلى الله عليه وسلم-، لم يأمر بالقبض عليه قط، ولا أودعه في السجن، ولا فتح محاضر التحقيق معه، ولا حكم عليه بسجن مؤبد ولا بغير مؤبد، ولا شهَّر به، ولا فضحه أبداً، وإنما تركه حراً طليقاً لم يتعرض له بشيء سوى أنه صلى الله عليه وسلم قال: {رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر} وهو صلى الله عليه وسلم رسول الله، الصادق المصدوق المبرأ المنزه. وآخرون أيضاً شككوا وطعنوا فيما يتعلق بموضوع الولاة، واختيار العمال والأمراء، الذين كان يختارهم النبي صلى الله عليه وسلم لبعض المغازي والبعوث والجيوش. فإن النبي صلى الله عليه وسلم اختار أسامة بن زيد في أحد البعوث -وذلك في آخر عمره قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم بزمن يسير- فبعث بعثاً وأمرَّ عليهم أسامة بن زيد، فقام بعض الصحابة الفضلاء، ومنهم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وغيره، وشككوا في هذا الرجل لأنه مولى، وقالوا: كيف يتولى علينا مولى، ونحن من قريش وفيهم، وفيهم؟! إلى آخره. قال الراوي: خطب النبي صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الناس وقال: {إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل -يعني زيد بن حارثة لأنهم طعنوا فيه عندما عينه النبي صلى الله عليه وسلم أميراً في سرية مؤتة- "وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة" أي: أنه جديراً بها وما عينته لمحبتي له، وإنما عينته لجدارته وأنه أهل لذلك- "وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا - يعني: ولده أسامة بن زيد - لمن أحب الناس إلي بعده"} وأيضاً لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بفتح محاضر التحقيق مع هؤلاء الذين طعنوا في هذا الأمير الذي عينه وولاه، ولا سجنهم ولا عاتبهم ولا أخرجهم، بل لم يقل لهم النبي صلى الله عليه وسلم إن فيكم وفيكم وفيكم، وإنما بيَّن الحقيقة وأن هذا الرجل جدير بالإمارة خليق بها، وأنتم طعنتم فيه بشيء لا يستحق الطعن؛ لأنه مولى، وأكرمكم عند الله أتقاكم. هذا المنهج التربوي النبوي العظيم، ظل هو السنة المتبعة للمسلمين قروناً طويلة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، سواءً كان من الخلفاء والحكام، أم من العلماء والدعاة، أم من عامة الناس. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 19 الإصرار على الخطأ خلق إبليس وفي مقابل ذلك إبليس عصى الله تعالى، ورفض السجود، لآدم وقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] فأصابه الكبرياء والغطرسة والغرور، فرفض السجود، ولذلك عاقبه الله عز وجل بقوله: {فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [ص:77-78] وكما أن لآدم ذرية، فلإبليس أيضاً أتباع وذرية، فمن الناس من يفعل الخطأ فيندم ويستغفر، ويقول: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16] {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} ومنهم من يفعل الخطأ، ثم يستمرئه ويستحسنه ويعجبه، بل يتحول والعياذ بالله إلى إنسان يبحث عن مخرج أو تصحيح يفلسف هذا الخطأ، حتى يصبح هذا الخطأ صواباً، حتى إن بعض دول العالم اليوم أصبحت تبحث بحثاً جاداً -كما يقولون- عن إعادة تعريف الجريمة، فوجدوا -مثلاً- أن الجرائم كثرت واشتهرت، فقالوا: إذاً لابد أن نعيد النظر. في تعريف ما هي الجرائم؟ نبحث -مثلاً- عن الزنى، هل هو جريمة؟ اللواط، هل هو جريمة؟ السرقة وهكذا؛ بل إنهم يبحثون الآن عن الاغتصاب - ويقصدون بالاغتصاب: الاعتداء على عرض امرأة بغير رضاها وكل هذه الأشياء، أصبحوا في دول الكفر الآن، يبحثون عن تعريف جديد للجريمة؛ لإخراج هذه الأشياء من كونها جرائم؛ لأن السجون عندهم امتلأت، ولم يعد في إمكانهم أكثر من ذلك كما قال عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] ومن المسلمين اليوم من يذهب ليلوي أعناق النصوص، أو يبحث عن فُتيا، أو رأي شاذ، أو قولٍ مُخرَّج لأحد الأئمة يدعم فيه خطأً وقع فيه، وما أجمل أن يقول الإنسان: أنا أخطأت، وأسأل الله أن يغفر لي ويتوب علي، وأن يعينني على الخروج من هذا الخطأ، ما أجمله وما أدله على كمال هذا الإنسان، وشجاعته ورجولته، لكن كون الإنسان يقع في الخطأ، ثم يأتي ليقول: لماذا أنتم تقولون كذا هذا خطأ؟ أنا لا أرى فيه شيئاً؛ لأن فلاناً في القرن السابع قال كذا، وفلاناً في القرن العاشر قال كذا، والعالم المعاصر قال كذا وكذا، فيبحثون عن الخطأ ليحولوه إلى صواب. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 20 الخطأ لابد منه فكل إنسان بفطرته يكره أن يخطئ، ويحب أن يصيب دائماً وأبداً، ولكن ما دام أن الخطأ مكتوب على الإنسان لا محالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فما دام أنك لا يمكن أن تنفك عن الخطأ، سواءً كنتَ فرداً أو جماعةً، أو دولةً أو أمةً، فإن المؤمن يفضل أن يُكاشف بالخطأ الآن ويبين له، وهذا أحب إليه من السكوت الذي تكون عاقبتة سوء عليه في الدنيا وفي الدار الآخرة. إنه يدري أن ثمة اعترافاً في الدار الآخرة بالأخطاء كلها، فالمنافقون والمشركون والكفار كلهم يعترفون بأخطائهم يوم القيامة اضطراراً {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} [فصلت:22] فهو اعتراف مفضوح لابد لهم منه، ولذلك يقول الأشهاد يوم القيامة: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيعترفون بالخطأ، بل يُفضحون بالخطأ فضحاً على رءوس الأشهاد، بعدما كانوا ينكرونه، ويقولون: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:23] ويقولون -كما قال الله عز وجل-: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة:18] فيُفضحون على رءوس الأشهاد يوم القيامة، أما المؤمن فلأنه كان يعترف بخطئه في الدنيا، ويرجع عنه قريباً ويحب أن يبين له، فإن الله تعالى يستره في الدار الآخرة، ولهذا يُقرر الله تعالى -كما في حديث النجوى من حديث ابن عمر، وهو في الصحيح- {يقرر الله تعالى عبده المؤمن بذنوبه فيدنيه، ويقول: عملت كذا في يوم كذا وكذا وعملت كذا في يوم كذا وكذا، فيقول الله عز وجل: يا عبدي أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه} . إذاً: ما دام أن الخطأ لابد منه عندي وعندك، وعند كل إنسان من البشر، فقبول النقد هو من الكمال البشري. ونحن نعرف -مثلاً- أن النوم هو كمال، ولو أن إنساناً لا ينام؛ لكان هذا عيباً يعالج منه. وكذلك الأكل والشرب هو كمال للإنسان، ولو فقد الإنسان الشهية؛ لكان هذا أيضاً يعاب به، ويعالج منه ويؤدي به إلى الموت. ومثله البكاء من خشية الله تعالى كمال، بل حتى البكاء المعتدل في حال المصيبة هو من الكمال البشري. ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام لما مات ابنه دمعت عينه من دون رفع صوتٍ أو شق جيب أو غير ذلك -مجرد دمعة عين- ولما قالوا له قال: {هذه رحمة يضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء} فهذا القدر ليس نقصاً، بل هو من كمال الإنسان؛ لأن الإنسان بشر فكماله في وجود هذه الأشياء فيه. وإذا كان النقص مركباً فيه وهو جزء من طبيعته، فمن الكمال أن يعرف هذا النقص ويعمل على تلافيه. وأضرب لكم -مثلاً-: عندك شخصان كلاهما ناقص؛ لأن كلاً منهما إنسان، معناه: أن النقص موجود في الشخص الأول، وموجود في الشخص الثاني لابد، فالشخص الأول مُصر لا يعترف بالنقص، بل يجحده وينكره، أو يعرفه ولكنه لا يعترف به أمام الناس، ولا حتى أمام نفسه، فهو يغالط نفسه ودائماً يدَّعي أنه كامل، وطالما سمعنا أناساً يصفون أنفسهم بالكمال، يقول: ماذا عليهم من الملاحظات أنا كامل. زار أحدهم مريضاً مسجى على سريره في المستشفى، فقالوا له: طهور إن شاء الله يا فلان، فقال: طهور! وهل أنا أذنبت حتى تقولوا طهور. فهذا الشخص عنده نقص من جهتين: الجهة الأولى: النقص الفطري الموجود فيه. والجهة الثانية: إصراره على الخطأ وعدم اعترافه به. وأما الشخص الآخر فعنده النقص الفطري الذي هو موجود في البشر كلهم، ولكنه يعرف هذا النقص ويعترف به ويسعى إلى معالجته، ويقول: ليتني أتخلص منه عسى الله أن يعينني، فهذا لاشك أنه أكمل وأعظم. إذاً الشخص الثاني نقصه واحد، وهو النقص الأصلي الفطري، وله في مقابل هذا النقص كمال، وهو الشجاعة والقدرة على الاعتراف، وكذلك العلم بهذا النقص والعمل على إزالته. ربما تجد كثيراً من الناس - مثلاً - يخافون من النقد، لأنهم يعتبرون النقد نوعاً من التنقص والبحث عن العيوب، وأنه لا يصدر إلا من إنسان مبغض أو حاسد أو حاقد، وهذا المفهوم يجب تغييره، وأن يفهم الناس أن الذي ينتقدك هو من يحبك "صديقك من صدقك لا من صدَّقك". ومنهم من يخاف من النقد -مثلاً- لأنه -كما يقال-: (بنيانه على شفا جرف هار) فبناؤه من زجاج، وهو يخاف من النقد البناء تجنباً للفضيحة، وستراً على الهفوات والجرائم التي ارتكبها، سواء كان في ذاته وفي جرائمه، أو على استغلاله لموقعه ومنصبه، أو في موقف من المواقف، أو في هزائم جر الأمة إليها، أو نكبات ورط الأمة فيها، أو أمور أو فضائح أخلاقية، أو مالية، أو اقتصادية، أو عسكرية، أو سياسية أو غير ذلك، فتجد أنه يتستر على هذه الأمور؛ لأنه يعرف أن بناءه من زجاج، وأنه عرضة للفضيحة في أي وقت وفي أي حال، ولذلك يعتبر النقد قضاءً على مصالحه، وأنه إن كان حاكماً اعتبر النقد تشكيكاً للشعوب في جدارته وصلاحيته، وإن كان عالماً اعتبر النقد تشكيكاً للطلاب في علمه وفضله، وإن كان داعيةً اعتبر النقد تشكيكاً للأتباع والمريدين في جدارته وصلاحيته، وهكذا. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 21 الاعتراف بالخطأ عند النبلاء والفضلاء أما النبلاء والفضلاء والعلماء، فلم يزالوا يستدلون على جدارة الشخص، وعظمته ورجولته وكماله، بقدرته على الاعتراف بالخطأ والنقص، وقدرته أيضاً على التراجع عن ذلك بكل أريحية وسرور نفس، وبدون أي حساسية، كما يستدلون على سفاهة إنسان، وجهله وغباوته، بإصراره على الخطأ ورفضه الاعتراف به. وإليك المثال: آدم وحواء عليهما السلام وقعا في الخطأ، وأكلا من هذه الشجرة وهذا خطأ، لكن بعد الخطأ {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ولذلك استحقا الرحمة فرحمهما الله عز وجل وجعل مآلهما إلى الجنة. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 22 أهمية النقد النقد أيها الإخوة، مطلب إنساني لمواجهة الانحرافات والأخطاء، التي تتسلل إلى حياة الأمم والشعوب، والأفراد والجماعات، وغياب النقد معناه -بلا شك- تراكم الأخطاء وتماديها، حتى يستحيل التصحيح بعد ذلك. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 23 النقد يجلي صفة النقص والخلل كما أن من جوانب أهمية النقد، أنه يجلي للإنسان وللأمة والجماعة والدولة صفة نفسها وصورتها، فهو مرآة حقيقية لا زيف فيها ولا زيادة ولا نقصان، وربما لا يستطيع الكثير من الناس أن يعرفوا عيوب أنفسهم، وذلك لأن الإنسان يمارس عيبه أحياناً بشكل طبيعي، وربما يعتقده أحياناً صواباً لا يري أنه خطأ، فكم من إنسان يقع في الخطأ وهو يظن أنه صواب، فيحتاج إلى من يبصره بهذا الخطأ، ويقول له: أخطأت، والصواب كذا وكذا. وقل مثل ذلك بالنسبة للدول والجماعات والأمم، فهي تحتاج دائماً وأبداً إلى أفراد من غير صانعي القرار، يستدركون ويصححون وإلا غرقت السفينة، فالذي اتخذ القرار بهذا الأمر هو اتخذه باجتهاد، فيرى أنه صواب، وليس بالضرورة أن يكون اتخذه عن غدر أو فجور، أو سبق إصرار. وبناءً على هذا فمن الصعب أن يصحح الإنسان لنفسه، لكن الآخرين قد يملكون التصحيح، وقد يكون لديهم وجهات نظر تستحق التقدير وتستحق الاحترام. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 24 كيل المديح عند غياب النقد وإذا غاب النقد، فإن البديل عن النقد الصحيح هو كيل المديح، فما أمامنا إلا حلاَّّن: إما النقد الصحيح، أو كيل المديح، وكثيرون يكيلون المديح والثناء والإطراء بلا حساب، وهذا الإطراء والثناء يغر الإنسان، ويغريه بأن يصر على الخطأ، كما أنه يخدع الأمة ويزور الحقائق، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن المبالغة في المديح، ولما مدحوه وقالوا: أنت سيدنا وابن سيدنا. قال عليه الصلاة والسلام: {قولوا بقولكم أو ببعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان} والحديث رواه النسائي، وسنده جيد كما قال بعض أهل العلم. وكما في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {احثوا في وجوه المداحين التراب} رواه مسلم عن المقداد بن الأسود. ورأى رجلاً يمدح أخاه فقال: {قطعت ظهر أخيك، أو قصمت ظهر أخيك} والحديث صحيح. إذاً الإسلام نهى عن المبالغة في المديح والإطراء؛ لأن الإطراء لا يزيد الإنسان إلا إصراراً على ما هو عليه. وقد يمدح الإنسان بقدر، تشجيعاً له على صواب صدر منه، واعترافاً بفضل له، لكن لا ينبغي أن يكون هذا دأباً وديدناً كما هو الواقع اليوم في عالم الإسلام، فقد أصبح المديح فناً يُمارس، وأصبحت له أجهزته المتخصصة، التي لا هم لها إلا إزجاء المديح بالحق وبالباطل، ومهما كان الشخص الممدوح، فإنها لابد أن تمدحه بكل شيء، حتى لو أخطأ حولت الخطأ إلى صواب، وبالتالي مدحته بهذا الإنجاز العظيم الذي فعله. مديح الأشخاص: والمديح أنواع منها: مديح الشخص لفلان العالم، أو المسئول، أو الحاكم، أو الأمير، أو الداعية، أو التاجر إلخ مديح هذا الشخص، سواء كان بشكل أو بحسن الخلق أو بالفصاحة أو بالكرم، أو بغير شيء. وقد حفظ لنا التاريخ صوراً سيئة كالحة، عن هؤلاء المنافقين الذين لا همّ لهم إلا إزجاء المديح ولعل أسماعكم قد كرهت واستثقلت تلك الأبيات التي قالها ابن هاني، يمدح أحد الأمراء العبيديين، يقول له: ما شئت لاما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وكأنما أنت النبي محمد وكأنما أنصارك الأنصار إلى هذا الحد بلغ الذوبان في شخصية الحاكم، أنه أعطاه صفة الألوهية وصفة النبوة، وأعطى أتباعه صفات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا الصنف من الناس من المرتزقة - لا كثرهم الله - هم موجودون في كل زمان ومكان، ليست القضية أو المشكلة أن يقوم شاعر نبطي - مثلاً - فيمدح؛ لأن هذا شأنه وهذا عمله، وليست القضية أو المشكلة أن يقوم صحفي مرتزق فيمدح؛ لأن هذا عمله وهذه وظيفته، لكن المشكلة أن يقع هذا من عالم، أو من رجل من رجال الفكر أو الأدب، الذين يُشار إليهم بالبنان، وتُعقد عليهم الخناصر، ويعتبرون نموذجاً حياً لما يجب أن تكون عليه الأمة، فإذا به يقع في زلات عظيمة، قد كثرت اليوم حتى لم يستطع أحد يحصيها. ولعلكم أيضاً ربما سمعتم ذلك الإنسان، الذي يقول لأحد الطواغيت الهالكين لما انتقل من موقف من المواقف، قال: لو كان لي من الأمر شيء، لجعلت فلاناً في موقع الذي لا يُسأل عما يفعل. فأغرى هذا الإنسان المتعالم أو المنسوب إلى العلم، أغرى ذلك الحاكم بمزيد من الطغيان والإصرار، والغطرسة والكبرياء والجبروت، فكان يتكلم ويخطب ويقول: لا يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد. مديح المكاسب والمنجزات: وهناك مدح المنجزات والأعمال والانتصارات والمكاسب، سواء كانت مكاسب وهمية، بل هي خسائر حولناها إلى مكاسب، وظللنا نتغنى بها زماناً طويلاً، ونضخمها وننفخ فيها نفخاً مستمراً حتى لا ينساها الناس، ونحييها ونجعل لها المناسبات، ونجعل لها الأعياد التي يبتهج فيها الناس، وقد يوضع في بعض الدول العيد إجازة بمناسبة أو بأخرى، وندندن حولها في الإعلام وفي غيره، وكأننا بذلك نعوض عن العجز الموجود عندنا، العجز عن تحصيل مكاسب جديدة، أو نتستر على ألوان من الفشل القائم الدائم، الذي نحاول أن نصرف وجوه الناس عنه بالكلام عن مكاسب مضت وانتهت، قد تكون مكاسب حقيقية أحياناً، وقد تكون مكاسب وهمية في كثير من الأحيان. ولعله من الأمثلة التي تعرفونها، أن الإعلام -هذا النوع من المكاسب- قد يتكلم عن دولة -مثلاً- فيتكلم عن العراق، وكيف أن العراق كان يتكلم عما يسميه أم المعارك، فلما فشل في تلك المعارك وانهزم، وصارت الأمور التي صارت وعرف الناس كلهم، صار يتكلم عن مكاسب أخرى، فيقول: إن مجرد صمود الحزب أمام هذا الطوفان الهائل يعتبر مكسباً، ليغري الناس بذلك، أو يعمل مباراة رياضية يسميها أم المباريات أو أم المعارك، وينتصر فيها العراق، أو يحاول أن ينتصر ليغري الشعب بهذه الألاعيب عن الهزائم الحقيقية التي مُني بها. وهذا الأمر ليس محصوراً في بلد معين، بل إننا نقول: إن كل أمة الإسلام الآن تعيش ألواناً من الهزائم، التي تحاول أن تتستر عليها بالمديح وضروب الثناء، وتذكر بعض المكاسب السابقة وإطرائها، وإقامة المناسبات والأعياد والاحتفالات لها. المديح لنشاط من الأنشطة: وقد يكون المدح أحياناً ليس مدحاً لشخص، ولا لمكاسب أو منجزات، بل قد يكون مدحاً لعمل، كنشاط دعوي -مثلاً-، أو نشاط جهادي قام في بلد من البلاد، أو نشاط علمي، بحيث تسري روح التزكية والثناء والإطراء، وتختفي روح النقد والتصحيح، ولا يملك الناس القدرة على اكتشاف الخطأ، وهذا -كما قلت قبل قليل- داء موجود في كل المسلمين، لا أعني في أفرادهم بالضرورة، كلا، فإن من المسلمين من لا يكون كذلك، لكنني أعني أنه موجود على كافة المستويات، فأنت حين تنتقل إلى عالم الدعوة، وعالم الجهاد، وعالم العلم، تجد هذا الداء موجوداً، تجد أن روح التزكية تسري، روح النقد ضعيفة، فالذي يمدح ويثني ويطري هذا محبوب، أما الذي ينتقد فإنه يعتبر مشاغباً وحوله علامات استفهام، وقد لا يكون مرغوباً فيه، لقد سرت عدوى التسلط والطغيان والاستبداد على الجميع، ولفَّتهم في عباءتها الرهيبة. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 25 النقد يعيد للإنسان اعتباره إذاً النقد هو: الكشف الطبي المتواصل، الذي يكتشف الخطر أو المرض بسرعة، وبالتالي يبادر إلى العلاج قبل أن يتمادى المرض، ويصل إلى مرحلة الخطر أو فقدان الأمل في العلاج، ولذلك لابد من النقد. والنقد أيضاً أيها الإخوة مشاركة حقيقية منك أنت في عملية الإصلاح، بحيث يصبح كل فرد في المجتمع له دوره وله مجاله، ولا يغدو الناس مجرد قطعان تساق إلى حتفها، وهي لا تشعر ولا تعي. إن النقد احتفاظ بإنسانية الإنسان، حيث يُقال له: يا فلان، تأمل وانظر واعمل وأعمل عقلك، وراجع ما تعرفه أنت من نصوص الشرع، ونصوص الكتاب والسنة، وإذا وجدت أمراً لا يليق من الناحية الشرعية، أو العقلية، أو من ناحية المصلحة، فإياك أن تسكت على هذا الخطأ، وعليك أن تُبلغ، ولتعلم أنك إن سكت على هذا الخطأ، فأنت شريك في الإثم. أو بمعنىً آخر: أنت شريك في جريمة السكوت على هذا الخطأ، والساكت عن الحق شيطان أخرس. لقد صنع الإسلام رجالاً كان أقلهم يرى أنه قوي في تغيير المنكر وإنكاره، وفي إقرار الحق والأمر به. وأضرب لكم مثلاً متناقضاً يدلكم على الفرق البعيد بيننا الآن، وبين الأجيال الأولى: بلال بن رباح رضي الله عنه كان عبداً أسود حبشياً في مكة، ليس له قيمة، يباع بالدرهم والدينار، فلما أسلم نُفخت فيه روح العزة والكرامة، والقوة والرجولة، فشعر أنه هو شخصياً ممن يقومون بتثبيت دعائم الإسلام، والدعوة إليه، والصبر والمقاومة، ولذلك كان يُعذب بمكة، ويوضع في حرِّ الرمضاء، وهو يقول: [[أحد أحد، أحد أحد]] حتى في بعض كتب السيرة، أنه كان يقول: [[والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم من هذه لقلتها]] فوقف في وجه الطواغيت والظالمين والمتسلطين، والذين يفتتنون الناس عن دينهم، وصبر حتى فرج الله تعالى عنه، ولم يقل: أنا عبد مسكين، كيف أقف أمام أبي جهل وأبي لهب وعتبة وشيبة وفلان وفلان، من عليا القوم وزعمائهم ورؤسائهم. وقف بصبره وإيمانه، وأن قلبه لا سبيل لهم إليه، فكان يقول: أحد أحد، حتى مر به ورقة بن نوفل، وكان يقول: "نعم يا بلال أحد أحد، والله لئن قتلتموه لأتخذن قبره حناناً" كما جاء في بعض الروايات إن صحت. هذا بلال نموذج للمسلم الأول. لكن خذ نموذجاً للمسلم المعاصر، هل تدري أن الاستعمار كان يستخدم المسلمين في احتلال بلاد المسلمين، ففرنسا -مثلاً- كانت تستخدم المسلمين في سوريا وفي الجزائر في مقاومة المسلمين، وضرب المسلمين، وفي تدعيم مكانتها في تلك البلاد مع الأسف الشديد، بل إنك تجد أن التعذيب والاضطهاد، والقتل، والابتزاز، وألوان وصنوف الأذى، التي لقيها الدعاة والعلماء والمجاهدون في العديد من بلاد الإسلام، أنها ما كانت تتم على أيدي يهود ولا نصارى، إنما كانت تتم على أيدي أناس يحملون أسماء محمد وأحمد وعلي وصالح، وفلان وفلان من الأسماء الإسلامية، وقد تجد أحياناً من بينهم من يكون مصلياً، أو صائماً، أو غير ذلك، وليس بغريب أن الأداة التي يستخدمها الطغاة في كل زمان ومكان، في ملاحقة المسلمين والدعاة وطلبة العلم، ومحاربتهم، وكتم أنفاسهم، والتجسس عليهم، وإيذائهم في أنفسهم وفي بيوتهم وفي أرزاقهم، وفي وظائفهم، وفي أعمالهم، ومتابعة ماذا يقولون، وماذا يفعلون، وبمن يجتمعون، وكيف يجتمعون، ومتى يفترقون إلخ. إن هؤلاء أناس قد يكونون من رواد المساجد أحياناً، وقد يكونون من المصلين، أو ممن يحضرون الحلقات العلمية والدروس لهذا الغرض أو ذاك، ورُبما ترامى إلى مسامع بعضكم تلك القصيدة الشهيرة، قصيدة الشاعر: هاشم الرفاعي، التي كان يتحدث فيها عن صورة السجن والسجان، وما هي صفته، فكان يقول: والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان ما بين آونة تمر وأختها يرنو إلي بمقلتي شيطان من كوة بالباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني ويخاطب أباه فيقول: هو طيب الأخلاق مثلك يا أبي لم يبد في ظمأ إلى العدوان فلربما وهو المروِّع سحنة لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيالُ مرارة الحرمان إذاً هو من المرتزقة هذا المسلم المعاصر، فقد معنى انتماءه للإسلام، معنى إحساسه بالولاء للمسلمين، معنى حبه لله وللرسول وللمؤمنين، فصار مستعداً أن يذبح دينه على عتبة المصالح الدنيوية، أو الوظيفة، أو المال، أو الدنيا، أو على عتبة المرتبات والبدلات والإكراميات وغير ذلك، وقد يؤذي المسلمين أو يعذبهم، بل قد يصل الحال إلى قتلهم -كما قلت لكم- من أجل هذه المصالح الدنيوية، وكم هو مؤسف أن يلتقي المسلم مع أخيه المسلم في ميدان القتال، من أجل هذه الدنيا الفانية التي لا تستحق شيئاً، وربما قتل كل منهما على يدي الآخر. إذاً تأتي أهمية النقد من جهة أنه يُعيد للإنسان اعتباره، يعيد للإنسان إشعاره بأنه مسلم مكلف، مطالب بأن يقوم بعملية التصحيح، والمشاركة في الإصلاح، والمصارحة والنقد والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال موقعه، بالأسلوب الذي يعجبه والطريقة التي تناسبه. لكن لا يجوز أبداً أن يتخلى، ويقول المسئول غيري. وما أصيب المسلمون بما أصيبوا به، إلا يوم تخلوا وصاروا على مثل الحالة التي وصفت لكم. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 26 وسائل الهروب من الأخطاء نحن نمارس في كثيرٍ من الأحيان هروباً من الخطأ؛ لأننا لا نريد النقد ولا نحبه. فمن أساليب الهروب من الخطأ: الجزء: 160 ¦ الصفحة: 27 تجاهل السنن الكونية أن تحيل الخطأ إلى الصدفة وتتجاهل السنن الكونية. فإذا وقعت الأمة في خطأ، هزيمة عسكرية أو اقتصادية أو سياسية أو غير ذلك، أحالت الأمة ذلك على أن هذا صدفة، أو ظروف الواقع، ونسينا دورنا نحن في هذا الخطأ، ونسينا قول الله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] ونسينا قول الله عز وجل في الحديث القدسي: {إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً} ونسينا قول الله تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] ونسينا قول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . الجزء: 160 ¦ الصفحة: 28 التقليل من شأن الخطأ هي تجاهل الخطأ والتقليل من شأنه، أو حتى أن تعتبره صواباً، فلا تعترف بأن هذا خطأ، بل تقول: إن هذا صواب، وتصر عليه، وتقول كما قيل في المثل: "عنزة ولو طارت". الجزء: 160 ¦ الصفحة: 29 الإحالة إلى القضاء والقدر هي: الإحالة إلى القضاء والقدر. فكثير منا آمن بالقضاء والقدر، ونحن نعرف جميعاً أن القضاء والقدر والاحتجاج به، لم يعف أبانا آدم عليه السلام من أنه اعترف بخطئه {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ومع ذلك آدم احتج على موسى عليه الصلاة والسلام في القضاء والقدر، وقال: {أتعيبني أو أتعاتبني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: فحج آدم موسى؛} لكن هذه الحجة لا تعني أنه لم يعترف بالخطأ، ولم يتب منه، كلا. لكن الشيء الذي مضى وتاب العبد منه فإن له أن يحتج بما قضاه الله عليه وقدره. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 30 إلقاء اللوم على الآخرين هي: أن تُلقي باللوم على الآخرين، وتخرج أنت سليماً بريئاً معافى. فمثلاً على مستوى الأمة يقولون: الأخطاء الموجودة الآن في الأمة، هي من صنع الجيل السابق ومن آثار الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل اللاحق، أو أنك تحيل الخطأ على العدو، أو على المستعمر، أو على الصهيونية، أو على الحكام، فكثير من الناس يكتفي أن يقول: الحكام هم المسئولون. وكأنه خرج من الدائرة بهذا الأسلوب. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 31 التفسير الهروبي للخطأ هي: أنك تُفسر الخطأ تفسيراً هروبياً، وذلك كمن يفسر الفشل بأنه ابتلاء من الله تعالى، وأنه ضمن الابتلاء، ويسوق الآيات الواردة في الابتلاء والاختبار، ولا يرجع ليقول: ما سبب ما حصل؟ سببه خطأ مني، أو تقصير في اتخاذ الأسباب وكمن يُفسر العجز بأنه نوع من الصبر، وكمن يفسر الجبن بأنه نوع من الحكمة، وهكذا. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 32 الإحالة إلى المنهج هي: الإحالة إلى المنهج. فكثير من الناس لا يفرقون بين الإسلام، الذي هو دين منزل من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، والناس كلهم مطالبون به - أن يدينوا الله تعالى به- لا يفرقون بين الإسلام -مثلاً- وبين فئة تنتسب إلى الإسلام، أمة، أو دولة، أو جماعة، بل شخص، فيعطون العصمة التي للمنهج - وهو الإسلام - يعطونها أحياناً لدولة تنتسب إلى الإسلام، أو حتى تدعي أنها تحكم بالإسلام، ويمنحونها العصمة، أو يعطون العصمة لجماعة من الجماعات الدعوية التي تدعو إلى الله تعالى، وهي جماعة إسلامية لكنها غير معصومة، فمن الممكن أن تخطئ في فهمها للإسلام، فقد يكون فهمها خطأ، وقد يكون اجتهادها في غير محله، وكوننا نجد أنفسنا في النهاية وصلنا إلى طريق مسدود، والذئاب قد كثرت من حولنا، فنقول: هذا زمان الغربة، وهذا ما حدث للدين، وهذا كذا وكذا، فنحن نقول مع هذا كله: ربما يكون هذا بسبب فشلنا في معرفة الوسائل، التي يجيز لنا الإسلام أن نستخدمها ونتعامل معها وننتفع بها. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 33 أنواع النقد . الجزء: 160 ¦ الصفحة: 34 نقد الذات ونقد الآخرين ومن تقسيمات النقد: نقد الذات ونقد الآخرين. فهناك من ينتقد نفسه، وهذا ما يسمى بالنقد الذاتي، يكتشف خطأه بنفسه، ويحاسب نفسه بنفسه، كثرة المراجعة والتحري واكتشاف الخطأ، ومن ثم إشهار الرجوع عن هذا الخطأ، والاعتذار منه، خاصةً إذا كان خطأً معلناً -يعني فتوى -مثلاً- أو رأياً أو موقفاً أو اجتهاداً، أو منكراً معلن وقع فيه هذا الإنسان، أو وقعت فيه هذه الجهة، فرداً أو جماعةً أو دولة، فيكتشفون الخطأ بأنفسهم ويصححونه. أما نقد الآخرين أي: أن يكون النقد من جهة أخرى، سواء كان النقد سراً أم علانية. ويجب على الجميع تهيئة الفرص للنقد، وإتاحة السبل، وإقامة الجسور، وتأمين الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ليتمكنوا من النقد؛ لأن النقد شيء كبير جداً، في مصلحة الأمة والفرد والجماعة والدولة بكل حال، ولذلك ينبغي أن يحرص الجميع على تهيئة الفرص للنقد حتى لا يغيب النقد، أو يستحي منه الآخرون، أو يخافوا، أو يترددوا، أو يتراجعوا عنه، أو ينتقد إنسان فيسكت الباقون؛ لأن الكثير قد يعتبرون أن هذا تشهير، أو أنه لا يجوز، فيتوقفون عنه، فينبغي أن تتاح الفرصة للنقد البناء الصحيح الهادف، بالوسيلة الصحيحة أيضاً، وبالأسلوب المناسب، وبعيداً عن أساليب الجرح أو الشتم أو التنقص، أو سوء الظن أو غير ذلك. ولو فرض أنه وجد أسلوب غير مناسب، فهذا لا يمنع أبداً من قبول النصيحة، فليس الجميع قادرين على إتقان قواعد النقد وأساليبه وطرائقه، وإذا كنا نعرف أن المسلم للمسلم كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، فنحن نعرف أن اليد قد تكون فيها أحياناً نوع من الخشونة، فلا يمنع أن تغسلك اليد الأخرى وفيها نوع من الخشونة، وكذلك أخوك المسلم ينتقدك أو يصحح خطأ، ولو بشيء من الخشونة، فلا ينبغي أن تتردد في قبول هذا النقد. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 35 أهمية النقد الذاتي ونقد الإنسان لنفسه وهو ما يسمى بالنقد الذاتي، أمر مهم جداً؛ لأنه دليل على شجاعة الإنسان وتحرره من عبوديته لنفسه، واستعداده للتغيير والإصلاح. أما النقد من الآخرين فإنك قد تقبله أولا تقبله، لكن إن كان من نفسك، فمعناه أن لديك استعداداً أصلياً للقبول، وإذا قبلت نقد الآخرين فقد تقبله، وقد تصر على ما أنت عليه، وتقول: هذا لا يهمني هذا أمر سهل. إذاً النقد الذاتي، أهميته أولاً: أنه دلالة على الشجاعة، وقدرة الإنسان على التصحيح. ثانياً: أن الإنسان في بعض الأحيان أقدر على ملاحظة نفسه، وربما أمور لا يستطيع الآخرون أن يدركوها أنت تدركها، وعلى سبيل المثال مقاصدك الداخلية، ونياتك ومراميك وخلجاتك وأهدافك، وأسرارك وخواطرك، هذه لا يدركها الآخرون، ومعنى ذلك أن في النفس جوانباً ربما لا يملك الناس أن ينتقدونك فيها، ولكنك أنت تملك أن تكتشفها بنفسك وتصححها. كما أن نقد الإنسان لذاته، أو نقد الأمة أو الجماعة أو الدولة لذاتها، يوجه طاقة الإنسان وجهة سليمة، بحيث يشغله عيبه عن عيوب الناس {وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس} أما أن يكون الإنسان يبغي للبرآء العيب، ويشتغل بعيب الناس وينسى عيبه، فهذا -لا شك- دليل على مرض مستتر موجود في ذاته. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 36 النقد العام هو: نقد المظاهر المنحرفة دون تخصيص أي: دون أن تسمي أحداً، فتقول: من الناس من يفعل كذا، {ما بال أقوام يفعلون كذا} وفي القرآن كثير {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:204] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة:8] وكذلك كثير في سورة التوبة وغيرها: ومنهم، ومنهم، والمنافقون والظالمون والفاسقون، جاء الحديث في القرآن الكريم مستفيض عن هؤلاء، فهذا نقد عام، نقد المظاهر المنحرفة أو الأخطاء دون تشخيصها. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 37 نقد الأشخاص النوع الثاني هو: نقد الأشخاص. ولست أعني بالأشخاص: الأفراد، فلان أو علان، لا، قد يكون الشخص عبارة عن شخص معنوي -كما يقال- دولة، أو جماعة، أو مؤسسة، وقد يكون فرداً بعينه. فالكثير يهتمون بالأول - النقد العام - ولا يهتمون بالنقد الثاني، ويقولون: لا داعي لذلك. والواقع أنه لابد من الاثنين معاً، لماذا؟ لأنك حين تتكلم عن المظاهر المنحرفة، فتقول: من الناس من يفعل كذا ومنهم، ومنهم. قد يخرج الناس وكل واحد منهم لا يعتقد أنك قصدته، ولا يدري ولا يغير الخطأ؛ لأنه يظن أنه غير مقصود، يخرج الجميع، وكل واحد منهم يظن أن المقصود غيره، ولعلنا نحن الحضور نموذج في كثير من الأحيان لذلك، قد نخرج ونظن أن المخاطب غيرنا، ولذلك لابد في كثير من الأحيان من النقد التشخيصي المباشر، دون حاجة إلى ذكر أسماء، أو أمور معينة، إلا بقدر الحاجة إلى ذلك. وهذا النقد أقول: إنه لابد منه؛ لأنه أقرب إلى تحصيل المصلحة، وإزالة الخطأ، وتحقيق الصواب. بعض الناس يقول: لماذا ينتقدني فلان؟ لو سمع نقداً مجملاً، لكنه ظن أنه مقصود؛ لأنه يسمع بحساسية. أولاً ما الذي جعلك تظن أن فلاناً يقصدك؟ إلا وجود الخطأ عندك. إذاً تنبه لهذا الخطأ، الأمر الثاني: أنه كان يجب أن تقول لو لم ينتقدك لماذا لم ينتقدني؟ لأنه كرامة أن يهدي إليك أخوك المسلم عيباً، سواء أهداه بطريقة صحيحة أم غير صحيحة، فالمسلمون نصحة والمنافقون غَشَشَه. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 38 صور من النقد المذموم الجزء: 160 ¦ الصفحة: 39 جمع المثالب والأخطاء والتشهير بها ومن صور النقد المذموم -أيضاً- النقد الذي يستهدف جمع مثالب الإنسان وإحصاء أخطائه، ليشهر بها أو يروجها، فيكون بعض الناس والعياذ بالله مثل الذباب، لا يقع إلا على العقر وعلى الجرح، فيجمع عيوب الآخرين ويتكلم بهم في المجالس، وكأنه لا حسنة لهم قط. هناك حالات يجوز فيها تناول الأوضاع الشخصية، كما أشرت إلى شيء من ذلك قبل قليل، وجاء سؤال عن هذا الموضوع فأقول منها: -فمثلاً-:شخص مجاهر بالفسق والمعصية، ويسعى إلى إفساد المجتمع، مثل العلمانيين، والمنافقين، والحداثيين، واليساريين، وبعض الصحفيين -أقول بعض الصحفيين- الذين لهم توجهات غير محمودة، وبعض الناس ذوي النفوذ الذين ثبت تواطؤهم، واشتراكهم في بعض المؤسسات، وبعض الأجهزة، وبعض المعاهد التي تحارب الله ورسوله، وتقوم بمهمة الضرار في هذا المجتمع، أو في ذاك، فهؤلاء ينبغي فضحهم ولو بصورة شخصية، والكلام عنهم بأعيانهم حتى يحذرهم الناس ويتجنبوهم، وقد جاء في ذلك أدلة سبق أن ذكرت شيئاً منها. كذلك قد يوجد شخص يُخشى أن يغتر الناس به؛ لأنه يتظاهر بالخير والصلاح، وله أهداف ومآرب أخرى، مثل المبتدع الذي يتستر ببدعته يخدع بها العامة، وقد يوري ببعض العبادات، وبعض المواعظ، وبعض الأمور، فهذا لابد من ذكره. أيضاً هناك شخص لا ينظر إليه باعتباره فلان، أو ابن فلان، بل ينظر إليه بالاعتبار العام، أي أنه صار -هذا الشخص- ملكاً للأمة، وللتاريخ، صاحب نفوذ، وصاحب شخصية علمية، واجتماعية، وتاريخية، فقراراته وآراؤه ومواقفه وشخصيته، أصبحت منطبعة على الأمة كلها، وذات تأثير قريب وبعيد في الحاضر والمستقبل، فهؤلاء لم يعودوا أشخاصاً لأنفسهم، بل عادوا ملوكاً للأمة وللتاريخ، فلابد من تناول هؤلاء الأشخاص. وما زال العلماء يكتبون عن تراجم هؤلاء، بل عن غيرهم، يكتبون عن تراجمهم ويتحدثون عنهم، وقد يذكرون الحجاج بن يوسف -مثلاً- فيذكرون ما فعله من الجرائم والمنكرات والمظالم، وربما تكلموا فيه، وربما دعوا عليه، وربما سبوه. وقد يذكرون رجلاً بعكس ذلك، كما يتكلمون عن الرجال الفضلاء الكبراء الأجلاء العادلين، كـ عمر بن الخطاب، أو عمر بن عبد العزيز أو غيرهم، كذلك الأشخاص الذي يجاهرون بجرائمهم -لعلي أشرت إلى شيء من ذلك -مثلاً- ماذا عساك أن تتستر على أديب كبير، شعره يبين عنه، ويتكلم عن كل صور الفجور والفساد والانحلال، فماذا عساك أن تتستر على مثل هذا الإنسان أو غيره ممن يجاهرون بمعاصيهم، بل ينشرون ألوان فسقهم وخزيهم على الأمة. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 40 استهداف شخصية الإنسان من صور النقد المذموم: النقد الذي يستهدف حياة الإنسان الخاصة، شخصيته، أموره الذاتية الخاصة، التي لا يطلع الناس على جوانبها وغوامضها، مثل: فضائح لفلان أو علان، هذا قد يتم أحياناً باسم الإثارة الصحفية. فقد يتكلمون كثيراً عن الجوانب الشخصية في حياة البعض، أو يتعرضون لأمور خاصة مما لا يتعلق بحياة الأمة، ولا يؤثر في مصالحها وليسو أشخاصاً مشاهير، بل هم أشخاص مغمورون، أو في جانب معين. وليس غريباً مع ذلك أننا نجد اليوم بعض الصحف تضع حلقات بعنوان " فضائح "، وهذه الفضائح تتعرض لحياة أشخاص بأسمائهم، وقد يكونون موجودين يعيشون على ظهر الأرض، فتنشر خزيهم وغسيلهم -كما يقال-، وربما يكون في ذلك أحياناً، إغراء للآخرين بالوقوع في مثل هذه الفضائح من حيث يشعرون، أو لا يشعرون. فباسم الإثارة الصحفية أحياناً يتم كشف بعض الجوانب الشخصية من حياة الناس، التي لا تستفيد الأمة من ظهورها، وأحياناً يتم كشفها باسم التجسس والمخابرة التي حرمها الإسلام كما قال الله عز وجل: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: {ولا تجسسوا} وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن تتبع الإنسان لعورة أخيه المسلم، {ومن تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في قعر بيته} . وكم رأينا ممن همه حفظ الزلات على بعض الشخصيات المرموقة، بواسطة أجهزة ووسائل، ثم نشرها وإشاعتها عند الحاجة؛ لغرض أو لآخر، بل رأينا أجهزة متخصصة في صناعة الأكاذيب وتلفيق التهم، وأحياناً دبلجة الصور والأصوات؛ لتشويه صورة عالم أو داعية، أو زعيم أو خصم، أياً كان، وهذا معروف في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها. وهذا بلا شك ما لا يبيحه الإسلام بحال. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 41 فقدان العدل في النقد تجد كثيراً من المسلمين في كثير من الأحيان فقدوا العدل في النقد، فصاروا إذا خالفوا شخصاً في موقف أو مواقف أجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، وحولوه إلى شيطان رجيم كأنه لا حسنة له قط، ولو كان من أهل لا إله إلا الله، ولو كان من الدعاة المجاهدين في سبيل الله، وإذا جاملهم شخص أو خادعهم بموقف مصلحي أحبوه وتستروا على كل أخطائه، وحولوه إلى قديس وإلى بطل عظيم. فقد الناس الثقة بالإعلام جملةً وتفصيلاً -والحمد لله رب العلمين-، صرنا نجد داعية مجاهداً -مثلاً- نخالفه في موقف أو رأي أو قضية، فنحول هذا الإنسان إلى شيطان، ونجلب عليه، ونعتبره عميلاً للمخابرات الأمريكية والشرقية والغربية، ومجرم وطالب حكم، هدفه السياسة، وأنه تسبب في ردة الناس عن دينهم، وأنه وأنه إلخ، وصرنا نكذب بلا حساب، ونأخذ بقاعدة: اكذب واكذب واكذب، عسى أن يصدقك الناس، ونسينا أن الناس مهما كانوا أغبياء في نظركم، فلهم عقول، ويعرفون هذه الأكاذيب الملفقة ولا يمكن أن تنطلي عليهم وإذا كذبت على الناس اليوم، فإنك لا تستطيع أن تكذب عليهم غداً، وإذا كان هناك شخص من المصلحة أن يثني عليه، وأن يعجب، فإنه يتحول إلى قديس لا يسمح بأن يُنال ولو بأقل شيء. وهذا مسلك في غاية الخطورة أين العدل؟! العدل يتطلب أنه حتى خصمك وعدوك، ينبغي أن تعترف له بالحق الذي عندك، وحتى أقرب الناس إليك ينبغي أن تعترف بالخطأ الموجود لديه، وهذا هو المنهج العلمي الموضوعي الشرعي، الذي يحفظ للإنسان كرامته ومكانته وعقله، ويجعله يثق بهذه الأجهزة الإعلامية التي من المفروض أن يكون همها وهدفها هو بناء الإنسان، بناء عقله، تكوين شخصيته، بناء الإنسان المعتدل المستقيم المنضبط، لكن -مع الأسف- لم تفلح إلا في صناعة الإنسان المزدوج المتناقض، الذي ينتقل من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال، ومن أقصى الشمال إلى أقصى اليمين. قد أصبح عندنا في كثير من الأحيان أن الناس أحد صنفين: إما عميل، فهذا نكيل له المدح بلا حساب، وإما رافض للعمالة، فهذا يُذم أيضاً بلا حساب، أما أن عندنا إنسان صديق أو متعاطف، أو حتى إنسان محايد، فهذه كأنه لا وجود لها في حياة كثير منا اليوم، فضلاً عن أن يوجد عدو تداريه، أو تقلل من عداوته بقدر ما تستطيع، فضلاً عن أن نتخذ مبدأ الإنصاف، وهو مبدأ شرعي يغير النظر إلى المصالح الذاتية، أو المصالح الشخصية. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 42 الأسئلة . الجزء: 160 ¦ الصفحة: 43 شروط النقد السؤال يقول: هل للنقد شروط؟ فبعض الناس قد يعرض عليك النقد بطريقة استفزازية، وربما يطرحه بطريقة جافة غليظة، مع إمكان أن يطرحه بطريقة حسنة تكون أدعى للقبول؟ الجواب صحيح للنقد شروط، وسوف تكون شروط النقد وضوابطه -بإذن الله تعالى- موضوعاً لأحد الدروس، بعنوان ضوابط النقد وشروطه، ولذلك لا داعي لأن أذكر منها شيئا الآن. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 44 ممن يقبل النقد السؤال هل يعني كلامك، أن نقبل النقد من أي شخص وفي أي مكان، ولو كان الشخص الناقد كافراً أو عاصياً لله عز وجل، ولو كان النقد قد وجه إليه من باب عادات وتقاليد ومجتمع ذلك الناقد؟ الجواب كلا؛ لأن النقد يعني تصحيح الخطأ، فإذا وجه الشخص إليك نقداً؛ لأنك تخالف عادة موجودة في مجتمعه هو، هنا لا يعتبر هذا خطأ؛ فقد يكون هو المخطئ. لكن لو كان النقد الذي وجهه إليك صحيحاً، بالمقاييس الشرعية الصحيحة، فإنه ينبغي عليك أن تقبل النقد، مهما كان الشخص المنتقد، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 45 المتعة أو التمتع بالحج السؤال يقول: إنك قلت: عن عثمان وعلي عندما فعل المتعة. ولعلها: زلة لسان والصواب التمتع؟ الجواب هي المتعة وهي التمتع، تسمى هذا وتسمى ذاك، لكن المقصود متعة الحج أي لبيك عمرة متمتعاً بها- تسمى المتعة وتسمى التمتع، وهذا معروف في كتب أهل العلم، بل معروف في الحديث. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 46 كثرة النقد السؤال بعض الأشخاص عندهم صفات النبوغ وملامح الذكاء، ولا تكاد ترى الواحد منهم إلا نقاداً للناس في مسالكهم وطرقهم، بحيث أصبح هذا غالباً عليه لا يستطيع التخلص منه. الجواب هذا داءٌ -أيها الأحبة- والذي هذا شأنه لا يفلح أبداً إلا أن يتوب فعلى الإنسان أن ينظر دائماً إلى الجوانب المشرقة في حياة الناس وفي شخصياتهم، ينظر إلى الحسنات، لا يكون تركيزه على الجوانب السيئة، وجوانب النقص، كلما ذكر شخص بخير ضاق صدره، فبحث عن عيب، وعن ذنب، ومثلبة، هذا غير صحيح ينبغي أن تنظر بتوازن واعتدال، وتغلب جانب الخير وحسن الظن بالناس، وكلما ذكر شخص تثني عليه بالجوانب الإيجابية الموجودة فيه. وهذا لا يمنع من النقد بشروطه وضوابطه الصحيحة، كما أسلفت. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 160 ¦ الصفحة: 47 فوائد جامع الأصول فوائد متنوعة ومفيدة يظل طالب العلم بحاجةٍ لها، وجامع الأصول أصلٌ في الفوائد والأحكام، ودليلٌ إلى معرفة كلام سيد المرسلين في بطون كتب السنة والآثار، ومجمع الزوائد من الكتب الستة مصدره، فلله درُّ الحاملين لهذا العلم والناشرين له. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 1 الأسئلة الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. هاهنا أسئلة منوعة؛ لكن أحببت أن أجيب عليها أو على بعضها، وإن كنت لا أفضل الإجابة على الأسئلة الفقهية، لأن الدرس نفسه يتعلق بالفقه: الجزء: 161 ¦ الصفحة: 2 حكم استقبال القبلة أثناء النوم السؤال سمعتك في درسٍ مضى، قلت: بأنه لم يرد دليل على استحباب استقبال القبلة أثناء النوم، فهل يمكن الاستدلال على استحبابه بقياس الموتة الصغرى على الموتة الكبرى، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا صح الحديث: {قبلتكم أحياءً وأمواتاً} وكذلك استحباب استقبال القبلة عند الذكر والدعاء وورد النوم، يتخلله ذلك؟ الجواب الذي يظهر لي أنه كون الإنسان ينام على جنبه الأيمن مستقبل القبلة أمرٌ حسن؛ لكن القول بشرعية ذلك، لا يمكن أن يقال بالاستحباب اعتماداً على مثلما ذكر الأخ من قياس الموتة الصغرى على الكبرى مثلاً، وهذا قياسٌ مع الفارق، وكذلك قبلتكم أحياءً وأمواتاً إذا صح فالمقصود به قبلتكم أي تصلون إليه أحياءً، وليس المعنى أنكم تتجهون إليه في منامكم وفي مجالسكم، فالذي يظهر لي أنه لم يرد في استقبال القبلة حديثٌ صحيح، إلا أنه ورد عند أبي يعلى فيما أذكر حديثٌ فيه السري بن إسماعيل وهو متروك الحديث، وهذا الحديث ذكره ابن كثير في أول سورة الحديد فيما أذكر إن لم تخني الذاكرة. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 3 سجود السهو قبل السلام سهوا ً السؤال إنسانٌ صلى صلاة الظهر وكان عليه سجودٌ سهوٍ بعد السلام، ثم سجد للسهو قبل السلام، ثم بعد الانتهاء من الصلاة تذكر أن سجود السهو بعد السلام فماذا يفعل؟ فهل يسجد للسهو مرةً أخرى بعد السلام؟ الجواب لا يسجد مرةً ثانيةً للسهو مادام أنه سجد للسهو قبل السلام، فإنه يكفيه ويجزئه، ولا يسجد للسهو بعد السلام: أولاً: لأنه سجد غافلاً أن محل السجود بعد السلام. وثانياً: لأن جماهير أهل العلم على أن السجود الذي بعد السلام يجوز أن يسجده الإنسان قبل السلام، فلا يعيده إذاً بعد السلام. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 4 ثقل النوم وحكم تأخير الصلاة عن وقتها السؤال إن له أخاً ثقيل النوم جداً ولا يصلي الفجر إلا قليلاً -أي في الوقت- ووالديَّ يجدان صعوبةً بالغةً في إيقاظه، ولا فائدة، فهما يزجان عليه الماء، وهو يقوم ويتكلم ويروح ويجيء، ولكن عند يقظته ينكر أننا عملنا معه تلك الأعمال ويكذبنا، لأنه لم يشعر بذلك كله، فهل عليه ذنبٌ في تأخيره لصلاة الفجر حتى بعد طلوع الشمس أحياناً؟ الجواب قضيةُ تأخير صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس، تحصل لكثيرٍ من الناس، ولها أسبابٌ عديدة: فبعضهم يؤخر صلاة الفجر إلى ما بعد طلوع الشمس تكاسلاً وتهاوناً، وذلك لأن منهم من يسهر إلى الهزيع الأخير من الليل، وربما يكون سهره في جلسةِ لهوٍ ولعبٍ وضحكٍ مع زملائه، أو على لعبِ الورقة أو البلوت، أو على مشاهدة التلفاز، أو حتى على قراءة ثم يتأخر، فإذا نام كان جثةً هامدةً لا حراك به، فلا يستطيع أن يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، فهذا لا شكَّ أنه مقصر ومخطئ؛ لأنه لم يفعل السبب حيث خالف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في التبكير في النوم، فكان صلى الله عليه وسلم: {يكره النوم قبلها والحديث بعدها} أي العشاء، ويقول صلى الله عليه وسلم: {لا سمر إلا لمصَلٍ أو ذاكرٍ أو مسافر} وسيأتي تفصيل هذا. فالتأخر في النوم إذا ترتب عليه تأخير صلاة الفجر عن وقتها، وترك الجماعة، وربما تأخيرها إلى ما بعد طلوع الشمس، يرتكب به الإنسان خطأ كبيراً، وبعض الناس قد يؤخر صلاة الفجر لأنه لا يحتاط لها، فلا يضع المنبه أو الساعة، أو التلفون، أو لا يطلب من أهله أو جيرانه أن يوقظوه، بل ينام، ومتى ما استيقظ صلىَّ وهذا أيضاً مفرِّطٌ وآثم بذلك، وبعضهم قد يجمع هذا وذاك فيتأخر ولا يضع منبهاً فلا يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس. وآخرون من الناس وهم قلة، يكون تأخر أحدهم عن صلاة الفجر مع اتخاذ كافة الأسباب، وذلك لأنه ثقيل النوم، كما في الحالة التي وصفها السائل، ومثل هؤلاء ربما يصبُّ الماء على أحدهم ويجر ويضرب ويسحب، ويُصاح في وجهه فلا يشعر بشيءٍ مما حوله، فهذا استنفذ جميع الوسائل والأسباب الشرعية الممكنة، فلا إثم ولا حرج عليه، بل متى استيقظ صلَّى ولو لم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس، وقد حدث هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما في سنن أبي داود {أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه كان لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فشكته زوجته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم إنه يمنعها من القراءة في الصلاة بأكثر من سورة، ولا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: يا رسول الله، أما منعي لها أن تصلي بأكثر من سورة فإن السورة كافية، وأنا شابٌ لا أصبر عن أهلي، وأما صلاتي بعد طلوع الشمس، فإنا أهل بيتٍ قد عرف فينا ذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إذا استيقظت فصلِّ} والحديث إسناده حسن. ومعنى الحديث أن صفوان بن المعطل رضي الله عنه، قد ورث عن أهله ثِقَل النوم، وهذا موجودٌ الآن، فبعض الأسر والعوائل يكون ثِقَل النوم متوارثاً بينهم، يأخذه الأحفاد عن الأجداد، والعكس بالعكس، فمن كان فيه ثقل نومٍ لا يستطيع معه أن يستيقظ، ولو صب عليه الماء، ولو نام مبكراً، ولو وضع المنبه، ولو أيقظه أهله، فإن هذا لا يكلف ما لا يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، بل متى استيقظ صلى؛ لكن إذا كان منه تفريطٌ فإن الله تبارك وتعالى يحاسبه عليه، ولا ينبغي أن يكون هذا الكلام حجة للكسالى الذين يفرطون، ثم يقول أحدهم: أنا ثقيلُ النوم. فإننا نجد أن بعض من يتعللون بثقل النوم إذا ركَّب أحدهم المنبه على الدوام المدرسي، أو دوام العمل، أو كان عنده موعد في الطائرة ويحتاج أن يستيقظ، فبمجرد أن يسمع جرس المنبه يفزع كأنه ملدوغٌ وهذا ملاحظ، فإن بعض الناس يكون استيقاظه بسبب الاهتمام، فقلة الهم من أسباب ثقل النوم، وشدة الهم تجعل أعصاب الإنسان منتبهة، والمثل الذي ضربته لكم يوضح القضية، فلو كان إنسانٌ عنده موعدٌ مهم جداً، وكان سفره في الطائرة الساعة الثامنة صباحاً -مثلاً- وهو موعدٌ أساسي يترتب عليه نتائج كبيرة، يحس الإنسان بقيمتها، فإنك تجد بعض الذين يعتذرون بثقل النوم، عندما يؤقت الساعة على السابعة حتى يدرك الطائرة، بمجرد أن يسمع جرس الساعة يفزع ويقوم بسرعة، فكذلك ما يتعلق بالاستيقاظ للصلاة ينبغي أن يكون عند الإنسان من الاهتمام والحرص على الصلاة ما يجعله هكذا، فينتبه الإنسان لذلك، وفرقٌ بين من يكون تأخره لثقل النوم حقيقة، وبين من يكون تأخره لتأخره في النوم، أو لعدم الاهتمام بالصلاة، أو لعدم وجود منبه، أو ما أشبه ذلك. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 5 الحفظ ووسائل تنميته السؤال هل الحفظ مهمٌ في التعلم؟ وما وسائل تنميته؟ الجواب الحفظ لا شك في أهميته، بل إن الحفظ إذا أردنا أن نعرِّفه من حيث الأصل؛ فلا يمكن التعلم إلا بحفظ، ولا أعني بالضرورة حفظ المتونِ فقط، بل المهم أن يحتفظ الإنسان بالمعلومات، فالذي لا يحتفظ بالمعلومات لا يمكن أن يتعلم لأنه يسمع المعلومات ثم تطير منه، سواءً حفظها بحروفها وألفاظها، أو حفظ معانيها، فأصل الحفظ أساسي للتعلم، لكن الحفظ المتعارف عليه -وهو حفظ المتون والنصوص- هل له أهمية كبيرة؟ نعم الحفظ له أهميةً كبيرة، ومازال أهل العلم منذ القدم يوصون بتحفظ العلم وحفظه، ولذلك فإن على طالب العلم أن يحفظ بعض المتون المهمة في مجاله، وقبل ذلك ينبغي له أن يحفظ كتاب الله عز وجل، ثم يحفظ متناً مختصراً في السنة، ومتناً مختصراً في العلم الذي يبدأ به فقهاً كان، أو أصولاً، أو فرائض، أو نحواً، أو غير ذلك. فالحفظُ مهم، لكن بعض الناس يقول: أنا ضعيف الحفظ، فهل يعني ذلك أنني لا أتعلم؟ فأقول: هذا من الأخطاء الشائعة، لأسباب: أولاً: مع اعترافي بأهمية الحفظ -كما ذكرت لكم قبل قيل- فإن أهمية الحفظ في هذا العصر قلَّتْ عنها في أي عصرٍ مضى، لأن وسائل الوصول إلى النصوص، أصبحت ميسورة، فكل واحدٍ لديه مكتبة عامرة بألوان الكتب، فهذه نقطة. ثانياً: هناك فهارس دقيقة: فهارس في الأحاديث، وفي الأعلام، وفي الموضوعات دقيقة ومنوعة، ويستطيع الإنسان بواسطتها أن يصل إلى النص الذي يريد خلال مدةٍ وجيزةٍ جداً. ثالثاً: الناس الآن ينتظرون الانتفاع بما يسمى بجهاز الكمبيوتر في العلوم الشرعية وعلى رأسها السنة النبوية، وهذا الجهاز إذا وجد واستخدم، يتيسر ويتسنى للإنسان من خلاله الحصول على ما يريد من أسماء الرواة أو تراجمهم، أو الأسانيد، أو الأحاديث، أو الشواهد، أو المتون أو غيرها خلال لحظاتٍ وجيزة، كلها مبسوطةٌ أمامه، فبذلك أصبح الحفظ على أهميته الكبيرة ليس بالدرجة التي كان عليها من قبل، والتي كانت الكتب فيه قليلة، والوصول إليها متعسر إن لم يكن متعذراً في بعض الأحوال، فهذه الأشياء تجعل الإنسان وإن كان ضعيف الحفظ إلا أنه ينبغي أن يهتم بالعلم، بشكلٍ عام. وهناك أمرٌ آخر: وهو أنك قد تجد إنساناً لديه حافظة قوية، فيصرف هذه الحافظة في أمورٍ قد تكون أقلَّ جدوى، فهذا إنسان مثلاً يحفظ كتاب تقريب التهذيب للحافظ ابن حجر وتقريب التهذيب -كما تعرفون- كتابٌ في تراجم الرواة، يذكر اسم الراوي مميزاً وطبقته، ودرجته من حيث الجرح والتعديل، ومن روى له من الأئمة الستة، فحفظ الإنسان كتاب تقريب التهذيب هذا جيد، وليس هناك إشكال في حفظ تقريب التهذيب لكن المشكلة إن كان حفظ تقريب التهذيب على حساب غيره، فلا يصلح أن يحفظ الإنسانُ تقريب التهذيب وهو لم يحفظ بعد كتاب الله تعالى، أو لم يحفظ أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وبلا شك أن حفظ مختصر صحيح البخاري أو مختصر صحيح مسلم أو بلوغ المرام أو عمدة الأحكام أو الأربعين النووية أو نحوها أفضل وأهم بكثيرٍ جداً من حفظ تقريب التهذيب لأن تقريب التهذيب مطبوعٌ وفي كل بيت، وبإمكان الإنسان أن يصل إلى ترجمة -في تقريب التهذيب- أيَّ راوي في دقيقة واحدة، أو أقل من ذلك، ويعرف ماذا قال فيه ابن حجر، مع أن الحافظ قد لا يعتمد على حفظه في تقريب التهذيب لأنه ربما يشك في حفظه أحياناً، فيحتاج إلى مراجعة المطبوع، إذاً ما استفدنا شيئاً في الحالة هذه. ثم إن الأمة الإسلامية -أيها الإخوان- اليوم بحاجةٍ ماسة ماسة ماسة إلى فقهاء وعلماء يفقهون النصوص والقواعد والأصول، ويجيدون الاستنباط ليحلوا المشكلات الكبيرة التي تواجه الأمة. وعامَّةُ الناس اليوم يحتاجون إلى الفقهاء، فلن تجد عامياً يسألك ماذا قال ابن حجر في فلان؟ وماذا قال ابن حجر في فلان؟ وفلانٌ من أي طبقة؟ وفلانٌ من أي مرتبة؟ لن تجد عامياً يسألك، بل لو سمعك تتكلم في هؤلاء قال: هؤلاء جالسون في المسجد يغتابون الناس، وربما تكلموا في أناسٍ قد حطوا رحالهم في الجنة منذ مئات السنين، لأنه لا يصدر هذه الأمور ولا يوردها، فعامة الناس لن يسألوا عن هذا الأمر، وخاصةُ الناس أيضاً لن يسألوا عنه، لأن الخاصة يسألون عن حكم الله ورسوله في الوقائع والنوازل التي ألمت بالمسلمين، فإذا التقيت بطبيبٍ سألك عن حكم -مثلاً- ما يسمى بطفل الأنبوب، وحكم بعض القضايا والمشاكل الطبية التي تقع، وعن أخطاء ومعاص توجد في كثيرٍ من المستشفيات كيف يتعامل معها الإنسان، كمسألة نقل الكلى، ومسألة نقل الأعضاء، والجنين المشوه، وحكم إسقاط الجنين، وحكم الإجهاض، وأحكامٌ كثيرة يسألك عنها، فإذا التقيت بمهندسٍ سألك عن مشاكل المهندسين، وإذا التقيت بتاجرٍ سألك عن القضايا التجارية والاقتصادية الحادثة، والمعاملات البنكية التي لم تكن موجودة في الماضي من حيثُ المصطلح، ومن حيث طبيعة المعاملة، وكثيراً ما يتساءل عنها الناس. وإذا التقيت بشابٍ يعمل في الدعوة إلى الله سألك عن بعض القضايا الواقعة التي يواجهها في حياته، وما حكم الله ورسوله فيها، فالناس يسألون غالباً عن الحكم الشرعي، وهذا هو الذي يعنيهم، فاشتغال طالب العلم بمعرفة المتون والأحكام والقواعد والأصول أولى من اشتغاله بحفظ أشياء قد يحتاجها أو لا يحتاجها، ولو احتاجها لسهل عليه الوصول إليها في مصادرها بسهولة، فينتبه إلى هذا الأمر. أما فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة وهي مسألة وسائل تنمية الحفظ فكثيرة: أولاً: اختيار الوقت المناسب للحفظ، وقد ذكر أهل العلم أن أفضل أوقات للحفظ هي الأسحار. ثانياً: صفاء الذهن أثناء الحفظ. ثالثاً: تكرار ما يريد الإنسان حفظه مرات حتى نُقل عن أبي إسحاق الشيرازي وهو من فقهاء الشافعية: أنه كان إذا أراد أن يلقي الدرس كرره مائتي مرة، وهو إمامٌ عالم أصوليٍ فقيه مشهورٌ عند الشافعية. رابعاً: أن يربط الإنسان حفظه بعضه ببعض، فإذا أشكل عليه أمرٌ أو تشابه عليه شيءٌ حاول أن يوجد علاقات يتذكرها، مثلاً إذا أراد أن يحفظ مجموعةَ أشياء، أخذ أوائل هذه الكلمات وكون منها جملةً حفظها، وهذا مثلٌ، أو ربطها بأي أمرِ يسهّل عليه حفظ هذه الأشياء واستذكارها. خامساً: كذلك من وسائل الحفظ كثرة الحفظ، كما أن كثرة الأخذ والعطاء باليد تقوي العضو، كذلك كثرة حفظ الإنسان للأشياء تقوي الذاكرة عنده، والعكس بالعكس، إهمال الإنسان للذاكرة، وعدم اعتياده على الحفظ يقلل من قوة حافظته. سادساً: كما أن استغلال الإنسان لأول عمره؛ طفولته ثم شبابه، من أهم الأمور التي ينبغي التنبيه إليها، فالإنسان إذا كبر شاخت الذاكرة وهرُمت، وبعد الزواج والمشاكل والوظيفة والعمل يصبح الإنسان مشتت الذهن، ويقل تركيزه، لذلك من توفيق الله للشاب، بل للطفل أن يوفق بمن يوجه لاستغلال الطفولة في الحفظ، وهذا أمرٌ إن فاتنا نحن -أيها الإخوة- فلا ينبغي أن يفوت أولادنا. وأوصيكم أيها الإخوة أن تحرصوا على تحفيظ أولادكم الأشياء المهمة منذ الطفولة، فالطفل من السهل عليه أن يحفظ، وإذا حفظ شيئاً فإنه لا ينساه، وكلنا نعلم أن ما حفظناه في الطفولة حتى لو تركناه وقتاً طويلاً دون مراجعة إذا عدنا إليه وجدناه كأنما حفظناه الساعة، فإن فاتنا ذلك فينبغي ألا يفوت أطفالنا وصغارنا، فعلينا أن نحفظهم ما يحتاجون إليه في كبرهم، وأذكر أنني رأيت في الحرم المكي يوماً صبياً ربما عمره تسع سنوات أو دون ذلك وهو يحفظ القرآن الكريم ويحفظ بعض كتب السنة كموطأ مالك وغيره، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 6 السبيل لتحسين الخلق الجِبِلِّي السؤال علمنا من بعض محاضراتك أن الأخلاق منها جِبِلَّية، ومنها مُكَتَسبة، فما هو السبيل لتحسين الخلق المطبوع عليه أو الجبلي؟ الجواب السبيل لتحسين الخلق الذي طبع عليه الإنسان كالتالي: أما إن كان الخلق الذي طبع عليه الإنسان حسناً، فهذا من توفيق الله للعبد أن طبعه على الخِلال التي يحبها الله تعالى، كما قال صلى الله عليه وسلم لـ أشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة} وفي بعض الطرق أنه قال: {هل هما مما جبلت عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم، إنهما مما جبلت عليه، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه الله ورسوله} فمن توفيق الله للعبد أن يجبله على الخلال التي يحب، فإذا وجدت في نفسك خصالاً حميدة -وكل إنسانٍ لا بد أن يكون قد جُبل على بعض الخصال الحميدة- فعليك أن تحرص على تنمية هذه الخصال الحميدة، وتعاهدها بالسقي والرعاية حتى تكبر ويزداد انتفاعك بها، فقد تجد في نفسك أن الله جبلك على الإحسان إلى الخلق، وحب الإحسان، فوسّع وعمّق هذا الخُلق بأن تكثر من الإحسان، وأكثر من قراءة الأحاديث والآثار الواردة في ذلك، واسْع في سبُل الإحسان إلى الخلق، حتى يتعاظم هذا الخُلق الحسن عندك ويكبر، ويكون فعله بنيةٍ واحتساب، وتؤجر عليه أشد الأجر، وحتى يغطي هذا الخلق الحسن على ما قد يوجد في نفسك من بعض الأخلاق الذميمة التي ربما تكون قد جبلت عليها. ولذلك أنتقل إلى النقطة الثانية: وهي ما إذا جبل الإنسان على خِلالٍ مذمومة، كالبخل، أو الجبن وغير ذلك، فما هو السبيل إلى تحسين هذه الخلال المذمومة، أو إزالتها؟ نقول: أولاً: السبيل هو ما سبق، فعليك أن تنظر إلى الخلال الطيبة التي طبعت وجبلت عليها فاعمل على تنميتها، لأن الإنسان مثل الإناء إذا وضع فيه مادة طيبة، طردت المادة السيئة، ولو أن عندك أناءً فيه خمرٌ، فوضعت في هذا الإناء مادة أخرى، فإنها تزاحم هذا الخمر حتى تزيلَه إما إزالةً كلية أو إزالةً جزئية، وبقدر قوة المادة الطيبة تزول المادة السيئة، فكذلك الأخلاق في النفس؛ إذا ربى الإنسان في نفسه مكارم الأخلاق قضت وغطَّت على الأخلاق السيئة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[إن الإنسان قد يوجد فيه خلقٌ واحدٌ سيئ، وتسعة أخلاقٍ حميدة، فيغلب الخلق السيئ الأخلاق الحميدة]] كما رواه مالك والبيهقي وغيرهما وسنده صحيح. إذاً يغلبها إذا تهاون الإنسان في تنميتها؛ لكن إذا نمى الإنسان الأخلاق الحميدة غلبت على الأخلاق السيئة. الوسيلة الثانية: هي المجاهدة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد المتفق عليه: {من يتصبر يصبره الله، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله} إذاً الصبر خلقٌ حسن، وقد يكون الإنسان طبع على العجلة، وعدم الصبر، فبالتصبر وتكلف الصبر يعتاد الإنسان هذا الأمر حتى يصبح سجيةً وخلقاً وديدناً له، وكذلك العفَّة: فالتعفف عن المال الحرام وعن المال المشتبه، وعن المكاسب الرديئة، فقد يكون عند الإنسان رغبة في المال ونهم؛ لكن إذا عود نفسه على ألا يأكل إلا الحلال، وعلى الانكفاف عن هذه الأشياء والتعفف عنها رزقه الله تعالى العفة. وكذلك الحِلْمُ: فالحِلَمُ بالتحلم، والعِلْمُ بالتعلم، فإذا عود الإنسان نفسه وجاهدها على الحِلْمُ، فإنه يرزق ذلك، فلا بد من مجاهدةِ النفس، وتكلف هذه الأخلاق حتى تصبح سجية. ومن الوسائل المفيدة في ذلك: مراقبة النفس ومحاسبتها، وأعرف بعض الشباب جبلوا على أخلاقٍ ذميمة، واستطاعوا بعون الله وتوفيقه أن يتخلصوا من كثيرٍ منها ويهذبوها وإن لم تزل بالكلية، وذلك عن طريق كثرة المراقبة والمحاسبة، وإذا خلوت بنفسك تذَّكر المواقف السيئة التي حصلت لك، ثم تذكر الموقف السليم الذي كان يجب أن تفعله، وصبِّر نفسك على هذا الموقف، وبطبيعة الحال الخلق لا يزول في يومٍ وليلة، أو بمرةٍ أو مرتين، فالإنسان الذي عنده عجلة وجزع وعدم صبر لا يحظى من ذلك بشيءٍ كثير، حتى يعود نفسه على الصبر وطول النفس. ومن الوسائل المفيدة في ذلك: أن تطلب من بعض جلسائك وخاصتك أن ينبهوك باستمرار على ما يلاحظون عليك من الأخلاق الذميمة، وعلى الأقل اجعل لك صفياً تشارطه على أن ينصح لك وتنصح له، فإذا وجدت عليه عيباً بيَّنته له، وإذا وجد عليك عيباً بينه لك، وهذا ينفعك كثيراً، حيث يكون لك كالمرآة، قال الشاعر: شاور سواك إذا نابتك نائبة يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر فيها ما دنا ونأى ولا ترى نفسها إلا بمرآة فأنت بحاجةٍ إلى مرآة، ترى فيها عيوبك، وهذه المرآة هي أخوك الذي تصافيه الود والمحبة في الله جل وعلا. ومن الوسائل المفيدة: دعاء الله جل وعلا، فإن من دعا الله أن يرزقه حسن الخلق رزقه الله ذلك. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 7 العمل على الإخلاص ودفع الشك السؤال هناك بعض الناس يشك في نفسه، فإذا نَصَح أو أَمَر أو نَهى يخشى أنه يرائي، وكذلك إذا قرأ القرآن، فكيف يخلص نفسه ويمنعها من هذا الشك؟ الجواب ينبغي للإنسان أن يعمل بإخلاص، وقصد لوجه الله جل وعلا فيما يأخذ وما يدع من أفعاله، ثم إذا حدث في نفسه شك أثناء العمل، بأنه قد يكون مرائياً؛ فإن عليه أن يدفع هذا الشك وهذا الريا، لئلا يستقر في قلبه، وينبغي للشاب وغير الشاب أن يحذر من ترك العمل خوف الرياء، فإن هذا من مزالق الشيطان، فكثيرٌ من الناس تركوا أعمالاً صالحة: من التبكير إلى المساجد، وقراءة القرآن، وطلب العلم، والدعوة إلى الله، والوعظ، والأمر والنهي، بحجة الخوف من الرياء، فالشيطان يأتيهم، ويقول: أنتم ما أردتم إلا الرياء، فأقول: كونك تركت العمل خوف الرياء دليلٌ على أنك مخلصٌ إن شاء الله، وإلا فالمرائي لا يمنعه مانعٌ من الاستمرار في عمله، فادفع الرياء واستمر على العمل. ومن أعظم مزالق ومداخل الشيطان على الإنسان لترك العمل الصالح؛ أن يوسوس له: أولاً: بأنك قد تكون مرائياً. ثم يقول له ثانياً: اترك هذا العمل، لأنه يُخشى أن تكون مرائياً، وكم من إنسانِ ترك الإمامة في المسجد، بل أعرف شاباً ترك التقدم إلى المسجد، وترك قراءة القرآن وطلب العلم، ويقول: أخشى أن أكون مرائياً، فعليك أن تتقدم إلى المسجد ولا تلتفت إلى هذا الهاجس أو الخاطر أو الوسواس، وهذا يدل على ضعفٍ في نفس الإنسان، وخورٍ في قلبه وعزيمته، وإلا فالمؤمن لا ينصاع ولا يتأثر بهذه الوساوس التي يلقيها الشيطان وجنوده في قلبه، ثم كون الإنسان بعدما يشرع في العمل لوجه الله يخطر له ذلك ويدفعه، هذا لا يضره شيء، وكونه يفرح بثناء الناس عليه، فهذا أيضاً لا يضره شيء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم عن الثناء الحسن يحصل للإنسان، قال عليه الصلاة والسلام: {تلك عاجلُ بشرى المؤمن} وكلنا نحب الثناء الحسن ونكره الثناء السيئ، وكل إنسانٍ جبل على ذلك، وما من أحدٍ إلا ويفرح بالثناء الحسن، ويكره الثناء السيئ؛ لكن لا يعمل من أجل الناس، ولا يترك من أجل الناس. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 8 جامع الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 9 طريقة ترتيبه لكتابه كيف رتب ابن الأثير كتابه هذا؟ رتب ابن الأثير كتابه على حسب الموضوعات -كما أسلفت- وليس على حسب المسانيد، ولا على حسب الحروف، لكن الميزة له أنه قد رتب الموضوعات على حسب حروف الهجاء، فمثلاً يبدأ بحرف الهمزة، فيدخل فيه كتاب الإيمان، وكتاب الإيلاء، وكتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى غير ذلك، ثم ينتقل إلى حرف الباء، فيثبت فيه كتاب البيوع، والبيعة، والبر، ثم ينتقل إلى التاء؛ فيثبت فيه التفسير مثلاً، والتوبة، وهكذا إلى أن يصل إلى نهاية الحروف. فالكتاب مرتبٌ على حسب الموضوعات، والموضوعات مرتبة على حسب حروف الهجاء (أ، ب، ت، ث) . وإذا كان الموضوع شاملٌ فإنه يسوقه في حيزٍ واحد. مثلاً: كتاب الجهاد في حرف الجيم، وفي الجهاد سيتحدث ابن الأثير عن الغنائم، فلو بحثت عن الغنائم فلن تجدها في حرف الغين؟ بل ستجدها في حرف الجيم تبع للجهاد، ومثلها الأسرى، ومثلها الشهادة- الشهداء في سبيل الله- وهكذا كل الأشياء المتعلقة بموضوع الجهاد، جمعها معه في حيزٍ واحد. ثم إذا انتهى -مثلاً- من جميع الموضوعات المتعلقة بحرف الألف، قال: الأبواب التي أولها ألف ولم تورد في حرف الألف، ثم ذكر الأبواب التي لم يوردها في هذا الحرف، وعلى سبيل المثال يقول رحمه الله في صفحة [395] : ترجمة الأبواب التي أولها همزة ولم ترد في حرف الهمزة، الاحتكار في كتاب البيع من حرف الباء، الأمان في كتاب الجهاد حرف الجيم. إذاً: هذه طريقته في ترتيب الأحاديث، فهو رتبها على حسب الموضوعات، ورتب الموضوعات على حسب حروف الهجاء. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 10 كيفية اختيار موضوع الحديث أما كيف يسوق ابن الأثير الأحاديث؟ أي كيف يختار للحديث موضوعاً؟ فبعض الأحاديث تكون في موضوعٍ واحد، بحيث يكون ظاهر أن الحديث في الطهارة أو الصلاة أو الزكاة بحيث أنَّ أي إنسانٍ عندما يتأمل الحديث يجده في هذا الموضوع. فمثلاً سبق معنا في دروس بلوغ المرام حديث أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الماء طهورٌ لا ينجسه شيء} لو أردت أن تبحث عن هذا الحديث في جامع الأصول -وجامع الأصول ليس بكتاب أصلي، لكن تبحث فيه ليدلك على الكتب الأخرى- فإنك ستجده في باب الطهارة، ولا يحتمل أن يوجد هذا الحديث في بابٍ آخر لأنه يتعلق بالطهارة والمياه. إذاً هذا الحديث يضعه في كتاب الطهارة، وكتاب الطهارة في حرف الطاء. لكن أفترض أن الحديث الأول الذي قبله، في الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {إنا نركب البحر ومعنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته} فهذا الحديث يحتملُ بابين، أولهما الطهارة، لقوله: {هو الطهور ماؤه} والثاني في باب الأطعمة لأنه تكلم عن الطعام، وهو أن ميتة البحر حلال، والأغلب أن يضع الحديث في باب الطهارة لأن الكلام عن الطعام إنما جاء تبعاً وليس استقلالاً. وعليه فإذا كان الحديث يحتمل أكثر من موضوع، فإنه يلحقه بأقرب الموضوعات وألصقها بالحديث، وأحياناًَ قد يحتمل الحديث معاني كثيرة جداً لا يمكن إلحاقه بشيءٍ منها، وذلك مثل بعض خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي يتحدث فيها عن موضوعات كثيرة، وأذكر منها -على سبيل المثال- الحديث الذي رواه عياض بن حمار المجاشعي في صحيح مسلم قال: {قال رسول الله صلى الله وسلم: قال الله تعالى: إني خلقت عبادي كلهم حنفاء، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمتْ عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله تعالى أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزةً، فقال الله عز وجل: أغزهم نُغزِك، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، وابعث جيشاً نبعث عشرةً مثله، وإن الله آتاني كتاباً لا يغسله الماء أقرأه نائماً ويقظان الحديث} . فالحديث مشتملٌ على موضوعاتِ عديدة يصعب على المتأمل -على رغم كثرة فوائد الحديث- أن يصنفه في موضعٍ خاص، فهذا النوع جعل له ابن الأثير في آخر الكتاب حيزاً ضيقاً خاصاً باللواحق، وهي الأحاديث التي لا تندرج تحت موضوع معين، وهي موجودةٌ في آخر الجزء الحادي عشر من المطبوع. أما بالنسبة للحديث الخاص كيف يورده، فإن ابن الأثير أولاً يورد رموز من أخرجوا الحديث، وقد رمز للبخاري بالخاء، ولـ مسلم بالميم، ولـ مالك في الموطأ بالطاء، ولـ أبي داود بالدال، وللنسائي بالسين، وللترمذي بالتاء، فيذكر هذه الرموز في صدر الحديث، ومع ذلك يصرح بها أثناء سياق الحديث، وهذا مبالغة في الدقة والتحري؛ فهو يذكرها على أنها رموزٌ في أول الحديث، ثم يصرح بها أثناء الحديث. وهو يسوق صحابي الحديث فقط دون أن يُعنى بذكر الإسناد، ثم يسوق متن الحديث، ويُعنى عنايةً خاصة بألفاظ الصحيحين - البخاري ومسلم - ثم يسوق بعدها ألفاظ الكتب الأخرى , وفي روايةٍ، وفي روايةٍ، وفي روايةٍ حتى ينتهي منها، فإذا انتهى من الموضوع ذكر معاني الكلمات، لكن الذين طبعوا الكتاب أحسنوا فجعلوا معاني الكلمات لكلَّ حديثٍ بعده مباشرةً، وهذا أفضل، فبعد أن ينتهي من الحديث برواياته يذكر غريب الحديث، فيشير إلى المعاني التي تحتاج إلى شرحِ أو ينقلها من أئمة اللغة، فإذا لم يجد لأئمة اللغة فيها كلاماً قال باجتهاده بعد استشارة العلماء. وأشير إلى أن ابن الأثير له كتابٌ في غريب الحديث مشهورٌ مطبوعٌ في خمسة مجلدات واسمه: النهاية في غريب الحديث والأثر وهو من أجمع كتب الغريب. فهذه باختصار طريقة ابن الأثير. والذين حققوا الكتاب قاموا بعمل جيد وخاصةً في الطبعة الأخيرة التي قام عليها الشيخ: عبد القادر الأرنؤوط حيث أنهم طبعوا الكتاب على نسختين خطيتين، وكذلك أرجعوا الأحاديث وعزوها إلى مصادرها بالرقم وبالجزء والصفحة، وتكلموا عن الأحاديث تصحيحاً أو تضعيفاً، وإن كانوا يتسامحون في تصحيح الأحاديث؛ لكنهم بذلوا في ذلك جهداً طيباً في تصحيح الأحاديث أو تحسينها أو تضعيفها والكلام عليها، فهذه أبرز الأشياء التي يمكن أن أقولها حول ابن الأثير في جامع الأصول وطريقة الاستفادة من هذا الكتاب. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 11 هل يُعْزَى إلى جامع الأصول ومن البدهي الآن أنه أصبح واضحاً أن كتاب جامع الأصول لـ ابن الأثير ليس من الكتب الأصلية التي يُعزى إليها، فلا تقول رواه ابن الأثير في جامع الأصول وإنما تستفيد من جامع الأصول أحياناً في الدلالة على الحديث -فيمن خرجه- فهذه فائدة. الفائدة الثانية: وهو إذا كنت لا تريد أن تستقصي في البحث، وتريد أن تعرف من خرجه على سبيل الاختصار، كأن تكون تريد أن تعد بحثاً أو خطبةً أو موضوعاً، فترجع إلى جامع الأصول حيث يجمع لك كل الأحاديث الواردة في الباب. وافترض أنك تريد أن تعد بحثاً في التوبة مثلاً، فارجع إلى حرف التاء، فتجد أن ابن الأثير جمع لك كل ما يتعلق بالتوبة في حرف التاء من الكتب الستة هذه، وهذه الكتب قد جمعت كثيراً من الأحاديث. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 12 تنبيه هام ويبقى أن أنبه إلى أن ابن الأثير أضاف إلى الكتب الستة، الزيادات التي زادها رزين بن معاوية العبدي فهو يذكرها في الأخير ويقول: خرجه رزين، وغالب هذه الأشياء التي خرجها رزين ضعيفة أو موضوعة أحياناً. أذكر لكم نموذجاً واحداً منها، يقول: الكتاب الخامس في الاعتكاف -والذين طبعوا الكتاب رقموا الأحاديث فرقم الحديث (119) - ثم يقول لك: (خ/ م / ط/ د/ ت / س) أي أن الحديث في البخاري ومسلم ومالك في الموطأ وأبي داود والترمذي والنسائي. عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه بعده} هذا اللفظ غالباً يكون أحد ألفاظ الصحيحين أو كليهما، ثم يقول لك وفي رواية: {كان يجاور العشر الأواخر من رمضان ويقول: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان} وفي روايةٍ، وفي أخرى، ورواية في الموطأ وله في أخرى عن عائشة وأخرجه أيضاً قال إلى أن ينتهي من الروايات، بعد ذلك يأتيك شرح غريب الحديث، يعتكف مثلاً، العكف هو الحبس، يجاور، تحروا إلى آخره. وهكذا في آخر باب الاعتكاف لو فرض أنه وجد حديث عند رزين لم يخرجه أحد ذكره، لكن لم يوجد شيء لكن في الكتاب الذي بعده وهو إحياء الموات مثلاً، آخر حديث وهو في صفحة (351) الحديث رقم (136) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أحيا أرضاً قد عجز صاحبها عنها وتركها بمهلكةٍ فهي له} يقول: هذا في كتاب رزين ولم أجده في الأصول، وهذه الزيادات التي أضاف رزين كما قلت الغالب عليها الضعف، ولا تعتمد إلا إذا كانت في شيءٍ من أصول الإسلام، أو تكلم العلماء عليها بالتصحيح. سبحانك الله وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 13 المؤلف: مولده ووفاته سأتحدث عن كتاب جامع الأصول من أحاديث الرسول، للإمام الزاهد العابد، الفقيه العالم الورع أبي السعادات مجد الدين المبارك بن محمد بن محمد بن الأثير الجزري الموصلي وهذا الإمام ولد سنة (540) للهجرة، وتوفي عام (606هـ) ؛ فهو من رجال القرن السادس الهجري. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 14 مواقف من سيرته وقبل أن أذكر الكتاب أحب أن أشير إلى موقفين أعجباني في سيرة هذا الإمام العظيم، يقول بعض مترجميه: إن السلاطين كانوا يهتمون به، ويكرمون وفادته، ويزورونه في منزله، حتى آلت النوبة إلى رجلٍ منهم اسمه: نور الدين شاه، فكان حاكماً في تلك النواحي، فكان يأتي إلى الإمام مجد الدين في منزله ويزوره ويستشيره، فعرض عليه الوزارة وألح عليه أن يكون وزيراً يفوض إليه تنفيذ الأمور والأحكام والأقضية وغيرها، فاعتذر ابن الأثير، فألح عليه نور الدين حتى أنه غضب عليه، فقال له ابن الأثير: إني رجلٌ قد ضيعت وبذلت أكثر عمري في طلب العلم والحديث، ولو أنني اشتغلت بالوزارة وتولي الأمور التنفيذية لما استطعت أن أقوم بها على الوجه المطلوب، ولخشيتُ أن يداخلني في ذلك شيءٌ من الظلم والعسف الذي قد يتصور بعض الناس أن الوزارة لا تقوم إلا به، فاستعفاه وأصر عليه حتى أعفاه من ذلك. الموقف الثاني: أنه لما كبُر سنه -رحمه الله- أصيب بنوع من الشلل في أطرافه، فجاءه طبيبٌ من المغرب، وصار يعالجه بعلاجاتٍ وأدهانٍ وأدوية حتى بدأت تنفع فيه هذه العلاجات، وظهر أثرها وبدأ يحرك أطرافه، وكان القائم على علاجه أخوه -هذا الطبيب يعالجه وأخوه كان قائماً على شئونه- فقال الإمام ابن الأثير لأخيه: أعط هذا الطبيب ما تيسر من المال وأجِزْه -يعني أعطه جائزةً واصرفه عنا- فتعجب أخوه من هذا، فقال: ما السر في ذلك الآن؛ وبوادر الشفاء قد ظهرت فيك؟ فلم تطلب أن أصرف الطبيب؟ قال: لأني رأيت في هذا المرض خيراً، حيث أني أصبحت معذوراً عن زيارة السلاطين -أي أنهم لا يتطلعون أن يزورهم لأنه مقعدٌ مشلول- وسلمت من القعود معهم، والذل بين أيديهم، وانقطعت للعلم والعبادة فوجدت لذلك لذةً عظيمة، ولست بحاجةٍ إلى أن أنغص عيشي معهم مرةً أخرى، فوافق أخوه على طلبه، وصرف هذا الطبيب عنه، رحمه الله ورضي عنه وأرضاه. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 15 كيف جمع كتابه أما كتابه جامع الأصول من أحاديث الرسول فقد جمع فيه الأحاديث التي حوتها ستةُ كتبٍ من دواوين الإسلام العظيمة، وهي البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ وليس ابن ماجة كما هو المتداول عند الناس من بعد ابن طاهر المقدسي بل مالك في الموطأ بدلاً من ابن ماجة. وقد اعتمد في جمع أطراف وأحاديث هذه الكتب فيما يتعلق بالصحيحين، على كتاب اسمه الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي، الذي جمع أطراف الصحيحين جمعاً حسناً، فأخذ ابن الأثير أطراف الصحيحين من كتاب الجمع بين الصحيحين للحميدي. أما الكتب الأربعة الباقية -وهي أبو داود والترمذي والنسائي والموطأ- فإنه أخذ أحاديثها من أصولها، أي من الكتب نفسها وضمنها كتابه، فهذا ما يتعلق بالكتب التي جمعها، ومن أين استقاها. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 16 الدافع إلى تأليفها هذا الكتاب وهناك هدف دفع ابن الأثير إلى تأليف هذا الكتاب فما هو؟ أو أستطيع أن أقول: إن هناك من جمع هذه الكتب قبل ابن الأثير فما الذي حدا بـ ابن الأثير إلى أن يكرر الجهد مرةً أخرى؟ والذي جمع هذه الكتب قبل ابن الأثير هو رزين بن معاوية العبدي السرقسطي حيث جمع هذه الكتب الستة، وهي الصحيحان، وأبو داود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ في كتاب سماه تجريد الصحاح، وبناءً عليه نستطيع أن نقول: إن تجريد الصحاح يشبه جامع الأصول من حيث الكتب التي جمعها؛ لكن بينه وبين جامع الأصول فررق عديدة: أولاً: أن ابن الأثير رحمه الله استقصى الأحاديث الموجودة في الكتب الستة بخلاف رزين بن معاوية فإنه قد ترك أحاديث كثيرةً منها، إما لم يطلع عليها، أو لم تكن في الرواية التي اعتمد عليها، أو ما أشبه ذلك، أو اختصاراً ظن أن غيرها يكفي عنها، والمهم أن رزين بن معاوية أسقط أحاديث كثيرة فاستدركها ابن الأثير، فهذا أول الفروق. ثانياً: أن رزيناً أضاف إلى الكتب الستة التي جمعها زيادات لا يُدرى عنها شيئاً، لا يعلم من أين جاء بها رزين، وهذه مشكلة -غفر الله له- حيث أضاف إلى الأحاديث المنقولة من الكتب المعتمدة أحاديث بعضها موضوع، وبعضها ضعيف لا يدرى من أين جاء بها، وهذا يعتبر خطأً مع أن رزيناً نفسه كما قرأت في كتاب السيل الجرار أن العلماء يضعفونه، ولم أستطع مراجعة ترجمته بتوسع، ولذلك تجد هذه الزيادات التي ذكرها رزين مثبتة في جامع الأصول ويقول: ذكره رزين والمهم أن ابن الأثير استدرك على رزين أشياء كثيرة. ثالثاً: وكذلك ابن الأثير أعاد ترتيب الأحاديث بطريقة جديدة جيدة غير الطريقة التي سلكها رزين، فإن رزيناً رتب الأحاديث على حسب أبواب البخاري، أما ابن الأثير فقد رتبها على حسب موضوعاتٍ شتى من جميع الكتب، غير مخصوصة بـ البخاري أو غيره. رابعاً: وكذلك ابن الأثير يذكر الألفاظ المختلفة للحديث الواحد، فالحديث الواحد له ألفاظٌ عند البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي فـ ابن الأثير يسرد هذه الألفاظ كلها. خامساً: هو أن ابن الأثير يذكر غريب الحديث -معاني الكلمات العربية في الحديث- ويشرحها فهذه مميزات لكتاب ابن الأثير وهو جامع الأصول على كتاب رزين بن معاوية العبدي السرقسطي وهو تجريد الصحاح. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 17 مجمع الزوائد ومنبع الفوائد بسم الله الرحمن الرحيم الحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: الجزء: 161 ¦ الصفحة: 18 فوائد سريعة في الكتاب في الجزء الأول صفحة (111) عد أصحاب العقبة من المنافقين الذين حاولوا اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وسرد قائمةً بأسماء هؤلاء المنافقين، وفي صفحة (191) من نفس الجزء، حديثٌ يروى بالإسناد عن العبادلة الأربعة رضي الله عنهم، ولا بأس أن يساق يقول وعن العبادلة -كذا في أعلى الصفحة- وعن العبادلة ابن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمرو قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {القاص ينتظر المقت -الواعظ أو المحدث- والمستمع ينتظر الرحمة، والتاجر ينتظر الرزق، والمحتكر ينتظر اللعنة، والنائحة ومن حولها من امرأةٍ عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} رواه الطبراني في الكبير وفيه بشر بن عبد الرحمن الأنصاري، عن عبد الله بن مجاهد بن جبر ولم أر من ذكرهما. والمهم هنا أن هذا الحديث يعتبر من الطرائف، لأنه من رواية العبادلة جميعاً، عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر وابن عباس وابن الزبير. وفي (1/65) ذكر حديث ماشطة ابنة فرعون، وهو حديثٌ طريفٌ وله طرقٌ كثيرة وبعضها في السنن -في سنن ابن ماجة وغيره- ومن طريق جماعةٍ من الصحابة، وأذكر لكم طرف الحديث لأنه حديثٌ عجيبٌ وغريب وفيه عبر، عن ابن عباس رضي عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لما كان ليلة أسري بي أتيت على رائحةٍ طيبة، فقلت يا جبريل ما هذه الرائحة؟ قال: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها، قلت: وما شأنها؟ قال: بينما هي تمشط لابنة فرعون ذات يومٍ، إذ سقط المدراء من يدها -والمدراء هو المشط- فقالت: بسم الله، فقالت لها ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: أخبره بذاك؟ قالت: نعم، فأخبرته ودعاها، وقال: يا فلانة وإن لك رباً غيري؟ قالت: نعم ربي وربك الله، فأمر بنقرةٍ من نحاس -القدر- فأحميت، ثم أمر أن تلقى هي وأولادها فيه، قالت له: إن لي إليك حاجة، قال: وما حاجتك؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام أولادي في ثوبٍ واحد فتدفننا جميعاً، قال: ذلك علينا من الحق، قال فأمر بأولادها فألقوا بين يديها واحداً واحداً، إلى أن انتهى ذلك إلى صبي لها مُرضَع كأنها تقاعست من أجله، قال: يا أمه اقتحمي فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، فاقتحمت، قال ابن عباس: تكلم في المهد أربعة: عيسى بن مريم عليه السلام، وصاحب جريج وشاهد يوسف وابن ماشطة ابنة فرعون} رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط وفيه عطاء بن السائب وهو ثقة ولكنه اختلط، ولكن هذا الحديث وإن كان فيه ضعفٌ، فله شواهدٌ عن جماعةٍ من الصحابة. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 19 طريقة ترتيبه للأحاديث وعده للزوائد وقد رتب الهيثمي الأحاديث كما هو ظاهرٌ ومعروف على حسب الموضوعات الفقهية، فأذكر لكم بعض الفوائد التي اقتبستها من الكتاب وإن كانت غير منظمة كما أشرت أولاً: طريقته في عد الزوائد: فهو يعدُّ الحديث من الزوائد ولو كان فيه لفظٌ واحدٌ زائد، فمثلاً حديث أنس رضي الله عنه: {ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما الحديث} فهذا الحديث يوجد في البخاري، ومسلم، وقد عده هو من الزوائد في الجزء الأول صفحة (56) . وقد عده من الزوائد لأنه ذكره بزيادة: {أن يحب في الله ويبغض في الله} وزيادة: (يبغض في الله) ليست في الصحيحين. ومثل ذلك حديث جابر: {أذن لي أن أحدث عن ملكٍ الحديث} وهو في الجزء الأول صفحة (80) ، وحديث ابن عمر: {مثل المؤمن كمثل النخلة الحديث} الجزء الأول صفحة (83) إلى غير ذلك. ثانياً: كأن الهيثمي اعتمد في معرفة أطراف الستة على المزي، ويبدو لي أنه لم يراجع الكتب الستة، وإنما يعتمد على أطراف الكتب الستة للمزي، وأطراف الكتب الستة للمزي هي تحفة الأشراف وقد سبق شرحها، والذي يجعلني أقول ذلك، أنه في صفحة (1/171) قال: لما ذكر حديث جابر: {أفضل الكتاب كتاب الله الحديث} قال: رواه الطبراني في الأوسط، وعزا الشيخ جمال الدين المزي بعض هذا إلى النسائي، والظاهر أنه في الكبرى فكأنه كان يراجع تحفة الأشراف وهذا الأمر أيضاً يمكن أن تجده في صفحة (198) فإنه يقول في هذه الصفحة لما ذكر حديث فتح القسطنطينية قال: رواه الطبراني، وقد عزاه في الأطراف إلى أبي داود في الملاحم ولم أجده، وهو يعني بالأطراف أطراف المزي فيما يظهر لي. وكذلك في (ص:289) من نفس الجزء وفي آخرها، لما ذكر حديث ضمام بن ثعلبة ووفادته على النبي صلى الله عليه وسلم قال: عزاه صاحب الأطراف إلى أبي داود ولم أجد في أبي داود إلا طرفاً من أوله. وهذا يدل على أنه قد استفاد من أطراف المزي في معرفة الكتب الستة، وقد ذكرت لكم من الأحاديث التي عدها زوائد، وليست زوائد كحديث: {يسروا ولا تعسروا} فهذا قد عده من الزوائد في الجزء الأول صفحة (61) وأحياناً يكرر الأحاديث بنصها وفصها بصورةٍ حرفية، مثل حديث أبي سعيد الخدري: {المؤمنون على ثلاثة أجزاء} وهو في [1/52] وحديث أبي سعيد يقول: {المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء، الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذي يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، ثم الذي إذا أشرف له طمع تركه لله عز وجل} رواه أحمد وفيه دراج وقد وُثق وضعفه غير واحد. فهذا الحديث انظر له أيضاً (ص:63-64) من نفس الجزء، تجد أن هذا الحديث بنصه وفصه في باب زيادة إيمان المؤمنين، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: {المؤمنون في الدنيا على ثلاثة أجزاء إلى آخر الحديث} فكرر الحديث، ومثله حديث سلمان في (2/322) في قصة المحتضر يقول: {خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود رجلاً من الأنصار فلما دخل عليه، وضع يده على جبينه فقال: كيف تجدك؟ فلم يجبه فقيل: يا رسول الله، إنه عنك مشغول، فقال: خلوا بيني وبينه، فخرج الناس من عنده وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع رسول الله صلى الله يده، فأشار المريض؛ أن أعد يدك حيث كانت، ثم ناداه: يا فلان، ما تجد؟ قال: أجدني بخيرٍ وقد حضر اثنان، أحدهما أسود والآخر أبيض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما أقرب منك؟ قال: الأسود، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الخير قليلٌ وإن الشر كثير -كأنه خوفه- قال: فمتعني منك يا رسول الله بدعوة، فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر الكثير وأتم القليل، ثم قال ما ترى؟ قال: خيراً بأبي أنت وأمي؛ أرى الخير ينمي وأرى الشر يضمحل، وقد استأخر عني الأسود، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي عملك أملك بك؟ قال: كنت أسقي الماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسمع يا سلمان هل تنكر مني شيئاً؟ قال: نعم بأبي أنت وأمي، قد رأيتك في مواطنٍ ما رأيتك على مثل حالك اليوم، قال: إني أعلم ما يلقى، ما منه عرق إلا وهو يألم الموت على حدته} لكن الإمام الهيثمي يقول: رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو الربذي المشهور وهو ضعيفٌ. والمهم أن حديث أبي سعيد ٍ هذا، تجده أيضاً في (2/326) مكرراً. فـ الهيثمي يكرر أحياناً بعض الأحاديث. وأحياناً يجمع الهيثمي طرق الحديث الواحد، وهذا من فوائد الكتاب ومزاياه، فمثلاً حديث: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} ذكر له العلماء طرقاً تزيد عن أكثر من ثمانين صحابي، والهيثمي في [1/142-148] ذكر منها خمسة وأربعين حديثاً: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} . وأحياناً يحيل الهيثمي من موضعٍ إلى موضعٍ آخر، فانظر -مثلاً- الجزء الثالث صفحة (52) والجزء الخامس صفحة (290) حيث أحال في موضعِ زيارة القبور، وإدخار الأضاحي، والانتباذ في الظروف والأوعية إلى موضعٍ آخر، أي إذا كان الموضوع مفرقٌ بين موضعين أحياناً قد يحيل إليهما. وكذلك إذا كان عند الهيثمي حديث زائد اشتبه بحديثٍ آخر في الصحيح أو في السنن فيشير إليه ويذكر الحديث، ثم يقول: وهي الصحيحُ لفلانٍ غير هذا، أو نحو هذا بدون زيادة، أو طرفٍ منه، أو يسوق الحديث ثم يقول: في أبي داود طرفٌ منه، أو يقول: الحديث في أبي داود بدون هذه الزيادة، أو الحديث في الترمذي بنحوه أو ما أشبه ذلك. ومما يتعلق بموضوع أطراف المزي حيث أشار إلى أطراف المزي في (3/30) وفي (4/217) . وأحياناً قليلة جداً قد يخرِّج من كتب غير الكتب الستة التي ذكرت لكم وهي أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في معاجمه الثلاثة، فمثلاً في (4/322) عزا لكتاب أبي الشيخ الأصفهاني الأمثال، وفي الجزء الرابع أيضاً صفحة (329) خرّج من كتاب الأحاديث المختارة لـ الضياء المقدسي، وهذه نادرة, وأحياناً يخرج من الحاكم كما سبق، والغالب أنه يقتصر على الكتب الستة. وأحياناً يكرر الباب بأكمله، وذلك كما في باب: الأرواح جنودٌ مجندة، فانظره في الجزء العاشر صفحة (273) وكذلك باب: إن لهذا الدين إقبالاً وإدباراً، فانظر الجزء السابع صفحة (271) وقلما يترك الحديث من دون كلام. ومن الأشياء التي أعجبتني في هذا الكتاب أن الهيثمي في أحيانٍ قليلةٍ جداً ينقد متن الحديث بعد ما ينقد إسناده، وأعطيكم مثالين لنقد الحديث في الجزء السابع صفحة (318) حيث ذكر حديث: {أن علياً والعباس جاءا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من هذا -وأشار إلى العباس - رجلٌ يملأ الأرض جوراً وظلماً، ويخرج من هذا -وأشار إلى علي - رجلٌ يملأ الأرض قسطاً وعدلاً} ثم تكلم على الحديث، ثم قال: ولكن الحديث منكر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستقبل أحداً في وجهه بشيءٍ يكرهه، وخاصةً عمه العباس الذي قال فيه إنه صنو أبيه، وهذا حقيقة ملحظٌ جميلٌ في رد الحديث، والحديث ضعيف لكن يمكن رده من جهة المتن أيضاً، فمن غير المعقول أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول للعباس: يخرج منك رجلٌ كذا وكذا، وهذا عمه له فضلٌ ومكانة، وكان يحامي دونه صلى الله عليه وسلم، وكذلك في الجزء السابع صفحة (347) رد حديثاً لـ شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب فيه كلامٌ كثير، وقد كان من أهل الحديث، لكن يقولون: إنه دخل على السلطان، فأعطاه بعض دريهمات فسقط من عين أهل الحديث، فكانوا يقولون فيه:- لقد باع شهر دينه بخريطةٍ فمن يأمن القراء بعدك يا شهر وهو ليس بذاك الضعيف، والمهم أن الهيثمي ذكر حديث شهر بن حوشب: {أن الدجال يعمر أربعين سنة} وقال: وفيه شهر ولا يحتمل مخالفته للأحاديث الصحيحة، وهذا جيد. لكنه أشار إلى أنه مخالفٌ لما ورد في الأحاديث الصحيحة من أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، وفي هذا الحديث قال يمكث أربعين سنة، فرد الحديث أيضاً من جهة المتن حيث أنه ذكر مكث الدجال أربعين سنة، والواقع أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً كما في الأحاديث الصحاح. وأما فيما يتعلق بكلام الهيثمي في الرجال، فأشير إلى شيءٍ من ذلك، منها أنه قد يجهل أحياناً عن مشاهير الرجال، ففي الجزء الأول صفحة (58) جِهلَ عن سليمان بن بلال وفي صفحة (29) ذهل عن أبي سلمة التبوذكي وفي صفحة (22) ذهل عن عمران القصير، وفي صفحة (17) ذهل عن محمد بن إسماعيل بن سمرة وعلي بن شعيب وكلُّ هؤلاء رجالٌ معروفون في التهذيب وغيره. وكذلك كلامه في الرجال يختلف كثيراً رحمه الله، وكأنه لا يستحضر ما مضى، وذكرُ الأمثلة على ذلك يطول، لكن أعطيكم بعض الأمثلة: عبد الله بن لهيعة سبق معنا الكلام أنه اختلط في آخره، ورواية العبادلة عنه مقبولة، ور الجزء: 161 ¦ الصفحة: 20 مؤلفه رحمه الله فسوف نتكلم عن كتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للإمام الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي المولود سنة 735 للهجرة، والمتوفى سنة 807هـ. وفي الواقع -ولله الحمد- أن عندنا معلومات وافية عن هذا الكتاب، نظراً لأنني سبق أن مررت على الكتاب، وإن كان مرور الكرام؛ لكن من خلال مروري عليه كنت أكتب بعض الملاحظات على منهج الهيثمي وطريقته، فهي مفيدة إن شاء الله وإن كانت غير منظمة، ولم يتسن لي الوقت لتنظيم هذه المعلومات تنظيماً تاماً. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 21 فكرة الكتاب أولاً: فكرة الكتاب، واسم الكتاب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد. وفكرة الكتاب تقوم على جمع زوائد كتب معينةٍ على كتبٍ أخرى، والزوائد ليس أول من جمعها الهيثمي بل جمعها جماعةٌ من أهل العلم، كمثل مغلطاي والبوصيري وغيرهم ممن يجمعون زوائد بعض الكتب، والهيثمي تابعهم في ذلك، فجمع الأحاديث الزائدة في الكتب التي اختارها على الكتب الستة فجاء إلى زوائد مسند الإمام أحمد وأبي يعلى والبزار، والطبراني في معجم الطبراني الكبير والأوسط والصغير -فهذه هي الكتب ستة- فجاء إلى زوائد هذه الكتب الستة -أي الأحاديث الزائدة التي لا توجد في الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة - فأخذ هذه الزوائد وجمعها في هذا الكتاب، وكان ذلك بإشارةٍ من شيخه ومربيه ومعلمه، وهو الإمام الحافظ زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي الحافظ المشهور، وللعراقي في عنق الهيثمي مِننٌ عظيمة، فإن العراقي كان يصحبه في جميع أسفاره، حتى إن الهيثمي لم يترك العراقي في سفرٍ من أسفاره، وفي جميع حِجَجِه أيضاً كان يرافقه، وفي مجالسه، ولذلك شاركه في معظمِ شيوخه، وكان العراقي يحتفي به وينيبه عنه أحياناً، وإن كان في مجلس العراقي من هو أفضل منه من حيث العلم والحفظ والإتقان، ولكنه كان رجلاً محبباً فيما يبدو ديناً متعبداً، وكأن العراقي ارتاح إليه، وصار يقدمه في مجلسه. فالذي أشار عليه بجمع الزوائد هو العراقي، فجمع زوائد مسند الإمام أحمد ثم أبي يعلى ثم البزار ثم الطبراني، ثم خلط هذه الزوائد في هذا الكتاب الواحد، فجاء كتاباً فذاً في بابه، بحيث لو وجد عندك مع الكتب الستة فكأن المسند والطبراني والبزار وأبا يعلى موجودةً في بيتك، وهذا بطبيعة الحال هو هدفه؛ لكن لا يعني هذا أن الرجل استوفى جميع الزوائد، بل قد يوجد زوائد غفل عنها، كما أنه لا يعني أن جميع ما ذكره من الزوائد كذلك فإنني قد استدركت عليه أحاديثَ كثيرة جداً، وإن كانت من حفظي أيضاً، ولم أراجع الكتب الأخرى، حيث يبدو لي أنه جعلها من الزوائد، وهي ليست من الزوائد بل هي موجودةٌ في الكتب الستة أو في أحدها. والهيثمي كان يتجنب ذكر الأسانيد فلا يذكر إسناد الحديث بل يذكر صحابي الحديث ومتنه، ولا يذكر الإسناد إلا إذا وجدت حاجةٌ تدعو إلى ذكر الإسناد، فمثلاً قد يكون في الإسناد سقط فيذكرُ إسناداً معيناً ليبين السقط الموجود فيه. وأذكر على سبيل المثال لهذا مثلاً، فإنه في الجزء العاشر صفحة (396) ذكر الإسناد لسقطٍ فيه؛ ولكن العادة أنه لا يذكر الأسانيد. ثم بعد أن يذكر الحديث يذكر من خرجه، ثم يحاول أن يحكم على الحديث؛ لكن طريقته في الحكم على الحديث طريقة تحتاج إلى تنبه، فهو أولاً: قلما يعطي حكماً على الحديث نفسه، فلا تجده يقول: هذا حديثٌ صحيح، أو حسن، أو ضعيف، إنما يحاول أن يحكم على الإسناد، وهذه تعتبر ميزةٌ للكتاب، فيقول -مثلاً-: رواه أحمد بسندٍ جيد، أو بسندٍ حسن، أو: رواه أحمد بسندٍ رجاله ثقات، أو بسندٍ فيه فلانٌ وهو ضعيف، أو فيه جماعةٌ من الضعفاء، أو فيه رجالٌ قد وثقوا، أو ما أشبه ذلك من العبارات، أو يقول: رجاله رجال الصحيح، وإن كانت هذه العبارات ليست دقيقة، لأن الإمام الهيثمي رحمه الله لم يكن بالحافظ المستوفي خاصة في موضوع الرجال، ولذلك يقول أحياناً في الرجل: لم أقف عليه، وهو قد ترجم له في موضعٍ آخر من نفس الكتاب، ففي موضع يقول: وفيه فلان وهو ضعيف وفي موضع آخر يقول: وفيه فلانٌ لم أقف عليه وهو قد ضعفه قبل قليل، فهو ليس بذاك المستوفي للرجال، ولهذا فالعلماء لا يعتمدون على توثيق الهيثمي إلا على سبيل الاستئناس في الحكم، أي: لموافقته غيره أو ما أشبه ذلك، أما الاعتماد على توثيقه فليس حسناً. الجزء: 161 ¦ الصفحة: 22 فقد آذنته بالحرب تحدث الشيخ عن حقيقة الولاية لله ، وصور العداوة لأوليائه وصور حرب الله على أعداء أولياء الله، وواجب المسلمين نحو أولياء الله. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الولاية لله الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وصلوات الله وسلامه على نبيه ومصطفاه، وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: أيها المسلمون والمسلمات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. جاء في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى، أنه قال: {من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه} . الجزء: 162 ¦ الصفحة: 2 الولاية جندية الولاية أن الإنسان يصبح في طاعته لأوامر الله كأنه جندي في ميدان المعركة يده على الزناد، إن قيل له: ارمِ رمى، وإن قيل له: قف توقف، وإن قيل له: أقدم أقدم، وإن قيل له أحجم أحجم، فإذا الله عز وجل قال له: صم، وجدت أنه يصوم في حر الهجير، وفي الشمس، وفي الجوع، وفي العطش، حتى ربما لا تطيب نفسه أن يفطر ولو كان معذوراً مأذوناً له بالفطر وربما لا تسمح نفسه بذلك، وإذا قال الله تعالى له: لا تصم، فإنه لا يصوم بل يتعمد الفطر تعبداً كما يفعل المسلم -مثلاً- في مناسبات الأعياد وغيرها مما نهى الله تعالى عن صيامه، وإذا قيل له: تقدم تقدم، وإذا قيل له: تأخر تأخر، يأمره الله تبارك وتعالى أن يقف في الصلاة فيقف، ثم يأمره أن يركع فيركع، ثم يأمره أن يسجد فيسجد، ثم يأمره أن يقعد فيقعد، لو تسأله لماذا هنا وقوف، وهنا ركوع، وهنا سجود، وهنا قعود؟ قال لك: أنا لا أدري لماذا، لكن الذي أعلمه وأعقله أن الله تعالى يريد مني أن أفعل هكذا، وما أنا إلا عبدٌ منفذٌ لأوامر الرب الذي خلقني وأمرني، فله الخلق وله الأمر، كما قال عز وجل: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] هناك إلهٌ يأمر وعبدٌ يمتثل. {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] . هذه الولاية إذاً ليست نسب ولا أسرة ولا بلد ولا ادعاء ولا ميراث، إنما الولاية عمل صالح بالقلب وبالجوارح، ثم إذا كان العبد من أولياء الله تفتحت له أبواب الخير كلها، حتى يقول الباري تبارك وتعالى: إن من عادى هذا الولي، فكأنما عادى الله تعالى، فيؤذنه الله تعالى ويعلمه بأنه محاربٌ له. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 3 الولاية ليست ادعاء وليست الولاية دعوى أن الإنسان يدعي أنه وليٌّ، كما يدعي كثيرون ولاية الله تبارك وتعالى في مشارق الأرض ومغاربها ويخدعون الناس بذلك، بل وربما يتأكلون بذلك، ويستفيدون من أموال الناس، وقد رأينا وسمعنا كثيراً من هؤلاء تركوا العمل وتركوا الحرفة والتجارة والبيع والشراء وتفرغوا في غرفة أو زاوية في مسجدٍ وأصبحوا يأكلون أموال الناس بحجة أنهم من الأولياء. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 4 الولاية عمل صالح الولاية عمل صالح، قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62-63] الولاية: قلب حي يعيش مع أوامر الله تعالى ونواهيه ساعةً بساعة، حتى لو يغفل وقتاً أو جزءاً، فإن الله تعالى يحاسبه ويؤاخذه ويعاقبه. أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم خير الأصحاب، وأقرب الناس إلى الله تعالى زلفى بعد الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ضحوا مع نبي الله عليه الصلاة السلام، وجاهدوا، وقاتلوا، وقتلوا، وأوذوا في سبيل الله، وأُخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، وتركوا الأهل والمال والولد، وهجروا لذيذ الفراش، وطيب الطعام، كل ذلك ابتغاء ما عند الله، ومع هذا لما حصل منهم الخطأ في معركة أحد عاقبهم الله عقاباً حاضراً سريعاً مباشراً، فأصابتهم الهزيمة، وقتل منهم عدد كبير وجرح منهم مثله، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه ما أصابه فتعجبوا وقلبوا أيديهم، وقالوا: أنى هذا؟ نحن أصحاب محمد ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدبهم الله بالقرآن فقال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} [آل عمران:165] يعني من أين هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] والآية التي بعدها {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران:166-167] إلى آخر الآيات. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 5 الولاية ليست ميراثا ً الولاية -أيها الأحبة- لله تبارك وتعالى وليست ميراثاً يأخذه الأبناء عن الآباء، فإننا نجد حتى من أبناء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من حقت عليهم كلمة العذاب، فهذا نوحٌ عليه الصلاة والسلام يرى ولده قد أدركه الغرق مع القوم الكافرين فيقول {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45] قال الله تعالى {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وفي قراءة (إنه عمِلَ غير صالح) أي عمل عملاً ليس بصالح، فليست القضية قضية أبوةٍ أو بنوةٍ أو قربٍ أو نسبٍ أو ميراث، وهذا والد النبي صلى الله عليه وسلم {جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله، أين أبي؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أبوك في النار، فلما ولى الرجل دعاه النبي عليه الصلاة والسلام، وقال له: إن أبي وأباك في النار} . الولاية قضية واضحة صارمةٌ، لا التباس فيها {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أعطاه الله تعالى الإمامة قال كما أخبر الله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] ليست الولاية أن فلاناً هو ابن فلان، حتى ولو كان ابن لنبيٍ مصطفى مختاراً، وليس الولاية لأن فلاناً ولد في البلد الفلاني، فإن البقاع لا تقدس أحداً أبداً، وإنما يقدس الإنسان عمله. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 6 صور العداوة لأولياء الله وما أكثر صور عداوة الأولياء -أولياء الله تعالى وأولياء رسله- على سبيل المثال: الجزء: 162 ¦ الصفحة: 7 إعانة عدوهم عليهم من حرب أولياء الله تعالى ومعاداتهم: إعانة عدوهم عليهم بأي وسيلة من الوسائل، حتى ولو كانت هذه الإعانة بشطر كلمة، ولو كانت بأقل من ذلك، فما بالك وأن بعض المنسوبين إلى الإسلام اليوم أصبح الواحد منهم لا يتورع قط عن مساعدة كل ألوان أمم الكفر والإلحاد، وكل ملل الدنيا ضد من يرفعون شعار لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيساعدونهم مساعدةً معنوية بالدعم والتشجيع، والتأييد والمناصرة، والاعتراف، وألوان الدعم المعنوي، ويساعدونهم مساعدة مادية بالمال وبالرجال وبالأقوال، وبتسخير كافة ما يستطيعون في تهيئة أمورهم ضد المسلمين. هل يتصور -أيها الأحبة- أن مسلماً يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله يفرح بهزيمة إخوانه المسلمين؟! أو يمد يد العون إلى الكفرة أو إلى اليهود أو إلى النصارى، أو إلى العلمانيين، أو إلى الاشتراكيين ضد إخوانه المسلمين؟! أما أنا فلا تصور أن شخصاً يخفق قلبه بحب الله ورسوله يفرح بهزيمة المسلمين، أو يساعد عدوهم عليهم، أو يناصر أعداء الإسلام بوجه من الوجوه، بل الواجب عليه إن استطاع أن ينصر الإسلام فعل، وإن لم يستطع تمنى بقلبه أن ينصر الله دينه ويعلي كلمته، ولو لم يفعل إلا ذلك، أما أن تجد أن المسلم ينصر الكافر على أخيه المسلم، أو ينصر العلماني أو الاشتراكي على المسلم، فهذا لا يمكن تصوره أو يصعب تصوره جداً. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 8 التندر بالعلماء والصالحين من صور معاداة أولياء الله تبارك وتعالى: أن يتندر بعض الناس في مجالسهم ببعض الدعاة والصالحين، أو بعض المخلصين، أو بعض العلماء ويتكلمون فيهم، وربما يسمع أحدٌ من الناس قصة أو نكتة أو طرفة تتعلق بأحد المشايخ، أو العلماء أو الدعاة أو المعروفين بالخير في البلد، فلا يجد أحلى في فمه ولا أطيب في لسانه من أنه كلما كبر المجلس قام وتكلم بها وتحدث بها، دون أن يتثبت أو يتحرى من صدق هذا الكلام أو من كذبه. أيها الإخوة والأخوات نحن لا نقول: إن الأخيار منزهون، لا، الأخيار هم أخيار على ما سموا ولكن يوجد فيهم الخطأ، ويوجد فيهم النقص، ويندس فيهم من ليس منهم، ويقع منهم ما لا يحمد، هذا أمر طبيعي ولسنا نقول: أنهم دائماً أبرياء متهمون، ولكننا ندعو إلى التثبت في كل ما ينسب إلى الأخيار، فإذا سمعت في مجلس من المجالس قصة منسوبة إلى أحد العلماء، أو خبراً منسوباً إلى أحد الدعاة، أو حادثة منسوبة إلى رجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والهيئات أو غيرها مثلاً؟ من نقل هذا الكلام والحديث فيه والإفاضة دون أي تثبت، أقل ما يجب عليك من التثبت أن ترفع سماعة الهاتف على الشخص المقصود، أو الجهة المعنية، أو على إنسان تعتقد أن عنده خبر عن الموضوع، وتقول له: سمعت كذا وكذا، هل هذا الكلام صحيح أم غير صحيح؟ فإذا تبين لك أن الكلام صحيح بأدلة ووثائق، فهنا لا أحد يستطيع أن يضع على فمك حارساً يمنعك من الكلام، نكلم بما تعتقد أنه حق لا أحد يلومك ولا يعاتبك، لكن إذا وجدت أن الكلام مجرد افتراء وتزوير واختلاق من بعض مرضى النفوس وضعاف القلوب. فنحن والله يا أخي وقفنا من ذلك على شيءٍ كثير، تبين أنه اختلاق، وأن هناك من الناس من عدمت ذممهم، وماتت ضمائرهم والعياذ بالله فأصبح الكذب عندهم عادة، بل أصبح الكذب عندهم حرفة ومهنة لا يستطيعون أن يعيشوا بدونها، ولسان حال أحدهم يقول: اكذب واكذب واكذب عسى أن يصدقك الناس، وكذباتهم ليست من الكذبات التي تموت في مهدها، أو يسمع بها خمسة أو عشرة، لا، كذبتهم من الكذبات التي تبلغ الآفاق، تبلغ المشرق والمغرب، فينشرون كذبتهم في جريدة، أو في إذاعة، أو حتى على شريط، أو في كتاب، فيتسامع بها الناس في مشرق الأرض ومغربها، فحق عليك ألا تتكلم بأي أمرٍ فيه نيلٌ من أحد، ربما يكون من أولياء الله تعالى إلا بعد أن تتثبت وتتحرى؛ حتى تطمئن أن ما تنقله صحيح ليس فيه دسٌ ولا تزوير. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 9 أجهزة الإعلام كثير من أجهزة الإعلام العالمية وعلى أثرها الأجهزة العربية، من إذاعة وتلفزة وصحافة وغيرها قد سخّرت نفسها للنيل من العلماء والمشايخ والدعاة إلى الله عز وجل والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حتى -وأحلف بالله غير مستثني- أنها اليوم تنال منهم أكثر مما تنال من اليهود، وأكثر مما تنال من الأعداء الصرحاء للإسلام وللأمة، بل ربما تعتبر أن الكلام في اليهود يعتبر نوعاً من التطرف والغلو الذي أصبحوا يحاربونه الآن. فقد أصبحت أجهزة الإعلام مسخرة للنيل من الدعاة، والنيل من العلماء، والنيل من رجال الدعوة الإسلامية، وشخصيات الأمة الإسلامية التي تمثل رموزاً للدعوة في كل مكان، يتكلمون فيهم بلا موازنة ولا ورع ولا تقوى، فأحياناً يسمونهم بالأصوليين، ويقصدون بالأصولي الإنسان الذي يفهم الكتاب المقدس -لفظ عند النصارى بطبيعة الحال- يفهم الكتاب المقدس عندهم فهماً حرفياً، ولا يستخدم عقله في فهمه، هذا معنى أصولي، فهم يسمونهم -أحياناً- بالأصوليين، وأحياناً يلمزونهم بلفظ المتطرفين. ونحن لسنا ننكر أنه قد يوجد في المسلمين من يكون عنده شيئاً من الغلو، كمن يكفر عامة المسلمين -مثلاً- أو من يزيد في الدين، وهذا موجود لا ننكره، لكن هؤلاء الذين يتكلمون في الصحافة والإعلام لا يخصصون فئةً معينة، ولا يقصدون أهل الغلو ولم يتكلموا في النيل من أولياء الله بكلام غيور يقصد تمييز الحق من الباطل، بل على النقيض من ذلك تكلموا في أولياء الله الحقيقيين كلام المنفر منهم، وكلام الذي يبغض الدين وأهله، ويحارب الإسلام وأهله ويعاديهم ليلاً ونهاراً، ويحاربهم سراً وجهاراً. فكلما رأوا من إنسان عملاً لا يعجبهم ولو كان ثابتاً بنص القرآن لمزوه بأنه متطرف. على سبيل المثال: الذي يحارب السلام مع اليهود، وينكر الصلح معهم، وبيع أراضي المسلمين إليهم علانيةً، من خلال موائد الشرق والغرب في موسكو أو واشنطن أو غيرها، الذي ينكر ذلك أصبحوا يسمونه متطرفاً ولم يعرفوا أنهم بذلك أصبحوا هم المتطرفون في نظر أنفسهم، لأنهم بالأمس وقبل سنوات ليست بالبعيدة كانوا كلهم يعلنون في أجهزة إعلامهم رفضهم لهذا الصلح، ويعتبرون أن الحاكم الذي بدأ ذلك خائنٌ للأمة، وعميلٌ الغرب، فهاهم الآن قد مشوا على خطواته، واستحقوا الوصف الذي وصفوا به غيرهم، وإذا رأوا إنساناً يلتزم بالسنة أو يدعو إليها، أو يبتعد عما حرم الله من المعاصي والمنكرات الظاهرة المشتهرة فسرعان ما يطلقون عليه لفظ المتطرف. وإذا لم يجدوا فيه عيباً، فإنه لا يعجزهم أبداً أن يختلقوا عيباً ويلصقونه به؛ ولأنهم يملكون أجهزة إعلامية فقد ينطلي هذا الأمر على الناس، فإن كثيراً من الناس إذا رأوا أن الصحيفة قالت كذا، والإذاعة قالت كذا تصوروا أن هذا الأمر صحيح ولو لم يكن صحيحاً لما نشر في الصحيفة ولما قيل في الإذاعة، بل أشد من ذلك وأنكى أنهم يقلبون الحقائق ظهراً على عقب، وأضرب لكم مثلاً من قلبهم للحقائق في بلدٍ مجاور في اليمن، وقبل أسابيع: كان هناك رجلٌ يرأس حزباً من الأحزاب الاشتراكية المحاربة لله ولرسوله، وامرأته حمالة الحطب مثله على منهجه، وعلى طريقته، لكن الله تعالى أخرج من بين هذا الفرث والدم -أخرج من هذا الرجل وهذه المرأة- فتاةً صالحة متدينة مستقيمة، عرفت طريقها إلى الله تعالى، وآمنت بالله ورسله، وكانت من القانتين، فلم يطق أبوها وأمها صبراً عليها، وآذوها وضايقوها وأحرجوها حتى أصبحت حياتها جحيماً لا يكاد يطاق، فذهبت يوماً من الأيام إلى منزل إحدى صديقاتها من الفتيات المؤمنات، وهي بنت لأحد المشايخ الشيخ عبد المجيد الزنداني -وهو من علماء اليمن ودعاتها المعروفين- ذهبت عندها وباتت تلك الليلة عندها، وقالت لها: لم أعد أستطيع أن أعيش في مثل هذا الجو، لا أطيق أبداً أن أصبر على مثل هذه الحياة، فقالت لها: وماذا تصنعين؟ قالت: إني سوف أنتحر، سوف أقتل نفسي، لقد سدّ والدي الباب أمامي، ثم كتبت ورقة أنني قمت بعملية قتل نفسي طوعاً واختياراً، وأنا في كامل قواي العقلية، وفى كامل صحتي، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه من هذا الفعل، وما فعلت ذلك؛ إلا لأن والدي ووالدتي قد ضيقوا الطريق أمامي، وسدوا سبل العيش، وحاربوني في ديني، ونغصوا عليَّ حياتي فعرفت أنهم يريدون مني أو يريدون لي مصيراً كهذا المصير، أو يريدون أن أنحرف عن الصراط المستقيم، ثم سلمت هذه الورقة إلى صديقتها، وصلت صلاة الفجر عندها، ثم خرجت وانتحرت ووجدت ميتة، فماذا قالت الصحف؟ -مع الأسف أحياناً- صحف تصدر من هذا البلد، أو محسوبة ومنسوبة إلى هذه البلدة الذي يفترض فيه أنه يرفع راية الإسلام، ويدافع عن المستضعفين في كل مكان، ويحفظ حرمات المسلمين وحقوقهم، ويقول كلمة الحق وينطق بها، ويكون شهيداً على الناس -بكل أسف- تخرج تلك الصحف، وتقول: إن المتطرفين في اليمن هم الذين قتلوا هذه الفتاه من أجل الإساءة إلى والديها، وبعد أيام تخرج تلك الوصية التي كتبتها البنت بخط يدها وتصور في كل وسائل الإعلام، ويراها الناس في الصحف مكتوبة بخط يدها، تعترف على والديها بأنهم هم السبب فيما جرى لها. إذاً: من صور حرب الدعاة وحرب أولياء الله تعالى تسخير أجهزة الإعلام للكذب عليهم، والتزوير والافتراء، والدس الرخيص، وتشويه صورتهم، وإلصاق التهم بهم، وإذا وجد خطأٌ عند فئة، فإنها تسعى إلى تعميمه على الجميع مستغلة في ذلك بساطة الناس وغفلتهم، وحسن ظن الكثيرين منهم، فهذه الصورة من صور عداوة أولياء الله، وماذا ينتظر هؤلاء القوم من الإعلاميين وغير الإعلاميين إذا كان رب العالمين يحاربهم، فكيف تتناول طعامك؟! وكيف تشرب شرابك؟ وكيف تنام في مضجعك؟! وكيف يفر لك قرار أو يهدأ لك بال؟! والله قد آذنك بالحرب {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] أنت قد تعجل، وقد تقول: هذا فلان كذب ودس وافترى، ومع ذلك لا يزال حراً طليقاً آمناً سليماً معافى، اصبر، الأمر أطول من ذلك، انتظر فالله تعالى يمهل ويملي للظالم، ولكن إذا أخذه لم يفلته كما في الصحيح {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} ثم تلا قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] . الجزء: 162 ¦ الصفحة: 10 صور حرب الله لمن يحارب أولياءه ثم العقوبة {فقد آذنته بالحرب} حربٌ من الله، نعم الله تعالى يعلن الحرب على هؤلاء، كما أعلن الحرب على أكلة الربا، والربا من أكبر الكبائر، كما في القرآن الكريم: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] فهذه من الذنوب العظمى التي توعد الله تبارك وتعالى عليها بإعلان الحرب على من يفعلها. كل من يعادي أولياء الله، كل من يعادي الطيبين والصالحين، كل من يعادي العلماء والدعاة، فإن الله تعالى يؤذنه بحرب، ما صورة هذه الحرب؟ حرب حقيقة قد تأخذ صورة الحرب الاقتصادية، فيسلط الله تعالى على هذا الإنسان، أو على هذه الأمة، أو على هذه الدولة من ألوان الضعف الاقتصادي ما يجعل اقتصادها ينهار إلى الحضيض، ويجعلها في قائمة الدول التي تستدين، ويقل دخل الفرد فيها يوماً بعد يوم، بعد أن كانت قبل ذلك من الدول الغنية الثرية، هذه صورة من صور الحرب. ومن صور الحرب -أيضاً- أن الله تعالى يسلط على هذا الفرد المعادي لأوليائه، أو على هذه الجماعة، أو على هذه الأمة، أو الدولة التي تحارب أولياء الله بعض جنده في الدنيا، حتى قد يسلط عليها من هو من الكافرين، أو من هو من الضالين الفاسقين، أو قد يسلط عليها بعض جنده المؤمنين، فيضطهدونهم ويأخذون بعض ما في أيديهم، ويضيقون عليهم في أمورهم كلها. وقد يسلط الله تبارك وتعالى عليهم من ألوان المصائب والآفات، وألوان الجرائم، وأنواع العصابات، كما نجد أن كثيراً من الدول مهددة مثلاً بحرب ما يسمى (حرب المخدرات) وكثيراً من الدول مهددة بألوان الجرائم التي أصبحت تهدد تلك المجتمعات، وكثيراً من الدول مهددة بالأمراض الفتاكة المهلكة التي عجز الطب عن علاجها وشفائها، كل هذه ألوان من حرب الله تعالى لمن يعادي أولياءه ويناصبهم العداء، فأي طاقة للإنسان في محاربة الله تعالى فيسلط عليه كل ما في الكون {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] فكل ما في الكون هو جند من جند الله تبارك وتعالى، إذا أمره الله تعالى بشيء امتثل، فكيف تتصورون -أيها الأحبة- حرب الله تعالى لأعدائه ولمن يحارب رسله، أو يحارب أتباع رسله وأولياءه وأنصار دينه؟! الجزء: 162 ¦ الصفحة: 11 واجب الولاء للمسلمين أيها الأحبة يجب أن نكون صرحاء في موالاتنا للإسلام، وللدين، وكونك من رواد المسجد هذا يقتضي منك تبعات وتكاليف، والمسألة ليست مجرد كلام باللسان! وليست مجرد أعمال تؤديها في وقتٍ من الأوقات! لا، المسألة مسألة أنه يجب أن يكون قلبك مليئاً بمحبة الله ورسله ومحبة أوليائه، فإذا سمعت مثلاً بما لا يرضي الله تعالى من النيل من أولياء الله بالأقوال، أو سمعت ما لا يرضي لله تعالى من مساعدة الكفار وإعانتهم على المسلمين أو غير ذلك؛ فإن أقل ما يجب عليك أيها المسلم: هو أن تنزعج من ذلك وتضيق به ذرعاً ويسوءك هذا الأمر، أما أن تشعر أن الأمر لا يعنيك؛ فهذا دليل على خللٍ كبير في إيمانك، وليست القضية بالضرورة أن يكون شخص تعرفه أو جارك أو زميلك في العمل، ليس ضرورياً، المفروض أنك لو سمعت ظلم وقع على مسلم في الصين أو في السند أو في الهند أو في الشرق أو في الغرب؛ أنك تنزعج لذلك، وتشعر بالقلق، وتشعر بالخوف لمثل هذا الأمر، وتضيق منه كما لو كان الأمر وقع إلى جارك الذي في منزلك. كم يستغيث بنا المستضعفون وهم قتلى وأسرى فما يهتز إنسان ماذا التقاطع في الإسلام بينكم وأنتم يا عباد الله إخوان لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلام وإيمان كيف تفرقت قلوبنا، فأصبحنا نسمع بمصائب المسلمين وكوارثهم في بلاد الله كلها، في مشرق الأرض ومغربها، ونهنأ بعيشنا وأكلنا وشربنا وحياتنا، وكأن الأمر لا يعنينا، بل نشارك أحياناً في مثل هذه الأمور ونساعد عليها، ونؤيد أقل ما نؤيد فيه بالكلام، فإذا تُكلم في مسلمين هنا أو هناك، وجدت أن بعضنا قد يتكلم في حقهم، وقد ينال منهم بغير حق، وقد يتهمهم بما هم منه أبرياء، هذا من الظلم الذي لا يحبه الله ولا رسوله، ولو كان هذا الظلم على كافر لكان مذموماً، فإنه حتى الكافر لا يجوز أن تنال منه بغير حق، فما بالك إذا كان على مسلم يشترك معك في الشهادتين، ويصلي معك إلى القبلة! بل ما بالك إذا كان هذا الظلم واقعاً على أناسٍ من صفوة المسلمين، ومن خيارهم من العلماء، أو الدعاة، أو طلبة العلم، أو غيرهم! الجزء: 162 ¦ الصفحة: 12 الصدق مع الله أدعوكم -مرةً أخرى، أيها الإخوة- في هذه الليلة المباركة: إلى أن تصدقوا الله تعالى في دعواتكم، وإذا كنا عجزنا بوسائلنا المادية المباشرة عن تحقيق ما نعتقد أنه خير للإسلام والمسلمين، فإن الله تعالى على كل شيءٍ قدير، ونحن إذ نسأله فإنما نسأل مليئاً يملك خزائن السماوات والأرض، ولا يتعاظم شيئاً أعطاه البتة، لكن نحتاج فقط إلى شيءٍ واحد، نحتاج إلى الصدق، وأن نجمع قلوبنا على دعائه وسؤاله، يقول عليه الصلاة والسلام: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة وأعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} فاصدقوا الله ولا تحتقروا أنفسكم، لا كبيراً ولا صغيراً، ربما الشيخ الكبير يرحم الله تعالى شيبته، وربما شاب حديثاً السن لم تكتب عليه ذنوب كثيرة، وربما عاص مسرف على نفسه يقع في قلبه انكسار، فيقبل الله تعالى دعاءه، وربما قائم أو صائم أو عابد أو ذاكر أو متصدق، فلندعو الله تعالى بقلوب صادقة، منقطعة من كل الأسباب والوسائل المادية، معلنين عجزنا، لعل الله تعالى أن يرحمنا. أسال الله تعالى بمنه وكرمه وأسمائه وصفاته ألا يردنا خائبين، أسأل الله تعالى ألا يردنا خائبين، اللهم لا تردنا خائبين ولا عن رحمتك مطرودين، وارحمنا يا أرحم الراحمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم إنا نسألك من كل خير ونعوذ بك من كل شر، اللهم إنا نسألك الجنة ونعوذ بك من النار، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد والحمد لله رب العالمين. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 13 أهمية الدعاء وكثيرٌ من الناس أحسن ما يملكون أن يقلبوا أيديهم، ويقولون: ماذا نصنع؟ ماذا بأيدينا؟ بأيدينا أن نصنع الكثير، أول ما بأيدينا أن نعمل توعية صحيحة للمجتمع، بحيث يعرف الناس الحقيقة على صورتها، بعيداً عن التضليل الإعلامي، فهل فعلنا ذلك؟! أم أننا نطأطئ رءوسنا ونسكت؟! العمل العظيم: الذي هو المساهمة المباشرة في نصر المسلمين نقول: هذا لا نستطيعه، والعمل البسيط الذي نقدر عليه نقول: هذا لا ينفع، يا أخي كل ذلك ينفع، الكلمة، والطيبة المشاركة، والدعم المادي، والدعاء، وأنت في هذا المسجد حينما تسمع الإمام يدعو فيضج هذا المسجد بالدعوات، ألا تعلم أن هناك رباً يسمع؟! ووعد بالإجابة، لو أن قلوب الحاضرين كلهم كانت مخلصة مخبتة مقبلة على الله، وانقطعت وشعرت بأن الأسباب المادية تفلتت من أيدينا، والحبال تقطعت، وما بقي عندنا إلا باب واحد، وهو باب الله تعالى، فضججنا إليه بدعاء صادق، وصرخنا إلى الله تعالى من أعماق قلوبنا، وصدقنا الله تبارك وتعالى، وقدمنا بين يدي نجوانا ودعائنا لله تبارك وتعالى توبةً صادقةً نصوحاً، وقدمنا صدقة وتخلصنا من المظالم، ثم استقبلنا القبلة، وصرخنا إلى الله تعالى بدعوات صادقة، ودعوات للمؤمنين المستضعفين في كل مكان، ودعوات للمساجين المأسورين في كل مكان، ودعوات للمستضعفين الذين قهرهم العدو، ودعوات لكل فقيرٍ أو مسكين أو جائع أو عار من هذه الأمة المنكوبة، دعوات على الظالمين والمبطلين وأهل الجور وأهل الظلم وأهل العدوان وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأهل الكفر والإلحاد، وأهل الردة والنفاق، هل تظن أن الله تعالى لا يجيب؟! هذا من ظن السوء برب العالمين أن تظن أن الله لا يجيب لو صدقت القلوب وأخلصت وأقبلت على الرب جل وعلا. فلننقطع -أيها الأحبة- إلى الله تعالى بقلوبنا، ولنرفع إليه أكفاً ضارعة وعيوناً دامعة، ولنصدق الله تعالى في دعاءٍ من أعماق قلوبنا، ونعتبر أنه نوع من الولاء لهؤلاء المؤمنين المنكوبين في مشارق الأرض ومغاربها، ونوعٌ من إعلان العداوة للكافرين أياً كانوا وأين كانواٌ سواءً كانوا عرباً أم عجماً، وأنه عربون نقدمه لأننا لا نملك غيره، كما قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي} [المائدة:25] هذا الذي نملكه لا بد أن نفعله، فضلاً عن أن يقدم الإنسان لإخوانه المسلمين المنكوبين ما يستطيع، من المساعدات المالية التي تجد طريقها إليهم عبر وسائل كثيرة إلى غير ذلك من المساعدات، وكما يقال: الحاجة أم الاختراع، فحين تعلم أن هناك مسلمين محتاجين إليك؛ سوف تعرف كيف تنفعهم، وكيف توصل إليهم ما تستطيع. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 14 الأسئلة الجزء: 162 ¦ الصفحة: 15 الفوائد الضرورية من البنوك الربوية السؤال يقول: رجل عنده أموال طائلة وهو يودعها في بعض البنوك ويقول: أنه إذا ترك هذه الأموال، فإنها قد تأخذها بعض المؤسسات التنصيرية، وتنفقها على الأعمال التي فيها أضرار بالمسلمين، فهل يجوز له أن يأخذ هذه الفوائد، وينفقها على المسلمين المحتاجين في أفريقيا وغيرها؟ الجواب فأقول: عليه -كما أسلفت- أن يحرص على أن يكون إيداعه للأموال في بنوك إسلامية، أو بنوك لا تعطي الربا أصلاً، فإن كان هذا الكلام في بنوك أجنبية في الخارج، وهو مضطر إلى الإيداع في بنوك تعطي فوائد، ولا يوجد إلا هذه البنوك، فحينئذٍ اختلف أهل العلم في جواز ذلك، فمنهم من يقول: لا يأخذ هذه الفوائد بل يدعها، والذي أراه هو القول الثاني الذي يفتي به أيضاً جماعة من الفقهاء أن عليه أن يأخذ هذه الفوائد لا من باب التملك، لكن يأخذها ليمنع استفادة اليهود والنصارى منها، ويصرفها في المجالات التي يحتاج إليها المسلمون، ولكن هذا يكون في حالة الضرورة، أي حين توجد بنوك ربوية فحسب، لأن بعض البلاد لا يوجد فيها إلا بنوك ربوية، ولابد له من الإيداع فيها. وهو إما أن يأخذ هذه الفوائد أو يبقيها لهم، فأنه إذا أخذها وأعطيها للمسلمين خيرٌ له من أن يتركها لهم، ولو لم بكن من ذلك إلا قطع الطريق على استخدامها في تنصير المسلمين. أسأل الله تعالى أن يبارك في جهودكم وأوقاتكم وان يتقبل منا ومنكم إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 16 وضع الأحذية أمام المصلين السؤال هناك بعض النساء هداهن الله يضعن أحذيتهن أمام صفوف المصلين فبماذا تنصحونهن؟ الجواب إذا كان هذا يؤذي الأخريات فعليها أن تحفظ حذاءها في مكان لا يؤذي أحداً. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 17 صرف الزكاة السؤال أيهما أفضل إخراج الزكاة للمحتاجين في البلد، أو صرفها إلى المجاهدين وغيرهم؟ الجواب كل ذلك طيب وكلها مصارف نافعة، وهناك محتاجون في هذه البلدة يمكن أن تصرف لهم الزكاة، وهناك إخوان لكم في بلاد أخرى هم أيضاً بأمس الحاجة. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 18 الإمساكية الاحتياطية السؤال يقول: إمساكية مكتوب عليها الإمساكية الاحتياطية، وهي قبل الإمساك الحقيقي بربع ساعة أرجو أن تعلق على هذه القضية؟ الجواب الإمساك معروف، والاحتياط لا مجال له في مثل هذه فالأمور، الأمر واضح، ولا داعي للاحتياط بل ينبغي للإنسان أن يأكل حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، والإمساكية المتداولة عند الناس هي أيضاً فيها احتياط يمكن نحو دقيقه أو دقيقتين. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 19 القراءة مع الإمام ومتابعته في مصحف السؤال يقول: ما رأيك في بعض المصلين الذين يتابعون مع الإمام، وهو يقرأ في مصحف، وبعضهم يقرأ مع الإمام بصوت رفيع؟ الجواب لا ينبغي، بل ينبغي له أن يسكت. كما قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا َ. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 20 اقتراح سيارات لبيع الأشرطة الدينية السؤال يقول هذا اقتراح لأصحاب التسجيلات، لعل الله أن يعم الإصلاح والخير قلب كل مسلم، نرى أصحاب المجلات وأصحاب بيع الدخان يجوبون المدن، والقرى على سيارات خاصة مخصصة لبيعها، فهذا اقتراح أن تنهج محلات التسجيلات الإسلامية النمط نفسه، فتجعل سيارات خاصة لبيع الأشرطة الدينية النافعة، لتوصلها إلى أماكن تواجد الشباب في المدن والقرى، علماً أن الغالب من الشباب لديه الرغبة في شراء مثل هذه الأشرطة؟ الجواب اقتراح جيد ولعلهم قد سمعوه الآن. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 21 ذهاب الإمام للعمرة وترك مسجده السؤال بعض الأئمة يذهبون إلى العمرة ويتركون الجماعة ولا يترك من يصلي عنه، فهل هو مأجور في ذلك، أو يجلس عند جماعته؟ الجواب لو ذهب يوم أو يومين لا حرج عليه، فيحصل على أجر العمرة وكذلك يهتم بجماعته. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 22 مخالفات لرواد المساجد السؤال يقول: يوجد من رواد هذا المسجد وغيره بعض المخالفات، فنرجو التوجيه كالتدخين، وقصر ثياب المرأة، وطول ثوب الرجل، حتى إني رأيت امرأة ثوبها قصير مرتفع على الكعب أربع أصابع، وكذلك تخفيف الغدفة؟ الجواب أولاً: أنصحك لا تنظر، لا تنظر هذه امرأة ثوبها قصير، وهذه ثوبها طويل، وهذه غدفتها خفيفة، وهذه ثقيلة نعم إن كانت النظرة الأولى فقد عفا الله عنك، لكن ليست لك الثانية. وثانياً: ننصح الإخوة والأخوات بأن يراقبوا الله تعالى، فهم الآن أصبحوا في موضع القدوة، ومن رواد المساجد وينبغي على الرجال والنساء أن يلتزموا بأوامر الله تعالى، في الأمور الظاهرة كأمور الثياب والهدي الظاهر، وكذلك في الأمور الباطنة المتعلقة بأعمال القلوب. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 23 زكاة المال السؤال يقول: أنا موظف في إحدى الدوائر منذ أربع سنوات ولم أزك على ما أخذته من الراتب، رغم عدم وجودها لدي، ولم أقرضها لأحد، فماذا أفعل؟ الجواب عليك أن تزكي كل السنوات الماضية؛ إذا بلغ عندك النصاب. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 24 شاب مصاب بأوهام السؤال أنا شاب أبلغ من العمر خمسة وعشرين عاماً يحدث أحياناً لي أوهام، يخيل لي أنني مصاب بمرضٍ ما، أو أخاف من الموت، رغم أني -ولله الحمد- ملتزم أؤدي ما علي من فرائض فبماذا تنصحني؟ الجواب أنصحك بكثرة ذكر الله والتوكل عليه، والاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وأن تشغل نفسك بجلائل الأعمال، لئلا يبقى عندك وقت فراغ يشغله الشيطان بهذه الوساوس التي تشغلك، مع أن تذكر الموت إذا كان بحدود معتدلة فهو خير، لكن إذا بلغ وزاد وغلى وصار مخاوف وأوهام؛ فإنه يضر بالإنسان. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 25 التثاقل عن الصلاة السؤال لي أخ متزوج يتساهل بالصلاة حتى في رمضان، ويتثاقل حتى عن صلاة الفجر، ونحن في هذا الشهر الكريم الذي يصلي فيه أصحاب التخلف، بل الأدهى والأمر أنه ينام عن كثير من الصلوات آخرها صلاة العصر والمغرب فى هذا اليوم فنشكو إلى الله، وأطلب أن تدعو لأخي بالهداية؟ الجواب أسأل الله تعالى أن يهدى أخاك إلى سواء السبيل، ويرزقه الإقبال على عبادته، وتعظيم حرمات الله تعالى وشعائره التي من أهمها الصلاة مع الجماعة، وعليك أن ترسل إليه بعض الأشرطة والكتب التي تتكلم عن موضوع الصلاة وأهميتها وخطر تركها. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 26 حكم الأكل أثناء الأذان وبعده السؤال أنا شاب أسأل عن صحة صيام هذا اليوم حيث أنني لم أستيقظ للسحور إلا مع أذان الفجر الآخر، وبدأت آكل حتى انتهى المؤذنون من الأذان، وقد تساهلت حتى أكلت بعد انتهائهم من الأذان، وما دعاني لهذا هو أنني منذ بدايتي بالأكل، وأنا على استعداد لقضاء الصيام؟ الجواب لا يجوز هذا حتى لو كنت على استعداد، وعليك أن تقضي هذا اليوم. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 27 البحث عن القارئ الجيد السؤال يقول: يتحدث بعض الناس عن موضوع متابعة دروس المشايخ، والبحث عن المساجد التي يكون فيها قارئ جيد، حتى أن بعض المتحدثين يزعم أن ذلك بدعة، ويزعم أن بعض المشايخ قال ذلك، أرجو الإفادة؟ الجواب لا بأس أن يبحث الإنسان عن القارئ الجيد، ولا بأس أن يبحث الإنسان عن المجلس الذي يكون فيه خيرٌ وذكرٌ، فكل ذلك حسن، وللشيخ عبد العزيز حفظه الله فتوى في ذلك. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 28 معنى: اللهم إنا نعوذ بك منك لا نحصي ثناءً عليك السؤال ما معنى: اللهم إنا نعوذ بك منك، لا نحصي ثناءً عليك؟ الجواب أي أن العبد لا يحصي ثناءً على الله تعالى، مهما أثنى على الله تعالى، فهو عاجزٌ عن الثناء عليه بما هو أهله، وهو يعلم أنه لا يحفظه إلا الله تعالى، فيستعيذ بالله تعالى منه، كما قال: أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وعلى هذا فقس، فيعوذ برحمة الله تعالى من سخطه، وبمعافاته من عقوبته، وبرضاه من سخطه، وبعفوه من عقابه وهكذا. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 29 كثرة الحركة في الصلاة السؤال يقول: ما رأي الدين في بعض الإخوة المصلين الذين يتحركون حركةً كثيرة مثل الذي يطلع منديل ويستعمله، وينظر للساعة، ويضبط الشماغ، وينظف الأظافر، وحركات أخرى كثيرة متعددة، وهو في الصلاة؟ الجواب هذه الحركات الكثيرة تخل بالصلاة، وهي من العبث الذي لا ينبغي، والمصلي مشروع له أن يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة فوق صدره، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، كما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 30 الدعاء لتحرير المسجد الأقصى السؤال يقول: نعم أنا أعرفك أنك تتكلم بالحق، لكن لماذا لم يشمل دعاؤك أنت والشيخ المحيسني المسجد الأقصى، هذا السؤال موجه للشيخ محمد رغم أن هناك جهات، ومنظمات إسلامية كمنظمة حماس تحكم بالكتاب، وقائدها الشيخ ياسين وله مدة طويلة في الدعوة الإسلامية، حتى إذا كان الشعب الفلسطيني مذنب، فما هو ذنب المسجد أرجو أن تجاوب ولا تهمل الورقة؟ الجواب في الحقيقة ليست القضية قضية إهمال نحن دعونا للمسلمين في فلسطين، وفي كل مكان، وأنت تعرف أنني سبق أن نظمت مجموعة من الدروس حول هذه القضية، ونحن نعتبر أن قضية فلسطين هي قضية كل مسلم، والمسجد الأقصى هو قضية كل مسلم أيضاً، ربما يكون غفلة وأحياناً نسياناً، ونغتنم هذه الفرصة للدعوة بأن الله تعالى ينقذ المسجد الأقصى من كيد اليهود في هذه الليلة المباركة، ويأذن بقيام الجهاد الإسلامي الذي يطهر تلك البلاد من رجس الكافرين، سواءً كانوا من اليهود الأصليين أم من المرتدين على أعقابهم، ونسأل الله أن يقر بذلك عيون المسلمين والمسلمات في كل مكان. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 31 إمامة النساء السؤال هل هناك شروط معينة لمن تؤم النساء؟ الجواب لا، ليس هناك شروط معينة تخص الإمامة، ولكن عموماً يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، كما جاء في الحديث. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 32 طلب توجيه نصيحة السؤال أرجو توجيه نصيحة للأخوات بشأن رفع أصواتهن أثناء القراءة والبكاء؛ لأن ذلك يتسبب في صرف خشوع الأخريات وهذه النصيحة طلبناها بعد أن اشتكت الكثيرات من ذلك؟ الجواب الخشوع بالقلب، وعلى الإنسان أن يحرص على عدم رفع صوته بالبكاء خاصة في الصلاة؛ لأن ذلك يؤذي من حوله، وكذلك يخشى أن يكون سبباً في الرياء وما أشبه هذا، وقد كان أبو بكر رضي الله عنه يبكي، ولكنه يكتم بكاءه في صدره، وكذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى يسمع لأحدهم أزيزٌ كأزيز المرجل من البكاء؛ لأنه يكتم عباراته في صدره. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 33 الكذب السؤال هل يجوز أن أكذب عندما يسأل أحدٌ بالهاتف عن والدتي، وهذا بأمر منها بحجة أنها لا تريد أن تطلع أحد على أمورها الخاصة؟ الجواب لا. لا يجوز الكذب بحالٍ من الأحوال. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 34 الصبغ بالأسود السؤال هل يجوز الصبغ بالأسود، لإزالة صبغة أخرى للشعر، ليس لتجنب الشيب؟ الجواب الرسول عليه السلام يقول: {اصبغوا هذا الشيب وجنبوه السواد} فالصبغ بالسواد منهي عنه سواء كان لإزالة الشيب أم لإزالة صبغةٍ أخرى. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 35 حكم من لم يحافظ على أداء الصلاة السؤال رجل يبلغ خمسة وتسعين عاماً، وهو في كامل قواه العقلية، لكن الصلاة لا يحافظ على أدائها، فوقت يؤديها ووقت لا يؤديها، ما حكم ذلك مع العلم أن أهله يذكرونه بذلك، ولكن بدون فائدة؟ الجواب عليهم إذا جاء وقت الصلاة أن يخبروه بأن وقت الصلاة قد جاء، وإذا كان لا يغبط الصلاة فإنهم يتابعون معه حتى يصلي، وما دام أنه بكامل قواه العقلية فالصلاة عليه واجبة إن لم يستطع قائماً فقاعداً، وإن لم يستطع قاعداً فعلى جنب. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 36 حبوب منع العادة السؤال هل يجوز استخدام حبوب منع العادة خوفاً من ذهاب الأجر والصلاة؟ الجواب أرى أن المرأة لا تستخدم هذه الحبوب، وإذا أتت العادة، فإنها تجلس حتى تذهب عنها العادة، لكن لو استخدمتها وكانت لا تضر بها فإنني أرجو أنه لا شيء في ذلك -إن شاء الله-. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 37 إيداع الأموال في البنك السؤال عندي أموال طائلة تصل إلى الملايين وليس لي سوى البنك أحفظها فيه دون أخذ فوائد، فما حكم هذا الإيداع؟ الجواب أنصحك بأنه ما دامت الأموال طائلة بأن تودعها في البنك الأخروي، وتتصدق بما يمكن أن تتصدق به منها، فإن مالك ما قدمت، ومال وارثك ما أخرت، وما بقي من هذه الأموال، وكنت لا بد مودعه فلتودعه في بعض البنوك التي تكون أحسن حالاً من غيرها، كبنك الراجحي -مثلاً- فإنه أصلاً لا يعطي فوائد على الإيداع، وهذا لاشك ميزة لبنك الراجحي على كل البنوك الأخرى، فإن في نظام البنك أنه لا يعطي فوائد على الإيداع، ولذلك أقول: يمكن أن تودع في مثل هذا البنك. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 38 قول: (سبحانك) في الصلاة السؤال ما حكم قول المأموم: (سبحانك) عندما يثني الإمام على الله، وبعضهم يقول: أستغفر الله عندما يقول الإمام: نستغفرك ونتوب إليك، أو كما ورد؟ الجواب قولك: (سبحانك) هذا من الذكر المناسب في الصلاة فلا شيء فيه. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 39 صوم المرأة الكبيرة في السن السؤال يقول: عندنا في البيت امرأة كبيرة في السن، وتريد أن تصوم، وهي تستطيع أن تصوم فنتيح لها هذه الفرصة الثمينة، لكنها كلما صحت من النوم تريد أن تأكل طعام السحور سواء كان هذا النوم في الليل أم النهار فما هو الحل؟ الجواب هذه المرأة إذا كانت كبيرة في السن بحيث أنها لا تعقل، ولا تعرف الأمور ولا تدري؛ فإنه ليس عليها شيء، ليس عليها شيء، لا صيام ولا طعام، أما إن كانت امرأة عاقلة بعقلها، وكمال عقلها، وتستطيع أن تصوم فعليهم أن يصوموها، وإذا طلبت أكلاً، فإنهم يخبرونها أنها لا زالت في النهار، ويطلبون منها الصبر إلى وقت الغروب، أما إن كانت امرأة عاقلة، ولكنها مريضة لا تستطيع الصيام، ومرضها مزمن كالجلطة مثلاً أو غيره، فإنها تفطر وعليهم أن يطعموا عن كل يوم مسكيناً. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 40 الفرق بين الرشوة والهدية السؤال ما الفرق بين الرشوة والهدية؟ الجواب الفرق واضح، الرشوة: هي أن تعطيها لإنسان طلباً لأن يقدم لك أمراً لا تستحقه، كموظف مثلاً تعطيه رشوة مقابل أن يخدمك في موضوع لا تستحقه، فيقدمك على غيرك، أو يعطيك حق غيرك، أو يظلم الناس من أجلك، فهذا لا يجوز، كالطالب الذي يعطي الأستاذ رشوة من أجل أن ينجحه في الاختبار، فهذا لا شك أنه لا يجوز دفع الرشوة، ولا أخذها، ولا الوساطة فيها، أما الهدية: فهو مال تعطيه لأحد من باب العرفان بالجميل أو من باب الإحسان عليه، أو من باب معرفة فضله أو ما أشبه ذلك، كأن تعطي أستاذاً سبق أن درسك، ولكنه الآن لا يدرسك فتعطيه هدية عرفاناً بفضله وجميله -مثلاً-. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 41 العدل بين الزوجات السؤال يقول: أنا امرأة زوجي لا يعدل، يعطي زوجته الأخرى حقها في اليوم، وإذا أراد أن يسافر أخذني وتركها، وهو يجبرني على الذهاب، وأنا أخاف أن أكسب إثماً بسبب الذهاب معه، أو أنه ترك ليلتها هل أكسب إثماً في ذلك، وماذا أفعل في المشاكل التي تحدثُ لي بسبب هذا؟ الجواب نعم كونك امرأة منصفة وعادلة ولا ترضين بالظلم، هذا - إن شاء ­الله - دليلٌ على توفيق الله تعالى لك، ونسأل الله تعالى أن يبارك لك في زوجك وفي أولادك، ويرزقك السعادة في دنياك وأخراك، فهذا من العدل كون المرأة لا تقبل أن يظلم زوجها المرأة الأخرى لصالحها هي، فعليها أن تنصحه في ذلك وتبين له الحكم الشرعي، وتستفصل منه وتسأله ما هو السبب فيما جرى؟ وتطلب منه أن يكون عادلاً مع زوجته الأخرى، والزوج عليه أن يخاف الله تعالى ويعدل بين زوجاته، فإن كان لا يستطيع العدل فإنه يعوض زوجته الأخرى بما يمكن أن يعوضها به مما يرضيها عنه، ويجعله يتصرف وزوجته الأخرى راضيةٌ عنه غير غاضبة عليه. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 42 الشعور بالإحباط السؤال يقول: سمعت تقريراً لبعض الغربيين يتحدث عن الأصوليين -كما عبّر عنهم- وعن الشريعة، وماذا سيكون مستقبلها، وكان تفصيله مقروناً بدلائل ملموسة فشعرت بإحباط، لأني لم أعرف ما هو المطلوب منا لحماية شريعتنا من العدوان الظاهر بأسرع ما يمكن؟ الجواب لا يجوز أن تشعر بإحباط أبداً. كيف تشعر بإحباط وأنت ترى آيات الله تعالى بعينيك؟ قبل سنوات بسيطة كان هناك دولة ضخمة جداً تنافس أقوى دولة في العالم -الاتحاد السوفيتي، وكنا- -وأنا واحد من هؤلاء- نتصور أن هذه الدولة راسخة وسوف يمر عليها سنين طويلة وهي بقوتها، ولكن الله تعالى هدَّم هذه الدولة وهدّ أركانها خلال مدة وجيزة، حتى أصبحنا الآن نقول: ما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي وانتهى كل شيء، فأنت ترى هذه الأدلة ظاهرة أمام عينيك، فينبغي أن يكون عندك ثقة بالله، ومعرفة بأن كل شيء يقف في طريق الإسلام؛ سوف يرسل الله عليه سيلاً يجرفه ويزيله، لكن إذا وجد المسلمون الصادقون المخلصون. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 43 ترك الصيام السؤال يقول: أنا بلغت سن الخامسة عشرة سنة (1392هـ) حسب السجل المدني، ولكن لم أصم الصيام الحقيقي إلا من بداية سنة (1400هـ) ، أي: عندما أصبحت سني ثلاثاً وعشرين، هل يترتب علي القضاء؟ الجواب أولاً: البلوغ يكون بأحد أمور: أولها: الإنزال، إنزال المني سواء في اليقظة أم في المنام. الثاني: إنبات شعر العانة على القبل. الثالث: بلوغ خمس عشرة سنة، فإذا وجدت أحد هذه العلامات الثلاث بلغ الإنسان، وتزيد الأنثى خصلة رابعة وهي الحيض، فإذا حاضت بلغت، ولو كانت بنت تسع سنين، فمن بلغ وجب عليه الصيام، وإذا لم يصم وجب عليه القضاء. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 44 النية في الصيام السؤال إذا لم يعلم أن هذا اليوم رمضان إلا في الساعة التاسعة صباحاً ولكنه لم يتناول شيئاً منذ طلوع الفجر ثم أمسك؟ الجواب هذا إذا كان لم ينوِ الصيام أيضاً -لم يبيت نية الصيام فعليه القضاء -أيضاً- لأن صوم الفرض لا بد من تبييت نيته من الليل، ولو من جزء قليل من الليل. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 45 الأكل والشرب وقت الأذان السؤال ما حكم تناول الأكل والشرب والمؤذن يؤذن لصلاة الفجر؟ الجواب إذا كان المؤذن يؤذن على الوقت فعلى الإنسان أن يمسك عن الأكل والشرب بمجرد ما يسمع الأذان، إذ كان الأذان علامة على طلوع الفجر، والله تعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] . الجزء: 162 ¦ الصفحة: 46 قضاء صوم الفريضة في شعبان السؤال يقول: عليَّ خمسة أيام من رمضان الماضي، وصمت في شهر شعبان الماضي آخر أربعة أيام، ولم أتمكن من اليوم الخامس هل علي شيء في ذلك؟ وهل الصيام في شعبان فيه شيء؟ الجواب ما دام أن الصيام قضاء فلا شيء فيه، وكذلك اليوم الذي بقي عليك يجب عليك قضاؤه بعد أن تصوم شهر رمضان، ويرى كثير من الفقهاء أن عليك مع القضاء إطعام مسكين عن هذا اليوم. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 47 الكرم والمباشرة على الناس السؤال يقول: هل الذي إذا كان مع الناس يشتري لهم ما يحتاجون، أي ما يسمى بالمباشرة يباشر عليهم هل هذا كرم أم أنه تبذير في الأموال؟ الجواب هذا شيء حسن، وهو من الكرم المحمود والمحبوب، إكرامك لزميلك وأخيك وضيفك، وشراؤك له ما يحتاجه هذا من الكرم. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 48 إفطار أول يوم من رمضان ظناً أنه شعبان السؤال يقول: بعض منا قد أفطر الساعة السابعة صباحاً، إذ لم يعلم إلا بعد أن أكل، ثم أمسك في أول يوم من رمضان؟ الجواب هذا عليه أن يقضي ذلك اليوم، بعد أن يفطر في شوال إن شاء الله وبعده يقضي ذلك اليوم الذي هو اليوم الأول من رمضان. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 49 مصدر أخبار المسلمين السؤال يقول: قد عرفنا وسائل الأعلام وحقيقتها وأهدافها، وأساليبها لإضلال الناس، وصدهم عن دينهم، وحال إعلامنا كما قال الشاعر: إعلام هذا العصر شرٌ ظاهر فعلى يديه تزور الأخبار وعلى يديه تباح كل رذيلةٍ وعلى يديه تشوه الأفكار وبه تُشبُّ النار يوقد جمرها وبه يثار من الشكوك غبار فما هو المصدر الذي يمكن أن نتلقى منه أخبار المسلمين؟ الجواب في الواقع أنه ليس هناك إلا القليل من المصادر الموثوقة من الصحف الإسلامية كالإصلاح والمجتمع والبيان وبعض الصحف الإسلامية الموجودة هنا وهناك على أنها قليلة، لكن هناك بعض الشر أهون من بعض، فبعض المصادر يمكن الاستفادة منها سواء كانت مصادر إذاعية أم صحفية، وإن كان فيها ما فيها. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 50 صحة قطع المعونات عن الجبهة في الجزائر السؤال هل صحيح ما نشر في وسائل الإعلام حول المنظمات التي قطعت دولة الروافض معونتها عنها، ودست اسم جبهة الإنقاذ ضمن تلك المنظمات التي قطعت عنها الإعانة حيث يعتقد القارئ أن تلك الجبهة كانت تتلقى الدعم من الشيعة؟ الجواب الصحيح أن الجبهة لم تكن تتلقى الدعم من أحد لا من الشيعة ولا من أهل السنة، ولا من إيران ولا من غير إيران، بل إن الجبهة الإسلامية للإنقاذ رفضت حتى إعانات الحكومة الجزائرية، فلما دفعت حكومة الجزائر إعانات تدفعها للأحزاب الأخرى، أعلنت الجبهة رفضها، وقالت: هذه أموال الشعب، ونحن لا نحتاجها، وكانت تعتمد على أموال الناس، على أموال المنتسبين إليها، مع أن كثيراً منهم لم يكونوا من الأغنياء الكبار، ولكنهم كان الواحد منهم يقتطع جزءاً من رغيفه ليبذله في سبيل الله تعالى، وفي الدعوة إلى الله. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 51 الجلوس بعد الفجر إلى طلوع الشمس السؤال يقول: نرجو توضيح صحة الحديث القائل: {من جلس في مصلاه بعد صلاة الفجر يذكر الله تعالى، حتى تطلع الشمس قدر رمح، وصلى ركعتين؛ كان كأجر حجة وعمرة تامتين تامتين} . الجواب هذا حديث صحيح , وقد جاءت في ذلك أحاديث عدة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى الحديث: أن يجلس الإنسان في المسجد بعد صلاة الفجر مع الجماعة حتى ترتفع الشمس قدر رمح أي: بعد طلوع الشمس بنحو عشر دقائق إلى ربع ساعة، ثم يصلي ركعتين. هذا الحديث في الأصل: فيمن صلى الفجر في جماعة لكن يرجى أن المرأة إذا صلت الفجر في وقتها، ثم جلست في مصلاها تذكر الله تعالى وتدعوه، فإنه يرجى أن يكتب الله تعالى لها أجر ما نوت واحتسبت. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 52 التبرعات لصالح الجبهة الإسلامية في الجزائر السؤال هل جمع التبرعات للجبهة الإسلامية في الجزائر، يمكن أن يتم من هنا، وهل مكتبكم يستقبل ذلك؟ الجواب دعم المسلمين في كل مكان أمرٌ ممكن ومطلوب، وعلى المسلمين أن يساعدوا إخوانهم ليس في الجزائر فحسب، بل في كل بلاد الدنيا، ويشرفني أنا وغيري من طلبة العلم أن نكون وسطاء بينكم وبين من تريدون إيصال أموالكم إليهم من المسلمين في هذا البلد، أو في أفغانستان أو في إرتيريا أو في أي مكان آخر من الأرض. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 53 أخذ مال خفية السؤال يقول: كنت آخذ المال من جدي دون علمه؛ لأنه لا يبصر، وقد توفي، وأريد أن أرجع هذا المبلغ، فماذا أعمل، ولا أدري كم المبلغ؟ الجواب عليك أن تقدر هذا المبلغ، ثم تدفعه إلى ورثة جدك. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 54 انتحار الفتاة اليمنية السؤال هذا تعليق على قصة الفتاة اليمنية التي ذكرت أمرها، وما يتعلق بموضوع الانتحار. الجواب الانتحار لا شك أنه لا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء:29-30] وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: {عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة} فالانتحار أي قتل النفس: من كبائر الذنوب، ولكنه ليس كفر، ولهذا فإن هذا العمل الذي قامت به تلك الفتاة -لا شك- أنه عمل محرم ولا يجوز، ولا يسوِّغ ذلك أو يبرره أن تكون تعيش في ظروف صعبة، فإن من توكل على الله كفاه، ومن استعان بالله أعانه، ومن استغاث بالله أغاثه، ومن عرف الله تعالى حق معرفته؛ هان عليه ما يلقاه في هذه الدنيا، ومع ذلك فإننا نسأل الله تعالى أن يكفر عنها ذنبها، ويغفر لها إنه على كل شيء قدير. الجزء: 162 ¦ الصفحة: 55 العمالة التي تؤخذ مقابل الكفالة السؤال يقول: ما رأي الدين في بعض الإخوة الذين يحضرون عمالاً من الدول العربية الإسلامية بفيزةٍ على كفالته، ويتركه يعمل في مكان آخر، ويأخذ منه كل شهر مبلغ مائتين أو ثلاثمائة ريال سعودي، وإذا تأخر العامل في الدفع له يهدده، ويقول له: سوف أشتكيك، وأجعلك تغادر البلاد؟ الجواب قضية العمال، قضية خطيرة، وكثيرٌ من الناس يظلمون هؤلاء العمال، ويسرقون جهدهم، ولا يعطونهم مرتباتهم، أو يفرضون عليهم عطاءً شهرياً لا يتناسب مع حجم ما يحصلون عليه ولا يستطيعون دفعه، فقد يكون العامل -أصلاً- لا يحصل إلا على أجرٍ بسيط، ويطلب منه رب العمل مبلغاً ضخماً ثمانمائة ريال أو أكثر من ذلك مثلاً، وقد يطلب منه الكتابة في أشياء وأوراق غير صحيحة ليحاجه بها عند الجهات الحكومية، فعلى هؤلاء أن يتقوا الله تعالى، ولا يأخذوا مالاً من حرام، فإن الله تعالى لا يبارك في هذا، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {أيما لحم نبت على سحتٍ فالنار أولى به} . الجزء: 162 ¦ الصفحة: 56 طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب الطباع البشرية التي جبلت وفطرت عليها النساء كثيرة جداً منها: الجمال وحب الاستطلاع والكلام وحب التميز، وغيرها. ولكن هذه الطباع تدور بين المحمود والمذموم (السلب والإيجاب) . الجزء: 163 ¦ الصفحة: 1 أهمية معرفة الإنسان بطبعه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: هذه الجلسة أيتها الأخوات هي للإجابة على بعض الأسئلة والاستفسارات الواردة من الطالبات في هذه الدار، ولكنني أقدم بين يدي الإجابة على تلك الأسئلة بحديثٍ عابر، أحببت أن يتناول قضية مهمة، ألا وهي (طبيعة المرأة بين السلب والإيجاب) . ومن المهم جداً للإنسان أن يعرف طبيعته ما هي، سواء قصدنا بطبيعة المرأة ما فطرت وخلقت وجبلت عليه كل النساء من الطبائع الفطرية التي لا مخلص لها منها، فإن الإنسان مجبول على طبائع وخصائص، لا سبيل له إلى التخلص منها. فمثلاً: غريزة حب الاطلاع أو حب المعرفة أو حب الاستطلاع هذه طبيعة موجودة في كل إنسان، ذكراً أو أنثى، كبيراً أو صغيراً، فهو يحب أن يستطلع ويعرف حقائق الأمور، ولكن هناك أيضاً طبائع خاصة ببعض الناس دون بعض، فتجدين بعض النساء -مثلاً- شديدة الغضب سريعة الانفعال، ما إن يحصل لها موقف، حتى تفور أعصابها وتنفعل، وتحطم ما أمامها، فإن من المهم أن تعرف المرأة طبيعتها تلك. وتجدين امرأة أخرى حساسة، سريعة التأثر بكل شيء، حتى نسمة الهواء تجرحها، حتى الكلمة الهادئة قد تؤثر فيها، فتكون دائماً وأبداً تعيش في قلق وهم وتفكير، فلانة قالت، وفلانة قالت، ماذا أرادت هذه؟ وماذا أرادت هذه؟ فتظل تعاني الآلام الشديدة، وقد تشرك غيرها معها في هذه الآلام بسبب الحساسية الموجودة عندها والتي تجعلها تفسر أفعال الآخرين وأقولهم بخلاف الواقع، فعلى أي حال لابد أن تعرف المرأة طبيعتها، سواء أردنا الطبيعة العامة التي عند كل امرأة، أو الطبيعة الخاصة التي تميز بعض النساء عن بعض. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 2 الجمال بين السلب والإيجاب وأضرب بعض الأمثلة لهذه الطبيعة: فمثلاً: من الأشياء التي جبلت عليها المرأة: قضية الجمال، بل هذه القضية موجودة عند الإنسان، فإن الإنسان بطبيعته يحب الجمال، فإذا رأى المشاهد الجميلة، مشاهد الطبيعة، الأشجار الخضراء، والأزهار، والبحار، والأنهار، وخرير المياه، ورأى هذه المظاهر والأشكال والطيور المغردة، فإنه يفرح ويسر بذلك، ولهذا جرت عادة الناس أن يذهبوا إلى الأماكن التي توجد فيها هذه المظاهر للاصطياف والتفرج والنظر إليها، فهذه طبيعة لا يلام عليها أحد فلا يلام الإنسان على حبه للجمال، بل إن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين في الدار الآخرة بألوان من الملذات في الجنة، منها: التلذذ بالنظر إلى الجمال، سواء جمال الجنة وما جعل الله تعالى فيها من الأنهار والأشجار وغيرها، أو التلذذ بالنظر إلى وجه الله الكريم سبحانه وتعالى في جنة عدن قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] . فيتلذذ المؤمنون في الجنة بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم ذكورهم وإناثهم، فينظرون إلى وجه الله تعالى، فلا يجدون شيئاً من النعيم أحسن ولا ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم، لأنه فيه الكمال والجمال والجلال، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: {إن الله تعالى جميل يحب الجمال} . فالشرع ما جاء يعارض الجمال، ويقول: لماذا يحب الإنسان الجمال؟ لا، الشرع لا يلوم الإنسان، لأن الذي خلق الإنسان هو الذي أنزله، ومن الطبيعي أن الله يعلم من خلق: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فكون الإنسان رجلاً أو امرأة يحب الأشياء الجميلة، هذا أمر فطري لا يلام عليه الإنسان، لكن هذه الطبيعة يمكن أن تتحول إلى طبيعة إيجابية، ويمكن أن تتحول إلى طبيعة سلبية. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 3 الاهتمام الإيجابي بالجمال الجانب الآخر: هو الجانب الإيجابي. فأن الله عز وجل فطر المرأة على قدر من الاهتمام بالجمال لا تلام عليه، وكون الإنسان يهتم بمظهره، بشكله، بثيابه، بنظافته، في بدنه، في حذائه، في بيته، في دروسه، في أي شيء، يهتم بالنظافة فهذا مطلب شرعي، ولا يلام عليه العبد، وليس صحيحاً. ما يقع في أذهان كثير من الفتيات أن الفتاة الملتزمة المتدينة يجب أن تكون بعيدة عن العناية بشكلها، وهذا خطأ، بالعكس كون الفتاة المتدينة تهتم بمظهرها بقدر معقول هذا هو الحل الشرعي، لأننا نريد أن نقول لكل البنات: إن الدين لا يمنع من العناية بالمظهر، ولا يمنع من الاهتمام بالجمال بالقدر المعقول، ولا يمنع من النظافة، بل هو يحث على ذلك. فمن المهم أن تكون الفتاة الطيبة الداعية إلى الله أو المنتسبة إلى دار من ديار القرآن الكريم أو المنتسبة إلى جمعية من جمعيات التوعية الإسلامية في المدرسة، أو ما أشبه ذلك، أن تكون في مظهرها نموذجاً طيباً يدعو إلى الاعتدال، وليست العناية تلك التي جعلت وجهها كأنه لوحة زيتية، ملون بالأصباغ من هنا ومن هناك، حتى اختفت بشرتها الحقيقية، واختفى الجمال الحقيقي وراء هذه الأصباغ الوهمية المصنوعة المتكلفة، لا، ولكن فيها مع الجمال الفطري قدر من العناية بالجمال، وقدر من العناية بالنظافة، وقدر من العناية بالمظهر في الثياب، في الحذاء، في الكتب، في البدن، في كل شيء، يجعلها قدوة ونموذجاً للآخرين، بحيث إذا رآها الناس غير المستقيمين قالوا: إن الدين لا يمنع من الاهتمام بالجمال، وفي نفس الوقت الدين لا يأمر بالإفراط والمبالغة في هذا؛ بل الدين يدعو إلى التوسط والاعتدال؛ ومن الخطأ أن تجدي فتاة متدينة صالحة ترى أن من كمال تدينها والتزامها ألَّا تهتم بشعرها، وألَّا تهتم بثوبها، وألَّا تهتم بحذائها، وألَّا تهتم ببدنها، وألَّا تهتم بشيء من هذا الأمر، ترى أن الاهتمام بهذا الأمر كله من القشور، والواقع أن فيه قدراً لا يلام عليه. الإنسان بفطرته يحب الجمال، والتي تتنكر لهذا الأمر في الواقع تتنكر للفطرة، لكن التي تبالغ فيه أيضاً تظلم نفسها وتصبح مثل الذي يهتم بالقشر وينسى اللباب. فحب الجمال فطرة عند كل إنسان رجلاً أو امرأة، هذا الحب للجمال يمكن أن يتحول إلى صورة سلبية كما أسلفت، فتاة كل همها العناية بمظهرها، لا تهتم بثقافة، ولا بعلم، ولا بدعوة، ولا بخلق، ولا بشيء، فهذا خطأ، وبالمقابل تجدين فتاةً أخرى قد تهمل هذا الأمر، وتتنكر للفطرة بأية حجة من الحجج، فهذا أيضاً خطأ، والدين يدعو إلى التوسط والاعتدال: أن تهتم الفتاة بمظهرها بقدر معقول، وأن يكون اهتمامها ثانياً بهذا المظهر لزوجها وفي مجالاتها الخاصة، فأما إذا خرجت لمجالات الرجال، كما إذا اضطرت للخروج إلى السوق مثلاً أو غير ذلك مع العناية بالضوابط والقيود الشرعية إلا أنها لا تهتم بمظهرها الاهتمام الذي يلفت إليها أنظار الآخرين، لأنه لا يهمها أن تلفت أنظارهم، بل يهمها ألا تفتن الناس؛ لأنها إن فتنتهم سببت الإثم لهم ولها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 4 الاهتمام السلبي بالجمال نأخذ مثالاً في كون الجمال يمكن أن يتحول إلى شيء سلبي: تجدين أن بعض الفتيات يصبح هم الجمال عندها هو كل شيء، حتى لو حسبت الوقت التي تقضيه الفتاة في التجمل وصبغ وجهها بالأصباغ، وتسريح الشعر، وتغيير الثياب وتبديلها وتزيينها، لربما وجدت أنها تصرف نصف الوقت أو أكثر على العناية بالجمال، في مظهرها، في شكلها، في وجهها، في شعرها، في ثيابها، في كل شيء، وربما بسبب انشغالها بالجمال الشكلي هذا، أغفلت الجمال الحقيقي، جمال الروح، جمال الخلق، جمال العقل، جمال العلم، فإذا فتشت هذه الفتاة هل عندها علم وثقافة؟ ما وجدت شيئاً، وهل عندها معرفة بشئون النساء؟ ما وجدت شيئاً وهل عندها أخلاق فاضلة؟ لا، وهل عندها فصاحة وبلاغة وبيان؟ لا، إنما كل همها تركز على العناية بالجمال الظاهر، فأجحفت بسبب الانشغال به في الجمال الحقيقي المهم، فهي تكون مثلما لو جاءت امرأة أو جاء رجل بكوب مصنوع من ذهب، أو من برونز، أو من كريستال، أو أي معدن من المعادن، ثم وضع في هذا الكوب شيئاً من الخمر أو من الماء الكدر، يكون المضمون سيئاً، والصورة جيدة في الظاهر. ماذا يفيدنا -إذا كان مضمون الكوب الذي بداخله ماء كدر أو خمر أو ما أشبه ذلك- أن يكون هذا الكوب جميلاً، وما في داخله خبيثاً؟ لا ينفع شيئاً، فكذلك المرأة إذا كان همها العناية بالجمال الظاهر مع إهمال الجمال الباطن صارت هكذا، أي كما يقال: ديكور في الظاهر، لكن في الحقيقة خواء لا شيء فيه، وهذه مشكلة. فالإفراط في العناية بالجمال هو صورة سلبية بهذا الشكل. من الإفراط في العناية بالجمال بصورة سلبية أيضاً: أنكِ قد تجدين بعض النساء تهتم بالعناية بجمالها لغير ما خلقه الله تعالى له، لأن الله تعالى خلق الجمال في المرأة حتى يتمتع به من أحلها الله له، ولذلك سميت حليلة زوجها، لكن قد تجدين كثيراً من النساء تهتم بالجمال والمظهر والشكل، ثم تخرج بعد ذلك إلى السوق حتى تلفت إليها نظر الرجال والغادين والرائحين والباعة والمشترين وغيرها، أو حتى تخرج إلى حفل زواج، فتلفت أنظار النساء الأخريات حتى يتحدثن ويتهامسن ويشرن إلى فلانة، فهذه مشكلة؛ لأن الجمال حينئذٍ في غير ما خلقه الله له، وربما تكون هذه المرأة نفسها حين تكون متزوجة إذا كانت في بيتها وعند زوجها لا تهتم بجمالها مثلما تهتم به إذا كانت خارجة للسوق أو إلبى حفل زواج أو إلى مناسبة، فهذا جانب سلبي في العناية بالجمال. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 5 حب الاستطلاع بين السلب والإيجاب خذي مثالاً آخر على قضية الفطرة والطبيعة الموجودة: قضية حب الاستطلاع: كل إنسان يحب أن يطلع ما هو كذا وما هو كذا؟ وماذا فعلت فلانة؟ وماذا قالت علانة؟ وما هو الشيء الذي يحصل في المكان الفلاني؟ كل إنسان يحب هذا. وحب الاستطلاع موجود عند المرأة بشكل أكبر، فمن الممكن أن يكون سلبياً وذلك أنك تجدين بعض النساء تدس أنفها فيما لا يعنيها، فتحاول أن تتدخل في أمور الناس وشئونهم وفي قضايا الأسر والعوائل، فلانة فعلت وفلانة لم تفعل، وفلانة فيها كذا، والبيت الفلاني حصل فيه كذا، والمناسبة الفلانية، والمدرسة الفلانية، وتظل تهتم بتتبع أخبار الناس وأحوال الناس وقصصهم وتذكرها في المجالس، حتى إنك تجدها كأنها وكالة أنباء داخل هذا المجتمع، تجمع الأخبار والمعلومات والإشاعات والصدق والكذب والحق والباطل، فإذا حضرت في مجلس أفاضت كل ما عندها وتكلمت به عند الناس، ولكن حب الاستطلاع هذا وُظِّفَ ووضع في غير موضعه. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 6 حب الاستطلاع المذموم أما الأشياء التي لا تنفعها مثل أخبار الناس والغادين والرائحين، وفلانة تزوجت، وفلانة أنجبت، وفلانة توظفت، وفلانة فيها، وفلانة ما فيها، فهي لا تهتم بهذا، وإن كان هناك قدر معقول من الأخبار لا يلام أحد عليه، مثل: كون واحدة تقول: زميلتي تخرجت، وزميلتي أنجبت، هذا أمر عادي، لا أحد يقول: لماذا هذا؟ لكن أحياناً يزيد عند بعض النساء حتى يصبح كل همها هو متابعة أخبار النساء، وكأنها موكلة بما فعلت النساء وما فعل الناس رجالاً ونساء، ولذلك تجدين -مثلاً- قضية الإشاعات في المجتمع، عندما تقع أية قضية ولو كانت تافهة في المجتمع أو قضية شخصية أو بيتية يدور حولها مئات بل ألوف من الإشاعات، كلها باطلة وكاذبة؛ لأن بعض هؤلاء النساء عندهن حب الاستطلاع فتسأل وتسأل، وعندما لا تحصل على معلومات تختلق أشياء من عندها، وتقول: يمكن كذا، ويمكن كذا. مثلاً: لو فرضنا أن مدرسة في إحدى المدارس استقالت من هذا التدريس في المدرسة، وهناك امرأة عندها حب استطلاع في غير محله فإنها سوف تسأل: لماذا استقالت فلانة من التدريس؟ لماذا؟ ولماذا؟ عندما تجلس مع أناس تسأل: لماذا استقالت وهي مدرّسة جيدة ومحبوبة عند الطالبات؟ ولماذا تستقيل؟ فما وجدت أحد يجيبها إلا بجواب عادي وهو أنها تعبت، وعندها أطفال، وربما زوجها ألح عليها، والمهم أنها استقالت، لكن ما أقنعها هذا الجواب؛ فبدأت تخلق إشاعات، وقالت: والله ما ارتاحت لمديرة المدرسة، يمكن الموجهة، يمكن عليها ملاحظات، يمكن يمكن، ثم تنشر هذه الإشاعات الباطلة بين الناس، فتتحول عند الناس إلى حقائق بعدما كانت ظنوناً وأوهاماً و (يمكن) صارت (أكيد) عند ناس آخرين، فهذا جانب من قضية حب الاستطلاع، إذا وظفتها المرأة في غير مصلحة. لكن إذا كانت المرأة تعرف مصلحتها جعلت حب الاستطلاع اهتماماً بدينها وخلقها، بل وبأمورها الدنيوية من أمورها الشخصية أو البيتية أو العائلية أو ما أشبه ذلك. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 7 حب الاستطلاع المحمود ويمكن أن يصرف حب الاستطلاع الموجود عند المرأة بطريقة صحيحة، يصرف عن طريق أن الفتاة تحب أن تعرف دينها، تحب أن تتطلع على العلوم النافعة، تحب أن تقرأ في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تقرأ الكتب المفيدة، تتعلم عقيدتها، تعرف كيف تعبد ربها، بل تعرف حتى أمور دنياها، تعرف ما يتعلق بأمور الطبخ وبأمور المعيشة وبأمور الجمال الذي يخصها، بأمور البيت وتنظيمه، وبأمور الصحة، وبأمور تربية الأطفال، وبأمور العلاقات إلى غير ذلك من القضايا الضرورية التي تحتاج إليها المرأة في حياتها العملية، فتكون المرأة صرفت حب الاستطلاع الفطري الغريزي -الذي يجعلها دائماً تحب أن تطلع- وصرفته فيما ينفعها، فصار كل ما تقرأ أو تسمع أو تسأل إنما هو عن أشياء تستفيد منها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 8 العاطفة بين السلب والإيحاب المرأة عاطفية، وإذا كان الرجل يتميز بأنه أثقل عقلاً وأبطأ في اتخاذ القرار، وإذا أراد شيئاً فإن يفكر فيه ألف مرة قبل أن يفعله، فالمرأة عاطفية؛ من الممكن أن الإنسان يحرك عاطفتها فتتخذ قراراً بأسرع وقت بمجرد أن تسمع كلاماً طيباً حلواً معسولاً، تجدين أنها تستجيب لذلك، وتغير قناعتها بسرعة، وتوافق على هذا الأمر بكل سهولة، فالمرأة عاطفية. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 9 العاطفة السلبية لكن لو تصورنا أن هذه العاطفة الموجودة عند المرأة صرفت في غير مصرفها الصحيح، فصارت مثلاً هذه الفتاة تشغل عواطفها مع زميلتها، فتجدين أنها تعيش ما يسمى بالتعلق أو الإعجاب الموجود مع الأسف في كثير من المدارس، وربما انتقل إلى بعض الدور والمؤسسات الخيرية بصورة آلية، فتجدين مثلاً فتاة تتعلق بأخرى، تمشي معها، وتجلس معها، وتقوم حيث قامت، وتقعد حيث قعدت، وتقلدها في حركاتها وسكناتها وطريقة الكلام، بل وفي ثيابها، بل وفي كل شيء، تمشي معها حذو القدة بالقدة، حتى تعتبر أنها مثلها الأعلى، وربما إذا ذهبت كل واحدة منهن إلى البيت شعرت بالوله عليها، فصارت تتصل بالهاتف، وربما تجلس معها في الهاتف ساعات تتحدث معها أحاديث عاطفية كثيرة، وربما تصل الأمور إلى نتائج سلبية وعواقب غير حميدة، ومن الممكن أن بعض النساء أو بعض الفتيات تستر هذا بشيء اسمه الحب في الله، وهذا فرق بينه وبين الحب في الله، هذه عواطف بشرية لكنها زادت، ما وجدت المصرف الصحيح، ولا وجدت التوجيه المناسب، ووجدت فتاة استجابت لهواها وأتبعت نفسها هواها، فلما شعرت بميلٍ إلى فتاة أخرى؛ لأنها ظريفة أو خفيفة أو حسنة الشكل، أصبحت تكثر من الجلوس معها وتمازحها، وتتحدث معها وتقترب منها وتقلدها، فزادت الطين بلة، وظلمت نفسها بهذه الطريقة، وربما ضرت نفسها، وضرت غيرها، يقول لها الشيطان: إن هذه المرأة الأخرى تبادلك نفس الشعور، انظري إلى نظرات عينيها، تدل على أنها تشعر نحوك بشعور مماثل، ولكنها قد لا تبوح به ولا تتكلم به، فتظل الفتاة مشدودة إلى فتاة أخرى بما يسمينه بالإعجاب أو التعلق، الذي يجعلها أحياناً تصلي وتسجد وتقول: ربي اغفر لي وتقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، وليس في قلبها إلا صورة الفتاة التي أعجبت بها. هنا الخطورة في قضية تحويل العاطفة إلى طريق غير شرعي، فما بالكِ إذا كان هذا التعلق ليس بفتاة مثلها؟! قد يكون التعلق بشاب مثلاً، كم يكون له من الأضرار؟ وكم وقفت وعرفت كثيراً من الشباب يخادعون الفتيات مباشرة أو عن طريق الهاتف، يتصل بها بالهاتف فيخدعها، ويزين لها أنه سوف يتزوجها وأنه قد رآها وأعجب بها، ويظل يضحك بها، وهي في البداية تعتبر أنه مجرد عبث وتسلية وقضاء وقت فراغ وإن جرت معه، وهو يجرها شيئاً فشيئاً، ويسجل عليها هذه المكالمات حتى يوقعها، فإذا وجد يوماً من الأيام أنها تحاول أن تنفلت منه أو ترفض، هددها بأنها إذا لم تستجب ولم ترض بالمقابلة فإنه سوف يفضحها عند أهلها، فيظل يجرها من ورطة إلى ورطة أخرى، حتى يوقعها في الحرام والعياذ بالله، وكل ذلك حرام بحد ذاته، وكل ذلك قد تم بهذه الأساليب والوسائل والطرق التدريجية الخطيرة التي رسمها له الشيطان. وكم من فتاة تكون قضية الاتصال بالهاتف عندها قضية عادية، كل من اتصل أجابت عليه، واسترسلت معه وتكلمت معه، قد يتصل فلان يسأل عن أخيها فتقول: غير موجود، من الذي يريده؟ فيبدأ يسألها متى يأتي فلان؟ ومتى يذهب؟ هكذا تكون فرصة للكلام والاسترسال والأمور التي لا حاجة إليها ولا فائدة منها، وبالتالي تظل الفتاة قلبها مشتت معلق، كل من اتصل همت أن تحدثه، وتمنت أن تسترسل معه في الحديث، فصار من جراء ذلك أضرار كبيرة، تمزق قلب هذه الفتاة، ما عادت تصلح لشيء، لأن عاطفتها توزعت هنا وهناك بدون ضابط، ومع الأسف الشديد أن كثيراً من الفتيات بسبب أنهن عاطفيات، من السهل أن يستدرجهن بعض الذئاب، وأنا أعرف قصصاً عديدة وقفت عليها، وربما تشتكي لي بعض النساء أن هناك نساء يستدرجهن بعض الشباب، ويضحكون عليهن حتى إنهم قد يأخذون منهن أموالهن ورواتبهن إن كان لهن رواتب، ويضحكون بعقولهن، ويمنونهن بالأماني الباطلة، وفي النهاية يذهب ويضحك، وربما صار يتكلم في المجالس، ويفتخر بأنه ضحك على فلانة وعلانة ويفضحهن. بل إنني أعرف بعض الفتيات إذا مناها الرجل بالزواج، وأنه سوف يخطبها، أصبحت حريصة على ألاَّ تسخطه بأي حال من الأحوال، لأنه لو سخط عليها ما تقبل منها شيئاً، وربما رفض الخطبة التي وعدها بها، فإذا طلب منها شيئاً وافقت من أجل ألا يسخط، ولو غضب عليها فربما لا يتقدم. فليرض حتى لو تطلب رضاه أن تتكلم معه بكلام بذيء مثلاً، أو تسترسل معه، أو تمازحه، أو تضاحكه، أو ربما تقابله، أو تكتب له رسائل، أو ما أشبه ذلك. والواقع أن أي شاب خاصة بمجتمعاتنا يجد أن الفتاة تتصل به، ولا يقبل أن يتزوج بها؛ لأنه واضع في اعتباره أنه لو تزوج بها فسوف تتصل بغيره، وأن التي قبلت أن تحدثه -وهي لا تعرفه إلا من خلال أسلاك الهاتف- قد تقبل أن تتحدث مع غيره، وأن التي استطاع هو أن يخدعها قد يوجد من هو أذكى منه، فيخدعها بعد زواجه منها، ولذلك لن يقبل بها، ولو فرض جدلاً وأنه تزوج بها، فهذا الزواج سوف يكون تعيساً، وميصره إلى الفشل لماذا؟ لأنه سوف يظل يشك فيها وكلما رآها تكلم ولو كانت تكلم أمها، قال: يمكن أنها تكلم واحداً، ولما حضرت قلبت المكالمة أو ما أشبه ذلك، وإذا خرج ظن بها، حتى لو كانت تائبة نقية تقية صائمة فإنه يظل يعيرها ليل نهار: تذكرين يوم كذا، وتذكرين كذا وكذا، فتكون هذه مسماراً في نعش الحياة الزوجية، كل ذلك بسبب عواطف عند هذه الفتاة، ما عرفت كيف تصرفها. اصرفي عاطفتك في محبة الله، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبة الخير وأهله، ومحبة الأعمال الصالحة، ومحبة الإحسان للناس، ولهذا انظري إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن أنس رضي الله عنه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان؛ أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار} فكل هذه الأشياء الثلاثة مربوطة بقضية العاطفة، محبة الله والرسول، محبة الإسلام، محبة الناس من أجل الدين، محبةً أخويةً دينيةً شرعيةً أخويةً، تحبين فلانة لأنها دينة صينة قائمة عابدة داعية، وليس محبتك لها لأنها امرأة جميلة الشكل أو خفيفة الدم أو ظريفة أو ما أشبه ذلك. لا! إنما هي محبة دينية شرعية لله تعالى وفي الله، ومحبة بحدودة بحدود الشرع، فمحبة الناس لها خانة في القلب، يجب ألا تزيد عنها ولا تتعداها، فالمقصود أن هذه الأشياء الثلاثة التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم كلها تتعلق بالعواطف وبمحبة القلوب. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 10 العاطفة الإيحابية هذه العاطفة عند المرأة ممكن أن تكون إيجابية، وذلك لأن المرأة -مثلاً- سترتبط في البيت مع والديها ومع إخوانها وأخواتها وهؤلاء يحتاجون إلى عاطفة، يحتاجون إلى امرأة سمحة متسامحة متعاونة لينة لطيفة سهلة معهم، بعد ذلك سوف تنتقل إلى بيت الزوجية وعش الزوجية، فالزوج ماذا ينتظر من المرأة؟ ينتظر عواطف، فهو عنده عقل، لكن يريد عاطفة تكمله، كذلك المرأة تكمل الرجل، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء:1] الرجل أصلاً خلقت منه المرأة، خلقت من ضلعه، كما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال في الصحيحين: {إن المرأة خلقت من ضلع} أي: من ضلع آدم، فالمرأة مخلوقة من الرجل. ولذلك فالرجل يحن إلى المرأة، والمرأة تحن إلى الرجل، فهي جزء منه تكمله وهو يكملها أيضاً، فلذلك الرجل عنده عقل يحن إلى عواطف، يريد عاطفة، يريد مثلاً من يملأ عليه حياته، وإذا أوى إلى البيت يخفف عنه الأعباء والمشاكل والهموم التي نزلت به، ووجد الراحة في المنزل مثلاً، فهذه المرأة إذا انتقلت إلى بيت زوجها، أمطرت هذه العواطف في بيتها، وأسعدت زوجها وآنسته، وجعلته ينسى كل همومه، وتجعل عواطفها لأولادها، فصارت تهتم بأولادها، وتعتني بهم وتضمهم وتقبلهم وتحرص عليهم وتضاحكهم وتدللهم، ولا أعني بالدلال الدلال غير المناسب تربوياً، المهم أن تعطيهم عواطف، بحيث ينشأ الطفل نشأة سليمة؛ لأنه وجد الجو والمحضن المناسب، فتكون مناسبة له حينئذٍ، وهكذا يظل المجتمع سليماً. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 11 حب الكلام بين السلب والإيجاب خذي مثالاً آخر: على قضية الطبيعة، وكيف تعرف المرأة طبيعتها، وكيف تتعامل معها: قضية حب الكلام طبيعة ليس عند المرأة فقط، بل عند الإنسان، والإنسان يتميز عن الحيوان بأنه متكلم، ولذلك أهل المنطق يقولون: الإنسان حيوان ناطق، ويسمون الحيوان بالأعجم، لأنه لا يتكلم، فمن ميزة الإنسان أنه متكلم متحدث، له لسان، وامتن الله تعالىعليه بقوله: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1-4] والآية الأخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:8-9] . إذاً: الكلام ميزة امتن الله بها على الإنسان، والمرأة يمكن أن تكون أكثر من الرجل محبةً للكلام، ربما يسميها البعض أحياناً: الثرثرة، لكن لا نوافق على كلمة الثرثرة؛ لأن مجرد حب الكلام ليس بعيب في الواقع، لأن الكلام بعضه حسن وجيد، وبعضه قبيح. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 12 الكلام المذموم لكن إن كان حب الحديث وحب الكلام مصروفاً في أمور أخرى؛ في القيل والقال والنيل من أعراض الناس به في المجالس والتحدث والاسترسال والغيبة والنميمة وما أشبه ذلك، فلا شك أن هذا من الكلام المذموم الذي يكرهه الله تعالى ويبغضه، وبما لا تجد المرأة ما تشتغل به من الخير، لأن الإنسان كما يقال: لا يترك شيئاً إلا بشيء، فطبيعة الإنسان إذا لم تشغل نفسك بالخير شغلتك النفس بالشر، فاللسان مخلوق كي يتحرك، ما خلق للسكوت، مخلوق للكلام، والإنسان قد يسكت بذكر الله والتفكر فيؤجر، وقد يتكلم بذكر الله فيؤجر أيضاً، فاللسان يتحرك، فإذا لم يتحرك في الخير تحرك في الشر، وما أسهل أن تتكلم الفتاة بالخير حتى وهي ذاهبة أو آيبة أو تشتغل بعمل منزلها أو تركب أو تأتي أو تذهب، تقول: سبحان الله، ولا إله إلا الله، والحمد لله، والله أكبر، أستغفر الله وأتوب إليه، رب اغفر لي، وما أشبه ذلك. فتؤجر أو تقرأ شيئاً من القرآن فتؤجر، مع أنه ما عاقها عن عمل، وربما إذا لم تشتغل بهذا شغلتها نفسها بالكلام فيما لا يفيد، لا أقول: بالكلام فيما لا يفيد فقط، بل ربما شغلتها نفسها بالكلام فيما يضر، وفيما يكون عليها، لأن الكلام ثلاثة أنواع هناك كلام يكتبه ملك الحسنات لكِ تؤجرين عليه، وهناك كلام يكتبه عليكِ مثل الغيبة والنميمة والسب والشتم ورفع الصوت والإيذاء والسخرية والكلام الذي يضر الإنسان، فهذا على الإنسان ويحاسب عليه، والنوع الثالث من الكلام: كلام ليس للإنسان وليس عليه، مثل قوله للإنسان: فعلت وأكلت وشربت وما أشبه ذلك من الكلام المباح الذي يكتبه الملك، ثم بعد ذلك يمسح وليس هناك شيء لا يكتب، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] . إذاً: من طبيعة المرأة حب الكلام، لكن حب الكلام ليس عيباً، لأنه قد يكون كلاماً مفيداً، فتؤجر عليه المرأة، وقد يكون كلاماً ضاراً، فتأثم عليه. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 13 الكلام المحمود الممدوح فمثلاً من الكلام المحمود: لا إله إلا الله التي هي مفتاح الجنة، ولا يدخل العبد الجنة إلا إذا كان معه بطاقة مكتوب عليها لا إله إلا الله محمد رسول الله، هذا من الكلام، ومن الكلام بل أفضل الكلام: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {أفضل الكلام أربع، لا يضرك بأيهن بدأت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، والجنة قيعان غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر} {سبحان الله وبحمده من قالها حين يصبح مائة مرة لم ياتي أحد يوم القيامة بما جاء به} . هذا كله كلام، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلام، الدعوة إلى الله كلام، الإحسان إلى الناس كلام، كيف أصبحت يا فلانة؟ وكيف أمسيت وكيف الأحوال؟ وعساك مرتاحة؟ هذا كلام، ولكنه محمود يحبه الله ويرضاه، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الكلمة الطيبة صدقة} كونكِ تتكلمين بكلمة طيبة: إما أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو دعوة، أو إصلاح، أو تطييب خاطر مسلمة، أو سؤال عن حالها، أو أي أمر من الأمور التي فيها خير، أو حتى تعليم المرأة بشيء تحتاجه في دنياها، مثل كونك علمت امرأة كيف تقوم بأمور بيتها، وكيف تربي أولادها، وكيف تخدم زوجها، وكيف تستقبل زوجها، وكيف تعيش حياتها، وكيف تحل مشكلاتها، كيف تعلم، كيف تخيط، كيف تطبخ، كيف كيف، علمتها حتى الأمور الدنيوية، هذا كله صدقات، فإذا لم يكن عندك مال تتصدقين به فتصدقي بهذا الكلام تؤجرين عليه. إذاً: الكلام في حد ذاته ليس مذموماً، وكوننا نقول: إن المرأة تحب الكلام وأنها كثيرة الكلام هو ليس عيباً، لأن الكلام محمود بعضه، فإذا كان كلامها في هذا المحمود فهذا شيء تشكر عليه، وتمدح عليه، وتثاب عليه في الآخرة. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 14 حب التميز بين السلب والإيجاب أخيراً: من طبيعة المرأة حب التميز عن الأخريات تحب أن تتميز بشيء، وتنفرد عن النساء بشيء، فهذا هو حب التميز ويتبعه حب المدح وحب الثناء، وليس بعيب، حتى الرجل وكل إنسان يحب أن يمدح بالخير، لكن هناك فرق بين إنسان قد يعمل الخير، وقد يشتغل بالأعمال الصالحة من أجل أن يمدح، فهذا - والعياذ بالله - ليس له في الآخرة إلا المدح، يقال له في الآخرة: قد جاءك الجزاء في الدنيا، مدحك الناس، فهذا جزاؤك، وليس له في الآخرة من خلاق قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] وبين إنسان آخر قصده الخير، ويعمل لوجه الله وابتغاء مرضاته، ويريد الجنة، ويريد الهرب من الناس، لكن مع ذلك يأتيه المدح من الناس على أعماله الصالحة، فيفرح ويسر بذلك، وقد سأل أبو ذر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يعمل العمل فيمدح به فيفرح بذلك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم {يا أبا ذر تلك عاجل بشرى المؤمن} أي: أن هذه بشارة عاجلة، هذا خير مقدم، ولك عند الله خير وأعظم وأوفر. إن الناس مدحوك في الدنيا على عمل ما عملته من أجلهم، إنما عملته لله، ولكن الناس عرفوه. ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم عرفك الناس فمدحوك به، فهذا خير، ومن طبيعة الإنسان أن يفرح بذلك ويسر به، فالفتاة تحب التميز، وهذا التميز والتفرد منه ما يمكن أن يكون طيباً، ومنه يكون غير طيب، ومنه حسن، ومنه ما هو غير حسن. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 15 حب التميز السلبي لكن كون الفتاة تحب أن تلفت النظر إليها بأي شكل، مثلاً بثيابها، تلفت النظر إليها بزينتها، تلفت النظر إليها بتسريحتها، بأي شئ ربما تقصد أنها تلبس ثوباً مثيراً للسخرية أو تعمل تسريحة للشعر أو قصة للشعر مثيرة للاشمئزاز أو تفعل ألواناً من المكياج والأصباغ مثيرة للضحك، وهي تعرف هذا، ولكن تقول: ما همي هذا، المهم أن ينظر الناس إليها ويذكرها الناس، فتكون والعياذ بالله مثل الشيطان يحب أن يذكر، ويهمه ذلك ولو باللعنة، فهذا نوع من التميز الذي تذم به المرأة كما يذم به الفتى، كما أن بعض الشباب -مثلاً- يحب أن يلفت أنظار الناس إليه بأن يقلد المرأة في ثيابه وفي وجهه وفي الأصباغ التي يعملها، حتى قد يعمل المكياج، ويعمل تسريحة للشعر، وقد يهتم بمشيته، وكأنه فتاة، ويعمل بما يسمى بالتفحيط بالسيارة مثلاً أو أي حركات يقصد من ورائها أن يلفت النظر ولو بسوء. كذلك قد تجدين فتاة أحياناً تحب أن تلفت النظر إليها من خلال التشبه بالرجل، حتى قد تغير اسمها وتحرف اسمها، إذا كان قريباً من اسم رجل، حتى يكون كأنه اسم رجل، وحتى في كلامها تحاول أن تخشنه أحياناً، وتلك كلها ألوان من لعب الشيطان ببني آدم من الرجال والنساء لا تنتهي، نسأل الله لنا ولكن الوقاية من كيد الشيطان. إذاً: فالتميز قد يكون طيباً كالتميز بالخير والبر، وبالأعمال الصالحة، وكونها متقدمة في دراستها، في علمها، في عقلها، في دعوتها. ومن الممكن أن يكون الأمر بضد ذلك، فتكون متميزة بأنها لبست ثوباً مضحكاً، أو ما أشبه ذلك أو متميزة بتسريحة مثيرة، أو متميزة بأعمال أو بتصرفات تلفت نظر الآخرين إليها، وهذه تدل على عقدة نفسية أو شعور بالنقص عند هذه الفتاة أحبت أن تلفت النظر إليها بأي شكل من الأشكال. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 16 حب التميز الإيجابي فإذا كان تميزها في الحرص على أن تكون متقدمة في دراستها، ومتقدمة في برها لوالديها، ومتقدمة في دعوتها إلى الله، ومتقدمة في حفظ القرآن، فتاة إذا تكلمت مع الناس تكلمت بعقل ووعي وثقافة ومعرفة، وعندها خبرة بأمورها، وعندها خبرة بأحوال المسلمين، وعندها خير، تحفظ القرآن، وتحفظ الحديث، وتحفظ الأشعار، وتحفظ القصص، وتحفظ أشياء مفيدة حتى تتميز هذا شيء جيد دل على أنها امرأة فيها عقل، وفيها خلق، وفيها معرفة، تميزت عن الناس بهذا، هذا محمود. أو تميزت عنهم -أيضاً- مثلاً باهتمامها بأمورها التي تحتاج إليها في دنياها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 17 الوسطية عند المرأة نصل إلى أن المطلوب في النهاية من الفتاة هو الاعتدال في اهتماماتها بلا إفراط ولا تفريط. فمثلاً الجمال: يجب أن يكون معتدلاً فلا تتبذل؛ لأن التبذل مذموم، فكون الثياب قديمة وغير نظيفة، ويمكن أن يمر شهر على الثوب مثلاً أو الشعر مشوش وكأنه شعر شيطان، والرسول صلى الله عليه وسلم {جاءه رجل -وما هو بامرأة كما في سنن أبي داود وغيره- وكان أشعث الرأس، فقال له: من أي المال آتاك الله؟ قال: من كل المال، من الإبل والبقر والغنم وغير ذلك، قال: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، -فإذا آتاك الله مالاً، فلير آثار نعمته عليك- فذهب الرجل ولبس أحسن الثياب وسرح شعره واهتم بمظهره وتطيب، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أحسن من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} فالاهتمام مثلاً بالجمال يكون معتدلاً. العاطفة موجودة، لكن تكملها المرأة بالعلم والمعرفة والثقافة، وتصرف العاطفة في مصرفها الطبيعي، حب الاستطلاع كذلك. كثرة الحديث تكون في مرضاة الله تعالى. التميز يكون في الأمور الخيرة المفيدة النافعة. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 18 الأسئلة . الجزء: 163 ¦ الصفحة: 19 قراءة القرآن للتسلية السؤال بعض النساء تحتج بعدم قراءة القرآن بأنها تقرأ فقط للتسلية، أي تكون متضايقة أو لتقضي وقت فراغها، وهي تقول: أنها لا تقرأ القرآن إلا لتنتفع به، ولذلك لا تحرص على قراءة القرآن حتى لا تقوم الحجة عليها؟ الجواب الحجة قائمة عليها ما دامت عارفة أن هناك قرآن قد نزله رب العالمين، وأنها تستطيع قراءته، فلذلك قراءتها خيرٌ لها، ففي قراءة القرآن لأنه لها بكل حرف عشر حسنات، (الم) ليست حرفاً، وإنما ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف، فمن يفرط في هذا الأجر؟! نسأل الله ألا يجعلنا وإياكم من المحرومين، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 20 لبس الكعب العالي السؤال ما حكم الكعب العالي؟ الجواب لا ينبغي للمرأة أن تلبس كعباً عالياً أكثر من المعتاد؛ لأنه يظهرها طويلة أكبر من قامتها الطبيعية، وصحياً يضر بها، وهو من تشبه المرأة بما لم يعطها الله سبحانه وتعالى. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 21 ثياب البنت الصغيرة السؤال بعض الناس يقومون بتلبيس بناتهم الصغيرة ثياباً قصاراً، وعندما ننصحهم يقولون: عندما تكبر ستكون مثلنا تلبس ثوباً طويلاً؟ الجواب تختلف الصغيرة؛ إذا كانت عمرها ثمان أو تسع سنوات، وشبابها قوي، فهذه امرأة أحياناً، وإلباسها القصير فتنة لها ولغيرها، أما إذا كانت صبية صغيرة عمرها ثلاث سنوات أو أربع، وشبابها عادي، فهذه إذا لبست الطويل فلا حرج، وإذا لبست القصير فلا يمكن أن ننكر على أهلها ذلك. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 22 المداومة على السنن السؤال هل يعاقب من كان قد داوم على صلاة الوتر وتركها؟ الجواب لا يعاقب على ذلك لأنها سنة، لكنها سنة مؤكدة، فينبغي أن يحرص الإنسان على أدائها، وإن فاتته قضاها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 23 العدسات اللاصقة السؤال ما حكم لبس العدسات اللاصقة التي تكون مخالفة للون العين الطبيعي؟ الجواب بعض الفتيات تلبس العدسات بقصد التجميل، وهذا أرى ألا تفعله لأنه ضار، حتى العدسة اللاصقة التي تستخدم طبياً ضارة كما ذكره جمعٌ من المختصين، حتى إذا لبستها بقصد تحسين النظر، فكيف إذا كانت لبستها بقصد تغيير لون العين؟! الجزء: 163 ¦ الصفحة: 24 تكحيل المرأة حاجبها السؤال ما حكم تكحيل الحاجب؟ الجواب لا أرى مانعاً من وضع كحل على الحاجب بقصد الجمال خاصة إذا كان الجمال للزوج، فينبغي للزوجة أن تهتم بجمالها لزوجها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 25 لبس الثوب الذي فيه صليب السؤال اشتريت ثوباً وبعد مدة اكتشف أن فيه خطوطاً كثيرة من بينها علامة الصليب، فهل يجوز خياطة الثوب ولبسه؟ الجواب ما دام الصليب بحاله، فلا يجوز لبس هذا الثوب ولا الصلاة فيه. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 26 حكم التسمي بأسماء ورد ذكرها في القرآن الكريم السؤال هل هناك إثم في الأسماء التي ورد ذكرها في القرآن الكريم مثل أفنان ورغد وأبرار وتسنيم؟ الجواب لا حرج في هذا. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 27 حكم الرقص السؤال ما حكم الرقص على الأناشيد الإسلامية؟ الجواب الرقص إذا كان في الزواج وبطريقة معتدلة ليس فيها فتنة، وليس فيها مبالغة في التثني والتكسر وإظهار المفاتن والمحاسن، ومأمون أنه ليس هناك رجال ينظرون ولا هناك تصوير ولا شيء من ذلك، بل في مجتمع نسائي مصون محفوظ بهذه القيود، فهذا والله أعلم جائز، لكن متى تستطيع الفتاة أن تطمئن على هذا؟ في بعض الأحيان يصور دون علمها، وفي بعض الأحيان بعض الفتيات تبالغ في الرقص حتى تكون فتنة للنساء الأخريات. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 28 مقولة: ما صدقت على الله السؤال ما حكم قول: ما صدقت على الله؟ الجواب ما فيها حرج، فمعناها: ما كدت أصدق أو أتوقع أن الأمر يقع. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 29 قول القائل: أنا حر السؤال بعض الناس يقولون: أنا حر، فما الحكم؟ الجواب يقصد أنه حر فيما أحله الله، أما فيما حرمه الله فليس أحد حراً في ذلك. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 30 لبس القفازين في الصلاة السؤال ما حكم لبس القفازين في الصلاة؟ الجواب لبس القفازين في الصلاة وغيرها جائز, ويستحب للمرأة أن تغطي كفيها وقدميها في الصلاة. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 31 استخدام الدف السؤال ما حكم استعمال الدف في المناسبات؟ الجواب استعمال الدف في المناسبات جائز، تستعمله النساء فقط دون الرجال. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 32 السترة للمصلي السؤال ما حكم المرور أمام المصلين؟ وهل حد السجاد ستر وحاجز؟ الجواب لا يجوز للمرأة المرور أمام المصلي، وينبغي أن تضع المرأة بين يديها إذا صلت شيئاً مرتفعاً يكون شبراً أو أكثر. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 33 لبس القفازين للمرأة السؤال بعض الناس يقولون: إن لبس القفازين يبين تقاسيم اليد والرجل، فما رأيكم؟ الجواب إذا لبست المرأة قفازين فهو جيد، وقد جاء في الحديث: {لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين} فدل على أن لبس القفازين كان معروفاً عند المسلمين الأولين، فإن لبستها فهذا شيء طيب، وإن لم تلبسهما غطت يديها بثوبها أو بعباءتها، أو ما أشبه ذلك. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 34 كثرة القراءة السؤال والدتي تمنعني من القراءة، وهي هوايتي المفضلة، وتمنعني لأنها تضر بعيني كثيراً، ثم أنا أتركها، لكن لا أزال أقرأ، فيصيبني بعض التعب الكبير في عيني، فهل إذا أصاب عيني مكروه أكون معاقبة عليه؟ الجواب لا! القراءة مفيدة، لكن تكون بقدر، وحاولي أن تقرئي قراءة صحية كما يقال، تكون الإضاءة معتدلة وقريبة، وتقرئين بقدر معقول، وإذا كانت القراءة تضر بعينيك، فيكن أن تضعي نوعاً من المرايا التي تستخدم في القراءة وتحمي العين بإذن الله تعالى. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 35 حكاية الطرائف السؤال ما حكم الطرائف إذا كانت كذباً، لكن من حولي يعلمون أنها كذب؟ الجواب إذا لم يكن في الطرفة نيل من أحد أو سخرية من أحد، وليس فيها تعرض لأمور الدين فلا بأس بها، خاصة إذا لم تكن كثيرة، وقد تكلمت عن هذا في محاضرة النكت والطرائف. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 36 المخالطة من أجل الدعوة السؤال لديّ صديقات غير ملتزمات كيف أتعامل معهن، هل أنصرف عنهن، أم أخالطهن وأنا أخشى أن أتأثر بهن؟ الجواب إذا كنتِ على مستوى التأثر فيهن، فأنصحكِ بالاستمرار معهن، ودعوتهن إلى الله، زوديهن بالكتب المفيدة، وخاصة الكتيبات الصغيرة المتعلقة بالمرأة، والأشرطة النافعة، وجريهن جراً إلى المجالات الخيرية، والدروس والمحاضرات والمجتمعات الطيبة، وحاولي أن يكون لكِ صديقات طيبات، حتى لا تتأثري بهؤلاء الصديقات غير الملتزمات. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 37 زكاة الحلي السؤال أنا أرغب أن أزكي على الذهب الخاص بي وزوجي يرفض محتجاً بفتوى بعض العلماء، فماذا يجب عليَّ تجاه هذا الاعتراض من قبله؟ الجواب لا بأس أن تزكي ذهبكِ، ولا يشترط إذن زوجك بتزكية الذهب، زكيه بطريقتكِ الخاصة. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 38 حكم الأناشيدالإسلامية السؤال ما حكم استعمال الأناشيد الإسلامية؟ الجواب لا بأس، ولكن بعض الأناشيد الإسلامية صراحةً فيها تغنٍ مفرط وأصوات جميلة جداً، وعلى ما يشبه الأوزان الموسيقية، وقد أسمعني بعض الشباب هذه الأناشيد، فخشيت منها على نفوس النساء، لأنها تكسر قلب المرأة وتؤثر فيها، ولذلك تسمع منها بقدر، وإذا شعرت المرأة أن هناك خطراً على قلبها فلا تستمع إلى هذه الأناشيد، وتكتفي بكلام الله سبحانه وتعالى، وبالأمور المفيدة النافعة. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 39 قص شعر المرأة من الأمام السؤال ما حكم قص الشعر من الأمام؟ الجواب لا بأس، يجوز أن تقص المرأة شعرها، شريطة ألا يكون القص قصاً شديداً، بحيث يشبه شعر الرجل، فتبالغ في قصه وتنهكه، حتى لا يبقى منه إلا شيء يسير جداً، أما إذا قصته بغير هذه الطريقة، وخاصةً إذا كان تجملاً لزوجها، فلا حرج. لكني أحذر من شيء بمناسبة قصة الشعر أو ما يسمى بالموضات، فعندنا طرفان ووسط، بعض الفتيات كل همها الموضة والتسريحة، كل يوم وهي في موضة جديدة وتسريحة جديدة، وعندها أكوام من مجلات الأزياء والبودرة والتسريحات، وكلما ظهرت تسريحة جديدة عملت بها، وكل يوم قد تصبغ شعرها اليوم بصفة وغداً ترغب في تغييرها وهكذا، بحيث -كما قلت أثناء الكلام باختصار- كل همها منصب على الموضات والتسريحات والشكل وكل جديد، وهذا لا شك ضياع للعمر في غير طائل واهتمام بالشكل على حساب المضمون وعلى حساب الأخلاق، والدين والوقت، ما أعطانا الله الوقت حتى نستغله بهذه الطريقة وبهذا الشكل، إنما أعطانا الله الوقت حتى نستخدمه فيما ينفع ويفيد ديناً ودنيا، والمطلوب من الجمال قدرٌ معتدل. فأنا أحذر الفتيات من المبالغة والإسراف في متابعة الموضة والتسريحات والقصات وغير ذلك، وهذا طرف. الطرف الآخر: هناك بعض الفتيات المتدينات صار كل همها محاربة الموضات والتسريحات والقصات، وكلما جاءت تسريحة جديدة أو موضة جديدة ركزن عليها، وقلن بتحريمها، وأن هذا تشبه بالغرب، وأن هذا لا يجوز، وصارت هي الهم الأكبر، وصار هم كل النساء الموضة أهي حلال أم حرام، والتسريحة أهي حلال أم حرام. أين تعليم النساء أمور دينهن؟ وأين تصحيح عقائد النساء؟ وأين تربية النساء؟ وأين تثقيف النساء؟ وأين دعوتهن إلى قراءة الكتب المفيدة وسماع الأشرطة المفيدة، وطلب العلم، والاستفادة، وتربية الأولاد إلخ؟! صار كل الهم هو الموضة، هذه تفعل التسريحة، وهذه تحارب التسريحة، والمفروض أن ندعو الناس إلى أكبر من هذا، وفي نفس الوقت نحذر النساء من الاستغراق، أما أن نتصدى لكل جديد، ونقول: وهذا حرام، وهذا لا يجوز، ثم إذا انتشر بيننا سكتنا عنه، فهذه مشكلة، إنما نحن نحذر من استغراق النساء -وخاصة الفتيات- في التقليد وفي متابعة الموضات والأزياء والتسريحات والأنماط الجديدة، التي تأتي غالباً من دور الأزياء في الغرب بقصد شغل المسلمات وإغراقهن؛ على أنه ينبغي أن تعرفن أيتها الأخوات أن الأمم الغربية الكافرة لا يرضون لنسائهم بهذا، وإن كان هناك مجموعة كبيرة من نسائهم بهذا كذلك؛ لكن تجدين نساءهم في أرقى المستويات في التعليم، وفي العلم، وفي التقدم، وفي الصناعة، بل وكثير منهن من يكن في الجيش عاملات، وفي الشرطة، وفي غيرها. أنا لا أدعو المسلمات إلى هذا نحن لا نسمح لفلذات أكبادنا، ولا نسمح لبناتنا، ولا نسمح لأخواتنا، ولا نسمح لقريباتنا، وهن عندنا درر مصونات محفوظات، لا نسمح للأعين النهمة، والذئاب الجائعة أن تنظر إليها، ولذلك لن نسمح لها أن تكون في مصنع تدمر أنوثتها، وتضيع في عمره الدخان مثلاً، ولا أن تكون في وسط جيش بزعم أنها تقاتل، وهي ترفه عن الجنود بما حرم الله، ولن يكون هذا بإذن الله تعالى في البلاد الإسلامية، ولكنني أقول: إن هؤلاء الغرب الذين يصدرون إلينا هذه الموضات والتسريحات ويشغلوننا بها، جعلوا نساءهم يخدمن أوطانهم ويخدمن أديانهم الكافرة في أرقى المجالات، ويريدون أن يشغلوا نساءنا عن وظيفتهن الأساسية من القيام على البيت والاشتغال بالتربية وإذا دمر نصفه ماذا بقي منه. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 40 مشكلة خيالية عند بعض النساء السؤال كثير من البنات تعتقد أن فيها نفساً (عيناً) ، تحول بينها وبين الخير والعمل الصالح، وهي مشكلة كبيرة؟ الجواب من خلال أسئلة بعض النساء تبين لي أن أكثر النساء أمراضهن تتراوح بين ثلاثة أمور: إما فيها نفس. وإما جن. وإما سحر. وهذا كلام فارغ ما الدليل أن عندكِ نفساً أو سحراً أو جناً؟ نحن نؤمن بأن الجن موجودون، وأن الجن يمكن أن تتدخل في ابن آدم، وأن السحر أيضاً يقع، وأن العين حق هذا حق لا شك فيه، لكن الذي لاحظته هو أن أكثر النساء لو صار بينها وبين زوجها مشكلة قالت نفس، أو سحر، أو معقود له شيء، ولو صار عندها أزمة نفسية قالت: نفس، ولو صارت عندها مشكلة في بيتها قالت: نفس، ولو مرض الولد قالت: نفس، ولا تعرف في الدنيا إلا نفس أو سحر أو جن! هذا دليل على تأخر مستوى الوعي عندنا، وأن كثيراً من النساء عقلياتهن ضعيفة، وأنا لا ألوم النساء الأميات غير المتعلمات، لأنهن في كثير من الأحيان هذه معلوماتهن، ولا يعرفن أصلاً غير هذا، ولكني ألوم الفتيات المتعلمات، وبعضهن قد تكون معلمة أو جامعية، ومع ذلك فالوحدة منهن تهرب من مواجهة المشكلة وتقول: نفس. لابد أن تعرفي مشكلتك الحقيقية، قد يكون عندكِ ضعف إرادة، وهذا ما يمنعكِ من فعل الخير، قد يكون عندكِ معاصٍ وذنوب تثقلكِ، وقد قال بعض السلف عندما سأله سائل وقال له: ما لنا عجزنا عن قيام الليل؟ قال: قيدتكم خطاياكم! ذنب الواحد قد يحول بينه وبين الطاعة، قد يحول بينه وبين التوبة، قرينات السوء أحياناً تحول بين الفتاة وتقوى الله وطاعته، المهم أن تعرف الواحدة حقيقة المشكلة التي تعانيها، وأن حالات النفس وحالات العين وحالات الجن حالات محدودة، ودعوى فلانة أن فيها نفساً أو أن فيها عيناً أو أن فيها جناً أو أن فيها سحراً، وهذا لا يمكن أن يقال إلا من خلال أدلة، وقد تبين لي من خلال تجارب شخصية أن كثيراً من الحالات التي يقولون: إنها حالات جن وحالات سحر وحالات نفس وحالات عين ليست صحيحة، بعضها أوهام، وبعضها أمراض نفسية، وقليلٌ منها ما يكون كذلك، إما أن يكون سحراً، أو جناً، أو نفساً، لكنه قليل بالقياس إلى إدعاء النساء، خاصة مثل هذه. وهذا يذكرني بمشكلة أخرى عند النساء أيضاً، أذكرها بالمناسبة، وهي كثرة الاهتمام بالرؤى والأحلام: (90%) من أسئلة النساء رأيت ورأيت، وتأتي بأضغاث أحلام ليس لها قيمة، ومع ذلك تكون منزعجة منها، لا تنام الليل ولا تأكل ولا تشرب، رأيت البارحة كذا وكذا، وفلان الذي مات جاء عندي، وتذكر رؤى وأحلاماً لا قيمة لها، ولو أن النساء يسألن عن أمور دينهن وعن أحكام الشرع، مثلما يسألن عن الرؤى، لأصبحن فقيهات عالمات، ولكن للأسف كثير منهن تسأل عن الرؤيا، وربما تكون عندها مجموعة من الأحلام تسأل عنها، ولم يحدث قط أنها سألت عن أمر يخصها ويتعلق بدينها، وما كل ما رآه الإنسان صحيحاً، قد يكون أضغاث أحلام، وربما يفكر في شيء فيراه في المنام، وربما يكون حديث النفس، وأمور لا يلتفت إليها، إذا استيقظ من نومه تفل عن يساره ثلاث مرات، وقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا تضره. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 41 صيام ثلاثة أيام السؤال هل يجوز تفريق ثلاثة أيام في نفس الشهر؟ الجواب نعم يجوز تفريق صيام صيام ثلاثة أيام، لأنه ورد صيام ثلاثة أيام من كل شهر، فلو صامت من كل شهر في أوله وأوسطه وآخره ثلاثة أيام أدركت صيام ثلاثة أيام من كل شهر. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 42 كتمان العلم الذي يعلمه الإنسان السؤال هل كل علمٍ يعلمه الإنسان، ولم ينشره بين الناس، يلجم به بلجام من النار يوم القيامة، أم إذا سأله الإنسان عن حكم أو علم؟ الجواب أولاً: إذا كان عند الإنسان علم وسئل عنه، وجب عليه أن يبينه، خاصةً إذا لم يكن هناك أحد حوله يستطيع أن يبين هذا العلم، والمقصود بلا شك العلم الذي يحتاج إليه من العلوم الشرعية. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 43 التدهور الديني لدى الشخص السؤال أنا في هذه السنة تدهور ديني على الرغم مني، وعندما أحاول مكافحة ذلك يمنعني مانع مثل مانع روحاني؟ الجواب هذا ليس صحياً: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس:19] والله سبحانه وتعالى أمر الإنسان ونهاه، فقال سبحانه وتعالى في محكم التنزيل: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وقال سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال سبحانه أيضاً: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] وقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى:14-15] فيستطيع الإنسان أن يسلك طريق الخير أو طريق الشر: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وليس هناك قوة تفرض على الإنسان هذا الطريق أو ذاك أبداً. لقد جعل الله سبحانه وتعالى الإنسان كائناً قابلاً للخير والشر وللهدى والضلال، فما حصل من تدهور ليس غصباً عنك، وإنما هو باختياركِ؛ وإنما الأمر كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] فكري! البداية من عندكِ، يمكن أن تكون بداية بسيطة لم تتوقعي أن تصل إلى هذا الحد، ولكنها تطورت وتطورت حتى صارت القضية تدهوراً مثلما تقولين أنتِ في السؤال. فعليك أن تبدئي طريق الخير والصلاح بنفس الطريقة، وتحرصي على إنقاذ نفسكِ سريعاً، لأن الإنسان إذا لم يعجل بإنقاذ نفسه فإنه يمكن أن يصل إلى الحالة التي يسمونها أحياناً الإدمان، فيكون مدمناً على شيء يصعب منه الخلاص؛ مثل المدمن على المخدرات -والعياذ بالله- يعرف أنه خطأ وجريمة وموت وهلاك في الدنيا والآخرة، ومع ذلك لا يستطيع؛ لأن هناك دافعاً قوياً وهو الإدمان، (العادة الآسرة) حتى الجسم اعتاد، حتى الدم تعود على هذه الأشياء، فكذلك المكالمات الهاتفية قد تتحول إلى إدمان، الغيبة والنميمة قد تتحول إلى إدمان، النظر قد يتحول إلى إدمان، مشاهدة التلفاز قد يتحول إلى إدمان. وقد تكون القضية بداية بسيطة. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 44 حضور ولائم العرس السؤال حكم حضور الولائم إذا كان يتوقع حصول منكر؟ الجواب إذا كانت الوليمة لناس أقارب، مثل زواج الأخ وزواج الأخت أو زواج أخت الزوج أو ما أشبه ذلك مثلاً، فتحضر المرأة ما لم تعلم أن هناك منكراً، فإذا علمت أن هناك منكراً لا يمكن إزالته لا تحضر، أما إذا لم تعلم فإنها تحضر؛ فإن رأت منكراً، فإنها تعمل على تغييره بقدر المستطاع، فإن لم تستطع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 45 الالتزام بالدين والاستمرار عليه السؤال أنا فتاة التزمت -والحمد لله- ولكنني أخشى ألا أستمر على ذلك، فبماذا تنصحونني؟ الجواب المهم هو الاستمرار، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان من دعائه: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} والله تعالى يقول: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم:27] . فلذلك أنصح الأخت الذي هداها الله تعالى والتزمت بالخير في هذه الدار أن تحرص على أن تربط نفسها بمجموعة من الفتيات الطيبات، إن أمكن في المدرسة التي تدرس فيها فبها، فإن لم يكن في المدرسة نشاط كافٍ فعلى الأقل أن تتصل بصديقاتها في هذه الدار التي تعرفت عليهن من أخواتها في الله، تظل على صلة بهن؛ من خلال اتصالات هاتفية، ومن خلال زيارات، ومن خلال تبادل بعض الكتب وبعض الأشرطة، ومن خلال حضور المحاضرات والدروس التي تقام في هذا البلد، ومنها بعض المحاضرات الخاصة بالنساء، كالمحاضرة التي تقام في معهد الخياطة بشكل دوري؛ ومن خلال حضورها سوف تلتقي بالأخوات الطيبات فيكن قدوة حسنة لهن، كذلك تحرص على سماع الأشرطة وقراءة القرآن والكتب، ودوام الصلة بالله سبحانه وتعالى في الصلاة وقراءة القرآن والذكر والاستغفار. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 46 حقيقة الحب في الله السؤال حقيقة الحب في الله، وهل هو الإعجاب فقط أم لا بد أن يكون معه حب في القلب؟ الجواب الحب مكانه في القلب، وليس الحب مجرد الإعجاب، وإن كان الإعجاب من مظاهر الحب؛ لأنه يدل على الارتياح إلى ما عليها هذه المرأة؛ فإذا وجدتِ امرأة دينة وأعجبتِ بها، كان هذا دليلاً على أنكِ تحبين الخير وأهله، ولذلك أعجبتِ بها، لكن لا يكفي هذا، بل لابد أنه يكون في القلب خفقٌ إليها وارتياح ونوع من الحب والود تكون بقدر المعقول كما أسلفت في الكلمة باختصار. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 47 كيفية مواجهة المستهزئين بالداعية السؤال عندما آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أواجه الاستهزاء، فماذا أقول لمن استهزأ بي؟ الجواب قال تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63] وقال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص:55] هذا هو الذي يجب أن يقال، ولذلك من الخطأ -يا أخوات- أن الواحدة أحياناً تنتصر لنفسها، فإذا أمرت بمعروف أو نهت عن منكر فجاءها رد سيئ، غضبت وزمجرت وانتصرت لنفسها، وهذا خطأ فينبغي إذا جاءها رد سيء أو قاسٍ أن تتعلم الحلم لهؤلاء النسوة، وأن تتدرب على الحلم كيف تتعلمين الحلم والصبر؟ وإن والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من يتصبر يصبره الله} والحديث في البخاري، ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر وهو صحيح: {إنما الحلم بالتحلم} فقد يكون الإنسان سريع الغضب لكنه تعلم الحلم والصبر حتى زال عنه الغضب، كيف تتعلمين الحلم؟ مثلاً امرأة تخطئ عليكِ وتتكلم عليكِ فتعودين نفسك أن تمسكي عواطفكِ وألا تردي عليها، بل تتبسمين لها وتقولين: جزاك الله خيراً غفر الله لي ولكِ، وما أشبه ذلك من الكلمات الطيبة، فإذا عودت نفسك على ذلك، كان هذا من المقامات العظيمة التي يحبها الله سبحانه وتعالى ويأجر عليها. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 48 قاعدة في الأمر والنهي السؤال تقول السائلة: أنا أحب أن أكون داعية إلى الله، ولكني أحياناً أقصر في ذلك خوفاً أن أكون غير مطبقة لما أدعو إليه مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام الليل؟ الجواب الإنسان إذا أراد أن يدعو يحرص على أن يطبق ما يدعو إليه، لأن هذه طريقة الأنبياء كما قال شعيب عليه السلام {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] ؛ لأن الناس إذا رأوا الإنسان يعمل بما يدعو إليه، قالوا: صدق فلان، والدليل على صدقه: أنه هو أول المطبقين لما يدعو إليه، لكن إذا رأوه يدعو إلى شيء ويخالفه، ماذا يقولون؟ إما أن يقولوا: إنه غير صادق فيما دعا إليه، ولذلك لم يطبق، أو يقولوا: إن ما يدعو إليه ليس حقاً، ولو كان حقاً لكان هو أول الناس امتثالاً له، وبعضهم قد يحسن الظن بهذا الإنسان فيقول: ما دعانا إليه فلان غير واجب، بدليل أنه لو كان واجباً لطبقه على نفسه، فلذلك الإنسان ينبغي أن يدعو ويعمل، ويطبق؛ لكن لو أن هناك إنساناً لم يطبق، هل نقول: لا تدعُ؟ لا، فليس من شرط الداعي أن يكون مطبقاً لما يدعو إليه؛ بل قد يدعو إلى شيء هو مقصر فيه. أرأيتِ لو أن فتاة وقعت في معصية أياً كانت هذه المعصية، فجاءت إلى زميلتها، وقالت: انظري يا فلانة! أنا أحذركِ من هذا الشيء! احذري لا تقتربي، فتقول: أنتِ فعلت ذلك؟ فتقول: نعم، أنا تورطت في هذا الأمر، وأنا أحاول أن أتخلص منه، وقد عجزت وأحاول وأدعو الله، لكن أنتِ ما دمت لم تقعي في هذا الأمر، فاحذري، فواجب عليها أن تحذرها مثلاً. ولو لم يعظ الناس من هو مذنبٌ فمن يعظ العاصين بعد محمد فليس من شروط الداعي أن يكون مطبقاً لما يدعو إليه. افرضي أنكِ ألقيت بحثاً عن قيام الليل وكان منك حث للنساء على قيام الليل، فقامت واحدة الليل، وأنتِ نائمة، أتاكِ أجر من قيامها، ولو كنتِ تتقلبين على فراشكِ، وليس شرطاً أن تكوني أنتِ قائمة لليل حتى تحثي النساء على قيام الليل، بل حثيهن واذكري لهن ما ورد في ذلك، وإن استطعت فافعلي، وإن لم تستطيعي فعلى الأقل حثي الناس على ذلك فربما يقوم الليل أحد، فيكتب لكِ مثل أجر فعله. الجزء: 163 ¦ الصفحة: 49 غنى الخالق وفقر المخلوق العبد فقير إلى ربه في كل طرفة عين، ومهما بلغ من القوة والنعيم فهو فقير، وفي هذا الدرس بيان لبعض جوانب الفقر في الإنسان. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 1 أسماء الله عز وجل الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد الذي حمل الرسالة وأداها، وجاهد في الله حق الجهاد، ولم يمت حتى أقر الله عز وجل عينه بنصرة هذا الدين، وبوجود الرجال الأكفاء الذين يحملون من بعده مشعل الحقيقة والإيمان. أيها الإخوة! نحاول في هذه الكلمة التي أرجو أن تكون قصيرة ومفيدة، أن نلقى فيها الضوء على أنفسنا لنعرف بالضبط من نحن؟ ونلقى فيها الضوء على حقيقة العبودية التي يجب أن ندين فيها لله -جل وعلا-. وسأحاول أثناء الإلقاء أن أوجه إليكم بعض الأسئلة رغبة في حضوركم وشد انتباهكم إلى موضوع هذه الكلمة. وسيكون موضوع الحديث هو: (فقر الإنسان، وغنى الخالق سبحانه وتعالى) وإننا نجد الله عز وجل يخاطبنا باسم الفقراء، يسمينا الفقراء فيقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] إذاً فحتى حين يملك الإنسان الأموال الطائلة ويتقلب في النعيم، ويملك الزوجات والأولاد، بل حتى حين يتربع الإنسان على عرش الحكم فيكون ملكاً، أو امبراطوراً، أو رئيساً، أو غير ذلك، فإنه لا ينفك عنه هذا الوصف أنه من الفقراء، وقد تعلم الناس ودرسوا على أن الفقر يطلق على من لا يملك المال، وهذا معنى صحيح بلا شك كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] . ولكن هذا المعنى هو جزء من المعنى العام لهذه الكلمة، أما الفقر الحقيقي الذي يطلق على كل إنسان ولا يمكن أن ينفك عنه، فهو فقر الإنسان وحاجته إلى الله عز وجل وبالطبع أنه لا يمكن أن ندرك نحن حقيقة الفقر الذي ركبه الله عز وجل في نفوسنا، إلا إذا قارنا بين ضعفنا وقوة خالقنا. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 2 معنى قوله: (من أحصاها) وأريد أن أقف وقفة سريعة عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها} ما المقصود: بإحصاء هذه الأسماء التسعة والتسعين؟ نقول: إن الإحصاء يشمل عدة أشياء: الأمر الأول: هو معرفتها وعدها، بأن يستطيع الإنسان أن يعرف هذه الأسماء التسعة والتسعين، فيقول مثلاً: هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، إلى أن يستغرق تسعة وتسعين اسماً، بشرط أن تكون هذه الأسماء التي عدها من الأسماء التي ثبتت بالكتاب والسنة، أما الأسماء التي يتداولها الناس أو توجد في بعض الكتب دون أن يوجد لها دليل صحيح فلا تعد. وبالمناسبة قد يسأل البعض ما هي الكتب التي عدت وأحصت أسماء الله عز وجل وصفاته؟ فأقول: هي كثيرة جداً ولكن من أفضلها كتاب (الأسماء والصفات) للإمام البيهقي، وكتاب (التوحيد) للإمام الحافظ ابن مندة، وكتاب (شأن الدعاء) للإمام أبي سليمان الخطابي، وقد ألف عدد من العلماء مؤلفات خاصة في أسماء الله عز وجل وصفاته، كـ الزجاج، والرازي، وغيرهما. فالأمر الأول هو أن تستطيع أن تعد الأسماء واحداً واحداً، وتحصيها إحصاء بالأسماء وبالعدد، لكن هذا بطبيعة الحال لا يكفي! فكم من إنسان يردد هذه الأسماء بكرة وعشياً، ولا نستطيع أن نقول: إنه ينال الوعد الذي بينه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو دخول الجنة، فلابد أن يترتب على معرفة الأسماء معرفة معنى كل اسم منها. الأمر الثاني: هو معرفة معنى كل اسم من هذه الأسماء. فمثلاً: نحن قلنا: من أسماء الله: السلام، ربما لو سألنا معظم الإخوة الحاضرين ما معنى السلام؟ لم يعرف. ما معنى المؤمن؟ أكثرنا لا يعرف، أيضاً المتكبر، ما معنى المتكبر؟ أكثرنا لا يعرف، وهكذا فالأمر الثاني: هو المراد أو مدلول كل اسم من هذه الأسماء الحسنى. الأمر الثالث: هو الإيمان بهذه الأسماء، وعدم تأويلها أو تحريفها عن معانيها، أو تعطيل الله عز وجل عن الصفات التي تدل عليها. الأمر الرابع: هو ثمرة هذه الأشياء كلها وهو: التأثر بهذه الأسماء، بحيث لا تكون هذه الأسماء مجرد كلمات في اللسان، أو حتى معاني في العقل، بل تتحول إلى مشاعر في القلب، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} فمن آمن بالله وأسماء الله كان هذا الأمر خير رادع وزاجر له عن معصية الله، فكيف تعصي الله أيها الإنسان وأنت تعرف أن من أسمائه الرقيب المطلع على الأسرار والخفيات؟ وهكذا بقية الأسماء فمن آمن بهذه الأسماء وأحصاها حق إحصائها، كانت الأسماء خير رادع وزاجر له عن المعصية، والإيمان بهذه الأسماء يوجب لك معرفة عظمة الله، وكماله، واستغنائه عز وجل استغناءً كاملاً عن كل أحد، وعن كل شيء، وبالمقابل قارن نفسك، ستجد نفسك مخلوقاً ضعيفاً مفتقراً إلى الله عز وجل افتقاراً كلياً في كل لحظة، وفي كل شأن. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 3 أسماء الله ليست محصورة بعدد انظروا أولاً إلى أسماء الله عز وجل وصفاته وقدروها حق قدرها، انظروا إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة، وأخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله عز وجل تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة} ولو تأملنا هذه الأسماء التسعة والتسعين، لوجدنا أنها أسماء تدل على أن الله عز وجل متصف بكل صفات الكمال والجلال والجمال والعظمة والكبرياء والغنى، فالله عز وجل غير محتاج إلى أحد من خلقه أو إلى شيء من خلقه ألبتة. والمقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: {إن لله تسعة وتسعين اسماً} ليس قصر أسماء الله على التسعة والتسعين، ولكن يبين صلى الله عليه وسلم أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسماً ميزتها أن من أحصاها دخل الجنة، وإلا فإن لله عز وجل أسماء وصفات لا يعلمها خلقه. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} إذاً هناك أسماء لله عز وجل استأثر الله عز وجل بها في علم الغيب عنده، فلا يعلمها ملك مقرب، ولا نبي مرسل، فليست أسماء الله مقصورة على تسعة وتسعين اسماً، إنما هناك تسعٌ وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 4 بيان افتقار المخلوق وضعفه دعونا نسير مع الإنسان مرحلة مرحلة، وخطوة خطوة في مراحل حياته، ننظر إلى أنفسنا ونتأمل كل واحد منا، بل كل واحد من الخلق، حتى الأنبياء والرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام، كان الواحد منا يوماً من الأيام جنيناً في بطن أمه مفتقراً إلى كل شيء، إلى الطعام، وإلى الشراب الذي يأتيه عن طريق الأم، وإلى الهواء، إلى كل شيء، ثم يولد ضعيفاً صغيراً مفتقراً إذا هبت عليه الريح أزعجته، ومعرض للموت والفناء لأدنى سبب من الأسباب، ويظل غير قادر على أن يعيش بنفسه، ولا أن يشرب بنفسه، ولا أن يأكل بنفسه، ولا أن يقعد وهكذا. وسبحان الله! يبدأ الإنسان يتدرج شيئاً فشيئاً، خطوات بعضها يتلو بعض، ثم يكبر، ويوماً بعد يوم حتى يصبح قادراً على القعود، ثم قادراً على الحبو، ثم على الوقوف، ثم على المشي، وما يزال يترعرع ويكبر، والذين من حوله يلاحظون تطوره شيئاً فشيئاً، ويستبشرون ويفرحون بكل مرحلة جديدة ينتقل إليها، حتى يكبر الإنسان ويبلغ مبلغ الشباب، -فيا سبحان الله! - حينئذٍ تجد هذا الإنسان قد نسي المراحل التي مر بها، وشعر بنوع من الاستغناء والكمال، وغفل عن الطفولة التي كانت مرحلة من مراحل الضعف التي مر بها، يشعر بكمال واستغناء، بل ربما يصل به الحال إلى الشعور بالكبرياء والغطرسة، ولو التفت الإنسان التفاتة سريعة إلى الوراء، وتذكر أنه كان في المهد يوماً من الأيام، وأنه كان بحالة معروفة من العجز في صغره، والحاجة الكاملة إلى غيره؛ لأدرك أنه لا يليق به وبمثله أن يتكبر، ويتغطرس، ويستعلي، بل يدرك أنه مخلوق ضعيف ومحتاج ومفتقر إلى غيره. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 5 الافتقار حتى في مرحلة الشباب والقوة والإنسان في مرحلة الشباب، وهي: مرحلة القوة، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم:54] حتى في هذه المرحلة، يجب على الإنسان أن يدرك أنه وإن كان في مرحلة قوة إلا أنه مفتقر ومحتاج إلى الله عز وجل، وذلك في عدة أشياء: الأمر الأول: الذي يجعله مفتقراً إلى الله: أن هذه المرحلة ليست دائمة، حتى لو استمرت وقطعها الإنسان ليصل إلى مرحلة الكبر والشيخوخة، ولذلك قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم:54] . الأمر الثاني: أن كثيراً من الناس حتى في مرحلة الشباب يقدر الله ألا يستكملوا هذه المرحلة، فيصيبهم الله عز وجل بالأمراض وغيرها من الأشياء التي تقعدهم عن العمل والحركة والنشاط؛ بل قد يتعدى ذلك إلى الوصول إلى مرحلة الموت. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 6 الإنسان أمام الموت ضعيف جدا ًًً إذاً أيها الإنسان! مادمت مدركاً أن وراءك الموت إذا سلمت من الآفات والأمراض، والموت سر من أسرار الله عز وجل في هذا الكون لا يستطيع أحد أن يدركه أو يتخلص منه، فالصغير، والكبير، والملك، والمملوك، والذكر، والأنثى، والغني، والفقير، كلهم أمام هذا القدر يقفون مكتوفي الأيدي. ومن حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت في هذه الحياة، أن يتذكر الإنسان دائماً أنه ضعيف، وقد يتجبر الإنسان، ويبطر، ويستعلي، فإذا تذكر أنه يوماً من الأيام أنه على رغم كل هذا سوف يقع طريح الفراش مكبلاً عاجزاً عن النطق، عاجزاً عن الحركة، فإن هذا يطاطئ من غرور الإنسان وكبريائه، ولذلك ثبت عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- أنه كان يقول: [[والله إني لأعجب من الناس العقلاء الذين يشاهدون الموت، أويعاينون الموت ويحتضرون، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت!]] . يتعجب هذا الصحابي الجليل من الناس الذين احتضروا وعاينوا الموت، كيف لا يستطيعون أن يصفوا الموت! ويخبرون ما حقيقة هذا الموت، فلما صار هذا الصحابي الجليل محتضراً، كانت له حالة من الأحوال رواها لنا مسلم في صحيحه، أنه لما حضره الموت بكى رضي الله عنه وأرضاه وحول وجهه إلى الجدار، وكان عنده ابنه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقال: يا ابتي لم تبكي؟! ألم يقل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؟! وظل يذكره بالفضائل التي ذكرها له النبي صلى الله عليه وسلم، فالتفت إليه أبوه عمرو بن العاص وقال له: والله إني كنت في حياتي على أطباق ثلاث -يقول: مررت في حياتي بثلاث مراحل-: أولاً: لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنت من أشد أعدائه، حتى لو استطعت أن أقتله قتلته، ولم يكن أحد أبغض إلي منه في ذلك الوقت، فلو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار، قال: {ثم جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فمددت يدي إليه، وقلت له: ابسط يدك أبايعك يا رسول الله! قال: فبسط يده فلما بسط يده إليّ قبضت يدي، فقال: "مالك يا عمرو؟ " قلت أريد أن أشترط، قال: " تشترط ماذا؟ " قلت: أشترط أن يغفر الله لي ما أسلفت، قال لي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو بايع أما علمت أن الإسلام يجب ما قبله، وأن التوبة تجب ما قبلها، وأن الهجرة تهدم ما قبلها" قال: فبسطت يدي فبايعته، فلا والله لم يكن أحد أحب إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أعظم في عيني منه، حتى أني لم أكن أستطيع أن أملأ عيني منه إجلالاً له} أي: لم يستطع أن يشد النظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم إعظاماً وإجلالاً، فلو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. الحالة الثالثة هي: أنه تولى مناصب لا يدري ما حاله فيها. يقول: بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم دخلنا في أمور من أمور طلب الإمارة وغيرها، لا أدري ما حالي فيها، يقول: فإذا مت ووضعتموني في قبري فشنوا عليّ التراب شناً، ثم انتظروا عند قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها، حتى أنظر ماذا أراجع به رسل ربي. وهذا الحديث كما ذكرت لكم رواه مسلم، فلما صار عمرو بن العاص -رضي الله عنه وأرضاه- في هذه الحالة وهي: حالة الاحتضار، سأله ابنه عبد الله، فقال: يا أبتاه! لقد كنت في حال حياتك تقول: إنني أعجب من العقلاء الذين يحتضرون كيف لا يستطيعون أن يصفوا لنا الموت، فهل تستطيع يا أبتاه! أن تصف لنا الموت الآن؟! فماذا قال هذا الرجل البليغ الفصيح: قال: يا بني! أمر الموت أعظم من أن يوصف، ولكني سأصف لك ما حالي، أحس أن جبل رضوى على عنقي، وجبل رضوى جبل ضخم بالمدينة. فيقول: إنني في حالة الموت الآن أحس أن هذا الجبل الضخم موضوع على رأسي، وأحس أن جوفي يشاك بالسلاح، يحس كأن السلاح يختلف في بطنه وجوفه، وأحس كأن روحي تخرج من ثقب إبرة، ولكم أن تتصوروا حالة عمرو بن العاص رضي الله عنه وهي حالة كل إنسان، بل حالة المؤمنين إذا احتضروا، كأن جبل رضوى على رأسه، وكأن الأسلحة مسددة إلى جوفه وصدره، وكأن روحه تخرج من ثقب إبرة! فهذا المصير كيف يلذ لنا، ويطيب لنا أن ننساه ونتجاهله، وتتغافل عن هذا المصير؟! لأننا نريد أن نتمتع بحياتنا، لكن هذا النسيان، وهذه الغفلة، لا يمكن أن تحقق الهدف الذي نرجوه، فمهما نسيناه فهو لا يمكن أن ينسانا، ولذلك قال الله عز وجل لنا: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ} [الجمعة:8] . وقال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] أي: يفر ويهرب، فكل واحد منا يكره الموت ويفر منه، بل وربما يستاء من سماع الحديث عنه، ولكن هذا لن يغير من الأمر شيئاً، ولذلك أقول: إن من حكمة الله عز وجل في إيجاد الموت إشعار الإنسان بالفقر الكلي إلى الله عز وجل، والحاجة الدائمة إليه سبحانه وتعالى، لأن الإنسان لا يدري متى يفجأه الموت. فالإنسان الذي يؤمن بالموت حق الإيمان هو الذي يكون في جميع الأحوال مستعداً له، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال فيما يرويه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه وأرضاه-: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع وذكر منها الإيمان بالموت} ويعني ذلك الاستعداد له، وأن يكون الإنسان في كل أحواله كأنه ينتظر الموت، وهذا يجعل الإنسان شاعراً بفقره وحاجته وإعوازه إلى الله عز وجل. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 7 فقرنا إلى الله في أمور ديننا وليس الشعور وتذكر مصير الإنسان هو الأمر الوحيد الذي يجعلني ويجعلكم ندرك أننا -فعلاً- فقراء، بل إننا فقراء محتاجون إلى الله عز وجل في كل أمر، حتى من أمور ديننا. فالإنسان معرض في أمور دينه إلى أربعة أشياء: وأرجو أن تنتبهوا إلى هذه الأشياء ويمكن أن أسألكم عن أحدها! الجزء: 164 ¦ الصفحة: 8 خاتمة السوء والأمر الرابع بعد ذلك هو: أن الإنسان مُعرَّض أن يختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله، فلا يدري الإنسان بماذا يختم له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري ومسلم عن أبي هريرة وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهما {أن رجلاً كان يقاتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في معركة خيبر، فلما اجتمع الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: والله يا رسول الله ما أغنى عنا أحد اليوم ما أغنى عنا فلان، أي -ما نفعنا أحد في القتال مثلما نفعنا فلان- قاتل الأعداء وحمى المسلمين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {هو في النار!} فاستغرب الصحابة حتى كاد بعضهم أن يرتاب، فقال رجل من المسلمين: أنا صاحبه لكم، أي: أنا الذي سوف أتابعه خطوة خطوة حتى أنظر ما هو السر في حكم النبي صلى الله عليه وسلم عليه بالنار- فذهب هذا الصحابي يتابع ذلك الرجل خطوة خطوة في القتال، فبينما هم في القتال جرح هذا الرجل جرحاً شديداً وسقط، حتى ظن المسلمون أنه مقتول، وأنه قد لفظ الأنفاس، فقالوا يا رسول الله! قتل فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: "إلى النار". فاستغربوا أيضاً وذهبوا إليه فلما جاءوه وجدوا به رمقاً، وجدوه لم يمت بعد، فجزع من الجرح الذي أصابه فوضع نصل السيف على الأرض ووضع ذباب السيف بين ثدييه ثم اتكأ على السيف حتى خرج السيف من ظهره، فجاء الرجل الذي تكفل بتتبع خبره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله! والرجل -أصلاً- كان مؤمناً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكرر الشهادة إلا لأمر حدث يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال له: وما ذاك؟ قال: الرجل الذي قلت: إنه من أهل النار، فقالوا: إنه مات، وجدته لم يمت، ووجدت الجراح قد آذته فجزع جزعاً شديداً فوضع نصل السيف على الأرض وذبابه بين ثدييه واتكأ عليه حتى قتل نفسه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم منادياً ينادي: إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة، وإن الله يعز هذا الدين بالرجل الفاجر} . إذن الأمر الرابع الذي يمكن أن يُعرَّض له الإنسان المطيع السالم من العجب، الباذل الجهد والانقطاع في طاعة الله هو أن يختم له بخاتمة السوء. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 9 مصير الإنسان عند الله الأمر الخامس: أنه حتى وإن لم يختم له بخاتمة السوء فإننا لا ندري ماذا يكون مصيره عند الله، فقد روى الإمام البخاري في صحيحه عن امرأة من الأنصار اسمها أم العلاء الأنصارية، أن المهاجرين لما جاءوا إلى المدينة وزعهم النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنصار في المدينة، فوضع عند كل أهل بيت من الأنصار رجلاً من المهاجرين ينضم إليهم في السكن والمعيشة، وغير ذلك -من باب المواساة بين المسلمين- قالت: فطار لنا سهم عثمان بن مظعون، أي: كان نصيبها ونصيب قومها من المهاجرين رجل اسمه عثمان بن مظعون -رضي الله عنه وأرضاه- قالت: فكان رجلاً زاهداً، عابداً، صائماً، قائماً، مصلياً، فمرض فمرضناه، ثم مات -رضي الله عنه وأرضاه- وكان النبي صلى الله عليه وسلم عنده حال موته، -فقلت- تقول هذه المرأة، قلت بعد موته، وقد بكت وحزنت لموته لما رأت عليه من علامات الطاعة والخير، فقالت: هنيئاً لك الجنة، أما والله إني أشهد لقد أكرمك الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام فقال لها: أو غير ذلك يا أم العلاء، إني وأنا رسول الله، والله لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، وانظروا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم هذا في قوله تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} [الأحقاف:9] فتأثرت هذه المرأة وحزنت وقالت: والله لا أزكي بعده أحداً أبداً، ثم نامت يوماً من الأيام وهي حزينة، فرأت عثمان بن مظعون -رضي الله عنه وأرضاه- في المنام في هيئة حسنة، ورأت له عيناً تجري، فلما استيقظت ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبرته بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: {ذلك عمله} فأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى البشارة لهذا العبد الصالح بالخير بالرؤية التي رأتها، وللعمل الصالح الذي قدمه، وظل يجري عليه بعد موته، ولكن لم يرض أن يشهد له، ولذلك كان من أصول أهل السنة والجماعة ألا يشهدوا لأحد من أهل القبلة بجنة ولا نار، وإنما يرجون لمن مات على الخير والإحسان الرحمة والثواب، ويخافون على من مات على الشر والفسوق والإثم العقاب، أما أن يشهد لأحد بالجنة أو النار خلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم فلا. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 10 التقصير في حق الله تعالى فيمكن أن يسلم الإنسان من المعاصي، ويسلم من العجب، ويعبد الله عز وجل حق عبادته، ولا أقول: حق عبادته كما يجب له، إنما كما يستطيع الإنسان أن يعبده، فهذا الإنسان حتى لو سلم من المعاصي ومن العجب، يقول الله عز وجل عنه: {كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس:23] أي: لو استفرغ الإنسان جهده في طاعة الله وبذل كل ما يستطيع، فإنه لا يمكن أن يؤدي حق شكر الله، ويعبد الله حق عبادته، أبداً. ولا يمكن أن يؤدي ما عليه، إنما يؤدي ما يستطيع، ولذلك الله عز وجل قال: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] فالأمر الثالث هو: أن الإنسان معرض أو مؤكد أنه واقع في التقصير في حق الله عز وجل مهما بذل من أنواع الطاعات والقربات. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 11 التعرض للمعصية الأمر الأول الذي يعرض له الإنسان: هو أن يعصي الله عز وجل، ولولا أن الله يسدد الطائعين لما أطاعوه، ويوفقهم للطاعة ثم يثيبهم عليها، فمن رحمته تعالى أنه ساقهم إلى الطاعة سوقاً، وشاء وأراد أن يكونوا طائعين، ومع ذلك شكر لهم. ومثل ذلك أن الله عز وجل هو الذي خلقهم وأوجدهم في هذه الدار، ثم اشترى منهم أنفسهم، فهو الخالق وهو المالك، ومع ذلك يشتري منك نفسك بأن لك الجنة شريطة أن تكون واقفاً عند حدوده، ملتزماً بأمره، منتهياً بنهيه. فالأمر الأول: الذي يمكن أن يعرض له الإنسان في أمر دينه هو أن يعصي الله عز وجل، فتذكرك أنك يمكن أن تكون في عداد العصاة، يجعلك تلوذ بالله، وتلتجئ إلى كنفه، وترجوه أن يحميك من المعصية، ويحميك من الشيطان، ومن شياطين الإنس والجن، وبطبيعة الحال فإن لو عصى الإنسان ربه ومات على ذلك؛ فقد خسر الدنيا والآخرة -والعياذ بالله- إلا أن يتغمده الله بواسع رحمته. ويمكن أن يوجد إنسان تخلص من المعصية المباشرة، فلا يقع في الفواحش والمنكرات المعروفة الظاهرة، فهذا الإنسان الذي تخلص من المعاصي والمنكرات، يمكن أن يقع في معصية أشد من المعاصي الظاهرة مثل شرب الخمر، والزنى والربا. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 12 العجب والغرور بالنفس فالأمر الثاني الذي يمكن أن يقع فيه الإنسان إذا سلم من المعصية هو: العجب، وهو الغرور بالنفس، والإعجاب بها، وهذا الغرور كفيل بإحباط الأعمال الصالحة التي تَعِب الإنسان وكدَّ في تحصيلها، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم} . ومن معاني هذا الحديث -والله أعلم-: أن الإنسان معرض للذنب بكل حال، ولا ينفك عنه الذنب، ولذلك ورد في حديث آخر إسناده، كما قال الهيثمي حسن، ورواه البزار عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك: العجب} . النقطة الثانية التي يمكن أن يعرّض لها الإنسان لو أطاع الله هي: أن يعجب بعمله! ولا شك أن العجب معصية، ولكنها معصية ليست للفساق، فالفاسق لا يعجب بعمله، لكن المطيع العابد يمكن أن يعجب بعمله فيحبط عمله. وفي صحيح مسلم أن رجلاً من بني إسرائيل كان مسرفاً على نفسه، غارقاً في المعاصي، وكان هناك رجل آخر طائع عابد لله عز وجل، فقال هذا الرجل الطائع للرجل العاصي: والله لا يغفر الله لك، أو أنى يغفر الله لك، فأحبط الله عمل هذا العابد وأدخل ذاك الجنة. هذا معنى الحديث. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 13 التخلص من مصائب الفقر بالتقوى إذاً كنت أيها الإنسان في أمر دنياك مفتقر إلى الله! فأنت في طفولتك ضعيف، ثم في شبابك معرض للمرض، ومعرض للموت، وإذا سلمت من المرض أو الموت فأنت صائر إلى مرحلة الكهولة ثم الشيخوخة ثم الهرم! وهي مرحلة ضعف يرجع فيها الإنسان إلى صورة ربما تكون في كثير من الأحيان أشد ضعفاً من الصورة التي كان يعانيها الإنسان في طفولته، فأنت في دنياك مفتقر إلى الله عز وجل وأنت في دينك أيضاً مفتقر إلى الله عز وجل، فأنت معرض للمعصية، فإن سلمت منها فأنت معرض للعجب، فإن سلمت منها فأنت معرض للتقصير أو لابد لك أصلاً من التقصير، ولا يمكن أن تقوم بكل الواجبات المنوطة بك وعبادة الله حق عبادته، ثم أنت معرض لأن يختم لك بسوء، ثم أنت بعد هذا كله لا يدرى ماذا يكون حالك بعد الموت، وما يدرى ما يفعل بك بين يدي الله عز وجل. وإذا كان الأمر كذلك وهو كذلك، فإن سائلاً يسأل: كيف لٍلإنسان أن يتخلص من هذا الفقر؟ إذا كان الواحد منا فقيراً حتى وهو يتقلب في النعيم، ويملك الأموال الطائلة، ويتربع على العروش، فهو فقير شاء أم أبى، فما هو السبيل الذي يجعل الإنسان يفر من هذا الفقر؟ السبيل هو التقوى والقرب من الله عز وجل والفرار إليه، ولذلك قال الله عز وجل مخاطباً لنا: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50] . فكل شيء تخافه فأنت تفر منه إلا الله عز وجل فأنت تخافه فتفر إليه، فإذا كنت تعلم أن الله عز وجل متصف بصفات الكمال المطلق، والغنى المطلق، وأنت متصف بالفقر والحاجة، فلا انفكاك لك من هذا الفقر إلا بالفرار إلى الله عز وجل فهو الذي يملك الكمال المطلق، وهو الذي من لاذ به واقترب منه منحه عز وجل من الكمال والقوة مالا يكون له في حساب، ولا يخطر له على بال، لذلك تجدون الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ثم أتباع الأنبياء الصادقين، تجدونهم أقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه من مصائب الدنيا، وأقوى الناس في الصبر على ما يواجهونه في أمور الدين ويتحملونه في سبيل الله. فعن عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت له: {يا رسول الله! ما أشد ما لقيت من قومك؟ أي: ما هو أشد موقف مر بك من قومك، فذكر لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذهب إلى الطائف يدعوهم إلى الإسلام فآذوه وردوه، وقالوا له قولاً سيئاً، فخرج صلى الله عليه وسلم على وجهه مهموماً فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، وهو لعله موضع بمنى قرب العقبة، لم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: فإذا سحابة قد أظلتني، فنزل منها ملكان جبريل وملك آخر، فسلم علي جبريل، وقال: يا محمد! إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك، فبعثني إليك وهذا ملك الجبال، فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال، وقال: يا محمد! إن الله سمع قول قومك لك، فمرني بما شئت، والله إن شئت لأطبق عليهم الأخشبين، وهما الجبلان المحيطان بمكة، فانظروا صلابة النبي صلى الله عليه وسلم وهو في هذا الموقف الذي خرج مهموماً على وجهه حتى لم يستفق إلا وهو في قرن الثعالب، قال صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} . وروى عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه وأرضاه- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال عبد الله بن مسعود: كأني انظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء ضربه قومه فأدموه، نبي اختاره ملك الملوك من السماء لينزل الوحي عليه، فيصل الحال بالسفهاء إلى أن يضربوه ويخرجوا الدم منه، فهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} ربما كان يخاف على قومه أن ينزل عليهم العذاب من السماء، فهو يسترحم الله عز وجل لقومه، ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وهكذا كان أصحاب الأنبياء، وهكذا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أشد الناس صبراً على اللأواء والبلواء التي تصيبهم، سواء في أمر دنياهم أم في أمر دينهم، ولا يتسع المجال لذكر بعض النماذج التي مروا بها، وعانوها وصبروا عليها، حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه من القوة والصبر والكمال. أسأل الله عز وجل أن يلحقنا بهم في الصالحين، وأن يثبتنا وإياكم بقوله الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأرجو ألا أكون قد أطلت عليكم، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 14 الأسئلة الجزء: 164 ¦ الصفحة: 15 خروج الدم من الأسنان أثناء الصيام السؤال كنت نائماً في نهار رمضان، وعندما استيقظت قمت لأتوضأ، وعند المضمضة لاحظت خروج دم من فمي، فهل علي قضاء أم لا؟ الجواب لا قضاء عليك؛ لأن الذي يظهر لي أن الدم الذي خرج من الأسنان، ليس فيه قضاء على أي حال، لأنه لم يُرتكب مفطر، ولم يدخل إلى جوفه شيء يوجب له الفطر والله أعلم بالصواب. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 16 الفطر قبل الغروب وكيفية قضاء الشباب أوقاتهم السؤال بسم الله الرحمن الرحيم، جزاكم الله خيراً على هذه المحاضرة القيمة، وهناك سؤالين: ماذا تنصح الشباب في شغل أوقات الفراغ؟ والسؤال الثاني: إذا أفطر الصائم قبل الغروب وذلك عند سماع صوت يشبه الأذان، فما الحكم هل يلزمه إعادة صيامه؟ الجواب أما السؤال الثاني بالنسبة لمن أفطر قبل الغروب، ظاناً أن الشمس قد غربت، فللعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: وهو مذهب الإمام أحمد، أنه عليه أن يقضي ذلك اليوم، ويستدلون بحديث أسماء قالت: {أفطرنا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم غيم، ثم طلعت الشمس قيل لـ عروة: هل أمروا بالقضاء قال: لابد من قضاء} فاستدلوا بقول عروة "لابد من القضاء". القول الثاني: وهو الذي يرجحه عدد من العلماء المحققين، أن من أفطر ظاناً غروب الشمس، ثم تبين أنها لم تغرب فلا قضاء عليه، ويستدلون بنفس الحديث يقولون لأن قوله: (لابد من قضاء) ليس من قول الصحابي ولو حصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالقضاء لنقل إلينا. أما كيف يقضي الشباب وقت فراغهم؟ فلا شك أن هذا موضوع محاضرة في ذكر الوسائل والطرق التي يقضون فيها وقت الفراغ، لكن أوصي إخواني من الشباب باختيار الجلساء الصالحين، وأوصي إخواني من الشباب بقراءة الكتب النافعة، ولا بأس أن يختاروا الكتب القصصية والكتب التاريخية التي تحثهم على القراءة وتشجعهم عليها، ويبدءون بالأسهل فالأسهل، وأوصي إخواني بأن يشاركوا في النشاطات، كالمراكز الصيفية وغيرها من الأنشطة التي تصرف طاقاتهم إلى سبيل الخير، وتحفظها من التشتت أو من الانحراف والله أعلم. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 17 حكم من حكم على شخص بالنار السؤال ما حكم من قال: لن يدخل الله الجنة فلان، وماذا يفعل لأنه من الناس الفاسقين؟ الجواب لا يجوز أبداً، لأن الجنة ليست ملكي أو ملكك حتى ندخل فيها من شئنا، ونحرمها من شئنا، وفي الصحيح أن عبداً وحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! -وكان حاطب قد شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، وربما يكون هذا العبد يرى أنه قد ظلمه في شيء- فقال هذا العبد للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! والله ليدخلن حاطب ٌ النار -فحكم على حاطب أنه سيدخل النار- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {كذبت! والله لا يدخلها، إنه شهد بدراً} أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يجوز لأحد أن يحكم بالجنة لأحد أو بالنار على أحد، إلا من حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أو بالنار، فمثل من حكم لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة العشرة المبشرين بها، وحاطب بن أبي بلتعة، وعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم، وخديجة رضي الله عنها وسواها، وكذلك لا نشهد لأحد بالنار إلا من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالنار، كما في قصة الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أين أبي؟ قال: أبوك في النار؛ فكأن هذا الرجل وجد في نفسه شيئاً، فلما ولىّ دعاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: {أبي وأبوك في النار} وهكذا الحال، أما غيرهم فلا نشهد لأحد بالجنة أو بالنار، أما من وقع في هذه الخطيئة، فعليه أن يتوب ويستغفر الله عز وجل، ويكثر من الأعمال الصالحة، لعل الله أن يتجاوز عنه، ولا يؤاخذه بجريرته، وإلا فلو آخذه بجريرته لهلك. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 18 العجب بالنفس السؤال فضيلة الشيخ: ما المقصود من العجب بالنفس؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً. الجواب المقصود بالعجب هو أن يرى الإنسان عمله، ويشعر بحجم عمله، ويحس بأنه قدم شيئاً، ويتعاظم هذا الشيء الذي فعل، فالجدير بالإنسان أصلاً هو أن يعمل كل ما يستطيع، ويستصغر ويحتقر هذا العمل الذي عمله، أما أن يعمل الإنسان ثم يتعاظم هذا العمل؛ فكأنه يمنُّ به على الله عز وجل، ويعجبني أن أسوق لكم بهذه المناسبة رواية وإن كانت من الروايات الإسرائيلية ولست أستحب سوق الروايات الإسرائيلية، لأننا نجد في القرآن والسنة ما يغنينا عنها، إنما أحياناً يكون فيها طرافة وفيها شَدٌّ للناس. يروى في الروايات والحكايات الإسرائيلية ولاشك أن معناها صحيح قطعاً: أن رجلاً من بني إسرائيل كان يعبد الله عز وجل ستين سنة، ويسأل الله حاجة من الحاجات، فلم يجيب الله عز وجل دعوته خلال ستين سنة، وما لبىّ الله طلبه ولا أجاب إلى هذه الحاجة التي يدعو الله عز وجل أن يحققها له، فلما بلغ ستين سنة وصلى يوماً من الأيام نظر إلى نفسه نظرة المقت والازدراء، وقال وهو يخاطب نفسه: والله لو كان لك عند الله منزلة لأجاب حاجتك، فهذا دليل على احتقاره نفسه فسمع منادياً يناديه: إن احتقارك لنفسك في هذه اللحظة أعظم عند الله من عبادتك ستين سنة. وكلكم تعرفون ما في الصحيحين من قصة أبي سعيد وأبي هريرة في قصة الإسرائيلي الذي لم يعمل خيراً قط، فلما قرب الموت جمع بنيه، وقال: يا أولادي كيف كنت لكم؟ قالوا: كنت لنا خيراً. قال: فإني لم أعمل خيراً قط، فإذا أنا مت فأحرقوني ثم اسحقوني، ثم انظروا يوماً شديد الريح فذروني فيه، فوالله لإن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فأمر الله عز وجل هذا المخلوق فاجتمع بين يديه، فقال: ما حملك على ذلك يا عبدي؟ قال: مخافتك يا رب، فغفر الله عز وجل له. فأقول: الخوف الشديد في القلب، ومقت النفس، وازدراء العمل هي أعظم بضاعة يقدم بها الإنسان إلى الله عز وجل أما أن يعجب الإنسان ويرى أن ما يعمله عملاً طيباً، وكبيراً وكثيراً إلى جنب الله، فهذا كفيلٌ بإحباط هذا العمل وخسرانه له، أسأل الله لي ولكم السلامة. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 19 الوسواس في الصلاة السؤال سماحة الشيخ: أنا شاب أصلي جميع الصلوات الخمس والحمد لله، ولكن التقصير في الصلاة يلاحقني دائماً، فأرجو من سماحتكم أن تبينوا لنا الطريق الصحيح لكي يعي الإنسان ما يقوله في صلاته والله يحفظكم؟ الجواب أريد أن أعلق تعليقاً بسيطاً. أولاً: يسمى الإنسان شيخاً، ثم يتطور الأمر فيصبح فضيلة الشيخ، ثم يزداد الأمر عظمة فيصبح سماحة، وأقول رويداً على الشيء هذا. أما الجواب على السؤال فأقول: بين الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في البخاري وغيره، أن الشيطان إذا أقيمت الصلاة أدبر، فإذا انتهى التثويب أقبل، حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا اذكر كذا، لما لم يكن يذكر. فعلى الإنسان أن يستعيذ بالله أيضاً من الشيطان الرجيم، وعليه أن يحرص على التفكير في معنى ما يقرأ من القرآن أو الأذكار، وعليه أن يحرص على ألا تكون صلاته وقراءته أمراً مألوفاً، أكثر الناس الآن يصلي ولو سألته بعدما ينتهي من الصلاة ما هي السور التي قرأتها لم يدرِ، لأنه تعود آلياً أن يقرأ سوراً معلومة بعدما ينتهي من الفاتحة، وهو نفسه ينتهي منها دون أن يشعر بأنه قد بدأ فيها، فيعود الإنسان نفسه أن يختار سوراً، يختارها ويغيرّ يوماً بعد يوم. يقرأ -مثلاً- آخر القرآن، من أول جزء عمّ، ومن أوسطه، ومن آخره، ومن جزء تبارك، ومن غيرها مما يحفظ من السور الأخرى، فيغير ويحاول أن يفكر في معنى الأدعية والأذكار التي يقرأها، ويحاول أن يبعد الشواغل المادية. فإذا كان أمامه في جهة القبلة أشياء، أو في جهة موضع سجوده تشغله وتشد تفكيره، فيحاول أن يتخلص منها، وأهم من هذا أن يحاول أن يبعد الشواغل القلبية، فإذا كان القلب مشغولاً مشتتاً موزع الهموم هنا وهناك؛ فمن الطبيعي ألا يكون فيه موضع للذكر والتأمل، ويشبه بعض العلماء القلب المشغول بالإناء المملوء، فيقول: أرأيت لو أتيت بإناء وملأته بالتراب، ثم أردت أن تضع في هذا الإناء عسلاً -مثلاً- تجد العسل لو وضعته فوق التراب ينسكب يمنة ويسرة في جانب الإناء ويبقى التراب في مكانه. فلا بد من التخلية وهي أن نحاول أن نخلي قلوبنا من الشواغل قدر الإمكان، ولا أطلب صورة مثالية، لكن جاهد نفسك قدر ما تستطيع، المهم ألا تستسلم، وفرغ قلبك من الشواغل، ثم حاول أن تفكر -كما قلت- وحينئذٍ ستجد للعبادة لذة، وستجد للصلاة حضوراً ومعنى في حياتك، ولذلك وصف الله عز وجل المصلين بصفات عظيمة في القرآن الكريم، كما في سورة (سأل) وغيرها. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 20 ترك السنة خوف الرياء السؤال أنا لا أرتدي الثياب القصيرة، وأخاف حين ألبسها أن يتهمني الناس بالنفاق، فماذا عليّ أن أفعل أفيدوني جزاكم الله خيراً؟ الجواب كما أن الإنسان لا ينبغي ولا يجوز له أن يعمل عملاً من أجل الناس، كذلك لا يجوز أبداً أن يترك عملاً من أجل الناس، وكلا الأمرين يدل على عظم شأن الناس في قلبك، وضعف شأن الله عز وجل، فمن أدرك عظمة الله احتقر الناس أن يعمل من أجلهم، أو يترك من أجلهم، بل يعمل ويترك من أجل رب الناس، والذي أنصح به هذا السائل هو ما نصحت به أخي قبل ذلك! ألا يلتفت إلى هذه الأشياء في قلبه، فهذه الأمور التي تجول في قلبك لا تلتفت إليها، بل اعمل ما ترى أنه خير، واترك ما ترى أنه شر، ولا تصغ إلى الوازع أو الدافع في قلبك الذي يقول: انظر إلى فلان، أو انظر إلى فلان، أو تخشى أن يقول الناس: إنك منافق، أو مرائي، أو تخشى من الرياء أو ما أشبه ذلك، بل وادفع ذلك ما استطعت. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 21 السلام على قارئ القرآن السؤال فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، رجل سلم عليه آخر وهو يقرأ القرآن، هل يرد السلام أم يكمل القراءة؟ الجواب يكمل الآية التي يقرؤها ثم يرد السلام. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 22 حديث (لا يؤمن المرء حتى يؤمن بأربع) السؤال فضيلة الشيخ، ذكرت في أول المحاضرة أنه لا يؤمن المرء حتى يؤمن بأربع، وذكرت منها الإيمان بالموت، فما هي الثلاثة الأخرى؟ الجواب يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: {لا يؤمن أحدكم حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر} وأذكر أنني تحدثت في المسجد عن هذا الحديث وبيّنت معنى الإيمان بالموت، وربما يكون من بينكم من كان حاضراً ويستطيع أن يذكرنا، ما معنى الإيمان بالموت؟ لأن الموت كل الناس يؤمنون به حتى الكفار يدركون أنهم ميتون لا محالة، فماذا يعني الإيمان بالموت إذن؟ نعم، إنه يعني الاستعداد للموت، ومن الإيمان بالموت معرفة أن الموت هو قضاء الله وقدره، وأن لكل أجل كتاب، ولا يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها، ومعرفة أن الموت ليس أمراً طبيعياً كما يدعيه الملاحدة، وليس من باب تناسخ الأرواح كما تدعيه بعض الفرق القديمة، وإنما هو خروج الروح من الإنسان ومفارقتها للجسد، ويدخل في ذلك الإيمان بالبرزخ، وترد الروح إلى الإنسان في قبره، والجزاء والنعيم أو العذاب الموعود في القبر. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 23 معنى كلمة مطوع السؤال فضيلة الشيخ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد. فإن هناك بعض الشباب هداهم الله يقول الشباب عنهم كلمة (مطوع) أو يقولوا (متشدد في الدين) فأرجو تبيين المدلول الصحيح لكلمة مطوع أثابكم الله؟ الجواب التطوع هو: أن يفعل الإنسان أمراً ليس ملزماً به، أما الذي يؤدي الصلاة -مثلاً- فلا يسمى متطوعاً بهذا العمل إلا إن كانت نافلة، وإلا فهو يؤدي واجباً، ولو لم يصلّ لما كان مسلما أصلاً، وهكذا من يؤدي الزكاة، أو من يحج بيت الله الحرام ممن يجب عليه، لا يسمى متطوعاً بهذا، بل يعتبر قد أدى واجباً لا تبرأ ذمته إلا به، ومدلول السؤال هو أن هناك من الشباب من يسخرون بالمتدينين من الشباب. وأحب أن أقول: إن التدين في الشباب وفي غير الشباب الآن أصبح ظاهرة تفرض نفسها على القريب والبعيد، والعدو والصديق، وأقول: بكل سرور هذا الكلام يقال؛ لأن الإنسان يجد أينما ذهب، وأينما توجه، وأينما دخل، يجد الناس قد أقبلوا على هذا الدين بحمد الله، كباراً وصغاراً، وحتى من الناس الذين كان لهم تاريخ أسود من الجرائم، والمنكرات، والانحرافات، قد عادوا إلى الله عز وجل عودة صحيحة قوية، وأصبحت تجد في كل مكان أناساً يتمسكون بالدين، ليس على سبيل التقليد والمحاكاة للآباء والأجداد، وليس على سبيل أنهم مجرد سذج، لا. بل أناس يتجهون إلى الدين بوعي وإدراك، وتصميم ويقظة، وأصبحوا يفرضون احترامهم على الجميع والحمد لله، وهذه نعمة تدلنا على أن الله عز وجل قد أراد بهذه الأمة خيراً، وأراد بهذا الدين خيراً، وهي مصداق لما وعد الله عز وجل ولما وعد الرسول صلى الله عليه وسلم من رفعة شأن هذا الدين. ولذلك أقول: لم يعد المجال مجال سخرية من المتدينين، إلا من بعض السفهاء، الذين وصفهم الله عز وجل بقوله: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] أو وصفهم بقوله: {قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} [التوبة:64] أو وصفهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا} [التوبة:65-66] . فالإنسان -وأرجو أن تنتبهوا لهذا الحكم جيداً حتى لا نقع في الخطأ- أو كل من يسخر من متدين؛ لأنه متدين، يكون كافراً بهذا العمل، لأن هذا من نواقض الإسلام، فلو وجدت إنساناً مصلياً في المسجد فضحكت منه وسخرت منه، ليس لأنه فيه عيب خلقي، وليس؛ لأنه فقير، وليس لأن ثوبه ممزق، ولكن لأنه مصلي، ففي هذه الحالة من يفعل ذلك يكفر ويخرج من الملة، ويجب عليه أن يتوب ويتشهد ويدخل في الإسلام من جديد، أما لو سخر بالمتدين لأمر آخر ليس للتدين، وإنما سخر منه لقضية أخرى، نفترض أن المتدين رسب في الامتحان فسخرت منه لرسوبه في الامتحان مثلاً، أو لأنه عنده -مثلاً- عيب في لسانه وحبسة وعدم قدرة، أو أي أمر آخر، ففي هذه الحالة: لا نقول إن الساخر يكفر، ولكن نقول إنه قد عرض نفسه لغضب الله عز وجل، بل عرض نفسه لحرب الله تعالى، قال الله عز وجل في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى-: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب} فربما يكون هذا الذي سخرت منه وعاديته ولياً من أولياء الله، لأن أولياء الله ليس عليهم علامات أو سمات إلا الخير والتقوى والصلاح والإيمان {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63] فيمكن أن يكون هذا سخرت منه وعاديته ولياً من أولياء الله، فعرضت نفسك لسخط الله وعقوبته. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 24 الشك في الدين السؤال ما حكم الشك في الدين إذا خالج الإنسان، ولكنه ليس شكاً ظاهراً؛ بل هو أقرب للوسواس؟ الجواب الذي يبدو لي أن هذا الذي سأل عنه الأخ السائل هو نوع من الوسواس، ولاشك أن الإنسان لو شك في دينه شكاً حقيقياً فإنه يكفر، إنما يجب على الإنسان ألا يستعجل في إطلاق هذه الكلمة، فإنني أعلم كثيراً من الشباب وخاصة في مرحلة المراهقة، تدور في مخيلاتهم أفكار كثيرة يضيق منها الإنسان، ويتبرم بها، وربما تجد بعض هؤلاء الشباب قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، واسودت الدنيا وأظلمت في عينيه، ولا يهنأ بعيش، ولا بنوم، ولا يأكل، ولا يشرب، فلو سألته ما شأنك؟ قال: أنا عندي شكوك، ووساوس، وعندي كذا وكذا. فنقول له: إذا كان عندك شكوك ووساوس فأنت مما تخاف؟ قال: أخاف أن أموت على هذا الحال، إذاً كونك تخاف أن تموت على هذه الحال، دليل على أنك مؤمن في الحقيقة، وإلا لو كنت غير مؤمن، لما كنت مبال أن تموت أو لا تموت على هذه الحال! فوجود خوف حقيقي مزعج للإنسان، دليل على أن عنده أصل الإيمان في الغالب، وإلا فإن الإنسان ربما يقول: أنا أخشى أن أموت، وهذا مثل ما يقول المعري: قال المنجم والطبيب كلاهما لا يُبعث الثقلان قلت: إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما فهذا المذهب لاشك أنه يحتمل، لكن الذي لاحظته من معايشتي ورؤيتي لعدد من هؤلاء الشباب، أن الأمر بالنسبة لهم ليس شكاً حقيقياً، وإنما هو نوع من الوسوسة يكيد بها الشيطان للإنسان! والدليل على ذلك أن هذه الوسوسة تأخذ صوراً شتى -فمثلاً- تجد الإنسان اليوم يشك في بعض الأمور المتعلقة بالألوهية، فيظل يعالج الأمر، ويقرأ في الكتب، ويراجع المشايخ وطلاب العلم والعلماء وغيرهم حتى يزول هذا الأمر، ثم تجد أمر الشك عنده تحول إلى وسوسة في شأن الوضوء، وأعرف أناساً بهذا الشكل، فصار يشك في الوضوء، ويطيل الوضوء، ويكرره، فظل يعالج هذا الأمر حتى انتهى، فأخذ الشك صورة ثالثة، أو الوسوسة بالأصح، وهي الشك في موضوع الصلاة، فصار يكرر الصلاة، ويعيدها، وهكذا. فهذا دليل على وجود شيء من الضعف في القلب عند الإنسان يأخذ صوراً شتى، فمرة يأخذ صورة الوسوسة في شأن الإيمان، ومرة أخرى في شأن الوضوء والطهارة، ومرة ثالثة في شأن الصلاة! والذي أنصح به من وجد شيئاً من ذلك: أولاً: ألا يلتفت إليه، فإن أثمن وأعظم نصيحة هي ألا يلتفت إليه، والشيطان إذا أعرض عنه الإنسان وهجره ضعف كيده، وإذا أصغى إليه الإنسان وحاول أن يستمع منه تعاظم حتى يكون كالجبل العظيم. إذن فأعظم وأثمن نصيحة هي ألا تلتفت إلى هذا الأمر، ولا تصغ إليه، وحاول أن تشغل نفسك بأمور أخرى! مثلاً بالقراءة! أو الرياضة! أو الصلاة، أو العبادة، أو الزيارة، أو المجالسة أو بغيرها من الأمور الخيرية أو الأمور العادية!! الأمر الثاني: إذا رأيت أن الأمر لم يندفع عنك، فعليك ألا تتردد في الاتصال بأحد العلماء، أو طلاب العلم الذين تجد عندهم الشفاء لما تعاني. الأمر الثالث: أن تدرك أن هذه الحالة التي تعانيها ليست دائمة، والذي لاحظته عند كثير من المصابين بهذا الأمر أنهم يتصورون أن هذا الذي يعانونه ثابت، ومستمر، وسرمدي عليهم، حتى لا يخيل للواحد منهم أنه سينجو مما هو فيه. فأقول: لا، بل يجب على الإنسان أن يدرك أن الحالة التي عاشها هي أيضاً عاشها أكثر الشباب المراهقين، ثم تخلصوا منها، فعليه أن يدرك أنها ستزول، وعليه أن يطمئن قلباً، ويحرص على الامتثال للنصائح التي ذكرت، والاعتصام بالله وكثرة الدعاء، وقد صح عن حذيفة رضي الله عنه في مستدرك الحاكم أنه قال: [[يأتي على الناس زمان لا ينجو فيه إلا من دعا دعاء الغريق]] فعلى الإنسان أن يفزع إلى الله عز وجل بكثرة الدعاء. الجزء: 164 ¦ الصفحة: 25 عوامل تقوية الإيمان فيه بيان مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان، وأنه قولٌ وعمل، وأن الإيمان يزيد وينقص. وفيه ذكر لأهم عوامل تقوية الإيمان. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 1 الشعور بضعف الإيمان لدى الشباب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة! الموضوع الذي سنتدارسه في هذه الجلسة هو: عوامل تقوية الإيمان، والملاحظ أن هناك تساؤلات كثيراً ما تطرح من الشاب، سواء في دواخل نفوسهم أو يبوحون بها لغيرهم، هذه التساؤلات منها تساؤل حول شكوى كثير من الشباب، عن تردي مستوى إيمانهم، وأن الواحد منهم يشعر على رغم قدم عهده في طريق الهداية، وأنه فتح عينيه في بيئة إسلامية، وتلقى الإسلام منذ نعومة أظفاره، وقد يكون عاش في وسط شباب صالحين، ومضى على هذا سنين عديدة قد تزيد على العشر أو العشرين، ثم يلحظ هذا الشاب أن إيمانه ما زال على ما كان إن لم يكن يتناقص، ويشعر الشاب حينئذٍ بالخوف من هذا الضعف الذي يحس به في مستوى إيمانه. وقد يبرز التساؤل في صورة أخرى، وهي أن بعض الشباب قد يكون قضى ردحاً من عمره في فترة ضياع وانحراف، ثم هداه الله إلى الطريق المستقيم، فيريد هذا الشاب فيما بقي من عمره أن يستدرك ما مضى، وأن يعوض عما فات، وهو قد يشعر في فترة بنوع من الإقبال في بداية طريقه، ثم قد يشعر بقدر غير قليل من تحول شعوره الإيماني إلى شعور عادي في غالب الأحوال، ويحس بشيء من الفتور بعاطفته الإسلامية. وأحياناً يبرز التساؤل في صورة شعور كثير -إن لم أقل: كل المؤمنين- بأن إيمانهم في حالة تذبذب بين ارتفاع وانخفاض، ويشعر المؤمن بأن إيمانه ليس في تصاعد مستمر، بل هو أحياناً ينتعش ويشرق ويسمو، وأحياناً أخرى يشعر بشيء من الضعف والفتور! إلى تساؤلات كثيرة يطرحها الشباب حول هذا الموضوع. ولعل في هذه الإشارات العابرة في هذا الموضوع لفتاً لبعض الإخوة إلى الوسائل المعينة على تقوية الإيمان، وإن كان موضوع تقوية الإيمان موضوعاً عملياً، وليس موضوعاً نظرياً، فالإنسان الذي يملك الإرادة القوية، والصدق في رفع مستوى إيمانه، لا يعجزه أن يعرف الوسيلة التي يتوصل بها إلى هذا المطلوب. لكننا كثيراً ما نحب التحدث في بعض الموضوعات حين نشعر بضعفنا فيها، وكأن هذا الحديث نوع من العلاج النفسي لهذا الشعور، دون أن يكون عند الإنسان صدقٌ في التوجه نحو تحقيق إيمانه ورفع مستواه. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 2 الإيمان يزيد وينقص وهناك مقدمة لابد منها في بداية هذا الحديث، ألا وهي الإشارة إلى ما هو معلوم ومقرر لدى الجميع، من أن مذهب أهل السنة والجماعة في الإيمان: أن الإيمان اعتقاد في القلب، يتبعه نطق باللسان الذي يترجم ويعبر عن حقيقة هذا الاعتقاد، يتبعهما عمل بالجوارح، فالقلب سائق يسوق البدن إلى الأعمال التي تناسبه، ولذلك أيضاً يقول أهل السنة والجماعة: إن الإيمان يزيد وينقص، سواء في ذلك إيمان القلب أو عمل الجوارح، فهو يزيد وينقص، وقد نطق القرآن الكريم والسنة النبوية بهذه الحقيقة. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 3 أدلة زيادة الإيمان يقول الله عز وجل: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ويقول: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً} [المدثر:31] ويقول: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ففي هذه الآيات التصريح بزيادة الإيمان. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 4 أدلة نقص الإيمان أما نقص الإيمان فإنه وإن لم يرد صراحة في القرآن الكريم إلا أنه معروف من هذه الأدلة، لأن الإنسان حين يؤمن بأن الإيمان يزيد، فإن هذه الزيادة إذا عدمت ولم توجد، فمعناه أن الإيمان في حالة نقص حينئذٍ، وقد صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بنقصه كما في الحديث المتفق عليه من قوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً النساء: {ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن} وفسر نقصان الدين بأنها إذا حاضت لم تصل ولم تصم. إذاً: فهذه الحقيقة هي منطلق الحديث، وهي أن الإيمان يزيد وينقص. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 5 صور زيادة ونقص الإيمان والزيادة في الإيمان تقع على صورتين: إما أن تكون زيادة في كيفية الإيمان، يعني في قوته أو ضعفه، وهذا ثابت، فأنت -مثلاً- لو سمعت ببعض البلدان لأول مرة، أو دولة من الدول، فإنك حين تسمعها لأول مرة، وكان من سمعتها منه رجلاً موثوقاً خبيراً تقبلت خبره وصدقته، لكن هذا التصديق قابل للنقض، فلو جاءك آخر وشكك فيه لداخلك الشك، فإذا جاء ثاني، وثالث، ورابع، وحدثوك عن هذا البلد نفسه، وسكانه، ومنتجاته وتفاصيله وغير ذلك، بدأ إيمانك بوجود هذا البلد واقتناعك يزداد يوماً بعد يوم، حتى يصبح في يوم من الأيام غير قابل للنقض، ولو جاء واحد بيننا الآن يشككنا بوجود دولة من الدول التي نسمع بها صباح مساء، لسخرنا منه جميعاً، مع أننا ربما لم نزر هذه الدول أو معظمها، لكن قناعتنا فيها صارت قناعة مطلقة غير قابلة للشك، فإذا حدث أن سافر هذا الإنسان وزار هذه الدولة، وتجول في ربوعها، فإن هذا الإيمان ينتقل حينئذٍ إلى مرتبة المشاهدة، واليقين المطلق. إذاً التصديق بالقلب يتفاوت، هذا مع أن للقلب أعمالاً أخرى تتفاوت أيضاً، فمن المعلوم أنه يترتب على تصديق القلب أعمال أخرى، من الحب لله عز وجل، ورجائه، والتوكل عليه، والرغبة فيما عنده، وهذه الأعمال القلبية يتفاوت الناس فيها تفاوتاً أبعد مما بين المشرق والمغرب، هذا من حيث قوة الإيمان وضعفه. ولكن أيضاً هناك زيادة ونقص في مقدار وكمية الشيء الذي يؤمن به الإنسان، فالإنسان حين يسمع آية من كتاب الله يؤمن بها، فإذا سمع آية أخرى يؤمن بها، وهكذا كلما سمع آية جديدة، أو حديثاً، أو حكماً يسمعه لأول مرة فآمن به وصدق ازداد عدد الأشياء من الآيات، والأحاديث، والأحكام التي يؤمن بها، ولذلك قال الله عز وجل في الآية السابقة: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً} [التوبة:124] وقال سبحانه: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124] لأنها سورة جديدة أنزلت فآمنوا بها فزاد إيمانهم. إذاً الإيمان يزيد وينقص كماً وكيفاً، وأهله يتفاوتون فيه قوة وضعفاً، ولذلك روى الحاكم في مستدركه، وصححه ابن أبي شيبة في كتاب الإيمان عن ابن مسعود رضي الله تعالى أنه كان يقول: [[إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه]] وهكذا تكون قوة الإيمان بحيث يخالط الإيمان لحم الإنسان ودمه ويجري في عروقه حتى يصبح فرح الإنسان وحزنه وسعادته، وروح قلبه، وما يعتريه من أحوال نفسية مختلفة، مرتبطاً بهذا الإيمان، يفرح ويجزن من أجله، ويحب ويبغض فيه، ويوالي ويعادي على أساسه. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 6 الغرض من وسائل تقوية الإيمان أما الوسائل والأسباب التي يتوصل بها الإنسان إلى تقوية الإيمان فهي كثيرة، ولا أعتقد أنني أستطيع أن أحيط بها، لكنني أشير إلى أن الإنسان مطالب بتحقيق هذه الوسائل لغرضين: الجزء: 165 ¦ الصفحة: 7 تقوية الإيمان أولاً: لتقوية إيمانه، لأننا نعلم أن الإيمان إن لم يزد فهو على خطر النقصان، فهو بمثابة الماء في الأنبوبة إن لم يوجد ما يدفعه فإنه في الغالب يهبط، بل إن الضعف أهون على الإنسان من الارتفاع، والهدم أهون عليه من البناء، فالمؤمن حين يريد أن يعالج مسألة رفع مستوى إيمانه سيجد في ذلك بعض المشقة والعناء، لأن هذا نوع من الجهاد، لكن حين يترك الأمر ويهمله، فإنه لا يحتاج إلى أكثر من أن يغفل عنه. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 8 العمل على تثبيت الإيمان ثانياً: الإنسان أيضاً مطالب بأمر آخر، وهو أن يعمل على تثبيت إيمانه، وهذا ذو علاقة قوية بالموضوع، فأنت لا تظن أن القضية محصورة في رفع مستوى الإيمان أو بقائه على ما هو عليه أو ضعفه، بل يجب على الإنسان أن يدرك بأنه مهدد بأن يسلب منه هذا الإيمان، وقد صح عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر أن يقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله! أتخاف علينا وقد آمنا بك وصدقناك، وآمنا بما جئت به؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم. إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء} رواه الترمذي وقال: حديث حسن، ورواه الإمام أحمد في مسنده، وابن أبي شيبة بسند على شرط مسلم وفي هذا الحديث دلالة صريحة على أن كل إنسان وإن كان مؤمناً الآن فهو معرض أن يسلب منه هذا الإيمان، والسلب قد لا يأتي بالكلية وبصفة مفاجئة، بل قد يكون تدريجياً، فيضعف هذا الإيمان حتى يموت في قلب الإنسان. إذاً: فالإنسان مطالب بتثبيت الإيمان، ومن أجل تثبيت الإيمان هو أيضاً مطالب بتقوية الإيمان. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 9 وسائل تقوية الإيمان والوسائل المستخدمة في ذلك كثيرة، أذكر بعضاً منها مما يناسب المقام: الجزء: 165 ¦ الصفحة: 10 الصبر يقوي الإيمان وأخيراً أقول: إن من أهم وأقوى وسائل تقوية الإيمان: الصبر، ولله در علي بن أبي طالب حين كان يقول: [[الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا فقد الصبر فقد معه الإيمان]] وهذه الكلمة صحيحة، فالصبر لا بد منه للإيمان، ولو تأملنا جميع الوسائل والأسباب السابقة، لوجدنا أنها مفتقرة إلى الصبر، فالإنسان قد يفكر في ملكوت السماوات والأرض مرة أو مرتين، لكن إذا لم يكن لديه صبر وجلد، وتوطين للنفس، فما أسرع أن يترك هذا التفكر وينشغل بالأمور العملية التي يعانيها في واقعه! والإنسان قد يذكر الله حيناً من الدهر، أو يحافظ على الصلاة، أو على الدعاء، أو على أي عمل من الأعمال الصالحة التي تقوي الإيمان، لكن إذا لم يكن لديه صبر، فما أسرع أن يدب إليه الكسل والملل! فيترك الذكر والدعاء والأعمال الصالحة، أو يفرط فيها! وقد يسعى في تحصيل العلم، فيجلس في حلقة من حلقات المشايخ الموجودة في طول هذه البلاد وعرضها، أو يقرأ شيئاً من الكتب، يبدأ في ذلك، وربما يبدأ بداية جادة، ولديه برنامج عريض طويل، وينتقل من حلقة إلى حلقة، ومن قراءة إلى سماع، وغير ذلك، لكن إذا لم يكن متحلياً بالصبر فسرعان ما يدب إليه الملل والضجر والضيق، ويترك هذه الأشياء جملة، وربما صار كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وكذلك الدعوة إلى الله، قد يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن بمجرد ما يواجه معارضة أو عدم قبول، فإنه يترك هذا الأمر إذا لم يكن لديه صبر، وقد يجتمع مع بعض الطيبين والصالحين ويجالسهم، لكن إذا لم يكن لديه إمكانية الصبر على أذاهم، فسرعان ما يفارقهم، لأن الناس ما منهم إلا مؤذٍ ومُؤْذَى، يعني أن الإنسان مؤذٍ ومؤذى في نفس الوقت، فإذا لم يكن لديه صبر على تحمل ما يلقاه من عنت الناس فسرعان ما يفارقهم، بل إذا لم يكن لديه صبر على الصبر، فإنه قد يصبر مرة أو مرتين، ثم يترك هذه الأشياء. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 11 طلب العلم الشرعي الوسيلة الثالثة من وسائل تقوية الإيمان هي: العلم، والعلم أنواع: منه العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وما يجب له، وهذا العلم من أقوى أسباب تقوية الإيمان إذا سلك الإنسان إليه الطريق الصحيح، فإن معرفة الله عز وجل، ومعرفة أسمائه وصفاته تورث حبه ورجاءه وخوفه، ولا بد من ذلك، ولذلك قيل: من كان بالله أعرف كان منه أخوف، فإذا عرف العبد ربه من خلال القرآن الكريم، والحديث الصحيح، وجد في قلبه حب الله وخوفه وتعظيمه، ولهذا فإن أول مصدر يجب أن يتلقى عنه الشاب العقيدة في الله تعالى، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، هي النصوص الشرعية، لأنك تجد في القرآن الكريم من التعريف بالله تعالى ما هو مدعاة لإثارة الأعمال القلبية كالحب والخوف والرجاء والتوكل، وهذا قد لا تجده في كثير من المصنفات الأخرى التي وضعها الناس، وهذا أمر طبيعي، بل لا تجدها في شيء من المصنفات قط. فعلى الشاب أن يتعرف على الله من خلال القرآن والسنة، ثم يحرص على معرفة الله، وأسمائه، وصفاته، والعقائد الصحيحة، من خلال كتب أهل السنة والجماعة، لكن هاهنا أمر يجب التنبه له، ألا وهو: أن المعرفة التي تورث قوة الإيمان ليست هي المعرفة العقلية المجردة، فكثير منا الآن يمكن أن يسرد مثلاً مجمل اعتقاد أهل السنة والجماعة، والرد على الطوائف المنحرفة، كالمعتزلة، والجهمية، والأشاعرة، والجبرية، والقدرية وغيرهم، في أبواب الأسماء والصفات، وأبواب الإيمان والقدر، والنبوات، وفي سواها، لكن هذا العلم لم يصل بعد إلى قلبه، فعليه أن يدرك أن من معه هذا العلم فإن الحجة عليه قائمة، فعليه أن ينقل هذا العلم من كونه علماً في الورق، أو في لسانه، أو عقله فقط، إلى كونه علماً يصل إلى قلبه، فيحدث عنده حب الله، وخوفه، ورجاءه، والإقبال على العبادة، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى. والنوع الثاني من العلم الذي يزيد الإيمان أيضاً هو: العلم بتفاصيل أمور الشريعة، كمعرفة الحلال والحرام، وهذا أيضاً يزيد الإيمان، ويزيد الإيمان من حيث أن الإنسان كلما علم حكماً جديداً، فآمن به وسلم له؛ زادت كمية الأحكام التي يؤمن بها من جهة، ومن جهة ثانية فهو سيعمل بهذا الحكم، ويدعو إليه، ويؤيد من عمله، وبذلك يقوى إيمانه ويزداد. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 12 الاجتماع على الخير الوسيلة الرابعة هي: الاجتماع على الخير، ونخن نعرف ونجد من ضرورات نفوسنا أن الإنسان قد ينشط للعبادة إذا كان في ملأ أكثر مما ينشط لها إذا كان بمفرده، ولذلك تجد من الإقبال على القيام في رمضان، في صلاة التراويح والقيام ما لا تجده في غيره، وتجد أن الله عز وجل شرع الجماعة في كثير من العبادات، في صلاة الجماعة، والعيدين، والكسوف، وغيرها، وكالحج، وتجد أن المسلمين يقومون بالعبادات في وقت واحد، فيصومون في وقت واحد، ويقفون بعرفة في وقت واحد، وهذا مدعاة لقوة فعل الإنسان للطاعة، وإقباله عليها، ولذلك تجد الإنسان حين يصوم في رمضان، يجد من القوة والإقبال على الصيام ما يجد، لكن حين يصوم نفلاً بعده يشعر بثقل هذا الصيام، أو بثقل الجوع والعطش، أكثر مما كان يشعر به من قبل. فالاجتماع على الخير من أسباب الإقبال على العبادة، والنشاط فيها، ومن ثم زيادة الإيمان، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم يقول بعضهم لبعض: [[تعال بنا نؤمن ساعة]] قالها عمر ومعاذ بن جبل وعبد الله بن رواحة وقالها غيرهم رضي الله عنهم أجمعين، وأخذها عنهم التابعون كـ علقمة وغيره، فكانوا يقولون: هلموا بنا نؤمن ساعة، وربما جلسوا فقرأ أحدهم على الآخر سورة (العصر) ثم انصرف، مع أنهم مؤمنون أصلاً، لكن المعنى أن نقوي إيماننا. فعلى الإنسان أن يحرص أن يجد في المؤمنين من يحبه في الله عز وجل، ثم يحاول أن يحقق ثمرات هذه المحبة بالاجتماع على الخير، والتزاور، والتباذل والتناصح في ذات الله تعالى، وهذه الأشياء من أهم الوسائل في تثبيت قلب الإنسان. مثلاً: لو افترضنا أن شخصاً من جمهور المسلمين عاش في وسط قوم غير مسلمين، ما أسهل أن ينتكس عن دينه، لأنه لا يجد من يعينه، بل كثير من العوام هذا شأنه، لكن لما يجتمع بعضهم مع بعض، ويجدون من يقوي إيمانهم، ويجدون من يقتدون به، حينئذٍ يستمسكون بدينهم، ويثقون بما هم عليه، فتسلم لهم عقيدتهم. فالإنسان حين يوجد في جو طيب، ويجد من يعينه على الخير، فإن هذا من أقوى الوسائل لتثبيت إيمانه، وعدم ارتداده عنه، ثم هو من وسائل تقوية هذا الإيمان. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 13 الدعوة إلى الإيمان ومن وسائل تقوية الإيمان: الدعوة إلى هذا الإيمان، لأن الإنسان إذا حصل على شيء بيسر وسهولة؛ أصبح هذا الشيء رخيصاً عنده، فالشاب الذي يرث من والده أموالاً طائلة لم يكدح في جمعها، ما أسهل أن يفرط فيها! لكن لو كان تعب في جمعها، من ريال وقرش، وسهر الأيام والليالي، أصبحت غالية عليه وعرف قيمتها، وقل مثل ذلك في جميع الأمور الأخرى، فالإنسان الذي يضحي من أجل شيء، فإنه يغلو عليه هذا الشيء، وترتفع قيمته عنده، وكذلك هذا الذي بذل من أجل الإيمان، وفي سبيله، ومن أجل تحصيله، وتقويته، وحمايته، يصبح هذا الإيمان عزيزاً عليه، ويعز عليه أن يفرط فيه، لكن الإنسان الذي ورث الإيمان عن الآباء والأجداد، ولم يتعب ولا تعلم من أجله، ولا حافظ عليه، ما أسهل أن يبذله عند أول خطر يمر به! فعلى الإنسان أن يدرك أنه حين يدعو إلى الله عز وجل، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويعلم الناس، فإن أول مستفيد من هذا الجهد هو نفسه، ثم الناس بعد ذلك، أما الإنسان الذي يزعم أنه مؤمن ثم يبقى هذا الإيمان كامناً في قلبه لا يؤثر، فهذا إيمانه لا شك أنه ضعيف، ثم هو على خطر أن يتضاءل هذا الإيمان حتى ينتهي. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 14 التفكر في الآفاق والأنفس أول وسيلة في ذلك هي الفكر: فقد منح الله تعالى كل فرد منا عقلاً يفكر به، وجعل هذا العقل هو مناط التكليف، بحيث أن الإنسان المسلوب العقل غير مكلف بالأحكام الشرعية، ولا محاسب عليها، فالعقل هو مناط التكليف، وهذا العقل الذي منح الله الإنسان إياه من أقوى الوسائل الموصلة إلى تحقيق الإيمان، إذا استعمله الإنسان في هذا السبيل. فالإنسان حين يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، يصل إلى الإيمان بالله تعالى ولذلك جاء في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه في قصة مبيته عند خالته ميمونة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استيقظ من النوم خرج ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190]-وفي صحيح مسلم- أنه قرأها ثلاث مرات كل ذلك يقرؤها ثم يصلي ما شاء الله له ثم ينام، ثم يقوم فيقرؤها ثم يصلي ما شاء الله له ثم ينام، ثم يقوم ثم يقرؤها، ثم يصلي ما شاء الله له، ثم ينام} فقراءته لها ثلاث مرات، وهو ينظر في السماء صلى الله عليه وسلم إشعار بأهمية التفكر في ملكوت السماوات والأرض، ولذلك أيضاً روى بعض الأئمة كـ عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن عساكر، وابن أبي الدنيا، وابن حبان في صحيحه، وغيرهم عن عطاء أنه قال: {قلت لـ عائشة: أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أعجب إليه؟ قالت رضي الله عنها: وأي أمره لم يكن عجباً صلى الله عليه وسلم، إنني رأيته وقد جاء إلى فراشي فنام قليلاً ثم استيقظ وبكى، وقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، ثم قام عليه الصلاة والسلام، فقرأ هذه الآيات: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها} رواه ابن حبان في صحيحه كما سمعتم، ولم أتمكن من معرفة درجة هذا الحديث لما عرف عن ابن حبان رحمه الله من التساهل في إيراد الأحاديث في صحيحه، وعلى كل حال يشهد له الحديث السابق. ومن عجيب أمر الناس، أن الناس يرون هذه الآيات العظام تمر بهم صباح مساء، ولا يلتفتون إليها! فهم ينظرون إلى هذه الأرض وعظمتها وما فيها، وإلى السماء، والشمس، والكواكب، وخلق الإنسان، وإلى غير ذلك من بديع صنع الله في البر والبحر، فلا يلفت ذلك أنظارهم! نظراً لأنهم ألفوه واعتادوه، لكنهم حين يرون أمراً بسيطاً مخالفاً لما ألفوه تجد أنهم يلتفتون إليه وقد مُلئت قلوبهم بالعجب. قد يرى الناس هذه الأشجار المخضرة في كل مكان، فيمرون عليها وهم عنها معرضون! فإذا رأوا شجرة في الخريف قد اخضرت وأورقت، تجمعوا حولها، وهم يقولون: سبحان الله! انظر إلى قدرة الله، فلم يروا قدرة الله التي جعلت هذه الشجرة تورق في الخريف أنها هي التي جعلت هذه الأشجار الضخمة تورق وتخضر في أوقات أخرى في كل مكان؟ فلماذا نغفل عن بديع صنع الله، وبديع آثار هذه القدرة في أنفسنا وفيما حولنا؟! وليس التفكر مقصوراً في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، بل إن الإنسان حين يتفكر في أي أمر من الأمور، يكون قد وضع قدمه على الطريق الصحيح للوصول إلى النتيجة الصحيحة، أرأيتم لو تفكر الإنسان المنحرف في واقعه، وما هو مقبل عليه، ألا يكون هذا الوقت القصير الذي بذله في التفكر أثمن، وأكثر ثمرة، من عشرات الكتب التي قرأها، وعشرات المحاضرات التي سمعها؟! ولو استطعت أن تقنع شخصاً منحرفاً بأن يفرغ خمس دقائق ليراجع نفسه، ويتفكر في حقيقة ما هو فيه، ويعيد الحساب، لكانت ثمرة هذه الدقائق الخمس أثمن من عشرات الكتب والمحاضرات والمواعظ التي سمعها، لكن كيف لك أن تقنعه أن يفكر ولو لمدة خمس دقائق؟ هو لا يفكر، لأنه كما قال الله عز وجل: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] قد أقفل قلبه دون التفكر في هذه الأشياء ورضي بما هو فيه. وكذلك يكون التفكر في آيات الله الشرعية، كالقرآن الكريم، بحيث يكون ذلك موصلاً إلى قوة إيمان العبد وفهمه عن الله عز وجل، وأمره ونهيه، وحلاله وحرامه. فالتفكر من أقوى الوسائل في تقوية الإيمان. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 15 الذكر والعمل والوسيلة الثانية هي: وسيلة الذكر والعمل، ونحن نتوقع حين يسرح إنسان فكره في ملكوت السماوات والأرض، وما خلق الله من شيء، وينظر في هذه المعجزات الباهرة في كل مكان، أنه سينطق لسانه بذكر الله تعالى والثناء عليه، ولذلك ذكرت الذكر بعد الفكر، والمقصود بالذكر هو كل شيء يذكر العبد به ربه، من قراءة القرآن، أو الصلاة، أو الدعاء، أو التسبيح، أو التهليل، أو التحميد، أو غيرها. 1- القرآن أفضل الذكر على الإطلاق: وأفضل الذكر على الإطلاق هو القرآن، ولذلك روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أفضل الصلاة طول القنوت} والقنوت هو طول الوقوف كما فسره النووي وغيره، وإنما كان طول الوقوف في الصلاة فاضلاً لأنه محل قراءة القرآن، فكان أفضل ما في الصلاة طول القنوت، ولذلك ينبغي للعبد المسلم أن يحرص على أن يكون له ورد من القرآن، لا يخلفه حفظاً ونظراً. وفيما يتعلق بالحفظ أثنى الله عز وجل على حفاظ القرآن، ووصفهم بأنهم هم الذين أوتوا العلم، قال سبحانه: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وكفى بهذا ثناءً على الحفاظ، ولهذا فجدير بكل شاب مسلم أن يحرص على أن يجعل من هدفه ودأبه حفظ القرآن الكريم، فيحفظ في كل يوم قدراً ولو قل، وإن أمكن أن يكون ذلك بعد ضبطه نظراً، حتى يكون الحفظ على أصوله فهو الأولى، أما ما يتعلق بقراءة النظر، فينبغي للإنسان أن يقرأ على الأقل جزءً في كل يوم، حتى يختم القرآن في شهر. ومما يحسن أن يجعل الإنسان محل هذا بعد صلاة الفجر، لأن هذا الوقت وقت ضائع بالنسبة لأكثرنا، فإن أكثر الناس يقضون هذا الوقت المهم المثمر في النوم، ويضيعون على أنفسهم بذلك فضلاً عظيماً، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من صلى الفجر في جماعة ثم جلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس كان كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة} فأنت حين تترك هذه الفضيلة، تفرط يومياً بأجر حجة وعمرة!. ثم روى مسلم في صحيحه أيضاً: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يجلسون في المسجد بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس حسناء، فيتحدثون في أمورهم، ويذكرون الله، وربما ذكروا أمر الجاهلية فيضحكون، ويتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم} . فينبغي للإنسان أن يجعل له علاقة بهذا القرآن، لا يسمح بالتفريط فيه، فإن شغله عن ذلك شاغل عوضه فيما بعد، وكان عكرمة بن أبي جهل يضع القرآن على صدره ثم يبكي! ويقول: [[قرآن ربي كلام ربي]] وذلك لما وجد في قلبه من اللذة بمناجاة الله تعالى بقراءة القرآن كما قيل: هو الكتاب الذي من قام يقرؤه كأنما خاطب الرحمن بالكلم 2- من أعظم الذكر الدعاء: ومن الذكر أيضاً الدعاء، بل هو من أعظم الذكر، ومن أعظم أبواب العبادة، وإذا كانت العبادة مأخوذة في اللغة العربية من التعبد، يقال: هذا طريق معبد يعني بكثرة السير عليه، فإن الدعاء من أعظم العبادات التي تتجلى فيها العبودية لله تعالى، لأن فيه شدة الانكسار بين يديه، فالعبد وهو يصلي ربما يداخله أحياناً نوع من العجب بعمله، ولكن العبد في حال الدعاء، إذا صدق فيه، فإنه يتحقق فيه كمال الانكسار والتذلل والخضوع لله عز وجل، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الترمذي وغيره أنه قال: {الدعاء هو العبادة} وكما في قول الله عز وجل: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر:60] . 3- العمل الصالح من أهم عوامل تقوية الإيمان: والعمل بصفة عامة من أهم عوامل تقوية الإيمان، بل هو جزء لا يتجزأ من الإيمان، سواء في ذلك عمل اللسان، أو عمل الجوارح، كالصيام والصدقة والزكاة والعمرة والحج، وزيارة الأقارب والزيارة في الله، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فهي من أهم وسائل تقوية الإيمان، ونقيضها الأعمال السيئة التي هي من أهم وسائل تضعيف الإيمان، والقضاء عليه، ولذلك جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن} وزاد مسلم في صحيحه {فإياكم وإياكم} يعني: احذروا هذه الأعمال فإنها جديرة في سلب الإيمان من صاحبها، ولذلك كان ابن عباس يقول لعبيده: [[اسمعوا، من أراد منكم الباءة زوجناه، فإن العبد إذا زنى نزع الإيمان من قلبه حتى يكون فوق رأسه كالظلة كما أنزع قميصي هذا وقد يعود إليه وقد لا يعود]] فإذا خرج الإيمان من قلب الإنسان فالإنسان لا يضمن أن يعود الإيمان إلى قلبه، وهذا فيه وعيد شديد لكثير من أصحاب المعاصي. أرأيت ما يقع فيه كثير من شبابنا من خروجهم في الإجازات وغيرها إلى كثير من البلاد، ومعاقرتهم الخمور، ومواقعتهم النساء بالحرام والعياذ بالله، وما يترتب على ذلك من انسلاخهم من الإيمان عند حال مواقعتهم لهذه المعاصي، هل يأمن الواحد منهم أن ينسلخ الإيمان من قلبه، ويسلب هذه النعمة فلا تعود إليه مرة أخرى؟! ألم يسمع ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث سمرة بن جندب -في رؤياه الطويلة- في صحيح البخاري: {أنه رأى قوماً في تنور وهم يعذبون، ولهم ارتفاع وانحدار، فإذا ارتفعوا ضوضوا وصوّتوا فقال: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزناة والزواني} فأي خطر يهدد الإنسان أعظم من ذلك!! الجزء: 165 ¦ الصفحة: 16 لا حل لمشكلات الشباب إلا بالمجاهدة أيها الإخوة: كثيراً ما يشتكي الشاب من ضعف إيمانه، أو من عوامل تعوقه عن طريق الإيمان أو من مشاكل يعانيها في بيته، أو في داخل نفسه، والشاب حين يشتكي يخيل لديه أن هناك دواء سحرياً، يصرف لهذا الشاب، ليكون علاجاً نافعاً ناجعاً بإذن الله. ومن العجيب أن أحد الشباب الصغار جاءني بالأمس وهو يقول: أنا أجد صعوبة، وأعاني من الشهوة والغريزة في نفسي، وأريد أن أترك هذا الأمر بالكلية، لكن أين أذهب؟! يعني هو يتصور أن هناك حلاً نهائياً وأنه سيقال له: اذهب إلى مكان كذا، وسيذهب ما بك! وهذا من السذاجة، أو صغر السن، فهو يتصور أن يقال له: اذهب إلى مكان كذا، أو اذهب إلى فلان، أو استعمل كذا وحينئذٍ سوف يقطع دابر هذا الأمر من جذوره، حتى لا يشعر به يوماً من الأيام! وهذا وإن كان شعوراً عند هذا الشاب الصغير، فإنه بصورة أو بأخرى موجود عند معظم الشباب، فهم يجدون نوعاً من الصعوبة في المجاهدة، وليس هناك حل لمثل هذه المشكلات التي يعانيها الشاب أياً كانت إلا المجاهدة التي تنطلق من ذات الإنسان، ويتدرع ويتسلح الإنسان فيها بالصبر، والتقوى، والاعتصام بالله عز وجل، ومعرفة أن هذه الدار التي يعيش فيها هي دار ابتلاء وامتحان، ولابد فيها من تعب ونكد، لكن يفضل أن يتعب الإنسان في مرضاة الله وطاعته، وفيما يكون سبباً لسعادته في الدنيا والآخرة، خير من أن يتعب في غير ذلك، فعلى الشاب أنه يدرك أنه لا علاج لهذه المشكلات التي يعاني منها و الأسئلة التي يطرحها إلا أن ينطلق في حركة مجاهدة، صادقة، مستمرة، صابرة حتى يقبضه الله تعالى وهو في هذا الجهاد، فهو جهاد يبدأ من فترة التكليف، أو التمييز، وينتهي بالموت، لا نهاية له قبل ذلك. أسأل الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 165 ¦ الصفحة: 18 مدارج السالكين وأثره السؤال سؤال عن مدارج السالكين وأثره؟ الجواب مدارج السالكين كتاب قيم وطيب بلا شك، شرح فيه الإمام ابن القيم كتاب منازل السائرين لشيخ الإسلام الهروي، لكن الكتاب الأصل الذي هو منازل السائرين فيه صوفيات؛ لأن شيخ الإسلام الهروي رحمه الله كان فيه تصوف، فالشيخ ابن القيم رحمه الله شرح هذه الأشياء، وربما حاول أن يلتمس مخرجاً صحيحاً لهذا الرجل في بعض ما قال، فالكتاب مفيد، ولكن فيه بعض الأشياء التي ينتبه لها، وقد قام بتهذيبه عدد من العلماء، فأولاً علق عليه محمد حامد الفقي وفي مواضع له تعليقات غالبها جيد، ثم هذبه عبد الله السبت في مختصر، وكذلك هذبه عبد المنعم صالح العلي في مختصر آخر، وكل هذه الكتب مفيدة، وأنصح طالب العلم بقراءة مدارج السالكين، والانتفاع بما فيه. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 19 المخرج من استعمال العادة السرية السؤال أنا شاب مبتلى بالعادة السرية، فما هو المخرج من هذا المرض؟ الجواب مسألة الشهوة في نفوس الشباب هي من أهم الأخطار التي تواجههم، وهي ابتلاء وضعها الله في نفس كل إنسان، فالله قادر على أن يجعل الإنسان ملكاً، والله عنده ملائكة في السماء، لا يوجد في السماء موضع إلا وفيه ملك ساجد أو قائم لله عز وجل، وهؤلاء الملائكة لا تجيش في نفوسهم الشهوات، قال تعالى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6] لكنه سبحانه لحكمته خلق الإنسان في هذه الدنيا، وكلفه بهذه المهمة وهي عبادته، وخلقه بصفة معينة، فيه خير وشر، وقابل للخير والشر، وللهدى والضلال قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:3] وقال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] وقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] وهذا هو سر الابتلاء في هذه الحياة، ولو ذهب هذا الأمر لذهب معنى الابتلاء، فلو جبل الله الناس كلهم على أن يكونوا صالحين، ما كان هناك فرق بين الطيب والخبيث، والمهتدي والضال، فعلى الشاب أن يدرك أن هذا نوع من الابتلاء الذي ابتلاه الله تعالى به، وعليه أن يقاومه بالصورة الصحيحة أولاًَ، وأخيراً بالمجاهدة التي ذكرتها في نهاية الكلمة. وكل ما يمكن أن يقال لك -أيها الشاب- هو: أنه ليس أمامك إلا المجاهدة، لكن يمكن أن توجد وسائل أو عوامل، تعينك على هذه المجاهدة. فمثلاً: يمكن أن يقال للشاب المبتلى بمثل هذا الداء، أو بالشهوة بصفة عامة، أن على الشاب أن يتقي المواقع التي فيها إثارة للشهوة، مثل الخروج للأسواق والأماكن التي يكون فيها أشياء تثير، فيتقي تلك الوسائل، ويتقي سماع الغناء المحرم، ويتقي النظر إلى الصور المحرمة التي فيها الإثارة، وكل أمر يثير الشهوة يجب أن يتقيه، وهذا من شأنه أن يهدئ شهوة الإنسان، أما أن يؤجج الإنسان شهوته ويثيرها ولا يتقي هذه الأشياء، ثم يأتي ويقول: كيف أخرج؟! وأنقذوني! فهذا لا يكون، والأمر في هذا كما قيل: ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء فأول خطوة في العلاج هي الوقاية، وأن يكون لهذا الشاب قوة في الإرادة، بحيث يحجز نفسه عن كل وسيلة تثير غريزته وشهوته، فهذه وسيلة. والوسيلة الثانية: هي أن يحرص الشاب على أن يشغل نفسه بأمور حميدة، أو مباحة على أقل تقدير، فيشغل نفسه بالطاعات، وبمجالسة الطيبين، وبالرياضة المباحة، وبالاشتغال بالأنشطة: كالمراكز، والنشاطات المدرسية، وسواها، بحيث يصرف هذه الطاقة المركوزة فيه في مصرفها الصحيح. ثم على الشاب أن يحرص على كثرة الدعاء، لأن الله عز وجل لما ذكر مقولة الشيطان ذكر أنه قال: {لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] وما ذكر أنه سيأتي من فوقهم، لأنه علم أن الله فوقهم، فباب الله مفتوح لمن طرقه بجد وصدق وإلحاح، فعلى الشاب الذي يعاني من هذا أن ينطرح بين يدي الله بصدق، ويكثر من الدعاء، والرجاء، والله لا يخيب من دعاه. وأخيراً فإن على الشاب أن يحرص على استعمال العلاجات الشرعية التي منها: أولاً: الزواج كما في الحديث: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج} ولماذا يضع كثير من الشباب عقبات طويلة عريضة أمام الزواج! عقبات مالية، وعقبات في البيت، وعقبات في المرأة، وعقبات في إكمال الدراسة، والسن وغيره، فيجب أن نعمل على تذليل مثل هذه العقبات أو ما أمكن منها أو غيرها، فإذا كان الزواج متعذراً فالبديل: {فمن لم يستطع فعليه بالصوم} فيكثر الشاب من الصيام، لما في الصيام من تضييق مجاري الدم وهي العروق التي يجري فيها الشيطان من ابن آدم، فيقل بذلك وسوسة الشيطان، وتأثيره على الإنسان، وأنصح هذا الشاب وغيره بأنه إذا وقع في المعصية فعليه أن يسارع في التوبة، وأقول: التوبة، لأنني علمت من الشباب أن هذا الأمر من الأمور التي لا يتوبون منها، لماذا؟ لأن الواحد منهم يقول: تبت ثم وقعت مرة ثانية، ثم تبت، ثم وقعت، فصرت لا أتوب، لأنني أقول: لا فائدة أن أتوب، أنا أعرف أني سأقع! أقول: لا. بل يجب أن يتوب، والتوبة واجبة من كل ذنب، قال تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] وأنتم تعرفون قصة الإسرائيلي التي رواها مسلم في صحيحه: {ذكر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً أذنب ثم استغفر قال: ربِّ! أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، ثم أذنب مرة أخرى، فاستغفر، قال: ربِّ! إني أذنبت فاغفر لي، فغفر له، ثم أذنب ثالثة، فاستغفر، قال: ربِّ! إني أذنبت فاغفر لي، فغفر الله له وقال: عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ بالذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك} فهذا دليل على أن الإنسان ولو تكرر منه الذنب يحب أن يتوب. وحين تتوب لا تتوب وفي نيتك أن ترجع، بل تب وأنت في نيتك أن تبذل جهدك ألا ترجع، وقد لا تمكن أصلاً من فعل هذا الذنب بحيث تنتهي أيامك في هذه الدنيا، قبل أن تفعل هذا الذنب، فتكون مت على توبة، فينبغي ألا يخدعك الشيطان بترك التوبة. ونصيحة أخرى -أيضاً- مهمة في هذا المجال، وهو أنه ينبغي لك ألا تقبل وسوسة الشيطان التي تقول لك: أنت الآن رجل مدنس ملوث، وعندك هذه القاذورات، وأنت تجلس بين قوم صالحين، ويظنون بك الظنون الحسنة، فخير لك أن تتجنبهم، وتظهر على حقيقتك! والشيطان يقول لك هذا الوسواس حتى ينفرد بك، ثم يذهب بك كل مذهب، بل اجلس مع الناس الطيبين والصالحين، وجالسهم، واعمل ما تستطيع من النشاطات، وشارك في الأعمال الخيرة، وإلقاء الكلمات -مثلاً- وفي أي عمل، واحرص على أن تتجاوز هذا الأمر، وألا يؤثر ذلك في حياتك الدعوية، ولا مانع إذا كان هذا الأمر وصل بك إلى حد مرضي أن تعرض حالتك على طبيب مختص، فقد يفيدك في هذا المجال. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 20 الإعجاز العلمي في القرآن والسنة السؤال هذا سؤال عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وبعض الاكتشافات التي يحاول بعض أهل الإسلام أن يطبقوا عليها بعض ما ورد في القرآن والسنة، فما رأيكم في ذلك؟ الجواب الإعجاز العلمي ينبغي التفصيل فيه، فالأشياء التي أصبحت حقائق علمية من جهة، والدلالة عليها من القرآن ظاهرة بلا تعسر، من المناسب أن نتحدث عنها، لأنها من الأشياء التي تزيد في إيمان الناس، وقد تسبب إيمان غير المؤمنين، وأقصد بذلك القضايا العلمية الثابتة، مثل بعض القضايا في علم الأجنة الثابتة علمياً وطبياً، والتي توجد عليها أدلة ظاهرة من القرآن الكريم بلا تكلف أو تعسف، أما إذا كانت الأشياء العلمية هي ظنون ونظريات، فلا ينبغي أن يشتغل بالبحث لها عن أدلة من القرآن الكريم، لأن النظريات قابلة للنقض. وكذلك إذا كانت الحقيقة العلمية حقيقة، لكن الدلالة عليها من القرآن ليست ظاهرة، بل هي إشارات خفية وقد تكون بتكلف وتعسف، فلا ينبغي أن نحمل القرآن ما لا يحتمل. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 21 حكم الاستثناء في الإيمان السؤال هل يجوز للإنسان أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، وماذا يترتب على هذه الكلمة إذا قالها وهو يعتقد أن الإنسان لا يعرف، هل إيمانه كامل أم لا، أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب الإيمان يطلق بعدة اعتبارات، فإذا أريد به الإيمان بالله، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، فإنه لا يستثنى فيه، فلا يقول: أنا مؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر والقدر، إن شاء الله، بل يجزم بذلك. أما إن قصد بالإيمان: قوة الإيمان، التي هي مرتبة فوق الإسلام كما في حديث جبريل وغيره، فإنه إن قال ذلك علقه بالمشيئة، وبهذا تجتمع الأقوال الواردة عن السلف في هذا، وإن كان الإنسان ينبغي ألا يزكي نفسه في ما يتعلق بموضوع دعوى الإيمان، فمن قوة إيمان العبد ألا يدعي أنه مؤمن، بمعنى أنه قوي الإيمان. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 22 سبب قراءة النبي صلى الله عليه وسلم للعشر الآيات الأواخر من آل عمران السؤال لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ العشر الأواخر من سورة آل عمران؟ الجواب الذي يظهر من الرواية أنه كان ينظر في السماء ويقرأ هذه الآيات، لما فيها من الأمر بالتفكر، والذكر، وما يترتب عليه، لأن فيها قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} [آل عمران:191] إلى آخر الآيات التي فيها التفكر في ملكوت السماوات والأرض، والنظر فيها. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 23 الذنوب لا تقيد بالأعمار السؤال من كان عمره أقل من عشرين أو خمسة عشر، هل إذا عمل شيئاً من الذنوب عليه إثم من جهة الإيمان، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب المسألة ليست مقيدة بخمس عشرة سنة، فبلوغ الإنسان -كما هو معروف- يكون بعدة أشياء منها: إنبات الشعر فوق العانة، ومنها الإنزال، ومنها الحيض بالنسبة للمرأة، ومنها بلوغ خمس عشرة سنة، وهي السن التي يكلف فيها الإنسان، لكن إذا عمل الإنسان شيئاً من الذنوب وهو مميز، دون أن يبلغ، فهل يأثم بذلك، وهو يعرف أن هذا إثم لا يرضي الله، أم لا يأثم؟ الله أعلم لست أدري. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 24 تأثير الصلاة على العبد في الحياة اليومية السؤال إنني أخشع في الصلاة وأبكي خاصة في الوتر، لكن لا أجد ثمرة ذلك في حياتي؟ الجواب الناس يتفاوتون في درجة الخشوع، في سرعته أو بطئه، ولكن على كل حال، الخشوع ورقة القلب وذكر الله من علامات الخير عند العبد، وعلى الأخ السائل أن يستمر على ما هو من الحال، والأثر لا يبين بين يوم وليلة، ثم عليه ألا يعتبر أن وجود هذا الخشوع، يعني أن إيمانه قوي، بحيث يؤثر في حياته تأثيراً كاملاً، وربما أوجد عنده نوعاً من الارتياح لما هو فيه، وعدم المجاهدة في طلب الزيادة، بل يجب أن يعرف أن الإيمان يكون بقوة اليقين في القلب، وقوة الثقة بالله، وقوة التوكل عليه، وشدة الإيمان بالدار الآخرة وما فيها، وهذه الأشياء إذا وجد إيمان قوي بها في القلب لا بد أن تؤثر، أي أن الإنسان الذي ينظر للآخرة كأنه يراها رأي العين، لابد أن ينزجر عن المعاصي، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم في تعريف الإحسان: {أن تعبد الله كأنك تراه} وقال الصحابي الجليل حنظلة بن الربيع: {إننا إذا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا نراها رأي عين} يعني كأننا نراها بأعيننا، فهذه من أعظم الأدلة على مدى إيمان الإنسان، ومدى استحضاره لمعاني الإيمان في قلبه، ومدى خوفه من الله ورجائه فيه، ومحبته له، وعمله للدار الآخرة، والخشوع أثر من هذه الأشياء. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 25 لا تعارض بين العبادة والعلم والدعوة السؤال يعتقد كثير من الشباب أن التفرغ لطلب العلم، وللعبادات والنوافل، مقدماً على الاجتماع بالرفقة الصالحة، وذلك واضحٌ بالنسبة لمن تمضي عليه فترة ليست بالقصيرة، فما رأيكم بأسباب هذا، وجزاكم الله خيراً؟ الجواب هذه الأمور -أيها الإخوة- ليس بينها تعارض ولا تضارب، أي لا ينبغي أن نضرب أمور الشرع وأعمال الدين بعضها ببعض، أو نزيد ببعضها على حساب البعض الآخر، بل ينبغي للإنسان أن يكون متوازناً، وكما أن التوازن مطلوب في العقيدة، بين الحب، والخوف، والرجاء، فكذلك هو مطلوب في الأعمال والسلوك، بين العلم والدعوة، والعبادة، وغيرها من المشاق، والتوازن عزيز في الناس اليوم، فأنت تجد منهم من يقصر في شئون البيت بحجة الانشغال بالدعوة، ومنهم من يقصر في طلب العلم بحجة الانشغال بالدعوة، ومنهم من يقصر في العبادة بحجة الانشغال بالدعوة، ومنهم من يقصر في الدعوة بحجة الانشغال بهذه الأشياء. ونقول: إن الذي فرض هذه الأمور وشرعها هو الله عز وجل، والمكلف بها هو كل مسلم، فيعمل منها بالمستطاع، ويوفق بينها، والتوفيق بين هذه الأمور ليس متعذراً لمن أوتي الحكمة، قال تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] لكن على الشاب أن يحذر من ردود الفعل، وهذه كلمة سبق أن حذرت منها، وأشرت إليها، وهي الحذر من ردود الفعل، لا يحملك التقصير السابق في جانب معين على أن تحاول أن تعوض على حساب جانب آخر، فإن كنت مقصراً -مثلاً- في الدعوة إلى الله مشتغلاً بالعلم، فليس العلاج هو أن تترك العلم جانباً وتتفرغ للدعوة، بل استمر على ما أنت عليه من طلب العلم وفي نفس الوقت حاول أن تبذل ما تستطيع من جهود في مجال الدعوة إلى الله، وهكذا في بقية الأعمال الأخرى. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 26 مقولة خاطئة نسبت إلي َّ السؤال ينسب إليك -أحد الإخوان- أنك قلت أن أربعين حديثاً في صحيح البخاري ضعيفة، فهل تلك النسبة صحيحة؟ الجواب هذا من عجيب ما ينسب، والحقيقة أن هذا ليس بصحيح، ولا أصل له، بل إن جميع ما في البخاري من الأحاديث الموصولة فهو صحيح، والشيء الذي أراه بهذه المناسبة أنه يجدر بطلاب العلم والمشتغلين بالسنة النبوية والحديث النبوي، ألا يزعزعوا ثقة الناس بالصحيحين، بل يعملوا على زرع الثقة ودعمها بهذين الكتابين الجليلين، الذين صنفهما إمامان مجتهدان ووافقهما على تصحيح ما فيهما غيرهما من الأئمة في عصرهما، فمثلاً الإمام مسلم ذكر أنه عرض صحيحه على أبي زرعة فوافقه على ما فيه، وبناءً عليه ندرك أنه ولو وجد من ضعَّف أحاديث في مسلم؛ يقابله أئمة آخرون صححوها. أما من أين جاءت هذه الكلمة التي نسبها الأخ فلا أعلم لها أصلاً، إلا شيئاً واحداً، لعلكم تعلمون جميعاً أن في البخاري أحاديث معلقة، وهذه الأحاديث المعلقة والآثار أيضاً هي ما يرويه البخاري في تراجم الأبواب، من أقوال غير موصولة، وغير مسندة، أحياناً يقول: باب، ثم يقول قال فلان كذا، مثلاً -باب العلم الصالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: [[إنما تقاتلون بأعمالكم]] وهذا فيه ليس أربعين، بل فيه مئات الأحاديث، والآثار المعلقة في صحيح البخاري، هذه الآثار المعلقة لا يصلح أن تقول في واحد منها: رواه البخاري وتسكت، فهذا خطأ علمي، بل لا بد أن تقول: رواه البخاري تعليقاً، لأن البخاري لم يسقه مسنداً محتجاً به، إنما ذكره بغير إسناد، وقد يذكره أحياناً بصيغة التمريض، فيقول: روي، وحكي، كما قال: ويذكر عن جرهد الأسلمي {الفخذ عورة} وهذه صيغة تمريض تعني ضعف الحديث عند البخاري، ومع ذلك ذكره بهذه الصيغة، ومع هذا لا يقال: رواه البخاري، ولا يقال: إنه في صحيح البخاري، إلا بشرط أنه معلق. فهذه المعلقات فيها الصحيح على شرط البخاري، وفيها صحيح يتقاعد عن شرط البخاري، وفيها الحسن لذاته ولغيره، وفيها الضعيف الذي وجد ما يجبره من جهة أخرى، وفيها الضعيف الذي لم يوجد ما يجبره، وقد قسم هذه الأقسام تقسيماً لا مزيد عليه الحافظ ابن حجر في كتابه النكت على علوم الحديث لابن الصلاح، فليراجعه من شاء. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 27 مصاحبة الصالحين تقوي الإيمان السؤال هل عدم مصاحبة الصالحين مما يضعف الإيمان؟ وهل الركون إلى الراحة وعدم الدعوة إلى الله مما يضعف الإيمان؟ الجواب هذه الوسائل: الاجتماع على الخير، والدعوة إلى الله، بلا شك من وسائل تقوية الإيمان، وتركها هو من وسائل ضعف الإيمان، هذا هو الأمر الظاهر، لكن قد يكون الأمر مختلفاً في حال بعض الأفراد بأعيانهم، لأن لهم ظروفهم الخاصة، بحيث يكون -مثلاً- انعزال الواحد منهم خيراً له من الخلطة، لأنه إذا اختلط بالناس أفسد أكثر مما يصلح، فهو لا يتحمل أخطاء الناس، بل يقسو عليهم، ويغير المنكر بطريقة تضاعف منه، ويقلق وربما يصيبه أحياناً شيءٌ من التصخب، والجزع، والتبرم بهذه الأشياء فيؤثر نوعاً من العزلة، وليست عزلة مطلقة، ولكن قد يكون في حق أشخاص لهم مثل هذه الظروف، لكن مما لا شك فيه أن الوضع الطبيعي أن الاجتماع على الخير يقوي الإيمان، ولذلك كان الخطاب في القرآن الكريم لمجموعة (يا أيها الذين آمنوا) في مواضع كثيرة جداً. والله عز وجل أمر بالتواصي بالحق وبالصبر، والتعاون على البر والتقوى، وغير ذلك من الأشياء التي لا تتم ولا تحصل إلا بالاجتماع، أرأيت إن لم تجتمع بأهل الخير والصلاح، فكيف تكون متعاوناً على البر والتقوى متواصياً بالصبر، متواصياً بالحق؟! وكيف تحقق الأخلاق الإسلامية المطلوبة، من الحلم، والصبر، والأناة، والإحسان، والإفضال على الناس إلخ! لا شك أن هذه الأشياء فعلها طاعة وإيمان، وتركها نقص في الإيمان -كما هو معروف- وهذه الأفعال والأعمال كلها طاعات وإيمان، ولذلك البخاري رحمه الله بوب، باب الصلاة من الإيمان، باب الزكاة من الإيمان، باب صيام رمضان من الإيمان، باب قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً من الإيمان إلخ، وهكذا قال الإمام الشافعي: الصلاة إيمان، والزكاة إيمان، وسائر الأعمال هي إيمان، وكما قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 28 أسباب سلب الإيمان السؤال كيف يسلب الإيمان؟ وما علاج العجب؟ وبالنسبة للحديث الذي ذكرت: {لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن الحديث} فقد سمعنا حديثاً مشابهاً لهذا، وهو فيما معناه {قيل: هل يسرق المؤمن؟ قال: نعم، قيل: هل يزني؟ قال: نعم. قيل: هل يكذب؟ قال: لا. } فما مدى صحته؟ الجواب أما الحديث الذي ذكره السائل فهو ضعيف، ويقوم مقامه الحديث الصحيح: {يطبع المؤمن على الخلال كلها إلا الخيانة والكذب} وأيضاًَ يقوم مقامه حديث أبي ذر في الصحيح: {ما من عبد يقول: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه إلا دخل الجنة قال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق، قال: وإن زنى وإن سرق، قال في الثالثة: وعلى رغم أنف أبي ذر} وبطبيعة الحال هذه الأحاديث لا تعارض ما سبق، لأننا لا نقول: إن من زنى فهو كافر، فهذا مذهب الخوارج، وإنما نقول كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الإنسان في حال مواقعة الزنا يسلب الإيمان منه، فإذا تاب تاب الله عليه، ولا يعني ذلك أنه كافر، وإنما لو كان الإنسان خلال وقوعه في هذه المعصية مستحضراً عظمة الله عز وجل، مدركاً باطلاعه عليه، وعدم رضاه بما هو عليه، لأقلع عن هذا الفعل، وكف عنه، فكونه يقدم على هذا الفعل دليل على أنه غاب عنه وازع الإيمان واختفى، وغلبت عليه هذه الشهوة. أما أول السؤال وهو كيف يسلب الإيمان؟ وما علاج العجب؟ لعل بين هذين السؤالين ترابط كبير، فإنني أعتقد أن أهم سبب لسلب الإيمان من صاحبه، هو وقوع الكبر في قلبه، ولذلك صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر} لأن الإنسان إذا كان متكبراً مختالاً معجباً بنفسه فإن هذه الشهوة تكبر في قلبه، حتى يصبح عنده نوع من عدم الرضا بقضاء الله وقدره، والشعور بأن الأقدار قد ظلمته! وأنه لم يصل إلى ما يستحقه من المنزلة والمكانة! ولسان حاله يقول: تقدمتني أناس كان شوطهم وراء خطوي إذا أمشي على مهل فهو يعتقد أنه أفضل من غيره، وأنه يستحق أكثر مما أعطاه الله، وهذا يترتب عليه أمر ثالث، وهو أن يشك في حكمة الله تعالى وقدره، فتتحول الشهوة في قلبه إلى شبهة، فيقع في الردة، والعياذ بالله. ولو نظرت في تاريخ المرتدين، لوجدت أن هذا الأمر ظاهر، وقد سبق أنني ذكرت مرات عديدة قصة القصيمي الذي كان يجالس العلماء، وطلاب العلم، وكتب كتابات كثيرة كالصراع بين الإسلام والوثنية والبروق النجدية في اكتساح الظلمات الدجوية وأسباب تأخر المسلمين وغيرها ثم ارتد عن الإسلام، وكفر بالله، لو نظرت في هذا الرجل كنموذج للذين سلبوا الإيمان والعياذ بالله سلباً كلياً، ارجع إلى ما كتب قبل ذلك، يوم كان مسلماً في ظاهر أمره، وفيما يبدو للناس، تجد أن الجرثومة هذه -جرثومة العجب- موجودة بشكل ظاهر، حتى إن بعض مترجميه يقول أنه كان يقول في شعره: ولو أن ما عندي من العلم والفضلِ يوزع في الآفاق أغنى عن الرسلِ وله في ذلك قصائد طويلة، فهذه الجرثومة الموجودة أصلاً في قلبه، وهي جرثومة الكبرياء، حتى أنه عبر في قصائده بأنه متكبر، وقال أن في نفسه من الفضل والمواهب فوق ما أرى أنا، ولذلك يحق لي أن أتكبر، هذا معنى ما يقول، فآل به الأمر إلى ما آل! فلذلك على الإنسان أن يحرص على التواضع، ولذلك ذكرت موضوع الدعاء خلال المحاضرة، وأنه من أعظم العبادات؛ لأنه يتحقق فيه الانكسار والذل بين يدي الله عز وجل، وعلى الإنسان أن يبصر دائماً نعمة الله، وخطأه وتقصيره، ويعلم أنه لو قضى حياته كلها ساجداً لله عز وجل لما أدى شكر نعمة من نعم الله، ولكن الله ذو فضل على العالمين. الجزء: 165 ¦ الصفحة: 29 قل هو من عند أنفسكم خص الله تعالى الأمة الإسلامية بمزايا عظيمة فهي خير أمة أخرجت للناس والخير فيها إلى قيام الساعة وحول سر هذه الخيرية تحدث الشيخ، ثم أوضح أن هذا الأمر -الذي هو سر الخيرية- قد تراجع في الآونة الأخيرة وأن ذلك التراجع هو السبب في انحطاط الأمة فحتى تدرك هذا السير، وتعرف كيف يمكن أحياؤها في الأمة لتنهض من جديد اقرأ واسمع هذه المادة. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 1 خيرية الأمة الإسلامية إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، نحمد الله تعالى الذي جعل الخيرية في هذه الأمة قائمة باقية حتى يرث الله الأرض ومن عليها، فجعل هذه الأمة آخر الأمم وخيرها وأكرمها على الله عز وجل، وأولها دخولاً الجنة، وذلك لما اختصها به من الإيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام على البشرية كلها. لقد كتب الله تعالى أن يكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هو خير الأنبياء وآخرهم، فقال عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] وكذلك جعل أمته هي خاتمة الأمم وآخرها وأفضلها وخيرها وأبرها، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {نحن الآخرون السابقون يوم القيامة} فهذه الأمة هي أول من يدخل الجنة، وأمر خزنة الجنة ألا يفتحوا لأحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا دخل محمد صلى الله عليه وسلم دخل المؤمنون من ورائه. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 2 عوامل الخيرية أيها الإخوة إن خيرية هذه الأمة وفضلها ليس لأنها أمة عربية، ولا لأنها أمة تسكن في بلاد العرب، ولا لأنها تنتسب أو تمت بنسب أو سبب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا نسب الإيمان به، وسبب طاعته واتباعه في أمره ونهيه؛ ولذلك فإننا نجد أن من أقرب الناس إلى النبي عليه الصلاة والسلام من كانوا حطباً لجهنم كـ أبي لهب وغيره، بل كـ أبي طالب الذي كان حريصاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحوطه ويحميه ويمنعه، ومع ذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه في ضحضاح من نار، وأن تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه ليرى أنه أشد أهل النار عذاباً، وإنه لأهونهم عذاباً. وفي مقابل ذلك تجد في بناة الإسلام الأولين أمثال سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي الذين كانوا من أمم أخرى، بل تجد في عباقرة الإسلام، وتجد في حملة رسالته، وتجد في قادة الفتوح رجالاً أبطالاً عظماء لم يكونوا ينتسبون إلى أصول عربية، ولا ينتهي نسبهم إلى نسب العرب، وإنما جمعهم مع النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اتبعوه وأطاعوه ورضوا به هادياً وإماماً. لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب فقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب الجزء: 166 ¦ الصفحة: 3 التواضع والتخلي عن العجب أيها الإخوة لم يعهد على هذه الأمة منذ أن أوجدها الله تعالى وحتى حين كانت أمة راشدة مهتدية، وحتى حين كانت أمة صالحة، بل حتى حين كان يقودها الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه، لم يعهد على هذه الأمة أنها كانت ترفع أنفها عالياً، وتقول: نحن المهتدون نحن السائرون على المنهج نحن الذين ما خالفنا ولا عصينا ولا غيَّرنا ولا بَدَّلنا، وتبالغ في مدح نفسها بما فيها وما ليس فيها أبداً. كانت هذه الأمة يوم كان يقودها الرسول صلى الله عليه وسلم تحصل لها الهزائم كما صار في معركة أحد؛ فيتعجبون ويقولون: أنى هذا؟! فيأتيهم الجواب {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ * وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:165-166] أي: السبب من عند أنفسكم. وحين تهزم هذه الأمة هزيمة أخرى في بداية معركة حنين يتعجبون، فينزل الوحي: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً} [التوبة:25] إذاً إنما ذلك أتيتم من قبل أنفسكم؛ حين اغتررتم بعدتكم وعددكم وكثرتكم وبأسكم، فقلتم: لن نغلب اليوم من قلة، ونسيتم قوة الله عز وجل، والاعتماد عليه، وكمال التوكل عليه، فأدبكم الله بالهزيمة التي ردتكم إلى صوابكم {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] . لم تقل هذه الأمة في يوم من الأيام في تاريخها الطويل: نحن لا نستحق ما أصابنا؛ لأننا مستقيمون على شريعة الله، آخذون بهدى الله، ملتزمون بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 4 التوبة والمراجعة أيها الإخوة إن من أسرار خيرية هذه الأمة أنها أمة التوبة والمراجعة، أمة كتب الله لها أن تكون على الطريق الصحيح، فكلما زاغت أو زلت أو انحرفت أو تلكأت أو نسيت منهجها؛ قيض الله تعالى لها ضربة على وجهها تردها إلى الطريق المستقيم، وتقول لها: الطريق من هاهنا! وهذه الضربة لا يمكن أن تكون مجرد مواعظ عابرة من متكلم، ولا خطباً رنانة من خطيب، لا، إنها عبارة عن أحداث وأزمات ومصائب تنزل بهذه الأمة ترشدها إلى الطريق المستقيم، وتبين لها خطأها، إنها أمة مستغفرة، توابة، كلما عثرت في طريقها أو انحرفت سلط الله عليها من عدوها من يوجهها إلى الطريق المستقيم، وهكذا يتسبب عدوها في دلالتها على الطريق المستقيم من حيث لا تريد، ومن حيث لا يريد. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 5 الاصطفاء لحمل الرسالة هذه الأمة لا يمكن أن تأخذ لبوساً غير لبوسها، ولا أن تلبس ثوباً غير ثوبها، فكل تعاليم الشرق والغرب، وكل حضارات الدنيا، وكل أنظمة البشرية من القومية والاشتراكية والشيوعية والبعثية وغيرها لا يمكن أن تصلح لها ولا أن تصلحها؛ لأنها أمة خلقت للإسلام وكلفت به، وهي التي سوف تحمله، وهو الذي سوف ينهض بها، فإذا تخلت الأمة عن الإسلام، فغيرها أجدر وأحرى ألا يقوم به، كما قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: [[والله يا معشر العرب! إن لم تقوموا بهذا الدين فغيركم أحرى بألا يقوم به]] . لا تنتظر أبداً أن أمم الأمريكان، أو أمم الروس، أو أمم الشرق، أو أمم الغرب هي التي سوف تحمل هذا الدين، وإن وجد من هذه الأمم من يدين بالإسلام، ووجد من يتحمس للإسلام، ووجد من يدافع عن الإسلام، والأمر كما قال الله جل وعلا: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] لكن أيضاً هذه بلاد الإسلام، وهذه أمم الإسلام، وهذا أمر معلوم ظاهر لا يشك فيه من له معرفة بالتاريخ، ولا من له معرفة بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا من له معرفة بسنن الله جل وعلا. حتى حينما تقرأ ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم مما يقع في آخر الزمان من الفتن، والمحن، والشدائد، والملاحم الكبيرة، تجد أن موقع هذه الملاحم هي بلاد العرب، وهذه الجزيرة العربية بالذات، وما حولها كبلاد الشام وبلاد اليمن، وفلسطين، وما جاورها من بلاد الإسلام. وتجد أن القبائل العربية هي التي تقف في وجه الزحوف الكافرة، حتى زحف المسيح الدجال الذي يقف وراءه النصارى واليهود والوثنيون والمرتدون، وهو فتنة عظيمة، فلا يقف في وجه هذا السيل الكاسح إلا أهل هذه البلاد بقيادتهم الراشدة المهدية التي يبعثها الله سبحانه وتعالى في ذلك الوقت. إذاً لا تتصور أن يوماً من الأيام سوف يأتي تكون فيه الدول الشرقية أو الغربية تحمل هذا الدين أبداً. هذا الدين نزل للبشرية كلها، ولكن اقتضت حكمة الله تعالى وعدله ورحمته أن تكون هذه الأمة هي الأمم التي استحفظت كتاب الله عز وجل، وشريعته ودينه، وكلفت به، وكلما انحرفت عنه يمنة أو يسرة سلط الله تعالى عليها ضربة في وجهها أو في رأسها تردها إلى الطريق المستقيم. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 6 أحوال الأمة الإسلامية في هذا العصر والعجب كل العجب أن تقول الأمة في هذا الزمن الذي بلغ فيه الانحراف عن دين الله وشرعة مبلغه، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينما قال في حديث ثوبان: {لن تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} ولقد تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. فلقد وجدنا في هذه الأمة فئاماً كثيرة من الناس قد ارتضوا ديناً غير دين الله عز وجل، فأصبح منهم الشيوعي الملحد الذي لا يدين بدين، وأصبح منهم العلماني الذي يطالب بفصل الدين عن الحياة، ويطالب أن يكون الدين محصوراً بين أربعة جدران في المسجد، لا علاقة له بالسياسة، فلا علاقة له بالإعلام، ولا علاقة له بالاقتصاد، ولا علاقة له بشئون المرأة، ولا علاقة له بالأمور الاجتماعية، ولا علاقة له بالتعليم، بل هي مجرد علاقة بين العبد وربه في المسجد أو المعبد. أما بقية شئون الحياة فتكون للجاهلية، وتكون للشيطان يصرفها كيف شاء. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 7 استبدال دين الله وجدنا في هذه الأمة من ارتضوا سنة وهدياً غير هدى الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع شئون حياتهم، حيث يقيمون اقتصادهم، وسياستهم، واجتماعهم، وعلاقتهم الداخلية والخارجية على قوانين الشرق والغرب. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 8 الإصرار على الذنوب والمعاصي ووجدنا فوق هذا كله من يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون، خلافاً لما أخبر الله تعالى به من طريقة الصالحين المتقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . فاليوم المؤسف -كل الأسف أيها الإخوة- أن الأمة -سواء على النطاق الفردي أو على النطاق الدولي والجماعي- لا تزال مصرة على ذنوبها ومعاصيها، على رغم البلايا والأزمات التي تنزل بها، بل ربما تقول أحياناً: إن الأزمات لا تزيدها إلا إصراراً على ما هي عليه، أما على المستوى الفردي فكل امرئ خبير بنفسه، يكفيك أننا أصبحنا نسمع نغمة تتردد كثيراً في المجالس، وفي وسائل الإعلام، وفي غيرها تتنكر لسنة إلهية: وهي أن ما أصابنا بذنوبنا، ويقولون: "لا! هذا ليس صحيحاً"، منهم من يقول: كلا! إن ما أصابنا إنما هو كرامة من الله تعالى، إن ما أصاب الأمة تكريم من الله تعالى لها، إن ما أصاب الأمة هو لرفعة درجاتها، إن ما أصاب الأمة هو أمر عادي يحدث لكل أمة. ومن الناس من يقول: إن هذا بسبب أمور مادية بحتة، وينكر السبب الشرعي وراء هذا كله، وبالتالي نحن نتساءل كم منا من غير من سلوكه بمناسبة الأزمات التي نزلت بالأمة؟ إن وجود خمسة أو عشرة اهتدوا بسبب الأزمة هذا ليس جواباً وليس حلاً، ماذا يقع خمسة أو عشرة مما يراد لهذه الأمة أن تستقيم عليه؟! الجزء: 166 ¦ الصفحة: 9 ما ينبغي أن تكون عليه الأمة الأصول المعروفة عن هذه الأمة أن مثل هذه الأزمات كانت تسبب استقامة جماعية للأمة، كانت تسبب توبة بالجملة لفئات وأمم من الناس، أما واحد أو اثنان أو خمسة أو عشرة فهؤلاء لا يعدون شيئاً! الجزء: 166 ¦ الصفحة: 10 على مستوى الفرد قليل منا جداً من عدل سلوكه على ضوء هذه الأحداث التي تعيشها الأمة، قليل منا من شعر بأن الأمة تبتلى وتمتحن، بل وربما يكون أكثرنا لا يدري ماذا يجري، ولا يدري ماذا يراد بهذه الأمة، ولا يدري ماذا يحمل الأعداء من مشاعر الغضب والكراهية لهذه الأمة، وهذه مدعاة إلى أن تقع هذه الأمة في مصائب مستمرة، ألم يحدث يوماً من الأيام أن أحسنا الظن بعدونا، وأحسنا إليه، وتجاهلنا خططه التي كانت مكتوبة في الكتب ومنشورة في الصحف؟ خطط البعث التي كانت تخطط لجمع كلمة الأمة العربية كما يقولون تحت راية القومية والاشتراكية والحرية والبعث، تجاهلنا هذا كله، ففوجئنا به في أخطر اللحظات وأحلك الأوقات، وسوف يتكرر الأمر مرةً بعد مرة ما دامت هذه الأمة غافلة عن خطط عدوها. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 11 على مستوى الأمة أما على المستوى العام فإننا نتساءل جميعاً: أين التغيير الذي يجب أن تشهده الأمة؟! إذا كنا مؤمنين فعلاً بقول الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وقوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وفي مواضع كثيرة يذكر الله عز وجل أن ما أصاب الناس فهو بسبب ذنوبهم، إذا كنا مؤمنين بهذا حقاً فلنتساءل ما هي الذنوب التي أقلعت عنها الأمة؟ قد يقول قائل: من الصعب أن تقلع الأمة بين يوم وليلة عن ذنوب كثيرة وقعت فيها. فنقول: نعم، لنفترض أن هذا الأمر صحيح، هل بدأت الأمة تضع قدمها في الطريق الصحيح؟ هل بدأ المسلمون الآن سواء مسئوليهم أو تجارهم أو خبراؤهم أو مختصوهم، هل بدءوا -مثلاً- بإنشاء المستشفى المتخصص للنساء؛ ليكون بديلاً عن الاختلاط الذي يملأ مستشفياتنا؟ ويكون هذا بداية لتوبة صادقة إلى الله عز وجل من معصيته مما يقع في مثل هذه المؤسسات، هل حدث هذا؟! هل بدأ المسلمون بإقامة المؤسسات المالية السالمة من شبهة الربا، ولو مجرد بداية لتكون بعد حين من الزمان بديلاً عن البنوك الربوية التي تحارب الله ورسوله؟ هل بدأ المسلمون بتأصيل مناهج الإعلام الصحيح القائم على تعبئة الناس تعبئة شرعية، ورفع معنويات الناس، ورفع أخلاق الناس، وربط الناس بالدين، ليكون ذلك ولو بعد حين بديلاً عن الإعلام الهابط الذي يهيمن على العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه؟ هل بدءوا بمواجهة ما يسمى بالبث المباشر الذي أصبح يهدد المسلمين من كل مكان، والذي يخشى معه أن تصبح سماء المسلمين تمطر عليهم من هذه البرامج التنصيرية، وبرامج الفساد، والإلحاد، والتخريب، وحتى الإخلال بالأمن يمكن أن يأتي من خلال هذه البرامج وغيرها؟ هل بدأ المسلمون فعلا تحركاً صادقاً جاداً في التوبة إلى الله تعالى؟ أليس بعض العلماء يقول: إن الذي يقول: "أستغفر الله" وهو مصر على ذنبه هو كالمستهزئ بالله عز وجل؟! فلماذا نقول أحياناً بألسنتنا: "نستغفر الله" ونحن مصرون على ذنوبنا، سواء كانت ذنوبنا ذنوباً فردية، أم كانت ذنوباً اجتماعية عامة؟ الجزء: 166 ¦ الصفحة: 12 بوارق الأمل أيها الإخوة! ليس هذا الأمر مدعاة لليأس أبداً! وكيف ييئس من معه كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! كيف تيئس أمة معها خبر ثابت صادق لاشك فيه من رسول الله عليه الصلاة والسلام أن هذه الأمة باقية إلى قيام الساعة؟ إنها ظاهرة منصورة إلى قيام الساعة! كيف تيئس أمة معها خبر أنها هي التي سوف تقاوم زحوف الكفر والإلحاد والتي يكون آخرها المسيح الدجال؟! كيف تيئس أمة قال فيها نبيها صلى الله عليه وسلم: {أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره} ؟! كيف تيئس أمة ذكر لها نبيها الصادق المصدوق، الذي تؤمن به وتحبه صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة سوف تهيمن في آخر الدنيا، وتذل لها الرقاب، وتحكم الدنيا، ويضرب الحق بجذوره في الأرض، وسوف تملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت من قبل ظلماً وجوراً؟ كيف تيئس أمة معها هذه النصوص؟ كيف تيئس أمة تقرأ في قرآنها: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] ؟! كيف تيئس أمة تقرأ في قرآنها قوله عز وجل: {وَلَيُبدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوفِهِمْ أمناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} [النور:55] ؟! كيف تيئس أمة تقرأ في قرآنها {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40-41] ؟ كلا لن تيئس أبداً! لكن الأمر الذي يدعو إلى التساؤل: هل هذه المحن التي تعيشها الأمة الآن بداية لتوبة صادقة إلى الله عز وجل؟! فمعنى ذلك أن هذه الأمة سوف تدخل حياة وبداية صحيحة. أما إذا ظلت الأمة على ما هي عليه على مستوى الأفراد والفئات والدول، فمعنى ذلك أن هذه الأمة بحاجة إلى دروس جديدة، وفي حاجة إلى صفعات جديدة، وضربات جديدة حتى تعي -وسوف تعي- وإن لم تع اليوم وعت غداً، وإن لم تع غداً وعت بعد غد؛ لكن من الخير لهذه الأمة أن تدرك أنه لا قيام لها إلا بالإسلام. فلقد طرقنا كل الأبواب، ومددنا أيدينا إلى كل الأمم، فما رجعنا منهم إلا بالخيبة، والهزيمة، والفشل، وعرفنا ماذا يخبئ لنا العالم كله، إنه في الوقت الذي يرفع يده بالسلام يعد أسلحة الفتك والدمار. ومع ذلك ما زالت هذه الأمة تتسول منهم، وتأخذ منهم الأفكار، وتأخذ منهم النظريات، وتأخذ منهم التصنيع، وتأخذ منهم كل شئ، وتفتقر إليهم في كل شيء هذا ما عند العالم لهذه الأمة. وما بقي للأمة إلا باب واحد، وإذا طرقت هذا الباب فإنه سيفتح لا شك؛ لأنه باب مجرب، ألا وهو باب الله عز وجل! وهو باب التوبة إلى الله! وهو باب الصدق مع الله! باب الرجوع إلى الله! لابد من مراجعة الحسابات على كافة المستويات لنعرف مدى قربنا أو بعدنا مما يريد الله تعالى منا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لى ولكم، فاستغفروه من كل ذنب يغفر لكم ويتوب عليكم، إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 13 من أسباب التصحيح الحمد لله مستحق الحمد وأهله، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد أفضل من صلى وصام، وحج البيت الحرام، وعلى آله وصحبه الكرام، وعلى من تبعه إلى يوم المقام. أما بعد: الجزء: 166 ¦ الصفحة: 14 اليقين بفضل الله أيها الإخوة لن يدخل أحداً منا الجنة بعمله بصيامه، أو بقيامه، أو طاعته، أو عدله، أو بره، إنما يدخلها برحمة الله عز وجل. فتقرب إلى رحمة الله تعالى بكثرة الاستغفار والتوبة، واعمل على أن تكون داعياً للاستغفار والتوبة في وسط أهلك وقرابتك ومعارفك ومجتمعك وأمتك أيضاً، وأن تكون يداً تصلح وتبني، وتدفع بقدر ما تستطيع من سوء ومنكر عن هذه الأمة. اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أذل الشرك والمشركين، اللهم اخذل أعداء الدين، اللهم اخذل أعداء الدين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم، اللهم إنا نعوذ بك من شر الأشرار، وكيد الفجار، وما اختلف به الليل والنهار، يا عزيز يا غفار. اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به، واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 15 ترك الغرور والجرأة على الله أما الذي يقول: "أنا ما عصيت الله تعالى أبداً" فهذا متجرئ على الله تعالى مستكبر! حتى لو فرض أنه صدق فيما قال؛ بل كلامه هذا معصية لله عز وجل؛ لأن العبد لو قضى عمره كله راكعاً ساجداً صائماً لله عز وجل؛ ما أدى حق الله تعالى عليه، ولا بلغ شكر نعمة الله تعالى عليه، ولم يقض ما أمره الله تعالى به. فالمؤمنون الصادقون: هم أصحاب قلوب حية، أصحاب نفوس قريبة من الله عز وجل، أصحاب تواضع لله، يجعل أحدهم جبهته في التراب، ويمرغ خده، ويسبل دموعه على وجهه، ويرفع أيدياًً مرتعشة إلى الله سبحانه وتعالى، يسأله غفران الذنوب، وستر العيوب، وإلا فإن العبد ضعيف ضعيف، وقد جبل على شئ من النقص والضعف، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام: {كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون} فالإنسان مجبول على ضعف، ومجبول على تقصيره بنظرة، أو بسمع، أو بأخذ مال بغير حق، أو بكلمة خرجت من فمه على غير تدبير وتقدير، أو بتقصير في عبادة، أو بظلم للنفس، أو بظلم للغير، هذا على مستوى الفرد. أما على مستوى الأمم فحدث ولا حرج من احتمالات الأخطاء على كافة المستويات المالية، سواء في توزيع الأموال، أم في الأخطاء الأخلاقية، أم الأخطاء في التقصير بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أم غير ذلك. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 16 الحذر من الاعتراف الشكلي بالخطأ فبداية التوبة: هي أن يصدق العبد في الاعتراف بذنبه، وليس اعترافاً شكلياً كما يقول كثير من الناس اليوم إذا خاطبته يقول: الأخطاء موجودة، وكلنا مقصرون، وليس فينا أحد معصوم! فليس هذا هو المقصود، ليس هناك أحد ادعى لك أنك معصوم، ولا ادعى أنك نبي ينزل عليك الوحي من السماء. والأصل مقرر ومتفق عليه أننا جميعاً خطاءون مقصرون، وعندنا من الأخطاء ما الله به عليم! هذا أمر مسلم، لكن الكلام في تحديد ما هي هذه الأخطاء؟ بحيث نعترف أنه عندنا من الأخطاء كذا وكذا، على سبيل التحديد والدقة، وليس على سبيل الإصرار عليها، وإنما على سبيل التواضع، والشعور بأن العبد متى استطاع سوف يخرج من الذنوب واحداً بعد آخر، أو يصحح الأمور الموجودة عنده بقدر ما يستطيع. فلا بد من ترك الإصرار على الذنوب: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] . الجزء: 166 ¦ الصفحة: 17 نماذج للاعتراف بالذنب وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم من ألوان الاعتراف، بل والأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام ما ينقطع دونه العجب، فمن دعائه عليه الصلاة والسلام الذي كان يقوله في آخر صلاته، وكان يعلمه أبا بكر: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني؛ إنك أنت الغفور الرحيم} وفي بعض الروايات: {ظلماً كبيراً} وفي دعائه عليه الصلاة والسلام الذي علمه لأمته -سيد الاستغفار- كان يقول فيه: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي أقر بذنبي وأعترف به بين يديك. كذلك أبونا آدم عليه السلام وأمنا حواء قالا: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] وقال الله أيضاً عن يونس: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] ن وهكذا الأنبياء جميعهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجميع الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، كانوا دائماً يعترفون بذنوبهم، ويستغفرون الله تعالى منها، وذلك لأن الاعتراف بالذنب هو أول خطوات التوبة. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 18 الاعتراف بالذنب أيها الإخوة المؤمنون إن أول أسباب الإصلاح والتصحيح هو: الاعتراف بالذنب، ويوم أن تعترف الأمة بذنوبها تكون قد عرفت طريقها؛ لأن الله عز وجل قريب مجيب رحيم بعباده، إذا اعترفوا بذنوبهم ورفعوا له أكف الاستغفار فهو حري أن يغفر لهم! يكفيك أن تقول من قلب صادق: "أستغفر الله وأتوب إليه" وتجدد العزم على توبة نصوح ليقبلك الله في عباده الصالحين. هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بذل في سبيل الله عز وجل ما بذل، وأوذي في الله ما لم يؤذ أحد، وصبر وصابر، وقام الليل وصام النهار، وطرد من بلده في سبيل الله عز وجل، وجرح وجهه، وكسرت سنه، وأوذي وسخر به، وشج وجهه، ومع ذلك كله عبد الله تعالى بكل ما يستطيع، وكان يقوم الليل حتى تورمت قدماه عليه الصلاة والسلام. ومع هذا كله كان عليه الصلاة والسلام يعلمنا دائماً أن نكثر من الاستغفار، وألا يدل الإنسان منا بعمل، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله! قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا! إلا أن يتغمدني الله برحمته} . هذا درس كبير ليس للأفراد فقط، بل للأفراد وللأمم كلها، إن الأمة وكذلك الفرد يجب أن لا يغتر بعمله، ولا يجوز له ذلك، مهما كان عمله؛ لأن الأمة والفرد إذا قال الواحد منهم: أنا كامل، ليس عندي أخطاء، ولا عندي عيوب، ولا عندي أغلاط، ولا عندي مخالفات، فمعنى ذلك أنه سوف يظل مصراً على ما هو عليه؛ لأنه قد أعجب وزين له سوء عمله فرآه حسناً، وهذه كبرى المصائب: يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن كبرى المصائب أن الأمة أو الفرد ينحرف، ومع ذلك يعتقد أنه على الطريق المستقيم؛ فيصر على أنه ليس لديه أخطاء ولا عيوب ولا ذنوب، كيف يتوب من أمر يراه صواباً؟! يتوب من حسنات يظن أنه يقدمها؟! لا يتوب أبداً. فلذلك أول خطوات الإصلاح على مستوى الأفراد والأمم أول خطوات الإصلاح: الاعتراف بالذنب. الجزء: 166 ¦ الصفحة: 19 صلوا كما رأيتموني أصلي هناك صيغ للذكر بعد الصلاة، ويجوز رفع الصوت ب الذكر بعد الصلاة بشروط، ويدل حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) على وجوب الإتيان بالصلاة كما كان يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما أخرجه نص أو لم يداوم عليه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث عمران بن حصين في الصلاة قاعداً وأنه يكون للمريض أو للمتنفل وقد يكون لهما، ثم ذكر هيئات القعود فيه. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 1 الذكر بعد الصلاة اللهم لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما تحب وترضى، نحمدك وأنت للحمد أهل، ونشكرك ونثني عليك الخير كله ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، ونصلي ونسلم على عبدك ورسولك وأفضل أنبيائك الذي حمل الرسالة، وأدى الأمانة وكشف الله به تعالى الغمة، فجزاه الله تعالى عنا خير ما جازى نبياً عن أمته، ثم رضوان الله تبارك وتعالى على أصحابه الكرام، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فقد سبق معنا في الدرس الماضي ما يتعلق بالذكر عقب الصلاة، وكان لي فيها أحاديث ومسائل نمر عليها مرور الكرام، رغبة في الإيجاز، وعدم الإطالة، فمن المسائل التي مرت معنا: مسألة الأذكار والأدعية التي تقال في أدبار الصلوات، وقد ذكرت مثلاً أن التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير في أدبار الصلوات جاء فيها نحو من ست صيغ: الجزء: 167 ¦ الصفحة: 2 صيغ الأذكار الأولى: يحمد ثلاثاً وثلاثين، ويسبح ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين، ثم يقول: لا إله إلا الله الخ تمام المائة. الثانية: يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر أربعاً وثلاثين. الثالثة: التسبيح إحدى عشرة، والتحميد إحدى عشرة، والتكبير إحدى عشرة، فيكون المجموع ثلاثاً وثلاثين، وهذا قلنا: إنه فهم أبي صالح السمان للحديث، وكأنه لم يثبت بهذه الصيغة عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث مستقل، والله تعالى أعلم. الرابعة: يسبح خمساً وعشرين، ويحمد خمساً وعشرين، ويهلل خمساً وعشرين، ويكبر خمساً وعشرين فيكون المجموع مائة. الخامسة: يسبح عشراً، ويحمد عشراً، ويكبر عشراً، فيكون المجموع ثلاثين. السادسة: يسبح ثلاثاً وثلاثين، ويحمد ثلاثاً وثلاثين، ويكبر ثلاثاً وثلاثين، فيكون المجموع تسعاً وتسعين ولا يضيف شيئاً لا تهليلاً ولا تكبيراً، وقد ذكرنا ما ثبت وهو استثناء إحدى عشرة، وإحدى عشرة، وإحدى عشرة، فإنه -والله تعالى أعلم- من فهم أبي صالح، كما استظهره جماعة من أهل العلم كالحافظ ابن حجر، وغيره، وبذلك تتم الصيغ ستاً أيضاً، ويزول ويندفع الإشكال الذي ذكرناه سابقاً، ولذلك فلا ضرورة للتنبيه على هذا الاعتذار الذي تقدم به أحد الإخوة، حيث إنه قال: إنما ذكرته سابقاً -يعني هو وليس أنا- نقلاً عن الاختيارات، وأن هناك صيغة أخرى من الأذكار، وهي أن يسبح تسعاً، ويحمد تسعاً، ويكبر تسعاً، ليس كذلك، وإني عندما رجعت وجدت أن يسبح ثلاثاً وثلاثين، والمجموع تسعاً وتسعين، وهذا جيد كون الإنسان يراجع، ويتأكد مما سبق، وينبه عليه، فهذا أيضاً مما يحمد وهو من تأديب طالب العلم المجد، نسأل الله أن يجزي أخانا وسائر الحضور خيراً، ويوفقنا جميعاً للعلم النافع والعمل الصالح. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 3 مسألة الجهر بالذكر عقب الصلاة قد ذكرت فيها أقوالاً والراجح منها: أنه يستحب الجهر بالذكر عقب الصلاة، ومن الأدلة على مشروعية الجهر بالذكر: حديث ابن عباس في صحيح البخاري: {أن رفع الصوت بالذكر كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم} . ثانياً: من الأدلة أيضاً، حديث عبد الله بن الزبير وفي آخر الحديث قال: {كان يهل بهن دبر كل صلاته} ونبهنا في موضوع الجهر بالذكر إلى عدة ملاحظات منها: الملاحظة الأولى: ألا يبالغ في رفع الصوت، والدليل على هذا حديث أبي موسى {أيها الناس اربعوا على أنفسكم} . الملاحظة الثانية: أن تكون الأصوات مختلطة يسمع لها دوي، ولا يتميز من بينها صوت يكون جهورياً، فيؤذي الآخرين، ويشغلهم عن الذكر، وقد يؤذي أيضاً من يقضي الصلاة، والدليل على هذه الملاحظة: {كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض} . الجزء: 167 ¦ الصفحة: 4 الدعاء بعد الصلاة مسألة: الدعاء بعد الصلاة المفروضة -أي بعد السلام- ذكرنا كلام شيخ الإسلام فيه، لكن خلاصة القول هل يشرع الدعاء عقب السلام أم لا يشرع؟ الأقرب أن الدعاء مشروع قبل السلام، وبعد السلام، ومن الأدلة على مشروعية الدعاء بعد السلام {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وأيضاً حديث ثوبان: {استغفر، ثلاثاً} ومثله حديث عائشة: {استغفر ثلاثاً} ومن الأدلة -أيضاً- حديث سعد بن أبي وقاص: {أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر الخ} أيضاً حديث المغيرة: {اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد} هذا هو تعريض بالدعاء، وتعرض للمسائل. أيضاً حديث علي بن أبي طالب: {اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت} فإن في بعض رواياته أنه بعد السلام، ونقول: الدعاء مشروع بكل حال: عقب السلام، وقبل السلام، وفي كل حال، كما أن الذكر مشروع في كل حال {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران:191] فالعبد لا يستغني عن الذكر بحال، وإن كان الذكر قبل السلام في أثناء الصلاة يكون أوقع، فهذا لا يمنع أن يكون الذكر مشروعاً بعد السلام، وكما أننا نجد في صلب الصلاة أن أفضل ما يكون الدعاء فيه هو في السجود، ولكن هل هذا يمنع من الدعاء بين السجدتين؟ كلا، فكذلك الدعاء وإن كان في الصلاة أوقع إلا أنه بعدها مشروع -أيضاً- كما جاءت به هذه النصوص والأحاديث. وعندنا الآن الدرس الأخير نحمد الله تعالى، ونسأله التوفيق والقبول، مما يتعلق بصفة الصلاة وهي تتعلق بهذه الأحاديث الثلاثة التالية: الجزء: 167 ¦ الصفحة: 5 حديث مالك بن الحويرث الحديث الأول منها: حديث مالك بن الحويرث رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} يقول المصنف رواه البخاري، وقد سبق أن سرد المصنف أو ذكر جزءاً آخر من هذا الحديث في موضوع الجلوس في الوتر، وأيضاً ورد في موضع ثان في الأذان لقوله: {فليؤذن لكم أحدكم} وقد سرد المصنف -في ذلك الموضع- منه الجزء المتعلق بالأذان، وقال: أخرجه السبعة. والغريب أنه هنا -رحمه الله- اقتصر على عزو الحديث للبخاري، وعلى كل حال، فالحديث رواه البخاري في صحيح البخاري في تسعة مواضع: الجزء: 167 ¦ الصفحة: 6 تخريج حديث مالك بن الحويرث منها: في كتاب الأذان، باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم، ومنها أيضاً في كتاب الأذان -نفسه أيضاً- باب المكث بين السجدتين، وأول موضع خرج البخاري فيه هذا الحديث: في كتاب الأذان، باب من قال: ليؤذن في السفر مؤذن واحد، وقد روى مسلم في صحيحه، في كتاب المساجد، باب الأحق بالإمامة، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد، ولهذا قال المصنف -كما سبق في باب الأذان- قال: أخرجه السبعة، وأيضاً رواه غير هؤلاء كثير، فالحديث من الأحاديث المشهورة المتداولة، ويشبهه في هذا حديث المسيء صلاته، فإنه يذكر بمناسبات كثيرة، وقل أحد من أهل العلم إلا ذكره أو استشهد به أو خرجه، -فعلى سبيل المثال- ممن خرج الحديث أيضاً البخاري نفسه في كتاب الأدب المفرد، والبيهقي في السنن، والطبراني في معجمه الكبير، والدارقطني، وابن خزيمة، وابن حبان، وأبو عوانة في مستخرجه، والحاكم، والداراني، والشافعي، والطحاوي، والبغوي، وابن أبي شيبة، وغيرهم. وكل هؤلاء رووا الحديث عن أبي قلابة، عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال: {أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن شببة متقاربون، فأقمنا عنده نحواً من عشرين ليلة وفي رواية وأقمنا عنده عشرين ليلة، فظن أنا قد اشتقنا إلى أهلنا وفي رواية: فظنا أنا قد اشتهينا أهلنا وسألنا عمن تركنا، فأخبرناه، فقال صلى الله عليه وسلم وكان رقيقاً رحيماً -وفي رواية- رفيقاً -بالفاء- ارجعوا إلى أهلكم فعلموهم ومروهم، وصلوا، وفي رواية: وصلوا كما رأيتموني أصلي} وهي المقصودة بحديث الباب، فإذا حضرت الصلاة {فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم} . وهذا أحد المواضع التي ذكر المصنف فيها هذا الحديث، وإلا فقد سبق أنه ذكره مرتين، مع أن الحديث جدير -أيضاً- أن يعاد في باب قادم، في باب الإمامة من كتاب الصلاة لقوله: {وليؤمكم أكبركم} ولكن المصنف لم يذكره في باب الإمامة اكتفاءً بذكره هاهنا، وذكر الشاهد منه وذلك لم يعده رحمه الله. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 7 ألفاظ حديث مالك بن الحويرث قوله هنا: {صلوا كما رأيتموني أصلي} ذكرت أنه ليس في جميع الروايات، ولكنه في بعض الروايات، أما في بعضها الآخر، كما في الصحيح نفسه، في مواضع قال: {فعلموهم، وصلوا} ولم يقل: {كما رأيتموني أصلي} لكنها ثابتة في روايات أخرى. أيضاً قدوم مالك بن الحويرث رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه سلم، كان مع قومه، كما ذكر في روايات، وقال هاهنا: {ونحن شببة متقاربون} وقومه هم بني ليث بن بكر، وكان قدومهم على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن سعد في الطبقات بأسانيد عدة، أنهم قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يتجهز لغزوة تبوك. وغزوة تبوك كانت في رجب سنة تسع، فقدموا عليه صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وقوله: (شببة) بفتح الشين والباء أي شباب. وقوله: (متقاربون) أي: متقاربون في السن، وقوله: رفيقاً أو رقيقاً: بالوجهين فقد جاء في روايتان في البخاري وغيره، إما من الرفق، وإما أنه رقيق القلب، يحنوا عليهم ويتنبه لحاجاتهم، وقوله: رقيقاً، هذا ذكر الحافظ ابن حجر بالقافين أنها جاءت في رواية الأصيلي للبخاري، أنها بقافين (رقيقاً) وبقية ألفاظ الحديث واضحة وقد سبق شرح شيء منها. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 8 فوائد حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وفي الحديث فوائد تتعلق بالأذان وصفته، ومن يؤذن وأحكامه، وهذه سبقت ونشير الآن إلى فوائد أخرى، فمن فوائد الحديث -أيضاً-: الجزء: 167 ¦ الصفحة: 9 الفائدة الثالثة: فائدة تتعلق بصفة الصلاة ومن أهم فوائد حديث الباب -حديث مالك بن الحويرث - ما يتعلق بصفة الصلاة، ولذلك ساقه المصنف هنا، في قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وذلك إن قوله: {صلوا كما رأيتموني أصلي} دليلٌ لجماعة من أهل العلم على أن كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من صفة الصلاة، فالأصل فيه أنه واجب، مالم يوجد صارف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأن نصلي كما رأيناه يصلي، ولأنه فعل والقول يتبعه {صلوا كما رأيتموني أصلي} . وقد تكلم الإمام الحافظ الأصولي الكبير ابن دقيق العيد في إحكام الإحكام عن هذه المسألة بكلام محررٍ جزل، خلاصته أنه يقول: إن هذا الخطاب في الحديث إنما وقع لـ مالك بن الحويرث وأصحابه، بأن يوقع الصلاة على الوجه الذي رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يصليه، قال رحمه الله: نعم يشاركهم في الحكم جميع الأمة بشرط أن يثبت استمراره صلى الله عليه وسلم على فعل ذلك الشيء المستدل دائماً حتى يدخل تحت الأمر ويكون واجباً. إذاً: ابن دقيق العيد أضاف شرطاً حتى نقول بوجوب الفعل، وهو ليس أن يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله ولو مرة واحدة، بل لا بد أن يكون نقل عنه استمراره صلى الله عليه وسلم على ذلك الفعل، ومن المعلوم أن مجرد الاستمرار بذاته لا يدل على الوجوب، لكن لما أضيف إليه حديث مالك بن الحويرث: {صلوا كما رأيتموني أصلي} دل هذا على أنه خطاب لجميع الأمة، دل على أن هذا الفعل الذي داوم عليه الرسول صلى الله عليه وسلم أنه واجب. وبعض الأفعال مقطوع باستمرار النبي صلى الله عليه وسلم عليها، أما ما لم يدل دليل على وجوبه في تلك الصلاة التي رآها مالك بن الحويرث وأصحابه، وتعلق الأمر بإيقاع الصفة على ضوئها، فإنه لا يمكن الحكم بتناول الأمر له، أي: نحن لا ندري ماذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم من الصلوات فرآه مالك بن الحويرث؟ وماذا ترك؟ فنقول: إن الأمر متعلق بتلك الصلاة التي وقع الأمر بالصلاة على مثلها، فإذا رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في تلك الصلاة صفة ولم يتركها عرفنا أن هذا واجب، أما ما سوى ذلك، فنقول: إن فعل النبي صلى الله عليه وسلم يدل على الاستحباب ما لم يوجد دليل إضافي على الوجوب، ولا نقول: بأن كل فعل فعله النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة واجب، إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم داوم عليه واستمر. هذا خلاصة ما قرره الإمام الحافظ ابن دقيق العيد، وهو وجيه. يبقى هاهنا إشكال: فقد سبق معنا أن مالك بن الحويرث ذكر قعود النبي صلى الله عليه وسلم، إذا كان في وتر من صلاته، وهو ما يسمى عند الفقهاء بجلسة الاستراحة، فكيف نخرج جلسة الاستراحة من هذا التقرير الذي قرره ابن دقيق العيد، لأننا نعلم أن مالك بن الحويرث رضي الله عنه ومن معه رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يجلس جلسة الاستراحة. إذاً نقول: هذا من الصلاة التي وقع الأمر بمشابهتها {صلوا كما رأيتموني أصلي} رأيناه يصلي فيجلس جلسة الاستراحة، هكذا نقل لنا مالك بن الحويرث، فما الذي أخرج جلسة الاستراحة عن الوجوب؟ الجواب هو عدم الاستمرار عليها وكيف عرفنا عدم الاستمرار؟ على كل حال بدل من أن ندخل في التفاصيل فقد سبق معنا ثلاثة أحاديث: حديث أبي هريرة، وحديث مالك بن الحويرث، وحديث وائل بن حجر في جلسة الاستراحة، وذكرنا في التقرير آنذاك أن هذه الأحاديث وغيرها، جاء فيها ذكر الجلسة، وجاء فيها السكوت عنها، وجاء فيها نفيها. ولعله لم ينقل جلسة الاستراحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هؤلاء، فلو كان يحافظ عليها لنقلت نقلاً مشهوراً عن جماعة آخرين من الصحابة. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 10 الفائدة الرابعة: الاحتجاج بخبر الواحد من فوائد حديث الباب أيضاً: الاحتجاج بخبر الواحد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خبر مالك بن الحويرث، وكذلك أصحابه حجة على من كان وراءهم من أهلهم. ومنها رفق الرسول صلى الله عليه وسلم بأمته، ورأفته لأحوالهم. وتفقده لأحوالهم، ومنها العناية بأمر الشباب وما جبلوا عليه، وأن الموجه، أو الشيخ، أو المربي، أو العالم، ينبغي أن يتفطن لأحوالهم، ويراقب أمورهم، ويتعهدهم بالعناية والرعاية، وحسن التدبير، وخاصة مراعاة ما جبلوا عليها من القوة والغريزة التي قد يحصل بسببها الضرر عليهم في دينهم أو دنياهم، وأن يحصل بالإعفاف تحصيل مقصد من أعظم مقاصد الشرع، ولذلك أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى أهلهم. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 11 الفائدة الخامسة: بيان وجود الدعوة مع القدرة كما أن فيه بيان الواجب المنوط بالقادرين، وخاصة من الشباب في التعليم ونشر الدعوة، كما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك: {ارجعوا إلى أهليكم فعلموهم ومروهم، وصلوا كما رأيتموني أصلي} . وأن من تعلم شيئاً ينبغي أن يعلمه للناس قولاً وفعلاً، فقوله: {مروهم} هذا بالقول: {وعلموهم} بالقول والفعل، {وصلوا كما رأيتموني أصلي} هذا فعل يصلون لأنفسهم، وللناس -أيضاً- يعلمونهم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 12 الفائدة الأولى: فضل الهجرة فضل الهجرة إلى الله تعالى ورسوله، والرحلة إلى طلب العلم، كما حصل لـ مالك بن الحويرث وأصحابه رضي الله تعالى عنهم، وقد كانت الرحلة في طلب الحديث من شأن المتقدمين، حتى صنف فيها الخطيب البغدادي كتاباً نفيساً اسماه الرحلة في طلب الحديث، وذكر فيه فضل الرحلة، ومن ارتحلوا، وفوائد تتعلق بهذا الباب. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 13 القائدة الثانية: عدم التشبع بما ليس في الإنسان ومن فوائد الحديث أيضاً: أنه لا ينبغي للإنسان خاصة طالب العلم، والمقبل على الله، والناسك، والداعية، أن يتشبع بما ليس فيه، وما لم يكن له فيه نية ولا قصد، وهذا يؤخذ من قول مالك بن الحويرث رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رأى أنا قد اشتقنا إلى أهلنا، فسألنا عمن تركنا، فقال: ارجعوا إلى أهلكم فعلموهم ومروهم، وصلوا} وكان يستطيع أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم علم حاجة أهلنا إلى العلم، والفقه، لغلبة الجهل عليهم وبعدهم، فأمرنا أن نعود إليهم ونعلمهم، ولكنه رضي الله عنه ذكر الحقيقة كاملة. فكانت دواعي الحال أن يؤمروا بالرجوع إلى أهلهم، رفقاً بهم، وبأهلهم، وتعليماً -أيضاً- لأهلهم ونشراً للخير، ولكنه بدأ بذكر الأمر الأول، وهو أنه صلى الله عليه وسلم رأى حاجتهم واشتياقهم إلى أهليهم، ومع ذلك عندما كانت نياتهم صالحة، ومقاصدهم سيلمة، صادف ذلك خيراً كثيراً لهم في الدين، فرجعوا وعلموهم، ونشر الله علم مالك ليس في أهله فقط، بل في الأمة كلها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فقل إنسان يدرس صفة الصلاة، إلا ويعرف حديث مالك بن الحويرث، وهذا كما قال الإمام أحمد في الحرص على طلب الحديث -فيما نقل عنه- في: هو حظ وافق حقاً، أي أن طلب الحديث فيه خير، وفيه بر، وفيه مصلحة، ولكنه حق أيضاً، فهو دين ودنيا، يطلب الإنسان الدين فتأته الدنيا تبعاً لذلك. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 14 حديث: (صل قائماً فإن لم تستطع) الحديث الثاني: حديث عمران بن حصين رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب} قال المصنف هنا: {وإلا فأومي} وهذا موجود في نسخ بلوغ المرام، قال: رواه البخاري، والحديث رواه البخاري دون قوله، وإلا فأومي، فإن قوله: {وإلا فأومي} لم أجده في شيء من روايات حديث عمران، كما نبه على ذلك أيضاً المعلق الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله تعالى. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 15 مسائل الحديث الحديث هل هو في صفة صلاة المريض، أم هو في النافلة؟ يحتمل هذا وهذا، فيحتمل أن يكون المقصود في صلاة المرض، أنه إن استطاع صلى قائماً، فإن عجز صلى قاعداً، فإن عجز صلى مضجعاً أو نائماً، كما قال صلى الله عليه وسلم، والدليل على أن هذا هو المقصود من الحديث هو قوله: {فإن لم يستطع فقاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب} فهذا دليل على أن الأمر مقرون بالاستطاعة، وأن الحديث جاء في شأن المريض. وأيضاً: من الأدلة على أن هذا في شأن المريض: قوله: وكان مبسوراً، هذا قد يستدل به، وإن كان المبسور قد عجز عن القيام، وقد يكون مستطيعاً للقيام، فقالوا: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم أن يكون لنفسه، فقد يكون سأل لنفسه أو لغيره. الدليل ثالث: قوله: {فعلى جَنْب} لأن هذا يدل على أن الإنسان يصلي على جنبه، والنافلة لا تصلى على جنب، ولهذا قال الخطابي رحمه الله قال: لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في ذلك، أي في كون الإنسان يتنفل على جنبه وهو قادر على القعود وعلى القيام. إذاً يبقى عندنا إشكال، ما دام أن الحديث في المريض! كيف نحمل رواية البخاري في نفس حديث الباب؟ فقد قال فيه: من صلى قائماً فهو أفضل، فكيف يحمل هذا الحديث على المريض ير المستطيع، وقد خوطب بقوله: من صلى قائماً فهو أفضل، فيجاب عن هذا الإشكال، إذا قلنا: بأن المقصود بالحديث المريض، فنقول: إن هذا في المريض الذي يستطيع أن الوقوف، ولكن يلحقه من القيام مشقة كبيرة، ولكنه يمكن أن يقوم ويتحامل ويصلي قائماً، فيكون قيامه أفضل، ولو قعد أجزاءه ذلك. فهذا هو الجواب، وهذا هو الذي رجحه الخطابي في توجيه الحديث، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: وهو حمل متجه، ثم قال: ويؤيده صنيع البخاري حيث أدخل في الباب حديثي أنس بن مالك وعائشة وهما في صلاة المفترض قطعاً، قال: فمن صلى فرضاً قاعداً، وكان يشق عليه القيام أجزأه، وكان هو ومن صلى قائماً سواء. إذاً هذا فيمن يستطيع أن يقوم، ولكن يشق عليه القيام، ولو تحامل هذا المعذور على القيام مع المشقة كان أفضل لمزيد أجر تكلفه القيام، أيضاً لمن يشق عليه القعود، فنام وصلى وهو مضطجع، وهو يستطيع أن يقعد لكن يشق عليه. ومما يرجح ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك قال: {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة، -أي: مصابة بالحمى- فحم الناس فدخل النبي صلى الله عليه وسلم والناس يصلون في المسجد من قعود، فقال: صلاة القاعد نصف صلاة القائم} فهؤلاء الناس الآن الذين دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مصابين بالحمى، فصلوا قعوداً من الحمى، ومع ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: {صلاة القاعد نصف صلاة القائم} وهذا الحديث الذي رواه أحمد، قال فيه الحافظ ابن حجر: رجاله ثقات، وله طريقين أخرى عند النسائي. هذا الوجه الأول: أن يكون الحديث محمول على صلاة الفرض للمريض، ويكون قوله: أفضل في حق من يستطيع القيام بمشقة فصلى قاعداً، أو في حق من يستطيع القعود بمشقة فصلى مضجعاً. احتمال آخر: بعض أهل العلم حملوا الحديث على صلاة النافلة، قالوا: الحديث جاء في صلاة النافلة، وهذا الوجه حكاه ابن التين وغيره عن جماعة من أهل العلم كـ أبي عبيد، وابن الماجشون من فقهاء المالكية، وإسماعيل القاضي، والإسماعيلي صاحب المستخرج والداودي وغيرهم، وكذلك نقله الإمام الترمذي في سننه عن الثوري، أنهم حملوا الحديث على صلاة النافلة، وقالوا: إن الإنسان إذا تنفل قائماً كان أفضل، فإن تنفل قاعداً أجزأه ذلك، وله نصف الأجر. وعلى احتمال أن الحديث في النافلة، فإنه يدل على أن الإنسان يجوز له أن يصلي النافلة، وهو مضطجع كما ذكرت، والنائم ليس المقصود به النائم الذي غاب عن وعيه، لكن المقصود المضطجع كما فسره البخاري رحمه الله، قال: نائم عندي هاهنا أي: مضطجعاً. وهو يدل على ما ذكرناه أنه جاء في النافلة على أنه يجوز للإنسان أن يصلي وهو مضطجع، وهذا وإن قال الخطابي -كما سبق-: أنه لا يحفظ عن أحد من أهل العلم، إلا أنه جاء عن بعضهم، فقد نقله الترمذي بإسناده إلى الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى قال: [[إن شاء الرجل صلى صلاة التطوع جالساً، وقائماً، ومضطجعاً]] . فهذا مذهب الحسن البصري، وهو مذهب جماعة من أهل العلم، بل هو أحد الوجهين عند الشافعية، وصححه المتأخرون منهم، وحكاه القاضي عياض وجهاً عند المالكية، وهو اختيار الأبهري وغيره، واحتجوا لهذا المذهب بهذا الحديث. والوجه الأول أن المقصود بالحديث صلاة الفريضة أقوى وأشهر وأولى، والله تعالى أعلم. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 16 فوائد الحديث في الحديث دليل على أنه يجوز للمريض أن يصلي قاعداً، إن كان لا يستطيع القيام، ولا إعادة عليه، وهذا بإجماع أهل العلم، ولو كان يستطيع القيام ولكن ذلك يشق عليه مشقة ظاهرة، أو يؤخر برأه، ومثله ما لو كان في سفينة ويخاف إن قام أن يغرق، أو يصيبه إذا قام دوار في رأسه؛ جاز له في كل هذا الأحوال أن يصلي وهو قاعد، ومثله قالوا: من كان في حال حرب، وهو مختبئ في كمين للعدو، فلو قام كشفه العدو وعرفه، فإنه يجوز له أن يصلي وهو قاعد ولا إعادة عليه، وإن كان هذا العذر نادراً إلا أنه أولى بأن يرخص له في ذلك من المريض، فيصلي قاعداً ولا إعادة عليه. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 17 حديث (صلّ قائماً، فإن لم تستطع) رواه البخاري، في كتاب تقصير الصلاة، باب من لم يطق الصلاة قاعداً صلى على جنب، باللفظ دون قوله: فأومي، وجاء لفظ آخر في صحيح البخاري أيضاً: وهو أن عمران رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاة الرجل قاعداً وكان مبسوراً -أي: فيه الباسور رضي الله عنه- قال: {من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلِّى قاعداً فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائماً فله نصف أجر القاعد} . ومثله -أيضاً- في باب صلاة القاعد بالإيماء، وأيضاً ذكره في باب صلاة القاعد، قال البخاري: نائماً عندي هاهنا أي مضجعاً، أي: من صلى نائماً فله نصف أجر القاعد، أي مضطجعاً، وحديث عمران أخرجه أيضاً أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وأحمد، وابن أبي شيبة، والطبراني، وابن خزيمة، وابن حبان، وغيرهم. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 18 حديث جابر (صلِّ على الأرض) الحديث الثالث والأخير: هو حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قام لمريض صلى على وسادة فرمى بها، وقال: {صلِّ على الأرض} وفي مصادر الحديث أنه لما رمى بها قال: {فصلى الرجل على عود} أي: كأنه يتوكأ على عصا، فرمى به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {صلِّ على الأرض إن استطعت، وإلا فأومي إيماءً، واجعل سجودك أخفض من ركوعك} . الجزء: 167 ¦ الصفحة: 19 كيفية صلاة المضطجع المسألة الأخيرة مسألة المضطجع: كيف يصنع؟ في هذا أيضاً ثلاثة أوجه: وينبغي أن نضيف فيما سبق في مسألة القاعد أن الاختلاف هاهنا اختلاف في الأفضل، وإلا لو صلى مفترشاً أو متربعاً أو متوركاً صحة صلاته عند جميعهم، وإنما الخلاف في الأفضل. أما بالنسبة للمضطجع فقد اختلفوا، وبعضهم يرى أن هذا الخلاف بالنسبة للمضطجع ليس خلاف في الأفضل، لكنه خلافاً فيما يجوز وفيما لا يجوز؛ لأنه أمر يتعلق باستقبال القبلة، فمن رأى صورة لم يسعه أن يدعها إلى غيرها، وهو يستطيعها. فبالنسبة للمضطجع فيه أيضاً ثلاث صور: الأولى: أن يضطجع على جنبه الأيمن، مستقبلاً بوجه القبلة، فيكون حاله كحال الميت الذي يسجى في قبره، يوضع على جنبه الأيمن، ويوضع وجهه وبدنه إلى القبلة كالميت في لحده. وهنا لو صلى الإنسان على جنبه الأيسر، وهو مستقبل القبلة أجزأه، ولكن مع الكراهه، لكن المهم أن يستقبل القبلة بوجه، وهذا هو الأصح عند الشافعية وهو مذهب مالك، وأحمد، وداود الظاهري وروي عن عمر رضي الله تعالى عنه وعن ابنه عبد الله بن عمر. القول الثاني: أنه يستلقي على قفاه، ويجعل رجليه إلى جهة القبلة، ويضع تحت رأسه وسادة يرتفع بها رأسه، بحيث يصير وجهه إلى القبلة، وهذا هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. الصورة الثالثة: هو أنه يضطجع على جنبه الأيسر، أو الأيمن المهم أنه يعطف أسفل قدميه إلى القبلة، وهذا حكي وجهاً في مذهب الشافعي. أي مثل الوجه الأول، لكن قالوا: يعطف أسفل قدميه إلى القبلة، فلا يكون مستقيماً، ولكن يثني رجليه، بحيث تكون قدماه إلى جهة القبلة. أما بالنسبة للأدلة، فأصحاب القول الأول: الذين يرون أنه يصلي على جنبه الأيمن يستقبل القبلة بوجهه، دليلهم حديث الباب، حديث عمران {فإن لم يستطع فعلى جنب} أي على جنبه، فهو دليل على أن المريض ينبغي له إذا لم يستطيع أن يصلي قاعداً، أن يصلي على جنبه الأيمن، استحباباً، وإن صلى على الأيسر جاز، ويجعل وجهه إلى جهة القبلة، فهذا يرجحه حديث عمران، {فإن لم يستطع فعلى جنب} . ومما يقويه أيضاً، ما ذكروه بأنه كالميت في لحده، فإن الميت يوجه إلى جهة القبلة، فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً، فاستقبال الإنسان لها إذا كان في حال اضطجاع لا يستطيع القيام، يكون أيضاً بأن يضطجع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة بوجهه، وهذا هو ما ذكروه في دليلهم. أما دليل القول الثاني: أنه يستلقي على قفاه ويجعل رجليه إلى جهة القبلة، ويضع تحت رأسه وساده، فاستدل له بعضهم بحديث علي رضي الله عنه، وفيه قال: {فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة} هذا الحديث يدل للصورة الأولى، وللثانية أيضاً، لأنه قال: {فإن لم يستطع -أي: القيام- صلى قاعداً، فإن لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقياً ورجلاه مما يلي القبلة} . وهذا الحديث، حديث علي -كما ذكرت- يدل على أن الإنسان ينبغي أن يفعل الصفة الأولى، فيصلي على الجنب الأيمن، فأن لم يستطع انتقل إلى الثانية، وهو أن يصلي على ظهره ورجلاه مما يلي القبلة، لكن هذا الحديث ضعيف، فقد رواه الدارقطني وفي إسناده رجل اسمه حسن بن حسين العرني ضعفه أهل الجرح والتعديل، بل بالغ بعض العلماء فقال: الحديث ضعيف جداً. والذي يظهر والله أعلم أن المريض يصلي على جنبه الأيمن إن استطاع مستقبلاً القبلة، ولو صلَّى على جنبه الأيسر إن كان أرفق به جاز أيضاً، ويكون مستقبل القبلة أيضاً، فأن لم يستطع صلى على ظهره مستلقياً وجعل رجليه مما يلي القبلة، ووضع تحت رأسه وسادة أو غيرها ليكون وجهه إلى القبلة. فإن لم يستطع صلى على أي حال، ولو كان على غير تلك الصفة إذا كان لا يستطيع {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] . الجزء: 167 ¦ الصفحة: 20 كيفية الصلاة قاعدا ً يبقى في حديث الباب، وحديث عمران السابق مسألتان، نقيتان، خفيفتان: هيئة القعود: الأولى هيئة القعود: عرفنا أن المريض يصلي قاعداً إن لم يستطع القيام أو شق عليه القيام مشقة شديدة، فكيف يقعد؟ حديث الباب الراجح أنه موقوف، كما رجحه أبو حاتم، وهو حجة في هذا الباب، والآخر ضعيف فيه مجاهيل، على كل حال نعود إلى المسألة الفقهية مسألة المريض القاعد، المريض إذا أراد أن يصلي قاعداً كيف يقعد؟ أولاً: إذا كان بين السجدتين، فإن الأولى به أن يقعد مفترشاً، إن كان هذا لا يشق عليه، لأن سنة الافتراش بين السجدتين سنة في حق كل مصل. ثانياً: إن كان في التشهد الأول، فإنه يقعد أيضاً مفترشاً إن كان هذا لا يشق عليه. ثالثاً: إن كان في التشهد الأخير سن له أن يقعد متوركاً، إن كان هذا لا يشق عليه. إذاًَ: الكلام في قعوده الذي هو بديل عن القيام، وكذلك في قعوده وهو راكع، فإن الركوع إذا كان في القعود يحتاج إلى هيئة أيضاً، فهذا مما اختلف فيه أهل العلم. فذهب بعضهم إلى أنه يقعد مفترشاً، والافتراش: أن يفرش اليسرى وينصب اليمنى، مثل القعود بين السجدتين، وهذا هو الأصح عند الشافعيية، وقال به أبو حنيفة، وزفر، قالوا: لأن هذا القعود قعود عبادة، وينبغي أن يتميز عن قعود العادة، كالتربع أو غيره، خاصة أن الافتراش جاء في القعود بين السجدتين، وفي التشهد الأول، فقالوا: الأولى به أن يقعد مفترشاً، وبناءً عليه لا يغير هيئته في كونه بين السجدتين، ولا يغير هيئته في التشهد الأول، لأنه مفترش من الأصل. القول الثاني: أنه يقعد متربعاً: وصفة التربع أن يفضي بمقعدته إلى الأرض ويجعل ركبته اليمنى عن يمينه، وركبته اليسرى عن يساره، فهذا هو التربع، ويضع إحدى رجليه على الأخرى، فقعود طلبة العلم الآن أكثرهم متربعون، لأن جلسة التربع مريحة ولا مشقة فيها. وهذا القول هو أيضاً رواية عن الشافعي، وهي التي ذكرها البويطي في روايته عنه، وهو مذهب الإمام مالك، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبي يوسف، ومحمد بن الحسين، وبعض أهل الظاهر وغيرهم، قالوا: يجلس متربعاً، واستدلوا لذلك بأدلة، منها. قالوا: إن القعود بديلٌ عن القيام في الصلاة، فلا بد أن يتميز عن هيئات القعود الأخرى، كهيئة الافتراش، أو هيئة التورك، وأن يكون مخالفاً له، وهذا ذكره النووي عنهم في المجموع وغيره. ولكنه ليس حجة في الواقع، الحجة لهم، التي يمكن أن يستدل بها حقاً، هي ما رواه النسائي في سننه عن عائشة رضي الله عنها قالت: [[رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعاً]] والحديث رواه الدارقطني في سننه، ورواه الحاكم في مستدركه وقال: صحيح على شرطهما، وقال الإمام النسائي في هذا الحديث بعدما رواه في سننه: لا أعلم أحداً روى هذا الحديث، غير أبي داود الحفري وهو ثقة ولا أحسبه إلا خطأ فكأن النسائي رحمه الله قد أعل الحديث، ولكن تعقبه في ذلك المقدسي صاحب المحرر، فقال: وقد تابع أبي داود الحفري محمد بن سعيد الأصفهاني، وهو ثقة) . فتبين أن أبا داود الحفري، واسمه عمر بن سعد، تابعه رجل آخر هو محمد بن سعيد الأصفهاني فتبين أنه لم ينفرد، ولم يظهر هناك وجه لتخطئة الإمام النسائي له، فيظهر: أن الحديث جيد الإسناد، وأنه يمكن أن يحتج به على مشروعية التربع، خاصة نه قد جاء من فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنه كما في موطأ مالك وقد سبق أن ذكر هذا. الوجه الثالث: أنه يجلس متوركاً كجلوسه في التشهد الأخير، وهذا وجه في مذهب الشافعية، قالوا: لأنه أعون للمصلي، والواقع: أن التربع قد يكون أعون للمصلي، وأهون له وأبعد عن المشقة عليه، خاصة بالنسبة للمريض. إذاً في المسألة ثلاثة أقوال: قيل: يجلس مفترشاً، وقيل: يجلس متربعاً، وقيل: يجلس متوركاً، وأوسطها هو أرجحها نظراً وأثراً للدليل الذي ذكرته. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 21 تخريج حديث جابر والحديث رواه البيهقي بسند قوي قال المصنف، ولكن صحح أبو حاتم وقفه، فقد رواه البيهقي في سننه، كما هو مطبوع في الجزء [2/306] في كتاب الصلاة، ورواه أيضاً في كتاب المعرفة، وأكثر من عزو الحديث إلى البيهقي عزوه إلى كتاب المعرفة، وهو موجود في كتاب المعرفة، وموجود -أيضاً- في السنن الكبرى للبيهقي. ورواه أيضاً البزار في مسنده، كما في كشف الأستار، باب صلاة المريض، وقال البزار في غير هذا الموضع -كما ذكر المصنف هنا- قال: سأل عنه أبو حاتم الرازي -الإمام الشهير محمد بن إسحاق الحنظلي - قال: سئل عن هذا الحديث، فقال: الصواب عن جابر موقوفا ورفعه خطأ، وكلام أبي حاتم موجود في كتاب العلل لـ ابن أبي حاتم في الجزء [1/113] في التعليق على الحديث رقم [307] حيث أعل هذا الحديث بأنه موقوف على جابر من قوله، ولم يذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى كل حال، فالحديث في المصادر المشار إليها سابقاً، هو من رواية أبي الزبير عن جابر، وسنده غريب، وللحديث شاهد عن يعلى بن أمية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى مضيق هو وأصحابه، وهو على راحلته صلى الله عليه وسلم، والسماء من فوقهم والبلة من أسفل منهم -أي بلل الأرض بالمطر- فحضرت الصلاة، فأذن النبي صلى الله عليه وسلم -وليس المقصود أنه أذن بنفسه كما توهمه بعضهم، جزم به النووي أخذاً من هذا الحديث وغيره، فإن الحديث في رواية أخرى -أمر المؤذن- بل وفي مسند الإمام أحمد أنه أذن بلال فدل على أنه لم يباشر الرسول صلى الله عليه وسلم الأذان بنفسه، ولكنه أمر المؤذن فأذن- ثم أقام، ثم تقدم، أي: براحلته صلى الله عليه وسلم، فصلى إيماءً يجعل السجود أخفض من الركوع. وقوله (فصلى إيماً) هو الشاهد، وحديثه على هذا الشاهد رواه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه، والبيهقي أيضاً، وهو ضعيف، ضعفه البيهقي، وكذلك الترمذي قال: غريب، وغيرهما، وفي سند الحديث مجاهيل. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 22 الاهتمام بواقع الأمة نقرأ عليكم بعض الأخبار المتعلقة بما جد من أوضاع المسلمين في يوغسلافيا. فهذا تقرير في يوم الثلاثاء 24/11/1412هـ يقول: أعلن بطرس غالي، الأمين العام للأمم المتحدة في زيارة قام بها لكندا، لحضور المؤتمر العالمي للشباب أن قوات الأمم المتحدة، هي فقط لحفظ الأمن والسلام بين القوة الصربية والكرواتية. أقول: قال الله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51] الآن حفظ السلام بين النصارى. يقول: وليست على استعداد لأخذ مطار سراييفوا ووضعه تحت الحماية. جاء ذلك خلال مأدبة غداء أقامها له رئيس وزراء كندا، وقد انتقد رئيس وزراء كندا ذلك التصريح، وقال: إن ذلك ضعف وخذلان واضح من الأمم المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية. وقد قامت السلطات الكندية بطرد سفير صربيا، وقامت بسحب السفير الكندي من بلغراد، ودعت كندا الأمم المتحدة إلى تنفيذ عقوبات اقتصادية ضد صربيا، ورفضت طلب شركة الطيران الصربية بالسماح لها بالهبوط في مطار كندا. من جهة أخرى بدأت تظهر بوضوح مشكلة أطفال مسلمو البوسنة والهرسك، الذين امتلأت بهم معسكرات اللاجئين المعدة لاستقبالهم في كل من جمهورية كرواتيا وسلفانيا، وبدأت دول أوروبا تأخذ مجموعات كبيرة منهم، وقد أخذت إيطاليا خمسة آلاف منهم، وتم ترحيلهم إلى إحدى المدن الإيطالية الواقعة على الحدود اليوغسلافية، وقد أصبح المسلمون يخشون على هؤلاء الإخوان من التعرض في تلك المعسكرات لعمليات المسخ التي تقوم بها الكنائس والمنظمات المشبوهة. وقد وجهت الدعوة لحكومات العالم الإسلامي، والمنظمات والهيئات والمسلمين قاطبة إلى التحرك السريع لإقامة معسكرات تحت إشراف إدارة من المسلمين حفاظاً على عقائد هؤلاء الصغار. لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رمادي أما عن التطورات العسكرية فقد شهدت مدينة توزلا معركة عنيفة جرت عندما حاولت المليشيات الصربية اقتحام مواقع القوات المجاهدة، التي تدافع عن المدينة إلا أن المجاهدين تمكنوا من رد الهجوم على أعقابه، وألحقوا بالعدو خسائر بلغت واحد وعشرين قتيلاً وسبع وعشرين جريحاً، كما انضم إلى قوات المجاهدين مؤخراً مائتين وستين ضابطاً من الجيش اليوغسلافي السابق أغلبهم من المسلمين، وفي مدنية مودريج استطاعت الفرقة مائة واثنين من الجيش الوطني البوسنوي أن تحرر أجزاءً كبيرة من المدينة عقب المعارك التي جرت اليوم وأمس، ولا زالت جارية. وفي مدينة كنيسيا تم تحرير المدينة نهائياً من قوات الصرب المعتدية، والمدينة تقع بين مدينة توزلا وسفونيه، وقد أسر المجاهدون مائة وثلاثة وتسعون جندياً صربياً، ودمروا خمس دبابات وعربات مصفحة، وقتلوا ستة وعشرين جندياً، ولاذ البقية بالفرار كما فر القائد الصربي إلى منطقة تشلي. وقد أكد ذلك قائد القوات البوسنية والمقدونية سالم جورجس، وفي سراييفوا قامت قوات العدو بقصف المدينة بالمدافع الثقيلة والخفيفة من الثكنات الثلاث وكذلك من معاقل القوات الصربية الغازية في الجزء المحتل من المدينة. وقال المتحدث باسم البوسنة والهرسك: أن الجيش الفيدرالي لم يفِ بوعده بتسليم الأسلحة التي هي ملك لحكومة البوسنة والهرسك، ولم يسلم سواء (20%) من الأسلحة و (80%) من الذخائر، كما أكدت قيادة الدفاع المقدونية في البوسنة والهرسك أن قوات الصرب الإرهابية النصرانية اعتقلت مائتين وثمانية عشر مسلماً في بلدة موتشته قرب سراييفوا، ويقوم الصربيون الآن بتعذيبهم، وحرمانهم من الأكل، وأنهم معتقلون، ولا يقدم لهم سوى الماء وذلك منذ أكثر من عشرين يوماً. من لهؤلاء المنكوبين بعد الله سواكم، فساهموا وفقكم الله في إعانة وإغاثة إخوانكم المسلمين. على صعيد آخر: جاءنا هذا الفاكس يقول: الله أكبر، الجهاد ماض إلى يوم القيامة، سقوط أول شهداء العرب في يوغسلافيا البوسنة والهرسك وهو من أرض هذه البلاد الجزيرة العربية الطاهرة، لله درهم هؤلاء الرجال فتح الله لهم أفغانستان -هكذا يقول الفاكس- توجهوا لإنقاذ الإسلام حتى لا يجتث من جذوره في البوسنة والهرسك ولبوا نداء إخوانهم هناك وذهبوا ليبذلوا دماءهم رخيصة في سبيل الله تعالى. الصرب ما زالوا يبحثون عن الأماكن والإمارات التي تنطلق منها العمليات التي يقوم بها الشباب هناك، ويعتقد بعضهم أنهم حالوا بين وصول الشباب مرة أخرى إلى قواعد العمليات، والغرب قد حس بالخطر. المهم {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] . أما فيما يتعلق بأفغانستان فهناك بوادر طيبة على وجود نوع من الاتفاق بين الطرفين المتنافرين من المجاهدين، الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، والجناح الذي يقوده أحمد شاه مسعود من الجمعية الإسلامية. وقد حصل لقاء وترتيب وتنسيق واتفاق على إخراج المليشيات، وإدخال قوات من المجاهدين لحفظ الأمن في كابل، وإجراء الانتخابات في أقرب فرصة ممكنة، وتحجيم دور رئيس المجلس الانتقالي الحالي صفة الله مجددي الذي هو غير موثوق به، وغير صحيح الاعتقاد، كذلك هو غربي التفكير، إضافة إلى أن هذا الرجل حاول أن يتحالف مع المليشيات وقد حاولت المليشيات أن تقوم ببعض الحركات لزعزعة الأمن لكنها كانت حركات محدودة وقليلة قبل يومين، وكانت ضحاياها محدودة جداً. ونقول: إن الذي يجري في أفغانستان الآن يبشر -إن شاء الله- بانفراج الأزمة، ونسأل الله أن يكلل لهذه الجهود بالنجاح، ويجمع كلمة المجاهدين ويكفيهم شر المخاطر التي ما زالت موجودة في أفغانستان مخاطر المليشيات وهي قوية ومدربة، وبعض فصائل المليشيات تصل إلى خمسين ألف، مثل مليشيات دوستم، وبعضها من الإسماعيلية الذين جاءوا من منطقة بغداد وهم غلاة الرافضة، وبعضهم مرتزقة أيضاً، ومن الممكن أن يستغلهم أي طرفه لصالحه. كما نسأل الله أن يكفي المسلمين والمجاهدين عموماً شر الرافضة، الذين لهم وجود أيضاً في ولاية في أفغانستان، ولهم أيضاً وجود قريب من كابل، وقد سيطروا على بعض بطاريات الصواريخ، ولكنها قد نزعت منها صواعق، فلذلك لا يوجد خطراً أكبر منها. نسأل الله أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، ونسأله أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن ينزل علينا من بره ورحمته وبركته إنه على كل شيء قدير، وأن يصلح ذرياتنا ونياتنا ويرزقنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً، ويختم لنا ولكم بخير. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 167 ¦ الصفحة: 23 سبل مقاومة المرأة المنكر النساء شقائق الرجال، وهن مخاطبات بآيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمنكرات قد تكون أسرع انتشاراً بين النساء لسرعة استجابتهن، وهذا الدرس فيه توجيهات مهمة للنساء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 1 المعروف والمنكر الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلىآله وصحبه أجمعين أما بعد: فإنني سأتحدث عن موضوع محدد خاص، وأود أن نتفهم هذا الموضوع ونتناقش فيه لنصل فيه إلى مفاهيم واضحة، ونتائج محددة نستفيد منها في حياتنا العملية الخاصة والعامة. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 2 الأصل في المجتمع المسلم المجتمع النظيف الصالح المسلم الأصل أنه يعرف المعروف وينكر المنكر، لكن هذا لا يعني أن المجتمع يتحول إلى مجتمع صحابة، فالإنسان بشر، ولذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه يقول: {لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفروه فيغفر لهم} ؛ لأن من أسمائه عز وجل أنه غفور رحيم، وإنما غفرانه جل وعلا لعبيده الذين أخطئوا وضلوا عن الطريق، ثم تابوا إليه وأنابوا، أو بدر منهم بوادر غلط فندموا عليها. حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ذكر الله في القرآن الكريم عنهم كمثل آدم عليه السلام، وموسى، وغيرهما من الأنبياء، حتى محمد عليه الصلاة والسلام، كان يحدث منهم أمور أقل ما يقال فيها أن الأولى تركها، وبعضها قد يكون ممنوعاً كما حدث لآدم عليه السلام {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122] فيقول النبي من الأنبياء: يا رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، والله عز وجل أبوابه لا تغلق للتائبين. وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث صفوان بن عسال قال: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن باب قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} فنقول ونحن جميعاً من العصاة المذنبين الخطائين: الحمد لله الذي لم يجعل وقوع الواحد منا في زلة أو سقطة سبباً في إغلاق أبواب الرحمة دونه، وبعده وطرده، بل إن الله جل وعلا وهو الغني يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها، فلك الحمد. وإن الله جل وعلا كما أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل من بني إسرائيل -والحديث في صحيح مسلم {- أذنب ذنباً ثم ندم، وقال: اللهم إني أذنبت فاغفر لي فغفر الله له، ثم أذنب مرة أخرى فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فغفر له، ثم المرة الثالثة، فقال: رب إني أذنبت فاغفر لي، فقال الله عز وجل: عبدي علم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، افعل ما شئت فقد غفرت لك} . لكن علينا ألا نغتر بهذا لأن الله عز وجل قال لهذا الإسرائيلي: افعل ما شئت فقد غفرت لك، وهو أعلم سبحانه أن هذا الرجل قام بقلبه من شدة الانكسار بين يدي الله، وشدة الخوف منه، وشدة الندم على الذنب ما كان سبباً إلى رحمة الله له، وعفوه عنه، لكن أنا وأنت وأنتما وأنتم وأنتن، ما يدرينا أن يكون قام بقلوبنا ذلك؟ فربما يعصي الإنسان ثم يستغفر، ثم يعصي ثم يستغفر ثم يعصي ثم يستغفر، ويقال له: لا يغفر لك لأنك كذاب مخادع تعاهد الله عز وجل ثم تغش وتنكث. فلا يغتر الإنسان بهذا الحديث؛ لأن هذا الرجل أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام بأن الله قال له ذلك؛ لكن نحن من يخبرنا أن الله تعالى قال لنا ذلك، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. ولذلك كان من صفات عباد الرحمن في الجنة أنهم كانوا يخافون عذاب الله عز وجل وقد وصفهم بهذا في مواضع كثيرة قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] وقال: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج:26-28] . وهم يقولون: {إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26] أي: خائفين وجلين {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27-28] . المهم أني أريد أن أشير إلى أن الإنسان من طبيعته أنه قد يخطئ، وكل ابن آدم خطاء، هكذا يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه الترمذي وسنده حسن: {كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} . الجزء: 168 ¦ الصفحة: 3 معيار معرفة المعروف والمنكر إذاً: المعيار في معرفة المعروف والمنكر ليس أمزجة الناس؛ لأنها تتفاوت، فقد تستحسن القبيح وتستقبح الحسن وكما قيل: يقضى على المرء في أيام مختلفة حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن فيشيع عند الناس يوماً من الأيام عادة أو موضة تقليد أي أمر من الأمور، ويتحول إلى أمر مستحسن في أذواقهم وأمزجتهم وهو منبوذ شرعاً ومحرم أو مكروه، إذاً لا عبره بانطباع الناس عن هذا الأمر، إنما العبرة بثلاثة أمور: الأمر الأول: القرآن: فإذا ثبت في القرآن أن أمراً من الأمور معروف فهو معروف ولا يحتاج إلى كلام فيه. الأمر الثاني: السنة النبوية: فإذا جاءت الأحاديث عن المصطفى عليه الصلاة والسلام بأن هذا الأمر مطلوب وجوباً أو استحباباً، فهو معروف، وإذا جاءت بأن هذا الأمر مطلوب تركه إما تحريماً أو كراهية فهو منكر. الأمر الثالث: الذي يتميز به المعروف والمنكر هو واقع المجتمع النظيف السليم، وأخص المجتمع الأول فهو المقياس ولذلك نقول أيضاً في أبواب الاعتقاد عموماً: أن ما كان عليه الجيل الأول هو العقيدة الصحيحة بدون جدال ولا نزاع يختلف مثل الأشاعرة عن المعتزلة وعن الماتريدية وعن الجبرية وعن القدرية وعن الخوارج، فنقول: إن المقياس في ذلك هو الرجوع إلى ما كان عليه الجيل الأول. ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث الفرقة الناجية لما ذكر: {أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قال: من كان على ما أنا عليه وأصحابي} فجعل المعيار والمقياس في معرفة الطريق الصحيح وهو طريق النجاة في السلوك والقول والعمل والاعتقاد، هو التزام ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ويمكن أن نقول: إن القرون الفاضلة إجمالاً كان رجالاتها وزعماؤها على المنهج وعلى الخط والطريق نفسه، لم يغيّروا ولم يبدلوا ولذلك قال عليه السلام: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم} . الجزء: 168 ¦ الصفحة: 4 أمثلة على تسمية المعروف والمنكر في المجتمع لو أخذنا نموذجاً -ولا شك أنه النموذج الأمثل-: نموذج أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، المجتمع الأول، ذلك المجتمع الذي يعتبر قدوة للناس عبر العصور، ومن رحمة الله عز وجل أنه وضع ذلك المجتمع بحيث أن الناس يمشون في طريقهم نحو الهداية والاستقامة على مدى الزمان وهم ينظرون إلى هذه المنارة المرتفعة، منارة المجتمع الإسلامي الأول منارة محمد عليه الصلاة والسلام والذين معه، ثم القرون الثلاثة الفاضلة: {خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم} فينظرون إلى ذلك المجتمع، ينظرون إلى الأشياء الشائعة فيه، ويعرفون أن هذه أمور من المعروف، وينظرون إلى الأشياء التي أنكروها ونبذوها فيعرفون أنها من المنكر. على سبيل المثال أيضًا: خلافة أبي بكر رضي الله عنه، الآن المسلمون منذ عهد خلافة أبي بكر إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، يكتبون في العقائد أن المؤمنين، وأن أهل السنة والجماعة يعتبرون أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر، وهو الأجدر بالخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا موضع إجماع عندهم. هذا الإجماع لم يرد نص قرآني ينص عليه، ولم يرد حديث نبوي صريح يحدد هذه القضية بصورة حاسمة، نعم، وردت أحاديث كثيرة أشبه ما تكون بالإيماء والتلميح والإشارة إلى جدارة أبي بكر رضي الله عنه، لكن بعدما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام واجتمع المسلمون في سقيفة بني ساعدة وتقاولوا وتفاوضوا وتحادثوا، ثم انتهى بهم الأمر إلى الاتفاق والإقرار بولاية أبي بكر رضي الله عنه، وبايعوه عن طواعية واختيار، وجعلوه أميراً للمؤمنين، وسمعوا له وأطاعوه، واستقر الأمر على ذلك، بعد هذا عرفنا؛ بأن ولاية أبي بكر أصبح معروفاً في ذلك المجتمع الأول بدليل أنه وجد بينهم واستقر وقام، فعرفنا بذلك أن ولاية أبي بكر رضي الله عنه وأفضليته وتقدمه على الصحابة هي من الأمور المتفق عليها عند الأمة، ومثل ذلك أشياء كثيرة قد لا تكون النصوص فيها حاسمة بصورة نهائية لكن واقع المجتمع الإسلامي الأول هو المقياس. أضرب مثالاً آخر -أيضاً- موضوع كتابة الحديث النبوي، هل يكتب الحديث أو لا يكتب؟ الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كتابة الحديث خشية أن يختلط بالقرآن الكريم، ولأن الكُتَّاب من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، فكان يخشى أن ينشغلوا بكتابة الحديث عن كتابة القرآن الكريم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتب عني شيئاً غير القرآن فليمحه} فنهى عن الكتابة. ولذلك ذهب جماعة من الصحابة إلى تحريم كتابة شيء من الحديث النبوي، ومن أشهرهم عمر رضي الله عنه حيث كان ينهى عن كتابة الحديث في أول أمره، ولما توفى الرسول عليه الصلاة والسلام، وجمع القرآن وأمن اختلاطه بالسنة بعد ذلك، ثم وجد الناس في القرن الأول مشكلة وهي خشية ضياع السنة النبوية؛ لأن المشافهة مع أنها وسيلة قوية لكن مع ذلك قد يموت الحفاظ فيضيع شيء من العلم الذي كان عندهم، ولابد من التدوين والكتابة، فاستقروا على جواز كتابة الحديث النبوي حتى أجمعوا على ذلك بلا مخالف، وبدءوا يكتبون الحديث النبوي. ولاشك أنه يوجد أحاديث اعتمدوا عليها، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام لـ عبد الله بن عمرو بن العاص: {اكتب فوالله ما خرج منه - وأشار إلى فمه - إلا حقٌ} ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: {اكتبوا لـ أبي شاة} . وهو رجل من أهل اليمن لما سمع الخطبة، قال: اكتب لي يا رسول الله، فقال: {اكتبوا لـ أبي شاة} ومثل قوله عليه الصلاة والسلام وهو في مرض موته: {ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً، فاختلفوا عند النبي صلى الله عليه وسلم، واحد يقول يكتب، وآخر يقول: الرسول صلى الله عليه وسلم مريض وعندنا كتاب الله حسبنا، فغضب الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: قوموا عني ولا ينبغي عند نبي تنازع} فقاموا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام: {ما أنا فيه خير مما أنتم فيه} قال ابن عباس رضي الله عنه كما في صحيح البخاري: [[إن الرزية كل الرزية -يعني المصيبة كل المصيبة- ما حال بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم الكتاب]] . فكتابة الحديث النبوي ليس فيها نصوص حاسمة قاطعة أنها مطلوبة وواجبة، لكن لما واجه المسلمون الأولون ضرورة الواقع رجحوا القول بمشروعيته، بل بوجوب كتابة الحديث النبوي، واتفقوا على ذلك من غير مخالف ولا نكير. ومقصودي من هذا المثال والذي قبله وغيرها كثير: أن المعروف هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة أنه معروف مطلوب من الشرع، والمنكر هو ما عرف بين المسلمين الملتزمين بالكتاب والسنة أنه مكروه مطلوب تركه. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 5 أصل تسمية المعروف والمنكر المجتمع المسلم الأصل فيه أنه مجتمع المعروف البعيد عن المنكرات، لذلك سمي المجتمع المعروف معروفاً، لأن الناس في ذلك المجتمع الطيب الصالح قد تعارفوا عليه، واشتهر بينهم، وسمى المنكر منكراً -أيضًا- لأنه منبوذ ومكروه ومنكر بينهم لا أحد يقبله ولا يقر به. فأصل تسمية كلمة معروف وكلمة منكر في الشرع إنما جاءت لأن المجتمع الصالح المسلم يعرف هذا، وينكر ذاك، فيعرف -مثلاً- الطاعة والصلاة والذكر والبر والنصيحة والخير، فتسمى هذه الأشياء معروفاً؛ لأن الناس يعرفونها في المجتمع الطيب. وبضد ذلك هناك أشياء مكروهة كالفسوق والعصيان والإثم، سواء في ذلك كان إثماً قلبياً أم لسانياً أم عملياً، فهو مكروه منكر بين الناس لا يعرفونه ولا يقرون به ولذلك سمي منكراً، فأصل وضع الكلمتين معروف ومنكر مبنية على أساس وجود مجتمع صالح يعرف الخير ويقر به، وينكر المنكر ولا يرضاه فسمي هذا معروفاً وهذا منكراً. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 6 أنواع الخطأ في المجتمع المسلم الطاهر حين نقول: إن المجتمع الإسلامي الصحيح مجتمع نظيف لا نعني أنه مجتمع ملائكة، لا، فهذه المجتمعات فيها نوعان من الأخطاء، وأرجو أن تنتبهن أيتها الأخوات لهذين النوعين وهما:- الجزء: 168 ¦ الصفحة: 7 الأخطاء الجماعية هذه المنكرات الفردية وهناك نوع آخر وهو الخطير: المنكرات الجماعية، وإن شئتي فقولي: المنكرات المنظمة. ففي عهد الرسول عليه الصلاة والسلام وجد منافقون، وهؤلاء يمكن أن نعتبرهم جماعة أو مؤسسة أو حزباً أو طائفةً أو جمعية أو سميهم ما شئتِ؛ ومهمتهم إشاعة المنكرات في المجتمع الإسلامي، وليست منكرات فردية كما هو الحال فيمن تغلبه نفسه أو يغلبه الشيطان ويقع ثم يتوب، لا، منكرات منظمة ومدروسة ومقصودة، فهم يكيدون ويتتبعون عورات المؤمنين، ويحاولون أن يشيعوا الإشاعات وينشروها، ويعملوا ضد الإسلام. وهذه الطائفة أو الحزب كان موجوداً في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فأولى أن يكون موجوداً بعده وأقوى أيضاً؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم دقت شوكتهم وقل دورهم؛ لأنهم انكشفوا وعرفهم الناس فأصبح لا شأن لهم، ولا قيمة إلا في حدودٍ ضيقة. حتى أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لما قرأ قول الله عز وجل: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] قال: ما بقى من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة، ولا من المنافقين إلا أربعة أحدهم: شيخ كبير السن هارم لو شرب الماء البارد لما وجد برده، إنسان هرم انتهى والبقية هلكوا. ففي عهد الرسول عليه السلام، مجتمع صالح نظيف محكم، أفراده يوالون الإسلام ولاءً حقيقياً، يوالون الله ورسوله، ولذلك نبذوا المنافقين ولم يعد للمنافقين دور عندهم. أما فيمن بعدهم وخاصة في العصور المتأخرة في عصرنا هذا وما بعده، فإننا نجد أن شأن المنافقين يكبر ويتسع، فيكون لهم مؤسسات وأجهزة وقوى كثيرة وشخصيات ورموز تعمل باسمهم، وبغض النظر نحن لا نتهم أشخاصاً معينين بأنهم منافقون، لكن نقول عموماً ميزة المنافق أنه يعمل على إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، ويعمل على نشر الرذيلة بين المؤمنين، ويعمل على التشهير بأهل الخير والإسلام، ويحرص على تحويل المجتمع من مجتمع طيب صالح إلى مجتمع منحط منحرف، وعلى تحويله من بيئة نظيفة لتربية النشء الصالح إلى بيئة ملوثة بجراثيم الفساد والشر؛ بحيث ينشأ الصغير فيها ويتنفس الجراثيم، ويتقبل هذه الانحرافات والمنكرات لأنها موجودة في المجتمع، وهي أمر طبيعي عندهم. إذاً: إذا كان الهواء ملوثاً كل من شم هذا الهواء تلوث وتضرر به. فهذه منكرات جماعية خطيرة وهي التي تميز ما إذا كان المجتمع سليماً أو غير سليم، ففي المجتمع السليم يتقلص دور المنافقين، أما المجتمع المختلط الضعيف فإنه يبرز دور المنافقين، ويصبحون لهم مراكز ولهم إمكانيات ووسائل قوية ولهم تأثير واضح. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وأصحاب السنن وهو حديث صحيح: {لا تقولوا للمنافق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم} أي: حين نتحول نحن المسلمين إلى أناس يقدرون المنافق ويطلقون عليه ألقاب التبجيل (يا سيدي، أو يا سيد) نكون أسخطنا الله عز وجل، لماذا؟ لأن معنى ذلك أن عندنا قابلية لتقبل ما عند المنافق، والمنافقون ليسو مجرد أناس متسترين، لكن لهم أهداف الفساد والإفساد في المجتمع المسلم. إذاً: النقطة الأولى التي أود أن أذكرها: النوع الأول: أن المنكرات على نوعين: النوع الأول: منكرات فردية يخطئ شخص فيندم على ذنبه، ويستغفر الله عز وجل، وهذا يوجد وإن كان يتفاوت، ففي المجتمع النبوي حالات توجد فردية لكن كلما تقدم الزمن زادت. النوع الثاني: منكرات جماعية منظمة ومؤسسات وتجمعات، ولذلك تجدين أحياناً في بعض المدارس والجامعات سواء للذكور أو للإناث تجمعات معينة، هذه التجمعات اجتمعت على أساس التعاون على الرذيلة وعلى الإثم والعدوان، كالتعاون -مثلاً- على نشر الفاحشة، والتعاون على نشر الوسائل السيئة كالمجلات المنحرفة والكتب الهابطة وتبادل أرقام الهاتف، ونشر الصور والتصوير إلى غير ذلك من الوسائل السيئة، وتجدين عشر أو عشرين من الصديقات تجمعهن على هذا الأساس. أنا لا أقول: إن هؤلاء المجموعات منافقات؛ لكن أقول: هنا الخطورة أنه لم يعد المنكر أمراً يخاف منه الإنسان ويستحي منه، وقد يقع فيها ويستتر ويتوب إلى الله، لا، إنما أصبح يجاهر بها ويوالي على أساسها، فإذا وجد من يكون مثله اجتمع معه وهنا الخطورة؛ لأن هؤلاء من حيث يريدون أو لا يريدون يصبحون سوساً ينخر في المجتمع، ويجر المجتمع جراً إلى الهاوية، وهؤلاء ولاشك أنهم في غاية الخطورة، والتصدي لهم في غاية الأهمية. حين ننظر -أيتها الأخوات- إلى المجتمعات منذ عهد الرسول إلى اليوم نجد هذا أمراً طبيعياً، وليس بغريب أن المجتمع يتفاوت، فأحياناً تقل المنكرات وأحياناً تكثر، والأسباب في ذلك كثيرة، وأريد أن أتحدث عنها لأن الوقت ضيق، لكن أنبه إلى أن المجتمعات تتفاوت في زيادة المنكرات وفي قلتها بحسب عوامل كثيرة جداً تتعلق بوضع المجتمع، وبقيادة المجتمع وأفراده، ووجود العلماء والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وانتشار العلم، وغلبة الأعداء إلى غير ذلك من الوسائل التي لا أريد أن أدخل فيها أو في تفصليها. ولو نظرنا في مجتمعنا الذي نعيش فيه الآن وقومناه، وحاولنا أن نضبطه بالميزان الذي تحدثت عنه قبل قليل لوجدنا أن هذا المجتمع فيه وفيه، فمن جهة يوجد في مجتمعنا المعروف سواء في الميدان العام، مثل كون المجتمع لا يزال محافظاً على حجاب المرأة وستر جسمها ويعتبر ذلك من الأمور السائدة في المجتمع، وهو أمر طبيعي لا يستغرب. وقضية تجنب الاختلاط في الميادين العامة، وفي المدارس، وفي الجامعات بشكل عام، دعينا من وجود حالات فردية أو بدايات من قبل بعض المغرضين، هذا أمر آخر، لكن الأصل القائم أنه لا يزال التعليم غير مختلط، والرجال يدرسون وحدهم، والنساء يدرسن وحدهن -وعلى حِدَهٍ- معزولات، حتى -مثلاً- حين يكون هناك حاجة إلى أن يكون هناك رجل يعلم من خلال شاشة أو من وراء حجاب، أو ما أشبه ذلك. حين تنظرين -مثلاً- إلى واقع الأسر والعوائل تجدين فيها مجموعة من الخصائص الخيرة مثلاً: الصلوات، وصيام رمضان، والحج والعمرة، والبر وصلة الرحم إلى غير ذلك. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 8 أخطاء فردية النوع الأول: ما يمكن أن يسمى بأنها أخطاء فردية، كمثل رجل سرق، وآخر زنى، وثالث كذب، ورابع اغتاب، فهذه أخطاء فردية توجد في المجتمع النبوي، ولو قرأت في كتب السنة لوجدت أنه ظهر الآن لنا بعد ألف وأربعمائة وعشر سنوات، أن فيه مجموع من الأخطاء من أفراد المؤمنين، مثلاً: ماعز بن مالك الأسلمي رضى الله عنه زنى، وكذلك الغامدية رضي الله عنها زنت، رجل آخر سرق، ورجل آخر غل، وثالث كذب، إلى غير ذلك، فهي مجموعة من أخطاء يمكن إحصاؤها. لكن لاحظ أنهم كانوا خطئوهم وكان خطأهم يتميز عن غيرهم بأن الإيمان موجود مستقر في النفوس، والصلة بالله عز وجل قائمة، والإحساس برقابته موجودة، وإن حصلت بادرة خطأ، لكن يكون توبته منها أمر عجيب. قصة ماعز: مثلاً ماعز بن مالك الأسلمي يأتي للرسول عليه الصلاة والسلام وقد وقع في الزنى وندم عليه، ومع ذلك يأتي للرسول ولو تاب وستر نفسه لستره الله وتاب الله عليه؛ لكنه ما رضي، فيأتي للرسول عليه السلام في مجلسه ويقف أمامه، ويقول: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، ثم من هنا: يا رسول الله! إني زنيت فطهرني، والرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عنه أربع مرات، وكلما أعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم قام الرجل وجلس أمام وجه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إني زنيت فطهرني، والرسول عليه الصلاة والسلام يريده أن ينصرف ليتوب فيتوب الله عليه، وهذا أولى لكنه لم يفعل من شدة الاحتراق في قلبه، وشدة الخوف من الله، حتى فضح نفسه أمام الناس فدعاه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: أبك جنون؟ قال: لا، قال: استنكهوه -أي شموه قد يكون سكران الآن ويدلي بهذا الاعتراف- فلم يجدوا شيئاً، ثم دعا النبي قومه وقال: ماذا تعرفون عن ماعزٍِ؟ قالوا: يا رسول الله! ما نعلم عنه إلا خيراً، رجل من أفضلنا وأعقلنا لكنه أصابه ذنباً لا نرى أنه يخرج منه إلا ذلك، فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم حكماً بأن يرجم؛ لأنه كان محصناً متزوجاً فرجم. هذا نموذج لصدق التوبة فحين يخطئون كانت تظهر منهم رجولة وصدق، ورجوع لا يوجد عند من بعدهم. قصة الغامدية: وأعجب من قصة ماعز قصة الغامدية، وأنا ما وقفت أمام هذه القصة إلا أتعجب منها أشد العجب. جاءت الغامدية بعد قصة ماعز، ولذلك كانت الغامدية تعرف ما مصيرها، وتدري ما هو العقاب الذي ينتظرها وقد زنت وهي محصنة. فجاءت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقالت: يا رسول الله! أصبت حداً فأقمه عليَّ، إني زنيت فطهرني، فأعرض عنها الرسول عليه الصلاة والسلام لعلها تذهب فتتوب فيتوب الله عليها، لكن المرأة ما قبلت، وقالت: يا رسول الله! كأنك تريد أن تردني كما رددت ماعزاً والله إني لحبلى من الزنا. غريب أهذا منطق امرأة! لكن الإيمان يصنع المعجزات، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أما الآن -يعني مادام الأمر كذلك- فاذهبي حتى تلدي} وإن ذهبت وما رجعت تاب الله عليها وانتهى الأمر، لكنها يمكن أن نقول: إنها أول مرة كانت لكونها حديثة عهد بالمعصية، المعصية قريبة ولازال يكون الندم شديداً؛ لأن الإنسان إذا وقع في معصية أول ما يقع يندم ندماً شديداً، ثم يبدأ الندم يخف حتى يذهب أحياناً، فيمكن أن نقول: أنها أول مرة جاءت بسبب شدة الندم مع أنها لم تكن تعلم أنها حامل إلا بعد وقت من وقوع الجريمة. ولما ولدت الصبي، وبمجرد ما ولدته؛ جاءت به ملفوفاً في خرقة تحمله: يا رسول الله! هذا الصبي قد ولدته فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {اذهبي حتى تفطميه} رجعت المرأة، تعهدها رجل من الأنصار وحفظها والصبي معها ترضعه حولين كاملين، وهذا الرضاع الشرعي لمن أراد أن يتم الرضاعة. بعد سنتين وتسعة أشهر من جريمة الزنا جاءت بالصبي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بعدما فطمته في أول وقت الفطام أي بعد مضي سنتين، ثم وضعت في يده كسرة خبز يمسكها حتى تقول للرسول عليه الصلاة والسلام: إنه الآن مفطوم يأكل الخبز. شيء عجيب! تمر قرابة ثلاث سنين، وتأتي وهي تعرف أن مصيرها سيحفر لها حفرة في الأرض وترمى بالحجارة حتى الموت. إذا كان هذا شأن الذين وقعوا في المعاصي من الجيل الأول فكيف يكون شأن الطائعين المخلصين الذين لم يتورطوا في مثل هذه الأمور، إن مثل هذا لشيء عجاب، والله المستعان! المهم حتى حين تقع منهم هذه المعاصي فقد كان رجالهم رجالاً ونساؤهم نساء، كانت نساء حقيقيات صادقات مع الله تعالى ومع أنفسهن. هذا النوع الأول من المعاصي والأخطاء التي توجد في المجتمع الصالح هي المنكرات الفردية، يعني فلان زنى، فلان سرق، فلان كذا، فلان تخلف عن الجهاد، فلان فر من المعركة أو ما أشبه ذلك، ثم يتوبون ويتوب الله عليهم، لا يعلم في حدود علمي أن واحداً من الجيل الأول مات مصراً على معصية. قصة أبي محجن: ولعل من أقرب الأمثلة قصة أبي محجن الثقفي، وكان متورطاً في شرب الخمر ولا يستطيع أن يصبر عليها، بل جلد مرات عديدة، وسجن بدون جدوى، لكن من رحمة الله قبل أن يموت بزمن أنه كان مسجوناً في بيت سعد بن أبي وقاص في أيام القادسية في العراق، فلما رأى القتال بين المؤمنين والفرس تحمس وقال لـ سلمى زوجة سعد: فكي لي فرس سعد -وكانت مربوطة- وأطلقيني أقاتل، فإن قتلت فهذا خير لي، وإن نجوت فأعاهد الله أن آتي حتى تضعي القيد في رجلي، فرفضت، فبدأ يتغنى بأبيات من الشعر يقول: كفى حزناً أن تطرد الخيل بالقنا وأترك مشدوداً علي وثاقيا إذا قمت عناني الحديد وغلقت مصاريع دوني قد تصم المناديا وقد كنت ذا مالٍ كثير وأخوةٍ فقد تركوني واحداً لا أخَا ليا ولله عهد لا أخيس بعهده لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا أي: حانات الخمر، فهو يحلف بالله إن نجا وفرج عنه من هذا الكرب ألا يزورها، أي أماكن الخمور ففكت قيوده وأعطته الفرس (البلقاء) فذهب يقاتل في المعركة ويفتك بالفرس فتكاً شديداً، وسعد بن أبي وقاص ينظر ويقول: والله إن الطعن طعن أبي محجن والفرس فرسي، وأبو محجن في القيد كيف هذا؟ رجل يشبه أبا محجن وهذه تشبه فرسي، فلما رجع قال لزوجته فقالت: نعم، والله هو أبو محجن وهي فرسك فقال له سعد: اذهب لا سجنتك بعد اليوم، فقال: وأنا لا شربت الخمر بعد اليوم. فلا أعلم أحداً من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام مات مصراً على معصية من المعاصي الظاهرة. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 9 دور الصحوة الإسلامية مع ذلك فهناك الجانب الآخر لابد من الإشارة إليه، وهو قضية الصحوة التي أصبحت تنتشر خاصة في أوساط الفتيات من الطالبات في المدارس المتوسطة، والثانوية، والجامعية، والمعلمات وغيرهن، أصبحت هناك صحوة تكتسح الساحة الآن، وميزة الصحوة أنها هداية عن علم ومعرفة وتعمد، وليست بمجرد الوراثة أو التقليد، بل يحصل ذلك عن اختيار، وقد تكون -مثلاً- المرأة لم تجد في البيت تربية سليمة، بل قد تكون انحرفت وقتاً من الأوقات، لكنها بعد ذلك اهتدت إلى الله عز وجل، وأقبلت على الدين عن وعي وبصيرة ومعرفة، وأصبحت تتمسك به وتدرك فضله وأهميته وتدعو إليه. وهذه الصحوة الآن ظاهرة، لا يجادل فيها أحد من المسلمين أو الكفار، بل الكفار الآن هم أكثر الناس تخوفاً منها، والتقارير الغربية من أمريكا وبريطانيا وغيرها تصدر يومياً من مراكز بحوثهم ودراساتهم عن هذه الصحوة وخطرها والخوف منها، وأنها تهدد مخططاتهم في القضاء على المسلمين، وتحويل الأمة الإسلامية إلى مجرد سوق لمنتجاتهم وأفكارهم وعقائدهم وبضائعهم. فالصحوة الآن ظاهرة لا يستطيع أحد أن يتجاهلها بحال من الأحوال، وهي بفضل الله تعالى، وصحيح أن الدعاة والمخلصين والعلماء لهم جهود كبيرة لا يمكن أن تنسى؛ لكن جهودهم كان من الممكن أن تضيع، ولكن الله عز وجل بارك في جهودهم وسددها، ووفق إلى أن يستمع الناس إلى نذيرهم وصياحهم ودعائهم وندائهم، حتى وجدت هذه الصحوة الإسلامية المباركة في أوساط الرجال وفي أوساط النساء، وهذا من الخير الموجود في المجتمع. وفي مقابل ذلك تجدين في المجتمع منكرات كثيرة سائدة، بعضها مستقر وبعضها الآن يأخذ طريقه إلى الاستقرار، هذه المنكرات السائدة قد تكون موروثة أحياناً في بعض الأسر أو في بعض المجتمعات، وليس بالضرورة في كل مجتمع، فهناك مجتمعات معينة الرجل فيها قد يخلو بقريبته، ويعتبر هذا أمراً عادياً، وقد ينظر إليها، وقد لا يكون هناك تستر كافي في بعض بيئات البادية وفي بعض المناطق الأخرى. وهناك منكرات -أيضاً- استقرت في البيوت، وكثيرٌ من البيوت يوجد فيها -مثلاً- أجهزة هدم وتخريب ويوجد فيها أفلام، ويوجد فيها كتب وروايات سيئة، ومجلات سيئة، وكذلك تساهل وتسامح في العلاقات الاجتماعية، فهذا نوع من المنكرات الموجودة، وهي منكرات متوارثة بين الناس اشتهرت واستقرت. وهناك منكرات في طريقها أو تحاول -لا نتفاءل ولا نتشاءم- لكن تحاول أن تكون في طريقها إلى الاستقرار، فهناك لاشك من يحاول غزو المجتمعات الإسلامية في كل مكان، فهناك من يتمنى أن تظهر المرأة المسلمة سافرة، ويعتبر أن هذا الحجاب سجن -مثلاً- للمرأة، وهو يريد أن يستمتع بالمرأة وهي سافرة وقد حسرت عن وجهها وشعرها ونحرها وذراعيها، بل يتمنى ما هو أشد من ذلك {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] والمنافقون خلف المؤامرة كلها، يسعون بجهودهم ليلاً ونهاراً لتحقيق هذه المقاصد. وهناك من يتمنى أن يحدث الاختلاط بين الأولاد والبنات في المدارس وفي الجامعات وغيرها، حتى يستمتع بشهوته ومراده على ما يحب دون حسيب أو رقيب من الناس. وهناك من يحاول أن يوجد الاختلاط في أوسع من إطار التعليم، هناك منكرات يحاول الكثير من المغرضين فرضها على الأمة الإسلامية من خلال وسائل الإعلام، وأجهزة التعليم، والمناهج التعليمية، والعلاقات بين طبقات المجتمع، ومن خلال إشاعة أخلاقيات معينة، وهذا النوع الجديد من المنكرات غالبها أو كثير منها منظمة مدروسة يقف خلفها -كما أشرت قبل قليل- أجهزة ومؤسسات وبيوت يديرها غالباً أناس يتعمدون هذا الأمر، وقد يكونون من المنافقين الذين بليت بهم الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، وصنعهم الاستعمار وغرسهم في البلاد الإسلامية حتى يقوموا بالمهمة بالنيابة عنهم. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 10 تغيير المنكر أنتقل من هذه النقطة إلى النقطة الأساسية وهي المهمة وأعتبر أنها هي زبدة الحديث عندي أو بيت القصيد، وأتمنى من الأخوات أن تصغي أسماعهن جيداً لهذا الموضوع. النقطة الأساسية: أنه ما موقفنا إزاء هذه المنكرات الشائعة الآن بنوعيها؟ يمكن أن نلخص الموقف بالحديث النبوي، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} إذاً موقفنا التغيير، والتغيير لا يعني -بالضبط- أن المنكر قد زال، لأنك لست سلطة تزيلين المنكر بالقوة، {فإن لم يستطع فبلسانه -أي: يتكلم أن هذا لا يصلح ولا يجوز، أو يكتب- فإن لم يستطع فبقلبه} . إذاً بالقلب -أيضاً- يكون تغييراً، كأن تكون كارهاً لهذا المنكر لكنك لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وهذا سماه الرسول عليه الصلاة والسلام تغييراً {فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل} فحين ترى الأخت المسلمة المنكر ثم لا تكرهه فهنا لا إيمان في قلبها مطلقاً، ولا حبة خردل، هذا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل، وذلك أضعف الإيمان} فإذا زال الأضعف ما بقى شيء من إيمان، وفي لفظ فقال: {وذلك أضعف الإيمان} . من أهم خصائص المؤمنين بغض المنكر، أحياناً قد يكون المؤمن مقصراً في الصلاة أو الصيام أو الزكاة أو الحج، لكنه غيور على حرمات الله، فهذا دليل على صدق الإيمان في قلبه، وآخر قد يكون عابداً زاهداً مصلياً قائماً ذاكراً لكن هذا الإنسان قلبه ميت يرى المنكر فلا يتمعر وجهه ولا يغضب لله، فهذا في إيمانه نظر، وأعماله هذه لا تدل على قوة إيمانه وصدق ولائه لله تعالى ولرسوله. أما بالنسبة لكيف يكون التغيير؟ فإن الناس -سواء في ذلك الفتيات أو الشباب- يسلكون إحدى طريقتين أمام هذه المنكرات الشائعة أشير إلى كل من الطريقتين، وأبين المحمود منها. س الجزء: 168 ¦ الصفحة: 11 المشاركة في الحياة والتغيير خير من الانطوائية فليس صحيحاً أن نرضى نحن أن نكون هكذا، نترك مجتمعنا ومؤسساتنا ومجالاتنا ومناسباتنا التي تنبثق من هذا المجتمع الذي الخير عليه عموماً؛ نتركها لنساء أحياناً فيهن ضعف وتقصير، وبعضهن ليس عندها تدين، وبعضهن قد تكون مغرضة وعندها أفكار سيئة، وبعضهن قد يكون زوجها أحياناً رجل يوجهها إلى أمور لا تحمد. فليس بصحيح أن نترك المجتمع لمثل هذه الطبقة تربيه، ونحن نقول فسد الناس وفسد المجتمع، لا، بل ينبغي أن ننزل للميدان، وننزل للساحة ونؤدي دورنا من خلال مجالاتنا العملية التي نشتغل فيها ونعرض أنفسنا، وبغير ذلك فإنه مهما تحدثنا عن المنكر وأطلنا فإن هذا لا يغير المنكر. وفي الواقع أن هذه النقطة الأخيرة هي بيت القصيد وهي الهدف من المحاضرة، أن أقول للأخوات وأختم بهذا: ينبغي أن يكون دورنا في معالجة الأمور والمنكرات أن ننزل للميدان، وننزل للساحة، ونعمل على تغيير المنكر من خلال وجودنا، وقد يترتب على ذلك أحياناً نوع من شعور الأخت بأن قلبها ليس كما تريد؛ لأن الإنسان المعتزل في المسجد يعبد ويصلي ويقرأ القرآن يحس بانشراح في قلبه أكثر مما يحس في ميدان المعركة، هذا شيء طبيعي لكن المجاهد أفضل وأعظم عند الله منه. فالأخت التي تنزل للميدان وتختلط ببعض النساء اللاتي أوضاعهن مستورة تحس بشيء من القسوة في قلبها لكنها على خير أيضاً، وعلى أجر، وهي أفضل عند الله فيما أعلم من امرأة معتزلة تتعبد وتصلي إذا كانت نيتها خالصة؛ لأن التي تعبد الله وتصلي هذه تنفع نفسها، لكن التي تنزل للميدان وتختلط بالناس وتأمر وتنهي وتصلح بقدر ما تستطيع، إذا كانت نيتها صالحة فهي أفضل منها؛ وذلك لأن نفعها يتعدى ولا يقتصر على نفسها. وأقول: أخشى ما أخشاه الآن هو أن يأتينا الشر من قبل المرأة، لأن أعداء الإسلام يركزون على المرأة ويعملون على إفساد وضع المرأة، لأنه إذا فسد وضع المرأة، فقولي على المجتمع السلام، إذا مشت المرأة متبرجة وسافرة وأظهرت زينتها في الأسواق والشوارع وحصل الاختلاط فمعنى ذلك أن المجتمع انهار -وهذا الذي يوجد في كثير من المجتمعات- فالأعداء يركزون جيداً على ذلك، فضلاً عن أن المرأة هي التي تتولى تربية الأجيال، فإذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق، وإذا تلفت المرأة وفسدت فسد الجيل الذي تربي على يديها، إنك لا تجني من الشوك العنب. إذاً: من المهم أن تشعر الأخوات بضرورة أن يكون هناك حالة استنفار بينهن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله وخوض غمار هذه المجالات والميادين الخيرية للإصلاح. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 12 طريقة اتخاذ الموقف الشرعي النوع الثاني: الذي نريده وهو الموقف الشرعي السليم المتعقل: أولاً: ينظر للمجتمع نظرة معتدلة فيرى المنكرات موجودة وفي مقابلها يرى خيراً وصلاحاً في المجتمع، فهو معتدل النظرة حتى حين يسمع أخباراً تبقى عنده في نطاق ضيق، ما وصلت إلى حد تصبح شيئاً يلوث البيئة العامة وظاهرة مفسدة للناس عموماً. الأمر الثاني: بالنسبة للموقف السليم المعتدل أنه بناءً على هذه النظرة المتوازنة تتصرف الأخت المسلمة تصرفاً سليماً، وذلك عن طريق الدخول في الميادين المباحة كلها والمشاركة فيها والتغيير من خلالها، فينبغي أن تدخل الفتاة المتدينة الداعية الواعية إلى التعليم، تتعلم، وتعلم، وتواصل في الدراسات العليا، وإدارة جمعيات خيرية، ومناسبات، ورسائل وصحف، ومجلات، وهي تستطيع أن تكتب فيها وترد وتدافع، فكل هذه الوسائل الآن التي أصبح الأعداء يستخدمونها في حرب الإسلام، ينبغي للأخوات المتدينات أن يبدءن في التفكير فيها، بدلاً من كون مهمتهن تتوقف عند الشكوى بأن المدرسة الفلانية فيها كذا، والمكان الفلاني فيه، والجريدة الفلانية قالت كذا، وهذا شكوى إلى من؟ هذه الأمور لا تنضبط، تبين أن مجرد الشكوى لا تجدي شيئاً؛ لأن بعض الناس الذين لا خلاق لهم ولا غيرة قد يكونوا تسللوا إلى بعض هذه المواقع وأصبحوا لا يلتفتون إلى هذه الشكاوى، وقد يفسرونها على أنها طبقة من الناس عندهم نوع من التشدد أو ما أشبه ذلك، أو لا يفهمن حقائق الأمور وبالتالي جاءت الشكوى منهن، فيوجد هذا أحياناً في مؤسسات كثيرة. لكن الحل الحقيقي العملي الناجح، هو أن نقول للمتدينات الصالحات الغيورات على الدين اتركن من قضية الشكوى والكلام الطويل، ينبغي أن تنزل الفتاة للساحة وتعمل على تغيير الواقع من خلال موقعها كمدرِّسة أو كمديرة أو كموجهة أو كمرشدة، أو كمشرفة أو كمسئولة في جهاز معين أو قطاع معين من أي قطاعات المجتمع، أو مناسبة أو وليمة أو حفلة أو تجمع طالبات أو نشاط أو في صحيفة أو إذاعة مدرسية مثلاً أو تأليف الكتب وما أشبه ذلك. المهم ننزل في الميادين التي بدأ الشر يأتينا منها، ونحاول أن نعمل على تغييرها؛ لأن هذه الميادين ميادين حيادية، بمعنى أنه يمكن أن يقوم عليها إنسان طيب وصالح فتتحول إلى مجال للخير، والهداية، والإصلاح واستقبال البنات وتربيتهن، ويمكن أن يليها أناس ليس عندهم دين ولا غيرة فيحولونها إلى ضد ذلك. إذاً: ينبغي أن نناقش في تلك الميادين ولا ينبغي للفتاة أن تعتبر أن مهمتها تنتهي عندما تتزوج، وتهتم بزوجها، وبأطفالها، وهذا غاية ما تريد وتترك أمر الناس وتنسى أننا في الواقع بحاجة إلى داعية معروفة. الآن مثلاً لما تقرئين في الكتب المعاصرة في مصر وغيرها من البلاد التي انتشر فيها موضوع تحرير المرأة تجدين أسماء عديدة من النساء اللاتي تبنين حملة دعوة تحرير المرأة ومزقن الحجاب، وفعلن وفعلن، وموجود في البلاد المجاورة والمحيطة وفي بلادنا أسماء معروفة، فلماذا لا يوجد بين الصالحات من يكون لها نشاط إسلامي قوي واضح تعرف به سواء كانت داعية، أو مجاهدة، أم آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، أو ترد على المنحرفين بالأسلوب المناسب، وتكتب، وتنشر، وتحاضر، وتتحدث، وتقوم بدور في مجالها العلمي القريب والبعيد؟ ونحن بأمسِّ الحاجة إلى أن نفكر جيداً في أن هذا هو السبيل العلمي الحقيقي لتغيير المنكرات، أما كوننا بعيدين وننتقد، ونقول: حصل في المكان الفلاني كذا، وحصل في الوليمة الفلانية كذا، وحصل في المناسبة الفلانية كذا الخ. هذا أمر لا يغني شيئاً، وليس بصحيح أن كون مثل ذلك الأعرابي الذي كان في الجاهلية فجاءه اللصوص وأخذوا إبله، فبدأ يشتمهم وأخذوا الإبل وتركوه؛ لأنهم لا يهمهم أن يشتمهم فيقول: أوسعته شتماً وأودى بالإبل. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 13 حالات العزلة وموضوع العزلة لا أريد أن أتكلم فيه، وسبق أن تحدثت عنه لكن أشير إلى بعض الحالات: الحالة الأولى: حين يصل الناس من الانحراف إلى حد لا يقبلون منك الخير، كما قال النبي: {إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوىً متبعاً وإعجاب كل ذي رأى برأيه} تقول له شيئاً فلا يقبل منك؛ هنا اعتزلهم، لأنه لا فائدة، لا يوجد أحد يقبل منك، لكن الواقع الآن أن الناس يقبلون والهداية الآن بالعشرات، بل بالمئات، بل الكفار الآن يدخلون في دين الله فضلاً عن المسلمين الضالين الفاسقين الذين إذا دعوا إلى الله ورسوله استجابوا. إذاً ما وجد هذا في مجتمعنا بالصورة المذكورة في الحديث، ولازال الناس عندهم استعداد وتقبل، حتى من يظهر فيه فسق أو سفه خاصة في فترة المراهقة، بعض الفتيات قد تلج فيه، لكن باللطف وبالأسلوب الهادي، فقد أثبتت هذه الوسائل والأساليب نجاحاً. الحالة الثانية: التي يمكن فيها للفتاة أو الفتى أن يعتزل الناس في المجامع العامة، حين يعلم من نفسه أنه شديد الضعف، بحيث أنه إذا اختلط بالناس وقع فيما وقعوا فيه، فتاة مثلاً تقول: أنا لو ذهبت إلى مجموعة من الطالبات عندهن شيء من الانحراف، أنا أعلم من نفسي جيداً أنني لو ذهبت معهن؛ سوف أنساق معهن وأكون واحدة مثلهن، وتعلم هذا وتعرفه يقيناً أو ظناً غالباً على نفسها -مثلاً- لا يكاد يكون منه شك. هنا نقول: نعم، كونكِ أنتِ تنجين بنفسك أفضل من أن تنحرفي فابقي حيث أنت. الحالة الثالثة: أن توجد فتاة -وهذه انتبهن لها معاشر الأخوات- توجد فتاة شديدة الغيرة، شديدة الغضب، فإذا رأت المنكرات قامت وهاجت وماجت واضطربت وصاحت وغيرت بأسلوب يزيد المنكر ويضاعفه، ولا تغير منه شيئاً لكن هذه اتخذت موقفاً استفزازياً وأغضبت الجميع، وفي النهاية ما غيرت شيئاً فهي غضوبة لا صبر عندها ولا حكمة ولا روية في معالجة الأمر بأسلوب سهل وتدريجي، أي أنها لا تأتي البيوت من أبوابها، بل أتت من النافذة فسقطت وضرت وأضرت، أسلوبها وهذا هو طبعها، فهي لا تصبر، وهذه أيضاً لا بأس أن تبتعد عن هذه المجالات حتى لا تعرض نفسك لإحراجات مع أنه في النهاية ما نفع أسلوبك، فهنا نقول اعتزلي لا نقول مطلقاً ولكن اعتزلي بعض المجالات التي تثير هذا عندك. إذاً: يمكن للفتاة أن تبتعد إذا كانت ممن تتحلى بها، لكن غالبية النساء والرجال ممن يكون عنده اعتدال في المزاج وتوسط في النظرة، وتعقل وهدوء وقدرة على معالجة الأمور بحكمة، هذا قد يكون متعيناً عليه أن يخوض في هذه المجالات المختلفة حتى يغير. وهذا هو الأسلوب الثاني، أنا قلت أن هناك طائفة إذا رأوا المنكرات وشيوعها بالغوا في تصوير المنكرات وبالتالي ابتعدوا وسحبوا بحجة أن لا يد لهم في ذلك وهذا خطأ. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 14 طريقة التشاؤم والعزلة في تغيير المنكر الطريقة الأولى: هي طريقة الهروب أو العزلة أو البعد عن أماكن المنكر بحجة أن الإنسان يخاف على نفسه، أو أنه مقصر، أو يموت قلبه، أو يضعف الإيمان، أو ما أشبه ذلك، وكثير ما تجدين بعض الأخوات إذا جلست إليها بدأت تقول: الله المستعان! وهذا زمان الغربة في الدين وحقت العزلة، والآن خير للمرء غنم يتبع بها شعث الجبال ومواقع القطر، يهرب بدينه من الفتن، التي هي كقطع الليل المظلم، وتبدأ بعض الفتيات تضرب على هذا الوتر، الناس فيهم وفيهم وتعدد المنكرات، وهنا هي وقعت في خطأ بل في أخطاء: الخطأ الأول: أنها أصبحت تنظر بعين واحدة، نظرة عوراء لماذا؟ لأن المجتمع فيه كما ذكرت قبل قليل خير وشر، فلماذا أنظر إلى الشر وأترك الخير؟ هذا خطأ كبير، ولذلك في صحيح مسلم يقول الرسول عليه السلام: {من قال هلك الناس فهو أهلكهم} يعني أكثرهم هلاكاً. فالإنسان عندما يقول دائماً: الناس فعلوا والله المستعان، وفيهم وفيهم، فهذا في قلبه مرض، وهذا أمر رأيته بعيني من كثير الشباب الذين يدمنون الحديث عن المفاسد والمنكرات خاصة المفاسد الأخلاقية، فمنهم من يظل يقول: على شاطئ البحر يوجد كذا، وفي أجهزة الإعلام يوجد كذا، ويكثرون من هذا الموضوع، ويشتغلون بالتفصيل حتى حين يذهبون للمواقع الطيبة كالمساجد وأماكن العلم والتعليم والبيئات الطيبة والحرمين وغيرها، تجد أعينهم دائماً تلاحظ الظواهر السلبية، هؤلاء في قلوبهم مرض. فعلى المسلم أن يمسك الميزان من الوسط، نعم، يوجد شر، ويوجد انحراف، حتى في أوساط الطيبين يقع؟ نعم، لكن نقول أيضاً: يوجد خير وصلاح، واستقامة وصحوة وإقبال، لا بد أن نمسك الميزان من الوسط ونعرف هذا وهذا، ونكون معتدلين في النظرة، وهذا الاعتدال في النظرة ضروري ليتصرف الإنسان التصرف المناسب. الخطأ الثاني: الذي وقعت فيه هذه الطائفة أنهم بعدما تشاءموا وساءت نظرتهم إلى المجتمع، وبالغوا في تضخيم المنكرات؛ قرروا الهروب منها واعتزالها. فتجدين -مثلاً- الأخت تترك التعليم، وتترك الدراسة في الجامعة، وتترك المواصلة في الدراسات العليا، وتترك المناصب الإدارية، وتترك التفتيش -مثلاً- وتترك المشاركة في الأعمال العامة، وتترك الاختلاط بالناس، وتترك المناسبات والأعراس والحفلات، وتترك الاتصال والذهاب والإياب بحجة وجود منكرات، وأنا لا أستطيع تغييرها -يا سبحان الله! -. هل معنى ذلك أن نترك المجتمع لغيرنا من المنحرفين والضالين؟ لا هذا انحراف في مفهوم الورع؛ لأنه قد يكون واجباً فتعين عليك أنت أيتها الأخت أن تشاركي وتدخلي؛ حتى لو ترتب على ذلك بعض المفاسد، لكن المصلحة أكبر من أجل إزالة المنكر ونشر المعروف، وإلا الهروب منها سهل فعله، ولا توجد مشكلة، فالإنسان إذا رأى الوضع لا يعجبه انسحب وترك الحبل على الغارب، ترك الأمر للشيطان وأوليائه وجنوده، وهذا أهون حل، لكنه في الواقع لا يزيد الطين إلا بلة، ولا يزيد الداء إلا علة، إذاً هذا خطأ ثانٍ، والرسول عليه الصلاة والسلام ما أذن لنا بالعزلة وترك المجاملات هذه إلا في حالات؟ الجزء: 168 ¦ الصفحة: 15 الأسئلة الجزء: 168 ¦ الصفحة: 16 إهداء الثواب إلى الوالدين السؤال ماذا عن عشاء الوالدين؟ وقراءة القرآن مع نية الأجر للأب أو الأم؟ الجواب والله بالنسبة لعشاء الوالدين ليس هناك شيء يسمى عشاء الوالدين، إنما الصدقة مشروعة عن النفس وعن الوالدين، فيستحب أن يتصدق الإنسان عن والديه، فيعطي الفقراء أو المساكين أو المحتاجين، أو يصنع غداءً أو عشاءً ويدعو إليه الفقراء والمساكين والأقارب عموماً. أما قضية الختمة فإن أحق بالعمل أنتِ. لماذا أنا أتصدق عن غيري؟ يوم القيامة الإنسان يتمنى حسنة من أمه أو من أبيه فلا تحصل له، فلا داعي للإنسان أن يتصدق بعبادته عنه، ولم يكن هذا معروف عند السلف، فعلى الإنسان إذا قرأ أن ينويها عن نفسه، لكن يمكن أن يدعو لوالديه. هذا والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وعلى آله وأصحابه. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك نتوب إليك. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 17 الغناء في الأعراس السؤال ما حكم ما يحدث في حفلات الزواج من الغناء؟ الجواب إذا كان الذي يحدث في حفلات الزواج هو ضرب بالدف وغناء من نساء حاضرات، ولا يسمعهن الرجال، وليس هناك اختلاط، والغناء ليس فيه بذاءة وفحش فهذا لا ينكر، أما إذا كان الذي يحدث في الزواج أمرٌ محرم مثل الموسيقى -مثلاً- كغناء في شريط، أو المغنيات حاضرات لكن يغنين بألفاظ بذيئة وفاحشة، كما يحدث أحياناً، فهذا منكر ينبغي إنكاره، فإذا وجد مثل هذا والأخت في العرس فعليها أن تعمل على إنكاره بقدر ما تستطيع، وإذا عجزت وكانت تستطيع أن تخرج فتخرج، وإن عجزت وهي لا تستطيع الخروج مثل أن يكون وليها قد أتى بها وذهب فلا حرج عليها، لكن لا تستمع لهذا ولا تلتفت إليهم، فإذا سمعت هذا من غير إرادة منها لا حرج عليها في ذلك. أما إذا علمت سلفاً قبل أن تأتي أن هذا العرس سيكون فيه منكر، وأنها لا تستطيع أن تغيّر وإن كان هذا قد يصعب أحياناً الجزم به، لكن إذا علمت ذلك وعرفت من نفسها أنها ضعيفة فلا تدخل. وينبغي أن نفهم الناس أن الدين يسر وسماحة وخير، ولكن ليس يسراً على مزاجهم ورغباتهم، إنما بحسن الخلق والتلطف، وبيان فسحة الدين مطلوب، فالرسول عليه الصلاة والسلام قال: {حتى تعلم يهود أن في ديننا فسحة} بعض الناس أخذوا انطباعاً عن الدين والمتدينين أنهم معقدون، وأن فيهم وفيهم، فينبغي أن نعدل هذه الصورة في نفوس الناس. أما موضوع الرقص: ففي الحقيقة لا أعلم نصاً خاصاً بمنعه أو تحريمه، لكن في الزواجات قد يكتنفه مخاطر عديدة منها أنه قد يراها رجال، ومنها أنه قد تبالغ المرأة في الرقص وتظهر مفاتنها ومحاسنها بصورة معينة، فهذا ضار حتى في النساء الحاضرات، فأرى أن الأولى ألا تفعل. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 18 تسريحة الكعكع السؤال يسأل عن تسريحة الشعر المسمى بالكعكع. الجواب الأصل في تسريحة الشعر الإباحة إلا إذا كانت من باب التشبه بالرجال كما تفعل بعض النساء حين تقص الشعر حتى كأنه شعر رجل، هذا لا يجوز، كذلك بعض النساء تتشبه بالكافرات في قص الشعر، وهذا أيضاً لا يجوز {من تشبه بقومٍ فهو منهم} وما عدا ذلك الأصل فيه الإباحة، فمثلاً إذا وجدت قصة شائعة عند الكفار أو اليهود أو النصارى، أو عند الممثلات الكافرات أو الفاجرات، بل إن معظمهن من هذا الصنف، وكذلك والعياذ بالله بعض البغايا والمومسات يشيع بينهن قصة معينة، مثلما كان عند بعض السلف القصة الميلا، فهذه تجتنب. إذا كان الشعر مجموعاً فلعله لا حرج -إن شاء الله- أن تصلي المرأة وهو على صفته التي قد سرحته عليها، لكن إن فعلت هذا من أجل الصلاة، يعني لفت الشعر وأبعدته من أجل الصلاة، هذا تمنع منه، تترك شعرها بطبيعته، لكنه إذا كان أصلاً ملفوفاً أو مجموعاً فلعله -إن شاء الله- لا حرج في ذلك مما يظهر لي. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 19 حكم النذر السؤال امرأة نذرت أن تصوم شهرين إذا رقصت ثم فعلت، فما الحكم؟ الجواب أولاً: النذر مذموم فهو مكروه، حتى أن بعض العلماء قالوا أنه محرم، فينبغي تجنب النذر، وإذا فعل الإنسان شيئاً ينوي أن يتوب منه دون أن يحتاج إلى نذر، لأن النذر لا يلجأ إليه إلا ضعيف الإرادة، الذي جرب نفسه مرة ومرتين وثلاثاً وتخونه إرادته، فينذر حتى يلزم نفسه، ثم لا يستطيع أن يلزم نفسه فيقع فيما نذر ويحرج نفسه، فهذه المرأة التي نذرت أن تصوم شهرين متتابعين إن رقصت ثم فعلت، نقول لها: عليكِ أن تصومي شهرين متتابعين، فإن قالت: هل هناك حلاً آخر؟ نقول لها: نعم هو أن تصومي شهرين متتابعين كما نذرتي، لا بد من الصيام، لماذا نحرج أنفسنا بأمور ما كلفنا الله سبحانه وتعالى بها. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 20 تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) السؤال ما معنى قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] ؟ الجواب هذه الآية فسرها أبو بكر رضي الله عنه في الحديث الذي جاء مرفوعاً وموقوفاً أنه قال: إنكم تقرءون هذه الآية وتحملونها على غير وجهها، وإني سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله بعقابه} . والآية لا إشكال فيها لأن من الهداية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنحن نقول لكل مسلم ومسلمة: عليك نفسك، اهتد، اطلب الهداية باتباع دين الله، ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بعد ذلك لا يضرك من ضل، فكونك أمرت إنساناً ولم يطعك، هذا لا يضرك لأنك لست عليهم بمسيطر، كما قال الله سبحانه وتعالى لنبيه: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّر * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:21-22] . فلست سلطاناً تجبر الناس بالإكراه على سلوك الطريق المستقيم، وعلى فعل الخير وترك المنكر، غاية ما تملك الكلمة، أن تقول للناس: هذا خطأ فاتركوه، وهذا صواب فافعلوه، ثم كون الناس يقبلون أو لا يقبلون هذا أمر آخر لا تحاسب عليه. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 21 الصلاة في زمزم السؤال ماحكم الصلاة في زمزم؟ الجواب الأصل أن الصلاة في زمزم جائزة، إذا لم يكن فيها ضرر على الذين يأتون لشرب الماء وغير ذلك من الأغراض التي وضع المكان لها، فإن رأيت امرأة تصلي فإذا كانت تصلي من أجل الظل والبراد وما أشبه ذلك فلا حرج ولا تمنع من ذلك ولا تنهى. أما إذا كانت تصلي تحية لزمزم فهذه لا شك بدعة، ليس لزمزم تحية خاصة بها، لكن كيف لكِ أن تعلمي أنها تصلي تحية لزمزم؟ فهي تصلي وقلبها غير مكشوف حتى تعلمي أنها تصلي لله أو تصلي لزمزم. اللهم لو وجدت معك امرأة ظاهر معكِ مثلاً ونزلت معكِ فصلت وقالت لا بد من تحية زمزم ورأيتيها مصرة على ذلك، فتصلي كلما نزلت، وعرفت أنها تصلي تحية لزمزم، هذه تنهى ويبين لها أن زمزم جزء من البيت، فلو انتقلت من مكانٍ إلى آخر في الحرم لا صلاة تخصه. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 22 توجيه كبار السن السؤال كيف نوجه كبار السن اللاتي يتعصبن لرأيهن عندما يعلمن عن الرسول صلى الله عليه وسلم حديثاً وهو ليس بصحيح، أو لديهن اعتقادات ليس لها أساس من الصحة حتى أنه يصعب توجيههن، فما الذي يجب أن نعمله؟ الجواب أشرت إلى شيء من ذلك. أنه لا بد من سعة الصدر والتلطف، أحياناً يقتنع الإنسان أنه لا داعي للجدل، فامرأة شابَ رأسها على شيء وتعصبت وتمسكت به، فهي مصرة عليه، حتى أنها لو كان أمامها أكبر عالم من العلماء، لكن الأولى أن تعرض ما لديها على أنها أمور بديهية ومسلمة ومفروغ منها، وتعلمها وتقول لها: الأمر كذا وكذا فإذا رأيتِ أن الموضوع ليس له فائدة ولا مجال للتقبل فلا داعي أن تستمري في جدل عقيم. يمكن أتحين فرصة أخرى بعد وقت وأجد أنها عندها تقبل فأتحدث في الموضوع بصورة لبقة إذا أمكن. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 23 اختيار الزوج السؤال بعض الأخوات تمتنع عن الزواج إلا بشخصٍ تجزم أنه يساعدها، وترفض أي شخص ولو كان متديناً إذا عرفت أنه لن يساعدها، ويمنعها من الاختلاط بالمجتمعات الخيرية، هل يجوز لها ذلك أم لا، خصوصاً أنها تعلم أنه متدين؟ الجواب هذه القضية لا تنضبط فهي قضية نسبية، يختلف الأمر، فقد تجد المرأة أنه ينبغي عليها أن تقبل بهذا الشخص الذي تقدم لخطبتها ما دام أنه ليس عليه مأخذ في دينه، ولو كانت تعلم أنه لا يساعدها، لأن عندها ظروف معينة تتطلب ذلك، وأحياناً قد يكون من المصلحة أن تنتظر، يعني إذا نظرت لحالها ووضعها وسنها وخصائصها ومميزاتها وتوقعاتها، وقدرت مجمل الأشياء تستطيع أن تقرر أنه ما إذا كان من مصلحتها أن تقبل هذا أو لا تقبله. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 24 طاعة الولي والدعوة السؤال نرى بعض أولياء الأمور يمنع ابنته من فعل الخير رغم تأكدنا من خيريته كحضور المحاضرات، فهل يختلف الأمر عندما تكون الولاية من قبل الأب أو من قبل الأخ الذي يريد فرض شخصيته، فهل يجوز أن أعصي أخي وأذهب وجزاك الله خيراً؟ الجواب والله الأولى في مثل هذه الأمور سواء كانت مع الأب أم الأخ أن تسلك معهما مسلك الإقناع والحكمة واللباقة، لأنه إذا وصلت الأمور لحد العصيان لأصبح الأمر صعباً، حتى الأخ لو عصيتيه وذهبت مرة، المرة الأخرى قد يكون في الأمر صعوبة وهو أقدر منكِ على أن يفرض شخصيته، وقد يذهب بكِ بنفسه إلى المحل، وقد يترتب على ذلك الأثر السييء، فالأولى أن للأخت أن تعمل على الإقناع، والحديث، وكثرة الإلحاح بدون أن تصل القضية إلى حد الحسم والذهاب بدون موافقة الأخ أو موافقة الأب. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 25 سقوط الإثم باهداء شريط السؤال عندما أرى منكراً فأهدي إلى صديقتي شريطاً أو كتاباً يوضح خطره وحرمته فهل أكون قد بلغت في ذلك، فهل يسقط الإثم عني؟ الجواب هذا من الوسائل، قد ترين من المصلحة ألا تكلميها مباشرة، لكن تعطينها شريطاً أبلغ في التأثير، فهذه وسيلة، وقد يكون أحياناً أفضل من مخاطبتها مباشرةً، لكن ربما تأخذ الشريط ولا تستمع إليه، ولذلك يحسن أن تتابعي، فإذا عرفت أنها استمعت إلى الشريط وعرفت ما فيه وأنتِ ليس عندك زيادة، لا بأس أن تناقشيها وتتحدثي معها، وإن لم تسمعه فينبغي أن تتحدثي معها في هذا الأمر. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 26 عدم الاستماع إلى النصح السؤال إذا رأيت منكراً من أهلي، وأنا لا أستطيع أن آمرهم لأنهم لا يسمعونني بسبب أنني أصغر منهم ويتضايقون مني، فهل عليّ شيء، وماذا أفعل؟ الجواب كما أسلفت الحديث، يقول المثل: (الحاجة أم الاختراع) فأنا حين أقرر أن هذا منكر، ويجب أن أغيره، لا أتسرع وأغير في الحال بصورة لا أدري هي الأنسب، بل ينبغي أن أدرك أن هذا منكر ويجب أن أغيره، ثم ننتقل بعد ذلك إلى التفكير كيف نغير هذا المنكر؟ اخترعي وسائل معينة لطيفة للوصول إلى تغيير هذا المنكر وإزالته. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 27 منكرات الأسواق السؤال حينما أرى منكراً من امرأة في الأسواق وخاصةً في الأماكن العامة لا أستطيع الإنكار خوفاً من رفع صوتي خاصةً عندما تعارض على ما قلت، فما العمل؟ الجواب قد يصعب التغيير بلا شك، إذا خرجتِ إلى السوق فرضاً سترين مائة واحدة عليها منكر، فأنتِ خارجة لغرض معين، وليس معقولاً أن تتركي الغرض الذي خرجت من أجله وتجلسين مع امرأة وتقولين على الأخرى أنتِ سافرة، متبرجة، وأنتِ، وأنتِ، هذا ليس مطلوباً وليس ممكناً للمرأة، فهي خرجت لوقتٍ يسير لغرض معين، فتريد أن تقضي غرضها فلا يتيسر لها ولا يتسنى لها أن تنكر، خاصةً في المنكرات العامة التي انتشرت بين النساء، وإنما لو رأيتِ منكراً ربما أكبر من هذه المنكرات، كمنكر واضح اتصال أو محادثة، هنا ينبغي أن يكون لكِ موقف سواء مع أصحاب المنكر الواقعين فيه أم مع غيرهم، بقدر المستطاع يغير الإنسان. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 28 الأفضلية السؤال تقول: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم} قالت لي إحدى الأخوات -جزاها الله خيراً-: إن المقصود في الحديث هو أن الخيرية تتوقع في الاتباع، وفهمت منها أن المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لو لم يكن أنه أدرك عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يعتبر كأنه من القرن الذي وجد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، والناس يختلفون في ذلك، فهل الأفضلية تتوقف حسب المتابعة فهل هذا صحيح؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم مدح القرن عموماً وليس بأفراده بالضرورة (خير القرون قرني) الحكم هنا إجمالاً على مجمل القرن أنه خير القرون، أي قرن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم القرن الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، هذا من جهة القرن بشكل عام، لكن الأفراد لا يلزم من ذلك الحكم بخيرية كل فرد، فقد يوجد في التابعين العصاة، والفساق، والفجار، والمبتدعة، كما أنه يوجد في المتأخرين من جاءوا بعد القرون الفاضلة من يكون بأفضل من التابعين، بسبب أنهم أكثر اتباعاً من الرسول صلى الله عليه وسلم وأكثر جهاداً وبلاءً في الدين. إذاً: يفرق بين المجتمع وبين الأفراد. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 29 الاشتغال بعيوب الناس السؤال بعض الأخوات تجعل همها نقد الناس وبيان سلبياتهم وأخطائهم وتغفل بذلك عن نفسها، فماذا نقول لها؟ الجواب نقول: من قال: هلك الناس فهو أهلكهم، ونقول لها: ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإن انتهيت إذاً فأنت حكيمُ فالذي يشتغل بعيوب الناس، فهذا غالباً مريض، ينبغي أن يطلب لنفسه الشفاء. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 30 وصايا للمرأة في رمضان السؤال وصايا المرأة في رمضان. الجواب فيما يتعلق بالواقع الرمضاني فليس عندي وصايا محددة، لكن أوصي أخواتي بتقوى الله تعالى، وحفظ صيامهن بتجنب الإكثار من الكلام؛ خاصةً فيما لا جدوى منه، وتتجنب ما حرم الله كالنميمة والوقوع في أعراض الناس، وكثرة قراءة القرآن، وأن يكون الصيام فرصة لدعوة الأخريات إلى الله؛ لأن النفوس في رمضان تكون أقرب منها في غيره، والشيطان مأسور مصفد. ولذلك يكون هناك إقبال، فهناك فرص كالمدارس والمؤسسات والاجتماعات لدعوة الناس، ينبغي أن نركز على التوبة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ علي بن أبي طالب: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} وهذا ليس خاصاً بالرجال، بل هذا عام للرجل والمرأة فهو باعتبار الغالب المخاطب، فالمرأة تكون كذلك. فلتكن منكن منارة دعوة وهدى وإصلاح تقول كلمة الحق وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتحرص على أن تكون قدوة على الخير للفتيات وخاصة صغار السن، لأنهن يحتجن إلى قدوة، فلا مانع أن تكون الواحدة وإن أحست في نفسها تقصير لا يعلمه الناس، فعليهما أن تستتر بستر الله، وتحرص على أن تكون قدوة للأخريات في الخير والصلاح، والأمر والنهي والدعوة إلى الله عز وجل، فالمجتمع أحوج ما يكون إلى مثل هذه النوعية من النساء. وكذلك أوصي الأخوات بوصية مهمة فيما يتعلق بالخروج إلى صلاة التراويح والقيام: إذا خرجت المرأة فينبغي أن تخرج متسترة بعيدة عن التزين حتى في ملابسها، ففي الواقع أحياناً قد تكون المرأة متسترة لكن بملابس لماعة جذابة تلفت الأنظار، مثل أن يكون ثوب لونه فاقع والعباءة تلمع، وكذلك الحجاب بطريقة معينة، ملفتة أحياناً، فينبغي أن تتقي الأخت ربها وتحرص على البعد عن ذلك إذا خرجت. أمرٌ آخر: في آخر رمضان في العشر الأواخر يذهب كثيرٌ من الناس إلى العمرة، وهناك في مكة تقع ظواهر غريبة جداً، آباء وأمهات وناس يفترض أنهم جاءوا يريدون ما عند الله عز وجل، ومع ذلك يقع التبرج والسفور، وخروج الفتيات، وتسيبهن في الشوارع والأسواق - الله يعافينا وإياكم - أمورٌ كثيرة ما تقبل أبداً، فأقول لمن كتب الله له الذهاب إلى هناك أن يخاف الله سبحانه وتعالى، هذا الحرم الله عز وجل يقول عنه: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فعليكن بتقوى الله والبعد عما يغضبه ويسخطه. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 31 معنى قول الله: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم) السؤال ما معنى قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ؟ الجواب عندما ذكرت قبل قليل أن الإنسان يجب أن يأمر بالمعروف ولو كان لا يفعل وينهى عن المنكر ولو كان يفعل، وكنت متوقعاً أن أسأل مثل هذا السؤال عن الآية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ومثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] . ومثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين حديث أسامة بن زيد: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه فيدور فيها كما يدور الحمار بالرحى، فيجتمع عليه أهل النار فيقولون: يا فلان، مالك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} . لكن كل هذه تفهم على غير وجهها، فالآية {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] فإن هذا عتاب ومعنى الآية أنتم تعرفون البر وتأمرون الناس به، فكيف لا تفعلونه؟ فالعتاب في قوله: وتنسون أنفسكم، أي: لماذا تنسون أنفسكم؟ لم يعاتبهم علىالأمر بالمعروف بل عاتبهم على نسيان أنفسهم، لأن الذي يأمر معناه أنه عالم، فقد يفعل الإنسان المعصية عن جهل، لكن إذا كان يأمر بها فمعناه أنه عالم بأن هذا معروف، فكيف ينسى نفسه، وهذا يعاتب بلا شك، فتارك المعروف وفاعل المنكر يعاتب على ترك المعروف ويعاتب على فعل المنكر، لكن لا يعاتب على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففرق بين النقطتين. الآية الأخرى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] هذه عن إنسان يدعي فعل شيء وهو ما فعله، يقول: فعلت وقاتلت وهو ما فعل، أو يقول سأفعل وسأقاتل وسأقوم، ولم يفعل فإن هذا يعاتب على ذلك. أما حديث أسامة فهو في أحد رجلين: إما رجل منافق يتاجر بالكلمة، يقول للناس افعلوا واتركوا وكذا وكذا وهو خائن -والعياذ بالله- فهذا لا شك أنه من أهل النار. الثاني: إنسان قد يأمر فعلاً وينهى فعلاً، لكنه له ذنوب يستحق بها النار، يعني ما كان دخوله النار لأنه يأمر بالمعروف - نعوذ بالله من ذلك - فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عبادة لا تُدخِلُ النار، بل تؤدي إلى الجنة، إنما هذا الرجل لا يأتي المعروف فهو تارك للمعروف، فوقع عليه ذنوب كثيرة لأنه ترك الصيام، وترك الصلاة، وترك الزكاة، فهذه ذنوب سجلت عليه ولو كان يأمر بها، ما سجلت عليه لماذا كان يأمر بها، سجلت عليه لماذا يتركها، وكذلك يفعل المنكر وإن كان ينهى عنه، وسجل عليه أنه يشرب الخمر ويأكل الربى، ويفعل كذا وكذا، ولو كان ينهى عنها، فسجل عليه منكرات كثيرة وسجل عليه ترك معروف كثير فدخل النار بسبب فعل المنكر وترك المعروف. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 32 صوم آخر يوم من شعبان السؤال هل يجوز صيام آخر يوم من شعبان إذا وافق الإثنين والخميس؟ الجواب إذا كان صيامه لغرضٍ آخر كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه} أي: صادف يوم الإثنين أو الخميس، أو إنسان يصوم عادةً، أو يصوم الشهر كله، أو يصوم يوماً ويفطر يوماً، فوافق آخر يوم من شعبان يوم صيامه، فإنه يجوز له صيام ذلك اليوم، والممنوع هو أن يصومه لذاته أو احتياطاً لرمضان أو ما أشبه ذلك. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 33 دعوة كبار السن السؤال ما الذي يجب أن نعمله تجاه من يكبرونا سناً لتوجيههم إلى الطريق الصحيح، لأن الكبير لا يتقبل ممن هو أصغر منه؟ الجواب هذا صحيح، ولذلك الكبير كالأم والأب والأخت الكبيرة والمعلمة أحياناً، ينبغي أن يكون هناك تلطف في التغيير معه، ويذكر في هذا المجال أن الحسن والحسين رضي الله عنهما وجدا رجلاً يتوضأ وضوءاً غير شرعي، فأرادا أن يعلماه، لكن ما استساغوا أن يقولوا له: أنت لا تحسن الوضوء وهو رجلٌ كبير السن. فقال له أحدهم: اختلفت أنا وأخي في الوضوء، ونريد أن نتوضأ أمامك لتحكم بيننا، فقام الحسن وتوضأ وضوءاً شرعياً سليماً لا غبار عليه، ثم قام الحسين وتوضأ وضوءاً شرعياً سليماً لا غبار عليه، فقالا: أينا الأحسن في الوضوء؟ قال كلاكما حسن بارك الله فيكما، وانتبه أنهما يريدان أن يعلماه بطريقة مناسبة. بعض الأخوات قد يكون لديها حماس، فتريد أن تغير منكراً وهي ليست لها سلطة لا في البيت ولا في المدرسة ولا في غيرهما، ولا تستطيع أن تغير كل ما يرضيها، فينبغي أن يكون الإنسان حكيماً يأتي البيوت من أبوابها، ويتدرج شيئاً فشيئاً. فمثلاً: إذا أرادت تغيير منكراً في البيت فلتغيره بالتدريج وبالأسلوب الهادئ عن طريقة توزيع الأشرطة، أو كتب، أو مجلات إسلامية، أو ذكر، أو كلام طيب، يعني من هنا ومن هنا وعلى مدى فترات، ونعرف بعض الأخوات غيرت بيوت بأكملها، بيت منحرف فيه سائق وخادمة وتلفاز وفيديو واختلاط وكانت البداية أنها اهتدت فصلحت ثم أثرت على بقية أخواتها ثم تأثر الإخوة، ثم تأثر الوالدان، وسُفِّرت الخادمة والسائق، وألغيت الأجهزة السيئة فيه وأصبح بيتاً صالحاً حتى الأب أصبح يتردد المسجد ويصلي الصلوات الخمس، والأم كذلك صلحت. المهم بالتدرج، وليس بالضرورة في كل بيت أن يحدث هذا، فالإنسان إذا سلك المسالك الشرعية وبذل ما يستطيع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 34 الهجر الشرعي السؤال قد يكون هناك من يرتكب منكراً وخاصةً من بين الأهل، وقد نأمره بالمعروف وننهاه عن المنكر ولا ينتهي، ورغم ذلك نؤاكله ونشاربه، فهل يأثم من يفعل ذلك وخاصة إذا كان هذا المنكر هو تأخير الصلوات عن وقتها بسبب النوم وغلبت الهوى على هذا الشخص؟ الجواب وكأن الأخت تسأل عن مسألة الهجر الشرعي، والهجر الشرعي من الموضوعات التي يخطئ فيها كثيرٌ من الناس، فالهجر الشرعي مربوط بمصلحة، إذا كان هناك أحد لو هجرتيه أقلع فهذا جيد، مثلاً صديقة لكِ وقعت في خطأ وهي تقدركِ ولا تستطيع أن تعيش بدونكِ، يمكن أن تهجريها؛ لأن هذا سبب لإقلاعها، لكن إذا كان هناك إنسان تعرفيه لو هجرتيه لا يأبه بكِ ولا يهتم لكِ، إن كلمتيه أو هجرتيه لا تعني بالنسبة له شيء، فهذا لا مصلحة من هجره، إلا إذا يأس منه الإنسان يأساً تاماً، لذلك أرى في مثل السؤال التي سألته الأخت وما أشبهها ألا يتسرع الإنسان في اتخاذ أي موقف غضب، لا، بل يوسع البال ويتحدث ويطيل ولا يمل. أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا الجزء: 168 ¦ الصفحة: 35 الخوف من الرياء السؤال أحياناً أحس بالرياء في أعمالي، وإذا أردت أن أفعل الخير ورأيت أحداً لا أفعل الخير خوفاً من أن أقع في الرياء، ولا أريد أحداً أن يمدحني خوفاً من ألا أكون أستحق المدح، فمثلاً في الصلاة إذا رأيت امرأة صالحة قلت إذاً أصلي بهدوء لكي لا تأخذ فكرة ليست بي؟ الجواب ما تفعلينه خطأ كبير جداً، الأكمل في حال الإنسان أن لا يكترث للناس، وجدوا أو لم يوجدوا، فكما أننا نلوم من يرائي ويعمل من أجل الناس، كذلك نلوم من يترك العمل من أجل الناس، لا، بل عليك أن تجعلي الناس بالنسبة لك قدر المستطاع صفر على الشمال، يعني وجودهم لا ينفع وغيبتهم لا تضر، فإن وجدوا لم أترك شيئاً من أجلهم خوفاً من الرياء، هذا خطأ، هذا من أعظم مداخل الشيطان كما ذكره الإمام ابن حزم وغيره، أن هذا مدخل للشيطان أنه لا يزال بالإنسان يخوفه من الرياء حتى يجعله، يترك العمل الصالح خوفاً من الرياء، وهذا من مراعاة الناس وترك العمل من أجلهم. فالعمل من أجل الناس ممنوع، وكذلك ترك عمل؛ لأن ترك العمل عمل فلا تتركي شيئاً من أجل الناس، ولا تعملي شيئاً من أجل الناس، بل اتركي واعملي ما ترين فيه مصلحة، ولا تلتفتي إلى هذا الشعور، وإذا حدث أن مدحت الأخت بما يراه الناس فيها فلتحمد الله وتلك عاجل بشرى المؤمن. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 36 إحسان العمل أمام الآخرين السؤال ما رأيك في عمل البعض أنه يحسن صلاته، لأنه ينظر إليه وهو لا يقصد الرياء، بل يقصد التعليم والقدوة؟ الجواب عليه أن يحسن صلاته دائماً، ليقتدي به من يراه، سواء علم أنه يرى أم لم يعلم، أما أنه يحسن صلاته من أجل أن يعلم الناس فلا أرى أن يفعل ذلك، أرى أن يحسن من أجل الله سبحانه وتعالى، وإن كان المقصد بحد ذاته ليس لرياءٍ مذموم، لكن هذه عبادة ينبغي أن يقصد من ذاتها التقرب إلى الله عز وجل. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 37 إتيان المنكر بدعوى اختلاف الزمن السؤال كثيرٌ من الأخوات حينما تناقش في موضوع اللباس والزينة تقول: من قال لكِ أن هذا منكر لا يجوز، فقد اختلف العهد بيننا وبين الصحابة، فبماذا نرد على هذه القائلة؟ الجواب ينبغي للأخت التي تنكر أن تعلم أن ما أنكرته محرم فعلاً، ومعنى ذلك أن عندها دليل على أنه محرم، فليس كل أمر جديد محرم، لا شك في هذا، فمجرد كونه جديداً لا يعني هذا أنه محرم، قد يكون جديداً وهو مباح، إنما المحرمات معلومة. فإذا كانت الأخت تعرف أنه محرم، أي أن عندها دليل، فإذا قالت لمن ترى أنها تقع في المنكر: إن هذا لا يجوز وقالت لها الأخرى: اختلف العهد بيننا وبين الصحابة، فنحن لا نحتج بأن الصحابة كانوا يفعلون هذا أو لا يفعلونه فقط، بل نحتج بالأدلة الشرعية والكتاب والسنة وبإجماع العلماء، فتقول لها: لا يا أختي، الله قال كذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا، أو أجمع العلماء على كذا، بحيث تبين لها الأمر بالدليل الشرعي الذي يقطع قول كل خطيب. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 38 البدء بالدعوة في البيت شرط أم لا السؤال إذا كنت آمر أهلي بالمعروف وأنهاهم عن المنكر ولا يستجيبون، فهل يحق لي أن آمر الأخوات التي أرى منهن منكراً قد عجزت عن تغييره في بيتي؟ الجواب هذا جوابه كما سبق، إذا كنتِ مطالبة شرعاً بأن تنكري المنكر حتى لو أنتِ واقعة فيه، وتأمري بالمعروف حتى وإن كنت تاركة له، فمن باب الأولى أن تأمري بالمعروف حتى وإن كان أهل البيت يتركونه، وتنهي عن المنكر حتى وإن كان أهل البيت يفعلونه، ولو قال لك أحد: إن في بيتكِ فيه كذا، قولي له: أنا فعلت ونصحت وأمرت لكنهم ما أطاعوني وإن شاء الله هم في الطريق للهداية، وكل إنسان يحاسب على انفراد {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] . الجزء: 168 ¦ الصفحة: 39 التقاعس عن الدعوة بدعوى الطلب السؤال هذه أخت لا تأمر بالمعروف ولا تنهى عن المنكر، زاعمة أنها ليست على المستوى المطلوب، وأن عليها أن تنمي نفسها قبل كل شيء، فهل عملها صحيح أم أن الواجب العمل والدعوة ولو أدى إلى عدم الكثرة من طلب العلم؟ الجواب ليس من شروط التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر أن تكون عالمةً، بل يكفيها أن تكون عالمة بالمنكر نفسه، فإنه إذا لم تكوني متأكدة أن هذا منكر فقد تنكرين معروفاً؛ فإذا كنتِ عارفة أن هذا منكر -أيضاً- فحينئذ يجب أن تنكرينه. وهناك منكرات متفق على أنها منكرات مثل الغيبة والنميمة، لأنه ليس هناك أحد لا يعرف أن هذه من المنكرات مثل ترك الصلاة، والسفور، أو التشبه بالكفار، فهذه منكرات متواترة وكل واحد يعرف أنها منكرات، حتى الأعرابي الذي يركض خلف أذناب الإبل يعرف أن هذه منكرات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أيضاً أقول -وأود أن تنتبهن لذلك-: ليس من شرط الآمر بالمعروف أن يكون فاعلاً لما يأمر به، ولا من شرط الناهي عن المنكر أن يكون تاركاً لما ينهى عنه، والأكمل أن يكون فاعلاً لما يأمر به وتاركاً لما ينهى عنه، لذلك الأنبياء يقولون كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88] أي: أنا إذا أمرتكم بشيء فلا أتخلف عنه، وإذا نهيتكم عن شيء فأنا أول المنتهين، لكن لو فرض أن امرأة فعلت منكراً سراً ووجدت من يفعله، يجب عليها شرعاً أن تنكره وإن كانت تفعله، أي: وقعت في معصية فعل المنكر فإنه لا يجوز ولا يسوغ لها أن تقع في معصية أخرى وهي ترك المنكر وعدم الإنكار. فالإنسان إذاً مطالب بأربعة أشياء: فعل المعروف والأمر به، وترك المنكر والنهي عنه فهذه أربعة أمور، وتقصيرك في أمر لا يسوغ لكِ أن تقصري في أمرٍ آخر، مثلاً لو تركتِ قيام الليل وهذا معروف، فطلب منكِ أن تلقي محاضرة عن قيام الليل، فتقولي: لا والله لا أتكلم، يقال لك لماذا؟ تقولي: أنا والله ما أقوم الليل، لا، تكلمي عن قيام الليل واذكري النصوص، ويمكن أن يكون الكلام سبباً في أن واحدة من المسلمات سمعت الكلام فقامت الليل، فيكون لكِ أجر قيامها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يمكن أنتِ حين تعودين توبخين نفسكِ وتقولين: كيف تأمرين الناس بالقيام ولا تفعلين أنتِ؟ فيكون هذا أمراً لكِ ولغيركِ. فهذه النقطة يغلط فيها كثير من الجهلة، وهذه القضية ظاهرة ولو كان في المجال متسع لأفضت في الحديث عنها. الجزء: 168 ¦ الصفحة: 40 سؤالات الجامع الكبير كثيراً ما تقدم للشيخ أسئلة لا يتسع الوقت للإجابة عليها، وقد اختار بعضاً منها ليقوم بالإجابة عليها في هذا الدرس، وقد صنفها إلى ثلاثة أصناف: تناول في الصنف الأول أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد بين صحيحها وحسنها وضعيفها وموضوعها. وتناول في الصنف الثاني الكتب التي تهم طالب العلم. وتناول في الصنف الثالث بعضاً من أحوال المذنبين والعصاة وتوبتهم ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليهم مع تلبسهم بالذنوب والمعاصي. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 1 أحاديث منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فهذه هي الحلقة الخامسة عشر من سلسلة الدروس العامة تنعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين 15من شهر محرم لعام (1411هـ) . وفي هذه الحلقة نبدأ -إن شاء الله تعالى- بمجموعة من الحلقات المتفرقة، رأيت أن أطلق عليها عنوان "سؤالات الجامع الكبير". وسؤالات جمع سؤال أي أن هذه الحلقة، وحلقات أخرى متفرقة غير متتالية، سوف تخصص للإجابة على أسئلة مختارة مما تبقى من الدروس السابقة. وفي هذه الليلة وقع اختياري على مجموعة من الأسئلة ، من بين نحو (350 سؤالاً) توفرت عندي من الحلقات الماضية كلها، فاخترت منها مجموعة من الحلقات، كتبت أسئلتها، وأشرت إلى طرف منها، وسوف أجيب عليها الآن بإذن الله تعالى. أ- فالقسم الأول من هذه الأسئلة: يتعلق بالأسئلة عن بعض الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومدى صحتها. فمن هذه الأحاديث: الجزء: 169 ¦ الصفحة: 2 الأسئلة الجزء: 169 ¦ الصفحة: 3 نصائح للعاملين في حقل التدريس السؤال شاب يقول: أنا مقبل على مرحلة جديدة، وهي التدريس، ويطلب النصائح. الجواب رأيت أن أختصر لأخي الكريم خمس نصائح: النصيحة الأولى: الممارسة هي الطريق السليم، فمهما قدمنا لك من النصائح، فإن هذا لا يغنيك عن ملاحظة نفسك من خلال التجربة، وتصحيح أخطائك أولاً بأول. فإن الإنسان مهما تكلم معه في هذه الأمور العملية، إذا نزل للميدان يقع له بعض الأخطاء التي ينبغي أن يكون يقظاً، ويصححها أولاً بأول. النصيحة الثانية: أهمية الإعداد الجيد للدرس، التحضير الجيد، وضبط المادة، ومحاولة توقع بعض الأسئلة التي قد يسألها الطلاب، والإجابة عليها. النصيحة الثالثة: وهي تقديم الدرس للطلاب بصورة جيدة، من خلال: عرض السؤال والجواب، وضرب الأمثلة والقصص والأدلة، إلى غير ذلك، وينبغي أن يكون ذلك كله بصورة هادئة، متدرجة، ولا ينتقل من المسألة إلى التي تليها إلا بعد أن يفهمها الطلاب. النصيحة الرابعة: عدم قبول الإستفزاز؛ وذلك من بعض الطلاب، فإن كل فصل يكون فيه طالب يريد أن يستفز المدرس، يتكلم أول ما يدخل الأستاذ، يقول: نريد أن نختبره، يتكلم، أو يقوم بحركة، أو سؤال، أو شيء من أجله يعرفون شخصية الأستاذ، هل هو قابل أن يضحكوا عليه ويلعبوا، أم هو شخصية قوية فيعرفوا حدهم! فالطلاب أذكياء، فعلى الأستاذ ألا يكون قابلاً للاستفزاز، يمكن أن يأتي الطالب يأتي بسؤال غير مناسب، أو يتكلم، أو يقاطع الأستاذ، أو يقول مثلاً ما اسمك؟ أو يقوم، أو يخرج، أو ما أشبه ذلك. على الأستاذ أن يكون هادئ الأعصاب، ولا يظهر عليه أي أثر من آثار الغضب والانفعال، في مثل هذه الأمور، يعالجها بحكمة، وقوة، لكن بهدوء، وعليه ألا يتعجل بإظهار الغضب، والانفعال، بحجة أن هذا تعبير عن قوة الشخصية، أو حسم الموضوع من البداية، عليه أن يكون حازماً، نعم. لكن بدون أن يظهر الغضب، والانفعال، أو انشداد الأعصاب. ومن ذلك أن يكون الأستاذ قدر الإمكان في الأحوال الطبيعية لطيفاً مع الطلاب، يعاملهم بلطف، ويحرص على مصلحتهم، ويحل مشكلتهم بطريقة هادئة، ويجعل الشكوى هي آخر الحلول؛ فإذا لاحظت طالباً لا ينضبط في الصف، فاجلس معه جلسة خاصة بينك وبينه وقل له: يا فلان إن لي عليك ملاحظات، وأنا أستطيع أن أعاقبك، وأستطيع أن أوبخك أمام الطلاب، وأستطيع أن أخصم عليك من أعمال السنة، وأستطيع أن أشكوك أيضاً، لكن كل ذلك لا أريده، لأني أعتبرك بمثابة أخي الأصغر، ولا أريد أن أضرك بشيء، فعليك أن تعرف قدرك، وتلتزم الأدب بقدر ما تستطيع، إذا لاحظت عليه نفس الكلام كرر النصيحة مرة ثالثة، أيضاً اجعل آخر الحلول هي أن تعاقبه، أو ترفع به إلى إدارة المدرسة. هذه أهم النصائح، وهي بلا شك غير كافية، لكن بحسب ما يتسع له الوقت. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 4 الإتقان في الظاهر والباطن السؤال تكلمت في محاضرتك على أن على الشخص إذا بدأ بشيء أن يتمه، فأريد منك أن توجه نصيحة إلى بعض أصحاب التسجيلات، وذلك بسبب عدم إكمال المحاضرة أحياناً، أو حذف أشياء منها، فلا تكمل الفائدة. الجواب هذا يدخل في الحديث الذي ذكرته قبل قليل، وحسنت إسناده: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} وقد فاتني أن أشرح الحديث، وكان الأولى أن أشرحه: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} سواءً أصحاب التسجيلات، أو أصحاب المكتبات، أو الأستاذ في مدرسته، أو العامل في عمله. والإتقان يشمل أمرين كما ذكر أهل العلم: الأمر الأول: أن يقوم بالصنعة على خير وجه، فالصانع مثلاً، أو العامل، أو الكاتب، أو المدرس، عليه أن يعمل على أن يقوم بالعمل خير قيام، وينصح فيه نصيحة تامة؛ بمعنى أن صاحب العمل قد لا يدري، مثلاً قد يأتي كهربائي في منزلك، أنت لست خبيراً بالكهرباء، كيف تكون تمديداتها وتوصيلاتها، ومراكزها، لا تعرف شيئاً، المهم أن تضغط الزر فيضيء المصباح، أو يضيء المكيف، أما ما عدا ذلك فما لك بصر به. فقد يأتي إنسان ليس متقناً فيعمل لك ذلك، لكن إذا جاء شخص آخر خبير، قال لك: هذا غير ناصح، قد اشتبكت الأسلاك بعضها ببعض، وجعل الإنسان لا يدري من أين بدأت وأين تذهب، ولا اتجاهاتها، ولاشيء من ذلك، فهو عمل لك العمل بالظاهر لا بأس به، لكن حقيقته ليست متقنة. إذاً: ليس العمل هو فقط للظاهر، تتقنه بقدر ما تستطيع، وبالصورة التي يرضى عنها أهل الفن، والاختصاص، سواءً كنت في أي مجال من المجالات، مثلاً: مدرس، قد تقوم بالتدريس بعمل يرضي الطالب، الطالب يقول: والله الأستاذ الفلاني جيد! لكن المختص ولا أقول بالضرورة: مفتش، مفتش أو غيره، الذي يعرف العمل، لو حضر عندك في الدرس لرأى أنك لم تتقن العمل، صحيح أن الطلاب رضوا عنك لأنك تأتي بقصص، أو تضحكهم، أو تعطيهم درجات، أو ما أشبه ذلك، لكن لم تؤدِ العمل وتتقنه على الوجه المطلوب. فالله تعالى يحب أن تتقن العمل بالصورة التي يرضى عنها أهل الصنعة، ظاهراً وباطناً. الأمر الثاني: في إتقان الصنعة، ألا يكون هذا فقط من أجل المحافظة على رسوم الصنعة، بعض الناس يقول لك مثلاً: أحسن من هذا العمل، ليس لوجه الله، ولا احتساباً، وإنما لأنني أعرف إذا لم أقم بهذا العمل وصنعته بشكل جيد أخذ الناس عني سمعة سيئة فلا يأتوني بعد ذلك! وهذا مع الأسف فإن الغرب يهتمون به اهتماماً عجيباً للغاية، حتى لو كان الأمر تافهاً، تأتي لإنسان -مثلاً- تريد أن يصلح لك الحذاء -أكرمكم الله- لا يصلحه بأي صورة، إنما يعطيك معلومات أن هذا الحذاء أصلحه لك بمبلغ كذا، ولكن احتمال أنه بعد يوم أو يومين يعود إليه نفس العيب الموجود فيه الآن، فأنا لا أستطيع أن أضمنه لك، إن أردت تصلحه أصلحته، وإن أردت أن تشتري غيره فإنه يمكنك ذلك. وهذا موجود في أمورهم، وفي صناعاتهم فإنهم حين يصنعون شيئاً يكون غير جيد، يشيرون إلى أن هذا العمل غير جيد، حين يقدمون مثلاً علبة عصير، ليست عصيراً طبيعياً، يكتبون عليه أنه غير طبيعي، وإنما هو مصنوع من بعض الأشياء، بعض النكهات، والمساحيق وغيرها، وهم يكتبون ذلك ليس تديناً، وإنما من مقتضى مراعاة رسوم الصنعة، فهم يقولون: التاجر الذكي لا يخادع في صنعته حتى لا يخسر الزبائن. ومع الأسف بعض التجار في أوقات الحج، وفي غيرها، تجد التاجر يقول: المهم أن هذه البضاعة تمشي من عندي، ولو اكتشف الزبون بعد ذلك أنني قد خدعته لا يهم! مع أن الزبون إذا اكتشف بعد ذلك لا يمكن أن يشتري منك بحال من الأحوال، فيخسر زبائنه بهذه الطريقة، لا يبالي، ولذلك ربما يخسر تجارته أيضاً، هم أذكى منا، فعرفوا أن الصناعة الحقيقية، والتجارة الحقيقية، والكسب الحقيقي، يقتضي أن يراعوا رسوم الصنعة، لكن المؤمن مع مراعاة رسوم الصنعة، لا يقصد ذلك، ولا يقصد أيضاً الخوف من الإنسان، لا من سلطانه، ولا من لسانه. يقول: هذا والله مسئول لو غششته، أو إذا لم أقم بالواجب قد يضرني، أو يسبني، لا، إنما يكون فعله لهذا الإتقان ابتغاء وجه الله، فهذا من الإتقان، وهذا الكلام أوجهه للإخوة أصحاب التسجيلات وغيرهم. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 5 حكم تارك الصلاة السؤال سائل يسأل عن حكم تارك الصلاة؟ الجواب اختلف أهل العلم في ذلك، منهم من قال: يقتل، ومنهم من قال: يحبس حتى يموت، ومنهم من قال: يكفر، ويقتل كافراً. والرأي الراجح في تارك الصلاة أنه: إن كان يترك وقتاً ويصلي وقتاً، ويترك حيناً ويصلي حيناً، فإنه عاصٍ مرتكب لكبيرة من الكبائر، لكن لا يحكم بردته. أما إن كان تاركاً للصلاة بالكلية، لا يصلي ليلاً ولا نهاراً، لا جمعة ولا جماعة، ولا في رمضان ولا في غيره ولا في المناسبات ولا في غيرها، فإنه كافر مرتد عن الإسلام، يلزمه أحكام الكفار المعروفة. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 6 عدم الشعور بأثر المعاصي السؤال هذا يقول: عندي معاصي لا أجد لها أثراً، فما هو السبب؟ الجواب أقول: هذا من أثر المعاصي، كونك لا تجد للمعصية أثراً قد يكون هذا من أثرها؛ فإن بعض المعاصي إذا كثرت عند الإنسان وزادت، قد يعاقبك الله عز وجل بأن يقسو قلبك، حتى لا تجد أثراً للمعصية. كيف؟! قد يكون ذلك بأن يجد الإنسان تفسيراً لكل ما يحصل، اليوم أنت مرضت فذهبت للطبيب، قال: عندك المرض الفلاني، وسببه أنك تأكل الطعام الفلاني، أو تعمل العمل الفلاني. فقلت: إذاً هذا المرض تفسيره معروف، ليس بسبب المعصية، وإذا أصابتك خسارة في مالك، قلت: نعم سببه ارتفاع سعر الدولار، أو انخفاض سعر الدولار، أو كذا! تفسير مادي للأحداث. وهكذا أصبحت لا تحس بأثر المعاصي في المصائب التي تنزل بك في نفسك أو أهلك أو مالك أو ولدك، هذا من أثر المعاصي. الاحتمال الثاني: أن يكون العقاب قادماً، لكنه لم يصل بعد، لأن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، لا تقول: ما وجدت أثراً للمعاصي! قد يكون الأثر سوف ينزل عليك غداً أو بعد غد. يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا الاحتمال الثالث: أن يكون الله عز وجل شملك بعفوه، ومغفرته، ورحمته، فإياك أن تغتر بذلك، وعليك أن تسارع بالتوبة إلى الله عز وجل، ومعرفة ما يجب له عليك. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 7 الوقوع في المعاصي لا يمنع من القيام بالنهي عن المنكر النوع الرابع من الأسئلة: أسئلة متنوعة. السؤال أحد الإخوة يسأل عن حديث أسامة بن زيد المتفق عليه {يؤتى بالرجل يوم القيامة فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار، فيقولون: يا فلان مالك! ألم تكن تأمرنا بالمعروف، وتنهانا عن المنكر!؟ قال: بلى. كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} ويقول: كيف يأمر الإنسان بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهو واقع في المعاصي، مع ورود هذا الحديث؟ الجواب أقول: في هذا الحديث ليست العقوبة لأن الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، لكن لأنه كان لا يأتي المعروف، وكان يفعل المنكر، فخطأ أن تظن أن عقوبة هذا الرجل لأنه كان يأمر بالمعروف وكان ينهى عن المنكر، لا، عقوبة هذا الرجل بالنار لأنه كان يفعل المنكر، ويترك المعروف، كان يقول للناس مثلاً: إياكم والربا، ثم يذهب ويأخذ الربا أضعافاً مضاعفة. فيوم القيامة عذب، وقيل له: أنت تعرف أن الربا حرام، وكنت تنهى الناس عنه، ومع ذلك تأكله! إذاً لا عذر لك، فيزج به والعياذ بالله في نار جهنم، ليس لأنه نهى عن الربا، ولكن لأنه أكل الربا. وقد يكون هناك احتمال آخر في معنى الحديث: هو أن نهيه عن الربا كان على سبيل الخداع والنفاق. أما إنسان جاد، يأمر الناس بالمعروف على سبيل الجد والصدق، لكنه عاجز، يجلس للناس ويقول: يا ناس! والله قيام الليل فيه من الفضل كيت وكيت، ويوبخ الناس على ترك قيام الليل، فإذا ذهب إلى بيته نام نومة طويلة، لا يوقظه إلا أذان الفجر! أيعذب هذا؟! أو يقال له: لا تأمر الناس بقيام الليل لأنك لا تفعل؟! لا. بل افترض أن إنساناً واقع في معصية، خفية أو ظاهرة، وسئل عنها، أو جاءت مناسبة ما، أينهى الناس عن هذه المعصية؟ بل واجب عليه: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمدِ ولذلك ذهب جماهير أهل العلم من السلف والخلف، وهو الصحيح، بل أرى أنه لا يجب أن يكون فيه خلاف، أنه واجب على أصحاب المعاصي أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، مثلما هو واجب على غيرهم، ومن الذي خولهم وأعطاهم صلاحية، إذا وقعوا في المعصية أن يقعوا في معصية أخرى، وهي ألاَّ ينهوا عنها، أليس ترك النهي عن المنكر معصية؟ بلى، إذاً من الذي أعطاهم صلاحية أنهم إذا وقعوا في المنكر يقعون في معصية أخرى، وهي ترك النهي عن المنكر. وترك المعروف أيضاً معصية، إذا كان واجباً، إذا المعروف تركوا الواجب، تركوا صلاة الجماعة فمن الذي أعطاهم صلاحية أن يقعوا في معصية أخرى، وهي أن يتركوا الأمر بها؟! مثال: رجلٌ في البيت لا يصلي مع الجماعة، فاعل معصية، عنده أطفال، وشباب يصلون في البيت، فقال: يا أولادي! اذهبوا صلوا في المسجد. هل نقول له: أنت آثم؟! لماذا تأمرهم بالصلاة في المسجد وأنت لا تصلي؟! كلا. نقول: هو مأجور على أمره لأولاده بالصلاة في المسجد، ولو كان هو مقصراً، لكن نقول له: ما دمت تعرف أن الصلاة في المسجد واجبة، فيجب أن تأمر نفسك أولاً، قبل أن تأمر أولادك، وإذا لم تمتثل فيجب أن تأمر أولادك أيضاً. ومثله: مسئول في إدارة، أو أمير يشرب الخمر، وينهى الناس عن ذلك، ويعاقب من يشرب الخمر، ويقيم عليه الحد. هل نقول له: أنت آثم؟! كيف تعاقب الناس، وتنهاهم عن أمر أنت تفعله؟! كلا ثم كلا، بل واجب عليه أن يفعل ذلك، وهو مثاب عليه. ولذلك قال بعض حذاق أهل العلم: واجب على من يتعاطون الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، فإذا كان هناك أناس جالسون يشربون الخمر والعياذ بالله فيجب في تلك الحالة أن ينهى بعضهم بعضاً، إذ كيف يعطيه الكأس ويقول: خذ هنيئاً مريئاً؟! فهذا الكأس حرام، لا فهذا استخفاف بالحكم الشرعي. والواجب أنه إذا شرب قال أحدهم مثلاً في لحظة من لحظات الصحو والإفاقة: لا حول ولا قوة إلا بالله! والله نحن مسرفون على أنفسنا، نحن عصاة، لو قبضنا على هذه الحال ترى كيف يكون حالنا! نموت والخمر في بطوننا: {ومن شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} إلى غير ذلك، فالحقيقة نحن مسرفون، عسى الله أن يتوب علينا. هذا كلام طيب حسن وإن كان قائله عاصياً. فينبغي أن نتفطن لذلك جيداً، وهي مسألة حساسة، شرحتها في غير موضع، ومن أراد الاستزادة يرجع إلى مواضعها ومراجعها، لأن بعض الناس يستشكلون هذه المسألة ويستغربونها، تطرق أسماعهم لأول مرة ويكثر السؤال عنها، وأرى بعض الإخوة على وجوههم علامات التعجب منها! في مناسبات كثيرة، وهي مسألة واضحة جداً، لا إشكال فيها {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] الله عز وجل ما عاتبهم بالبر، لا، عاتبهم لماذا ينسون أنفسهم! {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2-3] نعم، هم مذمومون على ترك المعروف، وفعل المنكر، مذمومون لا شك؛ لكن ليسوا مذمومين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإن كانوا لا يفعلونه. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 8 الإصرار على الذنوب السؤال يسأل عن عاصٍ يتوب، ثم يعود، ثم يتوب، ثم يعود؟ الجواب وهذا يختلف عن الذي قبله، لأن الإنسان في نفس المعصية يقع فيها ثم يتوب، ثم يرجع إليها، فما عقوبته؟ أقول: أولاً: التوبة مطلوبة، والشيطان يأتي للشاب من هذه الناحية. فيقول له: تبت ثم رجعت! فإياك أن تتوب مرة أخرى، لأنك ستعود، فيثبطه عن التوبة، وهذا مدخل ومزلق ينبغي للطالب، وللمؤمن أن يتقيه، فلو عصيت الله تعالى بذنب مائة مرة، ثم تبت، فوقعت، يجب أن تتوب مرة أخرى. أما ما يتداوله البعض: {ذنب بعد توبة أشد من سبعين ذنباً قبلها} فهذا ليس بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يصح عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، بل إن الله تعالى لا يضاعف على عبده الذنوب، كما في صحيح مسلم {إن الله عز وجل يقول: إذا هم عبدي بسيئة فعملها، فاكتبوها عليه سيئة واحدة} وهذا من كمال عدل الله تعالى وكرمه أنه لا يضاعف على عبده السيئات. وبناءً عليه فإن الإنسان وإن أذنب ثم تاب، ثم أذنب ثم تاب، ثم أذنب ثم تاب، يجب أن يتوب، فلعل الله تعالى أن يقبض روحه على توبة، والله تعالى لا يضاعف على عبده الذنوب والسيئات، وإنما يكتب عليه الذنب سيئة واحدة ولا يضاعف، وإنما يضاعف له الحسنات، كما ثبت ذلك في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ثم إن على هذا الشاب أن ينظر في أموره: ما سبب عودته إلى هذا الذنب؟ لا بد أن الأسباب موجودة، فبعض الناس يتوب بالندم، لكن الأسباب والمثيرات موجودة، فهي تدعوه مرة أخرى فيقع، ولذلك على الإنسان أن يفكر في الخروج من الأسباب التي توقعه في الذنب، فإن هذا من كمال التوبة، كما في الحديث المتفق عليه: {أن رجلاً قتل من بني إسرائيل تسعة وتسعين نفساً، فأتى إلى عالم فسأله، فقال له العالم: لا تعد إلى قريتك، فإنها أرض سوء، ولكن اذهب إلى قرية كذا وكذا، فإن فيها قوماً يعبدون الله تعالى، فاعبد الله تعالى معهم} . فأمره أن يخرج من القرية التي هي السبب في وقوعه في الذنب. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 9 السيطرة على الغريزة الجنسية السؤال يسأل أحد الشباب عن كيفية السيطرة على الغريزة الجنسية؟ الجواب أقول: السيطرة على الغريزة الجنسية تتم بأربعة أمور: الأمر الأول: عن طريق رفع هذه الغريزة، وأن يسلك الإنسان بها المسلك الصحيح، وذلك بالزواج، فإن الله تعالى ما حرم شيئاً إلا أباح ما هو خير منه. حرم الزنا وأباح الزواج، حرم الربا وأباح البيع، وهكذا، فعلى الشاب أن يحرص على الزواج: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج} فالزواج فيه منافع عظيمة، فيه سعادة النفس وسرور القلب، وتحقيق كمال شخصية الشاب، واعتماده بعد الله تعالى على نفسه، وتكثير النسل، والراحة النفسية، وإعفاف المؤمنات، إلى غير ذلك من الفوائد التي يطول حصرها، فهذا هو الطريق الأول: الزواج. وعلى الشاب أن يفكر فيه بصورة جدية، ويعمل على تذليل العقبات التي تحول بينه وبين الزواج. الوسيلة الثانية: هي وسيلة التبديل، يعني إذا لم يكن الزواج ممكناً لأي سبب من الأسباب، فيمكن أن يبدل الشاب هذا الأمر بتوجيه طاقته الوجهة المفيدة، ومن ذلك مثلاً: أن يشغل نفسه بالعبادة، من صلاة، وطلب العلم، وقراءة قرآن، وصحبة الأخيار، إلى غير ذلك، فإن الإنسان إذا أشغل نفسه بهذه الأمور صار اهتمامه موجهاً إليها، وبالتالي لا تكون الغريزة ملحة عليه بالشكل الذي يزعجه، أو يضايقه، أو يدعوه إلى الوقوع في الحرام. ومن ذلك أيضاً الاشتغال بالصوم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} فإن الصوم إضافة إلى أنه عبادة تقرب العبد من ربه، فإنه كذلك يضيق مجاري الدم -العروق- فيقل ثوران الغريزة في نفس الإنسان، والصائم لاشك أنه أقرب إلى ربه، ولذلك يبعد عنه الشيطان. ومن ذلك: الاشتغال بالأعمال المباحة أيضاً، لو فرض أن الإنسان يصرف طاقته الجسيمة في عمل مباح، رياضة مباحة، أمور نافعة له في دنيا، فإن هذا أيضاً من الأشياء التي ينصح بها الشاب، ليصرف بها طاقته عما حرم الله عز وجل. الوسيلة الثالثة: هي استخدام الوقاية، وأعني بالوقاية: أن يبعد الإنسان عن المثيرات التي تدعوه إلى الحرام، والمثيرات منها السوق، الخروج إلى السوق، ورؤية النساء المتبرجات والمتعطرات والمتزينات، ومنها مشاهدة المجلات الخليعة، مشاهدة التلفاز، أو الفيديو، وما فيه من مناظر تثير غريزة الإنسان، سماع الغناء، استخدام الهاتف فيما حرم الله عز وجل إلى غير ذلك من الأشياء التي تثير غريزة الشاب. أما كون الشاب يعمد إلى إثارة الغريزة، ثم يقول: أين أروح؟! ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء هذا لا يكون، لابد أن يعمل الشاب على البعد عن المثيرات. ومن البعد عن المثيرات: أن يقاوم الإنسان من أول الطريق، وذلك بغض البصر؛ فإن البصر من أعظم المثيرات، بل هو أعظم المثيرات: كل الحوادث مبداها من النظرِ ومعظم النار من مستصغر الشررِ كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوسٍ ولا وترِ يسر مقلته ما ضَّر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضررِ ومعظم الجرائم تبدأ بنظرة نظرةٌ فابتسامةٌ فسلامٌ فكلامٌ فموعدٌ فلقاءُ فعلى الإنسان أن يغض بصره عما حرم الله عز وجل، والنظر هو أول الطريق، ولـ ابن القيم كلام مفيد في النظر، مطبوع في رسالة مستقلة، وهو أيضاً موجود -أو جزء منه- في عدد من كتبه، منها كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فينبغي لطالب العلم، وللشاب الذي يخاف على نفسه من الغريزة الجنسية أن يراجع هذا. وعلى كل حال فبالتجربة تبين أن الإنسان إذا غض بصره نجح، فإذا أطلق بصره خاب، وخسر، وفشل: فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظرُ رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابرُ إذا أطلقت بصرك فماذا يكون؟ أولاً: تتحرك الغريزة والشهوة، فيدعوك ذلك إلى المحادثة أو الإقدام أو الكلام. ثانياً: يدعوك إلى التمييز بين النساء، فتقول: هذه جميلة، وهذه ذميمة، وهذه حسنة، وهذه ليست كذلك، وهذه كذا، وهذه كذا! فيصبح الإنسان ذواقاً، لا يقف عند حد، وسبحان الله! الغريزة الجنسية مثل النار، كلما وضع عليها الإنسان الحطب زادت اشتعالاً، مثل النار التي يضع الإنسان عليها البنزين مثلاً، كلما وضع عليها زاد اشتعالها. ولذلك على الإنسان أن يحرص أشد الحرص على أن يكف بصره عما حرم الله عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31] . أعرف حالات عديدة، وقع فيها شاب أسير العشق الحرام، حتى انبرى بدنه ومرض وصار طريح الفراش، وربما قصَّر كثيراً في عباداته، وربما انحرف عن سواء السبيل، وكانت البداية نظرة محرمة! كما أنني أعرف من النساء من وقعت في مثل ذلك، وكانت البداية نظرة محرمة! فالحذر الحذر من النظر، فإنه أول باب، وأخطر باب، يجرك الشيطان من خلاله إلى الوقوع في الفواحش التي لا يعلم مداها إلا الله. الأمر الرابع: هو العلاج، فإنه ما أنزل الله من داء إلا وله دواء، حتى بعدما يقع الإنسان، هناك إمكانية العلاج، والعلاج يكون بأمور كثيرة، منها: التوبة، الدعاء، الاستغفار، أين أنت من الاستغفار؟! إذا استغفرت الله تعالى بقلب صادق، فإن الله تعالى يغفر لك: {إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي} . و {من لزم الاستغفار جعل الله تعالى له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} فأكثر من الاستغفار. ومن وسائل العلاج: صحبة الأخيار. ومنها: الإقبال على العبادة. ومنها: كثرة قراءة القرآن، إلى غير ذلك. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 10 العادة السرية وأضرارها الدينية والطبية السؤال شاب يسأل عن قضية في الواقع لم أكن أريد أن أطرحها، لكنه قال: أنا ألح إلحاحاً شديداً أن تطرح سؤالي؛ هل العادة السرية من الكبائر؟ الجواب العادة السرية معروفة، والعادة السرية محرمة، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:5-6] . فدل على أنهم يلامون فيما سوى ذلك؛ فيما سوى قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] فدلت الآية على أن العادة السرية محرمة، إضافة إلى أدلة أخرى كثيرة. وأما أنها من الكبائر فلا، ليست من الكبائر فيما يظهر لي، بل هي من المعاصي، ولكن لا أعلم دليلاً على أنها كبيرة من كبائر الذنوب، ولكن يجب على الشاب أن يتقيها ويتجنبها، وذلك لأنه من الثابت أنها ضارة جداً. أما الضرر الديني فهو ظاهر، لأن ارتكاب الحرام مما يقربك من النار، ويبعدك عن الجنة. وأما الأضرار الأخرى فهي كثيرة منها: أضرار طبية: فقد ثبت طبياً أن العادة السرية تكون سبباً في ضعف الغريزة الجنسية بعد الزواج، وتكون سبباً في ضعف البصر، وتكون سبباً في حصول إرتعاش في أطراف الإنسان، ويزداد ذلك عنده. إضافة إلى الأضرار النفسية وهي ظاهرة جداً وهي مدمرة: تجد الذي يكثر من ممارسة العادة السرية يكون شديد الخجل، كثير الاضطراب، شخصيته غير مستقرة ولا قوية، فهو أمام الناس يشعر بالخجل سريعاً فيتذبذب، ويظهر عليه آثار ذلك، يحمر وجهه ويتورد، ولا يستطيع أن ينظر إلى الناس بنظر ثابت ولها آثار كبيرة جداً، فعلى العبد أن يتجنبها خوفاً من الله عز وجل، ثم اتقاءً لهذه الأضرار الكثيرة. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 11 حكم الإصرار على الكبائر السؤال يقول: من داوم على فعل الكبائر يكون كالذي استحلها، فيكون كافراً مرتداً؟ الجواب لا. ليس من داوم على فعل الكبائر كافراً، ما دام يؤمن بأنها محرمة، ولكنه عاصٍ معصية عظيمة، ويخشى أن يؤدي به ذلك إلى الكفر، فإن المعاصي بريد الكفر. أما أنه كافر بفعله فلا، فإن مرتكب الكبيرة، وإن أصر عليها، ومات مصراً عليها، ما دام معترفاً بتحريمها، لا يكون كافراً بذلك. ولكن عليه أن يحذر من المجاهرة، قال عليه الصلاة السلام: {كل أمتي معافىً إلا المجاهرين} . الجزء: 169 ¦ الصفحة: 12 كتب مختارة السؤال يقول بعض الإخوة: نحن في مطلع الإجازة، ونحتاج إلى معرفة بعض الكتب التي نقرؤها؟ الجواب أقول: الكتب كثيرة، ولذلك رأيت أن أقتصر في كل فنٍ على كتاب أو كتابين. فأقول: فيما يتعلق بالسنة النبوية يمكن أن يقرأ الإنسان كتاب الأربعين النووية، أو الخمسين الرجبية؛ أي كتاب الأربعين مع زيادة ثمانية من ابن رجب، أصبحت خمسين حديثاً، مع شرحها جامع العلوم والحكم لـ ابن رجب الحنبلي؛ فإن هذا كتاب نفيس مفيد جداً، ينبغي أن يقرأه، ثم يقرأه، ثم يقرأه، لا يكفي أن يقرأه مرة واحدة، فإن كان عنده مزيد من الوقت للسنة فليقرأ كتاب رياض الصالحين للإمام النووي؛ فإنه من أجمع وأحسن كتب السنة النبوية الجامعة. أما في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنصح بكتابين مختصرين: أولهما: كتاب الفصول في اختصار سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للحافظ ابن كثير. والثاني: تهذيب سيرة ابن هشام لـ عبد السلام هارون، فإن أراد أن يتوسع في السيرة، ففي حدود علمي وقراءتي لكثير من كتب السيرة، أرى أن أحسن كتابٍ ينصح به لمن أراد التوسع هو كتاب سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم للحافظ ابن كثير؛ وهو جزء من البداية والنهاية، لكن طبع مستقلاً، أخرجه مصطفى عبد الواحد مستقلاً؛ وهذا الكتاب نفيس، ومن أعظم مزاياه: أنه يورد مرويات كثيرة من كتب السنة فيما يتعلق بأحداث السيرة، وهذه مزية لا تكاد توجد في غير كتاب ابن كثير هذا في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: في العقيدة هناك كتب كثيرة، أقتصر منها على كتاب العقيدة الواسطية للشيخ ابن تيمية رحمه الله، ثانياً كتاب معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي، وهو في مجلدين، ومن أحسن مميزات هذا الكتاب أنه غني بالنصوص، ونحن بحاجة إلى أن نُربي الناس على النصوص، لا على أقوال الرجال، ولذلك فإنه إذا ذكر عقيدة، سرد آيات كثيرة فيها، ثم سرد أحاديث كثيرة جداً، حتى يتربى الإنسان على فهم العقيدة، وأخذها على ضوء النصوص، بعيداً عن القيل والقال، والردود، والأخذ والرد. الكتاب الثالث: كتاب التوحيد للشيخ المجدد محمد بن عبد الوهاب وشرحه فتح المجيد، أو تيسير العزيز الحميد. رابعاً: في التربية والآداب، هناك كتب كثيرة، أذكر منها تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم وهذا كتاب جيد جداً، أنصحكم جميعاً بقراءته، خاصة طلبة العلم، مع حواشيه، فله حواشي تاريخية مفيدة، تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم لـ ابن جماعة. ثانياً: كتاب مدارج السالكين للإمام ابن القيم رحمه الله، أو أحد مختصراته؛ فقد اختصره جماعة، وممن اختصره عبد المنعم صالح العلي في كتاب سماه تهذيب مدارج السالكين، وكذلك فيه تهذيب لـ عبد الله السبت، على ما أعتقد مختصر للكتاب، فتهذيبات هذا الكتاب مفيدة جيدة، وقد تغني عن قراءة الأصل وهي في مجلد واحد، يمكن أن يقرأها الطالب في الإجازة مثلاً. الكتاب الثالث غذاء الألباب شرح منظومة الآداب للسفاريني الحنبلي وذلك لمن أراد التوسع. خامساً: كتب في الثقافة العامة، كثيرة جداً، وأنا أحب لطالب العلم أن يحرص على أن يكون مرتبطاً بعصره، يعرف مجريات الأحداث، ويعرف ما يدور في الساحة، ويدرك الخطط التي تحاك ضد الإسلام، فالكلام في هذا يطول، مثال لبعض الكتب، أذكر منها كتابين: أولها: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين وهو كتاب متين مفيد علمي، للشيخ أبي الحسن الندوي. الكتاب الثاني: كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب. إضافة إلى أنني أنصح الإخوة بأن يكونوا على صلة ببعض المجلات المفيدة، وأذكر من هذه المجلات: مجلة الفرقان التي تصدر في الكويت، وهي مجلة مفيدة جداً، واتجاهها في الجملة اتجاه سلفي، وينبغي أن ينتفع بها طالب العلم، وكذلك مجلة البيان ومجلة المجتمع ومجلة الدعوة وغيرها، والمجلات الإسلامية كثيرة، لكن ينبغي للإنسان أن يختار منها، ولا يعني هذا أن الطالب إذا أخذ في المجلة يقرؤها وكأنه يقرأ كتاب من كتب السنة، يقرأ كل شيء، يقرأ الإعلانات، ويقرأ الحروف! لا. فتش هذه المجلة، فإذا وجدت فيها موضوعاً مهماً تقرؤه، إذا وجدت موضوعاً عندك معلومات عنه، أو سبق أن قرأته، أو لا يعنيك فتجاوزه حتى لا يأخذ منك قراءة هذه المجلات كلها في الأسبوع إلا ساعة، أو نحواً من ذلك، فلا يضيع الإنسان وقته في ذلك. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 13 كتاب تحفة العروس السؤال يسأل أحد الشباب عن كتاب تحفة العروس يقول: ما رأيك في قراءته؟ الجواب سبق أن اطلَّعت على هذا الكتاب، ولعلي قرأته، كتاب تحفة العروس للشيخ محمود مهدي استانبولي، وهو يتكلم عن قضايا الزواج ونصائح للزوجين وما يخصهما، والكتاب في الجملة مفيد، وفيه نصائح مفيدة لا شك ونافعة، ومؤلفه أيضاً من العلماء المعروفين. ولكن ربما يكون السبب الذي دعا الأخ إلى السؤال عن الكتاب، أن المؤلف لما أتى على قضايا المعاشرة الزوجية، أو ما يعبر عنه بلغة العصر الحاضر بالقضايا الجنسية؛ يعني معاشرة الرجل لزوجته، وفيما يتعلق بلقائها، فيما يتعلق بالجماع، توسع في هذا الباب، وذكر طرائفه، وذكر كيفيته، إلى غير ذلك من المشكلات التي تواجه بعض الشباب، ولذلك أنصح الشاب إذا لم يكن متزوجاً، أو ليس على أبواب الزواج، ألاّ يقرأ هذا الجزء، يتجاوزه، أو لا يقرأ الكتاب كله، إلا إذا احتاج إلى ذلك. أما إذا كان على أبواب الزواج، فلا بأس بقراءته؛ لأنه قد يحتاج ذلك. ولا أكتمكم سراً إذا قلت لكم حتى لا تستغربوا هذا الكلام: إني قد اطلعت على أحوال كثير من الشباب بعد الزواج، بزمن ليس بالقصير، أحياناً شهر أو شهرين، فوجدت أن عدداً من هؤلاء الشباب لم يستطيعوا أن يعاشروا زوجاتهم بالطريقة الصحيحة، لم يصلوا بعد إلى المعاشرة المعروفة، لم يجامعوا زوجاتهم بسبب عدم الخبرة بهذا الشأن، ففي أول مرة استغربت هذا السؤال، فلما تكرر عندي، وجدت أنني أتذكر أنني قرأت في بعض الإحصائيات: أنه يقول في إحصائية علمية طبية: أن (20%) من حالات العقم سببها عدم المعاشرة الصحيحة بين الزوجين. يكون الشاب ما شاء الله مستقيماً صالحاً، بعيداً عن هذه الأمور، لا يسمع ولا يقرأ، وقد حماه الله تعالى من الوقوع في الحرام والمعاصي، فلما يتزوج يواجه أمراً لأول وهلة، يستحي أن يسأل عنه، فربما يقع عنده شيء من عدم المعرفة بذلك، وأكثر الناس لا يحتاجون هذا الأمر، لكني أقول: لعل مثل هذا يحتاج إليه. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 14 الإقلاع عن المعاصي ثم الرجوع إليها النوع الثالث من الأسئلة: أسئلة تتعلق بالمعاصي والتوبة، وهي أسئلة كثيرة جداً، ولذلك أجدني مضطراً لعرضها بسرعة، والإجابة عليها بسرعة أيضاً. السؤال يسأل عن شاب منحرف يتوب إلى الله عز وجل، ولكنه يعود بعد ذلك إلى معصية معينة ويبقى على التزامه -يعني: شاب منحرف بعيد ثم يتوب- لكنه بعد فترة يعود إلى معصية واحدة، ويبقى على استقامته فيما عدا ذلك، ويقول السائل: إن هذا كثير. الجواب أقول أيها الإخوة: التائبون نوعان: نوع تاب إلى الله توبة نصوحاً، وهذا أقلع عن جميع الذنوب والمعاصي، وهذه هي التوبة الكاملة النصوح، وهو الذي وعد الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أن تكفر سيئاته، وتبدل حسنات، كما قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان:70] بل يكتب الله تعالى له حسناته التي فعلها، ولو كان قبل إسلامه، كما في حديث أبي سعيد {إذا أسلم العبد وحسن إسلامه، كتب الله له كل حسنة كان أسلفها، ومحا عنه كل سيئة كان أسلفها، فتبدل سيئاته حسنات} . أما من تاب إلى الله تعالى من بعض الذنوب، وأصرَّ على بعضها، فهذا ليست توبته من هذا البعض تخل بالآخر؛ أي توبته مما تاب منه مقبولة، لكن الذنوب التي بقي مصراً عليها لا يغفر له حتى يتوب منها، ولا تبدل سيئاته -والله تعالى أعلم- حسنات، لأنه لم يتب توبة نصوحاً شاملة كاملة، ولم يعمل العمل الصالح الذي يستغرق وقته، بل أصر على بعض المعاصي، فلم يحسن إسلامه، بل كان في إسلامه نقص وخدوش. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 15 أسباب نزع البركة من الوقت السؤال يقول: أنا طالب علم أحاول تنظيم الوقت، والاستفادة من وقتي، ولكنني أجد فشلاً في الوقت، وعدم بركه، فهل هذا بسبب المعاصي؟ وكيف لي أن أعرف نوع المعصية؟ الجواب أقول: أولاً: المعاصي هي أحد الأسباب التي تكون سبباً في أن ينزع الله تعالى من العبد بركة الوقت، لكن هناك أسباباً أخرى، من هذه الأسباب: سوء التربية؛ فإن بعض الشباب لم يتلقَ تربية سليمة، فلا يكون عنده حسن تصرف في وقته، ولذلك يضيع كثير من وقته. ومن الأسباب: عدم الموجه؛ فإن الشاب إذا كان بمفرده، وهو حديث عهد بهذا الطريق، فربما يكون يوماً هنا، ويوماً هناك، فلا يستفيد من وقته. شاب مثلاً: أراد أن يتجه إلى طلب العلم، فبدأ اليوم، وقال: القرآن أهم شيء، وهو كلام الله عز وجل، فأريد أن أبدأ بالتفسير، بدأ بتفسير ابن كثير كما نصحنا، فلما قرأ تفسير سورة الفاتحة كان في المسجد، فجاء واحد وسأله سؤالاً فقهياً، فقال: والله لا أدري، لما خرج قال: إذاً الفقه أهم! الناس يحتاجون الفقه أكثر مما يحتاجون التفسير، فترك التفسير واتجه إلى الفقه، لأن الناس يسألونه، فهو يريد أن يجيب على أسئلتهم! بدأ يفتي في الفقه، يقرأ الفقه فيفتي فيما يعلم، أو فيما لا يعلم! بعد فترة جاء إنسان وسأله عن حديث، قال: ما درجة حديث كذا وكذا؟ قال: إذاً الناس اليوم أرى أنهم يهتمون بالحديث، فترك الفقه واتجه إلى قراءة كتب السنة! وهكذا أصبح لا يستقر على حال لعدم الموجه الذي يأخذ بيده. السبب الرابع: سوء الطبيعة عند الإنسان؛ بعض الناس جبلوا على أخلاق ذميمة، مثل الملل، وإني أستسمحكم عذراً أن أذكر لكم أسلوباً من أساليب علاج مثل هذه الطبيعة، وذلك بأن يعود الإنسان نفسه إذا بدأ بشيء أن يتمه، ولعلي ذكرت لكم في بعض المناسبات أنني كنت أحاول أن أعود نفسي على هذا الأمر، واستفدت منه كثيراً بحمد الله، قرأت يوماً كتاباً من الكتب اسمه مناظرات في أصول الفقه بين ابن حزم والباجي مؤلفه الدكتور عبد المجيد تركي، وهو مجلد ضخم، أظنه في نحو ستمائة صفحة، أعجبني عنوانه فقرأته، لما قرأت من هذا الكتاب (100صفحة) وجدت أنه رسالة دكتوراه في جامعة السربون في فرنسا، في أصول الفقه، ووجدته كتاباً لا أرى أن أضيع وقتي في قراءته، ليس مفيداً على الأقل بالنسبة لي، لكنني مع ذلك أحببت أن أعود نفسي على خلق وهو: أن الإنسان إذا بدأ في شيء يتمه، وألاَّ يعود نفسه أن يبدأ في هذا الكتاب فيقرأ صفحة ثم يتركه، يقرأ المقدمة ثم يتركه، يقرأ فصلاً ثم يتركه! إذا بدأت في كتاب فعليك أن تتمه إلى النهاية، ولو كان أقل مما تريد، أو أقل مما تتصور، حتى تعتاد على ذلك وتزيل طبيعة الملل، والتقلب التي تكون حائلاً عند كثير من الشباب دون الاستفادة، تجده يقول: قرأت من هذا، ومن هذا لكن لو سألته هل قرأت كتاباً بأكمله؟ قال لك: لا! لا نريد أن نفتضح، وإلا لعرضنا عليكم أسئلة بكتب معروفة مشهورة، مثلاً كتاب تفسير ابن كثير هذا كل الناس يعرفونه، الحضور على كثرتهم من منهم قرأ تفسير ابن كثير من أوله إلى آخره؟ ربما تجد واحداً أو لا تجد أحداً، كتاب آخر من الكتب المشهورة زاد المعاد لـ ابن القيم من قرأ زاد المعاد؟! وبالمناسبة زاد المعاد من الكتب المفيدة العامة التي يحسن قراءتها، ربما لا تجد واحداً منا قرأ زاد المعاد من أوله إلى آخره، وهذا عيب في الواقع، عيب كبير، ينبغي أن يعود الطالب نفسه، يهذب عاداته وطبائعه، بحيث إذا بدأ في كتاب يحاول أن يتمه، لكن لا تبدأ في كتاب إلا بعد أن تستشير في ذلك، ولا تتجه إلى طريقة في التعلم، إلا بعد أن تستشير في ذلك أيضاً. أما المعاصي التي يقول: كيف أعرف نوع المعصية التي كانت سبباً في انتزاع بركة الوقت؟ المعاصي نوعان: النوع الأول: معاصي ظاهرة لا تحتاج إلى بيان، مثل: كونه يستمع الغناء، أو يأكل الربا، أو عاقاً لوالديه، أو ما أشبه ذلك. النوع الثاني: وهو الخطر، المعاصي الخفية، وخطورة هذه المعاصي من وجهين: الوجه الأول: أن الإنسان قد لا يتفطن لها، فقد يكون الإنسان عنده معصية خفية لكن بحكم أنه معفٍ للحيته، مقصر لثوبه، محافظ على صلاة الجماعة، يرى أنه -الحمد لله- ما عنده معاصي، لا يا أخي! يمكن أن يكون عندك الحسد، أو الحقد، أو البغضاء، أو عندك في قلبك نوع من الضعف، نوع من الخوف من غير الله، أو الحب لغير الله، إلى غير ذلك من المعاصي الخفية القلبية، التي هي من باطن الإثم، وهذه الأشياء قد لا يتفطن لها الإنسان، وذلك لأننا أيضاً قد نهتم بتجميل الظاهر أكثر مما نهتم بتجميل الباطن! فالباطن لا يطلع عليه إلا الله، ولذلك قد تكون نية الإنسان مثلاً خبيثة، لا نتنافس نحن في إصلاح النية، ولكن قد نتنافس في التبكير للمسجد، في طلب العلم، في حفظ القرآن، في الأعمال الصالحة، لأنها ظاهرة، لكن النية قد لا نتنافس فيها، ليس فيها مجال للمنافسة، لأن علمها عند ربي. إذاً المعاصي الخفية خطورتها أولاً تأتي من جهة أن الإنسان قد لا يتفطن لها، فعلى الإنسان أن يختبر قلبه. الوجه الثاني: من أوجه خطورتها أن أثرها عظيم؛ لأنها تتعلق بالقلوب، والشيء المتعلق بالقلب أخطر من المتعلق بالجوارح، فإن القلب عليه مدار الأعمال، وهو ملك والأعضاء جنود تابعة له، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، في حديث النعمان المتفق عليه: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب} فمدار الفساد والصلاح على القلب، ولذلك فإن المعاصي الخفية والإثم الخفي أعظم من الإثم الظاهر. وهناك خطورة ثالثة أيضاً: وهو أن إزالة هذه المعاصي يحتاج إلى جهاد كبير، فإن الإنسان مثلاً: إذا كان مبتلىً بمعصية ظاهرة، مثل عقوق الوالدين، يستطيع أن يذهب إلى والده ويقبل رأسه، ويقول: سامحني، ويبكي بين يديه، ويعمل على إعادة المياه إلى مجاريها، بقدر ما يستطيع. لكن أنَّى للإنسان مثلاً أن يصلح فساد قلبه؟! إذ أنه يحتاج إلى جهاد، يحتاج إلى عمل، إلى صبر، إلى دأب، إلى بكاء بين يدي الله، إلى دعاء، إلى ملازمة حتى يزول ما في قلبه، يقول الله عز وجل: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] ومن خلال تجربتي ومعايشتي لواقع الناس، وصلحائهم وفساقهم، دعاتهم ومدعويهم، علمائهم وطلاب علمهم، وجهالهم؛ ظهر لي أن الجميع، إلا من رحم الله يهتمون بإصلاح الظاهر أكثر مما يهتمون بإصلاح الباطن! وهذه ثغرة ومثلبة يجب على طالب العلم الناصح لنفسه أن يعمل على تداركها. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 16 كتاب: في ظلال القرآن السؤال بعض الإخوة يسألون عن كتاب في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب -رحمه الله؟ الجواب كتاب في ظلال القرآن له منافع كثيرة عظيمة منها: أن هذا الكتاب تفسير عصري، فهو يتحدث عن كثير من القضايا العصرية التي لا يجدها الطالب أو الباحث أو القارئ في كثير من الكتب القديمة، ويتكلم عنها بصورة جيدة. ومنها: أنه يهتم بالرد على المذاهب -والاتجاهات الفكرية المعاصرة- المخالفة للإسلام. ومنها: أن أسلوب الرجل مشرق رائع، فإنه أديب كبير وشاعر فذ؛ ولذلك ظهر هذا في كتابه، فإن كتابه يتميز بجودة الأسلوب والبيان، وهذا مما يؤثر في القارئ لا شك وينفعه. ومن ميزات الكتاب: أنه كتب بمداد من العاطفة والشعور الحي، وزكاه مؤلفه بدمه؛ فأصبح القارئ المنصف إذا قرأه يتفاعل مع المؤلف ويتأثر به وينفعل. وكم من إنسان قرأ الكتاب فكان سبباً في هدايته! أما هل في الكتاب أخطاء؟! نعم فيه أخطاء ولا شك، وأي كتاب لا يوجد فيه أخطاء! فمن الملاحظات، بل من أبرزها على الكتاب: أنه في عدد من قضايا الاعتقاد قرر فيها خلاف ما هو مستقر من عقيدة أهل السنة والجماعة، في مواضع كثيرة في الكتاب، وذلك وإن كان باجتهاد، إلا أنه لا يعفي من التنبيه عليه، والتحذير من الاغترار بما سطره أو كتبه رحمه الله تعالى، وعفا الله عنه وعنا- فإن القارئ ينبغي أن يتفطن أن المؤلف عندما يتكلم في قضايا الاعتقاد، ينبغي ألا يأخذ عنه تفصيل الاعتقاد. بل الاعتقاد يؤخذ من الكتب الموثوقة، كتب أهل السنة والجماعة، ابن تيمية، ابن القيم أئمة الدعوة الوهابية وغيرهم من الأئمة المتقدمين والمتأخرين أيضاً، هذا يلاحظ. الأمر الثاني الذي يلاحظ في الكتاب: أن الأستاذ سيد قطب -رحمه الله- قد يتكلم أحياناً في بعض قضايا الأحكام بكلام غير محرر، قد يتكلم في حكم شرعي في الحج أو الزكاة أو الصوم أو غيرها بحكم ويرجحه، ويكون الراجح خلاف ما ذكره، بل ربما يذكر قولاً بعيداً عن الصواب في هذه الأمور. الملاحظة الثالثة: أنه قد يذكر أحاديث ضعيفة كثيرة ولا ينبه عليها، بل قد يعتمد عليها، وهذا لأنه رحمه الله لم يكن من المحدثين المعروفين. الملاحظة الرابعة: أنه قد يرجح من الآراء في التفسير خلاف ما هو الراجح، وهذا أمر طبيعي يوجد في أي كتاب. الملاحظة الخامسة: وهي مهمة، أنه رحمه الله قد يضعف أحاديث صحيحة، ويقول بخلاف ما تدل عليه، ولعل من أبرز ذلك: أنه في تفسيره لسورة [قل أعوذ برب الفلق] و [قل أعوذ برب الناس] : أنكر الأحاديث الواردة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم، ونفى أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سحر، وهذا لا شك قول ضعيف، قال به جماعة من المتقدمين والمتأخرين، لكن الصحيح خلافه. فقد صح في البخاري، ومسلم وغيرهما {أن لبيد بن الأعصم سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطه، ووضعه في جف طلعة ذكر، ثم ألقى بها في بئر ذروان وجاء ملكان فقرأا على النبي صلى الله عليه وسلم وأمرا النبي صلى الله عليه وسلم، أن يذهب ويستخرج هذا السحر} وذهب ما كان يجده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا السحر لم يكن يؤثر فيما يبلغه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 17 أهم كتب التفسير ب- القسم الثاني: أسئلة تتعلق بالسؤال عن بعض الكتب. السؤال الأول منها يسأل عن بعض الكتب في التفسير: السؤال يقول: ما هي أهم الكتب التي يمكن أن أقرأها في التفسير؟ الجواب كتب التفسير كثيرة جداً، وغالب هذه الكتب ينقل بعضها عن بعض، ويعتمد بعضها على بعض، ففيها تكرار كثير. إضافة إلى أن كتب التفسير ينحو كل كتاب منها منحى. فمن كتب التفسير من يهتم مثلاً بالفقه كتفسير القرطبي، ومنها ما يهتم بالأحكام ككتب الأحكام، أحكام القرآن لـ ابن العربي، وأحكام القرآن للجصاص، و"أحكام القرآن للكيا الهراسي، وغيرها من كتب الأحكام، وقريب منها كتاب الشيخ الشنقيطي أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن" فإنه يعنى بآيات الأحكام ويختارها، ولا يفسر كل الآيات. ومن كتب التفسير ما يهتم باللغة العربية كتفسير أبي حيان، ومنها ما يهتم بنشر العلوم الدنيوية وذلك كالطب مثلاً، أو الرياضيات، أو غيرها من العلوم، ومن هذه الكتب كتبٌ متقدمة، وذلك كما في الكتب التي تهتم بالعقليات كتفسير الرازي، ومنها الكتب المتأخرة ككتاب طنطاوي جوهري الذي يصح فيه ما يصح في كتاب الرازي، أن فيه كل شيء إلا التفسير! فيه هندسة وفلك وكيمياء وفيزياء ورياضيات وعلوم حديثة، إلا التفسير فلا يوجد فيه. ومنها كتب تفسير منحرفة تهتم بنشر عقائد، كتفسيرات الشيعة، وهي كثيرة جداً، وكتفسير الزمخشري الكشاف فإنه كتاب وإن كان مهماً من حيث اللغة، ومؤلفه إمام في اللغة، إلا أنه ملأه بالاعتزاليات، ودسها فيه بطريقة ذكية، حتى أنها لا تكاد تستخرج منه إلا بالمناقيش. أما الكتب المختارة التي يمكن أن يعتمد عليها طالب العلم باختصار، فقد رأيت الاقتصار منها على ثلاثة أو أربعة: أولها "تفسير الطبري" فإنه إمام المفسرين، وهو يروي بالأسانيد، ويذكر الأقوال في الآية، ويستطرد في ذلك، فإن جميع المفسرين من بعده لا يسعهم الاستغناء عنه، بل هم يعتمدون عليه، وهو كتاب تفسير فذ في بابه. وأنصح طالب العالم على الأقل إن لم يقرأه أن يجعله ضمن المراجع التي يرجع إليها إذا احتاج إلى تفسير آية، فإنه كتاب جامع، ومؤلفه من أهل السنة والجماعة، ومن أصحاب العقيدة السليمة النقية، وله في ذلك رسالة صغيرة عقيدة الإمام الطبري ذكرها الإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وقد طبعت في رسالة مستقلة. فهو ممن يوثق باعتقاده، وهذا ظاهر أيضاً في تفسيره، وبعض الذين اختصروا تفسير الطبري فقدوا هذه الميزة فأدخلوا فيه بعض المعاني المنحرفة في العقيدة. الكتاب الثاني: هو تفسير ابن كثير "تفسير القرآن العظيم" لمؤلفه الحافظ ابن كثير؛ وهو أيضاً يتميز بميزات مهمة: أولها: أنه لخص أحسن وأجمل ما في تفسير الطبري. الثاني: أنه يهتم بإيراد الأحاديث النبوية؛ وذلك لأن ابن كثير رحمه الله محدث من الطراز الأول، فيروي من المرويات والأحاديث في تفسير كل آية ما يبصر القارئ بمعناها، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها، وقد يتعقب بعض الأحاديث التي يذكرها. الثالث: أنه يختار الأقوال الجيدة في تفسير الآيات، فلا يهتم فقط بإيراد الأقوال، بل يورد الأقوال، ثم يختار قولاً منها، وغالباً ما يكون اختياره موفقاً. الميزة الرابعة: أن مؤلفه أيضاً من أهل العقيدة الصحيحة، ومن أهل السنة والجماعة، وقد استفاد واستنار كثيراً بعلم الإمام البحر الحافظ الجهبذ الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله فكان أحد تلاميذه، فهذا كتاب فذ، وإذا كان لابد من الاختيار بينه وبين تفسير الطبري، فأرى أن يقتصر الطالب على تفسير ابن كثير وهو أربعة مجلدات من السهل أن يقرأه الإنسان، ليس فيه صعوبة. من الملحوظات على "تفسير ابن كثير" أو من أبرزها، أنه قد يكثر من إيراد الإسرائيليات، وهذا مما ضخم حجم الكتاب، إضافة إلى أن تفسير القرآن بهذه الإسرائيليات مما لا يسوغ، وبعضها مما ظاهره أنه يعارض القرآن، أو يعارض بعض السنة الصحيحة. فهذا مما يعاب على الكتاب، وقد يورد أحاديث ضعيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وربما موضوعة أحياناً، وإن كانت قليلة، والغالب أن الإمام ابن كثير يتعقب هذه الروايات. الكتاب الثالث: كتاب لأحد العلماء المتأخرين اسمه عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، للشيخ المحدث العلامة أحمد محمد شاكر رحمه الله من محدثي أرض الكنانة مصر، وعمدة التفسير هو عبارة: عن اختصار لـ ابن كثير. وقد قرأته بكامله وإن كان لم يكمل الكتاب، بل وصل فيه إلى نصف القرآن، أو تجاوز ذلك، وأظنه وصل إلى سورة الرعد ثم وقف، أو قريباً من ذلك. المهم أن المؤلف -رحمه الله- توفي قبل أن يتم الكتاب، وقد طبع وهو يباع في المكتبات، لكن القدر الذي لخصه من تفسير ابن كثير في الواقع أنه لخصه تلخيصاً بديعاً جميلاً لا مزيد عليه؛ حذف الإسرائيليات، واقتصر على الروايات الصحيحة، وحافظ على عبارة ابن كثير، فلم يتصرف فيها، فجاء الكتاب نافعاً ولو تم لكان فيه غناء عن كثير من الكتب، ولعل الله عز وجل يوفق بعض طلبة العلم الذين عرفوا بصفاء العقيدة والقوة في علم الحديث النبوي، أن يكملوا هذا الكتاب، حتى يكون كاملاً بين أيدي الناس. هذه ثلاثة كتب. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 18 حديث أسئلة اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم السؤال من الأحاديث التي سأل عنها بعض الإخوة حديث طويل سألني عنه منذ زمن، وكنت أبحث عنه، لكني في الواقع لم أعثر لهذا الحديث على أثر. وهو حديث ذكره أبو الليث السمرقندي في كتاب تنبيه الغافلين. يقول: روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: {بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالس مع المهاجرين والأنصار، إذ أقبل إليه جماعة من اليهود، فقالوا: يا محمد إنا نسألك عن كلمات أعطاهن الله تعالى لموسى بن عمران، لا يعطيها إلا نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سلوا. فقالوا: أخبرنا عن هذه الصلوات الخمس التي افترضها الله على أمتك. قال: أما الظهر: إذا زالت الشمس يسبح كل شيء لربه، وأما العصر: فإنها الساعة التي أكل فيها آدم من الشجرة، وأما المغرب: فإنها الساعة التي تاب الله عليه إلى آخره وأما الفجر: فإن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان. فقالوا: صدقت يا محمد! فما ثواب من صلَّى؟ فذكر ثواب الصلوات الخمس. ثم قالوا له: صدقت يا محمد! ولم افترض الله على أمتك الصيام ثلاثين يوماً؟! فقال: إن آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة بقي في بطنه مقدار ثلاثين يوماً، فافترض الله على ذريته الجوع ثلاثين يوماً، ويأكلون بالليل تفضلاً من الله تعالى على خلقه، قالوا: صدقت يا محمد! فأخبرنا ما ثواب من صام؟ قال: ما من عبد يصوم من شهر رمضان يوماً محتسباً إلا أعطاه الله تعالى سبع خصال؛ يذوب اللحم الحرام من جسده، ويقربه من رحمته، ويعطيه خير الأعمال، ويؤمنه من الجوع والعطش، ويهون عليه عذاب القبر، ويعطيه الله نوراً يوم القيامة حتى يجاوز به الصراط} إلى آخر الحديث؟ الجواب هذا الحديث مما أجزم ولا أتردد وأقطع بأنه حديث موضوع. وإن كنت بحثت في كتب الأحاديث، صحيحها وحسنها، وبحثت في الأحاديث الموضوعة والمشتهرة، فلم أعثر له على أثر، لم أقف على هذا الحديث. لكن أجزم بأن هذا الحديث موضوع، وأمارات وضعه طويلة منها: أنه من الأحاديث الطويلة التي يظهر عليها أثر الوضع في هيئتها وطولها وركاكة أسلوبها. ومنها: أن الحديث يقول: جاء جماعة من اليهود، فكانوا كلما قال النبي شيئاً، قالوا: صدقت يا محمد! صدقت يا محمد! ولم تكن العادة أن اليهود يصدقون الرسول عليه الصلاة والسلام فيما قال، بل بالعكس، الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يصدقهم أو يكذبهم، كان يسألهم عن شيء يقول: تصدقونني، فيقولون: نعم نصدقك، فإذا سألهم كذبوه فيقول: كذبتم، ثم يخبرهم بالحق. كما ورد هذا في حديث الفرقة الناجية وغيره، فلم تكن العادة أن اليهود يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يصدقونه. ومن علامات وضعه، والله تعالى أعلم: ذكر الصلوات الخمس، وأنهم يقولون: أعطاها الله تعالى لموسى بن عمران، والمشهور المعروف أن صلوات الأنبياء السابقين عليهم الصلاة والسلام كانت عند طلوع الشمس وعند غروبها. إلى غير ذلك من التفاصيل التي زعموا أن الله تعالى أعطاها لموسى، ولم يوجد دليل أن الله تعالى أعطاها لموسى، بل الظاهر أن الله تعالى خص بها محمداً صلى الله عليه وسلم. ومن الأدلة على وضعه: أن هذا الحديث لا يعرف في شيء من كتب السنة، وكفى بذلك دليلاً على أن هذا الحديث موضوع لا يصح، ولو كان الحديث صحيحاً من حيث معناه، لكن لم ينقل لنا بإسناد صحيح ولا حسن ولا ضعيف، فإننا نجزم بأنه من الأحاديث الموضوعة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. * هذا هو القسم الأول من الأسئلة وهو ما يتعلق بالسؤال عن أحاديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 19 حديث: إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه السؤال من الأحاديث التي يسأل عنها أيضاً حديث: {إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه} . الجواب الحديث صحيح بلفظ: {إزرة المؤمن} بالهمزة المكسورة، {إزرة المؤمن إلى نصف ساقيه} بل ورد في هذا أحاديث وليس حديثاً واحداً، منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} وقد رواه أبو يعلى كما في [11/526] والطيالسي [1/352] والإمام أحمد في "مسنده" [2/504] وزاد الإمام أحمد: {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه، ثم إلى الكعبين، فما كان أسفل من ذلك ففي النار} . فبين أن الإزرة (الثوب) إلى نصف الساق، فإن كان ولا بد فإلى الكعبين، أما ما أسفل من الكعبين فهو في النار، والحديث سنده حسن، وهو صحيح لغيره. ومن الأحاديث في هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم: {إزرة المؤمن إلى نصف الساق، ولا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين، فما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، ومن جر إزاره بطراً لم ينظر الله تعالى إليه} . وهذا الحديث رواه مالك في موطئه" [2/914] ، وأحمد [3/5] وأبو داود [رقم 4093] وابن ماجة [رقم3573] ، وأبو يعلى [2/ 268] ، ورواه أيضاً ابن حبان وصححه، والبيهقي كلهم عن أبي سعيد الخدري [وسند الحديث صحيح] . الحديث الثالث أيضا: ً {إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه} رواه النسائي عن ابن عمر، وروى مسلم في صحيحه [3/ 1653] عن ابن عمر رضي الله عنه قال: {مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعته. فقال: زد، فزدت. قال ابن عمر فما زلت أتحراها بعد، فقال له بعض القوم: إلى أين؟ قال: إلى أنصاف الساقين} . إذاً: هذه الأحاديث صحيحة، وقد روى النسائي في سننه أيضاً [2/206] عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {موضع الإزار إلى أنصاف الساقين والعضلة، فإن أبيت فأسفل، فإن أبيت فمن وراء الساق، ولا حق للكعبين في الإزار} . فهذه أربعة أحاديث عن أبي هريرة، وابن عمر، وأبي سعيد، وحذيفة، كلها صريحة في أن إزار المؤمن إلى نصف الساق، فإن أبى وأصر، فإلى الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين ففي النار. ولي على هذه الأحاديث الأربعة تعليقاً. أولها: قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] . وبناءً عليه: فإن المؤمن بالله ورسوله بعد أن يسمع هذه الأحاديث الصحيحة -وغيرها كثير مما لم أذكره- فإنه ينبغي ألا يمقت أو يستهجن أو يشمئز إذا رأى إنساناً قد رفع ثوبه إلى نصف الساق، فإن هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه في أحاديث صحيحة، سقت بعضها، وليس من شأن المؤمن أن يعترض أو ينكر ما يعلم أنه يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الكلام أسوقه للمؤمنين. وأقول: إن من ينكر، أو يستهجن من يرى أنه يقصر ثوبه، فلا شك أنه جاهل أو معاند، أحسن أحواله أن يكون جاهلاً، فإنه من علم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه ليس له أن يدعها لقول أحد، كما قال ابن المنذر، والشافعي، وغيرهما من أهل العلم: "أجمع أهل العلم على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد". ثانياً: نقول للذين لا يعجبهم هذا الكلام، ممن ليسوا من أهل التدين والصلاح أصلاً، وإنما هم من أهل الريب والوقيعة في العلماء والدعاة وطلاب العلم، وممن يستغلون مثل هذه الأشياء للسخرية والعيب للمؤمنين والصالحين من الشباب وغيرهم. فأقول لهم: إذا كنتم لا تقبلون ما تسمعونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنصاعون له، وقد ارتضيتم لأنفسكم هدياً غير هديه وسنة غير سنته، فأصبحتم تعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يأمركم -معشر الرجال- بتقصير ثيابكم، نبصر الواحد منكم وقد أطال ثوبه، وجره وراءه، وإذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم نساءكم بالستر والتصون والعفاف، ورخص للنساء كما في حديث أم سلمة وغيرها {أن يرخين الثوب ذراعاً ولا يزدن على ذلك} وجدنا نسائكم يقصرن ثيابهن يوماً بعد يوم، حتى إن المرأة أصبح ثوبها أحياناً إلى نصف الساق! وما ذلك إلا محادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فنقول لهم: إذا كنتم رضيتم لأنفسكم بهدي غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك من باب تقليدكم للغرب واتباعكم لآثارهم وسيركم على سننهم وطريقتهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه} كما رواه الشيخان، فلماذا خالفتم هدي سادتكم من الغرب في هذه المسألة؟! فإننا رأينا هؤلاء الغربيين الذين تقلدونهم، وتسيرون على طريقتهم، رأيناهم يعتبرون مسألة الثياب من قضية الحرية الشخصية، فتأتي إلى بلاد الغرب وهم لا يلبسون إلا البنطلونات -الملابس الإفرنجية المعروفة- فيلبس الإنسان منا ثوباً من الثياب العربية هذه، وهو غريب مستنكر عندهم، فلا يجرؤ أحد منهم على أن ينظر إليه، فضلاً عن أن ينكر عليه. وقد رأيت بعيني: إذا رآنا الصبيان الصغار والتفتوا إلينا، فإن الأب يجر ولده بشدة، ويصرف بصره، يعني يقول: لا تنظر، ما شأنك! هذه حريات شخصية، لا ينبغي لأحد أن يتدخل فيها بشأن أحد. فإذا كنتم لا تؤمنون -والخطاب للذين يسيرون وراء اليهود والنصارى والغربيين في تقاليدهم وعاداتهم وأزيائهم- إذا كنتم لا تؤمنون بهذه السنة أفلا أدخلتموها في باب الحرية الشخصية، فقلتم: هذا الشاب الذي رفع ثوبه فوق الكعبين أو إلى نصف الساقين، أو إلى ما أسفل من الركبة، أيضاً هذا من باب الحرية الشخصية ولا شأن لكم به! ونحن نرى لاعبي الكرة وهم يلبسون السراويل القصيرة إلى الفخذين، وربما أقل من ذلك، فلا يعيب عليهم أحد، بل لو لبسوا غير ذلك لعيب عليهم، بل لمنعوا من ذلك بمقتضى القوانين الدولية الرسمية التي تحكم في كل مكان، بما في ذلك هذه البلاد، ولا يجرؤ أحد على مخالفتها! فالتعليقة الثانية أن نقول للذين لا يقبلون أن هذه سنة: اجعلوا هذا من باب الحريات الشخصية، ولا تتدخلوا في شئون الآخرين، إنسان طول ثوبه، قصر ثوبه، لبس نوعاً معيناً من الثياب، أو نوعاً آخر، اجعلوا هذا في باب الحرية الشخصية، ولا تتدخلوا في ذلك. ثالثاً:- إن الذي يقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته يلحظ بشكل جلي أن هذا الأمر الذي كان أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه فعله أحياناً كثيرة، إلا أن من الظاهر -والله أعلم- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يفعله هو وأصحابه على الدوام، ومن ذلك مثلاً: في صحيح البخاري وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم {لما كسفت الشمس خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة} يجر إزاره، قال أهل العلم: إنما جره صلى الله عليه وسلم لإزاره على سبيل العجلة لاستعجاله في خروجه عليه الصلاة والسلام، لكن فقه الحديث أن إزار النبي صلى الله عليه وسلم لو كان إلى نصف الساق، أو فوق ذلك -والله تعالى أعلم- لما كان ينجر من العجلة مهما استرخى؛ قد يسترخي فيكون إلى حول الكعبين، أو قريباً منهما، أما أن ينزل بحيث ينجر فهذا بعيد. ومثل ما ورد في الصحيح: {أن أبا بكر قال: يا رسول الله! إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده -وذلك لأن أبا بكر رضي الله عنه كان رجلاً نحيف الجسم ضعيفاً، فكان ثوبه يسترخي، فيتعاهده -يرفعه- ثم يسترخي- ويرفعه، ثم يسترخي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لست ممن يصنعه خيلاء} . والذي يظهر لي أن أبا بكر رضي الله عنه لو كان إزاره إلى نصف الساق، أو إلى ما تحت الركبة بأربعة أصابع كما يذهب إليه البعض، لم يكن حين يسترخي ينزل إلى ما تحت الكعبين، والله تعالى أعلم. فلا بأس أن يفعل الإنسان هذا حيناً، وهذا حيناً، أو يفعل هذا إن كانت المصلحة تقتضيه، ويفعل هذا إذا كانت المصلحة تقتضيه. التعليقة الرابعة في هذا الموضوع: وهي للدعاة وطلاب العلم خاصة أقول: لا ينبغي أن نجعل مثل هذا الأمر المتفق على إباحته -أعني إنزال الثوب إلى ما فوق الكعبين- لا ينبغي أن نجعل مثل هذا الأمر هو الفيصل بيننا وبين الناس، فإذا وجد الشاب الداعية، أو طالب العلم، في مجتمع يرفض ذلك ويمقته، كما هو الحال في كثير من المجتمعات التي عمَّ الجهل فيها وطم وغلب، واختفت فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن يقبل الشاب على تعليم الناس العقيدة الصحيحة، وتحريرهم من التصوف ومن عبادة القبور، وتحريرهم من أكل الربا، وتربيتهم على إقامة الصلاة في الجماعة وعلى الصيام وعلى الحج وعلى أداء الزكاة وعلى غير ذلك من الواجبات الأساسية والفروض الكبيرة، ويجعل مثل هذه السنن مما يعلمهم إياها بين الحين والحين بطريقة لبقة، فإذا رأى أنهم ينفرون منها أجلها حتى تتروض نفوسهم وتعتاد مثل هذه الأشياء. وعلى كل حال؛ فإن من الحكمة التي ورثناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نتدرج في دعوة الناس، ونبدأ بالأهم ثم المهم. روى الشيخان عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قا الجزء: 169 ¦ الصفحة: 20 حديث: إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه السؤال الحديث الثالث الذي يسأل عنه بعض الإخوة هو قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} الجواب هذا الحديث لم أجده إلا في كتاب "شعب الإيمان للبيهقي الذي طبع أخيراً في [4/334] رقم [5312-5314] وقد نسبه المناوي في فيض القدير [2/87] إلى أبي يعلى، وابن عساكر، لكنني لم أجده في "مسند أبي يعلى" المطبوع. والحديث ضعفه السيوطي في جامعه الصغير رمز له بالضعف قال: [ض] يعني: ضعيف، وعلل المناوي سبب ضعف الحديث: بأن في سند الحديث بشر بن السري، وقال المناوي: متكلم فيه من قبل التجهم -يعني: كأن الرجل مطعون في عقيدته، أنه يميل إلى عقيدة الجهمية- لكن هذا الكلام الذي ذكره المناوي، وقبله أشار إليه السيوطي، كلام لا يعول عليه فيما يظهر لي. فقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه تهذيب التهذيب لـ بشر بن السري هذا في [1/451] وذكر عن يحيى بن معين أنه قال: رأيت بشر بن السري وقد استقبل الكعبة، وهو يدعو على قوم يرمونه برأي جهم، ويقول: معاذ الله أن أكون جهمياً! معاذ الله أن أكون جهمياً!! إذاً، لم يثبت عن بشر بن السري أنه جهمي، بل هذه تهمة باطلة، والله تعالى أعلم، ولا ينبغي الطعن في عقائد الناس إلا بحجة بينة. ثم إن بشراً هذا قوي من قبل حفظه، لا يكاد أحد من الأئمة يطعن فيه، فهو ثقة فيما يظهر، وأقل أحواله أن يكون حسناً، ولذلك أن يكون صدوقاً، ولذلك [فالحديث حسن] . وممن حسنه: الشيخ الألباني كما في صحيح الجامع [2/144] . الجزء: 169 ¦ الصفحة: 21 حديث: ويل للذي يحدث فيكذب السؤال يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ويل لمضحك القوم، ويل له، ويل له} ؟ الجواب هذا الحديث حديث حسن، رواه الإمام أحمد في مسنده صفحة [5/75] وأبو داود، [5/265] والترمذي في كتاب [الزهد] من "سننه" [رقم 2316] . وقال الإمام الترمذي: وهذا [حديث حسن] ونسبه الإمام المنذري للنسائي، ولعل ذلك في "سننه الكبرى" وليس في "السنن الصغرى"، ورواه الحاكم في "مستدركه" أيضاً [1/46] كلهم من طريق بهز بن حكيم عن أبيه عن جده؛ وجده هو معاوية بن حيدة، صحابي جليل معروف. ولذلك قال الحاكم عقب رواية الحديث: لا أعلم خلافاً بين أكثر أئمة أهل النقل في عدالة بهز وأنه يجمع حديثه. ولذلك كان الحديث كما قال الترمذي وغيره حديثاً حسناً، ولفظه: {ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له} . فقد توعد الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث من يكذب في حديثه، من أجل أن يضحك الناس، توعده بالويل، وكرر ذلك ثلاث مرات، كعادته عليه الصلاة والسلام في الأمور الهامة. وقد سبق الكلام في موضوع المزاح، وموضوع النكت والطرائف، وهذا الحديث من الأحاديث التي تدل على تحريم الكذب، وإن كان الإنسان هازلاً يقصد الإضحاك. وفي الحديث الصحيح يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أنا زعيم بيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 22 حديث: البذاذة من الإيمان السؤال الحديث الثاني: يسأل أحد الإخوة عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {البذاذة من الإيمان} ؟ الجواب البذاذة: هي عدم الاعتداد بالملبس؛ تواضع الإنسان في ملبسه، وبعده عن الرفاهية، والتوسع في جمال الملابس وهيئتها. وحديث {البذاذة من الإيمان} أيضاً [حديث صحيح] أخرجه ابن ماجة في "سننه" [رقم 4118] من حديث أبي أمامة الحارثي، وأخرجه الحاكم في "مستدركه" [1/9] وأخرجه أبو داود [رقم 4161] والطحاوي في "مشكل الآثار" [1/478] . وقال الإمام العراقي: هو حديث حسن، وقال الديلمي، وابن حجر: هو حديث صحيح، وهو كما قالا. وفي هذا الحديث: دليل على أن تواضع الإنسان في ملبسه، وهيئته، وغير ذلك، أنه من الإيمان، ولعل من المناسب أن أذكر أن للشرع في هذه الأمور؛ أمور الملابس وغيرها مسلكان: الأول: الترغيب في الزهد فيها، والبعد عن المظاهر الكاذبة، كما في هذا الحديث {البذاذة من الإيمان} . فنقول: من تواضع في ملبسه لله جل وعلا، وبَعُد عن المبالغة في الزينة لله جل وعلا، من أجل البعد عن الكبرياء، فإن هذا من الإيمان، لكن في مقابل هذا الحديث لدينا مجموعة أخرى من الأحاديث الصحيحة الكثيرة، تدل أيضاً على أن حسن الملبس قد يكون من الإيمان، كما في قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم لما قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال} . فدل على أن كون الثوب حسناً والنعل حسناً مما يحبه الله جل وعلا. ومثله ما ورد عن أصحاب السنن من طريق جماعة من الصحابة، وهو [حديث صحيح] {أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، أشعث رأسه، رثة ملابسه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أي المال آتاك الله؟ فقال: يا رسول الله، من كل المال قد آتاني الله: من الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده، فذهب الرجل، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رَجَّل رأسه، ولبس من أحسن ثيابه وتعطر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس، كأنه شيطان} . إذاً: ترجيل الشعر ودهنه واستعمال الطيب وحسن الملابس وحسن النعل، هو أيضاً من الإيمان، فكيف نجمع بين هذين المسلكين؟ الجمع بينهما يكون من طريقين: إما أن يقال: إن من الناس من يصلح له هذا، ومن الناس من يصلح له ذاك، فإن الله تعالى خلق خلقه متفاوتين في كل شيء؛ في أشكالهم، في قامتهم، في أخلاقهم، في علمهم، في عقولهم، في أموالهم، في كل شيء. فمن الناس من جبل محباً للجمال في هيئته، وملبسه، ونعله، وسيارته، وثوبه ونحو ذلك، فهذا يقال له: اعتنِ بهذه الأمور، ولكن بنية إظهار نعمة الله تعالى عليك، والتحدث بها، وبيان أن هذا لا يُعارِض الاستقامة، ولا يعارض الزهد في الدنيا، فيكون نوعاً من الدعوة إلى الله جل وعلا. ومن الناس من جبل على الزهد في هذه الأمور، والإعراض عنها، والتعلق بغيرها، فلا يحب هذه الأمور، ولو تكلف أن يحسن ثوبه يوماً فإنه سرعان ما يعرض عن ذلك، وقد تأتيه يوماً وقد تكلف لتحسين هندامه وبزته، فلبس ثوباً جديداً، ولبس غترة جديدة مغسولة مكوية، فبعد يوم تأتيه وقد قلب المرزاب، وأصبحت الغترة طرفها عند كتفه، وأصبح ثوبه بهيئة أخرى، وكأنه قد لبسه منذ زمن طويل؛ لأنه لا يحب هذا، ولم يفطر عليه. فيقال: {كل ميسر لما خلق له} فمن كان يصلح له هذا فليفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ومن كان يصلح له ذاك، فيفعله بحسن نية، ويؤجر عليه، ولا ينبغي أن يلوم هذا هذا، ولا هذا هذا. لا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى شخص قد تجمَّل ليظهر نعمة الله عليه، ويدعو إلى الله تعالى بحسن بزته، ويبين أن هذا لا يعارض الإسلام، فلا يلام هذا، ويقال: هذا إنسان متكبر! أو هذا إنسان مهتم بمظهره! كما أنك لو رأيت إنساناً متواضعاً في ملبسه، لا تقل: هذا يشوه الإسلام! وهذا يعطي صورة غير جيدة، وهذا يتظاهر بالزهد وليس كذلك، فلا يلوم أحد أحداً، ولا ينكر أحدٌ على أحد. وهو في نظري أجود وأحسن. الوجه الثاني أن يقال: إنه يجمع بين النصوص؛ بأن المقصود أن يكون الأمر على سبيل الاعتدال. فليس الحث على الجمال مدعاة لأن يسرف الإنسان فيه، ويضيع وقته في تحصيله، وليس الحث على البذاذة مدعاة إلى أن يبالغ الإنسان في ذلك، فيتعدى فيه حد الاعتدال. فيكون الجمع بين هذه النصوص بأن يقال: إن المقصود في كلا النوعين من النصوص الاعتدال والتوسط. الجزء: 169 ¦ الصفحة: 23 رسالة خاصة المعصية هي الخطر الذي يتهدد العبد السائر إلىالله، فلعله يكون من أهل الحق والإحسان فينقلب في طريق المعاصي وينغمس فيها بألوانٍ وأشكال فتنزل عليه المصائب وتحلُّ عليه البوائق ويزوره كل مكروه وما ذلك إلا جزءٌ من العقوبة ((وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)) . الجزء: 170 ¦ الصفحة: 1 رسالة عاجلة إلى أهل المعاصي إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأدى الرسالة، وبلغ الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين من ربه، فجزاه الله عنَّا خير ما جزى نبياً عن أمته، وصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق، وبه كانوا يعدلون. أما بعد: فيا أيها الأحبة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم إني أعتذر إليكم عن الحديث في هذه الليلة، ليلة الثالث من رمضان، من هذا العام (1413هـ) ، إذ إنني سوف أحاضر أخاً لي أعلمه موجوداً بينكم، بلغني عنه ما لا يحسن ولا يسوغ، ورأيت أن العتاب بين الأحباب يزيد المودة، ويعمم الألفة، ويزيل الوحشة من القلوب، أما أنتم فلستم بالغرباء عنه، ولا هو أيضاً بالغريب عنكم، فهو منكم وأنتم منه، والحديث على كل حال خاص بيني وبينه وليس للنشر. أخي الكريم: يا من تجلس بين هذه الجموع، وتستمع إلى هذه الكلمات، وتظن نفسك مستوراً، لقد حدثوني عنك، وأرجو أن يكون ما بلغني عنك غير حقٍ. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 2 التوبة قبل الندم ثم إنني أذكرك -أيها الأخ الكريم- وأنت لا زلت عندي بالمحل الأرفع، غير أني أرجو أن يتوب الله عليك، وأن يفتح الله قلبك وأن تراجع نفسك، وأن تجد في هذا الشهر الكريم وأنت تستقبل أيامه وساعاته، فرصةً ثمينة بأن تحدث لله تعالى توبة، فإنه لا يُدرى لعله أن يفجعك الموت قبل نهاية الشهر، أو قبل نهاية العام! وربما -ولا أريد أن أكون صريحاً معك أكثر فأكثر- كان بعض أقاربك الذين يحبونك، ويحبون لك الخير، ويعرفونك ويجالسونك، وأنت تحادثهم وتبثهم مشكلاتك، ربما كان أحدهم رأى فيك رؤيا وشاهد فيك ما ينبئ عن قربِ أجلك، ودنو موتك وأن أيامك معدودة! أفلا تبادر الموت بتوبة نصوح، إن هذا هو الحري بك والجدير. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 3 ما قلت لك إلا القليل ثم إني ما قلت لك مما أخبروني عنك شخصياً إلا أقل القليل، نعم، ولقد أخبروني عنك أنك كنت تبحث بالأمس عما يطفئ الشهوة، ويهدئ لهيبها، أما اليوم فقد انقلبت الآية، واختلف الأمر، فأنت تبحث عن ما يؤجج الشهوة، ويثيرها ويحركها، وينفر مختبئها، ويخرج كامنها، لقد شربت الكأس الأول من المعصية، أو من الشهوة، على لذةٍ ووجدت شيئاً من طعمها، أما الكأس الثانية فهي عادة لا طعم فيها ولا سرور معها، ولكنها أمرٌ أصبح جزءاً من حياتك، وعادةً يصعب عليك أن تتركها. إذا كان صحيحاً ما بلغنا أنك في النهار تترقب الليل، أفلا تترقبه للصلاة والقيام، كما يفعل الصالحون؟ وإذا كنت تترقب الليل أفلا فكرت قليلاً في النهار الذي يتلوه، حينما تذهب اللذة وتبقى الحسرة؟ إن أهنى عيشةٍ قضيتها ذهبت لذتها والإثم حل وإن اغتفرنا لك -وهيهات هيهات- زمان الصبا، وعمر المراهقة، وفترة الطيش والجهل وغرور الشباب، فكيف ترى يغتفر لك الأمر وهو خطبٌ جلل، وهاأنت قد تجاوزت سن المراهقة، بل وتزوجت وأنجبت ورأيت طفلاً ترجو أن ينشأ نشأةً صالحة، وتحب له الخير، ويسرك أن يكون على أحسن حال، وهاأنت تعيش في بيتك، وتحت سقفك مع زوجةٍ ترجو لها الصلاح، وتحب لها الخير، ولا ترضى أن يظهر منها أنملة، ولا أن يسمع منها همس صوت، ولا يسرك أن يتحدث عن عرضها قريب ولا بعيد. أصحيح أنك ترى الخاشعين والباكين والراكعين والساجدين، وأهل الطواف وأهل الاعتكاف، ثم تنظر في قلبك وتتحسس في وجدانك، فلا تجده إلا قاسياً غليظاً كما عُهد؟! أيصح عنك أنك صاحب أخبارٍ وأسفار ومغامراتٍ ومقامرات؟! أما هجس في قلبك يوماً أن تسقط الطائرة وأنت فيها؟! أو تنقلب السيارة وأنت داخلها؟ أو أن يؤذيك الصداع فيصارحك الطبيب أنها بداية جلطة في المخ أو في القلب؟! : {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} [النحل:45-48] قال ابن عباس وقتادة: [[في أسفارهم فيصيبهم بالبلاء وهم مسافرون، في جوهم أو بحرهم أو برهم. وقال أيضاً: يأخذهم في منامهم]] . يا راقد الليل مسروراً بأوله إن الحوادث قد يطرقن أسحارا وكم من فتىً أمسى وأصبح سالما وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري وقال الضحاك وابن جريج ومقاتل: [[أي يأخذهم في ليلهم ونهارهم، فإن الليل والنهار مطايا، يسلمك الليل إلى النهار، والنهار إلى الليل]] . يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا الجزء: 170 ¦ الصفحة: 4 رويدك لا تغضب أخي، هل غضبت حين صارحتك على الملأ، وتحدثت عن حالك في مجلسٍ حافلٍ من الناس، رويدك لا تغضب، فإن فضيحة الآخرة أهول وأطول، وأعظم وأطم: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21] إن امرءاً ربما قدر الله عليه شيئاً من تسرب أخباره، وانتشار أحواله، وتحدث الناس فيما حصل منه، لعله أن يرعوي وينزجر، إن رادع الإيمان في قلبه لم يفعل فعله، وخوف الله تعالى لم يمنعه عن المعصية، فربما خاف من عقاب المخلوقين، وربما خشي أن يكون عرضه كلأً مباحاً، وحديثاً متداولاً مشاعاً، فردعه ذلك فارعوى وانزجر. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 5 الولوغ في المعصية حدثوني أنك والغ في المعصية، حتى صارت المعصية جزءاً من حياتك وشخصيتك وتكوينك، وأنه لو عرف الناس حقيقة أمرك لاجتنبوك وباعدوك، وهجروك وقلوك، وأنك قد أفلحت في تزيين ظاهرك بعض التزيين، أما باطنك فتركته تلعب فيه المعاصي والآثام. أصحيح ما بلغني عنك؛ أن المعصية تخايلك حتى وأنت واقف بين يدي الله تعالى في صلاتك؟ فذهنك شريد، وعقلك بعيد، كلما بحثت عن ذهنك وجدته على شفير زلة، أو على مشارف هاوية، أو قريباً من معصية، أو متأملاً أو متفرجاً. أصحيح أن المرأة أصبحت صورةً دائمة بين ناظريك، وصوتاً هامساً يرن في أذنيك، ورسماً مطبوعاً في خيالك لا يفارقك؟ وإذا صدق الوشاة الذين حدثوني، فأنت تعدُّ ساعات النهار في هذا الشهر الكريم عدَّاً، وتتمنى مضيها وتزجيها بكل سبيل، ساعةً في نوم، وساعةً في شغل، وساعةً في تشاغل، كل ذلك ليقبل عليك الليل، فتنطلق من إسارك وتعمل ما يمليه عليك الهوى. إذاً: لقد أصبحت المعصية إدماناً يجري في دمك، ويتخلل في عروقك، ويأكل معك ويشرب، وينام على فراشك ويستيقظ. أو حقاً أنك تدير قرص الهاتف تبحث عن فريسةٍ مغفلة سهلة الاصطياد، وتتحمل في سبيل ذلك ألوان الإهانات؟ فحيناً تسمع صوتاً يلعنك، وحيناً يلعن والديك، وحيناً يصفك بأبشع الأوصاف، وحيناً يطلق عليك مُرَّ الدعوات، وأنت تتحمل ذلك كله في سبيلٍ هدف غير نبيل، وعملٍ غير شريف. أو حقاً أنك لا تدع امرأةً تمر بك إلا حدقت فيها بنظرك، وأمعنت فيها ببصرك، حتى يتوارى عنك سوادها ويغرب عنك خيالها، ثم تتبع ذلك بالحسرات والزفرات؟ فإنك إن أرسلت طرفك رائداً لقلبك يوماً أتعبتك المناظر رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه ولا عن بعضه أنت صابر أو حقاً أن أذنك تطرب لصوت فاجر يبثه مذياع، أو يرسله شريط الكاسيت؟ الجزء: 170 ¦ الصفحة: 6 من آثار الذنوب والمعاصي أيها الأخ الكريم: إنني أذكر أننا التقينا يوماً من الأيام، فحدثتني أنت عينك ونفسك، عما تعاني من الكرب، والهم والغم والألم، ولو صدقتك لقلت لك: هذه ثمرات الذنوب، أفلا تتوب؟! ولقد نصحتك بالرجوع إلى كتب أهل العلم، وقراءة ذلك الكتاب النفيس الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي للإمام الفذ ابن قيم الجوزية، فاعتذرت مني بكثرة الشواغل والصوارف والعوائق، وأنا أرى أن هذه المشاغل ما صرفتك عن لذاتك وشهواتك، ولا منعتك من أسفارك وأعمالك، ولا حالت بينك وبين من تحبُ وتعشق، ولكنك اثَّاقلت إلى الأرض، ورضيت بالحياة الدنيا عن الآخرة، وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل. إنني أجد نفسي مضطراً أن أقيم الحجة عليك الآن، في خمس دقائقَ أو قريبٍ من ذلك، وقد أعيتني فيك الحيلة، واعتذرت مني بشتى المعاذير، فها أنا أنقل لك بعض ثمرات المعاصي، فتحسسها في قلبك، واقرأها في دفتر حياتك، وتأملها فيما أصابك مما مضى وما حضر، وانظر عظيم نعمة الله عليك، حيث أمهلك ولم يعاجلك بالعقوبة: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] . الجزء: 170 ¦ الصفحة: 7 ذهاب الحياء أما الرابعة عشرة: فذهاب الحياء الذي هو مادة حياة القلب، وأصلُ كل خير، وذهابُ الحياء ذهابُ الخير، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {الحياء من الإيمان} وقال: {الحياء لا يأتي إلا بخير} فمن استحيا من الله تعالى لم يعصه، ثم استحيا من عقوبته يوم يلقاه، ومن لم يستح من معصية الله تعالى؛ لم يستح من عقوبته يوم يلقاه. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 8 احذر من أن ينساك الله كما نسيته وأخيراً: فإني أخشى أن ينساك الله تعالى كما نسيته، وأن يخلي بينك وبين نفسك. ونفسك ضعيفة أمارةٌ بالسوء، والشيطان أمامك ووراءك وبين يديك، وخلفك، قال: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] ؛ ولكن بقي أمامك طريقٌ واحد وهو الفوق، فإن الشيطان ما قال: ومن فوقهم لأن فوقك الله رب العالمين، يقول: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وقال: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] . فيا أخي الكريم: اسمع داعي الله يقول لك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18-19] نعم، لقد تراجع سيرك إلى الله تعالى والدار الآخرة، وانغمست في الدنيا، وغرقت في الشهوات، وضعت في لججها وبحورها، ولكني أرى فيك بقيةً من خير، وأثراً من حياء، فلعل الله أن يستدركك في ذلك فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان فاصدق الله تعالى، وامدد يديك إليه، وتمرغ وأنت ساجدٌ لوجهه، وهُلَّ دموع الخوف والندم، عسى الله تعالى أن يعيد قلبك حياً كما كان. أيها الأخ الكريم: هذا ما عندي لك، وقد محضتك النصيحة، وإني -والله- أدعو الله تعالى في سجودي أن يرحمك برحمته، ويخرجك من هذه الورطات والهلكات، التي لا مخلص منها إلا بحول الله تعالى وتوفيقه، فأعن إخوانك على نفسك بكثرة السجود، وأسأل الله تعالى أن يتولاني وإياك. ثم أيها الإخوة لعلكم تتساءلون: ما الذي يدعوني إلى أن أخاطب هذا الأخ؟ إنني لا أعرفه ولكنني أعرف أن من بينكم من يكون كذلك، فليتحسس كلٌّ واحدٍ منكم جاره، فلعله هو المخاطب، فإن لم يكن فلينظر بين ثوبيه فربما كان المخاطب بين ثوبيه. اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم اهدنا ولا تضلنا، اللهم أعنا ولا تعن علينا، اللهم انصرنا على من بغى علينا، اللهم اهدنا ويسر الهدى لنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلح فساد قلوبنا. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 9 فساد العقل العاشرة: فساد العقل وإطفاء نوره، كما قال بعض السلف: ما عصى الله أحدٌ حتى يصيب عقله، ومن ذلك قول الكافرين كما حكى الله عنهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] أين العقول؟! نعم إنها عقولٌ قد أنتجت في الدنيا، وبرعت واخترعت، لكنها غافلة عن الآخرة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] . ولعلي أكون مصيباً عندما أكذب خبر الذين حدثوني أنك تعاقر الخمر، وتتعاطى الدخان، وربما تهم بالمخدرات، وقد تركها العقلاء حتى في الجاهلية، وابتعدوا عنها، إذ كيف يشرب الإنسانُ ما يزيل عقله ويذهب بلبه، ويجعله في جملة المجانيين والصبيان؟! الجزء: 170 ¦ الصفحة: 10 الخوف من أن يطبع على قلبك أما الحادية عشرة فهي: الخوف عليك أن يطبع على قلبك، فتكون من الغافلين، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] إن المعصية مع المعصية توجب سواد القلب، فما زال القلب في بياضٍ حتى يطبع عليه بالمعاصي، فإذا عصى العبد نكتت في قلبه نكتة سوداء، ثم أخرى، ثم أخرى، حتى يكون القلب أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه! أخي الكريم: تحسس قلبك، أفتراه وصل إلى هذه المرحلة؟ وأسأل الله ألا يكون الأمر كذلك، فإني لك محذِِّر، وعليك مشفق، وأرجو الله تعالى أن يريني منك ما تقر به عينك. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 11 لعلك تحرم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أما الثانية عشرة فهي: أنني أخشى عليك أن تحرم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعوة الملائكة الكرام الكاتبين عند رب العالمين، وغيرهم الذين يدعون للتائبين، ويدعون للمؤمنين: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر:7] أفتراك اليوم وأنت تستقبل الشهر منظوماً في عداد التائبين؟! أم تراك من ضمن المؤمنين، أم تراك قد خسرت الأمرين فلم تظفر بهذه الدعوة الكريمة التي هي مضنةُ الإجابة؟! الجزء: 170 ¦ الصفحة: 12 احذر أن تدخل في لعنة الله ورسوله أما الثالثة عشرة: فهي أعظم من ذلك! أخشى أن تدخل في لعنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد لعن العاصين صلى الله عليه وسلم، لعن آكل الربا وأنت أموالك في البنك الربوي، ولعن شارب الخمر وأخشى عليك منها لأن أصحابك من أهلها، ولعن المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء، ولعن السارق، ولعن ولعن الجزء: 170 ¦ الصفحة: 13 الهوان على الله أما التاسعة: أفلا ترى أن وقوعك في هذه الذنوب وولوغك فيها، ربما أدى إلى هوانك على الله عز وجل، وسقوطك من عينه! لقد هنَّا على الله إن عصيناه، كما قال بعض السلف: هانوا على الله فعصوه، ولو عزُّوا عليه لعصمهم من المعصية، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18] قال الإمام عبد الله بن المبارك: رأيت الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوءٍ ورهبانها وقال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} [فاطر:10] لقد هنت على الله؛ فهُنت على خلقه، فكم لقيت من الأذى والإهانات، وعدم الاعتبار، وأنت تتحمل ذلك كله، أما تذكر يوم كنت داعيةً بالأمسِ أو شبه داعية، أو طويلبَ علمٍ، فقد كان يؤذيك مسح النسيم، ويجرح قلبك الكلام الخشن، أما اليوم فقد تكسرت النصال على النصال، وما أدري أي خطبٍ دهاك، فأنت جبار في الجاهلية خوارٌ في الإسلام! يوم كنت داعية كنت لا تتحمل في سبيل ذلك الأذى، أما اليوم فتحملت الكثير دون مقابل، إنها الذلة، قال صلى الله عليه وسلم: {وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري} وقال الحسن البصري رحمه الله: [[إنهم وإن هملجت بهم البراذين، وطقطقت بهم البغال، إلا أن ذل المعصية في وجوههم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]] . الجزء: 170 ¦ الصفحة: 14 استصغار الذنوب أما الثامنة: فما أعظمها! فلقد علمتك بالأمس وأنت ترتكب الذنب الصغير، فتأتي وقد اسود وجهك، وقلصت شفتاك، ودمعت عيناك، وأنت تقول: فعلت وفعلت، فإذا تأملناه وجدناه ذنباً، نعم؛ ولكنه صغير، وربما خرجت منه بتوبةٍ واستغفرت منه، أما الآن وما أدراك ما الآن! فإن قلبك لم يعد يستقبح المعاصي، بل أصبحت عادة، وأصبحت نوعاً من الأنس الذي تهش إليه نفسك، وتشرئب إليه طباعك، وتفرح به وتأنس، فإذا فارقته شعرت بالغربة. لقد سترك الله تعالى وأنت تأبى إلا أن تجاهر أمام الناس، وهذا مرتبةٌ خطيرة: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [فاطر:8] يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن أين القلب الذي كان يتحدث بالأمس عن الضالين بحسرة لا تعدلها حسرة؟ وعطف عليهم وحرص على هدايتهم، وتشوق إلى إخراجهم من الظلمات إلى النور؟! فها أنت قد أدركتك السُنَّة، ومضت عليك الآية، فأصبحت أحوج ما تكون إلى من يأخذ بيدك من هذه المناطق، ويخرجك من هذه الضلالات، وينقذك مما أنت فيه. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 15 ضعف القلب أما السابعة وهي أخطرها: فضعف القلب في إرادة الخير، وقوة الإرادة في المعصية، إلى أن ينسلخ القلب بالكلية، وهذا من أعظم الأشياء خطورةً، قال ابن القيم رحمه الله: والله ما أخشى الذنوب وإنها لعلى سبيل العفو والغفران لكنما أخشى انسلاخ القلب من تحكيم هذا الوحي والقرآن نعم تلك المعاصي والذنوب أضعفت قلبك فأصبحت لا تنشط للخيرات، إن قلنا لك: أنفق في سبيل الله؛ مددت يدك وأنت ثقيل، فأخرجت ريالاً أو عشرة، ولكنك في المعاصي تخرج الآلاف المؤلفة، لا تحسبها ولا تعدها، وإن قلنا لك: هلم إلى الصلاة، قلت: اليوم أنا مزكوم، وأشعر بثقل في جسدي، وأشعر بحرارةٍ في رجلي، أما إن كنت واقفاً على معصيةٍ أو مستمعاً إلى أغنية، أو مشاهداً لحرام؛ فإنك تقف الساعات الطوال، وتتحرك جوارحك كلها، فالعينان تنظران، ويداك تتحركان، وجسمك يتقدم ويتأخر، وكل جزءٍ من جوارحك مشدود، وأعصابك مهزوزة، فيا ترى ما الذي يجعلك تسرع إلى المعصية وتبطئ بالطاعة؟ إنه قسوة القلب ومرضه، وإذا لم تسارع بالعلاج لدى الطبيب فيخشى أن يكون الأمر موتاً، فإن القلوب تموت، بل تعدم، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] أفترى -أخي- أن قلبك مفقود؟! إن هذه المضغة موجودةٌ ولا شك؛ ولكن ما في داخلها من مراقبة الله والاعتبار والاتعاظ ربما غطى عليه الغبار، وربما غلبت عليه الشهوات، فالبدار البدار، فإن الأمر أعجل من ذلك. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 16 المعصية الأولى واحدة واليوم بلا عدد أما السادسة: فإن المعصية الأولى كانت واحدة، أما اليوم فهي بلا عدد، وأراك ما زلت تطلب المزيد، أو تسعى فيها، إن المعصية تزرع أمثالها، وإذا رأيت على إنسانٍ ذنباً، فاعلم أن عنده إخوانه، قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [يونس:27] فالسيئة تجر السيئة، والحسنة تسبب الحسنة، والإنسان ينضم مع إلفه وشريكه ونظيره، وإن الحسنات والقربات وقراءة القرآن والصلوات والخيرات، لم تجد عندك صدراً رحباً، ولا قلباً واسعاً؛ لأنها وجدت المكان مشغولاً في غير ما يناسبها وما يلائمها، فابتعدت عنك وذهبت إلى من سواك، أما المعاصي فإنها وجدت نظيرها وشريكها. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 17 الوحشة بينك وبين الناس الرابع: الوحشة بينك وبين الناس، فإنك عصيت الله عز وجل فجعل الله تعالى عقوبة ذلك وسماً في علاقتك بزوجك، فهي ليست لك كما تحب، وليست لك كما كانت بعد الزواج، حينما كنت صالحاً مستقيماً، وكنت تقوم معها بعض الليل، وتقرأ معها بعض القرآن، وتشترك معها في قراءة الورد صباحاً ومساءً، أما اليوم فالله المستعان! فما الناس بالناس الذين عرفتهم وما البيت بالبيت الذي كنت أعرف أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها فأنت قد هجرت ذلك كله، وابتعدت عنه، حتى إن أمرتْكَ زَوْجَتُك بالقيام لصلاة الفجر، أو المسارعة إلى الصلاة، وجدت في ذلك ثقلاً، وغضبت عليها، وأرغيت وأزبدت، فأين أنت بالأمس؟! أين ذلك الشاب الذي كان يبحث عن فتاةٍ أول شروطها أن تكون متدينة؟! إنها الوحشة بينك وبين الناس من أثر المعصية، ولقد قال بعض السلف: إني لأعصي الله تعالى فأرى ذلك في خلق امرأتي ودابتي. وما تجده أيضاً فيمن تعاملهم ويعاملونك من المشكلات والمشاكسات، وتباين وجهات النظر، والقيل والقال، وتغير في الأحوال، إن ذلك كله بعض ثمار المعاصي، والأمر أكبر من ذلك إذا لم تسارع إلى الله تعالى بالتوبة والإنابة. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 18 تعسير الأمور عليك أما الخامسة: فهاأنت ترى أن كثيراً من أمورك تعسرت، فأنت لا تطرق باباً إلا وجدته موصداً في وجهك، ولا أريد أن أضع النقاط على الحروف، ولكن الخبر وتفصيله عندك، كيف وجدت نفسك يوم أن كنت تدرس، وقد أوصدت في وجهك الأبواب، ثم في الوظيفة، ثم في التجارة، ثم في المعاملات الكثيرة التي كنت تديرها مع الناس. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 19 الوحشة وفقدان لذة العبادة ثالثها: الوحشة التي تجدها في قلبك بينك وبين الله عز وجل، وفقدان لذة العبادة، التي لا تعدلها لذةً في الدنيا، ولا تقاربها، ولا يشعر بذلك إلا من كان في قلبه بعضُ الحياة. لقد دعوتك إلى قراءة القرآن، ولكنك اعتذرت مني بأنك ما إن تفتح المصحف حتى تهجم عليك الهواجس، وترِدُ عليك الواردات، وتشعر بثقلٍ في قلبك، ورغبةٍِ في الراحة أو النوم، وأنك تستثقل قراءة القرآن، فهذا جزاءُ من هجر القرآن، وأعرض عنه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] . الجزء: 170 ¦ الصفحة: 20 حرمان العلم أول ذلك: حرمان العلم. فإن العلم نورٌ من الله تعالى يقذفه في القلب، والمعصية تطفئ ذلك النور. شكوت إلى وكيع ٍ سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وأخبرني بأن العلم نورٌ ونور الله لا يؤتاه عاصي أفلا تذكر أنك كنت تحفظ من كتاب الله أجزاءً، فأين تلك الأجزاء؟! أفلا تذكر أنك في طفولتك كنت المقدم بين زملائك، الممدوح من أساتذتك، وكان يظن أنك ستكون وتكون فها أنت أصبحت رماداً بعد أن كنت ناراً! أرى ناراً قد انقلبت رماداً سوى ظل مريض من دخان ولكن لا زال الباب مفتوحاً، والاستدراك ممكناً. الجزء: 170 ¦ الصفحة: 21 حرمان الرزق الثاني: حرمان الرزق. قال الله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِير} [الشورى:30] نعم! أنا أذكر أنك حادثتني عن ديونٍ قد ركبتك، وشغلت ذمتك، وعن غرماء طالما طرقوا بابك، وأذكر -أيضاً- أنك حادثتني عن نقصٍ في رزقك، وشظفٍ في عيشك، وكدرٍ في حياتك، فها أنت تسمع نداء نبيٍ من أنبياء الله نوح عليه الصلاة والسلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:10-14] إن أردت الرزق، أو أردت المال أو أردت ربح التجارة فعليك بالطاعة، وإن أحببت الصحة في بدنك فعليك بالطاعة، وإن أردت الأولاد والذرية فعليك بالطاعة: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10-12] . الجزء: 170 ¦ الصفحة: 22 رسالة إلى موسوسة الوسواس عضال، يصيب النساء كما يصيب الرجال، وهذه المحاضرة رسالة إلى موسوسة، تعالج وسوستها التي قد تؤدي بها إلى مرض، أو إلى بغض للعبادة والدين. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 1 سبب الحديث عن موضوع: رسالة إلى موسوسة الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد فأولاً: مكان وزمان هذا التسجيل: قمت بتسجيل هذه المادة في يوم الإثنين (4) ذي القعدة لعام (1410هـ) في ضحى ذلك اليوم، وفي تمام الساعة الثامنة في منزلي وعلى أجهزة تسجيلات القادسية الإسلامية ببريدة جزاهم الله خيراً. ثانيا: فكرة هذا الشريط: لقد سبق أن تكلمت عن موضوع الوسواس في محاضرة وزعت ونشرت، بعنوان: رسالة إلى موسوسة، والحمد لله تعالى استفاد منها جمع طيب من الشبان والفتيات وغيرهم ممن ابتلوا بالوسواس في مناطق شتى، ولعل الله تعالى نفع بها خلقاً منهم. ثم كان ثمة اتصالات ومراسلات وأسئلة حول هذه الأمور. وفي الواقع أنني لم أشعر أن ثمة شيئاً جديداً أريد أن أضيفه إلى ما سبق، فإنني قد أفرغت جل ما عندي في تلك المحاضرة، ولكن نزولاً على رغبة إحدى الأخوات التي ألحت على تسجيل مادة تكون قريبة منها، تراجعها كلما اشتد بها الأمر، أو زادت الحاجة إليها، وكنت أماطل وأُسوّف في هذا الطلب زماناً طويلاً، حتى شعرت أن الأمر لازم، واستخرت الله تعالى في تسجيل هذا الشريط لبعض الإضافات وبعض الإضاءات التي ربما تكون ذكرت هناك عرضاً فأذكرها هاهنا بشيء من الإيضاح والبسط والتفصيل. ولا يغب عن بالك -أيتها الأخت الكريمة- أن تسجيل هذا الشريط إنما تم لعلاج حالات مستعصية أو صعبة، ومثل هذه الحالات لا شك تحتاج إلى قدر من الشدة والقسوة وقد يتطلب الأمر فيها ذكر علاجات لا تصلح لكل إنسان، إنما تصلح لإنسان وصل إلى ذلك المستوى، فإن الوسواس والعياذ بالله إذا تغلغل في النفس واستقر فيها، ضربت جذوره في القلب، وتأصل وأصبح من غير اليسير إزالته إلا بجهد جهيد، وبعلاج شديد وقد يكون له في ذلك ما ليس لغيره. وأول النقاط التي رأيت من المصلحة إثارتها في هذا الشريط، حول نفسية الموسوس : الجزء: 171 ¦ الصفحة: 2 نفسية الموسوس ما هي المشاعر التي يعيشها الموسوس؟ والغرض من ذلك، لأن كثيراً من الموسوسين يظنون أن الناس لا يحيطون ولا يعرفون مشاعرهم، وما يدور في نفوسهم، فإذا تبين للمريض أن الطبيب عالم بشكواه، مدرك لمعاناته، فإنه يزداد به ثقة وقناعة، ولهذا لو أتى إنسان إلى طبيب، فذكر له مبادئ المرض؛ فقال له الطبيب: أنت تجد كذا، وتجد كذا، أو تجد كذا وتجد كذا، فكانت ظنون الطبيب مصيبة في الواقع، فإن هذا يجعل المريض يثق به، ويطمئن إلى علاجه فيكون هذا من أسباب قبوله للدواء وانتفاعه به، بخلاف ما لو خرج من عنده، وهو يقول إن هذا الطبيب لم يعرف ألمي وشكواي ومرضي، ولذلك ربما صرف لي علاجاً لا يناسبني، فلا بد أن يدرك الموسوس أن الذي وصف له الدواء عارف بالحال التي يعاينها، والنفسية التي يعيشها، والخواطر التي تتردد في نفسه -أستغفر الله- وليس هذا من باب معرفته بغيب مكنون مستور عنه، ولكن من باب التجربة، فإن ما يعيشه موسوس يعيشه أكثر الموسوسين، وكثير من هؤلاء كتبوا لي أوراقاً ودفاتر وكتباً ومذكرات يطول الوقت بقراءتها، فضلاً عن عرضها، يذكرون ما يعانون فيها، وعدد آخر منهم التقيت بهم بصفة شخصية، فصاروا يتحدثون عما يجدون، فوجدت هناك قواسم مشتركة عند هؤلاء توجد عند إنسان فإذا قلتها لآخر وجدتها عنده سواء بسواء. فإلى الأخت التي ألحت في تسجيل هذا الشريط: أن تنظري -أيتها الأخت الكريمة- إلى مدى انطباق هذا الوصف الذي سوف أذكره على ما تجدينه في نفسك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 3 ضعف النفسية أما الصفة الثانية المتعلقة بنفسية الموسوس والموسوسة فهي: صفة الضعف، ضعف النفسية، وأيضاً ضعف النفسية هو من أسباب الوسواس -كما بسطته هناك في الشريط المشار إليه أولاً- فإن الشيطان إنما يتسلط أكثر على من يكون في نفسيته ضعف وخور وعجز، ولذلك يلاحظ الكثير أنه يمكن أن يقال إلى حد ما: إن الوسواس مرض وراثي، فإذا وجدت وسواساً متأصلاً في شخص، فابحث في أقاربه وأجداده، وأخواله تجد شيئاً من ذلك عندهم قلَّ أو كثر، فيكون له جذور في نفسية العائلة كلها، وهذا لا يعني بالضرورة وبشكل دائم أن معنى ذلك أن أسباب الوسواس قائمة في النفس ولا سبيل إلى إزالتها!! وإنما أقول هذا الكلام لأن الإنسان إذا عرف من أين أُتي، ومن أين تسلل إليه الشيطان فإنه -بإذن الله تعالى- يستطيع أن يسد المنافذ التي دخل منها الشيطان، حتى يتمكن من العلاج. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 4 التردد الذي لا يكاد يكون معه يقين أبرز صفة في الموسوس، هي صفة التردد والشك، فهو يشك في كل شيء، بحيث أن اليقين في نفسه عزيز لا يكاد يوجد، فهو يشك هل صليت؟! هل توضأت؟! هل قمت بهذا العمل؟! هل أحدثت؟! ربما نقضت أثناء الوضوء، فيعيده من جديد، وهكذا، ثم إذا انتهى -مثلاً- من الوضوء وبدأ بالصلاة، رجع يشك في الوضوء، وربما يقول: بنيت على أمر غير صحيح في هذه العبادة وما بني على باطل فهو باطل، إذاً فيرجع ليتوضأ مرة أخرى، ثم يرجع ليصلي مرة أخرى، وهكذا فهو في شك مريب لا يكاد يزول عنه بحال من الأحوال. فإذا طالت شكواه وامتد به المرض، واكفهرت في وجهه الأحداث، فزع إلى مفتٍ من المفتين، أو عالم من العلماء يسأله، فإذا سأله بدأت الشكوك تتناوبه مرة أخرى: ربما المفتي لم يفهم مسألتي، ولم يعطني فرصة لأعرض له بالضبط ماذا أعاني، ولذلك فهو لا يدري بالضبط ماذا عندي، وربما أفتاني بأمر لا يتعلق بي، ثم إن هذا المفتي أفتاني بحسب اجتهاده هو لكن أنا غير معذور في قبول فتواه، مادام أنني أتوقع أنه لم يعلم بما عندي، ويمكن أن هذا المفتي أجابني يظن أن عندي وسواساً، والذي عندي في الواقع ليس بوسواس، بل هو أمر حقيقي أنا أعرفه وإن لم يعرفه الناس، وهكذا بسبب اتساع دائرة الشك في قلب الموسوس، حتى أصبح يشك في كل شيء، يشك في نفسه وأعماله، يشك في وضوئه، وصلاته، يشك في نيته، وصيامه، يشك هل بلغ الكلام للناس، أو لم يبلغ، هل قال أو ما قال، هل فهم الناس ما يريد أو لم يفهموا. يشك في الفتوى، ويشك في الشك أيضاً. ولهذا تلاحظين ولع الموسوسين بالتفاصيل، فهم حريصون على أن يتحدثوا إليك عن كل دقيق وجلي، وعن كل شيء، وعن جميع الجزئيات والخطرات والأفكار التي دارت في ضمائرهم، والأحوال التي عاشوها، ويتمنى الواحد منهم أن يعطيك تاريخاً مفصلاً لحياته، خاصةً منذ بدأ يعاني من موضوع الوسواس إلى حال التاريخ، ويفصل ويكرر بصورة مملة جداً، لأنه كلام يعرفه من قبل، ومكرر، وغير ذي جدوى، لكن الموسوس يخيل إليه أن هذا كان ضرورياً؛ لأن الوسواس مع الأسف تعدى حتى إلى السؤال، فأصبح وهو سائل موسوساً في سؤاله فيذكر أشياء كثيرة لا تعلق لها بالموضوع ولا قيمة لها. وربما أقول: إن كثيراً من الأسئلة الذي يوجهها الموسوس إلى العلماء، والمشايخ، ربما إنه لا يحتاج إلى السؤال عنها أصلاً، فإجابتها معروفة وجاهزة وحاضرة، بل -مع الأسف الشديد- ربما يكون هذا الموسوس سمع الفتوى الواحدة من عشرة علماء، وبالنسبة للأخوات يتصلن بالهاتف على عشرات المشايخ في أنحاء البلاد، وتعيد السؤال نفسه، وتكرره، وتظن أنه يمكن أنه لم يجبها الجواب الصحيح، ويمكن لم يفهم، وربكت أجابها مراعاة لكونها موسوسة ولم يعطها الجواب الشرعي الأصلي، فإذا عملت بالجواب الذين تظن أنه لمراعاة حالها ثم بعد فترة قالت: ربما زال عني الوسواس، إذاً أرجع إلى الوضع الطبيعي مثل غيري من الناس، وهكذا تظل في أمر مريج، وقد تختلف إجابات أهل العلم، لأنه ربما أن بعضهم لا يعلم أنها موسوسة، أو يختلف اجتهادهم في هذا تبعاً لاختلافهم في أمور كثيرة، الفتوى قد تتغير من عالم لآخر بحسب اجتهاده، فهذا الاختلاف -أيضا- يوقعها في حيرة، وقد تأخذ نفسها بالأشد، ويكون في ذلك من العنت عليها ما فيه، وكثيراً ما تقول الموسوسة: الناس لا ينفعونك، وهؤلاء المفتون لا يمكن أن ينقذوك من النار، وقد أموت بلا وضوء، بلا صلاة، بلا صيام، بلا حج، وهكذا سيظل هذا لهيباً في قلبها يحرقها، والواقع أن الذي يوقد هذا اللهيب، وهذا الجمر ويضع عليه هذا الحطب، هو شخص اسمه إبليس، وهو الذي يحتاج إلى أن يعلن الموسوس وتعلن الموسوسة عليه حرباً لا هوادة فيها حتى يخرج من قلبه. إذاً: فأول صفة للموسوس هي صفة التردد والشك، الذي لا يكاد يوجد معه يقين، ولذلك فإن الموسوس يقال له: إنه لا يطلب منه اليقين في سائر أموره الشرعية، كما يطلب من غيره في كثير منها، بل إنه يكفي أن يعمل بما يغلب على ظنه في مثل هذه الأمور، وما ظهر له وما تيسر دون أن يحتاج إلى يقين في ذلك، وقد ذكر أهل العلم أن موسوساً جاء إلى أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي رحمه الله وهو من أذكياء الفقهاء وعظمائهم، فقال له: إني أنغمس في الماء، ثم أخرج وأخشى ألاَّ أكون بلَّغت الماء إلى جسدي للاغتسال من الجنابة، فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فإنه لا وضوء عليك ولا غسل ولا صلاة، فقيل له في ذلك يرحمك الله: كيف أفتيته بهذا؟! قال: هذا مجنون!! والواقع -وأرجو ألا تكون الكلمة حارة- أن الوسواس شعبة من الجنون في كثير من الأحيان، وأنك تشك في استقامة عقل من أمامك من الموسوسين حين تسمع منه بعض الأسئلة، وبعض التفاصيل، وبعض الاستفسارات، وتجد منه بعض التلون، فأنت تدخله من باب فيخرج من باب آخر، ويعرض إليك الموضوع الواحد بعشرين صورة وكأنه لا يعي ولا يعقل ولا يفقه، وكأنه لا يدرك شيئاً، ولهذا فكأنه مولعٌ أبداً بالحديث عما يعاني غير ملتفت إلى ما يسمع، وما يراد له أن يسمع. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 5 مظاهر الضعف عند الموسوس من مظاهر الضعف عند الموسوس -ضعف النفسية-: أنكِ تجدينه عاجزاً عن المقاومة، عاجزاً عن الإصرار، عاجزاً عن التنفيذ، وقد يسمع الكلام ويعزم حين يسمع الوعظ، والتوبيخ، واللوم، والعتاب، ويجد المشكلات التي تواجهه في حياته، والتي ربما تدمر حياته تدميراً، فقد يعزم عزيمة صادقة على أنه سيفعل، حتى إنه يحدثني أحد الشباب، وقد جاء إليَّ يشتكي من الوسواس وفي يديه وقدميه ووجهه احمرارٌ شديد من أثر الدلك والعرك بالماء، والبقاء على ذلك فترة طويلة، فلما حدثته وعاتبته وشددت عليه في الموضوع، يقول لي فيما بعد: كنت أتمنى أن تنهي الحديث حتى أخرج من عندك لأتوضأ الوضوء الطبيعي الذي لا تكلف فيه؛ كأنني أحس أنه لا يعيقني عن هذا الوضوء الطبيعي الذي تأمرني به إلا أن أخرج من عندك فقط، لكن لما خرجت شعرت بأن الشيطان قد أجلب عليَّ من جديد، بخيله ورجله وحاصرني، فرجعت إلى الأمور من جديد، وعدت لا أستطيع أن أفعل إلا ما كنت أفعل، فسرعان ما يخور وينهار، وتضيع النصائح الموجهة إليه أدراج الرياح عند أول موقف عملي من المواقف التي يوسوس فيها، عند الوضوء -مثلاً- عند النية، عند التكبير، عند الصلاة، عند أي أمر من الأمور التي يوسوس فيها، كأن المواعظ السابقة كلها لم تكن. فعند أول نفخة من فم إبليس اللعين تتبخر كل هذه التوجيهات وكل هذه التعليمات، فكأن الإنسان يصب في إناء مفتوح لا يستقر فيه الماء، بل ينزل ويضيع في التراب، ولذلك فإن الموسوس -أيضاً- بحاجة إلى أن يتمالك ويتماسك ويحاول أن يقوي إرادته بقدر المستطاع، حتى يتمكن من تنفيذ هذه الأوامر والتوجيهات التي أسديت إليه، وحتى يستطيع أن ينتصر على كيد الشيطان ووسواسه، وإلا فالواقع أن الناس لا يملكون له شيئاً. أختي الموسوسة: أنت تؤمنين بالله تعالى، وأن إخبار الله تعالى صدق مطلق لا شك فيه، إذاً فاسمعي: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وانظري -أيتها الأخت- إلى الجن الذين نخافهم، ونهابهم، ونرهبهم، وما زال الإنس يرهبونهم منذ الجاهلية، وضعفاء الإيمان يرهبونهم، مع ذلك انظري كيف ينهارون ويتهالكون عند بعض القراء والوعاظ، وكيف يسمع لهم بكاء ونحيب وصراخ، وكأن الواحد منهم طفل يخشى من كل شيء، ويخشى من أي تهديد، فهذا هو واقعهم، هم ضعفاء وكيدهم ضعيف ومخاوفهم شديدة، ويسهل استفزازهم والاستخفاف بهم، ولذلك ذكر الله تعالى عن الجن أنهم كانوا في الجاهلية إذا استعاذ بهم الإنس كبروا وأصابهم الرهق: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً} [الجن:6] وأحد الأوجه في تفسير الآية أن الإنسي من العرب في الجاهلية كان إذا نزل هذا الوادي استعاذ من سفهاء قومه، أي: من الجن، فيبيت العرب آمنين في هذا الوادي، لكن الجن يصيبهم الرهق، أي: العجب والغرور، ينتفخون في أنفسهم إذا رأوا أن هؤلاء الإنس الآن يخافون منهم ويستعيذون منهم، فيصيبهم العجب والغرور. إذاً: نفس الوضع تعيشه الموسوسة -الآن- إلى حدٍ ما، فالشيطان حين يرى كيف ضحك بالموسوسة، وكيف صار يسخر منها، فيؤذيها وينفث في قلبها عند الوضوء، ثم يجلس من بعيد يتفرج عليها، وهو يقهقه ويضحك، ثم إذا تخلصت منه بعد جهد جهيد، بعدما تجلس زماناً طويلاً في دورات المياه، ثم تخرج بعد ذلك لتتوضأ، فإنه يبدأ ينفث في قلبها، ويضحك، وقد يأتي معه بكوكبة من أصحابه يشاهدون الموقف، وهم يقهقهون ويضحكون على هذا الإنسي المسكين، كيف سخروا به، وضحكوا منه، وسلبوا منه عقله، ويحاولون أن يسلبوا منه دينه. فيا سبحان الله!! الجني أو الشيطان، الذي قال الله فيه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وأمر بقتاله. كيف يضعف أمامه مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويفترض أن عنده قدراً من التوكل على الله تعالى، والثقة به، والاعتماد عليه؟! كيف تسلل الشيطان؟ وكيف استقر؟ وكيف بقي هذه المدة الطويلة؟ هاهنا السؤال. وقد تضافر على ذلك عوامل عديدة منها: الغفلة عن ذكر الله تعالى قائمةً، وقاعدةً، ومضطجعةً، وذاهبةً، وآيبةً، وداخلةً، وخارجةً، وفي كل حال. ومنها: ضعف العلم الشرعي، بحيث إن الإنسان التبست عند هـ الأمور، وأصبح لا يعرف حدود ما أنزل الله على رسوله، ولا يعرف المطلوب منه في كثير من الأمور. ومنها: ضعف النفس -كما أشرت. ومنها: وجود أسباب كثيرة أشرت إليها في مطلع الدراسة الثابتة في موضوع الوسواس لا داعي لإعادتها الآن. المهم أن الإنسان بحاجة إلى إزالة هذه الأسباب، والتخلص من كيد الشيطان، والعمل بشريعة الرحمن جل وعلا، والثقة أولاً بأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، ولا بد أن تؤمن الموسوسة بهذه الآية حق الإيمان، ولا بد أن تضعها نصب عينيها وتعرضها على نفسها مرة بعد أخرى، وكلما عرض لها عارض الوسواس في وضوء، أو صلاةٍ أو نيةٍ أو تكبيرٍ أو صومٍ أو حجٍ أو غسلٍ أو غيرها تذكرت هذه الآية، من الذي يوسوس لها؟ إنه الشيطان، وهذا مفروغ منه لأن الموسوس أول ما يقول: عندي وسواس، وابتليت بوسواس الشيطان -أعاذنا الله منه-. إذاً، هو يعرف الموضوع من الأصل، هذا لا إشكال فيه من حيث الإجمال، لكن إذا جاء إلى التفاصيل نسي أنه موسوس، وبدأ يتكلم عن التفاصيل كأنه يريد أن يستبرئ لدينه، وهو في الأول يعرف أن هذا كان من الشيطان، وأن الشيطان هو الذي يدفعه إلى ذلك. إذاً: فتذكري -أيتها الأخت الكريمة- أن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وتذكري أن الشيطان ما استقر وباض وفرخ في قلبك إلا بسبب أنك استجبت له أول الأمر، وهذا لا بد أن تعرفيه جيداً. أيضاً في هذا المجال يقول الله عز وجل حكاية عن قول الشيطان الأكبر يوم القيامة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:22] إذاً لم يكن للشيطان سلطان على الإنسان، إلا أنه دعاه فاستجاب له {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] . فالوسواس ذنب وإثم يجب التوبة منه والمسارعة بذلك والإقلاع عنه، وإن ترتب على ذلك حزن مؤقت للإنسان بسبب تركه لأمر اعتاده، فإنه يعقب هذا الحزن سعادة طويلة في الدارين بإذن الله تعالى. أختي الموسوسة: اعلمي تبعاً لذلك أن طول بقاء الوسواس في نفسك ليس في صالحك، والوقت ليس في صالحك، كل يوم، بل كل ساعة، بل كل دقيقة تقضينها وأنت في حال وسواس؛ فإن الشيطان يزداد فيها رسوخاً واستقراراً في قلبك، ويبني فيها أبراجاً جديدة، وحصوناً جديدة، وقصوراً جديدة في قلبك، فإذا حاولت التخلص منه وجدت أن القوى الشيطانية قد تغلغلت وتمكنت، وإذا كنت تقولين هذا قد حصل الآن، فالوسواس -مثلاً- معي منذ ست سنوات، فإنني أقول: وأيضاً إذا زاد الأمر عن ست سنوات كان أصعب، ومع أن الوسواس له ست سنوات، فإن الله تعالى يقول في كتابه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] وهذه الآية لا يزال مفعولها سارياً حتى بعد ست سنوات، أو قبل ست سنوات، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فهي حكم قطعي ثابت لا يتخلف أبداً. أختي الموسوسة: واعلمي أيضاً تبعاً لذلك أن المكث في الأماكن القذرة، ومأوى الشيطان مما يزيد الوسواس في قلبك، فمع الأسف الموسوسون ربما يجلس الواحد منهم ساعتين في دورة المياه، في انتظار قطرة من بول يظن أنها تخرج، وفي انتظار أن يستكمل ذلك، ثم يتوضأ، أو يستجمر ويستنجى، ثم يعيد مرة أخرى، وثالثة، وعاشرة وهكذا يكرر. وقد يقوم ويقعد ويتنحنح، ويتحرك ويقفز إلى غير ذلك بحجة إخراج ما في جوفه من هذا البول وغيره، ثم إذا بدأ في موضوع التطهر وإزالة النجاسة، أصابه من ذلك ما قرب وما بعد، وينسى هذا المسكين المغفل أن الشيطان يكسب منه في ذلك مكاسب عديدة منها: إيذاؤه بهذا الوسواس، وتفويت العبادة عليه، وتبغيض العبادة إليه، وشغله بأمور تضره ولا تنفعه. ومنها: أن مكثك في دورة المياه وفي الخلاء هو في مصلحة الشيطان؛ فهذه الحمامات تقيم فيها الشياطين؛ لأنه يقيم في الأماكن القذرة، وفي الأماكن الرديئة، وفي الأماكن الخربة، وفي أماكن النجاسات والقاذورات، وفي أعطان الإبل، ومباركها. فالشيطان يجلس وينام ويستقر -إن كان له ذلك- في الأماكن التي تناسبه وتلائمه، فإذا جاء إلى الأماكن التي يوجد فيها الخير، والذكر، والقرآن، والعلم، والحديث والصلاة، وتتردد فيها الملائكة، صاعدة هابطة، فإنه يخاف -كما أشرت- قبل قليل ويبتعد، فهو لا يستطيع المواجهة، بل يتهرب إلى هذه الأماكن القذرة، ولذلك: أولاً: لا بد من الاعتصام بالأذكار عند دخولها اعتصاماً جيداً، فتقول: بسم الله، أعوذ بالله من الخبث والخبائث، ويستعيذ بالله من الشياطين ذكرانهم وإناثهم، ومن مكرهم، وكيدهم، ثم يجلس في دورة المياه بقدر ما يحتاج ولا يزيد، فإن طول مكثك فيها لا شك أنه ليس في صالحك بل هو في صالح الشيطان. إن مثل قلب الموسوس في ظني وتقديري وحسابي -خاصة إذا طال معه الوسواس- أشبه ما يكون بمجموعة من اللصوص احتلوا بلداً، وطردوا منه أهله، وهم يتوقعون أن يغير عليهم أهل البلد ليستردوا أرضهم صباحاً أو مساءً، فماذا يفعل أولئك اللصوص؟ لا شك أنهم سوف يحفرون الخنادق، وسوف يحصنون المدينة، وسوف يضعون أجهزة للمراقبة، وسوف يضعون كمائن، وسوف يبنون مباني ضخمة بقدر ما يسمح لهم الوقت، حتى يتحصنوا بها من القوة التي سوف تهاجمهم صباحاً أو مساءً، وهكذا الشيطان تقريباً، قد احتل قلبك، أو مواقع كثيرة من قلبك، فلذلك هو يتحصن ويبني له معاقل، وأسواراً وحصوناً منيعة يوماً بعد يوم، وكل الوساوس كذلك، ولهذا لا بد أن تضعي هذا في الاعتبار، وتفكري جيداً في النقطة الثانية في موضوع الوسواس التي أريد أن أطرحها الآن، وهي بيت القصيد وهي قضية كيف أعالج الوسواس؟! الجزء: 171 ¦ الصفحة: 6 علاج الوسواس وفيما يتعلق بالعلاج فإني أشير إلى النقاط التالية:- الجزء: 171 ¦ الصفحة: 7 الحزم القاطع الصارم على ترك الوسواس العلاج الرابع: هو الحزم القاطع الصارم الذي لا تردد فيه، والإصرار على أن يرفض الإنسان جميع صور الوسواس، وأن يكتفي من الوضوء، والغسل، والطهارة والصلاة، والنية، وغيرها، بمثل ما عليه المؤمنون، والعلماء، والصالحون ويقتصد في ذلك، فإذا نجح في هذا وقاوم الأمر وأصر عليه فالحمد لله، وإلا فإني أقولها صريحة للأخت الموسوسة ولكل الموسوسين من ورائها: لا داعي لاستهلاك أوقاتكم وأوقات الآخرين لطلب نصيحة لا تنفذونها، وتوجيه لا تعملون به، وتأكدوا جيداً أنه ليس هناك وصفة طبية يتعاطاها الموسوس عبارة عن حبة في الصباح، وحبة في الظهر، وحبة في المساء تصرف لكم ثم يكون فيها زوال الوسواس! وإن كان بعض هذه قد ينفع أحياناً، لكن فيما يتعلق بزوال الوسواس في القلب، ليس هناك وصفة طبية يتعاطها الإنسان ثم تزول، إنما هي توجيهات ونصائح وإرشادات وتقوية لعزيمة الإنسان وإرادته يترتب عليها أن يخلص من هذا الأمر، فإذا عجز الإنسان عن ذلك -لا أقول عجز- لكن إذا لم يفعل ولم ينفذ فلا يظن أن الناس يملكون له أكثر من ذلك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 8 استشعار الذنب الأمر الثالث: من وسائل العلاج استشعار الذنب، وأن الوسواس ذنب يتاب منه فهو ذنب من وجوه عديدة. أولاً: مخالفة هدي الرسول صلى الله عليه وسلم: حيث إن الموسوس لم يسعه ما وسع ملايين المسلمين عبر العصور، الذين حجوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام حجة الوداع مائة وأربعة عشر ألفاً، ما فيهم موسوس، والتابعون كذلك، ثم هذه الأمة الممتدة في شعاب الزمن جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل. تصوري كم رجل وكم امرأة عاشوا على ظهر الأرض منذ البعثة إلى اليوم، إنهم خلق لا يحصيهم إلا الله عز وجل ألا يسعك ما وسع هؤلاء الملايين؟! بل ألوف الملايين من الأمم التي هي أحسن هدياً، وأكثر صدقاً، وأصلح قلباً، وأوسع علماً، وأقل تكلفاً، ألا لا وسَّع الله على من لا يسعه ما وسع هذه الأمة منذ نبيها صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هم خير القرون، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الأشهاد، ألا لا وسَّع الله على من لم يسعه من الهدي ما وسع هؤلاء. فليحذر الإنسان أن يكون عرضة لدعوة المؤمنين عليه بالضيق، وأن يعاقب على هذا الأمر الذي يفعله تديناً، ومع ذلك هو عرضة لعقاب الله تعالى وأخذه له في الدنيا والآخرة، فإن هذا يعاقب عاجلاً، ومن عقوباته العاجلة: أنه إذا لم يسارع بالإنقاذ وإخراج نفسه من هذه الورطات؛ فإن الأمر قد يزيد في شأنه، وقد يصبح يوماً من الأيام وكأنه يشعر أن لا علاج له، وإن كنا نؤمن قطعاً أنه ما أنزل الله من داء إلا له دواء علمه من علمه وجهله من جهله، هذا نؤمن به ولا شك. ثانياً: أيضاً وجه كون الوسواس ذنباً من جهة الإسراف: فإن الموسوس يسرف في استخدام الماء: في الغسل والوضوء، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام أبصر الناس، وأطهر الناس، وأعبد الناس، وأصلح الناس، وزوجه عائشة رضي الله عنها أخذت عن الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، فكيف كانت تغتسل؟ هل تعجبين أيتها الأخت إذا قلت لك ما في صحيح مسلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام وعائشة {كانوا يغتسلون بثلاثة أمداد} أي: أقل من صاع، غسل وهم أوفى منَّا شعراً، وأكبر منَّا أجساماً، وأعمق منَّا علماً، وأقل منَّا تكلفاً، وأحرص منَّا على الخير، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ فالذي لا يسعه هذا الهدي ولا يعجبه هذا المسلك؛ فليختر لنفسه طريقاً آخر غير الطريق الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهدياً آخر غير الهدي الذي سار عليه عليه الصلاة والسلام. ومن أحبت منكن -أيتها الأخوات المؤمنات- أن تحشر في زمرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأن ترد حوضه، وأن تكون معه في الجنة، فلتلزم هديه وغرْزَه، ولتحاذر كل الحذر أن يجرها الشيطان إلى هدي آخر أو إلى طريق آخر غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم. ثالثاً: التقصير في العبادة من أوجه: كون الوسواس ذنباً فهو مدعاة للتقصير في العبادة، والإخلال بما أوجب الله تعالى، فما هو الذي أباح لكِ -أيتها الموسوسة- أن تقطعي صلاتكِ بعدما شرعت فيها؟ فإن هذا عبث وتلاعب بالعبادة، كيف تقولين: الله أكبر وأنت مستقبلة القبلة، ثم بعدما تُكبري تقولي: هاه!! يمكن أني لم أنو؛ ويمكن أني نسيت ولم أغسل اليد اليمنى أو اليسرى، أو لم أمسح الرأس، ويمكن أن بقعة لم يصبها الماء، ويمكن يمكن ثم تفرض من هذه الفرضيات الخيالية التي لا تنتهي أبداً، ثم تقطع صلاتها، وتذهب لتتوضأ مرة أخرى، أو تقول: ربما لم أنوِ، أو لم أكبِّر، أو إذا تعدت عملاً قالت: قد لا يكون فعلته، يمكن، يمكن، … وهكذا. ما هو الدين الذي أباح لها ذلك؟! أي شريعة أباحت لها ذلك؟! وأي نص أباح لها ذلك؟! هل نحن نعبد الله بأهوائنا وبأمزجتنا وبميولنا وآرائنا الشخصية، أو نعبد الله تعالى بما شرع؟! نحمد الله تعالى الذي لم يترك مجالاً في أمور الشرع إلا وبينّه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فهاتِ لنا -بالله عليك- إذا كنت تعرفين نصاً يؤيد ما تزعمين وتفعلين. كل الناس يرغبون أن يرضوا الله تعالى وأن يطيعوه، وأن يسيروا على نهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان عندك من العلم والمعرفة بطريقة العبادة والوضوء والغسل والصلاة والصيام والنية ما ليس عندهم فهات، هات حتى يشاركك غيرك في هذا الخير الذي تزعمين أنه عندك ولم يصل إلينا، أما إذا كنت تعرفين أنه باطل فلا داعي لأن نخدع أنفسنا، ونسأل أسئلة باطلة لا يسأل عنها، فالباطل يترك جملة وتفصيلاً، ولا يلزم أن يعرف الإنسان تفاصيل الباطل حتى يتركه، بل الباطل باطل يترك بدون سؤال. رابعاً: ومن أوجه كون الوسواس ذنباً وإثماً يتاب منه، ويستغفر منه: أن فيه إساءة للآخرين وظلماً لهم، وبخساً لحقوقهم، فالزوجة تسيء إلى زوجها، وتمنعه حقه، فهي أبداً إما في دورة المياه، وإما تصلي، وإما في غرفتها تبكي مع نفسها فتمنع زوجها من الاستمتاع الذي أباحه الله تعالى لهم، وهذا ظلم له، والزوج إذا كان مبتلى بالوسواس، فهو يسيء للآخرين، يسيء لزوجته، فهو يفكر أبداً في الطلاق، ويقول: أظنه خرج مني، أو فكرت فيه، أو نويته، ونية الموسوس لا عبرة بها؛ لأنها ليست نية في الواقع، وكل شيء يخطر في باله يتحول إلى نية في ظنه، فيأتي ويقول: أنا نويت الطلاق ولم أنطق به، وقد يأتي إلى إنسان لا يعرف حاله فيقول: نويت الطلاق ولم أنطق به، فيقول له: ما دام أنك نويت الطلاق فهو واقع: {إنما الأعمال بالنيات} ويظن هذا المسكين أنه طلق زوجته، وقد يراجعها بناء على أن الطلاق الأول حصل، فيقول: ما دام حصلت الرجعة إذاً الطلاق حاصل من باب الأولى، وهكذا يظل المسكين في سلسلة من الأوهام والظنون والأخطاء، والسبب كله هو جهل هذا الإنسان، وعدم معرفته بحاله، ولا بحكم الله تعالى في أمثاله، فيسيء هذا الموسوس إلى زوجته، ويمنعها حقوقها من الاستمتاع المباح، والمعاشرة بالمعروف بسبب هذا الكيد الشيطاني، وهذا الوسواس الذي تغلغل في قلبه. خامساً: من أوجه كون الوسواس ذنباً: أن فيه تشويهاً لسمعة الدين، وتشويهاً للمتدينين، وإنه ليسوءنا جميعاً معشر أهل الإسلام، ومعشر المنسوبين إلى الخير، يسوءنا أن يكون الموسوسون من بيننا، وأن يحسبون علينا، لأن الناس إذا أرادوا أن يذموا إنساناً، أو يسخروا منه قالوا: فلان موسوس، فيكفي هذا ذنباً له، وحطاً من قدره. إذا قيل: موسوس، تصورنا إنساناً يتحرك بصورة معينة، ويتردد في كل شيء، ويشك في كل شيء، وله حالة خاصة، ونفسية خاصة، فهو يسيء إلى سمعة الدين ومظهر المتدينين، ويمنع كثيراً من الناس من الالتزام بهذا السبب. إذاً فأنتِ -أيتها الأخت الموسوسة- من حيث تشعرين أو لا تشعرين أسأت إلى الدين والمتدينين، فيجب أن تكفي عن هذا الأمر، وأن تعيدي التصور الصحيح عن المتدينين، وتزيلي هذا المظهر السيئ وهذه السمعة السيئة التي نَمت إليهم من خلال فعلك وأفعال أمثالك من الموسوسين والموسوسات. فضلاً عن الانقطاع عن مصالح الدنيا والآخرة، الموسوس لا يقرأ القرآن إلا قليلاً، ولا يذكر الله إلا قليلاً، ولا يصوم إلا قليلاً، ولا يصلي إلا قليلاً، لأنه مشغول بهذه الوساوس التي انقطع بسببها حتى عن مصالحه الدينية، أما المصالح الدنيوية فحدّث ولا حرج، فالموسوس ربما فكر في ترك الوظيفة، وترك الدراسة، وترك أشياء كثيرة والتفرغ لهذا الوسواس. والأخوات المبتليات بهذا الأمر يقال فيهن ما يقال في الذكران، فالموسوسة تترك التدريس، وتترك الوظيفة وما فيها من إصلاح وخير وبر ونفع للخلق وهداية، وتنقطع لهذا الأمر، وتترك مصالحها الدنيوية فقد لا تقوم -كما أسلفت- بحقوق زوجها من طبخ، وتنظيف للمنزل، وغسل للثياب وكيها، وإصلاح شئونها، والقيام على أطفالها، لماذا؟ لأنها مشغولة بهذا الأمر الذي استحوذ عليها وأصبح يمنعها من كل شيء. وهذا لا شك إثم يُتاب منه، وباب التوبة مفتوح كما قال الرسول عليه السلام: {لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها} . سادساً: ومن أخطر ما يجعل كون الوسواس إثماً، أنه مخالفة صريحة واضحة صارخة لنصوص الكتاب والسنة التي بين الله تعالى فيها رفع الحرج، وهي كثيرة: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن هذا الدين يسر ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه، فسددوا، وقاربوا، وأبشروا، والقصد القصد تُبلغوا} أين القصد؟! وأين اليسر؟! وأين التسديد؟! وأين المقاربة؟! بل هو -والله- الحرج كل الحرج، والشدة كل الشدة، والعسر كل العسر، والجور كل الجور، وليس فيه رائحة التيسير، والرفق، والقصد. ويا ترى هل تؤمن الأخت الموسوسة بنصوص الكتاب والسنة المصرحة بنفي الحرج، ونفي العسر، وهداية الرسول صلى الله عليه وسلم لليسرى، وتيسيره لها؟! لا شك أنها تؤمن ما دامت مسلمة. إذاً: الحال التي تعيشها هل تعتقد أنها يسر؟! كلا والله، بل هي الحرج كل الحرج، والله عز وجل خفف عن الخلق في الشرع أموراً دون ما تعانيه الموسوسة بمراحل كثيرة، ومع ذلك يسَّر عليهم فيها، وخفف عليهم فيها بنفي الحرج عنه، وبيان الفسحة في الدين، فما بالنا نشدد على أنفسنا في أمور يسرها الله تعالى علينا فيما دونها كثيراً كثيرا. فليحذر الإنسان أن يكون مشرعاً لنفسه غير ما أنزل الله، وحاكماً لنفسه بغير ما أنزل الله، ومختاراً غير طريق الله، ومبتغياً هدياً وسنةً غير هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته، ليحذر من ذلك، وليستشعر أن هذا ذنب، ينبغي أن يسارع في التوبة منه. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 9 عدم الاكتراث بالوساوس ثانياً: عدم الاكتراث بوساوس وخواطر الشيطان وتخييلاته وشكوكه أياً كانت هذه الوساوس: وساوس في الله تعالى، أو في اليوم الآخر، أو في القرآن، وكثير ما تشتكي إليّ بعض الأخوات أشياء من ذلك كثيرة جداً. فأهم علاج بعد الاعتماد على الله تعالى واللجوء إليه، هو عدم الاكتراث بذلك، لا يكترث الإنسان بتردده في طهارة، أو صلاة، أو صوم، أو نية، بل يستمر على ما هو بصدده، ويدع هذه الوساوس جانباً، فإن شدة اهتمامك بذلك، وشدة خوفك منه، وكثرة تفكيرك فيه، وانشداد أعصابك، ووصول هذا الأمر في نفسك إلى حد أنه أصبح ينغص عليه حياتك هذا في حد ذاته يعتبر مكسباً للشيطان، فإذا نظر إليك وأنتِ مسكينة مكفهرة، قلقة، كئيبة، فإنه يسر بذلك ويفرح أيما فرح، ويكفيه هذا نجاحاً، فالشيطان كالكلب إذا حارشته نبحك، وإذا أعرضت عنه ولى وتركك. إنني أرثي لحال بعض الأخوات، وأحزن لحزنهن ممن تكتئب من هذا الوسواس بشدة، وتخاف، وتفزع، وتقلق، وتوجل، فتتكلم ونظراتها تتقطع بالبكاء، والنحيب، والشهيق، والحزن، كلا، بعدما تستخدمين الوسائل الشرعية من الأذكار اهدئي واطمئني، والأمر أهون من ذلك، والشيطان لا يمكن أن يبلغ بك ما تخافين ما دمت قد اعتصمت بالله تعالى فلا تخافي ولا تحزني. حاولي أن تقللي من الاكتراث والخوف من هذا الوسواس، ولا تعطيه من الأهمية هذا الحجم الكبير، الذي هو واقع الآن، وقللي من مخاوفك تجاهه، فإن هذا من أعظم وسائل علاجه، فإنك بذلك تسحبين الفتيل؛ لأن الشيطان لا يعرف ما في قلبك، حتى لو كان في قلبك شيء من الخوف، لكنك أظهرت التجلد فإنك تخدعين الشيطان بذلك، فيظن أنه ما نجح معك، الله هو الذي يعلم خفايا النفوس، أما الشيطان فلا يعلم الغيب، ولذلك قد يكون في قلب الإنسان خوف، لكن يظهر الجلد، والصبر، حتى يصبح صبوراً، جلداً، والشيطان ينخدع بذلك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 10 الذكر والدعاء أولاً: لا بد من الاستعاذة والذكر والدعاء: فإن الدعاء حرز، أي: حرز من كيد الشيطان وتزيينه، ولا بد من التوكل على الله تعالى؛ فإن الله هو القوي الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وهو القادر الذي لا يعجزه شيء، ولهذا فإن العبد يفر إلى الله تعالى من كل ما يخاف، ويرغب إليه تعالى في كل ما يرجو: ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ)) [الذريات:50] . أيتها الأخت المؤمنة: فري إلى الله، اهربي إلى الله تعالى، اهربي إليه من كيد الشيطان، لوذي وعوذي بجنابه وكنفه جل وعلا، واصدقي في ذلك، فإن الله تعالى لا يمكن أن يدع عبده الذي صدق في الولاء له، والتوكل عليه والإنابة إليه والرغبة أن يدعه للشيطان، ووسواس الشيطان، واحرصي على الأذكار والأدعية الواردة في السنة النبوية: أذكار النوم، أذكار اليقظة، أذكار الصباح، أذكار المساء، أذكار الدخول والخروج، والوضوء، والصلاة، أذكار العبادات من صوم وحج وغيرها، احرصي على ضبط هذه الأذكار، وترديدها بيقظة قلب وحضور في مناسبتها. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 11 حملة تطهيرية لطرد الوسواس كل ما ينصح به الموسوس والموسوسة، وأنصحك أنت أيتها الأخت بصفة شخصية؛ أن تقومي بحملة تطهير واسعة النطاق لطرد الشياطين من قلبك، وإعادة المياه إلى مجاريها، والأنس بذكر الله، واستغفاره، ومحبته، وعبادته بصورة طبيعية، مثل ما عليه العلماء وطلاب العلم والصالحون وسائر المسلمين ولا تسمحي لنفسك بأكثر من ذلك؛ فتقعين فيما تخافين وتهربين منه. وخلال هذه الحملة التطهيرية التي لا بد منها والتي تقومين بها على نفسك وعلى شياطينك، خلال هذه الحملة التي أعتقد أنها لب العلاج بعد الاعتماد على الله عز وجل تحتاجين إلى أمور: الجزء: 171 ¦ الصفحة: 12 مراجعة طبيب النفس عاشراً وأخيراً: لا أرى حرجاً لمن طال به السقام، وأعياه الشفاء، وتوسع في نفسه موضوع الوسواس، وكان له جوانب أخرى في نفسه، لا أرى حرجاً أن يراجع طبيباً نفسياً موثوقاً من الأطباء النفسيين المؤمنين الصالحين الخيرين، ويعرض عليه حاله، فإنه قد يساعده بنصائح أو توجيهات أو علاجات معينة قد تساعده، وإن كنت أقول جزماً: إنها لن تغني عن هذه النصائح التي ذكرتها وما شابهها من النصائح والتوجيهات الدينية الشرعية التي هدفها تقوية عزيمة الإنسان، وتقوية إرادته، وجمع نفسه على التخلص من هذا الأمر، والشد من عزيمته، لكن هذه العلاجات النفسية التي قد يقولها الطبيب النفساني المؤمن الموثوق لا مانع أنها قد تساعد في مثل هذه الأمور، خاصة وأن الوسواس قد يكون له جوانب أخرى، أو أغوار في نفس الإنسان، ليس مجرد الجهل -كما أسلفت- بل له أسباب غير ذلك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 13 الانتقال إلى عمل آخر وعدم الالتفات إلى الشك رابعاً: إذا شكك الشيطان في عمل فانتقلي مباشرة إلى ما بعده، واحسمي قضية الشك، فمثلاً أنتِ تتوضئين وغسلت يديك، وقال الشيطان: لم تنوِ، فلا ترجعي وتقولي سأنوي ثم أغسل يدي، هنا الخطأ، فإذا غسلت يديك، فقال الشيطان: لم تنوِ فانتقلي مباشرة إلى المضمضة والاستنشاق، فإذا قال: لم تتوِ فانتقلي مباشرة إلى غسل الوجه، فإذا قال: أبطلي الوضوء واستأنفي من جديد، فانتلقي إلى غسل اليد اليمنى، قال لك: لا ينفعك الناس والمرشدون والمفتون، انتقلي إلى غسل اليسرى، قال هذه المرة فقط لعلك تستأنفين الوضوء، والمرة الثانية من أول الوضوء تكونين قد ضبطتِ الأمر وانتهيت من الوسواس انتقلي إلى مسح الرأس فإذا زاد وجمع عليك وألب جنوده انتقلي إلى غسل الرجلين، قال لك: ما دمت عند الماء، وفي دورة المياه يفضل أن تعيدي الوضوء مرة أخرى، فاذهبي إلى المصلى وصلي وكبري. وهكذا كلما شككتِ في عمل، انتقلي إلى العمل الذي بعده، انتقلي مباشرة وبسرعة؛ ولا تدعي فرصة لمثل هذه الأشياء، لأن مجرد كونك تتوقفين لحظة واحدة، وتفكرين هل تفعلين أو لا تفعلين فإن هذا يعتبر كسباً للشيطان، والوقت في صالحه وليس في صالحك، فتفطني لهذا جيداً بارك الله فيك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 14 احذري السؤال خامساً: احذري السؤال سواء بصفة مباشرة أو بصورة هاتفية للمشايخ والعلماء فالطريق أمامك مرسوم، والأمر واضح، وليس في ديننا -ولله الحمد- تعقيد، ولا غموض، ولا إشكال، خاصةً في هذه القضايا، فهي أمور يعرفها الخاص والعام، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، وهي أصبحت عند الكثيرين -خاصة عندك أنت- من البدهيات الظاهرة. كيف يتوضأ الإنسان؟ كيف يتطهر؟ كيف يغتسل؟ كيف يصلي؟ إن هذه أصبحت أموراً ظاهرة، واحذري أن ترفعي سماعة الهاتف للاتصال بفلان أو علان للاستفسار عن أي قضية تتعلق بالوسواس، ولذلك أقول لبعض الأخوات اللائي يتصلن بي، وكذلك لبعض الإخوة: بالمناسبة إنني أكره أن أسمع سؤالاً يتعلق بالوسواس في الهاتف، فإنه مقلق، ومضيعة للوقت، وممل -كما سلف- وإذا كان ولا بد فلتكن رسالة بريدية، أهون بكثير من أن تكون مكالمة هاتفية، وبعض الشر أهون من بعض. المهم يا أختاه: احذري من الاتصال أو السؤال أو الاستفسار، فإن الطريق أمامك مرسوم، والمنهج واضح، والأمور بينة، ولا داعي لأن نضحك على أنفسنا، ولا داعي لأن نلعب على أنفسنا، ونحن نعرف كل شيء، وقد اتضحت لدينا الأمور في هذا الجانب، فكوننا نرفع السماعة لنتصل فإن هذا مجرد تعبير عن قلق أو ضيق نعانيه، ونريد أن نزيل هذا الضيق، أو نخفف هذا الضيق عن أنفسنا بالاتصال بفلان وعلان. وفلان وعلان لا يملكون لنا من الله شيئاً، وأقصى ما يستطيعونه أن ينصحونا، وقد فعلوا ونصحوا وبذلوا ما يقدرون عليه، فبعد ذلك ينبغي أن نضع الأمر أمام أنفسنا بصورة جلية واضحة، وهذه النصائح موجودة إما أن ننفذ ونصبح أناساً جادين كغيرنا من الناس ونسلك الطريق، وإذا لم نفعل فلنلم أنفسنا، ولننكفئ على أنفسنا، ولا داعي لأن نتصل بهذا، وذاك، والثالث، والرابع، والسؤال نعيده ثلاثين وأربعين مرة، ونتصل بعشرين وثلاثين وأربعين شيخاً. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 15 الانتقال من عمل إلى بدله عند العجز سادساً: إذا شعرت بالعجز عن شيء، فانتقلي لما بعده، أو للبدل الذي يقوم مقامه، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها، فمثلاً: إنسان شعر بالعجز عن شيء، يقول: لا أستطيع فعل كذا وعجزت، نقول: اترك هذا العمل، ما دام أنك لا تستطيع فعله، وانتقل لما بعده، وإذا عجزت سقط عنك هذا الشيء الذي عجزت عنه، ولا أريد أن أضرب أمثلة في هذا المجال؛ لأنها كثيرة. وكذلك يمكن أن ينتقل الإنسان عند العجز إلى البدل، إذا كان للشيء بدل -فمثلاً- عند العجز عن الوضوء بالماء، ينتقل إلى التيمم، والله عز وجل شرع لنا التيمم في حال المرض، أو فقدان الماء، أو خشية الضرر باستخدامه، فكيف إذا كان بعض الموسوسين وسواسهم -من قبل الشيطان- في الماء، وجاهد نفسه سنوات طوال، وهو يجلس عند الماء أزمنة طويلة، ويتوضأ ثم يعيد الوضوء، ويغتسل ثم يعيد الغسل، وقد أتاني أحدهم بعد ما ارتفعت الشمس وتعالى النهار، وهو يصرخ ويصيح ويقول إنه لم يصل الفجر حتى الآن، وأنه عجز عن الاغتسال، وهو ينغمس في الماء ثم يخرج منه، هذا قام بالواجب عليه، وهو أصلاً قام بالواجب لكنه لم يقتنع بأنه قام بالواجب، فنقول له: هذا سقط عنك، وهذا الذي قمت به قد قمت به، وعندك التراب فتيمم به. فإذا عجز عن شيء انتقل إلى البدل عنه، أو عجز عنه وليس له بدل انتقل إلى ما بعده، وأنا أقول هذا لأن الأكثر أو كل الأشياء الذي يظن الموسوس أنه عجز عنها، هو في الواقع قام بها لكنه لا يدري أنه قام بها. وذلك مثل النية لا يحتاج الإنسان أن يستحضر فيجلس ليستجمع نيته، فمثلاً: أنتِ توضأت الآن ثم أتيتِ ووقفت على المصلى مستقبلة القبلة، فمن المعروف أنك لم تقفي هنا لأجل أن تطبخي، ولا من أجل أن تعملي شيئاً آخر، إنما وقفت لأجل أن تصلي، فالأمر واضح، فهذه النية موجودة ومستقرة وتكلف استحضار واستجماع النية؛ هذا الأمر غير مطلوب، فالنية موجودة في الحالة هذه، لكن مع ذلك يقول الإنسان: أنا ما نويت، هذه النية كافية اترك كبر وانتقل، انتقل إلى ما بعد النية وهو التكبير، وهكذا، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مواضع من شرح حديث: {إنما الأعمال بالنيات} يقول: إن النية أمر ضروري جبل عليه الإنسان، حتى لو أن الإنسان أراد أن يدفع النية عن نفسه لما استطاع، ولو قيل للإنسان: لا تستحضر النية فإنه لا يستطيع، وهذا من تكليفه بما لا يطاق، وكيف يفعل شيئاً من غير نية وهو إنسان عاقل بكامل قواه العقلية، فهو لا يستطيع أن يدفع النية، لأن النية تسبق العمل أصلاً، فالإنسان لا يقدم على العمل إلا بعدما ينوي ويهم ويعزم بفعل الشيء، ويتجه إليه إلا أن يكون مجنوناً، أما الإنسان العاقل فنيته وعزمه يسبق عمله، فهو يهم بالشيء ثم يفعله. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 16 التجلد والصبر سابعاً: تماسكي وتجلدي فالفرج قريب، ولو قيل لك اصبري أسبوعاً أو عشرة أيام، مهما واجهت أو عانيت ولو كنت على مثل جمر الغضى، ما دام أنتِ الآن لك سنين طوالاً وأنتِ تذوقين الأمَرَّين من جراء هذا الوسواس، فالآن نحن نقول لك: بدلاً من هذه السنين الطويلة التي تعذبت فيها تجلدي عشرة أيام، ونفذي فيها هذه التعليمات بدقة، قومي على نفسك بهمة وعزيمة صلبه، وإرادة قوية، لا تعرف التردد والشك والخور، وأصري وصممي، ثم انظري النتيجة، ونحن لا نقول: سنة، بل نقول: عشرة أيام، وهذه -والله- تجربة وقفت عليها بنفسي في عدد من الإخوة الشباب، حتى إن أحدهم أتاني بعد أقل من هذه المدة، وقد شفاه الله تعالى تماماً وإلى الآن، فقط أن الرجل استجمع قوته واستحضر إرادته، وتوكل على الله عز وجل واستطاع أن ينفذ هذه التوجيهات بدقة، وخلال أقل من أسبوع جاء وهو يقول: إن الأمر عندي أكثر من طبيعي، وإنه أصبح شخصاً عادياً تماماً حتى كأنه ما به شيء، ولا مسه سوء قط. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 17 التصميم وتكرير العلاج ثامناً: إذا فشلتِ مرة في ذلك وغلبك الشيطان، فكرري الأمر من نفسك مرة أخرى، واعلمي أن الناس لا يملكون لك من الله شيئاً، ولا يملكون أكثر من توجيهات لهذا الأمر، ولا تقنعي بحجة أنكِ عاجزة، فقضية: إنني عاجزة، احذري أن تقنعي نفسك بها، وهذه الحجة يدعيها مدمن المخدرات مع الأسف، وإذا قيل له في ذلك قال: أنا مدمن، وعجزت من الخلاص، ويدعيها متعاطي الربا فيقول: أنا وجدت لذة المال الحرام، والمكاسب الضخمة والفوائد، فيقول: لا أستطيع أن أتخلص من هذا، وعجزت عن ذلك!! ويدعيها متعاطي الزنا -والعياذ بالله، وحمانا الله تعالى وإياك، وإخواننا، وأخواتنا المؤمنات- يقول: بليت بهذا الأمر، وتولعت به نفسي، وأصبحت كثير التفكير فيه، فلا أستطيع أن أتخلص منه، ويدعيها الذي يشرب الدخان، يقول: لا أستطيع ترك هذا الأمر، فهل هذه حجة لهم؟! فهل هم معذورون؟! كلا، ثم كلا، ثم كلا. وكذلك من ابتلي بأمر آخر بالوسواس أو غيره، فليس عذراً له عند الله عز وجل أن يقول: إنه عاجز، فالله تعالى قد أعطاه سمعاً، وبصراً، وعقلاً، وفؤاداً، وفهماً، وعلماً، وإرادة، فلا يجوز أن نُقنع أنفسنا بأننا عاجزون، وفعلنا ما نستطيع، ونصدق ما أملاه الشيطان علينا من ذلك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 18 الاشتغال بما يفيد تاسعاً: اشتغلي بما يفيدك دنيا وأخرى، واحذري الفراغ فإن الفراغ مفسدة، فاشغلي وقتك بالأمور النافعة، دينية كانت أو دنيوية، واملئي وقتك بهذه الأشياء، ولا تدعي فرصة لمثل هذه الوساوس والأفكار، فإن كثيراً من الفتيات ربما تجلس ساعات طوالاً واضعة خدها على يديها، وهي تفكر، وتسرح النظر والطرف، وتتأمل ما حصل وما جرى وما حدث، وكيف؟! وكيف؟! وكيف؟! وربما يكون هذا من أنفع الأوقات التي يتسلل فيها الشيطان ليملي عليها بطريقة ذكية خبيثة أموراً كثيرة، فلا تدعي فرصة للشيطان، بل اشغلي وقتك بما يفيدك دنيا وأخرى، فاملئي وقتك بالقراءة المفيدة، وبالعلم، وبالزيارة للأهل والأقارب والجيران وأولي الأرحام ممن لهم حق، وبالقيام بأعمال المنزل، وبسماع الأشرطة المفيدة، وبالكلام المفيد، وبالصلاة، وبقراءة القرآن، إلى غير ذلك من الأشياء التي تملأ وقت الإنسان. إن الموسوس بحاجة إلى علاج نفسه أيضاً، ومن علاج النفس: أن يشتغل الموسوس بما يفيد، فيتصل بالناس ولا ينقطع عنهم، لأن الوسواس -أحياناً- مدعاة إلى أن الإنسان يعتزل الناس، وهو لا يريد أن يعلموا به، ولا يستطيع أن يعيش إلى جوارهم لأنه سوف ينكشف أمره بينهم، وقد يجد حرجاً، فلذلك يتجنب الناس، وخلال هذه العزلة التي ضربها الإنسان على نفسه، ويتفرد به الشيطان، فيعبث به أيما عبث. إذاً: اشغلي وقتك بما يفيد، اختلطي بالصالحين، بالأقرباء، بالجيران من الطيبين والأخيار، وانفعيهم وانتفعي منهم، واجعلي لنفسك أهدافاً تعملين عليها، فتعملين على إصلاح الجيران، والأقارب، والأهل، ومن حولك، وعلى أن تنفعي هؤلاء، وتوصلي الخير والبر والإحسان إليهم في أمور دينهم ودنياهم، وستجدين لذلك ثمرة طيبة بإذن الله تعالى. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 19 عدم الإصغاء للمخاوف الأمر الثالث: عدم الإصغاء للمخاوف والإرهاب والابتزاز الذي يمارسه الشيطان معك، فأنت خبيرة لا تحتاجين إلى أن تخبري، ماذا يقول لك الشيطان حينما تعملين بهذه النصائح؟ يقول: صليت بغير وضوء، وتوضأت بغير نية، وفعلت كذا وفعلت والذي يصلي بغير وضوء فهو كالمستهزئ بالله وهذا كفر بالله، وقد تموتين وأنت على تلك الحال، ولا يزال الشيطان يضع جمراً تحتك حتى كأنما تتقلبين على جمر الغضى من وساوسه ومخاوفه، وهذا معروف أيضاً، فأنصتي إلى كتاب الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] أي: لا تخافوا أولياء الشيطان، ولا تخافوا الشيطان، وخافوني إن كنتم مؤمنين، لماذا لا تخافين الله عز وجل أن يراك وأنت على هذه الحال المخالفة لهديه وأمره وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؟! وأنت قطعاً تعلمين ذلك، ولهذا تفزعين إلى السؤال، وتدركين أن ما أنتِ عليه ليس هو ما يريده الله تعالى ويرضاه شرعاً، فكيف ترضين أن يراك الله عز وجل في حال لا يحبها سبحانه؟ ومع ذلك تستجيبين لتخويف الشيطان وابتزازه الذي لا يزال يثير هذه المخاوف الوهمية الكاذبة في نفسك: لا تموتي على الكفر! صليت بغير وضوء! توضأت بغير نية! لم تقولي: بسم الله! وربما نويتِ نقض الوضوء! إذاً أعيدي من جديد! وهكذا يظل يضحك، ويضحك، ويضحك، وأنت أيتها الأخت الكريمة -وأقول: المسكينة أيضاً- تستجيبين له بهذه الصورة المحزنة، هذا لا يجوز ولا يسوغ أبداً. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 20 عدم الالتفات إلى الشكوك الأمر الثاني الذي لا بد منه من خلال تلك الحملة التي نبهت إليها: هو عدم الالتفات إلى أي شك يطرأ في نفسك في عمل من الأعمال، بل هذا الشك وإن بقي في نفسك وإن تردد شيئاً ما، ينبغي ألاَّ يتحول إلى شيء يقلقك، ثم إلى شيء تفعلينه وتعملين به، فإذا شككت -مثلاً- في انتقاض الوضوء فمهما تردد هذا الشك في نفسك لا تعملي به. فإذا توضأتِ فلا تعيدي الوضوء، وإذا صليتِ فلا تعيدي الصلاة، وإذا سجدتي فلا تعيدي السجدة، أما إذا أصغيت لهذا الشك ثم عملت به فحينئذٍ فأنت كالذي أشبهت من بعض الوجوه ما وصف الله تعالى به المنافقين، من قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45] فاحذري من الشك والتردد في الشك والإنصات له، والعمل به، فإن الشك أحط رتبة من الظن، والله عز وجل يقول: {وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم:28] {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فاحذري، ثم احذري، ثم احذري، هذا لمن يريد النجاة!! الجزء: 171 ¦ الصفحة: 21 الاقتصار على أقل المشروع أولها: الاقتصار على القدر المشروع فقط، فعند الوضوء -مثلاً- تتوضئين مرة مرة، فإن كان ولا بد فمرتين، فإن كان ولا بد فثلاثة ثلاثة، ولا تزيدي على هذا أبداً، فإن الزيادة حرام وإثم وإن وجد عندك شك أو تردد في أن هناك بقعة لم يصبها الماء، مثل ذلك في الغسل فعليك أن تعممي بدنك بالماء مرة واحدة، ولابد من الاقتصار على القدر الواجب والمشروع، وعدم السماح للنفس بالزيادة عليه في حال من الأحوال، حتى لو فرض جدلاً أنما خافه الإنسان وما خفتيه وقع فعلاً، فإذا غسل إنسان يده مرة، ومرتين وثلاثاً، ومع ذلك بقيت بقعة لم يتفطن لها وربما نبا عنها الماء، مع أن الماء بطبيعته سيال لطيف، ولكننا نفترض هذا جدلاً على أسوأ الأحوال، فهل يطلب من الإنسان تبليغ ذلك ضرورة بحيث يقطع بأنه حصل أو يعمل بما ظهر له؟ إن الشارع إنما تعبدنا بما يظهر لنا، وإلا فإن اليقين في كثير من الأمور عزيز، أرأيت -أيتها الأخت الكريمة- الفطر يوم يفطر الناس، والصوم يوم يصومون، والحج يوم يحجون، أي: إذا ظهر للناس إن هذا اليوم عيد فأفطَروا بحسب ما قام عندهم من الأدلة وجاءنا شاهدان على ذلك، أو أنه صيام فصاموا، وقد يكون أحد هذين الشاهدين ظاهره العدالة وحقيقته خلاف ذلك، أو كلاهما خلاف ذلك، فهل الناس مؤاخذون بهذا؟ أم الأمر على الحقيقة خلاف ما عملوا به؟ إنهم ليسوا مؤاخذين. أرأيت إنساناً سافر وفي الطريق أراد أن يصلي فاجتهد وصلى إلى ما يظن أنه القبلة، وبعد فترة تبين له أنه صلىَّ إلى غير القبلة، هل نقول: إنه آثم؟! أو نقول له: أعد الصلاة؟! كلا. لا إثم ولا شيء عليه، ولا يعيد الصلاة، بل هو صلى كما أمر وبحسب ما يستطيع، وهذا هو الذي يكلفنا الله عز وجل به. إذاً، هذه الاحتمالات ينبغي أن نضرب عنها صفحاً، ولا نجعل لها في أنفسنا مكاناً ولا مستقراً، مثل احتمال أن هناك بقعة ما أصابها الماء، أو موضعاً ما جاء إليه الماء، إذا ابتدأنا بهذه الاحتمالات، فمعنى ذلك أن الوسواس لن يزول عنا أبداً، فالوسواس هو احتمالات يضعها الإنسان على أنها حقائق، وما يدرينا؟ يمكن، يمكن وبالتالي لا يفرغ منها أبداً. فإذا أردت الخلاص فقضية الاحتمالات هذه ينبغي ألاَّ يكون لها مكان في نفسك، فاقتصري على القدر الواجب فقط، بل لا بأس ألا تغسلي إلا مرة واحدة في البداية، حتى تجدي أنك تغلبتِ على هذا الأمر، ثم تلتزمين بالسنة وهي الغسل ثلاثاً. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 22 بعض التجارب الإيجابية وأختم هذه النصائح والتوجيهات بالإشارة إلى بعض التجارب الإيجابية النافعة في هذا المجال. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 23 قصة أخرى وقد أتاني أحد الشباب -ولعلي أشرت إلى قصته إشارة عابرة- يشتكي من الوسواس، فجلست معه جلسة مختصرة لضيق الوقت، وكثرة من يرغبون في مثل ذلك، والمشاغل لا تسعف ولا تسمح بهذا أبداً، فجلست معه وبعد توجيه ومناصحة، قلت له بقوة وحدة: إذا عملت بهذه النصائح فيمكن أن أستقبلك بعد أسبوع، وإذا لم تعمل بها فأرجو أن يكون طريقك على غيري، ولا تشغلني وتشغل نفسك، وتضيع وقتي وتضيع وقتك، وأنا ما عندي إلا كلام واحد هو ما قلته لك، فإن نفع فيك، فيمكن أن ننتقل إلى غيره، وإلا فابحث عن غيري. بعد أسبوع أتاني وهو يقول: هذه المرة فقط أرجو أن تجلس معي وتفرِّغ لي ولو نصف ساعة، وأمام إلحاحه، قلت له: أفرغ لك نصف ساعة، لكن ثق ثقة تامة أنه إن تكرر الأمر فإنه ليس لدي أي وقت لتكرار مثل ذلك، فجلس عندي نصف ساعة، وشددت من عزيمته، وشحذت همته، وأكدت عليه الأمر، وخرج من عندي وهو مصمم ومصر على أن يتخلص من هذا الوسواس، ويقوم بما أشرت إليه قبل قليل من هذه الحملة التطهيرية الواسعة على نفسه، وعلى شيطانه، وأن يعمل كما يعمل الناس، وقد فعل ذلك، وبعد فترة ليست بالطويلة -والله- لقد آتاني، وكأنه لم يصبه شيء، ويقول -سبحان الله- ما أسهل الأمر! مجرد قشر رقيق يحتاج إلى شجاعة لتمزيقه، وبعد ذلك يخرج الشيطان، ويغادر إلى غير رجعة. وفي مقابل ذلك لا أستطيع أن أتجاهل حالات أخرى، حيث أتاني أناس آخرون في مثل ذلك، وأكثروا من التردد، وكان الواحد منهم يجلس معي ربما ساعات، وبعدما يخرج ينفذ ما في نفسه، ولا يلتفت إلى ما يقال، فمثل هؤلاء أعرف أنهم منذ سنين طويلة وهم على ما كانوا عليه، بل لا يزداد الأمر بهم إلا شدة، وأعتقد أن مثل هؤلاء: العلاج لا يمكن أن يأتيهم من خارج أنفسهم، إلا أن يكون من الله عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] . الجزء: 171 ¦ الصفحة: 24 القصة الأولى أذكر نماذجاً يسيرة من ذلك، من هذه النماذج: يقول أحد الشباب: لم يكن يخطر في بالي طرفة عين أنني من الموسوسين، وكيف أكون موسوساً وأنا أعالج بعض حالات الوسواس؟! ويتردد إلي بعض حالات الموسوسين، ويشفون بإذن الله تعالى، لكن كان يحدث عندي شيء أشبه ما يكون بسلس البول تقريباً، فأحس بخروج شيء قليل من البول أحياناً، خاصة بعد الوضوء، وكان يؤذيني هذا كثيراً، وكان يضع على عضوه شيئاً ويشده، ثم يخرج معتبراً نفسه أنه ليس بموسوس، ومعتبراً نفسه أنه مصاب بالسلس، وظل على هذا سنين، بعد ذلك تضايق من هذا الأمر؛ لأنه يحتاج إلى أن يمكث في المسجد فترة طويلة ولا يخرج فيحرجه أن يخرج، فيقول: فذهبت إلى الأطباء وعملت الفحوص اللازمة، فقالوا: إنه سليم، وجميع جهازه البولي ليس فيه أي أمر يستنكر، وقال له الطبيب: قد يكون عندك نوع من الوسوسة، فقال له: كلا. ليس عندي شيء من الوسوسة -بحمد الله- بل أنا طبيعي جداً، وربما أكون أميل إلى التفريط والتساهل مني إلى الوسواس والتشدد، قال له الطبيب: إذا لا شيء فيك ولا أعلم شيئاً. فلم يقنع بل ذهب إلى طبيب آخر أعلم وأكبر، أجرى له فحوصات، وأشعة ملونة، وأشياء كثيرة جداً، واعتنى بالموضوع أشد العناية، وأوقفه بنفسه على الأمر، وإذا بالرجل سليم تماماً، وليس فيه شيء أبداً، ويفسر ما يظن أنه شيء من السلس، وبعد ذلك كله حين وقف أمام الحقيقة وجهاً لوجه، والرجل لم يكن فعلاً موسوس بالصورة المخوفة، لكن كان فيه شيء من ذلك فيما يبدو، فلما وقف على الحقيقة بنفسه، أصبح لا يلتفت إلى هذا الأمر، ولا يتوضأ لكل صلاة، ولا يضع على ذكره شيئاً، وهكذا زال عنه الأمر، وزال ما كان يخافه، والسبب في ذلك -والله تعالى أعلم- أن شدة الخوف من خروج شيء، يكون سبباً في خروج شيء فعلاً. فكون الإنسان يخاف، قد يكون سبباً في استرخاء العضلات والأعصاب، فإذا ذهب ينظر ربما يجد شيئاً، وهذا الشيء الذي خرج لست مطالباً أن تنظر هل خرج أو لم يخرج، ولو خرج وأنت في طريقك، وفي سبيلك، وصليت دون أن تفكر فيه، أو تلتفت إليه لا يضرك ذلك ما دام أنك ما علمت يقيناً بخروجه، لكن لما ذهبت وقلت: أتحقق وأتأكد بنفسي، ثم نظرت وربما مع تحريك الذكر، ومع شدة الاهتمام، أو شد الأعصاب خرج شيء فصار عند الإنسان هم، وهكذا تضاعف هذا الهم، حتى تحول إلى أنه يظن أنه مصاب بسلس البول، وبعد سنين اكتشف أن الأمر كله لا يعدو أن يكون حيلة محبوكة من الشيطان الرجيم، وفي هذا عبرة في الواقع. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 25 نصائح وفي ختام هذا اللقاء أود أن أشير إلى بعض النقاط الصغيرة المهمة: الجزء: 171 ¦ الصفحة: 26 النصيحة الأولى أولاً: التجربة: جربي أختي المؤمنة هذه النصائح، واعملي بها، وستجدين نتيجتها عاجلاً، وكما سبق وأن أكدت ضعف كيد الشيطان، وسهولة الخلاص منه، وإن كان قد بنى وأسس، وتوطد وتوطن، إلا أن نسف الشيطان والخلاص من كيده أمر ميسور في الإمكان، وما أنزل الله من داء إلا له دواء. فاعزمي -أيتها الأخت- وتوكلي على الله عز وجل وثقي به، واعتمدي عليه، وأخلصي له، وكوني صادقة كل الصدق في الخروج من هذا المأزق الذي تعانيه الذي كدر عليك صفو حياتك، والذي نغص عليك عبادتك، والذي جعل الدنيا تظلم في عينيك، انسفيه نسفاً خلال ساعة، وستجدين العاقبة حميدة بإذن الله عز وجل. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 27 النصيحة الثانية كأني بك -أيتها الأخت الكريمة- وقد انتهيت الآن من سماع هذا الشريط، وأنت تقولين: صحيح جزاه الله خيراً، ولكن (ماشي!!) وكلمة (ماشي) تعني: لم يقل الكلام الذي يشفيني، وهذا يعود إلى ما سبق أن ذكرت، وهو أن بعض الموسوسين يبحثون عن شيء لا يوجد، ويبحثون عن لا شيء، لأن الأمر منهم وإليهم، والأمر يعود إلى أنفسهم، فليس هناك علاج يتعاطى بالفم، وإنما هو علاج يتعاطى عن طريق النصح والتوجيه والإرشاد وهذا أقصى ما يملكه هذا المتحدث إليك، وقد قال ما يستطيع، فإن انتفعت بها -فالحمد لله- وإلا فأنا لا أزعم أن غيري ليس عنده شيء آخر. بل قد يكون ذلك، بل لا شك أن هناك من العلماء، وطلاب العلم من عندهم شيء كثير، لكن الناس مشغولون بأمورهم، ومشغولون بقضاياهم، وليس همهم الأكبر فقط وجود إنسان موسوس يعاني أشياء معينة من هذا القبيل وهم يسعون في خلاصه، وهو يعتبر هماً ضمن هموم كثيرة تشغل طلاب العلم والعلماء، وقد لا يكون هو أهم شيء لديهم، والأمر -كما ذكرت- هو أن الموسوس قد لا يقنع بكل شيء. وأخيراً، فإنني أعتذر إليك أيتها الأخت الكريمة، عن عدم الدخول في التفاصيل، وإنني لم أجد متسعاً من الوقت لقراءة الأوراق والإجابة عليها، وذلك لسبب أو لأكثر، ففضلاً عن الشغل، فإن عندي قناعة تامة بأن القضية ليست قضية إشكالات فقهية تعانينها، وليست قضية جزئيات وتفصيلات تنتظرين الجواب عليها، فالقضية قضية وسواس في النفس ويحتاج إلى علاج وإزالة، ثم بعد ذلك ستكون أسئلتك كأسئلة غيرك من الناس، أسئلة عادية وأسئلة على الجادة. ولكنني أسأل الله تعالى أن يكتب لك الشفاء العاجل، وأن يعينك على الخلاص مما أنت فيه، إنه على كل شيء قدير. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 171 ¦ الصفحة: 28 رسالة إلى موسوس الوساوس داء عضال، ومقت ووبال، وقد يبغض المرء بسببه العبادة، ويستثقل الحياة، وقد يصاب بمرض نفسي أو عضوي بسبب الوسواس، وهنا تجد بيان حقيقة الوسواس وأسبابه، وعلاجه. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 1 الصراع بين الشيطان والإنسان إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل لله ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً: الحمد لله الذي جعل هذه الحياة داراً للابتلاء والامتحان، وميداناً للصراع بين الإنسان وبين الشيطان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:5-6] وقال سبحانه: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:1-2] أيكم أخلص عملاً لله وأيكم أكثر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 2 لفتة لعنوان المحاضرة إخوتي الكرام عنوان هذه المحاضرة هو: (الوسواس الخناس) ورغبت في تعديله بعد أن أستأذن الإخوة إلى عنوان آخر وهو: (رسالة إلى موسوس) وذلك لأني كثيراً ما أسمع من شباب وفتيات هذه الصحوة المباركة، حفظهم الله وكثر سوادهم وسددهم، وحشرنا في زمرتهم، وجعل العاقبة في الدنيا والآخرة لهم. كثيراً ما أسمع منهم الشكوى من الوسوسة في أشياء كثيرة من شئون دينهم ودنياهم، وبعضهم ممن لا يتيسر الحديث المباشر معه في هذه الأمور، فأحببت أن تكون هذه المحاضرة حديثاً إليهم جميعاً في هذه القضية التي يشتكي منها الكثيرون، وسأجعل هذا الحديث في النقاط التالية: الأولى: ذكر سبب الوسوسة في النفس. والثانية: ذكر أنواع الوسوسة. والثالثة: ذكر آثار الوسواس ومضاره. والرابعة: هي ذكر علاجه الذي يدفعه بإذن الله تعالى. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 3 قوة الشيطان وقوة الإنسان إخوتي الكرام إن ميدان الصراع بين القوتين العظيمتين: قوة الشيطان وقوة الإنسان ومنطقة النفوذ التي يشتد حولها الصراع هي: قلب الإنسان، لأنها مركز القوة، فإذا فسد القلب فسد الجسد كله، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، ثم يمتد الصراع إلى سائر جوانب حياة الإنسان، وهذا القلب إما أن تسيطر عليه القوة الشيطانية ويحتله جنود إبليس، ويقتحمون حصونه، فيصبح مرور الخير ولَمَّة الملكِ فيه قليلاً نادراً سرعان ما يخرج، وإما أن تحتله قوة الخير والإيمان وتقتحم حصونه فيصبح مرور الشيطان وجنوده ووساوسه على القلب مروراً سريعاً خفيفاً لا يطول، والإنسان مطالب في هذه الدنيا بأن يحذر كيد الشيطان ويعرف أساليبه ووساوسه في المكر والخديعة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 4 الاهتمام بالجزئيات وترك الكليات كثير من الناس مشغولون بأشياء لا تسمن ولا تغني من جوع، الشيطان واحد أو مجموعة؟ إبليس هل هو من الجن أو من غيرهم؟ أين يسكن إبليس؟ هل هو متزوج أم أعزب؟ هل له أولاد أو ليس له أولاد؟ كيف يوسوس الشيطان إلى قلب الإنسان؟! لاشك أن الله عز وجل بين لنا من هذه الأمور ما فيه الكفاية فبين لنا أن له ذريه وأنه يكيد في قلب الإنسان، وأن الشياطين كثر، لكن كثيراً من الناس شغلوا أنفسهم بهذه الفرعيات، ولم يهتموا بالقضية الأصلية وهي قضية معرفة وسائل الشيطان للكيد، وكيفية مقاومته، ولذلك يذكرون عن الإمام المحدث الظريف سليمان الأعمش: أن رجلاً سأله وهو في مجلس حديثه، فقال له: يا إمام هل لإبليس زوجة، فقال له: ذاك نكاح لم أشهده. وهذه طرفة لكن من ورائها تأديب من الإمام للسائل أن هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ومن ينشغل بهذه الأشياء ويغفل عن كيفية المقاومة فشأنه شأن إنسان دخلت الحية بينه وبين ثيابه فأوسعته لسعاً ولدغاً، وأفرغت السم في جسده وهو يسأل: هذه الحية ما لونها؟ ما شكلها؟ ما طولها؟ من أي أنواع الحيات وفصائلها؟ هل هي حية أو ثعبان، أو كذا، أو كذا؟ وهذا منتهى الجنون! الجزء: 172 ¦ الصفحة: 5 سبب الوسوسة أما ما يتعلق بالنقطة الأولى: وهي سبب الوسواس، فقد ذكر أهل العلم كالإمام الجويني -رحمه الله- في كتابه الذي سماه: التبصرة في الوسوسة، ثم نقل هذا عنه عدد من العلماء، كـ النووي، والغزالي، وابن الجوزي، وغيرهم -رحمهم الله جميعاً- أن للوسواس سببين، حيث قال: إن الوسواس لا يكون إلا بأحد سببين: إما نقص في غريزة العقل، وإما جهل بمسالك الشريعة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 6 طبيعة المرحلة والسبب الخامس: طبيعة المرحلة التي يعيش فيها الإنسان، فإن الوسواس ينتشر عند كثير من الشباب في مرحلة المراهقة، ذكوراً كانوا أم إناثاً يستوي في ذلك الوسواس المتعلق بالإيمانيات وقضايا الألوهية وغيرها -مما يسميه علماء النفس بالشك الديني، وهو في الواقع ليس شكاً، ولا ينبغي أن يسمى شكاً، إنما هو وسواس- والوسوسة في قضايا الطهارة والصلاة وغيرها من العبادات، حيث يقبل الشاب على الله عز وجل وعلى الإسلام، ففي بداية مرحلة تعلقه بالدين يصاب بشيء من ذلك، والذي يظهر -والله أعلم- أن أكثر المقبلين على الله عز وجل في هذه المرحلة قد يبتلون بشيء من ذلك؛ لكنه خفيف يسير فيتجاوزونه بتوفيق الله عز وجل، ثم بتوجيه المرشدين الصالحين. وبعضهم يكون هذا الوسواس شديداً معه أو لا يوفق بمن يوجهه التوجيه الصحيح بل قد يزيد هذا الأمر ويزيد الطين بلة -كما يقال- فيزداد الوسواس معه، فهذه أسباب خمسة يظهر لي أن معظم ما يصيب الناس من الوسواس يعود إلى أحدها أو إلى أكثر من سبب منها. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 7 الجهل بمسالك الشريعة أما السبب الثاني الذي أشار إليه الجويني وَمنْ بعده: فهو الجهل بمسالك الشريعة، وذلك أن كثيراً من الموسوسين أيضاً يجهلون حكم الله ورسوله فيما يعانونه، يجهلون أسماء الله عز وجل وصفاته وما ينبغي له، وما لا يجوز عليه، فيقعون في الوسوسة في أسماء الله وصفاته، يجهلون أحكام الطهارات والمياه وغيرها فيقعون في الوسوسة في ذلك، فقد يبتلى أحدهم فيقرأ في بعض الفروع التي فيها تفصيلات كثيرة، وتفريعات كثيرة، فيقرأ بعض الأقاويل الفقهية فيتشبث بها ويتمسك بها في وسواسه وينسى ويتجاهل كثيراً مما قرأ مما لا يساعده على ما هو فيه. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 8 التأثيرات العضوية في الجسم وضعف النفس أما السب الثالث: فهو أن الوسواس قد يكون بسبب تأثيرات عضوية في جسم الإنسان، وهذا أشار إلى جانب منه الإمام ابن القيم في كتاب زاد المعاد، في الجزء الثالث المتعلق بالطب النبوي، وهو يتحدث عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في النكاح والجماع، فأشار إلى أن حبس الإنسان للماء بترك الزواج وترك الجماع يسبب له أمراض رديئة منها الوسواس والجنون والصرع وغير ذلك. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 9 ضعف نفس الإنسان وخور إرادته والسبب الرابع: هو أن الوسواس قد يحدث بسبب ضعف نفس الإنسان وخور إرادته فأنت تجد كثيراً من الموسوسين إذا قابلتهم تجد في شخصياتهم ضعفاً ورداءة، وفي هممهم وعزائمهم وهن وخور وضعف سببه تسلط الشيطان عليه، وتجد كثيراً من الموسوسين يبتلون بتكثير الكلام، وترديده وإعادته، والتنطع في كثير من القضايا، مما يجعلهم ممقوتين عند الله وعند خلقه، نسأل الله العافية والسلامة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 10 النقص في غريزة العقل إذاً: فالسبب الأول هو: النقص في غريزة العقل، وذلك أن كثيراً من الموسوسين في عقولهم ضعف يتمكن الشيطان من التأثير عليهم ولبس الحق بالباطل ولذلك ذكر ابن الجوزي وابن القيم رحمهما الله أن رجلاً جاء إلى الإمام أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي فقال له: يا إمام إنني أنغمس في الماء مرة، ومرتين، وثلاثاً، ثم أخرج منه، وأنا أشك هل ارتفعت الجنابة عني أم لا، هل اغتسلت أم لا. فقال له أبو الوفاء بن عقيل رحمه الله: اذهب فقد سقطت عنك الصلاة، فلما ذهب هذا خوطب الإمام أبو الوفاء وقيل له: كيف قلت لهذا الرجل ما قلت؟! قال: إنه مجنون، فالذي ينغمس في الماء ثلاث مرات ثم يشك، هل بلغ الماء إلى جسده وأعضائه أم لا، فهو مجنون وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق} وهذا مجنون. وبعض الناس أخذوا من هذه القصة فتوى فأفتوا لبعض من بلغ بهم الوسواس مبلغه بترك الصلاة، وفي هذه الفتوى نظر كبير، فإن الصلاة من أهم أركان الإسلام، ولا تسقط إلا عن من سقطت عنه في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كالحائض والنفساء، ولكن المقصود من سياق هذه القصة الإشارة إلى أن غالب من يصاب بالوسواس ويتعمق فيه الوسواس يكون في عقله شيء من النقص والخفة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 11 أنواع الوسوسة أما النقطة الثانية: فهي الحديث عن أنواع الوسوسة: أنواع الوسوسة كثيرة، لا تنحصر، وإذا كان الإمام أبو الوفاء بن عقيل، يقول: إن الوسواس نوع من الجنون؛ فإن العرب يقولون: إن الجنون فنون، لكنني أذكر معظم هذه الأنواع. فمن أنواع الوسواس: الجزء: 172 ¦ الصفحة: 12 الوسوسة في المعاملات والنوع الخامس من أنواع الوسوسة: هو الوسوسة في المعاملات، فتجد الإنسان ينقر على نفسه ويبالغ في ذلك حتى أن أحد الطلبة مثلاً إذا قال الأستاذ للطلاب وقد شرح لهم الدرس: أفهمتم؟ هل الدرس واضح؟ قال نعم، فكلمة نعم التي خرجت من فمه عفوية عادية تصيبه أو تسبب له بعد ذلك من الكوارث والمحن ما الله بها عليم، ويجلس أياماً طويلة وربما سافر، وذهب وجاء واتصل بالعلماء من أجل أن يقول: إنني قلت: نعم وأنا لم أفهم الدرس، وربما يكون في هذا كذب وهل لي من توبة؟ إلى غير ذلك! وربما يطول بكم العجب لو رأيتم بعض ما ابتلي به هؤلاء الموسوسون في مثل ذلك، ثم إذا اشترى شيئاً أو باع شيئاً، رجع إلى بيته فنسي، هل أديت المال وقيمة هذه السلعة أم لا؟ فغلب على ظنه أنه لم يؤدها فرجع وربما يدفع قيمة ما اشتراه مرتين وثلاث مرات، وربما يكثر من مراجعة نفسه، أنك قلت في فلان كذا والواقع أن الأمر كذا، وقلت في أمك كذا، وقلت في أبيك كذا، وقلت في زوجتك كذا، وبدأ الشيطان يتلاعب به في أقواله وأفعاله، حتى أفسد عليه دينه ودنياه، هذه أهم أنواع الوسوسة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 13 الوسوسة في العبادات الرابع من الوسوسة: وهو في العبادات، في الصلاة مثلاً، فبدأ يوسوس في الصلاة، ويسهو ويزيد، وينقص، ويطيل، حتى إنني حُدِّثت أن بعضهم جلس من الساعة العاشرة عصراً إلى الساعة الرابعة ليلاً، أي ست ساعات وهو يصلي ثلاثة أوقات، التي هي العصر والمغرب والعشاء، فإذا رأى أهله منه ذلك، وقاموا عليه ومنعوه من هذا الأمر بدأ يبكي ويقول: أنا لست بمسلم، لأنني ما صليت، وقد سهوت في صلاتي، أو زدت، أو نقصت، أو نويت قطع الفريضة، أو صليت بغير وضوء، أو غير ذلك مما يدخله الشيطان عليه نسأل الله السلامة. وبطبيعة الحال فالوسوسة في العبادة ليست في الصلاة، فقط، بل قد يداخله الوسواس في الصيام وفي الحج، في عدد الطواف مثلاً، وفي عدد الحصوات التي رمى بها، وفي نوع العمل الذي عمله وفي كل عبادة من العبادات، فيفسدها عليه، ويحرمه من لذة العبادة وغير ذلك. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 14 الوسوسة في الطهارة والمياه أما النوع الثالث من أنواع الوسوسة: فهو الوسوسة في الطهارة والمياه وغيرها، فتجد الإنسان إذا قضى حاجته تعب في ذلك أشد التعب، فهو بعدما يتبول يبدأ بهذه البدع المنكرة من نتر الذكر، ونفضه، وسلته، ليخرج ما فيه، ثم تفقده لينظر إن كان بقي شيء من البول في رأس الذكر في مخرج البول، ثم بالتنحنح ليخرج ما بقي من قطراته، ثم بالقيام، والمشي، ثم بالقفز، ثم بعضهم يضع له حبلاً يتعلق فيه، ثم ينزل إلى الأرض بسرعة، ثم بعضهم يأتي ببعض من القطن فيحشو به ذكره، لئلا يخرج منه شيء، ثم يعصبه بعصابة، والعياذ بالله! ثم يركض، ويمشي، ويصعد الدرج حتى يطمئن إلى أنه لن يخرج شيء منه، وهذه عشر أو إحدى عشرة بدعة وقع فيها هؤلاء الموسوسون أثناء قضاء الحاجة مع أن البول كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إذا استُدْعِي در، وإذا تُرِك قر. فالإنسان إذا استدعاه ربما لو جلس ساعات طويلة لخرج منه في الوقت بعد الوقت قطرة أو قطرتان، لكن إذا تركه بقي في مكانه لم يخرج، هذا في قضاء الحاجة. ثم إذا أراد أن يتوضأ، بُلي بالمياه والوسوسة في المياه والشك فيها واحتمال نجاسة الماء أو أن يكون وصل إليه قطرة أو قطرات من البول، أو أن يكون خلت به امرأة، أو أن يكون أو أن يكون، ويضع مئات الاحتمالات لهذا الماء الذي بين يديه أن يكون تنجس، أو تلوث، ثم إذا اطمأن إلى الماء أتى بماء كثير جداً، وربما يكون عدداً من القرب، وربما يتوضأ به الفئام من الناس، فيبدأ يتوضأ، ويعرك أعضاءه مرة بعد أخرى، حتى إن بعضهم ليجلس في الخلاء الساعتين والثلاث ساعات والعياذ بالله محروم من ذكر الله عز وجل، في هذا المكان الذي هو مأوى الشياطين وربما فاتته الجماعة، بل ربما خرج وقت الصلاة وهو على هذه الحالة، ثم إذا توضأ بعد العرك، والفرك، والدلك والتعب والجهد الجهيد، أتى للنوع الرابع من الوسوسة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 15 الوسوسة في الإيمانيات الوسواس في قضايا العقائد والإيمانيات، حيث يتنطع بعض الناس في التفكير في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وما ورد في القرآن والسنة من ذلك، ويخطر في فكره وقلبه مخاطر وتصورات وظنون تشغل باله، وتجعله يشك في نفسه ويشك في إيمانه وتقلقه، حتى ربما يسهر بعضهم الليالي ذوات العدد وهو يتقلب في الفراش يفكر في هذه الأمور ويحاول أن يدفعها، ثم يرد على قلبه خاطر أعظم وأطم من ذلك، فيقول له الشيطان الذي أوقعه في الشبكة: مسكين أنت، قد تموت وأنت على هذه الحال، شاك في الله عز وجل مرتد عن دينه، فيكون مصيرك إلى نار جهنم، ولا يزال الشيطان يغلي هذا الإنسان في هذا الحريق حتى يصبح كالحبة التي تتقلب على النار، لا يهدأ له بال، ولا ينعم بنوم، فهذا هو النوع الأول. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 16 الوسوسة في النية أما النوع الثاني: فهو الوسواس في شأن النية: فإن كثيراً من الناس يوسوسون في نياتهم ومقاصدهم، يوسوس في نيته إذا أراد الطهارة، فيقول في نفسه: نويت رفع الحدث، ثم يرجع فيقول: نويت استباحة الصلاة، ثم يعود ثم يبدأ في الوضوء، فإذا انتصف قال: ربما لم أتوضأ، فقطع النية وعاد من جديد وهكذا يبدأ ويعيد، فإذا أراد أن يصلي أصابه ما قرب وما بعد في شأن النية، قد يقع بعضهم في كثير من البدع التي تزيد على عشر بدع، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن بعضهم يقف ليصلي فيقول ويجهر يقول: نويت أن أصلي صلاة الظهر -مثلاً- إماماً أو مأموماً أربع ركعات أداءً في الوقت أو فريضة الوقت مستقبلاً القبلة، وبعد ذلك يرفع رأسه وينصبه ويشد عروق رقبته، ويرفع يديه في قوة، ثم يصرخ بقوله: الله أكبر وكأنه يكبر في وجه عدو في ساحة حرب وينفض جسمه نفضاً، ثم يعيد شيئاً من ذلك. ومن الطريف ما ذكره أبو محمد المقدسي رحمه الله في كتابه في الوسوسة: أن أحدهم وقف ليصلي وهو من المصابين بالوسواس، فرفع يديه وبدأ يردد هذه النية: نويت أن اصلي -وهو يتنطع في إخراج الحروف ويكررها، فبدلاً من أن يقول: أصلي صلاة الظهر أداءً، نطق الدال ذالاً، فقال: أذاء لله عز وجل، فقطع الصلاة رجل إلى جواره فقال له: نعم، أذاء لله ولرسوله وللملائكة ولجماعة المصلين أي: أنك آذيت الله ورسوله والمؤمنين بهذه البدع المحدثة التي ما أنزل الله بها من سلطان. ويوسوس الواحد منهم في نيته في كل عمل، فإذا كبر للصلاة وانتصف فيها، شك في أمر من الأمور، ربما أنني ما نويت فقطع الصلاة فقال: لابد أن تبدأ الصلاة من جديد، ويصيبه من ذلك والعياذ بالله من المشقة والعنت ما لا يحمد عليه في الدنيا، ولا يؤجر عليه في الآخرة فنسأل الله السلامة بمنه وكرمه. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 17 آثار الوسوسة ومضارها النقطة الثالثة هي: الكلام على آثار الوسواس ومضاره، فهذا الوسواس له آثار ومضار كبيره جداً على الإنسان الموسوس وعلى غيره من الناس، فأما مضاره على الشخص المبتلى بالوسواس، فهي تنقسم إلى: مضار دينيه، ومضار دنيوية. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 18 آثاره على غير الموسوس أما آثار ومضار الوسواس على الآخرين، فمن آثاره ومضاره: أنه يجعل نفسه مسخرة للناس حيث يضحكون به ويسخرون به، وربما نالهم الإثم بسبب غيبتهم له أو ضحكهم منه، أو استهزائهم بأعماله وتصرفاته. ومن آثاره أيضاً أن بعض من يحسنون الظن بهذا الموسوس قد يجارونه ويسايرونه ويقتدون به فيما فعل، فيسبب لهؤلاء الناس ضرراً وإثماً، وكان قدوة سيئة لغيره في ذلك. ومن أضراره على الناس أيضاً، وهذه من الأضرار العظيمة في هذا العصر خاصة أنه يفتح ثغرة على أهل الخير حيث إن كثيراً من الأشرار وأعداء المؤمنين قد يسخرون منهم بسبب هؤلاء الموسوسين، فإذا وجدوا بين المؤمنين شخصاً موسوساً أطلقوا الوسواس على كل المؤمنين، فإذا رأوا إنساناً يعمل عبادة مشروعة مستحبة، بل ربما يعمل واجباً قالوا: هذا موسوس، فألصقوا به هذه الفرية بسبب وجود فرد أو أفراد مبتلين بهذا الداء، وبعضهم يقول للأب إذا رأى ابنه مع الصالحين: ابنك سيتحول إلى موسوس ويصاب بما أصيب به فلان من ترك العمل، وترك الدراسة، وكثرة البقاء في دورات المياه وإطالة الصلاة، وما أشبه ذلك من الأمور التي قد يجدونها في بعض الموسوسين. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 19 المضار الدنيوية على الموسوس أما المضار الدنيوية فهي كثيرة منها: أن الإنسان قد يبتلى ببلاء من جنس ما وسوس فيه. أعرف بعض الشباب ابتلي بالوسوسة في التبول، يطيل الأمر في ذلك ومع الزمن صار عنده شيء من سلس البول، فيقول له الأطباء: إن هذا السلس الذي تشعر به ليس سببه عضوياً، كأن يكون عندك مثلاً ارتخاء في أعضاء التبول وما أشبه ذلك، وإنما سببه أن كثرة اهتمامك وتركيزك على خشية نزول البول وخروجه جعلك مع الاستمرار تشعر بخروج البول ثم يخرج فعلاً قطرات من البول، وهذا يزيد الإنسان ثقة أن الوسواس الذي ابتلي به هو حق، وهو ورع، وهو خروج من النجاسة لا بد منه في الصلاة، هكذا يفكر هذا الموسوس، وهذا ضرر ديني ودنيوي في نفس الوقت. ومن مضاره الدنيوية: أنه يؤثر في صحته وجسمه، حتى إنك إذا رأيت بعض الموسوسين -وأقسم لكم بالله إن هذا الأمر واقع- إذا رأيت بعض الموسوسين عرفت من قسماته وآثاره وسيما وجهه وجسده أن هذا الرجل مبتلى بالوسواس، لأن هذا الوسواس فعل فيه وأثَّر فيه تأثيراً بليغاً خاصة إذا طال الزمن. ومن أضراره الدنيوية أنه قد يحرم الإنسان من المنافع الدنيوية، فأعرف من ترك طلب العلم والدراسة، أو التجارة أو غير ذلك وانشغل بهذا الأمر، فإذا انشغل تفرغ لهذا الوسواس وتفرغ الشيطان له، وكما يقال: زاد الطين بلة. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 20 المضار الدينية على الموسوس فالمضار الدينية أن هذا الموسوس قد يبغض إليه كثير من أمور الدين بسبب ما ابتلي به من الوسواس، فيبغض العبادة، يبغض الصلاة ويبغض قراءة القرآن لما يعرض له في ذلك من كيد الشيطان، وإذا حصل له هذه النوايا في قلبه بسبب ما ابتلى به من الوسواس ابتلي بوسواس آخر فقال له الشيطان: أنت الآن تبغض قراءة القرآن، أنت تبغض الصلاة لأنك ربما قد وقعت في الكفر، فجره إلى نوع آخر من الوسوسة والعياذ بالله! وانظر كيف يتدرج الشيطان بالإنسان، فهي سلسله من الوساوس إذا بدأت في الإنسان لا تكاد تنتهي، إلا بتوفيق الله عز وجل. ومن المضار الدينية التي يبتلى بها الموسوس أنه قد يترك هذه العبادة، لا يكتفي ببغضها بل قد يتركها، فربما ترك الصلاة أو ترك على الأقل كثيراً من النوافل بسبب الوسوسة. إن الوسوسة تشغل كثيراً من وقته فيما لا فائدة فيه فينشغل عن القراءة والذكر والعلم والدعوة بهذا البلاء المستطير، وربما دخل قلبه شيء من الخوف الذي هو خوف في غير مكانه، وأدى إلى ضرر عظيم على هذا الإنسان. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 21 علاج الوسواس أما النقطة الأساسية والمهمة في هذا الموضوع فهي علاج الوسواس، وهي بيت القصيد لذلك أرجو أن تتحملوا إن طال الكلام في هذه النقطة بعض الشيء؛ لأنها كما ذكرت هي المسألة المقصودة في هذا الحديث، فالوسواس داء وما أنزل الله من داء إلا أنزل له دواء عَلِمه من عَلِمه وجَهِله من جَهِله. فيا أيها المبتلى بهذا الداء! عليك أن تعرف أين الطريق، وعليك أن تدرك أنك إن أُتيِتَ فمن قبل نفسك، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] وفي الآية الأخرى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: الآية165] . فما أصابك فهو بقضاء الله وقدره، وهو أيضاً من عند نفسك، فعليك أن تكون شجاعاً في مواجهة هذا البلاء المستطير ومعالجته، وذلك من خلال الوسائل التالية: الجزء: 172 ¦ الصفحة: 22 من وسائل العلاج: العلم الوسيلة التالية من وسائل إزالة هذا الوسواس هي: العلم، وذلك أنه سبق أن من أسباب الوسواس الجهل بمسالك الشريعة، إذاً فدفعه لا بد فيه من العلم، والعلم يشمل أولاً: العلم الصحيح بالعقائد الذي يدفع كيد الشيطان ووساوسه، والعلم الصحيح بالأحكام الشرعية، وخاصة أبواب المياه والطهارات، والوضوء، والغسل، والصلاة، وغيرها ليعبد الإنسان ربه على بصيرة، ولا يقبل كيد الشيطان، ولا يتعلق ببعض الأقوال الفقهية الضعيفة التي ربما يجد فيها بعض الموسوسين مستمسكاً لهم، بل يعرف الهدي الصحيح من القرآن والسنة وهو الذي فيه الهدى والنور، والذي من اتبعه وعمل به وجد اللذة والسعادة في عبادته، ووجد الراحة في دنياه، ووجد الأجر في آخرته، أما الموسوس فقد لا يخرج بالكفاء. ومن العلم: المعرفة بالوسواس، وأسبابه ودوافعه، وكيفية التغلب عليه ولذلك أشير إلى بعض الكتب والمواضع، التي تكلم فيها أئمة الإسلام عن الوسواس وأسبابه وكيفية دفعه وعلاجه، فمن ذلك ما كتبه الإمام، إمام الحرمين أبو محمد الجويني، في كتابه الذي سماه: التبصرة في الوسوسة، ولا أظن هذا الكتاب مطبوعاً، ولكن نقل كثير من مقاصده الإمام النووي في كتابه المسمى بالمجموع شرح المهذب، نقلها في المواضع المختلفة بحسبها في باب الوضوء وفي باب الصلاة، وفي غيرها، ومن ذلك ما كتبه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، في الجزء الثالث المتعلق بربع المهلكات، حيث تكلم عن الوسوسة ومداخلها وقال: إن مد الله في الأجل، ونسأ في العمر كتبت كتاباً خاصاً عن تلبيس إبليس، ولكنه لم يكتب في ذلك كتاب خاصاً فيما أعلم، فلذلك كتب الإمام ابن الجوزي وهذا من المصادر المهمة في معرفة الوسواس ودفعه، فكتب كتابه القيم الذي سماه "تلبيس إبليس" وهو كتاب مطبوع، ومن ضمن ما تحدث فيه عن الوسوسة في الطهارة، والوسوسة في العبادة والصلاة وفي المعاملات وفي غيرها. ومن الكتب المفيدة جداً في ذلك ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان، في مطلع الجزء الأول حيث تكلم عن مدخل الشيطان على بني آدم بالوسوسة، ونقل عن أبي محمد المقدسي في ذلك فصولاً، وكتب فيه كتابةً لا يكاد يكون غيره من العلماء كتب مثلها، فأنصح إخوتي وأخواتي من المؤمنين والمؤمنات بقراءة هذا الفصل، خاصة مرة ومرتين وتكراره، حتى يرسخ في قلب الإنسان، ويكون له بصيرة، ونوراً في دفع هذا الوسواس. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 23 العزيمة على دفع الوسواس ومن الوسائل والأسباب المعينة على دفع الوسوسة، وهو سبب مهم جداً أن يكون لدى الإنسان عزيمة، وإرادة على دفعه، وهذا السبب إذا فقد، ربما لا تنفع معظم الوسائل السابقة، إذا لم يوجد عند الإنسان قوة إرادة، وعزيمة فإنه لا يكاد يتخلص من الوسواس، لأن الوسواس حينئذٍ يكون سببه خوراً في نفس الإنسان، وضعفاً في معنويته وإرادته، فلا يكاد يتخلص منه الإنسان، ولذلك بعض الموسوسين إذا وجد من يقوي عزيمته، ويشحذها، فإنه يبدأ شيئاً فشيئاً يتغلب حتى يتخلص من الوسواس حتى إن أحدهم يقول لي: إنه وهو يتوضأ يحاول أن يطبق السنة في الوضوء، ويتخلص من الوسواس، لكن يشعر وهو يحرك يده على ذراعه، يشعر أن يده كأنها تلتصق بذراعه، لا تريد أن تخرج من هذا المكان، أو تتعداه إلى غسل المكان الآخر، والعياذ بالله! وكأن أعصاب يده الأخرى تيبس، فلا تريد أن تتحرك، وهكذا يصنع الشيطان. فإذا قويت إرادة الإنسان بالاستعاذة بالله عز وجل وصدق العبادة، وصدق التوكل، مع استجماع قوته، ومع معرفة ما هو مبتلى به، فإنه يستطيع أن يتغلب على ذلك، لأن الشيطان حينئذٍ يأتيه بعد أن ينتهي من الوضوء، فيقول: مسكين! أين أنت ما توضأت الآن، هذا الوضوء لا تقبل صلاتك به، وربما تصلي على غير وضوء فتكون كافراً لأن أهل العلم يقولون: من صلى على غير طهارة فهو مستهزئ، والمستهزئ كافر، وأنت سمعت الشيخ فلان يقرر هذا الكلام، مسكين! ولا يزال الشيطان يثكله في الغالب، حتى يقول إنك ضائع، ولا يغرك فلان وفلان، فعليك أن تعيد الوضوء، فينخدع المسكين، ويعود يرتكس في الحمأة من جديد، فيحتاج إلى أن يكون عنده قوة عزيمة أن يقول للشيطان: رغم أنفك، كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره: {أن الشيطان إذا جاء إلى أحدكم فقال: إنك أحدثت، فليقل له كذبت} زاد ابن حبان في صحيحه {فليقل له في نفسه: كذبت} . لكن بعض الموسوسين -أيضاً- يقول بصوت مرتفع كذبت، وبعد أن يقول: كذبت يذهب يعيد الوضوء، فما نفعه قوله: كذبت، إلا أنه زاده والعياذ بالله بلاءً على بلائه، إذاً يحتاج الموسوس إلى أن يستجمع قوته وإرادته، وأن يتغلب على هذا الشيء الذي لابس قلبه، مهما أصابه من الهم والحزن، إذ يقول له الشيطان يوماً، ويومين، وثلاثة: إنك على غير سبيل، وعلى غير جادة، ويمكن أن تموت وأنت على هذه الحال، هذا الكلام قد لا يفقهه إلا الموسوسون الذين يشعرون فعلاً بأن الشيطان ربما أكثر ما يأتيهم من هذا الباب، فإذا حاولوا أن يطبقوا ما يسمعون من النصائح، أحبط الشيطان هذه المحاولة بهذا الأسلوب. فتحتاج أيها الموسوس، إلى أن تمتلك قوة في عزيمتك، وقوة في إرادتك، وقوة في معرفتك تجعلك لا تلتفت إطلاقاً إلى هذا الإيراد الشيطاني، وصلّ صلاةً معتدلة، وتوضأ وضوءاً معتدلاً، ولا تُعِد الوضوء، ولا تعد الصلاة مهما جاءك من الإرادات، ومهما أصابك من الهم والحزن، ومهما أجلب عليك الشيطان بخيله ورجله، واستمر على ذلك أياماً، ومن المؤكد الملزوم به المجرب، ولعلي أقول لكم إني أعرف عدداً من الإخوة الذين جربوا هذا الأمر، فوجدوه رأي العين، بل وجدوه في أنفسهم، فإن الإنسان إذا أصر وتحدى هذا الكيد الشيطاني، واستمر على ما هو عليه من المجاهدة، ولم يلتفت ولا يعيد الوضوء، ولا يغسل العضو أكثر من ثلاث مرات، ولا يعيد الصلاة، ولا يرفع صوته فيها، ولا يسجد للسهو، أنه لا يكاد يمر عليه أسبوع، أو عشرة أيام على أكثر تقدير، إلا ويخرج من هذا كأنه لم يصبه، وهذا أمر مجرب ومؤكد لا يشك فيه أحد إلا جاهل. والفيصل في ذلك أن يقال لكل موسوس: جرب هذا الأمر، أنت مبتلى بالوسواس ربما من سنة أو سنتين، ما تركت عالماً، ولا طبيباً نفسياً، ولا طالب علم، ولا إمام مسجد، ولا جاهلاً، ولا عامياً، ولا قريباً، ولا بعيداً؛ إلا وسألته وأشغلته بالليل والنهار. ومن بلايا الموسوسين -أجارنا الله وإياكم- أنهم ما أكثر تكرارهم للكلام، بدئه وإعادته، يأتيك الصباح، ويأتيك الظهر، ويأتيك في المساء، ثلاث مرات صباحاً، وظهراً، ومساءً، وربما أزعجك من نومك، وربما أوقفك في الشارع وأنت في عملك، وربما كتب لك الكتابات، وربما أشغلك بالهاتف، يقال له: أنت ما تركت أحداً إلا طرقت بابه، فجرب الآن مرة واحدة أن ترفض جميع ما أنت فيه من الشكوك ومن الإعادات، ومن التكرار ومن الوساوس، وافعل كما يفعل غيرك، ممن يلتزمون بالسنة، ولا تتنطع، وستجد أنك بعد أسبوع تخلصت من ذلك نهائياً، وجرب تجد. لكن هذه التجربة مع أنها أسبوع، وربما المعافى -ولله الحمد عافانا الله وإياكم- يتصور أن أسبوعاً سهل، لكن -والله- إن تطبيق هذا الأمر يوماً واحداً، بل وقتاً أو وقتين على الموسوس، إنه عليه أثقل من أشياء كثيرة، ربما يكون أثقل عليه من أن ينقل جبلاً من مكانه، أثقل عليه من كل شئ، وربما يقول لك: سأفعل ونحن من أولاد اليوم، وأنا أعطيك وعداً، وبعضهم يقول: أتمنى أن أخرج الآن حتى أبدأ في التطبيق، فإذا خرج عاد كل شيء كما كان، لأن الشيطان قد تشرب قلبه ولابسه، ولأنه واهن الإرادة، ضعيف القوة، سرعان ما يخور. فيا أيها الإخوة والأخوات: يا من ابتلوا بالوسوسة، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في دينكم، واتقوا الله في إخوانكم، واعلموا أنه لا هدي إلا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دين إلا دينه، ولا شرع إلا شرعه، ولو أنفق أحدكم عمر نوح ليبحث عن حديث واحد صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو موضوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في وضوء فأعاده، أو شك في صلاة، فأعادها، أو وسوس في أمر من هذه الأمور، أو ترك ماءً للشك، أو أعاد صلاةً للشك، أو خلع ثوباً للشك، لو أنفق عمر نوح ما وجد شيئاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم يسنده في ذلك، ولا عن أصحابه، والمؤمنون يقولون: لو كان خيراً لسبقونا إليه، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف:11] قال: أما المؤمنون فإنهم لا يبتدعون، ولا يحدثون أشياء من عندهم، بل يقولون: لو كان خيراً لسبقونا إليه، أي: لو كان هذا الفعل خيراً لسبقنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، فاسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتجنب الجواد، والطرق التي على كل جادة، منها شيطان يدعوك إليه ويزينه لك، ويغريك به، ويصور لك أن هذا هو طريق الجنة، ولا يلتبس عليك الحق بالباطل، فإن الحجة قائمة، والدين محفوظ: {فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [يونس:108] ولا يجوز لمؤمن أن يبغض إلى نفسه عبادة الله تعالى ولا يبغض ذلك إلى غيره، ولا أن يفتح ثغرة لأعداء الإسلام، ليطعنوا منها في المؤمنين، ولا أن يفتح ثغرة للجهلة ليسخروا منه ويغتابوه، ويقعوا في عرضه. حماني الله وإياكم من كيد الشيطان ووسواسه، وثبتني وإياكم بقوله الثابت، وبصرني وإياكم بمواطن الضعف في نفوسنا، ورزقني وإياكم قوة التوكل عليه، والإنابة إليه، وصدق اللجوء، والانطراح بين يديه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 24 تذكر كيد الشيطان العلاج الثالث: أن تتذكر كيد الشيطان، وأن ما أنت فيه إنما هو تزيينه وتشكيكه، فإن الغريب أن كثيراً من الموسوسين يشتكي مما هو فيه مما يدل على أنه يدرك فعلاً أن هذا من إملاء الشيطان، وإذا رجع، (عادت حليمة إلى عادتها القديمة) ! وبدأ ينصت لهذا الصوت الشيطاني الذي يملي عليه ما يملي، ولذلك لما دخل أبو حازم رحمه الله وهو من أئمة التابعين إلى المسجد فأراد أن يصلي، جاءه الشيطان وقال له: لعلك أن تصلي وأنت على غير وضوء فماذا قال أبو حازم للشيطان؟ هل قال له أحسنت، وأصغى له وذهب ليعيد الوضوء؟! قال له الكلمة الحكيمة: ما بلغ بك النصح إلى هذا، وعرف أن هذا من الشيطان فقال: ما بلغ بك النصح إلى هذا، ما اعتدنا من الشيطان أنه ناصح يذكرنا أنه في بقعة من جسدك ما أصابها الماء، وربما أنك ما نويت، وربما أنك ما كبرت يمكن، يمكن، ما بلغ النصح بالشيطان إلى هذا، وإن كان يدعي ذلك: {وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فدلهما بغرور} [الأعراف:21-22] فلابد لك من معرفة كيد الشيطان، وأن ما أنت فيه من الوسوسة إنما هو من كيده. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 25 الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم وهديه الوسيلة الرابعة من وسائل العلاج: هي الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله تبارك وتعالى أسوة وقدوة للمؤمنين الذين يرغبون أن يردوا حوضه، ويرغبون أن يحشروا في زمرته، ويرغبون أن يكونوا من جلسائه في جنات النعيم، ويرغبون أن تشملهم شفاعته يوم الدين، فكيف كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأشياء؟ 1- في الإيمانيات: انظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد والإيمانيات، أعطاهم الدين يسيراً واضحاً لا تعقيد فيه ولا إشكال، وبين لهم أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وحين جاء الصحابة يشتكون إليه ما يجدون من وسوسة الشيطان، هون الموضوع عليهم صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كما في صحيح مسلم: {هل وجدتموه قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان، الحمدالله الذي رد كيده إلى الوسوسة} فبين لهم أن ما أصابهم هو بسبب إيمانهم؛ لأن الشيطان إنما يوسوس في القلب الذي فيه إيمان، واللص لا يتسور البيت الخرب، وإنما يتسور البيت المليء بالحلي والذهب، فهذا الوسواس وشعور المؤمن بكراهيته وخوفه منه هو دليل على الإيمان، لكن عليه أن يعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الآخر الصحيح: {فليستعذ بالله ولينته} وهو في الصحيحين، وحين ذكر أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن الشيطان لا يزال يسألكم مَنْ خلق كذا، مَنْ خلق كذا، حتى يقول: مَنْ خلق الله، فليقل الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وفي حديث صحيح {أنه أمره بقراءة قل هو الله أحد} . إذاً: القضية سهلة وميسرة وهي أن عليك أن تغفل هذا الأمر ولا تعيره اهتماماً، اقرأ هذه الأدعية والأذكار وتحصن من الشيطان، وادع الله عز وجل ولا تكترث بهذا الأمر، فكثرة تفكيرك به وحرصك الشديد المبالغ فيه على مدافعته يجعل الأمر يزيد وينتشر في قلبك، فإن الشيطان مثل الكلب، إذا التفتَّ إليه ودافعته فإنه ينبحك ويركض وراءك، فإذا أعرضت عنه نبح مرة أو مرتين ثم ذهب وتركك. هذا جانب من هديه صلى الله عليه وسلم في الإيمانيات. 2- في قضايا المياه: تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في قضايا المياه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر في شرقي المدينة يلقى فيها النتن والحيض ولحوم الكلاب، فقالوا: يا رسول الله! إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن، والحيض، ولحوم الكلاب، فقال صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء} والحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وغيرهم، وصححه أحمد، ويحي بن معين، والترمذي، وغيرهم، فهو حديث صحيح، فلا وسع الله على من لم يسعه هدي محمد صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء} . وكان من هديه أن يتوضأ بكل ماء إلا أن يظهر على هذا الماء أثر نجاسة بلونه أو طعمه أو ريحه، توضأ من قصعة فيها من اثر العجين، وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ من الحياض، والمقالي التي تردها السباع والدواب في الصحراء، فقال بعض الصحابة، لعله عمر بن الخطاب أو غيره بحسب الروايات: {يا صاحب المقراة! أخبرنا عن مقراتك تردها السباع، أم لا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تخبره، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور} والحديث صح عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري في السنن وغيرها، وقيل له كما في حديث جابر: {يا رسول الله! أنتوضأ بما أفضلت الحمر، قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها} رواه الدارقطني، والبيهقي بأسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض أصبحت قوية كما يقول البيهقي. وفي حديث عائشة عند الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم: {جيء له بماء يتوضأ، فأقبلت الهرة فأصغى لها الإناء لتشرب ثم توضأ بفضلها} . هذا هديه صلى الله عليه وسلم في المياه، ما تنطّع وما تشدّد على نفسه، ولا ذهب ليسأل هل هذا الماء طاهر أو نجس أو ما أشبه ذلك، ثم كان يتوضأ بالماء القليل، فكان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، والمد هو قدر راحة الإنسان المتوسط مبسوطتين، -كما يقول صاحب القاموس وغيره- يتوضأ بقدر ما يملأ راحتيك إذا مددتهما وبسطتهما وملأتهما بالماء، ويغتسل بالصاع: وهو أربعة أمداد بل يغتسل بما دون ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل معها بإناء يسع ثلاثة أمداد أو نحو ذلك، وكان يغتسل مع زوجاته، مع عائشة، وأم سلمة، كما في الصحيحين ويغتسل بفضل ميمونة كما في صحيح مسلم، ومعروف أن آنيتهم كانت صغيرة، وعائشة وأم سلمة تقولان: إنهما كانتا تغتسلان معه، فـ عائشة تقول: {كنت أغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء تختلف أيدينا فيه} كأن هذا الإناء الصغير لا يسع يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويدي أم المؤمنين فإذا رفع يديه، أدخلت يديها، زاد البخاري من حديث عائشة، {فيبادرني، وأبادره} أي: كل واحد منهما يستعجل ليأخذ شيئاً من الماء وفي رواية النسائي: {حتى أقول: دع لي دع لي، ويقول: دعي لي دعي لي} ما كان يتوضأ بإناء يسع خمس قرب أو ست قرب، ولا كان يفتح الصنبور مدة ربع ساعة أو نصف ساعة صلى الله عليه وسلم. 3- هدي النبي في الطهارة: ثم هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء: كان يتوضأ مرة، مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، كما في الصحيحين لا يزيد على ذلك، وسبق قبل قليل الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء، وتعدى وظلم} ثم انظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في النجاسات في الثياب وغيرها، كان يحمل الصبيان والغلمان فربما بال أحدهم على ثوبه صلى الله عليه وسلم، فلا يصنع عليه الصلاة والسلام أكثر من أن يدعو بماء فيرشه وينضحه بالنسبة للصبيان، كما في الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن ومن حديث عائشة في صحيح البخاري، وأحاديث كثيرة ربما بلغت حد التواتر: {وهي أنه كان ينضح ما يصيبه من بول الصبيان} وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع زوجاته، وربما أصاب ثوبه شيء من دم الحيض فيكتفي بأن يغسل موضع الدم ثم يصلي به صلى الله عليه وسلم، وربما أصاب ثوبه شيء من منيه عليه الصلاة والسلام، فاكتفى بأن يفركه، أو تفركه إحدى زوجاته إن كان يابساً، أو تميطه بخرقة، أو أذخرةٍ، أو تغسله إن كان رطباً. وفي صحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم: {صلى والمني في ثوبه، فكانت عائشة تفركه من ثوبه وهو يصلي} . وسأل معاوية رضي الله عنه أم المؤمنين أخته كما عند الطحاوي وغيره بسند صحيح: {أكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يضاجعك أو يجامعك فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى} . ثم تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في هذا تجد أنه أكمل الهدي، وأسلمه، وأبعده عن التعمق، والتكلف وأخذ هذا عنه أصحابه رضي الله عنهم، فما كانوا يقبلون غير ذلك، وكذلك أخذه عنه من بعدهم، فكان التابعون يتوضئون بالماء اليسير، حتى أن منهم من توضأ بنصف المد، ومنهم من توضأ بربعه، وهذا كما يقول ابن قدامة مبالغة شديدة، ومنهم من توضأ فلا يبل وضوءه الأرض، وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: من فقه الرجل قلة وضوئه بالماء، وقال المغوزي: أردت أن أوضئ الإمام أحمد وأنا في العسكر، فسترته من الناس لئلا يراه العوام فيظنون أنه لا يحسن الوضوء لقلة استعماله للماء. انظروا إلى هديه صلى الله عليه وسلم في انتقاض الوضوء الذي ابتلى كثير من الموسوسين بأنه قد يكون خرج منه شيء، فيعيد الوضوء مرات -كما سبق- ويتنطع، ويذهب لينظر في ذكره وما أشبه ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في حديث عبد الله بن زيد: {شُكِي إليه الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} وفي حديث أبي هريرة بنحو ذلك. إذاً: الطهارة أصل، والحدث طارئ عليها مشكوك فيه فلا ينصرف حتى يقطع بأن حدثه قد انتقض، ولا ينبغي أن يشغل نفسه بالتفكير والنظر هل خرج منه شيء أو لم يخرج، لكن إذا علم ذلك بصوت أو ريح أو ما أشبههما من الوسائل اليقينية القاطعة فحينئذٍ يتوضأ، أما تكرير الوضوء وإعادته وتكريره وكثرة العرك، والفرك فهذه من مخالفة هدي طائفة السلف رضي الله عنهم. 4- هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة: كذلك هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وعدم الوسوسة أو كثرة التكرير أو الشك فيها كما يفعل كثير من الموسوسين في التكبير، ثم في أفعال الصلاة ربما زاد وربما نقص، وربما أعاد وربما لا يكاد يصلي أحد منهم إلا ويسجد للسهو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعيداً عن هذا كله مع استحضار قلبه للصلاة وخشوعه فيها، وكمال ذكره، قل ما يسهو، وربما سها فنبه إلى ذلك كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين فاستقبل القبلة فصلى ركعتين ثم سجد للسهو صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص، وهي بنت بنته صلى الله عليه وسلم فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها وهذا أيضاً في الصحيحين، وربما صلى صلى الله عليه وسلم وبجواره الحسن أو الحسين فارتقى على ظهره عليه الصلاة والسلام، فتأخر في السجود حتى ينزل، فيسأله الجزء: 172 ¦ الصفحة: 26 معرفة أنه من كيد الشيطان أما العلاج الآخر فهو: أن يعرف أن الله تبارك وتعالى قال عن كيد الشيطان، وهو يذكر على لسان إبليس وكيده للإنسان، أن الشيطان كان يقول: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17] . فقال: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، أي: من كل طريق يسلكه الإنسان، فالشيطان يقعد له بطريق الإسلام، بطريق الهجرة، بطريق الجهاد، بكل طريق يسلكه، ولكن المقصود في هذا الموضع، أن الشيطان ذكر اليمين والشمال، والأمام، والخلف، ولم يذكر الفوق، ما قال (ومن فوقهم) لماذا؟ لأنه يعرف أن الله فوقه، وأنه لا يستطيع أن يحول بينهم وبين الله عز وجل، وبينهم وبين رحمة الله تبارك وتعالى، ولذلك فالمبتلى بالوسواس أو بغيره، إذا سأل الله عز وجل بصدق قلب، وإقبال وحرارة فإن الله عز وجل لا يرد من قرع بابه في صدق: لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يَغضب فمن سأل الله بصدق وإقبال فإن الله عز وجل لا يخيبه أبدا، ولذلك ما قال الشيطان: من فوقهم؛ لأنه يعرف أن الله عز وجل قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وليعلم الموسوس أن الانطراح بين يدي الله عز وجل هو مفتاح الشفاء لهذا المرض ولغيره، بل ولأمراضه الحسية والجسدية. ومن ذلك أن يعلم الموسوس أن الله رحيم بعباده، هذه مهمة جداً فالشيطان لا يحول بينك وبين رحمة الله، فإذا قال لك الشيطان: إنما أنت فيه من الدين؛ فتذكر أن الله عز وجل لا يريد أن يشق على عباده ولا أن يهلكهم بهذه الأشياء، وإذا قال لك الشيطان: يمكن أن تموت على الكفر بهذه الوساوس والشكوك؛ فتذكر أن الله عز وجل عليم بعبادة {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء:147] فالله عز وجل يريد أن يرحم عباده {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185] . الجزء: 172 ¦ الصفحة: 27 الاقتناع بأن الوسواس مرض يجب التخلص منه الوسيلة الأولى: هي أن تدرك فعلاً أن ما أنت فيه هو مرض يجب علاجه والتخلص منه، فإن الإنسان إذا لم يقتنع بأنه مصاب بالمرض فعلاً، فإن استجابته للعلاج ضعيفة أو معدومة، لأن هذا مرض يمكن أن نقول عنه: إنه نفسي، والمريض النفسي إذا لم يقتنع أنه مريض قد يُعطى العلاج فيرمي به ولا يبالي، لأنه يرى أن ما هو فيه ليس بمرض بل هو عين الحق وعين الصواب، بل قد يرمي غيره بمن لم يبتلوا بهذا الداء بأنهم مفرطون لا يبالون بأي ماء توضئوا، ولا بأي مكان صلوا، ولا بأي نية عملوا، ولا يبالون بأعمالهم وعباداتهم، وأنهم متساهلون في هذه الأشياء فلا بد أن تدرك أن ما أنت فيه هو بلاء ومرض وأنه ليس عبادة تؤجر عليها وإليك الدليل: الدليل على أنه ليس عبادة تؤجر عليها: أن الله عز وجل يحب العبادات يحب الطهارة قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] يحب الصلاة ويحب المصلين، وهو يبغض الوسواس والموسوسين، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وسعيد بن منصور بسند حسن، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم} إذاً الموسوس متعدٍ، والله عز وجل يقول في محكم التنزيل: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55] . إن الله لا يحب المعتدين في الوضوء، والطهارة، والصلاة، والدعاء، وغيره، وغاية ما يقال في شأن الموسوس: إنه مبتلى، وإلا فقد يقال: إنه لو اعتقد أنما هو فيه هو عين الحق والصواب، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه: إنه مشاقٌ لله ورسوله، مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، مخالف لمنهج السلف الصالح، قال: وقال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية - إنه يستحق التعزير البليغ على مخالفته لهدي النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: لابد أن يعرف الموسوس أنه مصاب ومبتلى، وإلا فلن يستجيب للعلاج، وقد صلى بجنبي يوماً من الأيام رجل في أحد المساجد، فرأيت من جهله بالصلاة وكثرة إعادته للتكبير وتشدده وابتلائه في ذلك ما جعلني بعد أن سلَّم وكان مسبوقاً بركعة، أحببت أن أحدثه في ذلك وأنصحه، فلما سلم عن شماله قام سريعاً وخرج يركض، وهو لا يريد أن يكلمه أحد في هذا السبيل، وبعضهم إذا علم أنك ستحادثه تجنب ملاقاتك خشية أن تفتح معه هذا الموضوع، إذاً القضية خطيرة وقد تودي بالإنسان إلى مخاطر ومحاذير كثيرة. فعلى الموسوس أولاً: أن يكون لديه معرفة أنه مبتلى ويجب أن يستجيب للعلاج. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 28 الأسئلة الجزء: 172 ¦ الصفحة: 29 كيفية قضاء العمر السؤال كيف يمكنني أن أقضي وقتي بما فيه فائدة، خاصة وأن بعض الشباب يقضون أوقاتهم بما ليس فيها فائدة؟ الجواب "العمر سريع التقضي، أبي التأني، بطيء الرجوع" كما يقول شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين، ولذلك على الإنسان أن يغتنم ساعات العمر، والأيام، والليالي، فأفٍ وتف، ثم أفٍ وتف، لعمر يضيع في لهو، ولعب، وهو الفرصة الوحيدة لي ولكم أن نقدم لأخرانا ما استطعنا من الأعمال الصالحة. فالإنسان الشاب عليه أن يتدارك عمره في طلب العلم النافع، وصحبة الأخيار، وحضور مجالس الذكر، وحفظ القرآن، وتدريسه، وأن يعمل بما علم، ويعلّم غيره، فإن زكاة العلم العمل والتعليم، وأنا أعتذر إليكم عن هذه الإطالة. ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وجزاكم الله خيراً. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 30 النتر والسلت بين البدعة والسنة السؤال إنك ذكرت أن النتر والسلت من البدع المحدثة، إذا كان يخرج من الذكر نقطة أو نقطتان، فكيف أفعل بذلك؟ الجواب بعض الفقهاء ذكروا أنه يسلت ذكره، وقد ورد في ذلك حديث عند ابن ماجة لكنه لا يصح، وقد أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية، أنكر السلت، والنتر، وراجعه ابن القيم في ذلك مراراً، فقال: لا يفعل ونهاه عن ذلك، وقال-كما سبق-: إن البول إذا استدعي در، وإذا ترك قر، فإذا كان الإنسان جرب عملياً، أنه بعدما يتبول ينتظر بعد ذلك دقيقة أو نحو ذلك، ثم يخرج قطرة أو قطرتين عادة، وأنه لو توضأ وقام خرجت منه فعلاً وقطعاً بلا شك ينتظر حتى تخرج منه، لكن أقول التحفظ السابق، هذا الكلام قد يستغله بعض المصابين بالوسواس. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 31 سؤال عن أم موسوسة السؤال له والدة تبلغ من العمر سبعين سنة تقريباً، ابتليت بالوسوسة في الصلاة والوضوء، فقد تصلي العصر إلى ثمان ركعات، ولا تصلي الصلاة إلا ولا بد أن تسجد فيها للسهو، وفي الوضوء تتوضأ بماء كثير، وتمكث في دورة المياه حوالي نصف ساعة، تستهلك الماء الكثير، وحاول أن يعالجها فلم يستطع، فبم توجهني جزاك الله خيراً؟ الجواب التوجيه بما سبق، وامرأة في هذا السن، ولا زالت على الوسواس الأمر فيه صعوبة، ولكن على الأخ ألاَّ ييئس وأن يستمر شيئاً فشيئاً، ويذكرها بالله، ويسمعها كلام أهل العلم في ذلك، ويقرأ عليها الأحاديث، ويعلمها بعض الأحكام التي قد تجهلها، وإن كانت تنسى أو غير ذلك، فيعيد عليها هذا الأمر مرة بعد أخرى، لعل الله أن يعينها على ما هي فيه. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 32 ترك الصلاة خوف الرياء السؤال عندما أؤدي أي عبادة أحس أنني مراءٍ، وفي بعض الأحيان قد أترك هذه الصلاة أو العبادة بسبب هذا الوسواس، أرجو منكم العلاج؟ الجواب نعم، هذه من الوساوس، وهو أن الشيطان يلبس على الإنسان ويقول له: قد تكون مرائياً، حتى يترك العمل، وكونك تركت العمل دليل أنك لست مرائياً، لأنك لو كنت مرائياً لاستمررت على العمل، فكونك تركته خشية الرياء دليل على أنك تحاذر الرياء، فالشيطان له مداخله العظيمة، قد يدخل من الأبواب التي يخيل إليك أنك تتقي الشيطان فيها، فإذا وسوس لك الشيطان في عمل بأنك تقصد غير وجه الله بهذا العمل، وبدأت نفسك تقول: أترك هذا العمل، فالذي أنصحك به وغيرك، أقول: اعمل هذا العمل وزد عليه وأرغم أنف الشيطان. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 33 الوسوسة في الإيمان السؤال يقول إنه في التاسعة عشرة من عمره، كان يشعر بقوة الإيمان، وفي هذه السنة بدأ يأتيه الشك، حتى إذا سمع قول فرقة من الفرق الضالة، بدأ يشك، هل هذا من الوسوسة، ويرجو العلاج؟ الجواب هذا من الوسواس، وهو معروف عند العلماء يسمونه -كما أسلفت قبل قليل- بالشك الديني، والواقع أنه وسوسة تصيب كثيراً من الشباب في هذه المرحلة، حتى إن منهم من يوسوس في البديهيات، أحد الشباب يوسوس يقول: ما هو الدليل على أنه كان هناك رسول موجود؟! ما هو الدليل على أنه كان هناك خلفاء راشدون؟! ما هو الدليل على وجود الدولة الأموية؟! ودولة أخرى تسمى الدولة العباسية؟! ودولة ثالثة تسمى دولة العثمانيين؟! ما هو الدليل على ذلك؟! أقول: ما هو الدليل إذاً على وجود دول في أوروبا وأمريكا؟! ما هو الدليل على وجود عقلك أيها السائل؟!! يشكك الإنسان، ثم إن هذا الإنسان جاء يوماً من الأيام فرحاً مسروراً، وكأنه قد اكتشف أمراً عظيماً، ماذا اكتشف؟! وجد أن هناك درهماً أو ديناراً مضروباً في عهد عبد الملك بن مروان، فقال: إنه اكتشف الآن أنه موجود أي عبد الملك بن مروان، لماذا هو موجود؟! قال: لأن اسمه مضروب على هذه السكة. فتح الله عليك!! هذه الدنيا كلها، وهذه الكتب، والناس كلهم، مسلمهم، وكافرهم، عربهم، وعجمهم، ذكرهم، وأنثاهم، عالمهم، وجاهلهم، يعرفون هذه الحقائق، فوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يشكك فيه ولا اليهود، ولا النصارى، ولا البوذيون، ولا الوثنيون، ولا غيرهم. قد يكفرون به عليه الصلاة والسلام، لكن جميع هذه الطوائف لا يشككون في وجوده عليه الصلاة والسلام، فهذا نوع من الخفة تصيب عقل الإنسان، قد يكون سببها أحياناً فترة المراهقة، والشيء الخطير جداً هو إنصات الإنسان لهذا الشيء، وكثرت اهتمامه به، واكتراثه له، وتفكيره فيه، ولذلك النصيحة الذهبية التي تُهدى لكل شباب مبتلى بهذا الأمر، أن يقال له: اشتغل بأمورك، وأمض في سبيلك، في دراستك، وصداقتك مع زملائك، وأعمالك في البيت، وما أنت بشأنه، ولا تكترث لهذه الأشياء، لا تكترث لها، وكل ما يخطر في بالك فادفعه ولا تبالي به. وإن كان في شأن الله عز وجل فتذكر النصيحة التي أثبتها بعض العلماء كـ الغزالي رحمه الله وغيره: كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، أيّ صورة يصورها لك الشيطان عن الله عز وجل فيها نقص فلا تكترث؛ لأن هذا ليس هو الله عز وجل والله لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول، فلا تبال بذلك، ولا تكترث، ولا تضق به ذرعاً، لأن الشيطان يريد أن يحزن الذين آمنوا. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 34 نقص غريزة العقل والوسواس السؤال قلت: إن السبب الأول في الوسواس، هو نقص في غريزة العقل؟ إضافة العقل إلى الغريزة إضافة مناسبة، هذا يقتضي أن يكون العقل غريزة. الجواب هذا الكلام أظن أنه بنصه بنصها من كلام الإمام الجويني، وفيما يبدو لي أنه وجيه، أن العقل غريزة، بمعنى أنه مغروز، لأن أصل كلمة غريزة في اللغة، أي أنها شيء مغروز، أو مغروس، أو مخلوق مع الإنسان، وليس من كسبه هو. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 35 العجز عن المجاهدة السؤال يقول السائل: إنه عجز عن مجاهدة النفس بتخليل الماء فهل هو آثم؟ وما هو العلاج؟ الجواب العلاج سبق، ولو صح أنه عاجز فعلاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن غير صحيح أنه عاجز، كيف يكون عاجزاً؟ وهو رجل مستطيع قادر، فلا يمكن أن يقال: إنه عاجز، وهذا يذكرني بالسؤال الطريف الذي سأله أحدهم الإمام أبا محمد المقدسي، قال له يا أبا محمد! إنني عجزت أن أقول السلام عليكم، إذا أردت أن أسلم للصلاة لا أستطيع أن أقول السلام عليكم ورحمة الله، فضحك الإمام أبو محمد، وقال: قل مثلما قلت الآن! فما بالك إذا كنت تتحدث مع الناس تقولها بهدوء، فإذا جاء وقت الصلاة أصابك ما قرب وما بعد، أنت الآن تقول: إنك لا تستطيع أن تغسل أعضاءك بسهولة، لو كنت تريد أن تغسلها غسلاً عادياً لغير الوضوء لغسلتها بكل يسر، فلم إذا جاء غسلها من أجل الوضوء أصابك هذا! لا، أنت تستطيع ولست بعاجز. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 36 الوسوسة في الصلاة السؤال إنه عندما يأتي إلى الصلاة يحس بالوسوسة، مثل التفكير بالموت، أو الأهل فبماذا تنصحني؟ الجواب كل أمر إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، أحد الشباب كان يقول: أصابه الخوف والذعر من الموت، وبدأ يوسوس في الموت ليل نهار، وتعدى الأمر إلى وساوس كثيرة جداً في الوضوء، والطهارة، والصلاة، لكن بلغ الأمر - والعياذ بالله- إلى أنه يتجنب المرور في الشوارع القريبة من المقابر وهي في طريق عمله، فيذهب في طريق بعيد لئلا يمر بهذا، لأنه يصيبه ما يصيبه. وإذا رأى الناس في المسجد أصابه ما أصابه، هذا من ضعف النفس من خور القلب، وقلة الإيمان، فعلى الإنسان أن يحرص أن يملأ قلبه بالمادة الصالحة، كل هذه الأسئلة الإجابة عنها أن تملأ قلبك بالمواد الصالحة: بحفظ القرآن، بطلب العلم النافع، بالدعوة إلى الله، بكثرة التسبيح والتهليل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذٍ تنطرد جميع المواد الخبيثة، ويقول بعضها لبعض لا مقام لكم فارجعوا، فتخرج من قلبك، أما إذا خلا القلب فإن الشياطين تتلاعب وتتراكض كما تتراكض الذئاب في الصحراء الخالية. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 37 النفث في الصلاة السؤال إذا أشغل الشيطان المصلي، هل ينفث عن يساره ثلاثاً؟ وما هو الحل من وساوس الشيطان وخاصة في الصلاة؟ الجواب موضوع طرد الوسواس واستحضار النية، باختصار شديد: سبب الانشغال في الصلاة بالخواطر، والواردات، إما أن يكون سبباً خارجياً، مثل أن يكون الجو الذي فيه الإنسان، أو المسجد فيه ما يشغل الإنسان من صوت، أو صورة، أو ما أشبه ذلك، فعلى الإنسان أن يحرص على دفع هذا الأمر، وإبعاده عنه، وإما أن يكون سبباً داخلياً، وهو أن يكون قلب المصلي مشغولاً بدنيا، بطلب تجارة، برئاسة، بشيء من هذه الأشياء، وهذا هو الأمر الذي يحتاج إلى مجاهدة شديدة في علاجه. فعلى الإنسان أن يجعل حياته في طاعة الله، وألاَّ يشغل دنياه إلا في مرضاة الله، وحتى ما يشتغل به من أمور الدنيا لا يكثر منه ويشغل قلبه به، أما إذا أشغل قلبه به، فليبشر أنه إذا صف في الصلاة فإن هذه الواردات ستخطر على قلبه، وإذا كان سبق معكم قبل قليل من أسباب دفع الوسواس، الانطراح، والدعاء وذكر الله عز وجل فما بالكم حين يكون هذا السبب لدفع الوسواس هو نفسه قد وسوس فيه الشيطان، حتى إن كثيراً من الناس لا ترد عليه الخواطر، والواردات إلا إذا بدأ يصلي. وكلكم تعرفون قصة الرجل الذي جاء إلى أبي حنيفة، فقال: إنه فقد مبلغاً من المال ونسي، لا يدري أين وضعه فقال له: اذهب وصلّ عشر ركعات، فصلى هذا الرجل ركعتين، ثم جاء لـ أبي حنيفة وقال: جزاك الله خيراً قد تذكرت أين هو، قال أبو حنيفة: إن الشيطان لما رأى أنك تريد أن تصلي عشر ركعات، قطع عليك الطريق وأخبرك أين هو، حتى لا تكمل هذه الركعات العشر التي نويت أن تصليها، فالشيطان يحول بين الإنسان وصلاته، كما في حديث أبي هريرة في الصحيح. فعلى الإنسان أن يستحضر معنى ما يقرأ من الأذكار والأدعية، يبكر إلى الصلاة، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويتنفل، ويخبت لله عز وجل ولا يكثر الحركة، ومهما تذكر أنه في صلاة فيحرص على استحضار النية، واستحضار الخشوع. أحياناً قد لا تذكر أنك في صلاة إلا وأنت في التشهد الأخير، وأنت تقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، تذكرت أنك في صلاة، فتقول: هل فاتت علي هذه؟ لا، ما فاتت بقي عليك هذا الدعاء الأخير، حاول أن تستذكر معناه، وتسأل الله بقلب صادق، وبالمجاهدة، فالدنيا ميدان جهاد. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 38 الوسوسة في أخذ العين المحرمة السؤال يحصل عندي وسوسة، وذلك لأجل أني اشتريت شيئاً محرماً، ولم أؤدِ قيمته، وعندما هداني الله للحق والصواب، حصل عندي وسوسة لأنني إن أعطيته أكون معيناً له على الحرام، أرجو إرشادي؟ الجواب إذا كانت الوسوسة في هذا الأمر فقط، فهذه ليست وسوسة، هذا شك أو جهل بالحكم الشرعي، أما إن كانت وسوسة عامة في أمور كثيرة، فالكلام السابق كله يتعلق بالوسواس، أما فيما يتعلق بهذا الأمر فلا تعطه قيمة هذا الشيء المحرم الذي اشتريته منه، لكن أنصحك بأن تتصدق بقيمته في سبيل الله. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 39 وسوسة في البول السؤال إذا انتهيت من قضاء الحاجة، أحس أن البول لم ينقطع، فكيف أفعل في التخلص من هذه المشكلة؟ الجواب إذا كان ذلك من باب الوسوسة فسبق الجواب. إما إن كان فعلاً عنده شيء من السلس، ويحس بعدم خروج هذه القطرات، فإن كان يكفي أن ينتظر دقيقتين أو ثلاث دقائق حتى تخرج ثم يتوضأ فحسن وإن كان سلساً مستمراً معه فحكم السلس معروف، وهو أنه يتحفظ بما يمنع وصول النجاسة إلى المسجد أو غيره، ثم يتوضأ إذا دخل وقت الصلاة ويصلي، كما في أحاديث المستحاضة، وهي أحاديث في الصحيحين وغيرها، أنها تتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وهكذا من به حدث دائم كالسلس. وكذلك أرشد الأخ إلى أنه بعد أن ينتهي من الوضوء، عليه أن ينضح فرجه، وسراويله بشيء من الماء، وقد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنه كان إذا توضأ نضح فرجه} وكذلك ورد عن الصحابة، والتابعين، وكثير من السلف، كان إذا توضأ نضح فرجه، حتى إذا وسوس له الشيطان بوجود رطوبة، قال: هذا من الماء الذي نضحت به فرجي، أو سراويلي. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 40 الوسوسة في عدم فعل الكمال السؤال أنا شاب أرى كلما عملت عملاً، وفعلت فعلاً في طاعة الله عز وجل أنه ناقص، ولم أفعله على الوجه الأكمل؟ فهل هذا يعتبر من الوسواس؟ الجواب أما كون الإنسان دائماً يتطلع إلى الأفضل، فهذا خير ومطلوب، والعبد لا يزال في جهاد حتى يموت، ولا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه بلغ الكمال، فإن اعتقد أنه بلغ الكمال، فإنه من نقصه، أما إن كان يحس بأن هذا شعور غير طبيعي، وكلما عمل عملاً يحصل عنده تردد، وتذبذب، وشك، ووسوسة، فعليه أن يعمل، ويتوكل على الله عز وجل ولا يلتفت إلى هذا الشعور. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 41 الشك في الإخلاص السؤال هذا أخ يقول: إنه يخدم زملاءه، لكن يشك في هذه الخدمة، هل هي خالصة لوجه الله أم لا؟ الجواب هذا من الأشياء التي يدخل منها الشيطان على الإنسان، تشكيكه في النية، والنية ظاهرة أحياناً، فالإنسان يعرف نيته في كثير من الأشياء، أرأيت فيما يتعلق بالوضوء؟ إذا أحضر إنسان ماءً ودخل دورة المياه، وأغلق الباب، ماذا يريد؟ أيريد أن ينام؟! يريد أن يتوضأ ثم يخرج ليصلي؟ وإذا جاء إنسان إلى المسجد، وجلس خلف الإمام ينتظر إقامة الصلاة، لماذا يجلس؟ ماذا ينتظر؟ كل الناس يعرفون أنه جالس للصلاة، هذه قضية معروفة، والشك في النية من أعظم الأدلة على الخبل في عقل الموسوس، لأن الناس يعرفون نيتك في مثل هذه الأمور من آثارها، فكيف لا تعرف نيتك وقصدك؟! ولا داعي للتنطع، ولو كلف الإنسان أن يدفع النية عن قلبه لما استطاع، لا يستطيع الإنسان أن يعمل عملاً بدون نية، ولا يتنطع في إحضار النية، لأن النية مجرد هذا القصد الموجود في قلبك. الأعمال الأخرى: إذا كان أصل قصد الإنسان فيها حسناً، أو دافعه ليس بسيئ، لم يكن عمل هذا العمل من أجل أن يمدح، ولا من أجل نيل أمر من أمور الدنيا، فعليه أن يستمر في هذا العمل، ويحرص على إخلاص النية، ولا يجعل مدخلاً للشيطان أنه قد يترك أعمالاً طيبة، لأن الشيطان شككه بأن قصده ليس بحسن. اعمل هذا العمل من خدمة زملائك، أو طلب العلم، أو الدعوة إلى الله، أو التعليم، وإن كنت تحس أن نيتك ليست تامة، فليس الحل هو أن تترك هذا العمل، الحل أن تستمر في هذا العمل، وترغم أنف الشيطان، وتجاهد نفسك في إصلاح نيتك. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 42 البطء في الغسل تلذذاً بالماء السؤال عندما أريد الاغتسال من الجنابة، أجد في الاغتسال تلذذاً وأطيل زمن الجلوس في الماء؟ هل هذا يعد من أمور الوسواس؟ الجواب إذا كان لمجرد التلذذ بالماء لبرودته -مثلاً- أو لسخونته في وقت الشتاء أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يعد من الوسواس ولكنه يعد من الإسراف، وقبل قليل سمعتم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {أنه كان يتوضأ بمد، ويغتسل بصاع} وحديث عائشة في صحيح مسلم {أنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء يسع ثلاثة أمداد} وفي حديث سعد عند أحمد {لا تسرف} قال: أو في الماء إسراف يا رسول الله؟ قال: نعم ولو كنت على نهر جار} . الجزء: 172 ¦ الصفحة: 43 كتب في الوسواس السؤال ما الكتب التي تنصح بقراءتها فيما يختص بهذا الموضوع؟ الجواب ذكرت بعض الكتب سابقاً، وعلى من ابتلي بهذا مع قراءة الكتب أن يتصل بأحد المشايخ أو غيرهم، ويعرض عليه حاله، لكن يحذر من أن يكون ممن يسمع بأذن، ويخرج ما يسمع من الأذن الأخرى إما أن يكون رجلاً يسمع ويطيع، وينفذ، وإما أن يجلس في حاله، ولا يشغل الناس فيما هو فيه. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 44 الوسواس في الطاعة أم المعصية السؤال هناك بعض الناس يطلق على الملتزم بأوامر الشرع من إعفاء اللحية، والمحافظة على الصلوات، والمداومة على حزب من القرآن الكريم، وغيرها من الواجبات، والنوافل، كلمة موسوس. فهل الشيطان الرجيم يوسوس بالطاعة، أم بالمعصية، كحلق اللحية، والإسبال، كما وسوس لأبينا آدم عليه السلام، بمعصية الله عز وجل بالأكل من الشجرة؟ الجواب الواقع أن الله عز وجل ذكر لنا {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِين * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون َ) [المطففين:29-32] فليس من الغريب أن يُسخَر من المؤمن، لأنه أعفى لحيته، أو لأنه مقصر ثوبه، أو يبكر إلى المسجد، أو يكثر من تلاوة القرآن، أو طلب العلم، أو يتجنب أكل الربا والحرام، أو لا يدخل أجهزة الهدم والدمار والتخريب إلى بيته. ليس غريباً أن يُسخر منه لأن الله جل وعلا أخبرنا أن هذا سنجده في الطريق، بل الغريب لو لم يقع هذا، بل لا يمكن أن لا يقع هذا، كيف لا يقع والله سبحانه أخبرنا أنه سيقع؟! لكن المؤمن يصبر، ويدرك أنه إذا كان الله معه فلا يضيره أن يعاديه الناس، وإذا كان واثقاً من طريقه فما يبالي أن يسخر منه التائهون، ولك أسوة وقدوة بنوح عليه الصلاة والسلام، قال الله فيه: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38] سخروا سخرية الجاهل، يا نوح أتصنع السفينة وأنت في بر أين عقلك؟ سخروا منه: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود:39] تسخرون بالباطل ونسخر منكم بالحق. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 45 صلاة المرأة الحائض السؤال امرأة في جماعة وهى حائض، ولا تريد أن يعلم بها من حولها أنها حائض، وتصلي أمامهم بلا طهارة، ولا قراءة، إنما مجرد أفعال، حتى لا يُعلم أنها حائض؟ الجواب أولاً الحيض أمر طبيعي ليس فيه عيب أو عار، وكل بنات آدم كتب الله عليهن هذا الأمر، وليس هناك مجال حتى تكتمه المرأة أو تستره، ولا يجوز بحال من الأحوال لغير متوضئ أن يصلي، لكن ننتبه، لا يأتي أحد الموسوسين إلى هذه الفتيا فيجريها لصالحه -كما أشرت قبل قليل- فإذا توضأ مرتين، أو ثلاثاً، أو عشر مرات، وجلس ساعتين، أو ثلاث ساعات في الخلاء، ثم خرج، وقال: والله يمكن إني نسيت أن أمسح رأسي، فإذا كبر تسلط عليه الشيطان، وقال أنت تصلي بدون وضوء، وأنت سمعت فلاناً يقول: إنه لا تجوز الصلاة بدون وضوء، أو أن الصلاة بدون وضوء قد تكون سخرية واستهزاء، لا، امرأة حائض لا يجوز أن تصلي، ورجل يعلم من نفسه أنه غير متوضئ لا يجوز أن يصلي، لكن الموسوس إذا توضأ وغسل أعضاءه ولو مرة واحدة يصلي ولا شيء في ذلك. الجزء: 172 ¦ الصفحة: 46 رسالة إلى الأب تحدث الشيخ عن نعمة الأولاد منبهاً على أن البنات نعمة كالبنين، وكما أن لكل نعمة شكراً يقدمه العبد إلى ربه، فلنعمة الأولاد شكر وهو القيام بحق الله فيهم وحسن تربيتهم على الدين والأخلاق، وقبل ذلك اختيار أمهم والالتزام بشرع الله في الزواج بها، وحسن اختيار الاسم عند الولادة، وتظل التربية إلى آخر العمر فلا حدود لها، ومن أهم وسائلها زرع الحنان والبيئة الصالحة والعدل بين الأولاد والقدوة الحسنة. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 1 نعمة الأولاد الحمد الله الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، تفرد بالوحدانية, وجعل من صفات خَلْقِه الزوجية، فقال عز وجل: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] . اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء, وأنت الآخر فليس بعدك شيء, وأنت الظاهر فليس فوقك شيء, وأنت الباطن فليس دونك شيء, اقض عنا الدين وأغننا من الفقر. لقد امتن الله تعالى على عباده بنعم عظيمة وآلاء جسيمة, وكان من أعظم هذه النعم نعمة الأولاد, فقال عز وجل: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [المدثر:11-15] فوجود هؤلاء البنين والأولاد بحضرة أبيهم, يغدون معه ويروحون, زينة في المجالس, وبهجة في الحياة الدنيا, وعون على لأواء الحياة, هو من أعظم نعم الله تبارك وتعالى، قال عز وجل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [النحل:72] . فوجود الأولاد وجعلهم وخلقهم هو من نعمه تعالى التي يمتن بها على عباده, ولو أن الإنسان منا تصور نفسه يواجه الحياة وحيداً فريداً بلا ولد ولا عون ولا مساعدة, لشَعَر بأن الحياة مظلمة جداً, ويعرف ذلك ويدركه حق المعرفة أولئك الذين امتحنهم الله تعالى بالعقم, فلا يولد لهم, فيدخل الواحد منهم بيته، وهو يشعر كأنه يدخل قبراً، ليس فيه صياح الأطفال ولا صراخهم ولا تضاغيهم, بل ولا تخريبهم الذي يتمناه ويتصوره ويتخيله، ولكن هيهات! فالله عز وجل خلق الناس واختار لهم، قال تعالى: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى:49-50] . أيها الإخوة هذه النعم العظيمة ما زال الإنسان يفرح بها ويُسَر منذ الأزل, بل ما زال الإنسان يجد في هؤلاء: الروائحَ الزكيةَ, والأنفاسَ الطيبةَ, والفرحةَ التي يفرح بالدنيا من أجلها يقول أحدهم: لولا بنيات كزغب القطا رُدِّدن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض فهؤلاء الأولاد هم كالأكباد التي تمشي على الأرض, ولو أنك تصورت -أيضا- أنك رزقت ولداً مشوهاً أو ناقصاً أو مريضاً أو معتوهاً, لأدركت حق نعمة الله تبارك وتعالى عليك بسلامة الأولاد وعافيتهم, وعرفت أن هذه النعمة تستحق منك شكراً كثيراً متواصلاً. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 2 قصة طريفة كان ثمة رجل لا يولد له إلا البنات، فضاق بذلك ذرعاً، وهدد زوجته إن أنجبت هذه المرة أنثى أنه سيطلقها أو يتزوج غيرها ما لـ أبي حمزة لا يأتينا يقيم في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا وما منحناه فقد أعطينا وذهبت زوجته إلى المستشفى وهي في كرب شديد, ولاحظ الأطباء على وجهها علامات الإعياء والإرهاق, وعلى قسماتها آثار حزن عميق طويل, فسألوها: ما الخطب؟ فتمنعت, ثم ألحوا عليها فأخبرتهم, فقال أحد الأطباء: أنا له، وانتظر الزوج طويلاً حتى قدم, فقال له: أبشر! فقد رزقت بولد, فتهلل وجه الزوج وفرح وأشرق, ثم قال: ولكنه مصاب بعَتَهٍ وتخلف عقلي بسبب نقص في الدماغ, ومصاب بالتشوه الجسماني, ففي يديه كذا, وفي وجهه كذا, وفي بطنه كذا, وفي ظهره كذا, وفي عينه كذا, وفي أذنه كذا, ثم طفق يصبّره ويرضّيه بقضاء الله تعالى وقدره, فانهلّت من عين الأب دمعتان، وقال: ما هذا إلا بسبب عدم رضائي بقضاء الله تعالى وقدره, حينما سخطت البنات, والله لو لم يكن نسلي إلا بنات فلن يرى الله تعالى مني بإذنه إلا الرضا والفرح والسرور! فقال له الطبيب: إذاً هوّن عليك, فإنما رزقك الله تعالى ببنت كاملة سوية، ليس فيها ما ينقص أو يعاب, فاستغفر الله تعالى وعرف عظيم نعمة الله تعالى عليه, حين يرزقه ولداً سوياً سليماً معافىً من الآفات والأمراض والنقائص العقلية أو الجسمية. وإنما تعرف النعمة بفقدها. والضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء الجزء: 173 ¦ الصفحة: 3 البنات نعمة كان ثمة رجل لا يولد له إلا البنات, وكثيرًا ما كان الناس يتضايقون من هذا, ويتبرمون منه، وينسون أن البركة ربما تأتي مع البنت, والعون الرباني ربما يصاحبها, وأن الله تعالى قد يرزقك بسببها, قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {أبغوني ضعفاءكم! هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟!} والمرأة والبنت من الضعفاء, فالمؤمن الحق يفرح بميلادها, ويهلل ويكبر, ولو لم يكن من ذلك إلا مخالفة عادات الجاهلية الأولى {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ} [النحل:58-59] فلو لم يكن من الفرح بالبنت إلا مخالفة عادات الجاهلية الأولى وإعلان الرضا بما كتبه الله تعالى وقَدّره وقضاه, لكان ذلك خيراً. ويكفيك أن تعلم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل بنته فاطمة رضي الله عنها, وكيف فرح بها، وكيف فرح ببناته الأخر, وكيف كان عليه الصلاة والسلام يظهر لهن من الود والحب والعطف ما لا يخطر على بال. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 4 شكر الله على نعمة الأولاد فيا أخي الأب! حتى ولو كنت أباً لطفل واحد، بل حتى لو كنت أبا لحملٍ يتحرك في أحشاء زوجتك, هل تدري أية نعمة أنت فيها؟! وهل تدري أي شكر أنت مطالب به؟! إياك أن تكون ممن يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها! إن واجبك هو الشكر، والشكر ليس كلمة تقال باللسان, بل هو عمل، قال الباري جل وعلا: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] إذاً الشكر عمل، والشكر تطبيق، والشكر امتثال، والشكر تنفيذ أوامر المنعم فيما أنعم به عليك, فشكر المال -مثلاً- أن تكسبه من حله، وتنفقه في حله، وتؤدي حق الله تعالى فيه، وشكر الولد هو كذلك بأشياء عملية. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 5 تجنب منكرات الأعراس ومن بداية التربية اختيار الأسلوب المناسب للزواج, فهذا الذي عقد على زوجته، ثم دخل عليها في وسط ملأ حاشد من الناس على المنصة -كما يقولون- والرجال والنساء يرونهم! بل حدثني ثقات رأوا بأعينهم في بلادنا هذه أن الشاب يدخل على زوجته بحضرة أقاربها وأقاربه، ثم يصافحها بيده, ثم يقبلها على خدها الأيمن وأخرى على خدها الأيسر! أين الحياء؟! وأين المروءة؟! هي زوجتك أحلها الله تعالى لك، وهي حليلتك: {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] لكن أمام الناس هكذا؟! إنه مجرد التقليد الأعمى لعادات غربية, ما أنزل الله بها من سلطان, وأصبحت طقوس الكنيسة ورموزها في الزواج تنقل إلينا حرفاً بحرف, فهذا الثوب الطويل الذي تلبسه العروس ويسحب وراءها مترين، وهو ثوب أبيض -ما يسمى بالتشريعة- ثم هذه الزهور التي تحمل ما بين يديها ومن خلفها, ثم دخول الزوج عليها, ثم مصافحته لها أو تقبيله, وكل هذه الأشياء إنما هي من العادات الغربية التي وفدت إلى مجتمعات الإسلام. فبالله عليكم أليس عندنا عادات؟! أوليس عندنا تقاليد تكفينا؟! أم هي فاشلة فاسدة منحرفة؟! أستغفر الله وأتوب إليه! بل عندنا خير الهدي: هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وعندنا خير منهاج وخير سنة، ومن يرغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وآله وأصحابه إلا من سفه نفسه، والإنسان يحشر يوم القيامة مع من أحب: {من تشبه بقوم فهو منهم} كما قال الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام. فلماذا تتحول أعراسنا إلى مظاهرة لتطبيق العادات الغربية والتقاليد الأجنبية، ومخالفة رسوم الشريعة ومقتضيات الحياء والمروءة والإنسانية؟! وأعظم من ذلك كله أن هذا كله يصور بكاميرات الفيديو، ثم تنتقل الكاميرا لتصور النساء المدعوات من الفتيات والنساء المزوجات, وهن بأبهى زينة, وفي أحسن الثياب, وأجمل الملابس متبرجات، ثم يرقصن في موسم العرس والفرح, والكاميرا تدور عليهن، وبعد ذلك هذا الشريط يتناقله الشباب سراً اليوم, ويتناقلونه علانية غداً وبعد غد, وهذه زوجة فلان, وهذه زوجة فلان, وهذه بنت فلان, فأي شيء هذا؟! إذا لم يكن من دينك ما يردعك، فليكن من حيائك ما يمنعك, وإذا لم يكن دين ولا حياء فالمصلحة, فمن الذي يرضى لزوجته أو بنته إن كانت جميلة أن يتغزل بها الشباب ويعشقونها ويطيلون النظر إليها عبر الشريط، وإن كانت دميمة أن يسخروا منها ويتكلموا عنها في المجالس؟! كيف ترضى بأن تبوح وتكشف ما أمر الله تعالى بستره؟! الجزء: 173 ¦ الصفحة: 6 حسن اختيار الاسم ثم من حسن التربية أن تختار الاسم المناسب للولد, فلا تعطه أي اسم، كأن تسميه باسم المكان الذي ولد فيه مثلاً, أو تسميه باسم المناسبة, أو تسميه على أبيك وجدك، وقد يكون اسم جدك غير مناسب, لأن الاسم مرتبط بالزمان، وكل زمان له أسماء قد لا تكون مناسبة في غيره. أو البنت كذلك، تسميها بأي اسم قد يعيبها إذا كبرت, ويظل عاراً يلاحقها, وأنا أعرف من البنات والأبناء من كان اسمه سبباً في أمراض نفسية وعقد لحقت به؛ لأن الاسم كلما ذكر تلفت إليه الناس, منهم من يبتسم، ومنهم من يضحك، ومنهم من يداري فمه, ولكن في قلبه نقد وعتاب. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 7 التربية الدينية أما الحق الآخر فهو حق التربية الدينية والقيام عليهم في أمر دينهم, وهذا القيام الذي يجهله الكثيرون منا, فيهملون أمر الأولاد ولا يتابع الأب أبناءه, بل هو مشغول عنهم, فهو إما مشغول بصفق التجارة, أو مشغول بالوظيفة, أو بالمزرعة, أو بزوجة أخرى, أو مشغول بأي أمر آخر, ثم إذا كبر الولد، وصار في سن الخامسة عشرة، رأى الأب من ولده إعراضاً وإهمالاً، وسوءاً في الألفاظ والعبارات, وقسوةً على والده، وعدم انصياع لأوامره, بدأ الأب يتأفف ويقلب رأسه يمنةً ويسرةً، ويقول الله المستعان على أبناء هذا الزمان! نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا فهل وجدت مزارعاً يترك مزرعته دون سقي أو متابعة, ثم ينتظر أن تثمر؟! كلا! فقد تموت وهو لا يدري بها, إن أولادك هم بذرة، ولكنها أعظم من بذرة الدنيا, وأعظم من الزرع, وأعظم من المال, وأعظم من كل أمور الحياة الدنيا. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 8 اختيار الزوجة الصالحة لا بد أن تتعاهد أولادك منذ البداية, فتتعاهدهم أولاً باختيار الزوجة؛ فإن الأم هي المحضن الذي يتربى فيه الأطفال. وكثير من الشباب المقبلين على الزواج قد يسأل عن جمال الفتاة, وقد يسأل عن نسبها, وقد يسأل عن دراستها أو وظيفتها, وقد يدقق، فيسأل عن طول الشعر, وطول الجسم واعتدال القوام وتفاصيل الوجه وكل شيء ولا نلومه، لكننا نقول له: لماذا لم تضع خانة للسؤال أيضاً عن أخلاقها وعن دينها وعن طيب معدنها ومعشرها؟ حتى تطمئن إلى أن أولادك سوف يتربون بإذن الله تعالى في تربة صالحة وبيئة صالحة. إننا نعلم أن الكثيرين ماتوا والطفل الأول في بطن أمه, وأنت تعلم ذلك أيضاً، فهب أنك كنت ذلك الإنسان! إن الطفل يحتاج إلى أمه كثيراً خاصة في السنين الأولى من تربيته, ربما إلى تسع أو عشر سنوات وهو يحتاج إلى تربية أمه ورعايتها, فإذا كانت الأم فاسدة أو منحرفة, أو كانت جاهلة لا تعرف, أو كانت قاسية سيئة الخلق لا تعرف إلا السب والشتم والدعاء والإغلاظ ورفع الصوت على الأطفال, فكيف تظن أن يتربى أولادك في مثل هذا الجو العاصف غير المستقر؟! فلا بد أن تبدأ تربية الطفل باختيار الزوجة، ولا نلومك في حسن الاختيار في الأمور الجسمية, ولكننا نطالبك -أيضاً- أن تبحث عن ذات الدين والخلق تَرِبَت يداك! الجزء: 173 ¦ الصفحة: 9 ضرورة القيام بحقوق الأولاد كاملة فمن شكر الولد القيام بحقه في شريعة الله تعالى, والكثيرون منا يعلمون أن من حق الولد أن تطعمه إذا طعمت, وتكسوه إذا اكتسوت, وتسقيه وتؤويه من أذى الحر والقر، وهذا صحيح, ولكن أولاً: حتى هذا الطعام الذي تقدمه له, وهذا اللباس الذي تمنحه له, وهذا البيت الذي تؤويه فيه, يجب أن تتذكر أنك مسئول بين يدي الله عز وجل يوم القيامة: من أين أطعمته؟ ومن أين ألبسته؟ وفيم أسكنته؟ وإنه لغبن شديد, وخسار عليك أي خسار: أن تتعب في جمع المال في هذه الدنيا, ثم تضعه في فم ولدك, أو تضعه ثوباً على جسده, أو تبني به بيتاً يؤويه, ثم يكون ذلك عاراً عليك في الدنيا، وناراً عليك في دار القرار, لأنك كسبت هذا المال من حرام, فكسبت المال من الربا, ومن المساهمة في البنوك الربوية -مثلاً- أو المساهمة في الشركات الربوية, أو الشركات التي تودع أموالها في البنوك بفوائد، وتعطي هذه الفوائد للمساهمين, أو من بيع حرام, أو من بيعٍ صَاحَبَه حَلِفٌ بغير الله أو كَذِبٌ أو غِشٌّ أو خديعةٌ, أو أخذت أرض غيرك بغير حق, أو ما أشبه ذلك من المكاسب المحرمة التي يعلم صاحبها قبل غيره أنها حرام. فإن من حكمة الله تعالى أنه جعل في قلب الإنسان فرقاناً يبين له الحرام في هذا الأمر, فالبر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك، فهذا المال الذي شككت في أمره, وقلت: ربما كان حراماً، أو شعرت بأنك كسبته من غير حله, ينبغي أن تقيه ولدك كما تقيه نفسك, وأن تتذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به} . وقد كان لـ أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه في الجاهلية غلام, فأعتقه وكاتبه على أن يأتيه كل وقت بقسط من أقساط الكتابة, فكلما جاءه بقسط قال له أبو بكر رضي الله عنه: من أين كسبته؟ فيقول: اليوم بعت كذا, أو اشتريت كذا, أو عملت كذا, فيأخذ أبو بكر رضي الله عنه هذا المال ويأكله, ولكنه مرة من المرات أتى له بشيء فأخذه وأكله, فلما أكله قال هذا العبد لـ أبي بكر: لم تسألني اليوم كما كنت تسألني من قبل! قال: الآن أسألك من أين لك هذا؟ قال: إني كنت في الجاهلية في مجلس، فأتاني قوم من العرب, وسألوني عن شيء مما لا يعلمه البشر, فتكهنت لهم وادعيت أني أعلم, وأنا لا أعلم ولا أحسن الكهانة, ولكنها أصابت عن طريق الصدفة، فرأيتهم اليوم، فأعطوني جعلي على ذلك العمل, فهذا هو الذي أكلته، فجعل أبو بكر رضي الله عنه أصبعه في حلقه يخرج الطعام من جوفه فلما شق عليه ذلك, وقال له في ذلك بعض من حوله، قال: {والله لو لم تخرج آخر لقمة منه إلا مع آخر نفس مني ما تركته في جوفي قط! وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أيما جسد نبت على سحت فالنار أولى به} . إنه لغبن أي غبن، وفشل عظيم، وحرمان كبير, وخذلان ليس بعده خذلان, أن تتعب أنت وتسهر ليلك وتبذل جهدك وعقلك وتفكيرك وأعضاءك، وتستخدم كل إمكانياتك وصلاتك ومعرفتك من أجل الحصول على هذا المال, ولكنه مال حرام, فتطعمه زوجتك وأولادك، فيكون لهم طيبه, وعليك أنت إثمه وجرمه, هذا فضلاً عن أن أجسادهم تلك التي نبتت من حرام لا يبارك فيها, فلا أظنك تجد برهم, ولا تفرح ببركتهم, ولا تجد شيئاً من نفعهم في هذه الدنيا، وأنت قد أطعمتهم من ذلك المال الحرام. إذاً: فأول الحقوق هو ما يمكن أن نعبر عنه بالحقوق المادية من مطعم وملبس ومشرب ومسكن وغير ذلك, ولكن ينبغي أن تعلم أن هذه الحقوق لا يمكن أن تأتي بها إلا من طريق حلال يرضي الله عز وجل, هذا إذا كنت ممن يرجو النجاة في الدار الآخرة, ويرجو عاجل بر أولاده ونفعهم في هذه الحياة الدنيا. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 10 التربية بلا حدود فهاهنا تبدأ التربية: تبدأ باختيار الزوجة, وتبدأ بذكر الله تعالى على كل حال, حتى عند مضاجعة الزوجة, وتبدأ بالعناية بمراسم الزواج, وتبدأ باختيار الاسم المناسب للولد, ثم لا تنتهي بعد ذلك إلا بالموت، فليس ثمة حد محدود ينتهي عنده أمر التربية. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 11 قصة وزير وهناك وزير عمره تجاوز الستين في أحد البلاد العربية, يقول هذا الوزير في مقابلة له: عندي والد كبير السن لا أخرج من البيت أبداً إلا ويوقفني عند الباب, ويقول: يا ولدي إلى أين أنت ذاهب؟ فأقول له: ذاهب إلى زيارة بعض الأصدقاء والأقارب, فيزودني بالدعاء، ويقول: ساعدك الله وأعانك الله وردك إلينا سالماً! تفضلْ، فإذا دخلت أوقفني, وقال: من أين جئت يا ولدي؟ فأقول له: جئت من كذا وكذا, فقال: حياك الله وبياك! تفضل, نم. يقول: أنا في الستين من عمري، وطيلة هذه السنين الطوال ووالدي يتعاهدني. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 12 فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وهذه فاطمة رضي الله عنها سيدة نساء العالمين وبنت محمد صلى الله عليه وسلم، ويكفيها ذلك شرفاً وفخراً، وهي زوج علي بن أبي طالب، خرجت يوماً من الأيام من بيت والدها, فرآها النبي صلى الله عليه وسلم، فما قال: هذه بنت موثوقة ومأمونة, ولا قال: هذه بنت كبيرة وعاقلة ولا تحتاج نصيحة, فالعاقل خصيم نفسه, لا! ولكن أوقفها، وقال: {يا فاطمة! من أين أقبلت؟ قالت: يا رسول الله، أتيت من عند أهل هذا الميت, فعزيتهم بميتهم، قال: لعلك بلغت معهم الكدى -وهو مكان قرب المقابر- قالت: لا يا رسول الله! معاذ الله أن أبلغ معهم الكدى وقد سمعتك تقول فيه ما تقول -تعني في منع النساء من زيارة المقابر- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لو بلغت معهم الكدى ما رأيت الجنة حتى يراها جد أبيك} . والشاهد في الحديث أن التربية لا تقف عند حد معين, بل تستمر حتى الموت إما أن تموت أنت أيها الأب، فتلقى الله تعالى غير مغير ولا مبدل, بل قائماً بالحقوق والواجبات, وإما أن يموت الولد فتنام قرير العين، وتقول: الحمد لله أنني لا أذكر شيئاً قصرت فيه, ولا أمراً لم أفعله أقول: يا ليتني فعلت كذا! ولا أمراً فعلته أقول: يا ليتني لم أفعله! فتنام أيضاً وأنت قرير العين. إنه لا بد من العناية بتربية أولادنا, وبذل الجهد في هذا السبيل, وكما تبذل في التربية يرزقك الله تعالى من صلاح الأولاد وبرهم. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 13 وسائل التربية إن من أهم وسائل التربية: الجزء: 173 ¦ الصفحة: 14 التعليم ومن وسائل التربية: التعليم, والتعليم ليس مهمة المدرسة فقط, بل مهمة البيت قبل ذلك وبعده, فتعلم الولد بالكلمة الطيبة وبالقدوة الحسنة وبكل أسلوب، وأيضاً تعلِّم الأم كيف تعلم ولدها. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 15 تصحيح الأخطاء ومن وسائل التربية: تصحيح الأخطاء حينما يقع فيها الولد أو تقع فيها البنت. وليس تصحيح الأخطاء بالعصا وحدها, فليس بالعصا وحده يعلم الإنسان, ولكن تصحيح الأخطاء يكون أولاً بالكلمة الطيبة والتوجيه, فإذا أفادت وإلا تشتد عليه بالكلام، وتصحيح الأخطاء يمكن أن يكون بالحرمان، فتقول له: يا ولدي! أنت أخطأت اليوم، ولهذا لا أعطيك كذا, ولا أمنحك كذا, ويكون بالترغيب والترهيب: إن تركت كذا فلك عندي كذا. ويجب أن ينتبه الأب إلى أنه في الوقت الذي يصحح فيه الأخطاء: لا ينبغي أن يجعل تصحيح الأخطاء سيفاً يحطم به الولد, إذا قلت: كيف؟ فأقول: أضرب لك هذا المثال وأسوق لك هذه القصة الواقعية: حيث أن هناك منزلاً جديداً وأثاثاً جديداً بذل فيه أحد الرجال جل ماله, وتعب فيه حتى أصبح بيته زهرة في نظافته وحسنه وجماله, ثم ذهب بالزوجة فرأت هذا البيت، فأصابها من الفرح والسرور الشيء الكثير, ثم انتقلوا إلى هذا المنزل, وذهب الرجل إلى دوامه صباحاً، وترك في المنزل زوجته وأطفاله, فقام أحد الأطفال ورأى هذه المناظر الجميلة, وبعبث الأطفال وشقاوة الأطفال وغرور الأطفال وجهل الأطفال أخذ السكين وبدأ يلعب بهذا الأثاث, فخرق كنباً هنا, وأفسد كرسياً هناك, حتى جاء الأب من عمله, فماذا رأى؟! وجد أن هؤلاء الأطفال عبثوا بأثاثه أيما عبث! فغضب من ذلك وأمسك بأكبرهم الذي تولى كبر هذا العمل, فربطه بيديه ورجليه بالحبال وأوثقه, فظل هذا الطفل يبكي ويبكي ويتوسل، ولكن دون جدوى, فإن الغضب أحياناً يعمي ويصم, وجاءت الأم تحاول أن تفك أسر ولدها، فقال لها أبوه: إن فعلت ذلك فأنت طالق، وظل هذا الطفل يبكي ويبكي حتى أعياه البكاء، فاستسلم إلى ما يشبه النوم العميق, وفجأة بدأ جسمه يتغير ويتحول إلى اللون الأزرق, فخاف الأب وفك أسر الطفل، ثم وجد أنه في غيبوبة, فحمله إلى المستشفى سريعاً, وبعد فحوص سريعة قرر الأطباء أنه لا بد من بتر أطراف يديه ورجليه, حيث إن الدم تسمم، وفي حالة وصول هذا الدم إلى القلب, فإنه قد يموت، وقرروا فعلاً عملية البتر ووقع عليها الأب, وهو يبكي ويصيح, وكانت المصيبة حينما خرج الطفل من هذه العملية، فكان ينظر إلى أبيه، ويقول: بابا بابا! أعطني يدي ورجلي, ولا أعود بعد ذلك مرة أخرى إلى مثل هذا العمل. إنها عقوبة على المبالغة في العقاب والقسوة التي تجعل الكثير من الأطفال ليس لهم شخصية, لماذا؟ لأنه أصبح لا يستطيع أن يعمل شيئاً, فهو يخاف من أبيه أو يخاف من أمه, بل يجب أن تجعل للطفل شخصية، وإذا عاقبته يجب أن يكون عقابك في حدود العقل والمنطق والمصلحة, ولا تستسلم إلى دوافع الغضب ونوازعه. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 16 احترام الشخصية ومن وسائل التربية: احترام شخصية الطفل, وألا تعتبر أن مقياس حسن التربية أن الطفل يقول لك: نعم نعم! سمعاً وطاعة! فهذا من التربية, ولكن من التربية أن يكون للطفل شخصية، وأن يكون لديه ثقة بنفسه، ومعرفة بإمكانياته، وقدرة على الكلام، وقدرة على المشاركة. فمثلاً: حينما تذهب بالطفل من أجل أن تشتري له لعبة يفضل ألا تختار أنت له لعبة وتسلمها له, بل تجعل له نوعاً من المشاركة، فتقول له: هذه اللعبة ثمنها كذا، وصفتها كذا، وفائدتها كذا وهذه وهذه وهذه, ثم تجعل له لوناً من الاختيار، وتساعده أنت عليه, حتى يكون له شخصية، وتستشيره حتى في بعض أمورك الدنيوية، حتى يتعود المشاركة لك منذ الصغر, ولو لم تقبل رأيه, لكنه يشعر بأن له رأياً, وله عقلاً, وله اختياراً, وله قيمة. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 17 العدل بين الأولاد وأخيراً: فإن من أعظم وسائل التربية: العدل بين الأولاد. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} فإياك أن تشعر أحد الأولاد بأنك لا تحبه, أو تفضل غيره عليه! أو تشعر البنت بأن الولد مفضل عليها! فإن هذا من أعظم أسباب العقوق, وكما تريد أن يكونوا لك في البر سواءً، فيجب أن تكون لهم أنت في التربية والقيام على شئونهم عادلاً بعيداً عن الظلم: {واتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة} . اللهم اجعلنا هداةً مهتدين غير ضالين ولا مضلين, اللهم أصلحنا وأصلح ذرياتنا يا حي يا قيوم, اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة, اللهم إنا نسألك العفو والعافية في ديننا وفي دنيانا وأهلنا ومالنا, اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم احفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا, ونعوذ بعظمتك أن نغتال من فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا. اللهم أصلح شباب المسلمين من بنات وبنين, اللهم أصلحهم واجعلهم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين, اللهم اكفهم شر قرناء السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون, اللهم انفع بهم أمتهم وبلادهم وأهلهم ووالديهم يا حي يا قيوم. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 18 القدوة الحسنة ومن وسائل التربية: القدوة الحسنة قال الشاعر: مشى الطاوس يوماً باختيالٍ فقلد شكل مشيته بنوه فقال: علام تختالون؟ قالوا: سبقت به ونحن مقلدوه وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوه فالكلمات التي يرددها الأب تَيَقَّنْ أن الطفل يرددها من يوم بدأ يحسن النطق والكلام, وقد يفرح الأب بهذا، فتجد أن الابن الصغير حين ينطق بكلمة فاحشة بذيئة أو شتيمة, ليضحك الأب وتضحك الأم, لماذا؟ لأنه بدأ يتكلم, وينسون أن هذا الضحك يعني عند هذا الطفل أن هذه الكلمة كلمة حلوة جميلة, وأنه ينبغي أن يرددها دائماً وأبداً، وهذه الكلمة لم تخلق مع الطفل ولم تولد معه, وإنما ترامت إلى أذنه من فمك أنت أيها الأب أو من فم الأم أو من فم بعض أهل المنزل, وهكذا الأفعال فلا بد من القدوة الحسنة ليتربى الطفل عليها قبل أن تكون التربية كلاماً يقال باللسان. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 19 اختيار البيئة الصالحة ومن وسائل التربية اختيار البيئة الصالحة, وإصلاح البيئة التي يكون فيها الأولاد -كما ذكرنا من قبل- باختيار الزوجة, وفي حسن التربية, وفي العناية بحسن العلاقة الزوجية, وجعل أية مشكلة بين الزوجين تناقش في جو خاص بعيداً عن علم الأطفال, وهذا لا بد منه. ومن البيئة التي ينبغي أن يختارها الأب: الأصدقاء، فمن هم أصدقاء ولدك؟ ومن صديقات ابنتك؟ هل تدري حين تأتي بنتك بالحقيبة -مثلاً- من المدرسة ماذا في هذه الحقيبة؟ قد تجد أن بعض صديقاتها أعطينها أرقام هواتف, وصوراً لبعض الشباب, وأشرطة فيديو أو غناء, وكلمات حب وغزل, وعندي من ذلك أخبار كثيرة. وقد تكون البنت طيبة القلب -وأخص المرحلة المتوسطة حيث السذاجة والبساطة والغفلة- ولكن إذا وجدت مجموعة من صديقاتها، واحدة تقول: اتصل بي فلان, وأخرى تقول: اتصلت بفلان, وثالثة تقول: هذا رقم علان, ورابعة تقول: هذه صورة ابن عمي, وجدت هذه البنت أنها تستحي أن تكون من بين جميع صديقاتها لا تتكلم في هذه الأمور, فأصابها شعور بالضعف، فصارت أول مرة تقول كلاماً غير صحيح, فتقول: أنا لي صديق أكلمه ويكلمني، ويكون هذا غير صحيح, ولكن في الواقع أنه بدأ عندها شعور بأنه يجب أن يكون لها صديق, بسبب تأثير الصديقات. وهكذا الولد قد يجره أصدقاؤه إلى التدخين, وإلى تعاطي المخدرات, وتضييع الأوقات, وإيذاء الناس, وترك الصلوات، وسماع الغناء, والسفر إلى بلاد أجنبية, وإلى غير ذلك مما حرم الله عز وجل. وقد يصعب عليك تدارك الأمر بعد فوات الأوان، وأول خطوة يمكن أن توقفها، لكن لا تستطيع أن توقف الأمر إذا كان في نهاية الطريق. وكذلك الحال بالنسبة للمدرسة، فهل تدري أنت في أية مدرسة يدرس ولدك؟ ومن مديرها؟ ومن أساتذتها؟ وما مستوى هذه المدرسة من حيث العلم ومن حيث الأخلاق والتربية والمراقبة؟ فلا بد أن تختار المدرسة ولو استدعى الأمر أن تذهب به بالسيارة إلى مدرسة بعيدة أفضل وأحسن شروطاً, لم يكن هذا كثيراً. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 20 التفاهم بين الوالدين لا بد من التفاهم بين الوالدين, فكيف يكون البيت ويكون الأولاد والبنات الذين يفطرون ويتغدون ويتعشون وينامون ويستيقظون ويصحون على مشاكل الخصومة بين الأم والأب؟! فالأب يتكلم على الأم, والأم تتكلم عليه أمام الأطفال, ثم إذا خلت الأم بالأولاد قالت لهم: أبوكم فيه كذا وكذا وكذا! وإذا خلا الوالد بأولاده قال: أمكم فيها كذا وكذا وكذا وعسى الله تعالى أن يعين عليها! فتربى الأطفال في هذا الجو القلق المتوتر لا استقرار ولا طمأنينة ولا أمان, وبذلك صاروا عرضةً للفساد والانحراف, ثم كانت الطامة الكبرى أن الأب نتيجة هذه المشاكل رأى أنه يستطيع أن يخرج منها بالزواج الثاني, فتزوج أخرى وصار لا يأتيهم إلا لماماً, وربما جلس أياماً, لا يطعمهم ولا ينفق عليهم, ولا يتعاهدهم ولا يتفقدهم. وأقول لكم أيها الإخوة من تجربة عملية وملاحظة ميدانية: إن معظم الأولاد والبنات الشاذين والمنحرفين الذين يقبض عليهم عن طريق أجهزة الأمن, يكونون من بيوت لا تعرف الاستقرار العائلي, حيث يكون الأب متزوجاً من امرأة أخرى, ولذلك لا يأتي إلى البيت، ولا يراقب الأولاد, ولا يدري ماذا يدرسون, ولا أين يدرسون, ولا مع من يجلسون, ولا يعرف عنهم أي أمر من الأمور. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 21 الحنان والعطف هو زرع الحنان في المنزل, فلا يجوز أن يكون الأب في بيته امبراطوراً مقطب الحواجب مكفهر الوجه، لا يحسن إلا الصراخ والشتم والسب وتوزيع الأوامر يمنة ويسرة, إن هذا الأسلوب لا يمكن أن يخرج أولاداً صالحين, بل لا يخرج إلا أشراراً وليست قدوتك -أيها الأب- بهؤلاء الناس الذين قد نتناقل أخبارهم أحياناً أنهم على مستوى من الهيبة, أو على مستوى من الشخصية بحيث يُخاف منهم, ولا يؤمن جانبهم. بل قدوتك أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام, وحسبك ويكفيك من هؤلاء قدوة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، فهو يضع الصبي في حجره, ويضمه ويشمه ويقبله، حتى لو لم يكن من ولده, وربما بال الصبي أو بالت البنت في حجر النبي صلى الله عليه وسلم, فدعا بماء فرشّه إن كان ولداً, وغسله إن كانت بنتاً, بل ربما ذهب بنفسه صلى الله عليه وسلم إلى بيت بعض بناته كبيت فاطمة كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة فوقف بالباب، وقال: أين لكع؟ أين لكع؟ أي: يمزح مع الحسين حتى في مناداته باسمه فيأتي الحسين يركض -لأنه يحب جده ويفرح به- فيفتح له النبي صلى الله عليه وسلم ذراعيه ثم يضمه إليه, ويقعده في حجره ويقبله فيجد أبو هريرة رضي الله عنه أن فاطمة قد أبطأت بولدها؛ لأنها لبست ابنها ثوباً جميلاً، وألبسته بعض الأشياء التي تلبس على الأولاد الصغار فرحاً بمقدم والدها محمد نبينا عليه الصلاة والسلام. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان, فرآه أعرابي من هؤلاء الجفاة، فقال: تقبلون صبيانكم؟! والله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم! قال: {أوَ أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!} وفي الحديث الآخر قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لا يَرحم لا يُرحم} فيجب أن نعلم أن أولئك الذين يدمرون المجتمعات ويخربونها, ولا يحترمون التقاليد ولا العادات ولا الأخلاق ولا الأديان, هم في الغالب من أولئك الذين نشئوا في بيئات فقدوا فيها الحنان. وهذا الولد الذي فقد الحنان أو تلك البنت سرعان ما يجدون قرناء السوء الذين يشعرونهم بالحنان, فهذه بنت تقسو عليها أمها، وتغلظ لها في القول، وتشتمها صباح مساء وتعيرها؛ حتى شعرت البنت بأن الأرض قد ضاقت عليها بما رحبت، ثم يوماً من الأيام تسمع رنين الهاتف، فترفعه من باب الفضول, ولأنها لم تترب تربية سليمة, فتعودت أن ترد على الهاتف دائماً وأبداً. فتجد صوتاً هادئاً رخيماً عذباً يحدثها, ويسألها عن أحوالها, ويطمئن عليها, ويخبرها بأنه يحبها, وأنه يموت إن لم يلقها أو يرها, فصدقت هذه المسكينة، ووجدت الحنان ولو باللسان الذي فقدته في بيتها, فسلكت درب الرذيلة والانحراف, وصوّر لها هذا الذئب بأنه حملٌ وديع, وأنه لا يستطيع العيش بدونها, فإذا قضى منها ما يريد, ألقى بها وذهب يبحث عن غيرها, وجلست هذه المسكينة تعاني آلامها ومشاكلها, وما علم المجتمع أنها وإن كانت مسئولة عن جريمتها, إلا أن أمها وأباها مسئولان قبلها؛ لأنهما لم يراقباها مراقبة صحيحة, ولأنهما لم يمنحاها الحنان الكافي, فصارت تشعر بأنها بحاجة إلى من يعبر لها عن محبتها, وبحاجة إلى من يسألها عن أحوالها, وبحاجة إلى من تفضي له بهمومها, وتتكلم معه عن مشاكلها وآلامها وأحزانها. الجزء: 173 ¦ الصفحة: 22 دروس ووقفات تربوية من السنة النبوية انظر حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وتواضعه معهم ومشاركته في حل مشاكلهم، فيجب علينا تطبيق النص النبوي في واقعنا لما له من أهمية وعلينا استحضار هيبته. وقد اهتمت النصوص الشرعية بأمور كثيرة منها: المعاملات، والعبادات، والمناقب وبيان الأصول التي ينبغي الرجوع إليها، والدعاء وأهميته، والمظهر وحسنه والربط بين العقيدة والعمل والربط بين القرآن والسنة. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 1 حال النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه حمداً لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أيها الإخوة أيها الأكارم أيها الفضلاء الذين مشيتم هذه الخطى إلى روضة من رياض الجنة وبيتٍ من بيوت الله، أسأل الله تعالى أن ينزل من رحمته وبره وبركته على هذا المجلس ما يسعد به قلوبهم وينور به دروبهم، ويجعلهم به موفقين في كل أمورهم إنه على كل شيءٍ قدير، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وأعنا ولا تعن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اهدنا إلى سواء السبيل، إنك على كل شيءٍ قدير. أما بعد فهذه المحاضرة المباركة -إن شاء الله- في هذا المسجد الكبير بهذه المدينة الطيب أهلها، في هذه الليلة: ليلة السبت العاشر من شهر صفر من سنة 1413هـ، وهي حول دروس ووقفات تربوية من السنة النبوية. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 2 أفضلية كتب السنة والسيرة بعد القرآن أفضل الكتب بعد القرآن هي الكتب التي تحكي لنا سيرته صلى الله عليه وسلم وسنته وأقواله وأفعاله، فيقرأ الإنسان -مثلاً- صحيح البخاري أو صحيح مسلم فيجد فيه أنفاس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلماته وعباراته وأقواله وأفعاله وتقريراته وأحكامه وفتاويه التي لا يمكن أن يقارن بها كلام غيره من البشر، ولهذا قال القائل: أهل الحديث همُ أهل النبي وإن لم يصحبوا نَفْسه أنفاسَه صحبوا وقال آخر: دين النبي محمد آثارُ نعم المطية للفتى أخبارُ لا ترغبن عن الحديث وأهله فالرأي ليلٌ والحديث نهارُ ولربما جهل الفتى أثر الهدى والشمس طالعة لها أنوارُ فهذه الكتب من أعظم الكتب وأولاها بالعناية وأحقها بالدراسة، ونحن في جلسةٍ مباركةٍ -إن شاء الله- مع بعض هذه الكتب، وإن الوقت لا يسعف بأن ندخل إلى مضمونات هذه الكتب من الأحاديث والنصوص، فهذا أمرٌ يطول، ولكننا سوف نطرق الأبواب فقط، ونقف عند الكتب فحسب، وسنجد فيها خيراً كثيراً إن شاء الله. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 3 كثرة جلوسه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في حديث الهجرة -وهو في صحيح البخاري- قدم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إلى المدينة فلم يعرف الأنصار الذين لم يبايعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءوا إلى أبي بكر يطيفون به، ويجعلون وجوههم إليه يظنون أنه هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام أبو بكر ٍ يظلله بردائه فعرفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويأتي الرجل الأعرابي في ملأٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقف فيهم، ويقول: أيكم محمد؟ لأنه لا يتميز عنهم بمجلس ولا ببزة أو ثوب ولا بِسِمَةٍ ولا بعلامة، وإنما كان صلى الله عليه وسلم غاية في الحلم والتواضع والإخبات إلى الله عز وجل حتى وهو في أعظم المواقف، ينزل عليه الوحي من السماء، وأي إنسان ينزل عليه الوحي؟ إنه لا ينزل إلا على المختار من عباد الله عز وجل، على الرسل الكرام، ينزل عليه الوحي فيكون أضعف ما يكون صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ليتفصد من جبينه العرق في اليوم الشاتي، ويسمع له غطيط مثل غطيط البكر، ويحْمَرُّ وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو بين ذلك في خيمة، فينظر إليه بعض أصحابه ويتعجبون منه صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة:23] فلحظة تنزيل الوحي هي لحظةً من لحظات تحقق العبودية، وكمال الذل لله عز وجل، وهو كمال الإنسان، ورفعة الإنسان. ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا لحظة التعبد لله عز وجل وتمريغ الوجه بالتراب له تعالى، وهي لحظةٍ ضعف في ظاهرها وذل، لكنها لحظة كمال للإنسان، ولهذا قال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] أي: رسول الله، فلحظة عبادته لله تعالى ودعائه إياه: هي لحظة عبودية يتجلى فيها ما وهبه الله تعالى من خصائص الجمال والجلال والكمال. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 4 التطبيق لمبادئ وأحكام الإسلام إذاً: ليس الإسلام أحلاماً طائرة، ولا أمثلةً خيالية، ولا دعواتٍ لا رصيد لها من الواقع، كما هي النظريات المنحرفة، حيث رفعت الشيوعية -مثلاً- شعار العدل والمساواة، فلم نجد إلا أنها ساوت الأغنياء بالفقراء، وجعلتهم جميعاً يعيشون حالةً من العوز والفقر دون مستوى الإعدام، ورفعت كثيراً من الدعوات شعار الحرية، فلم نجد في حقيقتها إلا أنها سحقت الناس، وصادرت حرياتهم، وقضت على إنسانيتهم، وجعلتهم أمثال البهائم والدواب، وزجت بهم في غياهب السجون، وشهدت الأمة العربية والإسلامية من ذلك الشيء الكثير، فالدعوات والأحزاب التي حكمت في بلاد الإسلام شرقاً وغرباً باسم البعثية والاشتراكية والقومية والناصرية والديمقراطية والحرية ماذا جنت منها الأمة الإسلامية؟ جنت الفقر والذل والجهل والهوان والعبودية والقضاء على إنسانية الإنسان، وجنت الهزائم المتتابعة حيث أن الأمة لا تحسن شيئاً كما تحسن الهزائم على يد أولئك القادة الذين شرقوا بها وغربوا، ولكنهم لم يتجهوا بها إلى الكعبة، ولم يقولوا: ربنا الله ثم يستقيموا. لم تكن دعوة الإسلام دعوةً نظرية ترفع شعاراً وتطبق غيره، بل كان الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم -وهو يتكلم- يطبق في واقع الحياة، فيقِيْدُ حتى من نفسه، فإن طلب أحدٌ القصاص من شخصه الكريم نفذ عليه الصلاة والسلام. فقد كشف بطنه يوماً من الأيام لرجل من الصحابة اسمه سواد بن غزية: {وقال استقد يا سواد! -أي: خذ حقك- فأكب على النبي صلى الله عليه وسلم يقبله، ويقول: يا رسول الله! حضر ما ترى من أمر الحرب فأحببت أن يكون آخر العهد بك، أن يمس جلدي جلدك} . وسرقت امرأة من بني مخزوم، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حِبَّه وابن حِبهِّ، فكلمه أسامة بن زيد، فغضب الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: {أتشفع في حدٍ من حدود الله، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد صلى الله عليه وسلم يدها} . وقد كسفت الشمس، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقام عليه الصلاة والسلام وقال: {إنهما لا تنكسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، وإنما يخوف الله تعالى بهما عباده} إنه بشرٌ رسول، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، هابه رجل من الأعراب، فاضطرب، فقال: {هَوّن عليك، فإنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة} فهو يأكل مع أصحابه، ويشرب ويجلس وينام معهم، حتى يأتي الرجل الغريب لا يعرف النبي صلى الله عليه وسلم من غيره. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 5 الرسول القدوة هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم! مصلح المصلحين، وإمام الأئمة، وقدوة وليس غيره أحد يُقتدى به ويُتأسى، فعليه صلوات الله وسلامه، وجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، ولذلك كانت حياته صلى الله عليه وسلم برنامجاً عملياً وافياً كافياً شاملاً للمسلمين، وكل مسلم إلى قيام الساعة إذا أمر أو نهى تذكر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الأمر والنهي هو من عند الصادق المصدوق، وكان قد طبق تطبيقاً عملياً في تلك الفترة النقية من حياة البشرية، فترة النبوة والخلافة الراشدة. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 6 من تواضعه صلى الله عليه وسلم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه ملكاً متجبراً، ولا ملكاً متعالياً، ولم يكن يعيش في برجٍ عاجي بعيداً عن الناس، ولكن كان يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، يعطف على مسكينهم، ويرحم فقيرهم، ويطعم جائعهم، ويعلم جاهلهم، كما وصفه بذلك أصحابه، فقالت أسماء رضي الله عنها وأرضاها لـ عمر حينما قال لها: [[نحن سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، قالت: كلا والله! كنتم قريبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، ونحن كنا في دار البعداء البغضاء، الحبشة]] . إذاً: هكذا كان هديه صلى الله عليه وسلم، فكان يراقب كل أمورهم، ولم يكونوا يقطعون أمراً دونه دق أو جل، دعك من كونه صلى الله عليه وسلم خطيبهم في الجمعة، ومقدمهم في الحرب، وإمامهم في الدين، ووسيطهم في الوحي، ينقل لهم خبر السماء بكرةً وعشياً. بل حتى أدق أمورهم كانوا يستشفعون به صلى الله عليه وسلم فيها، فربما وجد العبد الرقيق من قومه ومواليه أذى أو إثقالاً بالعمل، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكو إليه، وربما أخذت الأَمَةُ بيده صلى الله عليه وسلم في أي سكك المدينة، فكلمته حتى ينتهي ما عندها، وربما أبت المرأة زوجها وكرهته، فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشفع به إلى زوجه أن تقبله وتعيش معه، فكان صلى الله عليه وسلم معهم في كل أمورهم ومنقلباتهم. ولهذا لم يمت صلى الله عليه وسلم؛ حتى كان أكثر صلاته من الليل وهو قاعد بعد أن أصابه الإجهاد، لكثرة مجيء الناس إليه، وكثرة مشاكلهم وأسئلتهم، وكثرة ما يعانون ويواجهون، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معهم لحظةً لحظةً، وساعةً ساعةً، ويوماً يوماً في كل أمورهم، وفي كل أشيائهم، ولهذا كان منهم محل الروح من البدن، ومحل السمع والبصر، فلما دخل المدينة صلى الله عليه وسلم أشرق منها كل شيء، فلما مات صلى الله عليه وسلم ودفن، أظلم من المدينة كل شيء كما يقول أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 7 أهمية النص النبوي الدرس الأول في هذه الكتب هو أهمية النص النبوي، واعتماد المسلم على هذا النص في أحكامه وعقائده وعباداته ومعاملاته وفي سائر أموره. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 8 تطبيق النص في واقعنا إن هذا النص يجب أن يكون هو الأصل الذي نبني عليه ونفرع عنه، فكل أقوال الناس وكتب البشرية جميعها لا تعد شيئاً مذكوراً بالقياس إلى هذا التراث العظيم الذي ورثناه عن النبي صلى الله عليه وسلم. إن كتاباً واحداً كمسند الإمام أحمد يحتوي على ما يزيد على ثلاثين ألف حديث تقريباً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها نور وهدى وعلم، حتى قال أحد زعماء الغرب واسمه برناردشو: " لو كان محمد صلى الله عليه وسلم حياً لحل مشاكل عالم ريثما يشرب فنجاناً من القهوة ". ففي هذه الكتب تجد أحكام الصلاة والعبادات إلى جانب المعاملات، والعقائد، والأخلاق، والاقتصاد والبيع، والسياسة، والجهاد، والسير والمغازي، والفضائل … إلخ. وكل شيءٍ من أمور هذه الحياة تجده في هذه الكتب، وأولى بنا ثم أولى أن ننطلق من هذه الكتب بعد كتاب الله عز وجل، فنجعل اقتصادنا قائماً عليها، وسياستنا منبثقة منها، ومعاملاتنا تدور حولها، وعباداتنا تنبثق عنها، ولا نتركها في صغيرٍ ولا كبير. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 9 استحضار هيبة النص النبوي ولا شك أن ذكر كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم استخراج الفوائد والعبر منه أولى من أن نذكر كلام الناس ثم نستدل له بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله. إننا يجب أن نضع لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم هيبة في النفوس، كما قال ابن عباس رضي الله عنه في صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابتدرته أبصارنا]] رفعوا إليه عيونهم، واشرأبوا يريدون أن يسمعوا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم ناكسو الأذقان، مطرقو الرءوس، لا يتكلم أحدٌ منهم بشيء، لأنهم يريدون أن يسمعوا ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجهزة الاستقبال عندهم كلها في غاية القوة والانشداد والانصياع لهذه الأحاديث المأثورة عن سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن نعظم هذه الهيبة في نفوس الناس كبيرهم وصغيرهم، فنجعل الحديث أصلاً، ونجعل الفوائد والدروس والعبر والأحكام والاستنباطات كلها تفريعاً عن هذا الحديث، وليس العكس، ولهذا أقول: إن الأولى مثلاً بدارس الفقه أن يدرس الفقه على ضوء الحديث، فيقول مثلاً: باب النية، وعن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنما الأعمال بالنيات} في هذا الحديث فوائد وهي كالتالي. هذا أولى من أن نقول: قال فلان، وقال فلان، وذهب مالك، وذهب الشافعي، وذهب أحمد وذهب أبو حنيفة، ثم نسوق الحديث بعد ذلك، وإن كان هؤلاء الأئمة يحرصون لا شك على ألا يخرجوا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم وتقريره قدر أنملة. فكلهم من رسول الله ملتمسٌ غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم وكثيرون اليوم يتمسكون بأقوال الرجال؛ لأنها سبقت إلى قلوبهم، فإذا جاءهم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتهدوا في تخريجه أو صرفه عن ظاهره، أو رده بوجهٍ من الوجوه؛ لأنه يخالف كلام فلان وكلام علان، وهذا ما شكا منه الأول حين يقول: عذيري من قومٍ يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالكٌ فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهبٌ وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن عدت قالوا: قال سحنون مثله ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت: قال الله ضجوا وأعولوا وصاحوا وقالوا: أنت قرنٌ مماحك وإن قلت: قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالكُ فيجب أن نعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونجعل له هيبةً في النفوس، وهكذا كان السلف، قال عمران بن الحصين رضي الله عنه، عن الرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في مقدمة صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحياء من الإيمان} فقام رجلٌ يقال له بشير بن كعب العدوي وهو إمام جليلٌ من التابعين فاضلٌ نبيل، ولكنه قام وقال: يا صاحب رسول الله! إنا نسمع إن من الحياء خيراً ومنه ضعفاً -يقول: أنا سمعت في الكتب أن الحياء نوعان: حياءٌ محمود، وحياءٌ ناتج عن ضعف في الإنسان- فغضب عمران رضي الله عنه، وقال له: لا أكلمك أبداً، وتجهم في وجهه، وقالوا له: يا عمران هذا رجل من الصالحين، وهذا كذا وهذا كذا، فقال: أحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحدثني من كتبه؟! إذاً: احذر أن تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولٍ من عندك، إن بعض العوام -مثلاً- تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول لك: (هين) ، لا يا أخي! ليس بهين أنت الهين. إن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: هين، ولا يقال: دع هذا أو اترك هذا، إذا سمعت قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن تشرئب وتخاف وتحذر وتفتح قلبك وأذنك لما يقال، وفي حالة ما إذا وجدت هذا الحديث يخالف حديثاً، أو علماً آخر عندك، فعليك أن تسأل بأدب، فتقول: لقد سمعت أحداً يقول: كذا وكذا، فهل ما قاله هذا الرجل صحيح أو ليس بصحيح؟ فتتلطف حتى في طريقة الاستفسار عن معنى الحديث، ولا تواجه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يشعر بالرد، أو عدم القبول أو عدم التعظيم لما قاله الرسول عليه الصلاة والسلام. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 10 العبادات والمعاملات الوقفة الثانية: حول العبادات والمعاملات: الجزء: 174 ¦ الصفحة: 11 الأصل في المعاملات الحل أما فيما يتعلق بالمعاملات فليس الأمر فيها كذلك، فالمعاملات الأصل فيها الجواز، ولا يشترط لمعاملة أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أذن فيها، بل الأصل الإباحة. وعلى سبيل المثال بيع المعاطاة والاستصناع، فكونك تأتي إلى البقال، فتضع له الدراهم ثم تأخذ مقابلها، دون أن يكون هناك إيجابٌ ولا قبول أو كلام أو أي شيء، هذا الأمر الأصل فيه الإباحة؛ لأنه لونٌ من ألوان البيوع التي أحلها الله تعالى، ولو لم يرد في هذا البيع بذاته نصٌ، فالأصل في المعاملات الجواز، إلا ما ورد النص على تحريمه، ولذلك تجد أن الأحاديث الواردة في أمر المعاملات: هي أشبه ما تكون بالقواعد العامة التي يستفيد منها الناس، وهذا من تيسير الله تعالى على عباده، فإن ربك تعالى حكيمٌ عليم، علم أن الزمان سوف يتغير، وسوف يستحدث الناس ألواناً كثيرة من البيوع والمعاملات والاتفاقات، وألوان التصنيع وغير ذلك مما لم يأتِ به نص، فجعل ثمة قواعد كلية عامة تقول للمسلم: هذه الأمور حلال، لأن الأصل فيها أنها حلال إلا ما استثني من ذلك أو دل الدليل على منعه، وتجد أن أمور المعاملات غالب الأحاديث الواردة فيها تتكلم عن أنواع المكاسب، وعما ورد النص على تحريمه، مثل: بيع الرجل على بيع أخيه، أو بيع المعدوم، أو بيع المجهول، أو الربا، أو ما أشبه ذلك مما ورد النص على تحريمه. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 12 التيسير كما أنك تلاحظ أيضاً في موضوع العبادات أمر التيسير، من الله تعالى على عباده، ويبرز هذا الأمر التيسير في تنوع العبادات، فالأذكار مختلفة ومتنوعة، بإمكانك -مثلاً- وأنت تقرأ دعاء الاستفتاح أن تقول: {سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك} أو تقول: {وجهت وجهي للذي فطر السموات} أو تقول: {اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب} إلى غير ذلك، ومثل أدعية الركوع والسجود والقعود والتشهد وأدعية ما بعد السلام، ومثل صفة صلاة الكسوف، ومثل: صفة صلاة الخوف، وألوانٌ أخرى كثيرة من العبادات تجد فيها تنوعاً كبيراً، وسع الله تعالى فيها على عباده. وأيضاً من التيسير الرخصة للناس في أشياء كثيرة: الرخصة في كذا، وفي كذا، وهذا موجودٌ في هذه الكتب من باب توسعة الله تبارك وتعالى على عباده في أمور عباداتهم، وفي أمور معاملاتهم. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 13 التوقف في العبادات تجد أن في تلك الكتب وفي هذه المصنفات أبواباً خاصةً بالعبادات: بالصلاة، بالصوم، بالحج، بالعمرة، بالزكاة، وأبواباً أخرى خاصة بالمعاملات كالتجارة والنكاح، والطلاق، والصلح، والإجارة، وغير ذلك، وأنت تلاحظ فرقاً كبيراً بين هذين النوعين، فأنت تجد في مجال العبادات التفصيل. خذ مثلاً: كتاب الصلاة تجد أن الأحاديث فصلت لك كيف تتوضأ، وتغتسل من الجنابة، وتقف للصلاة، وكيف تُكَبِّر، وكيف تركع، وما هي صفة الركوع، وماذا تقول، وكيف ترفع، ومتى ترفع يديك، وإلى أين ترفعهما، ومتى تضعهما، وماذا تقول، فستجد أنك مع الأحاديث منذ دخولك في الصلاة إلى أن تقول: السلام عليكم ورحمة الله، بل وبعد ذلك: كيف تذكر الله، وماذا تقول من الأدعية، ومن الأذكار إلى غير ذلك. فتجد تفصيلاً دقيقاً جداً في مجال العبادات: في الصلاة، والصيام، والحج، والزكاة، والعمرة، وذلك لأن هذه الأمور أمور تعبدية محضة مبناها على التوقيف، فلم نكن نعرف الصلاة والزكاة ولا الصوم والحج لولا رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهذه الأمور مبناها على التوقيف، وعلى النص وعلى النقل، فلا يحق لأحدٍ أن يبتكر عبادة لم يأت بها الرسول صلى الله عليه وسلم أو أن يتصرف في غير ما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 14 المناقب الوقفة الثالثة: الجزء: 174 ¦ الصفحة: 15 أهمية الثناء على من يعمل الخير هب أن إنساناً يعمل في إدارة حكومية، ويبذل وسعه وجهده، ثم يجد أن المدير لا يلتفت إليه، بل يوبخه دائماً وأبداً، ولا يهتم بما بذل، ويساويه بغيره، فستجده بعد فترة وقد فَتَر، وقال: أنا مثل غيري ولا داعي للاجتهاد، لكن لو أن هذا المدير كان ذكياً حكيماً، فقام وكتب خطاب شكر إلى هذا الموظف على الجهد الذي يقوم به، وقال فيه إننا نلاحظك؛ لوجدت أن هذا الخطاب -وهو لا يعدو أن يكون ورقة وبضعة أسطر وكلمات لا تكلف شيئاً- يكون له وقعٌ كبير على نفسية هذا الموظف. فالإنسان ليست حاجته -أحياناً- إلى أن تعطيه مالاً أو جائزة، وإنما مجرد التعبير عن الارتياح والشكر والثناء على عملٍ قام به يدعوه إلى مزيدٍ من البذل والمشاركة. ثانياً: أن هذا من العدل، فكما أن من المطلوب أن يقال للمسيء: أسأت، فالمطلوب -أيضاً- أن يقال للمحسن: أحسنت، وأن يثنى عليه، حتى يقلده غيره في عمل الخير. وثالثاً: أن هذا كان نتيجة الاطمئنان على أن المدح لا يغير من أحوالهم شيئاً -أي لا يضرهم- فالرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال: {خير فرساننا أبو قتادة، وخير رجالتنا سلمة بن الأكوع} كان يعلم صلى الله عليه وسلم أن هذا المديح وهذا الثناء لا يضر أبا قتادة أو سلمة بن الأكوع، ولا يجعلهم يغترون بأنفسهم، أو يعجبون بهذا العمل الذي قاموا به، بل سوف يزيدهم إقبالاً على العمل الصالح، وحرصاً على الخير، وعلى البذل في سبيل الله عز وجل. ولهذا متى ما رأيت أن المدح والثناء والشكر يضر هذا الإنسان فتجنبه، ولذلك بوب البخاري في صحيحه في كتاب الأحكام: (ما يكره من ثناء السلطان) وذلك أن الثناء على السلاطين عادةً ما يكثر، ويكون الناس حريصين عليه رغبةً أو رهبة، فيكون هذا سبباً في أن السلطان يستوحش من الناصحين، لأنه تعود ألا يسمع إلا الثناء والمدح بالحق والباطل والمبالغات، فإذا جاء إنسان يقتصد في المديح لم يعجبه، لأنه لم يقل الكلام الذي تعود أن يسمعه، وإذا جاء إنسان ينصح لم يعجبه أيضاً؛ حيث أن الناس كلهم يمدحونه وأنت وحدك الذي لم تمدحه، وإنما اتجهت إلى النقد والنصيحة، ولهذا يستوحش، من الناصحين: {وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف:79] فلا يَمْدَح عندما لما يكون المدح سبباً في ترك النصيحة، والإعراض عنها وكره أصحابها. ويكون المديح أيضاً حتى يُعرف لأهل القدر قدرهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما يقول عن أبي بكر وعمر وقد أقبلا: {هذان السمع والبصر} ويشير لأصحابه أن هؤلاء من أخص أصحابي، فاعرفوا لهما قدرهما، لا تؤذوهما ولا تتعرضوا لهما، وقدموهما حينما يكونا موجودين، ولذلك لما تكلم بعض الصحابة، وحصل بينهم وبين أبي بكرٍ كلام غضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: {هل أنتم تاركو لي صاحبي؟} يعني أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأثنى عليه الثناء الذي جعل الصحابة يعرفون أنه هو الأحق بالخلافة من بعده، وقد أمهم رضي الله عنه بالصلاة حينما مرض النبي صلى الله عليه وسلم. إذاً: فالمدح حتى يعرف الناس لهم قدرهم ومكانتهم، فلم يكن المدح مجاملة كما يفعله البعض، كلا! وحاشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجامل أحداً، وهو الذي كان يواجه الناس بالنصيحة، نعم لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يواجه أحداً بما يكره في وجهه وفي ذاته، ولكنه كان يقول الحق، فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {إن آل بني فلان ليسوا بأوليائي -وذكر قبيلة من قريش أو حياً من قريش- إنما ولييّ الله وصالح المؤمنين} . ومن العجيب أن العلماء والمحدثين، بل والرواة لم يذكروا اسم هؤلاء (آل بني فلان) بل ذكروه على سبيل الإبهام والإجمال، وذلك لأنه في مقام الذم، وهذا دليل على كرم المسلم، وكرم العالم والمحدث، وبعده عن التعرض للناس والوقوع في أعراضهم والولوغ فيها، ولأن هذا لا يليق بالإنسان الفاضل الكريم، فنقلوا الحديث، وتركوا مكان فلان بياضاً، لا يدرى من هو، أو قالوا آل بني فلان، ولذلك اختلف العلماء في المقصود بهذا الحديث. ومثله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مرة: {خير دور الأنصار بنو فلان، فجاء بعضهم، وقالوا: يا رسول الله! ذكرتنا آخراً! قال: بحسبكم أن تكونوا من الأخيار} أي: يكفيكم أن تكونوا من المعدودين، ولو كنتم في آخر المعدودين من الفضل. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 16 ذكر الشر إجمالا ً وهذا أمرٌ عجيب، فأولاً: هذه الكتب فيها المناقب والفضائل، ولكن لا تجد فيها المثالب والمعايب، فإن العلماء لم يتجهوا إلى جمع مثالب الناس، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم تكلم في حق بعض الأشخاص، وقد جاءه رجل، فقال: {ائذنوا له، بئس أخو العشيرة، فلما دخل هش الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه وبش، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله! قلت فيه ما قلت، ثم استقبلته فقال: يا عائشة! إن من شر الناس منزلةً عند الله تعالى من تركه الناس اتقاء فحشه} فهذا ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم وذم غيره، ولكن العلماء لم ينشطوا إلى جمع هذه العيوب والمآخذ والمذام التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في حق بعض الناس، وذلك لأن المسلم كريم فاضل نبيل طيب النفس، فهو ينظر إلى المحاسن أكثر مما ينظر إلى المساوئ، وينظر إلى الجوانب الإيجابية أكثر مما ينظر إلى الجوانب السلبية، فليس همه أن ينظر إلى الناس، ويبحث عن عوراتهم وسوءاتهم وزلاتهم، ثم يجمعها ويحشدها في حيزٍ واحد من أجل أن يحطم بها فلاناً، أو ينتقص بها من علان، إنما همّ المسلم ذكر الخير والثناء به على من هو أهله، وأما الشر فإنه يذكره إجمالاً، ولا يفصل فيه، ولا يجمعه في حيزٍ واحد. فهو يذكر الخير تفصيلاً، وأما الشر فيذكره إجمالاً. لماذا أثنى الرسول صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الناس الذين أثنى عليهم؟ أولاً: لأن هذا الثناء هو أحد وسائل التعبير عن الرضا عن عملٍ قاموا به، أو قولٍ قالوه، أو اجتهاد اجتهدوه، وهو بالتالي حثهم على المواصلة على الخير، فإن الإنسان دائماً وأبداً بحاجةٍ إلى الحث والترغيب. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 17 ذكر الخبر تفصيلا ً في هذه الكتب الكثيرة العظيمة بابٌ خاصٌ يسمى: "باب المناقب" يذكرون فيه مناقب البلدان، والقبائل، والأمم والطوائف، ومناقب الأشخاص: الرجال، والنساء أي: يذكرون فضائلهم وممادحهم ومحاسنهم التي أثنى بها عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم. فـ البخاري -مثلاً- بوب "كتاب المناقب"، ومثله أيضاً الترمذي، أما مسلم فقد جعلها باسم الفضائل، وأبو داود ذكر هذه الأشياء ضمن كتاب السنة في سننه، وابن ماجة ذكرها ضمن المقدمة، والنسائي ذكرها في سننه الكبرى، وأطال فيها كثيراً. وكتاب المناقب يذكرون فيه فضائل النبي صلى الله عليه وسلم، وفضائل الصحابة رضي الله عنهم: الخلفاء الأربعة، وسائر العشرة المبشرين بالجنة، وفضائل المهاجرين، وفضائل الأنصار، وفضائل أمهات المؤمنين، وفضائل … إلخ. ويبدءون بعد ذلك بفضائل الصحابة فرداً فرداً، ويذكرون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 18 عناية كتب السنة ببيان الأصول الوقفة الرابعة: أن هذه الكتب وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، كانت تعنى ببيان الأصول التي ينبغي على الإنسان الرجوع إليها. وأنت تجد الكثير من الناس اليوم يهتمون ببعض المسائل الجزئية، ويغفلون عن الأصول التي يمكن إرجاع هذه المسائل إليها. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 19 حرمة المسلم فمثلاً: بوب النسائي -رحمه الله- باب تحريم الدم، وذكر فيه الأحاديث الواردة في حرمة دم المسلم، وهي كثيرة منها: حديث أبي هريرة وابن عمر في الصحيحين وابن مسعود أيضاً: {لا يحل دم مسلم} إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تبين حرمة دم المسلم وأن الإنسان لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، وأن قتل المسلم من أكبر الكبائر عند الله عز وجل، فهذا أصلٌ أصيل وركنٌ ركين، وقاعدة عظيمة، ومشرعٌ كبير، لكن تجد البعض قد يغفلون عن هذا الأصل، ثم يعتدون على المسلم في نفسه وعرضه، بل وفي ذاته بالقتل -أحياناً- دون أن ينتبهوا إلى ذلك الأصل لمجرد أنه خالفهم في اجتهاد من الاجتهادات الفقهية، وهذا موجود مع الأسف في بعض مجتمعات المسلمين في أكثر من بلدن حيث يختلفون في مسألة فقهيةٍ أو حتى مسألة اعتقادية، فتجد أن السلاح سرعان ما يتحرك بينهم، صحيح أنه محدود، ولكنه موجود أيضاً، وينسون هذا الأصل الأصيل والركن الركين الذي هو باب تحريم الدم. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 20 حق الوالدين ومسألة حق الوالدين وطاعة الوالدين، وما ورد من بيان فضلهما ومكانتهما، ووجوب برهما، هذا أيضاً من الأمور الكبار التي تكلم عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال صلى الله عليه وسلم، في أفضل الأعمال: الإيمان بالله ثم ذكر بر الوالدين ثم ذكر الجهاد في سبيل الله فتجد أن الكثيرين قد يتعللون في معصية الوالدين بكافة الأسباب. فمرة يذهب أحدهم إلى الجهاد بدون إذن الوالدين، ويقول: الجهاد فرض عين، وينسى ذلك الأصل الكبير العظيم الذي جاء كل الرسل والأنبياء بالأمر به. ومرة تجد أنه يعصي والديه في أمر، ويقول: أنا ذاهب لطلب العلم، ومرة يقول: أنا ذاهب للدعوة، نعم نحن نقول: ينبغي للإنسان أن يقوم بالدعوة إلى الله، وأن يقوم بطلب العلم، وأن يجاهد في سبيل الله، لكن ينبغي -أيضاً- أن يعرف للوالدين حقهما، حتى لو ذهب إلى هذه الأعمال الخيرية، يذهب بعدما يرضي والديه ويقر عيونهما ويطيب نفوسهما، أما أن يقول شابٌ في مقتبل العمر: لا سمع لك ولا طاعة، أنا سوف أذهب إن رضيت وإن سخطت، فهذا المسلك ليس حميداً ولا سليماً. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 21 حسن الأدب في القول والعمل وكذلك أيضاً حسن الأدب في القول والعمل، ولذلك تجد الأئمة وضعوا للأدب أبواباً خاصة باسم: (أبواب الأدب) وذكروا فيه أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ينبغي وما لا ينبغي من الأقوال، وما ينبغي وما لا ينبغي من الأعمال، وذكروا في ذلك أشياء عجيبة ودقيقة جداً، ومع ذلك تجد كثيراً من الناس يغلظ في القول، فإذا قلت له في ذلك قال: هذا يستحق أن يغلظ له؛ لأنه فعل كذا وكذا، فنقول له: لماذا تأولت هذا الموقف الخاص، ونسيت ذلك الأصل العظيم الذي هو وجوب الإحسان في القول للناس، قال تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] وقال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] فضلاً عن النصوص النبوية الكثيرة التي تأمر باللطف في القول وحسن العمل. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 22 الحب في الله مثل ذلك مسألة الحب في الله والمؤاخاة، فيها أبواب وفصول، وأحاديث عظام جليلة، تدل على فضل المحبة في الله حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {قال الله عز وجل: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ والمتباذلين فيَّ والمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ} وقال: {أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله} إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة، ومع ذلك تجد أن البعض يغفلون عن هذا المعنى العظيم، وهذا الأصل الأصيل الذي هو أصل الولاء للمؤمنين، ويتعللون على ترك حقوق الأخوة وترك المودة والزيارة، والهشاشة والبشاشة بأوهى العلل. فمثلاً: اختلاف المناهج الدعوية أو اختلاف الشيوخ الذين يتلقى عنهم، فلانٌ عن فلان، أو اختلاف القبائل أو البلدان، أو اختلاف الاجتهادات، كثيراً ما تكون سبباً في نوعٍ من المهاجرة والمباعدة، وتكبر في القلوب، وتمتلئ الصدور والنفوس؛ حتى يلقى المسلم بل يلقى الداعية أخاه فَيَزْوَرًُّ عنه ويعرض، وإن صافحه صافحه في غير بشاشة، وإن ابتسم في وجهه فهي ابتسامة لا تنم عن رضا، ولكنها ابتسامة متكلفة. أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد علمنا غير ذلك، علمنا أن: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه} . الجزء: 174 ¦ الصفحة: 23 الأدعية الوقفة الخامسة: قد صنف العلماء في الأدعية كتباً خاصة، كما أفردوا لها أبواباً وكتباً ضمن مصنفات السنة النبوية، فـ البخاري -مثلاً- جعل كتاباً خاصاً اسمه "كتاب الدعوات" ومسلم "باب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار"، والنسائي "كتاب الاستعاذة" وجعل فيه ما يزيد على خمسٍ وستين باباً: باب الاستعاذة من قلبٍ لا يخشع باب الاستعاذة من شر السمع والبصر باب الاستعاذة من الجبن من البخل من الهم من الحزن من المأثم من المغرم من العجز والذلة والقلة من النفاق والشقاق وسوء الأخلاق إلى غير ذلك. هذه الهتافات الحارة الموروثة عن سيد المتعبدين صلى الله عليه وسلم، كان يستعيذ بالله تعالى من شر ذلك كله، وهي تعبر عن أهمية الدعاء في حياة المسلم، وأنه ينبغي للإنسان أن يجعل الدعاء زاده ورفيقه وألا يقلل من شأنه: أتهزأ بالدعاء وتزدريه ولا تدري بما صنع الدعاءُ سهام الليل لا تخطي ولكن لها أجلٌ وللأجل انقضاءُ الجزء: 174 ¦ الصفحة: 24 النصر بالدعاء ما يدريك أن تكون المكاسب التي حققها المسلمون في أفغانستان -مثلاً- أو الجزائر أو فلسطين أو في غيرها أو حتى ما نسمعه من بوادر تقدم للمسلمين في بلاد البوسنة والهرسك في يوغسلافيا، أن تكون هذه المكاسب هي بعض دعوات المخلصين الغيورين! بل أعظم من ذلك ما يدريك أن تكون هذه الصحوة التي عمت الآفاق وملأت البيوت والمساجد والمدارس والجامعات، وحيرت المختصين في الشرق والغرب، وأقلقت بال الساسة في بلاد أوروبا وأمريكا وأعجزتهم، وأفرحت قلوب المؤمنين، فهي تزيد الكافرين أسىً وغيظاً إذا نظروا، وترضي المؤمنين ما يدريك أن تكون هذه الصحوة المباركة أثراً من آثار دعوات الغيورين التي يرفعونها بالأسحار إلى الملك الجبار، فتفتح لها أبواب السماء، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكثر من الدعاء ولا يزدريه. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 25 الدعاء منهج حياة الأمر الثاني: أن هذا الدعاء ينبغي أن يكون منهج حياة، إذ ليس جديراً بالإنسان أن يدعو الله تعالى وهو مقيمٌ على معصيته، مخالفٌ أمره، فإن هذا يوجد في قلبك وحشة من الله تعالى وبعداً، فلا تجد إقبالاً على الدعاء، ولا تجد في قلبك إخباتاً إلى الله تعالى، تبحث عن قلبك فلا تجده عند الحاجة إليه؛ لأنك ملأت قلبك بالذنوب والمعاصي، فاسود قلبك وصارت فيه وحشة من الله تبارك وتعالى، فإذا أردته ببكاءٍ أو دعاءٍ أو خشوع بحثت عنه فلم تجده، ولهذا ينبغي أن تدرك أن الدعاء يستوجب فعل الأسباب، ولهذا جاء ربيعة بن مالك الأسلمي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {فقال: يا رسول الله! ادع الله أن أكون معك في الجنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعنيِّ على ذلك بكثرة السجود} ولما دعا المؤمنون: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] بين الله تعالى في موضعٍ آخر أن الإمامة في الدين تتطلب فعل الأسباب، ومن الأسباب: الصبر واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال سفيان: [[بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين]] . إذاً: حين تدعو، وحين تستعيذ بالله من الجبن لا ينبغي أن تستعيذ بالله من الجبن وأنت تمارس كل ألوان الجبن، والخوف؛ كالخوف من المخلوقين، ومن الناس والسلاطين، والخوف من رجال الأمن والقوى العظمى، والخوف من اليهود، بل ينبغي أن تقول: أعوذ بالله من الجبن، وتربي نفسك على الشجاعة في الوقوف أمام الناس، وفي قول كلمة الحق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشجاعة بالبحث عن العلم والسؤال عنه، فإنه لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر، والشجاعة في كل موقف، وألا تخاف إلا الله عز وجل، فإن أرزاق العباد وآجالهم وأموالهم وأنفاسهم بيد الله تعالى، لا يقدمون ولا يؤخرون، قالوا: قالوا تحفّظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محنُ فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنُ وإنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهنُ دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظهم منهم له كفنُ فإن كلمة الحق لا تباعد من رزق، ولا تقرب من أجل، فينبغي للإنسان أن يربي نفسه وغيره على الشجاعة في الحق، والقوة فيه، وألا يخاف إلا الله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] . الجزء: 174 ¦ الصفحة: 26 المظهر والمخبر المظهر هو الزينة: اللباس الشعر النتعل الترجل التطيب فهذه كلها أشياء شكلية أو مظهرية، وقد اهتم العلماء بها تبعاً لعناية الإسلام وحديث الرسول عليه الصلاة والسلام لها، فمثلاً: النسائي سمى باباً في كتابه "باب الزينة" والبخاري "باب اللباس" أما أبو داود فقد جعلها على ثلاثة أبواب، "باب اللباس"، "باب الترجل"، "باب الخاتم"، أما مالك في موطئه فجعل باباً خاصاً للشعر. فهذه الأحاديث المتعلقة بالشعر والزينة والملابس، وبكيفية لبس النعل وخلعه، والفضل في ذلك وفي التطيب إلى غير ذلك من هذه الأشياء تدل على أمور: الجزء: 174 ¦ الصفحة: 27 المسلم ليس عبداً للجسد فهذا الأمر مما هو مطلوب، وتدل هذه التبويبات والكتب على ضرورة عناية المسلم به، بشرط: أن تكون هذه العناية عناية معتدلة. فالمسلم ليس عبداً للجسد، وإنما الجسد عنده خادم للقلب الذي يسير إلى الرب تبارك وتعالى، لا يجعل الجسم معبوداً بل الجسم مستخدم. يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ ولو أن الإنسان عني بمظهره أشد العناية لم يكن في مثل زهو الطاوس وجماله وحسنه، ولو أنه عني بقوته أشد العناية لم يكن في مثل قوة الفيل. إذاً: ليس الإنسان إنساناً بمظهره، ولكنه بنفسه وقلبه وروحه وإيمانه وعبادته، وطاعته لله عز وجل، ولكن مع ذلك يعطي المسلم هذه الأشياء قدراً من العناية والاهتمام، حتى لو لم تكن هذه الأشياء فاخرة أو غالية الثمن، ولكنها حسنة، فالثوب أو النعل الجميل، أو الطيب الحسن، ليس بالضرورة غالي الثمن، ولكن يكون نظيفاً وحسناً وطيباً، فهذا فيه الكفاية. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 28 العناية بالمظهر أولها: العناية بالمظهر في حسنه ونظافته وطيب رائحته، وأن ذلك مطلوب شرعاً، وهو من سنن الفطرة التي دعا إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بها وحث عليها، وهو سبب في ارتياح الناس إلى الإنسان، وتأليف قلوبهم عليه ومحبتهم له، وهو دليلٌُ على تهذيب القلب، فليس من سمات المسلم أن يكون بذَّ الثياب متبذلاً، منتن الرائحة، بعيداً عن الزينة! كلا. بل هو حسن الثياب، حسن الهيئة والرائحة، وقد قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله جميلٌ يحب الجمال} فأقرهم على رغبتهم في حسن الثياب واللباس، وحسن الرائحة، بل: {جاءه صلى الله عليه وسلم -كما في سنن أبي داود- رجل أشعث الرأس سيء الرائحة، وسخ الثياب، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: من أي المال أعطاك الله؟ فقال: من كل المال -من الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده- إذا آتاك الله مالاً فلير أثر نعمته عليك- فذهب الرجل، وتطيب وتزين وسرح شعره ولبس ثوباً جميلاً، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هذا أفضل من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان} . الجزء: 174 ¦ الصفحة: 29 العقيدة والعمل الجزء: 174 ¦ الصفحة: 30 صلاح الظاهر يدل على صلاح الباطن والعكس يظن البعض أنه يكفيه أن يتكلم عن صلاح الأعمال، وربما اتصل بي أناس، فقالوا لي: نحن مقصرون في الصلاة، نتركها أحياناً ونصلي أحياناً، ولكننا بحمد الله نملك قلوباً سليمة! وهذا المقياس عجيب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} والحديث في الصحيحين، فبين أن صلاح القلب يتبعه صلاح الأعضاء والجوارح، فإذا صلح القلب صلحت العين فلا ترى إلا ما أحل الله، والأذن لا تسمع إلا ما أحل الله، واليد لا تأخذ إلا الحلال، والرجل لا تمشي إلا إلى حلال، وصلح الجسد كله، وإذا فسد القلب فسد الجسد كله. إذاً الظاهر والباطن ليس بينهما فاصل في الإسلام أبداً، بل الظاهر دليلٌ على الباطن، وصلاح الظاهر دليلٌ على صلاح الباطن، وصلاح الباطن يصلحه صلاح الظاهر. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 31 تبويبات البخاري ربط بين العقيدة والعمل وقد لفت نظري جداً تبويب الإمام البخاري في صحيحه حينما قال: "كتاب الإيمان" والإيمان بلا شك يتعلق بالعقيدة، فلننظر ما هي الأبواب التي أدرجها تحت هذا الكتاب -كتاب الإيمان-. إنها أبواب كلها تتعلق بتهذيب النفس، وترقيق الأخلاق، والحث على مكارم الأخلاق ومعالي الأمور والأعمال الصالحة، وخوف الإنسان على نفسه من أن يحبط عمله، وهو لا يشعر. إذاً: [[ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]] كما قال الحسن البصري رحمه الله، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يصح. والكثيرون يخدعهم الشيطان، فيظنون أنهم حراس الدين، وأنهم الذين يحمون الملة، فيشتغلون بالناس عن أنفسهم، ويظن الواحد منهم أنه ينبغي أن يرد على فلان، ويتكلم في حق علان، ويشتم هذا، ويسب ذاك، وينتقص من هذا، وهو يظن أنه يدل على صحة الإيمان والدين والعقيدة، وربما غفل هذا الإنسان عن نفسه، أو عن الأعمال الصالحة، أو عن تحقيق الإيمان في قلبه، فلننظر كيف بوب البخاري بعد كتاب الإيمان بعض أبوابه: كتاب الإيمان: باب/ "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" هذا من الإيمان. باب/ "من الإيمان إطعام الطعام". باب/ "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". باب/ "حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان". باب/ "علامة الإيمان حب الأنصار". باب/ "من الدين الفرار من الفتن". باب/ الحياء من الإيمان، إفشاء السلام من الإسلام، قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً، الجهاد من الإيمان، الصوم من الإيمان، الصلاة من الإيمان، الزكاة من الإيمان. باب/ الدين يسر. باب/ حسن إسلام المرء. باب/ اتباع الجنائز من الإيمان، خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر، أداء الخمس، النية، النصيحة. وهذه أبواب كلها أبواب عملية توجهك إلى القول الحسن، والفعل الحسن، والنية الحسنة، وتبين لك ما يكون به الإيمان، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجعل الإيمان دعوى في القلب أو في اللسان أبداً، ولكن جعل الأعمال هي التي تدل على صدق الإيمان، فإذا رأينا الإنسان يعتاد المساجد ويصلي فيها، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويغار لدين الله تعالى، ويتجنب المحرمات، ويصل رحمه، ويحسن إلى الناس، ويقوم الليل، ويصوم رمضان، ويؤدي الزكاة، ويحب المؤمنين ويواليهم إلى غير ذلك، عرفنا أن هذا الإنسان مؤمن، أما مجرد الدعوى فكما قيل: والدعاوى ما لم يقيموا عليها بيناتٍ أصحابها أدعياء كتاب العلم: ومن هذا الباب أيضاً "كتاب العلم"، فالعلم في نظر الكثيرين مجرد حلقات يحضرها الإنسان، أو أشرطة يستمع إليها، أو كتب يقرؤها أو يحفظها ويستظهرها، ثم يتزين بها في المجالس، ويمارس بها نوعاً من إظهار القوة على الآخرين أحياناً، وذلك إذا لم يصاحب العلم نية صالحة واحتساب لوجه الله عز وجل. ولكن الذي يدل عليه الحديث النبوي الشريف: أن العلم ليس زينةً في المجالس، وليس مفاخرة ومباهاة، بل هو سلوك وسمة وخلق ودين قبل ذلك كله، ولذلك كان كتاب العلم في صحيح البخاري جله يتعلق بالأدب أدب الجلوس للتعلم وأدب السؤال (سؤال العالم) أدب الاستئذان أدب المراجعة والتصحيح أدب السمر أدب الحياء في طلب العلم ووسائل الحرص على التعلم إلى غير ذلك مما يتعلق بآداب الإنسان وهو يطلب العلم. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخاري، تجد أبواباً تتعلق بالاعتصام بالقرآن والسنة، لكنها تأتي بالشكل التالي: - باب: ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع. إذاً: العلم وسيلة إلى محبة الله ومعرفته وعبادته وطلب ما عنده، فلا داعي للتعمق والمبالغة والتنازع والغلو والبدع؛ لأن هذه كلها تباعد عن الله ولا تقرب إليه. - (باب: لا تزال طائفة من أمتي) وهؤلاء هم العلماء العاملون المتمسكون بالسنة الداعون الناس إليها، وهم الطائفة المنصورة التي بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم. - باب: قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65] فيشير إلى التفرق والتنازع الحاصل في هذه الأمة، وأن هذا سوف يقع، وقد يكون هذا التنازع -أحياناً- بين العلماء، أو بين طلبة العلم، أو بين الدعاة إلى الله عز وجل، وهو في كل حال مذموم، وإن كان النص أخبر بوجوده، فوجوده ليس دليلاً على مشروعيته؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أخبر أن هذه الأمة ستتبع سنن من كان قبلها مع أن هذا الأمر محرم، فليس الإخبار بأمرٍ قدري، دليلاً على جوازه أو حله. - باب: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54] المجادلة في العلم، فلا تجعل العلم ذريعة للجدل والقيل والقال، وأن تُباري به العلماء، أو تُمارِي به السفهاء، أو تصرف وجوه الناس إليك. - باب: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ إذا كنت من طلبة العلم ومن المتبعين للسنة والحريصين على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا تلم الناس إذا اجتهدوا فأخطئوا أو زلت بهم قدم، أو زلت بهم كلمة، أو أخطئوا في قول أو فعل أو اجتهاد، فإن الإنسان إذا اجتهد فأخطأ، فله أجر واحد، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران كما في حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه. - (باب كراهية الخلاف) إذاً: الخلاف مكروه ومذموم، وينبغي للإنسان أن يحرص على تجنبه، وأن يحرص على جمع الكلمة ووحدة القلوب بقدر ما يستطيع، وهذا من أفضل وأعظم ما دعا إليه الشرع، وهو من المبادئ والأسس الكبار، والأصول العظيمة التي يغفل عنها الناس ويتفطنون إلى جزئيات تتعلق بها، وهم يتعلقون بها -أيضاً- ويتمسكون. ولذلك تجد العلماء في كتب الحديث كثيراً ما يبوب أحدهم: (باب هل يجوز كذا؟) إشارة إلى أنه لم يجزم في المسألة، فلم يقل: لا يجوز كذا أو يجوز، بل قال: هل يجوز؟ فطرحها على شكل سؤال دليل على أن عند الرجل تردداً، هل يجوز أو لا يجوز؟! لأن الأدلة عنده محل نظرٍ وتنازع، أو يقول: باب/ الرخصة في كذا، أو يقول: (باب ذكر كذا وكذا) دليلاً على أنه لم يتبين له فيه رأي -أحياناً- فقد ذكره دون أن يجزم فيه نظراً لتنازع الأدلة واختلاف مآخذها. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 32 القرآن ومثله معه الأئمة يربطون القرآن بالحديث، فإذا ذكروا القرآن فسروه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تجد هذا -مثلاً- في منهج الإمام الطبري في تفسيره، أو منهج ابن كثير في تفسيره، فإنه يسوق الأحاديث المتعلقة بالآية سياقاً حسناً جميلاً، يربط بذلك بين القرآن والحديث، وكذلك أئمة الحديث، إذا ذكروا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربطوه بالآيات القرآنية وجمعوا بينهما، ولذلك تجد أن كتب السنة كلها جعلت باباً خاصاً للتفسير -كتاب التفسير- وساقت فيه الأحاديث الواردة في تفسير كلام الله تعالى، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواءً كان هذا التفسير تفسيراً قولياً أم تفسيراً عملياً، ما هو التفسير القولي؟ وما هو التفسير العملي؟ الجزء: 174 ¦ الصفحة: 33 عدم التعارض بين القرآن والسنة فالقرآن والسنة مجتمعان، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث المقدام بن معد يكرب وهو صحيح: {ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} فهما مجتمعان لا يفترقان أبداً، أما أهل البدعة فإنك تجد أنهم يضربون القرآن بالسنة، ويضربون السنة بالقرآن، فإذا قلت لهم: هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: دعنا من هذا! القرآن يقول كذا وكذا. ولا شك أنه لا يمكن أن نعارض السنة بالقرآن، ولا أن نعارض القرآن بالسنة، بل هما يجريان معاً على سنن الوحدة والوفاق، وما جاء من عند الله تعالى فإنه لا يختلف، فالسنة وحيٌ غير متلو، والقرآن وحيٌ متلوٌ، وليس القرآن معارضاً للسنة، ولا السنة معارضة للقرآن. ولذلك تجد أن العلماء -كما قلت- يبوبون أبواباً للتفسير، وأبواباً لفضائل القرآن، وأبواباً لثواب القرآن، وأبواباً لفضائل السور، ليس هذا فقط، بل حتى وهم يتكلمون في أبوابٍ أخرى يسوقون الآيات المتعلقة به، وأبرز من يصنع ذلك هو الإمام البخاري حيث يصنع ذلك كثيراً في تفسيره، بل يجعل الآيات أحياناً عنواناً للباب، وعلى سبيل المثال لا الحصر في كتاب الجهاد مثلاً: باب: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة:52] . باب: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] باب: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران:169] . باب: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:95] . باب: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران:64] . باب: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد:4] . وما ذكرت الآن إلا الأبواب التي فيها نص آية، أما الأبواب التي فيها ضمن الترجمة آية، ولكن الباب من عند المؤلف فإنني لم أسقه، وهذا دليلٌ على أن المسلم أو طالب العلم ينبغي ألا يضرب القرآن بالسنة ولا السنة بالقرآن، ولكن هناك من يعني بالقرآن فقط ولا يعني بالسنة، وهذا خطأ كبير؛ فإن القرآن وضع القواعد الكلية والمعاني العامة، والسنة جاءت بالتفصيلات التي لا تجعل للمبتدع أو الضال أو المنحرف مجالاً للتدخل في معاني القرآن الكريم، وكذلك: هناك من قد يقبل على السنة ويغفل عن القرآن الكريم، وهذا -أيضاً- خطأ آخر؛ فإن الإنسان ينبغي عليه أن يهتم بهذا وذاك. أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم هداة مهتدين، وأن يجعلنا جميعاً ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 34 التفسير القولي والعملي أما التفسير القولي فمثل قوله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] إذ قال: {ألا إن القوة الرمي} أما التفسير العملي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد يفسر آيات القرآن الكريم بفعله، كما قالت عائشة رضي الله عنها لمن سألها: [[كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قال: بلى، قالت: كان خلقه القرآن]] صلى الله عليه وسلم، أي: أن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت تفسيراً للقرآن في مثل قوله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وغير ذلك من الآيات التي مدح الله تعالى فيها رسوله صلى الله عليه وسلم، فكانت أفعاله مطابقة لما في القرآن. ومثله قوله عز وجل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} [المزمل:2] فقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، فكان يقوم الليل بصورٍ وصيغ مختلفة ذكرها أهل العلم، فكانت السنة تفسيراً للقرآن. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 35 الأسئلة الجزء: 174 ¦ الصفحة: 36 الصلاة في مسجد فيه قبر السؤال ما حكم الصلاة في مسجد فيه مقبرة قديمة؟ الجواب إذا كانت هذه المقبرة موجودةٌ قبل المسجد، فيجب هدم هذا المسجد، أما إذا كان المسجد بني أولاً، ثم وجد فيه القبر، فينبغي أن يزال القبر ويوضع في مكانٍ آخر، أما أن يصلى فيه مع وجود القبر فلا. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 37 الإيفاء بالنذر السؤال أنا شابٌ نذرت على نفسي عندما أكمل الدراسة الجامعية أن أعمل وليمة للأصدقاء والأقارب، ولكن مضى عدة سنوات، ولم أنفذ هذا النذر، هل يمكنني أن أتصدق بالمال؟ الجواب لا. بل ينبغي أن توفي بنذرك، فتعمل وليمة وتجمع لها الأصدقاء والأقارب. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 38 أخبار المسلمين السؤال ما هي أخبار المسلمين في أفغانستان والجزائر ومصر بصورة مختصرة وسريعة، وذلك لنطمئن على أحوال إخواننا في تلك البلاد؟ الجواب هناك أخبارٌ توجب عليكم أن تتابعوها، فإن أقل حق للمسلم على أخيه أن يتابع أخباره، فإن رآه على خير بكى فرحاً، وإن رآه على سوءٍ بكى ألماً، أو يدعو له بظهر الغيب دعوة صادقة، وقد ذكرت جوانب من أخبار المسلمين في هذه البلاد في درس حديث الركب، فلعلك تراجعه، فيغنيني عن إعادته هنا. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 39 خطر المسلسلات الخليعة السؤال هناك مسلسل يعرض، وهو مسلسل فرنسي تظهر فيه المرأة بصورة سيئة؟ الجواب نعم هذا صحيح، والمسلسلات أصبحت اليوم كثيرة، وأصبح من المعتاد أن تظهر المرأة بثيابٍ إلى نصف الفخذ وما فوق ذلك، ومع الأسف الشديد أن الأولاد والبنات يشاهدون ذلك، ويتعلمون منه الكثير، أكثر مما يتعلمون من الخطيب أو من المدرس، وأقول: أين واجبنا؟! هذا الجهاز موجود في بيتك، يتحلق حوله أولادك وأهلك وبناتك وأخواتك، لماذا لا تقوم بدور التوعية في المنزل؟! لماذا لا تقوم بدور إيجاد البديل في المنزل من الكتاب والشريط، والأجهزة المفيدة النافعة، وإقامة الحلقات العلمية، والدروس داخل المنزل، والدعوة إلى الله ورسوله وتحصينهم ضد هذا الشر والفساد؟! ثم: لماذا لا تقوم بواجبك، بإنكار المنكر؟! هل كتبت تقريراً عن هذا المسلسل ابتليت بمشاهدته، ورفعته إلى طلبة العلم أو العلماء، أو خاطبت وزارة الإعلام بذلك؟! لو أن عشرة أو عشرين فعلوا ذلك فأنا متأكد أن مثل هذا المسلسل سوف يوقف، وقد أُوقفت بعض المسلسلات بعدما عرضت؛ لأنه وجد اعتراض عليها من بعض المشاهدين، فلماذا نكتفي بمجرد التشكي والتلاوم ولا نقوم بدورنا؟! أو نعتقد أحياناً أن دورنا لا يمكن أن ينفع شيئاً، فمجرد رسالة أو كتابة لا تنفع شيئاً. يا أخي هذه تنفع الكثير، وتصور أنك تقوم بهذا الدور، وغيرك يقوم به في بلدٍ آخر، وفي مكان آخر، فالمجموع يتكون منه رأيٌ عامٌ قوي يؤثر تأثيراً كبيراً في مجرى الأحداث. نسأل الله تعالى أن يبارك لنا ولكم فيما نقول ونسمع، ويجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 40 بعض العادات السيئة في العرس السؤال يوجد في بعض القرى عادة توجب على ولي أمر العروس دفع مبلغٍ من المال عندما تزف خارج القرية، ويسمى المكسر، وعند عدم دفعه يقوم أهل القرية بمقاطعته، فما الحكم؟ الجواب لا شك أن هذا ليس شرعاً، ولا أصل له في الدين، وينبغي القضاء على مثل هذه العادات، والمسئولية أولاً على الخطباء والعلماء والقضاة والدعاة أن يتكلموا عن مثل هذه الأمور، وكذلك ينبغي معالجة هذا الأمر معالجة واضحة وقوية وصريحة للقضاء عليها. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 41 صلة الرحم للعاصي السؤال كيف تكون صلة الرحم إذا كانوا يعصون الله تعالى، ويتركون الصلاة في المساجد إلا قليلاً؟ الجواب تكون صلة الرحم بزيارتهم، وتحري الأوقات التي لا يكونون فيها على معصية، والتحبب إليهم بحسن الخلق، والكلمة الطيبة، والبسمة في وجوههم، ومن صلة الرحم دعوتهم إلى الله تعالى بالكتيب والكتاب والشريط والاتصال والرسالة، ولا تغلظ عليهم بالقول، ولا تقس عليهم، ولا تيئس منهم، بل اصبر وصابر وثق بأن الله تعالى سوف يكتب لك أجر هدايتهم بإذن الله عز وجل. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 42 التحذير من أجهزة البث المباشر السؤال كما تعلم انتشار أجهزة البث المباشر، وما يسمى بالدش، وأنه يباع علناً بالمحلات التجارية دون رادعٍ أو منكر، فنحملكم إبلاغ ولاة الأمر عن هذا المنكر، ووضع رقابة على هذا الجهاز، ومنع بيعه، حرصاً على مصلحة المجتمع، وردعاً للدعارة والفساد الموجود في مثل هذا الجهاز؟ الجواب هذا الجهاز من أخطر ما ابتليت به المجتمعات الإسلامية، لأن بعض هذه الأجهزة قد يستقبل أحياناً ما يزيد على خمسين محطة من أنحاء العالم، بعضها محطات -فعلاً- تعرض الدعارة صراحة عياناً، وبعضها قد تعرض الرقص الفاسد والرقص المختلط، وبعضها تعرض الأزياء وعارضات الأزياء، وأما الغناء والرحلات المختلطة والأفلام، فحدث ولا حرج، بل بعض هذه الأفلام، وبعض هذه القنوات موجهة خصيصاً للشرق الأوسط خاصةً بعض المحطات التنصيرية، ويوجد عشرات المحطات التي تقوم عليها الكنيسة، وهي موجهة لتغيير عقائد المسلمين في المنطقة بالذات، ومحاولة تحويلهم إلى نصارى، وهذا خطر داهم يهدد بلاد المسلمين، وقد تكلمت عنه مرات في الدروس العلمية، وتكلم عنه عدد من المشايخ، وكلمنا فيه سماحة الوالد، وأصدر -جزاه الله خيراً- فيه بياناً لعله وصل إليكم أو يصل إليكم بعد حين، وقد تكلم فيه عن تحريم هذا الجهاز، وتحريم بيعه واقتنائه ووجوب العمل على إزالته، وأن الواجب علينا التعاون على ذلك، فإنه من التعاون على البر والتقوى، ومن النصيحة التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم. فينبغي أن نبذل الوسع في ذلك؛ مخاطبةً للخطباء والدعاة أن يتكلموا عن خطره، ووجوب توعية الناس منه، فإنه ينبغي أن نوعي الناس بخطره، حتى على فرض أن هذا الجهاز ظل موجوداً بينهم؛ فنبين خطره على الأشخاص وعلى النساء، وعلى المراهقين، بل خطره على أمن هذه البلاد، وعلى أخلاقياتها وسلوكياتها وسياساتها، فإن الناس سوف يطلعون من خلال هذه الأجهزة على فضائح سياسية من أنحاء العالم العربي، وسوف يطلعون على وسائل كثيرة، وسوف يطلعون على أساليب وأخبار ربما لم يكن أحد فيما مضى يرغب في أن يطلعوا عليها، فضلاً عما فيه من تدمير الأخلاق والتنصير وغير ذلك. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 43 الأضحية بالبدنة السؤال سمعنا أن أحداً أفتى: أن البدنة لا تجزي إلا إذا كان الأشخاص عددهم سبعة، وإذا كانوا أقل من ذلك، فإنها لا تجزي؟ الجواب الواقع أنها تجزي وإن كان العدد أقل من ذلك، فإنها تجزي عن هذا العدد فما دونه. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 44 الصلاة مع الإباضية السؤال أنا موفد خارج المملكة، وذلك للتدريس في إحدى الدول الإسلامية، ومذهب هذه الدولة هو المذهب الإباضي، هل يجوز لي أن أصلي وأصوم معهم، علماً أنهم ينكرون رؤية الله تعالى يوم القيامة، كما أنهم يقولون: إن المسلم إذا أذنب ذنباً فهو مخلد في النار؟ الجواب الإباضية هي إحدى فرق الخوارج، وهي موجودة في عمان، وموجودة على قلة في الجزائر والمغرب وليبيا وبعض البلاد، وإن كانت إباضية الجزائر والمغرب، غير إباضية المشرق، وعلى أية حال، هي إحدى فرق الخوارج، فإذا علمت أن الإمام مبتدعٌ مثل هذه البدعة الغليظة، فلا أرى لك أن تصلي وراءه، خاصةً ونحن نعلم أن هناك مسلمين سنة في تلك البلاد، وأنهم يعانون من المضايقة الشيء الكثير، فينبغي للإنسان أن يبحث عن جماعة من أهل السنة ويصلي وراءهم. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 45 سفر المرأة السؤال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يصح لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة بريدٍ دون محرم، قيل: وما البريد؟ قال: ما يعادل واحداً وعشرين كيلو متراً} ما صحة هذا الحديث؟ الجواب هذا ليس بصحيح، وهو حديثٌ موضوع، وإنما الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم} بمطلق السفر، فكل سفر لا يجوز للمرأة أن تسافره إلا مع ذي محرم. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 46 صلة الرحم السؤال هل من كلمة حول صلة الأرحام؛ لأنه يوجد في هذا المجلس من هجر، وما زال هاجراً لقرابته، ربما أكثر من سبع سنوات؟ الجواب نسأل الله السلامة من ذلك، قطيعة الرحم من الكبائر، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل الجنة قاطع} أي: قاطع الرحم لا يدخل الجنة -والعياذ بالله- مما يدل على أن فعله من كبائر الذنوب، وعلى الإنسان أن يدرك أن صلة الرحم أمرٌ سهل، لا يتطلب أكثر من الانتصار على شهوة النفس وهواها، فهذا القريب الذي قاطعته، قاطعته وأنت تقول: هو المخطئ وهو الظالم والآثم وهو كذا وكذا، لكن لو تذكرت ما عند الله تعالى يوم القيامة، ثم قلت: أتغلب على نفسي وأنتصر وأذهب إلى هذا، حتى لو آذاني وطردني واعتدى عليَّ، فإنني سوف أفعل، فذهبت إليه واعتذرت منه، وقلت: أصلح ما بيني وبينك، وليس بالضرورة أن نتحول إلى إخوة أصدقاء نتزاور بكرة وعشية، المهم أن يزول ما بيننا، ويكون بيننا روابط الأخوة العامة والصلة الدينية، ويسلم بعضنا على بعض، ونلتقي في المناسبات، فإن هذا يكفي، وإذا قلت له ذلك، فإن قبل فبها، وإن رد كان حينئذٍ هو الذي باء بإثمها. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 47 الصلاة بين السواري السؤال كثيراً من الناس يجلسون بين السواري، وقد يؤدون الصلاة، فأرجو التنبيه لهذا؟ الجواب الصلاة بين السواري مكروهة إلا لحاجة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الصلاة والصف بين السواري، إلا أن يكون محتاجاً إلى ذلك، وعلة النهي قال بعضهم: لأنها مكان الجن، وهذا لا يصح، والواقع أنها تكون سبباً في عدم اتصال الصفوف. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 48 واجب الناس في تصحيح الأوضاع السؤال سيفتح في مدينة القنفذة معهد صحي للبنات، فما هو واجبنا نحو ذلك، وخاصة شباب الصحوة؟ الجواب أي أمر يوجد في واقع الناس ينبغي أن ينظر فيه، فإذا كان هذا الأمر فيه ما لا يرضي الله عز وجل، فينبغي أن يدرك الإنسان أن واجبه حينئذٍ يتلخص في كلمتين: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحكمة والموعظة الحسنة وبالاتصال بالمسئولين ودعوتهم إلى تصحيح الأمور، وتصحيح الأوضاع، والدعوة إلى كذا، والتبديل إلى ما هو أفضل وأحسن وما هو خير، وكذلك الاتصال بمن يكونون عوناً على مثل هذا الأمر ودعوتهم، ولو أننا بذلنا كل ما بوسعنا وتعاونا لا شك أن هذا المجتمع سيتحسن وتصلح أحواله، ما رأيكم في مجتمع تتظافر مئات الأيدي والسواعد والأكف والقوى والإمكانيات لإصلاحه وتصحيح أوضاعه؟ لابد أن هذا المجتمع سيصلح. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 49 أماكن القبور التي يخاف عليها من العبث السؤال يوجد قبر في منطقة سياحية على ساحل البحر وهو بارز، ويُخاف عليه من العبث، فما هو الحل لهذا القبر وحمايته؟ الجواب هذا يرجع فيه إلى القاضي في المنطقة القريبة من هذا القبر ليجتهد وسعه في ذلك وينظر في أمره. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 50 إدخال الخادمات إلى الأماكن المقدسة السؤال أدخل رجل خادمة نصرانية إلى مكة عندما كان ذاهباً للعمرة، ومن ثم إلى جدة، فماذا عليه؟ الجواب ما دام يعلم أن هذا الأمر حصل، فإنه ليس عليه شيء، لكن عليه أن يتوب إلى الله عز وجل من مثل هذا العمل، ولا يكرره مرة أخرى، خاصة في مكة المكرمة، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] . الجزء: 174 ¦ الصفحة: 51 غلاء المهور السؤال أنا شاب تقدمت إلى إحدى الأسر طالباً خطبة ابنتهم فاشترطوا أن يكون المهر خمسين ألف ريال، بالإضافة إلى قيمة هدايا للمخطوبة، فقد يكلف زواجي ما يقارب مائة وعشرة آلاف ريال سعودي، وأفيدكم بمقدرتي على دفع مثل هذا المبلغ، لكن سؤالي الذي يشغل بالي يتمثل في: هل مثل هذا المبلغ يدخل في باب التبذير المنهي عنه؟! مع العلم أن المخطوبة لن ينالها من مهرها سوى قيمة الذهب واللبس، والباقي يوزع هدايا لأقاربها بصريح كلام أبيها لي، وشرعاً المهر من حق العروس، وأفيدكم أنني لم أرد على ولي أمرها حتى الآن، فهل لكم أن توجهوني: هل أقبل أم لا أقبل مثل هذه الزيجة؟ الجواب هذه من المصائب في الواقع، مائة وعشرة آلاف ريال من أجل الزواج! هذا فضلاً عن البيت الذي سوف يؤثثه، وتكاليف السيارة، وأجرة البيت، ومشاكل أخرى كثيرة، وأنه حتى إذا كان هذا الإنسان يستطيع فبقية الشباب لا يستطيعون، والشاب مجبولة ومفطورة ومركوزة فيه هذه الغريزة، فكيف يستطيع وهو يرى الفتن والمغريات والشهوات تواجهه في البقالة والمتجر والطائرة والسيارة وفي السوق والبر والبحر وفي التلفاز والفيديو وفي كل مكان، كيف يستطيع أن يعف نفسه؟! وهو يرى هذه المغريات تدفعه دفعاً إلى الحرام من جهة، فيبحث عن طريق الحلال، فيجد هذه العقبات الكبيرة التي تتمثل في أمور عديدة، منها عشرات آلاف الريالات مهراً، فضلاً عن التكاليف الأخرى، ألا نخاف الله؟! ألا نتقي الله عز وجل؟! إن خير النساء وأفضلهن وأعظمهن بركة أيسرهن مئونة. والمرأة: إذا تزوجها الإنسان بهذا المبلغ الضخم، فهذه أول بوادر الفشل، لأنه حينئذٍ يشعر بأنه تعب من أجل المرأة كثيراً، فكلما أساءت إليه، أو قصرت في حقه صار في قلبه شعور: امرأة دفعت من أجلها كل شيء، وأنفقت من أجلها هذا المال الكثير، وفي النهاية هذا كلامها لي؟! أهذا تقديرها لي؟! أهذا موقفها معي؟! فيظل قلبه يجمع ويجمع ويجمع، حتى في الأخير ربما طلقها، بل ربما طلقها بطريقة أخرى، لا يطلقها هكذا، بل يقول: لابد أن أسترد هذا المال، فيؤذيها ويضايقها ويضارها، من أجل أن يضغط على أهلها أن تطلب هي الطلاق، من أجل أن القاضي بحكمه يرد إليه المهر الذي دفعه إلى أهلها، ويكون بذلك خلعاً، لأنه كان بطلب من المرأة. وكثير من المشاكل والحوادث التي حصلت هي بسبب مثل هذا الأمر، فينبغي أن نعتدل في أمر المهر، وأن نحرص على القصد فيه، ولا شك أن مثل هذا المبلغ فيه قدر من التبذير خاصةً وهو طلب من الأهل، كون الرجل دفع ما دفع هذا شيء، لكن كون الأهل يطلبون مبلغاً يصل في مجموعه إلى مائة وعشرة آلاف ريال مهراً لابنتهم، هذا كيف يكون؟! أما بالنسبة للأخ فكونه يقبل أو يرد هذه قضية شخصية، وينبغي أن يستشير من حوله، أو حتى لو اتصل بأحد، وشرح له ظروفه وأوضاعه، فهذا موضوع آخر، لكن المهم هو القضية العامة في مثل هذا الموضوع. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 52 تعظيم المصاحف السؤال هناك بعض الإخوة يجلسون هنا في المسجد، وأظهرهم على دواليب المصاحف جاعلين القرآن خلفهم، نرجو إذا كان في الأمر شيء التوجيه بذلك؟ الجواب الأولى ألا يجلسوا إذا كانت المصاحف مكشوفة وظاهرة. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 53 التحذير من جريدة الشرق الأوسط السؤال هناك منشور يحذر من جريدة الشرق الأوسط، والمنشور باسمك فهل كتبته أنت مع أنه يوزع في كل مكان؟ الجواب أما هذه الجريدة -خضراء الدمن الشرق الأوسط- فهي من الجرائد السيئة التي حاربناها، وما زلنا نحاربها، ولم نسالمها منذ حاربناها؛ لأنها جريدة أخذت على عاتقها تشويه صورة الإسلام والمسلمين، والدعوة إلى العلمانية والنيل من المسلمين ومن الجماعات الإسلامية، واتهامها بكل نقيصة، وتشويه الأخبار المتعلقة بالمسلمين، إضافةً إلى ما فيها من إفساد الأخلاق والقيم ونشر الأخبار السيئة المرذولة. ولذلك دعونا -وما زلنا ندعو- إلى مقاطعتها ومحاربتها، فلا تباع، ولا تشترى، ولا تتداول، وأن يعمل كل إنسان على نشر هذه الدعوة، فإننا واثقون -بإذن الله- أن الأخيار إذا قاطعوها، فإنها سوف تضطر إلى أن تصفي نفسها، كما فعلت أختها بالأمس جريدة الصباحية. لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب وأنا أدعوكم مرة أخرى إلى ذلك، وقد كلمنا سماحة الوالد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز في أمر هذه الجريدة مرات كثيرة، كان آخرها ليلة الخميس الماضي، وكان قد وعد حفظه الله تعالى أن يكتب هو فتوى في مثل هذا الأمر وتوزع على المسلمين، ولكنه قبل ذلك كتب إلى المسئولين، لعله يمكن منع هذه الجريدة، وألا تدخل إلى البلاد، فإن أمكن ذلك فبها ونعمت، وإن لم يمكن فلعله أن يكون هناك بيان من سماحته في هذا الخصوص. فأما المنشور فإنني لم أكتبه، ولكن بعض الشباب فيما يبدو لي فرغوه من بعض الأشرطة، ونشروه بين الناس، وأنا أقول جزاهم الله تعالى على ما فعلوا خيراً. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 54 فضيلة الشيخ عايض القرني السؤال لقد سمعنا ما حصل لفضيلة الداعية الشيخ عائض القرني الذي يسمعه الكبير والصغير والرجال والنساء، فما هو الواجب علينا لكي يرجع الشيخ إلى ما كان عليه خطيباً وداعياً يهز أعواد المنابر؟ الجواب إن شاء الله سوف يعود الشيخ بإذن الله تعالى، فإن الداعية وإن توقف لفترةٍ فإنه يظل لديه من القدرة والإمكانية على أن يواصل المسير ويستمر في هذا الطريق بعون الله تعالى وبإذن الله عز وجل الشيء الكثير، فإن المؤمن لا يستمد قوته من كونه يتحدث إلى الناس أو يخطب بينهم أو يخاطبهم, وإنما يستمد هذه الطاقة من شعوره بأنه مؤتمن على رسالة يجب أن يؤديها، ومن شعوره بأن الله عز وجل قد أعطاه من العلم شيئاً ينبغي أن يقوله للناس، ومن شعوره بحاجة الأمة إلى الوعظ والتذكير، ومن شعوره -أيضاً- بأن هذا الإقبال الكبير الذي تشهده الدعوة الإسلامية في كل مكان حريٌ بالحفاوة، ومن الحفاوة به أن نقدم له ما نملك، ولو لم نملك إلا الكلمة الطيبة أو الخطبة الهادفة أو النصيحة أو الكتاب، فإن ذلك نافعٌ أيما نفع، وعلينا جميعاً أن ندعو الله تعالى بقلوبٍ صادقة أن يعيد الشيخ داعياً وخطيباً ومجاهداً في سبيل الله. كما إنني أقول للإخوة: ينبغي أن نكون دائماً وأبداً على اتصال بعلمائنا ومشايخنا، ليس فقط في المناسبات، بل أن يكون لنا اتصالٌ دائم بالعلماء، سواء كان هذا الاتصال مباشراً، أو من خلال الهاتف أو الرسالة، أو البرقية أو غير ذلك، ونحدثهم بشئوننا وشجوننا وما نجد وما نرى وما لا نرى، فإن الاجتهاد يخطئ ويصيب، والعالم عندما يسمع كلام الناس ويرى تأثرهم قد يطرأ عليه ما لم يكن في باله من قبل، وقد يحرص على الأمر أكثر مما كان حريصاً عليه من قبل، كما أننا ينبغي أن نحفظ لعلمائنا مكانتهم وسمعتهم وفضلهم، ونثق بأن دافعهم دائماً وأبداً هو حب الخير والرغبة في الإصلاح وبذل الجهد، ولا شك أن هذا هو الحق الذي لا نقوله مجاملةً، وإنما نقوله لما نعلمه من واقع هؤلاء الشيوخ وتاريخهم وجهادهم وبلائهم وصبرهم، ولكن هذا اجتهاد، وإذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد. وقد كتب فضيلة الشيخ عائض لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز وللجنة الخماسية خطاباً جيداً جميلاً، أثنى عليهم فيه، ودعا لهم وشكرهم، وقال: لست بالذي يقبل حكمكم على الناس، ويأبى حكمكم على نفسه، وإني أدعو الله إن كنتم مصيبين أن يمنحكم أجرين، وإن كنت مخطئاً أن يغفر لي إلى غير ذلك من الكلام الطيب الذي أعجب الشيخ عبد العزيز أيما إعجاب ودعا للشيخ عائض دعاءً كثيراً، وكذلك قُرئ الخطاب على المشايخ أعضاء اللجنة فسرهم ذلك. ولكنني أقول: ينبغي أن يكون لنا اتصال ومحادثة مع هؤلاء المشايخ العلماء، فإذا لم نتصل نحن بعلمائنا، فبمن نتصل؟! وإذا لم نتصل نحن بهم، فمن الذي يتصل بهم إذاً؟! وأيضاً غير العلماء: كل من تعتقد أن الاتصال به قد ينفع أو يدفع، فليس هناك أبواب مغلقة، والحمد لله، بل الأبواب مفتوحة، وإمكانية الاتصال متيسرة. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 55 كثرة المساجد في القرية الصغيرة السؤال كثرت الزوايا والمساجد، بل إن البعض يبني له مسجداً لوحده، وتفرق الناس، ففي القرية الصغيرة يمكن أن يوجد أكثر من تسعة مساجد، فما رأيكم ونصيحتكم؟ وكذلك هل بالإمكان أن يقام بإزالة هذه المساجد؟ الجواب أما إزالتها فأعتقد أنه قد يكون صعباً بعدما أقيمت، لما يترتب على ذلك من المفاسد والفتن، ولكن ينبغي أن ندرك من أجل ماذا تقام المساجد، الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عثمان، وهو في الصحيح: {من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة} فتبني مسجداً لله تعالى، لا لمفاخرة أو لمباهاة ولا من أجل شيء آخر. وأيضاً: كثرة الُخطا إلى المساجد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا أدلكم على ما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط} فأن تمشي خطوات إلى المسجد، ويكون الجمع أكثر، والبركة والرحمة أقرب، هذا أولى من كثرة المساجد وتعددها وتفرق الناس حولها، خاصةً: إذا دخل في ذلك -أيضاً- أمر المباهاة والمفاخرة والمنافرة والمباعدة. فمثلاً: أنا لا أذهب إلى هذا المسجد، لأنه لبني فلان، فهذه من أعظم الأخطاء، فإن صلاة الجماعة أصلاً من أسباب وحِكَم مشروعيتها تقريب القلوب وجمع النفوس وإزالة البغضاء والعداوة بين المؤمنين، فإذا صارت المسألة أن تبني مسجداً وأبني مسجداً، فهذه كارثة! بل رأيت في قرية سكانها قليلون جداً مسجدين للعيد، وقال لي الإخوة: إن هذين المسجدين أقيما بسبب ما بين أفراد تلك القرية من التناحر والتباعد. الجزء: 174 ¦ الصفحة: 56 الكرة مالها وما عليها السؤال مباريات رياضية تقام بين بعض الفرق، ونظامها يقوم على أن يدفع كل فريق مبلغاً كاشتراك في هذه الدورة، ويشترك فيه عدد من الفرق، والكأس الذي تلعب عليه هذه الفرق يدفع للفائز فيها كما أنه هناك خمسمائة ريال تدفع كتأمين إذا انسحب الفريق، يقول: نرجو بيان وجهة النظر في مثل هذا الأمر؟ الجواب أولاً: هذا العمل لا يجوز، لأنه من السبق المحرم لكونهم يدفعون مالاً، ثم يأخذه من فاز منهم، اللهم لو كان هناك جائزة يدفعها طرف أجنبي للفائز كهدية أو جُعْل لكان هذا شيئاً آخر، لكن أن يدفع كل فريق منهم شيئاً، ثم يأخذه الفريق الغالب فهذا لا يجوز. وثانياً: ماذا صنعت وفعلت بنا الكرة؟! لقد شتت شملنا، وفرقت وحدتنا، وجعلت من أبناء القبيلة والأسرة الواحدة -بل والبيت الواحد- شيعاً وأحزاباً، فهذا يشجع هذا الفريق، وذاك يشجع فريقاً آخر، وربما تغاضبوا وربما طلق الزوج زوجته، وربما غضب الأب على أولاده، أو عق الأولاد أبيهم نظراً لاختلاف الميول والانتماءات، فأي شيءٌ هذا يكون؟! أين الولاء والبراء في الدين؟! أين الأخوة الإيمانية؟! لقد حلت هذه الكرة من بعض شبابنا محل الروح من الجسد، فأصبحت شيئاً كبيراً في واقعهم، وأصبح الواحد منهم لا يعنيه أمر انتصار الإسلام، ولا يعنيه أمر المسلمين، ولا يعنيه أمر التقدم العلمي والصناعي للأمة الإسلامية، ولا يهمه أمر طلب العلم الشرعي، إنما يعنيه أن يفوز هذا الفريق، ولو هزم فريقه لوجدت أنه يعيش حالة من اليأس والإحباط والقلق لا يعلمها إلا الله، بل الأمر أكبر من ذلك، فقد قرأت يوماً من الأيام في جريدة الجزيرة مقالاً عنوانه " ضحايا الكرة " وتحدث عن مجموعة من الناس يموتون على مدرجات الكرة فرحاً بهدفٍ جاء لفريقهم، أو حزناً من هدفٍ جاء على فريقهم ومن مكر الله تعالى بهؤلاء الذين خالفوا أمره أن هذا الهدف الذي فرح من أجله فلانٌ فمات، لم تنته المباراة حتى جاء هدفٌ آخر، وانتهت المباراة بالتعادل، وصار موت هذا الإنسان على غير شيء. هؤلاء هم ورثة وأحفاد علي بن أبي طالب البطل الشجاع، وصلاح الدين وطارق بن زياد وأمثالهم فالله المستعان؟! الجزء: 174 ¦ الصفحة: 57 استقدام الخادمات النصرانيات السؤال ما حكم استقدام الخادمة النصرانية مع وجود المسلمة؟ الجواب جاء في أحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج المشركين واليهود والنصارى من جزيرة العرب، وهذا يدل على أن الأولى بالمسلم ألا يستقدم في هذه الجزيرة خاصة غير المسلم، ولا يستعمله خاصةً مع وجود المسلم الذي يمكن أن يقوم بنفس الدور، وإذا تصورنا أن النصارى يحاربون المسلمين في بلادهم، في الفلبين -مثلاً- وتايلاند وسيلان وإندونيسيا، وفي بلاد العالم كلها، وأنهم يتقوون بهذا المال الذي تعطيه أنت للخادم أو للسائق أو الخادمة على إخوانك المسلمين أدركنا أننا نعين بذلك النصارى على إخواننا المسلمين، هذا من جانب. ومن جانب آخر: فإنه عقد مؤتمرٌ للنصارى قبل أشهر وتكلم مسئول نصراني في الشرق الأوسط وقال: لقد اتخذنا قرارات حاسمة وضرورية لنقل النصرانية إلى منطقة الجزيرة العربية خاصة، وإلى البحث عن موطئ قدم في هذا البلد المغلق، وأن أعظم وسيلة سوف نستخدمها لذلك هم السائقون والخدم والممرضات ونحو ذلك ممن يمكن أن يتسللوا إلى البيوت وإلى العقول وإلى المسلمين، ويؤثرون على عقولهم ويقنعونهم بالديانة النصرانية عاجلاً أو آجلاً. ولذلك لا تستغرب أن يوجد من بين الممرضات والخدم والسائقين، والعمال الذين تستقدمهم الشركات أو المؤسسات -رسمية، كانت أو غير رسمية- أن يكون من بين هؤلاء أعداد كثيرة ممن جندتهم الكنيسة للدعوة إلى النصرانية، والتأثير على عقول المسلمين وقلوبهم، خاصة وأننا نسلمهم أطفالنا وفلذات أكبادنا. تقول إحدى اللجان التي تجاهد في سبيل الدعوة إلى الإسلام: أتينا إلى بلد في نيجيريا فوجدنا فيه مسجداً، فسألنا: من بناه؟! فقال لنا إمام المسجد: بناه نصرانيٌ جاء من فرنسا! فتعجبنا وقلنا: سبحان الله! نصرانيٌ يبني مسجداً! قال: نعم. وزيادةً على ذلك قد بنى مدرسة لأولادنا بجوار هذا المسجد، قال: فذهبنا إلى المدرسة فلم نجد فيها أحداً من المدرسين، ولكننا وجدنا فيها الطلاب الصغار -أولاد المسلمين وفلذات أكبادهم- قال: فسألنا هؤلاء الأطفال، وكتبنا لهم على السبورة: من ربك؟ فرفعوا أصابعهم واخترنا أحدهم، فقام وقال: ربي المسيح! ووجدنا أن عدداً من الخادمات في البيوت تحمل معها -أحياناً- صلباناً، بل تحمل معها أصناماً تعبدها وتقيم أعياداً وثنيةً، وأعياداً شركية، وقد يشارك بعض أهل البيت في ذلك، وتؤثر على الأطفال تأثيراً كبيراً بليغاً، ألم تعلموا بخبر تلك النصرانية التي قتلت سيدها في هذه البلاد في يوم من الأيام؟ وكانت قد ضربته هو وزوجته وأطفالهم بالساطور وقتلتهم جميعاً، وبعد التحقيق في القضية قالت: قتلتهم لأنهم يستهزئون ويسبون الصرب النصارى، فثأرت هذه الكافرة المعاندة لبني قومها من الصرب؛ لأن هؤلاء يسبونهم! والمسلم الآن -مع الأسف- لا يثأر لإخوانه المسلمين المقتولين في البوسنة والهرسك مع أنهم لا يسبون أو يشتمون، وإنما يسحقون ويقتلون ويبادون، بل جاءت آخر الأخبار: أن أطفال المسلمين تصنع أجسادهم المسحوقة أعشاباً وأعلافاً للحيوانات، وجاءت أخبار أن هؤلاء الصغار يحملون على الطائرات إلى إيطاليا مركز الصليبية وإلى ألمانيا وغيرها، من أجل أن يربوا على الكنيسة النصرانية، والله المستعان! الجزء: 174 ¦ الصفحة: 58 حديث مع بعض طلبة العلم طلب العلم ضرورة وفضيلة، حيث إن الناس مع ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والخير أصناف، فمتعلم مستفيد، ومتعلم مفيد غير مستفيد، ومعرض جاهل، فتحدث الشيخ موضحاً ذلك منبهاً على أهمية الصبر والمثابرة لطالب العلم. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 1 ضرورة وجود من يحفظ العلم إن الحمد لله نحمده تعالى ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. بمناسبة وجود الشيخ سلمان العودة في هذه المدينة أردنا أن نجمع الشباب من أجل أن نستفيد من علمه في بعض الأمور التي نحن بحاجة إليها، وكنا عادة نقرأ في مثل هذا اليوم في كتاب جامع الترمذي وفي زاد المعاد لـ ابن القيم، وكنا نتمنى أن يحضر الشيخ درسنا وأن يعلق على بعض الأمور، ولكن لما كانت الحاجة إلى غير هذا أمَسّ، طلبنا من الشيخ أن يتحدث في بعض الأمور التي تهم طالب العلم، في طلب العلم وما المقصود من طلب العلم وما الغاية وما الثمرة؟ الجزء: 175 ¦ الصفحة: 2 شرع الله لا يدرك بالعقول أيها الإخوة: تعلمون أن شرع الله عز وجل لا يدرك بالعقول، ولذلك لم يَكِل الله الناس إلى أنفسهم في معرفة دينه وشرعه، بل أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، حتى لا يكون على الله حجة بعد الرسل، وجاءت رسل الله تعالى بدينه وشرعه، فعلم بها أنه ليست كل أمور الدين والشرع تدرك بالعقل؛ بل إن أمور الدين مبناها في الأصل على اتباع ما أنزل إلينا من عند الله تعالى، وهناك مسائل كثيرة في أبواب الاعتقاد وفي أبواب العبادة وغيرها، لا تخضع للقياس؛ ولذلك نحن نجد أن الله تبارك وتعالى يفرق في خصال الكفارة، أحياناً تجد أن الكفارة يكون فيها اليوم مقابلاً بإطعام ثلاثة مساكين، وأحياناً يكون مقابلاً بإطعام مسكين، وأحياناً يكون بغير ذلك. فمثلاً: في كفارة الظهار صيام اليوم الواحد مقابل لإطعام مسكين واحد؛ لأنها إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين -أي: ستين يوماً- لكن في كفارة اليمين مثلاً تجد أن من خصالها إطعام عشرة مساكين، كما في الآية، وفي آخرها: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة:196] فكان صيام اليوم يقابل إطعام ثلاثة مساكين وثلث، وفي كفارة من حلق رأسه في الحج وهو محرم كما في حديث كعب بن عجرة: {أنه أمره صلى الله عليه وسلم بإطعام ستة مساكين أو صيام ثلاثة أيام} فكان صيام اليوم مقابلاً لإطعام مسكينين، فعلم بذلك من هذا المثال أن هذه الأمور لا تخضع للقياس، وإنما تدرك بالوحي والشرع. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 3 من يحفظ شرع الله هذا الوحي والشرع المنزل من عند الله تعالى يحتاج إلى من يقوم بحفظه، ولا شك أن الله تعالى تكفل بحفظه كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] والذكر هو القرآن، لكن حفظ القرآن يتضمن حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن السنة كما هو معلوم مبينة وموضحة وشارحة للقرآن، ولا يمكن أن يستغنى عنها بالقرآن بحال من الأحوال، فعلم أن حفظ القرآن يتضمن أيضاً حفظ السنة، وكيف حفظ الله تعالى على هذه الأمة دينها قرآناً وسنة؟ إنما حفظه بأن سخر من علماء هذه الأمة ورجالها من يجتهدون، ويبذلون ثمرة أوقاتهم وخلاصة أعمارهم في تتبع العلم وحفظه واستظهاره ونشره بالكلام والتصنيف والدعوة وغير ذلك. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 4 أمثلة من الجيل الأول ولهذا تجد تاريخ هذه الأمة يحفل بأولئك العلماء الذين ضربوا الأمثلة الرائعة في الذود عن السنة والاجتهاد في تحصيلها، وعلى رأس هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا يجتهدون في حفظ حديثه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 5 جابر بن عبد الله ومثله جابر بن عبد الله يرحل أميالاً طويلة إلى عبد الله بن أنيس طلباً لتحصيل حديث في المظالم والقصاص يوم القيامة، بل إن من الصحابة من يسافر إلى الشام أو إلى مصر أو إلى العراق في طلب حديث، فإذا وصل إلى صاحب الحديث حدثه به وهو على راحلته لم ينزل، ثم بعد أن يسمع الحديث ينصرف على راحلته دون أن تقع قدمه على هذا البلد الذي جاء إليه، كل هدفه أن يسمع الحديث هذا ثم ينصرف. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 6 البخاري رحمه الله ومن بعدهم توفر علماء أفذاذ جهابذة لتدوين السنة وحفظها، ويكفيك أن تعرف جهود الأئمة الستة في حفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم. إن الإمام البخاري رحمه الله قضى عمره كله في هذا السبيل، شغل وقته وذهنه فيه. حتى إنك إذا جئت إلى أحدهم في مجال العلوم الشرعية والتحصيل وجدته يملك حافظة فذة، فإذا أتيته في أمور الدنيا وجدت كأنه لا يفقه شيئاً. البخاري رحمه الله لما صنف كتاب التاريخ الكبير في هذا الكتاب، الذي هو تراجم الآلاف من أسماء الرجال، تجده مع ذلك يقول: قَلَّ اسم في التاريخ الكبير إلا وله عندي قصة، لكني تركتها خشية الإطالة! وهذا يدل على سعة علمه بالرجال والحديث وغيره. وفي مقابل ذلك يقول رحمه الله: إن بعض قريباته كن يبعثن إليه ببخارى بالسلام، فأراد يوماً ليكتب رسالة ليقرئهن السلام، فعزبت عنه أسماؤهن حتى لا يذكر منها شيئاً، لأنه قد استفرغ جهده وهمه في الحديث النبوي، ولذلك لم يعبأ بما سوى ذلك، وصار عنده عدم اكتراث لها، فغفل عنها وصار ينساها بسهولة، فيما يتعلق بالأمور الدنيوية التي لا يحتاج إليها في أمور العلم. وبذلك علم كيف حفظ الله دينه بواسطة من سخر من العلماء والرجال الأفذاذ من يتوفرون على حفظ السنة. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 7 عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ومثله عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه حيث كان كما في الحديث الصحيح يكتب كل ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض القوم: إن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا، فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسأله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {اكتب فوالله ما خرج منه إلا حق} يعني فمه الطاهر صلى الله عليه وسلم، فكان يكتب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت ثمرة هذه الكتابة وجود صحيفة تسمى الصادقة عند عبد الله بن عمرو بن العاص، كان يقول في بعض أقواله: لولا هذه الصحيفة وأشياء أخرى لكان يفرح بالموت، وقد نقلت هذه الصحيفة عنه رضي الله عنه. بل إن الواحد من الصحابة كان يسمع بالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أي مكان، فيذهب حتى يحصل عليه. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 8 ابن عباس رضي الله عنه وقد ذكر الإمام أحمد وغيره وكذلك قصة ابن عباس مع الأنصاري، كان ابن عباس يسمع بالحديث أو العلم عند أحد الأنصار وهو شاب، فيذهب إليه في الظهيرة، فيجده نائماً، فيتوسد رداءه عند بابه ينتظر خروجه، فتأتي الريح وتسفي عليه وهو صابر على ذلك، فإذا حانت صلاة العصر خرج الأنصاري للصلاة، فوجد ابن عباس متوسداً رداءه عند عتبة بابه، فيقول له: ابن عباس؟! فيقول: نعم، فقال: ما الذي جاء بك يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لو أرسلت إليّ فأتيتك! فيقول ابن عباس: كلا! العلم أحق أن يؤتى إليه، حديث بلغني عنك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحببت أن أسمعه، فيسمع منه الحديث. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 9 أبو هريرة رضي الله عنه كان أبو هريرة -مثلاً- يتتبع الرسول صلى الله عليه وسلم في مجالسه وذهابه وإيابه، ويحفظ كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم؛ حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له يوماً: ابسط رداءك فبسطه، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم بألا ينسى شيئاً حفظه، فما نسي شيئاً حفظه بعد، وكان حافظ الإسلام. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 10 حفظ الله لنصوص دينه ليس حفظ الله لدينه بحفظ نصوصه، وإن كان حفظ النصوص أمراً مهماً، لأننا الآن -ولله الحمد- نجد أن هذه الميزة للأمة الإسلامية لا توجد في الأمم الأخرى، فأصحاب الكتب السماوية الأخرى حرفت كتبهم كما هو معلوم، ولذلك هم مختلفون في كتبهم وليس لهم شيء يرجعون إليه، فإذا اختلف اليهود أو النصارى في مسألة من مسائل دينهم، فكيف يمكن أن تحل هذه المسألة؟! لا يمكن أن تحل لأنه ليس عندهم شيء يرجعون إليه ويقبلون به جميعاً، لكن المسلمين إذا اختلفوا فعندهم قاعدة لحل هذا الخلاف، قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] . والرد إلى الله هو الرد إلى القرآن الكريم لأنه كلام الله، والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو الرد إلى حديثه بعد وفاته، ولذلك صارت سنته محفوظة، ويرجع إليها عند التنازع، وعندئذٍ يحل بها الإشكال. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 11 خطورة من ينادي بنبذ السنة وبهذا يدرك مدى خطورة من ينادون بنبذ السنة؛ لأنهم بذلك يتسببون في مزيد من الاختلاف بين المسلمين، كما في القصة التي كان فيها عمر رضي الله عنه يسأل ابن عباس عن المسلمين، وكيف يختلفون مع أن دينهم واحد ونبيهم واحد وربهم واحد؟ فقال له ابن عباس رضي الله عنه: إن القرآن أنزل علينا ونحن نعلم فيم أنزل، وسيأتي بعدنا أقوام لا يعلمون فيم أنزل، فيختلفون فيه، فإذا اختلفوا وتنازعوا اقتتلوا. لذلك لو أقصيت السنة -مثلاً- وصار المدار على القرآن؛ فإن القرآن كما قال علي رضي الله عنه: حمال وجوه، دلالاته متنوعة، وكثير من آياته ظنية الدلالة، وليست قطعية الدلالة، ولذلك يفتح لهم الباب على مصراعيه ليقولوا في الدين ما شاءوا. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 12 حفظ القرآن والسنة المقصود أن حفظ نصوص القرآن والسنة هي نعمة كبيرة، لأنها تشكل -كما يقال- قاعدة يمكن الرجوع إليها عند التنازع، ما دمنا سلمنا بأن القرآن والسنة هما مصدر التشريع، فعند حدوث أي نزاع في مسألة علمية يمكن الرجوع إلى القرآن والسنة وفهم السلف الصالح لهذين المصدرين، فهذا لا شك جزء كبير من حفظ الله بالذات، لكن أيضاً لا ننسى أن من حفظ الله للدين، أن قيض لهذه الأمة من يربون الناس ويزكونهم، وإلا فما قيمة النص إذا كان لا يعمل به؟! ألسنا جميعاً نعلم أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن يُسرى عليه في آخر الزمان في ليلة حتى لا يبقى في الأرض منه آية، وإذا أسري على القرآن فمعناه أن السنة قد ضاعت قبل ذلك بكثير، ولم يسرى على القرآن في ليلة حتى لا يبقى منه آية؟ لأنه تعطل العمل به، ولم يعمل به الناس، فلم يقيموا حياتهم الفردية والاجتماعية على منهاج القرآن الكريم، فلذلك أذن الله برفعه. كما يأذن سبحانه بخراب الكعبة حيث يسلط عليها ذا السويقتين من الحبشة، فيقلعها بمسحاته حجراً حجراً -كما في الصحيحين- لأنه لم يعد هناك من يحج أو يعتمر أو يصلي إلى هذه الكعبة، وكما يأذن الله عز وجل بقبض أرواح الطائفة المنصورة الذين أقامهم لحفظ الدين وحمايته ودعوة الناس إليه، يأذن بقبض أرواحهم فيبعث ريحاً طيبة فتقبض أرواحهم؛ لأنه لم يعد هناك من يطيعهم ويتقبل ما عندهم من العلم والخير والصلاح، فرحمةً بهم يأذن الله بقبض أرواحهم قبل قيام الساعة. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 13 أحوال الناس مع العلم ونحن نعلم أن الدين ما نزل ليكون نصوصاً تتلى، وإنما نزل ليتدبره الناس ويعملوا به، فإذا تعطلت هذه المنافع رفع القرآن، وهدمت الكعبة، وقبضت أرواح المؤمنين الداعين إلى الله. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 14 الدعوة إلى الله على بصيرة ومن العمل بالعلم أن يدعو الإنسان إلى الله تعالى على بصيرة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {بلغوا عني ولو آية} فإننا نجد الآن كثيراً من الناس يترك تعليم الناس ودعوتهم إلى الله تعالى بحجة أنه متفرغ لطلب العلم، وما هكذا كان توجيه الرسول صلى الله عليه وسلم. فإذا كنت تحفظ آيات وأحاديث غير قليلة وتوجيهات للناس، فكيف تترك الناس ولا تبلغهم مع أنه عليه السلام أمرك بذلك، وقال: {بلغوا عني ولو آية} ؟! وفي مقابل ذلك تجد طائفة من الناس قد تشتغل بأمر الدعوة إلى الله وتوجيه الناس دون علم، فتبلِّغ في الحقيقة آراءها وأهواءها، ولا تبلغ ما أنزل الله على رسوله، فلا بد من الاعتدال والتسديد والمقاربة في هذا الباب وفي غيره. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 15 أصناف الناس مع العلم فالقرآن والعلم يحدث انقلاباً كاملاً في شخصية الإنسان، وتغيراً كاملاً فيها من جميع جوانبها، فما بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم هو كالمطر إذا نزل على الأرض أخرجت زينتها، وقد تأتي إلى أرض قاحلة جدبة شهباء، فإذا نزل عليها المطر، اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، لكن أيضاً الأرض تتفاوت، وليست الخصوبة سواء، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر ثلاثة أصناف من الناس في هذا المثل. 1- متعلم مستفيد: قال صلى الله عليه وسلم: {فكان منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير} . هذا هو الصنف الأول من الناس يقابل هذا الصنف من الأرض، طائفة من الناس طيبة قبلت الهدى والشرع وتعلمت، وليس فقط علماً باللسان يتحدث به في المجالس، ويتخاصم فيه في المناسبات، ويظهر فيه كل إنسان ما لديه من المعرفة، كما يقع أحياناً لنا، بل كثيراً ما يقع في هذا العصر من هذا! تجد طالب العلم أحياناً همه أن يحصل مسائل معينة، يجادل ويخاصم فيها، وكل ما حصله من العلم هو ما يقع فيه جدل وخصومة في عشر أو عشرين مسألة من المسائل الفرعية في الصلاة وغيرها، فإذا أتيت إلى أمهات المسائل وإلى أصول العلم وجدت أنه لا يملك منها شيئاً. إنما هي طائفة طيبة قبلت هذا الماء، فأنبتت الكلأ والعشب، وظهر أثر التأثر بالقرآن والسنة على أقوالها وأفعالها وسلوكها ومواقفها كلها، ولا شك أن هذه نفع الله بها نفعاً عظيماً، لأن غاية ما يتصور من أرض نزل عليها المطر أن تنبت الكلأ والعشب الكثير. 2- متعلم مفيد غير مستفيد: {وأصاب طائفة أخرى أجادب أمسكت الماء؛ فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا} هذا القسم الثاني، هناك أرض صلبة إذا نزل عليها المطر، فإنها لا تتشربه بل تمسكه، فتصبح مثل الإناء، لا تشرب الماء فتنبت الكلأ مثل الطائفة الأولى، وإنما تمسك الماء حتى يأتي الناس، فيأخذوا من هذا الماء فيشربوا، وهذا يشبه الإنسان الذي حصل على علم من علم الدين، لكنه لم يتأثر بهذا العلم، ولم ينتفع به في قلبه وفي سلوكه، إنما يحمل هذا العلم لينتفع به الناس، ونسأل الله أن نكون من الأولين، ونفترض أن هذا الصنف الثاني لا بد أن يكون عندهم شيء من التأثر، فعلى الأقل أصل الإسلام والإيمان عندهم، وإلا لم يكن علمهم هذا شيئاً، ولم يؤخذ منهم هذا العلم الذي عندهم لو لم يكونوا مسلمين، فهم تأثروا لكن تأثراً قليلاً قياساً على العلم الذي عندهم، فإذا أتيت إلى العلم الموجود عند الواحد منهم لقلت: هذا يفترض أن يكون إماماً في العمل، وفي الدعوة، وفي الإصلاح، ولكن واقعه على خلاف هذا، نسأل الله العافية. فهم لم يعملوا بهذا العلم الذي علموه، فينتفع الناس بعلمهم، وربما يدخل بعض الناس الجنة بسبب ما علموهم، وهؤلاء الله أعلم ماذا يكون مصيرهم، وفي صحيح البخاري من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! أي: فكيف دخلت النار- فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه} . فربما كان ممن أمرهم ونهاهم من أطاعوه، فدخلوا الجنة، وهو يدور بأقتابه كما يدور الحمار برحاه في نار جهنم، نسأل الله العافية والسلامة. فهذا لم يزده ما عنده من المعرفة والعلم إلا بعداً عن الله عز وجل، هذه الطائفة الثانية من يحفظ العلم على الناس، لكنه لا يعمل به، فهو مثل الأرض الصلبة التي أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، لكن هي ما انتفعت، فهي كالسراج أو كالشمعة تحرق نفسها لتضيء للناس. 3- معرض جاهل: والطائفة الثالثة: {إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً} . أرض تشرب الماء ولا تنبت، فهذا مثال لمن لم يتعلم علماً شرعياً ولم يعمل به، فخسر الاثنتين، وهذه شر الطوائف. فعلم بذلك أن المقصود من الوحي والعلم الشرعي أن يظهر أثره على حامله قولاً وعلماً وسلوكاً، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الذين يخرجون في آخر الزمان، الذين هم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، قال: {يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وقوله: لا يجاوز حناجرهم: إما أن يكون المعنى أنه لا يرفع لهم؛ أو أنهم لا يستفيدون منه. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 16 أثر العلم في صاحبه وبذلك نعلم أن المقصود الأعظم من طلب العلم هو العمل بالعلم في الواقع، وظهور أثر العلم على صاحبه كما في حديث أبي موسى رضي الله عنه في الصحيح عندما ذكر المثل العجيب فقال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً} الهدى والعلم كالمطر ينزل على الأرض، فتهتز وتربو، وتنبت من كل زوج بهيج، وهذا أمر ملحوظ مشهود فإنك تجد كثيراً من الناس يعيش في عماية، فإذا عرفت حاله في جاهليته قلت: سبحان الله! هذا لا خير فيه، سوء خلق وقلة أدب وقلة دين، لا ينفع في دين ولا دنيا، لكن إذا قيض الله من يعلمه ويربيه على الحق والخير حتى كأنه بعد هدايته خلق آخر، تبارك الله رب العالمين! وهذا موجود في جيل الصحابة رضي الله عنهم، قارن بين عمر قبل إسلامه وبعد إسلامه، عمر كان قبل إسلامه الرجل الغليظ الجافي القاسي، وله في ذلك قصص وآثار معروفة، وبعد إسلامه كان يسمع الآية من القرآن تقرأ، فيبكي حتى يجلس في بيته أياماً يعاد من جراء تأثره بهذه الآية. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 17 ضرورة الاستمرار على طلب العلم ولعل هذه الكلمة قد طالت أكثر مما كنت أريد، فأختمها بالتأكيد على أهمية الاستمرار في طلب العلم، لأن العلم الشرعي في الواقع -كما يقال- بحر ليس له ساحل، ومن ميزة العلم الشرعي أنه كلما تعمق فيه الإنسان، ازداد تواضعاً لله تعالى لمعرفته بجهله حينئذ، كما قال الأول: وكلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي وهذا والله هو الواقع، فإن الإنسان كلما توسع في العلوم، أدرك شدة جهله، لأنه عرف مقدار العلوم الكثيرة التي لا يعلمها، وربما لا يعرف من بعض العلوم إلا أسمائها أو رءوس المسائل فيها، فأدرك حينئذ أنه جاهل، لكن بعض العامة أحياناًَ -فضلاً عن بعض طلبة العلم المبتدئين- قد يقول الواحد منهم: نحن كل شيء نعرفه، ما يخفى علينا شيء، لكن عسى الله أن يهدينا! لماذا يظنون أنهم يعرفون كل شيء وأنهم لا يخفى عليهم شيء؟! لشدة جهلهم، فإذا عرف الواحد منهم مسائل كثيرة ظن أنه يعرف، فالعلم الشرعي بحر ليس له ساحل، بل هو بحار. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 18 علو همة طالب العلم ولهذا فإن طالب العلم ينبغي أن يوطن نفسه منذ بداية طريق الطلب أن يكون عالي الهمة، صبوراً في تحصيل العلم، وأن يتعود على أن يثني الركب في طلب العلم وتحصيله، ويصبر على هذا الأمر، كما نبهنا الله تعالى إلى ذلك في قصة موسى والخضر عليهما السلام، حيث قال موسى للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:66-67] فبين الخضر أن الصبر ضروري لمن يريد أن يتعلم الرشد، فكان جواب موسى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً} [الكهف:69] لا بد من الصبر! ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد في الصحيح: {ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يستعفف يعفه الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من صبر} . اصبر على طلب العلم، وإلا فنحن نجد في كل مكان أنه حين يبدأ درس -مثلاً- قد يحضر هذا الدرس -ربما- مئات من الناس، لكن هؤلاء لماذا حضروا؟ هل حضروا فعلاً وهم يعرفون لماذا جاءوا؟ أم أنه يريدون أن يستطلعوا الأمر أول مرة فقط، ثم ينصرفوا بعد ذلك إلى شغلهم؟ فبعد فترة تجد أنه يصفو من هذا الجم الغفير أعداد قليلة، وهذا يكفي؛ لأنه ليس مطلوباً أن يكون الناس كلهم علماء ومتخصصين في علوم الشريعة {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122] يكفي أن يوجد طائفة من الناس في كل بلد تتفرغ لطلب العلم الشرعي وتحصيله؛ لتكون مرجعاً يرجع الناس إليها في العلم والفتيا والحلال والحرام، المهم وجود الصبر والدأب والاستمرار حتى يحصل الإنسان على ما يريد أو على بعض ما يريد. جعلني الله وإياكم ممن عَلِمَ وعمل وعلَّم، فذلك يدعى في ملكوت السموات كبيراً، كما قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه وأرضاه. وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 175 ¦ الصفحة: 20 طلب العلم للنساء السؤال إحدى الأخوات تطلب الدلالة على كيفية طلب العلم للنساء بسبب ظروفهن العائلية، وترجو توجيه كلمة لأولياء أمور النساء في مساعدتهن في هذا الأمر؟ الجواب أما كيفية طلب العلم للنساء فكما في حديث رواه النسائي وغيره بسند قابل للتحسين: {أنما النساء شقائق الرجال} فما يقال في الرجل يقال في المرأة أيضاً في طلبها للعلم، والطريق واحدة، لكن ظروف المرأة العائلية قد تحول دون بعض ذلك، فيمكن للمرأة أن تعوض ما فاتها عن طريق سماع الأشرطة وقراءة الكتب وما أشبه ذلك. ثم إنني أنصح الأخوات الحريصات على طلب العلم على التركيز على العلوم التي يحتجن إليها في أمورهن العملية والحياتية بصفة أخص، لأن طبيعة المرأة ودور المرأة في المجتمع من الزواج ثم الحمل والإنجاب والاشتغال بالولد تحول بين استمرارها على وتيرة واحدة في الطلب، فكونها تقدم الأهم هذا هو الأحزم والأولى في حقها، فتعنى -مثلاً- بمسائل الطهارة ومسائل الصلاة، والمعاشرة، وحقوق الأهل، ومعرفة أحكام بعض المنكرات الموجودة والأدلة على تحريمها، وأحكام بعض الأعمال التي يعملها الناس؛ حتى تكون آمرة ناهية، ومعرفة العقيدة، وهذا قبل ذلك كله، والدعوة إليها، معرفة الترغيب والترهيب وما ورد فيه من أحاديث؛ لأن هذه من الأشياء التي تحتاجها المرأة في مجالستها ومعاملتها مع غيرها من الناس، وتستفيد منها بشكل أكبر، فإذا بقي عندها بعد ذلك فضل وقت، فلا بأس أن تصرفه في فروع العلوم الأخرى. أما أولياء أمور النساء، فلا شك أن ولي أمر المرأة لها عليه حقوق كثيرة، من أهمها أن يعلمها حدود ما أنزل الله على رسوله، ومن العيب أن يكون طالب العلم أحياناً مشتغلاً بالعلم، وربما بالتعليم أيضاً، فإذا أتيت إلى أهله، وجدت عندهم جهلاً مطبقاً، وقد علمت أن بعض النساء يوجد عندهن جهلٌ غريب في أمور الدين؛ بسبب أن المرأة محصورة في بيتها لا تذهب ولا تجيء ولا تخرج، وفي نفس الوقت ولي أمرها لا يوصل إليها ما يسمعه من العلم والذكر، فلا هي سمعت بنفسها، ولا هو أوصل إليها بعض ما سمع، حتى إن من النساء من قد تجهل أصول الإسلام. وقد علمت أن إحدى النساء وهي نشأت في بيئة طيبة جداً، ومع ذلك لم تكن تعلم أن الناس يبعثون بعد موتهم حتى تزوجت، وحدثني آخر أن زوجته لا تصلي، ولما أمرها بالصلاة وألح عليها، قالت: ما سمعنا أن الدين للمرأة! الدين للرجال، تقوله جادة ليست ساخرة، تقول الدين للرجال، وهم الذين يخاطبون وينهون ويذهبون إلى المساجد، أما المرأة فليس عليها دين، فالمرأة بأمس الحاجة إلى أن ولي أمرها إن كان عالماً أو عنده علم، يوصل إليها ما عنده من علم، وإن لم يكن كذلك يمكنها من سماع العلم والذكر والموعظة، ويذهب بها إلى الدروس والمحاضرات والمجالات التي يكون فيها خير، ويحضر لها ما تحتاجه من الكتب والأشرطة وغيرها؛ ليقوم بذلك ببعض الواجب الملقى على عاتقه تجاهها. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 21 ترك إظهار العلم خشية الرياء السؤال ما حكم ترك إظهار العلم خشية الرياء؟ الجواب إذا عرفنا الهدف من تحصيل العلم وجمعه، فالعلم لا شك إذا كان علماً لا يُبدى، فهو مثل إنسان عنده كنز من الأموال، لكنه محفوظ في خزائنه لا ينتفع الناس به، إنما يكون حساباً عليه يوم القيامة، فما هي الأشياء التي تمنع الإنسان من إبداء العلم؟ قد تكون هناك أسباب شرعية تمنعه من إبداء العلم، مثل ظنه بأن هذا الإنسان الذي سأله أو طلب منه سوف يستخدم هذا العلم في غير وجهه الشرعي، فيرى من المصلحة حجبه عنه للمصلحة الشرعية، أو يرى أن إبداء هذا العلم قد يكون ليس هذا أوانه، وله وقته المناسب، كأنواع خاصة من العلوم، وقد يكون على الإنسان خطر في نفسه أو ماله، فيجوز له أن يترك ذلك، وإن كان الأولى والأحرى به أن ينشر العلم كما قال أبو ذر رضي الله عنه: [[لو وضعتم الصمصامة على هذه -أي على رقبته- ورأيت أني أنفذ شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تقتلوني لأنقذته]] . أما ترك إظهار العلم خشية الرياء، فهو من مزالق ومداخل الشيطان على ابن آدم، في العلم وغير العلم، وكثيراً ما يوسوس للإنسان من خوف الرياء، فيدعوه إلى القعود عن الطاعة والعبادة، وكم من إنسان ترك التقدم إلى الجماعات، وترك إمامة الناس في الجمع والجماعات، وترك الدعوة إلى الله، وترك قراءة القرآن، وترك صلة الأرحام، بحجة أنه يخشى أن يكون هذا من الرياء، وليس الحل أن يترك العمل، إنما الحل أن يستمر في العمل، ويدافع الرياء. ومبدئياً كونه ترك العمل خوف الرياء دليل على أن عنده أصل الإخلاص، وإلا فالمرائي يفرح ويفخر بأن يظهر العمل للناس ليمدحوه به، فكون الإنسان يكون عنده هاجس وهم بأنه سوف يترك العمل خوف الرياء دليل على أن عنده إخلاص، لكن قد يخطر الرياء في قلبه، وأصل النية عنده خالصة، فلا ينبغي له أن يترك العمل حينئذٍ، بل عليه أن يستمر في العمل، ويحرص على دفع الرياء ما استطاع، فإن لم يندفع الرياء، وكان الأصل الدافع للعمل خالصاً، فإن هذا لا يؤثر في أصل العمل، وإن كان قد يقلل من أجره. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 22 المفاضلة بين العلم والعبادة السؤال هل العلم نفسه عبادة لله عز وجل؟ فبعض الناس يحجم عن طلب العلم بحجة أنه لا يستطيع تبليغ العلم في هذا الزمان، وما كل أمر يريد أن يقوله يستطيع أن يقوله؟ فما رأيكم؟ الجواب أما أن طلب العلم عبادة، فلا شك أنه إذا كان لوجه الله تعالى فهو من أعظم القربات، ولذلك صرح بعض أهل العلم كـ الشافعي والإمام مالك وغيرهما بأن طلب العلم يقدم على النوافل الأخرى، وهذا ظاهر لأسباب كثيرة:- منها أن العبادات تفتقر إلى العلم، والعلم لا يفتقر إلى نوافل العبادات، فالإنسان لو تعبد على غير علم قد يعبد الله على جهل وضلال، فالعبادة تفتقر إلى العلم في تصحيحها، والعلم لا يفتقر إلى العبادة. ومن جوانب فضل العلم على العبادة أن العلم نفعه متعدٍ، والعبادة نفعها لازم، فالعالم ينفع الله به الناس كلهم، والعابد ينفع نفسه. ومنها: أن العلم يكون به حفظ الشريعة، وليس كذلك العبادة، فإن العُبَّاد قد ينشغلون عن طلب العلم وتحصيله، ويضيع عليهم الكثير من أمور الدين. ومنها: أن العلماء هم ورثة الأنبياء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن العلماء ورثة الأنبياء} وليس كذلك العُبَّاد، فلم يرد في شأن العُبَّاد مثلما ورد في شأن العلماء أنهم ورثة الأنبياء، وأن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. ومنها أن العلماء هم الذين أمر الله تبارك وتعالى بطاعتهم، ولم يأمر بطاعة العُبَّاد كما في قوله عز وجل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] وكما في قوله: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فأولي الأمر -كما قال المفسرون- هم العلماء والأمراء، فطاعة العلماء فيما يبلغونه من دين الله وشرعه واجبة بخلاف العباد إلى غير ذلك من الأسباب التي يعلم بها أن الاشتغال بالعلم من أعظم القربات وأجل الطاعات، لأن فيه حفظ الدين كما ذكرت. أما كون الإنسان أحياناً لا يستطيع أن يقول كل ما في نفسه، فنحن نسأل: لماذا؟ لغلبة الشر وكثرة الأشرار، فلو أن المسلمين انتدب منهم من يحرصون على تعلم العلم وتعليمه ونشره لتغير الحال، وأصبح الخير هو الغالب، وأمور المجتمعات -أيها الإخوة- مرتبطة بعضها ببعض، فكثيراً ما تجد بعض الناس يكثر من اللوم على القائمين على أحوال المسلمين، من السلاطين وغيرهم وما وقعوا فيه، وينسى لوم الناس أنفسهم، والواجب لوم الجميع؛ لأن الأمور هذه مرتبط بعضها ببعض، والله عز وجل يقول في كتابه: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] فإن ما سلط على الناس يكون سبباً في عدم إمكانية أن يقول الإنسان كل ما عنده، وينشر علمه في كثير من البلاد، بسبب سوء أحوال الناس وانحرافهم، فعوقبوا بشيء من ذلك. فإذا عملنا على إصلاح أنفسنا ونشر العلم؛ فإننا بذلك نجد كثرة العلماء والمتعلمين وكثرة الفرص التي يستطيع الإنسان بها أن ينشر علمه، وفي كثير من الأحيان قد تجد هناك مسئولاً فيه خير وصلاح، يبحث عن إنسان صالح ليعتمد عليه في من حوله، فلا يجد، لغلبة الشر -كما ذكرت- وكثرة الأشرار وتنفذهم، فهذا الذي ترك طلب العلم بحجة أنه لا يستطيع أن ينشر علمه، فماذا عمل بعد ذلك؟ قعد في بيته واشتغل بتجارته أو وظيفته أو دراسته، وتعطل من المصالح الشرعية جملةً، وهذا في الواقع ليس بحل. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 23 ضرورة وجود الهمة العالية السؤال هل الهمة مطلوبة في طلب العلم؟ الجواب الهمة مطلوبة في كل أمر يعمله الإنسان، وما لم يكن عند الإنسان همة، فإنه لا يستطيع أن يصل إلى ما يريد، ولذلك لو نظرت إلى أي أمر من الأمور العادية لوجدت أن تحصيل الإنسان مربوط بعلو همته، فالذي يكون عنده قناعة بأي أمر من الأمور لا يواصل؛ لأنه إذا حصل على شيء ولو يسيراً اكتفى به. خذ على سبيل المثال الأمور الدنيوية كالتجارة؛ لو أن هناك إنساناً يقول: أنا قنوع ولا أريد أموالا كثيرة، ويكفيني ما يعيلني وأولادي، لفتح محلاً متواضعاً يتناسب مع هذه الهمة الموجودة عنده، كذلك العلم الشرعي -وهو لا شك من المنافسات الشرعية التي يتنافس فيها أرباب الهمم العالية- قد تجد إنساناً يقول: أنا ليس لي طموح أن أحصل على علم كثير يستفيد منه الناس ويحتاجون إليه. الله المستعان! ويأتي بعبارات تدل على خمول همته وخمودها، لكن يكفيني أن يكون عندي بصيص على الأقل لنفسي، فمثل هذا -بطبيعة الحال- لا يمكن أن يواصل الطلب، لأنه متى حصل على العلم الذي يخصه من علم فرض العين الذي يتعلق به من حيث الصلاة والطهارة والمعاشرة وما أشبه ذلك اكتفى به، وكلما علت همة الإنسان، كان لديه إمكانية أكثر في التحصيل. والله تعالى قسم الهمم بين الناس، فقد تجد من الناس من تكون همته أن يصلح أهل البلد، ويوصل الخير إليهم جميعاً، وقد تجد آخر همته فوق ذلك قد يطمح أن يصلح أهل دولةٍ بأكملها، وربما تجد ثالثاً همته أن يصلح أحوال المسلمين بكاملهم، وليس بالضروري أن يحصل الإنسان على الهمة التي يتطلع إليها، ولكن بقدر همته يحصِّل، ولذلك كان يقال: وكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همته في الثريا فكلما علت همة الإنسان كان أدعى وأكثر لتحصيله، ولعلكم تعرفون كلمة الإمام الشافعي رحمه الله التي قالها في مجال طالب العلم والإصرار عليه، يقول: سأطلب علماً أو أموتَ ببلدة يقل بها سفح الدموع على قبري أي أنه: سوف يصر على طلب العلم حتى يتغرب في بلاد لا يُعرف فيها بحثاً عن الحديث والسنة، فإن نلت علماً عشت في الناس سيداً وإن مت قال الناس بالغ في العذر إذا ما مضى يومٌ ولم أستفد يداً ولم أكتسب علماً فما ذاك من عمري وعلو الهمة في حياة السلف أمر عجيب، والكلام فيه يطول، لكن لا بد من وجود الهمة عند طالب العلم، وبقدر همم الناس يحصلون من العلوم بإذن الله تعالى. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 24 أهمية حفظ القرآن الكريم لطالب العلم السؤال هل حفظ القرآن الكريم شرط لتحصيل العلم؟ الجواب القرآن هو أساس العلم وأصله، كما قال الله عز وجل: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] فوصف الذين حفظوا القرآن وكان القرآن في صدورهم أنهم من الذين أوتوا العلم، ولذلك فإن العمل على حفظ القرآن من الأشياء التي ينبغي أن يأخذ طالب العلم بها نفسه، نحن لا نقول هذا شرط لتحصيل العلم، فليس هناك ما يدل على هذا، بل إننا نعلم من حياة السلف أن منهم من كان لديه علم يشار إليه بالبنان، ولم يكن حافظاً للقرآن كله، لكن من أراد أن يحفظ العلم، فعليه أن يبدأ بحفظ القرآن الكريم، ولا تعارض بين حفظ القرآن وبين طلب العلوم الأخرى كالحديث والفقه والأصول وغيرها، بل على الإنسان أن يجعل له وقتاً يحفظ فيه القرآن، كأن يحفظ في اليوم وجهاً أو وجهين أو ثلاثة، بحسب ما يتيسر له، المهم أن يلتزم بمقدار من حفظ القرآن الكريم لا يتخلف عنه أبداً، ويجعل له وقتاً لحفظ السنة وطلب العلم؛ بحيث أنه بعد ثلاث سنوات أو أربع سنوات، يجد نفسه قد حفظ كتاب الله، وحصل جزءاً طيباً من العلوم. أما من يقول: أريد أن أتوفر على حفظ القرآن فقط دون غيره فهذا يختلف، بعض الناس قد يكون عنده جودة وسرعة في الحفظ، حتى أن منهم من حفظ القرآن في شهر، ومنهم من حفظ القرآن في شهرين، فهذا لا بأس أن يتفرغ شهراً أو شهرين ليحفظ القرآن كاملاً، لكن غالب الناس لا يستطيع حفظ القرآن إلا على الأقل في حولين كاملين، فمثل هذا من العسير أن يقال له: تفرغ حولين كاملين لحفظ القرآن، اللهم إلا أن يكون الإنسان لا يستطيع إلا ذلك، أو مشغول في أمور أخرى، وكل حالة تقدر بقدرها، لكن ينبغي أن يكون حفظ القرآن هو الأمر الأول في أساسيات طالب العلم. الجزء: 175 ¦ الصفحة: 25 أنصفوا المرأة تعرض الشيخ لقضية المرأة، وأسباب معالجة موضوع المرأة. وذكر صوراً من ظلم المرأة، مبيناً نظرة الإسلام إلى المرأة؟ محذراً من آثار هذا الظلم. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 1 لا تكن أنانيا ً إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ عنوان هذا الدرس" أنصفوا المرأة " وهو الدرس السابع والسبعون من هذه الدروس العلمية العامة، في هذه الليلة: ليلة الإثنين الخامس عشر من شهر جمادى الأولى من سنة 1413هـ. وعندي لك أيها الأخ الحبيب سبعة عناوين: أولها: يناديك ويقول لك لا تكن أنانياً، فالمؤمن الحق منصف بطبعه، جعل من نفسه رقيباً على نفسه، وتبرأ من وصمة الأنانية والذاتية وحب الأثرة، فأصبح قلبه يسع هموم الآخرين، وأصبح قاضياً وحاكماً بنفسه على نفسه. إن من الأمراض المتفشية بيننا اليوم أن كل فئة أصبحت تحتجر الخير لذاتها، وتدافع عن نفسها حتى ولو على حساب الآخرين، وأصبحنا نستنكف ممن يدلنا على عيوبنا. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 2 المدافع عن المرأة هو مدافع عن الرجل أيها الأحبة إن المدافع عن حقوق المرأة هو مدافع عن حقوق الرجل أيضاً، فالمرأة أمك وزوجك وأختك وبنتك، وإذا كنت اليوم تكلمت عن المرأة وحقوقها، فإنني لم أقصد من وراء ذلك إلى إزعاجك، ولا إلى أن أخسرك كما عبر أحد الإخوة: إن تكلمت عن هؤلاء خسرت أولئك لا، لا أريد أن أخسرك -أيها الرجل- فأنت بعد الله تعالى سندي وعضدي وصاحبي، وطالما تحدثت وتحدث غيري من الإخوة من طلبة العلم والدعاة عن حقوقك، وما يجب لك تجاه ولدك، وتجاه زوجتك، وتجاه الآخرين، وقد أمسك بزمام المبادرة أحد الإخوة الأكارم الفضلاء، الذين كتبوا إليّ حول هذا الموضوع، واقترح عليَّ موضوعاً قادماً عنوانه " أنصفي الرجل " فهو خطاب للمرأة: أن أنصفي الرجل: أباً، وابناً، وأخاً، وزوجاً، وسيكون هذا بإذن الله تعالى، وعلى كل حال فإذا كنت أقول لكم اليوم: أنصفوا المرأة، فلا تظنوا أنني سأقول للمرأة: نامي قريرة العين ريثما يفرغ الزوج من إعداد وجبة الطعام، فقد عتب بعض الإخوة على من يروون ذلك الحديث الذي كان فيه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في مهنة أهله، حتى إذا أذن المؤذن خرج للصلاة} وهو في صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها. وقالوا: لابد من بيان هذا الحديث وإيضاحه، فعلى كل حال لن أقول هذا الكلام الآن، وإنما سوف أقول ما تسمعه بعد قليل. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 3 الناس بطبيعتهم يحبون الثناء إن الناطق عن شريعة الله عز وجل -أيها الأحبة وأيتها الأخوات الكريمات- يقول ما يجب شرعاً أن يقال، وليس ما يحب الناس أن يقال، وبين ما يجب وما يحب الناس فرق، فقد يحب الناس أن تدغدغ مشاعرهم بطيب القول، وأن يثنى عليهم بجميل الثناء، ولو لم يكن الأمر كذلك، وقد يكون الحق أحياناً مراً، وفي صحيح ابن حبان: {قل الحق ولو كان مراً} وهذا الحديث وإن كان فيه ضعف إلا أن معناه صحيح، وليس المهم أن يرضي الإنسان طرفاً ليسخط آخر، المهم أن يرضي الله تعالى، ويقول ما يعتقد أنه حق، ولو سخط عليه في ذلك من سخط. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 4 الله يأمر بالقسط أين نحن من هدي القرآن الكريم؟! قال الله تعالى في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] فأمرنا الله تعالى أن نقوم له سبحانه بالحق والعدل والقسط، وأن نشهد بذلك على القريب والبعيد، وعلى العدو والصديق، وألا تحملنا العاطفة، حباً أو بغضاً، عداوة أو صداقة، على أن نجور أو نظلم، بل واجب علينا أن نعدل، فالعدل اقرب للتقوى، وفي سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} [النساء:135] فَتَحصَّل من مجموع هاتين الآيتين الكريمتين ما يلي: أولاً: وجوب القيام بالقسط، وهو العدل لله تعالى، لا لأجل غرض آخر، فنحن مثلاً لا نقوم بالقسط والعدل؛ لأنه في مصلحتنا كما هو شأن المنافقين {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:48-49] لا، لأنه الحق؛ ولكن لأنه في مصلحتهم، يحقق لهم أرباً دنيوياً، كلا! بل يجب أن نقوم بالقسط وهو العدل، نقوم بذلك لله تعالى لا لغيره. ثانياً: أن من الواجب علينا أن نقوم بحقوق الله تعالى، أن نقوم لله تعالى بعبادته وطاعته أيضاً، نقوم بهذا العمل ابتغاء مرضاته، لا رياء ولا سمعة، وفي حديث عبادة بن الصامت وهو في الصحيحين {أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم وكان مما أخذ عليهم: وأن نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم} فالحق يقال به، ولابد أن يعلن مهما كان الأمر. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 5 حال الرجال والنساء أحبتي: لقد جالست رجالاً كثيراً، فوجدت حديثهم ومسلماتهم التي لا تقبل الجدل: الكلام عن عيوب النساء، وظلمهن وتسلطهن، حتى كأن هذا الأمر أمر مفروغ منه، لا يكاد يشرع الحديث فيه بين الرجال حتى تتوالى التعليقات والإضافات والأحاديث من هنا وهناك، وكل يشتكي ويتذمر من واقعه. كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن ثم استمعت إلى حديث بعض النسوة، وقرأت أوراقاً ورسائل وشكاوى، فوجدت أن المرأة هي الأخرى تشارك الرجل في الطبيعة ذاتها والصفة نفسها، فما تكاد تجتمع فئة من النساء إلا وكان حديثهن: عن الرجال وظلمهم، واستبدادهم وإصرارهم على أخطائهم، وما أشبه ذلك. إن هذا وذاك لا يليق بالمؤمن الحق، الذي جعل مقياسه شريعة الله عز وجل. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 6 الكل يطالب بحقوقه إن الداعية اليوم أو الخطيب إذا تحدث عن حقوق الأبناء والبنات أغضب الآباء والأمهات، فقالوا: فتحت عيون أولادنا عن أمور كانوا عنها غافلين، فإن تكلم عن حقوق الآباء على الأبناء، قال له الأبناء: ليس آباؤنا بحاجة إلى من يزيدهم ضغطاً علينا وحجراً على حقوقنا، وإن تكلم عن حقوق الأزواج (الرجال) اضطربت الزوجات وقلن: أنتم لا تتكلمون إلا عن حقوق الزوج، وكأن المرأة عندكم مهدرة الحقوق، مهضومة الجانب، أما إن تكلم عن حقوق الزوجات والأمهات والبنات؛ فإن بعض الأنوف ترم، ويقول قائلهم: المرأة طول عمرها قانعة بما هي فيه، حتى أتيتم أنتم ففتحتم لها الأبواب وهيأتم لها الأسباب، وأغريتموها بالمطالبة والمغالبة. وإن تكلم المتحدث اليوم عن حقوق المدرسين غضب الطلاب وأرغوا وأزبدوا، وإن تكلم عن حقوق الطلاب غضب المدرسون ومالوا وقالوا، وإن تكلم عن حقوق هؤلاء جميعاً غضب الإداريون، وقالوا: قلت وفعلت، وإن تكلم عن حقوق الرعية غضب الراعي، وإن تكلم عن هؤلاء غضب أولئك، ولهذا يميل الكثيرون اليوم إلى ترك الحديث عن الموضوعات الساخنة والموضوعات الحية إيثاراً للسلامة والعافية في أنفسهم وفي أعراضهم وفيما يقولون، ويتركون الجرح غضاً طرياً نازفاً ينزف بالدماء، ولو كانوا يتحسرون في دخيلة نفوسهم على هذا، ولكنهم لا يملكون الجرأة والشجاعة إلى أن يجاهروا بإنكار العيوب والدعوة إلى إصلاحها. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 7 واحد صادق والبقية يكذبون أما حديثي الآخر إليك فهو بعنوان " واحد صادق والبقية يكذبون " إنه الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان هذا النبي المختار كما وصفه ربه عز وجل رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] جنِّهم وإنسهم، رجالهم ونسائهم، عربهم وعجمهم، مؤمنهم وكافرهم. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 8 كذب جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة في الغرب لقد عرف الغرب جمعيات الدفاع عن حقوق المرأة التي استدرجت المرأة شيئاً فشيئاً إلى المصنع، حيث الدخان والأصوات المزعجة والسواعد المفتولة، واستدرجها إلى المتجر لتكون زينة تغري المتسوقين بالشراء، واستدرجها إلى المسرح وصالات العرض؛ لتكون جسداً يغري بلا روح، واستدرجها إلى ميدان السياسة؛ لتكون وزيرة ومسئولة ورئيسة ومديرة وغير ذلك، وأخيراً استدرجها إلى جحيم الحرب، حيث غدت المرأة تشكل في الجيوش الدولية أعداداً لا يستهان بها ضمن الضباط والمحاربين والمجندين في أشق الأعمال وأكثرها صعوبة وأذى. فماذا كسبت المرأة من وراء ذلك كله؟ لعل من الطريف والعجيب في الأخبار، أنه قام اليوم في فرنسا وغيرها جمعيات أخرى على النقيض من ذلك تطالب بحقوق الرجل، وتدافع عن الرجل، المضطهد تحت تسلط المرأة وقهرها وعنادها. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 9 نشوء جمعيات حقوق المرأة في الشرق ولقد عرف الشرق أيضاً جمعيات تنتمي إلى المرأة، وتدافع عن حقوقها زعماً، في مصر ولبنان والشام والخليج والمغرب العربي وغيرها، ومعظم هذه الجمعيات لا تخرج من الاحتمالات التالية: أولاً: جمعيات أنشأها المستعمرون لتكون أوكاراً للفساد، وبؤراً لتخريج البائسات المنخلعات عن الفضيلة والعفاف. الاحتمال الثاني: جمعيات أنشأتها نسوة يشعرن بالنقص في تكوين المرأة وجِبِلَّتها وطبيعتها، فسعين إلى سد هذا النقص بمزاحمة الرجل في ميدانه وفي تخصصاته، وخالفن بذلك فطرة الله التي فطر المرأة عليها، إذ أي شأن للمرأة في بالرياضة وحمل الأثقال؟! ومعظم هؤلاء النسوة ينطلقن من معاناة شخصية وظروف مرت بها الواحدة منهن. الاحتمال الثالث: تلك التي لا ترى في المرأة إلا جسدها فحسب، فهي تعتني بملابسها وتناسق هذه الملابس بألوانها وأشكالها وخطوطها مع أحدث الموضات، أو تعتني بشعرها وتسريحاته الجديدة التي تضاهي أحدث التسريحات الغربية، أو تعتني بألوان المكياج والأصباغ والعطور، والإضافات والتعديات على شكل المرأة وخلقتها، حتى إن وزن المرأة يضعف أحياناً مما تحمل من تلك الأثقال، التي بعضها يوضع على الرأس، وبعضها على الأذنين، وبعضها على الظهر، وبعضها على الكتفين، وبعضها على القدمين، وبعضها على الساقين، وهكذا سائر البدن ينوء بهذه الأثقال والأحمال، التي لولا أن تكاليف الموضة ورسومها أصبحت قانوناً عند كثير من النساء، لكان من الصعب على المرأة أن تتحمل ذلك وتنفذه، وأنا هنا لا أعمم فيما أقول، وقد كتب إلي واتصل بي عدد من الأخوات، حين تحدثت عن إحدى الجمعيات في المنطقة الشرقية قبل أسبوعين، فأقول: إنني لا أنكر أنه لا يوجد أخوات دينات داعيات إلى الله عز وجل، يبذلن جهوداً كثيرة في كل الميادين وفي كل المجالات، وقد ترى بعض هؤلاء الأخوات أن تدخل في هذه الجمعيات، إما لخير تحققه أو لشر تدفعه، فلهؤلاء مني الدعاء أن يوفقهن الله سبحانه وتعالى في هذا المسعى الحميد، وأن يبارك الله سبحانه وتعالى في جهودهن، وأن يجري على أيديهن الخير الكثير على بنات المسلمين في هذه البلاد وفي كل البلاد. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 10 العلمانيون والمرأة لقد عرف الناس هنا وهناك في الشرق وفي الغرب الجهود الإعلامية التي يقف وراءها العلمانيون، الذين يضربون دائماً على وتر واحد يعرضونه لنا في الكلمة، وفي المقالة، وفي الرسالة، وفي الأغنية، وفي القصيدة، وفي الكلمات التي تنشر أحياناً بأسماء بعض الفتيات، كلمة واحدة ولحن لا يقولون: إنك أيتها المرأة في مجتمعنا مهدرة الحقوق، مسلوبة الكرامة، مسحوقة الشخصية، وأن على المرأة أن تثور على الرجل، وأن تقول له: لا. بصوت عالٍ، وأن تتخذ قرارها بنفسها دون ضغط أو تأثير، إنه لم يعد همساً ذلك الصوت النسائي الذي يتحدث عبر الأثير، أو يتقدم في التلفاز، أو يكتب في الجريدة، يسانده صوت رجالي يخفى وراءه المكر والخديعة، ويطالب بما يسميه حقوق المرأة، من باب: (يشربون الخمر ويسمونها بغير اسمها) وإلا فهل حقوق المرأة هي أن تسافر المرأة إلى أقطار الدنيا بمفردها، لتكون عرضة للذئاب؟ أم أن حقوقها أن تفتح لها أماكن يسمونها أماكن الترفيه كما زعموا، ونماذجها موجودة في الإسكانات الخاصة بالشركات، كشركات الطيران، وشركات البترول، وشركات التصنيع، والشركات الطيبة، والإسكانات في المستشفيات وغيرها، والتي تحتوي على المسابح المختلطة، وأماكن الرقص، وأماكن عرض الأزياء، بل وأقول: وعندي الوثيقة- وأحياناً بارات للخمور. إن هؤلاء كمن يدس السم في الحلوى، فهم يضربون على هذا الوتر الحساس، وينادون المرأة بالصوت الذي تستعذبه وتستلذه، ولكنهم يهدفون من وراء ذلك إلى أن يلقوا بها في شراكهم، حتى يضحكوا عليها ويدعوها باكية تتحسر بلا مجيب. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 11 دور العلماء والدعاة وأمام هذا وذاك كان لابد أن يكون للعلماء والدعاة دور بارز في الدفاع عن حقوق المرأة، وحمايتها من الظلم الحقيقي الذي يقع عليها، سواء كان هذا الظلم ظلم الذين يبخسونها حقوقها ويضطهدونها، أم كان ظلم الذين يريدون أن يخرجوا بالمرأة عن فطرتها، وعن أنوثتها، بل وعن إنسانيتها؛ لتكون دمية يعبثون بها حيث شاءوا. إن سر كمال المرأة هو في احتفاظها بشخصيتها التي خلقها الله عليها، شخصية الأنثى، لا هي بالتي تحول إلى رجل مفتول الساعدين، ولا هى بالتي تحول أيضاً إلى لعبة أو زهرة يشمها كل عابر، إن كمال المرأة هو في ضعفها، فهذا الضعف هو سر إغرائها وجاذبيتها وتأثيرها، وهو سر قوتها أيضاً: هي الضلع العوجاء لست تقيمها ألا إن تقويم الضلوع انكسارها أتجمع ضعفاً واقتداراً على الفتى أليس غريباً ضعفها واقتدارها بلى إنه لغريب! ولكنه صنع الله الذي أتقن كل شيء. إن دموع المرأة أحياناً تفلح في تغير قلب، كأنما قُدّ َمِنْ صخر، وكلماتها الرقيقة تنطلق أحياناً أقوى من المدافع. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 12 الصادق هو محمد صلى الله عليه وسلم إن أعظم المدافعين عن حقوق المرأة هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى رغم أن المجتمع الجاهلي العربي الأول حارب الدعوة، وأعلن النكير عليها وقاومها، فإن هذا لم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفكر في مهادنتهم أو مداهنتهم في مسألة المرأة، وهى قضية عندهم ذات حساسية، وذات وقع، وذات تأثير، وكانت النساء في الجاهلية مأسوراتٍ مقهورات محقورات، فأعلنها رسول الله صلى الله عليه وسلم مدويةً مجلجلةً، وإن حشدت حوله المزيد من الخصوم والمزيد من الأعداء. لقد كانت الجاهلية الأولى تبتئس بالمرأة بنتاً مولودة وتضيق بها، فتحاول أن تئدها وتقتلها، أو تمسكها على هون، فصرخ النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم، وفي وجوههم، وقال: {من عال جاريتين حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين} وضم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه كما في صحيح مسلم. وما زال الكثيرون اليوم يتشاءمون من ميلاد البنات، وربما هجر الرجل زوجه بسبب ذلك: ما لـ أبي حمزة لا يأتينا يقيم في البيت الذي يلينا غضبان ألا نلد البنينا تالله ما ذلك في أيدينا وما رزقناه فقد رضينا وكان المجتمع الجاهلي الأول يصادر حق المرأة، لضعفها وعجزها عن الدفاع، فصاح النبي صلى الله عليه وسلم فيهم وقال بأعلى صوته، وأشهد الله تعالى: {اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة} وهو حديث حسن رواه النسائي وغيره بإسناد جيد كما قال النووي. وكان الرجل يسارع إلى ضرب امرأته وإيذائها، والاعتداء عليها في جسدها، وفي كرامتها، وفي سمعتها، فوجدت المرأة في شكواها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجاً ومخرجاً مما تعاني وتلاقي، فأصدر النبي صلى الله عليه وسلم أمره في المدينة إلى المؤمنين المصدقين: {يا عباد الله لا تضربوا إماء الله} -كما في حديث أبي داود وهو حديث صحيح- فقال عمر: يا رسول الله! ذئرن النساء، فأذن الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، فطاف عليه نساء كثيرات يشكون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والله لقد طاف بأبيات آل محمد صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن، ليس أولئك بخياركم} نعم ليسوا من الخيار فإن الخيار هم الخيار لنسائهم، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خياركم خياركم لنسائهم} . لقد وفر النبي صلى الله عليه وسلم حق المرأة على ولدها وعلى زوجها وعلى أبيها، بل وعلى مجتمعها كله. فأي محافظ ومدافع عن حقوق المرأة، وحامٍ لها بقوله وفعله، يشابه أو يقارب هذا النبي المصطفى المختار، الذي هو رحمة مهداة ونعمة مسداة؟! الجزء: 176 ¦ الصفحة: 13 لماذا نعالج موضوع المرأة؟ أولاً: نعالجه طاعةً لله تعالى الذي أمرنا بالعدل والإنصاف والمساعدة في رفع الظلم عن المظلومين، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. ثانياً: نعالجه اقتداءً بالرسول صلى الله عليه وسلم، الذي أستطيع أن أقول بكل ثقة: إنه عليه الصلاة والسلام أحدث نقلاً في بناء حياة المرأة، ليس على مستوى الجزيرة العربية، بل على مستوى العالم كله، العالم الذي كان يعقد المؤتمرات ليبحث هل للمرأة روح أم لا! فقام محمد صلى الله عليه وسلم ليبين عن حقوق المرأة ومكانتها ومالها من الفضائل. ثالثاً: نعالج هذا الموضوع لمنع متاجرة أعداء المرأة، الذين يغرونها بلذيذ الكلام، ويستغلون بعض الظلم الواقع فعلاً على المرأة، وليس لهم همٌ إلا الحديث عن هذا الأمر، حتى ظن بعض السذج والمغفلين أنهم هم المدافعون فعلاً عن حقوق المرأة، وهم المطالبون فعلاً بتحرير المرأة، ولهؤلاء من المنابر الإعلامية ضجيج يصم الآذان، وبأيديهم من الوسائل ما يصل إلى العقول وإلى العيون وإلى الآذان، وما يقرؤه أو يسمعه أو يشاهده الكثيرون. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 14 هل المرأة مظلومة؟ هناك من يبالغ في تصوير الظلم الواقع على المرأة لأنه يعاني ربما وضعاً شخصياً خاصاً، وقد يكون اطلع أحياناً على انتهاكات وتعديات يعممها على الجميع، وقد يدخل بعض الناس -وهم يتكلمون عن الظلم الواقع على المرأة بعض الضوابط والأحكام الشرعية في ظلم المرأة، وهذا نسبة للظلم إلى الله عز وجل، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] . مثلاً تعدد الزوجات الإذن الشرعي للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة، قد يصنف البعض هذا من الظلم، وهذا أمر ثبت في القرآن، قال الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] وقد تكلمت كثيراً عن العدل، وسأتحدث بعد قليل عن الضوابط في موضوع التعدد، ومتى يعدد الإنسان ومتى لا يعدد، لكن المقصود أن أصل التشريع ثابت بنص القرآن وبإجماع المسلمين، فلا يحق لمسلم أبداً أن يعتقد أن هذا من الظلم، لا رجل ولا امرأة. وهناك في المقابل من يبالغ في نفي الظلم وتقليله، وهو قد يكون معذوراً، لأنه رجل كريم محسن لزوجته، وبار بأمه، وأمه ورفيق ببنته، وكريم مع أخته، فهو يظن الناس مثله، وكما يقول المثل " ما يحس بالنار إلا واطيها " والواقع أن المجتمع فيه هذا وذاك، فأما المظالم الواقعة على المرأة فهي ميدان رحب فسيح، وسأتحدث عنه بعد قليل. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 15 وجوب العناية الكبيرة بالمرأة إن مجتمعنا لا يزال يحتفظ على الأقل بالقشرة الظاهرة من حفظ المرأة وصيانتها من الابتذال والإهانة، وعلينا أيها الأحبة أيتها الأخوات أن نستنفر كل طاقتنا لسد المنافذ على المغرضين، الذين يحاولون أن يجدوا موطئ قدم لهم، لمخاطبة المرأة وإفسادها وإخراجها، وليس سد المنافذ يعني أن نمنع المرأة أن تسمع مثلاً أو تقرأ أو تكتب أو تتصل فهذا غير ممكن في الغالب، وإن أمكن حيناً فهو لا يمكن في كل حين. إنك تستطيع أن تمنع المرأة يوماً، لكنك لا تستطيع أن تمنعها كل يوم، وتستطيع أن تمنع واحدة، ولكن لا تستطيع أن تمنع الجميع، ولكن ذلك يكون بأن نحفظ للمرأة حقوقها، ونضمن لها الحياة الحرة الكريمة في بيتها وفي مكان عملها، ويكون بأن نربيها على مكارم الأخلاق، وعلى معالي الأمور، وعلى التدين الحق الظاهر والباطن، وننأى بها عن سفاسف الأخلاق، وما لا يليق بها، ويكون بأن نتولى الدفاع عن قضاياها، ونطالب برفع الظلم عنها قبل أن نعض أصابع الندم ولات ساعة مندم! الجزء: 176 ¦ الصفحة: 16 مكانة المرأة في مجتمعاتنا سوف أذكر الآن كمقدمة بعض الإكرامات التي يقدمها المجتمع هنا للمرأة، لأؤكد أنه على رغم النقص والتقصير والظلم الذي يقع هنا أو هناك، إلا أن مجتمعنا لا يزال مجتمعاً -بحمد الله- أفضل من أي مجتمع آخر في مجال حفظ حقوق المرأة. فمثلاً: البر بالأمهات والجدات، وتربية الكبار والصغار على ذلك، من السلام عليهن وتقبيلهن وتحيتهن صباحاً ومساءً، باعتبار أن هذا جزء من روتين الحياة اليومية للصغار والكبار، وتوفير جميع الخدمات والمتطلبات لهذا الجيل أو ذاك. إن هذه المرأة في الغرب تراها في المطار وهي تتوكأ على عصا، وتتحامل على نفسها، وتجر وراءها عربة، أو يحسن إليها غريب، فيجر العربة معها، وهى تنتقل من مطار إلى مطار، أو تتقلب في ميادين العمل، أو على أحسن الأحوال ترقد في دور الرعاية الاجتماعية لا يعرف بها أحد، وهى تموت موتاً بطيئاً. من كرامة المرأة في مجتمعنا الحرص على تحقيق بعض المطالب الشخصية لها، حتى إن البنت مثلاً -وهذا مثال رأيته ولمسته بنفسي- ترفضها الجامعة عن أن تقبل أو لا تجد لها ميداناً للعمل، فيسعى أبوها ويلح في الطلب، ويطرق كل باب حتى يفلح في تحقيق مطلب هذه البنت، أما الولد أخوها فربما جلس دون دراسة أو دون عمل لفترة سنة أو سنوات. ومن ذلك الاحترام العام للمرأة في المجتمع، ومساعدة من يرون معه عائلة، وتقديم هؤلاء في سائر المرافق، فرجال المرور مثلاً أو الأمن، أو العاملون في المطار، أو سائر العاملين في أي قطاع أو مرفق، بل عامة الناس، يحترمون المرأة، ويسهلون مهمة الرجل الذي تكون معه أسرته أو عائلته. إن الرجل يقف ليمر عبر الشارع فينتظر طويلا ً، أما المرأة فإن الجميع يقف لها احتراماً وتقديراً ومراعاةً لظروفها، وحتى في حالة حصول خطأ من بعض النساء أو تعدٍ فإن الكثيرين من الرجال يحجمون عن مقابلة ذلك بمثله، صوناً للمرأة، والتزاماً بالأخلاقيات العامة التي تحكم المجتمع. إن من الكرامة التي يقدمها المجتمع للمرأة توفير الكثير من الاحتياجات والخدمات لها في بيتها، فالرجل مثلاً وهو القيم الذي يكدح ليوفر لها الغذاء والكساء والدواء، وقد ساهمت الآلات والتيسيرات الحديثة في تخفيف المسئوليات عن المرأة، فلم تعد مكلفة مثلما كانت بالأمس قبل سنوات ليست بالطويلة، بالغسيل اليدوي، والخياطة لنفسها وأهلها وولدها وزوجها، بل حتى ملابسها يقوم بها غيرها, وأصبحت ألوان الأطعمة الجاهزة في متناول يديها، يخفف ذلك أعباء الحياة المنزلية تخفيفاً كثيراً. هذه مجرد نماذج سريعة، وهى تقدم للمرأة دون مَنٍّ ولا أذى، فإن المرأة التي تخدم ليست عنصراً غريباً على المجتمع، ولا شيئاً دخيلاً، هي أمي وأمك، وأختي وأختك، وزوجي وزوجك، وقريبتي وقريبتك، فهي جزء منا، وما نقدمه لها هو بعض من واجبنا ومسئوليتنا، فضلاً عما تلقاه المرأة من حفاوة في بيتها ومقر عملها ومدرستها، وغير ذلك في غالب الأحيان. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 17 النقطة الخامسة: صور من ظلم المرأة وهذه الصور: أولاً: ليست على سبيل الحصر بل هي على سبيل المثال. وثانياًَ: لا أدعي أن هذه الصور موجودة في كل مجتمع، فضلاً عن أن تكون موجودة في كل بيت، لأنه لا بد من الإشادة بالرجال الفضلاء الأماجد الذين يحترمون المرأة ويحفظون حقها، ويكفيهم شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم أنهم من الخيار: {خياركم خياركم لأهله} ومن هذه الصور: الجزء: 176 ¦ الصفحة: 18 رفض مناقشة المرأة واستشارتها رابعا ً: رفض البعض مناقشة المرأة له في أي غرض، ولو كان يتعلق بها أو يخصها، حتى إنك تجد البعض قد يستشير أقرباءه وأصدقاءه وزملاءه وغير ذلك، أما المرأة فلا يسمح ولو بسماع رأيها، وقد يحتج بعضهم بحديث: {إنهن ناقصات عقل ودين} وأقول: الحديث صحيح، فالمرأة ناقصة عقل ودين، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم فسر نقصان عقلها بأن شهادتها بشهادة رجلين، وليس المعنى أنها ناقصةٌ من جميع الوجوه عن الرجل، بل قد تكون المرأة أحياناً أكثر حفظاً من الرجل، وقد تكون أعظم إدراكاً من الرجل في بعض، الأحوال وقد تحصل من العلوم على أشياء لا يحصل عليها بعض الرجال: والناس ألف منهم كواحد وواحدة كالألف إن أمر عنا ومع اعترافنا -ولا شك- بنقص المرأة، وأن شهادة امرأتين بشهادة رجل، كما قال الله عز وجل: {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] وذلك في خمسة مواضع، أترك الحديث عنها وتفصيلها لذاكرتكم. ومع هذا النقص الذي ذكره الله في كتابه، وذكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هناك أموراً تقدرها المرأة، وتدركها أكثر من غيرها بحكم تخصصها ومعرفتها، أو دأبها وإصرارها واجتهادها، أو غير ذلك، ومع النقص أيضاً فإنه قد يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار. وهل أنت حين تستشير لا تستشير إلا من هم أكثر منك ذكاءً، وأوسع منك خبرة، وأطول منك عمراً؟ كلا! بل قد تستشير من هو مثلك أو دونك، وقد يشير عليك بالرأي السديد. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 19 استبشاع مجرد ذكر المرأة ثانياً: استبشاع مجرد ذكر المرأة، فإن في بعض البيئات وفي بعض المجتمعات إذا قال: المرأة، فلابد أن يثني بكلمة تدل على التقزز من هذه الكلمة، فيقول مثلاً: المرأة أجلك الله! أو المرأة لك الكرامة! والواقع أن هذا عين الجهل والخطل والخطر في الرأي والعقل والدين، فإن المرأة تدخل الجنة إن كانت مؤمنة، بل تكون سيدة نساء أهل الجنة، كما كانت فاطمة رضي الله عنها، وهل ترى ذلك الرجل سيذكر اسم أمه، أم المؤمنين عائشة، أو يذكر اسم سيدة نساء العالمين، أو يذكر اسم فلانة وفلان، ثم يقول مثل تلك الكلمات التي جرت بها عاداتهم وألسنتهم، لا يفعل هذا أحد يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 20 الحياء من أن يُرى الإنسان مع أهله ثالثاً: الحياء من أن يرى الإنسان مع أهله ، حتى في أماكن العبادة فضلاً عن أماكن الشراء أوغيرها، فربما تركها بمفردها خشية أن يرى معها، وربما تقدم عنها تلافياً للإحراج، وكم رُئِيَ النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله في الحضر والسفر؟ إنه مجرد سؤال والإجابة عليه عشرات الأحاديث، وعشرات القصص، وعشرات الروايات الصحيحة، بل كان عليه الصلاة والسلام يصحب زوجته ويقلبها إلى أهلها، ويذهب بها معه في السفر، وتصحبه في المغازي والسرايا والبعوث وغيرها. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 21 احتقار جنس المرأة أولاً: احتقار جنس المرأة، فالبعض يزدرون المرأة ولا يرون لها قيمة في ذاتها، وينظرون إليها شزراً، فهي في تكوين هذا الرجل وعقليته مخلوق من الدرجة الثالثة أو الرابعة وينسى {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وينسى {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وينسى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] وينسى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] فالأصل واحد والطبيعة متشابهة، وهن شقائق الرجال كما نطق الرسول صلى الله عليه وسلم. من ذلك الاحتقار: الخجل من التصريح باسم المرأة واعتبار ذكر اسمها عيباً يُستحيا منه، والله تعالى سمى لنا في القرآن الكريم مريم في مواضع، بل يوجد في القرآن الكريم سورة اسمها سورة مريم، إضافة إلى سورتين أخريين سورة النساء الكبرى والصغرى، {ورسول الله صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- مشى مع امرأة، فمشى بعض أصحابه، فقال: على رسلكم إنها صفية} . ويعرف طلاب المدرسة الابتدائية أسماء زوجات النبي عليه الصلاة والسلام {طرقت امرأة واستأذنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه السلام لـ بلال: من؟ قال: يا رسول الله، إنها زينب قال: أي الزيانب؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود} إذاً ذكر اسمها، ويعرفها بلال، ورسول الله يعرف اسمها، ويعرف مجموعة من الزيانب أيضاً، فيسأل أيتهن بالضبط المرأة المستأذنة! والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر لنا آسية امرأة فرعون وأنها من النساء الكوامل، {كمل من الرجال كثير، وكمل من النساء أربع، وذكر منهن رسول الله صلى الله عليه وسلم - آسية - امرأة فرعون التي قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد} صلى الله عليه وآله وسلم، ورضي الله عنها: {دخلت عليه فاطمة وهو في مرض موته، فسارها بشيء فبكت، ثم سارها بشيء فضحكت، فلما مات سألتها عائشة -كما في الصحيحين- فقالت لها: ماذا قال لك؟ قالت: أخبرني أنه يموت في مرضه ذاك فبكيت، وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة فضحكت لذلك} وفي رواية {أخبرني أنني أول أهله لحوقاً به فضحكت لذلك} وكلا الحالتين والخبرين صحيح. إذاً لا بأس أن تُعرف المرأة ويُعرف اسمها، ولا بأس أيضاً أن يكني الإنسان عن المرأة بغير اسمها، فيقول مثلاً: أهلي بدلاً من أن يقول: فلانة أو زوجتي، لا مانع أن يقول: أهلي، والله تعالى قال عن موسى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ * قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [القصص:28-29] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} [طه:132] إلى غير ذلك، لكن هذا تجنباً لذكر المرأة باسمها، ولا تعيُّباً لذلك ولا إنكاراً له. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 22 مسألة الطلاق وصور الظلم فيها تحدثت عن الطلاق وصوره سابقاً في درس الحلال البغيض، لكنني أذكر الآن صوراً عابرة من الظلم الذي يقع على المرأة في موضوع الطلاق. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 23 إيقاع الطلاق عند أدنى سبب من ذلك إيقاع الطلاق عند أدنى سبب حتى ولو كان سبباً تافهاً، ثم لا ينفع بعد ذلك أن يندم الإنسان، فإنه قد يطلق بسبب العشاء أنه تأخر أولم يجهز، وبسبب الثوب أنه احترق في المكواة، أو لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصح أن تكون سبباً للهجر، فضلاً عن أن تكون سبباً للطلاق. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 24 كثرة استعمال أيمان الطلاق ثانياً: كثرة استعمال أيمان الطلاق على ألسنة بعض الجهال، وفي كل مناسبة، حتى إذ جاءه ضيوف وأصر عليهم، بالدخول فاعتذروا حلف بالطلاق أن يدخلوا. وإن من الطريف مما يذكر في النكت -ومع الأسف أنه واقع وليس نكتة- يروى أن رجلاً أضاف أناساً، فجلسوا عنده، فجهز العشاء لهم، فقاموا وهموا بالخروج، فألح عليهم بالبقاء، فاعتذروا بأنهم مرتبطون بمواعيد، فأصر عليهم فأبوا، فقال لهم: اجلسوا وحلف عليهم بالطلاق من زوجاته إلا جلسوا، فقالوا: لا شأن لنا بك ولا بزوجاتك، نحن لا نستطيع الجلوس فقال: إذاً فانتظروا قليلاً، فذهب إلى المنزل وأحضر الكلاشينكوف وأشهره عليهم، وقال لهم: والله إن يخرج واحد منكم فإنني سوف أفجر رأسه، ولكن اذهبوا وكلوا الطعام، فذهبوا مضطرين وأكلوا وجبتهم، ولا أدري بأي شعور كانوا يأكلون! التهديد بالطلاق أيضاً عند أية زلة، وبقدر سرعة الرجل في القرار بالرغبة في هذه المرأة، أو الموافقة على الزوج منها، بقدر ذلك تكون سرعة الرجل في إيقاع الطلاق، إن الكثير من الرجال كلما قالت له المرأة شيئاً، قال لها: كذا أو الطلاق، اختاري كذا أو الطلاق، وهذا ليس من المروءة ولا من شيم الرجال، إذا كنت عازماً على الطلاق بعد دراسة وتأنٍ ومشورة واستخارة، وبعدما اقتنعت قناعة تامة أن الطلاق أرفق بك وبالمرأة، فإيقاعه هنا يتم كما أمر الله تعالى {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] أما أن تعتبر أن الطلاق سيفٌ يشهر على المرأة، تهدد به في كل حين، فهذا ليس من الشرع. ولا من العقل ولا من المروءة في شيء. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 25 نظرة المجتمع للمرأة المطلقة ثالثاً: نظرة المجتمع للمرأة المطلقة: قد تكون المرأة طلقت لعيب في الرجل، وقد يكون الطلاق بسبب عيب في المرأة وقد يكون الطلاق بسبب عدم الوئام والاتفاق بينهما، وليس في الرجل من عيب ولا في المرأة، ولكن لم يكتب بينهما مودة فطلقها، والمؤسف أن المجتمع ينظر دائماً إلى المرأة المطلقة على أنها مخطئة، وهذا تعميم غير سليم، فقد تكون بريئة، وقد تكون صالحة، وقد تكون ملائمة، وقد يكون الأمر قلبياً محضاً لا يد للمرأة ولا للرجل فيه. فينبغي ألا نعمم النظرة إلى المطلقة، بل أن ندرك أن كل حالة تقدر بقدرها، فلابد من معرفة ما هو سبب الطلاق؟ وكيف تم الطلاق؟ وما الذي حصل من المرأة؟ ولا أعتمد على مجرد الإشاعات، فإن المجتمع مع الأسف مصابٌ بداء، وهو داء الفضول، والبحث عن أسرار الآخرين، فإذا لم يجد الناس اليوم معلومات صحيحة؛ لفقوا معلومات غير صحيحة، وأشاعوا بعض الأقاويل غير الموثقة، فقالوا: فلانة طلقت لكذا ولأنها قالت: كذا، ولأنها فعلت كذا، ولو تحريت وتَثَبَّت لم تجد الأمر كما أشيع. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 26 التضييق على المرأة المطلقة رابعاً: التضييق على المرأة المطلقة، وعلى أولادها في بيت أبيها أو أهلها أحياناً، وتعييرها بذلك وسب أولادها، وهذا كله مما لا يليق، ولا يسوغ مع مكارم الأخلاق، فضلاً عمن أنعم الله تعالى عليهم وأكرمهم بهذا الدين، الذي من أُسُسِه التضامن والتكامل الاجتماعي بين الأباعد، فكيف بالأقارب؟! الجزء: 176 ¦ الصفحة: 27 مسألة التعدد وصور الظلم فيها ثالثاً: مسألة التعدد (تعدد الزوجات) وهى شريعة ماضية كما أسلفت {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ولكن حول موضوع التعدد: لاحِظْ النقاط التالية: الجزء: 176 ¦ الصفحة: 28 التهديد الدائم بالزواج بالأخرى أولاً: تهديد بعض الأزواج الدائم بالزواج بأخرى، حتى لو كان على سبيل المزاح، وهذا لا شك يؤثر على نفسية المرأة فتجد الرجل دائماً وأبداً يقول لها ذلك، حتى أنني أعلم أزواجاً في ليلة العرس دخل على زوجته، وبعد ساعة أو ساعتين كان يحدثها عن الزوجة القادمة. فلا داعي للتهديد، إذا اتخذت قراراً بالزوجة الثانية بعد دراسة وتأمل ونظر، فلا تظن أن القضية مجرد تنويع، بل لابد أن تدرس الموضوع دراسة صحيحة وسليمة ومضبوطة، فإذا اتخذت القرار بعد الاستخارة والنظر والاستشارة، فبإمكانك أن تنفذ دون حاجة أن تروع قلب المرأة صباح مساء بالزوجة الثانية. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 29 سرعة اتخاذ القرار للزواج الثاني ثانياً: سرعة اتخاذ قرار الزواج الثاني دون أن يكون الإنسان مرشحاً لذلك، إما من الناحية العاطفية، أو من الناحية الجسمية، أو من الناحية المالية، أو من النواحي جميعها. إنني أعرف الكثير حتى من الصالحين والملتزمين، قد يسارع الواحد منهم بالزواج بالأخرى دون تأمل ولا دراسة ولا نظر ولا استشارة، بل يَسْتَبِدُّ برأيه، وسرعان ما تكون الأمور على خلاف ما يريد! ويفاجأ بأشياء لم تكن له في حساب، وبحسب ما نظرت ورأيت وقدرت، فإنني أجد أن الفشل والإخفاق في الزواج الثاني أكثر منه بكثير في الزواج الأول، خاصة أن الزوج الذي يتزوج ثانية قد تنازل عن بعض الشروط؛ لأنه يدرك أنه معدد وعنده زوجة، فلن يحصل على الشروط التي يريدها تماماً، فهو متنازل عن بعض الشروط، ونتيجة لذلك سيجد في زواجه الثاني بعض المكدرات وبعض المنغصات، التي قد تجعله يندم على هذا القرار المتسرع. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 30 الميل إلى إحدى الزوجتين ثالثاً: الميل إلى إحدى الزوجتين، فوجهه إلى فلانة، وضحكه معها، ونكته إليها، وبصره إليها، إذا كانت الزوجتان في مجلس واحد، ولأولادها من العناية والرعاية وشراء الهدايا واللعب ما ليس للأخرى، وأنت تجده وَلَّاَجاً خَرَّاجَاً على فلانة في يومها وفي غير يومها، أما الأخرى فقد يهملها ولا يأتيها، وقد يتشاغل عنها، وقد يجعل المواعيد كلها في يومها حتى يتعلل بكافة العلل عن دخول المنزل، أو النظر إليها، أو الجلوس معها، أو مداعبتها أو مداعبة أولادها. وربما مال بعضهم مع المرأة الجديدة وترك أولاده، لا يرعاهم ولا يربيهم ولا يشملهم ولا يضمهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير {اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم} فكما تحب أن يكونوا لك في البر سواء، فينبغي أن تكون لهم في العناية والرعاية سواء، ومن أعظم أسباب الخصومات بين الأولاد والأحقاد، ألا يعدل الأب بينهم. وربما يسافر الزوج بإحداهما ويترك الأخرى، وقد يجود على تلك بالمال ولا يعطي ضرتها، والله تعالى يقول كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلت بينكم محرماً فلا تظالموا} ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه مسلم أيضاً عن جابر: {اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم} . عاقبة الظلم والظالمين: إن العالم يشهد مظالم شنيعة اليوم إهدار لكرامة شعوب بأكملها، خاصة الشعوب الإسلامية، وتسليط الأعداء عليها، وتسليط الحكام الجائرين الذين سلبوا خياراتها، ونهبوا ثرواتها، وأهدروا حقوقها، وأودعوها في السجون، وساموا شعوبهم سوء العذاب، وما يدريك أن يكون هذا الظلم العظيم الذي يلقاه المسلمون عقاباً من الله تعالى؟! فإن الله يعاقب الظالمين بالظالمين، قال الله تعالى ووعد، ووعده الحق، قال: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] ومعنى نولي: نجعلهم أولياء، فيجعل الله تعالى عقوبة الظالم أن يسلط عليه من هو أظلم منه. وما من يد إلا يد الله فوقها وما ظالمٌ إلا سيبلى بأظلم وفي حديث أبي بكرة -رضي الله عنه- وهو حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود وأحمد في مسنده وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخره من العذاب في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم} . ندم البغاة ولات ساعة مندم والبغي مرتع مبتغيه وخيم إن هذه المشكلات في ظلم المرأة، أو الإحجاف بحقها، أو الجور عليها أو بخسها، إنه لا تَحلُّه القوانين والأنظمة، ولا تحله المحاكم ذهاباً وإياباً، فالحيل كثيرة، وإمكانية المكايدة والتلاعب في الحياة الزوجية قائمة ولكن يُحلُّه التذكير بعقوبة الله عز وجل، قال الله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30] . أيها الأحبة والله الذي لا إله غيره إنني أعلم اليوم أن كثيراً من البيوت تغلق على مظالم، ومفاسد، وجور، وإيذاء، وعسف، وعلى اضطهاد، فعلينا أن نتقي الله تعالى في من ولانا أمرهم. وفي الحديث الذي رواه أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من رجل يلي أمر عشرة فما فوق إلا أتى الله تعالى مغلولة يده إلى عنقه، فَكَّهُ بِرُّه، أو أوبقه إثمه} قد يكون مجموع أهلك عشرة أو أكثر، لكن لنفترض أنهم أقل، لنفترض أنه ليس لديك إلا زوجتان أو زوجة واحدة فقط، ففي حديث ابن عمر المتفق عليه: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} وفي حديث أبي هريرة وهو حديث صحيح، رواه أحمد وأبو داود والنسائي والطيالسي وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كانت له امرأتان، فمال إلى إحداهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل} . أخي الكريم إن المرأة مخلوق له شخصيته، وله كرامته، وله عاطفته، له مطالب للجسد، ومطالب للروح، ومطالب للوجدان، فليس كل مراد المرأة فقط توفير الأكل والشرب واللباس والسكن، لا! هذا لا يكفي، ولا كل مرادها أيضاً اللقاء الجسدي في الفراش فحسب، هذا أيضاً لا يكفي، بل الأمر يتطلب أوسع من ذلك حسن الخلق الإمساك بمعروف حسن المعاشرة الصبر على أخطاء المرأة التسامح معها، بل ما يقدر الرجل عليه في ذ لك، وهو يقدر على الكثير والكثير. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 31 مسألة الزواج وصور الظلم فيها الجزء: 176 ¦ الصفحة: 32 اضطهاد المرأة في دينها النقطة الثامنة: اضطهاد المرأة في دينها، ودين المرأة هو أغلى ما تمدح، كما في حديث أبي هريرة {فاظفر بذات الدين تربت يداك} ومع ذلك نجد في بلاد المسلمين هنا أوهناك مضايقات للمرأة في دينها منها: أولاً: عرض المسلسلات والأفلام الرديئة التي تصور المرأة على أنها تلهث دائماً وراء الرجل، وتبحث عن المتعة لا غير، وهذه الأفلام والمسلسلات تجاهلت الشخصية الإنسانية للمرأة، التي هي سر عبوديتها لله تعالى، وسر كمالها، وسر صلاحها، وسر إنسانيتها ونجاتها في الدنيا وفي الآخرة، وتجاهلت أخلاق المرأة، وتجاهلت عقل المرأة، وتجاهلت شخصية المرأة؛ فلم تظفر المرأة منها إلا بتلك الفتاة التي تلاحق الشباب، وتعاكسهم وتغازلهم، وتترك هذا إلى ذاك، وتتصل بهذا ليغار منها ذاك. ثانياً: فرض الاختلاط في بعض الجامعات والمدارس والمؤسسات والشركات، وأخيراً البنوك مما من يجعل المؤمنة بين خيارين أحلاهما مر؛ إما أن تترك هذه الأشياء التي قد يكون لها فيها فائدة، وقد يكون فيها للمسلمين فائدة، وقد تكون ثمة حاجة، بل ربما كان لديها ضرورة، أو أن تختلط بالرجال وتجالسهم، وتحدثهم وتنظر إليهم وينظروا إليها، وفي ذلك من الأضرار والمفاسد ما لا يخفى على عاقل. ثالثا ً: منع ارتداء الحجاب الشرعي أيضاً في بعض الجامعات والشركات، بل يصل الحال كما سمعتم في الأخبار إلى تهديد المنتقبة أحياناً بالفصل من أعمالهن، من شركات معروفة، ومن جامعات معروفة، بل يتعدى الأمر إلى اتخاذ القرار وطرد الفتاة المتنقبة من الجامعة حتى تخلع الحجاب والنقاب. رابعاً: عدم العناية بالتطبيب النسائي المتخصص للمرأة، حيث يعالج الرجال كثيراً من النساء، وربما وجدت المرأة نفسها مضطرة لمقاساة الآلام، بأمراض أو آلام الوضع، أو غير ذلك، تجنباً لكشف الرجل عليها، وإنَّ من حق المرأة المسلمة على المجتمع، بأفراده، وبتجاره، وبأثريائه، وبأطبائه، وبمسئوليه، أن يوفروا لها المجال المناسب الذي تمرض فيه، وتطبب فيه، وتعالج فيه بستر وصون وعفاف، بعيداً عن أعين الرجال، فضلاً عن أيديهم وما سوى ذلك. خامسا ً: تهيئة الفرص للاعتداء على المرأة في أحيان كثيرة، والإستفراد بها مثل تشجيع السفر الانفرادي للمرأة، سواء كانت المرأة مسافرة من بلدها، قادمة من بلد آخر، من غير حاجة أو ضرورة تدعو إلى ذلك، ثم تسهيل وسائل الاتصال من خلال الاتصالات الهاتفية أو الاتصالات المباشرة، أو السيارات، أو الأجرة، أو الليموزين أو غير ذلك. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 33 مصادرة حق المرأة خامساً: مسألة مصادرة حق المرأة في التعبير عن رأيها، سواءً في الزواج كما أسلفت، في من تقبله شريكاً لحياتها ورفيقاً لدربها، أو في الأولاد وما يتعلق بهم، فالأولاد بضاعة مشتركة بينك وبينها، لكن الملاحظ أن الكثير من الآباء لا يجعل للمرأة دوراً في تربية الأولاد، ولا في الشئون المتعلقة بهم، بدءاً باختيار الاسم، ومروراً بكل القضايا المتعلقة بالأولاد، حتى القضايا الشكلية المتعلقة بما يلبسون، وأين يذهبون، وكيف يعملون؛ فإن هذه الأشياء لا يدع الرجل أحياناً للمرأة فيها دوراً، مع أن الملاحظ أن الرجل مشغول، والمرأة ألصق بالأولاد خاصة قبل أن يتجاوزوا سن المرحلة الابتدائية، فهي بحاجة إلى أن تكون قريبة منهم، وأن تشعر بمسئوليتها ودورها في تربيتهم. كذلك مصادرة حقها أيضاً في الرأي المتعلق بالمنزل وتقلبات الحياة، من سفر، وإقامة، وتنقل، وحل وترحال، وسكن، وغير ذلك، ومثل قضايا الولائم وسواها، فإن الرجل في كثير من الأحيان لا يجعل للمرأة مجالاً في مثل هذه الأمور، ولا شك أن هناك أشياء تفرض نفسها على الرجل والمرأة على حد سواء. لكن إذا كان ثَمَّ مجال للمشاورة، فإنه لا بأس أن تأخذ رأيها. إن الرجل الكريم ليس هو ذلك الذي سلم قيادته للمرأة، وأصبح تابعاً لها، تسير به حيث تشاء، فإن هذا ليس من الرجولة في شيء، وما جعل الله تعالى القوامة للمرأة على الرجل، وإنما جعل القوامة للرجل على المرأة، قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] ولكن هذا لا يعني أن يبدو الرجل في بيته امبراطوراً، إذا ظهر طأطأت الرءوس، ونكست الأذقان! وقد قال الله تعالى عن رسوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فاقرأ وراجع ولو في كتاب واحد، كيف كانت معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأهله، والكلام اللين مع المرأة يحل كثيراً من المشكلات، والتفاهم هو أساس من أسس الحياة الزوجية الناجحة. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 34 عدم مراعاة طبيعة المرأة سادساً: عدم مراعاة طبيعة المرأة الخاصة، إن المرأة خلقت بتكوين خاص، وتركيب أنثوي يختلف عن الرجل في جوانب كثيرة، فلها جانب عاطفي -مثلاً- يتطلب مراعاةً في الكلام الذي يقال لها، والحديث الذي يوجه إليها، والتعامل الذي تبدأ به، فلابد من مراعاة ذلك، ولابد من مراعاة طبيعة المرأة الخاصة في نوع العمل الذي توجه إليه، ليكون متلائماً مع طبيعتها. ومن الظلم لها أن تُلْقى المرأة في مجال عمل لا يناسبها ولا يلائم طبيعتها، بل يجور على أنوثتها، ويغير من تكوينها وطبيعتها وما جبلها الله تعالى عليه. ومن الظلم الذي يقع -أحياناً- الإثقال على المرأة بالأوقات التي تقضيها خارج المنزل في أعمال طويلة عريضة، تبدأ ولا تنتهي، فتأوي المرأة إلى منزلها وهى مرهقة منهكة، لا وقت لديها للقيام بحقوق الزوج، ولا للقيام بحقوق الأولاد، وقبل ذلك كله القيام بحقوق الله تعالى من طاعته وعبادته وذكره واستغفاره، وإنما تكون مجهدة منهكة، وربما تسبب هذا في مشاكل زوجية، وفي أضرار تربوية، وإنما الجور حينئذٍ من المجتمع الذي أصبح يعامل المرأة كما يعامل الرجل سواءً بسواءٍ. إننا ونحن نجد اليوم الكثير من بناتنا وفتياتنا قعيدات البيوت بعد التخرج بلا عمل، وبالمقابل نجد الأخريات يعملن دواماً كاملاً، فلماذا لا يفكر -مثلاً- في تقسيم العمل بين هؤلاء وهؤلاء، أو توزيعه بطريقة أخرى، تضمن أن يكون الجميع عنده قدر من المشاركة، وفي نفس الوقت قدر من الفراغ للقيام بحقوق الله تعالى، ثم القيام بحقوق الزوج والأولاد والمنزل وغير ذلك؟! ومثل ذلك الجور على المرأة في الأماكن التي تعمل بها أو تعين بها، سواء كانت موظفة أو معلمة أو غير ذلك، فإنها بحاجة إلى مراعاة كونها امرأة، لا تستقل بنفسها في ذهاب ولا إياب، ولا سفر ولا إقامة، ولا غير ذلك. ومثل ذلك الجور في أسلوب معاملتها من الزوج، الذي يريد أن يكون كل شيء منها كما يحب، وينسى وصية الرسول صلى الله عليه وسلم الواردة في الصحيحين: {استوصوا بالنساء خيراً، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها} إن كونك تنتظر من المرأة أن تلبي جميع مطالبك، وتكون لك دائماً وأبداً كما تريد وكما تحب إنه طلب المحال، والذي يطلب المحال لا شك يبوء بالفشل. ومثل ذلك المعاملة أيضاً من الإخوة أو الوالدين أو الأقارب، فلابد أن تكون المعاملة بالرفق: {رفقاً بالقوارير} . الجزء: 176 ¦ الصفحة: 35 حرمان المرأة من بعض حقوقها الشرعية سابعا ً: حرمان المرأة من بعض حقوقها الشرعية ومنها: حقها في الزواج كما أسلفنا. ثانياً: حقها في الميراث، وبعض البيئات تمنع المرأة من الإرث الذي شرعه الله تعالى لها في كتابه، تأسياً بحال أهل الجاهلية الذين كانت المرأة عندهم موروثة لا وارثة، فكان بعض الأقرباء إذا أعجبته زوجة الميت ألقى عليها ثوبه، ثم قال: هذه لي، فلا تكون لأحد غيره إلا أن تفتدي نفسها منه. ثالثاً: الخروج الشرعي المباح لحاجة أو مصلحة، كخروج المرأة مثلاً لزيارة والديها، فإنه حق مشروع لها أو خروجها لزيارة أهلها، وقد جاء هذا في حديث ضعيف ذكره بعض الشيوخ ولا يصح. ومثل ذلك خروجها للعلاج أو لطلب علم تحتاج إليه أو للدعوة إلى الله تعالى، والدعوة إلى الله تعالى أمر لابد منه في المجتمع، فلابد للناس من آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ومعلمين، ونحن نعلم أنه في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كان هناك من النساء من تعلم، بل كانت أمنا عائشة رضي الله عنها، كانت معلمة للرجال، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: [[ما أشكل علينا أمر؛ فسألنا عنه عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً]] وكانت تستدرك على الصحابة، وقد استدركت على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كثيرا ً، واستدركت على عبد الله بن عمر وعلى أبي هريرة وعلى ابن عباس وعلى ابن مسعود وغيرهم. وجمع استدراكاتها وملاحظاتها الإمام الزركشي في كتاب سماه الإجابة في إيراد ما استدركته عائشة رضي الله عنها على الصحابة ". وإن كنا نحن جميعاً نرى أن القرار في البيت ولزومه أحسن للمرأة وأفضل، وهو وصية الله تعالى لأفضل النساء وأطهر النساء، أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] لكن هذا الأمر وهذه الوصية لم تمنع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج للزيارة (زيارة الأهل) والخروج لقضاء الحاجة، والخروج للصلاة في المساجد أحياناً، وصلة الرحم، والخروج مع المسلمين في الغزو إلى غير ذلك. رابعاً: حرمان المرأة من رؤية أبنائها خاصة في حالات الطلاق، حيث يحال بينها وبين فلذات أكبادها. خامساً: حرمانها من النفقة الواجبة لها في أحوال كثيرة، سواء حين تكون بعصمة الزوج، أو تكون بغير عصمته. سادساً: منعها من الإنجاب أو منعها من كثرة الأولاد، مع أن الأولاد هم كما قال الله تعالى أنهم زينة الحياة الدنيا: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:46] وما هو تصورك لو كنت أنت عقيماً لا يولد لك؟! كم كنت تشتاق إلى ضم الأولاد وشمهم ورؤيتهم؟ وتفرح حتى بصياحهم وبكائهم. وإذا سمعت صراخاً في بيت الجيران غمك قلبك، وامتلأ صدرك بالحسرة فلماذا لا تعامل الناس بهذا المنطق الذي تريده لنفسك؟! لماذا تمنع زوجتك من الإنجاب؟! ما رأيك لو ماتت دون أن يكون لها ولد؟ ألا تشعر بالحزن والإثم أن تكون سبباً في انقطاعها من الذرية الذين يدعون لها في الدنيا وقد يكونون سبباً في رفعة درجاتها في الجنة؟ إنه لا يجوز للرجل أن يحول دون زوجته ودون الإنجاب. وبعضهم قد تكون زوجته معه ست سنوات أو سبع سنوات يمنعها من الإنجاب لماذا؟ لأنه لا مكان عنده للتربية ولا وقت مثلاً، أو لأنه يريد أن تكون خفيفة، أو لأنه لم يستقر معه قرارها، امرأة عندك منذ ست سنوات أو سبع أو ثمان وما استقر قرارها معك أو قرارك معها بعد؟! إن هذا أمر لا يجوز بحال. فعليك أن تتقي الله، والرسول صلى الله عليه وسلم أشهد في خطبة حجة الوداع على رءوس الأشهاد، وعلى رءوس الناس وقال: {اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء، اتقوا الله في النساء؛ فإنهن عوانٍ عندكم - أي: أسيرات في بيوتكم- استحللتم فروجهن بكلمة الله، وأخذتموهن بأمان الله} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ألا فاتقوا الله في النساء، فلا تخالف وصية الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت ترجو أن تحشر معه يوم القيامة، وأن تدخل الجنة، وأن تكون ممن أنعم الله عليهم وحشرهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، فلا تخلف وصية محمد صلى الله عليه وسلم في هؤلاء النساء الأسيرات عندك في منزلك. وبعضهم يريد أن تنجب بين الحين والآخر، ويجعل بين الولد والولد وقتاً طويلاً جداً، والمرأة تكون متعلقة بالأولاد. يا أخي سبحان الله! ما يدريك أن تكون سعادتك أنت في الدنيا والآخرة بسبب بركة هؤلاء الأولاد الذين أنجبتهم لك؟! لماذا تمنع نفسك من الخير، وتحول دون هذا الأمر الذي شرعه الله تعالى، وجعل فيه بركةً وخيراً وبراً؟! ومما يذكر أن رجلاً كان عنده أربعة أطفال، فقام بربط رحم زوجته لئلا تنجب، فكان أن حصل حادث مفاجئ ذهب فيه هؤلاء الأولاد الأربعة كلهم في لحظة واحدة، فاتقِ الله أخي الكريم! ولا تمنع زوجتك من الإنجاب ما دامت تريده، ولا تحل بينها وبين طفل تضعه في حجرها، وتضمه إلى صدرها، وتشمه فتفرح به، ويكون أنساً لها في حياتها، وسعادةً لها في قبرها وفي آخرتها بدعائه واستغفاره، وهناك شكاوي في الواقع كثيرة في هذا القبيل. ومن ذلك أيضا العقوق بالأمهات، فهو حرمان من الحقوق الشرعية، والنبي صلى الله عليه وسلم سأله سائل كما في الصحيح: {من أبر؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال في الرابعة: أبوك} وفي رواية: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل -وهو حديث في الصحيح أيضاً- عن أفضل الأعمال فقال: أيمان بالله، قيل: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله} فقدم صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله، والحديث الثالث: {أنه جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أجاهد معك، وتركت والديا يبكيان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما} وفي رواية: {أنه عليه الصلاة والسلام سأله فقال: أّحَيٌّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد} . وكان رجل يطوف بالبيت ويدعو الله تعالى على ولده ويقول: جزت رحم بيني وبين منازلٍ جزاءً كما يستنزل الدين طالبه وربيته حتى إذا ما تركته خا القوم واستغنى عن المسح شاربه تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه أئن رعشت يدا أبيك وأصبحت يداك يدي ليث فإنك ضاربه؟! إن من المآسي العظام أن أصبحنا نسمع اليوم قصصاً ترتعد لها الفرائص فزعاً ورعباً. من كان يتصور أن يعتدي رجل على أمه بالقتل؟ وأي قتل؟! إنه يقتلها بكل الوسائل، فيضربها بالسكين، فإذا عجز صب عليها الأسيد، فإذا عجز ضربها بالحجارة، فإذا عجز استخدم كل الوسائل؛ حتى يفلح أخيراً في قتل أمه بهذه الوسائل. سبحان الله! حتى والإنسان يقتل حيواناً أو إنسانا مستحقاً للقتل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث شداد بن أوس وهو في الصحيحين: {إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته، وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} . فيا سبحان الله! هذا الأمر الدوي الذي بدأ يتسرب إلى مجتمعاتنا، فضلاً عن العقوق، نساء كثيرات من العجائز، وكبيرات السن والأرامل، قاعدات في البيوت يلقين ألواناً من الضيم والذل والهوان، لا يعلم بها إلا الله عز وجل! يا أخي! هذه جنتك ونارك، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {الزمها الزم قدمها فثم الجنة} حديث صحيح، فماذا تريد أنت أكثر من أن يجعل الله السعادة في قلبك، ويجعلك مباركاً أينما كنت، ويوفقك في أمور دينك ودنياك، ويجعل الجنة لك بفضله سبحانه! ثم بفضل برِّك بأمك؟! البر بالأم سبب في السعادة، وسبب في قبول الدعاء، وسبب في سعة الرزق، وسبب في صلاح الأولاد إلى غير ذلك من النعم التي ينعم الله بها على البررة. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 36 الإعراض عن الفتيات الصالحات الأمر الرابع: هو الإعراض عن بعض الفتيات الصالحات من قبل الراغبين في الزواج، بحجج واهية أحياناً، وغير كافية أحياناً أخرى، فقد يتركها لأنها غير جميلة، وقد يكون في هذه المرأة من البركة والخير؛ ما يكون سبباً في سعادته في الدارين، أو لأنها غير متعلمة، وقد تكون قارئة كاتبة فاهمة واعية، عارفة بأمور دينها، أو لأنها تدرس في كلية لا تناسبه، فمن يكون لهؤلاء النساء إذا أعرض عنهن الجميع؟! أو لأن والدها يعمل في كذا، أو صفته كذا، مع أن هؤلاء جميعاً أهملوا الوصية النبوية الصحيحة التي يرويها لنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: {تنكح المرأة لأربع لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين ترتب يداك!} . الجزء: 176 ¦ الصفحة: 37 أخذ مهر البنت دون إذنها ثالثاً: أخذ مهر البنت دون إذنها، وهو حق لها لا شك، لا يؤخذ منه شيء إلا بإذنها، فالمهر للمرأة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {فلها المهر بما استحل من فرجها} والتراضي على أخذ شىء من المهر للأب أوللأم تطييباً للنفس لا بأس به، أما أن يعتقد الأب أن المهر تعويض له مقابل رعايته ونفقته فليس هذا بصحيح، وهذا هو الولد الذكر تربيه أنت، وتنفق عليه، ثم تدفع أنت طائعاً مختاراً مهره للتزويج أيضاً، والعوض لك ليس في هذه الدنيا، إن العوض لك على ما أنفقت على أولادك عند الله تعالى في الدار الآخرة، أما في الدنيا فستجد عوضاً من نوع آخر، إنه الدعاء الصالح لك من أولادك وبناتك، لقاء ما أحسنت لهم ورفقت وساعدت وفي صحيح مسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} . الجزء: 176 ¦ الصفحة: 38 تزويج البنت بغير إذنها ثانياً: ومن صور الظلم في موضوع الزواج تزويج البنت من دون إذنها، بل من دون علمها، والصواب من أقوال أهل العلم أنه لابد أن تستأذن المرأة في الزواج، بكراً كانت أو ثيباً، لكن البكر إذنها أن تسكت، فسكوتها موافقة، أما الثيب فلابد أن تنطق بذلك، ولو نطقت البكر لكان هذا أولى وأجدر وأبلغ في التعبير عن مرادها، وقد تجد بعض الآباء يزوج بنته رجلاً معه زوجة أو زوجات، أو يزوجها رجلاً مسناً، كل ذلك دون رضاها، وإلا فإنها قد تقبل برجل معه زوجة، وقد ترى فيه خيرا ً، وقد تقبل برجل يكبرها سناً، وترى فيه من الخير والصلاح والمميزات ما يعجبها به، وهذا شأنها، ولا نمانع أن يعمل الأب على عرض الأمر عليها، أو إقناعها به إن استطاع، لكن المشكلة أن يفعل ذلك دون رضاها؛ فإن هذا من أعظم أسباب الجريمة، وقد كتبت إليَّ إحداهن قبل أسبوع أنها همت بقتل هذا الرجل، ثم أن تقتل نفسها وتنتحر؛ لأن الدنيا كلها ضاقت عليها، لولا أن الله تعالى سَلَّم. فيا من تقدمون على هذا الأمر! إن هذا الأمر أمر عظيم وجرم كبير، أين قلوبكم على محارمكم وبناتكم؟! هل ترضى أنت أن تخالف بنتك زوجها لتعاكس في الهاتف، أو تتصل برجل غيره؟! لماذا تتبرع أنت بتحمل المسئولية عنها؟! تقول: لستم أحرص مني على بنتي، ونقول لك: نعم لسنا أحرص ولا أغير منك على ابنتك، ولكننا نتعجب أين ذهب عقلك؟! ونتساءل أين حنان الأبوة، حينما ألقيت بهذه البنت في هذا البيت الذي لا تجد فيه الرجل الذي تريده، ولا تحبه ولا تقبل به، ولا توافق عليه بدءاً ولا انتهاءً؟! الجزء: 176 ¦ الصفحة: 39 عضل البنات عن الزواج من المظالم في مسألة الزواج عضل البنات عن التزويج، ألم تسمع ببكر في الأربعين؟! لقد عرفنا بيوتاً تغلق على بنات جاوزن أربعين سنة دون زواج، إنها امرأة ركبت فيها الطبيعة والغريزة، وهى تتطلع إلى أطفال يملئون حياتها بالفرحة، ويكونون سبباً في ذكرها بعد موتها، تجتمع بهم يوم القيامة، ولكن الطمع في راتبها جعل والدها يمنعها عن الخُطَّاب، أو يمنع الخُطَّاب عنها، ويردهم دون أن تعلم هي بذلك، أو يدعي بعضهم عدم وجود الأكفاء، وما أدري أي أكفاء يريد! تزوجَتْ بنات الناس كلهَّن إلا أنت، فبناتك لم تجد لهن الأكفاء! إن هذا الأمر وهو ترك البنات دون تزويج، على رغم تفاقم الأمر وطول العمر، إنه خيانة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسبب لانتشار الفواحش والموبقات، وحري بمن يكون هذا شأنه وهذا عمله، أن يعجل له الله العقوبة في الدنيا مع ما يدخره له من العذاب يوم القيامة. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 40 أضواء تحذيرية أولا ً: أخوفك عواقب الظلم في الدنيا قبل الآخرة، فإن الظلم قسوة في قلبك، وضيق في رزقك، وحرمان من التوفيق، وفضيحة لك أو لولدك {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الروم:6] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] . ثانياً: وأحذرك -أيضاً- عواقب الظلم في الآخرة قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52] {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19،18] . ثالثاً: تذكر أنك تتعامل مع إنسان كرمه الله تعالى واختاره واصطفاه قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] إن بنات آدم وبنات حواء داخلات في هذا التكريم والتفضيل. ألا تعلم أخي أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض. ألا تعلم أن أخرى دخلت الجنة في كلب سقته فشكر الله لها وغفر لها فأدخلها الجنة: {إن في كل كبد رطبة أجرا ً} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه. فهلم أخي الحبيب! وسارع في اغتنام الأجور في بر والديك، والرفق بأهلك وزوجاتك، والإحسان إلى بناتك، والكرامة مع أخواتك، وبذل المعروف والندى لمن تعرف ومن لا تعرف. رابعاً: إن كنت تريد أن تحشر مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فعليك بعملهم من الإحسان إلى القريب والبعيد، والأمر لأهلك وأولادك وبناتك وأقاربك بالصلاة والزكاة والتقوى، قال الله عز وجل: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال الله عز وجل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] . الجزء: 176 ¦ الصفحة: 41 نصائح أخيرة للمرأة أولاً: عليكِ أيتها المسلمة أن تنصفي من نفسك، ولا تأخذك العزة بالإثم، فإن المرأة في كثير من الأحيان هي سبب مباشر أو غير مباشر لما يقع عليها، فعلى المرأة أن تنظر أين أخطأت، ومتى اعتدت، ومتى فرطت، ومتى قصرت؟ ثانياً: عليك أن تتقي الله تعالى وتخافينه، فإنه ما يصيب العبد من أمر إلا وسببه المعاصي والذنوب، قال العباس رضي الله عنه: [[إنه ما وقع بلاء إلا بذنب ولا ر فع إلا بتوبة]] فأسرعي بالتوبة إلى الله عز وجل، واتقي الله تعالى في أعمالك وفي أقوالك، عسى الله تعالى أن يسخر لك من حولك. ثالثاً: تذكري أن الدنيا لا تصفو لأحد. حكم المنية في البرية جار ما هذه الدنيا بدار قرار بينا يرى الإنسان فيها مُخْبِراً حتى يرى خبراً من الأخبار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفر من الأسفار والموت نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال ساري لابد في الحياة من منغصات، جعلها الله تعالى بهاراً في هذه الحياة الدنيا، ليقول لك: إن الدنيا ليست دار مقر، وإنما هي دار ممر، قال عيسى عليه السلام: [[الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها]] لقد جعل الله تعالى في الدنيا المنغصات من الآلام والنقائص والمصائب والنكبات، وآخرها الموت، لتنادي على أهلها بالفضيحة، وألا تتعلقوا بالدنيا ولا تركنوا إليها. وعليكم أن تستعدوا للدار الآخرة، فاستعيني على ما تلاقين من عناء الدنيا بالصبر والصلاة، قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وعليك أن تتقي الله تعالى وتصبري، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة المصابة عندما مَرَّ عليها وهى تبكي على قبر فقال لها: {اتقي الله واصبري} . رابعاً: أقبلي على تربية أولادك تربية سليمة، وادعي الله تعالى لهم بالهداية والصلاح، وابذلي وسعك معهم، فربما وجدت طعماً آخر للحياة في ظل أولادك، هذا إذا صلحوا واهتدوا، لئلا يكونوا شقاءً يضاف إلى ما تعانينه، عليك أن تبذلي وسعك في تربيتهم ورعايتهم، والدعاء لهم، والحرص عليهم في صغرهم قبل أن يكبروا. خامساً: أحسني إلى زوجك وإلى أبيك، إلى أخيك ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن هؤلاء هم سترك في الدنيا، وهم في الآخرة جنتك ونارك، واحذري من التفريط بشيء من ذلك. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 42 قصيدة من فتاةٍ مسلمة هنا قصيدة أرسلتها إحدى الأخوات، وهى مشاركة جميلة، تقول: منبر نعرفه ونحبه ولا شك، ولا نخال إلا أنه سيحتفي بقدومنا، ويدلل على احتفائه بقراءة ما بثته قلوبنا وذكرت قصيدة طويلة، ولضيق الوقت، أكتفي منها ببعض الأبيات تقول: نعم إنا بنيات هدينا ألا يا كل دنيانا اعرفينا نهجنا نهج سيرتهن طراً فكن النسل والخلف الأمينا وفي حضن الصفية قد نشأنا فكان لنا مهاداً يحتوينا وذاك الربع تملؤه علوم بأسماء ترن به رنينا وذاك الربع حفصة عطرته بآي فيه بشرى المتقينا بآي لانت الأحجار منها وكانت قبل تأبى أن تلينا نعم إنَّا بنيات هدينا نعم سنظل ذخر المسلمينا إذا نهبت حقوق الناس قمنا نرد الحق أو نلقى المنونا وإن هبت على الإسلام ريح تصدينا بأُسدٍ من بنينا (لا تظنوا أنها هي سوف تحارب لكن تحارب بأولادها) صنعناهم ونعم الصنع كانوا بناة لن تذل ولن تهونا زرعنا في قلوبهم افتخاراً بهذا الدين زلزل معتدينا نعم إنا بنيات هدينا ونحن إذن وقود الفاتحينا نعم إن كان في اليمنى مهادٌ يهز ففي الشمال العالمونا إلينا يا شموس الخلد هيا أطلي من علاك وصافحينا إلينا يا شموس الخلد طوفي بكل ربوع منبتنا احضنينا فكل ربوعنا شهدت تقانا وأشهدت الدنا والعالمينا وكل ربوعنا شهدت بأنا على علم وفضل قد بنينا فهذا الربع للالزهراء فيه مجالس قد عمرناها سنينا تحدثنا ونصدقها استماعاً حديثاً يمنح القلب المعينا حديثاً تشرق الأنوار منه ومنه الزهر يستجدي غصونا تعلمن الحجاب وكيف يؤتى حقيقته وكيف به حبينا وما فحواه من هدف عظيم وكيف يشيد للتقوى حصوناً وكيف يكون صنواً للعفاف وتشرح كل حكم الله فينا الجزء: 176 ¦ الصفحة: 43 الأسئلة الجزء: 176 ¦ الصفحة: 44 وقفة مع جريدة البلاد السؤال هذه أيضاً ورقة وصلتني من بعض الإخوة ونشرت في جريدة البلاد يوم الجمعة الماضي الملف عدد [1003] عنوانه (ممنوع من الزواج) وقد جاءني هذا المقال أول مرة فأعرضت عنه، ووجدت أنه جاءني أكثر من ثمان قصاصات مكررة لهذا، فحملت نفسي على قراءته لأجد ما فيه، فوجدت أن هذه الجريدة -سامحها الله- نشرت تقريراً عن تونس عن رجل يناهز الثمانين وقالت: إنه يتمتع بروح الشباب؟ - ومن ضمن الأسئلة الموجهة إليه أنهم سألوه لماذا كان قد حلق شعر وجهه وأطال شنبه؟ - فقال: إن هذه أصول الشغل لكسب السياح إلى هذه القرية. - ثم بعد ذلك سُئِلَ: إنك متزوج من امرأتين وهذا مخالف للقانون؟ - فقال يا ولدي، كنت أريد الزواج من أربع، ولو لم يمنعني الرئيس السابق لفعلت. - ثم سألوه: عن عدد المرات التي أحب فيها؟ قال: أكثر من عدد شعر رأسي. - ثم سألوه: هل كنت محبوباً مع من أحببت أو كما أحببت؟ قال: لقد كنت ألقب بزير النساء، ليس في تونس فحسب وإنما في منطقة المغرب العربي بأسره، وقد تحدث الركبان بأخباري وقصص مغامراتي النسائية، ولا سيما مع السائحات الأوربيات. - قالوا له: ما هي نصائحك للشباب حتى يفوز بقلوب الفاتنات؟ -أنا أقرا لكم الآن ليس من صحيفة غربية مترجمة، ولا من صحيفة أجنبية، إنما من صحيفة تصدر من بلاد الحرمين، من أرض الحجاز الطاهرة المقدسة، من جريدة البلاد - تسأل رجلاً تونسياً، نصائحك للشباب حتى يفوز بقلوب الفاتنات - - فيقول: أنصحهم قبل أي شيء بعدم إظهار الاهتمام الكبير بالفتاة التي تعجب أحدهم، وأن يتحلى بالصبر، وأن يظل متمسكاً بعاداته العربية، وبعد ذلك سيجد أن الفتاة التي أعجب بها هي التي ستلاحقه بدلاً أن يقوم هو بملاحقتها. فيقولون له: باعتبارك خبيراً بشئون النساء، أي النساء أكثر جمالاً؟ قال: الأوربيات يمتزن بجمال القوام، والعربيات بدفء العاطفة، والآسيويات بالطاعة، والإفريقيات السوداوات بسرعة الوقوع في الحب، ولكنني أنصح كل من يريد أن يتعرف إلى نساء جمال العالم أن يأتي إلى جزيرة جربة في الصيف، لأنه سيجد من الحوريات ما يسر النظر ويفرح القلب، وينشط الشعور، أو كلمة نحو هذا. إنه منكر عظيم وأمر خطير، والله لم أكن أتصور أن تقدم الجريدة على مثل هذا الكلام ونشره، وهي ما أقدمت إلا لأنكم غافلون، لا تتصلون بهذه الصحف، ولا تراسلونها، ولا تنكرون عليها، والمؤسف أيها الإخوة أننا نشتريها بأموالنا وتقرؤها ونقدمها لأولادنا وبناتنا وزوجاتنا، ثم لا يكلف الواحد منا عناء نفسه، أن يرفع الهاتف على أقل تقدير على الجريدة ليقول: هذا خطأ، أو يرسل فاكساً، أو رسالة بريدية، أو يتصل بأي أسلوب لينكر، ويقوم بهذا الواجب الذي لا يسعه التخلي عنه. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 45 حكم المشاركة في الجمعيات النسائية السؤال الجمعيات النسائية المنتشرة في جميع البلاد، هل تنصح بالمشاركة فيها أو العكس؟ الجواب أقول: إن كانت المشاركة في هذه الجمعيات، سوف تضمن للأخوات المشاركات الهيمنة على الجمعيات، والتحكم في أنشطتها ومنع المنكرات والمحرمات القائمة فيها، أو تقليل ذلك بشكل واضح فحسن، أما إن كانت المشاركة سوف تؤدي إلى تحسين صورة الجمعيات في نظر المجتمع، دون أن يتمكن الخيرون من الهيمنة على نشاطاتها فلا شك أنه ينبغي تجنبها. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 46 حكم من يقول: إنكم دائماً تتهمون المرأة السؤال يقول: ما رأيكم فيمن يقول " إنكم دائماً تتهمون المرأة " أليست هذه المقولة -إن قالتها فتاة ملتزمة- هي لوثة تغريبيه اعتدنا قراءتها في الصحف والمجلات؟ وهل الناصح الذي يدعو المرأة للخير يتهم في نيته عندما يذكرها بما عليها؟ الجواب هذا يعود إلى أسباب منها ما ذكرنا من أثر الإعلام، ولكن له سبب آخر وهو دور الوالدين والزوج والإخوة والأقارب، فمثلاً أنت حينما تجد شريطاً يناسب المرأة، ويخاطب المرأة، ويتكلم عن حقوق المرأة، تحجبه عن أختك وزوجك؛ لئلا تطلع على بعض حقوقها، فإذا وجدت شريطاً يبين ما عليها من الواجبات أوصلته إليها، وهكذا تصورت أن الأئمة والعلماء والخطباء والدعاة لا يتكلمون إلا عن الواجبات التي تجب عليها، ولا يذكرون الحقوق التي تجب لها. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 176 ¦ الصفحة: 47 المسلمون بين التشديد والتيسير من صفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم بُعث من أجل رفع الإصر والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، وما برح الشيطان يصرف البشر عن الحق فيحرم عليهم ما أحل الله لهم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 1 حقيقة الرسالة المحمدية الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 2 الحرص على الأمة ورحمته بها ثم وصفه الله تبارك وتعالى بقوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] أولاً: يشق عليه صلى الله عليه وسلم ويعنته ويحرجه كل أمر يشق على أمته ويحرجها ويعنتها. وهو حريص على أمته، وعلى جلب المصالح لها، وعلى دفع المفاسد والمساوئ عنها. (بالمؤمنين رؤوف رحيم) . أيها الإخوة نحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم من جميع الضالين والمبتدعين، الذين يزعمون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرجون به عن الحدود التي وصفه الله سبحانه وتعالى بها ليمنحوه شيئاً من خصائص الألوهية، فيدعون أنه يعلم شيئاً من الغيب، أو أنه يعلم الغيب كله، أو أنه يعلم المغيبات الخمس التي لا يعلمها إلا الله، أو يصرفون له شيئاً من ألوان العبادة التي لا يجوز صرفها إلا لله تبارك وتعالى. ولذلك فإنني أقول: إن من واجبنا نحن أهل السنة أن نكثر من الصلاة والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن نكثر من ذكره، وذكر فضائله ومحاسنه ومناقبه وصفاته صلى الله عليه وسلم، وأن نرقق بها قلوبنا، ونربي عليها أولادنا، ونخلص له الحب من أعماق قلوبنا. ومن واجبنا ألا يكون كلامنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومدحنا له وثناؤنا عليه رد فعل لما يدعيه الأقوام المبتدعون من أننا لا نحبه، كلا! يجب أن نقوم ابتداءً بواجب المحبة للرسول صلى الله عليه وسلم وواجب الثناء عليه، وواجب اتباعه وواجب الصلاة عليه، كما ذكر في الصلاة وغيرها، وهذا بعض حقه علينا صلى الله عليه وسلم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 3 صفة البشرية أيها الإخوة! الله تبارك وتعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً، إن هذه الآية تلخص لنا حقيقة الرسالة المحمدية التي امتن الله بها على البشرية كلها، فأقامها هدايةً للمهتدين وحجةً على المعاندين، إنها تلخص حقيقة هذه الرسالة، وتبين صفة هذا الرسول وأنه من أنفسنا، فهو من البشر، وليس ملكاً من الملائكة، ولا خلقاً آخر غير البشر، وذلك حتى يكون مجالاً للاهتداء بهديه والاستنان بسنته، ولئلا يقول منقول: إن هذا الرسول يستطيع ما لا يستطيعه البشر، أو يملك ما لا يملكه البشر، ولذلك وصفه الله سبحانه وتعالى بالبشرية، في غير ما آية من كتاب الله، وأمره أن يعلن على الملأ أنما هو بشر كسائر البشر، قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فهو من أنفسنا من هذا الاعتبار، وهو من أنفسنا -أيضاً- باعتباره من جنس العرب الذين بعث فيهم، ونزل القرآن بلغتهم، فالحجة عليهم أكبر من غيرهم من الشعوب والأجناس الأخرى. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 4 موقف الناس من دعوة الرسول أيها الإخوة إن الله تبارك وتعالى بيّن رحمة رسوله صلى الله عليه وسلم بأمته، بل وبالخلق أجمعين في هذه الآية وفي غيرها، ولقد وقف الناس إزاء دعوته التي جاءت رحمة للعالمين وإنقاذاً للبشرية، أحد موقفين: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 5 موقف الصدق والاتباع أما الفئة الثانية: فهي فئة المؤمنين بهذا الدين المتبعين المصدقين لمحمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء لهم من النور واليسر والخير والنعيم والنجاة في الدنيا والآخرة بقدر إخلاص والمتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وبقدر محبته، وهؤلاء -أيضاً- انقسموا إلى ثلاثة أصناف: الصنف الأول: من جهلوا أو تجاهلوا حقيقة هذه الآية: {رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] جهلوا معنى هذه الآية، وجهلوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالتيسير، فشددوا على أنفسهم، فشدد الله تبارك وتعالى عليهم، وأصابهم من الأسباب الشرعية والقدرية ما جعل كثيراً من أمورهم تصعب وتتعسر كما سنبين من خلال الحديث. الصنف الثاني: من فهموا هذه الآية، ولكنهم نسوا حقيقة التيسير في الإسلام، وأنَّ التيسير في الحقيقة ليس بما تهواه النفوس، وتميل إليه القلوب، وتطمح إليه الشهوات، إنما هو بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فالآية نصت على أن الرسول صلى الله عليه وسلم {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة:128] أي: يشق عليه ما يعنتكم ويحرجكم وهو لم يأتكم إلا باليسر، نسوا هذا الأمر، ونسوا أن معنى الآية أن كل أمر في الدين فهو يسر، فوسعوا على أنفسهم بما لم يوسع الله به عليهم، وهؤلاء -أيضاً- لم يخلصوا المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. الصنف الثالث: هم الأمة الوسط أهل السنة والجماعة الذين جردوا المتابعة له صلى الله عليه وسلم، وتخلصوا من شهوات نفوسهم ورق قلوبهم، وأرغموا أنفسهم على المتابعة التامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، وفيما يحبون وفيما يكرهون، وفيما تهوى أنفسهم وفيما لا تهوى، وهؤلاء حقاً هم أهل المتابعة، وهم الذين حققوا معنى شهادة أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا منهم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 6 موقف الرفض والإنكار الموقف الأول: موقف المتولين الرافضين لدعوته، المتنكرين لها، المعرضين عنها، وهؤلاء هم الكافرون به صلى الله عليه وسلم على اختلاف أجناسهم ومللهم ونحلهم، وهؤلاء لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، ولا أن ينيرها بهذا الوحي المنزل من عنده، وهؤلاء لا شك حرموا من خير كثير من يسر هذا الدين وسماحته، حرموا من ذلك في الدنيا، وحرموا من لذة الإيمان بالله ورسوله، ولذة المتابعة، ولذة الطاعة، وابتلوا بنكد العيش وضيق الدنيا وجور الأديان، كما أنهم حرموا نعيم الجنة ورضوان الله والنظر إليه يوم القيامة، حرماناً أبدياً، ولا مطمع لهم في إدراك شيء من ذلك البتة، ومثل هؤلاء نقول عنهم: إنهم لم يصبهم من يسر الإسلام وسماحته إلا القليل مما قد يكون أصابهم من أنواره، أما حقيقة الدين والسعادة به في الدنيا والنجاة به في الآخرة، فهم -والعياذ بالله- محرومون منها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 7 اختلاف أهل القبلة في فهم اليسر أيها الإخوة لقد علمتم من خلال هذا العرض السريع، لمواقف الناس وأصنافهم، ولاحظتم من خلال هذه الآية أن المسلمين من أهل القبلة يختلفون في فهمهم ليسر الإسلام وسماحته، فمن مسلم شدد على نفسه، فشدد الله عليه، إلى ميسر بغير بينة ولا برهان، إلى الأمة الوسط التي تعتبر التشديد والتيسير أمراً لا يخضع لأهواء البشر، وإنما يخضع للنصوص الشرعية التي جاءت من عند الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءنا بهذا الدين من عند الله الذي خلق البشر وعلم خصائصهم وصفاتهم وطبائعهم، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] بلى يعلم سبحانه، وقال: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان:6] لا تخفى عليه خافية. لقد خلق الله جنس الإنسان من لدن أبينا آدم عليه السلام وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بصفات هو بها أعلم، ووصف الإنسان في محكم تنزيله بالضعف والجهل والعجلة والظلم والنقص، وخلق الإنسان كما في الحديث الصحيح: {خلقاً لا يتمالك} خلق الإنسان محتاجاً للطعام ومحتاجاً للشراب ومحتاجاً للنوم ومحتاجاً للزوجة ومحتاجاً للأنس والترويح، ساعة بعد ساعة، ومحباً للمال والأهل والولد والمتاع، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [آل عمران:14] فالإنسان بطبعه بشر من البشر، فيه ضعف البشر، ونقصهم، وجهلهم، وحاجتهم، لا ينفك عن هذه الخصائص مهما ارتقى في مراقي العبودية والإخلاص لله تبارك وتعالى. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 8 من نتائج الرهبانية كان من أهم نتائج هذه الرهبانية أن تزلزلت دعائم الحياة المنزلية، وعمت القسوة على الأقارب، وكان الرهبان الذين تفيض قلوبهم حناناً ورقة ورحمة، وتفيض عيونهم من الدمع؛ تقسو قلوبهم وتحمد عيونهم أمام الآباء والأمهات والأولاد، فيخلفون الأمهات ثكالى، والأزواج أيامى، والأولاد يتامى عالة يتكففون الناس، ويتوجهون قاصدين الصحراء، همهم الوحيد -فيما يزعمون- أن ينقذوا أنفسهم، لا يبالون إن ماتوا أو عاشوا، وحكى بعضهم من ذلك حكايات تدمع العين وتحزن القلب. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 9 قصص مزرية عن الرهبان يقول أحد المؤرخين عن راهب من رهبان النصارى يقال له مكاريوس: إن هذا الراهب نام ستة أشهر في مستنقع، ليقرص جسمه العاري ذباب سام، وهو يعتبر أن هذا من التخلص من الدنيا ومن التقرب إلى الله عز وجل بتعذيب الجسم، وكان يحمل قدراً كبيراً من الحديد على رأسه باستمرار. وهناك راهب آخر أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح منه الماء يترهبن ويتعبد، وجلس أحد الرهبان سنين قائماً على رجله، لم ينم ولم يقعد طول هذه المدة، وإذا تعب أسند ظهره إلى الجدار، ثم واصل العبادة فيما يزعم ويظن، وكان كثير من هؤلاء القوم يتسترون بشعرهم الطويل الذين يرسلونه باستمرار، ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، ويسكنون في مغارات السباع والآبار والمقابر، ويأكلون الحشيش والكلأ، ويتأثمون من لمس الماء، ويعتبرون هذا منافياً لنقاء الروح، ويتأثمون من غسل الأعضاء، حتى قال أحدهم: إن الراهب فلاناً لم يغسل الرجلين طول عمره وقال آخر: إن فلان لم يمس وجه الماء ولا رجله مده خمسين عاماً، وبعدما ضعفت هذه الروح عندهم، قام أحد رهبانهم يتأسف على الأيام التي مضت، لهؤلاء الأقوام الذين فرضوا على أنفسهم نوعاً من الرهبانية لم يأذن به الله، ويقول: وآأسفاه! لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه، حراماً، فإذا بنا الآن ندخل في الحمامات! وينعى على نفسه هذه الحال إلى آخر ما يذكر المؤرخون عن حال هؤلاء الأقوام. إننا قد نستغرب هذه الصورة، وهي ليست إلا صورة واحدة من صور كثيرة عج بها تاريخ النصارى، والذين كان الرهبان عندهم يعدون بعشرات الآلاف، بل كان أحد الرهبان يحكم تحت يده أكثر من عشرة الآلاف راهب، وكانوا كهلم بهذه المثابة قد تركوا الدنيا، وتركوا الزواج، والأموال والأولاد والمتاع وكل شيء، وتخلصوا لما يزعمون، أو يرون أنه عبادة، وهذه صورة ناطقة تمثل جزءاً من قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:1-7] كما قال ذلك بعض السلف. ويقول أحد المؤرخين أيضاً: إن هؤلاء الرهبان الذين كان الواحد منهم مثالاً في رقة القلب والزهد في الدنيا قد عدوا عدُّ الفضائل عيوباً ورذائل، وزهد الناس في البشاشة وخفة الروح والصراحة والسماحة والشجاعة والجرأة وهجروها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 10 الرهبانية المبتدعة ولقد نعى الإسلام على الذين يميلون إلى التزهد والتبتل، ورفض الحياة الدنيا، ويلزمون أنفسهم بما لم يلزمهم الله به، فقال الله عز وجل: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27] ولقد رد الرسول صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، يقول بعض الصحابة: ولو أذن له لاختصينا. لقد قاوم الإسلام هذا المنزلق الخطير من المزالق التي تردى فيها عباد اليهود والنصارى، حتى وصل بهم الحال إلى صور فظيعة من صور التزهد والترهب، يذكر بعض المؤرخين منها ما تقشعر منه الأبدان. اسمعوا إلى أين وصل أولئك القوم الذين لم يرضوا بحكم الله، ولا بحكم رسوله، ولا بشرعه، فبلغ بهم الغلو في الدين إلى حد أن انقطعوا في الأديرة والصوامع، ووصلوا إلى الحال التي يقول عنها بعض المؤرخين ما يلي: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 11 نزول الدين موافقاً لخصائص البشر وإذا كان الذي خلق الإنسان بهذه الخصائص هو الله عز وجل، وهو الذي أنزل الدين، وهو الذي أنزل الإسلام وغيره من الأديان السابقة، فمما لا شك فيه أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين موافقاً لخصائص البشر التي جبلهم عليها، وملبياً لحاجتهم، موافقاً فيما جبلوا عليه من نقص، أو كمال وأباح الله عز وجل للناس زينتهم التي أخرجها لعباده {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] . ونزل الدين ملبياً للرغبات البشرية بالطريقة المشروعة، شريطة أن يقف الناس عند الحلال ولا يتجاوزوه إلى الحرام، وقد وصف الله المؤمنين المستحقين للفردوس والخلود فيها بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون:5] لم تقف الآية عند هذا الحد بل استثنى الذي خلق الإنسان وهو اللطيف الخبير- لما يعلم من طبيعة الإنسان وجبلته فقال: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] ثم قال (وانظر إلى هذا التعقيب) : {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:6] أي: لا يلامون في هذا؛ لأنها جبلة خلقها الله عز وجل فيهم لحكمة، وأنزل الأديان لتنظيم هذه الغريزة وأن تأخذ طريقها المشروع، فلا تنحرف إلى الحرام، ولم ينزل الدين ليكبس هذه الغريزة ويمنعها، بل لينظمها بالطريق المشروع، وهو الزواج أو ما ملكت اليمين من الإماء. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 12 موقف الإسلام من الرهبانية إن هذه الصورة وإن كانت صورة غريبة إلا أنها تتكرر، لا أقول عند النصارى، بل تتكرر عند كثير من جهلة المسلمين، الذين تأثروا بكثير من الأسباب والمؤثرات، فسلكوا من حيث لا يشعرون هذا الطريق. وقبل أن أدخل في ذكر صور التشدد وأسبابه ونماذج من هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم تنير لنا الطريق، وتبين لنا كيف كان هدي هذا الرسول الحريص علينا، الذي بعث رحمة لنا، قبل أن أدخل في هذا أو هذا أحب أن أبين أن موقف الإسلام كان صريحاً في رفض جميع ألوان الرهبانية أو المسالك التي تشتط بالإنسان، وتخالف جبلته البشرية، ولا تراعي فطرته. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 13 لماذا نتكلم عن التشدد؟ لو نظرنا -أيها الإخوة- إلى واقعنا الذي نعيش فيه اليوم، سواء إلى واقعنا القريب، أو إلى واقع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها حيثما وجد المسلمون، لو نظرنا إلى التشدد عند المسلمين، لوجدنا صوراً كثيرة، وكأني ببعض الناس قد يقول: لماذا تتحدث عن التشدد؟ أليس كثير من المسلمين مقصرين في أمور الدين ومفرطين في الواجبات، ومتهاونين في الفرائض، بل وتاركين لكثير منها؟! أفليس الأجدر بك أن تتحدث عن التساهل والتفريط؟! كأني بإنسان يقول هذا، وأقول: إن هذا الكلام فيه حق وباطل، أما الحق فنعم يجب أن نتكلم عن التفريط في الدين، ونحذر الناس من مغبة ذلك، ونبين لهم حدود الله عز وجل، ونحرضهم على الوقوف عندها: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [الطلاق:1] يجب على طلاب العلم والمصلحين أن يحرصوا على تعليم الناس دينهم، ونهيهم عن التفريط فيه، فهذا حق، وأيضاً المتهاون في الدين والمتشدد فيه، كلاهما على طرفي نقيض، وكلاهما مذموم، وقد قيل: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقول الله أبلغ: {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] وقول رسوله صلى الله عليه وسلم: {بمثل هذا فارموا، وإياكم والغلو} وقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما أهلك من كان قبلكم الغلو} . إذاً يجب أن نتكلم عن التشدد في الدين، وأنه خلاف التيسير الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، كما نتحدث عن التساهل، والتفريط في الدين، وهذا وذاك وجهان لعملة واحدة. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 14 من شدد شدد الله عليه هذه إلى كلمات جميلة، قالها إمام من أئمة المسلمين، وعالم من كبار علمائهم وجهابذتهم هو شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: إن النفوس لا تترك شيئاً إلا بشيء، وإن النفوس خلقت لتعمل لا لتترك، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} . لماذا كان أصدق الأسماء حارث وهمام؟ لأن حارثاً مأخوذ من الحرث، وهماماً مأخوذ من الهم وما من إنسان مخلوق على هذا الأرض إلا وهو حارث وهمام؛ لأنه يهم ويعمل، فالإنسان خلق ليعمل لا ليترك ولا يترك شيئاً إلا بشيء. ويقول رحمه الله كلمة مكملة للكلمة الأولى: إن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قد بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، ولم بتبديل الفطرة وتغييرها، فالفطرة التي جبل الله الناس عليها نزلت الأديان موافقة لها منسجمة معها، ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو هريرة واتفق على إخراجه البخاري ومسلم: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، حتى يبين عنه لسانه -والمقصود بالفطرة الملة- فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يشركانه، كما تنتج البهيمة بهيمةً جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء} أي: أن الأصل عند البهيمة أن تولد مكتملة الأعضاء، حتى يأتي أهلها، فيقطعون أذنها أو يشقونها، أو يفعلون ما كانوا يفعلون في الأزمان الغابرة. ويقول رحمه الله في كلمة له: إن التشديد على النفس ابتداءً يكون سبباً لتشديد آخر يفعله الله، أي أن الإنسان إذا بدأ يشدد على نفسه تشديداً لم يأتِ به الإسلام والشرع، فإن الله عز وجل يقيض له تشديداً حقيقياً، فيكون تشديده على نفسه في البداية سبباً لتشديد آخر يفعله الله به، إما في الشرع وإما في القدر. قال: فأما بالشرع فمثل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخافه في زمانه من زيادة إيجاب أو تحريم، كنحو ما خافه لما اجتمعوا في صلاة التراويح معه، ولما كانوا يسألون عن أشياء لم تحرم، ومثل أن من نذر شيئاً من الطاعات وجب عليه فعله، وهو منهي عن نفس عقد النذر، وكذلك الكفارات الموجبة بأسبابها. أي أن الناس الذين كانوا يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته وفي وقت التشريع عن أمور فيها تشديد قد يبتلون نتيجة لذلك بأن تفرض عليهم هذه الأشياء، كما علل الرسول صلى الله عليه وسلم عدم استمراره على صلاة التراويح جماعة في رمضان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح {إن من أعظم الناس جرماً من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته} وكذلك من نذر شيئاً قد يكون صعباً وشديداً، هذا الشيء ليس موجباً عليه في الأصل، فمن نذر إن شفا الله مريضه أن يصوم شهراً على سبيل المثال، فصوم هذا الشهر هو ليس موجباً عليه في أصل الشرع، والعليم الخبير بالنفوس لم يوجب على الناس إلا صيام شهر واحد في السنة، لكن من شدد على نفسه بالنذر، شدد الله عليه فصار واجباً عليه أن يفي بنذره، مع أن النذر ليس مشروعاً في الأصل، بل هو مكروه، بل قال شيخ الإسلام: إنه محرم. وكذلك الكفارات الموجبة لأسباب يفعلها الإنسان ابتداءً، فهذا تشديد من الله في الشرع على من شدد على نفسه ابتداءً. أما تشديده سبحانه وتعالى على من شدد على نفسه ابتداء أيضاً، فكثيراً ما قد رأينا وسمعنا من كان يتنطع في أشياء فيبتلى بأسباب تشدد الأمور عليه في الإيجاب والتحريم، مثل كثير من الموسوسين في الطهارات، إذا زادوا على المشروع ابتلوا بأسباب توجب عليهم أشياءً فيها عظيم مشقة ومضرة، فالله عز وجل أوجب علينا في الوضوء غسل هذه الأعضاء مرة، وما زاد إلى ثانية أو ثالثة فهو تطوع، خلا الرأس فإنه لا يمسح إلا مرة واحدة، ولكن من شدد على نفسه في أمور الطهارة، وبالغ في التطهر حتى غلا وبلغ الحد المشروع، قدر الله عليه أسباباً حقيقية تجعله يزداد في غلوه وتشدده وتنطعه، وهكذا من شدد شدد الله عليه، وفي الحديث {شددوا فُشدِّد عليهم} كما في سنن أبي داود. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 15 أقسام التشدد إن هناك صوراً كثيرة من التشدد، ولا يتسع المجال أن أعرض لكم صوراً تفصيلية، فأكثركم أو كلكم يسمع أشياء كثيرة من هذا القبيل، ولكني أعرضها بصورة مجملة، وأقسمها إلى ثلاثة أقسام: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 16 التشدد في المعاملات الصورة الثالثة من صور التشدد في الدين: التشدد في المعاملة، وكأني بكم تسألون: كيف يكون التشدد في المعاملات؟ يتشددون في معاملة الناس فيحرمون ما أحل الله، ثم يريدون من الناس أن يوافقوهم على تحريم هذا الحلال، ومن لم يوافقهم هجروه وشنعوا عليه، وأنكروا عليه، واعتبروه منحرفاً. لقد سمعت من يقول: إن النظر إلى وجه العاصي حرام، انظروا -أيها الإخوة- إلى من شددوا في الدين بأمر لم يأذن به الله، هل قال لنا ربنا ذلك؟ أم قال لنا الصادق المصدوق ذلك؟ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام:148] إنه والله مما يدمي القلب، ويجرح الفؤاد، ويحزن النفس أن يوجد من الغيورين على الدين، الذين دفعتهم الغيرة إلى أن يتعدوا حدود الله، ثم لا يسمعون لقائل مقالاً، ولا يستطيعون أن يسمعوا الحق أو أن يقبلوه، لما وقر في نفوسهم وتشبعت به قلوبهم من أن ما هم عليه هو الحق، وصدق الله العظيم: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] . يقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن هذه صور من صور التشدد في العقائد أو العبادات أو المعاملات، ولو ذهبت أسترسل في الأمثلة والنماذج والصور لطال المقام، ولم نصل إلى ما نريد، ولكن حسبي أن أعطي مثالاً لكل نوع من هذه الأنواع، بإمكان الإنسان أن يقيس عليه مئات الصور التي يراها أو يسمع بها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 17 التشدد في العبادات أما القسم الثاني: فهو في العبادات، وبالذات في الطهارة والصلاة، ثم في غيرها من سائر أمور الدين كالزكاة والصيام والحج وغير ذلك. وهناك أناس كثيرون يوسوسون ويتشككون، فيقول قائلهم: لا أدري توضأت أم لم أتوضأ، وبعد أن ينتهي من الوضوء يبدأ عنده الشك هل غسلت وجهي أم لا، هل غسلت يدي أم لا، ثم إذا توضأ وتوضأ، وزال الشك بكل صعوبة جاء يصلي، فإن كان مع الإمام بدأ يجهر بصوته في قراءة الفاتحة، ويشوش على جيرانه، وإن كان منفرداً فالخطب أعظم وأطم، فتجده يجهر ويكرر الآية مراراً، فإذا أنهى الفاتحة كررها كلها، وإذا ركع مثل ذلك، وإذا سجد مثل ذلك، ثم قد يزيد الرباعية فيجعلها خمساً؛ لأنه شك هل ركع الركعة الأولى أم لا، ثم يسجد للسهو حتى يصل به الحال إلى صورة يكره معها العبادة؛ لأنه يتكلف ويجور على نفسه بالوضوء وبالصلاة، ولقد علمت من إنسان أن الأمر وصل به إلى ترك الصلاة لأنه صار يجهد حتى هم بترك أمور المعاش أو الدراسة، أو طلب العلم، أو طلب الدنيا المباحة، كل ذلك لأنه لم يعد له هم إلا أن يتوضأ، ثم يصلي، ثم يعيد الصلوات التي شك فيها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 18 التشدد في العقائد القسم الأول: التشدد في العقائد، وذلك كمن يبالغ بالتنقير والتنقيب عن قلوب الناس، ويتشدد في الألفاظ والعبارات، ويتعمق في بحث مسائل مسكوت عنها، لا طائل من البحث تحتها، ولقد كان سلف هذه الأمة، وخاصة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم من خبرهم وعايشهم، قال: فلقد رأيتهم أقل الناس تكلفاً، وأبعدهم عن التشدد، وأقربهم إلى التيسير، كانوا يقرءون القرآن، ويقرءون الحديث، فيؤمنون بذلك على ظاهره إيماناً حقيقياً، كما يليق بجلال الله وعظمته، دون أن يدخلوا أنفسهم في المتاهات التي أدخل علماء الكلام أنفسهم فيها، فضلوا وأضلوا، ورجعوا من حيرتهم بخفي حنين، حتى قال قائلهم بعد أن أمضى عمره في البحث عن تلك المسائل التي لا فائدة منها يقول: نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من كدنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال وهذه خبرة رجل قضى عمره في هذا العلم، وهذه نتيجته، وهذه غايته. وهذا الرازي يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية، والمسالك الفلسفية، فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، فوجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في النفي قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] واقرأ في الإثبات قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] . إذاً: الطريقة الوسط الميسرة في العقائد هي طريقة القرآن والسنة، لا تتكلف ما ليس لك به علم، ولا تتعمق في البحث عن مسائل لم يأتِ بها نص عن الله ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وآمن بالله وبما جاء عن الله وبالرسول صلى الله عليه وسلم وبما جاء عنه على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا تأويل ولا تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل. وكثيراً ما تجد بعض المبتدئين في العلم، بل بعض العوام الذين يجالسون بعض العلماء، يدخلون أنفسهم في أمور العقائد، وينفون ويثبتون، ويتكلمون في قضايا لم يتكلم فيها السلف، كما تجد كثيراً من الناس يبالغ في السؤال عن الناس، هذا عقيدته صحيحة، وهذا لا أصلي خلفه حتى أسأل عن عقيدته، وهذا لا بد أن أختبره. وقد أنكر السلف على من هذا مسلكه، وقالوا: الأصل في المسلم الستر والصيانة، فإن ظهر لك منه ما يدل على انحرافه، أو ضلاله فهذا أمر آخر، أما أن أُنقب عن الناس وعما في قلوبهم وأختبرهم، وإلا أتبرأ منهم، بل قال بعضهم، الأصل في هؤلاء عدم البراءة حتى تثبت براءتهم، وهذا مسلك خطير، ومخالف لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. {كان يأتيه الأعرابي فيقول: يا رسول الله، رأيت هلال رمضان، أو هلال شوال، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ فيقول: نعم، فيقبل شهادته} وهكذا مسلك التيسير والتسهيل، وتجد أصحاب هذا المسلك ممن خففوا فخفف الله عنهم ووافقوا السنة، وعاشوا بارتياح، وهكذا كل من اتبع السنة تجده مرتاحاً في حياته الدنيا قبل الآخرة. أما أصحاب المسلك الآخر المتشددين، فتجدهم دائماً في تعب وجهد وفي شك وتردد. يقول أحدهم: صلاة صليتها خلف فلان أريد أن أعيدها فلان، لا أصلي خلفه؛ لأني لا أدري عنه شيئاً! شددوا فشدد الله عليهم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 19 أسباب التشدد في الدين وهنا أحب أن أقف، وأسأل نفسي وأسألكم سؤالاً: يا ترى ما هي الأسباب والدوافع التي جعلت هؤلاء القوم يقعون فيما وقعوا فيه؟! إذا كنا نعلم أن التشدد ليس ناتجاً من التقصير في الدين، فنحن جميعاً نعلم سبب ترك الصلاة، أو سبب التقصير في العبادات، إن سببه هو التهاون في حدود الله، وضعف الإيمان، وقلة الدين والورع، لكن قد يخفى على الكثيرين أسباب التشدد في الدين، مع أن الإسلام هو دين اليسر والسماحة. إنَّ هناك أسباباً كثيرة لا أستطيع أن أنفرد بها لكنني رصدت أربعة أسباب، أرى أنها أسباب رئيسة في هذا الموضوع: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 20 الطبيعة المتشددة أما الأمر الآخر من أسباب هذه الظاهرة فهو: الطبيعة المتشددة عند بعض الناس، فالله عز وجل خلق الناس متفاوتين في كل شيء، ثم كل إنسان يولد ويعيش ويتربى في بيئة، تؤثر عليه تأثيراً كبيراً سلباً أو إيجاباً، ومن الناس من هو لين الجانب، واسع الصدر، هادئ الطبع، وبشوش، وبسام، مقبل على الناس، محبوب لديهم، محسن إليهم. ومن الناس من هو غليظ، جلف جافٍ، لا تراه إلا مكفهراً، مقطب الجبين، منقبضاً، معرضاً عن الناس. ومنهم من هو بين ذلك، وهذه الطبائع من غير الممكن أن يتجرد عنها الإنسان، فإذا غفل المرء عن هذه الطبيعة الخاصة به، وصار يتكلم باسم الدين والفتيا، ويلتمس دون أن يشعر من الأدلة والأحكام، والفتاوى ما يناسب هذه الأدلة، ويتمسك به ويبتعد عن غيره ويتركه، فحينئذ يكون في ذلك الخطر الشديد. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 21 ضيق عقول كثير من الناس السبب الثالث: هو ضيق عقول ومدارك كثير من الناس، وتشبعهم بطريقة من الطرق، مما يحول بينهم وبين سماع الحق، ويجعلهم كما وصف الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:32] . إنَّ صاحب الحق لا يخاف على الحق الذي معه، فالذي يخاف هو صاحب الباطل، الذي يخشى أن ينكشف باطلة وينفضح، أما صاحب الحق فيقول: الحق يملء فيه، ومستعد أن يقف أمام أي إنسان، ويأخذ معه ويعطي، ويرد عليه بالبينات والحجج. ولذلك فإن ما يفعله كثير من الناس من الانطواء على أنفسهم، ونظرتهم إلى الآخرين على أنهم لا شيء عندهم، وأن الخير محصور فيهم هم فحسب، إنه خطر عظيم، وقد يودي بالإنسان والعياذ بالله إلى شيء من العجب والغرور، وهذا لا شك محبط للإعمال. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 22 الرد المعاكس للفساد أما السبب الرابع: فهو ردة فعل هؤلاء القوم ضد الفساد المنتشر، فإن العلماء يقولون: كل فعل له ردة فعل، فانتشار الفساد وكثرة الجرائم، وانفتاح الناس على الدنيا واستغراقهم فيها جعل هناك من يقف في الطرف الآخر ليتجرد من الدنيا ويبالغ في ذلك حتى تعدى الحدود المشروعة. ولو نظرنا إلى نشأة الصوفية في الأسلام، لوجدناها كانت نتيجة انفتاح المسلمين على الدنيا، ولو نظرنا إلى نشأه الخوارج، لوجدناها أنها نشأت في ظروف مشابهة، وهكذا تفرق المسلمون شيعاً وأحزاباً، واختلفوا في التيسير والتشديد، وليس يشفع للمشدد أنه إنما شدد غضباً لحرمات الله. كما أنه لم يشفع للخوارج أنهم تشددوا حمية للدين، فلقد قال الصادق المصدوق -في أحاديث صحاح متواترة عن الخوارج: {أنهم شر الخلق والخليقة، يمرقون من الدين كما يمرق السهم عن الرمية، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد} ووصفهم بقوله: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، ومع ذلك يقرءون القرآن رطباً لا يجاوز حناجرهم} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم ما لهم عند الله من الأجر لنكلوا عن العمل} وسماهم كلاب النار، كل ذلك وهم يقولون: إن العاصي كافر، لو سألناكم وسألنا غيركم، ما هو الذي جعل الخوارج يحكمون على العصاة بأنهم كفار؟ هل هو التساهل في الدين؟ هل هو انتهاك لحرمات الله التشدد في الدين وتعظيم حرمات الله؟ لا، إنما هو بصورة تعدت ما شرع الله؛ حتى صاروا يبحثون عن النصوص التي توافق أهواءهم، ويعملون بها، ويأتون إلى النصوص التي لا توافقهم فيدفعونها عنهم بالأيدي، ويدعونها، ويتخلصون منها بالتأويل أو التضعيف أو غير ذلك. فلينظر كل امرئ لنفسه أنه لا يشفع له أن يكون غيوراً، إنما يشفع له أن يكون وقافاً عند حدود الله، وإن اتباع الهوى كما يكون في التساهل، يكون في التشدد، فأهواء الناس تختلف. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 23 الجهل في الدين أما السبب الأول: فهو الجهل بالدين، إذ لا يكفي للإنسان حتى يكون مستقيماً على منهج الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون متحمساً للدين راغباً فيه مقبلاً عليه، ولله در الإمام الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقد قيل له: [[يا أبا عبد الرحمن، هاهنا قوم في المسجد يفعلون فعلاً غريباً، قد جمعوا الحصى، وحولهم شيخ لهم يقول: سبحوا ثلاثاً وثلاثين فيعدون ثلاثاً وثلاثين حصاة يسبحون كبروا ثلاثاً وثلاثين، هللوا ثلاثاً وثلاثين وهكذا، فقال قائل: هؤلاء على خير وعلى حق؛ لأنهم يسبحون الله، ويحمدون الله، ويكبرون الله، ويهللون، ففعلهم من جهة متلبس بالخير والعبادة، ولكن -من جهة أخرى- هذا العمل رفضته نفوس الصحابة الذين لم يألفوا البدعة، فجاء آتيتهم إلى ابن مسعود وهو عالم ووعاء من أوعية العلم والسنة، وقال: يا أبا عبد الرحمن والله لقد رأيت في المسجد شيئاً وما رأيت إلا الخير فأخبره بما رأى، فجاء إليهم عبد الله بن مسعود، وقال لهم: والله إنكم إما قد سبقتم أصحاب محمد علماً، أو أنكم على ضلالة أنتم أحد أمرين: إما أن عندكم علماً خفي على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا بطبيعة الحال المقصود به التعجيز؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يقول: إنه أعلم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين تلقوا العلم غضاً طرياً من فيه إلى آذانهم صلى الله عليه وسلم، ورضي عنهم وأرضاهم -لقد فقتم أصحاب محمد علماً أو أنكم على ضلالة، فقالوا: والله يا أبا عبد الرحمن ما قصدنا إلا الخير- تعذروا أن دافعهم إلى هذا العمل هو حب الخير، فهل شفع لهم هذا الأمر عند ابن مسعود؟ لا، قال لهم هذا الإمام كلمة يجب أن نحفظها وأن نرددها: وكم من مريدٍ للخير لم يبلغه]] . إن الذي يريد الخير ويريد الطريق المستقيم، يجب أن يعلم أنه ليس هناك طريق مستقيم إلا واحدٌ فقط، هو الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وأن جميع الطرق والأبواب غيره هي أبواب تأخذ لسالكها ذات اليمين، وذات الشمال عن الطريق المستقيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] . إذاً السبب الأول هو الجهل بالدين، إذ أن العالم يعلم أنَّ النص الوارد عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المقياس في الحلال والحرام، ولذلك لما أمرنا الله عز وجل بالجهاد، قال لنا: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] هذه قاعدة مهمة: كل أمر جاء به الدين فهو يسر وسهولة، لا حرج فيه مهما ظن الظانون أنه حرج، وعكس ذلك: كل أمر لم يأت به الدين ولم يأت به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهو أمر عفو ومباح في الأصل، مهما ظن الظانون أن الدين غيره، وأن في إتيانه حرجاً. إذاً الحرج في مخالفة النص، واليسر في اتباع النص، فما جاء به الله ورسوله، فهو اليسر الذي لا يسر في غيره، وما نهى الله عنه، فإتيانه هو الحرج الذي فيه الحرج كل الحرج، وهذه قاعدة مهمة، تشتط أهواؤنا أو عواطفنا ومألوفاتنا، فما ألفنا فهو من الدين، وما جاء غريباً علينا استنكرناه، ثم نفيناه عن الدين، والمثل القديم يقول: "الناس أعداء ما جهلوا" فليس كل ما جهله الناس حراماً، ولا كل ما عرفه الناس وأقروه مباحاً، بل الحرام ما حرمه الله أو رسوله بالنص الصحيح، والحلال ما أباحه الله ورسوله بالنص الصحيح الصريح، أو سكت عنه، وما سكت عنه فهو عفو، وهناك قواعد كثيرة تضبط هذا الأمر، ليس هذا مجال سردها. أيها الإخوة: إن المسلم الذي جرد الاتباع لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يتردد في الانقياد والتسليم لكل أمر ورد من الله ورسوله، ولكن لا يحرم من تلقاء نفسه، ولا يعمل شيئاً على سبيل العبادة لله سبحانه وتعالى إلا بتوقيف، وليعلم الجميع أن محرم الحلال كمحلل الحرام سواءً بسواء، فإنك لو عبدت الله بعبادة لم يشرعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخرج من هذه العبادة سالماً، فضلاً عن أن تتقرب إلى الله بها، بل إن هذه العبادة وبالٌ عليك، أنت تتعب فيها، وتجهد فيها، وتضني نفسك، وتسهر ليلك، أو تتعب نهارك في عبادة لم يشرعها الله، ومع هذا كله تأثم بهذا العمل، كما أن الإنسان الذي يقول: إن الخبز أو التمر حرام، هو بالضبط مثل الإنسان الذي يقول: إن الخمر حلال، فكلاهما سواء. لا يكن هوانا أيها الإخوة مع من يميل إلى التحريم، فإذا كان الإنسان يقول: هذا الشيء حرام، ملنا معه لأنه يعظم حرمات الله، ويمنع الناس من أمور ما جاء بها الدين، كلا! يجب أن نعلم أنه من قال عن شيء مباح: إنه حرام، فهو كمن قال عن شيء محرم: إنه حلال، وهما بمنزلة واحدة. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 24 من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم والحقيقة أنني كنت أحضرت قدراً ممتعاً شيقاً من أخبار نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومواقفه المختلفة سواء في بيته، أو مع زوجاته، أو مع أصحابه، أو مع العصاة والمذنبين، أو مع الكفار، ومع سائر الناس، وفي جميع المواقف، وكنت أتمنى أن يكون الوقت أطول، حتى نمتع أنفسنا بسماع طرف من أخباره عليه الصلاة والسلام؛ لنعرف المعنى الحقيقي ليسر الدين وسماحته. وباختصار أقول: لو رأينا هذه القصص والأخبار، ثم قسنا عليها واقع كثير من المنسوبين إلى العلم لاستغرابنا. إن كثيراً من الناس يوقرون أنفسهم عن أشياء، ويرفعون أنفسهم عن أشياء كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلها بكل بساطة وتواضع، كان الكافر يأتي ويدخل المسجد، فيمر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخاطبه ويكلمه، ويقول له: ماذا تريد؟ وهذا في الصحيحين. وكان الرجل الأعرابي يأتي في الخطبة، فيقول: يا رسول الله! جاهل يسأل عن أمر دينه، فلا ينهره رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ينزل عن منبره كما في الصحيح، فيوضع له كرسي قوائمه من حديد، فيجلس، فيعلمه دينه، ثم ينصرف إلى خطبته. وكان الرجل يأتي مكتئباً إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قد فعل موبقة من الموبقات، إما جامع أهله في نهار رمضان، أو زنى والعياذ بالله أو فعل شيئاً من ذلك، فيقابله الرسول صلى الله عليه وسلم برحابة صدر وهدوء بال، وإذا أقام عليه الحد لم يسمح أن يساء إليه، ولا أن يشتم، بل قال: لا تفعلوا، لا تسبوه إنه يحب الله ورسوله، وهذا في الصحيحين تطلب منه عائشة رضي الله عنها أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، فيضع كتفه لها، وتضع هي خدها على خده تنظر حتى ملّت، فيلتفت إليها، ويقول: حسبك يكفيك، فتقول: نعم، فينصرف لا ينصرف حتى تنصرف هي، وأخبار من ذلك كثيرة معلومة، لو اتسع الوقت لسردنا شيئاً منها طيباً ممتعاً انتقيته مما في صحيحي البخاري ومسلم رحمهما الله. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 25 أسباب الكلام عن يسر الإسلام وسماحته الحمد لله وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ الذي بعثه الله بهذا الدين وجعله خاتماً للرسل، وجعل دينه خاتماً للأديان كلها، فقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ولا يهودي ولا نصراني، ثم لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار} . ونحمد الله أن جعلنا من أتباع هذا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وجعلنا من المؤمنين بهذا الدين، ونسأله أن يثبتنا عليه حتى الممات، وأن يبعثنا عليه، وأن يحشرنا في زمرة أوليائه وحزبه المفلحين. أيها الإخوة إنه كلما ازداد بُعد المسلمين عن دينهم، وازداد جهلهم بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وازداد تعلقهم بالدنيا وركضهم وراء متاعها الرخيص الفاني كانوا معرّضين لدائين من أخطر الأدواء وأشدها فتكاً بالأمم والأفراد: الداء الأول: هو داء ضعف اليقين، وضعف الإيمان، وضعف الاتباع الذي يترتب عليه التقصير في أداء الواجبات؛ فضلاً عن السنن والمستحبات، والتساهل في فعل المحرمات؛ فضلاً عن فعل المكروهات، فهذا هو الداء الأول. أما الداء الثاني: فهو داء عكسي، وهو التشدد في الجانب الآخر؛ حيث يوجد من المسلمين إزاء هذه الهجمات المادية وإزاء طغيان المادة وغلبتها على المسلمين من يقف في الطرف الآخر؛ فيتشدد ويغلو كرد فعل لهذه الموجة الطاغية، ولو قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي لوجدنا هذا الأمر واضحاً جلياً، فحينما فُتحت الدنيا على المسلمين وتمتعوا بالثراء والنعم الكثيرة ترتب على ذلك ضعف تمسكهم بالإسلام أولاً، وترتب عليه ظهور بعض الفرق والطوائف المغالية في الدين والمتشددة فيه. وفي مثل هذه الأيام التي نعيشها نجد هذا الأمر -أيضاً- واضحاً؛ حيث فُتحت الدنيا على المسلمين في الثراء والمال والنعم، وحيث أثّرت فيهم الحضارة الغربية بما فيها من مفاتن ومفاسد، فضعف تمسك كثير منهم بالإسلام، وترتب على هذا أمر آخر، حيث وجد من المسلمين من يتشدد ويغلو في الدين كردة فعل لهذا الانحراف وضعف اليقين عند الناس. وأمام هذا الأمر يكون من الواجب على طلاب العلم أن يهتموا بالحديث عن يسر الإسلام وسماحته لسببين: الأول: حتى يردوا على من غلا في الدين وتشدد بما لم يأذن به الله، ويبينوا أن هذا ليس هو منهج الأنبياء والمصلحين. السبب الثاني: حتى يردوا المبتعدين عن الدين إلى الدين؛ لأن أولئك المبتعدين في حاجة إلى من يبصرهم بسماحة الإسلام ويسره ومراعاته لفطرة البشرية، حتى يتألف قلوبهم على هذا الدين ويردهم إليه بالتي هي أحسن؛ ولذلك عندما أتيحت لي فرصة أن أتحدث عن موضوع فاخترت الحديث عن يسر الإسلام وسماحته -أو الحديث عن المسلمين بين التيسير والتشديد- وأصل هذه الكلمة هي أن نعيش معكم لحظات نتحدث فيها عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وعن طرف من أخباره وأسلوبه في مواجهة الأمور، وهديه صلى الله عليه وسلم في التيسير، وتحذيره من التنطع والتشديد. ولكنني قبل ذلك أستغرق من الوقت دقائق معدودة؛ حتى أمرّ فيها مروراً سريعاً على الموضوع لأبين أسباب هذا التشدد، وصوره ونتائجه وعلاجه. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 26 الأسباب التي تدعو الناس إلى التشدد فأما الأسباب التي تدعو الناس إلى التشدد في الدين؛ فإنه يمكن أن نعد منها ما يلي: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 27 تأثير البيئة أما السبب الثاني: فهو تأثير البيئة، فنحن نجد كثيراً من البيئات متفاوتة فيما بينها تفاوتاً شديداً؛ سواء في قدر فهمها للأمور، أو في انفتاحها على المجتمعات الأخرى أو انغلاقها عنها، أو في تأثرها بما حولها، أو في غير ذلك، فبعض البيئات توحي بالتيسير الذي قد يتعدى حدوده، وبعض البيئات توحي بالتشديد الذي قد يتعدى حدوده، والحق الوسط هو ما أنزل الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 28 ميل بعض الناس إلى التشديد السبب الثالث: هو طبيعة بعض الناس التي تميل إلى التشديد؛ لأننا نجد الناس خلقوا مختلفين، وفي الحديث: {إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من الأرض} ولذلك جاء فيهم الأبيض والأسود والطيب والخبيث، وهكذا نجد في الناس القاسي الغليظ، ونجد فيهم اللين الرفيق، ونجد في الناس مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان سهلاً رقيقاً رفيقاً -كما سيبدو- حتى تأتي المرأة فتأخذ بيده إلى أي سكك المدينة شاءت، وحتى يقبل غلمانه وصبيانه ويضمهم إليه؛ بل ويصلي وأحدهم على كتفه، فيأتي رجل من الأعراب يمثل الطرف الآخر في القسوة والغلظة فيقول: {أو تقبلون صبيانكم، فوالله إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: أو أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك} . إذاً طبيعة الناس تختلف، فمنهم من يميل بطبعه إلى التيسير، ومنهم من يميل إلى ضد ذلك. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 29 ردة الفعل ضد الفساد المنتشر السبب الرابع: هو ما أشرت إليه في مقدمة هذا الحديث، وهو ردة فعل كثير من الناس ضد الفساد المنتشر، وانفتاح الدنيا على الناس، واستغراق الناس أو أكثرهم في ألوان الترف والنعيم، وتشمل ردة الفعل -أيضاً- أمراً آخر، فإننا نجد كثيراً من الناس -وخاصة الشباب- تشطح بهم أهواؤهم، فيبتعدون عن الطريق، ويقيض لهم قرناء من رفقة السوء فيضلونهم ضلالاً بعيداً، فقد يصحو هذا الشاب يوماً من الدهر فيجد نفسه في وضع سيئ، ويذكر أن أمامه الموت والبلى، والجنة والنار والحساب، فيستيقظ ضميره فيقبل على الله ويتوب إليه، وهنا يشعر هذا التائب أنه لا يكفيه أن يكون مثل الناس مستقيماً على الدين، إنما يشعر أنه لا بد أن يعوض عمَّا فقد، فإن وفق بأهل سنة وطاعة واتباع دلوه على الطريق المستقيم وحذروه من كلا طرفي قصد الأمور، وحذروه أن يكون منتقلاً من التساهل إلى التشدد، وكلاهما شرٌ، وطلبوا منه أن يكون معتدلاً على الجادة؛ لا أقول التي عليها عوام الناس؛ بل الجادة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 30 ضيق التفكير عند كثير من الناس السبب الخامس: هو ضيق تفكير كثير من الناس، وكراهيتهم أن يسمعوا ما عند غيرهم من الحق، فيظنون أن الحق هو ما عرفوه وألفوه وآمنوا به، وأن ما عند غيرهم باطل لا شك فيه، ويخافون من فتح آذانهم لسماع ما عند غيرهم، والحق أن صاحب الحق لا يخاف لأنه يعلم أن الحق دائماً هو المنتصر. فهذه أهم الأسباب التي حصرتها بذهني، والتي تؤدي بالإنسان إلى نوع من التشدد في الدين. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 31 الجهل بالدين أولاً: الجهل بالدين؛ لأن العالم بالدين لا يشدد على الناس فيما لم يشدد الله به عليهم، ويعلم أن قضية التيسير والتشديد ليست بالهوى ولا بالرغبة، ولا بمراعاة الطبائع؛ إنما هي باتباع النصوص، فالله تبارك وتعالى لم يجعل في هذا الدين مقالاً لقائل؛ بل أنزل الدين وأتمه وأحكمه، وبيَّن فيه الحلال من الحرام، فما حرم الله فهو الحرام، وما أحل فهو الحلال، وما سكت عنه فهو عفو، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول حين سمع أن علياً ابن أبي طالب يريد أن يتزوج ابنة أبي لهب، وكانت تحته ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {لا تجتمع ابنة نبي الله، وابنة عدو الله في بيت واحد، ثم قال: أما إني لا أحرم الحلال} أي: إن أمر تعدد الزوجات أمر أباحه الله ورسوله، فلا يحرمه أحد بعد ذلك، وهكذا شأن البشر من الصحابة رضوان الله عليهم وغيرهم لم يكن من شأنهم أن يتدخلوا في تحريم حلال أو تحليل حرام؛ إنما كان شأنهم نقل الدين كما أنزله الله، ولو تدخلوا فيه بأهوائهم تيسيراً أو تشديداً لما كان هو الدين المنزل من عند الله، وللعبت به أهواء البشر، وإنما كان شأنهم أن ينقلوا هذا الدين إلى الناس كما أنزله الله وكما بينه رسوله صلى الله عليه وسلم. فالجهل بالدين هو السبب الأول من أسباب التشدد فيه. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 32 صور التشدد في الدين أما صور هذا التشدد فقد تكون: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 33 التشدد في الاعتقاد أولاً: في الاعتقاد، فمن الناس من يتشدد في الاعتقاد سواء في نظرته إلى الناس وإلى عقائدهم، أو في تشدده وتقعره في الكلمات، أو في بحثه في أمر من أمور العقيدة لم يأذن الله سبحانه وتعالى ببحثها، ولم يأتِ الرسول صلى الله عليه وسلم ببيانها، كما تشدد علماء الكلام وغيرهم؛ حيث دخلوا في مباحث خرجوا منها صفر اليدين، ولم يجنوا منها سوى القيل والقال، وكان أحدهم يموت وهو يقول: أموت على عقيدة عجائز نيسابور -أي: أنه بعد البحث والجهد الجهيد آثر أن يموت على العقيدة التي عليها العجائز والعوام الذين لم يتلقوا شيئاً من العلم- فهذا هو اللون الأول. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 34 التشدد في العبادات أما اللون الثاني: فهو التشدد في العبادات، كمن يتشدد في الطهارة، أو في الصلاة، أو في غيرها من العبادة، ويدخل عليه الشيطان فيوسوس له، فتجد كثيراً منهم يعيد الوضوء مرات، ويعيد الصلاة مرات؛ حتى يصل به الحال إلى ترك ذلك كله والعياذ بالله لما يجد من الجهد والمشقة، وهذا هو ما يريده الشيطان. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 35 التشدد في المعاملة أما اللون الثالث: فهو التشدد في المعاملة، كمن يتشددون في معاملة الناس في أمور مباحة، أو يتشددون في معاملة الفساق ويعرضون عنهم إعراضاً قد يدعوهم إلى زيادة فسقهم، أو يتشددون في معاملة أهليهم ومن ولاهم الله أمرهم من الأولاد وغيرهم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 36 نتائج التشدد في الدين ومن نتيجة هذا التشدد ما يلي: الجزء: 177 ¦ الصفحة: 37 عقوبة الله تعالى للمتشددين في الدين أولاً: أن من تشدد في أمر ليس من الدين عاقبه الله عز وجل أن يقيض له تشديداً آخر، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قال: من شدد على نفسه في أمور ليست من الدين فإنه يبتلى بتشديد من وجهين: الأمر الأول: أن يقيض الله سبحانه وتعالى له من الأسباب الشرعية ما يجعله يواجه شدة أكثر مما كان من قبل، مثال ذلك: لو أن إنساناً نذر لله إن عافاه الله أو نجحه في امتحانه , أو شفى مريضه أو رد غائبه أو غير ذلك أن يصوم كذا أو أن يتصدق بكذا، أو أن يفعل كذا من العبادات، فهذا لون من التشديد على النفس بما لم يشدد الله به؛ إذ أن أصل هذا العمل الذي نذره الإنسان ليس واجباً عليه، ولكنه حين نذره صار واجباً عليه، وقد يعجز عن القيام به، فهذه أسباب شرعية -هذا النوع الأول- التي يشدد الله بها على من شدد على نفسه. النوع الثاني: هي الأسباب القدرية، فيقيض الله له من الأسباب والأقدار ما يجعله يواجه ألواناً من الشدة، وقد ذكر شيخ الإسلام أنه رأى أنواعاً كثيرة من هؤلاء القوم، وفي الحديث الذي رواه أبو داود وسكت عنه لما ذكر الرهبان قال: {شددوا فشُدِّد عليهم} وهذا عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: [[شددت فشُدِّد عليّ]] فهذه نتيجة من نتائج التشديد. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 38 النفور والتمرد والغلو في الانحراف أما النتيجة الأخرى: فهي نتيجة عامة، وهي أن التشدد دائماً يحدث ضده، كما أن التساهل -كما ذكرنا- يحدث ضده، فينشأ نتيجةً لهذا التشديد جيل من الناس نافر من الدين أبيٌ متمرد عليه، وقد يغلو والعياذ بالله في الانحراف، ويحطم القيم والأعراف والمقدسات، وهذا كله نتيجة عدم الالتزام بأمر الله ورسوله. فالجدير بالمسلم ألا يأخذ الأمر من الطرف، لا هذا ولا هذا. فالدين ليس بالأهواء ولا بالشهوات، ولا بالميول ولا بالرغبات؛ بل الدين هو النص فإذا قال الله أمراً أو أمر به فيجب علينا ألا نظن أن في هذا لوناً من التشديد، وانظروا إلى قول الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:78] فقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نجاهد فيه حق الجهاد، وهذا أمر شديد على بعض النفوس؛ ولذلك عقب الله عز وجل عليه بقوله: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] ، وهذا التعقيب له معنيان: المعنى الأول: أن الجهاد في الله حق جهاده لا يعني أن يبذل الإنسان شيئاً فوق وسعه وطوقه؛ بل لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. الأمر الثاني: أن كل ما كلفك الله به من الدين فليس فيه حرج ولا تشديد، بل هو التيسير بعينه. إذاً كل ما إذن كلما كلفنا به من الدين فهو يسر لا تشديد فيه، وكل ما سكت عنه فهو عفوٌ وإتيانه مباح وفق القواعد والضوابط الفقهية المعروفة لدى علماء أصول الفقه. فالمسلم ليس له أن يزيد ولا أن ينقص. وقد يقول قائل: فما الضابط في ذلك؟ وما الذي يحكمنا؟ فأقول: الذي يحكمنا هو النص إذا قال الله وقال رسوله بطل قول فلان وفلان من الناس، وليس لأحد قول مع قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الضابط وهذا هو الميزان. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 39 أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم ومعالجته لكثير من الأمور أما الأمر الأساس في هذه الكلمة، والذي أريد أن أدخل إليه الآن، فهو الحديث عن أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته في معالجة كثير من الأمور، ولا شك أننا جميعاً نعلم أنه هو القدوة، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . انظروا كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل أهله؟ وكيف كان يعامل أصحابه حتى المنحرفين أو المخطئين؟ بل وكيف كان يعامل الكفار؟ أولاً: لقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أمته تحذيراً شديداً من الغلو والتنطع في الدين، ففي الحديث الذي رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من يحرم الرفق يحرم الخير كله} وفي صحيح مسلم، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا عائشة إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه} . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 40 حديث عن عائشة ويقول صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة رضي الله عنها، كما يقول عبد الرحمن بن شماسة قال: أتيت عائشة أسألها عن شيء، فقالت لي: ممن أنت؟ فقلت: رجل من أهل مصر، فقالت: كيف كان صاحبكم في غزاتكم هذه؟ أي كيف كان أميركم في الغزو؟ هل كان شديداً عليكم أم رفيقاً بكم؟ قال هذا الرجل: ما نقمنا منه شيئاً، إن كان ليموت للرجل منا البعير فيعطيه البعير، ويموت له العبد فيعطيه العبد، ويحتاج إلى النفقة فيعطيه النفقة، فوصف هذا الأمير باللطف والتيسير على رعيته، فقالت أم المؤمنين رضي الله عنها: أما إنه لا يمنعني الذي فعله بـ محمد بن أبي بكر أخي أن أخبرك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم -على رغم أنها تجد على هذا الأمير شيئاً لموقف كان منه مع أخيها، فهذا لا يمنعها أن تخبر بما سمعت من الرسول صلى الله عليه وسلم، في شأن مثل هذا الأمير ممن رفقوا برعيتهم- قالت: يقول في بيتي هذا (تعني الرسول صلى الله عليه وسلم) {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم فارفق به} . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 41 حديث الرسول لمعاذ وأبي موسى الأشعري ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو موسى: أنه حين بعث عليه الصلاة والسلام معاذاً وأبا موسى إلى اليمن معلمين، وداعيين، وقاضيين، وأميرين، قال لهما: {يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا} والحديث أصله في الصحيحين، ولم يكتف فيه الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر بالتيسير، بل أضاف إليه النهي عن التعسير، والأمر بالرفق، والنهي عن الشدة، والأمر بالتسهيل وتأليف الناس على الإسلام، وهذا فيه قطع لدابر أي لون من ألوان التشدد، أو التعسير على الناس. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 42 موقفه مع اليهود وقد روى الإمام البخاري هذا الحديث، وذكر في أوله قصة تزيد من دلالة الحديث ووضوحه، فقد كان اليهود لعنة الله عليهم يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: السام عليك يا محمد، ويقصدون بالسام الموت، وكأنهم يظهرون أنهم يسلمون عليه، وهم يدعون عليه بالموت، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وعليكم، فغضبت عائشة مما سمعت منهم، وقالت لهم: وعليكم السام واللعنة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعتم. في موقف مع أشر خلق الله وأكثرهم عداوة للرسول صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا، تجد الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر عائشة رضي الله عنها بالرفق، وينهاها عن العنف، ويبين لها أن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، فإذا كان هذا الأمر مع هؤلاء القوم، فما بالكم بأسلوبه صلى الله عليه وسلم مع المقربين منه من المؤمنين؟! الجزء: 177 ¦ الصفحة: 43 من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل وفي الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه الإمام مسلم أنه صلى الله عليه وسلم يقول: {هلك المتنطعون} والمقصود بالمتنطعين: هم المتشددون في الدين بما لم يأذن به الله، هذا هديه صلى الله عليه وسلم في أقواله وإرشاداته وتوجيهاته، فلننظر، ما هو الأسلوب الذي كان يستخدمه في معاملته لأصحابه. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 44 قصة ثمامة بن أثال الحنفي وأختم هذه القصص بقصة رجل من أصحابه صلى الله عليه وسلم، وهو ثمامة بن أثال الحنفي، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة قال: {بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال الحنفي، وهو سيد أهل اليمامة، فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي -يا محمد خيراً- إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت} أي: أنت بين ثلاثة أمور، يقول ثمامة: إن تقتلني فأنا ذو دم، ومعنى أنه ذو دم: إما أنه مستحق للقتل لخصومته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما أنه رجل عزيز شريف في قومه، فإن قتلتني فإن قبيلتي تأخذ بثأري منك ومن أصحابك، الأمر الثاني أن تنعم علي بالإطلاق، والأمر الثالث: أن تفاديني بالمال، وأيها فعلت فالأمر إليك، {فتركه الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد، قال له، فقال: كذلك، فلما كان من اليوم الثالث، قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أطلقوا ثمامة - انظروا إلى حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: فاطللقوه، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال بصوت جهوري: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فلقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي والله ما كان في الأرض دين أبغض إلى دينك، فلقد أصبح دينك أحب الأديان، كلها إلي، والله ما كان بلد أبغض إلي من بلدك، فلقد أصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي، ثم قال: إن خيلك أخذتني، وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمره أن يعتمر فاعتمر، فلما ذهب إلى مكة، علم أهل مكة بإسلامه، فقال له قائل منهم: صبوت؟ -أي خرجت من دينك وتابعت محمداً صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمون من أسلم صابئاً -فقال: لا ما صبوت، ولكني أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة -كانت الحنطة تأتي من اليمامة إلى مكة- حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم} انظروا! هذا الرجل الذي كان بالأمس خصماً للرسول صلى الله عليه وسلم يسلم بأسلوب المعاملة، ويصبح الرسول صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، وبلده أحب البلاد، ودينه أحب الأديان، ويصبح خصماً لقريش، يخبرهم أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم قد علا واستوسق، فلا تأتيكم حبة حنطة حتى يأذن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. لعلني أطلت عليكم بسياق هذه القصص، ولكن الأمر كما يقول الشاعر: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع إن أفضل ما بذلت فيه الأوقات هو معرفة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حتى نعرف أسلوباً عملياً ندرك من خلاله كيف نعامل الناس، كيف نعامل أهلنا في بيوتهم؟ وكيف نعامل أولادنا؟ وكيف نعامل الآخرين؟ وكيف نعامل الفساق، بل وكيف نعامل الكفار؟ لكن لا من منطلق التساهل والتفريط؛ بل من منطلق الدعوة إلى الله، نفعل ذلك كله بروح الداعية الذي يريد أن يؤلف قلوب الناس على الدين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 45 أسلوبه صلى الله عليه وسلم مع الكفار وأخيراً فإن أسلوبه صلى الله عليه وسلم حتى مع الكفار عجبٌ من العجب، سألته عائشة رضي الله عنها وقالت: {يا رسول الله، هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك -يعني قريش- وكان أشد ما لقيت يوم العقبة- ولعل هذا بعد خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ورجوعه منها- قال صلى الله عليه وسلم: إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب -موضع قريب من مكة - قال صلى الله عليه وسلم: فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله عز وجل سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، وقال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت: إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين} -وهما جبلان بمكة، وهذا الحديث في صحيح مسلم- فماذا قال رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال إزاء هؤلاء القوم الذين آذوه وسبوه وشتموه وضربوه، وألقوا السلى على ظهره وهو يصلي، وسخروا منه، ثم أخرجوه من مكة، وحالوا بينه وبين نشر دعوته، وآذوا أصحابه، بل وقتلوهم وفعلوا بهم الأفاعيل؟ وأمام هذه الآلام كلها، واجه ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: {بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً} وكانت نتيجة هذا الأسلوب الحكيم منه صلى الله عليه وسلم: أن كثيراً من هؤلاء القوم كان مصيرهم أن يدخلوا في دين الله، فإن لم يدخلوا في الدين، فعلى أقل الأحوال كانوا عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينقلون إليه الأسرار والأخبار ولا يمالئون عليه الأعداء. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 46 أسلوبه مع العصاة أما ما يتعلق بأسلوب معاملته للعصاة والفساق أو للكفار، فهو عجب من العجاب، فقد علمنا صلى الله عليه وسلم ألا يعجب العامل منا بعمله إن كان عمل خيراً، بل يتواضع، ولعل بعض من قصروا فيما وجب عليهم، يكون عندهم من الخوف والإخبات والانكسار ما يقربهم من الله أكثر مما يقرب العامل عمله، وأكثر مما تقرب العابد عبادته، ولذلك حكى لنا صلى الله عليه وسلم خبر رجلين من بني إسرائيل أحدهما عابد، والآخر مسرف على نفسه، {فقال العابد: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله تبارك وتعالى: من ذا الذي يتألى علي ويقسم على ألا أغفر لفلان، فإني قد غفرت لفلان وأحبطت عملك} رواه مسلم عن جندب رضي الله عنه. هذا الأسلوب الذي ربى الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه بصورة نظرية دربهم عليه عملياً، فها نحن نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يؤتى برجل يشرب الخمر فيجلده، ثم يؤتى به أخرى فيجلده، ثم يؤتى به مرة ثالثة فيجلده، فيقول رجل من الصحابة: أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به- أي ما أكثر ما يؤتى بهذا الرجل شارباً للخمر -فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: فيما أعلم أن هذا الرجل يحب الله ورسوله، وهذا لا يعني التقليل من خطر الخمر، بل من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة، وفي الحديث الآخر: {فإن عاد في الرابعة فاقتلوه} لكن في أسلوب معاملة العاصي بعد أن يقع في المعصية، يجب أن نحاول أن نساعده على أن يخرج مما هو فيه، نساعده على أن ننتشله من الوحل ومن الوهدة التي وقع فيها، ولا نعين الشيطان عليه، ولذلك في اللفظ الآخر الذي عند البخاري، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان} وجيء صلى الله عليه وسلم برجل قد زنى، ولكنه قد تاب توبة نصوحاً، وأحرق الندم قلبه، فكان يجلس أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، فينصرف عنه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الجهة الأخرى، فيقوم يجلس قبالته، فيقول: يا رسول الله زنيت فطهرني، ويأتي ثالثة، ورابعة، فلما ثبت أنه وقع في الزنا، يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم به فيرجم، فلما رجم سبه بعض الصحابة، فاستنكر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقال لأصحابه بعد ثلاثة أيام من رجمه: {استغفروا لـ ماعز بن مالك فقال الصحابة رضي الله عنهم: غفر الله لـ ماعز بن مالك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم} وقد تكررت نفس العملية مع الغامدية، فلما ردها الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: لعلك تريد أن كما رددت ماعزاً، فوالله إني لحبلى من الزنا. انظروا إلى حرارة الإيمان في القلب، نعم وقعت في فاحشة، ولكن الله عز وجل وصف المؤمنين بقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135-136] لقد تابت إلى حد أنها جادت بنفسها، كما قال صلى الله عليه وسلم، ولقد جاءت وهي تعلم أنها سترجم، فتقول للرسول صلى الله عليه وسلم: الطريق مغلق أمام الالتفات كما التفت عن ماعز، لأنها حبلى من الزنا، ثم يرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول: إذا وضعت فأتيني، فلما وضعت جاءت بالغلام، كان بإمكانها ألا تأتي، ولكنها جاءت لأنها قد تابت توبة نصوحاً، فلم ترض إلا أن تُطَهَّر في الدنيا، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن تذهب حتى تفطمه، فبعد فترة جاءت بالغلام وفي يده كسرة خبز، وكأنها تريد أن تعطي دليلاً عملياً على أنها فطمت الغلام، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بها فرجمت، فرشق شيء من دمها على أحد الصحابة فسبها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: {والله لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} أو: {لو تابها صاحب مكس لغفر له} هكذا كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتعامل مع من وقعوا في المعاصي، بل هكذا يتعامل معهم حتى بعد أن أقيمت عليهم الحدود، وغادروا الدنيا، كان يصون أعراضهم صلى الله عليه وسلم من أن يسبهم أحد أو يتناول منهم أحد؛ لأنهم مؤمنين ينغمسون في أنهار الجنة، فلا يحق لمؤمن أن يتعرض لهم بسوء، بل يجب عليه أن يستغفر لهم كما أمر صلى الله عليه وسلم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 47 قصة عبد الله بن عمرو بن العاص وهناك صحابي جليل مشهور، وهو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فقد زوجه أبوه، فسأل أبوه زوجته يوماً: كيف حال عبد الله معك؟ وكانت امرأة ذكية، فقالت: نعم الرجل عبد الله! لم يطأ لنا بساطاً، ولم يكشف لنا كنفاً، تقول: نعم الرجل! إنه لم يقترب مني، وهذا لحن معروف، لأن الرجل رضي الله عنه كان مشغولاً بالعبادة، يقوم الليل، ويصوم النهار، فبلغ ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم ولنترك عبد الله بن عمرو بن العاص يحدثنا عن قصته. يقول: {كنت أصوم الدهر، وأقرأ القرآن كل ليلة، قال: فإما ذكرت للرسول صلى الله عليه وسلم، وإما أرسل إلي فأتيته، فقال لي: ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ قلت: قلت بلى يا نبي الله، ولم أرد بذلك إلا الخير -كأنه يعتذر بهذه الكلمة، لأنه علم من ملابسات الحال أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحضره، أو أراد أن يناقشه فيما فعل على سبيل تعديل هذا الأسلوب في العبادة- فقال له صلى الله عليه وسلم: فإن بحسبك أن تصوم من كل شهر ثلاثة أيام، قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فإن لزوجك عليك حقاً -فلا يجوز للإنسان أن يفرط في حق من هذه الحقوق، بل يجب أن يؤدي حق الجسد وحق الزوج وحق الناس، إضافة إلى ما يقوم به من العبادة بصورة ميسرة- ثم قال له صلى الله عليه وسلم: صم يوماً، وأفطر يوماً، وهو صيام داود عليه الصلاة والسلام فإنه كان أعبد الناس، قلت: يا رسول الله، إني أطيق أفضل من ذلك، قال: لا أفضل من ذلك، قال: واقرأ القرآن في كل شهر، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشرين، قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فاقرأه في كل عشر، قلت: أطيق أفضل من ذلك، قال: فأقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك -ثم كرر عليه صلى الله عليه وسلم الملاحظة التربوية بقوله- فإن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص: فشددت، فشدد علي، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: فلعله أن يطول بك عمر} وفعلاً طال بـ عبد الله بن عمرو بن العاص وتمنى أن يكون قد قَبِلَ رخصة النبي صلى الله عليه وسلم التي رخصها له، لكنه كره: أن يغير أمراً فارق عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا تعب أفطر أياماً متتالية، ثم يقضيها ويصوم مثلها، ويقول: {وددت أني قبلت رخصة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شددت فشدد علي} . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 48 في شعائر الحج وأما فيما يتعلق بالشعائر والمناسك الأخرى، فلا شك أنكم سمعتم ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص، في موضوع الحج، واتفق على إخراجه البخاري ومسلم {أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان واقفاً للناس بمنى يوم النحر، فلا يسأل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج، فيأتي رجل فيقول: حلقت قبل أن أنحر، فيقول: اذبح ولا حرج، ويأتيه آخر، فيقول: نحرت قبل أن أرمي، فيقول: افعل ولا حرج، وهكذا حتى قال الراوي: فما سئل عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج} . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 49 أسلوبه صلى الله عليه وسلم مع أهله أما فيما يتعلق بأسلوبه صلى الله عليه وسلم مع أهله وفي بيته، فيكفيني أن أشير لكم إلى قصته مع عائشة رضي الله عنها، وكان يحبها حباً شديداً، تقول عائشة رضي الله عنها: {دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك في يوم عيد، وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث -ويوم بعاث كان في الجاهلية بين الأوس والخزرج- قالت: فاضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الفراش، وحول وجهه، فدخل أبو بكر فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: دعهما، -وفي لفظ آخر- فإنه يوم عيد، قالت: فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب، وكان ذلك في المسجد، قالت: فإما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإما قال لي: تشتهين أن تنظرين؟ قلت نعم، قالت: فأقامني وراءه خدي على خده، -أي وقفت خلفه على كتفه وخدها إلى خده صلى الله عليه وسلم تنظر إليهم وهم يلعبون بالحراب في المسجد- قالت: وهو صلى الله عليه وسلم يقول: دونكم يا بني أرفده، دونكم يا بني أرفدة- وكأن هذا نوع من الإغراء، وكأنه يحثهم على هذا الذي هم فيه، -قالت: حتى إذا مللت، قال: حسبك، قلت: نعم، قال: فاذهبي} . صلى الله عليه وسلم مشغول بأمور الجهاد، ومشغول بأمور تعليم الناس الدين، ينزل عليه الوحي بكرة وعشياً، ومع هذا كله يتبسط صلى الله عليه وسلم في طريقته مع أهله، إلى حد أن يقف مع عائشة رضي الله عنها تنظر إليهم وهم يلعبون، فلا ينصرف حتى تمل هي رضي الله عنها، فتنصرف فيتركها صلى الله عليه وسلم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 50 المرأة التي لا تنام الليل للعبادة أما في موضوع العبادة فقد كان الصحابة -أيضاً- ممن يطمحون إلى أن يبلغوا الغاية فيها، وكان منهم من يحرص على أن يقوم الليل وعلى أن يصوم النهار، بل كان منهم من يطمح إلى أن يتبتل، ويترك الدنيا ويطلقها ثلاثاً لا رجعة فيها، ليفرغ لعبادة ربه والصيام والقيام، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بينهم يتعاهدهم ويربيهم. انظروا إلى امرأة من أصحابه صلى الله عليه وسلم تسمى الحولاء بنت تويت {وكانت عند عائشة رضي الله عنها، فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم عليها فقالت عائشة له: يا رسول الله، هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنها لا تنام الليل للعبادة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تنام الليل! -على سبيل الاستغراب والاستنكار- خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا} الله تبارك وتعالى يرشدنا على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن نكلف من العمل ما يكون في طاقتنا وما يتلاءم مع طبيعتنا وجبلتنا، لئلا نقوم بعمل كثير، ثم نعجز عنه فنتركه، فنكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وهذا هو أسلوبه صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه على التيسير في موضوع العبادة. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 51 عدم التشديد في موضع الطهارة وانظروا إلى حذيفة رضي الله عنه، يستنكر على رجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان له مسلك خاص في موضوع الوضوء والطهارة، فقد كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يشدد في البول، حتى إنه كان يبول في قارورة، كما روى ذلك مسلم في صحيحه والحديث أصله في الصحيحين، وكان يقول رضي الله عنه: [[إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جلد أحدهم البول قرضه بالمقاريض]] فلما سمع حذيفة بهذا كره هذا التشدد، وقال: [[لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد]] ثم استشهد حذيفة رضي الله عنه بنص، يدل على تيسير الرسول صلى الله عليه وسلم في موضوع الطهارة فقال: {لقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سباطة خلف حائط، -والسباطة هي القمامة- فقام صلى الله عليه وسلم كما يقوم أحدكم فبال} وفي اللفظ الآخر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم، فبال قائماً، فقال حذيفة فانتبذت منه -أي فابتعدت منه- فأشار إلي فجئت فقمت عند عقبه حتى فرغ} وهذا يؤخذ منه عدم التشديد في موضوع الطهارة، وعدم إتاحة المجال للشيطان ليوسوس للإنسان ويقول له: لعله أصابك شيء، لعلك لم تتطهر، لعل رذاذ البول وصل إليك إلى غير ذلك من الوساوس التي لو فتح الإنسان بابها لوصل إلى أمر من التشديد قد يسر الله سبحانه وتعالى فيه على الإنسان. ويؤخذ من الحديث أنه يجوز للإنسان ويقول له: أن يبول وهو قائم، إذا كان في ذلك استتار عن الناس، وإذا لم يكن في أرض صلبة يتراشق منها البول على ثيابه أو على جسده، وهذا الحديث كما ذكرت لكم في صحيح مسلم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 52 الرجل الذي بال في المسجد وانظروا إلى صورة أخرى تؤكد ما قلنا: وهي ما رواه الشيخان من قصة الأعرابي الذي جاء إلى المسجد فبال فيه، فكان موقف الصحابة رضوان الله عليهم: أن قاموا إليه ليزجروه وينهروه، لكن المعلم الأول الذي وصفه الله تبارك وتعالى بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] والذي وصفه سبحانه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ووصفه بقوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يتركوا هذا الرجل، وقال: لا تزمروه -لا تعجلوه- دعوه حتى يتم بوله، فلما أتم بوله أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه، ثم دعا هذا الرجل، وقال له: {إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذا البول وهذا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة وقراءة القرآن -فماذا كانت النتيجة- فقال هذا الرجل: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً} لأنه أعجب بأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم، ونفر من طريقة الصحابة رضي الله عنهم، فلم يرض أن يشركهم معه بطلب الرحمة، وطلب أن تخص الرحمة محمداً صلى الله عليه وسلم معه فقط، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: {لقد تحجرت واسعاً} وفي بعض الألفاظ أنه قال لأصحابه: {أتقولون: هو أضل أم بعيره} لأن هذا يدل على جهل هذا الرجل وبعده عن العلم والمعرفة، فكيف يحجر رحمة الله التي قال الله تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فكيف يطلب أن تقتصر هذه الرحمة عليه، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد أن هؤلاء الصحابة نهوه عن أمر هو محرم في الأصل. إذن هكذا كان أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة مثل هؤلاء الناس. ولقد كان الصحابة رضي الله عنهم شأنهم في ذلك شأن غيرهم من البشر، فيهم وفيهم، فيهم من يميل إلى التيسير، وفيهم من يميل إلى التشديد، لكن فرقهم رضي الله عنهم عن غيرهم من الناس أنهم يقفون عند النص لا يتعدونه، فإذا ثبت لديهم النص عن الله أو عن رسوله، خالفوا كل ما يهوون أو يشتهون أو يريدون، واتبعوا أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 53 رجل شمت عاطساً في الصلاة موقف آخر أغرب من هذا، إلى رجل آخر، يتصرف في شعيرة عظيمة ألا وهي الصلاة، وبأسلوب عجيب غريب، كما هو شأن كثير من الأعراب، وانظروا إلى أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة هذا الموقف، يقول معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وأرضاه: {بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ عطس رجل من القوم في الصلاة، فقلت له يرحمك الله -رجل جاهل ظن أن تشميت العاطس في الصلاة مشروع، فقال له: يرحمك الله- قال: فرماني القوم بأبصارهم -ينظرون إليه على سبيل الاستنكار لما فعل- قال: فقلت: واثكل أمياه -الثكل هو الفقد، أي كأنه يقول: وافقد أمي- ما شأنكم تنظرون إلي؟! قال: فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم كأنهم يسكتونني، قال: فلما رأيتهم يصمتونني سكت -كأنه يقول: لما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت من فعلهم، ولكني آثرت الصمت فسكت- قال: فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي -أي أفديه بأبي وأمي إعظاماً له وإعجاباً بأسلوبه صلى الله عليه وسلم في التربية والتعليم- يقول: والله ما كهرني -أي ما نهرني ولا تغير علي- ولا ضربني ولا شتمني، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن منه، قال لي: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنما هي ذكر الله والتسبيح والتكبير وقراءة القرآن} ولم يزد صلى الله عليه وسلم على ذلك، فاطمأن به هذا الرجل وزاد فيه حباً وإعجاباً، ولذلك قدم لهذا الخبر بقوله: والله ما رأيت معلماً قط أحسن منه، ما ضربني ولا كهرني ولا شتمني، وإنما أخبره بالأمر بكل يسر وسهوله، فاطمأن هذا الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وانفتحت نفسه لسؤاله، وصار يتذكر الأشياء التي تشكل عليه في أمر دينه حتى يسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال: {يا رسول الله! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء الله بالإسلام، وإن منا رجالاً يأتون الكهان -يسأله عن ذلك- قال صلى الله عليه وسلم: فلا تأتهم قال: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنك-أي إذا تطير الإنسان بشيء في قلبه، فيجب أن يمضي لما أراد ولا يلتفت إلى ما حاك في صدره، وليتوكل على الله- قال: ومنا رجال يخطون، -أي يخطون في الرمل خطوطاً، يدعون أنهم بها يتعرفون على الأشياء والنتائج وأسبابها- قال صلى الله عليه وسلم: كان نبيٌ من الأنبياء يخط؛ فمن وافق خطه فذاك} وهذا على سبيل التعجيز لهم، أي أن هذا النبي لا يعلم خطه، وإنما هو أمر اندرس، ولم يطلع الله تبارك وتعالى عليه أحداً من خلقه، فهيهات هيهات أن يدرك أحد خط هذا النبي، وكأن هذا على سبيل التوبيخ لهؤلاء القوم، وعدم الرضى بفعلهم، وكأنه يقول لهم من أين لكم أن تصيبوا بخطكم؟ هل نزل عليكم وحي أن خطكم يوافق خط هذا النبي؟! فهو على سبيل النهي والتحريم للخط. {قال: فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كانت لي جارية ترعى غنماً قبل أُحد والجوانية- موضع قرب المدينة فاطلعت ذات يوم، فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها قال: وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، قال: فلطمتها أو صككتها صكة -وكأنه يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ما كفارة ما فعلت- فعظم ذلك عليه، قلت: أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها فأتاه بها فقال لها: أين الله؟ قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: فأعتقها فإنها مؤمنة} . الشاهد من هذا الحديث أن هذا الرجل تكلم في الصلاة بكلام لا يجوز فيها، فشمت من عطس، ثم قال: واثكل أماه! لما صمته الناس، ومع ذلك كان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم هو ما رأيتم، فأعجب بأسلوبه صلى الله عليه وسلم، وانفتحت نفسه ليسأل عن دينه. أما لو ووجه مثل هذا الرجل الجاهل بأمر دينه بأسلوب الغلظة والقسوة لربما دعاه ذلك إلى أن يخرج من دينه، أو على الأقل أن يترك ما يجهل من أمر دينه فلا يسأل عنه. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 54 الأعرابي والرسول يخطب إننا نجد أمراً لو قسناه على واقع كثير من المنتسبين إلى العلم اليوم لوجدنا الأمر مختلفاً جداً، انظروا إلى نبيكم صلى الله عليه وسلم وهو يخطب يوم الجمعة فيما رواه أبو رفاعة قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقلت: يا رسول الله رجل غريب، جاء يسأل عن دينه فيقطع الخطبة، فينزل الرسول صلى الله عليه وسلم من منبره، فيوضع له كرسي قوائمه من حديد على الأرض، فيجلس الرسول صلى الله عليه وسلم على الكرسي، ويقبل على هذا الرجل يعلمه دينه، ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان فيه من شأن الخطبة، ثم إذا انتهى منه، ذهب إلى خطبته فأكملها، هذا أسلوب من أساليبه صلى الله عليه وسلم في تعليم الجاهل. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 55 الأسئلة الجزء: 177 ¦ الصفحة: 56 حكم كراهية أهل المعصية السؤال يقول السائل: إذا كرهت أولادي في الله وانعزلت عنهم بعد أن قدمت لهم ما بوسعي، ولا أعلم هل كان ذلك التقديم لهم من تربية صحيحة أم لا، فهل تبرأ ذمتي وأستمر فيما أنا عليه؟ الجواب هذا لا شك يتعلق بموضوع كراهية أهل المعاصي. وأقول: كراهية ما عليه أهل المعاصي أمر مطلوب حتى قبل أن تقدم لهم شيئاً، فيجب أن تكره ما هم عليه من المعصية، فتحبهم بقدر ما عندهم من الطاعة وتكرههم بقدر معصيتهم، وقد يجتمع للإنسان أحياناً حبٌ وكرهٌ في نفس الوقت، فتحب منه أشياء وتكره منه أشياء، فإذا قدمت ما بوسعك وكرهتهم حينئذٍ فلا أرى في هذا شيئاً، ولكني لا أرى أن ييأس الإنسان ويلقي بالسلاح؛ بل أرى أن يبذل كل ما يستطيع، وإذا عجز هو فليوصي غيره من زملائهم أو مدرسيهم، أو جيرانهم، أو أصدقائهم، ويكثر من الدعاء لهم ويتألف قلوبهم بالأسلوب المناسب، ولعل الله أن يهديهم ويقر بهم عينه في الدنيا والآخرة. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 57 نصيحة لموسوس السؤال يقول أيضاً: بعض الناس يستمر في الوضوء وإعادة الصلاة حتى يخرج وقت الصلاة، فبم توجهون مثل هذا؟ الجواب لعلي أشرت إلى نوع من ذلك، وأذكر أنني أعلم بعض الأشخاص -والعياذ بالله- أتاهم الشيطان من جهة الوضوء، فصاروا يكررون الوضوء ويشكون فيه حتى يتعبون فيه أشد التعب، فإذا انتهى أحدهم من الوضوء بدأ بالصلاة بحجة صلاته غير صحيحة وتعب فيها أشد التعب إلى أن وصل بهم الحال إلى ترك الوضوء وترك الصلاة -والعياذ بالله- وهذا غاية ما يريد الشيطان. فالأمر خطير، ولذلك أقول: على الإنسان أن يعرف أن هذا نوع من الوسواس الذي لا يجوز، والذي قد يودي بالإنسان إلى المهالك، فعليه أن يتوضأ كما توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وضوءاً طبيعياً يمر الماء على جسده، إن توضأ مرة أجزأه وكفى، وإن توضأ مرتين أو ثلاث فهي السنة ما خلا الرأس فأنه لا يشرع إلا مسحه مرة واحدة، يبدأ بمقدمة رأسه فيقبل ويدبر -يردهما إلى قفاه ثم يدبر بهما- فهذا هو المشروع في الوضوء. أما المبالغة في التطهر فلقد علمتم فيها ما علمتم، ورأيتم فيها ما رأيتم، ولعلكم تسمعون بأشياء كثيرة غير ما أشرت إليها. فعلى الإنسان أن ييسر في أمور دينه، وإذا كان مبتلى بالوسواس فالذي أنصحه به نصيحة أخوية ألا يلتفت لهذا الوسواس لفترة معينة، شهراً أو أكثر من ذلك، وسيجد بعد ذلك أن الشيطان قد خنس وتركه ويئس منه؛ لأن من شأن الشيطان كما وصف الله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس:4] فأنت إذا تعرفت بالشيطان طمع بك، وإذا أعرضت عنه تركك وذهب يبحث عن آخر، فأنصح من ابتلي بشيء من ذلك ألا يلتفت إلى شيء من هذه الوسوسة، بل يتوضأ كما يتوضأ غيره، ويصلي كما يصلي غيره لفترة، وسيجد بعد ذلك أن الأمر صار بالنسبة له طبيعياً. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 58 حكم هجران أهل المعاصي السؤال يقول السائل: ذكرت في محاضرتك أن التشدد مذموم، وأن التشدد مع الفاسق يوجب له الابتعاد عن دين الله، فهل يعني ذلك عدم الإنكار عليه، وهل يعني ذلك عدم هجر أهل المعاصي والابتعاد عنهم بعد نصيحتهم إذا نصحتهم وحذرتهم، أرجو توضيح ذلك؟ الجواب أما قضية إنكار المنكر فأقول: إن هذا واجب، لكن كيف تنكر المنكر؟ قد تنكر المنكر بأسلوب يترتب عليه ما هو أشد مما أنكرت، وقد تنكر المنكر بأسلوب يحببك إلى من أنكرت عليه، ودعونا نقف عند الأمثلة التي ذكرتها في المحاضرة، كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل، هل كان يسكت عن المنكر؟ كلا، بل كان ينكر على كل من فعل خطأ لكن ينكر بالأسلوب المناسب، وبالأسلوب الحكيم، فقد أنكر على من تكلم في الصلاة، وأنكر على من بال في المسجد، ولكن كانت طريقته في الإنكار طريقة محببة تدعو إلى القبول والاستجابة، وليست طريقة شديدة تدعو إلى النفور من هذا الأمر، فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، ولكن بالحكمة والأسلوب المناسب. أما النقطة الثانية: وهي قضية الهجر، فأقول: الهجر أنواع: فإن علمت أن هذا العاصي قد يرتدع بالهجر كان هجره مطلوباً حينئذٍ، كما لو كان شخصاً يجلك ويحترمك ويقدرك فإذا هجرته تضايق من ذلك وأقلع عما هو فيه، أما إذا علمت أن هجرانك لهذا العاصي قد يزيده معصية، ويجعلك لا تنكر عليه شيئاً، ويجعله إن كان يجاملك في الماضي بأشياء ربما لا يبالي بك بعد هجره، فحينئذٍ يكون عدم الهجر أولى من الهجر، فالهجر أمر مصلحي يخضع لنوعية الشخص المراد هجره، وطبيعة الظروف المحيطة به. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 59 حكم هجر الأهل هروباً من الفتنة السؤال يقول السائل: ما تقول في بعض الشباب الذين كثيراً ما يهجرون أهليهم وأسرهم ويبتعدون عن البيت، بحجة أنهم مع أقرانهم الشباب الطيبين؟ الجواب الذي أراه أن من واجب الشاب المسلم أن يكون أنموذجاً في كل مكان، وأن يعطي لأهله القدوة الحسنة؛ لأن هذا الشاب مطلوب منه أن يؤدي دوره داخل البيت في إزالة المنكرات، وفي تعليم أهل البيت ما يجهلونه من أمور دينهم، فإذا كان لا يجلس في البيت إلا قليلاً انشغالاً مع أصحابه أو كراهية للجلوس في البيت؛ لأنه قد يوجد فيه بعض الأشياء التي تضايقه، فإن هذا يترتب عليه ضعف تأثيره في البيت، فيزداد ما في البيت من المنكرات والمعاصي، ويصبح في البيت شخصاً عادياً لا تأثير له. والذي انصحهم به أن يدخلوا مع أهلهم ويشتغلوا بقضاء حوائجهم ويشاركوهم في مناسباتهم، ومع ذلك يحرصون على أن يكونوا مؤثرين بالأسلوب اللين الحسن، فإن العادة أن الكبير قلّ أن يقبل من الصغير، إلا إن كان ممن وفقه الله بقبول الحق ممن جاء به، كبيراً كان أم صغيراً؛ ولذلك عليك ألا تكون قاسياً؛ بل اطرح ما لديك بأسلوب جيد. ومن الأساليب الجيدة إذا أردت أن تعطي أهلك أو تبلغهم بأمر من الأمور ألا تأتي به من نفسك؛ لأنهم سيقولون حينئذ: أنت لا تفهم شيئاً من أمور الدين، فالحل أن تختار كتاباً لأحد العلماء المشهورين، فيه نفس المسألة التي تريد أن تقولها، فتأتي لأهلك فتقرأ عليهم هذه المسألة من هذا الكتاب، وتقول لهم هذا كلام الشيخ فلان بن فلان؛ لأنهم حينئذ سيقبلون الكلام لا لأنه منك، ولكن لأنه من كلام الشيخ فلان بن فلان، وهذا من الحكمة والموعظة الحسنة. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 60 حكم تشجيع القائمين بالسنن السؤال يقول السائل: يقال أحياناً للقائم بعمل سنة: أنك متشدد؛ فأرجو إيضاح ذلك. الجواب لا ليس متشدداً، بل القائم بعمل سنة من السنن مثاب مأجور على عمله، وهو أولى برسول الله صلى الله عليه وسلم من المفرطين والكسالى والقاعدين. وأقول بهذه المناسبة: أيها الإخوة، إن استطعنا أن نقوم بالسنن التي يستحب لنا فعلها فبها ونعمت، وينبغي لنا ألا نحرم أنفسنا هذا الخير، فإن لم نستطع فعلى أقل الأحوال علينا أن نكون معينين لمن يقوم بهذه السنة، وعلينا أن نفرح إذا سمعنا من يؤديها ونشجعه على ذلك، ونثني عليه خيراً ليكتب لنا بعض الأجر مقابل تشجيعنا لعمل الخير، فقد قال الله عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وهذا من التعاون على البر والتقوى. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 61 حكم إتيان الرخص السؤال يقول السائل: الإسلام دين اليسر والسهولة، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} وبعض الناس إذا عمل بهذه الرخص قيل له: من تتبع الرخص فقد تزندق، فما رأي فضيلتكم بذلك؟ الجواب أما قوله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن تؤتى رخصه} فهو حديث صحيح، لكن المقصود هنا بالرخص هي الرخص التي تنسب إلى الله، فرخصه، أي: رخص الله تعالى التي رخصها لنا، مثل القصر في السفر فهو مستحب، وقال بعضهم هو واجب، ومثل الجمع في السفر لمن احتاج إلى ذلك، ومثل الفطر في السفر لمن احتاج إلى ذلك، فهذه كلها من الرخص الشرعية، وهناك رخص للمحتاجين والمضطرين معروفة في كتب الفقه. أما قول بعضهم: من تتبع الرخص فقد تزندق، فلعلهم يقصدون بها من تتبع الرخص الفقهية، بمعنى: أن أبحث في المذاهب الفقهية فإذا وجدت مذهباً يرخص في أمر من الأمور اتبعت هذه الرخصة لا لأنها رخصة شرعية، ولا لأن الدليل معها، ولكن لأن فيها تيسير وأنا أحب الرخص، فآخذ من كل مذهب ما يناسبني من الرخص، وهذا قد يكون فيه نوع من الانحراف بلا شك؛ لأن كل مذهب فيه رخص، فإن شئت أن تأخذ بالمذهب كله بشدائده ورخصه فنعم، وإن شئت أن تبحث في الأدلة الشرعية وتعرف الحلال من الحرام بالأدلة إن كنت أهلاً لذلك، فهذا هو المتعين عليك، أما أن تأخذ بالتشهي ما يروق لك ويعجبك فهذا لا ينبغي ولا يصلح. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 62 حكم التشدد بحجة الخوف من الله السؤال يقول السائل: بعض الناس يشدد بحجة خوفه من عذاب الله إن لم يعمل بهذا العمل واقتناعه بأنه يلزمه هذا العمل، فبم توجه هؤلاء؟ الجواب أوجه هؤلاء بالكلام الذي سقته في الكلمة السابقة. فإذا كنت تخاف من عذاب الله فاعلم أن الذين يعذبون بعذاب الله نوعان: النوع الأول: هم المفرطون في حدود الله من الكفار والفساق وغيرهم. النوع الثاني: هم المتعدون لحدود الله، وانظر إلى الخوارج مثلاً حيث كانت جباههم دائماً في سجود على الأرض حتى أثر فيها ذلك، فصارت كأخفاف الإبل، وكانوا أمضاغ عبادة وأطلاح السمر، صفر من كثرة الصيام والقيام وقراءة القرآن، فيقرءونه رطباً ولكن لا يجاوز حناجرهم، وقال عنهم صلى الله عليه وسلم: {كلاب النار} وقال: {لو يعلم الذين يقتلونهم مالهم عند الله من الأجر لاتكلوا أو نكلوا عن العمل} وقال: {شر الخلق والخليقة} وقال: {شر قتلى تحت أديم السماء} وقال: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد -أو قتل ثمود-} . إذن فالمعذبون قسمان: المفرطون في حدود الله، والمتعدون لحدود الله، والمطلوب من المسلم أن يكون وقافاً عند حدود الله لا يتعداها ولا يقصر دونها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 63 حكم الزيادة في النافلة السؤال يقول السائل هل الزيادة في النافلة تعتبر تشدداً في الدين -أي: هل الزيادة في السنة الراتبة التي قبل الصلاة وبعدها يعتبر تشدداً- أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب النوافل -أيها الإخوة- على أنواع، فهناك السنن الرواتب وهي معروفة، وهناك نوافل حث عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {بين كل أذانين صلاة} أي: بين كل أذان وإقامة سنة، وقال في الثالثة: لمن شاء، وكقيام الليل وما أشبه ذلك، فإذا فعل الإنسان نافلة من النوافل المطلقة التي لم يرد فيها نص خاص، فإن كان هذا الأمر منسجماً مع ما ذكرنا معطياً كل ذي حق حقه، ولم يبالغ في الزيادة في التعبد، فهذا الأمر لا يعتبر تشدداً. ولكن لو أن إنساناً زاد في ذلك كما يفعله -أحياناً- بعض الصوفية -أو كثير من الصوفية - فتجد أنهم يقومون الليل كله، فلا شك أن هذا الأمر غير مشروع أن يستمر عليه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم وينام، وقد أرشده الله تعالى إلى ذلك بقوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل:2-4] . إذن فالمبالغة في الإكثار من التعبد بدعة، والمبالغة في ذلك تكون بتعدي المشروع. وهناك صورة أخرى تعتبر بدعة وهي أن يشرِّع الإنسان نوعاً من العبادة غير مشروعة؛ لأن العبادات توقيفية فلا يخترع الإنسان من عند نفسه عبادة ويداوم عليها، فلو أن إنساناً داوم على لون من الصلوات -غير المشروعة- في يوم محدد وفي وقت محدد كما يفعله كثير من الناس فيما يسمى بنوع من أنوع الصلاة، وقع فيه كلام بين العز بن عبد السلام وغيره من العلماء، وقد تكلم فيه الإمام النووي وابن الصلاح وغيرهم، ويسمون هذه الصلاة: صلاة الرغائب. فمثل هذه الصلاة وغيرها من الصلوات التي يخترعها الإنسان نقول: لا يجوز أن يبتكر الإنسان من عند نفسه طريقة معينه في التعبد، أما الصلوات المشروعة أو السنن المطلقة، فهذه كلها لا شيء فيها؛ بل يثاب الإنسان على فعلها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 64 حكم ترك الإمامة لمن كان مخلاً ببعض الأركان السؤال يقول السائل: أنه كان إماماً يصلي في مسجد، وبعد ذلك يقول: سمعت أن الإمام لابد أن يكون متماً لجميع الأركان فتركت الإمامة، فما شروط الإمامة مع أنني أجيد التلاوة والقراءة؟ الجواب نعم، أما أن الإمام لا بد أن يكون متماً لجميع الشروط والأركان فهذا لا شك فيه، فالأركان والشروط والواجبات لا بد من الإتيان بها جميعاً، ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يترك الإمامة؛ لأنه حتى وإن كان مأموماً يجب عليه أن يأتي بالأركان والشروط والواجبات، ويستحب له أن يأتي بالسنن والمستحبات، فلا أرى أن يترك هذا الإنسان الإمامة اللهم إلا إن كان يوجد في المسجد من هو أجدر منه بالإمامة فهذا أمر آخر. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 65 حكم إنكار المنكر السؤال يسأل هذا السائل عن قضية حكم إنكار المنكر، وأورد حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} الحديث ويقول الله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] فهل من رأى منكراً وهو يستطيع أن يغيره فلم يغيره عليه إثم؟ الجواب أقول: أولاً: يجب أن نفرق بين الدعوة: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وبين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعل مفهوم الدعوة أوسع من مفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد تدعو إنساناً وإن لم تر عليه خطأً، وقد تدعوه ابتداءً إلى أمر من أمور الدين، وقد تدعو الناس عموماً وتشرع لهم ما يهمهم من دينهم، وإن كنت لا تعلم منهم تقصيراً في ذلك أو إخلالاً به، فهذه دعوة. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يكون لمن قصّر بالإتيان بالمعروف، أو فعل أمراً منكراً، فيجب على من رآه الإنكار عليه، فينكر بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه. وهنا أحب أن أنبهكم -أيها الإخوة- إلى أنه لا يمكن أن يوجد مؤمن على ظهر الأرض يرى المنكر -ويعلم أنه منكر- فلا يتحرك قلبه البتة، فإذا كانت رؤيته للمعروف ورؤيته للمنكر سواء، فهذا ليس بمؤمن- والعياذ بالله، فأقل مراحل الإنكار هو أن يكره قلبك هذا المنكر، ويعلم الله أنك كاره له. أما هل يجب على الإنسان أن يغير: فليس بعد قول الرسول صلى الله عليه وسلم مقال لأحد، فيغير بحسب ما يستطيع، وبحسب الظروف التي تحيط به، ولكن قد يكتنف المنكر ظروف تجعل الإنسان يفكر قبل أن يغير، فإن كان يترتب على التغيير منكر أكبر فلا يجب التغيير، كما مر معنا في قصة الأعرابي الذي بال في المسجد، فهو فعل منكراً ومع ذلك لم يغيره الرسول صلى الله عليه وسلم في البداية؛ لأن التغيير المباشر كان يترتب عليه أن يلوث المسجد كله، وكان يترتب عليه أن يحبس هذا الرجل بوله وهذا يضر به؛ إضافة إلى أنه يترتب عليه كراهية هذا الرجل للدين وأهله، فإذا ترتب على النهي عن المنكر منكر أكبر منه حرم التغيير، وإذا ترتب عليه منكر مثله فهذا مجال اجتهاد، وإذا ترتب عليه منكر أصغر منه، أو لم يترتب عليه منكر وجب التغيير، ولشيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله كلام في ذلك يمكن الرجوع إليه والاستفادة منه. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 66 حكم مصاحبة أهل المعاصي بحجة أن الدين يسر السؤال كثير من الناس يصاحبون أهل المعاصي، ويقولون: الدين يسر، وماذا في مصاحبتهم ولسنا على طريقتهم، ونحن يجب ألا نكون منغلقين، فما رأيكم في هذا الكلام؟ الجواب السائل يعرض أسلوب بعض الناس في مصاحبة بعض الأشرار، فإذا قيل لهم في ذلك، قالوا: الدين يسر وسهوله، ويجب أن ندخل مع هؤلاء الناس، وألا نغلق على أنفسنا عنهم، فأقول: أولاً: إن كل معصية يعلم الإنسان أنها معصية -قد سبق الحديث خلال هذه الكلمة- ففعلها ليس هو اليسر؛ بل فعلها هو الحرج والعسر، وتركها هو اليسر، فهذه هي القاعدة، فكل معصية إتيانها ليس هو اليسر، فلا تأت المعصية وتقول الدين يسر، ولو كان الدين حرج لكان من المعقول أن تأتي هذه المعصية، لكن ما دام أن الدين يسر والحمد لله، فيجب أن تعلم أن من يسر الدين أن تترك المعاصي كلها؛ لأن التشديد والتيسير أولاً ليس بالهوى والمزاج والرغبة والتشهي؛ بل هو بالنص. وثانياً: لأن المسلم يعلم أن الدنيا بعدها آخرة، وأن من العسر كل العسر أن يعرض الإنسان نفسه لعقوبة الله تعالى وغضبه؛ فكل معصية يعلم الإنسان أن فعلها حرج وتركها هو اليسر. وقد يقول قائل: إن هدفي من هؤلاء القوم هو دعوتهم إلى الله عز وجل، فأقول: إن كان الأمر حقيقة في قرارة في نفسك كما تقول فنعم، ولا بأس أن تخالطهم بالأسلوب الحكيم مخالطة جزئية لتدعوهم إلى الله، شريطة أن يكون رفقاؤك الدائمون من أهل الخير والطاعة والصلاح، وجلوسك مع هؤلاء القوم بشكل استثنائي لتدعوهم إلى الله، وشريطة أن تكون تمارس ذلك فعلاً، فلا تتمنى الأماني وتجلس معهم بهذه الحجة وأنت لا تغير شيئاً، وشريطة أن تكون قادراً على التغيير والدعوة، وتلحظ فيهم شيئاً من الاستجابة، ويجب أن تعلم أن الله مطلع على حقيقة نيتك وقصدك وما تكنه في قلبك. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 67 مشكلة اتهام السؤال صاحب هذا السؤال تغلب عليه الحيرة، ويقول: أنا طالب علم مسلم أحب الدين، وأحب أن أعمل أعمال الخير، وبعض الطلاب يقولون: إني مراءٍ؛ لأني أحب مطالعة الكتب وسماع الأشرطة الإسلامية، وأحدهم يقول: منافق، وأنا لم أجد حلاً لهذا الكلام، نرجو من فضيلتكم أن تساعدوني على هذا؟ الجواب أقول: هذا الكلام لا يضر، لأن الإنسان إذا كان واثقاً من طريقه، لا يلتفت إلى المشككين، إنما الذي يلتفت إلى المشككين هو المتشكك من طريقه، إذا كان هناك طريق تسلكه -مثلاً- من البيت إلى المسجد في اليوم خمس مرات، ثم جاءك إنسان، وقال: ليس هذا طريق المسجد، أو ضحك بك، وقال: أنت تريد المسجد: طريق المسجد هذا، وليس الذي تسلكه، لا تلتفت إلى هذا الإنسان؛ لأنك تعلم أنك على الحق، وأنه مشكك، فالواثق من طريقه لا يلتفت إلى تشكيك المشككين وأقول: إن بعض الطلاب قد يكون سبب ما يقوله هو الغيرة، وهذا أمر عرفناه، فقد يكون أحد زملائك يرى أنك تحرص على العلم والقراءة وسماع الخير، وحضور مجالس الذكر، فيحسدك لذلك، ويشهر بك ويصفك بالنفاق أو الرياء كنتيجة للغيرة التي تأكل قلبه، فعليك ألا تلتفت إليه، بل تعامله بالحسنى، وتعفو عنه، وتصفح وتستمر في طريقك. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 68 صحبة الأخيار السؤال يقول: أنا شاب لي أصحاب أخيار، ولا أزكي على الله أحداً، ولكن يأتيني في بعض الأحيان نزوات تجعلني أتركهم ما سبب ذلك جزاكم الله خيراً؟ الجواب صحبة الأخيار هي من أهم المعينات على ثبات الإيمان، انظروا إلى وصية الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يقول تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28] قد يكون الذي يصدك عن هؤلاء الأخيار صديق سوء، يحاول أن يوسوس لك بتركهم، فهذا نقول له: لا تطعه، كما قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف:28] وقد يكون الذي يصدك عنهم: نقص في نفسك، فعليك أن تعلم أنه لن يسد هذا النقص إلا طول صحبتهم ومجالستهم، وقد يكون الذي يصدك خطأ موجود عندهم، فيجب أن تعلم أن الأخ لا يسلم من خطأ لا بد أن تحتمل خطأه، ويحتمل خطأك، وإلا فلن تستطيعوا أن تعيشوا جميعاً، وعليك أن تثبت نفسك معهم، وتكون عضواً فعالاً نشيطاً، حتى يوفقك الله، ويستمر هذا الإيمان، وتثبت عليه حتى الموت إن شاء الله تعالى. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 69 التهاون في الذنوب السؤال هل يعتبر من تيسير الإسلام أن يفعل كثير من الناس كثيراً من المعاصي، ويقولون: إن الله غفور رحيم، أو لو لم يكن لدينا من الذنوب إلا هذا فهو بسيط، أرجو إلقاء الضوء على هذه الناحية أثابكم الله وزادكم علماً وتوفيقاً؟ الجواب أما قضية أنه من التيسير، فنحن اتفقنا أن التيسير ليس بالشهوة، إذا اشتهينا شيئاً قلنا هذا من التيسير، وإذا كرهناه تركناه، التيسير دين، ما جاء في النص فهو تيسير، وما منع منه ففعله حرج وإثم ولا يجوز، هذه هي القاعدة التي ننتهي إليها عليها، ففعل المعاصي هو الحرج بعينه، أرأيتم هل هناك حرج أعظم من أن يوجع الإنسان نفسه في سخط الله؟! أو يعرض نفسه لعذاب الله؟! إذا كنت يا أخي مؤمناً بالبعث وبالجنة والنار وعارفاً؛ أنك ستقف بين يدي الله تعالى، فأنت حينئذ مدرك أن الحرج كل الحرج في فعل المعصية، وأما من يحتج بأن الله غفور رحيم فهذا مثل من يقرأ قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] ويسكت، ويأتي من الآية بنقيض ما تري؛ في حين أن الآية يقول الله تعالى فيها: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4-5] فيعد من سهى عن الصلاة وتخلف عنها هو عكس المعنى ووقف عند قوله فويل للمصلين. نقول إن الله غفور رحيم وهو شديد العقاب، يقول تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وأن وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر:49-50] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] لو علم الإنسان سعة رحمة الله لطمع في جنته كل أحد، ولو علم الإنسان شدة عذاب الله لما طمع في النجاة أحد، فالله شديد العقاب، وهو غفور رحيم، ورحمة الله لا تنال إلا بالعمل الصالح وقال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا} [الأعراف:156] يكتبها لمن؟! للنائمين!! الناعسين!! الكسالى!! الذين تمنوا على الله الأماني!! كلا قال تعالى: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 70 الفتاوى الغريبة السؤال بعض الشباب يتندر -دائماً- بفتاوى غريبة يجدونها لبعض أهل العلم، ويرون اتباعها من التيسير في الإسلام، فما رأيكم؟ الجواب الحقيقة أنا فهمت من أول السؤال فهماً، وفهمت من آخره فهماً آخر؛ لأنه في أوله يقول: يتندر بفتاوى غريبة، ومعنى يتندر: يجعلها من النوادر، أي من الحكايات التي يضحك منها -هكذا افهم- وفي آخر السؤال يقول: ويرون اتباعها من التيسير في الإسلام، فإن كان المقصود من المعنى الأول أنهم يتناقلون فتاوى غريبة لبعض العلماء ويضحكون منها، فأقول: كتب الفقهاء رحمهم الله كثيرة جداً، وقد أستفرغوا وسعهم في خدمة هذا الدين، وكتابة المسائل وإيجاد الحلول لها على وفق اجتهادهم وما يبلغ إليه علمهم، وهم ليسوا معصومين من الخطأ بحالٍ من الأحوال، ولكن لا يجب أن تتخذ أخطاء العلماء فكاهات يتندر بها في المجالس، ويضحك منها، فإن كان في بيانها مصلحة للآخرين كالتحذير منها، فهذا قد يكون لا بأس به والله أعلم، خاصة لو كانت هذه من الأخطاء والشذوذات المشهورة، أما إن كان مقصود السائل المعنى الثاني وهو أنهم يأخذون ما يعجبهم من فتاوى العلماء، ويرون أنه من التيسير، فقد سبقت الإجابة على هذا السؤال قبل السابق. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 71 أخذ الأيسر من أقوال أهل العلم السؤال فضيلة الشيخ، يظن بعض الناس أن اتباع الأيسر من فتاوى أهل العلم، دارج على قاعدة التيسير، مع أنهم لا يلتزمون شيخ بعينه أو مذهب معين، أجيبونا أثابكم الله؟ الجواب إن بعض الناس يأخذون من الأحكام والفتاوى ما يناسبهم ويسهل عليهم، ويرون أن هذا من يسر الدين، وهؤلاء الناس هم أحد صنفين: إما أنهم طلاب علم، ويملكون معرفة الأدلة والبحث في كل مسألة، فهؤلاء لا يجوز لهم أن يأخذوا بالأسهل، بل عليهم أن يبحثوا؛ حتى يترجح عندهم بالدليل الصحيح قول من الأقوال، فيعملوا به، بغض النظر عما إذا كان أسهل، أو أشد. الصنف الثاني: أن يكونوا من العوام ممن لا يملكون البحث ولا طلب العلم، فهؤلاء حكم العلماء وأهل الأصول بأن شأنهم التقليد، فينظر إلى عالم من العلماء الذين يثق بعلمهم ودينهم، وعفافهم وصيانتهم، ويتابعه فيما يشكل عليه من أمور دينه، ويأخذ فتواه ما يرى منها صعباً وما يرى منها سهلاً، أما أن تسأل هذا الشيخ عن مسألة، فإذا أفتاك بما تحب أخذت به، وإذا أفتاك بما تكره ذهبت إلى غيره، فهذا يخشى أن يكون فيه شبه من اليهود الذين قال الله فيهم: {يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا} [المائدة:41] يأتون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقولون: إن أفتاكم بما تحبون فأقبلوا، وإن أفتاكم بغير ذلك، فاحذروا، فالمسلم قد عقد العزم على المتابعة لله، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم في المنشط والمكره، وكلمة الإسلام غالية، وليس مجرد كلمة تقال باللسان. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 72 العادة والشرع السؤال يرى بعض كبار السن أن ما درجوا عليه من عادة هو الشرع، وإذا رأى من أولاده خلاف ما اعتاده شنع عليهم، ما رأيكم في ذلك؟ الجواب هذا أيضاً سبق الإجابة عليه أثناء هذه الكلمة، فالمسلم لا يعبأ لا بالمعروف ولا بالعرف، ولا بما درج عليه الآباء والأجداد، وإنما شأنه وديدنه اتباع النص، وكما يقولون: إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، ويقول الآخر: دعوا كل قول عند قول محمد فما آمنٌ في دينه كمخاطر فالمتبع للسنة آمن في الدين، أما الذي يتبع الأهواء والمألوف فهو مخاطر، ولذلك أقول ليس عرف الآباء والأجداد من مصادر هو التشريع، مصادر التشريع هي: القرآن والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وما تبع ذلك من المصادر التي عدها الأصوليون وأقروها، أما الرؤى والأحلام والقياس الفاسد، والرغبة والهوى، والأشياء التي أخذناها عن الآباء والأجداد، فهذه كلها ليست من مصادر التشريع، ولا تحل حراماً، ولا تحرم حلالاً، ولذلك أحذر إخواني من التأثر بذلك، وقبل أن أترك الجواب عن هذا السؤال أحب -أيضاً- أن أشير إلى ناحية أخرى؛ قد يكون هناك أمور كثيرة درج الناس على خلافها، فاعتادوا غيرها، فيأتي طالب علم يعلم أن هذه الأشياء لا بأس فيها، فقد يصادم الناس بأمور لم يتعودوها، فيترتب على ذلك مفاسد، وتثور فتن في أمور بسيطة، ولذلك تجد -مع الأسف- المسلمين مشغولين بقضايا تافهة؛ لأنها ليست من الدين أصلاً، إنما هي من عقولهم حاولوا أن يبحثوا لها عن أدلة، فهم مشغولون في أمور فلكية، أو في صناعات، أو في أمور طبية، أو اجتماعية أو غيرها ليس لها حكم في الإسلام، بل هي من الأمور المسكوت عنها، المتروكة لاجتهاد البشر، ومع ذلك تثور المعارك بينهم من أجل ذلك، فالأولى بطالب العلم أن يكون حكيماً في إيصال ما لديه من العلم إلى الناس، وألا يصادم العامة بما يكرهون، حتى لا يصيبه ما يكره، وحتى يقبلوا منه ما عنده من الحق، والإنسان يجب أن يأتي الأمور من أبوابها. الجزء: 177 ¦ الصفحة: 73 التهاون في ترك صلاة الجماعة السؤال فضيلة الشيخ مما نشاهده الآن -وللآسف الشديد- التهاون بأداء صلاة الجماعة في المسجد عند كثير من الناس، ويدعي أنه يصلي في البيت بحجة أن الإسلام يسر وليس بعسر، ما توجيهكم لذلك جزاكم الله خيراً؟ الجواب الإجابة على هذا السؤال سبقت، فقد ذكرت لكم أن الله عز وجل لما أمرنا أن نجاهد فيه حق جهاده، عقب على ذلك وقال: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] إذاً فالجهاد حق الجهاد ليس فيه حرج، لأنه من أمر الله، والله يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى في الشريعة وفي العقيدة وغيرها، فصلاة الجماعة يسر لا حرج فيها ولا مشقة، وكل ما في الأمر أن المسلم الذي فهم معنى الإسلام حقيقة عليه أن يعرف هل هذا الأمر من الدين أم لا؛ فإذا كان من الدين لا يدخل أهواءه في ذلك، وإذا لم يكن من الدين فالمجال أمامه مفتوح أن يفعل أو لا يفعل، فعلى سبيل المثال: صلاة الجماعة في القرآن والسنة لها أدلة كثيرة جداً تدل على وجوبها، وليس هذا مجال بسطها، ويكفي منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعمى: {أجب} وقوله صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: {لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة مع الجماعة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} إنَّ المشفق على هذه الأمة والحريص عليها والرحيم بها يحرق أو يهم بتحريق قومه بالنار، وما هم بتحريقهم إلا لفعلهم جرماً عظيماً، وصلاة الجماعة تفعل حتى حال القتال والمسابقة، كما في صفة صلاة الخوف الكثيرة، ولذا صلاة الجماعة واجبة، على القول الصحيح عند جمهور العلماء والصحابة والتابعين، وإذا علم المسلم أنها واجبة، فليس عنده خيار أن يقول: إن الله كلفنا المشقة، اللهم لو كان هذا الإنسان كبير السن؛ لا يستطيع أن يسير إلى المسجد إلا بكل كلفة وصعوبة، أو يشق عليه هذا الأمر من مرض أو من غيره من الأسباب الطارئة، أما المسلم المعافى القادر، فليس له عذر بحال من الأحوال، وصور نفسك مكان عبد الله بن أم مكتوم، أعمى، بعيد الدار، ليس له قائد يلازمه، وبينه وبين المسجد وادٍ كثير السباع والهوام، يجيبه الحريص على الأمة والمشفق عليها بقوله: {أجب} . الجزء: 177 ¦ الصفحة: 74 الفرقة الناجية والفرقة الضالة تكلم الشيخ عن أهمية طلب العلم وأن هناك صفات للخوارج وغيرهم من أهل البدع، وفرَّق بينهم وبين الفرقة الناجية التي تأخذ بالكتاب والسنة على فهم الصحابة، وختم بذكر أنواع الناس من حيث الانتفاع بالوحي وضعفه وعدمه. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 1 أهمية طلب العلم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم. أما بعد: نتكلم في هذا الدرس -إن شاء الله- عن إشارات تربوية في السنة النبوية، وفي اعتقادي أن طالب العلم لا ينبغي أن يكتفي بأخذ الأحكام والحلال والحرام، وهذا وإن كان لا بد منه إلا أنه لا يكفي وحده، فأنت حين تقرأ القرآن الكريم تجد أن الله عز وجل ينزل آية الوعيد بادئةً ببيان حكم من الأحكام، وكذلك آية الرحمة، فإذا حرَّم أمراً عقب عليه بذكر عقاب الله تعالى وأخذه للعصاة، وإذا أوجب أمراً عقب عليه بذكر الجنة ونعيمها وما أعده فيها، وذلك من أجل أن يكون قلب الإنسان مستعداً لتلقي الأحكام الشرعية. ومن حكمة الله: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، وهو يدعو إلى العقيدة، ولم ينزل من الأحكام إلا القليل، فلما هاجر إلى المدينة وقوي الإيمان في نفوس الناس، وصار لديهم استعداد قوي لتنفيذ الأوامر، وصار الواحد منهم كالجندي في المعركة ينتظر الأوامر لينفذ، بدأت الأحكام تنزل بكثرة حتى نزل في المدينة كثير من الأحكام الشرعية التفصيلية، وهذا يؤكد أن طالب العلم مع شدة حاجته إلى معرفة الحلال والحرام والأحكام التفصيلية، أيضاً حاجته أشد إلى معرفة الأمور القلبية، والأشياء التي تزيد من حرصه على التطبيق والتنفيذ، ومن تباعده عن مخالفته لأوامر الله عز وجل، وتجعله أكثر انتفاعاً بالقرآن والسنة. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 2 وصف الخوارج وهناك أحاديث كثيرة جداً، فيها فوائد عظيمة في هذا الموضوع، وأذكر منها الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في وصف الخوارج حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية -ثم قال صلى الله عليه وسلم في كلام عجيب بليغ- يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يرى فيه شيء، وينظر إلى رصافه فلا يرى فيه شيء، وينظر إلى نضيه فلا يرى فيه شيء، وينظر إلى قدحه فلا يرى فيه شيء، قد سبق الفرث والدم} . أولاً: الكلمات والمعاني الموجودة في الحديث، بقوله صلى الله عليه وسلم: {يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم} ما معنى كونه لا يجاوز تراقيهم؟ خلاصة كلام العلماء وشراح الحديث في تفسير هذه الكلمة، أمران: الجزء: 178 ¦ الصفحة: 3 عدم فهم الخوارج لمعاني النصوص الأمر الأول: أن هؤلاء القوم يقرءون القرآن، ولا يفهمون معانيه، ولا يتدبرونه، ولا ينتفعون به، بل ما وجدوا من القرآن مما يناسبهم أخذوا به، وما وجدوا مما يخالف ما هم عليه اشتغلوا بتأويله وصرفه عن ظاهر معناه، فمثلاً: إذا سمعوا قول الله عز وجل: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:14-16] قال الخوارج: هذا دليل على أن كل من عصى الله فهو كافر مخلد في النار، وأن من دخل النار لا يخرج منها، حيث قال تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل:15] أي: لا يصلاها إلا البالغ الغاية في الشقاء: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل:16] . فدل هذا عندهم على أن من دخل النار لا يخرج منها، وبذلك أنكروا خروج عصاة الموحدين من النار إلى الجنة، وهذا أمر ثابت متواتر بالقرآن والسنة، وأنكروا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، والشفاعة أمر ثابت بالقرآن والسنة، وحكموا بكفر مرتكب الكبيرة، أو مرتكب المعصية، أخذاً بهذه الآية، وكأنهم لم يقرءوا في مقابلها قول الله عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] ثم قال في الآية التي تليها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] . فإن الله تعالى قد أثبت للمتقاتلين الإيمان والأخوة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الحجرات:9] فأثبت لهم الإيمان، وأثبت لهم الأخوة: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] . فدل هذا على أن الإنسان قد يقع في المعصية، ومع ذلك لا يكفر إلا أن تكون هذه المعصية هي الشرك والعياذ بالله فالشرك بالله مخرج من الإسلام، أما المعاصي فهي من أمر الجاهلية كما قال الإمام البخاري: باب المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر بها صاحبها إلا بالشرك، فالخوارج أخذوا ما يناسبهم، ويناسب مذهبهم فيما يزعمون، وهو قوله تعالى مثلاً: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى} [الليل:14] أو {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} [الجن:23] ونسوا قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] وقوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] وهو القاتل هاهنا والمقتول، فاعتبرهم إخوه، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة. بل من أصرحها قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] . فهذا هو الوجه الأول في معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا يجاوز تراقيهم} أي: لا يفهمون معانيه ولا يتدبرونه ولا يعملون به. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 4 لا يرفع لهم أجر والوجه الثاني: أن قوله: {لا يجاوز تراقيهم} معناه: لا يرفع لهم أجره ولا يكتب لهم ثوابه، فهم يقرءون القرآن وعملهم هذا حابط عليهم، وليس لهم، فالقرآن لا يجاوز تراقيهم لسببين: الأول: وكلا المعنيين صحيح، فيقال: إنه لا يجاوز تراقيهم ولا يكتب لهم أجرهم، لماذا؟ لأنهم لم يقرءوا القرآن ليعرفوا الحلال والحرام، والحق والباطل، والهدى والضلال، بل قرءوا القرآن ليعلموا ما يوافق بدعتهم في الظاهر، فيؤلونه على ما يريدون، وأما ما يخالف بدعتهم فيردونه ويئولونه، فما يوافق بدعتهم يأخذونه كما يريدون، وما يخالف بدعتهم يؤولونه ويصرفونه عن ظاهره، ولذلك لا يكتب لهم أجره. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 5 مروقهم من الدين ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} فما المقصود بالرمية؟ المقصود بالرمية: هي الشيء المرمي، فهي كما يقول أهل اللغة: فعيل بمعنى مفعول أي: المرمي، والشيء المصيد. فهم يمرقون من الدين، كما يمرق السهم من الرمية، وكيف يمرق السهم من الرمية؟ بين لك الرسول صلى الله عليه وسلم كيف يمرق السهم من الرمية، والعرب: لهم طريقة خاصة في صناعة السهام معروفة لدى بعضكم، وهي تجعل السهم إذا أصاب طائراً فإنه ينفذ فيه ثم يخرج بسرعة شديدة جداً، حتى أنك تأخذ السهم بعد ما خرج من الرمية، فتنظر في نصله -وهي الحديدة- فلا ترى فيه شيئاً من دم، وتنظر في رصافه وهو العصب الذي يعصب فيه السهم فلا ترى فيه شيئاً من الدم ولا من الفرث، وتنظر في نضيه: وهي الخشبة التي تبرى حتى تصبح دقيقة جداً فهو نضي بمعنى دقيق ضعيف، فلا تجد فيها شيئاً من أثر الفرث والدم، وتنظر في قدحه -أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {في قذذه} وهو القدح، وهو ريش السهم- فلا تجد فيه أثراً لهذه الأشياء. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 6 خلاصة التشبيه وخلاصة هذا التشبيه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم شبه هؤلاء القوم لسرعة دخولهم في الإسلام، ثم خروجهم منه بالسهم الذي دخل في الطير المصيد بسرعة فائقة، وخرج منه قبل أن تتفجر العروق والشرايين بالدم، وقبل أن يصيبه شيء من ذلك، فتنظر في السهم بعد أن خرج من الصيد فتتعجب، ليس فيه دم ولا فرث، ولذلك عقب الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث بقوله: {قد سبق الفرث والدم} أي: هذا السهم الذي رمي خرج بسرعة، وسبق الفرث والدم فلم يصبه شيء منه، وهكذا هؤلاء القوم دخلوا في الإسلام بسرعة وخرجوا منه، وقرءوا القرآن وخرجوا منه ولم يتأثروا به. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 7 عموم الحديث في أهل البدع وهذا -أيها الإخوة- ليس خاصاً بالخوارج فقط، بل هو عام في سائر أصحاب البدع، ولذلك نبينا صلى الله عليه وسلم لما ذكر الفرق الضالة قال: {افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار -ومن هؤلاء الفرق الخوارج الذين هذا شأنهم- إلا واحدة وهي: ما أنا عليه وأصحابي -وفي رواية: الجماعة-} وقد صح الحديث بهذين الوصفين، والحديث ورد بصور عدة، حيث وصفهم: {بالجماعة} و: {ما أنا عليه وأصحابي} ووصف ضدهم -يعني الفرق الضالة- بما تقدم. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 8 خصائص الفرقة الناجية في تلقي نصوص الوحي إذاً: الفرقة الناجية ما هي طريقتها في أخذ القرآن والسنة؟ ما هي طريقتها في تلقي نصوص الوحي؟ طريقتها هي طريقة الجيل الأول؛ لأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هم الذي اتفق العلماء على أنهم الفرقة الناجية، ومن كان على ما كانوا عليه. فانظر إلى أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام كيف كانوا يأخذون الوحي والقرآن والسنة، وفي هذا المجال يشار إلى أربع خصائص أذكرها باختصار:- الجزء: 178 ¦ الصفحة: 9 معايشتهم لوقت التشريع أولاً: أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا معايشين للنبي صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر والظعن والإقامة، فكانوا يعرفون الملابسات والأسباب التي نزلت فيها النصوص، ولذلك كانوا أكثر الناس إيماناً بالنصوص، وأكثر الناس فهماً لها رضي الله عنهم، وهذه قضية مهمة جداً، بحيث يقال: كل فهم للقرآن والسنة مخالف لفهم الصحابة فهو مردود على صاحبه، ولا يقال: هؤلاء رجال ونحن رجال؛ لأن الله زكاهم، والرسول صلى الله عليه وسلم زكاهم، فكل فهم للقرآن والسنة مخالف لفهم الصحابة فهو مردود على صاحبه. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 10 فصاحتهم ثانياً: أنهم كانوا عرباً أقحاحاً فصحاء، يعرفون معنى القرآن والسنة، ولم تختلط ألسنتهم بشيء من العجمة أو اللكنة التي دخلت فيمن بعدهم، فكانوا يفهمون المعاني المرادة بلغة العرب، بخلاف من جاءوا بعدهم. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 11 سلا متهم من البدع والأهواء ثالثاً: أن الله عز وجل حماهم وعصمهم من أن يتلبس أحد منهم بشيء من البدع، فقد انتهى جيل الصحابة، ولم يقع واحد منهم في بدعة من البدع على الإطلاق، ولذلك فهم حين يفهمون من القرآن أو من السنة شيئاً يفهمون أن هذا هو مراد الله، ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس تعصباً لبدعة أو هوى، بخلاف كثير ممن جاءوا بعدهم، فقد بدءوا يميلون بالنصوص يميناً وشمالاً لتوافق أهواءهم. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 12 قرب عهدهم بالوحي رابعاً: أن قرب عهدهم من وقت التشريع أعفاهم من سلسلة الإسناد الطويلة، فكانوا يأخذون مباشرة، فيسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، أما من جاء بعدهم، وخاصة من المتأخرين، فقد جاءت الأسانيد، ولذلك تجد أن العلماء يختلفون في تصحيح الحديث أحياناً أو تضعيفه، والتبس على كثير من الناس الحق بالباطل، بل وصل الحال ببعض الجهال إلى ألا يقبل كثيراً من الأشياء الواردة الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: أن هناك أحاديث ضعيفة قد يكون هذا منها، ولا يأخذ بكلام أهل العلم الذين صححوا هذا الحديث. ولذلك يقول عبد الله بن عباس كما في مقدمة صحيح مسلم: [[كنا إذا سمعنا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا]] أي: من شدة تلهفهم إلى معرفة السنة، سمعوا أحداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارهم. ولذلك كان عبد الله بن عباس رضي الله عنه مع أنه من صغار الصحابة، يروي كثيراً من الأحاديث، وهي ما يعرف بالمراسيل، والمراسيل التي رواها ابن عباس عن غيره من الصحابة: عن أبي هريرة، وعن الفضل بن العباس، وعن ابن عمر، وعن غيرهم من الصحابة كثيرة، حتى قيل: إنه لم يروِ عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، إلا نحو أربعين حديثاً، وما عدا ذلك فهو من المراسيل. فيقول ابن عباس رضي الله عنه: [[فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما نعرف]] . فهذه أربع خصائص لجيل الصحابة رضي الله عنهم. فالخاصية الأولى هي: معايشتهم لوقت التشريع، ومعرفتهم بأسباب النزول. الخاصية الثانية هي: فصاحتهم. الخاصية الثالثة هي: سلامتهم من البدع والأهواء. الخاصية الرابعة هي: قرب عهدهم بالوحي وعدم حاجتهم إلى سلسلة الإسناد التي قد يلتبس على بعض الناس الصحيح بغيره. ولذلك نقول: إن فهم الصحابة رضي الله عنهم للقرآن والسنة هو الفهم الصحيح الذي يجب أن يكون مقياساً لمن جاء بعدهم من الناس، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في وصف الفرقة الناجية: {من كان على ما أنا عليه وأصحابي} . الجزء: 178 ¦ الصفحة: 13 أصناف الناس بالنسبة لانتفاعهم بالوحي بعد جيل الصحابة وإضافة لهذا الحديث نقف الآن بإيجاز عند أصناف الناس الذين قل انتفاعهم بالوحي أو انعدم، ولم يهتدوا بهداية الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفعوا من الوحي، إما أنهم لم ينتفعوا بالكلية أو أنهم انتفعوا انتفاعاًً جزئياً. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 14 عدم الانتفاع بالوحي بالكلية أما الذين لم ينتفعوا بالكلية فهم الكفار الذين ردوا وحي السماء جملة وتفصيلاً، وقد ذكرهم الله تعالى بقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] فهم لا يستفيدون من الآيات الشرعية ولا من الآيات الكونية، فأما الآيات الكونية، فمثل ما يرون في الكون وفي الأنفس من الآيات الدالة على وحدانيته وقدرته، وأنه هو المستحق للعبادة، فلا ينتفعون بذلك، بل ينظرون إليها، ويقولون: إنها خلقت باطلاً أو لهواً وعبثاً، كما قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] فهم لا يستفيدون من الآيات الكونية ومن رؤيتهم للأرض أو للشمس أو للقمر أو للسماء أو للإنسان وما فيه من بديع الصنع. وكذلك لا يستفيدون من الآيات الشرعية، والمقصود بالآيات الشرعية، القرآن الكريم، فهم لا ينتفعون به، ولا يزيدهم إلا خساراً، كما قال تعالى: {وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82] فهم لا يزيدهم نزول القرآن إلا بعداً؛ لأنهم يكذبون به، وكلما كذبوا بوحي جديد زاد كفرهم، ولجوا في العناد، ولأنهم يجهدون في الرد عليه وصد الناس عنه وتحذير الناس منه، فيزدادون كفراً إلى كفرهم، وهؤلاء هم الصنف الأول، وهم الذين حرموا هداية الوحي ونفعه، وهم الكفار، وحرمانهم منه حرمان كلي مطلق، والعياذ بالله. الجزء: 178 ¦ الصفحة: 15 الانتفاع الجزئي بالوحي والصنف الثاني: هم من حرموا من هداية الوحي من بعض الوجوه دون بعض، بمعنى أنهم مسلمون في الجملة، لكن عندهم مانع حال بينهم وبين الانتفاع بنصوص الوحي كما ينبغي، ولو في جانب من الجوانب، وهؤلاء أصناف من الناس. الصنف الأول: هم أهل الأهواء والبدع الذين استقرت في نفوسهم البدعة والهوى، وصاروا يقرءون في القرآن والحديث ليبحثوا عما يؤيد بدعتهم، ويلتمسوا منها ما يناسبهم في ذلك، وهؤلاء فيهم شبه كبير من الصنف الأول -الكفار- في عدم استفادتهم من الوحي. ولذلك قرن الله تعالى بين هذين الصنفين في كتابه، ولو التفتنا إلى الآية لوجدنا هذا ظاهراً، فبعد أن ذكر الله عز وجل في الآية السابقة الكفار من أصحاب النار الذين ذرأهم لجهنم من الجن والإنس، والذين لم يستفيدوا من عقولهم، لا بالآيات الشرعية ولا بالآيات الكونية، وقال: {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] عقب بقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] فجمع بين الذين يلحدون في أسماء الله عز وجل وبين الكافرين، سواء كان هذا الإلحاد في أسماء الله كأن يسمى غير الله بها، أو بصرفها عن معانيها الظاهرة إلى معانٍ غير صحيحة، أو بتسمية الله عز وجل بأسماء ليست صحيحة لم يسم بها نفسه ولا سماه بها رسوله، أو غير ذلك من ألوان الإلحاد، فهذا نوع من الهوى. ولذلك كان من أصحاب الأهواء المعتزلة والجهمية وغيرهم من الذين أولوا أسماء الله وصفاته عن معانيها الحقيقية إلى معانٍ أخرى مجازية، ومنهم من قال: إن هذه الأسماء هي أعلام لا تدل على صفة، وكوننا سمينا الله بالرحمن الرحيم، لا يعني وصفه بالرحمة عندهم، وهؤلاء هم المعتزلة، وإنما هي مجرد علم، كما يسمى الإنسان محمداً أو عبد الله، فألحدوا في الاسم ونفوا عنه الصفة التي يأخذها ويدل عليها، فهؤلاء -أيضاً- حرموا من هداية الوحي من هذا الباب، واستسلموا لفكرهم وأهوائهم، أو استسلموا للفلسفات اليونانية التي أفسدت على المسلمين كثيراً من علومهم. وقال سبحانه في آية أخرى عنهم: {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7] فبين أنهم يتبعون المتشابه، في حين أن أهل العلم والإيمان يحملون المتشابه على المحكم ويردونه إليه، فيسلمون من اتباع المتشابه. ولذلك عقب بقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) [آل عمران:7] وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية، وهي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ)) [آل عمران:7] ثم قال: فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله فأحذروهم} . ولذلك تجد أن أهل البدع كلهم قد يستدلون بالقرآن، أو بالحديث على بدعتهم وهم يستدلون بعمومات ونصوص متشابهة كان عليهم أن يردوها إلى النصوص الظاهرة البينة. وقد رأيت بعض الضالين المنحرفين ممن يكفرون سواد المسلمين، ويقولون: إن أتباع المذاهب الأربعة كفار، فلما نوقشوا في هذا القول وما دليلهم، قالوا: إن الله يقول: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] فوصف الذي فرقوا دينهم وكانوا شيعاً بأنهم من المشركين، وأهل المذاهب الأربعة هم من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فهم مشركون. ولذلك يتجنبون الصلاة خلفهم، فلا يصلون معهم جمعة ولا جماعة، بل ولا يعتمدون على المسلمين في رؤية هلال رمضان، ولا في رؤية هلال ذي الحجة، ولذلك قد يصومون قبل المسلمين، وقد يقفون بعرفة قبل العيد أو بعده، وكل هذه الضلالات -وأعظم منها وقوعهم في تكفير سواد المسلمين- بسبب شبهة عرضت لهم أو نص عام لو ردوه إلى النصوص الخاصة الصريحة لسلموا من هذا الانحراف. ومع الأسف إن الإنسان إذا تشبع قلبه ببدعة يصعب عليه أن يخرج منها، خاصة إذا كانت هذه البدعة بدعوى أنه يرجع إلى الكتاب والسنة، كما سولت لهم أنفسهم، فهؤلاء ممن حرموا من هداية القرآن والسنة في كثير من جوانب حياتهم، وهم أهل الأهواء. الصنف الثاني الذين حرموا من هداية القرآن والسنة في كثير من جوانب حياتهم: هم الذين انصرفوا عن تعلم الدين واشتغلوا بالدنيا عن الآخرة، والاشتغال بالدنيا عن الآخرة من سيما الكفار، قال الله عز وجل في وصف الكافرين: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] وقال سبحانه: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً. فالذي يؤثر الدنيا ويتعب من أجلها، ويغفل عن تعلم علم الشرع الذي لا بد له منه، قد حرم من كثير من هداية الوحي ونصوصه، وهو عبد لهذا الشيء الذي شغل نفسه في طلبه؛ وكما في صحيح البخاري عن أبي هريرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} فيدعو الرسول عليه الصلاة والسلام عليه، وهذا الحديث عظيم جداً ولابد أن نقف عنده، لكن المقصود والشاهد منه الآن هو قوله: {عبد الدرهم، عبد الدينار} فليست العبودية فقط أن يجعل الإنسان له صنم ويصلي إليه، أو أن يطوف بقبر. ومن أنواع العبودية أن يتجه القلب ويتأله لغير الله، فمثلاً: الذي يؤثر الدنيا على الآخرة، ويقدمها عليها عبد للدنيا، فكيف يؤثر الدنيا على الآخرة؟! هو أن يشتغل بالدنيا عن الصلاة، أو يشتغل بالدنيا عن الصيام، أو يشتغل بالدنيا عن فعل الواجبات، أو تدعوه الدنيا إلى فعل الحرام. كأكل الربا، والسرقة، والنهب، وما أشبه ذلك من الأشياء، فإذا قدم الدنيا على الدين في مثل هذه الأشياء، فقد وقع في شيء من العبودية للدنيا قل أو كثر، ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى: {عبد الدرهم، عبد الدينار} وكأنه جعل هذا الدينار أو الدرهم أمامه وصار يتعبد له، لأن العبودية في الأصل هي خضوع القلب وذله وانقياده، فمن انشغل قلبه بشيء فهو عبد له. الصنف الثالث من الذين حرموا من الانتفاع بالوحي هم: أهل التقليد، الذين يقدمون آراء الرجال وأقوالهم على كلام الباري جل وعلا وعلى كلام المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم، وهم بذلك يخالفون قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الأئمة الذين قلدوهم. فأما مخالفتهم لقول الله فإن الله تبارك وتعالى أمر بطاعته، وطاعة رسوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [المائدة:92] {اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [الأعراف:3] ونعى سبحانه على أهل الكتاب طاعتهم للأحبار والرهبان في تحليل الحرام، وتحريم الحلال، فقال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وتفسيرها الذي لا إشكال فيه، كما يقول الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ هو ما فسرها به النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وصححه وأحمد وغيرهما. {عن عدي بن حاتم أنه قال: يا رسول الله! ما كنا نعبدهم، قال: أليسوا يحرمون عليكم الحلال فتطيعونهم؟ قال: بلى. قال: ويحلون لكم الحرام فتطيعونهم؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم} . وقد عقد الإمام محمد بن عبد الوهاب لهذه الآية باباً نفيساً في كتابه: كتاب التوحيد عنوانه: باب من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله، فارجع إلى هذا الباب، وارجع إلى شرحه في كتاب فتح المجيد فإن فيه كلاماً مفيداً. وأما قول الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه أيضاً أمر باتباع الكتاب والسنة، وقال: {ألا إني أوتيت القرآن، ومثله معه} وأنكر على من رد سنته، وقال: {ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: ما وجدنا في كتاب الله أخذناه الخ} . فأمر بطاعة الله، وجعل طاعته صلى الله عليه وسلم من طاعة الله. وكذلك العلماء الذين يقلدونهم كانوا مجمعين على أنه لا يجوز لأحد عرف السنة أن يخالفها لقول أي عالم من العلماء، يقول الإمام الشافعي رحمة الله: أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد، وقال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: أجمعوا على أن المقلد ليس من الجزء: 178 ¦ الصفحة: 16 السهام الأخيرة إن معركة الإسلام ومواجهته للحرب الضروس من قبل أعدائه، وتكالب أمم الكفر عليه، واستخدام الحكام المسلمين كأيدٍ تضرب الإسلام في وطنه، هي مسألة خطيرة تثير النخوة وتحفز النفوس للدفاع عن هذا الدين، وفي هذا الدرس ما يوضح كثيراً من جوانب هذه المسألة وطرح الحلول لذلك. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 1 التكالب على الإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: رقم هذا الدرس هو السابع والثمانون، وهو في هذه الليلة ليلة الإثنين (5/ من ذي القعدة/ من سنة 1413هـ) ، وأرجو ألا تفاجئوا مرة أخرى بنوع من التغيير فيما وعدتكم به، فسوف أكون مضطراً في هذه الليلة إلى تأجيل الدرس الموعود مرة أخرى، أما في هذه الليلة فسوف يكون حديثي إليكم بعنوان (السهام الأخيرة) . لقد ألح عليَّ العديد من الإخوة في تعليقات متفرقة على الأحداث التي تشهدها الساحة الإسلامية، بما في ذلك بعض الأشياء التي عرضت لها في المجلس السابق، ثم ما تلا ذلك من قرارات جائرة وتصريحات ماكرة وتحليلات وتوقعات في سائر بلاد الإسلام، بل وحتى في بلادٍ غير إسلامية. إن الساحة العربية والدولية تشهد حرباً على ما يسمونه هم بالأصولية، أو التطرف، أو العنف، أو الإرهاب، وقد أصبحت هذه الكلمات تدل على كل معاني الوحشية والقسوة في نظرهم. فيكفي أن يوصم بها شخص ليكون مجتمعاً في نظرهم من النقائص والعيوب خلواً من كل معاني العطف والإنسانية، وتتنادى الدول ضد هذا العدو الجديد الذي يراد له أن يحل محل الشيوعية مع أن الشيوعية هي الأخرى بدأت تجمع فلولها لمعركة مع الجميع، وتتحالف ضد هذه الأصولية. ومن الواضح أن هذه الحرب هي في حقيقتها ضد الإسلام من حيث هو دين الله عز وجل، فليس هناك في عرف هؤلاء نمط مقبول من الإسلام ولا نموذج مرتضى، مهما تنازل المسلمون وتخلوا عن بعض حقائق دينهم. لقد أصبح الجهاد -وهو شريعة مجمع عليها- يطلق عليه في نظر الكثيرين أنه نوعٌ من الإرهاب، أو التطرف، أو العنف، أو التهييج، ولذلك فهو مرفوضٌ في قوانين الأرض، وإن كان مأموراً به في شريعة الله عز وجل. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 2 تجفيف المنابع في بعض البلاد إنك تجد في بلادٍ كبعض بلاد المغرب العربي ترفع شعار تجفيف المنابع، أي: إزالة أي أثر للإسلام في الحياة في التعليم أو في الإعلام أو في المجتمع خشية أن يترك ذلك بعض الآثار على الأجيال، فيكون عندها شيء من الولاء للإسلام؛ مع أن الحياة هناك تريد لها أن تكون حياة غربية، ومع أن الراية الإسلامية المرفوعة هي رايةٌ مرنةٌ جداً، وملطفةٌ جداً، وفيها كثيرٌ من التنازلات، ولكن كل هذا لا يرضي غرور الخصوم، وفي بلد أفريقي تحكمه دولة أصولية -كما يعبرون- هناك قدر كبير من المرونة تبديه، ونوعٌ من الخطاب اللبق للعقلية الغربية، وتنازلات هنا وتنازلات هناك، لكن هذا أيضا لا يرضي الخصوم الذين لا يريدون حتى مجرد رفع الراية الإسلامية. وفي البوسنة فالأمر أظهر وأوضح، فهناك مجتمع كان يقوم على أساس علماني في الأصل، وكان الاختلاط بين الرجل والمرأة، أو شرب الخمر، أو وجود أماكن ترفيه تحتوي على ما حرم الله أمراً مألوفاً في تلك المجتمعات التي يختلط فيها المسلمون بالصرب وبالكروات، وكلا الشعبين -أعني الصرب والكروات- من النصارى، ومع ذلك فالحرب قادت هؤلاء إلى مزيد من الالتزام بالإسلام والعودة إلى جذورهم وأصولهم، وتلك الأوضاع العلمانية التي قام عليها مجتمعهم لم تشفع لهم عند أعداء الإسلام من النصارى المجاورين وغير المجاورين. والغرب يضغط على الجميع ليس هذه الأمثلة التي ضربت فحسب، بل في جميع بلاد الإسلام لاتخاذ مواقف مشابهة في محاربة الفرص الإسلامية، وتمهيد الطريق لدعاة العلمنة، أو دعاة الشهوة لينفذوا بسمومهم إلى مجتمعات الإسلام. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 3 الحرب الإعلامية إن وسائل الإعلام العربية أصبحت تستكثر ساعةً أو ساعتين في اليوم والليلة للإسلام، مع أن الذي يستغلها ويتحدث باسم الإسلام هو ذلك المفتي الرسمي، ولكن كيف نبذل ساعتين للإسلام، ونحن ننادي بإسكات صوت المؤذن من التلفاز، لئلا يفهم أننا دولة دينية أو -كما يقولون- حكومة ثيوقراطية. نعم لقد بلغت الجراءة والوقاحة أن يعرض شيء، نستطيع أن نعبر عنه بالجنس في قنوات تبث للمسلمين كيف؟ نعم إنهم يصورون الحيوانات وهي تتسافد وتتوالد وتتكاثر، ويصورون الأنثى وهي تخطب ود الذكر، ويصورون الذكر وهو يبحث عن الأنثى، بل وهو يقوم معها بالعملية الجنسية، ويتحرك بصورة مثيرة، وهم يقولون من خلال هذه البرامج البريئة في ظاهرها للشاب وللفتاة: إن العملية الجنسية عملية بيولوجية وفسيولوجية تتعلق بالإنسان من حيث تكوينه، وتتعلق بسائر الذكور من المخلوقات، فكما أن الجمل يتعامل هكذا مع أنثاه، وكما أن العصفور يتعامل هكذا مع أنثاه، فهكذا أيضاً يجب أن تتعامل الفتاة مع الفتى، ويعرض هذا في قنوات تلتقط في طول بلاد العالم الإسلامي وعرضها. أما نصف ساعة لبرنامج ديني فهي كثيرة، أما الأذان في هذه الإذاعات والمحطات فهو أيضاً لا داعي له، فهو يظهرنا كما لو كنا دولة دينية، ويوجد في أوساطنا النصارى، ويوجد في أوساطنا اليهود، ويوجد في أوساطنا من لا دين لهم. وحين تتصفح وجوه الجرائد والمجلات هنا أو هناك في أي محلٍ أو مكتبةٍ، أو بقالة سوف تجد للإثارة والإغراء والفن والحب مئات بل آلاف المطبوعات، ولا تستغرب أن تجد صوراً غايةً في الخلاعة والتبذل، أما حين تبحث عن نصيب الإسلام فستجد مجلات تعد على رءوس الأصابع، ثم حين تلج إلى داخلها تجدها تقدم نفسها على استحياء، وتجدها تتراءى أشباحاً في الظلام، وتخاف من عين الرقيب أو من مقصه، فتقول قليلاً وتسكت عن كثير، ومع ذلك فلا تعدم أن تجد صفحةً مقصوصة هنا، وملزمةً منزوعة هناك، والصوت الوحيد -ربما- الذي لا يزال يصل إلى المسلمين هو صوت المنادي في المسجد صوت الخطيب أو المتحدث، وحتى الخطبة هي في طريقها إلى التأميم لتصبح نسخةً طبق الأصل يقرؤها الجميع بلسان واحد، وهناك دعوة جادة لمحاولة جعل خطب الجمعة خطبةً واحدة توزع على الخطباء ليقرءوها من على المنابر، وحينئذ يمكن أن يقرأها حتى طالب المدرسة الابتدائية، لأن الأمر لا يتطلب أكثر من مجرد فك الحروف. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 4 تعليقات سريعة على الأوضاع وإزاء هذه الأوضاع وهي كثيرة كان هناك بعض التعليقات السريعة وهي تتلخص في عشر نقاط أسوقها تباعاً: الجزء: 179 ¦ الصفحة: 5 تاسعاً: ماذا بيدي؟ كلما سمعنا خبراً جديداً تساءلنا، ماذا نفعل؟ ماذا نقول؟ ما هو دورنا؟ ما مهمتنا؟ أنا لا ألومك، ولا أعترض على طريقتك، افعل ما تشاء، واجتهد قدر وسعك في إصلاح أي وضع فاسد أو إزالة أي منكر قائم، أو إيجاد أي معروف قد اختفى وزال، ولا أحد يلومك، فاجتهد وسعك في ذلك، ولكن لا يجوز أن يكون الجهد الذي تبذله مرهوناً بظرف خاص، أو مرتبطاً بمشكلةٍ وقتيه، لا، نحن نريد جهداً دائماً. ويتصور البعض أن الطرق مقفلة، والأبواب مغلقة، والواقع أن الدعوة إلى الله عز وجل لم تشهد خصباً في المجالات، وتنوعاً في الأساليب، وكثرةً في الطرائق كما تشهدها الآن، حتى إنني أقول: لكأنك في أرض جرداء بور لا يملكها أحد. خط برجلك بقدر ما تريد واملك، امش خطوة ينفتح أمامك ألف خطوة، لكن لا تكن هياباً ولا وجلاً ولا متردداً، ولا ذا همةٍ ضعيفة. كن ذا همةٍ قوية، واجعل نطاق تفكيرك أكبر من مدينة أو بلد أو قرية أو حتى دولة، أنت تعيش بين عشرة ملايين، لكن ألا تعلم أن ثمة مائة وخمسين مليون مسلم جاءهم الإسلام عن طريق قليل من التجار الحضارم الذين ذهبوا إلى هناك للتجارة، وحملوا الإسلام على طريقهم، فلماذا لا تكون واحداً من هؤلاء؟ إن الصدمات التي يلقاها المسلمون لا تحطمهم قط، بل هي تنشئ وتعزز وتقوي، وكما يقول المثل: السم الذي لا يقتلك يعطيك المناعة بإذن الله. مثل دنيوي: هذه دولة اليابان اليوم، وهي دولة عزيزة منيعة ممكنة في الأرض، ضُرِبَتْ أمس بالقنابل الذرية ودمرت، ورفعت يديها بالاستسلام المطلق إن هذه القنابل التي نزلت عليهم كانت من أسرار قوتهم، وتمكينهم الذي يشهدونه اليوم، لقد جعلوا من آثارها ميداناً واسعاً يذكرهم ويشد شعبهم إلى مأساة الماضي، ثم يحفزهم إلى الإعداد للمستقبل، وبذل الوسع والجهد في تطويره، ومواجهة العدو بالوسائل المكافئة، فنجحوا مع أنهم لا يملكون الأرض، ولا يملكون الثروة، ولا يملكون أي عامل من العوامل المادية، بل وقبل ذلك لا يملكون العقيدة الصحيحة التي هي سر من أسرار التضحية والبذل والفداء والجهاد. لا يملكون إلا الإنسان الجاد الحازم المصمم على رغم الإفساد الأمريكي، أما نحن المسلمون فكم صدمنا وصفعنا بالأحداث، صفعنا النصارى واليهود والغرب والشيوعيون ومن لا دين لهم، ونحتاج إلى أن نحول من هذه الصدمات فرصةً نجدد فيها العزيمة والصدق مع الله عز وجل. التضحية: إنه لا بد من التضحيات، فلقد أُخرج الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة وكان يمر على القبائل: {من يؤويني؟ من ينصرني حتى أبلغ رسالة ربي؟} فلم يعد نفسه مربوطاً بقبيلة، ولا بظرف، ولا ببلد، ولا بوضع، إنما مهمته هذه الدعوة، من استجاب لها فهو الذي يظفر بمقام النبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيه، ونحن كثيراً ما نحجم عن عمل من الأعمال بسبب المخاوف الوهمية التي لا حقيقة لها، والتي ليست سوى تثبيط من الشيطان، وهي أمور ليست محرمة في الشريعة، ولا ممنوعة في الأنظمة أيضاً، ولكن كما يقال: أذل الحرص أعناق الرجال. افترض أنك ضحيت وضاع شيء من مالك، أو تأخرت الترقية، أو حتى تعرضت للمساءلة، افترض أنك سجنت، فماذا في ذلك؟ هل أنتِ إلا إصبعٌ دميت وفي سبيل الله ما لقيت ولست أبالي حين أقتل مسلماً لى أي جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع إن المسلم يخوض المعركة وهو يبحث عن الموت أو القتل في مظانه، فأي ضيرٍ عليه أن يسجن في سبيل الله، أو يعذب، أو يساءل، أو يتأخر عليه شيءٌ من عرض الحياة الدنيا الزائل؟! إن المصيبة -أيها الأحبة- أن لدينا استعداداً أن نعمل شيئاً، لكن لا نريد أن يهب النسيم على وجوهنا، قد يتطلب الإسلام دمك، وقد قتل غلام فحيت أمة، (باسم الله رب الغلام، آمنا برب الغلام) . نعم آمنوا كلهم، فمات واحد وحيت أمة بأكملها، والله تعالى يقول: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] وهكذا تكون التضحية في أوانها وفي حينها وفي وقتها المناسب. نعم لقد قتل ولم يكن منتحراً يوم دل الملك على الطريقة السليمة التي يتم بها قتله وإزهاق روحه، فقال: اصلبني إلى جذع شجرة، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم الله رب الغلام، بعدما تجمع الناس على صعيد واحد، لم يكن منتحراً، بل كان يفعل عين الصواب، وعين الحكمة، وعين المصلحة، لأنه وإن ذهب هو فقد آمنت هذه الأمة كلها ففقد الناس رجلاً مؤمناً واحداً، وظفرت الأرض بآلاف من المؤمنين الذين صبروا على ما عذبوا وكذبوا وأوذوا، حتى حفرت لهم الأخاديد، وآمنوا بالله عز وجل، وانتقم الله عز وجل لهم من فوق سبع سماوات. ليس ضرورياً أن تكون أنت فارس الميدان الذي لا قبله ولا بعده، لكنك تصلح لشيء ما، وأنت تعلم أنه لما مات الرسول عليه الصلاة والسلام ولى الناس بعده أبا بكر، وبين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر بون شاسع، فهذا نبيٌ مصطفى مؤيدٌ بالوحي من السماء، وهذا خليفة صديق ولكن مع ذلك كان لا بد من هذا. إذاً: فيجب علينا أن نقوم بدورنا دون أن يتصور الواحد منا أنه إما أن يقوم بكل شيء، وإما ألا يقوم بشيء، ليس للدعوة شرط إلا {بلغوا عني ولو آية} أن تتكلم فيما تعلم. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 6 ثامناً: المعركة محسومة الإسلام منتصر، حتى هذه الحرب الضروس التي تدار اليوم ضده هنا وهناك، هي إحدى الدلائل على انتصار الإسلام، فالناس لا يحتشدون إلا لحرب الأقوياء، ولعلها آخر السهام. هو دين الله عز وجل وليس مرهوناً بشخص ولو كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد مات وبقي الإسلام قال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] . دين الله عز وجل أكبر من الأفراد، وأعظم من الجماعات، وأوسع من المذاهب، وأعمق من الاتجاهات، وهو أبقى وأرسخ من الدول والأجناس، وكل من تخلى عن هذا الدين فلا يضر إلا نفسه، فكلما تخلى عنه قوم تلقفه آخرون كما وعد الذي لا يخلف الميعاد، قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وقال: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وقال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38] . وقبل قليل ذكرت لكم أمر العثمانيين: لماذا جاء العثمانيون؟ ولماذا جاء المماليك؟ إنهم ما جاءوا من فراغ، لكن لما تخلت الأمة العربية عن دورها ومهمتها وتميزها بالإسلام، قيض الله له شعوباً وأجناساً أخرى تحمله وتعمل به وتدعو إليه. 1- انتصار الإسلام أمر مقطوع به: إن انتصار الإسلام أمرٌ مقطوع به لا مثنوية فيه، ولا يجوز أبداً أن تستهلكنا لحظة حاضرة أو فترة عابرة، بل اللحظة الحاضرة ذاتها تشهد كل ساعة بميلاد الانتصار الكبير لهذا الدين، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] . إنه التحضير للمعركة الكبرى، المعركة الفاصلة، وإن طال أمدها، وإلا فلماذا يتجمع اليهود مثلاً في فلسطين؟ إنهم يتجمعون للمعركة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديث الصحيح، ولماذا نعرف اليوم أن هناك مأوى وحصناً للإسلام بأرض البلقان على مسافة خطوات من روما، التي هي الهدف الأخير للفتح الإسلامي القادم. إنها الأوراق القديمة تبعث من جديد، لتظهر من خلالها الفرص التي سوف تبرز وتلمع للإسلام وجنود الإسلام القادمين بإذن الله على رغم أنف الكارهين. إن النصر يولد في أعماق الظلام، والفرج يخرج من عمق المعاناة، ولهذا قال الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] وقال: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] . 2- النصر من عند الله: أخي لا تحمل هم النصر، بل احمل همَّ العمل. ففي حديث البخاري يأتي خباب بن الأرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الصحابة، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فيقولون: {يا رسول الله، ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! -لقد كوتهم الآلام والمصائب والنكبات- فيقول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما يعتدل في جلسته: إن الرجل ممن كان قبلكم يؤتى به، فيحفر له في الأرض فيوضع فيها، ويمشط بأمشاط من حديد ما دون لحمه وعظمه من عصب ما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون} . نعم، يقولها صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردةً له في ظل الكعبة، فلا تحمل همَّ نصر الإسلام، نصر الإسلام ليس بالضرورة منك أنت، النصر من عند الله تعالى كما قال سبحانه: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] ولكن منك أنت العمل والإعداد والبذل بقدر ما تستطيع. والنصر يأتي بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله، ولهذا أيضاً في الحديث الآخر المتفق عليه حديث أبي هريرة يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بينا أنا نائم، إذا أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي} نعم وضعت في يده وهو نائم عليه الصلاة والسلام فهذه أمة مرحومة، أمةٌ منصورة، أمةٌ حملها الله تعالى رسالة الإسلام، وكتب لها النصر، لماذا؟ لأنها ليست أمة عِرْق، لا نعني بذلك الأمة العربية مثلاً، أو الأمة الكردية، وإنما نعني بذلك الأمة الإسلامية من أي لون، أو جنس كانوا. الإسلام دين الله عز وجل، والقرآن كتابه، وليس الإسلام أمراً شخصياً يموت بموت صاحبه، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كما في الحديبية: {أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني} . فدين الله تعالى محفوظ ولا ينبغي لك أبداً أن تخاف عليه، وهكذا نور الدين محمود لما قال له القاضي: يا إمام لا تخض المعركة، فإنك إن قتلت انكسر المسلمون، فتبسم وقال: مَن محمود؟! لقد أعز الله البلاد بالإسلام قبلي. لا إله إلا الله، فالدين دين الله، والأمر أمره وهو المتكفل بحفظه وصيانته، وما عليك أنت إلا أن تبذل وسعك لنجاة نفسك لا غير. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 7 سادساً: الدهماء من الناس يتحدث البعض عمن يسمونهم بالدهماء، ويعنون بهم جمهور المجتمع أو عامة المسلمين، ويظنون أن هؤلاء القوم جهلة غير متعلمين، أغبياء لا يفهمون، وهذا الاستخفاف هو في حقيقته استخفافٌ بالأمة الإسلامية وإهدار لطاقاتها، إذ أن الأمة في مجملها من هؤلاء، نعم فيها علماء وطلاب علم ودعاة، ولكن غالب الأمة هم من هؤلاء، ولدى معظم هؤلاء قدرة على الفهم، وقدرة على التفاعل مع الأحداث نعم يمكن أن تخدعهم، ولكنها خديعة مؤقته، وليست خديعة دائمة، بل هذه الخدعة التي تقدمها لهم عبر أجهزة الإعلام، أو عبر طريقة أو أخرى تنعكس، فيصبح كل ما تقدمه لهم مرفوضاً ولو كان حقاً؛ لأنهم جربوا عليك الكذب. 1- استعداد الأمة للمصارحة: إن لدى الأمة استعداداً للمصارحة والتفاهم والتفهم والمناقشة متى وثقت بمن يخاطبها، وقديماً كان فقهاء الإسلام يرفضون التقليد المطلق للأمة، ويطلبون منها على الأقل أن تجتهد في من تختار فتياه، وتقبل قوله، حتى في المسائل الدينية الشرعية، فكيف بغيره. إنه لا يصح أبداً أن تعزل الأمة عن قضاياها، وتبعد عن مشاكلها، وتقصى عن همومها، ويحال بينها وبين الوعي الصحيح وإدراك الأمور على ما هي عليه بحجة أن الأمة لا تعي أو لا تعقل أو لا تدرك أو ليست على المستوى المطلوب أو أنهم دهماء أو أنهم عوام لا يفقهون. وهذا مثال: الإعلام يصور الناس في مصر على أنهم مع الحملة الأمنية مؤيدون لها ضد الإرهاب كما يسمونه، ولكن الأخبار التي تأتي من هناك تؤكد أن الشعب المسلم في مصر يتعاطف مع المسلمين ومع الشباب المتدين، ويؤيدهم، ويقف بصفهم، ويحميهم، وينصرهم، ويتستر عليهم، ولا أدل على ذلك من عجز أجهزة الأمن من ملاحقتهم أو القضاء عليهم، فهم يجدون درعاً حصيناً في المتعاطفين معهم من عامة المسلمين الذين يدركون لماذا يحارب هؤلاء، ولماذا تسكت البنادق الموجهة إلى دولة اليهود وتوجه إلى صدور المؤمنين والشباب الذي يطمع أن يكونوا هم سر الإنقاذ في تلك البلاد. وفي الجزائر يعلنون أيضاً عن تنظيم المظاهرات بعشرات الألوف لشجب الإرهاب وإدانته واستنكاره، ولكن الأحداث تؤكد أن هذه لا تعدو أن تكون تمثيليات محبوكة مضبوطة، وأن هؤلاء الذين يخرجون إنما يخرجون بأجور مرسومة مدفوعة إليهم سلفاً، وأن الشعب المسلم هناك قد أعلن عن كلمته منذ زمن بعيد، وأنه لا يريد إلا الإسلام، ولا يثق إلا بالمسلمين، ولا أدل على ذلك أيضاً من أن معظم الأعمال التي يقوم بها الإسلاميون هناك بغض النظر عن تحديدها أو تشخيصها أو الكلام عن تفصيلها، قلما يمكن التعرف على الذين يقومون بها. إن مجرد ضجيج إعلامي لا يقنع الناس أبداً؛ لأنهم يعيشون الواقع ويشاهدونه، ويدركون أحياناً ما وراء الأحداث، ويخمنون ويتوقعون الدوافع وراء هذا العمل أو ذاك، وهذا التصرف أو ذاك، وهذا القرار أو ذاك. 2- إخلاص رجال الأمة: ومتى وجدت الأمة رجالها المخلصين -أي أمة كانت سواء كانت من الأمم الإسلامية أو من غيرها- شاركتهم في كل شيء ونزلت معهم في الخندق والميدان. هذا زعيم من زعماء الكفر والضلال يذكره التاريخ تشرشل الذي تولى الوزارة في بريطانيا أثناء الحرب العالمية الثانية، وعد الشعب البريطاني بماذا؟ لم يعده بالرفاهية، بل وعده بالدماء والدموع حتى ينتصروا على ألمانيا، أما إذا كنتم تريدون الهزيمة فابحثوا عن رجل سواي، لم يقل لهم: غداً سوف ننتصر، ولم يقل لهم: سوف أحول الدنيا إلى ورق بلا شوك، ولكنه أخبرهم بالحقيقة، وجعلهم يتفهمون ويعيشون كل ظروفها ومجرياتها. إن الأمة الإسلامية أعظم استعداداً من كل أمم الأرض للفهم والوعي والمشاركة والمناقشة، وهذه الأمة على رغم الفقر وقلة ذات اليد، وعلى رغم الجهل وقلة المعرفة، وعلى رغم الحصار الإعلامي، إلا أنها مع ذلك من أقوى الأمم وعياً، وأكثر الأمم نضجاً، وأنت تجد هذه الأمة تحتفظ بفطرتها السليمة وأخلاقياتها، حتى يأتي الرجل الكافر، وقد يكون مثقفاً أو دكتوراً أو أستاذاً أو عالماً في أمور الدنيا، فإذا عاش في عوام المسلمين فترة، قاده ذلك إلى الإسلام، كما فعل محمد أسد وقد جاء إلى فلسطين أثناء الحرب العالمية، جاء صحفياً، فلما عاش بين المسلمين وجد كرم الأخلاق وسلامة الفطرة، وقاده ذلك إلى الإيمان بالله عز وجل ورسوله، وأمثاله كثير. فهذه الأمة هي أسلم الأمم فطرةً، وأقربها إلى الحق، وأكثرها وعياً وإدراكاً على رغم التعتيم الذي يضرب حولها. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 8 سابعاً: لا عز إلا بالإسلام لقد كانت هذه الأمة في الجاهلية تركض وراء اليرابيع في صحرائها المترامية الأطراف، ليس لها شأن في دنيا ولا هَمٌّ في دين، ولما جاء الإسلام توحدت به ونادت إليه، وبذلت في سبيله كل غالٍ ونفيس، ثم شاد هؤلاء الرعاة مملكة ما شادها قيصر ولا كسرى ولا شاه ولا أنوشروان. هذا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يعبر عن هذا المعنى: [[لقد رأيتني خامس خمسة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مالنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت منه أشداقنا، وما أصبح اليوم منا رجل إلا وقد أصبح أميراً على مصر من الأمصار، وإني والله أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيماً وعند الله حقيراً]] . لقد كان سعد رضي الله عنه ومن معه من المؤمنين بهذه الحالة، ثم أعزهم الله تعالى بالإسلام حتى صاروا إلى مثل أحسن حال. والأمة العربية إذا تخلت عن دينها لم يبق لها إلا عروبتها، وماذا نحفظ من تاريخ العرب في الجاهلية إلا يوم ذي قار وحرب البسوس، والمعارك الدامية الطاحنة بين قبائل العرب من أجل أمر دنيوي سهل، وماذا نعرف من تاريخ الأمة العربية إلا أنها تركض وراء أذناب الإبل في ربيعة ومضر! إن تخلي هذه الأمة عن دينها يعني تخليها عن كل مميزاتها، ماذا استفاد العثمانيون الذين حكموا بالإسلام، وجاءوا باسم الشريعة إلى الأمة الإسلامية، وحكموا قروناً متطاولة ماذا استفادوا من التخلي عن الإسلام والتنازل عن شعاره وشريعته ولبس جلباب العلمانية؟! لم يستفيدوا إلا مزيداً من الهزائم المتتالية كانت نهايتها سقوط دولتهم. 1- زوال الدولة العثمانية: لقد كان العثمانيون يأتون بالأمس إلى سائر بلاد الإسلام باسم الدين، وترسل حكومتهم -أو يرسل الصدر العالي- ما يسمى بالقائم، أو الباشا، أما اليوم فهم لا يرسلون إلا الطباخين والحلاقين والعملة، أين هذا من ذاك؟ ذاك عز الإسلام وهذه ذلة العلمانية. رأى أحد الدعاة رجلاً تركياً في بلاد الغرب، ورآه قد علق صورة كمال أتاتورك في متجره فقال له: لماذا تعلق صورة هذا الصنم الطاغية وأنت تعلم حاله وعداءه للإسلام؟ قال له: نعم أنا أعلم عداءه للإسلام، ولكنني أخشى من بطش السلطة، فإن السفارة لها رسل يأتوننا صباح مساء، يتفقدون وجود مثل هذه الصورة في محلاتنا ومتاجرنا. إن هذا يذكرنا بتلك الكلمة التي قالها الصحابي الجليل عند فتح قبرص، حينما بكى وقال: [[بينما هم أمة قائمة ظاهرة إذ تركوا أمر الله عز وجل، فصاروا إلى ما ترى]] . إن الذي يلفت النظر أن العثمانيين حاربوا الدعوة التجديدية، دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه في هذه البلاد. نعم كانوا يحاربون باسم الإسلام، ولكن الاسم لا يكفي، وما لم يكن الإسلام حقيقة فإن مجرد الشعار لا يكفي، وكم من إنسان يقول بلسانه ما يكذبه بفعاله، حاربوا تلك الدعوة التجديدية، فذهبوا هم وبقيت الدعوة، فذهبوا لتخليهم عن الشريعة التي وجدوا من أجلها، فهم قاموا وحكموا العالم الإسلامي، لا لأنهم عثمانيون، ولا لأنهم من أولاد فلان، ولا لأنهم جاءوا من الدولة الفلانية، وإنما حكموا باسم الإسلام، فلما تخلوا عن الشريعة، وأعلنوا الحرب عليها وناصبوها العداء سقطوا هم وزالوا، فشرعيتهم زالت، وبقيت الدعوة التي حاربوها؛ لأنها تحمل عوامل القوة والبقاء والنماء، فهي دعوة إلى الله تعالى ودعوة إلى شريعته وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. أفنحسب أن النواميس الإلهية والسنن قد تعطلت ولم تعد تفعل فعلها في عصر الذرة والصاروخ والكمبيوتر؟! كلا! إن الله تعالى واحدٌ لا إله إلا هو، وشريعته قائمة ماضية، ودينه باقٍ، والسنة لا تتغير، فهي تجري على الناس اليوم وغداً كما جرت عليهم أمس وقبل أمس. 2- سرّ الاستقرار هو الحكم بالإسلام: إن الشعوب الإسلامية لا يمكن أن تحكم أبداً إلا بالإسلام، والناس أصلاً ما خضعوا للحكم وما فيه من تقييد صلاحياتهم إلا طواعيةً للشريعة، أما الأمن فهو تابع لذلك، وأما شرعية الإنجاز كما يقال فهي أيضاً تابعةٌ لذلك. فالأصل هو الحكم بالشريعة والشرعية العقائدية المنبثقة من الطاعة لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبع ذلك استقرار الأمن، ويتبع ذلك الإنجاز، ويتبع ذلك حفظ الاقتصاد، ويتبع ذلك حفظ الحوزة والبيضة، وهذه الأمور كلها تابعة، والشريعة هي الأصل. وتغيير الشريعة لا يمكن ولا يكون إلا بمسخ الشعوب وتغيير هويتها من شعوب إسلامية تحب الإسلام وتحب الشريعة إلى شعوب لا دينية، وتغيير هذه القناعة هو أمر غير ممكن، لأنه يعني مسخ الإسلام في تلك البلاد، وهذا أمر متعذر، كم حاوله أقوام وأقوام وأحزاب وأمم ودول وأساطيل، ثم رجعوا بالخيبة والخسارة. الذين يطالبون بتحكيم الشريعة والدعوة إلى الله تعالى هم يدعون إلى الأصل الثابت المستقر، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الجاثية:18] والشيء الوحيد التي تأتلف عليه القلوب والنفوس هو دين الله عز وجل أما بغير ذلك فسنعود عرباً كما كنا قبل الإسلام يقتل بعضنا بعضا: فمن تكن الحضارة أعجبته فأي رجال باديةٍ ترانا نغير على القبائل من معدٍ بضبة إنه من مان حانا وأحياناً على بكرٍ أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا إنه ليس داعية فتنة الذي يدعو إلى إعادة عمل الشريعة وإلى تحكيم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو يدعو إلى الرجوع إلى الأصل الذي تنتظم به الأمور، وتأتلف به الأحوال، ويجتمع به المقال، ويزول به كل أثرٍ لخلاف بين فردٍ وآخر، سواء كان رفيعاً أم وضيعاً. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 9 نحن مستهدفون إن المسلمين بكل ألوانهم وعلى كافة مستوياتهم حتى أولئك المفرطين والمقصرين والكسالى والتائهين والبعيدين عن دينهم، إنهم مستهدفون لهويتهم الإسلامية وانتسابهم وموروثهم الشرعي بالدرجة الأولى، ثم هم مستهدفون بعد ذلك لخيراتهم وثرواتهم التي أراد الله عز وجل بحكمته أن تزخر بها بلادهم، ولذلك فالعدو يستفيد قطعاً من تفجير المعارك داخل بلاد الإسلام. 1- الأعداء وتنفيذ الأهداف: وعلى سبيل المثال فاليهود يستفيدون أعظم الفائدة من الصراع الدائر في مصر بين الشباب المتدين وبين أجهزة الأمن. إن مصر دولة كبيرة فيها ما يزيد على خمسين مليون إنسان، وهي يمكن أن تكون قلعةً من قلاع الإسلام وحاميةً لدين الله عز وجل وشريعته، وقد كانت متقدمة حتى في مستواها الاقتصادي قبل سنوات ليست بالبعيدة. والشباب المتدين في مصر وفي غير مصر هو الذي أذاق إسرائيل الضربات الموجعة خلال معاركه في قناة السويس وفي غيرها، وهي معارك شهيرة دونت في الكتب، وذكرت في الصحف في وقتها. ولذلك فإن من مصلحة اليهود قطعاً أن يضربوا هذا بذاك، وأن يعملوا على تدمير هذه القلعة والقضاء عليها وعلى تدمير الشباب المؤمن هناك وإلصاق شتى التهم به. إنه يشاع أن تفجير ميدان التحرير عمل من أعمال الموساد ومن أعمال المخابرات اليهودية، تماماً كما يشاع أن المبنى التجاري الذي فجر في نيويورك كان من عمل الموساد، وهناك شخص اسمه هداس، جرى له ذكر وتحدث عنه الإعلام فترة، وهو شخصية غامضة أسدل عليها الستار بعد ذلك، وتدور أقاويل كثيرة على أن له علاقة بالموساد (المخابرات الإسرائيلية) الموجودة هناك. 2- ضرب الأمة بقادتها: إن ضياع مقدرات البلاد الإسلامية في صراع مكشوف أو مستور بين الشباب المتدين وبين الأجهزة المختلفة أمنية كانت أو عسكرية أو إعلامية أو غير ذلك هو إهدار لطاقات الأمة وممتلكاتها، وليس شرطاً أن يكون الصراع حرباً في الشوارع، بل هذه لا تعدو أن تكون صورةً فحسب، وهناك ألوان من الصراعات الخفية المستترة آلتها ووسيلتها القلم، والورقة، والكتابة، والتقرير، والقرار، ومن خلال ذلك يتم الشيء الكثير. لقد نجح الأعداء في تصوير الدعوة الإسلامية على أنها الخطر الأكبر الدائم الداهم، وأقول متى كان الدين خطراً على الأمة، وعلى أهله ودعاته وحماته؟! نعم ذلك المتدين المكسور الجناح المقهور المضطهد المضيق عليه الممنوع حتى من عبادة ربه، قد تكون أنت فرضت عليه بالقوة نوعاً مما تسميه بالتطرف. أنت فعلت هذا بأسلوبك في التعامل معه، وكما قيل: إذا لم يكن إلا الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها إن الإنسان كلٌ لا يتجزأ؛ فاعطه فرصةً طبيعية، ودعه يعبد ربه، ويدعو إلى ربه، ويقول كلمة الحق، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة وبالموعظة الحسنة، دعه وحينئذ سوف بتكلم بصورة صحيحة، ويفكر بصورة صحيحة، ويتعامل بمنطق لا إشكال فيه، أما إذا حاصرته وضغطت عليه، فستجد آثار هذا الضغط تصديقاً لبعض الشائعات، ولو لم يتثبت منها، وتفكيراً بطريقة غير سوية وتحليلاً للأحداث لا يخدمه ولا يخدمك. إننا نجد تلك الدول تقدم كل يوم وجبة جديدة من فلذات أكبادها وشبابها، حتى في سن المرحلة المتوسطة إلى أعواد المشانق، فمتى كانت مهمة الدولة القوية إعدام مواطنيها وتقديم المجموعة منهم بعد الأخرى للقتل من الشباب المتدين الغض الطموح؟! 3- اعتبروا يا أولي الأبصار: أيها الفرعون! هل تريد أن تكرر خطيئة سلفك الأول، حينما جاءه موسى عليه الصلاة والسلام، فدعاه إلى الله عز وجل، فأصر وكفر بالله تعالى، وقال قولته الفاجرة الكافرة: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] فناداه موسى وقال له: {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ} [الشعراء:17] خل بيننا وبينهم، دعهم لنا، ألست أنت أيها الفرعون متضايقاً من بني إسرائيل خائفاً منهم؟! قد أخبرك السحرة أن زوال ملكك على أيديهم، إذاً دعهم لنا، أرسل معنا بني إسرائيل، ولكن هذا الفرعون لم يرض بذلك، بل اغتاظ وقال: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] وقام بذلك العمل الجبان الذي يدل على أنه لا يشعر بهموم قومه، وأنه ليس مخلصاً لرعيته قط. أي معنى أن ينزل فرعون الجيش إلى الشوارع؟! أمن أجل أن يقاتل أعداءه؟ كلا! إنما من أجل أن يقاتل الشعب بعضه بعضاً، ومن أجل أن يقوم بسحق المؤمنين مع موسى عليه الصلاة والسلام، لقد جر الجيش إلى معركة خاسرة، وجر وراءه أجهزة أمنه إلى معركة مشابهة، ولهذا قال: (وإنا لجميع حاذرون) أننا على حذر شديد وأجهزتنا مسلطة على هؤلاء، فماذا كانت النتيجة؟ لقد حارب الدين فكان ذلك زواله، وكانت المعركة الفاصلة هي نزوله في الميدان في مواجهة المؤمنين، فأنجى الله تعالى موسى ومن معه أجمعين وأغرق بعد الباقين. وهذه قريش والعرب حاربت رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعاهم إلى الله تعالى فما استجابوا له فقال: {يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب، ماذا لو خلوا بيني وبين سائر العرب؟} لكنهم لم يرضوا بذلك، بل كانوا يلاحقون أصحابه حتى وهم يذهبون إلى الحبشة وإلى غيرها في محاولة لإحكام الحصار المفروض على الإسلام. طلب منهم النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فما استجابوا، بل أصروا على الحرب، وكانت النتيجة أن مكَّن الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ورأوه بأعينهم وهو يدخل مكة فاتحاً يقول: {يا معشر قريش: ما تظنون أني فاعلٌ بكم؟} 4- الشباب أبقى والحرية أولى: الشباب الغض العفيف المؤمن الصابر الصادق هو وقود الحرب ضد الأعداء، وهو صاحب الخبرة التي تنفع في كل مجال من مجالات الحياة، به يستنزل المطر من السماء، وبه تستدفع العقوبات التي يخشى أن تحل بالمسلمين ليلاً أو نهاراً، فلماذا لا تعط هؤلاء الشباب فرصة للمناقشة وفرصة للحديث؟! كما عبرت عن رأيك وتحدثت في أجهزة الإعلام، وقلت كل ما تريد، دعهم يتحدثون ولو عن بعض ما يريدون، وناقشهم واعطهم فرصةً ولو جزئية، ولا مانع أن تعمل لهم محاكمة علنية، لكن لا يجوز أبداً أن يكون الذين يتولون محاكمتهم قومٌ يخضعون لأمرك، ويتأثرون بضغوطك، ويستجيبون لك ويتأثرون بما تقول، فأنت حينئذٍ لست عادلاً بل: فيك الخصام وأنت الخصم والحكم ادع العلماء -وبلاد الإسلام بحمد الله غنية بالعلماء الصادقين بكل مكان- ادع العلماء من الجزيرة العربية، أو من بلاد الهند، أو من بلاد الشام، أو من أي بلد إسلامي آخر من أهل العلم والإيمان والفقه والسنة؛ ليتم معرفة الحق واتباعه، وليعرف ما إذا كان هؤلاء الشباب على صواب أم على خطأ، أما أن تجعلهم وقوداً للحرب، وتسلط عليهم أجهزة الأمن، وتقتلهم وتحرمهم من حق التعبير والكلام، فلا يستطيعون أن يفعلوا شيئاً، ثم إذا أصدر الواحد منهم ورقةً أو ألف كتاباً أو أصدر مجلة، أصبحت ترميه بأنه يوزع المنشورات، ويكتب الأقاويل، ويتحدث، وأنت ماذا كنت تفعل؟!! الجزء: 179 ¦ الصفحة: 10 القنوات المفتوحة إن المجتمع الذي يتيح قنوات التعبير الصادق والتعبير المسئول هو مجتمع ناضج محفوظ بإذن الله عز وجل من الزعازع والانفجارات؛ لسبب واحد وهو: أنه يقيم شريعة الله عز وجل شريعة الحسبة، ومجرد التعبير أحياناً بأمر بمعروف أو نهي عن منكر يعطي انطباعاً بقوة هذا المجتمع وثقته بالأسس التي يقوم عليها، فليس ترك المجال للكلمة الهادئة الناقدة البصيرة ليس ذلك علامة ضعف، بل علامة الضعف هو الخوف من تلك الكلمة والقلق منها. لماذا يخاف أولئك الذين أوجدوا ما يزيد على ثلاث أو أربع قنوات للفساد، وأخرجوا عشرات المجلات للفن، أو الرياضة، أو غيرها، لماذا يخافون من صوت واحد يتكلم باسم الدين أو باسم الإسلام؟! لماذا يتحدثون عن هؤلاء المتطرفين وهم يزجون بهم وراء الجدران وفي غياهب السجون؟! أفلا قدموهم للناس ليسمعوا منهم مباشرة ويعرف الناس الصوت الآخر إن كان حقاً أو باطلاً؟! إن البلاد المفتوحة أكثر أمناً واستقراراً من غيرها، ويوم كانت هذه الأمة تقيم شريعة الله عز وجل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة على سائر أفرادها ورجالها، الكبير منهم والصغير، أمنت -بإذن الله تعالى- من عقابه بأن يسلط بعضها على بعض. 1- حال الأمم الدنيوية: إن الأمم الدنيوية التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر اليوم بقدر تضييقها على شعوبها تكثر القلاقل فيها، وبقدر توسعتها عليهم تخف وطأتها، وينتشر ويستقر أمنها. لعل الجميع لاحظوا أن القلاقل في أمريكا وبريطانيا وأسبانيا وربما فرنسا قد بدأت الآن تتزايد، والبارحة أعلن في عاصمة بريطانيا عن انفجار يشبه الانفجار الذي وقع في نيويورك. وما هذه الزعازع إلا إرهاصات وبدايات تدل على أن هناك نوعاً من التضييق والحصار بدأت تلك الدول تمارسه، ليس فقط على شعوبها، بل بالدرجة الأولى على من تسميهم بالغرباء، أو بالأجانب، أو بالشعوب المستعمرة، أو بالشعوب المستضعفة، فبدأت تعدل قوانين الهجرة، وبدأت تعدل قوانين التجارة، وبدأت تحد من نطاق التملك، وبدأت تمنع حصول الإنسان على الجنسية أو على حق اللجوء في بلادهم، أو حتى على حق التعبير، ولهذا بدأ الناس يسلكون أسلوباً آخر في التعبير عن سخطهم ورفضهم. 2- حال البلاد الإسلامية: أما في البلاد الإسلامية فالنماذج كثيرة، بل أكثر البلاد الإسلامية تصلح نماذج، لكن لا مانع أن نعرج على مصر: لقد أعلن الحاكمون حرباً على الإسلام منذ خمسين سنة، وامتلأت السجون يوماً من الأيام بما يزيد على خمسين ألفاً من العلماء والدعاة والمخلصين والمنتسبين إلى الجماعات الإسلامية؛ سواء كانوا منتسبين إلى الإخوان المسلمون، أو إلى التبليغ، أو إلى أنصار السنة، أو إلى الجمعية الشرعية، أو حتى كانوا متدينين لا يعرفون هذه الانتسابات، وظن الظانون أنه لن يقوم للإسلام بمصر قائمة، وإذا بالحكام الذين أعلنوا الحرب على الإسلام يذهبون، تُشيعهم دعوات الناس عليهم وشماتتهم بهم، ويبقى الإسلام عزيزاً قوياً شامخاً منيعاً. نعم إن الذين يسمعون الأخبار اليوم يظنون أن الإسلام في مصر يحتضر، والواقع أن الإسلام في مصر قوي عزيز، وأن ذلك الشعب المسلم قد اختار الإسلام حقاً، ورضي أن يبذل من عرقه، وجهده، وصبره، ودمه، وأرواح أولاده وبناته في سبيل هذا الدين، ويصبر على ما يلقى في ذات الله عز وجل. لكن ماذا كسب أولئك؟ لقد تزعزع أمنهم، واهتز اقتصادهم، وقلقت أحوالهم، وأصبحت الدول الأخرى تنظر إليهم بريبة، وتشعر بأنهم عاجزون عن ضبط الأمن، وليس ينفعهم أن يأتيهم دعم من هنا، أو تشجيع من هناك، أو تهنئة بالسلامة من محاولة اغتيال من هذا البلد أو ذاك، إن الأمر عميق ومزمن في جذورهم، وفي أعماق المجتمع، وليس تحله رصاصة أو طلقة طائشة. إن الخسائر الاقتصادية تقدر بمليارات الدولارات، وإن الفنادق التي أقاموها لما هو معروف بالسياحة، إن تلك الفنادق قد تحولت اليوم إلى دور مغلقة ليس فيها داعٍ ولا مجيب، وقد انجفل عنها الناس وأعرضوا عنها، وهذه نتيجةٌ ماديةٌ مباشرةٌ فقط لمثل تلك الحرب على الله ورسوله. أما النتائج الأخرى فهي أمر أعجب، ولعلكم سمعتم كنموذج آخر بالظاهرة الغريبة في أوساط الفتيات التي انتشرت في معظم المحافظات المصرية حالات إغماء مفاجِئة، تعرض لها آلاف من الفتيات في المدارس المتوسطة والثانوية، وتنادى الأطباء وتداعوا، وعملوا الفحوصات والإجراءات، وكل النتائج سليمة، ثم قاموا ونظروا في الجو هل يوجد فيه مواد غريبة، في التربة لم يجدوا شيئاً، وفي المياه لم يجدوا شيئاً فظل الأمر محيراً مجهولاً. إن مثل هذه الأشياء هي رسائل يجب أن تفهم، إن الذي يحارب الله عز وجل لا طاقة له ولا قبل بمن يملك كل شيء، وله كل شيء، وأمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، وبيده مقاليد كل شيء. أما في الجزائر فقد أعلنوا الحرب على تحكيم الشريعة الإسلامية، وحالوا بين الشعب المسلم وبين ما يشتهي من تطبيق شريعة الله تعالى، وأودعوا الشباب في المحتشدات والمعتقلات، وسجنوا ما يزيد على ثلاثين ألف في فترة مضت، وقتلوا منهم من قتلوا، فما الذي جرى؟ فبعد مضي ما يقارب السنتين، تنظر في الجزائر، فتجدها لم تشهد منذ استقلالها عن فرنسا قلاقل وزعازع وتهديداً للأمن مما تشهده الآن، ولا أكثر انهياراً للاقتصاد مما تشهده الآن، ولا أكثر جهلاً بالمصير الذي تكون إليه مما هي عليه الآن. ماذا نفعتها عساكرها التي واجهت الإسلام بالمدفعية والدبابة والبندقية، وضربت الناس في الشوارع؟ ولكن الإسلام كان أبقى؛ لأنهم لا يستطيعون أن يحاربوا شعباً بأكمله يريد الإسلام، لكن ماذا عليهم لو خلوا بين هذا الشعب وبين الإسلام؟! ماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله؟! ماذا عليهم لو خلوا بينهم وبينه؟! فإن انتصر الإسلام وعز وحكم، فذلك عزٌ لهم جميعاً، وإن كانت الأخرى فقد كفوا بغيرهم. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 11 ثانياً: الكلمة الصادقة إن الكلمة إذا كانت ربانية فهي باقية كما قال الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:24-25] . نعم إن أشجار الناس منها ما يثمر في الصيف، ومنها ما يثمر في الشتاء، ومنها ما يثمر مرةً في الصيف ومرةً في الشتاء، وأما كلمة الحق وشجرة الحق، فإنها تؤتي أكلها كل حين، فهي لا تتأثر بالظروف، ولا تتغير بتغير الأحوال، بل هي باقية قائمة أصلها ثابت وفرعها في السماء. إنها تتمرد على كل السدود والقيود، والحواجز والموانع، لينتفع منها كل إنسان ويقطف ثمرتها كل مخلص. إنها عميقة الجذور، ومن العسير أن يتم اقتلاعها، فهي تتغلغل في التربة، بل تتغلغل في الصخور، وتحفر لنفسها مجرىً في أعماق القلوب، ولا يضرها أن يعرض عنها معرض، أو أن يحاربها عدو، أو أن يكيد لها كائد. هذا هو الطفيل بن عمرو رضي الله عنه يأتي مكة فما يزالون به حتى يضع القطن في أذنيه لئلا يسمع كلمة الحق من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأبى الله عز وجل إلا أن يسمعه تلك الكلمة، فيلين لها قلبه، ويسلم لله رب العالمين، فماذا أجدت أعمال قريش ومحاولاتهم وحصارهم وجهودهم؟ لقد ذهبت أدراج الرياح، وتسللت تلك الكلمة على رغم القطن الذي حشا به أذنيه، وعلى رغم الأقوال والشبهات التي ملئوا بها عقله، وعلى رغم الأشياء والشهوات التي حاولوا أن يحشروها في قلبه. إنَّ حملة هذه الكلمة كثير، وحداتها ليس لهم حصر، وهي ليس لها مكان، فهي تقال في المجلس كما تقال في الطائرة، كما تقال في السوق، كما تقال في البيت سواءً بسواء كما تقال في المسجد أو في المدرسة. إنها ليست أمراً مخجلاً يستحي منه الإنسان، أو يواري أو يداري بل هي رسالة الله عز وجل يحملها المخلصون الخالصون من عباده. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 12 الدعوة إلى الله تعالى ليست كلمات فحسب إن الدعوة ليست كلمة فحسب، وإن كانت الكلمات من وسائلها، وأدواتها، نعم لقد نصر الله الإسلام بالكلمة الطيبة، ولكن كم هي الكلمات التي قالها خالد بن الوليد؟ وكم هي الأحاديث التي رواها؟ إنها قليل، ولكن خالداً كان يعبر عن نصرة الدين بالسيف والسهم والقوس. وكم هي الكلمات المأثورة التي رواها أبو بكر الصديق؟ وراجع وفتش مسند أبي بكر الصديق، وقارنه بمسند أي صحابي آخر، ستجده في الغالب أقل، إنما يظل أبو بكر رضي الله عنه هو الرجل الثاني في قائمة الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو وزن إيمان الأمة بإيمان أبي بكر لرجح إيمان أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه. وبالمقابل هذا أبو هريرة رمز للكلمة الطيبة يروي ما يزيد على خمسة آلاف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبثوثةٌ في دواوين الإسلام، ويظل يحدث بها حتى تأتيه السهام بعد السهام، ويتكلم فيه المتكلمون، ويتقول عليه المتقولون، ويقولون: أكثر أبو هريرة، فيقول هو رضي الله عنه: [[إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، والله الموعد، إني رجل كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، أما الناس فقد ألهاهم عن ذلك الصفق في الأسواق]] . ويروي أبو هريرة رضي الله عنه في ضمن ما يروي أحاديث عن الصادق المصدوق عن الفتن التي تمر بهذه الأمة، وعن ولاة السوء التي ستبتلى بهم، فيتكلم عليه المتقولون، ويقولون: يا أبا هريرة! تثير الفتنة؟ فيظل أبو هريرة مصراً على أن يقول ذلك؛ لأن ذلك من جملة تبليغ الدين الذي لا يجوز أن يتأثر بالضغوط والأحداث والمجريات، وإن كان يستر بعض الأمور التي لا يتعلق بأمرها بلاغ، ولهذا يقول: [[حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر لو بثثته لقطع هذا الحلقوم]] . إن نصرة الإسلام ليست محصورة بالكلمة، بل هي تتطلب جيوشاً من المختصين في كل ميدان من ميادين الحياة، فالإسلام جاء ليهيمن على الحياة كلها، وليس فقط ليتحدث من منبر. إن من المؤسف -أيها الأحبة- أن يذهب أهل العلمانية أو النصرانية أو دعاة التغريب أو دعاة التهويد بأزمة الاقتصاد، ويسيطروا على بيوت المال، أو أن يهيمنوا على وسائل الإعلام، أو أن يسيطروا على قنوات التعليم ومناهجه، أو أن يديروا دفة السياسة، ويذهب أهل الإسلام بكلمة النقد فحسب لا يملكون غيرها، بل وحتى هذه الكلمة التي يقولونها لينصحوا بها هذا؛ ممن يقبل النصيحة، أو يفضح بها ذاك ممن عرف عنهم العداء للإسلام؛ حتى هذه الكلمة أصبحت تستكثر عليهم ويطلب منهم ألا يقولوها. أفلا يحق لك أن تعجب ممن يمكنون للفساد كل الفساد في بلادٍ عزيزةٍ من بلاد الإسلام جاءها نصر الله، وفتحها جند الله عز وجل، وحكمها دين الله تعالى، ويعزز مواقع الفساد فيها، ثم ينتقد من يجترئ على مجرد وصف هذا الواقع، أو من يزيح عنه الستار؟! الجزء: 179 ¦ الصفحة: 13 الدعوة ليست حبيسة بلد إن دين الله عز وجل نزل للعالمين، ويوم بعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، وكان المؤمنون به يعدون على رءوس الأصابع، خاطبه الله عز وجل بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] وقال سبحانه: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم:52] . لقد أثبتت الأحداث أن كلمة الحق تتجاوز حدود الأقاليم والدول والمناطق والأجناس، وأنه ليس لها لون ولا جنس ولا بلد بل ولا لغة، والله تعالى يقول: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56] إن حياً واحداً فقط في مصر وهو ما يسمى بحي أمبابه داهمته أجهزة الأمن، وانتقلت من بيت إلى بيت، ومن أسرة إلى أسرة يسكنه ما يقارب من مليون إنسان ينتظمون في أكثر من مائة ألف أسرة، ربما وجدوا في هذا الحي وحده ما يزيد على ثلاثة ملايين شريط، كلها ليست أشرطة غناء، وإنما هي أشرطة إسلامية، قال الله قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. إن مثل هذا الأمر يؤكد لك أن حجب كلمة الحق ليس حجباً عن فئة ولا عن مجموعة ولا عن بلد، بل هو حجبٌ لهذه الكلمة عن أمة طويلة عريضة، تنتظر كلمة الحق وتفرح بها، وتتطلع إليها في وسط ظلمات التضليل والتشكيك والتغيير، ثم إن هذه الكلمة إذا تخلى عنها أقوام تلقفها آخرون، فإن دين الله عز وجل ليس مقصوراً على فئةٍ بعينها. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 14 وصايا وأوصيك بوصايا تسع فاحفظها عني: الأولى: الصبر وعدم الانجرار إلى استفزازات الذين لا يوقنون، فليس هناك أكثر حمقاً ممن يضيع الفرصة بعد ما سنحت، إلا ذلك الذي يستعجل الفرصة قبل أوانها، وهو خلاف الصبر، والله تعالى يقول: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] . كثيرون يقولون: دَعَونا فلم يستجب الناس لنا، ولم يقبلوا دعوتنا، ادع وادع وادع، فإنهم إن لم يستجيبوا اليوم قد يستجيبون لك غداً. ثانياً: فكر جيداً كيف تحول المشاعر والعواطف والانفعالات والأحزان إلى برامج عملية: علم، أو عمل أو دعوة أو جهاد، أو تجارة، أو أي عمل تخدم من خلاله دينك وأمتك. ثالثاً: الدعوة إلى المزيد من العلم الشرعي، سواء في المدارس الشرعية، أو في المساجد وحلق العلم، ولا بد من أن يتعود الإنسان على أن يثني ركبتيه للدراسة: دراسة القرآن والسنة، فإن ذلك أمرٌ لا بد منه، وبه تميزت الأمة وأصبحت أمة إسلامية. رابعاً: الاستمرار في الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدع بكلمة الحق في كل مكان، وهذا لا يفتقر إلى إذن آذن، ولا يحتاج إلى قرار بعدما أمرك الله تعالى بذلك، فينبغي أن يبذل الإنسان وسعه في هذا، في كل مكان يحل فيه. خامساً: نشر الكلمة الصادقة مسموعة كانت أو مقروءة وبكل وسيلة. سادساً: توسيع دائرة الاهتمام بالعالم الإسلامي بأكمله، لا تكن أسير بلدٍ بعينه، ولا منطقةٍ بذاتها ولا قطرٍ؛ بل اجعل همك هم المسلمين في كل مكان، وإذا لم تنجح أو لم تفلح في الدعوة إلى الله تعالى في بلد، فهناك بلدان أخرى تنتظرك، وسوف تكون فيها أنت الداعية الذي يرجع إليه، ويحتاج إليه. سابعاً: المشاركة في القنوات المتاحة التي تخدم المجتمع في الجامعات، والمدارس، والمؤسسات التعليمية والتربوية والإعلامية وغيرها، لتكون واحداً من الجنود المجهولين الذين يبذلون في سبيل الله تعالى ما يستطيعون، بل حتى لو كنت جندياً ينظر الناس إليك شزراً، حتى لو كنت وراء مكتب في بريد، أو كنت تلبس بزة عسكري، أو كنت أي شيء آخر، سواء كنت في منصب رفيع، أم وضيع في نظر الناس، فالمهم أن تحمل قلب داعية وهم داعية وتطلُّع داعية، وأن تبذل للإسلام من خلال موقعك الذي بوأك الله تعالى، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] . إن الجنود المجهولين بحمد الله تعالى كثير، ولا يهمنا أن نعرفهم، فإن الله تعالى يعلمهم ويثيبهم، ووالله إنا لندعو الله تعالى لهم أياً كانوا وأينما كانوا، لأنهم يدافعون عن الإسلام ولو لم يعرفوا، ويعملون على إصلاح الأحوال بقدر ما يستطيعون، وربما يستطيعون مالا يستطيعه غيرهم. ثامناً: الالتفاف حول العلماء والمشايخ المخلصين الصادقين المجربين، ودعوتهم إلى اتخاذ المواقف الصادقة التي ينصرون الله تعالى بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، تلك المواقف المنتظرة منهم ومن أمثالهم. تاسعاً: الدروس الخاصة في البيوت وغيرها، والمحدودة في تلك المنازل فإنها ذات تأثيرٍ كبير في تعميق التربية وتأصيل العلم وهي ذات أثر بالغ في حفظ الأمة ودينها. نعم لقد زال الاتحاد السوفيتي بعد سبعين سنة من الحصار على الإسلام، فما أن زال حتى تبين أن تلك الحجرات كانت تشهد حلقات العلم والتعليم وقراءة القرآن ومدارسته، وعادت دولة كطاجكستان التي ظلت سبعين سنة تحت تسلط الشيوعية؛ عادت خلال أقل من سنة دولةً تطالب بتحكيم الشريعة، ويخرج فيها أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان في الساحة العامة، ويظلون شهرين كاملين تحت أشعة الشمس يطالبون بحكم الشريعة. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 15 كلمة أخيرة إنه واجب على الجميع تقديم المصلحة الإسلامية العليا؛ مصلحة الأمة على جميع المصالح الذاتية وعلى جميع المآرب الشخصية، ولا يجوز أبداً أن تكون مصلحة حزب أو شخص أو قبيلة مقدمة على مصلحة الأمة بأكملها، ويجب أن نتفكر فيما يصلح للأمة ويصلحها، قال الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا} [سبأ:46] . إن استقرار بلاد الإسلام هو من مصلحة الجميع، وهذه البلاد بلاد الإسلام ستظل هي بلاد الإسلام، فلن ينتقل الإسلام ليكون ديناً في الدول الغربية مثلاً، لا! هذه بلاد الإسلام، منها خرج، وإليها يعود كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} . وبلاد الإسلام كلها علماء ومفكرون ودعاة يصلحون أن يكونوا فيصلاً في الأمور كلها، وإنه من العجب أن يرفع البعض راية المصالحة، ثم ترفضها جهات ما تعلن أنها سوف تستخدم الأسلوب الحاسم في مواجهة الإسلام والمسلمين. إنه قضاءٌ على البلاد وجرٌّ لها إلى مهالك لا يعلم مداها إلا الله عز وجل. هذه بعض الأوراق تتحدث عن مجموعة من الهندوس الذين جاءوا إلى هذه البلاد، وعلم الله أنه قد آذانا وأزعجنا أن تستقدم وزارة الصحة منذ شهر رمضان، بل وقبله وفي الوقت الذي كان المسلمون يذبحون على أيديهم في الهند، أن تستقدم عشرات بل مئات الأطباء والطبيبات من الهندوس وتزرعهم في جميع الوحدات الصحية والمديريات، وكان نصيب منطقة القصيم ما يزيد على اثني عشر هندوسياً بعضهم متخصصون في قضايا النساء والولادة. من يأمن الهندوس على نسائنا وعلى أطفالنا؟! أفهذه الجائزة التي قدمناها لهم على تذبيح إخواننا هناك وعلى تدمير المساجد وهتك الأعراض؟! أفهذا هو الموقف المنتظر مع إخواننا المسلمين الذين استنصرونا في الدين، والله تعالى أمرنا بأن ننصرهم على عدوهم، ثم نستقدم أعداءهم ونمكنهم، ونعطيهم الرواتب الضخمة، ونمكنهم من أعراض المسلمين ومن عوراتهم ومن أجسادهم؟! إن هذا أمرٌ لا يجوز، وقد تم إنكاره بكل الوسائل الممكنة فلم يزل، فبقي أن أدعوكم جميعاً إلى أن تقوموا بالإنكار والاحتساب، وتخاطبوا بذلك أهل العلم وتذكروهم بالله عز وجل، وتطلبوا منهم أن يكون لهم موقف صادق في إعادة الحق إلى نصابه وإبعاد هؤلاء وإقصائهم عن مثل هذه الأمور بقدر المستطاع. ثم هذه أيضاً مجموعة أخرى من الأوراق التي وصلت إلي من إحدى المؤسسات الطبية في الرياض، وهي مؤسسة ضخمة، وهذه الأوراق مما يشيب له الوليد، ففيها حديث عن التنصير، والدعوة إلى النصرانية، وفيها دعوة إلى دعم اليهود، بل فيها دعوة إلى التمرد على الدين الرسمي في البلاد، وفيها دعوة إلى الإباحية، وفيها إهانةٌ للقرآن الكريم ورفع للإنجيل، وفيها ألوان من الجرائم والموبقات الكبار العظام , ويمارس في داخل هذه المؤسسة أمور كبيرة وعظيمة، ومثل هذا الموضوع أنا بصدد جمع الوثائق حوله، وسوف أتحدث عنها إن شاء الله تعالى في حينها. فأنا آمل من الإخوة وممن وجد شيئاً من مثل هذه الأمور أن يوافيني به، مع أن من الواجب أن نناصح بقدر المستطاع، ونبذل متى وجدنا آذاناً صاغية، أما حين تعرض هذا الآذان عنا، وتتحول إلى البحث والتحري عمن يكون مصدراً لتلك الأخبار لتقوم بإبعاده أو إقصائه، أو الحيلولة بينه وبين معرفة الواقع، فإن هذا لا يسوغ ولا يليق، وليس هذا هو أسلوب الحوار، ولا أسلوب العمل والتصحيح. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 16 الأسئلة الجزء: 179 ¦ الصفحة: 17 سؤال عن توقيف الشيخ السؤال يقول: سمعنا عن إيقافكم هل هذا صحيح؟ وإن كان صحيحاً فما الأسباب؟ الجواب نعم هو صحيح، أما الأسباب فغير معلومة، والله تعالى أعلم بها، ولكن من المعروف أنه منذ زمن بعيد كان هناك عدم ارتياح لما نطرحه ونتحدث عنه، من الدعوة إلى قيام الناس بالدعوة إلى الله، وقيامهم بإنكار المنكرات، وتوعية الناس، ورفع مستوى إدراكهم للأمور، ومعالجتهم للأحداث، وضرورة إشراك الأمة الإسلامية كلها -ونحن لا نتحدث عن بلد بعينه- في قضاياها وشئونها وقراراتها ومسائلها، وبالتأكيد أن السبب يدور في هذا الإطار. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 18 المنشورات الهدامة السؤال يقول: ما رأيكم في المجلات والجرائد التي تقوم بنشر الأخبار الهدامة للخلق والحياء، وتقوم بنقل لوثات الحضارة الغربية إلى بلاد المسلمين؟ الجواب هذا يذكرني ببعض الجرائد والمجلات التي وصلتني هذا الأسبوع، مجلات تباع في بعض الأسواق، لا أقول العامة بل الخاصة، أسواق لشركات ولمؤسسات، ولكنها متاحة لأبناء هذه البلاد كما هي متاحةٌ لغيرهم، فيها الرذيلة صراحةً، وفيها العري التام، وفيها رجل وامرأة على وضع سيئ، وفيها ألوان الكلمات البذيئة، بل وهناك بطاقات توزع وتباع، بطاقات جنسية، بطاقات تحريض على الشهوة، بطاقات إثارة للغريزة، وهي عندي موجودة كوثائق على ما أقول، فهذا يؤكد أن أمر الحرب على الإسلام من قبل أعدائه ليس أمراً سهلاً، وتصور أن هناك فئة حتى ولو كانت مخلصة رسميةً أو غير رسمية أنها سوف تقف في وجه هذه الحرب، هذا وهمٌ كبير، وما لم نشارك جميعاً، ونكون على مستوى الوعي، ويقوم كل واحدٍ منا بدوره بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاحتساب، وقول كلمة الحق والصبر على ذلك وتحمل ما يلقى؛ ما لم نفعل فإنه يخشى أن ينزل علينا عقاب الله تعالى صباحاً أو مساء. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 19 قصيدة تصف الأوضاع هذه قصيدة يصف بها بعض الأوضاع يقول: قلنا ومطرقة العذاب تدقنا سيجيء دورك أيها السندان وسيأكل السرحان لحم صغاره إن لم يجد ما يأكل السرحان فتمرت الضحكات في دمعاتنا وتكدرت من صحونا الكيزان حتى إذا ما سكرة راحت وجاءت فكرةٌ وتثاءب النعسان غفلت زوايا الحان عن ألحانها وانحطت الشرفات والحيطان وهوى الهوى متضرجاً بدمائه وانهد من ندمٍ بها الندمان أيها الإخوة أسأل الله تعالى أن يجمعني وإياكم على طاعته، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يعز الإسلام والمسلمين إنه على كل شيء قدير، اللهم اعطنا ولا تحرمنا، وكن لنا ولا تكن علينا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، إنك سميع قريب مجيب الدعاء، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العليا، يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام في هذه الليلة المباركة ألا تطلع شمس غدٍ إلا وقد أبرمت لدينك نصراً عزيزاً، وبيتَّ الكافرين والمنافقين والمشركين وسائر أعداء الدين يا أرحم الراحمين، اللهم فرج عن إخواننا المنكوبين في كل مكان، اللهم فرج عنهم، اللهم فرج عنهم إنك على كل شيء قدير، اللهم انصر الإسلام في كل مكان، اللهم انصر الإسلام، اللهم وفقنا جميعاً للعمل بشريعتك، وتحكيم كتابك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نسألك أن تجمع المسلمين على الحق إنك على كل شيء قدير، اللهم اجمع كلمتهم على الحق، اللهم وحد صفوفهم على الهدى، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور، اللهم قهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن إنك على كل شيء قدير، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 20 قرار الحرب على الدعوة بين النساء السؤال يتساءل عن القرار الذي قرأته بالمجلس السابق؟ الجواب نعم نعم لقد قرأت في المجلس السابق قراراً من إحدى المناطق عن محاربة الدعوة في مجال النساء والتضييق عليهن، ومنع أية حلقة لتحفيظ القرآن الكريم أو طلب العلم الشرعي، أو دراسة السنة في ذلك البلد، والمطالبة حتى من قبل جهات تعليم البنات في ذلك البلد بكتابة التقارير وإعدادها والتجسس على كل فتاة مؤمنة يظن بها ذلك، وقد تعدى الأمر من القول إلى الفعل، فأصبح مجموعة من الإخوة في تلك المنطقة رهن الاعتقال، وما لهم من سبب إلا أن زوجاتهم كن يقمن دروساً لتحفيظ القرآن الكريم في بيوتهم. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 21 تعميم من مسئول وهذا أيضاً خبرٌ يقول: إن مسئول إحدى الدوائر الأمنية أصدر تعميماً إلى من تحت يده يطالبهم إذا وجدوا أحداً يكتب عبارات (سبحان الله، والحمد لله، أو لا إله إلا الله، أو صلوا على النبي) أن يقوموا بالقبض عليه؛ وذلك خشية أن يتطور الأمر إلى كتابة ما هو أعظم من ذلك. تعقيب: يا سبحان الله! طول عهدنا منذ طفولتنا ونحن نجد الجسور والبيوت والجدران والشوارع مليئة بألوان الكتابات البذيئة والكلمات غير الأخلاقية والعبارات المذمومة، بل ويتعدى الأمر أحياناً إلى النيل من أشخاص وغير ذلك، ولم يسبق أن حصل مثل هذا، أما اليوم فإن القضية لا تعدو ملاحقة الذين يكتبون (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ويسجن الواحد، ما هي الجريمة التي سجن بسببها؟! ولماذا يحقق معه؟! يحقق معه لأنه كتب في الجسر مثلاً أو كتب على جدار، أو كتب في لوحة (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ، وبمقتضى ذلك القرار فلو وجدوا شخصاً يكتب ألفاظاً بذيئة، أو كلمات سيئة، فإنهم لا يقبضون عليه، إنما يقبض عليه -وهذا هو النقص- إذا وجد يكتب عبارات تسبيح أو نحوها. إن مثل هؤلاء الأشخاص هم فعلاً حرب على الإسلام، ويجب أن يوقفوا عند حدهم، ولا يجوز أبداً أن تكون الحرب على الأخيار، فهذا يبعد، وهذا ينفى، وهذا ينقل عن عمله، وهذا يبعد عن منطقته، وهذا يحال بينه وبين الدعوة والخير، وما أشبه ذلك من ألوان المضايقات، ثم هؤلاء يسرحون ويمرحون كيف شاءوا! إنه يُخشى من عقوبة إلهية تنزل علينا جميعاً إذا لم نقم بإنكار هذا المنكر، ولم نحتسب عليه، وقد علمنا أن الكفاية لم تقم أبداً الكفاية لم تقم بل ربما لم يقم أحد بالإنكار أصلاً. ونحن نعلم أن هناك من تخاطبه فيقول لك: الله المستعان! الأمور أعظم من ذلك، ثم لا ينكر لا سراً ولا علانية، ولا يكلف نفسه بالاتصال الهاتفي -مثلاً- على هذا الإنسان ليوبخه أو ينكر عليه، أو يدعوه إلى أن يصدر قراراً ينقض به ما أبرم. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 22 اقتراح ونصيحة هلا بثثت مشاعري لإخواني، يقول: نصيحة لإخواني ومن يستمعوا إلى هذا الكلام عبر الشريط: إن كلاً منا على ثغرةٍ من ثغرات الإسلام فلنحذر أن يؤتى الإسلام أو يحارب من قبلنا، فلننصر ديننا، ودعوتنا، وصحوتنا الكبرى، علينا أن ننصرها بكل ما لدينا من قوة معنوية وحسية، فلا نبخل بالدعاء لإخواننا في صلواتنا، وخاصة في سجودنا، وأن ننصر ديننا حسياً بالمادة والمال، وبالحرص كل الحرص على نشر كلمة الحق التي يحملها الشريط والكتاب الإسلامي، وعلى سبيل المثال: ماذا لو نسخ كل منا خمسة أشرطة فقط لهذه المحاضرة؟ إننا والله سننشر خيراً كثيراً، فلو كان الحضور في هذه الليلة المباركة خمسة آلاف لنشرنا خمسةً وعشرين ألف شريط، ففكروا بهذا العمل جدياً، فالكل بحاجة إلى ما تهدونهم إليه من خير، فكم من غافل عن مثل هذه المجالس والمحاضرات سندله عليها، والدال على الخير كفاعله. تعقيب: وأقول لأخي الكريم أنا معه فيما قال، وهذا ما كنا وما زلنا نطالبكم به، وهو أن تكون الدعوة هماً للجميع وليست هماً لأفراد، وأقول: إذا أردت أن تنسخ شريطاً فلتختر الشريط المناسب لمن تنسخه له؛ ليس بالضرورة أن تنسخ هذا الدرس، فقد يكونُ القوم الذين ستبعث إليهم يحتاجون إلى وعظ مثلاً، أو إلى إرشاد، أو توجيه، أو تعليم، امرأة تحتاج إلى أمور تتعلق بالنساء، المهم أن تقوم بمجهود الدعوة، ونحن لا يجوز أبداً أن ندور حول أفراد، أو أشخاص، أو قضايا ذاتية. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 23 تعليق على ضرائب البترول السؤال يقول: ما هو تعليقكم على ما فرض على البترول من الضرائب من قبل الدول الغربية؟ الجواب هذا نموذج وبداية للحرب، فالحرب اليوم ليست بالسلاح ضرورة، من ألوان الحرب بل من أهمها: الحرب الاقتصادية، والغرب يعاني من الاقتصاد كثيراً، ولذلك فرض ضريبة النفط، أو ضريبة الطاقة التي يزعم أنها من أجل معالجة الآثار التي تحدث على البيئة، وهذه الضريبة تتطور مع الزمن، وهي بلا شك ضريبة باهضة، والدول الإسلامية -مع الأسف- لا تملك أكثر من الاستنكار، أما أن تتخذ موقفاً صارماً صريحاً، وتفرض ضرائب على البضائع التي تأتي من الدول الأخرى؛ فهذا غير وارد في الاعتبار في كثير من الأحيان، بل لا تقوم تلك الدول الإسلامية بمقاطعة بضائع الدول الغربية، فما الذي يمنع أن نقاطع البضائع الأمريكية، وأن نقوم بحجبها، والحيلولة بين المسلمين وبينها، وأن نرفع شعاراً لمقاطعتها بقدر المستطاع؟ لو فعل المسلمون ذلك لأثروا تأثيراً كبيراً في اقتصاد الغرب، ولكن المسلمين في نظري ما زالوا دون مستوى هذه الخطوة. الجزء: 179 ¦ الصفحة: 24 السماح للرافضة والتضييق على السنة السؤال يقول: لماذا نرى الرافضة يصولون ويجولون دون حسيب أو رقيب هنا في بلادنا وفي كل مكان، والنصارى والمنافقون والفساق -لا كثرهم الله- كل هؤلاء يرموننا عن قوسٍ واحدة، ونحن لا نملك إلا أن نسلم لهم، فما أن يقوم داعيةٌ يصدح بكلمة الحق، أو يصدع ويدافع عن حرمات الله إلا ويوقف في وجهه؟ الجواب أقول: هذا من أعجب العجب، إن الرافضة اليوم قد نشطوا وأصبحت أزمة الاقتصاد في أيديهم في أكثر من منطقة في أسواق الذهب وفي غيرها، واستطاعوا أن يهيمنوا على بعض الأقسام في مستشفيات في المنطقة الشرقية وغيرها، ولهم ونفوذ كبير في شركة أرامكو، بل بعض الأقسام ربما لا يجد فيها إلا رافضة أو على أقل التقدير يكون رئيس القسم من الرافضة ويدني ويقرب أولاد ملته ودينه، وهم على نشاط قوي، وهم يترددون على أبواب المسئولين هنا، ويحظون بحفاوة كبيرة، ويقيمون الاجتماعات الضخمة والأعراس الجماعية التي قد تصل إلى مائة، ويقيمون معارض الكتب التي تبيع الكتب التي تسب الله وتشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ويعقدون الاجتماعات، بل أقول لكم: وينظمون الدروس والمحاضرات في جداول يوزعونها على أهل الطائفة في الحسينيات وغيرها، ويعقدون المسابقات العلمية للأولاد والبنات، ويفعلون أشياء كثيرة، بل ويتميزون عن المسلمين هنا حتى في الإمساك، فهم ما أمسكوا إلا بعد المسلمين عن أهل السنة بيوم في رمضان، ومع ذلك يجاملون. ما هي عقيدة الرافضة في أهل هذه البلاد؟ إن من الحقائق التي لا تقبل الجدل أن من دين الرافضة أنهم يعتقدون أن أهل السنة كفار، حاكمين ومحكومين علماء وجهالاً، والرافضة يكفرون أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. إذاً: فما هي نظرتهم إلى حكام هذا الزمان؟ ومع ذلك هل وجد من سألهم ما هي عقيدتكم؟ أو ما هو مذهبكم؟ أو ما رضوتكم؟ أو أين بيعتكم؟ أو لماذا لا تقدمون الولاء؟ ومن المعلوم أن الرافضة يدينون بمذهب التقية أيضاً، فهم يقولون ما لا يعتقدون، ويبطنون ما لا يظهرون، وكتبهم تطفح بذلك، وهذه كتب العقائد اشتريناها من هنا من معارض كتبهم وهي تدينهم وتثبت هذه الأشياء كلها عنهم. وأهل السنة ماذا يصنعون؟ أهل السنة الجيد منهم هو من يعد خطبة يفضح فيها خطط الرافضة، ويكشف عن ألاعيبهم وأعمالهم، ثم يأتيه بعد ذلك السؤال تلو السؤال والتضييق حتى من بعض الناس يقولون: لا داعي لهذا الأمر، أي فائدة من ذلك؟ على أقل تقدير إذا لم يستطع أهل السنة أن يقوموا بعمل حقيقي جاد في كل المجالات من تعليم وجهاد واقتصاد وعناية ومنافسة وسبق لغيرهم وإذا لم يستطيعوا ذلك كله فعلى أقل تقدير أن يكونوا كما قال الأول: أوسعته شتماً وأودى بالإبل! الجزء: 179 ¦ الصفحة: 25 الأمة الغائبة تنوع خطاب الشيخ في هذا الدرس، وإن كان كثير منه مركزاً على عوامل نهوض الأمة المسلمة المغيبة عن أحداث العالم، وضارباً المثل بمجتمع الصحابة الجيل الأول للإسلام، مؤكداً أنه لا حل سوى النهوض بالفرد المسلم، وتغلغل الدعوة في كل طبقات المجتمع وإخراجها من دائرة تجمعات المساجد والمحاضرات، مؤكداً أن معظم الجماهير المسلمة غير مقتنعة بكثير من مظاهر الظلم والفساد التي تحصل في بلاد المسلمين وخاصة من حكامها؛ وأن بمقدور الأمة الإسلامية صنع الشيء الكثير إن هي اجتمعت. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 1 عموم الخطاب الشرعي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. هذه ليلة الإثنين الثالث والعشرين من شهر ذي القعدة من سنة (1412هـ) ينعقد فيها هذا الدرس [61] من سلسلة الدروس العلمية العامة التي تلقى في الجامع الكبير ببريدة. نعم أيها الإخوة: كنت قلت لكم أن موضوع هذا الدرس وعنوانه سيكون العوائق النفسية، وفعلاً: هذا هو موضوع الحديث، ولكني وجدت أن المقدمة التي لا بد من عرضها طويلة، وهي تعالج موضوعاً يصح أن يعبر عنه بالأمة الغائبة، وهو كالمقدمة لموضوع: العوائق النفسية، وبناءً عليه أقول: حديثي إليكم في هذه الليلة: الأمة الغائبة، أما الاستطراد في موضوع العوائق النفسية، فسيكون له حديثه الخاص المفصل إن شاء الله تعالى. حين تقرأ القرآن الكريم، تجد أن الله تعالى خاطب الناس في أكثر من عشرين موضعاً في القرآن بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وخاطب الإنسان بلفظ الإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] {يَا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] أما لفظ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فقد ورد في القرآن الكريم نحواً من تسعين مرة، ولفظ الناس أو الإنسان يشمل كل إنسان على ظهر هذه الأرض، سواء كان عربياً أم عجمياً، ذكراً أم أنثى، كبيراً أم صغيراً، من الذين كانوا موجودين في زمن البعثة، أو ممن خلقوا ووجدوا بعد ذلك. كما أن لفظ الذين آمنوا يشمل كل مؤمن أياً كان لونه وجنسه وبلده، وأياًَ كانت مرتبته في الإيمان أيضا، قوةً أو ضعفاً أو غير ذلك، ويقول الله عز وجل في محكم تنزيله: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] فهذه الآية تؤكد أن المسئولية على كل إنسان، وأن الحساب فردي يوم القيامة، وهو المعنى الذي يؤكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الشيخان عن ابن عمر: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} . حتى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإمام وهو الحاكم الإمام الأعظم الخليفة وذكر في الجانب الآخر الخادم ورعايته في مال سيده، وكلكهم راعٍ وكلكهم مسئول عن رعيته. أيها الإخوة: إن قضايا الأمة الإسلامية كلها لن تنجح إلا إذا صارت هذه القضايا هماً للجميع، يشتغل بها كل إنسان ويتعاطاها، حديثاً، ومناقشة، ومراجعة، ودراسة، ومشاركة، ولذلك لابد أن يكون هناك خطاب لجمهور الأمة كلها على كافة المستويات، خطاب يرفع مستوى التفكير عند الأمة، ويرفع مستوى الاهتمام عند الأمة، بحيث نكسر احتكار هموم الأمة لفئات خاصة. فلا تعود مشاكل المسلمين أو قضاياهم أو أمورهم حكراً على فئات الدعاة يعالجونها ويخاطبونها، ولا حكراً على فئة العلماء، ولا حكراًً على أهل الرئاسة، ولا حكراً على أهل الإعلام والصحافة، لا، بل تصبح الأمة تعالج قضاياها بنفسها، ولا يشعر فرد من هذه الأمة أن هذا الهم لا يعنيه إنما يعني غيره، أو أن هذا هَمّ فلان وفلان من العلماء أو الدعاة أو الرؤساء أو الإعلاميين أو سواهم. النص القرآني خطاب للجميع كما سمعتم، خطاب للعموم، وكذلك النص النبوي، والأصل في التشريعات القرآنية والنبوية أنها موجهة لكل الناس دون استثناء، فالقرآن لم ينزل للأذكياء فقط، بل نزل للذكي ومتوسط الذكاء وللغبي أيضاً، وكل إنسان عنده عقل يعقل به أمر الله فهو مكلف بشرعية الله عز وجل، بغض النظر عن كون عبقرياً أو كونه إنساناً بسيط التفكير سطحي النظرة. والقرآن والسنة أيضاً لم يكونا للسادة فقط، بل نزل القرآن وصدر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخاطب السادة وعِلْيَةَ القوم كما يخاطب السوقة والعامة والدهماء من الناس، والقرآن والحديث لم يوجه خطابهما إلى الأغنياء والأثرياء وأصحاب الأموال، بل وجه إلى الأثرياء والفقراء والمتوسطين والمعدمين على حد سواء. بل إنك تجد أن التخصيص لا يكون إلا في أمور معينة لا يدركها إلا الخاصة من الناس، فمثلاً يقول الله عز وجل: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] . إذاً: أنت الآن أمام قضية لها أبعاد، ولها أطراف، ولها خفايا، ولها أحكام، ولها نصوص، لا يدركها كل إنسان، فهذه نعم يردها العامة، ويردها جمهور الناس إلى الذين يستنبطونها من العلماء والخبراء بشئونها، أما ما سوى ذلك فالخطاب للجميع، بل لعلك تعجب! حتى الآيات القرآنية التي جاء فيها الخطاب للنبي صلى الله عليه سلم، فحقيقة الحكم لا تخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل تشمله وتشمل غيره من الناس {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم:1] . وهذه الآية وإن كان الخطاب فيها موجهاً للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو خطاب للأمة كلها من ورائه، {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] مع أن صدر الآية يبدأ بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} [الطلاق:1] إلا أنه يبدأ بعد ذلك يخاطب الأمة كلها {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق:1] وبإجماع العلماء فالخطاب، والحكم في هذه الآية عام لجميع الناس. الأحكام التي يختص بها الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن محدودة جداً، مثل قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} [الأحزاب:52] ومثل قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] إلى غير ذلك، فهي أحكام قليلة. أما الأصل في الخطاب الإسلامي والقرآن والحديث أنه خطاب لكل إنسان، والخطاب الإيماني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هو خطاب لكل مؤمن. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 2 ضرورة المساهمة الجماعية لرقي الأمة نحن الآن أيها الأحبة: في مرحلة انتقال الأمة من وضع إلى وضع، في مرحلة معاناة الأمة مشاكلها، وهمومها، وآلامها، وجراحها، في مرحلة صحوة الأمة، وينبغي أن نعلم جيداً أن هذه الصحوة، وهذه اليقظة، وهذه المعاناة، لا يمكن أن تثمر أبداً إلا إذا أفلحنا في جعل قضايا الأمة هماً للجميع، يتعاطاها كل إنسان، ويتحدث عنها الأطفال في مدارسهم، وتتحدث عنها العجائز في عقر دورهن، ويتحدث عنها الرجل العامي، كما يتحدث عنها العالم أو الداعية أو المثقف سواءً بسواء. بحيث نفلح في جر الجميع إلى ساحة العمل والمشاركة، إن أمكن جرهم باللين فبها، وإلا نجرهم بالقوة إذا لزم الأمر، ليتعاطوا قضايا أمتهم بحثاً ومشاركة ومساهمة، مشاركة بالرأي وبالعطاء وبالمال وبالكلمة وبالهمّ وبالدعوة، وبكل وسيلة ممكنة. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 3 سبب نجاح قضية أفغانستان ولكن أيضاً مما ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن قضية أفغانستان كانت هماً للعالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، المرأة المسنة كانت تعنيها أوضاع أفغانستان، وأنا أعرف امرأة قريبة لي إذا أتيتها أزورها حدثتني عن آخر أخبار المجاهدين الأفغان، وقالت: اليوم انتصروا، ومرة أخرى قالت: اليوم انهزموا، ومرة قالت: قتل منهم كذا، ومرة قالت: أصيبوا بمصيبة، فإن رأتهم على خير بكت فرحاً، وإن رأتهم على حزن بكت ألماً، وهي امرأة مسنة، هذه نموذج. وبالمقابل كتبت لي امرأة عن طفل لها صغير يدرس في الرابعة الابتدائية في أحد مدارس تحفيظ القرآن الكريم، فتقول: إنه معني أشد العناية بأمر المجاهدين الأفغان، فهو يتتبع أخبارهم، وقد يبكي لهم أحياناً، وربما أخذ شيئاً من المال الذي يعطيه أبوه ليشتري به طعاماً أو شراباً في المدرسة، فأعطانيه، وقال: هذه للمجاهدين الأفغان. أمة بأكملها كانت تتفاعل مع وضع المجاهدين الأفغان، إذاً كان هذا هم الجميع، ولذلك انظر قدرة الله تعالى وحكمته، تخلت الحكومات كلها عن المجاهدين الأفغان في الفترة الأخيرة، خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وزواله، وبداية طرح ما يسمى بالحلول السلمية من قبل الأمم المتحدة وغيرها، فتخلت الدول العربية والإسلامية عن الجهاد الأفغاني، وأسلمت المجاهدين وطالبت باكستان المجاهدين بالرحيل عن أراضيها، وأغلقت المضافات التي كانت تقام في بيشاور، ومع ذلك أبى الله إلا أن يستمر الجهاد الأفغاني، بل أبى الله إلا أن يحقق الجهاد الأفغاني أعظم انتصاراته، وأرقى مكاسبه، وأنجح أعماله في تلك الفترة التي تخلت عنه فيها الحكومات. وفي هذا درس أن العبرة هو بتفاعل المسلم العادي، حتى ولو كان فقيراً أو شخصاً عادياً، أو ضعيفاً، أو رجلاً كبيراً مسناً، أو امرأة في بيتها، أو طفلاً صغيراً، المهم أن تكون مشاعر المسلمين وقلوبهم مع هذه القضية أو تلك من قضايا المسلمين. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 4 قضية البوسنة مثلٌ آخر ولعلنا نعيشه الآن، أحداث يوغسلافيا، وما يلقاه المسلمون في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب النصارى من قتل وتشريد، وذبح وتطريد، لا زالت تتحدث عنه وكالات الأنباء، هذا الوضع من جهة أنت تجد تفاعل المسلمين على أشده مع هذه القضية، والأموال التي جمعت في هذا البلد وفي بلاد أخرى كثيرة أموال بحمد الله طيبة جداً، يعلم بذلك كل من ساهم في جمع شيء لأولئك المسلمين المنكوبين المطرودين المسفوكة دماؤهم على مرأى ومسمع من العالم. القضية الآن في طريقها إلى أن تتحول إلى هم شعبي، يعانيه كل مسلم في أي بلد، فوق كل أرض وتحت كل سماء، ولو حدث هذا، لما أمكن أن ينهزم المسلمون بإذن الله، لا في أفغانستان، ولا في يوغسلافيا. ولذلك أنت تلحظ أمراً إن كنت أدركته وإلا فلتتأمله الآن: العالم الغربي الآن، -العالم النصراني- يحاول أن يلتف على قضية يوغسلافيا، يلتف عليها بالدعاية الإعلامية، مثلاً: صرح وزير الخارجية الأمريكي بتصريح شديد اللهجة ضد الصرب، وقال: إنني أطالب العالم أن يتخذ موقفاً صارماً وقوياً ضد هذه المذابح الرهيبة التي لم يشهد لها مثيلاً منذ قرون. وزير الخارجية الأمريكي يصرخ بالعالم ويستنجد لصالح المسلمين في يوغسلافيا سبحان الله! ما الذي تغير؟ الأمر بسيط يا أخي، إن أمريكا لا تستنجد بالعالم، بل العالم هو الذي يستنجد بها في العادة، وأمريكا لما أرادت أن تتدخل في أكثر من بلد ما احتاجت إلى تصريحات حماسية، ولا احتاجت إلى خطب رنانة، بل كل ما في الأمر أنها دعت مجلس الأمن إلى الاجتماع واتفقت على اتخاذ إجراءات حاسمة، التدخل هنا، والضغط هناك، والحصار الاقتصادي ضد هذا البلد، والحصار العسكري ضد ذاك البلد، وغير ذلك حتى أفلحت في تحقيق ما تريد، وما أحداثها في العراق -مثلاً- ثم في ليبيا، ثم في غيرها من البلاد إلا خير شاهد على ذلك. إذاً: لم تكن أمريكا بحاجة إلى أن تصرخ وترغي وتزبد، وتقول: أين العالم المتفرج؟! يجب أن تتدخلوا يا عالم، لأن العالم يعتبر أن أمريكا الآن هي الزعيم المتوج لهم، ولكن هذه التصريحات هي للاستهلاك المحلي فقط، ولتخدير مشاعر الناس، ولئلا يقول الناس: أين دور الغرب؟ أين دور أمريكا؟ أمريكا تتحالف مع النصارى، من أجل ألا يقال هذا، رأوا أن المسلمين تكفيهم التصريحات فصرخوا حتى يهدأ الناس، وصرخوا أيضا لأنهم لا يريدون أن تثور المشاعر الإسلامية، لا يريدون أن تكون قضية يوغسلافيا قضية كل مسلم، لأنهم يعلمون جيداً أن المسلمين لو شعروا كلهم أن هناك حرباً صليبية تدبر ضدهم لم يقف أمامهم أحد. حتى وإن كانوا عزلاً من السلاح، حتى ولو سلط عليهم، حتى ولو وقف في وجوههم من وقف، والله لو شعرت الأمة الإسلامية وأقول: حتى الذي لا تربطهم بالإسلام إلا رابطة الانتماء الوراثي، حتى الذين لا يؤدون الصلوات، لو شعروا أن هناك حرباً توجه إليهم؛ لأنهم أولاد مسلمين، أو لأنهم يعيشون في رقعة إسلامية، أو أن اسم الواحد منهم أحمد ومحمد علي وصالح، لو شعروا بهذا لرجعوا إلى دينهم واستقاموا على أمرهم، وحاربوا وقاوموا. وما بالك بألف مليون إنسان لو غضبوا؟! لا يقوم لغضبهم شيء، فلهذا يداري العالم الغربي، يداري غضبهم، فيحاول أن يشعرهم، أو يعطيهم في كل وقت إبراً مخدرة تلهيهم وتجعلهم لا يدركون هذه الحرب النصرانية الصليبية التي تدبر ضدهم. إذاً: فالغرب يدرك القضية التي نتحدث عنها الآن، إن أي قضية لكي تنجح يجب أن تكون هماً للجميع: الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المثقف والعامي، العالم وغير العالم، وإذا أفلحنا في جعل قضايا الإسلام هماً للجميع فمعنى ذلك أنها قضايا ناجحة بلا شك، ونقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً. فهذه قضايا اهتم بها الناس فصارت في طريقها إلى النجاح والفلاح، لكن في مقابل ذلك، تجد هناك أنواعاً أو جهادات أخرى في بلاد مختلفة لم تحض بكسب الاهتمام بما فيه الكفاية، فظلت تراوح في مكانها منذ زمان بعيد، فكثيرون كانوا يسمعون أخبار الجهاد في هذا البلد أو ذاك، وكثيرون سمعوا بالمدينة التي دمرت على أهلها، وهدمت مساجدها على رءوس المصلين، وقتل فيها في ضحوة واحدة ما يزيد على عشرة آلاف أو عشرين ألف مسلم. وكثيرون يتحدثون عن مذابح رهيبة حصلت لأحد الشعوب المسلمة من عدد من الدول التي تتقاسم حكمهم، وقتلتهم بطريقة وحشية، وسكت الإعلام الغربي عن تلك المذابح، وسكت الإعلام العربي تبعاً لذلك، حتى مجرد العلم بهذه المذابح لم يعلم بهم أحد، فضلاً عن أن يحزن لهم أو يتحرك من أجلهم. ولما احتاج الإعلام العربي أن يتكلم عن تلك المذابح نكاية بأحد الأنظمة، تكلم ولكن بعد فوات الأوان، وبعد خراب البصرة! إذاً قضايا المسلمين الواقعية، وجهاد المسلمين، ومواجهة المسلمين لخصومهم وأعدائهم، لا تنجح نجاحاً حقيقياً إلا إذا أفلحت أن تصل إلى عقول كل المسلمين، وإلى قلوب كل المسلمين، أو على الأقل جمهور المسلمين فلا يكون ثمة حواجز بينها وبينهم، لا تخاطب النخبة المثقفة أو علية القوم أو العلماء أو الساسة والسادة والرؤساء لا، بل تخاطب المسلم أياً كان، وتناديه، وتصل إلى قلبه وعقله، هذا مثال. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 5 جيل الصحابة انظر إلى الجيل الأول الذي قام على يديه الإسلام أول مرة، هل قام الإسلام أول مرة على يد أفراد محدودين من الناس؟ كلا، بل قام على يد جيل كله كان يتحرك للإسلام، وكله كان يشتغل بقضية الإسلام، وكله كان يراقب سير الدعوة، فيصحح إن احتاج الأمر إلى تصحيح، ويؤيد إن احتاج الأمر إلى تأييد، ويعارض إن احتاج إلى معارضة، كلهم كان معنياً بأمر الإسلام. ترجم ابن الأثير -مثلاً- في أسد الغابة لما يزيد على سبعة آلاف وسبعمائة صحابي ما بين رجل وامرأة، لا تجد في ترجمتهم أحداً منهم مغموراً، لا بد أن تجد للواحد منهم مشاركة في بناء صرح الإسلام، ومساهمة في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام، وأنت تجد في الأحاديث ذكراً لأشخاص رجالاً ونساءً ربما يجهل الواحد منا أسماءهم الآن. فمثلاً: من هو الذي لم يسمع بحديث ذي اليدين؟ {لما سلم الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيء الظهر أو العصر، سلم من ركعتين، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام رجل يقال له: ذو اليدين -في يديه طول- فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر، قال: بل نسيت، فقال عليه الصلاة والسلام: أكما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم، فاستقبل القبلة وأكمل ما عليه ثم سجد السجدتين} . ما اسم ذي اليدين؟ يقولون اسمه الخرباق بن عمرو، وقيل غير ذلك، ليس المهم اسمه، المهم أن الرجل قام بدور في عملية بناء الإسلام، وهذا الرجل قد يكون مغموراً عند الكثيرين. وفي مجال النساء مثلاً، المرأة التي كانت تقمّ المسجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً، كانت تقيم المسجد فماتت فدفنوها، ففقدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل عنها، فقالوا: ماتت يا رسول الله! قال: {هلَّا آذنتموني، قالوا: إنها ماتت في الليل فكرهنا أن نوقظك، فقال: دلوني على قبرها، فذهب إلى قبرها صلى الله عليه وسلم وكبر عليه أربعاً} . هذه المرأة قامت بعمل كبير في بناء الإسلام، في بناء صرح الإسلام، وتعزيز مكانته، كانت تقمُّ المسجد وهذا عمل عظيم، ولذلك عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن رضاه عن العمل التي كانت تقوم به بأن سأل عن قبرها وكبر عليها أربعاً بعدما دفنت، واستغفر لها النبي عليه الصلاة والسلام. فالجيل الأول كله كان جيلاً فعالاً، ولا أدل من ذلك من قول ربنا عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . فوصف الله تعالى الذين آمنوا مع رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف، التي تشمل كل أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، على تفاوت في درجاتهم وطبقاتهم، فبالتأكيد ليست منزلة أبي بكر مثلاً أو عمر، كمنزلة رجل من مسلمة الفتح، لكن كلهم يدخلون تحت عموم قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] كلهم يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم. وهذه امرأة اسمها أم هانئ أجارت رجلاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ} {المسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عنهم أحدهم، وهم يدٌ على من سواهم} . ولذلك حتى فَقْدُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن ليمنع بقاء الإسلام وانتصاره، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم تولَّى بعده أبو بكر رضي الله عنه، وحمل الراية من بعده، ومع أنه لا مقارنة فرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤيدٌ بالوحي من السماء، ومع ذلك فإن أبا بكر قد قام بالأمر من بعده خير قيام، ورضيه الناس لدينهم ودنياهم، كما رضيه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح في عقيدة المسلم أن خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم هو أبو بكر. إذاً هناك سر في انتصار الإسلام أول مرة، ورسوخ دعائمه واستمراريته، هو أن الإسلام لم يكن همَّ شخص واحد هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن هم أربعة هم الخلفاء الراشدون، ولم يكن هم عشرة هم المبشرون بالجنة، ولم يكن هم ألف وأربعمائة أيضاً هم الذين بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، كلا، بل كان هَمَّ جيل بأكمله. ولن يفلح وينجح ويصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، أي بأن يكون أمر الإسلام هماً يشغل كل مسلم، قد يقول قائل: كيف ذلك؟ فأعطيك بعض الأمثلة الموجودة على الساحة اليوم، التي تدلك على نجاح الأمر حينما تعانيه الأمة كلها، وفشل الأمر حينما يكون هماً لفئة خاصة، خذ مثلاً قضية أفغانستان، نعتبر أنها قضية نجحت إلى حد كبير، وبغض النظر عما يمكن أن يتم الآن أو بعد حين، لكن الأمر الذي حصل يعتبر نجاحاً، فقد نجح المسلمون في تحطيم الحكم الشيوعي في أفغانستان، وزحزحته، وإقامة حكومة للمجاهدين، إلى هذا الحد يعتبر نجاحاً، ولا شك أن الأمر الأكبر والمؤثر في ذلك هو عون الله عز وجل، وكما قيل: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده الجزء: 180 ¦ الصفحة: 6 نشر المعرفة بالعلم الشرعي المثال الثاني يتعلق بالعلم الشرعي: أنت تعرف أن المهمة التي تنتظر المسلم ليست مجرد أن يتعاطف مع قضايا المسلمين، أو يدري ماذا أصاب المسلمين هنا أو هناك هذا جانب، ولكن هناك جانب آخر وهو جانب العلم الشرعي، فالمسلم مطالب بأن يعرف دين الله عز وجل الذي ينتسب إليه، فلا يكون انتسابه إليه مجرد ميراث، أو تراث، أو اسم بلا مسمى، بل ينبغي أن يكون له من هذا الاسم نصيب. وأنت تجد أن هناك من أفلح ونجح في تسهيل العلم الشرعي بحيث يصبح في متناول الجميع، فهذا كتاب مبسط وسهل، في صفحات، يشرح قضية علمية يحتاجها جمهور الناس، رسالة درس، أعداد غفيرة من الناس تتمكن من المشاركة في معرفة شيء عن الدين على كافة المستويات، بل لو ذهبت إلى أمر آخر، خطبة الجمعة مثلاً عدد الذي يحضرون هذه الخطبة لا يحصيهم إلا الله عز وجل، ولا يكاد إنسان ينتسب إلى الإسلام إلا ويحضر خطبة الجمعة، إما باستمرار أو على الأقل بين الفينة والأخرى. والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {من ترك ثلاث جمع تهاوناً طبع الله على قلبه} خطبة الجمعة إذا أمكن أن تعرض من خلالها القضايا التي تخاطب المسلم العادي، تبصره بأمور دينه، تسهل له معرفة الأحكام الشرعية، ليس من المصلحة أن يوجد العلم بطريقة -كما يعبرون في لغة العصر الحاضر- طريقة أكاديمية، لا يصل إليها إلا المختصون، وأسلوب علمي متين لا يستطيع أن يفك رموزه إلا كبار الطلبة، أو كتب قديمة فيها متانة، وفيها قوة، وفيها حجة، وفيها استدلال، لكن لم يعد المسلم العادي البسيط يستطيع أن يفهمه، فمن المصلحة أن يسهل له العلم، ويوصل إليه من أقرب طريق. الشريط مثلاً وسيلة ناجحة جداً، وأفلحت في جعل العلم الشرعي، بل جعل كثير من الأمور التي تتناول، سواءً العلوم الشرعية، أو أوضاع المسلمين وأحوالهم، أو المفاهيم التي ينبغي أن تصحح، أفلحت في أن توصلها إلى عقول وقلوب الكثير من الناس. البرامج الإعلامية: سواء كانت فتاوى، أم دروساً، أم لقاءات، أم غير ذلك، هذه أيضاً أوصلت العلم الشرعي إلى طبقات عريضة من الناس قد يكون الواحد منهم في الصحراء، في البادية، أو في بلد ناءٍ، أو قد يكون غير قارئ أصلاً ولا كاتب، أو قد يكون غير مهتم، ولكنه سمع الكثير وفهم الكثير من خلال هذه الوسائل والبرامج. وبناءً عليه أصبحت تجد أن رجل الشارع يفهم الكثير، ويقول على أقل تقدير: سمعت الشيخ الفلاني يفتي بكذا، وسمعت الشيخ الفلاني يقول كذا، وسمعت الخطيب الفلاني يقول كذا، والشريط الفلاني جيد وفيه كيت وكيت، وهناك كتاب مهم يتحدث عن الموضوع الفلاني. هنا نستطيع أن نقول: إن العلم أصبح هماً للجميع، يخاطبون به، ويحدثون عنه، ويجرون إليه، لكنك تجد مثلاً أن هناك أماكن أخرى لا يزال العلم الشرعي فيها محصوراً ومقصوراً على فئة معينة، في دوائر مغلقة، أو كما يسمى في أكاديميات، وفي جامعات، من الممكن أن يحصل على العلم طالب جاء إلى المسجد، لكن لو حسبت عدد الطلاب الذين وصلوا إلى المسجد، لوجدت أنهم عشرة أو خمسة أو عشرين أو قل مائة، ولكنهم بالقياس إلى عدد أفراد الأمة يعدون أقل من القليل. فهل من المعقول أن نقصر العلم على هذه الفئة المحصورة، التي جاءت للدرس أو للجامعة، ونحجب العلم عن أعداد غفيرة من الطلبة أو من كبار السن أو الصغار، بحجة أن العلم هنا، ومن أحبه أتاه ووجده! لا، بل ينبغي أن نفكر جيداً في كل وسيلة نستطيع من خلالها أن نوصل العلم لكل إنسان، لكل مسلم، وعلى الأقل نوصل العلم الضروري الذي لا بد من معرفته. وعلى كل حال فنحن نعلم أنه ليس هناك أحد يهمه أن يبقى العلم حكراً على فئة معينة، حتى العالم يفرح أن توجد بضاعته عند كل أحد، لأنه لا يستفيد من علمه دنياً أو جاهاً، حتى يقول: ماذا يبقى دوري إذا تعلم الناس، بل كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله: والله لوددت أن هذا الخلق تعلموا هذا العلم، وأنه لم ينسب إلي منه حرفٌ واحد، فكان همه أن يعلم الناس هم الدين، أما كون العلم ينسب إلى فلان أو علان، أو يحتاج فيه إلى هذا، أو يستفتى فيه ذاك، فهذا أمر ليس مهماً، المهم هو أن يوصل العلم إلى الخلق. إذاً: سينجح العلم حينما نفلح في إيصاله أو في إيصال الضروري منه إلى أفراد الناس وآحادهم، وأن نخاطبهم به من خلال المنابر والوسائل الممكنة التي قد يتعاطونها. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 7 كثير من الأنظمة العربية ممقوتة لدى شعوبها مثال ثالث: هناك دول قامت، ولكنها قامت على أساس أحزاب أو طوائف أو طبقات، أو حتى أحياناً مجموعة من اللصوص الذين لا هم لهم إلا سرقة أقوات الناس، وإن أمسكت بهم هذه الأحزاب -مثلاً- وخاصة الأحزاب العلمانية، أمسكت بهم بقوة الحديد والنار، وبطشت بهم فطأطئوا رءوسهم وسكتوا، ولكنهم ينتظرون أدنى موقف أو أدنى ارتباك، حتى ينقضوا عليها ويحاربوها ويتبرءوا منها، وأقرب مثال الاتحاد السوفيتي أكثر من سبعين سنة وهو قوة ضاربة، العسكريون فقط بمئات الألوف يعدون، والتابعون لجهاز الاستخبارات مئات الألوف أيضاً، كل همهم إخافة الناس، مع ذلك في سنوات معدودة تهاوى هذا الصرح الشامخ وسط شماتة الناس، وأكثر الشامتين به هم الذين عانوا من آلامه ومتاعبه ومصائبه. وذلك لأن تلك الدولة الشيوعية لم تقم على عروش القلوب، قامت بالقوة والتسلط والبطش والإرهاب فأخافت الناس، ولأنهم ضعفاء سكتوا فعلاً، ولكن لما شعروا بأن هذا الكابوس بدأ يتزعزع قاوموه وحاربوه، ولو كانوا يملكون القوة من قبل لقاوموه وحاربوه قبل ذلك. ولا شك أنك تعلم أن عدداً كبيراً من الأنظمة العربية التي تحكم المسلمين اليوم، لم تحض بأي لون من ألوان التأييد الشعبي من جماهير الأمة، ولم يتعاطف معها المسلمون بقلوبهم، ولم يقتنعوا بها بقلوبهم أيضاً، ولكنهم رضوا بها لأنهم لا يملكون أسلوباً لتغييرها، وعلى رغم أنهم ضعفاء إلا أنهم يعبرون على الأقل تعبيراً سلبياً، فلا يعنيهم أمر الحاكم مثلاً عاش أو مات، ارتفع أو انخفض، لأنهم لا يعتبرون أنه معبر عن مشاعرهم، عن طموحاتهم، عن آمالهم، عن آلامهم، أو ممثل لهم في دينهم، كما هي الحال بالنسبة للحاكم المسلم. الحاكم المسلم الذي يقودكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في حديث أم الحصين الذي هو في صحيح مسلم أيضاً، هذا الحاكم تجد كل فرد يفديه بروحه، ولو استطاع أن يصل عمره ببعض عمره لفعل، ويقول: نفسي دون نفسه، وروحي دون روحه. أصبحت الأمة الآن تقبل على همومها الخاصة، تحتج على فساد الأوضاع بما يسمى المقاطعة الشعورية، تقاطع هذه الأمور، ولا أدل على ذلك مما يسمى بالانتخابات التي تقام الآن في أكثر من بلد من البلاد العربية والإسلامية -وهي قليلة على كل حال- لكن تجد أن نسبة المشاركين في هذه الانتخابات نسبة قليلة جداً؛ لأنهم غير واثقين بهذه الأمور، ولا مصدقين لها، ولا متعاطفين معها، ويعرفون أن النسبة المقررة سلفا ًهي فوز الحاكم الفلاني بنسبة (99. 9%) أيضاً. ولذلك لا يرون ثمة داعياً للمشاركة، ويكتفون بالمقاطعة الشعورية لمثل هذه الأوضاع، فالشعوب الإسلامية تعيش في وادٍ، وحكامها يعيشون في وادٍ آخر، لأنهم لا يعبرون عن حقيقة مشاعرها التي في قلبها، ولا يمثلون حقيقة الدين التي تنتسب إليه، وهذا لا شك يجعل أنهم في حالة ضعفهم مستسلمون، لكن لو جدوا أن أي خطر يهدد هذا الحزب الذي يبطش بهم، أو هذه الطبقة التي تحكمهم لما تعاطفوا معها، ولا وقفوا إلى جنبها، بل كانوا يفرحون بذلك، بل كانوا هم أول المؤيدين لذلك. يؤسفني جداً أن أقول في مقابل ذلك: هناك دول قامت على أساس قناعة الناس بها، فكانت راسخة عميقة ممكنة، أما دولة الإسلام التي تحكم المسلمين منذ عهد الخلافة الراشدة، فهذا أمر واضح لا يحتاج إلى بيان، فقد ظلت دولة الخلافة قائمة قروناً طويلة تزيد على ثلاثة عشر قرناً من الزمان، تحميها القلوب قبل الأيدي، وتحميها الدعوات قبل المعارك والضربات. أما في واقعنا اليوم فالمؤسف أن الأمثلة التي تتجه إليها الأنظار غالباً هي أمثلة غير إسلامية، فمثلاً الدول الغربية كلها، كيف استطاعت أن تمكن لنفسها في الأرض؟ استطاعت من خلال إشعار جمهور الناس بأنهم شركاء في إدارتها وفي تدبير شئونها، وفي أخذ رأيهم في الدقيق والجلي. فالمواطن منهم يشعر أنه يستشار في كل شيء، وأنه يستطيع أن يقدم رأيه في أي أمر، ويستطيع أن يحتج، ويستطيع أن يعترض، ويستطيع أن يقول ما يراه مناسباً دون أن يخاف من بطش، وهذا ما يعبرون عنه لغتهم بالديمقراطية، الليبرالية الغربية، لا شك هي ديمقراطية نظام غير إسلامي، ولكنهم أفلحوا في كسب ثقة شعوبهم وقناعتها، ولهذا يعشون أوضاعاً من الاستقرار لا تعيشها البلاد الأخرى على الإطلاق. مثل آخر دولة إسرائيل، يحدثني أحد الإخوة الفلسطينيين -وقد زارني قبل أسبوعين- يقول: لا يكاد يوجد في إسرائيل يهودي واحد يعتبر مدنياً بالمعنى الصحيح، كلهم عسكريون أو كانوا في يوم من الأيام عسكريين، أو جندوا للخدمة وقتاً من الأوقات، أو يعملون في بعض الأجهزة الأمنية السرية أو العلنية، بمعنى أن الشعب كله مجاهد، الشعب اليهودي مقاتل، يقاتل عن عقيدته الفاسدة، يقاتل عن دينه، يقاتل عن حدوده، يقاتل عن عرقيته وعنصريته، وأفلحت دولته الفاسدة الكاسدة في إقناع كل مواطن يهودي بأن الدفاع عن إسرائيل -أو ما يسمى بإسرائيل- واجبه هو، وليس واجب حكومة معينة، أو وزراء معينين، أو تكتل، أو تحالف، لا، واجب كل فرد، ولهذا ما من إنسان إلا وقد خدم أو يخدم الآن؛ أو سوف يخدم مستقبلاً إما سراً أو علانية، إما عسكرياً أو أمنياً أو غير ذلك، فهو بناء يتضافر الجميع على دعمه وترسيخه وتأييده، ويشد بعضه بعضاً. ولو أردنا أن نضرب بعض الأمثلة الإسلامية لما أعجزنا أن نضرب المثال -أيضاً- بما حصل في الجزائر، فإن الانتصار الذي حققته جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر يعتبر انتصاراً كبيراً للإسلام، فقد أفلحت هذه الجبهة في جعل الإسلام هماً سياسياً للمواطن العادي، فكل مواطن عبر عن اختياره للإسلام، حتى عبر أكثر من (82%) منهم عن أنهم يريدون الإسلام ولا يريدون سواه، وهذا بحد ذاته مكسب كبير، لأنه كشف لنا أن الجبهة هناك نجحت في مخاطبة الشارع الإسلامي، مخاطبة الفرد الإسلامي أن لا يعتبر أن مهمة الحكم بالإسلام مهمة مجموعة من العلماء يجب أن يفعلوا، ولا مهمة مجموعة من الدعاة ينتظر منهم أن يقولوا، لا، إنها مهمة كل إنسان مسلم في الجزائر أن يسعى بما يستطيع إلى التصويت للإسلام ولصالح الإسلام، والعمل على تحكيم شريعة الله تعالى في الأرض. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 8 ضرورة الاهتمام بالفرد وكيفية استمراره من خلال هذه الأمثلة المتفرقة نستطيع أن نقول: كل قضية نريد لها أن تنجح علينا أن نحشد لها جماهير الأمة بقلوبهم وعقولهم ومشاركاتهم، وهذا إذا حصل فهو مكسب كبير جداً للصحوة في كل مجال، الصحوة الإسلامية ليست منجزاتها محصورة فقط في الجانب السياسي، وإن كان الجانب السياسي جزءاً من الدين ومن الإسلام، ولا أحد من المسلمين يستطيع أن يخرج السياسة من الإسلام، لكن كل إنسان تكسبه لصالح الإسلام فهو خير. المصلي الجديد الذي بدأ يتردد على المسجد هذا مكسب، والصائم الجديد الذي صام رمضان لأول مرة هذا مكسب، والتائب الذي انضم إلى مواكب الراجعين إلى الله تعالى هذا مكسب، حتى لو لم يأتِ منه إلا أن يصلي أو يصوم أو يذكر الله عز وجل، ولهذا تعرف في صحيح البخاري قصة الغلام اليهودي الذي كان بجوار النبي صلى الله عليه وسلم: {فدخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده وبه الموت، فقال له: يا غلام قل لا إله إلا الله، فنظر إلى أبيه، فقال له أبوه: أطع أبا القاسم، فقال الغلام: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ثم مات، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من عنده، وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار} . ماذا كسب الإسلام من هذا الغلام اليهودي الذي أسلم؟! أسلم ثم مات، ما قدم للإسلام شيئاً، لا مالاً، لا قتالاً، وجاهاً، ولا ولداً، بل ولا صلى ولا صام ولا حج ولا شيئاً من ذلك، لأنه تشهد ثم مات في ساعته، فدخل الجنة ولم يسجد لله تعالى سجدة، ومع ذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم فرحاً مسروراً بإدخال هذا الإنسان إلى الإسلام، وإنقاذه من النار. فكل شخص أو فرد تكسبه إلى صالح الدعوة هو خير وبر، حتى لو وقف الأمر عند هذا الحد، ولكننا نجد الآن أن العنصر البشري الإسلامي كبير، والإحصائيات الرسمية تقول: ألف مليون، بغض النظر عن حقيقة هذا الرقم، هذا العدد أكبر من الدول، وأكبر من الدول الإسلامية، وأكبر من الجماعات الإسلامية أيضاً، وأكبر من الأشخاص، وأكبر من المصالح الذاتية هو رصيد عظيم للدعوة الإسلامية بكل حال، ولا زال هذا الرصيد غير مستثمر بشكل صحيح. وهذه أمثلة لكيفية استثمار هذا الرصيد: الجزء: 180 ¦ الصفحة: 9 في مجال الغضب الغضب: الغضب -كما أسلفت قبل قليل- من يقوم لغضب ألف مليون لو غضبوا؟ لو كان غضبهم لله عز وجل، لو تنادت المشارق والمغارب، ليس على أصوات التعصب لفلان أو لفلان من الزعماء المصنوعين الذين كانوا يخاطبون الجماهير من المحيط الثائر إلى الخليج الهادر، وليس على الدعوات والنعرات الجاهلية، وإنما غضبوا لله عز وجل، غضباً إيمانياً، غضباً ربانياً، من كان يستطيع أن يقف في وجوههم، ولذلك يداري الغرب كما ذكرت غضب هؤلاء. ونحن يجب أن نعمل على إثارة غضبهم، غضبهم ضد الكافر، ضد اليهودي، ضد النصراني، ضد المنافق، من خلال الحقائق والوثائق والأرقام التي تتكلم عن مؤامرات أعداء الدين على هذه الشعوب، لا بد أن تصحو هذه الشعوب من سباتها، وتعرف عدوها من صديقها، وتغضب لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها ما لم تغضب لا تستطيع أن تصنع شيئاً. وهذه الأمثلة كلها تبرز أهمية انغماس الدعاة في الناس، ومشاركتهم، وإشراكهم في هموم الدعوة والأمة، والقدرة على الوصول إلى قلوبهم وأخذها بما تيسر منهم، نحن كثيراً ما نتحدث -أيها الإخوة- عن الصحوة كجزء متميز من المجتمع، وكأنهم فئة ونقول: الصحوة بخير، وننسى أن هذه الصحوة ينبغي أن تمتد لتشمل الأمة كلها، وأنه يجب أن نكسر هذا الخط الأحمر ونمتد إلى طبقات المجتمع بلا استثناء. قد يكون منا من نجح في مخاطبة جمهور الصلوات الخمس، ربما خاطبهم بعضنا، ولكننا لم نخاطب جمهور الجمعة وهو جمهور واسع عريق، وقد يكون منا من نجح في مخاطبة جمهور الجمعة، ولكن لم ينجح في مخاطبة جمهور المدرجات مثلاً، وهي أعداد غفيرة كبيرة تحضر للكرة، أو جمهور الشاطئ، أو الشارع والسوق، أو حتى جمهور الجريدة، ولا يجوز أبداً أن نغالط أنفسنا ونظن: أن الناس كلهم ملتزمون. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 10 في مجال الدعاء الدعاء: لا يوجد أحد إلا ويملك الدعاء، حتى الكسيح الذي يحمل في المستشفى على نقالة، يملك أن يدعو الله عز وجل بالنصر والتمكين للمسلمين، ويدعو الله على أعداء الإسلام، أو يدعو الله بالحفظ لأهل الدين، أو يدعو الله بالتنكيل بالكافرين والمغرضين والمنافقين، الدعاء نرجع إلى الرقم ألف مليون ألا يوجد من بين هؤلاء رجلٌ واحد لو أقسم على الله تعالى لأبره؟ الله أعلم أنه يوجد، هذه الأمة لا تخلو من أخيار، وأبرار، وأطهار، أصحاب أسحار، وأصحاب أذكار، وأصحاب نيات صادقة. لو أن هذا العدد الكبير الغفير حشد بتجنيد من الدعاة والعلماء والمخلصين والمتحدثين، حشد ليدعو الله تعالى في قضايا الإسلام والمسلمين، أو يدعو على الأعداء والكافرين، لربما دعوة صادقة ولو من أحدهم أو من بعضهم كان بها الخير والنجاة، وما يدريك أن النصرة الذي حققه المسلمون هنا أو هناك، أو الشر الذي اندفع عنهم هنا أو هناك كان ببركة دعوة صادقة من رجل صالح، حتى هو ربما لم يدرِ أن دعوته قد أجيبت، لكنه سهم أصاب. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 11 في مجال الصلاة مثل آخر: الصلاة: لو أفلحنا في جر المسلمين إلى الصلاة مع الجماعة في المساجد، ألف مليون مصلٍ إذا أبعدنا منهم النساء ممن لا تجب عليهن الجماعة والأطفال أيضاً، لنفرض أنه بقي لدينا ثلاثمائة مليون مصلٍ هل تتسع لهم المساجد المعمورة في الدنيا، أجزم أن المساجد المعمورة في الدنيا كلها لا تتسع لهذا الرقم. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 12 في مجال الحج الحج: ألف مليون مسلم لو حجوا، لنفترض أن منهم خمسمائة مليون عاجزون عن الحج، والحج معروف أنه لا يجب إلا على المستطيع {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران:97] بقي عندنا خمسمائة مليون مسلم، وإذا كان عمر الواحد منهم ما بين الستين إلى السبعين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين} فلننظر كم النسبة لو حجوا كلهم خمسمائة مليون على مدى سبعين سنة، نأخذ الأكثر، سبعين سنة لكانت نسبة الحجيج في كل سنة، عدد الحجيج سبعة ملايين ومائة وثلاثة وأربعين ألف تقريباً. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 13 في مجال التبرع لو أن هؤلاء الألف مليون تبرع كل فرد منهم بريال واحد لقضية الإسلام لجمعنا في يوم واحد ألف مليون ريال نستطيع أن نفعل بها الكثير الكثير، وفي صحيح مسلم من حديث جرير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تصدق رجل من ديناره من درهمه من صاع بره من صاع تمره، حتى قال صلى الله عليه وسلم: ولو بشق تمرة لا تحقرن من المعروف شيئاً} . قام رجلٌ بين أظهر الناس في مسجد من هذه المساجد يدعوهم إلى التبرع، وكان فصيحاً لسناً جيد العبارة، فحرك مشاعر الناس، وألهب أحاسيسهم، فتبرعوا بما يملكون، فهذا أخرج ما في جيبه وألقى به، وهذا أخرج محفظته وألقاها، وثالث لم يجد إلا ساعته فأخذها من يده ووضعها في صندوق التبرعات، وكان من بين هؤلاء الناس رجل يتململ يدخل يده بلا شعور في جيبه فلا يجد شيئاً، يدخلها في جيبه الآخر فلا يجد شيئاً، فقام بحركة عصبية شديدة، وأخذ غترته التي كانت على رأسه، وألقى بها في ظل التبرعات، ولسان حاله يقول: ربي إني لا أملك إلا هذا، ثم أشاح بوجهه وهو يداري دمعة يوشك أن تخرج من عينه، رآه كثيرون، فتحركت أريحيتهم، فمن كان أخفى في جيبه شيئاً من المال مصروفاً للأولاد أخرجه، ومن كان تبرع ببعض ما يملك أخرج كل ما يملك معه، ومن كان تردد عزم على الإنفاق، فكان لهذا الإنسان أجر ما تصدق به، وأجر من عمل بما عمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم: {من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة} . أمر آخر رآه أحد التجار فأخذ هذه الغتره وقال: من يسوم؟ فسامها رجل بعشرة ريالات، من يزيد عشرين، ثلاثين، مائة، ألف، خمسة آلاف، عشرة آلاف، حتى وصلت إلى عشرين ألفاً، وبيعت هذه الغتره التاريخية العتيدة بعشرين ألف ريال، على أن لا بسها يقول: لو بعتني أنا والغتره ما كنا نساوي عشرين ألف ريال، بيعت بعشرين ألف ريال صرفت لصالح المجاهدين في أفغانستان، وهكذا يقول المثل: الحاجة أم الاختراع. هذا الرجل دخل المسجد مثقلاً بالديون، لم يكن يخطر في باله أنه لن يخرج حتى يتبرع بعشرين ألف ريال، بل يكون له أجر من تبرعوا إعجاباً بعمله وتأثراً به ممن لا يحصيهم ولا يعلمهم إلا الله عز وجل. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 14 نزلنا الكوفة بليل فنزل الأخيار على الأخيار، ونزل الأشرار على الأشرار يذهب رجل صالح إلى بلد ليلقي فيه محاضرة، فيستقبله الخيرون في المطار، ويذهبون به إلى بيوتهم، ويطعم عندهم، ثم يذهبون به إلى المسجد فلا يرى إلا الأخيار، فإذا رجع أعطى صورة أن هذا البلد كله من الأخيار ويقول: لم أر منذ دخلت المطار إلى أن رجعت إلا الأخيار، لكنه لو ذهب إلى مدرجات الكرة، أو ذهب إلى أسواق البيع والشراء، أو ذهب إلى الشاطئ، أو ذهب إلى التجمعات العامة لرأى أمراً آخر، ولرأى الصورة الثانية التي ينبغي أن نضعها في الاعتبار ونحن نتحدث عن مجتمعات المسلمين. إذاً: نحن نطالب بأن تكون الدعوة لجميع الناس، أنت خطيب مثلاً خاطب الناس من خلال المنبر، قد تقول: أنا لست بخطيب ولا أجيد فن الخطابة، شارك واقترح على الخطيب موضوعاً، قدم للخطيب ملاحظة، إن لم تكن هذا ولا ذاك فلتكن مستمعاً جيداً، تستمع الخطبة وتنقل مضمونها إلى الناس، تتأثر بها، تشارك في فهم معناها، في التفاعل معها. إن لم تكن هذا ولا ذاك فقد تكون أديباً أو شاعراً أو كاتباً أو قاصاً أو إعلامياً أو خبيراً أكاديمياً أو قارئاً أو حتى خطاطاً أو رساماً، رُبّ إنسان يمكن أن يلتفت إلى الخير من خلال أنه دخل في معرض مثلاً، فرأى ما فيه من اللوحات الجميلة، لوحات تعبر عن تاريخ المسلمين وما فيه من المجد والعظمة، لوحات أخرى تتحدث عن جوانب في الكون مما ينبئ عن قدرة الله تعالى، من حفيف الأشجار، أو خرير الأنهار، أو جميل المناظر والأزهار، أو سواها، أو أخرى تعبر بصورة شرعية مباحة غير محرمة عن بعض المآسي والآلام التي يعيشها المسلمون، أو قرأ آية فتعجب منها ووقعت في قلبه. المهم أن نحشد كل الطاقات لدعوة الناس إلى الإسلام، وألاَّ نقبل أن يكون الإسلام هماً لفئة خاصة من الناس، هذا الكلام لا يعني أبداً التقليل من دور الأفراد، فنحن نؤمن أن هناك أفراداً لهم دور خاص الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، المصلحون من بعدهم، لكن حتى هؤلاء لم يربط الدين بهم بدءاً وانتهاءً {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] . ولهذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، انتهت دولة الخلفاء جاءت دولة بني أمية، ثم بني العباس، ثم دولة العثمانيين، فليس من المصلحة تضخيم دور الأشخاص وجعل الدولة محصورة بهم، حتى كأنهم رموز لا قيام للدين إلا بهم، لأن الأشخاص يذهبون ويجيئون، ويمرضون ويموتون، ويوقفون ويسجنون، ويستقيمون وينحرفون، لكن لو جعلنا الهمَّ همَّ الجميع؛ لكنا أفلحنا في تكسير كل الحواجز والحيلولة دون أن يفلح أحد في إيقاف مسير الدعوة. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 15 طائفة من العوائق النفسية إذاً: لماذا لا نعمل؟ هذا هو السؤال الكبير، وهنا تأتي العوائق النفسية التي أرى الوقت يسارع، ولكنني أذكرها الآن ولو بإيجاز، على أني وعدتكم أن أتكلم عنها إن شاء الله بشكل مفصل في جلسة قادمة. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 16 دعوى الحرص على الكمال ويحتج سابع بالحرص على كمال العمل وعدم السعي في أسباب ذلك، فهو -مثلاً- إذا قلت له: لماذا لا تدرس؟ قال يا أخي: التدريس يتطلب مثلما كان السلف الصالح علماء حفاظ لديهم من العلم والفقه والصواب والصلاح والاستقامة كيت وكيت. لماذا لا تكون إماماًً؟ قال: الإمامة تتطلب حفظ القرآن، والمحافظة على الصلوات في أوقاتها وضبط المواعيد، وأنا لا أستطيع ذلك. لماذا لا تخطب؟ قال: الخطبة تتطلب جهورية الصوت، وجودة القراءة وحسن الإلقاء. وهكذا يفترض المثالية دائماً في كل شيء ثم لا يسعى هو إلى تحصيل الأسباب بأي وسيلة. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 17 التمسك بخطط عملية قديمة ثامن: يتمسك بخطة عفا عليها الدهر وأثبتت الأيام ضعف جدواها، ولكن ليس لديه التخطيط والقدرة على تخطي هذه الفكرة وتجاوزها، فهو يتمسك بأشياء وأساليب وطرائق قديمة وسابقة، ولا يريد أن يغيرها. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 18 اليأس وتاسع: يلوذ باليأس، ويستطيل الطريق، ويستبعد النصر. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 19 التعلل باختلاف الأساليب وعاشر: يمضغ الحديث عن اختلاف الأساليب، فهو -مثلاً- يتحدث ويناقش حول سبل إنجاء سفينة تغرق الآن، سبل نجاتها، ويدير الحديث عن الطريقة المناسبة، ويظل النقاش محتدماً على أن السفينة قد انكسرت وغرق ما فيها وتلفت البضائع، وهؤلاء القوم لا يزالون يتناقشون في أفضل الطرق لإنقاذ هذه السفينة الغارقة، ولو أن كل واحد منهم نزل في إنقاذها بطريقته الخاصة، وأسلوبه الخاص، لربما كان في ذلك بإذن الله تعالى نجاتها. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 20 الخوف من الفشل أما الشخص الرابع: فهو يتعلل دائماً بالخوف من الفشل، والإخفاق من العمل، فالخوف من السقوط يقعده دائماً عن أي عمل، حتى لو هم أن يقوم ليلقي كلمة في مسجد أو يخطب أو يتحدث؛ راوده الخوف أن يقع في كلمة فيخطئ، أو يخطئ في تلاوة آية أو في حديث أو في غير ذلك. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 21 الانشغال بنقد الآخرين أما الشخص الخامس: فقد اكتفى بأنه يتسلى بنقد الآخرين ويخطؤهم، فهذا أخطأ هنا، وهذا أخطأ هناك، وهذا لو فعل كذا لكان كذا، وهذا في الواقع يذكرنا بباب ما جاء في {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] الذي لا يعمل لا يخطئ، ويستطيع أن يقول: لو ما فعلت كذا ما صار كذا، لكن الذي يعمل قد يجتهد فيخطئ أحياناً، لكن خطأ العامل خير من ذلك القاعد الذي لم يعمل شيئاً، ولئن يجتهد الإنسان فيعمل عملاً فيه نسبة من الخطأ خيرٌ من أن يقعد فلا يعمل شيئاً لا خطأً ولا صواباً. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 22 الحفاظ على المكاسب أما السادس: فعنده بعض المكاسب البسيطة، التي حصل عليها لنفسه أو لعلمه أو لدعوته، فهو يخاف عليها أن تزول، ويوهم نفسه بأن هذه المكاسب كبيرة وضخمة، وما أشبه هذا إلا بإنسان يشتغل ببيع الأشياء التافهة في السوق، ولكنه يظن أنه لو ترك هذه الأشياء التافهة وذهب ليبيع أو يعمل في أي مجال آخر لمات هو ومات أولاده جوعاً، وكأنه يظن أن الرزق لا يأتي إلا من خلال بيع هذه الأمور اليسيرة التي يشتغل هو ببيعها. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 23 عقدة المؤامرة شخص ثالث: تسيطر عليه عقدة المؤامرة فهو يتخيل المؤامرة وأصابع العدو في كل شيء يواجهه، وفي كل حركة وفي كل سكنة؛ حتى يظن والعياذ بالله أن أعداءه وخصومه يُسّيِّرون كل شيء ويصنعون كل شيء، ويتحول هذا من مجرد تحليل أو بعد نظر بصورة معتدلة معقولة، إلى وسوسة تقعد الإنسان عن العمل كثيراً. كثيرون يعتقدون الآن أن اليهود يدبرون أمر العالم، وأن هناك لجنة ثلاثية أو رباعية أو أربعينية أو خمسينية مكونة من رءوس اليهود هي التي تدير كل الأمور في العالم، وهذا في الواقع تصور خطير حتى من الناحية الاعتقادية، فنحن نعلم أن الله تعالى وحده هو الذي على كل شيء قدير، وهو الذي بكل شيء عليم، وهو الذي لا يقع في الكون إلا ما يريد، أما البشر فهم ليسوا كذلك ولا قريباً منه، بل كثيرٌ من الأشياء تقع بغير اختيارهم، ربما يفلحون فقط في استغلال الأحداث، في صناعتها، في تجييرها لصالحهم، أما أن يصنعوا هم الأحداث من أصلها وفصلها فهذا ليس بصحيح. على سبيل المثال: الغرب الآن في فترة تمكين وقوة وبأس شديد، أليس الغرب أعلن بنفسه أنه يسعى إلى إسقاط النظام البعثي في العراق ومع ذلك لم يفعل حتى الآن، بغض النظر عن جديته في مثل هذا الأمر ومصداقيته، قد يقول قائل: إن الغرب مستفيد من بقاء حكم البعث في العراق. مثلٌ آخر: أليس الغرب أعلن منذ سنوات أنه ضد الحكومة القائمة في السودان، وأنه يحاربها، وكان يراهن على سقوطها خلال ستة أشهر، ومع ذلك ظلت وبقيت وربما قويت أيضاً، مع أنها دولة من الناحية الاقتصادية ليست بالوضع الذي يمكنها من مواجهة مثل هذه المواقف الصعبة، لكن ينبغي أن نعلم أيضاً أن هؤلاء قد يريدون الشيء ولا يقع، وقد يقع الشيء ولا يريدونه، وأن هناك أشياء كثيرة تقع على خلاف ما يتوقعون، وخلاف ما يريدون وما يتمنون، لكنهم أذكياء فهم يستفيدون من الأحداث ويحاولون أن يطوعوها لمصلحتهم. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 24 التعذر بالمخاوف ومرة أخرى يتعلل شخص آخر بالمخاوف التي تمنعه، فهو لا يتكلم، ولا يكتب، وإن كتب فإنه لا يذكر اسمه، وإن طلب منه مشاركة في شيء، فقد يفكر ملياً ثم يعتذر، بحجة أنه سوف يكتب خطاباً بمفرده -مثلاً- أو أن هذه العبارة أو تلك فيها خطأ نحوي، أو فيها خطأ إملائي، أو فيها خطأ أسلوبي، أو أنها حارة وهو يريد البرودة، أو هي باردة وهو يريد الحرارة!! المهم النتيجة أن هذا الإنسان بخل علينا حتى بتوقيعه في إنكار منكر، وقد يرتب على هذا العمل البسيط لخوفه، نتائج بعيدة المدى، فهو يفترض دائماً أسوأ الاحتمالات، يفترض مثلاً أن العمل الذي عمله كان بمرأى من خصم شديد الخصومة، هذا الخصم له صلات وصداقات مع فئات شتى استطاع أن يفعل ويفعل، وعلى كل حال فهو يقول: السلامة لا يعدلها شيء، وأنا فرد واحد، وجودي لا ينفع وعدمي لا يضر. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 25 العجز فمن العوائق، بل لعله من أكبر العوائق ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بالعجز، العجز الذي وجد عند بعض الناس، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {المسلم القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز} العجز الذي جعل الكثيرين يفقدون الذات، يفقد الإنسان ذاته، يخسر جزءاً كبيراً من نفسه، فهو يحس أنه نقطة في بحر ليس لها تأثير، أو ريشة في مهب الريح، فهو مشلول التفكير، مشلول الإرادة، مشلول القدرة، يحاول أن يوهم نفسه ويوهم الآخرين، بأنه دائماً تابع وليس متبوعاً، مسير وليس مخيراً، فمرة يحتج بالقضاء والقدر، وكأن القدر جبرية ليس للإنسان فيها يد، والله تعالى يقول: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28-29] . وهو حيناً يلقي بلائمة على سواه، فإن كان يتحدث عن الفساد السياسي والعسكري جعل سببه الحكام، وللحكام من ذلك نصيب، ولكن للشعوب أيضاً نصيب آخر، وإن كان يتحدث عن الفساد الديني والأخلاقي جعله مسئولية العلماء والدعاة، وإن كان يتحدث عن الانتكاسات التي منيت بها الأمة، جعلها مسئولية كيد الأعداء ومكرهم الذي لا يفتر ليلاً ولا نهاراً، وينسى قول الله عز وجل: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] {فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] ثم هو يفتعل كافة الأسباب لتسويغ هذا القعود. حالة الضعف: واحد من الناس -رقم واحد- من أجل ألا يعمل ولأنه عاجز يزعم أن الأمور جيدة، وأن الدعوة قائمة تماماً وأنه ليس له مكان، فهو يقول: ماذا أصنع؟ المساجد لا تحتاج إلى خطباء أو أئمة، النشاط المدرسي هناك من يقوم عليه، والدروس العلمية كثيرة بل هي أكثر من الحاجة، ولذلك ليس لي مجال. وهذا كما يقول هذا في الدنيا، يقول مثله في الآخرة أو قريباً منه، وفي الصحيح ذكر النبي صلى الله عليه وسلم قصة الرجل الذي قال الله تعالى له: {اذهب ادخل الجنة، فذهب فلما اقترب منها خيل إليه أنها ملئا فرجع، وقال: يا رب وجدتها ملئا، قال الله عز وجل: اذهب فادخل الجنة، حتى قال الله تعالى له: اذهب فادخل الجنة فإن لك الدنيا وعشرة أمثال الدنيا، فقال: أتهزأ بي وأنت الملك؟! قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} . إذاً: يتعلل أحياناً بأن الميدان ملئا، وأن الساحة لا تحتاج إلى جهده ولا إلى جهاده. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 26 مسابقة كرة القدم للناشئين لدينا في الواقع مجموع من الموضوعات والقضايا الكثيرة، وأيضاً مجموعة كبيرة من الأسئلة التي وردت في هذا الموضوع وفي غيره، فمن الموضوعات التي يدور الحديث عنها هناك قضية تتعلق بالكرة وما يسمى بمسابقة (البيبسي كولا) ، وهذا القضية لا بد أنه قد سمع عنها الجميع كثيراً، ونشرت عنها في الصحف نشرات متعددة، وهي تتحدث عن خروج آلاف من الشباب الناشئين من هذه البلاد، ليتدربوا على يد مدرب نصراني ثم يذهب مجموعة منتقاة منهم إلى بريطانيا. وفي جريدة رياضية يوم الخميس (19/11/ 1412هـ) يقول أحد المسئولين في الرياضة كلاماً خطيراً ينم عن أن القضية ليست مجرد رياضة كما أجلبت لها الصحف، يقول: إن الوفد سيلتقي اليوم مع اللجنة المشتركة الذي تضم مسئولين من الخارجية ومن المجلس البريطاني للرياضة والثقافة، إضافة إلى اجتماع آخر مع اتحاد كرة القدم يشارك فيه مجموعة من المسئولين، أننا سنبحث معهم اليوم البرامج المشتركة بين الاتحاد السعودي والاتحاد الإنجليزي، ومن ضمنها موضوع الخبراء الذين سنحتاجهم في الاتحاد السعودي. ثم قال: إن الأمر ليس مقصوراً على الرياضة فقط، وإنما يأخذ جانباً آخر وهو المراكز الخاصة بالأسر والمجتمع ككل، وأنه سيكون هناك لقاء آخر لموضوع الثقافة بعد أن يتم تبادل مذكرات بين البلدين، والذي ربما يقود إلى توقيع مذكرة تفاهم أخرى، وأعرب عن أمله أن يتم هذا البرنامج مع البريطانيين لسنوات قادمة، مشيراً إلى أن كلا الطرفين متحمس لمذكرة التفاهم هذه وتطبيقها، وقال: نعمل على تطويرها لتشمل إلى جانب النشاطات الرياضية تبادل زيارات الشباب من الجامعات والمدارس الثانوية، مثل ما تم مع الولايات المتحدة وعدد من الدول الأخرى. إذاً: القضية ستشمل نشاطات المجتمع والأسر، وستشمل تبادل الزيارات بين الشباب وغيرهم، وفي العدد نفسه يوم الخميس، تكلم عن سبعة آلاف ناشئ اختبروا في نادي الاتحاد الذي تنظمه أكاديمية الاتحاد العربي لكرة القدم، وقد حضر الاختبارات أكبر من سبعة آلاف ناشئ اكتظ بهم ملعب النادي طوال الفترتين الصباحية والمسائية، ولم يتمكن عدد كبير آخر من الناشئين من حضور هذه الاختبارات، نظراً لعدم إمكانية استيعاب هذا العدد الهائل من الناشئين. الخبير العالمي بوب شارلتون أعرب عن سعادته ودهشته في نفس الوقت لحضور هذه المجموعة الكبيرة من الناشئين لنادي الاتحاد لتلقي اختبارات البرامج. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 27 التعليقات على فكرة المسابقة هنا أعلق أيضاً بعدة تعليقات: التعليق الأول: أن الصحف السعودية نفسها نشرت قبل سنتين خبراً يقول: الفاتيكان يخطط للتنصير في كأس العالم. وأنا أقرأ الآن من أحد الجرائد السعودية يقول: بعض التقارير الصحفية نشرت أن نشاطات خاصة، وخططاً مكثفة تنفذ في أقسام النشاط الخارجي المختلفة في الفاتيكان لاستغلال مسابقة كأس العالم التي ستشهدها إيطاليا وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، وسيقوم القساوسة ضمن الخطط إلى آخر الكلام، المهم أن القساوسة سوف يستغلون كأس العالم للقيام بحملة تنصيرية يقف وراءها الفاتيكان. إذاً: ما الذي يجعلنا نستبعد أن بوب شارلتون هذا الذي ترك النادي الذي ينتسب إليه منذ حوالي أكثر من خمس عشرة سنة، ما الذي يجعلنا نطمئن أن الرجل ليس قسيساً؟! وقد سمعت أخباراً أنه قضى جزءاً من هذه المدة في أفريقيا، وهي كما هو معروف بلد النشاط التنصيري منقطع النظير، وهو يقوم أيضاً على معهد لتدريب الناشئين في العالم فهذا جانب. أمرٌ آخر: هؤلاء الشباب سينتخب منهم مجموعة لتذهب إلى بريطانيا، وتقيم في معسكرات هناك، معسكرات مختلطة من الأولاد والبنات، والسن أقل سن اثنا عشر وأكثر سن ستة عشر وما بينهما، سن المراهقة المبكرة، سن إمكانية التأثر والانجراف، فكيف نفرط في فلذات أكبادنا وندعهم في مثل تلك الأجواء الفاسدة الملوثة؟! الفساد الأخلاقي، الأغراض التنصيرية، تدمير عقول الشباب، نزع ثقتهم بدينهم، وغرس الثقة بالنصراني، الآن الذين يتدربون في الرياض وفي الحجاز، جاءتني أوراق كثيرة لا أحصيها وهي موجودة عندي بخطوط بعضهم يقولون يدربهم نصارى، الصلبان تلمع على صدورهم، بل وعلى سراويلهم القصيرة التي لا تواري أفخاذهم، أوقات الصلوات تضيع دون أن يصلوا، التعظيم لهذا المدرب النصراني، يضع يده على كتف الطفل المسلم، يلطف معه، يحادثه. أين أولياء الأمور؟! أين الآباء؟! كيف يرضى أب أن يذهب ولده إلى مثل تلك البيئات الفاسدة المنحرفة المحاربة لله تعالى ورسوله؟! وكيف يرضى المسلمون أن تكون مدارسهم التي إنما بنيت أصلاً لتعليم الدين، وتربية الناس على الإسلام والخير، أن تكون مجالاً لاختيار مثل هذه البذرات الغضة الطرية البريئة ليدربها بوب شارلتون، ثم يذهب بها إلى بريطانيا حيث تعيش هناك في معسكرات مع الأولاد والبنات من النصارى واليهود وكل شعوب الدنيا؟! أمر آخر: ماذا يريد بوب شارلتون وغيره من هذه الدعايات الإعلامية؟! الاقتصاد والتجارة والمال، ولا تستبعد أبداً أن هذا الرجل يذهب بعد شهر أو شهرين إلى بريطانيا فتجري معه الصحف البريطانية مقابلات كما حصل هذا فعلاً مع غيره ممن جاءوا قبل سنوات، فيقولون: ماذا استفدت من زيارتك للسعودية؟ فيقول: والله ما استفدت شيئاً إلا المال، وقد قال أحدهم مثل هذا الكلام، وكان قد جاء إلى المملكة قبل سنتين. فالهدف له جانب تخريبي، وله جانب اقتصادي مادي، وفي بعض الصحف إشارة إلى أن هذه الحملة لها هدف اقتصادي واضح وبارز. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 28 تأثير المتطرفين اليهود على شركة بيبسي كولا أمر ثالث: اليهود أفلحوا في إقناع الشركة نفسها "بيبسي كولا" بتغيير دعايتها، فقد دخلت هذه الشركة مجدداً إلى إسرائيل بعد إلغاء المقاطعة العربية، وأعلنت عن نفسها في وسائل الإعلام من خلال صورة قرد يتطور إلى إنسان إشارة إلى نظرية داروين، فغضب لذلك ما يسمون برجال الدين اليهود، وشنوا حملة على هذه الشركة، اضطرت على إثرها أن تعلن أن مثل هذه الصورة لن تشاهد بعد اليوم، وأنها سوف تغير هذا الإعلان فوراً، وقد نشرت الصحف يوم الخميس هذا العنوان: بيبسي كولا تلغي حملة إعلانية بضغط من المتشددين اليهود. ونحن نسأل ما دور المسلمين في هذا البلد؟ ما دور العلماء والدعاة والخطباء، وكل رجالات الأمة؟ فنحن قبل قليل نتكلم عن أن القضية لا يجوز أبداً أن تكون مهمة فئة خاصة من الناس، بل يجب أن تكون مهمة الجميع، فولي الأمر يخاطب ويعاتب على أن يرسل ابنه، والطالب ينصح زميله، والمدرس ينصح طلابه، والمدير ينصح أيضاً، وينبغي أن يكتب كل إنسان وتخاطب كل جهة، وبكل وسيلة في إيقاف مثل هذا العمل، وأنه لا يجوز أبداً أن يمر على ظهور المسلمين، لا يجوز أن يذهب شاب مسلم من هذا البلد إلى بريطانيا؛ ليتدرب في تلك المعسكرات المختلطة، ولا يجوز أن تتخذ المجالات العلمية والتعليمية بل ولا الرياضية، التي إنما أقيمت وبنيت بأموال المسلمين وجهودهم وميزانياتهم أن تكون لهدم أخلاقيات الشباب وتدميرهم. وإذا كان هذا اليوم بالنسبة للأولاد، فما الذي يؤمننا أن يكون الدور على الفتاة غداً أو بعد غد، خاصة ونحن نعلم أن عدداً من العلمانيين أصحاب المراكز الاستشارية يتكلمون سراً في كثير من الأحيان، وجهراً -إن استطاعوا- عن تمنياتهم أن تكون الحصة الرياضية مقرراً دراسياً في رئاسة تعليم البنات. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 29 فتوى الشيخ ابن عثيمين حول المسابقة أيها الإخوة: هذه فتوى أكلل بها هذا الكلام لسماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين وأنا أدعو الإخوة إلى نشرها وتوزيعها في جميع المدارس والبيوت والمساجد والتجمعات. بسم الله الرحمن الرحيم فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله تعالى، أعلنت شركة بيبسي كولا عن عزمها على إقامة دورة في كرة القدم أكاديمية للناشئين من سن الثانية عشرة إلى السادسة عشرة، أي من طلاب الابتدائي والمتوسط تحت إشراف فريق من البريطانيين، وهي تطلب من الجميع المشاركة لتنتخب منهم بعد إجراء اختبارات مجموعة، فما رأي فضيلتكم هل يشجع الإنسان أبناءه على الالتحاق بها ليسافر بهم إلى بريطانيا؟ أجاب فضيلة الشيخ: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، لقد سمعت هذا الخبر وقرأته، وفيه أنهم سوف ينتخبون من النشء الصغار ثلاث فرق، فرقة إلى حد السنة الثانية عشرة، وفرقة إلى حد السنة الرابعة عشرة، وفرقة إلى حد السنة السادسة عشرة، ليختاروا منهم من يرونه صالحاً للمشاركة في هذه الأكاديمية التي سيجري التمرين عليها في بريطانيا، وأنا لا أظن أن أحداً من الناس يسمح لولده فلذة كبده وثمرة فؤاده أن يذهب بهذه السن إلى بريطانيا أو غيرها من بلاد الكفر، لما في ذلك من الخطورة العظيمة على دين الولد وأخلاقه وعبادته، ويحرم على الإنسان أن يُمكِّن لهذه الشركة من السفر بهؤلاء النشء إلى بريطانيا أو غيرها من دول الكفر، لأنه مؤتمن على أهله وأولاده، وسوف يسأل عنهم يوم القيامة، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: {الرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} . أسأل الله تعالى أن يحمي بلادنا وشبابنا من كيد أعدائنا، وأن يحفظ حكومتنا بالإسلام ويحفظ الإسلام بها، وأن يجعلها خير راع لأبناء شعبها وفلذات أكبادهم أن تجترفهم مثل هذه الأفكار السيئة إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. هذا الجواب عن سفر الناشئين إلى بريطانيا للتدريب على كرة القدم من إملائي، قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في (21/11/1411هـ) . وسأترك بقية الحديث عن هذا الموضوع ليتمه فضيلة شيخي الشيخ محمد صالح المنصور بعد قليل، لإكمال بعض النقاط الأخرى التي لا بد من المرور بها. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 30 الدعوة إلى مقاطعة بعض الصحف وهذه أيضاً قضية كنت أود أن أقولها في الأسبوعين الماضيين ولكني نسيت، لقد سمع الجميع أن جريدة الصباحية التي كانت تصدر عن الشركة السعودية للإنتاج والتوزيع أنها قد توقفت، أي: فشلت، وأنا أنتهز الفرصة لأجزي الشكر والثناء للإخوة الغيورين والمخلصين الذين كانوا هم بعد الله تعالى السبب في فشلها؛ في مقاطعة هذه الجريدة، والدعوة إلى مقاطعتها، وتوجيه الناس إلى عدم شرائها، حتى كسدت سوقها، واضطر ناشروها أن يعلنوا كتابة أنها قد فشلت، ثم تتوقف الجريدة عن الصدور. وهذا يدل فعلاً على أن الأخيار كثيرون، ولو أنهم قاموا بدورهم في مقاطعة أي عمل جريدة أو مجلة أو كتاب، أو أي عمل آخر فاسد، لما كتب له البقاء وأن يقوم على قدميه، فهم لا يستطيعون إلا بقوة يأخذونها من أفراد المجتمع الذين غالبهم خيرون وغيورون على دينهم، ولذلك أنا أقول: انتهت الصباحية، فإلى أين نتجه؟! قضينا من تهامة كل وتر وخيبر ثم أجممنا السيوف نخيرها ولو نطقت لقالت قواطعهن دوساً أو ثقيفا فأنا أقول: انتهت الصباحية وجاء دور الشرق الأوسط، إن جريدة الشرق الأوسط تمارس دوراً سيئاً جداً في تشويه أخبار المسلمين، والتكتم على قضاياهم، وتشويه صورة الإسلام، والنيل من قضايا الإسلام، ومعالجتها بطريقة لا تخدم المصلحة الإسلامية بحال من الأحوال، فهي لا تسمي المسلمين إلا بالأصوليين، وتتهمهم بأنهم مجموعة من الناس المتوحشين الذين لا هم لهم إلا السلب والنهب والقتل والتدمير والإحراق. وقد تكلمت قبل أسبوعين عما تقوم به هذه الجريدة، فهل يحق لنا أيها الإخوة أن ندعو جميع المؤمنين والمسلمين والغيورين والمتحمسين إلى مقاطعة هذه الجريدة، وعدم شرائها، خاصة أنها لا تحمل مادة إعلامية مهمة، ولا أخباراً ذات بال، وهناك جرائد أخرى كثيرة قد تغني عنها، ليعلم هؤلاء الناس أنهم قد أساءوا إلى مشاعرنا، فأنا أدعو الجميع إلى مقاطعة هذه الجريدة وعدم تعاطيها أو شرائها أو بيعها أو المشاركة فيها بأي أسلوب. وقد تحدث الأستاذ عبد الرحمن العشماوي في قصيدة بعنوان "خضراء الدمن" عن هذه الجريدة فقال: تجيء إليك فاقدة الصواب مهتكة العباءة والحجاب مصبغة الملابس باخضرار ملونة المبادئ باغتراب رأينا في الجزائر راحتيها وقد حملت شعارات اضطراب وفي أرض الجهاد لها حديث مريب في الحضور وفي الغياب تروح على تنكرها وتغدو خداعاً في الذهاب وفي الإياب تشوه وجه صحوتنا جهاراً وتطعنها بآلاف الحراب وتغلق باب إنصاف وعدل وتفتح للتحامل كل باب تقول عن الأصوليين قولاً تميز بالتحامل والسباب لها كف مخضبة ولكن بأسوأ ما تراه من الخضاب جريدة شرق أوسطهم مقرٌ لأصناف الزواحف والذئاب فكم وصفت بإرهاب دعاة إلى نهج الشريعة والكتاب بَرِئْتُ إلى إله العرش منها كما برئ المشيب من الشباب أقول لمن يدير الأمر فيها أما لك بعد هذا من متاب؟! أما لك رجعة للحق تبدي بها للناس أحكام الصواب؟! تذكر أيها المخدوع أنا سنلقى بعضنا يوم الحساب الجزء: 180 ¦ الصفحة: 31 تجرؤ بعض الكتاب على الثوابت الشرعية وهذه ورقة في غاية الخطورة وصلتني منسوبة إلى كاتب في إحدى المطبوعات المنسوبة إلى معهد عتيد شهير، طالما تكلم الناس عنه، كلام في غاية الخطورة تستغرب أن يصدر من إنسان يتكلم بكامل وعيه، يقول بعنوان النافذة الضبابية: بعض الملتحين تذكرك أشكالهم بالصحابة، وبعضهم يذكرونك بكفار قريش، اللحية رمز عربي وليست من الإسلام في شيء؛ لأن العرب كانوا يلتحون منذ أيام الجاهلية -كل العرب بما فيهم أبو جهل وأبو لهب - وكانوا يعتبرونها منظراً مهيباً يخيفون بها الأعداء، وكان كفار قريش يبالغون في إطلاق لحاهم وكثافتها لتعبر عن الفروسية والشجاعة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم له لحية شأنه شأن العرب، ولم يطلقها بعد الإسلام، ولا تعني في الإسلام شيئاً مميزاً للمسلم، كل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره رؤية اللحية الكثة -انظر كيف الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم! لم يتكلم على أقوال الرسول عليه الصلاة والسلام، تكلم عن مشاعر قلبية في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم- كان يكره رؤية اللحية الكثة ويتضايق منها، فقال: {حفوا الشوارب وأكرموا اللحى} أكرموها بمعنى: هذبوها، رتبوها، امشطوها، وليست بمعنى: أطلقوها لأنها مطلقة أصلاً. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرتاح -لا حظ الكلام مرة أخرى عن مشاعر النبي صلى الله عليه وسلم لم تقف الجرأة عند الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بالقول وكفى به أثماً مبينا، {ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} بل تطور الأمر إلى الكذب في التعبير عن مشاعر في قلب النبي صلى الله عليه وسلم- كان يرتاح للوجوه النضرة، واللحية المهذبة، ويرعبه شكل الإنسان المشوه، ولا أبلغ من قول الله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} [الكهف:18] . شكلهم المخيف بسبب لحاهم التي غطت وجوههم، وأظفارهم التي وصلت إلى الأرض، وليس لسبب آخر فهم بشر وطولهم متوسط، لذا بقيت صورة الرعب هذه في ذهن النبي صلى الله عليه وسلم. ومرة ثالثة يتكلم عن ذهن النبي صلى الله عليه وسلم، أن الصورة بقيت في ذهنه عليه الصلاة والسلام، فكان كلما رأى من هو كث اللحية، تذكر شكل أهل الكهف، حتى التذكر يفتري على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم صبراً على ذلك وقال ذلك الحديث المشهور. يقول: في هذه الأيام برز جيل من الملتحين، لا يعرفون أن الدين المعاملة، ويجهلون أن الدين النصيحة، ويتناسون أن الإسلام جملة من المحبة والمودة والفضائل، لا يعرفون أن المسلم هو من سلم المسلمون من لسانه ويده، نسوا محاسن الإسلام وسلوك الإسلام، وتمسكوا باللحية وكأن الإسلام لحية، لا يعرفون أن اللحية تعبر عن الأمة العربية أحسن تعبير، ونسوا أن أحبار اليهود ورهبان النصارى وكفار قريش والهندوس والشيوعيين يلتحون، وكذلك البدائيون من الخلق. النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل ما يفيد أن اللحية من الإسلام في شيء، وإنما قال حديثاً يزجر به الذين شوهوا مناظرهم بلحاهم الكثة، الذين كانوا ينتفونها بأيديهم، ويقضمون شواربهم بأسنانهم، ويشوهون منظرهم الإنساني الجميل. فقال عليه الصلاة والسلام ما معناه -الآن انتقل من الكذب على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشاعر، وعلى عقله بالتذكر والتصور إلى الكذب على لسانه صلى الله عليه وسلم- فقال ما معناه: يا جماعة هذبوا لحاكم وحفوا شواربكم بالمقص وليس بأسنانكم. الجهلة اعتقدوا أن هذا هو الحديث الوحيد الذي يرمز إلى إسلام المرء، ومن حقك إذا أطلت لحيتك أن تشتم الناس وتكفرهم وتفرق بينهم، وتحلل دماءهم ونساءهم. ا. هـ هذا الكلام ليس كلاماً علمياً حتى نرد عليه بالمنطق العلمي والحجة والبيان، وإنما هو كلام سفه، وكلام افتراء، وكلام تهويش وتشويش، وكلام إنسان في حالة انفعال لا يفرق فيها بين الحق والباطل، والخطأ والصواب، والنور والظلام، فهو يتقول على الله عز وجل وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومثل هذا الكلام ينبغي أن يعرف بالضبط من قاله، وينبغي أن يعرف بالضبط أين نشر، وينبغي أن يعرف بالضبط من الذي سمح بنشره، وينبغي أن يخضع ذلك كله لمحاكمة من قبل الغيورين على أمر الإسلام. هناك كلام أيضاً عن آخر أخبار المجاهدين الأفغان، وهناك كلام عن آخر أخبار المسلمين في يوغسلافيا والموقف الغربي، وهناك كلام عن بعض الموضوعات المتعلقة بأمور أخرى. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 32 خبر الإفراج عن أحد المشايخ أخيراً: أزف للإخوة خبراً ساراً بإذن الله تعالى، وهو أن الشيخ سمير المالكي قد أخرج من السجن البارحة، وإنني أشكر الله سبحانه وتعالى ثم أشكر سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز الذي كان له في ذلك دور مشكور، وقد اتصل البارحة مكتبه لإخباري وإشعاري بهذا الأمر؛ ومن ثم نبشر به المسلمين. وبقدر ما فرحنا بهذا الأمر وسُرِرْنا، إلا أنه ترامى إلى عقلي وذهني قصة يوسف عليه الصلاة والسلام {قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] فنعم أخرج لكن بعد أن مكث في السجن شهراً وأياماً، فلا أدري حتى الآن لم يكن هناك أي إدانة تدل على السبب الذي سجن فيه، لذلك فهذا الفرح أمرٌ عادي، لكن الأصل ألا يسجن بلا معنى، ثم يفرح بخروجه، فالأصل أن أعراض الناس ودماءهم وأموالهم حرام كما نص على ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو الأمر الذي نصت عليه الأنظمة التي أعلنت، فهو لم يكن له ذنب إلا الأمر بالمعروف، فكان غريباً أن ينال من الإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه بشيء، وإن كنا لا نملك إلا الفرح بخروجه. لكننا نقول أيضاً: ينبغي أن تكون أموال الناس وأعراضهم مصونة فلا يسمح لرجل الأمن أن ينال منها، ونتمنى بإذن الله تعالى ألا نسمع مثل هذه الأخبار المزعجة في المستقبل في شأن أحد من الأخيار والصالحين. فإذا حصل من أحد ما يدعو إلى مناقشته فالحمد لله البلد مرجعه أهل العلم، وسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز ومن معه من العلماء هم مرجع للجميع، ولا أحد من أهل هذا البلد كبيراً أو صغيراً عالماً أو جاهلاً إلا ويرضى بهم، ويقبل بالانصياع إلى ما يقولون ويرشدون. فنسأل الله تعالى أن يرزق الشيخ سمير وغيره من الدعاة والمؤمنين الصبر والاحتساب وأن يجازيهم على ما لقوا خير الجزاء، وأن يجعلنا جميعاً هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وأسأله جل وعلا أن يعز الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويذل الشرك والمشركين ويدمر أعداء الدين، وأن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر إنه سميع قريب مجيب الدعاء. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 180 ¦ الصفحة: 33 الإغراق في الجزئيات إن الاهتمام بالجزئيات عن الكليات وبالفروع عن الأصول، ظاهرة سلبية يعيشها المسلمون اليوم جميعاً، على كافة المستويات ولا شك أن هذا يعتبر خطأ كبيراً جداً، فلابد من التوسط في ذلك، فلا يهتم بالجزئيات اهتماماً كبيراً مع التقصير في جانب الأصول والكليات، وكذلك لا تهمل هذه الجزئيات بالكلية، بل يعطى كل شيءٍ قدره، لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن هذا الموضوع، وذكر أمثلة على الاشتغال بالجزئيات، وأنه لابد أن يُهتم بأصول الدين، وفصل في هذه المشكلة، ثم بعد ذلك خلص إلى الحلول المناسبة لهذه المشكلة. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 1 الإغراق في الجزئيات ظاهرة سلبية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أيها الأحبة: لا أشبه نفسي بين أيديكم في هذه الأمسية المباركة، في ليلة الخميس السابع عشر من شهر ربيع الثاني لسنة (1412هـ) إلا كما يكون الطالب إذا وقف في صالة الامتحان, وأراد أن يكتب ما في ذهنه من الجواب, فرأى أن أمامه سؤالاً طويلاً عريضاً يستغرق الجواب عنه ساعات وساعات. فقد تجشمت على إعلان هذا الموضوع، أو الموافقة عليه، ألا وهو: الإغراق في الجزئيات، وكنت أحسبه موضوعاً محدوداً يمكن أن يمر به الإنسان في ساعة أو بعض ساعة، فلما فكرت في هذا الموضوع وتأملت وقلبت وجوهه، وناقشته مع جمع من الدعاة والعلماء والمفكرين، وراجعت فيه ما راجعت، تبين لي أن هذا الموضوع أكبر من أن تحيط به جلسة، أو يحده حديث عابر، إذ أن الإغراق في الجزئيات كظاهرة سلبية في حياة المسلمين اليوم، بل ومنذ عشرات السنين، ليست ظاهرة محصورة في جانب فحسب، ليست خطأ يعيشه الدعاة مثلاً فقط، وإنما هي خطأ يعيشه المسلمون في كل مجالات حياتهم بدون استثناء، فهم مغرقون في الجزئيات في أدق أمورهم وفي أعظمها، واشتغالهم بالجزئيات شغلهم عن العناية بالكليات، والاهتمام بمعالي الأمور. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 2 إعطاء كل مسألة حقها في الإسلام إذاًً: البحث والدليل رائد الجميع، ونحن لا ننتقد أحداً أن يتكلم في قضية من قضايا الدين، لكن ينبغي أن يتكلم بتعقل وموضوعية، واتباع للدليل، من كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله عليه السلام، أو إجماع الأمة، وكذلك ينبغي أن يكون الحديث عن الموضوعات بحسب أهميتها وثقلها في ميزان الإسلام. وإزاء هذين الطرفين المتقابلين: طرف المهتمين بالجزئيات، وطرف الذين يهونون من شأنها؛ كان لابد من طرح هذا الموضوع؛ ولذلك أحببت طرحها، مع أنني أقول: إن هذه القضية ليست قضية الدعاة فحسب، بل هي قضية المسلمين. لو أتيت إلى الرجل في بيته، وجدته يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المسئول في إدارته؛ لوجدت أنه يهتم بالجزئيات وينسى الكليات، ولو أتيت إلى المدرس لوجدته كذلك، ولو أتيت إلى الداعية لوجدته كذلك، هكذا الخبير الاقتصادي أو السياسي لوجدته كذلك! إذاً: العناية بالجزئيات وإهمال الأصول والكليات هو داء مستحكم في حياة المسلمين، وقبل أن يكون مستحكماً في حياتهم، هو داء مستحكم في عقولهم. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 3 الدين كله لب مع أننا نقول في حقيقة الأمر: هذا كله دين، الكبير والصغير، والأصل والفرع، والجزء والكل، فكل ما يتعلق بقضية الإسلام فهو دين، وفي الحديث المعروف حديث عمر وأبي هريرة، لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإحسان والإيمان والإسلام كان من ضمن ما سأله -في بعض الروايات- عن قضايا تفصيلية عديدة مثل قضايا الغسل من الجنابة وغيرها، ومع ذلك لما انتهى قال: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم} فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو دين ينبغي الاهتمام والعناية به، وألاّ يكون محط سخرية أو استهزاء أو نقد من أحد، لكن ينبغي أن يعطى كل ذي حق حقه، ويوضع كل شي في نصابه. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 4 إثارة بعض الدعاة للجزئيات إن من العجيب أيها الأحبة: أن بعض هؤلاء الدعاة الذين يزعمون أو يعتقدون، أنهم يحاولون الإصلاح والتغيير، هم الذين يتسببون في كثير من الأحيان في إثارة بعض الجزئيات، وإشغال الناس بها، وصرفهم عما عداها من معالي الأمور، هم الذين يتسببون في ذلك؛ لأنهم يطرحون وجهات نظرهم بطريقة غريبة، وطريقة استفزازية، وغير موضوعية وغير صحيحة أيضاً. ولعل أقرب مثال: أن أحد كبار المفكرين، كتب قبل يومين في جريدة سيارة في هذه البلاد وكُتب بخط عريض: لا يوجد دليل من القرآن والسنة -أو كلمة نحو هذا- على تغطية المرأة وجهها!! فإذا أثار هذه القضية فمن الطبيعي أن يكون هناك نقد ورد وأخذ وعطاء في هذه المسألة، وليس صحيحاً أن يطرح إنسان وجهة نظره في قضية معينة ثم إذا طرحت وجهة نظر معارضة قال: يا أخي! وجزئيات، وقشور، هذه توافه. حسناً إذا كان الأمر كذلك فلماذا تشتغل بها أنت؟ ولماذا تتحدث عنها؟ ولماذا لا تنصرف إلى ما تعتقد أنه أهم منها وأجدى وأنفع للمسلمين في دينهم ودنياهم؟؟! الجزء: 181 ¦ الصفحة: 5 الناس وجزئيات المسائل لقد بُلينا بطائفة من المسلمين، بل وأحياناً من الدعاة إلى الله تعالى الذين هم على الافتراض من خيار المسلمين، همهم تحول إلى العناية بفروع المسائل وجزئياتها، فأسهروا ليلهم وأمضوا نهارهم في قتل هذه المسائل والجدال حولها، حتى لكأنها الدين كله، أو أنها من أهم مسائل الدين، مع أنها يمكن أن تكون سنة من السنن، حتى أنَّ من تركها متعمداً لن يكون عليه في ذلك حرج ولا تثريب، وإن كان الأولى بالمسلم أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في دقيق الأمور وجليلها. وفي مقابل ذلك بُلينا بطائفة أخرى، أرادت فيما تزعم أن تعالج هذا الداء؛ فتحول الأمر عندها إلى إهمال كامل للجزئيات، واعتبار أن هذه الجزئيات عبارة عن قشور، أو كما يقول بعضهم: عبارة عن توافه لا قيمة لها ولا ينبغي الاشتغال بها، بل أصبحت موضعاً للسخرية والنقد والتندر، من طائفة -مع الأسف- من الدعاة والوعاظ والعلماء والمفكرين. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 6 جهود مبعثرة في الدعوة إلى الله أيها الأحبة: ومن ذلك قضية الدعوة إلى الله تعالى، فإن الدعوة إلى الله والتعليم ونشر العلم لا تزال جهوداً مبعثرة، يقوم بها أفراد محتسبون لوجه الله تعالى، يتحرك كل منهم بحسب اهتماماته، وبحسب طاقته، وبحسب مستواه ومداركه العقلية، ولا يكاد يوجد إطار عام يتحرك فيه الدعاة والعلماء، أو على أقل تقدير أن يوجد خطوط عريضة تستطيع أن توجه المسلمين إلى الاهتمام بالأمور بحسب أهميتها، فيعطي كل ذي حق حقه، ولا يجار على شيء على حساب شيء آخر. إننا في أمس الحاجة إلى من يقول لنا: هذا أمر كبير وهذا أمر صغير، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا يبدأ به اليوم وهذا يؤخر إلى الغد. ولكن هذه الكلمة نستطيع أن نقول: إننا لا نكاد نسمعها الآن على أي مستوى، فكل واحد منا لديه اهتمامات، اهتمام بقضايا سواء من أمور الفقه، أو من أمور الأحكام العملية التفصيلية الأخرى، أو من أمور بعض القضايا العلمية، أو من أمور الاقتصاد، أو من أمور السياسة، أو من أمور الإدارة، وتجد أنه يدور حول هذه القضايا التي تشغله دون أن يفكر، هل اهتمامه بهذا الأمر صحيح، أم أنه يجب أن يصرف الاهتمام إلى ما هو أجدى وأهم؟ الجزء: 181 ¦ الصفحة: 7 الأصول والفروع لا شك أن هذا مما يُحتاج إليه في تقسيم مسائل الدين، أن يُقال: إن مسائل الدين تنقسم إلى أصول وفروع، وإن شئت فقل: إلى كليات وجزئيات، أو أي تعبير آخر، وليس المقصود بالأصول والفروع، أن نقول: الأصول -مثلاً- هي أبواب العقائد والأمور النظرية العلمية، والفروع هي الأشياء العملية، كلا. ولكننا نقول المسائل الجليلة الكبيرة سواءً كانت علمية عقائدية أو كانت عملية، فهي من الأصول، والمسائل الدقيقة سواء كانت مسائل في الأمور العملية، أو كانت في الأمور العلمية فإنها تعتبر فروعاً، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى [6/56] . الجزء: 181 ¦ الصفحة: 8 الأصول والفروع في أمور الحياة الدنيا كلنا ندرك ببديهة عقولنا، أن هناك أموراً كلية وجزئية أو هناك أصول وفروع، وأن هناك مهم وهناك أهم، وهذا أمر ليس مخصوصاً فقط بما ذَكَرتُ، بل حتى في أمور الحياة الدنيا. فمثلاً لو نظرنا إلى جسم الإنسان: جسم الإنسان فيه القلب، والمخ، والأجهزة الرئيسية في الجسم، كالجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، هذه أشياء أصلية أساسية في الجسم، لا غنى له عنها بأي حال من الأحوال. لكن هناك أشياء أخرى كالأطراف مثل أصابع اليدين وأصابع الرجلين، قد يُقطع من الإنسان أصبع أو أصابع ويبقى الإنسان حياً سليماً معافى, فليس الاهتمام بالقلب والمخ والجهاز الهضمي، والجهاز العصبي، والجهاز التنفسي -مثلاً- كالاهتمام بالظفر إذا انقطع أو انقلع، أو الاهتمام بالبنان وطرف الإصبع، هذا أمر يدركه الجميع. وكما أنه معروف من الناحية العقلية والطبية والواقعية، فكذلك هو من الناحية الشرعية، فلو أن إنساناً اعتدى على آخر بقطع إصبعه، أو أنملة من أنامله، لم يكن عقابه أو قصاصه أو جرمه في ذلك كجرم إنسان اعتدى على روح الإنسان، أو اعتدى على جهاز حسَّاس، أو تسبب في تعطيل بعض حواسه، التي يحتاج إليها في حياته. وهذا أيضاً لا يعني التفريط في شيء، لا يعني أن الإصبع ليس لها قيمة ولا أهمية، ولكن لا يعني أن تضع الإصبع مكان القلب، أو مكان المخ، أو مكان الجهاز العصبي، أو الجهاز الهضمي، أو الجهاز التنفسي! تعطي كل شيء بحسبه، ولا تفرط في شيء أو تهمل شيئاً، ولكن هذا كبير وهذا صغير، وهذا مهم وهذا أهم، وهذا أصل وهذا فرع، وهذا كل وهذا جزء. مثال آخر: لو تصورت مدينة من المدن كالرياض -مثلاً- أو غيرها، هذه المدينة لسكانها حاجات ضرورية، فمن الحاجات الضرورية مثلاً: الماء، حاجتهم إلى أن يتوفر الماء للشرب، وإلى أن يكون ماءً نقياً صافياً صحياً، قضية الهواء الذي يتنفسونه، أن يكون هواءً نقياً بعيداً عن التلوث، قضية الطعام وتوفير السلع والمواد الاستهلاكية التي يحتاجونها في يومهم وليلتهم. هذه قضايا لا غنى للإنسان عنها؛ لأنه لا يمكن أن يعيش الإنسان بدون هواء أو ماء أو طعام، فهي حاجات ضرورية لا غنى عنها ولا بد للإنسان منها. وهناك في مقابل هذا أمور ثانوية، كالأمور الجمالية -مثلاً- والحدائق والمنتزهات وغيرها، وهذه الأشياء ليس بالضرورة أن يفرط الإنسان فيها، لكن ليس صحيحاً أن يهتم الإنسان بالقضايا التجميلية، والقضايا الشكلية والقضايا التحسينية على حساب القضايا الكلية، فإذا أمكن أن يجمع الإنسان بين هذا وذاك فيُوفر للإنسان الهواء والمناخ والماء والطعام الملائم، وقبل ذلك كله يوفر له حاجاته المعنوية، حاجات الدين والخُلق والتقوى، وحاجات الحماية، ومع ذلك إذا استطاع أن يضيف إلى هذا العناية بالقضايا التجميلية والتحسينية ونظافة الشوارع وتحسين الحدائق، هذا أمر جيد ونور على نور. لكن إذا كان لا يمكن الجمع بين هذه الأمور، فينبغي أن يبدأ بالأهم: توفير الضروريات التي لا بد للإنسان منها، وتلك الأمور الأخرى إن تيسرت فبها، وإذا لم تتيسر اليوم فقد تتيسر غداً أو بعد غد. وإذا كان هذا على مستوى مدينة، فتصور ذلك على مستوى دولة بأكملها، فإن المدن الكبرى في أي دولة بما في ذلك العواصم والقصبات الرئيسية، هذه هي شريان الحياة في أي دولة من الدول، ولذلك إذا أراد عدو أن يعرب عن نهاية التحدي لدولة، فإنه يحاول أن يعتدي على عاصمتها؛ لأنه يعتبر هذا ضرباً في الصميم، كأنك أصبت إنساناً أو حاولت أن تصيبه في قلبه وفي صميم فؤاده، على أن هناك في مقابل هذا قرى صغيرة في الأطراف، وبوادي وهجر ومدن صغيرة، وأشياء لا شك أن العناية بها ضرورية، وفواتها يعتبر خطراً مهدداً؛ لأنه قد يتطور إلى ما بعده، لكنه لا يمكن أن يقاس بحال من الأحوال، بضياع المدن والقصبات الرئيسية. ولذلك كان الفرسان والقواد على مدار التاريخ، يعتنون بتحصين المدن الكبرى والعواصم عناية خاصة، ويولونها اهتماماً من نوع خاص؛ لأنهم يدركون أنها هي القلب النابض، وإذا توقف القلب عن دفع الدم -توقف عن النبض- معنى ذلك الحكم على الجسم كله بالزوال والفناء. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 9 المسائل العلمية الاعتقادية فروع وأصول إذاً: في المسائل العملية فروع وأصول وكذلك في المسائل العلمية الاعتقادية كليات وجزئيات، أو فروع وأصول، فمثلاً: أركان الإيمان الستة، التي يقرؤها صغار الطلاب في المدارس، أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، هذه أصول وكليات وقضايا عامة لا شك فيها، فإنكارها كفر، والحديث عنها من أَوْلى الأولويات وأهم الضروريات، ولكنك تجد في مقابل ذلك في مسائل الأمور العلمية والاعتقادية جزئيات، من المؤكد أن العبد لا يُسأل عنها في قبره، وليست من شروط دخول الجنة. فمثلاً السؤال هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء أم لم يره؟ مثل آخر: قضية النزاع في معاني بعض الآيات القرآنية، أو بعض الأحاديث النبوية، بل حتى النزاع في ثبوت بعض الأحاديث أو عدم ثبوتها. كذلك قضية الكلام وما يتكلم به أهل المنطق فيما يسمونه بالجوهر والعرض، أو بقاء الأعراض، وكذلك قضية فناء النار: هل تفنى النار أو لا تفنى؟ هذه من القضايا التي ليست من القضايا الكلية، التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ببيانها بياناً واضحاً لا إشكال فيه، بحيث أن يكون المخالف فيها كافراً أو فاسقاً أو مبتدعاً، بل هي من القضايا التي يمكن أن تعتبر من أمور الفروع والجزئيات في المسائل العلمية. وليست هذه كتلك، فالمؤكد -أيضاً- أن العبد لن يُسأل في القبر: هل تؤمن بفناء النار أم لا تؤمن به؟ وليس هذا من شروط دخول الجنة -مثلاً- أن يقول هذا أو ذاك. ولكنه ينبغي للعبد أن يؤمن بأركان الإيمان الستة والتي منها الإيمان باليوم الآخر وما فيه، مثل الإيمان بالجنة وبالنار، وليس مجرد الإيمان اللفظي، وإنما الإيمان الذي يتحول إلى عقيدة في القلب، ويتحول إلى سلوك وعمل، ويتحول إلى تحريض للمؤمن على مواجهة متاعب الطريق، والصبر في سبيل الله والجهاد، وإيثار ما يبقى على ما يفنى، وإيثار الآخرة على الأولى. فهذه أمور كلية في باب الاعتقاد، وتلك أمور جزئية والأمر في ذلك -إن شاء الله تعالى- واضح لا إشكال فيه. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 10 المسائل العملية فروع وأصول فمثلاً: العلم بوجوب الواجبات -كأركان الإسلام الخمسة- هو من قضايا الأصول الظاهرة، مع أنه أمر عملي، الصلاة والزكاة والصوم والحج، وقبلها أيضاً الشهادتان، وبالذات الأركان الأربعة الأخرى، فإنها ظاهرٌ جداً أنها أمور عملية؛ ومع ذلك فالعلم بوجوبها هو من قضايا الأصول الظاهرة، ولذلك كان من جحدها كافر، مثله في ذلك مثل من جحد مسائل الاعتقاد الثابتة المشهورة المتواترة التي لا تخفى أدلتها، كمن جحد -مثلاً- قدرة الله تعالى أو علمه وأنه بكل شي عليم، أو أنه سميع أو بصير، أو سائر أركان الإيمان الستة، التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم. كما أننا نجد في المسائل العملية فروعاً وجزئيات. فمثلاً قضية الصلاة: الصلاة أصل، لكن تفاصيل سنن الصلاة وما يستحب أن يقال فيها، هذا ليس أصلاً، بل هو من الأمور الدقيقة، فهو يصح أن يسمى فرعاً أو أن يسمى أمراً جزئياً. فهل ترى يا أخي -مثلاً- أن من العدل أن نستغرق وقتاً في الحديث عن جزئية، من هذه السنن الواردة في الصلاة -كما سيأتي الإشارة إلى شيء منها- كالحديث عن جلسة الاستراحة، أو الحديث عن التورك، أو الحديث عن صفة الهوي إلى السجود، هل يسجد على يديه أولاً، أو على ركبتيه أولاً؟ هل ترى أن من الحكمة أن نستغرق في هذه المسألة ونقتلها بحثاً، ونؤلف فيها عدداً من الكتب، وتكون هي حديثنا في مجالسنا، وهي مجال للمنافرة والمنافسة بين الأقران وبين الطلاب، ويتلقاها صغار طلاب العلم قبل كبارهم؟ على حين أنك لا تكاد تجد من يتكلم مع الناس في قضية الصلاة، وأهميتها ومنزلتها من الدين، كلاماً يصل إلى قلوبهم ويخاطبهم ويخالط شغافهم، ويدعوهم إلى ارتياد المسجد في كل وقت! ولا تجد -مثلاً- من يتكلم عن قضية الخشوع في الصلاة، الذي هو روحها ولبها، بل إنك تجد من الفقهاء من يقول: إن الخشوع في الصلاة مستحب وليس واجباً! مع أن الصلاة التي لا يكون فيها خشوع وحضور قلب وإقبال، لا تؤثر في صاحبها تقوىً لله عز وجل، ولا خوفًا منه، ولا إقبالاً على الطاعة والعبادة، وإن كانت بكل حال، هي صلاة شرعية ما لم يرتكب فيها ما يبطلها. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 11 العدل مع الأصول والفروع إذاًً: هذه القضية معروفة عند الإنسان في أموره الدينية والدنيوية والمدنية، وسائر أموره على حد سواء، ولا يعني تقسيم هذه الأشياء، إلى أن هناك أشياء مهمة وأشياء أهم منها، وأشياء كلية وأشياء جزئية، وأشياء أصلية وأشياء فرعية أن نقول لك: إن تفرط في الأشياء الفرعية!! أرجوك يا أخي لا تفهم مني هذا، وإياك إياك أن تحمل كلامي ما لم أقل، فإن الله تعالى يحب العدل، وأنت تفهم الكلام على ما قيل دون أن تشتط بالكلام إلى كلام لم يقل، دعني ولا تحكم على ما في قلبي، ولكن احكم على الذي تسمعه مني. نحن نقول: هناك أصول وفروع، هذه الأصول ينبغي أن تُعطى من العناية حقها وقدرها، وكذلك الفروع تعطى من العناية حقها وقدرها، لكن من المؤكد أنه ليس حق الأصول كالفروع، ولا حق الكليات كالجزئيات، ولا حق الضروريات كالمسائل التحسينية أو التكميلية أو الحاجية. نحن نتفق جميعاً لو أن إنساناً كان يهتم بعلاج شيء في إصبعه، أو علاج ظفر له، وهو يعاني من مرض مزمن في قلبه، أو يعاني من جلطة في المخ -مثلاً- أو أنه يهتم بعلاج زكام، على حين أن عنده مشكلة قد تؤدي به إلى الوفاة!! إننا نعتبر هذا نوعاً مما يخالف العقل والحكمة، فليس من العقل والحكمة أن تهتم بهذه القضية الجزئية وتهمل الأصل، ليس العقل والحكمة فقط، بل حتى يخالف الشرع، فالشرع لا يأذن للإنسان أن يشتغل بعلاج قضية جزئية في جسمه، بما يترتب عليه فوات الأصل، وإذا كان ولابد فالمحافظة على الأصل أولى، وإذا كان من الممكن أن تجمع بينهما فهذا أمر جيد. لو أن إنساناً اهتم بتسمية المدن أو ترقيم شوارعها، أو تنظيفها أو وضع الحدائق؛ ولكنه غفل عن توفير الحاجات الضرورية، لم يكن هذا الأمر محموداً بحال من الأحوال، فلابد من تأمين ضرورات الدين والدنيا قبل أي شيء آخر. إذاً هناك ضرورات وهناك كماليات وهناك تحسينات، وهي درجات بعضها فوق بعض. نحن لا ندعو إلى إهمال شيء منها، لكننا ندعو إلى أمرين: الأول: العناية بالجميع؛ لأنه من الدين، فالأصل من الدين، والفرع من الدين، والكل من الدين، والجزء من الدين، نحن ندعو إلى الاهتمام بالجميع لأنه من الدين. ولكننا ندعو ثانياً: إلى أن يعطى كل شيء ما يستحقه فلا يوضع الأصل مكان الفرع، ولا يوضع الفرع مكان الأصل. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 12 ظاهرة الاهتمام بالفروع دون الأصول والغريب أيها الأحبة أن هذا الأمر ظاهر من وجوه عديدة: أولاً: أنت حين تقرأ القرآن الكريم، أنا أتعجب ونحن نسمع جميعاً قراءة إمامنا جزاه الله خيراً، فهذه الآيات المزلزلة التي تهز القلوب، وتجر الدموع حتى من الغلاظ القساة، هذه المعاني الكبيرة العظيمة التي تردد في آيات القرآن الكريم، لا تكاد تجد وجهاً من القرآن الكريم، إلا وفيه الحديث عن الدار الآخرة والبعث والحساب، كم أخذت من اهتمام الدعاة والعلماء والمصلحين والخطباء والمربين؟! أقول بدون تحفظ: إنها لم تأخذ مقدار ما أخذته قضية جزئية فرعية من أحوال كثير من الدعاة، ولا أبالغ إذا قلت: إن من الدعاة من قد يهتم بقضية التسبيح باليد اليمنى أو باليدين كلتيهما، ربما يهتم بهذه القضية، أكثر مما يهتم بتلك القضايا الكبرى، التي أبدأ القرآن فيها وأعاد، والتي هي موضوع القرآن الكريم في معظمه، قضايا الاعتقاد الكبرى التي تُسَيِّر دفة الحياة، وتحكم العقول، وتصلح القلوب، وتبني الأمة، وتحدد الاتجاه. أصبحت قضايا لا نحتاج إليها إلا في حالة واحدة، وانظر كيف انتكست المسألة مع الأسف الشديد؟ إذا أردنا أن نؤكد للناس، على أهمية قضية جزئية، حاولنا أن نتحايل بربطها بالأصل حتى تصبح قضية مهمة بدليل أنها قضية ترتبط بالعقيدة، وقد يكون ربطها بالعقيدة صحيحاً فتكون مهمة فعلاً، ولكن أحياناً قد نتكلف ربطها بالعقيدة؛ لنؤكد للناس أن هذه قضية مهمة، مع أننا نسينا العقيدة نفسها في بعض الأحيان، التي نستخدمها أو نحاول أن نستفيد منها في ذكر بعض القضايا الجزئية وتضخيمها وتكبيرها. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 13 الولاء والبراء في الإسلام أضرب لك مثالاً: قضية اليهود والنصارى، أو مسألة الولاء والبراء بشكل عام، وبغض أعداء الإسلام، واتخاذ طريق آخر مناوئ لهم، وإعلان الحرب عليهم بكل صوره وأشكاله، والبراءة منهم، والكفر بهم وبما يعبدون من دون الله، واعتقاد عداوتهم للمسلمين، وأنهم لا يريدون للأمة خيراً في حاضرها ولا مستقبلها في دينها ولا في دنياها، قال تعالى: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] وقال: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] وقال: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم:9] إلى آخر حشد هائل جداً من القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، يبدئ ويعيد في قضية البراءة من المشركين، وإعلان هذه البراءة والبعد عنهم، ومجافاة طريقهم، ومجانبة خطهم ومنهجهم، قال تعالى: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] . الجزء: 181 ¦ الصفحة: 14 المسلمون والولاء والبراء هذا المعنى الكبير ما نصيبه من عقولنا؟ وقلوبنا؟ ومجالسنا؟ وصحافتنا؟ ما نصيبه من إعلامنا؟ ومجتمعاتنا؟ ومؤسساتنا؟ سواء كانت مؤسسات رسمية أو غير رسمية، ما نصيب هذا الموضوع وإبرازه وتربية الناس عليه؛ بحيث يصبح جزءاً من حياتهم لا يتجزأ، ويأخذ حجمه الطبيعي وهو حجم كبير أو قليل! لكننا في الوقت الذي نتناسى فيه خطر النصارى أو خطر اليهود، ونتناسى تحالفهم الخطير اليوم على أمة الإسلام، وتناديهم للقضاء على هذه الأمة، وصراخهم المسلمون قادمون, ونسي هذا الحلف الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية بالذات وإسرائيل، وإصرار أمريكا على حماية إسرائيل وحفظ أمنها، وتوفير كافة الضمانات الممكنة لها، وتحقيق كل مطالبها، بل ومساهمتها أصلاً في وجود هذه الدولة، ثم في بقائها، ثم في حمايتها، ثم في توسعها، ننسى خطر اليهود، وننسى خطر النصارى؛ لكننا قد نستخدم هذه القضية حينما نريد أن نلفت نظر الناس إلى أمر مهم، تقول: كيف؟! أنا أوضح لك: يقع بيني وبينك خلاف في مسألة من المسائل الفرعية، وهو خلاف جائز؛ لأن المسألة ليس فيها نص من الكتاب والسنة، والمؤكد أنك لن تسأل عنها في القبر، وأنك لا يشترط لكي تدخل الجنة أن تقول فيها؛ لأن المسألة ما بيَّنها القرآن بياناً لا يلتبس على أحد، وقد لا تكون وردت في القرآن أصلاً، أو لا تكون وردت في السنة، لكني اختلفت وإياك في هذه المسألة، فأنت قد تجد في هذا الأمر فرصة لأن تقول: إن هذا الكلام خطير، وهذا الكلام لا يجوز، وهذا فيه وفيه وفيه، ولكي تقنع الناس بأن هذا الكلام فعلاً خطير وضار وينبغي ألا يصدق؛ فإنك تلجأ إلى أن تقول القول في هذه الفئة والطائفة أنها أخطر على الإسلام مِن اليهود والنصارى!!! الآن احتجنا إلى قضية الكلام عن خطورة اليهود والنصارى؛ حتى نؤكد للناس أن المسألة هذه خطيرة، وقد لا تكون كذلك، وقد تكون كذلك -الله أعلم- فالمسائل تتفاوت، لكن العناية بالقضية الأصلية ابتداءً وتربية الناس عليها، وبناء النفوس بها، وشحن القلوب، هذا غير موجود، ولماذا نضحك على أنفسنا؟ لماذا لا نتقي الله سبحانه وتعالى، وننظر إلى واقعنا وإلى أحوالنا نظرة فاحصة، نظرة الذي يبحث عن الخطأ ليتجنبه، ويبحث عما يرضي الله سبحانه وتعالى ليفعله، فالعبد يتعامل مع ربه عز وجل، خاصة إذا كان في مجال الدعوة، وفي مجال التعليم، وفي مجال طلب العلم. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 15 قضية العقيدة وأهميتها مَثَل آخر -ليس ببعيد عن السابق-: قضية العقيدة، كل إنسان يدرك أهمية العقيدة، وأن هذه العقيدة هي المحرك الذي يدعو الإنسان إلى فعل أي شيء، فالإنسان -أصلاً- لا يمكن أن يتحرك إلى فعل أي شيء، إلا بناءً على معتقد راسخ لديه، أنه ينبغي أن يفعل كذا أو أن يترك كذا، وهذه قضية مسلمة حتى عند الكفار، يدركون أنه لابد أن يكون لديهم فكر أو تفكير في هذه المسألة قبل أن يقدم عليها. إذاً يسبق الفعل دائماً فكرة، أو عقيدة مستقرة في قلب هذا الإنسان تدعوه إلى فعل هذا الشيء أو ترك ذلك الشيء، وإذا كانت العقيدة عقيدةً صحيحةً صافية، دعت الإنسان إلى فعل صحيح صافٍ، وإذا كانت العقيدة عقيدة منحرفة، فقد تدعو الإنسان إلى فعلٍ منحرف. فالعقيدة أولاً هي الأساس، وكلنا نتكلم عن هذا وقد نقوله في بعض مجالسنا. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 16 فساد العقيدة وانتشار الشرك لا غرابة إذا فسدت العقيدة أو ضاعت أو انحرفت أن ينتشر بين المسلمين شرك الطاعة، أو كما يسمي بعض المعاصرين: الشرك السياسي، الذي يعطي حق التشريع لغير الله سبحانه وتعالى، ويمنح بشراً من البشر أن يحلل ويحرم، ويأمر وينهى، ويحق ويبطل، إلى غير ذلك من الأشياء التي استأثر الله سبحانه وتعالى واختص نفسه بها، فهي من خصائص الألوهية، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] وقال سبحانه: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وقال سبحانه: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً} [الكهف:27] إلى قوله سبحانه: {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة: {ولا تُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وقال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40] . فالله تعالى هو الحكم، وهو الحاكم، وهو الحكيم والحكم إليه، هو الذي يحلل ويحرم، فكلمة: هذا حرام وهذا حلال، وهذا مستحب وهذا مكروه، وهذا جائز وهذا غير جائز، وهذا حق وهذا باطل، وهذا خطأ وهذا صواب هذا كله لله سبحانه وتعالى، وليس من حق أي إنسان حاكماً كان، أو قانونياً، أو سياسياً، أو أستاذاً جامعياً، أو كبيراً أو صغيراً، أو خبيراً أن يدَّعي أنه يملك أن يتصرف في مسألة واحدة من ذلك، ولو ادعى؛ لكان معنى ذلك أنه ادعى مشاركة الله سبحانه وتعالى في ألوهيته. قال الإمام الحافظ ابن كثير في كتابه البداية والنهاية: "فمن حكم بغير ما أنزل الله من الشرائع الإلهية المنسوخة كاليهودية وغيرها فقد كفر، فكيف بمن حكم بغير ذلك مما صنعه البشر؟ لا شك أن هذا كافر بإجماع المسلمين". الجزء: 181 ¦ الصفحة: 17 البدء بتصحيح عقائد الناس إذاً: ليست البداية بأن تبدأ بمسألة أو قضية شكلية، إنما المهم أن نبدأ بقضية تصحيح عقائد الناس، من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بهذه الطريقة يمكن أن تتحول العقيدة إلى هم كبير مؤثر في حياة الناس، وإلى روح تسيطر على قلوب الناس، وتسير حياتهم، وتضبط أمورهم صغيرها وكبيرها، بحيث ترجع إلى هذا الأصل الكبير. لكن ما دام الأصل فيه نقص، أو فيه ضلال، فلا غرابة أن يترتب على ذلك آلاف الآثار السلبية، فيما يتعلق بالفروع، فإذا فسدت العقائد؛ فلا تستغرب أن تجد من يطوف حول القبور مثلاً، ولا تستغرب أن تجد من يدعو الأولياء ويناديهم، ولا تستغرب أن تجد من يوالي الكفار والمشركين، ويعطيهم الطاعة ويسير في ركابهم وفي هواهم، ويسارع في ذلك، كما قال الله تعالى: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:52]-نخشى أن تصيبنا دائرة-. هذا هو الكلام الذي يردده الصحفيون اليوم، عما يسمى بالنظام الدولي الجديد. عندنا الآن نظام دولي جديد! الغرب يحكم قبضته على العالم -خاصة بعد انهيار المعسكر الشيوعي- ولذلك كأنهم يريدون أن يقولوا، أو إنهم يقولون فعلاً: ليس أمام المسلمين إلا أن يسايروا هذا الركب ويسيروا في ظله ويسلموا أمرهم كما سلم غيرهم أمرهم؛ ليكونوا جزءاً من هذا النظام الدولي الجديد، هذا هو ما ذكره الله تعالى عن المنافقين: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} [المائدة:52] أي: في طاعة المنافقين وموالاتهم يَقُولُونَ هذا العذر: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} [المائدة:52] نخشى من مصيبة، أو مشكلة، نخشى أن يلتف علينا الشرق والغرب، أو يتبرأ منا، أو يخطط ضدنا, أو يتآمر علينا، أو يحاربنا، وهذه -مع الأسف- مشاعر كثير من المسلمين، في طول العالم الإسلامي وعرضه، في مشارق البلاد ومغاربها. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 18 استخدام العقيدة بشكل صحيح لكن يأتي السؤال هل نحن نتكلم عن العقيدة بشكل صحيح؟ هل نحن نربي الناس عليها بشكل جيد؟ هل نحن نربطها ونربط الأحداث بها ربطاً صحيحاً؟ أم أننا نستخدمها أحياناً للإعراب عن خطورة أمر، كما ذكرت قبل قليل. فإذا أردنا أن نتكلم عن هذا الموضوع أنه لا يصلح، قلنا: إن هذا خطير وكذا وكذا، وحاولنا أن نربطه بالعقيدة، وقد يكون ربطنا به بالعقيدة أمراً صحيحاً وقد يكون أمراً خاطئاً، لكننا تكلفنا ذلك حتى نُحذِّر الناس من القول بهذا القول أو من فعل هذا الفعل؛ لأنه أمر يخل بالعقيدة، والإنسان إذا شعر أن هناك شيء يتعلق بالعقيدة يحجم عنه. إذاً الأصل أن يهتم الإنسان بعقيدته، بتربية الناس على العقيدة، وببنائها في النفوس، وبشحن القلوب بها، وبدعوة الناس إلى تصحيح عقائدهم، وإلى تصحيح التوحيد، وتصحيح العبادة، والإيمان الحق بالله عز وجل وملائكته وكتبه ورسله، والإيمان الحق باليوم الآخر. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 19 العقيدة تؤخذ من الكتاب والسنة لكن كم هو مؤسف أن أقول أيها الأحبة: إننا في الوقت الذي نتكلم فيه عن قضية العقيدة، كثيراً ما نجور على هذه العقيدة من حيث لا نشعر، كيف ندرس العقيدة؟ لأن الذي نعرف أن السلف الصالح رضي الله عنهم حين تقرأ كتبهم؛ فإنك تجد أن طريقتهم في تقرير العقيدة -كما في كتب الإيمان لجماعة من أهل العلم والتوحيد، وغيرها من كتب السنة- آية محكمة من كتاب الله، وحديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ودور العالم ينحصر غالباً في وضع عناوين مناسبة لهذا الحشد من الآيات والأحاديث التي ساقها، فكان الناس يأخذون العقيدة واضحة سهلة قريبة من النفوس، بدون تكلف ولا تعقيد ولا أخذ ولا رد. العقيدة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واضحة صافية نقية كما أخذها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، بل كما كان يأخذها الأعرابي الذي يأتي من أطراف البادية، ويجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة أو ساعتين، فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أصول الإيمان، وأصول الاعتقاد، وأصول الأشياء العملية، ثم ينصرف إلى قومه مؤمناً مسلماً، بل ينصرف إلى قومه داعياً إلى الله عز وجل. تسهيل أمر الدين: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] أحياناً تجد الطالب الذي يتخصص في العقيدة، وقد يقضي سنوات طويلة في دراسة العقيدة يدرس قضايا منطقية وفلسفية، وقضايا الجوهر، والعرض، وقضايا وأمور، ربما يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفهمها، ثم يحتاج وقتاً طويلاً لكي يناقشها، ثم يحتاج وقتاً طويلاً لكي يفهم الرد، ثم يحتاج وقتاً أطول لكي يفهم أو يقتنع بأن هذا الرد صحيح، وقد يبقى في قلبه شبهة. ومما يروى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، جاءه الإمام ابن القيم، فكان يسأله عن مسائل، فقال له ابن تيمية رحمه الله: لا تجعل قلبك مثل الإسفنجة يتلقى هذه الأشياء ويتشربها، فإنه حينئذٍ قد لا تخرج منه، وإن خرجت يبقى أثرها. بمعنى: أنه ليس الأصل أن يفترض الإنسان شبهات، وانحرافات، ويفترض مذاهب باطلة، ويبقى يرد عليها، ونُعلِّم الطالب الصغير والمسلم الجديد منذ أن يدخل في الإسلام أن هذا ضال، وهذا منحرف، وهذا خطأ وهذا باطل!! يا أخي، علِّمه الحق أولاً، علِّمه الحق نقياً صافياً من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا خشيت أن يواجهه مثل هذه الأشياء، بحكم واقعه العملي، تعطيه إياه بطريقة سليمة مناسبة؛ لأنه من المؤكد أن الإنسان لو عرف العقيدة الصحيحة، عرف العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقيةً صافيةً لا غموض فيها ولا غبش، كما تلَّقاها الجيل الأول والصدر الأول، وأشرب قلبه بها وأحبها، هذا الإنسان لو مات على ذلك، وهو لم يدرِ أن هناك طائفة من الطوائف -مثلاً- اسمها الأشاعرة، وما درى أن هناك طائفة اسمها المعتزلة، ولا علم أن هناك طائفة اسمها الجبرية، والقدرية، والجهمية، والمعطلة، كل هؤلاء ما عرفهم، ولا يدري من أي شاربة يشربون، ولا من أي واردة يردون، لكنه عرف العقيدة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى عليه وسلم، ألم تتحقق له النجاة بإذن الله تعالى؟ بلى، ومن المؤكد أن أبا بكر وعمر وسائر الصحابة، ما عرفوا هذه المذاهب الباطلة؛ لأنها لم تكن موجودة في وقتهم. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 20 العقيدة ليست مربوطة بالأشخاص مثال آخر: العقيدة من كتاب الله وسنة رسوله ليست مربوطة بشخص وإنما الأشخاص دعاة يفتخرون بالانتساب إليها، فأنت حين تجد علماً من الأعلام خذ مثلاً: 1- شيخ الإسلام ابن تيمية: شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، إنما اشتهر وذاع صيته وصار له القِدْح المُعَلَّى، وصارت له المكانة؛ لأنه لم يدعُ الناسَ إلى مذهب خاص، ولا إلى رأي شخصي، ولا إلى اجتهادات ذاتية، وإنما دعا الناس إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه كل بضاعته، فهو لا يأتي بشيء من كيسه أو من عنده، إنما يُحِيل الناس إلى الكتاب والسنة؛ ولذلك صار شيخ الإسلام. إذاً ليست القضية عندنا قضية شيخ الإسلام ابن تيمية، القضية عندنا قضية العقيدة الصحيحة، وشيخ الإسلام ابن تيمية كل من عرفه أحبه، وكل من قرأ كتبه عظمه، ولكن لماذا أجعل المشكلة بيني وبينك هي قضية شيخ الإسلام؟ شيخ الإسلام إمام فحل، وقد اعترف بفضله العدو قبل الصديق، لكن دعني من هذه المسالة، أنا أناقشك في أصل قضية المعتقد. 2- الدعوة الوهابية: خذ مثالاً آخر: قضية الدعوة الوهابية. فقد أفلح الاستعمار في إعطاء صورة قاتمة عن الدعوة الوهابية في العالم الإسلامي في كل مكان، وأنها مذهب خامس وأنها وأنها حتى أني قرأت في كتاب لأحد علماء إحدى البلاد يقول: إن محمد بن عبد الوهاب ادعى النبوة والعياذ بالله أو قال: إنه أراد أن يدعي النبوة، ولكنه لم يتجرأ على ذلك، فبدأ يوري ويلبس على الناس!!. لا نحتاج لأن نرد على هذا الهراء، لكننا نحتاج أن نقول لهذا الإنسان: اقرأ كتاب التوحيد، والمسألة ليست مسألة مهاترات، الحق أبلج والباطل لجلج، ما فيها دعوى نبوة أو دعوى ولاية أو دعوى اجتهاد، فيها أن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، يقول: باب (يذكر الترجمة) ثم يقول: قال الله تعالى يذكر آية، ثم يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر حديثاً رواه البخاري، فيه مسائل، والحمد لله وعلى هذا المنوال، ما جاء بشيء من عنده، إنما أتى بشيء من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك صار مجدداً في عصره، وصار له تأثيراً في حياة المسلمين في هذه البلاد خاصة وفي بلاد أخرى تأثيراً كبيراً. فالمقصود أن الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما دعا إلى نفسه، ولا دعا إلى مذهب، وإنما دعا إلى الكتاب والسنة. إذاً: فالقضية والخصومة بيني وبين أي إنسان في الدنيا، ليست الخصومة في قضية أنت وهابي أو لست بوهابي. في إحدى المرات لقينا رجلاً من الشباب المتدين في مظهره -أحسبه كذلك والله حسيبه- في بلد إسلامي، فحادثناه وسألناه، ومن ضمن ما سألناه قلنا له: هل أنت تنتسب إلى شيء من الطرق الصوفية؟ فقال: نعم، أنا أنتسب إلى الطريقة النقشبندية. فتحدثنا معه في قضية الطريقة وأنه ما حاجتك إلى الطريقة النقشبندية؟ قال: إن الشيخ يوصل إلى علم الرسول صلى الله عليه وسلم، فاقترحنا عليه أنه لماذا لا يختصر الشيخ النقشبندي، ويرجع مباشرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون أفضل له بدلاً من تطويل السلسلة والسند، ويذهب إلى المصدر والنبع مباشرة بدون واسطة، هل يعتقد أن هذا فيه مانع؟ ففاجأنا بسؤال قال: أنتم من أي طريقة؟ قلنا: نحن من الطريقة المحمدية، من طريقة محمد صلى الله عليه وسلم. قال: لا، أنتم من الطريقة الوهابية. إذاً ليست القضية بيني وبينك، نحن وهابية أو لسنا بوهابية، نحن لا نسمي أنفسنا بهذا الاسم، وإذا أنت عيرتنا بها فنحن نقول كما قال الشاعر: وعيرني الواشون أني أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها لكننا نقول: حين تقوم بالدعوة إلى الله، وبالدعوة إلى الدين الصحيح في أي بلد ليس شرطاً أن ترفع راية الوهابية، ارفع راية الكتاب والسنة، وليس شرطاً أن أبدأ بتصحيح مفهوم الناس عن الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، هذا يأتي تبعاً ويأتي بعد، إذا عرف التوحيد الصحيح افترض أنه مات وهو لا يزال سيئ الظن بالشيخ محمد بن عبد الوهاب، بحسب الكلام الباطل الذي وصل إليه، هنا إذا كان توحيده صحيحاً، وإذا كان عرف التوحيد الصحيح فهو -إن شاء الله- ناجٍ، وإن أخطأ في هذه المسألة، لكن المصيبة لو مات وهو على عقيدة منحرفة أو على ضلال بحيث يخشى عليه من الهلاك، وقد يكون على عقيدة كفرية في بعض الأحيان، فهذه هي الخطورة. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 21 أمثلة ونماذج على الانشغال بالجزئيات عن الكليات سوف أضرب لكم أمثلة، وهذه الأمثلة بصراحة ليست على سبيل الاستقصاء ولا على سبيل الدقة، ولكني سوف أتحدث عما سجلته من هذه الأمثلة، مما يدل على أننا -فعلاً- نشتغل كثيراً بالجزئيات عن الكليات، ونحن بحاجة إلى مراجعة ذلك. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 22 الاشتغال الدائم بالفرعيات الاشتغال الدائم بالفرعيات؛ قد يكون عندنا عشرون مسألة وإن شئت فقل: ثلاثون، هي كل ما نتحدث عنه -خاصة نحن طلبة العلم- في مجالسنا الخاصة، لا يكاد يخلو مجلس من مجالسنا -طلبة العلم مثلاً- عن الكلام عن جلسة الاستراحة، هل هي مستحبة، أم مكروهة، أم جائزة، وفي بعض الأقوال بأنها واجبة، وتحريك الإصبع في التشهد، ربما أكثر من عشرين كتاب ألف في هذه المسألة، وتفنن الناس في تحريك الإصبع في التشهد بشكل لم يسبق له نظير. قضية وضع اليد في الصلاة، أين يضعها؟ على صدره، أم تحت السرة، أم فوق السرة، قضية الهوي إلى السجود، هل يسجد على ركبتيه، أم على يديه أولاً؟ كما أسلفنا. مع أن ابن تيمية لما تكلم عن هذه المسألة -مسألة الهوي على اليدين أو على الركبتين- قال: هذه من المسائل العويصة المشكلة المختلفة التي الأدلة فيها غير واضحة، وتجد طالب العلم الصغير، أول ما يبدأ يبدأ بهذه المسألة، وليت المسألة تقف عند هذا الحد! قد يؤلف فيها مصنفات أحياناً! وليت الأمر يقف عند هذا الحد، بل قد تجد أن هذا الإنسان أصبح يعتبر هذه المسألة ميزاناً وفيصلاً بين الذي يتبع السنة والذي لا يتبع السنة، فالذي يقدم يديه هذا يتبع السنة، والذي لا يقدم يديه هذا لا يتبع السنة. الصلاة بالنعال مثلاً، قضية النقاب بالنسبة للمرأة، التسبيح باليمين أم بكلتا اليدين، صلاة التراويح خمس أو عشر أم أكثر أم أقل، هل يجهر بالذكر بعد الصلاة أم لا يجهر؟ قضية دخول الأطفال إلى المساجد وما أشبه ذلك، من المسائل المحدودة التي أصبحت جل همنا وحديثنا وكلامنا، وكل طالب علم أراد أن يجرب خبرته وإمكانيته؛ فإنه يختار بعض هذه المسائل، ويرجع إلى بعض الكتب، ويجمع بعض ما قيل فيها، ويكتب في ذلك مصنفاً أو جزءاً حديثياً أو فقهياً!! وأنا أشير -حتى يكون الكلام واضحاً- إلى أن الاهتمام بهذه المسائل لا حرج فيه، وإعطاءها حقها مطلوب، وأستغفر الله وأتوب إليه أن أقول: إني كغيري من طلبة العلم، إذا مرت هذه المسائل علينا في الدرس، درسناها وبحثناها ونظرنا في الأدلة، ورجعنا إلى كلام أهل العلم، وهناك كتب ألفت في بعض ما ذكرت من المسائل، كتبها طلبة علم كبار ومجتهدون وأخيار وفضلاء، ويشكرون، والعبد الفقير ممن استفاد مما كتبوه، فجزاهم الله خيراً. نحن لا نعترض على هذه الكتب، الشيء الذي نعترض عليه هو أن تصبح هذه القضايا جل همنا، بل كل همنا، ومدار حديثنا، وملء مجالسنا، بل ملء قلوبنا وعقولنا، إلى متى نظل ندور ثم ندور ثم ندور في مثل هذه القضايا، ونترك القضايا الكبرى، وقضايا الاعتقاد، وقضايا الواقع، وقضايا التخلف العلمي، والتخلف التقني، والتخلف الاقتصادي، قضايا البحث عن موطئ قدم لهذه الأمة الإسلامية؟ إلى متى تظل هذه القضايا مهدرة ونحن نشتغل بغيرها من هذه القضايا الجزئية الفرعية؟! 1- غفلة عن فقه المعاملات: إن هناك غفلة مطلقة في مقابل ذلك عن فقه المعاملات، فتجد عموم بحث الطلاب عن فقه العبادات، والعبادات أمرها واضح؛ لأن فيها نصوص صريحة ولا مجال فيها للاجتهاد، وأمرها واضح وسهل، ولذلك يهتم الإنسان بها لأنها كالجدار القصير، كل إنسان يستطيع أن يقفزه. لكن فقه المعاملات ليس كذلك، إذا دخل الإنسان إلى فقه البيوع -مثلاً- فلا يستطيع أن يتكلم عن هذه الأمور في قليل ولا كثير. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 23 الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة إن قضية الاشتغال ببعض القضايا الممنوعة، أو التي هي غير سائغة أصلاً. فمثلاً: في مجال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الأمة، وحفظ أخلاقياتها، وأمنها ودينها واستقرارها، هذا مطلب جاء الدين بتحقيقه بالوسائل المشروعة. 1- التجسس على الآخرين: فلماذا تلجأ يا أخي إلى استخدام التنصت الهاتفي، أو موجات الراديو -أحياناً- للتنصت على فلان وعلان من الناس؟ وتطلع على أسرارهم وخصوصياتهم ودخائل بيوتهم وعلاقاتهم؟ افترض أن عنده خطأ، لم يأمرك الله سبحانه وتعالى أن تطلع عليه، البيوت مغلقة على ما فيها، ولا يوجد في الإسلام مثل هذه الأشياء، بل هذه نوع من إهدار كرامة الإنسان وحقه، وإهدار منزلته وإنسانيته، ما أذن لك الشرع بهذا، وما على هذا ولاك المسلمون القيام بأمورهم، من أمرٍ بالمعروف ونهي عن المنكر، وإصلاح وحماية أعراضهم وأموالهم وأبدانهم، فإذا أردت أمراً بالمعروف أو نهياً عن المنكر، وظهر لك أمر فخذ به، فإذا وجدت خطأً مثلاً عالجه، أما ما استتر ولم يتبين لك وتحتاج فيه إلى تنصت، وتحتاج فيه إلى بحث، أو إلى اطلاع أو إلى تسجيل، أو تحتاج أسرار وخصوصيات، فلست بملزم بذلك؛ بل ليس بمأذون لك شرعاً بمثل هذا. 2- الحرص على نقد الناس: من القضايا الممنوعة التي لا ينبغي الاشتغال بها وكثيراً ما نشتغل بها: قضية الحرص على نقد الناس، وهذا داء خطير في الإنسان؛ لأن الواحد حين ينتقد الناس ويكون هذا هو دأبه وديدنه، هو يريد أن يحتجز لنفسه الكمال، فهو إذا قال: إن هذا فيه كذا، وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا، فمعنى هذا ضمناً: أن الكمال الذي تفرد به هو محدثكم!! هذا هو المقصود من حيث لا يقول هذا الكلام، لكن هذا المضمون. تجد من الناس من إذا قيل له: فلان -ما شاء الله- رجل طيب، وإنسان صالح وطالب علم! قال: نعم، لكن المهم العمل، يحاول أن يلفت نظرك إلى ما يعتقد هو أنه عيب موجود فيه، المهم العمل، يعني لا تهتم بأن يكون هو طالب علم، المهم العمل هل هو موجود أم لا؟ مثل أبي سفيان، لما سأله هرقل: هل يغدر محمد صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو صانع فيها، يعني بالإيحاءة، فإذا قلت له: فلان رجل تقي عابد عامل صالح زاهد ورع داعية، قال: نعم، لكن المهم الإخلاص. حسناً، ما اطلعنا على قلوب الناس! ولو قلت: والله يا أخي ظاهره الإخلاص، وهو كأنه لا يريد إلا وجه الله تعالى، ونحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً. قال: نعم، ولكن ينقصه العلم الصحيح، ولا شك أن العمل بلا علم يضر أكثر مما ينفع!. فالمهم أن هذا الإنسان من حيث تريد أن تحجره يريد أن ينفلت، لا يريد أن يعترف لأحد بفضل، ولا يعترف بالفضل لأهله إلا ذو الفضل. أما من فيه نقص في ذاته، فهو يكون مبتلى بعيب الآخرين وثلبهم ونقصهم، ويجد في ذلك من السرور والأنس واللذة الشيء العظيم مثلما يجد المنصفون إذا مدحوا وأثنوا على من يستحق المدح والثناء، ممن مدحه الله تعالى وأثنى عليه، فإن المدح والثناء وكذلك الذم والعيب، لا يكون بمزاجي ومزاجك وهواي وهواك، لا يكون إلا بالألفاظ الشرعية التي مدح الله بها من مدح، مثل لفظ: الإيمان، والإحسان، والإسلام، والتقوى، والبر، والطاعة، والجهاد، والنصرة، أهل هذه الأوصاف يمدحون، والذم يكون بألفاظ الفسق، والنفاق، والكفر، والضلال، والظلم، والبغي، والعدوان، والفحش، أهل هذه الألفاظ يذمون. فليس المدح والذم مسألة أمزجة أو مواقف شخصية، المدح والذم قضية شرعية من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 24 تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة هذه قضية أساسية قد تكون من أواخر القضايا، وهي: قضية تضخيم بعض القضايا بصورة غير مقبولة. وأضرب لك أمثلة عابرة: 1- قضية التحليل السياسي: بعض الناس يشتغل بتحليل الأحداث السياسية، ليس فقط تحليل الأحداث السياسية! فتحليل الأحداث السياسية مطلب شرعي، ولا أحد يستطيع أن ينكر هذا أبداً؛ فهذا جزء من فهم المسلم لواقعه الذي يتحرك فيه، بل إنني أقول: إنه جزء من فهم المسلم لهذا الواقع الذي يريد أن يحكم عليه. نحن نعرف أن من كلام علماء الأصول ما يسمونه بالأحكام الوضعية التي هي: الحكم على أفعال الناس بأنها صحيحة أو فاسدة، خطأ أو صواب، حق أو باطل، كيف تحكم أن هذا الشيء صحيح أو خطأ، حق أو باطل، وأنت لا تدري ما هو هذا الشيء؟ فلكي تكون مصيباً شرعاً يجب أن تكون عالماً بالواقعة التي تتحدث عنها، سواءً أكانت واقعة فردية أو جماعية، على مستوى فرد أو مستوى دولة أو مستوى أمة، قريب أم بعيد، هذا أمر بديهي لا يحتاج إلى كلام، وبالتالي معرفة الأحوال والأحداث السياسية والتقلبات، وربط بعضها ببعض بصورة صحيحة هذا لا غبار عليه. لكن أحياناً يتطور هذا الأمر إلى نوع من المرض عند بعض الناس، فيصبح عنده لو عثرت بغلة في أقصى بلاد الدنيا، لابد أن يربط هذه بالقضية الكبرى، ويأتي لها بالأدلة والتحليلات وضروب الأشياء، حتى أصبح مرض، وأصبح -مثلاً- يتعاطى هذا الشيء أناس ليس لديهم بعد فكري عميق، وليس لديهم قدرة القضية صارت تخوف قلبي يجعل الإنسان يربط أي شيء بأي شيء، وعنده فكرة أن أي حدث لازم تحلله وتربطه بغيره دون أن تكون عنده الوسيلة أو الإمكانية لذلك؛ فيبالغ في قضية التحليل السياسي مبالغة مذمومة، ربما تعوقه أحياناً عن كثير من الأعمال الصالحة. 2- قضية المكر الصهيوني: أصبح الكثيرون يعتقدون أن اليهودية العالمية تهيمن على الكون، وهي التي توزع على الناس الهواء الذي يتنفسون، والماء الذي يشربون، والطعام الذي يقتاتون، وهي التي تطبع لهم الكتب، وهي التي تفعل لهم كل شيء. صارت شبحاً! وهذا في الواقع من الأشياء التي نجح فيها اليهود، أنهم نجحوا في جعل أنفسهم شبحاً وخوفاً وخطراً في عقول الشعوب؛ فصارت الشعوب مهزومة معنوياً، وصار المسلم يحس بأن اليهود يلاحقونه في كل مكان، وأن اليهود دولة لا تقهر، وأنهم خطر جاثم لا فكاك له ولا مرد له من الله، ليس فقط في دولتهم إسرائيل بل في كل مكان، حتى ولو وجدت أي قضية، تذرع بأن يربط هذا الأمر بأنه من كيد اليهود ومن مكرهم. يا أحبابي! صراحة أقولها: حتى المشاكل الحقيقية بين المسلمين، لا أعتقد أن أعداءنا بحاجة إلى أن يتدخلوا بيننا فيها، أعداؤنا قد كُفوا بنا، بعيوبنا، وبسلبياتنا، وأصبحنا نحن نخرب بيوتنا بأيدينا، ونحقق أهداف عدونا بسلبياتنا وبغبائنا وبجهلنا، وبعدم تصحيح نياتنا، وبعدم إخلاصنا لله عز وجل فيما نأخذ وما ندع، وباشتغالنا ببعض الأمور وإهمالنا أموراً أعظم منها، وبتناحرنا، وتفرقنا وتشتتنا، وباشتغال بعضنا ببعض، أصبحنا نخدم عدونا دون أن يحتاج هو إلى التدخل، ليس بحاجة أن يحرض بعضنا على بعض، ولا أن ينصر بعضنا على بعض، ولا أن يعين بعضنا على بعض، بلاؤنا فينا وكما يقول المثل الشامي الشعبي: (سوس الخل منه وفيه) فالداء منا وفينا، الداء جاثم في أعماق قلوبنا بل وفي عقولنا أيضاً. 3- قضية الحركات الباطنية: قضية الحركات الباطنية -أيضاً- وكثرة الكلام عنها، وأنها خطر، وهي لا شك خطر جاثم وخاصة في الظروف الحاضرة، فإننا نجد -مثلاً- دولة كإيران، أصبحت تستغل صمتنا -صمت القبور، بل ما هو أكثر من الصمت! خطوات العرب والمسلمين إلى الصلح عبر مؤامرة السلام أو ما يسمى مؤتمر السلام- أصبحت تستغله لتحقيق مزيد من المكاسب، فتستقطب المعارضين للسلام من كافة الطوائف والأحزاب والجهات والبلاد، وتعقد لهم المؤتمرات، وتذيع التوصيات، وتحرض، وتبدو كما لو كانت عدواً للسلام، وكأنها هي المعارض الوحيد الذي يقف في وجه أمريكا والغرب، وفي وجه إسرائيل وفي وجه النظام الدولي الجديد. وهذا ينذر فعلاً بوجود خطر للباطنية، مع نشاطهم القوي في الدعوة له، لكن ينبغي مع ذلك -أيضاً- أن نضع خطر الباطنية في حجمه الطبيعي، ولا نبالغ في ذلك؛ لأن المبالغة في تقدير حجم العدو أحياناً تقعد الإنسان عن العمل، وأحياناً تنجح -من حيث لا تشعر- في إعطاء العدو شيئاً لا يستحقه، وتحقيق بعض المكاسب له مثل إنسان ظن أن العدو سيهجم على البلد فانسحب؛ فجاء العدو، فوجد الأرض حرة باردة لا يحتاج فيها إلى نزال ولا إلى قتال! 4- قضية الأسماء: من القضايا التي نكبرها أيضاً: قضية الأسماء. وأنا أتعجب أننا نعتني بالأسماء عناية فاخرة! حتى أنك تجد اسم محل البنشر "بنشر الإخلاص" وتجد "ملحمة التقوى"، أو مغسلة ابن تيمية!! يولد لواحد منا ولد فتجده في الأسبوع الأول -بل قبل الولادة بأسبوع أو أسبوعين- معني جداً بمسألة البحث عن اسم، يدور على المكتبات ويشتري الكتب التي فيها الأسماء، ويستشير، ويعقد جلسات ومؤتمرات ومشاكل وأخذ ورد، وأحياناً تصير مشاكل بين الزوجة والزوج وتنتهي بالطلاق، ربما يحدث هذا!! بعض الناس كل همه قضية الاسم؛ فيبحث لولده عن اسم، وبالتالي هذا الاسم قد يكون جميلاً عنده لكن الناس يستسمجونه ويستهجنونه، وبالتالي الولد حين يكبر يكون مضطراً لتغيير هذا الاسم بعد الإعلان عنه في الجريدة. فهذه العناية الشديدة بالاسم، هل يقابلها عناية بتربية الولد؟ عناية بإعداده وتنشئته؟ هل نعده كما لو كنا نعده لخوض معركة الإسلام الكبرى، المعركة الفاصلة مع بني إسرائيل، أو مع النصارى أو مع غيرهم؟ هل يقابله اهتمام في المدرسة التي سوف يُدَّرس فيها الولد؟ واهتمام بالبيئة التي سوف يتربى فيها؟ واهتمام بالمواد الإعلامية التي يتلقاها؟ أم أنك بعد ما اخترت له هذا الاسم الجميل أصبح كل همك منحصراً -أيضاً- في الشكليات، وفي الثياب وفي اللعب الجميلة، لكنك بعد ذلك تدعه لأفلام الكرتون، أو بعض الأشياء الإعلامية الفاسدة الكاسدة التي تقوم بإكمال مهمة التربية وتولي الجانب الخطير، جانب العقل من هذا الطفل، وجانب النفس والروح! وأحياناً إلى مدرسة، قد تكون مدرسة نصرانية، وفي بعض البلاد تكون مدارس علمانية، وفي بلاد أخرى مدارس منحرفة، وفي بعض الأماكن مدارس تربي الأطفال والصغار والكبار على الموسيقى، وعلى الغناء، والرقص والتبرج والسفور والاختلاط وعلى المعاني المنحرفة. تأتي -أيضاً- قضية الأسماء: تجد عندنا -كما أسلفت- عناية بأسماء المدن والشوارع والجامعات وبأسماء المدارس، هذا نحن لا نعترض عليه إذا كان الاسم حسناً ومناسباً ومعبراً، ويحكي ارتباط هذه الأمة، بتاريخها، وانتمائها. لكن المصيبة إذا تحولت القضية إلى اهتمام مجرد بالشكل، ولكن إذا أتيت إلى منهج المدرسة أو الجامعة؛ لا تجد أي اهتمام، الأستاذ المربي الموجه لا تجد عنده اهتمام، الطالب لا تجد عنده اهتمام، كذلك السكن لا تجد الاهتمام الكافي بالنواحي الأخلاقية والتربوية والعلمية له، هنا تقع المشكلة. نحن لا نعترض على أن يكون الاهتمام بهذا وذاك، تهتم بالاسم الجميل، وتهتم أيضاً بالمضمون الجميل، وبالمنهج الحسن، وبالتربية الجيدة، وبالأستاذ الناجح، وبإعداد الإنسان والطالب إعداداً صحيحاً يضمن له النجاح في دنياه وفي آخرته. أما أن تحصر همك في القضية الشكلية، فهذا يعبر عن خواء ويعبر عن فراغ. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 25 الاشتغال بقضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها الاشتغال بقضية مع وجود ما هو خير منها أو مثلها، فمثلاً إذا كان عندك خمس قضايا متماثلة، فلا بد أن تعطي كل قضيه قدراً مماثلاً من الاهتمام أو مقارباً للأخرى، وإذا كان شيء أهم تعطيه أكثر مثلما ذكرنا. أحياناً تجد الإنسان قد يشتغل بقضية، ويغفل عن قضايا أخرى لا تقل عنها أهمية، قد تكون مثلها أو قد تكون أهم منها: 1- أخذ الأجرة على تعليم القرآن: فمثلاً: تجد جزئيات أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم أو لا يجوز؟ ونجلس في جدل طويل كبير عريض: هل يجوز أخذ الأجرة أو لا يجوز أخذ الأجرة؟ كان بدلاً من هذا الجدل من الممكن -مثلاً- أن يكون هناك مؤسسات ودور وجمعيات، وجهود كبيرة لإيجاد حلقات تحفيظ القرآن الكريم، وإيجاد دورات لطلاب القرآن، وإيجاد دورات للدعاة إلى الله سبحانه وتعالى ولو مقابل رسوم مادية، وهذا على قول من يقول بالجواز، والذي يرى أن هذا العمل لا يجوز؛ يسعه ألاَّ يشارك فيه، فلماذا نظل ندور في هذه القضية الجزئية، ونترك القضايا الأخرى التي هي أمور عملية ونتائج إيجابية أهم منها؟! 2- قضية قبول إعانة المشرك: مثل ذلك أو قريباً منه: قضية قبول إعانة المشرك، قد تجد المسلمين في بعض البلاد يكادون أن يموتوا جوعاً، وربما لا يجدون مسجداً يصلون فيه، أو لا يجدون مدرسة يُعلِّمون فيها أولادهم، فتأتي إعانة أو هبة من جهة معينة من الجهات الرسمية عندهم -وهي جهة كافرة- فتجد أن هناك جدل: هل يجوز قبول الإعانة والهدية من مشرك، أو لا يجوز؟ وبالتالي نرد هذا ولا نقبله؛ باعتبار الأخذ بالأحوط أو تغليب جانب الحضر، وبالتالي نفوت على المسلمين مصالح عظيمة في مثل ذلك. 3- مصارف الزكاة: أيضاً من الاشتغال بقضية مع وجود ما هو أهم منها: مصارف الزكاة. الله عز وجل ذكر الزكاة لثمانية أصناف من الناس، فقد تجد كثيراً من المسلمين في وقت من الأوقات، انصرف همهم إلى صنف واحد مثلاً وهو: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:60] وصار كأن الزكاة تصرف لهذا النوع فقط، وتجد المسلم قد عطل كثيراً من مصارف الزكاة الأخرى، وحجب الزكاة عن مستحقيها، وربما أعطى أحداً وغيره أولى بالعطاء منه، وربما حرم أحداً من أمر يستحقه وهو أحق به من غيره؛ بسبب أنه سيطر ذهنه وهمه على جانب من الجوانب، أو أمر من الأمور ونسي غيره. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 26 الاشتغال بالماضي عن الحاضر مثال آخر يدل على اشتغال البعض بالجزئيات: قضية الاشتغال بالماضي عن الحاضر. ربما كثر الجدل حول ثبوت واقعة تاريخية، أي واقعة أو قصة أو معركة أو حادثة معينة، خذ على سبيل المثال: حادثة التحكيم بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وما جرى فيها، ربما يكثر الجدل حول هذه القضية، وتؤلف فيها الكتب، وتكون فيها محاورات ومناورات ومناظرات وأخذ ورد، مع أنها قضية تاريخية انتهت، وأطراف هذه القضية قدموا إلى ما عملوا، وأفضوا إلى رب يعلم السر وأخفى، ولا يُظلم عنده أحد، فانتهت هذه المسألة؛ ولكنك تجد أننا لا زلنا نتشبث بها، ونبعثها يوماً بعد يوم، ليست القضية قضية مجرد التحقيق العلمي في حدود معقولة؟ لا. بل قد تتحول إلى قضية مهمة، ويدور حولها صراع ربما لا يكاد يهدأ، وهناك مبالغة في التحقيق العلمي في بعض المسائل، وفي مقابل ذلك قد تجد عندنا جهلاً بواقعنا القريب الذي نعيشه، وجهلاً بما يعانيه المسلمون اليوم في مشارق الأرض ومغاربها، من ألوان البطش والتنكيل، والتجهيل والتضليل، والتكفير والتفسيق، والتبديع، وتحويلهم عن دينهم الذي بعث به محمد صلى الله عليه وسلم، إلى أديان أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، فتجد جهلاً مطبقاً بهذا الواقع. ربما إنسان قد يبدي عناية فائقة بأحد الأحداث التاريخية، والتحقيق حولها، ومعرفة ما إذا كانت واقعة أم ليست واقعة، بل ربما ننقل بعض الخصومات التاريخية إلى واقعنا الذي نعيشه، وتصبح تؤثر فينا، وتحدد مواقفنا، وتسيرنا وتبسط رواقها علينا، مع أنها قضايا ليست قضايا اعتقادية، كقضايا الاعتقاد لا يمكن أن نقول عنها: إنها قضايا تاريخية، والخلاف حول قضايا الاعتقاد ليس خلافاً تاريخياً، بل هو خلاف أصولي اعتقادي، لكن هناك قضايا تاريخية ليس لها أي امتداد عقائدي، ومع ذلك تظل تعيش معنا، وربما سببت فيما بيننا من الخصومات الشيء الكثير. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 27 الاشتغال بقضايا لا وجود لها من الاشتغال بالجزئيات، الاشتغال بقضايا لا وجود لها، فكم من إنسان يأتي يتكلم عن قضية الرق، وأحكام الرق والرقيق، وما يتعلق به، ومسائل الأَمة، وعورة الأَمة -مثلاً- ويطول ويعرض الكلام فيها! أين الأمة يا أخي؟ وأين الرق، وأين الرقيق؟! هذه قضايا أصبحت في حكم المعدوم، وإن وجدت فعلى نطاق ضيق جداً لا يكاد أن يكون له اعتبار حقيقي، فلا معنى للاشتغال بذلك. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 28 الاشتغال بقضيايا خيالية الاشتغال بقضايا فرضية، قضايا خيالية، مرة اطلعت على كتاب ضخم لأحد الكتاب، فكان يتكلم عن مسائل فقهية، ومن ضمن المسائل التي تكلم فيها وأطال النفس فيها: مسألة احتمال وجود إنسان على كواكب أخرى غير كوكب الأرض، وقال: احتمال وجود إنسان، وبدأ يبحث عن مسائل أحكام هذا الإنسان، حكمه من حيث التيمم، حكمه من حيث الصلاة، حكمه من حيث استقبال القبلة، كيف يصلي؟ حكمه مثلاً من حيث الحمل، إذا افترضنا أن الحمل على ذلك الكوكب في يوم، فحملت المرأة وأنجبت؛ لأن الوقت يمكن أن يكون عندهم طويلاً، فماذا يكون حكمها؟ وقضية النفاس، وقضية الحيض!! وصارت مضحكة يا أحباب. هل نريد أن نظل مضحكة للأمم والشعوب إلى يوم يبعثون؟! نشغل أنفسنا بهذه الجزئيات، وبهذه الأمور، وبهذه القضايا الخيالية كأننا عجزنا عن مواجهة الواقع!! وعجزنا عن معالجة الواقع، وعجزنا عن صياغة الواقع، وعجزنا عن النزول إلى الواقع؛ فرضينا من الغنيمة بالإياب، وصار همنا أن ندندن حول القضايا التي نتشاطر فيها على الآخرين، ونستعرض فيها عضلاتنا الفكرية، ولكننا كمن يطحن في الهواء، أو كمن يحرث في البحر!! الجزء: 181 ¦ الصفحة: 29 الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة من الاشتغال بالوسائل عن الغايات: الاشتغال بتطبيق حرفية نظام من الأنظمة عن هدف النظام وفحواه ومقصده الأساسي، فمثلاً -على مستوى الأنظمة البشرية- المقصود مصلحة الناس. فالنظام وضع حتى يحقق مصلحة الناس، ومصلحة المواطن في كل مكان، ومصلحة المسلم في بلده، وهذا هو الهدف الذي من أجله وضعت الأمور، ورتبت وسيرت بشكل جيد. إذاً القضية الأساسية هي قضية المصلحة، لكنك قد تجد إنساناً حرفياً، أو رديء الفهم، أو مشغولاً بالجزئيات والفرعيات عن الكليات، يأتيك ويقوم بهدم أصل هذا النظام -الذي وضع في الأصل لمصلحة المسلم- اعتماداً على تعميم معين، أو على ورقة خاصة، أو على أمر عنده، ويتمسك بحرفيته، ويضعه نصب عينيه، وكأنه ليس عنده نظام إلا هذا الشيء، ويهمل الأصل المقصود، وهو فحوى النظام وسره وهدفه الذي هو تحقيق المصلحة للإنسان. المقصود: أن هذه الورقة جزء من النظام الكلي الذي يستهدف مصلحة المسلم في دينه ودنياه، فلماذا تهتم بفرع أوبجزئية وتنسى وتغفل عن الأصل الكلي والهدف الأساسي الذي هو تحقيق المصلحة؟! أضرب لك مثالاً: يأتيك إنسان له مستحق في مكان ما، ربما يصل إلى عشرات الملايين أحياناً، أو أكثر من ذلك، وتجد أنه أصبح يستحق هذا الشيء ولكنه لم يأتِ بكل الأوراق المعتمدة والمستندات التي لابد منها، بقي عليه ما يقارب عشرة آلاف ريال، يجب أن يقوم بتكميلها نقص أو قصر -مثلاً- فتجده قد يعوق عن هذا الأمر الذي هو حق له ويمنع منه، اعتماداً على هذا الشيء. فهذا عناية بفرع هو في حقيقته إبطال للأصل؛ لأنه إذا كثرت هذه الاستثناءات، صارت القضية كأنها لعبة في يد فلان وفلان. إنسان عنده غرض أو عنده هوى، أو بينك وبينه عداوة أو خصومة أو مشكلة معينة، فهو يستخدم هذه الأشياء؛ للإضرار بك ومواجهتك إلى غير ذلك. مثال آخر: الاشتغال بوسائل الدعوة إلى الله تعالى، والكلام حولها، وعن حقيقة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى: فمثلاً كم من الخصومة ثارت حول مسألة التمثيل!! وقع في يدي سبعة كتب تقريباً حول التمثيل، وربما أن هناك أشياء كثيرة لم أطلع عليها، وخصومة حامية الوطيس بين حكم التمثيل، أحلال هو أم حرام؟ ومثل ذلك أيضاً خصومة حامية الوطيس حول الأناشيد، وتجد أننا اشتغلنا ببعض الرسوم الدعوية عن حقيقة الدعوة، نجد أن المسألة عندنا ليست إخراج ممثلين أو منشدين، المسألة عندنا مسألة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والاشتغال بهذه الرسوم والقضايا، تأييداً أو سلباً أو إيجاباً أو شجباً، والمبالغة والإغراق فيها هو غالباً ما يعود على الأصل بالضرر. فالمقصود هو الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأي أسلوب تتحقق فيه الدعوة إلى الله، وليس فيه معارضة صريحة واضحة لكتاب الله، أو لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأصل جوازه، وعلى هذا الأصل يمشي الإنسان، إلا إذا تبين له أن هناك ما يعكر على هذا الأصل أو يشكل عليه، فالمهم أني لا أشتغل بالفرع أو بالوسيلة عن الهدف والغاية التي أعمل من أجلها. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 30 الاشتغال بالوسائل أولاً الاشتغال بالوسائل -أحياناً- على حساب الغايات، أو الغفلة عن الغايات، اشتغالاً بالوسائل، خذ على سبيل المثال: 1- في علم مصطلح الحديث: في المجال العلمي: تجد أن طالب علم الحديث، يهتم بالمصطلح وقراءة المصطلح، ودراسته وحفظ المتون فيه، ويتكلم عن دقائقه، ويتكلم عن الرجال وحفظ الرجال والكلام فيهم، هذا ثقة وهذا ضعيف، وربما يحفظ ذلك ويعتني به أشد العناية، ويسرف في ذلك؛ حتى أنك لو جئت لهذا الإنسان تسأله عن حديث، أصحيح أم ضعيف؟ قال: والله ما أدري، أراجع لك، أو أسأل أهل العلم، مع أنه قضى ليله ونهاره في معرفة أمور المصطلح، وهي أمور فيها قضايا لا بد من معرفتها بكل تأكيد، وهي ضرورية وأساسية لمن يدرس علم الحديث، لكن هذه قضايا ثانوية. فمثلاً: مسألة رواية الآباء عن الأبناء، أو رواية الأصاغر عن الأكابر، وقضايا المسلسلات، أو بعض تفاصيل علم الإسناد، كلها أمور ليست من القضايا التي لا بد منها، هي قضايا أقرب أحياناً إلى أن الاشتغال بها لا يكون مفيداً لطالب العلم، أو تكون فائدتها قليلة، ويكون من اشتغل بها عن غيرها مغبوناً. 2- مسألة أخرى: الاشتغال بأصول الفقه عن الفقه: تجد إنساناً مشغولاً بعلم أصول الفقه، وبالمقدمات المنطقية، والأحكام الوضعية، والأحكام التكليفية، وقضايا الكلام واللغة، وما شابه ذلك، وعنده فيها جودة وبراعة، ومعرفة بالمخطوط والمطبوع، وهذا جيد ولا بأس به؛ لكن تجد كثيراً من هؤلاء لو سألته -مثلاً- عن مسألة فقهية، ما حكم الله ورسوله عليه الصلاة والسلام في مسألة كذا أو كذا، هز رأسه، وقال: الله أعلم، اسأل أهل العلم، اسأل المفتين، فما قيمة عنايتك بأصول الفقه باعتباره وسيلة إلى تحصيل الفقه واستخراج الأحكام من الأدلة وأنت لم تستخدم هذه الأصول؟! 3- مثال آخر: قضية التجويد: كثير من الشباب ومن الطلاب ومن المحبين، يهتمون بالتجويد وإخراج الحروف من مخارجها الطبيعية، وربما أحياناً يتقعر في ذلك؛ حتى أني سمعت بعضهم يقول: يا أخي! إن مخرج الضاد مخرج دقيق عسير وكذا وكذا، حتى إنه لا يكاد يتقنه إلا أفراد من الناس، وبعد ذلك يبدءون يذكرون لك أنه على مدار التاريخ، كان -مثلاً- عمر بن الخطاب يخرج الضاد من مخرجها الطبيعي، أو فلان أو فلان، يذكر لك ثلاثة أو أربعة، سبحان الله!! حرف من حروف الهجاء، وموجود في سورة الفاتحة التي يقرؤها المسلم في الصلاة في كل ركعة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7] وتأتي تقول: لا يتقنه إلا عمر بن الخطاب، أو ثلاثة أو أربعة من الناس كيف يكون هذا؟!! دين الله يسر ليس فيه تكلف، ولا تنطع، ولا فيه داعي للتشقيق والتعميق والمبالغة، وتعسير الأمور بما يحول بين الناس وبين الإقبال على قراءة القرآن الكريم. أحياناً تجد المبالغة في بعض صفات الحروف حتى تخرج عن حدها المعتاد، وتصل إلى درجة قد تكون على حساب فهم معاني القرآن، وعلى حساب التفسير، أو العمل بالقرآن، أو الدعوة إلى القرآن، أو على حساب الصبر على ما يلقاه الإنسان في سبيل القرآن؛ حتى أنك تجد -أحياناً- بعض الأخوات من النساء، وهي تهتم بالتجويد حسناً أنتِ لن تكوني إماماً في المسجد، فالمساجد والحمد لله ملأى، والحرم مكتفٍ، فلماذا أنت تقرئين هذه الأشياء، وتبالغين في مخارج الحروف في أمور لا تحتاجين إليها؟! لن تقرئي أمام الناس، لن تسجلي قراءتك في شريط، لا بأس أن تقرئي ما يجود قراءتك، ويضبط إخراج الحرف من مخرجه، بحيث لا يتحول إلى حرف آخر، تتحول الصاد إلى سين مثلاً أو العكس، أو يكون فيه تغيير لكلام الله عز وجل. هذا كله صحيح، والقدر المعقول من ذلك مطلوب، وقد تستطيع أن تأخذه من خلال كتاب في عشرين ورقة؛ لكن المبالغة والتطويل والتهويل هذا تعقيد في الواقع. ما بالك في المسلم الجديد الذي أسلم أمس! ليس عنده وقت لكي يقرأ التجويد، ثم القرآن، ثم الأصول، ثم الفروع، ثم المصطلح، إلى غير ذلك، بل حتى إغراق الشباب في مثل هذه المسائل هو على حساب مسائل أهم منها في الأعم الأغلب. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 31 تهويل بعض الأمور إذاً: هناك تهويل في طرح بعض الأمور ومبالغة، وهناك إسراف في تضخيم بعض القضايا، حتى أنني أذكر أن هناك بعض أهل العلم إذا أراد أن يحذر من قضية -وهذه القضية ليست محرمة- لا يستطيع أن يقول إنها حرام، ولذلك قد يلجأ إلى حشد السلبيات المترتبة عليها، أو حشد المحاذير المترتبة عليها، وربما أوصلها إلى عشرين أو ثلاثين محذوراً؛ حتى يقول للناس: دعوها! العالم مصيب؛ لأنه يعتبر أن هذا أسلوب تربوي، فبدل من أن يقول للناس: حرام. وهو ليس عنده دليل صريح على التحريم، يلجأ إلى نهي الناس عنها دون أن يقطع بتحريمها. لكن المشكلة تقع حينئذٍ عند طالب العلم، فإنه إذا سمع هذا الكلام؛ أورث في نفسه أن هذه قضية خطيرة وكبيرة، ويترتب عليها مفاسد، وأنها تحدث في المجتمع آثاراً، وتؤثر في عمل الإنسان وحياته وعبادته، فتصبح قضية خطيرة كبيرة؛ لأنه حُشِدَتَ عنده محاذير أكثر من اللازم لهذه القضية، وكان من المفروض أن يقال: الأولى تركها أو الأولى فعلها أو فيها نظر أو أي أسلوب آخر يكون فيه نهي للناس عنها دون أن يتعدى الأمر إلى أكثر من هذا. ولذلك يقول بعض الأصوليين -وهو الشيرازي -: إني رأيت كثيراً من العوام أكثر حماساً للمسائل الفقهية من العلماء، فالعالم المجتهد -مثلاً- عنده مسألة فيها أقوال، ويعرف كل قول بدليله، وأنه قال به من الصحابة فلان وفلان ومن التابعين ومن الأئمة؛ ولذلك هو رجح أحد الأقوال ترجيحاً يسيراً، وهو يقول: أستغفر الله قد أكون مخطئاً؛ فلا يجزم ولا يتحمس ولا يتعصب ولا ينفعل. لكن الطالب أو العامي الذي أُفتي له بهذه المسألة، دون أن تذكر له الأدلة، ودون أن تذكر له الأقوال الأخرى، ودون أن توضع في إطار مقبول وموضوعي، تجد أنها ملأت قلبه وصار الدين عنده هو هذا الأمر، والدين عنده هو هذه الفتوى التي أفتاه به فلان؛ لأن فلاناً ليس عنده الوقت لكي يعطيه الأقوال والأدلة، والراجح والمرجوح، فأعطاه خلاصة ما توصل إليه أنه: لا يجوز مثلاً، فصار هذا الإنسان يعتقد أن هذا لا يجوز، وصارت قضية دين يبدئ بها ويعيد، ويهتم بها، ومن رآه يخالفها أجلب عليه، وربما عاداه وأبغضه، وقد يكون مجتهداً في هذه المسألة، وقد يكون الحق معه في أن هذا الأمر ليس بمحرم أيضاً. كما أن هذا الأمر يورث عند جمهور من الناس، أن هؤلاء الدعاة وطلبة العلم أناس سطحيون، أصحاب قُصر نظر، محصورون في مثل هذه القضايا التي لا هم لهم إلا الحديث عنها. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 32 الاهتمام بالأصول أولا ً أيها الأحبة: إن من السهل أن نصحح كثيراً من القضايا الجزئية، والقضايا الفرعية بجرة قلم -كما يقال- لكن من الصعب جداً أن نغير القضايا الأصولية والقضايا الكلية، والمفترض أن يكون اهتمامنا بتغيير وتصحيح القضايا الكلية والقضايا الأصلية هو الأهم؛ لأنه إذا صلحت الأصول، وصلحت الكليات، وصلحت القواعد، صلحت تبعاً لذلك الفروع، وهذا لا يعارض أبداً العناية بإصلاح الفروع، فالأنبياء كان أحدهم يبعث لقوم ويأمرهم بالتوحيد، قال تعالى: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:85] يأمرهم بهذا وذلك في نفس الوقت، لكن العناية بالأصل كانت الأعظم بلا شك، وهي المنطلق، ومن هذا المنطلق دعا إلى تصحيح الفرع، فهو ما جاءهم ليقول لهم -مثلاً-: أريد أن أحدث عندكم إصلاحاً اقتصادياً، لا إنما جاء يدعوهم إلى التوحيد، وبناءً على دعوة التوحيد، يبين لهم أن ما هم فيه يخالف هذه العقيدة ويخالف المبدأ الذي جاءهم به. ومن ذلك قضية الأمور الاقتصادية، أي بناء الاقتصاد على غير الإسلام، أو بناء الأمور الاجتماعية على غير الإسلام، أو بناء الأمور السياسية، أو الإدارية على غير الإسلام، أو بناء الأمور العلمية على غير الإسلام، أو بناء الأمور الفنية أو الإعلامية على غير الإسلام، فالأصل هو الدعوة إلى القضايا الكلية الأصولية، والقواعد التي بصلاحها تصلح الفروع، وهذا أيضاً لا يمنع من بذل الوسع والاجتهاد في إصلاح الفروع بقدر المستطاع، على أن لا يلهينا ذلك ولا ينسينا العناية بإصلاح الأصول. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 33 بعض الحلول لمشكلة الاشتغال بالجزئيات هناك بعض الحلول أختم بها، من الحلول: الجزء: 181 ¦ الصفحة: 34 وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج خامساً: ضرورة وجود عمل إعلامي إسلامي ناضج، يضع عقول الناس في وضعها الصحيح، ويصنع العقليات الناضجة التي نبحث عنها، ويزيل ما عند الناس من غبش أو سوء في التصور مما صنعه عندهم الإعلام المزيف، مثل: حصر الدين في بعض جوانب الحياة دون بعض، مثل: تشويه صورة المتدينين، وتشويه صورة الدعاة، وأشياء كثيرة جداً. فمن الضروري أن يكون هناك عمل إعلامي متكامل ناضج، أليس من المؤسف -أيها الأحبة- أن تقوم مجموعة كبيرة من الصحف الكويتية في هذه الأيام، بحملة شرسة شعواء على الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وتصفهم بأقذع ما في قاموسها من ألفاظ السب والشتم، كلمات لم نسمعها حتى من أبي جهل حين كان يتحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه!! كلام جارح بلا نهاية، ولا نجد صوتاً واحداً يستطيع -على الأقل- أن ينصف هؤلاء المظلومين أو يرد اعتبارهم. {لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} . {وإذا رأيت أمتي تهاب أن تقول للظالم يا ظالم فقد تودع منها} هل تستطيع أن تقول الأمة الآن: لا للحاكم أو للصحفي: يا ظالم؟ الواقع يقول: لا، ممكن نقول أنا وإياكم في هذا المجلس، لكن لا نستطيع أن نملك الوسيلة التي يملكها هو، بحيث نصل إلى العقول التي وصل إليها، ونصلح العقول التي خربها. هذا لا زال المسلمون دونه بمراحل، ولا يملكون وسيلة إعلامية ٍواحدة حرة، تستطيع أن تعبر عن الرأي الإسلامي الصحيح، دون ضغط أو مجاملة. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 35 طرح الأسئلة على العلماء والدعاة ثالثاً: طرح الأسئلة على العلماء والدعاة، وإقامة اللقاءات والاجتماعات والبرامج التي تجعل الناس يطرحون ما لديهم من الأمور والإشكالات، وتجعل العلماء والدعاة يتولون الإجابة عليها. وهنا أثير قضية مهمة: أن جماهير المسلمين في كل مكان، ربما أن (90%) من أسئلتهم التي نقرؤها أو نسمعها تتعلق بقضية أحكام فقهية فرعية تفصيلية. لا بأس بذلك ومن حق الإنسان، بل من واجب الإنسان أن يسأل عن أسئلة تهمه في أمر دينه، لكن أين الأسئلة -مثلاً- عن البراءة من الأحزاب الكافرة العلمانية التي حكمت المسلمين في كل مكان زماناً طويلاً؟! أين تلك الأسئلة؟! أين الأسئلة التي تتكلم عن تصحيح العقيدة؟! أين الأسئلة التي تتكلم عن أحوال المسلمين، وكيفية الخلاص من المآسي التي يعانونها؟! أين الأسئلة التي تستهدف تنوير المسلمين بما يعانيه إخوانهم في كل مكان؟! أين الأسئلة التي تبحث عن مخرج لهذه الأزمات المتكاثرة التي يعيشها المسلمون؟ أين الأسئلة التي تستهدف إحياء منهج إسلامي في الاقتصاد، والإعلام، والسياسة، والإدارة، والصحافة، والأدب، وفي كل مجال؟! هذه الأسئلة غائبة، من المسئول عن غيابها؟! المسئول أطراف الذي هو أنا وأنت، قد لا نسأل، لماذا؟ لأننا مستغرقون في الجزئيات -كما دل عليه عنوان المحاضرة إن وافقتم عليه- تجدنا نسأل عن هذه الجزئيات التي تشغلنا، لا حرج أن نسأل عما يهمنا حتى في أحلك الظروف، ينبغي أن تسأل عما يهمك من أمر دينك ولو كان جزئياً أو تفصيلياً، ولكن ينبغي أن تسأل عما هو أهم منه وأخطر، وألاّ تكون كمن يعالج الجرح والرأس مقطوع، كما يقال! فأنت مسئول وأنا مسئول. ولكن أيضاً، المعلم، أو المفتي، أو الموجه، أو الداعية، أو العالم مسئول أيضاً؛ لأنه إذا لم ترد هذه الأسئلة لسبب أو لآخر، إما لأنك أنت لم تطرحها، أو لأنه حيل بينها وبين الوصول إليه، فينبغي أن يتولى هو بنفسه الإجابة على هذه الأسئلة التي من المفترض أن تطرح، ويُسأل عنها، ويعرف الناس حكمها وجوابها في شريعة الله تعالى، لأن الله تعالى يقول: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] . الجزء: 181 ¦ الصفحة: 36 وضع سياسة عامة للطبع والنشر والتأليف رابعاً: ضرورة وضع سياسة عامة للطباعة والنشر والتأليف، سواء في مجال الكتاب أو الشريط الإسلامي، الآن المكتبات الإسلامية ودور النشر، حدث ولا حرج، محلات الأشرطة الإسلامية حدث ولا حرج، لكن ما هو نوع الكتاب الذي يطبع؟ وما نوع الكتاب الذي ينشر؟ وما نوع الشريط الذي يطبع وينشر ويوزع؟ هذه مأساة!! قد تجد عشرات الأشرطة في قضايا جزئية، والله بعض الأشرطة التي أسمعها وأحلف بالله أني أستحي وأتمنى ألا يسمعها من خصومنا أحد؛ لأنهم سوف يجدون فيها ورقة رابحة يشهرونها ضدنا، فهي تتدخل في جزئيات الناس، وتتدخل في تفاصيلهم، وفي أمور ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله ولا من كلام أهل العلم، ولا فيها دليل!! تأتي تقول: يا أخي! افعل كذا وكذا واترك كذا، أنت تتحكم في أمور ليس لك مستند شرعي فيها! يا أخي نحن نعبد الله وحده، وليس من حقك أن تعطينا أنت رأيك الخاص، أو قناعتك الخاصة، بل تعطينا حكم الله ورسوله. كونك تقول: يجب أن يكون حذاء المرأة أسوداً أو أشهباً، وينبغي ألاّ يكون برتقالياً ولا أصفراً، هل تعرفون فيها نصاً من كتاب الله أو حديثاً عن رسول الله روي بالإسناد الصحيح؟ لا يوجد. كم سنتيمتراً يجب أن يكون طول كعب حذاء المرأة، واحد سنتيمتر، أو اثنين سنتيمتر، أو ثلاثة سنتيمتر؟! هذه ليس فيها نص من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. صحيح أننا نقول كما قال علماؤنا، فيما يتعلق بالكعوب الطويلة العالية التي هي خارجة عن المعتاد والمألوف، وفيها مفاسد وفيها مضار إلخ، لكن نقول: إن بعض الناس يدخل في تفاصيل دقيقة لا حاجة إلى الدخول فيها، فيحدد بالسنتيمتر والشرع لم يحدد بالسنتيمتر. فنقول إذاً: مسألة الكتاب والشريط، وكثرة المطبوعات وكثرة الأشرطة، ينبغي أن تكون مضبوطة بضوابط معينة، لا مانع من نشر أي شريط نافع ما دام أنه تتوفر فيه شروط مضبوطة واضحة وصحيحة، ويسر الدعاة أن ينتشر. لكن أيضاً يجب أن يكون هناك عناية بترويج كتب معينة، وترويج مواد إعلامية يعتقد أنها تخدم المصلحة العامة، وأنها تحقق هدفاً ودوراً في ظرف من الظروف الآن أو غداً أو بعد غد. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 37 اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل أولاً: ضرورة اهتمام العلماء والدعاة بالتأصيل، فلا يجوز أن ينطلق كل عالم وكل داعية على وجهه دون أن يكون هناك عناية بوضع أصول وضوابط ومنطلقات ومنهج واضح للدعوة إلى الله تعالى وطلب العلم والتعليم؛ لأن هؤلاء الشباب أمانة في أعناقنا وفي أيدينا، يجب أن نرتاد لهم الطريق الصحيح، والرائد لا يكذب أهله. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 38 نشر الوعي الصحيح للدين بين المسلمين ثانياً: ضرورة نشر الوعي الصحيح لهذا الدين بين المسلمين، وأن الدين جاء ليهيمن على كل شئون الحياة، ما جاء الدين ليكون عقيدة مستترة في قلبك بينك وبين الله فقط، ولا جاء الدين ليكون عبادة تؤديها في المسجد، ثم بعد ذلك تدع ما لقيصر لقصير وما لله لله، ولا جاء الدين ليهيمن على جزء ويترك أجزاء للطاغوت أو للشيطان، لا، بل جاء الدين مهيمناً على كل شئون الحياة، وجاء الدين ليحكم الدقيق والجليل، ويستلم الإنسان من يوم أن يولد فيسميه الإسلام -فيبين له أسماء تجوز وأسماء لا تجوز، وأسماء مستحبة، وأسماء مكروهة، وأحكام ما يتعلق بالمولود- فيستلمه من ذلك الوقت إلى أن يودعه في قبره، فيذكر كيفية الدفن، وأحكامه وآدابه، وما يتعلق بذلك هذا على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة بأكملها. فهذا الشعور يجب أن يصفو لدى الناس؛ ليعرفوا أن الدين يجب أن يهيمن على الدقيق والجليل من الأمور، والكبير والصغير، ولا يشذ عن هذه القاعدة شيء؛ لأن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208] ويقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58] . الجزء: 181 ¦ الصفحة: 39 التفاؤل بأن الله تعالى سوف يغير حال هذه الأمة أختم هذا الموضوع بأن أقول: مع كل هذا ومع أنني -يعلم الله- أشعر في كثير من الأحيان بالأسف والأسى والحزن يعصر قلبي وأنا أقلب طرفي حول رحلي، فلا أرى إلا إغراقاً في الاشتغال بالجزئيات على حساب الأصول والكليات، مني ومن غيري، إلا أنني مع ذلك على ثقة كبرى، بأن الله يصنع لهذه الأمة ما عجزت وسائلنا عن صناعته، يصنع هذه الأمة بالأحداث التي سوف تنضج على أَتُّونها هذه الأمة، وتصفو عقولها، وتصح قلوبها، وتتعدل اهتماماتها؛ وذلك أن الإنسان عندما يكون مستغرقاً في قضية جزئية غارقاً فيها، لا يستطيع أن يتصور العالم إلا من خلال هذه القضية الجزئية، ولو قال له أحد: يا أخي! أنت بالغت في المسألة قليلاً؛ رأى أن هذا الإنسان على ضلال، وأنه مخطئ، وأنه يجب أن يعود إلى رشده وإلى صوابه، لماذا؟ لأن هذا همه، تربى وتكون ونبت لحمه وعظمه وعصبه وكله على هذه القضية، فصار من الصعب أن تنتزعه منها للهواء الطلق، للاهتمامات الأكبر والأوسع. هناك شيء ممكن ينتزع، وهى الأحداث التي تضطر الإنسان إضراراً إلى أنه يفكر فيها، ويتأمل ويدرك وينظر، ومن هذه الأحداث: الأحداث التي تواجه المسلمين من عدوهم، تحديات تاريخية وقعت في الماضي وتقع الآن وفي المستقبل، في تثير مشاعر الناس، وتستفزهم، وتحركهم، هذا الإحساس لا بد أن يتجاوب مع هذه الأحداث، فترفعه هذه الأحداث عن واقعه الذي كان يعيشه، وهذا يذكرني بقصة أختم بها. يحكى أن رجلاً كان عنده زوجة عاقة وسيئة الخلق، فكانت تطعمه شتماً وسباً له ولوالديه ولأولاده ولأسرته ولأقاربه، وربما اعتدت عليه بالضرب أحياناً، والرجل صابر محتسب؛ لأنه يظن أن الناس كلهم هكذا، وأن هذا أمر طبيعي في البيوت، أن كل امرأة لا بد أن تضرب زوجها وتوبخه في الصباح والمساء، فلذلك فهو صابر؛ لأنه لا يتصور الحياة إلا هكذا، وبعد فترة توفيت هذه المرأة، وفرَّج الله تعالى عن هذا المسكين، فتزوج من امرأة أخرى فذاق طعم الحياة، ووجد البسمة الحلوة، ووجد الكلمة الطيبة، ووجد الحديث العذب، ووجد حسن الاستقبال، مع أنه ربما في أول مرة دخل وقد جهز نفسه لتحمل ما قد يلقى من اللكمات أو الضربات، لكنه فوجئ بأن الأمر قد تغير، فما ملك هذا الرجل وقد اكتشف أن الوضع الذي كان فيه في السابق وضع خطأ، ووفاء لزوجته السابقة، إلا أن ذهب وأحرق قبرها؛ تعبيراً عن سخطه لحياته السابقة التي قضاها، وهذا المثل وإن كان أسطورة، ولكنه واقع يمكن أن يعيشه فئة كثيرة من الناس. نسأل الله تعالى أن يبصرنا بمواطن الضعف في نفوسنا، وأن يهدينا للرشد من أمرنا، وأن يجعلنا مخلصين له. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 181 ¦ الصفحة: 40 أسئلة وأجوبة المفترض في المسلم أن يكون حريصاً على معرفة أحكام الشرع في سائر ما يعمله وما يواجهه في الحياة، كما أنه يهتم بما يجري في العالم من الأحداث وبخاصة ما يتعلق بالمسلمين، وفي هذه المحاضرة تجد أسئلة كثيرة مختلفة ومتنوعة قد أجاب عليها الشيخ، ولعلها تنفعك في دينك. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 1 انتصار الجبهة الإسلامية في الجزائر الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين: هاهنا أسئلة قد حرصت على ألا أجيب عليها في أثناء المحاضرة، لأن كون المحاضرة دائماً وأبداً محصورة بوقت؛ يسهل سماع الناس وحضورهم إليها، كما يسهل تداولها في أماكن بعيدة من خلال التسجيل، وإلا فليس هذا تهويناً من الأسئلة. هاهنا مجموعة أسئلة، كلها تدور حول ما حصل في الجزائر. السؤال الأول: يقول: انتصار الجبهة الإسلامية للإنقاذ، في انتخابات الجزائر أمر مفرح ومبهج لكل مسلم، ودليل على أن الشعوب الإسلامية لن ترضى بديلاً عن الإسلام، ما رأيكم في هذا الفوز، وما دلالاته؟ وهل ستتمكن الجبهة من تشكيل حكومة؟ أم أن ديمقراطية العسكر سوف تحول دون ذلك؟ وهذا سؤال آخر يقول: سمعنا الأخبار السارة عن جبهة الإنقاذ في الجزائر، وما حصل لها من الأصوات، فهل هذا يعتبر بداية لتحرير الأرض؟ ولكن ماذا بعد ذلك؟ وهذا سؤال ثالث يقول: ما هو توجه الإسلاميين في الجزائر وتدعو لهم؟ الجواب كان في ذهني مقارنة، لكن سرعة الوقت حالت دون أن أطرحها، الجزائر قبل فترة كانت مستعمرة فرنسية كما هو معروف، وكانت فرنسا بعسكرها وقواتها مسيطرة على الجزائر، وتطارد المسلمين من مكان إلى آخر، ودفع الجزائر مليون إنسان، سفحت دماؤهم على جبالها وفي وديانها وهضابها، لمقاومة الاستعمار الفرنسي، ورحل الاستعمار بعد هذا الجهد الكبير. ولكن ماذا بعد هذا؟ بعد هذا انتهت وصاية الكفار، وجاءت وصاية المنافقين كما تكلمت عنها في المحاضرة، وتبين أنهم كانوا أخطر، لأنهم استطاعوا أن يفعلوا في الجزائر ما لم يفعله الفرنسيون، وغيروا عقول الناس وأخلاقياتهم، ولأن أسماءهم أسماءً عربية وإسلامية؛ ولأن السحنات في وجوههم كانت عربية أيضاً فقد استطاعوا أن يفعلوا في الناس، ما لم يستطع أن يفعله المستعمر الغريب البعيد، وظلت الجزائر -منذ أن تحررت من الاستعمار الأجنبي- ظلت إلى يوم الناس هذا محكومة بغير الإسلام، محكومة بقانون هو القانون الفرنسي، وبأخلاقيات هي أخلاقيات فرنسية وتقاليد فرنسية، محكومة بروح فرنسية، وإن كانت بأسماء عربية. وهذا يؤكد لك القضية التي تكلمنا عنها في المحاضرة، ويا ليتنا نعيها، وهي: قضية تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض، فالأرض تحررت، لكن تحررت من كفر فرنسي، لتقع في براثن كفر عربي. ولذلك يسأل الأخ هل ما يقع في الجزائر بداية لتحرير الأرض؟ أقول: لعله بداية لتحرير الإنسان، لأن تحرير الإنسان قبل تحرير الأرض، وليست المشكلة عندنا في السلاح، ثقوا بهذا، ولا في عدد وعدة ولا في مال، القضية الأساسية عندنا غياب الإنسان، لأن الإنسان إذا وجد استطاع أن يحصل على المال وعلى السلاح، وعلى أسرار التصنيع وعلى أشياء كثيرة. لكن في غياب الإنسان، قد تتاح له ملايين الفرص ويضيعها؛ لأنه لا يهمه أن تتقدم البلاد، ولا يهمه أن تكون البلاد تحتوي على أسلحة تقاوم العدو، ولا يهمه التصنيع، إلا مصالحه الذاتية أو الشخصية، فهو عبد لذاته أو شخصه، أو عبد للطاغوت أو ما أشبه ذلك، فهو لا يبالي بشيء. فأقول: لعل ما يحدث في الجزائر، هو بداية لتحرير الإنسان ومن ثم تحرير الأرض، وهذا يؤكد أيضاً جانباً آخر، وهو: أن تحرير الإنسان هو المهم، فإذا نجحنا فتحرير الإنسان، خابت كل جهود الأعداء في تغيير عقلية الأمة نؤكد أيضاً قضية ثالثة، وهي: أن تحرير الإنسان أقل تكلفة من تحرير الأرض، في تحرير الأرض كان الضحايا مليون، ومع ذلك تحررت لتقع في كفر عربي، لكن تحرير الإنسان قد تكون تضحياته أقل بكثير، ولهذا الاتجاه لتغيير عقول الناس، وتغيير قلوبهم تغيير ولآئتهم، وقناعاتهم، وربطهم بالدين، ولاءً وحباً وبغضاً، وفعلاً وتركاً وأخذاً وعطاءً. إذاً ربطهم بالدين قضية أساسية، ولذلك إذا أتينا نلاحظ أن المجتمع يتغير، وأصبح يعي ويدرك، وأحاديث الناس في مجالسهم تغيرت، وعقول الناس تغيرت، وتحليلهم للأحداث تغير، معناه: أننا نسير في الطريق الصحيح، لكن إذا كان الإنسان تجره إلى الأمام فيتراجع إلى الوراء، فيجب أن تثق أنه ينبغي أن نظل ندور حول قضية وهي قضية تحرير الإنسان من العبودية لغير الله. الذي حصل في الجزائر بلا شك له عدة مؤشرات وعدة دلالات، أهمها: أن هذه الأمة كما قال السائل: لا ترضى بالإسلام بديلاً، وأن هذه نتائج تجارب طويلة مع الشيوعية ومع الديمقراطية ومع الرأسمالية، ومع شعارات كثيرة جداً، وفي النهاية فإن الأمة قالت كلمتها، بأن أعطت الجبهة الإسلامية أصواتاً ساحقة، وتخلت عن الجبهة الحاكمة، التي لم تحصل إلا على ستة عشر صوتاً أو أقل من ذلك. الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، ما هو تاريخها؟ ما هي عطاءاتها للأمة الجزائرية؟ نكاد أن نقول: إن تاريخها جديد وعطاءها جديد، وأسماؤهم، كـ عباس مدني، وعلي بلحاج وبقية الأسماء -ربما نحن لأول مرة نسمعهم منذ سنة أو سنتين، إذاً على رغم أنها حديثة عهد، وتاريخها جديد، وربما ما لم تقم على أقدامها بعد، مع ذلك الأمة أعطتها هذه الثقة الكبيرة. هذا في الواقع ليس سهلاً، هذا يؤكد لك، أن الأمة متعطشة إلى صوت الحق، متعطشة إلى كلمة الإسلام، تريد راية الدين، وتريد راية الإسلام، ويحال بينها وبين هذه الراية بوسائل شتى، ليس فقط بوسيلة القوة والسلاح والعسكر، لا، هذه إحدى الوسائل، لكن يحال بينهم وبينها، أحياناً بالتضليل، أي: بتصوير الدعاة وطلبة العلم والعلماء، وأهل الدين وأهل الإسلام بصورة تحول بينهم، وتوجد حاجزاً نفسياً بينهم وبين الأمة، ولو عرفت الأمة الدعاة والعلماء على حقيقتهم؛ لأعطتهم أكبر من ذلك، ومنحتهم ولاءً أعظم. ولذلك يجب أن ينزل الدعاة إلى الميدان والساحة، ويتعرفوا على الناس ويعرفوا الناس بأنفسهم، ويحلوا مشاكل الناس ويساعدوهم؛ لأن هذا جزء من الدين، ولا يجوز أبداً أن نسمح لعلماني أو زنديق أو كافر أن يصورنا للناس بصورة أخرى، فيكون المسلم المصلي القائم الراكع الساجد ربما يكره أحد الدعاة؛ لأنه لا يعرف حقيقة ما يدعو إليه، أو صور إليه بصورة غير حقيقية، فالأمة إذا عرفت الدعاة، لا يمكن أن ترضى بهم بديلاً، ولا يمكن أن تعطي صوتها لغيرهم. لكن في المقابل أيضاً: هل نعتبر أن ما حصل للجزائر نصر مطلق؟ هذا السؤال كبير، لأني لاحظت أن الكثير من أحكامنا متسرعة، فمثلاً: لما سجن مدني وبلحاج، قال الكثيرون: هذا النتيجة، انظر كيف آل الأمر وبدءوا يحللون. ولكن هل السجن هزيمة؟ هل تعتبر هذه نهاية المطاف؟ معلوم أنه يجب أن تدرس الأعمال، وهل هي خطأ أم صواب؟ هذا لا إشكال فيه، لكن تدرس الأعمال بروح بعيدة وبنظرة بعيدة، ولا ندرسها من خلال تصرف أو عمل جزئي بسيط، فمثلاً أنا أقول: مجرد سجن بلحاج أو عباس مدني ليس هزيمة، بل العكس قد يكون نصراً، وانتصارهم في الانتخابات نستطيع أن نقول: إنه ليس نصراً مطلقاً، بل قد يكون هزيمة لماذا؟ لأنه إذا استطاع أهل جبهة الإنقاذ في الجزائر، أن يكونوا عند ظن الأمة، وأن يكونوا أهلاً للثقة، ويتحملوا المسؤولية بجد، ويضحوا في سبيل رفاهية الناس فلا تنس هذا الجانب، فهو جانب ترفيه الناس حتى في أمور دنياهم، لأن الإنسان لا يتوصل إلى الحق أحياناً، إلا بكثير من أمور الدنيا المباحة، فالناس بحاجة إلى من يثبت، أنه حتى في أمور دنياهم، فالإسلام في أمور دنياهم هو خير لهم من الآخرين، فإذا كانوا على مستوى الثقة، وكسبوا ثقة الأمة، ونجحوا ليس في الانتخابات فقط بل في إدارة ما يوكل إليهم من أعمال، وكسب مزيد من ثقة الناس، فهذا نجاح أما إذا كانت الأخرى، فهذه هي القاصمة، لأن الناس بعد ذلك إذا انصرفوا عن شيء، قد لا يكادون يقبلون عليه، وكما قيل: إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل ونحن نعرف أن الأمة في يوم من الأيام منحت ثقتها لأحزاب أرضية بعثية، وشخصيات معينة، وطالما صوَّت الناس لـ جمال عبد الناصر من الخليج الثائر إلى المحيط الهادئ، وكلام طويل عريض لبيك عبد الناصر، وانتهى الأمر أن الأمة اكتشفت الأمر، وتخلت عنه وعن قياداته وزعاماته، وماتت بموته الناصرية. وهكذا البعثية والاشتراكية، والشعارات والدعاوى الأخرى والقوميات التي يوم من الأيام صوتت لها الأمة وصفقت لها، لماذا تخلت عنها الأمة؟ لأنها جربتها وفشلت؟ ونحن نقول: الإسلام ليس تجربة، الإسلام دين الله، لكن المسلمين الذين يرفعون راية الإسلام سواء في السودان، أو في الجزائر، أو في مصر، أو في باكستان، أو في أفغانستان، ليس بالضرورة أنهم هم الإسلام، هم فئة تدعو إلى الإسلام، وقد تخطئ في اجتهاداتها وقد تصيب، وبقدر قربها من حقيقة الدين يكون نجاحها، وبقدر بعدها يكون فشلها. ولذلك، فنحن ينبغي أن نملك قوة في التصور، بحيث لا نحكم على الأمور حكماً قصيراً مقتصراً، فإذا رأينا السجن، قلنا: هذا دليل على أنهم تعجلوا -هذا الحكم متعجل-. وبالمقابل إذا رأينا الانتصارات، ورأينا الانتخابات، والمسلم لا يملك نفسه من الفرحة، ونحن والله تمتلئ قلوبنا فرحاً، ويكفيك أنه -كما أفاد الأخ قبل قليل- يقول: تعرب إسرائيل عن قلقها من انتصار الإسلاميين في الجزائر وهذا أمر يؤذي أعداء الله من اليهود والنصارى ويزعجهم، ويزعج فرنسا ويزعج غيرها، فكيف لا يسرنا؟ لو قال إنسان: أخرج بهذه الانتصارات فما عليه إلا أن يتخلى عن حقيقة ولائه للإسلام أما نحن فكلنا نعلن فرحنا. لكن مع الفرح يجب أن يكون هناك دعاء حار كما أشار إليه أحد الإخوة، دعاء حار أن الله تعالى يوفقهم لأرشد أمرهم، ويأخذ بأيديهم إلى ما يكون فيه مصلحة الأمة، بحيث يكونون نموذجاً حياً للإسلام الصحيح، الذي ندعو إليه ونتطلع إليه، وأن يكونوا قدوة للشعوب الأخرى المجاورة، بحيث يرون فعلاً أن الإسلام حل أزماتهم الاقتصادية، وحل أزماتهم السياسية، وحل أزماتهم الاجتماعية، وساهم مساهمة كبيرة، في تحقيق الرفاهية لهم في دنياهم، وفي تحقيق دينهم على ما يحبون وعلى ما يصبون إليه. هذا تعليق خفيف، ولذلك نقول: الدعاة أقل ما يجب لهم، ليس في الجزائر فقط الجزء: 182 ¦ الصفحة: 2 بيان الشيخ ابن باز دفاع عن الدعاة السؤال سمعنا أن بعض الناس انتقد بكثرة، بأن كلام الشيخ ابن باز رد على الشيخ العبيكان، فنريد توضيح ذلك ليكون الناس على علم بالرد؟ الجواب يا أخي! الخطاب الذي قرأته عليكم نحن اقترحنا على الشيخ عبد العزيز إخراجه منذ ثلاثة أشهر، وكان مقتنعاً بإخراجه، لكن كثرة مشاغل الشيخ حالت دون ذلك، وكلمناه في هذا مرة أخرى، واقتنع الشيخ قبل أسبوع في تاريخ (17) ونشره. ولهجة الخطاب واضحة، ولذلك أنا تعمدت قراءته في المحاضرة، وأنا أحمل كل واحد منكم مسئولية ذلك، سواءً كان خطيباً أو مدرساً أو حتى إنساناً عادياً، أن يقوم بدور التوعية؛ لأن الشيء الوحيد الذي جعل الناس يظنون هذا الظن هو أن أجهزة الإعلام نشرت الخطاب والناس يسيئون الظن بها، فقالوا: ما أعلنته أجهزة الإعلام وتحمست له، إلا أن فيه شيء. والواقع أني على علم به، منذ أن كان هذا الخطاب فكرة ومشروع، وكيفية صياغته، وتوقيع الشيخ عليه، وما يتعلق به وأبعاده والخطاب واضح أنه يتكلم عن أناس ينالون من الدعاة، في أشرطة وفي مجالس خاصة وفي بعض الأمور، فالمقصود بهذا الخطاب بعض المرجفين في المدينة، ممن يتكلمون في أعراض الدعاة وينالون منهم، وقد سميت لكم في المحاضرة بعضهم فالقضية هكذا، الشيء الوحيد الذي أوجب الشبهة عند الناس هو توقيت الخطاب أولاً، وتصدي أجهزة الإعلام وحفاوتها به. والحل هو: إذا اهتمت به أجهزة الإعلام يوماً أو يومين، فأنتم اهتموا به اهتماماً متواصلاً، ولذلك أيضاً كنت متحمساً لأن ينشر الخطاب في المحاضرة، ويوزع على الناس، ونتحمس له أكثر مما يتحمسون هم له، وإذا كان حماسهم مؤقتاً فحماسنا دائم، ونتكلم عنه في الخطب ونوزعه، ويتكلم عنه الأساتذة في الفصول، ويتكلم عنه الدعاة في المجالس، ويتكلم عنه المحاضرون في محاضراتهم، بل هناك محاولات أن يطبع البيان بعشرات الألوف، ويوزع على نطاق واسع؛ ليعرف الناس أن هذا الخطاب دفاع عن أعراض الدعاة. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 3 الوضع في أفغانستان السؤال هل تتوقعون تغير مجرى الحياة في أفغانستان -بسبب تفكك اتجاه السوفيت- إلى الأحسن؟ الجواب هذا السؤال محرج، وضع، ومستقبل أفغانستان، حقيقة هو مستقبل قاتم؛ لأنه في الماضي كنا نقول: الروس، الروس الآن انشغلوا بأنفسهم عن غيرهم، لم يقع في أفغانستان حتى الآن شيء جديد يذكر، والحقيقة نتمنى أن تكون الأوضاع جيدة وحسنة، لكن لعلي أشرت خلال المحاضرة، إلى بعض السلبيات التي تتميز بها أعمال المسلمين، ليس في أفغانستان فقط، بل في أماكن كثيرة. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 4 التثبت عند سماع الأخبار السؤال هلا علقتم -ولو يسيراً- على استغلال بعض المنافقين، لمثل خطاب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، في ضبط الأعصاب والتريث من قبل الجميع عند سماع الأخبار حتى تتبين حقائقها؟ الجواب نعم، ضبط الأعصاب واجب، والتثبت مطلوب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6] وأجهزة الإعلام فاسقة، فإن جاءتكم بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، وكثيراً ما شوهت أجهزة الإعلام -العالمية والعربية- صور الدعاة، وعلى سبيل المثال في الجزائر، وهي موضوع حديث قبل قليل في الجزائر كانوا يتكلمون عن أنهم يريدون قلب نظام الحكم، والأشياء التي صوروها ليقلبوا نظام الحكم، هي عبارة عن سكاكين صغيرة، ومقصات أظافر، هذه يقلب بها نظام الحكم، في بلد يقال: إنه يسعى للحصول على التسليح النووي! هذه من العجائب، فالتثبت مطلوب خاصة فيما يتعلق بالعلماء. وأقول كلمة حق أرجو بها القربى إلى الله: يعني بالنسبة لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله، فهو إمام الزمان من غير منازع، وله من الفضل والمكانة، والصدق والإخلاص، الشيء الكثير، ولا أبالغ إن قلت: لا يكاد يوجد أحد في عيار هذا الرجل، في عالمنا الإسلامي فيما أعلم -والله تعالى أعلم- على الأقل فيمن لقيت، فالرجل له جلالة ومهابة، وفضل وورع، وتقوى وإخلاص وصدق، وتقرب من الله، وعبادة وزهد ونسك، وتواضع وصبر وتحمل، ووالله إنك إذا قرنته بغيره، تعجب أشد العجب مما أعطاه الله هذا الرجل. كم يأتيه من المشكلات والأسئلة والأمور، والناس يردون عليه من كل مكان، فلا ترتفع نبرة صوته ولا ينفعل، تأتيه أنت وكأنك أول من تأتيه، فتغلظ له في القول، وتشتد وتتكلم، وربما بعض الناس يوبخ توبيخاً، ويرفع صوته، والشيخ يطأطئ رأسه ويستمع، وإذا رفع رأسه توقعت أنه سوف يعاتب أو يلوم، فتجده يقول: لا تغفلوا عنا، اكتبوا لنا وبلغونا وأخبرونا، ولا تنسوا نحن ننسى وننشغل، وكذا وكذا، تجده دائماً وأبداً يطالب الناس بالمزيد. والله هذا الرجل رباني، أقول: إن هذا الرجل رباني، ليس ملكاً، هو بشر من طبيعته أن يخطئ، لكنه مجتهد وعالم جليل، أسأل الله تعالى أن يمتع بعمره، والله محبة هذا الرجل قربى إلى الله، ومدحه قربى إلى الله، واكتحال العين برؤيته فضل. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 5 الجهاد في فلسطين السؤال ما حكم من معهم حق الإقامة في فلسطين، من المسلمين، الذين يستطيعون أن يؤدوا الجهاد؟ وما حكم أن أكون زائراً مقيماً في غير فلسطين للعمل في الدول المجاورة، هل أعتبر من المنافقين، أو من الذين يتقاعسون عن الجهاد؟ الجواب هل في فلسطين جهاد الآن؟ جاهدوا لتحرير الإنسان، وتحرير الإنسان من رق العبودية للمال، والعبودية للدنيا والعبودية للطواغيت، والخوف من غير الله، والجبن والهلع الذي قتل قلوب الناس، والوهن الذي يسيطر على حياتهم، وتربيتهم تربية إسلامية، وتعليمهم رفع رءوسهم. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 6 فضح الذين يتكلمون في الدعاة السؤال لماذا لا يتم كشف وفضح الأشخاص الذين يتكلمون عن العلماء والدعاة، ما دام أنهم على باطل؟ الجواب يكفيك ما سود الله به وجوههم، من خلال خطاب الشيخ عبد العزيز. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 7 أرض المسلمين وبلادهم واحدة السؤال ألا ترى أن تحرير هذا الإنسان ينطلق من هذا البلد، بلد العقيدة الصحيحة، بعد أن يتحرر المحرر مما يعيشه من تناقضات صارخة، حتى في صميم العقيدة، تحت مرأى ومسمع خير أمة أخرجت للناس؛ لنبدأ بأنفسنا قبل أن نتكلم عما يحدث حولنا؟ الجواب نحن في الواقع إذا تكلمنا، لا نتكلم عما يحدث حولنا، ولا نعتبر أن ما يجري في بلاد الإسلام يحدث حولنا، لا، نحن نعتبر أننا جسد واحد، وأن ما يقع في أقصى بلاد الإسلام، فهو يقع فينا ولنا، وما يقع فينا فإنه يقع في أقصى بلاد الإسلام، وإذا تكلمنا، فإننا نتكلم هنا كما نتكلم هناك، بل ليس هنا وهناك، فأرض الإسلام واحدة: أنا عالمي ليس لي أرض أسميها بلادي وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي ولست أبغي سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان وحيث ما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بالرقمتين ولالفسطاط جيراني ولي بطيبة أوطار مجنحة تسمو بروحي فوق العالم الفاني فليس هناك هنا وهنا، وما حولكم وأنتم، لا، نحن نعتبر بلاد الإسلام واحدة، وإذا تكلمنا نتكلم عن الجميع، وأنا أعتقد أن الداء واحد، قد يضطر الإنسان أن يضرب أمثلة بعيدة، لكن الحقيقة أن الداء واحد. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 8 خطر موالاة الكفار السؤال ما رأيك فيما يحدث عند بعض الناس، الذين يوالون ويحبون الكفار، وخاصة إذا كانوا يبغضون ويكرهون إخوانهم المسلمين بعد هذه الأزمة؟ الجواب هذه من الإفرازات المطلوبة للنظام الدولي الجديد، ولعلنا نعتقد في أنفسنا -على سبيل حسن الظن والتفاؤل إن شاء الله- أن هذه الأشياء ستكون مؤقتة وأن المسلم سيعي ويدرك، أنه ليس له بعد الله تعالى إلا أخوه المسلم، فأخوك المسلم الذي هو على دينك، هو أقرب الناس إليك. وتصورك أن الغربي الكافر أو اليهودي، أقرب إليك من الأردني أو من اليمني أو من الفلسطيني، هذه في الواقع جريمة لا تغتفر، ذنب عظيم، لأن معناه أنك ألغيت رابطة الإسلام التي تربطك بهؤلاء وألغيت علاقة العداء الذي هو مقتضى الكفر، الذي قام بها هؤلاء من النصارى واليهود وغيرهم. فهذا في الواقع يدل على خلل عظيم في الاعتقاد، وخلل في القلب، وطبعاً أجهزة الإعلام أحياناً تساهم في هذا، بل مجالسنا تساهم في هذا، فنحن كثيراً ما نتكلم عن بعض التجاوزات وبعض الأخطاء ونبالغ فيها ونغرق، وكل واحد يأتي بقصة وكل واحد يأتي بمثال، وتجد أن من أسهل الأمور، أن بعض المسلمين يقولون: هؤلاء شر من اليهود، كما قلت لكم في المحاضرة، حتى -أحياناً- يقال هذا الكلام، كيف هذا؟ ما نخاف من الله تعالى، هل جربت اليهود؟ وكيف يكون حكمهم وظلمهم وبطشهم؟! الجزء: 182 ¦ الصفحة: 9 قصيدة: لكل شيء إذا ما تم نقصان السؤال إني معجب بقصيدة: لكل شيء إذا ما تم نقصان، فأرجو أن تقرأ بعضها؛ لأن فيها معان ومشاعر حزينة؟ الجواب سوف أقرأ بعض أبيات هذه القصيدة، أو ما أحفظ منها؛ يقول: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هي الأمور كما شاهدتها دول من سره زمن ساءته أزمان وهذه الدار لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان فاسأل بلنسية ما شأن مرسية أين شاطبة أم أين جيان وأين حمص وما تحويه من نزه نهرها العذب فياض وملآن وأين قرطبة دار العلوم فكم من عالم قد سما فيها له شان تبكي الحنيفية السمحاء من أسف ما بكى لفراق الإلف هيمان على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران حتى المآذن تبكي وهي جامدة حتى المنابر تبكي وهي عيدان حتى المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان يا راكبين جياد الخيل ضامرة كأنها في مجال السبق عقبان هل عندكم خبر من أرض أندلس فقد جرى بحديث القوم ركبان ولو رأيت بكاهم عند بيعهم لهالك الوجد واستهوتك أحزان يا رب أم وطفل حيل بينهما كما تفرق أرواح وأبدان إلى آخر القصيدة، أما قول الأخ: بأنها ذات معان ومشاعر حزينة فما أدري ماذا نستفيد من الحزن؟! يا أخي، نحن لسنا نحتاج إلى الحزن، فنحن نحتاج إلى مشاعر الأمل، ونحتاج إلى مشاعر الطموح، ونحتاج إلى مشاعر الثقة، وإلى قلوب مليئة بحب الله تعالى والإيمان به والتوكل عليه، مشاعر الحزن والإحباط واليأس، هذه لا تجرنا إلا إلى مصائب لا تنتهي. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 10 الثناء على الأعمال الصالحة السؤال لماذا لا تثني على بعض الأعمال الصالحة، هلَّا وضحت ذلك جزاك الله خيراً؟ الجواب المسلم أعماله الصالحة ما تحتاج إلى الثناء، فالأصل عنده الصلاح، ثم إن الثناء ما أعتقد أن الإنسان يحتاجه، بقدر ما يحتاج إلى تنبيهه إلى الأمور العظام الخطيرة التي يقع فيها، أما اليوم فالثناء هو الأصل، وهناك أجهزة كبيرة مخصصة للثناء، ليست لها مهمة إلا المدح والإطراء، وهذه قد جعلت الكثيرين لا يتقبلون النقد ولا يفرحون به ولا يحتملونه؛ لأنهم تعودوا ألاَّ يسمعوا إلا المديح أو الثناء، فلا يجوز أن نشارك في هذا الإثم. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 11 حال المسلمين في السوفيت السؤال لماذا كانت إسرائيل ضد استقلال الجمهوريات السوفيتية؟ وهل المسلمون هناك على العقيدة الصحيحة؟ الجواب أما لماذا كانت ضدها، فأعتقد أن هذا لا يحتاج إلى بيان. أما: هل هم على العقيدة الصحيحة؟ فمنهم أهل السنة ومنهم شيعة، وأعتقد أن السنة يغلب عليهم طابع التصوف، وهي ما زالت جمهوريات خرجت من شدق الأسد، فمن المبكر أن تسأل: هل هي سليمة أم مريضة. لكن السؤال الذي يجب أن يطرح نفسه: أنا وأنت من أصحاب العقيدة الصحيحة ونرجو أن نكون منهم ماذا فعلنا؟ فيا أخي من أين تأتيهم العقيدة الصحيحة؟ تنزل عليهم من السماء! دول عاشت التكفير والتهجير والتضليل والتبديع، بكل صوره وأشكاله، فأنا لا أتوقع إلا القليل النادر نجا من ذلك، لكن يبقى دورنا، وللأسف الشديد أن إيران الآن، أصبحت تقدم نفسها على أنها قيادة للعالم الإسلامي مع الأسف، وهي دولة الرفض. الآن تفكر إيران في إقامة سكة حديد تربط إيران بالجمهوريات الإسلامية السوفيتية، وقد أخذت أذربيجان في التعاون معها، تعاوناً اقتصادياً وثقافياً وعلمياً وتعليمياً وصناعياً وغير ذلك، وأحضرتها إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، وعندها خطط بعيدة المدى، وأعلنت أنها سوف تقف إلى صف المسلمين في الاتحاد السوفيتي، ليس هناك قوة أخرى قالت مثل هذا الكلام. وهذا بالواقع يهدد بتحولهم إلى رافضة؛ لأنهم لا يعرفون التمييز بين السني والرافضي إلا في القليل النادر، أما الأغلبية فهم يفهمون أنه مسلم فقط. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 12 بعض الجرائد الفاسدة السؤال آمل إلقاء الضوء على جريدة صوت الكويت. الجواب يا أخي جريدة صوت الكويت، وبعض الجرائد، أصبحت في الحقيقة تحاربنا في ديننا، مثل جريدة السياسة، والصباحية، والرياضية، من الذي يشتري هذه الجرائد؟ والله لقد بلغني معلومات عن جريدة الرياضية مذهلة جداً، يقول: أحياناً بالحجز من البقالات، يحجز قبل أن تأتي لعدد الغد وبعد الغد، وعناية غريبة، من الذي يشتريها؟ أنا وأنت يا أخي!! هذا والله حرام أن نشتري أحياناً الكلام الذي أقل ما فيه، أنه بذاءة وقلة أدب، تغيير لعقول شبابنا وبناتنا، ومسخ لأخلاقنا، وحرب على ديننا، واستهزاء بدعاتنا وسخرية بهم. كيف تشترون هذا بأموالكم؟! بل كيف تسمحون للمسلم أن يشتريها؟! أنا أنادي وأطالب، بأن يكون هناك حملة لا تهدأ أبداً على هذه الصحف، وبالذات التي ذكرت أسماءها، للمطالبة بالتوقف عن شرائها، حتى الشخص الطيب لا يشتريها ليطلع الناس عليها، يمكن يشترى عدداً واحداً ويصور، ويوصل إلى العلماء والمشايخ في كل مكان، أما يشترى عددين، لا، لندع هذه الجرائد تبقى في بقالاتها وفي أماكنها، وتكون رجيعاً لشركات التوزيع، ويبلغ القائمون عليها بأن يخفضوا نسبة المطبوع منها، حتى يعرفوا أنهم قد حاربوا المسلمين في أعز ما يملكون، وأنه لم يبق عند المسلمين شيء، بأن يشتروا الكفر أو النفاق أو الفسق بأموالهم، ليعطوها أولادهم وبناتهم. أين مواقفنا يا إخوان؟ يا أخي! الهنود لما قاوموا وقاطعوا بعض البضائع الأجنبية، حققوا أشياء كثيرة، ونحن الآن أصحاب دين، وأصحاب عقيدة، وعندنا -ولله الحمد- مناسبات ومشايخ وعلماء، وإمكانيات كثيرة ووعي، ومع ذلك لمّا تمر بالبقالة تجد كثيراً من الناس، أصحاب خير كثير وظاهرهم الصلاح، ومع ذلك يشترون هذه المجلات يا أخي! لا يصلح هذا أبداً، ولا يكفينا منك أيضاً مقاطعتها، يجب مع مقاطعتها أن تطالب الناس بمقاطعتها، وتوعي الناس وتكون لبنة في هذا البناء، ولو أن هذه الصحف كسدت، بسبب أننا شنينا حملة وقاطعناها؛ لتأدب غيرها وعرف الجميع الكلام الذي ينبغي أن يقال. لكن لما رأوا أن نسبة الشراء قد زادت، بسبب أنهم يعتبرون أن هذا نوع من الإثارة الصحفية والاستفزاز، فهذا يشتري ليرد، وهذا يشتري لينظر وهذا كذا، لما زادت النسبة أغراهم ذلك لمزيد من الهجوم على الإسلام والمسلمين والدعاة. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 13 تفرق العالم الإسلامي السؤال هل كان العالم الإسلامي في عهد الغزو الصليبي متفرقاً كما هو اليوم في عصرنا الحاضر؟ الجواب نعم كان متفرقا، لكن ليس كما هو الحال بالنسبة للعصر الحاضر، كان هناك دول كبرى، تحكم رقعة واسعة من بلاد المسلمين. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 14 المسلمون لم يستفيدوا من سقوط الإتحاد السوفيتي السؤال هل سقوط الاتحاد السوفيتي وقيام روسيا، من صالح المسلمين أم لا؟ الجواب أعتقدُ أن الإنسان الميت أو المريض، استفادته قليلة من الفرص -كما ذكرت في المحاضرة- فقد سقط الاتحاد السوفيتي وقامت دول الكومنولث، ومن ضمنها دول إسلامية، أو جمهوريات إسلامية غالبية سكانها مسلمين، وبعضها غالبية سكانها من أهل السنة أيضاً، ومع ذلك لم تجد دولة إسلامية استفادت بشكل صحيح. وقد ذكرت لكم عن إسرائيل كيف استفادت، وذكرت عن إيران كيف استفادت، أما العالم الإسلامي فلا يزال يغط في نوم عميق. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 15 الشورى في الإسلام السؤال ما هو شكل الشورى في الإسلام؟ الجواب الشورى في الإسلام مبدأ من مبادئ الحكم، لا يقوم الحكم إلا به، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيح. فالمشاورة تكون لأصحاب العقول الناضجة، وممن يملكون تخصصاً، ويملكون وعياً وديناً، فيستشارون فيما يخصهم، أما النمط فلا أعلم أن الإسلام أمر أو ألزم بنمط أو صورة معينة، بل كل ما يضمن وجود الشورى، وأخذ رأي الناس فيما يخصهم ويتعلق بأمورهم، فإنه يمكن أن يؤدي إلى تحقيق المصالح المرجوة من وراء الشورى، وهناك كتب متخصصة فيما يسمى بالأحكام السلطانية، يمكن مراجعتها. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 16 تركيز الناس على الدعاة السؤال لماذا الدعاة بصفة خاصة، والملتزمون بصفة عامة، تحت المجهر من الناس؟ الجواب هم تحت المجهر لأسباب: لعل هناك سبب إيجابي: وهو أن الناس لا يزالون يثقون بهم، فيعتبرونهم مثل الثوب الأبيض، كلما وقع فيه ولو شيئاً يسيراً، فإنه يغير جماله ويخدش حسنه، وهذا من جانب إيجابي. لكن من جهة أخرى هناك أيدٍ خفية وأصوات مبحوحة، تحاول أن تزعزع ثقة الناس بالدعاة، فتشير هذه الأصابع إلى غلط يحدث هنا وخطأ يحدث هناك، في محاولة تعميم الخطأ على الدعاة في كل مكان والمفروض علينا أمور: الأمر الأول: أن ندافع عن أعراض الدعاة، بقدر ما نستطيع بالكلام، لكن هذا لا يكفي؛ لأن الكلام بضاعته مزجاة أحياناً، مجرد كلام. الأمر الثاني: وهو الأهم، أن نكون نحن دائماً وأبداً وسيلة إيضاح، في مجالسنا وأحاديثنا وفصولنا، ومقار عملنا وبيوتنا وحاراتنا وسفرنا وإقامتنا، نحرص على أن نكون نموذجاً أعلى لأخلاقيات الإسلام، فالبسمة لا تغادر وجوهنا، ونعطف على الناس، ونحن عليهم ونلاطفهم، ونتحدث معهم بأدب، ونناقشهم، ونحاول قدر المستطاع، وأن نعطي صورة إيجابية ناضجة ونظيفة للداعية المسلم، بحيث أنه يوجد من الناس -بلا شك- من هجومه على بعض الدعاة من نتيجة جهل، أو نتيجة تضليل، فمثل هذا نستطيع أن ننقذه بأخلاقياتنا. وكم من الناس من أصبح يحب الدعاة ويثني عليهم؛ لأنه وجد فلاناً أو عاشر علاناً فارتاح له وسُرَّ به، فأصبح يًغيِّر الصورة كلها عن الدعاة، بسبب فلان وفلان، كفى كلاماً أيها الإخوة، لا أقول كفى، نريد المزيد من الكلام في الدفاع عن الدعاة، لكن نريد قبله وبعده أن نكون نحن نماذج حية، للأخلاقيات التي ندعو نحن إليها. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 17 الدفاع عن أعراض المسلمين السؤال ما هو واجب الشاب إذا رأى من يأكل لحوم العلماء؟ هل يجامل ويسكت أو ينكر؟ الجواب ينبغي أن ينكر بالكلمة الطيبة، ويدافع عن أعراض العلماء بقدر ما يستطيع، وفي الحديث الصحيح: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة} . الجزء: 182 ¦ الصفحة: 18 صحف مفيدة للقراءة السؤال ما هي الصحف الموثوقة للقراءة؟ الجواب الآن صدرت مجلة المجتمع من جديد، ومجلة الإصلاح، ومجلة الفرقان، وهناك مجلة البيان هذه لا بأس بها، كلها مجلات إسلامية، وإن كان الإنسان ينبغي أن يقرأ بعقل، ليس المقصود أن هذه مجلة إسلامية، إذاً يلغي عقله ويسلم، لا، لابد أن يكون له رأيه واجتهاده. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 19 دخول المسلمين في الانتخابات السؤال يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما كان في بدايته، رفض عروض الملك من المشركين، فلم يقبل، ويقول: إذا حكمت فسوف أصلح الناس. ألا يقاس ذلك على دخول الأحزاب الإسلامية، في الانتخابات في الدول الإسلامية؟ الجواب الناس في الدول الإسلامية غالبيتهم مسلمون إن شاء الله تعالى، فالقياس مع الفارق. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 20 إطلاق التكفير والتبديع السؤال ما رأيك فيمن يكفر بعض الجماعات الإسلامية ويتهمهم بقول: سمعنا وسمعنا، وقيل وقال؟ الجواب أنصح بتجنب التكفير والتبديع، إلا على بينة ووضوح، وأن يكون هذا للعلماء فقط، وليس كل من تكلم واجتهد يقول: هذا كفر، وهذا شرك وهذا ضلال، اللهم إلا الأمور الواضحة المكشوفة، فهذه يعرفها كل أحد. كما أن كثرة الكلام في المسلمين والدعاة وطلبة العلم، لا ينبغي، بل الأولى بالإنسان إذا رأى خطأً أن يُقِّومه ويوضحه ويدعو إلى تصحيحه، وإذا رأى صواباً أن يثني عليه، وأن يشتغل بالدعوة إلى الله، وإن رأيت على قوم خطأ فانصحهم، ولا مانع أن تذهب معهم وتعدل خطأهم إن أمكن. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 21 التبرع من أجل مستشفى السؤال سمعت أنه سوف يقام مستشفى خاص للنساء تحت يد بعض جمعيات البر، أرجو أن يحث على هذا العمل والتبرع له؟ الجواب هذا العمل جليل وجليل، وينبغي أن نكون كلنا أيد تدعم هذا المشروع متى ما أُعْلِنَ عنه في أي مكان، ولا يكفي أن يكون دورنا مقصور على الشكوى وأنه حصل في المستشفى كذا وكذا، لا يكفي هذا! ينبغي أن ننتقل إلى العمل الإيجابي الجاد والمثمر. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 22 لغات الشعوب ولغة آدم السؤال سؤال يدور في فكري كثيراً وهو أن: الله سبحانه وتعالى منذ خلق آدم، كان يتحدث بلغة معينة، كان يتعامل مع حواء وأولاده بهذه اللغة طيلة حياته، ثم حدث أن تفرق الإخوة في أماكن شتى وانتشرت بعد ذلك اللغات، الآن نحن في عالم يتحدثون فيه البشر أكثر من سبعين لغة من أين أتت هذه اللغات، بالرغم من أن كل لغة تختلف عن الأخرى؟ الجواب أما من أين أتت هذه اللغات؟ فهذه قضية تتعلق بدراسة تاريخ الشعوب وغيرها، أما أصل اللغة التي كان يتكلم فيها آدم، فقد ذكر أن آدم كان يتكلم اللغة العربية، وقد قرأت بحثاً لإحدى الأخوات بحث لطيف قرأته مخطوطاً ولم أره مطبوعاً، ذكرت فيه حشداً من الأدلة، على أن لغة آدم كانت اللغة العربية، وبعض هذه الأدلة لطيفة، وبعضها فيها تكلف. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 23 من هو الصحابي الجليل: الأرقم بن أبي الأرقم السؤال نحن نعلم جميعاً أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه في بداية نشر الدعوة، كانوا يجتمعون سراً في بيت الأرقم، هذا كل ما نعلم عن الأرقم بن أبي الأرقم، نريد أن نعرف مزيداً عن هذه الشخصية وإذا كانت شخصيته حقيقية لماذا لم يتحدث عنه الإسلام؟ مثلاً عن إسلامه وحياته الإسلامية، ومن أي عائلة ينسب، وخصوصاً أنها تعتبر شخصية من أقوى الشخصيات؟ الجواب أنا أريد أن أسألك سؤالاً في المقابل، هل رجعت إلى كتاب الإصابة لـ ابن حجر، أو الاستيعاب، أو أسد الغابة؟ المؤكد أنك لم ترجع، لأنك لو رجعت إلى حرف الهمزة؛ لوجدت اسم الأرقم من أول ما يواجهك في هذا الحرف، وقد ذكروا بلاده ووفاته وتاريخه، وله بعض المرويات عن الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 24 ضعف المسلمين هو انتصار للأعداء السؤال لا يوجد تحرك إسلامي صحيح لاستغلال الأوضاع الراهنة المستجدة، على مستوى الدول، فما هي رؤيتكم للتحرك في مجابهة الباطل على مستوى الأفراد؟ الجواب الأعداء والخصوم والمنافقون، دائماً يحاولون أن يستغلوا كل فرصة، فهم جاهزون لكل شيء، وبقدر قوة أهل الحق أو ضعفهم يكون انتصار أولئك، فأولئك انتصارهم ليس لذاتهم، بل لضعف المقابل، ولعل أقرب مثال: مسألة تحريف الكلم عن مواضعه، فإذا صدر بيان ونجح أهل الحق في الإشادة به والثناء عليه وشرحه ونشره، سكت الآخرون؛ لأنهم عرفوا أن الحق وجد أهله، فتبنوه ودعوا إليه، وعرفوا أنهم لو نشروا أو ساهموا في نشره، معنى ذلك أنهم ساهموا في نشر الحق، والعكس بالعكس. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 25 استحباب الطيب السؤال سمعنا أنك تقول: لا مانع لو أنفق الإنسان نصف ماله للطيب، فهل هذا صحيح أم لا؟ وهل أنت قلت هذا أم لا؟ الجواب نسأل الله أن يرزقنا التقوى، أما الطيب فهو شيء جيد وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {حبب إليَّ من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة} فكان يحب الطيب، قالت عائشة: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأطيب الطيب} أما قوله: إني قلت: لو أنفق نصف ماله في الطيب، فهذا لعلي ما قلته، ولا أذكر أنني قلت هذا. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد. الجزء: 182 ¦ الصفحة: 26 أدب الحوار ذكر الشيخ أن الخلاف أمر طبيعي بين الناس، وبيَّن مسالك الناس في حل الخلاف، وبين أهداف الحوار والمناظرات. كما أن الدرس يحتوي على ذكر قواعد الحوار، وصفات المحاور الجيد. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 1 الكلام لا يكفي في صناعة الحياة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذا الدرس الأربعون من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وهو ينعقد في ليلة الإثنين السابع من ربيع الثاني لعام (1412هـ) . أحبتي الكرام: عنوان هذه الحلقة: (أدب الحوار) وبين يدي أدب الحوار ثمة أوراق متبقية من درس المجلس السابق، يسألني عنها بعض الإخوة، فقد رأوا أنني تركت في آخر الموضوع أشياء أحبوا أن يعرفوها ويطلعوا عليها، وكل ما أود أن أضيفه في الموضوع الكبير السابق -صناعة الحياة- هو أن الإعلام شرقيه وغربيه في كل بلاد الدنيا يسعى إلى تشويه صورة الدعاة إلى الله تعالى بكافة الوسائل والأسباب. وفي مقابل ذلك فإن الدعاة إلى الله تعالى لم يقوموا بجهد يذكر في تعديل هذه الصورة التي رسمها الإعلام، إن مجرد كلامنا -أيها الأحبة- عن الدعاة إلى الله تعالى، أو عن شباب الصحوة لا يكفي، لأننا سنجد من ألد أعداء الأمة ومن ألد أعداء الإسلام، وسنجد من اللصوص الشطار من يتكلمون عن أنفسهم، أو يتكلمون عمن يحبون وعمن يوالون؛ حديثاً ربما يكون أفصح عبارة وأقوى إشارة، من حديثنا نحن عن العلماء، أو عن الدعاة إلى الله تعالى، أو عن شباب الصحوة. إذاً: فمجرد الكلام عن الشباب والدعوة والصحوة لا يكفي، وإن كان هذا مطلوباً، كما أن مجرد انكفائنا على التاريخ، والحديث عن بطولات المسلمين السابقين، وعن عدلهم وعن إنصافهم هو -أيضاً- لا يكفي، وإن كان لا بد منه، فإن الذي ليس له تاريخ ليس له مستقبل، والذي ليس له ماضي ليس له حاضر: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيَّ في الناس انتساباً فالأمة تحتاج إلى أن ترجع دائماً إلى تاريخها، وتستلهم منه الدروس والعبر؛ لكن لا يجوز أبداً أن يكون كل ما نملكه هو الحديث عن التاريخ، والإسراف والمبالغة في ذلك هي من عوامل الاتكاء والاتكال والبعد عن الفاعلية في الواقع، وكما قال أحد الشعراء منتقداً كثرة الحديث عن السابقين، على أننا نخالف أفعالهم وأحوالهم صباح مساء: وغاية الخشونة أن تندبوا قم يا صلاح الدين قم حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة كم مرة في العام توقظونه كم مرة على جدار الحبن تجلدونه أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة دعو صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه لأنه لو قام حقاً بينكم فسوف تقتلونه إذاً: لا يجوز أن يكون كل ارتباطنا بديننا، وكل عملنا لصناعة الحياة، هو أن نتكلم عن التاريخ ونقلب أوراق الماضي، بل لابد من إثبات عملي -بقدر المستطاع- على أن الدعاة إلى الله تعالى هم الجهة التي تفلح في إنقاذ الأمة مما هي فيه، وتصدق في وعدها مع الله عز وجل، وإذا كان أعداء الإسلام قد منوا الناس الأماني، فلما استطاعوا أن يفعلوا ما فعلوا عجزوا عن ذلك؛ فإن الدعاة إلى الله تعالى يجب أن يثبتوا للأمة -حتى وهم لا يملكون شيئاً- أن الواحد منهم يقتطع من قوته ومن قوت زوجه وأولاده ليطعم الجائع، ويكسو العاري، ويسد حاجة المحتاج. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 2 زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت أما فيما يتعلق بصناعة الحياة؛ فقد وقفت في هذا الأسبوع على قصاصة في إحدى صحفنا المحلية، وهي جريدة الرياض، وقد تستغربون ما علاقة هذا الموضوع بصناعة الحياة، وسوف أقرأ عليكم الخبر أولاً، ثم لابد أن سوف يظهر لكم ما علاقته بصناعة الحياة. والخبر قد نشرته جريدة الرياض وليس بين يدي رقم العدد، وإن كنت أقرأ من مصورة الجريدة، يقول العنوان: زعماء الغرب يساوون وزنهم ذهباً في الكويت، فبعد عبد الله جورج وشناشيل بوش الأكثر رواجاً، وتاتشر نجمة سوق الصاغة، يقول الخبر: لا يزال القادة الغربيون يساوون وزنهم ذهباً في الكويت بعد سبعة أشهر من انتصار قوات التحالف الدولي لتحريرها من الاحتلال العراقي. ففي سوق الصاغة بوسط العاصمة أطلق هؤلاء أسماء بوش وبيكر وتاتشر على نماذجهم المفضلة من العقود والأساور دليلاً على الشعبية في بلد ليس فيه استطلاعات رأي، وفي حين غاب الرئيس ميتران عن الواجهات فإن رئيسة الوزراء البريطانية السابقة تاتشر هي النجمة، ويسعى التجار بذلك إلى رد الجميل للتي يعتبرونها أكثر القادة الغربيين صلابة، ويشرح أحدهم: فيقول: لقد وقفت إلى جانبنا فور الغزو العراقي. ورسم تاتشر مزين بخطوط منحنية تتقاطع فوق خلفية من الذهب المفرغ، ويزين رسم الرئيس الأمريكي جورج بوش طوق زواج ضخم من الذهب الخالص، مثقل بالسنشيل يتصدر سائر الواجهات، ويوضح أحد الصاغة أن ثمن العقد ألفان وخمسمائة دينار، أي نحو ثمانية آلاف وخمسمائة دولار. بينما تساوي أحزمة ثقيلة مخصصة لمهور العرائس نحو ثلاثة أضعاف هذا السعر، والبدو -خصوصاً- يطلبون نموذج بوش لأ المفضل لديهم، وعلى باب المحل ملصق كبير للرئيس الأمريكي مبتسماً، أما جون ميجر خليفة المرأة الحديدية، وكذلك المتحدثة باسم البيت الأبيض، ووزير الخارجية الأمريكي لقد كرموا بجواهر أكثر تواضعاً إلى جانب نماذج أسكود -صواريخ أطلقها العراقيون خلال الحرب- وعاصفة الصحراء. وقال صائغ: إن الموضة بدأت بعد تحرير البلاد، والنماذج ستستمر على الأرجح عاماً أو عامين، وداخل المحل تتفحص نسبة من المحجبات المجوهرات، وهن يرقبن الرسوم بعين خبيرة ويجربنها برشاقة، ويباع الذهب في الكويت حالياً، إلى أن يقول: ولا يقتصر هذا التمجيد للقادة الغربيين -وعلى الأخص الرئيس الأمريكي- على سوق الذهب وحده؛ بل هي ظاهرة واسعة الانتشار عمت المجتمع منذ اللحظات الأولى لتحرير الكويت!! بل إن أحد المواطنين الكويتيين لم يتردد في تسمية المولود بعبد الله جورج بوش! وقالت أم الطفل عبد الله جورج بوش وذكر اسم أمه تعليقاً على هذا الاسم لمولودها: سمينا الطفل على اسم الرئيس الأمريكي كبادرة عرفان لتحرير بلادنا. ولقد ضحكتم ولا بد أنكم بكيتم في نفس الوقت: وشر البلية ما يضحك، وكم يؤسفنا ويحزننا أن نقول: إن أعداءنا الكبار عرفوا كيف يصنعون الحياة! عرفوا كيف يصنعونها لأديانهم، ولمذاهبهم، ولمعتقداتهم، ولمصالح بلادهم، فأصبح المسلمون مدينين في أعماق قلوبهم لهؤلاء الكبار؛ وما رسم صورهم أو إطلاق أسمائهم على محلات أو شوارع أو أشخاص؛ إلا تعبير عن هزيمة قلبية داخلية، بحيث أصبحت النماذج المفضلة في نفوس المسلمين، أو طائفة من المسلمين، هي تلك الرموز الوثنية التي لم تكن عملت ما عملت من أجل سواد عيوننا؛ إنما كانت تعتبر هذا جزءاً من صناعة الحياة. لقد صنعوا الحياة حيناً باسم الولايات المتحدة الأمريكية وصنعوها حيناً آخر باسم هيئة الأمم المتحدة، وصنعوها حيناً ثالثاً باسم النظام الدولي الجديد، وهو الستار الجديد المعلن الذي يخفي مطامع الغرب في بلاد الدنيا وخاصة في بلاد المسلمين، وقد صنعوا الحياة حيناً باسم الدفاع عن مصالح الشعوب المستضعفة، وصنعوها أحياناً كثيرة باسم الديمقراطية التي تخفي وراءها دكتاتورية تتدجج بالحديد والنار، لإجبار العالم كله على الخضوع والتسليم والانقياد لمصالح الغرب، وصنعوا الحياة مرة سادسة؛ باسم حماية مصالح اليهود في العالم، وفي الشرق العربي والإسلامي بصفة خاصة. فهذا نموذج من صناعة الحياة، وصحيح أن الصانع كافر، وصحيح أنه متعصب لدينه وملته، وهو يتردد على الكنيسة كلما ألمت به أزمة؛ ولكنه يصنع الحياة، واستطاع أن يغرر بالكثيرين باسم الديمقراطية وباسم النظام الدولي الجديد، وباسم مصالح الشعوب، وباسم تحرير الإنسانية، وباسم نزع السلاح؛ وبكافة الأسماء، فهم قد صنعوا نموذجاً لحياتهم، ومع ذلك -ومع أن هذا يؤذي الكثير من النفوس- إلا أننا نملك نصاً نبوياً يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} . فإذا كان هؤلاء الغربيون الذين ذكر الخبر -في جريدة الرياض السعودية- أسماءهم، قد أصبح لهم من الثقل ما لهم، وأصبحت الصحف تزين بذكر أخبارهم أو صورهم، وأصبح تمجيدهم كما عبرت الجريدة هماً للكثيرين، فإننا نعلم أن هذا نهاية المجد الذي يطلبون ويؤملون، وأنه حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه، والذي أسقط الشيوعية بالأمس سيسقط الرأسمالية اليوم أو غداً أو بعد غد. فأين المسلمون! الذين يمكن أن يقوموا بعمارة الدنيا وخلافتها، بديلاً عن الشرق أو الغرب؟ الجزء: 183 ¦ الصفحة: 3 صناعة الحياة في المنزل أيها الأحبة: لقد وجه إليّ الإخوة كثيراً من الأسئلة في المجلس السابق، ورأيت -أيضاً- أن أعرج عليها في موضوع صناعة الحياة، فأحد الأحبة أعجبتني صياغة سؤاله، فهو يقول: في صناعة الحياة قمت بصناعة البيت بمشيئة الله تعالى، وهو جعل درس للنساء لحفظ القرآن على قسمين: 1- النساء الكبيرات، وأول شيء يحفظنه هو آية الكرسي مع تفسيرها. 2- الأخوات وزوجات إخوتي، والمقرر هو حفظ بعض سورة (ق) ، ثم درس في السيرة، فما رأيكم في ذلك؟ فأقول: هذا الجهد وإن كان في نظر بعض الناس جهد المقل، إلا أنه مساهمة فعالة في صناعة الحياة، وحين نقول: صناعة الحياة أو صياغتها فإننا نطلب من كل إنسان أن يشارك في ذلك ولو بأقل جهد. وليس بالضرورة أن يكون كل واحد منا صانعاً للحياة على مستوى العالم، بل من الممكن أن تبدأ صناعة الحياة على مستوى البيت، أو الفصل الذي تدرس فيه، أو الحي الذي تسكن فيه، أو المسجد الذي تصلي فيه. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 4 المدرس يصنع الحياة كثيرا ً وكذلك هذا الأخ يقول: لاحظت في معظم تلك المحاضرة عدم المرور على المربين والمدرسين وما يهمهم من صناعة الحياة، فأرجو منك أن تتعرض لهذا الموضوع. وأقول: إن المدرس يصنع الحياة كثيراً، وليس غريباً أن الطبيب تتلمذ على يد المدرس، والمهندس تتلمذ على يد المدرس، والداعية والخبير وكل أصناف المختصين تلقوا من المدرس، ولهذا لا غرابة أن يتكلم أحد الشعراء -وهو الشاعر محمود غنيم - راثياً لحال المدرس، ومعبراً عن واقعه ومشاعره، فيقول: حنانيك إني قد بليت بصبيةٍ أروح وأغدو كل يوم عليهمُ صغار نربيهم بملء عقولهم ونبنيهم لكننا نتهدمُ فمن كان يرثي قلبه لمعذب فأجدر شخص بالرثاء المعلمُ على كتفيه يبلغ المجد غيره فما هو إلا للتسلق سُلَّمُ فالمدرس هو الجندي المجهول، وهو المناضل الكبير، والمدرس متى ما كان مخلصاً فهو وريث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -فهم يعلمون الحكمة ويعلمون الناس ويأمرون بها، والمدرس يستحق أكثر من مرور عابر- كما اقترح الأخ في محاضرة فهو يستحق حديثاً خاصاً، وسيكون ذلك -إن شاء الله- في أحد الدروس بعنوان: رسالة إلى مدرس. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 5 أين مؤسساتنا الخيرية؟ وهنا نسأل أنفسنا: أين محاضن الأطفال المسلمين والأيتام؟! أين دور العجزة والفقراء؟! أين المدارس الخيرية؟! أين المستشفيات؟! أين المؤسسات الخيرية؟! أين المؤسسات الاقتصادية؟! أين الخدمات المجانية -أو شبه المجانية- التي يمكن أن تقدم للمسلمين، والتي تنقذهم من براثن الجهل والمرض والفقر، ذلك الثالوث الخطير الذي يفتك بالمسلمين؟ قد يقول قائل: المسلمون لا يملكون شيئاً، أو يقول: الدعاة إلى الله تعالى في أكثر بقاع الأرض هم أفقر الناس! فأقول: هذا صحيح من جانب، لكن لا يجوز أبداً أن نعتبر هذا كافياً في تعليل ما يجرى، فإننا نجد أن هذا نوعٌ من الهروب من المسئولية، وكم من الدعاة إلى الله تعالى لم يفكروا أصلاً في هذا الموضوع! ولو أن الإنسان اعتبر هذا أحد الاهتمامات التي يجب أن يهتم بها، وينبغي أن يفكر فيها، فإنه لا بد أن يتفتق ذهنه عن وسائل ناجحة، وكما يقال: الحاجة أم الاختراع، ومع الصبر والوقت والتفكير والمحاولة يمكن أن يفعل الدعاة الكثير والكثير مما ينفع في هذا، بشرط أن تصبح إقامة الجسور مع الأمة هماً يسيطر على قلوب الدعاة إلى الله تعالى. وما زال الكثير من أثرياء الأمة وتجارها وأغنيائها ووجهائها لديهم ثقة بالدعاة إلى الله عز وجل، وإمكانية أن يتعاونوا معهم، بحيث تنتقل رءوس الأموال التي توجد في بلد من بلاد المسلمين؛ لينتفع بها المسلمون في كل مكان عن طريق الدعاة الصادقين، وليس عن طريق الصليب الأحمر الدولي -مثلاً- أو عن طريق المؤسسات التنصيرية التي ربما وزعت على المسلمين أموال المسلمين وابتزتهم بها، ودعتهم بها إلى النصرانية!! إذاً: يجب أن يكون الدعاة إلى الله تعالى والمخلصون هم الجسر الذي تعبر عليه أموال المسلمين وإمكانياتهم إلى إخوانهم المحتاجين في كل مكان من الأرض. فالداعية لا يحتاج كثيراً إلى أن ينفق من جيبه، بل يكفي أن يكون لديه الاستعداد لأن يكون وسيطاً، وإذا علم تجار المسلمين -وهم كثير، وفيهم خير كثير، وفيهم ثقة بالدعاة إلى الله تعالى- أن دعاة موثوقين صادقين يمكن أن يقوموا بمثل هذه المهمات؛ فإنهم لن يترددوا أبداً في إعانتهم ومساعدتهم. وأيضاً: لا بد -أيها الأحبة- أن نقنع أنفسنا بأهمية الموضوع من جهة أخرى، ثم أن نقنع أنفسنا بإمكانية أن نفعل شيئاً، فالإنسان اليائس لا يمكن أن ينتج، والذي يقول: ليس في يدي حيلة، هذا محكوم عليه أنه كالميت لا يمكن أن يقدم لأمته شيئاً؛ لكن إذا كان لديه همة عالية، فالهمم العالية تزيل الجبال. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 6 بيان من العلماء حول ما جرى في أفغانستان وبعد هذا وذاك فإنني أيضاً أستسميحكم في اقتطاع جزء من الوقت على أهمية موضوع هذه الليلة في قراءة هذا البيان الصادر من جماعة من العلماء والدعاة في هذا البلد، حول ما جرى وما يجري في أفغانستان. يقول هذا البيان الذي وقعه جماعة من العلماء على رأسهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فغير خاف على أحد ما يجري في أفغانستان من الخلاف، وما ترتب على ذلك من تفاقم الأمر في صفوف الأمة من الدعاة، والخطباء، وطلبة العلم، وعموم الشباب وسائر الناس، من جراء الخوض في هذه المسألة دون تثبت ولا علم ولا بصيرة، نصرة لطرف على طرف، أو هجوماً على طرف، أو دفاعاً عن طرف من أطراف النزاع، وإننا نناشد جميع المسلمين وخاصة الشباب الغيور على قضايا الأمة؛ بالكف عن الخوض في هذه المسألة بأي صورة، تأييداً أو تنديداً لما ينجم عن ذلك من تفرق كلمة أهل الخير في كل مكان، وتشتت آرائهم واختلاف قلوبهم، وربما أدى ذلك إلى التشاحن والتطاحن والتباغض! وأوصل بعضهم إلى الولاء والبراء! والحب والبغض، والاشتغال بتصنيف الناس على حسب مواقفهم من هذه القضية! وإن أخشى ما يخشاه العقلاء أن تكون ثمة أصابع خفية تهدف إلى زعزعة وحدة الأمة لصالح أعداء الإسلام من الشرق والغرب! فأفضل وسيلة لتفويت الفرصة على العدو هي ترك الخوض في هذه المسألة نهائياً، والإعراض عنها بالكلية، والاشتغال بما هو أجدى وأهم؛ من طلب العلم، والدعوة إليه، والإقبال على العبادة، وتهذيب السلوك، وتصفية القلوب من لوثات الحقد والحسد والبغضاء التي يبذرها الشيطان في نفوس الناس، علماً أن ثمة جهوداً طيبة من جهات عديدة تتدخل بهدف الإصلاح بين الأطراف المتنازعة، وقد قطعت في هذا المجال شوطاً كبيراً، ولعل ترك الخوض في هذه المسألة مما يساعد هذه اللجان على أداء مهمتها، وستعلن نتيجة ذلك قريباً إن شاء الله. كما أن على الجميع السعي لنشر العقيدة الصحيحة في نفوس المسلمين في سائر الأقطار، بالأسلوب الحكيم المناسب البعيد عن التنفير، وبكافة الوسائل المتاحة، كالدعوة، والتعليم، وطباعة الكتب، ونشر الأشرطة المفيدة، وغير ذلك، وإننا إذ نعتبر هذه مسئولية الجميع؛ فإنها منوطة بصفة خاصة بمن أعطاهم الله تعالى مزيداً من العلم والبصيرة في الدعوة أو الجاه أو المال. فنأمل من إخواننا المسلمين مراعاة ذلك والسعي لتنفيذه بقدر الإمكان، كما نناشد إخواننا المجاهدين الأفغان وقادتهم خاصة السعي لجمع كلمة المجاهدين ولم صفوفهم تحت راية عقيدة أهل السنة والجماعة، والحرص على حقن الدماء ووحدة الصف، امتثالاً لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] . نسأل الله للجميع التوفيق لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. ولا أرى حرجاً أن أقرأ عليكم أسماء المشايخ الموقعين؛ لأن هذا مما يزيد من توثيق هذا البيان: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك، الشيخ عبد الله بن حسن بن قعود، العبد الفقير المتحدث إليكم، الشيخ سفر بن عبد الرحمن الحوالي، الشيخ محمد بن سعيد القحطاني، الشيخ سعيد بن زعير، الشيخ عائض القرني، الشيخ ناصر العمر، الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي، الشيخ سعيد بن عبد الله الحميد، الشيخ عبد الوهاب بن الناصر الطريري، الشيخ عوض بن محمد القرني، الشيخ حمود بن عبد الله التويجري، الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين، الشيخ عبد المحسن بن ناصر العبيكان، الشيخ عبد الله بن حمود التويجري، الشيخ سعود بن عبد الله آل فنيسان، الشيخ ناصر بن عبد الكريم العقل، الشيخ سلطان بن عبد المحسن الخميس، الشيخ أحمد بن صالح السناني. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 7 الخلاف بين الناس ومسالك علاجه أما بعد: فالآن مع: أدب الحوار. أيها الأحبة: الموضوع كبير وخطير، ولعلي جُرت عليه بعض الجور حينما اقتطعت كثيراً منه لهذه المقدمات التي رأيت أنه لا بد منها، وأن التعليق في مناسبتها أرجح وأولى. إن الخلاف بين الناس أمر طبعي وذلك لأسباب كثيرة؛ فقد يكون الخلاف في أمور الدين والشرع بسبب أن جزءاً كبيراً من النصوص الشرعية دلالته ظنية وليس قطعي الدلالة على المقصود، وقد يكون الخلاف بسبب اختلاف العقول والأفهام وتباين المدارك، وقد يكون الخلاف بسبب العلم، فهذا عالم، وهذا أعلم، وهذا أقل، قال تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76] وقد ينسى العالم نصاً من النصوص فيقول بغير ما يدل عليه، وقد يكون من أسباب الخلاف -أحياناً- الهوى والتعصب لقول أو مذهب أو رأي أو شيخ. وحينما يختلف الناس سواء كانت اختلافات كلية أو اختلافات جزئية، يسلكون في معالجة هذا الخلاف مسالك شتى. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 8 الحرب كمسلك لحل الخلاف المسلك الأول: الحرب، فالحرب أحياناً وسيلة لحل الخلاف، وإنهاء الخصومات، وإثبات الحجة، والواقع أن الحرب لا تصلح أن تكون هي الحل الأول في ذلك؛ إذ أننا نجد أن كثيراً من المبادئ والنظريات التي قامت على القوة، وعلى الحديد والنار، سرعان ما تهاوت وسقطت! وهذه الشيوعية اليوم هي خير شاهد، فقد دعمت بالحديد والنار، وكانت أجهزة (K. B. G) -المخابرات السوفيتية- تلاحق المنشقين، والمعارضين والمحاربين بكافة الوسائل، وتجند مئات الألوف من العملاء؛ فضلاً عن الكثافة العديدة في القوات العسكرية لالاتحاد السوفيتي التي تعتبر أكثر من ثلاثة أضعاف القوات في الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك كله، ومع البطش والإرهاب سقطت الشيوعية خلال أقل من ثمانين عاماً، على حين أن الوجه الآخر للحضارة المادية المنحرفة، وهو وجه الرأسمالية، ما زال حتى الآن يصارع الموج، وما زال حياً باقياً، وربما أقول قوياً ممكناً في الأرض، وليس ذلك لأنه مؤمن بالله عز وجل، ولكن لأنه سلك الأسلوب الذي يمكن التعبير عنه بأنه أسلوب ديمقراطي، على الأقل في بعض أساليبه وطرائقه ومعاملاته لشعوبه، فكان أبقى وأرسخ من النمط الشيوعي الشرقي المتعسف. ولذلك قال الله تعالى في القرآن الكريم: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256] نعم قد شن المسلمون حروباً، لكن هذه الحروب لم تكن بهدف إكراه أحد على الدخول في الإسلام، بل كانت بهدف إزالة الطواغيت التي تحول بين الناس وبين الدخول في الدين وتضغط عليهم وتكرههم على ترك الدين والدينونة بالكفر وبما يريد الطواغيت. ولم يحفظ التاريخ أن المسلمين أكرهوا شخصاً واحداً على الدخول في الإسلام، بل كان المسلمون إذا هاجموا أهل قرية أو حصن أو بلد خيروهم بين ثلاثة أمور: إما الإسلام؛ فإذا أسلموا قبلوا منهم وكفوا عنهم، فإن لم يسلموا طلبوا منهم الجزية، وأن يدينوا لحكم المسلمين، فإذا أعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون كفَّ المسلمون عنهم، وأقروهم على ما كانوا عليه، فإن أبوا؛ استعانوا بالله تعالى وقاتلوهم. فعلى كل حال الطريقة الأولى لحل الخلافات هي طريقة الحرب. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 9 طريقة الحوار الطريقة الثانية هي: طريقة الحوار، وهو أسلوب حديثنا اليوم، ولا أريد بحديثي عن الحوار أن أجحف بحق الجهاد في سبيل الله تعالى، فللجهاد أحاديثه، وللجهاد مجالاته، وقد سبق أن تحدثت في درس بعنوان: حي على الجهاد، وتكلمت فيه عن موضوع الجهاد في سبيل الله، وإنما حديثي اليوم عن وجه آخر، سواء كان الحوار مع كافر بهدف دعوته إلى الإسلام، أو كان مع مسلم. والحوار أحياناً -أيها الأحبة- كما يقال: أقوى من الكلاشنكوف، وأقوى من القنابل، والصواريخ، والدبابات والمدفعيات؛ لأنه يعتمد على القناعات الداخلية، وعلى القناعات الذاتية، وربما أفلح الحوار فيما لم تفلح فيها الحروب الطاحنة! وأنا أذكر لكم حادثتين تاريخيتين قديمتين: وكلا الحادثتين تتعلق بطائفة الخوارج، الخوارج من المعروف في تاريخ الإسلام أنهم من أكثر الناس ضراوة في الحروب، وشجاعة وبسالة، حتى إن الناس كانوا يرهبون منهم، حتى النساء اللاتي التحقن بالخوارج كنَّ يبدين من ضروب البسالة والشجاعة في الحروب ما تندهش منه العقول! حتى إن الحجاج هرب من بعض النساء، فسخر منه الساخرون وقالوا له: هلاّ برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائرِ وهرب منها بعض القواد فعيروه بذلك. فالخوارج كانوا شجعاناً، بسلاء، أقوياء، على ما كانوا عليه من الباطل والضلال المبين! فلننظر كيف فعل فيهم الحوار. كما ذكر الباقلاني والسكوني والشاطبي وغيرهم أن علي بن أبي طالب بعث ابن عباس إلى الخوارج، المسمين بالحرورية، فذهب إليهم ابن عباس رضي الله عنه وعليه حلية جميلة، فلما أقبل قالوا له: يا ابن عباس! ما الذي جاء بك؟ وما هذه الثياب عليك؟ فقال: أما الثياب التي علي فما تنقمون مني، فوالله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة ليس أحد أحسن منه، ثم تلا عليهم قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] . فقالوا: وما الذي جاء بك يا ابن عباس؟ قال: جئتكم من عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس فيكم أنتم يا معشر الخوارج واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجئتكم من عند ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني علي بن أبي طالب - وعليهم نزل القرآن، وهم أعلم بتأويله، جئت لأبلغكم عنهم وأبلغهم عنكم، فأنا رسول بينكم وبينهم، ووسيط بينكم وبينهم. فقال بعضهم: لا تحاوروا ابن عباس ولا تخاصموه! فإن الله تعالى يقول عن قريش: {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58]-خافوا من الهزيمة- فقالوا: اتركوا مجادلته لأنه جَدِل خَصِم، وقال بعضهم: لا بل نكلمه ولننظر ماذا يقول؟ قال ابن عباس رضي الله عنه: فكلمني منهم اثنان أو ثلاثة، فقال لهم: ماذا تنقمون على علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ قالوا: ننقم عليه ثلاثة أمور، قال: هاتوا؟ قالوا: الأول أن علي بن أبي طالب حكم الرجال في كتاب الله -يعني بعث حكماً منه وحكماً من معاوية رضي الله عنه، وقصة التحكيم معروفة- والله تعالى يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57] . قال: هذه واحدة فما هي الثانية؟ قالوا: الثانية أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل ولم يَسْبِ -قاتلهم وما سبى نسائهم- فلئن كانوا مسلمين فقتالهم حرام، ولئن كانوا كفاراً فلماذا لم يَسْبِ؟ قال: وهذه أخرى، فما هي الثالثة؟ قالوا: الثالثة أنه نزع نفسه من إمرة المؤمنين لما كتب الكتاب، فلم يكتب أمير المؤمنين وكتب علي بن أبي طالب! قال: أو قد فرغتم؟ قالوا: نعم. قال: أما الأولى، وهي قولكم حكم الرجال في كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى يقول في محكم التنزيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95] فذكر الله تعالى حكم ذوي عدل فيما قتله الإنسان من الصيد، سألتكم بالله تعالى، ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أعظم أم التحكيم في ما قتله الإنسان من الصيد؟ قالوا: لا، بل التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم. قال: فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} [النساء:35] ناشدتكم الله تعالى ألتحكيم في دماء المسلمين وأموالهم أهم أو التحكيم في بضع امرأة؟ قالوا: لا التحكيم في دماء المسلمين وأموالهم، قال: انتهت الأولى؟ قالوا: نعم، فالثانية. قال: أما الثانية: فهي قولكم قاتل ولم يَسْبِ -لم يأخذ نساء من قاتلهم- فهل تسبون أمكم عائشة رضي الله عنها -لأنها كانت في الطرف الآخر- وتستحلون منها ما يستحل الرجال من النساء؟! إن قلتم ذلك كفرتم! وإن قلتم ليست بأمنا أيضاً كفرتم، لأنها أم المؤمنين!! فاستحوا من ذلك وخجلوا، قالوا: فالثالثة قال: أما قولكم خلع نفسه من إمرة المؤمنين، وإذا لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عقد كتاب الصلح مع أبي سفيان وسهيل بن عمرو في صلح الحديبية قال: اكتب، هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، قالوا: لو كنا نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك ولا منعناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فمحى النبي صلى الله عليه وسلم الكتابة، وكتب هو أو علي هذه مسألة يطول الكلام فيها من محمد بن عبد الله، فرجع منهم عن مذهب الخوارج ألفان، وبقيت بقيتهم فقتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فانظر كيف أثر الحوار الهادئ القوي العميق في مثل هذه الرءوس اليابسة الناشفة، حتى رجع منهم في مجلس واحد لم يستغرق ربع ساعة ألفان إلى مذهب أهل السنة والجماعة. المثال الآخر: وهو أيضاً يتعلق بهذه الطائفة العنيدة -طائفة الخوارج- أنهم حيث بقيت منهم في الموصل بقية؛ فكتب إليهم عمر بن عبد العزيز رحمه الله الخليفة الأموي العادل ينكر عليهم خروجهم، ويقول لهم: أنتم قليل أذلة!! فردوا عليه وقالوا: أما قولك: إنا قليل وأذلة، فإن الله تعالى يقول لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] فردوا عليه بذلك، فوجه إليهم عمر بن عبد العزيز فقيهاً اسمه عون بن عبد الله، وهو أخو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة رضي الله عنهم ورحمهم أجمعين. فقال لهم عون بن عبد الله: أنتم كنتم تطلبون حاكماً في مثل عدالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلما جاءكم هذا الحاكم كنتم أنتم أول من نفر عنه وحاربه! قالوا: صدقت، ولكنه لم يتبرأ من الذين من قبله ولم يلعنهم -لم يلعن علي بن أبي طالب ولا معاوية ولا بني أمية- فنحن نحاربه لأنه لم يتبرأ من صنيع هؤلاء ولم يلعنهم! وهذا مذهب الخوارج. قال لهم: أنتم كم مرة تلعنون هامان في اليوم؟ قالوا: ما لعناه قط، قال: أيسعكم أن تتركوا لعن وزير فرعون الطاغية، والمنفذ لأوامره، والذي بنى صرحه بأمره، ولا يسع هؤلاء أن يتركوا لعن أهل قبلتهم، إن كانوا أخطأوا في شيء أو عملوا بغير الحق؟ فسكتوا ورجع منهم طائفة كبيرة، فسر بذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، وقال لهذا الرجل: لماذا لم تحتج عليهم بعدم لعن فرعون، لماذا قلت لهم لم تلعنوا هامان، ولم تقل: لم تلعنوا فرعون؟ قال: لو قلت لهم: لماذا لا تلعنون فرعون، ربما قالوا: إننا نلعنه، أما هامان فقل من يلعنه في ألسنة الناس، فلذلك اخترته! فسكت هؤلاء، ثم خرجوا في ولاية يزيد بن عبد الملك فقاتلهم. والمهم يقول السكوني في عيون المناظرات: فكانت حجة عمر أبلغ من قتالهم بالسيف. وهكذا يتبين لك أن الحجة القوية، والحوار الهادئ الرزين من صاحب عقل وفهم وعلم في كثير من الأحيان يفعل ما لا تفعله السيوف، وما لا يفعله الكلاشينكوف. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 10 أهداف الحوار والمناظرة فالحوار مهم -أيها الأحبة- من جانبين: الجزء: 183 ¦ الصفحة: 11 الدعوة إلى الإسلام واتباع السنة الأول: من جانب دعوة الناس إلى الإسلام وإلى السنة، فتعقد حوارات مع كفار لتقنعهم بأن دين الله حق لا شك فيه، أو مع مبتدعين منحرفين عن السنة لتدعوهم إلى السنة وتأمرهم بالتزامها، والقرآن الكريم حافل بنماذج من مثل هذه الحوارات التي جرت بين أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، حتى إن قوم نوح قالوا لنوح: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود:32] فأكثر جدالهم حتى تبرموا من كثرة جداله لهم، والجدال نوع من الحوار على أي حال. أيها الأحبة: إننا بحاجة إلى أن نحاور أصحاب المذاهب، والنظريات، والأديان الأخرى بهدف دعوتهم إلى الله تعالى، فالحوار وسيلة من وسائل الدعوة، ولا يجوز أبداً أن تعتقدوا -كما يعتقد الكثيرون- أن العالم اليوم يعيش حالة إفلاس من النظريات، والعقائد، والمبادئ، والمثل!! بل العالم اليوم يعيش حالة تخمة في كثرة النظريات، والمبادئ، والعقائد، والمثل، والفلسفات، وصحيح أنها باطلة، ولكن هذا الركام الهائل من الباطل مدجج بأقوى أسلحة الدعوة والدعاية، ومدجج بالدعاة الذين تدربوا وتعلموا كيف يدافعون عن الباطل، حتى يصبح في نظر الناس حقاً! أما أهل الحق فبئس ما عودوا أقرانهم! فإذا اجتمع من أهل الحق خمسة وتناقشوا في مسألة خرجوا فيها بتسعة آراء، ولا حول ولا قوة إلا بالله! ثم لا يحسن هؤلاء أن يناقش بعضهم بعضاً، ولا أن يحاور بعضهم بعضاً، إلا من خلال فوهات المدافع والبنادق، أو إذا لم يملكوها فمن خلال الأفواه التي تطلق من الكلمات الحارة الجارحة ما هو أشد فتكاً من الرصاص ومن القذائف! الجزء: 183 ¦ الصفحة: 12 الوصول إلى اليقين الصحيح في مسائل الخلاف الهدف الأول هو دعوة الكفار إلى الإسلام، أو دعوة الضالين من المبتدعة إلى السنة. أما الهدف الثاني: فهو الوصول إلى اليقين الصحيح أو الحق في مسألة اجتهادية اختلفت فيها وجهات النظر مما ليس فيه نص ولا إجماع، أي: مسألة اجتهادية اختلفت فيها أقوال العلماء أو أقوال المجتهدين وأقوال المتحدثين، فتكلم اثنان في محاورة ومناظرة للوصول إلى الحق، والمسألة ليس فيها نص صريح، وليس فيها إجماع لا يجوز تعديه، ولكنها من المسائل الاجتهادية، وليس من الضروري أيها الأخ الكريم! أن تعتقد أن نتيجة الحوار لا بد أن تكون إقناع الطرف الآخر بأن ما عندك حق وما عنده باطل، فليس هذا بلازم، وقد تقنع الإنسان بذلك، وأقل شيء تكسبه من طريقة الحوار إذا التزمت بالشروط الموضوعية للحوار؛ وأقل شيء تكسبه أن يعلم خصمك أن لديك حجة قوية، وأنك محاور جيد، وأن يأخذ انطباعاً بأنك إنسان موضوعي متعقل بعيد عن التشنج والهيجان والانفعال. وكثير من الناس يظنون أن الآخرين لا يملكون الحق، وليس عندهم شيء، وأنهم مجرد مقلدين، فإذا حاوروهم علموا أن لديهم حججاً قوية، فأقل ما تكسبه هو أن تجعل أمام مناظرك علامة استفهام! وأقل شيء تكسبه أنه صار عنده تردد في مذهبه، ففتر حماسه لدينه، وقد تلتقي بنصراني -مثلاً- داعية إلى النصرانية فتناقشه، فمحتمل أنه يسلم -وهو خير كثير، وهو أرقى وأعلى ما تتمناه- لكن هناك احتمال ألا يسلم! فهل تعتبر أنك قد خسرت؟ لا، إذا لم يُسلم فربما صار عنده تفكير في الإسلام يدعوه إلى أن يبحث ويسلم ولو بعد حين، وإذا لم يفكر بذلك فعلى الأقل صار عنده شكوك في دينه، وإذا لم يحصل هذا فعلى أقل تقدير فتر شيء من الحماس الذي كان يحمله لدينه. ونحن نجد أن المسلمين الذين يكثرون من الاحتكاك بأهل الكتاب، أو بالمنحرفين عن الإسلام، ويسمعون منهم الكثير؛ وإن لم يتركوا دينهم إلا أن حماسهم يقل ويفتر لدينهم من كثرة ما سمعوا من الأعداء حتى وهم على الحق، فما بالك بأهل الباطل إذا سمعوا نقد باطلهم! لا بد أن يفتر حماسهم له، أو يشكوا فيه أو يتراجعوا عنه. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 13 ألفاظ الحوار ومواضعها والحوار والجدال والمناظرة كلها ألفاظ متقاربة لمعنى واحد، وإن كان أكثر ما جاء لفظ الجدال في القرآن الكريم على الجدال المذموم كما في قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر:5] ولكن جاء لفظ الجدال في القرآن أيضاً في مواضع محمودة، وهي -فيما أعلم- أربعة مواضع، الموضع الأول منها قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:46] فهذا جدال بالتي هي أحسن، وهو لدعوة اليهود والنصارى إلى الإسلام. الموضع الثاني: قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] الموضع الثالث: قول الله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74] فإبراهيم عليه السلام يجادل الملائكة! فماذا قال لهم؟ سألهم: بعثتم إليهم لإهلاكهم؟ قالوا: نعم، قال: أفيهم مائة مسلم؟ قالوا: لا، قال: أفيهم خمسون مسلماً؟ قالوا: لا، قال: عشرة مسلمين؟ قالوا: لا، قال: خمسة مسلمين؟ قالوا: لا، قال: فقوم ليس فيهم هؤلاء جديرون بالإهلاك، فهذا كما ذكر بعض المفسرين الجدل الذي حصل من إبراهيم عليه السلام. الموضع الرابع: قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1] . الجزء: 183 ¦ الصفحة: 14 الاهتمام بفن الحوار أيها الأخ الكريم: إن من الضروري أن يتلقى المسلم -وخاصة الداعية إلى الله- أسس الحوار وأصوله في عالم يموج اليوم بالنظريات الكافرة، والاتجاهات المنحرفة، ولقد أصبح الحوار فناً يدرس! وأحياناً يسمونه فن الجدل، وأحياناً يسمونه فن المناظرة، إضافة إلى فن آخر له علاقة بالموضوع وهو ما يسمى بفن العلاقات العامة الذي تقام فيه دورات لكثير من الموظفين والمتخصصين في العلاقات، والدعاة، وسواهم، والعلاقات العامة تعني حسن الاتصال بالآخرين، لإقناعهم برأي أو ترويج سلعة من السلع، أو تصحيح فكرة، أو التمهيد لقضية من القضايا من خلال الاتصال بالناس، فهو فن يدرس ولا بد للداعية أن يتعلمه نظرياً وعملياً. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 15 قواعد الحوار إن للحوار قواعد كثيرة؛ لم يسعفني فكري منها إلا بثلاث قواعد أذكرها على عجل. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 16 تحديد مجال الحوار القاعدة الأولى: أن يكون الحوار حول مسألة محددة؛ فإن كثيراً من الحوارات تكون جدلاً عقيماً سائباً ليس له نقطة محددة ينتهي إليها، فينبغي أن يكون الحوار -أو الجدال بالتي هي أحسن- حول نقطة معينة بحيث يتم التركيز عليها، والحديث يدور عنها لا يتعداها حتى ينتهي منها. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 17 عدم مناقشة الفرع قبل الاتفاق على الأصل القاعدة الثانية: عدم مناقشة الفرع قبل الاتفاق على الأصل، إذ أن مناقشة الفرع مع أن الأصل غير متفق عليه تعتبر نوعاً من الجدل العقيم إلا في حالات معينة، وأضرب لذلك مثلاً على حالات يمكن فيها مناقشة الفرع دون مناقشة الأصل. مثلاً: لو جاءك كافر لا يؤمن بيوم الحساب، ولا يؤمن بدين الإسلام، وبدأ يناقشك في قضية حجاب المرأة المسلمة، ولماذا تتحجب المرأة؟! أو يناقشك في قضية تعدد الزوجات، ولماذا أباح الإسلام تعدد الزوجات. فهو الآن كافر لا يؤمن بالإسلام، فهل تناقشه في مسألة تعدد الزوجات؟ أو في مسألة الحجاب؟ أو في مسألة الجهاد؟ وهذه النقاط الثلاثة -الجهاد، تعدد الزوجات، الحجاب- هي أكثر ما يثيره الغربيون عن الإسلام، ويضايقون به المسلمين والدعاة والطلاب هناك. إذاً كيف تحاوره؟ بإمكانك هنا أن تحاوره بإحدى طريقتين: الطريقة الأولى: أن تحيله إلى الأصل، فتقول له: إن الجهاد وتعدد الزوجات والحجاب جزء من دين الإسلام، وبدلاً من أن نناقش هذه النقاط ينبغي أن نرجع للأصل وهو الإسلام فنتجادل فيه، فأجادلك في الإسلام، فإذا اقتنعت بالإسلام فحينئذٍ من باب الأولى أن تقتنع بهذه الأمور، ولا حاجة أن تجادلني فيها، وإذا لم تقتنع بالإسلام فنقاشي معك في هذه الجزئية يعتبر نوعاً من العبث الذي لا طائل تحته، فهذه طريقة. الطريقة الثانية: أنك يمكن أن تناقشه بالحجج المنطقية في نفس الجزئيات التي يجادل حولها، فمثلاً إذا تكلم عن تعدد الزوجات، وجادلك فيها -حتى ولو كان لا يؤمن بالإسلام، فربما يؤمن بالإسلام من خلال قناعته بهذه النقطة- فتقول له مثلاً: من الثابت علمياً أن عدد النساء أكثر من عدد الرجال، وفي أمريكا نفسها أحياناً تصل نسبة النساء إلى الرجال 119:100 وأحياناً 160: 100، فستون امرأة زيادة فمن تكون؟! فإذا لم نأذن لهؤلاء الرجال بتعدد الزوجات فإن هؤلاء النساء يبقين ضائعات بلا أزواج، أو اضطررن إلى ممارسة البغاء والرذيلة! فتعدد الزوجات ضرورة لا بد منه، لأن نسبة الإناث في أكثر المجتمعات أكثر من نسبة الرجال. ونفترض أنه لم يقتنع فعليك أن تثبت له حالات وأوضاع يكون تعدد الزوجات فيها أمراً سائغاً، وهذا قد تكلم عنه الأستاذ محمد قطب في كتابه: شبهات حول الإسلام بما لا حاجة إلى أن نطيل فيه الآن. لكن من الطريف أن رجلاً كان يناقش مجموعة من النساء عن تعدد الزوجات، وطبعاً رفضن الاقتناع -وهن غير مسلمات- وأصررن على هذه القضية، فقال هذا الرجل للنساء لما ملَّ من طول النقاش: إن المسئول عن تعدد الزوجات النساء وليس الرجال، فدهشت النساء، وقلن لماذا؟ قال: لأنه لو أن كل امرأة رفضت أن تكون امرأة ثانية ما وجد تعدد الزوجات، -وطبعاً هذا من باب الإلزام بالحجة- وإنما المرأة وافقت أن تكون زوجة ثانية، أو ثالثة، أو رابعة، فوجد تعدد الزوجات. ونحن المسلمون مقتنعون بأن قضية تعدد الزوجات شريعة إلهية في محكم القرآن الكريم، ولا حاجة أن نقنع أنفسنا أو غيرنا بهذا، لكن كيف تقنع الآخرين! فهذا إشارة إلى الموضوع. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 18 الاتفاق على أصلٍ يرجع الحوار إليه القاعدة الثالثة: من قواعد الحوار هي: الاتفاق على أصل يرجع الحوار إليه إذا وجد اختلاف، واحتدم النقاش، فتتفق مع أي إنسان تناقشه بأن ترجعا عند الاختلاف إلى القرآن الكريم، وإلى صحيح السنة مثلاً، وإلى القواعد الثابتة المستقرة، أو إلى ما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم -المهم أن تتفق معه على نقاط تكون مرجعاً عند الاختلاف-. وأذكر بهذه المناسبة قصة، وقد حدثني بها جماعة من العلماء منهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ومنهم الشيخ عبد الله بن قعود ونقلها لي ثقة ثبت عن الشيخ عبد الله بن حميد رحمه الله؛ فهي حادثة ثابتة بأسانيد جياد صحيحة إن شاء الله؛ وهو أن جماعة من الشيعة كتبوا إلى مفتي الديار في السابق: الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ أن يعقد معهم مجلساً للحوار، فهمَّ الشيخ محمد بن إبراهيم ألا يرد عليهم وأن يهمل هذا الطلب، فأشار عليه الشيخ عبد الرزاق عفيفي بأن هذا الأمر ما دام أنه جاء منهم فينبغي ألا يهمل، لأنهم قد يعتبرون عدم إجابتنا على طلبهم نوعاً من النكول عن المناظرة أو ضعف الحجة، فالأولى أن نكتب لهم بالموافقة على المناظرة شريطة أن يكون هناك أصل نرجع إليه، وأن يكون هذا الأصل هو القرآن الكريم وصحيح البخاري، صحيح مسلم، فكتب لهم الشيخ رحمه الله بهذا المضمون، من أنه لا مانع من إجراء الحوار والمناقشة معكم شريطة أن نرجع عند الاختلاف إلى القرآن الكريم وصحيح البخاري وصحيح مسلم فلم يردوا عليه، ولم يجيبوه إلى ما سأل. فلا بد من شيء يُرجع إليه. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 19 صفات المحاور الجيد صفات المحاور الجيد هي، باختصار: الجزء: 183 ¦ الصفحة: 20 الإلقاء الجيد الصفة الأولى: جودة الإلقاء وحسن العرض وسلاسة العبارة، وقد كان من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري عن عائشة قالت: {لم يكن يسرد الحديث كسردكم، ولكن كان يقول كلاماً لو شاء العادُّ أن يحصيه لأحصاه} فيكون المحاور هادئاً سلسلاً جيد الإلقاء، ومما يذكر أن أمير الشعراء أحمد شوقي على جلالة قدره في الشعر كان ضعيفاً في الإلقاء، فكان يدع غيره ليلقي عنه القصائد، لأنه إذا ألقى القصيدة ضاع ثلاثة أرباع جمالها لعدم جودته في الإلقاء! الجزء: 183 ¦ الصفحة: 21 صحة الفكرة المعطاة الصفة الثانية: حسن التصور لدى المتحدث، بحيث لا تكون الأفكار عنده مشوشة أو متداخلة أو متضاربة، وبعض الناس لضعف تصوره ربما يطرح فكرة أثناء النقاش، وبعدما ينتصف في شرحها يتبين أنها لا تصلح ولا تخدم الغرض، فينتبه في منتصف الطريق بعد ما يكون قد تورط في ذلك. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 22 الترتيب الجيد للأفكار الصفة الثالثة: القدرة على ترتيب الأفكار، وعدم تداخل الأفكار أو اضطرابها أو تشويشها. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 23 قوة العلم للمحاور الصفة الرابعة: العلم، فإن بعض المتحاورين قد يخذل الحق بضعف علمه، فهو يحاور إنساناً والحق معه، ولكنه لم يدعم هذا الحق بالعلم القوي، فوضع نفسه في غير موضعها، ولذلك ليس لكل إنسان أن يحاور، إنما يحاور إنسان عنده علم، وعنده قوة، وعنده القدرة، فربما أن إنساناً حاور بهدف نصر الحق فخذل الحق لضعف علمه وضعف بصيرته، وربما يحاور إنسان بجهل فيقتنع بالباطل الذي مع خصمه، وربما احتج بحجج باطلة، كما سمعت في بعض المناظرات والمحاورات التي تعقد من أن الإنسان قد يحتج بحجج باطلة لضعف علمه. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 24 قوة الفهم الصفة الخامسة: الفهم مع العلم، فلا بد من قوة العقل، ليدرك المتحدث حجج الخصم ويستطيع أن يفهمها، ويعرف نقاط الضعف فيها ونقاط القوة، ويقبل ما فيها من الحق، ويرد ما فيها من الباطل. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 25 الإخلاص وطلب الحق الصفة السادسة: الإخلاص والتجرد في طلب الحق وتوصيله إلى الآخرين؛ بحيث لا يكون همه الانتصار، إنما همه الإخلاص، والتجرد في طلب الحق وفي إيصال الحق للآخرين. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 26 التواضع الصفة السابعة: التواضع أثناء المناقشة، أو بعد الانتصار على خصمه، وهذه الصفات قد يمر بعضها أثناء ذكر آداب الحوار. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 27 أحوال الحوار عند المسلمين اليوم إن الحوار -ولا تؤاخذوني إذا قسوت- القائم بيننا نحن المسلمين، بين المسلمين والمسلمين، والحوار بين أهل السنة وأهل السنة تجد أنه في هذا الجزء من العالم المبتلى بالأمراض والعلل، والمبتلى بالمصائب التي أثقلت كاهله، يعتمد على أمور تضحك منها الثكلى، ويسخر منها الأعداء: الجزء: 183 ¦ الصفحة: 28 وصف المخالف بما لا يليق والصفة الرابعة من أوصاف الحوار عندنا هي: وصف الطرف الآخر بما لا يليق، فبعد أن وصفت القول بأنه قول حادث ومبتدع، وأنه كفر وفسوق وضلال وعصيان! تنتقل بعد ذلك -بارك الله فيك- إلى المتكلم نفسه بهذا القول، فتصفه بما لا يليق من الأوصاف؛ تأديباً له وردعاً لأمثاله! فتقول: هذا جاهل وسخيف وحقير ومتسرع وأضعف الإيمان بأن تصفه بأنه ليس أهلاً لهذا الشيء أو ذاك، ولا يكفي هذا أيضاً، بل لا بد من كشف نية هذا الإنسان: فساد نيته، وسوء طويته، وخبث مقصده، فهذا مغرض سيئ الطوية، رديء القصد، عدو الإسلام، عدو للسنة وأهلها، محارب لها، له أهداف بعيدة. وأيضاً أضعف الإيمان أن تصفه بأنه عميل للشرق أو للغرب، أو لقوة خارجية أو داخلية، ونحن لا ننكر أيضاً أن من الناس من يكون سيئ النية في الحوار، وخبيث المقصد، ومنهم من هو عدو للإسلام، ومنهم من هو عدو للسنة، بل ومنهم من هو عميل للشرق أو للغرب، أو لقوى بعيدة أو قريبة، لكنك حين تطلق هذه الأشياء لا بد أن تكون بالدليل الواضح، ولا يجوز أن تصادر عقولنا، وتطلب منا أن نقتنع بشيء لم تسق عليه أي دليل. كما إنه ليس هذا من الحوار، فالحوار ليس حول شخص إلا إن كان موضوع الحوار -أو نقطة الحوار- أصلاً في الكلام عن فلان، فهذا باب ثانٍ. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 29 الإحتجاج بـ (ولو) فلا يكفي هذا أيضاً؛ بل إذا أعيت الحجة ولم يجد الإنسان سبيلاً؛ فيمكن الاستنجاد بكلمة (ولو) فلو هذه تحل المشكلات وتصنع المعجزات في نظر بعض الناس، فهي دواء لكل داء إلا الموت، فإذا أعيت الإنسان الحجة بدأ يقطع، فقال: (ولو) ولو هذه تنهي كل ما قاله الخصم، وإذا لزم الأمر أيضاً فلا بأس من لطمه على الوجه، أو لكمة في الصدر! أو كما يقول أخونا الشيخ عائض القرني: نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويكسر بعضنا رأس بعض فيما اختلفنا فيه! والواقع أن هذا تعبير مازح عن واقع لا شك فيه في أوضاع المسلمين. والكلام السابق كله مزاح، فلا تأت غداً وتضرب به واحداً، وتقول: هذه نصيحة سمعتها في المحاضرة، بل الكلام السابق كله تصوير ساخر لأحوال الحوار بين المسلمين والمسلمين، وبين أهل السنة وأهل السنة، بل بين طلاب العلم وطلاب العلم أحياناً! الجزء: 183 ¦ الصفحة: 30 التهويل وتحميل الكلام مالا يحتمل والصفة الثالثة: من صفات الحوار عندنا: التهويل وتحميل الكلام أشياء لا تخطر إلا في نفوس مرضى القلوب والنفوس، فلماذا يهول بعض الناس أقوال الآخرين؟ لئلا يتجرأ أحد على القول بمثل ما قالوا! أو نصرة ما ذهبوا إليه! فيحاول المحاور أحياناً أن يحيط القول المردود بهالة رهيبة، فيقول: هذا القول كفر، وهذا فسق، وهذا بدعة، وهذا خرق للإجماع، وهذا مصادمة للنصوص الشرعية، وهذا اتهام للعلماء، وهذا قول باطل لم يسبق إليه ولم ولم! ويظل يهول ويطول ويضخم العبارات، بحيث أن الذي يسمع هذا يشعر أنه قول خطير يجب أن تكون بعيداً عنه، ولا تتورط في قبوله أو الاقتناع بحجة ذلك المتكلم! وقد لا يكون القول كذلك، ولا ننكر أن من الأقوال ما يكون كفراً، ومن الأقوال ما يكون فسقاً، ومن الأقوال ما يكون بدعة، ومنها ما يكون مصادمة للنص، ومنها ما يكون قولاً حادثاً لم يسبق إليه صاحبه، لكن هذه الأشياء كلها لا بد حين يقولها الإنسان أن يثبتها بالدليل الواضح، أما مجرد إطلاق دعاوى فارغة في الهواء فهذا لا يسمن ولا يغني من جوع. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 31 الصراخ ورفع الصوت الصفة الأولى من صفات الحوار في عالمنا الإسلامي بين المسلمين والمسلمين، بل بين أهل السنة وأهل السنة هو: رفع الصوت والصراخ، فكأن الإنسان في غابة الذئاب، ومن لم يكن ذئباً أكلته الذئاب! كأنه في غابة تتهارش فيها الذئاب، فيرى أن انتصاره بالحوار هو بالمبالغة في رفع الصوت على خصمه، والله تعالى يقول: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] . الجزء: 183 ¦ الصفحة: 32 أخذ زمام الحديث بالقوة والصفة الثانية الموجودة عندنا هي: أخذ زمام الحديث بالقوة، لئلا تدع للخصم فرصة يتحدث فيها فيهدم بنائك الهش، أو يحطم حججك الزجاجية، أو يثير البلبلة في نفوس الناس، وكأننا نأخذ بمبدأ الجدل بالكلمة التي قالها دانيل كارنيجي في كتابه: كيف تؤثر في الناس وتكسب الأصدقاء قال: إذا خِفْت أن ينفض الناس من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك وتتركهم، فهاك الوصفة: لا تعط أحداً فرصة للحديث، تكلم بدون انقطاع، وإذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف! اقتحم عليه الحديث، واعترض عليه في منتصف كلامه، واطرح ما لديك! الجزء: 183 ¦ الصفحة: 33 آداب الحوار أما آداب الحوار الصحيح؛ فسأذكر منها عشرة آداب، واعذروني إذا أسرعت ولم ألتزم بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ذكرته عن عائشة قبل قليل: {أنه يتكلم بكلام فصل لو شاء العاد أن يعده لأحصاه} فمن طبيعتنا العجلة، ونسأل الله تعالى أن يعفو ويسامح. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 34 اعتدال الصوت العاشر: اعتدال الصوت؛ فلا تبالغ في رفع الصوت، وليس من قوة الحجة المبالغة في رفع الصوت بالنقاش والحوار، بل كلما كان الإنسان أهدأ كان أعمق، ولهذا تجد ضجيج البحر وصخبه على الشاطئ والمياه الضحلة، حيث لا جواهر ولا درر، فإذا مشيت إلى عمق البحر ولجته وجدت الهدوء، حيث الماء العميق، ونفائس البحر وكنوزه، ولهذا يقول المثل الغربي: الماء العميق أهدأ، فلا حاجة إلى اللجوء إلى تبكيت الإنسان الذي تخاصمه، وإحراجه والسخرية به، إلا إذا تبين لك أنه سفيه أو لجوج أو عنيد، فحينئذٍ لا بأس أن تسقط عليه كلمة أو نكتة تجعله مجالاً للسخرية، أو تجعله يقف ولا يتكلم، مثلما ينقل: [[أن يهودياً قال لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ما نفضتم أيديكم من تراب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قلتم منا أمير ومنكم أمير، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وأنتم ما جفت أقدامكم من ماء البحر بعد أن جمده الله تعالى الله لموسى حتى قلتم: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138] فبهت اليهودي وسكت]] لأن كلام بني إسرائيل هنا كفر ينقض الدين، أما كلام الصحابة: منا أمير ومنكم أمير فهو مسألة اجتهادية. وكذلك لما ذهب حاطب للمقوقس قال له المقوقس: يا حاطب! كيف الحرب بين محمد وبين المشركين؟ قال: سجال، يدال عليهم ويدالون عليه، قال: أنبي الله يغلب؟! فقال له حاطب: وابن الله يصلب! ألستم أيها النصارى تزعمون أن عيسى ابن الله، وأنه قد صلب! فسكت ولم يحر جواباً، لأنه ألقمه حجراً! وكذلك يذكر أن الإمام الباقلاني ذهب إلى ملك الروم فدخل عليه وعنده القساوسة جالسون، فسلم عليهم الباقلاني وقال: كيف الحال، وكيف الأهل، وكيف الأولاد؟ فقال له الملك: عجيب! أنت الآن مبعوث من أمير المسلمين، وأنت أعلمهم ولا تدري أن هؤلاء لا يتزوجون، وليس لهم أولاد؟! فقال: سبحان الله! ترضون الأولاد لرب العالمين ولا ترضونها لأنفسكم! فبهتوا أيضاً ولم يجدوا جواباً. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 35 عدم الإلزام بما لا يلزم الأدب التاسع: عدم الإلزام بما لا يلزم، أو المؤاخذة باللازم، فمثلاً؛ إنسان خالف أحد العلماء في قوله، أي أنه قال قولاً خالف فيه عالماً بعينه، فيقال لهذا الإنسان: يا أخي! أنت خالفت فلاناً العالم، وهذا يلزم منه أنك ترى أنك أعلم منه!! لا يا أخي! لا يلزم أني أعلم منه، وقد أكون خالفته في هذه المسألة باجتهادي وأنا أعرف أنه أعلم مني في كل المسائل؛ لكن هذه المسألة لا يسعني أن أقلده فيها مثلاً، أو يقال له: أنت تخطئ فلاناً، أو تضلله!! فأنا لا أضلله، وإنما قلت بهذا القول باجتهادي، وقد يكون اجتهادي خطأً، لكنه في نظري صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري -كما قال الشافعي - خطأ يحتمل الصواب. وكذلك قد يأتي إنسان فيقول: فلان قال قولاً ما سبق إليه، وهذا يلزم منه أنه يحكم بأن الحق قد غاب عن الأمة طيلة القرون الماضية، وهذا في الحقيقة لا يلزم. أولاً: كون هذا القول لم يسبق إليه فقد أقول لك: لا، بل قد سبق إليه، وقاله فلان وفلان من الناس، وعلى فرض أنه ما سبق إليه، ولا قال به أحد قبله، فقد يكون قيل هذا القول ولكنه لم ينقل، وحتى لو فرض أنه لم يسبق إليه فهو لا يرى أن هذا من الحق الذي يجب أن تعلمه الأمة في كل زمان ومكان، بل يرى أن هذا من الأشياء الاجتهادية التي قد يقول بها إنسان، وربما تحتاجه أمة أو لا تحتاجه، فليس فرضاً أن تعلمه الأمة في كل حين، وفي كل زمن، وفي كل مكان، أو أن يقول به من قال به، وقد يرى أن المسألة ما نقل فيها قول أصلاً. والإلزام من المشكلات، وكونك تلزم إنساناً بمقتضى كلامه فهذا خطأ، فاللازم يصلح في كلام الله تعالى، فتقول الآية يلزم منها كذا، واللازم يعتبر دليلاً من أنواع الدلالات، وكما يقول علماء الأصول: الدلالات ثلاث؛ دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام. يعني يلزم على هذا النص كذا وكذا، وهذا في كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الناس فلا تلزم فيه بشيء، ولا تقول: يلزم من كلامه كذا، ويلزم كذا، فلعله ما خطر بباله هذا اللازم، ولا فكر به في يوم من الأيام، وقد لا يوافقك على أنه لازم، ولو وافقك على أنه لازم فقد لا يقر به، فلماذا تلزم الناس بشيء لم يلتزموا به؟ ومن بطلان اللوازم أن أبا نواس الشاعر الماجن المشهور حاول أن يستخدم هذا الإلزام بطريقة معينة، فكان أهل العراق الأحناف يقولون بجواز حل النبيذ، وأهل الحجاز يقولون بتحريمه وأنه مثل الخمر، فهذا الشاعر الماجن الخبيث يقول: أباح العراقي النبيذ وشربه وقال الحرامان المدامة والسكرُ وقال الحجازي الشرابان واحد فحل لنا من بين قوليهما الخمر سآخذ من قوليهما طرفيهما وأشربها لا فارق الوازر الوزر ولا شك أن من قال بحل الخمر فهو كافر، لأن تحريمها ثابت بنص القرآن الكريم: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:90] لكني أردت أن أبين لك فساد الألزامات التي يختلقها بعض، ويحاول أن يحاصر بها الآخرين. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 36 الموضوعية في الحوار والمناقشات الأدب الثامن: الموضوعية، والموضوعية تعني رعاية الموضوع وعدم الخروج عنه، فمن الموضوعية مثلاً عدم إدخال الأحاديث بعضها في بعض، فبعض الناس إذا أحرجته في موضوع هرب منه إلى موضوع آخر، فهو ينتقل من موضوع إلى موضوع، وكل ما أحرج في نقطة انسحب منها إلى غيرها، ونقل الحديث نقلة بعيدة أو قريبة، ولعل هذا أعظم أدواء المناظرة التي تجعل الإنسان يخرج منها ربما بعد ساعات بلا طائل لأنه يتنقل مثل الطائر من غصن إلى غصن، فالموضوعية تقتضي ألا تخرج من نقطة إلا إذا انتهيت منها، ثم تنتقل إلى غيرها. وكذلك من الموضوعية عدم إدخال موضوع في آخر، فقد تتكلم مع إنسان في الحجاب -حجاب المرأة المسلمة- وضرورة تحجبها والتزامها بالستر، وبعدها عن السفور، وبعدها عن مكان اختلاط الرجال بالنساء، أو أماكن اللهو، أو أماكن الفساد، أو غير ذلك، فتجد أنه يناقشك في هذا الموضوع، وبعد قليل يقول لك: يا أخي! الناس وصلت القمر وأنت ما زلت تجادل في هذا الموضوع!! لكن ما علاقة وصول الناس بالقمر أو عدم وصولهم بقضية مطالبتنا بحجاب المرأة المسلمة مثلاً، أليس هذا إدخال لموضوع في قضية لا يتعلق بها؟ أو تكلم إنساناً في قضية الغناء -الغناء الفاحش البذيء- الذي أصبح يصك الأسماع، ويهيج الغرائز، ويدعو إلى الرذيلة، فتتكلم مع إنسان في هذه القضية فيقول لك: يا أخي! المسلمون يقتلون في مشارق الأرض ومغاربها، وتسفك دماؤهم وتنتهك أعراضهم، وأنت ما زلت تتكلم في هذه الجزئيات! لكن نحن اتفقنا أن موضوع الغناء هو الذي سيناقش، فما دخل قضية قتل المسلمين؟ وهل إذا تركنا الحديث عن الغناء، أو الحديث عن حجاب المرأة المسلمة حلَّت مشاكل المسلمين ورفع الظلم عن المظلومين؟! وكذلك من الموضوعية: عدم النيل من المتحدث، أو اتهامه في نيته، أو الكلام على شخصه، وبعض الناس يقول: مَنْ هذا الإنسان؟ وما هدفه؟ وما تاريخه؟ ومن وراءه؟ وما درجته من العلم؟ وما قدره؟ يا أخي! ما علاقتك بهذا الشخص المتكلم وليكن [س] نكرة من الناس، المهم أن أمامك دعوى وكلاماً قيل، ومطلوب منك مناقشته بالحجة والبرهان، ودع المتكلم جانباً وانظر في نوعية الكلام الذي قيل، وما قدره من الخطأ أو من الصواب: خذ من كلامي ولا تنظر إلى عملي ينفعك قولي ولا يضررك تقصيري وكذلك ليس من الموضوعية: الاشتغال بالأيمان المغلظة، والله سبحانه وتعالى قد ذم الذين يكثرون من اليمين، فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:10-13] دَعِيٌّ ملصق في أهل العلم وليس منهم، فهوملصق في قوم وهو ليس منهم، ومع ذلك يكثر من الأيمان الكاذبة، أو قد لا تكون كاذبة؛ لكن اليمين ليس بحجة، وكونك تحلف بالله العظيم الذي لا إله إلا هو الغالب الطالب أن هذا هو الحق؛ هذا لا يقدم ولا يؤخر، فقد تكون أنت مقتنع أن هذا هو الحق؛ لكن قناعتك هنا ليس لأنك درسته وعرفت حججه وعرفت أدلته؛ ولكن لأنك تلقيته عن شيخ تعظمه فوقر في قلبك، أو لأنك درسته منذ صغرك فاستقر قراره في نفسك، وليس لأن لديك دليلاً على أنه هو الحق، فقد تكون أنت مقتنعاً قناعة مطلقة بأنه هو الحق فتحلف على ذلك، وأنا أعرف بأنك إذا حلفت تعتقد أنه هو الحق -إذا كان حلفك باراً- ولكن لا يلزم أن يكون هو الحق؛ فقد تكون تراه الحق وتحلف عليه، والواقع أن الحق بخلافه. وكذلك من الموضوعية: تجنب الكذب في الحديث؛ فأحياناً المناظر يكذب! وقد سمعت مرة اثنين يتناظران في قضية، وأحدهما شيعي، فالشيعي قام وقال: روى الإمام أحمد في مسنده أن: وذكر حديثاً موضوعاً مختلفاً، هذا الحديث لما ترجع إلى الجزء والصفحة لا تجد الحديث- لكن لأنه يعرف أن الخصم ليس عنده وقت حتى يرجع إلى المسند ويتأكد من صحة الحديث، ومن البعيد جداً أن يكون قد أحاط بمسند الإمام أحمد حتى يعرف ما فيه مما ليس فيه، فيستغل الحديث، ويضر الخصم بحديث يختلقه، وينسبه إلى كتاب من هذه الكتب وربما ينطلي عليه، فهذا ليس من الموضوعية في شيء، وإذا لم يكتشف الخصم حال المناقشة فربما يكتشف فيما بعد، ويبين أنك كنت كاذباً فيما ادعيت. وأخو الكذب -هذا اسمه الكذب لكن هناك شيء اسمه أخو الكذب- هو بتر النصوص كأن تنقل نصاً طويلاً، فتنقل منه الكلام الذي يصلح لك ويدل على ما تريد وتترك الباقي! فهذا ليس من الأمانة، لكن انقل الكلام كاملاً حتى يشاركك الناس فيما استنتجته، فإما أن يقروك أو يقولوا: الكلام لا يفهم، وليس من الضروري أن يكون الكلام يفهم حرفياً، فإن كلامي وكلام فلان وعلان ليس كلام رب العالمين حتى تقول: هذا كلام حروفه وألفاظه كلها مقصودة، وله وله بل هذا كلام بشر يخطئ ويصيب، فهذا أولاً. الأمر الثاني: أن هذا الكلام مع أنه كلام بشر قد يقوله الإنسان ولا يدرك كل ما وراءه، والكلام يفهم من حال المتكلم ومن سياقه ومن نصوصه الأخرى ومن سيرته، كما ذكر الإمام ابن القيم في مواضع من كتبه، من إن كلام الناس يفهم على ضوء الشخص المتكلم، وظروف المتكلم، وما يعلم عن المتكلم وأحواله، فإذا صدر كلام من شخص عرفنا أنه يحتمل أكثر من معنى، وأن الذي يليق بفلان من المعاني كيت وكيت وكيت وإن كان الكلام يحتمل غيره، لأن كلام الناس يحتمل وجوها. فمن الموضوعية ألا تبتر النص، وتستخرج فهماً أنت فهمته من الكلام وتقدمه للناس. كما أن من الموضوعية أنك إذا لم تعرف شيئاً فإنك تقول: لا أدري، وإذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله -كما يقولون- ويجب على العالم أن يعلم تلاميذه وطلابه لا أدري، حتى يلجئوا إليها إذا عجزوا. ومن الموضوعية: التوثيق العلمي، فإذا استدللت بكلام فلا تستدل بشائعات، أو ظنون، أو أوهام ربما استقلّت في عقلك أو عقل فلان أو علان من الناس!! بل استدل بالإحصائيات، وبالنصوص، وبالأدلة الواضحة -بكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم- وإذا وجدت أقوالاً للعلماء تنقلها بنصوصها أو ما يشبه النصوص فالمهم أنك تستدل بحقائق علمية وتوثق ما تقول، أما مجرد الظنون والأوهام والشائعات فإنها لا تصلح أدلة. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 37 احترام الطرف الآخر الأدب السابع: احترام الطرف الآخر -وهذا سؤال جاء من ضمن الأسئلة- فنحن مأمورون أن ننزل الناس منازلهم، وألا نبخس الناس أشياءهم، فليس نجاح الحوار والمناظرة مرهوناً بإسقاط شخصية الطرف الآخر الذي تناظره، ولا إسقاطك لشخصيته يعني أنك نجحت في المناظرة، بل ربما يرتد الأمر عليك، ويكون هذا دليلاً على عجزك وإفلاسك، وأنك لا تملك الحجة فاشتغلت بالمتكلم عن الكلام. والناس اليوم تعي وتعرف وتعقل، ولو أنك أسندت قولاً من الأقوال الباطلة الزائفة حيناً من الزمن بالتهويش والتشويش واللجاج والترويج؛ فإن هذا القول الذي لا يسنده الحق سرعان ما ينهار ويتهاوى بمجرد غفلة الساعين به، أو انشغالهم عنه فيموت وينساه الناس. ولهذا كان من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود الذي رواه الترمذي في كتاب البر والصلة، ورواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وابن حبان وابن أبي شيبة والحاكم وهو حديث صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ليس المؤمن باللعان، ولا بالطعان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء} فليس المؤمن باللعان، ولا بالطعان في الناس وأعراضهم ونياتهم ومقاصدهم، وأحوالهم، ولا بالفاحش ولا بالبذيء. وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: {لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشاً ولا متفحشاً، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً} فهذا حال النبي صلى الله عليه وسلم في صفته، وهذا كلامه في وصف المؤمن أنه لا يحب الفحش ولا التفحش. ومن بديع احترام رأي الآخرين ما ينقل عن الإمام مالك أنه لما ألف الموطأ ومكث أربعين سنة يؤلفه، وقرئ عليه آلاف المرات، وعرضه على سبعين من العلماء فأقروه عليه وتعب عليه أيما تعب، ومع ذلك لما بلغ الخليفة المنصور كتاب مالك أعجبه، وقال: إنا نريد أن نعممه على الأمصار ونأمرهم باتباعه، فقال له مالك: لا تفعل رحمك الله، فإن الناس سبقت منهم أقاويل وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم -يعني قد يسبق إليهم شيء ليس هو الحق فيأخذون به، ويصعب تغييرهم عنه، وهي أمور اجتهادية ليس فيها نصوص قطعية- قال: فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 38 ترك التعصب لغير الحق الأدب السادس: هو ترك التعصب لغير الحق، فلو حاورت إنساناً فتناول معهداً تعمل فيه، أو مقالة كتبتها، أو كتاباً ألفته، أو محاضرة ألقيتها، أو تناول جهة تحسب أنت عليها بالانتقاص والسب وتتبع الأخطاء، فإياك أن تتعصب لهذا الشيء الذي تنتمي إليه، وتنتسب إليه، أو ترتبط به، وتبادر بالرد، أو أن تقوم بتقديم كشف بالإيجابيات والحسنات في مقابل الكشف الذي قدمه هو بالأخطاء والسلبيات. ولكن عليك أولاً أن تدع زمام الحديث بيده حتى ينتهي كما اتفقنا قبل قليل. ثانياً: اعترف بصوابه فيما أصاب فيه، والحق ضالة المؤمن كما سبق. ثالثاً: إذا انتهى فانقد الخطأ بطريقة علمية بعيدة عن العواطف. وما أعز وأصعب وأندر أن يتخلص الإنسان من التعصب! أي لون من ألوان التعصب؛ فإن الحزبيات قد أثرت في المسلمين تأثيراً كبيراً جداً، فمثلاً يتعصب الإنسان أحياناً لمذهب من المذاهب مالكياً، أو شافعياً، أو حنبلياً، أو حنفياً أو غير ذلك، أو يتعصب لمذهب سياسي، أو يتعصب لوطن أو بلد معين، أو يتعصب لدعوة أو جماعة من جماعات الدعوة، وهذا ما يسمى بالحزبية، بحيث يحيط الشيء بعقله، فلا يملك عقلاً متحرراً من القيود والأوهام، بل تجده في فلك معين، ولا يستطيع أن يتقبل الحق إلا في إطار محدود! الجزء: 183 ¦ الصفحة: 39 البدء بمواضع الاتفاق والإجتماع الأدب الخامس: البدء بمواضع الاتفاق والإجماع، والبدء بالمسلمات والبدهيات، فمن المصلحة ألا تهجم على قضية مختلف عليها، بل ابدأ بموضوع متفق عليه: بقاعدة كلية، بمسلمة أو بدهية، وتدرج منها إلى ما يشبهها أو ما يقاربها، ثم إلى مواضع الخلاف، ومما يذكر عن سقراط وهو أحد حكماء اليونان أنه كان يبدأ الآخرين بنقاط الاتفاق بينهما، ويسأله أسئلة لا يملك الخصم إلا أن يجيب عليها: بنعم، فكلما ما سأله قال: نعم، ويظل ينقله إلى الجواب تلو الجواب، حتى يرى المناظر أنه أصبح يقر بفكرة كان يرفضها من قبل. وأضرب لك مثالاً على قضية الانتقال من الكليات إلى الجزئيات، ومن المسلمات إلى غير المسلمات: مثلاً يخاصمك إنسان في قضية أساليب الدعوة إلى الله تعالى، وهل هذه الأساليب أساليب توقيفية -أي: أنه لا بد أن يكون هناك نص على أسلوب الدعوة- أم أنها أساليب اجتهادية متجددة يمكن الأخذ بأي أسلوب ولو لم يكن منصوصاً عليه إذا لم يكن هذا الأسلوب حراماً. ومثاله الأناشيد: فقد يقول قائل: الأناشيد أسلوب من أساليب الدعوة، ويقول آخر: لا، أساليب الدعوة توقيفية، والأناشيد لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فلا يجوز استخدام الأناشيد كأسلوب من أساليب الدعوة، وهذا يختلف فيه بعض العلماء وبعض الدعاة في هذا العصر، ويتحاورون فيه وفي رأيي أنه يمكن أن تبدأ بهذا السؤال في نقاش حول موضوع الأناشيد -موضوع جزئي شكلي ليس هناك مانع لكن للإيضاح فقط- تبدأ بهذا السؤال لو أن إنساناً أنشد نشيداً ليس في معصية، ولا في باطل محرم، وليس فيه دف ولا مزمار ولا غيره، وهذا الكلام أنشده على سبيل الترويح عن النفس، أو قطع عناء الطريق في سفر؛ فهل يحرم هذا أو لا يحرم؟ فسيقول لك الطرف الآخر: لا يحرم هذا، ثم تنتقل وتسأله سؤالاً آخر: هل يوجد شيء في الشريعة يكون مباحاً غير حرام بشرط عدم إصلاح النية فيه؟ فإذا صلحت النية كان هذا الشيء حراماً؟ سيقول لك: لا. إذاً: أنت ناقشته في موضوع الأناشيد، فبدأت معه بنشيد ليس فيه إثم ولا كلام باطل ولا دف ولا غيره، وهل يجوز أم لا يجوز للمؤانسة أو للترويح عن النفس؟ قال: نعم يجوز، ثم تنتقل إلى سؤال آخر: هل يوجد في الشرع شيء يمكن أن يكون مباحاً بشرط عدم إصلاح النية، فإذا صلحت النية كان حراماً؟ سيقول لك: لا، لأن صلاح النية إذا لم يجعل الحرام حلالاً فمن باب الأولى أنه لا يجعل الحلال حراماً. إذاً: فمن أين لك أن قراءة بعض الأناشيد بنية صالحة بهدف إشغال الناس عن الغناء المحرم، أو رفع معنوياتهم، أو تلقينهم الحكم والمعاني الرفيعة أن هذا العلم يكون حراماً؟ وقد يقول بعض الناس: إن هذه عبادة، والعبادة توقيفية، فيقول: من أين لك أن هذا داخل في باب العبادة التي هي القربى؟! فالعبادة أنواع: فقد تطلق العبادة على العبادات التوقيفية التي هي القرب: كالصلاة والحج فصفة الصلاة أو صفة الحج أو إحداث صلاة جديدة؛ هذا لا يجوز، لأن الصلاة توقيفية وقربة محضة إلى الله تعالى، لكن هناك أعمال أخرى يمكن أن يكون الإنسان مأجوراً عليها ولا يطلق عليها أنها قربة محضة إلى الله تعالى، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {وفي بضع أحدكم صدقة} وليس معنى ذلك أن جماع الإنسان لزوجته يكون عبادة بذاته، لكن يؤجر عليه الإنسان، وليس قربة محضة إلى الله عز وجل. وبالمناسبة لا بد من ضوابط الأناشيد بطبيعة الحال؛ مثل عدم الإكثار منه، ومثل كونه ليس فيه معانٍ سيئة، وألا يكون مصحوباً بآلات محرمة مثلاً، إلى غير ذلك. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 40 أدب الإنصاف الأدب الرابع الإنصاف: فعليك أن تكون الحقيقة ضالتك المنشودة، فتبحث عنها في كل مكان، وفي كل منعطف، وفي كل زاوية، وفي كل ناحية، وفي كل عقل، تبحث عن الحقيقة، وجرب نفسك ولا تبال بالناس رضوا أم سخطوا. فكن باحثاً عن الحقيقة، وليعلم ربك من قلبك أنه ليس في قلبك إلا محبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب الحق الذي يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلتستخلص الحق من خصمك، ولو من بين ركام الباطل الكثير الذي ربما جاء به، وربما أجرى الله تعالى كلمة الحق على لسان الفاسق، أو على لسان الكافر أحياناً، ويمكن أن تستفيد من المحاور حينما يكون فاسقاً أو كافراً، عيباً موجوداً عندك، أو موجوداً عند المسلمين، أو تستفيد منه مصلحة دنيوية للمسلمين، أو تستفيد منه أسلوباً من أساليب الدعوة إلى الله تعالى ربما فطن له وغفلت عنه! ويقول الشيخ عبد الرزاق عفيفي حفظه الله كلمة حكيمة جميلة: إن الذين -يعبر عن رد الحق عند كثيرين من المحاورين- لديهم ذكاء حاد لا يقبلون الصواب إلا إذا كان من عند أنفسهم، وذلك أن الله تعالى أعطاهم قدرات وطاقات عالية وفقوا بسببها إلى كثير من الحق الذي أخطأ فيه الناس، ولذلك لديهم من الثقة بآرائهم وعدم الثقة بآراء الآخرين ما يصعب معه على الناس إقناعهم بغير الآراء التي يرونها هم. إن الاعتراف بالحق وإعلانه أيضاً لا ينقص من قيمة الإنسان؛ فكونك تقول ولو في مناظرة، أو محاورة، أو محاضرة: أنا أخطأت في كذا، هذا لا يعيبك، بل بالعكس هذا يرفع منزلتك عند الناس، ويدل على شجاعتك وقوتك، وثقتك بنفسك. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 41 حسن الإصغاء الأدب الثالث من آداب الحوار: حسن الاستماع والإصغاء: أيها الحبيب: فن الإصغاء إلى الآخرين قلَّ من يجيده، وأكثرنا نجيد الحديث أكثر مما نجيد الاستماع، والله تعالى جعل لك لساناً واحداً وجعل لك أذنين، حتى يكون ما تسمعه أكثر مما تتكلم فيه، فلا بد أن تسمع جيداً، ولا بد أن تستوعب جيداً ما يقوله الآخرون وبين قوسين أذكر نكتة ذكرناها في دروس بلوغ المرام أكثر من مرة، لكن لا مانع أن نُطرف بها الحضور، وهي عن علي بن أبي طالب، فهو يحث تلميذه على الاستماع إليه والإنصات إليه، فيقول له كلمة فيها غرابة لغوية: [[ألصق روانفك بالجبوب، وخذ المزبر بأباخسك، واجعل جحمتيك إلى أثعباني حتى لا أنبس بنبسة إلا أودعتها بحماطة جنجنانك]] فهذه كلمة غريبة سألوا عنها الفيروز أبادي وهو بالروم قالوا: ماذا قصد علي رضي الله عنه بكلمته تلك؟ قال: يقصد رضي الله عنه أنه يقول: ألزق عضرتك بالصلة، وخذ المسطر بشناترك، واجعل حندرتيك إلى قيهلي، حتى لا أنغي نغية إلا أودعتها في لمظة رباطك. والمعنى انتبه إلي، واجعل عيونك في فمي، وأنصت إليَّ، فلا أتكلم بكلمة إلا فهمتها ووعيتها بقلبك. من لي بإنسان إذا أغضبته وجهلت كان الحلم رد جوابه وإذا صبوت إلى المدام شربت من أخلاقه فسكرت من آدابه وتراه يصغي للحديث بسمعه وبقلبه ولعله أدرى به ويقول أحد الشعراء: إن بعض القول فن فاجعل الإصغاء فنا فضع أذنك للمحدث، وحملقة عينيك بوجهه، وتأملك لما قال يمكن أن يكون دليلاً على قوتك وقدرتك على الحوار، وإذا وجدت ملاحظات فيمكن أن تسجلها في ورقة لتتحدث بها بعدما ينتهي من حديثه. وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم، فربما تحدث معه بعض المشركين بكلام لا يستحق أن يسمع، فأصغى النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يده حتى إذا انتهى هذا الرجل وفرغ ما عنده، قال له صلى الله عليه وسلم: {أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ -كما في سيرة ابن إسحاق وغيره- قال: نعم، فقل: فتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء من القرآن} فعليك أن تصغي، ولو كان لك ملاحظات تسجلها ثم تقولها بعد. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 42 حسن المقصد الأدب الأول: حسن المقصد، وليس المقصد في الحوار العلو في الأرض ولا الفساد ولا الانتصار للنفس، ولكن المقصود -كما سبق- الوصول إلى الحق، أو الدعوة إلى الله عز وجل، فيعلم الله تعالى من قلب المحاور أنه لا يهدف إلا إلى ذلك، فلا يهدف إلى الانتصار، ولا إلى أن يتحدث في المجالس أنه أفحم خصمه بالحجة، فيحتمل أن يكون الخطأ عندك والصواب عند غيرك، فالله تعالى لم يحابك ويختصك دون بقية خلقه بالعلم والفهم والإدراك والعقل: جاء شقيقٌ عارضاً رمحه إن بني عمك فيهم رماح فإذا كان عندك حق فعند غيرك حق، وقد يكون عندك حق كثير وعنده حق قليل، وقد يكون العكس، فيكون الإنسان طالباً للحق حسن النية، وليس هدف المحاور وهو يسمع كلام خصمه أنه متى يسكت حتى يرد عليه، بل عليه أن يكون هدفه الحقيقة والوصول إليها، ولهذا كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه، وهذه هي أخلاق أتباع الأنبياء: ما ناظرت أحداً إلا وددت أن الله تعالى أجرى الحق على لسانه، وبعد ذلك أنصرف. وأقول: سلَّمتُ ووافقت ولا داعي للحوار والمناقشة، وما قلته هو الصحيح وأنا أُسلِّمُ لك وأبصم على ما ذكرت. وهذا هو الإخلاص، وهذا هو التجرد، وليست القضية أكثر من هذا. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 43 التواضع بالقول والفعل الخلق الثاني: التواضع بالقول والفعل، وتجنب ما يدل على الغرور والعجب والكبرياء، فبعض الناس إذا حاور شخصاً أو حادثه تجد أنه أعرض ونأى بجانبه وازور، فلا يلتفت إلى خصمه ولا ينظر إليه، بل هو قد أعطاه جنبه إشارةً إلى سخرية أو عدم اكتراثه به، وربما بان على قسمات وجه الإنسان، أو حركة حاجبيه أو عينيه أو شفتيه أو وجهه ما يدل على السخرية والاستكبار، والاستهتار بقول الطرف الآخر، بل ربما يزم شفتيه، أو لوى عنقه، أو ما أشبه ذلك، أو أشار بطرف عينه إشارات تعبر عن السخرية والازدراء. ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول -كما في الصحيح من حديث ابن مسعود -: {الكبر بطر الحق، وغمط الناس} فهذا كله من الكبر، فمن التواضع أن تقبل الحق ممن جاء به، حتى ولو كان أعدى أعدائك وأعدى أعداء مذهبك. وأنت عليك أن تقبل الحق إذا جاء به، وتعتبر ذلك ضالتك المنشودة، فأنت باحث عن الحقيقة أنى وجدتها فأنت أحق بها. ومن التواضع أيضاً ترك الألفاظ الدالة على الأستاذية والتعالم والكبرياء، والشعور بالنفس وازدراء ما عند الآخرين، وبعض الناس إذا تكلم أو حاور تجده كثيراً ما يقول: أنا، عندي، قلت، أرى، والذي يخطر ببالي، تجربتي تثبت كذا! وقد ذكر الإمام ابن القيم وغيره من أهل العلم أن إبليس هو الذي قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف:12] فأنا هذه المتعاظمة الرادة للحق هي من إبليس، وقارون هو الذي قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] فالذي يقول عندي وهو ليس أهلاً لذلك فهو شبيه بـ قارون، وهكذا فرعون وسائر المستكبرين الذين تعاظموا أنفسكم وردوا الحق. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 44 أمثلة للحوار الهادف وهذه أخيراً أمثلة للحوار أذكرها باختصار. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 45 حوار إسحاق مع الشافعي وأحمد فهناك حوار بين إسحاق بن راهويه رحمه الله إمام من أئمة أهل الحديث والشافعي وأحمد، يقول إسحاق: إن الإمام أحمد كان في مكة، وقال لي لماذا لا تذهب للشافعي وتستفيد منه؟ قلت له: كيف أترك ابن عيينة والمشايخ وأذهب إلى الإمام الشافعي!! قال: إنه يفوت وهم لا يفوتون، قال: فذهبنا إليه وتناظرنا في كراء بيوت مكة وهل تملك أو لا تملك، وهل تكرى أو لا تكرى؟ قال: فتكلمت مع الشافعي وتحمست ولكن الشافعي كان متساهلاً، فتكلمت بالفارسية مع رجل بجنبي، ذكر كلمة بالفارسية معناها هذا ليس له كمال، قال: فعلم الشافعي أني أسبه وإن كان لا يجيد اللغة الفارسية، فقال: هل تريد أن تناظرني؟ قال: من أجل المناظرة جئت، قال: أرأيت قول الله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر:8] أليس الله نسب الديار إلى أربابها أو إلى غير أربابها؟ قال: قلت بل إلى أربابها، قال: عمر لما اشترى دار السجن بمكة اشتراها من إنسان يملكها أو لا يملكها؟ قال: ممن يملكها، قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور} الدور لهم أو ليست لهم؟ قال: لهم، قال إسحاق: فقلت: الدليل على صحة قولي أنه قال به من التابعين فلان وفلان، قال: فالتفت الشافعي إلى رجل بجنبه وقال: من هذا؟ قال له: هذا إسحاق بن راهويه قال: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قلت: هكذا يزعمون! قال: ما أحوج أن يكون غيرك في مكانك! فآمر بعرك أذنك -هذا أدب يؤدب به الطالب الصغير- أقول لك: قال الله، قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: قال: عطاء وطاوس والحسن وإبراهيم وهل لأحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة؟ والقصة في طبقات الشافعية. ومثلها قصة أخرى طريفة بحضرة الإمام أحمد وهو أن الشافعي وإسحاق تناظرا أيضاً في جلود الميتة إذا دبغت، هل تطهر أو لا تطهر؟ فقال الشافعي: دباغ جلود الميتة طهورها -أي: إذا دبغ جلد الميتة طهر- قال إسحاق: ما الدليل؟ قال: الشافعي: حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم: {مر بشاة يجرونها، فقال: هلا انتفعتم بجلدها} وهي ميتة، قال إسحاق: دليلي على أن جلود الميتة لا تطهر حديث عبد الله بن عكيم {أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليهم قبل أن يموت بشهر: لا تنتفعوا من الميتة بإهاب -يعني جلد- ولا عصب} وهذا يمكن أن يكون ناسخاً، لأنه قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بشهر، قال الشافعي: هذا كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم وذاك سماع، والسماع مقدم، فقال له إسحاق: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وغيرهم، وكان ذلك حجة عليهم أمام الله تعالى، فسكت الشافعي. والغريب في الأمر أن أحمد بن حنبل ذهب بعد تلك المناظرة إلى حديث عبد الله بن عكيم وقال به ثم رجع عنه فيما بعد، وكذلك إسحاق رجع إلى حديث الشافعي أن جلود الميتة تطهر وقال به، وهذا دليل على تجردهم وسعيهم إلى الوصول إلى الحق. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 46 حوار ابن شاذان مع رجل شيعي من طرائف المناظرات؛ أن أبا علي بن شاذان وهو فقيه وعالم، ولكنه ضعيف في اللغة العربية -ضعيف في النحو- ناظر أحد الشيعة حول قول النبي صلى الله عليه وسلم: {نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة} فقال أبو علي بن شاذان: هذا دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، فقال ذلك الشيعي: إن الحديث: {ما تركنا صدقة} فصدقة مفعول به منصوب، والمعنى أن ما تركناه نحن الأنبياء من الصدقات فإنه لا يورث. أما بقية مالنا مما لم يخصص للصدقة فإنه يورث، فقال أبو علي بن شاذان: أنا والله لا أعرف النحو، ولا أعرف اللغة، ولا أعرف المرفوع والمنصوب، والفاعل والمفعول، لكني أعرف شيئاً، هو أن هذا الحديث قاله أبو بكر رضي الله عنه واحتج به، وهو عربي فصيح، يعرف اللغة العربية، واحتج به على علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب، وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين، وكلهم أقروا أبا بكر على ذلك وسكتوا ولم يطالبوا، ولم يقولوا الكلام الذي قلته أنت، فدل على أنهم وهم عرب فصحاء فهموا من الكلام مثلما فهم أبو بكر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد بهذا الحديث أن الأنبياء لا يورثون. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 47 الأسئلة الجزء: 183 ¦ الصفحة: 48 حكم الإكثار من المناقشة والجدل السؤال هل نكثر من المناقشة والجدل؟ الجواب لا، الجدل كثيراً لا يأتي بخير، اللهم إلا أن يكون مجادلة بالتي هي أحسن، وبقدر الحاجة، وبهدف الوصول إلى الحق، أما كثرة الجدل فإنها ضرر على الإنسان، وربما صارت سجية وطبيعة له بالإكثار والاسترسال في الحديث، وإنما يكون الكلام أنه إذا حصل عند الإنسان مجال حوار أو مناظرة مع منحرف، أو ضال، أو جاهل، أو عدو للإسلام أو حتى مع طالب علم في مسألة علمية؛ أن يلتزم الإنسان بهذه الشروط وهذه الضوابط، وإنما تحدثت عنها لكثرة الإخلال بها لدى كثير من المسلمين، بل من أهل السنة بل من طلبة العلم، أو من ينسبون إلى طلبة العلم. أسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى ما يحبه ويرضاه، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 183 ¦ الصفحة: 49 من يحمل هم الإسلام الإسلام قضية عادلة، ودين حق وما سواه باطل، ولكن كأن هذه القضية العادلة بيد محام فاشل، ولذا فلابد من الوعي، ومحاسبة النفس والمجتمع والأمة عن قضية الإسلام، وهنا تجد مناقشة واضحة ودعوة واضحة لتبني قضية الإسلام. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 1 حالة المسلمين إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أحبتي الكرام هذا هو الدرس السادس والثلاثون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه هي ليلة الإثنين التاسع من شهر صفر لعام (1412هـ) . أين من يحمل هم الإسلام؟ الجزء: 184 ¦ الصفحة: 2 كثرة الداخلين إلى الإسلام كثيراً ما تطالعنا الصحف والجرائد والنشرات بذكر أخبار أو أرقام لأولئك الذين دخلوا حديثاً في الإسلام من كافة الجنسيات والديانات والبلدان، وهذا لا شك من المظاهر التي تدل على قوة هذا الإسلام وثباته ونمائه، فعلى رغم تأخر أهله وتخلفهم في كثير من المجالات، وعلى الرغم من الكيد المنظم والمدبر من قبل أعدائه، إلا أن الذين يقبلون على هذا الدين ويدخلون فيه جمع غفير. وقد كُتب لي أن أَمرَّ ببعض المراكز؛ فكانوا يتحدثون أن الذي يُسْلِم في مركز واحد خلال أسبوع، أحياناً ما يزيد على ثلاثين ما بين رجل وامرأة، ممن اجتذبهم الإسلام إليه بنقائه وصفائه ونوره، فهو دين الله عز وجل في الأرض، السالم من كل تغيير أو تحريف أو تبديل. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 3 تأخر المسلمين أنفسهم أيها الأحبة: إننا لا نجد أبداً أخباراً تتحدث عن أعداد قلت أو كثُرت من المسلمين الذين هم مسلمون أصلاً ولكنهم تقدموا في إسلامهم من كونهم مسلمين بالوراثة والتقليد إلى كونهم مسلمين عن حقيقة واقتناع، ومن كونهم مجرد أرقام إلى كونهم شخصيات تعمل للإسلام وتحمل هم الإسلام، وهذه مفارقة مهمة. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 4 المسلم ثروة مهدرة أيها الأحبة إننا كثيراً ما نسمع أو نقرأ، عمن يتحدث عن الثروات المهدرة من الأموال الطائلة في بلاد المسلمين، ولكننا لا نكاد نسمع أو نقرأ من يتحدث عن أغلى ثروة مهدرةٍ على الإطلاق، ألا وهي ثروة الإنسان، فالإنسان هو الذي يستطيع الحصول على المال، ويبني الحضارات، ويشيد المباني الفخمة، ويُعبِّد الطرق، ويبني الجسور، وهو الذي يحمل المبدأ، ويدافع عنه، ومع ذلك تجد الحديثَ عن الإنسان كثروة مهدرة تجده قليلاً، بل أقل من القليل، خاصة في عالم الإسلام وفى وسط أمة المسلمين. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 5 أصناف طوائف المسلمين أيها الأحبة إن المسلمين القُدامى -وأعنى بهم أمة الإسلام التي هي مسلمة أصلاً وليسو داخلين في الإسلام حديثاً فقط- إن المسلمين القدامى فيهم أدواء تحتاج إلى مبضع الجراح، وفيهم مصائب وآلام ونكبات، يعجز عنها الحصر، وقد تأملت في أحوالهم فرأيت أننا يمكن أن نصنف هؤلاء المسلمين إلى أربع طوائف تقريباً: الجزء: 184 ¦ الصفحة: 6 طائفة الأمل لهذه الأمة أما الفئة الرابعة، وهم الأمل المرجو بعد الله عز وجل في إنقاذ هذه الأمة مما تعيشه، فهم أولئك الذين حققوا جزءاً كبيراً من انتسابهم لهذا الدين، من أهل العلم والفقه والإصلاح والدعوة إلى الله عز وجل، وهم بحمد الله كثير، وفيهم خيرٌ كثير لهذه الأمة، هؤلاء هم الذين يرجى أن يكتب الله تعالى على أيديهم إنقاذ هذه الأمة مما تعيش فيه، وهم الذين يرجى أن يكتب الله على أيديهم أن يُحيوا تلك الطوائف من المسلمين الذين لم يحققوا انتسابهم لهذا الدين، وهم الذين بإذن الله تعالى ينفخون روح الإيمان والأمل والعمل في هذه الأمة، وقد تحدث عنهم واحد منهم، فقال يصف الصورة المثالية لهم: قُلوبهم طهرٌ يفيضُ على الورى وأيديهم تأسو جِراحَ الخوافقِ هُم السلسل الصافى على كل مؤمنٍ وفى حومة الهيجاءِ نار الصواعقِ هُم الحلمُ الريان في وقدة الظما وليس على الآفاقِ طيفُُ لبارقِ هُم الأملُ المرجو إن خاب مأمل وأوهنَ بعد الشوط صبر السوابقِ كأني أراهم والدُنا ليست الدنا صلاحاً ونور الله ملء المشارقِ أقاموا عمود الدين من بعد صدعه وأعلوا لواء الحقِ فوق الخلائقِ الجزء: 184 ¦ الصفحة: 7 طائفة الانسلاخ والاغترار بالحضارة وممن ينتسبون إلى هذه الأمة، ويعدون على الأقل في الإحصائيات الرسمية جزءاً منها، أولئك الذين انسلخوا عن حقيقة انتسابهم لهذا الدين، وتخلوا عن ولائهم لهذه الأمة، وأعجبهم ما فتح الله تعالى على العدو الكافر من زينة الحياة الدنيا وزهرتها، فتعلقت قلوبهم بأعداء الدين، وتخلوا عن حقيقة انتسابهم لهذه الأمة، فهم وإن كانت ثيابهم ثياب العرب، وألفاظهم ألفاظ العرب، إلا أن قلوبهم قلوب الأعاجم، وفى مثل هؤلاء يقول القائل: رُسل الفسادِ وما حلوا وما رحلوا إلا وكانوا به أعدى من الجربِ ألفاظهم عرب والفعل مختلف وكم حوى اللفظ من زورٍ ومن كذبِ إن العروبة ثوبٌ يخدعون به وهُم يرومون طعن الدين والعربِ واحسرتاه لقومي غرهم غرم سعى إليهم بِجلدِ المنقذ الحَدِبِ حتى إذا أمكنته فُرصةٌ برزت حُمرُ المخالبِ بين الشكِ والعجبِ والمدعون هوى الإسلامِ سيفهمُ مع الأعادي على أبنائه النُجُبِ يُخادِعون به أو يتقون به وما له منهم رِفد سِوى الخُطَبِ فهؤلاء رُبما تكلم الواحد منهم باسم الإسلام، وربما وضع اسم الله في ضمن كلامه، وربما تكلم عن الدين، ولكن حقيقته أنه يبث سموم الغرب في بلاد المسلمين، ويحمل أفكاراً غريبة عن هذه البلاد، فهؤلاء لا شك أنهم منسلخون عن هذه الأمة وعن روحها وجسمها وتاريخها، ولكنهم لا يستطيعون أن يجاهروا بمذهبهم هذا، ولا بموقفهم، بل يتمسحون بالإسلام تقيةً أو مداراةً أو مداهنة، وربما يجدون من يصدقهم في ذلك. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 8 طائفة اليأس والقنوط فمن هؤلاء المسلمين من يكون يائساً قد انقطعت حباله، فهو لا يفتأ يردد ليل نهار الأحاديث التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان غربة هذا الدين، وأنه بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، أو تلك الأحاديث التي تتكلم عن العزلة واعتزال الناس والبعد عنهم، وربما قال أحدهم: هذا أوان قوله صلى الله عليه وسلم: {أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك} فإذا سمع هذا المسلم اليائس القانط أخباراً عن المنكرات التي تقع هنا أو هناك، أو المصائب التي تنزل بالمسلمين؛ فإنه يكتفي بأن يحوقل أو يحسبل أو يسترجع، ولا يتعدى أمره ذاك. ولاشك أن ذكر الله تعالى مشروع في كل حال، فـ (لا حول ولا قوه إلا بالله) هي من أعظم الأسلحة التي يستعصم بها المسلم في وجه اليأس والقنوط، فإنه حين يقول: (لا حول ولا قوه إلا بالله) لا يردد كلاماً فحسب، بل هو يتلو دعاءً من كنز تحت العرش، يدله على أنه ينبغي أن يعتصم بالله عز وجل، ويستمد القوة من الله تعالى في مواجهة الواقع وتغييره إلى الأحسن، كما أنه ينبغي أن يدرك أن التحول من واقع سيء كالمعصية والفجور والإثم، إلى واقع حسن بالطاعة والبر والإيمان، لا يكون إلا بعون الله تعالى ونصره وتأييده. فهذه طائفة من المسلمين تعيش اليأس والقنوط. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 9 طائفة الارتباط بالدنيا وضعف الارتباط بالله وإلى جوار الطائفة الأولى هناك طائفة أخرى ممن انصرف الواحد منهم إلى دنياه، وأغرق في همومه الشخصية، فكل ما يحلم به هذا الإنسان وما يعنيه، هو أن تنفق تجارته، أو أن ترتفع رتبته، أو أن يزيد مرتبه، أما أن يكون همه أن ينفع المسلمين بجاهٍ أو مالٍ أو غير ذلك فهذا بعيد، وكل ما قد يردده على أحسن الأحوال أن يقول: أنا ربُ الإبل وللبيت ربٌ يحميه، إذاً لم يعد من همّ هذا الإنسان قضية الإسلام والمسلمين، أو تقديم نفعٍ لهم، وإنما كل همّه لا يتعدى مصالحه الشخصية، وهمومه الذاتية. وهؤلاء قد يكون الواحد منهم مُصلياً، وقد يكون صَائماً، وقد يسمى بالحاج فلان كما نرى في كثير من البلدان، وربما كان الدين عند أحدهم لا يعدو أن يكون حرزاً يعلقه على رقبته، أو يضعه في وسادته، أو حضور مأتمٍ، أو حضور مولدٍ، كما هو موجود في كثير من البلاد، ويعتقد أن الدين يتوقف ويقتصر عند هذا الحد، ولا شك أن هؤلاء يشكلون الأغلبية الساحقة من المسلمين، ممن هم مسلمون بالانتساب والانتماء، وربما كان أحدهم مصلياً، لكن لا تعتمل في قلوبهم هموم الإسلام، ولا تتحرق نفوسهم لقضايا المسلمين، بل أحدهم يكتفي بأقل قدر يضمن له اسم الإسلام، وربما قصّر في أقل هذا القدر أيضاً، فربما لم يصل الصلوات الخمس، أو لم يصلها في المسجد، ولو كان يقول إنه محب لله عز وجل. حدثني أحد الإخوة الأحباب، وقد اتصل بي فكان من ضمن حديثه أن قال: إن علاقتي بالله عز وجل علاقة قوية جداً، فقلتُ له: الحمد لله رب العالمين وهذه بشارة، وخلال حديثه قال: إنه قد يصلي بعض الصلوات، وقد تفوته فروض أخرى، فقلت: تفوتك في المسجد أو تفوتك بالكلية؟ قال: لا قد أُفوِّتُ الوقت بالكلية فلا أصلي، فقلت: كيف تكون علاقتك بالله تعالى جيدة، ويفوتك وقت أو أوقات!! يا أخي خُذ مقاييس البشر الدنيوية، فعندما يكون هناك علاقة حب بين إنسان وإنسان آخر، فيطلب هذا المحبوب من حبيبه أن يكون في وقتٍ معين في مكان معين، فإنه يتحمل في سبيل طاعة محبوبه آلام الحر والبرد، وبعد المسافات والهجير، وغير ذلك، فكيف بمن يحب الله تعالى كيف لا يتحمل في سبيله؟! أليس الله تعالى يقول: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31] ؟ فهذه هي آية المحنة التي يمتحن الله تعالى ويبتلى بها من يدَّعون محبته؛ ليتحقق لهم هذا الحب من خلال الأعمال التي يقومون بها لتصديق هذا الحب. ومما يذكر في الأقاصيص: أن رجلاً من أهل مصر في زمن غابر كان يجلس في المجالس، ويقف في المساجد، ويعلن ليل نهار، أنه يفنى في حب ملك مصر، يموت في حبه ويهلك في سبيله، وكانت هذه الدعوة قد ملأت فمه، فهو يرددها صباح ومساء، فترامى خبر هذا الإنسان إلى ملك مصر فدعاه، وقال له: أنت الذي تدعي أنك تحبني؟ قال له: نعم، قال: هل حبك حقيقة أم ادعاء؟ قال لا، هذا الحب حقيقة، قال: إذاً أنا سأخيرك بين أمرين إن كنت تحبني، إما أن تُغادر هذا البلد الذي أسكن فيه وهو مصر، وإما أن أقتلك، فاختر أحدهما؟ فقال: لا، بل أغادر هذا البلد. قال: فاخرج من عندي فلما خرج أمر السلطان الحارس أن يقتله بسيفه، وهنا قام الحارس وثار، وقال: لماذا أقتل رجلاً في غير جرم؟ فقال: لا، بل أجرم في حقي، لأنه يدعي حبي وهو كاذب؟ قال كيف عرفت أنه كاذب؟ قال: إنه لو كان محباً صادقاً لي، لرضي أن يُقتل على أن يفارقني، ويغادر بلدي، ولاستحلى واستلذ الصعب من أجلي، ولو وافق على أن أقتله لنزلت عن عرشي ووضعته مكاني، وسلمت له مقاليد الأمور!! فهكذا مقاييس البشر، فما بالك بمن يدَّعي محبة الله تعالى، فلابد أن يحقق هذا الحب بالعمل الصالح الذي يقوم به. إذاً هذه طائفة أخرى من المسلمين، ممن يلتزمون بقدر من الدين ويفرحون بالانتساب إليه، وقد يؤذيهم أن ينال أحدٌ دينهم بسوء؛ لكنهم لا يقدمون لدينهم عملاً يذكر. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 10 مظاهر برودة الإحساس عند المسلمين أحبتي الكرام إن الواقع الغالب على أمة الإسلام بكل طوائفها وأشكالها، وأقول -بكل أسف- حتى تلك الفئة المختارة التي هي الصفوة، تشترك إلى حد كبيرٍ في هذا الواقع؛ إن الواقع الغالب على أمة الإسلام؛ أنها تعيش قدراً كبيراً من جمود القلب، وبرودة الإحساس، فأنت قد تُجالس عالماً، أو طالب علم، أو فقيهاً، أو داعيةً، ولكنك لا تشعر بحرارة القلب، لا تشعر بالتوتر لهذا الدين، لا تشعر بقلب يحترق للإسلام والمسلمين، تجد كثيراً من البرود والجمود وخمول الإحساس عند هؤلاء، الحرقة التي تغلي في القلوب، إن لم تكُن قليلة فهي أقل من القليل، قال الشاعر: وقد كانوا إذا عُدوا قليلاً فقد صاروا أقلَّ من القليل هذا الخمود في أحاسيس المسلمين، يتجلى في مظاهر كثيرة، لو تأملها واحد منكم لوجدها فيمن حوله لا تكاد تخطئها عين، فمثلاً: الجزء: 184 ¦ الصفحة: 11 نتائج برودة الإحساس عند المسلمين برودة الإحساس لا يجوز ولا يليق، وهو يدل على ضعف التعاطف الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء} أين التراحم؟ أين التواد؟ أين التعاطف؟ أين الجسد الواحد؟ أين البنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضاً؟ هذه أصبحت -مع الأسف الشديد- أشبه ما تكون بالأحلام، وأصبح -والله- الأمر كما قال أحدهم: على بعضهم بعضاً أسوداً أشدةً وحولكِ أقصاهم نعامةُ فدفد فأما على إخوانه المسلمين فهو شجاع، يمتطي صهوات المنابر أو الكتب أو المجالس ولا يبالي، أما على الكفار فهو أذل من الأَمَةِ. حضر رجل عند عبد الله بن المبارك فتكلم في أحد إخوانه المسلمين، فقال له عبد الله بن المبارك: هل غزوت الفرس؟ قال: لا، قال: هل غزوت الروم؟ قال: لا، قال: هل غزوت الهند والسند؟ قال: لا، قال: أفسلمت منك فارس والروم والهند والسند، وما سلم منك أخوك المسلم! هذه مصيبة، أننا إذا عجزنا عن مواجهة الواقع المرير، فإننا قد نشتغل بأخطاء المسلمين، ونجسمها ونضخمها، أو نفتعل أخطاءً غير واقعة لندندن حولها. والحصيلة من خلال هذه المظاهر كلها، أننا نستطيع أن نقول: إن المسلم اليوم أمام قوم يعيشون لذواتهم أكثر مما يعيشون لدينهم، بل إن كثيراً منهم يعيش لذاته فحسب، ولا يتحرك للإسلام، ولا يعيش هَمَّ الإسلام في قلبه، إذاً هم الإسلام في قلوب المسلمين ضعيف، هذه فائدة أو خلاصة نستطيع أن نخرج بها من خلال تلك الأمثلة والنماذج. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 12 مرض الكيل بمكيالين مختلفين أما المظهر الرابع، وهو من أعاجيب أمراضنا التي نعيشها: فهو أنني لاحظت أن كثيراً من الناس، بل حتى -أحياناً- من إخواننا من الدعاة وطلبة العلم، من يكيلون بمكيالين مختلفين، وأضرب لك مثلاً على ذلك: قد تسمع إنساناً يتكلم عن طائفة من المسلمين في بلد ما، وما أصابهم وما نزل بهم، فيقوم وينسب إليهم أخطاءً وأنهم فعلوا وفعلوا، وأنهم ارتكبوا جنايات، وحملوا السلاح، وأنهم استخدموا العنف، ويبدأ يتكلم عن أخطاء هؤلاء المسلمين فيما يعتقد أو يزعم هو أنها أخطاء وقعوا فيها، فتجد عند هذا الإنسان الذي هو داعية أو طالب علم، تجد عنده ميلاً إلى تصديق ما ينسب إلى هؤلاء الدعاة، أو هؤلاء العلماء من الأخطاء، تصديق ما ينسب إليهم، فيحاول أن يصدق هذه الأخطاء، لماذا؟ لأنه إذا صدق الأخطاء المنسوبة إليهم، أصبح معذوراً إذا لم ينصرهم، ولم يدافع عنهم، لأن لسان حاله يقول: يستحقون، ما دام أنهم فعلوا كذا، فيميل إلى تصديق ما يقال عنهم حتى يخرج بعذر عن أن يقوم بنصرتهم، ونسي أن من خذل أخاه المسلم خذله الله تعالى في موقفٍ يحتاج فيه إلى نصرته. هذا مكيال مع إخواننا المسلمين، لكن هذا المكيال نفسه لا يكون مستمراً مع أعدائنا، فإذا سمع الواحد منا -مثلاً- خبراً عن فسادٍ قام به الأعداء، عن منكرٍ فعلوه، عن جريمة ارتكبوها، فإنه لا يسارع إلى التصديق كما سارع في المرة الأولى، وإنما يلجأ إلى الكذب والاحتمالات، ويقول: يتثبت من هذا الأمر، ويُتأكد منه، ويُنظر في صحته، لأنه يحتمل أن يكون مزوراً، ويحتمل أن يكون ملفقاً ويحتمل ويحتمل لماذا؟ لأن هذا العمل -أيضاً- الذي هو التشكيك فيما عمله الأعداء، يعفيه من المقاومة، ما دام أنه في شك مما حصل من العدو؛ إذاً لا داعي لأن تقاوم كيد العدو، أنت -مثلاً- لم تتأكد من حصول المنكر، فلست مطالباً بتغييره، لأنه يحتمل أنه لم يحصل، ويمكن أن الذي أخبرك غير صادق، ويمكن ويمكن فيلجأ الإنسان إلى التشكيك في الخبر، لأن هذا التشكيك يجعله معذوراً إذا لم ينكر، ولم يقاوم، ولماذا لم تقاوم؟ لأن الخبر غير أكيد، نحن نحتاج إلى أن نتثبت منه، أجل، لماذا لم يكن هذا التثبت حين سمعت عن إخوانك المسلمين ما سمعت، حين سمعت عن طلبة العلم ما سمعت حين سمعت عن الدعاة ما سمعت لماذا لم تتثبت هنا وهناك؟!! وإذا كنت سوف تصدق الأقاويل والشائعات، فلماذا لا تصدقها هنا وهناك أيضاً؟ لماذا تكيل بمكيالين؟ مكيال مع إخوانك المسلمين يميل إلى تصديق كل ما ينسب إليهم، ومكيال مع الأعداء يميل إلى تكذيب ما يفعلون من أعمال ومنكرات وجرائم، حتى تكون معذوراً في الحالين. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 13 عدم الاكتراث لما يجري بالمسلمين فقد تتحدث مع إنسان وربما كان فاضلاً، مصلياً صائماً، تتحدث معه عن واقع يتعلق بالمسلمين، عن منكر قائم، عن مصيبة تنزل بالأمة، عن كارثة، فتجد أن هذا الإنسان يسمع ما تُلقي إليه -وقد يشاهده بعينه أحياناً- وكأنه يسمع كلاماً يتعلق بعالم آخر!! أو كلاماً تاريخياً دُوِّن في الكتب، وهو يروى له وقد حدث في القرن السادس أو السابع!! يسمع هذا الإنسان قصةً وقعت في بلد الإسلام، أن النصارى أو الوثنيين دخلوا على المسلمين وهم يصلون الجمعة، فأطلقوا عليهم الرصاص وأردوهم قتلى، قتلوا منهم في غداةٍ واحدة ما يزيد على ألفي مسلم، وفى أي مكان؟ في المسجد!! وقد رأى كثيرٌ منا هذا بعينه، رأيناه في الصور التي نُقلت وتداولها الكثيرون، فهل يتحرك في إنسان منا إحساس أو شعور؟ هل تخرج من عينه ولو دمعه صادقة؟ هل برق في قلبه ولو ألم ممض لهذا الواقع؟ كثير من المسلمين حتى من صالحيهم، يسمعون مثل هذه الأخبار، وقد ألفوها واعتادوا سماعها، فصار الواحد منهم كأنما يسمع خبراً عن عالم آخر، أو عن أمة أخرى، أو كأنما يتحدث معه المتحدث عن قضية حدثت في القرن السادس أو السابع. هذا نموذج من نماذج برودة الإحساس وجفاف المشاعر عند كثير من المسلمين، بل إنني رأيت بعض هؤلاء، ربما يشهد هذا المشهد فلا يكتفي بأن يواجهه بقلبٍ بارد، بل ربما أطلق نكتة عابرة تجعل هذا الموضع أو هذا المشهد بدلاً من كونه مشهداً للبكاء، تنطلق الضحكات من أفواه المشاهدين على نكتة أطلقها على هؤلاء الصرعى المجندلين، على هذه الأكوام من القتلى، على هذه الأشلاء المتطايرة. وهذا الواقع المُر ليس جديداً، بل في كل عصور الانهيار والإحباط التي عاشتها الأمة المسلمة كان يحصل مثل هذا، فيوم أن كانت البلاد الإسلامية في القرن الثامن والتاسع تعيش أصعب أيامها، وخاصة في أيام سقوط الأندلس، شكا أبو البقاء الرندي وهو يرثي بلاد الأندلس التي أخذت من عالم الإسلام وضمت إلى عالم النصارى، شكا واقعاً مشابهاً لهذا الواقع، وكان يتعجب من عدم تجاوب المسلمين مع هذه المصيبة!! فكان يقول: يا راكبين عناق الخيلِ ضامرةً كأنها في مجال السبقِ عُقبانُ وحامِلينَ سيوف الهند مُشرعةً كأنها في ظلامِ النقعِ نِيرانُ وراتعين وراء البحر في دعةٍ لهم بأوطانهم عِزٌ وسُلطانُ هل عِندكم خَبرٌ من أهل أندلسٍ فقد جرى بحديث القومِ رُكبانُ كم يستغيثُ بِنا المستضعفون وهم صرعى وقتلى فما يهتزُ إنسانُ ماذا التقاطعُ في الإسلامُ بينكمُ وأنتمُ يا عباد الله إخوانُ ألا نفوسٌ أبيَّاتٌ لها هِممُ أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ لمثل هذا يذوب القلبُ من كمدٍ إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ وكذلك لما جاء الصليبيون إلى بلاد المسلمين، واحتلوا المسجد الأقصى، واحتلوا بلاد الشام، وفعلوا الأفاعيل بالمسلمين والمسلمات، كان أحد شعراء المسلمين يعبر عن هذا الواقع السيء، ويتكلم عن المساجد التي جعلوها أديرة، وعن المحاريب التي جعلوا فيها الصلبان، ويقول: أما لله والإسلام حقٌ يُدافعُ عنه شُبانُُ وشِيِبُ فقُل لِذوي الكرامةِ حيثُ كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا الجزء: 184 ¦ الصفحة: 14 القياس بالمصالح الشخصية مظهر آخر من مظاهر جمود الإحساس عند كثيرٍ من المسلمين: وهو القياس بالمصالح الشخصية، تجد المسلم مثلاً يقيس كل ما يرى ويسمع على مصالحه الذاتية والشخصية، حتى إنك ربما رأيت مسلماً يحضر مشهداً أو مجمعاً تُجمع فيه تبرعات لمشروع إسلامي، أو مؤسسة خيرية، أو جهادٍ هنا أو هناك، فإذا رأى أكوام المال لا يُسر ويغتبط ويبتهج، بل ربما افتر ثغره عن ابتسامة وقال: "والله لو كانوا يعرفون؛ لأعطوني هذا المال حتى أكمل به بناء بيتي، أو حتى أتزوج به، أو حتى أسدد به ديني". إذاً صارت القضية قضية مصالحنا الشخصية، وهمومنا الذاتية، فالواحد لا تتعدى همومه ومطامحه أن يكون له بيتٌ يسكنه، أو زوجة يأوي إليها، أو أن يسدد ديناً عليه، أو ما أشبه ذلك من القضايا الذاتية الخاصة التي لا تتعلق بمصالح المسلمين الكبرى. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 15 الهروب من مواجهة الواقع مظهر ثالث من مظاهر جمود الإحساس، وعدم المشاركة مع المسلمين في مشاعرهم: وهو الهروب من مواجهة الواقع المر بشتى الحيل، فنحن كثيراً ما نتحايل لنهرب من واقع نعتقد أنه غير جيد، فأحياناً تجد بعض الناس يتكلم عن الواقع على أنه واقع جيد ومتفائل، وأنه لا داعي للاهتمام، وكثير من الناس يقولون: لماذا تهولون من الأمور؟ ولماذا تضخمون الأمور؟ المسلمون بخير، والأمور بخير، والناس لا يزالون بخير، ويبدأ يتكلم عن بعض الجوانب الإيجابية، المساجد ممتلئة بالمصلين الجوامع تمتلئ طلبة العلم موجودون. يتكلم عن الجانب الذي نستطيع أن نقول: إنه جانب مشرق، وقد يبالغ في الكلام عن هذا الجانب ليقول لنا: ناموا ملء جفونكم وارتاحوا، فالإسلام بخير، ولا داعي للقلق الذي تشعرون به، لماذا يحدث هذا؟ من أجل أنه لا داعي أن نهتم أو نكترث، فالأمور بخير، إذاً ناموا ولا تستيقظوا. وعلى النقيض من ذلك: تجد هذا الإنسان نفسه أحياناً عندما تأتي لتحدثه عن أوضاع المسلمين، والصعوبات التي يواجهونها، وقضايا الفقر والجوع والمرض، وقضايا التخلف، وقضايا سيطرة أعدائهم، وغير ذلك من المشاكل، يأتي ليقول لك: يا أخي، هذه أمور أكبر من إمكانياتنا، وأكبر من طاقاتنا، وأكبر من حجمنا، فلا داعي للتفكير فيها، هذه لا يمكن أن أقوم بها أنا أو أنت، هذه تحتاج أحد ثلاثة أمور: إما المسيح عيسى بن مريم ينزل من السماء، وإما المهدي الموعود الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، أو المجدد الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبعث على رأس كل مائه سنة، فيجدد لهذه الأمة أمر دينهم، أما أنا وأنت فأين نقع مما يريد المسلمون؟ لا حول لنا ولا قوة ولا طول. وهكذا يبدأ يضرب على الوتر الآخر، أن مصائب المسلمين أكبر من أن نستطيع حلها. إذاً هو يهرب من هذا الواقع، إما أن يهون الواقع، بحيث لا يحتاج إلى أن نصلحه، أو يضخمه بحيث لا نستطيع أن نصلحه، ومقصوده من هذا وذاك، أن يهرب بشتى الحيل من هذا الواقع. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 16 وجود من يحمل هم الإسلام إن ذلك الذي يتقلب على فراشه، حسرة وقلقاً، أو توتراً وأرقاً، أو حزناً لمصيبة نزلت بالمسلمين، أو ليس فقط لمصيبة نزلت بالمسلمين، بل حتى لعمل يمكن أن يخدم من خلاله المسلمين، هذا النموذج من الناس هو أقل من القليل، ولاشك أن هذه صورة إيجابية ممن يعيشون هم الإسلام، وممن جعلوا هدفهم تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب للإسلام وللدعوة الإسلامية، ممن قرروا أن يشاركوا في تحمل مسئولية الإسلام بأيديهم، ولو كانت أيدياً واهنة ضعيفة، لكنها قوية بقوة الله عز وجل، سواء في ذلك المسلمون المعاصرون من شباب الإسلام ذكوراً وإناثاً؛ ممن اتخذوا قراراً بحمل رسالة الإسلام والدعوة إليه، أو حتى من المسلمين السابقين الذين كانوا عبر العصور السابقة كلها، لم يكن المسلم منفصلاً يعيش الإسلام في جزءٍ من واقعه، وفي بقية أجزاءه للدنيا، كلا، بل كان المسلم يعيش هم الإسلام ظاهراً وباطناً، وفي كل مجالات حياته. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 17 تقديم المستطاع للإسلام ليس شرطاً أن الأمر الذي سوف أتحدث عنه الآن، هو ما نريده من كل إنسان، فنحن لسنا مثاليين أو مغرقين في الخيال، نتوقع أن يستيقظ الناس ذات يوم فإذا بالأمة كلها قد تحولت إلى دعاة، وعلماء، ومخلصين، وصادقين، ومجاهدين، ليس هذا شرطاً. بل نحن نقول -كما قلنا سابقاً ومراراً-: إن المطلوب من كل إنسان أن يقدم للإسلام ما يستطيع، وإن كان شيئاً يسيراً، وإن كان قضيباً من أراك، تُقدم ما تستطيع، ولكن مع ذلك نحن على يقين كالشمس، أن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة منذُ سنين طويلة، لا يمكن أن يتغير، إلا من خلال فئة على الأقل يكون هَمُّ الإسلام هو الهم الذي يقعدها ويقيمها، هو الهم الذي يقلقها ويملأ عليها حياتها، ويسد عليها منافذها، فبه تحيا وتموت، وعليه تنام وتستيقظ، ومن أجله تحزن وتفرح، وترضى وتسخط، وتُسر وتبتئس. فهو همها الأول والأكبر والأخير، وهذا لا يعني أنهم نسوا هموم الدنيا، فهم بشرٌ كالبشر، حتى رسل الله وأنبياؤه عليهم السلام، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ويستمتعون بما أحل الله تعالى لهم من الأكل والشرب والنكاح، وغيره من أطايب الحياة الدنيا، ولكن لم يشغلهم هذا عن الهم الأكبر، الذي هو هم الإسلام والمسلمين. هذه الفئة لابد منها، وما لم توجد فمعناه أن المسلمين يدورون في حلقة مفرغة، ولا يمكن أن يخرجوا من هذه القوقعة التي يعيشون فيها. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 18 مواصفات من يحمل هم الإسلام أيها الأحبة: هذا الإنسان الذي تحدثت عنه قبل قليل، هو قوام الحضارات المادية، والحضارات الدينية، لا قيام للحضارات كلها إلا بهذا الإنسان، ولابد من العناية به، والسعي للبلوغ به إلى أسمى مراتبه ومراقيه، فكثير من الناس يضعون خططاً نظرية ويرسمون المناهج، ويضعون المشاريع الطويلة العريضة، ويتكلمون عنها، ولكن هذه الأشياء تقع حبراً على ورق، لماذا؟ لأن الإنسان الذي يمكن أن يُنفذ هذه الخطط، والمشاريع، ويقوم بهذه الأعمال، ويحقق هذه الإنجازات، هذا الإنسان غائب، وبالتالي إذا كان غائباً بقي الكلام حبراً على ورق، لأن الذي يمكن أن يُعلق جرساً كما يقال وهو الإنسان مفقود، فتبوء هذه المشاريع بالفشل. إذاً نحن نحتاج إلى الإنسان الذي يحمل هَمَّ الإسلام، وهذا الذي يحمل هم الإسلام -أيها الأحبة- له مواصفات أو له شروط، سأتحدث عن شيءٍ أو جانبٍ يسير منها: الجزء: 184 ¦ الصفحة: 19 قضية الأخوة الإنسان العربي مرتبط بالقبيلة، ولا أدل على ذلك من أنه على رغم مضي هذه السنين الطويلة، إلا أننا نجد كثيراً من الناس -حتى من المسلمين أنفسهم- لم يتحرروا من قضية التعصب القبلي أبداً، ولا زالت تعيش في نفوسهم عقلية الرجل العربي في كثير من الأحيان، مرتبطة بقضية الولاء للقبيلة والتعصب لها، حتى أحياناً في قبائل عربية عريقة لا يزوج بعضهم بعضاً، لماذا؟ لأن هذا من قبيلة كذا، وهذا من قبيلة كذا، مع أنه أولاً: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] . ثانياً: حتى بمقياسهم هُم كلهم عرب، ومع ذلك لا يزوج بعضهم بعضاً، وليس قصدي أن أتكلم عن هذا الموضوع، هذا الموضوع له مجال خاص في الحديث عنه، إنما قصدي أن أقول: إن الإنسان العربي في كثير من الأحيان، كانت القضية مرتبطة عنده بالقبيلة، ومع ذلك لما جاء الإسلام، وصدقوا في تدينهم وولائهم، لم يعد لقضية القبيلة عندهم وزن أو اعتبار أمام الأخوة الإسلامية. فالذين هاجروا تركوا قبائلهم إلى بلد آخر، وآخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، فكان يؤاخي بين كل مهاجرٍ وأنصاري، فما نزل مهاجر على أنصاري إلا بقرعة، وهم كانوا قبائل بالأمس كادت أن تثور الحروب بينهم، بل ربما آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين عربيٍ أصيل قُحْ، وبين مولى من الموالي، وربما كان هذا المولى أفقه من العربي وأعلم فكان يرجع إليه، كما هو الحال بالنسبة لـ بلال رضي الله عنه، أو صهيب، أو سلمان أو غيرهم، فتخلوا عن هذا الأمر الذي هو في أصل تركيبهم، وعقليتهم، وتربيتهم، وأصبحت قضية الأخوة الإسلامية هي المبدأ الذي يسيرون عليه، لماذا؟ لأن هَمَّ الإسلام صار هو الهم الذي يشغلهم، ولذلك كيَّفوا حياتهم كلها، أخذاً وعطاءً، قبولاً ورداً، ولاءً وبراءً، قرباً وبعداً، كيفوها مع الإسلام، ومع مصلحة الإسلام، ومصلحة الدعوة إلى الإسلام. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 20 أمثلة على محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ومن الأمثلة على ذلك محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم- الذي حل منهم محل الروح، فـ عبيدة بن الحارث رضي الله عنه قام في معركة أحد وبارز بعض المشركين، وضُرب بالسيف وطعن وجرح ومات متأثراً بجراح، ومع ذلك كان يقول: [[يا رسول الله! لو رآني أبو طالب لعلم أنى أحق بما يقول]] ماذا كان يقول أبو طالب؟ كان يخاطب قريشاً في قصيدته اللامية المعروفة، التي يمدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول فيها: كذبتم وبيت الله نبز محمدٍ ولما نُطاعن دونه ونُناضل ونُسلِمهُ حتى نُصرع دونهُ ونذهل عن أبنائنِا والحلائلِ فـ عبيدة يقول: أنا أحق بهذا الكلام من أبي طالب، لأنه رضي الله عنه قتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم مدافعاً عنه، حامياً لجنابه عليه الصلاة والسلام. وكذلك خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة، لما قبض عليهم وأرادت قريش أن تقتلهم، كانوا يقولون له: هل تحب أن محمداً مكانك، وأنك سالم في أهلك؟ قال: والله ما أحب أني سالم في أهلي وأن محمداً صلى الله عليه وسلم، تصيبه شوكة في رجله. ولستُ أُبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يُبارك على أوصال شلو مُمزع ولستُ بمبدي للعدوٍ تخشُعاً ولا جَزعاً إني إلى الله مَرجعيْ فقد تحولت وتوحدت الهموم عندهم في همٍ واحد، هو هَمُّ الإسلام، وكل ما يرتبط بالإسلام؛ رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم كتاب الإسلام، علماء الإسلام، دين الإسلام، مصلحة الإسلام، أصبح هذا هو الذي يشغل بالهم ويؤرق خواطرهم. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 21 سقوط الامبراطورية الشيوعية من ذلك أيضاً أو ما يشبه ذلك: ما يسمع به المسلمون كثيراً وعبر عصور طويلة، من انهيار الامبراطوريات الضخمة، أحياناً توجد دول وامبراطوريات ضخمة تهيمن على معظم أنحاء المعمورة، أو عليها كلها أحياناً، فكان المسلمون يفرحون بذلك، لأن تلك الامبراطوريات الضخمة تأخذ بخناق الأمم، فيفرحون لما في ذلك من إزاحة العقبات من سبيل الإسلام، ولعل من ذلك فرح المسلمين الصادقين في هذا العصر، بسقوط امبراطورية روسيا الشيوعية، والدول التي تدور في فلكها في العالم كله، فإن سقوطها أزاح عن المسلمين كلكلاً رهيباً، ونفس للمسلمين حتى داخل روسيا نفسها، فتنفسوا الصعداء، وحققوا بعض التقدم في مجال الإسلام، وكذلك في الدول الأخرى التي سقطت فيها الشيوعية، وإن كان العالم كله يتآمر على المسلمين، ففي ألبانيا حيث كثرة المسلمين، يقف العالم ضدهم بكافة الوسائل. أيها الأحبة إن سقوط الشيوعية بشير خير للمسلمين بكل تأكيد، لأن العالم كانت تتقاسمه حضارتان: الشرقية والغربية، وهي في الواقع حضارة واحدة مادية بشقيها الشيوعي والرأسمالي، والشق الرأسمالي المتمثل في دول الغرب، شق لا يعتمد على مبدأ، ولا يقوم على عقيدة، ولذلك فهو أضعف، أما الشق الشرقي المتمثل في الشيوعية، فكان يقوم على أساس عقيدة، أو ما يسمى بأيديولوجية ودين، أو مذهب أو مبدأ، ولذلك كان أخطر لأنه يتحمس في سبيل نشر مبدئه وعقيدته، فانهيار ذلك الشق القائم على أساس المبدأ، هو مؤذنُُ بانهيار غيره، وهو مؤذن أيضاً بأن الفكرة التي قام على أساسها فكرة خاطئة، فهو يصدق ما قاله دعاة الإسلام من قبل عن فشل الشيوعية نظرياً وعملياً. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 22 بناء العلاقات على أساس الإسلام إنَّ من يحمل هم الإسلام، لابد أن يبني علاقاته، أخذاً وعطاءً، قرباً وبعداً، قبولاً ورفضاً، ولاءً وبراءً، لابد أن يربط هذه الأشياء كلها بمصلحة الإسلام كما أسلفت، فإذا كانت تعنيه مصلحة الإسلام -حتى في أمور لا تتعلق به- فكيف بأشياء يملكها في ذاته؟! لابد أن يقدم فيها مصلحة الإسلام على مصلحته الشخصية، إذا تعارضت في أي حال من الأحوال، وكل المجتمع الإسلامي الأول وفي كل عصر، هو نموذج حي لهذا التقديم، فمثلاً: الجزء: 184 ¦ الصفحة: 23 قضية الهجرة إنَّ المسلم الذي كان يهاجر من بلده، بلد الكفر إلى بلد الإسلام، إلى المدينة المنورة مثلاً، أليس مرتبطاً عاطفياً ببلده؟ الإنسان بطبيعته يحب البلد الذي ولد فيه ونشأ فيه، له فيه ذكرياته كما يقول ابن الرومي: وحبب أوطان الشباب إليهمُ مآرب قضَّاها الشباب هُناِلكا إذا ذكروا أوطانهم ذكَّرتهم عُهود الصِبا فيها فحنوا لِذلكا ولذلك بلال رضي الله عنه مثلاً، هاجر فيمن هاجر من مكة إلى المدينة فأصابته الحمى، فكان إذا أصابته الحمى، يقول وهو لا يعي ما يقول من شدة الحمى، كان يتغنى بأبيات يذكر فيها مواقع، ومواضع، وجبالاً، وأودية قريبة من مكة، فكان يقول: ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةً بوادٍ وحولي إذ خِر وجليلُ وهل أردنْ يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل فيذكر أسماء مواضع ارتبطت في ذهنه وعقله، حتى ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، كما أخرجونا من ديارنا إلى ديار الوباء} وبكل تأكيد كان - صلى الله عليه وسلم- يحب مكة. وفي حديث عبد الله بن عدي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة ووقف بالحزورة، وهو مكان يقع تقريباً إلى الشمال الشرقي من مكة، التفت إليها وقال: {والله إنك لأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت} ودمعت عيناه صلى الله عليه وآله وسلم، فمع أنه مرتبط بالحب لهذا البلد الأمين الذي فيه الكعبة؛ إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يتردد في الهجرة إلى المدينة عندما كانت مصلحة الإسلام تقتضي ذلك، وهكذا بقية أصحابه، هاجروا من بلادٍ شتى إلى المدينة المنورة، فمع أن الإنسان مرتبط بحب بلده، إلا أنه قدم حب الدين على حب البلد، الذي هو أمر فطرى في الإنسان، فهذا فيما يتعلق بقضية الهجرة. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 24 مثال حاضر قرأتُ في بعض الكتب أن مؤذناً أعمى في هذا الزمان، كان جميل الصوت بالأذان، فكان في مجلس، فسمع أن برجاً في لندن عاصمة بريطانيا، الموجود فيه الساعة المعروفة (بيج بن) سمع أن هذا البرج قد مال بعض الشيء أو سقط أو أصابه شيء، فحزن وتأثر لذلك وظهر على وجهه الحزن، فتعجب بعض الحاضرين وقال: مالك يا فلان؟ قال: والله كنت أطمع أن أؤذن عليه يوماً من الأيام. صراحةً هذا حُلُمٌ قد ينظر إليه البعض على أن فيه سذاجة وبساطة وقرباً، لكن بغض النظر عن بساطة هذا الحلم أو سذاجته، إلا أنه يدلنا على قلب متوتر لقضية الإسلام والمسلمين، قلب -على الأقل- كل همومه وأحلامه تتعلق بقضية الإسلام، وأن يُرفع نداء الإسلام وشعار الإسلام من أعلى المنابر، وأعلى المواقع، وأعلى الأبنية في بلاد الشرك وبلاد الجاهلية وبلاد النصارى. إذاً الشرط الثاني فيمن يحمل هم الإسلام هو: أن يكون الإسلام حياً في ذهنه، حاضراً في قلبه، فيربط ما يرى أو يسمع أو يحس، بالهم الأكبر الذي يقلقه ويزعجه وهو هم الإسلام. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 25 بناء الحياة والأفكار على مصلحة الإسلام يجب على المسلم أن يبني آراءه ونظرياته وتحليلاته للأحداث والأشياء على أساس مصلحة الإسلام، لا على أساس مصالحه الشخصية، فهو من خلال ما يسمع من أحداث وأخبار وحرب وسلم، واضطرابات وقلق هنا أو هناك، أو مشاكل، أو معارك، أو أزمات اقتصادية، أو غيرها، يبحث عن النفق الذي يستطيع المسلمون أن يخرجوا من خلاله إلى الهواء الطلق، إلى بر الأمان، وإلى النور، بعيداً عن تسلط عدوهم، وبعيداً عن قبضته الآسرة الشديدة، فهو يبحث عن مخرج، وعن مصلحة للإسلام من خلال كل ما يحس أو يسمع أو يقرأ من أخبار أو أحداث أو تحليلات. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 26 المعركة بين الفرس والروم خذ مثالاً تاريخياً يقول الله عز وجل: {آلم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:1-5] . هذه الآية نزلت في مكة، وحصل فيها قصة رواها الترمذي وحسَّن إسنادها، وكذلك رواها الإمام أحمد، ورواها النسائي ورواها الحاكم وصححها، وكذلك الضياء المقدسي في أحاديثه المختارة، التي هي صحيحةُُ عنده وعلى شرطه، عن ابن عباس رضي الله عنه: [[أنه لما حصلت المعركة بين الفرس والروم، كان المسلمون في مكة، يتمنون انتصار الروم]] لأن الروم كانوا نصارى "أهل كتاب" فهم أقرب للمسلمين، وكان العرب الوثنيون يتمنون انتصار الفرس؛ لأن الفرس أيضاً وثنيون، فعندما نزلت هذه الآية، صار بين أبي بكر رضي الله عنه، وبين العرب المشركين مقاولة وكلاماً، فقال لهم أبو بكر: [[سوف ينتصر الروم على الفرس]] فجعلوا له لذلك أمداً، فقال: [[أمدكم خمس سنين]] فمرت خمس سنين وما حصل أن انتصر الروم على الفرس، فجاءوا وقالوا: يا أبا بكر، ما حصل ما وعد به صاحبك، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: {هلا جعلتها دون العشر} لأن الله تعالى قال: (( {فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:4] والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع، فكانت في دون العشر، وهكذا كان، فإن الله تعالى نصر الروم بعد ذلك على الفرس، فغلبت الروم، ثم غلبوا كما وعد الله عز وجل وكان غلبهم في بضع سنين {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم:4] أي: يوم يغلب الروم الفرس {يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم:4-5] . أين نصر الله؟ نصر الله في معركة بدر، فكان انتصار الروم على الفرس، في اليوم الذي نصر الله تعالى فيه محمداً صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم وأصحابه على قريش ففرح المؤمنون بنصر الله. و السؤال لماذا كان فرح المسلمين بنصر الروم، أو تمنيهم لنصر الروم، على الفرس؟ الجواب لم يكن هذا لقضية اقتصادية، أو مصالح مادية، أو لأن أرصدتهم -مثلاً- سوف تزيد، كلا، كانت قضيتهم قضية الدين، فهم ينظرون إلى أن انتصار النصارى وهم أهل كتاب، يعتبر إرهاصاً بانتصار المسلمين، فهو مربوط به، فإذا انتصر الروم دل هذا على قرب انتصار المسلمين على عدوهم القريب الوثني (قريش) ومن ظاهرها وأيدَّها. فهذه قضية تدل على مدى تفكير المسلم، وكيف ينظر إلى ما يقع حوله من الأحداث والأمور. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 27 أمثلة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو النموذج الأكمل لكل مسلم، الذي قال الله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] انظر كيف كان هديه وسيرته. في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على سبىٍ فرأى امرأة في السبي تمشي إذ رأت صبياً فأخذته، وألزقته ببطنها وأرضعته، وضمته إليها، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم من هذا المشهد -واستفاد منه في التربية، في ربط ذلك بقضية شرعية- قال لأصحابه رضي الله عنهم: هل ترون هذه طارحة ولدها في النار؟، قالوا: لا -والله- يا رسول الله، وهي تقدر ألا تطرحه، قال: والله لله أرحم بعباده من هذه بولدها} . وفي الحديث الصحيح أنَّ سعد بن معاذ رضي الله عنه قال: {يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلاً، أكنت أتركه حتى آتي بأربعة شهود، قال: نعم، قال: والله يا رسول الله ما كنت أفعل، كنت أضربه بالسيف غير مصفح، لا أبالي، أي: أقتله مباشرة- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم -ولكنه استفاد من هذا الموقف في تنبيه الصحابة على أمرٍ آخر- فقال: أتعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله تعالى أغير مني} إذاً حكم الله تعالى نافذ، وغيرة الإنسان إذا تعدت فإنها ينبغي أن تكون مربوطة بالشرع. مثل ثالث: جيء بمناديل جميلة من حرير بعد إحدى المعارك لا عهد للمسلمين بها، فصار المسلمون يطوفون بها ويتعجبون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أتعجبون من هذه المناديل؟ والله لمناديل سعد في الجنة أحسن من هذا وأطيب} مناديله في الجنة أحسن من هذا، ربط كل قضية تعجب الناس في الدنيا بقضية الدين أو بقضية الآخرة، وصدق الشاعر حيث قال: يا طيبَ عهدٍ كنت فيه منارنا فبعثت نور الحقِ من فاران وأسرت فيه العاشقين بلمحةٍ وسقيتهم كأساً بغير دنان أحرقتَ فيه قلوبهم بتوقد الـ إيمان لا بتلهب النيرانِ لم نبق نحن ولا القلوب كأنها لم تحظ من نار الهوى بِدُخانِ الجزء: 184 ¦ الصفحة: 28 الفكر الإسلامي ووجوده أيها الأحبة يتحدث كثير من الناس عن الفكر، حتى إني سمعت أحد المفكرين يقول: "إن الفكر هو أساس العمل" ويقول: وإنما الأممُ الأفكارُ ما بقيت فإن هُم صلحت أفكارُهم صَلحوا ونحن مع إيماننا العميق بأن الفكر ضروري جداً لبناء أمة صحيحة السلوك، وصحيحة العمل، وهذا لا شك فيه، إلاَّ أنني أعتقد أن مشاعر الإنسان وأحاسيسه الداخلية، هي ذات دورٍ كبير في صياغة فكر الإنسان وصناعة تفكيره، ولذلك يُبدى الشاعر المسلم المعروف محمد إقبال حزنه وانزعاجه من الجمود الذي أصاب التفكير، وأصاب الشعور لدى المسلمين، في قصيدته المعروفة فيقول: أرى التفكير أدركه خمول ولم تَعدُ العزائم في اشتعالِ وأصبح وعظكم من غير سحر ولا نورٍ يُطل من المقالِ وعند الناس فلسفةُُ وفكرٌ ولكن أين تلقين الغزالِي وجلجلة الآذان بكل صوتٍ ولكن أين صوتٌ من بلال ِ منائركم علت في كل حيٍ ومسجدكم من العُبَّادِ خالِي إذاً: الصورة موجودة لكن الحقيقة غائبة، المنائر موجودة والعباد غائبون، جلجلة الآذان موجود لكن صوت بلال وترنيمته وصدقه وإخلاصه وروحانيته غائبة، الفكر موجود؛ لكن حقيقة هذا الفكر وروحه وسره غائبة. إذاً هذه هي النقطة الأولى، وإن شئت فسمها الشرط الأول فيمن يحمل هم الإسلام، وهو أنه لابد أن تتكيف مشاعره وعواطفه وأحاسيسه: فرحه ورضاه وحزنه وسروره وغضبه مع قضية الإسلام الكبرى، فهي التي تعيش معه، تنام معه إن نام وتستيقظ إن استيقظ، بل أقول: تستيقظ معه حتى وهو في منامه، فتجد أحلامه ومرائيه في منامه تدور حولها. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 29 تذكر هموم الإسلام في كل حال إن من يحمل هم الإسلام، فإن كل شيء يذكَّره بقضية الإسلام الكبرى، فما يشاهده، وما يسمعه، وما يحسه، دائماً يذكره بقضية الإسلام، ومرة أخرى انظر في المشاعر البشرية، مشاعر البشر مع البشر، هذه الخنساء توفي أخوها صخر، وقصتها معروفة وشعرها فيه، لكن كانت تقول: يُذكرُني طلوع الشمسِ صخراً وأذكره لكل غروب شمسِ فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلتُ نفسي هذه امرأة في الجاهلية وقد زينها الله تعالى في الإسلام، فأقلعت عن مثل هذا، لكنها كانت تتذكر أخاها مع طلوع الشمس ومع غروبها، ومثله أيضاً حارثة أبو زيد، لما غاب عنه زيد وفقده في صغره، كان يتغنى ويبحث عنه ويقول: بكيت على زيد ٍ ولم أدر ما فعل أحيٌ فيرجى أم أتى دونه الأجل فوالله ما أدري وإني لسائل أغالك سهلُ الأرض أم غالك الجبلْ تُذكرُنيه الشمس عند طلوعِها وتَعرض ذكراه إذا غربها أفلْ وإن هبت الأرياح هَيَّجنَ ذِكرهُ فيا طول ما حُزني عليه وما وجلْ سأعملُ نصَّ العيش في الأرض جاهداً ولا أسأم التطوافُ أو تسأم الإبلْ حياتي أو تأتى عليَّ منيتي فكل امرئٍ فانٍ وإن غره الأملْ فيظل يتذكر ولده الذي فقده من سنين مع الشمس، في طلوعها وغروبها، مع الرياح، ومع الذهاب والإياب! كلما نزل في منزل تذكر زيداً، هذه مشاعر البشر مع البشر، فما بالك بمشاعر الإنسان مع قضية كبرى هي قضية الدين، لابد أن تكون أرقى وأسمى وأعظم وأعمق من ذلك، ولذلك انظر في هذه النماذج. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 30 أمثلة من حياة الصحابة الكرام المسلم -مثلاً- حين يسافر إلى بلد معين، يشاهد مشاهد ومرائي ويرى مباني ومنشآت ومساكن، ويرى جسوراً وقصوراً وأموراً كثيرة، ما الذي يلفت نظره؟! خذ نموذجاً، أم سلمة وأم حبيبة والحديث في البخاري ومسلم، ذهبتا فيمن ذهب إلى الحبشة وبعد ذلك رجعوا إلى المدينة المنورة، فماذا حدَّثت أم سلمة وأم حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما رأيا؟ حدثتاه عن كنيسة رأينها بأرض الحبشة، يقال لها: ماريه، وما في هذه الكنيسة من التصاوير. إذاً الذي لفت نظر أمهات المؤمنين معبد للنصارى توضع فيه التصاوير، كيف يصورون مريم، ويصورون عيسى، ويعلقونها في معبدهم؟ هذا أمر غريب!! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أولئك قوم إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله عز وجل} . كذلك حديث جابر، وقد ذكره الذهبي في مختصر العلو للعلي الغفار، وهو عند ابن حبان، وابن ماجة وغيرهم، أن بعض المسلمين لما جاءوا من الحبشة أيضاً سألهم الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما الذي أعجبكم بالحبشة؟} هم الآن لم يذهبوا سواحاً، ولكنهم ذهبوا مهاجرين، لكن ما هي مشاعرهم؟ ما الذي يلفت انتباههم؟ ما هي اهتماماتهم؟ فواحد منهم قال: [[الأمر الذي لفت نظري وأعجبني، أنى رأيت عجوزاً تحمل قربةً على ظهرها، فجاءها شابٌ مراهق طائش فدفعها، فسقطت هذه القربة، فالتفتت إليه هذه العجوز وقالت: سوف تعلم يا غُدر إذا نزل الله تعالى يوم القيامة لفصل القضاء، وعرف كل إنسانٍ ما له، ووفيت النفوس ما كسبت، كيف يكون جزاؤك]] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {صدقت صدقت، لا قُدست أمةٌ لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع} . إذاً القضية التي لفتت نظرهم، مشهد من مشاهد الاعتداء على كرامة الإنسان من جهة، والظلم والتعدي، ولو لامرأة عجوزٍ ضعيفة، ومن جهة أخرى: العجب من معتقد هذه العجوز، فإنها تعتقد عقيدة صحيحة أن الله تعالى سوف يبعث الأولين والآخرين، وسوف ينزل يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وسوف يجزي الظالمين بما كسبوا، فتعجب النبي صلى الله عليه وسلم وصدقها بما قالت، وقال: {لا قدست -أي: لا بوركت، لا بقيت- أمة لا يأخذ الضعيف فيها من القوي حقه غير متعتع} أي: لا يتلجلج ولا يتردد، ولا يعيَ بالكلام، بل يتكلم بلغةٍ قوية فصيحة، لأن الحق أنطقه. لكن لو نظرنا إلى مشاعر السواح من المسلمين اليوم، قد تجد مسلماً يسيح في بلاد الأرض، فماذا يلفت نظره؟ يلفت نظره المباني، وجمال الطبيعة، والجبال والأنهار والمشاهد والمظاهر والصور، هذه الأشياء كون الإنسان يعجب بها أو يستحسنها، هذا أمر فطري، لكن لماذا لا يكون شعور المسلم أعظم من ذلك؟ لماذا لا يتعجب المسلم -مثلاً- من فقدان الإنسانية التي عنده؟ أو يتعجب المسلم من التقدم الذي أدركوه في مجالات الصناعة والعلم ولم يدركه المسلمون، ويفكر كيف يصل المسلمون إلى ذلك ليحققوا لدينهم نصراً، يمنعهم من كيد عدوهم. أو يفكر في المؤامرات وفي الخطط الصليبية التنصيرية، التي تسعى إلى تحويل المسلمين إلى نصارى في إفريقيا، وفى أندونيسيا، وفى غيرها. المهم أن الإنسان عندما يكون مشغولاً بأمر فكلما رأى شيئاً فإنه يربطه بذلك الأمر الذي يشغل باله، فالإنسان الذي كل همه، سرور عينه، أو سرور أذنه، أو سرور قلبه، تجد أنه لا يلفت نظره إلا مظاهر الطبيعة وجمالها، أما سوى ذلك فكأنه لا يعنيه في قليل ولا في كثير. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 31 تحدي الأقليات ألم تروا أحبتي الكرام إلى الأقليات في العالم كله، في كثير من الأحيان تكون هذه الأقليات منتجة فعالة، وقوية وغنية وذات نفوذ. ماذا أعني بالأقليات؟ قد تجد -مثلاً- أقلية يهودية في بلد معين، عددهم قليل، فتجد هؤلاء اليهود يشعرون بأن المجتمع كله ضدهم، فيبدءون يخططون في تربية أولادهم، في تعليمهم، في إيصالهم إلى أرقى المستويات، وفي دعمهم، فيعملون على الوصول إلى الاقتصاد، ويعملون على الوصول إلى الأماكن المهمة، حتى تكون هذه الأقلية ذات نفوذ كبير، وقل مثل ذلك بالنسبة للأقليات المنحرفة، فقد تكون أقلية -مثلاً- شيعية في بلد سني، قد تكون أقلية نصرانية في بلد مسلم، تجد هؤلاء أو أي أقلية -بغض النظر عن نوعية هذه الأقلية- حتى لو كانت أقلية عرقية من جنس معين، أو لون معين، أو أسرة معينة، أو قبيلة معينة، تجد أن هناك شعوراً بالتحدي يدفعها إلى أن تكافح وتناضل، وتعمل على الوصول إلى مواقع مهمة، حتى تثبت وجودها، وتمنع نفسها من أن تظلم أو تهضم أو ينقص قدرها لماذا؟ لأنها تشعر بالتحدي. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 32 العدو يحاول ألا نشعر بالتحدي أما المسلمون اليوم، فأكثر ما يركز عليه عدوهم، هو ألا يكون لدى المسلم شعور بالتحدي، أن يشعر المسلم بأن الأمور ليس فيها تحدٍ، وليس فيها مواجهة، ولذلك فإن من أغرب الدعوات الخطيرة التي أصبحت اليوم تُعرض في الإعلام العربي وغير العربي؛ أَنْ أنتم مخطئون، فلقد شغلتمونا بالكلام عن أعداء الإسلام، وأعداء الدين، وعن اليهود والنصارى والكفار. وقد قرأت مقالات يشيب لها الرأس، هناك أناس يحملون -مع الأسف- أسماء عربية وإسلامية يقولون: انتهى هذا الكلام، لم يعد يصلح تقسيم العالم إلى مسلمين وكفار، ولا إلى أعداء للإسلام وأولياء للإسلام، القضية الآن قضية شرق وغرب، شرقٍ متخلف وغرب متحضر، والعلاقة بينهما علاقة مصالح متبادلة" حتى إن بعض الصحف المصرية كتبت مقالاً عنوانه: أسطورة اسمها: "أعداء الإسلام" إذاً أنتم ضائعون، ليس هناك أعداء للإسلام، ولا داعي أن تشعروا بالتحدي، أو أن هناك عدواً يتربص بكم، أو أن هناك أمماً تعد العدة لكم، لا داعي لذلك، وبالتالي لا داعي لأن تقاوموا أعداء الإسلام ولا أن تحاربوهم، ولا أن تقفوا في وجوههم، فلا داعي لشيء من هذا. فالذي يهم الأعداء هو أن لا يشعر المسلمون بأن هناك تحدياً يواجههم ويتطلب منهم الرد، والمقاومة والاستجابة لهذا التحدي، ولا شك أن شعور المسلم بذلك وإحساسه هو النار التي يمكن أن تنضجه، فالمسلم حتى الصادق الآن هو مثل الحطب، إذا لم تشتعل فيه النيران فلن تحصل منه على الدفء، ولن تحصل منه على الحرارة، ولن تحصل منه على الإنضاج، ولن تحصل منه على الإضاءة، فلابد أن توقد هذه النيران؛ حتى تجد المسلم الفعال الذي يشعر بالهم تجاه قضية هذا الدين، وبالتالي هذا هو الذي يمكن أن يرشد آراء الإنسان، ويصحح تصوراته، يجعله صاحب مبدأ، العرب تقول: ويل للخلي من الشجي. كثيراً ما تخوض نقاشاً مع إنسان لا يحمل هماً ولا فكرة، وكل ما في الأمر عنده قضية بعيدة كل البعد، ولذلك هو لا يفكر كيف يحقق نصراً للإسلام، وكيف يحقق مكسباً لهذا الدين، كيف يحبط مؤامرات هذا العدو، كيف ينتصر على عدوه، بل ينظر إلى قضايا قريبة جداً وبالتالي يفكر على ضوئها، فهو في وادٍ وأنت في وادٍ آخر. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 33 الحزن لقضايا المسلمين لقد عزّى الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، وسلاه عما يلقى من أذى المشركين، ونهاه عن أن يحزن قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} [الكهف:6] وفي مواضع كثيرة يقول الله عز وجل {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُون} [النمل:70] لماذا؟ لأن قلب الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحزن حين يرى إعراض المعرضين، وتكذيب المكذبين، ويرتبط بقضية القبول بهذا الدين أو الرفض له، فنهاه الله تعالى عن ذلك. وليس المقصود النهي عن ذات الحزن، فالحزن أمر فطري، ولكن المقصود النهي عن الحزن الذي يقعد الإنسان عن العمل أو يضر به، وإلا فنحن نعلم جميعاً قصة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، التي رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة قالت: {يا رسول الله! هل أتى عليك يوم هو أشد من يوم أحد؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت} وهذا في الطائف، سخروا منه عليه السلام واستهزءوا به، قال أحدهم: أليس في الدنيا رجل أحسن منك يرسله الله سبحانه وتعالى؟ وقال آخر: أنا أمزق ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ورد عليه الثالث رداً خبيثاً. فحزن لذلك الرسول صلى الله عليه وسلم وقام من عندهم قال: {فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب} انظروا إلى المسافة بين الطائف وقرن الثعالب، مسافة كيلو مترات قطعها النبي صلى الله عليه وسلم وهو مهمومٌ غير مستفيق، لم يدر بمسيره ذاك ولا باتجاهه إلا وهو بقرن الثعالب، مع أنه صاحب القلب الكبير، وصاحب القوة، وصاحب الجلد، وصاحب الصبر المؤيد بالوحي من السماء صلى الله عليه وسلم، لكن مشاعره تكيفت مع هذا الدين، فرحاً وغضباً ورضاً وسروراً وغير ذلك، فالمنهي عنه أن يكون هناك حزن يمنع الإنسان من الدعوة، أو يقعده عنها، أو يستبد به، أما كون الإنسان يحزن إذا رُدَّت دعوته، فهذا أمرٌ فطري لا يملك الإنسان دفعه، ولا يكلف الإنسان أن يدفعه عن نفسه شرعاً. نحن نحتاج إلى الأرق، والقلق، ونحتاج إلى التأوهات والتوتر، والتنهدات والأحزان، وهذه وإن كانت أشياء سلبية إلا أنها هي البداية الضرورية التي لابد منها، نحتاج إلى أن يترفع المسلم عن أن يكون همه محصوراً في فوز الفريق الرياضي، أو فشل فريق آخر، أو اعتزال فنانٍ أو لاعب، أو ارتفاع سعر الشعير أو انخفاضه مثلاً، بل ينبغي أن ترتقي هموم المسلم عن أن تكون مثل هذه الهموم الصغيرة التي إنما يشتغل بها من لا هم له. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 34 التحدي والرد هناك نظرية -أيها الأحبة- تتعلق بقضية الهم الذي يحمله المسلم، نظرية لأحد المؤرخين الغربيين، واسمه أرنولد تونبي وتسمى هذه النظرية "نظرية التحدي والاستجابة" أو "التحدي والرد" يقول: إن الحضارات تقوم على أساس وجود تحديات تواجه الإنسان، فيحتاج الإنسان إلى أن يستجمع قواه الفردية والجماعية من أجل مواجهة هذا التحدي والانتصار عليه، وبذلك يتحقق وجود الإنسان، ويستطيع الإنسان أن يتغلب على ما يواجهه من مشكلات ومصاعب. نحتاج إلى هذه النظرية في هذا الحال، معلوم أن هذه النظرية ليست صحيحة من كل جوانبها، لكن المسلمين اليوم يواجهون تحديات كبيرة، تحديات من داخلهم وهي كثيرة، بل هي أصعب من التحديات التي يواجهونها من خارجهم، لأنه لو تنقى الصف الداخلي، لم يضرنا كيد عدونا شيئاً، لكن مشكلة المسلمين الأساسية في داخلهم، وكما يقول المثل: "سوس الخل منه وفيه". فمشكلات المسلمين بالدرجة الأولى من داخلهم، ومع ذلك فهم يواجهون مشكلات صعبة جداً من خارجهم، ولمواجهة هذه التحديات الداخلية والخارجية، نحتاج إلى مسلم يشعر بهذا التحدي، ويعمل على مواجهته. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 35 الإحساس عند العشاق وعند الأمهات من جانب آخر: أنت ولا شك تسمع كثيراً وتقرأ في كتب الأدب والشعر وغيرها، أخبار العشاق بعضهم مع بعض، وكيف أن مشاعر العشاق تتوحد حتى تُصبح كأنها شعور واحد، حتى كأنهما روحان حلاَّ في بدن واحد، بل دعنا من هذا الحديث وما يتعلق به، خذ ما يتعلق بالأم ومشاعرها تجاه ولدها، وكيف يكون شعور الأم مع ولدها إذا غاب عنها، أو كان في حالة مرض، أو كان يعمل له عملية جراحية، أو خاض معركة كيف يكون شعور الأم تجاهه؟ يمثل ويتحدث عن هذا الشعور أحد الشعراء المبرزين، الذين أودعوا في غيابة الجب، في غياهب السجون، لأنهم متمسكون بدينهم، حريصون على دعوتهم، فهو يتحدث عن مشاعر أمه تجاهه، ويقول مخاطباً أمه: ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنُتِ البيتَ والحرما أنتِ الهنا والمنُى أنت العنا وأنا على ثراك وليدٌ قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرُني وينثِرُ العِطرَ في جنبيَّ مُبتسما ما زال طيفك في دنياي يتبعُني أنى سريتُ وقلبي يَجحدُ النِعمَا حتى وقعتُ أسيرَ البغى فانصرفت عني القلوبُ سِوى قلبٍ يسيلُ دما أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلبٌ ضعيفٌ ويغزو الصحو والحلمَا ويدخلُ السِجنَ مُنسلاً فيدهُشُني إذ يستبيحُ مِنْ الطغُيانِ شرَ حِمى فإن رآني في خيرٍ بكى فرحاً وإن رآني في سوءٍ بكى أَلَمَاً يقول: قلب أمي دائماً يلاحقني في كل مكان أصحو وأنام على قلب أمي. انظر كيف توحدت مشاعر الأم مع مشاعر ولدها! حتى أصبح شعوراً واحداً وقلباً واحداً، إن رأته مسروراً بكت فرحاً، وإن رأته محزوناً بكت ألماً، إلى هذا الحد! الجزء: 184 ¦ الصفحة: 36 الشعور المشابه تجاه قضايا المسلمين أجل هذا الشعور -يا أخي الحبيب- تجاه أولادك غريزة لا تنكر، ولا أحد يلومك عليها، هذه عاطفة الأبوة، كذلك شعورك تجاه والديك لا نلومك عليه، لكن نريد شعوراً مشابهاً أيضاً تجاه الإسلام، تجاه قضايا الإسلام والمسلمين، نريد منك -على أقل تقدير- أحزاناً تعصف بقلبك إذا سمعت مصيبة أو منكراً. وهذا أضعف الإيمان يا أخي هذا الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام: {فإن لم يستطع فبقلبه} على أقل تقدير نريد منك يا أخي دموعاً من أجل الإسلام والمسلمين، ومن أجل مصائب الإسلام والمسلمين في كل مكان، الدموع قضاء العاجزين، لكن هذا أقل ما نريد منك! هذا أقل ما تستطيع، ونحن على ثقة أن هذه الدموع إذا كانت دموعاً صادقة، ليست دموع التماسيح والممثلين، فنحن على ثقة أن هذه الدموع سوف تصنع شيئاً ولو بعد حين. إذاً لابد أن تكون المشاعر مرتبطة بالإسلام، وما يتعلق بالإسلام، حتى في الحال التي لا تستطيع أن تعمل فيها شيئاً لهذا الدين، فإنك يجب أن تكون ذا قلبٍ يحزن، كما قال القائل: يا راحلين إلى البيت العتيقِ لقد سِرتم جُسوماً وسِرنا نحن أرواحا إنَّا أقمنا على عذرٍ نُكابدهُ ومن أقام على عُذرٍ كمنْ رَاحَا يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أنس، ومسلم عن جابر: {إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم} وفي رواية: {إلا شركوكم في الأجر حبسهم العذر} . إذاً هم بمشاعرهم، بعواطفهم، بقلوبهم معكم، تقطعون الأودية والفيافي والقفار وهم معكم، تنزلون في الصحراء، في الهجير وهم معكم: {ما سرتم مسيراً، ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، وشركوكم في الأجر، حبسهم العذر} . الجزء: 184 ¦ الصفحة: 37 أمثلة من حياته صلى الله عليه وسلم أنا أضرب على ذلك مثلاً: يقول البخاري رحمه الله، في كتاب المناقب من صحيحه: (باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر أحاديث كثيرة، منها: حديث عائشة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسروراً، تبرق أسارير وجهه، فقال: يا عائشة! ألم تري أن مجززاً المدلجي، نظر إلى أسامة وزيد وعليهما قطيفة، نظر إلى أقدامهم فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض} . لماذا فرح الرسول صلى الله عليه وسلم وسر؟ لأن أسامة بن زيد كان أسود، وأبوه زيد بن حارثة لم يكن كذلك، فكان بعض المغرضين والمنافقين وضعفاء الإيمان، يتكلمون في أسامة بن زيد وفي نسبه من أبيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤسفه ذلك ويزعجه، خاصة مع علاقتهم ببيت النبوة، فلما جاء مجزز المدلجي، وكان قائفاً يعرف الأشكال والصفات والهيئات، وكانوا قد غطوا بقطيفة، وهو لا يرى وجوههم، لكن رأى أقدامهم خارجة فقال: بعض هذه الأقدام من بعض، فَسُرَّ لذلك النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر البخاري حديثاً آخر، وهو حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك، وكيف أنه كان يقول: [[لما سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبرق وجهه من السرور، وكان إذا سُرَّ صلى الله عليه وسلم تهلل وجهه حتى كأنه فلقة قمر، أو قطعة قمر، وفي رواية: دارة قمر]] . هذا وجه النبي صلى الله عليه وسلم للإنجاز الذي حققه المسلمون، ولرؤيته لبعض أصحابه رضي الله تعالى عنهم. ثم بعد هذه الأحاديث ذكر حديثاً آخر، وهو حديث أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه} . الآن أنا وأنت سرورنا لماذا؟ يمكن أن سرورنا للطعام أكثر من سرورنا لقضية الإسلام، فالواحد منا إذا قدم له طعامُُ جيد، جيد الطهي، والطبخ، سر لذلك وانتبسطت نفسه، لأن اهتماماتنا دون، وقضية الإسلام قد لا تعنينا بنفس القدر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان على النقيض من ذلك، فهو عليه الصلاة والسلام ما عاب طعاماً قط، قضية الطعام عنده ليست مشكلة، كيف طهي الطعام، ما نوع الطعام، لا يعيبه إذا أعجبه أكله، وإذا لم يعجبه تركه، والمقصود بلا شك الطعام المباح، أما لو كان طعاماً محرماً فإنه ينهى عنه صلى الله عليه وسلم ويعيبه، إنما المقصود الأطعمة المباحة، فانظر كيف كان حال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 38 الإحساس القلبي والألم الصادق على المسلمين لابد لمن يحمل هم الإسلام أن يكون الإسلام في قلبه شعوراً فياضاً، يملك عليه لبَّه ومشاعَره، ويتحكم في أحاسيسه -كما أسلفت- في حزنه وسروره، واكتئابه وانبساطه، وغضبه ورضاه، ويكون كل ذلك مربوط بقضية الإسلام الكبرى. على سبيل المثال محمد صلى الله عليه وسلم، اقرأ الأحاديث التي فيها عبرة؛ الحزن والرضا، والسرور والفرح، فيما يتعلق بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً: خرج صلى الله عليه وسلم فزعاً مذعوراً، رأيته صلى الله عليه وسلم مسروراً، رأيت البِشر في وجهه، رؤي في وجهه الغضب، خرج صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه هي الكلمات المعبرة عن مشاعر من غيظ أو غضب أو سرور أو حزن أو ما أشبه ذلك. ثم انظر إلى هذه الأشياء؛ فيم كان غضبه ورضاه صلى الله عليه وسلم؟ وفيم كان حزنه وسروره؟ وفيم كان هذا الشعور؟ لا تكاد تجد ذلك إلا في قضية مرتبطة بقضية الإسلام الكبرى، وبقضية الدعوة التي ملكت على الرسول صلى الله عليه وسلم كل مشاعره وأحاسيسه. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 39 الهم يدل عليه العمل أخيراً فإن هذا التوتر لقضية الإسلام، وهذا الهمُّ، لا بد أن يتمثل في شيء تقدمه للإسلام بعطاء، أو مشاركة، أو عمل قلَّ أو كثر، صغر أو كبر، تستطيع أن تقدمه للدين وتنفع به الإسلام والمسلمين، عطاءً يبدأ بالوعي والانتساب لهذا الدين حقيقةً، ولا ينتهي إلا بآخر نفس يخرج من الإنسان، فما دامت روح الإنسان في بدنه، فهو حريصُُ على أن يقدم العطاء. هذا العطاء الذي جعل عمر رضي الله عنه يقول فيما رواه البخاري تعليقاً، ورواه ابن حزم في المحلى وسنده صحيح يقول: [[والله إني لأجهز الجيش وأنا في الصلاة]] تزاحمت عنده الهموم والمشاعر، وكلها للدين، فيجهز الجيش وهو في الصلاة، ربما ضاق به الوقت، لم يتسع، والجيش على مشارف المدينة، فـ عمر يفكر في الجيش، لو ولينا فلاناً، لو أمَّرنا فلاناً، لو أخرجنا فلاناً، لو وجهت الجيش كذا، وهو في الصلاة. هذا الهم هو الذي جعل الإمام الشافعي رضي الله عنه، يتقلب في فراشه حتى يبرق الفجر ما نام فيقول: [[إنه حل في تلك الليلة عشرين مسألة فقهية]] . هذا الهم الذي جعل شاعراً من شعراء الإسلام، ورجلاً من رجالاته الكبار، يتكلم عن آلامه ومصائبه، وما يعانيه في عصرٍ كهذا العصر فيقول: قال الطبيب وقد أعيتهُ حالتنا ولم يُغادر لما يرجوه من سببِ كيف الشفاءُ بعيشٍ جد مُضطربِ والفكر في شغلٍ والقلبُ في تعبِ ما دُمت في بؤرة الأيامِ مُنتصباً للطعن والضرب لا رجوى لِمرتقبِ ولو ملكتُ خياري والدنا عرضت بِكل إغرائها في فنها العجبِ لما رأت غير إصراري على سنني وعادها اليأسُ بعد الهد والنصبِ قلبي خليٌ عن الدنيا ومُطَّلبي ربى فليس سرابُ العيشِ من أربِ هذا الشعور ربما أفلح واحد في التعبير عنه، لكنه شعور كثير من رجالات الإسلام ودعاته على مدار التاريخ، ويجب أن يكون هو شعوري وشعورك وشعورنا جميعاً. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 40 قصة سليمان عليه السلام ويعجبني أن أستشهد لهذا العطاء بنموذج أو مثال قد يكون بعيداً بعض الشيء عما نتحدث عنه الآن، وهو ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، في قصة سليمان عليه الصلاة والسلام، يقول أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن سليمان قال: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة من نسائي تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله} هو نبي الله، ومع ذلك فهو بشر؛ لأن الله تعالى يبعث الرسل بشراً من الناس، فالطبيعة البشرية موجودة فيه، والميل إلى المرأة موجود فيه، وهو يستمتع بذلك، لا أقول كما يستمتع غيره، بل أكثر، لأن الله تعالى يعطي الأنبياء من القوة -حتى في أجسادهم- ما لا يعطي غيرهم، وقد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم قوة ثلاثين أو أربعين رجلاً في الأكل والشرب والجماع، كما في حديث أنس: {كنا نحدث أنه أعطى قوة ثلاثين} وفي بعض الروايات والآثار أربعين وفي روايات أيضاً: {أربعين أو ثلاثين من أهل الجنة} . المهم أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عندهم من القوة ما ليس عند غيرهم، فهم يستمتعون بما أحل الله لهم من الطيبات، ومع ذلك انظر ماذا كانت مشاعر سليمان عليه الصلاة والسلام {تلد كل امرأة منهم غلاماً يقاتل في سبيل الله} فكان هذا أمل {ولم يقل: إن شاء الله، فقال له الملك: قل: إن شاء الله. فنسي أن يقولها فلم تلد منهن إلا امرأة جاءت بشق غلام، قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ} [ص:34] } . قال بعض المفسرين: هذا لأنه لم يقل (إن شاء الله) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده، لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته} أي: أدرك ما أراد وولدت {لو قال إن شاء الله، ولدت كل واحدة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله} . إذاً هو لم يكن يقصد من هؤلاء الغلمان أن يتكثر بهم من قلة، ولا أن يستعز بهم من ذلة، ولا أن يبطش بهم، إنما كان يقصد من وراء ذلك أن يظل هؤلاء مجاهدين في سبيل الله، يرفعون راية الإسلام، ويخوضون المعارك، أو يقتلون شهداء. وفي مقابل ذلك، هذا العمل نفسه قد يفعله الإنسان على مدار التاريخ، هولاكو أو جنكيز خان، وغيرهم من الأباطرة والأكاسرة والقياصرة، لا أقول: إنه يهدف إلى غلمان يجاهدون في سبيل الله، بل يهدف إلى غلمان يناوئون الإسلام، وإلى من يهدمون دولة الإسلام، وإلى من يقاومون زحوف المجاهدين في سبيل الله عز وجل، العمل واحد لكن النيات شتى. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 41 قصة ابن الزبير وقل مثل ذلك في مثل آخر ربما يكون بعيداً، وهو أيضاً في صحيح البخاري عن وهب ٍ أن أهل الشام عيروا عبد الله بن الزبير، وقالوا له: (يا ابن ذات النطاقين) فقالت له أمه: يعيرونك يقولون: يا ابن ذات النطاقين؟ قال: نعم! قالت: وهل تدري ما النطاقان؟ قال: لا، قالت: لما ذهب أبو بكر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة شققت نطاقي -نطاق المرأة الذي تضعه في وسطها- فجعلته نصفين: أحدهما: لقربة رسول الله صلى الله عليه وسلم والثاني: لسفرته، ولذلك كانت ذات النطاقين، فتمثل ابن الزبير أو تمثلت أسماء بقول أبي ذؤيب الهذلي: وعيرني الواشون أنى أُحِبها وتلك شكاةُُ ظاهرٌ عنك عارُها هناك عيب أني ذات النطاقين، بل هذه محمدة وحسنة، وهذا البيت إنما تمثل به ابن الزبير رضي الله عنه أو تمثلت به أسماء، وإلا فالواقع أنه لـ أبي ذؤيب الهذلي ضمن قصيدة يقول فيها: هل الدهر إلا ليلةُُ ونهارها وإلا طلوع الشمس ثم غيارها أبى القلبُ إلا أم عمرو فأصبحت تحرَّق ناري بالشكاة ونارها وعيرنى الواشون أني أحبها وتلك شكاةُُ ظاهرٌ عنك عارُها فنحب منك يا أخي -جزاك الله خيراً، ونفع الله بك الإسلام والمسلمين- أن تعطي عطاء من لا ينتظر من أحد في الدنيا جزاءً ولا مثوبة، ولا ينتظر ثناءً من الناس، ولا مدحاً، ولا جاهاً، وإنما ينتظر الجزاء عند الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، نريد العطاء الذي ينبعث من ذاتك، غير مرتبط بزمان ولا بمكان ولا بظرف، فأنت تعمل على أن تقدم لدينك ما تستطيع في كافة الظروف، حتى وأنت على سرير الموت. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 42 من موقعك تخدم الإسلام هذا العطاء الذي نريده منك عطاء ينطلق من موقعك، ووظيفتك، ودراستك، وسكنك، وعلاقاتك الشخصية والاجتماعية، ومواهبك وطاقاتك، ذات العمل الذي تأخذ عليه راتباً أحياناً، والعمل الذي قد تطالب بمقتضى النظام أن تقوم به، هذا العمل نفسه يمكن أن تقدم من خلاله خدمات جليلة للإسلام إذا نصحت لله تعالى ولرسوله ولعباده المؤمنين، وحرصت على أن تكون مخلصاً لله بعيداً عن الرياء والسمعة، والغش، والتزوير، والظلم، وبعيداً عن القيام بأي عمل تعتقد أنه لا ينفع المسلمين، أو أنه لا يخدم الإسلام، أو أنه ضد دعوتك ودينك الذي تدين به. ليس المجال الوحيد هو مجال الفتيا أو القضاء، أو التعليم الشرعي، أو إلقاء الدروس والمحاضرات أو الخطب مثلاً! أبداً وهذا مجال خصب، لكن هناك مجالات أخرى كثيرة في واقع المسلمين، يستطيع المختص سواءً في المجالات الطبية، أو في مجالات العلوم الطبيعية، أو في مجالات العلوم التطبيقية، أو العلوم الإنسانية، أو غيرها، والمسلمون يحتاجون إلى كوادر وإلى أعداد هائلة من أصحاب هذه التخصصات كلها؛ حتى يتحقق للمسلمين وجود المجتمع الإسلامي المتكامل، فلا تبخل على نفسك وعلى دينك بما تستطيع. وأنت -يا أخي- حين تقدم هذا العطاء، لن تخسر شيئاً أبداً، سوف تستمتع بما أحل الله لك، وسوف تجد الفرح والسرور والطمأنينة في قلبك، وهي عاجل بشرى المؤمن، وسوف يهبك الله تعالى من السعادة والتوفيق -حتى في أمورك الدنيوية- ما لا تحتسب، ومع ذلك فإنك يجب أن تعلم أن الدنيا ليست هي دار العطاء والجزاء، إنما الدنيا هي دار الكد والكدح والعمل، وأما جزاؤك فتنتظره في الدار الآخرة، لن تخسر شيئاً وأنت تقدم. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 43 استشعار المسلم موقعه هذا العطاء الذي نريده منك أخي المسلم، ومن المسلمة أيضاً، هو عطاء من يشعر بأنه يشكل جزءاً من الإسلام، وأنه رقم في ذلك العدد الذي يُحسب به المسلمون إذا حسبوا وعُدُّوا، فأنت واحد منهم شئت ذلك أم أبيت، هذا الرقم الخيالي، أنت معدودٌ فيه، محسوبٌ فيه، وإن كنت تقول: هؤلاء فيهم وفيهم، لكنك واحد منهم، وهذه الآلام، وهذه العيوب، والأمراض والأوجاع لك منها حظُُ ونصيب، قلَّ أو كثر. فيبقى السؤال ما دام أنك تشكل رقماً، هل أنت تشعر بالشعور الذي كان يشعر به سعد بن أبي وقاص؟ في صحيح البخاري يقول سعد رضي الله عنه: [[والله لقد مكثت سبعة أيام، وإني لثلث الإسلام]] هو لا يعرف إلا ثلاثة أسلموا، يقول: أنا واحد منهم، فكنت أشكل ثلث الإسلام مدة أسبوع، والواقع أنه ما كان ثلث الإسلام رضي الله عنه فهناك مسلمون مختفون ما كان يعرفهم، فكان يظن أنه ثلث الإسلام، ولكن الواقع أنه كان خمس أو سدس أو سبع الإسلام، المهم كان يشعر بأن هناك جزءً من الدين على ظهره وكاهله، وهو الآن ليس له من حين أسلم إلا أسبوع فقط، أنا وأنت شبنا في الإسلام، ومع ذلك ليس في قلوبنا تلك الحرقة، ولا فيها ذلك اللهيب الذي يدعونا إلى أن نفكر دائماً في كيف نعمل للإسلام، وكيف نقدم. يعجبني -يا أخي- الإنسانُ الذي يقول: ماذا أفعل؟ ما هو دوري؟ هذا دليل على أنه يريد أن يعمل شيئاً. المشكلة الإنسان الذي يصبح كالنبتة التي نبتت في الظل، هي دائماً منجعفة، ليس فيه قوة، ولا إشراق، ولا حرارة، ولا توقد، هذا الإنسان لا يصنع شيئاً. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 44 الأسئلة الجزء: 184 ¦ الصفحة: 45 مصادر الإعلام السؤال ماذا عن مصادر الإعلام؟ الجواب في الواقع إن هذه من المشاكل التي يعانيها المسلمون، لذلك لا توجد مصادر إعلامية معتمدة للمسلمين، والمسلم محتاج لأن يقرأ، ويسمع ما يقرأ، ويسمع غيره، لكن يمحص في هذه المرويات والمعلومات، ولا يقبل كل ما يسمع أو يقرأ. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 46 تسمية المدينة المنورة السؤال سميت مدينة الرسول -عليه الصلاة والسلام- باسم المدينة المنورة، وقد سمعت أحد المشايخ يقول: إن تسمية المدينة المنورة ليست صحيحة، أو أنها من البدع؟ الجواب ما سمعنا بهذا، ولا نقول: أن اسم المدينة المنورة هو المشروع، اسمها المدينة وإن سميت المدينة النبوية، لوجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها، أو قلت: المدينة المنورة أو المدينة، فكل ذلك جائز وهذه أسماء لا يتعبد بها. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 47 تصور خاطئ لإقامة دولة الإسلام السؤال يقول: إني أحبك في الله -جزاك الله خيراً- مشاعر وهموم، واهتمامات بالإسلام والمسلمين، أسأل الله أن يثيبنا وإياك ويقر عيوننا جميعاً بصلاح المسلمين، -اللهم آمين- يقول: إن هناك من يقول ويعتقد أنه ليس هناك من سبيل لرفع هذا الذل عن الأمة، وإقامة القرآن في الأرض من جديد، إلا أن يهبَّ أكثر الأمة الإسلامية إلى الجهاد في سبيل الله، على أرض يستطاع منها الجهاد -مثلاً- في أفغانستان، ومن هناك تقوم دولة الإسلام، ثم ينتشر جهاد الطلب لفتح البلاد وحكمها بالإسلام، ويقول: إن هذا هو الذي فعله صلاح الدين الأيوبي، أما غير ذلك كالتربية على الإسلام الصحيح بعد الدعوة إلى الله، فهذا أمرُُ لا يؤدي إلى شيء، بل قد يكون قعوداً عن دواعي النصر؟ الجواب بصراحة هذا موضوع سوف أخصص له درساً، مشكلتنا أن تفكيرنا غلط في كثير من الأحيان، ومشاعرنا أيضاً غلط في كثير من الأحيان لابد أن نصححه، ولا بد أن نكون شجعاناً وصرحاء مع أنفسنا، رأيت كثيراً من أحبتي الشباب اختصروا كل مشاكل المسلمين، وقضاياهم، ومآسيهم، ومصاعبهم، في شيء واحد اسمه "أفغانستان"، يا أخي أفغانستان على العين والرأس، وأفغانستان تعيش في قلوبنا، واثنتي عشرة سنة ونحن نعيش هماً اسمه أفغانستان، طالما عاش لها المسلمون وحزنوا، ورووها بدموعهم ودمائهم وأموالهم. لكن ليس صحيحاً أن ليس للمسلمين مشكلة سوى أفغانستان، وأن المسلمين يجب أن يهاجروا إلى أفغانستان، وأن الإسلام سوف ينطلق من أفغانستان. هذا التصور تصور فيه قدر كبير من السذاجة، المسلمون الآن عندهم عيوب في داخلهم، مستوى الوعي عند المسلمين ضعيف، ومستوى التفكير عند المسلمين ضعيف، وتقدم المسلمين في المجالات العلمية ضعيف، والتزام المسلمين بدينهم ضعيف، وعقائد المسلمين تحتاج إلى إصلاح، كثير منهم لم يفهموا عقيدتهم فهماً صحيحاً، فالحقيقة أن العناية بالمسلمين في كل مكان هو الواجب، وإذا لم تحدث تلك العناية، فقد تتحول كثير من بلاد المسلمين إلى أفغانستان أخرى. ثم نقول للإخوة: أفغانستان بلد أهله مسلمون، لكن في أفغانستان من السلبيات مثلما في البلاد الإسلامية الأخرى، الجهل، التعصب المذهبي، الضعف في العقائد، وجود خلل، وجود تناقض واختلافات، وجود مشاكل، هذا أمر موجود في أفغانستان كما هو موجود في أي بلد إسلامي آخر، فلماذا نتصور أن أفغانستان مجموعة من الصالحين، أو نصور هذا للناس؟ فإذا ذهب بعض الشباب بهذه النفسية وجدوا هناك بعض الانحرافات وبعض الأخطاء، وبعض الاختلافات، ووجدوا ووجدوا، أقول: ربما انصدم بعضهم، أو انكسروا، وربما رجعوا بغير الوجه الذي ذهبوا به، لماذا لا نكون صرحاء مع أنفسنا؟ لماذا لا نواجه واقعنا بوضوح؟ لماذا لا نكون واقعيين؟ لماذا لا نكون معتدلين في أحكامنا؟ كنت ولازلت مؤيداً لقضية أفغانستان، وأدعو إلى التبرع لأفغانستان، وأقول: إن قضية أفغانستان هي من أهم قضايا المسلمين، وهي دليل على مدى صدق الإنسان في تبني قضايا المسلمين، فلا بد أن يهتم المسلم بقضية أفغانستان. لكن يهتم بها من كل وجه، يهتم بالإصلاح بين المجاهدين الأفغان، يهتم بتصحيح تصورات وعقائد وأفكار ونظرات المجاهدين، سواء كانوا من الأفغان، أم من العرب الذين يقيمون هناك، أما تصور بعض الشباب أنه بمجرد ما يحمل الإنسان السلاح، فقد زالت كل المشاكل، وانحلت كل الأمور، يا إخواني هذا تصور فيه كثير من السذاجة. وأرجو أن لا يفهم هذا الكلام المختصر خطأً. اللهم أصلحنا، وأصلح بنا يا حي يا قيوم، اللهم اهدنا سواء السبيل، رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 184 ¦ الصفحة: 48 من هنا وهناك تكلم الشيخ في هذا الدرس عن شهر رمضان، وذكر أن رمضان فرصة للوحدة الصادقة بين المسلمين، وأنه لابد من صفاء القلوب للمسلمين جميعاً، ثم ذكر أن رمضان فرصة للإقبال على إصلاح الباطن، وتطهير القلوب، فهو فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، وبيَّن أنه لابد من الاهتمام بتربية الناس في رمضان، رجالاً ونساءً، ثم ذكر الحكمة من مشروعية الخطبة يوم الجمعة، وكيف كانت خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر أن رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله. ثم تكلم الشيخ عن أحداث الجزائر، ودور الشيعة في هذه الأحداث، ثم ذكر إيجابيات هذه الأحداث، وبيَّن أن دعوة أهل السنة ليست دعوة إلى العنف، ولا إلى الحروب الأهلية. ثم ذكر الشيخ مشاركات شعرية وهي عبارة عن قصيدتين تحدثتا عن أحوال المسلمين، ثم تحدث عن الرسائل البريدية التي تصل إليه من كثير من البلدان الإسلامية. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 1 السبب في اختيار موضوع: من هنا وهناك إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا الدرس الخامس والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة ينعقد في هذه الليلة، ليلة الإثنين الثامن والعشرين من شهر شعبان، لسنة ألف وأربعمائة واثنتي عشرة للهجرة. أيها الأحبة، كنت قد أخبرتكم أن عنوان هذا الدرس سيكون: (من هنا وهناك) ولعل مضمون الدرس واضح من عنوانه، فإنه كان يمر بي خلال فترة طويلة مضت كثير من الأوراق والرسائل والأسئلة والقصاصات والاقتراحات وغيرها. فكنت أود أن أجد لها فرصة في مثل هذه الدروس، لكن الوقت يمضي والأحداث تتوالى، فتكاثرت فرأيت أن أفرد لها مثل هذا المجلس بين الفينة والأخرى. وبناءً عليه، فإن هذا المجلس سيكون عبارة عن أشياء موزعة ومتفرقة وأمور عديدة، مما يكون فيه تواصل بيني وبينكم، وتعاون على البر والتقوى، وتناقش فيما يكون فيه مصلحة للجميع. وأرجو أن يكون في ذلك خير وبركة، وأن يكون مجلساً عامراً، فيه من المتعة والفائدة ما فيه. ولعل أول نقطة لابد أن أبدأ بها الآن وقد قارب شهر رمضان على القدوم، هي: الحديث عن شهر رمضان. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 2 من فوائد شهر رمضان ففي خلال هذا الأسبوع يستقبل المسلمون هذا الشهر الكريم، الذي خصه الله تعالى بالذكر في كتابه، وأنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هذا الشهر الكريم أيها الأحبة هو: الجزء: 185 ¦ الصفحة: 3 رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله رابعاً: شهر رمضان فرصة للإنفاق في سبيل الله، ورعاية المستضعفين في كل مكان. المستضعفون -أيها الأحبة- كثير، ولعل مما يدمي القلوب، أن تعلموا أنه في الوقت الذي يمتلك المسلمون فيه أكثر الثروات في العالم، فإن أكثر الفقراء في العالم، بل وأفقر الفقراء في العالم، هم في بلاد المسلمين. وهناك بلاد لا يجد المسلم فيها قوت يومه، ولقد رأيت ورأى غيري -والله الذي لا إله غيره- أجساداً من الكبار والصغار، كأنهم هياكل بشرية، ولولا أن الإنسان رآهم ما كان يصدق أنه يوجد أناس بمثل هذه الصورة، وما يتسامع به المسلمون مما يجري للاجئين الإريتريين في السودان -مثلاً- أو في بنجلاديش أو في كشمير، أو في الجزائر أيضاً، أو غيرها من ذلك الكثير والكثير. فأين المحسنون؟ أين المتصدقون؟ أين من أنعم الله عليهم بالأموال؟ {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [محمد:38]-أي: بترك النفقة في سبيل الله- {يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] . يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي كما في صحيح مسلم: {أنفق فسننفق عليك} و {ما من يوم تطلع شمسه، إلا وملكان يناديان: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً} . فيا أيها التجار، ويا أيها الأثرياء، ويا أنصاف التجار وأنصاف الأثرياء، ويا من يجدون سعة فيما أعطاهم الله تبارك وتعالى، أين أنتم من الإنفاق؟! أين أنتم من العطاء الذي يدفع الله به عنكم ميتة السوء والبلاء، ويدخلكم به الله الجنة! ويرضى به عنكم! ويوفقكم، فتكسو عارياً، أو تعين محتاجاً، أو تشبع جائعاً، أو تروي عطشاناً، أو تعلم جاهلاً، أو تهدي ضالاً، إلى غير ذلك. وأقول بهذه المناسبة: إنني وغيري من الإخوان وطلبة العلم، لدينا استعداد أن نتقبل كل من يرغب أن نكون وسطاء، في إيصال الزكاة والتبرعات وغيرها، ومكتبنا يقوم بصرفها لمستحقيها، سواء في داخل المملكة أو في غيرها من بلاد المسلمين. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 4 رمضان فرصة لتجديد الحياة ثالثاً: رمضان فرصة لتجديد الحياة، وكسر روتينها الممل، فرمضان شهر له شخصيته الخاصة من بين شهور السنة، حتى الأطفال الصغار يعرفون لرمضان طعماً خاصاً، وحتى الفساق يعرفون كيف يكون رمضان. بل حتى الشياطين يأخذون لرمضان هماً ثقيلاً لأنهم يسلسلون فيه ويصفدون، ولذلك تجد أن البلاد التي اندرست أو كادت أن تندرس فيها آثار الإسلام ومعالمه، وعبثت فيها العلمانية، تجد أن تلك البلاد إذا جاء رمضان تغيرت أشكالها -سبحان الله- وتغير الناس تغيراً كبيراً، فلا يزال رمضان يحتفظ بشخصيته المستقلة الخاصة المميزة من بين جميع الشهور. ولذلك فإن من المناسب جداً أن تحشد كل المؤثرات، لتوجيه الناس إلى شرف هذا الشهر فضل العبادة فيه، والتوبة والإقبال على الله عز وجل، ووجوب الخروج من المظالم، وتربية الناس على التقوى والإيمان، وعلى كل معاني الدين التي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام بتقريرها. ويتم ذلك من خلال دروس المساجد -مثلاً- الموجهة للرجال والنساء على حد سواء، من خلال خطب الجمعة والمحاضرات، ومن خلال النشاطات والبرامج التي تقيمها مكاتب الدعوة والإفتاء وغيرها، بل من خلال الكتب والأشرطة التي ينبغي أن تغتنم فرصة اجتماع الناس في المساجد رجالاً ونساء لتوزيعها. وأخص الحديث عن النساء، لأن النساء تجتمع في المساجد في رمضان ما لا تجتمع في غيره، فتوجيه الحديث لهن ونصحهن وإرشادهن، وبيان حدود ما أنزل الله للنساء، وتوزيع الكتب والأشرطة وغيرها، من أهم الأنشطة والأعمال التي ينبغي أن تلفت إليها الأنظار. وحين نقول: إنه ينبغي حشد الجهود لتوجيه الناس إلى هذا الشهر الكريم، وما فيه من العبادة والقدسية، لا يعني هذا أبداً الغفلة عن أن الإسلام دين الشمول، وأننا نرفض بكل مناسبة، المفهوم الكنسي للإسلام، الذي يحاول البعض أن يلصقوه بهذا الدين. المفهوم الذي يعتبر العمل في الدنيا -مثلاً- خطيئة، فتجد الواحد في رمضان يكف عن العمل، بل العمل جزء مما كلف الإنسان به في هذه الدنيا، ولو أن إنساناً ترك العمل حتى جاع أو جاع أولاده، لكان آثماً بذلك عند الله تعالى يوم القيامة. أو المفهوم الذي يفصل بين الدين وبين الحياة، فيعتبر أن الدين لله -كما قال أحدهم، وقد نشر هذا المقال في مجلة اليمامة أو غيرها، وكان فيه كلمة تشير إلى أن (الدين لله والوطن للجميع) - وهذا مفهوم غريب، فإن الله تعالى له كل شيء، له الآخرة والأولى، وله السماوات والأرض، وله الحكم وإليه ترجعون، وبيده مقاليد كل شيء، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم. فالدين لله والوطن لله، واجتماع الناس يجب أن يكون على أساس الأخوة الدينية، لا على أساس الأخوة الوطنية. فالفصل بين الدين والحياة أمر مرفوض، والدين ما جاء إلا ليحكم حياة الناس من الألف إلى الياء -كما سبق أن بينا- فالدين يتحكم في المولود يوم يولد ماذا يسمى، وتحنيك المولود، وما يتعلق بالعقيقة إلى غير ذلك، ويتحكم في الميت حين يدفن في المقبرة كيف يدفن؟ وما هي الأشياء المشروعة عند دفنه؟ وعند الصلاة عليه وغسله، وغير ذلك. وما بين ذلك من أحوال الفرد والجماعة والمجتمع والأمة والدولة، كلها لا يمكن أن يخرج منها شيء عن حكم الله تعالى ورسوله. ليس في الدنيا شيء يقع إلا ولله ولرسوله فيه حكم، علمه من علمه وجهله من جهله. ولذلك يكون من الأمور المستغربة، ما تسامع به الكثير من الناس في خطبة أذيعت في الإذاعة مرة أو أكثر، وتحدث ذلك الخطيب فيها عن الخطب، وانتقد تناول الموضوعات السياسية في الخطبة -مثلاً- وقال: إن الخطب تحولت إلى منتديات سياسية، وإن الخطيب يخطب حتى يحتشد الناس حوله، أو حتى يذكر، أو حتى تباع أشرطته في محلات التسجيلات. ولكن فاته أن يقول: أو يخطب لتذاع خطبته في الإذاعة أو يخطب ليتزلف بذلك إلى سلطان أو غيره. كما أنه قال إن الخطبة لم تشرع لذلك، ولكنها شرعت للتربية الإيمانية!! وأقول: إذا كانت الخطبة شرعت للتربية الإيمانية، فهل يمكن أن نعتبر هجومه على الخطباء الذين يتحرقون لآلام المسلمين، من التربية الإيمانية؟! وإذا لم تكن الخطبة شرعت لمعالجة أحوال المسلمين وأوضاعهم، ودراسة أمورهم، فهل شرعت للنيل من الدعاة وطلبة العلم والخطباء على رءوس المنابر؟! وإذا كان الناس يختارون الخطيب الذي يستمعون إليه، ويأتونه من مكان بعيد؛ لأنهم يجدون الكلمة الصادقة، والتوجيه السليم، والألم والحرقة، والكلام الذي يربطهم بواقعهم، ويشعرهم بالدور الذي يمكن أن يقوموا به، فهل على الخطباء من لوم أو تثريب إذا انفض الناس عن غيرهم وجاءوا إليهم؟! هل قال لهم الخطيب: تعالوا إليّ واتركوا فلاناً وفلاناً؟! كلا، والخطيب لا يستطيع أن يضع على أبواب المساجد شرطةً يمنعون الناس من الدخول، بل وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ونحن نعتبر من مظاهر يقظة الأمة وصحوتها؛ أن تقبل على الخطباء الذين تجد عندهم الكلمة الهادفة، وليس صحيحاً أن المسألة مجرد إثارة، كلا ثم كلا، بل القضية قضية أن هناك خطباء يلامسون الجرح الذي يعانيه المسلمون. وما معنى -أيها الإخوة- أن يكون المسلمون يعيشون هموماً كبيرة في وقت، ثم يتحدث الخطيب في ميدان آخر؟ أرأيت خطيباً -وأضرب مثلاً يناسب حال ذلك الخطيب- أرأيت يوم حصل الاجتياح العراقي للكويت، واهتم الناس بهذا الأمر، وأقض مضاجعهم وأزعجهم وأقلقهم، هل كان من المناسب أن يأتي الخطيب إلى جمهور من الناس، يريد أن يسمع حكم الله ورسوله فيما جرى، ويريد أن يعرف ماذا يجب علينا أن نعمل، ويريد أن يسمع كلمة عزاء لمصاب، أو كلمة دعاء على ظالم، ثم يأتي الخطيب ويتجاهل هذا الواقع كله ويذهب ليتحدث عن قضية تاريخية حصلت في القرن الأول أو القرن الثاني؟! أو يتحدث عن قضية بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع؟! أو يتحدث عن أحكام تتعلق بالطهارة يمكن أن يتحدث عنها في أي وقت آخر؟! لا شك أن من أهم أسباب نجاح الخطيب، بل من الأهداف المشروعة للخطبة، أن تعالج الخطبة ما يمس واقع الناس، وما يحتاجون إليه. ولو تساءلنا: كيف خطب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته؟ ألم تكن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم -وكثير منها محفوظ كله أو جله- ألم تكن رفضاً لشرك العرب في الجاهلية؟ ألم تكن دعوةً إلى التوحيد؟ بلى، ولما آمن الناس كانت الخطب تربية لهم على الإيمان، وبياناً للأحكام الشرعية، ولما توفى الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر فخطب فماذا قال؟ الآن الناس يعيشون حدثاً كبيراً، هو حدث وفاة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم مشدوهة، ونفوسهم مشحونة، وعيونهم دامعة، وأيديهم ضارعة، فماذا قال أبو بكر؟ لم يأتِ ليخطب عن قضية بعيدة، بل خطب في الموضوع نفسه، وقال كلمته المشهورة التي نفع الله بها نفعاً عظيماً فقال: [[من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت]] . ثم تلا قول الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] إذاً الخطبة ينبغي أن تكون مرتبطة بالواقع، حتى تربية الناس التربية الإيمانية، ينبغي أن تنبثق من الواقع ومن الأحداث. وقد كان الله تعالى، يربي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن، من خلال الأحدث، فإذا وقع حدث ما، نزل القرآن بالكلام عن هذا الحدث وبيان أسبابه. حصلت معركة أحد، فانهزم المسلمون، وبدءوا يتساءلون لماذا هزمنا، ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومعنا الحق؟ فنزل القرآن، يقول الله تعالى {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . والآية التي بعدها {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:166] إلى غير ذلك، والقرآن كثير منه له أسباب نزول من هذا القبيل. إذاً التربية الإيمانية ينبغي أن تكون مرتبطة بواقع الناس. ثم إن شئون المسلمين وهمومهم وقضاياهم واحدة، ولم يحرم الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم على أحد أن يقول كلمة الحق، بل أمر بها وأوجبها، ولو لم تقل الأمة كلمة الحق فقد تُودّع منها، ويحل عليها عقاب الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود:116] . إن الخطيب قد يقول كلمة حق يرفعه الله تعالى بها في الدنيا والآخرة، ويدخله بها الجنة، ويكون في هذه الدنيا محل حفاوة الناس وحبهم وتكريمهم، وقد يقول الخطيب كلمة متجنية، يحترق بها في الدنيا ويسقط من أعين الناس، أما الحساب في الدار الآخرة فلسنا ممن يتكلم عنه فإن الله تعالى هو ولي ذلك. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 5 رمضان فرصة لإصلاح القلوب ثانياً: إن رمضان فرصة للإقبال على إصلاح الباطن وتطهير القلوب، فنحن نعلم جميعاً أن الصوم لم يشرع من أجل الجوع والعطش، وأن الصلاة لم تشرع من أجل السهر والتعب، وكذلك العمرة التي يؤديها الناس في رمضان وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم العلاء الأنصارية: {إذا كان في رمضان فاعتمري، فإن عمرة في رمضان تعدل حجة} وفي رواية: {حجة معي} . فهذه العمرة لم تشرع لضياع المال والجهد وتعب السفر ولأوائه! كلا. ولكن ذلك كله شرع حتى يكون قلب الإنسان سليماً، لينجو يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. ولذلك فالعبرة بثمرة العمل ونتيجته، ورب ركعتين يركعهما الإنسان بإخلاص، وصدق مع الله عز وجل لا رياء فيها ولا سمعة يكتب الله بها نجاة العبد، ورب عمل طويل كثير، عمله الإنسان رياءً أو سمعة أو ما أشبه ذلك، يكب الله صاحبه على وجهه في النار. قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] . ما معنى -مثلاً- أن تجد من المسلمين من يصوم وهو لا يصلي، حتى لا يصلي الصلوات الخمس ولا في بيته، وما معنى أن يصوم الإنسان في النهار عن الطعام والشراب، وأن يفطر في الليل على ما حرم الله، فتجدهم يسكرون، وربما يجتمعون على لهو ولعب وباطل من القول والفعل والنظر والسماع. وما معنى أن يصوم الإنسان عن الطعام والشراب، ويفطر على أعراض المسلمين، فيأتي وقد نهش هذا وطعن هذا، وشتم هذا، وتكلم في هذا واتهم هذا، وقال في هذا بغير حق، وهذا هو المفلس كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصوم وحج ويأتي وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار} . الجزء: 185 ¦ الصفحة: 6 رمضان فرصة لوحدة المسلمين أولاً: فرصة للوحدة الصادقة بين المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، إذ أنه يوحد بينهم في الصيام والفطر والصلاة، وغير ذلك من الأعمال. فهل يعي المسلمون ذلك؟ وقد تشتت بهم السبل، وتفرقت بهم الأهواء، واختلفت قلوبهم فصاروا هكذا كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، أهواء شتى، وقلوب متفرقة، وآراء مختلفة، هذا بين من يلتزمون بالمنهج الصحيح، دعك من أهل البدع فلنا معهم حديث آخر، دعك من الضالين والمنحرفين، لكننا نوجه هذا الحديث إلى المسلمين المتبعين للرسول صلى الله عليه وسلم. إن الله تعالى إذا حرم قوماً بركة العمل سلط عليهم الجدل، ولهذا جاء في الحديث المروي: {ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل} فأنت تجد الفرص والمناسبات، التي إنما شرعت وأحدثت لتعميق الوحدة بين المسلمين الصادقين، وتأليف قلوبهم، وإزالة الوحشة والشحناء والبغضاء من نفوسهم، وتصفية ضمائرهم، تجد أنها في كثير من الأحيان تحولت عندهم إلى نوع من الجدل، الذي لا يزيد القلوب إلا تفرقاً، ولا يزيد الخلاف إلا اشتعالاً، فإذا قدم رمضان وجدت جدلاً عظيماً بين المسلمين في كل مسجد في أمور كثيرة، في صلاة التراويح، وكم تصلى؟! ثم في زكاة الحلي للنساء، وهل فيها زكاة أو ليس فيها زكاة؟ ثم في إثبات دخول الشهر وكيف يتم إثبات دخوله بالرؤية أم بالحساب؟ وهل يصوم المسلمون كلهم جميعاً؟ أم كل بلد له رؤيته الخاصة؟ إلى غير ذلك من المسائل والأمور! ونحن لا نعترض أبداً -وأقولها بوضوح؛ لئلا يفهم الكلام خطأ- على البحث العلمي الجاد في كل هذه المسائل. فإنه لا يملك أحد أن يحجر على قلوب الناس، وألسنتهم، وعقولهم، ودراساتهم، كلا. وما زال العلماء يبحثون في مثل هذه الأمور وفي غيرها منذ القديم، ولكنها لم تكن يوماً من الأيام مجالاً للاختلاف والتطاحن، وللقيل والقال، وللتخطئة على رءوس الأشهاد، وإيجاد أشياء كثيرة في نفوس العامة. فإنهم لا يدرون ماذا يأخذون وماذا يدعون، أرأيت -مثلاً- في كل مسجد من المساجد يدور جدل كم نصلي التراويح؟ فيقول قوم نصليها خمساً، ويقول آخر نصليها عشراً، ويقول آخر: غير ذلك، ويحدث اختلاف، حتى إن بعضهم يترك المسجد ولا يصلي ويذهب إلى غيره ليصلي، إلى غير ذلك من الأمور! وأجزم أيها الأحبة، أن اجتماع المسلمين في مسجد من المساجد على صلاة التراويح -مثلاً- على الصورة المفضولة أولى من اختلافهم وتناحرهم، وكثرة القيل والقال، وارتفاع الأصوات في المساجد واللغط وغير ذلك، وأشد من ذلك كله اختلاف القلوب، ووجود البغضاء والشحناء على أمور لا يدعو الأمر إليها. فقد اختلف الصحابة في هذا الأمر، واختلف التابعون فيه، وتجادلوا فيه بالحسنى، ولم ينقل أن أحداً منهم ضلل أو فسق أو بدع لأجل ذلك، ولا هجر أحداً لأجل ذلك، ولا ترك الصلاة خلفه لأجل ذلك، ولا أن هذا الأمر أدى إلى اختلاف في القلوب وتناحر وتطاحن. فمتى يعي المسلمون ذلك؟ وتتحول هذه المناسبات إلى مجال لتقريب القلوب وتصفيتها! فإن من أعظم ما يعبد الله تعالى به صفاء القلوب على المسلمين. والحديث الذي رواه أحمد والطبراني وغيرهم، وسنده حسن، في قصة عبد الله بن عمرو بن العاص معروف مشهور، وفيه {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر رجلاً من الأنصار بالجنة، فلم يجد عبد الله بن عمرو بن العاص من عمل هذا الرجل، كبير صوم ولا صلاة، إلا أنه يبيت، وليس في قلبه غل على مسلم على فضل أعطاه الله تعالى إياه} . فلنعبد الله تعالى بالقلوب النظيفة، والنفوس السليمة، التي لا تحمل لمسلم صادق غلاً، ولا غشاً، ولا حقداً، ولا حسداً، ولا كراهية، ولا بغضاء، وما أعز مثل هذا في نفوس الناس. قد يلتبس هذا الأمر أحياناً بصورة الغيرة على الدين، أو بصورة الغضب لمسألة علمية، أو بصورة الغيرة على الوحدة الإسلامية، أو بصورة البحث عن المصلحة، يلبس أزياء شتى ولكن حقيقته واحدة. فإذا جاء الحج، الذي هو فرصة لوحدة المسلمين الصادقين، الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة، تراهم يقفون في صعيد واحد، ويفيضون في وقت واحد، إلى غير ذلك من الأعمال، ويجتمعون في مكان واحد، ليتدارسوا أمورهم، وجدت أن كثيراً من المسلمين يأتيهم الداء مرة أخرى فيشتغلون بجدل عظيم حول أمور كثيرة، وآخر ما يشغلهم هو ما شرع الحج لأجله! وأعظم ذلك هو تعميق وحدانية الله تعالى في القلوب. والذي يقرأ سورة الحج -مثلاً- يعرف أن من أعظم أهداف مشروعية الحج؛ تحقيق التوحيد في قلوب العباد. قال تعالى: {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] وقد أخذنا شعائر الحج عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وكانت كثير من هذه الشعائر يعمل بها أبونا إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو سيد الحنفاء والموحدين، فليتفطن لذلك، ولنعمل جميعاً على أن نجعل من مثل هذه المناسبات فرصة لتحقيق الوحدة بين المسلمين الصادقين، بين الملتزمين بمنهج الكتاب والسنة. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 7 تعقيبات على أحداث الجزائر الوقفة الثالثة في ضمن هذه الجلسة، فهي تعقيبات على أحداث الجزائر، وقد كنت تناولتها تفصيلاً في الجلسة الماضية، ولكن جاءتني أسئلة واستفسارات كثيرة، أحببت أن أقف منها على أمور يسيرة، بقدر ما يتسع له الوقت. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 8 إعطاء الدعاة فرصة لتكوين البرامج والخطط رابعاً: من إيجابيات الحدث: إعطاء أولئك الدعاة من حملة الإسلام، فرصة أطول وأقوى، لتكوين البرامج والخطط الكافية التي يستطيعون أن يحكموا بها بلاد الجزائر، سواءً البرامج الاقتصادية بالدرجة الأولى وتدبير أمورهم والإعداد الكافي أو غيرها. وربما -والعلم عند الله تعالى- لو انتصروا لاصطدموا بأشياء كثيرة، منها: المديونية الهائلة والوضع الاقتصادي الصعب في أرض الجزائر، وهو وضع صعب جداً، وهو من أخطر ما يواجه الحكومة. فلعل من رحمة الله تعالى أن يتأجل هذا الأمر لفترة، لأن هذا سوف يعطي أولئك المسلمين فرصة أوسع وأطول، لمزيد من الدراسة والخطط التي يستطيعون بها -بإذن الله عز وجل- أن ينقذوا شعب الجزائر من أزماته التي يعانيها، وبالدرجة الأولى الأزمة العقائدية والأخلاقية والاقتصادية، وغير ذلك. وعلى كل حال، فكما جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {الله أغير منا} فهذا دين الله عز وجل، والله تعالى أغير منا على دينه. ولكنها مشاعر البشر الذين لا يملكون إلا الفرح بانتصار الدين، والحزن بخذلان أهله، وإن كان الأمر لله من قبل ومن بعد. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 9 دعوة أهل السنة ليست دعوة إلى العنف أمر أود أن أؤكد عليه، وإن كنت أشرت إليه في الجلسة الماضية، وأقوله بعبارات واضحة صريحة، لأنني لا أحب أن يفهم مني أحد، أو يحاول أن يلبس على الناس ليفهمهم ما لم أقل. أقول -أيها الإخوة-: نحن لا ندعو إلى العنف، ولم ندع إلى العنف يوماً من الأيام، ونحن لا نتحرق إلى استخدام القوة وإسالة الدماء، وقد تبين الآن من هم الذين يحاولون جر البلاد -كل البلاد- إلى الحروب الأهلية، وتبين من هم المستعدون للتضحية في سبيل حقن الدماء وحفظ أرواح المسلمين، لقد رمي المسلمون في هذا البلد، ورموا في الجزائر بأنهم يسعون إلى إشعال حرب أهلية، فتبين الآن لكل ذي عينين؛ من هو الذي يسعى إلى إشعال حرب أهلية هنا وهناك وفي كل مكان. إن الذين يسعون إلى حرب أهلية، هم الذين قاموا بهذه الحركة، التي كان من الممكن أن تستفز الناس في الجزائر، وتدعوهم إلى الإصرار والنزول إلى الشوارع، ونزلوا بالجيش إلى الشوارع، وبناءً عليه فقد كان من الممكن أن يضرب المسلم الجزائري أخاه بالرصاص، وأن يتقاتلوا في الشوارع. ولكن المسلمين هناك ضبطوا أنفسهم، وأشهد بالله أنهم كانوا على قدر كبير من الانضباط، وضبط النفس والأناة، بشكل ربما البعيدون عن الأحداث ما استطاعوا الصبر عليه، فكيف بالقريب الذي يواجه الأحداث ساعة ساعة ولحظة لحظة، ويواجه الضغوط من الناس، ومع ذلك كانوا في درجة عليا من الانضباط، والبعد عن الهيجان والغليان والاندفاع، وهذه شهادة أقولها لله تعالى، لا أرجو فيها جزاءً من أحد ولا شكوراً. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 10 ظهور الظلم الذي لحق بالإسلام والمسلمين في الجزائر من إيجابيات الحدث أيضاً: ظهور الظلم الفادح الذي لحق بالإسلام ودعاته في الجزائر، وهذا يدعو إلى انتصار الباحثين عن الحقيقة لهم في كل مكان، فإنهم مظلومون بكل المقاييس، والمظلوم دائماً وأبداً ينتظر من الله تعالى الفرج، ويقيض الله تعالى له من ينصره ولو بعد حين، كما جاء في الحديث. فظهور حملة الإسلام بمظهر الذين ظُلموا، وصودر اختيارهم، وأخذت حقوقهم بغير حق؛ هذا من أهم أسباب الانتصار- ولهذا ربنا تبارك وتعالى لما ذكر شرعية الجهاد والإذن به؛ ربطه بقضية الظلم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [الحج:39-40] إلى آخر الآيات. إذاً الظلم الذي يقع على دعاة الإسلام، وحملته وحماته، من أهم بوادر وبشائر النصر، الذي سوف يحققه الله تعالى لهم. ومن ذلك أيضاً تمكين محبة هؤلاء، والإصرار على اختيارهم في ضمير الشعب الجزائري، إذ يحس الشعب الجزائري أن اختياره لهذه الجبهة قد صودر وقضي عليه، ولذلك سوف يثأر ولو بعد حين. ولو فرض أنهم قضوا على الجبهة، سيظل كل جزائري اختار الجبهة يشعر بأنه في يوم من الأيام كانت هناك الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وأنه صوّت لها فحيل بينه وبينها، هذا سوف يزيدهم استمساكاً بها وإصراراً على اختيارها، وسوف يصبح كل مسلم جزائري عضواً في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وبناءً عليه، يستحيل أن يقضوا عليها، إلا إذا قضوا على الشعب الجزائري، والقضاء على الأمة الجزائرية أمر لا يمكن ولا يكون بداً. إذاً هذا الأمر زاد من تعلق الناس بهم، وقد صرح بهذا أحد زعماء الأحزاب الاشتراكية فقال: إن الذي حدث فعلاً هو لصالح جبهة الإنقاذ، فقد زاد من تشبث الناس بهم، ورغبتهم فيهم وشعورهم بأنهم أصحاب حق، وأنه يجب أن يعودوا، ويجب أن يكون الأمر إليهم، وهذا أيضاً مكسب. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 11 دور الشيعة في أحداث الجزائر أولاً: دور الشيعة في أحداث الجزائر. وأقول: إن إيران التي تتبنى المذهب الشيعي معتقداً -ولا بد أن نقول هذه الكلمة- قد نجحت في الدعوة إلى مذهبها، وتحمست له، واستطاعت أن تمد الجسور في كل مكان، فوزراؤها يوماً في اليمن، ويوماً آخر في الأردن، ويوماً ثالثاً في سوريا، ويوماً رابعاً في مصر، وخامساً في الجمهوريات الإسلامية التي تفرعت بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، ويوماً هنا ويوماً هناك، أخطبوط متواصل من الاتصالات التي لا تنقطع، وجهود مكثفة غريبة، ونشاطات ومؤسسات ومشاريع اقتصادية، وتسليح وإعداد يطول منه العجب. وإضافة إلى هذا فإن إيران قد أعلنت نفسها كقيادة للعالم الإسلامي كله، وهذه كارثة عظمى، لا بد أن نعترف بالحقيقة، أن المد الشيعي يتقدم الآن بسرعة، لماذا يتقدم؟ لأنه لا منافس له. المد الشيعي يتقدم، وينجح الشيعة حتى في احتواء الحركات الإسلامية السنية، وإظهارها كما لو كانت أثراً من نشاط الشيعة في إيران، أو امتداداً لحركة الخميني. وعلى سبيل المثال أحداث الجزائر -مثلاً- قلت سابقاً: ليس في جبهة الإنقاذ شيعي واحد، بل أعتقد أن الجزائر كلها ليس فيها شيعة مطلقاً، وهي حركة سنية سلفية واضحة نقية، ومع ذلك أتساءل أين أهل السنة؟ أين هم عن نصرة إخوانهم ولو بالكلمة الطيبة؟ هم عن ذلك عاجزون، ومنهم من لا يعرف أصلاً؛ لأنه غير مهتم بالموضوع، والذي يعرف يقول: في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء؟ وهكذا خذلت القضية من قبل أهلها، لكن الشيعة ليس في أفواههم ماء فهم يتكلمون بملء أفواههم عن هذه القضية، ويتحدثون عنها تحليلاً، ويناصرون المسلمين في الجزائر، ويتكلمون عنهم، ويتهجمون على مناوئيهم، ويكشفونهم، ويقولون كلاماً لا يملك العاقل إذا سمعه إلا أن يقول هذا الكلام في ذاته حق، ولكنه حق أريد به باطل، فإلى الله المشتكى من جور المبتدعة وضعف المنتسبين إلى السنة، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كما أن الكثيرين يتساءلون عن أوجه التشابه بين الجزائر وإيران، وأقول: بينهما بُعد المشرقين، فالجزائر ليست إيران من وجوه كثيرة، منها: أن الجزائر أمة سنية سلفية، وإيران ليست كذلك. ومنها: أن المسلمين في الجزائر لديهم وعي كبير، وارتباط بإخوانهم المسلمين في العالم الإسلامي بخلاف الإيرانيين فإن هناك عزلة رهيبة وكبيرة أحدثها انتماؤهم بل وتعصبهم للمذهب الشيعي الجعفري الإثنى عشري. ومنها: أن الأوضاع في إيران أيام الثورة الخمينية، كانت تنذر بمثل هذا الحدث الذي جرى، أما الأوضاع في الجزائر، فإنه لا يتوقع أن يحدث فيها ما حدث، ولكننا مع ذلك كله نتوقع بل نجزم -إن شاء الله- أن الله تعالى ناصر دينه ومعلي كلمته، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر، في بلاد الجزائر أولاً، وفي كل بلاد الإسلام ثانياً. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 12 إيجابيات الأحداث في الجزائر ثانياً: إيجابيات الحدث: الحدث الذي جرى في الجزائر، من إلغاء الانتخابات، والقضاء أو محاولة القضاء على الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والزج بما يزيد على ثلاثين ألف معتقل في السجون حتى امتلأت السجون ففتحت لهم المعتقلات في الصحراء وفي ظل الهجير الحار، حتى يخشى على بعضهم من الموت، وتقول تقارير موثقة إن عدد الموقوفين وصل إلى ما يزيد على خمسين ألفاً، ثم أطلق منهم قرابة خمسة عشر ألفاً، وبقي نحو خمسة وثلاثون ألفاً في غياهب السجون. ولا زال العدد يتزايد باستمرار، فإذا كانت هذه الإحصائية التي أقولها الآن منذ أيام، مع أنه ربما زاد العدد كثيراً بعد ذلك، فهذا الحدث الذي جرى بما فيه من الحيلولة بين دعاة الإسلام، وبين تطبيق شريعة الله تعالى وحكمه، لا بد أن له إيجابيات، والخير فيما يختاره الله عز وجل، واختيار الله تعالى لنا خير من اختيارنا لأنفسنا. فمن إيجابيات هذا الحدث: فضح دعاوى الديمقراطية العربية والغربية، التي طالما طنطنوا بها وتحدثوا عنها وقالوا إنه لا بد من فرض الديمقراطية، وأن النظام العالمي الجديد، جاء لفرض الديمقراطية على الشعوب العربية، وإخراجهم من حكم الفرد إلى الحكم الديمقراطي، والمقصود بالديمقراطية في النمط الغربي، أن يكون الحكم للشعب، فالشعب هو الذي يحلل ويحرم وهو مصدر السلطات كما يقولون. فهذا هو المفهوم الديمقراطي في الأصل -أي: المفهوم الديمقراطي الغربي- وإن كان البعض يستخدمونها بمفهوم آخر. المقصود أن الذي جرى في الجزائر، فضح للناس دعاوى الديمقراطية الغربية والعربية، وبين للناس أن هذه الديمقراطية ليست إلا ستاراً لتسلل هؤلاء إلى الحكم مستغلين في ذلك غفلة الناس، أو وجود الأهواء في نفوسهم، أو التغرير بهم من خلال وسائل الإعلام أو غير ذلك. فلما كانت النتيجة خلاف ما يتوقعون؛ ذبحوا الديمقراطية بسكين الديمقراطية، وقضوا عليها. على سبيل المثال: الغرب حجب المعونة عن السودان -وقد قرأت هذا في جريدة الشرق الأوسط- أن أمريكا حجبت المعونة عن جمهورية السودان، وعندما سألوهم لماذا حجبتم المعونة عن السودان؟ قالوا: لأن السودان بلد أصولي، أي: يعني يحكم فيه رجال أصوليون أو رجال الدين، وأن هذا البلد قامت فيه ثورة عسكرية ولم ترجع الديمقراطية على مدى ستة أشهر، وعندنا نظام وقانون أن أي بلد لا تعود الديمقراطية فيه بعد ستة أشهر من الحكم العسكري نقطع المعونة عنه. قلنا لهم: فما بال تأييدكم للجزائر؟ وإعلان الدول الأوروبية أنها مع ما يجرى في الجزائر وتؤيد الإجراءات التي اتخذتها الحكومة في الجزائر؟! وما معنى الدعم المباشر وغير المباشر للجزائر، مع أنها أعلنت أن قانون الطوارئ سوف يظل جارياً لمدة سنة، ومع ذلك ليست القضية فقط أنه عدم إعادة الديمقراطية، بل القضاء والانتهاك لحقوق الإنسان وخاصة الإنسان المسلم دون أن يكون هناك أحد يملك المساءلة والاعتراض؟! فما بالكم تكيلون بمكيالين، وتزنون بميزانين؟ وتعاملون هؤلاء بأسلوب وأولئك بأسلوب آخر؟! القضية افتضحت وبانت، ونحن يكفينا أن يعي المسلمون حقيقة الغرب، وأن الغرب صليبي حاقد متعصب للنصرانية، يحارب الإسلام والمسلمين سراً وعلانية، ولو تظاهر بأنه غرب علماني وأن الدين لا يعنيه، ولا فرق عنده بين المسجد والكنيسة. نقول: لا أبداً، الغرب متعصب لمسيحيته، وكنيسته، ونصرانيته أشد التعصب، وحين يشعر بأن الإسلام هو الخصم، تثور عصبيته أكثر وأكثر، وهذا أمر معروف. ولأضرب لكم مثلاً قريباً، قد يوجد إنسان منتسب إلى الإسلام، لا يصلي الصلوات الخمس، ولا يصوم رمضان، ولا يحج، بل ربما والعياذ بالله يسب الدين وأهله، ولكن هذا الإنسان لو رأى عدواً من الخارج يهجم على قومه وبني جنسه، أو يهددهم؛ فإنه يثور ويغضب ويدافع، لا ديناً، ولكن حمية لقومه وبني جنسه الذين يشترك معهم في الانتساب الأصلي إلى الدين، ولو كان في المقاييس الشرعية خارجاً عن الدين. فهكذا كثير من الغربيين. قد لا يكون لهم صلة بالكنيسة فعلاً، لا صلاة ولا عبادة ولا شيء مما يعمل قساوستهم، ولكن إذا شعروا بأن هناك خطراً يهدد الكنيسة أو يهدد النصرانية، فإنهم يغضبون لذلك ويتحمسون ويتأثرون. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 13 مشاركات شعرية النقطة الرابعة في هذه الجلسة، هي عبارة عن مشاركات شعرية، وهذه المشاركة مشاركتان: الجزء: 185 ¦ الصفحة: 14 المشاركة الأولى هذه قصيدة بعث بها إليّ الشاعر عبد الله الحرقان وهي قصيدة جميلة أحببت أن أشرككم فيها. يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبعد: أحببت أن أرسل إليكم هذه القصيدة التي تعبر عن مشاعر الكثير من المسلمين -وقد تحدث فيها عن قضايا ربما بعضها فات ولكن لا زالت قائمة- يقول: ألم يؤرق مهجتي وفؤادي ويزيد همي بالأسى الوقاد كم مهجة في أمتي مكلومة قد أثخنت ببراثن الإلحاد يا أمة بيعت بسوق نخاسة بيعت بسوق نخاسة ومزاد مدريد ما حال الأباة ودينهم يدعوهم لشريعة الأمجاد ما حال صقر قريش إذ رام العلى وأقام مجداً شامخ الأوتاد ما حال قرطبة وإشبيلية ما حال قصر كان كالأوراد كنا ندير الكون من جنباته ونعده في غاية الإعداد ما كان يقطع فيه أمر دوننا من برشلونة أو ربى بغداد يا قدس كم حيكت عليك دسائس بالبخس قد باعوك للأوغاد ما حال قصر كان في غرناطة بالله قولي لي عن العبَّاد كم شيدوا مجداً وعزاً باذخاً متسامياً يسمو على الأنداد ما حال أندية يطيب حديثها فيها يلذ السمع بالإنشاد كم مسجد قد حولوه كنيسة قدماً يغص بزمرة العباد يا قدس ليلك محتب بكآبة هذا الغثاء له أوان حصاد قد أسلموك وكلهم متخاذل يسعى على درب الخنى بتمادي لا تأملي خيراً بمؤتمراتهم ولتكتبي دمع الأسى بمداد سنحطم الأغلال رغم جراحنا لن نستكين لغفلة ورقاد لا لن يفك القدس من أغلاله إلا بظل عقيدة وجهاد الجزء: 185 ¦ الصفحة: 15 المشاركة الثانية أما القصيدة الثانية، فهي عبارة عن كلمات وحروف، كتبتها على عجل، وأعتذر إليكم لأنني في الواقع لم أكتبها للشعراء، ولا للمتذوقين، فهم سوف تشمئز منها آذانهم، وترفضها أذواقهم، ولكني كتبتها لجمهور المستمعين الذين قد لا يميزون كثيراً بين الجيد والرديء في الشعر، اللهم إلا بجودة المعاني، وأرجو أن تكون المعاني واضحة، وقد اخترت لها عنواناً " الفارس القادم". وهذا العنوان أيضاً معبر، فإن المقصود بالفارس القادم، رمز إلى الإسلام الذي يحلم كل مسلم بانتصاره، وأن يكتب الله تعالى شرف هذا النصر على أيدي هذا الجيل الصاعد من أبناء المسلمين: سلام على قلب من الطهر أطهر وروح شفيف في ربى الخلد يخطر وأطياف جنات وأنسام رحمة وحب عنيف رائق الظل أخضر وساعات إسعاد يظل غمامها على كل ساحات المحبين يمطر ترفق بقلبي فالأعاصير تزأر وسود الرزايا في الظلام تزمجر ترفق بقلبي فالجراح كثيرة وذي أسهم شتى عليه تِكسَّر ففي أرض أفغان الشهيدة مأتم هل تسمع الدنيا الضجيج وتبصر؟ وفي مصر أنات ووطأة غاشم وليل وآهات ودمع وأقبر وفي دار هارون الرشيد زلازل وآثار مجد أحرقوه ودمروا حنانيك يا بغداد صبراً فربما يتاح لهذا الكفر سيل مطهر لماذا دموع الحزن لست وحيدة وأنت على الأيام عز ومفخر وكل بلاد المسلمين مقابر وهم صور الأحجار تنهى وتأمر تماثيل لكن ناطقات وإنما بلاء البلاد الناطق المتحجر أأرض الشهادات اسلمي المقصود بأرض الشهادات أرض الجزائر أأرض الشهادات اسلمي ما جموعهم وما كيدهم إلا هباء مبعثر وما أمرهم إلا شتيت وربما تبين الليالي بعض ما كان يستر أيختار شعب دينه فيسومه عليه الغريب المستبد المسيطر جراح بني الإسلام غاب أساتها وأناتهم في كل أرض تَضَوَّرُ تساقيهم الدنيا كئوس مذلة على أنهم عزل الأكف وحُسَّر وتجتمع الأحلاف تحت مظلة السلام لتردي فارساً لا يعفر ويحشد أرباب الصليب حشودهم ليستنجزوا الوعد الذي لا يؤخَّر فيا فارساً شهماً أظل زمانه تعال فما كلُّ على الصبر يصبر وعودك حق لم نزل في انتظارها وكل الرزايا في جوارك تصغر وجندك منصور وجيشك قادم ونورك في كل الدياجير يسفر تخطيت أسوار الولايات كلها لأنك من كل الولايات أكبر وترهبك الدنيا وما أنت لعنة ولكنك السيف الذي لا يكسَّر وما أنت إلا طيف حب ورحمة وغيث بألوان المسرات يمطر وأنت لكل الظالمين نهاية فلا غرو إن صالوا وجالوا وزمجروا ونصرك بالرعب اعتلت لافتاته لتعلن أن النصر بالرعب أَشْهُر وأعني بالنصر بالرعب، ما أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالرعب مسيرة شهر يقذف في قلوب أعدائي} . أما كلمة "لتعلن أن النصر بالرعب أشهر" فلمعرفة معناها، يمكن مراجعة شرح الحديث في فتح الباري. والمقصود أن الغرب أصبح مذعوراً مرعوباً من الإسلام القادم، كما سبق أن بينت في مناسبات عدة مع أن المسلمين ما زالوا لا يملكون أي شيء، وإنما هم -كما ذكرت- عزل الأكف وحسر: فيا أيها المستكبرون توغلوا وعيثوا فساداً إن أردتم ودمروا وسوموا عذاب الهون كل شعوبكم وقولوا لهم غير الحقيقة واسخروا وظنوا بأن الأمر طوع يمينكم وأنكم الحتم الذي لا يغير فهذي ديار الظالمين تجيبكم وهذا غدُ الإسلام في الأفق يخطر الجزء: 185 ¦ الصفحة: 16 رسائل عبر البريد أما النقطة الخامسة، فهي رسائل عبر البريد. وأود أن أقول للإخوة: إنه تأتيني رسائل كثيرة من عدد من الإخوة في بلاد شتى، من الجزائر، والسودان، ومصر ودول الخليج، وعدن، بل ومن يوغسلافيا، وفرنسا وغيرها، فضلاً عن رسائل كثيرة جداً من الإخوة في الداخل. وأنا إذ أقول هذا الكلام فإني أعتذر إلى كل هؤلاء الذين يبعثون برسائلهم عبر هذه الكلمة، إذ أنه يصعب عليَّ كثيراً أن أكتب رداً مفصلاً لجميع الإخوة، خاصة وأن الكثير منهم يكتبون أسئلة طويلة، ويطلبون الإجابة بالتفصيل والدليل وأقوال أهل العلم وغير ذلك. وبعضهم يذكر مسائل معضلة تحتاج إلى بحث، وإلى مراجعة وإلى دراسة، وهي من الأشياء التي يمكن أن يطلق عليها فقه النوازل، وتحتاج إلى اجتهاد جماعي لأهل العلم في كل مكان. فمن الصعب جداً أن أجيب على مثل هذه الرسائل، فضلاً عن رسائل أخرى كثيرة تطلب مجموعة من الكتب، ككتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، أو الإمام محمد بن عبد الوهاب، أو ابن حجر أو غيرهم من أهل العلم. وأقول: أيها الأحبة -بدون مواربة- إنني فخور وفرح بمثل هذه الرسائل؛ لما فيها من التعبير عن المشاعر والأخوة الإسلامية، ورب رسالة يزدريها صاحبها تأتي ليس فيها إلا جزاك الله خيراً، ولكن وقعها يكون في النفوس كبيراً؛ ولذلك أقول: لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو كلمة طيبة، وقد يكون في بعض هذه الرسائل توجيه، أو ملاحظة أو غير ذلك. وإذا كنت أشرت إلى صعوبة الرد لكثرة هذه الرسائل، وكثرة الأسئلة الموجودة فيها، فإنني مع ذلك أحرص على الرد على كل هذه الرسائل، وإن طال الوقت ولو بشيء من الاختصار. ولذلك أرجو ألاَّ يعتبر بعض الإخوة أن تأخر الرد شيء له معنى، فبعض الإخوة -مثلاً- يكتب رسالة ويعتبر أن ترك الرد مني إهمالاً أو عدم مبالاة. وقد يقول في بعض المجالس: كتبت له رسالة وما رد عليَّ، يا أخي ليست رسالتك الوحيدة، قد يكون جاء غيرها والمشاغل تحول دونها، أو يكون الرد بعد وقت، وقد يكون ليس هناك مجال للرد في بعض الأحيان. أمر آخر أود أن ألفت النظر إليه ألا يلقي الإخوة باللوم كله علي، فقد جاءتني رسائل كثيرة تلومني وأقول: لا تلمني فإن موزع البريد قد يتحمل أحياناً بعض اللوم، فبعض الرسائل لا تصلني، وبعض الرسائل قد أكتب الرد ولا يصل إلي من كتبت إليه، والسبب في ذلك قد يعود إلى ضياعها في البريد، وقد يعود إلى أسباب أخرى تخفى عليَّ، وقد لا تخفي عليكم أنتم. ولذلك أقول: إن من الوسائل التي تحل هذه المشكلة، هي وسيلة إمكانية استخدام جهاز الفاكس، وأود أن أقول إن لدينا في مكتبنا جهاز فاكس، يحمل هذا الرقم يمكن المراسلة من خلاله؛ لأنه أسرع وأضمن، ونحن نرحب بأي شيء يأتينا عن طريقه، ونحرص على الرد عليه إذا كان يحتاج إلى رد. هناك أيضا أمر أود أن أشير إليه فيما يتعلق بالرسائل: وهو أن لدينا مشروعاً ضمن مكتبنا لإرسال كميات من الكتب الإسلامية، التي تشرح العقيدة الصحيحة، وتبين الأحكام الشرعية الصحيحة بأدلتها إلى المسلمين في كل مكان، وقد يسر الله تعالى، فقمنا بإرسال مئات الطرود إلى أنحاء العالم الإسلامي، ممن يطلبون منا بعض الكتب، ومثل هذا البرنامج المفيد المهم فيه نشر للدعوة الصحيحة، وفيه تواصل بين المسلمين في كل مكان، وفيه مشاركة في الخير، ولذلك فإنني أيضاً أقول: إننا يمكن أن نقبل أي مشاركة يرغب فيها أحد في مثل هذا البرنامج، فمن يرغب مثلاً في القيام بتكاليف مثل هذا البرنامج، سواءً من خلال الفواتير أو غيرها، فنحن يمكن أن نتقبل منه مثل هذا العمل. نقطة ثالثة هي عبارة عن بعض النماذج، من بعض الرسائل التي وصلتني، وإنما اخترت هذه النماذج لأنها من آخر ما وصل، ولأن لها ميزات معينة. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 17 رسالة من عدن أما الرسالة الأخيرة ضمن الرسائل، فهي رسالة دامية جاءتني من مجموعة من الأخوات من اليمن، وبالذات من عدن، ولا أريد أن أذكر المكان الذي جاءت منه، لأنني أخشى عليهن من مزيد من الاضطهاد. وقد قلن في آخرها: أننا بعثنا هذه الرسالة مع أحد المسافرين هنا إلى السعودية؛ لأننا لا نستطيع أن نرسل بالبريد وأنتم أعلم لماذا؟ وذكرن في الرسالة شيئاً مما يلقاه المسلمون منذ فترة في أيام الشيوعية في عدن، وعلى سبيل المثال، يقولون: إنهم منذ فترة قاموا بحملة تصفية على الدعاة إلى الله تعالى والداعيات، يزجون بهم في السجون، ويعتدون على أعراضهم وحرماتهم، يعذبونهم أشد العذاب، كل ذلك لماذا؟ لأنهم قالوا: ربنا الله ثم استقاموا، لأن لحاهم قد أعفيت، ولأنهم طبقوا السنة شكلاً ومضموناً؛ ولأنهم يعلمون الكتاب ويفسرونه، وحسبهم جناية في نظر هؤلاء. لقد فعلوا أبشع الجرائم الخلقية مع الشباب الملتزم، منذ خمس سنوات في السجون حتى خرج كثير من الشباب وهم محطمون، وفي أنفسهم هزة عنيفة جداً من جراء ما ذاقوا من ويلات في السجون حتى انتحر منهم ثلاثة بعد خروجهم، وواحد منهم هرب إلى الجزء الآخر من اليمن، وذلك بسبب طعن الفضيلة في أعماق فؤاده، عندما اعتدوا عليه بفعل الفاحشة والعياذ بالله. تقول: وإنهم سيكررون نفس المأساة، مع العلم أن الشعب اليمني استيقظ على صحوة إسلامية عظيمة، ثلاثة أرباع الشعب يطالبون بالدين والإسلام، ولا يبتغون به بديلاً، والمساجد أصبحت تعج بالدعاة إلى الله تعالى والداعيات، والحجاب الشرعي انتشر كثيراً والحمد لله، والأخوات الداعيات على قدم وساق في الدعوة إلى الله في كل مكان. وإننا نرى الآن بشائر الحملة الجديدة في هذه السنة، تلوح لنا بيدها على الفتيات الداعيات خاصة، والشاب الملتزم عامة. لقد جند لنا اثنا عشر ألف جاسوس وجاسوسة، يندسون بين صفوفنا في كل مكان، وإن هذا العدد الهائل ليس إلا في جزء من المدينة فحسب، والله يعلم كم في المناطق الأخرى، ولكن تركز الصحوة في هذه المنطقة بشكل كبير وملفت للنظر بين النساء المؤمنات. إلى أن تقول في ضمن رسالتها -وأقتصر على هذا القدر، وهي رسالة في الواقع مهمة، ومؤثرة- تقول: إننا يا أصحاب الفضيلة نهدد في أعراضنا، نهدد في أهلينا، نهدد في ذوينا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، إذا كان ما يريدونه منا هو الموت فالأمر هين ومرحباً بالموت، فالموت في سبيل الله من أمانينا. هذه امرأة تقول هذا الكلام فأين الرجال؟ وإن شعارنا الآن وفي هذه الأيام الحرجة بعنا واشترينا، بعنا أرواحنا لله واشترينا الجنة لا نقيل ولا نستقيل، ولكن الذي نخشى على أعراضنا من رجال أنجاس لا يخافون الله ولا يخشونه، نخشى أن نلحق عاراً بأهلينا إلى يوم الدين، ولكننا عندما أيقنا أنه سيلقى القبض علينا شئنا أم أبينا، فقد سجلوا أسماءنا في قوائمهم السوداء، قررنا أن نكثف المحاضرات والدروس والندوات في التزهيد في هذه الدنيا، والصبر على البلاء، والعيش عيش الغرباء، والجهاد والثبات حتى الممات، إلى أن يحين موعد الحملة فإننا جاهزون، إلى آخر ما قالت. تقول: إننا الآن نحمل الأكفان، نستعد للموت، الذي نراه يرقص في كل وقت أمام ناظرينا: فإما إلى النصر فوق الأنام وإما إلى الله في الخالدين ولكن هل ستستمر مآسينا أيها المسلمون؟ إلى متى ونحن نتجرع كأس الذل؟ أين أنتم يا دعاة الله؟ أين أنتم يا جند الإسلام؟ أين أنتم لترفعوا عنا الذل والمهانة والعبودية؟ دماؤكم في كل أرض تراق، أخواتكم وإخوانكم يجأرون إلى الله بالدعاء والأنين والألم!! يحتسبون الله في أعراضهم وأنفسهم!! أرضيتم بالعار يلطخ وجوههم، إن لم أقل يا مسلمون فأقول يا عرب!! هل ستظل صرخاتنا تدوي في جنبات هذا الكون، بلا سامع ولا مجيب إلا الصدى؟!! رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم أين علماء الحق الذين يخلصوننا من عملاء البعث والشيوعية؟ أين من ينادي بالجهاد الذي تقام فيه معارك النصر والبطولة والشرف. كيف -بالله عليكم- تصوروا أن ثلاثة أرباع الشعب أو أكثره ينادي بالدين، يباد أو يسحق أو يخنق صوته فلا يستطيع البوح بشيء، وهو بين أمرين كلاهما مر؟! أليست هذه هي الذلة والمهانة والجراح التي مرغت في التراب؟ الخ ما ذكرت في رسالتها القيمة. وعلى كل حال أقول: إن نصر الله آت فاصبروا، والله تعالى أعطانا في القرآن الكريم قاعدة لا تتأخر {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً} [الأنعام:129] . فالله تعالى يولي الظالمين بعضهم على بعض، ومفهوم المخالفة لهذه الآية: أن الله تعالى يولي بعض الصالحين بعضاً -أيضاً- فإذا كان الشعب صالحاً، فلا بد أن يقيض الله له حكاماً صالحين. هذه سنة إلهية، نعم بجهد الناس واجتهادهم وبعملهم وبمثابرتهم؛ لكن الله تعالى لا يظلم أحداً، سلط فرعون على قوم طغاة لأنه استخفهم فأطاعوه، ولما كان الناس في مثل أحوال عمر، وعثمان، وعلي، قيض لهم أبا بكر، ولما اختلف الناس اختلف حكامها. وكل قوم يسلط الله عليهم ويسخر بحسبهم وبمقدارهم، فلا ينبغي أن نتصور أبداً، أن هذا الأمر الذي يعيشه المسلمون ليل دامس وظلام دائم لا يزول، فإن هذا يأس لا يليق بالمسلم، بل ينبغي أن يكون المسلم دائماً وأبداً يملك قلباً ممتلئاً بالثقة بوعد الله، والأمل بنصره، والإيمان بأن النصر قادم لهذا الدين، ويردد مع الشاعر قوله: أحبائي إن النصر لا بد قادم وإني بنصر الله أول واثق سنصدع هذا الليل يوماً ونلتقي مع الفجر يمحو كل داج وغاسق ونمضي على الأيام عزماً مسدداً ونبلغ ما نرجوه رغم العوائق فيعلو بنا حق علونا بفضله على باطل رغم الظواهر زاهق ونصنع بالإسلام دنياً كريمة وننشر دين الله في كل شارع الجزء: 185 ¦ الصفحة: 18 رسالة من اليمن هذه رسالة أخرى من أخ من اليمن بعد كلام وسلام يقول: هناك خاطرة رأيت أن أعرضها، وهي أنها أصبحت لمشايخنا الأفاضل في هذه البلاد تقدير كبير، خارج المملكة في الدول المجاورة، كاليمن وغيرها، والدروس والتوجيهات والمحاضرات تلقى قبولاً هناك والحمد لله. والشباب صاروا يثقون بعلماء هذا البلد ودعاته، و السؤال ما هي الآثار الملموسة التي تبين أنكم لستم محصورين في إسهاماتكم في توجيه الصحوة، وإرشادها في نطاق هذا البلد؟ بمعنى آخر: نريد أن يكون لكم دور أكبر في توجيه الصحوة وإرشادها في كل مكان من العالم الإسلامي، وأن تتجاوزوا ما فرض على المسلمين من تقسيمات. وهذا كلام حق وأنا أقول: ليسمعه إخواني من الدعاة وطلبة العلم، ولأخاطب المسلمين في كل مكان، فإن المسلمين اليوم من خلال الشريط يسمعون ما يقال، ويستفيدون منه، بل ويتلهفون لتلقي ما يصل، وقد لقيت في العام الماضي شباباً من بعض المغرب العربي كليبيا وغيرها، فقالوا إننا نهرب أشرطتكم وأشرطة طلبة العلم كما تهرب المخدرات، ونضطر أحياناً إلى أن نعطي عمال الجمارك وموظفيه رشوة، حتى تدخل هذه الأشرطة، ثم تنتشر هناك انتشار النار في الهشيم، على رغم وجود الحرب، والمقاومة لها من جهات شتى. ولكن الناس تصل إليهم بحمد الله ويسمعونها، وقد سمعت أيضاً أن الأشرطة الإسلامية، من أشرطة العلماء في هذا البلد تصل إلى الاتحاد السوفيتي، والصين، وبلاد جنوب شرق آسيا وغيرها، وسمعت هذا من ثقات حدثوني بأنفسهم. فأقول: فعلاً ما دام هذا الأمر؛ فإن من حق هؤلاء على مشايخنا وعلمائنا الكبار، وعلى طلبة العلم والدعاة، أن يخاطبوهم ببعض القول، فيما يكون توجيه لهم وإرشاد، ومشاركة لهم في همومهم وآلامهم. كما أنني أدعو أولئك الإخوة إلى أن يراسلوا ويخاطبوا العلماء في هذه البلاد، حتى يكون علماؤنا هنا على اطلاع مما يجري هناك، وعلى معرفة المشكلات، ويساهموا في حلها، لأنه قد لا يستطيعون أن يعرفوا حقيقة ما يكون هناك، إلا من خلال هذه القناة التي هي قناة المراسلة والاتصال. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 19 رسالة من مصر هذه أيضاً رسالة أخرى جميلة من أحد الإخوة من مصر، وهي رسالة طويلة أيضاً أترك ما فيها من المقدمات. يقول: أنا لم أرك بعيني، ولكني أراك دائماً بروحي، وأراك بأذني وقلبي، حينما أستمع إلى شرائط الدروس والمحاضرات، فالعبد الفقير الذي يكتب إليك هو شاب من شباب الصحوة في مصر نسأل الله أن يعافيها من هذه الفئة العلمانية التي تسيطر عليها، وأن يعز بها الإسلام ويعز الإسلام بها. ثانياً: أرجو الصبر على رسالتي؛ لأنها ليست رسالة من واحد من شباب مصر، ولكنها تعتبر نسخة مكررة من أكثر من ثلاثة عشر مليون شاب من شباب الصحوة في مصر تقريباً أو يزيد. لقد كنت أستمع إليك، وقرأت كتابك حوار هادئ مع الغزالي. يقول: سماعنا لبعض الأشرطة لم يشف غليلنا، ولم يشبع نهمنا، حيث إن كلامكم في ذلك الشريط، عن الدعوة إلى الإسلام، كان إكمالاً لشريط آخر، ومن ساعتها يعلم الله ما في قلبي وما في قلوب كثير من شباب الصحوة من حب في الله، والموضوع الذي أكتب إليكم عنه هو مصر، التي غاب عنها كثير من العلماء المخلصين، وعن مخاطبتهم لشبابها الذين تكاد تفتك الخلافات بهم. فمصر فيها شباب غض مخلص يعمل ولا يكل، لكن الخلافات والشحناء تقتل كل بذرة قبل أن تنضج، وتجعل العمل هباءً منثوراً. مصر فيها كثير من الرايات والجماعات، وكلها تنتمي إلى هذه الصحوة المباركة، التي نسأل الله لها التمكين، ومنها على سبيل المثال: السلفية، الإخوان المسلمون، أنصار السنة، جماعة الجهاد، جماعة التبليغ والدعوة، دعوة الحق، الجمعية الشرعية، بالإضافة إلى الفرق المنحرفة والضالة عن منهج سلف هذه الأمة، كالصوفية بشتى فرقها وتفرعاتها. وكذلك هناك التيارات الهدامة كالعلمانية، والماسونية، والشيوعية، والناصرية، والأدهى وجود الأزهر برجاله وعلمائه. جو رهيب ساخن -فشباب الصحوة المتمثل في شباب الجماعات السالفة الذكر- في حرب مع أصحاب الفكر العلماني الشيوعي الماسوني، وأصحاب البدع والضلالات والشركيات. وهم في ذات الوقت في حرب مع أنفسهم -وهذا الكلام يجرح ويدمي- هذا يهاجم ذاك، هذا يهاجم فئة لأنهم دخلوا الانتخابات، وفئة ثانية تهاجم فئة أخرى؛ لأنهم يهتمون في نظرهم بالشكل ويبتعدون عن الحياة السياسية، وفئة ثالثة تهاجم الإثنين لتقصيرهم في تأديب العصاة ومناوئة الحكام، والجميع يهاجمون الجهاد؛ لأنهم لا يهتمون بشيء سوى العنف، وأنهم يخالفوا نهج السلف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجميع يهاجمون التبليغ؛ لأنه ليس لهم تفاعل مع الأحداث، ولا يهتمون سوى بإدخال الناس إلى المساجد وهكذا. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 20 رسالة أحد الإخوة فهذا أحد الإخوة قد كتب لي رسالة جميلة جداً، وأنا أشكره عليها، وأعتذر عن قراءتها؛ لأن فيها أشياء من الإطراء الذي لا أوافقه عليه ولا أرضاه لنفسي، لكنه أعجبني أنه يقول في مطلع هذه الرسالة، يقول: إنني في الوقت الذي أمسك به القلم بيدي اليمنى، فإنني أغلق عيني بيدي اليسرى، وأصرف وجهي عن مشاهدة قلمي، وهو يهم بمراودة الورقة، لا لشيء إلا خجلاً عندما تجرأت على كتابة هذه النصيحة عفواً هذه الهدية، والتي أحسب أنك ستفرح بها، فلماذا نخاف من النقد؟ هذه عناوين محاضراتي -جزاه الله خيراً- وضعها في سياق هذه الرسالة، وهذا هو الذي أعجبني فيها. يقول: فلماذا نخاف من النقد؟ ألسنا نسعى إلى صناعة الحياة، ولكن في إطار أدب المحاورة، ووسط نقع معركتنا الفاصلة مع بني إسرائيل والعلمانيين وأعداء الرسالة، ونحن على استعداد لأن نسأل أنفسنا: من يحمل هم الإسلام؟ ثم نجيبها: نحن نحمل هم الإسلام ولو كان ذلك على سرير الموت، فجاء هذا حديث الروح لعله يسري ولكن بدون تطبيع. المهم النقطة التي ذكرها نقطة جميلة، يقول -بعد كلام-: أرجو ألا تغرك هذه الجموع مهما كثرت أشباحها، وتواصلت اتصالاتها وتوالت رسائلها، ولنا في حسن البنا وعباس مدني أقرب مثال وأوضحه. أيها الشيخ: قبل أن تحرك قدمك أو تضعها تأكد من أنك تطأ على أرض متماسكة، واعلم أن هذه القدم تحرك خلفها أقدام، وكم يتملكني الخوف كلما تخيلت مصير هذه الصحوة، عندما تكون الخطوات غير محسوبة، نريد بطيئاً ولكن أكيد المفعول. ثم قال: أخيراً هل هذه الرسالة خامة في مصنع الحياة، أم أنه ليس لها وجود الأخ/ أحمد محمد من الرياض. وأشكره على هذه الرسالة الجميلة، وأقول له: لا تخف أبداً على مصير هذه الصحوة، فهذا دين الله تعالى يتولاه الله جل وعلا بنفسه، أما الناس فهم يذهبون ويأتون: ومن لم يمت بالسيف مات بغيره تعددت الأسباب والموت واحد ومع ذلك أقول: نحن -أيها الأخ الحبيب- ندعو الناس دائماً وأبداً إلى أن يتبصروا مواقع أقدامهم، وندعوهم دائماً وأبداً إلى أن ينظروا إلى المستقبل البعيد، وألا يغتروا بالفقاعات القريبة التي قد تطفح على سطح الماء. كلا نحن ندعوهم إلى النظرة العميقة، التي تسعى إلى تحويل المجتمع كله إلى مجتمع متدين بطبيعته، وتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد متدين، وتحويل الإدارة والسياسة والاجتماع وكل الأمور، إلى أشياء تصب في بحر الدعوة الإسلامية، وهذا لا شك طريق طويل، ولكنه طريق -بإذن الله كما أشرت- مضمون وأكيد المفعول. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 21 موضوعات ومقترحات النقطة السادسة: في مثل هذا المجلس وهي تتعلق بالموضوعات والمقترحات. هناك تساؤلات كثيرة عن موضوعات سبق أن أعلنت عنها، أجيب عليها باختصار. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 22 محاضرة وقفات في حياة الإمام مالك موضوع محاضرة وقفات في حياة الإمام مالك، يسأل عنها مجموعة من الإخوة. وأقول: إن هذه المحاضرة كنت أعلنت عنها في المدينة المنورة بموافقة مكتب الدعوة، ثم ألغيت ولعلها إن شاء الله أن تلقى في مناسبة أخرى. أيضاً كثير من الإخوة يتحدثون عن أسئلة المستمعين، التي ترد كثيراً في مثل هذه الدروس والإجابة عليها، وأرجو -إن شاء الله- أن نتمكن من تخصيص وقت لها، وقد طلبت من الإخوة العاملين معي في المكتب، أن يقوموا بفرز هذه الأسئلة، وتخصيصها على حسب الموضوعات بحيث تكون أسئلة، وفي نفس الوقت تعالج موضوعات يكون هذا أكثر وأنفع لها؛ لأنني لاحظت أن الأسئلة المتفرقة قد لا يقبل الناس عليها كثيراً. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 23 محاضرة تحرير الإنسان وهناك بعض الإخوة يبدو أنه من غير المتابعين، يسأل عن محاضرة تحرير الإنسان؟ وأقول له -أيضاً- إن هذه المحاضرة كنت قد أعلنت عنها في دبي، ثم ألغيت وألقيتها في عنيزة، ويبدو أن الأخ الذي سأل عنها لم يطلع على هذه المحاضرة. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 24 اقتراحات أخرى أيضاً نقطة أخرى، هناك كثير من الإخوة وافوني بموضوعات يقترحون وأنا أيضاً أشكرهم وأقول لهم كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم {من صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه؛ فادعوا له حتى تجدوا أنكم قد كافأتموه} . فأقول لهم: جزاكم الله خيراً، وأحسن الله إليكم، ونفع الإسلام بكم. كتب إليَّ كثير من الإخوة موضوعات بل أقول مئات، بعضهم يكتبون عناوين فقط، وبعضهم يكتب العنوان والعناصر، بل أقول: إن بعض الإخوة يكتب لي موضوعاً متكاملاً، يعالج قضية من القضايا المهمة التي يحس هو بها، أو يخاطب فئة أو طبقة من طبقات المجتمع، ولم أجد فرصة لعرض هذه الموضوعات؛ لأنها كثيرة جداً، وأيضاً هي كلها محفوظة في ملفات عندنا في المكتب، وسوف ألقيها واحداً بعد الآخر، وبعض الموضوعات التي سبقت هي من اقتراح بعض الإخوة. فمثلاً: أول درس بعد دروس الاستئناف، الذي هو: هكذا علَّم الأنبياء، هو اقتراح من بعض الإخوة، وقد قمت بإعداده وإلقائه، وهكذا دروس كثيرة هي اقتراح من هؤلاء الإخوة جزاهم الله خيراً. أحد الإخوة على سبيل المثال، وقد أعجبتني هذه الكلمة فأنقلها، من المدينة المنورة الأخ الفوزان. يقول: أنا أتابع أشرطتك في المدينة حتى قبل أن تنزل أحياناً، حتى أني بدأت أحس بمسئولية المشاركة في هذه المحاضرات، وهذا هو الشعور الذي أود أن ينتقل إلى كل الإخوان وأنني عضو من أعضاء هذا المجلس الخيري، الذي تعم فيه الفائدة إلى معظم أقطار العالم الإسلامي. السؤال مشاركة، والاقتراح مشاركة، واقتراح موضوع مشاركة، وكل موضوع تقدمه أيها الأخ الحبيب فهو مشاركة، ولا نريد أن يكون هذا المجلس هو فقط عبارة عن إنسان يحضر، يستمع ثم يخرج، وقد اقترح عليَّ الأخ الكريم من المدينة مجموعة من الموضوعات، منها: ضوابط الشورى في الإسلام، وكذلك: رسالة إلى مربي الأجيال، أي المدرسين، وكذلك: رسالة إلى عسكري، وقال: إنه لو تحدثت عن هذا الموضوع، وتحدث فيه المشايخ كالشيخ سفر الحوالي، والشيخ ناصر العمر، والشيخ عبد الوهاب الناصر الطريري، والشيخ عائض القرني، والشيخ سعد البريك والشيخ محمد الفراج، إلى غير ذلك من المشايخ، فأنا على ثقة أنه عندما يتكلم هؤلاء، فإن أكثر من (80%) من خطباء المساجد سوف يتكلمون عن مثل هذا الموضوع، أقصد موضوع الشورى وغيره. وهذا -على كل حال- أحد الموضوعات، وقد بعث إلي بموضوعات أخرى عديدة، فله مني الشكر والدعاء وجزاه الله خيراً. ذكرني الأخ الكريم بحادثة حصلت لبعض الإخوة هنا في نادي الرائد، بحصول انقلاب سيارة ووفاة أحدهم رحمه الله تعالى، وهو وإن كنت لا أعرفه، إلا أنه -كما ذكروا لي- من الشباب الصالحين، وأنتم شهود الله في أرضه، وقد سمعت الثناء عليه، فالحمد الله ونسأل الله تعالى أن يتغمده برحمته، وأن يلهم أهله الصبر والسلوان. وأقول لإخوانه وزملائه وأصدقائه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فالموت حتم مكتوب في عنق ابن آدم، وعلينا أن نستعد له كما لو كان يأتينا اللحظة، والحادث لم يأت بجديد، فمن لم يمت بالحادث مات بغيره، تنوعت الأسباب والموت واحد. أيضاً هناك موضوعات أخرى تأتيني بدون تفصيل، وهذه أود من الإخوة أن يفصلوا فيها فمجرد عنوان لا يكفي، لا بد أن تكتب عناصر أو نقاط، وأرجو من الإخوة ألا يحتقروا أي فكرة تمر في أذهانهم، أو يقول هذه معروفة، قد تكون معروفة وبديهية ولكن تغيب عني، فلا تحتقر شيئاً أبداً، ولا تقل هذا معروف، ويعجبني أحد الشباب كثيراً ما يأتيني برسائل وكتابات هي فعلاً بسيطة، لكن والله أستفيد منها فائدة كبيرة. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 25 قضية معالجة المشاكل هناك فكرة كثر الاقتراح حولها، وهي أن مجموعة كبيرة من الإخوة خاطبوني أو كاتبوني، يطلبون أن يكون هناك درس على نمط اللقاءات التي يعقدها الشيخ الدكتور سفر الحوالي، وكذلك الشيخ عبد المحسن العبيكان في الرياض، تكون عبارة عن معالجات للمنكرات الموجودة، ومسح لبعض الأشياء التي توجد وتنبيه. وهذا -إن شاء الله- أقول: لا أستطيع أن أقوم به؛ لأنني لا أستطيع أن أقوم بدرس آخر زيادة على هذا الدرس، ودرس بلوغ المرام ودروس بعد الفجر التي أقوم بها، لكن هذا سوف أجعله ضمن الدروس العامة أحياناً، كما أن من الممكن أن نقترح على بعض المشايخ في هذا البلد، وهم بحمد الله كثير، وفيهم هو من الكفاءة والقدرة الشيء الكثير، أن يقوم بمثل هذه المهمة. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 26 أنباء حول جريدة الأنباء هذه جريدة الأنباء جريدة كويتية، وقد جاءت لها أنباء، ونبأنا الله تعالى من أخبارها في هذا الأسبوع شيئاً يندى له الجبين. فأول ما وافتنا به جريدة الأنباء في الأحد 6 شعبان أنها كتبت تحقيق عنوانه: بنت الديرة ضابطة في الجيش الأمريكي، وتكلمت عن الملازم ثاني أماني أنها ضابطة في الجيش الكويتي، وتقول: أمنيتي إنقاذ أسرانا من العدو العراقي، ويتكلمون عنها وأنها أصرت على البقاء في الكويت، وشاركت في أعمال المقاومة، وسافرت مضطرة لوالدتها في لندن، ثم قررت مواصلة الطريق، على أن يكون لها دور، وانضمت إلى صفوف الجيش الأمريكي ضمن معسكره في الدوحة، وأصبحت الملازم ثاني أماني يوسف. وتقول: إنها تتمنى الاشتراك في عملية كوماندوز ضد نظام بغداد، لتخليص الأسرى من براثنه، وهي تأمل في قرار جريء يعيد إلينا أهلنا، وتقول: بكل ثقة سأكون سعيدة لو استشهدت من أجلهم. وتضيف الشابة الكويتية، التي تقدم المثل الحي على تطلعات الفتاة الجديدة: إن العمل في صفوف الجيش جاء استكمالاً لدورها مع رفاق المقاومة، ومن رأيها أن على الفتاة الكويتية أن تستثمر الأزمة، لاكتساب احترام الرجل. وتضيف: أنها تعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة دون كلل، وأنها اعتادت ركوب الهيلوكبتر، وأن العمل العسكري ممتع ورائع. ما أدري لماذا العمل العسكري ممتع ورائع؟ على كل حال ربما لأنها تعيش إلى جوار أصدقائها من الأمريكان، وأقول: إنها كارثة كبرى، أن مثل هذه النماذج الشاذة تقدَّم للأجيال على أنها نموذج للفتاة الجديدة، كما يعبرون وكما يقولون. وهذا جزء من التضليل الإعلامي، فنحن نعلم أن شعب الكويت يرفض مثل هذه النماذج ويمقتها، ولكن مثل هؤلاء الذي يتسنمون على الصحف والمجلات، في الكويت وفي بلادنا وفي كل بلاد الإسلام، منهم -لا أقول كلهم- منهم طبقة تغالط في الحقائق، وتصور الأمر على غير ما هو عليه، وتظهر اهتمامات فئة شاذة من الناس، كما لو كانت اهتمامات المجتمع، على حين تتجاهل اهتمامات الناس كلهم. وما جرى في الجزائر يبدو أنه يجري في كل مكان، فإذا كان الذي جرى في الجزائر تجاهل رغبة أكثر من (80%) ، فإننا نعلم أن كثيراً من هذه الصحف تمارس نفس الاستبداد، الذي جرى هنا، فتصادر رغبات الشعوب، وتصادر رغبة أكثر من (80%) من الناس، الذين يريدون الكلام عن الخير، وتربية الرجال والنساء على الإسلام، وعلى العفاف، وعلى البعد عن مواطن الرذيلة، وأماكن الفتنة والإثارة. ونحن نقول: اتركوا النوم، شباب الكويت حتى الآن ما جرى لهم تجنيد إلى هذا الحد، بل شباب العالم الإسلامي كله ضائع يتسكع في الشوارع، فكيف يكون هذا بالنسبة للنساء؟! وما أرى هذا إلا كمثل جريدة أخرى أو مجلة أخرى تطالب بجعل شرطة نسائية. وأقول: الآن الشباب لا يجدون أعمالاً لهم في كل مكان، وهم يطالبون أن المرأة التي هي نموذج للرقة، والليونة، والنعومة {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18] وإنما خلقت لأغراض أخرى، مهمات جليلة وأعمال جليلة، لكن المرأة إذا وضعت في مقام الرجل سوف تفشل، وكذلك الرجل لو وضع في مقام المرأة سوف يفشل، والذين يطالبون أن تكون المرأة في مقام الرجل أو العكس، هم من الذين قال الله تعالى عنهم: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] . شيء آخر قالته هذه الجريدة، وهو لا يعنيني في الواقع كثيراً، بالقياس إلى ما ذكرت لكم، ففي 16شعبان أيضاً كتب أحد كتابها مقالاً عنوانه: انحدار الجودة في شريط سلمان العودة. ويقول عني: إنني أحد خطباء الأشرطة، الذين بدأت تفد علينا خطبهم على الكاسيت من دولة خليجية شقيقة، وبينما تقوم تلك الدولة العزيزة بنشر روح المحبة والوفاق، نرى سلمان العودة يعمل وسعه في بث السباب والشقاق إلى آخر ما قال. ويقول: إنني من المتشددين الذين أطلق عليهم الدكتور/ القصيبي اسم الغلاة الجدد، ويتكلم عن شريطي أو الدرس الذي ألقيته في هذا المكان المبارك ونفع الله به، وهو شريط: حصاد الهشيم، هشيم الصحافة الكويتية. وأقول: لعلكم تذكرون وأنتم من حضور هذا الدرس وكذلك الإخوة المستمعون، أنني حرصت في ذلك الدرس على البعد عن كل ألفاظ السباب والشتائم والحمد لله، بل غير هذا، حتى أن هناك كلاماً حقاً لم أقله، تجنباً لما قد يفهمونه هم، ودعوة لهم إلى التوبة إلى الله تعالى، ورغبة في إقلاعهم عن ما هم عليه. ولكن مثل هؤلاء يبدو أنه لا حيلة فيهم، وأنهم يستغفلون الناس ويظنون أن الناس لا يقرءون ولا يسمعون، فإن كل من يسمع ذلك الشريط؛ يعرف أن هذا الرجل متجني حينما ينسب أنني أسب وأشتم، ويقول: إنه يستشيط غضباً ويسب الصحافة الكويتية وينعتها بأبخس النعوت، ولم يسلم من غضبه وزمجراته، حتى رؤساء التحرير حيث امتلأ الشريط الخ. نحن لم نغضب ولم نزمجر، قلنا كلاماً هادئاً بحمد الله تعالى، ومع ذلك فإنني أدعو لهذا الأخ الذي كتب هذه المقالة أن الله تعالى يهدي قلبه للإيمان، ويشرح صدره للإسلام، ويجعله هادياً مهدياً، إن الله على كل شيء قدير. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 27 موضوع مصارع العشاق موضوع مصارع العشاق، سبق أن أعلنت عنه ومادته عندي شبه جاهزة، وقد راجعت الكتب المتعلقة بهذا الموضوع، ولكنني أجلته لمناسبة، ثم شغلتني عنه الشواغل، ولعله يتاح له الفرصة، وإذا وجد ما هو أهم منه فلعلي أن أقدمه عليه نظراً لأهميته. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 28 موضوعات المراجعات موضوع المراجعات، كنت وعدت قبل فترة أنني خلال شهرين سوف أقدم الجزء الثاني أو الشريط الثاني في موضوع المراجعات، وطلبت من الإخوة والأخوات جميعاً، أن يوافوني بكل ما لديهم من ملاحظات. وأقول: جزاهم الله وجزاكم الله جميعاً خيراً، وأشكر لكم الله عز وجل، ثم أشكر كل من بعث إليَّ بملاحظة، وحقه علي أن أدعو له في هذا المجلس الطيب، وفي هذا المجلس المبارك، فأسأل الله تعالى لهم جميعاً أن يوفقهم لصالح القول والعمل، وأن يبارك لهم في أوقاتهم وأعمارهم وذرياتهم وأموالهم، إنه على كل شيء قدير. هذا هو كل ما أملكه من شكر للإخوة والأخوات الذين وافوني بملاحظاتهم، ومع ذلك أقول إنها أقل مما كنت أتمنى وأريد، وسوف أخصص لها وقتاً آخر إن شاء الله. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 29 الأسئلة الجزء: 185 ¦ الصفحة: 30 أداء حقوق العمال السؤال يناشد هذا الأخ أداء حقوق العمال، وخاصة أجورهم، فإنني قابلت أحد الإخوة العمال، وأخبرني بأنه لم يستلم من كفيله أجرته، وهو يبكي بشدة كالطفل؟ الجواب في الواقع هذا الموضوع سوف أخصص -له درس- وعندي أيضاً اقتراحات من بعض الإخوة، وعندي أخبار مزعجة جداً، عن أوضاع العمال، والإساءة إليهم وظلمهم، وتأتيني أسئلة عجيبة. بعض الناس والعياذ بالله لا يخافون الله تعالى، ولكن هذا السؤال توجيه للإخوة أن يخافوا الله تعالى، لا يبارك الله أبداً في قرش تأخذه من رجل دمعته على خده أبداً، تسرق جهده وتعبه. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 31 بعض الخرافات المنتشرة بين الناس السؤال هذا سائل يشير إلى قضية أو ورقة انتشرت عند كثير من النساء والبنات والرجال أيضاً، ويطالبون بتوزيعها، وتقول هذه الورقة: مرضت فتاة عمرها 13 عاماً مرضاً شديداً، عجز الطب عن علاجها، وفي ذات ليلة اشتد بها المرض، فبكت حتى غلبها النوم، فرأت في المنام زينب رضي الله عنها، ووضعت في فمها قطرات، فاستيقظت من نومها وقد شفيت من مرضها تماماً، وطلبت منها السيدة زينب أن تكتب هذه الورقة أو الرواية (13) مرة وتوزعها على المسلمين، للعبرة في قدرة الخالق جلت قدرته، يقول: فنفذت الفتاة ما طلبت وحصل ما يلي: النسخة الأولى: وقعت في يد فقير فوزعها، وبعد مرور 13 يوم شاء المولى الكريم أن يغتني هذا الفقير. النسخة الثانية: وقعت في يد عامل فأهملها وبعد مضي 13 يوم فقد عمله. النسخة الثالثة: وقعت في يد أحد الأغنياء فرفض كتابتها، وبعد مضي 13 يوم فقد كل ما يملك من ثروة. بادر أخي المسلم وأختي المسلمة بالاطلاع على هذه الرواية وكتابتها (13 مرة) وتوزيعها على الناس، حتى تنال ما تتمنى من المولى الكريم. الجواب أقول: من العجب أن مثل هذه الخرافات والخزعبلات، تنطلي على نفوس قوم يؤمنون بالله واليوم الآخر، هذه ما جاء فيها نص من كتاب ولا سنة، وليست تفيد الإنسان، ليست تهديه إلى طريق الجنة، وليس فيها دليل من دلائل قدرة الله تعالى، وعدد (13) هذا عدد جاءنا من طريق ديانات أخرى أو مذاهب أخرى. ومثل هذه الأشياء إنما ينشرها أصناف من الناس، منهم الملاحدة، والزنادقة، فهم ينشرون هذه الأشياء، حتى يُظهروا المسلمين بمظهر السذج والمغفلين والبله الذين يتصرفون بلا عقول. حبة نوفلجين يأكلها المريض، خير له من أن يكتب هذه الورقة ألف مرة، بل هذه الورقة لا تقدم ولا تؤخر، بل تزيده تعباً وإعياءً، بل قد يلحقه ضرر بسببها، والضرر الديني متحقق لا محالة بمثل هذا. وممن يساهم في نشرها بعض الصوفية، فإنهم يعرفون أن دين الصوفية لا ينتشر إلا في الأجواء والمجتمعات التي تنتشر فيها الخرافة، ويغيب فيها العقل، ويغيب فيها العلم، ولذلك ينشرون مثل هذه الأمور، كما ينشرون وصية السيد أحمد الذين يزعمون أنه خادم الحرم، وغير ذلك. فينبغي تحذير الناس من مثل هذه الأمور، والتذكير بها مرة بعد أخرى، وأقول: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فأنا أول من سأمزق هذه الورقة، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 32 دور العلماء في توضيح العقيدة السؤال ما هو الدور الفعلي، الذي يقوم به علماء هذه البلاد، في الدول الإسلامية وغيرها لتوضيح العقيدة؟ الجواب في الحقيقة هناك إقبال كبير على علماء هذه البلاد، والاستماع إليهم في بلاد العالم الإسلامي، من خلال الإذاعة وغيرها من الوسائل الممكنة، وبصراحة أقول الدور الذي يمكن أن يقوم به علماء هذه البلاد، هو أكبر بكثير من الدور الذي يقع الآن، فالدور الذي نعمله الآن هو دور محدود جداً، والذي يعمله العلماء دور محدود، بالقياس إلى الدور الواجب. يمكن أن يكون هناك مؤسسات، ومكاتب تعمل على نشر الدعوة السلفية الصحيحة في كل مكان، وعلى ربط المسلمين بعضهم ببعض، وأرجو أن يكون شيء من ذلك يتم في المستقبل إن شاء الله تعالى. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 33 بعض الأخطاء الموجودة في المناهج الدراسية السؤال ما رأيك في ما ورد في المناهج الدراسية وأقصد طبعة سنة 1412هـ، وبالذات ما رأيت في كتاب المطالعة، في الصف الثاني الثانوي، فلقد تصفحته ووجدت فيه ما يلي: قصيدة لـ غازي القصيبي: درب من العشق لا درب من الحجر هذا الذي طار بالواحات للجزر بعنوان جسر الملك فهد، وقد ذيل بالسؤال، وهو: اكتب ما تعرفه عن الشاعر خمسة أسطر مستعيناً بأي مرجع مناسب أو أي مصدر من مصادر المعرفة، وسجل ذلك في كراستك؟. وكذلك عنوان: زمان اللؤلؤ، لأبيات من ديوان سعاد الذي سمته أمنية، سعاد عبد الله الصباح، وفي مطلع الأبيات: في بلادي في مغاني أرض أجدادي الجميلة في العوادي بعد أجيال من الصفو طويلة ذات يوم شاء ما شاء القضاء فكسا بالذهب الأسود أرض الكرماء الجواب بالمناسبة هذه الشاعرة، جاءتني اليوم ورقة قديمة ألقتها هي في مهرجان المربد، الذي كان يقام في بغداد في العراق، قبل أن يحدث الغزو، وكانت تتغزل بالعراق وبالجندي العراقي، وددت أن الورقة كانت معي لأقرأها عليكم. على كل حال الناس عرفوا الآن وأصبحوا الناس لا يأخذون معلوماتهم عن الشعراء وعن غيرهم، من خلال الوسائل الرسمية، بل أصبحوا يبحثو عن كلمة الحق أينما وجدت. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 34 بعض مشكلات المدرسين السؤال بعض الشباب إذا تخرجوا من الكلية، ثم عينوا في مدن بعيدة عن بلادهم، تجدهم يداومون لمدة سنة، ويعملون أعمالاً خيرية، ثم يطلبون النقل إلى بلادهم، وخاصة هذا البلد؟. الجواب هذا خطأ، أنا أعرف بعض الشباب ربما لم يأخذوا جامعة، ومع ذلك تعينوا في بعض المناطق، فنفع الله بهم نفعاً عظيماً، والله الذي لا إله غيره إنهم فعلوا ما لم يفعله ناس في أعمار آبائهم، ومن قبل أن يولد أولئك وهم يطلبون العلم ومع ذلك فعل هؤلاء الشباب ما لم يفعل هؤلاء، وكان لهم أثر كبير، ونفع عظيم في أوساط الجميع، وكتب الله محبتهم في النفوس، ووزعوا أشرطة وكتباً وأقاموا دروس، وأقاموا حلقات تحفيظ القرآن، وأقاموا نشاطات في المدارس، وخير كثير، وما قيمتك، ولماذا نفرح بك إلا من أجل أن تنفع؟ أنت لِمَ تأتي إلى بلد مثل هذا البلد؟ البلد مليء والحمد لله بالأخيار، ومليء بطلبة العلم، ومليء بالخطباء، فغايتك أن تصبح واحداً من المستمعين إلى بعض الدروس. لكن حينما تكون في بلد محتاج فقير، الناس سوف يعتبرونك الإمام، وأنت الخطيب، وأنت عاقد الأنكحة، وأنت المرشد، وأنت الذي تحل مشكلاتهم، وأنت المرجع إليهم في الفتوى، وتنفع في كل الأمور. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 35 وضع الرواتب في البنوك السؤال انتشر بين الإدارات الحكومية وضع رواتب الموظفين في البنوك الربوية، ويشترط البنك بقاء المبلغ خمسة أيام، ما رأيكم؟ الجواب لا شك أن هذا لا يجوز وهو من الربا، لأن البنك خلال خمسة أيام، سوف يستفيد من هذا المبلغ أشياء كبيرة وطائلة، وربط الناس بالبنوك وباقتصاد ربوي فكرة غير صحيحة، وخاطئة، ونتمنى أن يسعى الناس وسعهم، وهذه رواتب الناس كلهم، فلو كل الناس قالوا: لا نريد ذلك، لا أعتقد أن هنالك من سوف يلزمهم به، فلابد أن يبذل الناس وسعهم في التخلص من مثل هذا الأمر، فإن كان ولا بد فليكن ذلك -على الأقل- في بعض البنوك التي تكون أحسن من غيرها، كبنك الراجحي مثلاً. أما بالنسبة للموظف إذا لم يكن لديه حل، فعليه أن يبذل وسعه، فإذا لم يكن له إلا هذا فلا شيء عليه. الجزء: 185 ¦ الصفحة: 36 نحن المسئولون للفرد قيمة عظيمة في الإسلام، فقد علق الجزاء الأخروي والمسئولية الدنيوية به كفرد فعليه تحمل مسئوليته، وهناك غفلة عند الفرد المسلم عن قيمته، وعدم اعتبار عند غيرهم بسبب عدم جعلهم تلك القيمة لأنفسهم فرخصت قيمتهم. ثم تحدث الشيخ عن تحديات تواجه الأمة، وعلى الأمة أفراداً وشعوباً تحمل مسئوليتها أمام هذه التحديات ومنها: احتلال أراضيهم والمنكرات وغيرها. فلا ينبغي تحميل مسئوليتنا غيرنا. كما يجب علينا إشعار الفرد والجماعة بمسئوليتهم عن طريق الشورى والتربية والنقد والتصحيح والشعور الجماعي بالمسئولية. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 1 نبذة عن منطقة الأحساء إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله تعالى به الغمة، فجزاه الله عنا وعن أمة الإسلام خير الجزاء. في هذه الليلة، ليلة التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة، لعام ألف وأربعمائة وعشرة للهجرة، تنعقد هذه المحاضرة، وأود أن أنبه إلى لبس ربما كنت طرفاً وسبباً فيه، أو كان غيري كذلك لأنني لا أريد أن أتخلى عن المسئولية في هذا الأمر، وهو: أن هذا المحاضرة لها عنوان خاص أعددته منذ أشهر، وكنت جعلت عنوان هذه المحاضرة " نحن المسئولون " فهذا هو العنوان الذي سأتحدث فيه الليلة. ولذلك لا أحب أن أتخلى عن المسئولية في هذا اللبس؛ لئلا أكون متناقضاً مع هذا العنوان الذي اخترته، وإلا فإنني قد بلغت هذا العنوان إلى الإخوة المسئولين في الإفتاء في الدمام، لكن ربما حصل شيء من اللبس في ذلك. نحن الآن في هذا البلد الكريم المضياف في الأحساء، نحن في هجر التي قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أنبئت أن دار هجرتي أرض ذات نخل بين حرتين، فذهب وهلي إلى أنها هجر} لقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام أن تكون هذه البلاد هي دار هجرته، ومقامه ومنطلق رسالته وبعثته، وفي هذا من الدلالة والإشارة ما فيه، وهذه البلد بلد عبد القيس الذين كانوا من أول الناس إسلاماً، ومن أول القبائل إسلاماً ووفوداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخبرهم في الصحيحين {قالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، وإننا لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام، فمرنا بأمر فصل نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأربع، ونهاهم عن أربع} وهذا البلد هو أشج عبد القيس الذي قال: عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة. قال: يا رسول الله، أخصلتان جبلت عليهما أو اكتسبتهما؟ قال: بل جبلت عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحبه ويرضاه} . الموضوع الذي سأتحدث عنه، موضوع في غاية الخطورة بلا إشكال، وهو موضوع خطير بالنسبة لكل فرد منا، وبالنسبة لكل مسلم، سواء كان أباً أم ابناً، معلماً أم طالباً، كبيراً أو صغيراً، مسئولاً أم موظفاً عادياً أم مزارعاً أم تاجراً أم أي شيء آخر، فما دام مسلماً؛ فهذا الموضوع في الغاية العليا من الأهمية والخطورة بالنسبة له، ألا وهو: تحديد من المسئول، وهذا الموضوع مع أهميته فيه طرافة وفيه عجب، وفيه إثارة جيدة لمن عقل وتفهم وتدبر. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 2 قيمة الفرد في الإسلام أول نقطة في هذا الموضوع كمقدمة إليه، هي: بيان قيمة الفرد في الإسلام. ونحن نجد أن الإسلام جعل الفرد هو مناط التكليف ومركزه، لم يخلق الله عز وجل الإنسان ملكاً مجبولاً على الخير والطاعة والاستقامة، كما لم يخلقه شيطاناً رجيماً متمحضاً للشر والفساد، وإنما جعله إنساناً قابلاً للهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والفجور، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:7-10] . الجزء: 186 ¦ الصفحة: 3 قل هو من عند أنفسكم إذاً هل نستطيع أن نقول: إننا جميعاً مدركون وموقنون إيقاناً كاملاً تاماً لا ريب فيه، أن الإنسان -ونقصد به العاقل غير المجنون، فالمجنون شيء آخر {رفع القلم عن ثلاثة} - مسئول مسئولية كاملة عما يفعل في الدنيا وفي الآخرة، وأن كل ما يقع للإنسان، فرداً كان أو طائفة، أو أمة أو دولة، أو للبشرية كلها من المصائب الدنيوية، أو العقوبات الأخروية، فإنما هي بسبب ما عمل، هذه نتيجة بديهية مسلمة لا يلتبس الأمر فيها، ولا يختلف فيها اثنان، ولا ينتطح فيها عنزان، كما تقول العرب. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 4 السؤال الفردي الأخروي الإسلام جعل الجزاء الأخروي فردياً، أنت تقف يوم القيامة للحساب بمفردك، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94] المال والعبيد والأولاد والسلطان والجاه والمنزلة والمكانة كلها تركتموها وراء ظهوركم، وجئتمونا فرادى حفاة عراة، كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] إذاً هذه بديهية يجب أن تحيا في نفوسنا، الجزاء يوم القيامة جزاء أخروي، كل إنسان يقف بمفرده، لا أحد يتبرع لأحد، ولا أحد يستطيع أن يملي جواباً على أحد، هذا غير وارد وغير متصور، المسئولية فردية. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 5 تحمل المسئولية الفردية الدنيوية وكذلك الحال بالنسبة للواقع الدنيوي، فإن القرآن الكريم صريح وظاهر، في أن كل ما يلاقي الناس في هذه الدنيا من خير أو شر؛ فهو بسبب أعمالهم، يقول الله عز وجل: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] كل مصيبة، حتى المصيبة الدنيوية التي تنزل بك، فهي بما كسبت يداك، والمصيبة الأخورية من باب الأولى. ويقول الله عز وجل لأصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم حين انهزموا في معركة أحد، وتعجب! أبو بكر وعمر وعثمان وعلي كيف يهزمون بزعامة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام؟ وأمام الطغمة الفاجرة الكافرة من عتاة قريش وفجارها، يهزمون ويقتل منهم من يقتل وتسيل الدماء، ويسقط الرسول صلى الله عليه وسلم في حفرة أبي عامر الفاسق، ويشج رأسه، وتكسر رباعيته، وتدخل حلقة المغفر في وجنته الكريمة بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، تعجبوا كيف يحدث هذا؟! قالوا: أنى هذا كيف حدث هذا؟! استغربوا لم يكونوا يتصورون أن المسلم يهزم أمام الكافر، فقال الله عز وجل: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165] قل هو من عند أنفسكم. إذاً أنتم المسئولون، وأنتم السبب دون غيركم في هذه الهزيمة النكراء التي لم تحسبوا لها حساباً، وكذلك يقول الله عز وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا} [الروم:41] فكل فساد يظهر في البر أو في البحر، فهو بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا، حتى حين ينظر الإنسان السطحي المغفل فلا يدرك، فإن العقلاء يدركون أن كل فساد يقع في البر أو البحر أو الجو فإنه بما كسبت أيدي الناس، وأنها ليست كل العقوبة، بل هو بعض الذي عملوا، هو مجرد إيماء وتحذير وتنبيه لعلهم يرجعون. وفيما يتعلق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تعرفون الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وغيره، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يا معشر المهاجرين، خمس خصال إن ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن} فذكر خمس خصال من المصائب والنكبات، وعقوباتها في الدنيا، ولا أريد أن أذكر الحديث فهو بطوله معروف، لكن مثلاً ذكر عقوبة الزنا وهي ظهور الطواعين والأمراض التي لم تكن في أسلافهم، كالهربس، والإيدز، وإلى غير ذلك من الأمراض الجنسية. الربا وأنه هو سبب في ابتلاء الناس بانحباس المطر عنهم، أيضاً ظلم السلاطين، إلى غير ذلك من العقوبات التي رتبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على بعض المعاصي التي يفعلها الناس في هذه الدار. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 6 الجزاء منوط بالعمل لقد جعل الله عز وجل الجزاء الأخروي منوطاً بالعمل الذي تعمله، والشيء الذي تختاره، فالله عز وجل يقول مثلاً فيما يتعلق بالجزاء الأخروي يقال لأهل الجنة: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] ويقول عز وجل: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] ويقول عز وجل: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93-95] . إذاً كل إنسان مكلف، فهو يوم القيامة مسئول ومحاسب وموقوف، كما قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] الأب لا ينفع ابنه، والابن لا ينفع أباه، والزوج لا ينفع زوجه كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] من هو المولى؟ هو القريب، وابن العم السيد، والزعيم الحبيب، فكل هؤلاء بعضهم مولى لبعض {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41] {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إ ِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] . الجزء: 186 ¦ الصفحة: 7 من المسئول عن واقع المسلمين؟ أنتقل إلى نقطة ثانية وهي مهمة في الموضوع بعد هذه المقدمة، وهي: الحديث عن واقع المسلمين وواقعنا نحن تجاه هذه القضية، قضية المسئولية فمن المسئول عما يقع؟ الجزء: 186 ¦ الصفحة: 8 عدم اعتبار المسلمين وإرادتهم صورة أخرى من صور الغيبوبة التي نعيشها نحن الآن كأفراد، ونعيشها أيضاً كأمة: قضية عدم اعتبار المسلمين، وعدم النظر إلى إرادتهم. كم من موقف أو عقد أو تصرف يفعله إنسان واحد، بالنيابة عن الأمة كلها، أو بالنيابة عن قطاع كبير من الأمة. جزء من الأمة لم يأخذ فيه رأياً، مع أنه أمر مصيري، يتحدد بناءً عليه أشياء كثيرة. فعلى سبيل المثال: قضية الصلح مع اليهود، هذه القضية ليست قضية فرد بعينه، ليست قضية محمد أو صالح أو أحمد أو فلان، هذه قضية الأمة كلها، فمن هو الذي خول شخصاً من الأشخاص أن يتصرف بالنيابة عن المسلمين كلهم، ليبرم صلحاً، أو لا يبرم صلح، أو يتقدم أو يتأخر، أو يحارب أو يسالم أو ما إلى ذلك؟ هنا غيبة المسلمين أو غيبوبتهم جعلت إرادتهم معدومة، لا أحد ينظر إلى إرادتهم، لا أحد يأخذ رأيهم أو يستشيرهم، لأنهم فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم باعتبارهم مسلمين مكلفين محاسبين، ومسئولين حتى في الدنيا مسئولية تاريخية، فقدوا ذلك، وبالتالي الناس فقدوا شعورهم بهم -أيضاً- وصاروا يتصرفون دون الرجوع إليهم، فصار الأمر كما قال الأول: ويقضي الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود صورة ثالثة: تسمعون يوماً من الأيام، أن في روسيا قتل ستة من اليهود، قامت الدنيا وما قعدت، وأجهزة الإعلام تشتغل، ليس في إسرائيل فقط، بل في دول العالم الغربي كله، ليل نهار، لماذا حقوق الإنسان مهدورة؟ لماذا يقتل هؤلاء؟ بأي جرم؟ ما هي المحاكمة التي تعرضوا لها؟ أين مواثيق الأمم المتحدة؟ وهكذا نسمع جدلاً ستة من اليهود من إخوان القردة والخنازير، لا وزن لهم ولا قيمة ولا اعتبار قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44] لكنهم يشعرون بقيمتهم، وبالتالي قومهم يشعرون بقيمتهم، فيحركون العالم كله أمام هؤلاء الذين قتلوا. لكن بالنسبة للمسلمين ليست المسألة ستة أو ستين أو ستمائة! المسألة بالألوف، أحياناً شعوب تباد بأكملها، ولا أحد يتحرك، دماؤنا رخيصة عند قومنا وعند الأعداء، أما الأعداء فلا يلامون، لكن المشكلة أن دماءنا رخيصة عند أقوامنا، وتأتي قضية إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض أو الأحمر أو الأسود، على اختلاف في الروايات، المهم أن المسلمين دماؤهم رخيصة تسفك. ولعلكم يومياً تسمعون وجبات من دماء المسلمين، كما نجد الآن من آخر القضايا: قضية كشمير، عندما تقرأ الأخبار -والله الذي لا إله غيره- أننا عندما نقرأ الأخبار؛ نشك في صدقها، مع أنه -أحياناً- الإنسان مقتنع أنها صحيحة، لكن من شدة غرابة الخبر وسكوت أجهزة الإعلام عنه، يقول الإنسان: هل معقول يقتل هؤلاء الآلاف المؤلفة؟ هل معقول تباد قرى بأكملها، -أحياناً- بالقنابل وأحياناً بالأسلحة الكيماوية، ولا أحد يتحرك ولا يلتفت؟ نعم معقول؛ لأن هؤلاء المسلمين أو كثيراً منهم، فقدوا إحساسهم بقيمتهم، ففقد الآخرون الإحساس بهم، وفقدوا الترابط الذي هو نتيجة للشعور بأننا أصحاب هم واحد، كما كان يقول الشاعر أحمد شوقي: نصحت ونحن مختلفون داراً ولكن كلنا في الهم شرق نحن نقول: كلنا في الهم إسلام ومسلمون، فلو كان كل إنسان يحس بمسئوليته عن نفسه حقيقة؛ لأحس بمسؤليته عن إخوانه المسلمين في كل مكان، مصداقاً لقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً} وقال أيضاً: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} . الجزء: 186 ¦ الصفحة: 9 فقدان الشعور بالمسئولية صورة -أيضاً- من صور تخلينا عن المسئولية، تخلي المسلمين عن مسئولية ما يحدث، لو سألت أي فرد منا دعونا ممن هم خارج المسجد، لنكن واقعيين لا نتكلم عن أحد غائب، من أجل أن يكون الكلام له قيمته، يعتبر كل فرد أن الخطاب يخصه هو دون غيره. لو سألنا إخواننا الموجودين في المسجد: هل أحد منا يشعر أن له دوراً أو مشاركة في احتلال اليهود لفلسطين، أو احتلال الروس في أفغانستان، أو في انتشار المنكرات في المجتمع، أو في ضعف الأمة الإسلامية، أو في التخلف العلمي الذي نعيشه، أو في الوضع الاقتصادي المتردي الذي تعيشه الأمة؟! قد تجد (90%) على الأقل يقول: أنا ليس لي دور! أنا قائم بعملي خير قيام، ليس لي تدخل بالناس: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] ما دخلنا في اليهود أن يحتلوا فلسطين أو غير فلسطين، مالنا علاقة بالأشياء هذه!! الأكثر من الناس هذه تصوراتهم. إذاً فقدنا شعورنا بالمسئولية عن الأحداث الكبار، دعك من الأحداث العالمية، مثل قضية سقوط الشيوعية، أو قضية التحالفات الجديدة العالمية، دعك منها، لكن لنبقى في الأحداث الإسلامية، بل دعنا من الأحداث الإسلامية البعيدة، دعنا مع الأحداث الإسلامية القريبة التي تقع في مجتمعنا، أكثرنا يقول: ليس لنا علاقة! من نحن؟ إنسان في آخر المشوار وفي آخر القائمة، نقطة لا وزن لها ولا اعتبار لها. هذا تقديرنا لأنفسنا، وهكذا أصبحنا نعيش سلبية قاتلة تجاه كل ما يحدث قريباً كان أو بعيداً، حتى صح وصدق علينا قول القائل: ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم الله يعلم أني لم أقل فندا إني لأفتح عيني حين أفتحها على كثير ولكن لا أرى أحدا وأذكر لكم قصة أم نكتة في الواقع، وهي أن أحد العلماء كان عنده خلق كثير من الطلاب، له حلقة يحضرها ألوف، فخشي منه الحاكم أو السلطان، قال: إن هذا العالم له جمهور وله رواد وخاف منه، فأحضره يوماً من الأيام في قصره وقال: أنا لست مطمئن لهذه الجموع الغفيرة التي تجلس عندك، أنا أخشى منهم. قال: لا تخف من هؤلاء، ليس عندي أحد، قال: كم عندك في الحلقة؟ قال عندي واحد ونصف. فضحك الأمير، أو الحاكم، وقال: أنا حضرت الحلقة ورأيت ألوفاً مؤلفة، قال: أبداً، أصدقك الحديث ليس عندي إلا واحد ونصف. قال كيف؟ قال: سوف أريك الآن، وأخذ بيده وخرج به إلى الشرفة يطلون على الشارع، الناس جاءوا إلى المسجد يريدون الحلقة فما وجدوا الحلقة، سألوا: أين الشيخ؟ قالوا: قد ذهب إلى السلطان -دعاه السلطان-. فكلٌ ذهب إلى حال سبيله، هذا في مكانه، وهذا في مزرعته، وهذا في مدرسته، وبعضهم يركض ركضاً، لا يدري أحد أنه يجلس في هذه الحلقة، والثالث والرابع، المهم لاذوا بالفرار. جاء فلَّاح معه مكتل على كتفه آله الحراثة، فقال: أين الشيخ؟ فقالوا: ذهب إلى السلطان. فلم يلو على شيء، وحالاً ذهب إلى السلطان، فلما وقف عند باب القصر؛ وجد الجنود والحرس والأعوان والشرط والسياط والسيوف، لم يلتفت إليهم بل صار يشق الصفوف شقاً، فقال العالم للحاكم: ترى هذا. قال: نعم. قال: هذا واحد، فقال: أين النصف؟ قال: يأتيك الآن، بعد قليل جاء إنسان فصار يتقدم خطوة، ويتأخر أخرى ويلتفت يمنه، ويلتفت يسره، ويريد أن يدخل ثم يرجع، ثم يريد أن يدخل ثم يرجع، فقال: هذا النصف، لو وجد آخر مثله أخذ بيده ودخل مثل الأول، لكنه لم يجد أحداً، فهو نصف رجل يحتاج إلى رجل ثان حتى يكمله. إذاً فالأمر كما قال الآخر، وهو يصف مصائب المسلمين، ويتحدث عما نزل بهم، وهو أحد شعراء الشام، يذكر ما نزل بالأمة، يقول: ما لي أرى الصخرة الشماء من كمد تلوي وعهدي بها مرفوعة العنق ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحدو الدنا من طهره الغدق واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفى على الغرق لو استطاع لألقى نفسه حمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق وظلت الكعبة الغراء باكية وغم كل أذانٍ غم في الشنق هذه مصائبنا ثم يقول: كثرٌ ولكن عديد لا اعتداد به جمع ولكن بديد غير متسق إذاً المصائب كثيرة بعددنا، لكن نحن مع كثرتنا لا اعتداد بنا، وليس لنا مواقف صحيحة صريحة، ولا قوة ولا شجاعة، ولا شعور بقيمتنا ولا شعور بمسئوليتنا. وأذكر بهذه المناسبة مثالاً موجوداً عند بعض الشعوب، يقول: إن المشاكل التي نعانيها صنعها من قبلنا، وسوف يحلها من بعدنا أما نحن فأبرياء إذاً فنحن ليس لنا من الأمر شيء، إن المشاكل التي نجدها الآن ونعانيها ونصطلي بنارها صنعتها أجيال سابقة، ولن نحلها نحن، إنما سوف يحلها الجيل اللاحق، أما نحن فأصبحنا بين القوسين ليس لنا من الأمر شيء، ما صنعنا هذه المشكلات، أي لم نعترف بخطئنا في المشاركة، وبالتالي ما اعترفنا بدورنا الملقى على عواتقنا في وجوب حل هذه المشكلات أو المساهمة في حلها. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 10 موقف المسلمين من المصائب إننا نلاحظ أن المسلمين إذا نزلت بهم مصيبة يسرعون إلى نداء ومخاطبة الأموات، إما على سبيل الجد، وإما على سبيل التعبير والكناية والمجاز، فكم من مسلم إذا احترق بيته، بدلاً من أن يقوم هو بالإطفاء أو ينادي المطافي، تجده يصرخ يا فلان يا عبد القادر، يا علي، يا حسين، يا فلان، يا علان، يريد من هؤلاء الأموات الرفات الذين هم في قبورهم؛ أن يهبوا من نومهم ويسرعوا بليات المطافي؛ حتى يطفئوا هذا الحريق الذي اشتعل في بيته!! إذا نزلت به مصيبة من مرض، أو فقر، أو فقد ولد؛ تراه ينادي الأموات. ومن جهة أخرى تجد بعض المسلمين يعبرون -لكنه تعبير له دلالته- عن شعورهم بالأسف من الواقع بنداء الأموات، مثلاً: امرأة تقول الشعر، لاحظت ما تعانيه الأمة الإسلامية من فقر ومرض وتخلف وجهل وذل إلى غير ذلك، فبدلاً من أن تنادي نفسها، وتنادي أخواتها ومثيلاتها، وتنادي المسلمين، كما قالت المسلمة الأولى لما أهينت واضطهدت قالت: وامعتصماه، تصرخ بـ المعتصم الحاكم في بغداد، فيقول المعتصم: قد أجبتك، ويجهز جيشاً قوامه مائة ألف، ويذهب إلى عمورية حتى يفتحها. تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب يا يوم وقعة عمورية انصرفت عنك المنى حفلاً معسولة الحلب بدلاً من ذلك أصبحت تنادي من؟: تنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تخاطبه وتقول: يا مرسلاً جاء للدنيا فأنقذها من البلاء وعافاها من السقم اذكر لربك أنا أمة جهلت قادها الجهل للبأساء والعدم واحد آخر شعره بائس خبيث مخبث، وهو الشاعر المشهور قباني، له قصيدة في لحظة من لحظات يقظته وانتباهه وصحوته من السكر الدائم المزمن، قصيدة طويلة جميلة، يتكلم فيها عن واقع الأمة الإسلامية، وما حل بها من النكبات والمصائب، ويقول ضمن هذه القصية: وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضباً يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصب يا بن الوليد ألا سيف تؤجره فإن أسيافنا قد أصبحت خشباً يا بن الوليد - رجعنا ننادي الأموات عجزنا عن الأحياء، فصرنا ننادي الأموات، يريد من خالد أن يقوم يؤجره سيفه المسلول الذي انتصر به في المعارك الإسلامية؛ لأن أسيافنا قد أصبحت خشباً، وأذكر شاعراً آخر كان ينادي صلاح الدين ويقول: قم يا صلاح الدين قم، وآخر يقول: قم يا صلاح الدين طهر أرضنا من كل ومن ماسوني. المهم: صلاح الدين وخالد وغير خالد، والأموات كلهم لا ينفعون الإنسان شيئاً، ولا يغنون عنه من الله شيئاً، ولا يجوز للإنسان أن يدعوهم أو يناديهم -ليس مقصودي الآن هو الكلام عن هذه النقطة- لكن مقصودي أن أقول: لماذا أصبحنا ننادي الأموات؟! لأن الأحياء فقدنا ثقتنا فيهم، فقدنا شعورنا بقيمة الأحياء في الوقت الذي نشغل فيه بقيمة الأموات، نعرف ماذا صنع خالد بن الوليد، ونعرف ماذا صنع صلاح الدين، ونور الدين، وعماد الدين، ولذلك نناديهم نريد أن يجددوا لنا الأعمال، لماذا لا ننادي محمد وصالح وعلي وأحمد وإبراهيم من الأحياء الذين يعيشون على أقدامهم، لماذا لا نناديهم لأنهم أموات؟! يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصب فنحن نشعر بأنه لا قيمة لهم ولا تأثير، ولا يحسون بالمسئولية فننادي غيرهم، هذه صورة تدلك على عدم شعورنا بالمسئولية تجاه هذه الأعمال. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 11 غفلة الفرد عن قيمته أخطر مشكلة تواجه الأمة: هي غفلة الفرد عن قيمته وعن مسئولياته، وظنه أنه شيء مهمل لا قيمة له ولا وزن ولا اعتبار، وهذه من أخطر الأمراض التي إذا وجدت فتكت بالناس، يأتي إنسان فتقول له: لماذا تفعل كذا؟ أو يفعل غيرك كذا؟ أو لماذا حدث كذا؟! يقول أنا مسكين ليس لي دور ليس بيدي شيء، وليس بيدي حل ولا ربط، ولا أمر ولا نهي، أنا وجودي كعدمي! أنا صفر على الشمال، ويظل الإنسان يوبخ نفسه بطريقة مهينة، حتى لكأنك تتصور أنك أمام لا شيء، أو أمام إنسان فقد شعوره بذاته وبإنسانيته وببشريته وبتكريم الله تعالى له، فضلاً عن شعوره بالمسئولية التي ألقاها الشرع على كاهله وعلى كتفه. ولذلك تقول الإحصائيات: إن عدد المسلمين اليوم ألف مليون أي: مليار إنسان، وعدد المسلمين يعتبر من أعظم الطوائف أو المجموعات التي تدين بدين سماوي في هذه الدنيا، بل لعلهم يحتلون المركز الأول أو ينافسون عليه، لكن هذا العدد الكبير ما مدى انتمائهم لهذا الدين وارتباطهم به وشعورهم بهذا الانتساب؟ أم أنها مجرد أرقام لا رصيد لها من الواقع؟ المشكلة أن الاحتمال الثاني هو الراجح، وأن الواقع أن أكثر المسلمين هم بالصورة التي سوف أتحدث عنها، وأشير إلى جوانب منها. في واقع الأمة الإسلامية ضاعت قيمة الفرد في نفسه، وبالتالي ضاعت قيمته فيمن يتعامل معهم، فمثلاً: إذا كان الإنسان لا يحس بقيمته فمن بابِ أولى أن الآخرين لا يحسون بقيمته أيضاً، الإنسان إذا كان لا يحس بقيمة نفسه؛ فزوجته -مثلاً- لا تحس بقيمته، وأولاده لا يحسون بقيمته، والمسئول عنه في الدائرة الحكومية لا يحس بقيمته، والمسئول عنه في البلد لا يحس بقيمته، والمسئول عنه في الدولة لا يحس بقيمته، والعدو من باب أولى لا يحس بقيمته ولا يحسب له أي حساب أيضاً. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 12 التحديات التي تواجه الأمة الإسلامية هناك تحديات كثيرة تواجه الأمة الإسلامية، وسوف أضرب بعض الأمثلة لهذه التحديات، والواقع أن الموضوع طويل، كما أسلفت. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 13 المستوى العلمي والحضاري والاقتصادي المتردي من التحديات: المستوى العلمي والحضاري والاقتصادي المتردي للأمة الإسلامية، هذا أمر الكلام فيه واضح، الأمم الغربية سبقتنا بمراحل في هذا الباب، بل نحن لم ندخل حلبة السباق إلى الآن، عندما نتساءل عن سبب هذا التخلف ومن المسئول عنه؟ لا نجد أحداً منا يستطيع أن يقول: نحن مسئولون عن هذا الأمر، بل قد نحمل المسئولية جهات أخرى فنحملها -مثلاً- الحكام، أو نحملها جيلاً معيناً، أو نحملها الظروف، إلى غير ذلك من الأشياء التي نعلق عليها أخطاءنا، كما سأشير إليها في نهاية المحاضرة. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 14 احتلال اليهود لأراضي المسلمين مثال آخر من التحديات التي تواجه المسلمين اليوم: قضية وجود اليهود واحتلالهم لأراضي المسلمين وتوسعهم يوماً بعد يوم، كم عدد المسلمين؟ ألف مليون مسلم، كما تقول الإحصائيات كما قال الأفغاني، أو غيره يقول: لو أن كل مسلم نفخ على اليهود نفخة لطاروا، ألف مليون! لو كل واحد نفخ جهة إسرائيل يمكن أن تطير إسرائيل من هذه العواصف. ويقول آخر: لو أن كل مسلم بصق على اليهود بصقة لغرقوا، هذه حقيقة، لو أن كل إنسان قام بدور -ولو ضئيل جداً- لكانت النتيجة أننا استطعنا أن نطرد اليهود، نفس الكلام يقال بالنسبة للشيوعيين الذين يحتلون أفغانستان، أو النصارى الذين يحتلون بعض البلاد الإسلامية، الكلام واحد، لو أن كل مسلم أدى دوره لزالت هذه المشكلات. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 15 كثرة المنكرات مثال ثالث: قضية المنكرات. المجتمع -لا شك- مليء بمنكرات كثيرة ظاهرة ومستترة على كافة المستويات، منكرات إعلامية، منكرات اقتصادية، منكرات اجتماعية، إلى غير ذلك من ألوان المنكرات، فعندما نأتي ونتساءل: من المسئول عن إزالة هذه المنكرات؟ لا أحد يستطيع أن يقول: أنا مسئول إلا النادر من الناس إلا ممن رحمه الله. يقول لي أحد الإخوة من طلاب العلم: عجبت لقد التقيت بأناس كثيرين، حتى من طلاب العلم، بل ربما من العلماء، فما تشتكي إلى أحد منهم منكراً إلا ويقول اذهب إلى فلان، انظر فلان، تكلم مع علان، قولوا كذا أو افعلوا كذا، ويكتفي فقط بالتوجيه، يقول: إلا شخص واحد من خلال تجربتي -هذا رأي الأخ المتحدث- يقول: وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ما ذكرت له يوماً من الأيام منكراً أو خطأً، فقال لي اذهب إلى فلان أو إلى علان أو ما أشبه ذلك، إنما قال: نفعل -إن شاء الله- نخاطب الولاة نتحدث، ننكر ونبلغ، رجل يشعر بمسئوليته، هكذا تستطيع أن تصفه. أرأيتم لو أننا قاطعنا المنكرات، ما الذي يحدث؟ سوف تكسد أسواقها، مثلاً شريط سيئ أو أغنية أو مجلة أو كتاب، أي بضاعة محرمة لو قاطعناها فمن يشتريها؟! لا أقول سوف تنقطع عن هذه البلاد، بل سوف تتوقف عن الصدور، فإن كثيراً من المجلات والكتب وغيرها، تجد في أسواق هذه البلاد من الرواج والانتشار ما لا تجده في أي بلد آخر، فلو أن كل واحد منا قاطع هذه الأشياء -مجرد حل سلبي ومشاركة سلبية- لانتهت هذه المنكرات وزالت. مثلاً بنوك الربا، لو أن كل واحد منا لا يتعاطى الربا ولا يودع أمواله، ولا يأخذ الفوائد لانتهت. لكن أنا وأنت والثاني والثالث، نقول حرام ونأخذه، وبالتالي أصبحنا نأمر بأيدينا وبأموالنا وبجهودنا، هذه المنكرات التي نتحدث عنها، ونقول: إنها منكرات. قضية ثانية: عندما ترى منكراً ما دورك فيه؟ تقول: ليس لي دور، ليس هناك أحد ليس له دور، أضرب مثلاً بسيطاً: قبل شهر فتحت صندوق البريد، فوجدت فيه رسالة، فتحت هذه الرسالة، فإذا فيها خطاب من شاب مجهول لا أعرفه، قد يكون شاباً أو شيخاً أو غير ذلك، المهم من رجل مجهول، يقول لي: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد، يصلك مع هذا الخطاب قصاصة من جريدة كذا، وفيها إعلان عن حفل غنائي سوف يقام في بلد كذا، في يوم كذا، وهو حفل مختلط كما يدل عليه الإعلان، أرجو أن تقوموا بما تستطيعون في هذا المجال، ووجدته أرفق مع الخطاب قصاصة من إحدى جرائدنا المحلية فيها إعلان -فعلاً- عن حفل غنائي يقام بعد عيد الفطر المبارك، وحفل مختلط للرجال والنساء، يحييه الفنان المحبوب فلان، والفنان الموهوب علان، وللحجز والاستفسار اتصلوا بوكالة كذا، تليفون كذا. أتوقع أن هذا الشاب كتب عدة رسائل لعدة أشخاص، فقام بدوره، فلما وضع أمامي القضية وجدت أن الأمر سهل لا يتطلب مني أنا -أيضاً- إلا أن أتصل بالهاتف على هذه الوكالة من باب المناصحة والمحبة في الله، فاتصلت، فقالوا لي: إن هذا قد ألغي وكتبنا في الجريدة نفسها اعتذاراً، وكان خطأً وقعنا فيه، وبلغنا الجهات المختصة بطريقة الوقوع في الخطأ، حتى لا يقع فيه غيرنا، وكان ذلك بفضل الله ثم بفضل تدخل الطيبين والصالحين وطلاب العلم، وكذا وكذا وكذا، وإن شاء الله نعدكم أنه لن يتكرر، هذا جيد، هذا حسن، إذاً ألغي هذا المنكر بسبب خطوة كالتي حدثت. مثال آخر: في يوم من الأيام أعلن في أحد الجمعيات، يسمونها جمعيات الثقافة، من باب تسميه الشيء بضده، فأُعلن في إحدى هذه الجمعيات؛ أنه سوف تقام دورة للتدريب على الموسيقى للصغار من سن 13 - 18 سنة، فأحد الصالحين صور الخبر الذي فيه هذا، وكتب رقم تليفون الجمعيةـ حتى يتصل بهم ويناصحهم من يحب أن يقول لهم الكلمة الطيبة، وأرسلها إلى فلان وعلان من الناس الذين يعتقد أنه سوف يكون لهم تأثيراً، وفعلاً كان لهذه القضية تأثير، حتى لو لم يترتب عليها إلغاء مثل هذه الدورة، سيترتب عليها في المرة الثانية أن يحسب الإنسان ألف حساب لمثل هذا العمل، الذي يواجه به المجتمع، ويقوم فيه بأمر لا ينفعنا في دنيا ولا في دين. إذاً ممكن أن تغير منكراً ما، بالخطاب، بالهاتف، بالكلمة الطيبة، بالنصيحة، بالمراسلة بأي شيء، وأضعف الإيمان المقاطعة، فلا تفعل المنكرات، ولا تجلس في المكان الذي يفعل فيه المنكر، ولا تساهم فيه بشكل من الأشكال، هذا أضعف الإيمان. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 16 التبرعات مثال رابع: قضية التبرعات؛ المسلمون يواجهون تحدياً اقتصادياً، أي مشروع في الدنيا لا بد له من مال، الجهاد في أفغانستان أو الفلبين أو إرتيريا أو في فلسطين يحتاج إلى المال، المشاريع الدعوية تحتاج إلى المال، المسلمون المنكوبون في أفغانستان أو في السودان أو في غيرها، يحتاجون إلى المال، إلى كسرة الخبز، إلى الغذاء، إلى الكساء الذي يسترون به عوراتهم. هذا تحدٍ كبير، لكن من أين نجمع هذه الأموال؟ تجد كل إنسان يقول: ليس لي دور، المسئول فلان ويشير إلى ثري من الأثرياء، لماذا ليس لك دور؟! لو رجعنا إلى الرقم الذي رددناه مراراً ألف مليون، نريد من كل واحد أن يعطينا ريالاً واحداً فقط، هل أحد لا يستطيع؟ والله نعطي أطفالنا أحياناً عشرة ريالات، ومائة ريال، وألف ريال، ونشتري لهم ألعاب بأغلى الأثمان، إذاً نريد ريالاً واحداً، معناه أننا بحملة تبرعات واحدة سنجمع ألف مليون ريال، كل واحد لن يعطينا إلا ريالاً واحداً. إذاً القضية الأساسية: هي فقدان كثير من المسلمين الشعور بذاتهم وبقيمتهم وبدورهم ومسئوليتهم، وبالتالي تعطلت كثير من الأعمال، وأصبح من الصعب تحديد المسئول عنها، ولذلك أقول: إن الخلاصة من هذه النقطة السابقة؛ أننا نعمل قدر المستطاع على سبيل الحيلة -حيلة نفسية- أن نتخلص من المسئولية؛ لنلقي بها على الآخرين. قد ندرك -أحياناً- أننا مسئولون، لكن من باب الخداع -خداع النفس- نحاول أن نتخلص من المسئولية بأي شكل؛ لنلقي بها على فلان أو على علان. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 17 من الذي نحمله المسئولية أنتقل إلى نقطة ثالثة في هذا الموضوع، وهي: قضية من المسئول إذاً؟ في نظرنا نحن المسلمين، الذين غاب عنا إحساسنا بشخصياتنا وقيمتنا وإنسانيتنا ودورنا المنتظر، نلقي المسئولية على جهات شتى. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 18 الكيد الخارجي الأمر التاسع: من الأشياء التي نعلق عليها أخطاءنا: هو الكيد الخارجي. وهذا أمر الكلام فيه يطول، لكنني لا أريد أن أطيل فيه، لأننا كثيراً ما نرتاح ونستأنس حين نتكلم عن الكيد الخارجي، لأننا أصبحنا أبرياء! لماذا؟! لأن اليهود هم الذين فعلوا وخططوا، حكماء صهيون، والماسونية، والشيوعية، والنصارى، والمشركون وإلخ، المهم أصبح أمامنا ألوف مؤلفة من الأمم والأديان والنظريات والمذاهب والجمعيات السرية والمخططات، أصبحنا نلقي عليها كل أخطائنا. وهذا مهرب نفسي واضح، ولذلك تجد أن الناس يكثرون من الحديث عنه، ويرتاحون لذلك أشد الراحة، حتى أنك تجد الأمة على مستواها العام تلقي بالمسئولية على من ذكرت، لكن حين تنتقل إلى الخاصة من الأمة؛ وهم الدعاة إلى الله عز وجل، في كثير من البلاد تجد الدعاة يلقون بالمسئولية عن الأشياء التي وقعت لهم، لا يقولون نحن المسئولون، بل يقولون: المسئولون هم الحكام في تلك البلاد. مثلاً: حاكم بطش بالدعوة في بلد ما، واضطهد وعذب وآذى وقتل وعلق على أعواد المشانق، وهذا حدث في بلاد عديدة قلما تجد داعية يقوم ليقول: نحن المسئولون ويحلل الموضوع؛ ليخرج بنتيجة أن هناك أخطاءً في طريقة الدعوة وفي سلوك الدعاة وفي أساليبهم؛ أثمرت هذا الاضطهاد. بل يكتفي أن يقول: هذا هو فعل الحاكم، هو الذي اضطهد وآذى المسلمين، واعتدى عليهم، وانتهت القضية، وأن الحاكم هو المسئول، وخرج الدعاة أبرياء من كل مسئولية، ومعهم الأمة كذلك تقول: اليهود والنصارى هم الذين خططوا وفعلوا، وأوصلوا الأمة إلى ما وصلت إليه، أما الأمة فهي أمة بريئة لم تفعل شيئاً تعاب به. وهنا نقول: -كما قلنا سابقاً- نرجع المسؤلية إلينا نحن، يقول الله عز وجل، بعد أن ذكر كيد المشركين قال: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] لم يكن كيد الأعداء ليبلغ ما بلغ، لو كنا أهل صبر وتقوى {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] فالله تبارك وتعالى يدافع عن الذين آمنوا، ويحميهم ويحفظهم من كيد أعدائهم. وإنما الأمر كما قال أحد المفكرين الغربيين قال: إن الأسباب الحقيقية لكل انحطاط هي أسباب داخلية وليست خارجية، وليس علينا أن نلوم العواصف إذا أسقطت شجرة نخرة لكن علينا أن نلوم الشجرة نفسها. هذه شجرة تتمايل وآيلة للسقوط، فجاءت عاصفة فأسقطتها وجثتها، ليس المسئول عن ذلك العاصفة، إنما الشجرة كانت مهيأة لهذا الأمر. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 19 إلقاء اللوم على الحكام أما المسؤول الثامن في نظرنا بعد العالم: فهو الحاكم. وكما ورد في الحديث السابق، حديث ابن عباس: {إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس العلماء والأمراء} وهو حديث ضعيف لا يصح، بل قال بعض أهل العلم: إنه ضعيف جداً، رواه أبو نعيم في الحلية، ولا يصح الحديث، لكن يحتج به الإنسان، لأنه يوافق هواه ورغبة في نفسه. فالحديث برأنا من المسئولية، وجعلنا تبعاً، إذا صلح العالم والحاكم صلحنا، وإذا فسدا فسدنا والحمد لله رب العالمين، فالحديث لا يصح لا متناً ولا سنداً. فنحن نقول: لا شك أن السلطان له دور كبير، ومن أهم أدوار السلاطين: اختيار المسئولين الأكفاء وتوليتهم الأعمال، الرجل المناسب في المكان المناسب وهذه أهمية كبيرة، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا: وما أضاعتها؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا وسد الأمر إلى غير أهله، فانتظر الساعة} . فأعظم دور للسلاطين والحكام، هو اختيار المسئولين الأكفاء، ووضعهم في المكان المناسب أولاً، ثم محاسبتهم كما كان يفعل عمر، كان يرسل الرسل للناس ويقول: [[إني لم أبعث عمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن بعثتهم إليكم ليعلموكم دينكم، وليقسموا فيكم فيئكم]] يقسموا بينكم الأموال ويعلمونكم الدين، ومن الملاحظ أن هناك تناسباً ظاهراً بين وضع الحكام والمسئولين وبين وضع الناس، يقول بعض أهل العلم وبعض المؤرخين: لما ولي أبو بكر رضي الله عنه، كان أبو بكر رجلاً متواضعاً خاشعاً ذليلاً لله تعالى، كان يلبس أبسط الثياب، ففعل الناس مثل فعله، وفد عليه الملوك من اليمن ومن أنحاء الدنيا، والأمراء -أمراء القبائل- وغيرها، وكانوا يلبسون التيجان والثياب الفاخرة، فلما رأوا أبا بكر رضي الله عنه خلعوا تيجانهم وثيابهم، حتى نقل أن " ذا الكلاع "، وهو ملك من ملوك حمير، لما رأى أبا بكر وتواضعه وزهده ولباسه؛ خلع ملابسه ولبس لباساً عادياً جداً، حتى إنه تواضع وتذلل وكان يوماً من الأيام يمشي في الشارع، " ذو الكلاع " وعلى ظهره جلد شاة، فلما رآه قومه قالوا: فضحتنا يا فلان، أنت سيدنا ورئيسنا بين المهاجرين والأنصار تحمل جلد شاة على ظهرك؟ فقال لهم: والله لقد رأيت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أرى أنه يسعني أن أسلك غير مسلك خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ما دام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في السوق، ويحمل بضاعته بنفسه، ومتاعه بنفسه، فأنا مثله سواءً بسواء. ومثل ذلك الأشعث بن قيس، وغيره من الكبار الذين قد تعودوا على الأبهة والفخامة والملابس الفاخرة وغيرها، والرياش والأموال والعبيد والخدم والحشم، لما وجدوا أبا بكر رضي الله عنه كذلك سلكوا نفس السيرة والمسلك، فهناك تناسب. ولما جاء عثمان رضي الله عنه وأرضاه، كان رجلاً فيه سماحة وجود وكرم وسخاء، والله تعالى فتح على المسلمين الأرض والأموال، فكان يعطي الناس من الأموال، ويوسع عليهم ويقسم بينهم، حتى يعطيهم اللحم وهم في بيوتهم والأطعمة والملابس وغيرها. وبالتالي تجد المجتمع على نفس النمط، فأصبح الصحابة رضي الله عنهم يتوسعون توسعاً مباحاً، بل محموداً في بعض الجوانب في الدنيا، فبنوا القصور والدور والمساكن وغيرها، كما فعل الزبير رضي عنه فيالكوفة، وفي البصرة، وفي الشام، وفي مصر، وفي المدينة وغيرهم، كـ طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وهكذا، حتى أن كثيراً منهم من خيرة أصحاب النبي عليه السلام، ومن العشرة المبشرين بالجنة فعلوا ذلك ولا حرج، بل هذا مسلك حسن من بعض الوجوه، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {نعم المال الصالح للرجل الصالح} وكما قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال} وقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} فهذا مسلك حسن من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وفي كلٍّ خير. ولما تولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه جاءه رجل، فقال: يا أبا الحسن، الناس اجتمعوا على أبي بكر، وتوحدت كلمتهم عليه، لكن لما وليت أنت اختلف الناس عليك وحصل ما حصل، قال له علي بن أبي طالب: أتدري لماذا؟ قال: لا. فالرجل يريد أن يحمل المسئولية علي بن أبي طالب، لكن علي بن أبي طالب، كان فقيهاً في سنن الله تعالى، ولذلك قال علي بن أبي طالب لهذا الرجل: لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يحكم مثلي، أما أنا فصرت أحكم مثلك. وبالتالي هناك تناسب بين الراعي والرعية من وجوه عديدة وهذا أمر مطرد. ولذلك يقولون في أمراء بني أمية، لما تولى هشام بن عبد الملك أو غيره، هشام كان رجلاً بخيلاً ممسكاً للمال، وبالتالي الناس بخلوا لما تولى، وصار هناك شحٌ في الأموال وفي الإمكانيات وفي وظائف الجند وفي غيرها، حتى قيل: إنه لم يمر بالناس عهد ولا عصر أشد عليهم ولا أنكى من عهد هشام، لأنه أمسك الأموال وقلَّت في عصره، فأمسك الناس ما بأيديهم تناسباً مع حاله ووضعه. ولما تولى حاكم آخر كـ عبد الملك وكان قبله، وكان يحب الشعر، كثر الشعر في عصره والشعراء، مثل جرير والفرزدق والأخطل، وكان الرجل -أيضاً- عنده إسراع في الدماء وفي القتل، ولذلك سخر له من الأعوان من يكونون على شاكلته في أكثر البلدان، ولعل من أشهرهم: الحجاج بن يوسف، وكذلك أخوه محمد بن يوسف في اليمن، وغيرهم من أمراء الجور الذين كانوا يبطشون بالناس ويسفكون الدماء. فهناك تناسب، هذا صحيح، لكن هل التناسب. بسبب أن الحاكم من الرعية أو بسبب تأثير الحاكم على الرعية؟ كلاهما موجود وكلاهما واقع، فالحاكم هو واحد من أفراد الناس يوماً من الأيام، مثله مثل أي واحد منهم، هذا من جهة. ومن جهة أخرى: لا شك أن له تأثيراً أكبر من أي إنسان، هذا لا أعتقد أنه موضع خلاف. لكن ينبغي أن تدرك؛ أنه حتى حين نتصور أن هناك حاكماً في أي بلد، أو سلطاناً استبد بالناس وأفقد الناس قيمتهم وجعلهم أصفاراً، فإن هذا الأمر يرجع إليهم هم، بمنظار الشارع، يقول الله عز وجل في القرآن الكريم -هكذا قاعدة يرسيها الله تبارك وتعالى-: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:12] نولي بعض الظالمين بعضاً، أي نجعلهم أولياء، فحين كان الناس من أمثال قارون وهامان وأمثالهم، سلط الله عليهم فرعون ويوم كان الناس مثل عمر وعثمان وعلي والزبير وطلحة وسعد؛ قيض الله لهم مثل أبي بكر. ولما فسد أمر الناس شد أمر ولاتهم، فالأمر فيه تناسب. ولذلك يقول بعضهم: إن الله تعالى قيض لـ عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة من أمثال رجاء بن حيوة وغيرة من الأتقياء العباد الزهاد العلماء الفقهاء، وكذلك قيض لـ عبد الملك بن مروان وأمثاله، الحجاج بن يوسف وأمثاله من الفساق الضلال الظلَّام. وهكذا تأتي القضية نولي بعض الظالمين بعضاً، يقول الله تعالى: عن {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ما كان ليستطيع أن يقف خطيباً. ويقول للناس {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] وقال: {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ما كان ليفعل ذلك؛ لولا أنه عرف أن أمامه أناساً لا قيمة لهم، ولا يمكن أن يردوا عليه، ولا يقاوموا ظلمه أو بطشه أو بأسه أو عناده، بل هم يؤمَّنون على ما يقول، خطأً كان أم صواباً حقاً كان أم باطلاً، ولذلك أصبح يقول ما يقول، دون أن يتوقع من أحد أن ينكر عليه أو يرد عليه ما قال. فهناك تناسب واضح، وما يقع من هؤلاء؛ فإنما هو بسبب أن الناس فقدوا شعورهم بقيمتهم كأفراد، فقدوا شعورهم بمسئوليتهم، فتسلط عليهم هؤلاء. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 20 إلقاء اللوم على العلماء الأمر السابع: هو أننا نلقي باللوم على العلماء. فإذا رأينا ما رأينا، قلنا: أهل العلم، أو فلان ابن فلان، وقد يستشهد بعضنا بالحديث الذي رواه أبو نعيم عن ابن عباس: {صنفان من أمتي إذا صلحا صلح الناس، وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء} فالأمر السابع هو العلماء، تجد أننا نحمل المسئولية العلماء، وكلما حصل شيء قالوا: فلان الله يهديه، فلان لم يقم بدوره، وفلان لم يؤد واجبه، وأحياناً نعمم فنقول: إن العلماء لم يقوموا بدورهم ولم يؤدوا واجبهم، ولست أنكر أن العلماء لهم دور أكثر من غيرهم، وهم رواد الأمه وقوادها وزعماؤها، الذين يجب أن تكون الأمة كلها وراءهم، لكن يجب أن نتفطن هنا إلى القضية الخطيرة؛ قضية دورنا نحن كأفراد، العالم لا يقوم بدوره إلا إذا كان وراءه أفراد كثيرون مثلنا، وكما كان يقول الفارس العربي: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ لو أن خلفي رجال أقوياء شجعان صناديد؛ لرأيتم كيف تكون بسالتي وشجاعتي ونكايتي في العدو، لكن خلفي أناس أعرف أنهم أول من ينهزم في المعركة، وأول من يهرب، ولذلك تأخرت الرماح فتأخرت أنا، ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ والمشكلة أن العالم -أحياناً- يكون كقائد بلا جنود، كما ورد في الحديث: {يا ويله من مسعر حرب لو كان معه رجال} أنت لو وضعت هذا الحب في أرض مبلطة هل تنتظر أن يثمر؟! لا، الحب قابل لأن ينبت الشجر، لكن بشروط: أن يوضع في تربة، ويسقى الماء، ويتعهد ويحمى من المؤثرات حتى يثمر، فالعالم بحد ذاته ممكن أن يحدث حركة ونشاط وعلم وأمر ونهي وتغيير، لكن بشرط: توفر وسائل وإمكانيات أخرى، بشرط: أن يكون وراءه أناس يعرفون قدره ويحفظونه، أما أن ننتظر من العالم أن يؤدي دوره، ونحن ممن يساهم في إسقاطه صباح مساء فهذا غير صحيح، كثير منا، خاصة أهل السنة -مع الأسف- أصبحنا من حيث نعي أولا نعي نقلل من أهمية العلماء، فإذا جلسنا قلنا: فلان من العلماء له أرض كذا وله مؤسسة في كذا، وعنده من الأموال كذا وراتبه كذا، وإذا كان ذلك كذلك، هل ما هو حلال لغيره أصبح حراماً عليه هو؟! من حق العالم أن يستغني، وأن يطلب الدنيا والرزق بما أباح الله تعالى له، والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، كما ذكر الله تعالى: {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] وهكذا سائر الأنبياء والمرسلين، وكفى العالم فخراً أنه يستغني عن الحرام، ويذهب إلى الحلال المباح الذي أحله الله تبارك وتعالى، ومطلوب منا جميعاً أن نساهم في تحريك اقتصاد الأمة الإسلامية، بأن يكون لكل فرد منا دور. وإذا لم نجد للعالم شيئاً، وجدنا هذا العالم زاهداً في الدنيا ليس عنده شيء أبداً، أعرف بعض أهل العلم يعيشون في بيوت من الطين، لا يستطيع الواحد منا أن يجلس فيها ساعة أو ساعتين، ركضوا الدنيا بأقدامهم وجعلوها وراء ظهورهم، ومع ذلك ما يسلم منا هذا العالم، فإذا لم نجد عليه عيباً نذهب نبحث ونبحث، ونقول: أولاده غير صالحين ابنه فلان في كذا، وابنه فلان في كذا، يا سبحان الله! هذا إن كان صحيحاً فإنه: أولاً: كما قال تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الزمر:7] وقال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56] . ثانياً: قد يكون من أسباب ما يقع فيه ولده؛ أن هذا العالم كان مشغولاً بما هو أكبر وأهم، كان يحمل قضية الأمة والمجتمع، فهو يذهب ويأتي آمراً ناهياً داعياً معلماً مرشداً مؤلفاً باحثاً، ولذلك انشغل عن القيام بتربية أولاده، أو قصر في ذلك بسبب انشغاله بما هو أهم، من باب الموازنة بين المصالح والمفاسد. أحياناً تجد طالب العلم ينال من العالم، فإذا خيل إليه أنه طالب وأصبح يعرف شيئاً من العلم، أصبح لا يجد مانعاً من أن ينال من أهل العلم، فيقول: فلان أخطأ في كذا. وفلان كذا، وإذا وجد أحداً ينقل فتوى عالم من العلماء قال: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فنحن جميعاً نساهم في تقليص دور العالم وتأخيره، وبالتالي نقول: لم يؤدِ العالم دوره، العالم يجب أن يقول حينئذٍ: ولو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرتِ الجزء: 186 ¦ الصفحة: 21 العادات الموروثة عن الآباء والأجداد الأمر الخامس: هو قضية الطبيعة، والجبلة الموروثة، والأخلاق المأخوذة عن الآباء والأجداد. فكثير من الناس يحتج بأن هذه طبيعة، أبي كان كذا وجدي كان كذا، وأنا أعترف أن هذا له رصيد من الواقع أحياناً، أقرب مثال: قضية الوسواس، الوسواس من أسبابه -أحياناً- أسباب وراثية، فتجده قد يكون في الجد فينتقل إلى الأب ثم الابن بصورة أو بأخرى، هذا قد يحدث، لكن -أيضاً- ليس صحيحاً أن الإنسان مجبور على ما هو مجبول عليه، أو على ما ورثه عن آبائه وأجداده، بل إن التهذيب وارد وممكن، ولذلك تجد الشرع أمر بأخلاق معينة، ونهى عن أخلاق معينة، وتجد أن التربية يمكن أن تصوغ الإنسان صياغة جديدة، وتغير مجرى حياته، وتبدل بعض الأخلاق الموجودة عنده، وتجدد فيه أخلاقاً أخرى حميدة، فليس صحيحاً أن الإنسان يقع أمام جبرية حتمية إلزامية، لا مفر منها، تجاه ما كسبه من آبائه وأجداده أو تجاه الطبائع الموروثة. وإضافة إلى أن كل طبيعة أو جبلة فيها إيجابيات، أنت قد تكون ورثت عيوباً -مثلاً- عن أبيك وجدك، تقول -مثلاً- من طبيعتنا أن عندنا جبن وخوف، هذا لا نريده لكنه طبيعة. لكن آباؤك وأجدادك عندهم كرم وأريحية وشهامة، فلماذا حاولت ألا تقلدهم في هذه الخصال الحميدة، فبرزت عندك الخصال الذميمة، واختفت عندك الخصال الحميدة؟! الجزء: 186 ¦ الصفحة: 22 العادات الموروثة عن الشعوب أما الأمر السادس: قضية الطبيعة فيما يتعلق بالشعوب، أحد المستشرقين الخبثاء اسمه " جيب " له دراسات عن المسلمين والأمة الإسلامية، فيحاول هذا الخبيث أن يوحي للمسلمين؛ بأن المسلمين يعيشون نوعاً من التخلف العقلي الموروث، يقول: طبيعة الشعوب الإسلامية فيها ضعف، وعدم قدرة على التخطيط، وليس عندها بعد نظر. وهذا أمر في غاية الخطورة؛ لأنه يريد أن يلقي للمسلمين بإيحاء مؤداه: لا تحاولوا، أنتم مخلوقون هكذا وإلا فهذا الأمر منقوض علمياً وتاريخياً. لو أتيت بمخ من يسمونه " آنشتاين " صاحب نظرية النسبية، ومخ أي إنسان من المسلمين أو من غير المسلمين، قد لا تجد هناك فرقاً كبيراً، ولا تجد أن هناك شعوباً تتميز بذكاء عن غيرها من الشعوب، بل الأمر مشاع بين الخلق كلهم، أما من الناحية التاريخية: فالحضارة يوماً من الأيام كانت هنا، والتقدم العلمي كان هنا، والأسماء اللامعة في مجالات الاختراع والطب وغيرها كانت من الأسماء الإسلامية، وقد قام المسلمون بدورهم في بناء وتشييد العلم والتقدم والحضارة بما هو معروف، ولا زالت أوروبا تعيش على المناهج العلمية التجريبية الإسلامية. فنحن قدنا البشرية يوماً من الأيام، وملكنا أقاليم البلاد، وأذعنت لنا الدنيا، وأثبتنا الجدارة في هذا الأمر، وجُربنا فنجحنا، وليست القضية كما يزعم " جيب " أو غيره من أعداء الإسلام. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 23 البيئة وانتشار الفساد الأمر الرابع الذي نلقي عليه أخطاءنا هو: قضية البيئة والمجتمع وانتشار الفساد فيها. وهذا كثيراً ما نتكلم عنه، فإذا كان هناك من يفعل عادة سيئة، كبيرة أو صغيرة، افترض أنه يدخن -مثلاً- لماذا؟ يقول: هذه عادة أخذناها من الوالد أو عن الزملاء أو عن الجيران، عادة تلقيناها. وأصبح الواحد منا كأنه مجبور لا خيار له أمام هذه العادات المنتشرة، وكأن الإنسان حينئذٍ ليس له شخصية، ولا اختيار ولا رأي إنما هو إنسان يسمع ما يقوله له المجتمع وينفذ، وكأنه مرآة ينعكس عليها ما يقع في حال الناس. وهذا -أيضاً- غير صحيح، بل نحن شاركنا في صنع هذه العادات من جهة وأوجدناها، ومن جهة أخرى استأثرناها وقبلناها. كان هناك خطيب يتكلم على المنابر، وفي يوم من الأيام -على سبيل المثال- تكلم على قضية غلاء المهور، وكثيراً ما ينصح الناس، ويؤكد عليهم ويلومهم ويعاتبهم ويسوق النصوص، وكان عنده بنت فجاء رجل يخطبها، فطلب منه مهراً كبيراً، فقال له: أنت أمس كنت تتكلم عن الموضوع هذا. قال: وهل تريد أن تكون بنتي أقل من بنات الناس؟! أين الذي كنت تقوله لنا بالأمس؟! يقول: هذه عادات الناس وهذا المجتمع، إذا غير الناس أنا أغير!! إذاً من يعلق الجرس من يبدأ بالتغيير؟ هنا أصبحنا ندور -كما يقال- في حلقة مفرغة، ونستأثر بالعادات والظروف الاجتماعية والأوضاع القائمة، وكأننا نعيش في جبرية لا مفر لنا منها. وحتى في الأمور الأخرى على مستوى أوسع، عندما ننظر -مثلاً- إلى قضية الاتجاهات العلمية، الأمة بحاجة إلى علماء، إلى أطباء إلى مهندسين إلى مخترعين ومبتكرين واقتصاديين، يحملون هم الإسلام قبل ذلك وبعده، كثير من الناس لا يهتمون بهذه القضايا ولا يكترثون لها؛ لأنهم استوفوا اتجاهاتهم من خلال نظرة المجتمع. ومن خلال واقع الناس، وغفلوا عن الأمر الآخر، حتى أنك قد تجده -أحياناً- متخصصاً ناجحاً في تخصصه، فيدع هذا التخصص ويتجه ليعمل عملاً يمكن أن يقوم به عشرون إنسان غيره، وهو يحمل تخصصاً نادراً لم يهتم به؛ لأن المجتمع لم يكترث لهذا الأمر ولم يلتفت له. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 24 الظروف والأوضاع (الزمان) أمر ثالث نعلق عليه أخطاءنا: الظروف والأوضاع التاريخية الموروثة. وهو ما يمكن أن نسميه بالزمان، كثيراً ما نتكلم عن الزمن والحال وتغير الزمن، وننسى أن الشمس التي تطلع علينا هي الشمس التي طلعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأن القمر الذي يطل علينا هو الذي كان يطل عليهم، وأن الأرض التي نسكنها هي التي سكنوها، والسماء التي تظلنا هي التي أظلتهم، فالأمور لم يتغير منها شيء، والكون هو الكون، والحياة هي الحياة والأجرام السماوية هي هي، والزمان هو هو، والليل والنهار هما هما، والأمر كما كان الإمام الشافعي رضي الله عنه يقول: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا وقد نهجو الزمان بغير جرم ولو نطق الزمان بنا هجانا وليس الذئب يأكل لحم ذئب ويأكل بعضنا بعضاً عيانا نعيب زماننا والعيب فينا، ما هو الزمان؟ الزمان ليس له حقيقة إلا من خلال وجود إنسان يمر به الوقت، فيستخدمه في طاعة أو في معصية، في خير أو في شر، في صلاح أو في فساد، ولذلك تلاحظون أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، كما في الحديث القدسي، في الصحيحين، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يقول الله عز وجل: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار -وفي رواية- لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر} وليس المقصود أن الدهر اسم من أسماء الله تعالى، كلا؛ وإنما بيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: فيما يرويه عن ربه عز وجل: {بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} أي: الدهر إنما هو مخلوق لله عز وجل، فإنه يمر على الناس ويتقلب عليهم بإرادة الله سبحانه وتعالى، والناس يجعلون في هذا الدهر ويملئونه بما شاءوا، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، كما قال صلى الله عليه وسلم: {فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} . الجزء: 186 ¦ الصفحة: 25 القضاء والقدر أولاً: القضاء والقدر. فإذا نظرنا إلى المصائب التي تنزل بالأمة، نكبات، احتلال البلاد، تدمير، مشاكل تخلف، كل هذا بقضاء الله تعالى وقدره، وربما يذهب بعضنا إلى أن يستدل بالأحاديث الواردة في آخر الزمان، وما ينزل بالمسلمين والفتن وغربة الإسلام وما إلى ذلك. إن القضاء والقدر لم يمنع الكفار من أن يتقدموا، بعد أن بذلوا الأسباب واستفرغوا الإمكانيات ومشوا في الطريق، لم يمنعهم القضاء والقدر من أن يتقدموا، ويمشوا خطوات، والإنسان هو الذي يصنع واقعه بنفسه، والقضاء والقدر غيب مكتوم لا يعلمه إلا الله عز وجل، فهو سر لا يعلمه الإنسان المتخلف والمتأخر والمقصر، لم يعلم أن هذا قدره حتى نفذه، إنما عمله بنفسه، ثم بعدما وقع ما وقع احتج بالقدر، مثل ذلك تماماً: الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب وعلى المعاصي، فإذا كان الإنسان عاصي فاسق، هو بنفسه يخطو خطوات إلى الرذيلة، ويمد يده إلى الحرام، ويفتح فمه للقمة الحرام، ويلبس الحرام، ويركب الحرام، ومع ذلك إذا سئل لماذا؟ يقول: قضاء وقدر. يا سبحان الله! قضاء وقدر! هذا شأن المشركين، كما قال تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:148] وقال: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20] وقال أيضاً: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [يس:47] أربعة مواضع في القرآن الكريم، ذكر الله تبارك وتعالى فيها أن الاحتجاج بالقضاء والقدر على المعايب والمعاصي، إنما هو شأن الكفار والمشركين. أما المؤمن فيعلم أن القضاء والقدر واقع، وأن كل شيء بقضاء وقدر، لكن يجعل المسئولية مسئولية نفسه، كما قال أبونا آدم عليه الصلاة والسلام، عندما وقع في المعصية وأكل من الشجرة، لم يقل -هو ولا حواء- قضاء وقدر بل قال الله عنهم: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] ولذلك يقول بعض أهل العلم: من وقع في معصية فاحتج بالقضاء والقدر، ففيه شبه من إبليس، لأن إبليس لما رفض السجود احتج بالقدر، ومن وقع في المعصية فاستغفر وقال {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف:23] ففيه شبه من أبيه آدم ومن يشابه أباه فما ظلم. إذاً ليس صحيحاً أن يخطئ الإنسان ويحتج بالقدر، أو يقعد عن العمل ويحتج بالقدر، بل الواقع أن القدر غيب من غيب الله تعالى لا يعلمه إلا الله، والإنسان مطالب بأن يعمل ما ينفعه في عاجله وآجله في دنياه وآخرته، على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 26 الشيطان الأمر الثاني الذي نعلق عليه أخطاءنا هو: الشيطان. والشيطان مسلط على بني آدم لا شك في ذلك، وقد نهانا الله تعالى عن أن نتخذه وليا، وأمرنا أن نعاديه فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر:6] لكن -أيضاً- الشيطان لم يكن ليبلغ فينا ما بلغ؛ لولا أنه وجد عندنا قابلية، أي أن جرثومة الفسق والانحلال والطاعة للشيطان كانت موجودة في نفوسنا، فلما نفث الشيطان وأرسل أشعته المفسدة المضلة؛ وجدت قابلية وامتصاص في قلوبنا، وبالتالي أفرزت وأثمرت انحرافاً وانحلالاً، قال الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل:100] إذاً الشيطان لم يكن ليحقق فينا ما يريد، لولا أنه وجد عندنا استجابة، ولذلك الشيطان يوم القيامة يقوم خطيباً في أتباعه، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] انظر، الأمور يوم القيامة برحت وانكشفت وبانت، ولم يعد هناك مجال للتلاعب والتحايل واللف والدوران، أصبحت القضية مكشوفة {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} [إبراهيم:22] . إذاً الذي يحتج بكيد الشيطان قد أصاب من جانب فالشيطان يكيد، لكنه غفل عن الجانب الآخر؛ وهو أن القابلية لهذا الكيد موجودة عنده تماماً، مثل الجراثيم التي تنتشر -أحياناً- في الهواء، هذا إنسان قد أخذ تطعيم ضد هذا المرض فلا يضره ولا يؤثر فيه، ولكن إنسان آخر جسمه ضعيف هزيل أصلاً، فوجد قابلية وبالتالي فعلت الجراثيم فعلها فيه، وقد تكون أمرضته أو أردته صريعاً ميتاً. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 27 علاج عدم شعور الفرد بقيمته كيف نستطيع أن نشعر الفرد منا بقيمته؟ كيف نستطيع أن نحل هذه المشكلة؟ نستطيع أن نحلها بستة حلول أذكرها بإيجاز: الجزء: 186 ¦ الصفحة: 28 إعطاء الفرد دوراً في النقد والتصحيح خامساً: إعطاء الفرد دوره في النقد والتصحيح. فالابن والتلميذ والشخص والمواطن، والداعية يعطى دوراً في النقد، كما كان عمر رضي الله عنه، من أقوى الشخصيات، كان الشيطان يخافه حتى أنه يهرب منه، إذا رآه في شارع {ما سلك عمر فجاً، إلا سلك الشيطان فجاً غير فجه} الناس كانوا يهابونه، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يضطرب الواحد منهم إذا دعاه عمر، ومع ذلك كانوا يصححون له، ولعلكم تعرفون أمثلة كثيرة، مثل قصة الرجل لما قال عمر: أيها الناس اسمعوا وأطيعوا. قام واحد من الصحابة، وقال: لا يا عمر، لا سمع ولا طاعة. قال: لم يرحمك الله؟ قال: عليك ثوبان وعلينا ثوب واحد لا نسمع ولا نطيع. فقال عمر: أين عبد الله؟ فقال ابن عمر: ها أنا يا أمير المؤمنين. قال نشدتك الله من أين لي هذا الثوب؟ قال: والله هو ثوبي أهديته لك يا أمير المؤمنين، فقال الرجل: الآن قل يا عمر نسمع ونطيع. وتعرفون قصة المرأة -إن صحت- وقد حسنها السيوطي وغيره، لما وقف عمر، وقال: لا تغالوا في صدق النساء. فقامت امرأة وقالت: أخطأت يا عمر، إن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء:20] فيروى أن عمر قال: أخطأ عمر وأصابت امرأة. حتى على المنبر يعلنها ليس هناك مانع، لا ينقص من قدره، بالعكس مازالت الأجيال تتمدح. وتتمجد بهذه الأعمال الجليلة والمواقف التي تدل على الثقة بالنفس وقوة الشخصية. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 29 عدم المبالغة في العقاب على الخطأ سادساً: عدم المبالغة في العقاب على الخطأ، فإذا كان هناك داعية أو موظف أو ابن، أو أي نوعية من الناس لك به ارتباط ما، وقع منه خطأ؛ هنا يجب عدم المبالغة في العقاب على الخطأ، بالصورة التي تجعله في المرات القادمة يحسب ألف حساب، ويتولد لديه خوف شديد. فمثلاً: الأب الذي يعود أولاده على أنه يضربهم بقوة على أي خطأ، تجد هؤلاء الأولاد دائماً عندهم تردد وخوف وهيبة، فلا يقدمون على شيء أبداً، ليس لديهم ثقة بأنفسهم، قد يكبر الواحد منهم وليس عنده ثقة بنفسه؛ لأنه تربى على هذا الأمر. فينبغي أن نتنبه لهذه الأمور، وبعض هذه الأمور أمور تربوية يحتاج إلى أن تتربى عليها الأجيال، حتى يخرج عندنا أناس واثقون بأنفسهم. وفي نهاية هذه المحاضرة أقول -كما قلت في عنوانها-: نحن جميعاً وبشكل فردي المسئولون، مسئولية كبيرة عما يحدث لنا كأفراد، وعما يحدث للأمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها. أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم. وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 30 تحقيق الشورى ثانياً: من أهم الوسائل: تحقيق الشورى. أن نحرص على تحقيق الشورى، والشورى لها أثر عظيم في إشعار الفرد بقيمته، وذلك لأنك إذا استشرت الإنسان جعلته أمام مشكلة يفكر فيها ويحس أنه طرف فيها، الشورى على كل مستوى، خذ مثلاً: أنت تريد أن تربي أولادك، استشرهم في أمورهم، إذا أردت أن تشتري له ثوباً أو حتى لعبة أو أي قضية؛ اجعل له رأياً في هذا الموضوع، عوده على أن يساهم في التفكير في هذه القضايا، وألا يتعود على أن هناك أشياءً تفرض عليه وتقدم له فقط، لابد أن ننفذ الشورى، كذلك الأستاذ مع طلابه، الداعية مع من يدعوهم إلى الله تعالى يربيهم على المنهج الصحيح يربيهم على الشورى، وأن يكون الأمر أمرنا جميعاً، هذا شأننا كلنا، حتى لو فرض وقوع خطأ فيما بعد نتحمله جميعاً، ولا نرجع فنقول: أنت المسئول لأنك فعلت شيئاً باستبداد دون رأي منا ولا مشورة، فنحن جميعاً تشاورنا وانتهينا إلى هذا الأمر، فإن كان خطأً فنحن جميعاً مسئولون عن هذا الأمر الذي وقع. ولذلك لم يكن أحد أكثر مشاورة من الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه، مع أنه معصوم ومؤيد بالوحي من السماء، لكن ليعلم الناس أن من أهم وسائل إشعار الناس بقيمتهم؛ أن نشاورهم، ولذلك لا شيء يفقد قيمة الفرد مثل الاستبداد، إذا كان إنسان مفروض عليه كل شيء، حتى الثياب التي يلبسها، وحتى المدرسة التي يدخلها، والعمل الذي يقوم به، والكتاب الذي يقرؤه، والشريط الذي يسمعه، وكل شيء مفروض عليه وليس له فيه خيار، هنا يفقد الشخص قيمته كإنسان، ويصبح مجرد آلة. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 31 إشراك الناس في تحمل المسئولية ثالثاً: أن نحرص على أن نشرك الناس في تحميلهم المسئولية، في كل شيء، في الدعوة، في التعليم، في قضاء الوقت، ونجعل للسمع والطاعة حدوداً. المشكلة -أحياناً- أننا نخلط بين قضية السمع والطاعة، أو نجعل السمع والطاعة بديلاً عن تحميل الناس المسئولية، أنت في عمل معين، أستاذ أو مشرف في مركز صيفي، أو حلقة تعليم، أو في حلقة تحفيظ قرآن، أب في البيت -كما أسلفت- أي صورة من الصور، فرق بين أن يكون هم ك أن تعود من أمامك السمع والطاعة، لأن كثيراً من الناس يطيب له ويلذ له؛ أن يكون سيداً زعيماً إذا أشار قال الناس سمعاً وطاعة، يعجبه ذلك ويرتاح لهذا، لكن لا ينبغي أن ننساق مع هذا الأمر الذي نحبه. ينبغي أن ندرك أنه يجب أن نربي أناس يكون لهم مشاركة حقيقية في تحمل المسئولية، هذا له كذا وهذا له كذا، ولذلك بعض العقلاء الفاهمين المدركين لأمور الإدارة؛ تجده إذا كان عنده عمل يوزعه بين مجموعة من الأفراد، أنت عندك كذا وأنت عندك كذا، وبالتالي هو مجرد مشرف يتابع ما حدث، مثلاً رحلة يريد أن يخرج بها مجموعة، بدلاً من أن يكون هو كل شيء من الألف إلى الياء، هو الذي يعد البرامج الثقافية والفنية، وهو الذي يأتي بالأطعمة، وهو الذي يأتي بالأواني، وهو الذي منه السيارة، وهو الذي يحدد المكان، وهو الذي يحدد الزمان، بل اجعل كل إنسان له دور، وهو له دور آخر يمكن يكون مع هؤلاء جميعاً. فكل إنسان له جزء من المسئولية يتحملها. وبالتالي برزت شخصيته، أصبح إنساناً يشعر بقيمته، وليس مجرد شجرة صغيرة نبتت في الظل، ليس فيها قوة ولا نماء ولا خضرة. هذا لا يصح. مما يتعلق بموضوع تحمل المسئولية والمشاركة في ذلك، في نفس مثال: موضوع التعليم، الآن في كثير من الأحيان تجد التعليم يعتمد على أن واحد يتكلم والباقون يستمعون ويسجلون، حتى في الجامعات وغيرها، أو أستاذ يلقي والطلاب يكتبون. وفي النهاية يختبرون. إذاً لم يعد للطالب دورٌ ولم يعد له مسئولية، لكن عند السلف على الأقل كان الطالب يحفظ ويقرأ، وبالتالي له دور في التعليم، يشارك في العملية، يتحمل قسطاً من المسئولية، فضلاً عن قضية إعداد البحوث، فضلاً عن التدريس -أحياناً- حتى الطالب يشارك في التدريس، كما كانوا يسمونه عند السلف معيداً؛ لأنه يلقي الدرس بالنيابة عن الشيخ، فيكون هناك مشاركة في تحمل المسئولية. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 32 التربية على الإقدام وعدم الخوف من الفشل رابعاً: التربية على الإقدام ونزع الخوف من الفشل. كثير من الأحيان، الإنسان يستطيع أن يعمل أشياء كثيرة، لكن يمنعه الخوف من الفشل. مثال: تريد أن تتكلف أمام مجموعة من الناس نصيحة كلمة توجيهية، أول أمر يخطر بالبال هو أنه يمكن أن تفشل، عندما تقف تغلق الأبواب في وجهك فلا تستطيع أن تتكلم في شيء، يرتج عليك، أو تقول كلاماً خطأً أو ترتبك، إذاً خوف الفشل يدعوك إلى الإحجام، قل مثل ذلك أي عمل، علم دعوة تجارة، تجد الإنسان يمنعه الخوف من الفشل من الإقدام على هذا العمل، والواقع أن الإنسان يحتاج إلى قدر من الإقدام، والجرأة والشجاعة مع الضبط والحكمة والتخطيط السليم، والإعداد الجيد، حتى يبني نفسه بناءً صحيحاً، ويشارك في تحمل المسئولية مشاركة فعالة. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 33 الشعور الجماعي بالمسئولية أولاً: إن من الضروري أن نشعر بالمسئولية جميعاً، وأن نحس بالمسئولية، وأقول: لو خرجنا من هذه المحاضرة وكل فرد منا يحس بأنه مسئول، أعتبر أن هذا مكسب عظيم ونتيجة جبارة، وهذا أمر واضح؛ لأن الأمر كما قرأت لكم {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدا} [مريم:93-95] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن عمر وهو متفق عليه: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته} فلم يستثن صلى الله عليه وسلم أحداً حتى المرأة، حتى الولد، حتى العبد راع في مال سيده وهو مسئول عن رعيته، الجميع راع ومسئول عن رعيته، إذاً القضية الأولى: أن نشعر جميعاً بالمسئولية تجاه ما يقع في القريب أو البعيد ولابد من ذلك. الجزء: 186 ¦ الصفحة: 34 من وسائل التعلم القدوة أمرٌ هام في حياة طالب العلم الذي أصبح اليوم وكأنه لا قدوة له، وطلب العلم الذي يعد في عصرنا اليوم معلماً هاماً من معالم الحاضر ومؤشراً صحيحاً في طريق المستقبل استدعى جهوداً كبيرة من العلماء والمربين والمخلصين في هذا الاتجاه، والعلم ليس باباً واحداً يدخل منه وإنما هو أبواب وأشكال مختلفة له وسائله وضوابطه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 1 الشباب وطلب العلم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا نجوماً يهتدى بهم في الظلمات، والذين كانوا يهدون بالحق وبه يعدلون، والذين حملوا مشعل الهداية للبشرية، فهدى الله بهم من الضلالة، وبصَّر بهم من العمى، وجمع بهم بعد الشتات والفرقة. أيها الإخوة: إن هذا الإقبال الكبير على طلب العلم لدى شباب الصحوة الإسلامية في كل مكان، يحتم على طلاب العلم والموجهين والعلماء وغيرهم طرق هذه الموضوعات، والحديث عنها، وتبصير الشباب بالوسائل والسبل الصحيحة المؤدية إلى تحصيل العلم والمحافظة عليه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 2 من وسائل التعلم الفطرية أيها الإخوة: والوسائل للتعلم كثيرة: يروى عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه كان يقول: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ثم يذكر هذه الست، ويقول: ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان وهذه الأشياء الستة ذكرها الإمام أبو هلال العسكري في كتابه الحث على طلب العلم بصيغة أخرى فنسب إلى بعض القدماء، أو بعض الأوائل، أنهم قالوا: لا ينال العلم إلا بستة أمور. وذكر من هذه الأمور: الذهن الثاقب، وكثرة العمل، وطول الزمان، والأستاذ الحاذق وذكر بقية الستة المتعلقة بالبلغة، وشهوة العلم، هذه الأمور الستة المنقولة عن الإمام الشافعي، وعن الإمام علي بن أبي طالب أيضاً، والتي نسبها الإمام أبو هلال العسكري لبعض الأوائل يمكن أن نقسمها إلى قسمين: أشياء فطرية موهوبة، بمعنى أنها أشياء موجودة في فطرة الإنسان، تُخلق مع الإنسان وهي محض مِنَّةٍ، وهبة إلهية، وإن كان الإنسان قد يستطيع أن ينميها، لكن لا بد أن يوجد أصلها في فطرة الإنسان، وجبلته، وهي الذكاء، وقوة الذاكرة، والحرص، فهذه الأشياء الثلاثة هي في الغالب موهوبة. والمقصود بالذكاء، أو ما عبر عنه بعض الأوائل بالذهن الثاقب: هو ما يمكن أن نعبر عنه بقوة الاستنباط، وسعة العقل، فإن الإنسان الذي يريد أن يحصل على العلم لابد أن يكون لديه قوة في عقليته، وقدرة على الاستنباط، هذه الأولى. الثانية: هي ما عُبِّرَ عنها بالذاكرة، ويقصدون بها قوة الحفظ، وقد عبر عنها أبو هلال بكلمة الطبيعة -أي: الشيء الذي يطبع عليه الإنسان- فقوة الذاكرة لابد منها لطالب العلم، والفرق واضحٌ جداً بين قوة الاستنباط، وبين قوة الذاكرة، فقد يستطيع طالب العلم أن يحفظ نصوصاً كثيرة، وأن يستظهرها؛ ولكن ما لم يكن لديه قوة في الاستنباط، والفهم، والعقلية، بحيث يستطيع أن يجمع بين هذه النصوص، ويستخرج منها معنىً كلياً عاماً ويوفق بين مظاهره، وما تعارض منها ويستخرج منها معانٍ دقيقة قد لا يتفطن لها غيره، فإن هذه الأشياء التي حفظها لا تكون كافيةً في تحصيله. والعكس بالعكس فقد يكون لدى الإنسان قوةً في استنباطه، لكن لا يكون لديه النصوص التي يستطيع أن يستنبط منها ويستخرج منها المعاني والأحكام، ويجمع بينها، ومع أن الذاكرة، أو قوة الحفظ هي محض امتنان، وتفضل من الله عز وجل، إلا أن الإنسان يستطيع أن ينمي ذاكرته. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 3 القصد والغاية من طلب العلم أنت حين تتعلم الحلال والحرام، والحق والباطل ماذا تقصد من وراء ذلك؟! هذا السؤال أرجو أن يوجهه كل فردٍ منكم إلى نفسه، تعلُّم الحلال والحرام، والحق والباطل، والخير والشر، ماذا يقصد من ورائه؟ إن كان يقصد من ورائه العمل والتعليم، من تعلِّمه أن تُعلِّم نفسك وتقبل على العبادة، وعلى الخلق الفاضل والتربية، فهذه ثمرة عظيمة من ثمرات العلم، فيجب ألاّ تشتط بنا النظرات وردود الفعل، فيصبح الإنسان أحياناً ينساق وراء بعض الأشياء دون تأمل، ولا تدبر، فالعلم معنى واسعٌ شامل. فالتربية من العلم، وتعلم الخلق الفاضل، وتعلم العبادة والخشوع، وتعلم الحلال والحرام، وحفظ القرآن كل ذلك من العلم، والعمل بهذه الأشياء من العلم، والدعوة إليها من العلم. ولو تأملت أسلوب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في تلقي العلم وتعليمه والعمل به لوجدت أمراً عجباً، يأتي الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، أو إلى مكة قبل الهجرة، فيجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً فيسمع منه الآيات والأحاديث المعدودة ويحفظها ويفهم معناها، ويعمل بها، ثم يرجع إلى قومه منذراً لهم معلماً داعياً، ولا يعني هذا أنه توقف عند هذا الحد، بل يعود مرةً أخرى، وثالثة، ورابعة، ويتزود من العلم، ومنهم من يوقف نفسه على طلب العلم تعلمه وتعليمه، لكن لم يكن في ذهن هؤلاء الصحابة أن العلم شيءٌ والتعليم شيءٌ، والتربية شيء! لا، كل هذه الأشياء كانت عندهم شيئاً واحداً. ولذلك تحفظون -جميعاً- كلمة أبى عبد الرحمن السلمي رحمه الله التي قال فيها: [[كان الذين يقرئوننا القرآن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يتجاوزون بنا عشر آيات حتى نتعلم معانيهن، والعمل بهن، فتعلمنا العلم والعمل جميعاً]] . إذاً: العلم والعمل شيءٌ واحد، والعلم أصلاً ما شرف إلا من أجل العمل، خاصةً العلم العملي الذي يعمل به، وكذلك علوم العقائد شرفت بشرف المعلوم، ولأجل أن يعتقدها الإنسان، أما لو تعلم إنسان هذه العلوم فلم يعتقدها، ولم يؤمن بها، لكانت وبالاً عليه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 4 ضرورة التوازن في شخصية طالب العلم أيها الإخوة: وقبل أن أدخل في موضوع الوسائل التي يستطيع المسلم والشاب خاصةً، أن يحصل بها على العلم أحب أن أشير إلى قضية على درجةٍ كبيرةٍ من الأهمية، ألا وهي: قضية ضرورة التوازن في شخصية المسلم، فالله سبحانه وتعالى لم يخلقنا من أجل أن نحصل المعلومات ونخزنها في عقولنا فحسب، والإنسان لا يرتفع قدره في الدنيا والآخرة بمجرد أن يكون واعياً، أو راوياً أو حافظاً، وقد قيل لأحد العلماء: إن فلاناً يحفظ كتاب القاموس المحيط في اللغة للـ الفيروز آبادي فلم يكترث ولم يأبه بذلك بل قال: وإذا حفظ فلانٌ كتاب القاموس المحيط في اللغة كان ماذا؟ زاد في نسخ القاموس نسخة!! إذاً: من الخطأ أن يكون همنا اليوم مجرد جمع المعلومات وخزنها وتحصيلها، وإذا كان هم الشاب اليوم مجرد جمع المعلومات، فإنه يُخشى أن يكون هذا لغير الله -نسأل الله السلامة- لأن الشاب يحب أن يفاخر في المجالس بمحفوظاته، أو أن يدل بها على غيره، أو أن يباهي بها العلماء، أو يماري بها السفهاء، أو يصرف بها وجوه الناس إليه، فيكون همه جمع هذه المعلومات، وأنت إذا قرأت في القرآن والسنة وكتب أهل العلم وجدت أن العلم عند السلف يختلف كثيراً عن مفهوم العلم عندنا اليوم، وفى أذهان الكثير منَّا ليس مفهوم العلم في القرآن والسنة، وعند العلماء هو مجرد كثرة المعلومات، والمحفوظات في ذهن الإنسان. بل العلم في القرآن والسنة، وفي كتب السلف مفهومٌ واسعٌ يشمل تعلم علوم الكتاب والسنة، والتفقه فيها، والعمل بها، والخشوع والدعوة إليها، كل هذه الأشياء داخلةٌ في مفهوم العلم، ولو أردتُ أن أذكر لكم بعض الأمثلة من الآيات والأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين في هذا الباب لطال بنا المقام، ويكفي أن ترجع إلى كتاب من كتب أهل العلم لتجد هذا واضحاً جلياً: اقرأ -مثلاً- المقدمة التي وضعها الإمام الدارمي لكتابه الموسوم بالسنة، واقرأ كتاب جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله للإمام ابن عبد البر، وغيرها من الكتب الكثيرة التي تتحدث عن العلم والتعلم والفقه والتفقه، تجد أن العلم في القرآن والسنة وعند السلف لا يعني مجرد تحصيل المعلومات؛ بل يشمل معنى أوسع من ذلك، ومع الأسف الشديد كثير من الشباب اليوم حين يطلقون كلمة العلم لا يقصدون بها إلا مجرد حقن المعلومات في الأذهان. يقول الشاب -مثلاً-: أنا لم أحصل من العلم على شيء، فإذا جئت إليه وجدته قد حفظ القرآن، ويقول: لم أحصِّل من العلم شيء، إذاً فما هو العلم إن لم يكن القرآن هو أساس العلم وأصله، وماذا يكون القرآن إن لم يكن علماً، ألم تقرأ قول الله عز وجل عن القرآن: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] . وكذلك تجد الشاب مقبلاً على العبادة، والخشوع، والصلاة، وقيام الليل، ويقول: لم أحصل على شيء من العلم. وتجد شاباً ثالثاً يعيش في وسط مجموعة من قرنائه، وأصحابه الفضلاء يتلقى معهم التربية، وفن المعاملة، وأسلوب التخلق بالخلق الكريم، فيقول: لم أحصل على شيءٍ من العلم. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 5 القدوة لطالب العلم وللشاب المسلم -وهو يسعى في طلب العلم اليوم- أسوة وقدوة بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، والذين كان منهم شبابٌ في مقتبل أعمارهم قضوا حياتهم في طلب العلم وتحصيله والعمل به، ثم في أدائه ونقله إلى الآخرين. يروي الإمام الدارمي في سننه وعبد الله بن الإمام أحمد في زوائده على كتاب فضائل الصحابة، وابن سعد والبيهقي، والحاكم وغيرهم بسند صحيح، عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهبت إلى رجل من الأنصار، فطرقت عليه بابه وقلت له: هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا العلم، فإنهم اليوم كثير. فقال له هذا الأنصاري: واعجباً لك يا ابن عباس! أتظن الناس يحتاجون إليك، وفى الأرض اليوم من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هذا الجم الغفير، قال: فتركته وذهبت أطلب العلم، وإنه ليُذْكر لي الحديث عند رجلٍ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأذهب إليه، فأجده نائماً وقت القيلولة، فأتوسد ردائي عند بابه، فتهب الريح فتسفي عليَّ التراب، فيقوم خارجاً ليصلي العصر، فيجدني نائماً عند بابه فيقول: ما الذي جاء بك يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأقول له: ذُكرَ لي أن عندك حديث كذا وكذا، فأحببت أن أسمعه منك، فيقول: فهلاّ أرسلت إلي فآتيك؟ فأقول: العلم أحق أن يؤتى إليه، قال: فتعلمت حتى مات كثيرٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واحتاج الناس إليَّ، فكان ذلك الرجل الأنصاري يمر بي والناس حولي يسألونني، فيقول لي: يا ابن عباس! كنت أعقل مني]] . وللشاب المسلم اليوم أسوةٌ وقدوة بهذا الحبر الإمام عبد الله بن عباس رضي الله عنه، الذي لم تمنعه مكانته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يمنعه علوُّ نسبه وعلوُّ قدرهُ ولم يمنعه تقديم الخلفاء له كما كان عمر رضي الله عنه يقدمه ويُجلسه في مجالس المهاجرين والأنصار، لم يمنعه كل هذا من طلب العلم، والتواضع في سبيل ذلك. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 6 وسائل تنمية الذاكرة وتقويتها وقد ذكر العلماء قديماً وحديثاً وسائل كثيرة لتنمية الذاكرة، وتقويتها فمن هذه الوسائل مثلاً: الجزء: 187 ¦ الصفحة: 7 رفع الصوت ومن الوسائل المعينة على الحفظ -أيضاً- رفع الصوت بما تريد أن تحفظه، أو تقرأه، فإن رفع الصوت يجعل هناك أكثر من حاسة تشارك في عملية التعليم، فالبصر يشارك في القراءة، والأذن تشارك في السماع، وقد يكون انتباه الإنسان لما يرى ويسمع، أكثر من انتباهه لما يقرؤه قراءةً مجردة بدون رفع صوت. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 8 السهر من الوسائل المعينة على الحفظ: السهر ولذلك من طريف ما يروون، أن أبا حنيفة رحمه الله سُئِلَ ما هو الشيء الذي يقوي الذاكرة؟ فبماذا أجاب أبو حنيفة؟ القدماء كان يشيع عندهم أقاويل قد لا تثبت للنقد الصحيح أنَّ -مثلاً- شُرب العسل، يقوي الذاكرة، وكذلك أكل ألوان معينة من الطعام، وأن ترك أشياء معينة من الطعام والشراب -أيضاً- يساعد على الحفظ، فيقولون: إن أكل التفاح -مثلاً- يضعف الذاكرة وكل هذه الأشياء تحتاج إلى دراسة طبية صحيحة، تثبت إن كانت هذه الأشياء حقيقية أم لا وقد تكون هذه الأمور نسبية، وقد يكون بعضها غير صحيح، فـ أبو حنيفة رحمه الله لما سُئِلَ ما الذي يقوي الذاكرة؟ أجاب بجواب طريف قال: الذي يقوي الذاكرة هو: البزر، والبزر هو نوع معين من النبات يستخرج منه الدهن، ويقصد أبو حنيفة رحمه الله هذا الدهن الذي توقد عليه السرج في الماضي، أي: الذي يقوي الذاكرة، هو السهر في طلب العلم، ولعله يقصد بهذا الجواب أمرين: أولاً: أن التكرار والتفرغ للقراءة يقوي الذاكرة. ثانياً: ما أشرنا إليه قبل قليل أن استمرار الإنسان في الطلب يوسع من ذاكرته وعقليته كما أشار إلى ذلك الزهري، في كلمته السابقة. إذاً: قوة الذاكرة، من الوسائل الموهوبة لتحصيل العلم. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 9 شهوة العلم من الوسائل الموهوبة هي: شهوة العلم، أو ما عبر عنه الشاعر بالحرص على طلب العلم والحرص -أيها الإخوة- في غاية الأهمية ولذا يلاقيني -في واقع الحياة كثير- من الأشخاص يكون لدى الواحد منهم عقليةً ممتازة، وذاكرةً جيدة، حتى إنه قد يقرأ مثلاً رقم السيارة مرة واحدة فيحفظه بدون تكلف، وقد تجد الواحد منهم يحفظ مئات أو آلاف من أرقام التليفونات وغيرها، وتجد الواحد منهم يتمتع بقدرات قوية، جداً؛ لكن مع ذلك تجد هذا الشخص يعيش على الهامش -كما يقولون- ليس له قيمة ولا شأن فتبحث لماذا؟ فتجد أن: الشرط الأول: موجود عنده، وهو: قوة الاستنباط ووجود عقلية ممتازة لديه. والشرط الثاني: وهو الذاكرة القوية موجودة عنده أيضاً. ولكن اختفى عند هذا الشخص الشرط الثالث: وهو الحرص أو شهوة العلم. والمقصود بشهوة العلم أن يكون لدى الإنسان رغبةً نفسية في الطلب والتحصيل، ولا شك أن الإنسان يستطيع أن يُنمَّي هذه الرغبة، وخاصة المسلم حينما يقرأ النصوص الواردة في فضل العلم والعلماء، ومكانتهم في الدنيا والآخرة، فتنمو لديه هذه الرغبة؛ لكن ما لم توجد الرغبة أصلاً فإن هذا الإنسان قد لا يواصل في طلب العلم، وقد لا يبلغ فيه مبلغاً عظيماً، فوجود رغبة فطرية في طلب العلم، شرطٌ أساسيُ وهذا الشرط يحقق لك فوائد عديدة منها: أنه يحقق لك سرعة التحصيل، لأن الإنسان إذا كان لدية شهوةً في تحصيل هذا الأمر، فإنه يصل إلى ذهنه سريعاً. وأضرب لذلك مثلاً: لو اُفترض أن مسألة ما أشكلت عليك وأنت -مثلاً- تؤدي عبادة من العبادات، وقعت في خطأ أو في مشكلة لا تعرف كيف الخلاص منها، ولا تعرف حكم الله وحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فهنا وجد ما يسميه علماء التربية، وعلماء النفس المعاصرون " بالدافع " وجد دافعٌ نفسي عندك للتحصيل ومعرفة الحكم؛ فهذه الشهوة لتحصيل العلم، تجعلك حين تعرف الحكم تحفظه، ولا تنساه؛ لكن لو سمعت كلاماً طويلاً عريضاً في موضوع لا يهمك فسرعان ما تنسى هذه المعلومات، وتضيع منك. إذاً: فشهوة العلم والحرص الحقيقي للعلم يحقق لك أولاً: سرعة التحصيل. ثانياً: ضبط وحفظ المعلومات الموجودة لديك، ولذلك فإن المعلم الناجح هو من يثير لدى الطالب الدافع الفطري للتحصيل، وأنتم تعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستعمل هذا الأسلوب كثيراً، من ذلك ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاةٍ، وصيامِ، وصدقةٍ، وحجٍ، ويأتي وقد ضرب هذا، وشتم هذا، وسفك دم هذا، وأخذ مال هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار} . مثال آخر حديث: {ألا أنبئكم بأكبر الكبائر} وهناك مثال آخر مشهور، وهو ما رواه الشيخان في صحيحيهما في قصة عبد الله بن عمر، لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه وسألهم قائلاً: {إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها مثلها مثل المسلم، أخبروني ما هي؟ فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: فوقع في نفسي أنها النخلة، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم، فاستحييت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة، قال: يقول عمر رضي الله عنه: والله لو أنك قلتها لكان أحب إليَّ من كذا وكذا} . المهم أن إثارة الدافع لدى المتعلم من أهم الوسائل في التحصيل، فهذا من فوائد وجود شهوة العلم، والرغبة في التحصيل. ومن الفوائد أيضاً: قدرة المتعلم على تجاوز العقبات، لأن العلم يعترض تحصيله عقبات كثيرة، منها: عقبات من داخل النفس، وعقبات من البيت، وعقبات من المجتمع، وعقبات كثيرة، فالإنسان يتحرك بقدر الدافع، فإذا كان الدافع قوياً يمكن أن يتحرك الإنسان في طلب العلم إلى الموت، ولذلك سُئل عبد الله بن المبارك رحمه الله، وكان يحمل الدفاتر وينقل ويكتب العلم طيلة عمره، فقيل إلى متى يا عبد الله؟ قال: إلى الموت لعل الكلمة التي سأستفيد منها لم أسمعها بعد. وهذا تطبيق عملي لقول الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] إذاً هذه ثلاث وسائل، هي في أصلها موهوبة، وإن كانت تنمى وتقوى لمن كان معه أصلها. ننتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي هي من عمل الإنسان وكسبه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 10 توجيه الهم إلى شيء واحد تفريغ الهم أو توجيه الهم إلى شيء واحد: بمعنى أن الإنسان إذا أراد أن يحفظ شيئاً عليه أن يحرص على توجيه فكره وهمه إلى هذا الشيء الذي يريد أن يحفظه، فلو أردت أن تحفظ وأنت مشغول البال -مثلاً- بأمرٍ يفرحك، أو أمرٍ يحزنك، أو يشغل بالك، أو في حالة غضب، فإنك لا تستطيع أن تحفظ، أما إذا كان مزاج الإنسان معتدلاً ونفسه مرتاحة، ثم فرغ نفسه من الشواغل، ووجه نفسه إلى هذا الشيء الذي يريد حفظه، أفلح في حفظه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 11 التعود على الحفظ ومن وسائل الحفظ وتنمية الذاكرة، تعويد الإنسان نفسه على الحفظ، فإن الذاكرة كأي موهبةٍ أخرى إذا اعتني بها نمت وإذا أهملها الإنسان ضمرت وضعفت، وهكذا كل الأعضاء التي عند الإنسان إذا نماها نمت، وإذا أهملها ضعفت، ولذلك كان الإمام الزهري رحمه الله يقول: " إن الإنسان ليطلب العلم وقلبه شعب من الشعاب، فما يزال في الطلب حتى يكون قلبه وادياً من الأودية، لا يوضع فيه شيءٌ إلا التهمه " أي أن القلب في بداية الطلب شعبٌ صغيرٌ من الشعاب، ومع استمرار الطلب، والحفظ، وتكرار الحفظ، وتعويد الذاكرة، ينمو قلب الإنسان، وعقله، وتتسع ذاكرته، ويصبح لديه قدرة على الحفظ. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 12 التكرار سمعتُ كثيراً من الشباب يتبرمون من ضعف الذاكرة، ويظن الواحد منهم أن الذاكرة القوية التي يتمتع بها غيره هي ذاكرة جبارة على الدوام، وأن هؤلاء الموصوفين بسرعة الحفظ يسمع الواحد منهم النص مرة ثم يحفظه أبداً، وهذا قد يوجد لكن الغالب أغلبية كبيرة أن الموصوفين بالحفظ، إنما يكون عندهم نوعُ تميزٍ بالحفظ نمى هذا التميز بكثرة المحفوظات، وبتكرار ما يريدون حفظه. هل تظن أيها الشاب أن قراءتك -مثلاً- لكتاب ما مرة واحدة يكفي لتفهم ما في هذا الكتاب! أقول: من الخطأ أن تظن ذلك وكبار العلماء والأدباء وغيرهم يؤكدون أن الشيء لا يُحفظ أو يُضبط بمرة أو مرتين أو ثلاث. كان العقاد الأديب المشهور يقول: " لأن أقرأ كتاباً واحداً ثلاثة مرات أحب إلي من أن أقرأ ثلاثة كتبٍ مرة واحدة " لأن تكرار قراءة الكتاب أو النص تُعين على ضبطه، أو حفظه، ولا بد أن تدرك أن من أهم وسائل الحفظ تكرار ما يراد حفظه، والتكرار يختلف، فبعضنا قد يحفظ من عشر مرات، وبعضنا قد يحفظ من عشرين، وبعضنا يحفظ من أكثر من ذلك، وكل إنسانٍ عليه أن يكرر الشيء الذي يريد أن يحفظه حتى يحفظه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 13 وسائل التعلم التي هي من عمل الإنسان وكسبه الجزء: 187 ¦ الصفحة: 14 طول الزمان طول الزمان، وهذه الوسيلة -أيها الشاب- يجب أن نقف عندها، فإني رأيت بعض الإخوة من حرصهم على العلم، وعلى التحصيل، وعلى دفع الجهل عن نفوسهم، ومن ملاحظتهم أن الناس من حولهم بدءوا يتعلمون، أصبح الواحد منهم لديه اندفاع غريب لتحصيل العلم، هذا الاندفاع تحطمت أمامه قضية التدرج وقضية عامل الوقت؛ بحيث أصبح الشاب يريد أن يجمع العلوم كلها في يوم وليلة، وقد نقل عن بعض الأذكياء أنه كان يقول: من أراد أن يحصل على العلوم كلها فيجب على أهله أن يداووه فإنما وقع في هذا التصور لشيء اعتراه، فهذا الرجل يصف الذي يحرص على تحصيل العلوم كلها في يوم وليلة، بأنه أقرب إلى الجنون، وأنه يجب على أهله أن يعالجوه من ذلك، وهذا المعنى يجب أن يفطن له الشباب، فلا بد من طول زمان لتحصيل العلم، والعلم الذي يأتي بسرعة يذهب بسرعة، ومن غير المعقول أن يحصل الشاب على ألوان وأنواع العلوم في أشهر، أو في سنوات، وإنما يتصور بعض الشباب هذا لسبب وهو جهلهم؛ فإن الإنسان الذي يجهل العلم يظن أن العلم أمراً يسيراً أما إذا تفتح الإنسان على بعض العلوم بدأ يدرك أن العلم بحر ليس له ساحل، وكلما ازداد الإنسان علماً كلما ازداد معرفةً بجهله، كما قال الشاعر: وكلما ازددت علماً ازددت علماً بجهلي أي أن الإنسان إذا عرف أشياء بدأ يطلع على ما لا يعرف، فإذا قاس نسبة ما يعرف إلى ما لا يعرف، أدرك أنها ضئيلة جداً، فيكون لديه أولاً تواضع ومعرفة بأنه ليس بعالم، ومعرفة إلى أنه بحاجةٍ إلى وقتٍ طويل حتى يحصل على العلم الكثير. إذاً: لابد أن تراعي -أخي الشاب- قضية التدرج، وطول الوقت، وأن العلم يثبت بالعمل، والتربية والتعليم، فتعلم شيئاً فشيئاً، وما تعلمته فانزل به في ميدان الواقع وطبقه، وأدع الناس إليه، وإذا مت في هذا السبيل، فأنت مجاهد إن شاء الله، أما أن يغلب عليك طابع جمع المعلومات، بل أحياناً في جانبٍ واحد من جوانب العلم، وهو: من أجل أن أفتِ الناس، أو من أجل أن أكون عالماً مرموقاً مشاراً إليه فنسأل الله السلامة من ذلك. إخوتي الشباب: إن الوسائل التي سبقت هي أصول لابد منها، لكن هناك وسائل خاصة مهم أن أشير إليها في هذه العجالة. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 15 البلغة والوسيلة الثانية هي: البلغة: والمقصود بالبُلغة هو أن يكون الإنسان منصرفاً إلى العلم غير مشتغل بالدنيا اشتغالاً يلهيه عن طلب العلم، وهذا يستلزم أن يكون لدى الإنسان وسيلة للعيش وللكسب توفر عليه وقته، وأصل ذلك هو أن يكون هم الإنسان واتجاهه إلى العلم فلا ينشغل مثلاً بالزوجة، ولذلك كان بعض السلف يقول: إن العلم يضيع في أحضان النساء، فالإنسان الذي يشتغل بزوجه، -مثلاً- ويطيل البقاء في البيت، ويأنس كثيراً بالجلوس إلى أهله يضيع كثيراً من عمره، وينسى كثيراً من علمه، وكذلك الإنسان الذي يشتغل بأمور الدنيا. وهاهنا لابد من كلمةٍ سريعة: لو نظرنا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنهم كانوا يشتغلون بأمور دنياهم، وأمور مكاسبهم ومعايشهم التي يحتاجون إليها، بل قبلهم كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كذلك، ومن الأشياء التي كان المشركون يعيرون بها النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقولون: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7] فليس المقصود بالبُلغة، أو الاشتغال بالعلم: الانقطاع عن الدنيا أبدا، وإنما المقصود ألا يكون الإنسان منصرف الهم إلى الدنيا، بمعنى أن الإنسان الذي يوجد لديه طموح لتنمية الثروة، وأن يكون من الأثرياء المرموقين، ويصرف وقته، في هذا الأمر غالباً لا يحصل على العلم، لكن ليس دائماً. عبد الله بن المبارك رحمه الله من أئمة العلماء وجهابذتهم، ومع ذلك كان من كبار التجار وله في ذلك قصص وأخبار عجيبة. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 16 صحبة الأستاذ بلا شك أن الأستاذ يؤثر تأثيراً بالغاً في طلابه، ولذلك فإن اختيار الطالب للأستاذ الذي يتلقى عنه العلم أمر في غاية الأهمية، وأقول: إذا عرفنا أن العلم ليس مجرد حقن للمعلومات في الذهن، أدركنا أن الطالب في الغالب هو صورة عن أستاذه، ولو تأملت لوجدت ذلك ظاهراً جلياً في العلماء، انظر في تلاميذ الإمام أحمد تجدهم صورةً مصغرة عن هذا الإمام، في العلم والزهد والورع، والاتباع، وانظر إلى تلاميذ الإمام ابن تيمية رحمه الله، كـ ابن القيم مثلاً، وابن عبد الهادي، والمزني وابن كثير إلى آخره تجد أيضاً التأثر الكبير بالشيخ والأستاذ، فبصمات الشيخ تظهر واضحة في التلميذ. وأنت لو تأملت في الواقع، تجد أن الذين تتلمذوا على الأشياخ الأجلاء الكبار في هذا الزمان، صار الواحد منهم نسخةً عن أستاذه في كثيرٍ من الأشياء! يحدثني أحدهم: أن هناك شيخاً فاضلاً في أحد البلدان الإسلامية، كان فيه بحة في صوته فكانت هذه البحة تظهر لا شعورياً في كثيرٍ من طلابه، ومثال ذلك: حركة اليد فتجد كثيراً من طلابه يسلكون نفس الطريقة، وخاصةً حين يكون الشيخ ذا شخصيةٍ قوية مؤثرة في طلابه، فتجد هذه الشخصية منطبعة في نفوس الطلاب، وهذا يدعوك إلى أن تدرك أن قضية التتلمذ ليست قضية أخذ معلومات مجردة، بل قضية التتلمذ قضية تربية، وتعلم، وقضية تكوين شخصية التلميذ بإشراف الشيخ، وهذا يؤكد خطورة وأهمية الأخذ عن الشيوخ الذين يتميزون بالتكامل في شخصياتهم، ويؤكد أيضاً أن الطالب ينبغي أن ينوع من أشياخه. ولذلك روى الدارمي عن أيوب السختياني أنه كان يقول: "إذا أردت أن تعرف خطأ شيخك فجالس غيره". ومن الخطأ أن يكون التلميذ باحثاً عن عيوب الشيخ وليس المقصود ذلك، إنما الشيخ مهما يكن من الكمال؛ ففيه نقص، والنقص من طبيعة البشر، فإذا جالست هذا الشيخ، وذاك، وثالثاً، ورابعاً واستفدت منهم جميعاً فإنك تستطيع أن تتلافى، وتتخلص من الأخطاء الموجودة لدى كل واحدٍ منهم، أما لو اقتصرت على شيخٍ واحد، فإنك قد تتأثر بخطئه، وهذا لا يقصد به أبداً أن لا يتلقى الإنسان عن شيخٍ واحدٍ بصفةٍ أكثر مما يتلقى عن غيره، خاصةً قضية التربية. وأنا أقول: -من وجهة نظري- وأعتقد أنها صحيحة وهي: أن التلقي عن الشيخ ينبغي أن يكون باختيار أحد أساتذتك سواء كان هذا الأستاذ معلماً في المدرسة أو مشرفاً في المركز، أو أستاذاً لحلقة تحفيظ القرآن في الحي -مثلاً- أو غير ذلك، بحيث تقترب منه، وتقتدي به في أعماله الخيرة الصالحة، وتأخذ عنه العلم، وتستفيد من رأيه وشخصيته، ومن علمه، وعبادته، وهذا هو المفهوم الصحيح للأخذ عن الشيوخ. إذاً: فلابد من اختيار الشيخ أو الأستاذ، ولابد من مصاحبته، وبقدر تقصير الإنسان في الأخذ عن الشيوخ ينقص من علمه ومن تربيته. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 17 وسائل مهمة في طلب العلم من الوسائل الخاصة التي يجب على الشاب أن يسلكها في تحصيل العلم: الجزء: 187 ¦ الصفحة: 18 سؤال العلماء ومن الوسائل المفيدة للتعلم: سؤال العلماء، فأنت حين تقرأ مثلاً، أو تسمع درساً أو محاضرة تدور في ذهنك أسئلة كثيرة جداً، فعليك أن لا تدع هذه الأسئلة تضيع، وإذا أشكل عليك أمر أو سؤال فسجله، ويا حبذا أن تكون الأسئلة مصنفة، فالفقه على حدة والتفسير ووهكذا، وهذه الأسئلة التي تسجلها احرص على أن تسأل عنها أهل العلم، سواءً بصفةٍ مباشرة، أو بواسطة الهاتف، وهو أيضاً من الوسائل التي يستفيد منها الطالب، وإذا حرص الطالب، على هذه الوسائل كلها فسوف يستطيع أن يحصل بإذن الله على علم كثير، مع أن فائدة العلم هي: في العمل، والانكسار، والتطبيق، والخشية. ونسأل الله أن يجعلني وإياكم من العلماء العاملين، وأن يرزقني وإياكم الاحتساب في طلب العلم والصدق والإخلاص، وأن يوفقني وإياكم لصالح العمل، وأستغفر الله، وأصلي على عبده ونبيه ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 19 الاجتماع على العلم فإن الاجتماع على العلم بركة، ومدارسة العلم مع مجموعةٍ تحرك الذهن والعقل، وتفيد الإنسان علماً جديداً، وهكذا كان السلف يوصون بتدارس العلم، وإثارته بالمساءلة والمناقشة، ومن السهل جداً على أي شاب منكم أن ينظر في مجموعةٍ من إخوانه في مسجده أو في مدرسته أو غير ذلك، ويلتقي معهم باستمرار، ويتدارس معهم ألواناً وألواناً من العلوم. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 20 الاستفادة من القدرات الشخصية من الوسائل المهمة في تحصيل العلم: الاستفادة من القدرات الشخصية -أي الجهد الشخصي في طلب العلم- فقد شاع لدى كثيرٍ أن العلم لا يمكن تحصيله إلا عن طريق شيخٍ، ونحن نقول: لا شك أن صحبة الأستاذ من الشروط التي لابد منها في تحصيل العلم، لكن يجب أن نضع هذه الوسيلة في إطارها الصحيح، وفي موقعها الطبيعي، بمعنى أنك يجب أن تقوم بجهدك الخاص في طلب العلم بالقراءة، مثلاً وبالحفظ، وبسؤال العلماء وغير ذلك. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 21 الاستفادة من إمكانيات العصر من الوسائل المهمة في طلب العلم الاستفادة من إمكانيات العصر، فهناك إمكانيات لم تتح لسابقينا، فلو تأملت الكتب -مثلاً- التي طبعت اليوم لوجدتها لم تتوفر في عصرٍ من العصور، ولو نظرت إلى الكتب التي توجد في مكتبة أي واحدٍ منا من صغار طلاب العلم، لربما وجدتها أكثر من الكتب الموجودة أحياناً لدى بعض العلماء المرموقين المشار إليهم بالبنان في الماضي، فهذه الوسيلة وسيلة مهمة جداً، وعلى الشاب أن يستفيد بكثرة الاطلاع على هذه الكتب، وكثرة القراءة، وتخصيص ساعات في اليوم للاطلاع والقراءة المتنوعة في الكتب القديمة، وفي الكتب الحديثة، وفي ألوان العلوم. وكذلك من إمكانيات العصر: الأشرطة، وهي وسيلة مهمة جداً، فبإمكان الشاب أن يسمع مجموعة متكاملة من الأشرطة لعالم كبيرٍ كالشيخ ابن باز، أو ابن عثيمين، أو ابن جبرين، أو الألباني، أو غيرهم من جهابذة العلماء ويسمع مئات بل آلاف الأشرطة، وحين يكون هذا السماع منظماً أي تسمع كتاباً أو شرحاً لكتابٍ أو درساً متسلسلاً وتعيد أيضاً سماع الشريط فإنك تستفيد فائدةً عظيمةً جداً، والتجربة تؤكد ذلك، وهذا لونٌ من ألوان مواكبة ومتابعة دروس العلماء، حتى ولو لم يحضرها الإنسان بنفسه. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 22 الأسئلة الجزء: 187 ¦ الصفحة: 23 التكبير المطلق والمقيد السؤال هناك بعض الناس لا يعلمون معنى التكبير المطلق والمقيد، فما حكم التكبير بعد الفريضة هذه الأيام؟ ويقول أيضاً: إنك تستغرب أن تجد من العوام من يحرص على التكبير، بينما من الشباب الطيبين هداهم الله من لا يحرص على ذلك فما تعليقكم جزاكم الله خير؟ الجواب جزاكم الله خيراً للفت إخوانك إلى التكبير هذه الأيام، ومن المعلوم أن المشروع التكبير المطلق، أما التكبير المقيد الذي يكون في أدبار الصلوات والفرائض فهو يشرع في أوقات محددة، اختلف فيها أهل العلم والمشهور في المذهب أنها من صلاة الفجر ليوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، والله أعلم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 24 طلب العلم وإخلاص النية فيه السؤال أنا حريص على العلم ولكن تأتيني هموم بأن طلبي العلم ليس لوجه الله، لذلك أبتعد عن القراءة سواء كنت فارغاً أو غير ذلك؟! الجواب كما سلف عليك أن تطلب العلم وتحرص على إخلاص النية، وكثير من علماء السلف كانوا يقولون: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، أما إن كان الإنسان يعرف في قرارة نفسه أنه اتجه لطلب العلم لغرض دنيوي بحت فهذا أمر آخر، لكن الواقع أن كثيراً من الناس الذين يطرحون مثل هذا السؤال أو يتشككون، يحرصون على وجود الإخلاص في قلوبهم، ويضايقهم وجود أدنى شائبة، أو أدنى وسوسه للشيطان، والشيطان يوسوس للإنسان، وقد يقول: أنت تطلب الدنيا، فعلى الإنسان أن لا يستجيب لوسوسة الشيطان، ويستعيذ بالله منه، ويحرص على إخلاص النية، ويعمل الوسائل الداعية في عمل الإخلاص، ويستمر في طلب العلم، ويعمل بكل ما علم حتى يحقق فعلاً أنه طلب العلم للعمل. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 25 الحصول على السعادة السؤال أنا شاب أجد النشاط في المراكز والمعسكرات والمخيمات -كمخيمنا هذا- ولله الحمد فاستفدت منه كثيراً، ثم تخور نفسي عند النهاية والبعد عن هذه المجالات؟ الجواب بمواصلة صحبة إخوانك الذين استفدت منهم بعد نهاية هذا المخيم وهذا المركز، وأن تشارك في النشاطات التي يشتركون فيها سواء كانت في المدرسة، أو كانت في الحي، أو كانت في غير ذلك، وأن تحرص أن تتلقى منهم الخلق الفاضل، والسلوك المستقيم، وتحاكيهم وتقلدهم بأعمالهم الحسنة الجميلة، وتخلص المحبة لهم. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 26 محبة صاحب الخلق الحسن السؤال هل يجوز أن أكره مسلماً لسوء خلق فيه؟ الجواب قد يكون هذا أمراً فطرياً، فالنفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، وقد قيل: أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان ونحن لا ندعو إلى استعباد نفوس الناس، ولا تعبدها لغير الله، ولكن النفوس تحب صاحب الخلق الحسن، وتحب من أحسن إليها، وتكره من أساء إليها، وهذا أمر فطري لكن لا تكره لأنه يعمل الخير، أو يعمل السنن أو ما أشبه ذلك من الأشياء. وينبغي لك أن تجاهد نفسك على محبته، فإن من أشرف وأنفس وأعلى المقامات التي يجب أن يغالي فيها المتنافسون في الخير هو أن تتخلص من كراهية قلبك لكل مسلم، إلا أن يكون من تكرهه لفسقه، ولمعصيته، ولإضراره بالمؤمنين وما شابه ذلك، وهذا مقام عظيم إن وصلت إليه فقد وصلت إلى خير كثير. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 27 ثقافة الخطاطين السؤال أنا شاب أحب قراءة الكتب ولكنني لا أقرأ، وإذا قرأت أجد نفسي بارتياح تام، ولكن طريقتي في القراءة هو أنني أقرأ من كل كتاب جزءاً قليلاً ثم أنتقل إلى كتاب آخر، وأجد تحصيلي الثقافي قليل، فبماذا تنصحني جزاك الله خيراً؟ الجواب الإنسان الذي يقرأ من كل كتاب قدراً ثم يتركه إلى غيره، تكون معلوماته وثقافته ثقافة الخطاطين أشبه ما تكون خفيه متناثرة لا يجمع بينها جامع، ولا يؤلف بينها نافع، والشاب الذي يريد أن يتقوي في العلم الشرعي ويحصل على ثقافة إسلامية صحيحة عليه أن يقرأ بتركيز، وأن يختار الكتب المناسبة ثم يقرؤها مرة ومرتين وثلاث، بل ويلخصها إذا رأى أنها تستحق التلخيص، ويكتب عليها بعض الإشكاليات، والأسئلة التي دارت عليه، ويسأل عنها بعض من هم أعلم منه، وبذلك يستطيع أن يكون معلومات صحيحة، وعليه أن يستغل هذه النعمة الموجودة لديه وهي: الحرص على العلم والرغبة في القراءة. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 28 القراءة في أصناف العلوم السؤال أنا شاب في العشرين من عمري، وأنا أقرأ في جميع أصناف العلوم وأجد نفسي لا أستفيد كثيراً، ثم أخاطب نفسي وأقول: لو وجهتُ جهدي على نوعٍ واحدٍ من العلوم لاستفدت كثيراً، فما هو قول فضيلتكم جزاكم الله خيراً؟ الجواب الجمع بين الأمرين واجبٌ خاصةً في بداية عمر الشاب، لأن الشاب في بداية عمره قد لا يستطيع أن يحدد بالضبط ما هو العلم الذي يرتاح إليه، ويفيده، ولذلك فكون الشاب في البداية يؤسس معلومات منوعة فيقرأ في العقيدة، ويقرأ في التفسير، ويقرأ في الحديث، ويقرأ في الكتب الإسلامية الحديثة، ويقرأ في القصص، ويقرأ في التاريخ، قراءات مركزة حتى يتبلور لديه اتجاه محدد، ويشعر بأنه أميل إلى التحصيل في علمٍ معين، فيركز على هذا العلم الذي يرى أنه يفيد فيه أكثر من غيره. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 29 المفاضلة بين تعلم علم الحديث وعلم الفرائض السؤال أيهما أفضل: علم الحديث، أم علم الفرائض؟ الجواب كلاهما فاضل ولا بد للمسلمين من كليهما، وعلى طالب العلم الذي يريد أن يتعلم الفرائض أن يتعلم المواريث من الكتاب والسنة أيضاً، فهما المصدر لتعلم الفرائض وغيرهما من العلوم، وأرى أن علم الفرائض على أهميته ليس تخصصاً دقيقاً يقضي الإنسان فيه عمره، بمعنى أن الإنسان قد يكون متقناً لعلم الفرائض بارعاً فيه، ومع ذلك يجد له وقتاً طويلاً لتعلم الحديث، والتفسير، والفقه، وتعلم التربية إلى غير ذلك، فعلم الفرائض على أهميته يمكن أن يتقنه في مدة معينة ثم ينتقل منه إلى غيره. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 30 طلب العلم للعلم به! السؤال وأنت تطلب العلم تجد أن هذا العلم ليس له حاجة في المجتمع ولكن الشخص يطلبه للعلم به وليس للعمل أو الحاجة، فما هو قول فضيلتكم؟ الجواب رأيي أن هذا يحتاج إلى مثال حتى يتضح السؤال أكثر وأكثر، ولكن بصفة عامة أنصح نفسي وإخواني الذين أحبهم في الله ألاَّ يعتمدوا كثيراً على وجهات نظرهم الشخصية في طلب العلم، لأن الإنسان يخيل له أحياناً أن هذا العلم ليس مفيداً لا له ولا عليه، لكن غيره قد يخالفه ويقول له: لا، إن هذا العلم يفيد المجتمع، والشاب في أول فترة الشباب، أو في فترة المراهقة تكون موازينه في الغالب غير منضبطة تماماً، وقد يميل إلى ترجيح جانب على جانب، وقد يميل إلى التقليل من أهمية جوانب معينة، والشيء المهم جداً هو أن هذه الفترة التي هي فترة المراهقة تؤثر في عمر الإنسان كلها، وقد يتحدد مسار الإنسان، واتجاهه بناءً عليها في الغالب، فعناية الشاب بنفسه في هذه المرحلة، وحرصه على التوازن والاستفادة من آراء من حوله مهم جداً. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 31 العلم والسهر السؤال قلت في كلامك: إن السهر من عوامل تثبيت العلم، وهذا الشيء ينافي ما نحن عليه، فكثير من الناس إذا أكثر السهر فإنه لا يستطيع التفكير، وربما إن أكثر من السهر خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: ولبدنك عليك حقاً، فأرجو منك أن تبين أيهما أرجح: تثبيت العلم في السهر أم في النوم المبكر؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب قضية السهر لا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يكره الحديث بعد العشاء لكن صح استثناء المصلي، والذاكر والسهر في العلم محمود بلا شك، لكن لا يكون سهراً يؤثر تأثيراً سلبياً على الشاب، فالسهر يتفاوت، وقد يفهم إنسان أن السهر جلوس الساعات الطوال، وقد يفهم آخر أن يجلس بعد العشاء ساعة أو قريباً من ذلك بحسب إمكانية الشاب، ونحن نعرف أفراداً يكفي الواحد منهم في اليوم أربع ساعات في اليوم والليلة، وهذه نعمة يهبها الله من يشاء بحيث يستطيع أن يستفيد من نهاره ومن ليله، ومن الناس من قد يحتاج إلى أكثر من ذلك إلى عشر ساعات، فالإنسان عليه أن يكون منسجماً مع نفسه، وهو طبيب نفسه في هذه القضية، ولا يمكن أن نعطي فيها قاعدة مطردة. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 32 الصحوة الإسلامية قرة الفؤاد وهمُ الجميع السؤال كثيراً ما نسمع بكلمة الصحوة الإسلامية، فعندما نسمع هذه الكلمة لا يوجد لدينا حرص في الجهاد، وفي الدعوة إلى الإسلام، وتطمئن قلوبنا عندما نسمع هذه الكلمة، ولا يوجد لدينا دافع قوي بالنصح والدعوة والمحاضرات، أفيدونا أفادكم الله؟ الجواب أما كثرة سماعك لهذه الكلمة فهو صحيح، وهذا راجع إلى فطرة عند الإنسان أنه إذا أحب شيئاً أكثر من ذكره، والفرح الذي يغمر قلوب المؤمنين والدعاة وطلاب العلم هو الذي يدعوهم إلى تكرار الحديث عنها لكن وجود الصحوة الإسلامية لا يعني القعود، لأننا نتساءل جميعاً ما هو السبب من وجود هذه الصحوة؟ هل توافقون على ما يدعيه بعض الناس أن هذه الصحوة خرجت فجأة من غير مقدمات ولا جهود؟ في الواقع أن هذا غير صحيح؛ فقد خرجت هذه الصحوة نتيجة وجود جنود بعضهم معروفون، وبعضهم غير معروفين يضحون في سبيل الله، ويدعون إلى الله، ويدعون الشباب، ويحثونهم على الخير زمناً طويلاً. ولذلك كانت هذه الصحوة نتيجة هذه الجهود، فإنه لا استمرار لها إلا باستمرار هذه الجهود، بل إن هذه الصحوة المباركة قد ينحرف مسارها، وقد يستفيد منها الأعداء، وقد تتجه اتجاهات غير صحيحة إذا لم نقم جميعاً بتوجيهها ورعايتها وإرشادها نحو الطريق الصحيح، وواجبٌ على كل فردٍ منا أن يسعى بالدعوة إلى الله عز وجل، وجلب الناس إلى الخير، وتعليمهم العلم الصحيح، وأن يحرص على أن يكون من نفسه شخصية تنفع المسلمين، وتخدم هذه الصحوة بأي وسيلة كانت. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 33 الاهتمام بما لا بد منه من علوم الشرع السؤال تعلمون كثرة الاستيعاب في الإسلام وكثرة أجزائها وتفاصيلها، وأنا شابٌ أدرس في مجال الدراسة الكيميائية: فيزياء، ورياضيات، وهذه المواد تتطلب المذاكرة الكثيرة، وهذا الاهتمام يجعلني أقلل من الاهتمام بكتب السلف بعض الشيء، لكنني -ولله الحمد- أحفظ أكثر من نصف كتاب الله؟ فبماذا تنصحني؟ الجواب أنصحك أولاً: بمواصلة حفظ كتاب الله عز وجل، فإن هذا ذخرٌ ثمين. وثانياً: بأن تتعلم ما لا بد لك منه من علوم الشرع، أي: أن تتعلم من العلوم التي يطالب المسلم بتعلمها لنفسه، وذلك مثل تعلم العقيدة الصحيحة، فلا بد أن تقرأ في كتب السلف، وتفهم العقيدة الصحيحة من القرآن والسنة. ثالثاً: لا بد أن تعرف أحكام الطهارة، والصلاة، والعبادات التي تحتاج إليها في حياتك العملية، وإذا أشكل عليك أمر من ذلك فعليك أن تسأل أهل الذكر -كما قال الله سبحانه وتعالى-: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] . الجزء: 187 ¦ الصفحة: 34 طلب العلم لكل إنسان السؤال هل يكفي للشاب أن يحفظ القرآن ويتعلم أمور العبادة فقط دون التوسع في العلم ويكتفي بسؤال المشايخ بما يشكل عليه؟ الجواب الحقيقة هذا السؤال يتفاوت من شخص لآخر، فهل كلنا سوف نخرج علماء في الشريعة؟ الجواب لا، بلا تردد ولا إشكال، فالناس يتفاوتون قد يوجد من بيننا من يؤنس من نفسه الأهلية، ويحس بأنه يستطيع أن ينفع المسلمين من خلال تعلم العلم الشرعي، والعمل به، والتربية عليه، وتعليمه للناس، ولديه: قدرة، وذاكرة جيدة، وعقلية طيبة، ولديه رغبة وحرص، فهذا يمكن أن يتوجه إلى العلم الشرعي، ويركز جهوده عليه، ولو قصَّر في علومٍ أخرى، أو أهمل علوماً أخرى ليست من العلوم الواجبة الضرورية. لكن قد يوجد إنسان آخر من بيننا لا يحس بالأهلية لمثل هذا الأمر، ويحس أنه يمكن أن يفيد المسلمين في علمٍ آخر: كعلم التاريخ، أو اللغة العربية، أو الطب، أو الهندسة، فهذه كلها علومٌ يستفيد منها المسلمون، وهي على أقل تقدير يمكن أن نقول: إنها من فروض الكفايات، لأن العلوم المباحة التي يحتاجها المسلمون هي من فروض الكفايات، فالذي يؤنس من نفسه القدرة على هذه العلوم أيضاً يتجه إليها، وقد يوجد من بيننا من ليس له مهنة في العلم وإنما هو يتجه نحو حرفة من الحرف، أو صناعةٍ من الصناعات، وقد تكلمت عن هذه النقطة في محاضرة بعنوان (التوازن في شخصية المسلم) . الجزء: 187 ¦ الصفحة: 35 قراءة الكتب القديمة والحديثة السؤال أيها أحسن لطالب العلم المبتدئ: قراءة كتب السلف أم الكتب المؤلفة حديثاً، فهي عندي أسهل من كتب السلف؟ الجواب لا تعارض بين هذا وذاك، بل الكتب المفيدة سواء، كانت قديمةً أم حديثة ينبغي للشاب أن يحرص على قراءتها، والاطلاع عليها، فهناك كتبٌ حديثة وموثقة ألفها علماء معتبرون، وتلقاها علماء ثقات بالرضا والقبول، فينبغي للشاب أن يقرأها ويستفيد منها. على سبيل المثال: لو قرأ الشاب المبتدئ في بداية طلبه: العقيدة الطحاوية -مثلاً- وجد أنه أمام أسلوب قوي وعبارات لا يستطيع أن يفهمها، لكن لو قرأ كتاباً آخر مثل معارج القبول للشيخ/ حافظ الحكمي، لوجد أنه بأسلوبٍ سهلٍ، وعبارةٍ واضحة، ومن السهل عليه أن يفهمه ويضبطه. فالكتب الحديثة المؤلفة من علماء موثوقين ينبغي أن تقرأ، والكتب القديمة التي يسهل على الشاب أن يقرأها -أيضاً- لا ينبغي أن نستبعدها، مثلاً: الكتب التاريخية، سواء كانت قديمة أو حديثة، أسلوبها لا يختلف فلو قرأت مثلاً في البداية والنهاية لـ ابن كثير، أو قرأت سير أعلام النبلاء للذهبي أو قرأت في غيرهما من الكتب، لوجدت أنك تفهم وترتاح مع هذه الكتب وتستفيد منها. إذاً: نقول: إن الكتب قسمان: كتبٌ مفيدة، وكتبٌ ضارة، والكتب المفيدة: منها القديم ومنها الحديث، والكتب الضارة: منها القديم، ومنها الحديث، فالمهم أن تختار الكتاب المناسبُ وأوصي الشاب الذي يريد أن يقرأ أن يطلب من شيخه الذي يتتلمذ عليه، وأستاذه الذي يربيه أن يعطيه قائمة من الكتب التي يريد أن يقرأها ويستفيد منها، فإذا أنهاها طلب قائمة أخرى وهكذا. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 36 إخلاص النية السؤال أنا شاب أحث الناس على الإخلاص في النية في كثير من الأعمال، ولكن إذا نظرت إلى نفسي ومحاسبتها أجد أنني لا أخلص النية في جميع أعمالي، أرجو إخباري لأن هذا يقلقني كثيراً؟ الجواب الحقيقة في مثل هذه الحالة على الشاب أن يستمر فيما هو فيه من حث الناس على الإخلاص؛ لأن هذا عمل طيبٌ ومشروع، والآيات في الحث على الإخلاص كثيرةٌ معلومة، وعليه أن يحرص على إخلاص نيته ما استطاع، وليحذر الشاب من وسوسة الشيطان الذي يقول له: دع أمر الناس بالخير لأنك لم تفعله، أو دع نهي الناس عن الشر لأنك واقع فيه، وهذه القضية تخفى على كثيرٍ من الناس، وعلى كثير من الإخوة وهي قضية مهمةٌ جداً، في باب الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأريد أن أصوغها على شكل سؤال، وهو: الإنسان الذي يقع في المنكر هل يجب عليه أن ينهى الناس عن المنكر الذي يقع فيه نفسه أم لا ينهى عنه؟ الواقع والصحيح أنه ينهى، ويجب عليك أن تنهى عن المنكر ولو فعلته، ويجب عليك أن تأمر بالمعروف ولو تركته، وهذا هو القول الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف، ولا شك في صحة هذا القول، لأن الإنسان مطالب بأربعة أشياء: مطالب بأن يفعل المعروف وأن يأمر به، وأن يترك المنكر وأن ينهى عنه، وإخلال الإنسان بواحد من هذه الأشياء الأربعة لا يدعوه إلى الإخلال بالأمر الثاني منها، وقد قيل: ولو لم يعظ في الناس من هو مذنب فمن يعظ العاصين بعد محمد ولذلك نقل الإمام ابن عطية في تفسيره عند قولة تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] قال: وقال بعض الأصوليين: واجب على من يتعاطى الكئوس أن ينهى بعضهم بعضاً، أي المجموعة القاعدون لشرب الخمر يجب عليهم شرعاً أن ينهى بعضهم بعضاً حتى وهم يتعاطونه، وقال حذاق أهل العلم يأمرون بالمعروف وإن لم يفعلوه، وينهون عن المنكر وإن فعلوه، والدليل على ذلك قوله من القرآن: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79] . فأنت لو تأملت الآية وجدت أن الله عز وجل نسب ترك التناهي إلى الذين فعلوا المنكر أنفسهم، يعني وهم يفعلون المنكر كان يجب عليهم أن ينهوا ويتناهوا عنه، ولا شك أنه ملوم بكونه ينهى الناس ويقع فيه كما قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] لكنه ليس ملوماً لأنه نهى عن المنكر، بل ملوم لأنه فعله، وخاصة مع علمه بأنه منكر، فهذه القاعدة مهمةٌ جداً، فأمر الناس بالمعروف وحثهم على الإخلاص في العمل، واحرص على تزكية نفسك وأمرها على ما تأمر به الناس، ولا يمنعك شعورك بعدم الإخلاص في بعض عملك مما أنت فيه من الأمر والنهي، وحث الناس على الإخلاص. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 37 أبواب العلم متنوعة السؤال ذكرت أن العلم ليس فقط بالتلقي وحده، ونشاهد أن الذي لا يحفظ ويتلقى العلوم لن يكون عالماً، حتى ولو أكثر العبادة وتلقى التربية، فما هو تعليقكم على هذا؟ الجواب تعليقي أن أقول: ما معنى أن يكون عالماً؟ فالسائل يقصد أن يكون عالماً مشاراً إليه بالبنان، وأقول: العلم أوسع من ذلك، قد يكون عالماً في جوانب معينة، قد يكون عالماً في مجال التربية والتوجيه والإرشاد مع وجود قدرٍ كافٍ من العلم الشرعي لديه، وهل يتصور أن يوجد إنسان لا يحفظ إطلاقاً؟ لا أعتقد هذا، إنما قدرته على الحفظ ليست قوية، ومع ذلك قد يصل إلى درجةٍ كبيرة في العلم من منطلق قدرته على التربية وعلى التعليم وعلى البناء، وأزيد هذا إيضاحاً بأن قيمة العالم تكون بأشياء: أولاً: بتأثيره في الواقع من خلال كثرة الناس المتأثرين به أو من يسمون بالتلاميذ، أو الذين استفادوا منه، وأنت تجد بعض العلماء الذين عنوا بالتربية، وبناء الشخصية بشكل متكامل أثَّروا في كثير من الناس مع أن هناك من هو أوسع منه في جانب المعلومات المجردة، ومع ذلك تأثيره أقل، هذا من ناحية، وقيمة العالم تكون -أيضاً- بما يخلفه بعد وفاته من المصنفات والمؤلفات، والإنسان الذي يكون لديه قدرة على البحث ومعرفة بأساليب البحث، وقدرٍ طيب من العلم الشرعي، يستطيع أن يكتب في أشياء كثيرة، وينفع الناس بها. إذاً فالعلم مفهومه أوسع من مجرد المعلومات، وقيمة العالم تكون بقدر تأثيره في الواقع، سواء في حال حياته أو بعد مماته. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 38 الطالب بين المدرسة وطلب العلم السؤال أريد أن أترك المدرسة -إن شاء الله- من أجل طلب العلم على أيدي مشايخ، لكن أي المشايخ؟ أريد وصيتك؟ الجواب أقول: لا تترك المدرسة من أجل أن تطلب العلم، إذ لا تعارض بينهما، بل إن بقاءك في المدرسة هو عون لك على طلب العلم من جهة ومن جهة أخرى فلنفترض جدلاً أن المدرسة لا تعينك في طلب العلم، مع أن هذا قولٌ غير صحيح لأن كل مدرسة لا تخلو من قوم صالحين ومن العلوم النافعة: كالقرآن والتفسير والحديث وغيرها، وفيها علوم مباحة توسع عقل الإنسان ومداركه، ولكن لنقول جدلاً: إن المدرسة لا تعينك، فإن الأمة بحاجة إلى من يقود الأجيال والأجيال. أيها الشباب أين تتربى أجيال الأمة اليوم؟! هذا السؤال أريدكم أن تجيبوا عليه، أجيال الأمة في كل مكان تتربى اليوم في المدارس يدخل أو يتربى فيها إن لم نقل (100%) فعلى الأقل أكثر من (90%) من الأجيال، ووجود مدرسين اليوم وأساتذة وموجهين في المدارس كان هو السبب في إقبال طلاب المدارس على الإسلام، وتلقيهم العلم، ورغبتهم فيه، وربما كان تأثيره في ذلك أكثر من أي تأثير آخر فإذا كان هذا كذلك، فيجب على طالب العلم أن يحرص على مواصلة العلم في هذه المدارس، والتزود من العلم الموجود فيها، وعلى أن يتخرج منها، وعلى أن يدرس فيها ليقوم بتربية هذه الأجيال، من خلال هذه المدارس على الإسلام الصحيح، والعقيدة الصحيحة، وهاهم علماؤنا وجهابذتنا تخرجوا من هذه المدارس، ودرسوا فيها ولك فيهم أسوة وقدوة. أما سؤالك أين العلماء؟! فإنني أقول: العلماء في المدارس التي تريد أن تتركها ففيها كثيرٌ منهم. ثانياً: مفهوم المشايخ أو العلماء يتفاوت وطلاب العلم اليوم كثير، ويمكن أن يجتمع مجموعة من طلبة العلم مهما كان مستواهم فيتدارسوا كتاباً من الكتب في المسجد أو في البيت، وهذا نوعٌ من طلب العلم الجماعي، وعلى أيدي طلاب علمٍ أو مشايخ، وكذلك قراءة كتب المشايخ أو سماع أشرطتهم يعين على الحصول على علمهم، ثم إن المشايخ موجودون، وقد ذكرت منهم على سبيل المثال الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ/ عبد الله بن جبرين والشيخ/ محمد بن عثيمين، ويوجد علماء كثر في بلدان كثيرة. الجزء: 187 ¦ الصفحة: 39 من للمسلمين أوضاع المسلمين مؤلمة في كثير من البلدان مثل الصومال وغيرها، وهناك جوانب إيجابية ومبشرات بالخير، والحقد الصليبي يتحرك لشعوره بخطر الإسلام عليه. وإسرائيل تتوسع على حساب المسلمين بينما إيران تنشر مذهبها الشيعي في ظل غياب الإسلام السني. ورغم غنى المسلمين بالثروات إلا أنهم أفقر الشعوب ولا يتناصرون إعلامياً ولا اقتصادياً، فيجب علينا دعم المسلمين اقتصادياً وعلمياً ودعوياً، ولا نلتفت لما يثار من أن ذلك لا يصلهم أو أنهم لا يستحقون ذلك، أو ما إلى ذلك. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 1 التقارير الواصلة الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم أما بعد: فهذه الجلسة سوف تمر عبر العناوين التالية: أولاً: تقارير عن أوضاع المسلمين هنا وهناك. ثانياً: جوانب إيجابية. ثالثاً: الحقد الصليبي يتحرك. رابعاً: اليهود يدافعون عن حقوقهم. خامساً: إيران تنشر مذهبيتها ولغتها. سادساً: أين المسلمون. سابعاً: لماذا نحجم؟ ثامناً: ما هو الواجب؟ وأعجب أن كل الكلام الذي سوف أقوله لكم، والتقارير والمعلومات التي سوف أقدمها، أنها وصلت إلي خلال هذا الأسبوع، فأنا حين أتحدث عن موضوع ما، لا أتكلم عنه على سبيل الاستقصاء والحصر، وإنما أقدم لكم حصيلة أسبوع واحد مما وصلني، وأقول والله شهيد على ما أقول: أن الذي وصل إلي -سوف أقدم لكم بعضه- لم أسع في تحصيله ولم أبحث عنه، وإنما وصلت إلي عفواً من جهود الإخوة، وتقارير جاءت من هنا وهناك. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 2 التقارير الأسبوعية لو أننا حرصنا خلال أسبوع، أن نجمع كل ما كتب، وكل ما قيل عن المسلمين، أو عن الموضوعات الأخرى التي سوف أتحدث عنها، بل كيف سيكون الموضوع لو أردنا أن نعالجه ونتحدث عنه بشمولية، ونذكر ما يتكلم عنه الإعلام، وما تتحدث عنه التقارير منذ زمن بعيد، لكان الأمر أكبر من طاقاتنا، وأكبر من إمكانياتنا، وأكبر من هذا الوقت المخصص لهذه المحاضرة. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 3 أوضاع المسلمين النقطة الأولى: تقارير مجملة وسريعة عن أوضاع المسلمين في أكثر من مكان: الجزء: 188 ¦ الصفحة: 4 التقارير الأخرى أما التقارير عن المسلمين في إريتريا، وأفغانستان، والفلبين، والسودان، وفلسطين، والجزائر، ويوغسلافيا، وجمهوريات الاتحاد السوفيتي، فهو أمرُ يطول ذكره، وسوف نتعرف على هذا -إن شاء الله- خلال الفقرات التالية، مع هذه الأوضاع العسيرة التي يعيشها المسلمون، والتي تنبئ عنها هذه التقارير التي أقول إنها اختيار عشوائي؛ لأنها حصيلة أسبوع فقط، وما خفي كان أعظم، وما هو ظاهر ولم يذكر فهو أكثر وأكثر!! الجزء: 188 ¦ الصفحة: 5 الأكراد وفي بلاد الأكراد خاصة هناك حصار آخر فرضه النظام العراقي نفسه، فضلاً عن الحصار المفروض على العراق ككل، جعل المسلمين الأكراد يعانون من مجاعة لا تكاد توصف، وفوق هذا فإن أزيز الطائرات وتفجير القنابل، يهددهم صباح مساء، ليس من العراق فقط، بل من العراق تارة، ومن تركيا تارة أخرى، فقد أصبح المسلمون الأكراد بين فكي كماشة، تركيا تضربهم من جهة، والعراق يضربهم من جهة أخرى، والحصار الاقتصادي مفروض عالمياً على العراق ومفروض محلياً من العراق على الأكراد، ولك أن تتصور وضع المسلمين الأكراد في مثل تلك الظروف الصعبة. مما تعلمناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم {أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} وهذا حديث متفق عليه، فما بال، وما ذنب الأبرياء في العراق في بلاد الأكراد؟! لماذا يُمنعون من شرب الماء النقي؟! ولماذا يُمنعون من أكل الطعام الذي به قوام حياتهم؟! ولماذا يحرم أطفالهم من الحليب؟! ولماذا يحال بينهم وبين حق العيش، وحق الحياة؟! إن هذه الخطة الظالمة الآثمة التي يديرها الغرب الصليبي على المسلمين في العراق، وعلى كردستان، وفي كل مكان، أحلف بالله لو أن تلك الشعوب كانت شعوباً نصرانية لانتفض الغرب من أقصاه إلى أقصاه، والشرق معه، وقام ينادي بحقوق الإنسان، وأنه لابد من إطعام هؤلاء، وإغاثتهم ومساعدتهم!! ما ذنب الشعب العراقي؟ أن سُلط عليه حاكم طاغية، فهل يريد الغرب أن يقضي على الشعب العراقي، حتى ينتهي عن آخره؛ ليقول لطاغية العراق صدام حسين إنك تحكم دولة بلا شعب؟ لأن شعبك قد أفنى ودمر وقضي عليه؟ إن هذه الخطة وهذه الوثيقة الظالمة الآثمة، وثيقة المقاطعة، تستهدف ضمن ما تستهدف الشعب العراقي ذاته، ولأمرٍ ما نجد أن القوى الغريبة قد أوقفت الحرب عند حد معين، ورضيت أن يبقى هذا الطاغية على العرش العراقي، ليكون ذلك ذريعة لتضييق الخناق على المسلمين. والعجيب أنهم يُعطونه فرصة لضرب الأكراد، ويمنحون تركيا فرصةً أخرى لضرب الأكراد، وليس لهم ذنب، إلا لأنهم مسلمون أولاً، وسُنة ثانياً. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 6 بورما -أيضاً- هناك تقرير وخبر ثالث يتحدث عن قتل مجموعة من الجنود البورميين، للمئات من المسلمين، واحتجاز الآلاف منهم، في ولاية أراكان، وذلك في غضون الأسبوعين الماضيين، كما يتكلم ذلك الخبر. وقد نشر في جريدة الشرق الأوسط، عن جرح خمسمائة على الأقل، وأنه تم تدمير ما يزيد على ثلاثة آلاف منزل عن طريق الإحراق. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 7 العراق أخبار شفهية كثيرة تتحدث عن ما يعانيه المسلمون في العراق، من مجاعة، الله تعالى أعلم بها، حيث يموت آلاف الأطفالِ وكبار السنِ، جوعاً بسبب عدم توافر الحاجات الضرورية لهم. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 8 كشمير وصلت إلي أيضاً مجموعة من التقارير عن كشمير، وكشمير تحتلُ جزءاً منها الهند، ويحتل الجزء الآخر منها الصين، أما الجزء الثالث فهو تابع لباكستان، وجنود الهند الذين يحتلون كشمير، يجدرُ القول أنهم يزيدون أضعافاً مضعّفة على عدد الروس الذين كانوا يحتلون أفغانستان، وهم من الهندوس، والسيخ، والبوذيين، وألوان الديانات الوثنية: التي تحمل روح العداوة للموحدين المسلمين، وترى أن قتلهم والقضاء عليهم وإفناءهم جزء من ديانتها التي تربت عليها منذ صغرها ونعومة أظفارها، فمن أعمالهم حرق المساجد، والمدارس، والمستشفيات، وحرق البيوت على أصحابها. أحد الشباب أُحْرِقَ أمام والده الكفيف، الذي ليس له غيره، فصبوا عليه البنزين، ثم أحرقوه إلى جوار والده الذي لا يرى، ولكنه أحس بهذا المشهد، وأن فلذة كبده وابنه الوحيد الذي هو يعتمد عليه بعد الله في العيش والذهاب والإياب، وتأمين الحياة والمعيشة قد أُحْرِقَ أمامه، بعد أن صُب عليه البنزين، فعن التعذيب الوحشي حدِّث ولا حرج أجساد تمزق بالطلقات النارية، حتى أجساد الموتى لم تسلم فإحدى الجنائز لما مر بها المسلمون -وكانوا مجموعة- طلب منهم جنود الهند أن يبتعدوا، فلما رفضوا أطلقوا النار على من يحملون الجنازة وعلى الجنازة، نفسها التي أصيبت بثمان طلقات من الأعيرة النارية، وأحياناً يمنعون الإغاثة عنهم. هناك مجموعة سقطوا في إحدى المحاولات التي قام بها المسلمون لإحداث نوع من المظاهرة، فضربهم الجنود واسقطوا منهم مجموعة، فلما جاء المسلمون لإغاثتهم هددوهم بالقتل، وقالوا: نحن لم نضربهم لكي تغيثوهم، وإنما ضربناهم لكي يموتوا، فإذا ماتوا شأنكم بهم. أما التجمعات النسائية فإنهم يفرقونها بالقوة، ويستخدمون القوة لذلك إذا لزم الأمر، وهناك طعنات تمتد من أعلى العنق إلى أسفل البطن، وقد رأيت صوراً تعبر عن كل هذه الأشياء محفوظة في (ألبوم) ، موجودة يمكن الاطلاع عليها لمن شاء ذلك، فترى المسلم وقد شق بالسكاكين والخناجر من أعلى عنقه إلى أسفل بطنه مروراً بصدره، ثم قام المسلمون بعد ذلك بخياطته قبل أن يودعوه إلى قبره. هناك ثلاثون امرأة تفننوا في تعذيبهن وقتلهن أمام أطفالهن، وهناك حفر موجودة لضحايا القتل الجماعي، وتدمير المنازل حتى أصبح جزء من الناس بدون مأوى، ومجموعة من النساء، -وأحياناً- من كبيرات السن والعجائز، وأحياناً من الفتيات الصغيرات، صرن ضحايا للاغتصاب الجماعي من قبل جنود الجيش الهندي، يتناوب على المرأة الواحدة عشرات من الجنود، وبعضهن كما ذكرت كبيرات السن، وبعضهن أصبحن حوامل، وبعضهن يحملن بين أيديهن أطفالاً من الزنا بالإكراه. وفرض تحديد النسل على المسلمين، حتى ولاية كشمير في الهند احتلت رقماً قياسياً في تحديد النسل، أما ما يتعلق بتجهيل المسلمين في تلك الولاية، فيكون ذلك عن طريق منع تحفيظ القرآن، وتشجيع السفر ومنع ذبح البقر، من أجل ترسيخ قدسية البقر في نفوس المسلمين؛ لأن الهندوس يقدسون البقر -كما هو معروف- كذلك تشجيع شرب الخمور والفجور، وتأسيس السينما والملاهي والكازينوهات وغيرها، والحيلولة بين المسلمين وبين تعلم دينهم، وهذا لا يمنع من وجود مدارس إسلامية، ومراكز لتحفيظ القرآن، ونشر الكتب الإسلامية، ولكنها تتم بالرغم من جهود الهنود الذين يحاولون النيل من أي بادرة من بوادر التعليم الإسلامي هناك. وتقول تلك التقارير إن من المقترحات لإنقاذ المسلمين في كشمير، دعم الجهاد إعلامياً، وإرسال وفود من قبل المنظمات الإسلامية، لكتابة تقارير حقيقية عن الوضع هناك، وتزويد المسلمين بها، وكشف ما يعانيه المسلمون هناك للمسلمين في كل مكان إضافةً إلى الدعم المالي والدعم الصحي. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 9 الصوماليون في كينيا وما حولها أحد التقارير التي وصلت إلي، تقرير يتحدث عن أوضاع المسلمين اللاجئين من الصوماليين الموجودين في كينيا وما حولها، وتقام لهم هناك عدة معسكرات، قد يصل عدد المسلمين في المعسكر الواحد ستين أو سبعين ألفاً -أحياناً-، يسكن هؤلاء المسلمون في أكواخٍ مصنوعة من الكراتين، أو مصنوعة من الخرق البالية، وقد يسكنون في أوقات كثيرة تحت الأشجار بلا مأوى!! تنتشر بين هؤلاء المسلمين الأمراض الفتاكة كالسل والملاريا، وتتردى الأوضاع الصحية في تلك المعسكرات والمخيمات يوماً بعد يوم، وذلك في ظل نقص المياه النقية، حيث لا توجد المياه النقية، وفي ظل نقص التغذية، وفي ظل عدم وجود المراحيض الملائمة، وفي ظل غياب المراكز الصحية التي تعالج المرضى من الكبار والصغار والنساء والأطفال. وهناك نقصٌ شديد في المياه، حيث لا توجد آبار في المعسكرات، وإنما يشرب هؤلاء المسلمون من نهر ملوث، يشرب منه الناس والأنعام، ويغتسلون ويتوضئون منه، ولذلك فهو أحد مصادر الأمراض التي تفتك بهم وتنتشر بينهم. وتقرير سمعته بأذني، من إحدى الإذاعات الغربية، يقول معد التقرير: إنه رأى طابوراً طويلاً في انتظار جرة من الماء، يحصل عليها الواحد، فيكتفي بها طيلة اليوم مع أنها لا تكفي، ولا تعادل (25%) من حاجته الحقيقية، وأنه يضطر إلى الوقوف في هذا الطابور على مدى اثنتي عشرة ساعة، من أجل الحصول على قارورة ماء، أما التعليم فهو شبه مفقود، فلا مدارس، ولا خلاوي لتحفيظ القرآن، ولا كتب ولا أشرطة ولا غيرها. أحد المعسكرات هناك تشرف عليه منظمة الصليب الأحمر الدولي، والآخر تشرف عليه السفارة الإيطالية، هرب المسلمون إلى هذه المعسكرات، والمخيمات فراراً من جحيم الحرب التي تدور رحاها في الصومال، ومنظمة الأمم المتحدة تتجاهل الأوضاع الصعبة، والسيئة التي يعيش فيها المسلمون هناك، ولا تعيرهم أي اهتمام، لأنهم من المسلمين أولاً، ولأنهم من السود ثانياً. وإذا كانت المنظمة الدولية، وكذلك قوانين الغرب والشرق، لا تعترف صراحة بالتفريق العنصري على أساس اللون، أو على أساس الدين أو المذهب، فإن الحقيقة أن هذه الدول وهذه المنظمات تعترف بذلك من باب الاعتراف بالأمر الواقع، فلا ترقب في المسلمين إلا ولا ذمة. يقول التقرير أيضاً أن احتياجات المسلمين الأولية، كإسعاف، لابد منه عاجلاً لضمان حياتهم، يتوافر فيما يلي: أولاً: ثلاثة آلاف كيس من الذرة يمكن تأمينها من كينيا كإسعاف أولي. ثانياً: حفر ما لا يقل عن عشرة آبار بتكلفة البئر الواحد خمسة آلاف ريال. ثالثاً: تعيين عشرة أطباء من الرجال، وعشر طبيبات من النساء، وقد يكون هؤلاء الأطباء موجودين أصلاً في تلك المخيمات، ولكنهم لا يستطيعون أن يباشروا عملهم في ظل الظروف الحالية، ويحتاج كل واحد منهم إلى مرتب، أقل ما يكون ألف ريال في قيامه بعمله، مع وجوب تأمين الأدوية والأجهزة الضرورية، كذلك تعيين عشرين داعية ومعلماً للقرآن الكريم، وبناء ثلاث مدارس ابتدائية، حتى ولو كان بناؤها من القش لحماية أبناء المسلمين، وبناء مساجد كافية بتلك المخيمات، وتكلفة المسجد تقارب، كما يقول التقرير ثلاثين ألف ريال، ويمكن أن يبنى المسجد من بنايات متواضعة -كما ذكرت- من القش، أو من الكراتين أو من الخرق البالية أو من غير ذلك، فتكون التكلفة أقل من ذلك بكثير جداً، وربما تُغطي هذه الثلاثون الألف بناء المساجد من هذه النوعية في جميع المخيمات. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 10 جوانب إيجابية ومع ذلك فإننا لا نميل أبداً إلى النظرة التشاؤمية! بل ندعو إلى التفاؤل، والثقة بالله تعالى، وأن نعرض الصورة الإيجابية إلى جانب الصورة السلبية، هناك جوانب إيجابية لابد من الحديث عنها، ينبغي أن نعز الحديث ببعض انتصارات الإسلام، ليعلمَ الجميع أن تحقيق مكاسب لهذا الدين أمرٌ ممكن في جميع الظروف، وفي جميع البلدان، متى توافرت النية الصادقة، على سبيل المثال: الجزء: 188 ¦ الصفحة: 11 الصين (ولاية سنكيانت) المثل الآخر في الصين التي لا تزال تئن تحت تسلط الشيوعية وبالذات في ولاية سنكيانت، وهي ولاية إسلامية، وهناك مطالبة بالانفصال عن الشيوعية، وقد ذكرت عدد من الإذاعات أخبار تلك المطالبة، وما يسمى بالانتفاضة قبل ليلتين، وهذه الولاية التي يسمونها سنكيانت: هي ما كان يسمى في التاريخ الإسلامي بالتركستان، سكانها أكثر من خمسين مليون نسمة، أغلبهم من المسلمين على الرغم أن الحكم الشيوعي حاول أن يغير فيما يسمونه بديموجرافية الولاية، أي أن ينقل أفراداً وينقل شعوباً من أجناس وعناصر وديانات أخرى، ويسكنهم بالقسر والإكراه في الولاية نفسها حتى لا يجعل هذه الولاية، ولاية إسلامية، بل تكون ولاية من ديانات شتى، ومن أعراق مختلفة، ومع ذلك ظل المسلمون هم الأغلبية في هذه الولاية، وهي أكبر مقاطعة صينية، وكذلك فيها أكثر من (50%) من احتياطي الصين من النفط والغاز الطبيعي، ويعتقد -أيضاً- أنها غنية بالمعادن الأخرى كالذهب والفضة، كما أنها موقع للاختبارات النووية وللبرنامج الفضائي الصين، إذاً: هي أهم ولاية لدى الصين الشيوعية على الإطلاق، من حيث كثرة السكان، ومن حيث وجود احتياطي الغاز والنفط فيها، ومن حيث وجود الاختبارات النووية والبرنامج الفضائي، ومن حيث كثرة السكان المسلمين فيها، فهي ولاية إسلامية، وقد قامت انتفاضة هناك، وطالب زعيم الولاية الحكومة المركزية بإمداده بالجيش لتأديب المسلمين المتمردين هناك، السؤال قد نسمع اليوم، أو غداً عن ضرب المسلمين في سنكيانت بضراوة، من قبل الجيش المركزي في الصين، ومن قبل قوات الأمن الشيوعية، فالسؤال الذي يطرح نفسه ما هو موقف الغرب؟ لا نسأل عن موقف العرب، أو المسلمين فهو معروف سلفاً. ويُقضى الأمرُ حِين تغيبُ تيم ولا يستأمرون وهم شهودُ فهم ليس لهم من الأمر شيء، ولا يتحدثون ولا يشاركون، لكن السؤال عن موقف الغرب، هل سيشبه موقف الغرب موقفهم حينما كانت نقابة توامن في بولندا، تواجه الحكومة الشيوعية هناك؟ تكلم الغرب عنها في أجهزة إعلامه، ودعمها دعماً منقطع النظير بالاتصال، وبالإمكانيات وبالصحافة والمدد، بل وبالمشورة والمعونة، وظل يناصرها حتى انتصرت، واعترفت بها الحكومة، ووصلت إلى السلطة، هل سيكون موقف الغرب من انتفاضة المسلمين في الصين الشيوعية مشابهاً لموقف الغرب، وبالذات أمريكا من انتفاضة الطلبة المنادين بالديمقراطية منذ سنتين في الصين نفسها؟ حيث واجهت أمريكا موقف الصين بشدة، وانتقدته بقوة، وعملت مجموعة من الإجراءات للضغط على الصين، بل فرضت نوعاً من المقاطعة على الصين بسبب شدتها في مقاومة وقمع ما يسمى بحركة المنادين بالديمقراطية. هل سيكون موقف الغرب من انتفاضة المسلمين في سنكيانت ضد الحكم الشيوعي مشابهاً لموقف الغرب في روسيا، حينما قام الشعب ينادي بإسقاط الشيوعية؟ فرفض الغرب الاعتراف بالحكم الشيوعي أثناء الانقلاب وطالب بمراعاة رغبة الشعب، الذي قام في الشوارع ينادي بإسقاط الحكم الشيوعي، وقرر أن يستخدم كافة الوسائل والإمكانيات وكافة الضغوط الاقتصادية، والسياسية، وغيرها، من أجل إسقاط الحكم الشيوعي، وتنفيذ ما يعتبره الغرب أنه رغبة الشعب الروسي هل سيفعل الغرب الفعل نفسه؟! أم أنه سوف يتجاهل صيحات المسلمين لأنهم مسلمون، والغرب شاءَ أم أبى يتحرك وفق نظرة عنصرية عرقية دينية واضحة، طبعاً الجواب هو الثاني: أن الغرب سيتجاهل صيحات المسلمين الآن، كما تجاهلها من قبل في أكثر من مكان، وقد لا يجد الغرب في إعلامه مكاناً للحديث عن آلام المسلمين وهمومهم، وعلى فرض أنه وجد حيزاً ضيقاً للحديث عن تلك الآلام وتلك الهموم وتلك المعاناة، فإنه لن يُصغيَ أذنيه، ولن يقف مع المسلمين في حال من الأحوال. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 12 بريطانيا نموذج آخر في بريطانيا، كما ذكرت جريدة السياسة، في آخر شهر شعبان اكتظت المساجد بالمصلين هناك، على عكس الكنائس التي أصبحت مقاعدها خالية، وتشير الإحصائيات إلى أن عدد المسلمين قد زادَ مليوناً خلال خمسة عشر سنة، أي بنسبة130%!! على أن الكنائس أصبحت تفقد روادها يوماً بعد يوم ويتناقص الذين يجيئون إليها، بنسبة تزيد على10%!! ولذلك مردود كثرة المسلمين هناك، لها مردود سلبي عند النصارى يتكلمون عنه وسوف أشير إليه بعد قليل. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 13 الجمهوريات السوفيتية نموذج ثالث من الإيجابية: الجمهوريات السوفيتية سابقاً التي تنتمي إلى أصل إسلامي، قد تنفست الصعداء، وأقبل المسلمون على الإسلام، وعلى تعلم اللغة العربية، بل قامت هناك أحزاب إسلامية في أكثر من موقع في تلك الجمهوريات، تنادي بالإسلام، وبتحكيم الإسلام، وهناك جهود كبيرة للمقيمين، وللمؤسسات الإسلامية، وقد عادت كثير من المساجد إلى المسلمين، وإن كانت صغيرة -أحياناً- ومهدمة ومدمرة -أحياناً أخرى- لأن الاتحاد السوفيتي قد احتلها، وظل أكثر من سبعين سنة يستخدمها كأماكن للهو أو مراقص أو مستودعات، أو نحو ذلك من الأغراض المختلفة، ولذلك يسعى المسلمون إلى إعادة بنائها وإعادة ترميمها، وإقامة علاقات مع إخوانهم المسلمين في كل مكان، مع ذلك هناك بعض السلبيات لا يمكن تجاهلها مثل الجهل فقد ظلوا سبعين سنة، أو أكثر وراء الستار الحديدي! وكانت حيازة المصحف جريمة تُعرض صاحبها للقتل والإعدام في نظر الحكم الشيوعي هناك، هناك السبق التنصيري والإيراني، فإن النصارى قد سبقوا وقدموا النصرانية كبديل عن الشيوعية، والسبق الإيراني الذي يعمل على تقديم المذهبية الإيرانية الشيعية كبديل عن الإسلام السُني الذي يدين وينتسب إليه معظم المسلمين في تلك الجمهوريات، وهناك أيضاً احتمال المواجهة بين بعض الأعراق الإسلامية بعضهم مع بعض على أساس عرقي. المطلوب: كما تقول بعض التقارير تخصيص منح دراسية لبعض أبناء المسلمين من هناك في الجامعات العربية والإسلامية، إنشاء جامعة إسلامية، أو أكثر في تلك الجمهوريات بحيث تعلم الإسلام، وتستقبل أولاد المسلمين، وتكون حلقة الوصل بين العلماء والدعاة والأساتذة وبين طالبي العلم الشرعي هناك، كذلك نشر وترجمة الكتب والأشرطة الإسلامية إلى اللغة التي يتكلمها المسلمون هناك. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 14 يوغسلافيا في يوغسلافيا هناك مسلمو البوسنة والهرسك، وقد نال المسلمون في يوغسلافيا في هاتين الولايتين حريتهم، وحصل حزب العمل الديمقراطي كما يسمونه وهو حزب المسلمين على أغلبية الأصوات هناك، وصار رئيسه الأستاذ علي عزت رئيساً للجمهورية، كما حصل المسلمون على عدة وزارات هناك، كوزارة الخارجية، والداخلية، والتعليم، والاقتصاد، والصحة، والبيئة وغيرها، ومع ذلك فإن المسلمين يواجهون مشاكل: منها: القلاقل الأمنية التي تهدد يوغسلافيا عن آخرها ومنها: الحصار الاقتصادي بسبب الحرب الدائرة ومنها: انتشار جنود الجيش في المدينة العاصمة وما حولها ومنها: مشكلة البطالة، حيث يواجه مليون وستمائة ألف عامل مشكلة البطالة ومنها: نقص التعليم هناك ومنها: احتمال عدم اعتراف الدول الغربية بجمهورية للمسلمين!! على رغم تصويت أكثر من (60%) لها بالاستقلال، ولكن هناك احتمال أن لا يعترف الغرب بهذه الجمهورية لماذا؟! لأنها جمهورية غالبية سكانها من المسلمين. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 15 الحقد الصليبي يتحرك النقطة الثالثة: الحقد الصليبي يتحرك، ولم يتحرك الحقد الصليبي الآن، بل إنه يتحرك منذ زمن بعيد، والكتب المصنفة في قضية نصرانية أمريكا وأوروبا والغرب والشرق كثيرة وكثيرة جداً، بل لا أبالغ أن أقول: أنه ربما يكون كل أسبوع على الأقل يصدر كتاب يتحدث عن النعرة، والروح الصليبية التي بدأت تبدو في الغرب حكاماً ومحكومين، ويكفي أن نعلم أن حكامهم لا يبرمون عقد صلح، ولا يديرون حرباً، ولا يعملون شيئاً ذا بال، إلاَّ ويذهبون إلى الكنيسة ليصلوا هناك، ويستشيرون القساوسة، لكن أُعيد، وأقول: إن هذه الأمثلة السريعة التي سأقدمها لكم، هي حصيلة أسبوع مما وصل إلي، دون أن أتكلف البحث عنه، وإنما وصل إلي بشكل عفوي غير مقصود، والله على ما أقول شهيد، فانظر إلى هذه النماذج. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 16 بلغاريا في بلغاريا حيث أعلنوا إن حرية الأديان مضمونة للديانات كلها بعد سقوط الحكم البائد فيها، والتصريحات الرسمية تقول: أن بلغاريا هي الجدار الصلب الذي يحول دون تمدد الإسلام إلى أوروبا، إذ هم يعلنون أنهم سيكونون جداراً يحول دون وصول الإسلام وامتداده إلى بقية الدول الأوربية. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 17 هولندا مثلُ آخر: هناك تقرير نشر في أكثر من صحيفة منها صحيفة الشرق الأوسط -فيما أتذكر- تقرير لجهاز الاستخبارات في هولندا، يحذر من التطرف الإسلامي -كما يقول- في البلاد، باعتباره أول خطر حقيقي يهدد الأمن في هولندا، بعضهم يقول: إنه لما سقطت الشيوعية التي كانت خطراً يهدد الأمن هناك، خافوا من تسليح أعداد كثيرة من الجنود والعاملين، ولذلك أبرزوا الخطر الإسلامي كبديل عن الخطر الشيوعي خشية من تسليح هذه الأعداد الكبيرة من الجنود، ولكن يبقى الخطر، وتبقى النغمة الصليبية واضحة تدق ناقوس الخطر من الإسلام. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 18 السودان آخر خبر سمعته البارحة، أثناء انتصارات الجيش السوداني النظامي على حركة العقيد جون قرنق، في الجنوب، لما انتصر الجيش السوداني على قوات النصارى بقيادة قرنق، كيف عبر الإعلام الغربي عن هذا الخبر؟! سمعتُ بأذني الإذاعات الغربية تقول: انتصارات الحكومة السودانية الإسلامية على الجيش الجنوبي المسيحي السوداني، فعملت على إبراز لفظ الإسلامية في الحكومة، وعلى إبراز لفظ المسيحي في الجيش، وكأنها بذلك تحرك مشاعر المواطن العادي في أمريكا وأوروبا وغيرها، إلى أن يتعاطف مع إخوانه النصارى في الجنوب ضد المسلمين الذين يحاربونه، وقد انتصروا عليه، وقد سمعت هذا في عدد من التقارير، بل في البارحة ذكرت إحدى الإذاعات مجموعة من التقارير لصحف أجنبية كثيرة، وأكثرها أبرزت هذا اللفظ، إذاً: هناك ما يسمى بالمسيحية السياسية، أو النصرانية السياسية، التي بدأت تبرز الآن بشكل واضح، تبرز في العالم الغربي، وتبرز في العالم العربي، ولعل أوضح وأقوى نموذج لها في العالم العربي في مصر، فقد بدأت تبرز المسيحية في اتجاه سياسي واضح، ولها رموز وشخصيات وكتب وصحف، وقد تكلم أحد الباحثين، وهو الدكتور فهمي هويدي في مقال له في جريدة الشرق الأوسط، عن هذه القضية بعنوان "الفاتيكان في الحلبة" أو عنوان قريب من هذا المقال، بغض النظر عن المتحدث، الكاتب نفسه بعض الإخوة ينتقدون لماذا يذكر اسمه، هذا لا يمنع من ذكر اسمه؛ المقال مفيد أنصح بالاطلاع عليه وقراءته. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 19 أذربيجان على سبيل المثال: في مدينة قره باخ، حيث المعارك بين الأرمن النصارى، وبين الأذربيجين المسلمين، سكان أذربيجان، حيث المعارك الضارية، الغرب الصليبي يساعد الأرمن، وقد ضبط جنود يقاتلون إلى جوارهم، ضبطوا قتلى من جنسيات مختلفة، حتى من لبنان جنود يقاتلون إلى جانب الأرمن هناك فيما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، وضبطت مكالمات هاتفية كثيرة تدل على تدخل أطراف خارجية في هذه الحرب، ومن المعروف أن الأرمن قتلوا أكثر من ألف قتيل مسلم في قرية يسمونها قرية خوجالي، ودمروا هذه القرية عن آخرها، وقد حاول الإعلام الغربي أن يتجاهل هذه المجزرة، بل قالت بعض وسائل الإعلام الغربي: إن تلك الصور مفبركة أي مصنوعة ومختلقة، وفيها نوع من اللعب، وليست حقيقية. تركيا، وهي المجاورة لهذه الجمهوريات، حيث الأغلبية الإسلامية، تركيا هددت وهنا الميت تحرك، تركيا العلمانية، من عهد أتاتورك، والتي يقوم نظامها على أساسٍ علماني، والذي أستطيع أن أقول من خلال متابعة ورصد جزئي أن اليقظة والصحوة الإسلامية فيها ما زالت أقل من المستوى المطلوب، وأن التغريب قد بلغ مداه على الشعب وليس فقط على الحكومة التركية، ومع ذلك كله، تركيا تهدد بأنها لن تقبل أن يقيس الغرب بمقياسين، تخاطب الغرب والغرب يرشح تركيا لتكون وكيلاً عنه في المنطقة، والغرب يؤيد تركيا على الأقل ضد إيران، وضد الأصولية الإسلامية في المنطقة الإسلامية كلها، فيعتبر أن تركيا بعلمانيتها جزءاً منه، ولهذا يضعها ضمن الحلف الأطلسي، ومن الممكن أن يتقبلها في أي نشاط اقتصادي، ويتعاون معها في مجالات عدة، ومع ذلك تركيا هددت بأنها لن تقبل أن يقيس الغرب بمقياسين، وأن يفرض عليها سياسة الأمر الواقع ثم ترددت تركيا، وقالت: لا تستطيع أن تتدخل إلى جوار المسلمين الذين يقتلون في أذربيجان، لماذا؟! قالت لأن المسلمين هنا يقتلون من قبل النصارى، ونحن الأتراك إذا تدخلنا لصالح المسلمين، فكأننا نحرض الغرب على أن يتدخل لصالح الأرمن، ومعنى ذلك، أن الأتراك العلمانيين يدركون أن الغرب يتحرك بدوافع صليبية، ويناصر النصارى في كل مكان، وأن تدخل تركيا الإسلامية سيدعو إلى تدخل الغرب الصليبي لصالح الأرمن. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 20 ظهور نزعات عنصرية في الغرب والشرق ظهرت في الغرب والشرق نزعات عنصرية كثيرة تطالب بإبعاد الأجانب هذا موجود في أمريكا وموجود في بريطانيا، وموجود في فرنسا بشكل واضح جداً، وهم يقصدون بالأجانب المسلمين بالأخص، وهناك أحزاب كبيرة، أهم فقرة لها في البرنامج الانتخابي، تحاول أن تغري بها الناس: أنها تطالب بإبعاد الأجانب وتقليص حقوقهم، وتقليص الصلاحيات الممنوحة لهم، وهناك خبران مهمان أختم بهما ما يتعلق بهذه الفقرة. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 21 الحلف المقدس الخبر الأول: نشرت مجلة تايم الأمريكية، معلومات مُثيرة جداً عما سمته هي بالحلف المقدس بين المخابرات المركزية الأمريكية، وبين الفاتيكان: التي هي الدولة التي ترعى شئون النصارى في الغرب، حيث ثبت أن هناك جهوداً قديمة منذ أكثر من عشر سنوات بين وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وبين الفاتيكان، ممثلة في البابا يوحنا بولس الثاني، من أجل إسقاط الشيوعية في بولندا، ثم إسقاط الشيوعية في العالم، واستلام التركة، وأن بابا الفاتيكان بعدما نجح في هذا العمل الكبير الجبار في التعاون مع الأمريكان في إسقاط الشيوعية، أنه يرشح للقيام بدور كبير على مستوى العالم كُلِهْ، ضُمْ إلى هذا الخبر خبراً صغيراً نشر في زاوية "افتتاح سفارة للفاتيكان في الكويت"!! الجزء: 188 ¦ الصفحة: 22 الخطر الجديد على الغرب الخبر الثاني: الذي ذكرته هو: كتاب ظهر في أمريكا عنوانه "صعود القوى العظمى وانحطاطها" مؤلفه رجل اسمه بول كندي، طبعاً يتكلم عن سقوط الشيوعية، ويقول: سقطت الشيوعية وسوف تسقط أمريكا بنفس الأسباب التي سقطت بها الشيوعية، ووضع قوانين وسنناً ونواميس لسقوط القوى العظمى وانحطاطها، وصعودها وسقوطها، وفي ظل الخوف من سقوط أمريكا خاصة، مع الركود والأزمات الاقتصادية التي تعانيها، ومع المشكلات كمشكلات البطالة والديون وغيرها، لم يرتح كثير من الساسة الأمريكيين لهذا الكتاب، فظهر كتاب آخر، أحدث ضجة كبيرة، وهو المقصود هنا وهذا الكتاب اسمه "نهاية التاريخ" مؤلفه رجل اسمه فوكوياما: هو أمريكي من أصل ياباني، خلاصة الكتاب يقول انتهى التاريخ، سقطت الشيوعية، وسقطت كل التحديات التي تواجه الغرب، وثبت الآن بما لا يدع مجالاً للشك أن ما يسمى بالديمقراطية الليبرالية هي الخيار الوحيد أمام العالم، وبناءً عليه فإن الديمقراطية الليبرالية سوف تفرض سلطانها على العالم كله بدون مقاومة، وليس هناك تحديات حقيقية تواجهها، هذا خلاصة الكتاب ولكن الكثيرين لم يرتاحوا لهذا الكتاب، وما قاله، فردوا عليه ردوداً كثيرة جداً في الصحف والمجلات، بل صدرت كتب كثيرة تتكلم عن هذا الموضوع، وأحد الكتب صدر في فرنسا تحت عنوان "الانتعاش الديمقراطي" وأهم ما جاء في هذا الكتاب أنه أكد على أن الإسلام هو الخطر الحقيقي الذي يواجه ما يسمونه بالديمقراطية الليبرالية، وقال: الإسلام خطر حقيقي، وهو دين صلب، وغير متسامح، ولا يوجد مثال واحد على تسامح الإسلام، الأفراد الذين يظهرون المرونة معنا من المسلمين يعدون على الأصابع، وعد ثلاثة من المفكرين، من أمثال ابن جلون في المغرب، ومفكر مصري، وثالث وقال: هؤلاء ليس لهم أي تأثير، فهم منبوذون من مجتمعاتهم، أفكارهم وأطروحاتهم غير مقبولة يقول: لا تكمن المشكلة في المسلمين فقط لا، المشكلة تكمن في الإسلام ذاته، إنه دين صلب وصعب وغير متسامح، وهو مصدر الإرهاب الدولي العالمي الرسمي، ويستحيل أن يتخلى المسلم عن دمويته وعنفه، ومازال الكلام للمفكر الفرنسي يقول: والإسلام كان في الماضي خطراً خارجياً، يتمثل في الدولة العثمانية التي كانت تهدد أوروبا، أما الآن فالإسلام خطر خارجي وداخلي أيضاً، خارجي من خلال الأصولية الإسلامية العالمية، التي قامت حتى الآن في البلاد الإسلامية كالجزائر أكثر مما كان في الجمهوريات السوفيتية الإسلامية، وفي الصين وفي أي مكان، وهو أيضاً خطر داخلي يتمثل في المسلمين الذين يقيمون في أمريكا، وفي بريطانيا، وفي فرنسا، وفي هولندا، وفي أكثر من مكان من العالم الغربي، ويمكن أن تتزايد هذه الأعداد في تلك البلاد، وتشكل خطراً حقيقياً من داخلها، عموماً نغمة العودة إلى ما يسمى بالأصولية المسيحية تتزايد في الغرب، وهو يقدم المسيحية كبديل عن الشيوعية للروس، ويقدم المسيحية كسلاح في مواجهة الإسلام في المرحلة المقبلة، لأنه يعرف أنه لا يمكن أن يواجه الإسلام إلا بقوة عقائدية، ولا يملك قوة عقائدية إلا المسيحيون، ولذلك أقول: سوف تشهدون وتسمعون وترون إقبالاً من الغرب على النصرانية، ليس قناعة في النصرانية، ولكن من باب مواجهة الإسلام بقوة نصرانية، أعطيك مثالاً: في ألبانيا، الحاكم رامز علي، شيوعي، والشيوعية قد سقطت وانهارت، رامز علي وهو شيوعي استيقظت فيه آثار الإسلام السابقة فجاء للمسلمين، يقول لهم: الآن الشيوعية التي كنت أدعو لها وأتحمس لها، قد انهارت، وما بقي أمامي إلا طريقان: إما الإسلام، وإما النصرانية، وإذا كان الخيار بين الإسلام والنصرانية فأنا أفضل الإسلام، فتفضلوا تعالوا أنشئوا ما شئتم من المساجد والمدارس والمؤسسات، وأنا سوف أدعمكم وأساعدكم وأكون في صفكم، وقد بعث مندوبين من وزرائه إلى البلاد الإسلامية، وقالوا: قريباً من هذا الكلام، وقال هو هذا الكلام في أكثر من مناسبة. إذاً: كما أن المسلم الذي تحول إلى شيوعي، لما انهارت الشيوعية وجد أن الإسلام هو البديل، ولو لم يكن مسلماً حقيقياً قد لا يكون مسلماً بالمصطلح الشرعي، بحيث لو أتيت تنظر هل هو مسلم فعلاً، قد تجد إنه ليس كذلك، ولكنهم سوف يكونون مؤيدين للنصرانية؛ لأنهم يواجهون خطر الإسلام والمسلمين. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 23 اليهود يدافعون عن حقوقهم اليهود يتصلبون في مواقفهم مما يسمى بجهود السلام، كما هو واضح جداً، وذلك لأن اليهود لا يريدون أبداً أن يكون لهم في إسرائيل حدود يقفون عندها، يريدون أن يظلوا في توسع مستمر، وهم يدعمون كل من يساعدهم أو يعينهم، ويستقبلون الآلاف من المهاجرين اليهود من الاتحاد السوفيتي ومن غيره من بلاد العالم، ويحرصون على الإفادة من المتغيرات الدولية لصالحهم. يعلن اليهود أنهم الدولة التي تدافع عن حقوق اليهود في العالم، فلو أصيب يهودي بمشكلة أو مأساة مثلاً في فرنسا لقام اليهود يدافعون عنه، ويقولون: إن هذه حرب ضد السامية، وأن هذه تفرقة عنصرية، ويشنونها حرباً إعلامية لا تهدأ، حتى يبلغوا ما يريدون. إن الأحزاب الأصولية المتشددة في إسرائيل في تقدم مستمر، وبشكل عام، فإسرائيل دولة يهودية دينية، قامت على أساس ديني، وهي تدافع عن حقوق اليهود في كل مكان. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 24 إيران تنشر مذهبها ولغتها إن إيران إحدى الدول التي تتحرك بقوة وبشكل غريب في المنطقة، فهي تتحرك في ظل الفراغ الكبير الذي أحدثته النقاط التالية:- الجزء: 188 ¦ الصفحة: 25 السقوط والانهيار عند بعض الدول رابعاً: السقوط والانهيار الذي تعيشه كثير من الدول التي ظهر ولاؤها للغرب، وارتماؤها في أحضانه، وحرصها على مصالحه، وسهرها عليه، وتحالفها -أيضاً- مع عدو الله والمؤمنين اليهود. إيران تقدم مذهبيتها للمسلم السني الذي ظل أكثر من سبعين سنة وراء الستار الحديدي عنده عاطفة للإسلام، لكن لا يعرف عن الإسلام أي شيء إلا مجرد انتساب وولاء، ومجرد أن آباءه أو أجداده كانوا مسلمين، فماذا تتصور إذا فتح هذا المسلم عينيه على جهود إيرانية تقدم له التشيع؟! وتعلن له محبة الله، وتعلن له محبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وتعلن له محبة أهل البيت، وتعلن له شيئاً اسمه الإسلام، ثم تقدم له المذهبية الشيعية على هذا الطبق، هل تعتقد أن هذا المسلم سيتردد ولو لحظة عن قبول المذهب الشيعي، الذي أظنه أنه سيستقبله بكل سرور، خاصة وأن إيران تقدم مع ذلك الاقتصاد، فهي تقيم علاقات اقتصادية مع تلك الدول، وتدعم الدول دعماً اقتصادياً كبيراً، وتقدم الخبرات، وتقدم الإمكانيات التي تتمتع بها دولة كبرى مثل إيران، مع مراعاة وجود نوع من الاشتراك أصلاً في اللغة والتاريخ والثقافة، خاصة بين إيران وأذربيجان، التي تقطنها أغلبية شيعية، ولذلك فإن تلك الدول مهددة بغزو إيراني كاسح، ليس تلك الدول فقط، بل العالم الإسلامي كله مهدد الآن! الجزء: 188 ¦ الصفحة: 26 مواقف مشرفة لإيران إن إيران هي القيادة الإسلامية المرشحة في هذا الظرف، ومع الأسف الشديد إيران وقفت ضد الصلح مع إسرائيل، في حين وقفت كل بلاد العرب والإسلام مع الصلح سراً وعلانية، وأيدت اليهود ودعمتهم، بل الدول الغنية قدمت لهم المال لتمويل مشاريعهم، وبعض السفراء التقى بزعماء اليهود، وقال: ليس بيننا وبينكم شيء، ونحن مستعدون لدعمكم بالمال؛ لضمان مسير عملية السلام -كما يقول- فوقفت إيران ولو إعلامياً ومن باب المزايدة ضد عملية السلام. إيران وقفت مع المسلمين المضطهدين في الجزائر، على الرغم من أن الدول الأخرى كلها وقفت ضدهم مادياً ومعنوياً، وساعدت عدوهم بالمال والرجال وبغير ذلك. إيران تعلن دفاعها عن حقوق المسلمين في كل مكان، وفي العام الماضي في الحج وزعت إيران كتاباً من خمسين صفحة، تكلمت فيه عن كل قضايا المسلمين المضطهدين في العالم اللهم إلا قضية أفغانستان لم يمروا بها؛ لأنها قضية سنية بحتة واضحة، فمروا عليها مرور الكرام، ولم يذكروها بشيء. هذا الأمر المؤسف. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 27 تهديد عقائد المسلمين يهدد بتحول في عقائد المسلمين وضمائرهم على الأقل إلى الثقة والإعجاب بالعقيدة الشيعية التي تتبناها إيران أقل ما سيكون أن ما كان يشعر به المسلم من حاجز بينه -بكونه مسلماً سنياً- وبين تلك الجهود وتلك الدولة، وتلك المذهبية بكونها شيعة جعفرية أثنا عشرية: أن هذا الحاجز سوف يزول ويتهدم، ويتقبل المسلمون المذهبية الشيعية الإيرانية ويتأثرون بها. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 28 إيران قوة كبرى في المنطقة -وعلى كل حال- فإيران تعد نفسها قوة كبرى في المنطقة، وهناك تقارير كثيرة نشرت في مجلة الأسبوع العربي عن التسلح النووي الإيراني، والتسلح النووي الإيراني ليس أكثر خطورة، عندنا من النفوذ السياسي، والعقائدي، والاقتصادي، والإعلامي، والأمني الكبير الذي تحظى به إيران اليوم في ظل غياب الإسلام السني، وغياب وجود من يمثله على المستوى الرسمي، وفي ظل غياب الاتحاد السوفيتي وانهياره، وفي ظل الأزمة التي يعيشها العراق، وفي ظل السقوط الذي تعيشها القيادات العربية والإسلامية. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 29 أزمة العراق ثالثاً: الأزمة التي يعيشها العراق، فقد كان العراق يشكل نوعاً من التحدي لإيران، ويشكل نوعاً من توازن القوى، لكن في ظل الوضع الصعب الذي يعيشه العراق أصبحت إيران تتحرك بحرية أكثر. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 30 غياب الإسلام السني أولاً: هناك غياب الإسلام السني، سواءً على صعيد الدول، أم على صعيد المؤسسات والمنظمات، ونقول بكل مرارة: لا توجد دولة تتبنى الدفاع عن حقوق المسلمين السنة في العالم، المسلمون ليس لهم بواقٍ، فالمؤسسات والمنظمات التي تتبنى الدفاع عن المسلمين وإغاثتهم ومساعدتهم لا تزال قليلة وهي دون المطلوب بكثير! الجزء: 188 ¦ الصفحة: 31 سقوط السوفيت ثانياً: سقوط ما يسمى بالاتحاد السوفيتي، ووجود الجمهوريات التي تركته وهي بأمس الحاجة إلى من يساعدها، ويأخذ بيدها، فتتنافس عليها مثل إيران وتركيا والغرب، أما المسلمون السنة فهم أصلاً ليسوا على مستوى أن يفكروا في هذا الأمر مما يظهر على المستوى الرسمي، أما على المستوى الشعبي فأمر آخر. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 32 أين المسلمون؟ أين المسلمون؟! أغنى منطقة في العالم هي المنطقة الإسلامية، وأفقر منطقة في العالم هي المنطقة الإسلامية. ومن العجائب والعجائب جمة قرب الحبيب وما إليه وصول كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول الجزء: 188 ¦ الصفحة: 33 على المستوى الاقتصادي أما على المستوى الاقتصادي فالعالم الإسلامي -كما نعرف- مرتبط اقتصادياً باقتصاد الغرب الحر، وبالتالي لا يستطيع أن يفعل كبير شيء والكلام عن قضية السوق الإسلامية المشتركة وغيرها، يبدو أنه أقرب إلى الخيال -على الأقل في الوقت الحاضر- منه إلى الواقع، وكذلك الحال بالنسبة لما يتعلق بالجانب السياسي، فالقرارات السياسية: هي ظل وأثر للقرارات الغربية، وبالتالي لن تكون ذات تأثير. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 34 قلة دخل الفرد المسلم في هذه البلاد الإسلامية بلاد النفط الذي تفيض نفطاً وسمناً وعسلاً وذهباً، هذه البلاد هي أفقر بلاد الدنيا، فالعالم الرابع: يمثل البؤس والتخلف الجهل والمرض، فأقل مستوى لدخل الفرد في العالم يوجد في بلاد الإسلام. انظر مثلاً: في بلاد بنجلاديش وماذا تعاني؟ لقمة العيش لا يستطيع أن يجدها المسلم، ومع ذلك يواجهون مشاكل في الفيضانات، وما ينزح إليهم من بلاد أخرى، وفي أمور كثيرة. مما يعانيه المسلمون في أفريقيا، اللاجئون الإريتريون مثلاً، واللاجئون الصوماليون، واللاجئون في السودان، وفي كثير من بلاد العالم، وفي كينيا مستوى فقر لا يوجد في أي مكان آخر في الدنيا، ولا يشابهه إلا ما يعانيه المسلمون في البلاد التي كانت شيوعية، كألبانيا مثلاً، حيث لقمة العيش لا يجدونها. المال الإسلامي، والخبرة، والعقول الإسلامية، التي جعلت العالم الإسلامي هو أغنى منطقة في العالم لا تعدو أن تكون الآن سوى زبدة لخبز الغرب، والتجاهل الإعلامي لقضايا المسلمين شيء كبير. وأيضاً- أعطيكم نماذج مما جاءني خلال هذا الأسبوع لم أسع في تحصيله لكنه جاءني عفواً من بعض الإخوة، نماذج من بعض القصاصات من صحفنا التي تمثل بلاد الحرمين، الصحف التي يتوقع المسلم أنه إذا صرخ المسلم في مشرق الأرض ومغربها، ساعدناه وأغثنا لكنه فوجئ أن الأمر كما قيل: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم قصاصات من تلك الصحف، صحيفة تهتم بالشئون الرياضية، تكلمت عن فتاة من بوخارست، وقصتها أهم من أوضاع المسلمين في الاتحاد السوفيتي، هذا الخبر -معذرة على ما أسوقه من الأشياء التي تسوء مسامعكم في هذا المكان الطيب وفي هذا الشهر المبارك، نحن نريد أن نعرف واقعنا- فتاة جميلة انتحرت عن طريق تناول الحبوب المنومة، وجعلوها في المشرحة بعد أن ماتت، الحارس رأى تلك الفتاة فأعجب بها، فأراد أن يغتصبها، والعياذ بالله، ليفعل بها الفاحشة، فوجئ بأن هذه الفتاة استيقظت، وبدأت تدافع عن نفسها، ولكنه تغلب عليها وانتصر، وفعل بها فعلته، علم الأهل فأتوا، وأعطوا هذا الحارس جائزة، الذي كان سبباً في اكتشاف أن ابنتهم لم تمت، وأن التشخيص كان خطأً، القضاء حائر ماذا يصنع بهذه القضية، هل يعاقب الحارس أم يجازيه؟!! هذا هو الخبر الذي يهم جريدة رياضية من أوضاع المسلمين وأوضاع الناس في جمهوريات الاتحاد السوفيتي. وصحيفة أخرى غير سياسية، صباحية تنشر مجموعة من الأخبار، -وما سوف أذكره لكم من عدد واحد أو عددين فقط- يهمها كثيراً: أن الرئيس الفرنسي قد اختير لرئاسة جمعية الحمير العالمية، وأحدهم ذكر سمى نفسه بالحمار الأكبر، وقال: إن الحمار هو أكثر الحيوانات صبراً وتضحية واستعداداً للبذل، ولذلك وصف نفسه بهذا الوصف، ومرة أخرى كتبت هذه الجريدة بخط واضح -مع الاعتذار- أن لبن الحمير مفيد لطفلك الصغير، وتكلمت عن الجرعات التي يمكن أن تعطيها الأم للطفل من هذا اللبن؛ حتى يستفيد منه صحياً وغذائياً، وقالوا: أنه أفضل من أي شيء آخر، هذا هو الذي يعنيهم ما يتعلق بأخبار الحمير. أما الأمر الآخر الذي يعنيهم كثيراً، -وأقولها بكل مرارة وأسف- فهي أخبار الداعرات، وهل عرفتم صحيفة تصدر بلغة عربية وتمثل بلاد الحرمين الشريفين، ويكتب فيها أناس يحملون أسماءً إسلامية، كل همها الكلام عن موضوع الداعرات، من عدد واحد أنقل لكم: أيلونا، نجمة الخلاعة السابقة، تعلن نفسها لخوض الانتخابات، وقد كانت هذه المرأة طلقت من زوجها التي تأخذ عليه أنه كان شديد الغيرة، وأيلونا هذه نجمة للخلاعة -والخبر لا يزال لتلك الجريدة الصباحية- وفي غيابها حلت محلها نجمة أخرى على رأس حزب الحب، الذي يدعو إلى التحرر الجنسي، وإعادة فتح بيوت الرذيلة، لم تعلق الصحيفة على الخبر ولا بكلمة واحدة، بل نشرت خبراً آخر في نفس العدد، بل في نفس الصحيفة، خبراً عن نجمة من نجمات البلاي بوي وهي: شركة تعنى بقضايا الفساد الأخلاقي، والمجلات، والأفلام الخليعة وما يتعلق بها، هذا هو ما يهم هذا الإعلام الفاسد المهتري من أحوال وأوضاع، في الوقت الذي يذبح فيه المسلمون، وتراق دماؤهم ويموتون جوعاً وعطشاً وتملأ بهم السجون. وأقول أيها الأحبة: هذا أحسن ما تنتظره من هؤلاء لماذا، لأنهم إذا تكلموا عن أحوال المسلمين فماذا يقولون؟! إذا تكلموا عن أحوال المسلمين، قلنا يا ليتكم كنتم مشغولين بالحمير، ويا ليتكم كنتم مشغولين بالكلام عن نجمات البلاي بوي، نجمات الخلاعة، عن الكلام في أوضاع المسلمين، لماذا؟! لأنهم إن تكلموا عن المسلمين وصفوهم بالأصوليين، والمتطرفين، والمتشددين، وأقبح النعوت، وكتبوا وقدموا التقارير التي تدينهم، وجندوا وحشدوا الكتاب الذين يعبرون عن رغبة هؤلاء الصحفيين، ورغبة من وراءهم من رجال الاستخبارات وغيرهم، في تشوية صورة المسلمين في بلاد المسلمين وغيرهم هذا على المستوى الإعلامي. إذاً يعيش المسلمون غياباً كبيراً نحو إخوانهم المسلمين إعلامياً. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 35 أسباب تحجيم الدعم عن المسلمين وهنا يأتي السؤال مادمت تقول هكذا! هل النفق مسدود؟ وهل الطريق مسدود أمامنا؟! أقول: كلا، إذاً: فماذا نفعل؟ هذا ما سنتحدث عنه، وهنا أطرح سؤالاً: لماذا نحجم نحن المسلمون عن دعم إخواننا في كل مكان؟ يعتذر بعضهم عن دعم المسلمين لأسباب: الجزء: 188 ¦ الصفحة: 36 التشكيك في صحة الأخبار عن المسلمين السبب الثاني: بعض المسلمين يشككون في صحة الأخبار الواردة عن إخوانهم المسلمين، وأقول أمامنا الآن تقارير مكتوبة بأقلام إسلامية، وعندي منها شيء كثير، -ذكرت لكم ما جاء خلال أسبوع فقط- وأمامنا صور، وعندي ألبومات صور تحكي كثيراً مما ذكرت لكم، رأيته مصوراً للعيان، يراه الإنسان بعينه، وهناك كثير من الأفلام -الفيديو-صورت مآسي المسلمين حتى إن أحد الأفلام ورد فيه تصوير لأعداد من المسلمين وقد قتلوا، وهدم عليهم المسجد الجامع في أحد المدن، أظن في سريلانكا أو غيرها. هناك الأخبار المصورة، التي تنقلها وسائل الإعلام من الشرق والغرب، هناك الذين يذهبون إلى تلك البلد، ويطلعون على الأحوال بأنفسهم، وهم شهود عيان يتكلمون عما رأوا وشاهدوا وعاينوا. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 37 التشكيك في وصول الدعم إلى المسلمين أعتقد أنه يمكن أن يحصل تضليل أحياناً، وبعض ضعاف النفوس قد يستغلون هذه الأوضاع، وقد يأتي إنسان يتكلم عن أحوال المسلمين وعن حاجتهم ولا يوصلها، ولكنه يحتجزها لنفسه أو لمصلحته، لكن وإذا كان ذلك كذلك، هل هذا يحول بيني وبين الإنفاق؟! لا. نحن لا نتحرك وفق أذواقنا، نحن نتحرك ضمن التعليم الذي جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونرجع إلى التعليم النبوي، أليس ضمن التعليم النبوي: ما جاء في الحديث المتفق عليه -أيضاً- أن رجلاً غنياً خرج ليلة، وقال: {والله لأتصدقن الليلة، فأخذ مالاً فتصدق به، فلما أصبحوا، قالوا: تُصِدَقَ الليلة على غني، فقال: اللهم لك الحمد على غني؟! -يعني ما بلغت محلها في ظني- لأتصدقن الليلة، فخرج الليلة الثانية فتصدق، فأصبحوا يتحدثون،:ويقولون تُصِدِقَ الليلة على زانية، فقال: اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن الليلة، فأصبح الليلة الثالثة فتصدق فأصبحوا يتحدثون: تُصِدْقَ الليلة على سارق، فقال: اللهم لك الحمد على سارق! فقيل له: إنها كُتِبَتْ صدقة متقبلة، أما الغني فلعله يعتبر فينفق، وأما الزانية فلعلها س تستعف عن زناها، وأما السارق فلعله يكف عن سرقته} هب أنك أخرجت صدقة لوجه الله تعالى تنويها للمسلمين في مكان في الدنيا، ولنفترض جدلاً أنها وقعت في يد إنسان مغرض وأخذها لنفسه، أنت تريد الأجر، والأجر حصل والزكاة خاصة، هي أمر أوجبه الله تعالى عليك، وفرضه الله تعالى عليك، فهي حق للمسلمين مطلوب منك أن تخرجها، وتبذل الوسع لإيصالها إلى مستحقيها، لكن ليس من حقك، أن تقول: لا أخرجها لأني أخشى أن تضيع، هب أنها ضاعت بعدما تبذل كافة الاحتياطات الممكنة، على غنى على زانية على سارق، قد كتبت في الصدقة المتقبلة إن شاء الله، هذا جانب. الجانب الثاني: أن هناك كثيراً من طلبة العلم، والمشايخ، والدعاة، والجهات الإسلامية، التي تقوم بجهود كبيرة في دعم المسلمين وإغاثتهم وإيصال الخير والبر والمعروف إليهم، يمكن أن يستفاد من هؤلاء جميعاً، وأنت إذا سلمت مالك لرجل تثق به، وقلت له: أرجو أن لا توصله إلى أي إنسان إلا بعد التوثق من حاجته، ولا تعطه أي وسيط إلا بعد أن تطمئن من أمانته وصدقه، هذا ما تستطيعه، وقد قمت به قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . الجزء: 188 ¦ الصفحة: 38 الانحراف والفساد وعدم الالتزام من الأسباب التي يعتذر بها بعضهم، أنهم يقولون: إن المسلمين هناك يعيشون في جو من الانحراف والفساد، وأنهم غير ملتزمين بالدين، وكثير منهم -كما يقولون- بعضهم مسلمون بالاسم فقط، وأقول: هب أن الأمر كذلك، ألا تعرف أنه من ضمن تعاليم سيدنا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين أن امرأة بغي زانية سقت كلباً، فشكر الله لها، فغفر الله لها، {امرأة نزلت إلى بئر فشربت، ثم صعدت، فوجدت كلباً يلحس الثرى من شدة العطش، فقالت: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزعت خفها، ونزلت البئر وملأته ماءً، ثم عضته بفمها وصعدت، ثم سقت الكلب، فشكر الله لها، فغفر الله لها، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجراً، قال عليه الصلاة والسلام: في كل كبد رطبة أجر} المسلم المنحرف أليس ذا كبد رطبة؟! يا أخي لو سقيت الكلب، يجازيك الله خيراً، وهذا مسلم، إنسان، لا تسقيه يقول: إني جائع فأطعمني، إني عارٍ فاكسني، إنني عطشان فاسقني، ويقول -أيضاً-: إنني جاهل فعلمني، يا أخي، الفقر والجوع والعرى جو غير مناسب للدعوة إطلاقاً. ثم ليس من اللائق أبداً، أن تقف على رأس إنسان يتضور ويتلوى من الجوع والعطش في ظل الهجير، أو في ظل البرد القارس، وتقول له لا أعطيك الماء حتى تكون كذا، وكذا، وكذا، ولا أطعمك حتى تلتزم بكذا وكذا وكذا، أبداً هذا غير لائق، ولا يأتي الدين بمثل هذا! اسقه وأطعمه واكسه، وانصره، ثم قل له: إن الإسلام هو الذي يجمع بيني وبينك، وهو الذي دعاني لأسقيك وأطعمك، وهو الذي يقتضي منك أيها المسلم أن تكون مستقيماً، صالحاً، مؤمناً، عابداً، تقياً، زاهداً، ورعاً، إلى غير ذلك. وإذا لم تفعل أيها المسلم، وامتنعت عن دعم أخيك المسلم بحجة انحرافه، فإن مؤسسات التنصير، وهي كثيرة في الغرب جداً، والأوقاف التي توقفت لهم، ومساعدات البنوك الهائلة التي تصب في جيوب المنصرين، لن تتردد أبداً في دعم هؤلاء، وهي تقدم لهم الطعام، والشراب، والدواء، والكساء، بيد، وتقدم لهم الإنجيل والتنصير بيد أخرى، ولعلك تعلم أن مؤسسة واحدة، "مؤسسة فرانكلين" على ما اعتقد في بريطانيا طبعت من الإنجيل أكثر من ستمائة ألف نسخة، خاصة لمنطقة الخليج العربي خلال حوالي ثلاثة أو أربعة شهور فقط، هذا ومنطقة الخليج العربي: منطقة إسلامية بحتة، النصارى فيها عدد محدود جداً، فما بالك بالمناطق التي يوجد فيها الوثنيون، ما بالك بالمناطق التي يوجد فيها مسلمون جهلة، فقراء، ضعفاء، عراة، عطاش، والتنصير يشتغل على قدم وساق، رأيتُ بعيني عمارات فخمة في أرقى المواقع في أمريكا وغيرها، أوقاف خاصة بالمؤسسات التنصيرية، والبنوك ملزمة بأن تدفع للجمعيات التي يسمونها خيرية أموالاً ضخمة جداً، تلك المؤسسات والمنظمات تقدم لها تسهيلات غريبة في الغرب، أقلها أنها تُعفى من جميع الرسوم والضرائب؛ حتى تقوم بمهمتها خير قيام، إذاً: ليس وجود الانحراف عند المسلمين حجة تحول بيننا وبين دعمهم. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 39 ماذا يجب أن نعمل؟ الجزء: 188 ¦ الصفحة: 40 الدعم الاقتصادي الأمر الآخر الذي يحتاجونه: الدعم الاقتصادي، أما على مستوى الدول، وسوق إسلامية مشتركة، وتبادل اقتصادي هذا أمل ومطلب، ولكن: لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي ولو ناراً نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد إنما أتكلم على المستوى الشعبي، قضية التبرعات، والحاجة إلى التبرعات من الزكاة ومن الصدقات عند إخواننا المسلمين هناك، أن يجعل الإنسان جزءاً من زكاته إلى المسلمين في الخارج، ويتبرع -أيضاً- لهؤلاء المسلمين أداء لبعض حق الله تعالى في المال، إقامة المؤسسات الخيرية، هل يكفي أن يوجد عندنا مؤسستان أو ثلاث مؤسسات تتبنى أحوال المسلمين؟! أقول: لا، ثم لا، بل إنني أقول: إن من المهم جداً، بل من الضروري أن يكون لكل مهتم بأمور المسلمين، وكل معني، وكل داعية كبير، وكل طالب علم كبير، أو خطيب: أن يكون له مكتب في بيته أو مسجده يربطه بالمسلمين في كل مكان تصله التقارير، تصله الوثائق، تصله الصور، تصله الحقائق، وبالمقابل يبعث هو بنفسه الكفاءات التي تتحقق من الأوضاع، وتتقصى الأخبار، وتطمئن على الأوضاع، وتعرف حقيقة ما يجري هنا وهناك، ومن مهامه أيضاً: أنه يجمع الأموال من أثرياء المسلمين، وتجارها وعامتهم من الزكاة والتبرعات، ويقوم بإيصالها إلى المستحقين هنا وهناك. والأمر الرابع الذي لا غنى عنه: أنه يقوم ببعث الدعاة وتنظيم جولاتهم، على سبيل المثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، حفظه الله، وأمد في عمره على عمل صالح، هذا الرجل أمة وحده، دعك من عمله الرسمي: الذي هو رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، له مكتب آخر في بيته، هذا المكتب يقوم بالإنفاق على آلاف الدعاة في أنحاء العالم، وصرف مرتبات شهرية لهم، ودعمهم بالمال وما يحتاجون إليه، وهذا ما يسمى بصندوق البيت -خاص بالشيخ- يقوم على نفقات المحسنين وتبرعاتهم وعطاياهم وهباتهم، وعلى الزكاة. فلماذا لا يكون كل داعية أو طالب علم معتبر أو خطيب مشهور له جهد مصغر مماثل لجهد الشيخ؟! إذا كان الشيخ ينفق على آلاف الدعاة، فيكفيني منك أنت أيها الداعية الشهير أو الخطيب المعروف أن تنفق على عشرة دعاة في مكان ما من الأرض، أو تنفق على مركز إسلامي في مكان، أو تقوم بتتبع أوضاع المسلمين في إحدى الدول، فتكون قد كفيتنا إحدى هذه الثغرات، وكنت صلة الوصل بين المسلمين هنا والمسلمين هناك، عرَّفت المسلمين هنا ماذا يواجه إخوانهم هناك؟ ونقلت الإعانات والمعونات والخير من هنا إلى هناك. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 41 العلاج الأمر الآخر الذي يحتاجونه هو العلاج، فمن أعظم ما يعانيه المسلمون قضية المرض والموت بالعشرات بل بالمئات، بل بالألوف، وفي عدد من البلاد يموت الأطفال -أحياناً- جوعاً، وأحياناً من المرض، وقد يكون لا يحتاج إلا إلى كوب من الماء، يكون معه شيء من الملح أو غيره، ولكن حتى هذا، ولو وجد لا يوجد من يذكر لهم هذه الوصفة، فيحتاجون إلى العلاج، وهذا العلاج يحتاج إلى الدعم الاقتصادي والمال، ويحتاجون إلى الأطباء، والطبيب يمكن أن يساعد في إجازته في إحدى تلك البلاد، يخفف من معاناة الشعب، ويمكن لتاجر أن يوفر مستشفى، أو يوفر بعض الأجهزة، أو يوفر بعض الأدوية التي يحتاجها المسلمون، أنا متأكد أن الموضوع قد طال أولاً ومتأكد ثانياً أنه ربما كان الصيام له أثر في الإلقاء، أرجو أن لا أكون أثقلت عليكم بهذا الموضوع. وأسأل الله تعالى أن يكون هذا الموضوع بداية لأن يهتم المسلمون بأحوال المسلمين في كل مكان، وأن نعيش هموم أمتنا في مشارق الأرض ومغاربها، وأن نقيم الجسور معهم، وأن يوفقنا جميعاً لأن نرخي جيوبنا لدعمهم مادياً، ونبذل ونضحي لدعمهم دينياً وشرعياً، بإرسال الدعاة إليهم، وإرسال الكتب، وإرسال الأشرطة، وإرسال المناهج التعليمية، وإقامة المدارس، والمراكز والمؤسسات وغيرها. أسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً نستشعر معنى الأخوة الإسلامية التي تربطنا بهم، وأن نسرع في القيام بما أوجب علينا من نصرتهم، وأن نسرع في تلافي النقص الذي نعيشه الآن، لئلا نسأل أمام الله تعالى عنهم فلا نجد جواباً، يوم لا يكون ثمة مجالُُ إلا للحق. أسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً إلى بذل ما نستطيع لإخواننا المسلمين هناك والحمد لله رب العالمين. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 42 أولاً: التعليم والدعوة المسلمون في حاجة إلى تعليمهم أمور دينهم، وعقيدتهم، وتصحيح مفاهيمهم، وتعليمهم عباداتهم، ومعاملاتهم، وربطهم بدينهم، وربطهم بالقرآن والسنة، والمنهج الصحيح، وهم أحوج إلى ذلك من حاجتهم إلى الطعام والشراب والهواء، فهناك الحاجة إلى إقامة جامعات، ومراكز ومدارس إسلامية، وخلاوي لتحفيظ القرآن الكريم، والحاجة إلى نشر الكتاب الإسلامي، ونشر الشريط الإسلامي، وترجمة الكتب وطباعتها ونشرها، واستقبال الطلاب المسلمين في الجامعات العربية والإسلامية والمدارس وغيرها، وتكثيف المنح التي تمنح لهم بعثة دعاة إلى كافة أنحاء العالم، وهنا يأتي دور الخريجين، والمتعلمين، والدعاة عامة، وطلبة العلم، والخطباء وسواهم. لماذا لا ينتدب مجموعة من شبابنا إلى أنحاء العالم ليذهبوا إلى هناك، إن التجار مستعدون أن يساعدوهم ويعطوهم رواتب، يذهبون إلى هناك يعلمون، ويهدون ضالاً، ويدعون كافراً، ويصلحون فاسداً، ويقومون معوجاً وفي الحديث: {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} أنت هنا مجرد رقم تحضر محاضرة، أو تحضر درساً، لكنك هناك سوف تصبح بإذن الله موجهاً، وداعياً لأمة بأكملها، أو لدولة بأكملها، أو لمدينة بأكملها، فلماذا لا يذهب بعض الشباب، ولو لفترة سنة، أو سنتين إلى هناك؟، إذا قلت لي: لا، أقول لك: لماذا لا تذهب ولو في الإجازة؟ أيها الخطيب، أيها الداعية، أيها المعلم، أيها الشاب المهتدي، أيها المدرس في حلقة تحفيظ القرآن، أيها الخريج من الجامعة، أي جامعة إسلامية، أيها الغيور على دينك لماذا لا تقضي شهراً من إجازتك في أي موقع من العالم الإسلامي الذي يوجد فيه مسلمون، -وذكرنا نماذج منها؟ - الكلام الذي نقوله تراه عياناً، ربما تتحرك غيرتك، ربما تقوم بجهد كبير بدلاً من أن تكون الجهود محدودة وقليلة ومحجمة، يمكن أن تتحول إلى جهود كبيرة وجبارة؛ لأننا أصبحنا أمام أعداد من المسلمين لديهم الغيرة، ولديهم الحماس، ولديهم الحرقة؛ لأنهم رأوا بأعينهم، وما راءٍ كمن سمع أبداً. نحن لما نقول: هناك أطفال ونساء وعجزة وفقراء هذه كلمة، لكن لو رأيت بعينك، ولو حتى في نشرة الأخبار المصورة، لو رأيت الطفل: وهو هيكل عظمي، أو رأيت الشيخ الذي على وجهه بانت آثار السنين، وتجاعيد الزمن، وهو يعيش آلام الفقر والمسغبة، يحرك فمه فلا يجد الطعام ولا يجد الشراب، سوف تتأثر لذلك أكثر مما تتأثر من محاضرات كثيرة، لا يكفينا منك أن تذم الأوضاع وتسبها إلى متى سنظل نحن المسلمين نتكلم فقط؟! إلى متى نظل تنتقص فقط؟! لماذا لا تتحرك خطوة واحدة عملية؟ نذهب إلى تلك المواقع، ينفر منا طائفة يعلمون الناس دين الله تعالى، يدعون الناس إلى الكتاب والسنة يكونون وسطاء بين التجار هنا وبين الفقراء هناك، بين العلماء هنا وبين الجهال هناك، بين الهدايات الموجودة عندنا وبين ما يحتاج إليه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 43 الأسئلة الجزء: 188 ¦ الصفحة: 44 أثر الحرب في يوغسلافيا السؤال ما هي طبيعة الصراع في يوغسلافيا، هل هناك نشاط من الصرب ضد المسلمين، وهل الحرب لها أبعاد وأضرار؟ الجواب نعم لها أبعاد لأن المسلمين في البوسنة والهرسك في وسط يوغسلافيا، والحرب لها تأثير كبير على المسلمين. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 45 صرف الزكاة للوالدين السؤال هل يجوز أن تساق الزكاة لأحد الوالدين وهو غير ساكن عنده؟ الجواب لا، الزكاة لا تجوز للوالدين، بل إن كان الوالد أو الوالدة، فيجب عليك أن تنفق عليهم من غير الزكاة. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 46 الخليج السؤال لماذا إيران تقول: الخليج الفارسي؟ الجواب لأن لها مطامع، في الخليج ويريده أن يكون فارسياً في المستقبل. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 47 الواجب نحو تارك الصلاة السؤال ما حكم الدين في تارك الصلاة، بحيث إن ظروف عملي تجبرني أن آكل وأشرب وأعمل معهم ولم أقدر على تغيير شيء؟ الجواب أقل ما يجب عليك أن تنصحهم، وتوصل إليهم بعض الكتيبات الصغيرة، وبعض الأشرطة التي تبين أهمية الصلاة وحكم تاركها. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 48 مجالس الذكر السؤال بعض مدارس البنات في هذه المدرسة تمنع مجالس الذكر بأعذار واهية، علماً بأن مجالس الذكر في هذه المدرسة تجد إقبالاً كبيراً، فأرجو توجيه كلمة في هذا الشأن؟ الجواب الحمد لله فكل المؤسسات الرسمية، تدعم الأعمال الخيرية، والنشاط الخيري، سواءً مدارس البنين أم البنات، وهناك أنظمة وجهود رسمية في هذا المجال، فعلى كل مدرسة ومديرة، أو وكيلة أن تسعى إلى إقامة نشاط إسلامي في المدرسة، ودعم حلق الذكر، وإن لم تكن موجودة أقامتها سواءً قام على هذه الحلق بعض المدرسات، أم قامت بعض الطالبات المتفوقات، ولا مانع أن تكون المديرة مشرفة على هذه الحلق لتطمئن أنها مفيدة وطيبة، وليس فيها أمرُُ يضر، أما أنها تقوم بمنعها فهذا ليس بصحيح، والذي نظنه في المديرات وهو الأصل أن يكنَّ عوناً ودعماً للنشاط الإسلامي في مدارسهن. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته،،، وأكرر شكري الكبير لكم، وامتناني بالحفاوة الكبيرة التي لا أقول تخصونني بها في بلدكم وبين أظهركم، كلا، بل تلاحقونني بها في أكثر من بلد، فأنا ممتنُُ لهذا الشعور الكبير الذي تحملونه في قلوبكم، وكل ما أستطيع أن أقوله لكم، هو أن أقول جزاكم الله عني خيراً، وأسأل الله تعالى أن يجعلني عند حسن ظنكم، وشكر الله لكم، وبارك الله تعالى فيكم، ونفع بكم الإسلام والمسلمين. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 49 عاقبة المعاكسات السؤال لي صديقة تفعل معاكسات في شهر رمضان وغيره ماذا أفعل معها، وماذا أقول لها وهي تقول لي: لن أستطيع تركها؛ لأنني أشعر بالحنان والرقة، والنعومة عندما أحادث رجلاً في الهاتف؟ الجواب إن هذا الرجل عبارة عن ذئب يريد أن يفترسها، وأنا أطلعت على فضائح كثيرة من هذا القبيل لأن كثيراً من الشباب يخدع الفتاة بالكلام الطيب، ووعود الزواج وغير ذلك، ويغريها ثم في الأخير يفترسها ويتركها تبكي، وهو يضحك، ويبحث عن غيرها، فعلى الأخوات أن يكنُّ منتبهات، فكثيرٌ من هؤلاء الشباب يسجلون المعاكسات في أشرطة، ويهدد البنت بها، يطلب منها المقابلة، وإذا لم تفعل هددها بنشر الشريط، وقد ينشر بين أصدقائه من باب المفاخرة، ولا يبالي بسمعة تلك الفتاة، ومن الممكن للأخت أن تعطي صديقتها رسالة إلى أصحاب المعاكسات، أو نحو ذلك وهناك أشرطة -أيضاً- في هذا الموضوع من الممكن أن تقدمه لها وتكثر من نسخه لعل الله تعالى أن يهديها. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 50 النصر بالرعب السؤال يقول: مما أعطي الرسول صلى الله عليه وسلم، النصر بالرعب هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب لا، ليس خاصاً بالرسول، على الراجح بل هو عام لعامة الأمة، ولهذا نرى أن الغرب يدقون ناقوس الخطر من المسلمين، وما هذا إلا نصرُُ بالرعب، والمسلمون ليس بأيديهم شيء الآن. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 51 حكم المسافر المفطر في رمضان السؤال أرجو من فضيلتكم أن تفيدوننا هل يجب على المسافر إذا وصل إلى بلدة في نهار رمضان أن يمسك أم يقضي؟ الجواب هذا فيه خلاف، لكن القضاء لا بد منه، وكذلك لا ينبغي أن يعلن بالفطر لأن بعض الناس قد يجهل سبب فطره. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 52 مقاطعة العمالة الكافرة السؤال إن الصين والهند والفلبين كلها دول تستفيد من العمالة الموجودة في بلادنا، بإمداد بلدانهم بالعملات الصعبة من تحويلات رواتب العمال، أفلا يكون أبسط دور نقدمه أن نقاطع العمالة الكافرة؟ الجواب نعم، هذا أبسط دور، أن نقاطع العمالة الكافرة، وأن تختار حنيفاً مسلماً. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 53 انتشار الكتب والكتيبات لطلبة العلم السؤال انتشرت في الآونة الأخيرة العديد من الكتب والكتيبات لبعض طلبة العلم وبكثرة واضحة. ما تأثير هذه الكتب على الصحوة الإسلامية؟ الجواب ليست العبرة بكون الكثرة أو القلة، أو كونه كتاباً أو كتيباً، العبرة بمضمونه، فإن كان مضمونه خيراً، فكونه مختصراً صغيراً هذا أولى لسهوله قراءته، ويقرأه جمهور عريض من الناس، وهذا لا يغني عن بقية الكتب العلمية المتخصصة. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 54 نصيحة للنساء السؤال من الملاحظ ما تفعله كثير من النساء من التبرج والخروج ومزاحمة الرجال في الأسواق، وخصوصاً في شهر رمضان، وخصوصاً في العشر الأواخر، نرجو توجيه كلمة للنساء حول هذه الأعمال؟ الجواب أنصح الأخوات المؤمنات أن يتقين الله تعالى في أنفسهن، ولا يكن سبباً في فتنة أنفسهن، أو فتنة غيرهن، كما أنصح أولياء الأمور بأن يهتموا بأهلهم، لأن الله جعلهن تحت أيديهم. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 55 انتقادات الناس السؤال كثيراً ما نواجهه نحن الخطباء -عندما نتكلم عن أحوال المسلمين- انتقادات من الناس وأن وظيفة المنبر هي ترشيد الناس ونحو ذلك. فما هو الموقف من أمثال هؤلاء؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم قام على المنبر وخطب لما جاءه قومٌ من مضر، عراة متقلدي السيوف والعباء وقال: {تصدق رجلُُ من درهمه، من صاع ذره، من صاع تمره، -حتى قال-: ولو بشق تمرة} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] . الجزء: 188 ¦ الصفحة: 56 دعوة المدرسات للإنفاق السؤال كثير من المدرسات ينفقن أموالهن في الأسواق، ويغفلن عن الصدقة والتبرع، أفيدونا في ذلك؟ الجواب أوجه الأخوات المدرسات، والموظفات بشكل عام، إلى الحرص على أن يكون من راتب الأخت جزء لدعم المشاريع الإسلامية الخيرية والمساعدة في ذلك، بحيث كل شهر تخصص ولو مبلغاً معيناً تقدمه لأخراها، مالك ما قدمت ومال وارثك ما أخرت. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 57 دعك من الصراعات الجانبية السؤال بناءً على ما قلت عن حقيقة الصراع العجيب بين النصراني والإسلامي من جانب والصراع بين الإسلام والشعب من جانب آخر، فماذا تنصح المسلمين الدعاة منهم، الذين ربما حصل بينهم من خلاف ما يحول بينهم وبين الوحدة والقوة وعدم التفرق؟ الجواب الخلاف لا بد منه، لا يوجد أناس هنا وأناس هناك، لكن ينبغي على من وفقه الله تعالى، وفتح له باب الخير وباب الهداية، أن يسعى إلى إصلاح أوضاع المسلمين بقدر ما يستطيع، وأن يترك الاشتغال بالمعارك الجانبية، هب أن إنساناً اشتغل بسبك، وشتمك، وانتقدك، وانتقصك، إن كان ما قاله حقاً فخذ منه، وإن كان ما قاله خطأً لا ترد، حاول ألا تشتغل معه بالرد والأخذ والعطاء والقيل والقال، استمر فيما فتح الله عليك من باب الهداية والدعوة والخير، فدع هذا الإنسان وما هو فيه، قد يصحوا فيما بعد، وإن لم يصح فكلُُ ميسر لما خلق له، هناك أناس مهمتهم إثارة البلبلة والكلام والقيل والقال والتحرش بالآخرين، ولا يجدون لذة إلا في مثل هذا الأمر. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 58 واجبنا نحو إخواننا السؤال هل يليق بالمسلمين عامتهم وخاصتهم، بعد ما قدمت من معلومات؛ بأن يغفلوا عن واقعهم، بماذا تنصح الإخوة حتى يقوم كل بدور نحو إخوانهم، ولو بالمشاعر؟ الجواب الواجب كبير، والتوعية بقضايا المسلمين، والتوعية بقضايا الحديث عنهم، والكلام الإعلامي، والمشاعر، والدعاء كذلك الدعم المادي، وذكرت نماذج -أيضاً- من الأشياء التي يمكن أن تساهم فيها. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 59 استخدام الكفار السؤال نرجو توجيه كلمة للذين يستخدمون كفاراً من البوذيين والهندوس ويفضلونهم على المسلمين؟ الجواب هناك قضايا كثيرة، تثبت أن كثيراً من هؤلاء المستقبلين من البوذيين والهندوس يحملون مشاعر الحقد نحو المسلمين، فإن كانوا في مكان أو في مستشفى أو غيره، عبروا عن حقدهم؛ لمحاولة إيذاء هؤلاء المسلمين، والظلم الكبير لإخوانك المسلمين أن تستقدم الكفار وتتركهم. هؤلاء الكفار قد يشتغلون بالمال الذي يأخذونه على إخوانك المسلمين، على الأقل يأتي المسلم إلى هنا، يأخذ بعض المال، فإذا أتى إلى هنا قد يهتدي، وقد يعرف أشياء كثيرة، وقد يتعلم، لكن أقول: مع الأسف الشديد، أن كثيراً من الناس قد يأتي مسلم هنا، فيأخذ صورة سيئة من سوء المعاملة، والقسوة، وتأخير الرواتب، والمضايقة، والظلم، والتزوير، وأشياء سوف أتحدث عنها مراراً. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 60 برنامج لنشر الإسلام السؤال يقول: يعلم الله أننا عندما نسمع عن أحوال المسلمين؛ تتقطع قلوبنا حسرة وألماً، وسؤالي: هل هناك برنامج لنشر الإسلام، وتعليم قراءة القرآن والحديث في العطلة الصيفية يمكننا الاشتراك فيه، وكيف يمكننا الاتصال؟ الجواب يمكن أن تكون هناك برامج كثيرة لإيصال الأموال، وإيصال الدعاة، إلى غير ذلك من الجهود، لكن بشرط: أن يوجد في كل بلد ومدينة على الأقل، داعية أو طالب علم يجعل من ضمن عمله ونشاطه هذا الأمر، يكون صلة تصل بين من يرغب بالمشاركة هنا وبين المسلمين هناك، ويقدموا الدعم، على الأقل أن يقدموا تذاكر السفر لمن يريد أن يسافر إلى هناك وتكاليف السفر. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 61 الجبهة في الجزائر السؤال كثر الكلام حول الجبهة في الجزائر، وموقف زعمائها، تارة يقولون: إنهم رافضة، وتارة يقولون عنهم: إنهم علمانيون، نرجو توضيح موقفهم؟ الجواب يا أخي لا رافضة، ولا علمانيون، لو كانوا رافضة لما حصل ما حصل، ولو كانوا علمانيين ما حصل ما حصل وما جرى أبداً قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البروج:9] هم سنة، لا يوجد في صفوفهم رافضي أو علماني. بل هم سلفيون في جملتهم وغالبيتهم، ومبادئهم سليمة، وهم يدعون إلى تحكيم الكتاب والسنة والله تعالى ناصرهم بإذنه تعالى. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 62 أخبار الأفغان السؤال إني أحبك في الله وأرجو أن تخبرنا عن المسلمين في أفغانستان وحال الجهاد فيها وأين نلقاك في مدينة الرس؟ الجواب ليس لديَّ أي معلومات جديدة عن أحوال المسلمين في أفغانستان، إلا أنهم يعانون مشاكل كبيرة جداً بسبب انقطاع الدعم عنهم، من بلاد كثيرة. الجزء: 188 ¦ الصفحة: 63 من لباب الكتب حسن المعاشرة أمر حبب إليه الشرع وطالب العلم أحق بذلك من غيره لأنه من ورثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم تطرق الشيخ لذكر نفائس نادرة قل أن تجدها مجموعة في مكان واحد اقتطفها الشيخ من كتابي (تذكرة السامع لابن جماعة والعزلة للخطابي) وكثير منها متعلق بالعلم وتشمل غيره. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 1 عودة إلى الدروس التربوية الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه أجمعين أرجع بعد طول غيبة عن تلك الدروس التي كنت أتحدث فيها عن بعض عيوب ومثالب الطلاب حتى يتقيها مجتهد ناصح لنفسه، وإن شئت فقل الحديث عن الآداب والأخلاق والشيم التي ينبغي أن يتحلى بها طالب العلم والداعية إلى الله تعالى، ولعلي في هذه الليلة أنهي الحديث عنها لأنتقل -إن شاء الله تعالى- اعتباراً من الأسبوع القادم إلى لونٍ آخر من المعارف لا يخلو -إن شاء الله- من الفائدة والطرافة، وهي اختيارات من المصنفات، أقصد بعض الفوائد والفرائد التي تكون مبثوثة في بطون الكتب وقد لا يصل إليها الطالب أو لا يعلم بوجودها، فكنت خلال قراءتي لبعض كتب أهل العلم وهي قراءاتٍ قليلة أسجل بعض ما يمر بي من الفوائد التي أرى أنها مهمة، أسجلها على ظهر أول ورقة في الكتاب، أو على ورقة مستقلة، فاجتمع لي من ذلك فوائد متناثرة عديدة من كتب شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما، فخطر في بالي أن أشرك إخواني في هذه الدروس المتواضعة، في هذه الفوائد مع التعليق عليها بالإيضاح أو ما يتطلبه المقام. فإن شاء الله تعالى اعتباراً من الأسبوع القادم أبدأ معكم في هذه الفوائد، ومن الطبيعي أنها لم تكن مرتبة، وهذه قد تكون ميزة من ناحية إذ أنها ليست موضوعات متسلسلة؛ قد يكون فيها إملال أو إثقال، بل هي موضوعات متفرقة متباعدة من موضوع في السيرة والتاريخ، إلى موضوع في الأصول، إلى موضوعٍ في الفقه، إلى موضوعٍ في الحديث، إلى موضوعٍ في الإسناد، إلى موضوعٍ في المتن، إلى فوائد أخرى متفرقة. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 2 حسن المعاشرة أما في هذه الليلة فقد أحببت أن يكون مسك الختام لآداب طالب العلم هو الإشارة إلى خصيصة مهمة وهي ما يتعلق بحسن معاشرة الناس وملاطفتهم، فإننا نعلم علماً يقيناً لا شك فيه أن من أهم المهمات التي بعث بها الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام -من أولهم إلى آخرهم- تحسين أخلاق الناس. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق} هذاحديث ثابت، فحسن الخلق من الدين، وبه يبلغ العبد درجة الصائم القائم، ويعطي الله بحسن الخلق ما لا يعطي على غيره، كما ثبت ذلك في أحاديث عديدة عن أبي هريرة وغيره, ولو تأملنا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لوجدنا أنها التطبيق العملي لهذا الهدي العظيم، فكان صلى الله عليه وسلم حسن الخلق والمعاشرة متواضعاً مع الخاص والعام، والقريب والبعيد، ومع أهله، وفي السوق، والبيت والمسجد، وغيره. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 3 طالب العلم أحق الناس باتباع النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس يجدر بطالب العالم أن يكون في قلبه شيءٌ من الكبرياء والأنانية التي تجعله قد يتعاظم نفسه، ويغتر بما يعامله بعض الناس به، كأن يحتفوا به في السلام، ويهشوا ويبشوا، وقد يقبلون رأسه، ويخدمونه، وربما يكون ممن يقدمون له نعليه إذا أراد أن يلبسهما، إلى غير ذلك من الأشياء التي قد تستخف عقول بعض الضعفاء. فالإنسان عليه أن لا يغفل عن معرفة حقيقة نفسه، فالناس ليسوا أدرى بك من نفسك، فعليك أولاً ألا تحرص على مثل هذه الأشياء، ولذلك تجد الإنسان تلقائياً -أحياناً- إذا وجد مثل هذه الأشياء صار عنده نوع من الازورار عن الناس، والإطراق، وربما يأتيه الشيطان من جهة إظهار مثل هذه الأشياء حتى يزداد إعجاب الناس به وتقديرهم له. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 4 حياة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأطفال قال جابر بن سمرة في الحديث الذي رواه مسلم: {صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةً أولى، ثم خرجت معه، فلقيه ولدان فجعل يمسح خد كل واحد منهم قال: أما أنا فمسح خديَّ فوجدت ليديه برداً وريحاً حتى كأنما أخرجهما من جبة عطارٍ} وماذا تكون رائحة العطر عند رائحة يدي محمد صلى الله عليه وسلم؟! إنها لا شيء. وروى عبد الله بن الحارث بن جزءٍ كما في جامع الترمذي بسندٍ صحيح قال: {ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من الرسول صلى الله عليه وسلم} وسُئلت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري كيف يصنع الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته؟ قالت: {كان يكون في مَهنة أهله -بفتح الميم يعني في حاجتهم وصناعتهم- فإذا أذن المؤذن توضأ وخرج إلى الصلاة} . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: {كان لي أخٌ يقال له أبو عمير صبي صغير مفطوم -وهو فطيم في بعض الروايات- فكان له طيرٌ يسمى النغير -مصغراً- فكان يلعب به -ولا شك أنه لا يلعب به لعباً يؤذيه- قال رضي الله عنه: فمات هذا النغير فحزن عليه الصبي حزناً شديداً، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقلنا: مات يا رسول الله، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الصبي: يا أبا عمير ما فعل النغير} يعني يلاطفه بذلك. ولو أردتم أن أسوق أحاديث في هذا الباب لطال المقام ويكفيك أن ترجع إلى كتاب من كتب الشمائل، فإن شئت فاقرأ كتاب شمائل الرسول صلى الله عليه وسلم للترمذي وإن شئت فاقرأ مختصر كتاب الشمائل الذي حققه الشيخ الألباني وحكم على أحاديثه، لترى كيف كانت أخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتواضعه، وتبسطه، وبعده عن التكلف، وكثرة تبسمه في وجه أصحابه، وممازحته لهم بما يطيب خواطرهم، ويوسع قلوبهم دون أن يكون في ذلك كذب، أو إثقال على أحد، أو خدش لشعور أحد. وهذا الأسلوب النبوي والتطبيق العملي هو الخلق والمنهج الذي يجدر بكل مسلم -وأَخُصُّ طلاب العلم- أن يرتووا من هذا النبع الصافي، ويحرصوا على أن تكون حياتهم مع الناس تطبيقاً عملياً لهذا. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 5 التحذير من بعض مداخل الشيطان ثم إنه يعتاد على مثل هذه الأمور حتى إنه قد يجد في نفسه على من لا يفعلها معه فيجد في نفسه على من لا يقبل رأسه -مثلاً- أو من لم يخدمه، أو من لم يقدمه في المجلس، وهذه -يا إخوة- من أمراض القلوب التي قد تهلك الإنسان وهو لا يشعر، والإنسان فيها لا مطلع عليه، ولا رقيب عليه إلا الله عز وجل. ولذلك فإن أخطر ميدان من ميادين المجاهدة: هو المجاهدة في القلب؛ لأن الإنسان في الأمور الظاهرة غالباً يحصل عنده إما أن يجاهد نفسه فينجح، أو على الأقل يتصنع ويتكلف هذه الأشياء كما ذكر الحافظ ابن الجوزي في تلبيس إبليس، لكن الأشياء القلبية لا يطلع عليها إلا الله عز وجل. افترض مثلاً إنساناً يصور نفسه جدلاً أنه في يوم القيامة، وهو في وسط الناس تكشف أسرار قلبه {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق:9] ويبين للناس حقيقة هذا الإنسان وما قصده بهذا الفعل، وما نيته فيما أراد، وما هو شعوره في الموقف الفلاني، وما الذي أغضبه وأرضاه؛ حينئذٍ يشعر الإنسان فعلاً بمدى ما وقع فيه من خطأ، أو تقصير، أو غفلة عن مجاهدة النفس على إصلاح الأعمال القلبية التي هي أساس الأعمال، والتي أعمال الجوارح ما هي إلا ثمرة لها ونتيجة عنها. فينتبه الإنسان لهذه المشاعر، هل فعلاً يستوي عندك إن كنت طالب علم أن يقبل الناس رأسك، أو لا يقبل، أو عندك أولاد لا يفعلوا، أما أنك تريد ذلك؟ وحتى لو فرض أنك ترفع رأسك وتتأبى عليهم وقد تفعل ذلك بنية صالحة، وقد يكون لإظهار التواضع والرغبة عن هذه المظاهر، والشيطان حريص ومسلط على بني آدم، فليكن الإنسان رقيباً على نفسه، ولا يُدخِل في معرفته لنفسه غيره، لا تغتر بثناء الناس أو كلامهم أو بمدحهم أو بمعاملتهم لك، بل انظر إلى حقيقة ما أنت فيه. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 6 التكلف في تقليد هيئة كبار الناس ثم تجد الإنسان يتكلف نوعاً من الوقار تحس أنه ثقيل على النفس، لا يلتفت إلا بكل صعوبة، وإذا سلم أو خاطب أحداً يخاطبه وهو لا ينظر إليه بل يعرض عنه، وما أشبه ذلك من الأشياء التي قد يفعلها كبار الناس اعتياداً ولكثرة من يخاطبهم ويأخذ معهم ويعطيهم، وكثرة مجالستهم للعلماء، وكثرة قراءتهم للكتب، إلى غير ذلك من الأسباب. لكن يأخذها البعض الآخر تقليداً في غير محله، فيكون حظ الإنسان من التعلم هو بعض المظاهر والشكليات -كاللباس مثلاً- أو طريقة المخاطبة وطريقة الذهاب والإياب؛ حتى طريقة المشي والدخول والخروج وما أشبه ذلك، ويرى الإنسان أن من مكملات شخصيته كطالب علمٍ ألا يمازح الناس، ولا يباسطهم، ولا يضاحكهم، ولا يبتسم في وجوههم، حتى تنظر لوجهه كأنه من وجوه الموتى، الابتسامة أحياناً قد تغتصب اغتصاباً. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 7 هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أتباعه وهذا هدي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، {ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم} وهو عليه الصلاة والسلام يقول: {تبسمك في وجه أخيك صدقة} ألا تعتقد أن إدخالك السرور على قلب أخيك المسلم بالتبسم في وجهه ومباسطته وملاطفته أنه أمرٌ تؤجر عليه. أحياناً إذا قابلت إنساناً يكبرك، أو من أقرانك، أو في مثل سنِّك وحالك فهشَّ وبشَّ في وجهك، وابتسم لك، وبين الاهتمام بحالك، سبحان الله! كأن قلبك فتح ووضع فيه حُبُّ هذا الإنسان والعكس بالعكس، لو أتيت إلى إنسان تطلب منه حاجة مهما غلت وعزت فأعطاك هذه الحاجة؛ لكنه أعطاك بشيءٍ من الجفاء والغلظة، ولم يحيك التحية المطلوبة، فإن هذا الذي أعطاك لا يساوي عندك شيئاً، فحسن الخلق، والمعاشرة، والملاطفة للناس، والمباسطة معهم هي من أغلى ما يمكن أن تعطيه. ولا شك أن هذا باب من أبواب الخير والقدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم، وخاصة طالب العلم والداعية الذي يريد أن يدعو الناس إلى الخير؛ لا بد أن يأتيهم من هذا الطريق، ولذلك قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] آية عجيبة قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وهم الصحابة رضي الله عنهم عرفوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الواسطة بينهم وبين الله الذي يبلغهم شريعة الله. أقول: واسطة بهذا المعنى أي أن الوحي يتنزل عليه فيقرؤ عليهم -أما في أمور العبادات فلا واسطة بين الله وبين خلقه- وأنهم ما عرفوا الدين إلا من طريقه، وأن الإيمان به صلى الله عليه وسلم واجب، وحبه كذلك، وعرفوا ما في الجنة من النعيم وما في النار من العذاب والجحيم، ومع هذا كله قال الله عز وجل: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وتركوك مع علمهم بما عندك من الحق والدين والشرع الموصل إلى الجنة المنجي من النار، فما بالك بمن ليسوا كذلك. قد تكون أمام مسلم لا يرى أن عندك ما ليس عنده، ولا يرى أن ما أنت عليه حق وما هو عليه خطأ -مثلاً- حتى ولو كان في معصية أو في منكر، فإذا لم تتسلل إلى قلبه بالطريقة المناسبة، وتتلطف له حتى تستطيع أن تؤثر فيه وتكسبه، ثم تقنعه بما تريد؛ فلا سبيل لك إليه حينئذٍ، خاصة ونحن نعلم اليوم أنه ليس هناك إلا هذا الطريق في الدعوة إلى الله عز وجل، وما في يد الإنسان لا قوة ولا سلطة يُكره الناس على هذه الأمور، إنما الطريقة المناسبة المجربة في إقناع الناس ودعوتهم وتعليمهم وأمرهم ونهيهم في أن تأتيهم بالحسنى. وقد دخل أحد العلماء على أحد الخلفاء فقسى عليه بالقول واشتد له فقال له هذا الخليفة: أرفق، أنت لست بأفضل من موسى وأنا لست أشر من فرعون وقد قال الله عز وجل لموسى وهارون حينما أرسلهما إلى فرعون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] الإنسان وما اعتاد، وإنما الحلم بالتحلم، والخير عادة والشر لجاج. فالإنسان يستطيع أن يُعود نفسه على حسن الخلق، واللطافة، والابتسامة في وجوه الناس، والحلم عليهم حتى يصبح ذلك ديدناً له. وفقني الله وإياكم لما يحبه ويرضاه، اللهم وفقنا لحب الخير، اللهم وفقنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا في الآخرة والأولى. سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 8 التكلف في لبس اللباس الخاص بأهل العلم مما يؤكد أن هذا قد يكون عند بعض الطلبة أنك تجد الطالب أحياناً وهو صغير السن يبدأ يتقمص هيئات وشخصيات الشيوخ فيخض في ثياب غير ثيابه، ويسابق في ميدانٍ ليس له، فتجده وهو شاب -أحياناً- ما خط شاربه يلبس البشت -مثلاً- وما هو لبس البشت! هل هو سنة؟! لا أعلم أن لبس البشت سنة، ولا ورد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء؛ لكنه شعار صار يلبس في المناسبات، أو تلبسه طائفة من الناس، فلماذا يكون الإنسان حريصاً عليه، وقد يضطر إنسان إلى لبسه وإن كان لا يرى ذلك، حتى أذكر أنني تكلمت يوماً في أحد المساجد في محاضرة، ولم أكن لابساً لهذه العباءة فلحقني بعض الإخوان، وقالوا: إن كثيراً من الناس وخاصةً العامة عقولهم ضعيفة والمظاهر عندهم مهمة، ولبس العباءة لمثل هذه المناسبة أفضل لتحقيق المصلحة. فكون الإنسان يلبسها لهذه المناسبة ولو لم يكن من أهلها له مسوغ على الأقل، وكونه من العلماء أو المشايخ أو طلاب العلم الكبار -أيضاً- لا بأس في ذلك، لكن كون الإنسان أول ما يبدأ في طلب العلم يلبس العباءة، لا أعلم أن له وجهاً إلا التشبه بالعلماء، وتقمص هذه الشخصيات، وأن يجري الإنسان في ثيابٍ غير ثيابه، ويسابق في ميدان ليس له. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 9 كتاب العزلة للخطابي بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على عبده ونبيه محمد صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين. كنت قد وعدتكم في المجلس السابق أنه اعتباراً من هذه الحلقة -إن شاء الله تعالى- سوف أبدأ بتقديم بعض الكتب إليكم على سبيل انتقاء وانتخاب بعض الفوائد والفرائد والشوارد التي قد لا يقف عليها الإنسان بسهولة وذلك -أولاً- حتى يستفيد الإنسان من هذه الأشياء، وحتى ينشط إلى قراءة هذه الكتب والاطلاع عليها، وهي فوائد متفرقة ومتناثرة لا يجمعها موضوع ولا عنوان، ومن الطبيعي أن تكون إحداها مشرّقة والأخرى مغرّبة، واحدة في الفقه، وأخرى في الأصول، وثالثة في التاريخ، ورابعة في الأدب وهكذا، لكن يجمعها رابط عام، وهو الفائدة إن شاء الله. والكتاب الذي اخترته هذه الليلة هو كتاب العزلة للإمام الحافظ المحدث الأديب اللغوي أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي البستي المولود سنة ثلاثمائة وسبعة عشرة والمتوفى سنة ثلاثمائة وثمانية وثمانون للهجرة. والإمام الخطابي له مصنفات كثيرة جداً منها معالم السنن، التعليق على سنن أبي داود ومنها: غريب الحديث، ومنها كتاب الدعاء وغيرها، وهذا الكتاب هو أحد كتبه التي جمع فيها من النقول والنصوص والأشعار، بل وجمع فيها من الآيات والأحاديث وأقوال العلماء الشيء الكثير حول هذا الموضوع، وهو موضوع العزلة. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 10 من قصص بعض العباد هناك قصة أختم بها هذه المختارات ذكرها المصنف في صفحة [91] وهي تدل على ما يقع للعباد الذين يعبدون على غير علم ولا بصيرة، وكيف يستزلهم الشيطان ويستدرجهم، بل ذكر قصتين في ذلك: الأولى قال: كان الشافعي رحمة الله عليه رجلاً عطراً -أي: يحب الطيب- وكان يجيء غلامه كل غداة بغالية -وهو نوع من الطيب- فيمسح بها الإسطوانة التي يجلس إليها الشافعي رحمه الله، وكان إلى جنبه إنسان من الصوفية، وكان يسمي الشافعي: بالبطال -يعني يعتبر طلب العلم نوع من البطالة يقول: قال: فلما كان ذات يومٍ عمد هذا الرجل إلى شاربه فوضع الأذى ثم جاء إلى حلقة الشافعي، فلما شم الشافعي الرائحة أنكرها، وقالوا: فتشوا النعال، فقالوا: ما نرى شيئاً يا أبا عبد الله، قال: فليفتش بعضكم بعضاً فوجدوا ذلك الرجل، فقالوا: يا أبا عبد الله هذا، فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: رأيت تجبرك، فأردت أن أتواضع لله سبحانه وتعالى -والشافعي رحمه الله أبعد الناس عن التجبر، ولكن هذا ظن هذا الصوفي المتعبد على جهلٍ وضلالة- قال الشافعي: خذوه واذهبوا به إلى عبد الواحد، -هذا عبد الواحد مدير الشرطة- فقولوا له: قال لك أبو عبد الله اعتقل هذا إلى وقت أن ننصرف، قال: فلما خرج الشافعي دخل إليه فدعى به فضربه ثلاثين درةً، قال: هذا إنما لأنك تخطيت المسجد بالقذر وصليت على غير طهارة. وانظر إلى فقه الإمام الشافعي ما قال له: لأنك أهنتني، أو لأنك تعمدت إيذائي، ضربه ثلاثون درةً لأنه تخطى المسجد بالقذر وصلى على غير طهارة. ثم ذكر المصنف القصة الثانية وهي أعجب من الأولى قال: أخبرني بعض أهل العلم قال: كان يختلف معنا رجلٌ إلى أبي ثور، وكان هذا الرجل ذا سمتٍ وخشوع، فكان أبو ثور إذا رآه جمع نفسه، وضم أطرافه، وقيد كلامه -يعني من باب الهيبة من هذا الرجل لئلا يلحظ على أبي ثور أمراً يخالف ما ينبغي له من الهدي والسمت والأدب، فكان أبو ثور يتحفظ إذا حضر هذا الرجل-. قال: فغاب عن مجلسه مدة، فتعرف أبو ثور خبره، فلم يوقف له على أثر، ثم عاد إلى المجلس بعد مدة طويلة، عاد هذا الرجل بعد طول غياب وقد نحل جسمه، وشحب لونه، وعلى إحدى عينيه قطعة شمعٍ قد ألصقها بها، فما كاد يتبينه أبو ثور -أي ما كاد يعرفه لأنه اختلف عليه- ثم تأمله فقال له: ألست صاحبنا الذي كنت تأتينا؟ قال: بلى، قال: فما الذي قطعك عنا؟ قال: قد رزقني الله سبحانه وتعالى الإنابة إليه وحبب إليّ الخلوة، وأنست بالوحدة، واشتغلت بالعبادة -يعني الشيطان يستله من مجالس الذكر والعلم إلى أماكن أخرى يخلو بها فيه، ويملي عليه ما يريد كما ستلاحظون- قال له أبو ثور: فما بال عينك هذه؟ قال: نظرت إلى الدنيا فإذا هي دار فتنة وبلاء قد ذمها الله تعالى إلينا، وعابها، وذم ما فيها فلم يمكنني تغميض عيني كلتاهما معاً ورأيتني وأنا أبصر بإحداهما نحواً مما أبصر بها جميعاً -يعني أبصر بواحد مثل ما أبصر بالثنتين- فغمضت واحدة وتركت الأخرى -الأخرى يبصر بها ما لا بد منه- والثانية غمضها لئلا يرى فضول الدنيا، فقال له أبو ثور: ومنذ كم وهذه الشمعة على عينك؟ قال: منذ شهرين قال أبو ثور: يا هذا أما علمت أن لله عليك صلاة شهرين وطهارة شهرين، انظروا إلى هذا البائس - يقول أبو ثور - قد خدعه الشيطان فاختلسه من بين أهل العلم، ثم وكل به من يحفظه ويتعهده ويلقنه العلم -يعني الشيطان اختلس هذا الرجل من مجلس أبي ثور وتفرد به، فـ أبو ثور نبهه إلى أن عليه طهارة وصلاة شهرين لأنه توضأ وصلى على غير طهارة هذه المدة حيث لم يغسل ما تحت هذه الشمعة التي كانت على عينه- ثم وكل أبو ثور بهذا الرجل من يحفظه ويتعهده، ويلقنه العلم لئلا يجتره الشيطان مرة أخرى. وفي الكتاب فوائد وفرائد كثيرة غير ما ذكرت ولكن هذا أبرز ما فيه. أسأل الله أن يعلمني وإياكم العلم النافع والعمل الصالح. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على عبدك ونبيك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 11 من عيوب أصحاب الحديث في صفحة [86] و [87] تطرق المصنف رحمه الله إلى بعض عيوب أصحاب الحديث، وأصحاب الحديث -كما قيل- هم على ما هم خيار القبائل، وأفضل أصحاب العلوم؛ لكن ليس من طائفة إلا فيهم عيوب، والتحذير من عيوبهم مطلوب. فقد ذكر أن رجلاً رأى من أصحاب الحديث بدعة سيئة فلام أهل الحديث وقال: إنه لا يعلم علماً أشرف ولا قوماً أسخف منهم، وهذا يحمل على أنه قاله في حالة غضب وانفعال ولا يقبل من قائله. وذكر أن رجلاً كان في مجلس عبد الواحد بن غياث يقول: سمعت أبي رأى رجلاً من أصحاب الحديث صلى لجنبه فلما سلم الإمام سلم -وكان قد فاتته ركعة- وأخذ دفاتره ولم يصل الركعة التي فاتته، يعني لانشغاله بالطلب غفل عن الركعة التي فاتته. وذكر هاهنا قصة يقول: حدثنا مؤمل بن إيهاب قال: حدثني يحيى بن حسان، قال: كنا عند سفيان بن عيينة وهو يحدث، فازدحمت فرقة من الناس على محمل شيخٍ ضعيف فانتهبوه، ودقوا يد الشيخ، -أي ضروا الشيخ- وأخذوا بعض ما معه، فجعل الشيخ يصيح يا سفيان، لا جعلتك في حلٍ مما فعلوا بي؛ لأنه كان هذا في مجلسه بسبب الزحام، قال وسفيان لا يسمع، أي أن سفيان يسمع صوت الرجل؛ لكن لا يدري ماذا يقول؟ قال: فنظر سفيان إلى رجل من أولئك الذين صنعوا، بالشيخ ما صنعوا -رجل ليس من أهل الحديث لكنه ملصقٌ فيهم- فقال له سفيان: ماذا يقول هذا الشيخ، قال: يقول زدنا في السماع، يعني العكس، الشيخ يريد أن يسكت سفيان حتى يزول الزحام، فهذا قال: إن الرجل يقول يا شيخ يا سفيان زدنا في السماع. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 12 مداخل الشيطان في إفساد الإخوان في صفحة [97] ذكر أبو سليمان -رحمه الله- قولاً مفيداً في بيان مداخل الشيطان قال: قال علي بن غنام: كلا طرفي القصد مذموم. وأنشدنا أبو سليمان: تسامح ولا تستوف حقك كله وأبق فلم يستوف قط كريم ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقال: عن زيد بن سلمة عن أبيه أن عمر رضي الله عنه قال: [[لا يكن حبك كلفاً، ولا يكن بغضك تلفاً]] . الجزء: 189 ¦ الصفحة: 13 إخوان المصالح ومن الفوائد التي ذكرها المصنف رحمه الله أنه ذكر إخوان السراء الذي يصاحبون الإنسان في حال غناه، فإذا احتاج إليهم هربوا منه وذكر من ذلك قول بعضهم: وإن من الإخوان إخوان كثرةٍ وإخوان حياك الإله ومرحبا وإخوان كيف الحال والأهل كله وذلك لا يسوي نقيراً متربا جواداً إذا استغنيت عنه بماله يقول إليّ القرض، والقرض فاطلبا فإن أنت حاولت الذي خلف ظهره وجدت الثريا منه في البعد أقربا الجزء: 189 ¦ الصفحة: 14 مدح الموت وفي صفحة [78] ذكر كلام بعضهم في مدح الموت، ولا شك أن تمني الموت لا ينبغي إلا إذا خاف الإنسان من الفتن، يقول: أنشدني بعض أصحابي لـ منصور بن إسماعيل: قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه وفراق كل معاشر لا ينصف ومما يعجب في هذا الكتاب أن المصنف -رحمه الله- ذكر كلمات في صفحة [89] أحدها قول سفيان الثوري [[: لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً]] وذكر رواية قال: [[زار عبد الله بن المبارك رجلاً من أهل نيسابور ينسب إلى أهل الزهد والتقشف، فلما دخل عليه لم يقبل عليه الرجل، وابن المبارك. هو إمام الدنيا ولم يقبل عليه الرجل، ولم يلتفت إليه، فلما خرج ابن المبارك أخبر الرجل بمكانه وأعلم أنه عبد الله بن المبارك فخرج إليه يعتذر ويتنصل، وقال له: يا أبا عبد الرحمن، اعذرني وعظني (اعذرني من التقصير في استقبالك، وعظني) فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، إذا خرجت من منزلك فلا يقع بصرك على أحد إلا رأيت أنه خيرٌ منك، وذلك أن ابن المبارك رآه معجباً بنفسه، ثم سأل عنه، فإذا هو حائك]] . قال: وعن سفيان قال: [[من لم يتفتأ لم يتقرأ]] قال أبو سليمان [[: إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم بشاشة الوجه، وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة الأكثرين من القراء: الكزازة، وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديراً أن يتباقى معه ذلك الذوق وتلك الهشاشة، ومن تقرأ في صباه لم يخل من جفوةٍ، أو غلظة … إلى آخر ما قال]] . والحقيقة أن هذا الكلام وإن كان ليس على إطلاقه، فلا شك أن في صغار طلاب العلم ما فيهم من لين العريكة، وسجاحة الخلق، والهشاشة، والبشاشة الشيء الكثير؛ إلا أن له رصيداً من الواقع، وإنما سقته حتى ينتبه الإخوة إلى هذا الأمر، ويباعدوا أنفسهم عن مثل هذه الخصال. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 15 تغير وفساد الناس في هذا الزمان وفي صفحة [71] يشير المصنف إلى ما حصل من الفساد قال أبو سليمان وهو المصنف، وأنشدت هذه الأبيات: هذا الزمان الذي كنا نُحذَّره في قول كعب ٍ وفي قول ابن مسعود إن دام هذا ولم يحدث له غِيرٌ لم يُبك ميتٌ ولم يفرح بمولود هذه الأبيات يحفظها الإنسان، ويتمثل بها في بعض الوقائع وخاصة في هذا الزمان المظلم، فكثيراً ما ترى أحداثاً وتسمع أخباراً تجعلك تردد هذه الأبيات. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 16 نصيحة الولاة والحكام ومن الفوائد التي ذكرها المصنف في صفحة [95] ذكر كلاماً لبعض الحكماء ينبغي أن يعلم قال أبو سليمان: قال بعض الحكماء: إن الذي يُحْدِث للحكام التيه في أنفسهم -التيه هو العجب، والغرور، ورد النصيحة، وبطر الحق، وغمط الناس- والإعجاب بآرائهم كثرة ما يسمعون من ثناء الناس عليهم، ولو أنهم أنصفوهم فصدقوهم عن أنفسهم لأبصروا الحق، ولم يخف عليهم شيء من أمورهم. وبذلك تعلمون أن الواجب على العلماء وطلاب العلم والجلساء، والندماء ليس المبالغة في المديح والتبجيل، وتصحيح الأعمال؛ بل هو النصيحة الخالصة التي لا يراد من ورائها دنيا. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 17 التواضع وفضله زفي صفحة [70] ذكر المصنف أن سفيان بن عيينة قال: سمعت، أو قال: أخبرني ابن سعدويه، قال: حدثني إسحاق، قال: سمعت محمد بن عبد الأعلى يقول: خرج علينا سفيان بن عيينة ونحن جلوس على باب داره -طلاب العلم والحديث ينتظرون سفيان ليحدثهم- قال: فخرج علينا فقال: خَلَتِ الديار فسدت غير مسود ومن الشقاء تفردي بالسؤدد يعني يحزن سفيان بن عيينة أن الديار خلت من العلماء -كما يقول- فصار سيداً مع أنه ليس أهلاً لذلك في ظنه، ولا شك أن سفيان هو من هو في الفضل والعلم والسؤدد والمكانة، لكن هذا من فضله ونبله وتواضعه وهضمه لنفسه رحمه الله، فكيف لو خرج علينا في هذا الزمان! قال: وأنشدني إبراهيم بن فراس في نحو هذا -يعني في نفس الموضوع هذا- قول الشاعر: وإن بقوم سودوك لحاجة إلى سيدٍ لو يضفرون بسيد أي القوم الذين وضعوك سيداً عليهم يحتاجون فعلاً إلى سيد؛ لأنهم ما وضعوك في هذا الموقع إلا لفقرهم من السادة وقلة الأكفاء. قال: وفي آخر: وما سدت فيهم أن فضلك عمَّهم ولكن هذا الحظ للناس يقسم ما كانت سيادتك لفضلك وكرمك وإنما هو قضاء وقدر. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 18 مميزات وفوائد كتاب العزلة للخطابي ومن فوائد هذا الكتاب ومميزاته أنه تعرض لمباحث نفيسة: منها: مباحث في موضوع العزلة والخلطة، ومتى تكون العزلة أفضل، ومتى تكون الخلطة أفضل. ومنها: الحث على اختيار الجلساء والأصحاب الصالحين. ومنها: حسن المعاشرة، وذكر الصحبة وآدابها، وهو في ذلك يذكر قصصاً وطرائف وأشعاراً فيها المتعة والفائدة. ومن مميزات الكتاب: الحديث عن الناس، وطبائعهم، وما جبلوا عليه، إلى غير ذلك. لكن ينبغي أن يعلم أن هذا الكتاب قد بالغ فيه الإمام الخطابي في ذم الخلطة والحث على العزلة، حتى قال في آخر الكتاب: إنني أخشى أن أكون بالغت في ذلك أو زدت عليه بما لا ينبغي، يقول: في آخر الكتاب في باب نجوم القصد، أي: رجع إلى الحديث عن القصد والاعتدال قال: قد انتهى منا الكلام في أمر العزلة، وأوردنا فيها من الأخبار ما خفنا أن نكون قد حسَّنا معه الجفاء من حيث أردنا الاحتراز منه، وليس إلى هذا جرينا ولا إياه أردنا فإن الإغراق في كل شيء مذموم، وخير الأمور أوسطها، والحسنة بين السيئتين، وقد عاب الرسول صلى الله عليه وسلم الإغراق في عبادة الخالق عز وعلا، والحملة على النفس منها ما يؤودها ويكّلها، فما ظنك بما دونها من التخلق والتكلف. وهذه من أجمل ما في الكتاب فينبغي أن ينتبه لها فإن منهج الكتاب ليس مرضياً كله في مدح العزلة وذم الخلطة. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 19 الصداقة وحقوقها من الفوائد الموجودة في الكتاب أن المصنف -رحمه الله- ذكر في صفحة [63] وأنا أتكلم عن الطبعة التي نشرها قصي بن محب الدين في المطبعة السلفية في مصر ذكر الخطابي أن أعرابياً كان في الكوفة وكان له صديق يظهر له المودة والنصيحة، فاتخذه هذا الأعرابي من عُدَده للنوائب، فأتاه فوجده بعيداً مما كان يظهر له، فأنشأ هذا الأعرابي يقول: إذا كان ود المرء ليس بزائدٍ على مرحباً أو كيف أنت وحالكا ولم يك إلا كاشراً أو محدثاً فأفٍ لودٍ ليس إلا كذلكا لسانك معسولٌ ونفسك بشة وعند الثريا من صديقك مالكا وأنت إذا همت يمينك مرة لتفعل خيراً قاتلتها شمالكا وهذه الأبيات رواها غيره، رواها ابن حبان أيضاً في نزهة الفضلاء وغيره، وفيها التحذير من قرناء السوء. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 20 كتاب تذكرة السامع والمتكلم لابن جماعة بين أيدينا -أيها الإخوة- كتاب على حسب الطريقة التي ذكرتها في محاضرة سبقت، وهو كتاب مفيد لطالب العلم اسمه (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) لـ أبي إسحاق إبراهيم بن جماعة الكناني المتوفى سنة (733هـ) ، وأعتقد أنني سبق أن نوهت بهذا الكتاب في أكثر من موضع في هذه الدروس، وربما كنت سميت مؤلفها بالسمعاني غفلة مني، وإلا فقد كنت قرأت الكتاب. وفي هذه الجلسة نأخذ ما يمكن من الفوائد المبثوثة في هذا الكتاب، وتلاحظون أن الفوائد التي سوف أسوقها نوعان: منها فوائد من صلب الكتاب، أي: للمؤلف، وأحياناً تأتي فوائد في التعليق، فإنه قد علق على الكتاب بحواشٍ كثيرة وطويلة أكثر من حجم الكتاب، ولم أعرف من هو معلقها؛ لأنه لم يذكر اسمه، فإذا مرت فائدة في الحاشية فإنني قد أذكرها أحياناً. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 21 أجود أوقات الطلب والنوم في صفحة [72] ذكر المؤلف -رحمه الله- توجيهات في بيان أفضل الأوقات للقراءة يقول: أجود الأوقات للحفظ الأسحار، وللبحث الأبكار، وللكتابة وسط النهار، وللمطالعة والمذاكرة الليل، وهذا يدل على أنهم كانوا يعتنون باختيار الأوقات المناسبة وتخصيص كل وقتٍ لعمل. وفي صفحة [78] إشارة إلى مقدار النوم الذي يمكن أن يحتمله طالب العلم فإن المؤلف يقول: من آداب الطالب أن يقلل نومه ما لم يلحقه ضرر في بدنه وذهنه، ولا يزيد في نومه في اليوم والليلة عن ثمان ساعات، وهو ثلث الزمان فإن احتمل حاله أقل منها فعل وتحديد ثمان ساعات للنوم اتفق عليه الأطباء أو كادوا في كثير من الأزمنة، واشتهر عنهم حتى في هذا العصر أنهم يعتبرون أن ثمان ساعات هي الوقت المناسب للنوم، وإن كان هناك رأي لبعض الأطباء المتأخرين أن هذا يختلف بحسب جسم الإنسان وصحته، وبحسب الأوقات، فبعض الأجسام عندها قدرة على التحمل فقد يكفيها نوم ثلاث ساعات أو أربع ساعات، وبعض الأجسام قد لا يكفيها إلا تسع أو عشر ساعات وربما أكثر من ذلك، لكن يقال إن هذا في الأحوال المتوسطة أن الإنسان يكتفي بثمان ساعات. وفي صفحة [79] ذكر المصنف آداباً وتعليمات قد تكون مستغربة على العلماء المتقدمين يقول: ولا بأس أن يريح -الطالب- نفسه وقلبه وذهنه وبصره إذا كلَّ شيئاً من ذلك أو ضعف بتنزه وتفرج في المستنزهات؛ بحيث يعود إلى حاله ولا يضيع عليه زمان، ولا بأس بمعاناة المشي ورياضة البدن به، فقد قيل إنه ينعش الحرارة ويذيب فضول الأخلاط وينشط البدن. وذكر المعلق أن بعض أهل العلم كانوا يجمعون أصحابهم في الأماكن والمتنزهات ويتمازحون فيما بينهم حتى إن المصنف نفسه في صفحة [82] ذكر أن بعض أكابر العلماء كان يجمع أصحابه في بعض أماكن التنزه ويتمازحون بما لا ضرر عليهم به في دين ولا عرض، وهذا فيه دليل على أن تنشيط الطالب إذا تيسر سواء في حال المذاكرة أو المدارسة، أو في حال الدرس والسماع بما يزيل عنه السأم والملل؛ أنه أمرٌ مطلوب ومناسب، خاصةً إذا طال المجلس وثقل على الطالب. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 22 صفات الجليس الصالح في صفحة [84] ذكر المصنف -رحمه الله- صفات الجليس الذي ينبغي أن يختاره الإنسان قال: فليصحب صالحاً، ديناً، تقياً، ورعاً، ذكياً، كثير الخير، قليل الشر، حسن المداراة، قليل المماراة، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم مدح أحدهم {أنه لا يداري ولا يماري} ما معنى قوله: لا يداري؟ المؤلف يقول: حسن المداراة، والرسول عليه الصلاة والسلام مدح هذا الشريك بأنه لا يداري ولا يماري، نعم، لا يداري من المدارأة وهي المدافعة، يعني ليس عنده مدافعة ومعاندة بخلاف المداراة: وهي أن يدرأ الإنسان ما قد يكون عند الآخر من شر بحسن خلقه وجميل معاملته، فهذا مطلوب. إذاً يقول في صفات الجليس: حسن المداراة، قليل المماراة -يعني الجدل والخصومة بالباطل- إن نسي ذكَّره، وإن ذكر أعانه وإن احتاج واساه، وإن ضجر صبَّره. ومما يروى عن علي رضي الله عنه: فلا تصحب أخا الجهل وإياك وإياه فكم من جاهلٍ أردى حليماً حين واخاه يقاس المرء بالمرء إذا ما هو ما شاه وكأن المصنف -رحمه الله- يريد من الإنسان أن لا يختار له صاحباً حين اشترط هذه الشروط الكثيرة، ولكن الواقع أن الإنسان يختار له من الأصحاب بحسب حاله وزمانه، ولا يعدم أن يجد صاحباً موافقاً له مناسباً يعينه على الخير ويستعين به، ويتعاونان معاً على طاعة الله، وطلب العلم النافع، والقيام بواجبات الشريعة، ولعل ما بقي من فوائد هذا الكتاب يكون موضوعاً أخيراً للحلقة القادمة إن اتسع له الوقت، والله أعلم. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ونبيك ورسولك محمد وأصحابه أجمعين. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 23 فائدة حول العلم ومن فوائد هذا الكتاب أن المعلق يقول في صفحة [69] كلمة عن محمد بن الحسن مشهورة عنه، ومحمد بن الحسن الشيباني هو أحد أصحاب أبي حنيفة يقول رحمه الله: لو كان الناس كلهم عبيدي، لأعتقتهم وتبرأت من ولائهم؟ لماذا يقول هذه الكلمة، وما معناها؟ يوضح معنى هذه الكلمة بقيتها يقول: من وجد لذة العلم والعمل؛ قلما يرغب فيما عند الناس، أي: من قلة اهتمام محمد بن الحسن بالناس رضوا أم سخطوا، نفعوا أم ضروا؛ أنهم لو كانوا عبيده لأعتقهم وتبرأ من ولائهم لا يريد أن ينتفع منهم؛ لأنه استغنى بعلمه وعمله وعبادته وما يجد فيها من اللذة. وفي صفحة [67] ذكر المصنف قول بعضهم: العلم صلاة السر، وعبادة القلب، وقربة الباطن، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الجوارح الظاهرة إلا بطهارة الظاهر من الحدث والخبث، فكذلك لا يصح العلم الذي هو عبادة القلب إلا بطهارته، عن خبائث الصفات، ومساوئ الأخلاق ورديئها. وفي صفحة [71] تكلم المؤلف رحمه الله نفسه عن مسألة التفرغ لطلب العلم، فقال نقلاً عن الخطيب البغدادي في كتاب الجامع في آداب الراوي وأخلاق السامع عن بعضهم قال: لا ينال هذا العلم إلا من عطل دكانه، وخرب بستانه، وهجر إخوانه، يقول المؤلف تعليقاً على هذه الكلمة لئلا يسمعها جاهل فيحملها على ظاهرها، قال: وهذا كله وإن كانت فيه مبالغة، فالمقصود به أنه لا بد فيه من جمع القلب، واجتماع الفكر على طلب العلم قال: ومما يقال عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لو كلفت بشراء بصلة لما فهمت مسألة. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 24 العناية والاهتمام بالطالب النجيب وفي الصفحة [63] ذكر المصنف -رحمه الله- عناية السلف باختيار الطالب النجيب، يقول: (واعلم أن الطالب الصالح أعود على العالم بخير الدنيا والآخرة من أعز الناس عليه، وأقرب من أهله إليه. ولذلك كان علماء السلف الناصحون لله ودينه يلقون شبك الاجتهاد لصيد طالب ينتفع الناس به في حياتهم ومن بعدهم، ولو لم يكن للعالم إلا طالبٌ واحد ينتفع الناس بعلمه وعمله وهديه وإرشاده لكفاه ذلك الطالب عند الله تعالى، فإنه لا يتصل شيء من علمه إلى أحد فينتفع به إلا كان له نصيب من الأجر) . ثم ساق المصنف حديث أبي هريرة {: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له} ثم ذكر معنىً لطيفاً للحديث قال: وأنا أقول: إذا نظرت وجدت معاني الثلاثة موجودة في معلم العلم، أما الصدقة فإقراؤه إياه العلم وإفادته إياه، ألا ترى إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في المصلي وحده: {من يتصدق على هذا} أي بالصلاة معه لتحصل له فضيلة الجماعة، ومعلم العلم يحصل للطالب فضيلة العلم التي هي أفضل من صلاة في جماعة، وينال بها شرف الدنيا والآخرة. إذاً قوله: {صدقة جارية} المؤلف يرى أنها موجودة في طالب العلم، كأن الشيخ تصدق عليه بهذا العلم، وأما العلم المنتفع به فظاهره؛ لأنه كان سبباً في إيصال ذلك العلم إلى كل من انتفع به. وأما الدعاء الصالح له فالمعتاد المستقر على ألسنة أهل العلم والحديث قاطبة الدعاء لمشايخهم وأئمتهم، وبعض أهل العلم يدعون لكل من يذكر عنه شيء من العلم، وربما يقرأ بعضهم الحديث بسنده فيدعو لجميع رجال السند، فسبحانه من اختص من شاء من عباده بما شاء من جزيل العطاء. إذاً: المصنف خرج بأن الأمور الثلاثة: العلم المنتفع به، والصدقة الجارية، والولد الذي يدعو، كلها متحققة في طالب العالم إذا كان طالباً نجيباً. ومن الفوائد التي ذكرها المعلق في صفحة [66] في ترجمة البويطي صاحب الإمام الشافعي قال: إن الشافعي قال له حين وفاته: قم يا أبا يعقوب فتسلم الحلقة، قال: توفي أبو يعقوب في رجب سنة إحدى وثلاثين ومائتين في القيد والسجن ببغدادقال الربيع وهو من أصحاب الشافعي: كتب إليَّ أبو يعقوب من السجن وقال: إنه ليأتي عليَّ أوقات لا أحس بالحديد أنه على بدني حتى تمسه يدي -أي: هذا من استغراقه في العبادة والتلذذ بالخلوة بالله عز وجل وفوائد العلم النافع تمر عليه أوقات ينسى أنه بالقيود حتى تلمسها يده- يقول: فإذا قرأت كتابي هذا فأحسن خُلقَك مع أهل حلقتك واستوص بالغرباء خاصة خيراً -أي: الذين كانوا يرحلون في طلب العلم- كثيراً ما كنت أسمع الشافعي رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت: أهين لهم نفسي لأكرمهم بها ولن تكرم النفس التي لا تهينها يقصد الطلاب عموماً، والغرباء خصوصاً. وهذا النقل نقله المعلق من وفيات الأعيان الجزء الثاني صفحة (458) . الجزء: 189 ¦ الصفحة: 25 في التدريس والعلم وفي صفحة [46] ذكر المصنف -رحمه الله- بعض من يتصدرون للتدريس والإفتاء وليسوا أهلاً، وقد ذكرت هذه الأبيات لانطباقها على حالنا في هذا الوقت يقول: وقيل لـ أبي حنيفة رحمه الله: في المسجد حلقة ينظرون في الفقه، فقال: ألهم رأسٌ؟ قالوا: لا -يعني ليس لهم شيخٌ أو معلم- قال: لا يفقه هؤلاء أبداً. ولبعضهم في تدريس من لا يصلح أبيات من الشعر يقول: تصدر للتدريس كل مهوسٍ جهولٍ تسمى بالفقيه المدرس فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ببيت قديم شاع في كل مجلس لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس المقصود جمع كلية أو تثنية كلية. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 26 كلمات مرغبة ومثبطة في العلم وفي هامش صفحة [48] ذكر كلمات مرغبة في العلم وكلمات مثبطة عن تحصيله، فيقول: ليس كلمة أحض على طلب العلم من كلمة علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[قيمة كل امرئٍ ما يحسن]] وهذه الكلمة نقلها عن صاحب الحث على طلب العلم العسكري وغيره ولا كلمة أضرت بالعلم والعلماء والمتعلمين من قول القائل: ما ترك الأول للآخر شيئاً. لأن هذه الكلمة فعلاً مثبطة تشعرك بأنه ما تُرِك لك شيء، فلا داعي أن تتعب نفسك في الطلب والتحصيل والاستنباط. والواقع والصواب أن يقال: كم ترك الأول للآخر!! فنحن نجد كثيراً من العلماء المتأخرين لهم تحقيقات واستنباطات في كثير من المسائل لم يسبق إليها، ولم يأت بها من كان قبلهم. ولعلي أختم هذه الحلقة بما في هامش صفحة [50] عن الخليل بن أحمد رحمه الله أنه كان يقول: أكثر من العلم لتعلم، وأقلل منه لتحفظ، وهذا يعني أن الإنسان يجب أن يكون له قراءات واسعة، واطلاع شامل على كثير من الكتب والأقوال والآراء، لكن يختار منه شيئاً قليلاً يحرص على حفظه حتى يبقى معه هذا الشيء القليل. ونواصل إن شاء الله الأسبوع القادم في هذا الكتاب. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وآله وأصحابه أجمعين. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 27 فوائد أخرى (التدرج في الطلب) وقواعد نفيسة نواصل ما سبق في المجلس السابق من ذكر بعض الفوائد والشوارد الملتقطة من الكتاب المفيد الموسوم بـ (تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم) . فأقول: إن من الفوائد التي ذكرها المصنف في صفحة [57] أنَّ نقل الطالب إلى ما يدل على جودة ذهنه يزيده انبساطاً، وإلى ما يدل على قصوره يقلل نشاطه أي: أن من أساليب التربية والتعليم أن تنقل الطالب من الأسهل إلى الأصعب بالتدريج، لأنك إذا رقيت الطالب في هذه العلوم بدأ يشعر يوماً بعد يوم أنه ازداد فهماً وعلماً، أما إذا كان ينتقل من الأصعب إلى الأسهل، فإن هذا يسبب فتوره وضعف نشاطه. وفي صفحة [57] أيضاً ذكر المصنف رحمه الله أن من المهم للأستاذ أن يذكر للطلبة قواعد الفن المتعلقة به، إما القواعد المطلقة التي ليست لها استثناءات، أو القواعد الأغلبية فقال: أن يذكر للطلبة قواعد الفن التي لا تنخرق إما مطلقاً كتقديم المباشرة على السبب في الضمان -يعني تقديم تضمين المباشر، على تضمين المتسبب- أو غالباً كاليمين على المدعى عليه إذا لم تكن بينة إلا في القسامة، والمسائل المستثناة من القواعد، وكقوله العمل بالجديد من كل قولين قديم أو جديد أي إذا وجد إمام له قولان مثل الشافعي. وهذه ليست مقصورة عليه فكثير من أهل العلم له قولان في المسألة أحدهما قديم والآخر جديد- يقول: العمل بالجديد من كل قولين قديم وجديد إلا في أربعة عشر مسألة -ويذكرها- كل يمين على نفي فعل للغير فهي على نفي العلم -يعني أتى بهذه كقاعدة- (إلا من ادعي عليه أن عبده جنى فيحلف على البت على الأصح) يعني -هذا في رأي المصنف- أن الإنسان إذا حلف على نفي شيء أنه ما حصل كذا؛ يحلف أنه هكذا على حدود علمه إلا في هذه المسألة، (وكل عبادة يخرج منها بفعل ينافيها أو يبطلها. مثل الصلاة يخرج منها لو فعل ما ينافيها كنقض الوضوء أو الضحك أو الأكل أو ما شابه ذلك، إلا الحج والعمرة فإنه إذا أفسده يمضي فيه، {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] وكل وضوء يجب فيه الترتيب -وهذا سبق تقريره- إلا وضوء تخلله غسل الجنابة) وهذه سائدة أن الوضوء يعني الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر، فإذا اغتسل الإنسان من الجنابة أجزأه هذا عن الوضوء، ولم يحتج أن يتوضأ إلا أن ينتقض وضوؤه وأشباه ذلك. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 28 في الدعاء وقول (والله أعلم) وفي صفحة [35] ذكر أيهما أولى أن يدعو الإنسان لنفسه ثم للآخرين، أو يدعو للآخرين ثم يدعو لنفسه؟ كثير من الناس يدعو للآخرين ثم يدعو لنفسه، يقول المصنف: وكان بعضهم يؤخر ذكر نفسه في الدعاء عن الحاضرين تأدباً وتواضعاً -وهذا موجود حتى تجدون مثلاً في بعض الكتب كما في مقدمة ابن الصلاح يقول: اعلم أرشدك الله وإياي، فقدم الآخرين على نفسه في الدعاء. وهذا من باب التأدب والتواضع كما ذكر المصنف لكن تعقب المصنف ذلك- فقال: لكن الدعاء لنفسه قربة، وبه إليه حاجة، والإيثار بالقرب وما يحتاج إليه شرعاً خلاف المشروع، ويؤيده قوله تعالى: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] وقال صلى الله عليه وسلم: {ابدأ بنفسك ثم بمن تعول} وهناك حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعاء بدأ بنفسه، فالأولى أن يبدأ الإنسان لنفسه فيقول: وفقني الله وإياك -مثلاً- وما أشبه هذا. وفي صفحة [44] تعقب المصنف ما يقع من بعض الناس من كونهم يختمون الدرس بقولهم: (والله أعلم) فيقول: جرت العادة أن يقول المدرس عند ختم كل درسٍ (والله أعلم) وكذلك يكتب المفتي بعد كتابة الجواب، ولكن الأولى أن يقال قبل ذلك كلام يشعر بختم الدرس كقوله: وهذا آخره، ونحو ذلك ليكون قوله (والله أعلم) خالصاً لذكر الله تعالى، ولقصد معناه، كما يستفتح (بسم الله الرحمن الرحيم) فيكون ذاكراً لله في بداية الدرس وخاتمته، أي أنه لو قال: والله أعلم دون مقدمات قد يكون إشعاراً لأن الدرس انتهى، فيكون معنى (والله أعلم) انتهى الدرس، فلا تكون ذكراً في هذه السورة، لكن لو قال: (هذا ما تيسر والله أعلم) أو (هذا آخر ما أردت والله أعلم) وما أشبه ذلك صارت كلمة (والله أعلم) ذكراً خالصاً كما ذكر المصنف. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 29 في فضل العلم والعلماء ففي صفحة (6) من صلب الكتاب ذكر المؤلف رحمه الله فائدة طريفة في فضل العلم والعلماء، فإنه قال رحمه الله: وقال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] وقال تعالى في آخر سورة البينة: {أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة} [البينة:7] إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8]-فأخذ المصنف رحمه الله من هاتين الآيتين أن العلماء هم خير البرية- قال: فاقتضت الآيتان أن العلماء هم الذين يخشون الله تعالى وأن الذين يخشون الله تعالى هم خير البرية، فينتج أن العلماء هم خير البرية؛ لأن الله وصفهم بأنهم الذين يخشون الله فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] . ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] إلى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8] قال المصنف: فمن مجموع الآيتين يؤخذ أن العلماء هم خير البرية. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 30 العلم أفضل من النوافل وفي صفحة [11] نقل المصنف عن الفضيل بن عياض -رحمه الله- كلمة كثيراً ما نسمعها وقد لا ندري من قائلها، وقد رأيت الإمام ابن القيم استشهد بها في غير موضع دون أن ينسبها لقائل، قال المصنف: قال الفضيل بن عياض عالمٌ معلم يدعى كبيراً في ملكوت السماء. في صفحة [13] ذكر المصنف رحمه الله في صلب الكتاب أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات، قال رحمه الله: وقد ظهر بما ذكرناه أن الاشتغال بالعلم لله أفضل من نوافل العبادات البدنية من صلاة وصيام، وتسبيحٍ، ودعاء، ونحو ذلك؛ لأن نفع العلم يعم صاحبه والناس، -يعني نفعه متعدٍ- والنوافل البدنية مقصورة على صاحبها، ولأن العلم مصححٌ لغيره من العبادات، فهي تفتقر إليه وتتوقف عليه ولا يتوقف هو عليها، ولأن العلماء ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وليس ذلك للمتعبدين، ولأن طاعة العالم واجبة على غيره فيه، ولأن العلم يبقى أثره بعد موت صاحبه؛ وغيره من النوافل تنقطع بموت صاحبها، ولأن بقاء العلم إحياء الشريعة وحفظ معالم الملة. ذكر ستة أوجه تميز العلم وتفضله على نوافل العبادات، هي: 1- نفع العلم متعد، أما العبادة فنفعها مقتصر على صاحبها. 2- أن العلم يصحح العبادة فهي تفتقر إلى العلم، ولو تعبد إنسان على جهل فلربما ابتدع، والعلم لا يفتقر إلى هذه النوافل. 3- أن العلماء ورثة الأنبياء، وليس ذلك للمتعبدين. 4- أن العلم يبقى أثره بعد الموت، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {وعلم ينتفع به} في حديث أبي هريرة. 5- أن في بقاء العلم إحياء الشريعة. 6- أن العالم طاعته واجبة في العلم، وليس كذلك المتعبد، لذلك لما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] كان أولو الأمر هم العلماء والأمراء، فطاعة العالم في أمور الدين واجبة، وهذه فائدة تقتنص. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 31 طلب العلم لغير الله والاستشفاء به من ذلك أنه في المتن في الصفحة [14] يقول: عن حماد بن سلمة رضي الله عنه، ورحمه الله أنه قال: [[من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به]] أي: أن الله تعالى قد يفضحه ولا ييسر له تحصيل العلم، وقد يسوء حاله، وهذا لا يدعو الإنسان إلى ترك طلب العلم والحديث؛ لأن هذا من مداخل الشيطان، لكنه يدعو الإنسان إلى أن يصر على طلب العلم والحديث، ويصر أيضاً على مجاهدة القلب على إصلاح النية، ودفع الواردات التي تعكر صفاء نيته. وفي صفحة [18] ذكر المصنف أن سفيان الثوري كان يمشي إلى إبراهيم بن أدهم ويفيده، وأن أبا عبيد كان يمشي إلى علي بن المديني يسمعه غريب الحديث. وهذا فيه إشارة إلى التواضع وأنه لا بأس أن يأتي الإنسان إلى من هم أفضل منه يسمعهم بعض الشيء أو من يكونون أسن منه، وإنما يصان العلم عن الإتيان عمن ليسوا كذلك. وفي صفحة [27] ذكر المصنف رحمه الله الاستشفاء بالعلم قال: كان بعضهم لا يترك الاشتغال بطلب العلم بعروض مرض خفيف، أو ألم لطيف، بل كان يستشفي بالعلم ويشتغل بقدر الإمكان كما قيل: إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس والإنسان ينتكس أي: وتعود عليه العلة بعد مفارقته. الجزء: 189 ¦ الصفحة: 32 من آفات القراء العلم فضيلة وأي فضيلة، لكنه قد يؤدي بصاحبه إلى الإعجاب أو الكبر ونحو ذلك، وقد ناقش علماء الإسلام ذلك في كتب متعددة، وفي هذا الدرس خلاصة مهمة لأهم الآفات التي قد تصيب طالب العلم. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 1 توطئة فيمن تكلم عن نفس الموضوع إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على خاتم الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، وإمام الدعاة والمعلمين والمرشدين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: فموضوع هذه المحاضرة كما قرأتم وسمعتم هو (من آفات القراء) وهذا العنوان ليس جديداً لا لفظاً ولا معنى فأما في اللفظ فإنني قد استعرته من الإمام المحدث اللغوي أبي سليمان الخطابي رحمه الله، وذلك في كتابه العزلة حيث عقد فيه فصلاً بعنوان (آفات القراء) وقد أعجبني هذا العنوان فاقتبسته منه. وأما من حيث الموضوع فهو -أيضاً- موضوع مطروق، أعني به الحديث عن آفات طلاب العلم -وليس القراء إلا طلاب العلم- فقد كتب وتكلم في هذا الموضوع عدد غير قليل من الأئمة منهم: الخطابي -كما أسلفت- والإمام ابن قتيبة، والإمام العسكري في غير واحد من كتبه. وكذلك: الإمام الذهبي في رسالة له عنوانها "بيان زغل العلم" إضافة إلى كتابات ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والخطيب البغدادي وابن القيم وغيرهم. وهؤلاء العلماء الذين تكلموا عن هذا الموضوع قد أشبعوه بحثاً، في حين أنني لا أستطيع في هذه العجالة إلا أن أشير إلى جوانب سريعة من هذا الموضوع الواسع المهم. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 2 أسباب الحديث عن الموضوع وقد يسأل بعض الإخوة عن السبب في اختيار هذا الموضوع، ومن المعلوم أن آفات الناس كثيرة؛ فلماذا نختار القراء منهم للحديث عن آفاتهم؟! فأقول: إنما اخترت الحديث عن آفات القراء بالذات؛ لأسباب منها: السبب الأول: أن هؤلاء القراء هم كالثوب الأبيض النقي ما إن يقع عليه شيء من الدنس حتى يبين فيه، فيحتاج إلى غسل وتنظيف، ولهذا كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة أنه كان يدعو بين التكبير والقراءة بقوله: {اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد} أما غيرهم من الناس فهم كالثوب الأسود، وقد تقع فيه الأوساخ ويقع فيه الدنس؛ فلا يبين فيه. السبب الثاني: أن القراء هم -كما سماهم ابن المبارك وغيره- ملح البلد؛ لأن الناس إذا فسدوا ينتظر أن يصلحهم طلاب العلم والموجهون والقراء، فإذا فسد هؤلاء فغيرهم من باب أولى. كان الإمام عبد الله بن المبارك يقول: يا معشر القراء يا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد وقد نقل هذا المعنى عن عيسى ابن مريم عليه السلام كما في كتاب الزهد لـ ابن المبارك. السبب الثالث: أن مثالب القراء وعيوبهم وآفاتهم أحياناً تتزيا في زي محاسن، ويتدسس بها الشيطان إلى نفس القارئ أو الطالب على أنها حسنة وفضيلة يقتبسها ويتقمصها، فهي أحوج ما تكون إلى البيان والكشف والتعرية؛ حتى يحذرها القارئ وطالب العلم. أما عن الآفات التي سأتحدث عنها، فسأتحدث باختصار حتى لا أطيل عليكم عن عدد من هذه الآفات. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 3 الكبر وخطره على القراء أولها: الكبر: وهي أهم آفة وأسؤها يمكن أن يبتلى بها الإنسان؛ حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صرح كما في الصحيحين وغيرهما: {أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه ذرة من كبر} . وسئل -كما في صحيح مسلم- فقيل له: يا رسول الله! إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس} ونحن لو نظرنا في سيرة إمام الأئمة، وعالم العلماء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لوجدنا أنه كان يتحلى ويتجمل بالتواضع؛ حتى إنه عليه الصلاة والسلام كان يضاحك الصبيان ويباسطهم ويمازحهم، ويجلس مع أصحابه على الأرض، ويركب كما يركبون، ويمشى على قدميه كما يمشون، ويخصف نعله، ويرفع ثوبه ويفلي رأسه إذا أصابه القمل أو غيره، ويباشر شئونه بنفسه. وفي صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها سَئَلت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف يكون في بيته، فقالت: {كان يكون في مهنة أهله، أي: في شغلهم، فإذا أذن المؤذن خرج إلى الصلاة} . وفى الشمائل للترمذي وغيره وفى الصحيحين عن أنس {أن امرأة قالت: يا رسول الله لي إليك حاجة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: كوني في أي طرق المدينة شئت -أو نحو ذلك- فكانت المرأة تأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فتحدثه في بعض شئونها} . والنبي صلى الله عليه وسلم -في ذلك- بعيد عن التكبر أو التجبر، وقال عليه الصلاة السلام: {آكل كما يأكل العبد وأشرب كما يشرب العبد} وكان ينهى عن صفات المتكبرين. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 4 انتظار الإجلال والأجر من الناس من آثار الكبر وثماره المرة: أن يصبح طالب العلم ينتظر من الناس التقدير، والإجلال والتكرم، فإذا حضر مجلساً انتظر أن يصدروه ويجعلوه في صدر المجلس، وإذا سلم عليه أحد تجد بعضهم قد يطأطئ رأسه وكأنه ينتظر القبلة على رأسه، وربما يرى أن من وسائل كسب احترام الناس وهيبتهم أن يَزورَّ عنهم ولا يباسطهم، ولا يحرص على الحديث معهم، ومفاتحتهم في أمورهم الخاصة وغيرها، حفظاً لوقاره وهيبته عن أن ينالها هؤلاء، -وكما أسلفت- أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعيداً عن هذه الأشياء يجالس الكبار والصغار يتحدث معهم في شئونهم الخاصة والعامة، وهذا الداء داء الكبر إذا وجد عند أحد من القراء فإنه خطير خطير، لأنه يؤدى بالإنسان إلى أن يكون مجموعة من المثالب والعيوب في الوقت الذي يظن هو فيه أنه بلغ درجة الكمال، وهو لا يستفيد من أحد ولا يسمع من أحد -أيضاً- ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في تعريف الكبر: {الكبر بطر الحق وغمط الناس} وبطر الحق يعنى: رده؛ لأن المتكبر يرى أنه ليس فيه عيوب حتى ينبه إليها، ورحم الله من قال: {رحم الله املءاً أهدى إلينا عيوبنا} وهكذا يكون الكمال في الرجال أن الإنسان مهما بلغ من العلم والسؤدد والفضل والمكانة يرى أنه لا حظ له في ذلك، إنما ما كان فيه من خير فمن الله، لم يكسبه بكد يمينه. ولذلك يقول الشاعر في ذكر نعم الله، وإن كل ما عند الإنسان فهو نعمة: إذا كان شكري نعمة الله نعمة عليَّ له في مثلها يجب الشكر فكيف أقوم الدهر في بعض حقه وإن طالت الأيام واتصل العمر فإذا كنت تعتقد أن ما بك من نعمة كنعمة العلم -مثلاً- إنها نعمة من الله تعالى، فحينئذٍ أنت تعلم أن هذه النعمة يجب شكرها بنشرها والدعوة إليها وتعليمها، ولا يأخذك في ذلك عجب ولا اغترار، وهذا الشكر لنعمة العلم يتطلب منك شكراً آخر، وهكذا حتى يظل الإنسان في شكر متجدد لنعم الله عز وجل المتجددة. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 5 إعجاب المرء بنفسه وتعامله بغير علم من آثار الكبر وثماره السيئة: مشاهدة الإنسان نفسه، وأعني: أن الإنسان يرى نفسه (طالب العلم) شيئاً ذا بال؛ فتجده في مظهره ومخبره وحديثه وأسلوب معاملته للناس مختالاً مزوراً معرضاً عنهم؛ لما يرى في نفسه من فضل عليهم؛ وهذا قد يظهر على فلتات لسانه تجد بعض الناس، إذا تحدث - وهذا موجود في كثير من الناس في جميع طبقات الناس- لكن الحديث الآن عن آفات القراء: تجد من القراء إذا تحدث، أو كتب يستخدم عبارات العلماء وكأنه عالم فحل يشار إليه بالبنان، فيقول: -مثلاً- (وأنا وأنا) ويكثر من هذه "الأنا" القاتلة، أو تجده يكثر من كلمة (عندي) عندي أن الأمر كذا وذلك في حديثه أو في تصنيفه وتأليفه، أو يكثر من: (ولي من المصنفات كذا، ولي من الأعمال كذا وكذا) . وما أجمل الكلمة التي قالها الإمام ابن القيم رحمه الله -في آخر صفحة من الجزء الثاني من زاد المعاد -حيث قال وهو يتحدث عن الحذر من الألفاظ المكروهة والممنوعة، ختم حديثه بقوله: وليحذر كل الحذر من طغيان: أنا، ولي، وعندي، فإن هذه الألفاظ الثلاثة ابتلي بها إبليس وفرعون، وقارون، فأما إبليس فقال: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12] . وأما فرعون فكان يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] وأما قارون فكان يقول: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] قال رحمه الله: وأفضل ما وضعت فيه هذه الألفاظ في نحو قولك: لي الذنب، ولي الجرم، ولي الإثم، ولي الذل. وأفضل ما وضعت فيه (أنا) نحو قولك: أنا العبد المذنب المخطئ المستغفر المعترف ونحو ذلك. وأفضل ما وضعت فيه (عندي) اللهم اغفر لي خطئي وهزلي وعمدي وجدي وكل ذلك عندي، وهذه الكلمة مقتبسة من الحديث المتفق عليه عن أبى موسى الأشعري رضي الله عنه. ومن الألفاظ التي يجدها القارئ اليوم في بعض الكتب التي انتشرت في هذا الوقت: أن كثيراً من الطلاب قد يكون بإمكانه أن يحقق كتاباً، أو يؤلف بحثاً في موضوع ما، وهذا الأمر أصبح ميسوراً لتوفر الكتب والدراسات، فإذا عرف الإنسان طريق البحث والتخريج واستطاع أن يجمع عدداً من المخطوطات -مثلاً- ويحققها، ويخرجها للناس، ويعلق عليها بتعليقات مفيدة، لكن الشيء المنتقد ليس هذا! لكن أن تتسرب إلى بعض هذه المؤلفات عبارات -إن كانت لائقة بالعلماء فليست لائقة بالقراء- مثلاً كما يقول بعضهم بعد أن ينقل أقوال العلماء: (قلت) وكأنه الإمام أحمد أو أبو حاتم الرازي أو أبو زرعة الرازي أو الدارقطني وغيره. بل إن منهم من ينقل أقوال هؤلاء العلماء ويعقب عليها بقوله: (قلت: أخطأ فلان وأخطأ فلان) وقد يسوق لك أقوال عدد من العلماء أذكر منهم في أمثلة واقعية، -مثلاً- إماماً كـ الدارقطني إمام من أئمة الدنيا في معرفة الحديث وعلله وأسانيده، فتجد الواحد ينقل كلام الدارقطني فيقول: الدارقطني بشر، يخطئ، ويصيب، فيخطئه. وبعضهم يعبر ويقول: أخطأ الدارقطني، ونحن لا نقول إن الدارقطني لا يخطئ فهو بشر، لكن! هذا ليس أسلوباً وإن فرض -فعلاً- أن الدارقطني خالف غيره من العلماء في مسألة يرد عليه بكلام أهل العلم، ويقال: الدارقطني إمام ولكن خالفه من هو أعظم منه وأعلم منه وهو فلان. وتجد بعضهم يستعملون ألفاظاً فخمة: قرأت في أحد الكتب -مثلاً- أن محقق هذا الكتاب يمدح عالماً من علمائنا في هذا العصر ويثني عليه، حتى يقول: ولو حلفت بين الركن والمقام أنه لم تر عيني مثله ولم ير هو مثل نفسه لرجوت ألا أحنث!! معقول أن يقول الذهبي مثل هذه الكلمة في ابن تيمية لكن من غير المناسب في نظري أن يقولها طالب علم، وإن كان له مكانة في العلم، وعنده شيء من التمكن؛ لأنه كم رأت عينك من العلماء الفطاحل الذي تقول: ما رأت عيني مثل فلان منهم ولا رأى هو مثل نفسه، أو يقول -مثلاً- وما أسفت على شيء أسفي على أنني فاتني لقيا فلان وفلان من العلماء، حيث ماتوا قبل أن يلقاهم، وكأنه قد لقي الشيوخ وجمع الأسانيد والتقى بأعداد كثيرة من العلماء. وهذه الأساليب قد تنم عن نوع من التعالم كما سماه الشيخ الدكتور الباحث بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه المفيدالتعالم وأثره على الفكر والكتاب، فمثل هذه العبارات تنم عن نوع من تعجل التصدر والتمشيخ، وشعور الإنسان بأنه أصبح شيئاً يرى، وكلما استطاع طالب العلم أن يتحرر من هذه الألفاظ كان أجدر. وهذه الأمثلة التي ذكرت لست أعني بالضرورة من استعملوها؛ لأن الإنسان قد يلاحظ أن بعض هذه العبارات تتسلل دون علم الإنسان؛ لأنك إذا قرأتها في كتاب وربما يكون من أشرت إليهم جاءت على لسانهم عفواً دون أن يقصدوا. ولذلك أحببت التنبيه إليها، حتى يتجنبها الطالب وينتبه إليها. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 6 ازدراء الناس وتتبع أخطائهم كثير من المتعلمين قد يصابون بشيء من الكبر: وهو سبب لكل داء، فمن الأدواء التي تترتب على الكبر ازدراء الناس واحتقارهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم -في تفسير الكبر أنه-: {بطر الحق وغمط الناس} . وفى رواية: {غمص الناس} ومعنى غمط الناس: أي بخسهم حقوقهم وازدراؤهم واحتقارهم فهذا مظهر من مظاهر الكبر، وأنت تجد المصاب بهذا الداء يشتهي دائماً أن يقع في عيوب الناس وأخطائهم، وخاصة من ينافسونه في عمله -من العلماء وطلاب العلم- فتجده يقول: فلان فيه كذا، وفلان فيه كذا، والكتاب الفلاني فيه كذا. فلا يذكر عنده شخص أم كتاب أم عمل إلا حاول أن يجد فيه عيباً، ويبخسه حقه ببعض اللمزات والكلمات، وكأن لسان حاله يقول: أنا المتفرد بالصواب والسلامة من الأخطاء، أما فلان فقد أخطأ في كذا وفلان أخطأ في كذا، والكتاب الفلاني فيه من الأخطاء كذا وكذا، وكتبي هي وحدها السالمة من الأخطاء والعيوب؛ فهذا ليس مقاله؛ بل لسان حاله. فلو بحثت في نفسيه من يكثرون من الوقوع في طلاب العلم والعلماء وتشهير أخطائهم، ومحاولة البحث عن زلاتهم لإذاعتها ونشرها، لوجدت أنهم ينطلقون من نفسية مصابة بداء الكبر! ومن عايش مثل هذه النوعيات من الناس، يجد أن القضية عندهم ليست قضية نقد وتقويم؛ لأننا -معشر المسلمين- عندنا مبادئ للنقد والتقويم عرفناها من القرآن والسنة، وورثناها من سلفنا الصالح: وهى أصول واضحة لا يمنع أن يقوَّم العالم فيبين أنه أخطأ في المسألة الفلانية؛ لكن! مع حفظ حقه. إذاً: من هو الذي لا يخطئ مرة أو عشرة أو مائة؟!. ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وأي كتاب ليس فيه خطأ إلا كتاب الله تعالى؟! أما ما عداه فلا يسلم من نقص يقول بعضهم: إلا صحيح البخاري ومسلم. وأقول: مع الاعتراف بأن جميع ما في البخاري ومسلم من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه صحيح؛ إلا أنه من حيث أنه كتاب لا يمكن أن نصفه بالكمال المطلق. مثلاً البخاري -رحمه الله- أحياناً يقول: باب ثم لا يضع تحته حديثاً، لماذا؟ قد نقول أنه أتته المنية قبل أن يضع أحاديث!! وقد يقال أي شيء آخر، المهم: أن الخطأ والنقص في التبويب، والترتيب، والتصنيف، وفي التقديم، والتأخير، هذا واردٌ على كل كتاب، ولا يمكن أن نصف كتاباً بالكمال المطلق إلا كتاب الله عز وجل، مع تسليمنا بأن ما في الصحيحين من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأسانيد المتصلة؛ أنها صحيحة!! فأقول: هناك فرق بين مبدأ النقص والتقويم المنصف، وبين شهوة ازدراء الناس والحط من أقدارهم. فالتقويم: يحفظ الناس حقوقهم، فأنت تبين -مثلاً- أن هذا العالم له من الفضائل كذا وكذا، وله من المصنفات كذا وكذا، ثم لا يمنع أن تبين مع جلالة قدره، فإن الله عز وجل أبى أن تكون العصمة إلا لرسله، فهذا العالم انتقد في كذا وكذا وهذا لا ينقص من قدره؛ بل كفاه نبلا أن تعد معايبه. فرق بين هذا الأسلوب في النقد والتقويم الذي يضع الأمر في نصابه، وبين الذي يفرح بكل زلة لعالم حتى يحط من قدره. فهل يستوي عنده أكابر العلماء وصغار الطلاب؟ لأننا نعلم أنه ما من عالم إلا وله زلة فإن كانت هذه الزلة سوف تسقط هذا العالم، معناه: أنه لم يبق لنا أحد من العلماء نأخذ عنه ونقتدي به، فهذا هو بطر الحق، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم. وانظر وقارن بين صورتين في هذا الموضوع. الصورة الأولى: ما ذكره ابن عساكر [[عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري تعظيماً له وتوقيراً، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا]] وابن عباس وهو من هو في جلالة قدره وسعه علمه وفقهه في الدين، ومع ذلك يأخذ بركاب زيد بن ثابت، ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا، فهذه صورة المتواضع في معاملة العلماء من شيوخه أو أقرانه، أو من هم دونه. ويقابل هذه الصورة صورة أخرى ذكرها الخطابي -في الموضع الذي أشرت إليه في بداية المحاضرة- قال: إن عبد الله بن المبارك رحمه الله زار رجلاً من أهل نيسابور -كان يوصف بالعلم والزهد والتقشف- فلم يلق هذا الرجل لـ عبد الله بن المبارك ولم يلتفت إليه، فلما خرج عبد الله بن المبارك من عنده، قيل لهذا الرجل: أتدري من هذا الرجل الذي دخل عليك؟! قال: لا، قيل له: هذا عبد الله بن المبارك فتأثر الرجل؛ لأنه لم يكن يعرفه، ثم خرج ولحق به، وقال: سامحني! فإنني لم أكن أعرف أنك عبد الله بن المبارك، فقال له عبد الله بن المبارك: نعم، قال هذا الرجل: عظني، قال: أعظك إذا خرجت إلى السوق فلا تقابل رجلاً من المسلمين إلا وظن أنه خير منك؛ لأن عبد الله بن المبارك لمح في هذا الرجل شيئاً من الغطرسة والكبر فأدبه بهذا الأدب، حتى يعالج هذا الكبر الموجود في نفسه. فطالب العلم يحتاج إلى أن يعرف للرجال حقوقهم وأقدارهم وفضلهم، وألا يكون وقوع الخطأ عند عالم منهم مدعاة إلى سقوطه من عينه وهذه قضية تحتاج إلى أن يكون الإنسان فيها متوازن، فلا يتابع الإنسان الآخرين على أخطائهم -من باب التوقير والإجلال- لا ولكن! لا يكون وقوع الخطأ من أحدهم مدعاة إلى التشهير به، والحط من قدره وازدرائه وبخسه ماله من الفضائل والمكارم. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 7 من الآفات التجرؤ على جميع العلوم الآفة الثانية: أنك تجد بعض القراء إذا بدأوا في طلب العلم وتحصيله، وحصلوا من ذلك قسطاً لا بأس به، خيل للواحد منهم أنه قد احتقب العلم بحذافيره، فأصبح يتكلم في دقيق العلوم وجليلها كلام العالم المتبحر وينبغي أن نفرق في هذه المسألة أيضا بين نوعين: الأول: أنه من الممكن أن يقوم زيد من الناس ببحث مسألة من المسائل -أياً كانت- خاصة المسائل الموجودة في الكتب، مسألة ففيهة -مثلاً- أو عقائدية أو لغوية، ويرجع إلى المصادر المعتمدة في هذه المسألة، ويجمع أقوال أهل العلم وأدلتهم، ويرجح، فيصل بعد الترجيح إلى نتيجة معينة، وهذه النتيجة قد يعرضها على بعض أهل العلم فيرتضونها ويقرونه عليها، حينئذٍ قام هذا الطالب وعرض هذه النتيجة على الناس لا بأس بذلك، لكن بعد هذه المرحلة وفى هذه المسألة بالذات، فرق بين هذا وبين إنسان لا يترك مسألة إلا هجم عليها، ولا يسأل عن سؤال إلا أجاب بخطأ أو صواب. ولعلكم جميعاً تعرفون القصة التي يذكرها بعض اللغويين وغيرهم؛ بل وبعض المتكلمين في الآداب والأخلاق يزعمون -وهي أسطورة، ولكن بعض الأساطير لها تعلق بالواقع- يزعمون أن رجلاً لغوياً كان لا يسأل عن كلمة إلا بين معناها واستدل عليها بأحاديث، وبأبيات من الشعر، وأقوال العلماء وغير ذلك، فشعر تلاميذه بأن هذا الرجل ليس دقيقاً فيما ينقل، وأنه قد يختلق بعض الأشياء وينسبها إلى غيره، فاتفق التلاميذ على أن ينحتوا كلمة مختلقة ليس لها معنى موجود في اللغة العربية ويسألونه عنها، فاجتمعوا وتبرع كل واحد منهم بحرف فألفوا من ذلك كلمة كانت هذه الكلمة هي كلمة "الخنفشار" فجاء أحدهم إلى هذا الشيخ، وقال له: يا شيخ! ما هو الخنفشار، قال الشيخ: بعد أن حمد الله وأثنى عليه " الخنفشار" هو نبات ينبت في أطراف اليمن وفيه كذا، وفيه كذا ألم تسمعوا إلى قول الشاعر: لقد عقدت مودتكم فؤادي كما عقد الحليب الخنفشار وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يكفي هذا يا شيخ بارك الله فيك! ما دام المسألة وصلت إلى حد الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، فحينئذٍ أوقفوه وبينوا له الأمر. فأقول: كون الإنسان يهجم على كل مسألة وكل شيء هذا ليس بلائق، ومن إعانة الناس -فأحياناً- الناس هم الذين قد يفسدوا العالم أو طالب العلم؛ لأن طالب العلم يسير سيراً معتدلاً فيقبل الناس عليه ويصبحون يسألونه عن كل شاذة وفاذة، وشاردة وواردة. فمن الصعب جداً على الإنسان أن يقف أمام الناس فيسأل عن عشرين سؤالاً أن يقول عن عشرة منها على الأقل: لا أدرى أو الله أعلم، فهذه قد حدثت مع الإمام مالك حين رحل إليه رجل بأربعين مسألة، فأجابه عن ثماني مسائل منها، واعتذر عن اثنتين وثلاثين مسألة، فقال له السائل: ماذا أقول للناس؟ قال: قل لهم يقول الإمام مالك: الله أعلم، لا أدرى!! فالناس أحياناً: قد يخرجون طالب العلم عن طوره، بكونهم يضعونه في غير موضعه، ولذلك قال بعض السلف: "إن وقع الأقدام خلف العالم، مزلة لعقول الحمقى" أي: إذا صار العالم يمشي وطلابه خلفه يسيرون؛ كان هذا سبباً في استخفافه إذا كان أحمق، وخروجه عن طوره، أما العالم الرباني: فإنه يعلم قدر نفسه، ولا يغتر بإقبال الناس أو ثنائهم عليه أو كثرة ماءلتهم له، ومما ينبغي أن يعرف في هذا الباب: أن مجرد الإطلاع على المسائل والكتب لا يكفي وحده في تحصيل العلم؛ بل لابد من شروط فطرية عند الإنسان، ولذلك تعجبني كلمة ذكرها الإمام الجويني في كتابه الذي سماه "غياث الأمم في التياث الظلم" ذكر في هذا الكتاب ضمن فوائده الغزيرية كلمة سماها (فقه النفس) : وهو التدرب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، -كما يعبر- وهو أنفس صفات علماء الشريعة، والذي أظن أنه يقصد في فقه النفس: أولاً: وجود ملكة للاستنباط عند القارئ أو المتفقه؛ بحيث إن عنده عقلية جيدة قابلة للتفقه والتعلم. ثانياً: التمرس والتدرب على الترجيح والاستنباط بحيث يتدرب الإنسان على الاستنباط في ظل بعض العلماء الذين يصححون له، حتى يشب عن الطوق، ويصبح لديه إمكانية الاستقلال في الاستنباط والاستخراج والترجيح والتصحيح وغير ذلك. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 8 العزلة عن المجتمع أخيراً فإن من آفات القراء: العزلة عن المجتمع وشئونه وشجونه، فإن الإنسان قد يجد لذة كبيرة في المعاملة مع الكتب، كما كان الشاعر يتمدح بذكر الكتب ويقول: لنا جلساء لا نمل حديثهم الباء مأمونون غيباً ومشهداً والآخر يقول: وخير جليس في الزمان كتاب المعاملة مع الكتب مريحة، إن شئت تقرأه وإن شئت تدعه، إن قبلت منه شيئاً وإلا رددته، فهو أصم، ولذلك قد يرتاح طالب العلم في المعاملة مع الكتب والقراءة والبحث، ويغفل عن مهمته في واقع الحياة والمجتمع؛ لأن كل علم إنما ثمرته العمل به والدعوة إليه. فإذا كان حظ الطالب من العلم هو تحصيله في نفسه فيموت هذا العلم بموته، فحينئذٍ لم يحقق ما يتطلبه منه العلم. فالجدير بطالب العلم أن يختلط بالناس؛ ليس اختلاط الإنسان الذي يريد فقط أن يتبسط مع الناس، أو يمزح معهم، أو يسري عن نفسه، لا. اختلاط الإنسان الواعي الذي يريد أن يؤثر في الناس ويوجههم ويعرف عيوبهم ليتقيها ويحذر منها، أي قد يتحدث اليوم اثنان من الناس عن عيب من العيوب، أو عن أمر من الأمور الشرعية، فيتحدث أحدهما حديثاً شرعياً يذكر الآيات والأحاديث، وأقوال أهل العلم، وفوائد هذا الأمر أو مضاره وينتهي، فيكون حديثه على فائدته غير مرتبط بالواقع. ثم يأتي إنسان آخر: يعيش الواقع فتجد أنه يربط حديثه بمشكلات الناس، وواقع زمانه، وما يعانونه، فيجد الناس البلسم والشفاء لمشاكل حياتهم في مثل هذه الأحاديث. وطالب العلم ينبغي أن لا يحكم طوق العزلة على نفسه وعن المجتمع؛ بل يجعل ما يواجهه في المجتمع مادة للتوجيه والحديث وربط القضايا الشرعية بواقع الأمة. وما أحوج الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها إلى من يجمع بين العلم الشرعي المتمكن، وبين المعرفة القوية الدقيقة بالواقع بحيث يستطيع أن يحل مشكلات الواقع على ضوء الكتاب والسنة!! ويستطيع أن يطبق نصوص الكتاب والسنة على واقع الناس فما يستطيعون أن يفعلوه، ما أحوج الناس إلى مثل هذا العالم! وقد ذكرت كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم في واقع حياته؟! كان عليه الصلاة والسلام يعرف أوضاع الناس؛ بل ربما أقول أوضاع العالم السياسية وغيرها، ولذلك اختار النبي صلى الله عليه وسلم الحبشة مهجراً لأصحابه؛ لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد، كما في حديث أم سلمة في المسند وغيره وهو صحيح. وكان يعرف ما يقع في فارس والروم ومصر وغيرها، ولذلك راسلهم، وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسري وإلى قيصر وإلى المقوقس وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل، وليس فقط النجاشي الذي أسلم وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ بل يعرف حتى القضايا الأدبية والشعرية؛ لأنه كان يغشى الناس في أسواقهم في عكاظ ومجنة وذي المجاز. ويعرف كثيراً عن أوضاعهم الاجتماعية، وبالمقابل كان يعرف صلى الله عليه وسلم حتى قبل أن يبعثه الله عز وجل يعرف شيئاً مما كان عليه الأنبياء السابقون والله أعلم. ولذلك كان عليه الصلاة والسلام إذا حج قبل البعثة، تقف قريش يوم عرفة بالمزدلفة، لأن قريشاً يقولون: لا يمكن أن نقف مع الناس ونحن أهل البيت وسدنته، فكانوا يقفون بالمزدلفة، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير وثبير) هو: جبل معروف بالمزدلفة، والناس يقفون بعرفة، فكان صلى الله عليه وسلم واقفاً مع الناس، ولذلك قال عبد الله بن عدي كما في الحديث الصحيح في جامع الترمذي وغيره أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً بعرفة، فقال: {هذا من الحُمْس} والحمس: لفظ يطلق على قريش لتحمسهم في دينهم، {هذا من الحمس، فما باله واقفاً هاهنا} لماذا لا يقف مع قريش بالمزدلفة. وكذلك في صحيح البخاري وغيره أنهم لما كانوا يبنون البيت كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقل معهم الحجارة على كتفه، فتأثر كتفه فأمره العباس بن عبد المطلب أن يرفع إزاره ليقي كتفه من الحجارة، فرفعه فبانت عورته عليه الصلاة والسلام وسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رؤى متعرياً بعد ذلك قط، وقد يقال: إن هذا أمر هيئه الله تبارك وتعالى له لما كان يعد له من أمر الرسالة. المهم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف واقع الناس الذين يريد أن يدعوهم، وهكذا ينبغي أن يكون المقتدون به. وفي الختام: حين أذكر هذه الآفات: فإنها ليست إلا قطرة في بحر فضائل القراء وحسناتهم، فإن هؤلاء القراء هم خير الناس، وقد قيل لبعض الأئمة: ألم تر إلى أهل الحديث؟ كيف هم، وكيف فسدوا؟! فقال: هم على ما هم خيار القبائل. وأمر عمر بن عبد العزيز بتولية الفقهاء، فقال له بعض من حوله قد وليناهم فوجدناهم خونة؟ فقال: ويحك، ولهِّم فإن كانوا خونة فغيرهم أخون، ونحن جميعاً -إن شاء الله تعالى- ندين الله بحب أهل العلم، وأهل القرآن والحديث خاصة، ونعتقد أن هذا قربة وطاعة لله تبارك وتعالى، وأن حبهم دين وإيمان، وأن بغضهم نفاق، لكن هذا لا يمنع من التناصح فيما بيننا، وإن يبين كل إنسان منا ما يعلمه في إخوانه من العيوب، والمؤمنون نصحة وكما قيل: وكم مرة أتبعتكم بنصيحتي وقد يستفيد البغضة المتنصح والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 9 التوقر المبكر الآفة الثالثة: هي آفة التوقر المبكر؛ حيث قد يدب الشعور بأهمية التوقر، ولبس لباس العلماء والتزيي بزيهم في غير أوانه، وإلا فهذا الشيء في أوانه مطلوب، والعلماء ممن يجب أن يقتدى بهم ويتشبه بهم، وكما قيل: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح ولكن وضع الشيء في غير أوانه ليس بجيد، ولذلك كان السلف يرغبون لطالب العلم أن يجالس الفتيان ليأخذ عنهم حسن الخلق، ولين العريكة، وسلامه الطبع، يقول سفيان الثوري: لأن أصحب فتى أحب إليَّ من أن أصحب قارئاً، ويقول: في كلمة أخرى له: من لم يتفتى لم يتقرأ، يفسر الإمام الخطابي في كتاب العزلة معنى كلمة سفيان والفرق بين الفتى والقارئ تفسيراً جيداً وذا علاقة كبيرة بما نحن بصدده، فيقول:: إن من عادة الفتيان ومن أخذ بأخذهم بشاشة الوجه، وسجاحة الخلق، ولين العريكة، ومن شيمة كثير من القراء -هو قال الأكثرية -في الواقع-؛ لكن لعلهم ليسوا الأكثرية وإنما هم كثير- الكزازة، وسوء الخلق، فمن انتقل من الفتوة إلى القراءة كان جديرا أن يتباقى معه ذلك الذوق، وتلك الهشاشة، ومن تقرأ في صباه لم يخل من جفوة أو غلظة، وهذا ليس على إطلاقه وإنما يوجد عند طائفة، بل إنني أقول حتى أكون دقيقا طائفة قليلة من القراء، ولكن القراء -كما أسلفت- هم كالثوب الأبيض؛ كل ما كان فيه من دنس فإنه يشين مهما قلَّ ودق. فينبغي للإنسان أن يحرص على مخالطة الناس، حتى يستفيد من أخلاقهم وتبسطهم، ويحفظ نفسه عن الكبر والتجبر، ويحتفظ بقدر من التواضع وحسن المعاملة لهؤلاء الناس، والبعد عن التوقر في غير أوانه. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 10 الاكتفاء بقدر معين من العلم من آفات القراء: الوقوف عند مستوى معين في العلم، فتجد الإنسان يشعر في مرحلة من مراحل العمر أنه وصل إلى درجة كبيرة من العلم؛ فأصبح اهتمامه بالعلم والتحصيل أقل، ومن المعلوم أن العلم في حركة مستمرة لا يتوقف، حتى لو نظرنا إلى العلم الشرعي، لوجدنا أنه تطبع عشرات؛ بل مئات من الكتب الإسلامية في سائر أنواع العلوم والفنون مما لم يكن للناس به عهد، ولم يكن لهم عليه اطلاع، ولذلك تسنى لكثير من العلماء المتأخرين من الاطلاع على أنواع العلوم لم يتسن لمن قبله؛ لتيسر الوصول إلى الكتب والظفر بها. فلا ينبغي للإنسان أن يقف عند حد معين، واليوم الذي يشعر الإنسان فيه أنه قد وصل إلى مستوى الكمال هو اليوم الذي ينتهي فيه الإنسان، يعتبر هذا الإنسان فيه انتهى ومما يجمل أن يساق في هذا الصدد ما ذكره ابن عساكر عن أبى القاسم الصوفي -أحد العلماء- أن أحد تلاميذه كان يقول: إن أبا القاسم هذا كان من أكثر الناس حرصاً على جمع الفوائد وتقييدها، قال: فسافرت معه للحج فكنا إذا دخلنا مدينة أخذ المحبرة والمقلمة والدواء والورق وقال: يا فلان هلم بنا نسمع الحديث، فلا يدع أحداً يُعلِّم ويروى ويقرئ إلا جلس إليه وأخذ عنه، فإذا جلس في البرية أخرج المحبرة والمقلمة والورق قال حتى إنه لما جاء إلى رمل وادي محسر والناس يتخففون من أمتعتهم؛ أخرج القلم والمحبرة والورق، فقلت له يا فلان رحمك الله! حتى في هذا الموضع! وماذا تصنع بها؟ قال: لعلي أسمع فائدة من إنسان أو جمَّال أو غيره فأقيدها!! لم يكونوا يقفون عند مستوى معين من العلم. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 11 التعصب للرأي من آفات القراء: التعصب للرأي -سواء رأي الإنسان، أو رأي شيخه- وضيق الأفق عن سماع ما عداه، ولعل من أهم أسباب هذه الآفة: أن القارئ يتربى على رأي واحد منذ نعومه أظفاره وهو لا يسمع إلا رأياً واحداً، هذا الرأي يصحح له ويدلل عليه، ويضعف وينتقد ما سواه، فنشأ وشب على حب التقليد والتمسك بهذا الرأي، وأصبح يجزع حين يسمع نقداً لهذا الرأي، أو يسمع رأياً آخر مخالفاً له. فلعل من المناسب أن يتربى طالب العلم والقارئ على ما يسمى بالفقه المقارن، خاصة إذا تقدم مستواه في العلم وأصبح أهلا لذلك، أن يسمع في المسألة أقوال عديدة اسمع قول الشافعي وإلى جواره قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري والطبري وغيرهم من الفقهاء، واختر من هذه الأقوال ما يعضده الدليل على الأقل. فإذا عرفت هذه الأقوال، ومن قال بها صار عندك شعور أن المسألة ليست مسألة إجماع، وأنه كما تعتقد أنت إنما قاله فلان هو الصواب! غيرك يعتقد أن ما قاله غيره هو الصواب! فيتربى الطالب على أنه يتعصب للحق وحده ولا يتعصب للرجال أياً كانوا وهؤلاء الرجال أنفسهم كانوا ينهون عن تقليدهم، ويعلنون أنهم إذا صح الحديث فهو مذهب أحدهم، الإمام أحمد مثلاً يقول: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان -يعني سفيان الثوري - والله عز وجل يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] . ففرق بين تعظيم العلماء وتقديرهم وإجلالهم والدعاء لهم، وبين تقليدهم في كل مسألة، فإن من المعلوم قطعاً أنه لا يمكن أن يقال: أن الحق كله محصور في قول إمام من الأئمة، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل ما قاله عليه الصلاة والسلام فهو حق، أما سائر الأئمة فكل واحد منهم يأخذ من قوله ويترك- كما قال الإمام مالك -رحمه الله- فإذا تربى الإنسان على ذلك سَلِم من نزعة التعصب، سواء للإمام المتبوع أو للشيخ أو للنفس. فالتعصب للنفس مشكلة؛ لأنه أحياناً ينشأ التعصب عن بحث المسألة، فربما يكون التعصب لهذا الرأي؛ لأن القارئ وطالب العلم بحث المسألة وجمع الأقوال والأدلة والأحاديث وصحح ونقح، فتوصل إلى أن الحق هو كذا وكذا، فصار يتعصب له. ولكن الإنسان الذي تدرب على قراءة أقوال العلماء غالباً يسلم من ذلك -إن شاء الله- ولهذا كان السلف يوصون بالاطلاع على أقوال العلماء حتى أن بعضهم يقول: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 12 الأسئلة الجزء: 190 ¦ الصفحة: 13 من كتب في آفات القراء السؤال لا شك أن لآفات القراء كتباً قد عالجت هذا الأمر، أرشدونا إلى أهم تلك الكتب قديمها وحديثها؟ الجواب من هذه الكتب كتاب العزلة للخطابي، وقد أشار إشارة خفيفة وليست كبيرة، ومنها: كتب الخطيب البغدادي ككتاب "الفقيه والمتفقه" و"الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع" و"شرف أصحاب الحديث" وغيرها، ومنها: كتاب الإمام الحافظ ابن عبد البر " جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي روايته وحمله" ومنها: ما كتبه ابن الجوزي في "تلبيس إبليس"؛ لأنه تكلم عن تلبيسه على طلبة العلم، وأطال النفس في ذلك. وعموماً: الكتب التي تكلمت عن آداب طالب العلم تتعرض لتلك الآفات بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وقد كتب الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد كتابين مفيدين في هذا المقام أحدهما بعنوان " التعالم وأثره على الفكر والكتاب" والثاني بعنوان "حلية طالب العلم " وهما كتابان مفيدان في هذا الباب. والصلاة والسلام على خير المرسلين. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 14 الفرق بين الكبر وعزة النفس السؤال أرجو إيضاح الفرق بين الكبر المنهي عنه والعزة المأمور بها؟ الجواب الكبر المنهي عنه عرفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه {بطر الحق وغمط الناس} وهو شعور الإنسان بنفسه بأعظم مما هو عليه؛ بحيث يرد الحق ممن جاء به، ويبخس الناس أشياءهم، وحقوقهم، وفضائلهم، وله آثار سيئة ذكرت طرفاً منها. أما العزة: فهي أن يكون الإنسان بعيداً عن الذل والمهانة وانحطاط النفس؛ بحيث يتجنب كل ما فيه خدش لمروءته وإنسانيته من الأخلاق والأعمال والأقوال، فيلتزم في ذلك بحسن الخلق، وبالمواقف السليمة، وبالكلام الطيب، وبتجنب المشاكسة مع السفهاء وغيرهم! حتى يحفظ لنفسه مكانتها وعزتها. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 15 استعجال الطالب في التأليف السؤال يلجأ بعض طلاب العلم إلى التحقيق والتأليف وهو صغير السن، وهو في مقتبل العمر ولم يحفظ القرآن ولم يجرد المطولات، ولم يلم بالمهمات من كتب أهل العلم، ويعتني بذلك اعتناء شديداً، فما المحاذير التي يقع فيها أمثال هؤلاء؟ وما رأيكم يضيعهم ونصيحتكم لأمثالهم؟ الجواب اليوم نعيش ظاهرة -ربما لمحت إليها- وهي: أن المكتبات الإسلامية تزخر يومياً بعشرات، وربما بمئات الكتب في ألوان العلوم الإسلامية، وكثيرٌ من هذه الكتب محقق؛ لكن التحقيق يختلف، فهناك تحقيق علمي بذل فيه الباحث جهوده والتزم شروط التحقيق العلمي- مثلاً-: نفترض أنه يحقق مخطوطة تجده يبحث عن نسخها على الأقل نسختين أو ثلاث نسخ منها إن وجدت، ويقارن بينها، ويثبت النص الصحيح، ويرجع النصوص إلى مواضعها، يترجم ولو باختصار للإعلام المغمورين، يوضح الكلمات الغريبة، يضع مقدمة للأشياء المهمة؛ تجده عملاً طيباً مهماً كان هذا الشخص غير معروف، أنت لا تحكم على الشخص تحكم على هذا العمل بأنه عمل طيب ومفيد، لكن في المقابل تجد ركاماً من الكتب ليس لها من التحقيق إلا أنه مكتوب على طرف الكتاب وغلافه (حققه فلان بن فلان) حتى أنني وجدت كتاباً مكتوب على ظهره وهو لـ ابن قيم الجوزية -رحمه الله- اسمه " اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية " مكتوب على غلافه حققه "جماعة من العلماء"، (انظر كيف فخامة العبارة) وفي داخل الكتاب تجد في أحد الهوامش: (لم نعثر على هذه الآية ولعله حديث قدسي) -والجنون فنون كما يقال- فجماعة من العلماء لا يعرفون هذه الآية ولا يفرقون بين كلام الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم!! بعض الإخوة: قد يتسرعون فيشتغلون -مثلاً- بموضوع التحقيق أو البحث دون استكمال آلته، والواقع أن البحث من أهم وسائل التعلم، ولذلك تفرض الكليات والجامعات على طلابها بحوثاً في كافة السنوات، لكن هناك فرق بين أن أبحث، وأن أنشر، ففي رأيي أن الطالب الذي لا يأنس من نفسه القوة والكفاءة، إذا بحث أو حقق لا يعتمد على نفسه؛ بل يتكئ على غيره، ويطلب من أحد العلماء المعروفين أن يقرأ له هذا البحث ويصححه، ويصلح أخطاءه وينصحه فيه، أحد كبار العلماء ذكر أن طالباً من الطلاب قدم له بحثاً في موضوع من العبادات قد استقصى فيه أحكام عبادة من العبادات، كالصلاة مثلاً أو الحج، وجاء فيه بآراء غريبة؛ لأنه أحياناً الطالب قد يتبنى بعض الآراء التي فيها شذوذ، مثلاً يقرأ رأي ابن حزم، وابن حزم إمام جليل أوتي فصاحة وبلاغة، وقوة عبارة، وشدة على الخصوم، فالطالب إذا قرأ عبارة ابن حزم يشعر بأنه أسير لـ ابن حزم، وغالباً قد يقتنع بقوله، ثم إن ابن حزم يستعمل ما يسميه بعض المعاصرين بقياس الإحراج، وهذه -تسمية على مسمى- يعني: أنه يحرج الخصوم بتناقضاتهم. فيقول: الحنفيون، قالوا: وهم في المقابل، قالوا: كذا، إذاً: هم تناقضوا. ويأتي كذلك الشافعية والمالكية وغيرهم، ويظل يأتي لهؤلاء يحرجهم بقياسات من هذا النوع؛ حتى يشعر الطالب أو القارئ أن ابن حزم أصاب في هذه المسألة، وقد يكون له رأي خاص وابن حزم معذور؛ لأنه عالم مجتهد، لكن أنت لست معذوراً حين تأخذ رأي ابن حزم وتتشبث به كأنه رأيك الخاص. فيقول: إن هذا الطالب جمع فيه آراء غريبة، لكن الغريب أنه في مقدمة الكتاب وفي الصفحة الأولى عدد من الأخطاء ما بين أخطاء نحوية ولغوية وإملائية، فالطالب الذي ما تمكنت لديه الآلة وليس عنده علم بالقرآن الكريم -حفظ القرآن- ومعرفة باللغة العربية، ومعرفة بالأساليب، فلا ينبغي أن يتعجل في نشر هذه البحوث. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 16 موقف الطالب من شيخه السؤال نقع في الحرج الشديد أثناء تعاملنا مع شيوخنا في معاقل التعليم، حيث إننا نريد أن نقدرهم ونخدمهم ونعاملهم بالحسنى، غير أننا نخشى أن يكون هذا وسيلة منا لنيل أعالي الدرجات، أو يكون سبباً في عطف قلب الشيخ علينا فيما لتناب في رفع درجاتنا، فما موقفنا الصحيح من ذلك؟ الجواب الموقف الصحيح: أن الإنسان ينبغي أن يتحلى بالخلق الفاضل مع شيوخه، بتوقيرهم وتقديرهم واحترامهم وإعطائهم ما هم له أهل، وهذا خلق ينبغي أن يتحلى به الإنسان، وهو حق شرعي لهذا العالم. وحين يكون هذا دأب طالب العلم مع شيخه، يصبح أمراً عادياً طبيعياً لا يتميز به هذا الطالب بذاته؛ بحيث يكون مدعاة إلى رفعة الدرجات أو ما شابه ذلك، ثم إنه إذا كان قصد الطالب حسناً؛ فلا يضيره ما حدث بعد ذلك؛ لأنه إن وقع أن أعطي الطالب درجة بسبب هذا الخلق، فإما أن نقول: إن هذه درجة يستحقها؛ لأن الخلق يتعلم كما يتعلم العلم، وليست التربية -وأنتم أدرى مني بموضوع التربية- هي ليست مجرد حشو المعلومات في أذهان الطالب، تربية الطالب على معايشة الأمور العملية والتربي بالأخلاق الفاضلة هي من أهم مهمات المعلم، وإلا إن كان الطالب لا يستحقها يقال: إن هذا أمر وقع فيه المدرس باجتهاده والطالب لم يقصد ذلك، ولم يطلبه، ولم يسع إليه؛ لكن يحذر الطالب من الوسيلة المباشرة التي يقصد من ورائها هذا الغرض، مثلاً: قد يسأل طالب، يقول: أنا أحب أن أهدي لأستاذي كتاباً، أو كتباً، أو ما شابه ذلك، نقول هدايا العمال غلول، ربما يكون هذا نوع من الغلول، فأنت تهدي للأستاذ -مثلاً- أو الشيخ بقصد أن تستميل قلبه، وحتى لو فرض أن الأستاذ أو الشيخ من الثقل، وعدم التأثر بمثل هذا في محل رفيع إلا أن هذا العمل منك أنت يعتبر خطأ. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 17 معاملة الشيخ للطالب السؤال في المقابل بعض المدرسين يشكون من هذه الشكوى ونخشى نحن المدرسين عند إظهار التسامح مع الطلاب والتواضع لهم من ازدرائهم لنا ما الطريقة التي تحفظ لنا وقارنا مع تواضع وتسامح؟ الجواب الحقيقة: ربما يكون كثيراً من الإخوة أرسخ مني قدماً في ميدان التعليم ومعايشة الطلاب؛ ولكن ما دام طلب المشاركة فأعتقد -والله أعلم- أن الأستاذ إذا تميز بانضباط الشخصية؛ فإنه يستطيع أن يجمع بين الأمرين، فيتبسط مع الطلاب -مثلاً- في معاملته معهم بصفة فردية في بداية المحاضرة في مشاركتهم إذا كان هناك نشاط أو غير ذلك، ويشعرهم بأنه على قرب منهم، وبحنوه وشفقته عليهم، فإذا جد الجد يكون جاداً بعيداً عن كل ما قد يدعو إلى حدوث فقدان الهيبة، أو فوضى، أو ما شابه ذلك، بحيث يستطيع أن يجمع الجدية في التدريس، وإلقاء الدروس، وتحضير المعلومات وإيصالها إلى أذهان الطلاب، ومحاسبتهم عليها، وبالمقابل يحرص على التلطف مع الطلاب في الأوقات المناسبة لذلك، لكن قد يقول إنسان: إنه لا يستطيع الجمع بين هذين الأمرين، لأنه إن تبسط مع الطلاب فقد هيبته، وتعدى الطلاب حدهم وطورهم في ذلك، فحينئذٍ إن كان الأمر كذلك بالنسبة لبعض الشيوخ، ففي نظري: أن الأولى في هذه الحالة أن يكون جاداً ليحفظ مكانته ويستطيع أن يؤدي مهمته ورسالته، ومن المعلوم أن المصالح إذا تزاحمت، يقدم الأهم فالأهم، وكذلك المفاسد إذا تعارضت يدفع منها الأشد فالأشد. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 18 الفتوى وكتمان العلم السؤال يقول: يطلب أحدنا العلم الشرعي فيدرك شيئاً من العلم، فهل هذا يؤهله بأن يفتي العامة ويقوم بتوجيههم، أم يترك ذلك فيقع في حرج من كتمان العلم؟ الجواب الإنسان ينبغي أن يُعَّلِم ما عَلمِ، ويبلغ ولو آية، وفي هذا الصدد يلاحظ أنه في الوقت الذي قد يتسارع فيه كثير من المبتدئين، وطلاب العلم الصغار إلى توجيه الناس وإرشادهم، تجد أن كثيراً من طلاب العلم الكبار المتمكنين قد تخلو عن الموقف، وهذا هو الذي دعا غيرهم إلى المشاركة، ربما يكون مشاركة غيرهم ضرورة؛ لأنه وجد الميدان خالياً فرأى أن سده بمثله على ما يعرف من نفسه من نقص أو تقصير؛ إنه أفضل من ترك الأمر بلا شيء. ولذلك أنا ذكرت في نهاية الحديث أهمية الاختلاط بالناس، بحيث يوجههم ويعلمهم ما علم؛ لكن فيما يتعلق بالفتيا لابد وأن يكون متثبتاً، لأنه إن أفتى العامي بفتيا غير ثبت، فإنما إثمه على من أفتاه، وكم من إنسان تسرع في مناسبة حج أو عمرة فسئل سؤالاً فأعطى فتيا جاهزة تم عض إصبع الندم بعد فوات الأوان، وأين هذا الذي أفتاه حتى يبين له أن هذه الفتيا خطأ؟ فعلى الإنسان -إن لم يكن متثبتاً من الفتيا- ألا يفتي بها، يقول له: انتظر، ويراجع الكتب أو يسأل أهل العلم، ثم يرد له الجواب. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 19 مدح بعض العلماء أنفسهم السؤال نجد جمعاً من علماء السلف -رحمهم الله تعالى- كأمثال ابن الجوزي، رحمه الله أو السيوطي رحمه الله، يقوم أحدهم بمدح نفسه وإطرائها المدح الشديد، والاغترار بنفسه وهو أهل لذلك، فهل يقتدى به في ذلك؟ وهل لمثل هذا محمل؟ وهل هو ممدوح أم مذموم؟!. الجواب أما مديح العلماء السابقين لأنفسهم، فله أحوال لا يمكن أن ينزل كله على منزلة واحدة؛ لأن العلماء منهم من يكون في موقف يتطلب أن يذكر نفسه بشيء من المديح-ومن ذلك مثلاً- ما حصل لشيخ الإسلام ابن تيمية حين قام عليه العلماء وعاتبوه وناظروه، فإنه قام وتكلم عن جهوده في خدمة الإسلام، ومن قام بالإسلام حين تخلى الناس عنه، ومن فعل كذا وكذا، ويشير إلى جهوده -رحمه الله- ليس على سبيل الإطراء والاغترار، لكن؛ لأن له مناسبة، وهؤلاء علماء غمطوه حقه وجحدوه، فناسب أن يتكلم بهذا الأسلوب أمامهم، ولم يستطيعوا أن ينكروا ذلك عليه أو يردوه. فمثل هذا إذا دعا المقام إليه؛ فلا بأس به، ولعلكم تعرفون جميعاً أن موسى عليه السلام سئل: من أعلم الناس؟ فأجاب: أنا. فعتب الله عليه إذ أنه لم يرد العلم إليه، وأوحى إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، وقصة رحلته في طلب العلم معروفة ذكرها الله تعالى في كتابه، وكذلك نجد أن بعض الصحابة رضي الله عنهم قد يذكرون علمهم في بعض المناسبات، كما كان ابن عباس رضى الله تعالى عنه يقول: [[أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله]] وذلك بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم له ودعائه له، حيث قال: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل} فإن كان لهذا الغرض، فهذا غرض لا بأس به؛ بل قد يكون الأنسب أن يتكلم الإنسان في بعض ذلك -أحياناً-. أما إن كان على سبيل الإطراء المحض، فالذي يظهر أنه لا داعي له إن صدر من عالم، فالإمام السيوطي -مثلاً- كما عبر أو مثل السائل له كلام في الثناء على نفسه، أذكر منه قوله في قصيدته التي ذكر فيها المجددين ووصل إلى القرن التاسع، قال: وهذه تاسعة المئين قد جاءت ولا يخلف ما الهادي وعد وأرجو أن أكون أنا المجدد إذا أن فضل الله ليس يجحد وكذلك حين ترجم لنفسه في كتاب (حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة) استطرد في الثناء، ولم يكن هذا من عادة أهل العلم، لكن على الإنسان أن يعرف أن هذا ليس موضع قدوة؛ بل يقتدى بالإمام السيوطي وغيره في الحرص على العلم، وجمعه، والتصنيف، والتأليف، والعبادة، والزهد، وغير ذلك. وما كان من الأمور التي وقعت منهم وقد يكونون معذورين بها، أما لأن الإنسان يواجه كلاماً من الناس أو صراعاً مع أحد أو غير ذلك، أو تكون زلة ويغفرها الله لهم. المهم: أن الإنسان لا يتخذ مثل هذه الأشياء حجة في مديح نفسه والثناء عليها وإطرائه!! الجزء: 190 ¦ الصفحة: 20 ترك الاجتهاد مخافة الإعجاب السؤال أنا من طلبة العلم في إحدى المدارس، وأنا -ولله الحمد- من الطلبة المتفوقين في تلك المدرسة، وأحس ذلك من مظاهر عزة الشاب المسلم، ولكنني أخشى أن يؤدي بي ذلك إلى الكبر، فهل أترك التفوق ومجاله أم ماذا أفعل أفيدوني جزاكم الله خيراً؟ الجواب هذه الشكوى كثيراً ما تثار اليوم، ليس فقط في مجال التعلم والتعليم؛ بل في مجال العمل الصالح عموماً تجد شاباً يشتكي أنه إن بادر إلى الصلاة، أو جهر بقراءة القرآن، أو تفوق في ميدان من ميادين العلم النافع أو العمل الصالح، خاف من العجب والرياء، فربما دعاه ذلك إلى ترك العمل. فلا أعتقد أن هذا هو الأسلوب الصحيح؛ لأن الشيطان يكسب حينئذٍ كسباً كثيراً إن كان كل ما شوش على واحد منا عمله ترك هذا العمل؛ بل الأجدر بالإنسان أن يستمر على عمله، ويزيد منه، ويفتح جبة جديدة في ميدان المجاهدة مع الشيطان ألا وهي مجاهدته في ميدان القلب، ومدافعة هذه الخواطر والوساوس بحيث لا تستقر في قلبه، وكثرة الاستغفار منها، ونهي النفس عنها، ودعاء الله عز وجل أن يخرجها من قلبه، وإذا استمر الإنسان بهذه الطريقة فإنها تزول. فالإنسان قد يشعر بهذا في أول الأمر؛ لكن بعد فترة يصبح هذا الأمر عادياً لا يلفت النظر بالنسبة له، ولا يدعوه إلى الشعور بالرياء أو خوف العجب أو الغرور. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 21 العزلة السؤال يقول ذكرتم في مقدمة كلامكم كتاب العزلة للإمام الخطابي فما رأي فضيلتكم فى العزلة وفي الكتاب ذاته؟ الجواب العزلة: لها أحوال تختلف من شخص إلى آخر ومن وقت لآخر، والأصل الخلطة، وجماهير أهل العلم على أن الخلطة أفضل من العزلة، وهذا هو الصحيح، وهو منهج الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. وفي الصحيح عن ابن عمر أن النبي صلى الله علهم وسلم، قال: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم} [رواه الترمذي وأحمد وغيرهما] وهو حديث صحيح، فالأصل المخالطة، مخالطة الناس للداعية الموجه المعلم الناصح. إنما تشرع العزلة في أحوال: تشرع في أزمنة الفتن، كأزمنة القتال بين المسلمين التي لا يميز الإنسان فيها المخطئ من المصيب، وهذا متواتر عن جمع من الصحابة أنهم تركوا القتال في تلك الفتن، واعتزلوا الناس منهم: سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وعبد الله بن عمر وجماعة كثيرة من الصحابة. العزلة عند فساد الناس؛ لأنه قد يقول قائل: إن الناس فسدوا، ومسألة الفساد والصلاح مسألة نسبية، وعلى حسب اعتدال الشخص في مزاجه، وعلمه يستطيع أن يحكم على الناس، بعض الناس قد يقول: الآن -الحمد لله- الأمور بخير، والناس في خير، والإسلام في خير، ويبالغ في التفاؤل، وبعض الناس على العكس، فيبالغ في التشاؤم، وسب الواقع حتى كأن الواقع لا خير فيه. وهذا -كما يقال: إذا وُضع أمام اثنين كأس فيه ماء إلى منتصفه، فإن المتشائم منهم يقول: هذا الكأس نصفه فارغ، أما المتفائل فيقول: هذا الكأس نصفه مملوء، وهذا المثال: ينطبق -فعلاً- على واقع الناس، فتجد بعض الناس من ينظر إلى الجانب الإيجابي فيبالغ فى مدح الواقع؛ وبعضهم ينظر في الجانب السلبي فيبالغ في ذم الواقع، وبعضهم يعتدل فينتظر نظرة متوازنة فيذكر ما في الواقع من إيجابيات وما فيه من سلبيات. فعند فساد الزمان الضابط في ذلك: فإنه على حسب ما يظهر -والله أعلم- إذا فسد الناس فساداً يصبح الإنسان إذا دعا لا يستجاب له، أي: أن المجتمع كله غير قابل للإصلاح -والواقع اليوم يشهد بأن الدعاة يستجاب لهم- إذا دعوا الناس أجابوهم إلى دعوته؛ بل وسارعوا. الحالة الثالثة: أن يكون الإنسان نفسه، عنده إحساس مرهف شديد، وشدة تأثر بالواقع؛ فإذا احتك بالناس واختلط بهم ورأى أقل منكر؛ فإنه يتأثر بذلك تأثراً لا يستطيع دفعه. فإما أن يكون تأثره بحيث يضعف وقد يقارف هذه المنكرات، أو يكون بحيث ينفعل انفعالاً شديداً ويغير هذه المنكرات بطريقة خاطئة تضاعف من المنكر، وجرب من نفسه هذا الأمر، وأنه لا علاج له، ورأى أن العزلة أنفع له من الخلطة، ففي هذه الحالة العزلة أفضل، أما ماعدا ذلك، فالأصل الاختلاط بالناس. أما ما يتعلق بكتاب العزلة: فالواقع أن الكتاب مفيد، وفيه كثير من القصص والأخبار والفوائد التي لا يستغني عنها طالب العلم، لكن أشير إلى ملاحظة ذكرها الخطابي نفسه في آخر الكتاب، حيث أشار في آخر الكتاب إلى لزوم حالة القصد، وقال: إنني سقت من الحكايات والأخبار -معنى قوله- ما خشيت أن أكون معه قد خرجت عما أردت عن حد القصد، وبدء يذكر أن المطلوب من الإنسان الاعتدال. ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفى قصد الأمور ذميم فهذه السلبية ينتبه لها في الكتاب، فقد بالغ في ذكر ذم الناس وعيوبهم وأخطائهم، وهذه هي طريق الأدباء إذا صنفوا في موضوع ذكروا كل ما يتعلق به من الآيات والأحاديث والقصص والأشعار والأخبار وغيرها. الجزء: 190 ¦ الصفحة: 22 مقياس الربح والخسارة الحياة صورٌ يومية، ربحٌ وخسارة، أشكالٌ مختلفة من الآلام والآمال ولا يدري الإنسان ما هو الربح فيهما وما هي الخسارة، فرب محنة تحمل منحة، وليس ذلك إلا لأن الدنيا لا تصلح مقياساً لمعرفة الربح والخسارة، فتأمل في هذه الأشكال وتعرف على مواطن الربح بصبرك وامتثالك لأوامر الشرع ومرضاة الله سبحانه وتعالى. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 1 صور من حياة الناس إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] أما بعد: فيا أيها الأحبة إنها لفرصةٌ طيبة أن ألتقي بوجوهكم المشرقة بنور الإيمان؛ وأن أتبوأ معكم هذا المجلس، الذي يتنسم منه الإنسان عبق الخير والتقوى، فأسأل الله أن يجعلني وإياكم من المتحابين فيه، وأن يجعلنا من المتواصين بالحق والمتواصين بالصبر، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى. عنوان هذه المحاضرة (مقياس الربح والخسارة) وهي تنعقد في هذه الليلة، ليلة الحادي عشر أو الثاني عشر من شهر شعبان لسنة 1413هـ في هذا المسجد العامر، جامع الإسكان بجدة، وفي مقدمة هذا الحديث مجموعة من العناوين: الجزء: 191 ¦ الصفحة: 2 فتاة اشترت الآخرة وتلك الفتاة التي باعت الدنيا واشترت الآخرة، وقاومت إغراء الفتنة وضغط المجتمع المحيط، فتحول ضعفها إلى قوة لا يملكها أشد الرجال، وإلى عزيمة لا تنثني وحزم لا يلين، وشقت طريقها وهي تقول -كما قالت امرأة فرعون- {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] أكانت صفقتها خاسرة أم كانت بيعة رابحة. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 3 طاغيةٌ مستبد وأخيراً: ذلك الطاغية المتأله المستبد، الذي يقول: "أنا" ولو هلكت الأمة، والذي استأجر الكرسي من الأجنبي باقتصاد بلاده يضخه في بنوكهم، وأعرب عن صدق ولائه؛ بزج عشرات الألوف من المخلصين، والغيورين، والخبراء والعلماء في السجون والمعتقلات، وتعليق آخرين على أعواد المشانق، ومحاربة أي بادرة تغيير أو إصلاح، وتعهَّد بجعل بلاده بلاداً فقيرة متخلفة مستهلكة لضمان سيرها الدائم في ركاب الكافرين؛ فباع الآخرة واشترى الدنيا قال تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] وباع الحرية واشترى الذل والعبودية، وقد تعس عبد الدرهم، وتعس عبد الدينار، وتعس عبد القطيفة، وتعس عبد الكرسي، أو المنصب، وباع الأمة بثمنٍ بخس دراهم معدودة، فصادر حريتها وكرامتها وإنسانيتها، وجعلها أشباحاً هائمة لا تدافع عن دين، ولا تنفع في دنيا، ولا تحسن إلا الأكل والشرب والجماع، حياةً كحياة البهائم. ثم يعيش حياته تلاحقه الأشباح؛ أشباح المنكوبين، وهب أنه عاش ما عاش، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205-207] أتراه ربح أم خسر؟ وما مقياس الربح والخسارة!! الجزء: 191 ¦ الصفحة: 4 شابٌ ودع حياة الترف بل ذلك الشاب الذي ودع حياة الترف، والنعيم والرفاهية، ورغد العيش، وقضى زهرة صباه في وادٍ، ثم انتقل منه إلى وادٍ آخر، قضى زهرة صباه بين عواصم الفساد والرذيلة في العالم، راكضاً وراء الشهوة، قاطفاً من اللذة ما استطاع، وسط حفاوة الأهل والأصدقاء والمعارف والأحباب، ثم أحس بعد ذلك بنور الإيمان يشرق على قلبه، فودع ذلك كله وتركه، وترك زينة الحياة الدنيا، وصحا على نداء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} [التوبة:38] سمع هذا النداء، فانطلق إلى جبال أفغانستان، أو إلى سفوح البوسنة، أو إلى أدغال إفريقية يبحث عن الموت أو القتل مضانه، نديمه الكلاشنكوف، وأمنيته الموت في سبيل الله، وحبيبه المسلم الشجاع، وأسوته ذلك المقاتل الذي يتشحط في دمه، بل ربما علق على أعواد المشانق؛ لأنه قال "لا إله إلا الله" ورفض أن يقول: لا إله والحياة مادة، وغادر الدنيا في زهرة شبابه وريعان صباه، مخلفاً وراءه أباًً هدته السنون، أو أماً ثكلى، وربما زوجة مجروحة، أو أطفالاً فراخاً صغاراً غراراً أبرياء يتساءلون عن أبيهم الذي فقدوه صباح مساء! يقولون: أين أبي؟ متى يأتي أبي؟ هل يأتي إلينا ومعه الهدية؟! فينكئون بذلك جراحاً كلما اندملت. أفتراه حينئذٍ رابحاً أم كان من الخاسرين؟! ألقيت بين يديك السيف والقلما لولا الإله لكنت البيت والحرما أنت الهنا والمنى أنت العنا وأنا على ثراك وليد قد نما وسما أماه أماه هذا اللحن يسحرني ويبعث اليأس بي والهم والندما ما زال طيفك في دنياي يتبعني أنى سريت وقلبي يجحد النعما حتى وقعت أسير البغي فانصرفت عني القلوب سوى قلب يسيل دما أصحو عليه وأغفو وهو يلثمني قلب ضعيف ويغزو الصحو والحلما ويدخل السجن منسلاً فيدهشني إذ يستبيح من الطغيان شر حما فإن رآني في خير بكى فرحاً وإن رآني في سوء بكى ألما فلتغفري لي ذنبي يا معذبتي أو حاكميني وكوني الخصم والحكما الجزء: 191 ¦ الصفحة: 5 جامع الحلال بل وذلك الثري الذي جمع المال من الحلال، وتعب في تحصيله مما أذن الله تعالى به؛ ثم أنفقه في الزكاة والصدقة وأعمال الخير والبر، ومشاريع الدعوة، والبذل والجهاد وغيرها، أتراه خاسراً وهو ينفق هذا المال الذي يحبه حباً جما، وهو يحبه حباً شديداً فيدل هذا الإنفاق على صدق التقوى والإيمان، ويبرهن على إيثاره الآخرة على الدنيا، أتراه كان رابحاً بالإنفاق؟ أم كان رابحاً لو ادخر المال وحفظه؟! الجزء: 191 ¦ الصفحة: 6 الداعية المعذب المحاصر وذلك المصلح أو الداعية الذي رضي بحياة الشظف والعناء والتضييق، ورضي بالحصار الإعلامي على صوته، وعلى كلمته وعلى دعوته، والحصار الاقتصادي، قال تعالى: {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون:7] والحصار الوظيفي، الذي يشترط -في كثيرٍ من البلاد- على الموظف أن يعلن الولاء ليس لله ورسوله والمؤمنين، بل أن يعلن الولاء للأنظمة العلمانية والدعوات اللادينية. هذا الداعية الذي ترك ذلك كله، وترك زخرف الدنيا، ورضي عنه بما عند الله تعالى، واستبدل بذلك ما يدخره ليوم الحساب، ولسان حاله يقول: خذوا كل دنياكمُ واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً بل ربما رضي بحياة السجن، وسلب حريته؛ ليس حريته فقط بالحديث والكلام؛ بل ولا حريته في الاجتماع مع الناس فقط، بل ربما قيدت خطواته في بضعة أمتار يذرعها جيئةً وذهاباً، وربما هو أقل من ذلك، وحيل بينه وبين الناس، لا يأخذ منهم، ولا يعطيهم، ولا يملك دعوتهم، ولا تكاد تسمع أذنه إلا وقع الأقدام، ورنين السلاسل والصمت يقطعه رنين سلاسلٍ عبثت بهن أصابع السجان من كوةٍ في الباب يرقب صيده ويعود في أمن إلى الدوران أنا لا أحس بأي حقد نحوه ماذا جنى فتمسه أضغاني فلربما وهو المروع سحنةً لو كان مثلي شاعراً لرثاني أو عاد من يدري إلى أولاده يوماً تذكر صورتي فبكاني لكنه إن نام عني لحظةً ذاق العيال مرارة الحرمان الجزء: 191 ¦ الصفحة: 7 تاجر ترك الربا إن الإنسان دائماً وأبداً يبحث عن الربح، ويتجنب الخسارة، ولكن! أين الربح وأين الخسارة؟! ذلك التاجر الذي أثري من الربا، والكسب الحرام وجمع المال وعدده، وهو يعد نفسه أو يعده الناس من أعظم الرابحين؛ هل تراه -في مقياس الصدق والعدل والحق- رابحاً أم خاسراً؟! ثم هو حين يتوب إلى الله تعالى، ويتخلى عن أمواله الطائلة وقوفاً عند قول الله عز وجل: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] دون مقابل، حتى الأجر ربما لا يرجوه، لأنه يتخلص من مالٍ حرام، وكل ما يرجوه هو السلامة من مغبة هذا المال! والنجاة من حوبه يوم الحساب! ينظر إليه الكثيرين نظرة رثاء وإشفاق، ويتأسفون على تلك المبالغ الخيالية، والأرقام الفلكية التي واصل الليل والنهار في جمعها، ثم تخلى عنها في طرفة عين، قال تعالى: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81] . الجزء: 191 ¦ الصفحة: 8 قاعدة قرآنية أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1-3] . الجزء: 191 ¦ الصفحة: 9 التواصي بالحق ثم قال: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] والتواصي بالحق هو أيضاً من العمل الصالح، فهو من القول باللسان، وقول اللسان عمل، فهو داخلٌ في قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] ولكنه نص عليه تعالى، تنويهاً لأهميته، وتخصيصاً له، وتذكيراً بفضله، لأن الإنسان لا يستطيع أن يستقيم على الحق بذاته، حتى يكون معه من يوصيه بالحق ويأمره بالاستقامة عليه، ويذكره كلما غفل أو نسي، ويأمره كلما قصر أو فرط، ولهذا قال: (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) فلا يستقيم أمر الإيمان، وأمر العمل الصالح، وأمر الأمة، إلا بمجموعة الناس الذين تحالفوا على الإيمان، واجتمعوا عليه، وتواصوا بالحق. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 10 التواصي بالصبر ثم قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والصبر من الحق، فالتواصي بالحق هو أيضاً تواصٍ بالصبر، ولكن الله تعالى نص على الصبر بالذات، لأن الإنسان يحتاج إلى الصبر، فهو قد يؤمن، لكن لا يصبر على الإيمان، فيضيع أو ينحرف بعد الهدى، أو يفتر بعد الإيمان، ولهذا استعاذ عليه السلام: {من الحور بعد الكور} وقال: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} وكم من إنسانٍ عاش ردحاً من زمنه في بحبوحة من الإيمان والتقوى، والعلم النافع والعمل الصالح؛ ثم كان أمره كما ذكر الله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175-176] إذاً العبرة بالاستقامة قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [الأحقاف:13] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل آمنت بالله ثم استقم} وقال تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فالعبرة بالثبات، والعبرة بالخواتيم، والأعمال بالخواتيم. وقد يعمل الإنسان الصالحات لكنه لا يصبر عليها، فتثقل عليه ويعجز عنها، وينوء بحملها؛ فيتخلى عنها تدريجياً، حتى أنه ربما قصر في الفرائض، أو صار لا يأتي الصلاة إلا دبارا، ولا يقيم الفرائض إلا في تثاقلٍ عظيم، فهو يحتاج في الإيمان إلى الصبر، ويحتاج في عمل الصالحات إلى الصبر، ويحتاج في التواصي بالحق إلى الصبر؛ فربما أوصيت إنساناً بالحق فلم يقبل منك، فتعجز عند ذلك وتستيئس، وتترك أمره ونهيه لا! عليك أن توصيه بالصبر، وتوصي نفسك بالصبر أيضاً، فلا بد من الصبر في كل هذه الأمور كلها. وذكر الصبر هو إشعارٌ وإرهاص بأن الطريق طويلٌ وشاق، ومليء بالأشواك والعقبات والمصاعب، وإشعارٌ أن الإنسان لا يستطيع أن يجتاز هذه المراحل الطوال إلا بالصبر، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] وقال صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: {ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء أوسع من الصبر} . فهذه السورة العظيمة التي دلت على هذه المعاني، هي مقياس الربح والخسارة في الدنيا والآخرة. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 11 إشارة الإيمان الإيمان يشمل عمل الصالحات، ويشمل التواصي بالحق ويشمل كل شيء، فالإيمان معنىً يهيمن على كل الحياة، وهو عقيدةٌ في القلب، وهو قولٌ في اللسان -بالذكر والتسبيح والتهليل، وغير ذلك- وقوامه وأصله الشهادتان، وهو حركة في الجوارح في الصلاة، والحج، وسائر العبادات التي أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، فالإيمان هو الشعار، والدائرة الأعظم والأوسع. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 12 العمل الصالح ثم ذكر بعد ذلك سبحانه مع الإيمان: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] وعمل الصالحات هو من الإيمان، لكن الله سبحانه وتعالى خصه ونبه عليه؛ تنويهاً لذكره، وتعظيماً لشأنه وحثاً للمؤمنين عليه، لأن عمل الصالحات هو الذي يصدق إيمان العبد، فكثيرون يدّعون الإيمان؛ ولكن العمل الصالح هو الذي يصدق هذه الدعوى أو يكذبها. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 13 حقيقة السورة عند الصحابة ومن تبعهم كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا لقي بعضهم بعضاً قالوا: اجلس بنا نؤمن ساعة، ثم قرأ أحدهم على الآخر سورة العصر، ثم انصرفوا وقد تجدد إيمانهم وتعمق يقينهم، وصحت عزائمهم، وعادوا إلى حياتهم الإيمانية من جديد. قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كلاماً معناه: لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم، وفي لفظ: (لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لوسعتهم) ولمَ كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يختارون هذه السورة بالذات على غيرها؟ ولمَ قال الشافعي في هذه السورة ما قال؟ إن السر واضح في معنى هذه الآية؛ فهي حكم إلهي رباني قاطع، أقسم الله تعالى عليه بالعصر؛ وهو الزمان، الذي هو سر الوجود وسر الحياة، والله تعالى يقسم بما شاء، وإنما يقسم على الأمور العظام الجليلة، تنويهاً لمكانتها وأهميتها. أقسم سبحانه على أن جنس الإنسان في خسر، ولو كان غنياً، ولو كان صحيحاً، ولو كان سيداً، ولو كان شريفاً، ولو كان حاكماً، ولو كان ما كان، هو في خسرٍ، وهذا هو الأصل في بني آدم إلا من استثني قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] فأنت تلحظ أن هذه الأمور الأربعة يدخل بعضها في بعض. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 14 وقفات سريعة الجزء: 191 ¦ الصفحة: 15 الدنيا ليست مقياساً للربح والخسارة الوقفة الأولى: إن الدنيا لا تصلح مقياساً بحال، فالذي يفقد ماله في سبيل الله هو الغني، والذي يموت في سبيل الله هو الحي، قال تعالى: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] والذي يذل نفسه لله تعالى هو العزيز، قيل للعز بن عبد السلام: لو قبلت رأس السلطان لربما عفا عنك، فضحك وقال: " يا قوم أنا في وادٍ وأنتم في واد، والله ما أقبل أن يقبل السلطان رأسي، فضلاً عن أن أقبل رأسه" وقيل لـ ابن عباس رضي الله عنه أصابك العمى، فقال: إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي لساني وقلبي منهما نور عقلي سديد وعلمي لا خفاء به وفي فمي صارمٌ كالسيف مشهور هذه هي القضية الأولى أن الدنيا لا تصلح مقياساً للربح والخسارة. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 16 المسؤولية مشتركة الوقفة الثانية: إن المسؤولية عن الدين مشتركة؛ فهي ليست حكراً على السلطان، ولا على العالم؛ بل الراعي الذي ينعق بغنمه مسؤول عن الدين، والفلاح في حقله مسؤول، والمرأة في بيتها مسئولة، بل والصبي في كتَّابه شريكٌ في المسؤولية، فما بالك بأستاذ الجامعة، وما بالك بضابط الجيش، وما بالك بمسؤول الأمن، وما بالك بالموظف الكبير، وما بالك بالتاجر الشهير، لقد آن الأوان أيها الأحبة أن نرفع شعار لا مكان بيننا للمتفرجين. إنَّ أهون الأعذار التي قد تقدمها أن تقول: لا أستطيع، أو يقول زميلك: هذا مستحيل، لكن هذا لا يكفينا ولا يغنينا. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 17 كن لبنةً صالحة الوقفة الثالثة: نحن نرحب باهتماماتك الإسلامية، ويسرنا روحك المتوقدة، ومتابعتك لآلام الأمة، ولكن هذا منك أيضاً لا يكفي ولا يشفي، نريدك لبنةً صالحةً في المجتمع، بعمل الصالحات، وبالإيمان وبالمحافظة على الصلوات، وبصلة الرحم، وبالإحسان إلى الناس، أين أمرك بالمعروف؟ أين نهيك عن المنكر؟ لماذا نرى لسانك في وادٍ وعملك في واد آخر؟ أفصحيحٌ ما بلغنا عنك أنك إذا استيقظت لصلاة الفجر تدير قرص المذياع لسماع الأخبار، قبل أن تفتح الصنبور لتتوضأ للصلاة؟! أفلا تحب أن تكون من الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر؟! الجزء: 191 ¦ الصفحة: 18 معرفة الحق ليست حكراً على أحد الوقفة الرابعة: أن الحق ليست معرفته حكراً على أحد، مهما كبر وعز وعظم؛ ولهذا سئل علي رضي الله عنه وأرضاه كما في الصحيحين: {هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء يا آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً أوتيه رجل في كتاب الله عز وجل} إذاً: هذا الفهم ليس مقصوراً، أو محكوراً على أحد، وقد أدرك ابن عباس رضي الله عنه -على صغر سنه ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له- ما لم يدركه أكابر المهاجرين والأنصار، ونحن -أيها الأخ الحبيب- لا ننتظرك بفارغ الصبر لتكون مقلداً تتفنن في محاكاة الأصوات والحركات، أو تتحمس لآراء فلانٍ أو علان، لا! بل يجب أن تعد العدة وتنزل للميدان، ميدان العلم لا ميدان التقليد، وميدان الاستقلال لا ميدان التبعية، وميدان التجديد لا ميدان الموافقة وهز الرءوس. إننا يجب علينا جميعاً أن نتطلع إلى اليوم الذي يكون فيه كل فردٍ في الأمة بأمة قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل:120] فردٍ في الأمة بأمة! فيجب أن نتطلع إلى اليوم الذي يصبح فيه كل فرد في الأمة بأمة، وأن يزول ذلك الزمن الذي اختزلت الأمة كلها في رجلٍ واحد، فأصبحت الأمة كلها رجلاً، وفرقٌ عظيم بين أن يصبح الرجل وحده أمة، وبين أن تصبح الأمة كلها فرداً واحداً، ولهذا قال الله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3] . إن الحق بضاعتنا جميعاً، وقد يوجد في الأنهار ما لا يوجد في البحار، وربما جاءت الحكمة من غير فقيه، وقد باح بالسر أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه، فصاح بأعلى صوته: [[رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا]] وحسب علمي، فإنه لا يوجد ناطقٌ رسمي باسم الإسلام أو باسم الكتاب والسنة، ولا يوجد في الإسلام كهنوت، ولا رجال دين؛ بل أبواب طلب العلم مفتوحة، وأبواب الدعوة إلى الله مفتوحة، وأبواب النصيحة والوعظ مفتوحة، وهي لا تغلق بمرسوم ولا بقرار ولا بخطاب، ولا يغلقها أحد حتى تطلع الشمس من مغربها. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 19 كلمة في الدعوة ننتظرها منك الوقفة الخامسة: الكلمة التي ننتظرها منك، أنت شخصياً، ليس شرطاً أن تكون جديدةً لم تسبق إليها، ولا ابتكاراً لم يتفطن لها أحد، ولا معنى غاب عن ذهن فلانٍ وفلان، هذا ليس بلازم؛ بل من الممكن أن تذكِّر أنت بالشيء المعروف، فتوصي العالم أو الداعية، أو المسلم العادي بالإيمان، أو بالتقوى أو بالصبر، أو بالإخلاص لله تعالى في عمله، أو تحذره من الظلم أو من الانحراف، أو من العجب أو من الغرور، أو من العجلة والطيش إن هذا هو الذي يصنع الرأي العام في الأمة حقاً، وما ظنك بإنسانٍ -أي إنسان- وصلته مائةُ رسالة كلها ليس فيها إلا: اتق الله ودع ما تصنع، وتذكر الإخلاص لله تعالى فيما تعمل، أو فيها انتقاد على قول أخطأ فيه، أو على فعلٍ أو موقف اتخذه، لابد أن يعرف هذا الإنسان عيوبه ويراجع موقفه؛ فإن كان فعله عن اجتهاد؛ محِّصِ الرأي من جديد، وإن كان فعله عن هوى، فربما ارتدع عن هواه. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 20 متى بداية العلاج رابعاً: متى نبدأ بالعلاج؟ إنني أعتقد أن الأمة الآن في مرحلة الشعور بالمرض، ولكنها لم تصل بعدُ إلى مرحلة معالجة هذا المرض، والبدء الحقيقي بإزالته. كتب إلي أحد الإخوة -بالأمس القريب- رسالةً يشكو فيها أنه في إحدى المحاضرات: خرج الرجال والنساء فاختلط بعضهم ببعض، وكان هناك بعض السفور، وبعض التجاوزات من بعض الأخوات الحاضرات، فينتقد الأخ الكريم أنه لم يسمع من أحدٍ من الشباب أمراً بالمعروف، ولا نهياً عن المنكر ولا حثاً على الحشمة، ولا نهياً عن السفور، نعم! هذا الأخ لعله -وليسامحني- واحدٌ من الذين مروا بالموقف، وما أمروا ولا نهوا، لكنه اكتفى بأن كتب سؤالاً في إحدى المحاضرات، وربما كان الشعور الذي عنده عند آخرين كثيرين، لكن لم يجرؤ أحدٌ على أن يقول: هذا حرام أو هذا لا يجوز، أو يأمر بمعروفٍ، أو ينهى عن منكر. إذاً: هذا شعورٌ بالمرض، وهو مرضُ السلبية -منا جميعاً- ولكن لم ينتقل الأمر إلى المعالجة، وربما كلٌ منا يقول -مع الأسف- لم أر أحداً أنكر، ولم أسمع أحداً تكلم، وهو المتحدث نفسه جزءٌ من المشكلة. والمشكلة لا تنحصر في هذا المثال الذي ضربته، فهذا مثالٌ وقع أمس، المشكلة أعوص من ذلك، وأهول وأطول. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 21 التفاعل مع قضايا الأمة أيها الأخ الكريم: هل صحيحٌ أن الأمة لا تملك شيئاً؟! وما هي الأمة إن لم أكن أنا وأنت وفلانٌ وفلان؟ إنه لا يجوز للمسلمين أن يقروا هذه الحواجز السياسية، والحواجز العرقية بينهم، بل يجب أن يتفاعلوا مع قضاياهم القريبة والبعيدة، كلٌ على طريقته الخاصة، فالمهم أن تتعامل مع هذه القضية، وتحسب لها حساباً فأنت مثلاً تقول لي: ما أصابهم بسبب ذنوبهم، قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] أقول لك: نعم! وقرة عين، نريدك أن تجهر بهذا الكلام، وترفع صوتك به، وتحذر الذين لم يصابوا بعد من أن يصابوا بذنوبهم، أن يصيبهم الله تعالى ببعض ذنوبهم، وتحذر أولئك الذين وقع لهم ما وقع من مغبة المعاصي، وتذكرهم بوجوب التوبة إلى الله تعالى، لماذا لا ترفع صوتك بهذا الكلام؟! وهناك آخر قد ينتقل خطوةً عملية أخرى في طريق الإصلاح، فيذهب بنفسه هنا وهناك داعياً إلى الله، ومعلماً ومرشداً وفقيهاً بقدر ما يستطيع، وهناك ثالثٌ أخذته الحمية؛ فانتقل إلى ميدان الجهاد في صفوف إخوانه، ولعمْرُ الحق ما هو بملوم، فإن الدفاع عن النفس مشروعٌ في كل شرائع السماء، بل وفي كل قوانين الأرض، والمسلمين كلهم كنفسٍ واحدة، فالدفاع عن النفس يعني أن يدافع المسلمون عن أنفسهم أبيضهم وأسودهم، عربيهم وعجميهم قريبهم وبعيدهم، فالمسلمون نفس واحدة، أو كنفسٍ واحدة، قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} [النساء:75] . إن المسلم -لو استطاع- مطالبٌ برفع الظلم حتى عن الكافرين المظلومين، فكيف بإخوانه المسلمين، ولو كانوا مقصرين أو مفرطين، كيف بهم وهم يقتلون أو يشردون، كيف بنساءٍ تنتهك أعراضها! بل وصل الأمر إلى حد أن تجهض المرأة المسلمة الحامل، ويزرع في رحمها أجنة الكلاب!! لإجراء التجارب أو للنكاية بالمسلمين -كما ذكرت ذلك صحفٌ ألمانية عما يجري للمسلمات في البوسنة والهرسك -وانتقل داء الاغتصاب الجماعي- من المسلمات في البوسنة، حيث اغتصب ما يزيد على خمسٍ وثلاثين ألف امرأة مسلمة، ما بين ست سنوات إلى سبعين سنة إلى بلاد الهند، ثم إلى جمهوريات آسيا الوسطى. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 22 وجود رأي عام للمسلمين إن مشكلة الأمة أمام هذه الملمات العظام، هي ذاتها مشكلة ذلك الأخ الذي يقول: لم يتكلم أحد ولم ينكر أحد، وكلنا نقول ذلك، لقد شعرنا بالمرض، ولكننا لم ننتقل بعد إلى العلاج، فلا بد من تكوين رأيٍ عامٍ في الأمة يتعاطف مع قضايا المسلمين جميعاً، ويحس بآلامهم، بل لا بد من رأي عامٍ يعرف المعروف ويأمر به، ولابد من رأيٍ عامٍ ينكر المنكر وينهى عنه، ولابد من رأيٍ عامٍ يقول للمحسن: أحسنت، ولابد من رأيٍ عامٍ يقول للمسيء: أسأت بغض النظر عمن يكون، وحينئذٍ تمتنع الأمة من الظلم فلا تقره ولا تقبله، وتمتنع من الاستبداد فلا ترضاه، وتمتنع من عدوها الكافر فلا تهادنه ولا تداهنه، ولهذا مدح عمرو بن العاص رضي الله عنه كما في صحيح مسلم لما ذكر له حديث النبي صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} قال: [[إن فيهم خمس خصال -ثم قال بعد ذكرها- وخامسة حسنة جميلة وهي: وأمنعهم من ظلم الملوك]] أي أنهم أمنع الأمم من ظلم الملوك، يمتنعون من الظلم والعدوان فلا يقرونه، ولا يقبلونه، ولا يطمع فيهم أحد، ولا يظن أحد أنه يملك قيادهم فيهجنهم ويدجنهم. إن الظلم الذي تعانيه الأمة الإسلامية اليوم ليس مسئولية الحاكم وحده، فهاهو فرعون استخف قومه فأطاعوه، ولكنه أيضاً مسئولية الشعوب التي استناخت لهم فركبوا، وسكتت فأمعنوا، قال الله تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِي * فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الزخرف:54-55] تأبى عقيدتنا تأبى أصالتنا أن يصبح العرب أجيالاً وقطعانا فلا لشرق ولا غرب نطأطؤها بل ترفض الجبهة الشماء إذعانا الجزء: 191 ¦ الصفحة: 23 أحوال الأمة ونكباتها لقد مرت الأمة بنكباتٍ عظيمة، فالمسلمون في فلسطين مثلاً يقاسون ألوان التشريد على يد اليهود منذ عشرات السنين، ويحاربون في دينهم، وأرزاقهم، وأخلاقهم، وبلادهم، ويضيق عليهم، ويعيشون في غياهب سجون اليهود أوضاعاً مأساوية، ضجت منها منظمات حقوق الإنسان الشرقية والغربية، وأفغانستان ظلت أربع عشرة سنة تعيش حرباً ضروساً ضد الشيوعية، أتت فيه هذه الحرب على الأخضر واليابس، ودمرت البلاد كلها، ومصر ظلت منذ عهد جمال عبد الناصر تتسامح مع كل أحد، إلا مع من تسميهم بالأصوليين، والمتطرفين، وقد يقبض على جاسوس إسرائيلي، فسرعان ما يطلق سراحه، أما المنتقبات من الأخوات المؤمنات، أو الملتحون من الشباب المؤمنين، فقد أصبحوا مغامرين بحياتهم هناك. وفي بلاد المغرب هناك تحالف اختلف على كل شيء، واتفق على حرب الصحوة، وسرقة اختيار الأمة للإسلام، وصارت البلاد هناك تعيش في تعتيمٍ رهيب، وعزلةٍ عن العالم الإسلامي، بل عن العالم كله، بل وفي الفلبين هناك حصار بعشرات الألوف على المناطق الإسلامية، وقد عزم راموس -وهو الرئيس الجديد- على طمس المسلمين هناك مهما كلفه الثمن، وفي جمهوريات آسيا الوسطى دماءٌ تسيل في طاجكستان وفي الأنقوش، وفي أذربيجان، وقد رحلت الشيوعية هناك عن جميع البلاد إلا عن بلاد المسلمين، فما زال فيها لها أثر كبير، وتحالف الغرب الصليبي مع بقايا الإلحاد هناك لمقاومة الخطر المتمثل بالأصولية. وفي البوسنة والهرسك تطهيرٌ عرقي لا يستثني أحداً، وفي إرتيريا، وفي الصومال موتٌ يأخذ بالناس كقعاص الغنم، وفي كشمير دماءٌ تسيل، وفي الهند عنفٌ طائفي كاسح ضد المسلمين والله المستعان! في بلاد الأفغان جرح عميق نازف يستجيش كل ضميري وعلى أرض مصر مليون جرح وبكل الدنيا نداء مستجيري ربما ملَّ الناس من تكرار هذه القصة، وترديد هذا الشريط الذي يبدأ ولا ينتهي! وكل يومٍ تجددون لنا المأساة بمصيبةٍ جديدة، وحق لهم ذلك، خاصةً حين يقول أحدهم -وهو يقلب كفيه- ماذا أملك وماذا أستطيع؟ هل أنا طرف في القضية؟! الجزء: 191 ¦ الصفحة: 24 أرباحٌ أم خسائر؟! والبعض جبلوا على أنهم يريدون الأشياء الطيبة ولكن دون عناء وكلفة، فهم يعيشون أحلاماً لا رصيد لها من الواقع، وأمنيات مجردة لا تشبع جائعاً ولا تروي عطشاناً. وإذا كنا نسلم بأن واقع الأمة واقعٌ مريض، لا أقول: منذ سنوات بل ربما منذ قرون، أفلا يحق لنا أن ندرك أن التغيير يتطلب كثيراً من التكاليف وكثيراً من الآلام؟ حين قام الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوته في أنحاء مكة، أما عد المشركون -عمله هذا ودعوته إلى التوحيد- تمزيقاً للوحدة الوطنية، وتشتيتاً لكلمة القبيلة، وتمهيداً لحرب أهليةٍ ضروس قامت فعلاً في بدر، فالتقى القرشي مع القرشي، بل التقى الأخ مع أخيه، والقريب مع قريبه، وابن العم مع ابن عمه، والأب مع ولده، نعم! هي حربٌ أهلية؛ لكن بين من ومن! بين الإسلام والكفر، بين التوحيد والشرك، بين الإيمان والجاهلية؟! أما قال المشركون: إن هذا سعيٌ في قطيعة الرحم، على الرغم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما بعث إلا بصلة الأرحام؟! أما اعتبروا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فتنةٌ تهدد سيادتهم على العرب وعلى الجزيرة العربية؟ بلى! لقد قالوا ذلك وأكثر منه، قالوا: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:30-34] ولا بأس أن نقضي بعض الوقت مع بعض الأمثلة المهمة: الجزء: 191 ¦ الصفحة: 25 سقوط الشيوعية المثال السادس: ولعله يبدو غريباً بعض الشيء، سقوط الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، يقول بعضهم ويتساءلون: ربما كان بقاء ذلك الاتحاد على الرغم -مما فيه- ضماناً للأمن في تلك الديار، وحفظاً للنظام العام، وسلامةً من الحروب المدمرة، وكلما حصلت مصيبةٌ من هذا القبيل، وانهدت مثل هذه الدولة العظيمة أو الإمبراطورية الواسعة؛ انتشرت الزعازع، واتسعت الحروب الأهلية، ودامت المصادمات بين الدول، بل وُجد ما يشبه التحضير لمعارك -طويلة الأجل- وطويلةَ المدى، وربما كانت في نظر بعضهم منطلقاً لشرارةٍ حربٍ واسعة النطاق، خاصةً مع ظهور نشاط ما يسمونهم هناك بالقوميين. فهل صحيح أن سقوط الشيوعية لم يكن خيراً؟ لقد نسي هؤلاء أن الشيوعية أغلقت جميع الطرق في وجه الإسلام، جميع الطرق بلا استثناء، وأن الإسلام رابحٌ من سقوط الشيوعية بكل حال، لأنه لا يتصور للإسلام والمسلمين في روسيا، -بل ولا في البلاد التي تهيمن عليها- وضعٌ أسوء من الوضع الذي كان الإسلام والمسلمين فيه أيام الشيوعية، فكل وضعٍ بعده فهو خيرٌ منه، وأهون منه، وكل مصيبةٍ بعده فهي جلل أي: هينة، ففي ظل دكتاتورية الشيوعية وهيمنتها؛ فقد المسلمون كل شيء، فأي تغيير هو -والله تعالى أعلم- في صالح الإسلام، ثم هب أن حرباً واسعة النطاق شبت، ودخلت فيها أطراف دولية كما يقال، ألا تدري أن الإسلام هو أقل المتضررين من حرب كهذه، لأنه أيضاً هو أقل المنتفعين بإنجازات الحضارة المادية المعاصرة! وإذا لحق بالعدو ضررٌ جسيم عظيم؛ ولحق بي وبك ضرر قليل؛ فربما كانت النتيجة لمصلحتي ولمصلحتك، وليس الأمر كما يتوقع بعض الدارسين، أن سقوط الحضارة المادية الذي نتمناه ونبشر به، وننتظره وعداً من رب العالمين، ليس معنى ذلك التدمير الكامل للحضارة، والقضاء على كل التيسيرات المادية وكل الخدمات التي انتفع بها الإنسان، هذا ليس بلازم، ولكن الصورة المتوقعة -والله تعالى أعلم- هي أن تنكفئ تلك الدول الكبرى على نفسها، وتنشغل بهمومها وتنهمك بمعالجة اقتصادها أو أمنها، أو مشاكلها الداخلية عن التدخل الخارجي، وعن التدخل في بلاد الإسلام والمسلمين بالذات، هذا مع أن الأدلة القريبة والقرائن كلها، توحي -والله أعلم- بأن الحرب الأهم والأقوى سوف تكون حرباً اقتصادية. - انهيار الاقتصاد الأمريكي: إذا كان الاقتصاد هو أحد الأسباب المهمة التي عجلت بسقوط الاتحاد السوفيتي، فإن الدراسات الاقتصادية المتخصصة تبشر بانهيار الاقتصاد الأمريكي أيضاً، حيث بلغت مديونيته الآن ما يزيد على ثلاثة ونصف تريليون، وهذا رقم فلكي كبير، وتقول الدراسات إن من المتوقع أن تقفز هذه المديونية في نهاية القرن إلى ما يزيد على اثني عشر تريليوناً، وسيضطر الأمريكان إلى أحد ثلاثة حلول: الحل الأول: هو أن يعلنوا عجزهم وإفلاسهم، وهذا لن يتسبب في انهيار الاقتصاد الأمريكي فحسب، بل سيتسبب في انهيار الاقتصاد الأمريكي، وانهيار اقتصاد جميع الدول التي ربطت نفسها بأمريكا، وبالاقتصاد الأمريكي، وبعملة الدولار. الحل الثاني: هو أن يعالجوا الوقف؛ بطبع المزيد من الورق النقدي دون رصيد يغطيه، وذلك لتغطية العجز الحاصل، وهذا قد يؤخر علمية الانهيار؛ فبدلاً من أن تأتي بسرعة، فإنها تأتي بصورةٍ تدريجية. الحل الثالث: هو التدخل في المناطق الغنية من العالم كأوروبا، ودول النفط الخليجية، وإيران، وبعض المناطق الإفريقية التي تدل التقارير على وجود النفط فيها، وتحذر تلك التقارير -وهي تقارير مهمةٌ وخطيرة- تحذر من الارتباط بالاقتصاد الأمريكي، كما هو الحاصل في الدول العربية الغنية، ومغبة ذلك على اقتصاد البلاد. إذاً: من الصعب ونحن نتحدث عن التجربة الشيوعية، وأنَّ سقوطها كان خيراً، بالرغم مما ولده ذلك من وجود حروب، ومشاكل بين الدول المتجاورة، واحتمال أن يحدث انفجارات متعددة وطويلة، على رغم ذلك كله فلا شك أن سقوط الشيوعية كان خيراً للإسلام، وكان خيراً للمسلمين، وقد تنفس المسلمون الصعداء على الرغم -أيضاً- أن ثمة مشاكل واجهوها -كما أسلفت- ففي طاجكستان قتل منهم قبل أيام ما يزيد على خمسة عشر ألف إنسان وجرى نهر جيحون لساعات دماً أحمر من دماء المسلمين، وفي الأنقوش حيث دفن منهم ما يزيد على ثلاثة آلاف من الكبار والصغار والنساء والأطفال، وفي أذربيجان وفي غيرها؛ لكن مع ذلك كله، فهذا الوضع بكله وبتناقضاته، وبسلبياته هو أفضل عشرات المرات من الوضع الذي كان يعيشه المسلمون في ظل جحيم الشيوعية في دائرة الستار الحديدي. إذاً: فمن الصعب أن يحكم الإنسان على تجربة ما من خلال النظر إلى فترة محدودة من الزمان ولا بد أن يستكمل الصورة من أولها إلى آخرها. إن استتاب الأوضاع واستقرارها في روسيا، أو في غيرها ليس هو المطلب الوحيد للإسلام، لا!. المطلوب أن تستتب الأوضاع في ظل نظام يحكم بالإسلام، أو على أقل تقدير أن تستتب الأوضاع في ظل نظامٍ يكون أفضل للإسلام مما عداه، وأي خير أصاب الإسلام والمسلمين من قوة القبضة البعثية في بلاد الإسلام المرتبطة بالشرق أو قوة القبضة العلمانية في البلاد الإسلامية المرتبطة بالغرب، سواى استخدام الآلة العسكرية، والآلة الأمنية والآلة الإعلامية في محاربة الإسلام والمسلمين. أيها الأحبة: إن الكثير من العقلاء يتطلعون إلى الإصلاح بألوانه، فيتطلعون إلى الإصلاح العلمي والتعليمي؛ ولكن لا قدرة لهم على تحمل الرد، والنقد والمناقشة والتخطئة، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح الاجتماعي؛ ولكن لا قدرة لهم على تحمل قالة الناس، ونقد المجتمع، واستنكار القوم، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح الدعوي، لكن لا قدرة لهم على الجهر بذلك، وتحمل تبعاته، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح السياسي، ولكن لا قدرة لهم على تحمل الآلام والمتاعب التي سيلقونها، والكثيرون يتطلعون إلى الإصلاح الاقتصادي، والإداري وغير ذلك؛ ولكن أين المستعدون لتحمل التبعات؟ إنهم قليلون! إن المستعدين للصبر على التضحيات وتحمل الآلام أقل من القليل وأقل منهم -أيضاً- أولئك المستعدون لتحمل مسئولية الخطأ -إذا تبين أنه خطأ- وليس بد من أن يقع الخطأ مع الاجتهاد، ومع بذل الوسع والطاقة فإن الإنسان بشر {وكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} كما نطق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم وكما قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] . إذاً: فمقياس الربح والخسارة، ليس وجود ردة الفعل، أو الاستجابة العكسية، بل على قدر أهمية العمل وجديته وفاعليته وقوته وتأثيره تكون عداوته، والصراع أمرٌ فطري لابد منه، فإن كان ثمة حيلة في تأجيل الصراع، أو في تقصيد الصراع، فإنه لا حيلة أبداً في دفعه والله تعالى وحده هو المستعان. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 26 جهودٌ بشرية ندعو المثال الثالث: مثالٌ دعوي: فالتجارب الإسلامية في بلاد الإسلام، هي جهود بشر يصيبون كثيراً ويخطئون قليلاً، ويجب تقويمها على هذا الأساس. فمثلاً: الدعوة في الجزائر قامت وفق معايير واضحة، وعبر طرقٍ نستطيع أن نقول عنها بلغة المعاصرين أنها طرق مرخصة، وطرقٌ يعبرون عنها أنها أيضاً قانونية، ودخلت كما يقال في اللعبة الديمقراطية، ولكن! ما الحيلة أمام فئاتٍ لا تريد للإسلام أن يحكم مهما كلف الأمر، حتى ولو دخل من البوابة الرسمية. ومثال آخر: في تركيا -الآن- هناك حزبٌ قديمٌ جديد: اسمه "حزب السلام" أو "حزب الرفاه" يعلن أن برنامجه برنامجٌ إسلامي وأنا في الواقع لم يتح لي الاطلاع على برنامج هذا الحزب كاملاً، سوى ما يكتب عنه في الصحف، وهي كتابات عامة على كل حال، المهم: هذا الحزب يرفع شعار الإسلام ويدعو إليه، أما العلمانيون والكماليون في تركيا؛ يصرون على تحويل تركيا -إذا أوشك هذا الحزب على الانتصار- إلى جزائر أخرى. وقد ارتفعت نسبة التأييد لهذا الحزب إلى نسبة عالية أخافت العلمانيين هناك، حتى قال قائلهم: نحن ندرك أن الإسلام سيعود إلى تركيا، وربما الخلافة؛ ولكن لا نريد أن نرى هذا بأعيننا، نعم ليراه أولادنا وأحفادنا، أما نحن فلا: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] . ليست الخسارة -أيها الأحبة- في الجزائر، أو تركيا، أو في أي بلد إسلامي، أو تونس، أو في مصر، ليست الخسارة أن يودع المسلمون السجون، ولا أن يصادر بعض نشاطهم، ولا أن يقتل بعضهم، أحضروا لي في الدنيا كلها مذهباً بشرياً واحداً أو مذهباً إنسانياً أو مذهباً أرضياً لا يمت إلى السماء بسببٍ ولا صلة، هذا المذهب يمكن له أن يجامل ويمكن له أن يتنازل، ويمكن له أن يتخلى ويمكن له أن يساوم، هاتوا لي مذهباً من هذه المذاهب -على رغم ذلك كله- قام على غير التضحيات الجسام، كم عدد الذين يموتون في سبيل الشيطان، وفي سبيل الطاغوت، وفي سبيل الكفر؟ كم عدد الذين ماتوا من أجل الشيوعية؟ بل كم عدد الذين يموتون بسبب البرد وكم الذين يموتون في الزحام في المباريات الرياضية، وكم الذين يموتون بحوادث السيارات؟ بل كم الذين يموتون بالمخدرات؟! ومع ذلك ليسو سواء، قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، وقد قال الشاعر: الفتى من حتفه لا يفرُّ قدر قَدْ خُطَّ والخلق ذَرُّ ملك أشار كونوا فكانوا ما لحي بعده نهي وأمر هم كما يشاء في إصبعيه جحدوه كلهم أو أقروا في غدٍ يهيب بالعير حادٍ والجنى يطيح حلو ومر وتدك الأرض دكاً وكل من بنيه وأخيه يفر فكلا الحزبين يسعى لدار ماله في غيرها مستقر بأبي محمديين صاروا في طريق الحصى فيه جمر عشقوه وهو منهم خضيب والنحور والسرابيل حمر لو أرادوا الملك كانوا ملوكاً لكنِ الدنيا سرابٌ يغر نعم أيها الأحبة: نحن لا ندعو إلى المجازفة، ولا ندعو إلى الخطأ في الحسابات، ولا ندعو إلى التعجل في المواقف، ولا ندعو إلى أن يتعرض الناس من البلاء لما لا يطيقون، بل إن هذا كله من الدين أن يصبر الإنسان، وألا يعرض نفسه من البلاء لما لا يطيق، ولا لما لا يقدر عليه، والمسألة مسألة مصالح شرعية. ولكنني أقول: مجرد القتل، أو السجن أو المنع ليس مقياساً للربح والخسارة، قد أقول: هذا العمل على خطأ، لأن الدليل على خلافه، أو لأن الواقع لا يقتضيه، ولكنني لا أستطيع أن أقول: إن هذا العمل خطأ؛ لأن فلاناً سجن، أو فلاناً قتل، أو فلاناً أوذيَ، أو ما أشبه ذلك. - قصة الغلام المؤمن: هاأنت ترى قصة الغلام المؤمن -التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم- وهي في صحيح مسلم وغيره، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: أن هذا الغلام قال للملك -بعد أن عجز عن قتله-: إنك لا تستطيع أن تقتلني، حتى تصلبني في جذع نخلة، ثم تجمع الناس في صعيدٍ واحد، ثم تخرج سهماً وتصوبه إلي، وتقول: "بسم الله رب الغلام" ثم ترميني، فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، ففعل الملك ما أمره الغلام! وقتله، نعم! مات هذا الغلام، وقتل بهذه الطريقة التي لقنها لهذا الملك، والله تعالى أعلم. هذا الغلام لم يكن يجزم ويقطع بأن نتيجة قتله، أن تسلم الأمة كلها، لكن غلب على ظنه أن ذلك سيقع، وقد وقع هذا فعلاً، وصدق الله ظنه، فقالت الأمة كلها: آمنا برب الغلام، ماتَ واحدٌ وأُحييت أمةٌ بأكملها، موت فرد حياة أمة، لقد استطاع أن يبلغ حجة الله تعالى إلى الأمة كلها، من خلال هذا الموقف العظيم، ورأى أن إراقة دمه بهذا السبيل هي العز وهي الحياة. ثم ماذا صنع هذا الملك؟ لقد أتى بالأمة كلها، وحفر لها الأخاديد، وأوقد لها النيران، وأحرق هذه الأمة وشواها عن آخرها، أفتظنهم خسروا كلا!! لقد ربحوا أعظم الربح، إنهم انتقلوا إلى جناتٍ ونهر كما قال تعالى: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج:11] فسماه الله تعالى فوزاً؛ لأنه غايةُ الربح، وغاية المكسب، وغاية ما يطلبه الإنسان، أما الذين خسروا -حقيقيةًَ- فهم أولئك الذين قاموا بهذا العمل، وفتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا، لقد ذهبوا بخيبة الدنيا والآخرة، فأصابهم في الدنيا ما أصابهم، وبقي ذكرهم بالسب والعيب إلى يوم القيامة، وأما في الآخرة فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق، جزاءً وفاقاً. - الدجال ورجل من أهل المدينة: مثلٌ آخر من هذه الأمة المباركة، لقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الدجال حين يخرج آخر الزمان، ويفتتن الناس به، يخرج إليه رجل من أهل المدينة والحديث في صحيح البخاري يخرج إليه رجل من أهل المدينة، فيتجاوز مسارح الدجال وجنوده، والكمندوز المحيطين به، والقوة البشرية التي تحرسه، والمستعدة لكل حادث، يتجاوز هؤلاء كلهم، ثم يقف أمام الدجال، ويقول له: أتشهد أني أنا الله، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيقتله الدجال ويمشي بين قطعتيه، ثم يقول له قم، فيستوي حياً بإذن الله تعالى، فيقول: أتشهد أني أنا الله، فيقول له: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيريد أن يقتله فلا يسلط عليه!! وعندئذٍ يبدأ نجم الدجال ينحدر، ويبدأ العد التنازلي له، فكانت تلك الكلمة الصريحة المدوية القوية، كانت هي السهم الأولى، ثم تتابعت السهام بعد ذلك، فالدجال يخرج من المدينة يجر أذيال الخيبة صوب الشام، ليلقى حتفه هناك على يد نبي الله عيسى عليه صلوات الله وسلامه، فهذه الكلمة القوية، المدوية، المجلجلة الصريحة، كانت هي أعظم شهادةٍ يوم القيامة عند رب العالمين. نعم أيها الأحبة: التبصر لا خلاف عليه، ووضوح الأساليب المطلوبة في العمل واجب، ومراجعة المسيرة بين حينٍ وآخر ضرورة، وليس شرطاً -أيضا- أن يكون كل درسٍ تأخذه بثمنٍ نبذله إما قتلٌ، أو سجنٌ، أو إيذاء ليس شرطاً هذا، بل يجب أن نأخذ دروساً نحتمي بها -بإذن الله تعالى- من الفشل، ومن الوقوع في الخطأ بقدر ما نستطيع وإن كان البشر لا يسلمون من الخطأ، وأعظم الأسباب فيما يصيبنا جميعاً، هو نقص التقوى ونقص الإخلاص، ومخالفة أمر الله عز وجل كما قال سبحانه: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] سبحانه: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . المهم: أن ندرك أن المنع والحصار والسجن والقتل، ليس مقياساً للربح أو الخسارة، فهو ليس مقياساً للربح، وليس دليلاً على الصواب ضرورة أن يلقى الإنسان ما يلقاه، ولكنه أيضاً ليس مقياساً للخسارة؛ لكن لتنظر! كم حقق هذا العمل للإسلام، وماذا ستكون الحال لو لم يوجد هذا العمل، ويقوم -على رغم ما فيه من أخطاءٍ وسلبيات؟ - ثم هل اكتملت التجربة، التجربة الإسلامية في الجزائر -مثلاً- هل اكتملت، وانتهى أمرها، أم في تركيا أو في أي بلد؟ أم نحن الآن نعيش فصلاً من فصولها، وربما نحتاج لبعض الوقت حتى نتمكن من الحكم على نتائجها ونهاياتها. ثم إنك -أحياناً- قد تعد العمل ضرراً بذاته، ولكنه خيرٌ باعتبار أنه كان أهون الشرين، وأخف الضررين، وأسهل المصيبتين، وأن الله تعالى دفع به عن الأمة والملة ضرراً أعظم وأهول وأطول وهذا مما لا يدركه إلا أولوا الألباب والبصائر. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 27 القتال بحجمه الطبيعي المثال الرابع: وهو مثال جهادي، حيث قتال المسلمين في البوسنة والهرسك، يتساءل الكثيرون هل من الممكن إقامة دولة الإسلام في أرض البوسنة والهرسك، على الرغم أن الوجود النصراني الكثير، وجود الكروات، ووجود الصرب، والمسلمون أغلبية، ولكن بنسبة قليلة في وسط أوروبا، وأوروبا ستعتبر أن قيام دولة إسلامية في عمقها خطرٌ يهددها، إذاً لنحدد الهدف، هل من الضرورة أن يكون القتال لإقامة دولة إسلامية؟ لماذا لا تنظر إلى القتال بحجمه الطبيعي لا تضخمه لكن لا تهون من شأنه، فهو دفاعٌ عن النفس وعن العرض والأرض، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن بل بين أن من قتل دون نفسه، أو ماله فهو شهيد -كما في الصحيحين- ألم تعلم أنه قتل من المسلمين في الأرض نفسها في البوسنة أيام الحرب الكونية قتل منهم مثل ما قتل اليوم أو أكثر دون أن يطلقوا هم ولا رصاصة واحدة؟! هل تعلم أن إستالين قتل من المسلمين في الاتحاد السوفيتي ما يزيد على عشرة ملايين، دون أن يجد مقاومة تذكر؟! إذاً القتل حاصل حاصل، لكن كما قال الشاعر: وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تموت جبانا على الأقل اقتل من قتلك، واثأر لنفسك، قبل أن تموت على أقل تقدير، ثم هب أن المسلمين استسلموا، وأعطوا الصرب القيادة، وتركوا السلاح، ماذا ترى الصرب فاعلين؟ هل كانوا سوف يحتضنون المسلمين، ويلبون تطلعاتهم؟ أم كانوا سوف يسحقونهم ويبدلون دينهم، ويستحيون نسائهم ويقتلون رجالهم؟ وهذا هو أخطر ما يتوقعه إنسان، أو يخافه! إنك اليوم في عالمٍ لا يحترم إلا منطق القوة: منطق القوة يحيا منطقاً يحمل الجُلَّ ولا يرضى الشنار أما المبادئ الإنسانية وقيم العدل، وكلمات الشرعية؛ فهذه عبارات يدبجون بها نشرات الأخبار لا غير! ثم هذا المسلم القتيل لا تدري لعله شهيدٌ في سبيل الله، قال تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاء} [آل عمران:140] والشهيد له عند الله أعلى المنازل، حتى تمنى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يموت شهيداً، فقال صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد: {وددت أني غودرت مع أصحابي بحصن الجبل} وفي الصحيحين قال: {وددت أني أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} . وسؤالٌ أخير: هذا المسلم أيضاً الذي نضج بالقتال، وتعلم الشجاعة، وعاد إليه الإيمان، أصبح قريباً من الآخرة بعيداً من الدنيا، وأنت تراه يصلي الصلوات الخمس، ويذكر الله تعالى، ويستعد للقاء الله، لأن الجهاد صنع الأمة فعلاً، أو شارك في صناعتها، لكن لو لم يكن ذلك، ماذا ترى هذا الإنسان؟! لربما وجدت الكثير منهم في حياة اللهو والدعة والترف، بعيدين كل البعد عن دينهم وإيمانهم، ألا ترى ماذا جنى الترف على هذه الأمة؟! ألا ترى كيف تسبب الغرق في الشهوات والولوغ فيها، والولوع فيها في موت القلوب، وضعف الهمم، وقلة الشجاعة وكثرة المخاوف، إن الجهاد يبني الأمة، ويغرس فيها معاني العزة والشجاعة والكرامة، ويعيدها إلى مجدها وقوتها ورجولتها، وما ترك قومٌ الجهاد في سبيل الله تعالى إلا ذلوا. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 28 الذين أخرجوا من ديارهم المثال الخامس: وهو مثال سياسي يتعلق بقضية أولئك الإخوة المبعدين من الإخوة في فلسطين، الذين أخرجوا بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، يزيدون على أربعمائة وعشرين شخصاً، من العلماء، والخطباء، وأساتذة الجامعات، ورجال العلم والدعوة، معظمهم يخرجون من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله، لقائل أن يقول: قتلنا جندياً إسرائيلياً واحداً فأخرج مقابل ذلك أربعمائة من خيرة الرجال، هذا ثمنٌ باهض! وينسى هذا الإنسان أنه هكذا يكتب تاريخ الأمم وقبل سنوات ليست ببعيدة، أخرجت بريطانيا من فلسطين ما يزيد على أربعمائة يهودي وبأسباب مشابهة، وبعد زمن ليس بطويلٍ عاد اليهود إلى فلسطين واحتلوها كما ترون وتشاهدون. وهكذا أيها الأحبة تبدأ الانتصارات الصغيرة بتضحياتٍ جسام، وهل تعتقد أن اليهود كانوا سيدعون هؤلاء لو لم يقتل ذلك الجندي الإسرائيلي؟ أم كانوا ينتظرون أي حدث للتخلص منهم؟ وهل تعتقد أن اختيارهم جاء في يوم وليلة وبصورةٍ عشوائية؟ كلا، ثم هل كان إخراجهم شراً محضاً؟ ربما تضرروا هم أو أولادهم، لكن لا تستبعد أن يخلفهم في الساحة ضعفهم، ممن تحركت عواطفهم، والناس دائماً يتعاطفون مع المظلوم ومع المضطهد، ومع المضيق عليه، ويحس كل إنسان أنه لابد أن يقف معه، ويقف في موقفه. ولقد ظل هؤلاء في مخيمهم في مرج الزهور، لقد ظلوا على مدى الأيام الطويلة الماضية، قضيةً عالميةً ساخنة تحرج اليهود، وتحرج أمريكا، وتحرج الأمم المتحدة، وتحرج بعض دول المنطقة على السواء، وهب أن هؤلاء نفوا إلى أي مكانٍ في الأرض، هل انتهوا؟! هل عطاء المسلم محدود بمكانٍ أو بزمان؟ لماذا لا تتصور أنهم ربما بدأوا حياةً جديدة، ومشواراً جديداً، وهم أقوى عزيمةً وأقوى مضاءً وأقوى تصميماً وأكثر فاعليةً، وإنتاجاً وإخلاصاً لله تعالى؛ ويكفي أن هؤلاء أبرزوا مسألةً: إسلامية القضية الفلسطينية على السطح، اضطر الجميع على التعاطف معهم على الأقل علانيةً على الرغم أن هؤلاء موسومون بما يسمى "التطرف" والتطرف اليوم هو الإختيار رقم واحد للمحاربة من قبل الجميع. إذاً: ليس الربح والخسارة بترك الديار، والتعرض للأخطار، فهكذا الحياة، وكم عدد الذين فارقوا الدنيا بحثاً عن العيش، أو بحثاً عن الوظيفة، أو فراراً من مشكلة، أو طلباً لدراسة أو ما أشبه ذلك! الجزء: 191 ¦ الصفحة: 29 الدعوة إلى اتباع الدليل الشرعي المثال الأول: مثال علمي: فالدعوة إلى اتباع الدليل الشرعي المجرد، من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو ما أجمعت عليه الأمة وسلفها، والدعوة إلى التحرر من التقليد غير المستنبط، والدعوة إلى الاختيار من أقوال الأئمة دون الالتزام لواحد منهم هذا المطلب! لك أن تتصور كم سوف يثير، من المشاكل وكم سيقال عمن يحملونه: إنهم دعاةُ فتنة، وقد يقول قائل: هؤلاء خارجون على الأئمة، مخالفون لما جرت عليه الأمة، وهؤلاء منتقصون لأكبر العلماء، وهؤلاء دعاة تفريقٍ للصف، وهؤلاء كما قال أحدهم: صغارٌ يتعلمون يوم السبت، أو يولدون يوم السبت، ويتعلمون يوم الأحد، ويفتون يوم الاثنين، ويناظرون يوم الثلاثاء. سخريةٌ مُرَّة! نعم! نحن ندعو إلى الانضباط، وندعو إلى الأناة، وعدم العجلة، وألا يقول الإنسان على الله ما لا يعلم، بل عليه أن يتعلم ويتحرى ويبحث عن الدليل، ولكن دون شكٍ، فالمطلوب تحرير الأمة من التعصب المذهبي، إلى جو اتباع الدليل بغض النظر عمن قال بهذا القول، وهذا الكلام الذي يواجهه الدعاة، أو الداعون إلى اتباع الدليل، ليس دليلاً على فشل هذه الدعوة، ولا مقياساً للخسارة، بل ربما كان مقياساً للربح؛ لأنه من الإيمان، ومن العمل الصالح، ومن التواصي بالحق، ومن التواصي بالصبر على ذلك كله. وإنما جاءت هذه الأشياء نظراً لقوة هذه الدعوة، وفاعليتها وتأثيرها وتهديدها لبعض الرءوس، التي انتفعت بجو التبعية وجو التقليد، فلا تريد أن تفقد مكانها. فهذا مثال يدلك على أن أي لونٍ من ألوان العلاج، أو الإصلاح، أو التعديل، يتطلب الكثير من الآلام، والكثير من التضحيات والكثير من التكاليف، ولكن! كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] . الجزء: 191 ¦ الصفحة: 30 المحامون عن قضية المرأة المثال الثاني: وهو مثالٌ اجتماعي: المحامون عن قضية المرأة في مجتمعٍ يحتقر المرأة ويزدريها، فلا ينطق باسمها ولا يورثها، ولا يحسب لها حساباً، ولا يقيم لها وزناً ولا اعتباراً، ولا يسمح لها أن تبدي رأيها، بل يهينها ويذلها، وهذا موجودٌ في مناطق كثيرةٍ من العالم الإسلامي، خاصةً تلك المناطق البعيدة عن مراكز العلم، صحيحٌ أن هناك وعياً، ولكن لا يزالُ هذا الأمر قائماً في عدد من المجتمعات! فالذين يطالبون بالعدل في قضية المرأة، وأن يقام حكم الله في هذا الشأن، وأن تنصف النساء، وتعطى المرأة حقها كاملاً غير منقوص، لا يتعدى بها قدرها، ولا تعطى ما ليس لها، وليست دعوةً قوامها مخاطبةُ مشاعر المرأة، أو استثارتها، بل هي دعوةٌ تستهدف تعديل الميزان، وإصلاح المجتمع، وحمايته من تلك القنابل الموقوتة التي من الممكن أن تنفجر في أي لحظة. تلك المرأة المظلومة المكلومة لو سمعت صوتاً ينادي بتحريرها، ويطالب بحقوقها، وهو صوتٌ غير إسلامي قادم من بعيد من بلاد الغرب، لربما هشت لهذا الصوت وبشت وأيدته، لماذا؟! لأنها تشعر أنه يرفع من معاناتها ويقف مع قضيتها، فلماذا لا يكون الصوت المدافع عن قضايا المرأة المطالب باحترامها أماً كانت أو زوجة، أو بنتاً أو مرأةً في المجتمع، وإعطائها حقها الشرعي كاملاً غير منقوص، دون أن يتعدى بذلك حدود ما أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم؟ لماذا لا يكون هذا الصوت صوتاً شرعياً إسلامياً؟ المهم أن هذا الصوت كلما ارتفع، سيجد المعارضة، لأنك تدعو إلى تغيير العادات والتقاليد، وتدعو إلى مخالفة السنن الموروثة، وتدعو إلى تحريض النساء على الرجال، والمرأة ليس لها إلا كذا، ولا يجوز أن تسمع إلا كذا، ولا ينبغي أن نتكلم مع المرأة إلا بالحديث عما يجب عليها، أما ما يجب لها فكلام لا تسمعه، هكذا ستواجه مثل هذه الدعوة وهكذا يقول بعضهم. إذن الدعوة إلى الإصلاح الاجتماعي سواءً في المرأة، أو في مجالِ تربية الأطفال، أو في مجال العلاقات الاجتماعية في مجتمعات وقع فيها خطأٌ من هذا القبيل سوف تواجه بحرب ضروس لا يهدأ لها قوام. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 31 الأسئلة الجزء: 191 ¦ الصفحة: 32 الشهادة العلمية ما جدواها؟ السؤال يقول: كثيرٌ من الشباب والشابات يعتقدون أن الربح في هذه الحياة الدنيا، هي الشهادة، والعلوم التي يدركونها في الوقت الحاضر، وينسون أن هذه قد تكون خسارة؛ لأنهم يبتعدون عن العلم الشرعي والدعوة إلى الله تعالى، فهل من كلمة توجيهية؟ الجواب إذا كانت هذه العلوم التي يدرسونها علوماً مباحة، وهم يتوصلون بها إلى أمرٍ مباح؛ فلا يمكن أن نصفها بأنها خسارة، لكن إن أحسنوا فيها النية والقصد، وعمدوا إلى خدمة الأمة، وسد الفراغ والمساهمة، والمشاركة والدعوة، فهم مأجورون، وإن كان الأمر خلاف ذلك، فاستغلوا ما وهبهم الله في المعصية والإثم، فهم على ذلك آثمون مأزورون. أما العلم الشرعي: فهو أفضل العلوم وتاجها ولبها، ومن يرد الله بها خيراً يفقه بالدين، فأي خير أعظم من هذا الخير. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 33 رأس المال والربح السؤال كنت أملك عدداً من الأسهم في الشركات التالية: شركة سابك، وشركة مكة، شركة النقل لبري، وقد بعت هذه الأسهم إلى أحد مكاتب الأسهم بمبلغ يزيد حوالي سبعة أضعاف رأس مال هذه الأسهم، فبماذا تنصح أن أفعل بهذا المال؟ الجواب أنصحك أن تأخذ رأس هذا المال، ثم تعمد إلى هذا الربح فتقسمه إلى نصفين، النصف الأول تأخذه، والنصف الثاني تخرجه إلى سبل الخير وأبواب الخير. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 34 الكتب المعادية للإسلام السؤال هناك بعض الكتب والمؤلفات التي يدس فيها السم الزعاف للإسلام والمسلمين، فقمت بشراء بعضها لكي أبين ما فيها في المجتمع الذي أعيش فيه، لكني أحتفظ بها حتى أرد عليها عندما يحين الوقت، وبعض هذه المؤلفات بداخلها صورٌ، مثل الكتب الشعرية، والفكرية، فنصحني أحد الإخوة بعدم شرائها، وحجته في ذلك كيف لو شاهدها بعض الشباب غير الملتزمين معي، أرجو البيان في ذلك؟ الجواب إذا كان هدفك أن تقوم بالرد عليها، ومعرفة ما فيها، فلا حرج عليك! بل ينبغي وهذا فرض كفاية أن يوجد من المؤمنين من يرد على هذه الأشياء التي إذا عظم ضررها، وانتشرت وشاعت بين الناس، فلا حرج عليك في ذلك، ولا بأس أن تحذر من أن يطلع عليها بعض من لا يعرفون الأمر، أو قد يحدث هذا في قلوبهم ريبة. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 35 إما الحق وإما الباطل السؤال ماذا نقول للمسلم الذي يظن أن الوصول إلى الشرف والعلو، لا يكون إلا ببغض الحق وأهله باسم الوسط، وسب الله ورسوله باسم الأدب، وإعطاء الفرصة للباطل باسم المشاركة، والولاء لغير المؤمنين وأهل الحق باسم المصالح المشتركة؟ الجواب هؤلاء أنواع: منهم المسلم ولكنه ضعيف الإيمان، فهو يداري ويخاف ويجبن، ولا يستطيع أن يواجه أو يقاوم الواقع، وهذا يرجى له إن شاء الله تعالى أن يستيقظ قلبه، ويدرك ولو بعد حين، أن المسألة لا مثنوية فيها، ولا توسط، ولا يصلح إنسان وسط بين الجنة والنار، ليس هناك مرحلةٌ وسط بين الكفر والإيمان، ولا مرحلة وسط بين الحق والباطل، ولا مرحلة وسط بين الهدى والضلال، إما الجنة وإما النار، إما الهدى وإما الضلال، إما الكفر وإما الإيمان، ولهذا نعى الله تعالى عن المنافقين أنهم يريدون أن يتخذوا سبيلاً وسطاً، فيقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. وهناك فئة من هؤلاء، هم -في الحقيقية- في قلوبهم مرض الريب ومرض النفاق، ولكنهم ربما لا يبوحون به؛ فيتظاهرون للمؤمن بشيء، ويتظاهرون لغيره بشيء آخر، فإذا جاءهم المؤمنون قالوا لهم كلاماً، إذا انتصر المؤمنون قالوا: ألم نكن معكم، وإذا انتصر الآخرون وغلبوا، قالوا: ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 36 نشر الكتاب والشريط الإسلامي السؤال أنا شاب ملتزم إن شاء الله وأدرس حالياً بالثانوية، وأحب طلب العلم وتحصيله، ولكن عندما أذهب إلى المكتبة أو التسجيلات أرى كتاباً، أو شريطاً طيباً أبادر بشرائه، وكأني سأقرأه وعندما أصل إلى المنزل أضعه في دولاب الكتب والأشرطة، وربما لا أقرأ منه إلا صفحةً واحدة لا أدري لماذا؟! ويوجد بحوزتي حالياً ما يزيد على ثمانيين كتاباً، ومائة وخمسين شريطاً، بالنسبة للكتب لم أختم إلى الآن إلا مجلداً واحداً، وبالنسبة للأشرطة لم أسمع منها إلا شيئاً يسيراً فما هو الحل في نظركم؟ الجواب أولاً مجرد اقتنائك للكتاب أو الشريط مساهمة منك في نشر الكتاب، وفي نشر الشريط، وعليك أن تسعى إلى إعارتها لأهل البيت ولأقاربك ولزملائك ولجيرانك، بقدر ما تستطيع، وهذا من زكاتها، ولا أقول واجباً عليك. أمر آخر: افرض أنك ورثت هذه الكتب لأولادك ولو بعد سنين، هذا خيرٌ وهو من خير ما تورثه لهم، لكن بقينا فيك أنت! فيجب عليك أن تقرأ وتختار من الكتب ما يناسبك، أن يكون صغير الحجم، وأن يكون سهل الأسلوب ومبسط يناسب مستواك العلمي والثقافي، فلا تملَّ منه، فربما إذا قرأته شعرت بانتصار لختمك لهذا الكتاب، فتتطلع نفسك إلى قراءة كتاب آخر، ولا بأس أن تستعين بآخر يحدد لك أو يختار لك الكتب التي يمكن أن تبدأ بها. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 37 تقييم الأمور بميزانٍ دنيوي السؤال يقول لقد انقلبت الموازين عند كثيرٍ من الناس، حتى عند من يحسبون على الخير، أو على الأقل عند بعض المصلين، فتراهم يقيمون الأمور بميزان دنيوي بحت، فعندما تكلمهم في موضوع -مثلاً- توظيف غير المسلمين مثل الهندوس، والنصارى، أو غيرهم يقول: إن المسلم لا ينتج مثل ذلك الهندوسي أو النصراني، وبعضهم لا يضع للدين أي اعتبار، ويقدم العمل على الدين؟ الجواب نعم هذه أحد الموازين، الله تعالى يقول: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] فلا يعجبنك من هذا الكافر، أو المشرك قوة عمله وإنجازه وخبرته، لماذا؟ لأن كثيرٌ منهم إنما كسب هذه الخبرة، وهذا العمل وهذه الدقة حينما وظفه المسلمون، خذ على سبيل المثال "التمريض" يقول لي بعض الإخوة الذين ذهبوا إلى هناك، يقول: فعلاً وجدنا أن كثيراً من المسلمين ليس لديهم خبرةٌ سابقة، لماذا؟ لأن الذين يذهبون إلى هناك يأتون بغير المسلمين فيكسبون الخبرة، ويأخذون المال، فإذا أعلن عن طلب ممرضين جاءوا وفي أيديهم شهادة سابقة عن خبرة كسبوها في بلادنا،. إذاً: اطلب المسلم ولا مانع أن تعمل له دورات تدريبية ترفع من مستوى أدائه، ثم هو يكسب الخبرة من خلال العمل، أما إذا أهنته ولم تعطه دوراً ولا مجالاً ولا مكاناً، أو استبعدته ولم تأت به أصلاًً، فمن أين يستطيع المسلم أن يكسب الخبرة؛ خاصةً إذا تصورنا أن المسلمين في كثيرٍ من البلاد ولو كانوا أكثرية؛ فإن الحكومات في بلادهم تحول بين المسلم والوظيفة، وبينه وبين التعليم، وتجعل التعليم حكراً على الطبقة الموافقة للحكومة، نصارى أو بوذيين أو ما أشبه ذلك. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 38 علاقات الشباب مع بعضهم السؤال يقول: كيف تكون علاقات الشباب بعضهم مع بعض، من حيث أُخوتهم، ومحبتهم في الله وكيف يكون مقياس الربح والخسارة؟ الجواب هذا بينه الله تعالى، فقال: {إِلاَّ الْذِيْنَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أنت وحدك لا تكفي، لأنك لا توصي نفسك بالصبر، أو غيره، أو بالحق إلا أن يكون معك غيرك، فلا بد من التعاون على البر والتقوى، وأن تضع يدك في يدي، تأمرني بالمعروف وآمرك، شرط بشرط، وتنصحني وأنصحك، ليست علاقة مجاملة، ولا تصنع ولا مؤانسة فقط، وإن كان هذا كله مطلوباً، والإنسان لا بد له في بيداء الحياة؛ ممن يخفف عنه من وقع الهجير، ولفح السعير؛ ولكن مع ذلك كله لابد من الدعوة، ولابد من إنكار المنكر، ويجب أن تكون العلاقة معتدلة، فلا تغلو إلى عواطف مشبوبة، وصلةٍ محمومة، وتعلقٍ دائم، ربما خرج عن كونه محبةً في الله إلى كونه نوعاً من التعلق المذموم. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 39 أسباب الفوز في رمضان السؤال شهر رمضان على الأبواب؛ فهلا ذكرتنا بأسباب الفوز والربح بنفحات هذا الشهر؟ وهل الدعاء لإخواننا بالنصر من الله تعالى لهم يعذرنا عند الله ويكفي؟ الجواب أما نفحات هذا الشهر فهو بابٌ يطول، ولابد أن الإخوة في مكتب الدعوة سوف ينظمون محاضرات، لتوعية الإخوة بهذا الأمر، وهو على كل حال من مواسم الخيرات، وأسباب الفرص التي ينبغي للإنسان أن لا يفرط فيها، فما ظنك لو كان الواحد منا -ونسأل الله أن يكون كذلك- ممن قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه: {رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له} إنها مصيبة عظمى! من لم يغفر له في رمضان فمتى يغفر له؟!! ومن لم يتب في هذا الشهر فمتى يتوب؟! أما مسألة الدعاء للإخوان المضطهدين، فهي أحد الواجبات التي ينبغي على كل مستطيع أن يفعلها، بل ينبغي أن توصي العجائز في بيوتهن، وكبار السن، والأطفال الصغار الذين لم يتلطخوا بالمعاصي بعد، وأهل التقوى والاستقامة، وأهل الصلاح والدعاة، نوصيهم بالدعوة الصالحة، كذلك المرضى والمعوقين، والفقراء، وأهل المال الحلال الذين لا يأكلون الحرام، نوصيهم بالدعاء للمسلمين في كل مكان. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 40 فكرة عن حفظ السنة النبوية السؤال هلا طرحت فكرة عن موضوع حفظ السنة النبوية بجدة والحث عليها؟ الجواب هذه فكرة طبقت سابقاً في القصيم، ولعل أشرطتها وأخبارها وصلتكم، وفيها منشورٌ كتب مقدمته سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، وهناك أيضاً ملحقٌ آخر يقوم بعض المشايخ بإعداده، وسوف يطبع منه إن شاء الله كمياتٌ كبيرة، ونوصل به إلى الإخوة وسنبعث إلى مكتب الدعوة بشيءٍ من ذلك لتعليم طريقة، أو شرح طريقة مقترحة لحفظ السنة النبوية. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 41 أحوال المسلمين والطريق إلى معرفتها السؤال يقول: كيف يمكن للفرد منا معرفة الأخبار الموثوقة لأحوال المسلمين في العالم، والإعلام لا يصدق في هذا؟ الجواب لا شك أنّ هذه مشكلة ومأساة، لكن أين الإعلاميون من الإجابة عن هذا السؤال؟ ليس هناك جهةٌ قادرة إعلامية تصل إلى كل المسلمين وهي توافي بالأخبار الدقيقة أولاً بأول، إنما هناك بعض المجلات التي تعتبر إسلامية، ونافعة، وينبغي للإنسان أن يستفيد منها كمجلة المجتمع أو الإصلاح، أو غيرهما من المجلات التي تتابع قضايا المسلمين في الجملة. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 42 تحقيق المصلحة الشرعية السؤال يقول: هل مقياس الربح والخسارة مرتبط بالنتائج، أم أنه مرتبط بالامتثال لأوامر الله تعالى؟ لأن بعض الإخوة يقوم بإنكار المنكر على رئيسه، أو ربما على رجلٍ صاحب منصبٍ وجاه، ثم يلحقه ضرر على إثر ذلك، ويفعل هذا محتسباً لله تعالى؛ فيأتي كثيرٌ من أهل الخير ويلقون باللوم عليه، ويقولون: إن الصحوة تخسر بتصرفاتٍ كهذه، فما هو الضابط في هذه المسألة؟ الجواب الضابط في هذه المسألة "تحقيق المصلحة الشرعية" فإن كان هذا الإنكار لا يضر الإنسان شيئاً أو يضره، لكن لا يضر غيره، فعليه أن ينكر ما دام محتسباً، وهو على خيرٍ وإلى خير، وينكر بالأسلوب الحسن والكلمة الطيبة والخلق الفاضل، ولا ينتصر لنفسه فإذا غضب عليه هذا الرئيس، أو سبه، أو شتمه أو طرده؛ فعليه أن يقابل ذلك كله بهدوء الأعصاب، وهدوء البال، والدعوة له بالهداية، والصبر عليه، ولا ييأس منه أبداً، ولو لقي في سبيل ذلك ما لقيه، فإنه يحتسب ذلك في ذات الله تعالى، أما إن كان هذا العمل الذي قام به يترتب عليه أضرارٌ أخرى عظيمةٌ كمنع الدعوة مثلاً، والحيلولة بينها، أو طرد الأخيار كلهم، وأضرار عظيمة ملموسة متحققة، أو شبه متحققة، فنعم، لكن هذا في الواقع بعيد، فقد يصيب الضرر هذا الإنسان، لكن من البعيد أن يصيب الضرر غيره؛ بسبب أمرٍ بمعروفٍ قام به هو، ملتزماً بالضوابط الشرعية. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 43 دور المرأة تجاه قضايا الأمة السؤال يقول لقد اقتصر عمل المرأة تجاه الأمة، وما يحدث منها هو الدعاء والتبرعات، ففي نظركم ماذا يمكن للمرأة أن تعمل غير ذلك؟ الجواب لا للمرأة دورٌ عظيم يمكن أن تعمله، فهذا الجيل الذي يعيش اليوم، ويتعاطف مع قضايا المسلمين، ويأخذ منها ويعطي، من الذي رباه؟ لقد رباه -في الغالب- أمهاتٌ فاضلات دينات، وإن كان يوجد فيهن الجهل، وكان غالب بلاد المسلمين لا تتعاطف مع بعضها، ولا يسمع بعضهم بمصاب الآخرين، ولم يكن هناكَ تعليمٌ ولا تفقيه بالدين، ولا تربية على العقيدة الصحيحة، فحين نظفر بأمهاتٍ في البيوت، تحمل على عاتقها إعداد أولادها، ليس إعدادهم ليكونوا دنيويين فقط، أو يظفروا بأعلى المناصب والوظائف، بل إعدادهم ليكون عملهم ووظيفتهم وتخصصهم وقفاً لله تعالى، ولخدمة دينه، وأن يبذل الواحد منهم حتى روحه إذا لزم الأمر، فإن هذه الأم تكون قدمت للأمةِ أعظم ثروة الإنسان، الذي به تصلح الأمور، وبه تقوم الدعوة وبه يعلن صوت الجهاد، وعلى أكتافه ينتصر الإسلام، قدمت هذا العملة النادرة، الإنسان الذي تربى في بيتٍ صالح. أمر آخر: حماية ظهر زوجها، ومساعدته، وتوجيهه، وتثبيته، إن كان داعيةً تقول له: سر فإن معك امرأةً ستقوم مقامك، وتحفظه في نفسها وفي ماله، وفي ولده وفي بيته، وفي سمعته وفي عرضه، وتكون له خير معين، كما كانت خديجة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، [[كلا والله لا يخزيك الله أبداً! إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق]] ثم دور الأخت في الدعوة إلى الله مع بنات جنسها في: توزيع الكتاب، وتوزيع الشريط، وإقامة درس تحفيظ القرآن، ودرسٌ خيري، ودرس علمي، ودرسٌ في الفقه، وفي الحديث، وفي التفسير، وفي العلم الشرعي، ودعوة نساء الحي، والتأثير في المدرسة إن كانت مُدَرسة أو موجهة، فهي مسئولةٌ كالرجل. الجزء: 191 ¦ الصفحة: 44 مفاتيح الخير تحتوي هذه المادة على مفاتيح الخير ومغاليق الشر، وضرب أمثلة من الواقع من الذين كانوا كذلك؛ وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام، وعبد الله بن المبارك، وابن تيمية، وابن باز، ثم تكلم عن الأعمال التي هي مفاتيح الخير، وذكر بعض أخبار البوسنة والهرسك ثم أجاب على الأسئلة. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 1 الراحل الشيخ حمود التويجري إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] . اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته وأتباعه إلى يوم الدين. أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته سلاماً عاماً لكم أنتم أيها الأحبة الذين مشت أقدامكم إلى هذا المسجد الذي هو بيت من بيوت الله تعالى، وأسأل الله عز وجل بأسمائه وصفاته ألا تمشي أقدامنا ولا أقدامكم إلى النار. أيها الأحبة حديثي إليكم في هذه الليلة هو بعنوان "مفاتيح الخير"، وقبل أن أدخل في هذا الحديث, فإنني أجد نفسي محتاجاً إلى كلمة أقولها وقد رزئت الأمة في هذا اليوم بفقد عالم من علمائها، وفذ من أفذاذها، ورجل من رجالات العلم والدعوة والإصلاح فيها، ذلكم هو سماحة شيخنا ووالدنا الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله تعالى, لقد واريناه التراب في هذا اليوم، في وسط جو من الحزن عظيم لدى كل من عرف الشيخ أو أحبه, أو تتلمذ على يديه أو سمع به, فإن الرجل رحمه الله تعالى ممن جعل الله تعالى له ذكراً حسناً بين الناس, وتلك عاجل بشرى المؤمن. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 2 مواقف تتكرر أيها الأحبة: إن مثل هذه المواقف هي مواقف تتكرر يومياً، ففي كل يوم بل في كل ساعة نحن نفقد قريباً أو حبيباً أو جاراً أو معروفاً أو غير ذلك, ولكن العبرة هي بماذا خلف الإنسان بعد موته، فإن الناس يتفاوتون بذلك تفاوتاً عظيماً وما بالك بإنسان يكون فقده وتكون رزيته على الأمة كلها, ليس على بيت، ولا على بلد، ولا على حي بل على الأمة كلها. لعمرك ما الرزية فقد مالٍ ولا شاة تموت ولا بعير ولكن الرزية فقد فذ يموت بموته خلق كثير إن العالم يحيي الله به قلوب العباد بالعلم والذكر والهداية ونور الوحي وغير ذلك. يا رب حي رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا فالعلماء أحياء وإن وسدوا في قبورهم, وإن وروا التراب, وإن فقدت شخوصهم, إلا أنهم أحياء بعلمهم وبتراثهم، وبتلاميذهم، بجهودهم، وبآرائهم، وباجتهاداتهم، وبأعمالهم التي كلما ذكرت ذكروا, فأثنى الناس عليهم خيراً, وترحموا عليهم، بل وكرهوا البقاء بعدهم. عفاءٌ على أرض تقيم بغيرها فليس بها للصالحين معرج لمن تستجد الأرض بعدك زينة فتصبح في أثوابها تتبهرج وليس البكا أن تسفح العين إنما أحر البكائين البكاء المولج فرحم الله فقيدنا رحمة واسعة, اللهم ارفع درجته في المهديين, واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين, اللهم افسح له في قبره ونور له فيه, اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة, اللهم اجعل هذه الليلة خير ليلة تمر عليه منذ أن ولدته أمه, اللهم اجعلها خير ليلة تمر عليه, اللهم عوض المسلمين خيراً مما فقدوا. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 3 الفأل الحسن ولعل من الفأل الحسن -إن شاء الله تعالى- أن أقول لكم: إنني زرت سماحة الشيخ رحمه الله في مرضه مرات, وآخر مرة زرته فيها قبل أيام, فحدثني فيها رحمه الله تعالى رحمة واسعة بالحديث المسلسل بالأولية وهو قوله عليه الصلاة والسلام: {الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء} , وقد حدثني بهذا الحديث من روايته مشافهة عن الشيخين الفاضلين رحمهما الله تعالى, الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العنقري والشيخ سليمان بن عبد الرحمن الحمدان رحمهم الله تعالى, فقد روى الشيخ هذا الحديث عنهما بالإسناد إلى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي قابوس مولى عبد الله بن عمرو بن العاص عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, ثم إنه أجازني رحمه الله بسائر مروياته وكتبه, فلعل الله أن يتغمده برحمته، ولعل الله أن يجعله من المرحومين, اللهم ارحمه رحمة واسعة يا حي يا قيوم, اللهم ارفع درجاته اللهم تجاوز عن سيئاته، اللهم احفظ البقية الباقية من علماء المسلمين. أما بعد: فأمامي في هذا العنوان "مفاتيح الخير" ويندرج تحته عدة عناوين: الجزء: 192 ¦ الصفحة: 4 لماذا الحديث عن مفاتيح الخير أولها لماذا نقف هنا؟ لماذا نتحدث عن مفاتيح الخير؟ هذا أحد الموضوعات التي باتت الحاجة إليها ملحة وماسة، مع تنامي الوعي الشرعي لدى مختلف الفئات في هذه الأمة المباركة. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 5 دعوة لمن يركب في قافلة الصحوة أما أولئك القاعدون المترددون فقد آن لهم أن يتوبوا إلى الله تعالى توبة صادقة نصوحاً، يغسلون بها وضر الذنب والمعصية، توبة من وصمة القعود خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقعود خلاف المؤمنين، وأن يكفروا بعمل صالح رشيد فإن الحسنات يذهبن السيئات كما قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ومازالت الكلمات للعلماء والدعاة والخطب والمحاضرات تدندن حول مطلب المشاركة. يا عباد الله: إن الشريعة ما نزلت لطائفة، ولا خصت بها فئة، بل نزلت لكل الناس قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} [مريم:94] {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] . فيا عباد الله إلى متى نقصر مهمتنا على أن نقول: هذا أصاب وهذا أخطأ، دون أن نخمل أنفسنا مسئولية تعزيز الصواب ودعمه وتأييده، بل والتضحية في سبيله، أو مهمة تصحيح الخطأ ورده بالأسلوب المناسب، إنه من أجل هذا وذاك كان هذا العنوان وكانت هذه المحاضرة. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 6 من فوائد الصحوة الإسلامية لقد أصبحت الصحوة الإسلامية ذات وجود عميق عريض مؤثر في كل مجال, وشهد الناس عودة إلى الدين وإلى التعبد وإلى العلم الشرعي, وإلى السعي إلى خدمة هذا الدين، كلٌ في موقعه وكلٌ بحسب طاقته. إننا نعلم علم اليقين أن في عامة الناس وخاصتهم، وفي الطلاب والأساتذة، وفي الرجال والنساء، وفي التجار وغير التجار، وفي المدنيين والعسكريين, بل وفي رجال الأمن من الشرط وغيرها، وسائر الأجهزة الحكومية وغير الحكومية أن في هؤلاء أعداداً من الناس مخلصةً لدينها، حريصةً على حمايتها, وحماية علمائها, بل من هؤلاء من يتشبه بموسى عليه الصلاة والسلام الذي أعلنها صريحة مدوية بكلمة الحق. ومنهم من لا يملك ذلك ولكنه يتشبه بمؤمن آل فرعون فيستغل موقعه للذب عن المؤمنين، ونفي قالة السوء عنهم، والتخذيل لعدوهم. ومنهم من يتشبه بأصحاب الفلك في المحاماة عن يونس بن متّى عليه الصلاة والسلام, ومنهم من يتشبه بذلك الرجل الذي جاء من أقصى المدينة {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:21] . ومنهم من يعزز الدعوة ويبين محاسنها وفضائل أعمالها. ومنهم من يتشبه بذلك الرجل الصالح الذي استأجر موسى ثماني حجج قال له: فإن أتممت عشراً فمن عندك, فيبحث عن الرجل القوي الأمين الدِّين بعمله أو تجارته ليغني الله به فقيراً أو يعين به محتاجاً أو يهيئ له سبيل تحصيل خبرة لطالبها. ومنهم من يتشبه بالحواريين إذا قالوا لعيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام حين قال كما حكى الله عنه: {قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [آل عمران:52] . ومنهم من يتشبه بـ أبي بكر الصديق رضي الله عنه إذ سمع دعوة الحق لأول وهلة فتقبلتها نفسه، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صدقت، وقالت له قريش: كذبت, فسمي من يومئذٍ بـ الصديق قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] . ومنهم من يتشبه بـ عمر الذي ما إن عرف الحق حتى أعلنها مدوية في شوارع مكة, ومنهم ومنهم ومنهم من يقلب كفيه، وينظر في عطفيه، ويقدم رِجلاًَ ويؤخر أخرى, ويقول: عسى ولعل وليت. ليت وهل تنفع شيئاً ليت ليت شباباً بوع فاشتريتُ ولهؤلاء الذين قدموا وعملوا وصبروا وجاهدوا واقتدوا بالصالحين, ولأولئك الذين ما زالوا يترددون ويرقبون الميدان، لهؤلاء وأولئك لا بد من حديث. فأما الحديث عن الأولين فهو أنه لا يكفي منهم مشاركة مجملة وعطاء قليل, بل ينبغي أن يفجروا ينابيع الخير في نفوسهم، وأن يحسنوا كما أحسن الله إليهم, فمن أعطى لدينه ودعوته في مجال واحد, فلينظر نطاقاً آخر يعمل فيه, فإن المؤمن لا يشبع من خير أبداً حتى يكون منتهاه الجنة. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 7 المباركون أينما كانوا كنت أبحث في القرآن الكريم عن معنى من المعاني يثني الله تعالى فيه على أولئك الأشخاص الذين ينفعون في كل ميدان, ويخدمون في كل مجال, فكل من دعاهم إلى خير أجابوه, وكل من سألهم شيئاً مما يستطيعون أعطوه مما هو مباح في شريعة الله تعالى, فهم يمنحون العلم للطالب, والمال للسائل, والجاه للمحتاج, والرأي والمشورة للمستشير والمستخرج, ولا يترددون أبداً في تحقيق خدمة الناس في كل ما يملكون, حتى يصبح هذا الأمر جزءاً من شخصياتهم ومن تكوينهم، يُعْرَفُونَ به ويُعْرَفُ بهم, ولا يجدون أنسهم وراحة بالهم وقرة عيونهم وسرورهم إلا بذلك, كنت أبحث عن هذا المعنى في القرآن الكريم, حتى لفت نظري أحد الإخوة من طلبة العلم إلى قول الله عز وجل على لسان عيسى عليه الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم:30] {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:31] إلى آخر الآيات. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 8 العلماء والدعاة المباركون وهكذا العلماء المباركون والدعاة المباركون في هذه الأمة يجب أن يكونوا كالسابقين ينفعون بعلمهم وهديهم وميراثهم للأمة كلها, ويمهدون لظهور آخرين يحملون الهدي والعلم من بعدهم, ويحرصون على إيصال الخير للناس في سائر أمور دينهم وسائر أمور دنياهم على حد سواء, فهم لا يرون الاقتصار على النفع الديني حتى يضيفوا إليه النفع الدنيوي ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. إنه إرث من إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ينبغي أن يوجد في هذه الأمة من يقوم به وينشره ويحييه. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 9 عيسى عليه السلام مباركاً أينما كان إذاً: عيسى عليه السلام ذكر أن الله تعالى منَّ عليه بأن جعله مباركاً أينما كان, ولذلك جاء في حديث خرجه الإسماعيلي وابن مردويه وابن النجار في تاريخه وغيرهم, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رفع هذا الحديث نظر, قال: { {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْت ُ)) [مريم:31] , قال: جعلني نفاعاً للناس أينما اتجهت} وذكر هذا المعنى وهذا الحديث الطبري في تفسيره, وابن كثير عن مجاهد , وجاءت رواية عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً: {أن عيسى كان معلماً مؤدباً حيثما توجه} , وفي رواية عن ابن مسعود أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {معلماً ومؤدباً أينما كنت} . إذاً: هذا هو المعنى الذي نبحث عنه، ففرحت به وكأنما وقعت ووقفت على كنزٍ ثمين, ثم وجدت في كلام الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى هذا المعنى حول تفسير هذه الآية. إن الذي يتأمل سيرة عيسى عليه الصلاة والسلام يعرف شيئاً من قوله ذاك, فقد كان عليه الصلاة والسلام يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى بإذن الله, وينبئ الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم, وكان يحل لهم بعض الذي حرم عليهم، وكان يصدق ما بين يديه من التوراة ويبشر بما يأتي بعده من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته. ومن أبرز الصفات في شخصية عيسى عليه الصلاة والسلام ما يلي: أولاً: أنه صلة للأنبياء السابقين وبشرى للنبي صلى الله عليه وسلم, فهو حلقة في سلسلة متصلة أولها آدم عليه السلام, فقد كان نبياً معلماً مكلماً, ثم نوح، وآخرها وخاتمها محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] . ثانياً: أن عيسى عليه الصلاة والسلام كان نفعه عاماً بأمور الدين والدنيا, فمن نفعه في أمور الدنيا أنه يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى، ويشفي الله تعالى به المريض بإذنه عز وجل, ويخبرهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم وهذا من علم الغيب الذي لا يعمله إلا الله أو من أطلع عليه من خلقه {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن:26-27] . أما الأمور الدينية فمثل ذلك: الدعوة إلى العقيدة وتصحيحها، وإخراج بني إسرائيل من رق المادية وعبودية الشهوة، وعبودية العجل إلى العبودية لله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد, ومثله أنه جاء محيياً ومجدداً لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، فكان نفع عيسى نفعاً دينياً ونفعاً دنيوياً. ثالثاً: أن عيسى عليه السلام كان مشهوراً باللطف والسماحة، والبعد عن اللجاج والمساخطة والمغاضبة، وكان عفاً في قوله ولسانه وحديثه, ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن عيسى عليه السلام رأى رجلاً يسرق, فقال له: سرقت؟ قال: لا والله الذي لا إله غيره ما سرقت, فقال عيسى عليه الصلاة والسلام: آمنت بالله وكذبت عيني} . ودعوته عليه السلام إلى حسن الخُلُقِ والملاينة والملاطفة والحلم على الناس والصبر عليهم أمر مستفيض، وإن كان يوجد في التوراة المحرفة من ذلك الشيء الكثير, إلا أنه دخله كما دخل غيره التحريف والتبديل. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 10 نبي هذه الأمة صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان إن كل فضيلة للأنبياء السابقين فإن لإمامهم سيدنا وإمامنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم منها أوفر الحظ والنصيب, ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم -أيضاً- مباركاً أينما كان وقد أفاض الله تعالى عليه من جليل الأخلاق وكريم الطباع وعظيم الجود والكرم والسخاء ما لا يوجد في غيره من بني الإنسان أبداً. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 11 كرمه في علمه صلى الله عليه وسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم كريماً في علمه, قد بذل علمه للناس كلهم، فأعطاهم وعلمهم حتى تخرج على يديه العلماء والجهابذة، والحفاظ والأساتذة الذين كانوا أئمة في علوم الدنيا وفي علوم الدين, وتخرج على يديه أولئك الذين كانوا رعاة الغنم وكانوا غارقين في صحرائهم, فتحولوا إلى أئمة يهدون بأمر الله عز وجل, لما تتلمذوا في هذه الجامعة الإسلامية المحمدية، ونهلوا من معين النبي المختار عليه صلوات الله تعالى وسلامه. فتخرجوا أساتذة وعلماء ومجددين، وحملة علم وحفاظ شريعة، وكانوا آية من آيات الله تعالى في ذلك كله, ويكفي أن يعلم الإنسان أنه لم يكن على ظهر الأرض جيل منذ خلق الله تعالى الإنسان وإلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها, لم يكن على ظهر الأرض جيل مثل ذلك الجيل, من حيث العلوم، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه: {خير القرون قرني} , وكل قرن يحاول أن يقتبس من علمهم ويأخذ من هديهم ويسير على طريقهم, ولكنه يظل بعيداً بعيداً عن تلك المنارة الرفيعة، وعن تلك القمة السامقة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يبذل علمه لكل أحد, فلا يحتقر أحداً ولا يزدري صغيراً، ولا يستهين بإنسان عبداً أو حراً، شريفاً أو وضيعاً، أو عربياً أو أجنبياً، عالماً أو جاهلاً، كبير السن أو صغير السن, قديم الإسلام أو حديث الإسلام, كان يعطيهم العلم صلى الله عليه وسلم، بل ويعطيهم أكثر مما سألوا، ويصبر عليهم، ويتلطف معهم حتى حملوا علمه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 12 كرمه في عطائه صلى الله عليه وسلم وكان كريماً في عطائه بالمال صلى الله عليه وسلم, فكان يعطي غنماً بين جبلين عطاء من لا يخشى الفقر، وكان صلى الله عليه وسلم لا يُسأَلُ شيئاً إلا أعطاه, حتى إن الإنسان ربما سأله ثوبه الذي على جلده ولا يملك غيره فيدخل صلى الله عليه وسلم بيته ويخلعه ويبعث به إلى فلان الذي سأله. وكان صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس: {كان أجود الناس, وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، وكان أجود بالخير من الريح المرسلة} , أعطى رجلاً مائة من الإبل، وأعطى أكثر من ذلك، وأعطى غنماً بين جبلين, وما جاءه أحد إلا أعطاه. تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد أضحت لائه نعم الجزء: 192 ¦ الصفحة: 13 كرمه في جاهه صلى الله عليه وسلم وكان صلى الله عليه وسلم كريماً في جاهه, يبذل جاهه وشفاعته لكل أحد، وفي كل أمر دق أو جل, عظم أو صغر, حتى إنه صلى الله عليه وسلم شفع لرجل لما رفضته زوجته وهي بريرة وكان مغيث يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زوجته التي طلبت الفسخ منه, فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: {يا بريرة لماذا لا تعودين إلى مغيث؟ فتقول: يا رسول الله! أتأمرني؟ قال: لا، إنما أنا شافع, قالت: لا حاجة لي به} وشفع صلى الله عليه وسلم وتوسط في أمور كثيرة, وبذل جاهه ومكانته في مسائل عديدة حتى إنه كان يشفع للعبد عند سادته أن يرفقوا به، أو أن يضعوا من خراجه، أو لا يكثروا عليه العمل، أو يحسنوا معاملته, بل بلغ الأمر أن الحيوان شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يلقاه من سوء المعاملة. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 14 كرمه في نصحه صلى الله عليه وسلم وكان كريماً صلى الله عليه وسلم في نصحهِ؛ فإنه لا يبخل بالنصح على أحدٍ أبداً, وينصح لكل أحد, ما رأى منكراً قط إلا أنكره, ولا رأى معروفاً متروكاً إلا أمره به, ولا وجد إنساناً إلا أحسن إليه، إما بماله أو بقوله أو بفعله أو بخلقه أو بدعوته، أو بفتيا أو بنصيحة أو بمشورة، أو بغير ذلك مما كان يستطيعه عليه الصلاة والسلام. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 15 كرمه في وقته صلى الله عليه وسلم وكان كريماً في وقته صلى الله عليه وسلم, فإنه ما بلغ الستين من عمره حتى كان معظم صلاته جالساً في الليل في النوافل, وذلك بعد أن حطمه الناس, فإن معظم وقت النبي صلى الله عليه وسلم كان مع الناس, يذهب معهم ويأتي معهم، ويسافر معهم، ويحج معهم، ويجاهد معهم، ويعتمر معهم، وهو معهم في المسجد، ومعهم في السوق، ومعهم في المقبرة، ومعهم في كل مكان، في الحل والترحال والظعن، والسلم والحرب، والخوف والأمن وفي كل حال، كان صلى الله عليه وسلم يجلس مع هؤلاء الناس ويبذل لهم من وقته ما يستطيع. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 16 كرمه بنفسه صلى الله عليه وسلم وكان من كرمه وجوده صلى الله عليه وسلم أنه كان كريماً بنفسه, فكان شجاعاً لا يَهَابْ, ربما خرج أهل المدينة على سماع حسةٍ أو صوت خائفين وجلين, فعندما يشرفوا على مشارف المدينة إذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل من جهة الصوت على فرس قال: {لن تراعوا لن تراعوا ما رأينا من شيء وإن وجدنا لبحراً} أي: ليس هناك من خوف. وكان صلى الله عليه وسلم يخوض المنايا ولا يهاب ولا يبالي, ففي معركة حنين فر أصحابه -صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم- من حوله وبقي النبي صلى الله عليه وسلم ثابتاً ثبوت الجبال الرواسي لا يتراجع، وهو يقول بصوت معلن: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} نعم! رجل مستهدف تريده قريش وهوازن؟ وغيرهم من فنون المشركين يريدون أن يقتلوه صلى الله عليه وسلم ويبحثون عنه, يبحثون عن موقع القيادة أين هو؟ فما استخفى صلى الله عليه وسلم ولا استتر ولا اختفى, وإنما أعلنها بصوت عالٍ: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب} , ثم أمر العباس أن ينادي أصحاب الشجرة، فانجفلوا إليه صلى الله عليه وسلم وحاموا دونه حتى انتصروا. فكان صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان، والله تبارك وتعالى يقول لنبيه ومصطفاه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] , ليس للعرب خاصة، ولا لجنس ولا لون، ولا لفئة ولا لأمة وإنما للعالمين, الذين كانوا في عصره والذين جاءوا بعد عصره إلى قيام الساعة, من العرب والعجم، قال الله تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة:3] . فكان النبي صلى الله عليه وسلم مباركاً أينما كان, الخير معه، والنور في صدره, والبركة في يده, ولهذا أحبه الناس, وتحول أعداؤه إلى أصدقاء {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] . ودانت الجزيرة العربية للإسلام، وتربى هؤلاء الرجال الأفذاذ على مثل ذلك الأستاذ الكبير العظيم صلى الله عليه وسلم. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 17 الرجل المبارك عبد الله بن المبارك ميراث النبوة عند ابن المبارك , إنني لا أريد أن أستعرض لكم الآن أسماء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وماذا عملوا؟ فإن مجرد ذكر الأسماء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة بن عبيد الله والزبير وسائر المبشرين بالجنة وغيرهم, إن مجرد ذكر الأسماء يدعو إلى الأذهان كثيراً من الأعمال الجليلة، والصفات النبيلة، والجهاد الذي بذلوا, والمال الذي أخرجوا, والصبر الذي صبروا, والخُلُق الذي تعلموا وعلموا. ولكنني أريد أن أنتقل نقلة بعيدةً شيئاً ما في التاريخ, إلى إمام من الأئمة الذين تلقوا بالإسناد المتصل البركة من رسول الله صلى الله عليه وسلم, فلعل من المستطرف المستظرف الإشارة إلى إمام مبارك من رجالات هذه الأمة، وهو من المباركين أينما كانوا, ولك أن تحرز وتحدث نفسك من هو هذا الإمام؟ هو المحدث الثقة الحجة، حتى كان يكثر الجلوس في بيته في دراسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: ألا تستوحش؟! قال: كيف أستوحش وأنا أعيش مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ وروى عنه المئات من الأئمة, وروى هو عن المئات, وكان إماماً ثقة ثبتاً حجةً حافظاً لا يشق له غبار, حتى لو قيل لك: إن هذه فقط هي صفته، لقلت كفى بهذا فخراً وكفى بهذا مدحاً. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 18 بركة شعر ابن المبارك كيف إذا انتقلت وعرفت أنه كان هو الشاعر الجزل الذي سخر شعره لخدمة الدين والدعوة والذب عن الحياض, فها هو يخاطب بعض الرواة الذين دخلوا على السلطان, فخشي عليهم من الفتنة يقول: يا جاعل العلم له بازياً يصطاد أموال المساكين احتلت للدنيا ولذاتها بحيلة تذهب بالدين أين رواياتك فيما مضى بترك أبواب السلاطين إلى آخر القصيدة ويقول مخاطباً عابداً من العباد ترك الجهاد وتفرغ للعبادة والصلاة في الحرم المكي فيخاطبه: يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب الجزء: 192 ¦ الصفحة: 19 بركة كرم ابن المبارك فإذا تصورت هذا قلت هذا يكفيه أن يكون ذلك الشاعر الفحل المحنك, لكن كيف إذا عرفت أنه أضاف إلى هذا أنه كان الغني السمح الجواد المفضال الذي يكفي أن تعرف قصة واحدة من قصص كرمه وجوده, كان يحج بأهل مرو وهي بلدته, فيجمع نفقاتهم كلها ويجعلها في صندوق ويقفل عليها, ثم يكتري لهم ويخرج بهم من مرو إلى بغداد, فلا يزال ينفق عليهم ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلوى، ويلبسهم أحسن اللباس, ثم يخرج بهم من بغداد بأحسن زي وشكل وهيئة, وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقول لكل واحد منهم: ماذا أمرك أهلك وماذا أمرك أولادك أن تشتري؟ فيقول: أمرني أشتري كذا وكذا وكذا , فيذهب ويشتري لهم كل حاجاتهم, ثم يخرج بهم إلى مكة فإذا قضوا حجهم, قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من مكة ومتاعها؟ فيشتري لهم ما أرادوا ثم يخرج بهم من مكة, فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو, فيجصص بعدُ بيوتهم -أي: يعيدها ويرممها ويزينها- وأبوابهم, فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة عظيمة, وكسا كل واحد منهم, فإذا أكلوا وسروا ولبسوا دعا بالصندوق وفتحه وأعطى كل واحد منهم الصرة التي فيها ماله وكان عليها اسمه. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 20 بركة حافظية ابن المبارك فتظن أنه يكفي أنه جواد من الأجواد السمحاء الذين يُكتب ذكرهم في التاريخ. لكنه أيضاً هو الحافظ الذي ينظر في الكتاب مرة واحدة، فما اشتهاه وأعجبه من هذا الكتاب وقع في قلبه وعلق به فلا ينساه أبداً, ويحدث به وكأنه يقرأه من الكتاب. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 21 بركة زهد ابن المبارك وهو أيضاً الزاهد التقي النقي الذي لما قرء عليه كتاب الرقائق كان يبكي من خشية الله تعالى, حتى كأنه كما يقول ابن معين: [[ثور يخور من شدة البكاء, ولا يستطيع أحد أن يسأله, فإن سأله أحد عن شيء دفعه وهو على مثل هذه الحال]] . فإذا رأيته وقرأت قصصه في هذا قلت يكفي أن يكون هذا هو الزاهد الذي لا يقاس إليه زهد إبراهيم بن أدهم أو غيره. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 22 بركة شجاعة ابن المبارك فكيف إذا عرفت أنه كان شجاعاً مقاتلاً محارباً في سبيل الله؟ برز له رجلاً من الروم, فقال: من يقاتل؟ فخرج رجل من المسلمين فقتله الرومي نصفين, فخرج آخر ففعل به مثل ذلك، وثالث، ورابع، حتى فزع المسلمون من هذا الرجل الشجاع أشد الفزع! فخرج إليه رجل ملثم فطعنه وقتله فازدحم الناس عليه وكان ملثماً فجرّ أحدهم لثام وجهه فنظر فإذا هو عبد الله بن المبارك. فتعجب عبد الله بن المبارك وضاق بذلك ذرعاً؛ لماذا تكشفون سري؟ ثم قال لمن جرّ لثامه: حتى أنت يا أبا عمر تشنع علينا تفضحنا عند الناس بمثل هذه الأعمال؟ إنما فعلناها لله عز وجل. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 23 ابن المبارك مستجاب الدعوة وكان هذا الرجل مستجاب الدعوة، حتى إنه مر من عند رجل أعمى, فقال له الرجل الأعمى: أسألك بالله أن تدعو الله لي أن يرد عليّ بصري, فقام عبد الله بن المبارك ودعا الله تعالى, فرد عليه بصره, يقول الراوي: وأنا أنظر. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 24 ابن المبارك صادع بالحق وكان الرجل قوالاً بالحق كما قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمته, سواء في شأن العلماء أم شأن السلاطين، سواء في الشعر أم النثر كما هو معروف محفوظ في سيرته, إنه الإمام المبارك عبد الله بن المبارك. قال العباس بن مصعب: جمع عبد الله بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس -أي: المغازي والسير- والشجاعة والسخاء والكرم والتجارة والمحبة عن الفرق. وقال الحسن بن عيسى: اجتمع جماعة من العلماء مثل الفضل بن موسى ومخلد بن الحسين، فقالوا: تعالوا نعد خصال عبد الله بن المبارك من أبواب الخير ما هي؟ قالوا: العلم، الفقه، الأدب، النحو، اللغة، الزهد، الفصاحة، الشعر، قيام الليل، العبادة، الإنصاف، الغزو، الحج، الشجاعة، الفروسية، القوة، ترك الكلام فيما لا يعنيه، قلة الخلاف على أصحابه، قال حبيب بن الجلاب: سألت عبد الله بن المبارك: ما خير ما أعطي الإنسان؟ قال: غريزة عقل أن يكون عاقلاً, قال: فإن لم يكن؟ قال: حسن أدب, قال: فإن لم يكن حسن الأدب ولا عاقلاً؟ قال: أخ شفيق يستشيره ولا يستبد برأيه, قال: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل يسكت, قال: فإن لم يكن؟ قال: موت عاجل. مررت بقبر ابن المبارك غدوة فأوسعني وعظاً وليس بناطق وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنياً وبالشيب الذي في مفارقي ولكن أرى الذكرى تهيج عاقلاً إذا هي جاءت من رجال الحقائق إن عبد الله ابن المبارك من رجال الحقائق. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 25 الرجل المبارك شيخ الإسلام ابن تيمية المباركون أينما كانوا بعد ذلك كثير, ولا بد أن نمر مروراً سريعاً عاجلاً على رجلٍ كالإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى, وكيف أن حياته كلها كانت بلاءً وجهاداً؟ حتى إنه قضى حياته كلها لم يتزوج ولم يشتغل بدنيا ولا بتجارة, كان كل شغله إما في حلقة علم، أو في مجلس وعظ، أو في مناظرة، أو في جهاد أو غزو، أو في سجن في سبيل الله تعالى، يوماً في الشام ويوماً في مصر ويوماً هناك ويوماً هناك, وهو منتصب للناس كلهم ينفعهم بيده ولسانه وقلمه حتى أحبه الناس, كما ذكر ذلك الذهبي وابن رجب وغيره من مترجميه. وكان أمثاله في ذلك الوقت من العلماء قليل، ولهذا أقبل الناس عليه وأحبوه وتعلقوا به, لأن الرجل كان حريصاً على إيصال الخير لكل أحد, لا يحسد أحداً على نعمة آتاه الله تعالى إياها, ولا يحقد على أحد، ولا يحمل في قلبه بغضاً على أحد, ولا يدخر خيراً عن أحد, بل كان حريصاً على نفع المسلمين بكل ما يستطيع. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 26 الرجل المبارك سماحة الشيح ابن باز وهكذا ظلت هذه الراية ترفع، كلما مات إمام خلفه آخر، حتى وجدنا أن الأمة في هذا العصر قد ظفرت وحظيت بحمد الله تعالى بعدد من الأئمة والعلماء الذين هم مباركون أينما كانوا. ولعلي أذكر تاجهم وإمامهم ومقدمهم في ذلك، وهو سماحة الوالد الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 27 لماذا اخترت ابن باز؟ نعم، إن المعاصرة حجاب كما يقول بعضهم, فربما لا يدرك الكثير فضائل بعض علماء العصر؛ لأنهم يرونهم ويشاهدونهم ولا يحصل من التأثر بهم والقبول كما يحصل للعلماء التاريخيين الذين يقرأ الإنسان عنهم. فالمعاصرة بالنسبة للبعض حجاب, ولهذا ينبغي أن يشاد بمثل هذا الإمام, ثم إننا نريد أن يعلم الناس أن هذه النماذج التي نتحدث عنها, من أولئك العلماء والدعاة والمصلحين, أنها ليست نماذج تاريخية انتهت، نتسلى نحن بذكرها, بل هي ميراث يتجدد ولا تعدم الأمة رجالاً بعد رجال يحيون هذا الإرث, وذكر هذا الإمام العلم لا يعني بخس حقوق غيره, ولا يعني تنقصهم، وهل يلزم من ذكر المتحدث لأحد أن يذكر كل أحد؟ كلا. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 28 بعض صفات ابن باز إنني ألحظ في الشيخ -حفظه الله- مجموعة من الصفات أذكر منها باختصار: 1- التعليم للعامة والخاصة، والصغير والكبير, بلا ملل ولا كلل, على رغم كبر السن وكثرة المشاغل والصوارف والملهيات, فلا يخلو مجلس من مجالس الشيخ من ذكر أو قراءة، أو علم أو تعليم، أو أسئلة أو ما أشبه ذلك. 2- الدعوة إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، بالكتاب والمحاضرة والدرس والشريط والمراسلة والاتصال وبكل وسيلة ممكن. 3- القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أكمل ما يستطاع, وما يكاد يوجد منكر في الأرض من المنكرات الشهيرة المعروفة, فيراه راءٍ إلا قال: أخبروا فلاناً يكتب به أو ينكره أو يسعى في تغييره. 4- التعاون مع أهل الخير من الدعاة والمحسنين والعلماء في كل الأمصار, وحسن الأدب معهم, وطيب المعشر وسعة البال, وهو يتعاون مع الجميع, فإن رأى خيراً أيد وسدد ودعا, وإن رأى خطأً صوب وصحح ونصح بلهجة المحب الناصح الحنون, الذي يريد الخير للناس كلهم. 5- حسن الخلق وطيب الكلام، والعفة في اللسان والصبر على الناس, وهو في ذلك -أقولها بحق- إمام يحتذى, يعامل الناس كلهم بالحسنى، ويلاطفهم كباراً وصغاراً من يعرف منهم ومن لا يعرف, ويسأل كل أحد عن نفسه وأهله ووالديه وأولاده وعمله وما كان من أمره ولا يسأم من ذلك أبداً, على رغم كثرة من يطرقه وكثرة مشاغله وكثرة الصوارف التي ربما تحول بين الكثير وبين مثل هذا الأمر. 6- الكرم بكل صوره وأشكاله, في مساعدة أعمال الخير ودعمها, والإنفاق عليها, والكرم مع الناس, فإن الرجل لا يأكل طعامه وحده منذ ما يزيد على ثلاثين سنة, ولا يأنس إلا أن يأكل طعامه في ملأٍ من الناس, وربما أتاه شاب في مقتبل العمر فسلم عليه وقال: أنا فلان أتيتك من بلاد كذا، فحياه ورحب به ولزم عليه بالغداء أو بالعشاء, فإذا جاء وقت الغداء أو العشاء قال: أين فلان؟ هل حضر فلان؟ لا ينسى ذلك حفظه الله تعالى. 7- ملازمة السنة قولاً وعملاً، وكثرة ذكره لله تعالى في قيامه وقعوده، واغتنامه اللحظات والساعات في التسبيح والذكر والقراءة، فإن لسانه رطب بذكر الله عز وجل. 8- بذل الجاه لكل أحد, في الشفاعة، والمساعدة، والتوسط في أعمال الخير لعامة المسلمين, سواء في الأمور الدينية أو الأمور الدنيوية, وقلما يحتاج إنسان إلى شيء أو تعسر عليه أمر أو تلبد شأن معاملة إلا ذكر اسم الشيخ ليكون وسيطاً فيها. وبالجملة فلا يخرج من الشيخ أحد إلا بشيء، هذا بفتوى، وهذا بنصيحة، وهذا كتب له ورقة أو رسالة إلى فلان, وهذا وعده خيراً, وهذا أعطاه كتاباً وهذا وهذا , وأقلهم حظي من الشيخ بالابتسامة والدعاء, والدعوة إلى الغداء أو العشاء، والتلطف والسؤال عن الحال. إنه نموذج للعالم الشمولي, الذي أوسع الناس بحسن خلقه وبسطة كفه وبذله أغلى ما يملك وهو الوقت للناس, هذا وهو ابن الثلاث والثمانين من عمره التي قضاها كلها في الميدان مع الناس, لم ينتظر منهم شيئاً قط, ولا يؤاخذهم على شيء، ولا يجد في نفسه حرجاً عليهم, أو يقول: قصروا في حقي, أو بخسوني أو أساءوا معاملتي أو ما أشبه ذلك: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] . الجزء: 192 ¦ الصفحة: 29 مفاتيح ومغاليق إن من الناس والرجال سواء من العلماء، أم من العامة، أم من الكبار، أم من التجار من يكون مفتاحاً للخير, مغلاقاً للشر, ومنهم من يكون على ضد ذلك مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر. مفاتيح للجلى مغاليق للردى لهم في ذرا الإسعاد أعلى المناصب يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أنس بن مالك: {إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر, وإن من الناس مغاليق للخير مفاتيح للشر, فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه, وويل لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه} والحديث رواه ابن ماجة، وابن أبي عاصم، والبيهقي في الشعب وهو حديث حسن صحيح، وله شاهد أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه وأرضاه. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 30 معنى كون الإنسان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر إن معنى كون الإنسان مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر: أنه لا يذكر له خير إلا سعى إليه, ولا يذكر له شر إلا سعى إليه, سعى إليه مغيراً منكراً، ولا يشترط أن تكون البداية من عندك دائماً، أو أن تكون الفكرة فكرتك، أو أن تكون عن قناعتك الخاصة, إنما المهم أنه خير فهو -مثلاً- عالم ينشر العلم، ولا يقصر جهده على هذا, بل يقدم لهذا نصيحة اجتماعية ويقدم لهذا مساعدة مادية، أو يكون وسيطاً بين الأغنياء والفقراء في المال، ويحل لهذا مشكلة، ويكتب لهذا تزكية، ويراجع لهذا كتاباً, وهو على هذا المشروع مساعد ومعين، ومع هذا المركز وإلى هذه المؤسسة وحول هذه المدرسة يعطي هذا شريطاً وهذا كتاباً وهذا نصيحة وهذا كلمة طيبة، فلا يخرج من عنده أحد إلا بشيء. فإذا مات فقده الناس، وقالوا: إنا لله وإنا إليه راجعون, فدخلت مصيبة فقده على كل أحد، وترحموا عليه، بخلاف ذلك الإنسان الذي إن حضر لم يعرفه أحد ولا يثني عليه أحد ولا يدعو له أحد, وإن مات -أيضاً- لم يفقد لأنه لم يقدم للناس خيراً. إنه يحسن المساعدة وليس يحسن التخلص من الناس، وبينهما فرق كبير، فهناك إمكانية أن تتعلم حسن التخلص فكل من جاءك بشيء تتعلم أنك تتخلص منه، فإن طلب منك مالاً، قلت: لا أقدر, وإن طلب مساعدة، قلت: لا أستطيع, وإن طلب منك رأياً قلت: ليس عندي وقت استمع لمشكلتك, وإن طلب منك أن تذهب معه إلى هنا أو هناك، قلت: أنا مشغول ولا أستطيع, فتتعلم حسن التخلص من الناس, وهذا نوع. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 31 تربية النفس أن يكون مفتاحاً للخير أما النوع الذي نطلبه ونريده فهو أن يتعلم الإنسان حسن المساعدة، وأن يربي نفسه على ألا يتخلص من أحد جاءه في خير أو يطلب منه أمراً يستطيعه, هذا طالب حاجة يجب أن يساعد عليها, وهذا سائل تجيبه بغض النظر عن مستواه وعن غرضه بما لا مدخل عليك فيه ولا ضرر عليك منه, وهذا يعرض مشكلة فتعينه عليها برأيك، وليس عليك بأس أن تسمع منه وترى ماذا يعاني وماذا يواجه من المشكلات، وربما لا تستطيع إلا أن تترحم معه وتتوجع له وهذا أحياناً نوع من التنفيس وكما قيل: ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع ولا تتضايق من كونه أكثر من سرد التفاصيل وأفاض إلى ما لا حاجة إليه, فهذا إنسان يعاني هذا الهم ويعيش هذا الأمر، فلا بد أن تعطيه فرصة ليتنفس من خلال الحديث معك, وهذا طالب مساعدة يظهر منه حاجة مادية فتساعده بغض النظر عن حقيقة الأمر، ولا تبالغ في التحري فهذه المساعدة هي في محلها، وربما تصدقت على غني فاعتبر أو على فقير أو على سارق أو على زانية، وفي الحديث الصحيح: {أن رجلاً من بني إسرائيل تصدق فأصبحوا يتحدثون: تُصِدق اليوم على غني! فقال: اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن الليلة, ثم خرج فوضعها في يد سارق، فأصبحوا يتحدثون: تُصِدق على سارق! فقال: اللهم لك الحمد، على سارق! ثم قال: لأتصدقن بصدقة، فوضعها في يد زانية! فأصبحوا يتحدثون: تُصِدق على زانية! فقال: اللهم لك الحمد, على غني وعلى سارق وعلى زانية! , فقيل له: إنها وقعت محلها, أما الغني فلعله أن يعتبر فينفق, وأما السارق فلعله أن يستعف عن سرقته, وأما والزانية فلعلها أن تستعف عن زناها} . وكذلك طالب الشفاعة, إذا جاء يطلب شفاعة في غير باطل، فلا تتردد في دعم هذه الشفاعة له، فليس من شرط الشفاعة أن تقبل ولا أن تؤثر، ولكن كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي موسى: {اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ما أحب أو ما شاء} وأحياناً مجرد منحك له بعض الوقت والتبسط معه والابتسامة في وجهه والصبر عليه، وألا تكفهر ولا تعرض عنه ولا تجر يدك منه وتستفهم أموره وتوحي له بالاهتمام, هذا ربما يغني ويكفي ولا يحتاج الأمر بعد ذلك إلى شيء. وهذا يعرض عليك مشروع جهاد في بلد من بلاد الإسلام, وهذا يعرض عليك مشروع دعوة, وهذا يعرض عليك مشروع تحفيظ للقرآن الكريم, وذاك يعرض عليك مشروع لتحفيظ السنة, وهذا يعرض عليك مشروع تجارة رابحة, وهذا وهذا الجزء: 192 ¦ الصفحة: 32 ما المرء إلا حيث يجعل نفسه إذا أراد الإنسان تفريق الناس عنه فعلوا, وفاته من ذلك خير كثير, ويكفي الناس أن يفترقوا ويبعدوا عنك, بل وربما رجموك بالقول والفعل، يكفي في ذلك الجفاء في القول والتجهم في الوجه. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 33 عدم تحقير الذات وعلى المرء ألاَّ يحقر نفسه أبداً, وإياك إياك أن يخيل إليك أنك عاجز عن كل شيء وجرّب تجد, جرب مثلاً أنه إذا حدثك شخص عن منكر في مكان كذا, بدلاً من أن تهزّ رأسك وتقول: الله المستعان. وإنا لله وإنا إليه راجعون, فهزّ رأسك وقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولكن اكتب لي هذا الذي رأيته بالتفصيل في ورقة، ثم أنت خذ هذه الورقة ممن كتبها، واكتب عليها ورقة أخرى من عندك إلى فلان, تصبح حينئذٍ معاملة تتعلق بمنكر موجود في مكان معين, ثم ابعث بهذه المعاملة إلى أحد العلماء، إلى جهة من الجهات التي تقوم على الاحتساب وإنكار المنكر, وكرر ذلك وستجد التجاوب، وستجد الرد أحياناً بشكل أو بآخر, وهذا بحد ذاته يعتبر نوعاً من التجاوب. وهكذا السائل الذي سأل ليس شرطاً أن تعطيه من مالك بعدما تتثبت من حاجته, فإذا لم تقدر أن تعطيه من مالك فتحقق من حاله واطلب تزكية من أشخاص معروفين ثم اكتب معه, أو اذهب بها إلى فلان القادر أو فلان التاجر أو فلان المحسن وأنت شريك في الأجر وطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 34 نفع الناس بكل ما أمكن أما إن أراد نفعهم بماله أو علمه أو عقله أو جاهه فإنه يستطيع ذلك, وتتوسع له الآفاق وتفتح له المجالات, فالجاهل الذي علَّمته، تسبب في آخرين دلّهم عليك، فأتوا إليك وسألوك واستفادوا من علمك وأعجبوا من حسن تعليمك, والفقير الذي ساعدته تسبب في فقراء آخرين جاءوا إليك فبذلت لهم كما بذلت لغيرهم, وطالب الشفاعة وطالب المشورة وطالب الفتوى وطالب التزكية وهكذا يمتلئ عمرك بجلائل الأعمال، وما عليك أن يجعلك الله تعالى مفتاحاً للخير وأن تقتدي في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] . ولا تظن أن الوقت يضيق أو أن الهمة تفتر أو أن النفس تتبرم: {فإنما المعونة على قدر المئونة} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح, فمن تصدَّى للأعمال وجعل نفسه لها وبذل ما يستطيع فإن الله تعالى يمده بمدد من عنده، ويرزقه من الصبر والحلم والتعلم الشيء الكثير الذي لم يكن يستطيعه قبل ذلك, وليست هي معجزة لا تقبل التكرار أن ترى رجلاً في واقع الحياة امتدت أعماله إلى وجوه الخير كلها, وامتدت روافده وجداوله إلى كل ميدان فله في كل بضاعة سهم, إن جهاداً أو علماً أو دعوة أو أموراً دينية أو أموراً دنيوية أو غير ذلك. وعماد ذلك كله الخلق الطيب من طلاقة الوجه، وبسطة الكف، وعفة اللسان، وسلامة القلب، فهي جماع الخير كله: {إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فليسعهم منكم بسطة الوجه وحسن الخلق} والحديث هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة وفيه ضعف، وقد جاء من وجه آخر عن عائشة رضي الله عنها، وجود إسناد الحديث الإمام المنذري رحمه الله تعالى. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 35 مع الخير حيث كان رأيي ورأيك ليس شرطاً لكي تكون مفتاحاً للخير، لا تعتبر رأيك الشخصي في كل مسألة هو المقياس, ولا حتى اجتهادك الخاص في مسألة يسوغ فيها الاجتهاد، ولا تجعل ميولك الخاصة أيضاً تتحكم في مواقفك، وليكن شعارك "مع الخير حيث كان" حتى لو خالف رأيك ما دام يحقق في الجملة خيراً في الأمة، هو على الأقل أكثر وأعظم من الضرر الحاصل أو الضرر المتوقع, حتى لو خالف اجتهادك، فقد يثبت الاجتهاد الذي خالفك في مواجهة واقع من الواقع جدواه. وليس شرطاً أن يكون الجميع على رأي واحد، أو اجتهاد خاص في مسألة، وقد تشتهي بعض النفوس شيئاً، وتميل نفوس أخرى إلى شيء آخر. فالعناية بالجانب الخيِّر الجانب الإيجابي في حياة الناس وأفعالهم وإبرازه والثناء عليه والاستفادة منه هو خلق النجباء، وهو من أسرار تأليف القلوب على مفاتيح الخير من الرجال, فمن سيما مفاتيح الخير أن تأتلف عليهم القلوب وتجتمع عليهم المشارب والمذاهب لسعة صدورهم وسعة عقولهم وحلمهم وصبرهم على الناس، وعدم إلزامهم بآرائهم الخاصة لغيرهم ممن يحمل رأياً كرأيه واجتهاداً كاجتهادهم. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 36 دعم النشاط الطيب إن بوادر النشاط الطيب في العالم الإسلامي كله من الممكن أن تؤيد وتدعمه وتناصره وتكون بداية لعمل يرضي الله تعالى، ويحقق للمسلمين عزاً ونصراً وتمكيناً, ومن الممكن أيضاً أن يقع العكس فيقاطع هذا النشاط أو ذاك, بحجة عدم وضوح المنهج، أو عدم استبانة الرؤية، أو عدم سلامة الطريق, وهذا أهون الأمور وأسلمها، ولكنه لا يحقق المراد. إن الحل الذي هو عدم التأييد وعدم المشاركة حل سهل, ولكن المشاركة بصدق وإخلاص، بالقول والمال والرأي وبكل الوسائل الممكنة، واستكبار هذا التأييد وهذا الدعم في التعديل والنصيحة والمشورة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتصحيح الخطأ سواء أكان خطأًَ في الاعتقاد، أم في التعبد، أم في السلوك، أم في المنهج، فإن هذا هو المراد وهو المقصود, وليس يحزننا أبداً -والله الذي لا إله غيره- بل يسرنا كل السرور أن يكتب الله تعالى النصر لهذا الدين على أيدي غيرنا وأن يعز الإسلام بجهد سوانا, فنحن رابحون بكل حال، وليس دين الله تعالى بضاعة خاصة لفئة نحجبها نحن ونستأثر بها دون بقية المؤمنين. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 37 خذ وطالب إن من اليسير أن يعتني المرء بإبراز جوانب العيوب، والجوانب السلبية في أعمال غيره وجهودهم وجهادهم، ويضخم هذه الأشياء ويجعلها ذريعة وحجة في ترك المشاركة وترك المناصرة وترك التأييد وترك العمل! لا, لكن من الممكن أن تعكس الأمر وتأخذ بالمبدأ الذي يقول: (خذ وطالب) . فاقبل الخير الموجود عند فلان، أو عند هذه الفئة، أو عند هذه الطائفة، أو في هذا المركز، أو في هذه الجماعة، أو في أولئك المجاهدين مثلاً, خذ الخير الموجود عندهم وطالب بالمزيد، وكن عوناً لهم على طاعة الله عز وجل، زاجراً لهم عن معصيته، إن دعوك للخير تجبهم، وإن أحسنوا تحسن معهم، وإن أساءوا تتجنب إساءتهم وتنصحهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91] . الجزء: 192 ¦ الصفحة: 38 الأعمال الصالحة مفاتيح للخير مفاتيح الخير من الأعمال: فقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: {اللهم إني أسألك فواتح الخير وخواتمه وأوائله وأواخره} والحديث رواه الطبراني والحاكم عن أم سلمة، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي، وقال العراقي في تخريج الإحياء: في إسناده عاصم بن عبيد الله لا أعلم روى عنه إلا موسى بن عقبة , ويشهد له حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: [[أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامع الخير وخواتمه وفواتحه]] والحديث رواه ابن ماجة أيضاً بإسناد صحيح. فكما أنه من الناس رجال وأقوام: علماء، أو دعاة، أو تجار، أو عامة، هم مفاتيح للخير لا يأخذ أحد بأيديهم إلى خير أو بر أو معروف أو إحسان إلى ذهبوا معه وسارعوا ولسان حال أحدهم يقول: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه:84] , فكذلك من الأعمال أعمال جعلها الله تعالى مفاتيح للخير ومغاليق للشر, وأعمال أخرى جعلها الله تعالى مغاليق للخير مفاتيح للشر. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 39 الجهاد مفتاح العزة والكرامة مثل ذلك أيضاً ما يتعلق بالجهاد, فإن الجهاد مفتاح العزة والكرامة وما ارتفع شأن الأمة إلا بالجهاد, وما استطاعت الأمة اليوم أن تفرض على الغرب لوناً من التفكير، أو رأياً في الأحداث، أو موقفاً معيناً مبنياً على احترام الإنجاز الإسلامي إلا بالجهاد في سبيل الله تعالى. إن من الأمثلة القريبة الأحداث في البوسنة، فلقد ظن العالم كله أن المسلمين في أرض البوسنة فئة قليلة مغلوبة على أمرها، لا تملك القوة ولا السلاح، ولا صلة لها بالعالم الإسلامي، وأن من السهل أن يُقضى عليهم خلال شهور، بل ربما أسابيع وربما أيام. وكيف لا يقضى عليهم وهم يواجهون رابع جيش في العالم؟ يملك مئات الطائرات وآلاف الدبابات ومئات الآلاف من القطع، وأكثر من ثلاثمائة ألف جندي من الصرب, وهذا الشعب معروف في أوروبا كلها بالقوة والشراسة والعناد والصبر والشجاعة، فظنوا أن المسلمين سوف يكونون طعمة للآكلين في لحظة أو لحظات, ولكن تنادت الأمة الإسلامية من المشرق إلى المغرب، حتى كان منهم من ذهب بنفسه, ومنهم من ذهب إلى الدعوة إلى الله، ومنهم من ساعدهم بماله، ومنهم من ساعدهم بالدعاء وقنت المسلمون لهم وصبروا, وما زالت قضيتهم حارة ساخنة على كل صعيد، حتى عزوا بإخوانهم وصبروا وأصبح عندهم قوة ورباطة جأش وشجاعة وصبر. بل إنني أتابع أخبارهم بدقة، وخلال الثلاثة الأسابيع الماضية كانت تتوالى بحمد الله تعالى ألوان من الانتصارات والبشارات بإخواننا المسلمين هناك. إن القوات المسلمة في البوسنة والهرسك ربما لا تزيد على ستة أو سبعة آلاف مقاتل فحسب، منهم بضع مئات من العرب، ولكنهم أرعبوا الصرب بل أرعبوا الغرب، وكانوا يهاجمونهم في المعارك، يقول لي أحد الإخوة: يظنون أننا خمسة آلاف، ونحن لا نتجاوز خمسة أفراد, وتحقق للمسلمين من التقدم عشرات الكيلومترات، وما زالت الأخبار تنقل لنا كل ما يبهج النفس ويسر القلب بحمد الله وتوفيقه, حتى إن من آخر الأخبار أن المسلمين تقدموا قرب إحدى المدن وأظنها مدينة سرافينك أكثر من أربعين كيلو متراً، ثم قتلوا من الصرب ما يزيد على مائتين أو ثلاثمائة، ثم سيطروا على قطار تابع للأمم المتحدة, فوجدوا أن هذا القطار ينقل الأسلحة إلى الصرب تحت علم ومظلة الأمم المتحدة, فسيطر عليه المسلمون وغنموه، وكان فيه بضع دبابات وكثير من الأسلحة الخفيفة والثقيلة. ولقد رأيت بعيني قبل يومين شاباً جاءني وهو يقول: أنا طالب في مجالس العلم، وأطلب العلم عند العلماء ولكن قتل بعض إخواني في الجهاد هناك, فأنا كل ما تذكرتهم دمعت عيني واهتز قلبي وعظم حزني، أريد أن ألحق بهم, ثم -والله- رأيته وقد قطب وجهه، ثم دمعت عيناه, لماذا يدمع؟ يدمع شوقاً إلى الشهادة في سبيل الله، وشوقاً إلى لقاء إخوانه الذين سبقوه بهذا السبيل. وقد رأيت من المسلمين من يتخلى عن بعض ثيابه ليتبرع بها لإخوانه هناك, رأينا في إحدى دول الخليج شاباً لا يملك المال ليتبرع به، فيأتي ويتبرع بالدم لبعض المختبرات التي يعطونه مقابل التبرع بالدم، ليأخذ عشرين درهماً لا يملك غيرها فيتبرع بها للبوسنة, يقول: إذا كان إخواني يستشهدون هناك، وتنزف دماؤهم تروي ثرى تلك البلاد، فلا أقل أن أتبرع بمحجمة من دمي لإخواني المسلمين هناك. فهذا التناصر وهذا التأييد مهما كان، ولو لم يكن من ثمرته أن يقيم دولة للإسلام كما يتوقع بعضهم هذا ليس شرطاً أن يحدث, قد يحدث اليوم، أو بعد سنة، أو بعد مائة سنة، أو متى شاء الله تعالى, لكنه جعل الغرب يرتعد خوفاً أن تتحول جزيرة البلقان كلها إلى منطقة حرب، وأن تتطور الأمور، وأن تتدخل الدول المجاورة كتركيا أو روسيا أو ألبانيا وغيرها, وهناك مسلمون في ألبانيا وكوسوفو وفي السنجر وفي غيرها من الممكن أن يتحول الأمر إلى حمام دم كما يقال. بل تخوف الغرب أن تكون هناك دولة أصولية في تلك المناطق, ولذلك أصبحنا وأصبحتم تسمعون في الأيام القليلة الماضية أن الحديث بدأت نبراته ترتفع، وبدأت حدته تعلو للتدخل في أرض البوسنة والهرسك من قبل الأمم المتحدة أو من قبل البلاد الغربية, يوم قتل عشرات الألوف، ويوم شرد مئات من العجائز والنساء والأطفال, وعُملت الجرائم واعتدي على أعراض أكثر من عشرة آلاف فتاة مسلمة باغتصاب قصري بشع وحشي من جنود الصرب, لم يتحركوا وكانوا يرون أن الأمر خطير وأن التدخل صعب, أما اليوم فقد بدءوا يتحدثون بشكل أوضح عن إمكانية التدخل لإيقاف تلك الحرب. إن هذا يؤكد لنا أن المسلمين مهما ضعفوا يستطيعون إذا صدقوا الله تعالى وتناصروا أن يصنعوا شيئاً, ليس شرطاً قيام دولة تحكم بالإسلام، فقد لا يتحقق هذا بالسرعة التي يتمناها المسلم، أو على الأقل قد لا يحدث هذا في مثل تلك الظروف الحالية, ولكن تفكير الغرب بالتدخل هو نتيجة للصحوة الإسلامية؛ وخشية أن يتطور الأمر لصالح المسلمين, فهذا غلب جانب التدخل على رغم المخاطر الكبيرة على الدول الغربية, فإن قتل عشرة أو مائة أو حتى ألف من المسلمين إنه بآجالهم فمن مات منهم قبل يومه فهم شهداء في سبيل الله تعالى إن شاء الله. وقد بعثوا في الأمة روح العزة والشوق للجنة, وقد ذكرت لكم ما قد رأيت من هؤلاء الشباب, والله تعالى يقول: {وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} [آل عمران:140] . إنني أعلم أيها الإخوة أن الذين ماتوا (بالتطعيس) عندنا في القصيم على مدى أسبوعين، يزيدون على سبعة شباب, أما الذين ماتوا (بالتفحيط) فهم أكثر, ولو عملنا إحصائية للذين ماتوا بحوادث السيارات لوجدناهم أكثر بكثير من أولئك الذين ماتوا في المعارك دفاعاً عن الحرمات وذباً وذوداً عن الإسلام والمسلمين, وهؤلاء لم يعلم بهم أحد ولم يتخذ إجراء مثلاً لمنع (التطعيس) ؟؟ ولا منع الآباء أبنائهم من ممارسته أو ممارسة التفحيط, بل اعتبروه أمراً عادياً, فلماذا نمتنع أو نمنع غيرنا إذاً من الجهاد في سبيل الله: وممارسته والتدريب عليه، وإزالة حاجز الخوف أو الوهن أو التعلق بالدنيا في النفوس؟ إن إصابات كرة القدم في الملاعب تعد شيئاً كثيراً، وأعتقد أنها تُقارن ببعض الإصابات في المعارك. الكثير يتساءلون: ماذا استفدنا مما جرى في البوسنة والهرسك؟ أو ماذا استفدنا مما جرى في فلسطين؟ وإخراج أربعمائة وثلاثين من خيرة أبناء هذه الأمة من العلماء والخطباء وأساتذة الجامعة والدعاة والمراجع العلمية الذين صاروا في مثل هذا الوضع. إنني أقول: ليس بهذه الصورة توزن الأمور، إن الأحداث التاريخية كلها لا تخضع أبداً لهذا المعيار حتى أولئك الذين نستطيع أن نقول قتلوا في بعض المعارك, هم يوم كانوا أحياء ماذا قدموا؟ ماذا استفادت الأمة منهم؟ هم في بلادهم ماذا نفعوا؟! إن الكثير لم ينفعوا شيئاً لكنهم لما سلكوا طريق الجهاد نفعوا كثيراً وقدموا لأمتهم خيراً كثيراًَ. فإن طريق الأمة إلى العزة والكرامة لا بد أن تمر بالتضحيات الجسام, ولو لم يأتِ إلا غرس الجدية والشعور بالذات والإحساس بالقدرة على فعل شيء ما لكفى!. إن شعور الأمة بالاستسلام المطلق والعجز التام هو من أخطر الأمراض, وليس علاجه أن تشعر الأمة بأنها تقدر أن تفعل كل شيء؟ لا, لكنها ما دامت حية فهي قادرة على أن تفعل شيئاً. فمثلاً: وجود استعمار أو تدخل في بلد إسلامي, ليس شرطاً في مقاومة المسلمين له أن يسقطوا تلك الدولة التي استعمرت بلادهم, أو حتى أن ينتصروا عليهم انتصاراً مطلقاً, لكنني أجزم وأعلم أن قتل ثلاثين من رجالات تلك الدولة، ولو في مقابل أضعافهم من المسلمين في ظل الوضوح الإعلامي القائم اليوم أنه سوف يغير مفاهيم الكثير من رجال السياسة الغربية, أو أصحاب القرار الذين هم أحياناً مترددون، أو هم غير متحمسين للفكرة لكنهم غير معارضين لها, فهل كتب على المسلمين أن يظلوا هم فقط باقون تحت التسليم والخضوع والخنوع والاستسلام؟! لا تقولوا المسلمون انهزموا أمة المختار في حرز الصمد إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجد فإذا ذلت لباغ فكما يعبث الفأر بتمثال الأسد محمد هل لهذا جئت تسعى وهل لك ينتمي همل مشاع أإسلام وتغلبهم يهود وأساد وتقهرهم ضباع أيشغلهم عن الجلى نزاع وهذا نزع موت لا نزاع شرعت لهم طريق العز لكن أضاعوا مجدك السامي فضاعوا عطفاً أيها الأحبة وتعليقاً سريعاً على ما ذكرت، لقد ذكرتني الجنائز التي صلينا عليها الآن وبعد صلاة المغرب, بخاطر خطر على بالي حينما صلينا في ظهر هذا اليوم على شيخنا الشيخ حمود رحمة الله عليه, لقد صُلِّي في الوقت نفسه على أناس آخرين فتذكرت سبحان الله كيف أن الإنسان الفاضل الخير يكون خيراً على من يصحبه حياً أو ميتاً, فصلي على جميع الذين ماتوا وقدموا في ذلك المسجد من قبل جمع غفير، ربما يقدرون بعشرات الألوف ونالتهم بإذن الله تعالى بركة الدعاء، ونسأل الله تعالى أن يشفع فيهم جميعاً هؤلاء المؤمنين الداعين, فهذا يكشف للإنسان أن صحبة الأخيار تنفع الأحياء والأموات، ونقول: اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم واغفر لنا ولهم يا أرحم الرحمين. أمر آخر في قراءة الإمام حين قرأ قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142] هذا يؤكد المعنى الذي ذكرته قبل، وهو أن الجهاد مفتاح الجنة, فإن الله تعالى قال للمؤمنين {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} [آل عمران:142] أي كيف ظننتم أنكم تدخلون الجنة قبل أن تبتلوا وتجاهدوا وتصبروا؟ ويظهر للعيان ما علمه الله تعالى من حال فلان وفلان؟ الجزء: 192 ¦ الصفحة: 40 مفتاح الجنة عند ابن القيم وقد عقد الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى- باباً في كتابه "حادي الأرواح" فيه مفتاح الجنة، وذكر فيه شيئاً كثيراً من هذا الموضوع، مثل قوله: أبواب الجنة هي الشهادة ثم السيف -أي الجهاد والقتال- وكذلك لا حول ولا قوة إلا بالله؛ فإنها من أبواب الجنة, ومفتاح الصلاة الطهور, ومفتاح الحج الإحرام, ومفتاح البر الصدق, ومفتاح الجنة التوحيد, ومفتاح العلم حسن السؤال وحسن الإصغاء, ومفتاح الصبر النصر, ومفتاح المزيد الشكر, ومفتاح الولاية المحبة والذكر, ومفتاح الفلاح التقوى, ومفتاح الإجابة حسن الدعاء, ومفتاح كل خير الرغبة في الله تعالى والدار الآخرة, ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل ثم قال رحمه الله: وهذا باب عظيم من أبواب العلم، وهو معرفة أبواب الخير ومفاتيح الشر, ولا يوفق لمعرفته إلا من عظم الله تعالى حظه وتوفيقه. المهم نعود إلى المثال وهو موضوع الشهادة, فإن الشهادة هي مفتاح الجنة بهذا الاعتبار، بمعنى أن كل عمل يعمله الإنسان فهو مفتقر إلى التوحيد وإلى الشهادة, فإذا صح إيمان العبد وصح توحيده فإن الله تعالى يدخله الجنة على ما كان من العمل, كما في حديث عتبان رضي الله تعالى عنها وهو في الصحيح: {من شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وأن الجنة حق وأن النار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من عمل} وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في أحاديث أخرى. المهم أن كل عمل من أعمال الشريعة مفتقر إلى أصل التوحيد وأصل الإيمان؛ ليكون مقبولاً عند الله تعالى نافعاً في الدار الآخرة, أما إذا فقد الإنسان الأصل فلا ينفعه بعد ذلك ما عمل, ولهذا سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان، وكان كريماً يصل الرحم، ويعتق العبيد الأرقاء، ويحسن إلى الضيوف وإلى الناس: أفينفعه ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: {لا يا عائشة إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين} فذكر أنه لا ينفعه ذلك؛ لأنه لم يحقق أصل التوحيد وأصل الإيمان. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 41 لا إله إلا الله مفتاح الجنة فمثلاً مفتاح الجنة هو التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والصلاة, ولذلك جاء في المسند عن معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مفتاح الجنة لا إله إلا الله} , وروى البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز, أن وهب بن منبه قيل له: أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنة, قال: بلا، ولكن ما من مفتاح إلا له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك. إن لا إله إلا الله مفتاح الجنة؛ وذلك لأنها أساس قبول الأعمال، فإن الله تعالى أغلق باب الجنة على كل إنسان لا يشهد لله تعالى بالوحدانية ولا يشهد لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة, كما قال الله تعالى في شأن الكافرين: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] فلا ينفع مع الشرك عمل مهما كبر, ولذلك أيضاً فإن الله تعالى أمرنا بهذه الكلمة العظيمة فقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] . فإن أساس الأعمال في الدنيا وأساس قبولها في الآخرة هو هذه الكلمة, وهذه الكلمة ليس المقصود بها مجرد التلفظ فحسب؛ فإنها كلمة تحمل معنىً عظيماً لا بد أن يدركه الناطق بها وهو معنى إفراد الله تعالى بالعبادة, ألا يعبد إلا الله تعالى, وألا يعبد الله تعالى إلا بما شرع, فلا يعبد إلا الله على وفق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم, ولهذا قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وقال الله سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال الفضيل بن عياض: أحسن عملاً أخلصه وأصوبه، قيل له: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصاً -يعني لله تعالى- ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل, فلا يقبل حتى يكون خالصاً لله تعالى صواباً على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجب أن نعلم أنه لا عز للأمة ولا اجتماع ولا رفعة ولا قوة ولا تغلب على عدوها، ولا خلاص لها من أمراضها التي تعانيها كمرض التفرق والشتات، ومرض الخوف والجبن والذل والهوان والجهل, بل وسائر الأمور المادية والمعنوية, لا خلاص للأمة ولا نجاة لها مما تعانيه أبداً إلا أن تجتمع على هذه الكلمة, فهماً لها وإيماناً بها ودعوة إليها وتحقيقاً لها في واقعها وسلوكها على مستوى الفرد والأسرة والجماعة والدولة بل وعلى مستوى الأمة كلها, فلا إله إلا الله بهذا الاعتبار هي مفتاح الجنة. ومثله أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث أن مفتاح الجنة السيف, والمقصود -والله تعالى أعلم- الجهاد في سبيل الله تعالى, فإن الجهاد من أعظم أبواب الجنة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: {واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف} كما هو عند النسائي وسنده صحيح. إذاً مفتاح الجنة يكون بالإيمان بالله وتوحيده والإقرار له بالألوهية والربوبية، ومعرفته حق المعرفة بأسمائه وصفاته بقدر ما يستطيع الإنسان ويطيق, ثم الجهاد في سبيل الله تعالى. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 42 الأسئلة أجيب عليها باختصار: الجزء: 192 ¦ الصفحة: 43 طلب دعاء للمستضعفين السؤال ما يمر به إخواننا في البوسنة والهرسك من حرب وبرد وجوع، فإني أطلب الدعاء والنصر القريب المبين, وأن تحث الحاضرين على الإنفاق؟ الجواب نسأل الله تعالى أن ينصر إخواننا في البوسنة والهرسك وفي مصر وفي الجزائر وفي فلسطين وفي أفغانستان وفوق كل أرض وتحت كل سماء، يا رب فرج عن إخواننا في كل مكان, اللهم إنا نسألك بأسمائك وصفاتك أن تفرج عن المسلمين في كل مكان, اللهم عجل بنصر الإسلام. لقد دعوتم وأسأل الله أن يستجيب, وأطلب منكم أن تتبرعوا بما تستطيعون لإخوانكم المسلمين في البوسنة والهرسك, فإنهم في أمس الحاجة إلى ذلك, وهذا جمع طيب وقد جاءت أوراق كثيرة تطلب التبرع, فأنا أطلب من الإخوة من بعض الشباب أن يقوموا بجمع التبرعات وإيصالها إلى مقدمة المسجد, ومن استطاع أن يأتي بالتبرعات بنفسه أيضاً فجزاه الله خيراً: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272] . ثم إني أشكركم على حضوركم وعنايتكم وحرصكم ومحبتكم، شكر الله لكم جميعاً وأخص منكم المشايخ وطلبة العلم وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن فنتوخ جزاه الله تعالى خيراً. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 44 الحكمة في الدعوة السؤال بعض الشباب الذين يقتنون أفلام محرمة، ماذا عليّ من النصح لهم؟ وماذا أفعل هل أفضحهم؟ أم أن أنصحهم؟ الجواب عليك أن تنصحهم وتبذل الوسع في هدايتهم، ومع ذلك فلا يمنع إذا لم يستجيبوا أن تحاول أن تتصل ببعض الجهات التي يمكن أن تقوم بمصادرة هذه الأفلام ومنعها ومراقبة مقتنيها. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 45 هجر العاصي السؤال لنا أقارب أولاد عم لا يصلون ويسمعون الأغاني ويشاهدون الأفلام المنافية للشرع ونساء كاشفات، فإذا لم نزرهم هل نعتبر أننا قاطعي رحم, مع العلم أننا نصحناهم وقدمنا لهم بعض النصائح؟ الجواب أما إن كان هؤلاء لا يصلون بالكلية لا في الليل ولا غيره، ولا في رمضان، ولا جمعة ولا جماعة مطلقاً مقاطعون للصلاة بالكلية طيلة حياتهم, فلا شك أن هؤلاء لا ينبغي أن يتصل بهم، إلا أن يتصل بهم على سبيل النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وإقامة الحجة عليهم وبذل النصح المستطاع لهدايتهم, وفي الصحيح من حديث سالم بن سعد: {والله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} . أما إن كانوا يصلون ويتركون، ويفرطون ويقصرون، ويصلون في البيت وما أشبه ذلك, وعندهم بعض المعاصي فإنهم يزارون وينصحون ويكثر عليهم ولا تملوا, كم دعوتهم؟ مرة واحدة, لكن نحن نريد عشراً ومائة وألفاً واصبر عليهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم فهم محل للدعوة، وهذا نوح عليه السلام يقول الله تعالى عنه: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] . الجزء: 192 ¦ الصفحة: 46 التعليم الديني إلى أين يسير السؤال هل من كلمة حول تعديل المناهج الدينية في المراحل الدراسية وما أثرها المستقبلي؟ الجواب نعم, المناهج لا شك أن الجميع عرفوا وسمعوا وقرءوا التعديل الخطير والكبير الذي جرى فيها, وغالب هذا التعديل يتعلق بمناهج اللغة العربية والمواد الشرعية والعقيدة والتوحيد والفقه والحديث والتفسير وما أشبه ذلك, وكذلك مواد التاريخ والجغرافيا. ومن الواضح أيضا أن هذا التعديل يستهدف تقليل تأثر الطالب بكثير من المعاني الشرعية، أو محاولة أن ينسى بعض هذه الأشياء، ولا شك أن هذه مسئوليتنا جميعاً, فليست مسئولية لجهة فقط. ينبغي علينا جميعاً أن نكون مفاتيح للخير مغاليق للشر, وهنا يأتي دور هذه الأمة, أنت ولي أمر، لك أولاد تعرف بالضبط منهم ما هو الشيء الذي حذف, ثم ترى بعينك، ثم تلاحظ، ثم تكتب على ضوء ذلك, تكتب إلى مدير المدرسة تكتب لمدير التعليم، تكتب لتطوير المناهج، تكتب للتطوير التربوي، تكتب لوزير المعارف، تكتب للعلماء وتبذل جهدك. أمر آخر: أن تعمل على تكميل النقص الموجود في المناهج بنفسك بتربية ولدك ومراقبته وتعليمه، وألَّا تقتصر على مجرد المادة التي تعطى له. أمر ثالث أيضاً: أن يقوم الغيورون كما طلب أحد الإخوة قبل قليل حينما طالب بإيجاد مستشفيات نسائية وهذا مطلب سليم وحميد, وينبغي أن يوجد في كل البلاد أيضاً، وأن يكون هناك تنادٍ وتداعٍ وحرص على إيجاد مدارس أهلية تراعي مع المناهج الدراسية المفروضة أو المقررة من قبل الوزارة أن يكون هناك مناهج ودروس وعناية وتربية لهؤلاء الشباب على المعاني الإسلامية القوية، وإخراجهم إخراجاً صحيحاً, وتربيتهم على الدعوة والعلم والعبادة والجهاد. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 47 هدم المسجد البابري السؤال ما تعليقكم على الهندوس في الهند لهدم المسجد البابري هناك وواجبنا نحوهم؟ الجواب ذكرت تعليقاً على ذلك في مناسبة وهي بعنوان "أحاديث غير عابرة" فبإمكانك مراجعته, أما مسألة واجبنا فإنه يجب على المسلمين أن يحاربوا الهندوس، وأن يعلنوا الحرب على جميع العمال الموجودين من الهندوس في هذه البلاد. وهم في الغالب محاربون وحربهم معلنة صريحة على الإسلام وحاقدون أشد الحقد, حتى إنهم في بعض المستشفيات -وقد وقفت بعيني على هذا- يقومون بأعمال خاطئة أثناء العمليات الجراحية تؤدي بالوفاة، حتى لو كانت العملية عادية، لا يوجد خطر بالمقاييس البشرية, وقد حصل حالات وفاة بمثل هذه الأسباب. فينبغي على المسلمين أن يقوموا بإبعاد الهندوس من المؤسسات سواء كانت مؤسسات أهلية أم شركات أم مقاولات أم غيرها, وأن لا يستخدموا إلا المسلمين بقدر ما يستطيعون. وبالمناسبة في موضوع الهندوس توجد فتوى للشيخ عبد الله بن جبرين أرجو من الإخوة السعي لنشرها وتوزيعها. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 48 من مشاريع الخير السؤال إن من المعلوم أن الاختلاط أمر يرفضه الشرع المطهر, وحتى الطبع السليم، ولهذا فهناك حلم ولا يزال يراود الغيورين والمخلصين من أبناء المسلمين يأملون في تحقيقه في أقرب وقت ممكن, ألا وهو إنشاء مستشفيات متكاملة بكل التخصصات غير مختلطة, بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى, أليس من الأفضل جمع التبرعات لهذا المستشفى أو عمل شركة مساهمة لبناء مستشفى متكامل ويكون رجعه للمساهمين؟ الجواب في الواقع هناك بدايات جيدة في الرياض، هناك مستشفيات نسائية وفي جدة وفي مكة وفي القصيم هناك ثلاثة مستشفيات قامت، وبوادرها طيبة ومشجعة وعلينا دعم هذه المستشفيات بكل ما نستطيع والإقبال عليها ومحاولة تلافي الأخطاء فيها. أما جمع التبرعات لهذا العمل فلا أعتقد أنه مناسب؛ لأنه عمل تجاري, ويتطلب مجهوداً كبيراً، وهاهنا نأتي إلى قوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر, هذا الاقتراح منك يعتبر مشاركة في الخير, ولكن هذا الطبيب الذي يسمع وهو يملك أن يرسم مخططاً وأن يقوم بهذا العمل هو مسئول مسئولية كبرى, وذلك التاجر الذي يستطيع أن يتبنى هذا المشروع ويدعمه ويستفيد منه حتى من الناحية المادية ولكنه يساهم بصورة عملية في ستر عورات المسلمين والمحافظة على نسائهم وعلى أخلاقهم, وينبغي أن نثبت للمسئولين في الصحة وفي غيرها أنه من الممكن إيجاد مستشفيات نسائية خاصة بجهود أفراد فضلاً عن جهود وزارات بأكملها. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 49 معجزة عيسى عليه السلام السؤال ما معنى قولك: أن عيسى يحي الموتى، وأنه لا يحيي إلا الله؟ الجواب هذا ما ذكره الله تعالى في كتابه على لسانه قال: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران:49] فإن الله تعالى هو المحيي، ولكنه أقدر عيسى؛ لأن قومه كانوا بصراء في الطب, فكانت معجزة عيسى عليه الصلاة والسلام من جنس العلم الشائع في زمنهم، ولكن أضيف إليها ما لا يقدرون هم عليه؛ ليكون ذلك آية بينة على صدق نبوته ورسالته, وكذلك أن القوم الذين بعث فيهم وهم اليهود كانوا ماديين غلبت عليهم المادة والشهوة والتعلق بالأسباب, فأراد الله تعالى أن ينقطع ذلك عن أتباع الدين الصحيح. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 50 جهاد الأفغان السؤال لقد نسينا الجهاد الأفغاني وقضيته ولا نعلم ما هو السبب؟ ونريد آخر أخبار جهاد الأفغان؟ الجواب في الواقع أن هناك عدة أمور منها: أولاً: وضع الحكومة في كابل: فإن هناك خلافاً كبيراً بين الأحزاب المختلفة على تشكيل الحكومة وطريقتها وطريقة اختيار الحاكم وما أشبه ذلك. والحقيقة ينبغي أن نلوم أنفسنا أيضاً كما نلوم إخواننا هناك؛ فإنني أتساءل أين العلماء والدعاة والمصلحون بل وعامة المسلمين الذين وقفوا مع الجهاد الأفغاني على مدى أربعة عشر عاماًَ مضت, لماذا سكتوا الآن؟ أين نحن من خلاف المجاهدين هناك؟ لماذا لا نخاطبهم ونراسلهم ونكتب لهم ونتصل بهم ونقول لهم: احذروا أن يعاقبكم الله تعالى وأن تسقطوا من عيون المسلمين، وأن تكونوا سبباً في خذلان الناس، وفي تأخر الناس، وفي عدم قبولهم بأمر الجهاد بسبب الخلاف الجاري بينكم. يجب أن تتفقوا ويجب أن تصطلحوا ويجب أن تتواضعوا على أمر سواء, وأن تتخلوا عن حب الدنيا وعن المغانم، وعن حب الرياسة وعن غير ذلك, وأن تجعلوا الدين ومرضاة الله تعالى وإيثار الآخرة نصب أعينكم وهذا واجب علينا جميعاً, وهو يدخل فيما ذكرته قبل قليل: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر, أي واحد منا وليس شرطاً أن يكون عالماً أو داعياً أو شهيراً؛ لا, حتى ولو كان من عامة الناس. وقد بعث إليّ بعض الشباب وهم من المرحلة الثالثة المتوسطة بورقة بعدما فتحت كابل فيها تهنئة بالنصر وحمداً لله والشكر, وفيها دعوة المجاهدين لتوحيد الكلمة وإلى مراقبة الله ومخافته، وطلبوا مني أن أوصلها إلى زعماء المجاهدين, فلما رأيتها تعجبت منها أشد العجب وفرحت بها أشد الفرح، ثم قمت ببعثها إلى زعماء المجاهدين هناك, ليعلموا أن الأمة المسلمة تتابعهم وتعرف ماذا يفعلون، وتريد منهم أن يكونوا على مستوى المسئولية وعلى مستوى حسن الظن بهم, إن هذا واجبنا جميعاً. كما أن هناك مسألة دخول أعداد غفيرة من المسلمين من طاجيكستان، يزيدون على مائة ألف، هربوا من جحيم الحرب الدائرة هناك بين المسلمين والشيوعيين، ودخلوا إلى حدود أفغانستان, وهذه مشكلة جديدة. الجزء: 192 ¦ الصفحة: 51 مصير المترفين مما يوقظ اللهُ عز وجل به الأمَمَ هو إهلاك الجيران كما أهلك الأمم السابقة لنعتبر بها، والأخذ بالشدة والبأساء والضراء، وتنوع الأحوال من قحط إلى مطر والعكس، وظهور بوادر العذاب والاستدارج. والترف: هو الإغراق في النعم والاسترسال معها حتى تصبح كل هموم الإنسان -لا زينة الثياب والتزين والتجمل- والمترفون هم أعداء الرسل وهم سبب هلاك الأمم. ومن نتائج الترف: الغفلة، وعبادة الشهوة، والصراع على المكاسب، والعقوبات التدريجية وضياع الدنيا والآخرة. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 1 الطرق التي يوقظ الله بها الأمم دعوة لمعاونة الدعاة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، لقد وافقت هذه الدعوة الكريمة التي تقدم بها الإخوة في مكتب الدعوة إليَّ لزيارة هذا البلد الكريم وافقت شغلاً في وقتي، ولكنني لم أكن لأستطيع أن أعتذر وأنا أسمع ما يقوم به الإخوة من جهد مبارك في هذا البلد، وما يبذلونه من أوقاتهم وجهودهم وإمكانياتهم في مجال الدعوة إلى الله والعلم والتعليم، وتحفيظ القرآن الكريم، وجمع الشباب على الكتاب والسنة، فرأيت أن مشاركتي في هذه الزيارة، وإن كانت مشاركةً محدودة، إلا أنها لا تعدو أن تكون تعبيراً عن ضرورة التعاون على البر والتقوى، ودعم مسيرة هؤلاء الإخوة. وإنني أقول بهذه المناسبة: إن من واجبكم -أيها الإخوة- أن تضعوا أيديكم في أيديهم، وأن تعينوهم على ما هم بصدده، وأن تدركوا أن من علامات المجتمع الصالح أنه يبارك ويوالي كل مجهود يبذل في سبيل الله عز وجل، وهذا بحمد الله ما لمسناه وسمعناه من الإخوة في تعاون إخوانهم معهم، ومدهم لهم بما يحتاجون وشدهم لأزرهم، وليس هذا بغريب، فإن أمة الإسلام هي التي حملت مشعل الإسلام أول مرة، وهي التي تفزع، وتقوم كلما نزلت بالإسلام نازلة، فتشمر عن سواعد الجد، وتبذل ما تستطيع. أما عن مصير المترفين؛ وهو موضوعنا في هذه الليلة، فإن الكلام فيه يطول، وأرجو الله عز وجل أن يوفقني لإيجازه بما ينفع ولا يخل. إن الدنيا دار ابتلاء وامتحان يبتلي الله عز وجل فيها الأمم، والأفراد بأنواع الابتلاءات؛ ليعلم الله عز وجل من يشكر ممن يكفر؛ ومن رحمته وحكمته جل وعلا أنه يوقظ الأمم والأفراد من غفلتهم، بشتى الوسائل والطرائق. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 2 الاستدراج بالنعم قد يستدرج الله تبارك وتعالى بعض عباده بالنعم بعد هذا كله، إذاً: الله تبارك وتعالى أهلك جيرانك وبدل عليكم الألوان، والأحوال من قحط إلى رخاء، ومن مرض إلى صحة، واستخلفكم عن غيركم، وصرف لكم الآيات ثم لم يعتبر المعتبر، ولم يتعظ المتعظ، هنا تأتي النهاية- ولننظر كيف تكون النهاية. النهاية: هي أن الله تبارك وتعالى يمد لهؤلاء القوم في الرزق، وينعم عليهم بأنواع النعيم؛ يستدرجهم من حيث لا يعلمون، كما قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56] وقال: {وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:48] أمليت لها وهي ظالمة. ولذلك قال بعض السلف: إذا رأيت الله عز وجل يملي للعبد، وهو مقيمٌ على معصيته، فاعلم أن هذا استدراج. هذا هو المقياس: إن رأيت النعم تزداد والطاعة تزداد، فهذا من بركات الله تعالى، ومن بركات السماء والأرض، أما إذا رأيت النعم تزداد والمعاصي تزداد فاعلم أن ذلك استدراج قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] وقال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] فيأخذهم الله عز وجل بالتدريج، حتى يسترسلوا مع هذا النعيم، فيأخذون أغفل ما كانوا، وأن الله عز وجل يأخذ الأمم على غفلة ولا يأخذ الأمم وهم في حالة صحو ويقظة، فيأخذهم إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحى وهم يلعبون، لأنهم في ألوان النعيم، كل ما يريدونه متوفر، ومع ذلك استرسلوا مع هذا النعيم، وانجروا وراءه وغفلوا، وماتت قلوبهم، أو كادت أن تموت، فأصبحت النذر من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم ومن تحتهم، ومع ذلك قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، فأصروا وأقاموا على ما كانوا عليه، فحينئذٍ يأخذهم العذاب، وهم أغفل ما كانوا، إما بياتاً وهم نائمون، أو ضحىً وهم يلعبون، فهكذا مكر الله، وتأمل هذا مما يخيف العاقل؛ لأن الأمم إذا مرت فيها النذر كلها، واستنفذت الأسباب كلها، ولم تعتبر ولم تتعظ لم يبق إلا العذاب والعياذ بالله، فنسأل الله عز وجل بمنه وكرمه أن يوقظ قلوبنا حتى يكون هذا وقاية لنا من عذابه. الدنيا لا تساوي شيء: روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فالمرحلة مرحلة إملاء، فيملي، ويمد له ويمهله، ويعطيه الدنيا، والدنيا لا تساوي شيئاً عند الله عز وجل، وفي السنن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء} ويقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها ويقول: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خير مما تطلع عليه الشمس وتغرب} فالدنيا من آدم إلى قيام الساعة لا تساوي شبراً في الجنة، ولا تساوي جناح بعوضة. إذاً: ذلك لا يمنع أن الله عز وجل أن يملي ويمهل، حتى إنه يعطي الكافر، فتأتي إلى الكافر فتجده منعم، أصح مما كان، وأغنى مما كان وأقوى ما كان، ومع ذلك يكون، والعياذ بالله مثل الشجرة العظيمة التي إذا انجعفت وسقطت سقطت مرة واحدة لا عهد له بالسعادة، ولا بالنعيم من يوم أن يغادر هذه الدنيا وهو في شقاء أبدي سرمدي على النقيض من المؤمن فإنه قد يجد في هذه الدنيا بعض الكدر، لكن إذا غادر الدنيا فارق الأذى. إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت، كانت فاطمة رضي الله عنها، تقول: كما في الصحيح: {واكرب أبتاه} ترى الرسول صلى الله عليه وسلم يتغشاه الكرب وتفصد جبينه من العرق، ويغطي وجهه بخميصة، فإذا أغتم كشفها، فتقول: {واكرب أبتاه فيقول لها صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيكِ كرب بعد اليوم} فهذا آخر ما عليه، وبعدها، ينتهي رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل الآلام، وبعدها لن يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا السعادة والنعيم والسرور والفرح والروح والرضا، وإذا كنت تعلم أن عمرك في الدنيا سبعون، أو خمسون أو ستون سنة لكن لو افترضنا أنك عشت الدنيا من آدم إلى قيام الساعة كم الدنيا؟ بعضهم يقول: سبعة الآلاف سنة، ولكن هذا غيب عند الله، لكن لنفترض أنها كذلك عشرة آلاف سنة، أو عشرين ألف سنة، فقس الدنيا كلها إلى الآخرة، موقف الحساب فقط مقداره خمسون ألف سنة قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4] فما بالك بالآخرة. إذاً: الدنيا لا تساوي عند الله شيء، ولذلك قد يمد للإنسان، ويعطيه، وينعم الله ويوسع عليه بألوان الرزق وإن كان عليه ساخطاً، فإن الله تعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولذلك قد تجد الكافر منعماً وقد تجد المؤمن كذلك، وقد تجد الكافر صحيح الجسم والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر غنياً والمؤمن كذلك، وقد تجد الكافر يملك السلطان والجاه والمنزلة والبلاد العريضة وقد تجد المؤمن كذلك، فهذه الأمور ليست مقياساً، يعطيها الله تعالى المؤمن والكافر، والتقي والفاجر، لكن إذا أخذ الله الظالم لم يفلته، فهذه هي المشكلة: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} فيخشى الإنسان إذا أملي ومد له، يخشى من هذا الأخذ، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] . الغفلة عند هذه الأمة: ويا أحبتي -مرة أخرى- أقول: أليس من المحزن والمخيف أن هناك أناساً كثيرين لا يسمعون هذا الكلام ويعتقدون أن المقصود به غيرهم من الناس، نحن نريد أن نتحادث، فنحن الموجودين في هذا المسجد، كم واحداً منا يشعر أنه المقصود بهذا الكلام؟ هذا هو الأمر الذي يجب أن نفكر فيه، أما أن نعتقد أن المقصود بهذا أناس آخرون غيرنا، وكأن هذا الكلام لا يعنينا، هذا معناه أننا غافلون، والغفلة هي من أسباب العذاب بياتاً وهم نائمون أو ضحى وهم يلعبون، فينبغي للعاقل أن يدرك أنه هو المقصود بهذا الكلام قبل غيره، وأن عليه أن يتعظ بغيره، قبل أن يتعظ به غيره، فاللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا. أخرج الترمذي في سننه، وحسنه، وأخرجه عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف: [[أن رجلاً قال والله لأجدن عهداً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولأكلمنهم، فذهب إلى المدينة في عهد عثمان رضي الله عنه فوجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرين في المدينة فسلم عليهم، وصافحهم وسألهم، وسمع منهم، ثم فقد عبد الرحمن بن عوف، فقال: أين عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: هو بالجرف -الجرف: مزرعة لـ عبد الرحمن بن عوف هو مقيم فيها- فذهب إليه، فلما جاء إليه وجد عبد الرحمن بن عوف قد خلع رداءه وهو يزين الأرض، ويقود الماء بمسحاته، فلما رأى هذا الرجل استحيا منه، فتناول رداءه فلبسه، ثم جاء إليه فسلم عليه، فقال له هذا الرجل: جئت أريد أن أسأل عن أمر؛ فرأيت أمراً أعجب منه، قال له: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال له: يا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هل سمعتم ما لم نسمع نحن أو علمتم ما لم نعلم، قال: لا، قال: فإذا لم نسمع إلا ما سمعتم ولم نعلم إلا ما علمتم فما بالكم تزهدوننا في الدنيا، وأنتم ترغبون فيها، وترغبوننا في الجهاد وأنتم لا تخفون إليه، بل ربما تثاقلتم، وأنتم أشرافنا وسادتنا، وأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم وأئمتنا، قال له عبد الرحمن بن عوف: والله ما سمعنا إلا ما سمعت، ولا علمنا إلا ما علمت، ولكنا ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] أي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان الواحد منهم يضع الحجر على بطنه أياماً من شدة الجوع كانوا يعتقدون أنهم أحسن منهم حالاً يوم أن فتحت عليهم الدنيا، ويوم أن كان -كما ذكر عتبة وسعد وغيرهما- أن الواحد منهم كان في بعض الأحوال يأتي لقضاء حاجته، فإذا حرك الأرض بيده سمع قعقعة شيء، فأخذه، فإذا يبس يأخذه ويحرقه على النار، ثم يستقوي ويشرب عليه الماء، فيستقوي عليه أياماً من شدة الجوع، ويوم أن كان صياح الأطفال، وصراخهم يسمع من وراء الشِعب من الجوع والحرمان، كانوا يحسون أنهم أقوى منهم من يوم أن فتحت عليهم الدنيا ووسع الله تعالى عليهم الرزق، فـ عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه من تواضعه، وقوة؛ إيمانه كان يقول: [[ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر]] وهم رضي الله عنهم لم يغيروا ولم يبدلوا، لكن كانوا يحسون بأن ذروة إيمانهم في حال الشدة كانت أقوى وأعظم. ولذلك -أيضاً- يذكر عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه أنه في مرة من المرات قُرِّبَ له عشاؤه، وكان عبد الرحمن بن عوف من أغنياء الصحابة رضي الله عنهم وكان فيه من ألوان الطعام ما فيه، فلما قرب إليه وضع خده على يده ثم تأمل قليلاً، ثم أجهش بالبكاء حتى رثى له من حوله، وقالوا له: ما لك يرحمك الله؟ فلم يستطع أن يخبرهم، وأمر برفع المائدة، فلما رفعت، وعادت إليه نفسه، قال: إني تذكرت أخي مصعب بن عمير رضي الله عنه كان خيراً مني، ومع ذلك مات ولم يأخذ من أجره شيئاً حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه فيه حين مات إلا بردة لا تكاد تستره، إن غطوا رأسه ظهرت رجلاه، وإن غطوا رجليه ظهر رأسه، يقول: فأخشى أن تكون حسناتنا عجلت لنا. فهو يخشى أن الله عز وجل لم يقبل منه هذا العمل، فرده عليه، وأنعم ع الجزء: 193 ¦ الصفحة: 3 بوادر العذاب ومقدماته السبب الرابع الذي يوقظ الله عز وجل به عباده: أن الله تعالى قد يظهر لهم بوادر العذاب ومقدماته وأوائله لعلهم يعتبرون، ولعلهم يرجعون ويخافون، ثم يكشف عنهم ذلك، كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الأعراف:135] أي أنهم لما نزل بهم العذاب والرجز دعوا ربهم وقالوا: {يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الأعراف:134] أن يكشف عنهم الرجز والعذاب، فلما كشف الله عنهم الرجز، نكثوا عهدهم وميثاقهم ووعدهم، وعادوا إلى ما كانوا عليه، وهذا -والعياذ بالله- أمر قد تبتلى به -أيضاً- الأمم المنتسبة إلى الإسلام، فكم من إنسان إذا نزلت به مصيبة؛ بكى وصرخ ووعد الله عز وجل أن يتوب، فإذا مد الله تعالى له في العمر ووسع له في الرزق نسى ما كان يدعو إليه من قبل، وعاد إلى ما كان عليه من الفساد والانحراف، وكذلك الحال بالنسبة للأمم والشعوب، ولا أدل على ذلك من أن هذه النكبة التي ابتليت بها الأمة الإسلامية في هذه الأيام لما حدثت وجدت من الناس بعض الإقبال إلى الله عز وجل؛ لأنهم اعتبروها بداية عذاب، وبادرة لما بعدها، فعاد بعضهم إلى الله عز وجل، وزاد عدد المصليين في المساجد، وأصبح بعض الناس يتساءلون هل لنا من توبة، ومنهم من أحرق ما عنده من الصور المحرمة، والأشرطة الفاجرة، ومنهم من تاب من أكل الربا، ومنهم من تاب من العقوق، ومنهم ومنهم، فلما عادت الأمور واستقرت بعض الشيء رجع كثير منهم إلى ما كانوا عليه. إن هذا في الواقع من التشبه بالكفار والمشركين؛ لأنهم هم الذين لا يعتبرون ولا يتعظون، كما قال الله عز وجل عنهم، لما ذكر عنهم أنهم إذا عذبوا بالنار ورأوا الجحيم، قالوا: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] يقول الله عز وجل: {بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] تصور كيف قسوة القلوب وكثافتها وغلاظتها وجبروتها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] أي أن قلب إنسان يرى النار بعينيه، ويوقف عليها، ويسمع صوتها وزفيرها، ويرى لهبها يتقطع، ويرى سلاسلها وأغلالها، ويوقف عليها رأي العين وليس خبراً، فيقول: يا ليتنا نرد، فلو رد لعاد لما كان عليه قال تعالى: {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] . ثم إن الله عز وجل قد يستخلف أمة بعد أمم هالكة حتى يعتبروا بمن كان قبلهم من الأمم، كما قال الله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] أي استخلفكم بعد أمم أهلكها ودثرها؛ لينظر كيف تعملون، أتعتبرون بخبرهم أم لا تعتبرون؟! وهذه الجزيرة -مثلاً- كم عاش فيها من الأمم، وكم قام فيها من الحضارات، وكم وجد فيها من الشعوب قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:6-9] وقال: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:15-17] كل هذه الأمم وغيرها عاشت في هذه البلاد، وعصوا وأخذهم الله عز وجل واستخلفكم في الأرض من بعدهم لينظر كيف تعملون، بل ما لنا نذهب بعيداً، ونحن نذكر أن هذه الجزيرة نفسها، وقبل سنين وقرون ليست بالطويلة أنها عاشت حياة من الفقر والرعب والخوف والشتات، كانت مضرب المثل فيه، وكان المعروف عند أهل هذه البلاد، أنها تلد ولا تطعم، فإذا ولد فيها المولود؛ ذهب ليأكل في السند أو الهند أو الشام أو مصر أو في غيرها من الفقر والجوع، ومن الخوف والشتات، حتى إذا أنعم الله علينا بهذه النعم، وأسرع إلينا بكل خير، ورزقنا رغد العيش، وأخرج لنا هذه الثروات من باطن، الأرض وأنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واستتب لنا الأمن إذا بقوم منا ينسون ويعرضون، فالله عز وجل يقول: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] ويقول أيضاً: {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ} [السجدة:26] . إذاً: هنا كل أرض وطأتها؛ قد مشى فيها قبلك أمم وأجيال وقرون وشعوب كانوا مثلكم، أو أشد منكم قوة، وأكثر منكم صحة، وأمتع منكم في الدنيا، تمتعوا واستمتعوا، أو أكلوا وشربوا وناموا ودرجوا ثم انتهوا وبادوا. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 4 تنوع الأحوال على الأمم الأمر الثالث: هو أن الله عز وجل قد ينوع الأحوال على الأمم، أي أنه يغير حالهم من قحطٍ إلى جدب ومن قحطٍ إلى مطر، ومن مطرٍ إلى جدب، ومن غنى إلى فقر ومن فقر إلى غنى، ومن صحة إلى مرض ومن مرض إلى عافية، وهكذا ينوع الله عز وجل على ابن آدم. لأن بعض الناس إذا ألفوا حالاً لا يعتبرون، حتى الشدة -والعياذ بالله- إذا ألفها الناس لم يعودوا يعتبرون، ولذلك يقول بعض الخبراء: أن الله عز وجل أصاب بلداً من بلاد الغرب المشهورة بالفجور والدعارة بالزلزال، فكان الزلزال يضرب في جنوب البلد، وأهل الشمال مواصلون فيما هم فيه من اللهو واللعب والخمر والرقص والفساد والفجور، فبعض الناس إذا استمرت عليه الحال حتى ولو كانت حال شدة قسا قلبه، فكيف إذا استمر عليه الرخاء فيقسو قلبه أكثر، ولذلك يغير الله عز وجل الحال على عباده، فيصيبهم بقحط، ثم برخاء، ويصيبهم بنعيم ثم بؤس، ويصيبهم بمرض ثم عافية؛ لعلهم يرجعون، ولذلك يقول الله عز وجل: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:168] بالحسنات والسيئات، الحسنات: جمع حسنة وهي ما يصيب الإنسان مما يحبه من الخير والرخاء والنعيم والسرور والصحة والعافية والسلامة، والسيئات: هي ما يكرهه الإنسان من القحط والجدب والجفاف والمرض والفقر والبؤس والهزيمة فأحياناً هكذا وأحياناً هكذا. قال تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:95] سبحان الله، الناس إذا قست قلوبهم كأنه لا حيلة فيهم، حتى حينما يغير الله عز وجل ما بهم، ويبدل أحوالهم حالاً بعد حال، ماذا يقولون؟ يقولون: هذا أمر طبيعي! قد مس آباءنا الضراء والسراء، ما هذه سنة الحياة وطبيعة الحياة، وهذا شأن الأولين، كما قالوا: {إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:137-138] فيقولون: حتى آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء. تنوع الأحوال وتبدلها ليس خاصاً بنا، فمثلاً: تأتي إلى إنسان قد بُدِّلَ نعيمه بشقاء وبؤس وعذاب، فتقول: يا أخي! تذكر، اتق الله، عد إلى الله، فيقول: يا أخي! هذا أمر طبيعي، الأمر الذي أصابني أمر طبيعي، قد مس آباءنا من قبل، قد أصاب أبي وجدي ما أصابني. إذاً: لا داعي لأن اعتبر واتعظ، فهذا الأمر الذي وقع لي قد وقع لغيري، والأمر الذي وقع لهذا الجيل قد وقع للجيل الذي قبله وهم يقولون: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ} [الأعراف:95] (إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ * وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء:137-138] . ولذلك يقولون: لا علاقة لهذا الأمر بطاعة، أو كفر، وهذا -مع الأسف الشديد- أصبح نغمة نسمعها اليوم، فأصبحنا نسمع كثيراً من ضعفاء الإيمان أو المنسلخين عن الدين يشككون في أن المعاصي هي سبب ما أصابنا وما أصاب الأمم من حولنا، ويعجزون عن ربط هذا الأمر بقضية الذنوب والمعاصي، يقولون: ما علاقة كون الناس يصلون أو يصومون باحتلال بلد آخر لهم؟! ما علاقة تعاطي الربا بالعقوبات التي تنزل من السماء، أو تخرج من الأرض؟! وهذا الكلام في الواقع لا يقوله الذي يؤمن بالله واليوم الآخر، لأنك لو كنت تعلم أن الله عز وجل بالمرصاد، فإنه لا غرابة أن القوم إذا أطاعوا الله عز وجل وكانوا له على ما يريد فإن الله عز وجل يكون لهم بكل خير أسرع، فيدر عليهم عيشهم، ويبسط لهم رزقهم، وينعمهم في الدنيا بألوان النعيم، وإذا عصوه وخالفوا أمره وتمردوا على رسله فإن الله عز وجل يؤدبهم بألوان المصائب والنكبات، لا غرابة في ذلك، عندما يؤمنون بالله عز وجل، لكن من لا يؤمن بالله؛ فإنه يفسر الأمور كلها تفسيراً مادياً بحتاً، ولا قدرة لعقله على أن يتجاوز حدود هذه الدنيا لينظر فيما وراءها، فهم محجوبون بحجاب كثيف عن معرفة ما عند الله عز وجل، أما المؤمنون فيقرءون القرآن، فيجدون من خلاله أن هذه المصائب والنكبات إنما هي بذنوبنا وبما كسبت أيدينا قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . الجزء: 193 ¦ الصفحة: 5 الأخذ بالمحنة والشدة والبأساء والضراء السبب الثاني: هو أن الله عز وجل قد يأخذ الناس بالمحنة والشدة والبأساء والضراء لعلهم يتذكرون ويرجعون إلى ربهم كما قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42-43] وقوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ} [الأنعام:42] البأساء من البؤس، وهي الشدة والفقر وقلة ذات اليد، والضراء من الضر والآفة والمصيبة والمرض وما شابه ذلك، فأخذهم الله عز وجل بالفقر، والشدائد، وبالآفات والأمراض، لعلهم يتضرعون ويشعرون بحاجاتهم إلى الله عز وجل، فينكسرون بين يديه، لكنهم لم يفعلوا بل قست قلوبهم، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، ويقول عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94] فهكذا سنة الله عز وجل في كل القرى والأمم، وفي كل الشعوب إذا أصروا وكذبوا؛ عاقبهم الله عز وجل بالبأساء والضراء، وهذا من رحمته بهم، أنه لا يعاجلهم بعقوبة تستأصلهم وتنهيهم، كلا. ولا يمهل لهم، ويملي لهم في النعيم منذ البداية حتى يغتروا، كلا. بل البداية أن الله عز وجل قد يأخذ جيرانهم، فإذا لم يتعظوا، أظهر الله عز وجل لهم بعض الشدة وبعض البأساء لعلهم يضرعون. يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ} [الأعراف:130] والسنين جمع سنة: وهي القحط والجدب والسماء لا تمطر، والأرض لا تنبت حتى تموت الزروع والضروع والحيوانات، ويصيب الناس القحط والجفاف هذه السنين: {وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130] بسبب القحط والجدب، وبسبب نزع البركة، فتنقص الثمرات عندهم: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف:130] ويقول في آية أخرى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] هذا نموذج مما أخذهم الله به من الآفات: {وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] ولكن مع ذلك كله استكبروا فهذه هي المسألة الثانية التي يأخذ الله عز وجل بها الأمم لعلهم يتضرعون، لأن هذا ليس عقاباً نهائياً ليبيدهم ويستأصلهم عن آخرهم، بل هذا عقاب مؤقت لعلهم يرجعون، ويتذكرون، فإذا أصروا واستكبروا، كما استكبر الذين من قبلهم، كما فعل قوم فرعون وسواهم، فإن الله عز وجل يعاملهم بأسلوب آخر. فإن الله عز وجل، قد يبتلي الأمم بالأمراض، وكم من أمة ظهر فيها من الآفات والأمراض ما لم يكن يظهر فيمن قبلهم، ولو نظرنا في واقعنا الآن لوجدنا أن الناس أصبحوا يتسامعون بأمراض لم يكن الأولون يعرفونها. ما يسمى بالجلطة: التي تصيب الإنسان وهو نائم أو قاعد أو يأكل أو يشرب في لحظة فينقل مغمى عليه، ثم غالباً ما يخرج من سرير المستشفى إلى نعش الموتى، كذلك لم يكن الناس يسمعون بالسرطان ولا يسمعون بالهربس والإيدز وغيرها من الأمراض الجديدة التي وقف الطب حائراً أمامها. فهذه ألوان من الآفات والمصائب، والمحن التي يأخذ الله بها الناس في كل زمن، ولها سبب كما سوف يتضح، وأحياناً يأخذ الله عز وجل الأمم بنقص البركات والثمرات، وهذا -أيضاً- مشاهد. والأمم الإسلامية اليوم بالذات تعيش تأخراً وتراجعاً في مسألة الاقتصاد، في يوم من الأيام كان عند الناس ما يسمى بطفرة اقتصادية، ولذلك كثير من الناس قاموا بمشاريع ومؤسسات وشركات، وأسسوا وعمروا وبنوا، لكن تأخر ذلك وتراجع كثيراً، وأنت لو تأتي إلى إنسان اقتصادي لقال لك: ذلك بسبب أمور، وذهب يعدد لك أسباباً كثيرة، وقد تكون هذه الأسباب صحيحة لكن نحن نقول وراء هذه الأسباب كلها السبب الشرعي قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] إذاً: تراجع الاقتصاد، والأمراض، والمصائب، واختلال الأمن كل ذلك من الأمور التي ينبه الله تبارك وتعالى بها عباده لعلهم يرجعون. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 6 إهلاك الجيران للعبرة بهم فمن الطرق التي يوقظ الله بها الأمم، والأسباب التي يدفع بها عنها النقم أنه عز وجل يهلك جيرانهم حتى يعتبروا بهم، كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] فانظر إلى هذه الأمم والدول والشعوب التي أهلكها الله عز وجل، وتبصر بسبب هلاكهم حتى تتجنب هذه الأسباب، فالسعيد من وعظ بغيره، ولذلك كان من دعاء بعض الصالحين، أنه كان يقول: اللهم لا تجعلنا عبرة لغيرنا، لأنه كما أن الله عز وجل يهلك غيرنا لنعتبر، فلا مانع أن يهلكنا الله عز وجل، ليعتبر بنا غيرنا، فإنه ليس بين الله عز وجل وبين خلقه سبب إلا التقوى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] وهذا السبب من الأمور التي قد رفعها الله عنا حتى الآن، فإننا نعلم في هذه الأزمنة المتأخرة أن هذه البلاد لا تزال محفوظة من المصائب العامة، والنكبات الشاملة على حين أن الأمم تتخطف من حولنا وكل يوم نسمع عن نكبة. فلسطين: قبل عشرات السنين سمعنا مأساة فلسطين، وكيف أن اليهود احتلوها ودخلوها، وشردوا أهلها ومزقوهم كل ممزق، وفعلوا بهم الأفاعيل حتى أصبح الفلسطينيون في أنحاء الدنيا، لا وطن لهم، ولا مستقر لهم بل هم مشردون، إما في أنحاء الدنيا، وإما مشردون في خيام ومخيمات تجود بها عليهم المنظمات العالمية، وشأنها كما قيل: في خيمة من نسيج الوهم لفقها ضمير باغٍ على الإسلام يأتمر أوهى وأوهن خيطاً من سياسته لو مسها الضوء لافقدت به الستر تعدوا الرياح بها نشوى مقهقهة كأنها بشقوق الرمل تنحدر لا شيء يقيهم من الحر والقر، والريح ويتكففون هذه المنظمات العالمية أن تمدهم بما يحتاجون إليه من الكساء أو كسرة الخبز أو غيرها. أفغانستان: وبعد ذلك سمعنا بمآسي المسلمين في بلاد أخرى، كما سمعنا بمأساة المسلمين في أفغانستان، وكيف فعل بهم الروس وعملاؤهم من أهل البلد الأصليين، وكيف أن أكثر من مليوني مهاجر خرجوا هائمين على وجوههم لا يدرون إلى أين، أكثر من مليونين في باكستان، وربما عدد كبير في إيران، ودع عنك أعداداً غفيرة من الأفغان الموجودين في أنحاء الدنيا، حيثما يممت من بلاد الله وجدت ذلك المسلم الأفغاني لا مستقر له، ولقد ألتقيت بأحد كبار قادتهم منذ زمن ليس بالقصير في مناسبة الحج، وهو من الشيوخ، فكان يقول لي: والله إننا نعلم أنه ما أصابنا الذي أصابنا إلا بسبب تقصيرنا في أمر الله، وتركنا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. لبنان: بعد ذلك جاءت، بل قبله وبعده ومعه، جاءت قضية لبنان، وتسامع الناس كيف أن الله تعالى أحرقها بنار الحرب التي لا تبقي ولا تذر، واستمرت على مدى أكثر من عشر سنين، حرب ضارية طاحنة أتت على الأخضر واليابس، وهذا البلد الذي كان ميداناً للسياحة بالأمس، وكان الناس يذهبون إليه في الاصطياف وللعلاج ولغير ذلك، وكانت مكان طباعة الكتب والتصدير إلى غير ذلك، هذا البلد أحرقتها الحرب، فأصبحت قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، ولا تزال الحرب تفعل فعلها في هذا البلد، ومثل ذلك في كشمير وغيرها، ولعل آخر العنقود وليس بالأخير هو ما جرى لـ الكويت. ومن كان يظن أن ما جرى للكويت كان يجري، لو كان بالقياس العقلي، والنظر المجرد أن يقال لك: أن أهل الكويت وهم فيما هم فيه من النعيم والرفاهية والقصور الفارهة والأموال الكثيرة والأمن والأمان والرخاء ورغد العيش؛ لو قيل لك قبل أسبوع من الحادثة أن ما جرى سوف يجري لعددته ضرباً من المحال، ومن الطريف أنه في اليوم الذي يتلو، بل في اليوم الذي حصلت فيه الأزمة صلى معي رجل من الناس، فقال لي: هل سمعت ما جرى في الكويت؟ قلت له وماذا جرى؟ قال لي: إن العراق قد اجتاح الكويت، وطرد حكومتها وأهلها واحتلها، فوالله الذي لا إله غيره إني ما تجرأت على نشر الخبر أياماً، إلا أنني قلت: أن هذا أمرٌ فيه بعد، وأخشى أن يكون الذي أخبرني لم يتثبت، فلا أحب أن أتسرع بنقل الأمر، وقد لا يكون صحيحاً، لأن الأمر كان في غاية الغرابة، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف:27] فهذا سبب من أسباب إيقاظ الله عز وجل للأمم لعلهم يرجعون. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 7 الترف ومن هنا أنتقل إلى مسألة أخرى، أو نقطة أخرى وهي: ما معنى الترف إذاً؟ أقول: معنى الترف باختصار كما سمعتم الآن، ورأيتم: أن الله عز وجل قد يوسع على الناس ويمدهم ويستدرجهم بالنعم؛ فحينئذٍ إذا وسع الله على الناس من الرزق انقسموا إلى قسمين: قسم شكروا هذه النعم، وعرفوا قدرها، فعبدوا الله تعالى بها، وصرفوها فيما يرضيه سواء كانت مالاً، أو سلطاناً أو منصباً أو جاهاً أو ديناً أو غير ذلك، فهؤلاء لهم الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن العاص: {نعم المال الصالح للعبد الصالح} فهؤلاء سعداء في الدنيا بما آتاهم الله عز وجل وسعداء في الآخرة. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 8 المترفون سبب هلاك الأمم إن هؤلاء المترفين هم الذين يصرون على كفرهم، ويعارضون دعوة الأنبياء والمرسلين، ويحذرون -أيضاً- الناس من ذلك كما قال الله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:33-34] وهم -أيضاً- سبب هلاك الأمم والشعوب وذلك لأنهم يكفرون ويتسلطون كما قال الله عز وجل {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] في الآية ثلاث قراءات القراءة الأولى، أَمَرْنَا مترفيها، قيل معنى أمرنا: أمرناهم بالطاعة فعصوا، وبالتقوى ففجروا، وبالإيمان فكفروا؛ فاستحقوا العقوبة فدمرهم الله عز وجل، نُقِلَ هذا القول عن ابن عباس وغيره، وقيل معنى أمرنا يعني أمرناهم أمراً قدرياً بالفسق والفجور، أي أن الله تعالى كتب عليهم ذلك، لما علمه منهم من أنهم متأهلون للفجور والفساد {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] حتى إذا حق عليهم القول بالمعصية والفجور دمرهم الله تبارك وتعالى تدميراً، أمرنا مترفيها، وفي قراءة أخرى أمّرنا مترفيها وهذه قراءة أبي العالية رحمه الله فإنه قرأها أمّرنا مترفيها، أي جعلناهم أمراء وسلاطين وحكاماً ففسقوا في هذه القرى فحق عليها القول، فدمرناها تدميرا. إذاً إذا أراد الله عز وجل إهلاك أمة أو شعب أمّر مترفيها وولاهم وسلطهم، حتى يفسدوا ويفسدوا فحينئذ يحق القول عليهم وعلى الأمم التي جارتهم، فدمرهم الله تدميرا، لأن الله لم يهلك الظالمين فقط بل قال: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] القرية بأكملها حتى الفلاح والمزارع، وحتى التاجر، وحتى الكبير والصغير، والرجل والمرأة والطفل كلهم، بل حتى الحيوانات، وهذه سنة من سنن الله عز وجل: أن الله إذا أهلك قوم أهلكم عن آخرهم ثم يبعثون على نياتهم، لماذا ذلك؟ لأن الله تعالى يهلك الأمم لأنها تستسلم للمترفين، لماذا لم تقاوم؟ لماذا لم تقم بالواجب؟ لماذا لم تأمر بالمعروف؟ لماذا لم تنته عن المنكر؟ إن الله يسلط لا المترفين على الأمم؟ إلا إذا كانوا ظالمين، فإذا ظلمت الشعوب، سلط الله تعالى عليها من هو أظلم، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] أي نجعل بعض الظالمين أولياء، ولاة على بعض؛ بما كانوا يكسبون. كما تكونوا يولى عليكم: لما كانت الأمم المصرية في عهد الفراعنة الأولين أمماً ظالمة فاجرة كافرة، فيها أمثال قارون وهامان وسائر المجرمين، سلط الله تعالى عليهم مثل فرعون الذي يسومهم سوء العذاب، يذبح أبناءهم ويستحي نسائهم، ويأخذهم بالقهر والغلبة والتسلط، ولما كانت الأمم فيها أمثال عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والزبير بن العوام، قيض الله تعالى لهم أمثال أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يسوسونهم بسنة الله تعالى وسنة رسولهم صلى الله عليه وسلم، ويؤخذ الحق لضعيفهم من قويهم {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] ففرعون، إنما كان فرعون لأنه حكم قوماً ظالمين، كما قال الله عز وجل: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ولذلك جاء رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له: ما شأن الناس اتفقوا على أبي بكر وعمر واختلفوا عليك، فقال: لأن أبا بكر وعمر كانوا يحكمون مثلي وأنا أحكم مثلك، فلذلك اختلف الناس عليَّ. إذاً بينهم ترابط وعلاقة وشيجة {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] القراءة الثالثة بالمد {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] أي كثرناهم كما نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه، وأبي الدرداء، ونقل -أيضاً- عن ابن عباس وعكرمة: أن معنى أمرنا وآمرنا أي كثرنا مترفيهم، أي: أن الترف لم يكن في فئة خاصة، ولم يكن في القصور فقط، ولم يكن في الأغنياء فقط، إنما صار الترف شأناً عاماً للأمة، كما حصل في قرون كثيرة من التاريخ كما حدث للرومان -مثلاً- وكما حدث للمسلمين في الأندلس وكما حدث للأمم الإسلامية في هذا العصر خاصة، وفي الدول التي وسع الله عز وجل عليها، وأغناها بالمعادن وسواها، فإن هذا الترف لم يعد مقصوراً على جهة خاصة، أو طبقة خاصة، بل تحول الترف إلى ديدن للشعوب كلها، فأفسد الشباب والفتيات، وخرب الضمائر، وأمات القلوب، وأفقد الناس الرجولة والشهامة والمروءة والإنسانية التي كانت توجد عند الإنسان العادي، حتى ولو كان إيمانه غير قوي، وكل هذه المعاني المذكورة في الآية محتملة، فالمهم أن الترف هو سبب هلاك الأمم والشعوب، والمترفون: هم الذين يقودون ركب الأمم إلى هاوية الفساد والضياع والانحراف. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 9 المترفون صنف آخر من الناس كفروا بهذه النعم واستعملوه بما يغضب الله عز وجل، واسترسلوا معها ونسوا حق الله فيها واغرقوا، فهؤلاء هم المترفون. إذاً الترف ليس مظهراً فقط، ليس الترف أن تأكل حسناً، أو تلبس حسناً، أو تركب حسناً أو تسكن حسناً لا ليس هذا هو الترف، ولذلك في الحديث الصحيح، الذي رواه أهل السنن وغيرهم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أشعث الرأس عليه ثياب بذلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {من أي المال آتاك الله، فقال له: من كل المال يا رسول الله! من الإبل والبقر والغنم والورق والذهب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده} فما دام أن الله أعطاك من أصناف المال، أظهر هذا، والبس حسناً واجعل نعلك حسناً، وثوبك حسناً، ومركوبك حسناً، وهيئتك حسنة، وفي صحيح مسلم: {أن أصحاب النبي سألوا وقالوا: يا رسول الله، إن أحدنا يحب أن يكون ثوبه حسناً، ونعله حسناً، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله جميل يحب الجمال} . إذاً ليس الترف أن يكون ثوبك جميلاً أو سيارتك فارهة، أو فخمة، ليس هو بذاته الترف بل الترف، ما وراء ذلك. فالترف هو: الإغراق في النعيم والاسترسال معه حتى إنه يصبح همك هو النعيم، يعني الذي سيارته فارهة لكنه يستخدمها في الطاعة ذهاباً وإياباً في طاعة الله عز وجل، فهذا جعلها بمنزلة الحمار الذي يركبه ويطؤها بقدمه، ويستخدمها ولا يخدمها، لكن الذي سيارته أصبحت كل همه، فهو من حين تطلع عليه الشمس، وهو يشتغل في السيارة وفي تغسيل العجلات، وتصليحها، وكل يوم يخرج بطريقة جديدة واليوم ستائر للسيارة وتغسيلها، ولو حسبت الوقت الذي يقضيه في تغسيل السيارة يمكن يقدر على الأقل خمس ساعات في اليوم، أذكر أنني ما مررت من عند شاب من أمام بيته إلا وهو يغسل سيارته، إما في العجلات أو في الزجاج أو في السيارة أو في المقدمة أو في المؤخرة، هكذا أصبحت السيارة ليست مجرد آلة، أو وسيلة يستخدمها فيما يرضي الله، لا! بل أصبحت هماً يهيمن عليه، وهذا موجود عند كثير من الشباب أي التفاخر بالسيارات وألوانها، ومراكبها والدوران بها، واستخدامها في معاصي الله عز وجل، فهذا يدلك على جانب من الترف، وهو أن تصبح الدنيا وأن تصبح النعم هدفاً ويسعى إليه الإنسان، يسعى في تحصيله بكل ما يستطيع، فهؤلاء هم المترفون وهذا هو الترف. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 10 المترفون هم المعارضون للرسل لم يرد الترف في الكتاب والسنة، إلا على سبيل الذم، أما في السنة: فإن الترف لم يذكر إلا قليلاً، أما في القرآن الكريم فقد ذكر الترف كثيراً بأنه من صفات الكافرين والمكذبين، فالمترفون في القرآن الكريم هم المعارضون لدعوة الرسل، وهم المعارضون للحق والعلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لماذا؟! لأنهم يريدون أن يسترسلوا فيما هم فيه من النعيم، ولا يريدون أحداً أن يكدر عليهم شيئاً من عيشهم، ولذلك قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] فالمترفون يتمسكون بعوائد الآباء والأجداد، ويرفضون دعوة الأنبياء والمرسلين قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] فالمترفون الأغنياء الذين يفتخرون بأموالهم، أو جاههم أو سلطانهم أو منزلتهم أو ما وهبهم الله عز وجل، يرون أن هؤلاء الذين يدعونهم إلى الله وإلى الدار الآخرة، أنهم مجرد أفراد عاديين لا قيمة لهم ولا شأن، فكيف نحن نطيع هؤلاء؟! ولذلك يتهمون الرسل بأنهم بشر مثلهم فيقولون: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون:34] . إن الرسل فعلاً بشر، لكن هل هم بشر مثلهم؟ لا! ليسوا مثلهم، هم مثلهم في الأجساد، لكنهم يختلفون عنهم اختلافاً كبيراً في القلوب والعقول والأفهام والإدراك، فهم ليسوا مثلهم كثيراً، لكنهم يقولون: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون:33] بل هم يقولون أكثر من هذا: يأكل مما تأكلون، -بعض ما تأكلون- وأنتم أحسن أكلاً من هؤلاء، هذا يأكل الخبز اليابس، أو يأكل ما يقيم أوده وأنتم تأكلون ألوان الطعام وأطايبه، وكذلك الشرب هو يشرب الماء البارد القراح، وأنتم تشربون من ألوان المشروبات الجائزة والمحرمة ما لا يستطيع هذا الحصول عليه. فلذلك المترفون دائماً هم المعارضون لدعوة الأنبياء والمرسلين، وهذا يدلك على خطورة الترف وأثره في حياة الأمم والشعوب، قال تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة:45-46] الحنث العظيم: هو الشرك بالله، وهو أكبر الذنوب، سئل النبي صلى الله عليه وسلم: {أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قيل ثم أي؟ قال: أن تزني بحليلة جارك، قيل: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك} . إذاً أعظم الذنوب هو الشرك بالله عز وجل، وهو الحنث العظيم، فالذين يصرون عليه هم المترفون؛ لأنهم يظنون أنهم باقون، سبحان الله! قست القلوب، والله إن الإنسان يعجب أن الدنيا لم تشهد غيرنا، ولم تشهد قروناً وأجيالاً وأمماً عظيمة، كانوا أشد منا قوة، وأكثر أموالاً وأولاداً، ووسع الله عز وجل عليهم، بعضهم عاشوا مئات السنين، وبعضهم عاشوا في القصور الفارهة التي لا نستطيع أن نصنعها اليوم، والأموال الطائلة التي لا عهد لنا بها، ومع ذلك أخذهم الله عز وجل، فكيف يغفل الإنسان؟! كيف يظن أنه مخلد؟! {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:38-39] أنت تعلم من أين خلقت؟! هل تعلم أن أصل الخلقة التي ركبت منها تسوِّغ وتهيئ لك أنك ترزق النعيم في الدنيا وفي الآخرة بدون عمل أبداً، مخلوق من شيء معروف، خلق من ماء دافق، من مني يمنى، مخلوق من شيء ضعيف وأنت تعود إلى ضعف -أيضاً- إذاً لا قوة لك إلا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 11 نتائج الترف في الأمم وأنتقل إلى نقطة ثالثة وهي: نتائج الترف في الأمم، أقول: لا شك أن للترف نتائج خطيرة على نفسيات الأفراد وعلى واقع الأمم والشعوب والمجتمعات ومن ذلك: الجزء: 193 ¦ الصفحة: 12 ضياع الدنيا والآخرة ثم الأثر والنتيجة النهائية الخامسة هي: ما يتلخص في ضياع الدنيا والآخرة على أولئك المترفين، هذا مصيرهم فوات الدنيا والآخرة، إذا نظر في يديه لم يجد فيهما شيئاً، الدنيا كلها ضاعت والآخرة كذلك لحقتها، أما ضياع الدنيا فيكون بأحد أمرين: إما أن يسلب الإنسان دنياه، وهو صحيح يرزق، فيأخذ الله عز وجل ما أعطاه من مال أو جاه أو سلطان أو منصب أو قوة أو صحة أو شباب، يأخذ الله عز وجل ذلك منه ويعوضه عنه بفقر أو بمرض أو بضعف أو بخوف أو بذل أو بسجن أو بغير ذلك، فيسلب الله الدنيا من هذا الإنسان ويبقى بلا دنيا، وهذا كثير، وإما أن يبقى الإنسان، ثم يسلبه الله عز وجل من دنياه، أي أن يسلط الله عز وجل عليه الموت، فيأخذه من بين أهله وولده وحشمه وأعوانه وإخوانه، ويبقى في قبره وحيداً فريداً، ليس معه إلا عمله الصالح، ولابد من أحد الأمرين إما أن تفارق الدنيا أو تفارقك الدنيا وكلاهما أمر -كما يقال- أمران أحلاهما مر، خاصة بالنسبة للمتعلق بالدنيا. حكايات عن ضياع الدنيا: أما مسألة الموت، فيحكى أن ملكاً من الملوك بنى قصراً وشيده وزينه، وقال: لجنوده من عاب منه شيئاً فأصلحوه، وأعطوه درهمين، أي إنسان يقدم ملاحظة على هذا القصر، فأصلحوا الملاحظة، وأعطوا هذا الإنسان درهمين على أنه دلنا على عيب في القصر، فجاء رجل فقير ضعيف في آخر الناس، فقال: هذا القصر ليس فيه إلا عيبان فقط، قالوا: ما هما، قال: إن هذا القصر يتهدم ويموت صاحبه -فالقصر يتهدم وصاحبه يموت- والبقية تمام ما شاء الله تبارك الله، فأتوا للملك وأخبروه، فبكى الملك، وذكر حاله، وخرج من هذه الدنيا؛ حتى كان من الزهاد العباد المعروفين. ومما يحكى في ذلك -أيضاً- أن رجلاً من الصالحين العباد مر على باب ملك من الملوك، مشيد مزين فنظر إليه، وقال: باب حديد، وموت عتيد، ونزع شديد، وسفر بعيد، هذا إذا كان المال حلالاً، فما بالك إذا كان المال حراماً، ما بالك إذا كان من حظوظ اليتامى والفقراء والمساكين، أو كان مال شبهة، أو كان ربا أو سرقة، أو غصب أو غش أو نهب؛ كيف ترى يكون العقاب؟ ويحكى أنه لما رجع محمد محمود بن الملك شاه، وكان قد حاصر بغداد وهو حاكم قوي جبار فحاصر بغداد، وآذى أهلها واعتدى عليهم، ثم رجع إلى همذان، فأقام بها فأصابه مرض السن ولم ينج من هذا المرض، وتوفي في ذي الحجة، وقبل وفاته بأيام: طلب أن يجمع عنده كل ما له من الخدم والحشم والأعوان والجيش وغيرهم، فجمع له الجنود بكامل هيئتهم وزينتهم وسلاحهم، وجمع له عبيده، وجمع له الجواري الحسان وجمع له الأولاد وجمع له الأموال جمعوا كلهم له في صعيد واحد فلما نظر إليهم صفق بيديه وبكى، وقال: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28-29] لو كنت أستطيع أن أفتدي ملك الموت بعبيدي لأعطيتهم إياه، أو بمحظياتي لأعطيتها إياه، ولو كان يقبل مني ملكي لسلمته له، لكن لا حيلة في ذلك، ثم بكى، وأخرج كثيراً من هذه الأموال، ثم قدم إلى ما عمل. هكذا الإنسان في لحظاته الأخيرة، يظهر على حقيقته أصغر بكثير مما يتصور الإنسان، يكبر في عين نفسه -أحياناً- فينتفخ ويعظم نفسه ويعظمه الناس، ويرى أنه، وأنه، وأنه، لكن في النهاية يجد أنه لا شيء، قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] يقول الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ * لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} [المؤمنون:64-65] إذاً: المترفون لهم موعد، وذلك الموعد إما أن يأتوه هم، أو يأتيهم هو لا محاله، وقد يسلب منهم الأمر؛ حتى وهم في حال الحياة، فيبتليهم الله عز وجل بزوال ذلك، كما يروى أن بنت النعمان -وهو ملك الحيرة- دخلت على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه فقال لها: أخبريني عن حالكم كيف كنتم وكيف صرتم، فقالت: أطيل أم أقصر؟ فقال لها: بل اقصري -اختصري أوجزي الكلام- فجعلت تقول: لقد أمسينا وما حي من أحياء العرب إلا وهو يرجوا برنا، ويخاف منا، فأصبحنا وما من حي من أحياء العرب إلا ونحن نرجوه، ونخافه، لأنه ليس بأيديهم شيء، لا مال، ولا قوة، فأصبحوا يرجون الناس ويخافون من الناس أيضاً هذا حالهم باختصار ثم أنشدت تقول: وبينا نسوس الناس في كل بلدة إذا نحن فيهم سوقة نتنصف فأف لدنيا لا يدوم نعيمها تقلب تارات بنا وتصرف فبعد أن خرجت الدنيا من يدها، تأفف على الدنيا، وهذا يذكرنا بما كان يقوله المعتمد بن عباد لما سلب، وكان في سجنه، وفي قيده، ورأى بناته في الذل كان يقول: من بات بعدك في ملك يسر به فإنما بات بالآمال مغروراً لا تغتر بدنياك، بما لك، بكلام الناس، بالسمعة، بالجاه، بالمنزلة كل هذه الأشياء والله الذي لا إله غيره إن لم تغادرك هي، فإنك سوف تغادرها أنت، مالك إلا أحد حلين، فانظر -بارك الله فيك لنفسك، واحتفظ لنفسك، واعمل لنفسك عمل العقلاء العارفين. حال كثير من أصحاب الأموال: ونحن نجد اليوم كثيراً من أصحاب الأموال الهائلة الطائلة الذين كانوا يعدون ممن يسمون بالملايرة -مليونير- يملك أموالاً هائلة، وبعد ذلك تصيبه نكبة، فتاتي على كل ماله -يجتاح ماله- وقد يموت في السجن لأنه مطالب بأموال هائلة لا يستطيع سدادها وكم نجد من كانوا ملء سمع الدنيا وبصرها، من الشاهات والرؤساء والسلاطين الذين طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، فأخذهم الله عز وجل أخذ عزيز مقتدر قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ} [هود:102-103] فهذا ضياع الدنيا، وثقوا أيها الإخوة إن الذي يشرب الماء البارد، ويأكل كسرة الخبز في ظل ظليل، ثقوا أنه أسعد في دنياه، وأحلف بالله الذي لا يحلف إلا به على ذلك، إنه أسعد بدنياه من كل هؤلاء الذين يخيل إليك أنهم سعداء بأموالهم، وجاههم ومنزلتهم، لكن يجد الإنسان في نفسه من العناء والشقاء والركض وراء الدنيا وحطامها؛ ما لا يجده ذلك الفقير المتواضع القانع بما أعطاه الله عز وجل قال تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] . ربنا ظلمنا أنفسنا، واعترفنا بذنوبنا، فاغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك، وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 13 العقوبات التدريجية والأثر الرابع من أثار النزف هو: العقوبات التدريجية، وهي من آثار الماضي، ومن آثار الزنا والربا، والشهوة والتنافس على الدنيا، وعبادة المادة، فمن آثارها بداية العقوبات التدريجية، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم حذر أصحابه تحذيراً صريحاً، قوياً، واضحاً، صحيحاً من ألوان العقوبات، ففي الحديث الذي رواه أحمد وابن ماجة وهو حديث صحيح عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً: {يا معشر المهاجرين خمس خصال إن ابتليتم بهن، وأعوذ بالله أن تدركوهن} ما هي هذه الخصال الخمس؟ {لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا} والفاحشة، والزنا، واللواط والشذوذ الجنسي بألوانه إلا ظهرت فيهم الطواعين والأوجاع، الطواعين: الهربس، الإيدز، أمراض الزهري، السيلان، ما يسمى بالأمراض الجنسية، وهي من أخطر وأفتك الأمراض الموجودة اليوم، وهي أخطر من جميع الأمراض الموجودة التي عرفتها البشرية، فهذه آثار الفواحش والإعلان بالفواحش وقال: {ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان} نقصوا المكيال والميزان -هذا أيضاً- من النزف، أي كون الإنسان أظهر الفاحشة هذا من النزف، كونه أنقص المكيال والميزان هذا من شدة تعلقه بالدنيا؛ لأنه مع أن الله عز وجل وسَّع عليه تجده بخيلاً، شحيحاً بالمال لا يخرجه إلا في الحرام، ولا ينشط في إخراجه إلا في الحرام على مائدة قمار، أو مكان خمر أو لهو، فقد ينفق الأموال الطائلة لكن تطلب منه مائة ريال لجمعية خيرية، أو لمساعدة مجاهد، أو لأسرة محتاجة، أو لعمل طيب؛ لربما بخل بها أو أعطاك إياها وهو يمن عليك بذلك، فهذا من آثار النزف والبخل والشح والتعلق بالدنيا، حتى ينقص الإنسان المكيال والميزان فيعامله الله بنقيض قصده، فيبتلى بشدة المؤنة والسنين {إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط الله عز وجل عليهم عدواً من غيرهم فأخذ بعض ما في أيديهم} يعني من الأرض، من المال، من الناس وهذا حاصل الآن بالنسبة للمسلمين، كما هو معروف، مشاهد، {وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله عز وجل، ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله عز وجل بأسهم بينهم} وهذا الحديث: ناطق بما عليه واقع المسلمين اليوم في كل مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وفيه دليل على العقوبات التي يبتلي الله تعالى بها هذه الأمة إذا أعرضت عن كتاب الله عز وجل، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، عن زينب {أن النبي صلى الله عليه وسلم نام يوماً ثم استيقظ فزعاً، وهو يقول: لا إله إلا الله؛ ويل للعرب من شر قد اقترب، قالت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث} انتشر النزف بين الناس، واظهروا الفاحشة، وبخسوا المكيال والميزان، وحكموا بغير كتاب الله، ومنعوا زكاة أموالهم، ونقضوا عهد الله وعهد رسوله، حينئذ حقت عليهم عقوبات الله عز وجل ما دام قد فشت فيهم هذه الأمور، وإن كان فيهم قوم صالحون قليل، ولذلك يقول الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] هذان شرطان: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33] يعني ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم موجود فهو أمنة لأمته، فإذا مات بقيت سنته، فما دامت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موجودة في الأمة فهي آمنة لها من العذاب، ما دام الناس يعملون بالكتاب والسنة هذا أمنة لهم، ما كان الله ليعذبهم وهم يعملون بالكتاب والسنة، ولذلك أنصح إخواني بالحرص على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في أدق أمورنا: في صلاتنا، في ثيابنا، في هيئاتنا، في أشكالنا في دخولنا في خروجنا نحرص على أن تكون السنة خير رفيق لنا في كل هذه الأمور، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أكثر من قول {استغفر الله وأتوب إليه، ربي إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم} بما يدفع الله تعالى عنا العقوبة والعذاب؟ باستغفار الصالحين قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} لكن ما بالك إذا أهمل الناس سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهملوا العمل بها وبالقرآن، ثم مع ذلك لجوا في طغيانهم يعمهون، حتى إنهم لا يستغفرون ربهم عز وجل، قال تعالى عن المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5] حينئذٍ يحق عليهم عذاب الله لا محالة، وإن وجد فيهم الصالحون، وإن وجد الأخيار، وإن وجد الذين يقومون الليل، ووجد الذين يصومون النهار فإن عذاب الله عز وجل إذا نزل أخذهم جميعاً، ثم يبعثون على نياتهم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أم سلمة وغيره. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 14 عبادة الشهوة النتيجة الثانية من نتائج الترف: هي قضية عبادة الشهوة، سواء في ذلك شهوة البطن، أم شهوة الفرج، وهذه القضية ظاهرة جداً، فإننا نجد أن المترفين من الرومان القدماء، واليونان كانوا يهتمون أشد الاهتمام بشهوات البطون والفروج، حتى إنني قرأت في بعض الكتب أنهم من شدة نهمهم وشهوتهم إلى الطعام كانوا يأكلون أنواع الطعام، ثم يتقيئونها من أجل أن يتلذذوا بأكل ألوان الطعام الطيب، وقل مثل ذلك بالنسبة لتلذذهم بالمشاهد المحرمة والفواحش والشهوات وغيرها، وأما في هذا العصر، فإنك ترى من مشاهد عبادة الشهوة، سواءً شهوة البطن والفرج أو غيرها الشيء العظيم. شهوة البطن:- حتى إننا نجد الأمم الرومانية الكافرة اليوم أصبحت قضية الطعام قضية أساسية عندهم، أي: التفنن في ألوان الطعام، وصناعة الطعام وطهيه، وألوان المأكولات والمشروبات، وأشياء لا تخطر على بال حتى أصبح هذا فناً قائماً بذاته، وله جامعات تقوم بدراسته، وتربية الناس عليه، وفيه قصص وأخبار في غاية الطرافة، فيما يصنعونه في مطاعمهم التي تستقبل الناس، وتقدم لهم ألوان الأطعمة بصورة غريبة جداً. شهوة الفرج: وأما فيما يتعلق بشهوات الفرج، فإنهم يتلذذون بألوان الإباحة الجنسية في بلاد الغرب بشيء كبير وعظيم، حتى إنهم أفضوا بذلك إلى الشذوذ، وألوان الشذوذ مثل: كون الذكر والعياذ بالله مع الذكر، والأنثى مع الأنثى، حتى الصبيان الصغار من أبناء سبع وثمان وعشر سنوات يدربونهم على هذه الأمور، حتى الحيوانات ويحرص على تقديم ذلك للناس، وهم أشد حرصاً على نقل مثل هذا الوباء، وهذه التعاسة، وهذا الانحلال إلى الأمة الإسلامية بكل وسيلة؛ لأنه يسوءهم جداً أن يروا أناسا يتطهرون -يعني: المسلمين- فهم لا يريدون أن يجدوا في بنات المسلمين فتاة تتزوج وهي عفيفة مثلاً، ولذلك لما قامت بعض الغربيات بإعداد دراسة في بعض المناطق القريبة منا، ووجدت -أن أكثر النساء إن لم يكن كل النساء- محافظات على بكارتهن أعدت تقريراً في غاية الذهول، لماذا؟ لأنهم في بلادهم الكافرة لا يعرفون للكرامة ولا للشهامة، ولا لحماية العرض معنى، ولا يمكن أن تجد امرأة منهم تتزوج وهي بكرٌ أبداً، حتى تكون قد ارتكبت فاحشة الزنا مع صديق لها، ويتلذذون بذلك ويتمتعون به ويتوسعون فيه حتى أصبحت -أيضاً- قضية الإباحة الجنسية، قضية في غاية الأهمية عندهم، ولها أجهزتها المتخصصة، وقنواتها المتخصصة وصحفها ومجلاتها وأماكن ممارستها بل وأسواقها إلى غير ذلك، يتوسعون في هذه الشهوات وهذا أمر طبيعي بالنسبة لهم لماذا؟! لأن غاية أمرهم هي هذه الحياة الدنيا، فلسان حالهم يقول: خذ من الدنيا بحظ قبل أن تنقل عنها فهي دار لست تلقى بعدها أطيب منها هذا منطقهم، وهذا لسان حالهم، لا هم لهم إلا الدنيا، والآخرة عليهم والجنة عليهم حرام، ماتوا وهم فيما هم فيه من الكفر. فلذلك يحرصون على أن يعبوا عباً من شهوات الدنيا ولذائذها، ويغرقوا غرقاً في ألوان ترفها؛ لأنه لا حظ لهم إلا هذه الدنيا. وأذكر أن الأستاذ سيد قطب رحمه الله ذكر في كتابه الذي لم يطبع أمريكا التي رأيت ونقل هذا في كتاب آخر له الإسلام ومشكلات الحضارة، يقول: إنه رأى معلمة تعلم الطلاب والطالبات على ألوان الرذيلة والفاحشة، وكان من ضمنهم بنت عمرها أربع عشرة سنة، فيقول: قلت لها -ويريد أن يعرف السر- لماذا أنت تحرصين على هذه البنت التي عمرها أربع عشرة سنة تمارس الفاحشة والرذيلة، أليس الوقت بالنسبة لها مبكراً؟! قالت: لا، أبداً لأن الحياة قصيرة، وغير صحيح: أن الولد أو البنت يظلون جزءاً كبيراً من عمرهم لا يستمتعون بالشهوات؛ لأن العمر قصير، نعم العمر قصير بالنسبة لهم، لأنه ليس لهم آخرة، لهم النار في الدار الآخرة، ولذلك هم يأخذون من الدنيا بقدر ما يستطيعون؛ لأنهم يعلمون أنه لا حظ لهم في الآخرة، فهم عبيد لهذه الشهوات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميصة تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش} فسماه عبداً لهذه الأشياء، عبداً للمال وعبداً للفرج، وعبداً للقمة العيش، وعبداً للكرسي، وعبداً للمرأة؛ لأنها أصبحت كل همه، حتى كان الشاعر يقول عن حبيبته، أو معشوقته: لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي كما أن المؤمن يشرف بعبوديته لله عز وجل، ويفخر بذلك، ويقول كما قال عياض: ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا كذلك المشرك الذي أصبح لا يعبد الله، بل يعبد ليلى، ولبنى، وسلمى، ونجوى، هذا المشرك الذي عبد هذه التماثيل وهذه النساء أصبح يقول: لا تدعوني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي وعلاقة ذلك بالنزف واضحة كما أسلفت، ولذلك جاء في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، والقصة أصلها في البخاري ومسلم لكن في مسند أحمد بن حنبل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {مر على جبار منزف} -هكذا الحديث في المسند- ومعه زوجته، وكانت زوجته حسناء جميلة فلما علم الملك الجبار المنزف بها دعاها، وهو يريد أن يقع عليها، فدعت الله عز وجل، فشلت يده} والقصة معروفة، والمهم أن المترفون ليس عندهم مانع، وليس بينه وبين الشهوة إلا أن يريدها، فليس عنده مقياس، مثلاً الشرع يمنعك من هذا، ليس عنده مقياس، الحلال والحرام ليس له وجود في قاموسه، قاموسه هل يريد أو لا يريد؟! فهو يفترض إذا أراد حصل له ما أراد، مثلاً: إذا رأى امرأة جميلة ليس هناك ما يمنعه منها في ظنه ونظره، لماذا؟! لأنه يملك المال والقوة والقدرة فما الذي يمنعه؟! إذا رأى ما تطمح إليه نفسه أراده! فإذا أراده فلابد أن يحصل له في زعمه وظنه! ولذلك إذا منع منه أصابه من الهم والغم والكمد الشيء العظيم، لأنه يتحسر على فوت هذا الأمر، وعلى فقده، وعدم تحصيله. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 15 الصراع على مكاسب الدنيا والأثر الثالث من آثار ونتائج النزف هو: الصراع على مكاسب الدنيا الدنيئة، المال والأرض والجاه والسلطة والمنزلة والصراع على هذه الأشياء، لأن تصبح هم الإنسان وغاية مقصوده، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على حماية أصحابه، وأمته من هذا الأمر ولذلك في الصحيحين عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: {أتي بمال من البحرين -جزية جاءته من البحرين- فعلم بذلك الأنصار، فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما صلوا معه صلاة الفجر، جاءوا فسلموا عليه، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، حين رآهم، وقال: أظنكم سمعتم بالمال الذي قدم من البحرين، قالوا: نعم يا رسول الله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم} إذاً: بسط الدنيا يتبعه غالباً التنافس عليها ثم الهلاك من أجلها، ويذهب الإنسان صريع الدنيا، وشهيد الهوى، وليس في سبيل الله عز وجل، فهذا مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر منه أمته. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {إذا فتحت عليكم فارس والروم أي قوم أنتم؟ قال: عبد الرحمن بن عوف نقول كما أمرنا الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك، تتنافسون ثم تتحاسدون ثم تتدابرون ثم تتباغضون} حتى إنه جاء في الحديث الآخر {أن يحمل بعضكم السيف على رقاب بعض} فهذا من شؤم التنافس على هذه الدنيا، ولذلك فإن الحل: يكون في الإعراض عن الدنيا في ذات النفس والأخذ بنصيحة الإمام الشافعي: ومن يذق الدنيا فإني طعمتها وسيق إلينا عذبها وعذابها فما هي إلا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهن اجتذابها فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها وإن تجتذبها نازعتك كلابها خذ بهذه القاعدة، والإمام الشافعي رضي الله عنه، كان يستقرء منهج القرآن والسنة، وكان يذكر لك تجارب الأولين في هذا الأمر، هذا بالنسبة لي ولك، أما الدنيا بالنسبة للكافرين، فإننا يجب أن نصارعهم عليها لأننا مطالبون بإنقاذ الأرض من الكفر وحمايتها، وأن نحكم الأرض باسم الله، وكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن نعمل على ألا يكون للكفار سبيل على المؤمنين، بل ولا على غيرهم، وكذلك نحن مطالبون بأن نكون أقوى من غيرنا عدداً وعدة، مطالبون بأن نكون أقوى منهم اقتصاداً، وأقوى منهم تسليحاً، وأقوى منهم صناعة، وأقوى منهم تخطيطاً، وأقوى منهم علماً كل هذا نحن مطالبون به شرعاً لحماية ديننا، والتمكين له وليس لخظوظ أنفسنا. أما التنافس على مكاسب الدنيا: فإنه يفضي -والعياذ بالله- إلى عقوبة الله عز وجل، ولذلك جاء في مسند الإمام مسند الإمام أحمدو أبي يعلى، عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما ظهر الزنا والربا في قوم إلا أحلوا بأنفسهم عقوبة الله عز وجل} وقبل قليل ذكرت لكم مسألة عبادة الشهوة، فهذا الزنا عبادة الشهوة، فأصبح الإنسان همه شهوته، هذا الزنا وبعد ذلك، المسألة ليست مسألة حالة فردية، واحد استتر في بيته ووقع في معصية، ثم تاب، لا! بل ظهر وفشا وانتشر وأصبح معروفاً، وأخباره تتلى فلان فعل، وفلان فعل، وفلان فعل، بل قد يتطور الأمر إلى أكثر من ذلك: أن يصبح في بعض بلاد المسلمين، والعياذ بالله، أماكن للفحش والبغاء والدعارة - نسأل الله السلامة والعافية- أو تصبح هذه المظاهر بينة على الأرصفة في الشوارع، أو على شواطئ البحار أو ما أشبه ذلك هنا ظهر الزنا والربا. فالربا هذا نموذج للتنافس على الدنيا، والصراع على مكاسبها الذميمة؛ بحيث إن الإنسان أصبحت الدنيا همه وغاية مقصده بحلال أو بحرام، لا يهمه إلا أن يحصل عليها، {ما ظهر الربا والزنا بقوم إلا أحلوا بأنفسهم عقاب الله} وقد يقول بعضهم: أين عقاب الله؟! فأقول، كما قال أحد الباحثين المعاصرين، يقول: لا أعلم عقاباً أعظم من العقاب الذي نحن فيه الآن، إلا أن ينزل الله تعالى علينا صاعقة فتحرقنا، هكذا يقول، وأقول: أسأل الله عز وجل أن يدفع عنا وعن المسلمين جميعاً عقوبته وأن يرزقنا التوبة النصوح ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 16 الغفلة فمن أهم نتائجه وأعظمها الغفلة، لأن المال ينسي ويلهي، وكذلك الصحة تلهي، والشرف يلهي، والجاه يلهي، فيغفل الإنسان عن مصالحه الدينية وعن مصالحه الدنيوية، ولذلك يعتذر الأغنياء والمترفون عن الأعمال الجليلة العظيمة بسبب الانشغال بمالهم وأهلهم، كما قال المخلفون من الأعراب: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح:11] انشغل بماله، وانشغل بأهله عن أعظم عمل يدعى إليه، وهو الجهاد في سبيل الله عز وجل، فليس عنده وقت للجهاد، وإن كان الجهاد عن نفسه، وعن عرضه وعن ماله، فإنه يقول: شغلتنا أموالنا وأهلونا، يشتغل بماله، حتى يأتي العدو، فيأخذ منه ماله كله، ويجهز عليه -أيضاً- وقد ينتهك عرضه، لكن الإنسان إذا غفل لا يكاد يكون فيه حيلة إلا ما شاء الله، ولذلك كان العلماء والعقلاء والمدركون يتعهدون الأمة خوفاً أن تنشغل بالترف والمال عن الآخرة وعن جلائل الأمور. قصة أحد علماء الأندلس:- ويروى أن المنذر بن سعيد البلوطي رحمه الله، وهو أحد علماء الأندلس، رأى أن أحد أمرائها، وهو عبد الرحمن الناصر، كان مشغولاً ببناء مدينة فخمة هائلة عظيمة، لا تزال آثارها ورسومها ومعالمها باقية، وتعرف بالزهراء، ولها خبر عجيب معروف في التاريخ، فالمهم أنه كان يقوم بنفسه بالإشراف على بناء هذه المدينة حتى إنه تأخر يوماً من الأيام عن الجمعة بسبب انشغاله ببناء هذه المدينة، فلما جاء، وكان المنذر هو الخطيب فتكلم عليه، وتلا عليه آيات من القرآن الكريم، كما في قول الله عز وجل: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء:128-135] وتلا عليه قول الله عز وجل {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء:77] وتلا عليه قول الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [التوبة:109] وتلا عليه قول الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33-35] وقال له يا أمير المؤمنين: كيف أنزلت نفسك منازل الكافرين، وآثرت الدنيا على الدين؟! ومازال يتكلم عليه ويوبخه، والناس قد خشعوا وبكوا، والخليفة مطأطئ رأسه، يتصبب جبينه عرقاً حتى إذا انتهت الصلاة، خرج الخليفة من المسجد وهو متأثر يمسح دموعه، دموع الندم، وبعدما هدأ دخل عليه ولده الحكم، فقال له: يا ولدي أسمعت ما قال الخطيب المنذر بن سعيد؟ قال: كذا، وكذا، ووبخني أمام الناس وقد ثقل ذلك عليَّ، وإن كان كلامه حقاً، ولكني أريد أن أعاقبه، قال يا أبت، وبماذا تعاقبه، قال والله لا صليت وراءه أبداً، هذه هي العقوبة، ما فكَّر أنه يفصله عن المنبر مثلاً، ولا أن يودعه في السجن فضلاً عن أن يهم بقتله، كلا، ولكنه قال والله لا صليت وراءه أبداً بعد الآن، ولن أصليَّ معه، فسوف أذهب لأصلي خلف خطيب آخر، فقال له: يا أبت ألا أبعدته عن المسجد، فقال له: يا ولدي والله لا أظن أننا نجد مثل هذا الرجل، وإني استحيي من الله عز وجل، أن يكون بيني وبينه غير المنذر، أي يقول: استحي أن أصلي خلف واحد غيره، إلا أنني قد حلفت على ذلك، فأريد أن أبر قسمي، ولماذا فعل المنذر بن سعيد هذا الموقف؟! لأنها بادرة خطيرة أن ننهمك في الدنيا حتى ننشغل عن صلاتنا، وننشغل عن جهادنا في سبيل الله، ننشغل عن جلائل الأمور ومعاليها. الانشغال بالدنيا: ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد، وهو حديث صحيح، عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تبايعتم بالعينة ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد، سلط الله تعالى عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم} تبايعتم بالعينة؟ لماذا تبايعتم بالعينة بالربا! لأن كثرة الأموال تجعلتني أشعر أنه لابد أن يكون عندي أموال هائلة طائلة وصفقات تجارية لا يمكن أن أفرط فيها، فضعف عندنا الخوف من الربا ومحاذرته، لأننا مشغولون بجمع الأموال، وليس مهماً من أين تجمع الأموال؟! المهم أن يكون عندك رصيد ضخم، {إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع} رضيتم بالزرع، وقد لا يكون الزرع أحياناً للمال فقط بل يصبح الناس يتباهون في المزارع والأموال الطائلة والأراضي الواسعة التي قاموا بزراعتها، لمجرد المتعة والمفاخرة بذلك، فضلاً عما يصيبهم من ورائها من الأموال والمغانم الدنيوية، {وتركتم الجهاد} فهذا الإنسان المشغول بصفقاته التجارية ومزارع وشهوات ليس من أهل الجهاد، إنما أمره مع الجهاد، كما قال الشاعر: يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد ما عنده وقت للجهاد! إلا الجهاد من أجل المرأة الحسناء ومن أجل المال ومن أجل الدرهم والدينار. لهذا تلحظون أيها الأحبة أن الأمة الإسلامية تعيش اليوم فترة تلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تعيش فترة تلهية لا يعلمها إلا الذين يقتربون من الشباب، وقد اقتربت من كثير من الشباب، خاصة الشباب الذين يعيشون بعيداً عن مجالس الذكر، وبعيداً عن المساجد، وبعيداً عن حلقات القرآن، فتسأل هؤلاء الشباب ما همومهم؟ ما هي الأشياء التي تشغل بالهم؟ ما أمانيهم؟! ما تفكيرهم؟! ما نظرتهم فتجد أنه مشغول في مجال ضيق يتراوح بين الكرة والرياضة ومتابعة المباريات ومتابعة دوري كرة الطائرة والقدم والبطولة للكبار والصغار والناشئين وغيرهم!! لا ينتقل عن ذلك إلا إلى متابعة الفنانين، والحصول على إنتاجهم الجديد، الحصول على إنتاجهم أولاً بأول، سواء عن طريق محلات الغناء، أم عن طريق زملائه وأصدقائه، ولا ينتقل عن ذلك إلا إلى الكرة، إلا إلى سيارة فارهة فخمة، تكون معه -كما أسلفت قبل قليل- أو يتمناها على أقل تقدير، وهكذا مع شغل الوقت ومع الشغل بالتدخين، ومشاهدة البرامج والأفلام التي لا خير فيها ولا قيمة لها. فالمهم أن هذه حركة تلهية، واشغال كامل للأمة في أعز ما تملك، في شبابها لأنه إذا لهى الشاب، من الذي سوف يقوم على الثغور؟! ومن الذي سوف يصلح الأمور؟! ومن الذي سوف يحقق للأمة اقتصاداً متقدماً؟! ومن الذي سيحقق للأمة صناعة متقدمة؟! ومن الذي سوف يعود بالأمة إلى سواء السبيل؟! ومن الذي سوف يدفع عن الأمة شر الأعداء؟! والعمدة في ذلك كله بعد الله تعالى على شباب الأمة؛ فإذا لهى الشباب ضاع كل شيء، وقد يقول قائل أن الاشتغال بالرياضة يناسب تقوية الأجسام، خاصة ونحن في حال حرب مع عدونا الآن، فلا بأس من تكثير المباريات والدوريات وغيرها، حتى يتقوى الناس، ونقول: نعم لو كان الناس فعلاً يتقوون، لكن كم عدد الذين يلعبون في المباريات الرياضية؟ قل عشرة! عشرين، ثلاثين، أربعين! لكن البقية من الجماهير الهائلة محتشدة على مقاعد المدرجات لا هم لها غير الصفير والتصفيق والهتاف لفلان أو علان، وبعد ذلك تثور المعارك بينهم، ويخرجون وقد شحنت قلوبهم بالحب لفلان، والبغض لفلان، والمعارك، وإلى غير ذلك، وإيذاء الآخرين إلى ما سوى هذا. والانشغال الكبير بمثل هذه الأمور التي لا تعود على الأمة بخير أبداً، هذا هو اللهو، فهذه الرفاهية في الكرة والفن أشغلت الشباب عن قضايا الأمة وألهتهم عنها، وإنني لأتعجب حين أقرأ قصة ذكرها السيوطي في كتاب حسن المحاضرة عن الشهيد نور الدين، يقول: إن الفرنجة لما حاصروا بلداً في مصر وحاصروا دمياط وآذوا المسلمين ومنعوا عنهم المؤن وقتلوا منهم من قتلوا، وهتكوا بعض الأعراض، فحزن لذلك نور الدين حزناً شديداً وبعث صلاح الدين قائده يدفع الإفرنج ويصدهم عن هذه المدينة، فأثناء ما كان صلاح الدين يذهب إلى الفرنج ليقاتلهم، كان نور الدين في حالة من الهم والحزن لا يعلمها إلا الله عز وجل، حتى إنه يوماً من الأيام كان عنده طلاب يقرءون الحديث، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسه فمن ضمن ما قرأوا حديثاً مسلسلاً بالضحك، ومعنى الحديث المسلسل أي يعني أن رسول الله تبسم، وقال: يا معاذ إني أحبك! -مثلاً-، وكذلك مثال: فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول كذا وكذا، فالراوي عن معاذ قال: هذا، والثاني، والثالث، والرابع، فهذا يسمى حديث مسلسل بقول: إني أحبك، وآخر مسلسل بالتبسم؛ لأن كل راوٍ تبسم، ثم روى الحديث، وكذلك أول الحديث، وكذلك أول حديث ليقال: هذا مسلسل بالأولية إلى آخره، هذا معنى المسلسل، فالمهم أن هذا الحديث كان مسلسلاً بالتبسم، فكل راوٍ يروي الحديث ويتبسم، فيقول: حدثنا فلان ويتبسم، فلما حدثوا نور الدين بهذا الحديث المسلسل بالتبسم، رغبوا إليه أن يبتسم حتى يكتمل التسلسل يقال مثلاً: حدثنا نور الدين قراءة عليه ثم تبسم، فما تبسم قالوا له: رحمك الل الجزء: 193 ¦ الصفحة: 17 الأسئلة الجزء: 193 ¦ الصفحة: 18 حكم الأسابيع التي تشارك فيها المدارس الفقرة الأخيرة من سؤال هذا الأخ: يسأل عن حكم الأسابيع التي تشارك فيها المدارس كأسبوع الشجرة، وأسبوع النظافة، وأسبوع المساجد، ويقول هل هي بدعة؟ وما يصنع الإنسان تجاهها؟ الجواب لا أستطيع أن أعطي رأياً خاصاً، لأنني لم أبحث المسألة بحثاً مستفيضاً يمكنني من إعطاء رأيي، لكن أذكر أن هناك فتاوى في هذا الموضوع لكبار العلماء، يمكن للأخ أن يراجعها، إنما أعلق على الموضوع بشكل عام، أنه خاصة الأشياء المتعلقة بالجوانب الشرعية كأسبوع المساجد -مثلاً- نحن نقول إن السنة كلها يجب أن تكون سنة عناية بالمسجد، وليس فقط أسبوعاً واحداً، لأن المسجد هو مدار الراحى بالنسبة لحياة المسلمين، فهو مكان أداء الصلاة، وتعلم العلم، وإقامة حلقات تحفيظ القرآن، والعبادة وغيره. حتى إن المسجد في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأزمان المسلمين الأولين لم يكن يخلو طيلة الليل والنهار، من مصل، أو ذاكر، أو قائم، أو قاعد، أو عابد، أو مسبح، أو طالب علم أو ما شابه ذلك، ولهذا كانوا إذا جاءوا بأسير ربطوه في سارية من سواري المسجد، لأنه لا يمكن أن يفك، فالمسلمون يراقبونه أربعاً وعشرين ساعة، وكذلك بيت المال لما أسسه عمر رضي الله عنه، جعله في قبة المسجد لأنه لا يمكن نقبه والحالة هذه. فالمسجد هو مدار الراحى في حياة المسلمين، وينبغي بالمناسبة أن نحيي رسالة المسجد، ليس فقط بالاحتفالات، أو لوحات أو ما شابه ذلك، لا، بل نحييه إحياءً حقيقياً، كثرة دروس تحفيظ القرآن الكريم، والدروس العلمية، فكل واحد يشارك بما يستطيع قل، أو كثر، أحيي الأثر، لا يموت دور المسلم، تشارك بموعظة، بكلمة، بخطبة، حتى لو لم يكن في أهل المسجد طالب علم، فينبغي أن يجتمعوا في دبر الصلوات ويقرءوا في كتاب، ربع ساعة، أة ثلث ساعة، أو أقل، أو أكثر، ثم يصلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرفون. المهم أن نجعل للمسجد دوراً، نحيي فيه الحلقات والدروس، فنجعل المساجد مفتوحة دائماً وأبداً، لكل من أراد ذكراً، أو علماً، أو خيراً، أو براً. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 19 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال هذا سائل يبين أنه مسرور جداً، بمقدمكم إلينا، ويقول: أن قلوبنا تخفق فرحاً بكم، ويسأل، ويقول: هل يقف واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر المقرر على العلماء تجاه الحكام عند حد التبليغ وتكراره، أم لا بد من قيادة العمل باليد للقيام بهذا الواجب؟ الجواب هذا دور علماء الأمة، وهو دور مشترك في الواقع؛ لأن العالم قد لا يستطيع أن يقوم بدوره مفرداً إلا أن تكون الأمة معه، وكذلك أفراد الأمة لا يستطيعون القيام بهذا الدور، ما لم يكن لهم قيادة علمية شرعية من علماء أهل السنة والجماعة، فالدور مشترك، الواجب الذي علينا نحن؛ أن نلتف حول علمائنا، لأن أهل السنة والجماعة -أحياناً مع الأسف- قد يتخلون عن علمائهم، فيخذلونهم، فيصبح العالم ليس له لسان، لا يستطيع أن يقوم بما يريده فعلينا أن ندرك جيداً ما هو الدور الذي يجب أن نقوم به. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 20 أغاني عن أحداث الأمة السؤال نقرأ عن قيام بعض الفنانين بإنتاج عديد من الأغاني، وذلك لمواجهة المرحلة التي تمر على الأمة هذه الأيام، سؤالي: ما رأيكم في ذلك؟ وما هو موقفنا الصحيح تجاه أولئك الأشخاص؟ الجواب الله المستعان، كل ينفق مما عنده!! الجزء: 193 ¦ الصفحة: 21 التكلم في العلماء السؤال يقول: يا فضيلة الشيخ إني أحبكم في الله، ونرجو منك تكرار الزيارة إلينا في هذه البلدة لنستفيد مما أعطاك الله، ثم يقول: ما رأيك عمن يتكلم في العلماء بالسب وغير ذلك، بسبب الفتوى الذي يفتي بها بعض العلماء التي لا توافق رغبته؟ الجواب أحبك الله، أما الكلام في أهل العلم، فهذا من علامة أهل البدعة؛ إذا رأيت الرجل يقع في أهل العلم وأهل السنة، فأعلم أنه أقرب إلى الهوى، ولا يحق للإنسان أن يتكلم في عالم، وأقصد بالعالم، العالم الحق، الذي يخشى الله عز وجل، والوقوف عند حدود الله، والتي أذعنت له الأمة ودانت لعلمه، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أنتم شهود الله في أرضه، من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار} فإذا تكلمت الأمة بلسان واحد، وأثنت على عالم، فهذا العالم له قدره ومكانته، ونرجو له الخير عند الله عز وجل. وأما كون الفتوى توافق الإنسان أو لا توافقه، فهذا أمر آخر، فإن مسائل الاجتهاد مما لا ينبغي فيها التعنيف على من خالف، وإن اجتهد وأصاب فله أجران، وإن أجتهد وأخطأ فله أجر واحد، فلا تعنف على من خالف ما ترى، هذا إذا كنت أنت طالب علم، أو معتمداً على قول عالم آخر، أو طالب علم آخر، أما إذا كان لمجرد نظرة شخصية، فهذا لا يصلح، بل على الإنسان أنه لا ينتقل من عالم إلا إلى عالم، أي أنه لا تنتقل من عالم لتأخذ برأيك الشخصي، لا، ممكن أن تنتقل من عالم وتأخذ برأي عالم آخر في مسألة أنت مقتنع بأن قول هذا العالم: هو الصواب، وأعمق، وأبعد، وأدق نظراً، هذا حسن؛ لأن العالم ليس معصوماً من الخطأ، وليس نبياً يتبع في كل شيء، بل هو يجتهد بحسب وسعه، وهو مأجور عند الله عز جل ما دامت نيته صالحة، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 22 شكر النعم السؤال هل يكفي لشكر النعم أداء الفرائض، واجتناب المعاصي بقدر المستطاع، مع الاستغفار، أم لا بد من أمور أخرى سواء في المعاملة أم في الأعمال الصالحة الأخرى؟ الجواب يقول الله عز وجل: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] إذاً الشكر ليس كلمة تقال باللسان، لا! الشكر ثلاثة: بالقلب واللسان والجوارح: أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجب فقبل لسانك، ينبغي أن يكون قلبك ساجداً لله عز وجل، منكسراً بين يديه، مذعناً له، محباً، خائفاً، راجياً، وأعمال القلوب هي أجل الأعمال وأشرفها، ومع ذلك قل من الناس من يهتم بها، ثم يفيض القلب على اللسان كلمات الشكر لله جل وعلا، ثم يفيض على الجوارح، أن تصرف قوتها وقدرتها في طاعة الله، وتصرف ما وهبها الله عز وجل من النعم في مرضاته. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 23 اقتناء التلفاز السؤال يقول: بعض الناس تهاونوا في اقتناء جهاز التلفاز، فأرجو من فضيلتكم التنبيه على هذا الأمر وإذا تاب الإنسان من اقتناء أمثال هذه الأجهزة أيجوز له بيعها، والاستفادة من ثمنها، أم لا بد من إتلافها؟ الجواب الحقيقة أنا لا أرى للرجل الغيور، والحريص على نفسه وأسرته، أن يقتني في بيته تلفازاً لأسباب: أولها: أن هذا الجهاز فيه الغث والسمين، وغالب ما فيه الغث، وهذه ناحية. الناحية الأخرى: أن الذي يقول: أريد أن أراقب هذا الجهاز لا يستطيع، لأنه من غير المعقول أن يصبح عبارة عن بواب! يغلق الجهاز متى شاء ويفتحه متى شاء، وظيفته، وظيفة مراقب أبداً، هو سيأتي ويذهب ويعود ويخرج ويبقى في البيت الأهل والأولاد والصغار والكبار، فيستخدم الجهاز فيما لا يرضي الله عز وجل. أما كيف يتخلص منه؟ فلا ينبغي له أن يبيعه، وأن يستفيد من قيمته، بل ينبغي أن يستعيض بالله عز وجل، وما يرزقه الله عز وجل خير وأبقى، ويتخلص منه بإتلافه. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 24 دورنا تجاه فلسطين السؤال يقول: ما هو دورنا تجاه قضية فلسطين إذا تخلى أهله عن الجهاد؟ الجواب هي ليست قضية فلسطينفحسب، بل عندنا قضايا كثيرة، الأمة اليوم في أنحاء الأرض، في مشارق الأرض ومغاربها تعيش أزمات وأحداث، وقد استأصلت بقاع كثيرة من بقاع المسلمين ووقعت في أيدي الأعداء، كفلسطين، والفلبين، وأفغانستان، وإرتيريا، وغيرها، بل وقبل ذلك بلاد الأندلس، أسبانيا وغيرها، وهناك بلاد وقعت في أيدي الكفار، وهناك بلاد وقعت في أيدي المنافقين، ليس عن طريق القوة العسكرية المسلحة، لكن أخذوها بالمغالبة، وبأساليبهم الخفية، وحكموها بقانون الكفار، وغيروا معالم الإسلام فيها، وقضوا على آثاره، كل هذه البلاد -الله المستعان- لم يبق فيها من الإسلام إلا اسمه، ومن القرآن إلا رسمه. وقد تسمع الأذان في بعضها، لكن لا تكاد تجد من يصلي! وإن وجدت من يصلي لا تجد من يصلي على السنة! وإن وجدت من يصلي على السنة، لم تجد القلب الذي يحترق لقضايا المسلمين، ولا يعمل على إعادة الإسلام إلى الواقع، -فالله المستعان- شكر الله لفضيلة الشيخ هذه الكلمات ونسأل الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، وأن يجعل هذه في موازين أعماله يوم القيامة، وأن يبيض وجوهنا ووجوهكم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 25 الإسراف في المباحات السؤال يقول: فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل الإسراف والإغراق في المباحات مع عدم ارتكاب المحرمات، يعتبر من الترف الممنوع شرعاً أم لا؟ وجزاكم الله خيراً. الجواب ما دام سميناه مباحاً، معناه أن الإنسان غير ملوم بالوقوع فيه، سواءً كان مأكولاً أو مشروباً أو غير ذلك؛ لأنه مباح ليس بحرام، لكن قال كثير من السلف: إن فضول المباح ذريعة إلى المكروهات، كما أن المكروهات ذريعة إلى الحرام، فإن إغراق الإنسان في فضول المباحات، ولا شك سوف يحرمه من كثير من الطاعات والأعمال الصالحات، مثلاً إذا أكثرت من الأكل في الليل، ما الذي يحصل؟ يحصل أن الإنسان إذا أكثر الأكل أكثر النوم، فإذا أكثر النوم أصيب بالكسل، لا أقول لا يقوم الليل، بل ربما نام عن صلاة الفجر. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 26 استفادة الأعداء من الأحداث السؤال يقول: نشكرك على تحملك مشقة السفر، والحضور إلى هذه المنطقة ونسأل الله جل وعلا أن يوفقك في الدنيا والآخرة وأشهد الله عز وجل على حبك، وبعد، سؤالي عن مدى استفادة أعداء الإسلام من الأحداث الجارية الآن؟ الجواب أما استفادة أعداء الإسلام من الأحداث، فإنهم يرقصون الآن؛ لأنهم مستفيدون من كل الأحداث، لا شك أن الأحداث استفاد منها أعداء الإسلام، وصنعوا كثيراً منها، ونجحوا في مخططاتهم وفيما يريدون، ولكن مع ذلك نقول كما قال الله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] لهم يوم قادم، ونقول: مهلاً يا يهود، جيش محمد سوف يعود، عليه الصلاة والسلام، فجنود رسول الله، وحملة دين الله، لم يموتوا، بل هم أحياء، ولن يموتوا إلى أن يرسل الله ريحاً طيبة في آخر الدنيا فتقبض أرواحهم، فهم باقون ببقاء هذا الدين، محفوظون بحفظ الله عز وجل له، والأحداث تصنعهم، فهي كالنار التي توقد على الذهب، فيبقى خلاصته وصافيه وإبريزه، ويذهب غشه ودخنه. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 27 جريدة المسلمون السؤال يسأل عن جريدة المسلمون التي نجد فيها بعض الكتابات لكم فما رأيكم فيها؟ الجواب أما جريدة المسلمون، فهي: إحدى مطبوعات الشركة العربية المعروفة، وهي بلا شك في الأصل ذات هدف مادي تجاري، لكن لا يمنع أن هذه الجريدة مخصصة للقضايا الإسلامية، واستكتاب الدعاة والمشايخ والعلماء، ولست أرى حرجاً في المشاركة فيها أو في غيرها، أمراً بالمعروف أو نهياً عن منكر، أو دلالة على خير، أو تحذيراً من شر، وإن كنت لا أذكر لي كتابة في هذه الجريدة، إلا قبل أكثر من سنة، نشروا فصولاً من كتابي حوار مع الغزالي، اللهم إلا أن يكونوا نشروا لي شيئاً هذا اليوم فأنا لم أطلع عليه. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 28 صحة حديث: (تصالحكم الروم … ) السؤال يقول: روى ابن ماجة في باب الملاحم، وأبو داود عن النبي صلى الله عليه آله وسلم أنه قال: {تصالحكم الروم صلحاً آمناً، ثم تغزون أنتم وهم عدواً، فتنتصرون وتسلمون، ثم ينصرفون إلى مروج ذي ثلول، فيرفع رجل من أهل الصليب الصليب فيقول غلب الصليب الخ} ما صحة هذا الحديث؟ وهل لفضيلتكم رأي في علاقة هذا الحديث بالأحداث الراهنة؟ الجواب الحديث رواه أبو داود وسنده صحيح، من حديث ذي مخبر، بل وفي صحيح مسلم ما يشهد له من حديث ابن مسعود رضي الله عنه. أما علاقته بالأحداث -حتى لا أكرر الكلام أو أطيل- بينت رأيي في هذا الحديث وغيره، من أحاديث الفتن في محاضرة، موجودة بعنوان نظرة في أحاديث الفتن. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 29 تصفيق الرجال السؤال يقول: إني أحبكم في الله، وأرجو من الله، ثم منكم الإجابة على هذه الأسئلة المحيرة: السؤال الأول: ما هو قولكم، ونصيحتكم لمدرسي التربية الرياضية الذين يكلفون الطلاب في التمارين الصباحية، بالتصفيق في كل تمرين؟ الجواب أحبك الله، وأحبنا وإياكم جميعاً، وجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، الذين يحشرون يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه على كل شيء قدير، أخي مدرس التربية الرياضية: لا أعلم في مناهج إدارة التعليم، أو وزارة المعارف نصاً يعتبر التصفيق جزءاً من برنامج التربية الرياضية، والتصفيق بالنسبة للرجال ممنوع من وجهين: أولاً: أنه تشبه بالنساء، كما في الصحيحين: {إنما التصفيق أو التصفيح للنساء} . وثانياً: إنه من عادات الكفار، إنهم إذا رأوا ما يعجبهم، ألهبوا تصفيقهم، فهذا قد يقال بتحريمه ولذلك أقول: يجب أن تمنع الطلاب منه، ولا تلزمهم بالتصفيق، لكن تدربهم على التمارين الرياضية التي تقوي أجسامهم وتنفعهم. الجزء: 193 ¦ الصفحة: 30 للنساء فقط لقد حفظ الله عز وجل الدين رغم هجوم الأعداء، وحفظ المرأة المسلمة رغم دعاة التحرر والسفور، وهناك دور يجب على المرأة المسلمة القيام به. هذا ما استعرضه الشيخ في هذا الدرس. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 1 حفظ الدين الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصل اللهم وسلم وبارك على خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أخواتي المؤمنات: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته. الحديث -في هذه الأيام- عن المرأة ذو شجون -كما يقال- إن من نعمة الله عز وجل علينا وعلى الناس، أنه كتب الحفظ لهذا الدين، وحفظ الله عز وجل لهذا الدين هو أمر تكفل به سبحانه ولم يكل حفظه إلينا فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . وليس حفظ الدين فقط بحفظ القرآن والسنة من التحريف، والزيادة، والنقصان، وإن كان هذا جزءاً من حفظه لهذا الدين؛ لكن حفظ الدين يكون -مع ذلك- بأن الله عز وجل يقيض في كل زمان وفي كل مكان، من يقوم من الناس -رجالاً ونساءً- بأمر هذا الدين، ويعمل به في خاصة نفسه، ويدعو إليه غيره، ويواجه حملات المغرضين والمشككين، من الكفار المعلنين بكفرهم: كاليهود، والنصارى، والشيوعيين، ومن المنافقين الذين يتسترون باسم الإسلام، وحقيقة قصدهم: طعن الدين خفية وتقية من الداخل: والمدعون هوى الإسلام سيفهم مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وما له منهم رفد سوى الخطب الجزء: 194 ¦ الصفحة: 2 وضع المرأة في المملكة في هذه الأوقات بلغ السيل الزبى -كما يقال- وغضب العدو -غضبةً كبيرة- أن هذه البلاد ما زالت متمنعة، وما زالت تحارب تقاليد الغرب، وتحافظ على أخلاقيات الإسلام، خاصة فيما يتعلق بالمرأة. والعدو منذ زمن طويل، هو يخطط، وقد درس مجموعة من الفتيات في بلاده، وزرعهن هنا؛ للدعوة إلى العلمانية والتغريب، والتخريب، وإخراج المرأة من بيتها، وتشويه تعاليم الإسلام؛ حتى وجدنا منهن من تعتبر أن تعاليم الإسلام تعوق مسيرة المرأة نحو التقدم، ووجدنا من تسخر من العلماء، ومن تسميهم برجال الدين؛ وتسخر من أئمة الدعوة إلى الإسلام في هذه البلاد وفي غيرها، وتنادي بما تنادي به أخواتها في الشرق والغرب -من تحرير المرأة- ووجدنا في أعلى وأرقى المستويات في هذه البلاد من يدندن على هذه النعرة الجاهلية التي سمعناها منذ قديم. ولا شك أن هؤلاء النسوة أثرن في طبقة من الفتيات؛ لكن يبدو أن العدو لا يروق له أبداً أنه يعمل على خطوات بطيئة؛ كأنه نفد صبره، وجن جنونه؛ إنه على رغم تلك الجهود الجبارة كانت الثمرات قليلة، وأقل مما يريد. ولذلك بدأت أجهزة الإعلام الغربي تضرب على هذا الوتر، وتتكلم بجراءة، ووقاحة عن وضع المرأة في السعودية، وأنه وضع لا يطاق، وأن المرأة ما زالت تعيش ما يسمونه بعصر الحريم، حيث لا يرى من المرأة شيء، ولا بيدو منها شيء، وأن المرأة منعزلة عن الرجل في كل شيء، حتى في المنزل، فضلاً عن السوق، فضلاً عن المدرسة، والجامعة، ومكان العمل. فبدأت أجهزة الإعلام الغربية تتكلم بصورة مذهلة عن وضع المرأة هنا! وتركز على أن الجيل الجديد من النساء، وأن المرأة الجديدة في المملكة تريد أن تتمرد على هذه التعاليم؛ لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك؛ بسبب ضغوط المجتمع، وبسبب الأنظمة المرعية القائمة، المعمول بها هنا فظلوا يضربون على هذا الوتر، ويتكلمون بهذه اللهجة؛ وكأنهم يحرضون مجموعة من صنائعهم في هذه البلاد، على أن يقمن بحركة قوية لإماطة اللثام عن الخطة التي يعملون بها، وأن ينتقل عملهم من السر إلى العلن، ومن كونه عملاً بطيئاً، إلى كونه عملاً سريعاً. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 3 هجوم الأعداء على المرأة المسلمة أختي المسلمة: الله عز وجل يصنع، والبشر يحاولون فيفشلون لقد هجم أعداء الإسلام على المرأة المسلمة منذ زمن بعيد هجموا على المرأة المسلمة في تركيا يوم قام مصطفى أتاتورك ينادي بالعلمانية، ويمنع الالتزام بأحكام الإسلام، ويعتبر أن دخول المرأة المسلمة إلى الجامعة بالحجاب مناقض لتعاليم العلمانية التي نادى بها، فتمنع المرأة المسلمة من ذلك، وتبعه على ذلك رموز العلمانية في مصر، وبلاد المغرب العربي، والشام، وأخيراً في عدد من دول الخليج كالكويت وغيرها. فسارت المرأة على الركاب، واختلطت بالرجل في مكان العمل، والمدرسة، والجامعة، وفي كل مكان، وأصبح التزام المرأة بالحجاب هناك -خاصة في أماكن العمل والدراسة- مناقضاً لأنظمة الدول التي تنادي بالعلمانية وتفرضها ولكن بلاد الإسلام في هذه الجزيرة ظلت حافظة للأمانة، ممتنعة على هجمات الأعداء الغربيين والمستغربين. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 4 الغرض من مظاهرة قيادة المرأة للسيارة عندما جاءت تلك المحاولة المعروفة لقيادة المرأة للسيارة، وبصورة مظاهرة -كما هو معروف- ولم يكن المقصود هذا المظاهرة بذاتها، وإنما كان في الأمر أمرٌ وراء ذلك وفوق ذلك، كان المقصود من ذلك أمور أولها: الجزء: 194 ¦ الصفحة: 5 بداية حقيقية لتحرير المرأة والأمر الآخر الذي كانوا يحلمون به هو أن تمر هذه الحركة بسلام، أو بردود فعل ضعيفة، فتكون بداية حقيقية لأن يعملوا علانية في تغيير وضع المرأة في هذه البلاد. فكانوا وما زالوا يعتبرون هذه نقلة نوعية في عمل تحرير المرأة في السعودية، ولذلك يقولون إن يوم الثلاثاء الذي تمت فيه تلك المظاهرة، سوف يظل يوماً تاريخياً مجيداً، وسوف يظل ذكرى تحييها الأجيال -كما يتوقعون- وتعتبرها بداية حقيقية لتحرير المرأة، وظهورها على الشوارع تقود السيارة، وتتمرد على تلك التعاليم الجائرة تلك أمانيهم، وهذه مطامعهم، وهذا ما كانت تمليه عليهم رغباتهم الفاسدة، وظنونهم الكاذبة، وجهلهم بالمجتمع الذي يتحركون فيه. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 6 رفع راية للنساء -كما يقولون- إلقاء حجر في هذا الماء الراكد؛ لتحريك وضع المرأة، وحياة المرأة، وحالة المرأة، وإثارة المعاني والمشاعر عند كل من يوجد في قلبها مرض كأنهن يردن بهذا العمل رفع راية تلتف حولها النساء الراغبات في التحرر -كما يقال- في كل مكان. ولذلك: لا غرابة أن تجد أصواتاً منكرة هنا وهناك تنادي بما نادت به أولئك النسوة، أو تنادي بأمر قريب منه، أو شبيه به، وإن كانت أصواتاً قليلة، وأصواتاً هزيلة، وأصواتاً هي شذوذ يثبت القاعدة ويؤكدها ويحققها، إلا أن هذه الأصوات إنما ظهرت وارتفعت، يوم سمعت بذلك الصوت المنكر من تلك الفئة الباغية التي تنادي بقيادة المرأة للسيارة، ومن وراء ذلك تنادي بالحرية، وهي إنما تقصد أن ترفع راية تلتف حولها النساء الداعيات إلى التحرر. وقد اتصل بي عدد من الطلاب من أمريكا يتكلمون عما يفعله الإعلام الغربي بعد هذه الحادثة الكبيرة، وكيف أنه أصبح ينفخ في نار الفتنة، ويحاول أن يبرز الشذوذات الموجودة في مجتمعنا، ويرسم نماذج للنساء المنحرفات والفاسقات، وماذا يطالبن به؟! ويعمل المقابلات مع أعداد كبيرة من هؤلاء النسوة، حتى البالغات إلى غاية الشذوذ ممن يطالبن بالرذيلة علانية، وإتاحة الفرصة للفساد وللفجور، ويطالبن بذلك بشكل صريح، وألفاظ لا تحتمل اللبس ليبرز مثل هذه الشذوذات، ويحاول أن يصور أن المجتمع أو أن الجيل الجديد من المرأة السعودية يطالب بذلك -يطالب بكل تعاسة الغربيين، حتى ممارستهم للجنس قبل الزواج- لا يمانع في ذلك فيحاول الغرب، وإعلامه أن يبرز المرأة في هذه البلاد على أنها كذلك، وإنما يمنعها من ذلك العادات والتقاليد، والأنظمة المفروضة بالقوة. هكذا يريد الغرب أن يصور لنا واقع الفتاة المسلمة، وواقع الجيل الجديد من المرأة السعودية -كما يقول. فهذا هو الأمر الأول الذي تريده أولئك النسوة، أن يلتف حولهن عدد من الأصوات المنافقة، الأصوات التي تربت على موائد الغرب، وعلى مدارسه، وتخرجت من جامعاته، وعاشت فيه؛ حتى ترتفع هذه الأصوات في كل مكان؛ فتحدث خلخلة في المجتمع، يصعب تلافيها أو إسكاتها هذا من أهم مقاصدهم. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 7 نعم الله على بلاد الجزيرة لكنني أقول: إن من نعمة الله عز وجل على هذه البلاد بالذات بلاد الجزيرة أمور منها: أن الصحوة الإسلامية -سواء في أوساط البنين، أم في أوساط البنات- سبقت تيارات الفساد، فإننا نجد في كثير من البلاد الأخرى أن تيار الفساد سبق، ومضى، وتغلغل، وتمكن، سواءً في مجال الإعلام، أم في مجال التعليم، أم في مجال الأنظمة المرعية في البلاد، أم في مجال الأمور الاجتماعية بشكل عام، فلما بلغوا نهاية الفساد والانحطاط؛ بعد ذلك: بدأ الناس يتململون من ذلك، ويعملون على الرجوع إلى دينهم، وإلى ربهم، ومن هنا بدأ ما يسمى بالصحوة في تلك البلاد. بدأت عندما ارتمى المجتمع في أحضان الفساد والرذيلة، وبعد أن بلغ الشر مبلغه، فبدأت الصحوة نوعاً ما متأخرة، ولذلك كان العدو متمكناً من الإعلام، متمكناً من التعليم، متمكناً من الأنظمة والنظم، متمكناً من الدوائر الحكومية؛ فصار يحاول أن يحصر الصحوة الإسلامية في زاوية ضيقة، ويعمل على نقض جهودها بكل وسيلة يستطيعها، أو يؤلب عليها العدو من الداخل والخارج. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 8 تأخر حركة الفساد الميزة الثانية -وهي مهمة أيضاً-: إن حركة دعاة تحرير المرأة، وإفساد المرأة، وتخريبها، وتغريبها في بلادنا، جاءت متأخرة عن حركة إخوانهم في البلاد الأخرى، وهذا أفادنا إفادات كثيرة منها: أنه كشف لنا خططهم، فقد أصبحنا خبراء نعرف كيف يعملون، قرأنا في التاريخ عملوا في مصر؟! وقبل ذلك، ماذا عملوا في تركيا! وماذا عملوا في بلاد المغرب العربي! وما عملوا حتى في الكويت! وهذه الكتب شاهدة تذكر ما يسمونه بـ"معركة الاختلاط في الجامعات"، وكيف سعوا إلى فرض الاختلاط في الجامعات، وفي عدد من البلاد! وكيف سعوا إلى إخراج المرأة من الحجاب! وكيف سعوا إلى إتاحة الفرصة للمرأة لتؤدي دورها من خلال السينما ومن خلال أجهزة الإعلام! وكيف؟! وكيف؟! أصبحنا نقرأ هذا من خلال كتب تؤرخ لما يسميه بعضهم تحرير المرأة في عدد من البلاد الإسلامية، وهذه المعلومات التي عرفناها عن مؤامراتهم في تركيا، وفي مصر، وفي بلاد المغرب العربي، وفي الشام، ودول الخليج جعلتنا ندرك مخططاتهم، ومؤامراتهم، ونستطيع أن نكشف للناس ماذا يريدون أن يعملوا -قبل أن يعملوا! - فيعلم الناس خطرهم ودورهم، فإذا سمعوا ما يقولونه أو رأوا ما يفعلونه؛ قالوا: نعم! هذا الأمر الذي نحذر منه، هذا الذي وقع في مصر، هذا الذي وقع في تركيا، هذا الذي وقع في بلاد المغرب العربي يحاولون أن ينقلوا تعاستهم إلى بلادنا؛ فحينئذ يعيش الناس درجة كافية من الوعي بمخططات أعداء الإسلام، وهذا مكسب كبير. الأمر الثاني: أنهم بدءوا يطالبون -صراحة وعلانية- بتحرير المرأة في هذه البلاد، في الوقت الذي بدأت فيه البلاد الأخرى تعود أدراجها إلى الفضيلة ولعله من المضحك والمبكي والمدهش! أنه في الوقت الذي نسمع فيه في بلادنا الطاهرة بلاد الحرمين مثل هذه الأصوات المنكرة؛ أننا نسمع في البلاد الأخرى أخباراً سارة عن العودة الصادقة خاصة في أوساط الفتيات إلى الله عز وجل. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 9 الصحوة بدأت مبكرة أما في هذه البلاد، فإن من نعمة الله عز وجل أن الصحوة بدأت مبكرة، بل سبقت تيار الفساد، ولا شك أن حجم انتشار الخير، والفضيلة، والدين، والتقوى، والعلم، والصلاح، والإصلاح في بلادنا؛ أكبر بكثير من حجم انتشار الفساد صحيح أن المجتمع في الماضي كان مجتمعاً بعيداً عن كل هذه الأمور، كان مجتمعاً أقرب إلى العادية. لكن المجتمع -لا شك- يسير كما ورد في بعض الآثار أن الناس سيتميزون إلى معسكرين: معسكر إيمان لا نفاق فيه، ومعسكر نفاق لا إيمان فيه، ولذلك بدأنا نلاحظ أن المجتمع فعلاً بدأ يتميز، فأصبح يظهر في مجتمعنا نماذج عفنة من المنحرفين من دعاة الرذيلة، دعاة النساء، ودعاة الانحلال الفكري، والانحلال الخلقي، وفي مقابل ذلك بدأ يظهر في مجتمعنا نماذج مشرفة، وكثيرة، وكبيرة، وقوية، من طلبة العلم، والدعاة، والعلماء، والمؤمنين، والمجاهدين، والمتمسكين بالإسلام عن وعي، وبصيرة لاعن تقليد ووراثة وهذا النوع يبرز في أوساط الرجال كما يبرز في أوساط الفتيات سواء بسواء. إذاًَ: تيار التدين، وتيار الاستقامة، وتيار الصلاح، تيار الصحوة في بلادنا، سبق تيار الفساد، ولم يكن رد فعل لتيار فسادٍ عرض في مجتمعنا؛ بل هو أصالة لهذا المجتمع، فهذا المجتمع لم يشهد حالات من التعاسة الخلقية غامرة تغطيه كله، ثم بعد ذلك شهد انتفاضة ورجوعاً إلى الله عز وجل. كلا! بل هو مجتمع لا يزال يعيش أصالة الإسلام، والالتزام بهذا الدين، والمحافظة على الأعراف، والمحافظة على الأخلاق، وإن وجدت فيه بوادر كثيرة من الانحراف؛ لكن تيار التدين والصحوة سبق الانحراف في مجتمعنا بكثير هذه واحدة، وهي لا توجد في أي بلد آخر على الإطلاق. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 10 المطالبة بالعودة إلى الحجاب الجزء: 194 ¦ الصفحة: 11 الالتزام بالحجاب في أمريكا ولقد رأيت بعيني في مركز الحضارة الغربية، ومهدها في أمريكا أعداداً كبيرة من الفتيات سواء من السعوديات، أم من الماليزيات بصفة خاصة، أو من الجنسيات الإسلامية الأخرى، رأيتهن ملتزمات بالحجاب في بؤرة الرذيلة، وحولهن العالم يعصف بألوان التبرج، والسفور، والعري والانحلال تجدين الواحدة منهن كالريحانة في وسط النتن، الجو من حولها صاخب، صاخب بالكفر، صاخب بالرذيلة، صاخب بالفساد، صاخب بالانحلال، وهذه الفتاة قد أحكمت الحجاب على رأسها، وربما أيضاً على وجهها أحياناً، وكأنها لا تعبأ بهذا المجتمع المنحل المتهالك من حولها. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 12 الالتزام بالحجاب في فرنسا وما قصة الفتيات المغربيات الثلاث في فرنسا عنا ببعيد، وهي قصة معروفة للجميع حيث أصرت هذه الفتيات على أن لا يدخلن المدرسة إلا بالحجاب، واستطعن أن يتحدين المجتمع الفرنسي بأكمله في هذا الموضوع. فأقول: من نعمة الله عز وجل أن دعاة تغريب المرأة، وتخريبها، وانحلالها في هذا البلاد ما استطاعوا أن يجهروا بهذه النعرة الجاهلية، ويصرخوا بهذا الفحيح الذي هو فحيح الأفاعي إلا بعد أن بدأ العالم يشهد عوداً حميداً إلى الإسلام. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 13 احتراف دعوة تحرير المرأة ولذلك نقول لهم: أوراقكم محترقة، لا مكان لكم في هذه البلاد، ولا مكان لدعواتكم المضللة بين فتياتنا المسلمات، فتياتنا المؤمنات، أعلنها صريحة أنهن مع الإسلام، ومع الحجاب، ومع عدم اختلاط المرأة بالرجل، ومع التزام تعاليم الإسلام في كل صغيرة وكبيرة، حتى في هذه البلاد أكثر الفتيات الآن -وفي الجامعات أيضاً- لا تخرج إلى الجامعة إلا وقد غطت قدميها وذراعيها وكفيها وجميع بدنها، وهى تعتقد أنه لا تعارض أبداً بين أن تدرس في أعلى المستويات، وتخدم أمتها في جميع المجالات، وتمارس كل الأمور التي تناسب المرأة من الأعمال، ومع ذلك تظل محافظة على تعاليم الإسلام، فلا تخلو برجل، ولا تسافر بمفردها، ولا يرى الناس شيئاً منها، ولا تكلم الرجال إلا بقدر حاجتهم وحاجتها، ولا تعتقد أن هناك أدنى تناقض بين هذا وذلك. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 14 مطالبة بالحجاب في الجزائر كل الناس سمعوا بالمظاهرة الصاخبة التي حصلت في الجزائر، وقادتها مجموعة من النساء، وبلغ العدد فيها ما يزيد على مئات الألوف، وهي تطالب بالحجاب، وتعترض على التعاليم الغربية المناقضة لتعاليم الإسلام. إذاً: نقول لدعاة العلمانية في بلادنا: "صح النوم" بعد أن بدأ العالم يعود إلى تعاليم الإسلام، وبعد أن بدأت المرأة المسلمة ترجع إلى ربها، وترفض الجاهلية، وشعارات الجاهلية؛ نجد في مجتمعنا الطيب الطاهر نغمة تنادي بتحرير المرأة، إن هذا لشيء عجاب!! الجزء: 194 ¦ الصفحة: 15 قرار في تركيا يسمح بالحجاب ولعل من الغريب، العجيب، والمضحك، المبكي، وهو مفرح أيضاً: أن نقرأ في الأخبار -قبل أيام ليست بالبعيدة- أنه في تركيا مركز العلمانية، ومنطلق العلمانية، وأول دولة إسلامية حُكِمَتْ بالعلمانية على يد اليهود يهود الدونما، وزعيمهم المعروف مصطفى أتاتورك: الذي لمعه الغرب ليؤدي دوره في هدم الإسلام، أن نسمع في هذه البلاد خبراً يقول: "صادق البرلمان التركي على قرار يسمح بدخول الطالبة المحجبة الجامعة"، وأقر رئيس الدولة هذا القرار بحيث يصبح ساري المفعول، وبناءً على هذا القرار الذي يسمح للطالبة المحجبة بدخول الجامعة -وهذا هو الغريب في الأمر-: رجع عشرة آلاف طالبة تركية إلى الجامعات. فعشرة آلاف طالبة تركية رفضن الدراسة في الجامعة لأن الجامعة تفرض عليهن السفور، وتمنعهن من الحجاب، فلما انتصر القرار الذي يسمح -يسمح فقط- بلبس الحجاب للطالبة الجامعية، رجعت عشرة آلاف طالبة إلى الجامعة، أي أن عشرة آلاف طالبة مستعدات للتضحية بالدراسة، وبالجامعة، وبما يسمونه "المستقبل"؛ من أجل المحافظة على الحجاب، ولك -أختي المسلمة- أن تتصوري أيضاً، كم من ألف طالبة تتمنى أن تتحجب لكنها لا تضحي بالدراسة فتذهب إلى الجامعة غير محجبة، مكرهة، وهي تتمنى أن يتاح لها الفرصة لأن تتحجب. لا شك أن هذا يعد، لا أقول بعشرات الألوف، بل بمئات الألوف من الطالبات، ومعنى ذلك أن الجامعات في تركيا سوف تشهد توجهاً كبيراً نحو التزام الحجاب، وهذا ما جعل العلمانيين في تركيا يسخطون، ويمتعضون، ويقومون بالمظاهرات احتجاجاً على الإذن بالحجاب، وبعضهم أضرب عن التدريس ودخول الفصول. ولعل مما يفرح المؤمن أن مجموعة من العلمانيين في تركيا في ذلك اليوم ذهبوا إلى قبر أتاتورك زعيمهم اليهودي الهالك، ووضعوا أمام قبره الورود والزهور، والرياحين، وقالوا كلمات معناها: يا أتاتورك، لقد تنكر المجتمع التركي لمبادئك العلمانية الكافرة. إن المجتمع التركي يشهد عوداً إلى الدين. إن من الغريب أنه في الوقت الذي نجد الجامعات المصرية تمتلئ بالطالبات المحجبات، وأصبح الحجاب أمراً عادياً، بل من العجيب، والغريب أنه في الوقت الذي وجدنا الفتيات المؤمنات، حتى في بلاد الغرب يلتزمن الحجاب؛ أن نجد من يطالب بخلعه هنا. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 16 دور المرأة المسلمة إن هذه الدعوات التي ينادون بها هي دعوات محترقة، دعوات ميتة قبل أن تولد في هذه البلاد، ماتت قبل أن تولد، ماتت في مهدها، ووئدت في مهدها، ولكن هذا كله لا يعفيكن أيتها الفتيات المؤمنات من مسؤولية كبيرة في مواجهة الخطر الداهم الذي يهدد الأمة، الخطر من وجود هذه الفئة داخل مجتمعنا، والخطر الآخر: أن هذه الفئة عادة ما تتحالف مع العدو الخارجي، تتحالف مع اليهود، ومع النصارى، ومع الشيوعيين في سبيل الهيمنة على هذا المجتمع، وهنا يأتي دور الفتاة المسلمة ليس مهماً أن تتكلم كثيراً عما جري وماذا سيجري؟! الهم الأكبر هو أن يعرف كل فرد منا -رجلاً أو امرأة- ما هو الدور الذي يجب أن يؤديه، هل دوركن أيتها الفتيات يقتصر على مجرد ردة فعل من تصرف أهوج بإرسال برقية، أو اتصال هاتفي؟ أو إعراب عن الامتعاض، والغضب، والسخط، بوسيلة معينة؟ هذا مطلوب لا شك، ولا اعتراض عليه، وهو أقل الواجب! لكن! هل دورنا يتوقف عند مجرد ردة فعل؟ أقول: كلا، وألف كلا. إن دوركن أيتها الفتيات أكبر من ذلك دوركن يتمثل في عدة أمور: الجزء: 194 ¦ الصفحة: 17 مقاومة المنكرات الأمر الثالث: وهو أمر -لا شك- مهم! ولست أقلل من شأنه، لكنه ليس الأصل، هو: أن تقوم المرأة المؤمنة بدورها في مواجهة تيارات الفساد، وفي مقاومة صور الانحراف والانحلال التي توجد، هذه يمكن أن تقول أنها ردود فعل، كأن توجد في مجتمعنا -مثلاً- جهات، أو جمعيات، أو مؤسسات تدعو إلى الفساد، تعلنه، أو تسره هنا يأتي دور المرأة سواء في فضح هذا الفساد، من خلال وثائق -بقدر المستطاع- ومن خلال معلومات مؤكدة، وإيصال ذلك إلى المختصين، وإلى أهل العلم والمشايخ والدعاة، حتى يقوموا بدورهم في الإنكار، أو الجهات المعنية، كجهات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من خلال مخاطبة المسئولين ومكاتبتهم، أو من خلال مخاطبة الأشخاص القائمين بالفساد أيضا، والإنكار عليهم، وتحذيرهم، وتذكيرهم بأيام الله عز وجل، وهذا مطلوب، وهو دور مكمل للدور الثاني. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 18 خلاصة ما سبق إذاً: خلاصة ما أود أن أقوله للأخوات المؤمنات في هذه الكلمة، هو أننا ننتظر من الفتيات المؤمنات القيام بدورهن المنتظر على ثلاثة محاور: المحور الأول: أن تكون الفتاة معبرة بسلوكها الشخصي عن التزامها الكامل بتعاليم الإسلام، ورفضها الكامل لكل دعوات التغريب، والتخريب. المحور الثاني: أن تنزل الفتاة المسلمة إلى الميدان، ولا تهرب من الواقع، ولا تقول: المدرسة الفلانية فيها كذا، والمكان الفلاني فيه كذا، والحفل الفلاني فيه كذا، ثم تهرب، لا، الهروب لا يصلح، إنما تأتي وتشارك، وتعمل على الإصلاح والتغيير بقدر ما تستطيع، فإذا استطاعت أن تزيل المنكر؛ تزيله، فإذا لم تستطع؛ تزيل بعضه وتخفف منه، وإذا استطاعت أن تأتي بالمعروف كله الذي يحتاج إليه؛ أتت به، وإذا لم تستطع؛ تأت بما يمكن منه، و {سددوا وقاربوا} . المهم أن تنزل للميدان، وتكون فعالة إيجابية بناءة مصلحة فنحن نحتاج -والقضية مهمة جداً- إلى فتيات يرفعن الراية وتقول كل واحدة منهن: أنا لها أنا لها؛ لأنك إذا رفعت راية الدعوة؛ سوف تجدين كثيراً من الفتيات يتجمعن حولك، ويقمن بمثل ما تقومين به، ويشاركن معك، ويعرضن خدماتهن عليك، وهذا خير كثير لا شك. الأمر الثالث: هو مقاومة المنكرات والفساد، والتيارات الداعية إلى الرذيلة، ومواجهة دعاة الفساد في مجتمعنا. هذا وأسأل الله عز وجل أن يحفظ المسلمين -رجالاً ونساء- من كيد أعدائهم الظاهرين والمعلنين، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . الجزء: 194 ¦ الصفحة: 19 النزول إلى الميدان ونريد منك ثانياً: النزول إلى الميدان، النزول إلى الساحة: لقد أصبحت الأدلة كافية الآن على أن هناك مخططاً مبيتاً لهذه البلاد، وللمرأة المسلمة في هذه البلاد؛ فماذا ننتظر يا أختي؟! أن نبتعد عن المجالات المهمة، مجالات التأثير ونتركها لغيرنا، أبداً! نريد منك أن تكوني: مدرسة، وموجهة، ومديرة، وإدارية، ودارسة، ومشاركة في كل مجالات العمل النسائي، التي تستطيعين أن تؤثري من خلالها. إذاً: نريد للمرأة المتدينة، نريد للفتاة المسلمة حضوراً، ووجوداً حقيقياً، نريد المشاركة لماذا؟ لأنه ليس صحيحاً أبداً أن يكون دورنا هو الشكاوى والامتعاض وردود الفعل فإذا حصل في المكان الفلاني مشكلة، أو منكر؛ كتبنا برقية، كتبنا أخباراً، كتبنا كذا، بلغنا، لكن عجزنا؛ لأن المنكرات يمكن أن تكثر، وستكثر وتكثر، وهذا لا شك فيه؛ لأن من خطط العدو: أن يغرقنا بكم هائل من المنكرات، تمطر علينا من كل مكان، يظن بذلك أنه سوف يحبط جهودنا، ويجعلنا في حيرة من أمرنا؛ لأننا لا ندري بماذا نبدأ؟ ويكون أمرنا كما قيل: فلو كان سهماً واحداً لاتقيته ولكنه سهم وثان وثالث فهل صحيح يا أختي المؤمنة: أن يكون دورك ودورنا جميعاًُ فقط: أنه إذا حصل منكر ننكره وإذا حصلت مشكلة نعالجها، ونشتكي أنه في المكان الفلاني يوجد كذا، وفي المكان الفلاني يوجد كذا، وفي المدرسة الفلانية امرأة تنادي بنزع الحجاب، وفي الجامعة الفلانية امرأة تنادي بقيادة السيارة، وفي الموقع الفلاني امرأة تسعى إلى جر البنات إلى الرذيلة والفساد -مثلاً- هل صحيح أن يكون دورنا هو الشكاوي فقط؟! وإعلان رفضنا لمنكرات معينة؟! لا أبداً، ينبغي أن يكون دورنا إيجابياً وبناءً، يتمثل بأن ننزل إلى الميدان، فتنزلين للميدان، أعني: أن يكون عند الفتيات هم المشاركة في الحياة الاجتماعية النسائية؛ من خلال التدريس، ومن خلال التوجيه، ومن خلال الإدارة، ومن خلال الدعوة إلى الله عز وجل ومن خلال المشاركة في الأعمال الخيرية، وفي دورات تحفيظ القرآن الكريم مثلاً، ومحاضرات خاصة للنساء، ومشاركات واجتماعات للنساء، ونشاط في أوساط المرأة بكل صعيد، كنشر الكتاب، ونشر الشريط، والدعوة إلى الأعمال الخيرية، والتأثير في النساء، وإرسال النصائح عبر الهاتف، أو عبر الرسائل، أو عبر المحادثة الفردية. المهم: نريد مجموعة كبيرة من الفتيات يكون هم الدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، هماً مسيطراً عليهن يقعدهن ويقيمهن، ولا يحول دونهن ودون هذا الهم شيء -فمثلاً-: لا يحول الزواج دون هذا الهم، فإننا نجد أن من الفتيات في مجتمعنا من تكون قبل الزواج شعلة متحركة من النشاط لله؛ لكن إذا تزوجت خمدت وانتهي دورها، وهذه مشكلة؛ لأن الزواج أمر طبيعي بالنسبة للمرأة، فهل كل من تزوجت قعدت عن العمل والمشاركة؟! لا. نجد نماذج في المجتمع الآن، حتى بعد أن تزوجت، وأصبح لها أولاد، لا تزال تؤدي دورها على أكمل وجه، سواء من خلال موقعها الرسمي، كمدرسة في مدرسة مثلاً، أو معيدة، أو محاضرة في جامعة، أو دكتورة، أو حتى من خلال الأعمال الخيرية، كنشاط جمعيات البر، أو جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، أو غيرها من المجالات، أم من خلال جهودها الشخصية، وصلاتها الشخصية بالنساء بالقريبات، وبالبعيدات، وبصديقاتها إلى غير ذلك من المجالات. إذاً: نحن ننتظر منك -أيتها الأخت المؤمنة- أن تنزلي إلى الميدان وتمارسي دوراً فعالاً، ليس الدور الذي ينتظر حصول منكر حتى ينكره، أو حصول فساد حتى يغيره، كلا! بل الدور الذي يقوم ابتداءً بالدعوة إلى الله عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإصلاح، وتربية النساء على الخير، والإيمان، والفضيلة، وتحذيرهن من الفساد قبل أن يوجد الفساد، وقبل أن تصل إليهن أصوات المفسدين، هذا أمر نحتاجه بشكل كبير، وهو من أهم الأشياء التي تنتظرها. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 20 التعبير العملي لا القولي الأول: أن تعبر كل واحدة منكن تعبيراً عملياً، لا تعبيرا قولياً: عن رفضها لكل دعاوى أعداء الإسلام بالتحرر، وخروج المرأة، وسفور المرأة. تعبر عنه عن ذلك الكبير الشامل بالحجاب الشرعي الحجاب الشرعي الحقيقي، وليس الحجاب التقليدي، وليس الحجاب الوراثي الذي تظهر فيه الفتاة، وكأنها ملزمة بتغطية وجهها مثلاً، فتغطي رقعة وجهها، وتظهر عينيها وذقنها، ونحرها، أو تظهر رقبتها، أو عنقها، أو كفيها، أو تظهر شيئاً من ذراعيها، وتتبرج، وتتعطر، فيقول الناس هذا حجاب إنما ألزمت به إلزاماً، وليس حجاباً ينبع من إيمانها ويقينها ودينها. إذاً نحن نطلب منك أيتها الأخت الكريمة أولاً: أن تعبري للناس كلهم بالفعل لا بالقول، على أنك ملتزمة بالحجاب الشرعي الكامل، من منطلق إيمانك بهذا الدين، لا من منطلق أنه أمر يفرضه عليك المجتمع، حتى تقولي لكل من رأى هذا أن يقول: والله لا أعتقد أنه يمكن بحال من الأحوال، أن مجتمعاً هذا وضع نسائه، يمكن أن يتقبل مثل هذه الدعوات الداعية إلى التغريب، والتخريب، والتحرر. هذا أمر مهم جداً، ولست أعني به فقط الحجاب! أعني به أن تكوني بكل تصرفاتك نموذجاً لما يدعوا إليه الإسلام بكل شيء، فالخلوة والاختلاط بالرجال أو كثرة الحديث معهم بغير حاجة، أو كثرة الخروج إلى الأسواق، إلى غير ذلك من الأشياء التي نريد من الفتاة المسلمة أن تقول لنا فيها كلمتها، لا بلسانها فقط بل بفعلها! تعبر عن أن هذا المجتمع أصيل، وفتيات هذا المجتمع أصيلات، ولا يمكن أن تنطلي عليهن ألاعيب الشرق أو الغرب. هذا مهم جداً عندنا! وكم سرني وأثلج صدري حين حدثني بعض الشباب: أن بعض هؤلاء النسوة اللآتي قمن بذلك العمل الشائن دخلت يوماً ما على طالباتها قبل المظاهرة بأيام في الجامعة، فأجرت لهن استفتاءً كم واحدة منكن ترغب قيادة السيارة؟ فلم تجد منهن إلا طالبتين فقط يوافقنها على هذا الكلام، ولا شك أن هاتين الطالبتين ربما وافقنها بسبب تأثيرها عليهن، أو مجاملة لها؛ فكانت تقول: يا خسارة لا يوجد إلا اثنتين. إذاً: المجتمع يعبر عن رفضه وسخطه لمثل هذه الدعوات المشبوهة الموءودة في مهدها، من خلال سلوك عملي تمارسه الفتاة المسلمة في كل ميدان، وفي كل مجال، هذا نريده منك أولاً؛ لأن هذا أبلغ من كل تعبير والله إن خروج امرأة متحجبة حجاباً كاملاً، أبلغ أحياناً من عشرات المحاضرات عن حجاب المرأة، ووجوب الحجاب وغير ذلك. إذاً: نريد منك أولاً: أن تكوني أنت تعبيراً عملياً صادقاً عن تعاليم الإسلام، بدلاً من أن نتكلم كلاماً كثيراً، نريد امرأة عندما تظهر أمام زميلاتها، أو حتى تظهر في المجتمع لحاجتها، يعلم الناس أن وضع المرأة المسلمة وضع جيد، ويبشر بخير كثير. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 21 الأسئلة الجزء: 194 ¦ الصفحة: 22 صلة رحم السؤال هل يجب علي صلة بنت أخت زوجي؟ الجواب ليس هذا بواجب؛ لكن ينبغي للمرأة أن تحفظ زوجها في أقاربه، بإكرامهم، والإحسان إليهم، ومودتهم، وإيصال الخير إليهم بقدر ما تستطيع. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 23 مساواة أقارب الزوج بالأم السؤال هل يجب علي مساواة خالة أو أخت زوجي بأمي بالصلة سواء بالزيارة أم بالمال، علماً أن المال لزوجي؟ الجواب أما مال الزوج، فإنه يخرج بإذنه ورضاه؛ وأما الأم فلا شك أن الأم لها من الحقوق ما ليس لغيرها، لا لأم زوجها، ولا لخالة زوجها؛ لكن كما ذكرت تحرص المرأة على أن تحفظ زوجها في أقاربه، وهذا من أهم الوسائل في تحبيب المرأة إلى زوجها. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 24 حكم قص المرأة شعرها السؤال هذا سؤال عن قص الشعر؟ الجواب قص الشعر فيه كلام والأظهر عندي: أن قص الشعر للمرأة جائز بشروط: الأول: ألا يكون فيه تشبه بالرجال، فبعض الفتيات تقص شعرها قصاً شديداً، تنهكه، حتى كأنه شعر ولد، وبعضهن يسمينها قصة ولادية؛ فهذا لا يجوز. الأمر الثاني: ألا يكون فيه تشبه بالكافرات، فالقصات الغربية أياً كان اسمها مثلاً: قصة الكابريه، أو الأسد، أو الفرنسية، أو السنبلة، أو غيرها؛ كل هذه القصات مما لا يجوز؛ لأنها قصات مأخوذة عن الغرب. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 25 اتهام العلماء السؤال هل نصدق ما نسمعه عن بعض المشايخ من سب واتهامات؟ الجواب لا يجوز تصديقه؛ فالاتهام موجود، اتهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، فأتباعهم يُتَهمون -أيضا- ولهم أعداء قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] خاصة في هذا الوقت، وهناك جهود جبارة لمحاولة تشويه صورة العلماء وطلبة العلم، فيجب أن نكون مستيقظين وواعين لما يقال، وإذا سمعنا شيئاً أن نقول: سبحانك هذا بهتان عظيم. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 26 تبرع للمجاهدين الأفغان السؤال نرجو الإعلان عن وجود تبرع للمجاهدين الأفغان؟ الجواب بالنسبة للمجاهدين -لا شك- تعلمن أيتها الأخوات مدى حاجتهم، خاصة في هذا البرد القارس، وهم يعيشون الآن ظروفا صعبة، ونحن أيضاً نعيش ظروفاً صعبة، فنحن نرجو الله عز وجل أن يدفع عنا العذاب، والبلاء، والنقمة بإعانتنا، ومساعدتنا لإخواننا المؤمنين المجاهدين، وهذا ليس تبرعاً في الواقع؛ بل هو واجب، وجزء من الواجب الذي يجب علينا أن نبذله. لا أقل من أن تساعدي إخوانك المجاهدين بما تستطيعين: {تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره، -حتى قال صلى الله عليه وسلم-: ولو بشق تمرة} وفي حديث ابن عباس {أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى النساء، وحثهن على الصدقة حتى بدأت النساء يتصدقن قال عليه الصلاة والسلام: تصدقن ولو من حليكن} فبدأت النساء يأخذن قرطهن، وأشياءهن، ويضعنها في حجر بلال رضى الله عنه وأرضاه، فالأخوات ليس كثيراً أن تخرج الأخت شيئاً من حليها، أو مالها، وتخرجه في سبيل الله عز وجل قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] . فانفقي -أيتها الأخت الكريمة- مما تحبين، ولا تعتقدي أن هذا تبرع، اعتقدي أن هذا جزءٌ من الواجب الذي يجب عليك تجاه إخوانك المؤمنين، وقد يدفع الله عنك، وعن أمتك، وعن بلدك البلاء بمثل هذا العمل الطيب. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 27 ظهور الدعاة في التلفاز السؤال أنتم يا دعاة الخير تأمرون بترك التلفزيون وترك مشاهدته، وأنتم تظهرون فيه، أي في بعض برامجه، فهل يدخل هذا في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة:44] ؟ الجواب أولاً: بالنسبة لي أنا لم أظهر في التلفزيون مطلقاً -والحمد لله- ولم يسبق لي أن شاركت في برنامج أقدمه بنفسي، فلعل الأخت واهمة، أو التبس عندها الأمر بغيري. هذه واحدة. الثانية: أنه حتى لو فرض أن أحد الدعاة يشارك في التلفزيون، ويأمرنا بإخراجه هل يكون مخطئاً؟ لا، ليس بالضرورة أن يكون مخطئاً، لأنه يقول: أنا أخرج التلفزيون، فأخرج مجموعة من الناس عندنا التلفزيون، ووافقوا على هذا الطلب، بقي مجموعة من الناس لم يخرجوه، أصروا على إبقائه، هل نتركهم لهذه البرامج السيئة؟ هل نتركهم للأغاني؟ وهم أكثر الناس خاصة في المناطق الأخرى. لا يمنع أن ينتدب بعض الصالحين، ممن لا يرى حرجاً في ذلك أن يقدم بعض البرامج المفيدة؛ لملئ وقت فراغ الناس الذين أصروا على اقتناء هذا الجهاز، مع أنني أعلم أن عدداً من طلبة العلم والعلماء الذي يظهرون في التلفاز في برامج، أن بيوتهم تخلو من هذا الجهاز. إذاً: لم يأمروا الناس بالبر ونسوا أنفسهم، أمروا الناس بالبر وفعلوه، لكنهم عملوا على سد الذريعة، وتقليل الشر بقدر المستطاع، على كل حال: أنا أنصح دائماً بتجنب التلفاز، وإخراجه من البيوت؛ لأن أكثره شر، والذي يدخله في بيته لا يستطيع أن يكون بواباً يمنع المواد الفاسدة، ويحافظ على أهله، وأولاده، وبناته من مشاهدته. تنبيه: ورد كثير من الأسئلة الفقهية الخاصة بالنساء، وهذه الأسئلة يمكن تنبيه الأخوات على الاتصال بأهل العلم من المشايخ عند الحاجة! بمعنى: أنه ليس صحيحاً أن تتأخر المرأة عن السؤال بعد وقوع ما تحتاج إليه، بل إذا احتاجت ينبغي عليها أن تسأل حالاً، وتتصل بمن يكفيها ويشفيها ويفتيها فيما تريد. وما يتيسر من الإجابة عليه؛ نجيب عليه الآن. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 28 المرأة وحفظ الوقت السؤال تطرقت إلى تعليم المرأة فارجو الإجابة على التالي: كيف توفق المرأة بين عملها في مجال التعليم، وبين بيتها بشرط الاستغناء عن الخادمات؟ الجواب تستطيع المرأة أن توفق بين عملها في التعليم وبين بيتها وبين دعوتها إلى الله عز وجل بأمور منها: حفظ الوقت: فإن الوقت فيه بركة كثيرة لو حفظناه بشكل جيد، ووضعنا برنامجاً دقيقاً للوقت وحتى نكون واقعيين يمكن لكل واحدة أن تأتي بورقة وقلم، وتكتب: كم من الوقت في اليوم والليلة تستطيع الحفاظ عليه، وكم يضيع منه؟ ستجدين -أختي المؤمنة- أن جزءاً كبيراً جداً من الوقت يضيع دون طائل، ودون جدوى؛ يضيع في جلسات فارغة يضيع في نوم طويل لا فائدة منه يضيع في أشياء من الكماليات التي أغرقنا فيها، واستغرقنا فيها، واستهلكنا فيها وقتنا وجهدنا وطاقتنا. فلو أن المرأة حسبت كم تجلس أمام المرآة؟! -أحيانا- قد تجلس ساعات في اليوم، للتسريح! والتجميل! والمكياج! إلى غير ذلك! أنا لا أدعو إلى ترك التجميل، فهذا أمر فطري مطلوب خاصة للزوج، والزوج يريده، ويطالب به، ومن حقه ذلك، لكن الاقتصاد والاعتدال في كل شيء مطلوب. كم من الوقت نقضيه في النوم الذي لا فائدة منه؟! كم من الوقت نقضيه في جلسات لا جدوى من ورائها؟! إذاً: نستطيع أن نعمل الشيء الكثير من خلال حفظ الوقت، وهذه ليست معجزات!! أمامنا شواهد عملية رجال ونساء أوقاتهم مملوءة، وحافلة بأشياء جليلة، وعندهم من المشاغل مثلما عند الواحد منا عشر مرات، ومع ذلك تجدين عندهم أوقات فراغ، لماذا؟! لأن الوقت محفوظ عندهم. لكن كون الإنسان ينام في الصباح -أحياناً- في أيام الخميس والجمعة حتى الساعة العاشرة، ويقول: ليس عندي فراغ، كيف يكون هذا؟! أو يجلس في جلسة ساعتين، أو ثلاث ساعات عندما ينتهي ما فائدة هذه الجلسة؟! وما هو الجدوى منها؟! وما هي الفائدة منها؟ يقول: أبداً والله! تسلية وقضاء وقت فقط. هذا ليس بصحيح!! الجزء: 194 ¦ الصفحة: 29 حكم الاستعاذة عند التثاؤب السؤال هل صحيح بأن قول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" عند التثاؤب من البدع؟ الجواب التثاؤب من الشيطان، كما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، في الحديث المتفق عليه {التثاؤب من الشيطان} لكن لم يرد أن النبي عليه الصلاة والسلام أرشد إلى الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم عند التثاؤب. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 30 استهزاء بقضية السؤال بعض الأخوات يستهزئن من قضية النساء التي حدثت ولا يعطينها حقها. الجواب لا أدري كيف يكون الاستهزاء؟! فإن كان الاستهزاء بهؤلاء النسوة، فهن فعلاً مثار سخرية؛ ولكن ينبغي أن ندرك أن الأمر جد، وأنه خطير، وأن وراء الأكمة ما وراءها. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 31 الذهاب مع زوج الأخت السؤال هل يجوز الذهاب مع أختي وزوجها من بلد إلى بلد؟ الجواب إذا كان الذهاب سفراً، مما يعد سفراً في عرف الناس؛ فلا يجوز؛ لأن المرأة لا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، إما إذا كان الذهاب إلى مكان قريب لا يعد سفراً في عرف الناس، وليس هناك خلوة، كالذهاب داخل المدينة مثلاً، فلا حرج في ذلك. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 32 التحجب من الأعمى السؤال نرى بعض الفتيات هداهن الله إذا جاء رجل دين فاقد البصر، لا يتحجبن بحجة أنه أعمى، فهل في حجتهن خلل؟ مع أن هناك حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام؟ الجواب هناك حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه!} وهذا الحديث صححه بعض أهل العلم، وضعفه آخرون، والذي أراه أنه لا يجب الحجاب من الرجل الأعمى، ما دام أنه لا يرى مطلقاً؛ لأن المرأة ولو تحجبت، فإنها ترى الرجل الأعمى، ولو تحجبت؛ فإنه يجوز لها أن تلبس النقاب عند الحاجة إليه، ومنه ترى ما أمامها، وقد ثبت أن عائشة رضى الله عنها كانت تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد. المهم أنه لا يجوز للمرأة أن تنظر بشهوة، بمعنى أنها تحدد النظر في وجوه الناس، وتميز بينهم هذا حسن الخلقة، وهذا غير حسن، وهذا، كذا، وهذا كذا، فهذا مدعاة للفتنة -ولا شك- أنه لا يجوز. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 33 الصور والصلبان في الملابس السؤال ما حكم الملابس التي عليها صور وعليها صلبان؟ الجواب لا ينبغي لبسها، بل ينبغي إما إتلاف الصورة، وإما إتلاف الثوب كله. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 34 الملابس القصيرة للأطفال السؤال ما رأيك في أن بعض النساء تلبس بناتها الصغار ملابس قصيرة، وتقول: إنهن صغيرات؟ الجواب الصغر مراحل، فإذا كانت طفلة صغيرة؛ فالأمر يسير؛ لكن إن كانت الفتاة قد شبت عن الطوق -أحياناً- فقد تكون الفتاة عمرها فمان أو تسع أو عشر سنوات، وخاصة إذا كان شبابها قوياً؛ تصبح كأنها امرأة. فينبغي تعويد الفتيات على لبس الملابس الفضفاضة، الملابس الكافية وكم هو جميل ومفرح أن تري أحياناً طفلة صغيرة، وقد لبست ثوباً يغطي بدنها كله، ويغطي ذراعيها، ويغطي ساقيها، ويغطي جميع بدنها! وهذا تعبير عن أن المجتمع المسلم -كما قلت قبل قليل- يصر على أنه لا يرضى بغير الإسلام بديلاً. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 35 الهواجس في الصلاة السؤال أحاول أن أطمئن في صلاتي، لكن تكثر على الهواجس أثناء الصلاة، بماذا تنصحني، فهذا شيء يؤلمني؟ الجواب أسباب الخشوع في الصلاة كثيرة منها: أولاً: تنقية القلب، لأن القلب الذي تصلين به إذا كان مشغولاً بالحياة، بأشياء كثيرة وهموم كبيرة، بدأت هذه الهموم تهجم عليك أثناء الصلاة، بل تجد الفرصة المناسبة وقت الصلاة فلابد أن تنقي القلب من الهموم، وتجعلي الهم هماً واحداً، ولذلك بعض الصالحين قد ينشغل في صلاته، لكن بماذا ينشغل؟! ينشغل بما هو خير، ينشغل بهم المسلمين، وهم الإسلام، وإنكار المنكر، والأمر بالمعروف، والتفكير في مشاكل الأمة، وهذا خير لا بأس به. ولذلك عمر -رضى الله عنه- كان يقول: [[والله إني لأجهز الجيوش وأنا في الصلاة]] والرسول صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام صلى العصر، فلما سلم قام مسرعاً ودخل بيته حتى فزع الناس! فلما رجع قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ذكرت شيئاً من تبر كان عندنا} يعني: تذكر شيئاً من الذهب كان موجوداً في البيت، فقام وأمر بلالاً أن يفرقه في المحتاجين. إذاً: كون الإنسان يفكر في صلاته أحيانا بهموم المسلمين، وأمور الأمة، ومشاكل الأمة، وأحزان الأمة، هذا قد يكون أحياناً أمراً طبيعياً، لكن المشكلة أن تفكر في صلاتك بأمور دنيوية، أو مشاكل عادية، وقضايا لا قيمة لها ولا أهمية! هذا غبن كبير وخسارة لا تعوض. إذاً: أولاً: طهري قلبك، واملئي قلبك بهموم الإسلام بحب الله ورسوله بالإقبال على الله وعلى الدين؛ بحيث يكون هذا همك، وأنت في الصلاة، ولذلك لاحظ الفرق: الآن بعض المؤمنين يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -وذكر- رجل قلبه معلق بالمساجد} يعني: همه الصلاة، تجدين أنه يبيع ويشتري، وفكره في المسجد: وكذلك المرأة: قد تكون تدرس، تُعْلِّم، تتكلم، تشتغل في بيتها، وفي منزلها: ومع ذلك قلبها مشغول بقضايا الدين والآخرة، والخير، لماذا؟! لأن القلب قد أقبل، فحتى حين تشتغل الأبدان بالأمور الدنيوية يكون القلب مشغولاً بالأمور الأخروية. والمصيبة أن كثيراً منا -الآن- على العكس من ذلك؛ حتى حين يشتغل البدن بالأمور الدينية مثل الصلاة، يكون القلب مشغولاً بالأمور الدنيوية مثل قضايا زوجية، أو قضايا منزلية، أو قضايا ملابس، أو أشياء، أو مشاكل لا علاقة لها بالدين، وليست من أمر الآخرة. فالمطلوب هو العكس هذا أولاً. الأمر الثاني: هو أن تعمل الأخت على إزالة كل الأسباب التي تصرفها عن الخشوع مثلاً: لا تصلي وهي في حالة انشغال، أو ارتباك تزيل المشاغل قبل أن تصلى، لا تصلى وفي قبلتها شيء يصرفها أو يلهيها لا تصلى وهي تسمع أصواتاً تزعجها وتلهيها عن صلاتها، ولذلك نهى الرسول عليه الصلاة السلام عن أن يصلى الإنسان -مثلاً- وهو بحضرة طعام؛ لأنه يكون مشتاقاً إلى الطعام فلا يقبل على الصلاة ولا وهو يدافعه الأخبثان -أي: يريد أن يقضي حاجته- لأنه حينئذ لا يقبل على الصلاة -أيضاً- كما يجب وكما هو مطلوب، ومثل ذلك إذا كان الإنسان بحضرة أناس يتحدثون، أو كان في قبلته أشياء تلهيه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم {اذهبوا بانبجانيتي هذه إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفا عن صلاتي} . لكن ينبغي أن تعلمي: أنه لابد أن تقطعي شجرة الغفلة عن الله من قلبك يضرب بعض العلماء مثالاً يقول: لو كان هناك شجرة مغروسة، وهذه الشجرة فيها عصافير كثيرة جداً وطيور، ورجل تحت الشجرة نائم -فهذا رجل أراد أن ينام- لكن أصوات العصافير؛ وصياحها جعله لا يستطيع أن ينام، قام هذا الرجل، وأخذ حجراً وضرب به هذه العصافير فطارت وتفرقت في كل مكان، فرجع ووضع رأسه لينام؛ فلما بدأ النوم يداعب عينيه؛ بدأت العصافير ترجع، ترجع، ترجع حتى كثرت، ثم بدأت تصيح حتى لم يستطع أن ينام. هذا بالضبط الذي نعمله نحن -أحياناً- في مدافعة الهواجس والوساوس ونحن نصلي شجرة الغفلة موجودة، فالشيطان يتسلل إلى قلوبنا، قد ندفع الشيطان، ثم يعود، ندفعه ثم يعود، لكن ولو قطعنا هذه الشجرة، لو أن هذا الرجل النائم قام وقطع هذه الشجرة؛ لأراح واستراح، ولما وجدت العصافير شيئاً تأوي إليه كذلك أنت! لو قطعت شجرة الغفلة عن الله، والانشغال بالدنيا من قلبك لم وجد الشيطان في قلبك مكاناً يأوي إليه. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 36 الحد الكافي في تعليم الفتاة السؤال لدي بنات في السنوات الأولى من دراستهن، ولما حدث ما حدث من سفور تلك الفتيات، أصبح عندي هبوط في العزيمة في تعليم الفتيات خوفاً مما حدث -عافانا الله وذرياتنا من ذلك- فما هو الحد الكافي في تعليم البنت في رأيكم؟ الجواب القضية: ليست مشكلة تعليم البنت وإلى أي حد، الآن ينبغي أن نركز على قضية التربية اجعلي -وكذلك بالنسبة للرجال- يجعلون البنات يدرسن في المدارس؛ لا مانع، ولا مانع أن تدرس إلى الدراسات العليا؛ لكن المهم هو التربية لا تتركين البنت فقط في المدرسة فيجب على الأب والأم أن يتعاونوا في التربية، وأن يكون البيت محضناً، فإذا كانت المدرسة تأتي بخير نضيف في البيت خيراً آخر لما جاءت به المدرسة، وإذا كانت البنت قد تتعلم في المدرسة -أحياناً- أشياء ليست بجيدة، فإننا نمسح في البيت هذه الأشياء الرذيلة، ونبدلها بأشياء حسنة، ونجعل عند البنت معرفة، وتمييز، نميز به الخير من الشر، والنافع من الضار. إذاً: الدراسة مهما كان الأمر ولو منعت أنت بناتك لم يمنعهن غيرك، فالأمر المهم: هو أن نعمل على أن نجعل من بيوتنا محاضن لتربية البنات، وإذا صلحت البنت، واستقامت، واهتدت؛ حينئذٍ لا مانع أن تدرس ابتدائي، ومتوسط، وثانوي، وجامعي؛ بل نحن بحاجة إلى دراسات عليا، نحن بحاجة إلى من يحملن دراسات عليا، وشهادات عليا، ويكن متمكنات من العلم الشرعي الصحيح، متدينات، قانتات، تائبات، عابدات، خاشعات، متصدقات، مؤمنات، داعيات إلى الله عز وجل. هل صحيح أننا نوافق على أن تكون المدرسات في الجامعات من المنحرفات؟! هل نقبل بذلك؟! هل نرضى به؟! لا، إذاً: هل ستغلق هذه الجامعات، لا. إذاً: لابد أن يكون في همنا أن يوجد من بناتنا المتدينات المؤمنات؛ نساءٌ يدرسن أرقى الدراسات، وأدق التخصصات التي يحتاج إليها، ويكن مع ذلك نموذجاً مشرفاً للفتيات المؤمنات المتدينات، نريد أن نقول للناس: ليس صحيحاً ما تدعونه: من أن هذه الأمور وقف على نوعية معينة من النساء، لا، أبداً! الفتاة المؤمنة أثبتت أنها تستطيع أن تدرس أرقى التخصصات، وأدقها، ومع ذلك تظل ملتزمة بتدينها، وحجابها، وإسلامها، وعفافها، وخلقها. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 37 خروج المرأة متعطرة السؤال ما حكم خروج المرأة متعطرة؟ الجواب خروج المرأة متعطرة لا يحتاج أن أفتي فيه، فقد أفتي فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والنسائي وغيرهما، عن أبي هريرة رضى الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت، فمرت على رجال ليجدوا ريحها، فهي كذا وكذا، قال: زانية} فهذا زنا، أو نوع من الزنا، {العين تزني وزناها النظر، والأذن تزني وزناها السمع، واليد تزني وزناها البطش أو اللمس، والفم يزني وزناه الكلام أو القبلة، والقلب يتمنى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه} . إذاً: خروج المرأة من بيتها متطيبة متعطرة يعتبر نوعاً من المقدمات الممهدات للزنا، لأن المرأة حينئذ تفتن نفسها، وتفتن غيرها بذلك. فلا يجوز للمرأة إذا تطيبت، ومست طيباً أن تخرج، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {أيما امرأة أصابت بخوراً، فلا تشهد معنا العشاء} أي: لا تخرج بالليل للصلاة ما دامت قد تبخرت وتطيبت فما بالك أختي الكريمة: إذا كانت تمر بالرجال، وخرجت لغير الصلاة، وربما أصابت طيباً غير البخور، ربما يكون -أحياناً- من العطور الفرنسية النفاثة التي تشم على مسافة أمتار، وربما على مسافات بعيدة. فهاهنا يطمع الذي في قلبه مرض، فتكونين وقعت في الفتنة، ودعوت غيرك إلى الوقوع فيها، فليس صحيح أن الإنسان يبني قصراً، ويهدم مصراً فقد تخرج المرأة المسلمة للصلاة مثلاً، أو تخرج لمحاضرة، أو تخرج لدرس تريد الخير، ولكنها كسبت من الآثام، والذنوب، وتسببت في إثم غيرها، فلا ترجع بالكفاف، ولا ترجع بالسلامة. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 38 من منكرات الأعراس السؤال نعلم جميعاً: أنه يجوز ضرب الدف في حفلات الزواج للنساء، ولكن الناس أسرفوا في ذلك. رجاءً الإجابة على الأسئلة التالية: ما حكم دفع أموال طائلة لأولئك النساء؟ الجواب إن كان دفع المال دفعاً فيه إسراف، وتبذير، ومبالغة، فإنه محرم، فالإسراف بكل صورة محرم، والتبذير محرم قال الله عز وجل: {كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف:31] وقال: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرا} [الإسراء:26] {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] . السؤال: إذا كان الغناء ماجن؟ الجواب: إذا كان الغناء ماجناً، فإنه يحرم النطق به، ويحرم سماعه، ويحرم إعطاء المال أيضاً لمن ينطق بهذا الغناء الماجن فكل أغنية لها ضربات خاصة بها، والراقصة تؤدي حركات في جسمها تناسب تلك الضربات. السؤال: إذا كان الضرب بدون غناء، ولكن أولئك النساء يرددن الأغاني الماجنة؟ الجواب: إذا كان الضرب على الدف فقط، وبدون غناء، أو بغناء ليس فيه مجون، وإنما هو غناء عادي، وبعيداً عن سماع الرجال أصوات النساء، وفي مناسبته؛ فإن هذا جائز. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 39 تقصير الثوب للمرأة ولبس القفازين السؤال أرى بعض النساء تقصر ثوبها قليلاً أو العباءة، وتخرج يدها مع الكمين من العباءة، وتلبس الشراب الصوف في اليدين والرجلين ماذا في ذلك؟ الرجاء ذكر حديث يدل على لبس شراب في اليدين السود؟ الجواب أما حديث يدل على لبس الشراب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين} فدل على أن لبس القفازين كان معروفاً في أوساط النساء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ومنعت منه المرأة المحرمة خاصة، وأما كون المرأة تقصر ثوبها، وعباءتها فلا شك أن هذا محرم من وجهين: أولاً: يترتب عليه ظهور القدمين، وبعض الساقين (خاصةً إذا مشاق) . الأمر الثاني: أنه من التشبه بالرجال، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجال بالتشمير، وأن يرفعوا أثوابهم فوق الكعبين، ونهى عن الإسبال فقالت أم سلمة: {يا رسول فالنساء -النساء ما حكمهن- قال: يرخين شبراً -يعني من الكعب ترخى المرأة شبراً- قالت يا رسول الله: إذاً تنكشف أقدامهن، قال: يرخين ذراعاً، ولا يزدن على ذلك} . الجزء: 194 ¦ الصفحة: 40 زكاة الذهب الملبوس السؤال هل يزكى عن الذهب الذي يلبس، ولا يتاجر به، ومقداره تقريبا سبعة آلاف ريال، أو عشرة آلاف ريال؟ الجواب -على كل حال- موضوع الحلي الذي يستخدم، فيه خلاف طويل كبير بين أهل العلم: فالأئمة الثلاثة على أنه لا زكاة فيه، والإمام أبو حنيفة يذهب إلى وجوب الزكاة فيه، والمسألة خلافية، والعلماء فيها مختلفون قديماً وحديثاً؛ وزكاته أحوط، أما متى تزكيه؟ فتزكيه إذا بلغ النصاب، ونصاب الذهب إحدى عشر وثلاثة أسباع الجنيه، وهذا يمكن معرفته من خلال قياس الذهب ووزنه، وأنا لا أعرف قيمة الذهب بالريال السعودي. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 41 طلب العلم الشرعي للمرأة السؤال هل يتعين على المرأة المسلمة طلب العلم الشرعي؟ وكيف توفق بينه وبين التزاماتها الأخرى؟ الجواب نعم يتعين على المرأة المسلمة طلب العلم الذي تحتاج إليه في ذات نفسها، أي أن المرأة لابد أن تعرف العلم الذي يخصها؛ لابد أن تتعلمه؛ لكن لا يتعين على كل امرأة أن تتعلم تفاصيل العلم الذي لا تحتاج إليه؛ إنما نحتاج إلى فئة من النساء يندبن أنفسهن لتعلم العلم الشرعي، إضافة إلى ما يحتجن إليه، بل ما تحتاجه الأخريات، حتى يكن نبراساً يهتدي به الآخرون. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 42 موقف المسلمة من دعاة تحرير المرأة السؤال ما موقف المرأة تجاه اللاتي يدعين إلى التحرير، ويحاولن إفساد زميلاتهن في الدراسة؟ الجواب أولاً: لابد أن تقوم بجهد مضاد -كما ذكرت أثناء الكلمة- بالدعوة إلى الخير والفضيلة. ثانياً: تقوم بواجب النصيحة لهؤلاء النساء سواء للداعيات أو للمدعوات. ثالثاً: إذا لم تمتثل هؤلاء النساء؛ ينبغي فضحهن والإبلاغ عنهن، وعما يقمن به، ومحاولة إيجاد وثائق تدل على هذا الجهد الذي قمن به، حتى يتم إيقافهن. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 43 دخول المعاهد الصحية السؤال ما رأيكم في التسجيل بالمعاهد الصحية التي خصصت للنساء؟ الجواب أرى أن التسجيل في هذه المعاهد ليس بجيد، وأنصح الفتيات بالبعد عنها؛ وذلك لأننا نعرف ما هو التمريض في مستشفياتنا، نعرف الاختلاط، نعرف التبرج فيه، نعرف التطيب، ويصعب على الفتاة المؤمنة أن تلتزم بالالتزامات الشرعية في مثل تلك البيئات، وقد اتصل بي كثير من الفتيات من تلك المعاهد، أو من المتخرجات، يذكرن أشياء كثيرة مما يعانيها من يعمل في مثل هذه المجالات. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 44 تغطية الرأس السؤال هل الأحسن للمرأة المسلمة أن تغطي شعر رأسها إذا كانت في المدرسة أو في أي مكان غير بيتها، أم الأمر سواء؟ الجواب أما إن كانت في مجتمع نسائي -مجموعة من النساء- فليس في الأمر لزوم أن تغطي رأسها، أو لا تغطية؛ أما بالنسبة للمجتمعات الرجالية فلا شك أن الأمر معروف أن المرأة تغطي شعر رأسها، وتغطي بدنها كله. وأما فيما يتعلق بالصلاة: لا شك أن العلماء مجمعون على وجوب تغطية المرأة شعر رأسها إذا كانت في الصلاة. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 45 خروج المرأة السؤال هل في خروج المرأة لزيارة المريض، أو صلة رحم من حرج؟ الجواب ليس في ذلك من حرج، ما دام أن خروجها لحاجة، كزيارة مريض، وليس في ذلك فتنة ولا تبرج، ومثله إذا كان ذلك لصلة رحم. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 46 تربية المسلمة لنفسها السؤال كيف تربي المرأة المسلمة نفسها بنفسها؟ الجواب لا شك أن المرأة أولاً: تحتاج إلى غيرها، ومن الصعب أن تربي نفسها بنفسها، فالإنسان محتاج إلى غيره، وإنما تربي نفسها من خلال: أولاً: صلتها بأخواتها المتدينات، المؤمنات اللاتي يكن عوناً لها على طاعة الله عز وجل؛ بالوعظ، والتذكير، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر، من خلال الدروس، والمحاضرات، والجلسات الأخوية، ودروس تحفيظ القرآن وما شابه ذلك من النشاط الخيري. الأمر الثاني: أن هناك -ولله الحمد- وسائل كثيرة، أصبح بالإمكان أن تفيد المرأة كثيراً، مثلاً: الكتيبات ففيما يتعلق بالمرأة هناك كتيبات كثيرة جداً، ورسائل صغيرة مفيدة، مثلاً: كتاب الأستاذ محمد قطب حركة تحرير المرأة وكتاب الأستاذ الدكتور: ناصر العمر فتياتنا بين التغريب والعفاف، -كتيبات كثيرة جداً- وكتاب التبرج لـ نعمت صدقي، كذلك رسائل منهاإليك أختي المسلمة للأستاذ عبد العزيز المقبل، إلى غير ذلك من الكتيبات، والرسائل الصغيرة، المفيدة التي يمكن للأخت أن تقرأها، وتقرئها غيرها أيضا. الوسيلة الثانية -غير الكتاب-: مسألة الشريط، وهو ممكن جداً حتى لغير المتعلمة، وحتى للمشغولة تسمع الشريط وهي تعمل في المنزل -مثلاً- أو وهي بأي حالة من الأحوال والأشرطة التي تعالج وضع المرأة المسلمة كثيرة وكثيرة جداً، وبعض محلات التسجيل قد أصدرت قائمة، أو كشف بأسماء الأشرطة المتعلقة بالمرأة، والأسرة المسلمة. فضلاً عن أن المرأة المسلمة، تجاهد نفسها في عبادة ربها، وفي قيام الليل، وفي قراءة القرآن، وفي طاعة الله عز وجل، وفي كثرة الذكر، والتسبيح، والتهليل، والتحميد إلى غير ذلك. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 47 عوامل تَمَيُّز المرأة المسلمة السؤال ما هي العوامل التي تساعد المرأة المسلمة على أن تكون متميزة معتزة بإسلامها؟ الجواب في الواقع هناك عوامل كثيرة، تكلمت عن جزء منها في محاضرة: مصدر عزة المسلم ، لكن من أهم العوامل التي أشير إليها الآن هو: أن يكون التزام المرأة بإسلامها ليس التزاماً تقليدياً، بمعنى ألا تكون فتاة ورثت الإيمان عن أم وجدة، وأخذته بالعادة، والتقليد، والوراثة فقط! لا، بل أضافت إلى ذلك الالتزام بالإسلام عن علم، وبحث، ومعرفة، وقراءة، وإدراك، فأصبحت -مثلاً- تملك من الثقة بدينها، والاعتزاز به ما يجعلها رافعة الرأس، حتى حين تكون في وسط مجموعة من الفتيات المنحرفات لا تشعر بالضعف، أو الخجل أمامهن، بل تشعر بالقوة، وتشعر بالوضاءة وبالإشفاق عليهن، وهذا -لا شك- من أهم الوسائل التي تجعل هذه الفتاة تقبل دعوتها، وتؤثر في غيرها. لأن البنات إذا رأين فتاة رافعة الرأس، قوية، معتزة، لا تخجل منهن لأنها متمسكة؛ بدأن يعدن النظر في حساباتهن، ويحاولن تقليدها لكن إذا كانت فتاة خجولة، تستحيي من تدينها، وتستحي من تمسكها بدينها، ويمكن أن تعتذر أحياناً بل أحياناً، يمكن أن تجامل وتدعي أنها تعمل أشياء لا تعملها، لمجرد مجاملة الفتيات المنحرفات من حولها، فهذه ليست موضع قدوة، بل على العكس! قد تزيد المنحرفات انحرافاً، وتغريهن بالانحراف. إذاً: نحن نحتاج إلى فتاة تمسكها بالإسلام ليس عن طريق: أنها ورثت الإسلام عن أمها وجدتها، إنما لأنها قرأت عن الإسلام، وعرفت ما هو الإسلام؟ وأدركت فضل الإسلام على الرجل والمرأة في الدنيا والآخرة، وأدركت واقع الغرب وما يعانيه من انحراف، وما يريد أن يجرنا إليه عملاء الغرب من فساد، وتعاسة، وشقاء، وميل عظيم في الدنيا والآخرة، فتمسكت بدينها عن علم ووعي وبصيرة؛ وعلم بالدين نفسه، وعلم بما يعارضه ويخالفه. الجزء: 194 ¦ الصفحة: 48 مصدر عزة المسلم عزة المسلم تحصل بمجرد إسلامه، ومن جوانب العزة: الإيمان وله عدة جوانب: العقيدة الصحيحة، والإيمان بالله ورسوله، وملائكته واليوم الآخر، والإيمان بأن المستقبل لهذا الدين، وعلينا صنعه بأيدينا. أما الجانب الثاني للعزة فهو وضوح الهدف ومعرفة العدو من الصديق. والجانب الثالث: هو نقاء الصف من المنافقين وفضحهم. والجانب الرابع والأخير: هو معرفة السنن الربانية في الصراع والمدافعة، وإحباط الله لعمل المفسدين، وقرب النصر، وتأييد الله لعباده بجنوده التي لا تحصى. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 1 عزة المسلم تكتسب بمجرد إسلامه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، قادنا إلى الهدى، وقادنا إلى العزة والكرامة، ونقلنا الله عز وجل به من درك الغواية، والذل والتفرق إلى قمة العز والمجد والوحدة، فجزاه الله تعالى عنا خير ما جزى نبياً عن أمته. عزة المسلم أيها الإخوة ليست مما يحتاج إلى تأكيد، فإن نصوص القرآن والسنة حافلة ببيان عزة المسلم، وأنه هو الأعلى بمجرد كونه مسلماً، من دون إضافة أي شيء آخر، بمعنى أن العزة للمسلم تنبع من ذاته، لا من الأشياء التي يمتلكها، فليست عزته بشبابه، أو قوته، أو صحته، أو منصبه، أو ماله، أو غير ذلك كلا، بل عزته تنبع من إسلامه، فإذا كان مسلماً، كان عزيزاً، ولذلك قال الله عز وجل {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] بغض النظر عن أي شيء آخر، وعن أي مواصفات أخرى، وهذا هو الذي فهمه المسلمون الأولون. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 2 قصة أسامة بن زيد وأكتفي هنا بضرب مثل واحد لكم، وهذا المثل حديث صحيح رواه الحاكم وغيره، في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنه: {حينما ذهب حكيم بن حزام رضي الله عنه إلى السوق، فوجد حلة تباع -أي: ثوباً يباع- فقال: لمن هذا؟ قالوا: هذه حلة ذي يزن ملك من ملوك اليمن، فاشتراها بخمسين ديناراً، ثم جاء بها إلى حبيبه وصديقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهداها إليه، فلبسها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصعد المنبر بها، فما رؤي من ذي حلة أجمل من رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ، ثم خلعها صلى الله عليه وسلم -لأنه كان معرضاً عن الدنيا- وألبسها أسامة بن زيد حبه وابن حبه، فلبسها أسامة ومشى بها في السوق، فمر من عنده حكيم بن حزام قبل إسلامه، فتعجب وقال: أسامة بن زيد رجل كان أسمر دميم الخلقة، صغير السن، وأبوه كان مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كل هذا فيه، ومع ذلك يلبس حلة ذي يزن! فقال له أسامة بن زيد: نعم! والله لأنا خير من ذي يزن، وأمي خير من أمه، وأبي خير من أبيه} . إذاً: أسامة الشاب الذي لم يبلغ الخامسة عشرة من عمره يشعر على قلة ذات يده أنه أعظم منزلة من ذي يزن ملك اليمن، لا لشيء، إلا لأن أسامة مسلم وهذا كافر، هذا هو الفارق بينهما، وهذا هو مصدر العزة بكل اختصار. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 3 ربط العزة بقضية الإيمان ولا شك أن هناك جوانب يمكن أن نلقي عليها الضوء بشكل أكبر، وأكثر، وأوسع، وسأتحدث عن قضية الإيمان التي ربط الله عز وجل العزة بها. فلا شك أن من شروط الإسلام أن يؤمن الإنسان بأن هذا الدين الذي يدين به هو الحق ولا حق سواه. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 4 الإيمان باليوم الآخر إذا نظرنا إلى الإيمان باليوم الآخر، نقول: مد نظرك لا تقتصر على الدنيا، هل تفاخرنا أن الروس مكنوا خمسين سنة، أو الأمريكان ستين، أو مائة سنة، أو مائتين سنة، تفاخرونا بهذا! نحن نفترض لك بأنهم مكثوا في الدنيا كل الدنيا، أليس عندنا الآخرة؟! أنا لا أدعو إلى ترك الدنيا والغفلة عنها؛ لأننا متعبدون بالجهاد في هذه الحياة، متعبدون بإقامة دين الله عز وجل على هذا الوجود، متعبدون بقيادة البشرية كلها، هذا لا شك فيه، لكنني أريد أن ندرك أن مصدر العزة ليس مجرد كوننا متقدمين، أو متحضرين، أو كوننا نمتلك الصناعة، والتقنية، لا، مصدر العزة أمر وراء ذلك، فإذا كانت لهم الدنيا -جدلاً- فإن لنا الآخرة، ويجب أن نحرص نحن المسلمين على أن تكون لنا الدنيا والآخرة، هذه هي الأصول. أولاً: قضية الجهاد: إنَّ قضية الجهاد في سبيل الله عز وجل تدخل في موضوع الإيمان بالآخرة، لأن المؤمن يجاهد فيفقد آخر ما يملك في الدنيا، ومع ذلك تجده يقدم نفسه بكل بسالة وإقدام، وكثيراً ما أقف -أيها الإخوة- وأتعجب من قصة حرام بن ملحان التي رواها البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أوردها من باب الحب: أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره هو المسك ما كررته يتضوع فهذا الصحابي الجليل يطعنه رجل من خلفه بالخنجر، فيفور الدم من بطنه، فماذا صنع؟ الزوجات، والإماء، والأموال، والأملاك، والدنيا، والعمر، كلها راحت، هل فقد العزة؟ هل ندم؟ أرأيتم أي إنسان مثلاً شيوعي، أو علماني، أو بعثي، إذا فقد الدنيا ماذا بقي له؟ ما بقي له شيء لأن كل همه على هذه الدنيا، ولهذا يقول: خذ من الدنيا بحظ قبل أن ترحل عنها فهي دار لست تلقى بعدها أطيب منها أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، لكن المؤمن يموت وهو يبتسم، كما قال الشاعر: آية المؤمن أن يلقى الردى باسم الوجه سروراً ورضا ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي فـ حرام بن ملحان رضي الله عنه لما طعن استقبل الدم بيديه، ثم رشق الدم على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة الله أكبر]] وفي بعض الروايات أن الذي قتله هو جبار بن سلمى، وقيل إنه عامر بن الطفيل، المهم إن كان جبار بن سلمى، فتقول بعض الروايات: أنه بدأ يفكر في معنى: فزت ورب الكعبة، فاز بماذا؟! إن الرجل قد مات وانتهى، وهذا ليس تمثيل الآن، فالرجل يتكلم عن صدق وحقيقة، فهداه هذا إلى الله عز وجل فأسلم. وكيف لا يكون الأمر كذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين أيضاً في أحاديث كثيرة مثلاً: {موضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {قاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها} ويقول: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما -ما بين المشرق والمغرب- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} ما رأيك في الذي يؤمن بهذه المعاني، هل يخسر شيئاً إذا فقد الدنيا؟! ولذلك انظر كيف يسارع المؤمنون إلى الموت، وكأن الواحد منهم سيلقي حبيباً عزيزاً طالما اشتاق إلى لقائه: [[واهٍ لريح الجنة، إني لأجد ريحها من دون أحد]] يقطع إرباً إرباً وهو يبتسم، إنَّ هذه معجزة، هذه آية من آيات الله عز وجل لا يملكها شيوعي، ولا علماني، ولا حداثي، ولا يهودي، ولا نصراني، لأن هؤلاء القوم ليس عندهم غير هذه الحدود الأربعة، أو الستة، ليس عندهم شيء وراء هذه الدنيا، ولذلك يغرقون في اللذة؛ لأنه ليس عندهم غيرها، المؤمن يمكن أن يؤجل لذة الدنيا؛ لأنه يطمع في لذة الآخرة، وأنتم تعلمون أن الله عز وجل أباح من اللذات من الحلال ما يغني عن الحرام، لكن ما دام أن نساء الجنة بالشكل الذي وصفه الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد آمنا به وصدقناه، وشهدنا بأن ما جاءنا به حق {أنه لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض، لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها -الخمار والطرحة إن صح التعبير- خير من الدنيا وما فيها} من يوم خلقت الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 5 الإيمان بمستقبل الإسلام من مصادر العزة فيما يتعلق بموضوع الإيمان أيضاً قضية الإيمان بمستقبل الإسلام، مع أن هذا كله من مصادر العزة، وهي أمور ترتبط بالآخرة، وبالإيمان بالله عز وجل وملائكته، وكتبه، ورسله، مع ذلك فإن من مصادر العزة إيماننا بأن المستقبل لهذا الدين، بأن المستقبل للإسلام، أما المستقبل الأخروي -فكما ذكرت لكم وأسلفت- لكن حتى المستقبل الدنيوي هو للإسلام، وليس بالضرورة حين أقول المستقبل للإسلام أنه أنا أو أنت لا بد أن نرى هذا بأعيننا، هذا ليس شرطاً، لأننا لسنا نحن الذين نملي ما يجب أن يكون، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [القصص:68] المهم أن الدين الذي نحمله هو الغالب المنتصر، قال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] فحتى المستقبل في هذه الدنيا هو للإسلام، ولهذا الدين. في آخر الدنيا هناك البشارات النبوية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم، من نزول عيسى ابن مريم، وخروج المهدي، وجهاد المؤمنين معهم، وقبل ذلك هناك بشائر وبشائر، وبشائر كثيرة، وقد ذكرت لبعض الإخوة موقفاً -أيضاً- من المواقف التي يجب أن نقف عندها. ففي الصحيحين، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام، في حديث ابن عمر: {تقاتلون اليهود، حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي تعال فاقتله} هذا حديث متفق عليه، لكن هناك رواية في هذا الحديث في غاية العجب، ذكرها الطبراني والبزار وأبو نعيم وغيرهم عن نهيك بن سريج، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا المشركين على نهر بالأردن، أنتم شرقي النهر وهم غربيه، حتى يقاتل بقيتكم المسيح الدجال} على نهر بالأردن، إذاً: هناك تحديد، وهذا حديث حسنه الهيثمي والغماري، ومن ضعف الحديث فما أصاب، لأن هذا الحديث ضعفه ليس شديداً، والواقع يقويه، وينطق بأنه حديث صحيح بلا شك، ولا ريب، لأن الراوي يقول: [[ولم أكن أدري أين الأردن يومئذٍ]] إذاً هناك جولة قادمة منتصرة، هذه والله الذي لا إله غيره نقول ولا نستثني: إنها آتية، ولكن لا يمنع -أيضاً- أن هناك جولات، وجولات، وجولات يكون الإسلام فيها هو الغالب المنصور، وكم كاد الأعداء، وحاولوا فكان كيدهم في مصلحة الإسلام، وهذا أمر معروف على مدى التاريخ، كانوا يكيدون ويضعون التدابير والمكر بدون أن تأتي النتائج، وهذا المكر كله كان في مصلحة الإسلام والمسلمين. ثانياً: اختيار الله لأمة العرب: في موضوع مستقبل الإسلام هناك النصوص العامة، قال تعالى: {الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود:49] وقال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وقال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51] وقال تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص:88] إلى غير ذلك، وكذلك الأحاديث، وقد نتحدث عنها في مناسبة خاصة. ولكن هناك أيضاً نصوص خاصة أرى أن من المهم أن نتحدث عنها، خاصة في هذه الظروف التي تعيشها بلادنا في هذه الأيام، فإن الله عز وجل يخلق ما يشاء، ويختار من الأمم من يشاء، ويختار من البلاد ما يشاء، فلا نشك في أن الله عز وجل اختار أمة العرب وفضلها، وهذا الكلام يجب أن يكون موضع اتفاق، نحن نقول العرب لا لأنهم عرب، لكن لأن الله عز وجل جعل الرسالة فيهم، ولو تخلو لاختار الله عز وجل من غيرهم من يقوم بهذه الرسالة، قال تعالى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] لكن الأمة العربية التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم كانت من أكثر الناس إخلاصاً لهذا الدين ودعوة إليه، ولا يزال المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، يكنون لهذا الجنس من الاحترام والتقدير ما لا يكنونه لغيره، ولذلك قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه كما في سنن أبي داود: [[والله يا معشر العرب، إن لم تقوموا بهذا الدين، لغيركم أجدى أن يقوم به]] فضلاً عن أن الرسول عليه الصلاة والسلام خص قبائل بأسمائها وأعيانها، أنَّ لهم دوراً تاريخياً مشهود. ثالثاً: جزيرة العرب هي جزيرة الإسلام: أذكر منها قصة بني تميم لما قال أبو هريرة رضي الله عنه أن فيهم خصالاً ثلاثاً: لا أزال أحبهم بعد ثلاث سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها: {أنهم أشد أمتي على المسيح الدجال} . إنَّ هذه الأمم، وهذه الشعوب، وهذه القبائل، وهذه الأجناس التي أخلصت الولاء للإسلام في الماضي، هي نفسها مخلصة للإسلام في الحاضر والمستقبل، لا شك في هذا ولا ريب، فالله عز وجل قد اختارها لهذا الدين، وكذلك هذه البقاع التي تقطنها تلك الأمم، وتلك الشعوب، وتلك الأجناس، وتلك القبائل، هي بلاد الإسلام، منها بدأ وإليها يعود. والكلام فيه أحاديث كثيرة، أذكر منها -مثلاً- قول الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة، كما في حديث عبد الله بن عدي بن الحمراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بالحزورة لما أخرج من مكة، فالتفت إلى مكة وقال: {والله إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85] الدجال حين يخرج لا يدخل مكة ولا المدينة، الجزيرة العربية كم فيها من النصوص؟ {إن الدين ليأرز بين المسجدين} يأرز أي: كلما ظلم الدين في الدنيا كان مرجعه بين المسجدين، يتردد بين المسجدين، بين مكة والمدينة، حتى إن أهل العلم أو بعضهم لما ذكروا البيت العتيق، قالوا: إنما سمي البيت العتيق بهذا الاسم؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط، وهذا هو التاريخ ينطق، حتى أنه في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} هذه جزيرة الإسلام، هذه أرض الإسلام، وهذه هي القضية التي أود أن أركز عليها دائماً وأبداً، وأن تكون عقيدة مستقرة في نفوسنا، وأن نملأ مجالسنا، نملأ أفواهنا، ومنابرنا، ومجالسنا، وكتبنا، ومحاضراتنا، بالحديث عنها، يجب أن يدخل أعداء الإسلام في جحورهم، لا مكان لهم في هذه الجزيرة، فإن أحبوا أن يكونوا مع المسلمين في استقامتهم وصلاحهم ودينونتهم لله عز وجل فأهلاً بهم وسهلاً، وأما إذا أصروا فعليهم أن يخنسوا، ويدخلوا في جحورهم، فإن هذه الجزيرة لم تخلق لغير الإسلام. ثالثاً: راية التوحيد في الجزيرة مرفوعة: تصفح تاريخ هذه الجزيرة منذ أن بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يوجد وقت إلا وتجد في هذه الجزيرة لا أقول راية، بل رايات مرفوعة تنادي بالتوحيد الخالص، تنادي بالإسلام الصحيح، تنادي بالدعوة إلى الكتاب والسنة، وتجمع الناس على كلمة الحق، هذه جزيرة الإسلام منها بدأ وإليها يعود، وأهل هذه البلاد هم أهل الإسلام، والأحداث تثبت هذا، فإن أهل هذه البلاد يحملون بحمد الله من صدق العواطف، وقوة الغيرة، والغضب لله ولرسوله، الشيء الكبير، ولست أُهوِّن من شأن غيرهم، ففي كل بلاد المسلمين خير كثير، ولكن الواقع الذي أجد نفسي مضطراً أن أقوله في هذا الوقت، ومحتاجاً أن أقوله، إن كثيراً من البلاد قد فعل فيه الاستعمار فعله، ووجد من أبناء تلك البلاد من يجعلهم صنائع، -طابوراً خامساً يقومون بالنيابة عنه بتنفيذ مخططاته- أما في بلادنا فقد فشل، وأصبح هؤلاء الذين -أحياناً- يربيهم الأعداء في جامعاتهم، ومؤسساتهم، إذا عادوا عادوا إلى أصالتهم، عادوا إلى جذورهم، -كما يقال- استقاموا على الطريقة، نبذوا تلك الأفكار، وصاروا ينظرون إلى تاريخهم الأسود الماضي نظرة ازدراء واحتقار، أما الذين أصروا على ما هم عليه، فلا يزال الناس ينظرون إليهم بريبة وشك، وينتظرون اليوم الذي يفضحهم الله تعالى فيه على رءوس الخلائق، لتبين حقيقة الدعوات التي ينادون بها. الجزيرة العربية أرض الإسلام، لن تحكم هذه الجزيرة بغير الإسلام، يجب أن نشيع هذا؛ حتى يدرك الجميع أن الخطر ليس على الإسلام، فهذا دين الله عز وجل والله تكفل به، ومنذ أربعة عشر قرناً تحطمت على صخرة الإسلام حركات ودعوات وأمم وتيارات، أين التتار، والمغول، والصليبيون، وغيرهم من الأمم التي كانت أشبه ما تكون بالسيول الجارفة. رابعاً: للدين رب يحميه ولكن! هذه جزيرة الإسلام، منها بدأ الإسلام وإليها يعود: {وإن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية إلى جحرها} وهاهو التاريخ يشهد، هذا أبرهة يأتي إلى الكعبة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1-5] لمن ترك الله عز وجل أمر الدفاع عن البيت؟! هل تركه لـ عبد المطلب ومن معه من قريش؟! لا أبداً، لم يتركه لهم، وهم رغم أنهم كانوا كفاراً كانوا يعرفون هذا، ولهذا كان عبد المطلب مشغولاً بقضية شخصية، أخذتم إبلي، ردوا علي إبلي، قالوا: هذا البيت الذي هو تراثك، وتراث آبائك، وأجدادك، قال: أنا رب الإبل، وللبيت رب يحميه، ينبغي أن يكون عندنا هذا الشعور، للدين رب يحميه، لا يجب أن نخاف على الإسلام، لكن يجب أن نخاف على أنفسنا من أن نقصر في واجبنا، أو ن الجزء: 195 ¦ الصفحة: 6 الإيمان بالعقيدة الصحيحة أولاً: يعتقد المسلم بأن اليهود على حق -مثلاً- أو النصارى على حق، أو الشيوعيين على حق، أو أي أمة، أو طائفة أخرى على حق، حينئذ يخرج من دائرة الإسلام، ويدخل في دائرة الكفر، فهذا اليقين العميق الراسخ بأن المسلم هو على الحق، وأن من عداه على الباطل، يجعله في موقف العزة التي لا تقبل الشك، ولا تقبل التردد، ولذلك تجد أن المؤمن من هذا المنطلق يشعر بالعزة في كل الظروف. أ- قصة موسى مع فرعون: إنَّ موسى عليه الصلاة والسلام ومن معه من أتباعه من بني إسرائيل، لما كان فرعون يطاردهم ويحاربهم، وكانت معه الجيوش الجرارة، والقوى الهائلة، والمؤمنون المسلمون مع موسى لم يكونوا يملكون من القوة إلا النزر اليسير، مع ذلك يقول الله عز وجل له: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه:68] لا تخف يا موسى من قواهم، وإمكانياتهم، وبطشهم، ووسائلهم المادية، لأنه ما دام الله تعالى معك، فكل شيء ممكن، حتى الخوارق يمكن يجريها الله عز وجل لك، فمتى ما كنت متحققاً بهذا الشرط الإيماني {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} [طه:68-69] وكما قال الشاعر: إذا جاء موسى وألقى العصا فقد بطل السحر والساحر فهم يكيدون، ويخططون، ويجمعون، ويتألبون، ويتنادون، ويتداعون، ويرسمون، ويدرسون، ويفعلون، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:14-17] . ب- قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام: هذه القوة والعزة يشعر بها إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين يلقى في النار؛ لأن الإيمان في قلبه راسخ رسوخ الجبال الراسيات، فلا يبالي بهم ويقول: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] قوة، إمكانيات مذهلة، النار تتأجج، حتى يلقى إبراهيم في النار، أي إنسان عنده تردد، أو تلجلج في إيمانه، قد يخشى لأنه الآن يلقى في النار، يوضع في المنجنيق، ليقذف في النار، لم يبق شيء، وضعفاء الإيمان حينئذ قد يتساءلون لماذا لم تتدخل القدرة الإلهية؟! لكن ربك عز وجل حكيم عليم يجري قدره متى شاء، ويلقى إبراهيم في النار في تلك اللحظة، فيأتي قدر الله قال تعالى: {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69] فيكونون هم الأخسرين الأسفلين، ويكون إبراهيم هو القوي العزيز بإذن الله تعالى، قال الشاعر: خذوا إيمان إبراهيم تنبت لكم في النار جنات النعيم جـ- محمد صلى الله عليه وسلم: محمد عليه الصلاة والسلام يقوم ليعلن دعوته في قريش، يا صباحاه، يا صباحاه، فيجتمع إليه الناس فيقول: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومنذ ذلك الوقت أصبحت الدنيا كلها معسكرين، الأول فيه محمد صلى الله عليه وسلم، ليس معه إلا أناس لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، والدنيا كلها في معسكر آخر، تحالف عالمي، الفرس والروم والهند، والسند، والصين، وكل الدنيا، بل حتى قريش والعرب التي بعث فيها النبي صلى الله عليه وسلم هي مع المعسكرات الغربية والشرقية ضد نبينا صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك يدير الله عز وجل أمور الكون، وينقل نبيه صلى الله عليه وسلم من نصر إلى نصر، ومن عز إلى عز، ومن تمكين إلى تمكين، حتى لم يمت عليه الصلاة والسلام، حتى أنزل الله عز وجل قوله: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] . د- امرأة فرعون وماشطة ابنة فرعون: قد يقال هؤلاء الأنبياء، فنقول وأتباع الأنبياء أيضاً، هذه امرأة فرعون، امرأة في قصر الطاغية فرعون تعرض عن زينة فرعون، ودنياه، وجاهه، وماله، ومنصبه، وترفع رأسها إلى السماء، قال تعالى: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] وأعجب من ذلك ماشطة بنت فرعون، ولها قصة، رواها ابن عباس وغيره، وهي عجب من العجب، أن ماشطة بنت فرعون كانت تمشطها فسقط المشط من يدها فقالت: بسم الله، فرفعت البنت رأسها، وقالت: أبي، الله أبي، قالت: لا ربي وربك ورب أبيك الله رب العالمين، فقالت: أخبر والدي بهذا، قالت: أخبريه، فجاءت إلى أبيها وقالت: الماشطة تقول كذا وكذا، فدعاها فقالت: نعم، ربي وربك الله، امرأة تتحدى أكبر طاغية في التاريخ!! وما انتهى التحدي عند هذا الحد كان لها أطفال، فأحضر الطاغية الجبار قدراً نقره من نحاس وأوقد عليه حتى أصبح جمرة تتلهب محمرة، ثم أخذ ابنها من على كتفها ليلقيه في هذا القدر، فينحلس فيه كما تنحلس الحبة، وما هي إلا لحظة حتى يتجمع ويتمزق وينتهي، ويصبح فحمة سوداء، فتقول له بكل ثبات: لي إليك حاجة، قال: ما حاجتك؟ قالت: أن تجعلني وأولادي وعظام أولادي في قبر واحد، قال: ذلك لك علينا من الحق، ليس هناك مانع، ثم يأخذ الآخر، ويجره وقد أمسك بثوبها، فيلقي به -أيضاً- في القدر، أي صبر هذا؟! ثم يأخذ الثالث ليلقي به على أثره قال تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:10-14] وأدرك فرعون شؤم هذه الفعلة الشنعاء، وما ماثلها من الأفعال الشنيعة التي تجلى فيها طغيانه، فإذا الله عز وجل يأخذه أخذ عزيز مقتدر، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] . هـ- قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن: قصة أصحاب الأخدود والغلام المؤمن، وهي في الصحيح، الغلام يكون على كتف أمه، فلما ترددت بعض التردد أن تلقى في هذه النار، يقول: يا أماه اصبري، فإنك على الحق، فتصبر ويلقى بها وبولدها في هذه النار، وفي النهاية يكتب الله عز وجل لهم النصر، فكانوا منتصرين، وسر انتصارهم هو أنهم يموتون على الإسلام. إنَّ النصر الدنيوي المادي -أيها الإخوة- قد يتحول إلى هزيمة، والمنتصر الغالب اليوم قد يهزم غداً، لكن هذا النصر الذي حققته ماشطة بنت فرعون، أو امرأة فرعون، أو حققه المؤمنون الذين ألقوا في الأخدود، بالله عليكم هل هذا النصر يمكن أن يتحول إلى هزيمة يوماً من الأيام؟! كلا والله، لقد أصبحوا معالم على مدى التاريخ، تقول للناس: إن العقائد الراسخة العميقة في النفوس والضمائر، لا يستطيع الحديد والنار أن يفلها بحال من الأحوال، هذا هو النصر، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51-52] . و قصة خبيب بن عدي: ومن هذه الأمة والأمثلة من هذه الأمة كثيرة: خبيب بن عدي رضي الله عنه حين أمسك به المشركون من قريش، وأسروه، ثم جاءوا به ليقتلوه ويصلبوه على جذع نخلة في مكة، تلفت فلم يجد حوله إلا شانئ معارض مبغض، وهو رجل وحيد أعزل، مكبل بالقيود ليضرب الآن بالسهام فما الذي فعل؟! هل ضعف؟ أبداً، استأذنهم أن يصلي ركعتين فصلى ركعتين، ومن ذلك سن صلاة ركعتين عند القتل، ثم قام، وتلفت إليهم، يقول وهو ينظر إليهم: لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع وكلهم مبدي العدواة جاهد عليَّ لأني في وثاق بمضيع وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم وقربت من جذع طويل ممنع يتفرجون على هذا المشهد: إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي فذا العرش صبرني على ما يراد بي فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي وقد خيروني الكفر والموت دونه وقد هملت عيناي من غير مجزع ما بكى خوفاً من الموت، أبداً: وما بي حذار الموت إني لميت ولكن حذاري جَحْمُ نار ملفع ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع ولست بمبد للعدو تخشعاً ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي ز- عزة المسلم على مدار التأريخ: من الذي أثبت صلابته على مدى التاريخ؟! هذا تاريخ الدنيا مكتوب كله، قولوا لنا أي أمة، أي شعب، أي ملة من الملل، تملك من البطولات، وتملك من الصبر، وتملك من التضحية، وتملك من الجهاد، مثلما يوجد في رصيد هذه الأمة؟! نتحدى الدنيا كلها من يتحملون عقائد، وملل، ونحل، وينتحلون مذاهب من العلمانية، والقومية، والحداثية، والشيوعية وغيرها، لكن هؤلاء ما أسرع ما يدخلون في جحورهم ويهربون، أما المؤمنون فهم أصبر الناس عند المصيبة، وأكثرهم تحملاً لما يلقون في ذات الله عز وجل، لأن العزة تنبع في قلوبهم، فلا حيلة في دفعها. وكيف لا يكون المؤمنون أعزة، وهم يملكون هذا الإيمان الراسخ العميق بدينهم، في الوقت الذي تجد أصحاب الأديان، والملل، والنحل الأخرى، والمناهج الأرضية، يعيشون غيابة الفكر، في يوم من الأيام اكتسحت الناصرية الأمة العربية، وفي يوم آخر اكتسحت القومية، وصار المنادون بها كثراً، وصدرت الكتب والمجلات، وعقدت المؤتمرات والقيل والقال، لكنهم لما جاءوا ليتحدثوا عن القومية -مثلاً- عقدوا مؤتمراً لبحث القومية ما هي القومية، وفي النهاية عجزوا، فمن الطرائف والنكت أن واحداً منهم، قال لهم: القومية شيء جيد كثيراً، هذه هي القومية، إذن ليس عندهم فكر يجمعون الناس عليه، ليس عندهم تصور صحيح يلتئمون حوله، أحياناً تجمعهم الأهداف والمط الجزء: 195 ¦ الصفحة: 7 الإيمان بالله ورسوله من جوانب الإيمان التي تغرس العزة في المسلم: إيمان بالله عز وجل يجعله يستقي من مصدر العزة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] كذلك إيمانه بالمرسلين مثلاً يجعله أيضاً يحس بأنه في موكب قادته هم قادة البشرية، فهو من أتباع موسى، وعيسى، ونوح، وآدم وغيرهم من أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وهو على نهجهم، وعلى طريقتهم، وملتهم، ودينهم، وعقيدتهم واحدة لا تتغير. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 8 الإيمان بالملائكة حين تنظر إلى قضية الملائكة، فإن الملائكة مصدر عزة، فإن كنتم تكاثروننا بالبشر، وتقولون -مثلاً- أمريكا كذا مائة مليون، أو روسيا كذا مائة مليون! فعندنا نحن رصيد من الملائكة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله عز وجل أو راكع أو قائم} فإذا كانت القضية قضية عدد، فهؤلاء الملائكة من يحصيهم؟! والبيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] ثم ليس هؤلاء مجرد أرقام، هؤلاء ملائكة، وهم مسخرون بالدعاء للمؤمنين، قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7] إلى آخر الآيات، أما هؤلاء الأرقام التي تفاخروننا بها من الروس، والأمريكان، واليهود، والنصارى، والبعثيين، إلى آخره، فهؤلاء أرقام بلا رصيد، فهم مثل الأصفار، أرأيتم لو أن إنساناً جمع أصفار الدنيا كلها، هل تصل إلى أن تصبح رقماً واحداً صحيحاً؟! أبداً، فلو ملأتم الدنا ما عدلتم مؤمناً، فالصفر صفر، وليس هناك فائدة في كثرة العدد إذا كانت أصفاراً لا تنفع. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 9 حماية الجبهة الداخلية (المرأة) قضية ما يسمى بحماية الجبهة الداخلية، وأعني بها المرأة، فالمرأة أصبحت هدفاً في هذه البلاد لسهام الأعداء، وإذا كان الأعداء من العلمانيين، ومن اليساريين، وبشكل أعم من المنافقين المندسين في هذا المجتمع، وهم قوة ضاربة في هذا المجتمع، وفي كل مجتمع، حتى في مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا موجودين، وقد هددهم الله عز وجل، قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:60-61] . فهم كما قال الله عز وجل: {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] ويتناصرون في هذا الأمر، ولهذا قال (بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) يعني هم عبارة عن شبكة، أو حزب، أو تنظيم سري. إن المنافقين اجتمعوا لا على هدف، كما ذكرت في البداية، ولا على مبدأ، إنما اجتمعوا على الحرب للإسلام، ومحاولة إزالة التميز الذي يتميز به هذا المجتمع، إزالة الخاصية التي هي الإسلام، وجعل هذا المجتمع نمطاً من أنماط المجتمعات الغربية أو الشرقية. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 10 إبراز قضايا تافهة للأمة وهم الآن ينتقلون خطوة ثالثة إلى زرع العداوات، وإبراز خصوم الإسلام في المجتمع الواحد، وهذا لا شك أنه محاولة لإنهاك المجتمع، وإلهائه بمشكلة داخلية، وإلا فما معنى أنه بالذات في هذا الوقت الذي الأمة أحوج ما تكون فيه إلى جمع الكلمة، ووحدة الصف، والتوجه نحو الأعداء الخارجيين وما أكثرهم! أن يشغل المجتمع وتشل حركته بحركة طفولية تافهة تصرخ وتنادي وتطالب بقيادة المرأة للسيارة؟ هل يعتقدون أن الأمة مشغولة بهمومها الكبرى عنهم ولهذا سوف تمرر مخططاتهم، وألاعيبهم؟! هل يعتقدون هذا؟! أم إن الغرب الذي يتربص بهذه الأمة يحاول أن يحرك هذه الأحجار على رقعة الشطرنج؛ لتمارس دورها في تمزيق الأمة، وتشتيت وحدتها، وإشغالها وتلهيتها بأمور تافهة، ولا تعجب إذا وجدت أن المطالبة بقيادة المرأة للسيارة أيضاً تربط بأن المرأة جبهة داخلية، والرجل يذهب للجبهة على الحدود، والمرأة جبهة داخلية، ولذلك نطالب بقيادة المرأة للسيارة، إن هذا لشيء عجاب!! الجزء: 195 ¦ الصفحة: 11 الإسلام هو المنتصر أقول: ومع ذلك فهذه الجزيرة أرض الإسلام لا محالة، ولذلك المخططات فاشلة، وأقولها بملء فمي: فاشلة، إنَّ الأمة ترفض مثل هذا النوع من الفكر الدخيل، الأمة قالت كلمتها بوضوح وبصراحة، لا نريد إلا الإسلام، لا نريد إلا الإسلام، لتسقط رموز العلمانية، والبعثية، والشيوعية، واليسارية، والقومية، والناصرية كلها. الأمة لا تريد إلا شعاراً واحداً، وإلا راية واحدة، هي راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، لقد قالت الأمة كلمتها بلهجة واضحة، صريحة لا غموض فيها، فالحمد لله الذي أرانا بأعيننا بوادر النصر الحقيقي لهذا الدين في قلوب هذه الأمة، لأن النصر الحقيقي يصنع في القلوب أولاً، وقد رأينا من تأثر الناس وانفعالهم وغليانهم ما لم يكن يخطر لنا على بال، هذه الأمة تعبر عن هويتها في مثل هذه المواقف، لأنها تشعر أنها مستهدفة، وإن كانت هذه حركة قد يكون لها ما وراءها، وليست مجرد عمل انتهى، فهؤلاء القوم من سنين طويلة وهم يتغلغلون، ويخططون، ويعبثون بأعز ما نملك، وأغلى من كل ثروة، يعبثون بالعقول البشرية، طالما عبثوا بعقول بناتنا وأولادنا، وطالما سمموا هذه العقول من خلال المنابر التي تسللوا إليها في غيبة الرقيب، فأساءوا استخدامها، وقد صحت الأمة، وأدركت أن هؤلاء يجب أن يعودوا إلى جحورهم، أو يتوبوا إلى ربهم. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 12 المنافقون والمرأة لا شك أن المرأة أصبحت اليوم هدفاً كبيراً، وذلك لأن المنافقين يدركون أنهم متى نجحوا في اقتحام حصوننا من داخلها، وتفتيت الجبهة الداخلية، وتخريب البيوت، نجحوا في نزع العزة الإسلامية، لأن الرجل الذي يجد وراءه في المنزل امرأة لا يثق بها، لن يكون شجاعاً بحال من الأحوال، لأنه يخشى أن تخونه في نفسها، وفي ماله، ويخشى أن تسيء تربية ولده، لكن إذا وجد امرأة، إذا ظهر لها منه بعض الضعف، أو التردد قالت له: اذهب إلى الجهاد، فإن وراءك رجلاً وليس امرأة، فإنه يندفع حينئذٍ، وإذا وجد وراءه امرأة تودعه عند باب المنزل، وتقول أسأل الله عز وجل أن ألتقي بك في خيمة من خيام الجنة، فإن هذا الرجل سوف يجد من القوة والاندفاع الشيء الكبير. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 13 المنافقون وتمزيق الأمة والمجتمع الواحد إن المنافقين يدركون أنهم يستطيعون أن يؤثروا في عزة المسلم من خلال تحطيم الجبهة الداخلية، من خلال تفتيت هذه الجبهة، ولا شك أنه كما يقول الشاعر العربي: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند إذا كان الإنسان يعيش مشكلة في بيته، مع أخته، مع زوجته، مع بنته، هذا الإنسان كيف يواجه الناس؟! سيقول كيف أحارب في الخارج وبيتي في الداخل يحاربني؟! أنا أحوج أن أحارب في الجبهة الداخلية، وهذا نوع من المشاغلة -أيضاً- مشاغلة المؤمنين بأوضاعهم الخاصة، وهمومهم القريبة عن العدو الخارجي المتربص، ولذلك كانت خطط التغريب والتخريب في هذا المجتمع ذات أهداف بعيدة لتمزيق المجتمع وتفتيته، وجعله طوائف، وأمماً، وتجمعات، وعداوات، وهذا خطر ينبغي أن ندركه، فإننا مستهدفون في هذا الوقت بالذات، وكأن خططهم تتجه إلى محاولة تمزيق المجتمع، بعد أن زرعوا العدوات بين الدول انتقلوا إلى زرع العداوات بين الشعوب. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 14 ثانياً: وضوح الهدف بناءً على ذلك الإيمان، فإن المسلم يملك هدفاً واضحاً، لماذا تقاتل مثلاً؟ لماذا تشتغل؟ لماذا تعمل؟ فعند المسلم هدف واضح، إنما أريد ما أريد لله، فهدف المسلم أنه يريد في الدنيا العزة للإسلام، ويريد في الآخرة الجنة، حتى لو ترتب على هذا أن يذل نفسه كفرد، المهم هو عز الإسلام ولو قتلنا، فالمهم أن يحيا الإسلام، فالمؤمن لديه هدف واضح، فهو يعرف من يعادي، ومن يوالي، ليس العداء والولاء، والحب والبغض، بالنسبة للمسلم قضية مصلحة، أو قضية عاطفية، أو قضية دنيوية، أحب هذا لأنه ينفعني، أو يدفع عني، أو لأنه قريبي، أو جاري، لا، أنا أحب هذا لأنه ولي لله، وأبغض هذا لأنه عدو لله، وهكذا الأمة تعرف أعداءها الحقيقيين، فتحاربهم، وتعرف أصدقاءها الحقيقين فتواليهم وتقربهم، ويوم تختلط الأوراق، فيتحول العدو إلى صديق، ويتحول الصديق إلى عدو، حينئذٍ تكون الأمة في فترة من أحلك فترات تاريخها. فالأمة المسلمة تملك منهجاً واضحاً تعرف به العدو من الصديق وأعظم محك يميز العدو من الصديق هي الشدائد، كما قال الشاعر: جزى الله الشدائد كل خير عرفت بها عدوي من صديقي فالأمة تعرف أعداءها الحقيقيين على ضوء كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم، ولذلك فإنها تعرف كيف تتعامل مع هؤلاء، ومع أولئك، لا تتعامل مع العدو على أنه صديق، ولا تتعامل مع الصديق على أنه عدو، لا نقرب هذا ولا تبعد ذاك. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 15 وضوح الهدف يضمن عدم الفشل وهذا الأمر الذي هو المنهج الواضح، والهدف الواضح، يضمن للأمة عدم الفشل، يضمن للأمة وحدة الصف، لأن الله عز وجل يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] ولو استقرأنا التاريخ لوجدنا أن كل فشل أصاب الأمة كان بسبب تفرقها، وتمزقها، في الوقت الذي تجد العدو فيه يطرق أبوابها، وما دول الطوائف عنا ببعيد، كيف كان النصارى يأكلون هذه الدول، ويلتهمونها دولة دولة، وهم مشغولون بعضهم ببعض، حتى إن منهم من قد يستنصر بعدوه على أخيه، كما قال الشاعر: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتصم فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد إنما أكلت يوم أكل الثور الأبيض، فإن التنازع والفشل بين المؤمنين، بين الدعاة، بين طلبة العلم، بين الأمة كلها، هو من أقوى أسباب الفشل، ونفوذ العدو، والأمة ينبغي أن تعتصم بالوحدة، وحدة الهدف، ووحدة الصف، من مثل هذه الفرقة، والشتات التي ينفذ من خلالها العدو. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 16 ثالثاً: نقاء الصف السبب الثالث من أسباب العزة هو نقاء الصف، وتمحيصه من أولئك المنافقين، وهذا جانب من قضية من نعادي ومن نحارب، لأن المنافقين من أعداء هذه الأمة، -كما هو معروف- كما قال الله عز وجل {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] لكن في كثير من الأحيان قد يلتبس أمر المنافقين، لأنهم يظهرون بمظهر الصديق، ويلبسون مسوح الضأن، وأسماؤهم وألوانهم مثلنا، فيصعب تمييزهم، فحينئذ تحتاج الأمة إلى تمحيص الصف، وإخراج المنافقين وتعريتهم وفضحهم حتى تستفيق الأمة، وتدرك من قياداتها الحقيقية، ومن هم رجالها الحقيقيون، ومن هم أبناؤها المخلصون، وتدرك من يريد بها شراً، أو يضمر لها سوء. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 17 ظهور المنافقين ومتى يظهر المنافقون؟ يظهر المنافقون عندما يجدون الفرصة المواتية لهم، وخاصة إذا انشغلت الأمة بأمر من الأمور، انشغلت بعدو، حينئذ يظهر المنافقون ليحققوا أهدافهم، فإذا كانت الأمة تملك شيئاً من القوة، فإن المنافقين حينئذٍ مضطرون إلى أن يتمسحوا بالإسلام، وهذا دليل على عظمة الإسلام، لأنه حتى عدوه يخطب وده، وإذا أراد أن يصيب المسلمين بشر، لا يقول: هذا الدين لا نريده، وهذا دين عتيق، وهذا تراث، وهذا تاريخ مضى، لا، يقول على ضوء تعاليم شريعتنا السمحة، وديننا الحنيف، وتقاليدنا المرعية، فهذه أصبحت ماركة مسجلة، لا مانع عندهم أن يتمسحوا بها في سبيل الوصول إلى أهدافهم، وهو دليل من جهة على أنهم وجدوا الأمة مشغولة بهمومها الكبرى، فرفعوا رءوسهم، ودليل من جهة أخرى على أنهم يدركون أن لهذا الإسلام في هذه الأمة عمق لا يمكن تجاهله، ولذلك يتمسحون بهذا الدين، ويعلنون الولاء له، وإن كانت قلوبهم قلوب الأعاجم، نشأوا في ديارهم، ورضعوا من لبنهم، وجاءوا لينفذوا المخطط بالنيابة عنهم. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 18 افتضاح المنافقين وافتضاح هؤلاء المنافقين هو بداية عز الإسلام، لأن وجودهم بداخل الصف من أسباب الخذلان، يقول الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] فدورهم معروف أنهم يحاولون تمزيق الصف، وإيجاد الخبال والضعف، والتردد، والتثبيط في صفوف المؤمنين، ويتحركون من خلال المؤمنين لا لتقوية العزائم، بل كما قال تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة:47] ولهذا كان مما كانوا يقولونه مثلاً: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12] على حين أن المؤمنين كانوا يقولون: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] مثلاً يقولون: محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يستطيع أن يذهب لقضاء الحاجة، بهذا الشكل يحاولون أن يوجدوا نوعاً من التخلخل في نفوس المؤمنين وقلوبهم، ولذلك فإن المنافقين في كل أمة وعصر، وفي كل تاريخ من تاريخ هذه الأمة، يشكلون طابوراً خامساً يعده العدو؛ ليكون بديلاً جاهزاً لتنفيذ مخططاته، ويجب أن يكون المؤمنون واعيين لهذه الأدوار. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 19 معرفة السنن الربانية إن مما يمنح المسلم عزة كبيرة بهذا الدين، هو قضية معرفة المسلم بسنن الله عز وجل الربانية، والسنن كثيرة، لكن معرفة المؤمن بها تجعله على يقين، لأن بعض الناس إذا رأوا قوة العدو -مثلاً- رأوا تفكك المسلمين، رأوا السلبيات الموجودة، ربما داخلهم نوع من اليأس، حتى ربما يميل بعضهم إلى العزلة، ويرى بعضهم أن هذا زمن الفتن، وكف اللسان، والإعراض، وأمسك عليك لسانك، وابك على خطيئتك، وليسعك بيتك، وكذا إلى آخره، لماذا؟! لأنه رأى أمراً لم يكن يخطر له على بال، لكن تفطنه إلى السنن الألهية يجعله يعيد الحسابات. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 20 تأييد الله للمؤمنين السنن الإلهية التي ينبغي أن تكون لنا على بال، تأييد الله عز وجل، سنة {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] لماذا تفكر وكأن القدر خاضع لعقلي وعقلك؟ صحيح أنا وأنت أحياناً لو آتيك بمسألة رياضية ممكن تعجز عن حلها، إذاً عقل الإنسان يمكن أن يعجز عن التحليل، ممكن أن يقول لك الإنسان الأمر كذا، لكن والله ما عندي تعليل، كيف يحدث هذا؟ كيف هذه ليست عندي، هذه إلى الله عز وجل، الكيف هذا عند الله تعالى، لكن أنا أستطيع أن أقول لك: إن هذا هو المستقبل، أما كيف؟ لا أدري، لكن الذي أعرفه كل الذي أعرفه أن الله عز وجل له جنود لا يعلمها إلا هو، حتى نحن لا نستطيع أن نعد الجنود، مثلاً: من جنود الله الرعب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} وهذا له ولأمته على أعدائه، يُقذف في قلوبهم، وما هو الذي جعل الغرب والشرق يتحالف ويحلم بما يسمى بالنظام العالمي الجديد إلا الرعب من الإسلام، وهم يدقون نواقيس الخطر من الإسلام، هذا من الرعب، فالرعب من جنود الله عز وجل، ومن جنود الله عز وجل الملائكة، قال تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال:9] يمدنا الله عز وجل بملائكة من عنده، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يعرفون قتيل الملائكة من غيره، لقد كانوا يقاتلون إلى جوار المسلمين، هذه حقيقة واقعية، وليست مجرد تثبيت معنوي، هذه حقيقة صدح القرآن الكريم بها، جبريل عليه السلام يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري بعد ما انهزم الأحزاب يقول: {وضعت السلاح فوالله ما وضعنا السلاح بعد} يعني الملائكة معهم أسلحة أيضاً، أما نؤمن بهذا؟! ما يؤمن بهذا غير المؤمن {ما وضعنا السلاح بعد، اذهب إلى بني قريظة فإني ذاهب إليهم ومزلزل بهم} إذاً هناك شيء يسبقه إلى عدوه يزلزله، فالملائكة من جند الله عز وجل، وقد ذكرت لكم كثرتهم، لا يعلم عددهم إلا الذي خلقهم جل وعلا، من جنود الله عز وجل الريح، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {نصرت بالصبا، وأهلكت عاد بالدبور} الريح يسلطها الله على الأعداء، فينهزمون أو يهلكون، ويسخرها الله عز وجل للمسلمين فتكون سبباً في نصرهم: {نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور} . - الزلزلة: ومن جنود الله عز وجل الزلزلة، سواء كانت زلزلة معنوية، كما دعا النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عبد الله بن أبي أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في صحيح البخاري: {اللهم مجري السحاب، هازم الأحزاب، منزل الكتاب، اهزمهم وزلزلهم، اللهم اهزمهم، وانصرنا عليهم} دعا عليهم، ولذلك البخاري رحمه الله بوَّب (باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة) فإذا زلزلت قلوبهم فليس هناك إمكانية أنها تواصل، المهزوم من الداخل ليس له حيلة، لقد ضاع وانتهى، وقد يكون المقصود الزلزلة الحقيقية، زلزلت الأرض من تحت أقدمهم، كما قال تعالى: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45-47] فهل أمنوا هذا، قال تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:99] فلا يأمن المؤمن من مكر الله عز وجل به إن عصى، وهو أيضاً ينتظر هذا المكر بالكافرين، والفاسقين والخاسرين. - الخسف: من جند الله عز وجل الخسف، كما ذكرت لكم وهناك رواية أخرى في الحديث الذي ذكرته قبل قليل: {يعوذ عائذ بالبيت، فيغزوه جيشٌ، حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بأولهم وآخرهم} ولعل هذا هو الخسف الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم -والله أعلم- يكون خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب. المهم هذه جنود الله، وهل هذه فقط جنود الله، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] إنَّ الله عز وجل يسخر هذه الجنود عند اللزوم لتكون في صالح المسلمين ضد أعدائهم، كل هذه السنن الكونية، إذا امتلأ بها قلب المؤمن أدرك أننا حين نقول المستقبل للإسلام، بل والمستقبل القريب للإسلام، أننا ننطلق من معرفة بسنن الله عز وجل وعلماً بشرعه، ومن إدراك للواقع الذي يضطرب الآن، وكأنه سوف يتمخض عن وضع جديد، سيكون بكل تأكيد بإذن الله عز وجل في مصلحة الإسلام والمسلمين. - خاتمة: اللهم اجعلنا من أصحاب دينك، اللهم اكتب مستقبل الإسلام على أيدينا، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم من أرادنا بسوء فأشغله بنفسه، اللهم إنا خلق من خلقك ليس بنا غنى عن رحمتك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم أنزل على قلوبنا الإيمان والسكينة واليقين، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص فيك يا أرحم الراحمين، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا يارب العالمين، اللهم اهزم الكافرين أهل الكتاب والمشركين الذين يكذبون رسلك، ويحادون أولياءك، ويعبثون بدينك يا حي يا قيوم، اللهم افضح ألاعيب المنافقين ومؤامرتهم على المسلمين، اللهم افضحهم في قعر دارهم، اللهم اكشف للمسلمين عوراتهم، اللهم اكشف للمسلمين عوراتهم، اللهم يا حي يا قيوم من أراد هذه الأمة بسوء فاشغله بنفسه، اللهم من أراد هذه الأمة بسوء أياً كان من داخلها، أو خارجها فاشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، اللهم إنهم لا يعجزونك، اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم، وندرأ بك في نحورهم. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 21 ألا إن نصر الله قريب ولذلك أنتقل إلى سُنَّة ثالثة من السنن الإلهية: متى يأتي نصر الله؟ أحوج ما كان المسلمون إلى النصر، وأشد ما كانوا فيه من حالة الضعف، والشعور بقوة العدو، فهو وقت النصر، انظر هذه السنة في القرآن الكريم: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110] لاحظ متى جاءهم نصرنا، أما استيأس الرسل، وظنوا أنهم قد كذبوا، جاءهم نصرنا، والآية الأخرى يقول الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] هنا يكون نصر الله قريب، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر أصحابه بالنصر يوم الأحزاب، تجمعت قريش، وغطفان، واليهود، وكل الأمم، تجمعت عليه، قوة ضاربة، أحاطت بالمدينة، وأصبح المنافقون يخافون أن يتخطفهم الناس، ما الذي حدث؟ حينئذٍ الرسول عليه الصلاة والسلام لأنه يفقه هذه السنن، ومؤيد بالوحي، كان يضرب بالمعول، فإذا برق النور قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعطيت مفاتيح كسرى، مرة أخرى قيصر، مرة ثالثة فتحت لي اليمن، في هذا الوضع بالذات حين تجمعت الأحزاب، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبشر البشائر، ليست بشائر بلا مقابل أبداً، انظروا الأحزاب لما تجمعوا حول المدينة، هل عندهم أكثر من هذا؟! ما عندهم أكثر من هذا؟! فكانت هذه مواجهة نهائية، قال تعالى: {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب:9] ماذا بقى؟ هل يمكن أن يعيدوا المحاولة؟! أبداً، أقصى ما في جعبتهم بذلوه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب: {الآن نغزوهم ولا يغزونا} الآن انتقلنا من مرحلة الدفاع، إلى مرحلة الهجوم، لأن العدو بذل أكثر ما عنده وفشل، فسقط، وتمرغت سمعته في التراب، هنا بدأ نجم الإسلام يطلع ويرتفع، وبدأت مرحلة الهجوم على الأمم الوثنية المشركة، في الجزيرة العربية وخارج الجزيرة العربية. أصحاب موسى عليه السلام ماذا حصل لهم لما لحق بهم فرعون، وأتبعهم فرعون وجنوده؟ نظر أصحاب موسى فإذا البحر أمامهم، والعدو خلفهم، وهم قلة فماذا قالوا؟ قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] أي: وقعوا في الفخ الآن، ليس هناك فائدة، فقال موسى عليه السلام: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى} [الشعراء:62-63] هنا جاءت المعجزة الإلهية، لأن المعجزات أو الآيات جاهزة موجودة، كما سيأتي في النقطة الرابعة والأخيرة في موضوع تأييد الله للمؤمنين الصادقين، المهم أن المؤمنين حين قالوا إنا لمدركون هنا يأتي دور: أولاً: أهل العلم والدعوة في التثبيت، وثانياً: أن يعلم الناس أن هذه هي بدايات النصر، هنا يبدأ النصر، هنا يولد. - العالم اليوم: ولذلك أستطيع إن أقول لكم، وكلي ثقة بما أقول: إن العالم اليوم يعيش لحظة حمل أو حالة مخاض، سوف يتولد عنها أوضاع أخرى مختلفة على مستوى العالم كله، وهذه الأوضاع نقول بكل ثقة: إنها سوف تكون أوضاعاً في صالح الإسلام، وفي مصلحة الإسلام، وستكون بداية نصر حقيقي للإسلام، وهذا الكلام الذي أقوله ليس مجرد عواطف ندهده بها نفوسنا، ولا مجرد كلام نقوله لنسلي به أنفسنا، والله إننا لنقوله وقلوبنا مليئة بأن مستقبل الإسلام الحقيقي بدأ يولد الآن، وأن القرن القادم هو قرن الإسلام، وأن هذا الارتباك الذي يعيشه العالم هو لحظة مخاض سوف يتولد عنها أوضاع مهما تصور السذج والمغفلون أن هذه الأوضاع تسيء إلى المسلمين، إلا أن هذه الأوضاع سوف تكون بإذن الله عز وجل هي النار التي ينضج عليها واقع المسلمين الصحيح، حتى يكونوا جديرين بخلافة الأرض والتمكين فيها، وهذا الكلام يجب أن يتحول من مجرد عواطف إلى عقيدة راسخة في قلوبنا، لأننا لا نتكلم من فراغ. الآن الشيوعيون، لما كانوا يقولون: إن المستقبل للشيوعية، ويعدون العالم بجنة فردوس موعود، فكانوا يتكلمون بلا رصيد، ويتكلمون من منطلق عقيدة هم أول من نقضها، وتبين الآن فشلها، لكن المسلمين: أولاً: يتكلمون من تاريخ، نحن نملك لا أقول أربعة عشر قرناً، نحن نملك التاريخ كله. الأمر الثاني: أننا ننطلق ونملك الأدلة الشرعية والسنن والنواميس الإلهية. الأمر الثالث: أننا نملك الواقع الغربي المتهالك المنهار الذي يؤذن بالانهيار في أي لحظة من ليل أو نهار. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 22 قانون المدافعة والصراع وأضرب لكم أمثلة للسنن الألهية التي يجب أن نعيها، مثلاً قانون المدافعة والصراع قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] الكون كله مبني على دفع الله الناس بعضهم ببعض، بين الخير والشر صراع دائم، والشر نفسه لا يمكن أن يتوحد بحال من الأحوال، ولذلك كم تحالفت أمم، ثم تمزقت هذه الأحلاف. يتحدثون -أيها الإخوة- اليوم في بلاد العالم عما يسمونه بالنظام العالمي الجديد، والذي يريدون أن يوحدوا فيه الأمم كلها تحت حضارة واحدة، وبزعامة دولة مستبدة واحدة، يريدون أن يقضوا على أي نمط حضاري آخر، وعلى أي دين، وعلى أي تجمع يدين بدين معين، أو يتمذهب بمذهب خاص، فيتحدثون عن هذا النظام، وأقول: إن مثل هذا الحديث؛ هو معارض لسنن الله تعالى في الكون، فإن الكون كله مبني على قانون الصراع، أو كما هو التعبير القرآني: قانون الدفع، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] فكلما جمعوا وحزموا انفرط الحبل، ورجعت الأمور من جديد، وكلما رتبوا وخططوا فوجئوا بوضع يتغير عليهم، لأن المسلم أحياناً يقول كيف؟ أين المفر؟ أين المخرج؟ أين النافذة التي منها يتحقق نصر الإسلام؟ هنا يتذكر الإنسان أن مثل هذا الوضع الذي يتحدثون عنه، ومثل هذه الأشياء التي يرسمونها، هم يرسمونها من منطلق أسبابهم المادية، ونظراتهم القاصرة، ووفق خططهم، صحيح أن لهم عقولاً وتخطيطاً وترتيباً، لكنهم يبقون بشراً، ويبقى عنصر المفاجأة دائماً جاهز، فالذي يعمل ويقدر حقيقة هو الله عز وجل، فالتدبير في السماء حقيقة، إنما هؤلاء يترسمون على وفق ما يتصورون، وكم فوجئوا بأمور لم تخطر لهم على بال، قلبت حساباتهم رأساً على عقب. إذاً: علينا أن ندرك أن مثل هذا الكلام، كلام يخالف السنن الإلهية، وأننا نتوقع، وننتظر أن يكون هناك تمزق في هذه الأحلاف العالمية، يكون من خلاله نصر للإسلام وللمسلمين، كما علينا أن ندرك -أيضاً- أن التهديد الدائم الذي يواجه به المسلمون وغيرهم، هو سبب لاستفزاز الطاقات وتوحيدها، إنَّ الكون مبني هكذا، هذه هي حكمة الله عز وجل أمم كثيرة بينها صراع، هذا الصراع هو من أسباب بقائها، لأن هذه الأمة تشعر بأنها مستهدفة، فتجمع طاقاتها وقوتها، وتظهر ما لديها، لكن إذا شعرت أمة من الأمم بأن الأمر قد استتب لها، وسلمت القيادة لها، وانتهى كل شيء، حينئذ لم يوجد هناك ما يدعو إلى بذل الطاقة، لم يوجد هناك ما يدعو إلى الاستماتة، لم يوجد هناك ما يدعو إلى بذل الجهد، وهذا يتعارض مع طبيعة السنن التي وضعها الله عز وجل في هذه الحياة. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 23 إن الله لا يصلح عمل المفسدين من السنن الإلهية -أيضاً- أن الله لا يصلح عمل المفسدين، الذين يعتدون على سلطان الله عز وجل في الأرض، سواءً بأن يحكموا بغير ما أنزل الله عز وجل، بأن يحكموا البشرية بأنظمة من وضع البشرية، حكم الشعب بالشعب كما يقولون، الذين بلغت بهم الوقاحة وقلة الأدب أن يقولوا كما قال أسلافهم من قبل. فرعون قال: {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات:25] كل من حاول أن يعتدي على سلطان الله عز وجل، أو جهل قدر الله تبارك وتعالى وعظمته، فإن الله تعالى له بالمرصاد يأخذه أخذ عزيز مقتدر، هذه -أيضاً- سنة إلهية. قريش: لما قالوا: هل يسمع الله ما نقول، كما في صحيح البخاري: {أنه اجتمع نفر، كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فقالوا: هل يسمع أو لا يسمع، قال بعضهم: يسمع، وقال بعضهم: لا يسمع، وقال بعضهم: يسمع إذا جهرنا ولا يسمع إذا أسررنا، فقال الله عز وجل: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] } فلذلك أيضاً نصر الله عز وجل المؤمنين عليهم، وأُخذ هؤلاء القوم، ورأوا الذل بأعينهم في دنياهم قبل الآخرة. اليهود: لما قالوا {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] وعاقبهم الله عز وجل وكتب عليهم الذل منذ أوجدوا وقالوا ما قالوا، انحرفوا إلى يومنا هذا، قال تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112] وقد قلت في بعض المناسبات: إن مما يثير العجب أن اليهود إلى الآن على رغم أنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا، هل تتذكرون معركة تاريخية فاصلة خضناها مع اليهود باستثناء المعارك في هذا العصر، خضنا معارك شهيرة مع المشركين الوثنيين، وخضنا معارك شهيرة مع النصارى الصليبيين، وخضنا معارك مع الفرس، أما اليهود فحتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك معارك حقيقية معهم، حتى خيبر، كثير من أهل العلم يقولون فتحت صلحاً، أو بعض حصونها فتحت صلحاً، ولم يكن هناك قتال يذكر، ليس عندنا معارك تاريخية مع اليهود، لماذا؟ لأن اليهود يشتغلون في الخفاء، مثل إخوانهم من المنافقين، يعملون في الخفاء، يعملون في الظلام، فهم مثل الخفافيش لا تعيش في النهار، يحرقها النور، إنما تعيش في الظلام وتشتغل في الخفاء، المهم أن هؤلاء اليهود، وهم أعدى أعدائنا، مع ذلك معاركنا معهم محدودة، وهذا يعني ذلهم، وعجزهم، وجبنهم، وأنهم لا يتجرءون على مواجهتنا، فقد ضرب الله عز وجل عليهم الذل من يوم أن قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء، وتعرضوا للذات الإلهية بالتنقص، فما بالكم كيف يصنع الغرب اليوم مع الله جلا وعلا؟ لقد كفر الغرب أشد الكفر، وقال الغرب: الإنسان يقوم وحده وليس بحاجة إلى الله، وقال الغرب: إن الإنسان هو الذي يصنع ربه والعياذ بالله وحتى أهل الكتاب الذين يُفترض أنهم يدينون بأديان سماوية، ويعبدون الله عز وجل فيما يزعمون، حتى هؤلاء أصبحوا يتكلمون عن ربهم كلاماً لا يمكن أن يتكلموه عن رئيس من رؤساء دولهم، حتى إنني قرأت في بعض التقارير أنهم يتكلمون عن هذه الثروة البترولية، وكيف صارت في هذه البلاد الإسلامية، ويقولون: إننا لا بد أن نفكر بطريقة وأستغفر الله وأتوب إليه من إيراد مثل هذا الكفر، لكن كما ذكر الله عز وجل في كتابه كفر اليهود والنصارى، لأن هذا مما يؤكد السنة الإلهية التي ذكرت يقولون: يجب أن نصحح خطأ الإله، الذي وضع البترول عند قوم لا يستحقونه، إلى هذا الحد بلغت بهم الوقاحة، وبلغ بهم الكفر، فهل ترى يترك الله عز وجل من يعتدي على قدره سبحانه، وقد أرانا بالأمم السابقة الغابرة، وبالمعتدين، من أعاجيب صنعه جل وعلا ما يجعل المؤمن يقطع بأن الله تعالى سوف يأخذ هؤلاء أقوى ما كانوا، وأخبث ما كانوا، وأكفر ما كانوا، وأزهى ما كانوا، وأعظم ما كانوا، اغتراراً بأنفسهم، وشعوراً بالغنى عن ربهم جل وعلا. يجب أن ننطلق من منطلقات عقدية صحيحة واضحة، أنَّ هذه سنة إلهية، أن الله لا يصلح عمل المفسدين، لأنهم يكيدون، لا أقول: إنهم لا يكيدون، إنَّ عندهم أجهزة استخبارات، وعندهم مؤسسات، وعندهم مراكز دراسات، وعندهم خطط، وعندهم الدراسات المستقبلية الآن، تشتغل بطريقة غريبة، لكن اسمع الله عز وجل يقول: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] ويقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ويقول: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:50-52] ويقول: {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ} [فاطر:10] إذاً مكرهم وكيدهم في ضياع، وتباب، وهلاك، يبذلون جهوداً كبيرة لكن النهاية لا بد أنها عليهم، هذا فرعون نفسه ماذا يقول عن موسى ومن معه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:54-56] حاذرون هذه هي التي تشغل العالم الكافر اليوم، الحذر من المسلمين، فكل مؤسساته، ومراكزه في حالة استنفار، قلقاً من هذا الخطر الجديد، أي خطر؟! الأصوليون، الإسلام، هم يقولون في الغرب إنا لجميعٌ حذرون، كما قال زعيمهم الأول فرعون، لكن ما هي النتيجة، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الشعراء:57-58] وقال تعالى: {وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:27-29] إذاً {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] هذه قالها فرعون، وقالها هؤلاء، وكما أهلك الله عز وجل طاغيتهم الأول، فإن الله تعالى يهلكهم، ويضيع كيدهم، وخططهم، ومؤامرتهم هباء! والله عز وجل إذا أراد أمراً يسر أسبابه، لا تقل: كيف؟ فإن الله عز وجل يضع ما لا يخطر لك على بال. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 24 الأسئلة الجزء: 195 ¦ الصفحة: 25 دعوة تحرير المرأة في منطقة الرياض السؤال تعلمون ما حصل في منطقة الرياض وغيرها من الدعوة إلى تحرير المرأة، فهلاَّ بيان في هذا الموضوع فيما يتعلق في أبعادها المتقدمة والحاضرة واللاحقة؟ الجواب اختصاراً للوقت، فقد سبق أن تحدثت في هذا الموضوع بشيء من الاستفاضة والتفصيل في محاضرة خاصة اخترت أن يكون عنوانها (لسنا أغبياء بدرجة كافية) وأنا أقصد من وراء هذا العنوان أن خصومنا من العلمانيين يصورون أن المعركة بيننا وبينهم على أنها معركة على قيادة السيارة، وهل تقود المرأة السيارة أو لا تقودها؟! وهذا في الحقيقة نوع من المغالطة، لأنهم يجروننا إلى الميدان الذي يختارونه، ميدان الخصومة في مسألة قيادة المرأة للسيارة، وأقول: إن الذي بيننا وبينهم أعظم وأربى من قيادة المرأة لسيارة تكون أو لا تكون، الصراع بيننا وبينهم عقائدي أصولي مبدأي، وقد ذكرت شواهد في هذا الموضوع، وحفظاً للوقت كما أسلفت أدع التفصيل في هذه المناسبة. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 26 مواجهة المجتمع لقضية تحرير المرأة السؤال كيف يواجه المجتمع المسلم قضية تحرير المرأة على جميع المستويات والطبقات؟ الجواب هو هذه الحادثة وغيرها، فأولاً: يجب أن لا نكون عاطفيين، ومُيِّزنا نحن المسلمين أننا لا زلنا نشتغل بالعواطف، كيف؟ يمكن أن يحدث اليوم حدث رهيب، لكنه بطريقة ذكية، يمكن أن يمر علينا دون أن يلفت نظرنا، وعندما يحدث هذا الحدث بهذا الشكل المكشوف يستفزنا جميعاً حتى تختلط عندنا الأوراق فنشغل. لا بأس بالإنكار كما فصلته في المحاضرة المشار إليها، الإنكار باللسان، وبالخطبة، وبالموعظة، وبالكلمة، وبمناصحة العلماء، وبالكتابة، وبالبرقيات، وبالاتصال بهؤلاء النساء، بتذكيرهن بالله عز وجل، وبتخويفهن، وبالاتصال بأولياء أمورهن وبمناصحة المسئولين، بالهاتف، بالزيارة، وبكل وسيلة وارد، لا أقول: وارد بل واجب، وهو الدور الذي يمارسه المجتمع، وأستطيع أن أقول باطمئنان كامل: إن المجتمع قد قام بهذا الدور خير قيام، لا مزيد على ما قام به المجتمع في هذا الجانب، ويجب أن يقف عند هذا الحد، وكأنني أتصور أننا أحياناً نشاهد مسرحية، المشهد الأول: مجموعة لا أقول من الفتيات، بل من المسنات، يتظاهرن بالشوارع، ويقدن السيارات، ويفعلن ما يفعلن من هذا العمل الفوضوي الذي هو مرفوض بجميع المقاييس. والمشهد الثاني: أخشى أن يكون هذا العمل مخططاً من قبل أعدائنا لاستفزاز المسلمين بالقيام بأعمال غير مناسبة، ولا تخدم الدعوة في هذه المرحلة، ولذلك أحذر الإخوة وخاصة الشباب من القيام بأي عمل يتعدى الأعمال التي ذكرتها، نقول لك: تكلم بملء فمك، تحدث، ارصد تاريخ هؤلاء القوم، اكشف أعمالهم، تابع أمورهم، اتصل بالمسئولين، راسلهم، هاتفهم، اتصل بالعلماء، كل هذا لا غبار عليه، بل هو جزء من واجب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، الذي لا يعذر منا أحد رجل أو امرأة، بالكتابة فيه، وأقول للنساء بخاصة: إن عليهن مسئولية كبيرة في هذا الجانب، حتى نثبت للأمم كلها أن هؤلاء لا يمثلون بعداً في المجتمع، وأنهم ليس لهم جذور في الأمة، وإنما هم يحاولون أن يفرغوا ما لديهم من خلال استيلائهم على بعض المنابر، تسللهم على بعض المواقع الإعلامية وغيرها، وإلا فالواقع أن المجتمع يرفضهم، والله لم أرَ في حياتي حدثاً هز الناس في مثل هذه الأمور، وجعل المصيبة تدخل كل بيت، كل من رأيت كأنه يعيش في مأتم والعياذ بالله، شيء عجيب! أفلحوا في صرف أنظار الأمة عن الأمور العظيمة، والقضايا الخطيرة، إلى هذه القضية، لا أقول إنها سهلة ولكنها قضية داخلية، مع الأسف فأصبح هؤلاء مع عدونا في خندق واحد: وليس غريباً ما نرى من تصارع هو البغي لكن بالأسامي تجددا وأصبح أحزاباً تناحر بينها وتبدو بوجه الدين صفاً موحدا شيوعيون جذر من يهود صليبيون في لؤم الذئاب تفرق شملهم إلا علينا فصرنا كالفريسة للكلاب فأقول: هذه هي الطريقة المثلى في مقاومة هذا المنكر، ويجب أن لا نكون عاطفيين، نغضب بسرعة، ونرضى بسرعة، نثور بسرعة ونهدأ بسرعة، ينبغي أن يكون الإنسان متعقلاً لا يندفع، وكذلك ينبغي ألا يكون كل شيء يجعله يحس أنه قد حقق كل ما يريد، لأن القضية ليست قضية هؤلاء النسوة فقط، بل من وراء هؤلاء النسوة، التاريخ، أليست هؤلاء النسوة منذ سنين طويلة وبناتنا أمانة في أيديهن، فنريد أن نتساءل ماذا فعلنا ببناتنا؟ هل نأمن أن يكون هؤلاء النسوة قد خرَّجن لنا من بناتنا ذوات عقول ممسوخة؟ هل نأمن بأن هذه المرأة التي قامت بهذا العمل المشين، كانت تعمل طيلة الوقت على استغلال منصبها، وموقعها، في اضطهاد الفتيات المؤمنات، ومحاصرتهن؟ لا. وكأنهن يحاولن جرهن جراً إلى ما يسمى بالتطرف من خلال الضغط والمضايقة والاتهام، حتى على صفحات الجرائد والمجلات، وقد قرأت لإحداهن مقالاً في مجلةٍ هنا، تتهم طالباتها المتدينات بالتطرف، بالإيماء والإشارة، لكن لسنا أغبياء لهذه الدرجة. الجزء: 195 ¦ الصفحة: 27 صائمون ولكن الصيام من أعظم العبادات التي يتقرب بها الإنسان من خالقه عز وجل، وسر هذه العبادة هو الإخلاص الذي يرتبط بصيام الفرض ارتباطاً أوثق منه بصيام النفل، والصوم من مكارم الأخلاق فهو يربي الإنسان على مجموعة من الصفات الحميدة كالإنفاق والصبر والحلم والشجاعة، وهو مما يستغل بأمور عديدة منها: قراءة القرآن وكثرة الصلاة والبعد عن جوارح الصيام كالغيبة والنميمة وأكل الحرام كالربا، وينبغي على المرأة المسلمة الاهتمام بالصيام كالرجل تماماً مع ملاحظة الأمور والآداب الخاصة بها. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 1 أولاً: فاعبدوا الله مخلصين له الدين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً0 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71] . جزاكم الله خيراً يا أهل الفايزية، وجعلنا الله وإياكم من أهل الجنة {َأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [التوبة:20] وسائر إخواننا الحاضرين، بل وجميع المسلمين والمؤمنين والمسلمات، إنه على ذلك قدير، وهو على كل شيء قدير. جزاكم الله خيرا ًحين كنتم السبب في عقد هذا المجلس المبارك في مستهل هذا الشهر الكريم، الذي نسأل الله تعالى أن يجعله شهر مغفرة لنا جميعاً، عنوان هذه المحاضرة "صائمون ولكن" في هذا المسجد الكبير -جامع الفايزية- في مخطط ب، في هذه الليلة -ليلة الأحد الثلاثين من شهر شعبان من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة-، وعندي في هذا المجلس عدة موضوعات: الجزء: 196 ¦ الصفحة: 2 أهمية الإخلاص إن الإخلاص في كل العبادات أساس لابد منه، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً أريد به وجهه، وعمل على سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) [الزمر:2-3] وقال سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] فالإخلاص واجب في كل العبادات، وإذا زال الإخلاص عنها تحولت العبادة إلى عمل لا يؤجر عليه صاحبه، بل يذم ويعاب ويعذب في الدار الآخرة، قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] وقال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15-16] . الجزء: 196 ¦ الصفحة: 3 الصوم عبادة السر والصوم من بين هذه العبادات كلها: هو عبادة السر، فهو عمل بين العبد وبين الله عز وجل، لا يطلع عليه أحد من الخلق، أتم صيامه أم نقصه أم نقضه. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: {كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لى وأنا أجزي به} وإنما قال الله تعالى: إلا الصوم فإنه لي؛ لأنه لا يطلع على حقيقة العبد إن كان صام صياماً شرعياً حقيقياً أم أفطر بينه وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا الله، حتى إن العبد لو نوى الفطر نية جازمة صادقة ثابتة فإنه يفطر بذلك، ولو لم يتناول شيئاً، كما ذهب إليه جمع كثير من الفقهاء، أنه إذا قطع نية الصيام ونوى الفطر أفطر ولو لم يأكل شيئاً، فدل ذلك على أن سر الصيام: هو في الإمساك عن المفطرات بنية، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. إذاً: فلابد من التعبد، وإرادة وجه الله تعالى في الصيام، وألا يكون الإنسان صام مجاراةً للمجتمع، أو سيراً على تقليد الناس، أو خوفاً من البشر، وإنما صام رجاءً فيما عند الله، وخوفاً من عقابه، وأنت تجد من الناس اليوم من لا يستشعر نية الصيام، ولا يصوم إلا مجاملة لمن حوله، فهو يخشى الناس ولا يخشى الله، يخشى الناس أن لو أفطر لانكسر جاهه عندهم، وسقطت منزلته، أو يخشى أن يتحدث الناس عنه: أن فلاناً أفطر ولم يصم، أو يخشى أن يعاقب من بعض الناس على فطره، فيصوم لهذا. وربما لو أتيح له أن يفطر سراً لفعل، ومنهم من لا يخشى إلا هذا، ولا يراقب الله تعالى في عمله، وحينئذ فإن هؤلاء ممن لو اقتضاهم الأمر أن يفعلوا ضد ذلك لفعلوا، فأنت تجد هذا في صوم الفريضة. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 4 الفرق في الإخلاص بين صوم الفرض والنفل أما بالنسبة لصوم النفل: فإن الأمر يختلف، ففي صوم الفريضة أغلب الناس إنما يصومون ابتغاء وجه الله، ومراقبة لله تعالى، وخوفاً منه، ويقل المراءون في صوم الفريضة؛ لأن كل المسلمين صائمون. فالإنسان لا يشعر أنه بصيامه فعل شيئاً عظيماً فاق فيه الناس كلهم أو خالفهم، أو أتى فيه من العبادة بما لم يأت به غيره، فغالب الناس يصومون الفرض لله تعالى، وقليل منهم من يصوم لغير الله. أما بالنسبة لصوم النافلة: فإن الأمر يزيد عن ذلك، فمن الناس من يصوم النفل ويشيع عند الناس أنه كثير الصيام، فإذا كان بينهم في مناسبة أو أكل أو شرب فإنه يمسك عن الأكل والشرب ولو كان مفطراً؛ خشية أن يخيب ظن الناس فيه؛ لأنهم ظنوه صائماً، فلو قالوا له: تفضل يا فلان، أم أنك صائم؟ لاستحى؛ وقال: نعم، أنا صائم، أو ربما تكلف أن يتظاهر بالصوم، ويتظاهر -أيضاً- بأنه يريد أن يكتم الصيام، فإذا قالوا له: تفضل يا فلان! أم أنت صائم؟ قال لهم: لا أريد أن آكل، ورفض الأكل، ولم يبح بالصيام؛ لأنه يريد أن يظنوا أنه صائم، وهو في الواقع لم يكن صائماً!! ومنهم من يخبر بأنه صام فيقول: منذ عشرين سنة وأنا أصوم، أو منذ كذا وأنا أصوم الإثنين والخميس، ومنهم من عادته أن يصوم الاثنين والخميس، فإذا دعي إلى غداء في الاثنين أو الخميس قال: اليوم خميس، وهو لو قال: أنا صائم بنية الرياء لربما كانت هذه بلية، فكيف إذا كان قال: اليوم خميس، وهو يريد أن يقول لهم: أنا أصوم كل أثنين، وأصوم كل خميس، ومنهم من ينظر إلى الناس بعين الازدراء والاحتقار؛ لأنه صائم وهم مفطرون. إذاً على العبد أن يحرر نيته لله تعالى، فإنه كبير -أَيّ كبير- أن يجهد الإنسان ويتعب، ويحرم لذات ما أحل الله تعالى في هذه الدنيا من طعام وشراب ونكاح بصيام نفل أو غيره، ثم لا يكتب له من ذلك شيء، بل ربما كانت عليه آثاماً؛ بسبب أنه ما أراد بها وجه الله، وإنما عمل ما عمل رياءً وسمعة، قال الله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] قال الفضيل بن عياض: أي أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً. فحرر نيتك، وراقب قلبك، واعلم أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، ويقول سبحانه: {أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري فأنا منه بريء وهو للذي أشرك} كما في الصحيح. إن الناس ينظرون إلى الظاهر، أما القلوب فشأنها عند علام الغيوب، فكما تجهد في إصلاح ظاهرك وتحسينه وجعله على الكتاب والسنة، فعليك أن تجهد -أيضاً- في إصلاح باطنك، ألا يعلم الله من نيات قلبك ومقاصده أنك لا تريد غيره، ولا تقصد سواه. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 5 ثانياً: من مكارم الأخلاق الجزء: 196 ¦ الصفحة: 6 تربية الصيام الإنسان علىالإنفاق إن من حكم الصيام: تربية العبد على الجود والإنفاق. فمثلاً الجوع -وهو جزء من الصيام- يذكر الإنسان بحال الفقير والمسكين والجائع؛ ولهذا كان الشاعر يقول بعد أن جاع زماناً طويلاً ثم أغناه الله تعالى، فكان ينفق ويتصدق فقالت له زوجته: ارفق بالمال، قال: لعمري لقد عضني الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً فحين يجد الإنسان مس الجوع؛ فإن ذلك يدعوه إلى السخاء والكرم والإنفاق، ولهذا {كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فالرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة} رواه البخاري من حدين ابن عباس. إن جوده صلى الله عليه وسلم كان دائماً، فقد أعطى غنماً بين جبلين، وأعطى مائة من الإبل، حتى أنه سئل الثوب الذي يلبسه فأعطاه صلى الله عليه وسلم ولبس غيره، وإنما كان جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان لأسباب: أولها: أنه شهر الصيام، والصيام يدعو إلى الإنفاق والبذل والكرم والسخاء. وثانيها: أنه شهر تضاعف فيه الحسنات. وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر فيه من قراءة القرآن، والقرآن يدعو إلى الإنفاق (ِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:245] {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور:33] إلى غير ذلك. حتى أنه صلى الله عليه وسلم ما سئل شيئا قط فقال: لا. كأنك في الكتاب وجدت أن (لا) محرمة عليك فلا تحل فما تدرى إذا أعطيت مالاً أيكثر في سماحك أم يقل إذا حضر الشتاء فأنت شمس وإن حضر المصيف فأنت ظل إن المسلم الحق يستعلي على وعد الشيطان {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268] فلا يمنعه ذلك أن ينفق من فضل الله تعالى، وأن يتصدق على العباد خشية الفقر، ومن منع ما في يده خشية فقر؛ فالذي فعل هو الفقر، فإن كل يوم له رزق جديد يأتي به الله تعالى، وإن منعت ما عندك منعك الله تعالى ما عنده. ورزق اليوم يكفيني وإني بيومي جد مغتبط سعيد فلا تخطر هموم غد ببالي فإن غداً له رزق جديد 1- الاندهاش من شيخ كبير السن: إنني أندهش من ابن السبعين، وابن الستين، وابن الثمانين، الذي يملك الملايين، ويملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، ثم تشح يده بقليل المال ينفقه في سبيل الله، حتى على نفسه، أو على ولده، أو على زوجه، يدخر هذا المال لماذا؟! إنه أمر لا تفسير له قط إلا الانسياق لألاعيب الشيطان، وإلا فإن نفسك التي تبخل عليها لم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، ولم يبق من عمرك إلا كالشمس على رءوس الذوائب، فأنت لا تدري أيصبحك الموت أم يمسيك. أما أولادك الذين تبخل عليهم وزوجك؛ فهم الذين سيرثون هذا المال من بعدك، وها أنت الآن تبخل عليهم وتمنعهم، وربما قصرت في النفقة الواجبة، وليس معقولاً أبداً أن تجمع المال لهم، وتقول أريد أن يكونوا من بعدي أغنياء ولا يكونوا عالة يتكففون الناس، وها أنت تمنعهم في حياتك بعض الواجب عليك لتلقى الله تعالى بآثام تلك الرعية، التي تقول لمن تتركنا؟ وللنفس تارات تحل بها العري ويسخو عن المال النفوس الشحائح إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه أقل إذا ضمت عليك الصفائح بأية حال يمنع المرء ماله غداً فغداً والموت غادٍ ورائح يا أخي! ويا أختي! لقد دعاكما الداعي إلى الإنفاق، دعاكما إلى الإنفاق في أبواب الخير وهي كثيرة، دعاكما إلى الإنفاق في حلقة تحفيظ القرآن، أو إلى الإنفاق في حلقة تحفيظ سنة، أو دعاكما إلى الإنفاق على إطعام جائع، أو كسوة عار، أو إغاثة ملهوف، أو كفالة يتيم مات أبواه، أو إلى الإنفاق في مشروع دعوة توزيع كتاب، أو توزيع شريط، أو تجهيز غاز في سبيل الله، وأراك أخي! وأراكِ أختي! لا زلتما مترددين!!. 2- علل واهية في عدم الإنفاق: أراك يوماً تتعلل بخوف الفقر، وأنت الذي تملك الملايين التي لو أنفقت بيديك طيلة عمرك ما نقص ذلك منك إلا القليل، وأراك يوماً آخر تحتج بأنه ليس لديك سيولة نقدية؛ وأقول لك: الحاجة أم الاختراع، وليس ضرورياً أن تكون الصدقة التي ندعوك إليها مالاً ودراهم وورقاً نقدية؛ بل قد تكون الصدقة أرضاً، أو مزرعةً، أو سيارةً، أو عمارةً توقفها في سبيل الله للمحتاجين وأبناء السبيل! وأراك يوماً تحتج بخوف ألا تصل الصدقة إلى مستحقيها، وقد وجدت طرقاً موثوقة! ولكنني مع ذلك أقول لك: لماذا تصم أذنيك عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو في الصحيح: {تصدق على زانية، ثم على غني، ثم على سارق، وقد كتبت كلها في الصدقة المتقبلة؛ أما الغني: فلعله أن يعتبر فينفق، وأما السارق: فلعله أن يستعف عن سرقته، وأما الزانية: فلعلها أن تستعف عن زناها} . وأحياناً نناديك لإغاثة المسلمين الفقراء في إفريقيا فتقول: فقراء الداخل أحوج! وفي الإسلام لا يوجد داخل وخارج، فالمسلمون سواسية، تجمعهم كلمة التوحيد والإخلاص، وتجمعهم الصلاة، يتجهون بها لرب العالمين، ويستقبلون البيت العتيق، ويجمعهم الصوم الذي يمسكون فيه لرب العالمين، وتجمعهم بطاح مكة التي يضحون فيها لله تعالى، فلا يوجد داخل ولا خارج. ما بيننا عرب ولا عجم مهلاً يد التقوى هي العليا خلوا خيوط العنكبوت لمن هم مثل الذباب تطايروا عميا وطني كبير لا حدود له كالشمس تملأ هذه الدنيا تقول: فقراء الداخل أحوج! فإذا قلنا لك: تصدق على فقراء الداخل -كما تسميهم- قلت: أريد بناء مسجد؛ لأن أجره دائم، فإذا قيل لك: هذا مسجد فأنفق على بنائه، قلت: أريد شراء أرض لبناء مسجد، فإذا قيل لك هذه أرض يبنى عليها مسجد. قلت: هذه الأرض غالية، والمساجد حولها كثيرة لقد تحير فيك الأطباء!!. إن المال -أيها الأخ الكريم- هو العنصر المفقود في معظم الأعمال الخيرية الإسلامية، فقد وجدنا المسلمين قادرين -بإذن الله تعالى- على أن يقوموا بالدعوة، ونشر الخير، والأمر بالمعروف، وإحياء الجهاد، ولا ينقصهم لذلك كله إلا المال، والمال قد جعلك الله تعالى خازناً وأميناً عليه، أفيسرك أن يكوى به جنبك وجبينك وظهرك يوم يقوم الناس لرب العالمين؟!! إذاً: الخلق الأول الذي يعوده الصيام للصائمين: هو خلق الجود والكرم والإنفاق. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 7 تربية الصيام الإنسان على الصبر الخلق الثاني: الصبر. والصوم نصف الصبر، ومعنى الصبر في الصوم ظاهر، فإن الإنسان يكلف نفسه عناء الإمساك عن الشهوات والملذات المستطابة التي يتوق إليها القلب، وتشرئب إليها النفس، ويحبها الإنسان بطبعه، فيمسك عنها طيلة نهار رمضان؛ لوجه الله رب العالمين، وهو من الصبر على طاعة الله، وهو أيضاً من الصبر عن معصية الله، ولهذا أمر الله تعالى بالصبر في كتابه فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ} [الكهف:28] وقال: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وقال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] وقال: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] ومدح الله تعالى أيوب عليه السلام فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً} [ص:44] والله تعالى يحب الصابرين كما أخبر، وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر} . والغريب أن الناس يتكلمون عن الصبر ويفيضون في الحديث عنه، بل ويسمعون كلاماً كثيراً، ويقرءون ما جاء فيه في الكتاب والسنة، ولكن إذا نزلت بهم الملمات والمهمات، واحتاجوا إلى الصبر حتى يطبقوه في سلوكهم وخلقهم وأقوالهم وأعمالهم؛ بدوا كما لو كانوا لم يسمعوا يوماً من الأيام آمراً بالصبر، ولا ناهياً عن ضده، ولا محرضاً عليه، ولا مبيناً لفضل أهله، فإذا احتاجوا إلى الصبر في مواقعه نسوا هذا كله كأنهم لم يسمعوه؛ وهذا يدل على أن الإنسان يحتاج في تعليمه وتدريبه على الأخلاق الفاضلة، ويحتاج إلى التربية الواقعية؛ ومواجهة الأمر حقيقة، وقد يظن الإنسان نفسه صابراً وهو جزوع، وقد يظن نفسه حليماً وهو غضوب، قال عمر -رضي الله عنه: [[وجدنا خير عيشنا بالصبر]] . إن الحياة بالصبر تبدو وتغدو جميلة بكل ما فيها من المحن والمصائب والمشاكل، بل إن الصبر هو الإكسير الذي تتحول به الآلام -بإذن الله تعالى- إلى نعم، وتتحول به المحن إلى منح، وكم من إنسان نزلت به ملمة جليلة عظيمة فلما واجهها بالصبر وجد برد اليقين في قلبه، ولذة السكينة في فؤاده، ورضي بالله تعالى؛ فرضي الله تعالى عنه وأرضاه. خليلي لا والله ما من ملمة تدوم على حي وإن هي جلت فإن نزلت يوماً فلا تخضعن لها ولا تكثر الشكوى إذا النعل زلت فكم من كريم قد بلي بنوائب فصابرها حتى مضت واضمحلت وكم غمرة هاجت بأمواج غمرة تلقيتها بالصبر حتى تجلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت فقلت لها يا نفس موتي كريمة فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت إن المرء قد يسمع عن السجن والسجناء فيخيل إليه أن الأمر عادي، وأنه لو حبس لصبر، ووجد في ذلك فرجاً من مجاملة الناس ومجالستهم ومحادثتهم، والصبر على أذاهم، لكنه لو حبس ساعة فربما فقد الصبر وتململ، وهذا يوسف عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى: {فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف:42] ولما أتاه الداعي ما تلقاه عند الباب ولا أسرع إليه، وإنما قال له: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] . لقد سمعت أمس عن خروج داعية من دعاة الإسلام من سجون بلاد الشام، وقد مكث فيها ما يزيد على عشر سنوات؛ الله أكبر! عشر سنوات ولد فيها مواليد، وشبوا وكبروا ودخلوا المدرسة، ومات فيها أموات، حيا فيها أناس، ومات فيها آخرون، وقامت فيها دول، وزالت فيها دول أخرى، وتغيرت فيها أشياء كثيرة، وهؤلاء قد حيل بينهم وبين الدنيا. خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا ونفرح بالرؤيا فجل حديثنا إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا يحكى أن أبا أيوب الكاتب حبس خمس عشرة سنة حتى كاد ييأس، فكتب إليه صديق يعزيه ويقول له: صبراً أبا أيوب صبر ممدح فإذا عجزت عن الخطوب فمن لها صبراً فإن الصبر يعقب راحة ولعلها أن تنجلي ولعلها صبرتني ووعظتي وأنالها وستنجلي بل لا أقول لعلها ويحلها من كان صاحب عقدها كرماً به إذ كان يملك حلها فكتب إليه أبو أيوب يقول له: فلم يمكث إلا أياماً حتى جاء الكتاب بإخراجه من السجن، فخرج معززاً مكرماً. مشاكل ليس لها إلا الصبر: إنك لا تحصي النساء اللاتي يشكين أزواجهن لسوء المعاملة، أو قسوة الخلق، أو غلظ الطبع، أو كثرة التهديد والوعيد، أو عدم الاستقامة في الدين، أو منعها عن أهلها، أو التقتير عليها في النفقة، أو تعييرها، أو عدم العدل معها إن كان لها ضرة، أو ارتكاب المعصية في بيتها، أوما أشبه ذلك من ألوان المآسي التي توجد في البيوت، وربما ترامى إلى مسمعك صوت ضعيف، صوت أنثى تشتكي ما تعاني، وهي لا تجد لها مخرجاً، وقد ارتبطت مع هذا الرجل بعقد، وأنجبت منه أولاداً وأصبحت أسيرة قعيدة في بيته، لا تملك حلاً ولا عقداً، فأي دواء لهذه الأنثى إلا الصبر. وأنت -أيضاً- لا تحصي من يتبرمون من أحوالهم، فهذا موظف يتبرم من عمله، وهذا تاجر يتبرم من تجارته، وهذا رجل تحت مسئول ظلوم أو حاكم غشوم، أو تحت ضغط اجتماعى لا يراعيه، أو يعاني مشكلة تلاحقه وتؤرقه، أليس في الدنيا مشكلات قد لا يملك الناس لها حلاً؟ ولكن حلها عند من عقدها وهو رب العالمين. إن هناك أموراً إنما يكون حلها بالموت، بالدار الآخرة؛ ولهذا كان ذكر الموت أحياناً سبباً في التفريج عن الإنسان، فإن الموت ما ذكر عند ضيق إلا وسعه، ولا ذكر عند سعة إلا ضيقها، فهو من أسباب التنفيس، فهب أن هذه المشكلة ظلت معك حتى الموت، أليس في الموت فرج؟ قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا في الموت ألف فضيلة لا تعرف منها أمان لقائه بلقائه وفراق كل معاشر لا ينصف هذا مع أن فرج الله تعالى للصابرين قريب، قال الله تعالى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] وقال سبحانه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:5-6] وفي الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً} . وإذا كنا اليوم وكل يوم نأسى لمصاب امرأة في عقر بيتها وعقر دارها، أو لموظف صغير تحت مسئول قاس، أو لرجل يعاني من مشكلة اجتماعية، فإن الأولى بمزيد الأسى هي تلك الشعوب المسلمة، والأمم الموحدة التي تسام الهوان في دينها، ولا تملك الانتصاف من ظالمها، ولكن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] . الجزء: 196 ¦ الصفحة: 8 تربية الصوم الإنسان على الحلم الخلق الثالث: الحلم. وهو: مقابلة الإساءة بالإحسان، والعفو عن الجاهل، والإعراض عنه، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم هذا بقوله كما في الصحيح: {ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب} وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أن رجلاً قال: يا رسول الله أوصني ولا تكثر عليَّ أو قال: -كما في رواية أخرى-: يا رسول الله! مرني بأمر وأقلله علي؛ لكي لا أنساه. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا تغضب} والصوم سبب لتربية الإنسان على الحلم، والصفح عن الجاهل، والعفو عن المسيء؛ لأنه عبادة يتلبس بها الإنسان، والعابد قريب من الله تعالى بعيد عن نزغات الشيطان، بعيد عن إغراءات النفس الأمارة بالسوء، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه البخاري في كتاب الصوم باب "من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم" ورواه أبو داود والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} والله تعالى غني عن العالمين، فليس لله حاجة أن يدع هذا طعامه وشرابه، كما أنه ليس لله تعالى حاجة أن يدع غيره أيضاً ممن ترك قول الزور والعمل به؛ فالله تعالى غني عن هؤلاء وغني عن أولئك، وليس بحاجة إلى هؤلاء ولا إلى غيرهم، وكل البشر ليس تعالى في حاجة إلى أحد منهم. ولكن المعنى -والله تعالى أعلم- أن الصوم إنما هو للعبد، لتربية العبد وتهذيبه، وحمله على كريم الطباع، وجميل الأخلاق، والنأي والبعد به عن قول الزور، وعن العمل بالزور، وعن شهادة الزور، وعن الظلم، وعن الفحش، وعن السب، وعن الشتم، وعن الجهل، فإذا لم يترك ذلك فإن الصوم يكون حينئذ لم يفعل فعله فيه. ولماذا يصوم مثل هذا؟ علام يصوم إذا لم يصم لنفسه؟ إن لله تعالى غني عنه، ولهذا قال تعالى {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [الزمر:7] فهو سبحانه غني عن هؤلاء الذين كفروا وأعرضوا عنه، وهم لا يضرونه شيئاً، كما أنه سبحانه غني أيضاً عن المؤمنين، ولهذا قال سبحانه: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:6] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:23] . فكفر العبد هو على نفسه، وفسقه على نفسه، وارتكابه للزور هو على نفسه قال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] ولهذا أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الذي رواه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أن الله تعالى قال: {يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئاً} . فالله تعالى لا تضره المعصية، ولا تنفعه الطاعة، إنه سبحانه غني عن العالمين، وإنما الصائم يعمل لنفسه فيمسك عن الطعام والشراب من أجل أن يربيه ذلك على أن يدع قول الزور وأن يترك العمل به، فإذا لم يدع قول الزور ولم يدع العمل به فلماذا صام إذاً؟ هل صام لله تعالى ومن أجل الله؟ الله تعالى ليس له حاجة إلى أن يترك هذا الإنسان طعامه وشرابه. مقابلة الإساءة بالإحسان: وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الصائم إلى هذا الخلق الكريم فقال في الحديث المتفق عليه: {إذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤٌ شاتمه أو قاتله فليقل: إني صائم} يقابل الإساءة بالإحسان، فإذا عصى الله تعالى فيك فعليك أن تطيع الله تعالى فيه. إنه لا يليق بالمسلم عامة ولا بالصائم خاصة أن يوزع ألفاظ السباب والشتائم على من حوله، فإن قصرت الزوجة في طهي الطعام أو كنس البيت أو كي الثياب أو العناية بالأطفال أو صناعة الشاي سبها، وسب أباها وأمها، وعيرها وهددها، وملأ البيت صراخاً وضجيجاً! إنه ليس من المروءة والكمال أن يكون الرجل في بيته امبراطوراً، إذا تكلم سكت الجميع، وإذا ظهر تجمد الكل، فلا ينطقون ولا يتكلمون، بل قد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً صبوراً رقيقاً حتى مع أهله، وربما رفعت عليه زوجه صوتها، وربما هجرته إحداهن إلى الليل. فليس مناسباً إن قصر زوجك أن تغلظ له في القول، أو أفسد بعض الأطفال أثاث المنزل، أو مزقوا أوراقاً، أو نثروا طعاماً فربما شتمهم، وربما شتم نفسه معهم أيضاً، وفي صحيح مسلم: {سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يلعن بعيره أو ناقته، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تصحبنا ناقة ملعونة} فتركها صاحبها، فكانت تمشى بمفردها بعيداً عن الناس؛ استجابة لأمر النبي عليه الصلاة والسلام. وإن أطال مراجع على هذا الموظف في النقاش، أو تحدث معه، أو ألح عليه أغلظ له في القول، وربما افتعل هذا الإنسان مشكلة مع إمام المسجد أو مع الجار أو مع صديق أو مع زميل في العمل، وعذره في كل ذلك أنه صائم، ونفسه -كما يعبرون- واصلة. والواقع أن الصوم يجب أن يكون جنة تمنع العبد مما يسخط الله، وحاجزاً يحول بينه وبين الغلط في القول أو في الفعل، لا، بل أقول لك: حتى أولئك الذين يبدأونك بالسب والشتم، أو يعيرونك، أو يسبونك، أو يغلظون لك في القول، أو لا يراعون شعورك، أو لا يحترمون مقامك، عليك أن تقابل ذلك كله بالإعراض، عليك أن تقابل ذلك كله بالصفح كما قال الله عز وجل: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] . ليس القول كالعمل: ما أسهل هذه الكلمات! أن نقولها، وما أصعب أن تمسك نفسك عن الغيظ فلا تنفذه، وأن تحجزها عن الغضب فلا تستجيب له، وأن تردها عن الانتصار للنفس فلا تقبله، قال الله تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:34-35] والصوم من الصبر، فتعلم الحلم في الصيام، وقال الله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] . وقال سبحانه: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] . فإن القول البذيء السيئ الجارح من أعظم أسباب فساد القلوب، وتغير النفوس، واختلاف الصفوف، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وأبو داود وأحمد وابن ماجة وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أنس بن معاذ الجهني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من كظم غيظاً وهو قادر على إنفاذه؛ دعاه الله تعالى يوم القيامة حتى يخيره من الحور العين ما شاء} . قال الأحنف بن قيس: ما عاداني أحد قط إلا أخذت فيه بإحدى ثلاث خصال: إن كان أعلى مني عرفت له قدره، وإن كان أقل مني حفظت قدري عنه، وإن كان مثلي تفضلت عليه. وقد نظم بعض الشعراء هذا المعنى الكبير الذي ذكره سيد من سادات الحلماء وهو الأحنف بن قيس فقال: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الجرائم فما الناس إلا واحد من ثلاثة شريف ومشروف ومثل مقاوم فأما الذي فوقى فأعرف قدره وأتبع فيه الحق والحق لازم وأما الذي دوني فأحلم دائماً أصون به عرضي وإلا فلائم وأما الذي مثلى فإن زل أو هفا تفضلت إن الفضل بالفخر حاكم الجزء: 196 ¦ الصفحة: 9 تربية الصيام الإنسان على الشجاعة الخلق الرابع: الشجاعة. ولقد كان أشجع الناس هم أهل العفة؛ العفة في طعامهم وشرابهم، والعفة في نكاحهم، فإن الشهوة تضعف القلب، والمنهمكون في الدنيا من غير تمييز بين حلالها وحرامها وحقها وباطلها دائماً هم جبناء! جبناء في المعارك! وجبناء في قول كلمة الحق! وجبناء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن قلوبهم ضعيفة، ونفوسهم رديئة، والشهوات قد نبتت عليها أجسامهم، ومصالحهم أصبحت مرتبطة بهذه الدنيا الدنية؛ فهم يحامون عن مصالحهم والراكضون وراء الوظائف والمناصب من غير تقوى هم -أيضاً- من الجبناء. إن الصوم يكشف للإنسان عن جانب من حقيقة الحياة الدنيا، وأنها زخرف ولغو ولهو وباطل وزينة، وتكاثر في الأموال والأولاد، وأنه لا يركن إليها إلا المغفلون. إن الصوم ينتزع الإنسان من الإغراق في الملذات ليفطمه عن هذه الدنيا، ويهزه هزاً عنيفاً ليقول له: نعم هذه هي الدنيا، وأنت فيها كالحالم الذي يجب أن يصحو، نعم، هذه هي الدنيا، ولكن هناك الدار الآخرة، أنت الآن تصوم عن الدنيا لا لأنك سوف تكسب من وراء الصوم مالاً، ولا جاهاً، ولا رتبة، ولا وظيفة، ولا سلامة دنيوية، ولا صحة في بدنك، فكل ذلك قد يأتي، ولكنك لا تصوم من أجله، وإنما تصوم؛ لأنك توقن أن هناك آخرة تعمل لها، وأن ثمة موتاً وبعثاً ونشوراً وجزاءً إني رأيت عواقب الدنيا فتركت ما أهوى لما أخشى فكرت في الدنيا وعالمها فإذا جميع أمورها تفنى وبلوت أكثر أهلها فإذا كل امرئ في شأنه يسعى أسنى منازلها وأرفعها في العز أقربها من المهوى ولقد مررت على القبور فما ميزت بين العبد والمولى أتراك تدرك! كم رأيت من الأحياء ثم رأيتهم موتى إن أدنى مراحل الشجاعة إذا لم تقل الحق؛ ألا تقول الباطل، وألا يتلفظ لسانك بما يسخط الله تعالى، وإذا لم تكن مع أهل الإيمان فلا أقل من ألا تكون ضدهم، وإذا لم يكن لسانك في صالحهم، فلا أقل من أن يسلموا منك، وإذا رأيت في نفسك هلعاً وجبناً ورخاوة فتأمل ما السبب؟! ربما تكون آكلاً للربا! أو الحرام فنبت جسدك على سحت! وربما تكون مرتكباً لما لا يحل لك من الفواحش والذنوب؛ فهذه عاقبتها في الدنيا!! الجزء: 196 ¦ الصفحة: 10 ثالثاً: العمر يفوت نعم، وأنت تطويه كطي الثوب. يسر المرء ما ذهب الليالي وكان ذهابهن له ذهابا وهذا الشهر الكريم هو مضاعفة للعمر، ففيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فما بالك بالشهر كله! إنه حري بالمسلم الصائم أن يستدرك أيام هذا العمر ولياليه فيما ينفع. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 11 الأمر الأول: قراءة القرآن أول ذلك: القرآن الكريم، وله بكل حرف عشر حسنات، لقد أنزل هذا القرآن في هذا الشهر قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة:185] وكان جبريل عليه السلام يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل سنة في شهر رمضان مرة، وعارضه في السنة التي توفي فيها بالقرآن مرتين إيذاناً بدنو أجله صلى الله عليه وسلم، وهذا كان أصل مشروعية ختم القرآن في شهر رمضان. فجدير بك أيها المسلم! وبك أيتها المسلمة! أن تخصص لنفسك ورداً من القرآن الكريم طيلة العام ولو قل، ثم في هذا الشهر -خاصة- أجدر وآكد، وعليك أن تسرح طرفك في القرآن، وأن تعمل فكرك فيه، فلا يكون همك آخر السورة، أو آخر الوجه، أو آخر الجزء، أو آخر القرآن أن تختمه؛ بل أن تقرأ وتتأمل قال تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] . فهذا خير تؤمر به، وهذا شر تنهى عنه، وهذا خبر ماضٍ من أخبار السابقين تعتبر به، وهذا خبر مقبل تتهيأ له وتستعد قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف:3] . وهذا حق على الجميع، على جميع الناس، أئمة ومأمومين، فليس جديراً بالإمام أن يهذ القرآن كهذ الشِعر؛ لأنه يقول: أريد أن أختم قبل نهاية الشهر، أو أريد أن أختم، ثم اذهب إلى العمرة في آخر الشهر، بل عليه أن يترسل في قراءة القرآن، ولا بأس أن يردد بعض الآيات، ويرقق بها القلوب، ويتغنى بالقرآن. ففي صحيح البخاري مرفوعاً: {من لم يتغن بالقرآن فليس منا} عليه أن يحرك به القلوب، ويدمع به العيون، ويستدر به العواطف والمشاعر، ويطرق به النفوس، كما أن على القارئ مثل ذلك، وعلى المرأة مثل ذلك، بل حتى الصغار يجب أن يربوا على هذا. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 12 الأمر الثاني: الصلاة قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] وقال سبحانه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] وقال: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] . ففي مواضع كثيرة من كتابه الكريم أمر الله عزوجل بالصلاة فرضها ونفلها، وهي الفيصل بين المسلمين والكفار؛ ولهذا قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الروم:31] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} . وفي الحديث الآخر: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} وهذا المعنى يعرفه حتى الكفار. يقول أحد المؤرخين البريطانيين-وهو توماس أرنولد - في كتاب له اسمه "العقيدة الإسلامية" يقول: هذا الفرض المنظم -أي: الصلاة- من عبادة الله تعالى هو من أعظم الأمارات المميزة للمسلمين عن غيرهم في حياتهم الدينية، فكثيراً ما لاحظ السائحون وغيرهم في بلاد المشرق ما لكيفية أداء الصلاة من التأثير في النفوس. ويقول أحد القسس النصارى -وهو الأسقف لوفرو - يقول: لا يستطيع أحد خالط المسلمين لأول مرة إلا أن يندهش، ويتأثر بمظهر المسلمين في عقيدتهم حينما يكبرون ويصلون، فإنك حيثما كنت في بلاد المسلمين، في شارع مطروق، أو في حقل، أو في محطة سكة حديد، أو في غير ذلك أكثر ما تألف عينك مشاهدةً أن ترى رجلاً ليس عليه أي مسحة من الرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يترك عمله الذي كان بيده كائناً ما كان ذلك العمل، ثم ينطلق في سكينة وتواضع لأداء الصلاة في وقتها المعين. نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقى الأرض جاماً أحمرا جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا محمود مثل إياس قام كلاهما لك في الوجود مصليا مستغفرا العبد والمولى على قدم التقى سجدا لوجهك خاشعين على الثرى {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36-37] . الناس والصلاة في رمضان: الفريضة في رمضان وفي غير رمضان يصليها المسلم، ولكن بعض المسلمين لا يعرف المساجد إلا في رمضان، أما في غيرها فإنهم يصلونها في بيوتهم، أو يؤخرونها عن وقتها؛ بل ومنهم من لا يصليها في غير رمضان، فإذا جاء رمضان ازدحمت المساجد بالمصلين، خاصة أول الشهر، وخاصة صلاة المغرب وصلاة الفجر. وبعض الناس قد يكون مصلياً في رمضان فإذا جاء الشهر نام عن صلاة الفريضة؛ لأنه مشغول بالدوام، وفي الليل يسهر، فإذا جاء من الدوام نام ربما عن صلاة العصر فلم يصلها إلا بعد غروب الشمس. وآخرون قد يقصرون في النوافل من القيام، والتراويح، وغير ذلك، منشغلون بالجلوس مع بعضهم في أحاديث لا تنفع ولا تضر، بل ربما كانت ضارة، أو في مشاهدة التلفاز -مثلاً- أو في لعب الكرة، أو في التسوق والانتقال من محل إلى محل، ومن معرض إلى معرض، ويذرعون الشوارع جيئة وذهاباً. أين المصلون؟ أين الذين كانت الصلاة قرة أعينهم، وسرور قلوبهم، ونداوة أرواحهم، وبهجة نفوسهم؟!! الجزء: 196 ¦ الصفحة: 13 الأمر الثالث: الإحسان ينبغي الإحسان إلى الفقير والمسكين وابن السبيل، فإن هذا شهر المواساة، {ومن فطر صائماً فله مثل أجره} كما وعد الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] . الجزء: 196 ¦ الصفحة: 14 الأمر الرابع: العمرة العمرة في رمضان كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري {تعدل حجة معي} ولا يلزم من العمرة طول البقاء، فإن من ذهب إلى البيت العتيق، وأحرم بالعمرة، وطاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة، ثم حلق أو قصر فقد أدى عمرة، وهي بالنية الصالحة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنما وقفت معه بعرفة، وبت معه بمزدلفة، ورميت معه الجمار، وطفت معه بالبيت، وسعيت معه بين الصفا والمروة، وبت معه بمنى، ووادعت معه عليه الصلاة والسلام، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، ولو لم تستغرق منك هذه العمرة إلا بضع ساعات. إن البعض ممن يطيلون البقاء في رمضان في مكة المكرمة، وربما قضوا الشهر كله هناك، يحصلون أيضاً على خير كثير، فإن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة فيما سواه إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فهي في مسجده عليه السلام بألف صلاة، وهي في المسجد الأقصى بخمسمائة صلاة؛ المهم أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، وهذا فضل عظيم، وأجر كبير من الله عز وجل ولكن أيضاً ينبغي للإنسان ألا يهمل أهله، فلا ينبغي أن يذهب إلى هناك ويترك أهله لا يجدون من يطعمهم، أو يتفقد شئونهم، أو يقضي حاجاتهم، أو يراقبهم، بل أن يذهب بهم إلى هناك ويدعهم، وربما جلس في المسجد يصلي، ويجلس حتى تطلع الشمس، وينام في المسجد ولا يخرج للبيت إلا للوضوء أو لقضاء بعض حوائجه، أما أهله أين هم؟ أين يذهبون؟ ماذا يصنعون؟ ماذا يفعل أولاده؟ ماذا تفعل بناته؟ فإن ذلك كله ليس منه في قبيل ولا دبير. بل من الناس من يذهب بأطفاله، ويذهب معه بخادمه، وتكون أحياناً كافرة، وقد كتب إلي بعض الإخوة أن أسرة من هذه المنطقة -بالذات- ذهبت معها بخادمه كافرة، فلما أقيمت الصلاة؛ قالت المرأة العجوز للخادمة: اخرجي، اخرجي؛ فقامت الخادمة سريعاً وخرجت من الحرم، فقال ناسٌ لهذه المرأة العجوز: لماذا أمرت الخادمة بالخروج؟ فقالت: لأنها نصرانية، ولا أريد أن تجلس في المسجد وقت الصلاة! سبحان الله إلى هذا الحد! الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] والمرأة هذه لم يجعلوا الأمر بالنسبة لها قرباناً للمسجد فقط، بل دخلت إلى المسجد بذاته، ومتى؟ في الشهر المبارك ثم تخرج وقت الصلاة، لم تعلم الدين ولا الإسلام، ولا ربيت على العقيدة، ولا دعيت إلى دين الله عز وجل وهذه من المصائب الكبار. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 15 رابعاً: الصائمون عن الحرام نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 16 أولاً: الربا نعم، أنت عاقد العزم ولا شك على أن تصوم -بإذن الله تعالى- كما أمرك الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن حري بك أيضاً أن تصوم عن الحرام. حري بك أن تصوم عن الربا، وذلك الرصيد الضخم الذي نعرفه لك في البنوك الربوية التي قامت على محاربة الله تعالى ورسوله، وأعلنت ذلك، واحتلت أفضل المواقع وأرفعها وأعظمها، فهي قلاع حصينة، وكأنها معدة لمحاربة الله تعالى ورسوله، رصيدك في تلك البنوك لابد أن نأخذ منك وعداً قاطعاً بأن تخرجه، ولا تسمح لهؤلاء المرابين أن يستفيدوا من مالك، ويستعينوا به على معصية الله، والله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] . ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279] . ويقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة:275-276] . فتعاملك بالربا، أخذك الفوائد البنكية التي يسمونها فوائد وهي في الواقع لون من الربا المحرم، وتعاملك بالمعاملات المحرمة. ومضاعفتك للدين وقلبك للدين على المدين، واستخدامك لمسألة العينة، وغيرها من المسائل التي جاء الأمر أو النص بتحريمها، أو نطق العلماء بذلك؛ ماذا يعني؟ لماذا تصوم عما أحل الله لك من الطعام والشراب، ولا تصوم عما حرم الله عليك من المال الحرام؟ الجزء: 196 ¦ الصفحة: 17 ثانياً: الغيبة والنميمة إن اللسان نعمة من نعم الله تعالى، قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9] . وكان الجدير بالإنسان أن يستخدم لسانه في ذكر الله، أو دعائه، أو استغفاره، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلام الطيب، والنصيحة، وما أشبه ذلك، ولا حرج عليك أن تتكلم في المباح، فإن هذا من شأن الإنسان وطبيعته، فعلت وأكلت وشربت وذهبت وأتيت، وما أشبه ذلك من ألوان المباحات. لكن أن يتحول الأمر إلى أن تستخدم نعمة الله تعالى في معصيته، في الغيبة، والوقوع في أعراض الناس، والتدخل في شئونهم، فلان فيه! وفلانة قالت! وفلانة فعلت! وما أشبه ذلك! وقول الزور، ونقل الكلام، والنميمة، والتحدث بين الناس ونقله على جهة الإفساد، وإشاعة الباطل والإثم والزور، وما أشبه ذلك. فإن هذا من أعظم الذنوب والمعاصي خاصة وأنت صائم، فعليك أن تمسك عن ذلك كله. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن الغيبة: {ذكرك أخاك بما يكره قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته} . وقد قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] وقال: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:10-13] وقال الشاعر: فاحفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تخاف لقاءه الشجعان وقد ورد في هذا الباب حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم {جيء بامرأتين غلبهما الصيام إليه، فقال لهما: قيئا، فقاءتا قيحاً ودماً عبيطاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن هاتين المرأتين صامتا عما أحل الله، وأفطرتا على ما حرم الله} أي: الغيبة والنميمة، وهذا الحديث رواه أحمد والطيالسي وغيرهما، وهو حديث ضعيف لا يحتج به، وإن احتج به الإمام أبو محمد بن حزم وغيره رحمه الله تعالى. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 18 ثالثاً: النظر الحرام ومن الأشياء التي يجب على العبد أيضاً أن يصوم عنها من الحرام: الصوم عن النظر إلى الحرام، سواءً أكان هذا النظر إلى امرأة، أم إلى التلفاز، أم إلى تمثيليات، أم أفلام محرمة، أم ما أشبه ذلك، مما يعلم هو في قلبه أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضاه. فإن هذا كله من مقدمات الزنا، وأسباب الفاحشة التي تفضي بالعبد إلى ما حرم الله عز وجل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء:32] وهذه الآية هي نهي عن الزنا، ولكنها أيضاً نهي عن النظر الحرام، ونهي عن القول الفاحش، ونهي عن الخلوة بالأجنبية، ونهي عن كل قول أو فعل يكون سبباً في القرب والدنو من الزنا، ولهذا قال: (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا) . الجزء: 196 ¦ الصفحة: 19 خامساً: المرأة الصائمة الجزء: 196 ¦ الصفحة: 20 أولاًً: المرأة شقيقة الرجل المرأة جزء من المجتمع، وهي شقيقة الرجل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما النساء شقائق الرجال} والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ} [الحجرات:13] ويقول سبحانه: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] فالمرأة شقيقة الرجل، وهي مثله بأصل التكليف، ونظيرته في أصل الخلقة، وهي تنعم إن أطاعت، وتعذب إن عصت، ولذلك ينبغي أن يدرك المسلم أن من واجبه أن يحترم المرأة، سواءً كانت أماً له، أم أختاً، أم بنتاً، أم زوجةً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم} . وكثيراً ما يتكلم الناس والرجال خاصة عن النيل من النساء والوقيعة فيهن، وكأنهم يبرئون أنفسهم ويتهمون المرأة، حتى إن بعض الشعراء يقول: إن النساء شياطين خلقن لنا نعوذ بالله من شر الشياطين وهذا خطأ عظيم فإن في النساء مريم التي اصطفاها الله تعالى، وفي النساء عائشة، وفي النساء خديجة، وفي النساء آسيا امرأة فرعون التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وفي النساء أمهات المؤمنين، وفي النساء الصحابيات الجليلات، وفي النساء من المؤمنات الفاضلات التقيات من هي أهل للخير، ولا يجوز لمؤمن أبداً أن يطلق مثل هذه الألفاظ. وآخر سمعته يقول: إذا رأيت أموراً منها الفؤاد تفتت فتش عليها تجدها من النساء تأتت وهذا أيضاً غلط، فإن الشر ليس من النساء فقط، بل الشياطين مسلطون على بني آدم ذكورهم وإناثهم، والرجال أيضاً لهم في ذلك نصيب، نعم قد يكون الخطأ في النساء أكثر، وهو عليهن أغلب، ولهذا في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء: {تصدقن يا معشر النساء، فإني رأيتكن أكثر حطب جهنم، فقامت امرأة وقالت: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن الشكاة، وتكفرن العشير} . الجزء: 196 ¦ الصفحة: 21 أمور مهمة للمرأة الصائمة المرأة المسلمة الصائمة عليها أمور: أولها: حفظ وقتها؛ فيجب عليها أن تشغل وقتها بما ينفعها من قراءة القرآن، وذكر الله، والتسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وغير ذلك من الصالحات. ثم عليها -أيضاً- أن تشغل وقتها بالأعمال النافعة التي تحتاجها في شئونها الدنيوية، وفي منزلها، وفي أولادها، وفي شأن نفسها، أو ما أشبه ذلك. ثم عليها أن تحفظ وقتها من الغيبة، والنميمة، والقيل والقال، سواءً أكان ذلك من خلال المجالس مع الأخريات، أم من خلال المجالس التي تكون في مدارس البنات، أم من خلال الهاتف، أم ما أشبه هذا!! كذلك عليها أن تحفظ وقتها عن مشاهدة التلفاز والأفلام المحرمة، والتمثيليات الهابطة، فإن هذه تدمر الأخلاق، وتقضي على الحياء، وتربى الإنسان على قيم ومبادئ مخالفة لما جاء به المرسلون عليهم الصلاة والسلام، ومخالفة لما توارثه المسلمون في مجتمعاتهم وبيئاتهم المتدينة. ثم عليها أن تحفظ نفسها عن الخروج لغير الحاجة، وعن التبرج، وعن التطيب وإظهار الزينة، وعن الانسياق وراء المغريات التي قد تعرض لها في حياتها، وأن تحفظ زوجها في نفسها، وأن تطيع الله تعالى فيما ائتمنها عليه من أمر نفسها. ثم عليها أن تحفظ مالها عن الإسراف؛ فإن كثيراً من الأخوات تملك مالاً كثيراً وقد تكون معلمة، تأخذ راتباً يقدر بعشرة آلاف ريال أو أكثر من ذلك، ثم هي ترى أن هذا الراتب لا قيمة له إلا أن تجدد الأثاث في كل عام، وتشتري ألوان الملابس والأحذية، وغير ذلك لها ولأولادها، وتقول: الأمر هين؛ لأن هذا مال لها ليس لها فيه حاجة. والواقع أن هذا من الإسراف الذي لا يحبه الله والله تعالى يقول: {وَلا تُسْرِفُوا} [الأنعام:141] ويقول: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:26-27] عليها أن تحفظ هذا المال ولا تنفقه إلا في حق مما تحتاجه في أمر دنياها من الملابس التي تحتاجها وتريدها هي، فضلاً عما يشتري لها زوجها، وإلا زوجها مطالب بالإنفاق عليها حتى لو كانت غنية أو ما أشبه ذلك. ثم عليها أن تحفظ بقية المال، وإن استطاعت أن تنمي هذا المال فهو حسن، وإن استطاعت أن تصرفه حاضراً أو مستقبلاً في أعمال الخير والبر والإنفاق فهذا أعظم ما يدخر له المال، فإنما يفرح بالمال-والله العظيم- لينفق في وجوه الخير وفيما يرضي الله تعالى. وعليها كذلك أن تحفظ زوجها بالإحسان إليه، والصبر عليه، وتحمل الأذى منه، وحسن القول له، وحسن التبعل له، وأن تتزين له ما استطاعت، وتحرص على أن تكون سبباً في إعفافه، إعفاف فرجه، وغض بصره عن الحرام، وتستعد له في نفسها ولباسها وتزينها ومنزلها وأطفالها؛ حتى لا تقع عينه منها على قبيح، ولا يشم منها إلا أطيب ريح. وعليها أيضاً أن تحفظ أطفالها، تحفظهم عن الشارع فلا يخرجوا إلى قرناء السوء، أو يقعوا ضحية المخدرات، أو يتعلموا التدخين، أو يقعوا أيضاً ضحية حوادث السيارات أو الدراجات، أو ما أشبه ذلك مما يقع كثيراً. وعليها ألا تخرج وتدعهم في البيت إذا خافت عليهم، فقد يقعون في حريق أو في مصاب، أو يقع على أحدهم شيء وهي بعيدة عنهم وقلبها معهم؛ بل إذا كان الأمر كذلك فعليها أن تصلي في بيتها، وقد قال الصادق المصدوق -عليه الصلاة والسلام- كما في الصحيحين: {لا تمنعوا إماء الله مساجد الله} وقال صلى الله عليه وسلم: {وبيوتهن خير لهن} فالرجل لا يجوز له أن يمنع زوجه عن المسجد؛ إذا كان ذلك لا يضر بها ولا يضر بأولادها. ولكن المرأة أيضاً عليها أن تعلم أن صلاتها في البيت ما قدر لها مفردةً أو مع أحد إن كان في البيت أحد أنه خير لها من أن تخرج، وخاصةً إذا كان يترتب على خروجها إهمال لزوجها أو بيتها أو أطفالها، أو تبرج بالزينة، أو ما أشبه ذلك. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 22 سادساً: نصائح متفرقة الجزء: 196 ¦ الصفحة: 23 ثالثاً: البرنامج اليومي للأسرة. البرنامج للأسرة يقوم أولاً: على رب الأسرة، على الأب، فإن الأب هو بيت القصيد فيها. رأيت صلاح المرء يصلح أهله ويعديهم داء الفساد إذا فسد يعظم في الدنيا بفضل صلاحه ويحفظ بعد الموت في الأهل والولد فعلى الإنسان أن يكون قدوة صالحة لأهل بيته في خلقه، وفي محافظته على الصلوات، وطيب كلامه، وبعده عن الحرام، ثم عليه في رمضان -خاصة- أن يتجنب السهر الطويل، وأكثر الناس يغيرون برنامجهم، فيسهرون إلى الفجر، ثم ينامون بعد ذلك، ويترتب على ذلك تضييع العمل المنوط بهم دراسة أم عملاً أم وظيفةًً، ويترتب على ذلك ترك الصلاة -أحياناً- ويترتب على ذلك الإغراق في النوم. وإذا كانوا يسهرون الليل في أمور أحسن الأحوال أنها مباحة، فإنه يترتب على ذلك أن يضيع عليهم أكثر الشهر الكريم في أمور لا تحمد ولا تمدح. ثم إن كثيراً من الناس يشتغلون في رمضان بلعب الكرة، ويجلسون في ذلك خارج البلد، أو داخله إلى الفجر؛ بل بعضهم حتى بعد صلاة الفجر يتجمعون لما يسمى بالتفحيط أو التطعيس أو ما أشبه ذلك، وهذه أشياء نأنف بشبابنا أن يشغلوا أوقاتهم في الأيام العادية فيها فضلاً عن هذا الشهر الكريم. وواجب علينا -خاصة معشر الدعاة، والمهتدين، وأهل الخير، وطلبة العلم- أن نتجه إلى هؤلاء، ونجالسهم، ونحادثهم، ونتآلف قلوبهم على الهداية، وننشر بينهم الكتاب المفيد، والشريط المفيد، ونلقي كلمة قد لا تستغرق خمس دقائق، ربما ينفع الله تعالى بها ولو واحداً منهم، {ولئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} . بل إنه جدير بنا أن نحول تلك التجمعات إلى ظاهرة إيجابية، فبدلاً من أن يجتمعوا على محرم -على طبل مثلاً أو على غناء، أو موسيقى، أو يجتمعوا على أمور مباحة- بدلاً من ذلك نجمعهم على ذكر الله، وعلى المناقشة في الأمور المفيدة، ونربطهم بقضايا الإسلام، وقضايا الدعوة، وقضايا العقيدة. كما أن من الأمور التي يجب التفطن لها في موضوع البرنامج: أنه لا ينبغي للإنسان أن يكثر من الاشتغال والانشغال بالأمور المفضولة، ويترك الأمور الفاضلة فضلاً عن أن يشتغل بالأمور المحرمة -كما أسلفت-. إن بعض الناس قد يجد تجارته فيما حرم الله عز وجل عليه في هذا الشهر الكريم، فمن يبيعون الدخان -مثلاً- أو ما فوقه، ومن يبيعون الأغاني والأشرطة، ومن يبيعون أشرطة الفيديو، ومن يبيعون الأجهزة المحرمة عليهم أن يتقوا الله تعالى ويتوبوا من ذلك كله. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 24 النصيحة الثانية: نصيحة للمتهاجرين والمتقاطعين فإن كثيراً من الناس يوجد بينهم خصومات في أموال أو مواريث، أو بسبب الأطفال، أو بسبب مشاكل، أو أعمال، أو غير ذلك قد تؤدي إلى القطيعة بينهم، ومع الأسف الشديد أن القطيعة أكثر ما تكون بين الأقارب، وربما وجدت أباً لا يكلم ولده منذ ثلاث سنوات، أو ولداً لا يكلم والده -والعياذ بالله من مثل ذلك-، أو أخاً لا يكلم أخاه، أو يمنع أولاده من تكليم جدهم أو قريبهم أو خالهم أو عمهم أو ما أشبه ذلك، وهذا كله من الباطل وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث} وهجر المسلم سنة هو كسفك دمه، فكيف إذا كان هذا المسلم قريباً أو ذا حق عليه كأب أو عم أو جد أو ما أشبه ذلك. إن رمضان فرصة لأن يعود المتهاجرون حتى يحظوا بمغفرة الله تعالى، فإن الأعمال تعرض على الله تعالى في كل اثنين وخميس، فيغفر لكل موحد لا يشرك بالله شيئاً إلا المتهاجرين يقول: {انظرا هذين المتهاجرين حتى يصطلحا} . الجزء: 196 ¦ الصفحة: 25 نصيحة حول الإعلام التلفاز الذي يحفر في العقول، يغرس المعاني الذميمة في النفوس، ويهدم كثيراً من مكارم الأخلاق من خلال ما يعرض وما يقدم، ومن خلال السياسة العملية التي يتبعها. أيها الأحبة إن آخر ما واجهنا به التلفاز أنه أصبح يقدم لنا الفتاة السعودية في التمثيليات، فيشترط إعلامياً لأي تمثيلية عربية حتى نقوم نحن هنا بشرائها أن يشارك فيها ممثل سعودي، وهذا أسلوب لإجبار الممثلين السعوديين على المشاركة في الأعمال الأخرى، ولإجبار العاملين في مواقع أخرى أن يشاركوا ببعض الممثلين السعوديين، حتى ولو كانوا عن غير معرفة ولا جدارة، المهم حتى يحوز هذا العمل على موافقة وزارة الإعلام. ثم بدءوا يظهرون فتيات سعوديات من الحجاز، ومن الشرقية، ومن نجد يظهروهن في تمثيليات سعودية، وتكون الفتاة متزينة، متجملة، متبرجة، بل تخرج بالبنطلون الضيق الذي يصف جسدها وهي مع رجل، وقد يكون هذا الرجل يظهر في المسرحية أو التمثيلية كما لو كان زوجاً لها، فهو يحدثها حديثاً هامساً، حديث الزوج إلى زوجته، ويتحدث معها، ولك أن تتصور أولاً نفسية وعقلية تلك الفتاة وهي تقوم بهذا المشهد وهذا الدور. ثم لك أن تتصور - وهذا هو الأخطر؛ لأنه لا يهمنا الجانب الفردي بقدر ما يهمنا الجانب الاجتماعي- لك أن تتصور كم ستؤثر مثل هذه المشاهد في عقول بناتنا، وأخواتنا، ونسائنا وهن يدرسن دائماً وأبداً أن المرأة كلها عورة إلا وجهها في الصلاة؛ ثم ترى هذه المرأة التي تدرس أنها عورة، وهي تظهر على التلفاز بأبهي زينة. وتقرأ في القرآن الكريم: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] فتشاهد هذه الفتاة التي تحملق في زميلها في التمثيلية بكل عيونها. وتقرأ قول الله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:33] ثم تشاهد تلك الفتاة وقد تبرجت ليس أمام عشرة رجال ولا مائة ولا ألف، بل أمام ملايين المشاهدين، لا أقول في داخل المملكة، بل في داخل المملكة وخارجها. فواجب علينا جميعاً أن ننكر هذا المنكر ونحاربه، ونعترض عليه، ونتصل بقدر ما نستطيع بوزارة الإعلام وبغيرها، وبالعلماء، سواءً عن طريق الهاتف، أم بالمراسلة، أم بالاتصال، أم بالزيارة. وعلينا أيضاً أن نكون دائماً وأبداً حرباً على كل المنكرات التي تغزونا في بيوتنا، وتهددنا في أخلاقنا، وقيمنا، وعقائدنا. وعلينا أن نحارب هذا التلفاز، ذلك الجهاز الذي لا يربي في الناس -غالباً- إلا مثل هذه المعاني. الخطر الثاني: الدشوش: وهي خطر كبير، وقد قرأت في جريدة الحياة أن عدد الدشوش سيصل في منطقة الخليج العربي خلال العام القادم إلى ما يزيد على ثلاثمائة ألف دش، بعضها يستقبل أكثر من مائة قناة، قنوات إيطالية، وقنوات من جنوب شرق آسيا، وقنوات من فرنسا، وقنوات من إسرائيل، وبعضها مخصص للدعارة، وبعضها مخصص للتنصير، نعم، لا أنكر أن ثمة قنوات علمية، وقنوات تعليمية، وقنوات اقتصادية، إلى غير ذلك، لكن أي مستوى من الوعي والمتابعة يوجد في المجتمع حتى لا يكون الانهماك في متابعة الدشوش إلى هذا الحد؟ إن الكثيرين لا يعتنون أصلاً بمتابعة هذه الأشياء -أعني الأخبار- ولا بتتبعها، ولا بمعرفتها، وإنما ذلك لأغراض أخرى في غالب الأحيان، فعلينا أن نكون حرباً على ذلك. وأعلم أن في هذا المجتمع بالذات في منطقة القصيم العدد يتزايد، وعندي أسماء ومواقع من يمتلكون هذه الدشوش، وواجب علينا جميعاً أن نناصحهم، جيراناً كانوا لنا أو أقارباً أو معارف، أو حتى لو لم يكن يربطنا بهم إلا رابطة الإسلام، فواجب علينا أن ننصحهم، ونكثر عليهم، ونظل ندندن حول هذا الموضوع حتى يمتثلوا. الخطر الثالث الإعلامي: الصحافة: والصحافة ذات تأثير بليغ، وهي في كل بيت، وفي كل بقالة، وفي كل مدرسة، وفي كل مؤسسة حكومية. وأقول علينا أن نكون واعين في تناولنا للصحافة، فلا نقبل كل ما ينشر فيها، بل أن نميز الحق من الباطل، والخطأ من الصواب، وأن نكون على حذر مما ينشر فيها، وأن نحرص على حماية عقولنا وأولادنا ونسائنا من آثار تلك الصحف والمجلات، وأن نحرص على مقاطعة أكثرها شراً وإثماً وسوءاً. ولقد صحت وناديت مرات ومرات ومرات بمقاطعة خضراء الدمن "الشرق الأوسط"، وأفيدكم أنه وصلت إلي معلومات موثقة تدل على أن هذه الجريدة قد أصابها من جراء المقاطعة ضرر، ولذلك زادت في حجم صفحاتها، وبذلت جهداً لذلك، ومع مازالت الجريدة مصرة على سياستها، فأنا أناديكم وأطالبكم سواءً كنتم مسئولين في دوائر حكومية، أو في فنادق، أو في مؤسسات، أو في مدارس، أو أفراداً، أو غير ذلك أن تبذلوا قصارى جهدكم في مزيد من الضغط على هذه الجريدة. وقد يقول بعضهم: لماذا هذه الجريدة بالذات؟ ولماذا لا نقاطع غيرها؟ نعم، وغيرها أيضاً مما نعلم أنه ينشر الشر والفساد، ولكنني أعتقد أن التركيز على هذه الجريدة المتميزة بهذا الجانب أنه سيكون سبباً في نجاح الحملة عليها أولاً، وبالتالي سيكون سبباً في أن يقلع غيرهم، ويدرك أن جمهور الناس متدينون ولله الحمد، وحريصون على الخير، وغيورون على الدين، وأنهم لو قاطعوا مطبوعاته لكسدت ولم تجد من يشتريها. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 26 الأسئلة الجزء: 196 ¦ الصفحة: 27 إخراج زكاة المال قبل الحول السؤال ما حكم من أخرج زكاة أمواله ولم يحل عليها الحول؟ الجواب على أي حال، إذا أخرج الزكاة في وقت معين ولم يحل عليها الحول فهذا حسن ولا شيء فيه، فقد عجل الزكاة حينئذٍ، ثم يخرج الزكاة في العام الثاني بعد مضي سنة من إخراجه زكاته أول مرة. وعلى سبيل المثال: لو ملك مالاً قبل رمضان بوقت، وأحب أن يخرج الزكاة في رمضان، فأخرجها قبل أن يحول عليها الحول فحسن؛ ليكون شهر زكاته رمضان، فكل ما جاء رمضان أخرج زكاة ماله. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 28 الدعاء عند الإفطار السؤال ما هو الدعاء الشامل الجامع الذي يقال عند الإفطار؟ الجواب جاء فيها أدعية منها "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" وهذا فيه ضعف. وأصح ما ورد {الحمد لله، ذهب الضمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله تعالى} وإن دعا بما يحب فإنه يرجى أن يكون للصائم عند فطره دعوة مستجابة، فيدعو بما أحب من خير الدنيا والآخرة، ومن أجمع الدعاء وأفضله "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". الجزء: 196 ¦ الصفحة: 29 مجاهدة النفس السؤال ما رأيكم فيمن يكون في بداية رمضان نشيطاً في الأعمال الصالحة وفي العبادات ثم ما يلبث أن يضعف شيئاً فشيئاً؟ الجواب هذا من تلاعب الشيطان بابن آدم، وعليه أن يجاهد نفسه، لا أقول أن يكون طيلة الشهر كذلك، بل أن يكون طيلة عمره هكذا. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 30 مراعاة الإمام للمأمومين السؤال ما رأيكم في مراعاة الإمام للمأموم في إطالة الصلاة وقصرها؟ الجواب نعم، ينبغي للإمام أن يراعي حال المأمومين، ولا شك أن اجتماع أمر جماعة المسجد على الحق وعلى كلمة واحدة خير من تفرقهم وتشتتهم وانتشار القالة فيما بينهم، فإذا كان المأمومون يريدون شيئاً مثل أن لا يطيل الصلاة إطالة شديدة ولكن أيضاً لا يخل بالصلاة ولا يخل بطمأنينتها، ولا يستعجل، ولكن لا يطيل إذا كانت الإطالة تشق عليهم. ومثله -أيضاً- لو كان جمهور المأمومين يرون أن يصلي أكثر من خمس تسليمات وأكثرهم على هذا، وهو أرفق بهم، فراعى حالهم في ذلك، فلا حرج عليه في ذلك كله إن شاء الله تعالى، وإلا فالأصل أن يراعي الإنسان السنة الواردة فيصلي بهم خمساً كما كان النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عائشة رضي الله عنها: {ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة} وفي رواية {على ثلاث عشرة} والحديث في الصحيح، وكذلك أيضاً أن يطيل الصلاة بقدر معتدل. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 31 دعوة المرأة في رمضان السؤال في كيفية استغلال المرأة رمضان من ناحية تعليمها أمر دينها. أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب نعم، هذه فرصة مهمة، فإن كثيراً من النساء يجتمعن في رمضان في المساجد لصلاة التراويح والقيام، وهي فرصة لأئمة المساجد والدعاة والمصلحين بتوجيه الوعظ والحديث إلى النساء، وتخصيص أيام لذلك، لمعالجة القضايا التي تحتاجها المرأة، وتعليمها أمور دينها، وعقيدتها، والصلاة، وأحكام الحيض، وأحكام النفاس، وآداب المعاشرة الزوجية، وكيفية تربية الأولاد، وما يتعلق بلباس المرأة، وغير ذلك، وآداب الدخول والخروج، والمخاطر التي تهدد المرأة. وعلينا جميعاً أن نستغل هذه الفرصة في توزيع الكتب والأشرطة على النساء في المساجد وفي غيرها من تجمعات النساء، وأن نجتهد في ذلك بقد المستطاع. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 32 الصلاة في المسجد البعيد خلف حسن الصوت السؤال الذين يقومون بأداء صلاة التراويح في مساجد غير مساجدهم بحجة أن القارئ الفلاني أفضل من إمامهم بصوته، والجزء الآخر يقول: القارئ الفلاني أفضل من إمامنا في تدبر الآيات. أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب على كل حال، الأصل أنه لا حرج على الإنسان أن يصلي في أي مكان شاء، وذهابه إلى مسجد يرى أنه يكون فيه أكثر خشوعاً أو أكثر تدبراً أو ما أشبه هذا لا حرج عليه فيه، ولكن ينبغي ألا تهمل المساجد، وأن تعمر المساجد كلها بصلاة التراويح والقيام، وإن حصل أن يكون الإنسان في مسجده فهو أولى في نظري، خاصة إذا كان يحتاج إليه في أن ينوب عن الإمام، أو يفتح عليه إذا أخطأ أو سهى، أو يحدث الجماعة أو ينصحهم، أو يقوم ببعض المشاريع الدعوية في المسجد، أو ما شابه ذلك. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 33 دعوة الشباب التائه في رمضان السؤال بقدوم شهر رمضان تمتلئ الشوارع والاستراحات بالشباب الذين نسأل الله عز وجل أن يردهم إلى الحق رداً جميلاً وإلى سلوك طريق الحق والبعد عن ترهات الأمور، السؤال: من لهؤلاء الشباب، ما هو دور الشباب الملتزم تجاه ذلك؟ أتمنى أن ينظر الشباب الملتزم بعين العطف ويحرص على كسر تلك الحواجز؟ الجواب نعم، هذا الكلام نكرره كل عام، من لهؤلاء إلا الله ثم أنا وأنت، فعلينا أن نذهب إلى هؤلاء. أولاً: ندرب أنفسنا على الدعوة، فقد يكون الكثير منا لا يعرف كيف يدعو الناس، فيحتاج إلى أن يتدرب عملياً. ثانياً: أفلا يسرك أن تكون موسوماً بوسام الدعوة، وأن تكون خليفة للأنبياء عليهم السلام، وأن تكون من أهل القول الحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] فكن من أهل هذه الآيات، واذهب إلى هؤلاء، اجلس معهم، واصبر عليهم، وتلطف معهم، واحرص على أن تواجههم بالكلمة الطيبة والابتسامة، وأن لا تعجل عليهم، بل تألف قلوبهم بذلك كله، في اليوم الأول وزع عليهم كتاباً واذهب، وفي اليوم الثاني وزع عليهم شريطاً واذهب، وفي اليوم الثالث سوف يحتشدون عليك ويسلمون فاستأذنهم أن تلقي قصيدة أو كلمة أو شرح آية أو شرح حديث أو موعظة أو تذكرة لهم، أو ما أشبه ذلك، فالأسلوب الذي تعتقد أنه يناسبهم أبداً به، وبعد ذلك ستجد أنهم استفادوا منك فائدة عظيمة، وأنك أنت أيضاً لم يخرج هذا الشهر إلا وقد أضفت إلى خبرتك خبرة جديدة، وإلى حسناتك أيضاً -بإذن الله تعالى- أجوراً عظيمة لمن هداهم الله تبارك وتعالى على يدك. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 34 صحة حديث {من أفطر رمضان} السؤال ما صحة الحديث "من أفطر رمضان من غير عذر لم يجزه صيام الدهر ولو صامه"؟ الجواب هذا الحديث رواه أهل السنن، وذكره البخاري تعليقاً وليس بالصحيح، فإن فيه عللاً منها أبو المطوس عن أبيه وهو مجهول، وفي الحديث انقطاع وفيه اضطراب، فهو لا يصح، كذلك الحديث الطويل الذي جاء فيه " شهر رمضان أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار" فهذا الحديث ليس صحيحاً بل هو شديد الضعف، وينبغي لمن قرأه أن ينبه على ذلك. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 35 أهمية الأذان في رمضان السؤال هل أمسك في الأذان الأول أم هل أمسك قبل أذان صلاة الفجر؟ الجواب أما الأذان الذي يؤذن به قبل صلاة الفجر، فهذا ليس لإمساك الصائم، وإنما هو ليقوم النائم، ويقعد المصلي لتناول طعام السحور، وإنما مطلوب الإمساك بالأذان الذي هو أذان الفجر الذي فيه (الصلاة خير من النوم) الأذان الثاني، وهذا الأذان هو الذي يكون بعد طلوع الفجر، لكن السائل قد يقصد: هل أمسك مع أول أذان أسمعه أم أمسك مع آخر مؤذن؟ أقول: العبرة بطلوع الفجر فالله تبارك وتعالى يقول: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187] والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {إذا أدبر النهار من هاهنا وأقبل الليل من هاهنا فقد أفطر الصائم} إذاً الصوم والفطر يكون معلقاً بالليل والنهار، فإذا طلع الفجر أمسك الصائم، وإذا غابت الشمس أفطر الصائم، وإنما الأذان أمارة وعلامة سواء أذن الفجر للإمساك أم أذن المغرب للإفطار. فإذا كان هناك مؤذن مأمون فعليك أن تصوم وتفطر على أذانه، وإن شك الإنسان فلا حرج عليه أن يحتاط في ذلك، فيمسك مع أول المؤذنين ولا يفطر حتى ينظر إلى أن الشمس قد غربت، خاصة أن بعض المؤذنين لا يضبطون ذلك، وهذا ينبغي التنبيه عليه أيضاً، فإن المؤذنين مؤتمنون ويجب عليهم أن يرعوا هذه الأمانة، هي أمانة عظمى يتعلق بها شعيرتان من أعظم الشعائر: صلوات المسلمين وصيامهم، فما بالك أيها المؤذن إذا صلت المرأة صلاة الفجر على أذانك قبل أن يطلع الفجر وقبل دخول الوقت، إنك أنت الآثم حينئذ، وما بالك إذا أفطر المسلمون على أذانك قبل أن تغرب الشمس. بعض المؤذنين يقول: أحتاط، ولا ينبغي الاحتياط في هذه المسألة؛ لأن الاحتياط فيها يتسبب في ضرر آخر، بل على الإنسان أن يؤذن على الوقت تماماً، سواءً أذان الفجر أم أذان المغرب، لئلا يترتب على ذلك أن يصلي الناس قبل الوقت، أو يمسكوا قبل الوقت. فقد يقوم إنسان ويسمع أول أذان قبل دخول الوقت، قبل طلوع الفجر فيمسك وعنده حاجة إلى أن يتسحر، أو يشرب ماءً، أو يتناول دواءً أحياناً فيتركه لأنه ظن الفجر قد خرج، والسبب هذا المؤذن الذي أذن قبل الوقت. فعلى المؤذنين أن يتقوا الله تعالى ويراقبوه في أمر الوقت، فلا يتقدمون ولا يتأخرون، وإذا كان المؤذن لا يطيق ذلك ولا يستطيعه أو لا يعرفه فبإمكانه أن يجعل غيره يتولى عنه أمر هذه الأشياء. الجزء: 196 ¦ الصفحة: 36 دلوني على سوق المدينة التكسب وطلب الرزق الحلال وظيفة المؤمن أياً كان وله في ذلك وفي سبيله وسائل متعددة ومتنوعة يحدوه في ذلك إرضاء الله تعالى وأمله الاستغناء عن الناس والتوكل على الله شعاره، والإسلام لا يبيح العجز والكسل بل هو دعوة للعمل. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 1 أهمية موضوع: دلوني على سوق المدينة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: السلام عليكم ورحمه الله وبركاته،،، أيها الإخوةُ الأحبةُ الكرام: هذا الدرس الثامن والثمانون من سلسلة الدروس العلمية العامة، بالجامع الكبير ببريدة، في هذه الليلة ليلة الإثنين (18 ذي القعدة، لسنة 1413هـ) . وعنوانه: (دلوني على سوق المدينة) . وقد كنت أعلنتُ عن هذا الدرس على مدى أسبوعين، ثم تأجل لأسبابٍ طارئة، وهذا أوان الوفاء بما كنت قد وعدتكم به، ومما هو جديرٌ بالذكر، أنني علمت بعد أن ذكرت لكم عنوان الدرس، أن أخي فضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري خطب خطبةً ووضع لها هذا العنوان وهو "دلوني على السوق". وحقاً لم أعلم بذلك إلا بعد أن غادرت المسجد، فكان هذا محض اتفاقٍ وقدر، والحمد لله على ذلك، فإنه يدل على أن هذه الفكرة التي نتحدث عنها، وندعو إليها، هي همٌ مشترك بين مجموعات من طلبة العلم. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 2 العصر الذي نعيشه عصر صراعٍ في مجالات عدة إن هذا العصر الذي نعيشه، هو عصر صراعٍ في مجالاتٍ عدة، منها المجال الاقتصادي، سواء على مستوى الدول أم غيرها، فأمريكا وأوروبا مثلاً، تعيشان صراعاً تجارياً واقتصادياً كبيراً، وكذلك الحال بالنسبة لأمريكا مع اليابان، أو مع الصين، أو مع الدول النفطية التي أصبح الغرب يضغط عليها، ويفرض عليها الضرائب، وآخر ذلك ضريبة النفط، التي تصل إلى ثلاث دولارات على البرميل الواحد، وقد تزيد إلى عشرة دولارات على مدى سنوات. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 3 الاقتصاد من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها هذا الاقتصاد الذي نتحدث عنه، هو من أهم أسباب قيام الدول أو انهيارها، وعلى سبيل المثال: فإن الدول الشيوعية التي تهاوت كما تتهاوى أوراق الخريف، كان من أسباب سقوطها الفشل والانهيار الاقتصادي، ولم ينفعها وقد انهار اقتصادها، أن تملك أكثر من ثلاثمائة ألف رأس نووي، بل أصبحت هذه الرءوس النووية، وتلك الملايين من الجنود، عبئاً على اقتصادها، وساهمت في مزيدٍ من تفككها وانهيارها. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 4 الرجل الغربي مثقلاً بالديون فإن مما يلحظه الدارسون لأوضاع المجتمعات، أن الرجل الغربي اليوم، أصبح مثقلاً بالديون إلى رأسه، وأصبح كل مرتبه يصرف في سداد ديونٍ عليه، فدينٌ بسبب السيارة، ودينٌ للمنزل، ودينٌ بسبب أعمالٍ خاصة يقوم بها، وهكذا بحيث يُقدَّر أن هذا الرجل يموت وهو في سداد الدين، وهذا من الظواهر الخطيرة التي تنذر بانهيار تلك المجتمعات الغربية الضالة والشاردة عن سواء السبيل. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 5 المسلمون اليوم هم الأغنى والأفقر إن المسلمين اليوم هم الأغنى، وهم الأفقر في الوقت نفسه، فبلاد الإسلام وهبها الله تعالى الخيرات الاقتصادية، والثروات الطبيعية المختلفة، التي أصبح الغرب بأمسِّ الحاجة إليها، وليس النفط إلاَّ واحداً منها، ومع ذلك فإن أكثر من (60%) من فقراء العالم، ومشرديه، ولاجئيه هم ممن ينتسبون إلى هذه الرقعة الإسلامية، وذلك يدل على تقصيرهم في استثمار ما وهبهم الله تعالى من الخيرات، والبركات. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 6 المال عصب الحياة وأخيراً: فإن المال كما يُقال عصب الحياة، وهو سرٌ من أسرار النجاح، للفرد والجماعة والأمة، فالاقتصاد يجب أن يوظف لخدمة الدين، والدعوة إلى الله عز وجل، وإغناء المسلمين عن الكافرين، والإفادة مما وهب الله تعالى في هذه الدار، قال سفيان الثوري رحمه الله: ما كانت العِدة أو العُدة في زمانٍ أصلح منها في هذا الزمان، والأثر رواه أبو نعيم. ومعنى كلام سفيان -رحمه الله-: أن إعداد المال، واقتناءه ربما كان محتاجاً إليه في كلِّ وقت، لكن في زمانه على سبيل الخصوص زادت الحاجة!! لأن به يحفظ الإنسان عن إراقة ماء وجهه فيما لا يحل، أو التعرض للسؤال، أو الضعف، أو الحاجة إلى من بيدهم المال، فإذا كان هذا الكلام في زمان سفيان، فما بالكم بوقتنا هذا الذي يتنافس العالم فيه، في مجالِ الاقتصاد وفي مضماره. إننا محتاجون إلى أن نتحدث طويلاً عن هذا الهم؛ الهم الاقتصادي، وهذا الدرس هو الدرس الثاني بعد الدرس الأول، الذي كان بعنوان (دعوةٌ للإنفاق) وهناك إن شاء الله تعالى، مجموعةٌ أخرى أسأل الله تعالى أن يوفقنا إليها. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 7 سُنةً مأثورة ثانياً: سُنةٌ مأثورة: الجزء: 197 ¦ الصفحة: 8 عبد الرحمن بن عوف والكسب الحلال روى البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أنسٍ قال: [[قدم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه المدينة، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع الأنصاري، فقال له سعد بن الربيع: اختر إحدى "زوجاتي" فأنزل لك عنها، واختر من مالي ما شئت!! فقال له عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك، ومالك، دُلوني على السوق]] . لا يريد أن يأخذ شيئاً من مال أخيه، ولا من أهله؛ ولكن دلوني على السوق، فأتى السوق، فربح شيئاً من أقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أيامٍ وعليه وضرٌ من صفرة، عليه طيبٌ خلوف، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {مهيم يا عبد الرحمن! (ما الخبر، ما القصة؟) قال: تزوجت يا رسول الله امرأةً من الأنصار، قال: فما أصدقتها؟ قال: وزنَ نواةٍ من ذهب، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: أو لم ولو بشاةٍ} نعم، أنت تلحظ روح الاحترام عند عبد الرحمن بن عوف، وهو رجلٌ من أهل مكة من المهاجرين، ومكة كانت مركزاً تجارياً في الجاهلية، ثم صارت بعد ذلك في الإسلام يجيء إليها العرب في المواسم، وفي الحج، والعمرة، وفي غيرها، فيأتون بألوانٍ من الخيرات، كما قال الله تعالى ممتناً على أهل هذا البلد: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] وفي الآية الأخرى قال: {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57] . فكانت مكة مركزاً تجارياً وزراعياً على مستوى الجزيرة العربية كلها، ولذلك كان أهلها خبراء ومحترفين في التجارة، فكان عبد الرحمن بن عوف لأنه مكيٌ مهاجريٌ، من أول ما نزل المدينة قال: "دلوني على السوق"، وبخبرته نزل السوق، ولم يكن معه قرشٌ ولا ريالٌ، ولا درهمٌ ولا دينار؛ ولكنه ضاربَ وما هي إلا أيام، حتى ربح شيئاً من إقطٍ، وشيئاً من سمنٍ، ثم على مدى أسبوعٍ تزوج عن غِنى، ولم يكن محتاجاً إلى لجنةٍ خيرية، ولا إلى محسنٍ متصدق، ولكن أغناه الله تعالى بالضرب في الأسواق، والسبق فيها بما أحل، حتى استغنى وأغنى بإذن الله عز وجل. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 9 الدعم النبوي لأصحابه بالتجارة فأنت تلحظ ذلك، ثم تلحظ الدعم النبوي من الرسول صلى الله عليه وسلم لـ عبد الرحمن بن عوف، ولسائر المهاجرين والأنصار، الدعم النبوي لهم بالتجارة، ولذلك دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، بارك الله لك، وأمره أن يولمَ ولو بشاةٍ ليطعم المهاجرين والأنصار، من طيّب الطعام، بما أفاء الله عليه من المال، وبما أنعم عليه من الزوجة: {أولم ولو بشاة} . وهذا يذكرنا أيضاً، بقصة عروة بن الجعد الأزدي البارقي رضي الله عنه وله قصةٌ شهيرة، هي في صحيح البخاري: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً وقال: اشترِ لي شاةً، فذهب واشترى شاتين، ثم باع إحداهما بالثمن نفسه، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بماله وبشاته، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يُضارب في صفقةٍ، إلاَّ ربِح فيها، حتى اعتقد الصحابة رضي الله عنهم أنه لو باع التراب لربح فيه} فأنت تلحظ هنا أيضاً، روح الاحترام عند عروة البارقي، والخبرة في التجارة، والتعرف على الأسباب، والبحث عن الفرص، ثم تلحظ دعماً نبوياً من النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه أن يكونوا أغنياء عن الناس، فقراء إلى الله رب الناس جلَّ وعلا. إنها جزءٌ من حياة الجيل الأول كلهم، لا تخطئك في أي واحدٍ منهم، وعلى سبيل المثال: أبو بكر رضي الله عنه خرج تاجراً إلى الشام وإلى البصرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الزبير بن بكار في الموفقيات، ولم يمنعه الرسول صلى الله عليه وسلم وحب الجلوس معه من ذلك، ولا منع النبي صلى الله عليه وسلم محبة أبي بكر والحرص على صحبته من الإذن له بالتجارة إلى البصرة، أما عمر رضي الله عنه ففي الصحيحين في قصة أبي موسى رضي الله عنه لما استأذن عليه، وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فطلب عمر البينة على ما قال أبو موسى، فجاءه ببعض الأنصار فشهدوا له، فقال عمر رضي الله عنه: [[خفي عليَّ هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني عنه الصفقُ في الأسواق]] . وحقيقةً كان عمر كثير الصحبة للنبي صلى الله عليه وسلم حتى إنه كان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يقول: {ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، جئت أنا وأبو بكر وعمر، وهما السمع والبصر} كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي بكر وعمر: {هذان السمع والبصر} وقلما تركه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكن خفيت عليه هذه السنة، فرجع يلوم نفسه ويعاتبها، ويقول: ألهاني عنه الصفق في الأسواق، أي: الشغلُ بالتجارة. أما علي رضي الله عنه فقد ذكر عنه الخلال كما في كتابه، الحث على التجارة، ذكر أنه كان على علي إزارٌ غليظ، اشتراه بخمسةِ دراهم فقط، أمير المؤمنين عليه إزارُُ غليظ، قيمته خمسة دراهم فقط! ثم يقول رضي الله عنه: [[اشتريته بخمسة دراهم، لو أربحني فيه رجلٌ درهماً واحداً لبعته عليه]] . إذاً هو مستعدٌ أن يتاجر حتى في ثوبه الذي على جلده، ولو أربحه فيه إنسانٌ درهماً واحداً! هذه روح التجارة لمثل هؤلاء الرجال الفضلاء، وهكذا كان سائر الصحابة من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم. ولقد قدم المهاجرون المدينة بالمئات، ثم بالألوف، جم غفير، فهل عانت المدينة يا ترى أزمةً اقتصاديةً بسبب هذا العدد الكبير، الذي نزل فيها، ولم تكن فرص العمل مواتية؟!! وهل عانت المدينة أزمةً في الوظائف الحكومية؟! كلا! الجزء: 197 ¦ الصفحة: 10 السلف الصالح والتجارة بل قد كان المهاجرون والأنصار، يعملون في الزراعة، أوفي التجارة أو في الحطب، أو في الاستيراد، أو في غير ذلك، وكلهم كانوا مثل عبد الرحمن بن عوف، حتى نتج عن ذلك نشاطٌ اقتصاديٌ واسعُ النطاق، وكان الأنباط يتبادلون السلع والبضائع مع المدينة، كما هو معروفٌ في قصة كعب بن مالك وهي في الصحيحين، في قصة النبطي الذي كان يسأل عن كعب بن مالك. ولهذا كان أهل العلم، والجهاد، والدين، يتواصون بالعمل في التجارة، لا أقول أهل الدنيا، ولا أقول أهل المال، ولا أقول أهل السلطة، وإنما أقول أهل العلم، والدعوة، والجهاد، كانوا يتواصون بذلك. وهذا أبو قلابة رضي الله عنه يوصي أيوب السختياني، فيقول له: الزم السوق، فإن الغنى من العافية، وهذا الأثر رواه عبد الرزاق، وابن أبي شيبة والبيهقي وغيرهم وسنده صحيح. وهذا إسحاق بن يسار يمر بالبزازين الذين يبيعون الثياب، فيقول لهم: يا معشر البزازين! الزموا تجارتكم. هل تراه وقف عليهم ليقول لهم: القوا ما أنتم فيه، واتركوا ذلك، واذهبوا إلى الكهوف والمغارات لتعتزلوا فيها؟! كلا بل يقول: يا معشر البزازين، الزموا تجارتكم فإن أباكم إبراهيم عليه السلام كان بزازاً، أي: يبيع الثياب، وهذا الأثر رواه أبو نعيم وسنده جيد. وشعبة رضي الله عنه وهو من أتباع التابعين، يقول لتلاميذه يربيهم على العلم، وعلى العبادة، وعلى الخير والجهاد، ومن ضمن كمال التربية أنه يعطيهم تعليماتٍ صريحة يقول لهم: الزموا السوق، وهذا الأثر مروي في الجعديات، وسنده صحيح. وقال رجلٌ للإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: إني رجل غني، وذو كفاية، فماذا ترى لي؟ قال له الإمام أحمد: الزم السوق، تصلُ به الرحم، وتعودُ به على عيالك، وهذا الأثر رواه الخلال وابن الجوزي، رحمه الله تعالى. أما سفيان الثوري -رحمه الله- فيقول لك: عليك بعمل الأبطال. ونحن نعرف أن الأبطال يخوضون المعارك، وأن الأبطال يقولون كلمة الحق، ونعرف أنهم يموتون في سبيل الله؛ ولكن سفيان يقدم لك تعريفاً جديداً للأبطال، وهو صحيحٌ أيضاً. (عليك بعمل الأبطال، الكسب من الحلال، والإنفاق على العيال) . الجزء: 197 ¦ الصفحة: 11 الأثرياء من الصحابة لعل من المناسب أن أعرض لكم كشفاً بحساب بعض العشرة المبشرين بالجنة، لتدرك أن جمع المال لا يناقض الزهد، ولا ينقض الطمع فيما عند الله عز وجل، فهؤلاء الذين منحهم النبي صلى الله عليه وسلم شهادةً صادقةً مصدقةً بدخول الجنة: {أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي ٌ في الجنة} الخ. فهؤلاء العشرة كان أكثرهم من أصحاب الأموال الضخمة، ومن أغنى أغنياء المسلمين، وقد رأيت أن أعرض لك بعضهم، لأن الوقت لا يتسع لجميعهم. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 12 عبد الرحمن بن عوف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه باع على عثمان أرضاً له، بأربعين ألف دينار، وقسم ذلك بين فقراء بني زهرة، وفقراء المهاجرين، وأمهات المؤمنين رضي الله عنه وأرضاه. قال ابن عبد البر رحمه الله: كان عبد الرحمن بن عوف، وهو صاحب "دلوني على سوق المدينة" قال ابن عبد البر: [[كان مجدوداً أي "محظوظاً" بالتجارة، خلَّف ألف بعير، وثلاثة آلاف شاه، ومائة فرس، وكان يزرع بالجرف -وهو موضع، على مسافة ثلاثة أميال من المدينة تقريباً إلى جهة الشام- وكان يزرع بالجرف على عشرين ناضح]] . وهكذا سعد بن أبي وقاص، كان من الأغنياء المشتغلين بالزراعة، ولما حصلت الفتنة، ترك البلاد، وذهب إلى مزرعته يشتغل فيها وأعرض عن الناس. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 13 طلحة بن عبيد الله من أثرياء الصحابة أما طلحة بن عبيد الله - طلحة الفياض - فقد كان كريماً جواداً وسمي بالفياض، وغلةُ طلحة يومياً ألف دينار، هذه أرباحه يومياً في مثل ذلك العصر، الذي لم يكن يعرف الملايين والمليارات. ولما مات طلحة رضي الله عنه خلف من الأموال الشيء الكثير، سأل معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه موسى بن طلحة، ولده، فقال له: كم ترك أبو محمد، أي كم خلف من الأموال؟ فقال له: ترك ألفي ألف درهم، ومائتي ألف درهم، هذا من الفضة، أما من الذهب فخلف مائتي ألف دينار، فقال معاوية رضي الله عنه: [[عاش حميداً سخياً شريفاً، ومات شهيداً]] . الجزء: 197 ¦ الصفحة: 14 الزبير بن العوام من أثرياء الصحابة الزبير بن العوام رضي الله عنه كان له ألف مملوك، يؤدون إليه الخراج، فلا يدخل بيته من ذلك الخراج شئ، ولما مات نادى ولده عبد الله بن الزبير في موسم الحج، أربع سنوات، كل سنةٍ ينادي: من كان له على الزبير دينٌ أو شيءٌ فليأتنا لنقضه، فلما مضت السنوات الأربع، قسم ميراثه على ورثته. وكان للـ زبير أربع زوجات لهنَّ الثُمن، ربع الثُمن هو نصيب كلّ زوجةٍ فقط، وكان ذلك بعدما رفع ثلث المال الذي كان وصية أوصى الزبير بها أي: رفع الثلث كان بعد أن قضى الديون كلها، ثم رفع الثلث، ثم وزع الميراث، فالذي أصاب الزوجة، يعادل 24:1 من تركة الزبير رضي الله عنه أي: أصاب كل امرأةٍ ألف ألف ومائة ألف، قال: فجميع ماله، يعني حسبت المال فوجدته يزيد عن خمسين مليوناً ومائتي ألف، وأثر الزبير أصله في صحيح البخاري. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 15 أبو بكر من أثرياء الصحابة فهذا أبو بكر رضي الله عنه، تقول عنه عائشة رضي الله عنها -كان أبو بكر أتجر قريش، حتى دخل في الإمارة، والأثر رواه الخلال بسندٍ صحيح، نعم. كان تاجراً حتى دخل في الإمارة فافتقر، وليس العكس!! كان أتجر قريشٍ، لأنه يشتغل بالبز، وبالتجارة، وكان يذهب إلى الشام وإلى غيرها، ويسبق في الأسواق، فلما تولي الخلافة رضي الله عنه افتقر، وأصبح ليس عنده إلا ما يقوم ببيته من المال الذي جعله له المسلمون ولـ أبي بكر أمر الخلافة، وجعلت الأمة كلها أمرها في عنق أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فيا ترى! ماذا فعل هذا الإمام المقدم العظيم، الذي يفاخر به المسلمون عبر التاريخ؟ روى ابن سعد ٍ بسندٍ موصول بالرجال الثقات أن أبا بكر لما استخلف، أصبح غادياً إلى السوق، وعلى رأسه أثواباً يتاجر بها كالعادة، حمل الأثواب والبضائع وغدا إلى السوق، يبيع ويشتري! فلقيه في الطريق عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهما فقالا له: [[كيف تصنع هذا وقد وليت أمر المسلمين]] ؟! قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[فمن أين أطعم عيالي]] ؟! قالا له: [[نفرض لك، ونجعل لك مرتباً يومياً، أو أسبوعياً، أو شهرياً، تستغني به عن التجارة]] . فماذا يا ترى فرضوا له؟ فقط نصف شاةٍ يومياً، هذا راتب الخليفة رضي الله عنه وهو مقابل أموالٍ ضخمة كان يكسبها من التجارة، حتى إنه كان أغنى أغنياء قريش قبل أن يلي أمر الخلافة. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 16 عثمان بن عفان من أثرياء الصحابة الرجل الثاني: عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يتح لي أن أسجل إحصائيةً بالمال الذي يملكه عثمان، ولكني وجدت الخبر عن مناسبة واحدة تصدق فيها عثمان ببعض المال، وهي تدل على مدى ما لديه من المال. فقد روى الترمذي عن عبد الرحمن بن سمرة قال: [[جاء عثمان رضي الله عنه يوم العسرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينارٍ، وذلك حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، فنثرها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر عثمان ُ إليه، ثم قال: ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم]] قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ غريب، وهو كما قال. الأثر الثاني: عن عبد الرحمن بن خباب رضي الله عنه وهو عند الترمذي -أيضاً- قال: لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى تجهيز جيش العسرة، قال عثمان: {يا رسول الله! عليَّ مائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى المشاركة، فقال: يا رسول الله! عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها، ثم دعا النبي صلى الله عليه وسلم مرةً ثالثة، فقال: يا رسول الله! عليَّ ثلاثمائة بعيرٍ بأحلاسها وأقتابها} . هذا ما أنفقه عثمان ُ في مناسبةٍ واحدة، فما بالك بمجموع ما أنفقه طيلةَ عمره!! وما بالك بمجموع أموال الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 17 أين الزهد إذاً؟ الجزء: 197 ¦ الصفحة: 18 حقيقة الزهد إن الزهد ليس هو الفقر، وليس هو أن تُعرض عنك الدنيا، فتعرض عنها؛ ولكن الزهد أن لا يكون المال في قلبك، ولو كان المال في يدك. ولهذا الإمام أحمد وغيره من السلف، قالوا في الزهد: أن يكون عندك المال، فلا يستبد بك الحزن إن نقص، ولا يستبد بك الفرح إن زاد، بل إن زاد المال أو نقص فالأمر عندك سواء، وهؤلاء هم كبار الزهاد من الصحابة رضي الله عنهم، قد رأيت أموالهم، فهل رأيتهم أنهم جزعوا على فائتٍ من الدنيا؟ كلا، بل كان الواحد منهم وهو على فراش الموت يقول: لا أفلح من ندم، غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه صلى الله عليه وسلم فهم ما أسفوا على الدنيا كلها يوم زالت، بل كانوا يخوضون المعارك، ويتعرضون للموت أو القتل، رجاءَ نيلِ الشهادةِ في سبيل الله، ما ألهتهم تلك الأموال عن المجاهدة، وهذا هو سر العظمة، والنبوغ والكمال، الذي وجد في ذلك الجيل، ولم يوجد فيما بعدهم إلاَّ قليلاً!، نعم وجدنا من بعدهم أناساً إما أن يكونوا أغنياء، معرضين عن الآخرة، أو أن يكونوا من أهل الآخرة؛ ولكنهم ليسوا من الدنيا في قليلٍ ولا كثير، ولا قبيلٍ ولا دبير. إذاً هذا الوضع الذي تعيشه أنت، في قلةِ ذات اليد، أتراه زهداً، أم أنه الكسل، وحب الراحة، والخرق كالعمل؟ سَمِّه أيَّ شيءٍ أحببت، بارك الله فيك؛ لكن إياك أن تسميه زهداً!! وكيف تسميه زهداً! وأنت تترك الكسب الحلال، وتذهب إلى مكاسب وطرق مذمومةً شرعاً. إن كون الإنسان يتعرض للتجارة والبيع والشراء، خير من أن يأخذ من الناس أُعطياتهم، أو أن يتعرض لسؤال واحدٍ منهم. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 19 العمل في الأسواق لا يتعارض مع طلب العلم أو الجهاد قد يقول قائل: إذاً أين الزهد وما معناه؟ وقد يختلف الأمر على الكثير، فيرون أن الزهد، أو الاشتغال بالدعوة، أو العمل في الجهاد، أو طلبَ العلم، أو حفظَ القرآن، لا يتلاءم مع الصفق في التجارة، والعمل في الأسواق، وهذا خطأٌ في الفهم. فقد روى الإمام أحمد في مسنده، والبخاري في الأدب المفرد، والحاكم، وابن حبان، وغيرهم بسندٍ صحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عمرو بن العاص أول ما أسلم، فقال له: {يا عمرو خذ عليك ثيابك وسلاحك، ثم ائتني، فقال عمرو: فأتيته صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ، فصعَّد فيَّ النظر، ثم طأطأه، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيشٍ فيسلمك الله ويُغِنمكَ، أي: تسلم وتغنم، وأرغب لك من المال رغبةً صالحة، أو ورغب لك من المال رغبةً صالحة، وفي رواية: وزعب لك، خذ لك من المال أخذةً صالحة، فقال عمرو: يا رسول الله! ما أسلمت من أجل المال!! إنما أسلمت رغبةً في الإسلام، وحباً في أن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نِعْمَ المال الصالح للمرء الصالح} والحديث كما أسلفت، قال الحاكم على شرط مسلم، وقال مرة على شرطهما، ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان وغيره. وقد أثنى الله تعالى على ناسٍ في القرآن فقال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ} [النور:37] إذاً هم يتاجرون ويبيعون ويشترون؛ ولكن لا يلهيهم ذلك عن ذكر الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فكان الواحد منهم، إذا وضع الشيء في كفة، وأراد أن يضع في الكفة الأخرى ما يقابله، ثم سمع المؤذن، ترك الميزان وذهب إلى الصلاة!! لا يقول: أزن هذه السلعة، أو هذه البضاعة ثم أذهب، بل يترك ذلك ويصلي فأثنى الله عليهم بأنهم لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصلاة وإيتاء الزكاة. فهذا هو الضابط أن الإنسان لا يشتغل عن الدين بالدنيا، ولا تلهيه التجارة والبيع عن ذكر الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والدعوة وطلب العلم والجهاد؛ ولكن يعمل هذا وهذا، ويوظف ما آتاه الله في سبيل الله، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] . قال قتادة كما رواه البخاري في كتاب البيوع عند تلك الآية، قال: كان القوم يتبايعون، ويتجرون، ولكنهم إذا نابهم حقٌ من حقوق الله لم تلههم تجارةٌ، ولا بيع حتى يؤده إلى الله. إن مرابطة العنصر المتدين في الأسواق، والتجارة، والبيع والشراء، وفي سائر المؤسسات المالية، في بلاد الإسلام، حمايةٌ من الغش، والتزوير، والكذب، واستغلال بساطة الناس وطيبتهم، ومن المتاجرة بالحرام، وفرض البضائع الفاسدة على المسلمين، فأنت تجد أحياناً أن الإنسان يبحث عن الثوب، الذي يلتزم بالمواصفات الشرعية، لزوجته أو لطفلته فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب، وأحياناً تجد أن الإنسان يبحث عن اللحم الحلال، الذي يطمئن إليه فلا يجد لماذا؟! لأن العنصر المتدين غائب. وهكذا، وهذه لا تعد إلا أن تكون نماذج يسيرة. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو كما ذكرت أم سلمة: [[أنه كان يدعو بعد صلاة الفجر، ويقول: اللهم إني أسألك رزقاً طيباً، وعلماً نافعاً، وعملاً متقبلاً]] والحديث رواه أحمد والنسائي في عمل اليوم والليلة والطبراني وعبد الرزاق وغيرهم، وهو حديثٌ صحيح. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 20 من فوائد التجارة الجزء: 197 ¦ الصفحة: 21 فرصة لإقامة أنواع من العبوديات لله سبحانه إن التجارة فرصة لإقامة أنواع من العبوديات لله عز وجل، لا تتم إلا بذلك، فلو نظرت على المستوى الفردي، إلى صلة الرحم، أو بر الوالدين، أو الإنفاق في سبيل الخير، أو اصطناع المعروف، أو الإحسان إلى الناس، أو تيسير الأسباب لهم، أو إنظار المعسر والتجاوز عنه، لوجدت ذلك كله مما لا يفعله إلا الأغنياء، ولهذا قال الصحابة: رضي الله عنهم: [[ذهب أهل الدثور بالأجور]] وفي رواية قالوا: [[ذهب أهل الدثور بالدرجات العُلا والنعيم المقيم]] والحديث معروفٌ، هذا على المستوى الفردي؛ لكن لو نظرنا إلى الحياة كلها، وإلى مستوى المجتمع، لوجدنا أن مثل ذلك العمل يحقق للمجتمع عبودياتٍ أخرى كثيرة، مثل الالتزام بالشرع في المأكل، والملبس، والمشرب، والمركب، وغير ذلك. فلو أن المسلمين مستقلون بصناعتهم، وبزراعتهم، وبتجارتهم، وببنوكهم، وباقتصادهم، لاستطاعوا أن يجعلوا هذه الأشياء كلها تحقق جانباً من العبودية لله، بترك الربا مثلاً، والحرام، وبترك أكلِ كل ما لا يوافق الشرع، مثل الأطعمة المجلوبة من بلادٍ كافرة، أو من بلادٍ شيوعيةٍ مثلاٍ، أو الملابس التي تكون كاشفةً للمرأة، أو الملابس التي تربي الأطفال على خلاف ما يرضي الله عز وجل، ومثل ذلك أنواع أخرى من أمور الحياة التي يرتفق فيها الجميع، فضلاً عن إيجاد الأمن للمجتمع، والاكتفاء الذاتي، الذي يجعل المسلم، مستقلاً بذاته غير محتاجٍ إلى الكفار في أموره اليومية، خاصةً ونحن نرى الكفار اليوم يستخدمون ما يسمى بمبدأ الحصار الاقتصادي على المسلمين، كما فعلوه على المسلمين في العراق، وكما يفعلونه الآن بالمسلمين في ليبيا، ويفعلونه بالمسلمين في السودان، ويفعلونه بالمسلمين في البوسنة، وغير ذلك. لو أن المسلمين كانوا مستقلين باقتصادهم، وبصناعتهم، حتى بصناعة السلاح لما أبهوا بالكفار، بل لكان الكفار هم الذين يذعنون وينصاعون لنا، لأن عندنا البترول، ولو قطعناه عنهم لتوقفت مصانعهم، وأسواقهم، ومعاملهم، وتجارتهم، خلال مدةٍ وجيزة. إن مثل هذا النوع من العمل، هو وقاية وحماية من الغزو الأجنبي، الذي يستخدم كل وسيلةٍ لترويج الفساد، والانحلال، وتضليل المسلمين عن دينهم، وكمثال صغير، أنت لا تكاد تجد بضاعةً اليوم إلا وفيها نجمة سداسية، وهي شعار اليهود، وقد أتاني عددٌ من الاخوة بملابس من هذا البلد، وأتوني بحقائب نسائية، وأحذية، وأشياءَ كثيرة، فيها نجمةٌ سداسية، أو يكون فيها صليبٌ وهو شعار النصارى، أو يكون فيها صورةُ فتاةٍِ عارية، أو شبه عارية، أو يكون فيها علاقةً بين صديقين، رجلٌ وامرأة، أو يكون فيها كلماتٌ بذيئة، حتى لعب الأطفال ضبطوها بحيث تُربي الطفل والطفلة على الاختلاط، وعلى حب النصارى، والتعلق بهم، وعلى بعض العادات والطقوس والتقاليد النصرانية أو اليهودية، فلم يتركوا شيئاً دقَّ أو جلَّ إلا وتسللوا من خلاله. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 22 المشتغل بالتجارة عضوٌ نافعٌ في المجتمع إن المتدين إذا اشتغل بالتجارة، والمجموعة المتدينة إذا فعلوا ذلك، أصبحوا جزءاً مهماً من المجتمع، يلتفت إليه، وينظر إليه، فقدرته حينئذٍ على إنكار المنكر وإزالته كبيرة، بل إن قدرته على التأثير في القرارات كبيرة؛ لأن القرار يراعى فيه خاطر ذلك التاجر، الذي يؤثر في مجريات الأحداث. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 23 تحقيق الأمن الاجتماعي للمسلمين تحقيق الأمن الاجتماعي للمسلمين والاقتصادي والغذائي، كما أسلفت، وينبغي أن نعلم أيها الإخوة أن الأمة التي لا تملك اقتصادها، لا تملك قرارها، فالدول الغربية أحياناً تقع رهينةً للشركات الكبرى، حتى الولايات المتحدة وغيرها تقع رهينةً للشركات الكبرى، وقد تُصدر قرارات مراعاةً للشركات، فقد تصدر قراراً ببيع بعض الطائرات، مع أن هذا القرار لا يخدمها سياسياً؛ ولكنه لضغوطٍ من شركات تصنيع الطائرات، إلى غير ذلك. فتصبح القرارات السياسية رهينةً لإرادة ورغبة الشركات الكبرى، وهكذا الأمر بالنسبة لمجتمعات المسلمين، فالذي يملك التجارة يؤثر في الناس، ويضغط عليهم، ويستطيع أن يؤثر في اتجاهاتهم، ونحن جميعاً نذكر القصة التي رواها مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، وهي قصة ثمامة بن آثال الحنفي رضي الله عنه الذي أسلم، وقال لقريش: [[والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة، حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم]] . الجزء: 197 ¦ الصفحة: 24 الاستغناء عن الناس أولاً: من فوائدها الاستغناء عن الناس، وهو بابٌ عظيم، فإن العبد يسأل ربه أبداً، ألا تكون حاجته عند الناس، بل أن يغنيه عن خلقه، أو عن شرار خلقه، وفي المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وعز المؤمن استغناؤه عن الناس} وفي حديثٍ آخر رواه البزار والطبراني، وصححه العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استغنِ عن الناس ولو بشوص السواك} ولو سُئل الناس التراب لأوشكوا إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا قال أحيحة بن الجلح الشاعر المعروف: استغنِ أو مت فلا يغررك ذو نشبٍ من ابن عمٍ ولا عمٍ ولا خالِ إني أظل على الزوراء أعمرها إن الحبيب إلى الإخوان ذو المالِ فالناس يحبونك إن كنت غنياً، ولو طلبتهم ثم طلبتهم، لثقُل ذلك عليهم، ولو كانوا أقرباء، فلا تغتر بذي المال، ولو كان قريباً، فضلاً عن أن يكون بعيداً، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث حكيم بن حزام: {اليد العليا خيرٌ من اليد السفلى، فاليد العليا هي المنفقة، واليد السفلى هي الآخذة أو المتعرضة للسؤال} إن في السؤال والتعرض للناس، وقبول أعطياتهم مذلة، وإراقةً لماء الوجه، وقد كان كثيرٌ من السلف يرد ذلك، ومن أشهر من كان له في ذلك قدمٌ راسخةٌ معروفة، الإمام أحمد رضي الله عنه، فقد كان يرد الأعطيات التي يبعث بها أصحابه إليه، ويشتغل هو بشيءٍ آخر إما أن ينسخ كتاباً، أو يشتغل بشيءٍ، أو يبيع شيئاً، أو ما أشبه ذلك، أو يؤجر نفسه، حتى يكسب المال، الذي يستغني به عن الناس، ومع ذلك حصل له من العلم، والعبادة، والصبر، والجهاد والبلاء، والسابقة في الإسلام، ما لا يخفَ أمره. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 25 الاستغناء عن الأموال الرسمية الفائدة الثانية: الاستغناء عن الأموال الرسمية على سبيل الخصوص، فإن هذه الأموال هي أموالٌ لعامة المسلمين، يتعلق بها نفس كلُ أحدٍ منهم، والظلم فيها ظلمٌ عظيم، لا يتعلق بشخصٍ، بل إنه ظلمٌ للأمة كلها، ومن أخذ منه قليلاً، أو كثيراً بغير حقٍ، فإن الأمة كلها يوم القيامة خُصماءُ له أمام الله عز وجل، في يومٍ لا درهم فيه، ولا ديناراً ولا متاعاً، وإنما هي الحسنات والسيئات, فما بالك بإنسانٍ تكون الأمة كلها خصماً له، أخذ المال بغير حق، أو استغل موقعه، أو مكانه، أو منصبه، في أخذ أموالٍ، أو بعض الخصائص، أو الصلاحيات، أو بعض المخصصات، التي لا تتاح لغيره. وهكذا بالنسبة لطلبة العلم، والدعاة، المصلحين، بل وسائر الناس، فإن الاستغناء عنها مهما أمكن هو الأولى والأفضل، ولذلك قال سفيان الثوري -رحمه الله تعالى-: إن عامة من داخلها هؤلاء، أي: الأمراء والسلاطين، إنما دفعه إلى ذلك العيال والحاجة، فكثرة العيال وشدة الحاجة، تجعل الإنسان يتخلى عن بعض المبادئ التي يقرها ويقول بها، ويتخلى عن بعض المثاليات التي ربما دعا إليها يوماً من الأيام؛ لكن إذا كان مستغنياً بما أغناه الله تعالى، بكسب يمينه، أو بعرق جبينه، فإنه لا يكون مضطراً إلى ذلك ولا محتاجاً إليه. ومما يدخل في ذلك أيضاً الوظائف الحكومية، وهذه الوظائف لا حرج فيها، إذا أدَّى الإنسان حق الله تعالى فيها، وقام بما عليه، بشكلٍ عام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما جاءك من هذا المال، وأنت غير مستشرفٍ فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك} لكن ينبغي للإنسان وهو يقارن بين الوظيفة وبين العمل الحر، ألا يغفل عن أمور. أولاً: الوظيفة تضعف التوكل على الله: الوظيفة تضعف التوكل على الله عز وجل، بخلاف الضرب في الأرض، فإنه يقوي التوكل، فالضرب في الأرض نوعٌ من المخاطرة وفيه قد يكسب الإنسان وقد يخسر، وقد يستغني وقد تركبه الديون، ولذلك يكون قلب العبد حينئذٍ أقرب إلى الله تعالى، لأنه يدري أنه محتاجٌ إلى الله في هذه الصفقة، وفي هذا البيع، وفي هذا الشراء، فتجده يضارب وهو يدعو الله، ويسأل الله، فإذا جاءت الصفقة أكثر وأحسن مما توقع، تهلل وجهه، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: "هذا من فضل الله"، وإذا جاءت الأخرى وكان مؤمناً حمد الله وشكره، وقال: "الحمد لله على كل حال". أما الوظيفة فأيامٌ معلومة، ومرتبٌ يخرج في يومٍ معين ومقدارٌ معلوم لا يزيد ولا ينقص، ولذلك يخلد الإنسان إليه، ويتوكل على الأسباب بدلاً من أن يتوكل على الله رب الأرباب. ثانياً: الوظيفة تقتل الطموح، وتدمر الإبداع: الوظيفة تقتل الطموح، وتدمر الإبداع، وتقضي على روح الاحتساب، والغيرة في إنكار المنكر عند المؤمن في بعض الحالات، حتى لا أكون معمماً، وذلك أن الإنسان يعمل عملاً روتينياً مألوفاً، مكرراً يقوم به يومياً لا يتغير ولا يتبدل، وربما كان هذا العمل غير متوافقٍ مع طبيعة هذا الإنسان، ولا متلائم مع ظروفه، ولذلك يقتل عند الإنسان روح الطموح والإبداع، والتفكير في الجديد، ولهذا أيضاً نجد أن العنصر الجديد في مثل مجتمعاتنا اليوم، الخريج من الجامعة، أو من غيرها، تجده بدلاً من أن يقول قول عبد الرحمن بن عوف (دلوني على سوق المدينة) ماذا يقول لنا؟! يقول: دلوني على مكتب أو ديوان الموظفين!! ابحثوا لي عن الوظيفة الجديدة، ابحثوا لي عن ميدان العمل، إذاً قد تربىَّ الكبير والصغير، على أن سبيل الرزق هو الوظيفة، والوظيفة فحسب! فقتلنا في روح الشباب الإبداع، والطموح، والابتكار، والمواهب، المتميزة، التي قد يقوم بها أيٌ منهم. وإنني أذكر لكم بهذه المناسبة، قصةً قرأتها في بعض الصحف، وهي قصةٌ قد لا تكون لائقةً بالنسبة للشباب، لكن لا بأس أن نضرب الأمثال بالخصوم، قد تكلمت الصحف، والمجلات، والجرائد، ووسائل الإعلام، عن شابٍ جزائري يسمونه شابٌ خالد. ما هذا الشاب؟ ما قصته؟ هذا الشاب أجاركم الله مُغنيِّ، أغنياته أعجبت الغرب، فتبنته فرنسا وقدمته في وسائل إعلامها، ثم أمريكا، وبريطانيا، وصار هذا الشاب ينتقل من بلدٍ إلى آخر، يتكسب بحنجرته وصوته، وتعرضه وسائل الإعلام بما في ذلك وسائل الإعلام العربية، وبما في ذلك وسائل الإعلام التي تستقبل في هذه البلاد، تعرض أغنياتٍ له فيها كثيرٌ من المجون، والخلاعة، والبذاءة، والاختلاط بين الرجال والنساء، بل والنساء العاريات، ومرةً وجدتُ كلاماً مع هذا الشاب، يسألونه ويقابلونه، ويعتبرونه نموذجاً للإنسان المثالي، المضحي، فيقول: إنه كان في أول عمره يشتغل في ورشة للسيارات، ثم اكتشف هذه الموهبة، فأصبح هذا الرجل بتلك المنزلة، وإنني أقول: إن مثل ذلك الشاب الذي ينتمي إلى ذلك البلد الطيب، الطاهر، أرض الجزائر، أرض الإيمان، وأرض المسلمين، والمجاهدين، والعلماء، وجمعية العلماء، إنه جديرٌ بهذا الشاب، أن يُصغي لصوت الحق، الذي يقول له: درهمٌ من حلال، خيرٌ من مليارات من حرام، والذي يقول له: عد إلى الله عز وجل، وكان بإمكانه أن يستخدم ما أعطاه الله عز وجل في غير هذا، ولو كان في غيره كان قربى إلى الله عز وجل. فأنت ترى هذا الصوت، الذي يُعصى به رب العالمين, ترى آخر يطيع الله تعالى به، فيترنم بالقرآن، ويتغنى به، فيلين قلبه، ويلين قلوب الناس بذلك، فيحفظ القرآن، ويقبل عليه تعلماً، وتعليماً، ودعوةً، وقراءةً، وتدبراً، وتفسيراً. فأين هذا من هذا؟! وإنما أقول، المقصود أن العبد يملك مواهب، هذه المواهب، قد تجعله غنياً في الدنيا، وقد تجعله غنياً في الآخرة، وقد يكون الأمر على النقيض من ذلك، وكل إنسانٍ في الموقع الذي يختاره. وما المرء إلا حيث يجعلُ نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل الصفة الثالثة: الوظيفة تقتل الرجولة في الإنسان: فيما يتعلق بالوظيفة، أنها أحياناً تقتل الرجولة في الإنسان، وتميت الشخصية، وتضيع الغيرة، وكم من إنسانٍ يكون في وظيفةٍ، وفي عملٍ، ولكنه يرى المنكرات، فلا يستطيع أن يقول شيئاً، بل يلاحظ أن مسئوله عن العمل يغش، أو يأخذ من حرام، أو لا يقوم بالواجب، أو يكذب، أو يزور، ولكنه لا يستطيع أن يقول شيئاً، بل قد يساهم في هذا العمل، ويوقع عليه، ويكون جزءاً منه، لماذا؟! لأنه يريد أن يرضي رئيسه، حتى يحصل على العلاوةِ مثلاً، أو حتى تستمر هذه الوظيفة له، أو خشية أن يكتب عليه تقرير سيء، أو ما أشبه ذلك، وكم من إنسانٍ قال ما لا يعتقد، وعمل ما لا يرضى، وسكت عن أمرٍ يجب عليه أن يتكلم فيه، وما ذلك إلا محافظةً على الكرسي أو الوظيفة. أذلَّ الحرص أعناق الرجالِ، وأنني ما رأيتُ في هذا الزمنِ تحرراً يعدل التحررَ من رِقِّ الوظيفة. لا أعني بالضرورة أن التحرر من رق الوظيفة هو أن تتركها، هذا ليس ضرورياً، ولكن أن تكون غنياً عنها. بحيث تصغر الوظيفة في عينك، فلا تبالي جاءت أم ذهبت، بقيت أم زالت، ولا تُبالي رُفعت، أم لم ترفع، لأنك تبحث عن رضى الله عز وجل، فلا يهمك رضا المخلوقين، وقد استغنيت بدنياك، في نفسك وأهلك، وولدك، فلا تحتاج إلى أحدٍ من الخلق، ولا تُبالي بذلك، إن من سوء حظ الدعوة، بل من سوء حظ الأمة ألا تجد أنه في يومٍ من الأيام، كانت أيَّ بلدٍ من البلاد الإسلامية، في جميع الأعمال والوظائف الدينية الشرعية، كان مرجعها العلماء والدعاة والمصلحون، ولذلك انضبطت بضوابطِ الشرع، وراعتْ ما يحبه الله ورسوله ويرضاه، فخطبت بالحق، وهتفت به، ودعت إليه، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، أما حينما يكون الجميع مجرد موظفين، فإن الواحد منهم لا شك مضطرٌ إلى أن يراعي خاطر رب العمل، ويبحث عن رضاه، ويداهنه ولو ببعض الأمر، وهذا مدخلٌ من أخطر المداخل على الدعوة إلى الله عز وجل، فينبغي أن تحرر الدعوة على الأقل من رق العبودية للمنصب والوظيفة. الأمر الرابع: الوظائف قد تقل وتشح: إن الوظائف قد تشح أحياناً وتقل، فيضطر الخريج إلى ارتكاب ما حرم الله، كما أسلفت في المثال السابق، ومن الملاحظ في هذا البلاد أن الخريج الآن يبحث عن الوظيفة فلا يجدها، فيضطر إلى ذلك في زعمه -وليست هذه ضرورةٌ في الواقع- إلى أن يعمل في ينكٍ ربوي، أو في شركةٍ يعلم أنها تتعامل بالربا، أو تجمع أموال الناس بحجة المضاربة، أو المساهمة، والاستثمار، ثم تضعها في البنوك ثم تسافر هذه البنوك إلى بلادٍ أجنبية يستفيد منها الأعداء، أما نحن فإن ما نأخذ منها فائدةً معلومةً شهرية، وهذه الفائدة المعلومة من الربا المحرم، ولو سموها بغير اسمها، وقد يعتقدون أن هذا من باب الضرورة، وليس كذلك، فلئن يعمل الإنسان أي عملٍ يغنيه، بل لو أخطر الإنسانُ إلى أن يسأل الناس، لكن ذلك خيراً له من أن يعمل في حرام. خامساً: عدم كفاية الرواتب: فإن الراتب معلوم، وربما يكون من يقبض عشرة آلاف ريال، أو أكثر شهرياً، يجد أن راتبه لا يكفي، وأنه يستدين إلى جانب الراتب أحياناً، وذلك لسبب أن هذا المبلغ مبلغٌ محدودٌ مقطوعٌ لا يزيد ولا ينقص، والظروف قد تتغير، وقد تعرض للإنسان الحاجة، وقد تنزل به النازلة، وتركبه الديون بسبب ذلك، وربما كان من أسباب عدم غنى المرتبات أيضاً التقصير في العمل، بحيث لا يقوم الإنسان بما أوجب الله تعالى عليه في الوظيفة، ولا يؤدي عمله كاملاً غير منقوص، فننزع البركة من هذا المال، الذي يقبضه في نهاية الشهر. إذاً من فوائد العمل في التجارة الاستغناء عن الأموال العامة. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 26 قواعد عامة في التجارة الجزء: 197 ¦ الصفحة: 27 تجنَّب المعصية ومن القواعد أيضاً: تجنب المعصية ، فإن المعصية من أهم أسباب حرمان العبد من الرزق، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان، الذي رواه أحمد، وابن ماجة، والحاكم قال: {إن العبد ليحرم الرزق بذنبٍ يصيبه} . الجزء: 197 ¦ الصفحة: 28 لا تشغلك التجارة عن ذكر الله وأخيراً: وهذه هي القاعدة الأخيرة، أتوج بها تلك القواعد، ألا تشغلك التجارة، ولا الصفق في الأسواق عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والدعوة، وطلب العلم، والجهاد، بل عليك بالاعتدال في ذلك كله، وأن تكون أسوةً حسنة، فإنه استقر في أذهان بعضهم، أن الاشتغال بالتجارة يعني الإعراض عن الآخرة، حتى لو رأينا واحداً من أصحابنا، وربعنا قلنا إنا لله وإنا إليه راجعون، فلانٌ قد تغير!! ما الخطب؟! قال: والله رأيته يتاجر، هذا عمل مباح، بل مشروع، إذا أراد به وجه الله عز وجل، ولا بد للأمة من مثل ذلك. أما تلك الأفكار المستقرة في نفوسنا، التي تجعل الواحد يتهيب، ويخجل، ويستحي، فينبغي أن نزيلها، أما شدة الرقابة على النفس، والملاحظة، وألا يتحول الإنسان إلى عبدٍ في الدنيا يركض وراءها، فلا شك أن هذا من أهم ما ينبغي السعي إليه، والحرص عليه ومن الطريف أنني حينما أعلنت عن هذا الدرس، جاءتني عدد من القصاصات، من بعض الإخوة، يقولون: نخاف ونخشى أن يتحول الأمر!! على كل حالٍ يا أخي إلى الآن ما بدأنا حتى تخاف وتخشى، من المفروض أن ينزل الناس إلى السوق، وإذا نزلوا إلى السوق، نقول لهم بارك الله فيكم انتبهوا، لا تلهيكم التجارة والمال عن ذكر الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة. ولا تغفلوا عن حفظ القرآن، ولا عن حفظ السنة، ولا عن الجهاد، ولا الخ، أما قبل ذلك، وأن يكون هذا الأمر حاجزاً لنا عن العمل، فلا ينبغي. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 29 التوكل على الله التوكل على الله عز وجل، هو سر النجاح في كل شيء، وهو أن تتوكل على الله، وتفوض الأمر إليه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق:3] وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم:12] وقال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] . {ولا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا، بل قل قدر الله وما شاء فعل} واعلم أن السبب لا يمنع رزقاً، ولا يأتي به، وإنما هو أمرٌ جعله الله تعالى وكلف العباد به، وإلاَّ فالإنسان مكتوبٌ له كل شيء، حتى رزقه وأجله وعمله، وشقيٌ أم سعيد، ويدخل في ذلك حسن النية والقصد، بحيث يعلم الله تعالى من قلبك، أنك إن كسبت المال صرفته في أبواب الخير، وسبله وأسبابه، وأنك لا تغفل بهذا المال عن طاعة الله تعالى وعبادته والتقرب إليه. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 30 الصبر والآناة الصبر والآناة، وعدم التعجل أو المغامرة، فإن بعضهم يأتي وهو يريد أن يصبح تاجراً بين يومٍ وليلة، بل ربما في ساعة، ثم تراه بعد ذلك قد فشل وأخطأ، بسبب عنصر العجلة، فإما أن يتخفى ويتهرب من وجوه الغرماء الذين يصبحونه ويمسونه، أو يقضي بقية حياته في السجن، بسبب هذه الديون التي ركبته. ومن الصبر ألاَّ يغتر الإنسان بربحه، فيندفع أكثر مما هو مطلوب، ومن الصبر ألاَّ يغيِّر الإنسان عمله الذي تعب في إعداده بسرعة، فأنت ترى بعضهم وقد أثث مكانه وجهزه، وأعده وتعب فيه، وبذل كل ما لديه، فإذا عمل فيه فترةً زمنية، قال: هذا العمل وجدته لا يصلح، ثم تركه فخسر بذلك شيئاً كثيراً، ومن الصبر أن يدأب الإنسان في العمل، ولا يعجل أو يستبطئ الرزق، والعوام يقولون: إذا غلبوك بالفلوس فاغلبهم بالجلوس. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 31 الاعتدال في النفقة إن الكثير من الشباب، إذا جاءه بعض المال، يهتم كثيراً بمظهره، ويتوسع في الكماليات، ويعشقها كثيراً، فيضيعُ ماله بهذا السبب، ولا يجتمع عنده ما ينتفعُ به، ولذلك قال المتلمس، قال: قليلُ المال تصلحه فيبقى ولا يبقى الكثيرُ مع الفسادِ وحفظ المالِ أيسر من بغاه وسير في البلادِ بغير زادِ (قليل المال تصلحه فيبقى، ولا يبقى الكثير مع الفسادِ) فالشاب ربما كسب في صفقة؛ ولكنه جعل هذا المكسب في سيارةٍ فارهة، لا تتناسب مع وضعه الاجتماعي، ومكانته، وماله، ثم كسب في أخرى، فجعلها في ملابس له ولزوجته وأولاده، ثم كسب في ثالثة، فجعلها في بيتٍ ضخمٍ مشيد مشارٍ إليه، ثم كسب في رابعة، فجعلها في المناسبات، والولائم، وأحياناً في الأسواق، والمطاعم، والمتاجر، وغيرها حتى ينتهي ما عنده، وتركبه الديون، فالاقتصاد سرٌ من أسرار النجاح، وأنت ترى كثيراً من الأثرياء والتجار، معتدلاً في إنفاقه على نفسه، يأكل كغيره من الناس، ويشرب ويلبس ويسكن ويركب كغيره، هذه هي العظمة الحقيقية، ألا يستفزك المال إلى المبالغة في العناية بالكماليات والمظاهر. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 32 اغتنام الفرص ومن القواعد أيضاً اغتنام الفرص، فإن الفرص تظهر ثم تذهب، ويقول أحد الحكماء: إن الثروات تنشأ من الفرص التي أتيحت لكثيرين؛ ولكن رجلاً واحداً هو الذي رأى هذه الفرص، واستطاع أن يغتنمها، فعلى الإنسان أن يكون قنَّاصاً للفرص، يغتنمها ويهتبِلها بالطريقة الصحيحة، وذلك يتطلب من الإنسان يقظَةً، وجُهداً، وعنايةً، ومشاركةً، ومجالسة، ويتطلب منه أيضاً مشورةً لمن سبقوه في هذا المضمار، بحيث يكتشف تلك الفرص ويغتنمها. وعليه أيضاً أن يدرك أن الفرص تتطلبُ عملاً، ولذلك يقول المثل الإنجليزي: (الفرصة تأتي متنكرةً في ثياب العمل الشاق) يعني تتطلب الفرصة منك مرابطة، واجتهاداً، ويقظة، ومشاورة، وجهداً كبيراً، بل على الإنسان إذا لم يجد الفرصة أن يسعى إلى إيجاد الفرصة واصطناعها، ولذلك قال أحدهم: الرجل الناجح لا ينتظر الفرصة، بل يسعى في إيجادها، فقد يستطيع الإنسان أن يغتنم بعض الفرص، أو يستفيد من بعض الإمكانيات المتاحة الموجودة التي لم يتفطن إليها من قبله، فالنزول للسوق، حتى ولو بدون مالٍ، يطرح كثيراً من الفرص للإنسان، وعلى العموم فعلى الإنسان أن يبذل وسعه، وليس عليه أن تتم النتيجة. لأمرٍ عليهم أن تتم صدوره وليس عليهم أن تتم العواقبُ عليَّ طلابُ العز من مستقره ولا عيب لي إن خالفتني المقادرُ الجزء: 197 ¦ الصفحة: 33 التعامل بالأخلاق الشرعية ومن القواعد: التعامل بالأخلاق الشرعية، وهذه ضرورةٌ لابد منها، فإننا حينما نندبك إلى أن تنزل للسوق، نريد أن تكون نموذجاً للمؤمن الصادق، الذي لا يغير القرش والريال من أخلاقه ودينه شيئاً، ولا يستفزه إلى ارتكاب ما حرم الله، فالتاجر المتدين، يجب أن يكون متميزاً في أقواله، وأعماله، وشرف الكلمة التي يقولها، والصدقُ في كل شيءٍ، وأن يعلم الناس منه، أنه نموذجٌ لذلك، وكثير من الناس قد يتحدثون عن ذلك، لكن أمام رنين الدرهم والدينار، تذوب كثيرٌ من الأخلاق، والقواعد الشرعية فالصدق بالكلام، والأمانة في المال، وعدم الحسد للآخرين على ما رزقهم الله عز وجل، وعدم التبرم والضيق، بما قُدِّر على الإنسان، هذا كله من الأخلاق التي ينبغي أن يتعامل بها الإنسان. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 34 لا تنظر إلى جانب الربح بقدر ما تنظر إلى الجانب التربوي ومن القواعد: ألا تنتظر في أول الأمر ربحاً عاجلاً، بل لا تنظر إلى جانب الربح، بقدر ما تنظر إلى الجانب التربوي، والجانب التوجيهي، ليس على نطاقك كفرد، فقد يقول أنا فردٌ لا أقدم ولا أؤخر، لكن على نطاق المجتمع، أو على الأقل نطاق الشباب؛ وشباب الصحوة، فلو نظرت إلى هذا الأمر، لوجدت أنه يحدث عندهم أمراً، ليس باليسير، نعم عندما كان المسلمون يشيدون مسجدهم في المدينة المنورة، ويحملون الِلبَن، ويقولون: لا يستوي من يعمر المساجدَا ومن يبيت راكعاً وساجدا يدأب فيها راكعاً وساجدا ومن يكر هكذا معاندا وقائماً طوراً وطوراً قاعدا ومن يرى عن الغبار حائدا وقال الشاعر: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجرة يحملون اللبن على أكتافهم، وهم ينشدون هذه الأنا شيد، والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم، يقول مالك بن نبي -رحمة الله عليه-: [[لو نظرت إلى تلك الرقعة؛ رقعة المسجد ببساطتها وقلة شأنها، لربما ابتسمت]] ؛ لكن أليس هنالك تلقى بُنَّاءُ الحضارةِ دروسَ الجِد والعمل! نعم أولئك الذين كانوا يبنون المسجد بالأمس، تلقوا دروس العمل والجد، إنهم قومٌ عمليون، لا مكان عندهم للقيل والقال، بل دأبهم، وهمهم، وشأنهم العمل الصالح الذي يرضي الله عز وجل، ويقيم الحياة الدنيا على أساسٍ من الدين والشريعة الربانية، ولذلك كان بناةُ المسجد، هم بناةُ الحضارة في كل مكان، وهم قادة الإنسانية، تحولوا من رعاة غنم إلى قادة أمم. وأنت تلحظ على سبيل المثال، جانب التقليد من الأبناء للآباء، فالآن الابن الذي يجد أن والده لا يعدو أن يكون موظفاً لا غير، ترسخ في ذهنه أن يكون هو كأبيه فلو سألته ماذا تحب أن تكون، قال: أكون كوالدي. وأيضاً، قد تجدٌ اثنين يخرجان من بلدٍ واحدٍ، وبمواهب متقاربة، إلى بلد آخر غريب، فأحدهما يتحول في سنة إلى تاجر، يدير الصفقات الكبرى، ويشارك فيها، أما الآخر فيتحول إلى عامل يبحث عن قوت يومه. وما هو الفرق؟ ليس هناك فرقٌ إلا التربية، وما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 35 طرق الكسب طرق الكسب كثيرة أيها الأحبة والمهم فيها هو المباح، والبعد عن الحرام، فبعضهم يعيشون كما عبرَّت قبل قليل، يعيشون حساسيةً من بعض الأعمال، وكراهيةً في نفوسهم بسبب الإرث الاجتماعي، أو التقليد الموروث، ويخجلون أن يراهم الناس على هذه الأعمال، وهذا ليس من الرجولة في شيء، ولا من الدين. قال البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه: باب ما قيل في الصواغ، باب ذكر القين والحداد، باب الخياط، باب النساج، باب النجار، باب اللحام والجزار، باب العطار وبيع المسك، باب ذكر الحجام، ليس حسناً ولا جيداً أن تُلهي الشاب، نظرةٌ إلى هندامه، وتأملٌ في عطفيه، وعنايةً في ملبسه، وتكريسٌ لمكانته عند الناس، على حساب مصلحته الدينية والدنيوية، بل على حساب مصلحة الأمة كلها. وها أنا أذكر لك الآن بعض الأمثلة السريعة فيما يتعلق بالتجارة. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 36 استغلال المواهب خامساً: استغلال المواهب التي أعطاك الله عز وجل، فمثلاً أنت رسام، تستطيع أن تستخدم جودة يدك، وهذا الفن في تعبيرٍ شرعي عن بعض المعاني، وفي لوحات تراعي فيها الضابط الشرعي، فلا تصور ذوات الأرواح، ولا تصور ما حرم الله، ولا تضلل عقول المشاهدين، أو المتذوقين للرسم في المعاني الباطلة، بل يكونُ في ذلك تربيةً على المعاني الحسنة، والإنسان إذا رأى الشيء الحسن سواء رآه على الطبيعة في الأرض، أم رآه في صورةٍ، فإن ذلك يؤثر فيه، بل إن بعض الأشياء الواردة، لو أن الإنسان استطاع أن يعبر عنها بصورةٍ مباحة يراها الناس، لكان في ذلك تحريكاً لقلوبهم ومثل ذلك الخط، وذلك بأن يخط الإنسان الحكم، والمعاني المفيدة، والأوامر، والنواهي، والتوجيهات، التي ينتفع الناس بها، ومثل ذلك القدرات اليدوية، وهي كثيرةٌ جداً، فيكون عند الإنسان صنعةٌ في يده، تكون أماناً له بإذن الله تعالى من الفقرِ أياً كانت هذه الصنعة، ومما يدخل في ذلك أيضاً قدرات بعض الفتيات، كقدرتها على الخياطة مثلاً، أو النسيج، أو ما أشبه ذلك، مما يحتاج الناس إليه، وتكون هي فيه مبرَّزة، وتستغني به عن الحرام. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 37 تكوين الشركات الصغيرة سادساً: تكوين الشركات الصغيرة: كزوجٍ مع زوجته، فالزوجة لها مرتبٌ ضخمٌ، وهي لا تدري ما تصنع به، فما الذي يمنع أن تقوم بشركة، تكون باسم هذه الزوجة، ويكون منها المال، وتكون أنت قائمٌ على هذه الشركة، فمنك الجهد، ومنها المال، ولا حرج في ذلك، ولو كان لك منها نصيب ونسبة من الربح أو أخٌ مع أخته، فإن هذا ممكنٌ، خاصةً إذا كان الإنسان موظفاً أيضاً، وهو لا يريد أن يكون العمل باسمه، ويمكن أن يقوم بهذه الشركة، وتكتب باسم غيره، ممن يكون مشاركاً له، رجلاً أو امرأةً، ويكون المال منهما معاً، أو من أحدهما، ومن الآخر الجهد، أو الإدارة، أو ما أشبه ذلك، وألوان الشركات في الشريعة معروفة، وهي كثيرةٌ جداً، ويتحقق بذلك مصلحة للطرفين، ولا أرى حرجاً أن يشارك الإنسان في مثل هذه الأعمال التجارية، ولو كانت يسيرة، كمحلات تموينية مثلاً في الحي، يمنع فيها بيع التدخين، ويمنع فيها بيع المجلات الخليعة، ويمنع فيه كل المحرمات، وتباع فيه الأشرطة المفيدة، والكتيبات، ويحرص على بيع الحلال فيها، وعلى توجيه الناس، وهذا العملُ يستفيد منه أيضاً فائدة دنيوية. ولا مانع أن يعمل ولو كان موظفاً، وإذا كان النظام يمنع أن تكتب هذا العمل باسمك، فلا مانع أن تكتبه باسم غيرك؛ لكن ينبغي أن يكون غيرك هذا شراكةٌ في العمل، أما أن تكتب العمل باسمه ولا علاقة له، فلا أرى ذلك سائغاً، والله تعالى أعلم. ومن ذلك أيضاً ما يتعلق بالشركات أو يشبهها، العمل مع الوالد سواء أكان الوالد مزارعاً، تعمل في حقله، أو في دكانه، أوتاجراً تعمل في تجارته، أو ما سوى ذلك، والعمل مع الوالد ينبغي أن يلتفت الشباب إليه، فإن فيه مصالح عدة. أولها: البر بالوالدين، وفيه ما فيه من الفضل العظيم. ثانيها: الخبرة فإن الإنسان الذي لا يعمل لا يكتسب الخبرة أبداً، ولو ظل يسمع الكلام طول عمره، إنما تنضج الخبرة، وتنضج المعلومات على محكِّ الواقع. الفائدة الثالثة: أنه يكتسب المال، وعلى الآباء أيضاً أن يساعدوا أولادهم على تكوين أنفسهم بشكلٍ صحيح، فالأب ينبغي أن يعلم أنه يوِّرث ماله من بعده إلى الورثة على حدٍ سواء، وهذا الإنسان الذي عمل ليس كمن لا يعمل، فينبغي أن يجعل له مرتباً شهرياً، لقاء عمله، أو نسبةً من الربح، أو ما أشبه ذلك، حتى لا يضيع عمله بغير فائدةٍ عاجلة. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 38 الأشرطة الإسلامية النموذج السابع: الأشرطة الإسلامية، والشريط اليوم أثره عظيمٌ، وفائدته جمة، وقد أصبح يحاصر في كل مكان، فما الذي يمنع أن يكون الإنسانُ نبيلاً، فيشتري جهازاً، لا يزيد على أربعة آلاف ريال، وهناك محلاتٌ يمكن أن تبيعه إليك بالتقسيط أيضاً، فتشتري هذا الجهاز، ثم تشتري أشرطة فارغة، فستجد أنك لو صرفت بعملية حسابية ساعتين ونصف يومياً في التسجيل، سواء سجلت ذلك بنفسك، أم أُمك، أم أختك، أم زوجتك، أم أحد من أهل البيت، لأن العملية سهلة، لو قاموا بتسجيل الأشرطة الإسلامية حينئذٍ لمدة ساعتين ونصف يومياً، لكان من جراء ذلك خمسين شريطاً يومياً، ويبيعها الإنسان بمبلغٍ ضخمٍ، يزيد على ثلاثمائة ريال يومياً، وربما حصل الإنسان على مبلغٍ يقارب أربعة آلاف ريال شهرياً، بل يزيدُ مقابل هذا العمل السهل اليسير ومع ذلك هو مساهمٌ في نشر الخير، وفي إزالة العقبات والضغوط، التي تفرض على الشريط الإسلامي، مع أنه لا يحتاج إلى كثيرٍ من الزبائن، لأنه يستطيع أن يجعل هذه المجموعة التي يقوم بإعدادها لزملائه في العمل، أو في الدراسة، أو جيرانه، أو أصدقائه، أو قرابته، ويستطيع أن يسجل هؤلاء في ورقةٍ بحيث يكونون معروفين، فهم الذين يتعاملون معه، ويتعامل معهم، وفي ذلك خيرٌ كثيرٌ ونشرٌ للدعوة، وكسبٌ للإنسان، بمالٍ لا يستطيع أن يكسبه من الوظيفة، فإن أربعة آلاف ريال وخمسمائة ريالٍ، يكسبها الإنسان شهرياً خلال ساعتين ونصف يوميا في العمل، إنه لا يستطيع أن يحصل عليها حتى في الوظيفة التي يجلس فيها سبع أو ثماني ساعات، ثم ينبغي أن يراعي في ذلك نشر المفيد النافع، الذي ينتفع الناس به، ويستفيدون منه في دينهم، مما يعرفهم دينهم، والحلال والحرام، أو يبين لهم واقعهم الذي يعيشونه، وما ينبغي عليهم إزاءه، أو أحوال المسلمين، أو واجبهم في الدعوة إلى الله، أو حقوق بعضهم على بعض، أو ما أشبه ذلك مما يحتاج إليه، وينتفع به ثم قد يقول بعضهم: ماذا بقي للتسجيلات الإسلامية؟ فأقوال: التسجيلات -إن شاء الله- على خيرٍ، وفيها خيرٌ كثير، وأمامها مضمارٌ واسعٌ للمنافسة، وأيضاً تستطيع التسجيلات الإسلامية نفسها أن تستخدم ذلك، أي أن تجعل مجموعة من الشباب، يقومون بهذا العمل، عن طريقها فتضع عند عشرةٍ من الشباب مثلاً، عند كل واحدٍ منهم جهازاً في بيته، هو للتسجيلات، ويقوم هذا الشاب بالتسجيل بالطريقة السابقة، ويقوم أيضاً بتسويق ما يسجل بالطريقة السابقة أيضاً، ويكون له جزء من الربح، وللمحلات جزءُ من الربح، بحيث يوفق في ذلك بين أهمية بقاء التسجيلات الإسلامية، ودعمها للمجهود الكبير، الذي تقوم به، وبين الفائدة للآخرين، وبين إمكانية نشر الأشرطة، دون وجود بعض القيود التي ما أنزل الله بها من سلطان. ومن ذلك أيضاً قضية آلة التصوير، فقد تجد آلة تصوير بأربعة آلاف ريال، وهذه الآلة لو وضعتها في بيتك، مع الورق، ثم قمت بتصوير بعض الفتاوى المفيدة النافعة، التي لا توجد في الكتب، ولا يعلم الناس بها، ويحتاجون إليها، وقمت بتصوير بعض المذكرات، وبعض الكتيبات الصغيرة، التي قد تنفذ من الأسواق، أو لا توجد، أو قد تمنع بغير حقٍ أيضاً، ثم قمت بتصويرها وإيصالها إلى بعض الناس، فإنك تستفيد من ذلك فائدة دنيوية بالمال، وفائدة دينية بنشر الخير والدعوة، والمساهمة في ذلك. ولو أن كل إنسان، بل لو أن مجموعةً من الشباب نذروا أنفسهم لذلك لانتشر الخير، وعمَّ، وأصبحت محاصرته، أمراً في غاية الصعوبة، ومع ذلك استغنوا بحلال الله تعالى عن الحرام. ومن ذلك أيضاً أن يكون عند الإنسان سيارة للأجرة، وهذه السيارة لو فرضنا أنه قام بها فنفع نفسه، لاستفاد كثيراً، فهو يتعرف على الناس، ويعرف كيف يتعامل معهم، وكيف يخاطبهم، ويعرف أخبارهم وأحوالهم، يعظهم، وينصحهم، ويوصل إليهم الخير، ويعطي هذا كتاباً، وهذا شريطاً، ومع ذلك يستفيد فائدة دنيويةً ظاهرة، ونحن نرى اليوم أن محلات الليموزين، أساءت إساءةً كبيرةً لوجود بعض غير المسلمين فيها، وحمل النساء بلا محارم، بل وجود تجاوزاتٍ كثيرة، ليس هذا المجال مجال الحديث عنها، فنستطيع أن نغني المجتمع عن مثل ذلك. فهذه الأمثلة التسعة التي ذكرتها لا تعد أن تكون أمثلةً خفيفةً سريعةً للشاب المبتدئ، الذي يريد أن يضع قدمه في أول الطريق، وأمام دعاة الإسلام، والمفكرين، والخبراء، وأهل الاقتصاد، وأرباب التجارة وأنصارها، أمامهم مجالات واسعة جداً، لخدمة دينهم ودعوتهم، ويستفيدون منها ديناً ودنياً، أذكر هذه المجالات الآن لمجرد السرد تكاملاً للموضوع. من ذلك الإعلام الإسلامي بشكل عام، كالصحافة الإسلامية، وكذلك الإذاعة الإسلامية، فإن مثل هذه المجالات؛ مجالاتٌ خصبةٌ جداً من الناحية الاقتصادية، وهي مجالاتٌ ذات قيمة بالغة في إيصال الدعوة إلى الآلاف، بل إلى ملايين من الناس في أنحاء العالم. من ذلك أيضاً التصنيع؛ فالتفكير في الصناعات المختلفة وحاجة الناس إليها والقيام بها. ومن ذلك أيضاً خدمات الكمبيوتر، وهي خدمات جليلة متطورة يحتاج الناس إليها. ومن ذلك أيضاً الخدمات الصحية، بإيجاد المستشفيات والمستوصفات، خاصةً من ذلك التي تخص النساء دون غيرهن، ويكون كل الطاقم من النساء، ويراعى فيه جانب الأخلاق، وهذه أمورٌ ينبغي أن ندعمها ونشجعها ونحرض على إنجاحها بقدر المستطاع، أو غير ذلك من الخدمات الصحية التي يحتاج المجتمع المسلم إليها. والأمثلة في ذلك كثيرة أكتفي منها بما سبق. وسيكون هناك إن شاء الله دروسٌ أخرى، كما وعدت في هذا الموضوع. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 39 الإيجارة الطريقة الثالثة: الإيجارة، والله تعالى يقول: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وموسى عليه السلام عمل كما في هذه الآية، عمل مع ذلك الرجل في كفايته، وفي رعاية غنمه، كما هو معروف، وقد رواه وأخرجه البيهقي بسندٍ صحيح عن عمر قال: {كان موسى يعمل مع ذلك الرجل الصالح، في كفايته ورعاية غنمه} بل كل الأنبياء رعوا، كما قال النبي صلى الله عليه سلم، فيما رواه أبو هريرة: {ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله! قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة} والقراريط هي مبالغُ زهيدةً من المال، وقيل مكانٌ معروفٌ بمكة، كما ذكره إبراهيم الحربي، ولكن الراجح أن القراريط جمع قيراط، وهو مبلغٌ يسيرٌ من المال، والحديث في الصحيح فقد اشتغل النبي صلى الله عليه وسلم بل كل الأنبياء صلى الله عليهم جميعاً وسلَّم، بمأجرةِ أنفسِهم على الرعي، على مبلغٍ محدودٍ من المال، ومن الإجارة السمسرة، ولذلك البخاري -رحمه الله- قال: ولم ير ابن سيرين، وعطاء، وإبراهيم، والحسن بأجر السمساري بأساً، وقال ابن عباس رضي الله عنه: لا بأس أن يقول للرجل، بع هذا الثوب فما زاد على كذا وكذا فهو لك، يعني من قيمته، وقال ابن سيرين: إذا قال بعه بكذا، فما كان من ربحٍ فلك، أو بيني وبينك فلا بأس به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {المسلمون عند شروطهم} وذلك مثل أن يأخذ الإنسان من بياع الجملة شيئاً، ثم يبيعه لهم، ويروجه، ويصل به إلى أهله، فيحقق عدة مصالح، فيستغني بنفسه، وينفِّق هذه البضاعة ويروجها، ويختار الأجود والأفضل، وكذلك قد يترتب على ذلك استغناء كثير من الناس عن الدخول في الأسواق، وما فيها من الهيشات، والمشاكل، والمنكرات، وألوان الإجارة من ذلك كثير جداً. ومثله أيضاً أن يقوم الإنسان بعملٍ نيابةً عن غيره، كقضاء ديونٍ، ومتابعة أصحابها، أو النيابة عن بعض النساء في الأعمال التي لا يتمكنَّ من القيام بها، أو الوكالة في وقفٍ أو غيره. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 40 الجهاد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الجهاد كما في حديث ابن عمر عند أحمد وأبي داود: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي} إن الجهاد في سبيل الله عز وجل، من أوسع أبواب الرزق، نعم، لا يجوز للإنسان أن يذهب للجهاد من أجل الدنيا، بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى المتفق عليه: {من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} ؛ ولكن أيضاً لا ينبغي أن تشغلنا التجارة، عن الجهاد في سبيل الله، بل الجهاد في سبيل الله تعالى، هو من التجارة، ولا يزال الله تعالى يرزقهم حتى تقوم الساعة!! الجزء: 197 ¦ الصفحة: 41 الزراعة عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً فيأكل منه طيرٌ، أو إنسانٌ أو بهيمةٌ، إلا كان له به صدقة} فأنت لو لم يكن لك إلا هذا لكفاك، بل بلغ من شدة تحريض النبي صلى الله عليه وسلم على الزرع، أن قال كما في الحديث الذي رواه أحمد والطيالسي وهو صحيح عن أنس رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فاستطاع ألا تقوم حتى يغرسها، فليغرسها فله بذلك أجر} فالساعة سوف تقوم! وهذه الفسيلة لم تكبر! ولم تنبت! فلك أنت تتعبد بزرع هذه الفسيلة في الأرض، لأن ذلك نوعٌ مما يحبه الله عز وجل، بالنية الصالحة، وكان صلى الله عليه وسلم يحدث يوماً وعنده رجلٌ من أهل البادية، فقال عليه الصلاة والسلام: {إنَّ رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع أن يزرع، فقال الله عز وجل ألستَ فيما شئت، -أي: من الخير والنعيم- قال: بلى يا ربِّ، ولكني أحب أن أزرع، قال: فبذر الرجل، فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده، في طرفة عين، فكان أمثال الجبال، فقال الله عز وجل: دونك يا بن آدم، خذ فإنه لا يرضيك، أو لا يشبعك شيء، فقال هذا الرجل من أهل البادية: والله يا رسول الله، لا تجد هذا ُالرجلَ إلا قرشياً، أو أنصارياً، أما فإنهم أصحاب زرع، أمَّا نحن أهل البادية فلا نشتغل في الزرع، فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم} والزراعة أخي الحبيب لو نظرت إليها من الناحية الشرعية، لوجدت أنها تقرب القلب إلى طاعة الله تعالى، وإلى مراقبته، ومشاهدة صنعه في الأرض، فالزارع يبذر الحب، وينتظر المطر من السماء، ويسأل الله عز وجل، ثم يشهد صنعه الحكيم العليم، في خروج النبات من هذه الحبة، فهو يتعامل مع صنعة الله تعالى مباشرةً، فعنده التوكل والإيمان بالله، ولهذا تجد الفلاحين دائماً أقرب إلى المحافظة والتدين من غيرهم!! أما الصانع مثلاً فهو يتعامل مع الآلة، مع صنعة الإنسان نفسه، وبينه وبين صنعة الله تعالى واسطة، هي ذلك الإنسان، فيضعف إيمانه بالله، ويقوى إيمانه بالإنسان، ويقوى إيمانه بالأسباب، ولذلك أيضاً تجد المجتمعات الصناعية يكثر فيها الفساد، والإلحاد، والانحراف، بخلاف المجتمعات الزراعية كما أسلفت، مع أن هذه ليست قاعدةً مطردة؛ لكنها ظاهرة ملحوظة على الأقل في العصر الحاضر. الزراعة والاشتغال بها يحقق للمجتمع الأمن الغذائي، ووقايته من المساومة، أو الإذلال من القوى الأجنبية والخارجية، ولقد عاش الناس في هذه الجزيرة بالذات، زمناً طويلاً على الزراعة، ولم يكونوا محتاجين إلى غيرهم ومن الممكن أن يقوم الإنسان بالزراعة في عمله مع والده، وفي عمله مع مجموعة يقومون على مزرعة ويتدربون عليها، في مشاركته بأعمالٍ زراعية محدودة، يكون متقناً لها، إما عن طريق الدراسة، أو عن طريق الخبرة والتمرين، حتى ولو لم يجد، إلاَّ أن يشتري مجموعةً من النخيل، ويضعها في بيتٍ أو مكان خاصٍ له، أو قطعة أرضٍ صغيرة، ثم يسقيها ويبيع ثمارها، وفِراخها لكان له من ذلك خيرٌ كثير. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 42 استغلال المواسم النموذج الرابع: استغلال المواسم بشيءٍ نافع مفيد للجميع، والتفكير الاقتصادي، ينبغي أن يكون وارداً في مناسبة! فالحج مثلاً: يتطلب أن يفكر الإنسان بأمرٍ فيه ربحٌ اقتصادي، ويكون له هدفٌ تعليمي، ودعوي، وإصلاحي، فلو أن الناس مثلاً اشتغلوا بتوزيع المناسك، وبيعها بأسعارٍ معقولة على الحجاج، وإيصالها إليهم، خاصةً تلك التي يكون فيها أدعية صحيحة واردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكان في ذلك فضلاً عن الهدف الاقتصادي، توعية للحجاج، وإغناء لهم عن بعض المناسك، التي تكثر فيها المخالفات والبدع والأدعية التي لا أصل لها، ومع ذلك هي في أيدي الناس كثيرةٌ جداً، بسبب نشاط من يتاجرون بها ويبيعونها. ومثل ذلك أيضاً التقويم على رأس السنة، فهذا التقويم فيه مصالحٌ شرعية، مثل العناية بالتقويم الهجري، ومثل العناية بالكلمات التي تكتب في التقويم، من آياتٍ وأحاديث وحكمٍ وأشعار، ومثل البعد عن المحرمات والصور والرسوم المغرضة التي توجد في ألوان التقويم، ومع ذلك هي سبيل ووسيلة إلى الاستفادة منها في مصالحٍ لبعض الشباب، مثل ذلك أيضاً الجداول الدراسية، يستفاد منها أيضاً في وضع كلماتٍ، وتوجيهات وإرشادات، وعناوين مهمةً للشباب، وأرقام وما أشبه ذلك، ومع ذلك يمكن أن يستفاد منها سواء على المستوى العام، في المدارس، والمكتبات، أم على مستوى الطلاب. مثل ذلك أيضاً الكروت للمناسبات المختلفة، وإعدادها وتجهيزها، ومراعاة ما سبق فيها ومثل ذلك أيضاً الأدعية للسفر أو الدخول، أو كفارة المجلس أو غيره، وأن توضع في لوحات، أو أوراق، أو خرق، يستفيد الناس منها في تعلم هذه الأشياء، والتعرف عليها، وتذكيرهم بما ينبغي أن يقال فيها. فإن هذه إذا كانت وسائل للإيضاح، والتعليم، ففي رأيي الخاص أنه لا بأس بها، إن شاء الله، وعموماً أيضاً حملات الحج والعمرة، سواء كانت حملاتٌ كبيرة، أم صغيرة، فيها فوائد شرعية ودينية في التعليم، والتفقيه، والإرشاد، والرعاية، والفصل بين الرجال والنساء، ومع ذلك فيها مصالح مادية، وفيها أيضاً تربية لمجموعةٍ ممن يذهب بهم الإنسان، حتى لو أن الإنسان أخذ مجموعةً من العمال، ولو كانوا عشرة، ليس شرط أن تكون حملةً ضخمة مرخص لها، لو أخذت عشرة عمال، وذهبت بهم، وأخذت أجرتك، وهذه مصلحةٌ دنيوية، ومع ذلك لو صبرت عليهم، وتسامحت معهم، وعلمتهم ماذا يقولون، وحججت بهم حجاً شرعياً، كان من وراء ذلك مصلحةً دينيةً كبيرةً لك أنت، ثم لهم، فتجمع في ذلك بين المصلحة الدينية، والمصلحة الدنيوية. ومن الفرص أيضاً الفرصة التي يعيشها الناس في هذه الأيام فرص الربيع، والمطر والغيث وإخراج الأرض زينتها، فإن ذلك فيه فوائد كثيرة، وأنت تعلم أن الناس يحتاجون إلى ذلك، وأن هناك مما يخرج من الأرض، ما يُشترى بأغلى الأثمان، حتى الحطب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث سبعةٍ من الصحابة، وهو حديثٌ صحيح؛ بل في صحيح البخاري أنه عليه السلام أرشد الرجل إلى أن يأخذ أحبله فيحتطب، يأتي بحزمةٍ من الحطب ويبيعها، وهذا خيرٌ له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، ومثل ذلك -أيضاً- المواسم الزراعية، واغتنامها بالبيع في ألوان الزراعة المختلفة بالتمور، وبالفواكه، وبالخضار، وفيما سوى ذلك! ومثله مواسم الإجازات، فإن الإنسان يستطيع أن يستفيد منها، في أن يقوم بعملٍ مؤقت خلال تلك الإجازة، يغنيه، ويجعله يستطيع أن يتزوج مثلاً، ويستغني عن الناس، ويعتمد على الله تعالى، ولا يعتمد على ما يأتيه من فلانٍ أو علانٍ، فهناك فرصٌ قد تكون للناس بها حاجة، فأنت لا تستغل حاجة الناس، أو تضغط عليهم، ولكنك تغتنم هذه الفرصة، لتقدم للناس خدمةً، وأنت مستفيدٌ ديناً ودنيا. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 43 الأسئلة الجزء: 197 ¦ الصفحة: 44 طريق الدعوة صعب مائة وخمسين سؤالاً، كلها تسأل عن حال الشيخ إبراهيم بن محمد الدبيان، نسأل الله تعالى أن يعجل فرجه، وأن يفك أسره، وعلينا بالصبر والاحتساب، وأن نعلم أن هذا طريقُ الدعوة، وأنه ليس مفروشاً بالورود والرياحين، بل هو مفروشٌ بالصعوبات والمتاعب، ولكن ليس عنه بديلٌ، وينبغي أن نردد: أخي أنت حرٌ وراء السدود أخي أنت حرٌ بتلك القيود إذا كنت بالله مستعصماً فماذا يضيرك كيد العبيد؟ أخي ستبيدُ جيوش الظلام ويشرق في الكون فجرٌ جديد فأطلق لروحك أشواقها ترى الفجر يرمقنا من بعيد أخي هل تُراك سئمت الكفاح وألقيت عن كاهليك السلاح فمن للضحايا يواسي الجراح ويبعثُ رايتها من جديد أيها الإخوة، إنني أعجب مني ومنكم، هذا الطريق طريق الله عز وجل، طريقٌ فيه مصاعب، لقد سجن من الأنبياء من سجن!! سجن يوسف عليه الصلاة والسلام، بل لبث في السجن بضع سنين، وقتل من الأنبياء من قتل، وطرد منهم من طرد، وأخرج من بلده، وضرب منهم من ضُرب، وضرجوا بالدماء فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى أتاهم نصرنا، فالذي يريد أن يدعو ولكنه لا يريد أن يقال له شيء، ولا أن تخدُش أذنه كلمةٌ خشنة، ولا أن يوقف ساعة أو ساعتين، ولا أن يسجن يوماً أو شهراً أو سنة، ولا أن يضيق عليه في رزقه، ولا أن يؤذى، ولا أن تحاصر كلمته. هذا الإنسان عليه أن يكبر الوسادة، ويجلس في عقر داره، فليس هذا طريق الدعوة؛ طريق الدعوة معروفٌ، والكلام الذي كنت تسمعه نظرياً بالأمس، ينبغي أن تطبقه عملياً اليوم، فلا يضر الإنسان أن يؤذى في ذات الله عز وجل، بل يكفي الإنسان شرفاً وفخراً أن يؤذى في الله، فإن الله عز وجل يصطفي الأخيار للابتلاء والاختبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه، فإن كان في إيمانه صلابة، زيد في بلائه، وما يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي في الأرض ما عليه خطيئة} كفى بالبلاء فخراً أن يصاب الإنسان فيدعو المؤمنون له، فتجد العجائز، والأطفال، والكبار، والصغار، والرجال، والنساء، كلهم على ما نعلمه ونراه، يدعون للشيخ إبراهيم بالفرج ويدعون له بالصبر، ويتحسبون الله تعالى على من اعتدى عليه أو آذاه، كفى بالأذى فخراً أنه يرفع درجات المسلم عند الله عز وجل، كفى به أنه يكفر عن المسلم سيئاته، كما أنه هو المحك الذي يبين عليه صدق الإنسان، كما قال الله عز وجل {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3] . لقد ادعى أقوامٌ الإيمان، وأنهم أهل الإسلام، وحُراس الدين، ثم لم يبتلوا، فعبر هذا ودلَّ على أنهم ما صدقوا في تلك الدعوة، إنما نجد اليوم كثيراً من الإخوة في هذا البلاد قد أصابهم ما أصابهم، وفي الوقت الذي سجن فيه الشيخ، نسأل الله تعالى أن يعجل له بالفرج، وقد سجن قبلها مرات، نجد أن هناك مجموعة من الشباب في مناطق متعددة، قد تعرضوا لمثل هذا الأذى بغير حق، وبغير جرم ارتكبوه، ومثل هؤلاء الذين يقومون بمثل هذه الأعمال، أو يحرضون عليها، أو يتسببون فيها، أو يكتبون التقرير، ويشوهون صورة المؤمنين، هم في الحقيقة من الذين في قلوبهم مرض، ويريدون أن يتمزق المجتمعُ شرَّ ممزق، وأن يتحول المجتمع إلى فئات يضرب بعضها بعضاً، ويحارب بعضها بعضاً. وهل تريد أشد مما وقع في بلادٍ إسلامية مجاورة، حيث أصبح المجتمع يُدمر بعضه بعضاً، وأصبحت طاقات الشباب البناءة التي كان من الممكن أن تبني دولةً من الدول الكبرى، وأن تضارع وتواجه أقوى دول العالم في الصناعة والاختراع والابتكار، أن تصبح تلك ضحيةً لمثل هذا الخصام النكد، نعم، أنتم تعرفون، وهذا جاء في بعض الأسئلة، وله علاقةٌ بالموضوع، أنه في مصر قامت شركات إسلامية كبيرة، كالريان مثلاً، أو سلسبيل وهي شركة للكمبيوتر، من أنجح الشركات، وأعظمها، ولها إبداعٌ وتفوقٌ عظيم، فلم يجد هؤلاء أمام نجاحها إلا أن يلصقوا بها تهمة الإرهاب والتطرف، ثم يصادروها ويقوموا بالقضاء عليها، ومثل ذلك كثيرٌ جداً، لقد أصبح التطرف اليوم ليس هو كما كان، ويقولون بالأمس الاعتداء على السائحين مثلاً، أو تفجير الممتلكات العامة والجسور وغيرها، كلا! أصبح التطرف اليوم هو تدريس القرآن الكريم! وأصبح التطرف هو توزيع الكتب والأشرطة الإسلامية! وأصبح التطرف أن تلبس البنات العباءة أو الحجاب! وعلى سبيل المثال هذه مقالةٌ كتبها أحمد الجار الله، بعنوان صوفيا لورين، تختار إنقاذ الإنسان، والمتطرفون يختارون قتل الإنسان، فهو يقارن بين ما يسميهم المتطرفين، الذين همهم القتل كما يزعم الكاتب، وبين صوفيا لورين، التي تُغني من أجل أطفال البوسنة، ويقول: أين هؤلاء؟! لقد رأينا النصارى ورأينا الغربيين يقدمون الخدمات للمسلمين في الصومال، وما رأينا هؤلاء المتطرفين، الذين نظرتهم إلى الدين أنهم اختاروا الهروب من الأجر. فأحدهم يقول: متى تنام؟ ومتى تستيقظ؟ وماذا يجب أن تشاهد؟ وماذا ينبغي أن تأكل في الفطور والغذاء والعشاء؟! فأنت كافرٌ، يقول: فأنت كافرٌ إذا لم تستغل يومك بثلاثِ بلحات، وأنت ملحدٌ إذا نمت في سريرك على الجانب الأيسر، وأنت زنديق إذا شاهدت الـ CNN، وأنت آثم إذا تم ضبطك متلبساً بالاستماع لـ أم كلثوم، تشدو بالأطلال وأنت عمري. هذا هو منهج المتطرفين ومسلكهم، وأقول: قولوا كما تشاءون والدهر دول، والله تعالى ناصرٌ دينه، ومعلٍ كلمته، ولتعلمن نبأه بعد حين، وسوف تعلم هذه الأمة، بل قد علمت منهم المخلصون لها، الواقفون في المواقف معها، الذين يستميتون في الذب عنها وحمايتها، ويواجهون عدوها. لقد بَرِح الخفاء، وانكشف الأمر، حينما رأينا الغرب يحاربون الأصوليين كما يسميهم، عن قوسٍ واحدة، لأنه يعلم أنهم حربٌ على مصالحه، وأنهم هم المتدينون الحقيقيون، وهم الوطنيون الحقيقيون، ومصلحة الوطن هي في مصلحة الدين، والغرب يحارب الإسلام، لأنه دين الله، كما يحارب الإسلام أيضاً، لأنه يعلم أنه حربٌ على مصالحه في بلاد الإسلام. نسأل الله أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته، وبفضله عمن سواه، وأن يغني المسلمين من فضله إنه على كل شيء قدير. الجزء: 197 ¦ الصفحة: 45 حتى تغيروا ما بأنفسكم لا يحصل للأمة خير ولا شر إلا بسبب عملها وتصرفها -كأمة- وهذه قاعدة شبه مطردة في الفرد أيضاً، ولذلك فإن التغيير من الله سبحانه وتعالى لا يكون إلا بأن تغير الأمة حالها. والأمة المسلمة وجدت لتبقى؛ لأن فيها عوامل للنجاح أعظمها المبدأ الصحيح الذي تفتقده -بشكله الكامل- جميع الأمم والمجتمعات الأخرى، وكذلك فدين هذه الأمة دين عملي؛ يؤدي بها إلى الرقي والتقدم، هذا بالرغم من سلبية الكثير من أفراد هذه الأمة وقلة الرجال الفاعلين فيها. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 1 الشر بسبب الذنب والخير بسبب الطاعة الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أيها الإخوة السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وحياكم الله تعالى في هذه الليلة المباركة، وهي ليلة الخميس، التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة. إن عنوان هذه الكلمة أو المحاضرة: "حتى تغيروا ما بأنفسكم"، وأستغفر الله عز وجل فإنني ما قصدت بهذا العنوان حكاية كلام الله تعالى, وإنما قصدت به عنواناً أنشأته من عند نفسي, واقتبست معنى الآية الكريمة العظيمة فيه, ألا وهي قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] . وإنما جعلت العنوان خطاباً (حتى تغيروا) لأني لاحظت أمراً في غاية الخطورة نعانيه نحن المسلمين, ألا وهو أننا في كثير من الأحيان نتحدث عن غيرنا أكثر مما نتحدث عن أنفسنا. نعيب غيرنا، ونحمل المسئولية غيرنا، ونلقي بالتبعة على غيرنا, ونجعل الأسباب من غيرنا, وإذا سمعنا أحداً ينتقد, أو ينصح أو يوجه؛ خيل إلينا أنه يتحدث عن أمة أخرى أو شعب آخر أو أناس آخرين, لكن قلّما يسمع الواحد منا الحديث، وهو يحس أنه هو بذاته وباسمه وشخصيته المخاطب قبل غيره, ولذلك يقل الانتفاع من الكلام، لأن كل واحد يعتقد أنه ليس مخاطباً ولا مقصوداً, فاخترت أن يكون العنوان خطاباً "حتى تغيروا ما بأنفسكم" لدفع هذا المعنى الموجود في نفوسنا. وسوف تكون هذه الكلمة في سبع نقاط أو سبع وقفات، الوقفة الأولى عبارة عن مقدمات لابد منها. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 2 تعجيل العقوبة للعبرة والعظة كم من إنسان كان يقوم على تعذيب المسلمين وإيذائهم والزّج بهم في السجون, وإذا استنصروا بالله عز وجل، قال لهم كما قال بعض زبانية التعذيب في أرض الكنانة في وقت من الأوقات, لما رأوا إنساناً يصرخ: يا الله، قالوا: لو جاء الله لجعلناه في هذه الزنزانة والعياذ بالله وما هي إلا أزمنة قصيرة حتى يأخذهم الله عز وجل بشكل غريب, حتى إن أكبر زبانية التعذيب الذي كان يعذب بعض العلماء والدعاة, كان من ضمن وسائله في التعذيب أنه يمنعهم من الذهاب لقضاء الحاجة, زماناً طويلاً, ودار الدهر دورته, فإذا بهذا الرجل يفقد سلطانه وأبهته ومكانته, وإذا به يصاب بصعوبة التبول حتى إنه يجال به في مستشفيات الدنيا، يصرخ صراخاً شديداً حينما يريد أن يقضي حاجته, ثم مات بهذا المرض, ولما سمع بعض ضحاياه بهذه القصة، وكان في الحرم المكي الشريف خر لله تعالى ساجداً. إن الله عز وجل يعجّل لمن يشاء العقوبة في هذه الدنيا, وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار عمل, وهذا الجزاء الذي يظهره الله عز وجل إنما هو من باب العبرة والعظة, التي يبينها الله جل وعلا لعباده. ولقد حشد القرآن الكريم الكثير من الآيات والقصص السابقة، التي تبين أن هذا هو الطريق, فلا تنتظر أبداً أن يكون التغيير بواسطة ملك يهبط من السماء, كلا, ولا بواسطة شيء يخرج من الأرض، إنما التغيير بواسطة الإنسان، فالإنسان هو مدار التغيير بإذن الله جل وعلا, فالله جعل النواميس في هذا الكون خاضعة لتغيير الإنسان، كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من الإنسان التغيير، ومن الله تعالى التيسير]] الإنسان لا يمكن أن يغير بنفسه القدر: إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده فربما يقوم إنسان بسيط تفكيره بسيط، يفتح بقالة أو متجراص متواضعاً وتبدأ أمواله تكثر، فتأتي بعد عشر سنوات ويصبح من أصحاب رءوس الأموال, ثم تجلس معه تتحدث، هل تميز ذلك الإنسان بذكاء عن غيره؟ لا، بماذا تميّز؟ هذا من توفيق الله عز وجل, يهب ذلك لمن يشاء, وقد تجد إنساناً صاحب تفكير وتخطيط، وعنده لجان وعنده مستشارون، وعنده خبرات ودراسات وتحاليل وتقارير وأشياء, ويقوم بمشاريع وفي النهاية تنهار، ويصبح هذا الإنسان منكسراً لا مال له. فالأمور لا شك مرتبطة بقضاء الله وقدره, وإذا لم يعن الله العبد فأول ما يجني عليه اجتهاده. إذا لم يكن عون من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده لكن ينبغي أن ندرك أن التغيير يبدأ من الإنسان, لا تتصور أن التغيير يبدأ من المصنع, بعض الإخوة -مثلاً- يقول: إن الطريق إلى تقدم العالم الإسلامي هو الاهتمام بالصناعة نحن لسنا نشك أن العالم الإسلامي لكي يصبح عالماً متقدماً، لابد أن يملك الصناعات سواءً الصناعات الحربية أم غيرها, وما دام يستورد من غيره فلن يتقدم لأن حاجاته بيد عدوه، يفرج عنها متى شاء ويمنعها ويحجبها متى شاء, هذا ليس فيه شك ولا نجادل فيه, لكننا نقول المهم: هو الإنسان, إذا أفلحنا في صناعة الإنسان -إن صح التعبير- في إيجاد الإنسان الفعال المؤثر القوي صاحب الهمة, ثقوا أن الأمور كلها ستتبدل، سيأتي المصنع والمتجر, وسوف تأتي القوة والتنظيم وكل شيء، إذاً ينبغي أن ندرك أنه -كما يقولون- حجر الأساس في موضوع التغيير هو الإنسان. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 3 التغيير من عند أنفسنا إنَّ الله عز وجل ربط التغيير بفعل الناس, فإذا كان الناس في حال خير وانتقلوا إلى حال سيئة, فلا ينبغي أن يقولوا: من أين جاء هذا؟ لأنه يقال لهم حينئذٍ: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] وكما قال الله عز وجل في سورة الأنفال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] . أمة من الأمم عزيزة منيعة الجانب قوية قاهرة غالبة ممكنة في الأرض, ثم يؤول الأمر بها إلى انهيار وانهزام وتصبح في ذيل القافلة, وتصبح أمة لا قوام لها ولا اعتبار لها ولا شأن لها, تسمى كما يقولون في لغة العصر الحاضر "العالم الثالث"، والآن أخرجوا مصطلحاً جديداً يسمونه "العالم الرابع"، وهو الذي فيه تخلف التخلف, الذين لا يجدون لقمة يأكلونها, وكلهم أو جلّهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون, والمرض يسري فيهم سريان النار في الهشيم إلى غير ذلك من مظاهر التخلف, فيما يسمونه بحزام البؤس أو العالم الرابع، وهي دول من أمم المسلمين. يجب هنا أن يتساءل الإنسان، أو أن يفكر أن هذا المصير الذي آلت إليه تلك الأمة العزيزة المنيعة, إنما هو من عند أنفسها وبسبب ذنوبها, وكذلك العكس فهذه الأمة أو غيرها التي تعيش في وضع سيئ متردٍ، وتريد الخروج؛ منه أن عليها أن تفكر أن البداية تأتيها من عند نفسها، لا تتصور أبداً أن الخروج من هذا المأزق، ومن هذه الأزمات، ومن هذا التخلف، ومن هذا الجهل، يأتي بشيء يقدمه لها أعداؤها، فهذا لا يتأتى أبداً كما يقول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا الجزء: 198 ¦ الصفحة: 4 الحياة صراع بين الحق والباطل الحياة صراع، والذي لا يملك وسائل القوة والصراع والسباق, يهزم ويصبح في آخر الركب وفي ذيل القافلة, فمن كان على حال سوء يطمع في الانتقال إلى حال حسنة, يجب أن يعرف أن البداية تأتي من عنده هو, أن يغير ما بنفسه فيغير الله تعالى ما به، وهذا يصدق على حال الأمة وعلى حال الفرد. أما بالنسبة للأمة فهي قاعدة مطردة, أما بالنسبة للفرد فقد يظهرها الله عز وجل في كثير من الأحيان بشكل أو بآخر, قد تجد إنساناً اليوم يظلم ويعتدي ويأخذ بغير حق, اصبر لا تتعجل الأحداث، لا تقل: ولماذا الله تعالى لم يعاقبه على ما فعل؟! يقول الله عز وجل: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم:42] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] } . إذاً لا تتعجل، يوماً أو شهراً أو سنة إن الأمور في ميزان الله غير الأمور في ميزاني وميزانك أنت, نحن إذا رأينا الباغي والظالم مكث شهراً أو سنة وما انتقم الله عز وجل منه, استبطأنا الأمر وتعجّلنا، لكن اصبر فمن الممكن أنك تموت وما رأيت النتيجة, ويراها ولدك أو أخوك الأصغر, فكم من إنسان ظالم أو معتدٍ أو منحرف، أو مستهزئ بالدين، أو ساخر بالمؤمنين، أمهل الله له وأملى له, ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 5 الله حرم الظلم على نفسه وعلى غيره إن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، كما قال جل وعلا: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} [هود:101] في أكثر من موضع من القرآن الكريم, وقال: {وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76] وقال: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة:70] وقال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] وفي الحديث القدسي في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً, فلا تظالموا} ومن عدله جل وعلا؛ أنه جعل الجزاء في الدنيا والآخرة مترتباً على فعل الإنسان وعمله. فأهل الجنة يقال لهم: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] {هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ؛ وأهل النار كذلك إنما دخلوها بذنوبهم وبخطاياهم وأعمالهم. وكذلك الجزاء الدنيوي، إنما يناله من يناله, إن كان خيراً فبعمله الخير, وإن كان شراً فبعمله الشر, ولذلك قال الله عز وجل: {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} فمن عدله جل وعلا أن كل أمر يحصل للإنسان في الدنيا أو في الآخرة فهو بسبب عمله، وما ظلمه الله تعالى شيئاً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 6 مصائب الأمة بفعل البشر نحن نعلم جميعاً أن الجزاء الأخروي حق, وهناك في الآخرة جنة ونار, وهذا من أصول العقيدة الإسلامية، كذلك يجب أن نعلم أن الجزاء الدنيوي واقع أيضاً. صحيح أن الدنيا ليست دار جزاء, ولكن الله جعل في هذه الدنيا نواميس وسنناً تجري على العدل والاستقامة, فكل ما يصيب الأمم دعك من الأفراد، مثلاً: كون فلان أصابه مرض، أو حادث سيارة، أو كان عنده مؤسسة وفشلت فاترك هذه جانباً. دعنا نتكلم في المصائب العامة: فمثلاً: أمة من الأمم أصابها جدب وقحط, وهلكت الأموال والزروع والمواشي, أو أصابها فقر شديد, أو أصابتها هزائم عسكرية أو سياسية أو هزائم اقتصادية, أو نكبات عامة, فالقرآن الكريم صريح في أن هذا بفعل البشر، بسبب فعل الناس، قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] وقال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] . ولما جاءت معركة أحد وانهزم المسلمون, وكانوا يتصورون أنه ما دام ألهم المسلمون وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ويقابلون جيشاً مشركاً يعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, كانوا يعتقدون أنَّ النصر لهم حتماً, فأصابتهم المصيبة وقتل منهم من قتل, وجرح من جرح, حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت حلق المغفر في وجنتيه, وشج رأسه, وكسرت رباعيته, وسقط صلى الله عليه وسلم في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق -الذي كان يسمى بـ الراهب - حتى أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل, فهنا دهش المسلمون وتلفتوا يقولون: أنّى هذا؟! كيف يحصل هذا؟! فجاءهم الجواب بياناً مفصلاً في سورة آل عمران، قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] إذاً كما أن الجزاء الأخروي حق, فكذلك الجزاء الدنيوي حق, قال الله تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:50-51] . فالمصائب في الدنيا -المصائب العامة- بسبب الذنوب, والسعة في الرزق والمال والأهل والمتاع الطيب هو أيضاً بسبب الطاعات, هذه هي القاعدة العامة وكل قاعدة لها استثناءات, البشر قد لا يستطيعون أن يطبقوا القاعدة في كل ظرف وفي كل حال, لكن هذه القاعدة ربانية قرآنية لا كلام فيها. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 7 هذه الأمة خلقت لتبقى هذه الأمة التي نحن جزءٌ منها، بلا شك لا نعتبرها، الأمة العربية؛ لأننا لا ندل أو نفخر بعروبتنا, فإن هذه الأسماء لا قيمة لها، كما قال الشاعر: خلوا خيوط العنكبوت لمن هم كالذبابات تطايروا عمياً المسلم وطنه بلاد الإسلام وجنسيته الدين, وإن كان عربياً أو غير عربي، فهذه الأمة التي نحن منها أمة الإسلام, خلقت لتبقى, وهذه قضية يجب أن تستقر في نفوسنا, ما خلقت لتؤدي دوراً ثم تنتهي, مثلما هو الحال بالنسبة للأمم الأخرى, خلقت لتبقى حتى آخر الزمن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتبقى أيضاً قوية عزيزة، ويكفيك أن تتذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين إلى قيام الساعة، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال} فالأمة خلقت لتبقى، ولذلك لا تتصور أن هذه الأمة أمة مؤقتة أو زائلة، بل هي أمة أخرجها الله رحمة للعالمين, أخرجها للعباد يقيمون الحجة على الناس، فهذه الأمة باقية، بعز عزيز أو بذل ذليل، شاءوا أم أبوا. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 8 عدم التشاؤم من النكبات علينا ألاَّ نتشاءم من هذه المصائب والنكبات والأزمات التي تمر بالأمة, بل علينا أن ندرك أنه هنا يأتي نصر الله عز وجل تماماً كما حصل حين جاءت الأحزاب، قال تعالى: {وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً} [الأحزاب:22] ولذلك كان المنافقون في غزوة الأحزاب، يقولون: الواحد منا لا يستطيع أن يذهب لقضاء الحاجة, ويقولون: إن بيوتنا عورة, ومحمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول غير هذا، لما اشتدت عليهم الصخرة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وضربها بالمعول، قال: {الله أكبر! فتحت لي كنوز كسرى} ضربها مرة أخرى, قال: {الله أكبر! فتحت لي كنوز قيصر} ضربها مرة ثالثة, فقال: {فتحت لي اليمن وإني أرى قصور صنعاء} . إذاً: الواثقون من نصر الله عز وجل -وهم المؤمنون- في أشد الظلام وحلكة الليل, يدركون أنه حينئذٍ يولد الفجر, أشد ما يكون الليل ظلاماً قبيل الفجر، ثم يبزغ الفجر بعد ذلك، وإن كان هذا يذكرني بقضية وهي: أن الأمة وجودها يتفاوت، ولذلك لاحظوا أننا الآن -مع الأسف الشديد- إذا أردنا نضرب الأمثلة, بمن نضرب الأمثلة؟ هل نضرب الأمثلة بفلان الحي الموجود بين أظهرنا؟ قلّما يحدث هذا, وإنما نضرب الأمثلة بالماضين, كأن الأمة تحتاج الآن إلى الرجال, ما كانت الأمة في زمن أحوج منها في هذا الزمن إلى الرجال. فنحن الآن -بكل صراحة- ابن تيمية يؤثر في واقعنا أكثر مما يؤثر كثير من طلبة العلم الأحياء, الذين يمشون على أقدامهم. يا رُبَّ حيٍّ رخام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا إذا جاءتنا مشكلة علمية وجدنا لـ ابن تيمية رحمه الله سبق فيها, وإذا جاءتنا مشكلة عملية -المشكلة العلمية معقولة، كقضية في الفقه أو في التفسير- لكن حتى مشكلة عملية يمكن أن نستفيد من ابن تيمية أكثر مما نستفيده من غيره. مثلاً: هناك طائفة من الطوائف لا نعرف الحكم عليها, هل هذه الطائفة مسلمة أو كافرة؟ داخل في الإسلام أو خارجة منه؟ يجب قتالها أم لا يجب؟ قد نتردد وقد نحتار في ذلك، وقد لا نجد من يعطينا الجواب, لكن إذا رجعنا إلى فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين، وجدناه تكلم عن ذلك بكل وضوح, ووضع النقاط على الحروف -كما يقال-. وإذا وجدنا مشكلة قائمة أيضاً ربما تختلط عندنا الموازين ونشك ونرتاب، ولا ندري كيف نتصرف، وإذا رجعنا إلى الكلام الذي كتبه ابن تيمية في مثل هذه المناسبة تعجبنا, وقد سبق أنني قرأت على بعض الإخوة في إحدى المناسبات كلاماً ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو فصل طويل يزيد على عشرين صفحة في الفتاوى, تكلم فيه ابن تيمية للأمة بمناسبة غزو التتر, وما أصاب الأمة من رعب وخوف وفزع، حيث بدءوا يرتحلون من الشام, يسافرون خوفاً على أنفسهم وأولادهم, ويأخذون أموالهم، الكبار والصغار والعالم وغير العالم، خوفاً من هذا السيل الذي يخشون أن يكتسحهم, فتكلم ابن تيمية بكلام عظيم، وربط القضية بقضية الأحزاب، وأنا أدعوكم للرجوع تجدون -والله الذي لا إله إلا هو- كأن ابن تيمية يتكلم عن اللحظات التي نعيشها الآن, وقلت في تلك المناسبة أنني اكتشفت الكلام الذي كان يجب أن نقوله، وأن يقوله طلبة العلم للناس في مثل تلك المناسبات, اكتشفته من خلال قراءتي لما كتبه قلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 9 النكبات هي التي تصنع الرجال ولا تنظر -يا أخي العزيز- إلى هذه النكبات التي تحل بالأمة، نظرة خاطئة, لا تعتقد أنها هي التي تدمر الأمة, بل أقول من منطلق نظرة قد تكون شخصية, لكن أعتقد أنها صائبة: إن هذه الأزمات والنكبات هي التي تخرج الرجال, والأمة التي تمر بحياة هادئة رتيبة ليس فيها أمر جديد ولا مثير, تجد هذه الأمة كأنها أمة ميتة, لكن إذا حصل أمر يهز الناس، ظهرت حقائق الرجال وبانت المعادن. وخذ على سبيل الأمثلة الإمام أحمد -مثلاً- متى ظهر؟ وكيف ظهر؟ ولماذا كسب هذه الشهرة العظيمة والمكانة سواء في عصره أم إلى اليوم؟ إنما ظهر لما واجهت الأمة سيل العقلانيات والفلسفة، وعلم الكلام والمنطق، وتقديس العقل من دون الله عز وجل, فقام الإمام أحمد يدعو إلى العودة إلى الكتاب والسنة والاعتصام بهما, وتصحيح العقيدة، وإخراج هذه اللوثات التي دخلت إلى عقول المسلمين. مثال آخر: ابن تيمية -رحمه الله- كيف ظهر ابن تيمية؟ ومتى ظهر؟ صحيح أن الأمة كانت في زمن ضعف وانهيار, لكن كان ظهور ابن تيمية -رحمه الله- في وقت وجد فيه التتر ووجد فيه الضعف, واكتسحت حملات التتر بلاد المسلمين, فظهر ابن تيمية , كيف ظهر ولماذا؟! ظهر في البداية من منطلق الحرقة التي في قلبه -كما سيتضح- كان يحترق من الداخل على واقع الأمة, ومشكلات الأمة ومصائب الأمة, ثم بدأ يحاول أن يحول هذا الاحتراق الداخلي إلى عمل خارجي, ما اكتفى بمجرد الحسرة والألم، بل أدرك أنه لابد أن يقوم بخطوات فعّالة, فصار يقوم ويجمع العلماء ويتحدث معهم، ويثبت السلاطين والحكام ويأمرهم ويقوي عزائمهم، ويحث الناس على القتال وهكذا, حتى استطاع ابن تيمية -رحمه الله- أن يعمل تعبئة كاملة للأمة ضد التتر, وانهزموا بإذن الله عز وجل. العز بن عبد السلام -رحمه الله- كيف ظهر ومتى ظهر؟! ظهر في ظروف مشابهة كانت الأمة تعاني فيها من الحملات المختلفة للتتر وغيرهم أيضاً, وتعاني من التمزق والانقسام الداخلي, فكانت أحوج ما تكون إلى بطل، ليس بالضرورة بطل بالسيف, بل بطل باللسان وبالكلمة الجادة الشجاعة الصادقة, فكان العز بن عبد السلام يصعد أعواد المنابر، ويقول كلمة الحق صريحة مدوية, ويأتي هنا وهناك، ويتكلم لدى العام والخاص والكبير والصغير والعالي والنازل بالحق, ويجهر به ويجمع الناس عليه, حتى تحقق نصر الأمة. إذاً نصر الأمة ما تحقق على يد السلطان المملوكي أو غيره, إنما تحقق في الواقع على يد العلماء الذين كانوا وراء هذا الانتصار الذي حققته الأمة. وقل مثل ذلك في أسماء كثيرة، ظهرت بسبب الأزمات التي حلت بالأمة, وفي ذلك يقول أحد المؤرخين البريطانيين واسمه " أرنولد توينبي " له نظرية في تفسير التاريخ، يسميها: "التحدي والاستجابة" يقول: إن أي مصيبة تنزل بالأمة هي عبارة عن تحدٍ، هذا التحدي يورث عند الأمة استجابة، يثير في النفوس دوافع معينة، تجعلها تفكر كيف تقدم خدمة لهذا الدين, كيف تخرج من هذه الأزمة؟ فيظهر الرجال حينئذٍ. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 10 تحطم المؤامرات أمام الإسلام كم تحطم على صخرة هذه الأمة من مؤامرات؟ الأمة لها ألف وأربعمائة سنة, كم تحطم على صخرتها من مؤامرات! منذ بعث الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤامرات السرية تشتغل، وكل أمة نكبت بالإسلام، صارت تشتغل ضده -مثلاً- اليهود فقدوا موقعهم بالإسلام, كانوا يعتقدون أن يكون النبي منهم، فقدوا موقعهم وصاروا يشتغلون بالمؤامرات، والفرس والمجوس فقدوا مواقعهم وفتح المسلمون بلادهم, وصاروا يتآمرون, والنصارى فتحت بلادهم وصاروا يشتغلون كذلك بالمؤامرات, وهكذا تحالفت كل أمم الدنيا على رغم ما بينها من تفاوت وحرب وصراع, تحالفت ضد الإسلام، وصارت أمواجاً كاسحة. لو تذكرت مثلاً مؤامرات الصليبيين: كم من حملة صليبية حاولت أن تكتسح العالم الإسلامي! وجاؤوا في فترة الضعف، وبقوة هائلة رهيبة بمئات الألوف, وأجهزة وأسلحة فتاكة وتحطموا على صخرة الإسلام. جاء التتار، أمة متوحشة قاهرة غلابة وأمم هائلة، وتعودوا على البداوة وشظف العيش, وجاؤوا واكتسحوا الدنيا كلها، مثل السيل لا يقف في وجهه شيء, وتحطموا على صخرة الإسلام. جاء الاستعمار واحتل بلاد المسلمين، وكان في عهد ضعف وذل للمسلمين, فماذا صنع المسلمون؟ صنعوا البطولات، صحيح أنهم ما قاموا بعمل منظم ضد الاستعمار، وهذه قضية يجب أن نستفيدها من التاريخ، بمعنى أنه يضمن خروج الاستعمار ورجوع حكم الله ورسوله وحكم الإسلام، لكنهم قاموا بعمل بطولي، يشبه تماماً ما يقوم به الإخوة المجاهدون في أفغانستان, بطولات وتضحيات، قتل وقتال, استبسال ومعارك طاحنة, وأخبار مدهشة, وهذا بحد ذاته دليل على أصالة هذه الأمة وبقائها. وكما تسمعون وتعلمون أنه في الجزائر -مثلاً- عدد الذين قتلوا لمقاومة الاستعمار الفرنسي, كانوا مليون شهيداً, ولذلك يسمونها بلد المليون شهيد, ونرجو الله أن يكونوا شهداء في سبيله. من كان يقوم بحملات التحرير ضد الاستعمار؟ يقودها المشايخ, في الجزائر -مثلاً- جمعية العلماء وغيرها, وفي المغرب الخطابي وغيره, وفي ليبيا عمر المختار , وفي فلسطين عز الدين القسام، وهكذا في بقية البلاد الإسلامية. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 11 عوامل النجاح في الأمة نقطة ثالثة: عوامل النجاح في الأمة وهي تتلخص في جانبين: الجزء: 198 ¦ الصفحة: 12 أمتنا تملك الحق الجانب الأول: ما يمكن أن يسمى بالجانب النظري أو العقدي, وهو وجود مبدأ صحيح لدى الأمة, يعني وكون الأمة تملك مبدأ صحيحاً تقوم عليه، وهذا نحن المسلمين نملكه بلا شك, الإسلام عقيدة وشريعة, وكل إنسان يشك في صلاحية الإسلام وأنه هو الحق, فهذا ليس لنا معه كلام؛ لأنه بشكّه هذا خرج من دائرة المسلمين, وأصبح منسلخاً عن الأمة, وأصبح في عداد الكافرين. إنما نتكلم عمن يؤمنون بهذا الدين وبهذا الإسلام, وأنه الحق من ربهم, فهؤلاء يؤمنون قطعاً لا شك فيه، بأن الأمة تملك -نظرياً- تملك الحق المتمثل في هذا الإسلام. ولا شك أن الإسلام الذي هو الحق، يحتاج إلى أن نوضحه للناس, نبلغه للناس, ونزيل ما تعلق به من خرافات ألصقها به الصوفية أو الشيعة، أو المبتدعة على مختلف مذاهبهم وطوائفهم, هذا جانب آخر. إذاً الجانب الأول، أو العام الأول من عوامل النجاح: كون الأمة تملك الحق، وهذا موجود عند المسلمين بخلاف الأمم الأخرى، ليس هناك أمة تملك الحق إلا المسلمين. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 13 ديننا دين عملي الجانب الثاني: الجانب العملي، وهو جانب التطبيق جانب الفاعلية, ما معنى أن يكون المسلمون يملكون الحق ثم يغلبهم غيرهم في أمر دينهم يأمرهم به؟! أضرب مثلاً لذلك: الإسلام دين يحث على العمل ويأمر به, وكما قلت لكم في أول الكلمة: أهل الجنة دخلوها بعملهم وأهل النار دخلوها بعملهم, مع ذلك تجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث صحيح عجيب، يقول: {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، واستطاع ألا تقوم الساعة حتى يغرسها، فليغرسها فله في ذلك أجر} الساعة تقوم الآن, وبيدك نخلة صغيرة تريد أن تغرسها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اغرسها فلك بذلك أجر, والحديث صحيح, لأنك مأجور هذا عمل تؤجر عليه، فالإسلام دين العمل. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 14 مقارنة الإسلام بالأديان الأخرى ومع ذلك عندما تقارن المسلمين بأمة أخرى, ودعونا نقارن المسلمين بأمة وثنية, لأن آخر ما يخطر في بالك الوثنية، البوذيون في اليابان ماذا صنعوا؟ قرأت قصة عن أحد الطلاب المبتعثين إلى الغرب، لنقل ما يسمونه بالتقنية والخبرة الصناعية إلى اليابان, قرأت مقالة له أو قصة له- يقول: لما ذهب إلى بريطانيا وحاول أن يتعلم ما استفاد ورجع, ذهب مرة ثانية إلى ألمانيا وتعلم على يد أحد الأساتذة أو الدكاترة؛ فكان هذا الأستاذ يعلمه كلاماً نظرياً دائماً، يقول: فجلست زمناً طويلاً فهمت كل شيء بعقلي, لكن حين أجلس أمام الآلة أو "الموتور" أحس بأنني أمام لغز لا أعرف شيئاً, وذكر كيف جمع من راتبه واشترى موتوراً وفكه في البيت, ويسهر حتى أنه لا ينام في اليوم والليلة إلا ساعات محدودة, ولا يأكل إلا وجبة واحدة, فظل على هذا سنوات, بعدها استطاع أن يصنع موتوراً, ويعود إلى بلده لا بشهادة دكتوراة لكن بهذه الصناعة، وكانت أخباره تنتقل إلى بلده أولاً بأول, فلما رجع إلى بلده قالوا: إن رئيس الدولة يريد مقابلتك تكريماً لجهدك, قال: لا، ما أستحق، حتى إذا صنعنا أول موتور ياباني صناعة يابانية، في ذلك الوقت أنا آتي إليه! وجلس تسع سنوات حتى أفلح في تكوين مصنع، وكنت أتعجب من كلامه, يقول في ضمن القصة: وأنا بوذي والعمل الذي أقوم به يقرب إلى بوذا، إنه وثني, ومع ذلك يعمل بروح، وأي عمل يقوم به يقربه إلى معبوده ووثنه! أليس المسلمون أولى وأحق بهذه الروح الوثابة التي تدعو إلى العمل والإنتاج؟! الجزء: 198 ¦ الصفحة: 15 الصد عن سبيل الله عند عدم التطبيق المسلمون الأوائل، أخذوا خير ما عند الأمم الأخرى خلال فترة وجيزة, فكيف يحصل هذا؟! يحصل بسبب الانشطار بين النظرية والتطبيق، عندكم دين صحيح وحق ولا مرية فيه, لكن التطبيق في واد آخر, وربما تكون الأمم الأخرى سبقتكم إلى بعض مميزات هذا الدين, وهذا من وسائل الصد عن سبيل الله عز وجل. كثير من الكفار إذا دعوا في بلادهم أسلموا، فإذا جاءوا إلى البلاد الإسلامية ارتدوا والعياذ بالله، وأذكر أنني قرأت قصة منذ ما يزيد على عشر سنين, وكان وقت قراءتي لها هو وقت حدوثها، أن أحد الطلبة الشباب كان في أوروبا، فدعا رجلاً إلى الله عز وجل, وعرض عليه الإسلام، فاسلم وصار يقرأ في الدين حتى امتلأ قلبه إيماناً بالله ورسوله, ولما انتهى هذا الشاب وأراد أن يعود إلى بلاده, قال له ذلك المسلم: أريد أن أعود معك، فرجع معه, ولمّا رجع يقول: جلس فترة ليس عنده عمل, فلاحظ سلبيات، السفور الموجود في أسواقهم أي: في أسواق المسلمين، والتبرج الموجود ومظاهر التخلف الموجودة عند المسلمين وليست موجودة في بلادهم, نظر بعد فترة وجد أنه ضاقت عليه الأسباب, ما وجد بيتاً يسكن فيه, ولا أحد يطعمه, ولا أحد يؤويه. بعد ذلك يقول: جاءني يوماً متأثراً حزيناً محمر العينين, يقول لي: أين أبو بكر؟ أين عمر؟ الذي كنت تخدعني بقصص عدله -هكذا يقول له- ألا تعلم أنني منذ أيام لا أجد ما آكل؟ لا أدري أين أسكن؟! أين الإسلام الذي كنت تقول لي؟ أين العدل؟ فكان هذا الشاب يكتب الرسالة بكل حرقة؛ يشتكي فيها هذا الوضع الذي حصل, ويقول: إن الرجل ارتد عن دينه وتخلى والعياذ بالله بهذه الصورة البشعة, فمن الصد عن سبيل الله أننا نملك الحق ولا نطبقه. وأذكر أنني قرأت -أيضا- كلمة للأستاذ سعيد شعبان، وهو أحد الكتاب القدامى المصريين -يقول: إنه عقد مؤتمر في أحد البلاد الإفريقية عن الإسلام, وحل الإسلام لمشكلات الحضارة ومشكلات الناس, وتكلم في هذا المؤتمر عدد من العلماء، وحضره عدد من الصحفيين الأوروبيين من الرجال والنساء, يقول استمر المؤتمر أسبوعاً، وبعد نهاية المؤتمر جاءتنى امرأة وناقشتني عما قيل في المؤتمر, وهل هو صحيح أم غير صحيح؟ فقالت لي بعد ذلك: اسمع مني وانقل عني: "إذا كان ما تقولونه لنا في هذا المؤتمر عن الإسلام صحيحاً, فانقل عني أنكم أيها المسلمون مجرمون في حق البشرية كلها, لأنكم تملكون الحق والحل, ثم لا تقدمونه للناس, البشرية تبحث عن هذا الأمر الذي تقولونه لنا في هذا المؤتمر". الجزء: 198 ¦ الصفحة: 16 السببية سنة في الحياة نقطة رابعة: وهي موضوع السبب أو ما يسمى بالسببية. لا شك أن الله قادر على تحقيق ما يريد بقوله {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] . فالله عز وجل قادر على أن يجعل كل الناس مؤمنين بكلمة كن, وقادر على أن ينصر الإسلام بكلمة كن, ولكن الله عز وجل شاء غير هذا, وجعل الدين للناس يطبقونه من خلال جهدهم وعملهم وتضحيتهم, حتى الرسول صلى الله عليه وسلم -كان مثلاً يحتاج إلى أن يتعب، يخرج من مكة مهاجراً مختفياً, إن الله تعالى قادر على أن يرسل له البراق الذي ذهب به إلى بيت المقدس, ثم صعد به إلى السماء أن يرسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يركب عليه من مكة إلى المدينة، وتكون رحلة هادئة مأمونة ليس فيها خطر, لكن الله عز وجل شاء غير هذا، فخرج الرسول صلى الله عليه وسلم وجلس في الغار والمخاوف حوله، ويقف المشركون على رأس الغار، إلى آخر القصة. فالله تعالى أراد أن يتحقق الدين من خلال الأسباب, ومعلوم أن الله عز وجل يعين المسلمين بوسائل لا يملكونها كإعانتهم بالملائكة مثلاً, لكن بعد أن يستفرغوا وسائلهم وأسبابهم التي يملكونها، فإذا حصل منهم تقصير بعد ذلك يسدده الله تعالى عن طريق أمور قد لا يستطيعونها هم، فيمدهم بالملائكة والعون، وهزيمة عدوهم بالريح، إلى غير ذلك: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] . فالله تعالى جعل السببية ناموساً وسنة في هذه الحياة, حتى الدين جعله تعالى منوطاً بجهد الناس الجزء: 198 ¦ الصفحة: 17 فاعلية الإنسان إذا حصل خلاف بين أهل العلم حتى في مسألة فقهيه أو غير فقهية, فإنه يتم معرفة الصواب، أو معرفة الراجح من المرجوح بجهد الإنسان؛ يبحث حتى يصل إلى النتيجة, وليس هناك ملك يننزل يشير إلى هذا الإنسان أنه هو المصيب وهذا الإنسان هو المخطئ, لا يكون هذا أبداً فحتى معرفة الصواب من الخطأ وتمييز الخطأ من الصواب، وإبعاد الخرافات التي تعلق بالدين, إنما تتم بجهود الناس أنفسهم وبواسطة الأسباب التي يبذلونها. إذاً فالقضية كلها أيها الأحبة تدور على نقطة يمكن أن نعبر عنها بقضية فاعلية الإنسان, أن يكون الإنسان فعّالاً مؤثراً، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن: {خير الأسماء عبد الله وعبد الرحمن، وأصدقها حارث وهمام} لماذا أصدقها حارث وهمام؟ لأن الإنسان لكي يحقق إنسانيته لا بد أن يكون هماماً, أي صاحب هم وهمة, يفكر أن يعمل كذا وكذا, وكذلك هو حارث صاحب حرث لا يكتفي بالتفكير, بل ينتقل من التفكير إلى العمل, فيرفع هذا ويضع هذا، ويشتغل ويقدم ويؤخر ويعمل ما في وسعه. فالإنسان من أبرز خصائصه أنه فعّال مؤثر صاحب قوة وصاحب إرادة, فرجعت المسألة إلى هذا الأمر، ولكن لا معنى حينئذٍ للتمنيات والأحلام المعزولة عن الفعل, فالإنسان لا بد أن يفعل السبب. إنسان -مثلاً- يريد الجهاد, هذا الجهاد هم, أولاً: هل عندك هم الجهاد في سبيل الله؟ تقول: والله ما عندي هم للجهاد, هنا نقول: أنت سقطت من أول اختبار, ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم {من لم يغز أو يحدث نفسه به مات على شعبة من نفاق} فهذا يموت على شعبة من النفاق, لأنه حتى الهم غير موجود عنده, ما حدث نفسه بالجهاد, وآخر قال: والله أنا حدثت نفسي بالجهاد وهممت به, نقول: ننتقل إلى السؤال الثاني, أنت نجحت في المرحلة الأولى, وتبقى المرحلة الثانية: هل أعددت للجهاد شيئاً؟ يقول: لا والله ما أعددت شيئاً, مجرد خواطر في النفس, هنا نقول له: كما قال الله عز وجل: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة:46] . إذاً كل إنسان يدعي أنه يريد ولا يستعد, فهذا فيه شبه بالمنافقين, يدعون أنهم أرادوا الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم للجهاد، ومع ذلك ما أخذوا الأهبة ولا الاستعداد. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 18 تنقية الدين من الخرافية من الممكن أن يعلق بالدين خرافات كثيرة, ولعلكم سمعتم في بعض المناسبات أن بعض الناس تحول الدين في أذهانهم إلى خرافة كبيرة, بعضهم صاروا يعطون إقطاعات في الجنة ويمنحون صكوك الغفران, مثلما كانت عند النصارى, وقد ذكرت في إحدى المناسبات، كتاباً مكتوباً أو صكاً مكتوباً من قبل أحد شيوخ الطرق الصوفية, يبيع فيه بستاناً في الجنة على أحد الأشخاص في هذه الدنيا، بستان يحده شرقاً جنة عدن، وغرباً جنة المأوى، وشمالاً جنة الفردوس، وجنوباً جنة النعيم, وشهد على ذلك فلان وفلان والله تعالى خير الشاهدين, وتزعم الرواية أن الرجل الذي اشترى البستان في الجنة، لما مات رآه بعض الصالحين, وكان هذا الرجل الميت يقرأ: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً} [الأعراف:44] في حس هؤلاء تحول الدين إلى خرافة, فلكي ينقى الدين من الخرافة, لم يجعل الله عز وجل الملائكة ينزلون ويقولون للناس هذا حق وهذا باطل. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 19 ضرورة إيجاد الإنسان الفعال النقطة الخامسة: ما معنى الفاعلية؟ هنا نجد أن الموضوع رجع وعاد إلى مسألة واحدة, وهي: وجود الإنسان الفعال, فلكي نغير ما بالأمة, من تخلف شرعي وديني أو دنيوي, فإن علينا أن نسعى إلى إيجاد الإنسان الفعال المؤثر, فما معنى كون الإنسان فعّالاً؟ معناه أن الإنسان فيه إمكانيات ومواهب وملكات كثيرة, لا بد من استثمار هذه الإمكانيات والملكات والمواهب فيما يرضي الله عز وجل، يقول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] . نحن نضرب مثالاً مادياً يدركه الجميع, هذا إنسان عنده مائة مليون ريال فزكاة هذا المبلغ هل هي مثل زكاة واحد آخر عنده عشرة آلاف ريال؟ هل مقدار الزكاة واحد؟ قطعاً يختلف، ويتفاوت بحسب كثرة المال وقلته, هذا أمر كل واحد منا يعرفه, وقد يوجد إنسان ما عنده نصاب, فهذا لا تجب عليه الزكاة, هذا مثال مادي. لكن عندما ننتقل لمثال آخر معنوي، أكثر الناس يمكن أن يتشكك ويتوقف, هذا إنسان ذكي عبقري مفكر صاحب عقل كبير, وهذا إنسان آخر فيه سذاجة وبساطة وغفلة, هل حسابهم عند الله تعالى واحد يحاسبون بدرجة واحدة؟ لا, كل واحد يحاسب بقدر ما أعطاه الله عز وجل, فالله تعالى يحاسب الذكي بقدر العقل الذي أعطاه, أعطاك الله عقلاً بنسبة (90%) , ماذا صنعت به؟ تحاسب على ذلك, واحد آخر أعطي عقلاً بنسبة (60%) يحاسب على ما أعطي. مثلما أن صاحب المال الكبير يحاسب بقدر ماله، وصاحب المال القليل يحاسب بقدر ماله, إذاً {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] . فكر الآن نحن المجموعة الموجودة بالمسجد لو أدرنا استبياناً، ورقة كل واحد منا يكتب ما هي الأشياء التي يمكن أن يعملها, سنجد أن كل عمل في الدنيا فينا من يحسنه، هذا خطاط, وهذا رسام, وهذا خطيب, وهذا داعية, وهذا حافظ, وهذا عنده قدرة واقعية على ربط العلاقات الاجتماعية مع الناس, وهذا عنده تفكير, وهذا عنده اهتمامات علمية شرعية, وهذا عنده اهتمامات وهذا كاتب وهذا وهذا إذاً كل هذه المواهب وزعها الله تعالى علينا وسوف يحاسبنا عليها قال تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة:48] وهي درجات رفع الله بها بعضنا فوق بعض, هذا أحسن منك في الخطابة, وأنت أحسن منه في الكتابة, وثالث أحسن منكما في المال ينفقه في سبيل الله, وهكذا , وقل مثل ذلك بالنسبة للمجتمع بشكل عام المكون من هؤلاء الأفراد. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 20 الفاعلية حصانة للأمة وجود الفاعلية في الأمة، وكون الأمة مكونة من مجموعة أفراد فعالين مؤثرين ليسوا بسلبيين، وجود هذه الفاعلية هو الحصانة للأمة ضد الانهيار, سواء أكان الانهيار داخلياً أم خارجياً, ولذلك يقول أحد المفكرين الغربيين: إن السبب الحقيقي لأي انهيار؛ سبب داخلي وليس خارجياً، ليس علينا أن نلوم الرياح إذا أسقطت شجرة متآكلة نخرة، وإنما علينا أن نلوم الشجرة نفسها. فوجود هذه الفاعلية، كون الواحد منا إيجابياً هذه ضمانة وحصانة ضد الانهيار الداخلي, وهي حصانة ضد الغزو الخارجي, سواء كان غزواً عسكرياً أم غزواً فكرياً, ويعجبني في هذا المجال أن أستشهد بما قاله عمرو بن العاص رضي الله عنه -كما رواه مسلم - لما سمع حديث الرسول صلى الله عليه وسلم {تقوم الساعة والروم أكثر الناس} قال عمرو بن العاص: أما إنهم على ذلك ففيهم خمس خصال، فذكر خصالهم الخمس وأخيراً قال: {وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك} أي: أن الروم فيهم صفة, وهي أن فيهم امتناعاً عن ظلم الملوك, والغريب أن ما وصفهم به عمرو بن العاص موجود الآن كما نلاحظ في بلادهم، الامتناع من ظلم حكامهم وزعمائهم, لأن فيهم فاعلية وفق عقائدهم ومناهجهم ودينهم, في الشر؛ لكنهم فعالين لا تجد واحداً سلبياً يقول: لا أستطيع! الجزء: 198 ¦ الصفحة: 21 إنسان فعال وآخر غير فعال يقول الله عز وجل في القرآن الكريم: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} [النحل:76] , هذا المثل الأول، هذا مثال لإنسان فقد الفاعلية, فما هو فعّال، إنسان سلبي أبكم لا يتكلم, لا يقدر على شيء، مشلول وهو كلٌّ على مولاه, أي أنه عبء على سيده, يحتاج أن يوفر له الطعام والشراب والكساء إلخ، ولا يأتي بخير، أينما يوجهه لا يأتِ بخير, مثل إنسان لا يفهم، ترسله يشتري لك بضاعة؛ يأتيك بأسوأ ما في السوق وبأغلى ثمن, المرة الثانية لا ترسله إلى هذا العمل, تطلب منه شيئاً آخر يفسده عليك, وهكذا , وفي الأخير تقول: لا نريد منه شيئاً نسلم منه، لا نريد منه خيراً، من خيره أن يكف شره عنا، هذا مثال لإنسان سلبي لا يقدم شيئاً. يقابل ذلك كما قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل:76] هذا الإنسان الإيجابي الفعال المؤثر، الذي هو في كل شيء أو مناسبة أو طلب، يقول أنا لها أنا لها، بقدر ما يستطيع يشارك، يحرص أن يكون شعاره دائما المشاركة, أي مشكلة تنزل، لا يقول: هذه لا تخصني, بل يشارك فيها بقدر ما يستطيع. وهذه القضية قضية الإيجابية، أو كون الإنسان فعالاً، قضية ترجع في الأصل إلى جانب فطري، ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لما سئل {من أكرم الناس؟ والحديث معروف في الصحيحين، قال: الكريم ابن الكريم, ثم قال: أكرم الناس أتقاهم, قالوا: ليس عن هذا نسألك, قال: فعن معادن العرب تسألوني، قالوا: نعم, قال صلى الله عليه وسلم: تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية؛ خيارهم في الإسلام إذا فقهوا} خذ مثالاً عمر بن الخطاب رضي الله عنه, عمر في الجاهلية كان رجلاً قوياً شديداً, فلما جاء الإسلام بقيت القوة والشدة، لكن بقيت في مجال آخر. ومثلاً: الخوف غريزة عند الإنسان, فالإنسان في جاهليته يخاف من الناس, ويخاف من الموت, والمرض, ويخاف من العدو, ويخاف من الجن, والشياطين, لكن إذا اهتدى وآمن؛ فالخوف باقٍ عنده كغريزة, لكن توجه الخوف لجهة أخرى، فصار يخاف من الله عز وجل, ويخاف من عقاب الله بذنوبه, وما أشبه ذلك, ولا يخاف مما سبق, كذلك قوة عمر رضي الله عنه في الجاهلية، صرفت في الإسلام إلى مجالها الطبيعي الصحيح، وخذ مثل ذلك خالد بن الوليد كان شجاعاً. وحين تنتقل إلى المجتمع تجد نفس الكلام, المجتمع العربي اختاره الله اختياراً ليكون هو الذي يحمل رسالة الإسلام إلى الناس, لخصائص علمها الله في هذا الشعب كانت تميزه عن غيره, ولذلك فالله عز وجل رد على صنفين من الناس, رد على اليهود الذين كانوا ينتظرون النبوة فيهم, فلما جاءت النبوة في العرب رفضوها وردوها, فالله تعالى رد عليهم وبين أنه أعلم حيث يجعل رسالته، ورد أيضا على العرب الذي انتقدوا بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم بالذات، حيث قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] كانوا يعتقدون أن يكون المبعوث رجلاً آخر غير الرسول صلى الله عليه وسلم, لأن مقاييسهم مادية، فرد الله على هؤلاء, وهؤلاء وهذه المواصفات الفردية الإنسانية في الفرد وفي المجتمع، الله تبارك أعلم بها والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 22 السلبية وأسباب وجودها سادساً: لماذا لا نعمل؟ ما سبب فقدان الفاعلية عندنا؟ ودعونا نكون صرحاء، أي واحد منا الآن، لو أتينا بنموذج عشوائي لأي شخص من الشباب الحاضرين, وقلنا ما رأيك بما يجري في الأمة من مصائب ونكبات قريبة أو بعيدة؟ هل لك فيه دور أو سبب؟ يقول: لا، أنا برئ, أنا إن تكلمت لا يسمع لي, وإن قلت لا يسمع قولي, وحتى في بيتي الوالد والوالدة هداهم الله لا يتقبلون مني, زملائي في الفصل يسخرون مني, أصبحت محاصراً وما بقي فقط إلا أن أستعين بالله عز وجل, وإلا في الواقع ليس لي أي دور. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 23 الاحتجاج ببعض المفاهيم الخاصة وأخيراً: إن بعض الناس يهربون إلى الاحتجاج ببعض المفاهيم الخاطئة, مثلاً يقف بعض الشباب عند قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {يا عبد الرحمن بن سمرة: لا تسأل الإمارة} وقوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه سعد بن أبي وقاص: {إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي} فيقول: يا أخي نؤثر العزلة والخمول، والبعد عن القيل والقال والكلام, تدعوه أن يلقي كلمة، يخطب في الناس، يتحدث ويعلم ويدرس, يقول: لا يا أخي، دع هذه الأشياء, لأنه وجد نصوصاً فسرها تفسيراً خاطئاً وحاول أن يستخدمها في هذا المجال. لكنه نسي نصوصاً أخرى تحكم عليه, نسي قول يوسف عليه السلام {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] صاحب موهبة لا توجد عند غيره, يعلن عن نفسه أنا أستطيع أن أفعل كذا. ونسي قول عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه -فيما رواه أهل السنن- وهو حديث صحيح {قال: يا رسول الله اجعلني إمام قومي -لأنه يطلب منصباً دينياً ليس منصباً دنيوياً- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت إمامهم، واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} إذاً لا تأخذ جانباً واحداً أن تؤثر العزلة والخمول وألا يُعْرَفُ الإنسان أبداً، قد يكون في أوقات كثيرة تتطلب أن يشهر الإنسان نفسه, يعلن نفسه ويتكلم ويُعرف, ولا يترتب على ذلك بعض المضار التي يشعر بها في قلبه. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 24 التوقف بحجة زمن الفتنة خامساً: من المهارب التي نهرب إليها: أننا نتوقف بحجة أن هذه أزمنة الفتن, نحن في أزمنة الفتن، وننسى أن الفتنة نفسها هي ثمرة انحراف في الأمة, وإنما جاءت الفتنة بسبب الانحراف في الأمة، ولذلك ما جاءت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا في عهد أبي بكر , ولا في عهد عمر , إنما جاءت في عهود المتأخرين، وكلما تقادم الزمان كثرت الفتن. إذاً الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، لا تتصور أنها كمطر السوء، العذاب الذي يمطر على الناس من السماء, بل إن الفتن تخرج من واقع الأمة أيضاً، بسبب أخطاء الناس ومعاصيهم وذنوبهم وظلمهم لأنفسهم تأتيهم الفتن, فإذا نظرنا إلى الفتنة ووجدنا أنها أمر حتمي لا بد منه, بحكم أن الأسباب وجدت, لكن لو نظرنا إلى الأسباب، هل الأسباب التي أدت إلى الفتن وهي الذنوب والمعاصي -حتمية- وكان لابد أن نعصي الله عز وجل؟! كلا، كان بإمكاننا أن نطيع الله عز وجل في ظاهرنا وباطننا، على المستوى الفردي والجماعي والرسمي والشعبي، فنسلم من هذه الفتن, لكن وقعنا في المعاصي، فجرتنا إلى هذه الفتن التي أخبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 25 تعطيل الجهود بالكلام المهرب الرابع الذي نهرب إليه أحياناً: هو تعطيل جهود البناء اليومي القريب، بكلمات جوفاء وشعارات كاذبة، نعطل بها حركة التاريخ، بدعوى أننا ننتظر الساعات الخطيرة والمعجزة الكبيرة, نحن مشغولون بالأهم, ولذلك لا نبذل ولا جهوداً صغيرة, لعل المثال الذي ذكرته يصلح أيضاً هنا: فلو كان عندك عشرة ريالات، فممكن أن تساهم في حل مشكلة كبيرة للمسلمين في أي بلد, لكن أنا عندي عشرة والآخر عنده عشرة، كل واحد يقول: عشرة لا تساوي شيئاً, هذه تحتاج إلى أمور كبيرة. ونفس الكلام مع كثير من الناس اليوم عندما تحدثه عن منكر موجود في المجتمع, يقول: يا أخي المجتمعات تحتاج إلى حل جذري, هذه لا بد من وجود قوة تقوم على هذه المنكرات وتزيلها، بخطاب أو بمرسوم أو بجرة قلم مثلاً, لكن دعنا من هذا الكلام العام وهذه الأحلام, لماذا لا نحاول إزالة المنكرات بإمكانياتنا البسيطة وبقدر ما نستطيع؟! ومثل ذلك: القضية التي يدندن حولها بعض الإخوة أحياناً، عندما يأتي بعض الشباب يتكلمون في قضايا فرعية، منكرات، مثلاً: مثل شاب عنده معصية، إما في طول ثوبه, وإما في شعره, أو سماع الغناء, أو شرب الدخان, المنكرات القريبة الموجودة المتداولة، التي قل من يسلم من بعضها, يأتي إنسان يتكلم في بعض هذه الأشياء, يأتي آخر يقول: يا أخي الأمر أعظم من ذلك، أنت مشغول في هذه الأمور البسيطة. والأمر الأعظم من ذلك, إذاً الأمر الأعظم هو قضية الإسلام والمسلمين ومصائبهم ومشاكلهم وبلاياهم، ويبدأ يسرد لك سلسلة من آلام المسلمين. نحن لا نعارض، نحن نقول: من لم يتألم لآلام المسلمين فلم يحقق الإسلام الحقيقي, لأن المسلمين كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص, لكن هذا الإنسان الذي صرفك عن الاشتغال بقضية جزئية في وقت محدد, هل دفعك فعلاً إلى الاشتغال بالقضية الكبرى؟ أم شغلك عن هذا الأمر اليسير، ثم جعلك لا تعمل شيئاً، بحجة أنك تفكر بالمعجزة الكبيرة، وأنك مشغول بالأهم. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 26 تسهيل الأمور ثالثاً: ننتقل بعد ذلك إلى العكس, يأتي واحد ويقول: لا يا إخوان، ليست المشكلة بهذه الخطورة, ولا بهذا التعقيد, ولا بهذه الضخامة, ويبدأ يبين لنا أن المشكلة لها حلول، فإذا استأنسنا مع كلام هذا الإنسان، أخذنا الموضوع إلى الطرف الثاني, تقول: إذاً الموضوع بسيط لا يحتاج حلاً, ما دام أن الموضوع بهذه الصورة, هو أبسط من أن نشتغل فيه. إذاً الموضوع إما أن يكون خطيراً لا نستطيع التفكير فيه, وإما تافهاً بحيث لا يحتاج إلى أن نفكر فيه, ولذلك تجد الإنسان متفائلاً أكثر من اللازم أحياناً, تذكر له مصائب الناس ومشاكلهم، يقول: أمة محمد صلى الله عليه وسلم بخير، إذاً الواقع بناءً على ذلك لا يحتاج إلى عمل. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 27 أسباب وجود السلبية لماذا توجد هذه السلبية عندنا؟ هذه مسألة تطول ولكن أذكرها باختصار: الجزء: 198 ¦ الصفحة: 28 تحميل الآخرين الأخطاء السبب هو: أننا دائماً نؤثر الدفاع عن أنفسنا, وأننا دائما على صواب, وأن نحمل التبعة غيرنا، وأحياناً نحتج بالقدر, وأحياناً نحتج بالماضي, وأحياناً نحتج بالمجتمع, وأحياناً نحتج بالشيطان، أن هذا من فعل الشيطان إلى غير ذلك, وقضية المسئولية هذه تكلمت عنها في محاضرة مستقلة عنوانها: "نحن المسئولون"، يمكن مراجعتها في هذه النقطة. إذاً نحن دائما نتبرأ من المسئولية وندافع عن أنفسنا, ونلقي باللوم على غيرنا, أحيانا نلقي باللوم على العلماء, أو على الحكام, المهم أن نخرج نحن من الدائرة أبرياء, وبعد ذلك لا يهمنا من المسئول. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 29 تهويل الأمور وتضخيمها النقطة الثانية التي تجعلنا لا نعمل: هي أننا -أحياناً- نهول الأمر بحيث يبدو أن هذا الأمر وكأنه فوق الحل, عندنا مشكلة فتجد أننا نبالغ في وصف المشكلة وتضخيمها وتعقيدها وتشابكها, حتى يخيل إلينا أن هذه المشكلة ليس لها حل, إلا من عند الله عز وجل، فهي معقدة والبشر لا يملكون حلها, إنما ننتظر الحل من عند الله عز وجل! وهذا ينم عن وجود تشاؤم عند الناس أو عند بعض الناس, يقول الزم بيتك ودع عنك هذه الأمور, وهذه لا حل لها, مشكلة ليس لها من دون الله كاشف. إذاً العمل غير مجدٍ ولا فائدة منه, لماذا يقول هذا؟! لأنه لا يريد أن يعمل. المسلم -للأسف الشديد- تعود اليوم على الكسل, أي شيء يخلصه من العمل يحرص عليه بكل وسيلة, فمن الوسائل أن يلقي بالتبعة على غيره, ومن الوسائل أن يضخم الأمر حيث يبدو الأمر فوق الحل. مثال بسيط -إنسان صار عنده أزمة اقتصادية, وفشل في مشاريع, أو جمع أموالاً في الخير وضاعت عليه … إلخ, المهم تحمل (حمالة) وصار عليه مبالغ طائلة ملايين كثيرة, أراد أن يجمعها وجاء إليك، أنت حينئذٍ تضخم المشكلة عند هذا الإنسان، بحيث أن المبلغ كبير ولا يكفي المبلغ الذي أملكه, إذاً فالموضوع فوق الحل, ادع الله عز وجل، لكن إذا جاء أمر خارق للعادة، أمر غير متصور يحل لك هذه المشكلة، إذا نحن نهول الأمر. وقل مثل ذلك في مشاكل الأمة العامة, المشاكل العسكرية, والتخلف الصناعي إلخ, نهولها إلى حد أنه ليس لها حل. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 30 علاج السلبية ما هو الحل؟ وهذا هو بيت القصيد، كيف ننتهي من هذه السلبية؟ وكيف نغير هذا الواقع؟ هناك عدة مراحل وعدة نقاط: وضع أقدامنا على الطريق الصحيح: أولاً: المطلوب البدء وليس النهاية، هذه قضية يجب أن تكون واضحة في أذهان الشباب، ليس المطلوب أننا ننهي مشاكل المسلمين، لأن مشاكل الأمة لا تنتهي بجرة قلم، إنما المطلوب البداية أو أن نطمئن أننا وضعنا أقدامنا في الطريق الصحيح، وهناك مثل يقول: " رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة ". خذ مثالاً: قضية الربا؛ اليوم يقوم عليه اقتصاد العالم كله، فهل تتصور أنت، أن قضية التخلص من الربا تتم بقرار؟! ليس كذلك بالضرورة لكن يكفيني أن أطمئن إلى أن هناك نواة لبنوك شرعية لا ربوية بدأت توجد؛ لأنني أثق حينئذٍ أن البنوك الأخرى ستغلق أبوابها لأنه وجد البديل الصحيح، وكل مسلم لا يمكن أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويترك الحلال إلى الحرام. مثل آخر: القضايا الإعلامية والمواد الإعلامية، الإعلام في العالم الإسلامي كله، إعلام -بلا شك- ليس على مستوى الإسلام ولا على مستوى المعركة التي يعيشها المسلمون، إذاً كيف التخلص؟ مجرد قرار لا يكفي ولا يحل المشكلة، إذاً القضية تبدأ من خلال خطوات معينة، فأنا حين أطمئن إلى أنني بدأت بتقديم مواد إعلامية صحيحة للناس، أطمئن إلى أنه مع ازدياد هذه المواد واتساعها، تملأ الساحة حتى تغنى عما سواها، وهذا الكلام من الممكن أن يقال على المستوى الرسمي وعلى المستوى الشعبي، بشرط: عدم ربط أحدهما بالآخر، بمعنى أنه لا يجوز أن نرجع مرة أخرى ونضيع القضية بيني أنا وبينك، أنا لا أعمل شيئاً، لماذا تقول: لا أعمل شيئاً؟ أقول لأنه لا توجد فائدة: متى يبلغ البنيان يوماً تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم أنا فرد في مجتمع وأنا ترس في آلة، وما دام أن المجتمع كله ضدي! أنا لا أعمل شيئاً، فصرت أجلس وأعلق المسئولية على المجتمع بوسائله وقنواته المختلفة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 31 خطوات علاج الأمة والرفع من قيمتها إن المجتمع من خلال مؤسساته وقنواته ووسائله لا يعمل شيئاً، لماذا لا تعملون؟ لماذا لا تغيرون؟ لماذا لا تعدلون وتصلحون؟ قالوا: والله يا أخي هذه حاجة الناس وهذه رغبة المواطنين، هذه خطابات وهذا كذا، الناس يريدون هذا المنكر أن يبقى. إذاً لا يجوز أن تضيع القضية بين الفرد وبين المجتمع، بين الأمة وبين أفرادها ومؤسساتها، بل ينبغي أن نقول: الفرد يجب أن يعمل، والمجتمع بمؤسساته وقنواته وأجهزته التعليمية والإعلامية وغيرها يجب أن يعمل، ولا نربط أحدهما بالآخر، وفي حالة وجود تقصير من أحدهما لا يعذر هذا، ولا يبرر للآخر أنه يقصر فيما عليه، الخطوات تقريباً ست خطوات التي اقترحتها، ومن الممكن أن تساهم في حل هذه المشكلة التي يعانيها المسلمون: الجزء: 198 ¦ الصفحة: 32 إعداد رجل العقيدة النقطة الخامسة: إعداد رجل العقيدة، لأن القيادة هذه، تحتاج إلى جمهور وتحتاج إلى جنود وأتباع، فهنا نحتاج إلى رجل العقيدة، ورجل العقيدة باختصار: هو الذي أصبحت العقيدة همه، فإذا استيقظ يعمل من أجل العقيدة، وإذا نام فأحلامه تدور في قضية العقيدة، أصبحت الفكرة همه، تقيمه وتقعده، وهى منطلق حركته ونشاطه، ليست القضية مجرد كلام في مجالس أحاديث، قضية هم، هل أنت تحمل هم الإسلام؟ هل تتقلب على فراشك عند النوم؛ حزناً على ما واقع المسلمين؟ هل كلما فكرت في نفسك في أي حال كنت، وجدت أنك تفكر في أوضاع وأحوال المسلمين في كل مكان؟ أم أن القضية لا تشغل عندك حيزاً من الفراغ. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 33 ترتيب الأولويات في كل شيء النقطة السادسة: قضية ترتيب الأولويات في كل شيء، مثلاً في القضايا الشرعية وغير الشرعية، هناك أمور ضرورية بالدرجة الأولى، تأتي بعدها أمور حاجية وبعدها تحسينية، فلا بد من ترتيب الأولويات، ففي المجال الشرعي مثلاً العناية بتوجيه الهم للأصول الشرعية وبيانها وبيان ما يتعلق بها، لا شك أنه أولى من العناية ببيان الجزئيات والسنن والمكروهات، وهذا لا يغني عن الاشتغال بهذا، تشتغل بهذا وذلك، ولكن تعطى كل شيء بحسبه، هذا لا بد منه في المجال الشرعي. وحين تنتقل إلى المجال الدنيوي، تجد الكلام نفسه -فمثلاً- في عالم الصناعات، هل الأمة التي تريد أن تبدأ بالتصنيع، مطلوب منها أن تبدأ بتصنيع -مثلاً- الآلات الموسيقية وأدوات التجميل؟ أم مطلوب منها أن تبدأ بالضروريات بالتصنيع الحربي، التقنية العسكرية، التي تحتاج إليها، في وجودها وقوام حياتها ومدافعة أعدائها؟ لاشك أنها تبدأ بالضروريات، وهناك أشياء حاجية، وهناك أمور تحسينية مخالفة للشرع أصلاً لا يجوز البداءة بها، ولا التفكير بها أصلاً. إذاً الأمة التي تبدأ بأمور الترف تكون انتهت من حيث بدأت، وقتلها الترف قبل أن توجد، لأن الترف يوجد في النهاية، لأن الأمة تبدأ قوية وبعد عشر سنين أو مائة سنة أو مائتي سنة يبدأ الترف يدب إليها ثم يقتلها فالترف يكون في النهاية وهو قاتل. فما بالك بأمة تبدأ بالترف؟ هذه أمة حكمت على نفسها بالزوال قبل أن توجد، لا يمكن أن تكون البداية بالترف، ولكن لابد من الجدية والأمور الضرورية اللازمة. نرجع في النهاية ونقول يقول الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى:30] {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:118] . التغيير يبدأ من عند الإنسان، والحمد لله رب العالمين. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 34 من يغير هذا الواقع النقطة الثالثة: القناعة بأن هذا التغيير للواقع يمكن أن يتم على يدي ويدك، وأني أنا وأنت، والثاني والثالث بإذن الله تعالى وعونه نستطيع أن نصنع شيئاً كثيراً، بمعنى: أن بعض الناس مقتنع أن الواقع فاسد -واقع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها فاسد، ومقتنع أن هذا الواقع للمسلمين يمكن أن يغير، لكنه يقول: ليس أنا ولا أنت يمكن أن نغيره، لكن ننتظر جيلاً قادماً، وقد ذكرت في بعض المناسبات، أن هناك مثلاً عجيباً يقول: "المشكلات التي يعيشها جيلنا الحاضر هي من إنتاج الجيل السابق، وسوف يحلها الجيل اللاحق". إذا نحن خرجنا من المسئولية، مشاكلنا هذه موجودة في الماضي، وإن شاء الله تحل في المستقبل، أما نحن فمتفرجون. إذا لابد أن يكون عندك قناعة بأن هذا التغيير يمكن أن يتم على يدي ويدك كلٌّ بحسبه، تغير في نفسك أولاً، أول شيء غير في نفسك، حتى يغيروا ما بأنفسهم، غير بيتك، غير الحي الذي أنت فيه، غير البلد الذي تعيش فيه، والتغيير لا يتم في يوم وليلة وتختفي المنكرات، ويكون كل الناس في المساجد يصبحون عباداً وزهاداً صالحين، ليس هذا بالضرورة، هذه أمور بالتدريج والأسباب كما ذكرت من قبل. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 35 وجود القيادة الربانية النقطة الرابعة: ضرورة وجود القيادة الربانية، التي تملك الصدق والشجاعة وتضرب المثل للناس، لأن الناس في الغالب مقلدون، وهذا كلام إلى حد ما حق، الناس مقلدون، فلو سألناك -مثلاً- البيت الذي بنيته على أي أساس فصَّلت البيت، ووضعت تصميمه وتخطيطه؟ ما ابتكرت تخطيطاً من عند نفسك، إنما وجدت الناس يصنعون شيئاً فصنعت مثلهم، الثياب التي تلبسها -سواء الرجل أم المرأة- على أي أساس لبسها، واختار هذا القماش وفَصَّل، إنه لم يبتكر شيئاً من عنده، إنما وجد الناس وفعل مثلهم، فغالبية الناس مقلدون، ولذلك بعضهم يدور حول بعض، وتنتشر بينهم العادات سواء حسنة أم قبيحة. فما أحوج الناس خاصة في هذا العصر إلى قيادة ربانية تملك خصالاً من أهمها: الصدق والشجاعة، قد يوجد إنسان صادق لكنه جبان والجبان لا يعمل شيئاً، قال الشاعر: يرى الجبناء أن العجز عقل وتلك سجية الطبع اللئيم فالجبان لا يصنع شيئاً لأنه خائف فالناس حينئذٍ يصرفون النظر عنه، والآخر قد يكون شجاعاً، لكنه شجاع بالباطل، فهذا أيضاً لا ينفعنا ولا يغنينا شيئاً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 36 القناعة بانحراف الواقع النقطة الأولى: القناعة بانحراف الواقع، لأن الإنسان الذي يقول عن الواقع: ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم بخير، وأمورنا الآن على ما يرام، هذا ليس فيه فائدة، لأنه لا يغير واقعاً، يرى أنه جيد، هذا بالعكس يقول: الحمد لله عسى أن يبقى الواقع كما هو، إذاً لابد أن يكون الإنسان الذي يفكر بتغيير الواقع، وبتغيير نفسه مقتنعاً أن الواقع منحرف يحتاج إلى تغيير. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 37 الاقتناع بإمكانية تغيير الواقع يلي ذلك نقطة ثانية: وهي أن يكون مقتنعاً بإمكانية تغيير الواقع قد يأتي إنسان يقول لك: الواقع والعياذ بالله فيه كذا وكذا، ويقدم لك تقريراً أسود عن فساد الواقع، مما هو صحيح وليس بصحيح، وقد يكون فيه بعض المبالغات وبعض الحق، ثم بعد ذلك تقول: ماذا تريد أن تعمل؟ يقول لك: أبداً ليس في الإمكان أن أعمل شيئاً، ولا مجال للإصلاح، ولابد أن ننتظر إما عذاباً من السماء أو الساعة أو الدجال … إلخ، فالذي ليس لديه قناعة بإمكانية تغيير الواقع هذا نسقطه من الحساب أيضاً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 38 الأسئلة الجزء: 198 ¦ الصفحة: 39 مصاحبة الإيذاء للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال ما رأيك بالذي يكون لديه حرقة في داخل نفسه، لكن لا يستطيع أن يفعل شيئاً، وإذا فعل شيئاً كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوذي وسكت عن فعله، ماذا يكون دوره إذن؟ أرجو الإجابة! الجواب علينا أن نلغي كلمة: (لا يستطيع أن يعمل شيئاً) هذه يجب أن نلغيها من قواميسنا، هو يستطيع أن يفعل شيئاً، والدليل: أنه أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأوذي وهذا طبيعي، فالذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويعتقد أنه لا يؤذى فهو واهم. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 40 النصر الرخيص السؤال ذكرتم في مقدمة كتاب البشائر، جملة أرجو شرحها وهي نصاً: (النصر الرخيص لا يجئ وإن جاء لا يدوم) ؟ الجواب نعم النصر الرخيص لا يأتي، أي أن النصر الذي بدون جهد وبدون تحصيلٍ للأسباب، هذا لا يأتي، وإذا جاء فإنه مؤقت لا يدوم ولا يستمر بل يزول. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 41 تنمية الشعور بهمِّ الإصلاح السؤال كيف نستطيع تنمية الشعور بهم الدعوة الإصلاح؟ الجواب أولاً: نم هذا الشعور في نفسك، لأنه إذا نما في نفسك فإنه سوف ينمو في جلسائك بالعدوى، العدوى الطيبة، فالأمور الطيبة تعدي، مثلاً طالب علم في مجالسه وفي حديثه وفي دروسه يحاول أن يضرب على هذا الوتر، يحرك همم الناس وعواطفهم، ثم هم يحركون هذا في غيرهم، وهكذا ينتشر الأمر في الأمة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 42 جهاد المنافقين قبل جهاد الكفار السؤال إني أحبك في الله، وأنا شاب أريد أن يرزقني الله الشهادة في سبيله، قد حدثت نفسي بالجهاد، عمري (17) تقريباً، إذا قلت لأهلي عن الجهاد؛ لم يأخذوا كلامي، لأنهم يعتبرون أني صغيراً، والحمد لله دفعت بعض الأموال للمجاهدين؟ الجواب أنا أرى أن مجرد الهم في نفسك هذا أمرٌ مما نريد، هذا نريده نحن، نريدك ونريد أمثالك ممن يحبون أن يرزقهم الله الشهادة، لكن ينبغي أن لا يكون همك فقط أن تذهب إلى أفغانستان لتموت هناك، فكر لعل الله أن يرزقك الشهادة -إن شاء الله- بعد ثمانين سنة تقضيها كلها في جهاد المنافقين، جهاد أعداء الله، في نشر العلم والتعليم والدعوة، أليس هذا هو أفضل؟ ما رأيكم أيهما أفضل: أن واحداً يموت وعمره (17) سنة شهيداً، أو أن يموت وعمره (80) سنة شهيداً، بعد ما أمضى ثمانين سنة في الدعوة إلى الله والإصلاح والتعليم وبذل ما يستطيع، لا شك أن الآخر أفضل، فاحرص على أن تكون الثاني وإن كانت الأمور بيد الله تعالى. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 43 أنواع إعداد العدة السؤال كيف يكون إعداد العدة في الوقت الحاضر؟ الجواب العدة في كل شيء، على الأقل الإعداد المعنوي والإعداد النفسي، الإعداد النفسي هذا من العدة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التدرب على إزالة الهيبة والخوف والرهبة، حتى العدة بالعلم والعمل والعبادة والتقوى وكل هذا من العدة، كذلك من العدة تدرب الإنسان على الأسلحة وفنون التسليح. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 44 أنواع الجهاد السؤال هل الجهاد مقتصر على النفس؟ الجواب الجهاد شامل، الجهاد بالنفس، الجهاد بالمال، والجهاد باللسان، كل ذلك من الجهاد. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 45 البداية الصحيحة وترك العجلة السؤال أخبركم بما يجول في عقول كثير من الشباب، من الرغبة في الدعوة والجهاد في سبيل الله، لنصرة دين الله، ولكن أين السبيل والطريق؟ والكل ينادي بذلك ويوهمك أنه يسعى إلى تحقيق ذلك، ولكن من يصدق قوله عمله؟ هذا ما يحيرني ويحير كثيراً من الشباب، فما هو الحل السليم لتلك الأعمال، واختيار الطريق الصحيحة؟ الجواب أعتقد أن سبب هذه الحيرة التي عبر عنها الأخ، يعود إلى قضية موجودة عندنا وهي: أننا متعجلون. المشاكل يا أحبتي، والأمراض الموجودة في الأمة منذ مائة سنة ومائتي سنة، لا تُزَالُ بين يوم وليلة، والنصر لن يأتي بيوم وليلة أبداً، لكن ينبغي أن ترجع إلى السؤال الذي طرحته أثناء المحاضرة، وهو: هل بدأنا أم لا؟ والله لا يؤسفنا، لو لم تأت النتائج إلا بعد خمسين سنة، إذا اقتنعنا أننا بدأنا بداية صحيحة وبتفكير منطقي سليم، وبدأنا بالأمور المهمة وأعطينا كل ذي حقٍ حقه، وكل إنسان عرف دوره، وكانت هناك جهود متظافرة يكمل بعضها بعضاً، بذلك نطمئن. لكن المصيبة إذا كانت أعمالنا كلها عشوائية ارتجالية، مثل ما يقول المثل العامي: (مثل حرث الجمال، يطأ بعضه بعضاً) هذا يهدم ما عمل ذاك، وهذا يقوم ضد هذا، وهذا يعمل بطريقة وهذا يعمل بطريقة أخرى، فالأمور كلها أمور ارتجالية، هذه المشكلة، المهم كيف نبدأ، فإذا بدأنا بعد ذلك لا يضر، فلا تأتي الأمور بيوم وليلة، لا تعتقد أن الفرج يأتي اليوم أو غداً، الأمور بيد الله عز وجل. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 46 الاتجاه إلى العلوم غير الدينية السؤال مع حاجة الأمة إلى ما يغنيها عن أعدائها؛ إلا أن هناك من يصرف الشباب عن العلوم التجريبية، وأنا لا أعلم إلا العلم الشرعي، وأنه لا علم إلا العلم الشرعي؟ الجواب هذا من الأخطاء، فالأمة محتاجة إلى كل العلوم المباحة التي تحتاج إليها في دنياها، ويجب أن يتجه من الأمة من تقوم بهم الكفاية. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 47 واجب الفرد السؤال نرى في أمتنا الخور والضعف ونرى هذا بأعيننا، ما واجب المسلم بصفته فرداً ليس بيده شيء؟ الجواب واجبه أولاً: أن يقتنع أنه ليس بصحيح هذا الكلام، أنه ليس بيده شيء، بل بيده شيء وبيدك أن تعمل، وبيدك أن تدعو، وتفكر، وبيدك أن تحل ما يتعلق بك شخصياً -فأنت جزء من الأمة- وما يتعلق ببيتك وبزملائك، وتبذل ما تستطيع، وإياك إياك أن تكون سلبياً تقول: ليس بيدي شيء. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 48 النعيم للمؤمن في الدنيا السؤال ذكرت أن النعم والصحة بسبب الطاعات والأعمال الصالحة، فكيف اتفق ذلك مع الآيات التي في سورة الزخرف {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} [الزخرف:33] ؟ الجواب الكلام في هذا الموضوع يطول، لكنني أقول كما قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16] وقال: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] والكلام في هذا الموضوع يطول يحتاج إلى درس خاص، وأعتقد أني سبق وأن تحدثت عن هذا أيضاً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 49 بداية التغيير السؤال نريد أن نعرف كيف نكون فعالين في مجتمعنا الإسلامي، ونحب أن نكون دعاة للإسلام؟ الجواب هذا السؤال جميل، والله يا إخواني أعظم شيء نفخر به ونفرح هو أن ترد مثل هذه الأسئلة الكثيرة؛ لأن مجرد السؤال يدل على أننا نريد أن نصنع شيئاً، وهذا بحد ذاته بداية طيبة، معناه أننا بدأنا: بدأنا نمزق ثوب العدم ونلطم بالحق وجه السدم بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم وفينا الكرامة مهجورة كمحصنة لوثتها التهم وفينا وفينا، لكننا بدأنا. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 50 الاستفادة مما لدى غيرنا السؤال لقد تكلمت عن الحماس الذي أداه ذلك الرجل الياباني، ونحن نشاهد الشعب الياباني لديه حماس عجيب في المنافسات الصناعية، مع ما عملته فيهم الحرب، وأما المسلمون فلا نجد فيهم ذلك مع كثرة الكتب والخطباء والدعاة، فما هو السبب؟ الجواب السبب والله تعالى أعلم: أن اليابان الآن أمة فتية، بدأت من الصفر، وبدأت من جديد، مع أنها ضربت بالقنبلة الذرية وحطمت؛ لكنها بدأت بداية جيدة، والآن تنافس في التقدم العلمي والصناعي بشكل جيد، وقد استطاعت، كما قال مالك بن نبي رحمه الله: في البداية أن تكون تلميذاً للتقدم الغربي، أما نحن المسلمين ما استطعنا أن نكون تلميذاً للتقدم الصناعي، وإنما استطعنا أن نكون زبائن، وفرق بين التلميذ والزبون، التلميذ تلميذ اليوم وغداً يصبح مدرساً، ولكن الزبون يظل زبوناً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 51 تغلب الأمة على أعدائها عبر التاريخ السؤال ما رأيكم بمن يجلب اليأس بالتخاذل لنفسه وللناس في هذه الأزمة، أرجو أن تناصحونا وتعطونا الحل الناجع لهذا المرض؟ الجواب مساكين نحن يا إخوان، نظن أن الأمة أزمتها هي الأزمة التي نعيشها الآن، بل إن الأمة مرت بأزمات كهذه كثيرة، هذا تاريخ الأمة، هذا قدر الأمة منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في مصاولة ومجاولة ومناولة مع الأعداء، إذا خرجت من معركة دخلت في معركة أخرى، هذا تأريخ أمتنا، ونقول: الأزمة هذه وما سبقها هي بإذن الله تعالى بداية العافية للأمة، لأنها التحدي الذي سوف يثير الاستجابة في نفوسنا، سوف يحرك الأمة إلى أن تفكر كيف تخرج من هذه الأزمات، كيف تحل مشاكلها، كيف تتغلب على أعدائها، كيف تستغني عن أعدائها، وهذه بداية الحل، لكن علينا ألا نيأس. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 52 متى نستحق النصر السؤال هل نحن بواقعنا المعاصر أهل لنصرة الله عز وجل مع وجود المعاصي جهاراً بيننا؟ الجواب لا شك أن الله عز وجل يؤتي النصر من يشاء، ومن يستحق، ومن العجيب: أن الله عز وجل لما ذكر النصر عبر بتعبير لو فكر الإنسان فيه لوجد العجب العجاب، قال الله عز وجل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحج:40] ثم بيَّن من هم الذين ينصرون الله، {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] ونكون أهلاً للنصر إذا علم الله أننا إذا انتصرنا ثبتنا وصبرنا ووفينا، وإلا فقد تجد إنساناً يصوم ويصلي ويدعو، لكن لو نصره الله عز وجل لخان الأمانة، وتراجع وانخذل، فهذا لا يعطيه الله سبحانه وتعالى النصر. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 53 وجود أسباب النصر الكافية السؤال نحن أمة فينا التقي المصلح وفينا المفسد، ويوجد بعض الصحوة التي نحن بحاجة إلى إنمائها، السؤال: هل يوجد عندنا أسباب النصر الكافية، علماً أننا بحاجة إلى سنين للدعوة إلى إصلاح الأمور، وابتلينا بحرب على الأبوب؟ الجواب لا شك أنه لا توجد أسباب نصر كافية عندنا، لكن يجب أن نسعى إلى تحصيلها. وفي الواقع أن الله عز وجل إذا كتب للأمة العز والتمكين؛ فإنه ربما تأتي العافية بأقل مما نتصور، إذا بدأنا بداية صحيحة فإن الله عز وجل يقيض لنا إمكانيات وقوى لا تخطر لنا على بال، لكن المشكلة حتى الآن أننا لم نبدأ بداية صحيحة، أعمالنا كلها أعمال ارتجالية عشوائية غير مدروسة، نعمل لكن أعمالاً مرتجلة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 54 التغيير الفعلي السؤال أخي في الله، ألا تعتقد أن من أولويات التغيير في نفوسنا؛ تغيير مراكز القوى في نظرتهم للواقع، وقيادة الشباب للتغيير الفعلي، بدلاً من التسويف والتعليق على شماعة عدم إثارة الفتن؟ الجواب نعم هو كما ذكرت بارك الله فيك، نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 55 الدعوة في الأماكن المختلفة السؤال أعيش في بلد معظم سكانه من المسلمين، الذين تجد لديهم حمية للدين، حتى لو لم يؤثروا ذلك، لكن الذين يتقلدون أزمة الأمور في ذلك البلد ينتمون إلى الإسلام اسماً والله أعلم بما يعملون، ويصعب أن يظهر الإنسان دعوته خوفاً من هؤلاء، فما السبيل إلى الدعوة مع مثل هؤلاء؟ الجواب إن الإنسان يستطيع أن يدعو في كل مجتمع، وفي أحلك الظروف وأسوأ المجتمعات تستطيع أن تدعو إلى الله عز وجل، لكن عليك أن تفكر بماذا تبدأ وكيف تبدأ وأين تبدأ؟ فكر بهذه الأسئلة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 56 مفهوم التضحية السؤال نسمع بالتضحية فما هي؟ الجواب التضحية هي أن يبذل الإنسان نفسه أو ماله في سبيل الله عز وجل. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 57 من أنواع التضحية السؤال كيف يضحى الإنسان؟ الجواب يضحي الإنسان بحسب الحال وبحسب ما يملك، قد يضحي بالوقت، قد يضحي بسمعته في سبيل الله عز وجل، ومكانته عند فلان أو علان، وقد يضحي بماله وقد يضحي بنفسه. يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود الجزء: 198 ¦ الصفحة: 58 إلغاء المستحيل السؤال كيف يكون الإنسان فعالاً؟ الجواب يكون فعالاً بأن يعمل أي شيء، يلغي من قاموسه كلمة (لا أستطيع) أو كلمة (مستحيل) هذه يضرب عليها، ويضع بدلها كلمة حاول، هكذا يستطيع أن يكون فعالاً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 59 التقصير في العبادة بسبب الانشغال بالدعوة السؤال قد يكون للإنسان نشاط في مجالٍ معين ويفيد في مجتمعه، لكن مقابل ذلك يحصل تقصير من ناحية نفسه من ناحية عبادته وزاده الروحي، ومهما حاول التوفيق لا يستطيع فما هو الحل؟ الجواب ابذل ما تستطيع في تقويم نفسك، وتزويد نفسك بالزاد الروحي والعبادة، وإذا حصل تقصير، بسبب انشغالك في الدعوة إلى الله وإصلاح أمر الناس، فلا تأسَ على ذلك؛ فإن النفع أو العمل المتعدي أعظم أجراً من العمل اللازم، أي: العمل الذي للناس أعظم أجراً من العمل الذي يخصك، فالذي يشتغل بالتعليم والدعوة والإصلاح أعظم أجراً من الذي يشتغل بالعبادة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 60 دعوة الكفار السؤال أنا أعيش ساعات الدوام الرسمي في مستشفى وهو مقر عملي، لكني لا أتكلم الإنجليزية، فكيف أدعو الكفار إلى دين الله، وهل عليّ دور في دعوة النساء الكافرات، وما رأيكم في أشرطة الكاسيت والفيديو الدينية، أرجو إفادتي؟ الجواب نعم يمكن أن تستفيد من الأشرطة في دعوة هؤلاء، وبعض النشرات والمطويات المفيدة التي تطبع وتوزع من خلال مكاتب الجاليات وهي موجودة في عنيزة وغيرها، تدعوهم بواسطتها، كما أنك تدعوهم إلى الله عز وجل بالخلق الحسن، وبالقدوة الحسنة وبالإخلاص في عملك، وأنت مطالب أن تدعو جميع هؤلاء بقدر ما تستطيع. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 61 عدم منع الابن من الذهاب للإعداد السؤال لي ابن يبلغ من العمر إحدى وعشرين سنة يرغب في الذهاب إلى التدريب في الأفغان، فهل يحق لي منعه من الذهاب؟ الجواب أبداً لا تمنعه من الذهاب، ولماذا تمنعه؟ هل تريد أن ينشأ شاباً يخاف من ظله، ويفرق من كل شيء، دعه يتربى على معاني الرجولة والفداء، وإن قتل شهيداً في سبيل الله فهذا خير لك، فالشهيد يشفع لسبعين من أهل بيته. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 62 التنظير بدون عمل السؤال كما نرى ونسمع أن الأمة تمر بأزمات مختلفة، ما رأيكم بمن همه التحدث عنها وليس مقصده الحل والعمل؟ الجواب هذه من المشكلات كما قلت في أثناء الكلمة أن كثيراً من الشباب أصبح منظراً، كأنه مفكر كبير أو فيلسوف، يذكر لك الأسباب والأحداث والخلفيات والنتائج والتحاليل، لكن ماذا فعل؟ لا شيء. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 63 إلقاء المسئولية على الآخرين السؤال ما رأيكم فيمن يقول لن أغير إلا إذا كبرت وصار لي مركز، أو لا أستطيع أن أغير إلا إذا كنت عالماً وكان عندي علم؟ الجواب المشكلة أن هذه هي قضيتنا وهذا عيبنا، أنا تكلمت عن هذا، لكن لا أدري ربما بسبب العجلة لأنني استطلت الموضوع، وخشيت أن ينتهي الوقت قبل أن أنتهي؛ فربما ما بينت الأمور بشكل كامل، فهي مشكلتنا الأساسية، أنه عندما تأتي إلى أي مستوى تجده يلقى باللوم على غيره، تأتي مثلاً إلى الشاب المتدين يقول لك: يا أخي هذا على طلبة العلم، تأتي إلى طالب العلم يقول لك: يا أخي هذا على العلماء، تأتي إلى بعض العلماء، يلقي بالمسئولية على من هو أعلم منه، وقد تأتي إلى الأعلم فيلقي بالمسئولية على الحاكم وهكذا، فلم تعد هناك مسئولية إذاً وهذا خطأ، إن كل واحد منا مسئول. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 64 طلب المنصب للدعوة السؤال كيف يمكن أن نجمع بين أن أتولى منصباً أو مركزاً لكي أقوم بالدعوة إلى الله، وبين أن الإنسان إذا طلب منصباً وكل إليه؟ الجواب الواقع أن الإنسان إذا طلب الشيء لذاته من أجل الدنيا فإنه يوكل إليه، أما إذا طلبه للآخرة فإنه يؤجر على ذلك، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم ما أنكر على عثمان بن أبي العاص لما قال: اجعلني إمام قومي؛ لأنه طلب منصباً دينياً شرعياً لوجه الله عز وجل، ما كان يأخذ راتباً أو أي شيء، أو ينتظر أن يثني الناس عليه، وإنما قصده أن ينال الأجر. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 65 الاشتغال بالفرضيات السؤال أنت قلت: يجب أن لا ننشغل بالأمور الكبيرة عن الصغيرة في الإسلام، فما رأيك في قول أحد الأفاضل والمسلمون يقتتلون حولهم: إذا نبتت للمرأة لحية هل تحلقها؟ الجواب على كل حال أقول: لا شك أن المسلمين ينبغي أن يعطوا كل ذي حقٍ حقه، ولا شك أن الاشتغال بالفرضيات غير لائق، خاصة في مثل هذه الظروف التي نعيشها. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 66 التقاعس عن القيام بالدور المطلوب السؤال ما رأيك بمن لديه قدرات ومواهب، ويستطيع أن يقود الشباب بإذن الله ويتقاعس عن ذلك بحجة أنه ليس أهلاً لذلك؟ الجواب هذا ممن قصدتهم بمثل هذا الحديث، وبمثل هذه المحاضرة، وطالما عانت الأمة من مثل هذا الأمر، من هذا الزهد البارد، الزهد العجمي الميت، الذي يؤثر الخمول والعزلة والبعد عن الساحة، بحجة أنه ليس أهلاً وأن هناك من هو أكفأ منه، يا إخواني آن الأوان، ليس بعد هذا شيء، عليك إن كنت شاعراً أن نقرأ قصائدك الجميلة في دواوين، وفي مجلات، وفي جرائد، وإن كنت ناثراً أن نقرأ كلامك الجميل في هذه المجالات، وإن كنت خطيباً أن نسمع صوتك المدوي على أعواد المنابر، وإن كنت داعياً مؤثراً أن نراك وقد قدت جحافل الشباب وجمهورهم إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة، انزل فهذا وقتك وهذا أوانك، إذا لم تنزل الآن فربما يسبقك الركب ويتعداك، وربما يعاقبك الله عز وجل، وهذا والله الذي لا إله إلا هو واقع رأيته بعيني، ربما يعاقبك الله أنك إذا أردت نفسك يوماً من الأيام لا تجد نفسك، فالموهبة الآن يمكنك أن تستخدمها، لكن إذا أهملتها وتريد أن تعود؛ وجدت نفسك وقد تغيرت عليك، أنت الآن خطيب ولم تستفد من هذه الموهبة، فبعد خمس سنوات إذا أردت أن تخطب وجدت أنها قد تغيرت الأمور، وجدت ضعفاً، ثم تخليت وأدركت أن الركب قد فاتك. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 67 الحفظ في طلب العلم السؤال أنا طالب، لكن لا أحفظ المسائل العلمية إلا نادراً، فهل أترك طلب العلم وأنه لا يصلح لي وألتمس مجالاً غيره؟ الجواب لا تترك الطلب، ولا يوجد شيء مستحيل من هذه الأشياء، ليس في هذه الأشياء مستحيل، والإنسان إذا دأب فإنه يحظى بما يريد: أًخْلِق بذى الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا الجزء: 198 ¦ الصفحة: 68 غياب الوعي السؤال نلاحظ كثيراً من الأوقات في الإعلام العربي، حين يكون هناك قضية لشخصٍ ترى أنه قد أتى بكل تاريخه السابق؟ الجواب نعم، هذه من الملاحظات والأخطاء، التي أصبحت الصحافة تتكلم عنها بشكلٍ واضح، والأمة أصلاً حتى أنا وأنت، لماذا ما اكتشفنا الخطأ إلا الآن؟ هذا ينم عن أن الأمة كلها تعيش في حالة غيبوبة، العيوب لا تظهر إلا بالمناسبات وبالأزمات، حتى أنت أيها السائل وأنا، لماذا الخطأ ما ظهر عندنا إلا الآن؟ لأنه ما كان عندنا وعي حقيقي بالواقع في الماضي. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 69 التعامل مع زملاء غافلين السؤال طالب ملتزم بشريعة الله، ولله الحمد لكن له زملاء يهتمون بالكرة على الرغم مما يمر بالأمة من أزمات وفتن، أرجو أن تبين هل عليّ شيء إذا تركت بينهم وبين ما يشتهون وأعتزلتهم؟ الجواب لا ينبغي المبالغة في الاهتمام بالكرة ولا بغيرها، سواء في هذا الظرف أم سواه، بل ينبغي إذا اشتغل الإنسان بهذه الأعمال أن يقتصد فيها، وأن لا تكون الغالبة عليه، فإن غلبة هذه الأشياء على الإنسان مذمومة في الأحوال العادية، فضلاً عن مثل في هذه الظروف، أما أنت فموقعك تقدره أنت بحسب ما ترى، إن رأيت في بقائك مصلحة، تقليل للشر، وتكثير للخير، وجرهم إلى الطيبات؛ فتبقى، وإن رأيت غير هذا فتعمل ما ترى أن فيه مصلحة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 70 تقدير الأمور البسيطة بقدرها السؤال قلتم أنه يجب الاهتمام بالمعاصي التي يقال إنها بسيطة، مثل: الدخان والإسبال، لكن بعض الإخوان يجعلون الاهتمام بالأشياء التي هي الحد بين الكفر والإيمان. الجواب أنا أحذر من هذا، أرى أن نعطي كل شيء حقه، لا تقل هذه قشور وتتركها، وأيضاً لا تجعل هذه الأمور هي لب حياتك ودعوتك، وكل جهدك منصب عليها. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 71 العاطفية تجاه الأحداث السؤال في هذه الفترة التي عادت فيها أجيال المسلمين إلى ربها، ونحن نرى هذه الأمواج والأفواج المسلمة مستقيمة على أمر ربها، وهذا مما يثلج الصدر، لكن هناك ملاحظة سائدة وهي طغيان العاطفة على كثير من الشباب، حيث أن كثيراً منهم تغلبهم العواطف الجياشة، دون الروية والتعقل والاعتماد على منهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وبذلك أصبح ديدن أعداء الإسلام في كل فترة، كثيراً ما يشغل المسلمين ويجعلهم ينسون المهمات التي يجب معالجتها؟ الجواب هذا فعلاً سؤال في محله، نحن المسلمين الآن قد نعمل، لكن كثيراً من الشباب إذا خرج من السلبية وأصبح فعالاً، كان هنا العمل الذي يقوم به ليس عملاً مدروساً مخططاً، ولكنه عمل مرتجل، وعمل قد يكون بطولياً من وجه، لكنه ليس مثمراً من وجه آخر، وأنا أضرب بذلك مثلاً، وقد يكون هذا المثل غريب على كثير من الإخوة: قد يكون من أعظم الأعمال وأجلها التي قام به الشباب المسلم في هذا العصر: قضية الجهاد الأفغاني، عمل جميل يكفيهم فخراً أنهم عشر سنوات يرفعون فيه السلاح، ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، هذا عمل جليل، بطولات، كرامات، جهاد، تضحية، دماء، فهذا العمل بهذا المقياس لا كلام فيه، وفيه إيجابيات لا شك فيها، لكن عندما تنظر إلى أي مدى كان هذا العمل الذي قمنا به عملاً مدروساً مخططاً له؛ ليؤتي ثماره التي تكافئ وتقابل التضحية التي بذلناها، هنا أعتقد أننا إذا أردنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا؛ سنجد أن الأمر أقل مما يجب، وقل مثل ذلك في جهود دعوية وفي مشاريع وفي أعمال، لأن أعمالنا عاطفية، أي نركض وراء الحدث ولسنا نسبق الحدث، أقول لا ليس بالضرورة أن نعمل لليوم، بل نعمل لخمس عشرة سنة في المستقبل ولعشرين سنة، الإنسان الذي يريد من الأمور أن تنتهي اليوم لا يفعل شيئاً، لكن إنسان يقول: المشاكل الموجودة موجودة لا أزيلها بيوم وليلة لكن -على الأقل- أستعد لإزالة المشاكل التي سوف تقع بعد عشر سنين وخمس عشرة سنة؛ هذا قد يستيطيع أن يغير من واقع المسلمين الكثير. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 72 ترك التهور السؤال تتجاذبنا الآراء وتعصف بنا الأفكار، وذلك من جراء الأحداث التي اجتاحت الأمة الإسلامية، ولم نستطع تحديد موقفنا مما حدث، لأننا إن دافعنا عن مقدساتنا وجدنا في ذلك صعوبة، إلى جانب بعض المشاكل والأشياء التي لم تتضح، إلى غير ذلك؟ الجواب مثل هذا وهو مسألة تجاذب الآراء، على المؤمن أن يعتصم بالله عز وجل، ويعتصم بالعقل الراجح عند ورود مثل هذه الأشياء المشكلة، ولا تجذبه العاطفة كما سبق في السؤال السابق، فبعض الإخوة يقول: لا أقف مكتوف الأيدي، لا بد أن أقاتل، لا بد أن أقاوم العدو الذي اكتسح بلاد المسلمين، وآخر يقول غير هذا، فأقول: ينبغي للإنسان أن لا يكون ضحية تعجل أو طيش، بل عليه أن يفكر ويدرك أنه ليس له إلا نفسٌ واحدة إن ذهبت لا تعود، فينبغي أن يضعها في موضعها الطبيعي، وأنا أنصح الشباب بالإقبال على العلم الشرعي، ومعرفة واقع المسلمين، والسعي في حله، وجمع الناس على الكتاب والسنة، ونشر المذهب الصحيح، والحرص على التربية، والاشتغال بذلك في البيوت والمدارس والمساجد وحلق العلم وغيرها، وأن يطيلوا النفس في ذلك، فإن هذا هو الطريق إلى عزة المسلمين. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 73 الاستشهاد بأقوال الغربيين السؤال لاحظت أنك قد استشهدت مراراً بأقوال مفكرين غربيين، فهل من الصواب الاستشهاد بذلك؟ الجواب نعم الحكمة ضالة المؤمن، إذا أصاب بعضهم؛ لا بأس أن تستشهد بما قال إن كان حقاً. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 74 طرق تغيير الفرد نفسه السؤال كثيرون يعبرون عن محبتهم لي فجزاهم الله خيراً، أحبهم الله تعالى وجعلني الله وإياهم من المتحابين فيه، يقول السائل: كل إنسان عنده معاصٍ وذنوب صغيرة وكبيرة، والكل يسعى نحو الأصلح، ما هي الطرق والوسائل التدريجية المعينة على التغيير دون أن يكون هناك نوازع منفرة، حيث لا يخفى عليكم أن النفس لا ترغب التغيير المفاجئ؟ الجواب من أهم الوسائل: أن يصحب الإنسان صحبة طيبين يعينونه على الخير، ومنها: أن الإنسان إذا كانت عنده خصلة طيبة فليعمل على تنميتها، مثلاً قد يكون عندك معصية لكن في المقابل عندك خصلة طيبة، وهي: أنك تحب الإنفاق في سبيل الله، فأنفق في سبيل الله وسارع إلى ذلك، لأن هذه الخصلة الطيبة إذا كبرت وتضخمت، أصبحت كالشجرة التي بسقت فروعها فغطت على غيرها، كذلك الأصحاب الطيبون الصالحون يأمرونك بالمعروف وينهونك عن المنكر ويعينونك على نفسك، فاحرص على صحبتهم. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 75 إعداد النفس للجهاد السؤال ذكرت قبل قليل أن الإنسان يجب أن يعد نفسه للجهاد، فأنا قد حدثت نفسي بالجهاد لكن لم أعد شيئاً له سواء الدعاء أو الإنفاق بالمال، فهل هذا هو المقصود؟ الجواب نعم هذا هو المقصود يجب أن تعد، أولاً: ادعُ لإخوانك المجاهدين، جاهد بمالك إن استطعت، جاهد بالكلمة، جاهد بالدعوة، جاهد بالتربية، جاهد نفسك، جهز نفسك، افترض أنه قامت دعوة صادقة ولو بعد سنين، كن مستعداً لذلك. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 76 تأخير إنكار بعض المنكرات السؤال أرى كثيراً من الدعاة لم يتفقهوا في الدين، قد يذهبون إلى الأماكن التي فيها منكرات بنية الدعوة، ويقول: من الحكمة ألا ننكر عليهم لئلا ينفروا منا ويكرهوا الدين، وضح ذلك؟ الجواب هذه أمور تختلف بحسب الحال المسئول عنها، وبحسب نوعية الفاعل والشخص الذي ذُهِب إليه، فهي تختلف من حالٍ إلى آخر، فإذا ذهب فعلاً بنية الدعوة وإنكار المنكر ثم وجد مجموعة منكرات، وقال: لا يمكن أن أبدأ بها كلها، مثلاً وجدت إنساناً عنده سبعة منكرات، لا يمكن أن أعطيه قائمة بها سبع منكرات، فقد يرد عليك ويقول: أصبحت أنا كلي منكرات ومعاصٍ، إنما رأيت أن أبدأ بمنكر وأتقدم بلطف، واترك الباقي إلى زيارة أخرى، لا حرج في ذلك إن شاء الله. أما كونه يقول: والله أريد أن أذهب وأتفسح معه وأتبسم وأتندر معه، وبعد ما أنشئ صداقة وعلاقة، وبعد شهرين أو ثلاثة أو سنتين أو ثلاث، أبدأ تغيير المنكرات، فهذا لا يصح. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 77 الاشتغال بالخلافيات السؤال مع هذه الفتن المظلمة الحالكة التي تمر بها الأمة، ألا ترى أن بعض الشباب ما زالوا يتناحرون في مسائل اجتهادية؟ الجواب هذا صحيح، فكثير من الشباب يشتغلون في قضايا فرعية جزئية، وأنا لا أنهى عن الاشتغال بها؛ لأنني ممن يشتغلون بها أيضاً، لكنني أنهى عن الإغراق فيها، اعطِ كل ذي حقٍ حقه، المسائل الفرعية الاجتهادية اعطها (10%) لا مانع (15%) بحسبه، واعطي المسائل التي هي أكبر منها نسبة أكبر، وهذا من العدل الذي أمر الله تعالى به ورسوله. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 78 ترك السلبية في الرحلات السؤال نظراً لكلامك عن السلبية، هنالك شاب إذا دعي للخروج في رحلة مع شباب الحي، اعتذر بأنه لا يجد الدافع الداخلي في نفسه، وأن هذا طبعه وغريزة في عائلته، مع أنه طالب علم ولا تؤثر على طلبة هذه الرحلة، حتى إنه يقول: إنه يكون غير مشغول في وقت الرحلة، فأرجو منكم الحل؟ الجواب هذا قد يكون من طبيعته أنه يوجد لديه نوع من الانعزالية، فهذا يُعالج بأمور، منها: الاختلاط، لأن اختلاطه بالناس قد يزيل هذه العزلة أو العقدة الموجودة عنده، ومنها: أن يحاول أن يكون مشاركاً، فإذا خرج مع هؤلاء في الرحلة ربما يحس أنه دائماً ساكت، ولذلك لا يحرص على الخروج مرة أخرى، فنقول حاول أن تشارك، أعد بحثاً معيناً أو كلمة تقرؤها على زملائك بعد الصلوات، تأمرهم بمعروف وتنهاهم عن منكر، تذكرهم بشيء، تشارك حتى في أعمال الطبخ، وتقديم الطعام وما أشبه ذلك من الأعمال التي يحتاجونها؛ حتى تحس بأنك شخص فعال مؤثر، ويدعوك هذا إلى المشاركة الدائمة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 79 الظلم عند الأوروبيين السؤال ذكرت أن العالم الأوروبي اليوم لا يقع فيه ظلم للشعوب، فهل هذا دقيق؟ الجواب ليس المقصود أنه لا يقع فيه ظلم للشعوب مطلقاً، لكنهم يمتنعون من الظلم العام الغالب، وإلا فالظلم موجود في كل زمان ومكان. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 80 التقديم بين يدي الله ورسوله السؤال يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] ويقول سبحانه وتعالى {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ} [الحجرات:2] نرجو توضيح كيف تقبل الصحابة رضوان الله عليهم في هذه الآيتين أوامر الله سبحانه وتعالى؟ وكيف حالنا نحن المسلمين مع آيات القرآن في هذا الزمن؟ الجواب نعم، لا تقدموا بين يدي الله ورسوله، المعنى أن المؤمن ما كان له -ذكراً أو أنثى- إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة من أمره، فإن المؤمن من يوم آمن بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، فإنه قرر أن تكون الكلمة الأخيرة لله ولرسوله في أي أمر من الأمور، فهذا هو معنى الآية، فليس للإنسان حق أن يختار شيئاً غير ما اختاره الله له في شرعه، وقوله: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجهرِ بَعضكم لبعض} [الحجرات:2] هذا أدبٌ أدب الله تبارك وتعالى به المؤمنين مع نبيهم صلى الله عليه وسلم. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 81 انتقال الصفات الشخصية السؤال يقول: إني أحبك في الله، وأسأله أن يجمعنا في الجنة وإخواننا الحاضرين، ذكرت أن الصفة التي تكون في الشخص في الجاهلية تكون معه في الإسلام، فهل هذا ينطبق على الشاب عندما يكون ملتزماً وغير ملتزم؟ الجواب أقصد بذلك الصفات الفطرية الطبيعية، مثل إنسان شجاع في حال جاهليته، كان -مثلاً- يقوم بمغامرات وأعمال وأشياء وأمور كثيرة، فإذا هداه الله عز وجل تجد هذه الصفات غالباً تبقى معه، لكنها تتدين وتصرف إلى المجالات الخيرية. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 82 غرس الفسيلة مع قيام الساعة السؤال ذكرت الحديث الصحيح العجيب، أنه عند قيام الساعة {من كانت معه فسيلة فليغرسها} هل هناك تعارض بينه وبين حديث {لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس} ؟ الجواب سؤال طريف، يقول: كيف نجمع بين الحديث {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها} مع حديث {أنه لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس} وكأني فهمت أن السائل يقول: لماذا يوجهنا الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التوجيه، مع أن الذين تقوم عليهم الساعة هم شرار الناس، وممن لم يفهم الشرع ويلتزم بأوامر الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فأقول: إن الحديث {إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة} ليس على ظاهره، أنه سيكون رجل عنده نخلةً يريد أن يغرسها فقامت الساعة، ليس بهذه الصورة، هذه قد لا تحدث والله أعلم، لأن الساعة يسبقها أحوال، مثل طلوع الشمس من مغربها، وغير ذلك من العلامات التي تجعل الناس ينصرفون عن الدنيا. إن المقصود من التمثيل أن الإنسان عليه أن يبذل وسعه بكل حال، مثلاً: قامت ساعتك أنت عند الموت، كل إنسان إذا مات قامت قيامته، فعند الموت إن استطعت أن تعمل خيراً اعمله، لا تقل: والله لا فائدة وفات الأمر، هذا غير صحيح، ولذلك عمر رضي الله عنه في مرضه، جاءه شاب مسبل، فلما ولى قال: [[عليّ بالغلام، فقال: يا ابن أخي ارفع إزارك]] كلمة خير تقولها ولو بقيت خمس دقائق على الموت قلها، كذلك عمر رضي الله عنه قال في مرض الموت: [[وددت أني رأيت في الكلالة رأياً إن رأيتم أن تتبعوه]] فقال له عثمان رضي الله عنه: [[إن نتبع رأيك فهو خير وإن نتبع رأى الشيخ قبلك فنعم الرأي كان]] هذا مثال. مثال آخر: قد يعمل إنسان عملاً ويقتنع بأن هذا العمل غير مثمر، لا نقول له: لا تعمل لا توجد فائدة، بل نقول له: اعمل، فلا يمكن أن نقول: إن هناك إنساناً لا فائدة من أمره بالخير، بل نقول: مُره، لأنك إذا أمرته بالكلمة الطيبة أنت أول المستفيدين، سُجِّلَ في سجل حسناتك أجر، وهذا بحد ذاته مكسب، وأمر آخر: صارت عندك مناعة ضد المنكر، لأن الإنسان إذا سكت عن المنكر اليوم؛ قد يفعل المنكر غداً، لكن عندما ينهى عنه، تتولد لديه قناعة ومقاومة على الأقل، فاسلم بنفسك، أمر ثالث: قد يستجيب لأنك لا تعلم الغيب. وفي الحديث معانٍ أخرى كبيرة، يستحق الحديث موضوع محاضرة خاصة. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 83 دور الفرد السؤال كثير من الشباب مقصر في المسئولية التي على عاتقه، حيث يقول: ما هو دوري؟ وأنا واحد لا أستطيع التغيير، فأرجو توجيه كلمة للشباب؟ الجواب هذا هو مجال المحاضرة كلها، أن الإنسان شاباً أو شيخاً، يجب أن يتخلى عن السلبية وإلقاء التبعية على الآخرين، ويترك التنظير ويعمل، إن أي واحد تأتي به، يمكن أن يحل لك مشاكل الناس بالكلام النظري، ويقول كان يجب أن يُفعل كذا وكذا ويحلل أموراً كثيرة، لكن عندما تقول له: ماذا صنعت؟ إنه لم يصنع شيئاً، فلا نريد التنظير. نحن الآن مثل قوم يمشون في سفينة؛ فبدأت السفينة تجاذبها الرياح، ذات الشمال مرة وذات اليمين مرة أخرى، والأمواج تلطمها هنا وهناك، فهل يصح حينئذٍ أن يصبح ركبان السفينة يتناقشون ويجادلون: كان المفروض أن نأتي من هنا، وكان المفروض كذا وكذا، وكل واحد يعطينا مخططاً أو خريطة للبحر وطريقه، وما أشبه ذلك، هذا لا يصح، إنما نقول: اعمل ما تستطيع في تهدئة السفينة الآن، وتوجيهها إلى الطريق المستقيم، وإزالة المخاطر التي تعاني منها، وبعد ذلك فكر كما تريد. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 84 جبهة المجتمع السؤال إن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ألا تعتقد أن سبب البعد عن الحق عند عامة المسلمين، هو عدم تطبيقهم لشرع الله المبني على مبادئ أهل السنة والجماعة؟ الجواب هذا هو السبب، لكن السؤال كيف نستطيع أن نوصل المسلمين إلى تطبيق شرع الله عز وجل؟ وإلى الالتزام بمبدأ أهل السنة والجماعة؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن نشغل أنفسنا به، لأنه انتهينا الآن من القضية، نحن الجميع موافقون -كما قلت في البداية أن أي واحد ليس موافقاً على هذا فهو خارج الإسلام وخارج الدائرة، أي واحد ليس موافقاً على أن الحق منحصر في الإسلام، الحق الشرعي الرباني هو الإسلام، وأن ما عدا الإسلام باطل، الذي لا يعتقد بهذا كافر مرتد بلا خلاف بين المسلمين، إذاً نحن متفقون على أن الإسلام هو الدين الحق، وأن نجاة المسلمين في دنياهم وأخراهم باتباع هذا الدين. ننتقل إلى النقطة الثانية كيف نستطيع أن نوصل المسلمين ليكونوا على مستوى الإسلام؟ هذا هو الذي يجب أن نبحث فيه. الجزء: 198 ¦ الصفحة: 85 بعض أخطائنا في التربية تعرض الشيخ لأهمية التربية في حياة الجيل مفصلاً للأزمات التربوية التي يعاني منها المربون وأسباب تلك الأزمات، مع بيان ما ينتشر من أخطاء تربوية، مع ذكر حلولها وعلاجها. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 1 افتقار الأمة إلى العلماء والمصلحين إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: أيها الأحبة الكرام! فسلام الله تعالى عليكم ورحمته وبركاته أيها الأحبة إن الإنسان لا يكون أحقر في عين نفسه ممن هو في مثل هذا الموقف, فإن هذه الأعداد الكبيرة منكم التي أسرعت وأحسنت الظن، فجاءت لتستمع إلى مثل هذه الكلمات؛ إنها تنبئ عن فقر عظيم في هذه الأمة؛ فقر إلى الرجال الأكفاء, وفقر إلى العلماء, والمصلحين. وإلا فأي معنى لأن تتهالك هذه الأمة على كل متحدث, وكل قائل, وكل مُبيِّن أو متكلم، لمجرد أنه ألقى درساً أو قام بمحاضرة, أو أنه تكلم! إن ذلك لدليل على فقر الأمة إلى الرجال الأفذاذ الحقيقيين, وأنها تعيش فعلاً في فترة من أحلك فتراتها. وإنني أقولها لكم صريحة -ويعلم الله تعالى حقيقة ما أقول حسبما أعتقده- إننا على يقين أن الله تعالى لا يدع الصحوة, ولا يدع الدعوة لأمثالنا من المقصرين والمسرفين على أنفسهم؛ بل إن الله تعالى يختار لها من الصادقين المخلصين من يكون فيهم الرشد والكفاية, إلا أن يصلح الله تعالى الأحوال ويتدارك بمنه وفضله {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] , أما بعد: فحديثي إليكم هذه الليلة هو عن بعض أخطائنا في التربية, وهذه ليلة الجمعة الخامس من شهر جمادى الأولى من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشرة للهجرة, وهذا جامع الراجحي بالرياض. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 2 أهمية التربية التربية -أيها الإخوة- لها مفهوم أوسع وأعمق، إن التربية هي: الحياة بكل تفاصيلها، وبكل أشخاصها، وبكل مؤسساتها, والحياة تعني وجود الإنسان من يوم أن ظهر على ظهر الأرض, وإلى أن يغادرها, فهي تبدأ مع الإنسان بشهادة الميلاد، وتنتهي مع الإنسان بشهادة الدفن. وإذا عرفنا أن التربية هي: المعنى الشامل للإنسان من يوم أن ولد إلى يوم أن يموت, أدركنا أن الحياة هذه أو التربية ليست أمرا مقصوراً على وجود الإنسان في منزله, أو بيته, ولا وجوده في مدرسته, أو حارته أو حيه أو مسجده, بل هي وجود الإنسان في الحياة كلها بكل مؤسساتها: من بيت، ومدرسة، ومسجد، وإعلام، وصحة، وغير ذلك, بل وجود الإنسان من خلال الأَنَاسِيِّ الذين يقابلونه في حياته, بكل تناقضهم، فهذا يحييه ويسلم عليه, وذاك يعيره ويشتمه, وهذا يحادثه, وهذا يبايعه أو يشاريه, وهذا يعلمه أو يتعلم منه, وهذا يوافقه, وهذا يخالفه, وهذا يمدحه, وهذا يذمه. فالتربية تشمل الحياة كلها, وإذا أدركنا هذا أيضاً، أدركنا أنه لا يمكن أن يستقل جهاز من الأجهزة، أو مؤسسة من المؤسسات بتربية الإنسان, فإن الإنسان كائن مؤثر متأثر, ولا يمكن أن نستهين بشيء يواجه الإنسان, فالجو العام في المجتمع مثلاً هو عبارة عن تيار كتيار الماء أو تيار البحر يجتاح الإنسان -وأحياناً- يكون الإنسان مخالفاً للتيار, فيكون كأنه يسبح ضد الموج, يتقدم بقوته الضعيفة أمتاراً ثم يدفعه الموج إلى الوراء عشرات الأمتار. ولهذا جاء الشرع بتحميل الإنسان مسئوليته الفردية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وجاء الشرع أيضاً بتحميل المجتمع مسئولية القيام بالحسبة, كأمة مؤمنة لا يميزها إلا الإيمان بالله تعالى، الذي عليه اجتمعت, ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, الذي به قوامها وبقاؤها {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] ويقول الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] الآية, ولذلك فإن الإنسان محتاج إلى المجتمع كله من حوله, ليتأثر بهم، وينتفع منهم، وينظر ما عندهم من خير فيقتبسه, أو خطأ فيجتنبه، أو نصيحة يعمل بها, ثم هو محتاج أيضاً إلى المؤسسات الموجودة في المجتمع، والتي يتربى من خلالها, فهو يتربى قاعداً في المسجد ينتظر الصلاة, ويتربى وهو في مدرسته, ويتربى وهو في سوقه, ويتربى وهو في بيته, حتى والإنسان في متجره هو يتربى. يتربى على الأخلاق الإسلامية في المعاملة، والبيع والشراء، والأخذ والعطاء، وغير ذلك, وحين يفسد الزمان، وبمعنى أصح وبالاصطلاح الشرعي، ينحرف الناس، يؤمر الإنسان باعتزالهم, حتى يسلم من شرهم، أو يسلمهم من شره, كما في الحديث المتفق عليه، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: أي الناس خير؟ قال: {مؤمن مجاهد في سبيل الله تعالى بماله ونفسه, قيل ثم أي؟ قال: مؤمن في شِعْب من الشعاب معتزل يعبد ربه، ويَدَعُ الناس من شره} . فإنه إنسان غير قادر على التربية، لا يستفيد من الناس علماً وعملاً وأخلاقاً, ولا يستفيد الناس منه أيضاً, فهذا كان الأجدر في حقه أن يعتزل الناس ويدع الناس من شره, ليس من الناس إلا في خير. فالتربية إذاً: عملية ضخمة وكبيرة, تبدأ مع الإنسان من يوم ولد, لا بل أقول تبدأ قبل الميلاد. ومن الطرائف والنكت أن رجلاً جاء لأحد العلماء, فقال له: أنا قد تزوجت, وحَمَلَتْ زوجتي وهي في الشهر الرابع, وأريد أن تعطيني بعض التعليمات في أسلوب تربية هذا الطفل, فقال له: هذا الطفل قد فات عليك مادام في الشهر الرابع, لكن أعطيك تعليمات للطفل القادم, وهذه لا شك نكته, ولكنها لها دلالتها ولها معناها. والمقصود أن التربية تبدأ حتى من يوم اختيار الزوجة, فإن الزوجة هي المحضن السليم المناسب الذي ينشأ معه الطفل, ويتربى في أحضانها, ويقتبس من أخلاقها, فهي تبدأ قبل أن يولد الإنسان وفى صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لو أن أحدكم إذا أتى أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن قُضي بينهما ولد لم يضره الشيطان} . فالشيطان يفر من ذكر الله تعالى, والتربية تبدأ مبكرة جداً, إنها تبدأ من هذا الأوان ولا تنتهي إلا بأن يموت الإنسان قال الله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] , أي: الموت, ثم هي ليست عملية مقصورة على جانب واحد من جوانب النفس الإنسانية, فهي تربية تتعلق بالخلق, وتتعلق بالعقيدة, وتتعلق بالعلم, وتتعلق بالعمل, وتتعلق بالجسم, وتتعلق بالعبادة. وهي أيضاً ليست مسئولية جهة بعينها فحسب, فالبيت وحده لا يمكن أن يستقل بالتربية, والمسجد وحده لا يستقل بها, والمدرسة وحدها لا تستقل بها, والزملاء والأصدقاء والصالحون أيضاً, وإنما المجتمع كله بكل مؤسساته، وكل أفراده، وكل أجهزته هو مسئول عن التربية. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 3 الإنسان موضوعا ً لقد بعث الرسل عليهم الصلاة والسلام, وأنزلت الكتب من السماء إلى البشر, من أجل تقويم هذا الإنسان, من أجل أن يترقى حتى يتأهل لجنة عرضها السماوات والأرض, بل حتى يتأهل لرؤية الله تعالى في جنة عدن. قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] , فهي تتمتع بالنظر إلى وجه الله تعالى الكريم في جنة عدن. إن الإنسان يترقى بالتربية حتى يتأهل لهذا المستوى الرفيع: وقد ينحط حتى يصبح حطباً ووقوداً لجنهم مع الحجارة, وشبيها بالأنعام، قال الله عز وجل: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة:24] , وقال سبحانه: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] , وفي آيه أخرى: {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] . إذاً بالتربية: يرتقي الإنسان حتى يصبح أهلاً لرؤية الله تعالى في الجنة, وبنقص التربية أو تضييعها ينحط حتى يصبح حطباً لجهنم. إذاً: بناء الإنسان -أيها الأحبة- هو محط الاهتمام، وهذه القضية الكبرى التي يجب أن نرفع شعارها, ونتحدث عنها, ونملأ بها مجالسنا, هي قضية الإنسان, إن بناء الإنسان أهم من بناء الجسور, وأهم من تعبيد الطرق, وأهم من تشييد العمارات الشاهقة, وأهم من توفير الخدمات, مع أنني لا أهون من بناء الجسور وتعبيد الطرق وتشييد العمارات وتوفير الخدمات, ولكن لا قيمة لهذه الأشياء كلها في ظل غياب الإنسان. إن هذه الأشياء كلها لا تعدو أن تكون تيسيرات وتسهيلات للإنسان, فقل لي بربك أي معنى للإنسان، حسن البزة، حسن الثياب، جميل الهيئة، بهي الطلعة، ممتلئ الجسم، معتدل الصحة، ولكنه يرسف في قيوده، في أسره وسجنه؟! وأي قيمة لإنسانٍ هذا شأنه إذا كان بلا عقل؟! وأي قيمة لإنسانٍ هذا شأنه إذا كان بلا دين، ولا خلق، ولا عقيدة؟!. إن الإنسان هو المقصد الأول من الوسائل التربوية كلها, ولا قيمة لإنسان لا يعبد ربه, ولا يسجد لله تعالى, ولا يُمَرِّغُ جبهته خضوعاً لرب العالمين, ولا يسبح بحمد ربه عز وجل, إنه في دنياه يعيش الشقاء بكل صوره وألوانه, وفي آخرته إلى نار لا يخبو قرارها {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} [الإسراء:97] . إن تحقيق وجود الإنسان بالمعنى الشرعي تحقيقٌ لكل المكاسب الأخرى, فلنفترض -مثلاً-: أننا أمة فقيرة, ليس همنا أننا نطلب المال, لأن بناء الإنسان الصالح سيجعله قادراً بإذن الله تعالى على تحصيل المال, لنفترض أننا أمة متأخرة في المجال الصناعي والتقني، كما هو الواقع فعلاً, إن بناء الإنسان الصالح العاقل العالم الرشيد هو السبيل إلى تطويع الصناعة, وإلى الحصول على أسرار التصنيع، وإلى الوصول إلى أعلى المستويات في الحضارة المادية, لنفترض أننا أمة متخلفة في كافة مجالات الحياة الاجتماعية، والمالية، والاقتصادية، وغيرها. فإن الإنسان إذا بُنِىَ وأُصْلِح وأُعِدَّ إعداداً صحيحاً، فإنه هو الذي يستطيع أن يخطو تلك الخطوات التي تحتاجها الأمة، فهو الذي يحصل على المال, وهو الذي يبني ويصنع ويفكك أسرار العلم, ويستطيع أن يُطَوِّعَها بإذن الله عز وجل. إذاً المخرج من كل أزماتنا ومصائبنا التي نعيشها وتعيشها الأمة معنا, هو بناء الإنسان، تتعدد الحلول ولكنها تتفق على أن الذي يمكن أن يتولى تمثيل هذه الحلول هو الإنسان ذاته. وأقولها لك صريحة: لن يحصل الإنسان على كرامته الحقيقية, إلا بالتزامه بدين الله تعالى, وذلك بسبب واضح تزيدنا به الأيام بصيرة, وهو: أن الإسلام هو كلمة الخالق {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] , على حين تعترف كل الدراسات النفسية والتربوية في هذا العصر، تعترف بجهلها بحقيقة الإنسان, وعجزها عن إدراك خفاياه وأسراره, وأنها تبحث في ميدان مجهول, أما الشرع فنزل من عند حكيم حميد، يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 4 أزمات تربوية أما حديثى الرابع: فهو بعنوان "أزمات تربوية" وهذه الأزمات أزمات عامة ليست أزمات في البيت فحسب, ولا في المدرسة، بل تستطيع أن تقول: إنها أزمة في أزمة في الأمة كلها, تبدأ من البيت وهو الدائرة الصغيرة، وتنتهي بالأمة في وجودها العام. وهذه الأزمات متعددة لها أسبابها ومظاهرها ونتائجها, وأذكر شيئاً منها دون استيعاب. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 5 أزمة غياب الثقة داخل الأمة هناك أزمة نستطيع أن نعبر عنها بأزمة الثقة, غياب الثقة داخل الأمة، فهناك أزمة ثقة بين الحاكم والمحكوم، تبادل المخاوف والشك والظن وعدم الثقة. هناك أزمة ثقة بين الطالب والمدرس, هناك أزمة ثقة بين الناصح والمنصوح, بين جيل الشباب والشيوخ, بين الرجل والمرأة, بين المدير والموظف وهكذا. وكل هذه الأزمة مبنية على سوء الظن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] , جعلت الأمة تتمزق إلى طوائف شتى, وإلى فرق مختلفة, وإلى طبقات متناحرة, لا يثق بعضها في بعض, ولا يتعاون بعضها مع بعض. وترتب على ذلك تعطيل المهارات والكفايات وقدرات الأفراد, وأصبحت هذه الأزمة, أزمة الثقة، تكبل الفرد عن الإبداع والإنتاج والاجتهاد والتعاون, وهذا مصداق ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم حينما قال لـ معاوية: {لا تتبع عورات الناس، فإنك إن تتبعت عوراتهم أفسدتهم أو كدت تفسدهم} . إن تتبع العورات من قبل المدرس -مثلاً- الذي يتتبع عورة الطالب, أو الابن الذي يتتبع عورة أبيه, أو الحاكم الذي يتتبع عورات الرعية, أو الرجل الذي يتتبع عورة المرأة, أو العكس في ذلك كله, إنه دليل على فقدان الثقة, بحيث أصبح الإنسان يبحث عن العيوب, وإذا لم يجدها حاول أن يصطنعها ويختلقها، وهكذا يقع الفساد العريض في المجتمع. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 6 أزمة غياب القدوة نموذج آخر: أزمة القدوة, القدوة التي لا يمكن أن تحقق التربية إلا بوجودها {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] , فهذه هي القدوة العظمى، الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم, الذي هو المثل الكامل في هديه وأقواله وأفعاله وأخلاقه وعبادته عليه الصلاة والسلام, ثم ما دون ذلك من القدوات، التي يمكن أن تحرك الإنسان فقط إلى عمل صالح متفق عليه، كما يومئ إلى ذلك حديث جرير -وهو في الصحيح- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من سَنَّ في الإسلام سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة} هو لم يأت بشيء من عنده, إنما أحيا سنة قد أميتت، وأثارها، وحركها، ودعا الناس إليها بقوله وفعله, فاقتدوا به، واندفعوا إليه بصدقة, أو إلى جهاد, أو إلى علم, أو إلى عمل, بسبب أنهم رأوا فلاناً فعل فقلدوه وحاكوه في ذلك، وذكرهم بما كان غائباً عن وجدانهم. أزمة القدوة: القدوة الحية -التي هي أصل التربية والسلوك- لم تعد تتوافر في المجتمع, فأحياناً لا توجد القدوة في المنزل عند الأب بالنسبة للولد, أو عند الأم بالنسبة للبنت, لا توجد في الإعلام، فالإعلام قد يقدم -مثلاً- الفنان على أنه قدوة, أو يقدم اللاعب على أنه قدوة, أو يقدم الوجيه والثري على أنه قدوة, أو يقدم الشخصيات المرموقة اجتماعياً بغض النظر عن كفاءتها, وبغض النظر عن موقعها في دين الله عز وجل, وبغض النظر عن التزامها في السلوك والأخلاق. ولهذا أنت لو أمسكت بأصغر طفلٍ, وقلت له: ماذا تتمنى أن تكون؟ ما كان له إلا أن ينطق بأولئك الأشخاص الذين يبجلهم المجتمع، ويفرح بهم ويعظمهم ويقدرهم ويوقرهم, فهو يحب أن يكون مثلهم. التعامل والسلوك في المدرسة لا تقدم القدوة الصالحة -أحياناً- بل تتوفر على النقيض من ذلك ألوان من القدوات السيئة في هذه المرافق وفى غيرها, وهنا فراغ الساحة من القدوة، يعني: انعدام العمق التربوي لدى الأفراد, وتنازع الفرد بين أكثر من نمط من الأنماط الغازية, فهو في ذهنه فلان وفلان وفلان, وكل هؤلاء ليسوا أهلاً لأن يكونوا قدوة حسنة وغاب عنه أولئك الرجال الأفذاذ. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 7 أزمة غياب الحوافز ومن الأزمات: أزمة الحوافز. الحوافز التي تدعو الإنسان أن يعمل, وإلى أن يضحي, وإلى أن يبذل, وإلى أن يشارك, وأنت تجد في شريعة الله تعالى أولاً: الأجر والثواب {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8] فهذا من الحوافز والأجر عند الله للأعمال الصالحة. أما العقوبة عند الله تعالى على الأعمال السيئة, وكنموذج -أيضاً- حين تنظر إلى عمل كالجهاد وما فيه من نزيف الدماء, وإطاحة الرءوس, وعقر الجواد, وفقدان الحياة, تجد أن الشرع جعل للإنسان حوافز في هذا العمل, منها حوافز شرعية في فضل الجهاد والمجاهدين, وما أعد الله تعالى لهم في الدار الآخرة. حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم-: {إن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، أعدها الله تعالى للمجاهدين في سبيله} , وبالمقابل هناك حوافز دنيوية سريعة أيضاً مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في غزوة حنين وغيرها-: {من قتل قتيلاً فله سلبه} أي: له ما معه من السلاح والعتاد, -كما هو معروف- في تنفيل السرايا، وإعطائها جزءاً من الغنيمة: الربع أو الخمس، على ما هو معروف تفصيله. إن هذا نموذج من الحوافز, ولابد أن يكون للمجتمع حوافز, فالمجتمعات الإسلامية اليوم تعاني من أزمة, يعني نقصاً حاداً, وأحياناً غياباً كاملاً, فالحوافز التي تدعو الإنسان إلى العمل، إلى الجهاد، إلى الدعوة، إلى النصيحة، إلى البذل, لابد من حوافز للعلماء والمبدعين تدعوهم إلى ذلك, حوافز للمربين والمدرسين, حوافز للمجتهدين, حوافز للمخترعين والباحثين, حوافز لكل أصحاب المواهب؛ بل لا أقول إن المجتمعات الإسلامية تخلو من الحوافز, إنما -أحياناً- نجد المسلمين في كل بلادهم ربما لا يميزون المبدع عن الخامل, أو عن النائم, ولا تتوافر لديهم أساليب لضمان حقوق أولئك الأشخاص, سواء كانت هذه الحقوق مالية أو معنوية أو غيرها. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 8 أزمة غياب الحقوق الشرعية ومن ألوان الأزمات: أزمة الحقوق الشرعية أو ما يعبر عنها بعضهم في العصر الحاضر: بأزمة الحرية, وهذا الاصطلاح غير وارد بهذا اللفظ بالمعنى المقصود, فالأولى أن يعبر عنه بأزمة الحقوق الشرعية, إنه لا عمل في الدنيا بدون تشجيع, ولا إبداع في الدنيا بدون حرية, -كما يقول بعضهم- والحرية يعنون بها: الحق الشرعي المنضبط الضمانة الصحيحة لتصحيح الأخطاء وتلافي العيوب, وهي إشعار للإنسان بآدميته وكرامته التي بينها الله عز وجل {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70] . إن أخطر ما تعانيه المجتمعات الإسلامية الحرية العوراء, الحرية الناقصة، التي تمنح لفئة من فئات المجتمع, على حساب فئات أخرى, أو تعطى لاتجاه دون آخر، خاصة حين يكون أولئك الذين منحت لهم الحرية, وأعطوا الحق كاملاً، هم من الفئات المنحرفة, التي تحمل أفكاراً مخالفة للأسس التي قامت عليها هذه الأمة, كالأفكار العلمانية مثلاً, أو الأفكار الحداثية, أو الأفكار الإلحادية, فيكون للإنسان الحرية في طرحها والحديث عنها، وترويجها بالكتاب، والمجلة،،والتلفاز والإذاعة، والنادي، والمنتدى، والأمسية وغير ذلك على حين لا يملك أصحاب الحق الشرعي, وأصحاب العلم, وأصحاب الدعوة, وأصحاب التوجيه, وأصحاب الريادة, وحملة الهدي السماوي, لا يملكون الحق ذاته. ومن نتائج فقدان الحرية، أو فقدان الحق الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: من آثار ذلك الكَبْتُ والانطواء، والعزلة، والنكوص، وعدم التأقلم مع المجتمع, بل وربما يترتب على ذلك نمو مجتمعات داخل المجتمعات الإسلامية, مجموعات ترفض هذا الواقع وتحاربه, فضلا عن فُشُو الكراهية والبغضاء بين الناس. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 9 أزمة غياب الإتقان والإحسان ومن ألوان الأزمات: أزمة الإتقان والإحسان {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] , {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128] أي شيء هو الإحسان؟ إنه الإتقان، كما عند البيهقي بسند حسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} , وفي الحديث الآخر -حديث شداد بن أوس وهو في الصحيح-: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة} هذا من الإحسان! حتى المقتول الذي يغادر الحياة تقتله قتلاً حسناً, {وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته} . إن من عدم الإتقان ضعف الإنسان في العبادة، مثلاً: تأخير الصلاة, أو التقصير فيها, أو التقصير في الطهارة, أو عدم الصلاة مع الجماعة, أو التفريط فيها, أو التفريط في الصيام, أو في الحج, أو في غير ذلك من العبادات التي أمر الله تعالى بها, ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك} فما بالك بعبد يعبد ربه وكأنه ينظر إلى الله عز وجل, ويراه بعينه فيكون مقبلاً عليه، معرضاً عما سواه صادقاً خاشعاً، لا يلتفت إلى المخلوقين طرفة عين, فهذا هو الإحسان في عبادة الله تعالى. وهناك لون آخر: وهو فقدان الإحسان فيما يتعلق بحقوق العباد, مثل عدم إتقان الأعمال المنوطة بك أيها الإنسان! إهدارها وتضييعها، والحرص على شكلية العمل ومظهريته، دون حقيقته، ومعناه: نمو الخواء أساليب التحايل والغش والخداع، والنقص في العمل, وعدم الحرص على إنجاز الأمور, أي أنك حريص على ألا تساءل عن عملك، لا يعاتبك المدير -مثلاً- على أنك تأخرت, ولا يعاتبك المسئول على أن هذه المعاملة ما نزل عندك ولكن ما وراء ذلك، فإنك لا تلتفت إلى أحد، وهناك آلاف الأساليب والطرق التي يستطيع الإنسان فيها بالحيلة أن يتخلص من العتاب من الآخرين, ومن المسئولية، ومن المحاسبة, ولكنه يعلم في قرارة نفسه أنه ما قام بالواجب. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 10 أزمة غياب الكفاءة والمحسوبية أزمة الكفاءة، أو المحسوبية، أو الطبقية، أو التميز القبلي بين الناس، أو التميز العنصري, وعدم جعل المعيار في التقويم والتقديم والتوظيف والرعاية, عدم جعل المعيار هو المعيار الشرعي, {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] , فالقوة والأمانة، القوة في الدين، والقوة في العلم، والقوة في الخلق، والإتقان والأمانة, هذا من أزمة الكفاءة, ومنه: إبعاد الجادين والمصلحين والصادقين, لصالح الأقرباء والأصدقاء، وبني العم وبني الخال، والزملاء والجيران وسكان البلد أو المنطقة التي أنا منها. ومن آثاره إهدار الثروات العظيمة التي على رأسها الإنسان وإثارة البغضاء والشحناء بين الناس, وتضييع الأمانة بإيكالها إلى غير أهلها, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم -لمن سأله عن الساعة-: {إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة, قيل: ومتى إضاعتها؟! -قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح-: إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله, فانتظر الساعة} . الجزء: 199 ¦ الصفحة: 11 أزمة غياب التخطيط أزمة التخطيط: والتخطيط مطلب شرعي، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعتمده كثيراً، وحادثة الهجرة مثلٌ ذلك في هذا المجال, ومثل -أيضاًَ- لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم قال: -كما في صحيح مسلم- {أحصوا لي من يلفظ بالإسلام} وهو من حديث حذيفة , فأجرى النبي صلى الله عليه وسلم عملية إحصائية لعدد المسلمين, وهذا كله يتعلق بموضوع التخطيط، ومحاولة الإعداد للمستقبل, التخطيط لحل المشكلات التي يمكن أن تنجم, التخطيط لتنمية المجتمع, التخطيط لبناء النفس, التخطيط للوقاية من الأخطاء والأخطار المقبلة. ونحن نعرف أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتخوفون وهم في المدينة من غسّان، حتى أن رجلاً لما طرق على عمر خرج إليه عمر، وقال له: ما لك؟ قال: افتح، حصل أمر عظيم! قال: ماذا، هل جاءت غسان؟! قال: كنا نتسامع أنهم ينعلون الخيل لحربنا, وقد امتلأت قلوبنا منهم رعباً, قال: لا، الأمر أعظم من ذلك, طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، والحديث طويل معروف. والشاهد: أن تَوَقُع الأخطار المستقبلية والاستعداد لمدافعتها وإزالتها جزء مما هو مطلوب من المسلم, ولكن انعدام الشعور الصادق بالمسؤولية, وانعدام المؤسسات والدراسات والاستطلاعات, وعدم توفر البيانات الصادقة الضرورية للعمل, وإبعاد الكفاءات المخلصة, واستيراد المخططين الأجانب من خارج دائرة المنتفعين والمستفيدين, بل من خارج أبناء الأمة كلها, كل هذا أوجد أزمة في التخطيط على مستوى الأمة، في كل مدنها، ودولها، ومناطقها, وأنتج ذلك عواقب منها: استمرار التخبط, وعدم انتظام الأمة, وعدم تحقيقها لما تطمح إليه وتصبوا إليه, ومثله أن الأمة أصبحت تتعرض دائماً وأبداً لمفاجآت غير محسوبة, ونكبات لم تكن تنتظرها, وأهدر المال والجهد في أشياء لا تنتفع الأمة في حاضرها ولا في مستقبلها, وكم ندمت الأمة على مالٍ بذلته, أو علاقة بنتها, أو خطة رسمتها, أو غير ذلك من الأشياء! الجزء: 199 ¦ الصفحة: 12 أزمة غياب الأمن أمن الإنسان على نفسه، أو على مستقبله، أو على دينه -قبل ذلك كله- أو على فكره، أو على ماله، أو على ولده، أو جاهه، أو منصبه، أو مكانه، أو كرامته، أو سمعته، إلى غير ذلك, ويجب أن نعلم أن الخائف لا يعمل شيئاً، ولا ينتج شيئاً، ولا يتعاون مع أحد, ولا يوجد أمن للإنسان دون وجود حدود فاصلة له- واضحة وواقعية- تبين ما للإنسان فيه حق فيفعله, وما ليس للإنسان فيه حق فيتركه, وما لم توجد الإجراءات الكافية لحفظ حقوق الإنسان، إذا ظلم، أو إذا اعتدي عليه، أو قصر في حقه، كائن من كان هذا الظالم، ومهما كان حجم الواقع عليه. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 13 أزمة غياب المنهج الأمة كثيراً ما تغيبت عن وعيها, ولا تعرف هويتها وحقيقتها وانتماءها, أو تغيبت عنها قبلتها التي أمرت أن تتجه إليهاصحيح! يعلم الناس أن الكعبة هي البيت الحرام فيصلون إليها في أحيان كثيرة, لكنهم قد لا يعرفون إلى أين يتجهون في تفكيرهم! وإلى أين يتجهون في اقتصادهم! وإلى أين يتجهون في سياستهم! وإلى أين يتجهون في إعلامهم! والإسلام دين جاء ليهيمن على الحياة كلها, ولتدور في فلكه كل الأعمال والأفكار والتصورات والمواقف. لقد ظل جزء من الأمة يركض وراء الشيوعية حتى فوجئ بسقوطها, ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تركض وراء التغريب, ووراء النظام الدولي الجديد, ووراء أمريكا بنظمها وسياساتها وخططها وأفكارها ومناهجها, ولا زالت أجزاء كبيرة من الأمة تنادي بالعلمانية وفصل الدين عن الحياة وعن كل المجالات العلمية المثمرة. ومثل ذلك: التبعية لبعض المذاهب أو النظريات القديمة, ولو كانت موجودة في تاريخنا أو تراثنا, فإن تاريخنا يوجد فيه الآراء المنحرفة آراء الفلاسفة, وآراء الجهمية, وآراء المعتزلة, آراء الأمم الكثيرة التي نقلها بعض المسلمين وترجموها وتأثروا بها, فلا بد من تحرير التبعية، وأن يكون المعيار في المنهج للقرآن الكريم والسنة النبوية -لا غير- {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] . إن هذا المقياس يقضي على كل صور التناقض في الأمة, فما وجدناه موافقاً للحق الوارد في القرآن الكريم والحديث الصحيح أخذنا به، بغض النظر عن مصدره, وما وجدناه مخالفاً رفضناه، ولو كان ظهر من بيننا ومن بلادنا. من مظاهر انعدام المنهج أو ضعفه أو أزمته تذبذب الشباب وترددهم، وانعدام الانسجام الفكري والثقافي، وأزمة الثقة أيضاً بين الشباب. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 14 أزمة غياب التدين وأخيراً من الأزمات: أزمة التدين: بل لعلها أهم الأزمات, ولذلك جعلتها هي الأخيرة، أزمة غياب مراقبة الله عز وجل وغياب الخوف من لقائه, وأي معنى لحياة إنسان غاب عنه الإيمان بالدار الآخرة؟! قال تعالى عن بعض عباده المخلصين {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] , فذكر الدار الآخرة واعتبارها في عمل الإنسان وقوله وفعله، هو الذي يضبط المعيار والميزان في نفسه, يجعله يقبل الخير بطواعية, ويعرض عن الشر بطواعية. فهذا يوسف عليه الصلاة السلام تتيسر له كل الأسباب في بيت امرأة العزيز , وهي سيدة البيت، وقد أغلقت الباب، وفي خلوة، وقالت {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] وفى قراءة (هئتُ لك) , {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [يوسف:23] . فالخوف من الله والتدين -أمر عظيم- يجعل الإنسان يعرض عن الحرام، حتى ولو كان في متناول يده, ويفعل الطاعة والخير حتى ولو كان فيه حتفه وعطبه. أولئك الذين يخوضون المعارك, وتتساقط رءوسهم, هل كانوا يجهلون ذلك المصير؟ كلا. ما جاء إنسان للمعركة وهو يعتقد أنه ذهب إلى نزهة أو سياحة, لقد عرف أنه ذاهب إلى ميدان حرب, ولكنه يعلم أن تلك الضربة التى يطير بها رأسه إن كان صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر, هي التي يدخل بها الجنة، برحمة الله عز وجل وإذنه. إن أزمة: غياب التدين، وضعف مراقبة الله تعالى، وعدم الخوف منه, لهي أهم من كل ما سبق؛ بل هي السبب الرئيس في كل ما سبق, فذلك المسئول الذي فَرَّطَ في عمله، أو المدرس، أو الطالب، أو الأب، أو الزوج، كل هؤلاء ما فرطوا إلا بسبب ضعف التدين, وهذا السبب له نتائج: من مظاهرها: جفاف الإنسان في روحه, في محبته لله، وفي إيمانه وفي إشراق قلبه، وتوقده, وإيمان الكثيرين بالماديات حتى كأنها كل شيء, فأنت حينما تحدث الإنسان التاجر -مثلاً- عن البركة يلوي رأسه كأنه لا يؤمن بذلك, إنما يؤمن بالحسابات والدراسات الاستشارية, والأمور المبنية على حقائق عملية لها نتائج, وينسى {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96] . فينزل الله تعالى البركة على عباده المؤمنين إذا صدقوا وآمنوا واتقوا. ومن نتائج ذلك: اضمحلال النية الصادقة في عمل الإنسان، وفي أموره كلها, فلا يعمل إلا ما يرى أن له فيه مصلحه دنيوية عاجلة. ومن أثار ذلك: ضعف الإذعان لأمر الله وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم, فأصبح الكثيرون يسمعون الأوامر ثم يخالفونها, ويسمعون النواهي ثم يأتونها, لماذا؟! لأن ذلك القلب المندفع إلى الطاعة قد ضعف فيه الدافع والحافز. ومثل ذلك نسيان حقوق الله تعالى كلها, بل نسيان حقوق العباد، أيضاً. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 15 أسباب حدوث الأزمات التربوية النقطة الخامسة لماذا يحدث هذا؟ لماذا تزداد الأخطاء؟! ولماذا تتعقد المشكلات؟! ولماذا لا نجد لها حلاً؟! ثمة أسباب عديدة، أذكرها بسرعة كسباً للوقت: السبب الأول: الرضا والقناعة الموجودة لدينا رضينا بالواقع، لا ندرك مشكلاتنا بشكل صحيح, وننكر وجودها -أحياناً- ونرى أنه ليس في الإمكان أن أبدع أكثر مما كان, وكل أمورنا مبنية على الكمال والتمام, ليس لدينا إحساس بحجم الفارق بيننا وبين غيرنا, والبعض منا يرغبون في الركود وعدم التجديد بحال من الأحوال. السبب الثاني: عدم إيماننا بوجود المصارحة والمناصحة فيما بيننا, وعدم الوضوح والصراحة والمكاشفة في تعاملنا مع واقعنا, وعدم مناقشة أمورنا ومشكلاتنا بصورة صحيحة، وذلك لأننا نرغب -أحياناً- -كما نظن- في عدم الإثارة, أو اتقاء الفتنة, أو المساس بالمكاسب، أو غير ذلك, وننسى أنه لا يمكن تجنب الإثارة، واتقاء الفتنة، والحفاظ على المكاسب، إلا من خلال منهج واضح صحيح للنقد والمعارضة والمكاشفة, يكون مبنياًَ على الحقوق المتبادلة بيننا جميعاً, بين الزوج وزوجته, وبين الوالد وولده, وبين المدرس والطالب, وبين الحاكم والمحكوم, وهكذا السبب الثالث: عدم تحديد المشكلات بدقة, -فأحياناً- نحن نعزل كل مشكلة على حدة، كما لو كانت مخلوقاً مستقلاً منفرداً، ونحاول أن نبين أسبابها، ونقترح الحلول لها، وندرس هذه الحلول، ونخلص إلى نتائج نهائية، دون أن نربط بين ذلك وغيره من الأمور. السبب الرابع: عدم الثقة بالعلم, وعدم البحث العلمي، واعتماد الأساليب العملية في الوصول إلى تحديد المشكلة وأساليب حلها, وتسخير العلوم الممكنة لهذا الأمر. السبب الخامس: ضيق الأفق لدى البعض, أو الركود والتعصب للمألوف والعادات, والانطلاق من بعض المسَلَّمَات والبديهيات الخاصة، التي ليس لها سند شرعي ولا عقلي, فالكثيرون يقولون لك: هذا الأمر لا يتجادل فيه اثنان, ولا ينتطح فيه عنزان! أو يقولون لك: هذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار, لمن أنار الله بصيرته, ولكن الواقع أن هذا الأمر ليس سوى أمر مألوف ومعروف, وهذا الضيق النفسي والعقلي الموجود لدى البعض يعميه ويصمه عن التقدم خطوة واحدة نحو التعرف على الأخطاء, وتعديل السلوك وحل القضايا والمشكلات. السبب السادس: اعتقاد البعض أن مشكلاتنا تحل عن طريق الأساليب العقيمة, فمثلاً: الجدل والتراشق بالألفاظ، والتعصب، والتحيز الواضح لفكرة معينة, أو استيراد الحلول الجاهزة -أحياناً- أو ترك المشكلة اعتقاد أن الزمن كفيل بحلها, أو إلغاء الأسباب والنتائج, أو إلقاء المسئولية على الآخرين، وانتظار الحل منهم, أو التعامل مع المشكلات بالعواطف, كل ذلك قد يسكن الألم -أحياناً- ولكنه لا يوقف النزيف على المدى الطويل. السبب السابع: هو عدم استصحاب النية الصالحة في نفع الناس, وبذل الوسع في التعامل مع القضايا والمشكلات, ونسيان الموضوعية في غمار التعصب, وعدم الإنصاف والتأني إلى غير ذلك من الصفات التي ينبغي أن يتميز بها كل باحث عن الحقيقة. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 16 أخطاء وحلول أما النقطة السادسة والأخيرة وهي بيت القصيد فهي بعنوان "أخطاء وحلول". الجزء: 199 ¦ الصفحة: 17 التوازن المفقود خامساً وأخيراً: التوازن المفقود: إن التوازن مطلب شرعي، والله تعالى يقول {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] . وفي الحديث المتفق عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: {إن لنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولزوجك عليك حقاً، -بل- ولزورك عليك حقاً، فآت كل ذي حقٍ حقه} , وإن أي زيادة في جانب أو غلو يقابلها نقص وتفريط من جانب آخر. ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم والمقياس في الزيادة والنقص هو النص, إما آية من كتاب الله، أو حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح, أو إجماع من أهل العلم قائم ثابت. قد يهتم الإنسان -أحياناً- بأمر من الأمور؛ لأن جِبِلَّتَه وتكوينه ومَلَكَتَهُ تقتضي ذلك, دون أن يلزم غيره بهذا أو يعاتبه على ما سواه، فلا حرج في ذلك, فأنت -مثلاً- اهتماماتك علمية لا حرج عليك ولا بأس, وآخر اهتماماته جهادية, وثالث اهتماماته دعوية, ونحن نعلم أنَّ في الصحابة رضي الله عنهم أبا ذر الغفاري، الذي لم يكن فوق الأرض ولا تحت السماء من ذي لهجة أصدق منه، ولا أزهد ولا أورع في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه لم يكن من أهل الولايات والإدارات, وفيهم خالد بن الوليد الذي كان سيفاً من سيوف الله تعالى، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث في الصحيح. في معركة مؤتة، الذي كان قوياً شجاعاً مقداماً باسلاً, ما هُزِمَ في معركة قط، ولَكِنَّ خالداً بن الوليد انشغل بالحرب والجهاد, فلم يتفرغ لنشر العلم والفتيا في أصحاب محمد ومن بعدهم. وفيهم ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه، الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {اللهم فَقِّهْهُ في الدين وعلمه التأويل} وكان له قلب عَقُول ولسان سئول, وكان من المفتين والعلماء في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، في ملأ منهم، كـ عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود ومعاذ بن جبل وغيرهم. وفي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من جمع الفضل والمجد من أطرافه كـ أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه وأرضاه قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: {من أصبح منكم صائماً؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من تصدق على مسكين؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من عاد مريضاً؟ قال أبو بكر: أنا, قال: من تبع جنازة؟ قال أبو بكر: أنا, قال: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة} , وفيهم أمثال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأرضاه. إذاً لا بد من الاعتدال مع مراعاة المواهب والتخصصات والملكات, المهم أن الإنسان يحرص على قدر من الاعتدال. ومن الاعتدال: الاعتدال في بناء الشخصية, فيتوسط الإنسان بين الاندفاع وراء العاطفة الجياشة التي لا تنضبط, أو التوقف بحجة العقل والدراسة والنظر. فإن الإنسان كُلُّ لا يتجزأ, وله عقل وعاطفة، ولولا وجود العاطفة لما استطاع الإنسان أن يتعامل مع الناس, ولا يأخذ ولا يعطي, ولا يتفهم أمورهم ولا يحبهم أو يحبونه, أو يتعامل معهم, فلا بد من الاعتدال في النظر بين العقل والعاطفة. ومثله -أيضاً- الاعتدال في تقويم الرجال، فلا غلو ولا جفاء, وقد كان الصحابة -رضى الله عنهم- يربون الناس على ذلك, قال علي رضي الله عنه: [[إنه لعهد عهده إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تهلك فيّ فئتان: فئة غلت, وفئة جفت]] وهكذا حدث فعلاً، فإن ممن بعد علياً رضي الله عنه من غلو فيه, حتى ادعوا له لا أقول: الولاية والإمامة، فهو كان أميراً للمؤمنين رضي الله عنه, لكن ادعوا له والعياذ بالله الألوهية، وكان يقتلهم ويحرقهم بالنار, وهم يقولون له: أنت أنت! يعني يزعمون له الألوهية، وهو يقول لهم: لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري ودعوت قنبرا فكان يحرقهم رضي الله عنه. وهلكت فيه فئة أخرى هي: التي فرطت في حقه وقصرت، ونسبته إلى شيء مما لا يليق بقدره ومقامه رضي الله عنه إن المقياس كما أسلفت هو النص، وفى صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه قال: [[أقرأُنا أُبي ٌ وأقضانا علي]] , فحكم أمير المؤمنين بأن أبياً هو الأقرأ, وأن علياً هو الأقضى يعني: الأعلم بالقضاء, ثم قال عمر: [[وإنا لندع من قول أبي -يعني نترك بعض ما يرويه لنا أبي بن كعب رضي الله عنه- وذلك أن أبياً يقول: لا أدع شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال الله عز وجل: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106]] ] فانظر إلى عمر، كيف اعترف لـ أبي ٍ بأنه هو الأقرأ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, ثم بين أننا مع ذلك نرد بعض قوله، لا بالتشهي، ولكن بالنص الشرعي, فقال: [[إن أبياً يقول كذا وقد قال تعالى ((مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)) [البقرة:106] فقال: نرد بعض ما قاله أبي بالقرآن الكريم، وليس بمجرد التشهي]] . إن الأمة التى تغلو في شخص, لا بد أن تقصر فيه فتعظمه, حتى لا تتصور أن يخطئ، فيقع في الخطأ، فتجحف في حقه, ولا ترى له قدراً أو مكاناً, وهناك أمة تبالغ في شأن شخص، إهداراً لكرامته, ويبالغ آخرون في رفع اعتباره وقيمته ومنزلته. إذاً فالاعتدال والحق فضيلة بين رذيلتين, إن من الاعتدال: الاعتدال في معاملة المرءوسين, وهناك من يحمل من تحت يده ما لا يطيق, سواء كانوا أولاده، أو طلاباً أو مرءوسين أو مربين، أو الأمة كلها -أيضاً- بشعوبها وأممها, هناك من يُحَمِّلُهم مالا يطيقون, فينقطعون ويَدَعُون العمل, أو يدعوهم ذلك إلى الإعجاب والغرور بأنفسهم، وبما أنجزوا وعملوا فيستكبرون. ثم قد يهمل آخرون بحجة أنهم ليس لديهم مواهب. فقراء في مواهبهم, ليس لديهم إبداع؛ فيترتب على ذلك تحطيم لهم، وإثارة مشاعر السخرية والكراهية والبغضاء في نفوسهم. وكل إنسان صغر أم كبر؛ هو مزود بملكات وقدرات إبداعية, ولكن الشأن فيمن يكتشف هذه الملكات ويعرفها؛ ثم يوظفها توظيفاً صحيحاً. إن من الاعتدال: التوسط في ملاحظة النفوس وطبائعها, فهناك المربي الذي لديه حساسية شديدة, فهو يتردد في كل شيء خشية أن يجرح فلاناً, أو يُغْضِب فلاناً, وهناك على الطرف الآخر من لا يَأْبَهُ بالآخرين حتى كأنهم عنده بشر بلا مشاعر ولا أحاسيس, فقد يرأس الصغير -مثلاً- على الكبير، ويحتج بـ أسامة بن زيد , أو يعاتب بشدة ويحتج بموقف نبوي, أو يفضل أحداً على أحد بوضوح، ويحتج بـ أبي بكر وعمر وهكذا, وينسى أن الأمر يتفاوت والموقف يختلف. ومن الاعتدال: الاعتدال في النصيحة والتوجيه، فليس من الحكمة حرمان الناس من النصيحة، والنقد البناء الهادف الذي -يكون بأسلوب الحكيم المناسب- بحجة الخوف من ذلك, وليس من الملائم تربية الناس على الصفاقة وقلة الأدب وغياب الخلق، بحجة تربيتهم على قول كلمة الحق, أو عدم المجاملة في دين الله تعالى. ومن الاعتدال -أيضاً-: الاعتدال في تربية النفس وتربية الآخرين, فلا ينبغي للإنسان أن ينشغل بنفسه عن غيره, ولا ينشغل بغيره عن نفسه, بل الاعتدال الاعتدال، وكما قيل: يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم لا تنهَ عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم الجزء: 199 ¦ الصفحة: 18 من زرع الشوك لا يحصد العنب الخطأ الثالث: إنك لا تجني من الشوك العنب! إننا جميعاً نعاني من الإهمال التربوي, ومع ذلك ننتظر نتائج طيبة, وأضرب لك أمثلة: الحكومات التي تريد الحفاظ على أبنائها وشعوبها, تجد أنها تتعاهدهم بالرعاية والعناية والخدمة والملاحظة, كما يتعاهد الإنسان غرسه ونبته صباح مساء, وتجد أنها تسعى إلى كسب ولائهم وتضع الخطط التربوية الناجحة للتأثير عليهم. الأسر التي تريد الحفاظ على أبنائها -أيضاً- تجد أنها تحرص عليهم وتراقبهم مراقبة دقيقة, وتبذل في سبيل ذلك الغالي والنفيس. أما المشكلة فهي الإهمال التام عندنا لأولادنا، وأسرنا، وبيوتنا، وشعوبنا, ثم ننتظر نتائج إيجابية، وأحياناً نندهش ونفاجأ حينما تخيِّب ظننا الأمور. الأب مشغول بالتجارة, والآخر مشغول بالمزرعة, والثالث مشغول بالوظيفة, دوام صباحي ودوام مسائي, ورابع مشغول بالسفر في الإجازات، وفي الخميس والجمعة, ومشغول مع أصدقائه في بقية الأيام, أو مشغول بالزوجة الجديدة، التي أخذت عقله ولبه وقلبه ووقته, وأصبح كل همه ووجهه إليها, أو حتى قل: مشغول بالدعوة إلى الله تعالى, ومشغول بالعلم، ومشغول بالتعليم، وهي خير ما يشغل به الإنسان, لكن لا ينبغي أن ينشغل بهذا أو بذاك عن مسئوليته المباشرة التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {ابدأ بمن تعول} . يقول الولد: لمن تتركنا؟! وتقول الزوجة ويقول القريب: -أحياناً- حتى مجرد الجلوس مع الأولاد، أو الأكل معهم، أو المزاح، أو سؤالهم عن أحوالهم أو دراستهم وأوضاعهم، لا يكاد يتحقق من بعض الآباء المشغولين, وهذه مصيبة. يقول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تَخَلَّتْ أو أباً مشغولا ليس هذا فحسب, فليست المشكلة فقط أن هؤلاء لم يجدوا من يربيهم!! بل إن المشكلة أن هناك وسائل بديلة قامت بتربيتهم. فمثلاً: الإعلام أوالتلفاز الذي يستلم الطفل أو الشاب أو الزوج، من أول ما يدخل المنزل حتى ينام, بكل برامجه وصوره، وخيره وشره. ثم يأتي دورالفيديو الذي يكمل نقص الإعلام، ويستطع الإنسان أن يحصل على ألوان من آلاف الأفلام التي تصور له أوضاع الشعوب الأخرى, فهذا يصور لك كيف يعيش الناس في المجتمع الأمريكي الكافر؟! وآخر يصور لك معيشتهم في المجتمع البريطاني الكافر! وثالث في المجتمع الفرنسي الكافر! ورابع يتحدث لك عن أوضاعهم الاقتصادية! وخامس عن الأمور الفنية! وسادس! وسابع! وهكذا! إذاً: هذا الإعلام بصورة واضحة وصريحة يقدم للناس هدياً وشريعة بديلين عن هدى الله تعالى وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم! فهو يعلم الكبير والصغير، كيف يدخل, وكيف يخرج, ويقعد وينام؛ بل كيف يخاطب, وكيف يُحَيْيِّ الناس, وكيف يتعامل معهم, فتتعلم منه البنت كثيراً من الأخلاق السيئة المنحرفة, ويتعلم منه الابن والفتى والصغير والكبير. إذاً: فرض أن في أجهزة الفيديو والأشرطة الموجودة نقصاً، وليس موجوداً في تصوير ألوان التعاسة، التي تعيشها المجتمعات الغربية, فإن البث المباشر الذي أصبح يطل علينا الآن سيكمل هذا النقص على كل حال! وأنت تجد إعلانات -أحياناً- عن بعض الألوان من الأقراص، التي تستقبل ما يزيد عن أربع وتسعين قناة -ومع الأسف الشديد- أصبح يمكن لهذه في بلاد المسلمين, وتباع علانية, بل وتنتشر الدعايات حتى في صناديق البريد, دون تشهير ولا نكير, فضلا عن الصحف والمجلات. إذاً الجانب الإعلامي: إذا غفلت أنت فهو ليس بغافل. الجانب الرياضي الذي يهتم ببناء الأجسام دون بناء العقول، ودون بناء الأخلاق ودون بناء الروح والعلم, هذا أيضاً لا يغفل, فهو يبنى لك ولداً قوياً في جسمه ولكنه خواء في عقله وعلمه ودينه. وأنا لا أقول: إن كل من يعمل في هذا المجال هو كذلك, ونحن نعلم أن من الرياضيين قوماً صالحين والحمد لله تعالى, ولكننا نحذر من مثل هذا المصير, فضلاً عن الجو الصاخب الهائج الذي يحدث أثناء المباريات, أو المنتديات أو غيرها، فضلاً عن تلك النوعيات المتفاوتة, من الكبار والصغار, ومتفاوتون في تعليمهم وأخلاقهم وسنهم، وفي غير ذلك. إذا غفلت أنت فلن يغفل قرناء السوء من ضحايا المخدرات, أو محترفي الإجرام, أو هواة المغامرة, الذين هم من سن ولدك، وهم قادرون على التأثير عليه, وعلى إقناعه بصحبتهم ومشاركتهم في مغامراتهم وأنشطتهم. والشارع بكل ما فيه: فإن أقل ما نقوله فيه: أنه ليس مكاناً للتلقي والتربية والتوجيه, وتغيب فيه الرقابة سواء من الوالدين أو من غيرهم, فإذا غفلت فلن يغفل الشارع. وأيضاً العناصر الدخيلة, السائق -مثلاً- الذي يذهب مع البنات إلى المدرسة والسوق، وإلى مكان الترفيه، وإلى مدينة الألعاب وإلى غيرها دون أن يكون هناك أي قدر من التوجيه ولا من الرقابة, والثقة في ظن الكثيرين موجودة, ونحن نعلم أن كل أب يثق في بناته تلقائياً, ويثق في أولاده تلقائياً, لماذا؟ لأنه يذكرهم منذ الصغر ويذكر ما فيهم من البراءة, والبعد عن هذه المعاني, ويرى -أيضاً- ما عندهم من الخجل والحياء، الذي يجعلهم لا يتكلمون أمامه بشيء, فيظن الأب أن أولاده وبناته أبرار أطهار, ولا يتوقع أن المشاعر المتأججة التي قد تثور في نفس أي شاب, تثور عند ولده أو تثور عند بنته, فيضع مع هذه الأمور سائقاً مع بناته مثلاً، أو يضع خادمة مع الأولاد في المنزل, ويعتقد أن الثقة موجودة ولا شك أن هذا من أخطر الأمور. وكذلك المدارس الأجنبية أو المدارس الخاصة، التي تعتبر -أحياناً- نوعاً من الوجاهة لا غير, فيكفيني أن أقول أن ولدي يدرس في مدارس خاصة, وأفاخر بأنه يحسن اللغة الإنجليزية؛ بل إن بعض هذه المدارس تبعث شبابنا للتزلج على الجليد في سويسرا وغيرها, وبعضها تبعث بهم إلى بريطانيا ليقضوا الإجازة الصيفية عند أسر نصرانية كافرة, بحجة أنهم يتعلمون اللغة الإنجليزية, بل إن بعضهم يذهبون بأولادهم إلى الخارج ويقيمونهم في فنادق خاصة بالأطفال, كما أعلنت عنها عدد من الإذاعات ووسائل الإعلام تستلم، الطفل والأب مشغول؛ مشغول بدنياه, أو بتجارته وبصفقاته, وقد يكون مشغولاً بغير ذلك مما لا نبوح به, فيدع أولاده في فندق في بلد غربي, هذا الفندق لا يسمح للأب بأن يأتي إلى ولده إلا مرة في الأسبوع ليطمئن عليه, وهم يستلمونه بعد ذلك ليربوه على أخلاقيات معينة, وعقائد معينة, ومفاهيم وسلوكيات معينة, ولك أن تتصور أي مستوى من الدين والأخلاق والشيم سوف يتربى عليها أطفالنا في مثل هذه البيئات! إذاً: الجو العام يؤثر تأثيراً كبيراً, والبيئة التي يعيشها الطفل، الإسكان -مثلاً- والسفر والغربة والفندق والزملاء والمدرسة إلى غير ذلك, فأنت إذا غفلت هم لا يغفلون. ولا شك أن هذه جوانب سلبية في مجتمعنا, ولا يعني أن المجتمع يخلو من وسائل التربية الإيجابية, كلا! فنحن ندرك -مثلاً- أن هناك مدارس كثيرة تعتبر التربية فيها تربية إيجابية, فيها مدرسون ناصحون، ومدراء مخلصون, ومسئولون حريصون على مصلحة الطلاب, سواء كانت مدارس رسمية أو كانت مدارس أهلية. هناك -أيضاً- المساجد, التي هي منطلق التربية ومصدر الإشعاع, وهي الجو الطبيعي لتربية المسلم على مكارم الأخلاق ومعانيها, فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش معظم وقته مع أصحابه في المسجد, حلقات للتعليم للعبادة، للصلاة، للسؤال، حتى إن الرجل الجاهل يأتي فيدخل المسجد، فيجد الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فيقف ويقول: أيكم محمدٌ؟ فيشيرون إليه, ويقولون: هو ذا, فيسأله عما أشكل عليه من أمر دينه أو دنياه. القرناء الصالحون: وهم -بحمد الله تعالى- موجودون وهم كثيرون, وينبغي الحرص عليهم وأن يضع الأب ولده في دائرتهم. الحلقات والدروس العلمية: سواء كانت حلقات تحفيظ القرآن الكريم, أو لتعليم العلم الشرعي من فقه، وحديث، وتفسير، وفرائض، ولغة، وغير ذلك , ومجالس الذكر التي يؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر, وترقق فيها القلوب, وتحرك فيها المشاعر, كل ذلك من وسائل التربية. أيضاً الوسائل العلمية النافعة المفيدة مثل الكتب المفيدة , والأشرطة الإسلامية النافعة, مع أنها أصبحت اليوم -مع الأسف- تحاصر ويقلل من انتشارها وشأنها وأهميتها. ومنها المجلات الإسلامية المفيدة إلى غير ذلك؛ المهم أن الأم والأب والمسئول لهم دور في وصل الناس بهذه الوسائل التربوية المفيدة, ومنعهم وإبعادهم عن تلك الوسائل الضارة. وينبغي أن نعلم أن الشر خفيف على النفس, والتكاليف ثقيلة, والشيطان مسلط, فيحتاج الإنسان إلى مراقبة ورعاية، وحزم وتشجيع. والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم أين الأب المدرك لمسئوليته في تربية ولده؟! أين الذي يتصور قول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور:21] , فهو يراقب ولده منذ نعومة أظافره؟ ومنذ طفولته! وهو يسأل الله تعالى أن يحقق فيه أمنيته, أن يجمعه معه في الجنة, وأن يرفعه إلى رتبته حتى يسعد به. أين الأب الذي يتصور قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي هريرة: {} . إن أعظم ما تخلفه من بعدك! ليس المال فهو لورثتك! ولا الشهرة والجاه، فهي لا تنفعك وأنت موسد في قبرك, وإنما العمل الصالح، ومنه العمل الدائم الباقي الذي لا ينقطع, أو ولد صالح يدعو لك. ومن ألوان الإهمال -أيضاً- ليس فقط إهمال الأب: إهمال إمام المسجد في حيه عن توجيه الناس وتعليمهم أمور دينهم, وحثهم على المحافظة على الصلوات, وحثهم على مكارم الأخلاق, ومراقبة المتخلفين عن الأعمال الصالحة ونصحهم وإرشادهم, والقيام بالأعمال الخيرية، وتتبع المحتاجين الفقراء المعوزين المعدمين, ومراقبة الشباب والقيام باتصالات معهم, ومحاولة إقامة نشاطات: دروس علمية، ودروس تحفيظ القرآن الكريم، ومسابقات ثقافية، وتوزيع أشرطة إلى غير ذلك من الأعمال, مثله -أيضاً- المدرس في مدرسته، والمسئول في إد الجزء: 199 ¦ الصفحة: 19 الشكل أم المضمون؟ الخطأ الثاني: الشكل أم المضمون: إن الإغراق في الشكل على حساب المضمون, أو في الكم على حساب الكيف, من أعظم أمراضنا! مثلاً: الرجل يهتم بملابسه وبغترته وبحذائه, والمرأة كذلك , بل أشد، فتجد كل موديل جديد لدى المرأة, وتجد لديها ألواناً من تلك المجلات والكتب التي تسمى بالبوردات, فاليوم من فرنسا، وغداً من تايلاند، وبعد غدٍ. وهكذا , وتجد لديها عشرات، بل مئات من الملابس والثياب، ربما لم تلبس منها شيئاً إلا قليلاً، وبعضها مرة واحدة أو مرتين!. وكذلك الحال بالنسبة للطفل، فنحن معنيون جداً بملابسه وجماله وحذائه وغير ذلك, هذا بلا شك إذا كان في حدود الاعتدال، فهو مطلوب، ولا بأس به, لكن لا يجوز أن يكون ذلك على حساب العناية بصلاح الإنسان، بقلبه وأخلاقه، ودينه، وعمله، وثقافته، وعبادته، وتربيته, مثل ذلك قصات الشعر -مثلاً- والتسريحات، وبالأمس كنا نحسبها للنساء فقط. فالمرأة اليوم تقص قصة وغداً تقص قصة أخرى, وأصبحت الفتاة تتابع التسريحات في العالم أولاً: بأول, ليس هذه المشكلة فقط؛ بل تطور الأمر وأصبح هذا حتى بالنسبة للشباب, فأنت تجد تلك الصالونات التي كثرت، أصبحت تعتني بقصات الشعر وتتخصص فيها, وربما جلس الشاب أمام المرآة وقتاً طويلاً من أجل تسريح شعره, لكن لو تجاوزت هذا الشعر قليلاً إلى ما يوجد في داخل، الرأس معلومات، وعقل، وثقافة، واهتمامات، ربما تجد خواء في خواء. ومثلاً الأثاث المنزلي: كثيرون منا يهتمون بالأثاث المنزلي، وتجديده وتنويعه وتناسقه في ألوانه إلى غير ذلك, ومن الضروري أن يكون جهاز التلفاز موجوداً أو جهاز الفيديو, وغرف النوم الفخمة إلى غير ذلك! الكثيرون يهتمون بهذا ولكن! الاهتمام بقيام المنزل على أساس السعادة الزوجية -مثلاً-, وقيام المنزل على المسئولية المشتركة, وقيام المنزل على أساس شرعي، هذا ربما لا يكون قائماً في اهتمام البعض! ومثله -أيضاً- مسألة الترفيه والرياضة فأنت تجد الأمة تحتفل احتفالاً كبيراً بالترفيه, والرياضة لون من ألوان الترفيه, ولكنها أخذت من وقتنا وعمرنا واهتمامنا, وأخذت شبابنا وفلذات أكبادنا, فأصبح الطالب حتى وهو في أيام الاختبار -مثلاً- مشغولاً بمتابعة دوري ما، أو مشغولاً بمتابعة الرياضة على الشاشة أحياناً, وأصبح يحفظ أسماء أندية العالم، وألوان ملابس هذه الأندية، وأسماء المدربين، وغير ذلك، ويتابع أولاً: بأول, وليس ذلك فقط، بل يبذل من عواطفه ومشاعره واهتماماته الشيء الكثير في هذا السبيل. ومثله -أيضاً-: الجانب الترفيهي: الذي أصبح يأخذ وقت الكثيرين من الناس, ولو أنهم أعطوا الناحية الشرعية أو العقلية أو الثقافية أو العلمية جزءاً من ذلك: لنتج عنه خير كثير. اهتمام الأمة عامة بالمباني والجسور والطرق والمعالم الحضارية -كما تسمى-, اهتمام المدير في المدرسة بحضور المدرسين, أو اهتمام الموظف بحضور مرءوسيه وقت الدوام، وألا ينصرفوا إلا في الوقت نفسه, دون أن يهتم بالعطاء وهل أنجزوا ونجحوا وأدوا مسئوليتهم، أم أن الواحد فقط! يحضر ثم لا يقوم بعمل؟! اهتمام الأب ببقاء أولاده في البيت, لكن يبقون لماذا؟! هل ليتعلموا؟! هل ليحفظوا القرآن؟! هل ليتربوا على مكارم الأخلاق؟! هل ليقوموا بعمل دنيوي ومفيد؟! لا يعنيه ذلك، أم أنهم جلسوا أمام التلفاز، أو أمام الفيديو، أو أمام أشياء قد لا تكون في مصلحتهم. اهتمام المدرس بالمنهج، المهم أن ينتهي من المنهج مع نهاية العام الدراسي، وليس المهم عنده -أحياناً- هو بناء الطالب وإعداده، وتنمية علمه وعقله، وتأهيله للنزول إلى ميدان الحياة, وخدمة الأمة. اهتمام الأمة -في تعليمها- بعدد الدارسين! فنحن نجد أن التعليم متاح للجميع، وأي طالب لا يتعلم يعتبر ناقصاً، ليس فقط للمستوى المتوسط أو الثانوي؛ بل لا بد أن يأخذ الجامعة, وإني أعرف البعض من الطلاب قد يجلسون زماناً طويلاً في الجامعة لأنه مشغول عنها مشغول بأمور البيت وبتجارته وبأعماله الأخرى, ولكنه مع ذلك مُصِرُّ على هذا الأمر، وكأنه ليس له أهلاً أو ليس له مناسباً, لماذا؟ لأن هذه التقاليد فرضت علينا، أن هذا الروتين لا بد أن يتم, ولا بد لكل الجيل أن يتعلم, وكأنه لا يمكن أن يخدم إلا من خلال هذه القناة, مع أن الإنسان الذي يكون فاشلاً في دراسته -مثلاً-, قد يكون ناجحاً جداً في ميادين أخرى، إذا اتجه لها وانبرى لها, لكن هذا القانون السائد جعله يهتم بهذا الجانب دون رعاية هذه النوعية! حتى في دراساتنا العليا، لما يطالب الإنسان أن يحضر رسالة ماجستير أو دكتوراه, تجد أن السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً: كم صفحة رسالته؟! كم مجلد؟! لكن قلما نسأل ما هي النتائج التي توصل إليها, هل كان عميقاً في بحثه؟! هل وصل إلى نتائج جديدة؟! إلى غير ذلك من الأسئلة التي تتعلق بالمضمون. مثل ذلك الإعلام: تجد أن الإعلام العربي كله في بلاد الإسلام -أيضاً- تجد هذا الإعلام يهتم بساعات البث والإرسال أن تكون مستمرة, لكنه لا يهتم بنوعية ما يشاهده الناس, أو نوعية ما يستمعون, هل هو ينفعهم أو يضرهم؟ هل يبني أو يهدم؟ هل هو على حساب الأخلاق والدين، أم يقوي ويعزز جانب الأخلاق والدين؟!. ومثله -أيضاً- الجوانب العسكرية في العالم الإسلامي: فقد تجد -أحياناً- توفيراً لبعض الأجهزة، أو عناية بعدد الجنود, ولكن! لا تجد الاهتمام بكفاءتهم وقدراتهم, فضلاً عن أن تجد الاهتمام بإخلاصهم ومعرفتهم للهدف الذي من أجله يتدربون, ومن أجله يقاتلون, ومن أجله يتربون, لذلك اليوم الذي يفترض أنهم يربون له، ألا وهو مقاومة أعداء الإسلام, والدفاع عن الحرمات، وعن الدين، وعن الأخلاق، وعن مكتسبات الأمة الإسلامية. إذاً: تتلخص اهتماماتنا كثيراً بالمادة على حساب الإنسان, حتى اهتمامنا بالإنسان حين نهتم به, نهتم به من الناحية المادية فحسب. فنحن قد نعامله كرقم في الإحصاء -مثلاً- نعده إنساناً ونعطيه رقماً, ولكننا نكتفي بهذه المعاملة الرقمية العددية أو الآلية, وننسى الكرامة التي هي سِمَتُه, والابتلاء الذي ألقي على كاهله, {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] , وننسى التكليف الذي حمله {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] . إن من أعظم ذلك: الاهتمام بالظاهر على حساب الباطن, وفي الشريعة الإسلامية والقرآن والسنة لا يوجد أصلاً, ولا يتصور تفاوتاً بينهما, فكما قال: عليه الصلاة والسلام كما في الحديث المتفق عليه {ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} . فصلاح الظاهر -حقيقة- يدل على صلاح الباطن, وصلاح الباطن لا بد أن يثمر صلاح الظاهر, لكن مما ينبغي أن نعلمه -دائماً وأبداً- أن العقيدة هي الأصل. فالأمور العلمية الاعتقادية, كمعرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله، ومعرفة اليوم الآخر، والإيمان به والملائكة والكتاب والنبيين, هذه الأشياء أصول ينبغي أن تغرس في النفوس، وتبنى عليها التربية, ثم الأعمال القلبية -أيضاً-, كمحبة الله تعالى وخوفه ورجائه، والرغبة فيما عنده، والخشوع له، والرهبة والإنابة إليه، وغير ذلك من المعاني العظيمة, هي أمور يجب أن تغرس في القلوب. ثم تأتي بعد ذلك الأعمال الظاهرة كالعبادات، وهي مبنية على الباطن, ولهذا لو صلى من غير نية لم تكن صلاة مقبولة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] . ومثله: العبادات كلها, وكذلك الاهتمام بالشكل المظهري للإنسان، كالعناية -مثلاً- بملابسه، وبشكله، وبشعره، وبمشيته، ودخوله، وخروجه, وموافقة ذلك كله للشريعة. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 20 لا نامت أعين الجبناء رابعاً: (لا نامت أعين الجبناء) : إن الشجاعة معنى كبير, وسر خطير, وقد أصبحنا نعشقها ونفرح بمن يتحلى بها, إنها هي من أسباب كون الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يستطيعون تحطيم سلطان العادة, وطاغوت العرف, ويَتَحَدَون أقوامهم وأممهم، ويصبرون ويصابرون على رغم من قلة الناصر والمعين, وكثرة المعاند والمخالف, وعلى رغم التلبيس والتدليس. فما الذي جعل رجلاً كموسى عليه السلام يقف أمام طاغية متألهٍ متجبر كفرعون! ويقول له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] . ما هو الذي جعل رجلاً نبياً مختاراً -كإبراهيم عليه الصلاة والسلام- يحطم الأصنام وهو يعد فتىً في مقتبل العمر! ثم يقول لقومه وعلى رأسهم النمرود الطاغية الأكبر: {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:67] . ما الذي جعل رجلاً -كمحمد صلى الله عليه وسلم- يجمع قومه، وفيهم أبو لهب وأبو جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف والملأ من المستكبرين، ثم يقف بين أيديهم منذراً محذراً {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} . ثم ما الذي جعل المجددين يستطيعون أن يصبروا على عملهم، ويجاهدوا ويعلنوها صريحة قوية مدوية؟! لماذا وقف عمر بن عبد العزيز وتحدى كل الأمور المعتادة في بني أمية، الذين كان واحداً منهم وينتسب إليهم, وكانوا يخشون أن يغير ملكهم, أو عادتهم وميراثهم, فيقف عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- نصيراً للحق مدافعاً عنه, قائماً على الظلم, محارباً له, راداً للحقوق إلى أهلها, لا يأمر بخير إلا فعله, وكاد الأمر أن يتم؛ لولا السم. ما الذي جعل رجلاً -كالإمام أحمد بن حنبل - يقف فيقارع الظالمين في مسألة خلق القرآن! ويصبر على عقيدته التي ورثها عن الأنبياء والمرسلين, ويصابر عليها, ويرضى بالسجن والجلد، والتعذيب والمطاردة والتضييق والحرمان من التدريس، من التعليم، من المحاضرات، من الإفتاء ومن غير ذلك, حتى أذن الله تعالى له بالفرج وكتب له الذكر الحسن، حتى أنه -رحمه الله- كان يستاء من ذلك ويكره الشهرة أشد الكراهية. ما الذي جعل رجلا -كالإمام ابن حزم - يقف ويتحدى من حوله, ويصبر ويصابر! فإذا قيل له: يا رجل تَحَفَّظ ولا تتعجل! أنشأ يقول: قالوا: تحفظ فإن الناس قد كثرت أقوالهم وأقاويل الورى محن فقلت: هل عيبهم لي غير أني لا أدين بالدجل إذ في دجلهم فتنوا وإنني مولع بالحق لست إلى سواه أنحو ولا في نصره أهن دعهم يعضوا على صم الحصى كمداً من مات من غيظه منهم له كفن قالوا: له أحرقوا كتبك ومزقوها ومنعوا من تداولها, وحذروا الناس منها, ووصفوها بأبشع الأوصاف, فأنشأ يقول: فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري يسير معي حيث استقلت ركائبي وينزل إن أَنزل ويدفن في قبري دعوني من إحراق رق وكاغَدٍ وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري وإلا فعودوا للكتاتيب بدأة فكم دون ما تبغون لله من ستري كذاك النصارى يحرقون إذا علت أكفهم القرآن في مدن الثغر ما الذي جعل رجلاً كالإمام ابن تيمية -رحمه الله- يصبر ويجهر بكلمة الحق، ويتحمل الأذى في سبيلها! فيسجن لمرات ويؤذى بل ويضرب أحياناً في الشارع، وهو إلى ذلك كله مجاهر معلن لا ينثني للرياح أبداً. ما الذي جعل رجلاً كالإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب يقوم في بيئة قد انتشر فيها الشرك بألوانه, والبدع والخرافات, والكهنة, والسحرة وغير ذلك, وألوان المخالفات! فيقوم جاهراً بكلمة الحق، مجاهراً صابراً في ذات الله عز وجل، حتى نصره الله تعالى، وأصبح ما جاء به الإمام محمد بن عبد الوهاب من الحق هو الظاهر، كما قال الله عز وجل: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] . ما الذي جعل رجلاً كالإمام الشوكاني -مثلاً- ينتصر للحق ويناضل في سبيله, ويلقى ما يلقى فيموت هو, ويبقى ذكره في الآخرين! وهكذا إن الشجاعة قوة في القلب, تجعل صاحبها لا يستوحش من الطريق, ولا ينفر من الوحدة, ولا يتخلى عن الحق مهما كلفته التضحيات, ولا ينافق ولا يجامل أو يحابي أو يداهن في دين الله عز وجل, إنه لا مكان في التاريخ للجبناء والمرتزقة والمطبلين أبداً, فإن الناس يركلونهم ويركضونهم، ويبقى الحق هو الذي تعشقه النفوس، وتتطلع إليه القلوب, وقد قال الله عز وجل {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171-173] . إن من أبرز أخطائنا أن نغرس في نفوس أبنائنا, الخوف من كل شيء, نحرمهم من التجارب والمحاولات، بحجة أن هذا قد يودي بحياتهم. فمثلا: نحن قد نخيف الولد الصغير من الكهرباء, أو من السيارة أن تصدمه وهذا صحيح ولا شك فيه؛ لكن! ما معنى أن تربية الجدة على الخوف من السحالي! فلا تذكر سالفة أو قصة إلا ذكرت فيه تلك السحاليات التي تأكل الأحياء من البشر, وتلتهمهم وتفعل بهم وتفعل. ما الذي يجعلنا نخوف أولادنا -دائماً وأبداً- من تلك الأقراص الحامية التي نزعم أنها تنزل من السماء بأدنى سبب, حتى لو لم يكن مخالفة شرعية ولا معصية, مع أن فيه من الكذب والافتراء على الله عز وجل ما فيه؟! ما الذي يجعلنا نخوف أطفالنا -أحياناً- من رجال الشرطة, حتى نقول للطفل الصغير: إن مجرد إشاراتك بالإصبع إلى رجل الشرطة يعني أن تقطع أصبعك؟! ما الذي يجعلنا نخوف أولادنا، بل ونساءنا وكبارنا -أحياناً- من الجن, وكأن الجن والعياذ بالله يستطيعون أن يفعلوا كل شيء؟! أو من العين والسحر, وننسى أن نربيهم على التوكل على الله عز وجل, والثقة به, والاعتماد عليه, وكثرة الأوراد والقراءات والأدعية التي تحفظ العبد -بإذن الله تعالى- من شر شياطين الجن والإنس. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة} . فالبيت الذي فيه ذكر الله, وفيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وفيه التربية على مكارم الأخلاق, لا مكان فيه للشيطان ولا مكان فيه لأولياء الشيطان من الجن والإنس, وفي الدائرة الأوسع، حينما نتجاوز دائرة البيت, ودائرة الطفل نجد أن هناك تخويفاً عالمياً من أولياء الشيطان، من الكفار، من اليهود -مثلاً- الذين أصبحنا نتحدث عن أسلحتهم التي يملكون, وخططهم التي يدبرون, وقدراتهم والتمكين لهم, أو النصارى وما يملكونه -أيضاً- وغيرهم من أمم الكفر، والله عز وجل يقول: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] يعني إنما ذلكم الشيطان يخوفكم أنتم من أوليائه. يكبر أولياءه في قلوبكم حتى ترهبوهم, فلا تقوموا بعمل, ولا بدعوة, ولا بجهاد, لأن الإنسان الذي يخاف لا يعمل ولا ينتج, لماذا نربى أنفسنا وشعوبنا وأممنا على الخوف من الدول العظمى وجيوشها الجرارة، وأجهزتها الضخمة، وأعدادها الرهيبة؟! بل لماذا نربى أنفسنا ومن تحت أيدينا من الشباب والطلاب وغيرهم على الخوف من أجهزة الأمن، ومن رجال المباحث، ومن المخابرات؟! حتى يتخيل الإنسان -أحياناً- أن هذه الأجهزة تدخل إلى جوفه مع الشهيق وترسل التقرير في الزفير كما يقول أحدهم, ويصبح الإنسان يخاف من ظله. حتى صدى الهمسات غشاه الوهن لا تنطقوا إن الجدار له أذن. ! مثل ذلك -أيضاً- من ألوان الخوف وفقدان الشجاعة: الخوف من الفشل, والخوف من الخطأ, والخوف من الإخفاق. إن من المؤسف أننا لا نحترم اجتهاد الإنسان, ولا نقدر عمله, بل -أحياناً- نعاقبه على اجتهاده عقاباً يحرمه ويحرم غيره في المستقبل حتى من مجرد التفكير في العمل, إنها منطقة محرمة والسلامة لا يعدلها شيء، والكثيرون يؤثرون أن يسلموا -لا لهم ولا عليهم- على أن يغامروا وقد تكون النتيجة غير مأمونة. إن ذلك قتل للمواهب، ووأد للطموح، وقضاء على الإبداع, ويجب أن نعلم أن الذي لا يخطئ لا يمكن أن يصيب أبداً, ولكي نربي الشجاعة في نفوسنا، ونفوس من تحت أيدينا من الأولاد والبنات والرجال والنساء والأمم والشعوب, يجب احترام شخصية الإنسان، واحترام رأيه منذ الصغر, وفي كافة المراحل وعلى كافة المستويات, فأنا أقول لك: أي معنى لأن تولى ولدك أعمالاً، ثم تسفه رأيه فيها! وإذا قال لك: فلان، قلت: فلان لا يهمني, لا يهمك, ألأنه ولدك الذي تعرفه؟ لا! ينبغي أن تحترم شخصيته، ورأيه، واجتهاده، وعمله, وتسلم له تخصصه, وأي معنى لأن تفترض على ولدك كل شيء، ولا تعطيه مجالاً للاختيار والتفضيل أبدا؟! فالثوب أنت تختاره، والحذاء أنت تختاره, واللعبة أنت تختارها, والكتاب أنت تختاره, وكل شيء أنت تختاره, لماذا لا تعطي ولدك أو أخاك أو من تربيه فرصة في الاختيار؟! حتى المعلم أو الأستاذ أو الشيخ, لماذا لا يعطي تلميذه فرصة في اختيار الكتاب الذي يقرؤه, أو الطريقة التى يتعلم بها؟ أليس الشرع جاءنا بالشورى؟ والله تعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] . فيأمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيد بالوحي من السماء ويقول: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] في وصف المؤمنين، ولم يكن أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضى الله عنه، وكثيراً ما كان الصحابة أبو بكر أم عمر ومن بعدهم يقف ويقول: أشيروا عليّ أيها الناس، فالولد مع أبيه في عمله وتجارته وزراعته, والطالب مع مدرسه في طريقة التدريس، في أخذ المنهج وفي الجزء: 199 ¦ الصفحة: 21 التركيز على الأخطاء الخطأ الأول: فأين الصواب إذاً؟ وأعني بهذا الخطأ: التركيز على الأخطاء, ولعل لقائل أن يقول: إن محاضرتك نفسها عنوانها (بعض أخطائنا في التربية) فأقول: نعم حتى التركيز على الأخطاء في موضوع أو درس أو محاضرة ينبغي أن يكون بقدر معتدل. إن التركيز على الأخطاء والانحرافات لا يبني أبداً, بل الأصل هو وضع المعيار الصحيح، وتمكين الإنسان أن يكتشف الخطأ بنفسه, مع الثناء عليه إذا أصاب, وتوجيهه إذا أخطأ. مثلاً: الواعظ والخطيب: إنما هو مربٍّ فينبغي له أن لا يركز على الأخطاء, ويجعل كل خطبه ودروسه ومحاضراته هي عبارة عن سياط يلهب بها ظهور الناس, فيخرجون منه كل يوم وقد حميت ظهورهم من أثر هذا الكلام الذي انحى به عليهم لا, ينبغي أن يكون -أحياناً- هناك حديث عن الصواب، ليعمله الناس دون تعريض للخطأ, -وأحياناً- يكون هناك ثناء على بعض الظواهر الإيجابية حتى تنمو وتكبر, وأحياناً يكون هناك تنبيه إلى بعض الأخطاء، بالأسلوب الشرعي المناسب. المدرس أو المدَرِّسَة -أيضاً- هم من المربين فكون المدرس أو المدَرِّسة يركز على أخطاء الطالب فإذا أخطأ وأبرز الخطأ وعلق عليه، وأكد على هذا الخطأ, فإن هذا يحطم الطالب، ويجعله لا يفكر في المحاولة مرة أخرى, لا, ينبغي أن يبرز الجانب الآخر. جانب الصواب الذي أصاب فيه, الجانب الإيجابي عند الإنسان. ومن القصص المشهورة التي تبين لك أن الإنسان يستطيع أن يؤدي المعلومة بأكثر من أسلوب: أن خليفة رأى في المنام أن أسنانه قد سقطت, فطلب رجلاً يعبر الرؤيا, فقال له: يا أمير المؤمنين! يموت أهلك كلهم، وتبقى أنت بعدهم! فأمر به فجلد حتى أغمي عليه, ثم قال: ارفعوه عني. فدعا بِمُعَبِّرٍ آخر, فقال له: يا أمير المؤمنين! أنت أطول أهلك عمراً، فأعطاه جائزة!!. إن الإنسان يستطيع أن يعبر عن التوجيه والإرشاد والنصيحة بأسلوب غير مباشر أحياناً، وبأسلوب مباشر أحياناً أخرى, ويمتدح الصواب في بعض الأحيان, ويمتدح فلاناً لأنه أصاب وهكذا والأب -أيضاً- مربي، فكون الأب لا يحسن إلا سب أولاده وشتمهم، والدعاء عليهم وتعييرهم وفلاناً فعل وابن فلان فعل وأنتم فيكم وفيكم هذا لا شك لن يبني أولاداً صالحين قط, بل سيجعل هؤلاء الأبناء يفقدون الثقة بأنفسهم, ويعيشون إحباطاً, وقد يؤدي إلى كراهيتهم لأبيهم, لكن بدلاً من أن تقول: أنت أخطأت قل: هذا العمل لا يعجبني، لا يناسبني، أو لا يصلح, ولو قلت له هذه المرة أخطأت, المرة الثانية: لا بد أن تثني على الصواب, من الممكن أن تستخدم معه أساليب متعددة؛ بل أقول كل إنسان في مسئولية، فهو يتناول ويتولى جزءاً من مسئولية التربية, حتى الحاكم الأعظم أو الإمام أو الخليفة أو السلطان هو أيضاً مربٍ على نطاق أوسع، ومسئوليته في عدم تتبع الأخطاء, وعدم تتبع العورات, واضحة جليه. إذاً لا بد أن تكون الأخطاء موضوعة بصورة معتدلة إن الإنسان الذي يلاحق أخطاء الناس, ويكثر من الحديث عنها، ربما يكون لديه شعور بالكمال, ولذلك فهو -دائماً وأبداً- يبحث عن الزوايا المظلمة, والمناطق القاتمة في الناس ليتحدث عنها. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 22 الأسئلة الجزء: 199 ¦ الصفحة: 23 واجبنا نحو المتساقطين على الطريق السؤال تحدثت عن عدم التدين وعن ترك الزمن ليحل المشاكل, ما رأيكم فيمن يلتزم شهوراً أو سنوات، ثم بعد ذلك تراه قد ضل السبيل وانحرف عن الطريق الصحيح, وما عملنا تجاهه؟ أنترك الزمن ليحل هذه المشكلة, وما نصيحتكم؟ الجواب أما مسألة الانحراف، وكون أن هناك بعض الناس ينكصون على أعقابهم, فهي سنة إلهية، قال الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] . إذاً هذا أمر لا حيلة فيه ولا بد منه, لكن حينما تقف أمام ظاهرة أو حدث معين، أن فلاناً حصل منه تأخر، أو تقهقر أو حور بعد الكور، فعليك أن تبذل وسعك في تربيته وإعادته إلى سواء السبيل, وينبغي أن تراعي أن فلاناً هذا عارف بالأمور. وربما يكون لديه ملاحظات, أو واجه مشكلات معينة, أو أصابه خطأ من أحد, فينبغي أن تكون واسع الصدر معه, حليماً، مناقشاً له, تعطيه فرصة أن يعبّر عما لديه, وتناقشه بالحكمة، ويكون لديك استعداد أن تعترف بالخطأ, إذا كان وقع خطأ تجاه هذا الإنسان, وتسعى في إصلاحه، وتبين له أن المسئولية يوم القيامة مسئولية فردية, {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:95] , {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:5-10] , فهو لا يسأل عن أحد, ولا يسأل عنه غيره, لا تكلف إلا نفسك، وتذكره بمسئوليته الفردية وضرورة الاستقامة على الحق, ودعوة الناس إليه. الجزء: 199 ¦ الصفحة: 24 النكت والطرائف الطرائف والنكت أمر منتشر بين الناس حتى صار اليوم فناً يدرس، والبعض قد يقدح في الدين بطرفة وبعضها مكذوبة، وبعض الطرائف والنكت أحياناً مطلوب، وبعض العلماء الأجلاء كتبوا فيها ما بين حكاية وأعجوبة، والمسلم بحاجة لضبط نفسه بالشرع، وحكم تصرفاته بما يوافقه، وهذا الدرس يبين لك ذلك. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 1 النكت والمزاح إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أحبتي وإخوتي الأكارم: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته. هذا هو الدرس الرابع عشر في سلسلة الدروس العلمية العامة، وهذه ليلة الإثنين الثامن من شهر الله المحرم، لعام (1411هـ) . موضوع الدرس في هذه الليلة، هو صلة الحديث عن موضوع (المباح وغير المباح من المزاح) وعنوان هذا الدرس بالذات هو: (النكت والطرائف) وقد كنت تحدثت فيما مضى عن موضوع المُزاح والمحمود منه والمذموم، والجائز منه وغير الجائز، وبينت نماذج من هذا وذاك، وتكلمت عما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين والأئمة المشهورين من ذلك. ولا شك أن النكت والطرائف هي جزء من المزاح، فقد يتساءل البعض ولماذا نفردها بالحديث؟ فأقول: لا شك أنها جزء منه، وإن كانت جزءاً متميزاً؛ لأن النكت والطرائف هي -غالباً- عبارة عن روايات، وقصص صغيرة أو قصيرة يتناقلها الرواة، ويتداولونها على سبيل الإضحاك، فهي جزء من كل، وعلاقتها بموضوع المزاح علاقة الجزئية، فهي جزء من الموضوع العام، لكنها حظيت بمزيد من الاهتمام، وأصبحت في هذا العصر فناً خاصاً له أصوله، ومدارسه، وطرائقه، وأساليبه وكتبه وأهله، إضافة إلى أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة كثير من الناس، بل غلبت على كثير من الناس وأصبحت هي أهم جزء في حياتهم. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 2 ماهية النكت النكت والطرائف: النكت: جمع نكتة، فمن أين اشتقت النكتة في اللغة العربية؟ هذه دردشة خفيفة حول الأصل اللغوي، من خلال قراءتي لكتاب لسان العرب وما ذكر فيه ابن منظور، وجدت أنه يمكن أن نقول: إن النكت مشتقة من أحد ثلاثة معان: إما أن تكون مشتقة من (النَّكْت) وهو الضرب في الأرض بعود أو غيره بحيث يؤثر فيه، جاء في أحاديث كثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم {كان ينكت الأرض بعود في يده} يعني يضرب به الأرض فيظهر أثره على الأرض، وإذا كان اشتقاقها من هذا المعنى فهو دليلٌ على أن الأصل في النكت أنها مذمومة، لأنها تؤثر في القلب وفي النفس، كما يؤثر هذا العود في الأرض، فيحدث فيه ندوباً وآثاراً، فكذلك بعض النكت أو كثيرٌ منها تحدث في النفس نكتاً وندوباً وآثاراً، فلذلك سميت بالنكت. ويحتمل أن تكون مشتقة من (النَّكْت) وهو الطعن في الناس، يقال: هذا رجل نكات إذا كان طعاناً في الناس، وأيضاً إذا كان اشتقاقها من هذا المعنى؛ فذلك لأن كثيراً من النكت يكون المقصود بها الطعن في فلان أو فلان، أو العائلة الفلانية، أو القبيلة الفلانية، أو البلد الفلاني، أو ما أشبه ذلك، فتكون مذمومة على هذا الاشتقاق إجمالاً أيضاً. أما الاحتمال الثالث: وهو الأقوى والأظهر والأرجح، فهو: أن تكون مأخوذة من (النَّكْت) وهو النقط، يُقال: نكت بمعنى نقط، ويُقال: نكتة أي نقطة، فهي النقطة في الشيء التي تكون مخالفة للونه، للون أرضه وعامته وغالبه، ومن ذلك: قول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في حديث حذيفة: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً -وفي رواية- عَوْداً عَوْداً فأيما قلبٍ أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء} فقوله نكتت أي: نقطت ووضعت فيه نقطة سوداء أو نقطة بيضاء. وعلى هذا الاشتقاق؛ فإن هذا يدل على أن النكت ينبغي أن تكون قليلة، كما سبق في موضوع المزاح تكون كالملح في الطعام، فتكون مثل النقط المنتشرة المغايرة للون الأصل، بمعنى أن الأصل فيك يجب أن يكون هو الجد، والكلام المفيد، وأما النكت فهذه استثناءات عارضة مخالفة للون الأصل الذي أنت عليه، فالأصل عندك الجد، ولكنك تمزح أحياناً بهذه النكت كما سبق. الجد شيمته وفيه دعابة حيناً ولا جدٌ لمن لا يهزل أما الطرائف: فهي أخف شأناً، وأظهر من حيث الاشتقاق اللغوي، فإنها جمع طرفة، وهي تحتمل أيضاً معنيين أو أكثر، ومن مراجعتي أيضاً لكتاب تهذيب اللغة للأزهري، تبين لي أنه من الممكن أن تُرجع إلى أحد معنيين: أولهما: أن ترجع إلى الطَّرف، والطرف هو النظر أو البصر، ولذلك يقول الناس: طرفه، يعني إذا أصيبت العين، إذا ضرب إنسان آخر بيده أو بثوبه أو بشيء، يقال طَرَفه أي: أصاب طرفه، ويقال طُرفة: أي: إصابة العين تسمى طرفة، ويقال: رجل مطروف، وهذا معروف، إذاً على هذا الاشتقاق أيضاً تكون الطرفة الأصل أنها مذمومة، لأنها قد تؤثر فيمن تقال له، كما تؤثر الإصابة في العين، فإما أن تصيبها بالعمى، أو قد تصيبها بالاحمرار وغير ذلك من العوارض. الاحتمال الثاني: وهو الأرجح والأصح والأقوى؛ أن تكون الطرفة مشتقة من قولهم: فلان ما له شيء طارف ولا تليد، ويعنون بالطارف الجديد، وبالتليد القديم، تقول: هذا من طريف مالي أي: من جديده ومستحدثه، وهذا من تلاده أي: من قديمه وموروثه، فالطارف عند العرب أو الطريف: هو الجديد، ومنه قول الإمام الأزهري في تهذيب اللغة يقول: سمعت أعرابياً يقول لآخر وقد قدم من سفر: هل وراءك طريفة خبر تطرفنا؟ فقوله: طريفة خبر يعني خبراً جديداً تتحفنا به، ومن ذلك أيضاً قولهم في المثل: (هل عنده من مغربة خبر) أي: من خبر غريب جديد، لكن الطريف مثل قولهم: أطرف فلاناً بكذا إذا أعطاه شيئاً جديداً ليس عنده، مثل لو أتيت لإنسان -مثلاً- بحلوى لم يتعود أن يشتريها، تقول: هذه طرفة أهديتها له، ويقول الناس: فلان قد أطرف فلاناً، أي: أعطاه طرفة وشيئاً جديداً غريباً غير معتاد، وهو هذه الحلوى التي يأكلها أو ما أشبه ذلك. وهذا معروف عند العامة -عندنا- فيوم كان اللحم قليلاً عند الناس لا يكاد يوجد، كانوا إذا أتى أحدهم باللحم يسميه طريفة، أي: شيئاً طريفاً قليلاً لا يكاد يوجد إلا في الشهر مرة أو في الشهرين مرة، فهو أمر نادر عندهم، وجديد وغريب، وهو محبوب لهم أيضاً ولذلك سمي طريفاً، ومن هذا تشتق الطرفة وذلك: أولاً: لأنها خبر فيه غرابة وعجب، وكذلك هو جديد على الإنسان يطرق سمعه لأول مرة، فلهذا وذاك سميت طرفة. هذا مرور سريع على الجانب اللغوي في الموضوع، وهو لا يخلو -إن شاء الله- من فائدة. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 3 أسماء الطرفة والنكتة عند الناس النقطة الثانية: ما هي أسماء الطرفة أو النكتة عند الناس؟ إضافة إلى هذين الاسمين، فإن لهما أسماء متداولة عند الناس منها: النوادر، فيقولون: نوادر فلان، أو يقولون: نوادر القضاة، نوادر العلماء، نوادر السلاطين، نوادر المجانين، نوادر المغفلين، وغير ذلك، فيسمونها (نوادر) وهي جمع نادرة وهو الأمر الغريب، يقال: هذا شيء نادر أي: قليل؛ لأنه ليس كل كلمة تقال تستثير الناس وتعجبهم، إنما يعجبهم الكلمة بعد الكلمة، والعادة في الناس أن يكون فيهم ثقل وعقل ووقار، فليس يضحكهم كل شيء، إنما يضحكهم الأمر الذي يستدعي الضحك، وإلا فإنه يلام الإنسان فيقال: يعجب من غير عجب، ويضحك من غير سبب، فإذا كان الإنسان مضحاكاً لا يكاد يسد فمه عن ضحك، فإن هذا يعتبر عيباً فيه، وقلة في عقله، ودليلاً على جهله، ولهذا سميت بالنوادر. وقد يقال لها: المُلَح أيضاً، وهي جمع مُلحة بضم الميم وهي كسابقتها. وقد تسمى اللطائف: جمع لطيفة وهو الشيء الغريب، الذي يتسلل إلى النفس وإلى القلب: والعرب تسمي النكت واستخدامها تسميه إحماضاً، وهذه التسمية لها دلالة قوية، كان ابن عباس رضي الله عنه يوماً جالساً في ملأٍ من أصحابه فقال لهم: [[أحمضوا أحمضوا]] معنى أحمضوا: أي اتركوا الجد وقتاً، وانتقلوا إلى شيء من الهزل. وليس بالضرورة أن الهزل يعني النكت، قد يكون الهزل شعر العرب في الجاهلية، أو قصصاً، أو أخباراً، أو ما أشبه ذلك مما يذهب السآمة والملل عن النفس. فقال لهم: (أحمضوا) والإحماض كما قالوا: بأنهم إذا أفاض الناس أو القوم فيما يؤنسهم من الكلام سمي هذا إحماضاً، وهو مشتق من إحماض الإبل، الحمض الذي ترعاه الإبل نوع من النبات، إذا رعت الإبل النباتات المعهودة التي تحبها تمل منها وتسأم، فتأخذ شيئاً يسيراً من الحَمض، فإذا أكلته رجعت إلى ما كانت تعهد من النبات، كان شيئاً يسيراً لا تكثر منه الإبل. وهكذا الإحماض أن الإنسان ينتقل إلى التسلية وإلى المرح وإلى الدعابة أحياناً يسيرة، ثم يعود إلى ما هو عليه من الجد، لا يوهن ويسترسل في موضوع الطرائف والنكت حتى تكون هي الغالبة عليه، وإنما ينتقل إليها شيئاً يسيراً حتى يقوي عزيمته ويجددها، ثم يعود إلى ما كان عليه، هذه بعض أسمائها. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 4 نماذج من ملح النبي صلى الله عليه وسلم النقطة الثالثة في الموضوع: هي نماذج من ملح النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى العلماء من ذلك شيئاً كثيراً، لكن أحببت أن أقتصر منها على بعض ما اشتهر على ألسنة الناس، وكثيرٌ مما سأذكره صحيح، وما كان سوى ذلك سأتكلم عليه، وسأبين وجه ضعفه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 5 أبو الورد وأخيراً فيما يتعلق بما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من الطرائف، ما ذكره أبو الورد قال: {رآني النبي صلى الله عليه وسلم فرأى رجلاً أحمر -كان الرجل شديد الحمرة- فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أنت أبو الورد} والحديث رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، والبغوي في شرح السنة، أيضاً وفي سندهما جبارة بن المغلس وهو من شيوخ ابن ماجة وهو ضعيف، ولكن للقصة طريق أخرى أخرجها ابن مندة وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 6 كلُّّي قال: كلُّك من النكت التي قالها النبي أو قيلت بحضرته صلى الله عليه وسلم: ما رواه أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه أنه قال: {أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهو في قبة حمراء من أدمٍ، فقلت: يا رسول الله أأدخل؟ قال: ادخل، قلت: كلِّي؟، قال: كلُّك} . وإنما قال ذلك لأن القبة كانت صغيرة، والحديث في سنن أبي داود وأصله في الصحيحين بدون موضع الشاهد (قوله: كلي، قال: كلك) أصله في الصحيحين أنه قال: فدخلت، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {اعدد ستاً بين يدي الساعة} فهو في أشراط الساعة، لكن الشاهد ليس في صحيح البخاري ولا صحيح مسلم فيما أعلم، وإنما هو في سنن أبي داود فحسب، أنه قال: أأدخل كلي يا رسول الله؟ قال: كلك وهذه أيضاً نكتة. من ذلك ما رواه زيد بن أسلم أيضاً، أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله عن زوجها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: {زوجك الذي في عينه بياض، فقالت المرأة: عقرا -تدعو على نفسها- ومتى رأيته يا رسول الله؟ قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما من إنسان إلا وفي عينه بياض} فهدأ روعها. وفي رواية: أنها ذهبت لزوجها، فبدأت تنظر إليه وتحملق في عينيه، فقال: ما شأنك؟ قالت: أخبرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في عينك بياضاً. قال: أوما ترين بياض عيني أكثر من سوادها؟ الرجل عرف الأمر فقال: أوما ترين بياض عيني أكثر من سوادها؟ والحديث رواه الزبير بن بكار في كتاب المزاح، ورواه ابن أبي الدنيا من حديث عبد الله بن سهم الفهري، وفيه اختلاف كما يقول العراقي في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين، وقد جاء من طريق آخر مرسلاً عن زيد بن أسلم رحمه الله، وهذه المرأة هي أم أيمن بركة الحبشية، وهي غير أم أيمن المعروفة المشهورة، فقد فرق بينهما جماعة من الذين كتبوا في السير، كالحافظ ابن حجر وغيره. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 7 لا يدخل الجنة عجوز مثل آخر: ما رواه الترمذي -أيضاً- في شمائل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن البصري رحمه الله {أن امرأة عجوزاً أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أما علمت يا أم فلان أن الجنة لا يدخلها عجوز، فولت وهي تبكي وتولول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم انطلقوا إليها فأخبروها أنها تعود بنتاً بكراً، كما قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35-38] } فأخبروها بذلك فهدأ روعها وزال ما فيها، والحديث -كما ذكرت لكم- رواه الترمذي في الشمائل وسنده عنده ضعيف. أولاً: لأنه مرسل عن الحسن البصري كما ذكرت. وثانياً: لأن فيه مبارك بن فضالة وهو مدلس، وقد عنعن في هذا الحديث. لكن للحديث شاهد آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ذكره ابن الجوزي وسنده أيضاً ضعيف، كما ذكر العراقي، وله شاهد ثالث عن عائشة رضي الله عنها عند الطبراني في الأوسط والبيهقي وغيرهما، وهو حديث حسن. إذاًً فالحديث إجمالاً ثابت، أن الرسول عليه السلام قال لهذه للمرأة: {إن الجنة لا يدخلها عجوز} وهذه المرأة اختلف فيها، قيل هي صفية عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا جزم به غير واحد، وقد جاء في بعض روايات الحديث أنها امرأة من الأنصار، وعلى هذا لا تكون صفية، لأن صفية ليست من الأنصار، إلا إن كان المقصود الأنصار بالمعنى الأعم. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 8 ولد الناقة فمما هو مشهور مأثور من مُزاح النبي صلى الله عليه وسلم وطرائفه: {أن رجلاً جاء إلى النبي عليه السلام كما في حديث أنس بن مالك فقال: يا رسول الله، احملني في المعركة -يريد أن يعطيه بعيراً أو غيره ليركبه- فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله، وما أصنع بولد الناقة؟ -لأنه فهم أن ولد الناقة لابد أن يكون صغيراً- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق} أي: البعير الذي سوف أحملك عليه هو ولد ناقة في النهاية. والحديث رواه أبو داود والترمذي في سننه، وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أيضاً الترمذي في شمائله في الكتاب المخصص للشمائل، ورواه الإمام أحمد في مسنده، والبغوي والبخاري في كتاب الأدب المفرد، والحديث سنده صحيح على شرط البخاري. وفيه جانب من دعابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه الطرفة أو النكتة التي قالها لهذا الرجل يمازحه ويباسطه فيها. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 9 فوائد النكت والطرائف نقطة رابعة في موضوع النكت والطرائف: ما هي فوائد النكت والطرائف؟ هل لها من فوائد؟ نعم، إذا كانت النكت والطرائف في حدود الاعتدال، فلها فوائد عديدة منها: الجزء: 200 ¦ الصفحة: 10 تدفع الغضب من فوائد النكتة، إذا كانت في حدود الاعتدال -أيضاً-: أنها قد تدفع غضباً، والغضب قد يودي برأس الإنسان، وقد يودي بماله، وقد يكون سبباً في السخط عليه، فربما غضب السلطان، أو غضب حاكم أو أمير، فأمر بقطع رأس هذا، أو سجن هذا، أو ضرب هذا، أو أخذ مال هذا، بسبب موقف غضب منه، فإذا كان الإنسان حاضر البديهة، سريع الذهن وقّاداً، فإنه سرعان ما يأتي بنكتة أو موقف معين، يزيل غضب هذا الإنسان، ويدفع عنه غائلته وشره وغضبه. ومما يذكر في هذا الباب، ما ذكر ابن الجوزي في كتاب الأذكياء: [[أن عمر رضي الله عنه وأرضاه، بلغه أن أحد ولاته أو عماله الذين ولاهم على بعض الأمصار، وهو رجل من بني هاشم أو من غيرهم، يتغنى ببيت من الشعر ويقول: اسقني شربة ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام اسقني شربة ألذ عليها، ظاهر القصة أنها شربة خمر، فغضب عمر رضي الله عنه وقال: هاتوه لي، فجاءوا به -كالعادة أمير المؤمنين ليس عنده أنصاف حلول، إنما هو رجل لا تأخذه في الحق لومة لائم- فلمَّا جئ بهذا العامل قال: أتدري لِمَ أشخصتك إليَّ؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: سمعتك تقول: اسقني شربة ألذ عليها واسق بالله مثلها ابن هشام قال نعم يا أمير المؤمنين: عسلاً بارداً بماء سحاب إنني لا أحب شرب المدام فأتى على البديهة ببيت ثان في الحال، عسلاً بارداً، صارت الشربة عسلاً فالناس ظنوها خمراً وأنا أقصد العسل، يقول: عسلاً بارداً بماء سحاب إنني لا أحب شرب المدام قال: فعفى عنه عمر وردّه إلى عمله]] هكذا يقول ابن الجوزي، وفي نفسي شيء من هذه القصة؛ لأن الذي يعهد من سيرة أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، أنه كان قوياً في الحق، لا يقبل عنه تنازلاً بحال من الأحوال. وأذكر قصة مغايرة لهذه: [[ولىَّ عمر رضي الله عنه أحد عماله، فجاءه رجل وقال: أتدري ماذا يقول فلان بن فلان؟ قال: لا، قال إنه يقول: ألا هل أتى سلمى بأن حليلها بنعمان يسقى في زجاج وحنتم أي خمر وليس له حقيقة، إنما يتغنى به. إذا كنت ندماني فبالأكبر اسقني ولا تسقني بالأصغر المتثلم لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم فلما سمع عمر رضي الله عنه هذا الكلام قال: نعم والله إنه ليسوؤني، ثم دعا هذا الرجل فقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها قط، وإنما هو كلام كنت أقوله، فقال: والله ما وليت لي عملاً قط]] وجرده من مناصبه رضي الله عنه وأرضاه، فالذي يظهر لي أن الرواية التي ساقها ابن الجوزي، رواية عرجاء لا يصح سندها عن عمر رضي الله عنه. على كل حال هناك قصص أخرى كثيرة تدل على التخلص من الغضب بالمزاح، أذكر بدلاً عنها: قصة رجل في عهد عبد الملك بن مروان، رجل خرج على عبد الله بن مروان وقاتله فقبض عليه، وكان مع مجموعة قاتلوه، فلما قُبض عليه أتى به عبد الملك ليقص رأسه، فقال: أتفعل بي هذا يا أمير المؤمنين وقد فعلت لك ما فعلت؟ قال له أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان: وماذا فعلت لي؟ قال: والله ما خرجت مع هذا الأمير إلا من أجلك؛ لأنني رجل مشئوم لا أكون مع قوم إلا ويهزمون، فخرجت معهم حتى يهزموا!! فضحك عبد الملك بن مروان وعفا عنه. وهذه القصة إن صحت مما يحمد للرجل؛ لأنها كانت سبباً في العفو عنه، وسبباً في سلامة عبد الملك بن مروان من دم هذا الرجل، الذي لو قتله لكان مسئولاً عنه لاشك يوم القيامة، فيم قتلت هذا؟! إن كان لا يستحق القتل، فقد يسلم الإنسان من موقف غضب بسبب نكتة كهذه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 11 تلبي حاجة فطرية ورغبة غريزية الفائدة الرابعة من فوائد النكت: أنها تلبي حاجة فطرية، ورغبة غريزية عند الإنسان، فإن الإنسان كما هو مجبول على البكاء أحياناً إذا سمع ما يُحزن أو يُبكي أو يحرك الشجون، كذلك هو مجبول على الضحك إذا سمع ما يُسِر أو يُفرِح أو ما يُضحكه، فالضحك غريزة في الإنسان فطرة، ولا تجد أحداً لا يضحك، حتى الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام، وهم قادة الموكب، وهم القدوة والأسوة، تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير التبسم، حتى قال جرير: [[ما حجبني منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم]] وكان عليه السلام يتبسم حتى تبدو لهواته، ويضحك من صنيع بعض أصحابه كما سبق من ذلك شيء كثير. وفي كتب السنة من ذلك ما يطول ذكره، فهي ناحية فطرية غريزية، لكن هذا لا يعني أن الإنسان يسترسل معها ويطيل بها، وإنما يقتصد منها على القدر المطلوب فحسب. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 12 شحذ الذهن وتنشيطه الفائدة الثانية: أن هذه النكت والطرائف متى كانت في حدود الاعتدال، تشحذ الذهن وتجدد نشاطه، وتقوي الهمة، فيعود الإنسان بهمة جديدة وبعزيمة قوية، ولذلك يقول الإمام الأصمعي ويروى عن هارون الرشيد، أنه كان يقول: النوادر تشحذ الأذهان وتفتح الآذان. تشحذ الأذهان أي: تشحذ العقل لتلقي العلم، وفهمه وحفظه وضبطه، وتفتح الآذان: فبدلاً من أن الإنسان معرض تجعل أذنه مفتوحة للعلم، وربما نكتة أو طرفة قالها إنسان، فكانت سبباً في سماع الموعظة والإقبال عليها، ولذلك تجد الناس الآن -مثلاً- لو بدأ شخص ما حديثه بنكتة أو طرفة، أو كتب مقالاً أو كتاباً، فكان أول ما فيه عبارة عن قصة، تجد أن كل إنسان يقرأ هذا الكتاب كاملاً، لأنه بدأ بحكى، أو قال، أو روي، أو كنت، فإذا عرف أن البداية تتعلق بقصة أو خبر؛ تجده انشدَّ وقرأ، فإذا قرأ القصة انساق مع ما بعدها. وهذه من الحيل اللطيفة التي يتحايل بها العالم، أو الداعية أو المرشد أو الواعظ؛ للوصول إلى قلوب الناس، حيث تشده إلى المقصود، أو تتحيل عليه بطريقة حسنة. وهذا من الأمور التي هي موجودة الآن في المدارس الغربية في التربية، حدثني أحد الشباب الذين درسوا في تلك المدارس، يقول: كان الأستاذ إذا دخل لابد أن يبدأ درسه بنكته، فإذا كانت النكتة باردة، أو لم تنفتح لها نفوس الطلاب؛ أتاح لأحد الطلاب أن يقدم لزملائه نكتة، فإذا انبسطوا وابتسموا بعد ذلك بدأ درسه، فتكون القلوب مقبلة نشطة، وإذا شعر بالملل توقف ثم جدد وهكذا. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 13 تزيل الملل أولاً: أنها تزيل الملل والسآمة، فإن القوم قد يطول عليهم الحديث والكلام، أو الوعظ، أو التذكير، أو العلم، أو ما أشبه ذلك، فتمل قلوبهم وتسأم، ويثقل عليها الجد، فتحتاج إلى إزالة السآمة والملل ببعض الطرائف والنكت، وهذا كان يستخدمه بعض العلماء السابقين. قال الإمام علي رضي الله عنه وأرضاه، فيما رواه عنه الخطيب البغدادي، في كتاب التطفيل، ورواه البغوي أيضاً في شرح السنة، أنه قال: [[إن القلوب تمل كما تمل الأبدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة، أو طرف الحكمة]] بمعنى أن الإنسان إذا أطال الوقوف أو أطال الجلوس يمل، فإذا طال بالإنسان الجلوس وأراد أن يرتاح يقوم واقفاً، أو يتمشى يقول: أريد أن أرتاح من طول الجلوس، أو طول النوم هذا يحدث أحياناً، فكذلك القلوب تمل من كثرة الجد وإطباقه، فتحتاج أن يزال عنها هذا الملل وهذا السأم بشيء من الطرائف. وكذلك قال قسامة بن زهير: [[روحوا القلوب تعِ الذكر]] أي: من أجل أن يعي القلب ويعقل ويستجم، يروح عنه ببعض الهزل وبعض النكت، ومما يشبه ذلك: ما رواه مسلم من حديث حنظلة بن الربيع الأسيدي الكاتب، وفي آخره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} والحديث سبق ذكره بتفصيله في غير هذا الموضع، وأقتصر منه الآن على موضع الشاهد {ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} يعني ساعة هكذا وساعة هكذا، ساعة جد وساعة هزل. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 14 ما يعاب من النكت والمزاح أول ما يعاب منها: الجزء: 200 ¦ الصفحة: 15 الإكثار من النكت والطرائف الأمر الخامس مما يعاب: الإكثار من النكت والطرائف: وذلك أن النكتة -كما سلف- وسيلة وليست غاية، ولهذا ينبغي أن تكون كالملح في الطعام، يقول الإنسان منها قدراً مقتصداً، ليس مطلوباً من الإنسان أن تُرى أسنانه مبتسماً، هذا ليس من الأخلاق المحمودة في الشرع، وليس المطلوب من الإنسان أن يكون كلامه هزلاً كله، ونكتاً وطرائف لا يقصد منها إلا الإضحاك المجرد. فالمحمود من هذه النكت والطرائف: هو ما سلم من المحاذير، والمآخذ الشرعية التي أسلفت سابقاً، وما كان وسيلة وليست غاية، وهذا ضابط جيد؛ أن تكون النكتة وسيلة، فأنت -مثلاً- تريد أن توصل علماً إلى الناس، أو توصل دعوة، أو تأمر بخير، أو أن توجه، لكنك تستخدم النكتة -أحياناً- لإزالة السأم والملل، أو لشيء من الترفيه، ثم تعود إلى ما أنت فيه. أما أن تكون النكتة مقصودة لذاتها فهي مذمومة، فمثلاً مجموعة من الشباب يجتمعون، ثم يبدأ كل واحد يأتي بنكتة، ويتنافسون أيهم يأتي بنكتة أحسن، فيأتي بهذا وهذا حتى يضحك الجميع، وتتقطع أكبادهم من شدة الضحك، ويستلقون على ظهورهم، ويجلسون ساعات على هذا النمط، ثم يقومون ويأوي كل واحد منهم إلى فراشه صفر اليدين، إلا من الإثم وضياع العمر فيما لا يفيد، وهذا مذموم لاشك فيه؛ لأن الإنسان لا ينبغي له أن يعبث بحياته بهذه الصورة. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 16 أثرها السيئ على القلب أمر آخر من آثاره السيئة: أنه أحيانا يؤثر في قلوب من يقال فيهم، ولاشك أن الإنسان بشر، ليس كل إنسان عنده قوة في نفسه بحيث لا يبالي لو سخرت منه أو ضحكت به، هناك من الناس من لا يكترث بذلك؛ لكن غالب الناس يزعجه ذلك ويؤثر فيه، فكيف إذا قلت مثل هذا الأمر بحضرته فنلت منه، أو من أهل بلده؟! لا شك أن هذا يعتبر جرحاً له، ومواجهة له بما يكره، فعلى الإنسان أن يتجنب ذكر ذلك، وأن يحرص على أن لا ينقل مثل هذه الأشياء في المجالس، لئلا يؤذي أحداً من الحاضرين دون أن يشعر، ولو لم يكن نقله على سبيل الجد، كأن ينقل ما يقوله الناس، لكن مع ذلك فإن هذا يؤذي. أمر ثالث: أنه قد يؤثر فيمن يقال فيهم، أن يصدقوا هذا الأمر عن أنفسهم أيضاً، فيخلد بهم إلى نوع من تصديق ما يقال، وأعني بتصديق ما يقال أنه إذا نقل عن أهل بلد أنهم بخلاء، واستفاض هذا الأمر عنهم واشتهر؛ أصبحوا لا يأنفون من أن يوصفوا بالبخل، فلذلك أصبحوا راضين بالبخل فصدقوا ما يقال عنهم فصاروا بخلاء، وهذا يجعل الناس يقولون: إذاً ما يقال عنهم صحيح، فصارت القضية تلازماً وتناسباً، وذلك كما سبق في مبحث الأسماء، أن الاسم -أحياناً- له تأثير على المسمى، للإنسان من اسمه نصيب. وقلما أبصرت عيناك ذا لقبٍ إلا ومعناه في اسم منه أو لقب فإذا قيل عن أهل بلد: إنهم بخلاء، وشاع هذا الكلام حتى وصل إليهم، إن الناس يقولون عنكم: إنكم بخلاء، قالوا: إذاً ماذا يمكن أن يقول لنا الناس أكثر من هذا، دعهم وما وصفونا به، فاستقر الأمر فيهم، وصار عندهم نوع من البخل، ليس موجوداً أصلاً، وإنما بسبب ما أشاعه الناس، وكذلك الشأن في المواصفات الأخرى، إذا أُشيع عن أهل بلد ما أنهم أغبياء وفيهم غفلة، تغابوا: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى قيل أني جاهل وقعدوا عن إدراك المعالي، والوصول إلى المراقي أو بعضهم، بسبب هذه الإشاعات الباطلة، فهذه من مفاسد ومثالب التركيز على طبقة أو قبيلة أو بلد معين. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 17 المتعلقة بتنقيص أو هزل بالدين وأهله إن كثيراً من النكت التي يتداولها الناس، وتذكر في الكتب مما يتعلق بالدين، وبعض النكت فيها حط من مقام ربنا جل وعلا وعظمته وجلاله، وفيها إضحاكٌ في هذا الأمر الذي لا يجوز أن يتعرض له بهزلٍ، بل ولا يجد إلا فيما نقل عن الله، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإننا نعلم إن الله عز وجل لا يجوز أن يتكلم الإنسان عن ربه بإثبات اسم أو صفة، إلا بما ورد عن الله، أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يتكلم الإنسان عن ربه -جل وعلا- بالهزل، أو بنكت، أو طرائف تتعلق به، أو بأسمائه، أو صفاته، أو ما أشبه ذلك؟! ومثله الأشياء المتعلقة بالدار الآخرة، هنالك نكت تتعلق بالآخرة، والجنة والنار والصراط والميزان والحوض، هذا لا يجوز أيضاً، أو بالرسل عليهم الصلاة والسلام، سخرية برسل الله، أو بالملائكة، أو بالقرآن الكريم وآيات الله جل وعلا، أو بالبرزخ وحياة الناس في قبورهم وما يتعلق بذلك، أو بالصالحين من الناس، كالصحابة والتابعين والعلماء والفقهاء والقضاة والوعاظ والمحدثين، وإنما سميت هؤلاء؛ لأن هؤلاء مما يكثر الأدباء من ذكر النكت والطرائف حولهم. فيقول: باب نوادر القضاة، ثم يأتي بالقضاة ويصورهم على أنهم كذا وكذا ويذكر أشياءً لا تليق، ثم يقول: ما يذكر عن المحدثين، ويذكر عن المحدِّثين نكتاً وطرائفَ يريد أن يرميهم فيها بالغفلة -كما ستأتي الإشارة إلى شيء من ذلك- هذا كله لا يليق؛ لأن هؤلاء من الصلحاء الذين ينبغي أن تحفظ أعراضهم، ويثنى عليهم بخير، ولا يسمح بالنيل منهم بوجه من الوجوه، وإن التصق بهم من ليس منهم فحصل منه ما حصل؛ فلا ينبغي أن يطال بذكر ذلك، وتؤلف فيه الكتب، وتوضع فيه الأبواب والفصول، ويكثر من الحديث عنه. وكذلك النكت المتعلقة بالأحكام الشرعية، كم من نكتة تتعلق بالصلاة مثلاً، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج، أو ببعض الشعائر، أو بالطلاق، أو بالنكاح، أو بغير ذلك من الأحكام الشرعية، فإن هذا كله لا يجوز، وإذ أقول: إن هذا لا يجوز؛ فلا أرى إلا أنه يسعني أن أذكر لكم أمثله، ولكنني سوف أذكر لكم بعد قليل بعض الكتب، فلو راجعها إنسان لرأى مما ذكرته حمل بعير من النكت التي يرويها بعض الناس ويترخصون، وقد يكونون من العلماء أحياناً، أو من طلاب العلم، ولكن هذا لا يعني أن ما يفعلونه جائز، فإن الإنسان بشر يخطئ ويصيب، فالنكت المتعلقة بهذه الأمور مما لا يجوز روايته بحال، وينبغي أن نكون مدافعين عن الإسلام والدين، فإذا تبودلت مثل هذه النكت التي يكون الحط فيها صريحاً، ينبغي أن يكون لنا موقف وألا نسمح بذكرها، وأن ننبه على أن مثل هذا مما لا يسوغ. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 18 المتعلقة بالخُلُق وقلة الأدب النوع الثاني من النكت المذمومة: نكت فيها وضيعة في الخُلق. والخلق جزء من الدين، وقد أفردته أيضاً لأسباب: لأن كثيراً من النكت التي يتبادلها الأدباء والشعراء والهازلون، فيها حط من الأخلاق، فمثلاً هناك قسم كبير جداً من النكت يتعلق بالقضايا الجنسية، علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المرأة بالرجل، وصفات النساء، وصفات الرجال، وفلان قال، وفلانة قالت، وذكر أشياء من هذا القبيل مما تشمئز منها النفس، ويكرهها الطبع السليم، ويأباها الذوق، وترفضها الفطرة، ويمنعها الدين أيضاً، فهذه الأشياء مما لا ينبغي أن تقال ولا تذكر، وينبغي أن يستحي الإنسان من الكلام في مثل هذه الأمور، وإذا كان الإنسان يستحي -أحياناً- حتى من السؤال عن أمر يتعلق بقضايا الجنس، والعلاقات الزوجية، والعلاقة بين الرجل والمرأة، حتى يحتاج إلى أن يقال له: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53] اسأل عما بدا لك، اسأل عما تحتاج من أمر دينك، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بنكت أو طرائف. بل إن من أعظم مفاسد هذه النكت والطرائف، أنها تجرئ الفتيات والشباب من الجنسين على الكلام في مثل هذه الأمور المذمومة، فإن الرجل قد يخجل أن يبدأ الكلام في مثل هذه القضايا، وكذلك المرأة إذا كانوا أجانب عن بعض، لكن إذا ساق نكتة فإنها تفتح له الباب على مصراعيه، أن يلج في الكلام القذر الوقح البذيء، الذي لا يسوغ ولا يليق، يقوله من خلال نكتة. ولذلك أهل الفساد والريب الذين يعاكسون ويؤذون المؤمنين والمؤمنات، يستخدمون بعض هذه النكت كمدخل، ثم يصلون من ورائها إلى ما يريدون، ويقحمون في كلامهم البذيء القذر، قال ابن عباس، وقال ابن سيرين، وقال الحسن البصري، وهم يقصدون من وراء ذلك مقاصد ومعاني ذميمة. وكذلك الفحش مما يدخل في الوضيعة في الخلق، الفحش بألوانه، والسب، والشتم، واللعن، وما أشبه ذلك، فإن هذا كثير في النكت والطرائف المسطرة في الكتب، والمنقولة على الأفواه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 19 المتعلقة بأعيان الناس القسم الثالث -مما يعاب-: النكت المتعلقة بأشخاص -بأعيانهم- وهذا كثير سواء في الكتب أو في الواقع، في أشخاص معروفين ليسوا مجرد رموز، قد يقول قائل جحا، فهو أصله مشكوك، هل هو شخصيه حقيقية أم شخصية أسطورية؟ لكن أحياناً تجد أشخاصاً معروفين، قد يكونون في الواقع يتنقلون بيننا ويذهبون ويجيئون، وقد يربط بهم نكت تحط من قدرهم، أو تنزل من مكانتهم، أو ترميهم بما هم منه أبرياء، ولاشك أن هذا لا يجوز متى كان الأمر كذلك، إذا كان في هذا حط من قدرهم، أو اتهام لهم بما هم منه برآء، فإن اتهام الأبرياء بالعيب ليس من أخلاق المؤمنين ولا من خصالهم. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 20 التركيز على فئة معينة الرابع: وهو خطير جداً ومتفشٍ: أن بعض النكت بل كثيراً منها، يعمد أصحابها إلى التركيز على فئة معينة، أيَّ فئة -مثلاً- طبقة من طبقات المجتمع، القضاة، العلماء، المحدِّثين، الفقهاء، الوعاظ، وكم من نكتة يصطنعها الخبثاء من العلمانيين وأعداء الإسلام، ويلصقونها بالقضاة -مثلاً-!! قرأت مرة في جريدة تصدر في هذه البلاد، قصة مختلقة: أن قاضياً اسمه فلان بن فلان، جاءه إنسان يشهد في قضية، فقال: هاتوا واحداً مترجماً، ثم جاء الشاهد، أراد أن يُزكَّى الشاهد ثم يزكَّى المترجم، ثم مزكياً يزكي المزكي، ونسج قصة يقصد من ورائها الحط من قدر هذا القاضي، وأنه معقد، وأنه يطول الأمور، طبعاً ليس المقصود قاضياً بعينه، إنما هم يريدون أن يسقطوا ثقة الناس بالقضاة مثلاً. وقد يقولون مثل هذا الكلام عن عالم، عن داعية، عن مصلح، فيلصقون مثل هذه النكت ويجعلونها تتداول بين الناس لأنها سهلة التداول، من أجل النيل من هؤلاء العلماء، أو القضاة، أو المحدثين، أو المفتين، أو الوعاظ، أو المرشدين، أو طلاب الدراسات الشرعية، أو ما أشبه ذلك. وقل مثل ذلك أيضاً في أي طبقة أخرى من طبقات المجتمع، أحياناً قبيلة معينة، يلصق الناس بها مجموعة من النكت، أو بلد معين، أو منطقة معينة، وهذا أمر مشهور. مثلاً: من الأشياء المتداولة في مصر، كثيراً ما يلقون بالنكت على أهل الصعيد، وذلك أنهم يتصورون أن أهل الصعيد يتميزون بشيء من السذاجة والغباء، فتجد أن نكتهم تدور حول: (هناك صعيدي قال كذا وفعل كذا) ونصف نكتهم في أهل الصعيد، نصف النكت تبدأ بكلمة هناك صعيدي. وهذا الشيء موجود في كل بلد، عندنا في السعودية مثلاً هناك مناطق معينة -لا أريد أن أسمي- الناس يديرون النكت حولها. ومرة من المرات جاءني واحد منهم على سبيل المزاح، هو رجل أريحي ليس منزعجاً من هذا لكنه يمزح، وقال لي: أنا من بلد كذا عرفني بنفسه، ثم قال أنا من بلد كذا، والناس يلصقون بنا تهماً كثيرة ونكتاً وطرائفاً ويزعمون أن فينا وفينا وفينا، فذكرت له بعض ما يقول فيهم الناس، فضحك، وقال: حتى أنت وصلت إليك هذه الأشياء، قلت: نعم وصل إلي منها شيء كثير، لكننا نمررها كما جاءت ولا نصدقها. وهذه الأشياء لها أثر سيئ جداً أيها الإخوة- تُفَرِّق المؤمنين، وإن كانت مزاحاً فحتى الجاهلية فيها مزاح جاهلي؛ لأنك إذا سمعت مائة نكتة مثلاً عن أهل البلد الفلاني بأنهم جفاة، وقال لك واحد حصل لي معهم قصة كذا، وقصة كذا، وقصة كذا مع كثرة تداول هذه القصص وتناقلها، استقر في ذهن جمهور الناس إن ما يقال له أصل وأنه صحيح. فإذا جاء الواحد إلى هذا البلد، بدأ ينتظر أين يجد الجفاء، فإذا وجد أي بادرة جفاء قال هذا مصداق ما سمعته، فأخذ الانطباع، وقرره وأكده. وإذا سمعت عن بلد آخر أن أهله أغبياء، سذج بله، وفيهم وفيهم وفيهم، وقيل عنهم، بعد ذلك استقر هذا الأمر في ذهنك، فإذا ذهبت إلى هذا البلد بدأت تتلمس أين الغباء؟ فإذا صادفت أن وجدت رجلاً غبياً، وتصرف تصرفاً فيه رعونة وغفلة، قلت هذا مصداق ما يقوله الناس! فاستقر الأمر في نفسك، وأصبحت أنت تقول: نعم، الأمر له أصل، الشيء له أصل، أنا بنفسي رأيت كذا وكذا. وإذا سمعت عن بلد ثالث أن أهله بخلاء، ذهبت إلى هذا البلد فأي بادرة بخل نسبتها وقلت هذا مصداق ما يقال، أو استضافك إنسان فلم يقم لك بحق الضيف، فسألت ممن؟ فقيل من بلد كذا، قلت: إذاً لا غرابة، هذا مصداق ما كنا نسمعه عن أهل هذا البلد. وهكذا أصبحت هذه النكت مدعاة للتفرقة بين المسلمين، وكون أهل كل منطقة يتكلمون عن منطقة أخرى بخصلة ذميمة، وينسجون حولها القصص والأساطير، وعلى فرض وجود أصل يسير في هذا الأمر، فقد ضخمناه ونسجنا حوله أشياء كثيرة، وأقمنا هالة من القصص والحكايات والمرويات، حتى أصبح هذا الأمر عندنا أكبر من حجمه الطبيعي -على فرض أن له حجماً- أضعافاً مضاعفة، فينبغي أن نكون متفطنين لهذا، لأنه من كيد الشيطان الخفي الذي يتدسس به إلى القلوب ليفرقها. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 21 المصنفات في النكت والطرائف هذه المصنفات لست أذكرها على سبيل إشاعتها وترويجها؛ لأن من المؤسف أنها من الشيوع بحيث لا تحتاج إلى دعاية لها، فربما تكون موجودة في كل بيت، ويقرؤها كل إنسان، وتباع في كل مكتبة؛ لأن الناس يقبلون عليها -مع الأسف- أو كثير منهم؛ أكثر مما يقبلون على الكتب الجادة المفيدة، وهذا ليس مؤشراً محموداً، لكنني أردت أن أعتذر به عن ذكر هذه الكتب؛ لئلا يقول لي قائل لماذا ذكرتها؟ فأقول له: لهذا. وسأتحدث عن جانب منها، أو عن شيء منها. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 22 كتاب جحا ونوادره وما فيه من الضلال كتابٌ آخر معاصر، أحب أن أنهي الموضوع ثم أنتقل إلى الأسئلة، هناك كتاب موجود في المكتبات، وهو كتاب من كتب كثيرة، الكتب المعاصرة مئات، اخترت منها كتاباً واحداً، سلمني إياه بعض الشباب اسمه كتاب جحا ونوادره للدكتور فاروق سعد، مجلد واحد، مع الأسف مزود أيضاً بصور، وفيه مقدمة وهي دراسة عن جحا لا تعنينا، بعد ذلك فيه أشياء. أولاً: قصص سخيفة المعنى ممجوجة، ليس فيها شيء حتى الضحك غير موجود فيها، يقول جحا: إذا مت فادفنوني قائماً قال الناس: لماذا؟ قال: من أجل إذا قام الناس أكون قائماً دون مشقة يوم القيامة، فهي باردة، لا دين ولا دنيا ليس لها أي معنى. النوع الثاني: فيه قصص كثيرة فيها سخرية بالملائكة، مثل منكر ونكير إذا جاءوا للميت في قبره -سخرية بهم- يقول مثلاً: وقال: ادفنوني في مقبرة ميتة من أجل ماذا؟ من أجل أن يلبس على الملائكة يقول أنا ميت من زمان، وسبق أن اختبرت. فهل يجوز أن يتصور الناس، أو الأطفال أو غيرهم بأن الملائكة بهذه الصورة؟ طبعاً لا شك أنه لا يحسب حساب لمثل هذه الأمور، أقصد الذي أخرج الكتاب، ونشره على الناس وروج له. القسم الثالث: وهو سخرية بجناب الله جل وعلا، لا يليق أن أذكرها ولا شيئاً منها. القسم الرابع: وهو سخرية مقصودة بالوعظ والوعاظ، حتى إنني وجدت أو ظننت؛ أن الرجل يختلق -هو المؤلف- بعض هذه النكت، وينسبها إلى هذا الرجل المشهور بهذا القصد؛ لأن فيها أشياءً غير مقبولة، أذكر مثلاً من ذلك: يقول: إن الرجل جحا مرض ولده وصار يبكي في الليل، فقالت زوجته: اذهب وهات رقية نعلقها على الولد، أي: حرز أو تميمة نعلقها عليه، فذهب وأتى بالكتاب الذي كان يقرأ فيه في المسجد، هكذا يقول، فقالت له: ما هذا؟! قال لها: اسكتي، هذا الكتاب الذي أقرأ فيه على الناس الأصحاء الكبار في المسجد فينامون، فعلى هذا الطفل لابد أن ينام. أنا ألمس في هذه القصة أثر الصنعة وأنها مكذوبة، للنيل من الدعاة والعلماء الذين يحدثون الناس في المساجد ويعظونهم، وأن وعظهم يجلب النوم والسأم والملل للناس، وهذا أمر نعرفه عند المعاصرين أكثر من غيرهم. إضافةً إلى أن في الكتاب تهاويل، وأكاذيب مزورة، تساق دون تعليق، من ذلك: أنه ساق قصة يقول: الواقع أن جحا موجود له قبور في أكثر من بلد، في مصر، وله قبر في تركيا، وفي بعض البلاد يزار قبره ويطاف حوله، وتعقد عنده عقود الزواج، من باب التبرك به، ولله في خلقه شئون!! بلغ بالمسلمين الحال من الضعف إلى أنهم صاروا يزورون جحا، ومعلوم أن الزيارة مشروعة للقبور، لكن الطواف بالقبور، والصلاة عندها، وقصدها بالدعاء هذا لا يجوز، بل هو مدعاة إلى الوقوع في الشرك، لكن المسلمين ما اقتصروا على هذا فقط، بل تعدوا حتى قبر جحا أصبح يزار. يقول: إن حارس القبر بعد ما مات الرجل بمائتي سنة، رآه على حماره وعليه ثيابه المعتادة، وهو يقول للناس إذا لم يأتوني الآن يعني الذين يقيمون في المسجد، فسوف أصنع بهم وأصنع ويهددهم، قال: فجاء الحارس إلى جماعة المسجد، وقال لهم: بسرعة الحاج نصر الدين خواجه يستنجد بكم ويدعوكم، قال: فخرجوا كلهم وجاءوا إليه، فلما خرجوا لم يجدوا شيئاً فرجعوا، فوجدوا المسجد قد انهدم، قال: فهذه كرامة له. كذب وتلفيق، وكلام ليس له رصيد من الواقع، وفيه تأثير على قلوب قرائه، ومن يسمعون مثل هذا الكلام كثير منهم مغفلون، سذج، جهلة، أطفال، ناس ليس لديهم معرفة بالشرع ولا بالدين، فتنطلي عليهم مثل هذه الأشياء. هناك بعض الكتب خصصت أجزاءً منها لذكر بعض النكت والطرائف، وهي كثيرة جداً، ككتب الجاحظ مثلاً، أو بلوغ الأرب للنويري، أو المستطرف للأبشيهي، فيه باب خاص بهذا، أو نثر الدر للآبي، وهو شيعي فيتفطن له، وهذه الأشياء ينبغي للإنسان ألا يحرص عليها، لكن من كان عنده شيء من ذلك فليتفطن إلى ما فيها من المثالب والمعايب. أما فيما يتعلق بالأسئلة فسأختار منها ما يتعلق بالموضوع، وأترك الباقي إلى الأسبوع القادم، مع بعض ما مضى من الأسئلة الموجودة عندي -إن شاء الله تعالى- سوف أبحث لها عن حل. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 23 كتاب الحمقى والمغفلين الكتاب الثاني: الحمقى والمغفلين، بدأه بذكر المُلح ومن يحبها، ومن يكرهها، والتمس عذراً في إيرادها، ثم ذكر في بعض الملح التي تتعلق بالشرع، بل بالقرآن، بل بالله جل جلاله، وذكر ملحاً أخرى تتعلق بالسخرية بالمحدثين، أو بعضهم وما فيهم من الغفلة، وبأصحاب اللحى، وبالزهاد، ومع الأسف هذه الأشياء قد يتناقلها أحياناً بعض الفساق، ويتداولونها فيما بينهم. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 24 كتابا الأذكياء والحمقى كتاب آخر، كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي. ولـ ابن الجوزي -غفر الله لنا وله ورحمنا الله وإياه- مقام طويل في هذا الباب، له كتابان: الأول: كتاب الأذكياء. والثاني: كتاب الحمقى والمغفلين. وعجبي من الإمام ابن الجوزي -رحمه الله تعالى وغفر الله تعالى لنا وله -يطول، وهو أعظم بمراحل من العجب من الإمام الخطيب البغدادي؛ لأن ابن الجوزي استرسل في ذلك استرسالاً عظيماً، وكم كنت أود ألا تثبت صحة الكتاب لـ ابن الجوزي. لكن الظاهر من خلال التحقيق العلمي والأدلة العلمية، أن كلا الكتابين ثابت له رحمه الله تعالى لكن يمكن أن نقول لعل تصنيف الكتابين كان في مطلع عمره، وقبل أن يبلغ ما بلغ، وهذا احتمال لا أستطيع الجزم به. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 25 كتاب الأذكياء وما فيه من فوائد وما عليه من مآخذ في كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي، ذكر في مطلعه: العقل، وفضل العقل وما ورد فيه، واستطرد فيه بذكر نقول عن المتقدمين والمتأخرين في قوة الفطنة والذكاء، ثم ذكر بعد ذلك الحيل وأنواع المحتالين، وهذا فيه بعض الفوائد، والأشياء التي لا تخلو من فائدة، أي بعض الحيل التي تفتقت عنها بعض الأذهان يستفيد منها الإنسان. ومن طريف ما ذكر في ذلك، أن أبا الحسن بن السماك، كان واعظاً في المدينة في الجامع، ولكنه كان من المتصوفة، وكان واعظاً على طريقة المتصوفة، ليس عنده من العلم والفقه شيء، قال: فيوم من الأيام كان على المنبر فدفعت إليه رقعة -سؤال من الأسئلة دفع إليه من أجل أن يقرأه- فتعجل وقرأ فإذا فيها: فضيلة الشيخ الإمام العالم؛ رجل توفي وترك وراءه فنظر فإذا المسألة مسألة فرضية، والرجل ما عنده في هذا باع، ولا يستطيع أن يقسم مسألة من المسائل، فما أسرع ما تخلص من ذلك! وقال: أيها الناس، أنا أتكلم على مذاهب قوم إذا مات الميت منهم لا يترك وراءه شيئاً. يقصد الصوفية، الصوفية يتظاهرون بالزهد في الدنيا، ولا يجمعون الأموال، فإذا هلك الهالك منهم خلف وراءه بنتاً، وبنت ابن، وزوجة، وأماً، وعشرين ولداً ذكراً، لكن لم يخلف وراءه مالاً يقسم، وبالتالي لا يسأل عن مسائلهم؛ لأنه لم يخلف وراءه شيئاً يقسم، فقال: أنا أحدثكم على مذاهب أقوام إذا مات الميت منهم لم يخلف وراءه شيئاً. وأقول: مذاهب هؤلاء الأقوام الذين ذكرهم مذاهب مذمومة غير محمودة، وكفى بهدي الأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين هدياً، فإننا نجد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أغنياء أكابر، بل منهم من العشرة المبشرين بالجنة، كـ عثمان، وطلحة، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، كانوا من كبار الأثرياء والأغنياء، وحتى النبي صلى الله عليه وسلم خلف وراءه شيئاً بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وحتى فقراء الصحابة خلفوا وراءهم شيئاً، لكن المقصود ظاهر من مثل هذه الطرفة. ومن ذلك ما فعله المهدي الخليفة، فقد كان في مجلسه القاضي شريك، وفي مجلسه وزيره عيسى بن موسى، فأراد المهدي أن يوجد بينهما خصومة، فقال للقاضي: لو شهد عندك وزيري عيسى بن موسى بشهادة، هل تقبلها؟ وأراد أن يوقع بينهما، فما أسرع ما تخلص القاضي، وقال للخليفة: مثل هذا الوزير لا يزكيه إلا الخليفة، فإن زكاه الخليفة قبلت شهادته. فنجح القاضي في التخلص من الموقف، ونجح في جعل القضية تقع بين الخليفة ووزيره؛ لأنه إن زكاه أو ما زكاه صارت القضية بينهما، فرمى الكرة في ملعب الخليفة، فهذا من التخلص المحمود أيضاً، وليس فيه حرج إن شاء الله ولا ذم ولا عيب. وفي كتاب ابن الجوزي من الفوائد: أنه قد يُعلم بعض الآداب -أحياناً- ونحن مأمورون بالإنصاف، فإذا كان في الكتاب فوائد ولو قليلة نذكرها، بل نبدأ بها، ومن ذلك أنه ذكر القصة المشهورة عن العباس لما قيل له: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أنا أسن منه، وهو أكبر مني. هذا من حسن الأدب، تلطف في العبارة، ما أَحبَّ أن يقول أنا أكبر من رسول الله، لأن هذا من الممكن قد يحمل على كبر الشأن والمنزلة، والقدر، فقال: أنا أسن منه، وهو أكبر مني، أي: أعظم شأناً مني. وفي ابن الجوزي من الأشياء مالا غاية فيه إلا الإضحاك، أشياء المقصود فيها الضحك فقط، منها مثلاً يقول: إن رجلاً قال لصاحب له يهدده: لئن لطمتك لطمة لأبلغن بك المدينة المنورة: فقال لعلك تثني بأخرى عسى الله أن يكتب لي الحج على يديك. هذه من أجل الضحك، لكن هل فيها فائدة تعليم؟ ليس فيها شيء. وفي نهاية الكتاب أخبار ونكت عن الأطباء، والمتطفلين، واللصوص، والصبيان، والنساء، ومن يسميهم بعقلاء المجانين. وفي الكتاب في الواقع تساهل كثير، وقصص وطرائف ونكت، أستطيع أن أقول: إنها سخيفة، وسمجة، وباردة، وقل ما شئت، وليست لائقة بهذا الكتاب، وينبغي الحذر منها، وبعض الإخوة قد يتساهل، ويقول: قد أوردها ابن الجوزي وهو إمام. نعم إمام لكن لا يتابع فيما زل فيه، نحن نلتمس له العذر، فإن لم نجد له عذراً قلنا: غفر الله لنا وله، ولكن لا يتابع فيما زلت به قدمه، فالإنسان بشر. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 26 ميزات كتاب البغدادي وهي باختصار: أولاً: كتاب مسند يروي بالأسانيد، ولذلك يمكن تمييز صحيح الروايات من ضعيفها من موضوعها. ثانياً: إنه سرد بعض الأحاديث النبوية المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعللها، بين صحيحها من معلولها. ثالثاً: إنه ذكر بعض آداب الطعام، وإن لم يكن ذلك كثيراً فيه. رابعاً: إنه ذكر بعض الحكايات المعتدلة، التي لا بأس من إيرادها، يعرفها الإنسان ويوردها في وقتها المناسب، من هذه الحكايات المعتدلة التي لا بأس من إيرادها: أنه يقول: جاء رجل طفيلي إلى أهل وليمة فقالوا له: يا فلان لماذا جئت ولم ندعك؟ قال: إذا أنتم لم تدعوني وأنا لم آتِ يحصل بيننا وحشة. فهذه لا بأس بها، وليس فيها ضير. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 27 المآخذ على كتاب الخطيب أما ما أخذ على الكتاب: فالحقيقة أن الإنسان -لا أكتمكم- أنني أتعجب حينما نجد مثل هؤلاء العلماء الأجلاء الفضلاء الأكابر حقاً، ثم تجد في بعض ما ذكروه وساقوه أموراً تستكثر من مثلهم، أقل ما يقال فيها، أنها تستكثر من مثلهم، ففي بعض النكت التي ذكرها عن الطفيليين، جعلوا القرآن الكريم لغير ما أنزله الله عز وجل يقول: جاء الحسن بن الصباح إلى جعفر بن محمد فقال له جعفر: ما رأيك في -ذكر له حلوى- ما رأيك فيها؟ الفالوذج أو غيرها فقال: أنا لا أستطيع أن أحكم على غائب أحضروها وأحكم عليها، فأحضروا منها قدراً كبيراً فقال: (وإلهكم إله واحد) فأعطاه واحدة، ثم قال (أرسلنا إليهم اثنين) فأعطاه ثانية، (فعززنا بثالث) فأعطاه الثالثة. وهكذا بدأ يأتي بآيات فيها رقم ثم يعطيه بقدر ذلك، لاشك أن هذا فيه استخدام للآيات القرآنية لغير ما أنزلها الله فيه. وأقل ما يقال: إن مثل هذا لا يليق ذكره ولا حكاياته، حتى على سبيل الاستطراف ولو بالإسناد أيضاً؛ لأن القرآن ما أنزل لمثل هذا، وينبغي صيانة كلام الله عز وجل عن مثل ذلك؛ لأن في آخره أيضاً بذاءة أكثر، يقول: فلما وصل إلى إحدى عشرة بعد ذلك قال: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، يقول: فألقاها في يده، وقال: ما بقي شيء، قال والله لو لم تؤتني لأتيتك بقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] . لاشك أن هذا ليس لائقاً، ولا أنزل القرآن من أجل أن نضحك من مثل هذه المواقف، فهذا مما يؤخذ على هذا الكتاب، ونسأل الله -جل وعلا- بمنه، وكرمه أن يغفر لنا، وللإمام الشيخ أبي بكر الخطيب البغدادي، ويتجاوز عنا وعنه إنه جواد كريم، فليس المقصود النيل منه، فإن هذا الرجل كما قال بعض الصالحين، لما ذكر له عيوب بعض الفضلاء، قال: إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث. فهذا الرجل إن -شاء الله- قد جاوز القنطرة، وإن شاء الله هذا يضيع في بحر حسناته، وإنما المقصود تنبيه القارئ حتى يتفطن لها إن وقع عليها. ومما يؤخذ على الكتاب: أن فيه -أحياناً- استخفافاً ببعض الصالحين لا يليق، وسآتي بأخف ما هناك، أما الثقيل فلا أستطيع أن أذكره، فمن أخف ما ذكر في هذا، أو مما ذكر في هذا، إن شئت قل مما ذكر في هذا أنه قال: قيل لطفيلي أتحب أبا بكر وعمر؟ قال: ما ترك حب الطعام مكاناً في قلبي لأحد. هذا أيضاً ليس بلائق؛ لأن محبة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما دين، يجب أن يدين به كل إنسان، ولا ينبغي أن تكون مجالاً لنكتة أو طرفة، يتناقلها اللاحق عن السابق. المأخذ الثالث: أن فيه بعض ما أشرت له سابقاً، من ذكر اللعب والسب والشتم، وما يخالف الأدب المطلوب. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 28 كتاب التطفيل للخطيب المؤلفات في النكت والطرائف كثيرة جداً، لكن أذكر بعض المشهور منها، فمن المشهور منها: كتاب التطفيل وحكايات الطفيليين ونوادرهم وأخبارهم، وهذا للإمام الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد، وهو من المحدثين المشهورين، والأئمة العلماء الموثوقين، وهذا الكتاب رسالة صغيرة طبعت عدة طبعات، ذكر في مقدمتها الدافع إلى تأليف الكتاب، ثم فوائد ذكر بعض الطرائف، ثم ذكر معنى التطفيل والطفيليين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذم التطفيل وعابه، ومن حمده واستحسنه، ثم ذكر وصاياهم وأشعارهم، ثم سمى رجلاً من الطفيليين يقال له بنان الطفيلي، وذكر واستطرد في ذكر وصاياه وأشعاره ونوادره وأخباره، إلى نهاية الكتاب. الطفيليون أتعرفون من هم؟ ما معنى طفيلي؟ معروف كما هي مستخدمة عند العوام، فلان طفيلي أي: هو يأتي للمناسبات بدون دعو، يبحث عند المطابع عن الأعراس، أو في قصور الأفراح مثلاً، ثم يأتي بحجة أو بأخرى، وأحياناً يأتي ويتدخل ويتظاهر بأنه من أهل الزواج، ويقول للطباخ: افعل وارفع وانزل وكذا وكذا. يقول -هذه من وصاياهم- يقول: اجزم ولا تنظر إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، أهل الزوج يظنون أنك تبع أهل الزوجة، وأهل الزوجة يظنون أنك تبع أهل الزوج، ادخل في المجموعة ويكتب لك الله عز وجل عشاء تلك الليلة أو غداءها. هذا معنى الطفيليين، وهؤلاء الذين قصدهم الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى في كتابه هذا، يقول النويري، صاحب كتاب بلوغ الأرب، يقول: إن بناناً هذا كان نقش خاتمه: مالكم لا تأكلون؟ هذه من النكت التي نقلها، كل واحد ينقش في خاتمه ما يناسبه، وهذا نقش ما يناسبه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 29 الأسئلة الجزء: 200 ¦ الصفحة: 30 سؤال عن نكت مكذوبة سبقت عن شخص السؤال يقول: سبق أن أصدرت عدة نكت وألصقتها بشخص معين، دون أن يكون لهذه النكت أصل، وأنا الآن نادم على ذلك فما العمل؟ هل التوبة والرجوع للحق يكفي؟ السؤال: أولاً: تتوب، وتكثر من الاستغفار لهذا الإنسان الذي نلت منه، ثم إن كان هذا الإنسان ممن يتحملون، وفي نفوسهم قوة، فإنك تخبره بذلك حتى يصفح عنك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري: {من كانت عنده لأخيه مظلمة من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم، قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، فإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئاتهم ثم طرحت عليه} . فعلى الإنسان أن يتحلل منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم، أما إن خشيت أن هذا يؤثر في نفسه، وقد يورثه حقداً عليك أو بغضاً لك، فلا تخبره لكن أكثر من الاستغفار له. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 31 المحبة في الله السؤال هذا أخ يقول: إنه وإخوة من السابقين- جزاهم الله خيراً- يحبونني في الله، ويشهدون الله على ذلك؟ الجواب فأنا أيضاً أحبكم في الله، وأرجو الله تعالى أن يجعلنا من المتحابين فيه، وأن يكتب لنا الثبات على ذلك حتى نلقاه، وأن يجمعنا في رضوانه وجنته، إنه على كل شيء قدير. وأشكر للأخ وللإخوة الآخرين هذا الشعور الطيب الحفي. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 32 الترجمة بذكر العيوب في المترجم له السؤال يقول: يذكر بعض المترجمين ومؤلفي كتب السير، عيوباً في المترجم له، وأستغرب ذلك من المؤلف خاصة عندما يكون من ذوي المكانة في العلم، وأذكر مثالاً لذلك -يقول: أرجو عدم قراءته على الحضور- إذاً ما ليس هناك داعٍ أن نقرأه عليكم، فهل من تعليق حول هذا؟ وما الداعي لذكره؟ الجواب فعلاً هناك كثير من القصص والأخبار، تذكر عن بعض المترجمين، ليس لها فائدة ولا لها معنى، وإنما ينقلها إنسان ثم يتداولها من جاء بعده، ويتناقلونها كابراً عن كابر، وهي غير لائقة أحياناً، فيها وضيعة للمترجم، وقد يكون إماماً جليلاً، وفي نفس الوقت ليس لها فائدة. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 33 التكلم عن ذكاء شخص طرفة السؤال هل يكون من الحسن أن يتكلم عن ذكاء شخص معين، وهو من الطرائف، مثلما يشاع عن بعض الأشخاص في طريقة التخلص؟ الجواب نعم لا حرج في هذا، إذا كانت في حدود ما سبق من الضوابط، فقد يشيع عند الناس أن شخصاً معيناً شديد الذكاء، وجد في مجتمع وصار يضحك بهم، ذكي أكثر منهم له مواقف معينة، فإذا كانت في حدود معقولة ومعينة، وفي الضوابط الشرعية التي أسلفتها، فلا يعتبر هذا ذماً للشخص أو غيبة له. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 34 للنكتة أحوال وظروف السؤال هل يمكن أن يقال: للنكتة مواضع وظروف تحين في وقتها؟ الجواب نعم كل شيء في وقته حسن، لها وقتها المناسب، فالجد في موضع الهزل مذموم، كالهزل في موضع الجد. ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى الجزء: 200 ¦ الصفحة: 35 النكت الخيالية السؤال النكت التي يرويها الناس حول الحيوانات، التي هي من صنع الخيال؟ الجواب هذه ذكر ابن الجوزي طُرَفاً كثيرة، منها في كتاب الأذكياء، ولها كتب مخصصة، ككتاب ابن المقفع كليلة ودمنة وغيرها، وهي أنواع، فيها أشياء تذكر لا تخلو من فوائد معينة تجري مجرى الأمثال للإفادة، وبعضها لمجرد التسلية ولا فائدة من ورائها. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 36 كتاب عقلاء المجانين السؤال ما رأيك في كتاب عقلاء المجانين؟ الجواب هذا أيضاً من الكتب، التي سرد فيها مؤلفها مجموعة من القصص التي تتعلق بمجانين لهم مواقف يكونون أشبه فيها بالعقلاء، وبعضهم أصيبوا بالجنون بسبب الوله والعشق، الذي ابتلوا به أو غير ذلك، والكتاب الذي ذكره الأخ فيه قصص وطرائف أكثرها مما لا فائدة فيه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 37 تقليد الوعاظ السؤال هل يجوز تقليد بعض أصوات الخطباء بكلامهم بين زملائي، بين لنا ذلك مأجوراً؟ الجواب نرجو الله تعالى أن يكون كذلك، أما موضوع التقليد: فإن كان على سبيل التقليد للسخرية والإضحاك، فلا أرى أنه يسعك ذلك، أما إن كان سيتدرب على الخطابة، فهذا أمر آخر، ولكن لا يلزم لذلك أن يقلد صوت الخطيب، بقدر ما يقلد نبراته وطريقة الإلقاء وقوة العبارة، والأسلوب وما أشبه ذلك. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 38 حكم الضحك من النكت المحرمة السؤال يقول: يسمع أحدنا طرفة من التي لا تجوز روايتها بآيات الله أو رسله أو غير ذلك، فلا يملك نفسه إلا أن يضحك، فهل يأثم بذلك؟ الجواب أقول: يجب أن يغضب، وإن كان واضحاً فيها؛ لأن بعض الأشياء ليس فيها هذا واضحاً، إنما يحتاج إلى ضرب من التأويل، فينبغي على الإنسان إذا سمع من القصص أو النكت أمر يتعلق بالدين، أن يغضب وينكر ويحتسب على صاحبها، ولا يجامله في ذلك بحال من الأحوال، ينبغي أن تغضب لله. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 39 الضحك عند الحسن البصري السؤال ذكرت أن الضحك وجد عند الأنبياء والصالحين، وقد قرأت عن أحد الصالحين كـ الحسن البصري أنه كان ينكر على من يضحك، ويعتبر هذا من الغفلة، فكيف نحل هذا الإشكال؟ الجواب في الواقع أن بعض ما يروى لا يكون صحيحاً هنا وهناك، وأحياناً يكون صحيحاً لكن الإنسان تكون له أحوال مختلفة، فقد يمر الحسن البصري -مثلاً- على أناس يضحكون في غير أوان الضحك، فيلومهم ويعاتبهم؛ لأن هذا ليس وقت الضحك، وقد يمر بقوم يعلم أن من شأنهم أنهم يكثرون من الضحك ويسترسلون فيه، فيعيبهم وهذا مطلوب. أنت لو أتيت إلى مجموعة من الشباب جالسين في مكان، وهم يتبادلون النكت والطرف، ثم يضحكون، ثم يتبادلونها، ثم يضحكون، وضحكاتهم تتعالى في الهواء لحظة بعد أخرى، هنا ينبغي أن تتحدث معهم، وأن هذا لا يليق بكم، ولا يتناسب مع مثل المهمات المنوطة بكم، وأنتم فيكم وفيكم، والله عز وجل أمركم بعبادته وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وتورد عليهم من المعاني ما يحفز هممهم إلى الاشتغال بمعالي الأمور، والإقبال على الجد، وألا تكون حياتهم كلها هزلاً، ولكن لو أتيت إلى إنسان هو جاد بطبعه، ربما لا مانع أن تسوق له أنت بنفسك -وقد كنت تعاتب قبل قليل هؤلاء- تسوق له ما يمكن أن يجعله أن يبتسم، أو تسري هماً في نفسه، فالإنسان يكون موقفه بحسب الأحوال. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 40 ابتداء الدرس بنكتة السؤال أثناء كلامك ذكرت أن هناك مدرساً يبدأ بنكتة، فهل تنصح بأن يقدم الأستاذ لدرسه بذلك؟ وهل هذا محمود؟ الجواب إذا احتاج إلى ذلك فلا بأس به. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 41 الشباب ومجالس العامة السؤال هناك بعض إخواننا من الشباب لا يقبلون على المجالس التي لا يكون فيها دعوة وذكر، حتى وإن لم يحدث فيها ما يخالف الشرع، حتى كرههم العامة وعابوهم. فبماذا تنصحوهم؟ الجواب ينبغي للإنسان أن يأخذ نفسه بالجد ما استطاع، أما إن كان حوله أحد يحتاج إلى مراعاة بقصد استصلاحه وتأليف قلبه، فيراعيه في حدود ما أباح الشرع. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 42 الضحك بالقرآن السؤال من الطرائف التي تذكر أحياناً: ما يقال بشيء من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية نحو {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} [طه:40] {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] إلى غير ذلك {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [الأعراف:145] وما أشبه ذلك، فما رأيكم؟ الجواب أقول: إذا كان في ذلك سخرية، أو تعريض الآية للضحك منها، فأرى أن هذا لا يجوز، لماذا؟ لأنها إذا تداولت عند الناس ربما إذا سمع الإنسان الآية تذكر النكتة فضحك، بدلاً من أن يتذكر معنى الآية فيبكي، وهذا بلا شك تغيير لما أنزل القرآن من أجله، أما إن كان استخداماً للفظ القرآني في معنى صحيح، ليس على سبيل الهزل مثل (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ) فهذه ليس فيها هزل فلا بأس بذلك. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 43 نسبة كتاب الأذكياء لابن الجوزي السؤال يقول: ضعفت القصة التي ذكرها ابن الجوزي في كتابه الأذكياء، والتي تدل على تنازل عمر عن شيء، ألا يكون هذا دليلاً واضحاً على أن نسبة كتاب الأذكياء لـ ابن الجوزي فيها نظر؟ الجواب لا، ليس دليلاً واضحاً ولا غير واضح، في الواقع ليس دليلاً أصلاً، لأن ابن الجوزي رحمه الله، كتابه هذا فيه سماعات، وفيه أدلة ثابتة كثيرة، بل هو ذكره في كتبه الأخرى أو في بعض كتبه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 44 نصيحة للشباب السؤال إن كثيراً من الشباب هداهم الله يقضون جل وقتهم الثمين في الهزل والنكت، وربما غلب هزلهم على جدهم، فما نصيحتكم؟ الجواب نصيحتي ما سبق، والله تعالى يحب العدل، والعدل وضعُ كل شيء في موضعه، ويكره الظلم، والظلم وضعُ الشيء في غير موضعه، فمن الظلم أن تجعل الهزل يغلب على حياتك، وأن تكون النكتة والطرفة مقصودة لذاتها، وهدفاً بذاته عندك، هذا لا يليق بعاقل فإنك لم تخلق لهذا. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 45 النكت ونسبة الكذب فيها السؤال يقول: لم تتطرق في كلامك عن النكت من أنها أو غلبها كذب وافتراء، ولم تذكر في تلك حكماً؟ الجواب في الواقع أنني لا أرى أنها تدخل صراحة في باب الكذب؛ لأنه ليس يقصد من ورائها الخبر الصريح، بقدر ما يقصد من ورائها ذكر رواية، أو سرد قصة قرأها الإنسان أو سمعها، دون أن يكون ملزماً بتوثيق هذه الرواية، أو تضعيفها، ودون أن يكون يقصد الإخبار بقدر ما يقصد الإضحاك، أو إنقاذ موقف، أو ما أشبه ذلك من المقاصد، فليس مما يصح فيما يظهر لي أنه كذب صراح. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 46 ذكر نكتة عن شخص دون تعيينه السؤال ما حكم عرض نكتة حصلت لشخص دون ذكر اسمه؟ الجواب إن لم يكن هذا الشخص معروفاً للسامعين؛ فلا حرج في ذلك. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 47 الدفاع عمن يُضْحَك عليه السؤال بعض الناس يركزون بالضحك على شخص من الحضور، لدرجة الخجل لهذا الشخص، فهل يجوز أن أدافع عنه؟ الجواب بل ينبغي أن تدافع عنه، لكن بحق، ودون أن تنال من غيره، ولا ينبغي للآخرين أن ينالوا من إنسان بما يؤذيه ويسوؤه ويخجله، لا ينبغي أن يكون هذا. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 48 التخلص من كثرة الإضحاك السؤال كيف توجهون شخصاً مصاباً بداء التنكيت ومعروفاً بين الناس، وهو يرغب في التخلص من ذلك؟ الجواب رغبته في التخلص هذه بداية حسنة؛ لأن بداية الخير الهم به، فأنت الآن ترغب في التخلص فعليك أن تسلك الطريق، ومن ذلك أن تغير سمعة الناس عنك، فإن الناس -كما سبق أثناء المحاضرة- إذا سمعوا بشيء عظموه، وضخموه، وتناقلوه، حتى يصبح وإن كان خيالاً كأنه حقيقة، فتحاول أن تغير تصور الناس عنك بالإقبال على الأمور الجادة والمفيدة، وحضور مجالس الذكر والعلم، والبعد عن المجالس التي تجرك إلى الهزل والنكتة، وإن كان لك أصدقاء يجرونك جراً إلى النكتة والهزل، فتجنبهم بقدر ما تستطيع. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 49 النبي مزح فيكون جدا ً السؤال أليس الهزل أو المزاح يعتبر جداً في حد ذاته، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر حجة؟ الجواب الهزل هزل، وينبغي أن تسمى الأشياء بأسمائها، لكن إن كان لغرض صحيح فلا حرج كما سبق، وفي حدود الاعتدال، وهذا هو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 50 نكت الكاريكاتير السؤال ما رأيكم في النكت التي يكتبها أصحاب الرسم (الكاريكاتيري) وهل تجوز قراءتها؟ علماً بأنها بدأت تنتشر على شكل كتب مستقلة تباع في المكتبات مصحوبة بالصور المنوعة، أفيدونا؟ الجواب أولاً: يجب أن يعلم أن تصوير ذوات الأرواح باليد، مما لا يجوز، ولا أعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، فتصوير صورة إنسان كامل، أو حيوان كامل باليد لا يجوز، ولا أعلم في هذا خلافاً بين أهل العلم، وهذا مما يقع فيه أصحاب الرسوم الكاريكاتورية، بعض الرسوم يكون فيها المحاذير السابقة، كالسخرية بالعلماء أو الصالحين، أو حتى بالأنبياء كما سبق أن أشرت إلى شيء من ذلك، فهذا يجب الحذر منه ومحاربته، وبعضها إذا سلم من التصوير، وسلم من المحاذير السابقة، قد يكون فيها إرشاد إلى أمر محمود، أو تحذير من أمر مذموم. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 51 طلب دروس للنساء السؤال يقول: أرجو ويرجو معي كثير من الإخوة والأخوات، أن تخصص بعض الدروس للنساء وذلك لتعم الفائدة، مع وضع الإعلانات المناسبة للدروس حتى تحضر النساء. الجواب في الواقع إنه ليس في المسجد الجامع الآن مكان مخصص ومناسب للنساء، وهذا هو السبب فيما ذكرت، وإلا فهناك موضوعات كثيرة فيما ذكره الأخ، وقد بلغني أن هناك جهوداً من قبل بعض المسئولين -جزاهم الله خيراً- وبعض الناس المحتسبين لإقامة مكان مخصص للنساء، يكون منعزلاً عن الرجال، وبعيداً ومجهزاً ومناسباً، ولذلك إذا وجد هذا فيحصل ما أشار إليه بإذن الله تعالى. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 52 انتقاد السؤال يقول: ألا ترى أن طرح موضوع الطرائف والمزاح ليس ذا فائدة أو جدوى كبيرة؟ ألا ترى أن هناك مواضيع أخرى أولى بالمناقشة، مثل مشاكل الشباب وظاهرة السفر إلخ؟ الجواب في الواقع أن المشاكل كثيرة، مشاكل الشباب، وهناك موضوعات كثيرة مهمة أيضاً، لكن كل طبقة من الشباب لهم أمور معينة تهمهم ويبحثون عنها، وهذا الموضوع يهم، وأستطيع أن أقول: إن لم يهم كل إنسان فهو يهم الشباب خاصة، وهم فيه ما بين مُفْرِط ومُفَرِّط، فضلاً عن أنني لا أذكر أنني سمعت أو اطلعت على أن هناك محاضرة في هذا الموضوع، يمكن أن يتداولها الناس ليعرفوا فيها الحسن من القبيح، والجيد من غيره، فلذلك أفردتها بالحديث. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 53 تعقيب السؤال هذا السؤال صدقني فيما ذكرت، يقول: يشاهد ويلاحظ أن الناس وطلاب العلم بين طرفي نقيض، فمنهم من يكون كل مجالسهم نكت وضحك بحجة الترويح، أو ترغيب الفساق، وبالمقابل من الناس من يكون عبوساً حتى لو مر عليه بعد طول مجلس مع إخوانه نكتة حسنة، فإنه يواجه ذلك بالغضب والتحقير لصاحبها مما يؤدي إلى التنفير. الجواب لاشك أن هذا صحيح، وهي ملاحظة في مكانها والله تعالى يحب العدل. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 54 هل تنصح بقراءة النكت السؤال هل تنصح بقراءة النكت التي تكون في الصحف اليومية؟ الجواب أنصح بقراءتها لغرض واحد فقط، من أجل إذا كان في هذه النكتة أمر مذموم، فإنك تحتسب على أهل هذه الصحيفة أو الجريدة، وتتصل بهم أو تراسلهم، وتنكر عليهم ما فعلوا. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 55 ساعة وساعة السؤال يقول: ما رأيك في بعض من يقول ساعة لربي وساعة لقلبي، حينما يذكر وينصح، ما رأيك في ذلك؟ الجواب هذه الكلمة ليست مناسبة؛ لأن العبد ينبغي أن يكون قلبه خالصاً لله عز وجل، بمحبة الله، وخوفه، ورجائه، وأن تكون حياته كلها لله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] فالعابد حتى حين يكون في بعض الأمور التي فيها أنس أو تسلية أو ترويح، فإنه لا يحس بأنه بعيد عن الله عز وجل، ولا بأنه يخالف ما أمر به الله تعالى، فإن هذا ما أمر الدين بتنظيمه ورعايته. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 56 الغالب الجد في حياة النبي السؤال يقول: مما يلاحظ من ذكرك من مُلح الرسول صلى الله عليه وسلم أنها قليلة، وذلك لأن أكثر المرويات فيها ضعف وغيره، فهل يستدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر حاله الجد؟ أم أنك اقتصرت على بعضها؟ الجواب في الواقع أنني ذكرت أكثر ما وجدت من الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضوع النكت والطرائف، لكن أكثر ما ذكرته صحيح، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان الجد أغلب عليه، كيف يقارن جده صلى الله عليه وسلم بهزله؟ وقد كان يقوم في الليل أحياناً بسورة البقرة، وآل عمران والنساء، في ركعة واحدة، وكان يصوم حتى يقال لا يفطر، وكان عليه الصلاة والسلام كثير الأسفار؛ للجهاد والقتال وغير ذلك من المقاصد الشرعية، إضافة إلى تعليمه، ووعظه، وخطابته عليه الصلاة والسلام فلاشك في هذا. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 57 توجيه لمدرس السؤال يقول: أنا شاب مقبل على مرحلة جديدة من حياتي وهي المرحلة العملية (التدريس) وأرجو توجيهي بكلمة في بداية المرحلة هذه، خصوصاً أنك صاحب تجربة وممارسة، ومما أعرفه أن الأدباء يفردون أبواباً في نوادر المعلمين، لذا أرجو أن يزول خوفي؟ الجواب أحسنت هذه من مفاسد قراءة الإنسان لبعض هذه الكتب دون وعي؛ لأنهم يفردون فعلاً نوادر المعلمين، ويسخرون بهم، ويستهزئون بهم، فيخاف الإنسان من هذه النوادر، ويخشى أن يقع في بعض ما وقعوا فيه. الجزء: 200 ¦ الصفحة: 58 المباح وغير المباح من المزاح المزاح هو الدعابة وهو نقيض الجد من قول أو فعل، وله أهداف منها: التسلية والتعليم والتربية والتخلص وغير ذلك، وهو مباح ولا ينبغي المبالغة فيه حتى تذهب الهيبة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه وزوجاته ويضحك عند مزاحهم، وكان الصحابة رضي الله عنهم يمزحون مع بعضهم، وكذلك أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن يمزحن مع بعضهن، وكذلك هناك مزاح مذموم وهو ما كان فيه هزل واستهزاء بالله أو برسوله صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن أو أذية للناس. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 1 تمهيد إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: في ليلة الإثنين، السادس والعشرين من شهر شوال، ينعقد -بحمد الله تعالى وتوفيقه- هذا المجلس، وهو الثاني عشر من مجالس الدروس العلمية العامة، وموضوع هذه الحلقة -كما كنت نوهت لكم في المجلس السابق- هو: الكلام عن المباح وغير المباح من المزاح. وأحب أن أقول للإخوة: إن هذا الدرس سيكون هو الدرس الأخير قبل إجازة الامتحانات، وإن كنت وعدتكم في المجلس السابق أن آخذ رأيكم، لكني فكرت في الموضوع، فوجدت عدة أمور تدعو إلى إيقاف الدرس في هذه الفترة الوجيزة، منها أن عدداً من الإخوة الطلاب -لا بأس بهم- من الحضور، وهم يطلبون ويتمنون الإيقاف حتى لا يفوتهم شيء. ومنها -وهذا هو السبب الثاني-: أن الإخوة في خارج هذا البلد ممن يتابعون هذه الدروس -أيضاً- تفوتهم متابعتها أثناء الاختبارات؛ لأنهم لا يوجد لديهم وقت لاقتناء الشريط أو سماعه فيفوت عليهم، والسبب الثالث: هو أن عندي أعمالاً كثيرة، من تحرير بعض المسائل، وتصحيح بعض الكتب، ومراجعة بعض الأمور. وكنت أؤجل وأسوف؛ رجاء أن توجد الفرصة، فرأيت أن فرصة الامتحانات يمكن أن أستفيد منها في بعض هذه المسائل؛ ولذلك سيكون هذا الدرس -كما قلت- هو الدرس الأخير، أما استئناف هذه الدروس فسيكون -بإذن الله تعالى- في ليلة الإثنين، الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة. وفي مثل هذه الأمسية بعد صلاة المغرب، سوف ينعقد المجلس الثالث عشر، وسيكون موضوع ذلك المجلس -إن شاء الله تعالى- حول حكم النكت والطرائف وما يتعلق بها، وهو يعتبر مكملاً ومتمماً لهذا موضوع، ولكن هذا الموضوع مستقل وذاك موضوع مستقل، ليس لأحدهما ارتباط ضروري بالآخر، وإن كانا من حيث الموضوع متكاملين. وفي موضوع: ما يباح وما لا يباح من المزاح، سوف أتحدث في عدة نقاط. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 2 العرب تحب المزاح وتكره الاكفهرار وضد المزاح والتبسم: العبوس والتقطيب والجد والصرامة. والعرب كانت تمتدح بالأول، وتذم بالثاني، فإذا أرادت العرب أن تمدح شخصاً قالت: فلان بسام الثنايا، طلق الوجه، بشوش للضيف، ويعتبرون هذا مما يمدح به الإنسان؛ لأنه يدل على كرم أخلاقه، وحسن معشره وطيب معاملته، وقد يذمون بالآخر وهو الاكفهرار والعبوس. فيقولون: فلان عبوس الوجه، جهم المحيا، كريه المنظر، حامض الوجه، كأنما وجهه بالخل منضوح، أي: كأنما وضع الخل على وجهه فلشدة حموضته قطب واكفهرت أساريره، وكأنما أسعط خيشومه بالخردل، أي: كأنما وضح الخردل في أنفه سعوطاً فكان مقطباً: فالعرب تمدح بالأول وتذم بالثاني. ولاشك أن العرب يقصدون الأمر المعتدل من ذلك، وإلا فإن المزاح -كما سيأتي- إذا زاد وتعدى كان مهانة وذلاً وضعةً من قدر صاحبه، كأن يجرئ عليه الصبي الصغير، والسفيه والأحمق والجاهل، فإنما يقصد العرب من ذلك: ما يكون على حد الاعتدال والتوازن، لا إفراط ولا تفريط؛ ولذلك يقول أبو تمام -يمدح رجلاً-: الجد شيمته وفيه دعابة طوراً ولا جد لمن لا يلعب فبين أن الجد هو شيمة هذا الإنسان -الأصل عنده الجد- لكن ليس دائماً، ففيه دعابة وفيه فكاهة، (طوراً) أي: حيناً، ولا جد لمن لا يهزل، فإن الإنسان إذا داوم شد الحبل على نفسه فإنه ينقطع، وهذا حتى في سياسة النفس ينبغي أن يتفطن إليه، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: [[يعجبني أن يكون الرجل في بيته صبياً]] . وكان عمر رضي الله عنه وهو الخليفة أحياناً يكون في بيته فيتغنى بأبيات من الشعر، يقرؤها بلحون العرب، كما يردد الواحد منا بيتاً في بيته -أي: بيتاً من الشعر- فربما طرق أحد الباب فسمع عمر وهو يردد هذا البيت من الشعر أو ذاك. وحتى الجبابرة والمتسلطون يقع منهم ذلك، سئل الحجاج يوماً عن موقفه ومعاشرته مع أهله، فقال: والله ما تعدوننا إلا شياطين، والله لقد رأيتني وأنا أقبل رجل إحداهن. أي: رجل إحدى زوجاته، فهذه الأشياء لابد منها لكل إنسان، وهي جبلة فطر عليها المرء، ولا مفر له منها، لكن ينبغي أن يكون -كما أسلفت- على حد القصد والاعتدال، لا يخرج إلى إفراط ولا إلى تفريط. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 3 تعريف المزاح المزاح: هو الدعابة، وهو نقيض الجد من قول أو فعل، والمزاح أمر جبل عليه الإنسان في أصل طبيعته، ويستخدمه الإنسان لأغراض شتى. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 4 من أهداف المزاح فمن الناس من يمزح بقصد التسلية، لأنه إذا كثر عليه الجد وثقل عليه، فإنه يمل ويكل، فيلوذ ويلجأ إلى شيء من الدعابة والمزاح، وهذا جاء في حديث حنظلة بن الربيع، ففي صحيح مسلم {أن حنظلة بن الربيع الأسيّدي رضي الله عنه قال لـ أبي بكر: نافق حنظلة، إنا نكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال، فإذا خرجنا من عنده عافسنا الأولاد والأزواج والضيعات ونسينا كثيراً. فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لكذلك، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: نافق حنظلة، وفي الأخير قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: لو أنكم تدومون على ما تكونون عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة} . أي: ساعة تعبد وجد وإقبال، وساعة يجلس الإنسان فيها مع أهله ومع أولاده، ويستمتع بما أباح الله تعالى له من أمور الدنيا، ويدخل في ذلك مداعبة الأهل والأطفال والأصحاب والأحباب وغير ذلك. وقد يكون من أهداف المزاح أحياناً: التعلم. فإن التعلم يكون باللعب كما يكون بالجد، وأنت ترى أن الله -جل وعلا- فطر الصبيان الصغار على اللعب بأشياء مما يحتاجونها في كبرهم، فأنت تجد الطفلة الصغيرة تأتي إلى وسادتها، وتحزمها وتعدها بنتاً لها وتسميها، وتحملها وتضعها على حجرها، وتقبلها وتضمها وتغضب إذا أوذيت، وهذا يتناسب مع الجبلة التي خلقت من أجلها المرأة. وكذلك الصبيان يجلسون فيصنعون البيوت ويصنعون الأشياء، ويتدربون على الأعمال التي سوف يعانونها في الكبر، فالمزاح واللعب -أحياناً- يكون للتعلم، كما يكون التعلم بالجد. وقد كشف في وسائل التربية الحديثة: أن المعلم يحتاج إلى أن يُدخل على طلابه -أحياناً- نوعاً من الطرف ليبعد عنهم السآمة والملل، وهذا كان موجوداً عند علمائنا السابقين، فكان بعضهم يستخدم مع طلابه أساليب للتعليم، مثل أن يسألهم، أو يجعل لهم لغزاً يسمونه "المعاياة" يعاييهم فيه -أي: يعجزهم في الجواب عنه- إلى غير ذلك من الأشياء التي تطرد السآمة والملل، وتعين المتعلم على ما هو بصدده. وقد يكون المزاح واللعب -أحياناً- للتخلص من الخوف أو القلق أو الغضب أو غيرها، فإن الإنسان إذا مزح أدخل على قلبه شيئاً من التسلية والسرور، وأزال ما يخاف منه أو خفف من ذلك، وهذا يقوله العلماء المعاصرون، لكن في هدى النبي عليه الصلاة والسلام ما يشبه هذا. ففي الحديث المتفق عليه، حديث كعب بن مالك الطويل في قصة توبته، حين تخلف عن غزوة تبوك، يقول رضي الله عنه: {فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم تبسم تبسم المغضب} . إذاً الابتسامة أحياناً تكون من الفرح والسرور والاستبشار، وأحياناً تكون من الغضب، فيتبسم الإنسان لأن من سجيته الكرم والخلق الحسن، حتى وهو مغضب، ويدل حاله على أن هذا التبسم ليس تبسم الرضا، وإنما هو تبسم الغضب. وقد يكون المزاح -أحياناً- للتخلص من موقف صعب، فإن كثير من الناس كانوا -ولا زالوا- يتعرضون لمواقف صعبة، إما مع حاكم أو أمير أو قاض، أو زوج مع زوجته أو زوجة مع زوجها، أو تلميذ مع شيخه أو ما أشبه ذلك. فيكون موقفاً صعباً، ليس له جواب إلا إذا كان هذا الإنسان عنده طرف وسرعة بديهة -كما يقولون- فيتخلص من صعوبة هذا الموقف؛ بأن يأتي بمزحة مناسبة؛ فيضحك منها الشيخ أو الأمير أو الشخص المعني، ثم يزول ما به من الغضب، ويعفو ويصفح عن الطرف الآخر، ومثل هذا كثير في كتب اللغة والأدب وغيرها. وقد يكون المزاح على سبيل الملاطفة والملاينة، وتطييب خاطر من يقابلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} فإنك إذا تبسمت له، تعرب له عن محبتك وسرورك بمقدمه، وأن قلبك لا يحمل له إلا الود والحب، فهذه بسمة يعبر فيها الأخ المسلم عن حبه لأخيه حين يلقاه، فعدها النبي صلى الله عليه وسلم من الصدقات، كأنك أخذت مالاً وأعطيته إياه؛ لأنك تدخل السرور على قلبه بذلك. ولهذا يقول جرير رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم} متفق عليه فكان يبتسم له صلى الله عليه وسلم لأنه كان يحبه، ويقول: عليه مسحة ملك. وكان لا يثبت على الخيل، فمسح النبي صلى الله عليه وسلم صدره ودعا له، وأمره أن يذهب إلى ذي الخلصة -وهو صنم كانت تعبده العرب في الجاهلية- فيهدمه، ففعل رضي الله عنه وأرضاه. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 5 مزاح سيد المرسلين أما النقطة الثانية في هذا الدرس فهي: مزاح سيد المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الخلق أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. لاشك أن الرسول صلى الله عليه وسلم وهو القدوة في كل أمر، وكان عليه الصلاة والسلام يعاني من أمور الدعوة والتبليغ، والإصلاح، والأمر والنهي والجهاد وغير ذلك، ما لا يعانيه غيره، فلا أحد يستطيع أن يقول إنه مشغول أكثر مما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مشغولاً، ولا جاد أكثر مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاداً، ولا ورع أكثر من ورعه صلى الله عليه وسلم، فهو القدوة في ذلك كله. ولاشك أن الرسول عليه السلام كان الغالب على حياته الجد، وقد بان الشيب على مفرقه عليه الصلاة والسلام قبل أوانه، فقيل له شبت يا رسول الله! فقال: {شيبتني هود وأخواتها، وقال: حم، وعمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كورت} وهذا حديث ورد من طرق كثيرة صححه بها بعضهم، وإن كان بعض أهل العلم أعلَّوه بالاضطراب، لكن معناه صحيح. وقد ذكرت عائشة رضي الله عنها {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان غالب صلاته في آخر عمره وهو قاعد بعد ما حطمه الناس} أي: من كثرة دخول الناس وخروجهم عليه وسؤالهم له وحاجتهم؛ حَطَمُوه فتأثر بذلك وأسرع إليه الشيب صلى الله عليه وسلم. ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان له مزاح يسلي به أصحابه، ويسري به عن القريب والبعيد. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 6 الأحاديث والأخبار الواردة في ضحكه وتبسمه صلى الله عليه وسلم أما الأحاديث والأخبار التي كان يقولها صلى الله عليه وسلم، فيضحك أو يتبسم بعض من حوله من أصحابه، فهذا كثير جداً، لو جمع لكان في مجلد، لكنني أذكر نماذج سريعة منه. فمن ذلك: حديث أبي ذر في صحيح مسلم {أن الله تعالى يدني عبداً من عباده يوم القيامة، فيقول له: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ ويقول لملائكته: اذكروا له صغار ذنوبه ونحو عنه كبارها، فيذكرون له الذنوب الصغيرة، حتى إذا انتهت قال الله عز وجل: فإني قد أبدلتها لك حسنات -لأنه قد تاب منها، فأبدلها الله تعالى له حسنات-. فهذا الرجل قال: يارب! عملت ذنوباً لا أراها هاهنا!، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} أي: أن هذا الرجل عندما كانت الذنوب الكبائر مستورة عنه وكانت عليه سكت ولم يثر الموضوع، لكن لما عرف أنها صارت في صالحه، وأنها بدلت حسنات، صار يطالب بها، ويقول: عملت ذنوباً لا أراها هنا، أين الكبائر التي عملتها؟ لأنه يعلم أنها ستبدل إلى حسنات!!. ومن ذلك -أيضاً- ما ورد في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع -يريد أن يزرع- فقال الله عز وجل: ألست فيما أغنيتك به يا عبدي؟! قال: يا رب، ولكني أحب أن أزرع. قال: فيأذن الله تعالى له بذلك، فيكون بذره وزرعه ونماؤه ونضجه وحصاده في لحظة واحدة، فقال رجل من الأعراب -كان حاضراً عند الرسول صلى الله عليه وسلم-: والله يا رسول الله، لا تجد هذا الرجل إلا قرشياً أو أنصارياً، أما نحن فلا حاجة لنا في الزرع؛ فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه} وله من ذلك شيء كثير -كما أسلفت-. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 7 نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم وأذكر نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك: كثرة تبسمه وممازحته صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما سبق في حديث جرير: {أن النبي صلى الله عليه وسلم ما رآه إلا تبسم} . وقد روى الترمذي، وأحمد وغيرهما، عن عبد الله بن الحارث بن جزء، وهو حديث حسن، قال الترمذي: حديث حسن صحيح، أنه قال: {ما رأيت أكثر تبسماً من النبي صلى الله عليه وسلم} . وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنهم قالوا: {يا رسول الله، إنك تداعبنا -أي تمازحنا- فقال: نعم، لكني لا أقول إلا حقاً} رواه الترمذي، وقال حديث حسن صحيح. وقد جاء عن ابن عمر عند الطبراني، وسنده حسن -أيضاً- وجاء عن بكر بن عبد الله المزني وغيرهم {إنك تداعبنا. قال: نعم، ولكني لا أقول إلا حقاً} . ومن مزاحه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخاطب خادمه أنس بن مالك فيقول له: {يا ذا الأذنين} وهذا الحديث رواه الترمذي في الشمائل، وهو كما قال الترمذي: حديث صحيح غريب. و (يا ذا الأذنين) مزاح؛ لأن كل إنسان له أذنان، فقوله لـ أنس: {يا ذا الأذنين} هذا على سبيل الممازحة. ومن ذلك -أيضاً- قوله لأخي أنس من أمه: {يا أبا عمير ما فعل النغير -وكان له نغر يلعب به، فمات هذا النغر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأبو عمير كسيف حزين- فقال: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ -العصفور- فقال: مات يا رسول الله} وكان هذا على سبيل الدعابة والممازحة له. ومن ذلك: ما رواه أنس -أيضاً- {أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: احملني يا رسول الله -أي أعطني شيئاً أركب عليه للغزو والسفر- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنا حاملوك على ولد الناقة -ففهم الأعرابي: أن ولد الناقة هو الجمل الصغير- فقال: وما أفعل بولد الناقة يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق؟!} . والحديث رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح غريب، ورواه أبو داود في سننه، وأحمد في مسنده. ومن ذلك: حديث أنس -أيضاً- الذي رواه الترمذي في الشمائل، وسنده صحيح {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له رجل من الأعراب اسمه زاهر الأسلمي، فكان هذا الرجل يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهدايا مما يستطرف من هدايا البادية، من الأقط والسمن وغيرها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يهدي له أيضاً، فيقول عليه السلام: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضرته، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فوجد زاهراً يبيع في السوق ولم يعلم بالنبي صلى الله عليه وسلم، فتسلل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه واحتضنه وقال: من يشتري العبد من يشتري العبد؟ فالتفت زاهر فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: إذاً تجدني كاسداً يا رسول الله. قال: لكنك عند الله لست بكاسد} . وفي رواية قال: {لكنك عند الله غالٍ} والحديث -كما أسلفت صحيح- وفيه ما كان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم من البساطة والممازحة، وتطييب أصحابه بما يناسبهم مع عدم الكذب، فإن زاهراً كان عبداً لله عز وجل ولا شك. والحديث قال عنه ابن كثير أيضاً: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه على ذلك الشيخ الألباني، وقال الحافظ ابن حجر: حديث صحيح. ومن ذلك: ما رواه الترمذي والبيهقي عن الحسن البصري مرسلاً، وله شاهد من حديث عائشة رضي الله عنها عند الطبراني والبغوي في تفسيره، وهو حديث حسن: {أن امرأة عجوزاً جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، ادع الله أن أكون من أهل الجنة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخل الجنة عجوز، فكأن هذه المرأة خافت ووجلت. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كما قال الله عز وجل: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة:35-38] فذهب ما بها وعرفت مراده صلى الله عليه وسلم} . هذه نماذج من مزاحه صلى الله عليه وسلم ومداعبته مع أصحابه. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 8 مزاح بعض الصالحين أنتقل إلى النقطة الثالثة وهي: مزاح بعض الصالحين. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 9 مزاح عمر بن الخطاب عمر رضي الله عنه على جلالة قدره وجده، كان له مزحات معينة، ولكنها كانت مزحات مقصودة يريد بها أن يربي من وراءه -كما سلف للتعليم-[[جاء أعرابي يوماً فصلى في المسجد ركعتين خفيفتين جداً، وكأنه أخل بالصلاة، ثم قال في آخر صلاته: اللهم إني أسألك الحور العين في الجنة. فلما سلم قال له عمر رضي الله عنه: لقد أسأت النقد وأعظمت الخطبة]] أي: المهر الذي دفعته قليل والخطبة عظيمة، تريد الحور وصلاتك بهذه الصفة، لا تتم قيامها ولا قعودها ولا ركوعها ولا خشوعها وكان هذا منه رضي الله عنه على سبيل التعليم كما سبق. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 10 مزاح عمر بن عبد العزيز عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، يُذكر أنه لم يمزح بعدما ولي الخلافة إلا مرتين، أما فيما عدا ذلك فكان جاداً، لم يكن في حياته وقت إلا للجد، إحدى هاتين المرتين: يروى أن هناك رجلاً كان اسمه حُميد، وكان يسكن في قرية اسمها أمج قريبة من المدينة المنورة، وكان حُميد هذا رجلاً فاسداً فاسقاً يشرب الخمر، وكان يقول في شعره -يحدث عن نفسه: حميد الذي أمج داره أخو الخمر ذو الشيبة الأصلع يحدث عن نفسه، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وفي ذات يوم كان عمر بن عبد العزيز في مجلس -بعد زمان طويل- فسلم عليه رجل ثم قال: أتعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا أعرفك، قال: أنا حميد، فقال عمر بن عبد العزيز: حميد الذي أمج داره؟ -فهو يذكره بذاك البيت- فتبسم الحضور واكفهر هذا الرجل وضاق صدره، وحزن لذلك حزناً شديداً. وقال: والله يا أمير المؤمنين ما شربتها منذ عشرين سنة، لأن هذا فيه تعريض بأنه كان يشرب الخمر؛ لأن آخر البيت أخو الخمر، ففيه تعريض بشرب الخمر، قال: والله يا أمير المؤمنين، ما شربتها منذ عشرين سنة. فقال له عمر بن عبد العزيز: إنما أردت أن أباسطك بهذا، ولم أرد أن أسوءك، وهكذا أيضاً يكون المزاح في قصد التعليم. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 11 قصة خوات بن جبير ومما ورد من المزاح الذي يقصد منه التعليم قصة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم، رواها جماعة من الأئمة المحدثين الحفاظ، عن خوات بن جبير رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلع عليه يوماً من الأيام، في أول عهده بالإسلام، أو لعله قبل أن يسلم، وكان جالساً مع بعض النساء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما أجلسك هاهنا يا خوات؟ قال: يا رسول الله، بعير لي شرد فأردت من هؤلاء النسوة أن يصنعن له عقالاً أو نحو ذلك. فتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم انصرف من عنده ورجع وهو على حاله فقال: أما زلت على تلك الحال؟! فقام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما لقيه قال له: ما فعل بعيرك الشارد أو ما فعل شراد بعيرك؟ فكان يستحي بعد ذلك، ولا يحب أن يقابل الرسول عليه الصلاة والسلام؛ خشية أن يذكره بذلك، حتى جاءه يوماً وهو يصلي فذكره بذلك. فقال: يا رسول الله عقله الإسلام، أو والله ما شرد منذ أسلمت} وهذه كلمة معبرة يفهم ما وراءها، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يقصد منها النصيحة والتعليم، بالأسلوب الذي يناسب كل إنسان. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 12 مزاح الشعبي أما فيما يتعلق بالتابعين والأئمة، فإن من قصصهم وأخبارهم في المزاح شيء كثير، يطول ذكره -كما أسلفت- ولعلي أكتفي بأمثلة ونتجاوز ما عداها. من ذلك الشعبي، والشعبي إمام جليل، كان قاضياً لـ عمر بن عبد العزيز، وكان ثقة حافظاً، حتى إنه كان يقول: والله ما كتبت سوداء في بيضاء، ولا سمعت حديثاً فاحتجت أن أكتبه، أو احتجت أن يعيده علي صاحبه مرة أخرى. وكان الحسن البصري يقول: [[كان قديم السلم -أي: قديم الإسلام- كثير العلم، عظيم الحلم]] فكان من أئمة التابعين وثقاتهم، لقي خلقاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال له رجل: ما لي أراك نحيلاً؟ -وكان ضئيل الجسم- فقال: لقد زحمت في الرحم، وكان ولد هو وأخ له آخر من بطن واحد. وسأله رجل عن اسم امرأة إبليس فقال: ذاك نكاح ما شهدناه، وجاءه رجل وهو جالس مع زوجته، فقال: أيكما الشعبي؟ فأشار إلى زوجته، وقال: هذا. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 13 مزاح الأعمش وكذلك الأعمش، كان من أكثر الظرفاء، وهو من أئمة الحديث الثقات، وله في ذلك طرائف كثيرة، منها: أنه حج، فغضب على الجمال فضربه حتى شج رأسه، فقيل له في ذلك، فقال: من تمام الحج ضرب الجمال. والغريب أن الذين صنفوا في الأحاديث الموضوعة ذكروا هذا! على أن بعضهم ظن أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من الأحاديث الموضوعة (من تمام الحج ضرب الجمال) ولا يصح عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من كلام الأعمش. وكذلك جاءه حائك يسأله هل تقبل شهادة الحائك؟ قال: نعم، تقبل إذا كان معه رجلين. فقال هذه وعدمها سواء. وهو أراد أن يتندر بذلك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 14 مزاح القاضي شريح القاضي شريح، وهو قاض أيضاً [[جاء إلى حي من همدان فقاموا إليه وسلموا عليه وأكرموه وبجلوه، فقال لهم: يا معشر همدان، إني لأعرف أهل بيت منكم لا يحل لهم الكذب. فقالوا: من هم يرحمك الله؟ قال: ما أنا بمخبركم، ثم قام من عندهم فلحقوا به ميلاً، وهم يركضون وراءه ويقولون: أخبرنا رحمك الله. فلما أبى رجعوا، وهم يقولون: ليته أخبرنا من هم. ]] ومن المعروف، أن كل الناس لا يحل لهم الكذب، وإنما أراد أن يمازحهم ويباسطهم في ذلك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 15 مزاح نعيمان ومن أكثر، بل لعله أكثر الصحابة اشتهاراً بالمزاح، رجل اسمه نعيمان وهذا له ذكر في صحيح البخاري، في كتاب الوكالة فيما أذكر، وكان يشرب الخمر، ففي صحيح البخاري {أنه جيء به في البيت شارباً، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فضرب، قال الراوي: فكنت فيمن ضربه} . وورد في موضع آخر {أن رجلاً جيء به قد شرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فقال رجل من الحضور: لعنه الله، ما أكثر ما يؤتى به! فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: لا تعن الشيطان على أخيك، وقال: إنه يحب الله ورسوله} ويحتمل أن تكون القصة وقعت لشخص واحد، ويحتمل أن تكون لشخصين والله تبارك وتعالى أعلم. المهم أن نعيمان هذا من أكثر المزاحين، {كان إذا وجد في السوق شيئاً يباع -عسلاً أو شيئاً طريفاً يباع- اشتراه، وقال للبائع: أذهب به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فيعطيه الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول: هذا لك هدية، وبعد قليل يأتي البائع إلى للرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه الثمن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: هذه إحدى هنات نعيمان، وكان هذا يحدث كثيراً فيقول النبي عليه الصلاة والسلام: ما حملك على هذا؟ يقول: يا رسول الله، رأيت شيئاً حسناً أحببته لك، ولم يكن معي ما أشتريه به} . ونعيمان وردت له قصص كثيرة، في صحتها نظر، لكن من أصح ما ورد: ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن أم سلمة رضي الله عنها، ورواه أيضاً الطيالسي وابن ماجة وغيرهم، بسند فيه رجل يقال له زمعة بن صالح، وزمعة بن صالح هذا فيه مقال، وإن كان مسلم خرج له في الصحيح، ولكن فيه ضعف يسير. والحديث له شاهد آخر عند الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح: {أن أبا بكر رضي الله عنه خرج في تجارة إلى الشام، إلى بصرى، قبل أن يموت النبي صلى الله عليه وسلم بنحو سنة. وكان معه نعيمان هذا، ومعه رجل اسمه سليط بن حرملة، وكان سليط بن حرملة هو المسئول عن التموين في تلك السفرة، فجاء إليه نعيمان يوماً، وقال له: أطعمني، فقال له: لا، حتى يأتي أبو بكر، فألح عليه فقال: لا، حتى يأتي أبو بكر، فقال: لأسوأنك، فمر قوم من العرب، فجاء إليهم نعيمان وقال: هاهنا عندي عبد فاره قوي جيد، أتريدون أن تشتروه مني؟ قالوا: نعم، قال: هاهو، ولكنه رجل لسن -لسانه طويل- فإذا شريتموه سيقول: أنا حر، أنا ابن عمه، أنا كذا أنا كذا، فإذا كنتم ستطلقونه فلا تفسدوا عليَّ عبدي، قالوا: لا، نحن نمسك به، فاشتروه منه بعشر قلائص -عشر نوق- فأخذها نعيمان. ثم جاء إلى سليط، فقال: هذا هو فأمسكوا به ووضعوا العمامة في عنقه وجروه، فقال: أنا حر، هذا يضحك عليكم، هذا يريد أن يسوءني، هذا ابن عمي، هذا كذا هذا كذا، قالوا: لا، قد أخبرنا أمرك. وذهبوا به، فلما جاء أبو بكر رضي الله عنه، أخبره بالخبر فلحق بهم وأطلقه ورد إليهم قلائصهم، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يضحكون من هذه القصة حولاً كاملاً وهم يضحكون من هذا الخبر} . ولـ نعيمان قصة مع مخرمة بن نوفل عجيبة جداً، ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وفيها: [[أن مخرمة بن نوفل كان رجلاً فقد بصره في آخر عمره -عمي وفقد بصره، أو ضعف بصره جداً- فكان في المسجد، فقام في يوم من الأيام ليقضي حاجته، فأمسك به نعيمان ودار به في المسجد، ثم أجلسه في ناحية منه، فلما قعد قام إليه الناس، وقالوا له: أنت في المسجد. فقال: من الذي جاء بي إلى هنا؟ قالوا: نعيمان، قال: لأفعلن به ولأفعلن -يهدده- فكان نعيمان يتهرب منه يوماً بعد يوم، حتى نسي مخرمة رضي الله عنه الخبر. فجاء إليه في يوم من الأيام وقال له: هل لك في نعيمان؟ -غيّر صوته- قال: أين هو؟ قال: هاهو في المسجد، قال دلني عليه بارك الله فيك. وكان هذا في عهد الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه، وكان عثمان بن عفان يتنفل في المسجد، فجاء حتى أوقفه على رأس عثمان، وقال له: هو هذا، فأمسك مخرمة بعصا كانت معه بيديه وضرب بها عثمان رضي الله عنه، فلما سلم عثمان التفت، فإذا هو مخرمة. فعرف أنه ضرب عثمان فقال: من دلني عليك؟ قالوا: نعيمان قال: لا جرم، لا تعرضت له بسوء أبداً]] . وهذه القصة -كما قلت- ذكرها الزبير بن بكار، وذكرها الحافظ ابن حجر في الإصابة، وأنا في شك منها، أظن أنها لا تصح عنه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأن فيها تجاوزاً ومخالفة، يبعد أن تصدر منه، وإن كان البشر قد يخطئون، لكن الذي يظهر لي أنه ليس لها سند يعتمد عليه ويوثق به. المهم أنه كان من أشهر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دعابة، وله قصص كثيرة جداً أُعرض عنها لطولها -كما ذكرت- ولأنه لا جدوى من الإطالة بها والاستطراد وراءها. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 16 التبادح بالبطيخ ولا شك أن الصالحين إذا ذكروا فحيهلاً بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أصلح الناس بعد الأنبياء، وكانوا يتمازحون، ولعل من عجيب وغريب تمازحهم، مما قد تستغربه النفوس ولا تألفه، ما رواه البخاري في كتاب الأدب المفرد، بسند صحيح رجاله ثقات: {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتبادحون بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال} . كانوا يتبادحون أي: يحذف بعضهم بعضاً بالبطيخ، فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 17 تذاكر أمور الجاهلية والحديث الآخر الذي رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، {أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتناشدون الأشعار، ويتذاكرون أمر الجاهلية، والنبي صلى الله عليه وسلم بينهم فيضحكون، وربما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم} . والحديث جاء في صحيح مسلم بلفظ قريب من هذا {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر في المسجد، فيذكرون أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم} وفي بعض الروايات {أن أحدهم كان يكون في ذلك، فإذا أريد أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه} فإذا أريد على دينه أي: ساومه أحد على دينه، أو رأى منكراً لا يرضي الله عز وجل؛ "دارت حماليق عينيه" أي: تحرك وغضب، وظهر أثر الغضب في وجهه. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 18 عائشة وسودة من مزاح أصحابه رضي الله عنهم: ما جاء عن عائشة وسودة رضي الله عنهما {أنهما كانتا في مجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صنعت عائشة طعاماً خزيرة، فقربتها، وقالت لـ سودة: كلي، فقالت: لا أشتهيه، فأمرتها بأن تأكل وإلا عاقبتها، فلم تأكل سودة؛ فأتت عائشة ومسحت وجهها، وكان عليها أثر الطعام، فأرادت سودة أن تقتص منها، فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ففعلت بـ عائشة مثل ما فعلت عائشة بها، والرسول صلى الله عليه وسلم يضحك} . وهذا الأثر رواه الزبير بن بكار في كتاب الفكاهة والمزاح قال الحافظ العراقي: وسنده جيد. وممن اشتهر بالمزاح: علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وأبو هريرة وأبي بن كعب، فإن كثيراً من هؤلاء كانوا مشهورين بالمزاح، وفي كتب الأدب والسير من ذلك شيء كثير يطول ذكره. وهناك كتيب اسمه المراح في المزاح، للغُزِّي، ذكر طرائف وأشياء من هذا القبيل، وبعضها مما أستغربه وأستبعده، وأظن أنه مفترى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأَبْعدُ أن يصدر منهم. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 19 أنواع المزاح أنتهي إلى النقطة الرابعة والأخيرة والمهمة وهي: قضية أنواع المزاح أو ضروب المزاح. والمزاح -أيها الأحباب-ضربان: الجزء: 201 ¦ الصفحة: 20 الإكثار من المزاح والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- فيكون شخصاً طبيعته المزاح، قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه. الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرداً، أي أنك تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيتاً أو مزرعة، أو -أحياناً- دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها. ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة، إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب، ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم. ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: من الكذب، والنميمة، والغيبة، والاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته، أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح ولابد. فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط. هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها. وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثيراً من الإخوة يفضلون -قدر المستطاع- أن يكون كل موضوع في درس؛ ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب. والإكثار من المزح يكون على ضربين: الضرب الأول: أن يكثر الشخص من المزح حتى يعرف به -كما أسلفت- يكون شخص طبيعته المزاح قائماً وقاعداً وذاهباً وآيباً، وفي كل مناسبة، وربما يمزح مزاحاً في غير أوانه، ويتسبب لنفسه ولغيره بأضرار عظيمة، فهذا مذموم يذم عليه صاحبه وينكر عليه. الضرب الثاني: مزاح يكثر منه جماعات من الناس، وإن لم يكن فرد، يعني تجد مجموعة يجتمعون على مزاح، وهذا -مع الأسف- كثير عند الشباب، يكون لبعضهم مثلاً خيمة أو بيت أو مزرعة أو أحياناً دورية يخرجون بين حين وآخر، وقد يسافرون إلى حج أو إلى عمرة أو غيرها، ولكن هؤلاء الشباب اجتمعوا على المزاح، فتجد أن بعضهم يضحك بعضاً، وربما يستلقي بعضهم على ظهره من كثرة المزاح، وليس هذا لمناسبة عارضة إنما هذا دأبهم وديدنهم الغالب. ولاشك أن في هذا مضيعة للوقت، ولو لم يكن فيه إلا أن وقتهم لم يكن في علم، ولا ذكر لكفى، فضلاً عما في ذلك من المفاسد الكثيرة التي يجر إليها المزاح، وقد يجر إلى الوقوع في الحرام: في الكذب، في النميمة، في الغيبة، في الاستهزاء بالله تعالى أو رسوله أو آياته أو العلماء أو الصالحين، إلى غير ذلك مما يؤدى إليه كثرة المزاح ولابد. فينبغي أن يقتصد الإنسان في المزاح، ويكون مع اقتصاده في المزاح متجنباً لما حرمه الله تبارك وتعالى من ذلك، ومنه النقاط الأربع، ما كان فيه هزل بالأمور الشرعية، وما كان فيه كذب، وما كان فيه أذية لأحد من الخلق، وما تعدى حده حتى وصل إلى حد الإفراط. هذه هي أصناف المزاح التي ينبغي للإنسان أن يتجنبها. وقد حرصت على الإيجاز والاختصار حتى ننهي هذا الموضوع، لأن كثير من الإخوة يفضلون قدر المستطاع أن يكون كل موضوع في درس ليكون سهل التناول والتداول بين الشباب. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 21 المزاح المذموم ما الضرب الثاني فهو: المزاح المذموم، أكثر مزاح الناس عبر العصور، يدخل في باب المزاح المذموم. والمزاح المذموم أنواع: منها: ما كان فيه هزل بشيء من ذكر الله تعالى، أو القرآن والحديث، أو العلم والعلماء، أو الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، وقد ذم الله تعالى من فعل ذلك وهزل به، بل كفرهم، قال الله عز وجل: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] . ولهذا قال أهل العلم: من هزل بشيء فيه ذكر الله تعالى أو الرسول أو القرآن فهو كافر، ولا فرق في ذلك بين الخائف والجاد والهازل إلا المكره. وقد جاء عند الطبري في تفسيره، وابن أبي حاتم في تفسيره بسند حسن عن ابن عمر رضي الله عنه {أن قوماً كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقالوا يسخرون من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية. قال ابن عمر: فلقد رأيت أحدهم متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه قالوا: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب، فلا يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يقول لهم: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65-66] } . فالمزاح والهزل بشيء فيه ذكر الله تعالى، أو الرسول أو القرآن أو العلم أو العلماء، هذا مما يجب أن يتقيه الإنسان. وما أكثر ما يتساهل فيه، ولو فتحت أي كتاب من كتب الأدب كتاب البيان والتبيين، أو رسائل الجاحظ أو بلوغ الأعراب، وكتب المحاضرات إلى غير ذلك؛ لوجدت كثيراً منها مليئة بالقصص والطرائف والأخبار والنوادر، التي تتندر بالأنبياء أو بالمرسلين أو بالقرآن، -ومع الأسف- أن بعض الناس قد يقرؤها ثم ينقلها ويرويها، دون أن يتفطن إلى تحريم ما فيها، فينبغي أن تكونوا حذرين -أيها الإخوة- من حكاية أي نكتة أو قصة أو طرفة، أو المزاح بشيء فيه ذكر الله تعالى أو الرسول أو القرآن. ولذلك كان أهل العلم والخلفاء وغيرهم، أشد الناس في هذه الأمور، كان عند أحد الخلفاء إنسان يمازح ويسمى نديم، يدخل السرور عليه، ويسمى مضحك أو حاكي، فكان يضحك الخليفة، ولكن كان الخلفاء -مع ذلك- إذا تعدى هذا المضحك حدوده أوقفوه بشدة، كما يروى أن هارون الرشيد كان يقرأ شيئاً من القرآن، من سورة "يس"، أظن أنها قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22] أو نحو ذلك. المهم قام المضحك وقال له: لا أدرى لماذا تفعل هذا؟ (أو نحو ذلك) ! فهو جاء بنكتة بمناسبة الآية، فغضب الرشيد وهدده وتوعده إن كرر مثل ذلك بأن يسوءه، ويلحق به الذل والمهانة، فكان الخلفاء ومن دونهم من العلماء وغيرهم، يمنعون الناس من أن يهزلوا بشيء يتعلق بالدين والوحي والشرع، فينبغي أن تصان هذه الأشياء. وبعض الصحفيين -أحياناً- ينقلون مثل هذه الأشياء، أو يقولونها من عند أنفسهم، ويقولون: موجودة في كتب الأدب. وهل كتب الأدب حجة؟!! وقد أعطاني بعض الشباب -ولعل هذا يكون مجال للحديث عنه في الدرس المخصص للنكت والطرائف كما ذكرت لكم كتاب نوادر جحا، يباع في الأسواق في مجلد يمكن أن يشتريه الواحد بأربعين ريال، أو ثلاثين ريالاً!! فإذا فيه من ذلك شيء كثير، لا يجوز أن يقال، ولا ينبغي أن يوجد في مكتبات المسلمين وبيوتهم وأسواقهم. ولذلك جاء عن ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ويل للرجل يكذب ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له} والحديث رواه الترمذي وسنده حسن، فتوعد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الإنسان الذي يكذب ليضحك القوم بشيء من الدين والشرع بالويل. النوع الثاني: ما كان فيه أذية لأحد من الناس. وفي أنواع الهزل المذموم: ما كان من الهزل فيه أذية لأحد من الناس. ولذلك يقول خالد بن صفوان رحمه الله عاتباً على طريقة بعض الناس في المزاح: يصك أحدكم أخاه بشيء كالجندل -أي كالصخور الصلبة- وينشقه أحرق من الخردل- والخردل نبات لبذره طعم حار- ويفرغ عليه أحر من المرجل -أي الماء المغلي المطبوخ-. ثم يقول: كنت أمازحك! وهذا واقع كثير من الناس، فهو يصك أخاه بأشد من الجندل، وينشقه في أنفه أحرق من الخردل، ويصب عليه أحر من المرجل ويقول: أنا أمزح. فيأتي بكلمة حارة قاسية، أو يأتي بنكتة ثقيلة، أو يأتي بمزحة في غير محلها، فبعض الناس قد يضع صاحبه في موقف حرج، فقد يكون الرجل في مناسبة زواج، فيتفق مجموعة من زملائه على أن يفعلوا له -كما يسمونه هم- مقلباً يسبب له الإحراج في تلك الليلة، وقد يترتب عليه أضرار، حتى أني أذكر مجموعة من الشباب استطاعوا أن يخرجوا شاباً من عند عروسه في ليلة العرس بحجة من الحجج الواهية، ثم يتوعدهم هذا الشاب بأنه سوف ينتقم منهم ويقتص منهم، وبعد فترة يخطط ليوقع بهم مثل ما أوقعوه فيه. وقد يأتي إنسان لصاحبه، وهو يريد أن يسافر، وقد يكون حاجزاً علي طائرة أو ما شابه ذلك، مستعجلاً، فيجعل له موقفاً معيناً على سبيل الممازحة، يكون سبباً في تأخره، وقد يكون -كما ذكرت- موقف حرج، أعصابه مشدودة، ويقولون: على سبيل المزاح! وقد يكون الإنسان يريد أن يغتسل، أو يتوضأ في يوم شديد البرد، فيوقعونه في حرج عظيم، وربما يترتب على بعض هذا المزاح -أحياناً- موت كما حدث فعلاً، أو ضرر عظيم للإنسان، أو تلف لبعض أجزاء بدنه، أو تأثر في نفسه، أو رعب يصيبه، وأقل ما يمكن أن يحدث فزع يكون سبباً في القطيعة بين هؤلاء الإخوان. ولذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الإنسان نعل أخيه جاداً ولا هازلاً فقال: {لا يأخذن أحدكم} لأنه عندما لا يجد نعله، قد لا يتصور أن هناك أحد يمزح معه؛ فيصاب بخوف إذا فقد نعله ويحزنه ذلك، فما بالك بما يفعله كثير من الشباب من أنواع المزاح الثقيل؟! الذي لا يمكن أن يتقبله شخص عاقل بحجة أنه مزاح، وهو مزاح ولكنه كالمزاح الذي تحدث عنه خالد بن صفوان رحمه الله. وهذه الأنواع من المزاح محرمة بلا شك، بل قد يترتب عليها من الأضرار أضعاف ما ذكرت. النوع الثالث من المزاح المذموم: ما كان فيه كذب، كما سبق: {ويل للذي يكذب، ليضحك القوم، ويل له، ويل له، ويل له} وقد ذكرت أنه رواه الطبراني والصحيح أنه رواه الترمذي بسند حسن، فالكذب في المزاح لا يجوز. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث السابق: {نعم، غير أني لا أقول إلا حقاً} . ويلاحظ أن بعض الشباب في اجتماعاتهم وجلساتهم، كل مجموعة من الشباب يكون لهم -أحياناً- شاب يعتبرونه نجماً للمزاح والدعابة، وهذا الإنسان هو المضحك، لا يمكن أن يسافروا أو يذهبوا إلا ويكون بينهم؛ لأنه يلقي بالمزاح والنكت والدعابة فيهم باستمرار، ويجعل لهم أشياء من هذا القبيل، وهذا الإنسان يجره الموضوع إلى ارتكاب ما حرم الله، والوقوع في الكذب والاختلاق، وهذا -لا شك- أنه محرم، ولا يجوز كما سيأتي مزيد من البسط لذلك. النوع الرابع من المزاح المذموم المحرم: وهو ما كان فيه إكثار يتعدى حد الاعتدال إلى حد التفريط. والإكثار من المزاح، حتى يعرف به إنسان ويصبح علامة عليه -مذموم كما سبق وأشرت إلى شيء من ذلك- ويؤثر في شخصية الإنسان؛ فيصبح إنساناً هازلاً، ولا شك أن الإسلام ليس بحاجة إلى الهازلين واللاعبين والمضحكين، إنما هو بحاجة إلى الرجال الجادين الصادقين، الذين تعلموا الجد في طلب العلم، وفي الدعوة، وفي الجهاد، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يمنع أن يمزح الإنسان -أحياناً- للتسلية، أو لغير ذلك من الأغراض السابقة، أما كون الإنسان همه الإضحاك فهذا لا ينفع في دنيا ولا في دين. ولذلك لا ينبغي أن يكثر الإنسان من المزاح حتى يُضحَك به، ويروى - أن امرأة كانت تمزح بمكة، -كانت مزاحة- فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، جاءت هذه المرأة إلى المدينة، ثم جاءت إلى عائشة رضي الله عنها، فرآها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: على من نزلت؟ فقالوا: على فلانة، فذكروا امرأة في المدينة مزاحة معروفة بالمزاح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف} . والحديث رواه أحمد في مسنده، وأصله -كما هو معروف- في الصحيحين. وعلى هذا النوع من المزاح يحمل حديث: {لا تمار أخاك ولا تمازحه، ولا تعده عدة فتخلف} مع أن الحديث ضعيف، والحديث رواه الترمذي عن ابن عباس، وسنده ضعيف؛ فلا يحتج به. وفي المثل يقولون: من كثر مزاحه زالت هيبته، ومن كثر خلافه طابت غيبته. فإن الإنسان إذا كثر مزاحه لم يهبه أحد، وإذا كثر خلافه وجدله ومماراته؛ استحسن الناس غيبته وفرحوا بفقده. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 22 المزاح المحمود وهذا المزاح المحمود هو ما كان على سبيل الاعتدال، لا يشوبه شائبة مما كره الله عز وجل أو حرم، ولا يكثر فيكون دليلاً على خفة عقل صاحبه أو حمقه، أو يكون سبباً لإهانته ومهانته وذلته وزوال هيبته، أو يكون حطاً من قدره، بل ويكون على سبيل الاعتدال، كما قال أبو الفتح البستي رحمه الله، وهو الشاعر الناظم الحكيم المعروف، صاحب القصيدة النونية المشهورة في الحكم والأمثال، قصيدة "عنوان الحكم" يقول أبو الفتح البستي في بعض شعره: أفد طبعك المكدود بالجد راحة يجم وعلله بشيء من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما يعطى الطعام من الملح أفد طبعك المكدود بالجد راحة يعني إذا كثر عليك الجد فحاول أن تغير بشيء من المزاح؛ يجم: أي: تعود إليه قوته ونشاطه، وعلله بشي من المزح، "ولكن إذا أعطيته المزاح فليكن بمقدار ما يعطي الطعام من الملح": فإن الملح إذا زاد ضر -كما هو معروف- وكان سبباً في فساد الطعام. ومن المزاح المحمود المعتدل المزاح مع النظراء والإخوان بقصد التسلية وإزالة الهم عنهم، وإدخال السرور عليهم، كالتبسم إليهم والمباسطة والملاينة، وغير ذلك من الشيء الحسن، كما سبق من ضروب ذلك، وقد كان بعض الصالحين يكون كما كان إبراهيم بن أدهم وغيره، مع أصحابهم يمازحهم ويباسطهم ويلاينهم، فإذا جاء رجل غريب أعرض وانقبض وقال: هذا جاسوس، ثم ترك معه المزاح؛ وذلك لأن المزاح مع من لا تعرف قد يكون سبباً في المهانة؛ لأنه ربما يظن أن هذا دليلاً على خفة العقل أو الطيش أو قلة الفهم وهو كذلك. فلا ينبغي للإنسان أن ينطلق بالمزاح إلا مع من يعرف، أما من لا يعرف، فينبغي أن يبتسم في وجهه ويلين له القول، لكن لا يتسرع بشيء من المزاح لأنه يكون دليلاً على خفة عقله وقلة فهمه ونبله. ومن ذلك أيضاً المزاح مع الأهل والزوجة {فالرسول عليه الصلاة والسلام سابق عائشة فسبقته في المرة الأولى، فلما كثر وثقل بها اللحم سبقها، فقال عليه الصلاة والسلام هذه بتلك} وقصته في ذلك معروفة. ومنه: حديث أم زرع، وهو في صحيح البخاري، وهو حديث طويل، ومع ذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً على كثرة مشاغله، وعائشة رضي الله عنها تقص له قصة حديث أبي زرع، وهو حديث طويل وفيه طرائف، وعبر وعجائب، وأنصحكم بأن تعودوا إليه وتقرءوه، وفيه من غريب الألفاظ وجميلها وبليغها مالا ينقضي منه العجب. وأصل الحديث: {اجتمعت إحدى عشرة امرأة في الجاهلية، فتعاقدن وتعاهدن على ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، فقالت الأولى: زوجي العشنق إن أسكت أعلق، وإن أنطق أطلق، وقالت الثانية: زوجي مالك. وما مالك؟ له إبل قليلات المسارح كثيرات المبارك، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك} وقالت الثالثة، والرابعة -كل واحدة تذكر عن زوجها الزين والشين، وهو حديث عجيب-. والشاهد أن عائشة قالت في آخره: قالت الحادية عشر أم زرع تقول: زوجي أبو زرع، وما أبو زرع؟ فذكرت أبا زرع وصفاته، ثم قالت: {أم أبي زرع، وما أم أبي زرع؟ -وذكرت صفات أمه-. ثم قالت: ابن أبى زرع مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة. ثم قالت: ابنة أبي زرع ما ابنة أبي زرع؟ غيظ جارتها، وطوع أبيها وأمها المهم، قالت أم زرع: إن أبا زرع خرج من بيتها، فوجد امرأة جميلة، فنكحها وطلق هذه، قالت: فتزوجني رجل آخر فأناخ علي من النعم والإبل وكذا وكذا، وقال لي: كلي أم زرع وميري أهلك -كلى وأرسلي لأهلك- قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه ما بلغ أصغر إناء من آنية أبي زرع -لأن الحب للحبيب الأول-. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عائشة أنا لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} هذا الحديث جاء في صحيح البخاري، وجاء في رواية: {أنه طلق وأنا لا أطلق} . من مباسطة الرسول -عليه الصلاة والسلام- أيضاً لأصحابه قصته المعروفة مع عائشة حين قامت على كتفه تنظر إلى الحبشة في يوم العيد، وهم يلعبون في المسجد حتى سئمت ثم انصرفت رضي الله عنها. وكذلك كما في الصحيحين: {لما علم النبي صلى الله عليه وسلم أن جابراً تزوج فقال له: بكراً أم ثيباً؟ قال: يا رسول الله بل ثيب قال: هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك} . وفي رواية لـ مسلم قال: {أين أنت من الجارية ولعابها} ولعابها أي: ملاعبتك لها، وذلك لأنه يكون بين الزوجين من المباسطة والملاعبة ما بيَّن الله تعالى في كتابه حيث قال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] . وقد كانت عائشة رضي الله عنها تلعب بالبنات، كما في الصحيحين، وكان معها صواحب لها، فإذا جاء النبي صلى الله عليه وسلم يتقمعن -أي: يستحين من الرسول عليه الصلاة والسلام- وتخرج عائشة قالت: {فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسربهن إليها} أي: يجعلهن يذهبن إليها رضي الله عنها- فلا بأس أن يكون للإنسان وقت يباسط فيه أهله، ويطيب خواطرهم، ويلاينهم ويمازحهم. ولكن -وتفطنوا لما بعد لكن- كم هو مؤسف أن يكون الكثير منا ربما يقوم بهذا الواجب خير قيام، لكن لو نظرنا إلى الواجب الآخر، الذي سبق التنويه إليه في غير مناسبة، وهو تعليم الأهل وتفهيمهم، وأمرهم ونهيهم، وترغيبهم فيما عند الله، وحثهم على الخير؛ لوجدت الكثيرين مقصرين في هذا الأمر، وهذا خطأ، بل ينبغي أن يكون الإنسان قائماً بواجبه بقدر ما يستطيع هنا وهناك. ومن المزاح المحمود أيضاً المزاح مع الأولاد، ومن قصص النبي صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين وغيرهما من ذلك الشيء الكثير، مما لا أريد أن أذكره؛ وذلك لأنني سوف أخصص -إن شاء الله- درساً عن الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأطفال، بعنوان: (أطفال في حجر رسول) فأدع الحديث عن هذا لتلك المناسبة إن شاء الله. ومن ذلك: ممازحة الإنسان في الأمور التي ليس فيما إثم ولا ضرر، ولا إفراط ولا غلو، ولا زيادة، فهذا مزاح محمود كما سلف. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 201 ¦ الصفحة: 24 السيئة في الحرم السؤال هل السيئة في الحرم تضاعف أم لا؟ الجواب السيئة في الحرم لا تضاعف، فإن الله تعالى من عدله أنه لا يضاعف السيئة بل السيئة بمثلها، لكن السيئة في الحرم أعظم من حيث كيفيتها من السيئة في غير الحرم، وإلا فهي لا تضاعف، بل هي سيئة واحدة، لكنها أعظم من السيئة في غير الحرم. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 25 المزاح بالصدق السؤال تدل الأحاديث الصحيحة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمزح ولا يقول إلا حقاً أو صدقاً. فما رأيك في قوله لـ زاهر الأسلمي: من يشتري العبد؟ الجواب زاهر الأسلمي كان عبداً لله عز وجل كما سبق. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 26 التشميت بعد الثلاث السؤال عن أبي هريرة {شمت أخاك ثلاثاً، فإن زاد فهو زكام} رواه أبو داود فقال: لا أعلمه إلا رفعه. وعن سلمة قال صلى الله عليه وسلم: {يشمت العاطس ثلاثاً، فما زاد فهو مزكوم} هل معنى أنه لا يشرع للإنسان أن يشمت أخاه العاطس أكثر من ثلاث؟ الجواب هذا الأظهر، أنه إذا كان فيه زكام. ويكثر من العطاس، فيشمته المرة الأولى والثانية والثالثة، ثم بعد ذلك يدعو له بالعافية، كأن يقول له: عافاك الله وما أشبه ذلك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 27 حديث أم سلمة السؤال يسأل عن حديث أم سلمة {علمني الرسول صلى الله عليه وسلم: اللهم إن هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك، وحضور صلواتك، أسألك أن تغفر لي} وقال الترمذي: هذا حديث غريب إنما نعرفه من هذا الوجه، وحفصة بنت كثير لا نعرفها ولا أباها، والحديث رواه أبو داود عن أم سلمة؟ الجواب الحديث ضعيف كما هو معروف، وقد أشار الترمذي لضعفه -أيضاً- في قوله: حديث غريب. فإنه يطلق غريب على الحديث الضعيف. هذا وأسأل الله جل وعلا أن يجعل خير أعمارنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن يتوفانا وهو راض عنا. اللهم اغفر لنا سرنا وعلانيتنا، ظاهر أعمالنا وبواطنها، ما علم الناس وما لم يعلموا، إنك على كل شئ قدير، اللهم صلِّ على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته والحمد لله رب العالمين. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 28 لعب الأطفال السؤال تسأل الأخت أيضاً عن لُعب الأطفال؟ الجواب لعب الأطفال أنواع، فإذا كانت هذه اللعب من التماثيل الواضحة الصارخة الموجودة الآن، فالأظهر منعها وتحريمها، أما إن كانت لعب بسيطة، ليس فيها شكل محدد ولا علامات واضحة ولا تقاسيم بارزة. بل هي أشبه باللعبة الساذجة، مثلما كانت عائشة رضي الله عنها عندها لعبة، ومثلما كان موجوداً في السابق، كانت البنت تأتي بالساجة، ثم تعصب رأسها وتضع ساجة عرضية أخرى كيدين، وتعتبرها بنتاً لها مثلاً أو ما أشبه ذلك، فهذا وما أشبهه من اللعب التي تكون فيها سذاجة لا حرج فيها. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 29 وقت صلاة الضحى السؤال متى وقت صلاة الضحى؟ الجواب يبدأ بارتفاع الشمس قدر رمح، بعد طلوع الشمس بعشر دقائق أو ربع ساعة، وينتهي بالزوال. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 30 أوراق المسابقة السؤال ما حكم اللعب في هذه الورقة الجديدة التي توجد في المكتبات، وفيها أسئلة دينية وثقافية، وأسئلة عن المعارك التي خاضها المسلمون، وأفعال الصحابة وقصصهم؟ الجواب هي ليست لعبة، بل مسابقة فيها أسئلة، والذي أعرف أنه ليس فيها إلا مجرد أسئلة وأجوبة فقط، أي: اختبر ذكاءك ومعلوماتك، اسأل نفسك وأجب ثم تجد الجواب في صفحة أخرى، فلا حرج فيها. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 31 زكاة ما شري بالذهب السؤال عندي ذهب وأزكي عليه كل سنة -والحمد لله- لكني فكرت أن أبيعه وأشتري بثمنه قطعة أرض، تكون لي وقت الحاجة أنا وأولادي وإخوتي وأخواتي، ولن أبيعها أو أتاجر بها مهما كان الثمن، إلا إذا لحق بي دين، فهل أزكي عليها؟ الجواب إذا اشتريت الأرض، ونويت أنها للقنية والسكنة، فلا زكاة فيها. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 32 تقليد أصوات العلماء السؤال من باب الحب في الله لمشايخنا -وفقهم الله- تقلد أصواتهم عند الإلقاء أو الإفتاء. فما حكم ذلك وفقكم الله؟ الجواب لا أرى في الواقع تقليد أصوات العلماء وغير ذلك. إلا إن كان هذا أمراً طبيعياً، لأن بعض الشباب تقمصه لشخصية شيخه تجده لا شعورياً، يقلده في حركته، وفي صوته، وفي حركات يديه، وفي مشيه من غير قصد الإيذاء له، وإنما بشكل طبيعي عفوي. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 33 رد السلام من قبل المصلي السؤال هل ترد السلام على من سلم، وأنت تصلي؟ الجواب لا، لا ترد عليه بالكلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم عليه ابن مسعود كما في صحيح مسلم قال: {إن في الصلاة لشغلاً} وإنما تشير بيدك هكذا بأصابعك لرد السلام، فإذا سلم وأنت تصلي فتشير بيدك هكذا بنية رد السلام عليه. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 34 المزاح بالكذب والاستهزاء السؤال كثير من الشباب يسألون عن واقع بعض الشباب من كثرة المزاح، والتعليق على شخص معين، وأن بعضهم يصل به المزاح إلى الكذب، وبعضهم يصل به إلى الاستهزاء بشيء؟ الجواب هذا كله أشرت إلى أنه محرم، وأنه يجب تجنبه. وأقول: أنه إذا كان هناك مجموعة من الشباب التقوا على مثل هذا المزاح، ولم يستطيعوا أن يتخلصوا منه، فينبغي أن يفض هذا الاجتماع الذي هو اجتماع على غير طاعة الله تعالى، ويبحث كل واحد منهم عن قوم يعينونه على طاعة الله ويقتصدون في المزاح. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 35 مزاح مدرس على حساب الدين السؤال ما نصيحتك لمدرس يمزح في الفصل عند الطلاب على حساب الدين، مثل ذكره لبعض الفنانات في داخل الفصل وغير ذلك، خاصة أن الطلاب في فترة المراهقة والعياذ بالله؟ الجواب هذا مفسدة ولا يجوز له ذلك، وقد جمع مفاسد عديدة منها: عدم رعاية الأمانة بالنسبة للطلاب، فهم أمانة بين يديه، ومنها: تربية الطلاب على ما حرم الله عز وجل، فضلاً عن أنه أسقط هيبته بهذا المزاح الممقوت المذموم، فعليه أن يتق الله تعالى ويخافه، وأن يربي الطلاب على محاكاة الطيبين والصالحين، فيكثر من سرد قصص الأنبياء، وقصص الصحابة والشهداء والعلماء والعظماء، حتى يتربى عليها الطلاب، فضلاً عن أن مثل هؤلاء الشباب في مثل فترة المراهقة، ينبغي تجنب الأشياء التي تثيرهم، حتى ولو كانت مباحة فضلاً عن أن تكون محرمة. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 36 مزاح الصحابة في المسجد السؤال ذكرت مزاح الصحابة رضوان الله عليهم في المسجد بعد صلاة الفجر، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، هل يجوز مثل هذا في المسجد؟ وما صحة حديث {المساجد لما بنيت له} ؟ الجواب نعم {المساجد لما بنيت له} حديث صحيح، والمزاح في المسجد، لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يقصدون أن يجتمعوا للمزاح، كانوا يجلسون في المسجد بعد صلاة الفجر يذكرون الله تعالى. ولكن قد يمزحون، ويذكرون أمور الجاهلية من باب التحدث بنعمة الله تعالى عليهم الذي منَّ عليهم بالهداية بعد الضلال، فيذكرون هذه الأشياء ويضحكون، ويتبسم الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 37 الكلام في الجماع السؤال هل يدخل الكلام في الجماع، في المزاح الغير مباح، إذا كان من غير تشبيب بأحد، أطال الله عمرنا وإياكم، مع حسن العمل وحسن الخاتمة؟ الجواب مع الأسف الشديد أن كثيراً من الناس يكثرون من الكلام في الجماع، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ووصف من يتكلم عن حاله مع أهله بمثل شيطان لقي شيطانة، فتسافدا في قارعة الطريق، فلا ينبغي للرجال أن يفعلوا، ولا ينبغي للنساء أن يفعلن؛ أن يتحدث الرجل عما يفعل مع أهله، أو تتحدث المرأة عما تفعل مع زوجها. وكذلك الكلام في مثل هذه القصص والإطناب بها لا ينبغي الاسترسال فيه، وخاصة إذا كان هناك شباب غير متزوجين، فإن هذا يضرهم ويسوؤهم، وقد يكون سبباً في ارتكاب بعضهم للمعاصي، وتكون أنت سبباً في ذلك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 38 شرح الأربعين النووية السؤال هذا يقترح شرح الأربعين النووية ضمن هذا الدرس. الجواب سترٍد جلسات -إن شاء الله- نخصصها لبعض الأحاديث النبوية على سبيل العموم. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 39 مزاح الداعية مع المدعو السؤال إذا أراد الداعية أن يبتدأ بدعوة أناس جدد، فإنه يجعل الغالب على طبعه الهزل والفكاهة وعدم الجدية. فهلا صوبت هذا الفعل يرحمك الله؟ إن كان حقاً فمزيداً من التوجيه، وإن كان خطأً فتعليماً للصواب؟ الجواب ينبغي القصد والاعتدال، لا بأس بالمزاح في حينه، ولمناسبة معينة والتدرج في ذلك، لكن إذا زاد، فإن هذا الشاب الجديد -الذي تريد أن تدعوه- يتعلم المزاح، وقد رأينا وجربنا أن بعض الشباب -وإن كانوا موغلين ومغرقين في الفساد والرذيلة-. وإذا وجدوا ومن يجرهم بقوة إلى الخير فإنهم ينجرون، فكما أن المزاح والتلطف من أسباب الدعوة، كذلك الجد الصارم -أحياناً- من أسباب الدعوة، وعلى الإنسان أن يعتدل ويقتصد في ذلك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 40 قصة نعيمان والشعبي السؤال في بعض ما سقت من القصص في المزاح الكذب، من ذلك قصة نعيمان مع صاحب الطعام في قوله: إنه عبد. وكذلك قصة الشعبي عندما قال له: أيكما الشعبي قال هذا؟ الجواب بالنسبة لقصة نعيمان -إذا صحت- القصة رواها الإمام أحمد كما ذكرت، وغيره كـ الطيالسي وابن ماجة بسند فيه زمعة بن صالح -كما أسلفت- ولكن لها طريق أخرى ذكرها ابن حجر في الإصابة عن كتاب الفكاهة والمزاح للزبير بن بكار، فإن كانت الطريقة الأخرى مستقلة؛ فبها يكون الحديث حسناً إن كانت حسنة أو ضعيفة ضعفاً منجبراً. فإذا ثبتت فإن نعيمان لا يحتج بفعله، وقد ورد أن نعيمان رضي الله عنه، وقعت منه أخطاء، وعاقبه النبي صلى الله عليه وسلم عليها فلا يحتج بهذا الفعل، مع أن قوله إنه عبد، في حد ذاته ليس كذباً، فهو عبد لله تعالى، لكن لا يحتج على كل حال بفعله. أما الشعبي، فإنما قصد توبيخ هذا الرجل على هذا السؤال الذي هو في غير محله، لأن قوله: أيكما الشعبي؟ لا معنى له. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 41 المزاح مع غير المسلمين ومع قاطع الصلاة السؤال ما رأيكم في المزاح مع من علمت بأنه لا يؤدي الصلاة، وكذلك الأجانب من غير المسلمين بقصد الدعوة؟ الجواب الإنسان الذي لا يؤدي الصلاة مطلقاً، أي أنه مجانب للصلاة بالكلية هذا فعله كفر مخرج من الملة؛ ولذلك لا ينبغي للإنسان أن يمازحه، بل ينبغي أن يدعوه إلى الله تبارك وتعالى بالتي هي أحسن، فإن أصر فإنه ينبغي الرفع به وهجره. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 42 المزاح بالتنابز بالألقاب السؤال هل لي أن أمزح مع بعض الإخوان بتذكيره باسم يقال له، أو يكنى به كالتنابز بالألقاب -مثلاً- أو صفة يتصف بها، لكنه لا يرضاها؟ الجواب إن كان لا يرضاها فلا ينبغي أن تذكره بذلك. أما احتجاج الأخ بقصة عمر بن عبد العزيز: حميد الذي أمج داره، فقد ذكرت أن عمر بن عبد العزيز ربما قصد التعليم وال نصيحة في ذلك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 43 نصيحة السؤال قبل أن يفتح الله على قلبي كنت شاباً مرحاً معروفاً باللعب وخاصة في المراكز، والآن وبعد هذه النعمة -والحمد لله- أريد أن أغير من حالتي تلك، فبماذا تنصحني؟ أريد أن أفارق هذه العادة المذكورة. الجواب أنصحك بالإقبال على الجد، والقيام بالأعمال التي تغير تصور الناس عنك، فحاول أن تقوم بإعداد البحوث والأعمال الطيبة الصالحة، والأشياء المفيدة والنصيحة والدروس وطلب العلم وغير ذلك؛ حتى يغير الناس التصور الذي حملوه عنك. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 44 تنقية السنة السؤال هذا يتكلم عما تفعله جريدة المسلمون، التي تعقد الآن ندوة حول تنقية السنة من الأحاديث الصحيحة؟ الجواب الحقيقة أن في هذه الندوة كلاماً مزعجاً جداً، ومؤذياً لمشاعرنا نحن المسلمين، أن تصبح السنة النبوية مجالاً لتلاعب الناس واستخفافهم، ومجالاً لكسب المال الحرام عن طريق الإثارة في أمور واضحة وصريحة، وأقول: مؤسف لكل مسلم أن يحدث هذا. ولذلك أطالب الإخوة من الشباب وغيرهم بمقاطعة هذه الجريدة أولاً، حتى وإن تكلمت عن قضايا، لأنهم يريدون أن يشتريها الناس فصاروا يتكلمون عن الأحاديث الصحيحة، وضرورة تنقية السنة من الأحاديث الصحيحة، والأحاديث الصحيحة تعيق التقدم، وكلام فارغ. فينبغي أن نقاطع هذه الجريدة، والإخوة الذين اشتروها، أقول: عليكم واجب أن يكتب كل واحد منكم رسالة للجريدة يعاتبها على إيذائها لمشاعر المسلمين بمثل هذا الأسلوب، وإذا لم يفعل على أقل تقدير فيتصل هاتفياً، ويقول: إذا أردتم الإثارة فبغير هذا الأسلوب، ولا تجعلوا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مجالاً للأخذ والرد؛ لأن الجريدة يقرؤها العوام. ولو كانت الجريدة لا يقرؤها إلا طالب العلم لهان الخطب، لكن يقرؤها العوام، فالعامي الآن إذا عرف أن هناك أحاديث ضعيفةً -أحياناً- يبدأ يشك، فيكف إذا عرف أن هناك أحاديث صحيحة وليست صحيحة!! ما هذا الكلام؟! بالتالي أصبح العامي لا يثق بشيء. وقد سمعت أحدهم يقول -قبل أسبوع-: الله أعلم بعد فترة يبدءون يشككون في القرآن الكريم. وأنا أقول: إذا دامت الأمور على هذا فالخطب عظيم، فينبغي أن نقوم بواجبنا في هذا الأمر. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 45 المزاح مع المتنفل السؤال رجل يدخل المسجد ومعه أصحابه، فيقول لرجل يتنفل: إنك صليت ركعة واحدة وهو صلى ركعتين، ولكنه يريد أن يأتي بثالثة ليضحك معه. هل يعتبر هذا من المزاح؟ الجواب لا شك أن هذا محرم؛ لأنه مزاح يتعلق بأمور العبادة كما ذكرت. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 46 لقد بلغت من الكبر عتيا ً السؤال هل يجوز أن أقول: لقد بلغت يا فلان من الكبر عتياً؟ الجواب إذا كان الأمر صحيحاً، فلا حرج في ذلك، لا على سبيل الضحك بنصوص القرآن. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 47 التركيز على شخص معين في المزاح السؤال بعض الشباب يركزون في المزاح على شخص معين في طرح النكت؟ الجواب إذا زاد هذا فهو خطأ؛ لأنه يسيء إلى هذا الشاب، ويحوله إلى شخص هازل، فيقع في الإكثار من المزاح كما سبق. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 48 المزاح مع الطفل السؤال المزاح مع الأطفال لابد منه. فبماذا تنصح في طريقة المزاح؟ الجواب الطفل يمازحه الأب، أو الأخ بما يناسبه. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 49 المزاح بالسب والضرب السؤال المزاح في السب وبالضرب هل هو جائز؟ وأنا أراه أنه المزاح الذي هو سبب العداوة؟ الجواب لا شك أن المزاح بالسب لا يجوز، السب محرم بجدٍ أو هزل. أما المزاح بالضرب، فإن كان ضرباً يسيراً لا يضر ولا يؤذي فلا حرج، أما إذا تعدى وزاد فلا ينبغي. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 50 الضحك في المسجد السؤال ما حكم الضحك إذا كان في المسجد، خاصة إذا كان في أمر الدنيا، وقد ورد في الحديث تحذير من ذلك، وورد أن الصحابة يتكلمون في المساجد في أمر الجاهلية ثم يضحكون؟ الجواب إذا كان الإنسان في المسجد وجاءت مناسبة، كأن تكون في درس علم أو جلسة أو ما أشبه ذلك، فصار هناك ما يدعو إلى التبسم، فتبسم أو ضحك فلا حرج في ذلك، أما أن يتخذ المسجد مهرجاناً يجتمع الناس فيه ليتضاحكوا، فلا شك أن المساجد لم تبن لهذا، إنما بنيت المساجد لما بنيت له. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 51 المطارحة السؤال هل المطارحة من المزاح؟ ونريد أن ترشدنا إلى شروط نفعلها في المزاح؟ الجواب المطارحة تعني المصارعة -كون أحدهما يطرح الآخر- هي من المزاح، لكن ينبغي للشباب أن يتفطنوا إلى شروط هذه المطارحة، فإن بعض الشباب يتطارحون، فيدخل الشيطان فيوقع بينهم، خاصةً إذا كانوا شباباً صغار الأسنان، وخاصة إذا كان فيهم وسامة وجمال. فإنني أحذرهم من كل هذه الأنواع من المزاح، وينبغي أن يتحفظوا، ويتفطنوا إلى أن الشيطان يكون حاضراً في مثل هذه المناسبات، وقد وقفت بنفسي على أشياء من هذا القبيل كثيرة. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 52 طلب نصيحة السؤال نحن شباب كثيراً ما نجلس سوياً، واعتدت أنا على المزاح معهم بكثرة، ولكني الآن أريد أن أغير من وضعي، فماذا أفعل؟ الجواب أرى أن تغير الصورة التي أخذها عنك هؤلاء الشباب، وذلك بأن تحرص على أن تكون سباقاً إلى الخيرات، فتقدم لهم الدروس، وتكثر من الجد في حياتك، وأكثر من قراءة القرآن الكريم وقراءة الكتب النافعة، وسماع الأشرطة المفيدة، والتبكير إلى المسجد، وحفظ القرآن إن استطعت، وما أشبه ذلك من الأمور التي تتحول فيها شخصيتك إلى شخصية جادة، وكذلك حاول أن تنفعهم بأشياء كثيرة. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 53 موضوعات مهمة السؤال ألا ترى أن الموضوعات التالية جديرة بالطرح: العدل وأثره في حياة الفرد والمجتمع، والبكاء من خشية الله، غزوة تبوك وفتح مكة وما فيهما من العبر؟ الجواب بالنسبة للسير؛ هناك وقفات مع السيرة، وبالنسبة للبكاء من خشية الله أيضاً هو أحد الموضوعات المسجلة، وكذلك الضحك وأحكامه، وإن شاء الله تعالى إن أعطانا الله تعالى القوة ومد في العمر، فأرجو الله تعالى أن تسمعوا هذه الأشياء. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 54 الغناء وكشف الوجه السؤال هناك من يستدلون على جواز الغناء وكشف الوجه، بقصة لعب الحبشة كما في الحديث، حيث أنهم يلعبون ولم ينهوا عن ذلك، حيث شاهدتهم أم المؤمنين، أرجو التوضيح؟ الجواب أما بالنسبة للغناء فلم يذكر أنهم يغنون، إنما ذكر أنهم يلعبون بالحراب، ليس في الحديث ذكر الغناء. أما كشف الوجه، ففي الحديث {أن الرسول عليه الصلاة والسلام، -كان يستر عائشة -} ومن المعلوم عند جميع أهل العلم، حتى الذين يقولون بكشف الوجه؛ أنهم يرون الحجاب على أمهات المؤمنين، فليس في الحديث دليل لهم بوجه من الوجوه. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 55 ضرب الوجه في المزاح السؤال يقول ما رأيك ببعض الشباب إذا انتهوا من أكل البطيخ، يضرب بعضهم بعضاً غير ضرب المزاح المذكور، كأن يضرب أحدهم وجه أخيه؟ الجواب هذا لا يجوز؛ لأنه قد يؤذي الإنسان، وقد يكون سبباً في أن يفقأ عينه أو يضره؛ ولذلك {نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخذف} . الجزء: 201 ¦ الصفحة: 56 تبسم الداعية السؤال ما رأيك في بعض الذين يرون أن الشخص المستقيم ينبغي أن يكون غير متبسم ولا يضحك؟ الجواب التوقر ينبغي أن يكون في حدود، والرسول عليه الصلاة والسلام -كما سبق- كان أكثر الناس تبسماً، قال جرير: {ما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تبسم} وقال عليه الصلاة والسلام: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} . الجزء: 201 ¦ الصفحة: 57 التندر بأفعال الكفار السؤال بعض الظرفاء يتعمدون التفكه ببعض المواقف كشدة خوف أبي جهل من النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرها من القصص؟ الجواب لا بأس بالتندر بمواقف الكفار، مثل خوف أبي جهل، فإنه لا حرج في التندر من أفعال سيئة فعلها الكفار. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 58 كتابا ابن الجوزي في الطرائف السؤال ما رأيك في كتاب الحمقى والمغفلين لـ ابن الجوزي وكذلك كتاب الأذكياء؟ الجواب الحقيقة هذا سؤال جيد، وكنت أود أن أشير إليه ولكنني غفلت وذهلت عن ذلك. كتابا ابن الجوزي الحمقى والمغفلين والأذكياء أولاً: هما لـ ابن الجوزي، دلت الدراسات والتحقيقات على أن الكتابين لـ ابن الجوزي، فلا سبيل لإنكار نسبتهما إليه. ولكن في الكتابين من القصص والطرائف المذمومة الممقوتة ما ينبغي للإنسان أن يحذره ويتجنبه، وقد يكون ابن الجوزي نقل ذلك، وقد يكون ألفه في زمن الشباب، وقد تكون زلة حصلت منه والإنسان يخطئ، لكن لا ينبغي أن تقول: أوردها ابن الجوزي، إذاً لا بأس بإيرادها. فإن في هذين الكتابين من القصص ما يصح أن يدخل فيما ذكرت في آخر المحاضرة، من أنه من النكت والطرائف التي لا يجوز إيرادها. الجزء: 201 ¦ الصفحة: 59 المرأة المسلمة أسئلة ومشكلات تحتوي هذه المادة على بيان العلاقة بين النساء والرجال في الدنيا والآخرة وتناقش بعض قضايا المرأة من جهة لباسها وتسريحاتها واختيار الزوج، يعقب ذلك عرض سريع لأهم الأمور والجوانب لتحقيق الحياة السعيدة. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 1 أهمية تخصيص الحديث عن المرأة وشئونها إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: فهذه ليلة الجمعة، الثالث عشر من شهر رمضان، لعام ألف وأربعمائة وأحد عشر للهجرة، وقد جاءتني طلبات عديدة من أكثر من واحد من الإخوة والأخوات؛ يطلبون تخصيص الحديث في هذه الليلة عن المرأة، وهذا مطلب عادل، لأن المرأة نصف المجتمع كما يقال. بل هي أكثر من نصف المجتمع من الناحية العددية، فإن عدد النساء في كل مجتمع يفوق عدد الرجال، أحياناً يفوقه بأكثر من النصف، ففي بعض المجتمعات كل مائة رجل يقابلهم مائة وخمسون أو مائة وستون امرأة، وهذا يكشف عن جانب من سر التشريع في إباحة الإسلام تعدد الزوجات، لأن عدد النساء في الدنيا أكثر من عدد الرجال إجمالاً. كما أن عدد النساء في الآخرة أيضاً أكثر من عدد الرجال، فالنساء في النار أكثر من الرجال، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {تصدقن ولو من حُليكن فإني رأيتكن أكثر أهل النار} وكذلك في الجنة، النساء فيها أكثر من الرجال، وهذا سرٌ يجب أن يعلم، بل ليس بسر، فكل رجل من أهل الجنة على الأقل له زوجتان، ومنهم من يكون له سبعون زوجة من الحور العين كما هو الحال بالنسبة للشهيد، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم جميعاً من الشهداء في سبيله. المهم أن النساء في الجنة أكثر من الرجال بكثير، وكذلك الحال في النار، فالنساء في الآخرة أكثر، والنساء في الدنيا أكثر أيضاً، ولهذا فإن تخصيص الحديث عن المرأة -ولو لبعض الوقت- هو مطلب عادل، وخاصة مع توفر النساء في مثل هذا الشهر الكريم في المساجد، وهي فرصة لا تتكرر ولا تعوض. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 2 مثال على بعض ما يخص الرجال دون النساء أما إذا ورد دليل خاص فيعمل به -فمثلاً-: الجماعة، ورد دليل على أن صلاة الجماعة واجبة على الرجال، لكن جاءت نصوص أخرى ووقائع كثيرة، تؤكد أن هذا الحكم ليس عاماً للنساء، بل إن الأولى للمرأة أن تصلي في بيتها، ولو صلت مع الرجال والنساء منعزلات في مكان خاص؛ لكانت صلاتهن صحيحة وجائزة -أيضاً- بلا شك. من هذا أجمع أهل العلم على أن الجماعة ليست بواجبة في حق النساء، وكذلك ذهب جماهير العلماء، بما في ذلك الأئمة الأربعة، إلى أن الأفضل للمرأة أن تصلي في بيتها، لكن لو صلت في المسجد فإنه لا حرج عليها، سواءً الفريضة أم النافلة. وقل مثل ذلك فيما يتعلق بقضية الإقامة، فقد عُرف من نصوص الشرع أن الأذان والإقامة للرجال، لأن الأذان نداء إلى الصلاة لحضور الجماعة، وما دام أن وجوب الجماعة خاص بالرجال، فكذلك الأذان خاص بالرجال ولا تدخل فيه النساء، ومثله الإقامة، فإن المرأة ليست مطالبة بأن تقيم الصلاة، لأن الإقامة أيضاً دعوة من المقيم للحاضرين لأن يقوموا إلى الصلاة، فهي دعوة للرجال وليس للنساء. لكن لو أن امرأة أقامت الصلاة؛ لم يكن عليها في هذا مأخذ أو حرج، لأن الإقامة ذكرٌ لله تعالى وثناءٌ عليه، فلا حرج فيها، ولكنها ليست مشروعة في حقها. لكن من المعلوم -أيها الإخوة- أن نصف ساعة نخصصها للحديث عن النساء لا تكاد تغني شيئاً، اللهم إلا اليسير. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 3 الشريعة تخاطب الرجال والنساء إلا ما خصص ومن المعلوم أن الحديث العام يشمل الرجال والنساء، فنحن حين نتحدث -مثلاً- عن التسبيح، والتهليل والذكر، أو عن عثرات اللسان، أو الاستغفار، أو الصدقة، أو عن غير ذلك من الأعمال، فإن هذا الحديث يشمل الرجال والنساء. وكل شريعة في الإسلام، فالأصل أن المخاطب بها الرجل والمرأة على حد سواء، فما خوطب به الرجال خوطبت به النساء، ولا تحتاج المرأة إلى دليل خاص للإيجاب أو للتحريم، إلا إذا ورد دليل يخصص الرجل أو يخصص المرأة فهنا نقف عند الدليل. وإلا فالأصل العموم، فمثلاً قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] هذا نص عام يشمل الرجل والمرأة على حد سواء، فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو حكم عام للرجل والمرأة، ولا نحتاج دليلاً خاصاً يخاطب المرأة بوجوب الصلاة، أو يخاطب المرأة بوجوب الزكاة، وهكذا بقية الأحكام. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 4 شروط لباس المرأة المسلمة من الموضوعات التي سأتحدث عنها: قضية اللباس، وهي من المعضلات والمشكلات بالنسبة للمرأة، بل تكاد أن تكون من أعظم القضايا، فمن المعلوم أن اللباس مظهر ولكنه نعمة قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26] فهو نعمة للجنسين على حد سواء. وبالنسبة للمرأة بصفة خاصة، فاللباس يشكل جزءاً مهماً من حياتها، وتجد أن المرأة تقضي جزءاً غير قليل من وقتها في العناية بلباسها، سواء في اختيار الملابس، أو بخياطتها، أو بتصليحها، أو بشرائها إلى غير ذلك. فاللباس يشكل بالنسبة للمرأة -بطبيعتها- جزءاً مهماً من حياتها، ولهذا لابد من الوقوف عند اللباس، ولن نتحدث عن التفاصيل لأنه كثيراً ما ترد أسئلة عن لباس المرأة، كأين تضع المرأة جيبها؟ من الأمام أم من الخلف؟ وما صفة اللباس؟ وهل يجوز أن تلبس المرأة كيت وكيت؟ نريد أن نحدد شروطاً عامة، وكل ما توافرت فيه هذه الشروط فهو جائز، وما اختلت فيه هذه الشروط فهو محرم، فبالنسبة للباس المرأة المسلمة يشترط:- الجزء: 202 ¦ الصفحة: 5 ألا يكون اللباس لباس شهرة الشرط السابع: هو ألا يكون الثوب لباس شهرة. وما معنى شهرة؟ أن يكون الإنسان قصد بلبس الثوب أن يشتهر ويتكلم الناس عنه في المجالس، مثل أن تلبس الفتاة ثوباً غالياً جداً، بحيث يصبح حديث المجالس، حديث النساء: فلانة بنت فلان لابسة ثوباً شكله كذا، وصفته كذا، وخياطته كذا، وتفصيله كذا، وسعره كذا. فهذا ثوب شهرة. وكذلك لو كان الثوب فيه أي مدعاة للشهرة، مثلاً: بعض النساء يكون الثوب تفصيله ملفتاً للنظر بشكل واضح وغير طبيعي وغير عادي، حتى إن بعض الناس يهمهم أن يذكروا ولو بالقبح، فهذا أيضاً ثوب شهرة، حتى لو كان هذا الثوب ثوب بلغ من البساطة مبلغاً عظيماً، بمعنى لو أنك تريد أن تظهر التواضع والزهد، فتلبس ثوباً بسيطاً جداً حتى يتحدث الناس عنك، فيقولون: فلان الزاهد لابس ثوباً من الأثواب البالية الرديئة جداً، وهذا -أيضاً- ثوب شهرة. وفي الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة، وهو حديث حسن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من لبس ثوب شهرة ألبسه الله تعالى يوم القيامة ثوب مذلة، ثم ألهبه عليه ناراً} وهذا -أيضاً- دليل على أن هذا من الكبائر، فلبس ثياب الشهرة التي يقصد الإنسان من ورائها؛ أن يذكر في المجالس ويكون هو مجالاً لحديث الناس، فلانة لابسة ثوباً طوله كذا، وعرضه كذا، وشكله كذا. أيها الإخوة والأخوات، إن من المشكلات: فقدان الأمة المسلمة -رجالها ونسائها- للهوية الإسلامية المتميزة، بحيث أصبحت مجتمعات المسلمين -كما قلتُ- باباً مفتوحاً لرياح التغريب، والتخريب، والتنصير، والعادات الغربية، يهودية أو نصرانية أو وثنية، أصبحت تفد إلينا من خلال رموز وشعارات وملابس وعادات وتقاليد، قد نفعلها نحن بدون وعي، لكن مع الوقت تصبح جزءاً من حياتنا، وجزءاً من تقاليدنا. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 6 ألا يشبه لباس المرأة لباس الكافرات الشرط السادس: أن لا يشبه لباس الكافرات. وفي سنن أبي داود ومسند أحمد من حديث ابن عمر بسند جيد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالصالحين فهو منهم، من تشبهت بـ أسماء وخديجة وعائشة وحفصة فهي منهنَّ وتحشر معهن يوم القيامة. ومن تشبهت بالكافرات والفاجرات والفاسقات، من عارضات الأزياء والممثلات والمغنيات والراقصات، فهي منهن وتحشر معهن يوم القيامة {من تشبه بقوم فهو منهم} وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: {رأى عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ثوبين معصفرين فقال لي: إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها} فدل على أن التشبه يكون في كل شيء حتى في الثياب. إذاً: هل صحيح أن بعض الأخوات المؤمنات الطيبات تذهب بنفسها، أو ترسل أخاها الصغير حتى يشتري لها ما يسمى بالبردة، وما هي البردة؟ يطلق النساء هذا اللفظ على مجلات الأزياء، وعلى المجلات التي يكون فيها صور للنساء، قد تكون جاءت من فرنسا، أو من تايلاند، أو حتى من بعض البلاد الإسلامية اسماً، والتي تأخذ تفصيلات الثياب عن الغرب وعن الأجانب، فتخيط المرأة أو تأمر أن يخاط ثوبها على نمط هذه الثياب بما فيه من فتحة واسعة للصدر، وبما فيه من عدم وجود الأكمام، بما فيه من قصر، بما فيه من ضيق، بما فيه من إبراز لمواضع الجمال في المرأة والفتنة، إلى غير ذلك، وكأن بيوت المسلمين وأسواقهم ونساءهم أصبحن أسواقاً مفتوحة لكل تقاليد الغرب وعادات الغرب، دون أن يكون لنا تميزنا نحن المسلمين. وهذه في الواقع كارثة كبرى، فلم نعد أمة مستقلة، وأمة متميزة، حتى في هذه الأشياء العادية، أصبحنا نأخذها عن عدونا، وأمس البارحة، أتاني بعض الشباب بألوان من الثياب يلم الواحد منا رأسه إذا رآه، ثوب مرسوم عليه صواريخ (باتريوت) يا سبحان الله! وكتابات بلغات مختلفة. وأعظم وأعجب من ذلك ثوب آخر، مرسومة عليه -إضافة إلى رمز معركة درع الصحراء- مرسومة عليه أعلام الدول الكافرة، أمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، وأعلام دول الكفر المعروفة كلها، فضلاً عن بعض الدول الإسلامية، ومنها علم المملكة بطبيعة الحال. وموضوعة على صدر الفتاة، أو على صدر الفتى. فأعلام الكفار التي تمثل بلادهم يلبسها المسلم على صدره، وكأنه يقول إن قلبه أصبح مفتوحاً لهؤلاء ولهذه العادات، ولهذه الشعارات التي ما خرجت من بلاد الإسلام، ولا رفعت راية الإسلام يوماً من الأيام، وإن كان من بينها بعض شعارات الدول الإسلامية، لكن معظمها شعارات كافرة، فكيف يكون هذا؟! وغداً -وليس بالبعيد- ستجد الثياب نفسها، وعليها صور لرجال رؤساء تلك الدول وزعمائها وكبرائها، ويلبسها الرجال وتلبسها النساء، ولماذا نستغرب هذا، ونحن نذكر أن هناك ملابساً كانت تأتي عليها صور مغنيين ومغنيات، أو فنانين أو فنانات، أو عليها كلمات مكتوبة باللغة الإنجليزية، وقد يلبسها الفتى أو تلبسها الفتاة، وهم لا يفقهون معنى الكلمة، وقد يكون معناها بذيئاً أو ساقطاً لكن لا يعرفون. بل معناها هناك عبارات أحياناً قد تدل على نوع من الفساد، مكتوبة على الثوب ويلبسها الإنسان وهو لا يعرف معنى هذه الكلمة، أو قد يعرف أحياناً. فلا يجوز أن يتشبه الرجل المسلم أو المرأة المسلمة، بلباس الكفار بحال من الأحوال. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 7 ألا يكون اللباس مشابهاً للباس الرجل الشرط الخامس: هو ألا يشبه ثوب المرأة المسلمة لباس الرجال، ولهذا في صحيح البخاري عن ابن عباس: {أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، كما لعن المتشبهين من الرجال بالنساء} وفي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا يدخلون الجنة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم منهم: العاق، والمترجلة من النساء -التي تتشبه بالرجال- والديوث} فهؤلاء لا يدخلون الجنة بمقتضى موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أقل ما يدل عليه، ويدل على أن هذا العمل من كبائر الذنوب وليس محرماً فقط. فتشبه المرأة بالرجال لا يجوز. وكيف يكون التشبه؟ التشبه هو: أن تلبس المرأة ثوب الرجل، أو يلبس الرجل ثوب المرأة، فمثلاً لو أن المرأة لبست طاقية، نقول: هذا تشبه، لأن الطاقية معروفة، أو غترة بيضاء أو حمراء فهذا تشبه، لأن هذه معروفة من ثياب الرجال، ومثله لو أن الرجل لبس ثوباً مخصصاً معروفاً للنساء، مثل الثياب المطرزة. فليست القضية في الألوان، ليست المشكلة ما لون الثوب أبيض أو أحمر أو أسود أو غير ذلك المشكلة: لمن خصص هذا الثوب في المجتمع؟ إن كان خصص للنساء فيحرم عليكم أن تلبسوه معشر الرجال، وإن كان مخصصاً للرجال حرم عليكنَّ أن تلبسنه معشر النساء، فلا يجوز أن يكون الثوب الذي تلبسه المرأة المسلمة مشبهاً لباس الرجال. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 8 ألا يكون اللباس شفافا ً الشرط الرابع: ألا يكون الثوب شفافاً يبين ما تحته. وذلك لأن الثوب الشفاف لا يتحقق به مقصود الشارع في الستر، ولهذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم النساء اللاتي رآهن في النار فقال كما في صحيح مسلم: {صنفان من أمتي من أهل النار لم أرهما، وذكر: نساء كاسيات عاريات} فهن كاسيات من جهة، عاريات من جهة أخرى، وأحسن وأصدق ما ينطبق عليه هذا الوصف، هي المرأة التي تلبس الثوب -كما قال الإمام ابن عبد البر - وغيره: الثوب الخفيف الذي يصف ولا يستر، فهن كاسيات في الاسم عاريات في الحقيقة، عليها ثوب لكنه ثوبٌ شفاف خفيف. بل إن هذا الثوب الشفاف -أحياناً- يكون أكثر لفتاً للنظر من كون العضو نفسه مكشوفاً، ولهذا الذين يتفننون في الإثارة من اليهود، الذين يقفون أمام ووراء بيوت الأزياء الموجودة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا وغيرها، ويصدرون الأزياء التي يقصدون من ورائها؛ أن تكون المرأة سلعة لمجرد متعة الرجل وقضاء شهوته ووطره، يحرصون على تصدير هذه الثياب الشفافة إلى نساء العالم، وبالذات إلى نساء المسلمين؛ لأنهم يعرفون مدى قدرة هذه الثياب الشفافة على تلميع وتجميل المرأة. إذاً: لا يجوز أن تلبس المرأة المسلمة ثوباً شفافاً يبين ما تحته، وليس بالضرورة أن يكون الثوب كله شفافاً، فقد يكون بعض الثوب، فبعض النساء -مثلاً- يكون الثوب شفافاً من عند أعلى الكتف إلى أسفل الذراع، أو إلى نهاية اليد، فيكون هذا القدر من الثوب شفافاً يبين ما وراءه، وقد يبين جزءاً من صدرها، أو يبين ساقيها أو جزءاً منهما، هذا كله لا يجوز. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 9 ألاَّ يكون اللباس ضيقاً الشرط الثالث: ألا يكون اللباس ضيّقاً يصف الجسد. فبعض النساء قد تلبس ثوباً طويلاً، وليس زينة في نفسه، ساتراً لجميع البدن، لكن هذا الثوب ضيق جداً، يصف حجم عظام المرأة، ويصف تقاطيع بدنها، ويلفت النظر إليها، وقد أتى حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ثوباً فلم يره عليه، فقال له: أين هو؟ قال: يا رسول الله، كسوته زوجتي فلانة. قال له النبي صلى الله عليه وسلم: مرها فلتجعل تحته غلالة، فإني أخاف أن يصف حجم عظامها} والحديث رواه أحمد والبيهقي وضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة وصححه، وهو كذلك. فقال: {مرها فلتجعل تحت الثوب غلالة} والغلالة بلغتنا الدارجة هي: الشلحة التي تلبسها المرأة تحت ثيابها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تجعل تحت الثوب غلالة تقيها، بحيث لا يصف هذا الثوب حجم عظام المرأة، ولا يصف تقاطيع بدنها. أما إذا كانت المرأة عند الرجال الأجانب، أو ستمر بأجانب، فلا شك أن كونها تلبس ثوباً ضيقاً يصف بدنها، أن هذا مدعاة الإثارة والفتنة، لكن حتى لو كانت عند محارم أو أقارب ليسو أجانب عنها، كالأخ والعم والخال أو كانت عند نساء، فإنه جدير بالمرأة المسلمة ألا تلبس هذا الثوب الضيق لأسباب، ولهذا أقل ما يقال فيه الكراهية، بل بعض العلماء أطلق عليه التحريم في مثل هذه الحالة: أولاً: لأن هذا مدعاة لأن يقلدها بعض النساء، فيظهرن بهذا الثوب أمام المحارم وأمام الأجانب على حد سواء، كما أنه حتى عند المحارم ينبغي للإنسان أن لا يسترسل في الحديث والانطلاق في هذه الأمور، ولست بحمد الله ممن يبالغون في التخويف من فساد الواقع، بل نحن ندعو دائماً إلى الاعتدال، وأن يرى الإنسان الفساد ويرى الخير والصلاح إلى جانبه فلا يبالغ. لكنني أحدثكم عن معايشة، وقد اتصل بي كثير من الشباب، وبعضهم كتبوا إليَّ رسائل يرتعد الإنسان منها ويتعجب أشد العجب، أن من الشباب من يفتتنون بمحارمهم!! ومنهم من يقع معهن بما لا يرضي الله عز وجل بل بما يسخطه! ومنهم من ينظر -وهذا ليس بالقليل- إلى محارمه نظرة إعجاب ونظرة شهوة! وقد تكون أخته أو عمته أو خالته أو قريبته ممن لا تحتجب منه. ومع ذلك إذا تزينت وتجملت أثارت غريزته وشهوته وفضوله، فربما نظر إليها بشهوة، وربما اقترب منها، وربما حصل ما لا تحمد عقباه، لا أبالغ في هذا، ولا أقول إن هذا موجود في كل بيت، لكنني أقول إنه موجود حتى في بعض المجتمعات النظيفة. فلا تتساهل المرأة مع المحارم أو مع النساء، كما أن النساء مع النساء قد يحدث من ذلك أشياء وأشياء. إذاً المرأة ينبغي أن تتحفظ، حتى في مثل المجتمعات البعيدة عن الرجال الأجانب، ولا تسترسل في لبس الثياب الضيقة أو الثياب القصيرة التي لا تستر. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 10 ألا يكون اللباس زينة في نفسه الشرط الثاني: ألا يكون اللباس زينة في نفسه. بمعنى أن هناك بعض الملابس قد يستر البدن، ولكنه بنفسه زينه، وهو مثير وملفت للأنظار، وهو يستدعي فضول الرجال أكثر مما لو كان العضو مكشوفاً، وهذا كثيراً ما يوجد، ففي الآية السابقة يقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] وليس معقولاً أن تستر المرأة الزينة من بدنها بزينة أخرى، هي أكثر مدعاة للإثارة وجلباً للفضول. مثلاً: كثيرٌ من النقوش والزخارف الموجودة في الثياب ملفتة للنظر، بل إن كثيراً من الألوان ملفتة للنظر، أو كون الثوب مكوناً من ألوان عديدة فاقعة ولماعة وجذابة، هذا الثوب يكون زينة في نفسه. كذلك العباءة، فالعباءة ستر ولاشك، مطلوب من المرأة أن تستر ثيابها بالعباءة، وهي الجلباب قال الله: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] هذه العباءة قد تكون -أحياناً- مطرزة بتطريزات، وموشاة بألوان من الرسوم والزخارف والنسيج، الذي هو أكثر إثارة مما لو ظهرت المرأة بثيابها دون أن تلبس العباءة، ومثل ما يسمونه بـ"الكاب" وقد تلبسه بعض النساء بديلاً عن العباءة. وقد أتاني عدد من الشباب الإخوة العاملين في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -جزاهم الله خيراً- بنماذج من هذا الكاب الذي يباع في الأسواق وتشتريه النساء، فرأيت في ذلك عجباً، من ألوان التطريز والتجميل والجاذبية التي هي في حد ذاتها مدعاة للإثارة، فمثل هذا لاشك أنه لا يحقق الغرض المقصود من لبسه؛ لأن المرأة حين تلبس الكاب أو العباءة، إنما لبسته لمزيد من التستر، فما بالك إذا كان هو يدعو إلى مزيد من الفضول ولفت الأنظار. وقل مثل ذلك بالنسبة لغطاء الوجه، فالمرأة مأمورة أن تغطي وجهها بالغطاء، أو بالخمار الذي تستر به وجهها وشعرها، حتى لا ينظر الرجال إلى وجهها فيفتتنوا به، لأن الوجه هو مجتمع محاسن المرأة، ومظهر من أهم مظاهر جمالها، والناس إذا وصفوا المرأة بجمال أو غيره، فإنما يصفون غالباً وجهها، فأمرت بستر وجهها بغطاء، فما بالك إذا كان هذا الغطاء نفسه جمالاً، قد يستر بعض عيوب المرأة ويظهر جمالها. مثل أن تلبس المرأة حجاباً خفيفاً شفافاً، يظهر الجمال ويستر القبيح، فهذا لا شك أن عدمه خير من وجوده، وهو أولى بالتحريم من كشف الوجه. أو أن تلبس المرأة ما يسمى بالنقاب أو البرقع، فيكون هذا النقاب قد فتحت المرأة لعينيها فتحتين كبيرتين جداً، يظهر منهما العينان بكمالهما، ويظهر شعر الحواجب، ويظهر جزء غير قليل من الخدين. فيكون مدعاة للإثارة، ويستر ما قد يكون في المرأة من نقص أو عيب، لاشك أن هذا أيضاً هو زينة في نفسه. فيشترط في لباس المرأة المسلمة وسترها؛ ألا يكون زينة في نفسه، لأن الزينة نفسها مأمور بعدم إبدائها، كما قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور:31] فكيف تستر الزينة بزينة أخرى؟ هذا لا يصلح ولا يسوغ!! الجزء: 202 ¦ الصفحة: 11 أن يكون اللباس ساتراً للبدن الشرط الأول: أن يكون اللباس ساتراً لبدن المرأة عند الأجانب. يقول الله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] ثم يقول بعد ذلك: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] إلى آخر الآية. ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي وابن خزيمة: {المرأة عورة} إذن لابد أن يكون اللباس الذي تلبسه المرأة ساتراً لبدنها. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 12 الشعر سر من أسرار الجمال في المرأة وأنتقل إلى نقطة ثانية وهي: قضية الشعر. الشعر أيضاً سر من أسرار الجمال في المرأة، ومع أنه سر من أسرار الجمال توارثته العصور والأجيال، إلا أن مسخ الفطرة في هذا العصر ما ترك شيئاً حتى الشعر، فقد أصبحت بعض الفتيات -كما بلغني ذلك بأسانيد رجالها ثقات- قد يكون لها شعر طويل جداً، فتقوم بقصه قصاً شديداً ولا تبقي إلا شعرات واقفة، قد يكون طول الشعرة مجموعة من السنتيمترات فقط، ويصبح هذا الشعر منفوشاً كأنه شعر شيطان، كأنها أحد الشباب، فتتخلص من هذا الشعر الذي أكرمها الله -تعالى- وميزها به عن الرجال وجملها به، وقصها لشعرها بهذه الصفة ليس لأن هذا يزيدها جمالاً كلا والله لكن لأن هذه رسوم الموضة تقتضي هذا، وحمى التقليد جعلتنا نفقد ليس فقط اعتزازنا بديننا وكرامتنا، بل حتى تقاليدنا، لقد جعلتنا نفقد اعتزازنا بكل ما يمت إلينا بصلة، حتى ولو كان هو الجمال. وتسريحات الشعر يكثر السؤال عنها، وأيضاً -هنا- لا أريد أن أقول: إن هناك تسريحة معينة تصلح وتسريحة لا تصلح، إنما نذكر شروطاً، متى توافرت هذه الشروط فإن التسريحة تكون محرمة أو ممنوعة. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 13 حكم تسريح الشعر على سبيل التشبة بالكافرات تسريح الشعر على سبيل التشبه بالكافرات لا يجوز -كما سبق قبل قليل- وكثير من التسريحات التي تنتشر عند الفتيات، هي نفسها تسريحات منقولة من الغرب، حتى إن إحدى النساء أسلمت من بلاد أوروبية وجاءت إلى هذا البلد تدرِّس في كلية التربية، فكانت تتعجب، وتقول: إن وضع البنات في الكلية هو نفسه وضع البنات هناك بالنسبة للشعر، نفس الصورة التي تركتها في جامعات أوروبا ووجدتها في بعض الجامعات الإسلامية، لا أقصد من كل ناحية، لكن من حيث تسريحات الشعر، وذلك لأن الإعلام بصحافته وتلفزته ووسائله المختلفة؛ أصبح ينقل لنا ما يولد هناك أولاً بأول، حتى إن التسريحة تولد الليلة وتبتكر في دور التسريحات في الغرب، وتنقل صباحاً إلى جميع البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، ويتعاطاها الناس وتتعاطاها النساء. فكل تسريحة تكون مأخوذة من الغرب لا تجوز، كقصة الأسد، أو قصة ميعاد -كما تسميها النساء- أو قصة الديك التي انتشرت عندهن أخيراً، إلى غير ذلك مما أتى أو سيأتي اليوم أو غداً، من هذه التسريحات المأخوذة عن الغرب، حتى بأسمائها أحياناً كقصة ديانا وغيرها، فإن هذا لا يجوز، بل هو من كبائر الذنوب، أقل الأحوال أنه من كبائر الذنوب: {من تشبه بقوم فهو منهم} . يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الحديث أقل أحواله أنه يقتضي تحريم التشبه بهم، بل ظاهره أنه يقتضي كفر المتشبه بهم، فلتحذر الأخت المسلمة أن ترتكب جرماً عظيماً وإثماً كبيراً، بالتشبه بالكافرات في تسريحة الشعر. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 14 حكم تسريح الشعر على سبيل التشبه بالرجال والشرط الثاني: الذي لا يجوز الإخلال به هو: عدم التشبه بالرجال كما أسلفت قبل قليل. فإن بعض التسريحات هي تسريحة للرجال وليست للنساء، ومع الأسف حتى الرجال هم الآخرون لهم تسريحات خاصة بهم، -أيضاً- منقولة عن الغرب، وقد حدثني بعض الشباب ممن يأتي إلى شباب قد جلسوا عند الحلاق، يجلس الواحد منهم ساعات بين يدي الحلاق يلعب بشعره ويصففه بطريقة -نسأل الله العفو والعافية- وهذا هو نهاية المسخ. الشاب المفروض أن يحمل السلاح ويقاتل عدوه، والمفروض أن تكون فيه كل صفات الرجولة والكمال، أما اليوم فقد أصبح همه كيف يسرح الشعر بطريقة معينة، ثم يضع الغترة بشكل بحيث إنه لو هب النسيم غير وضع الغترة فإنا لله وإنا إليه راجعون! والطاقية لا تصلح لأنها تغير من طبيعة التسريحة، ولا يستطع أن يلتفت يمنة أو يسرة، هذا فضلاً عن أن يصلي ويركع ويسجد. والمرأة هي الأخرى وقعت فيما وقع فيه الرجل، فقد وقع الجميع في شراك تقليد الغرب، والمرأة أيضاً وقعت في شراك تقليد الرجل، فأصبحت تقلد الرجل حتى في شعره، ومن تقليد الرجل أن تبالغ في قص شعرها حتى كأنه شعر ولد، وتسميها النساء قصة ولادية، بل بلغ الحال ببعض النساء والعياذ بالله من مخالفة سنة الله تعالى، ومخالفة الفطرة، أنها قد تميل إلى مشابهة الرجال في كل شيء حتى في الاسم، وهناك معلومات كثيرة في هذا الصدد، لا أرى أن من حقي أن أكدر مسامعكم ومسامع الأخوات بمثلها. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 15 قضية خروج المرأة من المنزل وضوابطه النقطة الثالثة، هي: قضية الخروج من المنزل. والأصل بالنسبة للمرأة هو القرار في البيت، ففي محكم القرآن يقول الله عز وجل: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] فالأصل هو القرار في المنزل وعدم الخروج من البيت، لكن الخروج يكون لحاجة، فإذا احتاجت المرأة أن تخرج لعلاج, ولزيارة قريب، ولصلاة، أو لصلة رحم، أو لطلب علم، أو لأي شيء نافع لها في دينها أو دنياها، أو حاجة دنيوية لا تجد من يقضيها فذهبت هي لقضائها، فإنه لا حرج عليها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن} لكن هذا الخروج يجب أن يكون بضوابط: الجزء: 202 ¦ الصفحة: 16 عدم مخالطة الرجال والشرط الرابع: هو البعد عن مخالطة الرجال ومحادثتهم. فإن كثيراً من النساء تخرج فتسترسل مع الرجال في الحديث والكلام والقيل والقال، بل منهن من تضحك مع الرجال دون أن يكون هناك حاجة، حتى لو فرض أنها خرجت لشراء حاجة، فتقول: بكم هذه السلعة؟ فإذا أعجبها السعر وإلا تركته. أما كونه أخذ وعطاء وحديث طويل واسترسال، فالله عز وجل قد ربى وأدَّب وهذَّب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، خير نساء العالمين، في قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] . فهذا تأديب لـ عائشة وحفصة وزينب وأم سلمة: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] فيمن يطمع؟! يطمع في عائشة وأم سلمة وزينب وحفصة!! فما رأيك أيتها الأخت الكريمة، بك أنت وأختك وقريبتك من النساء، اللآتي لم يرد لهن تزكية أبداً، والفتنة محتملة لكل إنسان، والناس لا يعرفون الطيب من غيره. فإذا كان مظهر المرأة فيه بعض ما يدل على تفريطها أو تكاسلها أو تقصيرها، ثم مع ذلك استرسلت في الحديث واختلطت مع الرجال وحدثتهم، وربما ابتسمت أو ضحكت أو لانت في القول، فإن هذا مدعاة إلى فتنة وشر كبير، ليس شراً للرجل فقط، بل حتى شراً للمرأة. ولهذا يقال يوم القيامة: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] فالمرأة لا تفتن الرجل فحسب بل تفتن نفسها؛ لأنها قد تقع هي الأخرى في شراك رجل، قد تنظر إليه وتحادثه وتسترسل معه في الحديث، فيطمع قلبها وتتحرك نفسها، والغريزة موجودة عند الرجل وموجودة عند المرأة على حد سواء، مع أن المرأة إذا احتاجت إلى الخروج فينبغي أن يكون بمعية الزوج، أو الأخ، أو الأب، ممن يحفظ كرامة المرأة، ويحافظ عليها، ويطرد عنها الذئاب المسعورة، والأعين النهمة، ويساعدها في حاجتها، يحمل عنها ما تحتاج حمله، يحملها في سيارته. وليس هذا لأن المرأة عندنا متهمة -كما يقول بعض خصومنا- كلا، لكن لأن المرأة عندنا درة مصونة فتحفظ من كل سوء، تحفظ حتى من النظرات الجائعة، والكلمات البذيئة، والحركات الخاطفة، فيكون معها زوجها أو أبوها أو أخوها، يحفظها ويخدمها أيضاً، وأي تكريم للمرأة أكثر من هذا! -والله العظيم- لو أن نساء الغرب والشرق رأين مثل هذا؛ لما رضين عن الإسلام بديلاً، لأن فيه من حفظ كرامة المرأة وتقديرها وتكريمها؛ ما لا يمكن أن تحظى به المرأة في أي مجتمع، ولا في أي دين، ولا في أي حضارة، ولا في أي بيت من البيوت. والحقيقة بقي عندنا أمور: منها قضية اختيار الزوج والزوجة، وقضية العلاقات الزوجية، لكن الوقت قد انتهى الآن، فأسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً ذكوراً وإناثاً إلى طلب مرضاته، وأن يهدينا جميعاً سواء السبيل، وأن يصلح ظاهرنا وباطنا، وسرنا وعلانيتنا، إنه على كل شيء قدير، {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23] والحمد لله رب العالمين. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 17 مراعاة الحشمة عند الخروج الشرط الثالث في خروجها بعد ترك التزين وترك الطيب هو: الحشمة. أن تلبس ثياباً محتشمة غير ضيقة ولا قصيرة، وألا تكون من العباءة التي تصف جسد المرأة، أو كما قلت قبل قليل أن تلبس الكاب، والكاب يعرفه أكثركم أو كلكم، فهو يلبس غالباً على الكتفين، ويظهر من خلاله رأس المرأة كاملا بتقاطيعه وتفاصيله وكتف المرأة، وهو يكون مفصلاً غالباً على قدر بدنها، وذلك يحدد بدنها أكثر من غيره، ويكون فيه في كثير من الأحيان تطريز، وشيءٌ ملفت للأنظار، فلا بد من مراعاة الحشمة عند الخروج. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 18 ترك التزين عند الخروج منها: ترك التزين والتجمل. فليس صحيحاً أن المرأة إذا كانت أمام زوجها؛ لبست أسوأ ثيابها ولم تكترث له، فإذا أرادت أن تخرج تجملت ولبست أحسن ثيابها، أو الفتاة التي لم تتزوج بعده تلبس أجمل ما لديها وتخرج للسوق، لماذا؟! من أجل أن تشتري سلعة أو تبيع سلعة. كيف يكون هذا؟ أقول: هذا عرض أزياء وليس لغرض، فلا يجوز أن تقصد المرأة وتختار أجمل ثيابها وتلبسها إذا أرادت أن تخرج للسوق، وكم رأينا ورأى غيرنا -على قلة ما رأينا ورأى غيرنا- من ألوان التجمل التي تفعلها النساء عند الخروج إلى الشارع والسوق!! الجزء: 202 ¦ الصفحة: 19 ترك التطيب عند الخروج ثم مع هذه الثياب الجميلة التي تلبسها، وقصر العباءة، وكون الثياب ضيقة وملفتة للنظر بشكلها وبلونها وبضيقها إلى غير ذلك، مع هذا تضيف المرأة أمراً آخر، وهو: قضية الطيب. فتجد بعض النساء طيبها يعصف من مسافة بعيدة، فإذا كان الثوب جميلاً والطيب ينادي، ما معنى ذلك؟! معنى هذا أن المرأة تقول للرجال: انظروا. تعالوا انظروا إلي. نحن لا نقول: إنها تريد الفساد بالضرورة، لكن هذا في حد ذاته فساد، خروج المرأة بثياب جميلة هذا فساد، وخروجها بالطيب لمجتمعات الرجال هذا فساد. وكم هو مؤسف أن تجد هذا عند بعض المتزوجات، التي يشتكي منها زوجها أنها لا تستعد له بالجمال كما يجب، ولا تستعد له بالتطيب كما يجب، فتجد أن الرجل قد يعزف ويعرض عن امرأته بتقصيرها في حقه، وهي إذا أرادت أن تذهب إلى السوق، أو حتى إلى مناسبة عرس أو وليمة، لبست أجمل ما لديها، ولبست حليها، وتطيبت بأحسن ما يكون من ألوان الطيب. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 20 الأسئلة الجزء: 202 ¦ الصفحة: 21 مراقبة الخادمات في البيوت لابد منه السؤال سائلة تسأل عن الخادمات الموجودات في البيوت في كثير من الحالات، وتقوم الساعة السادسة لتغسل الملابس، وقد تفعل شيئاً مثل الإطلال من النوافذ، أو الخروج إلى عمال العمارة أو أهل البيت، وما أشبه ذلك؟ الجواب هذا الأمر، الأخت تلفت إليه نظر القائمين على البيوت، وأصلاً وجود الخادمة في المنزل يجب أن يكون مضبوطاً بضوابط، منها: أن تكون الخادمة مسلمة، وأن تأتي معها بمحرمها، كأبيها أو أخيها أو زوجها، إذا كان ولا بد من استخدامها، والمحرم ممكن يعمل عندك أعمالاً أخرى، كأن يكون سائقاً لك وليس سائقاً للنساء في المنزل، أو يقوم بأعمال خارج المنزل، ولا تحتاج أنت إلى أن تبذل له شيئاً، لكنه يقوم بهذا الواجب الذي هو مصاحبة محرمه، ومع هذا يجب المحافظة على المرأة، والانتباه إليها لكي لا تستخدم الهاتف بصورة غير صحيحة، أو تخرج من المنزل أو تطل، إلى غير ذلك. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 22 ضياع الأبناء سببه ضياع الآباء السؤال وهذه رسالة طويلة: امرأة تشتكي إلى الله زوجها ثم إلى من زوجها، فزوجها مهمل لأولاده الصغار، ولا يأمرهم بالصلاة، ولا يسأل عنهم إذا ذهبوا إلى أي مكان، وتطلب منه ذلك فلا يلتفت؛ لأنه مشغول بقرناء السوء الذين يدخنون، إلى غير ذلك، وترجو تقديم النصيحة لهذا الزوج؟ الجواب الواقع أن الأولاد في ذمة أبيهم في الدرجة الأولى، فيجب أن يهتم بهم ويعتني بهم ويحرص على تربيتهم وتنشأتهم، وكم يشعر الإنسان منا بالحزن والحرقة لأولئك الصبيان الصغار الأبرياء، حين يرى في عيونهم براءة الأطفال، وينظر إلى آبائهم شاردين في لهوهم، أو تجد أباه واقعاًَ في شلة من قرناء السوء، أو تجد أباه مبتلىً بالمخدرات والمسكرات، وهو يخرج من السجن اليوم ليدخل فيه غداً، وهذا الطفل يُخشى أن ينشأ على ما كان عليه والده، وينبغي للمرأة أيضاً أن تحرص قدر المستطاع، وتستميت في تربية أطفالها ورعايتهم وعنايتهم، وتسدد النقص الذي تجده على والدهم. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 23 دور المرأة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال كيف تأمر المرأة بالمعروف وتنهى عن المنكر علماً بأنها في بيتها؟ الجواب تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي: إذا رأت معروفاً متروكاً أمرت به، وإذا رأت منكراً مفعولاً نهت عنه بقدر ما تستطيع، هذا هو واجبها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على من رأى فقال: {من رأى منكم منكراً فليغيره} أما من لم يرَ ولم يطلع ولم يعلم، فإنه ليس عليه من ذلك شيء. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 24 المرأة وخوفها من الموت السؤال لماذا المرأة تخاف من الموت أكثر من الرجل؟ الجواب ربما يكون هذا بسبب أن المرأة فيها طبيعة الضعف التي علم الله تبارك وتعالى بحكمته ورحمته وعلمه أنها أليق بالمرأة، لأن المرأة إنما خلقت للمنزل، خلقت لإسعاد زوجها، وتربية أطفالها، وهذا يحتاج إلى حنان ورقة وقد جبلها الله تعالى على ذلك، بخلاف الرجل فقد جبل لمقاسات الحياة والحرب والضرب، ولذلك كما قيل: كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول الجزء: 202 ¦ الصفحة: 25 حكم لبس ثوب الزوجة من باب المزاح السؤال ما حكم لبس ثوب الزوجة من باب المزاح؟ الجواب إذا لبس الرجل ثوب زوجته من باب المزاح لمدة وجيزة فهذا لا يصلح، حتى وإن كان من باب المزاح، فإن كل شيء له حدود والمزاح له حدود، فلا يسوغ للرجل أن يلبس ثوب امرأته، ولا للمرأة أن تلبس ثوب زوجها. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 26 حكم لبس القفازين السؤال ما حكم من لم تلبس شراب اليدين أثناء خروجها للأسواق، أو بين الرجال في البيت غير محارمها؟ وهل كان شراب اليدين ملزماً به في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب كلا، لم يكن ملزماً به في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا ملزماً في هذا الزمان، وإنما لبس المرأة لشراب اليدين (القفازين) هو أحفظ ليديها، وأستر لها، وأقل كلفة لها من كونها تضع -مثلاً- جزءاً من ثوبها أو من عباءتها على يديها. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 27 الجهل في النساء أكثر منه في الرجال السؤال يوجد كثير من النساء يجهلن أحكاماً من الدين، وأموراً تختص بهن نظراً لحيائهن، أو عدم توافر المشايخ عند هن، فما رأيكم في جعل وقت في رمضان للأجوبة على الأسئلة منهن؟ الجواب هذا هو الوقت وقد خصص، وأرجو أن يخصص وقت أطول من ذلك. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 28 حكم المداعبة بين الزوجين في نهار رمضان السؤال ما حكم المداعبة في نهار رمضان بين الزوجين؟ الجواب الرجل الذي يطمئن ويملك نفسه، يملك إربه، كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام، قالت عائشة: [[كان أملككم لإربه]] أي: لحاجته، يطمئن أن لا يجره الأمر إلى محرم، أو إلى الوقوع في الجماع، أو إلى الإنزال -مثلاً- فلا بأس أن يداعب زوجته. أو يقبلها، ولكن عليه أن يقتصر في ذلك حتى لا يجره إلى غيره، وإن ترك الأمر بالكلية لوقاية صومه وحمايته والبعد عما يريب إلى ما لا يريب، كان هذا أولى به وأحسن. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 29 الصدقة عن الوالدين السؤال هناك شخص في كل سنة يتصدق لوالديه، فهل الأفضل يطعم عنهم أو يدفع نقوداً؟ الجواب الأفضل هو الأحسن للفقراء، فإن كان النقود أفضل للفقراء أعطاهم نقوداً، وإن كان يعتقد أن النقود لا تنفعهم، وقد يحتاجون إلى من يستأجرونه للشراء لهم، فاشترى لهم أرزاً أو لحماً أو غيره وتصدق به عليهم، كان هذا أفضل، ويوزع هذا في البلد الذي هو فيه. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 30 حكم اعتزال النساء في العشر الأواخر من رمضان السؤال هل اعتزال النساء في العشر الأواخر من رمضان من السنة؟ الجواب كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعتزل النساء في العشر الأواخر من رمضان، لأنه كان يعتكف في رمضان، وقد اعتكف في العشر الأول، ثم الأواسط ثم اعتكف في العشر الأواخر، فمن اعتكف شرع له أن يعتزل النساء، سواء في العشر الأواخر أم في غيره، بل يجب عليه ذلك. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 31 حكم المكياج في رمضان السؤال وهل يفطر المكياج أم لا؟ الجواب لا يفطر، لأن المكياج يكون على ظاهر البشرة، وليس يدخل إلى الحلق أو إلى الجوف. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 32 المجلات وفساد البيوت السؤال تعلمون ما للمجلات من شيوع في جميع المنازل والدخول إليها بمبرر وبغير مبرر، فهل لي الحق أن أقوم بمنع دخولها؟ كذلك كيف يكون؟ كذلك تفصيل الثياب بحيث تكون موافقة للشرع؟ مع أن الوالد لا يهتم بقدر كاف لهذا الموضوع؟ الجواب مادام الوالد لا يهتم، فأنت يا أخي الكريم مسئول عن الاهتمام بهذا الجانب، فمنع المجلات من حقك، بل واجب عليك أن تمنع المجلات، والمقصود المجلات السيئة التي تتاجر بالمرأة، أو تتاجر بالأفكار التي تدعوا إلى خروج المرأة وسفورها وتبذلها. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 33 حكم تسوية صفوف النساء السؤال سائلة تقول: ما حكم تسوية الصفوف بين النساء وهن في الصلاة قائمات؟ الجواب نعم، المرأة مطالبة بتسوية الصف كالرجل. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 34 حكم تربية شعر الرأس بالنسبة للشباب السؤال ما هي الطريقة الصحيحة لتربية شعر الرأس والسنة في ذلك؛ لأن هناك من الشباب من يربي شعر رأسه ويقول: أنا اقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ الجواب بالنسبة لتربية شعر الرأس، إذا كان ربَّى شعر رأسه اقتداءً بالرسول عليه الصلاة والسلام فهذا مباح، إذا كان رجلاً متديناً ملتزماً بالسنة، معفياً للحيته، محافظاً على الجماعة، ملتزماً بالسواك، وكذلك قال: ألتزم بتربية شعر الرأس فهذا جائز، وبعض العلماء يقول: سنة. لكن الأظهر أنه جائز، ولا يدخل في باب القدوة والاقتداء؛ لأنه من العادات التي كانت معروفة عند العرب. أما أن يترك الإنسان كل سنن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا يأخذ إلا تربية شعر الرأس، فهذا لم يأخذها عن الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما أخذها تقليداً لبعض الغربيين أو الشرقيين، من أصحاب الموضات التي تغزونا يوماً بعد يوم. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 35 عندما تموت الغيرة السؤال ما حكم من يذهب بنسائه إلى السوق ويذهب ليصلي التراويح؟ الجواب نعم هذا كثير، يذهب الرجل يضع بناته وهن في سن الشباب، بل أحياناً في سن المراهقة، يدعهن في السوق ويذهب إلى صلاة التراويح، وتظل هؤلاء الفتيات ينتقلن من دكان إلى دكان، ومن مكان إلى مكان. وقد رأيت بعيني في العام الماضي، وقد أتيت لشراء بعض الحاجيَّات في وقت متأخر، كنت أظن أني لن أجد في الشارع أحداً، ربما في الساعة الواحدة ليلاً أو قريباً من ذلك، فإذا بي أجد مجموعة من الفتيات عند رجل، وهن يتنقلن في الدكان من مكان إلى مكان وبصورة ملفتة ومثيرة، فإذا بي أريد أن أحادث صاحب الدكان عن بعض الحاجيات، لكن الرجل ليس لديه وقت لأمثالي، فوجدت نفسي مضطراً للانصراف، ومع هؤلاء النساء صبي صغير لا يعقل من أمر الحياة شيئاً. أين أولياء أمورهن في ساعة متأخرة من الليل، ينتقلن من دكان إلى دكان ومن مكان إلى مكان، وربما يكون الأب ذاهباً إلى الصلاة، أو جالسا في انتظار صلاة القيام؟! الجزء: 202 ¦ الصفحة: 36 السفر مع غير المحرم السؤال ما حكم ذهاب المرأة مع أخ زوجها، مع وجود محرم وهي بنت الزوج؟ الجواب إذا سافرت المرأة فلا يجوز لها أن تسافر إلا مع ذي محرم، كل شيء يسمى سفراً في الشرع، لا يجوز إلا مع محرم، وأخو الزوج بلا شك ليس محرماً، كما أن زوج الأخت ليس محرماً، أما إذا كان هذا داخل المدينة فذهبت من بيت إلى بيت مع أخ زوجها، ومعهم امرأة أخرى كالزوجة -مثلاً- أو امرأة ثالثة، فإن هذا لا يعد خلوة. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 37 صوت المرأة السؤال يقول: بعض الناس ينكر على المرأة إذا سمع صوتها الرجال، ويقولون: إن صوت المرأة عورة حتى لو كان في الهاتف -مثلاً- فما القول الحق في ذلك؟ الجواب القول الحق أن صوت المرأة بذاته ليس بعورة، والحديث الوارد في هذا لا يصح، إنما الشيء الذي لا يجوز، هو أن المرأة تخضع بالقول وتلين الكلام، وتأتي بمعسول الحديث الذي تضعف أمامه قوى الرجال، فإن هذا لا يجوز حتى لو كان في سبيل أمر ديني. وبالأمس جاءتني رسالة من إحدى الأخوات تشتكي بعض قريباتها حتى ممن لبسن لبوس التدين، ولكنهن يهوين الحديث مع الرجال، وبحكم التدين فإنها لا تستطيع أن تتحدث غالباً إلا مع المتدينين، فتطيل في الحديث، وتخضع في القول، وتلين في الكلام، وتسترسل بما يشبع رغبة في نفسها، والله تعالى هو المطلع على الأسرار والخفايا، فصوت المرأة إذا كان لحاجة، كحديث أو سؤال أو استخبار، أو ما أشبه ذلك، فهو جائز دون أن يكون فيه خضوع بالقول أو لين في الحديث، أما إذا كان لغير هذا فلا يسوغ ولا يصلح. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 38 محاذير تقع فيها المرأة السؤال يقول: تنبيه إلى أمر خطير ولكنه مع الأسف أصبح مألوفاً، وهو ما نشاهده في من وقوف المرأة في بعض محلات الأزياء الوقت الكثير، والتحدث مع الرجل من خلال نافذة صغيرة دون محرم وعلى انفراد؟ الجواب هذه مشكلة، والمشكلة أن بعض هذه المحلات قد يكون فيها صور لمجلات خليعة، ويكون فيها ألوان من هذه الكتب التي تحتوي صور النساء والأزياء، وقد يكون ثمة فرصة لإقامة العلاقات بين رجل وامرأة، وفي الحديث: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} فإذا لم يكن عند المرأة رادع من دينها، ولا خوف من ذي سلطان يقوم عليها، فإن أبواب الشر حينئذٍ تكون مفتوحة، وعلى الرجل أن يقوم بخدمة المرأة في هذه المجالات، فييسر لها أسباب الحصول على الثياب التي تريد، والتفصيل الذي تريد، ويقوم هو بهذا العمل بدلاً من ابتذال المرأة في مثل هذه الأمور. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 39 نصائح تحقق السعادة بين الزوجين إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وذريته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد: فهذه ليلة السبت، الرابع عشر من شهر رمضان لعام (1411 هـ) ، وقد تحدث إلي بعض الإخوة، وطلبوا أن يكون موضوع حديثي في هذه الليلة حديثاً في الرقائق وتليين القلوب، وإني أعتذر إليكم عن ذلك؛ لأن هذا الحديث إنما يجيده ويحسنه أصحاب القلوب الحية القريبة من الله عز وجل وليس كل أحد يحسن أن يحرك القلوب ويهيجها. ثم طلب إلي إخوة آخرون في أوراق أو بالاتصال؛ أن أكمل حديث البارحة المتعلق بالمرأة أسئلة ومشكلات، فوافق هذا الطلب هوىً في نفسي، ولذلك أزمعت أن أكمل في هذه الليلة حديثي إليكم الليلة الماضية، وقد تحدثت البارحة عن جوانب من حياة المرأة، وفي هذه الليلة سوف أكمل جوانب أخرى أهمها موضوع الزواج. والزواج سنة إلهية، كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] وقد جعل الله تعالى لرسله وأنبيائه أزواجاً وذرية. قال بعضهم: خير هذه الأمة أكثرها نساءً، وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والزوجان يكمل أحدهما الآخر، فمن تزوج فقد استكمل شطر دينه من الذكر والأنثى، وإن كان كما يقال: إن أجمل ما في الزواج هو الأماني والأحلام، أكثر من الواقع الذي يعيشه الإنسان بعد زواجه. فعلى كل حال: لا يخلو هذا الأمر من جوانب وأمور تحتاج إلى الحديث عنها، لتحقيق السعادة بين الزوجين، وما أكثر ما يشتكي الناس من سوء العلاقات الزوجية، هذا السوء الذي قد يؤدي إلى الطلاق في كثير من الأحوال، وإن لم يؤدِ إلى الطلاق، فإنه يؤدي أحياناً إلى ما هو شر من الطلاق. وقد تتبعتُ عدداً من الحالات التي يحصل فيها انحراف وفساد لأحد الزوجين، فوجدتها تحصل غالباً من رجل لم يوفق ولم يسعد في زواجه، فذهب يبحث عن اللذة والمتعة الحرام، أو امرأة لم توفق ولم تسعد في زواجها فذهبت مثله، وقد يظل الزوجان مرتبطين بحياة غير هنيئة وغير سعيدة، فيكون في ذلك من المتاعب الشيء الكثير، ولهذا لابد من التركيز على بعض النصائح، التي من شأنها أن تحقق السعادة الزوجية بقدر المستطاع، وباختصار أقول: إن من أهم هذه النصائح ما يلي: الجزء: 202 ¦ الصفحة: 40 العاطفة النصيحة الثامنة: العاطفة. فإن العاطفة هي التي تجدد الحيوية والنشاط لكلٍ من الزوجين، وإذا فقد البيت العاطفة فإنه فقد الأساس الذي يقوم عليه في كثير من الأحيان، فالزوجان في بداية حياتهما ولسنوات طويلة، ليسا كالشيخين الكبيرين الهرمين، الذَين ليس بينهما من العلاقة إلا صبحك الله بالخير ومساك الله بالخير، فلابد أن بينهما عواطف موصولة بين قلوبهما، كما قال الله عز وجل: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فالزواج هو علاقة بين القلوب بالمودة والرحمة والسكن، قبل أن تكون علاقة بين الأجسام. وعلى ضوء هذه الأشياء التي قصدت أن أقدم بها وأجعلها في البداية كنصائح عامة للعلاقة بين الزوجين، أنتقل إلى نقطة أخرى وهي: تحديد شروط الزوج الصالح. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 41 الواقعية وعدم المطالبة بالمثالية النصيحة الرابعة: هي الواقعية وعدم المطالبة بالكمال. لا تتصور أنك أمام امرأة كاملة، أو تريد امرأة كاملة، أو تتصور المرأة أنها تريد رجلاً كاملاً مظهراً ومخبراً، وديناً ودنياً، وحسباً ونسباً، وكمالاً وجمالاً، هذا لا يكون أبداً. إذا كنت تريد هذا فانتظر للجنة، انتظر للحور، اعمل عملاً صالحاً حتى تجده، ولذلك يذكرون أنه جاء رجل خاطب يريد أن يتزوج، فقال الخاطب: أريد امرأة صفات كذا وكذا وكذا؟ قال: قد وجدتها لك، قال: أين هي رحمك الله؟ قال: أكثر من صيام النهار، وقيام الليل، هذه المرأة التي تصفها توجد في الجنة، أما في الدنيا فلا، فنساء الدنيا لابد فيهن من نقص، ومع ذلك إذا كنت أنت الزبير فابحث عن أسماء، وإذا كنت أنت علي بن أبي طالب فابحث عن فاطمة. أما إذا كنت فلاناً الذي تعرف نفسك، فيك من العيوب الخَلْقية والخُلُقية الشيء الكثير، فيجب عليك أن تتصور أن من العدل؛ أن الله تعالى قد يرزقك بامرأة من جنسك تماثل ما أنت فيه، أو أحسن منك أو أقل منك قليلاً، وكما يقال في المثل: الطيور على أشكالها تقع. إذاً كن واقعياً، وتوقع أن تجد في المرأة نقصاً، كما أن المرأة يجب أن تتوقع أنه يوجد في الرجل نقص. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 42 التسامح واللين بين الزوجين النصيحة الخامسة: التسامح واللين. التسامح واللين بمعنى: أنك حين توقعت الخطأ، وقع الخطأ فعلاً من المرأة، فهي أخطأت عليك، حتى ولو كان خطأً كالشمس في وقت الضحى، فلا بد من الأخذ والرد، الخطأ واضح، ولكن خذ مبدأ التسامح واللين، وادفع بالتي هي أحسن، وحاول قدر المستطاع أن تتحمل ما كنت تستطيع التحمل، وأن تلين بأيدي الطرف الآخر. وليست الرجولة هي أن الإنسان يستأسد لأقل سبب، ويجعل البيت في هيجان وصاخب لأتفه الأسباب، لا. إنما الرجولة هي: أن يكون الرجل بطيء الانفعال والثوران، ولا يتحرك. وتثور أعصابه إلا لأسباب وجيهة وحقيقية. أما المؤسف أن كثيراً من الناس قد لا يغضبون حتى للأمر الديني، فقد يأتي والمرأة لم تصل الفجر إلا بعد طلوع الشمس، فيكون موقفه بارداً جداً. وقد يأتي والأولاد لا يصلون، فلا يتأثر ولا ينفعل، وقد يأتي ويجد في البيت ما لا يرضي، من صور أو مجلات أو وسائل لهو وغير ذلك، فتجد أن هذا الرجل بارد كل البرودة، لكن لو جاء والغداء لم يجهز، أو العشاء لم يجهز، أو الثوب لم يتم كويه، أو ما نظف المجلس، غضب وأرغى وأزبد وثار، لماذا هذا المقياس المقلوب؟! الجزء: 202 ¦ الصفحة: 43 عدم الغيرة والنصيحة السادسة: عدم الغيرة. فإن الغيرة وحش قادر على تحطيم الحياة الزوجية، والغيرة ليست من المرأة فقط، فالرجل قد يغار على زوجته أو من زوجته، والمرأة قد تغار على زوجها، ليس من زوجة أخرى أو بالضرورة من النساء الأخريات. بل قد تغار المرأة على زوجها من أمه، أو من أخواته، أو من قريباته، فإذا رأت أنه يهتم مثلاً بأمه، أو خالته، أو عمته، أو أخواته، غضبت الزوجة، وقالت: أنا وأنا أم أولاده لا أرى هذا الاهتمام، ويعرض عني، وإذا طلبت يماطل. وقد ذكرنا أن الإنسان بطبيعته قد يحترم الأباعد أحياناً أكثر من الأقارب، لأن البعيد فيه شيء من المجاملة، فالعمة إذا جاءت يوماً في الأسبوع إلى البيت وطلبت طلباً، ما يليق بالزوج الذي هو ابن أخيها أن يرفض طلبها، لكن الزوجة التي هي مع زوجها طيلة الوقت، قد تطلب طلباً اليوم ولا يلبيه إلا بعد أسبوع أو شهر، هذا طبيعي. فالغيرة وحش قادر على تحطيم الحياة الزوجية، ولا يمكن أن تزول هذه الغيرة؛ إلا إذا عرف الزوجان أن أحدهما لا يمكن أن يمتلك الآخر امتلاكاً تاماً، مهما كان هذا الأمر مُرٌ على النفس، لكن ينبغي أن يعرفه الرجل وتعرفه المرأة، فالرجل ليس ملكاً لها، وهي أيضاً ليست مِلكاً له تماماً، حتى إن بعض الآباء لو اهتمت المرأة بأطفالها اهتماماً زائداً شعر بشيء في قلبه، لأنه يرى أن الاهتمام يجب أن ينصب إليه هو دون غيره، وعلى الأقل إذا كان هو يرى ذلك، وقل مثل ذلك بالنسبة للمرأة. فلابد إذاً من أن يدرك كل من الطرفين رعاية الآخرين واحترام حقوقهم، وأن هذه الغيرة من أهم أسباب تقويض الحياة الزوجية. أما إذا كان هناك أكثر من زوجة، فهذه الضرة حدث ولا حرج، وإذا وجدت غيرة فمعناه أن مثيرات الغيرة سوف توجد يوماً بعد يوم، وأن الحياة سوف تصبح جحيماً لا يطاق. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 44 المشاركة في الآمال والآلام النصيحة السابعة: المشاركة في الآمال والتطلعات. لا يكون كما قيل: سارت مشرقةً وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب الرجل -مثلاً- همومه تتعلق بالإسلام، ونصر الإسلام، وإعزاز دين الله عز وجل والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصيحة الناس وتوجيههم، أما المرأة فاهتماماتها لا تتعدى جسدها، الثياب والطيب والمكياج والشعر، أنا لا أقول كل النساء، لكن هذا مثال. أو قد تجد العكس -أحياناً- تجد امرأة دينة صينة داعية، همها حضور المحاضرات، والدعوة إلى الله عز وجل ونصيحة أخواتها في الله، ونشر الخير والبر بقدر ما تستطيع، أما الزوج فهو في واد آخر، يسخر من هذه الأمور ولا يكترث لها. فهنا التطلعات والهموم والآمال والآلام مختلفة تماماً، ولهذا تكون الحياة فيها شئ من الصعوبة، اللهم إلا بتوفيق من الله عز وجل فقد تجد وئاماً، وأن الزوج انسجم مع وضع امرأته وأصبح يساعدها، أو الزوجة انسجمت مع الزوج وأصبحت تساعده، ولو لم يحمل نفس الهموم. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 45 الصدق وتجنب الخداع النصيحة الثانية: الصدق وتجنب الخداع. فلو اكتشف الزوج أن زوجته تكذب عليه، فهذا معناه فقد الثقة، ويصبح يشك في كل ما تقوله من معلومات حتى لو كانت صحيحة، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة عندما تكتشف أن الرجل كذاب، ولهذا يتسامح الناس كثيراً في قضية الكذب على الزوجة وهذا جاء في حديث، أي الترخيص في أن الرجل يكذب على زوجته. لكن ليس هذا مطلقاً، فالكذب محرم في جميع الشرائع السماوية، فقد قال تعالى: {لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] ولذلك فإن الكذب على الزوجة هو لا يعدو أن يكون لمصلحة فقط، مثل امرأة العلاقة بينها وبين زوجها توشك -فعلاً- أن تنهار أو تنتهي، فاضطر أو احتاج الرجل إلى أن يلاطف المرأة بكلمة طيبة لتسهيل العلاقة بينهما، كأن يقول لزوجته: إنني -والحمد لله- أشعر بمحبة وارتياح لكِ، وهو لا يشعر في قلبه بهذا كما تفهم الزوجة، وإنما على سبيل الملاطفة، وتهدئة ما في نفسها وتطييب خاطرها. هذا -إن شاء الله- فيه خير، لكن كون الرجل يبني أساس التعامل مع الزوجة على الكذب، فلا يصدقُها في شيء قط، فإن المرأة ليست غبية، تكتشف الكذب، وبالتالي لا تصدقه في شئ حتى لو كان صادقاً. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 46 الاحترام المتبادل بين الزوجين النصيحة الثالثة: الاحترام بين الزوجين. ومن الملاحظ أن الإنسان -أحياناً- قد يحترم البعيد لكن لا يحترم القريب، فالبعيد -لأن العلاقة بينك وبينه علاقة مجاملة- تجد أنك تتبسم له وتتهلل وترحب، وتحاول أن تعامله بلطف وحسن رعاية، لكن القريب قد زالت المجاملات بينك وبينه، فأصبحت المعاملة فيها كثير من الجفوة والضعف، وزال الاحترام المطلوب، وبذلك تكونت مشكلات ليست كبيرة لكنها كثيرة. ومن الملاحظات الصحيحة تماماً أن الذي يهدم العلاقات الزوجية، ليست مشكلة كبيرة يترتب عليها الانفصال، هذا في حالات قليلة، أكثر ما يترتب عليها الطلاق -وأقول هذا عن ملاحظة لحالات كثير من الأسر- أكثر أسباب الطلاق مجموعة من المشكلات الصغيرة، تكونت حتى تكون منها جبل من مجموع حصى صغار، كلمة غليظة ما قبلها الزوج، أو تصرف فيه رعونة، أو جفوة غير مناسبة وهكذا، تجمعت هذه الأشياء حتى كونت في نفس الزوج حملاً كبيراً من الزوجة أو العكس. فترتب على ذلك شعور كل من الطرفين بأن معايشة الآخر مستحيلة، فوصل الزوج إلى قناعة وهو أن عيشته مع هذه المرأة غير ممكنة؛ لأنه أصبح يجد مشكلة في كل ساعة، وبالتالي قرر التخلص منها. ومن أمثلة ذلك: قضية كثرة النقد، أو قضية كثرة مدح الآخرين أمام الطرف الثاني، امرأة تريد أن توجه زوجها، كيف توجهه؟ توجهه عن طريق أن تمدح رجالاً عنده، حتى ولو كان من الناحية الدينية، وتكثر وتقول: فلان ما شاء الله عليه، فيه كذا وكذا، وتجلس تمدح في فلان، وفلان رجل أجنبي عنها وتمدحه مرة وأخرى أمام زوجها، ماذا يشعر هذا الزوج؟ يشعر بأن زوجته تمدح فلاناً أمامه بهذه الطريقة! لا يصلح هذا! فينشأ عنده غيرة وكراهية للزوجة، خاصة إذا كثر هذا الأمر. ومثل ذلك: المرأة إذا أكثر زوجها مدح نساء أخريات أمامها، ولو كان يقصد بذلك أن يكن قدوة لها رجلاً! إنما ينبغي أن يقتصد الإنسان في ذلك. وعلى كل حال فالمشكلات الصغيرة الكثيرة هي التي تكون غالباً سبباً في الطلاق، أما المشكلات الكبيرة فقد تنحل، وقد تكون سبباً في حالات قليلة. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 47 التفاهم والمواصلة بين الزوجين أولاً: ما يسمونه بالتفاهم والمواصلة بين الزوجين، أي: أن يستطيع كل أحد منهما أن يحسن الاستماع والإنصات إلى الآخر، كما يحسن الحديث إليه، والتفاهم في كل أمر، التفاهم في معرفة ما عند الآخر من مشكلات، والتفاهم في معرفة هموم الطرف الآخر، والتفاهم في معرفة ماذا يريد، التفاهم في تعبير كل من الطرفين للآخر عن مشاعره تجاهه. كما أن التفاهم يكون في قضية الطلبات، كيف تطلب المرأة من زوجها؟ وفي أي وقت تطلب؟ فكم من امرأة ألحت على زوجها وألحت حتى كان طلاقها بسبب هذا الإلحاح، والأول يقول: خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب خذي ما جاء بسهولة ويسر، ولا تنطقي في ثورتي حين أغضب، أي: لا تأتي والرجل في شدة انفعاله وغضبه لسبب من الأسباب، فتقولي: أنت ما أتيت بحاجيات هذا اليوم، ولا اشتريت للأولاد ملابس، ولا فعلت ولا فعلت، فيزداد الرجل غضباً إلى غضبٍ، وقد ينطق بكلمة الطلاق في ساعة من ساعات الغضب والانفعال. ولا تضربي بالدف وجهي مرة فيجفوك قلبي والقلوب تقلب فإني رأيت الحب في القلب والأذى إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب حتى لو حظيت المرأة بحب زوجها وارتياحه إليها، إذا رأى الزوج منها الأذى، بالكلام والإلحاح أو كثرة الطلبات وعدم مراعاة ظروفه ومضايقته، فإن هذا مدعاة إلى أن يتقلب ويتغير قلبه عليها، كما أن قضية التفاهم والمواصلة تكون في موضوع الأولاد، فكثيراً ما تقع المشاكل بين الزوجين بسبب الأولاد، الأب -مثلاً- يريد أن يربي أولاده والأم تعترض، أو قد يكون الأب مهملاً والأم تطالبه بذلك، أو قد تختلف طريقة التربية بين الأبوين، فربما الأب يريد أن يؤدب الولد فتقف الأم في وجهه، وهو في ثورة الغضب والانفعال. ولذلك فإن المرأة الحكيمة، إذا رأت الزوج غاضباً منفعلاً، حتى لو ضرب الولد ضرباً لا يضره ولا يترتب عليه آثاراً بدنية ضارة بالولد، فإنها لا تستجيب لعواطفها مع ولدها فتقف في وجه الوالد، فقد يكون الغضب ينزل بها هي بدلاً من أن يكون الغضب بالولد. كما أن من قضية التواصل والتفاهم بين الزوجين موضوع التوجيه، فالزوج يريد أن يوجه زوجته كيف يوجهها؟ هل يوجهها عن طريق تهديدها بسيف الطلاق؟ افعلي وإلا، اذهبي وإلا، حافظي على كذا وإلا، كما هي معروف أي: إذا ما فعلتِ معناه الفراق هذا ليس أسلوب تربية، ولا شرع الله تعالى الطلاق ليكون سيفاً مسلطاً على رقبة المرأة. إنما ينبغي أن يربي الزوج امرأته ويعلمها بمثل ما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يفعل مع زوجاته وبناته، يخوفهم بأيام الله، يخوفهم بالله عز وجل، ويذكرهم بالله، ويقرأ عليهم القرآن، ويبين لهم الحلال، ويبين لهم الحرام، ويأتيهم بالأسلوب المناسب الحكيم. كما أن الزوجة -أيضاً- أكثر حساسية إذا كانت ستوجه زوجها، فقد يكون الزوج -أحياناً- مبتلىً ببعض المعاصي والمنكرات، والزوجة قد منَّ الله عليها بالهداية، فماذا تصنع في التربية، في توجيه الزوج؟ هذه قضية فعلاً ومشكلة تحتاج إلى يقظة؛ لأن كون المرأة وهي بطبيعتها في موقف دون الرجل والله يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] هل تتخذ موقف التوجيه للرجل، إنه يجب عليك أن تتبع كذا وكذا، ويكون دائماً أسلوبها أسلوب التوجيه المباشر؟ هذا قد يثير في الرجل بعض صفات الأنفة والرجولة، التي تجعله يغتاظ من المرأة ولا يقبل منها، وقد ينفخ فيه الشيطان، فلا يقبل من المرأة شيئاً حتى لو كان ما تقوله حقاً. ولهذا فالمرأة الحكيمة إذا أرادت أن تواصل زوجها بالتوجيه؛ تسلك الأسلوب المناسب، من اختيار الوقت اللائق الذي يكون الزوج فيه مرتاحاً هادئ النفس، فتعطيه كلمة توجيه، وإرشاد، أو كتاباً، أو شريطاً، أو نصيحةً، أو شيئاً من شأنه أن يدخل إلى قلب الرجل، ويتسلل إليه شيئاً فشيئاً، حتى يقبل منها وتستطيع أن تؤثر فيه. إذاً: النصيحة الأولى هي: قضية التواصل والتفاهم بين الزوجين، وأن يجيد كل واحد منهما فن الاستماع إلى الآخر، وفن التحدث مع الآخر. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 48 شروط الزوج الصالح الزوج كلمة تطلق في اللغة العربية على الذكر والأنثى، فالرجل زوج المرأة، والمرأة زوج الرجل، هذا هو الأفصح، ويجوز أن تقول للمرأة زوجة، لكن الأفصح أن تسمى المرأة زوجاً للرجل، ويسمى الرجل زوجاً للمرأة. إذاً نحن عندما نقول: شروط الزوج الصالح، نقصد المرأة والرجل على حد سواء، وهي كثيرة، أهمها -أيضاً- بما يتناسب مع ضيق الوقت: الجزء: 202 ¦ الصفحة: 49 التقارب في الطبائع الشرط الخامس: هو التقارب في الطبائع. فأحياناً قد تنظر للزوج بمفرده فتجد أنه رجل فاضل ليس عليه مأخذ، وقد تنظر للزوجة بمفردها؛ فتجدها امرأة فاضلة وليس عليها مأخذ، لكن سبحان الله العظيم! الذي خلق الخلق، وقسم بينهم أخلاقهم وأرزاقهم وطبائعهم، فقد تجد طبائع الرجل لا تركب مع طبائع المرأة أو العكس. وبالتالي هو يطالبها بشيء لا تطيقه، وهي تطالبه بشيء هو لا يطيقه، والسر هو أن الطبائع غير منسجمة، ولذلك ينبغي للرجل أن ينظر في إخوة المرأة، ما مدى تقارب طبائعهم مع طبائعه وانسجامه؟ هذا مهم، كذلك يسأل عن بيتها، وعن أخوالها. وكذلك المرأة تتأكد من هذا الجانب، مدى تقارب وتوافق الطبائع، وكل هذه الأمور ليست عقبات توضع، لكن يضعها الإنسان في اعتباره. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 50 الصفات الجسمية الشرط الثالث: الذي يبحث عنه الرجال: الصفات الجسمية. وهذا لا يحتاج إلى كلام، فإن الرجل يبحث عن الجمال في المرأة، والاعتدال، وهذا أمر لا عيب فيه أن يطلبه الإنسان، بل من الطبيعي أن يطلبه؛ لأنه لا يمكن أن نقول للناس: ابحثوا عن الدين والخلق ولا تبحثوا عن الجمال، فقد يبحث الرجل عن امرأة ذات دين وخلق ولكنه يعزف عنها؛ لعدم إرضائها له، وعدم إشباعها لتطلعه، فيسيء إليها وهي امرأة ذات دين وخلق. ولهذا يروى أن بعض الأئمة كالإمام أحمد كان إذا أراد أن يتزوج امرأة سأل عن جمالها قبل أن يسأل عن دينها، لماذا؟ لأنه يقول: إذا عرفت أنها امرأة تناسبني في الجمال؛ سألت بعد ذلك عن دينها، فإن ناسبني الدين قبلت وإلا رددتها بسبب الدين، أما كوني أسأل عن دينها، إذا عرفت أنها امرأة متدينة ينبغي أن أقبلها، فجعل الكلمة الأخيرة للدين، وبالتالي جعل الشرط الأخير الذي يسأل عنه هو الدين، حتى يكون يقبوله أو رفضه بناءً على كونها متدينة أو غير متدينة. وعلى كل حال أيضاً الاعتدال في قضية الجمال مطلوب؛ لأنك لو نظرت في النساء وجدت أن غالب النساء وسط، ليست بالجميلة الجمال الذي يوصف ويذكر، ولا بالدميمة الدمامة التي تعاب بها، وإنما هي وسط بين بين، هذا غالب النساء، فلا تطمع بغير هذا، وقد تجد قسماً قليلاً من النساء من تتميز بجمال، وقد تجد قسماً آخر يتميز بنقص ظاهر في الجمال، فينبغي أن يكون الإنسان معتدلاً في هذا الجانب. وينبغي ألا يشغلك النظر إلى الجمال الجسدي عن الجمال المعنوي، جمال الباطن -والله الذي لا إله غيره- إنني أقول لكم -أيها الإخوة- عن كلام سمعته من أعداد لا أحصيهم من الشباب الذين جربوا زيجات غير مناسبة، أن كثيراً من هؤلاء قد يكونون عنوا بالبحث عن الجمال، لكن ما عنوا بالبحث عن الجمال الباطن الذي يتمثل في أخلاق المرأة، وسماحة المرأة، وخفة المرأة، فقد يجد امرأة جميلة في الصورة لكنها قبيحة في الباطن، أو ثقيلة في معاملتها، تصبح على نفس الرجل أثقل من جبل، ويتمنى الخلاص منها. إذاً ليست القضية في المرأة هي مقياس جمال الشكل فحسب، بل ينبغي أن ينظر الإنسان إلى جمال الباطن، وأعظم جمال الباطن؛ هو أن تتزين المرأة بالحياء والدين والخلق. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 51 التقارب في المستوى العلمي والاجتماعي الشرط الرابع: هو التقارب في المستوى العلمي والاجتماعي. والتكافؤ في هذا الجانب، فإن كثيراً من الناس -أحياناً- يكون عندهم نوع من الأفكار التي قد تكون خيالية أو مثالية، ليست قريبة من الواقع، فيريد أن يحطم كل شيء، ويريد أن يقضي على كل العادات وكل الأمور، وهذا أمر قد يكون فيه صعوبة في كثير من الأحيان، فينبغي أن يحرص الإنسان على وجود نوع من التقارب. مثلاً: كونها امرأة متعلمة، يتزوجها شاب أمي أقل منها بكثير في المستوى الدراسي والعلمي، هذا خلاف الأصل، لأن الأصل أن الزوج أعلم من المرأة وأعلى مستوى من المرأة، أو على الأقل مساو لها، فكونه يقل وينقص عنها بكثير. حتى إنني سمعت من بعض النساء الفاضلات التي يندر وجود مثلهن، ومع ذلك تشتكي من هذا الجانب، الذي ربما لم تهتم به هي ولا الزوج وقتاً من الأوقات، لكن مع الوقت بدأ يظهر؛ لأن الزواج في السنوات الأولى؛ كونه جديداً هذا يغطي كل عيوبه، لكن بعد سنتين أو ثلاث تبدأ العيوب تظهر. إذاً: على الإنسان أن يدرك أن زواجه -إن شاء الله- مدى العمر، ويرجى أن يكون حتى في الجنة إن شاء الله كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21] فالله تعالى يجمع المؤمنين وأزواجهم في الجنة، ولهذا فهي حياة طويلة في الدنيا -وإن شاء الله- في الآخرة، وليست مجرد متعة مؤقتة يقطعها الإنسان لأيام أو أسابيع أو شهور. وكذلك التقارب في المستوى الاجتماعي، مثلاً: فكون الفتاة من بيت غني جداً تتزوج بشاب فقير هذا مدعاة لأن لا يستمر الزواج غالباً. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 52 قضية الخلق الشرط الثاني وإن كان جزءاً من الشرط الأول لكنه مهم، وهو: قضية الخلق. اسأل عن خلق المرأة، مثلاً:- قضية التواضع هل هي متواضعة أم مستكبرة؟ كثير من الناس قد يجد امرأة في غاية الجمال، لكن غالباً الجمال في المرأة يكون مصحوباً بشيء من الكبرياء والغطرسة والغرور، هذا الذي يهدم، ولذلك العوام يتناقلون كلمة مؤداها: أن المرأة ذات الجمال غالباً لا توفق في زواجها، والمرأة الدميمة أو العادية قد توفق، لماذا؟ لأن المرأة الجميلة، إذا لم تجد تربية في صغرها قد يصيبها نوع من الإعجاب والغرور. وبالتالي تكون مستكبرة فلا يستطع الزوج أن يتحملها؛ لأن الله عز وجل جعل الرجال قوامين على النساء، فإذا شعر الرجل أن المرأة تحتقره أو تزدريه أو تستكبر عليه، رفضها ولا يطيقها بأي حال من الأحوال، إذاً لابد أن تتأكد من أن المرأة متواضعة تعرف قدر نفسها. خلق آخر قضية السماحة. وألا تكون المرأة حادة دائماً وأبداً تطالب، بل فيها سماحة، وفيها لين ويسر وهدوء، وليس فيها شدة انفعال، أو غضب، أو ثوران أعصاب لأتفه الأسباب. صفة ثالثة: قضية الصمت وتجنب الثرثرة، فإن كثرة الكلام مفتاح لكل شر، فإن المرأة التي تكثر من الثرثرة تضايق زوجها في كثير من الأحيان، وتضايقه أمام النساء الأخريات، وتفشي أسراره، إلى غير ذلك، ولا حيلة لأن هذه الأمور إذا تركبت في المرأة وتربت عليها؛ يكون فطمها عنها في الكبر أمراً فيه صعوبة. فلابد إذاً من التأكد من أخلاق المرأة بشكل عام، من لطف المرأة، وسماحتها، وهدوءها، وتواضعها، وصمتها، وحيائها، فبعض النساء امرأة مسترجلة تجد صوتها كأنه صوت رجل، يسمع على مسافة عدة بيوت، والرجل في المسجد يسمع صوت المرأة يدوي في المنزل، تضرب الولد هذا، وتتكلم على هذا، وتنادي فلان. حتى أن الرجل -أحياناً- تضيق عليه الأرض بما رحبت، وتكون هذه المرأة كما يقال: برزة، أي: كثيرة الظهور إلى الرجال، لا تستحي من الرجال، ولا تبالي أن تقف أمامهم، وتفتح الباب وتكلمهم، هذا ليس لائقاً، ليست هذه صفات المرأة، كلما كانت المرأة أكثر انقباضاً وأكثر حياءً، وأكثر بعداً عن الرجال، وأكثر انخفاضاً في الصوت، كان هذا أكثر دلالة على صحة أنوثتها وملاءمتها لزوجها وراحته وسعادته. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 53 قضية الدين قضية الدين: وهذه هي الأساس، كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أفضل من نصح لأمته: {فاظفر بذات الدين تربت يداك} اظفر بذات الدين، الدينة؛ لأن المرأة الدينة تحفظك في نفسها، ومالك، وولدك، وتحفظك في سمعتك، فكم من رجل يكتشف أن في بيته معاصي لا ترضي الله عز وجل بسبب امرأة تخونه، أو رجل يكتشف أن ماله ينقص ولا يدري أين يذهب، فيكتشف أنه يؤخذ من داخل المنزل، أو رجل قد يقعده عن الجهاد في سبيل الله الخوف على أطفال صغار، يقول: أنا لا أثق بأمهم أن تربيهم، لأنها ليست الأم التي يمكن أن تقوم فعلاً على تربية الأولاد، ليست دينة ولا صالحة. كم من إنسان تلطخت سمعته في الخارج، وعلى الأقل افتضحت أسراره، فيأتي الرجل فيجد أن الناس في المجالس يتكلمون عن أسراره في داخل المنزل، لماذا؟ لأنه ما بحث عن المرأة الدينة، والدين كله خير، وكل خير هو في الدين، فحين نقول الدينة، لا نقصد أنها تصلي وتصوم فقط هذا من الدين، لكن أيضاً من الدين أشياء كثيرة: فالخلق من الدين، والحياء من الدين، والمروءة من الدين، والعلم من الدين، وكتمان السر من الدين، والمحافظة على العبادات هو من أهم الأدلة على ذلك، لأن من حافظ على ما بينه وبين الله، وأدَّى الأمانة مع الله عز وجل بالصلاة والصيام والقيام والذكر والتسبيح، فهو -غالباً- أحرى أن يحفظ ويؤدي الأمانة مع العباد. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 54 نصيحة للشباب والشابات ولذلك أقول لكم: كلمة من ناصح لكم، بعد تجارب اطلعت عليها من أعداد غير قليلة من إخوانكم الشباب: أقول: إن أخطر وأهم مرحلة في الزواج؛ هي مرحلة البحث عن الزوجة ولو طالت هذه المرحلة، بعض الشباب إذا هم بالزواج يريد خلال شهر أن يكمل الزواج، وهذه أخطر مرحلة؛ لأن كثيراً من حالات الطلاق، والطلاق مع الأسف الشديد تفشى في مجتمعنا، وقد سألت الإخوة العاملين في الهيئة في أكثر من مدينة؛ فوجدنا أن معظم حالات الفساد التي تكتشف، ممن يقع فيها نساء أو رجال من أهل هذه البلاد؛ تكون من نساء مطلقات أو رجال مطلقين. إذاً: الطلاق ضرر عظيم، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر في صحيح مسلم {إن الشيطان ينصب عرشه في البحر ويبعث سراياه، فإذا رجعوا إليه كل واحد منهم يقول: ما زلت به حتى وفعل كذا وفعل كذا، فعل كذا، فيقول: ما فعلت شيئاً، سيتوب ويستغفر، حتى يأتي أحدهم فيقول: ما زلت به حتى فرقت بينه وبين زوجته، فيقربه ويدنيه ويقول: أنت أنت} أي: أنت الذي فعلت شيئاً كبيراً؛ لأنك فرقت بين الرجل وبين زوجته. لماذا يحرص الشيطان على التفريق بين الزوجين؟ لأنه يعلم أضرار ذلك، أضراره على الزوج، وأضراره على الزوجة، وعلى الأولاد وعلى المجتمع، وأضراره على الأقارب وعلى الأباعد، ولهذا قضية الطلاق من القضايا التي يحرص الإسلام كل الحرص ألا تتم. وأنا أقول: إن من أعظم أسباب الوقاية من الطلاق هو أن يحسن الإنسان البحث عن الزوجة الصالحة، وكذلك المرأة تحسن الموافقة على الزوج الذي يناسبها ويلائمها، ولو طالت هذه المدة، فإن العجلة غالباً هي بسبب عدم التجربة، وأن الإنسان لا ينظر في الزواج إلا إلى الجانب الجسدي فحسب، جانب اللذة والمتعة، وينسى أن الزواج بناء بيت جديد، يرفرف عليه -إن شاء الله- الإيمان والتقوى وطاعة الرحمن جل وعلا، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] . فإذا حصل الزواج ثم لم يحصل هناك وئام، فإن كلاً من الطرفين قد تورط مع الآخر، تورطا بعقد، وتورطا بتكاليف وبعلاقات، وأحياناً بأولاد، وبأمور كثيرة، ولم يكن الطلاق مجرد قرار يُتخذ وتنتهي المشكلة، لكن قبل الزواج الخيار بيدك فتريث وانتظر وتربص وتحرى، وكذلك المرأة تفكر في الأمر جيداً. إذاً: نصيحة ذهبية، أختم بها هذا الحديث للطرفين: هي أنك بكل ما أوتيت من قوة؛ احرص على أن تكون فترة البحث عن الزوج فترة كافية، وأن تكون خلال هذه المدة -أيضاً- واقعياً لا تبالغ، ولا تطلب الخيال أو المحال، لكن أيضاً لا تتعجل وتنظر إلى الجانب المادي أو الجسدي فحسب، فإن الزواج أبعد وأكثر من ذلك. وختاماً أدعو لنفسي وإخواني بما أوصانا الله تعالى به، وذكر عن عباده أنهم يدعون به فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] وأدعو بما ذكر الله تعالى عن عباده -عباد الرحمن- أنهم يدعونه به فقال: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65-66] . وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يصلح ذراري المسلمين، اللهم أصلح ذراري المسلمين، اللهم أصلح شبابهم ونساءهم وشيوخهم وعلماءهم وحكامهم، إنك على كل شيء قدير، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم أصلحنا في الآخرة والأولى، واهدنا إلى سواء السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 202 ¦ الصفحة: 55 المرأة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لقد جعل الإسلام للمرأة مكانة رفيعة فيه فالنساء شقائق الرجال، وحفظ لها شرفها وكرامتها، ولكن كثيراً من اليهود والمغرضين يطعنون في معاملة الإسلام للمرأة وفي هذا الدرس يطوف القارئ طوفة سريعة مع معاملات الإسلام للمرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مجالات مختلفة. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 1 مكانة المرأة من النبي إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد … فيا أيها الإخوة: إن حكمة الله تعالى اقتضت أن يجعل الإنسان من زوجين ذكرٍ وأنثى، وأن يجعل النساء شقائق الرجال، كما في الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وأحمد وغيرهم: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ أم سليم: إنما النساء شقائق الرجال} أي: أن المرأة والرجل نظيران في هذه الحياة في أمورٍ كثيرة في التكليف، والجزاء، والقيام بالواجبات الشرعية الملقاة عليهما، كما أن المرأة خلقت من ضلع الرجل، فهي مشتقة منه، ولذلك فقوام الحياة هو بصلاح الرجل والمرأة واستقامتهما، ووجود العلاقة الشرعية بينهما، وإذا انحرف الرجل أو انحرفت المرأة فسدت الحياة، ودب إليها الضياع والفناء، وموضوعنا الذي نتحدث عنه في هذه الليلة -كما سمعتم- هو عن المرأة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. والرسول صلى الله عليه وسلم هو بشرٌ من البشر، ولكنه نبيٌ مختار عليه الصلاة والسلام: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف:110] ولذلك فقد ولد صلى الله عليه وسلم كما يولد غيره من أبوين من ذكرٍ وأنثى، فكان أبوه عبد الله بن عبد المطلب، وكانت أمه آمنة بنت وهب، ولعل من العجيب أن يموت الرسول صلى الله عليه وسلم في حجر عائشة رضي الله عنها كما في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: {مات رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وفي يومي، وبين سحري ونحري} أي أنها كانت تسنده إلى صدرها صلى الله عليه وسلم قالت: {كان عليه الصلاة والسلام إذا مرض تعوذه بعض نسائه} أي: أنَّ عادته صلى الله عليه وسلم إذا مرض أن ترقيه بعض زوجاته، وتقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتنفث، أو ما شابه ذلك، قالت: {فذهبت لأرقيه أو لأعوذه، فسمعته يقول: بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى} . أي أنه اختار جوار الله عز وجل بعد أن خيره الله تبارك وتعالى، بين الحياة الدنيا ونعيمها والخلد فيها ثم الجنة، وبين لقاء الله تبارك وتعالى والموتِ ثم الجنة، فاختار الرفيق الأعلى فقالت: {فسمعته يقول بل الرفيق الأعلى بل الرفيق الأعلى} قالت رضي الله عنها: {ومر عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه جريدة رطبة، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إليها فظننت أن له بها حاجة، فأخذتها من أخي عبد الرحمن فقضمت رأسها، ولينته، ثم نفضته، فأعطيته النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: فاستن به - أي: استاك به- فما رأيته استن استناناً أحسن منه، عليه الصلاة والسلام ثم قضى صلى الله عليه وسلم، قالت: فخالط ريقي ريقه، عليه الصلاة والسلام في آخر يومٍ من الدنيا وأول يوم من الآخرة} . فهكذا كان النبي القدوة صلى الله عليه وسلم، يولد من آمنة بنت وهب، ويموت في حجر عائشة رضي الله عنها، وهذا معبرٌ عما كان للمرأة من مكانة في حياته صلى الله عليه وسلم، وفي نفسه، وفي هديه وسنته، كما سيتضح بعض ذلك، من خلال الحديث. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 2 طريقة سير الدرس وسأتحدث عن هذا الموضوع، في نحو خمس نقاط: الأولى: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم، أٌماً. الثانية: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم بنتاً. الثالثة: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم زوجةً. الرابعة: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم متعلمةً ومدعوة. الخامسة: المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم في الجملة، وذكر بعض التوجيهات العامة المتعلقة بالنساء. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 3 مكانة الجزيرة في تاريخ الإسلام هذه الجزيرة لها مكانةٌ خاصة، ومنزلةٌ خاصة، وكما أن الله عز وجل أمر شرعاً ألا يجتمع في جزيرة العرب دينان كما جاء ذلك على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، فقد قدر وقضى أن تكون هذه الجزيرة هي عاصمة الإسلام أول مرة، وفي آخر الزمان كما سمعتم في الحديث. ولذلك فإن هذه الجزيرة اليوم هي آخر قلعة من القلاع التي ما زال للإسلام فيها بعض الأثر وبعض القوة، وما زالت المجتمعات في هذه البلاد بحمد الله تتمتع بشيء من التمسك بالدين، وشيءٍ من الحفاظ على الأخلاق الإسلامية، وما زالت المرأة المسلمة في هذه البلاد محجبةً في الجملة، محفوظةً مصونةً مكرمة، ممنوعةً عن الاختلاط بالرجال، أو عن ممارسة الأعمال التي لا تتناسب مع أنوثتها، وهذا ما يغيظ أعداء الإسلام من الشرق والغرب، فيحرصون على محاولة إخراج المرأة من بيتها، ومن مجتمعها الخاص لتعمل مع الرجل جنباً إلى جنب، ولتختلط مع الرجل، ولتمارس الأعمال التي يمارسها الرجل، ومع الأسف الشديد، فإن الذين يقومون بهذه الدعوات، ويطالبون بما يسمونه بحرية المرأة تقليداً لإخوانهم من اليهود والنصارى، الذين دعوا إلى هذه الدعوة التي غذاها الاستعمار في مصر ثم في سائر بلاد العالم الإسلامي؛ مع الأسف أن الذين يدعون إلى هذه الدعوة بين أظهرنا يحرص أعداء الإسلام على أن يكونوا من بني جلدتنا، وأن يتكلموا بلغتنا، حتى يكون تأثيرهم أبلغ، ووقعهم أقوى، وقد قال بعض المستشرقين: (إن شجرة الإسلام لا تجتث إلا بغصنٍ من غصونها) فيحاول الاستعمار، ويحاول أعداء الإسلام أن يوجدوا في المجتمعات الإسلامية، من ينادي بتحرير المرأة، هكذا يسمونه وإلا فهو في الواقع استعباد المرأة، وجعل المرأة مجرد متاع يتمتع به الرجل، جعل المرأة وسيلة للدعاية في الإعلانات، جعل المرأة وسيلة للترفيه عن الرجل في مكان العمل، جعل المرأة ألعوبة بيد الرجل، يعبث بها حتى إذا قضى منها حاجته، ألقى بها كما يلقي بنوى التمر غير آبهٍ بها. فهي في الحقيقة استعبادٌ للمرأة وإن سموه تحرراً، هذه الدعوة التي يحاول أعداء الإسلام أن ينادي بها أبناءٌ من بني جلدتنا وممن يتكلمون بلغتنا، لابد أن نحصن أنفسنا، منها بأن نعطيهم الصورة الصحيحة، التي أراد الله بها تكريم المرأة، وهي الصورة التي كان عليها النبي صلى الله عليها وسلم، وأصحابه، وإذا كان النبي عليه الصلاة والسلام قد قال في حديث الفرقة الناجية وهو يبين من هي الفرقة الناجية: {من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي} فإننا بحاجة إلى أن نعرف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه أصحابه في شأن معاملة المرأة، وماذا كانت مكانة المرأة في حياته صلى الله عليه وسلم. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 4 دواعي الحديث عن المرأة في حياة النبي الحديث -أيها الإخوة- عن موضوع المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مهم لأسبابٍ عديدة، أذكر منها سببين: السبب الأول: لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو موضع القدوة والأسوة، وكل مسلم ينبغي له أن يعرف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم في حياته الخاصة والعامة؛ فيحرص على التأسي به ما استطاع، وبهذا نستطيع أن نتخلص من كثيرٍ من الأمراض والأخطاء الموجودة في معاملة الرجل للمرأة في هذا المجتمع وفي كل مجتمع، فلهذا السبب كان الحديث عن المرأة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام أمراً مهماً. السبب الثاني: إننا نسمع اليوم في هذه البلاد التي شرفها الله تبارك وتعالى واختارها وجعلها مهداً للإسلام أول مرة؛ حيث انبعثت منها أنواره، وجعلها موئلاً يرجع إليها الدين في آخر الزمان كما في الحديث الذي رواه مسلم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: {وإن الدين ليأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها} أي أنه يحَنُّ ويرجع إلى هذه البقاع، فهذه البقاع بقاعٌ اختصها الله وشرفها واختارها، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {لا يجتمع في جزيرة العرب دينان} وقال: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} وكانت هذه من الوصايا التي رددها وهو في مرض الموت عليه الصلاة والسلام، فكان يقول: {أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب} كما في الصحيحين وغيرهما، فقد أراد الله عز وجل شرعاً أن تكون الجزيرة العربية خالصةً للإسلام، لا يزاحمه فيها غيره، ولا ينافسه دينٌ آخر، ولا ينافس المسلمين طائفةٌ أخرى، لا من اليهود، ولا من النصارى، ولا من غيرهم من أهل الأديان المنحرفة، سواء أكانت أدياناً سماوية محرفة، أم كانت مذاهب بشرية مختلقة من عند الناس ما أنزل الله بها من سلطان. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 5 المرأة كأم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فأما في ما يتعلقُ بمعاملته صلى الله عليه وسلم للمرأة باعتبارها أماً: فإن حكمة الله تبارك وتعالى اقتضت أن يموت والدا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشرك، وقبل أن يبعث صلى الله عليه وسلم، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كان من الشرائع التي أنزلت عليه؛ وهي شريعةٌ موافقة للفطرة منسجمة معها، جاءت بها جميع الديانات السماوية الأمر ببر الوالدين، والإحسان إليهما أحياءً وأمواتاً، عرفاناً بفضلهما وجميلهما المتقدم للإنسان، ومقابلةً لمحبتهما، لابنهما، وعطفهما عليه، وشفقتهما عليه. فروى الإمام مسلم في الصحيح، عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه وقد قبرت أمه بالأبواء زار قبر أمه صلى الله عليه وسلم فبكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حوله، وقال لأصحابه: استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن استغفر لها فلم يأذن لي} وقد ورد في طبقات ابن سعد وغيرها أنه صلى الله عليه وسلم بكى رقةً لها، ورحمةً لما يؤول إليه أمرها، حيث ماتت على الشرك، وحيث نهي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى، وورد في أمه نصٌ خاص، كما سمعتم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم، {واستأذنته أن أستغفر لها، فلم يأذن لي} . وهكذا كانت معاملة النبي صلى الله عليه وسلم لمن أحسن إليه في الصغر كحضانته، ومنهن حليمة السعدية، ومنهن الشيماء بنتها، فقد جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبلها، وفرش لها رداءه، وأجلسها عليه، وهكذا كانت معاملته لـ أم أيمن، وكانت حاضنةً له صلى الله عليه وسلم في حياة أمه وبعد وفاتها، فكان يحبها ويقدرها ويحسن إليها، ويتعاهدها بالزيارة صلى الله عليه وسلم، ولذلك عندما مات صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق لـ عمر بن الخطاب كما في الصحيح: [[انطلق بنا إلى أم أيمن، نزورها كما كان صلى الله عليه وسلم يزروها، فلما دخلا عليها وجلسا عندها بكت، وكان المسلمون حديثي عهد بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالا لها، ما يبكيك؟ أما علمت أنما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أما إني لأعلم أن ما عند الله خيرٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكني أبكي لانقطاع الوحي من السماء، فهيجتهما على البكاء، فأخذا يبكيان معها]] . وهكذا أدركت هذه المرأة المؤمنة أمراً عظيماً وخطباً جللاً في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس مجرد فقد شخصه عليه الصلاة والسلام، وإن كان هذا فيه من الحزن العميق، على من عاشوا معه، وسافروا معه، وجلسوا معه، وصلوا خلفه، وسمعوا كلامه، وأمنَّوا على دعائه؛ إن كان في فقد شخصه عليه الصلاة والسلام خطباً جسيماً إلا أن هناك ما هو أعظم من ذلك وهو فقدانهم نزول الوحي من السماء، وهذا ما أدركته أم أيمن رضي الله عنها، فهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم، يزور قبر أمه، ويحسن إلى حاضناته -كما سبق- فهذا دليل كبير على مكانة المرأة كأمٍ وكحاضنة ومرضعةٍ، وكمربية في حياة النبي عليه الصلاة والسلام حين يهتم بإبراز هذا الجانب بشكلٍ عملي، فإنه يعطي المسلمين الأسوة والقدوة في ذلك. وما أحوج المسلمين اليوم إلى أن يعرفوا هذا الأمر وقد تفككت روابط الأسر في كثيرٍ من البلاد، وأصبح الابن في البلاد الكافرة لا يعرف أباه ولا أمه، ولا يهتم به، ولا يحسن إليهما، ولا يهمه أمرضا أم شقيا، أعاشا أم ماتا، اغتنيا أم افتقرا، وأصبح الابن في كثيرٍ من الأحيان قد يسيء إلى والديه ويعتدي عليهما، وذلك بسبب نغمة الحرية التي ينادون بها، فهم يزعمون أن من الحرية أن يفعل الابن ما يشاء، وتفعل البنت ما تشاء، ويفعل الأب والأم ما يشاءان ولا علاقة لأحد بأحد، ولا أمر لأحدٍ على أحد، حتى إن الابن مثلاً ولو كان صغيراً في مقتبل عمره، لو أدبه أبوه وضربه فإنه يرفع سماعة التلفون ويتصل بالشرطة أو بالبوليس، فيحضر إلى البيت ويأخذوا الأب ويحققوا معه، وقد يدينونه بالاعتداء على ابنه، وهذا ليس خيالياً أو كلاماً يقال، هذا والله واقع في كثير من البلاد الكافرة، وقد تسربت عدواه إلى بلاد المسلمين. ولعل من أهم أسبابه: تقصير الأبوين في العناية بأبنائهما- كما سيأتي في فقرةٍ قادمة- ولكن المقصود أن الأبناء بحاجةٍ إلى تذكيرهم بحقوق الأبوين ومكانتهما، ووجوب الإحسان إليهما، وتحمُّل ما قد يصدر منهما من التصرفات التي لا تعجب الأولاد، وهذا الولد هو الآن ابن، وهو بعد وقتٍ غير طويل أب أو أم، كما يفعل لأبويه سيُفعل معه، وكما يريد أن يكون أبناؤه معه فيجب أن يكون كذلك مع والديه. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 6 المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بنتا ً أما النقطة الثانية في هذا الموضوع، فهي: سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع بناته، أو المرأة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام باعتبارها بنتاً: وقد ولد للرسول صلى الله عليه وسلم أربع بنات، هن: زينب ورقية وفاطمة وأم كلثوم، وقد بقيت فاطمة وحدها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أشهراً ثم قبضت كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، {أن فاطمة دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فسارَّها بشيءٍ فبكت ثم سارها بشيء فضحكت، قالت: فسألتها بعد فقالت: أخبرني أنه يموت صلى الله عليه وسلم في مرضه هذا فبكيت، ثم أخبرني أنني أول من يلحق به من أهله فضحكت} نعم ضحكت فرحاً بلقاء محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن أحزنها فراقه ستة أشهر، فحين أخبرها أنها أول من يلحق به، ضحكت، وفي رواية أخرى أنه أخبرها أنها سيدة نساء العالمين، أو سيدة نساء أهل الجنة فضحكت، وكلاهما في الصحيح. أما بقية بناته صلى الله عليه وسلم فقد متن في حياته عليه الصلاة والسلام، وذاق النبي صلى الله عليه وسلم الحزن لفقدهن، وكيف لا يحزن صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب القلب الحنون العطوف، الممتلئ بالحب لأولاده، الممتلئ بالرحمة لهم ولغيرهم من المؤمنين، بل وللدواب وغيرها! وقد ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام، ذهب إلى أبي سيف القين، وكان عنده ابنه إبراهيم، وكان يجود بنفسه، فحمله النبي صلى الله عليه وسلم، ثم فاضت روحه الطاهرة، فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معه رجالٌ من المؤمنين منهم عبد الرحمن بن عوف، فقال: تفعل هذا وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: {يحزن القلب، وتدمع العين، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} . نعم كان صلى الله عليه وسلم يحزن لفراق أولاده وموتهم، ومع ذلك فقد ذاق آلام فراقهم جميعاً إلا فاطمة رضي الله عنها، وهذه حكمة لله تبارك وتعالى، وللمؤمنين به في ذلك ومن يفقدون أولادهم أو أحداً من أولادهم خير أسوةٍ وقدوة، وفي ما يتعلق بمعاملته صلى الله عليه وسلم لهؤلاء البنات، أشير إلى ثلاثة جوانب: الجزء: 203 ¦ الصفحة: 7 رعايته لبناته صلى الله عليه وسلم الجانب الثالث: في موضوع معاملته لبناته صلى الله عليه وسلم، هو موضوع التربية والتأديب والتعليم، فإنه لابد مع العطف والحنان، ومع الرعاية الاهتمام بالمصالح، لا بد من التربية والتعليم والتأديب. ففي القصة السابقة، ظهر جلياً أن النبي صلى الله عليه وسلم يرشد فاطمة رضي الله عنها إلى هذا الأدب، وهذا الذكر، وأنه خيرٌ لها من خادم، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إن هذا الذكر مجرب في منح الإنسان الذي يزاول الأعمال القوة والقدرة على ما يعانيه من الأعمال ذكراً كان أو أنثى، فمن حافظ على التسبيح، والتحميد والتكبير كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم، كان هذا سبباً في قوته ونشاطه، وقدرته على القيام بالأعمال، والمرأة المسلمة ينبغي لها أن تتعلم هذا الأدب الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم لابنته، لتحرص على التسبيح والتحميد والتكبير. المثال الآخر في هذا الموضوع: فهو ما رواه النسائي في السنن الكبرى، وأبو داود، بإسنادٍ فيه راوٍ صدوقٌ له مناكير فلعله أن يكون حديثاً حسناً عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: {أنهم حضروا مع النبي صلى الله عليه وسلم جنازة، فلما صلوا عليها ذهب النبي عليه الصلاة والسلام معهم، فدفنوها ثم رجعوا، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم عند بابه، فإذا بامرأة مقبلة، فلما دنت منه إذا هي فاطمة رضي الله عنها، فقال لها: من أين أقبلتِ؟ قالت: يا رسول الله ذهبت إلى أهل هذا الميت، فعزيتهم بميتهم، ورحمت على ميتهم، قال عليه الصلاة والسلام، لعلك بلغت معهم الكدى، والكدى المقصود بها المقابر، لأن الناس يضعون قبورهم في الأرض الصلبة التي إذا حفرت لا تنهد، لعلك بلغت معهم الكدى، قالت: لا، يا رسول الله، كيف أفعل وقد سمعت ما قلت} أي: من التشديد في منع النساء من زيارة المقابر، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: لعن الله زوارات القبور، فقالت: لا، وكيف أفعل وقد سمعتك تقول ما قلت؟ {فقال عليه الصلاة والسلام: لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك} وجد أبيها من المشركين الذين كانوا في الفترة والله أعلم، فالمقصود أنها لو فعلت لما دخلت الجنة وهذا وعيدٌ شديد وإن كان لا يقتضي كفر من زار المقبرة من النساء بلا شك، وإنما يقضي أن هذا ذنبٌ يعاقب عليه بالتعذيب في النار مدةً ثم يخرج المعذب من النار متى شاء الله، ولا يقتضي هذا الخلود فيها، فأنت إذا نظرت إلى هذه القصة، وجدته صلى الله عليه وسلم أولاً، يستغرب ويستعظم على بنته أن تخرج من البيت، ولذلك سألها ما الذي أخرجك من بيتك؟ يستغرب خروجها، وهذا دليل على أن الأصل أن تقر المرأة المسلمة في بيتها أسوةً بنساء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسوةً بنساء المؤمنين، واستجابةً لأمر الله تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب:3] . فالأصل للمرأة القرار في بيتها، وخروجها من البيت لا يكون إلا لمصلحة أو حاجة، كأن تخرج لما لا بد لها من حوائجها، أو لتعلم علمٍ ينفعها، أو لزيارة مريض، أو لصلة رحم، أو لخيرٍ، أو لحاجة دنيوية لا بد لها منها، وإلا ففي ما عدى ذلك، فالأصل في المرأة القرارُ في بيتها. ولذلك سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة ما الذي أخرجك من بيتك؟ ثم قول النبي صلى الله عليه وسلم: {لعلك بلغت معهم الكدى} دليل على أنه يحرص عليه الصلاة والسلام على معرفة تصرفات بناته، وماذا عملن حتى في غيبته، وحتى فيما لم يطلع عليه ليطمئن على ذلك، فأين هذا اليوم مما نجد من كثير من الأولياء؟ وقد أطلقوا العنان لبناتهم، وتركوا الحبل على الغارب، فالبنت تخرج من بيتها تخرج ليس للمدرسة -مثلاً- ولا لحضور محاضرة أو علم، ولا لزيارة قريب، وإنما تخرج للسوق، وربما تخرج بصفة مستمرة تخرج يوماً لتشتري حاجة، ثم تخرج اليوم الثاني لترد هذه الحاجة لأنها غير مناسبة طويلة أو قصيرة أو لونها غير مناسب أو ما أشبه ذلك، فلابد من تغييرها وتخرج في اليوم الثالث لتشتري حاجة لبيت الجيران، وفي اليوم الرابع والخامس وهكذا، حتى أصبحت مسألة التسوق -وهي كمثال- أمراً عادياً عند الكثيرين، وأصبح كثير من الآباء يرون أن من العيب أن يراقبوا تصرفات بناتهم، وذلك من باب حسن الظن في بعض الأحيان والغفلة، فتجد أن الأب لأنه يعرف أولاده منذ الصغر، ويحسن الظن بهم يفسر تصرفاتهم على أحسن المحامل دائماً. وعلى سبيل المثال يأتي الأب -أحياناً تأتيه- فاتورة التليفون فيجد فيها مكالمات طويلة عريضة، ومبالغ ضخمة، والبيت مملوء ببناته ممن لم يربهن ولم يعلمهن العلم الشرعي، ولم يحرص على توجيههن، بل تركهن لغيره، فربما يذهب ذهن الأب إلى أن هذه الكميات الكبيرة من المكالمات خطأ من المسئولين في الهاتف أو ما أشبه ذلك، لكن لا يذهب ذهنه إلى أن هناك احتمالاً أن يكون هناك مكالمات في داخل البيت لم يعلم هو بها، مثال آخر يوجد في كثير من البيوت تجد أن الأب يأتي بسائق في البيت، وهذا السائق شاب في غالب الأحوال، وبشر وإنسان مهما يكن الأمر، فتجد هذا السائق يذهب بالبنات إلى المدرسة ويرجعهن منها، وإلى السوق، وإلى الأقارب، وإلى كل مكان بلا حسيب ولا رقيب، وكأن هذا السائق ليس إنساناً، وأن بناته لسن نساءً يجول في خواطرهن وضمائرهن ما يجول في ضمائر غيرهن، فالرسول عليه الصلاة والسلام حين يسأل ابنته فاطمة سيدة نساء العالمين، يسألها: ما الذي أخرجك من بيتك؟ ولنا في ذلك أسوة وقدوة أن الأب يراقب تصرفات أولاده ذكوراً وإناثاً، وأيضاً أن الولد ذكراً كان أو أنثى لا يجد غضاضة أن يسأله أبوه أين كنت؟ ومن العجيب يذكرون أن رجلاً عمره يفوق الستين شيخ من إحدى البلاد الإسلامية وكان مسئولاً كبيراً في ذلك البلد، وكيلاً في وزارة، فكان يقول: بلغ عمري ستين سنة، وكان أبي شيخاً كبيراً في البيت، فكنت إذا دخلت منذ طفولتي وإلى تلك السن إذا دخلت يسألني: أين كنت؟ ومع من؟ حتى اعتاد على هذا الأمر فكان يقول له في الكبر يا أبي أنا الآن كبرت وأصبح أولادي لهم أولاد، فقال له اسمع يا ولدي هذان السؤالان لابد منهما أين كنت؟ ومع من كنت؟ فالكثير من شبابنا اليوم وفتياتنا يجدون غضاضة أن يسألهم أبوهم، أو تألهم أمهم، أو يسألها أبوها، أو تسألها أمها: أين كنت، وليس في هذا من غضاضة. الأمر الثالث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام حين يقول لبنته: {لو بلغت معهم الكدى ما دخلت الجنة حتى يدخلها جد أبيك} تحذير من الخطأ الذي لم يقع معه حذراً مما قد يقع، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أن بنته لم تبلغ الكدى ومع ذلك وجهها هذا التوجيه، ولذلك فعلى الأب أو المربي أو الموجه ألا ينتظر حصول الخطأ حتى ينبه عليه، بل أن يسبق الأحداث ويحرص على أن يوجه أولاده ومن ولاه الله أمرهم قبل أن تقع منهم الأخطاء، فكما يقال (الوقاية خير من العلاج) . هذا فيما يتعلق باهتمامه صلى الله عليه وسلم ببناته. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 8 نموذج آخر أما النموذج الآخر والذي يدل أيضاً على اهتمامه بشئونهنَّ فهو ما رواه أبو داود أيضاً، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: {إن فاطمة رضي الله عنها بنت رسول الله عليه الصلاة والسلام -وكانت تحته، كانت زوجته- إنها جرت بالرحى حتى أثرت في يدها، وكنست البيت حتى اغبرت ثيابها، وطبخت حتى أثر فيها} بنت من؟! بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تقوم بهذه الأعمال المنزلية من الكنس، والطبخ، والطحن، والعجن، والخَبز، وغيرها من الأعمال، وتمارس وتعاني هذه الأشياء بكل سرور وارتياح، ولا تجد في ذلك غضاضة، أنها بنت محمد صلى الله عليه وسلم، فهي كغيرها من المسلمين، بل ربما يجد غيرها من المسلمين من السعه أكثر مما تجد. فسمع علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جاءه رقيق، أعبُدٌ، عبيد جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبره بالخبر، وفي روايةٍ أن فاطمة جاءت فلم تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدت عائشة فأخبرتها بالخبر، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكرت عائشة رضي الله عنها له ذلك، فجاء إلى علي وفاطمة وقد أخذا مضاجعهما في الليل، فقعد بينهما صلى الله عليه وسلم، ثم قال: {ألا أدلكما على ما هو خيرٌ لكما من خادم، إذا أويتما إلى مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين، وسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، فإنه خيرٌ لكما من خادم} والحديث بهذه الرواية رواه أبو داود، ولكن أصل أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالتسبيح، مخرجٌ في الصحيحين: {إذا أويتما على مضاجعكما فكبرا أربعاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين وسبحا ثلاثاً وثلاثين، فإنه خيرٌ لكما من خادم} . هكذا كان صلى الله عليه وسلم، في اهتمامه بشئون بناته، وحرصه على رعايتهن. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 9 نموذج من الرعاية حصل لـ أبي العاص قصةٌ أخرى تشبه هذه ذكرها أهل السير كـ ابن إسحاق وغيره، ذكروا أن أبا العاص بعثت معه قريشٌ بأموال وبضائع إلى الشام، وكان أبو العاص يتعاطى التجارة، فلما قفل أبو العاص من الشام صادف أن كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد بعث سرية بأمه زيد بن حارثة، وهي تسمى سرية العيص، فأخذوا ما جاء به أبو العاص من الأموال والبضائع، وأفلت منهم أبو العاص وهرب إلى المدينة وكان مشركاً آنذاك، وهذه السرية قيل إنها بعد خيبر أخذ المسلمون أمواله أما هو فأفلت منهم وجاء مسرعاً إلى المدينة، ودخل على زينب رضي الله عنها دون أن يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، وأخبر زينب زوجته بالخبر، فلما كبَّر النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، وكبر المسلمون صاحت زينب بأعلى صوتها لتسمع المسلمين وقالت: [[ألا إني قد أجرت أبا العاص]] فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: {أسمعتم ما سمعت} قالوا: نعم، فقال: {والله ما كان لي علمٌ بشيءٍ من ذلك حتى سمعتُ ما سمعت} . أي: أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم بمقدم أبي العاص، ولا بأن زينب كانت تريد أن تجيره، ولكن يجير على المسلمين أدناهم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فقبلوا جوار زينب له، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لها -كما تقول هذه الرواية- وهي روايةٌ فيما يظهر أنها مرسلة رواها ابن إسحاق عن أبي بكر بن حزم؛ قال لها صلى الله عليه وسلم: {أحسني إليه، ولا يخلص إليك، فإنك لا تحلين له} لأنه مشرك، وهي مسلمة. فلما رأى المسلمون ذلك أجاروه وقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم -كما في هذه الرواية- {إن أبا العاص منَّا حيث قد علمتم، وذكر سابق إحسانه، فإن رأيتم أن تردوا إليه ماله} فرد المسلمون جميع ما بأيديهم حتى القليل القليل من الخيط أو غيره، استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ أبو العاص هذه الأموال جميعها، وذهب بها إلى أهل مكة، وسلمهم أموالهم، وردَّ إلى كل واحدٍ منهم ماله وربحه، فلما انتهى قال: [[أبقي لأحدٍ منكم شيء؟ قالوا: لا، وقد أحسنت إلينا فجزاك الله عنا خيراً، فقال: أما إني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكنني لم أسلم في المدينة، خشية أن تظنوا أني أسلمت طمعاً في أمواله، أو أني أخذت شيئاً من أمواله، أما وقد وصلت إليكم أموالكم، فإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله]] . ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا نموذج من عنايته صلى الله عليه وسلم ببناته. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 10 الاهتمام والرعاية الجانب الثاني: هو جانب الاهتمام والرعاية: فأنتم تجدون أن بعض الناس -أحياناً- قد يحب أولاده، ويعطف عليهم، لكنه لا يهتم بهم ولا يربيهم، ولا يحرص على جلب المصالح لهم، ولا على دفع المفاسد والمضار، والمساوئ عنهم، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو المثل الأعلى في جميع ذلك. انظر إلى موقفه صلى الله عليه وسلم، مع ابنته زينب، التي سبق أنها كانت مع أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكان كافراً مشركاً في مكة، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم، كانت زينب عند أبي العاص في مكة، ولما وقعت غزوة بدرٍ وأسر المسلمون من أسروا من المشركين كانوا يطلبون منهم الفداء، وكان من ضمن الأسرى، أبو العاص، زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلب منه المسلمون الفداء، كما يطلبون من غيره من الأسرى، فأرسلت زينب -زوجه بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- من مكة بقلادة لتكون فداءً لزوجها، وكانت هذه القلادة لها تاريخ مؤثر في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثير هذه القلادة ذكرى في نفسه عليه الصلاة والسلام ليست بالهينة، فكانت هذه القلادة لـ خديجة رضي الله عنها، المرأة التي كان لها أبلغ الأثر في حياة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد وضعت خديجة هذه القلادة في عنق زينب حين أهدتها وأدخلتها على أبي العاص، فلما رآها النبي صلى الله عليه وسلم، لعله تذكر خديجة وما كان من شأنها، ورقَّ لبنته رقةً شديدة حتى بكى صلى الله عليه وسلم وقال للمسلمين: {إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا} لا يأمرهم أمراً، إنما يلتمس منهم التماساً، فقال المسلمون: نعم، فأطلقه النبي صلى الله عليه وسلم، ورد القلادة إلى زينب واشترط على أبي العاص مقابل إطلاقه بلا مقابل أن يرد زينب إلى المسلمين ويرسلها إلى المدينة، فلما وصل أبو العاص إلى مكة، بعث بـ زينب إلى المدينة فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً معه وأمرهما أن يستقبلاها ويحملاها إلى المدينة، والحديث رواه أبو داود في سننه. فانظر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، لم يقتصر على حب زينب والعطف عليها، بل كان حريصاً على إيصال الخير إليها بكل وسيلة، ودفع الشر عنها بكل وسيلة، حتى لتدمع عيناه ويرق رقةً شديدة حين يرى هذا المنظر، ويرى القلادة قد بعثت من قِبَلِ زينب لتكون فداءً لـ أبي العاص. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 11 الحنان والعطف الجانب الأول: جانب الحنان والعطف: فقد كان قلبه عليه الصلاة والسلام معموراً، بحبهن، والعطف عليهن، والرفق بهن، والحرص على إدخال السرور إليهن بكل وسيلة، فقد روى أبو هريرة كما في الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وكان عنده الأقرع بن حابس التميمي، فتعجب الأقرع، وكان رجلاً من الأعراب، فقال: إني لي عشرة من الولد، والله ما ما قبَّلتُ أحداً منهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ} وفي لفظٍ قال عليه الصلاة والسلام: {أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك!!} أن يكون لك عشرة من الولد فلا تقبلهم، ولا تشمهم، ولا نفرح، ولا تطرح بهم، من يفعل هذا الإعراض، فالرحمة منزوعة من قلبه، ومن لا يرحم لا يُرحم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا كان هذا شأنه مع الحسن أو مع الحسين، فشأنه مع أمهما، ومع خالاتهما، بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد وأقوى، فحب الولد أعظم من حب ولد الولد، وفي الصحيحين أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حاملٌ أمامة، وأمامة هذه هي بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوها هو أبو العاص بن الربيع بن عبد شمس، وكان صهراً للنبي صلى الله عليه وسلم، مدحه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: {وعدني فوفاني، وأثنى عليه خيراً} وَحَمْلْ النبي صلى الله عليه وسلم لـ أمامة بنت بنته ربما يكون -والله أعلم- بعد وفات أمها، حيث أشفق عليها، وحنَّ عليها صلى الله عليه وسلم بعد فقد أمها، فخرج بها أو كان يخرج بها معه إلى الصلاة، فيصلي وهو حاملها، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها، وهذا الحديث كما سبق في صحيح البخاري وصحيح مسلم، وهو عجبٌ من العجبْ، هذا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان وقته كله معموراً بالعلم والتعليم والجهاد والدعوة، ما بين سفر وإقامة، واستقبال وفود وإرسال سرايا أو بعوث، وخروجٍ في مغازٍ، ونزول الوحي، وتعليم وصلاة وقراءة، هذا النبي المختار صلى الله عليه وسلم، على رغم امتلاء وقته بهذه الأعمال الجليلة لا يغفل عن هذه الصبية الصغيرة، أمامة بنت بنته، فيعزيها عن فقد أمها بأن يحملها على كتفه صلى الله عليه وسلم وهو خارج إلى الصلاة بالمسلمين، وكأن هذا إعلان أمام المسلمين كلهم بأن الإسلام ورسول الإسلام صلى الله عليه وسلم يأمر بالعطف على الأولاد، والرفق بهم، والحنو عليهم. وقد يقول قائل: إن هذا الأمر أمرٌ جِبِلَّيْ أو عاطفي عند كل أب، فالواقع أن هذا أمرٌ صحيح، فقد ركز في قلوب الآباء العطف على الأبناء حتى الحيوانات، وقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح قال: {إن الله عز وجل خلق مائة رحمة، أو جعل مائة رحمة، فأنزل منها رحمةً واحدةً في الأرض، فبها يتراحم الناس والدواب، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه} إلى هذا الحد. لكن تعجبون أيها الإخوة إذا علمتم أن القوم الذين تنكبوا هدي الله عز وجل، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، قد مسخت فطرهم، التي فطروا عليها، والتي ما زالت تتمتع بها الحيوانات، قد مسخوا وتغيروا، ولذلك ذكرتُ فيما سبق أنهم في البلاد الكافرة لا يحنو الأب على ابنه، ولا يعطف عليه، وإن حنا عليه في طفولته وصغره بعض الحنو، إلا أنه بعد ما يبلغ سن الحادية عشرة أو الثالثة عشرة، أو الرابعة عشرة، ذكراً كان أو أنثى، يفقد الأب عطفه عليه، فيخرجه من بيته، ويأمره أن يقوم بإعالة نفسه، وأن يدبر شئونه بنفسه، ويبين له أنه ليس لديه استعداد أن ينفق عليه، أو يعيله، ولا يأويه في البيت إلا بمقابل الأجرة، وقد لا يلقاه إلا في الشهر مرة، أو في الشهرين مرة، فيشير له بيديه هكذا بالسلام، وهو ماشٍ في عرض الطريق لا يقف، ولا يسائله عن حاله. وهذه الأمور الموجودة عندهم من مسخ الفطرة وانحرافها يمكن أن تتسرب إلى المسلمين إذا لم يهتموا بمراجعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم ومحاولة أن يكون عطفهم على أولادهم، وحبهم لهم، وشفقتهم عليهم، مع كونه فطرياً أن يكون أيضاً بنية واحتساب حتى يثاب عليه الإنسان، ويزيد منه. ولم يكن اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالأولاد الصغار، -ذكوراً كانوا أو إناثاً- مقصوراً على بناته عليه الصلاة والسلام، أو على بنات بناته، بل كان شاملاً لأطفال المسلمين كافة، فكان المسلمون إذا ولد عندهم ولد، جاءوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيحنكه، ويبرك عليه، وربما بال الصبي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا بشيءٍ من الماء فرشه عليه. وقد روى البخاري في صحيحه: {عن أم خالد بنت خالد -وهي كانت صبيةً صغيرة- أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته ثياب، فكان فيها ثوبٌ أخضر صغير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ترون نعطي هذا؟ يستشيرهم، فسكت الناس!! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم، بـ أم خالد بنت خالد هذه -نفسها- فجيء بها محمولة -وكونها محمولة يدل على صغرها- فألبسها النبي صلى الله عليه وسلم الثوب بيده!! وقال لها: أبلي وأخلقي، وفي بضع النسخ، أبلي واخلفي} فقوله أبلي وأخلقي، يعني من الأخلاق، وكأنه يدعو لها أن يطول عمرها، حتى إخلاق هذا الثوب، فهو دعوةٌ بطول العمر، وأما واخلفي، فالمعنى دعاءٌ بأن يخلف الله عليها غيره إذا بلي هذا الثوب، أخلف الله عليها غيره، قال لها: أبلي وأخلفي. وكان في هذا الثوب خطوط وأعلام خضر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يشير إليها ويقول: {هذا سنا يا أم خالد} وكلمة (سنا) معناها في لغة الحبشة: أي حسن جميل، هذا جميل!! فانظر في هذا الحديث، رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف حتى أطفال المسلمين، فيسأل عن صبية اسمها أم خالد، ثم يدعو بها، ثم يلبسها الثوب بيده صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو لها بأن تبليه، وتخلف غيره، أو يخلف الله عليها غيره، ثم يضفي على هذا الثوب صفة الجمال والحسن الذي يفرح به الصبي الصغير إذا قيل له: إن هذا الثوب الذي عليك ثوبٌ حسنٌ جميل، ثم يكنيها صلى الله عليه وسلم بـ أم خالد، وكل هذه الوقفات تدل على أسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في معاملة الصغار، وعطفه عليهم، ولطفه بهم، ومحبته لهم، وهذا كان منه صلى الله عليه وسلم، أولاً: أمرٌ جَبَلَهُ الله عليه، لأنه صاحب قلبٍ كبير، يسع محبة المؤمنين جميعاً، حتى من يخطئون عليه، ولا يعرف الحقد، أو الحسد، أو البغضاء، أو الكراهية إلا أن تكون في ذات الله عز وجل، فكان قلبه قلباً كبيراً يتسع لمحبة هؤلاء، وحتى الأطفال. ثم كان هذا -ثانياً- تعليماً منه صلى الله عليه وسلم لأمته كيف نعتني بالأطفال، وكيف ندخل السرور عليهم، وقد يظن بعضهم أن في هذا شيئاً من المشغلة، أو إضاعة الوقت. والواقع الذي يشهد به التاريخ، وتشهد به الحياة القائمة اليوم، وتشهد به العلوم التربوية التي درسها العلماء في هذا العصر أن مرحلة الطفولة تؤثر تأثيراً كبيراً في شخصية الإنسان في جميع مراحل حياته بعد ذلك، فالإنسان الذي تلقى في طفولته العطف والحنان والحب والرحمة؛ تجد أنه بعدما يكبر يكون إنساناً عطوفاً، حنوناً، محباً، رحيماً، مشفقاً، محسناً إلى الناس، والإنسان الذي حرم من العطف والحنان، وعاش حياة فيها جفاء، وفيها قسوة، وليس فيها عطف، ولا لطف؛ تجد أنه حين يكبر لا يعرف العطف، ولا يعرف الحنان، ولا يعرف المحبة، وتجد أنه شخصٌ قاسٍ غليظ على الآخرين. ولو نظرتم في بعض الجبابرة الذين عرفهم التاريخ، وسجل لهم الأعمال السيئة من القتل وسفك الدماء، وتخريب الديار، وتحطيم المجتمعات لوجدتم أن غالبهم إن لم يكن كلهم من الذين فقدوا العطف والحنان في طفولتهم، فشعروا بالحقد على المجتمعات، فما إن كبروا وصار بأيديهم شيءٌ من القدرة على ذلك حتى حطموا ما استطاعوا، ولو نظرتم إلى الناس الذين أحدثوا آثاراً حميدة في الحياة، وأحسنوا إلى عباد الله ما استطاعوا، ونفعوا الخلق بما قدروا، لوجدتم أنهم جميعاً أو غالبهم من الذين تلقوا في طفولتهم ومطلع حياتهم تربيةً حسنة، ورعاية من أبويهم، أو ممن يقوم مقام الأبوين، فكم من يتيم -يتيم الأبوين أو يتيم الأب- ومع ذلك كان له من الأثر في التاريخ الشيء العظيم، لأنه لقي من يحسن إليه ويتعاهده بالرعاية في طفولته، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يموت أبوه وهو حملٌ في بطن أمه، ثم تموت أمه وهو صبيٌ صغير، فيقيض الله عز وجل عمه أبا طالب، فكان يعطف عليه ويقدمه حتى على أولاده. فالمهم أن من وفق في طفولته للرعاية والحنان يصبح لهذا الأمر تأثيرٌ بليغٌ في شخصيته بعدما يكبر، ومن حرم من العطف والحنان، فإنه حين يكبر يصبح قاسياً غليظاً لا يشعر بالود ولا بالرحمة، هذا جانب في عناية النبي صلى الله عليه وسلم بالمرأة، وهو جانب العطف والحنان والمحبة. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 12 المرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كزوجة الأمر الذي يليه هو الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم باعتباره زوجاً، أو معاملته عليه الصلاة والسلام لزوجاته. وهذا الأمر يطول الكلام فيه، فكما في الصحيح من قول أبي هريرة فيما أظن، وخير هذه الأمة أكثرها نساء، أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولحكمةٍ ما تعددت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حتى مات عن تسع نسوة، وذلك أمر خاص به عليه الصلاة والسلام، أما غيره فلا يجوز له أن يزيد على أربع قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] ولعل من أسرار هذا التعدد عنده صلى الله عليه وسلم أنه رسول للبشرية كلها منذ أن بعث وإلى قيام الساعة، فكان الناس بعده بحاجة إلى معرفة كل تصرف يفعله صلى الله عليه وسلم حتى في داخل البيت مع زوجاته، كيف يتوضأ صلى الله عليه وسلم؟ وكيف يغتسل؟ وكيف ينام؟ بل كيف يكون مع أهله في الفراش؟ وهذه الأشياء كان لابد من عدد من النساء ينقلنها عنه صلى الله عليه وسلم. أما الأمور الأخرى التي كانت خارج منزله صلى الله عليه وسلم فكان ينقلها عنه الجماهير الغفيرة من الصحابة رضي الله عنهم الذين يصحبونه في سفره وحضره، وينقلون عنه أقواله وأفعاله عليه الصلاة والسلام، فكان وجود هذا العدد من النساء سبباً في معرفة هديه صلى الله عليه وسلم في منزله. ومن العجيب أننا الآن وبعد مرور أربعة عشر قرناً على وفاته صلى الله عليه وسلم ما زلنا نعرف أدق التفاصيل عن حياته البيتية مما لا يعرفه الواحد منا عن جاره، أو أخيه، أو زميله في العمل، ولا يعرفه الأب عن ابنه، ولا يعرفه الابن عن أبيه، الابن لا يعرف كيف يقضي أبوه حياته في داخل غرفته الخاصة، أو في منزله الخاص، والأب لا يعرف هذا من ابنه، والصديق لا يعرفه من صديقه، لكننا نعرف ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك حتى تتم الأسوة والقدوة {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] . وهديه صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بمعاملته لأزواجه، وبالمناسبة فاستعمال كلمة أزواج للمرأة وهو جمع زوج والمرأة تسمى زوجاً والرجل أيضاً يسمى زوجاً، وهذا هو الأفصح وهو الذي ورد في القرآن الكريم، وأما تسمية المرأة زوجة فهي أيضاً فصيحة وصحيحة، ولكن تلك أفصح منها فيقال أزواج بمعنى زوجات، ففيما يتعلق بتعامله صلى الله عليه وسلم مع أزواجه أيضاً أشير إلى ثلاثة جوانب: الجزء: 203 ¦ الصفحة: 13 التأديب والتعليم الجانب الآخر والأخير ولعله آخر المطاف هو أيضاً فيما يتعلق بمعاملته صلى الله عليه وسلم لزوجاته فيما يتعلق بتأديبهن وتعليمهن: فإن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأزواجه أمر واسع، وكما سبق أن المسلمين عرفوا كثيراً من السنة عن طريق أمهات المؤمنين، ولكن أكتفي بمثال واحد يتعلق بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم وتأديبه لأزواجه فيما يتعلق بالأحوال البيتية، ومعاملة الرجل لزوجه أو لزوجته، وهو حديث ابن عباس عن عمر رضي الله عنهما وهو في الصحيحين في قصة هجر النبي صلى الله عليه وسلم وإيلائه من نسائه، والحديث طويل وعجيب ولكن لا يتسع الوقت لسرده، إنما الشاهد منه أن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر عليه نساؤه في طلب النفقة فآل النبي ألا يقربهن شهراً، وجلس في مشربه ليس له أي عيش، حتى شاع بين المسلمين أن الرسول صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، وجلس المسلمون في المسجد يبكون لأن النبي صلى الله عليه وسلم طلق نساءه، نعم بيت النبوة، كان يهم كل مسلم الحفاظ عليه، فالمسلمون رجال كبار يجلسون في المسجد يبكون ويسمع بكاءهم لأن الرسول أشيع أنه قد طلق نساءه، وجاء عمر مغضباً لأن بنته حفصة تحت النبي صلى الله عليه وسلم فجاء غاضباً على حفصة ودخل عليها وقال لها: إنه كان يحذرها من هذا، لأنه كان يقول لها لا يغرنك أن تكون ضرتك -يعني عائشة - أجمل منك، وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحذري أن يطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أردت فأنا أحضره لك، ولا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فجاء ينبهها إلى هذا الأمر، ثم دخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا، فكبر ثم خرج، فأخبر الناس، فكونه صلى الله عليه وسلم يهجر نساءه شهراً فهذا نوع من التأديب (هجر المرأة) وهو مشروع إذا دعت الحاجة إليه، لقول الله عز وجل: {وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنّ} [النساء:34] فهذا الأول والثاني: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} [النساء:34] . والثالث: {وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء:34] وشأن الرسول صلى الله عليه وسلم مع زوجاته شأن عجيب. أيها الإخوة ولو جمعت الأخبار والأحاديث الصحيحة المتعلقة بمعاملته لأزواجه لكان فيها عبرة وأسوة وقدوة، ولكن لا يتسع المجال لأكثر من ذلك. فيجب علينا معشر المسلمين والمسلمات أن نحرص على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي به في كل أمورنا الخاصة والعامة، في البيت وخارج البيت، والله أعلم وصلى الله وسلم على عبده محمد وأهله وأصحابه أجمعين. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 14 جانب الحب والمودة أما الجانب الأول فهو: جانب الحب والمودة: وقد جعل الله تبارك وتعالى الزواج سكناً ورحمة ومودة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21] فالزواج سكن ومودة ورحمة وألفة. ولذلك كان الزواج من سنن المرسلين فالله عز وجل ذكر عن المرسلين أنه جعل لهم أزواجاً وذرية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالزواج فقال في صحيح مسلم عن ابن مسعود: {يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء} وهذا عام للذكر والأنثى فهو يصح أن يقال عن الفتاة كما يقال عن الشاب. ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بالحب لأزواجه على تفاوت في ذلك، في الصحيحين عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية قِبَلْ نجد، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله من أحب الناس إليك قال: عائشة، قال: فمن الرجال قال: أبوها} إلى آخر الحديث، فأولاً الرسول صلى الله عليه وسلم يشعر بالحب والمودة في قلبه لـ عائشة رضي الله عنها أكثر مما يشعر لغيرها من الناس، فهي أحب الناس إليه رضي الله عنها ثم إنه صلى الله عليه وسلم لا يستحي من هذا الأمر، أو يكتمه، أو يكنه، بل يعلنه ويعرب عنه ويقول لسائله: أحب الناس إليَّ عائشة، وكان حبه صلى الله عليه وسلم ل عائشة أمراً عجباً، وله في ذلك قصصٌ وأحداثٌ يطول المجال لو تعرضت لها، ومن أراد أن يراجعها فليراجعها، فكثير منها في الصحيحين والسنن وغيرها، فقد كان صلى الله عليه وسلم يحب عائشة، ولم يكن هذا الحب مقصوراً على عائشة، بل ورد في حديث الإفك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت عن زينب بنت جحش: [[وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله بدينها، أي أنها لم تدخل في الإفك، ولم تقل إلا خيراً]] ف زينب كانت تسامي عائشة وتنافسها سواء من حيث الجمال، أو من حيث المكانة عند الرسول صلى الله عليه وسلم. وكذلك تجدون أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل على زينب وكان رجال يتحدثون في مجلسه صلى الله عليه وسلم فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استبطأهم وهو ينتظر أن يخرجوا بعد أن أكلوا طعام الوليمة، فخرج عليه الصلاة والسلام ثم دار على نسائه كعادته فكان يقول: السلام عليكم، وكيف حالكم؟ ويسأل نساءه عن أحوالهن، ثم رجع فوجد هؤلاء الرجال لا يزالون جالسين فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلاً عرفوا أنهم أثقلوا عليه فقاموا مسرعين وخرجوا. فوضع النبي صلى الله عليه وسلم الحجاب، والحديث أصله في صحيح مسلم. فكونه يستبطئ جلوس هؤلاء الرجال، ويرغب أن يُتيحوا له الفرصة ليخلوا بزوجه، هذا دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر وضع الله عز وجل في قلبه ما فيه المحبة لزوجاته، وجعل الزواج سكناً ومودة ورحمة له عليه الصلاة والسلام كما هو لسائر الأمة المحمدية، هذا من حيث المحبة. ولاشك أنه عليه الصلاة والسلام يتفاوت حبه لأزواجه بعضهن عن بعض، ولذلك اشتهر حبه ل عائشة، وكذلك زينب كان يحبها صلى الله عليه وسلم، ولا يمنع هذا أن يكون حبه لبعض نسائه دون ذلك كما تدل عليه روايات كثيرة وهذا لا شيء فيه، فكان صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيح: {اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك} هذا قسمي فيما أملك أي من الأشياء التي بمقدور الإنسان أن يعدل فيها، فلا تؤاخذني أو فلا تلومني فيما تملك ولا أملك، وذلك هو الحب في القلب وما يترتب عليه، فهذا لا يمكن أن يوجد الإنسان في قلبه محبة لأحد ليست موجودة إلا أن يشاء الله، {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:24] هذا من جانب. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 15 حسن المعاشرة أما الجانب الثاني: هو حسن معاشرته صلى الله عليه وسلم لأزواجه. بعض الرجال قد يوفق لامرأة يحبها لكنه يكون سيئ الخلق جاف الطبع، فتجد أنه يسيء إليها ويسبها، ويظلمها، وربما يطلقها في ساعة غضب ثم تضيق عليه الأرض بما رحبت لأنه يحبها، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين محبته لزوجاته عليه الصلاة والسلام وحسن العشرة، وانظر إلى هذه النماذج من حسن العشرة. في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: {كنت ألعب بالبنات} أي: تضع لها لعباً من البنات بيدها وهي لعبة بدائية بسيطة وليست كاللعبة الموجودة اليوم وبها تقاسيم وصور، كأنها حقيقية، بل ربما تكون أجمل أحيانا من الصورة الحقيقية، صور بدائية بسيطة تصنعها بيدها فتقول: {ومعي بعض النسوة وبعض الفتيات الصغيرات، فإذا دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجن فإذا خرج دخلن} فتيات صغيرات يخجلن من الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا دخل البيت خرجن وإذا خرج من البيت دخلن، يلعبن مع عائشة بالبنات. وأعجب من ذلك الرواية التي رواها أبو داود عنها وهي عجب من العجب بعدما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك تقول عائشة رضي الله عنها: {كنت قد وضعت بناتي، التي كنت ألعب بهن في كوة، أي نافذة في الجدار وعليها الستار فجاءت الريح فحركت الستر فرأى النبي صلى الله عليه وسلم البنات فقال: ما هؤلاء البنات يا عائشة؟ قلت: هؤلاء بناتي، ثم وجد بينهن فرس أيضاً مصنوعة بنفس الطريقة -طريقة بدائية بسيطة وموضوع لهذا الفرس أجنحة من رقاع- فقال: ما هذه الفرس! فرس له أجنحة؟! فقالت عائشة رضي الله عنها: أما سمعت أن لسليمان عليه السلام فرساً لها أجنحة، قالت: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم} وأنتم تعلمون أنه عقد عليها عليه الصلاة والسلام وعمرها ست سنين ودخل بها وعمرها تسع سنين وهذا هو الصحيح. فلذلك كانت تعمل هذه الأشياء التي تتناسب مع سنها رضي الله عنها وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يراعي ذلك فيعاملها بهذه المعاملة كما سمعتم، ولذلك قالت هي أيضاً كما في الصحيح لما ذكرت نظرها إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد، وأنها وضعت خدها على خد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسترها من الناس وهي تنظر إليهم يلعبون حتى ملت، فلم يضيق عليها رسول الله صلى لله عليه وسلم أو يقول يكفي، تركها على رسلها حتى إذا اكتفت من النظر إليهم أومأت، قال اكتفيت قالت نعم، فانصرفت رضي الله عنها، فكانت تقول فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، أي أن الرسول عليه والصلاة والسلام كان يعاملها بهذه المعاملة لحداثة سنها، ولا شك أن المرأة حين تكبر لا تقوم بمثل هذه الأعمال أصلاً لا عائشة رضي الله عنها ولا غيرها من أزواجه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرعى الجانب الواقعي في شأن المرأة، يروي النسائي في سننه عن أنس: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت عائشة، وكان عنده بعض الضيوف فأرسلت إحدى أزواجه -وهي أم سلمة - بطعام في صحفة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأت عائشة الطعام في الصحفة يأتي إلى بيتها غارت وغضبت وجاءت بفهر -وهو الصخرة أو الحصاة بقدر اليد- فضربت هذه الصحفة حتى وقعت وانكسرت، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: غارت أمكم، ثم أخذ الصحفة وأضاف الكسرتين إلى بعضها ووضع عليهما الطعام وقال: كلوا فأكل الضيوف، ثم جاء الطعام بعد ذلك فرد النبي صلى الله عليه وسلم الصحفة السليمة إلى أم سلمة التي أرسلت بالطعام، وجعل الصحفة المنكسرة لـ عائشة رضي الله عنها وقال طعام بطعام وإناء بإناء} والمقصود هاهنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام يتحمل ما قد يصدر من المرأة بحكم طبيعتها، فالغيرة أمر طبيعي عند المرأة، ولا يمكن أن يُتجاهل، والإنسان حين يتعامل مع المرأة، يجب أن يدرك ويقدر الفطرة والطبيعة التي فطرها الله تبارك وتعالى عليها؛ لئلا يقع فيما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام حين قال في الحديث الصحيح: {إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج ما في الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرتها، وكسرها طلاقها} . الجزء: 203 ¦ الصفحة: 16 الأسئلة الأسئلة: الجزء: 203 ¦ الصفحة: 17 صوت المرأة السؤال ما حكم صوت المرأة مقارنة بمناداة زينب رضي الله عنها الناس وهم أجانب؟ الجواب صوت المرأة ورد في أحاديث أنه عورة، لكن هذه الأحاديث فيها مقال، والصحيح أن صوت المرأة ليس بعورة، ويجوز للمرأة أن تتحدث للحاجة سواء حديثاً مباشراً أم بواسطة الهاتف أم غيره إذا كانت تتحدث لحاجة أو مصلحة كما يقع -مثلاً- في بعض المسئولات عن بعض الأعمال والدوائر وغيرها، أو كما يقع للاستفتاء والسؤال، أو للتعليم، أو لما أشبه ذلك، أو السلام أيضاً على بعض الأقارب والمعارف والجيران. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 18 دور المسلمة في الدعوة إلى الله السؤال ما هو دور المرأة المسلمة وواجبها في الدعوة إلى الله عز وجل نحو زميلاتها في المدرسة؟ الجواب دور المرأة المسلمة في ذلك دور عظيم، وعلى عاتقها مهمة كبرى، وذلك لأن مجتمع النساء في بلادنا ولله الحمد مجتمع مغلق في الجملة عن الرجال، فالمرأة تستطيع أن تؤثر في بنات جنسها، أما الرجال فتأثيرهم في أوساط النساء قد يكون قليلاً لأسباب كثيرة، فالمرأة أبلغ في التأثير على بنات جنسها، ولذلك فمسئولياتها كبيرة، ويجب على كل فتاة تشعر بأنها تستطيع أن تقدم خيراً لأخواتها، العمل على النصيحة والإرشاد، ونشر الكتب المفيدة، وكذلك الأشرطة والمحاضرات المفيدة، وترتيب الأنشطة بين النساء في الأماكن التي يجتمعن فيها، والتي يكون فيها تقوية لإيمانهن، وتحذير من الأخطاء والفتن المحدقة بهن، وهذا الواجب يحتاج إلى أن يتصدى له بعض المؤمنات اللاتي عرفن واجبهن نظراً لغلبة الجهل على كثير من النساء والمتعلمات أيضاً، كثير منهن ليس لديها الشعور بواجب الدعوة، وهذا يضاعف من المسئولية على كل فتاة تشعر بأنها تستطيع أن تدعوا إلى الله أو تصلح ولو بعض الإصلاح. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 19 التطيب والخروج، ودخول المسجد للحائض السؤال بعض النساء تحضر إلى هذه المحاضرة وقد تلبست بالعطر والبخور ونحو ذلك، وبعضهن عليها الحيض أي العادة الشهرية وتتوقع أن هذا الموقع أنه منحاز عن المسجد أو منفصل عنه؟ الجواب أما فيما يتعلق بالحائض فلا يجوز لها دخول المسجد كما في حديث أم عطية: {وأمر الحيّض أن يعتزلن مصلى المسلمين} فدخول الحائض في المسجد لا يجوز، ولا شك أن المكان الذي تجتمع فيه النساء في هذا المكان يعد جزءاً من المسجد، أما خروج المرأة متطيبة ومتعطرة للمسجد فهو لا يجوز، وقد نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث أبي هريرة وغيره أنه قال: {وإن خرجت على قوم فمرت عليهم فوجدوا ريحها فهي كذا وكذا} أي: زانية، والحديث صحيح. وقال صلى الله عليه وسلم: {وليخرجن وهن تفلات} أي: بعيدات عن التجمل والتطيب والتزين، والمرأة المسلمة حضرت لتسمع الموعظة، والذكر، والقرآن، وكلام الله عز وجل، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام المؤلفين والعلماء والمصنفين، ومثل هذا المكان ينبغي الاستعداد له بتفريغ الخاطر، والانتباه، والإنصات، والسؤال عما يشكل وما أشبه ذلك، وأيضاً نقل هذا العلم للآخرين، ونشره بينهم، وحثهم على المشاركة فيه، أما التزين والتطيب والتجمل فلا يناسب هذا المقام، بل لا يناسب خروج المرأة أصلاً. فالمرأة إذا لم يجز لها أن تتطيب لخروجها إلى المسجد فإن يكون ذلك محرم عليها إذا خرجت لغيره من باب أولى، اللهم إلا لو كان خروجها إلى مجتمع نسائي بحت لا تمر من عند رجال ولا تقترب منهم ولا يكون ريحها يصل إليهم. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 20 آلة اللهو وحكمها في البيت السؤال إذا كان لدى الابن آلة لهو كالفيديو -مثلاً- ونحو ذلك ويُخاف إن قام أحدٌ بتكسيره أو إخفائه أو منعه يصاب هذا الابن بحالة نفسية؟ الجواب الأصل أن الأب هو القيم على البيت -السائلة أمه- وهي التي تخاف هنا، ولكن أيضاً يُسأل عن دور الأب فإذا كان الأب، موجوداً فيجب أن يقوم هو بهذا العمل، لكن لنفترض أن الأب غير موجود متوفى -مثلاً- أو في حكم المتوفى، ومن هو الذي في حكم المتوفى الأب المنشغل عن بيته الذي لا يهمه ما يكون في البيت وماذا يقع، إما لضعف شخصيته، أو لانشغاله في التجارة وغيرها، أو لانشغاله مع الأصحاب الذين يقضي وقته في اللهو واللعب معهم، أو لأن الأب نفسه غير مستقيم ولا يمانع من وجود مثل هذه الأشياء، فهنا يأتي دور الأم، وعلى الأم أن تقاوم، وتدرك أنها مسئولة حينئذٍ عن إخراج هذه الأجهزة من البيت وإبعادها وحماية الأطفال منها، وجود هذه الأجهزة في البيت هو ضار بالابن الذي أحضرها، ولكن ضررها أيضاً يتعدى إلى بقية من في البيت من الأبناء والبنات الآخرين وسواهم، ممن قد لا يكون لهم تعلق -أصلاً- بوجود هذا الجهاز، لكن حين وجد بدأ تعلقهم فأثر فيهم تأثيراً سيئاً، ولم يقتصر على الشخص أو الفرد الذي أحضره، فلا بد من إخراجه والبحث عن الوسيلة المناسبة التي تضمن خروج هذا الجهاز، مع محاولة ألا يسخط الابن، ولكن لو حصل سخطه وانفعاله، فأيضاً لابد في مثل هذه الحالة، من إخراج هذا الجهاز والتخلص منه. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 21 منهج تربية الطفل السؤال ما هو المنهج الأفضل الذي ينبغي على الأم أن تسلكه في تربية أولادها؟ الجواب المنهج الأفضل للتربية الحديثة فيه يحتاج إلى أن يخصص الإخوة القائمون على هذه المحاضرات -جزاهم الله خيراً - حلقة خاصة يُتحدث فيها عن موضوع التربية، إنما يمكن أن أشير إلى بعض النقاط السريعة فمن ذلك: أولاً: من المهم في تربية الطفل مراعاة ما سبق من إشباعه بالحنان والعاطفة، وهذا أمر يحتاج إليه كثيراً في سن الطفولة، ولهذا نجد الآن أن كثيراً من الأمهات يعزفن عن إرضاع أطفالهن ويلجأن إلى الرضاعة الصناعية، وهذا له أثر سلبي على الطفل -كما ذكر ذلك علماء التربية وغيرهم- لأن الطفل يتلقى مع لبن الأم يتلقى الحنان والعاطفة والمودة وينشأ على ذلك، فهذه قضيه مهمة أن تحرص الأم على أن تغذي ابنها بالعطف والحنان، بعض النساء تذكر أنها لا تُقبل أبناءها وأطفالها، ولا تقربهم ولا تضمهم إليها، وربما تنتقد من يفعل ذلك، وهذه يشبه حالها حال الأقرع بن حابس الذي ورد ذكره في الحديث السابق والذي استغرب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقبل بعض ولده. الأمر الثاني: أن على الأم ألا تعود الطفل كثرة الصراخ والضجيج والتعنيف، فأكثر أمهات اليوم أسلوبها في التربية أسلوب الصراخ، فتجد أن الطفل، بطبيعته من غير الممكن أن يجلس في زاوية ويضع كفيه على ركبتيه ويسكت! هذا لا يمكن. ما خلق هكذا، خلق فعالاً متحركاً فتجد أنه يريد أن يذهب ويأتي، ويعمل، ويتحرك، ويلعب، ويتكلم، وقد يفسد ويخرب بعض الأشياء وهذه أشياء طبيعية، لكن معالجة هذه الأشياء يجب أن تكون بصورة هادئة ومقدر فيها وضع الطفل وطبيعته، بحيث يعوّد على أن هناك أشياء لا يصلح أن يفعلها، ويكون معه حزم في هذا الجانب، ويعطى فرصة في أشياء معينة، فإذا وقع منه خطأ يبين له أن هذا خطأ، وإذا أريد عقابه يعاقب بالتوبيخ الهادئ، يعاقب بالحرمان من بعض الأشياء، بدلاً من أن كنت تعطيه شيئاً أحرمه من هذا الشيء، لأنك فعلت كذا وكذا، يثاب أيضاً، لا يكتفى بالعقاب، بل يثاب فيعطى بعض الأشياء التي تشجعه على بعض الأمور فإذا فعل أمراً حسناً يجد من أهله الفرح بهذا الأمر والتشجيع سواء بالكلام، أو بالفعل، ويعطي بعض الأشياء التي تجعله يكرر مثل هذا الفعل، إذا صدر من الطفل تصرف غير صحيح وهو مضحك فعلى الأم وكذلك الأب أن يتجنبوا أن يضحكوا للطفل في مثل هذه الحالة، لأن الطفل يفهم أن الضحك يعني سرور الوالدين بهذا التصرف. على سبيل المثال قد يكون الطفل لا يزال يتعلم النطق بالحروف، فقد يقول كلمة نابية أو شتيمة فيفرح الوالدين بها لأنها تدل على أن الطفل بدأ يتكلم فيضحكون، فالطفل يتعود من ذلك أن هذا أمر حسن ويكرره بعد هذا، فلذلك إذا صدر من الطفل تصرف غير صحيح وهو مثار ضحك فينبغي للوالدين ألا يضحكا أمام الطفل، لأنه سيفهم من ذلك الموافقة على هذا والإعجاب به. كذلك على الأم أن تحرص على تلقين أطفالها المبادئ البسيطة من الشهادتين، وحب الله تبارك وتعالى ومحبة الوالدين، وتجنب الكلام السيئ، والجنة، والنار، وما أشبه ذلك، فهذه الأمور إذا وجدت مع الطفل منذ نعومة أظافره فإنها تستقر بإذن الله في قلبه، ثم كلما كبر احتاج إلى وسائل جديدة في التربية، وإلى تضافر الجهود من الوالدين في ذلك، وكما ذكرت أن موضوع التربية الحديثة فيه يطول، إنما هذه بعض اللمحات السريعة. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 22 حول متابعة الأزياء السؤال سيدة تقول: يرجى التوجيه حول متابعة المرأة لأحداث الموديلات والأزياء، وما هو وجه التقويم في مثل هذا؟ الجواب هذا سبق الإشارة العابرة إليه، وذلك أن اليهود أيها الإخوة والأخوات يحرصون على أشياء منها أمران مهمان عندهم: الأمر الأول: نهب أموال الناس وخيرات البلاد. والأمر الثاني، بل يجب أن يكون هو الأول، إفساد أخلاق الأمم وعقائدها وأديانها، ولذلك لجأوا إلى وسائل كثيرة، منها أنهم أوجدوا لهم دوراً ومحلات خاصة في فرنسا وغيرها لتصدير الأزياء والموضات وغيرها، فهم يصدرونها إلى أنحاء العالم، وكل يوم يخرجون بجديد ولا يمنع أن يساعدهم في ذلك بعض الأمميين من غير اليهود الذين أصبحوا ألعوبة في يد اليهود، ومن الأمر العجيب جداً والذي تلاحظه الأخوات المسلمات بوضوح أن هذه الأزياء التي تصدر للعالم تصبح كأنها أمر حسم، وحزم، وحتم لا يسع الفتاة أن تخالفها، فسرعان ما ينتشر انتشار النار في الهشيم فيصبح هو موضة العصر أو الوقت، وتتوارثه البنات بعضهن عن بعض، ويتناقلنه حتى تصبح الفتاة التي تخرج عن هذا التقليد وتخالفه مثار سخرية من زميلاتها أحياناً دون أن يعلم هؤلاء النسوة المسكينات أنهن وقعن فريسة للتضليل اليهودي والخداع، وأن هذا الأمر يقصد من ورائه أمور: أولاً: تحطيم الأخلاق، لأن الموضات تختلف، فأحياناً لا يمنع أنهم يأتون بموضات طويلة، أي: ثوب يسحب في الأرض، المرأة المقلدة لا مانع لديها أن تلبس ثوباً يسحب في الأرض ما دام أنه موضة جاءت من البلاد الأوروبية، لكن حين يكون هذا أمر من عند الله، أو من عند الرسول صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من المسلمات تمتنع عن هذا الأمر، وإن كان الكثير منهن يمتثلن أيضاً والحمد لله، وهذا أمر طيب ولا بد من التنويه به، لكن هذه الموضة يمكن أن تكون في وقت آخر ثياباً فاضحة ويتعمد اليهود أن يعرضوها في صور نسوة جميلات، وفي صور مغنيات وممثلات، يأخذن جولات حتى على البلاد الإسلامية، ويعرضن رقصات وغيرها في أجهزة الإعلام، فيشاهد الرجال والنساء هذه الأشياء ويتلقونها وينفذونها. فهناك خطر على الأخلاق والأديان أولاً وهناك خطر على الأموال ثانياً، ولا شك أن خطر الأموال لا يقاس بخطر فساد الدين وفساد الخلق، ولكنه أيضاً خطر وارد وواقع. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 23 السفر والركوب مع غير محرم ش السؤال تقول: أرجو توضيح حكم النساء اللاتي يذهبن إلى الدراسة خارج البلاد، ويذهبن مع سائق لا يصطحب سواهن أو زوجته، كذلك أيضاً بعض الطالبات تفاجئ عندما تركب أتوبيس حتى في داخل البلاد أن السائق ليس معه امرأة وأنها هي وحدها أو طالبة أو طالبتين معها؟ الجواب الرسول صلى الله عليه وسلم حذر في الأحاديث الصحيحة من أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، فبعضها أطلق هكذا أن تسافر المرأة، وفي بعضها مسيرة يوم وليلة، وبعضها مسيرة ثلاثة أيام، فسفر المرأة بغير محرم واستقدام المرأة أيضاً بغير مَحرَم مُحَرَّم، فالفتاة التي تسافر بدون محرم تقع في الإثم، والعائلة التي تستقدم امرأة للخدمة أو لغيرها ليس معها محرم أيضاً تقع في الإثم وتشارك فيه، فعلى المرأة المسلمة ألا تسافر إلا مع ذي محرم، وحين تكون داخل البلد ويكون مع السائق امرأته -مثلاً- فهذا لا بأس به، أما لو وجدت الفتاة أنه لا يصحب زوجته معه وقد تكون وحدها في الأتوبيس، فحينئذٍ عليها أن تبلغ عن هذا الأمر، لأن الجهات المسئولة فيما اعتقد تمنع السائق إلا أن يكون أو تكون بصحبته زوجته. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 24 مصافحة المحارم وتقبيلهم السؤال هل يجوز التقبيل والمصافحة للمحارم، غير الزوج؟ الجواب التقبيل والمصافحة، أما المصافحة للمحارم فجائزة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن مصافحة المرأة الأجنبية، أما فيما يتعلق بالتقبيل فأيضاً ورد ما يدل على جواز ذلك لكن ينبغي أن ينتبه إلى الفرق بين المحارم، فرق بين الأب -مثلاً- وبين الأخ، فالأب أقرب وأشد علاقة بابنته من الأخ بأخته، ولذلك فإن الأخ عليه أن يتجنب أن يقبل أخته يعني أن يقبلها في فمها -مثلاً- وإنما لا بأس من المعانقة عند القدوم من السفر أو ما أشبه ذلك عند القدوم من غيبة طويلة، وأما الأب فقد ورد أن أبا بكر رضي الله عنه قَبَّلَ عائشة رضي الله عنها وينبغي أن ينتبه إلى أن كل أمر يثير شهوة الإنسان ويحرك غريزته فهو محرم حتى ولو كان مباحاً في الأصل، وفي هذا العصر أيها الإخوة وجدت مغريات كثيرة، ووجد نوع من المسخ في الفطر، ولذلك تسمعون بين الآونة والأخرى عن محرم قد ينتهك عرض محرمه وهو محرم لها، كأخته والعياذ بالله أو قريبته التي تحرم عليه، بل ربما يقع أعظم من ذلك، ولذلك يجب التنبيه إلى أنه حتى هذه الأشياء إذا كانت مثار شهوة، أو غريزة، أو تدعوا إلى الفتنة فإنها تكون محرمة حينئذ، فالأب يحرم عليه أن ينظر إلى ابنته بشهوة، والأخ يحرم عليه أن ينظر إلى أخته بشهوة، ومن باب أولى أن يكون التقبيل كذلك. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 25 أحكام شعر الرأس للمرأة السؤال تسأل كثير من النساء عن التصرف في شعر الرأس في تقصيره، أو تسريحه، أو ما أشبه ذلك، أو جعله ضفيرة واحدة، فحبذا لو بينت لنا ما يجوز من ذلك وما لا يجوز؟ الجواب بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد ففيما يتعلق بموضوع الشعر وكيفية تصرف المرأة في شعرها، هناك جانبان لا بد من مراعاتهما: الأول: أن الله تبارك وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم حرم على المسلمين ذكرانهم وإناثهم التشبه بالكافرين فقال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فحذرنا سبحانه أن نكون كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وكذلك الرسول عليه الصلاة والسلام قال في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من تشبه بقوم فهو منهم} وهذا اللفظ عام {من تشبه بقوم فهو منهم} أي: في الخير والشر، وإن كان سياق الحديث يدل على أن التشبه المنهي عنه هو المقصود بالأصالة، ولكن يمكن أن يكون معنى الحديث عاماً، فمن تشبه بالصالحين والسلف والصحابة والتابعين رجالاً ونساءً فهو منهم، ومن تشبه بالمشركين واليهود والنصارى فهو منهم، والفتاة التي تتشبه -مثلاً- بعارضات الأزياء، وبالممثلات، وبالمغنيات، فهي تحشر معهن، وهى معدودة منهن في شرع الله، ومن تشبه بقوم فهو منهم، وهذا هو مضمون قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فإن التشبه نوع من التولي، فأي عمل فيه تشبه أو يقصد من ورائه التشبه بالمشركين فهو حرام، سواء كان في اللباس، أو في غيره لهذا العموم. ولذلك فكون بعض الفتيات تتابع الموضات والأزياء والتسريحات كما يقولون ففي كل وقت تسريحة لها طريقة خاصة ونظام خاص، وهذه التسريحة تصدر من عند أصحاب التجميل ودور الأزياء وتصفيف الشعر في الدول الأوروبية، وتصدر إلى البلاد الإسلامية، فتراها الفتاة المسلمة ظاهرة على الممثلة -مثلاً- أو المغنية، فتقلدها في ذلك، وهذا أثر آخر من آثار مشاهدة المسرحيات والأغاني وغيرها من الأمور التي حرمها الله عز وجل على المسلمين، ففي مثل هذه الحال يحرم على المرأة المسلمة التشبه بهؤلاء النسوة في مثل هذه الأشياء. بل ينبغي على المسلمة أن تكون مستقلة بأمورها وأعمالها وطريقتها في الحياة وطريقتها في التجمل وما أشبه ذلك، أما فيما عدا ذلك فالأصل الإباحة، وقد ورد في صحيح مسلم أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رؤوسهن حتى تكون كالوفرة، وهذا يدل أيضاً على الجواز، ومثله أيضاً طريقة تسريح الشعر وكيفية جدله هل يكون بهذه الطريقة أم بتلك، كل هذه الأشياء الأصل فيها الإذن، إلا إن كان المقصود بشيء منها التشبه بالمشركين فحينئذٍ يكون محرماً، لا لذاته لكن لدخول قصد التشبه فيه، والله أعلم. الجزء: 203 ¦ الصفحة: 26 أحاديث موضوعة متداولة تحدث الشيخ حفظه الله تعالى في هذا الدرس عن خطورة الكذب بصفة عامة، وخاصة إذا كان على النبي صلى الله عليه وسلم وأنه موجب للنار، وكيف أن الأحاديث الموضوعة مطعن في الدين، وأن مجموعة من أعداء الدين من الكفرة والرافضة حاولوا دس كثير من الأحاديث عند المسلمين، وما زالوا، ثم ذكر نماذج من الأحاديث الموضوعة، مبيناً الواجب تجاه أي حديث موضوع، ثم أجاب عن جملة من الأسئلة في هذا الموضوع. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 1 خطورة الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. إخوتي الكرام: إن الله تبارك وتعالى حرّم في كتابه العزيز أخلاقاً ذميمة، منها: الكذب عليه أو على خلقه. بل لعن الكاذبين، كما في قوله تعالى: {فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] . وإن من أشد الكذب وأعظمه الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أنه يتضمن مع الكذب الذي هو خصلة ذميمة، آثاراً سيئة كثيرة: منها: إدخال شيء في الدين ليس منه؛ إذ أن القول المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتضمن تحريم أمر أو تحليل آخر، أو تفضيل شيء، أو وعدٍ، أو وعيدٍ، أو خبر، أو نحو ذلك. ومنها: الحط من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن المتجرئ على الافتراء على الرسول عليه الصلاة والسلام، قد سقطت من قلبه هيبته صلى الله عليه وسلم؛ فتجرأ على التقول عليه بما لم يقل. ولذلك كان الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم كبيرة من كبائر الذنوب، وإثماً عظيماً بالاتفاق، بل إن من أهل العلم من اعتبره كفراً بالله عزوجل، ولا شك أن من استحلَّ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو كافر بالله العظيم. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 2 الأدلة على تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتواتر: {من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} . وهذا حديث متواتر، ورد عن جمع كبير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم جمع كبير من التابعين، حتى إن بعضهم قال: رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم نحو (200) من أصحابه، وذكر له الإمام ابن الجوزي في الموضوعات نحو (80) طريقاً، وصنف فيه بعض العلماء مصنفات مستقلة، حيث صنف فيه الطبراني مثلاً جزءاً في حديث: {من كذب عليّ متعمداً} . وقد رواه البخاري ومسلم يرمز له في صحيحيهما، وغيرهما من أهل العلم، وفيه نص على تحريم الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وعلى أنه كبيرة من كبائر الذنوب؛ يستحق فاعله الوعيد بالنار {فليتبوأ مقعده من النار} وفي لفظٍ: {فليلج النار} . وما ذلك إلا لما يتضمنه من الكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم من التحريف في الدين، وإدخال شيء ليس منه في ضمنه، والحط من قدر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك من المثالب والمضار. ولقد بُليَ الإسلام والمسلمون منذ زمن بعيدٍ، بمن يفترون على الله وعلى رسوله الكذب، ويُلصقون بالإسلام ما ليس منه، ويدعون أنه من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم. فأما القرآن الكريم، فلم يكن لأحد أن يستطيع أو يحاول أن يدخل فيه شيئاً ليس منه؛ وذلك لأن الله تكفَّل بحفظه، كما قال سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] . الجزء: 204 ¦ الصفحة: 3 موقف يدل على حفظ الله لكتابه إن في القرآن الكريم من البلاغة والإعجاز، ما لا يستطيع أحد من البشر أن يدخل فيه شيئاً، ولذلك ذكر القرطبي وغيره من المفسرين، قصة حدثت في عهد بعض خلفاء بني العباس، وهي: أن يهودياً دخل على هذا الخليفة، فتكلم في حضرته بكلام أعجب الخليفة، فدعاه إلى الإسلام فرفض، ثم خرج من عنده، فلما مضت سنة دخل هذا الرجل على الخليفة، وهو يقول: يا أمير المؤمنين، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فتعجب الخليفة من ذلك، وقال له: إني دعوتك العام المنصرم إلى الإسلام فأبيت، وكان حرياً أن تُسلم لما رأيت من عقلك وحلمك وعلمك، فما الذي دعاك اليوم إلى الإسلام؟! فقال: يا أمير المؤمنين، إنني خرجت من عندك فأحببت أن أبتلي وأختبر الأديان كلها، فأتيت بنسخة من التوراة، وكنت أحسن الخط، فكتبت منها كتباً، وحرفت فيها وغيرت وبدلت، ثم وقفت بها على باب بيعة من بيع اليهود، فاشتروها مني بأغلى الأثمان. ثم أتيت إلى نسخة من الإنجيل، فكتبت منها كتباً، فحرفت فيها وبدلت وزدت ونقصت، ووقفت بها على باب الكنيسة، فاشتراها مني النصارى بأغلى الأثمان. ثم عمدت إلى نسخة من المصحف فكتبتها، وحرفت فيها وغيرت وزدت ونقصت، ووقفت بها على باب الجامع، فوقف الناس بعد الصلاة عندي، ونظروا في هذه النسخ، وقلبوها؛ فاكتشفوا ما فيها من التحريف والتزوير، والنقص والزيادة، فأخذوها مني وأحرقوها، وضربوني عند باب المسجد، فعرفت أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله، فذلك الذي دعاني إلى الإسلام. وهذا مصداق قول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] على ما هو مشتهر عند أكثر علماء الأصول وغيرهم، من أن المقصود بالذكر في هذه الآية هو: القرآن. وإن كان الإمام ابن حزم رحمه الله، ذهب في كتابه إحكام الأحكام إلى أن المقصود بالذكر: القرآن والسنة. وبناءً عليه؛ فإنه يستحيل أن يدخل أحد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، ويروج هذا الحديث على أهل العلم وهو غير صحيح. وهذا حقيقة، أنه لا يمكن أن يصدق العلماء ما افتري على الرسول صلى الله عليه وسلم من الأحاديث. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 4 محاولة بعض أعداء الدين اختلاق الأحاديث كثير من أعداء الإسلام حاولوا أن يختلقوا الأحاديث، ويلصقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم منذ عهد متقدم. وذلك لأغراض شتى: إما أن يكون فعلهم هذا لأنهم زنادقة؛ يريدون أن يدخلوا في الدين ما ليس منه، أو يريدون أن يشوهوا صورة الإسلام عند الناس، أو يريدون أن يلبسوا على المسلمين دينهم؛ كما كان الرافضة يختلقون الأحاديث ويلصقونها على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك الزنادقة وغيرهم، وهم أكثر من يشتغل بوضع الأحاديث على الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد يكون وضع الأحاديث لسبب آخر كالعصبية المذهبية مثلاً: التعصب لشيخ من المشايخ، أو لإمام من الأئمة، أو لبلدٍ من البلدان، أو لنحلة من النحل، أو لطائفة من الطوائف، أو لغير ذلك. ولكن الزنادقة في الغالب، هم المشتغلون المعنيون بالافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أدخلوا في الإسلام كثيراً من الأحاديث، لَبّست على كثير من المسلمين دينهم، وليس الغريب أن يشتغل الزنادقة والملحدون والرافضة بهذا، وإنما الغريب أن تروج هذا الأحاديث على المسلمين، ويتناقلوها فيما بينهم! حتى إن كثيراً من الأحاديث التي تشتهر عند العامة ويتناقلونها، هي من الأحاديث الضعيفة، أو الموضوعة في غالب الأحيان. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 5 اعتناء العلماء ببيان الأحاديث الموضوعة وقد عني كثير من أهل العلم ببيان الأحاديث الموضوعة، والتحذير منها، وبيان من وضعها. وممن ألف في ذلك مثلاً: الإمام ابن عراق في كتاب تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ومنهم الإمام ابن الجوزي في كتاب الموضوعات وفي كتاب العلل المتناهية في الأحاديث الواهية، ومنهم الإمام الشوكاني في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، ومنهم الإمام ابن تيمية، وابن القيم، والسيوطي، وغيرهم من أهل العلم. وممن جمع الأحاديث الضعيفة والموضوعة من المعاصرين، الشيخ الألباني حيث ألف كتاب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأخرج منه مجلدين، وكذلك جمع الأحاديث الضعيفة والموضوعة، في الجامع الصغير وزيادته في كتاب مطبوع في ثلاثة مجلدات، سماه ضعيف الجامع الصغير وزيادته وأدخل فيه الضعيف والموضوع. أقول: عني العلماء منذ القديم ببيان الأحاديث الموضوعة والتحذير منها، ولكن تجدر الإشارة في هذه العُجالة؛ إلى أن جمع الأحاديث الموضوعة وحصرها أمر متعسر أو متعذر؛ وذلك لأن الافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينتهي، فكما كذب المتقدمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكذب عليه الملحدون في هذا العصر وفي العصور القادمة. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 6 انتشار طبع ونشر الأحاديث الموضوعة بين الناس أيها الإخوة في هذا العصر الذي عم فيه الجهل بالإسلام جملة، راج عند كثير من المسلمين أحاديث منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وبدءوا ينشرونها بكل وسيلة. ومن الغريب أنك تجد أحياناً إنساناً طيباً صالحاً محتسباً يقف في الطائرة مثلاً، أو في مكتبة من المكتبات، أو في مدرسة، فيقوم بتوزيع ورقة كتب فيها حديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذا وكذا. وهذا الحديث طويل فيه وعد أو وعيد، أو تحذير من بعض المعاصي والذنوب والآثام، وتجد هذا الإنسان مجتهداً في نشر هذا الحديث، فإذا انتهت هذه الأوراق سارع في تصويرها وتوزيعها. وكثيراً ما تسمع أنه في بعض مدارس البنات، وفي أوساط النساء توزع هذه الأحاديث، فإذا نظرت في هذه الأحاديث؛ وجدتها في الغالب أحاديث موضوعة، فينشط أهل العلم من الخطباء والعلماء في التحذير منها، فيتركها الناس فترة من الزمن، وما هي إلا أيام وليالٍ حتى يعاود الناس نشر هذه الأحاديث وتوزيعها. وهذا أمرٌ غريب، يجعل الإنسان يظن أنه قد يكون وراء نشر هذه الأحاديث في بعض الأحيان؛ أناس يتقصدون ترويجها أو إشاعتها، فضلاً عن الجهال الذين يوزعون كل ما وقع في أيديهم. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 7 أهمية معرفة القواعد العامة في تمييز الحديث الموضوع من الصحيح إن من المهم أن يعرف الإنسان بعض القواعد العامة التي يُرجع إليها في تمييز الموضوع وبيانه، ولذلك يَحسُن الرجوع إلى كتاب المنار المنيف في الصحيح والضعيف للإمام ابن القيم رحمه الله؛ فإنه عني في هذا الكتاب ببيان القواعد العامة التي تضبط الأحاديث الموضوعة، وذلك مثل: كون الحديث فيه من المجازفات والمبالغات ما لا يتوقع صدوره من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كحديث: {من قال لا إله إلا الله؛ خلق الله من هذه الكلمة طائراً له سبعون ألف جناح، في كل جناح سبعون ألف ريشة} أو {خلق الله من هذه الكلمة طائراً له سبعون ألف لسان، في كل لسان سبعون ألف لغة، يستغفر لقائلها} أو نحو ذلك من المجازفات التي يرفضها العقل. ومثل: قاعدة أن ما خالف الأصول المستقرة في الدين فهو غير صحيح. وذلك كحديث: {أن من كان اسمه أحمد، أو محمد، فإنه لا يدخل النار} لأن من المعلوم ضرورة من دين الإسلام؛ أن الإنسان يدخل الجنة أو يدخل النار بعمله، كما قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم:40-41] . وكذلك قاعدة: أن الأحاديث التي تخالف الحس الثابت فهي غير صحيحة، مثل: بعض الأحاديث التي تذكر فضائل ألوان من الطعام؛ كالباذنجان مثلاً، أو الأرز، أو الهريسة أو غيرها، وتنسب لها من الفوائد ما يقطع الأطباء وغيرهم بأنه كذب؛ كحديث: {الباذنجان لما أُكل له} . كذلك قاعدة: أن ما خالف التاريخ فهو كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك كالأحاديث الواردة أن دولة بني العباس تبقى إلى آخر الدهر، فقد ثبت تاريخياً أن هذه الدولة سقطت وانتهت. ومثله: الأحاديث التي وردت في ذكر تواريخ معينة تقع فيها حوادث معينة، مثل: أنه في سنة كذا وكذا يحدث كذا وكذا يحدث رجَّة، أو صيحة، أو ما أشبه ذلك. فهذه كلها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك حصر الإمام ابن القيم رحمه الله، بعض الأبواب والفصول من العلم، التي لا يصح فيها حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه ميزة لهذا الكتاب لا تكاد توجد في غيره؛ أعني بها ذكر الضوابط العامة التي يُعرف بها الحديث الموضوع، وكذلك ذكر جُمل من العلم لم يصح فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 8 نماذج من الأحاديث الموضوعة المنتشرة بين يديَّ الآن بعض الأحاديث الموضوعة التي يكثر السؤال عنها، ويكثر ترويجها بين الرجال والنساء، أحببت التنبيه عليها. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 9 أحاديث موضوعة في عقوبات بعض النساء وهناك ورقة انتشرت في أوساط النساء، ووزعت في المدارس وغيرها، وهي ورقة عريضة طويلة منسوبة إلى علي رضي الله عنه: أنه دخل هو وفاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه يبكي. فقال له علي: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما يبكيك؟ فذكر له الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه عرج به إلى السماء فرأى مشاهد للنساء، منها امرأة معلقة بلسانها، ومنها امرأة معلقة بشعرها، ومنها امرأة معلقة بثدييها، ومنها امرأة معلقة بعرقوبيها، ومنها ومنها وذكر مشاهد بشعة يشمئز منها القلب وتأباها النفس، ثم ذكر أن هذه الأشياء هي عقوبات لبعض ما تفعله النساء في الدنيا من الغيبة، أو النميمة، أو ما أشبه ذلك. ومبالغة في توثيق هذا الحديث، كتب في هذه الورقة أن الحديث منقول عن بحار الأنوار، وهو كتاب من كتب الرافضة للمجلسي، يقع في نحو مائة وعشرة مجلدات، كلها كذب وافتراء على الرسول صلى الله عليه وسلم. وكما ذكرت؛ يُستغرب أن ينتشر مثل هذا الحديث المنسوب إلى مثل هذا الكتاب الرافضي، بين أهل السنة والجماعة، وأن ينشروه ويتداولوه. وأنتم جميعاً تتذكرون الحديث الذي انتشر عند الناس في عقوبة تارك صلاة الجماعة، وأنه يبتلي بأربع عشرة خصلة، وهذا الحديث مكذوب موضوع، ذكر ذلك الذهبي في ميزان الاعتدال، وابن حجر في لسان الميزان وغيرهم. وكثير من الناس يتساهلون -كما رأيت- في نشر مثل هذه الأحاديث، ويقولون إن فيها ردعاً للناس عن هذه المعاصي. فيا سبحان الله! أولاً: إن فيما صح من السنة، وفي تحذير القرآن الكريم من الخصال المذمومة غُنية وكفاية، فما بالنا ننشر الأحاديث الموضوعة من أجل التحذير من ذلك. ثم إن في نشر مثل ذلك إثم أعظم -في كثير من الأحيان- من إثم هذه الخصلة المُحذر منها، فإن في نشر هذه الموضوعات إثماً عظيماً بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترويج الكذب، والجرأة عليه صلى الله عليه وسلم، وإدخال شيء في الدين ليس منه. ثم إن فيه تعويداً للناس ألا يرعووا عن هذه الأشياء؛ إلا بذكر هذا الوعيد الشديد. وفيها -في كثير من الأحيان- تشجيع للمنحرفين والفُساق والزنادقة والكفرة، على الحط من قدر الدين؛ لأن هذه الأحاديث الموضوعة في غالب الأحيان -فيها وقاحة وقلة أدب وشناعة وبشاعة، تشمئز منها النفوس، وترفضها الفطرة السليمة، ويأباها العقل، فنشرها هو تشجيع للزنادقة والكفار؛ أن يحطوا من قدر الإسلام، وقدر الرسول صلى الله عليه وسلم. وما انتشر بين الناس حديث ضعيف أو موضوع؛ إلا وجهلوا قدره من الأحاديث الصحيحة، كما قيل: ما انتشرت بين الناس بدعة إلا ورُفع مثلها من السُنة. فالناس إذا انتشرت بينهم الأحاديث الموضوعة؛ جهلوا كثيراً من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة بل إذا سمعوا حديثاً صحيحاً فيه نهي عن ذلك دون أن يكون فيه وعيد شديد؛ فإن نفوسهم لا تتحرك لمثل ذلك، إضافة إلى ما في هذا من الآثار السيئة الكثيرة. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 10 أحاديث موضوعة في الحث على التوجه لأهل القبور 2- ومن الأحاديث التي يقطع سامعها بأنها كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون تردد، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نُسب إليه كذباً وزوراً، أنه قال: {إذا ضاقت عليكم الأمور فعليكم بأهل القبور} . وهذا الحديث حكم عليه ابن تيمية وغيره من أهل العلم؛ بأنه كذب مختلق، افتراه القبوريون على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والغريب أنه في هذه البلاد التي حماها الله عز وجل من القبور وتعظيمها، والطواف بها، والاعتقاد بأهلها؛ نُشر مثل هذا الحديث في هذه الورقة مع تعديل بسيط وهو: {إذا ضاقت عليكم الأمور فعليكم بزيارة القبور} ونُشر أو كُتب إلى جواره قوله، أو افتراؤه على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يحبون الدنيا وينسون الآخرة، ويحبون المال وينسون الحساب … } إلى آخر هذه الموضوعة: {وأنه من لم يصل الصبح فليس في وجهه نور، ومن لم يصل الظهر فليس في رزقه بركة … إلى آخر ما قال. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 11 أحاديث موضوعة في فضل بعض الآيات من هذه الأحاديث حديث عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومضمونه: {أن الله عزوجل، حين أنزل بعض الآيات كآية الكرسي وآخر سورة البقرة، وقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران:26] وقوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [آل عمران:18] تعلقن بالعرش، وقلن يا رب: كيف تنزلنا إلى هذه الدنيا دار المعصية ودار الإثم؟ فقال الله عز وجل: إنه لا يقرأ بكن إنسان في يوم إلا أعطيته من الأجر كذا وكذا، وأسكنته حظيرة القدس، ونظرت إليه بعيني المكنونة في كل يوم سبعين نظرة، وقضيت له في كل يوم سبعين حاجة؛ أدناها أن أغفر له ذنوبه، وأعذته من شر كل عدو، ونصرته عليه} إلى آخر ما ورد في هذا الحديث. وهذا الحديث، يقطع كل عاقل بأنه مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل هذه المجازفة في هذه الأشياء لا تتوقع، ولا تنتظر في الإسلام. وكيف يكون غفران الذنوب لهذا الإنسان هو أدنى أمر يعطيه الله لقارئ هذه الآيات. ثم إننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في فضائل آيات أخرى؛ كسورة الإخلاص: أنها تعدل ثلث القرآن، وهذا ثابت في أحاديث كثيرة، ومع ذلك لم يذكر لها هذه الفضائل الواردة في هذا الحديث. وهذا الحديث أخرجه ابن السني في عمل اليوم والليلة، وقد ذكر ابن حبان: أنه من الأحاديث الموضوعة، وكذلك ذكر هذا الإمام ابن الجوزي. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 12 الواجب تجاه نشر تلك الأحاديث واجبنا أيها الإخوة: أولاً: أن نتثبت في الأحاديث التي ننسبها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وإذا سمعنا حديثاً منسوباً إليه عليه الصلاة والسلام تأباه عقولنا وفطرنا، وتشمئز منه نفوسنا، فعلينا أن نسأل عنه، أو نرجع إلى الكتب التي عنيت ببيان الأحاديث، حتى نعرف صحته من ضعفه. ولست أدعو الإخوة إلى معرفة الأحاديث الموضوعة؛ فإن معرفتها أمر متعسر، أو متعذر كما ذكرت. ولذلك إذا لم يعرف العلماء حديثاً فليس بحديث؛ لأن الوضع لا يتناهى، وقد يضع الكذابون في هذا العصر، أو في عصور قادمة أحاديث على الرسول عليه الصلاة والسلام. لكن عليك أن تشتغل بالحديث الحسن والصحيح، ففيه غنية عن الحديث الضعيف والموضوع، وإذا سمعت حديثاً تشمئز منه أو تشك فيه؛ فعليك أن تتثبت منه، وتسأل عنه أهل العلم، وخاصة هذه الأحاديث التي يشتغل الناس بطباعتها وتصويرها وترويجها بين الناس. علينا أن لا نشارك في إشاعتها إلا بعد التثبت منها، فإذا علمنا أنها أحاديث ضعيفة؛ فلنحذر منها، ولنكتب في أسفل كل ورقة منها: أن هذا الحديث مكذوب موضوع، قال فيه فلان كذا، وقال فيه فلان كذا، حتى نساهم في تحذير الناس منه. ثم إن علينا أن نشتغل بالسنة الصحيحة، وخاصة صحيح البخاري ومسلم، والسنن الأربع، فإن الإنسان بحاجة إلى أن يعرف الحديث الصحيح، ليكون نبراساً له في هذه الحياة. أسأل الله أن يرزقني وإياكم العلم بالسنة، وأن يوفقني وإياكم لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا ممن عمل بسنته، ونصح لأمته، وشرب من حوضه. وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 13 الأسئلة الجزء: 204 ¦ الصفحة: 14 الجمع بين (لعن الدنيا وعدم سب الدهر) السؤال قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا تسبوا الدهر} وفي حديث آخر {الدنيا ملعونة} كيف نجمع بين الحديثين؟ وما صحتهما؟ الجواب الحديثان صحيحان، الأول: حديث قدسي: {يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر أقلب الليل والنهار} وفي لفظ: {لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر} . والحديث الثاني: يقول فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدنيا ملعونة ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلماً} . وليس بين الحديثين تعارض، فأما النهي عن سب الدهر؛ فالمقصود: نهي الإنسان عن سب الأيام والليالي، والأزمان، كما يقع فيه كثير من الناس إذا نزلت به نازلة، نسبها إلى الدهر والأيام والليالي. وقد امتلأت دواوين الشعراء والأدباء وغيرهم؛ بسب الأيام والليالي وغير ذلك، مع أن الواقع أن هذه الأشياء مخلوقة مربوبة، وأن التصرف والتدبير بيد الله، ولذلك عقب بقوله سبحانه، {وأنا الدهر} وفي اللفظ الآخر: {فإن الله هو الدهر} أي: هو الذي يدبر هذا الدهر ويصرفه بيده الأمر يقلب الليل والنهار. فالذي يسب الدهر هو في الواقع يسب الله عز وجل، وفي مآل الأمر؛ لأن الدهر مخلوق مسير. وأما الحديث الآخر، ففيه إشارة إلى أن ما في الدنيا من الأموال، والزخارف، والزينة، والبهارج، لا قيمة لها ولا نفع بها؛ إلا أن تكون في طاعة الله عز وجل. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {الدنيا معلونة ملعون ما فيها} فليس المقصود لعن الأيام والليالي، ولا لعن الدهر، وإنما المقصود: لعن هذه الأشياء التي يتعلق بها الناس، وتلهيهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ولذلك استثنى بقوله: {إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً} . فالناس الذين انصرفوا عن الذكر والعلم والشرع، هم بلا شك معرضون للعنة، ولذلك ورد لعن شارب الخمر، ولعن المرابي، ولعن أصحاب كثير من المعاصي. وهاهنا قال: {إلا ذكر الله وما والاه، أو عالماً أو متعلماً} . وكذلك الإنسان الذي يشتغل، أو الأعمال التي تشغل الإنسان عن طاعة الله، من الأمور المحرمة، أو الأمور المباحة في الأصل، هي أشغلت عن الإسلام، وأدت إلى أمر محرم أو إلى تقصير؛ فإنها تعرض الإنسان للعنة حينئذٍ وبذلك يعلم الإنسان أنه ليس بين الحديثين تعارض. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 15 حال حديث (من تعلم لغة قوم أمن مكرهم) السؤال هل هذا حديث صحيح: {من تعلم لغة قوم أمن مكرهم} ؛ لأن كثيراً من الناس يحبون تعلم اللغات الأجنبية لأجل هذا الحديث؟ الجواب الحديث لا يصح، حديث: {من تعلم لغة قومٍ أمن مكرهم} لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك فإن في معناه نظر؛ لأن أمن مكر القوم ليس فقط بتعلم لغتهم، فكم من قوم يمكرون بشخص وهم من جنسه ومن بني جلدته، ويتكلمون بلسانه، ومع ذلك يمكرون به ويخادعونه، فوسائل المخادعة كثيرة حتى للأقوام الذين بعضهم من بعض، بل إن مكر القوم الذين هم منك وفيك -في معظم الأحيان- أبلغ من مكر الأباعد. اللهم إلا أني أقول: إنه لو كان بينهم، لربما تكلموا بكلام يقصدون فيه الإساءة إليه بلغتهم وهو لا يفهمه، لكن هذا فيه بُعد. فالحديث ليس بصحيح من حيث الإسناد ولا من حيث المعنى. ولا شك أن الحديث باطل وموضوع، ويتنافى مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من تشبه بقوم فهو منهم} . وعمر رضي الله عنه يقول: [[لا تعلموا رطانة الأعاجم]] . ثم -أيضاً- الواقع عكسه، نقول: من تعلم لغة قوم سافر إليهم، من تعلم لغة قومٍ في الغالب ذهب إليهم. فهذا يكون من الدواعي للسفر إلى أمريكا وأوروبا، إذا كان الإنسان يعرف اللغة يقول: أنا أعبر عن نفسي، وأعرف اللغة، وأمشي مع الناس. فالأمر بالعكس، ويسوغ أن يقول قائل: من تعلم لغة قومٍ ذهب إليهم أو سافر إليهم. فالحديث موضوع ولا أصل له، ولا خطام له ولا زمام. ولم يتعلم أحد من صحابة الرسول اللغة الأجنبية، ما تعلمها إلا زيد لحاجة الرسول صلى الله عليه وسلم. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 16 العبث في الصلاة السؤال نرى كثيراً من المسلمين يتحركون في صلاتهم، ولا يعطون الصلاة حقها من الخشوع، وبعضهم يقدم رجله وهو في الصف ويؤخرها، فما حكم ذلك؟ الجواب مما لاشك فيه أن الخشوع في الصلاة مطلوب، فينبغي للمسلم والمسلمة إذا دخل في الصلاة أن يُشغل نفسه بذكر الله، وبتلاوة كتابه، وبتعظيم الله، ويحرص كل الحرص على أنه لا يعبث. ومن الحكم التي من أجلها يمسك المصلي يده الشمال بيده اليمين: من أجل قلة الحركة، ومن أجل أنه يكون أخشع، وأكثر ذلاً واستكانة بين يدي الله تعالى. فالعبث في الصلاة لا يجوز، ولكن تحديده بثلاث حركات يبطل الصلاة -كما قاله البعض- نقول هذا لا دليل عليه، لا دليل على قول من قال: إن ثلاث حركات تبطل الصلاة، إنما الذي يُبطل الصلاة الحركة بثلاثة شروط:- إذا كانت الحركة من غير جنس الصلاة، وكانت الحركة كثيرة، وكانت الحركة لغير حاجة؛ فحينئذٍ الحركة تبطل الصلاة. وحذيفة رضي الله عنه رأى رجلاً يخفف الصلاة، ويعبث في صلاته، فعابه وأخبره بأنه ما صلى منذ صلى. وأحد الصحابة رأى إنساناً يعبث، فقال: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] . فينبغي للمسلم والمسلمة أن يحرص كل الحرص ألا يعبث في الصلاة. وكثير من المصلين يعبث مثلاً: في غترته، وفي ساعته، ويمسس ملابسه، ويلمس أنفه، ويمسس لحيته. وهذا كله لا داعي له ولا حاجة، والعبث إذا كان ليس له داع ولا ضرورة ولا حاجة، فلا يجوز. أما إذا كانت الحركة لحاجة، كما كان الرسول يلتفت إلى الشاب، وكما كان الرسول -أيضاً- خلع نعليه وهو يصلي، وكما كان الرسول يحمل أمامة بنت بنته إذا قام، وإذا سجد وضعها. فهذه حركة لحاجة، وإذا كان ذلك لحاجة فإنه جائز والحالة هذه. ومن المعلوم أن كثيراً من الناس في كثير من الأمصار، يعيبون على أهل نجد لكثرة الحركة، وهذا صحيح، الحركة موجودة عند أهل نجد أكثر مما هي موجودة عند الآخرين، وهذا شيء مُشاهد. فينبغي لنا جميعاً أن نحرص كل الحرص أن لا نعبث في الصلاة، إلا لضرورة ماسة وحاجة لا بد منها. وكما قلت، أظن قاله بعض العلماء، أو هو عند الشافعية، أو وجه عند الشافعية: أن ثلاث حركات تبطل الصلاة، وهذا لا دليل عليه. لكن الحركة تبطل الصلاة بثلاثة شروط: إذا كانت الحركة كثيرة، وكانت من غير جنس الصلاة، وكانت متوالية؛ فإذا توفرت هذه الشروط فإن الصلاة تبطل والحالة هذه. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 17 التوجه إلى القبلة للمريض السؤال هل يجوز أن يصلي المريض المغرب وهو على السرير، نائماً على ظهره غير متجه إلى القبلة، وهو خائف؛ لأن المغذي في يده، ولا يستطيع أن يصلي والحال هكذا؟ الجواب يجوز للمسلم، عملاً بقوله تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم} وقوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] . فإذا استطاع المريض أن يتجه إلى القبلة وجب عليه، وإذا لم يستطع وكان السرير لغير الجهة، فيحاول إذا أمكن أنه على جنبه الأيمن أو على الأيسر استقبل القبلة وجب، وإذا ما أمكن فإنه يصلي إلى أي جهة، وتعتبر صلاته -والحمد لله- صحيحة. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 18 الجماعة في غير المسجد السؤال هل يجوز لخمسة أشخاص أن يصلوا جماعة، وهم يبعدون عن المسجد خمس دقائق إذا مشوا على أرجلهم؟ الجواب إذا كان السؤال كما ذكر السائل، لا يبعدون عن المسجد إلا مسافة خمس دقائق أو عشر دقائق؛ فالمسافة هذه تعتبر قريبة، فإذا كانت الحال كما ذكر، فلا يجوز أن يصلوا إلا في المسجد {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36] . يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: {من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر} . وقال علي رضي الله عنه: [[لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد]] وجار المسجد هو: من سمع النداء. وإذا كان في لغة العرب والعادة أن الجار يعتبر إلى أربعين بيتاً من كل جانب، فإذا كان هكذا فلا يجوز لهم أن يصلوا إلا في المسجد، إلا في حالة ضرورة، أو في حالة تسوغ لهم أن لا يذهبوا إلى المسجد. أما إذا انتفت الموانع، وزالت المحاذير، فلا يجوز لكل مسلم إلا أن يصلي في المسجد، وخصوصاً إذا لم يكن عليه في ذلك مشقة شديدة، ولا هناك خوف، فيجب أن يصلي في المسجد. فخمس دقائق كما ذكر السائل، هذه مسافة قريبة جداً، والصلاة في المسجد مشروعة لحكم إلهية، وقد ذكر بعض العلماء ست عشرة حكمة، كلها شرعت من أجلها صلاة الجماعة. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 19 حول صحة حديث (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) السؤال ما صحة حديث {ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة} ؟ الجواب الحديث الصحيح بلفظ: {ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة} . لكن لفظ: {ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة} هذا ليس بصحيح. فالرسول في وقت التحديث لم يوجد قبره بعد، فبعض الأحاديث منسوبة ومكتوبة {ما بين منبري وقبري روضة من رياض الجنة} فهذا ليس بصحيح والصحيح هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة} . والروضة الآن جُعل عليها علامات؛ الأعمدة البيض الموجودة في مقدم مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومجعول في أسفل كل عمود ما يقارب مترين، أو مترين ونصف أبيض، هذا هو تحديد الروضة من جميع جهاتها الأربع. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 20 بداية وضع الأحاديث السؤال متى بدأ الوضع في الحديث، وما أشهر الكتب التي أُلفت من أعداء الإسلام في الأحاديث الضعيفة؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً؟ الجواب في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، لم يوجد الوضع في الحديث النبوي، أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بصورة ظاهرة معروفة أو مشهورة. وإن كان لا يمنع أن يوجد من المنافقين من يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفتري عليه، واستمر الأمر على ذلك زمناً طويلاً حتى بدأت الفتن بين المسلمين، ووجد ما يسمى بالفرق الإسلامية من خوارج، ثم رافضة، ثم معتزلة، فحينئذٍ بدأ الوضع في الحديث النبوي، في أواخر عهود الصحابة رضي الله عنهم حتى إن ابن عباس رضي الله عنه، كان عنده رجل من التابعين، يقال له: بشير بن كعب العدوي، فكان يقول لـ ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فلا يلتفت إليه ابن عباس. فقال بشير: أيا ابن عباس مالي أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تلتفت إليَّ. قال ابن عباس: [[إنا كنا إذا سمعنا رجلاً يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا -يعني: ارتفعت إليه أبصارهم ينظرون إليه، شوقاً ولهفاً لمعرفة ما يقول. قال- فلما ركب الناس الصعب والذلول، لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف]] . وكذلك قال محمد بن سيرين: [[لما وقعت الفتنة، قالوا هاتوا لنا رجالكم، حتى نعرف أهل السنة فنأخذ عنهم، ونعرف أهل البدعة فلا نأخذ عنهم]] . فبداية الوضع في أواخر عهود الخلفاء الراشدين، حيث بدأت الفرق الإسلامية، من الخوارج، والرافضة وغيرهم، وإن كان الخوارج لا يُعرف عنهم كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم كانوا يحرمون الكذب، بل ويعتبرونه كفراً. وأكثر الفرق ولوغاً في هذه الجريمة، هم الرافضة الذين كانوا -كما يقول أحد شيوخهم-: إذا استحسنوا كلاماً جعلوه حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الكتب التي أُلفت في الأحاديث الموضوعة، فأظن أنني أشرت إليها سابقاً. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 21 بعض تعريفات المصطلح السؤال ما المقصود بهذه التعريفات، مثلاً عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً، أو موقوفاً، أو مرسلاً، أو حسن، أو صحيح؟ الجواب المقصود بالحديث الصحيح، هو: ما ثبت نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، أو إلى غيره ممن نُسب إليه، بنقل العدل الضابط إلى منتهاه، بسندٍ متصل، مع سلامته من الشذوذ ومن العلة القادحة. وأما الحسن: فهو ما ثبت أيضاً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أو إلى من ينتهي إليه بنقل عدل خفيف الضبط غير تام الضبط، مع السلامة أيضاً من الشذوذ ومن العلة القادحة. وأما الضعيف: فهو ما ليس بحسن ولا صحيح؛ أي ما لم توجد فيه شروط الحديث الصحيح، ولا شروط الحسن. وأما المرسل: فبعض علماء الحديث يطلقونه على المنقطع، سواء كان الانقطاع في آخر السند من جهة الرسول عليه الصلاة والسلام، أم في أثناء السند. ولكن المشهور عند المتأخرين -خاصة- أن المرسل: هو ما رفعه التابعي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، كأن يقول الحسن البصري، أو سعيد بن المسيب أو غيرهما: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا يسمى "مرسل" وهو نوع من أنواع المنقطع. وأما المرفوع: فهو ما انتهى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول الصحابي مثلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا مرفوع. أما الموقوف: فهو ما انتهى إلى الصحابي من قوله، مثل: قال أبو بكر، أو قال عمر، أو نحو ذلك. وأما المقطوع: فهو ما انتهى إلى التابعي من قوله هو أيضاً، مثل قال وهب بن منبه، قال الحسن البصري، قال عمرو بن ميمون الأودي، إلى آخره فهذا يُسمى مقطوعاً. الجزء: 204 ¦ الصفحة: 22 (59) وسيلة لمقاومة التنصير التنصير حركة عالمية تقف وراءها مؤسسات عالمية ودول قوية، والانحلال النصراني والشهوات قد تغري المسلمين وخاصة الشباب، والدعم المالي يعمل على إخراج البائسين من الإسلام، وهذا الدرس ضمن سلسلة دروس تتعلق بالتنصير ينبغي لكل مسلم اقتناؤها ونشرها، وهنا تجد (59) وسيلة لمقاومة ذلك التيار الخبيث. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 1 أسباب الحديث عن التنصير وفضحه إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا المجلس (59 طريقة لمحاربة التنصير) وهو الدرس السبعون في ليلة الإثنين الثالث من ربيع الأول من سنة ألف وأربعمائة وثلاث عشر للهجرة. يتساءل البعض: لماذا تسع وخمسون؟ فأقول: لأننا معنيون جداً بدعوة الآخرين إلى المشاركة معنا، في النظر والتفكير والدعوة إلى الله ومحاربة أعداء الله، فتركت هذه الخانة الستين حتى يجهد كل واحد ذهنه في معرفتها والوصول إليها، وبالتأكيد سنتمكن -إن شاء الله- من جعل هذه الطرق بالمئات بدلاً من كونها خمسين طريقة أو ستين طريقة. نعم أيها الإخوة طال الحديث عن موضوع التنصير أكثر مما كنت أتوقع، وأكثر مما كنت أحب، ولكنه أقل مما يجب لمقاومة هذا المد والخطر ومحاربته وفضحه. لماذا نتحدث عن موضوعات التنصير وأسراره وأخباره علانية؟ الجزء: 205 ¦ الصفحة: 2 عدم توجيه الحديث ضد أحد رابعاً: هذه المعلومات التي قلناها ونقولها ليست موجهة ضد أحد، ولذلك أستغرب أن يقف أحد ضد الدرس الذي تكلمنا في المجلس السابق، أو يسعى إلى عدم انتشاره أو عدم سماع الناس له، النصارى يصدرون إحصائيات ومعلومات كبيرة، أما هنا فأقول ليس الحديث عن الواقع أفظع من الواقع نفسه، إذا كنتم تنزعجون من هذا الحديث عن الواقع فكيف رضيتم بهذا الواقع، وكيف أقررتموه؟! إن من المحزن حقاً أن تسمح -مثلاً- لفتاة لك بها صلة قربى؛ بأن تبرز محاسنها ومفاتنها وزينتها وتحرك مشاعر الشباب المراهق تجاهها، ثم لا تسمح لأحد بأن يصف حال هذه الفتاة ويحذرها ويحذر غيرها، إنني أدعو الجميع إلى السعي إلى نشر مثل هذا الحديث الذي فيه مقاومة لكيد النصارى، وهذا أقل ما يجب على المسلم تجاه كيد مخطط مدروس، تقف وراءه مؤسسات ومنظمات ضخمة، بل تقف وراءه دول، بل يقف وراءه مجلس الكنائس العالمي الذي يجعل العديد من الدول في إبطه ويديرها كيف يشاء. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 3 عدم جدوى السرية أولاً: أنا على قناعة تامة بأن المخططات المدروسة من قبل النصارى أو العلمانيين أو غيرهم من أعداء الإسلام لا يمكن أن تحارب عن طريق المراسلات السرية الخاصة التي يكون مصيرها مجهولاً، إما الملفات أو الأدراج المتكدسة على أحسن الأحوال، وقد يكون مصيرها الضياع، فالخطط المدروسة لا تحارب بالرسائل الخجولة التي ترسل هنا أو تبعث هناك، هذا أولاً. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 4 مساهمة الكل بما يستطيع ثانياً: المساهمة في الحل، ومقاومة كيد أعداء الله عز وجل ليست مهمة أحد بعينه، ليست مهمة المسئول فقط، ولا مهمة العالم، بل هي مهمة كل إنسان مسلم، ومن شأن الجميع حشد مثل هذه المعلومات والحديث عنها، ونشرها وهذا يرفع مستوى الوعي بالمخطط المدروس من النصارى ويجعل خطة النصارى صعبة في مثل تلك المجتمعات التي تدرك ماذا يريدون وكيف يخططون، وإلى ماذا يهدفون؟ الجزء: 205 ¦ الصفحة: 5 لرفع درجة الوعي عند كل مسلم ثالثاً: إن الحديث عن مثل هذه الأمور أمر عادي؛ فلماذا التخوف ونحن منذ سنوات نسمع العديد من الناس يتوهمون أن الإعلان بالحديث عن مثل ذلك يحدث سلبيات كبيرة، ولكن الواقع أثبت إخفاق هذه الظنون، وأنها لا تمت إلى الواقع بصلة، وأنه لا يحدث من جراء المجاهرة بفضح أساليب أعداء الدين؛ أكثر من ارتفاع درجة الوعي لدى المسلم العادي وهذا مطلوب لدى كل المخلصين للإسلام. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 6 أصداء الحديث عن التنصير ثانياً: أصداء؛ إن هناك قناعة بأن أباطيل الصليب لن تروج -بإذن الله تعالى- في ذلك المجتمع الواعي، وقد أكد هذه القناعة مجموعة كبيرة من المراسلات والتجاوبات التي هي أصداء للأحاديث السابقة في موضوع التنصير أشير إليها بإيجاز حفظاً للوقت: الجزء: 205 ¦ الصفحة: 7 التقارير كما وصلني كم كبير من ملحوظات الإخوة المستمعين المتعلقة بالتنصير أذكرها بإيجاز أيضاً: منها تقارير عديدة جديدة عن إحدى الشركات الكبرى التي أشرت إلى وجود نشاط تنصيري متميز في أوساطها، ومنها تقرير عن فرقة اسمها اليورن أكين، وهذه الفرقة التنصيرية منتشرة في الولايات المتحدة الأمريكية ونيجيريا والفلبين وهي تعني (المولود من جديد) وتهدف إلى كسر طوق الجمود الديني لدى النصارى، وهي فرقة انضباطية منظمة، أو إن شئت قلت جماعة تخرج المنصرين وتبثهم في أنحاء العالم، وتلزم أتباعها باجتماعات أسبوعية على مدار العام، ولا تختلف كثيراً عن الأصول النصرانية المعروفة، بل هي تحاول صياغة الأصول النصرانية بأسلوب جديد وإلباسها لباس الحداثة، حتى تكون مقبولة أكثر لدى الإنسان في هذا العصر، ولها وجود قوي في أوساط الفلبينيين الموجودين في العالم الإسلامي ومنطقة الخليج والجزيرة العربية، ولا تقتصر على النصارى، بل تبذل جهوداً كبيرة لرد المسلمين الذين أسلموا حديثاً عن دينهم. وآخر بعث إلي ببعض العبارات الموجودة على سيارات النصارى الموجودة في أسواقنا وشوارعنا، وقد كتبها باللغة الإنجليزية ولكن هذه ترجمة بعضها (إذا لم تجد الماء لك أن تشرب الويسكي) وهو خمر اسكتلندي شهير، هذه كلمة موجودة على بعض سيارات النصارى، في سيارة أخرى مكتوب (إذا لم تجد سكناً فهلم لتنام معي) ثالث مكتوب: (أنا أحب القديس ميجن) . رابع أرسل إلي بطاقة معايدة، أرسلوها إليه بمناسبة عيد الأضحى، ويقول: يرسلونها في الأعياد الإسلامية الأضحى والفطر، وتوزعها إحدى الشركات الألمانية التي نوهت عنها في إحدى الدروس السابقة. وخامس بعث إلي بالإعلان عن مشرفات الأمن المطلوبات لإحدى المستشفيات، ونشر هذا الإعلان في جريدة اليوم، وذكر لي أن هذا الإعلان يخص المستشفى التعليمي بالخبر، وذلك عن طريقة شركة المجال. وسادس بعث إلي بمفاجأة من جريدة عكاظ نشرت يوم السبت 24/2 رحلة إلى بريطانيا لطلاب المدارس لمدة شهر تشمل الإعاشة والسكن والدراسة والزيارات، {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر:35] جريدة تنشر دعوة لأولاد المسلمين في المدارس المتوسطة والثانوية ليرحلوا إلى بريطانيا لمدة شهر يعيشوا مع أسر كافرة، ويسكنوا معها، ويدرسوا في مدارس النصارى، ويقوموا بالزيارات إلى معالم بلادهم. وسابع أرسل إلي قصاصة من جريدة الشرق الأوسط في التاريخ نفسه 24/2 هو عبارة عن إعلان الفرصة الأخيرة للحصول على الإقامة والجنسية في كندا، إعلان للمسلمين أن بإمكانهم الحصول على جنسية في كندا وهي دولة نصرانية والإقامة هناك، وهناك كافة التسهيلات لهم. ولا أذيع سراً إذا قلت لكم: إن المسلمين الذين يهربون من الفقر والمجاعة في الصومال -مثلاً- يذهبون إلى بلاد أوروبا، وأكثر من مليون مسلم صومالي مقيمون الآن في بريطانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية والأمريكية، ويجدون هناك من وسائل الاستقبال والخدمة والتسهيل الشيء العظيم، فيسكنونهم هناك في إسكانات تضاهي الإسكانات الموجودة هنا، ويعطونهم راتباً يسمونه بدل بطالة، ويغرونهم بكافة الإغراءات للبقاء هناك، وأخذ الجنسية، والتزوج بالنصرانيات حتى يذوب هؤلاء في المجتمعات النصرانية. وثامن بعث إلي قصاصة من شركة أطلس؛ حيث تقيم مهرجاناً رائعاً -كما تقول- تسميه المهرجان الحر، ويوافق ذلك يوم عيد الميلاد الذي يحتفل فيه النصارى، وهذا المهرجان هو للبنين والبنات. وتاسع أرسل إلي قصاصة من صوت الكويت فيها إعلان عن حضانة اسمها حضانة المثنى تحت إشراف مدرسة الكويت الإنجليزية، والقائمون على هذه المدرسة هيئة بريطانية متخصصة لغتها الأم اللغة الإنجليزية من أجل حضانة أولاد وبنات المسلمين. وعاشر بعث إلي بقصاصة من جريدة هندية تباع في أسواق المسلمين اسمها إنديان إكسبرس في 5/1/1413هـ تعلن هذه الجريدة عن أناجيل توزع مجاناً، وترسل بالبريد فقط ما عليك إلا أن ترسل عنوانك. ولك أن تبكي أن الإعلام يملك أن يرخص لجريدة من هذا النوع، تعلن للمسلمين عن الأناجيل، وتعلن عناوين لمؤسسات في الولايات المتحدة وغيرها من الممكن أن تستقبل مراسلاتكم وترد عليكم، وتبعث لكم بالإنجيل مجاناً، ولكن قد يجد صعوبة في الترخيص لبعض المواد الإسلامية التي تقاوم النصارى، فلا حول ولا قوة إلا بالله. وآخر لفت نظري إلى موضوع التنصير في اليمن وأنني لم أتحدث عنه، وضرب مثالاً بجمعية أطباء بلا حدود والتي يطوف أعضاؤها الوديان والجبال في اليمن، ومن قبل نشرت جريدة المسلمون عن منصرة غربية تمكنت من تنصير عشرات الأسر في اليمن، وهناك تقارير خطيرة عن بعض المستشفيات التخصصية ودور المنصرين فيها، وتساهلهم في استقبال الحالات المرضية بل الحالات الخطيرة التي تأتي عن طريق الإسعاف وشتمهم للحجاب الشرعي، وتضييقهم على المسلمين. أيضاً هناك حركة جديدة اسمها أخوة نصرانية في نقط، يبدو من أوراقها أنها تشتغل في جامعة من أكبر الجامعات الموجودة في منطقة الجزيرة العربية، وفي التقرير موضوعات الدروس وأماكنها ومن يلقيها وأسئلة حول هذه الدروس، إضافة إلى تقرير وصلني عن الإذاعات التنصيرية في العالم والموجهة خصيصاً إلى الخليج والجزيرة العربية. هناك تقرير صحفي نشرته مجلة التايمز خلال العام الفائت بعنوان (آفاق الأسقف الجديدة) وهو مهم جداً، ولولا ضيق الوقت لذكرته لكم، وهو يتحدث عن الجهود في المجالات الجديدة للنصارى في دول الاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا ودول البلطيق عموماً وفي أوروبا الشرقية ولعله يأتي له مناسبة في المستقبل إن شاء الله. وهناك أيضاً تقرير آخر نشر في مجلة إسبانية اسمها فيدا نوفيا في العدد رقم 1721 عنوانه (ما أصعب أن يكون المرء نصرانياً في الجزيرة العربية) وخلاصة ما فيه هذا التقرير في كلام كثير جداً ربما يقارب عشرين صفحة من المعلومات المهمة فيه يقول: في الجزيرة يعيش أكثر من نصف مليون كاثوليكي وهذه إحصائية جديدة، أنا ذكرت لكم في المجلس السابق والذي قبله أن الإحصائية القديمة خمسين ألف، فتبينوا خلال سنوات عديدة تضاعف العدد إلى خمسمائة ألف، نصف مليون كاثوليكي دعك من البروتستانت والأرثوذكس، والكاثوليك فقط نصف مليون، منهم في دبي خمسين ألف، وفي أبو ظبي مثل هذا العدد، وثلاثمائة وثمانون ألف منهم في منطقة الجزيرة العربية غالبهم من الفلبينيين والكوريين، ويوجد عدد منهم في مجال التقنيات المتقدمة. هناك مسئول في الخليج هو مسئول عن المنطقة التي تضم الجزيرة والإمارات وقطر والبحرين واليمن، أنشط مجالات التنصير هو التعليم، فالمدارس الكاثوليكية فيها أكثر من إحدى عشر ألف وستمائة طالب، منهم -وهذا هو المحزن- خمسة آلاف من النصارى في مقابل سبعة آلاف من أولاد المسلمين يشكلون نسبة (61%) في هذه المدارس، ويقول التقرير أيضاً: في الماضي حتى عام 77م كان هنالك بحريني يزور منطقة الجزيرة العربية شهرياً لتفقد الجالية النصرانية، ويرخص له بتقديم الخدمات الدينية في البعثات الأمريكية وشركات متعددة، وكان هناك آخر من بيروت يزور منطقة أخرى في الجزيرة العربية لإقامة الشعائر الدينية في بعض السفارات في مدينة كانت مقراً للسفارات والقنصليات الأجنبية. أما في عام 77م وما بعده فقد سمح لبعض القساوسة في إدارة الصلوات في بعض الشركات، وتقديم الخدمات الروحية للموظفين الكاثوليك في منطقة الجزيرة، وسرد مجموعة من القسس والجمعيات النصرانية التي كشفت في هذه البلاد، وتم ترحيل بعض العاملين فيها. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 8 اليقظة ثانياً: أحدثت هذه المناقشات لدى العديد من الإخوة المستمعين؛ يقظة تجاه موضوع النصارى وهي أقل ما يجب، ومن أجمل البشريات أن بعض الإخوة في الخطوط الجوية في المنطقة الشرقية لاحظوا وجود طبيبة نصرانية هندية تعمل في عيادة الخطوط، واكتشفوا أنها تقوم بتوزيع نسخ من الإنجيل لبعض الموظفين، وتم القبض عليها والتحقيق معها، وقد اعترفت -والحمد لله- ونسأل الله أن تتسارع بقية الإجراءات في هذا الموضوع. كما قامت مجموعات من الشباب ببعث رسائل مناصحة كثيرة لجهات عديدة يوجد فيها تسيب أخلاقي، أو يكون فيها وجود للنصارى، أو نشاط لهم. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 9 رسائل أحد الإخوة كتب يستأذن في تفريغ تلك المحاضرات لتنقيحها وطباعتها، وآخر كان أسرع وأعجل، فبعث إلي بكتيب مطبوع بالآلة الكاتبة عنوانه (التنصير وخطره على العالم الإسلامي الجزء الأول) وهو خلاصة تلك المحاضرات السابقة، ويشمل أولاً: وسائل المنصرين، ثانياً: التنصير في العالم الإسلامي، وقد قام الأخ الكريم باختصار بعض الموضوعات، وقدمها بصورة جيدة فجزاه الله خيراً، وآخرون أيضاً اتصلوا في مثل هذا الموضوع. عموماً: موضوع التنصير يحتاج إلى جهد مضاعف، والكتب موجودة، ولا أريد أن يكون البحث عن التنصير الذي قدمته مجرد تكرار لجهود الآخرين، فسأنتظر فيه بعض الوقت حتى ينضج أكثر؛ مع أنني أقدم وافر الدعاء للإخوة الذين قدموا هذا الموضوع أو فرغوه أو اختصروه فجزاهم الله تعالى خيراً، وهذا جزء من الجهد الذي أعتبره تشجيعاً للحديث عن هذه الموضوعات الخطيرة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 10 وسائل مقاومة التنصير النقطة الثالثة: وهي بيت القصيد، كيف نقاوم التنصير؟ إنني أدعو جميع الإخوة الفضلاء سواء الإخوة في الإعلام، أو الإخوة المستمعين إلى هذا الحديث، أو الإخوة في محلات التسجيل الإسلامية أن يسعوا إلى نشر هذا الكلام؛ لما فيه من توعية المسلمين بالدور الذي يمكن أن يقوموا به في مواجهة التنصير، وقد وصلتني مجموعة من الخطب والمقالات والاقتراحات؛ بل والكتب المتعلقة بهذا، وهو يدل على درجة الوعي المرتفعة لدى الإخوة المستمعين. وصلتني رسالة عنوانها (صيحة نذير في مقاومة التنصير) كما وصلتني رسالة أخرى عنوانها: (خطة مقترحة لمحاربة النشاط التنصيري) فجزى الله تعالى أولئك الذين راسلوني خير الجزاء، وأمامي تسع وخمسون خطة لمقاومة التنصير، كاد أحد الإخوة أن يفسد علي الرقم؛ لأنه بعث إلي الآن بقصاصة فيها خطة يمكن أن تعتبر خطة جديدة، ولكنني سوف أدخلها ضمن أحد الأرقام ليبقى الرقم شاغراً كما أسلفت. وتسع وخمسون خطة تتطلب ألا يأخذ الحديث عن كل واحدة منها أكثر من دقيقة فأستعين بالله تعالى: الجزء: 205 ¦ الصفحة: 11 الأشرطة السمعية إعداد أشرطة سمعية لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، ويكون إعداد هذه الأشرطة بأسلوب جذاب بالعربية أولاً، ثم يترجم إلى لغات أخرى، مع مراعاة حسن الصوت، واستخدام المؤثرات الصوتية المقبولة، والسعي لتوزيع هذه الأشرطة بكميات كبيرة لدى غير المسلمين وفي جميع البلاد. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 12 أصحاب اللغة الإنجليزية على من يجيدون اللغة الإنجليزية مسئولية كبيرة؛ خاصة في إبراز الجوانب المهمة التي ينبغي أن يعرف بها غير المسلمين، وإدارة الحوارات والمناقشات بكل مناسبة معهم، ومجادلتهم بالتي هي أحسن كما قال الله عز وجل {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] . الجزء: 205 ¦ الصفحة: 13 إيجاد مكاتب للاستقدام إيجاد مكاتب للاستقدام تحرص على التزام الشروط الإسلامية، فلا تستقدم إلا المسلمين ولا تستقدم النصارى، وتحرص على اختيار الأفضل والأتقى والأدين، ولا تستقدم أي حالة تكون مخالفة للشرع. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 14 هيئات ذات طابع شمولي إنشاء الهيئات والجمعيات ذات الطابع الشمولي في الدعوة إلى الله تعالى، ومقاومة التنصير، وسوف أذكر نماذج لهذه الهيئات والجمعيات. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 15 محاربة العادات النصرانية محاربة العادات النصرانية في الأعياد والمناسبات والزواج واللباس والشعارات وغيرها. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 16 الدعاء الدعاء، أن ندعو الله تعالى دائماً وأبداً في كل عمل نقوم به من الأعمال الخيرية أن يكلله الله تعال بالنجاح {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {الدعاء هو العبادة} ويقول: {من لم يسأل الله يغضب عليه} ويؤسفني أيها الأحبة أن أقول لكم: إن دين الإسلام هو الدين الذي ربط الإنسان بأن يسأل الله تعالى بدون واسطة، فلا يجوز أن تجعل بينك وبين الله وسيط في الدعاء، بل تسأل الله تعالى مباشرة (يا رب أسألك الجنة وأعوذ بك من النار) أو تسأل الله كل ما أهمك من أمر دينك ودنياك، ومع ذلك تجد تقصيراً كبيراً من المسلمين في أمر الدعاء. أما النصارى فعلى رغم أن دينهم يجعل هناك وسائط بين الناس وبين الله، ويجعل هؤلاء القسس الذين يعترف الإنسان أمامهم؛ إلا أنني لاحظت من خلال تصفحي لكتب كثيرة من كتب التنصير أنهم يوصون المنصر بأن يكثر من الدعاء في كل عمل، وفي كل حركة يدعو للمسلم ويصبر عليه ويدعو الله بالتوفيق، بل إنهم يوصون بعضهم بعضاً من خلال المراسلات بالدعاء، وربما قرأت عليكم في المجلس السابق شيئاً يسيراً من ذلك. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 17 إخراج غير المسلمين من البلاد المقدسة يجب إخراج جميع النصارى واليهود وغير المسلمين من البلاد المقدسة، فلا يكونون في العمل لا في الصحة، ولا في غيرها إلا المسلمين، وفي المسلمين غنية وكفاية والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] . الجزء: 205 ¦ الصفحة: 18 الحذر من السفارات الأجنبية ومدارسها التنبيه والحذر من الدور الذي تقوم به السفارات الأجنبية ومدارسها في الاتصال بالمواطنين، أو مراسلتهم، أو مهاتفتهم، أو إشراكهم في نشاطاتها، وينبغي أن يكون هنالك رقابة عليها، وتحديد لمجالات عملها، ومنعها من الاتصال بالمواطنين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 19 العناية بالعمال المسلمين العناية بالعمال المسلمين الموجودين هنا وفي كل بلد إسلامي؛ في تعليمهم ورعايتهم ورفع الظلم الذي يقع عليهم من قبل مكفوليهم مثل: تأخير الرواتب والمضايقة وإسكانهم في أماكن غير لائقة، بل ينبغي أن يكون هدفنا رفع الظلم عن جميع من يكون موجوداً هنا، إنها الفرصة التي يستغلها النصارى لمد يد العون للضعفاء، فهم يعتبرون أن الأوضاع السيئة للعمال والضعفاء فرصة لا تعوض لدعوتهم إلى النصرانية، وتحقيق ما يحتاجون إليه، فينبغي أن نسبقهم مع أن الدين الإسلامي أصلاً يوجب علينا أن نرفع الظلم عن المظلومين، فالمسلم نصير المظلوم حيث كان وأياً كان. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 20 إبراز قصص من أسلم إبراز قصص بعض النصارى الذين أسلموا، مثل كتاب لماذا أسلم هؤلاء؟ أو كتاب رجال ونساء أسلموا وهو عبارة عن أجزاء، مثلما يسعى النصارى إلى تزوير أسماء بعض الناس وتصوير أنهم كانوا مسلمين ثم تنصروا بعد ذلك؛ لأن هذا يحدث أثراً نفسياً كبيراً لدى أصحاب الدين السابق. فينبغي أن نشهر ونعلن أسماء النصارى الذين أسلموا من خلال الكتابات، ومن خلال تقديمهم للناس، ولكن ينبغي ألا نبالغ في هذا الإشهار والإظهار حتى يضر بهؤلاء المسلمين أنفسهم، وأن نعطيهم القياد ونسلم إليهم الزمام؛ فقد يوجد عندهم لوثات وتأثرات وآثار من ماضيهم، وقد نجني عليهم حينما نسلط عليهم الأضواء كثيراً، فنتسبب في بعض الأمراض والآفات التي تصيبهم، فينبغي أن يكون هناك قدر من الاعتدال في هذا الأمر. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 21 العناية بالمناطق النائية العناية بالمناطق النائية كالقرى والهجر، ومثلها الدول البعيدة عن مراكز العلم، وينبغي أن يكون هناك تضحية في هذا السبيل كما نضحي من أجل زيادة الراتب مثلاً، إنني أعرف مجموعة من الشباب رضوا أن يجلس الواحد منهم في منطقة نائية لا يوجد فيها كهرباء، ولا تكييف ولا خدمات رغبة في أن يكون مدرساً، ويقبل راتباً كبيراً، فلماذا لا نضحي من أجل الدين كما نضحي من أجل الدنيا؛ على الأقل ينبغي أن نصبر إذا عيينا هناك، ولا نستعجل في المجيء إلى أهلينا، ويكون لنا دور في توعية المسلمين ودعوتهم وإصلاح أوضاعهم. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 22 مناظرة قساوسة النصارى أسلوب المناظرة خاصة للراسخين في العلم مع قساوسة النصارى، وينبغي أن يكون هذا الأسلوب مضبوطاً بضوابط تضمن الاستفادة منه وتجنب سلبياته. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 23 دعم المسلمين الذين يحاربون النصارى دعم المسلمين الذين يحاربون النصارى؛ مثلما نجد اليوم حرب المسلمين ضد النصارى في السودان، أو حرب المسلمين ضد النصارى في الفلبين، وأخطر من ذلك كله حرب المسلمين ضد النصارى في البوسنة والهرسك، فلا بد من دعم قوي للمسلمين بكافة وسائل الدعم، من الدعم المالي لهم، والدعم الإغاثي، والدعم الإنساني، ولكن هناك دعم آخر يجب أن يتفطن له ألا وهو دعمهم بدعوتهم إلى الله تعالى، فإنهم لن ينتصروا بالبندقية وحدها، بل ينتصروا بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا الآية} [غافر:51] {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] فلماذا لا يقوم أعداد من الشباب المؤهلين في الذهاب إلى المسلمين في يوغسلافيا -مثلاً- ويدعونهم إلى الله، ويعلمونهم العقيدة الصحيحة، ويربونهم على الأخلاق الفاضلة ويساعدونهم على الأمور التي يحتاجون إليها. وإنني أود أن أقول بهذه المناسبة: إنني يمكن أن أستقبل اسم أي شاب يرغب في المشاركة في هذا العمل، كما أن من الممكن أن يسجل اسمه لدى مكتب الدعوة، أو لدى بعض الإخوة الذين لديهم جهود في هذا المجال كالشيخ صالح السلطان أو غيره من الإخوان؛ حتى يمكن تنظيم هؤلاء الشباب، ومعرفة من يناسب منهم لهذا العمل، وتزويدهم ببعض الوصايا والنصائح والملاحظات؛ ليقوموا بدور الدعوة إلى الله تعالى في أوساط إخوانهم المسلمين هناك، ولعل كما قيل: (رب ضارة نافعة) لعل ما لقيه إخواننا المسلمون هناك من النصارى يكون سبباً في التفاتنا إليهم، ودعوتنا لهم، وتصحيحنا لأوضاعهم الأخلاقية والدينية والعقائدية وغيرها. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 24 دعاة متخصصون في دراسة النصرانية تخريج فريق من الدعاة، بل فرق من الدعاة المتخصصين في دراسة النصرانية والتعامل مع المنتسبين إليها، ودراسة وثائقها، ويمكن أن يتولى هذا العمل الجليل معهد للتبشير الإسلامي يقوم عليه بعض الدعاة، ويكون هذا المعهد عبارة عن أقسام: قسم لإخراج وإعداد الدعاة من الرجال، وقسم لإعداد الداعيات من النساء، وقسم لدراسة التنصير وإعداد الخطط والإحصائيات المتعلقة به إلى غير ذلك من الأقسام التي يحتاج إليها. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 25 بذل النصيحة النصيحة لكل من يلحظ عليه شيء من التساهل أو التقصير أو التفريط في ذلك، أو يظن أنه قد وقع في شراك المنصرين، أو يكون قد استقدمهم لعمل أو وظيفة أو خبرة أو غير ذلك، وبذل الجهد في إقناعه بإبعادهم واستقدام مسلمين بديلاً عن هؤلاء، وينبغي أن تكون النصيحة بالكلمة الطيبة والزيارة، والكتيب والشريط وغير ذلك من وسائل الإقناع، وعدم اليأس من ذلك. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 26 مقاطعة النشاطات المخالفة للشرع مقاطعة جميع النشاطات المخالفة للشرع، سواء كان وراءها النصارى أو غيرهم؛ مثل المدارس الأجنبية والمؤسسات المشبوهة وبيوت الربا والإعلام الفاسد، كأشرطة الفيديو، والبث المباشر، والصحف المنحرفة وغير ذلك. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 27 الولوج إلى التخصصات العلمية المختلفة الولوج إلى التخصصات العلمية المختلفة، ووجود متخصصين من الشباب في كل هذه الأمور، فلن تكون أمور الأمة بخير ما دامت الخبرة التي تحتاجها يملكها عدوها، وليس في عقول المسلمين نقص -والحمد لله- عن غيرهم، بل هم رواد الحضارة في فترة من فترات التاريخ، فينبغي أن يبادر أصحاب القدرات والخبرات والإمكانيات إلى التخصصات والدراسات العلمية الجادة، ويسعوا إلى اكتشاف أسرار التقنية ونقلها إلى بلاد المسلمين؛ ليتم الاستغناء عن الخبراء من اليهود والنصارى وغيرهم. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 28 رعاية الشباب العناية برعاية الشباب، ومؤسساتها المختلفة ونواديها ومخيماتها ونشاطاتها، وحمايتها من البلاء الذي يهددها، وحماية الشباب من السفر إلى الخارج للرياضة أو اللعب أو حضور المخيمات أو المعسكرات التي تقام هناك، وإبعاد اللاعبين الأجانب عن النوادي الرياضية، ومثله أيضاً إبعاد المدربين الأجانب، والحرص على تصحيح الأوضاع التي تتعلق بتربية الشباب وإعدادهم وإصلاحهم. كما أنه ينبغي التنبيه إلى خطورة النشاط التنصيري في مجال الرياضة، من خلال الدورات الرياضية التي تقام في كل مكان -كما سبق أن نوهت إلى ذلك- ومن خلال اللاعبين الذين يستقدمون بعشرات الآلاف من الريالات ومن خلال المدربين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 29 حماية الشباب من الاختلاط حماية الشباب من الاختلاط بغير المسلمين، ومنعهم من السفر إلى بلادهم أو الاتصال بهم، وحفظ عقائدهم وأخلاقهم، ومنع الإعلام وخاصة الصحافة من نشر الإعلانات الدعائية، كما يجب منع الخطوط الجوية من الدعاية للسياحة في الخارج، وإعلان أسماء وعناوين الفنادق وأماكن اللهو والقمار والفساد في العالم، ومطالبتها بالإعلان عن المراكز الإسلامية والجمعيات والمساجد وأماكن الإصلاح. وينبغي في مقابل ذلك تشجيع السفر من قبل الموثوقين للدعوة إلى الله، والتعليم، وغير ذلك من المصالح العلمية أو العملية التي تحتاجها الأمة في كل بلد من بلادها. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 30 إصلاح مناهج التعليم إصلاح مناهج التعليم بما يضمن تخرج الطالب المؤمن الموحد المدرك لصديقه من عدوه، المرتبط بإسلامه وتاريخه ومجتمعه، الموقن بعقيدة الولاء والبراء، المحب للمؤمنين، المبغض لاليهود والنصارى والمشركين، إنه لا يخدم الأجيال شيئاً أن تلغى عنهم مثلاً الحروب الصليبية، أو تحذف كلمة العدو الصهيوني، أو تغيب عنهم عبارة الجهاد الإسلامي، وهذا إن حدث فهو تأكيد على أن المدارس الرسمية لا تخدم قضايا الأمة، ولا تمثل منهجها الصحيح، وهو انشطار خطير في المجتمع. ويجب أن يكون لنا جميعاً دور كبير في إصلاح المناهج، وبناء النشء وتصحيح الأوضاع بقدر المستطاع خاصة من لهم صلة بعملية التعليم، من الأساتذة والموجهين والمدراء والمسئولين وغيرهم في جميع البلاد الإسلامية. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 31 النزول إلى الميدان النزول إلى الميدان وعدم الهروب، إن مجرد الكلام عن فساد هذا الجهاز أو ذاك، أو هذه الشركة أو تلك لا يحقق شيئاً كبيراً، وهو ذاته لم يكن ليتم لولا وجود عناصر متدينة غيورة ترفض المنكر وتحاربه داخل تلك الأجهزة، ولهذا يجب أن يوجد في المستشفيات والإدارات المختلفة والشركات والمؤسسات من الصالحين من تقوم بهم الكفاية في مقاومة المنكر ونشر الدعوة والمعروف، وأن يبذلوا كل ما يستطيعون في الدعوة إلى الله تعالى وإصلاح الأحوال، فإن مجرد الشكوى لا تكفي. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 32 الحذر من التيارات العلمانية والحداثية الحذر من التيارات العلمانية والتيارات الحداثية التي هي في حقيقتها الوجه الفكري والأدبي للتنصير، أو على أقل الأحوال هي إحدى الحلفاء التاريخيين للنصرانية، لقد فاتني في المجلس السابق أن أذكر لكم في محاضرة (صانعو الخيام) أن المحور السابع للتنصير هو حرب الصحوة الإسلامية بالتحالف مع العلمانيين، وإليك هذا الخبر: في 1/6/83م نشرت وكالة كونا وكالة الأنباء الكويتية هذا الخبر، قال النائب في مجلس النواب اللبناني واسمه خاتشيك بامكيان: إنه لمس في الكويت عطفاً خاصاً على قضايا لبنان، واستطرد يقول: كان الهدف من الزيارة إلى الكويت زيارة الجاليات، وتأمين الارتباط بين الكنائس والعلمانيين في منطقة الخليج العربي، إن هؤلاء العلمانيين هم أولاً خريجي المدارس الأجنبية، سواء في بلاد المسلمين أو في جامعات الغرب، وهم ثانياً كالنصارى يتشدقون بالوحدة الوطنية التي تجمع المسلم إلى اليهودي إلى النصراني، خاصة حين يكونون يمثلون أقلية في أحد البلاد. وهم أيضاً يتحدثون عن الحرية الشخصية، وتطوير البلاد الإسلامية على النمط الغربي، وإذا كان النصارى يتحالفون مع الجميع فإن أفضل حليف لهم هم العلمانيون الذين فقدوا الغيرة الدينية والنخوة الإسلامية، والحداثيون الذين يدعون إلى التغيير الدائم المستمر، وعلى أقل الأحوال فإن هناك عدواً مشتركاً للنصارى وللعلمانيين وللحداثيين هو الإسلام والصحوة الإسلامية، وهم يتجمعون في مواجهة هذا الخطر المشترك. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 33 القضاء العاجل على بوادر التنصير المكتشفة الحسم الصارم والقضاء العاجل على أي بادرة تنصيرية يتم اكتشافها، إنني لا أرى بحال من الأحوال التسامح مع القسس والرهبان الذين يكتشفون بحجة الرغبة في إسلامهم أو هدايتهم، خاصة إذا كانوا من أصحاب الخبرات العالية كالأطباء والمهندسين ونحوهم؛ لأن هؤلاء كثيراً ما يتسترون بالإسلام إذا ضاق عليهم الأمر، وكشفوا وفضحوا، أو كان لهم هدف. الكثيرون منا يعرفون اليوم ما مدى صحة إسلام نابليون بونابرت الذي كان يخاطب المسلمين فيقول: من عبد الله نابليون بونابرت إلى من يليه من إخوانه المسلمين، والكثيرون أيضاً يشككون في مدى صدق إسلام سان جون فيلبي الذي جاء إلى هذه البلاد وقام بدور وسمى نفسه عبد الله تنبي، والكثيرون يتساءلون عن شكسبير وما مصيره، وكثير من الرحالة الغربيين الذين جاءوا إلى هذه البلاد، ولاحظوا تمسك أهلها بالدين وقوتهم في الحق وحماسهم له؛ أعلنوا إسلامهم حتى يتمكنوا من البقاء بين المسلمين ودخول البلد الحرام وغير ذلك، بل إن الجاسوسية تعتمد في أحيان كثيرة على مثل هؤلاء الذين يظهرون الإسلام. إننا يجب أن نشرد بكل من نكتشف أنه يدعو للنصرانية في بلاد الإسلام، يجب أن نشرد بهم من خلفهم ونجعلهم عبرة لغيرهم، ونجعل الأسلوب الحاسم القوي يجعل الآخرين يكفون عن نشاطهم التنصيري المعادي للإسلام. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 34 تحصين الشباب المسافرين إلى الخارج تحصين الشباب المسافرين إلى الخارج من مخاطر التنصير، سواء كانوا مسافرين للدراسة أو العمل أو غير ذلك، ويكون التحصين بأمرين: الأول: العلم الصحيح الشرعي الذي يقاومون به الشبهات. والثاني: الدين والورع والخوف من الله عز وجل الذي يقاومون به المغريات والشهوات، ولا بد من تزويدهم بالمعلومات الكافية عن مخططات النصارى وأهدافهم، وتعميق الأهداف الإسلامية لديهم ليعودوا أوفياء لدينهم وأمتهم مخلصين لما ذهبوا من أجله. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 35 تغطية نفقات الدعوة المساهمة الفعالة في تغطية نفقات الدعوة إلى الله تعالى وتكاليفها من قبل أثرياء المسلمين، إنني أتعجب حين أرى المشاعر تتفاعل أحياناً مع مشكلة شخصية، يعرضها متسول أمام المصلين وقد يكون صادقاً أو كاذباً، ولا أرى المشاعر ذاتها مع مأساة أمة بأكملها تحارب في دينها وفي عقيدتها بل في طعامها وشرابها ولباسها. إنني أتعجب أيضاً من التسارع في عمليات الإغاثة -وهو مطلب حميد سديد، ونحن بحمد الله ممن يساهم فيه ويدعو إليه- ولكننا لا نرى تسارعاً مشابهاً أو مماثلاً في دعم المشاريع الدعوية التي هي خير وأبقى، وأنفع في العاجل والآجل. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 36 كوكبة من الدعاة الرحالين ضرورة وجود كوكبة من الدعاة المخلصين المتفرغين الذين لا همَّ لهم إلا جوب آفاق البلاد الإسلامية طولاً وعرضاً رحالون؛ مهمتهم معرفة أحوال المسلمين، ومعرفة ما يحتاجونه وما يهددهم ودعوتهم إلى الله تعالى، وهم قادرون بإذن الله على رسم سبل العلاج والمساهمة فيها. إنه ليس يجوز أن تظل الدعوة إلى الله تعالى هماً ثانوياً لبعض الدعاة، يفكر فيها الواحد سويعة من يومه وليلته؛ وبعدما رجع إلى البيت مكدوداً مهموماً من أعباء العمل والوظيفية الرسمية التي استهلكت طاقته، وجد أن المشاكل البيتية تنتظره وتأخذ أكثر وقته، فربما فرغ لدعوته إن كان مجتهداً ساعة من اليوم والليلة. وقولوا لي بالله عليكم: من منا الذي يفرغ من يومه وليلته ساعة للدعوة إلى الله تعالى؟ لكن حتى هذا لو حصل فإنه لا يكفي، بل يجب أن يوجد دعاة مخلصون متفرغون لأمر الدعوة، متفرغون من كل شيء، وينبغي أن يسعى المسلمون إلى توفير المرتبات الكافية لهؤلاء؛ ليقوموا بمهمتهم وهم آمنون مطمئنون. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 37 رسم المناهج المناسبة لدعوة غير المسلمين رسم المناهج المناسبة لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام التي تعتمد على معرفة أكاذيب النصرانية، وتناقضات ما يسمى عندهم بالكتاب المقدس، وتقيم الأدلة على أن الإسلام ناسخ للأديان كلها، وأن الإسلام يوجب على أتباعه الإيمان بموسى وعيسى ومحمد وغيرهم من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] وتزود هؤلاء الدعاة بالأجوبة الصحيحة عن شبهات النصارى واحتيالاتهم الفكرية. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 38 إصدار الفتاوى في حكم استقدام النصارى إصدار الفتاوى الصريحة والواضحة في حكم استقدام النصارى على كافة الأصعدة، الصعيد الاجتماعي هل يجوز أن نستقدم النصرانيات كخادمات مثلاً أو ممرضات أو خبيرات اجتماعيات؟ وعلى الصعيد الصحي: كأطباء أو فنيين أو ممرضين؟ وعلى الصعيد الأمني والصعيد الاقتصادي والصعيد العسكري وحكم الثقة بالنصارى!! وحكم تمكينهم من ممارسة نشاطهم وعملهم؛ أو إعانتهم على إخواننا المسلمين بأي لون من ألوان الإعانة والمساعدة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 39 مواجهة السفن الجاثمة في منطقة الخليج العربي منع السفن العائمة الجاثمة في منطقة الخليج العربي، والتي تمارس ألواناً من التنصير، والبث التلفازي، وتوزيع الكتب والمجلات والصلبان، وإقامة المعارض، ومعالجة المرضى، وتنظيم الحفلات الراقصة الماجنة، وهي تعرض أحياناً فيها السخرية بالدين وأهله، وقد اطلعت على تقرير يكشف عن إحدى هذه السفن قامت بنشر فيلم يسخر من المسلمين ومن صلاة المسلمين، في قيامهم وقعودهم وركوعهم وسجودهم، وهو موجه إلى المسلمين في منطقة الخليج العربي والجزيرة العربية. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 40 معاملة النشاط التنصيري كأصحاب الجرائم معاملة النشاط التنصيري في العالم الإسلامي كله كما يعامل مروجو البضائع الفاسدة والمواد المحرمة، والمخدرات، والمبادئ غير المرغوب فيها أمنياً أو اجتماعياً. إننا نعلم أن أي بلد إسلامي لو اكتشف شبكة للتجسس، أو وكراً للمخابرات لدولة أجنبية لقام بإعداد الملفات المطولة عنه، وحقق معه تحقيقاً دقيقاً وقام بترحيل هؤلاء سريعاً، وربما سجنوا أزمنة طويلة، وربما ساءت العلاقات مع ذلك البلد بسبب هذا العمل العدائي، وأخطر من ذلك لو كشف بلد إسلامي منظمة أو خلية تسعى إلى التخريب والتفجير في أي بلد من البلاد، فلماذا لا نعتبر أن هؤلاء النصارى هم فعلاً دعاة إلى التخريب والتفجير في البلاد الإسلامية، وهم فعلاً عبارة عن جواسيس وطوابير للبلاد الغربية وأجهزة المخابرات الأجنبية؟ الجزء: 205 ¦ الصفحة: 41 منع الشركات الأجنبية من الدعوة لأعيادهم منع الشركات الأجنبية من الدعوة إلى أعياد الميلاد، أو أعياد الشكر، أو الهلويين، أو القيامة، أو الحب، أو غيرها من أعياد النصارى، أو الأعياد الشركية، أو البدعية، والرقابة الصارمة عليها، والسعي لتقليص عدد النصارى فيها بكل وسيلة وإحلال المسلمين محلهم. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 42 التيقظ للنشاط الماروني التيقظ للنشاط الماروني التجاري والإداري، إن الموارنة اللبنانيين من أكثر النصارى تلطفاً ونعومة ولباقة، وقد اتضح أن لهم نشاطاً واسعاً من خلال وجودهم في الشركات والمطاعم والمتاجر، وكثيراً ما يشتغلون كمدراء لأعمال بعض التجار، وكبار المسؤولين، وقد نشطوا في ترتيب وإدارة عمليات البغاء والاستفادة من الأعداد الكبيرة من الممرضات والمضيفات في الخطوط وغيرها. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 43 مراكز التوعية للنساء إنشاء مراكز للتوعية الإسلامية للنساء، ودعوة النساء غير المسلمات إلى الإسلام، وتقوم على هذه المراكز بعض الأخوات المحتسبات، وتنشط في أوساط الممرضات والمضيفات وغيرهن، إنني أعلم أن إحدى الجمعيات النسائية اعتذرت عن إقامة ندوة أو محاضرة للتعريف بالإسلام في أوساط الجاليات من النساء غير المسلمات؛ بحجة أن هذا العمل المسئولة عنه جهات أخرى، وكأننا أصبحنا نخجل من إظهار ديننا أو الدعوة إليه، على حين يجاهرون هم بدينهم في بلادنا، ويغزوننا في عقر دارنا، فنشكو إلى الله تعالى قوتهم وضعفنا، وشجاعتهم وجبننا، وإقدامهم وتراجعنا. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 44 منع إنشاء مدارس أجنبية منع إنشاء مدارس أجنبية في بلاد الإسلام، وفي حالة افتتاحها فيجب إخضاعها للرقابة المباشرة الصارمة والإشراف المستمر من الجهات التعليمية، والحيلولة دون دخول أولاد المسلمين إلى تلك المدارس، ومنع تلك المدارس والقائمين عليها من كل ما يخالف الإسلام، كالرقص والاختلاط والملابس الفاضحة والاحتفال بالأعياد البدعية والشركية، وضرورة تخصيص دروس في هذه المدارس للإسلام يتولاها الأكفاء، ويقومون بدعوة الأولاد إلى الإسلام، ويجب أن يتتبع أي نشاط من هذا القبيل، وتعرف ما هي المناهج، وما هي الكتب التي تدرس في هذه المدارس، وماذا يجري في داخل هذه المباني. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 45 مقاومةالبث الإعلامي التنصيري يجب مقاومة البث الإعلامي التخريبي والتنصيري، لقد رأينا التشويش على إذاعات كثيرة ذات توجه سياسي مخالف، ورأينا أنه أفلح وبذلت فيه جهود كبيرة، فلماذا لا نشوش أيضاً على تلك الإذاعات التنصيرية التي تسعى إلى تغيير عقول المسلمين؟ ولماذا لا نمنع استيراد وبيع وتصنيع تلك الأطباق التي تستقبل البث المباشر، والتي رأيناها انتشرت في جميع بلاد المسلمين، ولم أكن أتصور أنها تنتشر في هذا البلد المبارك بهذه السرعة، فقد وصلتني معلومات تدل على أنه يوجد الآن ما يزيد على عشرين بيتاً ركبت فيها دشوش تستقبل البث المباشر، وهذا يذكرنا بواجب النصيحة من قبل الجيران وجماعة المسجد والأقارب وغيرهم. لماذا لا يمنع استيرادها وبيعها وتصنيعها؟ بل لماذا تقوم بعض الجهات بملاحقة فتوى إمامنا الشيخ عبد العزيز بن باز التي بين فيها تحريم شراء أو استيراد أو تصنيع مثل هذه الأشياء؟ وتحقق مع من يقوم بتصوير هذه الفتوى أو ينشرها؟! إن هذا لشيء عجاب!! فتوى يقوم بإصدارها سماحة الشيخ عبد العزيز تحارب في بعض البلاد، ويمنع تصويرها أو تعليقها في المسجد، ويُحقَّق مع من صورها!! إنا لله وإنا إليه راجعون، ومثل ذلك منع بث المسلسلات التي تحمل أفكاراً تنصيرية، أو صلبان أو حفلات راقصة أو خمور في القنوات التلفزيونية، ومنع ذلك كله في الأفلام، أفلام الفيديو أيضاً. إن إعلامنا يجب أن يكون أداة لخدمة الدين، والتمكين له في عقول الناس وقلوبهم وواقعهم وطاعة الله تعالى ورسوله {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] . الجزء: 205 ¦ الصفحة: 46 لجان لمحاربة المنكرات والشعارات النصرانية تشكيل لجان متخصصة لمحاربة المنكرات في كل بلد أو شركة أو حي أو مؤسسة، تحمل هذه اللجان على عاتقها محاربة أعياد النصارى، ومحاربة الشعارات النصرانية، وكسر الصلبان، ومحاربة البطاقات التي يهنئون بها في أعيادهم، أو البالونات التي تظهر فيها شعاراتهم أو غير ذلك، وتتعاون هذه اللجان الكثيرة مع الجهات المختصة في ذلك، ومع المحتسبين والأخيار والعلماء والدعاة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 47 محاربة البضائع التنصيرية محاربة أي بضاعة تمت إلى التنصير بصلة، أو تكون مبنية على فكرة تنصيرية كبعض لعب الأطفال، والأدوات المدرسية، والملابس فضلاً عن برامج الكمبيوتر والأشرطة والمواد التعليمية، وتشديد المراقبة عليها، ومثله تشديد المراقبة على الرسائل والطرود البريدية المشتبه فيها، وكلنا ينبغي أن نكون جنوداً في هذا الميدان. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 48 إبعاد العاملين النصارى إبعاد جميع العاملين من النصارى عن بلاد الإسلام، من السائقين، والخدم، والممرضين، والموظفين، والصيادلة وغيرهم، خاصة تلك المهن التي يسهل وجود مسلمين فيها، ومثله السعي الجاد في توظيف المسلمين في الأعمال التي تتطلب خبرة عالية، وعدم تولية أحد من النصارى المسئولية على أحد من المسلمين، والحذر من السائقين والخدم في البيوت وغيرها ولا يسمح لها أن تقوم على رعاية الأطفال وتربيتهم، فتربيهم على عادات النصارى وتقاليدهم. ولا بد أن يتناول هذا الموضوع من خلال خطب، وكتيبات، ومحاضرات، ومقالات، وأحاديث في المجالس، ومناقشات، ولا بد أن يصدر العلماء المعروفون الموثوقون رسائل وبيانات وفتاوى مع تزويدها بالحقائق والوثائق والمعلومات المؤثرة في الناس. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 49 المستشفيات الأهلية الخيرية إنشاء المستشفيات الأهلية الخيرية، واستجلاب الأطباء والطبيبات المسلمين، والممرضين والفنيين وغيرها؛ لحماية المسلمين والمسلمات من خطر النصارى الذين يسعون إلى تحديد النسل أو تقليله، أو تعقيم المسلمات، أو الإساءة إلى بعض المرضى من المسلمين، كما ثبت لدينا ذلك في حالات عديدة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 50 تسهيل مهمة الاتصال تسهيل مهمة الاتصال بالعلماء والدعاة والمكاتب الإسلامية، ومكاتب الدعاة والعلماء وطلبة العلم، وكذلك المراكز الإسلامية، وذلك عن طريق نشر العناوين وأرقام الهواتف وأرقام الفاكس وغير ذلك، ونحن نجد اليوم أن كثيراً من المؤسسات كالخطوط الجوية مثلاً، أو المؤسسات التنصيرية أو غيرها تسعى إلى أسماء الفنادق وأرقامها وعناوينها لتسهيل مهمة الاتصال بها، أو تسعى إلى نشر أسماء الجامعات التنصيرية في أستراليا أو أوروبا أو أمريكا لدعوة الشباب إلى الاتصال بها، فلماذا لا يسعى المسلمون باستمرار إلى نشر أرقام وعناوين وهواتف وفاكسات المؤسسات الخيرية الإسلامية والمراكز والمكاتب والعلماء والدعاة وغيرهم في أنحاء العالم. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 51 المنح الجامعية تيسير المنح الجامعية للطلاب المسلمين في الجامعات الإسلامية، مع الحرص على تأهيلهم ليعودوا دعاة إلى الله عز وجل، من خلال جهد دعوي مكثف، وليس أن يعودوا كما أتوا خلوا الوفاض إلا من الذكريات السيئة عن المعاملة التي ربما لقوها من البعض، أو أن يتحول بعضهم إلى متسكعين يطرقون الأبواب، ويريقون كرامتهم وماء وجوههم أمام فلان وفلان. إن مما يؤسف له أن يفلح النصارى في استقدام أعداد كبيرة من أولاد المسلمين ويربوهم، بل وينفقوا عليهم على حساب الكنيسة، وأن يفلح الرافضة في استقطاب أعداد أخرى من أولاد أهل السنة على حين أن أهل السنة لا يستقبلون من هؤلاء إلا القليل، وحتى الحالات التي يستقبل فيها بعض هؤلاء الطلاب، فإنهم لا يلقون العناية اللازمة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 52 صندوق خيري إيجاد صندوق خيري للدعوة؛ هذا الصندوق عبارة عن أموال دعوية ليست حكراً على أحد، تبرعات تستثمر ويصرف ريعها لصالح المشاريع الإسلامية؛ لئلا تظل الدعوة مرهونة بالمحسن الكبير فلان، والمتبرع فلان الذين بذلوا وبذلوا وأكثروا، ولكن قد يعرض لهم من العوارض الدنيوية ما يوقف عطاءهم ولو لم يكن إلا الموت لكفى. لقد رأينا مباني هائلة في نيويورك مخصصة لمجلس الكنائس العالمي تسير السيارة بجوارها أكثر من عشر دقائق أو ربع ساعة، فلماذا لا يكون ثمة مشاريع استثمارية للأعمال الإسلامية الدعوية الخيرية، ولماذا لا يكون هناك أموال مخصصة للدعوة والدعاة؟ ولماذا يظل الدعاة محتاجين إلى فلان وإلى العمل الفلاني؟ وإلى الوظيفة الفلانية؟ إننا لو تصورنا أن الحضور فقط -وهذا مجرد مثال- تخلى الواحد منهم عن ألف ريال على مدى شهر واحد لكان معنى ذلك أننا جمعنا مبالغ طائلة، فلو تصورنا أن هذه المبالغ بدلاً من أن تجمع لعمل إسلامي في بلد معين إغاثة أو مساعدة، أو دعم لمشروع جهادي؛ لو أنها جمعت وجعلت في مشروع خيري استثماري لكان هذا المبلغ يدر على مدار العام ربما أضعاف المبلغ الأصلي لتصرف في مجالات الخير وأعماله. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 53 العناية بالمسلمين الجدد العناية الخاصة بالمسلمين الجدد، فإننا نجد النصارى يعتنون كثيراً بالذين دخلوا في دينهم حديثاً، ويشعرون بأن الداخل حديثاً في الدين يشعر بغربة لا بد من إزالتها. ليست مهمتنا -أيها الإخوة- في أعمالنا ومكاتبنا ودعوتنا؛ ليست مهمتنا دعائية إعلانية، نحاول أن نكتب في الجرائد كل أسبوع عشرين فلبيني يشهرون إسلامهم ثم ينتهي دورنا عند هذا الحد، أو ربما نكتفي بمجرد أن نقوم بعمل الختان الشرعي لهم في المستشفيات، لا، مهمتنا تبدأ من يوم أن دخل هذا الإنسان في الإسلام، فلا بد أن نحتضنه ونعلمه ونتلطف معه بحسن الخلق وندعوه إلى الله عز وجل، ونؤلف قلبه على الخير، ونعمل على الاتصال به بالهدية، بالكلمة الطيبة، بالزيارة، بالدعوة، والعزيمة، والمناسبة، ومحاولة تعميق الإسلام في قلبه، كيف نتوقع أن يثبت هذا الإنسان على الإسلام، وهو في بلاد التوحيد يلقى السخرية، ويلقى العجرفة من بعض رؤسائه، ويلقى المضايقة أحياناً حتى في بيئات إسلامية، وقد يضطر إلى ترك عمله كما سبق بسبب المضايقة، فكيف نتوقع أن يصبر على دينه. إنني أقول لكم من واقع صلة قوية بأعداد ممن أعلنوا إسلامهم؛ أقول: إن أكثر هؤلاء لا يعرف مصيرهم، ولا ينبغي أن نكتفي بالإعلان في الصحف الذي يهيج القسس والرهبان ويؤججهم ويحرضهم، فيقولون: انظروا إلى المسلمين كيف أسلموا، وكيف فعلوا في الوقت الذي لم نستفد من هؤلاء إلا أقل القليل. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 54 التوعية على مستوى العامة توعية المسلمين بخطر التنصير على مستوى العامة، ومن ذلك مثلاً: إعداد الخطب عن طرق نشر التنصير بين المسلمين ووسائله الجديدة التي يمكن أن تتسلل إلى الناس وهم لا يشعرون. ثانياً: إعداد مطويات مختصرة بلغات شتى عن التنصير وخطره، ومثلها مطويات أخرى عن النصرانية وأنها دين فاسد منسوخ محرف. ثالثاً: دعوة بعض المهتمين بلقاء التنصير إلى لقاءات مع الطلاب، والمثقفين، وأساتذة الجامعات، ومع عامة المسلمين لبيان مخططات النصارى، ويضاف إلى ذلك إعداد المقالات والملاحق الصحفية عن هذا الموضوع. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 55 برامج كمبيوتر تصميم وعمل برامج كمبيوتر على الشريط الممغنط؛ تتسم بالسهولة والوضوح والاعتماد على المنهج الشرعي الصحيح المبني على الكتاب والسنة، ونشر هذه البرامج في مجال الكمبيوتر عن طريق الشبكات الدولية للكمبيوتر. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 56 فتح شعبة في مكاتب الإفتاء لمواجهة التنصير فتح شعبة أو إدارة خاصة في مكاتب الإفتاء لمواجهة التنصير في البلاد الإسلامية، ويمكن أن تستعين هذه الشعبة بالخبراء والمختصين، وبالذات أولئك الذين يجيدون لغات أخرى غير اللغة العربية، كما يمكن أن تساهم المؤسسات والجمعيات الرسمية وغير الرسمية في المبادرة لمثل هذا العمل، إننا أمام مجموعة من المؤسسات والهيئات الخيرية التي يمكن أن تفتح شعبة لمكافحة ومقاومة التنصير. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 57 المراسلة أسلوب المراسلة، ويمكن أن تتولاه بعض المكاتب الخيرية ، أو مكتب آخر يقوم بهذا العمل، أو بعض الجمعيات تقوم بالاتصال عبر البريد أو الفاكس، أو غيره من وسائل الاتصال المعاصرة مع فئات مستقبلين من الناس في أنحاء العالم، كما أن من السهل جداً أن يقوم أي واحد من الشباب العادي بمثل هذا الدور من خلال الحصول على أسماء وعناوين كثيرة في الصحف والمجلات والإذاعات وغيرها -وهي موجودة- ويمكن من خلالها مراسلة أصحاب هذه العناوين وهذه الأسماء، وتزويدهم بالكتب والأشرطة والكلمات النيرة ودعوتهم إلى الله تعالى. وأحذر من أن يفكر بعض الشباب بمراسلة الفتيات اللاتي يعلن عن أسمائهن بهدف الدعوة، لا، دع الفتاة تدعوها فتاة أخرى متدينة، أما أنت فبإمكانك مراسلة الشباب الذين يعلنون عن عناوينهم ودعوتهم إلى الله تعالى، وتزويدهم بالكتب النافعة، وينبغي أن تراعي الوضوح والصدق فيما ترسله إلى هؤلاء الناس؛ فإن الغالب منهم يغلب عليهم الجهل وعدم المعرفة، فعليك أن تبدأ معهم من نقطة الصفر، وتدعوهم إلى الله تعالى وتزودهم بالكتب النيرة النافعة الواضحة المزودة بالأدلة الشرعية من القرآن والسنة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 58 المكاتب الخيرية ينبغي أن يكون لكل داعية مرموق، أو طالب علم موثوق مكتباً يعاونه فيه مجموعة من الشباب المخلصين، يتولى هذا المكتب مجموعة من الأعمال الخيرية والإغاثية والدعوية والعلمية، مثل كفالة مجموعة من الدعاة في الخارج، ولو عشرة في أي بلد إسلامي، كل داعية ربما يكفيه ما يعادل ألف ريال أو أقل من ذلك، فيكون عشرة دعاة بعشرة آلاف ريال شهرياً، ومن هو التاجر الذي لا يستطيع أن يوفر عشرة آلاف ريال لعشرة من الدعاة يكفلهم في أي بلد إسلامي ليقوموا بمهمة الدعوة إلى الله تعالى، ويتفرغوا لهذا العمل الجريء؛ مع الإشراف على هؤلاء الدعاة، وبعث من يطمئن على سلامة الأحوال، وتزويدهم بالكتب والنشرات والوسائل التي تجعل دعوتهم ناجحة. كما أن من مهمة هذا المكتب المقترح تيسير طباعة بعض الكتب والكتيبات والنشرات المفيدة باللغة العربية وغيرها من اللغات الأخرى، كما أن من مهمته المشاركة في المشاريع الدعوية الأخرى بقدر الإمكان، إضافة إلى مساعدة الفقراء والمحتاجين وتيسير أمر الزواج للعصمة من الشر والفساد والسفر إلى الخارج؛ وأنت تعرف أن الأسلوب السابق يمكن أن يساهم فيه كثير من الناس، فيمكن أن يكون مشاركاً في إعداد نشاط هذا المكتب أو ذاك والمشاركة في بعض أعماله. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 59 دور الأيتام والأرامل والعجزة إنشاء دور الأيتام والأرامل والعجزة؛ لرعاية المسلمين كباراً وصغاراً من الأطفال والفقراء وحمايتهم من الأيدي التي تتخطفهم، ونحن اليوم نرى ونشاهد بأعيننا كيف أن المؤسسات التنصيرية تتزاحم على أولاد المسلمين في الصومال؛ حتى يسجلهم أهلوهم في تلك المؤسسات ويرحلوا بهم إلى فرنسا وبريطانيا وأمريكا حيث يربون هناك بالجمعيات النصرانية ليخرجوا في المستقبل قسساً ودعاة للنصرانية. ونرى بأعيننا كيف أن أطفال المسلمين في البوسنة والهرسك يرحلون إلى بلاد العالم كلها، ليتم تربيتهم في الكنائس والمعابد، وتستقبل إسرائيل أعداداً منهم، ويستقبل العالم الغربي الكافر منهم خاصة مركز النصرانية في إيطاليا أعداداً غفيرة منهم، أما المسلمون فلا زالوا إلى اليوم لم يفعلوا شيئاً من ذلك. ما الذي يمنع أن تقوم المؤسسات الإسلامية، ويقوم أهل المال والخير من المسلمين بإقامة معسكرات ومخيمات ضخمة لأطفال المسلمين في مناطق البوسنة والهرسك ذاتها ففيها مناطق آمنة، ويستقبل هؤلاء الأطفال ويربوهم تربية إسلامية في بلادهم، لماذا في بلادهم؟ لأننا نريد أن يظلوا في بلادهم، لا نريد أن يرحلوا عن بلادهم، حتى تفرغ لالنصارى الذين يريدون أن يطهروها من المسلمين؛ لأن ذلك يحقق جزءاً من هدف الصرب، ليبقى هؤلاء في بلادهم ويعودوا إليها، ويدافعوا عنها ويجاهدوا في سبيل الله تعالى في تلك البلاد. والنبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح يقول: {أنا وكافل اليتيم في الجنة وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى} . الجزء: 205 ¦ الصفحة: 60 التحرك في أوقات الأزمات التحرك في أوقات الأزمات بصفة استثنائية لإغاثة المنكوبين من الكوارث، والتفريج عن الملهوفين وقطع الطريق على النصارى، أو على أقل قليل مزاحمة النصارى، لقد أقام النصارى كما يسمونها جسوراً جوية لإغاثة أبناء الإسلام، والغريب أننا نستمع البارحة إلى تقارير من منظمة حقوق الطفولة تنتقد بشدة الجهود التي تقوم بها الأمم المتحدة لإعانة المسلمين في الصومال، وتقول: إنها جهود متأخرة جداً وتدعوا إلى الرثاء، معنى ذلك أن النصارى يتسابقون بصورة محمومة وغريبة على المسلمين هناك، فأين المسلمون؟ أين المنظمات الإسلامية الإغاثية؟ وأين الجهود الإسلامية؟ وأين الأموال الإسلامية؟!! الجزء: 205 ¦ الصفحة: 61 النشاط الإعلامي توسيع النشاط الإعلامي الإسلامي عن طريق طباعة الكتب والأشرطة والكتيبات والنشرات بشتى اللغات، ولكافة الطبقات والمستويات، وفي جميع الموضوعات، بل وشراء واستئجار الإذاعات ومحطات الإذاعات، ومحطات التلفزة للتبشير بدين الإسلام، إنه ميدان سباق وتنافس رهيب بين الطوائف النصرانية اليوم، ويجب أن يدخل المسلمون حلبة السباق واثقين بالنصر؛ لأن معهم الله تعالى الذي لا يغلب جنده. إن من المهم استخدام الوسائل الجذابة والمؤثرة، واستخدام الطرق الحديثة للإعلان لدعوة الناس إلى الإسلام. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 62 لجنة لدراسة موضوع التنصير إيجاد لجنة أو جمعية لدراسة موضوع التنصير ومتابعته وإعداد الدراسات والتقارير بشأنه، وحفظ الوثائق المتعلقة به، وإصدار النشرات الدورية التي تلاحق كل جديد في هذا المجال، ويمكن لهذه اللجنة أو لهذه الجمعية أن تتولى أمر الدعوة إلى قيام مؤتمر إسلامي عالمي عام يناقش موضوع التنصير، ويكون دورياً سنوياً مثلاً، أو كل أربع أو خمس سنوات يناقش موضوع التنصير من جميع جوانبه، وتقدم فيه الدراسات والبحوث وتصدر منه التوصيات والاقتراحات. كما أن من الممكن إعداد الرسائل الجامعية للماجستير والدكتوراه وما قبل ذلك عن التنصير وأهدافه وتاريخه وخططه والجديد فيه. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 63 المدارس الأهلية الخيرية تأسيس المدارس الخيرية الأهلية التي تعنى بالتربية الإسلامية، وإعداد الأجيال إعداداً صحيحاً، وتخريج الدعاة إلى الله تعالى، مع العناية بالمستوى العلمي والأكاديمي التي تظهر به هذه المدارس. إن من الملاحظ أن الكثير من أولاد الأكابر والمسئولين يذهبون إلى المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين؛ بحجة أن هذه المدارس أكثر كفاءة، وأنها تتوفر فيها من الوسائل التعليمية والمختبرات ووسائل الترفيه ما لا يتوفر في غيرها، وهذه الأمور ليست حكراً على طبقة بعينها، بل يمكن أن تتوفر في مدارس خيرية إسلامية أهلية تكون محاضن لأولاد المسلمين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 64 مؤسسات خيرية قيام مؤسسات طبية خيرية إسلامية تستثمر جهود الأطباء، وتقتطع من جهودهم ولو شيئاً يسيراً؛ لتطبيب المسلمين في كل مكان، ويصاحب ذلك جهد دعوي لعودتهم إلى الله تعالى، ودعوتهم إلى التوبة من الذنوب والمعاصي والآثام، إن دور الطبيب المسلم يجب أن يقوم حتى ولو كان دوراً فردياً، فلا يجوز أن ننتظر قيام تلك المؤسسات مع أنها يجب أن تقوم، إنما ينبغي أن يقوم الطبيب المسلم بدوره حتى لو كان دوره جهداً فردياً، ما هو الذي يمنع الطبيب المسلم أن يقضي إجازته السنوية في أحد البلاد الإسلامية يعالج المرضى ويعطيهم مع جرعة الدواء كلمة طيبة، ودعوة إلى الله عز وجل، وتذكيراً بوجوب طاعته، وتحذيراً من معصيته وبياناً لخطر اليهود والنصارى على المسلمين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 65 المراكز الإسلامية بناء المراكز الإسلامية في العالم، المراكز المتكاملة التي تحتوي على المساجد والمدارس والمكتبات إلى غير ذلك لتكون ملجئاً وملاذاً بعد الله تعالى -وبإذنه- للمسلمين سواء في بلادهم؛ البلاد الإسلامية أو في البلاد الغربية؛ حيث يلاقون محاولات شتى من التكفير والتذويب في المجتمعات الغربية الكافرة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 66 حماية الشباب بذل الجهود لحماية الشباب والفتيات من الغزو السلوكي المنحرف؛ المتمثل في وسائل الإعلام المتعددة والمتاحة، فلا بد من عمل دعوي جاد يكتسح تجمعات الشباب، ومجتمعات الفتيات، ويربطهم بالدين، ويحملهم مسئولية الدفاع عنه، ويكشف لهم حجم المؤامرة التي تحاك ضدهم. إن من المجرب أنه حتى أولئك الشباب الذين قد يبدو عليهم شيء من التقصير في التزامهم بالإسلام عندما تحدثهم عن مسئوليتهم في الدعوة إلى الله، وعن الخطر الذي يهددهم، وعن الكيد الذي يقوم به النصارى أن قلوبهم تكون أكثر استعداداً للخير، وأكثر وعياً وإدراكاً للمسئولية، فلماذا لا نخاطب مثل هؤلاء الشباب بمثل هذا الحديث. إن أمامك دوراً شخصياً ينتظرك في هذا المجال مع إخوانك، وقرابتك، وزملائك، ومع معارفك أن تدعوهم إلى الله عز وجل، وتحصنهم ضد الغزو المنحرف سواء كان غزواً تنصيرياً أو غزواً تخريبياً. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 67 العلم والتوعية نشر العلم الشرعي الصحيح بين المسلمين وتوعيتهم بأمر دينهم عقيدة وأحكاماً وأخلاقاًَ وذلك لحمايتهم من التأثر بالآخرين، إنه لا مكان للوثات التنصير في العقول البصيرة، ولا في القلوب اليقظة، وإنما خطر المنصرين على الجهلة والغافلين، ولذلك ينبغي أن يرتب أمر توعية المسلمين ونشر الدعوة الصحيحة فيما بنيهم في كل مكان، وينبغي أن يكون هناك جهات كما سوف أتحدث تهتم بأمر ترتيب الرحلات للشباب الراغبين في دعوة المسلمين من خريجي الجامعات الشرعية، والمزودين بالعلم الصحيح؛ ليتسنى لهم قضاء الإجازات أو بعضها بين أوساط المسلمين في جميع البلاد ودعوتهم إلى الله عز وجل. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 68 الدعوة في أوساط النصارى توسيع نشاط الدعوة إلى الله تعالى في أوساط النصارى من المقيمين في بلاد الإسلام وغيرهم، وإنشاء المكاتب المتخصصة لذلك لدعوة غير المسلمين إلى الإسلام، واستخدام كافة الأساليب المباحة الشرعية من طباعة الكتب باللغات المختلفة، ونسخ الأشرطة وإعداد الدعاة وتنظيم الدورات وغير ذلك، وهذا يحقق عدة أهداف: أولها: هداية من شاء الله تعالى هدايته منهم {ولأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فكسب أشخاص جدد للإسلام أمر كبير. ثانياً: إنه وسيلة فعالة لإحباط جهود النصارى. ثالثا: إن أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم، فهو يواجه الكيد التنصيري بوسائل مكافئة. رابعاً: في ذلك فضح لأعمال المنصرين؛ لأن هؤلاء المسلمين الذين دخلوا في الإسلام حديثاً يعرفون بني قومهم وخططهم، وربما حضروا معهم في بعض الأعياد والمناسبات وغيرها؛ فيقومون بالتبليغ عنهم وكشف خططهم وأعمالهم. إن من واجبنا جميعاً كأفراد فضلاً عن الواجب الجماعي أن نسعى إلى دعوة العمال والمناقشة معهم والتأثير عليهم، فما من إنسان منا إلا وقد احتك يوماً من الأيام بالعمال من غير المسلمين إلا ما ندر، فلماذا لا يجعل من احتكاكه معهم فرصة لدعوتهم للإسلام، وتشكيكهم في الأديان الباطلة التي يعتنقونها، وحثهم على التفكير على الأقل في قضية الدين، والبحث عن الدين الحق؛ لعل الله تعالى أن يهديهم إلى سواء السبيل وإلى الصراط المستقيم. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 69 اليقظة والمراقبة اليقظة لنشاطات المنصرين وتكثيف المراقبة عليهم بشتى الوسائل، وتبليغ العلماء والمشايخ والمختصين بكل ما يكتشف من ذلك أو يرتاب في أمره، ويتحمل المسئولية العظمى في ذلك: أولاً: أولئك العاملون بجوار النصارى من المسلمين في المستشفيات والمؤسسات والشركات وغيرها، فهم أقدر على مراقبة زملائهم من غيرهم. ثانياً: يتحمل المسئولية العظمى في ذلك بعض العاملين في المؤسسات التي تتعلق بالمراقبة، مثل: هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنها تستطيع أن تقوم بدور كبير في ذلك، إضافة إلى الجهات الأمنية وغيرها، ومما يتعلق بذلك في موضوع اليقظة لنشاط المنصرين إعداد الدروس والمحاضرات والكتب والنشرات عن نشاطهم التنصيري. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 70 نموذج لعمل المشاريع والهيئات الإسلامية الآن أختم هذه التوصيات التسع والخمسين بنموذج لعمل المشاريع والهيئات الإسلامية التي يمكن أن تقدم. من وسائل مقاومة التنصير كما ذكرت الدعوة إلى الله، والمطلوب في الدعوة هو العمل المؤسس الجماعي المنظم المدعوم بميزانيات موازية أو مقاربة مما هو بأيدي المنصرين، ولذا لابد من إنشاء عشرات المؤسسات والمنظمات والهيئات الخيرية والدعوية؛ التي تساهم في سد هذه الثغرة، ومقاومة التنصير الذي يتمدد في غيبة وفراغ الدعاة إلى الله، وهذا أنموذج مقترح لإحدى هذه المنظمات، نموذج متكامل ولكنه صغير. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 71 الخطوات الابتدائية لهذا العمل 1- قيام مجموعة من أساتذة الجامعات أو إحدى الجامعات بأخذ زمام المبادرة. 2- قيام هذه المجموعة بالاتصال بالعلماء والدعاة وأخذ المرئيات والبدء بالخطة التنفيذية. 3- قيام هذه المجموعة بالاتصال بالتجار والتقنيين وأخذ مرئياتهم ومدى استعدادهم، مع ملاحظة ما يلي: أولاً: وجوب تعاون هؤلاء المؤسسين من أهل الخير والبذل؛ حتى ولو كان هناك اختلافات لا تتعلق بالعمل وسبله. ثانياً: الاستعانة بجهود المؤسسات والهيئات القائمة والموجودة في الساحة والسابقة في هذا المضمار. ثالثاً: وضوح الأهداف والسبل من البداية، وألا نخادع أنفسنا بالتعويل على أشياء ليس لها مردود عملي جاد. 4- وضع مؤتمر أو ندوة في الداخل أو الخارج؛ لجمع المؤسسين أو من ينوب عنهم بإشهار هذه المؤسسة وإعلانها والموافقة على تكليف القائمين المباشرين لها، وتكليف مدير عام مؤسس لها. 5- وضع نظام إداري مرن وجيد يضمن عدم سيطرة جهة معينة على الهيئة، وعدم استبداد القائمين أو المباشرين عليها، وإيجاد نظام محاسبي دقيق لأقسامها الكبرى الاقتصادية لاستثمار الإغاثة في الدعوة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 72 موجبات النجاح بعون الله تعالى فإن أي عمل تتوفر فيه العوامل التالية فلا بد له من النجاح؛ ولا بد من الإشارة إلى أن أول هذه العوامل هو الإخلاص لله تعالى، وأن يكون المراد بهذا العمل وجه الله عز وجل لا غير، والبعد عن مناطق تأثير الأنظمة السياسية أو الحركات أو الجماعات المشبوهة. ثانياً: تكوين لجنة عليا للإدارة والإشراف مكونة من العلماء الموثوقين والمعروفين عالمياً، ومن التجار وأصحاب رؤوس الأموال الصالحين، ومن أصحاب الخبرة العملية في الميادين الثلاثة السابقة. ثالثاً: إيجاد مصادر دخل ثابتة من خلال تخصيص جزء من التبرعات للعمل الاقتصادي النافع للمسلمين والمدر للأرباح. رابعاً: أن يكون المركز الرئيسي لهذه الهيئة في أحد البلاد الإسلامية، أو البلاد الغربية المعروفة بمرونة أنظمتها، وتوافر وسائل الاتصال فيها، وتوافر الكوادر الخيرة والعاملة في أنحاء البلاد الإسلامية. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 73 وسائل العمل الوسيلة الأولى: التعليم: بافتتاح المدارس العربية والإسلامية العادية والراقية في الدول المحتاجة لحماية أبناء المسلمين، وإعداد الكوادر القادرة على المساهمة في الدعوة والإصلاح والإدارة في ذلك البلد، وذلك فيما يتعلق بالمدارس ما دون الثانوية، ثم ابتعاث النجباء من هؤلاء الطلاب إلى الجامعات الإسلامية المقامة في أنحاء الأرض، أو افتتاح جامعة أو أكثر في الدول الغربية ما دام ذلك ممكناً ومتاحاً، وكذلك الإعداد الفني والمهني للشباب المسلم لسد الحاجة الموجودة، وتمكينهم من الاستغناء عن الآخرين. ومن ذلك أيضاً طباعة وتوزيع ونشر الكتب المدرسية والتعليمية، وإعطاء منح لبعض الطلاب الدارسين في الغرب حين يرى صلاح ذلك الفرد وما يماثل هذا من الجهود. الوسيلة الثانية: الإغاثة: وذلك بتتبع أحوال المسلمين في كل مكان، وتقديم العون، وإيجاد الأوقاف المخصصة لذلك، وعدم قصر العون والإغاثة على شكلها الحالي، بل مده إلى الإغاثة الوقائية، ونعني بالإغاثة الوقائية الإغاثة قبل حصول الكارثة، وكذلك مده إلى الإغاثة الجذرية، ونعني بها توفير الحل الجذري للكارثة، مثل تمكين الناس من إيجاد مزارع أو أعمال يستغنون بها، أو الإغاثة التنموية، ونعني بها توفير الإمكانات والمصادر الكافية لتلافي الكارثة بإذن الله تعالى مستقبلاً، وفي ذلك يكون إيجاد الأوقاف. وكذلك الإغاثة الطبية والغذائية وغيرها مما يعرف بالإغاثة الإنسانية، والتمدد والاتساع والشمول في عمليات الإغاثة، بحيث يتم عمليات التضييق على المنظمات التنصيرية في هذا المجال الخطير. الوسيلة الثالثة: الإعلام: وذلك بإيجاد وكالات الأنباء على اختلاف مهماتها وأشكالها، ابتداء من أنباء التلفون، ومروراً بأنباء الفاكس، ووصولاً للبث العالمي للأنباء بالطرق العلمية المعروفة، وإيجاد المحطات الإذاعية الصوتية انطلاقاً من الدول التي تسمح بذلك، وشراء مثل هذه المحطات، ورفع درجة كفاءتها، بل إيجاد محطات البث في الدول التي تسمح في ذلك كبعض الدول الغربية، والعمل على تطوير أساليب العمل الإعلامي، وإيجاد قنوات كافية للتمويل، وإيجاد المطبوعات المتنوعة الأسبوعية والشهرية واليومية التي تلبي حاجة القراء، وطباعة وترجمة الكتب والنشرات وغير ذلك. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 74 الاسم والأهداف الاسم المقترح: الهيئة العالمية الإسلامية للدعوة والإغاثة، أو أي اسم آخر. الأهداف: 1- القيام بجهد عالمي لنشر الإسلام عن طريق التعليم والدعوة والإغاثة. 2- التخفيف من آلام ومشاكل المسلمين بتقديم العون المادي والعمل. 3- الدفاع عن المسلمين إعلامياً وجهادياً، والمساهمة في جهود المصالحات بين المسلمين، وإيجاد ونشر الفكر السليم الذي يخدم المسلمين في هذه المرحلة. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 75 الأسئلة الجزء: 205 ¦ الصفحة: 76 شاب تأثر بالنصارى السؤال أحد الشباب من خريجي البعثات يقول: لا فرق بين الإسلام والنصارى، وأن بينهما فرق يسير، وهو في أحد البنوك؟ الجواب هذه عواقب وآثار الدراسة في المدارس الأجنبية، أو التربي على أيدي بعض هؤلاء النصارى، ولا شك أن كثيراً ممن ذهبوا إلى هناك استطاعوا -والحمد لله- أن يعودوا سالمين ويخرجوا من نار الحضارة الغربية، ولكن هناك أعداد كبيرة -أيضاً- رجعت بفكر غريب دخيل على هذه البلاد، وكانت مستعمرات فكرية لالنصارى في بلاد المسلمين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 77 هل اللغة تحول دون التنصير السؤال ما رأيك فيمن يقول لا خوف من التنصير من خلال البث المباشر لأن اللغة ستقف حائلاً دون ذلك؟ الجواب أولاً: اللغة لن تقف حائلاً دون الصورة العارية الخليعة التي تؤثر في هؤلاء الشباب، واللغة لن تقف حائلاً دون تحريك همة هذا الشاب الذي رأى تلك المغريات، أن يذهب مرة أخرى للسفر إلى تلك البلاد، ليرى بعينه على الطبيعة ما رآه على الشاشة، فضلاً عن أن هذا الإنسان قد يستطيع أن يتجاوز حاجز اللغة، وستجد الكثيرين يجيدون اللغة، وأتساءل ما دام أنه لا يجيد لغة البث؟! فلماذا إذاً يقتني هذا الجهاز؟ الجزء: 205 ¦ الصفحة: 78 دعوة النصارى وقراءة كتبهم السؤال إذا أردت أن أدعو أحداً من النصارى، فهل لا بد لي من قراءة كتبهم؟ الجواب لا، أبداً عليك أن تدعوهم إلى كتاب الله تعالى، وميزة دين الإسلام أنه دين بحمد الله واضح سهل ليس فيه تعقيد ولا صعوبة، فتستطيع أن تدعوه إلى إله واحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، هو الذي يجب أن تتوجه إليه بالعبادة وتدعوه سبحانه، والرسل كلهم نؤمن بهم ونحبهم، ولكننا لا نعبدهم وإنما نعبد الله تعالى، ونؤمن بالدار الآخرة، فتجد أنها عقيدة واضحة سهلة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن هذا الدين يسر} . الجزء: 205 ¦ الصفحة: 79 الدعوة واللغة السؤال إنني أرغب بدعوة أهل الديانات الأخرى لكن اللغة تحول بيني وبين ذلك؟ الجواب إذاً عليك أن تدعو إخوانك العرب وإخوانك من المسلمين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 80 مقاطعة النصارى السؤال ما رأيك في مقاطعة الكفار والنصارى، وأصحاب الصيدليات والموبيليا والمتاجر التي يعمل فيها أقباط مصريون؟ الجواب أنا أرى أنه من الصعب أن نطالب بهذا، لكننا نطالب الإخوة أن يستبعدوا دائماً وأبداً العمال والموظفين النصارى، وأن يستعملوا بدلاً منهم المسلمين، وهم بحمد الله موجودون. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 81 تأجير البيوت للنصارى السؤال ما رأيكم في الذين يؤجرون شققهم للنصارى داخل الحارات، ويخشى من بث سمومهم بجميع الوسائل بين الشباب؟ الجواب نعم، رأينا من يؤجرون في داخل الحارات ويستقبلون بعض الشباب، ويقيمون بعض الأعياد وبعض المناسبات، ويؤذون الناس من جيرانهم وغيره، وهذا لا شك أنه ليس من حق إخوانك المسلمين عليك خاصة من الجيران، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} . الجزء: 205 ¦ الصفحة: 82 اللامبالاة بالتنصير السؤال ما رأيك فيمن يقول: دع عنك التحذير من النصارى، فنحن لسنا أغبياء، نحن نعرف ديننا؟ الجواب من خلال الدروس التي سبقت تبين أن الأمر يتطلب مزيداً من اليقظة والانتباه، وأن مجرد الاعتماد على أن الناس يعرفون لا يكفي. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 83 فلبيني أسلم وصار داعية السؤال في إحدى زياراتي للفليبين رأيت شخصاً أسلم عن طريق المراسلة، والآن هذا الشخص يدعو إلى الله ولكنه يحتاج إلى الدعم بالكتب وغيرها؟ الجواب عليك أن تقوم بدعمه وإذا لم تستطع فتستعين بغيرك ممن يملكون ذلك. أختم هذه المحاضرة بكلمة سريعة: بعد أن سمعت الآن عليك أن تسمع المحاضرة مرة أخرى، ويكون معك ورقة وقلم وتقوم بالآتي: أولاً: تسجل الأعمال التي تستطيع أنت بذاتك وبشخصك أن تقوم بها، دعنا من التعويل على الجهات الأخرى، نريد أن تسجل الأعمال التي تستطيع أنت شخصياً أن تقوم بها من خلال الأشياء التي ذكرناها هذا أولاً. ثانياً: ينبغي أن تحرص على أن تسجل أي وسيلة أو طريقة أخرى لمقاومة التنصير وتواصلنا بها، هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 84 مشروع من هنا نقاوم التنصير السؤال يقترح قيام مشروع يطلق عليه (من هنا نقاوم التنصير) بحيث تجمع تبرعات من خلال هذا الدرس لطباعة هذه الحلقات على أشرطة كاسيت، وعلى شكل كتيبات، وتوزع على مختلف الشركات في جميع المناطق؟ الجواب في الواقع إنني متحرج من جمع التبرعات لمثل هذه الدروس، لكن هناك عمل أشمل وأعظم وأكبر من ذلك، وهو أن نجمع التبرعات الآن، ولتكن تبرعات الآن ولفترة معينة على مدى أسبوع مثلاً، بحيث يمكن من لم يأت بها الآن أن يأتي بها في الأسبوع القادم؛ لتخصص هذه التبرعات لصالح الدعوة إلى الله تعالى عموماً، بمعنى أن تجعل في مشاريع خيرية استثمارية أو مساهمات في شركات، يكون استثمارها ناجحاً، ويصرف ريع هذه الأعمال في سبل الخير وأعماله على وجه الإجمال والعموم. فنطمع من الإخوة أن يبذلوا قصارى جهدهم في هذا العمل الجليل الكبير الخطير العظيم، ونطلب من الإخوة بعد الصلاة أن يقوموا بجمع التبرعات من الإخوة الحاضرين في هذا المجلس لهذا الغرض، والزكاة لا تدخل في هذا، إنما نقصد التبرعات والصدقات التطوعية. الجزء: 205 ¦ الصفحة: 85 دور الشاب المسلم في بيته مما امتاز به الدين الإسلامي على بقية الأديان اهتمامه بالروابط الأسرية، وقد اعتنى الإسلام بحقوق الوالدين وقرن عقوقهما بالشرك به، وأمر بالإحسان إليهما في القول والعمل، وإحسان صحبتهما وتقديمها على الجهاد الكفائي. ومن الأخطاء في حق الوالدين الانشغال عنهما والتبرم من تصرفاتهما وسوء معاملتهما، ثم ذكر دور الشاب داخل بيته في القيام بواجب الدعوة والإرشاد والتوجيه، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 1 عناية الإسلام بالروابط الأسرية إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد: أيها الإخوة إن هذا الدين الذي شرفنا الله تعالى به، وهو دين الإسلام جاء ديناً متميزاً عن جميع الأنظمة البشرية والشرائع الوضعية, وأقام الإسلام مجتمعاً متميزاً عن جميع المجتمعات البشرية الأخرى؛ فإن الأمة التي بناها الإسلام سواء على مستوى الفرد، أم مستوى الأسرة، أم على مستوى المجتمع كانت أمة متميزة في التاريخ كله, من أوله إلى آخره. ومن جوانب هذا التميز الذي امتاز به دين الإسلام عن غيره: عناية الإسلام بالروابط الأسرية, سواء رابطة الابن بأبيه أم رابطة الأب بأبنائه، أم الزوج بزوجته، أم الأخ بأخيه وهكذا، فكوَّن الإسلام أسرة قوية متماسكة. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 2 حال الأسرة عند الغرب وإذا نظرت إلى المجتمعات الموجودة على ظهر الأرض؛ وجدت أن المجتمعات الأوروبية الكافرة مجتمعات متمزقة ومتشتتة، لا يعرف الابن أباه, ولا يعرف الأب ابنه، ولا الأخ أخاه, إلا أن يلتقي به في عرض الشارع؛ فيسلم عليه بيده وهو يمشي دون أن يتوقف لأداء التحية. فإذا نظرت إلى جيل الآباء من كبار السن، وجدت أنهم يوضعون في أماكن خاصة لهم؛ حين ينتهون من الحياة ويعجزون عن المواصلة في أعمالهم يودعون في هذه المراكز الخاصة بهم أو المستشفيات أو غيرها ولا أحد يهتم بشئونهم، حتى إن الذين عاشوا هناك وشاهدوا بأعينهم، يقولون: إن الأب يشعر بعظيم الامتنان لابنه لو زاره مرة في الشهر! ويقول أحدهم: إنني قد زرت أحد الآباء في هذه المراكز، فوجدته معجباً بي، ويثني عليّ أبلغ الثناء ويبجلني ويمجدني، ويقول: إن له ابناً لا يكاد يوجد له مثيل في عالمنا اليوم! فقلت له: وماذا يصنع لك ابنك؟ قال: إنه لا يتركني من الزيارة في كل شهر مرة, ولو دعته ظروف إلى تأخير الزيارة، فإنه يتصل بي بالهاتف حتى يعتذر عن هذه الزيارة!! ومع ذلك فإن هذا الأب يعتقد ويظن أن ابنه ابناً مثالياً يكاد لا يوجد له مثيل! وذلك لأن تلك المجتمعات الكافرة لم تستظل بظل الإسلام, ولم تعرف الحقوق التي جعلها الإسلام -داخل الأسرة- للأب على أبنائه، وللابن على أبيه, والأخ على أخيه وهكذا وهذا جانب من جوانب التميز التي انفرد بها الإسلام عن غيره من الأنظمة البشرية، وانفرد بها المجتمع الإسلامي عن غيره من المجتمعات. والموضوع الذي نتحدث عنه وهو "دور الشاب المسلم في بيته" هو يعبر عن جزء من هذه القضية الكلية؛ ولذلك، فإنني سأقتصر على الحديث عن هذا الموضوع؛ بل عن جوانب فيه. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 3 عناية الإسلام بحقوق الوالدين إن الإسلام قد عني ببيان حقوق الوالدين على أبنائهما في القرآن والسنة: الجزء: 206 ¦ الصفحة: 4 بر الرسول عليه الصلاة والسلام إنك حين تنظر إلى قائد الدعوة الأولى محمد صلى الله عليه وسلم تجد من بره وحبه الشيء العظيم، فقد روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى قبر أمه، فنزل فيه، وبكى بكاءً طويلاً، وأبكى من حوله, فسأله الصحابة رضي الله عنهم عن سر هذا البكاء، فقال عليه الصلاة والسلام: {استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي, واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي} وذلك لأن أبوي النبي صلى الله عليه وسلم ماتا مشركين، فكان حراماً أن يستغفر لهما، كما قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113] . ولذلك بكى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يستغفر لها، وإنما نزل في قبرها، وبكى بكاءً طويلاً, -ولا شك- أن بكاءه كان إشفاقاً عليها من هذا المصير الذي ينتظرها. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 5 قصة كلاب وأبيه وفي هذا الباب يذكر أصحاب السير والتراجم قصة حصلت في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, خلاصة هذه القصة: [[أن رجلاً اسمه أمية ابن الأشقر الكناني، وقد هاجر هذا الرجل إلى المدينة وسكنها فولد له ولد اسمه كلاب , وبعد أن كبر وترعرع في بيئة إسلامية ونشأ على محبة الإسلام ومحبة الخير, سأل طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما هي أفضل الأعمال التي أتقرب بها إلى الله عز وجل؟ فقالا له: أفضل الأعمال الجهاد في سبيل الله, فرغب كلاب بن أمية في الخروج للجهاد, وجاء إلى أمير المؤمنين عمر، وقال له: إني أريد أن أخرج في سبيل الله, فمنعه أبوه، وقال: كيف تخرج، وتتركنا شيخين كبيرين ليس لنا من يقوم بشئوننا غيرك, فما زال كلاب يراجع أباه حتى أرضاه وأقنعه، فسمح له بالخروج, فأذن له عمر، فخرج في جيش المسلمين الغازي إلى بلاد فارس, وأطال كلاب الغيبة عن أبيه، وبينما كان أبوه يوماً من الأيام جالساً تحت ظل شجرة إذا سمع حمامة تنوء، فتذكر ولده وحنَّ واشتاق إليه وبكى! فلما رأته زوجته بكت مثله، وأنشأ أمية يقول أبياتاً من الشعر يعبر بها عن حنينه واشتياقه إلى ابنه الذي خرج في الغزو وتركه وأمه شيخين كبيرين, يقول: لمن شيخان قد نشدا كلابا كتاب الله لو قبل الكتابا يشير إلى أنه وزوجته قد طلبا من ابنهما كلاب أن لا يخرج للغزو، وذكراه بكتاب الله الذي يأمره بالبر بهما, ثم يقول: إذا هتفت حمامة بطن وجٍ على بيضاتها ذكرا كلابا تركت أباك مرعشةً يداه وأمك ما تسيغ لها شرابا فإنك والتماس الأجر بعدي كباغي الماء يلتمس السرابا ثم ذهب أمية من غده إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه, وألقى أمامه قصيدة مؤثرة يشتاق فيها إلى ابنه، ويطلب من عمر أن يرده إليه؛ بل إنه زاد على ذلك فقال -وهو يعرف خوف عمر من الله تعالى ورقته- يقول: سأستعدي على الفاروق رباً له دفع الحجيج إلى بساط وأدعو الله مجتهداً عليه ببطن الأخشبين إلى بقاع يعني أنه سوف يستعدي الله تعالى الذي دفع الحجيج إلى عرفات؛ رغبة فيما عنده, ويدعو الله في مكة على عمر الذي أذن لابنه للخروج في الغزو، وجعله يترك أبويه؛ مع أن هذا الابن لم يخرج إلا بإذنهما؛ فلما سمع عمر رضي الله عنه هذه القصيدة تأثر! وسأله عن ابنه فقال: إنه قد خرج في غزو إلى فارس, فأرسل عمر بالبريد يطلب أن يرجع هذا الابن إلى المدينة, فلما رجع دعا عمر أباه, فقال له: ما أعظم عمل كان ابنك يحسن به إليك؟! فقال هذا الشيخ الكبير: إن ابني كان يحسن إليَّ بأعمال عظيمة لا أحصيها. فسأل عمر الابن من دون أن يعلم الأب بأنه قد حضر من الغزو, فقال: ماذا كنت تصنع لأبيك؟ قال: إني كنت آتي بالناقة الحلوب، فأريحها ثم أغسل ضرعها حتى إذا برد حلبت له فسقيته؛ فطلب عمر من كلاب أن يحلب لأبيه كما كان يحلب بعادته، ثم سلّم هذا الحليب إلى أمية فلما أخذ الإناء، وفيه الحليب وشربه قال: والله إني لأجد في هذا رائحة كلاب؛ فبكى عمر، وبكى من حوله, ثم قال له: إن الله قد أقر عينك بابنك، فجاء إليه ابنه وقبله وعانقه وهو يبكي! وطلب منه أن يلازمه حتى الموت, وفعلاً بقي كلاب إلى جانب أبيه حتى مات]] . وهذه القصة رواها عدد من أصحاب السير والأدب، منهم: البيهقي في المحاسن والمساوي, والصلاح الصفدي في نفح الأمنيان, وأبو الفرج الأصفهاني وغيرهم. هذه القصة، تدل على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة السابقة من أن الاشتغال ببر الوالدين، والإحسان إليهما، مقدم في حالة الاحتياج، حتى على الجهاد في سبيل الله عز وجل. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 6 حقوق الوالدين من السنة أما الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهي كثيرة جداً، منها ما ورد في الصحيح، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف، قيل: من يا رسول الله؟ -من هو هذا الرجل الذي يرغم أنفه وأن يكون أنفه في التراب في الرغام علامة الذل الذي أصابه- قال: من أدرك أبويه، أو أحدهما عند الكبر ثم لم يدخل بسببه الجنة} . إذاً: فالأبوان بابان إلى الجنة، وإذا أدرك الإنسان أبويه، أو أحدهما عند الكبر، ولم يكونا سبيلاً إلى دخوله الجنة ببره بهما، وإحسانه إليهما؛ فهو إنسان يستحق أن يدعو عليه النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصيبه ذل، وأن يرغم أنفه. وفي الحديث الآخر: في الصحيح أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -رجل يتساءل عن أحق الناس بأن يحسن صحبته- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك, قال: ثم من؟ قال: أبوك} . إذاً: ليس أحق الناس بحسن صحابتك هو الصديق! أو الزوجة! كلا؛ أحق الناس بالصحبة الحسنة منك، والخلق الجميل هي الأم ثم الأم ثم الأم وفي الرابعة تأتي منزلة الأب؛ وعلى كل حال فالوالدان هما أحق الناس بحسن الصحابة, وفي حديث ثالث في صحيح مسلم -أيضاً- قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد -يريد أن يخرج إلى الجهاد في سبيل الله- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أحيٌ والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد} . فرده النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى الغزو والجهاد؛ رغم ما للجهاد من أهمية عظمى في الإسلام, ورغم أن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله؛ مع ذلك كله رده النبي صلى الله عليه وسلم عن الخروج إلى الجهاد، وقال له: ارجع إلى أبويك فجاهد فيهما, وفي لفظ آخر: {أن رجلاً قال: يا رسول الله جئت إليك لأجاهد معك، وتركت أبويّ يبكيان؟ قال له صلى الله عليه وسلم: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما} . الجزء: 206 ¦ الصفحة: 7 حقوق الوالدين من القرآن الكريم يقول الله عز وجل في كتابه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] فيقرن سبحانه وتعالى الإحسان إلى الوالدين مع إفراده بالعبادة, كما قرن النبي صلى الله عليه وسلم: عقوق الوالدين مع الشرك بالله معد الكبائر, ثم يفصل تعالى في حقوق الوالدين فيقول: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23-24] . فلا تقل لهما أف: وكلمة أف كلمة تقال عند الضيق والتبرم والتضجر, وهي كلمة بسيطة جداً, وإذا كان الله تعالى قد نهى عن أن يقول الابن لأبويه كلمة تدل على ضيقه وتضجره وهي كلمة أف؛ فإنه من باب أولى أن ينهى عن ما هو أشد من ذلك؛ كأن تقول لهما قولا غليظاً أو تتعدى ذلك بالإساءة إليهما باليد أو بغيرها. ويحث الله سبحانه وتعالى على بر الوالدين، والإحسان إليهما في آيات كثيرة؛ بل ويشير إلى أنه حتى في حالة كون الأبوين مشركين، فإن الإنسان مطالب بالإحسان إليهما، وأن يصاحبهما في الدنيا معروفاً؛ دون أن يطيعهما في معصية الله عز وجل. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 8 حال الواقع مع الوالدين إذا كانت هذه هي المنزلة التي بوَّأها الإسلام للأبوين, فدعونا ننظر في واقعنا القريب ونتأمل مدى التزامنا بهذه التوجيهات الربانية، وهذه التعليمات النبوية. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 9 بر الشباب للوالدين إننا نجد بحمد الله، كثيراً من الشباب قد بروا آباءهم, وأحسنوا إليهم أيما إحسان؛ بل إنك تستغرب حينما تجد بعض الشباب، حتى من غير الملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً! تجدهم حريصين على الإحسان إلى أبويهم, والبر بهما, وخدمتهم بشكل عجيب! وهذا نابع من فطرة سليمة وشعور بحق الأبوين! وإذا كان هذا يحصل أحياناً من أناس غير ملتزمين بالإسلام التزاماً صحيحاً؛ فهو يحصل بشكل أعظم وأكبر من الشباب الملتزمين بالإسلام، والذين يعرفون حقوق الأبوين. ولذلك فإن الأب الذي يدرك مصلحته، يحرص على استقامة ابنه؛ لأنه يعرف أن أول من يجني ثمرة هذه الاستقامة هو الأب نفسه, فإن الابن المستقيم يعرف حق الأبوين، ويقدرهما حق قدرهما. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 10 أخطاء في حق الوالدين إن ما ذكرناه لا يعني عدم الوقوع في الأخطاء، فهناك العديد من الأخطاء يقع فيها بعض الشباب تجاه أبويهم, وسوف أشير إلى بعض هذه الأخطاء بصورة مختصرة. فمن هذه الأخطاء: الجزء: 206 ¦ الصفحة: 11 الضيق من تصرفات الوالدين ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب: التبرم من تصرفات الوالدين -الضيق من أفعالهما وأقوالهما- والسبب في هذا: هو أنَّ الأبوين غالباً من جيل آخر غير الجيل الذي منه الشاب بمعنى أن الفاصل الزمني بين الأب والابن كبير ولذلك فإن ثقافة الأب ومعلوماته تختلف كثيراً عن ثقافة الابن ومعلوماته, في أشياء كثيرة من أمور الحياة فيما يتعلق بالدراسة، وفيما يتعلق بالأصدقاء، وفيما يتعلق بقيادة السيارة مثلاً إلى آخره. ولذلك فالأب من منطلق أنه أب يصدر توجيهات لابنه باستمرار, والابن يدرك في بعض الأحيان أن هذه التوجيهات غير مناسبة, وقد تكون فعلاً غير مناسبة, وقد تكون مناسبة -أحياناً- لكن عليك في جميع الأحوال أن تقابل توجيهات الأبوين بصدر رحب, فإن كانت صحيحة فاقبلها واعمل بها, وإن كانت خاطئة، فعليك أن تصرفها بطريقة حكيمة، ولا تواجه أباك أو أمك في وجوههم بما يكرهون. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 12 سوء معاملة الوالدين ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب: سوء معاملة الأبوين بالقول، أو بالفعل وعدم التلطف لهما، ومن الواجب على الشاب أن يحرص على الكلمة الطيبة من الأبوين, في الصباح وفي المساء, يصبحهما بالخير ويمسيهما بالخير, ويحرص على السؤال عن أحوالهما, يلبي طلباتهما إلى غير ذلك. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 13 تقدم الآخرين على الأبوين ومن الأخطاء التي يقع فيها بعض الشباب: تقديم الأصدقاء على الأبوين، أو تقديم الزوجة والأولاد على الأبوين، وهذا قد يكون -أحياناً- أمراً صحيحاً، أي: أن الشاب يقدم أصدقاءه، أو زوجته، أو أولاده على أبويه, وقد يكون في بعض الأحيان لديهما شعور نفسي بأن الابن قد أصبح يفضل غيرهما عليهما, ولو لم يكن لهذا رصيد من الواقع. فعلى الشاب -الحكيم- أن يحرص على تجنب التصرفات التي قد تشعر الأبوين بأنه يفضل غيرهما عليهما, لأن الأب والأم يشعران بأنهم -كما يعبرون- هم شمس على رءوس الذوائب, والشاب يستقبل الحياة, فكل تصرف تجاه صديقه أو زوجته، أو ولده يفسر من الأبوين أن هذا الابن قد أصبح يزاحم عليهما، بل قد أصبح لا يعيرهما الاهتمام الكامل. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 14 الانشغال بالأعمال عن طاعتهما إن بعض الشباب قد ينشغل بأعماله عن طاعة أبويه وبرهما؛ فقد ينشغل بأعمال عادية, كالعمل الوظيفي مثلاً، أو كالدراسة أو غيرها, بل إنك تجد من الشباب من ينشغل بالدعوة إلى الله، وصحبة الشباب الطيبين, والمشاركة في النشاطات الخيرية -من المراكز والدروس العلمية وغيرها- ينشغل بذلك عن طاعة أبويه. والواجب على الشاب: أن يحسن التوفيق بين هذا وهذا, فإن هذه كلها واجبات منوطة في عنق الشاب, فهو مطالب ببر والديه، ومطالب بتعلم العلم, وحفظ القرآن, وصحبة الأخيار, والقيام بالواجبات الأخرى. وعلى الشاب أن يحرص على القيام بهذه الأشياء كلها جنباً إلى جنب؛ فلا يزيد في بعضها على حساب البعض الآخر, ولا ينقص من بعضها لانشغاله بغيرهما. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 15 قصة جريج مع أمه وإنني أذكر لك في هذه المناسبة قصة طريفة يجب على كل شاب أن يتأملها, وهذه القصة في الأصل رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما, ولكنني سأذكرها بشكل أوسع مما في الصحيحين حتى تظهر بصورتها المتكاملة. وهي أن رجلاً من بني إسرائيل كان يشتغل في التجارة, فوجد أن التجارة تزيد يوماً وتنقص يوماً, ففي بعض الأيام تكثر أمواله وتنمو تجارته، وفي أيام أخرى تكسد تجارته وتقل أمواله, فقال: لا بد أن أبحث عن تجارة لا تبور, فسأل أهل العلم، فدلُّوه على العبادة والتزهد والرهبانية فبنى له صومعة، وجلس يتعبد فيها, وكانت له أم تحبه أشد الحب وأزكاه, فتأتي إليه، وتصيح من أدنى الصومعة باسمه -وكان اسمه جريج - فتقول له: يا جريج , فيطل عليها من أعلى الصومعة، فتحدثه وتبين له حاجتها, فيقضي ما تحتاجه من الأمور، أو تكتفي برؤيته, وقد رضيت بذلك، واطمأنت به. وفي أحد الأيام جاءت كعادتها إلى أسفل الصومعة، وصاحت بأعلى صوتها: يا جريج يا جريج! فصادف أن جريجاً كان يصلي، فوقع في حيرة! يا رب! أمي وصلاتي -هل أجيب نداء أمي أم أستمر في صلاتي وعبادتي- فلم يجبها, وغلَّب أن يستمر في عبادته؛ ثم صاحت به مرة أخرى: يا جريج يا جريج! فقال بينه وبين نفسه: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر في عبادته؛ فنادته مرة ثالثة, فقال: يا رب! أمي وصلاتي, واستمر على عبادته, فغضبت أمه من ذلك، وقالت: أسأل الله ألا يميتك حتى يريك وجوه المومسات -المومسات جمع مومس, والمومس هي: البغي الزانية والعياذ بالله- وقد كنت أتعجب من هذه الدعوة، وأتساءل! لماذا اختارت أم جريج هذه الدعوة؟! ولو دعت عليه بالفاحشة لوقع فيها كما ورد؛ لكن الله عز وجل صرف لسانها عن هذه الدعوة؛ فدعت عليه بهذه الدعوة وهي أن يريه الله المومسات, فكنت أتعجب، وأتساءل عن سر اختيارها لهذه الدعوة, حتى ظهر لي، والله أعلم أن مناسبة هذه الدعوة: أن جريجاً لما كانت العادة أنه إذا نادته أمه أشرف عليها من أعلى الصومعة, وكلمها وكلمته وانبسطت إليه, فرجعت وقد قرت عينها بمخاطبتها لابنها, ففي هذه المرة حرمها من أن تنظر إلى وجهه أو ينظر إلى وجهها -بسبب انشغاله بالعبادة- فدعت عليه دعوة تناسب الخطأ الذي صدر منه, وكأنها تقول: أما وقد انشغلت عن النظر إلى وجه أمك؛ فإني أسأل الله ألا تموت حتى ترى وجوه المومسات. ومرت الأيام وكان في هذه القرية امرأة بغي, يضرب المثل بحسنها وجمالها, فكان الناس يوماً من الأيام يتحدثون عن جريج، وما بلغ من العبادة, فقالت: إنني أستطيع أن أفتنه! فقالوا: فافعلي إن استطعتي؛ فخرجت وتجمَّلت وتعرضت له، فلم يأبه بها ولم يلتفت إليها, وظل مقبلاً على عبادته، فجاءت إلى راعٍ بقرب الصومعة، فأمكنته من نفسها, وقيل: إن هذه البنت كانت أيضاً راعية غنم, وقيل: إنها كانت بنت الملك, وقيل: إنها كانت بغي, والأقرب فيما يظهر أنها كانت بغي, لأنها لو كانت بنت ملك؛ لكان الغالب أن لا تلتفت إلى الراعي، ولا تمكنه من نفسها, فالأقرب أنها كانت بغياً, بل قد وردت بهذا روايات صحيحة. فحملت من الراعي فسألها الناس: من أين حملت؟ قالت: هو من جريج , وبلغ الخبر ملك هذه القرية, فأرسل إلى جريج يطلب أن يحضر إلى مجلسه, فذهب مجموعة من الناس إلى الصومعة التي يتعبد فيها, وصوتوا إليه يطلبون منه النزول, وكان منشغلاً بصلاته فلم يلتفت إليهم, فبدءوا بالفئوس يضربون الصومعة ليهدموها, فلما رأى هذا الصنيع أتم صلاته، وأشرف عليهم، فقال: ما لكم؟ قالوا: انزل إلينا وبدءوا يسبونه ويشتمونه. فتدلى من الحبل ونزل إليهم، فجرجروه وتلتلوه، وبدءوا يضربونه ويعيرونه، وما زالوا به، حتى ذهبوا به إلى مجلس الملك ولما كان في عرض الطريق مر ببيت كانت تجلس فيه النساء الزانيات والعياذ بالله ورأى النساء فيه، فتبسم! فقالوا: لم يتبسم حتى رأى بيت البغايا! -هذا دليل جديد على أن الرجل يظهر الإيمان والعبادة والنسك ويبطن خلاف ما يظهر- وأخبروا الملك بذلك بعد أن وصلوا إليه, فقال له الملك: أنت جريج الذي صار مثلاً لزهده وعبادته تفعل بالمرأة ما فعلت من وقاعها حتى حملت منك؟! قال: أو قد ولدت؟ قالوا: نعم, قال: فأين الغلام, فأحضروه إليه, فصلى جريج ركعتين، ثم جاء إلى الغلام فطعنه في بطنه بيده وقال له: باغوس -وباغوس يعني: صغير أو صبي- أسألك بالله من أبوك؟ فنطق هذا الغلام، وقال: أبي الراعي, فتعجب الناس وأكبروا جريجاً، وعظموه وبدءوا يتمسحون به ويطلبون منه الدعاء! وقالوا له: نبني لك صومعتك من ذهب, وقد هدموها, قال: لا، قالوا: نبنيها من فضة؟ قال: لا أعيدوها من طين كما كانت. فسألوه: يا جريج لما رأيت بيوت الزواني، وأنت في طريقك إلى مجلس الملك ابتسمت! فلم كنت تبتسم؟! قال: إني قد رأيت بيوتهن، ورأيت وجوههن، فابتسمت، لأنني عرفت أن دعوة أمي قد أحاطت بي؛ فإنها دعت عليَّ ألا أموت حتى أرى وجوه المومسات, فلما رأيت وجوههن ابتسمت لذلك. !! والقصة هي أولاً -كما ذكرت- قصة صحيحة, رواها البخاري في مواضع من صحيحه, ورواها مسلم والإمام أحمد وغيرهم. وفي هذه القصة عبر كثيرة جداً من أهمها: العبرة الأولى: أن الإنسان يجب أن يعرف قدر أبويه, حتى وهو يشتغل بالعبادة، أو الدعوة، أو بالعلم النافع، أو بحفظ القرآن، وقد يقول قائل: هل أترك هذه الأعمال؟ أقول: لا, لكن عليك أن تتلطف بهما وأن تدرك أن برهما واجب, خاصة إذا احتاجا إليك, ولا يعدم الشاب الحكيم لا يعدم وسيلة صحيحة يستطيع بها أن يوفق بين بر الوالدين، وبين القيام بالواجبات الأخرى المنوطة به. العبرة الثانية: وفي القصة أيضاً دليل على أن دعوة الأم على ابنها مستجابة, ولو كان الابن منشغلاً، ومنصرفاً في أمور حميدة, فإن هذه المرأة دعت على ابنها فأجيب دعاؤها، ولذلك فعلى الشاب أن يتقي دعوة أبويه، وأن يحرص على كسب رضاهما، ودعواتهما الصالحة. وفي القصة عبر ودروس أخرى قد لا يتسع المجال لسردها, وبإمكان من يحرص على أخذ الفوائد من هذه القصة أن يرجع إلى فتح الباري، في كتاب الأنبياء ليجد الكلام المفصل الذي ذكره الإمام الحافظ ابن حجر حول هذه القصة. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 16 دور الشاب في البيت أيها الإخوة هناك أمر آخر يتعلق بواجب الشاب ودوره في بيته فيما عدا موضوع الأبوين، فأقول: يجب على الشاب أن يحرص على بناء شخصية قوية داخل البيت, وذلك يكون بأمرين: الجزء: 206 ¦ الصفحة: 17 الأمر الأول: القيام بواجب الدعوة والإرشاد والتوجيه من الخطأ أن يكون الشاب مستقيماً مهتدياً، وقد يكون ملتحقاً بحلقة من حلقات تحفيظ القرآن، ويتعلم العلم, فإذا جئت إلى بيته وجدت البيت، بيتاً منحرفاً، فيه أجهزة منحرفة -فيه التلفزيون، وفيه الفيديو، وفيه المجلات السيئة- ووجدت البنات والأولاد يتلقون المعلومات والثقافة من غير هذا الابن. فعلى الشاب أن يحرص على توجيه وإرشاد البيت عن طريق: قراءة الكتب المفيدة, ونشر الكتاب, ونشر الشريط المفيد الذي يحتوي على مواد طيبة كالقرآن الكريم، أو أحاديث أو خطب أو فتاوى لأهل العلم أو غير ذلك, ويحرص على التوجيه وربط إخوته بأصدقاء طيبين والتأثير على إخواته بكل وسيلة ممكنة. وهذا الأمر يستفيد منه الشاب فوائد كثيرة تتبين بالأمر الثاني، وإنما قصدت هذا الأمر لأن كثيراً من الشباب يتساءلون في هذه الأيام أسئلة لا تنتهي، يقول الواحد منهم: أنا شاب مستقيم ولله الحمد وبيتي فيه كذا وكذا فما هي الطريقة الصحيحة في معالجة هذه الأشياء؟! وبعض الشباب قد يتصرفون بصورة غير صحيحة، فأقول: إذا قمت بواجب الإرشاد والتوجيه، فإنك تكون قد بنيت جبهة في البيت، وكونت رأياً عاماً مؤيداً لك من إخوانك ومن أخواتك, فلو افتُرِض أن في البيت وسيلة من وسائل الإفساد لم تصبح أنت وحدك الذي تحارب هذه الوسيلة، أصبح إخوتك وأخواتك -أيضاً- يحاربون هذه الوسيلة بل أغلبهم, فسهل عليك التخلص منها وإخراجها من البيت. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 18 الأمر الثاني: القيام بواجب النهي عن المنكر داخل البيت لا بد من القيام بواجب الدعوة والتوجيه داخل البيت, ثم لا بد من القيام بواجب تغيير المنكر, فإذا وجدت منكرات داخل البيت، فليس الحل هو أن تخرج وتهرب من البيت, فالهروب ليس حلاًَ، وليس الحل هو أن تقوم بمحاربة هذا المنكر بتكوين جبهة قوية عن طريق العنف والشدة! كلا لا بد من سلوك السبيل الأمثل, والحكمة والموعظة الحسنة, وعليك أن تسعى لإخراجها بالوسيلة المناسبة، وتستعين بمن تربوا على يديك داخل البيت، وتوصي لأبويك من يقتنعون به، حتى يمكن إخراج هذه الأجهزة، وتغيير هذه المنكرات, فإن لم تستطع فعليك أن تقاطعها، وتربي إخوانك وأخواتك على مقاطعتها, فإذا وجد عدد من الإخوة والأخوات مقتنعين بإخراج هذه الأشياء؛ فحينئذٍ لا بأس بالتصرف الذي يفعله بعض الشباب، وهو أن يقوم بإزالة هذا المنكر بطريقة قد يكون فيها شيء من الشدة, لكنها شدة في موضعها. بعض الشباب -مثلاً- اهتدى وكان بيته كله منحرفاً حتى الأبوان, وبدأ هذا الشاب -وهو واحد- بحملة للدعوة داخل البيت، وما هي إلا أشهر حتى استطاع التأثير في أخواته فاستقمن والتزمن بالإسلام, ثم أثر في عدد من إخوته, ثم قام هؤلاء بمجموعهم بإخراج الأجهزة المنحرفة، والمجلات المنحرفة وغيرها من البيت وأعدموها فاستسلم الأبوان لهذا الأمر. بل إن هذا المد الطيب قد سرى إلى الأبوين، فبدأ الأب يحافظ على صلاة الجماعة في المسجد, وبدأت الأم أيضاً تحرص على فعل أمور الخير, وهذه قدوة حسنة لكل شاب مسلم، فعلى الشاب أن يحرص على أن يكون ذا شخصية قوية في البيت, حتى يستطيع أن يشارك برأيه في سائر الأمور التي يحتاج إليها الأهل، وعليه أن يحرص -حين تواجهه مشكلة، ويعجز عن حلها- على أن يستعين بأساتذته ومشايخه وأشياخه الذين لا يعدم منهم رأياً حسناً. هذا مجمل ما أحببت أن أقوله في هذه العجالة، وأرجو الله أن يوفقني وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 19 الأسئلة الجزء: 206 ¦ الصفحة: 20 الآباء حجر عثرة في طريق صلاح الأبناء السؤال قد يكون أحد الأبوين حجر عثرة في طريقي في سبيل الاهتداء، إما من سوء فهم، أو من سوء قصد, كأن يمنعني من الالتحاق بحلقات القرآن، أو مصاحبة الأخيار, فهل أطيعهما في ذلك أم أعصيهما؟ أرشدوني أثابكم الله. الجواب في الواقع أن مثل هذا السؤال ليس الجواب أن يقال لهذا الشاب: يجوز لك معصية أبويك -مثلاً- والتحق بالحلقة, كما أنه ليس الجواب أن يقال: اترك الحلقة، واترك مجالات العلم وأطع والديك, ليس الجواب هذا ولا ذاك. إن الشاب في معظم الحالات يستطيع بالحكمة أولاً، وبالاستمرار والمحاولة ثانياً أن يوفق بين الأمرين, وهناك عدد كبير جداً من الشباب كانوا يواجهون مثل هذه الحالات، وفي النهاية استطاعوا التغلب عليها. مثلاً قد يكون عند الأب سوء فهم، فإذا رأى أن الابن حريص ومصر، وفي نفس الوقت هو حريص على طاعة أبيه, فإن الأب يلين عند ذلك, فينظر في هؤلاء الأصدقاء فيجدهم أصدقاء طيبين وصالحين, فيرتاح ويطمئن, وقد يكون الأب يريد ابنه لأعماله الدنيوية، حتى يكون معه في البيع أو الشراء أو في المزرعة, فإذا رأى الأب إن الابن يحرص على قضاء حاجاته في أوقات فراغه، مع مشاركته في الأنشطة الخيرية الأخرى، فإنه يرضى بهذا القدر, وقد يدرك الأب أن ابنه، لو كان منحرفاً لما نفعه بأي صورة من الصور, فهو الآن حين استقام أصبح ينفعه في أشياء كثيرة. وفي النهاية لو أصرَّ الأب -مثلاً- على ابنه أنه لا يمكن أن يصحب الطيبين، ولا أن يحضر هذه الحلقات فيجوز للابن أن يحضر الحلقات وأن يصحب الطيبين، وأن يحرص على رضا أبيه ما استطاع، ويلين له في القول، ويحرص على قضاء حاجاته، ومساعدته في أعمال دنيوية وغير ذلك. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 21 قصة جريج السؤال فضيلة الشيخ من وقع له مثل قصة جريج هل يجيب أمه, أو يستمر في صلاته؟ وهل هذه القصة تعتبر شرعاً لنا؟ أرجو إفادتنا في هذا الموضوع. الجواب القصة حصلت، وجريج يصلي فنادته أمه, فامتنع من إجابتها, فالسائل يسأل لو افترض أنه يصلي فدعته أمه، فهل يجيبها أم لا؟ وهذا سؤال وجيه. والجواب عليه: أن العلماء اختلفوا في ذلك, فمنهم من قال: يجيبها إن كان في نافلة، ولا يجيبها إن كان فريضة, ومنهم من قال: يجيبها إن كان في نافلة، أو كان في فريضة وقتها موسع، ولا يجيبها إن كان في فريضة ضاق وقتها, ومنهم من قال: لا يجيبها, وهناك قول لعله أقرب للصواب, وهو أنه ينظر في حال الأم، فإن كانت الأم تتأثر وتغضب وتنفعل لو لم يجبها الابن، وكان هو في صلاة نافلة، فإنه يجيبها حينئذٍ, أما إن كانت الأم لا تتأثر من ذلك ولا تغضب له أو علمت أنه في صلاة؛ لأن النساء والرجال عندنا إذا علموا أن ابنهم في صلاة لا يغضبون عليه لو لم يجبهم, فلو جهر مثلاً بآية ليشعر أمه أو أباه بأنه يصلي؛ لسكتت أمه وسكت أبوه عن مناداته حينئذٍ، حتى يفرغ من صلاته. لكن لو افترض أن هناك أماً عندها حالة من العصبية والانفعال أو ما أشبه ذلك, ولا يمكن أن تقبل من ابنها إلا أن يجيبها، أو أنها في حالة تدعو إلى إجابتها، كأن تكون مستعجلة، فلا بأس أن يجيبها حينئذٍ والله أعلم. أما سؤال: هل شرع من قبلنا شرع لنا؟ فهذه المسألة اختلف فيها الأصوليون، لكنهم اتفقوا على أنه ليس بشرع لنا فيما ورد في شرعنا ما ينسخه أي أن: الذين قالوا: بأنه شرع لنا, قالوا: ما لم ينسخ. والله أعلم. والحمد لله رب العالمين. الجزء: 206 ¦ الصفحة: 22 الله أكبر سقطت كابل الحديث عن قضية من أهم القضايا وأبرزها، تكاتف من أجلها المسلمون وضحوا في سبيلها بكل غالٍ ونفيس، رفع لواءها مجاهدون دخلوا التاريخ من بابه الواسع، وسطروا بدمائهم أنصع البطولات؛ لكن يبقى لكل جهد بشريٍ قصور، وقضية أفغانستان هذه خلاصتها دامية من بدايتها ودامية في نهايتها. والباطل مهما تغطرس فلا بد له من نهاية ولكابل قصة مع هذه النكسة. ومعاركٌ تنتظرها وتستدعي خوضها لكلِّ مجاهدي كابل وذلك ليس إلا لأن أخطاراً تتهددها من القريب والبعيد. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 1 التفاؤل بسقوط كابل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛؛؛ هذا هو الدرس السادس والخمسون من سلسلة الدروس العلمية العامة في هذه الليلة ليلة الاثنين 18/شوال/1412هـ، وقد اخترت أن يكون عنوان هذا المجلس "الله أكبر خربت خيبر"، وقياساً على ذلك نقول: الله أكبر سقطت كابل. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. بسم الله الرحمن الرحيم. {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] . روى الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة باب ما يذكر في الفخذ ومسلم أيضاً في صحيحه كتاب الجهاد باب غزوة خيبر عن أنس رضي الله عنه وأرضاه: {أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، قال أنس فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس، فركب نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، وركب أبو طلحة، وأنا رديف أبي طلحة، فأجرى نبي الله صلى الله عليه وسلم في زقاق خيبر، وإن ركبتي لتمس فخذ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذ النبي صلى الله عليه وسلم} وهذا هو مأخذ الإمام البخاري رحمه الله في تبويبه على هذا الحديث، قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم القرية قال: {الله أكبر خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال: وخرج القوم -أي: اليهود- إلى أعمالهم، فرأوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقالوا: محمد والخميس -والخميس هو: الجيش- قال رضي الله عنه وأرضاه: وأصمناها عنوةً} أي: أنهم أخذوها بالقوة والقتال، وقد كان قول النبي صلى الله عليه وسلم: {الله أكبر خربت خيبر} وهو على أبوابها، وعلى مشارفها، لأن ذلك كان إيذاناً بأن وعد الله تعالى بسقوطها وخرابها حقاً لا يتخلف، وأن الله تعالى يورثها أولئك المؤمنين الذين كانوا يستضعفون، فأورثهم الله تعالى مشارق الأرض ومغاربها التي بارك فيها. فلا عجب -إذاً- أن نقول: الله أكبر سقطت كابل وإن لم تكن سقطت كلها بعد {إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين} نقول ذلك تفاؤلاً بسقوطها، وثقة بوعد الله تعالى الذي لا يتخلف؛ بل نقوله إعلاناً حقيقياً لسقوط كابل، فإن سقوط كابل يعني سقوط النظام الكافر الشيوعي الملحد الذي كان يحكمها، وقد تهاوى هذا النظام، وسقطت أركانه، وتباعدت أطرافه، وهربت رموزه ذات اليمين، وذات الشمال، فمنهم من انتحر كما فعل وزير الأمن، ومنهم من هرب يلوذ بالسفرات يبحث عن الأمن وهو رئيس ذلك النظام، ومنهم من اختفى، فلا يعلم أين هو، وهذا هو شأن الله وصنيعه في المكذبين والطغاة والمعاندين، وللظالمين والكافرين أمثالها، وهذا السقوط وإن سميناه سقوطاً إلا أنه في حقيقته ارتفاعٌ وشموخٌ، إنه طهارةٌ لكابل من رجس الطواغيت الذين طالما دنسوها، إنه ارتفاع إلى قمم المجد الجديد الذي نسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يحققه للمسلمين في أفغانستان، وفي كل مكان بإذنه جل وعلا. إنه سقوط الطفل في حجر أمه الحنون الرؤوم. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 2 الوضع الحالي لمدينتي كابل وجلال أباد وعلى أي حال، فإن كابل محاصرةً الآن بجنود المجاهدين، فأما من الجنوب، فإنه يحاصرها حكمتيار بجنوده التابعين للحزب الإسلامي، وهم جمٌ غفيرٌ، وأما من الشمال؛ فإنه يحاصرها أحمد شاه مسعود بجنوده الذين قدموا من الشمال فضلاً عن الذين تحالفوا معهم من الضباط في داخل كابل، وجميع ممرات كابل الرئيسية قد سقطت بيد المجاهدين، ويصح أن نقول: إن قوات المجاهدين الآن على مسافة حوالي ثلاثة، أو أربعة كيلو مترات من قصر الرئاسة في كابل، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذه المدينة تذعن لحكم الإسلام، وتدين له، وتدين به. المدينة الوحيدة التي لا زالت تتمنع هي مدينة جلال أباد، وهي من كبريات المدن في أفغانستان، وهي لم تسقط بعد، ولكن المسألة مسألة وقت، وهناك مفاوضات بين حاميتها وبين المجاهدين، وكل ما في الأمر أنهم يريدون نوعاً من الحماية، وربما نوعاً من المشاركة، وما دام أن السلاح الجوي في أيدي المجاهدين، فإنه لا تستطيع جلال أباد، ولا غيرها أن تمتنع منهم. أما رموز النظام السابق، فكما أسلفت فإن زعيم أفغانستان السابق لجئ إلى الأمم المتحدة، واختفى هناك خوفاً من بطش المجاهدين، ووزير خارجيته أصبح يصفه بأنه دكتاتور، وأنه عميل، ويتهمه بالخيانة العظمى، ويطالب بمحاكمته، أما وزير دفاعه، فقد اختفى، وأما وزير أمنه، فقد انتحر، وقتل نفسه -والعياذ بالله- وقد شكل في أعقاب ذلك مجلس عسكري مكون من عدة شخصيات من رموز الحكومة السابقة برئاسة الجنرال/ محمد نبي عظيمي، وأخشى ما يخشى أن يكون هذا المجلس العسكري هو حجر عثرة في طريق مواصلة المجاهدين في خطواتهم إلى أعماق كابل، وإلى قيام الحكم الإسلامي فيها. هذا موجز الأخبار والمعلومات التي وصلت من خلال المصادر الإعلامية، ومن خلال المصادر الشفوية، ومن خلال رسائل كثيرة وصلتني من الإخوة المجاهدين داخل أفغانستان وخارجها. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 3 ثمرة الجهاد الأفغاني أيها الأحبة إن تساقط الأقاليم والولايات والمدن في أيدي المجاهدين واحدة بعد أخرى كما تتساقط أوراق الخريف لم يكن إلا ثمرة جهاد طويل دام ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً، وبذلت في هذا الجهاد أرواحٌ لعلني لا أبالغ إذا قلت إنها تقدر بمئات الآلاف، وأسأل الله جل وعلا أن يكونوا شهداء في سبيله، كما بذلت فيه أموال طائلة هائلة لا يعلم مداها وقدرها إلا الله عز وجل، كما أوقفت عليها جهود جبارة من التخطيط والعمل والتدريب؛ فضلاً عن جهود أخرى في مجالات متعددة كالإعلام والتعليم، فضلاً عن تضحيات جسام لا تكاد تحد، ولا توصف، وقد كان هذا الذي جرى من تساقط الولايات هو -بإذن الله تعالى- ثمرةً لهذا الجهاد الطويل المرير. فلا غرابة إذاً أن تشرئب أعناق المسلمين لهذا النصر الكبير، وتتشنف أسماعهم لأخبارهم، وتشرق وجوههم بعلامات الفرحة الغامرة وهم يسمعون أنباء تساقط المدن واحدة بعد أخرى في أيدي المجاهدين، ولا غرابة أيضاً أن تنزعج لذلك قلوب المنافقين وترتعد فرائصهم، فيبدو على فلتات ألسنتهم، وعلى صفحات جرائدهم ومجلاتهم ما كانت تكنه قلوبهم المريضة من عداوة للإسلام والمسلمين، فتجدهم يدقون طبول الحرب الأهلية التي يراهنون على أنها سوف تحتدم بين فصائل المجاهدين. ولا غرابة أيضاً أن يضع المسلمون أيديهم على قلوبهم لهفةً إلى اكتمال هذا النصر المبين وتكليله لقيام حكومة إسلامية من فصائل المجاهدين تحكم أفغانستان، وتقودها إلى بر الخير والأمن والإيمان، وتحميها من شر التفرق والتشرذم والاختلاف، وما ينجم عنه من ويلات وفتن ومحن وحروب طاحنة. ولا غرابة أن يتنادى الغيورون من أهل الإسلام إلى ضرورة التواصل مع المجاهدين، ومع قياداتهم دعماً ومساندةً ونصحاً لهم، وجهوداً متصلةً للتوفيق بينهم، وتسديد خطواتهم وآرائهم، وما هذه الجلسة المباركة إلا نوعٌ من المشاركة، فإذا كانت الموانع والأسباب عن الشخوص والذهاب إلى إخواننا المجاهدين هناك، ومشاركتهم في آلامهم ومعاناتهم مشاركةً مباشرة تحول دون ذلك، فإذا كان ذلك كذلك، فلا أقل من كلمة تتعدى وتتحدى حدود الزمان والمكان لتصل إلى الآذان آذان أولئك الإخوة المرابطين على الثغور، وإلى الله تعالى عاقبة الأمور. أيها الأحبة اشتركنا جميعاً في الاستماع من أفواه الرواة، ومن الوسائل الأخرى، أو قراءة أعداد كبيرة من الأخبار المتعلقة بالوضع الأخير في أفغانستان، والذي بدأت ملامحه تبين من أول شهر رمضان المبارك، فمن ذلك أن عدداً كبيراً من الولايات بدأت تتساقط، وتستسلم للمجاهدين دون قتال، أو بقتال يسير، أو عنيف، المهم أنه ينتهي بسقوطها في أيدي المجاهدين، وقد كان من أول الولايات التي سقطت في أيدي المجاهدين مزار شريف، وقائدها: دوستم الذي يقال: إن تحت يده خمسين ألف مقاتل ورامي أنضم بهم كلهم إلى صفوف المجاهدين، وقد كان هذا في شهر رمضان المبارك، ثم بعد ذلك ولاية بروان وبها قواعد لصواريخ اسكود، وما يزيد عن أربعين طائرة مقاتلة، وقد سقطت في أيدي المجاهدين، ثم سقطت قاعدة بجرام، وهي قاعدة جوية، بل هي أكبر قاعدة جوية في أفغانستان، وقد أعلنت وكالات الأنباء عن سقوطها، وأن في هذه القاعدة ما يزيد عن مائة وواحد وستين طائرة كلها سقطت في أيدي المجاهدين، ومثلها قاعدة سنداند وهي أيضاً قاعدة جوية كبيرة تحتل المرتبة الثانية بعد قاعدة بجرام، ثم تهاوت عدد من المدن كمدينة غزني التي ينتسب إليها القائد الغزنوي الشهير الذي فتح بلاد الهند، وغزاها سبع مرات، وكان له قصة مشهورة معروفة؛ حيث أنه لما أراد قتل الصنم، حاول الهنود أن يرشوه بالذهب، فأعطوه ذهباً كثيراً مقابل ألا يكسر، وألا يحرق هذا الصنم، فأخذ الذهب وحرق الصنم، وبذلك كان الشاعر: محمد إقبال رحمه الله يقول مذكراً بهذا الحادث: كنا نرى الأصنام من ذهبٍ فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا لو كان غير المسلمين لحازها ذهباً وصاغ الحلي والدينارا فيقول: إن المسلمين لا يمكن أن يبيعوا توحيدهم وعقيدتهم بشيء مهما غلا ثمنه، فقد سقطت مدينة غزني الشهيرة بأيدي المجاهدين، كما سقطت مدينة قندز وهي ثالث مدن أفغانستان، ثم هلمند، ثم هرات، ثم مدينة بادغيث، وأخيراً كابل، فإن كابل قد سقط مطارها في أيدي ضباط متحالفين مع أحد فصائل المجاهدين، وقد صرح مندوب الأمم المتحدة حينما ذهب إلى هناك بأنه رأى الجنود في مطار كابل وهم غير الجنود المعتادين الذين كان يشاهدهم من قبل، ويشاع أن هناك أحياء من كابل قد سقطت أيضاً في أيدي المجاهدين، بل وصلني خبرٌ قبل أن أصل إلى هذا المكان بدقائق من باكستان أن مجموعات من المجاهدين التابعة للحزب الإسلامي دخلت إلى أحياء من كابل، ووصلت إلى السجن، وفتحت أبواب السجن، وأخرجت آلافاً من المساجين والمجاهدين المسلمين الذين كانوا معتقلين في ذلك السجن. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 4 فتحت وربك بالعقيدة كابل وقد كنت -أيها الأحبة- أبحث خلال إعدادي لهذه المحاضرة عن قصيدة تعطر بها أسماعكم، فضاق الوقت عن ذلك، وأتيت إلى هذا المجلس وأنا أشعر بأنني أتمنى أن لو وجدت تلك القصيدة التي تناسب المقام، ولكن قدر الله وما شاء فعل، وقد فات الأوان، فلما جلست هنا وصليت تحية المسجد، وضع الإخوة في يدي ورقة، فتأملتها، فإذا هي قصيدة جميلة قالها بهذه المناسبة، يقول الأستاذ/ سليمان العبيد: فتحت وربك بالعقيدة كابل والله يحكم ما يريد ويفعلُ سقطت بأيدي الصابرين وسلمت وانهار حصنٌ للعمالة باطلُ هانوا وكانوا خائنين لشعبهم من أجل ماذا حاربوه وناضلوا؟ ألرضى الشيوعي ذبحوا أطفاله يا ويلهم ماذا جناه الأعزلُ؟ تربو على المليون عدة من قضوا فدماؤهم فوق الجبال هطلُ بين السفوح تقطعت أوصالهم أجداثهم في كل وادٍ تنزلُ ومضى الشيوعي للبوار فولولوا هيهات لولا كان حزباً يعقلُ خدعوه بالمبثوث من دبابةٍ وبطائرات للقنابل تحملُ ومدافعٍ للراجمات ثقيلةٍ واسكود شيءٌ في المعارك هائلُ هذي ظننت بأن ستمنع أهلها إن القتال عقيدةٌ يا جاهلُ هذي تدمر لو تقاتل كافراً لرأيته من رعبه يترعبلُ أما الأسود المؤمنون فكلما قوي التحدي حطموه وهللوا من كان ظن بنادقاً مخزونةً ستظل في عصر القذائف تقتلُ أو كان ظن بأن جنداً عزلاً ستفل حزباً باللذائذ يركلُ أو كان ظن بأن خيمة معدمٍ ستدك قصر الكرملين فيبطلُ يا للعجائب بيد أن الله ذو أمرٍ إذا يقضيه، حتماً يحصلُ يا ليت عزاماً تمتع ساعةً معنا بنصرٍ وجهه المتهللُ سيسرُّ من هذا وتأنس روحه وجميل والشهداء حيث تحملوا قدموا إلى الرحمن أكرم راحمٍ وبصبر هم وقت الطعان تجملوا ومن العجائب مجلس الأمن الذي يقضي بجورٍ ليس يوماً يعدلُ فيقول: هِبُّوا أنقذوا إخواننا بقيادة رهن الإشارة فاعملوا أفما تزال وبعد عقدٍ كاملٍ وحصاد ما بذلوا تكيد وتشغلُ اسمع لحاك الله خلِ سبيلهم كي ينقذوا إخوانهم، هل تفعلوا؟ أو يستميت المسلمون جميعهم كي يرفع اليوم الأسى المتطاولُ دع عنك في أفغان أسد كريهةٍ لهمُ سهامٌ بالفرائص تدخلُ كم كنت أنت بكيت دمعة كافرٍ ودماءنا في كل صقعٍ ترسلُ الجزء: 207 ¦ الصفحة: 5 انتصار المجاهدون في أفغانستان هذا النصر الكبير هلل له المسلمون وكبروا في كل مكان، لستم أنتم الوحيدون الذين هللوا وكبروا لهذا النصر المبين وفرحوا به، لقد سر به المسلمون في كل مكان خاصةً وهم يعيشون أياماً صعبةً حالكة، يواجههم فيها عدوٌ كافر في كل بلد. ففي الجزائر مناحةٌ وسجون عميقة، وأحكامٌ يمكن أن تصل إلى حد الإعدام بقيادات المسلمين هناك. وفي تونس ألوان من التعذيب يندى لها الجبين حتى إن منظمة حقوق الإنسان وهي منظمة نصرانية كتبت تقريراً يندهش منه كل إنسان عمَّا يلاقيه المسلمون في سجون تونس، وعددهم يزيد على ثلاثين ألفاً. وفي يوغسلافيا شن الصرب النصارى على المسلمين في البوسنة والهرسك منذ أسبوع هجوماً عنيفاً يذبحونهم ذبح الخراف، ويهدمون بيوتهم عليهم، ويقتلونهم في الشوارع والأزقة، وقد حاصروا المدينة، ثم احتلوا الأحياء الجديدة منها، وهم في طريقهم إلى السيطرة الكاملة على المدينة، بل يقول رئيس الدولة هناك وهو مسلم اسمه/ علي عزت، يقول: إذا لم يتدخل أحدٌ من المسلمين لحمايتنا، فأعلنوا من الغد البكاء على المسلمين هناك، وهناك خزان مخصص للغاز السام تتجه إليه قذائف الصرب النصارى لمحاولة تفجيره، فقد رمي منذ أيام بما يزيد على أربعين قذيفة، ولو تفجر، لكانت كارثة لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، إضافة إلى ما يعانيه المسلمون في بلاد كثيرة. ففي وسط هذا الليل المظلم لاحت بوارق من الأمل للمسلمين فيما جرى في أفغانستان، فلا أحد يلومهم، ولا يثرب عليهم إذا أشرقت قلوبهم بالفرحة، نسأل الله تعالى أن يتم علينا جميعاً هذه الفرحة، ورغبةً مني في أن تكلل هذه الفرحة بفرحة أخرى وهي فرحة قيام الحكم الإسلامي في أفغانستان، فإنني رأيت أن أقل الواجب أن نخاطب إخواننا المجاهدين هناك، وخاصةً قياداتهم في مثل هذا المجلس المبارك ببعض المخاوف التي نضع أيدينا على قلوبنا خشية أن يتحقق منها شيء، فيكون ذلك تأخيراً لما نؤمله ونرجوه من قيام الحكم الإسلامي في أفغانستان. إن التحدي الأول الذي يواجه إخواننا المجاهدين هناك الآن هو التفرق والتنازع والتوزع والتشتت، والله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] فقد جعل الفشل وذهاب الريح في المعارك أثراً من آثار التنازع والتفكك والتشتت، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة: {إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، ولا تفرقوا، وأن تناصحوا، -أو تطيعوا- من ولاه الله أمركم، ويكره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال} . فليتق الله إخواننا المجاهدون، وليجمعوا كلمتهم، إن القدرة على الارتفاع عن حظوظ النفس، والسمو إلى الآفاق الرحبة في إيثار ما عند الله تعالى مما هو خيرٌ وأبقى، هو الانتصار الأكبر الذي ينتظره المجاهدين. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 6 المسلمون معكم ولو بالدعاء أيها المجاهدون، وأيها القادة وأيتها الأحزاب إذا كنتم أنتم في الميادين والثغور, فالمسلمون في كل مكان معكم في المحاريب والدور, يزودونكم بالدعاء ويقولون: كما قال الله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] . لقد أهلك الله تعالى عدوكم ورأيتم هذا بأعينكم؛ ولكن بقي الاستخلاف، والله تعالى إنما يستخلف من قال في حقهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] فكونوا أيها الأحبة من هؤلاء فإن المسلمين بأمس الحاجة إليكم. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 7 أكاذيب على الجهاد الأفغاني إن الصحافة الغربية والعربية، والإعلام الغربي والعربي في كثير من قنواته ووسائله، يراهن على الاقتتال بين المجاهدين, خاصة بين الحزب الإسلامي بقيادة حكمتيار، وبين الجمعية الإسلامية بقيادة برهان الدين رباني , وبالذات الجناح الذي يقوده أحمد شاه مسعود , بل إن بعض تلك الوسائل مما تحمله بقلبها من الغيظ على المسلمين، وتمني الحرب فيما بينهم, أصبحت تفتعل أخباراً وهمية عن حصول قتال في بعض المناطق بين هذين الطرفين, ولكنَّ اتصالات مباشرة مع القادة الميدانيين بلغني بها عدد من الإخوة تنفي حصول هذا القتال، وتثبت أنَّ كل ما ذكر لا يعدو أن يكون مجرد إشاعات، وترويجات من بعض الصحف ووسائل الإعلام التي تتمنى أن يقع ذلك. ومع الأسف الشديد أن عدداً من الصحف الناطقة باللغة العربية، كصحيفة الشرق الأوسط وصوت الكويت والحياة وغيرها فضلاً عن بعض الإذاعات العربية، وبعض الإذاعات الأجنبية، كلندن وغيرها, تروج لمثل هذه الأمور وتؤكد المواجهة بين أحمد شاه مسعود وبين القائد الثاني قلب الدين حكمتيار. أقول: إنهم يفتعلون ويروجون لمثل هذه المواجهة المزعومة التي خلقتها أوهامهم وعقولهم، وأمانيهم، ويتعمدون إثارة النواحي القبلية، فتجد أن كثيراً من هذه الصحف ووسائل الإعلام تتحدث عن أحمد شاه مسعود، وأنه ينتسب إلى قبيلة الطاجيك، بينما قلب الدين حكمتيار ينتسب إلى قبيلة البشتو, وتحاول أن تثير هذه النعرة القبلية لافتعال خصومة بين قبيلتين من القبائل هناك, أو تحاول أن تثير النواحي الحزبية، حيث أن أحمد شاه مسعود يتبع للجمعية الإسلامية وقلب الدين حكمتيار هو قائد الحزب الإسلامي, فتحاول إثارة مواجهة بين الحزب والجمعية, أو تحاول إثارة المنافسة بين الشخصين في الجهود الذي بذلاها في الجهاد، وفي تحقيق النصر الكبير هناك, فلكل منهما جهد, فأما حكمتيار فإن له جهداً كبيراً منذ أول جهاد على كافة الجبهات, وأما أحمد شاه مسعود فقد كان قائداً ميدانياً كبيراً تابعاً لـ برهان الدين رباني في مناطق الشمال. والأخبار على أي حال تشير إلى عزم حكمتيار على دخول كابل بالقوة إذا لم تستسلم, بينما يميل أحمد شاه إلى الحل السلمي، والتنسيق مع الضباط الذين يمكن أن ينضموا إلى المجاهدين، بل ربما أعلنوا له أنهم ينضمون إليه شريطة المشاركة، أو وجود نوع من المشاركة لهم في حكومة جديدة. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 8 بيان من أطراف الصراع في أفغانستان وقد وصلني في هذا اليوم بيانات مختلفة من الطرفين، فوصلني بيان من الحزب الإسلامي يحذر من تدخل دولة مجاورة, وأعتقد أن هذه الدولة المجاورة على الأرجح هي إيران, وأنها تحاول أن تستغل بعض الأقليات داخل أفغانستان، لإثارة النعرات، وتمزيق الجهاد هناك, وإيجاد موضع قدم للشيعة هناك, هذا في تقديري أن المقصود هي إيران، وإن كان البيان لم يحددها على سبيل الدقة, ولكنه أشار إلى دولة مجاورة تحاول استغلال النواحي العرقية واللغوية، كما يقول البيان, ودعا إلى توحيد الصف، ومواصلة الجهاد والقضاء على كل المحاولات التي يتشبث بها رموز النظام السابق، حتى يتحقق النصر المبين والكامل, وتقوم حكومة للمجاهدين ممثلة فيها كل الأحزاب، وكل الأطراف، وكل المناطق، وكل الطوائف. وبمقابل ذلك وصلني من الجمعية بيانان من المندوبية العامة لها, في أحدهما أن القائد أحمد شاه مسعود يطمئن المسلمين ويطالب زعماء المجاهدين في بيشاور أن يشكلوا الحكومة الجهادية فوراً لتسلم السلطة في كابل, وقد حذر البيان من الاستماع إلى إشاعات الحاقدين والحاسدين حول قادة الجهاد وانتصاراتهم. كما أبدى البيان أسفه؛ لأن بعض الصحف لا تشعر بالمسؤولية، وتضم صوتها إلى صوت الإعلام المغرضة في إثارة النعرات الجاهلية النتنة في أفغانستان, هكذا يقول البيان. كما وصلني بيان آخر حول الموضوع نفسه، ومن الجهة ذاتها, وفيه تطمين لقادة الجهاد الميدانيين، وتحذير من الدعايات التي تحاول أن تخترق الصف، وتحذير من الانسياق وراء مخططات العدو الذي يحاول تفريق الصف إلى شمال وجنوب, أو إلى أصحاب هذه اللغة أو تلك, وينادي بقيام حكومةٍ إسلامية تمثل فيها جميع الأحزاب. كتبت إليَّ الجمعية اليوم خطاباً تعرب فيه عن بالغ سرورها بهذه المحاضرة التي علموا بإقامتها، ويطمئنوني إلى أنه لا تنسيق ولا علاقة بينهم في الجمعية، وبين الرافضة، وأن الرافضة شرذمةٌ قليلون في أفغانستان ولا يعبأ بهم. وأشكر عبد الأحد الذي وافاني بهذه الرسالة، وأقول: حسب المعلومات فإن عدد الشيعة في أفغانستان هو حوالي (10%) وهم يسكنون في مناطق محدودة, وتقف وراءهم إيران؛ لإثبات موقع لهم في أي حكومة تشكل في أفغانستان. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 9 الواجب على قادة الجهاد في أفغانستان إن من واجب الطرفين "الحزب الإسلامي، والجمعية الإسلامية" إن من واجبهم جميعاً الجلوس على مائدة المفاوضات، فالتفاهم بينهم أولى من التفاهم بينهم وبين أي طرفٍ آخر, وإن من الواجب على رجالات الجهاد في أفغانستان أن يروا الله تعالى من أنفسهم خيراً، في التدخل لدى كافة الأطراف للإصلاح ورأب بالصدع, كما إنه من الواجب على العلماء، والمشايخ ورجال الدعوة، أن يساهموا في الأمر سواء بالاتصال الشخصي بالذهاب إلى هناك، أو بالمراسلة، أو بالمهاتفة، أو بغير ذلك من الوسائل والأسباب. وإنني أحمل الإخوة الموجودين هناك من العرب، وغيرهم من رموز الجهاد ورؤوسه، الذين كان لهم قدم صدق، أن يتدخلوا لدى القادة، ولدى من هم حول القادة، ولدى مستشاريهم، ولدى رؤساء دوائر الأحزاب، أن يتدخلوا بصورة قوية وحازمة لتوحيد الصف، وإزالة أي بادرةٍ من بوادر الخلاف قال تعالى: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [النساء:84] . ونسأل الله تعالى أن ينصر المجاهدين، ويوحد صفهم ويجمع كلمتهم، ويقيهم شر أنفسهم، وشر عدوهم. ولا يفوتني أن أشير إلى أنه قد هاتفني في هذا اليوم الأخ أبو عبد الله أسامة بن لادن، وحدثني عن قدوم بعض المشايخ إلى إسلام أباد، للصلح بين الأطراف من هذا البلد، وعسى الله أن يكلل الجهود بالنجاح, ونرجو أن تكون جهوداً مثمرة، وأن تتبعها جهودٌ أخرى كثيرة من كل المسلمين, وأقول: إن واجبنا جميعاً أن نضاعف جهودنا في هذا الباب، حتى من لا يملك إلا الدعاء، بأن يوحد الله تعالى كلمة المجاهدين، ويجمع كلمتهم، ويجعلهم إخوةً متحابين متناصرين، ويكلل جهدهم بالنجاح، ويقيم على أيديهم دولة الإسلام في أفغانستان, ومن لا يملك إلا الدعاء فعليه أن يبتهل إلى الله تعالى بالدعاء. إن قيام دولة للإسلام في كابل أمرٌ عظيم, وإننا سننسى متاعب ثلاث عشرة سنة كلها, بل سوف نذكرها بمزيد من الفخر، والفرح والإكبار، إذا تصورنا أنها أثمرت قيام حكومةٍ إسلامية في أفغانستان؛ لكن لو كانت الأخرى -لا قدر الله- وآل الأمر إلى نوعٍ من الخلافات بين المجاهدين، أو المواجهة أو المعارك, فكم سوف تكون الكارثة عظيمة؟ وكيف سيكون وقعها حاداً وكبيراً على قلوب المسلمين جميعاً, نسأل الله تعالى ألا يكون ذلك. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 10 نداء إلى قادة المجاهدين إنني أنادي قادة المجاهدين وأقول لهم: اتقوا الله تعالى: ليس في أنفسكم فحسب, ولا في أحزابكم فحسب, ولا في الشعب الأفغاني فحسب, بل اتقوا الله تعالى في أمة الإسلام التي كانت ولا زالت معكم خطوةً بخطوة، والتي علقت عليكم الآمال العظام, وفاخرت بكم أمم الأرض كلها, وتغنت ببطولاتكم الحربية زماناً طويلاً، فدعوها تتغنى الآن ببطولات الانتصار على النفس, وعلى المؤثرات القريبة، فهي معركة أخرى لا تقل أثراً ولا خطراً عن المعارك العسكرية. إنه لكي يتم النصر ويكتمل للمجاهدين، لا بد من توحيد صفوفهم, والصورة المعقولة التي نتطلع إليها هي أن ينسق المجاهدون مواقفهم فيما بينهم, وأن يرسموا القنوات التي يتم من خلالها التفاهم حول أي مشكلة, ويتفقوا على تجنب استخدام القوة لحل أي مشكلةٍ تنجم فيما بينهم. فالمسلمون الذين كانوا يبتهجون بكل معركةٍ يثيرها المجاهدون مع الشيوعيين، لا يريدون أبداً أن يسمعوا معركة داخل الصف المسلم. فيا معشر أحبابنا في أفغانستان نسألكم بالله العظيم الذي تحبونه وتعبدونه، وتجاهدون في سبيله, ونسألكم بالله العظيم الذي تقوم السماوات والأرض بأمره, ونسألكم بالله الذي لا إله غيره، ولا رب سواه ألا تشمتوا بنا وبكم الأعداء, وألا تروعوا قلوبنا بسماع ما يسوء, وأن تصمموا على صناعة النصر الكامل المبين, بإذن الله تعالى رب العالمين. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 11 انتصار المجاهدين في أفغانستان انتصار لكل المسلمين إن الانتصار للمجاهدين في أفغانستان، ليس نصراً لهم في بلادهم فحسب, بل هو نصرٌ للمسلمين في كل مكان, وإن المسلمين -ونحن جزءٌ منهم- يتطلعون بفارغ الصبر إلى ما تنجلي عنه هذه الأحداث المتلاحقة، إن المجاهدين ومن ورائهم المسلمون يعيشون جميعاً عصر الهيمنة الغربية, والتسلط الاستعماري الجديد, الذي أول ما يستهدف الأمة الإسلامية, وهيهات هيهات! أن يستطيع المسلمون الصمود في وجه الاستعمار النصراني الجديد, وهم دولٌ متفرقة متناحرة, فكيف نتوقع أن يصمدوا فيواجهوا هذا العدو الجديد، العدو الغربي النصراني، حين يكونون أحزاباً متفرقة داخل دولةٍ واحدة، وكيانٍ واحد. إن الأمل الذي يراود قلوبنا أن تفلح أفغانستان المسلمة في الخروج من الحصار الذي يحاول فرضه عليها الأعداء, ولن تستطيع إلا إذا تجاوزت هذه الأحزاب والجمعيات القائمة فيها خلافاتها, واتفقت على صيغةٍ مقبولة تحقن الدماء وتضبط المسيرة. بل إننا نحلم ونطمع أن يكون النصر للإسلام والمسلمين في أفغانستان مثلاً يحتذى لجيرانها الجدد، من الجمهوريات التي خرجت لتوها من الاتحاد السوفيتي، والغرب أخشى ما يخشى أن تتحول إلى جمهوريات إسلامية -فعلاً- وهي تملك ألواناً من السلاح لا يملكه المسلمون في بلادهم الأخرى, فيسلط الغرب عليهم إمكانياته وطاقاته، بل يسلط عليهم دولاً علمانية كتركيا، أو غيرها لمحاولة الحيلولة بينها وبين الإسلام, فلو قام للإسلام قائمة في أفغانستان لكان هذا -بإذن الله تعالى- سبباً ووسيلةً وذريعةً إلى امتداد الإسلام، وقيام حكمه في تلك الجمهوريات، التي طالما حكمها الإسلام قرونا طويلةً من الزمان. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 12 أخطار تهدد الجهاد في أفغانستان وتؤخر النصر إن من أهم تأخر النصر فيما مضى، وتضخم التضحيات هو: الجزء: 207 ¦ الصفحة: 13 طواغيت العالم أيها الإخوة المجاهدون أيها القادة المناضلون إن العالم مليءٌ اليوم بالطواغيت الذين يسومون شعوبهم سوء العذاب, ويسرقون لقمة الخبز من أفواه المساكين, ومليءٌ بالعملاء الذي يبيعون مكاسب أمتهم للأعداء الكافرين, ومليء بالمتنافسين على الكراسي من عبيد الدنيا، والدرهم والدينار, فهو لا يحتاج إلى رقم جديد من هؤلاء؛ ولكنه يحتاج حكاماً من طرازٍ آخر، ومن نوعٍ فريد ممن قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] . فبالله عليكم احرصوا على أن تكونوا من هؤلاء, وابذلوا جهودكم في توحيد الصف, وتلافوا الخلافات الجزئية, ولا مانع من التنازل أحياناً إذا لزم الأمر, وإلا فإن الله تعالى قد خاطب أفضل البشر بعد الأنبياء، وأكرم الناس على الله تعالى بعد الرسل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم من هم إيماناً وصدقاً وجهاداً، وإخلاصاً وتضحيةً وإيثاراً للآخرة، وإعراضاً عن الدنيا، وزهداً في مكاسبها، خاطبهم ربنا جل وعلا بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] وقال: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] . الجزء: 207 ¦ الصفحة: 14 الخطر الإيراني الخطر الثالث الذي يهددهم هو: الخطر الإيراني, خاصة مع ظهور أنباء صحفية، وهي تحتاج إلى تأكيد عن وجود إنزال جوي من إيران، في القاعدة الجوية الثانية التي استطاع المجاهدون أن يسيطروا عليها, ووجود عدد لا بأس به من قوات الكومندوز الإيرانية, ومحاولة الاتصال ببعض الأطراف لافتعال الخصومة مع المجاهدين, فهؤلاء هذا هو دورهم, هم الطابور الخامس من خصوم السنة عبر التاريخ، مهمتهم سرقة الانتصارات، والوقيعة بين المسلمين، وإرباك الصف، وجر الأطراف المتنازعة إلى معارك فيما بينها قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118] . إن إيران على مدى ثلاثة عشر عاماً لم تتدخل مع المجاهدين, ولم تدعمهم ولا بعود كبريت, بل كانت شوكةً في صدورهم، وحلوقهم، فكيف الآن تدخلت، وأرسلت قوات لها، وحاولت أن تفسد بين المجاهدين؟! هذا جزء من مخططها لإقامة إمبراطورية كبيرة، تنطلق من إيران، وتشمل عدداً من الدول المجاورة, كما كان شاه إيران يحلم بذلك من قبل, فالتدخل في العراق واضح, ومعروفٌ أن إيران بعثت قوات جوية، وضربت مواقع للمعارضة في العراق, والتدخل في سوريا واضح, والتدخل في لبنان واضح, بل إن هناك أخباراً اليوم وأمس مفادها أن إيران قامت باحتلال أجزاء من أراضي أذربيجان وهي جمهورية استقلت حديثاً عن الاتحاد السوفيتي, واستولت على جزء من أراضيها المتاخمة والمجاورة لها, وهذا كله يتم وسط أنباء تتحدث عن ميزانية ضخمة للتسليح الإيراني, ومحاولة جادة للحصول على السلاح النووي، والإفادة من الخبراء السوفيت في هذا المجال. فأقول: إنه يجب علينا، وعلى المسلمين جميعاً، وعلى إخواننا في أفغانستان، الحيلولة دون تلاعب أهواء الساسة بثمرات الجهاد في أفغانستان. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 15 التدخل الدولي الخطر الثاني الذي يهدد إخواننا المجاهدين هناك ويجب أن يكون موضوعاً في الاعتبار هو: خطر التدخل الدولي. ومن المعروف أنه بعد الحرب الباردة ونهايتها، أصبحت أمريكا تحاول أن تكون شرطياً في العالم كله, وهي تخشى من أفغانستان بالذات لأسباب: 1- أن أفغانستان أثبتت الأحداث عبر السنوات الماضية أنها عرينٌ، وأنها مأسدَةٌ يمكن أن تكون مقبرةً للطغاة والغزاة من أي لونٍ، أو جنسٍ كان, فهي بذلك مصدر قلق وإزعاج لهم. 2- جوار أفغانستان للجمهوريات الإسلامية التي خرجت لتوها من الاتحاد السوفيتي، والتي يمكن أن يحدث فيها ما لا يحمدون عليه. 3- جوار أفغانستان لباكستان، وهي دولةٌ شعبها مسلم، وحكومتها تحاول أن تقترب من الإسلام. 4- جوار أفغانستان لإيران. وما أدراك ما إيران؟! وسوف أتحدث بعد قليل عن بعض المخاوف من إيران، هذا مع أنني أقول الآن وأعتقد أن الغرب ليس راضياً حتى عن وضع الحكومة الرافضية في إيران؛ لأنه لا يريد أن يقوم لأي حكومةٍ أخرى قائمة، إلا أن تكون حكومةً نصرانية, وأي حكومة أخرى قد يهادنها، أو يسالمها لفترةٍ مؤقتة لأنه لا بديل عنها؛ لكن حينما يتمكن من إيجاد حكوماتٍ علمانية، بحتة لا تؤمن بدينٍ ولا بعقيدة، حتى ولو كانت عقيدةً فاسدة أو ديناً منحرفاً, فإنه لن يتردد في دعم العلمانيين للقضاء على كل أصحاب العقائد, حتى ولو كانت عقائدهم منحرفة. وعموماً فإن الغرب يبدي مخاوفه بشكل مستمر مما يسميه بالحكومات الأصولية, فموقف الغرب مثلاً من السودان معروف, وموقف الغرب من الجزائر معروف, وموقفه من يوغسلافيا معروف, أما موقف الغرب من أفغانستان فقد أصبح حديثُ المجالس وسارت به الركبان, ولم يعد بحاجة إلى ذكرٍ أو بيان، وقد عرضت الأمم المتحدة حلاً يتمثل في إيجاد حكومةٍ مؤقتة من حوالي (16) شخصاً نشرت جريدة الحياة أسماءهم، وليس في هؤلاء شخصٌ واحدُ من المجاهدين, أو على صلة تذكِّرُ بهم, واعتبرت أن هذه الحكومة محايدة ليست من المجاهدين، ولا من الحكومة القائمة يوم أعلن هذا الحل. ولكن الحسم العسكري الذي لجأ إليه المجاهدون، ووفقهم الله تعالى إليه، قد أسقط هذا الخيار الذي عرضته الأمم المتحدة, فحاولت أن توسع آفاق المشاركة، وتعد المجاهدين بإمكانية أن توجد لهم مقاعد؛ ولكن يبدو أن هذا الحل على أي حال قد تعدته الأحداث، وتجاوزته إلى غير رجعه, لكن يمكن أن تقدمه الأمم المتحدة، أو بعض الدول المجاورة، أو بعض الدول الأخرى بأسلوبٍ آخر. هناك بالتأكيد وجود لبعض القوات، ولو يسيرة من الأمم المتحدة في كابل, بل هناك أخبار تقول: بأن استيفان مندوبهم يسعى في الوقيعة بين حكمتيار، وبين أحمد شاه مسعود , فيذهب إلى هذا تارةً، ويذهب إلى هذا تارةً أخرى، ويسعى بالوقيعة بينهم. أيها الأحبة هنا وأيها الأحبة هناك في أفغانستان باسم الأمم المتحدة دمرت دولٌ قائمة ممكنة، وقضي على أسلحة هائلة واقتصاد غني, وبعدما مارست الأمم المتحدة التخلص من جميع الأسلحة في العراق, ها أنتم ترون الأمم المتحدة تسعى إلى القضاء على كل ألوان التسليح الموجود في ليبيا ومن ثم الانتقال إلى البلاد الإسلامية الأخرى، التي أشرت إلى شيء منها للقضاء عليها. وباسم الأمم المتحدة مورست ألوان من الإذلال للشعوب الإسلامية، حتى أن هناك أخباراً تقول: إن عدد الذين ماتوا جوعاً وعطشاً وعرياً في العراق يزيدون على مائة وعشرين ألفاً!! وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دخلت امرأة النار في هرة حبستها، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض} , فما بالك بمائة وعشرين ألف إنسان؟!! بل هم مسلمون من هذا البلد المنكوب بحكومته أولاً, والمنكوب بتسلط الأعداء عليه ثانياً. ولا يبعد أبداً أن تسعى القوى النصرانية إلى الإفادة من أي بادرة تناقض بين المجاهدين في أفغانستان، لتجعل من أفغانستان ضحيةً جديدة للأمم المتحدة, فهي تبحث عن موطئ قدم للتدخل هناك. وليس من المتيسر بعد أن قضى الإخوة المجاهدون ثلاثة عشر عاماً في قتال الروس، وأسقط الله تعالى الشيوعية، وكان لهم دورٌ ومشاركة وسببٌ في ذلك، أن تبدأ أو أن نتسبب في بدء معركةٍ جديدة مع الغرب النصراني الكافر، المدجج بالسلاح, فيجب أن ندق طبول الخطر من الحلول والمحاولات التي يمكن أن تقوم بها الأمم المتحدة، للتدخل باسم حقن الدماء، وباسم حماية الشعب، وباسم عدم المواجهة, حتى أن بعضهم يقول: إننا نتدخل من أجل عدم وجود مواجهة بين المجاهدين بعضهم مع بعض, وما عهدناهم غيورين على الدم الإسلامي إلى هذا الحد. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 16 الاختلاف والتنازع الخطر الأول هو: الاختلاف والتنازع, وأخشى ما يخشاه المخلصون أن يكون الاختلاف والتنازع الآن سببا ًفي ضعف الثمرة, أو خطفها من أيدي المجاهدين ليظفر بها غيرهم، ممن لم يكن لهم في الجهاد أيُّ دورٍ أو مكانة, سواء من أركان النظام السابق، أو من غيرهم. ولذلك يتعين على جميع الفصائل الجهادية في أفغانستان -وهذا أمرٌ مهم جداً- أن تتقي الله تعالى ولا تستبد برأيها, ولا يجوز لأي فصيلٍ من الفصائل أن يقوم بتشكيل حكومةٍ جزئية من ذات نفسها؛ لأن معنى ذلك هو التوتر، وتصعيد الأحداث، وافتعال المواجهة, بل يجب أن يتم تشكيل الحكومة المؤقتة بالتشاور والتفاوض مع كافة الأطراف الجهادية بدون استثناء، من أهل السنة الذين كان لهم دورٌ في الجهاد، وفي تحقيق هذا النصر, لتقوم هذه الحكومة بضبط الأمن وحفظ الإدارة، وتسيير الأمور، ريثما تتيسر الأوضاع لقيام حكومةٍ أكثر دقة، وأكثر انضباطاً يرضى عنها الجميع. وإننا يجب أن ننادي جميعاً كل من يملك شيئاً أن يبذله في سبيل توحيد المجاهدين, وفي سبيل تجنيبهم شر الاصطدام والمواجهة, فالجهود الإسلامية المكثفة، هي التي يمكن أن تحول بإذن الله تعالى دون ذلك, ولا يجوز لنا أبداً معاشر المسلمين في كل مكان، لا يجوز لنا أن نقف متفرجين، نسمع الأخبار من الإذاعات، أو نقرأها من الصحف ثم ننحي باللائمة على هذا الطرف، أو ذاك، أو على فلان أو فلان! لا يجوز هذا أبداًَ، بل يجب أن يتدخل كل القادرين -وكلنا بإذن الله تعالى قادرون ولو على الشيء اليسير- لمحاولة جمع كلمة المجاهدين، والوصول إلى إقامة حكومة مشتركة من كل الفصائل التي شاركت في عملية الجهاد عبر ثلاثة عشر عاماً. هذا هو الخطر الأكبر الذي يهدد إخواننا المجاهدين هناك، خطر التنازع والتفرق, وإننا نقوله، وقلوبنا فرحةٌ مسرورةٌ بهذا النصر الكبير الذي حققه الله على أيديهم، بعدما كادت قلوب كثير من الناس أن تستيئس، ونرجو أن يكون الأمر كما قال الله عز وجل: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:110] . ونرجو أن يكون الحال كما قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214] . الجزء: 207 ¦ الصفحة: 17 خوض معارك لابد منها أيها الإخوة المجاهدون أيها الزعماء يا قادة الأحزاب بل يا كل القادرين ويا أصحاب النفوذ إن المعركة مع الشيوعية في أفغانستان ربما تكون قد انتهت فعلاً، بل هي قد انتهت بحمد الله تعالى, وقد ساهم المجاهدون كما أسلفت وكان لهم دور في الأزمات الاقتصادية التي سقط بسببها الاتحاد السوفيتي, ولذلك عرف الناس لهم هذا ولكن ثمة معارك جديدة وعديدة يجب أن تخوضوها: الجزء: 207 ¦ الصفحة: 18 المعركة الأولى: المعركة مع النفس المعركة مع النفس في مقاومة الهوى، والأثرة، وإيثار المصالح الإسلامية العليا، والرغبة فيما عند الله عز وجل فالآخرة خير وأبقى: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى:36] ويمكن تفويض أطرافٍ محايدة من العلماء المعروفين، للإصلاح بين المختلفين: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10] والله تعالى أمر في بعض الأمور بإيجاد الحكومات بين الأطراف المتنازعة, وهذه من هذا السبيل. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 19 المعركة مع الجهل إن الانهماك في العمل العسكري على مدى السنوات الطويلة الماضية، لا شك أن له آثاره البعيدة في انشغال المسلمين جميعاً هناك، عن الاشتغال بالعلم، والتعليم، والدعوة, فضلاً عن أن الشعب الأفغاني كغيره من الشعوب الإسلامية الأخرى، يحتاج أصلاً إلى جهودٍ كبيرةٍ في الإصلاح، والتعليم والدعوة ورفع الجهل عنه. تعليمهم دين الله عز وجل الصحيح المبرأ من البدع والخرافات, الموافق لما جاء في كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أصولاً وفروعاً, فإن الناس لا يمكن أن يجتمعوا إلا على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, فلنتفق على هذا القدر الذي يجمع عليه المسلمون جميعاً, وأن نتفق للتحاكم إلى الكتاب والسنة، وإلى العلماء العاملين بهما, وندع ما سوى ذلك, ولنربِّ الناس على الدين الصحيح أصولاً وفروعاً، عقيدةً وشريعة، عسى الله تعالى أن يجعل من هذا النصر ذريعة وسبيلا إلى انتصارات أخرى أكبر وأوسع، فإننا نطمعُ بأن تكون الرقعة الإسلامية كلها أرضاً للحكم الإسلامي، ثم تمتد لمواجهة الكفر المدجج بالسلاح في الغرب والشرق. ومن التعليم -أيضاً- الذي يحتاجون إليه التعليم المدني الذي يحتاجونه، باعتبارهم دولةً إسلاميةً فتية. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 20 المعركة مع الفقر وكذلك المعركة مع الفقر والسعي الجاد لإعمار أفغانستان, وإصلاحها اقتصادياً وزراعياً؛ فإنها قد لقيت أثناء الحرب من التدمير، والحرق وغير ذلك، على أيدي رموز النظام السابق وعملائه الشيء الكثير, فهي أحوجُ ما تكون الآن إلى مقاومة ومحاربة الفقر الموجود, وقد كاد الفقر أن يكون كفراً, والحاكم المسلم من أولى مهماته، وأكبر حاجاته أن يسعى إلى إغناء الناس -على الأقل- في الحاجات الضرورية؛ لأن هذا مما شرع وجود الحاكم في الإسلام من أجله, فهو أحد الوظائف التي يقوم الحاكم بتوفيرها. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 21 المعركة مع الجريمة كذلك المطالبة باستتباب الأمن وضبط الأحوال, وتطبيق حدود الله تعالى على عباده, وتنظيم القضاء الشرعي, وغير ذلك وبشكل عام، فحتى حين تقوم حكومة إسلامية للمجاهدين في أفغانستان, ليس معنى هذا نهاية المطاف أبداً, بل إنهم ورثوا بلداً قد حطمته الحروب، وأكلت الأخضر واليابس, والناس يتطلعون إلى ما يصنعه المجاهدون لهم هناك, من الخدمات والتيسيرات، وجميع دول الدنيا اليوم تتسابق إلى إرضاء شعوبها بتوفير ما يحتاجونه, وتهيئة الحياة الكريمة لهم, وهذا قبل ذلك كله، هو ما ينشده الإسلام ويدعو إليه. ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، ضمن حديث طويل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه, ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} , وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه: {ما من عبدٍ يسترعيه الله على رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌ لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة} , وفي صحيح مسلم أيضاً عن عائذ بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن شر الرعاء الحطمة} , أي: الذي يسوق رعيته بالقوة والشدة. فإننا ندعو المجاهدين إلى أن ينتقلوا إلى هذه الآفاق الواسعة، ويكونوا على مستوى التحدي الذي يواجههم الآن في أفغانستان, ونحن على ثقةٍ كبيرة -إن شاء الله- أنهم أهلٌ لهذه المهمة, ونسأل الله تعالى أن يرينا فيهم ما تقر به عيوننا. إن المعركة الآن تبدأ وفق مرحلةٍ جديدة، ولا يجوز أن تلقي باللوم والمسؤولية على إخواننا المجاهدين في أفغانستان، ثم نتخلى! كلا ثم كلا! إن دورهم كبير؛ ولكن ثمة دور للمسلمين في كل مكان, بل نقول الآن: بدأ الجهاد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه النسائي وغيره, الآن بدأ القتال والجهاد الجدي العظيم, ولذلك فما أحوج المسلمين في أفغانستان إلى الدعم المادي من إخوانهم المسلمين, المتمثل في التبرعات التي يجب أن تستمر, لإقامة المدارس، وبناء المساجد، والإعمار, ومساعدة الفقراء, ونشر الكتب, ونشر العلم، والقيام بالدعوة, وتحقيق مطامح المسلمين هناك في كل مجالاتها, وتحصين هذا البلد ضد خصومه الداخليين والخارجيين. فيجب أن تستمر جهود المسلمين في هذا البلد، وفي كل بلد لدعم إخواننا المجاهدين في أفغانستان، ويجب أن يكون هذا النصر الكبير الذي نسمع به الآن, ونسأل الله تعالى أن يتمه، أن يكون حافزاً ودافعاً لأصحاب الأموال للمساهمة في دعم الجهاد الأفغاني, ويجب أن يكون هذا الدعم وهذا من نافلة القول، في أيدٍ أمينة توصله إلى من تعتقد أنه لها أهل وتصرفه في الميادين التي تناسب, ولا نكتفي بهذا الدعم؛ بل لا بد من الدعم المادي بكافة صوره, فإن الدعم المادي يجب أن يستمر إعلامياً، ودعوياً، وبكل وسيلةٍ وأسلوبٍ نستطيع بها أن ندعم إخواننا المجاهدين هناك. وإنني أعتبر أيها الأحبة أن رفع الأكف بالضراعة والدعاء إلى رب العالمين، خاصةً في الأسحار, وفي أوقات إجابة الدعاء, أنه من أعظم أسباب النصر والتمكين, وقد رأينا بأعيننا آثار هذا الدعاء في أمور كثيرة رأيناها وسمعناها. فينبغي أن نرفع أيدينا بدعوات ضارعة حارة إلى الله عز وجل. الخاتمة: ولهذا أختم هذا المجلس الحافل العامر المبارك بهذا الدعاء الذي أسأل الله ألا يحجبه: اللهم يا مالك يوم الدين، ويا ناصر المستضعفين ويا جابر المنكسرين، ويا غياث المستغيثين يا الله يا الله يا حي يا قيوم يا من لا إله إلا هو الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد, اللهم إن آمال المسلمين قد تعلقت بالجهاد في أفغانستان, فحقق فيما يرضيك آمالهم, وبلغهم سؤلهم وأقر عيونهم بقيام دولة تحكم بالإسلام هناك, اللهم اجمع كلمة المجاهدين على الحق يا رحيم, اللهم ألّف بين قلوبهم, اللهم اهدهم سبل السلام, اللهم أخرجهم من الظلمات إلى النور, اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم جنبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم اكفهم شر نفوسهم، وشر كل ذي شر, وشر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، إن ربي على صراط مستقيم, اللهم إنهم حفاةٌ فاحملهم, وعراةٌ فاكسهم, وجياعٌ فأطعمهم, ومتفرقون فاجمعهم. اللهم اجمع قلوبهم على الهدى, وأبعدهم عن أسباب الردى, اللهم من أرادهم بسوء من داخلهم أو خارجهم فأشغله بنفسه, واجعل كيده في نحره، وأدر عليه دائرة السوء يا حي يا قيوم, اللهم إن قلوب المسلمين مجروحة مكلومة، مما حصل لهم من بقاع كثيرة، آخرها ما أصابهم في الجزائر, وفي تونس وفي يوغسلافيا وفي بورما فيا سامع الصوت ويا سابق الفوت، ويا محول الأحوال، ويا من يعز من يشاء ويذل من يشاء، ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء، ويرزق من يشاء بغير حساب، نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئلت به أعطيت, وإذا دعيت به أجبت, أن تجبر كسر قلوبهم وقلوب المسلمين بتحقيق النصر لهم في أفغانستان عاجلاً غير آجل, وأن تجمع الأطراف كلها على الحق يا رحمن يا رحيم, وأن تزيل أسباب العداوة والشحناء فيما بينهم. اللهم وفق علماء المسلمين ودعاتهم إلى أن يقوموا بواجبهم في الإصلاح، وجمع الكلمة بين المجاهدين, اللهم وفق سائر المسلمين إلى مناصرة إخوانهم في أفغانستان، وفي غيرها بالقول والفعل والدعاء. اللهم يا حي يا قيوم يا قريب يا مجيب، يا واحد يا أحد يا صمد, يا الله هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان, إنه لا حول ولا قوة إلا بك, فلا تكلهم إلى أنفسهم، ولا إلى أحد من خلقك يا حي يا قيوم, وكن بهم رؤوفاً رحيما إنك على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 22 مشاركة مشاركة: هذا أحد الإخوة جادت قريحته بقصيدة، أو لعله حفظها، لا أدري بالضبط, لكن على كل حال، هي أبياتٌ جميلة لا بأس أن نشنف أسماعكم بها, يقول: الله أكبر للجهاد فكبروا إن الذي نصر المهيمن ينصر هزمت جموع الكافرين بكابل أما الذين يتاجرون تبخَّر عشر من الأعوام زادت أربعٌ وأشاوس الإيمان فيها تزأر قد جاءها الدب المدل بنفسه يعلو جبين الدب لون أحمر طبعاً للقصيدة بقية!! الجزء: 207 ¦ الصفحة: 23 الأسئلة الجزء: 207 ¦ الصفحة: 24 قنوت النوازل السؤال هل يشرع قنوت النوازل في هذه المناسبة التي تعتبر مناسبة حرجة, ومما يساعد على الدعاء بجمع شمل المسلمين وتوفيقهم؟ الجواب والله إنها مناسبة حرجة وحساسة جداً الآن, وأنا أعتبر أن هذه ثمرة ثلاثة عشر عاماً، الآن يمكن أن تقطف لصالح المسلمين, وهو ما نتمناه ونسأل الله أن يحققه، أو لصالح غيرهم, وهو ما نسأل الله تعالى أن لا يكون. فالدعاء لهم بكل وسيلة، وبكل مناسبة مطلوب, وليس بشرط أن يكون هذا عن طريق القنوت, فإما عن طريق القنوت، وإما أن يدعو لهم الإنسان في سجوده, وإما أن يدعو لهم على انفراد, وإما أن يدعو لهم في مثل الاجتماعات كصلاة الجمعة، أو في آخر الليل, وبعد الصلوات المكتوبات إلى غير ذلك من أوقات، وأحوال الإجابة للدعاء التي يرجى معها الإجابة. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 25 لكل أمة نخالة السؤال نسمع كثيراً عن انتصار المجاهدين الأفغان, وإذا قلت لأحد من الناس هنا بانتصارهم لا يأبه بكلامك، ويقول: انظر إليهم هنا لا يحافظون على الصلاة، ولا على غيرها, فكيف ينصرون وهم كذلك؟ ما رأيكم وما نصيحتك لهؤلاء؟ الجواب من قال لك أنهم لا يحافظون على الصلاة هنا، ونحن نرى كثيراً منهم بحمد الله من المحافظين على الصلاة؛ ولكن كل أمةٍ وكل شعب له سقط وله نخالة وله حثالة, فلا عبرة بهؤلاء ولا يقاس عليهم غيرهم. والواقع يثبت أن الأفغان, من الشعوب الصابرة الأبية، الصامدة المجاهدة الشجاعة, ففيهم خير كثير، وعندهم إن شاء الله استعداد لتقبل الخير, متى سلك الذين يدعون إليه الأسلوب الحسن, ونسأل الله أن يوفق الدعاة أيضاً إلى الانتشار في أوساط الناس هناك ودعوتهم إلى الله تعالى. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 26 انقلابٌ بين المجاهدين السؤال حدثني عن الانقلاب هناك, ومدى آثاره السلبية والإيجابية على الجهاد؟ الجواب لعل الأخ يقصد بالانقلاب ما حصل بين أحمد شاه مسعود، وبين الضباط الذين كانوا من النظام السابق، ثم انتفضوا عليه وانقلبوا عليه, فيبدو أن هناك نوعاً من التنسيق بين أحمد شاه مسعود وهو قائد جبهة تابعة لـ برهان الدين رباني، الجمعية الإسلامية، وبين عدد من القادة والضباط الذين كانوا تابعين سابقاً للحكومة, وترتب عليه ما ترتب من سقوط عدد من ولايات في أيديهم، وعدد من القواعد, ولذلك تشكل المجلس من محمد نبي عظيمي، ومجموعة معه, بل الأخبار تؤكد أن هناك لقاءً بين محمد نبي عظيمي، وبعض أو إحدى فصائل المجاهدين, ولعل هذا هو سر من أسرار خطورة الخلاف الذي يمكن أن ينجم هناك. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 27 مناصرة ودعاء السؤال نرجو التركيز على مناصرة إخواننا هناك, فالجميع يكيد، وحجم الكيد كبير، ويحتاج منا إلى جهدٍ كبير ودعاءٍ وبذل ودفاع, وعدم ترديد الإشاعات والأكاذيب, ففي ذلك عون لإخواننا بإذن الله تعالى, والرجاء منكم تذكيرنا والجميع بذلك، والوقوف مع إخواننا في خندق واحد؟ فلقد تعودنا على تضخيم الخلافات سواء فيما حصل في أفغانستان، أو في غيرها، وبفضل الله فوت المجاهدون الفرصة وقضوا عليها فيما سبق, ونسأل الله أن يقضوا عليها فيما يأتي؟ الجواب نعم نشاطر الأخ هذا الدعاء, ونسأل الله تعالى أن يجمع كلمة المجاهدين على الحق إنه على كل شيء قدير. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 28 مصدر تلقي الأخبار السؤال من أين نأخذ الأخبار الموثوقة عن المجاهدين الأفغان وعن المسلمين في كل مكان؟ الجواب هذه إحدى المشكلات والمعضلات؛ لكن هناك بعض الصحف تنشر أخباراً أحياناً أصح وأدق من غيرها, فيمكن للإنسان أن يستفيد منها, وبالنسبة للمجاهدين الأفغان, فهناك مجموعة من المجلات يصدرها المجاهدون هناك ويمكن أن يستفاد منها. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 29 حرب على المجاهدين العرب في باكستان السؤال هل صحيح أن المجاهدين العرب طردوا من باكستان، وأغلقت مكاتبهم وضيافتهم؟ وماذا تتوقع أن يكون مصير المجاهدين العرب بعد فتح كابل؟ الجواب نعم، المجاهدون الذين كانوا يقيمون في بيشاور قد أغلقت مضافاتهم منذ يومين أو أكثر, وطلب منهم المغادرة، وقد غادر منهم من غادر إلى داخل أفغانستان, وبقيت مضافاتهم باسم هيئة الإغاثة وغيرها من الجهات الأخرى, فهذا الخبر الذي أشار إليه الأخ خبر صحيح. هذا ونسأل الله تعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا بعده تفرقاً معصوماً, وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً, ونسأله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يقر أعيينا بنصر الإسلام والمسلمين في أفغانستان, وفي كل مكان إنه على كل شيء قدير وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. سبحانك اللهم بحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك الجزء: 207 ¦ الصفحة: 30 دور الشباب الذين جاهدوا في أفغانستان السؤال ما هو دور الشباب، وخصوصاً الذين كانوا يذهبون للجهاد هناك بعد الفتح إن شاء الله في أفغانستان, وجزاكم الله خيراً؟ الجواب هؤلاء دورهم أكبر من دور غيرهم؛ نظراً لأنهم يتمتعون بصلاتٍ ببعض المجاهدين، وببعض القادة، ونحن في هذا الظرف أحوج ما نكون إلى مناصحة المجاهدين على كافة المستويات, فالنصيحة ليست للقادة فحسب, بل القادة يحتاجون إلى أن نذكرهم بالله تعالى, ونطالبهم بوحدة الصف وجمع الكلمة, وننقل هذا المطلب الإسلامي العالمي الملح إلى كل الأطراف, وإلى كل الطبقات، وإلى كل الصفوف، حتى يكون هناك اتجاهٌ قوي داخل المجاهدين أنفسهم وفي جميع الأحزاب نحو وحدة الصف, وجمع الكلمة, والبعد عن الاختلاف والتناحر. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 31 صحة ما يقال في أحمد شاه مسعود السؤال سمعنا أن القائد أحمد شاه مسعود فيه كلام! فما هو رأيك؟! الجواب الواقع وصلتني أوراق كثيرة, لكن من الواجب علينا ومن عادتي، أن لا أتكلم إلا بعدما أتثبت بشكل واضح لا يقبل الجدل، والشك في مثل هذه الأمور, خاصةً وأن القضية فيها أطراف عديدة, فالإنسان يخشى أن يقع في مثل هذه الأمور فيما لا يرضاه الله تعالى، فالتثبت والتبين واجب وعدم المسارعة في تصديق ما يقال: حتى يبين على ذلك أدلة وشواهد عملية لا تقبل الجدل، أو حقائق لا شك فيها ولا ريب. ولم يثبت لي شيء من ذلك, وأنا أتكلم عن نفسي بطبيعة الحال. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 32 دور المسلمين تجاه أفغانستان السؤال ما هو دور الشباب المسلم تجاه أفغانستان هل هو محصور بتحقيق النصر وعدم الخلاف، أم أن هناك مساهمات أخرى في ذلك؟ الجواب أبداً، والله يا أخي, أنا أتصور أن المسلمين ينبغي أن يمارسوا دوراً كبيراً تجاه أفغانستان، فالذي يستطيع أن يتصل بالهاتف فعليه أن يتصل بهم, والذي يستطيع أن يرسل برقيةً أو خطاب فعليه أن يرسل, أو فليذهب بنفسه, أو يكتب كتاباً ويرسله مع أحد الذاهبين, كل ذلك للتأكيد على قضية أساسية واحدة، وهي ضرورة جمع كلمة المجاهدين وتوحيد صفهم وتجنب أي لونٍ من الصدام والخلاف فيما بينهم. الجانب الثاني والدور الثاني المطلوب: هو الدعم كما ذكرت, الدعم المعنوي وتبني القضية, والدعم المادي بالمال وغيره, والدعاء من أهم وأعظم الوسائل، فينبغي أن ندعو الله مخلصين أن ينصر الله تعالى الإسلام هناك, وأن يقر عيوننا بقيام دولة تحكم دين الله تعالى وتنشر شريعته. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 33 خطبة عن النصر في أفغانستان السؤال ما رأيك في الخطبة في صلاة الجمعة عن هذا النصر؟ وإذا كان هذا رأيك فما هي التعليمات التي تقترح أن تقال في الخطبة؟ الجواب الكلام عن هذا النصر طيب, وأقترح أن يركز على بعض المعاني التي سبقت, باعتبار أن أي كلمة الآن تقال يمكن أن تصل إلى أفغانستان, وأعتقد أنه لو خطب جماعة كبيرة من المسلمين عن هذا النصر وأرسلوا نداءً حاراً إلى إخوانهم المجاهدين هناك بجمع الكلمة, وتوحيد الصف، وتجنب الخلاف, وبالمطالبة بالأشياء الأخرى التي يحتاجها الموقف، أن هذا سوف يصل وحسب علمي أن إخواننا المجاهدين والقادة هناك يشتاقون إلى الكلمة التي يسمعونها من إخوانهم المسلمين، ومن هذا البلد خاصة. فلنقل هذه الكلمة ولنبذل فيها الجهد, ولنستفد من اجتماع المسلمين في مثل هذا الجمع, وفي الجُمَعْ وغيرها في دعاء الله تعالى أن ينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 34 التدخل الخارجي في أفغانستان السؤال ألا يخشى من تدخل خارجي في هذا الوقت, كتدخل الهند مثلاً؟ الجواب هذا من الصعب البت به الآن حتى تتطور الأحداث, فإذا كتب الله تعالى أن تنتهي الأحداث إلى حد وجود اتفاق بين المجاهدين، وتشكيل حكومة مشتركة؛ فإن الأمر يمكن أن ينتهي بإذن الله تعالى نهايةً طيبة. لكن إذا كانت الأخرى، وكان هناك تشتت، وصار السلاح الإسلامي يوجه إلى الصدر الإسلامي، فكل شيء ممكن، وكل شيء محتمل, وكل إنسان في هذه الغنيمة سهم, ونسأل الله تعالى أن يكف بأس الذين كفروا. الجزء: 207 ¦ الصفحة: 35 الأمة تمر بمرحلة جديدة في هذا الدرس تكلم الشيخان سليمان العودة ومحمد الفوزان حول موضوع الصراع مع العدو في هذه المرحلة، وكانت ندوة مشتركة، بدأت بمقدمة عن المواجهة وعلنية الصراع في المواجهة ووسائلها، بعد تعديدهما لوسائل الأعداء وأنواعهم ونظرتهم للمسلمين، ثم تمت الإجابة بين الشيخين بالتناوب عن طائفة من الأسئلة حول الموضوع. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 1 الأمة تمر بمرحلة جديدة إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، إمام المجاهدين، وسيد المتعبدين، بذل نفسه في ذات الله جل وعلا، وجاهد في الله حق جهاده، حتى أتاه اليقين من ربه، وقد رأى بعينه نصر الله عز وجل لهذا الدين، كما قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] . نعم أيها الأحبة: لقد أحببت أن يكون عنوان المحاضرة بذاته معبراً ودالاً على معنىً يفهمه من قرأه أو سمعه، حتى ولو لم يسمع مضمونه، إن الأمة تمر بمرحلة جديدة، وهذه القضية قضية مسلَّمة أو يجب أن تكون مسلَّمة للجميع، لا أظن أن هناك من يجادل في هذا، إلا أولئك الناس الذين انسلخوا عن الأمة، أقول: انسلخوا؛ إما بتبنيهم لمذاهب وأديان ونظريات وقيم مخالفة لما عليه أمتهم، كالعلمانيين، والحداثيين، واليساريين، والقوميين، وغيرهم، وحتى هؤلاء يوافقوننا على أن الأمة تمر بمرحلة جديدة، لكنهم يفسرون هذه المرحلة تفسيراً آخر، وإما إنسان قد رضي من الغنيمة بالإياب، وعزل نفسه عن الواقع، فأصبح لا يسمع ولا يبصر ولا يفكر ولا يعي ولا يشعر ولا يدري ارتفعت الأمة أم انخفضت، علت أم هبطت، عزَّت أم ذلَّت، فما دام أنه قد سلمت له دنياه، ومادام المرتب يقبض في آخر الشهر كاملاً غير منقوص، ومادامت المؤن والأرز والسكر والشاي والقهوة والطحين متوفرة، وما دامت الكهرباء والغاز متوفرة، إذاً فالأمة لا تمر بمرحلة جديدة؛ لأن المرحلة الجديدة عند هذا الإنسان هي أن ينفد الطحين، أو ينتهي السكر من الأسواق، أو ما أشبه ذلك، لأنه إنسان أصبح همه مقصوراً على شهواته الذاتية الخاصة، لا يعيش آلام الأمة ولا همومها، إنما يعيش آلام نفسه وهمومها، فلو بُخِسَ من دنياه شيئاً يسيراً لأقام الدنيا وأقعدها، لكن لا يضيره ما بُخِسَ بل ما بُخِسَتْ الأمةُ كلُّها من أمر دينه، فهذا قد ينازعنا أيضاً في أن الأمة تمر بمرحلة جديدة. وإلا فمن عدا هؤلاء من مختلف المشارب، والنظرات، والاتجاهات، والأفكار، والبيئات، يتفقون على أن الأمة المسلمة تعيش مرحلة جديدة، ووضعاً غريباً، لم يسبق أن عاشته قبل على كافة المستويات، حين نقول: مرحلة جديدة لا يجب أن تتصوروا أيها الأحبة أننا نقصد أنها مرحلة سلبية من كل جوانبها، أبداً، إنها مرحلة جديدة بسلبياتها وإيجابياتها، وخيرها وشرها، ونورها وظلامها، وحسنها وقبيحها، لكنها مرحلة جديدة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 2 مواجهة السلف الصالح للمستجدات يجب أن نواجه كل مرحلة بما يلائمها، وهذا ما تعلمناه من السلف الصالح رضي الله عنهم، فكانوا يجددون من القضايا والوسائل والطرائق، بقدر ما يستجد من التحديات والمشكلات. وأذكر لذلك مثلاً قد يكون شكلياً، لكن المقصود أن نعي أنه يجب أن نغير وسائلنا، بتغير وسائل الأعداء: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهود الصحابة أيضاً -كان الناس يختلفون في حكم كتابة الحديث النبوي- فمنهم من يقول بتحريم كتابة حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن الكتابة يجب أن تكون مقصورة على القرآن الكريم فحسب، حتى لا يختلط القرآن بالسنة ويحتج هؤلاء بمثل حديث أبي سعيد: {لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن، ومن كتبَ عنِّي شيئاً غير القرآن فليمحه} . وظل الناس يختلفون حتى كان من الصحابة من ينهى -ومن أشهرهم عمر - عن كتابة الحديث والسنة. وبعد ذلك مرَّ بالمسلمين تحدٍ جديد، وهو من جهة غياب ووفاة الأصحاب الذين لقوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وسمعوا منه مباشرة، وحاجة الناس إلى الكتابة والتدوين وضبط المصحف من جهة أخرى، بحيث أمن الالتباس، فصار هناك تحديات جديدة ترتبت على أن المحذور زال، وهو خشية اختلاط القرآن بالسنة، فما عاد يُخَافُ؛ لأن القرآن مضبوط في السطور والصدور، والأمر الذي حدث صار يُولِّد عندنا الخوف على السنة من أن تزول أو تنسى أو يضيع شيء منها؛ فلذلك ألهم الله عز وجل المسلمين كتابة السنة، بل والإجماع على جواز كتابة السنة، فقد اندرس الخلاف الذي كان موجوداً في عهد الصحابة وانقرض، وأجمعت الأمة على ضرورة إحداث وسيلة جديدة لتواجه المرحلة الجديدة، وهي كتابة السنة النبوية لمواجهة الأوضاع الجديدة التي طرأت على الأمة الإسلامية. هذا المثل الصغير يمكن أن نعمِّمَه في قضايا كثيرة جداً، كما أنك لا تواجه المدفعية والصاروخ والحرب المدججة، بالسيف والخنجر والسكين والحجر؛ كذلك لا يمكن أن تواجه خطط الأعداء الجديدة الطارئة بوسائل قديمة مألوفة لا بد من تطوير وسائل مواجهة كيد العدو، ولهذا كان الحديث عن أن الأمة تمر بمرحلة جديدة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 3 كيفية التعامل مع المرحلة الجديدة ويجب على طلبة العلم والدعاة أن يدركوا هذه المرحلة؛ حتى يتعاملوا معها تعاملاً مناسباً، فليس صحيحاً أن نكون دائماً متوقفين عند أساليب معينة للدعوة، وطرق معينة في الدعوة، ووسائل معينة في التبليغ، لا نعرف ولا نحسن إلا هذه الأشياء؛ يتغير الناس، وتتغير الدنيا، وتتغير أساليب الأعداء، ونحن على طرائقنا السابقة! هذا لا يصلح. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 4 خصائص المرحلة الجديدة ولهذه المرحلة التي تمر بها الأمة الإسلامية اليوم في أنحاء الأرض كافة، وفي هذه البلاد بشكل خاص، لهذه المرحلة خصائص وسمات ومظاهر، لعل من أبرزها وهي القضية الأولي التي سأتحدث عنها هي: الجزء: 208 ¦ الصفحة: 5 مبررات لعلنية الصراع هذا مظهر من مظاهر المرحلة الجديدة التي تمر بها الأمة وتمر بها الدعوة، وهذا المظهر يتمثل في علانية الصراع والعداء للإسلام، وقلت: إن هذه العلنية تنم عن أمرين: الأول: أن العدو يشعر بقوته وبضعفنا. والثاني: أن العدو يشعر بأن هذه مرحلة متقدمة من مراحل القضاء على الإسلام، قد تكون هذه آخر مرحلة؛ إما أن يترتب عليها انتصاره، وهذا يعني القضاء على الإسلام، أو يترتب عليها انتصار الإسلام وأهل الإسلام، وهذا يعني تراجع العدو سنين أو قروناً إلى الوراء. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 6 من مكائد اليهود لماذا لم نخض معهم معارك حاسمة؟ الجواب إن اليهود دائماً فيهم قلة في العدد، وربما ضعف في العُدة غالباً، ولذلك يتجنبون ساحات الصراع المعلنة، ما يقاتل في الشارع إنما يمين، ويسار، غيلة، غدر، خيانة، تخطيط، مؤامرة، دس، كل هذا يمارسونه ولذلك لو نظرت في الجانب الآخر من عمل اليهود، مثلاً: الفتن التي دارت في التاريخ الإسلامي كان اليهود وراءها، المؤامرات التي قامت دبرها اليهود، عمليات الاغتيال، كان لليهود فيها نصيب كبير، المذاهب والملل والنحل التي ظهرت كالرافضة مثلاً، والقدرية وغيرها كان اليهود من ورائها، يؤججونها ويضعون الحطب على النار، لكنهم لا يواجهون!! الخلافة العثمانية أسقطوها، لكن كيف أسقطوها؟ أسقطوها بالحيلة، والالتفاف من هنا ومن هنا، والخدعة، وتأليب العدو، وتحريك وتأليب الأعداء الآخرين، يقاتلون بالوكالة عنهم، واليهود سالمون! إذاً متى يظهر العدو؟ يظهر العدو عندما يحس بقوته وضعف خصمه؛ فحينئذٍ يعلنها صريحة، وكذلك: الظهور تقريباً هو آخر مرحلة، وهذه قضية خطيرة! ظهور الحرب من العدو هذه آخر مرحلة عنده؛ الآن هو يريد أن ينازلك في الميدان العام؛ فإما أن ينتصر عليك، ومعناه أنه حقق القضاء على الإسلام فيما يحسب ويظن، وإما أن تنتصر ومعنى ذلك أنه سيتراجع إلى الوراء ربما قروناً طويلة. وهذا يؤكد عليك أن تدرك فعلاً أهمية هذه المرحلة، وأن الصراع الآن بدأ يأخذ فيها طابعاً علنياً، سواء على مستوى العالم، أي: إن أعلنت الأمم موقفها من الإسلام، ممثلاً فيما يسمونه بالأصولية أحياناً، أو الإسلام المتطرف -كما يقولون- أو المتشدد، أو أي عبارة أخرى يستخدمونها ويقصدون بها الإسلام الصحيح، الذي يرفض المرونة خارج الإطار الشرعي، ويرفض المجاملة، ويرفض النفاق، فأعلن العالم شرقيه وغربيه وتنادت الأمم كلها بلا استثناء ضد هذا الإسلام، وعلى النطاق الداخلي لا شك أن خصوم الإسلام وهم كثير من علمانيين، ويساريين، وحداثيين، وأصحاب شهوات أيضاً -وهؤلاء يجب أن نضعهم في الاعتبار- أصبحوا الآن يعلنون مطالبهم، ويعلنون مآربهم، ويعلنون أمانيهم، التي كانت أمس تقال في كلام لين، وفي عبارات منمقة، وفي كلمات مستورة، قد يجهل الناس ما وراءها، اليوم أصبحت تقال بلغة أكثر وضوحاً، وأكثر صراحة، وأكثر بياناً وبلاغة، وأصبح يفهمها الكثير من الناس، وإن كان عندهم شيء أكثر من هذا. لأن الذي يقول لك اليوم نحن نريد هذه الأشياء وفق تعاليم الإسلام، ووفق شريعتنا السمحة، ووفق تقاليدنا الدينية، غداً سوف يقول لك: لماذا نتمسك بهذه التقاليد البالية؟! ولماذا نظل مصرين على أمور تعداها الزمان؟ ولماذا العالم كله يتطور ونحن باقون في مكاننا؟ ما أعني بكلامي أنهم أعطوك كل ما عندهم، لكنهم الآن مشوا خطوة إلى الأمام؛ في إعلان الصراع على الإسلام وأهل الإسلام. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 7 ملحوظة تاريخية ولذلك كنت أتحدث إلى الإخوة ونحن في الطريق، أنني توقفت وتعجبت من قضية تأريخية، قلَّ من رأيته أشار إليها، وهي أن الله عز وجل أشار في القرآن الكريم إلى اليهود وأنهم أشد الناس عداوة للذين آمنوا {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82] . ومع أنهم أشد الناس عداوةً للذين آمنوا؛ فهل تتذكرون معركة من معارك التأريخ الحاسمة الفاصلة المشهورة دارت بين المسلمين وبين اليهود؟ هل تتذكرون معركة؟ ما أتذكر، صحيح أن هناك معارك مشهورة واليهود طرف فيها، مثل غزوة خيبر أو بني قريظة لكن لم يكن هناك معركة بالمعنى الحقيقي؛ فبنو قريظة نزلوا على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أنزلهم على حكم سعد بن معاذ رضي الله عنه، فحكم فيهم بأن تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، وانتهى أمرهم بعدما خانوا ونقضوا العهد، وكذلك في خيبر: صحيح أنه حصل قتال، لكن لم يكن بذلك القتال الضاري القوي، إنما كان قتالاً على نطاق محدود، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام أقر أهل خيبر على مزارعهم، أقرهم عليها وقال: {نقركم فيها إلى ما شاء الله} يشتغلون بالزرع ولهم شطر ما يخرج منها، وهذا دليل على أنه لم تكن كلها فتحت حرباً، كما أشار إلى ذلك ابن القيم وغيره. وعلى كل حال هذه مسألة تأريخية ومسألة فقهية، إنما المقصود أنه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانت المعارك مع اليهود محدودة، لكن المعارك الكبرى بدر، وأحد، الخندق، وفتح مكة إلى غير ذلك من المعارك الشهيرة، كانت مع الشرك، ثم بعد ذلك المعارك مع النصارى، وهذه المعارك طويلة استغرقت جزءاً كبيراً من التاريخ، وظل المسلمون قروناً، عدوهم الأكبر اللدود هم النصارى، خاضوا معهم معارك ضارية، سواء في بلاد الشام، أو في مصر، أو في الأندلس، أو في غيرها، فكانت خصومتهم مع النصارى هي الخصومة الأقوى والأعنف. والفرس لهم مع المسلمين معارك، صولات وجولات، لعل من أشهرها القادسية، المقصود أن أقول لكم بالنسبة لليهود: معاركنا معهم محدودة لا أستطيع أن أتذكر اسم معركة شهيرة كبيرة حاسمة كانت الخصومة فيها علانية بين المسلمين وبين اليهود!! أريد أن أتساءل لماذا؟ مادام ثبت لنا في القرآن الكريم أن اليهود هم أشد الناس عداوة؟! الجزء: 208 ¦ الصفحة: 8 علنية الصراع بين الحق والباطل قضية علنية الصراع بين الحق والباطل: إن الصراع بين الحق والباطل أصبح علنياً، أو يوشك أن يكون علنياً في كل المجالات، أما مسألة الصراع بين الحق والباطل، فهذه قضية مفروغ منها، ولا أرى ما يدعو أن أتحدث عنها ألبتة، إنها قضية مقررة مفروغ منها!! سنة من سنن الله عز وجل، {دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة:251] {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل:45] هذه خصومة بين الحق والباطل، خصومة في ذات الله جل وعلا {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19] على كافة المستويات؛ فالصراع بين الحق والباطل سنة أزلية، ما أذعنت الدنيا لخير محض، ولا أذعنت لشر محض في أحلك الظروف، وحين يهيمن الكفر على الدنيا، كان يوجد فئة قائمة بأمر الله عز وجل، ولو قلت!! وفي الأزمان التي يستوثق فيها أمر الإسلام ويدين الناس لربهم، لا تعدم الأرض من فاجرٍ أو كافرٍ أو فاسقٍ أو منافق، إلا ما شاء ربك، فالصراع بين الحق والباطل معروف لا داعي أن نتوقف عنده. لكن الصراع أحياناً يكون صراعاً خفياً، وأحياناً يكون صراعاً علنياً في وضح النهار وتحت أشعة الشمس فربما في ظروف مضت كان الصراع مستتراً مستخفياً، يكيد وتكيد، والكيد غالباً يكون هو اللطف والتدبير الخفي، كما قال الله عز وجل: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] وقال أيضاً: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف:28] . فالكيد غالباً يطلق على التدبير الخفي، أما الآن فمع الكيد الخفي أصبحت ساحة الصراع علنية!! بمعنى أن التحديات التي تواجهها الأمة تحديات مكثفة معلنة، تستهدف الأمة الإسلامية في أعز ما تملك؛ في عقيدتها، في أخلاقها، في عفتها وكرامتها، في اعتزازها بدينها واستقلالها عن كيد أعدائها، والتبعية المطلقة لهم فهي تستهدف الأمة في وجودها في الواقع، وقد انتقلت المعركة من السر إلى العلن، لأن العدو في الماضي كان يحس بأنه ضعيف، وربما يرى أنه ليس من مصلحته أن يواجه. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 9 التكالب على الأمة الإسلامية أترك المظهر الثاني من مظاهر هذه المرحلة ليتحدث عنه أخي الشيخ:- محمد الفوزان. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: فقد تحدث الشيخ سلمان عن المظهر الأول: وهو العلنية، وأتى على كثيرٍ من هذا المظهر، ومن المظهر الثاني أيضاً، إلا أن التأكيد عليه أمر مهم، وهو مظهر التكالب، كما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: {تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، قالوا: أو من قلة نحن يومئذ يا رسول الله!؟ قال: بل أنتم كثير! ولكنكم غثاء كغثاء السيل} ونحن لسنا في مرحلة التداعي، بل تعدينا مرحلة التداعي، التداعي جاء من قبل مائة عام!! قبل قرنٍ من الزمان تداعت علينا الأمم، واستعمرتنا كما تقول، واحتلوا بلادنا احتلالاً صريحاً، لم يبقوا في العالم الإسلامي إلا أجزاء يسيرة كانت تتمتع بالعقيدة السلفية كمثل هذه البلاد، ماذا عملوا؟ لما وقعت الفرصة في أيديهم، أعدوا لها العدة الكبيرة حتى لا يفلت الزمام مرة ثانية، وخططوا الخطط الكبيرة التي سمعتم عنها الكثير وقرأتم عنها الكثير فيما يسمى بالغزو الفكري، وغُزيت البلاد فكرياً وإعلامياً واقتصادياً، وعمل لها مخططات طويلة الأجل بعيدة المدى ضاربة في الأمة في أعماقها، بحيث لا تستطيع هذه الأمة أن تنهض ومر الزمان سريعاً وهم يرقصون؛ لأنهم وجدوا ثمار هذه المخططات يانعة، وقد أنتجت. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 10 كيد الكافرين وكما يعملون التجارب في قسم الطب على الحيوانات -إذا أرادوا عمل مصل جديد، أو دواء جديد؛ أول ما يجربون، يجربونه على حيوانات، وينظرون هل هذا المصل الجديد وهذا الاكتشاف الجديد أَثَّرَ على الحيوانات سلباً وإيجاباً- عملوا العمل نفسه وبنفس الخطة في المجتمعات الإسلامية، فبدأوا يرصدون: عملنا كذا، ما هي آثاره؟ كذا وكذا مائة عمل، ألف عمل، ولديهم من المستشرقين ومن المخابرات ومن كل شيء ما يرصد: ما هي آثار هذه الخطط في المجتمعات؟ الجزء: 208 ¦ الصفحة: 11 الصحوة الإسلامية وفي نهاية هذا القرن حدث أمر آخر، حدث انبعاث في العالم الإسلامي، وانبعاث يتحرك بسرعة -كما تقول زعيمتهم- أسرعَ من تفكيرهم، تقول: إن الأحداث أسرع من تفكيرنا؛ ولذا علينا أن نتخذ خطوات حازمة، وأنتم تعلمون، وكلكم شاهد هذا: أي خراف ذبحتموها أو أي حيوان في آخر لحظة، تكون عنده صحوة الموت، يصحو فيها ثم يعود يهمد، هُم الآن وبكل تفاؤل، وبكل أمل، نقول: هُم الآن في صحوة الموت -إذا كنا على مستوى الأحداث- هم في صحوة الموت. لأن الأحداث فعلاً سبقتهم، كيف تعمل هذه الخطط، تغرق الأمة هذا الإغراق، ومع ذلك تنهض وتنتشر وتقوم وتعود إلى ذاتيتها، وتعود إلى دينها؟!! بعد مائة سنة من التخدير، تعود كأنها فتية إن هذا سر، كما أشار الشيخ هم في آخر لحظة، إما أن ينتصروا فيقضوا على الأمة وعلى تاريخها وعلى حضارتها، ويؤخروا تقدمها فترة طويلة، أو يندحروا إلى قرون عديدة، ليُصبح هذا القرن القادم، الذي نطمع إن شاء الله أنه هو قرن الإسلام، وهو قرن الانتصار، وهو قرن الصحوة، وهو قرن الإسلام بإذن الله. الذي لم يكن لديه تصورات سابقة صحيحة، وعلى رأسها العقيدة السلفية، إذا حدث له حادثة انزعج، واختلت موازينه، فلا يعرف يقيم، ولا يعرف يعادي، ولا يعرف يوالي، ولا يعرف من هو العدو الدائم، ولا العدو المؤقت ولا شئ! تختل الموازين لديه!!!! أخوك شقيقك وإن أخطأ عليك، إلا أن عداوته مؤقتة، يعود ينظر رحمه وجلته، فيعود إليه رشده يوماً من الأيام، لكن الذي يختلف معك في الدين، هذا عداوته دائمة، خصوصاً إذا كان يدعو إلى ملته ونحلته، ولهذا تكالب علينا الأعداء، تكالباً إذا قلنا: إنه لم يحدث على مدار التاريخ مثل هذا التكالب، فلسنا مبالغين، ومع ذلك نحن متفائلون، ولكن هذا التفاؤل يجب أن يتبعه عمل، وما لم يتبعه عمل فإنه لا يحقق شيئاً. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 12 آثار هذا التكالب التكالب علينا اليوم من كل مكان؛ من الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، وأمر عجيب جداً، تكالب على الأمة الإسلامية، حتى وصل التكالب إلى تمزيق شعوبها، وإذكاء العداوة بينهم، لقد كان -وكما تعلمون- في السابق يختلف حاكم مع حاكم آخر، دولة مع دولة، لكن تبقى الشعوب الأمور بينها مفتوحة ولكن هذا التكالب الجديد استطاع بوسائله الكثيرة أن يحرك ضمائر الشعوب وقلوبها، وأن يثير العداوات بينها، وحتى الذين يرفعون لواء الدعوة، اختلطت عندهم الأوراق، لماذا؟ كما أسلفت سابقاً، لاختلال الميزان الأصلي وهو ميزان العقيدة!! فلما اختل، اختلت معه الموازين الأخرى، ولهذا مثل هذه الأحداث دعوة للأمة لمراجعة أفكارها، ومراجعة عقائدها، ومراجعة أصولها وثوابتها. هذا التكالب الذي ظهر من كل الأطراف: الأطراف المشجعة، المسالمة، المصفق لها، المنافقة، في الحقيقة استأسدت وظهرت تتكلم بجرأةٍ لم تكن تتكلم بها من قبل! على المستوى الداخلي والخارجي، أطراف كانت مسالمة، حتى اليساريين قبل الأحداث بقليل في كل صحفهم، سواء كانت في الكويت، أو في مصر، أو في كل مكان -كانوا يتحدثون عن التعددية، وكيف نجتمع مع الإسلاميين؟ وكيف نعمل أحزاباً متماثلة؟ وهكذا إلى آخره، الآن انظر إلى صحفهم! اختلف المجال تماماً، أسوأ من ذي قبل، حتى كتبوا تقارير عن الجماعات الإسلامية وغيرها، والنشاط الإسلامي: كتبوها باللغة الإنجليزية، كأنهم يؤلبون الأعداء على هذه الجماعات بالسر، كما قال الشيخ: نفاق، عندنا هنا يكتبون كتابات طيبة، ولنتعاون ولنتفق ولنوجد تعددية سياسية إلى آخره، الآن كشَّروا عن أنيابهم، وأحسوا أن الفرصة مواتية، وتلاحظون هذا واضحاً في صحفهم وكتاباتهم ومقالاتهم إلى آخره. لا أريد أن أذكُر ما تسمعونه كثيراً، فلا يحتاج أن أذكر لكم الاتفاقات الموجودة، لا في السوق الأوربية، ولا في الأحلاف، لكن هذه الأشياء يرددها الإعلام صباح مساء، وجاءت متكالبة بشكل عجيب جداً وكأنها ممكنة. هذا المظهر الثاني من مظاهر مرور الأمة بالمرحلة الجديدة أترك المظهر الثالث لفضيلة الشيخ ليحدثكم. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 13 العمل على تفكيك البنية الاجتماعية للمسلمين لو سألنا أيها الإخوة سؤالاً لعله بدهيٌّ، لكنني أريد أن أخرج منه إلى ما أقول. السؤال ما هو هدف الأعداء من كل ما يعملون؟ لا داعي لأن نتلمس الإجابة عند فلان أو علان، أو تختلف وجهات نظرنا في الموضوع، نرجع إلى القرآن الكريم لنجد الجواب الإلهي الرباني، وكل مسلم يؤمن بهذا القرآن، فلا بد أن يصدق به. الجواب {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء:89] . "الجواب" {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] . هذا كلام الله جل وعلا {وَلَنْ تَرْضَى} [البقرة:120] لن: نفيٌ مُطلق، لا يمكن أن يرضوا أبداً بحال إلا إذا تحققت هذه الغاية {حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120] إذاً رقم واحد: نستطيع أن نقول الهدف الأعلى لكل هذه الحروب والمعارك والصراعات والمقاومات والمخططات، يتلخص في كلمة واحدة وهي إخراج المسلمين عن دينهم! الجزء: 208 ¦ الصفحة: 14 قضية الاختلاط هذا المثل الصارخ الذي قد تشمئزون منه أنتم، انقلوه إلى صور أقرب من هذه، وصور أقل من هذه، قد يوجد نظام، مثلاً: يمنع الاختلاط، والاختلاط هو ذريعة الزنا، كما هو معروف، فماذا يصنعون؟ أول ما يصنعون أنهم يُكثرون من الخرق، خرق هذا النظام في المدرسة الفلانية، وفي الحرم الجامعي الفلاني، وفي المكان الفلاني، وفي المؤسسة الفلانية، وفي الشركة الفلانية، وفي وفي المهم أصبح الناس يألفون القصص والأخبار التي تتحدث عن خرق هذه الأنظمة، وجود اختلاط هنا وهنا وهنا بعد سنة سنتين ثلاث، يصبح هناك ضرورة في نظر الكثيرين داعية إلى تغيير النظام الذي يمنع، بحيث يسمح بهذا الأمر، حفظاً لهيبة النظام، ومن أجل أن تكون الأمور طبيعية، وأصبح هذا الأمر اعتيادياً، فلا تستطيع أنت أو غيرك أن تقول: لا؛ لأن هذا يشهد بقوة القرار الذي صدر ويؤيده، بعد ذلك تنتقل المعركة إلى خطوة ثالثة، ورابعة، وعاشرة، ولذلك تجدون الآن أن هناك تحركاً على أكثر من صعيد لتمزيق وتغيير وضع المرأة المسلمة. مثلاً: خلط الرجل بالمرأة في الجامعة، مطالبات، وهمسات، وكتابات صحفية، وبدايات في عدد من المؤسسات، والجامعات، إذا وجد اختلاط، هذه تعتبر بداية، يعتبرونها بداية مشجعة، يمكن إذا مرَّت بسلام أن يكون لها ما بعدها، تنتقل مثلاً إلى قضية الخطوط مثلاً، فتجد عدة تجاوزات، سواء في إسكانات المضيفات، أو في أوضاعهن في الطائرات، أو حتى أحياناً تصوير بشكل معين، أو إيجاد بطاقات للنساء. تنتقل إلى مجال ثالث -مثلاً- تجد في مجال الإكثار من قضية الحفلات المختلطة، والتدريب على الرقص والسباحة ومباريات المسابقات، إلى غير ذلك، تنتقل إلى المستشفيات فتجد عالماً آخر غريباً، كأنه جزء من غير المجتمع الذي يعيش فيه، فيه من الاختلاط، فيه من السفور، فيه من التبرج، فيه من ظهور المرأة بزينتها؛ الشيء الكثير، تنتقل مثلاً إلى مجال الفن والأدب والإعلام، تجد مسرحية هنا، ومسرحية هناك، ورقصات فلكلورية شعبية، يختلط فيها الرجال بالنساء، تنتقل إلى مجال الصحافة تجد ضرباً على هذا الوتر، تنتقل إلى مجال التمريض، فتجد مثل ذلك وأكثر منه، وتوسع في هذا الباب بشكل يؤكد أن القضية مقصود منها بالذات إخراج المرأة، حتى أصبحنا نسمع أصواتاً تنادي لماذا لا ندرب المرأة على السلاح الخفيف؟ لأنه من الممكن أن يذهب الرجل إلى ميدان المعركة، وتبقى الجبهة الداخلية للمرأة، لا بد أن تدافع عن نفسها، كذلك لو ذهبت لتمرض هؤلاء المقاتلين، فإنها قد تواجه موقفاً تحتاج فيه إلى الدفاع عن نفسها، لماذا لا ندربها على السلاح؟ لماذا لا ندربها على أمور الدفاع المدني مثلاً؟ إذاً تجاوزٌ هنا وهنا وهنا!! شركات النقل الجماعي، الخطوط، الإعلام، يمين، يسار، ويصبح الأمر كما قال الشاعر: تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٍ ما يصيدُ فلو كان سهماً واحداً لاتقيتُه ولكنه سهمٌ وثانٍ وثالثُ أقول: ورابع، وعاشر، وعشرون، ومائة، فكل هذه تؤكد أن هناك تحركاً قوياً لإخراج المرأة من بيتها، وليس المقصود المرأة فقط، بل المجتمع كله، هذا مجرد مثال. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 15 تأجيج العداوات والعصبيات لو انتقلنا إلى ما هو أوسع إلى المجتمع لوجدنا الأمر الذي أشار الأستاذ الشيخ محمد إلى طرف منه، وهو قضية تمزيق المجتمع، لا أقول تمزيق الشعوب الإسلامية، هذا أمر أصبح الآن ظاهراً مشهوراً، لو سألنا الإخوة الحاضرين، لوجدنا أننا كلنا قد استجبنا لهذا الداء، فأصبحنا نجد في المجالس والحديث العام -مثلاً- الجنسية الفلانية، والجنسية الفلانية، وأن هؤلاء لا خير فيهم، وهؤلاء مجرمون، وهؤلاء لصوص، وهؤلاء وهؤلاء وهم يتكلمون عنا أيضاً، فأصبحت عداوات متشابكة! القضية التي نعنيها قضية العداء داخل الشعب الواحد، ونحن لا نقول: الشعب الواحد، لأن الإسلام هو الرابطة وليست الجنسية، لكن مع ذلك تجد الشعب الواحد المسلم قد أصبحت العداوات تلعب فيه لعباً، أصبح هناك جهود قوية لتدعيم وتعميق العداوة، مثلاً: بين الكبير والصغير، بين الرجل والمرأة، بين المدني والعسكري، بين المسئول والمواطن، بين كل طرف وكل طرف، يحاول زرع عداوات عميقة، وثقوا أن هذه العداوات سوف تستخدم لتحقيق مصالح أعداء الإسلام، لأنهم يريدون أولاً أن يهزوا البنية الاجتماعية، يهزوا التلاحم والترابط الموجود بين المسلمين، حتى يستخدموا هذه الورقة كما يشاءون، وكما يريدون. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 16 من أحوال المرأة المعاصرة أستطيع أن أقول لكم: إن المرأة في العالم الإسلامي تعيش أوضاعاً لا توجد ولا حتى في أوربا، مررت ببلد إسلامي عريق، عدد سكانه يزيد على مائة وثلاثين مليون مسلم، والله إن العاهرات والداعرات على قارعة الطريق تشير للغادين والرائحين بكل صفاقة وقذارة وبذاءة!! وأمور تشمئز منها حتى الجاهلية! الكافر لو بُعث لما أطاقها فضلاً عن المؤمن الموحد!! أما من يذهبون إلى شواطئ البحار فهذا أمر آخر، دعك من الذين يذهبون إلى دور السينما، دعك من أماكن الدعارة الرسمية المرخص لها في عدد من البلاد كبير، دعك من هذا كله، لكن المهم أن هذه البلاد هي التي لا زالت تحتفظ بقدر لا بأس به من المحافظة، وهم دائماً يملكون خطة أنهم يشيعون قدراً معيناً من التسيب، ثم يطالبون أن يكون هذا التسيب أمر منظماً. أضرب لكم مثلاً: في مصر كان هناك دعارة، منظمة رسمية معلنة سابقاً، يؤخذ تراخيص لأماكن الدعارة، ثم جاء وقت من الأوقات أغلقت ومنعت هذه الأشياء، فكان عدد من الصحفيين، يطالبون بإعادة بيوت الدعارة!! لماذا تطالبون؟ هل أنتم من روادها؟ قالوا: لا. هم طبعاً معروف وضعهم، لكنهم يقولون: لا لسنا من روادها، لكن نحن نقول: إذا وجدت دعارة منظمة، يضمن الإشراف الصحي عليها، حتى ما تنتشر الأمراض والأوبئة، ويضمن أخذ الرسوم الجمركية، إن سميت رسوماً، أو ضرائب، ويضمن ترتيب الأمور، ويضمن ألا يلجأ الناس إلى المداخل، وإلى الاغتصاب، وإلى الاختطاف، وإلى الشذوذ المهم يأتون بمسوغات. فهم أولاً: أشاعوا الرذيلة، وبعدما أشاعوها جعلوها أمراً رسمياً. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 17 المرأة في أتون الصراع تمزيق المجتمع الكلام فيه يطول، ولا أريد أن أستأثر، ولكن أضرب لكم أمثلة، مثلاً: قضية المرأة، تنظيمات وتشريعات الإسلام في المرأة متميزة، أي أن المرأة عالم آخر غير الرجل، في البيت: لها مكان خاص، مدخل خاص، مخرج خاص في المسجد: لها موقع خاص في المدرسة، في الشارع، في الملابس، في الأحكام المرأة متميزة عن الرجل: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] في كثير من الأمور بتميز كامل المرأة عالم، والرجل عالم آخر، صحيح بينهما روابط وعلاقات وود متبادل، لكن يبقى: {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} [آل عمران:36] لم يطق الكفار أن يروا المرأة المسلمة تلبس البشت، والعباءة، وتغطي رأسها ووجهها بالجلباب، وقد قرأت في تقارير غربية يقولون: إن رؤية المرأة بهذا الشكل، لا تتيح لك كثيراً من الخيال، معنى كلامهم لا تستطيع أن تتخيل كيف وضع المرأة في بلاد المسلمين، الصورة أمامك، امرأة تمشي في الشارع، ما ترى منها شيئاً من أم رأسها إلى أخمص قدميها. حتى إذا وجد عندهم حالات نادرة أن الفتاة لا تعاشر رجلاً بالحرام، أهلها يعتبرونها مشكلة! ويذهبون بها إلى الطبيب! فهم قوم من طينة أخرى، شكلٍ آخر، تاريخ آخر، عقلية أخرى، أخلاقية أخرى، أما النساء المتزوجات، فنسبة (70%) من النساء المتزوجات عندهم على علاقة غير شرعية على علاقة مع رجل آخر، فما يطيقون هذا الوضع بالنسبة للمرأة المسلمة، وهذا الوضع يهددهم، مع أننا ضعفاء نحن المسلمين، وما عندنا دعوة جادة إليهم، ولسنا الآن نملك حضارة، نستطيع أن نفرضها على العالم، ولسنا نملك القوة، لكن مجرد وجود نمط متميز من وضع خاص للمرأة، هذا يخيفهم وفي نفس الوقت، يخيف أذيالهم المندسين في صفوفنا، يخيف العلمانيين، يخيف الحداثيين، اليساريين، أصحاب الشهوات: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] . إذاً لا بد من إخراج المرأة عندهم، ويستدلون على ما يريدون بأنه وفق تقاليد ديننا الحنيف، وشريعتنا السمحة!! ووفق الموروثات، وعمر رضي الله عنه يقول، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يقول والله تعالى يقول، وكل هذه الأدلة والعبارات تستخدم من قبلهم في مرحلة معينة! المهم نحقق ما نريد، هذا منطقهم، مسألة إخراج المرأة، أو مسألة تحرير المرأة، كما يعبرون، يعتبرونها قضية مصيرية يراهنون عليها، لا بد أن نرمي بثقلنا لإخراج المرأة، ولا شك أنكم تعرفون أن وضع المرأة في العالم الإسلامي كله -والله المستعان-، وضعٌ غير مرضي عنه. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 18 مراحلهم في تحويل المسلمين عن دينهم ولذلك أقول بصراحةٍ تامة: "من حقهم أن ينذعروا ويخافوا من الإسلام، ويعملوا على تحويل المسلمين عن دينهم إلى الكفر بشتى ملله" هذا مبدأ ربما توقفت عنده بعض الشيء؛ لأنني أعتبر أنه منطلق مهم فمهمٌ جداً أن ندرك أن الهدف النهائي لهم إخراج المسلمين من دينهم، لكنهم ليسوا أغبياء، ولذلك يقولون هم وغيرهم "ما لا يدرك كله لا يترك جله" وليس صحيحاً أنني آتي لمسلم متعبد، مقيم للشعائر، غيور "تستطيع أن تقول: مسلم قوي الإيمان والإسلام"، ثم أريد أن ينتقل من ذلك إلى كفر صراح بواح، هم يمشون بخطوات؛ فالخطوة الأولى: أنهم بُلُوا -وهذه من نعم الله عز وجل- أن خيراتهم في بلاد المسلمين، فهذا البترول الذي تنعم به البلاد الإسلامية، وتحتوي أراضيها على أكبر رصيد في العالم له هو الذي تَحكَّم في العالم كله، لا في اقتصاد العالم فقط، ولكن يتحكم في العالم كله: اقتصاده وسياسته وتصنيعه، وكل شئ!! ولو توقف البترول لانشلت حضارة العالم، وهذا البترول هو من ممتلكات المسلمين التي وهبهم الله عز وجل إياها، فهم ينزعجون لذلك أشد الانزعاج، حتى إنني قرأت وسمعت في بعض التقارير والعياذ بالله أنهم يقولون: إنهم كانوا يفكرون في أن هذه الثروة العظيمة عند المسلمين، يجب النظر فيها ويقولون بلغتهم هم: يجب تصحيح خطأ الإله!!، والعياذ بالله الذي وضع هذه الثروة عند قوم لا يستأهلونها ولا يستحقونها، كان يجب أن تكون هذه الثروة في بلادهم، هذا موقفهم، ولا شك في صفاقة هؤلاء القوم وكفرهم العظيم بالله جل وعلا، فلا يستغرب منهم مثل هذا الأمر، فقد أعلنوا الكفر صراحاً بواحاً، قبل ذلك بدهور وقرون. المقصود أن المسلمين يتحكمون في مصير العالم، ليسوا أمة على هامش التاريخ الآن! حتى مع كونهم أمة ضعيفة، فكان من أهم الأهداف المرحلية للأعداء أن يضمنوا مصالحهم الحيوية، سواء كانت مصالح اقتصادية، أو مصالح سياسية أو غيرها، فإن تحققت لهم مصالحهم فإنهم لا يكتفون بهذا ينتقلون إلى خطوة وراء ذلك، وهي أنهم يريدون أن يستمر هذا الضمان، بمعنى أنهم بدءوا بالوقاية، الآن يقول لك: صحيح أن مصالحنا مضمونة، لكن نخشى أن يأتي تهديد يوماً من الأيام يهدد هذه المصالح، من أي جهة كانت. إذاً لا بد أن نضع الأساليب الوقائية التي تضمن أن تظل هذه المصالح جارية دون توقف، فإن تحقق لهم ذلك انتقلوا إلى خطوة ثالثة، وهي أن مجرد وجود المسلمين بتجمعهم وتكاتفهم واتحاد كلمتهم، وكونهم يشكلون مجتمعاً متميزاً بأخلاقيات معينة، وشكليات معينة، ومظاهر معينة ورسوم معينة، وعقائد معينة هذا يشكل خطراً علينا لأنه يجعل هناك مجتمعاً يمكن أن يكون نمطاً لحضارة جديدة. إذاً لابد من تفكيك البنية الاجتماعية للمسلمين، هذا الذي أستطيع أن أقول أنه المظهر الثالث من مظاهر الحرب الجديدة، هو العمل على تفكيك البنية الاجتماعية للمسلمين، وتمزيق المجتمع. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 19 سبب خوفهم من المسلمين لا يرون إنهاء المسلمين إلا خيراً لهم، لماذا؟ لأن وجود المسلم خطرٌ عليهم وما لم نعِ هذه الحقيقة -أيها الإخوة- فنحن نعيش في غباء وغفلة وغيبة عن الواقع! ألا تلاحظون -أيها الإخوة- أن المسلم الصادق الآن هو الطرف الوحيد الذي بقي متمرداً على خطط الأعداء، الآن اليوم تسمع حرب في أقصى الدنيا أو المشرق أو المغرب، في فيتنام أو في أي مدينة أو أي دولة من دول العالم، وحروب طاحنة، وتسمع الأخبار على مدى سنوات، كذلك في بعض الدول الإسلامية أو التي كانت إسلامية، مثل لبنان وسواها، قد تسمع حرب ضارية، ودماء تسيل، والأخبار تتصدر الصحف، توجد دول لا نعلم في أي مكان في الدنيا، نيكاراجوا، في أي مكان وهكذا، فالحرب في الدنيا كثيرة هذه الحرب المشتعلة، اليوم مشتعلة وغداً تنتهي وتتحول إلى رماد؛ لأن هؤلاء المقاتلين، عبارة -كما يقولون- عن أحجار على رقعة الشطرنج!! يحركهم اللاعب، فإذا أراد أن يسكن الأمر، توقف وتوقفت الحرب؛ ولذلك تنتهي الحروب في يوم وليلة، لكن إذا كان في الحرب طرفٌ إسلامي، انظر ما الذي يحصل، تستمر الحروب، وتتفق إرادة روسيا وأمريكا على إيقافها، ومع ذلك تظل الحرب مشتعلة، ولعل أبرز مثال قضية أفغانستان، الآن ظهرت القضية واضحة، أمريكا وروسيا، متفقتان على قضية أفغانستان، وقد التقتا على حل واحد، ولكن مع ذلك الحرب لا تزال مشتعلة، ولا يزال أوارها يحرق الأخضر واليابس، لماذا؟ لأن في الحرب طرفاً ليس خاضعاً لروسيا ولا أمريكا، وهو الطرف الإسلامي، إذاً من حقهم -أيها الإخوة- أن يخافوا من الإسلام؛ لأن الإسلام هو المتمرد عليهم دائماً وأبداً، وحملة رسالة الإسلام هم الذين يرفضون الولاء للشرق أو للغرب؛ لأنهم أعطوا ولاءهم سلفاً لله عز وجل ولرسوله وللمؤمنين، ورضوا أن يحيوا ويموتوا في سبيل الله، وقال قائلهم: الموت في سبيل الله حياة. رضيت في حبك الأيام جائرةً فعلقم الدهر إن أرضاك كالعذب ولو ملكتُ خياري والدنا عرضت بكل إغرائها في فنها العجب لما رأت غير إصراري على سنني وأعادها اليأس بعد الهد والنصبِ قلبي خليٌ عن الدنيا ومطَّلبي ربي فليس سراب العيش من أدب هؤلاء الذين تعلقت قلوبهم بالآخرة، وبالجنة، بالنظر إلى وجه الله الكريم، بالتمتع بالنعيم الذي أعده الله تعالى للمؤمنين، هؤلاء هم الذين أربكوا مخططات الشرق والغرب، وأعجزوا اليهود والنصارى والمشركين وحيرَّوهم. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 20 إبعاد العقيدة عن ساحة المعركة هكذا يجب أن نفهم هذا الأمر ببساطة ومع الأسف فإن المضللين اليوم أصبحوا يشككون الأمة حتى في البدهيات، ونسينا دوافعهم العقائدية الدينية، وأصبحنا نردد خلف غلمان الصحافة والإعلام كلماتٍ جوفاءَ لا معنى لها، لازلنا نسمع الآن بآذاننا أخبارهم: هدم المساجد وإقامة المعابد في مكانها، ومازلنا نشاهد بأم أعيننا أخبار ذبح المسلمين كما تذبح الخراف. وربما رأى بعضكم ما حصل في عدد من بلاد العالم حين -وهذا موجود مصور الآن ثابت- كانوا يدخلون عليهم وهم يصلون الجمعة، فيرشونهم رشاً، ويبيدون خضراءهم، ويقضون عليهم عن آخرهم، حتى ربما انجلت معركة من هذا القبيل وليست معركة في الواقع، لأنها ضربة من طرف واحد! ربما انجلت عن خمسمائة أو ألف قتيل في مسجد واحد وهم راكعون أو ساجدون كما حصل في سيريلانكا، وغيرها!! إذاً العداوة ظاهرة، الحرب دينية، بطرس الناسك الذي كان يجول شوارع أوروبا ويدعو الناس إلى الحرب ضد الإسلام، هو نفسه ما زال موجوداً لكن بدلاً من أن يركب حماراً أصبح يركب طائرة! واليهود الذين كانوا بالأمس يتنادون لثارات خيبر هم يهود إسرائيل اليوم! والشيوعيون الذين قتلوا في عام واحد أكثر من ثلاثة ملايين مسلم فيما يسمى بالجمهوريات السوفيتية هم الشيوعيون اليوم الحُمْر! والمشركون الوثنيون، الذين هم من أشد الناس عداوة للذين آمنوا هم مشركو اليوم! الذي تغير اليوم هو لهجة الخطاب، أصبح الناس مهذبين، لو مررت من عنده فضربك بطرف كتفه، لرجع إليك يمسح على ظهرك، ويقول لك: آسف آسف، يعتذر لكن لا مانع عنده في نفس الوقت أنه يتدرب على كيفية صناعة الرشاش والمدفعية، حتى يصوبك بها من بعيد، ويقتلك ويقتل أهلك من ورائك، تغير الأسلوب، الإنسان المهذب الذي بقي لك عنده قرش أو ريال يبحث عنك حتى يوصله إليك، لا مانع أنه يرسم مخططاً لسرقة بنك. إذاً يجب أن نتفطن لهذه الأمور، لا نقرأ بعيوننا فقط! لا، يجب أن نقرأ ويكون عندنا خلفية شرعية نفهم بها الأمور، نفهم بها الحقائق. لا تظن أن التقدم والحضارة والرقي المادي والتصنيع، أنه غيَّر من عقلية الرجل الكافر شيئاً، لا!! هذا العداء الذي يحمله الكافر للمسلم باقٍ بحاله، لكنه أخذ طابعاً معيناً ووضع عليه غلاف جميل، جذاب، مزوق، بحيث أنك أصبحت أيها المسلم -بحكم أنك صريح وواضح- حين تقول: إن هذا كافر، يقال لك: هذب ألفاظك كافر!! لماذا أنت هكذا دائماً غليظ وعباراتك قاسية؟ لفظة كافر لفظة سب ما تليق! هو يختلف معك لكن هو يرى أن ما هو عليه صحيح، وأنت ترى ما أنت عليه صحيحاً، إذاً لا ينبغي أن تقول هذا! هذا منطقهم، يُريدونك أن تستخدم نفس أساليبهم، هو يكيد لك ويضمر لك عداءً مستحكما، لكنه يبتسم في وجهك، ويربت على كتفك، ويحسن إليك، ويعاملك بلطف، وهو في نفس الوقت، يسن خنجراً ويسمم السكين حتى يذبحك بها، ليس هناك مانع، ولذلك يقول الشاعر الذي يتعجب من حالهم حين كان لا يعرف حقيقة أمرهم، يقول: قتل امرئٍ في غابة جريمةٌ لا تغتفر وقتل شعبٍ كاملٍ مسألةٌ فيها نظر يعني هم يكيلون بمكيالين: المكيال الأول: للمسلمين، فالمسلمون عندهم أرقام بلا رصيد، مُسلم أو مائة أو ألف أو عشرة آلاف، أو مائة ألف، أو مليون مسلم، لا يشكلون شيئاً، ثم تخفيف ورحمة! الجزء: 208 ¦ الصفحة: 21 السلاح السريع المظهر الرابع من مظاهر هذه المرحلة الجديدة: أن الحرب هذه مدججة بالسلاح السريع، ولو نظرنا إلى تاريخ الإسلام الطويل وإلى تشريعه، لوجدنا أن المسجد والبيت والحلقة والمدرسة والشارع والسوق كلها يدعم بعضها بعضاً، لا يمكن أن يحصل هناك تناقض، بين ما يتلقاه الطفل من أبيه وأمه، وما يتلقاه في حلقة التعليم والكتاب، أو في المدرسة، ولا يمكن أن يوجد تناقض بين ما يتلقاه من هنا، ومن البيت، ومن الحلقة، وما يتلقاه في المسجد، كذلك لا يمكن أن يوجد تناقض بين هذا وبين ما يتلقاه في شارعه، وفي سوقه، كذلك لا يوجد تناقض بين ما يسمعه، ويقرؤه، ويراه، من أخبار حكامه وسلاطينه، ووزرائهم وقضاتهم، لكن هذه الحرب الجديدة جاءت تحمل معها سلاحاً حديثاً عجيباً من كل طرف. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 22 أسلوب التنظيم والإدارة أيضاً عندهم أسلوب التنظيم والإدارة والتكتيك، وهذا شيء ومع الأسف الشديد، أنهم تفوقوا علينا فيه تفوقاً كبيراً فجاءوا من كل ناحية، فإن خرجت في الشارع قابلوك في الداخل: في البيت، في المدرسة، في السوق، في محلك، في صندوق بريدك، في كل شيء، أتوك بهذا الشكل. مما جعلك تحس أن المسألة أكبر من حجمك الطبيعي، وهذا من كيدهم، قال تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] . هذه أهم من الحرب المدججة بالسلاح، لأن هذه الحرب تواكب الحرب -حرب القنابل والطائرات- وجاءت معها؛ لأنها هي الممهد الحقيقي، الذي عمل سنوات، والآن جاء عمل بقوة، لم نكن نتصورها، فمثلاً سيكون هناك بث مباشر، سيكون هناك بث من باخرات معينة، سيكون بثاً موجهاً فقط للعالم الإسلامي، ولهذه البلاد بالذات؛ لأنها -كما يقولون- هي مهد الأصولية، لا نستأثر بهذا الحديث ونهول من أعمال أعدائنا، وننظر في الأهم من ذلك، وهو كيف نواجه هذا الواقع المؤلم؟ هذا الواقع المر؟ ألا من عمل؟ ألا من خطط؟ ألا من رأي؟ كل هذا ممكن. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 23 الإعلام ومن أبرز هذه الأسلحة التي استطاعت -أو حاولت- أن تعمل على خلخلة البنية الاجتماعية -كما أشار الشيخ-: الإعلام بكل وسائله، جاء مواكباً مع من يحملون السلاح، وتأكيداً على ما سبق أنهم لا ينظرون إلى وقت قصير، بل جعلوا هناك شيئاً اسمه القناعة، فأنت إذا أردت أن تؤثر على الناس لابد أن تكسب ثقتهم ورضاهم، ما الذي عملوا هم؟ عملوا إذاعات لسواد عيون المسلمين ولمصلحتهم!! تسمع إذاعة لندن، وصوت أمريكا، تسمع من هذه الإذاعات، هذا على المستوى الخارجي، ونجد أن عليها إجماعاً عربياً وإسلامياً أنها أصدق القوم مونتكارلو، فمن أين نأخذ أخبارنا، ونستقيها؟! أخبارنا نستقيها من أعدائنا؛ لأننا حدنا؛ لأن الإعلام الداخلي والإعلام الإسلامي ما قال الحقيقة!! إما أن يقول نصف الحقيقة أو أن يقول غير الحقيقة، وإذا تكشفت الأمور، أصبح الإنسان لا يثق بالإذاعة الفلانية ولا الصحيفة الفلانية ولا المكان الفلاني، فبدأت الثقة في العدو، هذا أول كسب كسبوه، فأصبحنا من أين نأخذ تحليلنا، من لندن، أو مونتكارلو، أو إسرائيل، أو صوت واشنطن إلخ، هذا جزء من الحرب. الجزء الآخر ما يعدون له، وما يرونه قريباً: البث المباشر، الذي يعتبرونه سلاحاً قوياً ونفاذاً في خلخلة وتغيير البنية الاجتماعية، وإيجاد ما يظنون، لأنك إذا فتحت التليفزيون ترى هذا، وإذا فتحت الإذاعة الفلانية، تقول كذا، وذا يقول كذا، مع كثرة ترديد الكذب، كما قال هتلر: ردد الكذب مرة، مرتين، وخمس، حتى يرى الناس أنه صدق! تسمع التقرير في لندن، متوافق مع مونتكارلوا، متوافق مع صوت أمريكا، أو متوافق مع إسرائيل، وهو الذي يأتيك في الصحيفة الفلانية، المكان الفلاني، إذاً هذا خبر صدق، وتحليل صادق! لولا أنه صادق، لما أجمعوا عليه! ولهذا جاءت الحرب بسلاح حديث، المسلمون ليسوا على مستوى المواجهة، لأنه حتى لو كان عندك إذاعة، قالت: أنا ما أذيع إلا الحق من أين تأخذ؟ وكالات الأنباء كلها بأيديهم، فاستخدموا هذا السلاح من أجل ضرب المسلمين أيضاً في الداخل وضعوا عدداً من الصحف، وإذا كان أهل الداخل لا يريدونها، فماذا يعملون؟ يضعون اسمها خارجياً، وهي تصدر داخلياً، تجدها في لندن، ولكنها تأتي في الفاكس والأقمار الصناعية لتطلع في جدة أو في أي مكان آخر، المهم أنها غير خاضعة للرقابة داخلياً، ولكنها ما عملت إلا لهذه البلاد من أجل خلخلة بنيتها الاجتماعية. ما يكفي هذا، الآن جاءوا لحماية ما يبثونه بالسلاح، لأنه قد يوجد من الأصوليين يوماً من الأيام -أو يخافون من هذا- من يقتحم مكبراتهم وأماكن بثهم وغير ذلك فتحبط الخطة! قد يُعمل شيء من هذا؛ فهم جاءوا ليكونوا قريبين من أجل إذا حدث أي شيء، يتدخلون تدخلاً مباشراً سافراً، وكما قلنا إن حالهم كأنهم في صحوة موت، لم يبق شيء، آخر الأوراق سيلعبون بها، انتهى كل شيء لا بد من التدخل المباشر. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 24 التعليم أيضاً من الوسائل الحديثة والسلاح الحديث الذي سلكوه: التعليم، سواء التغريب، والبعثات، وإن كانت البعثات في الأخير لما أحسوا بفشلها، قللوا منها، لأنها ما عادت تثمر الإثمار الذي كانت تثمره سابقاً، فرؤي أنه لا جدوى لها، فبدءوا بأسلوب آخر، وهو إيجاد دورات مدارس، أشياء داخل البلاد الإسلامية، حتى يمكن تطعيم هؤلاء بشيء مما يزعمون أنه حرية لهم، أو تغييراً اجتماعياً يريدون بثه في المجتمع. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 25 المؤسسات الجاهزة الأمر الثالث: المؤسسات، وقد أشار الشيخ إلى عدد المؤسسات التي واكبت المشروع، وكانت جاهزة، فلا يمكن أن يكون هناك خطوط وطيران إلا برجل وامرأة ومضيفات، وكأن المستشفيات ما تصلح إلا أن يكون فيها نساء عند الرجال وهكذا، جعلوها عندنا كالحقيقة الثابتة الماثلة التي لا يمكن أن تقبل زلزلة أو زعزعة، وهذا -طبعاً- نوع من الانتكاسة، لأنهم كانوا في وقتٍ سابقاً لما أرادوا أن يضعوا النقود، ويصكوا النقود، وضعوا عليها اسم أمير المؤمنين، لأنهم تصوروا أنه لا يوجد مقابل إلا بهذا الشكل!! واليوم دارت الدائرة -والله المستعان- فتصورنا أنه لا يمكن أن توجد المستشفيات إلا بفساد! إلا بإيجاد نساء كاسيات عاريات، نساء تأتي للرجال وهكذا! المهم أننا أصبحنا نرى مثل هذه القضايا، نوعاً من المسلمات، وكأنه لا يمكن أن يكون هناك مستشفى خاص بالنساء أو مستشفى خاص بالرجال، أو غير ذلك، المهم أن هناك عدداً من المؤسسات جاهزة للتطبيق، وهذا من التخطيط المسبق الذي ما انتبهنا له، فإذا وجد الحدث انتبهنا، وانتباهاتنا كانت متأخرة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 26 التحذير من تهويل أمر الأعداء ونبدأ الحديث عن كيفية المواجهة ومع فضيلة الشيخ سلمان: نعم ربما كان الحديث السابق أيها الإخوة كله حديثاً عن نوع من الوصف أو التحليل للواقع الذي تعيشه الأمة، والمرحلة الجديدة التي بدأت تطل عليها، ولسنا نزعم أن ما قلناه كافٍ! كلا، بل إن الكلام في هذا الأمر يطول، ولكن حسناً فعل الأخ الشيخ محمد في الانتقال إلى النقطة الثانية، لأن النقطة الثانية هي الأهم، وقد استأثرت الأولى بأكثر الحديث لأنها جاءت في الأول، ولابد أن تسبق، لكن النقطة الثانية أهم، لأنه قد يرتب بعض الإخوة على الكلام السابق، أن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون!! ومعنى ذلك أنهم جاءونا من فوقنا ومن تحت أرجلنا وعن أيماننا وعن شمائلنا ومن أمامنا ومن ورائنا! فلم يبقَ إلا أن نكف أيدينا، وننتظر حتى يأتينا الموت، قد يحدث هذا! إذاً قد يحدث استجابة غير صحيحة للحديث عن الواقع الذي وصفناه، وهنا تأتي أهمية المواجهة، أيضاً من ناحية أخري -أيها الأحبة- بعض الإخوة، بعض الشباب، بعض المتحمسين، قد يسترسل ويفيض في الحديث عن الواقع، وكلما جلس أو قعد أو قام أو ذهب أو جاء قال: حصل كذا، وفي المكان الفلاني كذا، وهنا منكر، وهنا منكر، هناك فساد، ويوجد كذا، وبعد هذا يقول: الدنيا كلها مدبرة، وعالم الغرب يشتغل، وهكذا أصبحنا نتصور أننا نتحرك وسط مؤامرة محبوكة! وهذا غلط، هؤلاء الناس من الكفار ليسوا آلهة، إنهم بشر، وبشر ضعفاء وشيخهم وأستاذهم إبليس، تلا عليكم الشيخ ما قال الله تعالى في شأنه: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} [النساء:76] . ليس كل شيء مخططاً لا، هم استغلوا ضعفنا، واستغلوا نقصنا، واستغلوا غفلتنا، فكان هذا سر نجاحهم، ولو كنا أقوياء لتحطمت كل مؤامراتهم على صخرة: {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران:120] . هم ما غفلوا يوماً من الأيام، لكن يوم أن كانت الأمة قوية، كانت مثل الجسد القوي، قد يأتيه الجرثوم، ثم يخرج منه ويغادره، أما الآن فقد أصبحت الأمة ضعيفة، فقدت المناعة، أصبحت مثل المريض الذي فقد المناعة، أي مرض، أي جرثومة، ولو كانت ضعيفة تأتيها، لا تزال تفعل فعلها في الجسم، حتى تقتله! فالحذر الحذر -أيها الإخوة- أن نفهم أن معنى ذلك أن نضع يداً على يد، وكبِّر الوسادة، ودع الناس تذهب وتأتي، وهذا الأمر لا يعنيك، وأنت لست منه في قبيلٍ ولا دبير، وهذا ما لا طاقة لك به! هذا من تخويف الشيطان لأوليائه، يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] . ما معنى الآية؟ {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران:175] يعني: يخوفكم أولياءه، يكبرهم في عيونكم، حتى تخافوهم، يخوف الناس، من أوليائه، هذا معنى الآية. (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) يجعلكم تخافون أولياءه، لأنهم أولياؤه فهو يكبرهم ويضخمهم، ولذلك تجد الناس يتصورون أن الدنيا كلها لعبة إسرائيل، -فمثلاً- هناك كتاب اسمه الدنيا لعبة إسرائيل وسبق أن تكلمت عن كتاب بروتوكولات حكماء صهيون وعدد من عشرات المصنفات التي تُبالغ في تضخيم قوة اليهود مثلاً، حتى تصورنا أن الواحد مثل ما قال بعض الأدباء، قال: الواحد منا إذا أراد أن يأكل الغداء، قال: انتبه لو يكون فيه ماسوني، والعشاء لو يكون فيه ماسوني!! فعلاً استسلمت عقول الناس، وبالغوا في تضخيم قوة العدو بالشكل الذي صار عليه الآن، ليس أن المبالغة تولَّد عنها قوة المقاومة وشدة الحماس، لا، مبالغة تجعل الإنسان يائساً وعاجزاً، ولا يستطيع أن يصنع شيئاً، فهو أمام مؤامرة محبوكة هي سوف تجري وتنفذ شاء أم أبى، رضي أم سخط، فليس له من الأمر شيء، ومن المصلحة ألا يتدخل!! هكذا تصور الناس، وهذا خطأٌُ عظيم. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 27 الإيجابية المهم أن يكون هذا في يده لا في قلبه، وتكون القضية التي تملأ قلبه هي قضية الإسلام والمسلمين، فهذه القضية أولاً لا بد منها، وهي قضية أن نكون إيجابيين وفاعلين، وأن نحذر من اليأس والشعور بأننا لا نستطيع أن نصنع شيئاً، يقول أحد القادة وقد سألوه: لماذا انتصرت؟ قال: من قال لي: لا أستطيع، أقول له: حاول، ومن قال لي: مستحيل، أقول له: جرب. لماذا لم يفعل هذا الإنسان؟ لماذا دائماً نفتعل بعض العقبات والأوهام، ونجعلها حاجزاً يمنعنا من العمل؟ جرب. ما هناك خسارة، أنت إذا قمت بعمل، كتبت خطاباً لمسئول، أو نصيحة، أو رسالة، أو ذهبت إليه وزرته، أو زرت العالم الفلاني، أو تكلمت، أو ذكرت، أو خطبت، أو أمرت، أو نهيت، بذلت الجهد الذي تستطيعه. جرب فلن تخسر شيئاً، إن نفع الجهد خاصةً إذا كان جهداً مدروساً فبها، وإذا لم ينفع فعلى الأقل كتب لك الأجر، وكتب لك الاجتهاد، والخطأ وارد، والذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، أما الذي يعمل لابد أن يخطئ، إلا أن يكون معصوماً يأتيه الوحي من السماء، وقد انقطع الوحي بموت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم، فبقي أنا وأنت وفلان وعلان، نجتهد نخطئ مرة، ونصيب مرة، لكن إذا كانت النية سليمة وصحيحة فإن الله عز وجل يتولى الصالحين، والخطأ يجب أن يوضع في إطاره الطبيعي، فلا تضخمه، يمكن أن مرة، لكن تصيب عشراً، وحتى ذاك الخطأ ليس بلازم أن يكون خطأ. هناك مثل عربي، العرب إذا واحد منهم ندم يقول: ندمت ندامة الكسعي. فمن هو الكسعي؟ الكسعي رجل كان يصنع السهام، ففي إحدى الليالي كان يصنع قوساً وسهماً ويرمي، فتبين له أنه ما أصاب في الظلام، رمى مرة ثانية ما أصاب، رمى مرة ثالثة ما أصاب، فكسر ما صنع من شدة غضبه، فلما أصبح الصباح ذهب يمشي، فوجد أن السهام التي رمى بها كلها قد أصابت الذي يريد! أصابت الهدف، لكن لأنه في الظلام يحسب أنها ما أصابت، فندم ندماً شديداً على أنه كسر قوسه، فصار مضرب المثل حتى قال الشاعر: ندمتُ نَدامة الكسعي لما غدت مني مُطلقة نوار ُ أنت يمكن أن ترمي سهماً تحسب أنه ما أصاب، وعندما يذهب الليل ويأتي النور يتبين لك أنه أصاب، لكنك لم تدر في ذلك الوقت. وهذا المثل، مثل دقيق أيها الإخوة، ما تدرى أنت الذي أصاب والذي ما أصاب، فمن الممكن أن يكون لديك عمل قمت به وتزدريه، ويتبين أن هذا العمل أحدث أثراً بعيد المدى، ومن الممكن أن ترى أنه وفعل وفعل، وفي النهاية يتبين أن هذا العمل هباء في هباء، فلا تضخم الخطأ اجتهد واستشر أيضاً، لا تستقل برأيك، استشر من تثق به، من زميل أو طالب علم أو عالم أو شيخ أو نحوه ممن جربت السداد في رأيه، والأمور البسيطة أيضاً لا تحتاج إلى استشارة، لا يحتاج أن تستشير أن تأمر بالمعروف أو تنهى عن منكر أو تقول كلمة حق أو تكتب رسالة أو نصيحة أو برقية أو كلاماً! هذا لا يحتاج إلى استشارة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 28 المؤهل لخوض الصراع أنا أريد أن أسأل نفسي وأسألكم -أيها الإخوة- سؤالاً يجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ودعونا ننتهي من الكلام الفارغ، وننتقل إلى أن نكون عمليين وإيجابيين، إما أن نتصرف بصورة صحيحة، وإلا فلا داعي أن نشغل الناس بالكلام والقيل والقال، ونحن ما صنعنا شيئاً، نريد أن نسأل أنفسنا: هل نحن نغار للإسلام؟ هل نحن نغضب للإسلام؟ هل نحن نتأثر من قضية الإسلام؟ أم أن قضية الإسلام والمسلمين أصبحت في هامش التفكير عندنا، بل ربما لا تعنينا في شيء، وربما إن فكرنا فيها نفكر دقائق، ثم نشتغل بتفاصيل أحوالنا، أذهب بزوجتي إلى المستوصف، وأذهب بولدي إلى المدرسة، وآتي بالعلاج، ثم أذهب إلى السوق، ثم أذهب للعمل، وهكذا تجدني أربعاً وعشرين ساعة أنتقل من عمل تفصيلي إلى عمل تفصيلي، والله ما عندي وقت أفكر في قضية الإسلام والمسلمين، إذا كان الأمر كذلك، فمن الآن انسحب، وابق خارج دائرة المواجهة. نحن نريد رجالاً من جنس الرجال الذين قال لهم يوشع بن نون كما في صحيح مسلم، لما أراد أن يغزو، قال عليه الصلاة والسلام: {غزا نبي من الأنبياء -هو يوشع بن نون - فلما قَرُبَ من القرية أوشكت الشمس على الغروب} لاحظ كيف أن الناس الجادين المضحين يسخر لهم الله عز وجل نواميس الكون، حتى إذا احتاجوا إلى خوارق الآيات يجريها الله لهم!! فهناك شيء اسمه كرامات، فإن أنت عجزت فإن الله عز وجل يدبر في السماء شيئاً لا تتوقعه، فهذا النبي لما رأى الشمس أوشكت أن تغرب خاطبها وقال لها: {أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها فوقفت الشمس} هذا حديث صحيح. قفي يا أُختَ يُوشعَ خبرينا أحاديثَ القرون الغابرينا ثم غزا وانتصر على أعدائه، المهم ماذا قال للذين معه؟ هذا الشاهد الجُندْ الذين معه؟ لما أراد أن يخرج بالناس قال: {لا يتبعني رجل بنى بامرأة ولم يدخل بها} . رجل عقد على امرأة وما دخل عليها حتى الآن، هذا ينسحب من الجيش؛ لأن قلبه مشغول بهذه الزوجة، ما عنده وقت، ولا عنده جهد، ولا عنده اهتمام لقضية الإسلام، هذا لا يصلح لنا، ينسحب، ثم: {ولا يتبعني رجل اشترى إبلاً، أو بقراً، أو غنما، وهو ينتظر ولادها وإنتاجها} . رجل عنده إبل، وينتظر هذه الناقة تلد، وكذا وكذا، ويريد أن يثمرها وينميها، هذا يجلس عند إبله وبقره وغنمه، ما يصلح للجهاد، {ولا يتبعني رجل ابتنى داراً ولما يرفع سقفها} . ورجل أصلح (الفلة) وبقي التبليط، والدهان، وأشياء، وتكميلات، فهو مشغول، يوم مع السباك، ويوم مع الدهَّان، ويوم مع المبلط! هذا لا يصلح لنا، هذا يجلس عند (فلته) يبقى أن يتبعنا الإنسان الذي تُشغِل قلبه قضية الإسلام والمسلمين الشخص الذي يحترق للإسلام، يغضب لله ورسوله، الشخص الذي يقول: "أريد أن أصنع شيئاً" هذا مرحباً به، وإن كان يشتغل بالدنيا لا مانع، الدنيا تكون في يده لا في قلبه، وإن كان له زوجة، وإن كان عنده أطفال، فالله عز وجل يقول {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] وفي آية أخرى {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] . الجزء: 208 ¦ الصفحة: 29 الخوف وعقيدة التوحيد بل أقول: إن هذا ينافي عقيدة التوحيد الصادقة القوية النقية في نفوس المؤمنين عقيدة التوحيد التي تدرك أن مقاليد الأمور كلها بيد الله جل وعلا، وأن الأمر يُدبر في السماء، وما هؤلاء البشر إلا أدوات، يريدون هم، ويريد الله عز وجل، فيقع ما يريد الله، ولا يقع ما يريد المخلوق. [[يريد عبدي وأريد، وما لعبدي إلا ما أريد]] هذا جاء في بعض الآثار، والمعنى صحيح على كل حال، دل عليه القرآن والسنة، بغض النظر عن الأثر وعدم ثبوته، المهم إياك إياك أن تهتز ثقتك برب العالمين، ثم ثقتك بهذا الدين، ثم ثقتك بأنك تستطيع أن تصنع شيئاً، بل شيئاً كثيراً. محمد إقبال شاعر الإسلام في الهند يحذرك من أن تزهد في نفسك، أو تزدريَ شخصك الكريم، أو ترى أنك عاجز، لا تستطيع أن تصنع شيئاً، لا، هذا لا يصلح أبداً، يقول: وتَزعمُ أنك جُرمٌ صغير وفيِكَ انطوى العالمُ الأكبرُ لا تزدرِ نفسك، أقول لبعض الإخوة: حتى المريض الذي يُحمل في النقالة في المستشفى من غرفة إلى غرفة، أو يظل في غرفة الإنعاش، هذا المريض، -والله الذي لا إله إلا هو- يستطيع أن يصنع الكثير للإسلام، بشرط أن توجد عنده همة وإرادة أن يصنع شيئاً للإسلام، بشرط أن يكون فعالاً إيجابياً يعمل على التغيير يستطيع أن يدعو الله عز وجل، والدعاء سلاحُُ كبير، يستطيع أن يفكر ويخطط، والناس كلهم يمشون على أثر المخطط، ممكن أن نكون نحن أصحاب الأجسام القوية الكبيرة، وأصحاب القدرات، وأصحاب الأكف، والسواعد المفتولة، نحن جميعاً قد يسيرنا إنسان يرسم لنا خطة فنمشي عليها وننفذها، وراسم هذه الخطة هل استخدم يده في رسمها أو رجله؟ ماذا استخدم؟ استخدم عقله، والمريض الذي يُحمل على النقالة ربما يتمتع بتفكير وعقل وهدوء وإمكانية النظر للأمور أكثر مما يتمتع الصحيح أحياناً يستطيع أن يقول الكلمة يستطيع أن يشعر الشعور الصحيح. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 30 وسائل المواجهة هذه أنا اعتبرها مقدمة ضرورية في كيفية المواجهة، لأننا سننتقل بعد ذلك إلى الكلام عن الوسائل، أو بعض وسائل المواجهة، أهم من الوسائل أن يوجد عندنا الشخص المستعد لاستخدام الوسائل، وإلا فيمكن أن نعطيك عشرين وسيلة، وفي النهاية ما أصبنا شيئاً؛ لأنه ليس عندنا الإنسان الذي يبحث عن الوسيلة، أما إذا وجد الذي يبحث عن الوسيلة، فنحن بخير، لأن المثل يقول: "الحاجة أمُّ الاختراع" إذا كنت صادقاً، وتُريد أن تُغير، فالوسائل كثيرة، وسنذكر شيئاً من هذه الوسائل. هذا الكلام مثل ما أشار الشيخ ضروري جداً لبدء المواجهة؛ لأن كثرة التخوفات تُحبط الإنسان من القيام بأي عمل يمكن أن يُثمر في المجتمع، فأنت يمكن أن تدعو كافراً للإسلام فلا يسلم، فيسبب آثار العداء للإسلام، وعلى هذا قس، قد تدعو فاسقاً إلخ، تبدأ التخوفات تزيد عليك بشكل لم تكن تتصور أن يأتيك، ونحن ما أمرنا بهذا الشيء، أمرنا أن نعمل، أمرنا أن نجتهد في الحدود التي نراها، والإنسان لا يستطيع أن يري الغيب. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 31 الوعي الشامل ونحن نحتاج إلى الوعي في كل شيء، نحتاج إلى وعي سياسي، وإلى وعي اجتماعي، وإلى وعي اقتصادي الخ، من أنواع الوعي. إذا لم نفهم في أمور السياسة، لا نستطيع أن نعرف كيف نغير المجتمع، لأننا لا نعرف كيف تأتي الأوضاع وكيف تدار الأمور، وإذا لم نفهم في عملية التغيير الاجتماعي، كيف تكون، كيف تنشر الفضيلة؟ وكيف يقضى على الرذيلة؟! أعداؤنا عرفوا كيف ينشرون الفضيلة، وما هي أساليب نشر الفضيلة فاستغلوها، ونحن بحاجة إلى أن نعرف ما هي وسائل نشر الفضيلة اجتماعياً؟ وكيف نتغلغل اجتماعياً، وكيف تكون دعوتنا مؤثرة في جميع الأوساط الاجتماعية؟ في البيت، والمدرسة، والشارع، والقرية، والمدينة، وفي كل شيء. إذاً نحتاج إلى وعي اجتماعي، ما هي المؤثرات الاجتماعية التي تؤثر على الناس؟ الاقتصاد، فلا يمكن أن تصل دعوتنا إلى مستوى رشيد وهي تعطي ظهرها للاقتصاد، وأهلها إذا نظرت إليهم نظرت إلى أهل الفقر، في وسائلهم، في إمكاناتهم، في أشيائهم، لماذا؟ {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26] وقال تعالى: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55] . نحن بحاجة إلى أن نقول للناس هذا الكلام، فكلما جاء حث على الجهاد في سبيل الله، جاء جاء معه اقتران بالمال، فالجهاد بالنفس والمال دائماً، كيف نهتم بمعيشة الناس واهتماماتهم؟ حتى نعرف كيف نؤثر فيهم؟ أما أن يأتي اليساريون، والعلمانيون وغيرهم ويهتمون بقضايا الناس وهم كاذبون، منافقون، غير صادقين، ويتكلمون عن قضايا الناس بالكلام فقط، ثم ينتخبهم الناس ويتصورون أنهم منقذون، حتى إذا حققوا لهم وأعطوهم أعلى المناصب، مكروا بهم وغدروا بهم. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 32 كيفية تحقيق الوعي إذاً نحن بحاجة إلى الوعي في كل المجالات، كيف نحقق الوعي؟ نحقق الوعي بأحد أمرين: أولاً: بالاستفادة من أهل الاختصاص أياً كان، فلا يصح أبداً أن نرى شخصاً تقدم في مجال معين، ونطلب منه أن يعطينا الرأي في كل المجالات، قد يكون الشخص من كثرة قراءته في السياسة، واستماعه وتحليلاته ذو رؤية سياسية جيدة، لكن لا توجد عنده رؤية شرعية، ولا رؤية اقتصادية، ولا رؤية اجتماعية، فلا يمكن أبداً أن نجعله هكذا، وربما شخص آخر تفقه فعلاً، قرأ كتب الفقه القديم بشكل جيد جداً، لكنه لا يعيش الواقع، لا يستطيع أن يُعطينا فتوى اجتماعية، كيف يوجه المجتمع، كيف يعيش؟ إذاً نحن بحاجة إلى أهل الاختصاص، ولو رأينا إلى أعدائنا مع الأسف الشديد، لوجدنا أنهم يسألون كل شخص في أدق تخصصاته، خُذ مثالاً بسيطاً، انظر إذاعة لندن بين السائل والمجيب، اسمع السؤال، واسمع من يجيب، لا يوجد عندهم أحد اسمه مجيب الأسئلة!!، كما يكون عندنا في بلادنا الإسلامية مع الأسف، إذا وجد من يجيب على الأسئلة فيتم توجيه كل الأسئلة إليه، اسأل ما شئت، في أي تخصص، اسأل!! لكن هم إذا جاء السؤال يذهبون إلى أدق واحد في هذا التخصص، ويعطوه السؤال، ويجيب، وإذا ما وجدوا في بلادهم، جاءوا إلى بلاد أخرى، يبحثون عن أفهم واحد في هذه القضية فيسألونه، لأنه قد يكون الشخص أمضى خمس سنوات من عمره يدرس قضية واحدة، إذا لم يُسأل مثل هذا، من يسأل؟ والاجتهاد كما تعلمون يتعدد قد يكون في قضية واحدة أو اثنتين، ما يجوز أن تقلد فيها، لأنك وصلت فيها إلى حكم لا يجوز لك أن تقلد غيرك. وهكذا فنحن بحاجة إذا أردنا أن نعي أنه لا يمكن لكل شخص أن يفهم في كل المجالات، وأن يصل لكل ما يكتب، فلو أراد شخص أن يقرأ ما يُكتب في تخصصه فقط، وأعطى عمر ستين سنه، يقرأ أربعة وعشرين ساعة، ما استطاع أن يقرأ خمس ما يكتب، إذاً ما يستطيع، ولكن يأخذ الزبد من أهل الاختصاص، ويفهم في حياته، من أجل أن يسير، ويعرف طريقه. إذاً فالوعي ضروري جداً، أول درجات الوعي: الوعي في تخصصك الذي تعمله، إذا كنت تعمل في مجال الاجتماع، تغير اجتماعياً، لابد أن تعرف كيف تغير، ما هو النشاط الاجتماعي لا يمكن أن تغير الاجتماع، وأنت ما تعرف كيف تعيش مع الاجتماع، إذا كنت تمارس الاقتصاد، ما يمكن أن تغير في الاقتصاد، وتؤثر أنت لا تدري ماذا يكون في الاقتصاد، في أي مجال إذاً أنت بحاجة إلى الوعي في هذا المجال، على وجه الخصوص، ثم الوعي في المجالات الأخرى على وجه العموم. حقيقية نحن بدأنا نستلمكم أيها الإخوة، من واحد إلى آخر، لكن هذا حتى تتوبوا ولا تطلبونا للشخوص إليكم مرةً أخرى، الحقيقة الشيخ محمد بارك الله فيه، أشار إلى قضية مهمة، وهي قضية الوعي بأساليب الوعي المختلفة، كضمانة لكيفية المواجهة السليمة، سواء الوعي بمخططات العدو، أم الوعي بمتطلبات المرحلة، أم الوعي بوسائل التغيير الممكنة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 33 ترك الجدل والتمشير للعمل ومن الوسائل المهمة التشمير للعمل، مع التقليل من الكلام والجدل غير النافع في الأمور الجانبية. فإن المقصود من كل ما يقال إنما هو العمل الذي هو ثمرة الإيمان ودليله، وأمَّا كثرة الكلام والجدل -الذي نشاهده الآن في واقع المسلمين- ليس منه كبير فائدة، فينبغي الاهتمام بالاستفادة من الأصول العامة والعمل على أساسها، والإعراض عن الإغراق في التنظير الذي لا جدوى من ورائه، فقد نتجادل طويلاً في مسألة، وبعد الجدل الطويل -مثلما يقول علماء الأصول- يأتي السؤال ما هي ثمرة الخلاف؟ والنتيجة بعد ما اختلفنا أو اتفقنا، وماذا يترتب على هذا؟ ما هي الثمرة؟ فإما ان لا تكون هناك ثمرة، أو نذهب نبحث عن جزئية يسيرة ونقول: هذه ثمرة من ثمرات الخلاف. يترتب على هذا، أن تجد أن المسلمين عمروا مجالسهم بجدل عقيم، مثلاً افترض أن هناك منكراً من المنكرات، موجود في مكان كذا، اجتمعنا نحن عشرة من طلاب العلم، كيف نغير هذا المنكر؟ قال واحد: نغير هذا المنكر بالكتابة، وقال ثاني: نغيره بالمراسلة، قال ثالث: لا، نذهب بأنفسنا لنغير هذا المنكر، قال رابع: لا يصلح هذا ولا ذاك، ينبغي أن يذهب واحد ويبحث عن المسئول عن هذا المنكر ويدعوه، قال خامس: لا، نتصل، وقال عاشر!! وهكذا أصبح عندنا عشرة آراء، ثم بدأنا نتجادل جدلاً طويلاً حول أي هذه الآراء أصوب، بينما نحن في حمى الجدل والأخذ والعطاء، إذ بهذا المنكر قد ولد منكراً آخر بمكان ثان فصار عندنا خلاف جديد بأيهما نبدأ، هل بالمنكر القديم أم بالمنكر الجديد؟ قال واحد: لا، نبدأ بالمنكر القديم؛ لأنه أعمق وأخطر، والمنكر الجديد فرع عنه، وإذا زال الأصل زال الفرع، قال ثان: لا يا إخوان، المنكر القديم صعب إزالته الآن، لأنه أصبح مستقراً، لكن المنكر الجديد سهل إزالته؛ لأنه لم يستقر بعد، والناس عندهم استعداد لتقبل إزالة هذا المنكر. وبينما نحن نختلف حول أيهما نبدأ إزالة المنكر الجديد أو القديم، إذا بمنكر ثالث يتولد، وهكذا تكسرت النصال على النصال، والقوم في حمى جدلهم العقيم حول الوسيلة الصحيحة، وحول التنظير، وحول الكلام، وحول القيل والقال. فجاءهم رجل رشيد وقال لهم: يا قوم إن كنتم أهل جدل وكلام، فهذا شأن الفلاسفة من قبلكم طالما تجادلوا، وبيزنطة تسقط في أيدي الأعداء، كما يقول المثل. كان الفلاسفة يتجادلون في بيزنطة وهي من المدن اليونانية، أيهما الأصل الدجاجة أم البيضة؟ فاختلفوا في هذا على قولين، في الوقت الذي كانت فيه خيول الأعداء على مشارف المدينة؛ حتى سقطت، وجاء الأعداء إلى هؤلاء الفلاسفة وعرفوهم عملياً أيهما كانت أول الدجاجة أم البيضة؟ فكانوا في أيدي أعدائهم كالدجاج، لماذا؟ لأنهم أشغلوا وقتهم في جدل عقيم، لا جدوى من ورائه، في الواقع هذا الجدل البيزنطي، ما أكثره في واقع المسلمين! دعونا يا إخواننا من الجدل بارك الله فيكم، انزلوا إلى الميدان، اشتغلوا، وكل واحد اقتنع بشيء يعمله، أنت الذي تنكر المنكر الأول، اذهب له، والذي يريد المنكر الثاني يذهب له، والذي سيغير بالكتاب يغير بالكتاب، والذي سيغير بالقول بغير بالقول، قد علم كل أناس مشربهم، كل إنسان له ما يناسبه وما يقتنع به، لكننا سنلتقي بالتأكيد على هدف واحد، وهو إزالة هذا المنكر، أو ذاك، وقل مثل هذا في أي قضية تعرض لنا؟! إذاً فكثير من القضايا النظرية التي نتكلم عنها أمور جدلية عقيمة، ربما لا يكون من ورائها طائل ولا من تحتها ثمرة، ولكن ضيَّعنا بها أوقاتنا، مثلاً نتفق على أمور عملية كثيرة، كل المسلمين متفقون على وجوب الدعوة إلى الله، فهل دعونا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هل أمرنا ونهينا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب النصيحة فهل نصحنا؟ كل المسلمين متفقون على وجوب الوحدة وجمع الكلمة بين أهل السنة والجماعة، فهل اتفقنا؟ أم أننا ظللنا نتجادل في أوضاع الدول السياسية مثلاً، نتجادل في أساليب الدعوة، نتجادل في خطط الأعداء وكيفية تحليلها، نتجادل في أمور كثيرة، لكن الشيء الوحيد الذي لم نُحس أن ننزل فيه، هو أن ننزل للميدان ونعمل، وندع الجدل جانباً، ونقول: الكلمة أصبحت الآن للعمل، كما قال أبو تمام: السيف أصدق إنباءً من الكُتبِ في حدِّه الحد بين الجِد والَلعِبِ العمل هو الذي يثبت واقعك، أعرف يا أخي كثيراً من الدعاة، كانوا يتجادلون جدلاً عميقاً وعقيماً أيضاً، حول كذا أحسن، أو كذا أحسن، لكن تجد رجلاً منهم مغامراً، ينزل للساحة، وينزل للميدان، فيعمل، فتجد الجميع يمشون وراءه ويصدقونه فيما قال، مع أنه ما ناقشهم، ولا جادلهم، لكنه شق الطريق فأيدوه وزال الجدل، وقطعت جهيزة قول كل خطيب، كما يقال. فلا داعي أن نُغرق أنفسنا يا أحبتي في جدل عقيم، في أمور كثيرة، أمور نظرية، ليس لها تأثير في الواقع، دعونا ننزل للميدان، ونواجه المعركة بأساليب مناسبة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 34 رفع سقف الاهتمامات وأهم الاهتمامات وأولى الوسائل رفع اهتماماتنا من الأمور الفرعية إلى الأمور الكلية، في كل شيء، وإن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها، في كل شيء، حتى في اهتماماتنا الدنيوية، حتى في أعمالنا، فقبل أن أصل إلى الأشياء، أود أن أتكلم عما نراه في الحياة، في أعمالنا، في تجارتنا، في زراعتنا، في أعمالنا، لا نأخذ أعمال الدنيا القريبة، لتكن اهتماماتنا عالية، هممنا راقية، حتى نستطيع أن نؤثر في المجتمع، أما إذا كانت اهتماماتنا في الأشياء البسيطة، وجُل تفكيرنا مقصور فيها، فإننا لا نستطيع أن نُغيِّر، لو انتقلت بكم بعيداً في التاريخ إلى سقوط الأندلس، لوجدت أن كل واحد من الناس يقول لك: من أسباب السقوط ملوك الطوائف، الذين انشغل بعضهم في بعض، ما انشغل هؤلاء الملوك بعضهم في بعض؛ إلاَّ وقد انشغل شعبهم من قبل بعضهم في بعض، انشغلوا بأشياء لا تفيدهم، ولا تثمر لمجتمعهم، فانشغل أسيادهم، وكما تكونوا يولى عليكم. الإسلام جاء بكل خير، نحن نقول ليس هناك شيء في الإسلام صغير، أو غير مهم، أو لا يدعى إليه، أو نتنازل عن شيء من السنة أياً كانت، ما دُمنا نستطيع تطبيق السنة، فلا يوجد شيء غير مهم، إذا كُنا لا ننتصر بتطبيق السنة، فهل ننتصر بترك السنة؟ هذا لا يمكن أبداً، سواء أكانت سنة ظاهرة أم خفية، هذه السنن هي وقودنا وهي زادنا، ولا يمكن أن نتخلى عنها، أو نتنازل عنها، أو نفرط في الإسلام، أو نشدده، أو نجدع منه، ليس من حقنا أبداً، الشيء القليل لو ركنَّا إلى أهل الباطل، يؤاخذنا ربنا عليه، لكن الوقت يختلف، والأمور تختلف، والاهتمامات تختلف، رأس الاهتمامات العقيدة، وإصلاح عقائد الناس واهتماماتهم ورفع شأنهم هذا رأس الأمور، أما أن تتحول اهتماماتنا إلى أشياء تفصيلية نضيع فيها جهوداً وأوقاتاً، وهي كلها اجتهادات من اجتهادات البشر الذين يصيبون ويخطئون، سواء أكانت اجتهادات بتنظيمات، أو في تخريجات لأحاديث نبوية، واستدلالات، ونجعل هذا هو جُل اهتمامنا، ونلزم الناس به، وهو اجتهاد فلان، وإن كان عالماً جليلاً، لكنه اجتهاده، فلا نجعل هذا المحور هو كل قضايانا، وكل اجتهادنا وكأن ما في الدنيا شيء إلا هذا، ونترك أحاديث صريحة متواترة، فلو نظرت في الموجودين، لوجدت عدداً كثيراً، أو الكل، أو الأغلب، يعرف عن أمور العبادات أشياء دقيقة وتفصيلية، ولكن إذا نظرت إلى فقه المعاملات، لوجدت جهلاً ذريعاً جداً، أحاديث ربُما لم تمر عليها طيلة حياتك، لماذا؟ لأن اهتمام الوسط كان بهذه، والإسلام هو هذا وهو هذا، هو احبس حتى يمتلئ زرعك، وهو المال، وهو الاستثمار، وهو الدولة، وهو الشورى، وكل هذه موجودة في الإسلام، لماذا أغمضنا عنها عيناً، وفتحنا عيناً أخرى؟ صحيحُُ أن العبادات جُزء من حياتنا اليومية، لنعرف صلاتنا وصيامنا وزكاتنا، لكن أيضاً يجب ألا نغفل عن الجانب الثاني، عن تأثيرنا في المجتمع، عن وجودنا، إذاً يجب أن ترتفع اهتماماتنا، خصوصاً في مرحلة الأزمات، فإذا وجد عندنا من الدعاة الكثرة الكاثرة التي تجعلنا حتى دقائق الأعمال نوليها من الاهتمام الشيء الكثير، فهذا أمر محمود، ولنطمح إلى اليوم الذي تصل فيه الدعوة إلينا، ولكن إذا كان الدعاة كما تشاهدون، من القلة، وقلة الوقت أيضاً وغير ذلك، فهل معنى ذلك أن تنصرف الاهتمامات إلى الأشياء البسيطة؟ لا بد أن تكون اهتماماتنا عالية وقوية، وأن نهتم بالأشياء الأساسية، كاجتماع المسلمين مثلاً، ونصحهم وتناصحهم، واعتبار أنه ليس هناك شخص منزه عن الخطأ، والقبول من الشخص من صالح كلامه وحديثه وعمله والتعاون معه فيما هو سائر في هذا المجال، حتى لا يكون بعضنا سيفاً على بعض، ونكون أضعف ما نكون على الأعداء دائماً إذا كان الناس مشغولون بجبهتهم الداخلية، فهم أضعف الناس عن مواجهة أعدائهم، أما إذا استطاعوا أن يحصنوا جبهتهم الداخلية ويعرف كل واحدٍ مقدار نفسه، ومقدار غيره، فلا يتقدم على غيره، ولا يحتقر نفسه في مجاله، كلٌ يؤدي ما هو مطلوب منه، عندئذٍ نستطيع أن نُربي أنفسنا، ونربي المجتمع، ونعرف أن كل واحدٍ منا يقوم بدور مهم، ولننظر إلى مثال بسيط من الأمثلة:- جاء أحد الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل عنه، فقالوا: هو في حديقة بني فلان، فذهب، فقال: لأكونن حاجب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم، وجاء أبو بكر وعمر ودخلوا، فكل واحد عرف مكانه ودوره، وليس دور هذا يختلف عن دور هذا أبداً، فكل ميسر لما خلق له، والرسول صلى الله عليه وسلم لما جاء وافتقد المرأة! ماذا كانت تعمل؟ كانت تقم المسجد، أين هي؟ فذهب عليه الصلاة والسلام يصلي عليها، لا يوجد إنسان دوره غير مهم، سواء أكان رئيس الدولة أم خادماً في المدرسة، كله سواء، وقد ينال الشخص الأضعف من الأجر أضعاف أضعاف ما ينال ذاك، لأن هذا خفت عليه المئونة، وهذا ثقلت عليه، وكلٌ بحسابه، إن قام بها فالأجر لمن كانت مئونته كبيرة كثير، وإن فرط فالوزر كبير أيضاً، وهذا الذي في عمل صغير، إن فرط فالوزر قليل لأن، الحمل ضعيف أصلاً، وإن أجاد فالأجر كثير. فليس هناك شخص غير مهم، المهم أن تتوحد اهتماماتنا، وأن تترفع اهتماماتنا عن الأشياء الصغيرة، ألا يكون همنا نقد فلان، أو عدد أخطاء فلان، كما يقول أحد الدعاة: لو بدأنا بهذا المشروع، هذا فيه كذا وهذا كذا، ما وجدنا في العالم الإسلامي ثلاثة أشخاص تتفق عليهم الكلمة، فنحن بحاجة لرفع الهمة، لأننا اليوم نواجه أعداءً من كل مكان، نحن بحاجة إلى الالتحام على عقيدة سلفية، ودعوة محمدية، ونصرة للسنة، بكل ما فيها، وتطبيق لها بحذافيرها، وأن ندعو الناس إليها، لكن أيضاً لو نظرنا للأحاديث التي وردت لوجدنا أن هناك اختلافاً كثيراً، فيما ورد في هذا الباب وما ورد في غيره، فيما ورد في هذه القضية، وما ورد في غيرها. وأترك لفضيلة الشيخ ليتحدث عن الوسيلة الثانية: نعم أفاد وأجاد الشيخ محمد فيما قال -بارك الله فيه- في قضية ضرورة ترشيد الاهتمامات وتصحيحها، وأن يُعطى كل شيء قدره، فإن الله عز وجل بعث رسوله صلى الله عليه وسلم بالحكمة. والحكمة: وضع الشيء في موضعه، وإعطاء كل ذي حق حقه، ونهى الله عز وجل عن الظلم ومن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، أو البخس، كما قال الله عز وجل: {ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً} [الكهف:33] . فالبخس والنقص من الظلم، سواء بالنسبة للأشخاص مثلاً أم بالنسبة للأعمال، بالنسبة للأشخاص تجد أننا نحن المسلمين كما قال فينا أبو فراس الحمداني: ونحن أناس لا توسُط بيننا لنا الصدرُ دُون العالمينَ أو القبرُ فليس عندنا أنصاف حلول؛ إما أن يكون هذا إبليساً، أو يكون قديساً كما يقولون، ما عندنا إنسان فيه خير وشر، وفيه هدى وانحراف، وفيه صلاح وفساد، ما نعرف هذا، فإما أن نبجل هذا الإنسان ونجعله كأنه كاملاً لا نقص فيه، فإذا وجدنا عليه خطأً أنزلناه إلى الحضيض، أما بالنسبة للأعمال فكذلك؛ إما أن يعمل الإنسان ما يظن أنه العمل الكامل المقبول، أو يقصر تقصيراً كبيراً، بحجة أنه لم يستطع القيام بالتكاليف الشرعية، مع أنه من الممكن -بل من الواجب- أن يتمسك الإنسان بما يستطيعه أو يقدر عليه من الأمور والأعمال الصالحة، ويستغفر الله من تقصيره أو خطأه أو معاصيه؛ ويحاول أن يحسن وضعه مع الوقت. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 35 إحياء الشعائر الإسلامية أتحدث عن جانب آخر، وهو قضية إحياء الشعائر الإسلامية في مجال المواجهة لأن الله عز وجل ما ترك أمهً بدون نبي يرشدها: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التوبة:115] . فبين الله عز وجل لنا ما نتقي، كما أنه عز وجل بين لنا ما نفعل، فالدين أمرُُ ونهي، تحليل وتحريم، ولذلك هناك شعائر شرعية أو واجبات شرعية هي أساس للمواجهة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 36 الاهتمام بالقرى والأرياف وأؤكد على قضية أعتقد أنها مهمة في مثل هذه البلاد، وهي القرى والأرياف، القرى بحاجة إلى العناية، لأنكم تعلمون ما ينتشر فيها من الجهل والفراغ، فهي بحاجة إلى كل الوسائل السابقة، وبالذات على الأخص الأشرطة، لأن لها تأثيراً عجيباً، وسهلة على الدعاة، وكذلك نقلها ونشرها بين الناس وصلى الله وسلم على نبينا محمد. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 37 تعليق حول الدعاء والضغط الجماهيري في الواقع تعليق ختامي، أعود أولاً لأذكر قضية "ندامة الكسعي" وفيما ذكره الشيخ في موضوع الضغط واستخدام وسائل الضغط. الدعاء: أمر تفوضه إلى الله عز وجل، تدعو الله، الأمر بيد الله يجيبك أو لا يجيبك، لكن الرسول صلى الله عله وسلم أمر العبد بأن يدعو، وأنه لن يخسر، إما أن يجيبه الله فيما أراد، وإما أن يصرف عنه من الشر مثله، وإما أن يدخره له ليوم الحساب وهو أحوج. بالنسبة للضغط الجماهيري: لابد من ذلك في كل شيء، في كل عملٍ صالح، مثلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء أكان عن طريق الخطاب، أم الكتاب، أم الاتصال، أم الضغط الاجتماعي، وتحريك جمهور الأمة، ضد هذه المنكرات التي أصبحت تنتشر وتتسع، إما أن يزول المنكر، أو يخف المنكر، أو على الأقل تضمن ألاَّ يأتي منكر آخر بعده مباشرة، لأنه إذا كان هذا موقف الناس من هذا المنكر، معنى ذلك أنهم غير مهيئين الآن لتقبل منكرات أخرى، فقد يؤجل منكر آخر ولو بقي هذا المنكر، وهناك جانبان: الجانب الأول: فأنت لا تقل: "تكلمنا ولا تغير"؛ لأنه وإن لم يتغير، إلا أنه ربما انكفَّ شرُُ كان سيأتي، فلا تكن نظرتك قريبة سطحية دونية. الجانب الثاني: قضية أن نكون عمليين كما أشرنا في البداية، وكما ذكر الشيخ محمد الآية: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] . هذه الآية التي أذكر أنني قرأت في سنن النسائي وسنده صحيح، عن ابن عباس رضي الله عنه أنها نزلت في بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، كانوا يقولون: لِمَ لا يَأمُرُناَ الله بالقتال، فلما أمروا إذا فريقُُ منهم يخشون الناس كخشية الله، أو أشد خشية، إذاً بعض الناس، يقول: لا يفيد، لا يفيد؛ لأن لديه نية، ولأنه يريد أن يغير هذه الأمور بالقوة، وهذا أمر غير متاح له، فلا يعمل شيئاً، وربما لو فتح مجال جهاد في سبيل الله عز وجل، لوجدت هذا الإنسان أول الناكصين والناكثين والمتأخرين، فالإنسان الذي يعمل القليل هو المهيأ ليعمل الكثير. وفي ختام هذا المجلس: نعتذر إليكم من الإطالة والإملال، ونسأل الله عز وجل أن يكون هذا الكلام نافعاً، مُرضياً له، نافعاً لعباده: سامعهم ومتكلمهم، إنه على كل شيء قدير، وأن يغفر لنا خطأنا وزللنا وتقصيرنا، ويوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح والتوبة النصوح، وأن يجعلنا أولياء للإسلام مجاهدين في سبيله، دعاة إليه، وأن يجعلنا شُجاً في حلوق أعداء الدين أياً كانوا، أن يغيظهم بنا كما قال عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29] . أسأل الله أن يغيظ بنا الكفار، قولوا: آمين، أسأل الله أن يغيظ بنا الكفار، وأن يقر بنا جميعاً عيون المؤمنين والمسلمين في كل مكان، وأن يغفر لنا ويعيننا على أنفسنا، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 38 قضية الجهاد الجانب الثاني:- هو جانب الجهاد في سبيل الله عز وجل، والكلام في الجهاد يطول، وقد لا نكون محتاجين كثيراً للحديث عن هذا الأمر، فأترك المجال والفرصة لأخينا الشيخ محمد. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 39 اقتحام الإعلام الوسيلة الأخيرة التي سنتحدث عنها: أقول قبل قليل صورنا الوسائل الحديثة التي يستخدمونها، وبالمقابل استخدامنا للوسائل الحديثة ضعيف، أُولى هذه الوسائل الإعلام، بكافة إمكاناته المتاحة أمامنا، أي وسيلة ممكنة متاحة أمامنا نستغلها ككتابة في صحيفة، أي صحيفة كانت، لأن كلمة الحق لن تضيع، ولها روادها، وستجد من يقرأ لما تكتب، وستجد بعد فترة صاحب الصحيفة يخطب ودك لتكتب، لأن كتابتك لها مذاق خاص، ونوع خاص، وأنتم الذين تتابعون الجرائد والصحف والمجلات، تعرفون بعض الكتاب، قد لا يأتيك بحقائق، ولكن كتابته ساحرة، لأنه يشخص بعض الأوضاع الاجتماعية ويعالجها، وإذا استطعنا أن نمشي تخطيطاً، وتكتيكاً، وهدوءاً، ومعالجة، فلا يكون لمعالجاتنا انفعالات، لأننا دائما إذا كتبنا، نسينا أن هذه الصحيفة كل يوم تكتب، تُملأ بالهراء، فأنت جئت بكل ما عندك في مقال واحد. الجانب الأول: أنت لو أشرت إلى قضية أو قضيتين، بهدوء واستطعت أن تصل إلى عقل القارئ لا عاطفته، لاستطعت أن تحركه نحو الخير. الجانب الثاني: الأشرطة. وعلى رأسها أشرطة العلم، لأنه لا يتوفر اليوم عَاَلِمْ في كل مدينة وقرية وريف، لكن هناك أشرطة سدت المسد، هذه وسائل حديثه، نستطيع أن ننشر الأشرطة على أوسع نطاق، التي كما أسلفت سابقاً تستطيع أن تنشر الوعي السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغير ذلك، لأن هذه فرصة متاحة لنا، فرصة كبيرة نستطيعها، هذا إعلام قوي، وإعلام موجه، وإعلام محفوظ، فلو أتيت براديو لشخص تقول له اسمع، فسيكون فيه غث وسمين، لكن هذه الأشرطة من الإعلام المحفوظ التي فيها الخير الكثير، وليس فيها من الشر إلا ما ندر وعن غير قصد. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 40 الضغط الجماهيري ومن الوسائل الحديثة هناك شيء اسمه الضغط الجماهيري، وهو ضغط على كل منكر، فلو وجد منكر في المدرسة، ووجد مدير متصلب لموقف معين، أرأيتم لو أن عشرة من أولياء أمور الطلبة، وعشرة، وثلاثة، وخمسة من المدرسين وأربعة منهم كلهم اتصلوا بمدير المدرسة، كلهم يؤكدون على هذا المنكر، ألا يستحي، ألا يخجل، ألا يغير، بلى والله، وإن لم يغير خفف. إذاً نحن بحاجة إلى ضغط على كل شيء نجده في المجتمع، أي منكر نقوم بشيء تجاهه -أياً كان- نحن بحاجة إلى أن نستخدم هذه الأساليب التي غابت عنا زمناً، حتى نصل إلى الخير الذي نريد. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 41 العمل الاجتماعي من الأشياء المهمة ومن الوسائل الحديثة: العمل الاجتماعي على كافة أبوابه، سواء أكان عملاً إصلاحياً، أم عملاً اجتماعياً، لفقراء، لمساكين، لأصحاب حاجات، لتغيير، لإصلاح، المهم أن نقوم بهذا العمل الاجتماعي على أوسع نطاق، بالإضافة إلى العمل الاجتماعي، لا بد أن يكون لنا امتداد واسع جداً، وهذا المكان هو الشعب، ما لم نكن نحن وجمهور الأمة سوياً، فلن نعمل شيئاً، نكون مثل السمك في البحر إذا خرجت ماتت، مهما كنا، احسب عددنا الآن هنا، لا نمثل شيئاً، لكن إذا استطعنا أن نكون شيئاً اجتماعياً، لا تستطيع أي وسيلة من وسائل الإعلام، أو أي أمر أن يردنا، فكيف يستطيع أحد أن يؤثر على أهلك وعلى زملائك وعلى أصدقائك؟! لا يستطيع وأنت بينهم تعطيهم الرأي الصحيح، تنير لهم الطريق، لا يستطيع أن يقتحم هذه الحصون وأنت موجود، أما إذا تسربلت واختفيت، أصبح ليس لك وجود، أنت بحاجة إلى أن تقرأ أي شيء تراه وتسمعه، بحاجة إلى أن تعطي فيه وجهة نظرك، حتى لو لم تكن وجهة النظر السليمة مائة بالمائة، لكن بحاجة أن تقول شيئاً، حتى لو أنك بحاجة أن تقول: إن هذا خطأ، ولو لم أعرف ما هو الصواب، لكن أعرف أن هذا خطأ، أيضا أؤكد على ما ذكرته سابقاً، التخصص فلا يتصور إنسان أنه سوف ينقذ هذه الأمة، أو أنه الرجل الوحيد الذي ستحرر الأمة على يديه، فيبدأ يفكر ويخطط وينظر ويبعد ويقرب ويصلح، وهذا العمل كبير ما يستطيع أن يعمله، وهذا صغير ما يليق به أن يعمله، ثم ما يعمل شيئاً. تعمل بالممكن والمتاح، لنصل إلى غير الممكن، ولو نظرنا إلى المسلمين قبل الإذن لهم بالجهاد، ماذا قيل لهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [النساء:77] ما أعجبهم، لماذا؟ لم نؤمر بالقتال، ولم نؤمر بالزكاة، فنحن أمامنا وسائل متاحة، إذا استطعنا أن نستغلها ونهتدي لها، لاستطعنا أن نصل إلى ما بعدها، وثقوا ثقة تامة أنه إذا عمل الإنسان بالممكن والمتاح، وصل إلى غير الممكن، وغير المتاح. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 42 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثلاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قضية خطيرة شرعية غائبة عن كثير من المجتمعات، وفي الإسلام كانت الحسبة هي كل شيء، اقرأ في أي كتاب من كتب الاحتساب، مثل كتاب معالم القربة في أحكام الحسبة، أو كتاب الحسبة في الإسلام لـ ابن تيمية، أو أي كتاب من الكتب التي تحدثت عن المجتمع التاريخي للمسلمين، بلوغ الأرب مثلاً أو غيرها، نجد أن الحسبة في الإسلام كانت كل شيء، حسبة على الأسواق، حسبة على النساء، على الرجال، والولاة، والعمال، والشوارع، كانت الحسبة تقوم بمهمة الشرطة، والبلدية، والمرور، والغرفة التجارية، والغرفة الصناعية، وجهات عديدة جداً، كلها كانت مجموعة في عمل يطلق عليه الحسبة. وهي تنطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في الميدان الاجتماعي والمجال الاقتصادي والأخلاقي والسياسي وغيرها، حُسِرَ هذا المفهوم وانحسر وضمر في نفوس المسلمين، حتى أصبح المسلم ما يفهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه يمر بالشارع ويقول للناس صلوا هداكم الله، هذا أمر بالمعروف صحيح، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إطاره أشمل من هذا، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سُلطة قوية راسخة تزيل المنكر وتثبت المعروف، وتمنع تلويث البيئة العامة، صحيح هي لا تستطيع أن تطهر المجتمع نهائياً من جميع ألوان المنكرات، لأن هذا الأمر لا يمكن، لكنها تستطيع أن تعطيك تقريراً عن أن البيئة العامة نظيفة، الجو ليس فيه جراثيم، تُلَوِّثُ وتصيب أجساد الناس بالمرض، فينشأ الناس في بيئة نظيفة صالحة، الذي يريد الخير يلقاه، والذي يريد الشر يجد ألف عقبة وعقبة أمامه، وليس العكس أن الذي يريد الخير يجد العقبات في البيت وفي الشارع وفي المدرسة وفي كل مكان، والذي يريد الشر يجد الباب مفتوحاً أمامه على مصراعيه، مهمة الحسبة أن يظل المجتمع مجتمعاً مسلماً، لأن كلمة مسلم هذه، ليست مجرد -كما يقال- ماركة مسجلة، تطبع على مجتمع فيصبح مسلماً، لا!!! لا. المجتمع المسلم ميزته أنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقط لا غير، هذه الميزة الأساسية أن المجتمع المسلم مجتمع قام على المعروف والأمر به، وعلى ترك المنكر والنهي عنه، قال الله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة:71] . وعلى العكس المنافقون والمنافقات، من هم المنافقون؟ لا تظن أن المنافقين ناس انتهوا من الأرض، فهم في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا. العلمانيون منافقون يرفضون الموت، ويقولون -مثلاً- وفق شريعتنا السمحة، وديننا القويم، وعاداتنا الدينية، وموروثاتنا، ثم تحت هذه الكلمة المطاطة يدخلون ما يشاءون من ألوان الفساد والنفاق، هؤلاء منافقون، لأنهم لا يستطيعون إعلانها الآن، أنهم ضد الإسلام، لا، يقولون: وفق ديننا السمح، وشريعتنا الغراء، وموروثاتنا الاجتماعية، إلى آخره. العلمانيون منافقون، والحداثيون منافقون، واليساريون منافقون، والقوميون منافقون، وإنما صاروا منافقين؛ لأنهم لا يستطيعون أن يطرحوا حقيقة ما لديهم من آراء وأفكار، فهم يتمسحون بالإسلام، ويتكلمون عن الإسلام، وعن تاريخ الإسلام، وعن شخصيات الإسلام، وقد يقومون ببعض الشعائر مثل ذر الرماد في العيون، لكن في قلوبهم مرضُُ فزادهم الله مرضاً، فلا بُد من إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل نطاق، وابدأ ببيتك، فقد تكون بنتك أو أمك أو أختك أو زوجتك هي إحدى المتأثرات بالحرب الإعلامية التي تكلمنا عنها قبل قليل، ومن الممكن أن تكون في المستقبل من دعاة تحرير المرأة، ماذا يمنع عن هذا!!! لو نظرت إلى بعض الداعيات إلى تحرير المرأة، قد تجدها بنت شيخ مثلاً، وبعض المغنيات قد تجد أباها شيخاً، أو عالماً، أو قارئاً. إذاً الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أبدأ بنفسك وبيتك ومجتمعك وسوقك ومتجرك وفصلك في المدرسة وشركتك، وانتقل بعد ذلك إلى المجال الأرحب: المجتمع. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 43 الأسئلة الجزء: 208 ¦ الصفحة: 44 أجهزة الفساد في البيوت السؤال أرجو توجيه كلمة خاصة للشباب عن حقيقة الإعلام الفاسد الذي نواجهه أو قد يواجهنا؛ لأننا نجد كثيراً من الشباب الملتزم يوجد في بيته أجهزة الفساد، والبعض منهم يرى أنها لا تشكل خطراً على الفرد والأسرة؟ الجواب نعم الحقيقة هذه مشكلة، لأن بعض الشباب، يتكلمون عن غيرهم، وكأنهم هم غير مقصودين، مثل ما قرأت في بعض الكتب، يقول الشيخ محمد أمين المصري رحمه الله: كان هناك خطيب في الشام يتكلم عن قضية غلاء المهور ووجوب تخفيض المهور، وألا يغالي الناس في صداق النساء، يقول: فكان عنده بنت، فلما جاء زواجها، طلب مهراً عالياً وأسرف وبذخ وبالغ، فقيل له في ذلك، فهز رأسه وهز كتفيه منفعلاً، وقال: هل تريدون أن تكون بنتي أقل من بنات الناس؟!، أين كلامك بالأمس؟ أين ما كنت تقول بالأمس هذا حدث عملي واقعي، كلام الذي كنت تقوله! كلام الداعية تجد أنه ينتقد المجتمع، وينتقد القريب والصغير والعالم والحاكم، لكن لو تأتي إلى بيته تجد فيه أحياناً عشرات الأخطاء ولا من تصحيح، وربما لو قلت له في ذلك، قال: الزوجة قد تعترض، حسناً لماذا لا تفترض أنه والله حتى هذه المنكرات في الواقع ربما يكون سبب عدم تغييرها أنه هناك من يعترض. إذا كان في بيتك خمسة أفراد، ومع ذلك تأتي المعارضة، وتترك أشياء كثيرة من أجلهم، فما بالك بغيرك؟ هو أكثر عذراً بهذا!! طيب إذا نحن فتحنا هذا الباب معناه أن المنكرات تبقى بحجة أن الناس يطلبونها أو يريدونها! وهذا خطر كبير، لا أعتقد أن داعية يصدق أو يرضى به، هل سوف تصبح أيها الداعية، بواباً على شاشة التلفاز! تغلق وتفتح؟ إذا جاءت مادة فاسدة أغلقت، وإذا جاءت مادة صالحة فتحت من أجل الأطفال، هل سوف تترك عملك وذهابك وإيابك وصلاتك ودعوتك لتكون بواباً على التلفاز؟! هذا غير صحيح، إذاً معنى ذلك أنك سوف تهتم من أهل البيت، هل تربي أهل البيت؟ هذا السؤال أنت الذي سوف تجيب عليه، عندك نساء قد لا يكن تربين تربية سليمة، عندك صغار، عندك شباب، عندك مراهقون، إذاً الحل هو أن تنظف بيتك من أجهزة الفساد. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 45 توسيع دائرة الأمر والنهي السؤال ما رأيكم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الجماعي، كما هو موجود في الرياض؟ الجواب هذا أمرُُ طيب، ولكن مثل ما وجد في الرياض، ينبغي أن يتحمس له أهله من العلماء والقضاة، والدعاة الكبار ويكونون هم علية القوم فيه، فإن لم يكن كذلك، فأقول الوسائل الأخرى، بأشكال ثانية متاحة في أي مجال، مجالات كثيرة، سواء كانت في السوق، في المدارس، نستطيع أن ننظر في المجالات الأخرى، بغرض أن نعمل أذهاننا وتفكيرنا في كيف نزيل هذا المنكر، ويصبح هذا المنكر مزالاً، عندئذ ستتفتق أفكارنا عن أشياء جديدة، قد تكون طبقت في جهة أخرى، وقد تكون لم تطبق، لأن السوق لو قام به مجموعة، وعملوا فيه أيضاً وفتحوا محلات، قاموا على عمل هذا خير قيام، أصبحوا هم يديرون السوق، ويتحكمون في السوق، ويستطيعون أن يجعلوا للسوق هيبة وهيلمان، لكن لم تكن له، لأنهم جزء من السوق وتجاره أما أن يكون الإنكار هذا مقصوراً على طلبة العلم فقط، هذا لا يكفي، مفروض أن المجتمع كله يتفاعل، ولكن طلبة العلم، يجب أن يوجهوا الجميع. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 46 محلات الفيديو السؤال ما رأيكم في الأسلوب الأنجح بالنسبة لمحلات الفيديو؟ الجواب والله إغلاقها!! الأسلوب الأنجح هو إغلاقها، لأنها شر، اللهم أشرطة نادرة، وهي موجودة في غير هذه المحلات مثل المؤسسات الإسلامية، وينبغي مناصحة أهلها، ومخاطبة المسلمين بشأنها، ومراقبتهم من قبل الجهات المختصة، كل ذلك من الوسائل المفيدة. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 47 ضياع الوقت في المخيمات السؤال حياً الله ضيوفاً حلوا بأرض المخيم، بعض الشباب حينما علموا أن هذا المخيم لا يجتمع إلا على النشاط الرياضي والثقافي كأنهم رفضوا الاشتراك فيه، وبعض الشباب يبتعدون عن مثل هذه المخيمات وتجمع الشباب، لما فيهما من بعض إضاعة الوقت، فما رد فضيلتكم على هذين الصنفين من الشباب؟ الجواب الوقت لا يضيع في مثل هذه المخيمات، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلاعب أهله، يلاعب الأولاد، يلاعب الصبيان، وإذا جاء الإنسان هنا، فإن هذا ليس من إضاعة الوقت، لأنه قد يكون هو متشبع بفكرة، وإذا جاء اختلف، قد يكون عنده خلق "ما يستطيع أن يعايش الآخرين" فإذا جاء تهذب وهكذا، فمثل هذه الاجتماعات وهذه اللقاءات أقول: إنها زاد قد تصل أحياناً إلى أن تكون زاداً شهرياً، يعني دفعة لشهر كامل للشاب، حتى وإن كان عالماً، أو طالب علم كبير، يحس حين يأتي ويرى الناس سواء كانوا سامعين له، أو سامعاً لهم ولأفكارهم، وتصوراتهم، وتطلعاتهم، فإنه يندفع اندفاعاً عجيباً، لا يعرف إلا من جرب هذا، هذا الجانب الثاني، الجانب الأول: مثل ما أشرنا في استخدام الوسائل، فلا مانع أبداً من استخدام أي وسيلة مناسبة للترويح عن النفس، ولئلا يكون هذا المخيم، يغلب عليه طابع معين من الركود والجلوس، فإذا كان الواحد منا قد تعلم من خلال فترة طويلة، من اللقاءات والحلق، وغيرها، على أنه مستعد ساعتين، أو ثلاث ساعات يستمع، فإن غيره، لا يستطيع أن يجلس ولو نصف ساعة، ليستمع إلى كلام جاد، ولا بد من مراعاة ظروفهم، والتوسط مطلوب دائماً ونحن أمة وسط، لا إفراط في هذا الجانب، ولا تفريط في ذلك. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 48 دعوة المحاربين للدين السؤال هل دعوة هؤلاء الصليبيين ومن معهم للإسلام واردة في هذه الظروف؟ الجواب نعم الدعوة واجبة، وأنا أقول للإخوة أن التتر جاءوا غازين لبلاد الإسلام، ومع ذلك، كما قال محمد إقبال: بغت أمم التتار فأدركتها من الإيمان عاقبة الأماني فمنهم من أسلم، فهؤلاء القوم الآن وهم الصليبيون ومن معهم وإن كانوا الآن يعتبرون منتصرين وأقوياء ومتقدمين بالنسبة للمسلمين من ناحية الحضارة والعلم المادي، إلا أن هذا لا يمنع، إنهم فقراء وعطاش في مجال التغذية الروحية، والإيمان، والعلم، والخُلق، ولذلك هم يتطلعون إلى هذا الأمر، وعندهم قابلية للإسلام، وهذا أمرُُ معروف، ومن الميزات التي تميزهم أن عندهم استطلاع عجيب، ونهم غريب، لكننا لم نهتم له بالجهد في الواقع، إلا جهد مقل، وهو جهدُُ ضعيف، أستطيع أن أقول بكل اطمئنان: إن الذي يبذل حتى الآن هو جهود فردية محدودة لنشر الإسلام أو دعوتهم إليه، ولا تزال دون المستوى المطلوب. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 49 دور خطباء الجمعة السؤال ما هو دور الخطباء خاصةً بعد أن كان العداء على الإسلام معلناً من جميع الأعداء، أقصد خطباء الجمعة، ما هو دورهم من على المنبر؟ الجواب إذا استطاع الخطباء أن يوحدوا اهتمامهم، وأن ينصرفوا إلى قضايا المجتمع الرئيسة، ويطلقوها جميعاً، لا أقصد في خطبة واحدة، وفي يوم واحد، لكن أن يحس الناس كلهم، أن كل الخطباء متضامنين مع هذا المجتمع، متفاعلين معه، يحسون بإحساساته، يعيشون له، وآلامه، وآماله، فإنهم حينئذٍ يستطيعون أن يؤثروا في هذا المجتمع، ويغيروا بالكلمة الطيبة، التغيير المطلوب، أما إذا بقيت المسألة على خطيبٍ في مدينة كذا، وخطيبٍ في مدينة كذا الخ، فإنهم يعتبرون عند الناس، شتات، والمطلوب من الخطباء أن يتقوا الله، إنما شرعت هذه الخطبة في الجمعة لتوعية الناس، ولتبصيرهم في أمور دينهم ودنياهم، لا تضاع في كلام لا فائدة فيه، إما أن يكون تحت الأرض، أو فوق السماء، ودائماً يكون ترديده هذه مشكلة، والرسول صلى الله عليه وسلم، خطب بخطب، ولما جاء أبو بكر لم يعد خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل خطب بخطب أخرى، ولما جاء عمر خطب بخطب أخرى تناسب الحياة والواقع، فاختلفت الصورة، فالذين يريدون اليوم من الخطيب أن يكون مقراءً يردد كلمات يقرأها من كتاب كذا أو من كتاب كذا، ولا يعيش لآلام الأمة وآمالها، هم يهمشون دوره، ويحجمون دوره، والمسكين الخطيب، ماذا يعمل في هذه السويعة؟ ربع ساعة أو نصف ساعة بالأسبوع، الإذاعة من جهة، والتلفزيون من جهة، والصحف من جهة، والإعلام الخارجي من جهة وبشكل مكثف طيلة الأسبوع الماضي، اطلعت على كتاب كذا، ما يدري الخطيب هل هو يصحح الأوضاع الفاسدة، أو يبدأ بطرح أشياء جديدة وهكذا. فإن لم يكن الخطيب على مستوى الساعة ومستوى الأحداث، فإن هذه مصيبة من مصائب الأمة، وعلى الخطباء أن ينظروا في المسئولية التي حُمِّلت على أعناقهم، فكما يطالبون الآخرين بمسئولياتهم هم الآخرون مطالبون بمسئولياتهم أيضاً، فإن عليهم مسئولية تجاه المجتمع، المجتمع ائتمنك في هذا المكان لتقول الكلمة الصادقة، فإما أن تقول الكلمة الصادقة، وإما تتخلى عن هذا الموقع لمن يقول الكلمة الصادقة. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 50 مجابهة البث التلفزيوني الهابط السؤال يقول لنا القادمون من المنطقة الشرقية بأن هناك محطات بث تلفزيوني تغطي المنطقة، تبث الأفلام الجنسية الخالصة، وهي محطة تلفزيون أرامكو، ومحطة تلفزيون تبث للقوات الأجنبية، ومحطة تبث من دبي، ما الموقف من ذلك، وكيف درء هذا الخطر بالنسبة للقاطنين في المنطقة الشرقية؟ الجواب هذا يؤكد لكم أيها الإخوة ما ذكرته أثناء المحاضرة أو الندوة أن الحرب الآن علنية، ففي الماضي. ممكن شريط الفيديو الجنسي، أو رقص أو كذا يسرب بين الشباب ويتناقلونه سراً، ويعاقب عليه النظام، لكن اليوم لا تستبعد مثل هذه الأخبار سواء صحت أو لم تصح، ستصح غداً، ولذلك هناك يأتي دورنا -دور المواجهة- ليست القضية قضية شريط يحارب بطريقة أو بأخرى، لا، القضية أكبر من ذلك، ولهذا نحن علينا مسؤليات كبيرة، كل إنسان يحاسب نفسه، عليك مسئولية حماية نفسك وبيتك، هذا واجب، حماية من تستطيع، توعية الناس، القيام بدورك في مجالك، افترض، أنك إمام مسجد، خطيب، واعظ، داعية، مدرس، من خلال عملك تقوم بجهد في هذا المضمار، حديث في هذه القضية، كلام عن خطورتها، تنتقل إلى مدى أوسع وأبعد من ذلك، أنت داعية، مهتم، ننتقل إلى النقطة ماهي البدائل؟ هل فعلاً سوف يغزونا العدو بهذه الطريقة؟ ونحن لا نزال نتجادل في جدوى مشاركة أجهزة الإعلام، لا، هنا ينبعث كوكبة من الدعاة ينذرون أنفسهم لهذا الميدان، يستخدمون السلاح ليردوه في صدر العدو، لو كنا أمة قوية، حتى البث المباشر، نستغله للإسلام، لأنهم معهم من يؤجرون محطة، أو قناة تبث وسائل دعوة، تبث تعريفاً بالإسلام، وهذا وجد عند بعض الشباب في أمريكا، قد يستأجرون ساعة مثلاً، يبثون فيها برامج إسلامية، الناس يأتون بغاية الشوق واللهفة يتساءلون عن الإسلام الذي سمعوا عنه وعنه الخ. هذه أمور قد تكون ليست الآن قريبة، لكن يجب أن تكون من ضمن اهتماماتنا وأفكارنا في المستقبل القريب. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 51 تحرير المرأة السؤال هل سمعتم ما حصل في مدينة الرياض يوم الثلاثاء من احتجاج على رفع الحجاب، وإذا سمعتم فما هو تعليقكم على هذه القضية الخطرة، وتعرفون كيف بدأ الحجاب في مصر، كما حصل في الرياض؟ الجواب هذا السؤال مكون من فقرتين، يقول هل سمعتم هذا أولاً، الثاني إذا سمعتم، فما هو تعليقكم؟ أنا أجيب على الفقرة الأولى هل سمعتم؟ أقول نعم وأترك الفقرة الثانية إلى الشيخ محمد أقول: نعم سمعنا، وأقول لكم: اتخذنا ما نراه مناسباً، لكن ماهو دروكم فالموضوع فعلاً بحاجة أن تتضافر عليه جميع الجهود لثلاثة أمور: لوقف هذا الشر، ولوقف شرٌ منه، وللبراءة أمام الله وأمام أنفسنا، أمس يمكن أن يتحدث أحد الإخوان، أو أحد المشائخ، أو أحد طلبة العلم، عن القضية وخطورتها، فيقول لك أبداً، أنت تقول أموراً ما تحتمل، وأنت نظرتك متشائمة للواقع، تقول هذا الواقع، بكل ثقله غداً تخرج فتجد واحدة ليس اسمها هدى الشعراوي؟ لا اسمها من بناتنا، لها اسم وقبيلة وعائلة وقد يكون عمها شيخ، أو له تاريخ عريق، وبيت علم، وطلبة علم، هذه مصيبة، فإذا نحن لم نقف وقفة جادة فعلاً بكافة اتجاهاتها، المدرس في مدرسته، وصاحب السوق في سوقه، والخطيب في خطبته، وهذا على صعيد التبيين للناس بما حدث، وأن هذا منذر سوء وخطر، كذلك نحن بحاجة إلى مكاتبة المسئولين بكافة قطاعاتهم، وكافة تخصصاتهم، لأنه كل تخصص عندهم من هذا شيء، يعني كل وزارة فيها قسم نسائي، وغداً قد تفتح لنا أبوابها الحمر، فكل إنسان يجب أن يسأل نفسه ماذا قدم لما حدث؟ قبل أن تختلط علينا الأوراق فعلاً، هذا أمر في بدايته، قبل أن نقول بعد فترة: إن الأوراق اختلطت ولا ندري من أين نبدأ. حقيقة ما ذكره الشيخ محمد فيه كفاية في التعليق على مثل هذا الحدث، وعلى كل حال، أنا أعتبر أن هذا طرف السكين، الأمر الذي جرى طرف السكين، ويجب أن ندرك أن هذا قد يكون لنا اختبار، لأن هناك قوة تعمل في الظلام، والآن جاء دور العلنية، كما تحدثنا في المحاضرة، علانية الصراع والمواجهة، فأروا الله تعالى من أنفسكم قوة وشجاعة في مواجهة هذه الأمور بحزم، لأن هذا جزء من كل، وقد أصبحت الأمور تنبعث علينا من كل جهة. تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراشٌ ما يصيدُ لكنَّ خراشاً يجب أن يستغيث بالله عز وجل، ثم بمجموعة من أبناء قبيلته، ويكون كل واحد منهم معه بندقية يصيد ما يستطيع من الظباء، بحيث يواجه خراش هذه الظباء المتكاثرة، يواجهها بقوة مكافئة، يجب أن يشتغل الجميع، يعمل الجميع، ولا تكن القضية قضية (ما تعليقكم) (وما دوركم) ؟ وإلا ماذا فعل ابن باز؟ وإلا ماذا فعل فلان أو علان، كل واحد منا يجب أن يكون هو ابن باز، بقدر ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أنت حدد لنفسك أولاً ما هو الدور الذي تستطيع أن تفعله؟ دعونا يا إخواني من التلاوم. دعونا نفكر تفكيراً واقعياً هات ورقة صغيرة مربعة وقلم، واكتب بالضبط، ما هو الدور الذي سوف تستطيع عليه أنت بارك الله فيك؟ ماذا تستطيع؟ حدد لنا، ما أعتقد أنكم سوف تقولون: لا أستطيع شيئاً، إن كنت رجلاً، فلن تقول هذا، حتى لو كنت امرأة، المرأة تستطيع أن تصنع الكثير، وكما سلف، إذاً، حدد لنا بالضبط ما هو الدور الذي تستطيعه؟ رسالة خطية، خطاب، اتصال هاتفي، كلمة، موعظة، نصيحة، خطبة، توعية، دعوة، ولو بكلمة طيبة، فإذا حددت حبراً على الورق انطلق بالتطبيق على الواقع، ما جرى في الرياض، وما جرى في غير الرياض، وما سيجري في الرياض، وفي غير الرياض، سوف يتحطم على صخرة الإصرار الإسلامي، على أن نظل محافظين على الإسلام عقيدةً وسلوكاً وعملاً، وأن يكون الإسلام شعارنا وظاهرنا وباطننا وسرنا وعلانيتنا، وأن لا نرضى بغير الإسلام ديناً لا في مجال السياسة، ولا في مجال الاقتصاد، ولا في مجال العلاقات الاجتماعية، ولا في أي مجالٍ من المجالات. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 52 الولاء والبراء السؤال في خضم الأحداث الجديدة، فإن الكثير من الناس، اختلطت عليه قضية الولاء والبراء من يوالي ومن يعادي، فهل هناك من كلمة توجيهية، حول هذا الموضوع؟ الجواب هذا الموضوع -من المواضيع- التي يجب ألا تختلط فيها الأوراق، لأنه من مواضيع العقيدة، الولاء لله ولكتابه ولرسوله وللمؤمنين، دائماً، وبالذات أعمال القلوب هذه ليس فيها جدال ولا مواربة، ولا فيها مرحلية، ولا فيها ما نستطيع، قد يأتي رجل إلى امرأة ويغتصبها، لكنه لا يستطيع أن يصل إلى قلبها أبداً إذا كانت كارهة، أي أن هذا الأمر لا يقبل جدالاً، ولا يقبل نقاشاً، ولا يقبل تنازلاً، ولا يقبل مهادنة، وهو الكره القلبي، الكره للكافر بكفره، والفاسق بفسقه، والفاجر بفجوره، والحب للمؤمنين، ولكتاب الله، ولرسوله، ولسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذه يجب ألا تختلف الأوراق فيها أبداً، يجب ألا تغيب هذه القضية في لحظة من لحظات الإنسان، من لحظة رشده إلى وفاته، أبداً لا تتغير في يوم من الأيام، الذي يتغير طريقة التعامل، الذي يتغير طريقة النصرة للمسلمين، كيف تكون؟ نصرة لسان، أو نصرة سنان، كذلك الأعداء الكفار، أما بُغْضهمْ، فهذا لا يتغير أبداً، يجب أن يكون بُغضهم من الأشياء التي نتعاهد بها قلوبنا، حب المؤمنين وبغض الكافرين، ما ينفك عنا أبداً، لكن الواقع العملي هو الذي قد يتغير بسبب المصالح والمفاسد، بمعنى لو أن واحداً ممن يبغض الكفار، يأخذ رشاشاً ويضرب به بعضاً من اليهود والنصارى، قد يُضرب بسبب هذه الضربة ألوف، وهو قد يقدر المصلحة، فيتركها إذا كانت الضربة أكثر منها، لكن أعمال القلوب، ليس فيها أي تنازل، يجب أن يكون البغض قائم دائماً للكفار، بكافة أشكاله ونحله، وللكفر أيضاً، وللفسق، دائماً قلوبنا يجب ألا تتنازل أو تضعف عن هذا الشيء، ولكن الأشياء العملية، هي التي يكون فيها الجوانب المرحلية، تقدير قوتك، وضعفك، وآثار المنكر، وتغيير الأثر المترتب عليك، هذا الفقه في هذا، أما الأول فما يحتاج إلى نقاش أو جدال، يجب أن يكون مستقراً لدى كل مسلم وكل مؤمن، أن هذه قضية أساسية، وقضية من قضايا دينه، من رأى منكم منهم أحداً فليقل: كفرنا بكم وبدى بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا، هذا الذي يجب أن يكون دائماً هو السائد، الذي يختلف في وجهات النظر، هو طريقة التعامل، أو طريقة الإنكار، أما الأول فلا يختلف. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 53 الغيرة على الدين السؤال يكثر الحديث عن الغيرة على الإسلام، وكثيراً ما يخطر في بالي ذلك، والمطلوب ما هي الطريقة الصحيحة لتنمية شعور الغيرة على الإسلام، خاصةً وأن الإنسان في مرحلة الطلب، وقد يكون التفكيرُ الكثير في ذلك عائقُُ عن ذلك، فجزاك الله خيراً؟ الجواب جميل وجود هذا الشعور، وينمى فيما أنت متجه إليه، فمثلاً: شاب في مرحلة الطلب، الأمة أحوج ما تكون اليوم إلى العلماء، ولا ننظر إلى الأمة في قطر من الأقطار، بل في مجموعها، هي بحاجة إلى العلماء، أقل شيء موجود عندها هم العلماء، فهي بحاجة إليهم، أنت في مرحلة الطلب، اشحذ هذه الهمة، وهذه الغيرة على الإسلام، أن تكون عالماً، أن تكوّن من نفسك ذلك العالم الذي يحل مشاكل الأمم، لأن العلم موجود من حيث الكتب، لكن إنما فقد العلم بموت العلماء، أنت إذا وجد عندك هذا الشعور، نَمِّ هذا الشعورَ تنميةً قوية، لتكن ذلك الرجل! لا تقل أين الأمة؟ قل أنا ذلك الرجل، أنا واحد من الذين سيغيرون مسار الأمة واتجاهها، تصور نفسك أعلى واحد موجود في الأمة، وابذل لتصل إلى هذه المنزلة، سواءً وصلت إليها، أو تصل إلى أعلى منزله ممكن أن يصل إليها مثلك، ووجود الغيرة، هذا هو أهم الدوافع، إذا كان عندك غيرة فعلاً، فلماذا تنام وتترك طلب العلم؟ وتترك مدارسة المسائل؟ لما لا تحفظ هذه المسائل، وتجد فيها، وتجد في طلب العلم، حتى تدرك ما أدركه غيرك في عشر سنوات، تدركه أنت في خمس وتصرف الخمس الباقية في عملٍ أكثر ثمرة، ثم إن هذا لا يردك عن عمل شيء مثمر للأمة، ولو كان بسيطاً، الفكرة البسيطة لتغيير المنكر الذي أمامك، والرسول ربطه بالرؤية، {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده} هذا لديه منكر وهو في طريقك وأنت ذاهب إلى طلب العلم، وأنت راجع منه، فلم لا تنكر، لا تعش أحلام اليقظة، وتتصور أنك لم تصل بعد إلى منزلة التغيير والإنكار، أنت في هذا الطريق، قد لا تذهب إلى أماكن أخرى يوجد فيها منكرات، لكن في طريقك أيضاً لا تكون سلبياً، في بيتك، في مدرستك، في الأشياء التي تمر بها، ونم هذه الغيرة بما أنت فيه خصوصاً إذا كان طلب علم، فإنه مما يفرغ له الوقت، وتستثمر فيها الجهود، ويستثمر فيه هذا الشباب. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 54 الإعداد العقدي والعسكري السؤال الكرة ستكون علينا من هذه القوات، فإن كان كذلك، فكيف الإعداد العقدي والعسكري للشباب؟ الجواب الأمة دائماً في حالة حرب، المسلمون، هذا شأنهم، نحن ندالُ عليهم، ويدالون علينا، والحرب بيننا وبين الكفار سجال، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، سواء الكفار من الكفار الأصليين، كاليهود والنصارى والمشركين وغيرهم، أم الكفار الذين كفرهم طارئ من أبناء بلدتنا، الذين يتكلمون بلغتنا وهم أعدى من الجرب. والمدعون هو الإسلام سيفهمُ مع الأعادي على أبنائه النجب يخادعون به أو يتقون به وما له منهم رفد سوى الخُطب إن العروبة ثوبُُ يخدعون به وهم يرومون طعن الدين والعرب فهذا الطابور الخامس من المرتدين أخطر علينا من أعدائنا الأصليين، لأنهم يحملون لافتات إسلامية، وأسماء إسلامية، وقد يلبس الواحد منهم ثوباً فضفاضاً وغترةً مكوية وطاقيةً بيضاء، ويلبس لباسنا، ويحمل أسماءنا، ومنا ومن بلدٍ عربي ومع ذلك يحمل فكراً دخيلاً، فهو طابور خامس لأعداء الإسلام!!. فنحن في حالة حرب سجال، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لا تزال هذه الأمة تقاتل، حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال، إذاً الإعداد همُُ دائم، ينبغي أن يكون هماً دائماً في كافة ألوانه وصوره وأشكاله، سواء الإعداد التربوي بالعلم، بالعمل، بالعبادة، بالفهم، بالوعي، بجمع الكلمة، بنزع الخوف من القلوب، بالتدريب، بكافة الوسائل. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 55 الفردية في اتخاذ القرار السؤال هل معنى هذا أنها "أمريكا وبريطانيا" حكومات شرعية؟ الإجابة للشيخ سلمان أيضاً: الجواب ليس المقصود أنها شرعية، ليست شرعية على كل حال، حتى نضع المصطلحات في نصابها، هي ليست شرعية، لكن المقصود أنها تمت بطريقةٍ طبيعية ومألوفة وسليمة، وكما يعبرون هم عنها طريقة ديمقراطية، الأمم في أزمنة ضعفها، يصبح الفرد عندها كل شيء، -مثلاً- خذ أقرب مثال يتحدث عنه الناس الآن، قضية صدام واجتياح الكويت، بغض النظر عن كل الخلفيات، هل هذا القرار فردي، أم هو قرار أمة؟ لا شك أنه قرار فردي، ولو صار قرار آخر بالانسحاب من الكويت، من الذي يتخذ هذا القرار؟ هو قرار واحد، إذاً ليست القضية قضية صدام صدام يذهب ويجيء، وصدام رمز، وهو أهون عند الله عز وجل وأقل شأناً من أن يكون له هذا الزخم وهذا التأثير الهائل، لكن القضية قضية أنه عرين الأسد، والعرين الذي لا يخلو من العظام، لأن القضية أن الداء الموجود يمكن أن يخرج لنا آلافاً، من جنس هذا الإنسان الذي يتخذ قرارً يجر الأمة كلها وراءه إلى الهاوية، لماذا؟ لأن الأمر منه بدأ وإليه ينتهي. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 56 الإنكار للمنكر بالتواصل مع صاحبه السؤال ذكرتم في شريط فقه إنكار المنكر، أنه إذا أعلن شيء يغضب الله ورسوله، فإنه يجب على طلبة العلم، أن يتصلوا على من أعلن ذلك، بأن ينصحوه، وينكروا عليه، فهذا طيب، ولكن يا شيخ قد يكون هناك أمرُُ منكر من جهة رسمية، وأعلنت إحدى الصحف، فهل من الحكمة، أن يتصل إلى تلك الصحيفة، وينكر عليها، وقد يترتب على ذلك مآسٍ؟ الجواب على كل حال، ليس المعنى أن تتصل بالصحيفة إذا نشرت الخبر، لا، بل يمكن أن نقول الحمد لله أن الأمر ظهر، بحيث يمكن إنكاره، فيُتصل حينئذٍ بالمصدر، الذي كان سبباً في ظهور هذا المنكر، يتصل فيه، ويخوف بالله عز وجل، ويذكر بأنه أمين على جماعة المسلمين وأعراضهم وأموالهم وأخلاقهم، ويجب أن يكون حفيظاً لهذه الأمانة. وبالمناسبة أيها الأحبة، كلمة أرى أنها مهمة، وهي المقارنة مع عدونا، يفعل الكثير، ويقنع باليسير، ونحن نعمل شيئاً يسيراً ونريد نتائج عظيمة! هذا من انتكاسنا في الواقع، النصارى يبذلون جهوداً جبارةً، ويرسلون مئات الآلاف من المنصرين في كل مكان، ويعقدون المؤتمرات، وينشئون الإذاعات والمستشفيات، والمدارس، والمؤسسات والصحف، والجمعيات، ولهم عمل جبار يتعجب منه الإنسان، ثم يقنعون أحياناً بأن يتنصر واحد، أو يرتد واحد، أو ما أشبه ذلك ويعتبرون هذه نتيجة ومؤشر ليبشر بعضهم بعضاً، يفعلون الكثير، ويقنعون بنتيجة يسيرة، أما نحن الآن نفعل القليل، ثم نريد نتائج كبيرة، فأريد مثلاً بمجرد اتصال، الإتصال كلفني دقيقتين، وبالنسبة للمبلغ المالي يمكن عشرة ريالات قيمة الإتصال، لكنني أريد في مقابل عشرة ريالات بذلتها، ودقيقتين من وقتي غير الثمين، ولا مؤاحذة أريد أن تكون النتيجة عاجلة، هي القضاء على هذا المنكر وزواله، وإذا لم يحصل صار عندي إحباط، والمرة الثانية إذا قال لي واحد: اتصل أو اكتب أو تكلم أو أنكر، قلت: لا توجد فائدة فقد فعلنا، لا بل افعل وافعل، وكرر واستمر، وهذا طريقك، ولو لم يحصل شيء إلا براءة ذمتك، وأن تلقى الله عز وجل، وقد أخليت ساحتك من المسئولية، في هذا الأمر: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخي} [المائدة:25] . الجزء: 208 ¦ الصفحة: 57 الانفصال بين الشعوب وحكامها السؤال ما مدى صحة هذه المقولة: إن حكومة أمريكا إذا دخلت حرباً دخل معها شعبها، أما كثيرٌ من الحكومات في العالم الثالث، فإن الحكومة لا تمثل إلا السياسة، أما الشعب فبعيدُُ عن رغباتها، ولذلك فهي إذا دخلت حرباً فلن تكون بقوة وشراسة الحرب التي يدخلها كلٌ من أمريكا أو بريطانيا؟ الجواب القضية هذه صحيحة، إذا أردتم تفصيلاً، فإن الله قد ذكر أمر المؤمنين بأنه أمرُُ شوري، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] هذه الديمقراطيات الموجودة في بريطانيا وأمريكا جعلت أن أي قرار لا يخرج إلا وقد نقد ومحص وظهر، المهم أنه القوي الذي استطاع بأساليبها الدعائية، أو أي شكل، أن يفرض هذا القرار، سواء كان هذا القرار، بحد ذاته، صالحاً أم طالحاً، لكن الشعب، كله يحس أن الأغلبية مع هذا القرار، أياً كان اتخاذ هذا القرار، ومن هذا قرارات الحرب، فإذا دخلت في حربٍ دخلتها ومعها أغلبية كاسحة من الشعب، تؤيد هذه الحرب، ولذا أصبحت كما يقول هذا القائل: إنها حربُُ للحكومة والشعب معاً، لأن الحكومة أصلاً انتخبت، أما في دول العالم الثالث، فهذا لا يكون، لأن الحاكم إما متغلب عليهم بالسيف، أو جاءت الدولة من وراء الستار، من الدول الكبرى ونصبت، أو حزب استغل الظروف وعمل ثورة، هذه حكومات العالم الثالث مع الأسف الشديد، لأن المسلمين ضاع أمرهم، ذهب أهل الحل والعقد الذين يدرسون في الفقه، فأصبح الحاكم لا يمثل الشعب، الحاكم يعيش في وادي مصالحه، هو ومصالح طبقته أياً كانت هذه الطبقة، أسرية، أو طبقة حزبية، أو أي طبقة أخرى، المهم يعيش بطبقة معينة، أو أصحاب رءوس الأموال وهكذا، فهو لا يمثل الشعب، ولذا إذا دخل حرباً، رغم أن الحرب تأتي على الجميع، إن انتصر له ولشعبه، وإن هزم أول من يذهب أيضاً شعبه، إذ يُنهبون مع الناهبين، لأنهم أصلاً غير مؤيدين لهذا، وأصلاً ما أخذ رأيهم حتى يعرف هل هم مؤيدون أم معارضون، وهذا تفصيل لكلام القائل، عن الحكومة الأمريكية والبريطانية، وغيرها من حكومات العالم الثالث. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 58 سير الخطط المرسومة السؤال الناظر الآن في أحداث الخليج عموماً، وخصوصاً ممن لم يساير الأحداث، يتصور أن الأوراق قد اختلطت، وأن الخطط التي كانت مرسومة قد خرجت عما كان مراداً لها، فهل هذا واقع؟ أم أن الخطط التي كانت مرسومة لا زالت تسير كالمراد منها؟ الجواب دائماً أقول يجب أن نعطي الناس حجمهم المعقول، لا يكبر الناس في عيوننا حتى يغطوا على أفهامنا! مهما كبر الناس، ولو كانت أمريكا أو روسيا أو إسرائيل أو أي دولة كبيرة، يجب أن نعتبرهم أنهم بشر، ويخططون ويكيدون ويفشلون أيضاً، لا نكبر الناس فنصغر أنفسنا ونصغر إمكانياتنا، فهنا يبيض الشيطان ويفرّخ! لا يرسمون ويخططون، ويفاجؤون بأشياء كثيرة ما كانت لهم في حساب، ويغيرون خططهم بناءً على هذه الأشياء التي فوجئوا بها، بل إن الغالب أنهم بسبب التجربة التي أخذوها، عادوا الآن لا يرسمون أشياء تفصيلية دقيقة، من إلى، لا، بل يأتون باحتمالات كثيرة، عندهم عشرة احتمالات، كلها من الممكن أن تقع، وكل احتمال منها قد يضعون له ما يكافئه وما يواجهه، وأحياناً تختلط الأوراق فعلاً، مثل الشخص إذا كان في غابة سحرية كما يقولون، كلما نظر إلى شجرة انتقلت من مكانها إلى مكانٍ آخر، فأصبحت الدنيا تدور بأسرها، إن من أهداف اليهود ووسائلهم، أن يعملوا على شبك القضايا الدولية بأطراف عديدة، وجعلها غامضة، بحيث يعجز الناس عن فتح رموزها وحل أسرارها، حتى يعرض الناس بعد ذلك عن النظر والتحليل في هذه القضايا، ويسلموا الأمر إليهم، لكن على العاقل وإن عجز عن حل التفاصيل، وربط الأمور بعضها ببعض، أن يكون عنده ثوابت لا تقبل التغيرات، والثوابت هذه حتى في القرآن الكريم والسنة النبوية موجودة، وما يعقلها إلا العالم. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 59 استخدام أساليب الأعداء السؤال لقد قلت عفا الله عنك لا بد أن يواجه الأعداء بنفس أساليبهم، فكيف إذا كان أسلوبهم هذا لا يرضي الله ورسوله، وفيه من المفاسد ما الله به عليم، مثل اللعب في الأندية وغيرها؟ الجواب حين نقول: أساليب الأعداء، لا نعني نفس الأسلوب بالتفصيل، لكن نقصد جوهر الأسلوب، مثلاً الأعداء اليوم في الإعلام يخاطبون الإنسان بأمور مثيرة مشوقة، نفسية الإنسان وطبيعته ترغب في هذه الأشياء، مثلاً: الطفل يرغب في أشياء كثيرة بحكم طفولته، الشاب يرغب في أشياء كثيرة، في طريقة التنوير، وفي الإثارة، وفي الجاذبية، وفي طريقة الخطاب، وفي طريقة الحوار، وفي أشياء كثيرة، فلا مانع أن نستغل هذا الاسلوب بالدعوة إلى الله عزوجل، وليس بالضروري أن استغله بالأشياء التي أستغله بها العدو من أمور محرمة، كنشر الصور المحرمة مثلاً، أو الكلام الحرام، أو البذاءة أو ما شابه ذلك، لأن هذا يخاطب غيره في الإسلام، لا، أنا استغل مثلاً حب الاستطلاع الموجود عند الإنسان، استغله في إثارة شوقه إلى معرفة أمور، ثم أعرفه بقضايا شرعية مثلاً، قل مثل ذلك بالنسبة لوسائل الأندية، الأعداء يقيمونها في كل مكان، للإفساد والاصطياد ونشر الرذيلة، وغير ذلك، لكن ما الذي يمنع من فكرة إقامة النوادي العلمية والثقافية، والنوادي الأخرى التي يكون من ورائها جمع الشباب، ولا مانع أن تكون في أمور مباحة تدعو الشباب وتناسب طبائعهم، والفترة الزمنية التي يعيشونها، ومع ذلك يضاف إلى ذلك أن تربي الأخلاق والفضيلة والمعاني النبيلة في نفوسهم، أما إذا استخدم العدو وسيلة محرمة في جميع الظروف، لا شك أن المسلم، لا يسئ، ولا يتوصل إلى طاعة الله بمعصيته، [[إن ما عند الله لا ينال بمعصيته]] كما قال عمر رضي الله عنه، نحن متعبدون بالغايات والوسائل، يجب أن تكون غايتنا شرعية، ووسيلتنا أيضاً شرعية، فلا يمكن أن نستخدم أسلوباً أو أمراً محرماً، لنصل إلى أمرٍ شرعي أو مباح، أبداً بل نصل للذين نريد بأساليبنا الشرعية المباحة ووسائلنا المتاحة أيضاً، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، ولن يكلف إلا ما نطيقه، لكن عندما نقول مثلاً: إن من الأساليب الحديثة التي بدأت تستخدم أسلوب الضغط الجماهيري لأي أمر، أي أمر يريدونه يعملون له تمهيداً جماهيرياً، ضغطاً جماهيرياً، بحيث أن الناس إذا جاء هذا الأمر قبلوه، الشاهد أنه أسلوب من الأساليب، لم تحرم الدعوة من هذا الأسلوب؟ ينبغي أن لا نكون نحن عاطفيين: إذا أردنا شيئاً اليوم حققناه، وإلا تنازلنا عنه، -مثال بسيط- حين تذهب إلى قرية وتتكلم فيها كلمة عن أي أمر أو أي منكر من المنكرات الظاهرة، لا تتصور أن يزول هذا المنكر بتلك الكلمة، لكن هذه الكلمة هي من أساليب الضغط الجماهيرية التي تجعل توطئة لما يأتي بعدها، وحين ننبه في مدرسة عن منكر، هذا يتكلم، وهذا يقول، وهذا يرد، فبعد فترة نرى أن الجمهور جميعاً يغضب على صاحب المنكر ويصبح مستقبحاً من كافة الطبقات، ليس من طبقة واحدة، بل من الكبار والصغار والمسئولين، وغير المسئولين، والنساء، وغير ذلك! المهم هذا الأسلوب الذي تعمله المجتمع كله غير راضٍ عنك، غير مقتنعٍ، وهذا أسلوب ضغط جماهيري، يجب أن يكون من أعمال الدعوة الموجودة، وقد استخدمها الأعداء، الأعداء إذا أرادو شيئاً، بكل وسائلهم، أقاموا ضغطاً، فحين يريدون عمل شيء، يأتون بكل أسلوب ضغطي لا يتصور، فستجد هذه الإذاعة تتكلم، وهذه الصحيفة، وهذا وهذا، حتى أنك تشعر أنه فعلاً وصلك المدد، ما بقي شيء، نحن بحاجة لاستخدام هذا الأسلوب، دع الطرف الآخر، كيد الضعيف مع هذا الضعف يجعلنا نتكلم بقوة حتى ما يفكر بالكيد مرة ثانية، وبهذا نستطيع أن نستخدم، هذا الذي نريده، أيضاً ممكن نستفيد من أصل، فكرة النادي نحن لا نجلب الناس بالكرة مثلاً، لكن المهم أننا عرفنا أن الشاب يميل إلى التجمع يحتاج إلى حب أشياء معينة من التغيير والتسلية، لماذا نجعل الوقت كله جاد، إذاً نحن بحاجة إلى المزيد من الأسلوب، نحن بحاجة لمعرفة أساليبهم، دراسة المنطقة دراسة علمية، لماذا لم ينفع هذا الأسلوب؟ جرب أسلوباً آخر، مثلاً في مصر نجح، جاءوا إلى السعودية جربوه أو إلى أي مكان لم ينجح، لماذا؟ جلسوا يدرسون المنطقة، ما هي العوائق التي أعاقتهم؟ نأتي نحن نطبق نفس الأسلوب، جربت هذا الأسلوب في مدينة من المدن، حتى في مدينة من مدن الدولة الواحدة، لم ينجح هنا، نجح في المدينة تنقل التجربة ربما لا ينجح، لماذا؟ هناك سر، إذاً لا بد أن ندرس المنطقة واهتماماتها، احتياجاتها، رغباتها، حتى نصل بدعوتنا، كما قال شيخ الإسلام: إذا عرف مقصود الشرع، توصل إليه بأقصر الوسائل، أو كما قال. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 60 التغيير في النفس السؤال إنطلاقاً من قوله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] أقول: ما هي أفضل الوسائل وأحسنها التي من خلالها يستطيع الفرد المسلم أن يغير ما بنفسه، لكي يظهر بدينه أولاً. ثم بأمورٍ أخرى، وهل نحن نخالف تطبيق هذه الآية الكريمة التي أظن والله أعلم أن نجاة الأمة على ضوئها؟ الجواب التغيير: لا شك بأن التغيير أول ما يبدأ يبدأ في النفس، فإذا كانت هذه الفكرة الخاطرة قوية أشغلت البال، ثم تحولت إلى عملٍ واقعي، ومن هنا يبدأ التغيير، ولو تأملنا إلى الآية الأخرى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] فهناك تغيير يبدأ من النفس، يبدأ فعلاً إذا أحسسنا بظلام هذا الواقع، وفساد الواقع، أو أن الواقع يصل إلى درجة عشرة أو عشرين بالمائة، ونحن نحتاج إلى رفعه إلى مستويات أعلى، حتى نكون على مستوى المواجهة مع الأمة، فإنه يبدأ بالتغيير في النفس، ولو أخذنا مثالاً بسيطاً، هذا الرجل الصحابي الذي قال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: {يطلع عليكم رجل من أهل الجنة} وتعرفون قصته قصة ابن عمر معه، ولما رآه قال له: لماذا؟ قال: إني إذا قمت -تعار بالليل- إذا انتبه ذكر الله، وليس في قلبه حقد لمسلم أنا أسألك، لو كل واحد منكم مر عليه هذا الأمر، أيٌّ شخص منكم مر عليه قضية من القضايا أشغلت باله، سواء كانت في بيته، في سوقه، في عمله، في سيارته، أثناء هذه الحادثة إذا أتيت تتوضأ خطرت لك، إذا أتيت تنام خطرت، إذا انتبهت في الليل خطرت، أول ما تبادر هي، إذاً هذا الرجل الذي كان تفكيره في الله، استحق هذه المرتبة، إذا استطعنا أن ننقل قضايا الأمة وقضايا التغيير في المجتمع، وقضايا التغيير في أنفسنا إلى هذا الهم، والأمثلة كثيرة على ذلك في تاريخنا الإسلامي سواء من الفقهاء الذين كان الواحد منهم يسهر الليل ليفكر في مسألة، لو كان الواحد منا أمْر المسلمين يشغل باله، ويفكر به في نومه، إذا كان عندك مشكلة تجد فعلاً قد سيطرت على تفكيرك وخيالك سيطرة تامة، بحيث إذا انتبهت في الليل، أول ما يبين أمامك هذه المشكلة، ولو استطعت أن تنقل الواقع الذي تعيشه إلى هذا الهم لاستطعت أن تغير أو بدأت تغير، بحيث أن الذي يحس بالمشلكة يبدأ يغير منها، أما الذي لا يحس بها، يحس أن الأمر يعني غيره دائماً، لا يمكن أن يغير، إذا سمع ناصحاً ينصح عن أي قضية، مذكراً يذكر أي قضية، اعتبر من النصح للآخرين، وليس له، لا يمكن أن يغير، لكن لِمَ لا يتهم نفسه دائماً؟ وأنه هو المقصود بالدرجة الأولى، ليفتش عن نفسه، ويطمئن، هل هذا التقصير عنده أو لا؟ إذا كان غير موجود فأيضاً هو مقصر من جانب آخر، أنه لم ينه عنه، هذا تقصير موجود في المجتمع، وهذا تقصير بحد ذاته، فيبدأ يغير نفسه، ثم يغير من مجتمعه. ولا شك أن هذه الآية منطلق نفسي عظيم، منطلق اجتماعي كبير للتغيير، لأنك إذا غيرت ما في نفسك، تستطيع أن تغير ما بنفوس الآخرين، ويتأكد الآخرون أنك مستعدُُ للتغيير، وأنك غيرت فعلاً، استطعت أن تتغلب على أي عارض أمامك، وغيرت، وإن الناس قد يتأثرون بشكلك بمظهرك فقط بأسلوبك بسلوكك كل هذا مظهر من مظاهر التغيير لأنك غيرت ما بنفسك، فتغير ما بواقعك. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 61 حول المعركة الحاسمة مع اليهود السؤال إنني أحبك في الله وبعد، فلقد قلت أنك لا تذكر معركة حاسمة بين اليهود والمسلمين إلى الآن؛ مع أنهم أشد الناس عداوة للمؤمنين، هل احتلال اليهود للأرض المقدسة والمسجد الأقصى لا يعتبر هجوماً على المسلمين وحرباً شعواء معهم؟ الجواب أحبك الله، أما ما ذكرته من احتلالهم فإنه لا يعارض ما أسلفته، لأنني أقول: لا أعرف معركة حاسمة معهم، يعني في التاريخ الإسلامي، أما الآن فقد بدأ التحرش من قبل اليهود للمسلمين، لسبب هو أنهم بدأوا يتجمعون من أصقاع الدنيا، ولذلك، يسمون شذاذ الآفاق، لأنهم كانوا مشردين، مطرودين، في كل ناحية منهم أفرادُُ قلائل، يسامون سوء العذاب، في ألمانيا، وفي روسيا، وفي البلاد العربية، وفي غيرها، حتى تجمعوا في إسرائيل، ويجب أن نؤمن إيماناً حاسماً جازماً بأن تجمعهم الآن في إسرائيل هو لتحقيق موعود النبي صلى الله عليه وسلم، هناك حديث ربما سمعتموه مني في غير هذه المناسبة، لكنني أتلذذ بإعادته، وهو ما رواه الشيخان من حديث ابن عمر رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {تقاتلون اليهود، حتى يقول الحجر: يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي ورائي فاقتله} وفي رواية: {لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا اليهود، حتى يقول الحجر والشجر: يا مسلم، يا عبد الله} وفي رواية: {إلا شجر الغرقد، فإنه من شجر اليهود} بل في رواية مفرحة سارة مطمئنة، رواها البزار والطبراني بسند حسن، كما يقول الهيثمي والغماري عن مهيكب بن صريب السكوني وصريب السكوني رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تقاتلون المشركين على نهر الأردن، أنتم شرقيه وهم غربيه} يا -سبحان الله-، بهذا التحديد، ويقول الشيخ الألباني، بأن هذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده أبان بن صالح القرشي، وهو ضعيف، فأقول هذا عجب من عجب. لأن الحديث أولاً: ليس في الحلال والحرام، وإنما هو في بشرى بشَّر بها النبي صلى الله عليه وسلم عنه وَالأَوْلَىْ الأخذ بِهَا، الأمر الثاني: أرأيت لو جاء هذا الحديث من طرق براوٍ آخر ضعيف، ألا يقوي الراوي الضعيف الأول ويشده؟ بلى يقويه ويشده، خاصة لأن ضعفه ليس بتهمة، وإنما هو لضعفٍ في الحفظ، وليس شديد الضعف، فإذا كان وجود راوٍ آخر نقل الحديث يقويه، ألا يقوي الحديثَ الواقعُ الماثل للعيان، الذي لم يكن معروفاً عند السلف، والذي لم يوجد إلا في هذا العصر، من كون اليهود يتجمعون على نهر الأردن، يعني ربما كان كثير من السابقين يقول: هذا غريب سبحان الله، ربما قالوا: إنه مما يضعف الحديث بعد اليهود من نهر الأردن، شرقيه وغربيه، فقد كان في أيدي المسلمين، فأين يأتي اليهود، أما الآن فقد بدأت النبوءة تتحقق، وبدأنا نعلم بصحة الحديث، لأن الحديث الضعيف ليس حديثاً مقطوعاً بضعفه، إنما نتوقف في حكمه، فإذا جاء ما يشهد بقوته قويناه، وهناك واقعُُ ماثل للعيان شاهد في الواقع، وهو أنه بدأ اليهود يتجمعون، وهم الآن يواجهون المسلمين من ضفة أخرى من نهر الأردن، وهذا يجعل كل مسلم واعٍ عاقل مصدق يقطع بأن هذه النبوءة بدأت تتحقق، وأن لنا مع اليهود معركة حاسمة لم تحدث في التاريخ، لكنها ستحدث في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى. الجزء: 208 ¦ الصفحة: 62 نظرة في أحاديث الفتن ينتشر بين الفينة والأخرى الحديث حول أحاديث فتن آخر الزمان وأشراط الساعة، ويحاول بعض الناس تفسير بعض النصوص بنوع من التكلف، أو تنزيلها على أوقات وأزمنة وأماكن باجتهادات خاطئة، وخاصة في هذه الأزمان المتأخرة، ورغم أن المسلمين متعبدون بالأوامر الشرعية من الله عز وجل، وليسوا متعبدين بالأوامر القدرية، إلا أن الكثير من الناس ينساقون خلف أوهام تؤدي بهم لمحاذير شرعية. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 1 ما المقصود بالفتن؟ إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. هذه ليلة الإثنين الموافق الثاني عشر من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) للهجرة، وهذا هو الدرس الحادي والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، موضوع الدرس في هذه الليلة هو "نظرة في أحاديث الفتن". أيها الإخوة: إن وموضوع هذه الليلة في غاية الأهمية: وسوف أتناوله في عدة نقاط، أولها: ما هي الفتن؟ وما هو المقصود بها؟ الجزء: 209 ¦ الصفحة: 2 معناها في الاصطلاح فكل هذا من معاني الفتنة، ومعناها في الاصطلاح غالباً: أن الفتنة تطلق على ما يقع في الأمة، ويعرض لها من آثار الشهوات والشبهات من الخلاف والقتال، فكل خلاف بين الأمة أو قتال، هو إما بسبب شهوة، أي أن الإنسان يتسلط يريد العلو في الأرض ويريد الفساد، أو بسبب شبهة عرضت له فرأى فيها الحق باطلاً أو رأى الباطل حقاً، فيقع نتيجة ذلك اختلاف وتنازع وتطاحن، هذا الخلاف والتنازع والتطاحن والقتال يسمى: فتنة. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 3 معنى الفتنة في اللغة فأقول: الفتن مأخوذة من فَتَنَ الذهب، إذا وضعه في النار وأوقد عليه حتى يتميز الذهب الصحيح من الذهب المغشوش، هذا أصل الفتن. وللفتن في القرآن الكريم والسنة النبوية معانٍ منها: العذاب، فيقال: الفتنة بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات:13-14] ذوقوا فتنتكم: أي: ذوقوا عذابكم. ومن معاني الفتنة أيضاً: صرف الإنسان عن دينه، سواء كان هذا الصرف بالقوة والشدة والبطش، أو كان بالشبهات والشهوات والترغيب ونحوها، وهذا كثير في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:217] وكما في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} [البروج:10] وكما في قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101] وكما في قوله عز وجل: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس:83] أي: يصرفهم عن دينهم {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء:73] يعني يصرفونك عنه إلى غيره {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49] أي: يصرفونك عن الدين والقرآن والوحي إلى شئ آخر غيره. ومن معاني الفتنة: الزيغ والضلال والانحراف، سواء كان ذلك بالكفر والشرك أو بالمعصية مما دون الكفر والشرك، كما في قوله عز وجل: {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد:14] فتنتم أنفسكم أي: أضللتموها، وكما في قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} [آل عمران:7] وابتغاء الضلال، ابتغاء الانحراف، وكما في قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] أي: زيغ فيهلكون، كما قال الإمام أحمد: لعله إن رد بعض قوله -أي: قول النبي صلى الله عليه وسلم- أن يقع في قلبه شئ من الزيغ فيهلك. وأخيراً: فإن من معاني الفتنة الابتلاء، والاختبار، والامتحان، كما في قوله عز وجل: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت:3] ولقد فتنا الذين من قبلهم، أي: اختبرناهم وبلوناهم {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الأنعام:53] أي: ابتلينا بعضهم ببعض. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 4 اهتمام العلماء بأحاديث الفتن النقطة الثانية: اهتمام العلماء بأحاديث الفتن، فالعلماء وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم، قد اهتموا بأحاديث الفتن اهتماماً كبيراً وإن لم تشغلهم عن ما هو أهم منها كما سيأتي، لكن من اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بأحاديث الفتن، ما رواه الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: {كان الناس يسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني} . عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الخير يقع فيه ف حذيفة رضي الله عنه عرف الشر لا للشر لكن ليتقيه ويحذر منه، ولذلك كان حذيفة أمين سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخبير بالمنافقين، وأحوالهم، وأسمائهم، وأوصافهم، وكذلك كان العالم بالفتن، ولذلك جاء في الصحيحين أيضاً: {أن عمر بن الخطاب قال يوماً لبعض الصحابة: أيكم يذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة، فقال حذيفة رضي الله عنه: أنا أحفظه! قال: إنك عليها لجريء تعالَ اذكر لنا! فقال حذيفة رضي الله عنه: فتنة الرجل في أهله، وماله، تكفرها الصلاة، والصوم، والحج، والصدقة، فقال عمر رضي الله عنه: ليس عن هذا أسألك، إنما أسألك عن الفتنة التي تموج كموج البحر، فقال: مالك ومالها يا أمير المؤمنين إن بينك وبينها باباً مغلقاً، أنت عنه بعيد، فقال له عمر: رضي الله عنه أيفتح هذا الباب المغلق أم يكسر؟ قال حذيفة: بل يكسر، قال: هذا حري ألا يغلق أبداً} قال بعض الرواة: [[فهبنا أن نسأل حذيفة من الباب، فأمرنا مسروق -ومسروق هو أحد التابعين، وهو ابن الأجدع - فجاء إلى حذيفة وسأله: قال له من الباب؟ قال: عمر رضي الله عنه، هذا هو الباب الذي يحول دون الفتن فقتله هو كسر الباب، فقال: هل كان عمر يدري أنه هو الباب؟ قال: نعم يدرى، إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط]] ، أي أخبرته بهذا، وأخبرته أنه هو الباب الذي يحول بين الأمة وبين الفتن. إذاً: الصحابة رضي الله عنهم كان من بينهم من يهتم بأخبار الفتن وأحوالها، ويتتبعها ويسأل عنها ليحذرها ويحذر الناس منها، ثم جاء بعد ذلك العلماء فصنفوا الكتب، كما فعل البخاري، ومسلم، وأبو داود، الترمذي، والنسائي، وابن ماجة وغيرهم، فكانوا إذا ألفوا وجمعوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: كتاب الفتن، أو كتاب الملاحم وأشراط الساعة، ثم يذكرون بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الواردة في الفتن. ثم جاء علماء آخرون فألفوا وصنفوا كتباً خاصة، حول أحاديث الفتن، وقد صنف في أحاديث الفتن جماعة كثيرة من أهل العلم، منهم: نعيم بن حماد، له كتاب مخطوط اسمه الفتن والملاحم ومنهم: حنبل بن إسحاق الشيباني، له كتاب اسمه "الفتن" وهو مخطوط أيضاً، ولا أدري أهو موجود أيضاً أم لا. ومنهم أيضاً: أبو عمرو الداني، الذي صنف كتاباً أسماه "السنن الواردة في الفتن" وهو مخطوط. ومنهم أبو الغنائم الكوفي، صنف كتابا أسماه "الفتن". ومنهم الحافظ ابن كثير، له كتاب "النهاية في الفتن والملاحم" وقد يسميه بعض الناس (الفتن والملاحم) ومن هؤلاء كتاب "الملاحم" لـ أبي الحسن بن المنادى، وهناك الكتب الواردة في أشراط الساعة، مثل: "الإذاعة فيما كان وما يكون بين يدي الساعة" لـ صديق حسن خان، وكتاب "الإشاعة لأشراط الساعة" للبرزنجي، وهناك كتب خاصة في أنواع معينة من الفتن. فمثلاً: الدجال، هناك كتب خاصة في أحاديث الدجال، ككتاب "التصريح لما تواتر في نزول المسيح"، وهناك أحاديث في عيسى بن مريم، وهناك كتب خاصة في المهدي قديمة وجديدة، هذه الكتب من كتب الملاحم ويذكرون فيها كثيراً من كتب الفتن، ومن الكتب المعاصرة وهى كثيرة كتاب "إتحاف الجماعة" وهو كتاب ضخم جامع للشيخ عبد الله بن حمود التويجري، "إتحاف الجماعة في أحاديث الفتن وأشراط الساعة" وهو كتاب ضخم جامع حاشد، جمع فيه كثيراً من الأحاديث الواردة في ذلك، وهناك كتاب جديد اسمه "مجموعة أخبار في الزمان وأشراط الساعة" للشيخ عبد الله بن سليمان المشعلي، من علماء هذا البلد، وهناك كتاب "أشراط الساعة" لـ يوسف الوابل وهو رسالة ماجستير في جامعة أم القرى، قسم العقيدة في كلية الشريعة عام (1404هـ) إلى كتب كثيرة جداً في الفتن والملاحم وأحاديثها. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 5 أماكن الفتن النقطة الثالثة: أماكن الفتن: وتقل وتكثر؛ فليس هناك مكان في الدنيا معصوم من الفتن كلها، فقد يعصم مكان ما من بعض الفتن، كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ذكر مثلاً {أن الدجال لا يدخل مكة ولا المدينة، فعلى كل بلد منهما وأنقابهما ملائكة يحرسونهما، لكن يتزلزل البلد ويرجف ثلاث رجفات، فيخرج إلى الدجال كل منافق ومنافقة} فهذه البلاد معصومة من الدجال، لكنها ليست معصومة من الفتن الأخرى، فالفتن كثيرة. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 6 خروج هولاكو من جهة الشرق بلاد المشرق هي من مواطن الفتن، وقد ظهر منها مثل هذه الفتنة كما ظهرت فتن عظيمة، مثلاً: هولاكو جاء من جهة المشرق ومن تلك البوادي، وكانوا قوماً متوحشين، فانساحوا إلى بلاد الإسلام، وهتكوا الأعراض، وأتوا على الحرث والنسل، والأخضر واليابس، وأسقطوا دولة الخلافة، وعاثوا في الأرض فساداً وكانوا من أعظم الفتن التي مرت بالمسلمين. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 7 الحرب بين العراق وإيران وحرب الخليج ومن فتنهم المتأخرة تلك الحرب التي دمرت الأخضر واليابس، القتال بين العراق وإيران والتي استمرت ثمان سنوات وذهب من قتلاها مئات الألوف، فضلاً عن الأموال الكثيرة التي ذهبت بسببها، فهذا يدل على ما جبل عليه أهل تلك البلاد من البطش، والشدة، والعنف، والحب للحروب، وإثارة الفتن. وكذلك هذه الفتنة التي يعيشها المسلمون اليوم فإنها جاءت من قبل تلك البلاد. فما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم واقع لا محالة، وأقل البلاد فتناً وأكثرها اطمئناناً وأبعدها عن القتل والقتال وسفك الدماء، تلك المواطن التي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنها من مواطن الإسلام، وذلك كبلاد الشام وبلاد اليمن والجزيرة العربية بشكل عام وخاصة أرض الحجاز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن هذه المواطن أنها من الأماكن التي يفيء إليها الإسلام ويرجع إليها، وحين تتحقق الغربة يكون الإسلام في مجمله ومعظمه في تلك البلاد، وهذه ليست قاعدة مطردة، فقد يكون بلد من هذه البلاد يوماً من الأيام تغلب عليه أهل الشر والفساد، وحكموه كما حكمت النصيرية والشيوعية، وكما حكمت أديان وملل ومذاهب، لكن العبرة بالغالب، فلا يشكل على الإنسان أمام حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوجد وقت من الأوقات حكم فيه بعض هذه البلاد قوم غير مؤمنين، أو حكمت بغير ما أنزل الله عز وجل، فالعبرة بغالب الأحوال. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 8 فتنة قتل الحسين إضافة إلى أنه خرج من جهة العراق أو انساح إلى بلاد الإسلام من جهة العراق فتن كثيرة، لعل من أولها قضية الحسين رضي الله عنه ورحمه الله، فإن أهل العراق كاتبوا الحسين أن يخرج إليهم وكتبوا إليه الرسائل، قالوا له: تعال، فعندنا القوة والنجدة والبأس والشجاعة، نحن مستعدون أن نحميك ونقاتل دونك، فقال له عبد الله بن عمر: دع هؤلاء لا تذهب إليهم، يا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تخرج إلى هؤلاء، فأصر أن يخرج، فلما رآه عبد الله بن عمر مصراً خرج معه إلى أطراف المدينة ثم ضمه إليه وبكى وقال: أستودعك الله من قتيل. وهكذا كان، فإن أهل العراق لما جاءهم الحسين رضي الله عنه تخلوا عنه، وخذلوه في كربلاء حتى قتل شهيداً رضي الله عنه، وتحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حين نام مرة ثم استيقظ وهو يبكي، فقالت له أم سلمة: يا رسول الله! ما يبكيك؟ قال: {أُريت مقتل ابني هذا -وكان عنده فأشار إليه- وأوتيت بتربة من تربته حمراء} . أترجو أمة قتلت حسيناً شفاعة جده يوم الحساب فقتلوا حسيناً رضي الله عنه، والغريب في الأمر أنهم بعد ما قتلوه صاروا يقيمون المآتم في مثل ذلك اليوم حزناً على قتله، ويضربون وجوههم وجنوبهم وظهورهم، هذا ما فعلتم بأنفسكم المهم أنهم تسببوا في قتل الحسين رضي الله عنه، وتخلوا عنه وخذلوه أيما خذلان. ولذلك لما جاءوا إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنه يسألونه عن قتل المحرم للبعوضة؟ قال: قاتلكم الله يا أهل العراق، ما أجرأكم على الكبيرة وأسألكم عن الصغيرة، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسألون عن البعوضة! الذي قتل الحسين لا يحتاج أن يسأل عن البعوضة. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 9 أماكن الفتن عبر التأريخ وهذا هو الذي حدث، فإنك لو قرأت التأريخ لوجدت كثيراً من الفتن التي ألمت بالمسلمين خرجت من العراق، خذ على سبيل المثال الفتن الاعتقادية، التي عصفت بالأمة ومزقت وحدتها وخربت عقول الناس، من أين خرجت؟ خرجت من الكوفة والبصرة وما حولهما. فمثلاً: الرافضة نشأتهم في العراق، وكان لهم فيها هيمنة وسيطرة وعلو وفساد في أزمنة كثيرة وإلى يومنا هذا، وهم يشكلون كثرة فيها. وكذلك المعتزلة الذين ألَّهُوا العقل وحكَّموه وعبثوا بالنصوص وخربوا عقول الأمة، وعبثوا بها أيضاً، خرجوا من البصرة وما حولها. وكذلك الخوارج أين كان ظهورهم وانتشارهم؟ من العراق، ولذلك لما جاءت المرأة إلى عائشة رضي الله عنها، وقالت: [[ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت لها عائشة: أحرورية أنت؟]] أي: من أهل الحرورة، وحرورة بلد في العراق نشأ فيها الخوارج وتغلبوا عليهم وانتشروا فيما حولها. إذاً الخوارج والرافضة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الضالة إنما خرجت من العراق وانتشرت منه إلى أنحاء بلاد الإسلام، وهؤلاء أصحاب الفتن الاعتقادية كان لهم -باستثناء المعتزلة- كان لهم وجود عسكري وقوة، فكانوا يقاتلون، مثل الخوارج، أقلقوا الخلافة الإسلامية زماناً طويلاً، وكان لهم دول في بلاد المغرب وما حولها، وأزعجوا المسلمين أيما إزعاج، وكانوا أهل بأس ونجدة وشدة وقوة، وتأريخهم معروف: أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحك لن تراعِ فإنك لو سألت بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعِ فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاع ويقول آخر منهم: فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن أَحِنْ يومي سعيداً بعصبة يصابون في فج من الأرض خائف عصائب من شيبان ألف بينهم تقى الله زالون عند التزاحف إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف فالخوارج كانوا أهل قوة وشجاعة وبأس ونجدة، وكان ظهورهم من العراق، وأقلقوا راحة المسلمين إقلاقاً عظيماً، فكلما تجمع عشرة منهم قاموا بثورة ضد الخلافة وحاربوا الجيوش؛ وقد ينتصرون على أضعافهم بما تميزوا به من القوة والشدة، وهذا معروف شأنهم. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 10 بلاد المشرق من أماكن الفتن ومن أهم أماكن الفتن التي تكثر الفتن فيها وتخرج الفتن منها، بلاد المشرق، وقد ثبت في هذا أحاديث من أشهرها وأصحها ما رواه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو مستقبل المشرق -جهة المشرق بالنسبة للمدينة المنورة- يقول: {ألا إن الفتنة هاهنا من حيث يطلع قرن الشيطان، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى جهة المشرق} والمقصود بالمشرق بادية العراق ونواحيها وما وراءها أيضاً، حتى إن بلاد فارس تدخل في ذلك؛ ولذلك كان المتقدمون يسمونها "عراق العجم" باعتبار أنها مرتبطة بها ومتصلة. وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى تلك البلاد (نجد) بلاد المشرق، وهى بادية العراق وما حولها، سماها النبي صلى الله عليه وسلم (نجداً) وذلك لارتفاعها، والنجد هو: كل ما علا وارتفع، تقول: أنجد فلان -أي: ارتفع- وكذلك أتهم: أي دخل في تهامة، وهكذا، فالنجد هو: المرتفع، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم بلاد العراق (نجد) ، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما الذي رواه البخاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا ويمننا، قالوا: وفي نجدنا يا رسول الله؟ قال في الثانية أو في الثالثة: هناك الزلازل والفتن حيث يطلع قرن الشيطان} قال الإمام الخطابي رحمه الله: نجد من جهة المشرق، ومن كان بالمدينة نجدة بادية العراق ونواحيها فصرح الإمام الخطابي بأن المقصود بنجد: جهة المشرق، وهى بادية العراق ونواحيها. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 11 أزمنة الفتن النقطة الرابعة: أزمنة الفتنة: والفتنة قد تكثر في زمان وتقل في زمان، أما بدايات النقص فهي قديمة جداً، بداية النقص وظهور الفتن قديمة جداً. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 12 انتهاء عهد الخلفاء الراشدين انتهاء عهد الخلفاء الراشدين هو من بدايات النقص أيضاً كما جاء في سنن أبي داود وابن ماجة ومسند الإمام أحمد عن سفينة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {الخلافة بعدي ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء} فأشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن انتهاء عهد الخلفاء الراشدين هو من بدايات النقص أيضاً، وفي حديث جابر بن سمرة وهو في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر خليفة، ثم قال كلمة خفية: فسألوا عنها فقال: كلهم من قريش} فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمتد أمر الإسلام وقيامه ودوران رحاه إلى اثني عشر خليفة ثم بعد ذلك يبدأ النقص. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 13 انتهاء عهد القرون المفضلة نقص آخر أيضاً: انتهاء القرون المفضلة؛ فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرون الأولى فاضلة، كما في حديث عمران بن حصين وابن مسعود وحديثه في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري ذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة} ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك مجيء أقوام {يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، ويظهر فيهم السمن} يشتغلون بالدنيا، والترف، والمال، حتى تكبر بطونهم وتكثر شحومهم، ويشتغلون بالدنيا عن الآخرة. فالمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن انتهاء القرون الفاضلة يعتبر من بدايات النقص التي تلم بالمسلمين، ومع هذا كله فإن الخير في الأمة كثير وسوف أشير إلى شيء من ذلك فيما يأتي. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 14 موت النبي صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما ذكر الفتن قال: {اعدد ستاً بين يدي الساعة، موتي} اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موته هو من بدايات الفتن، فموت النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة، ولذلك كان أول خلاف حدث بين المسلمين بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بساعات، وهو الخلاف في من يكون أجدر بالخلافة والحكم، حتى استتب أمرهم واستقر بقوة إيمانهم، وصدقهم، ويقينهم، وبعدهم عن المطامع الدنيوية، سرعان ما انحل هذا الخلاف واتفقوا على أبي بكر رضي الله عنه فبايعوه، ولم يختلف عليه منهم اثنان، لكن حصل بينهم في سقيفة بني ساعدة كلام وحديث ومجادلات في من هو أجدر بالخلافة. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 15 مقتل عمر رضي الله عنه بعد ذلك مقتل عمر رضي الله عنه، مقتل عمر هو من بدايات النقص، وقد سبق أن ذكرت حديث حذيفة رضي الله عنه والذي ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن عمر هو الباب الذي إذا انكسر طلعت فتن جديدة على المسلمين. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 16 بين الشرع والقدر النقطة الخامسة: وهى وقفه مهمة مع أحاديث الفتن اخترت أن أضع لها عنوان (بين الشرع والقدر) هل نحن متعبدون بالعمل بالشرع أم متعبدون بالعمل بالقدر؟ أيهما الذي تُعبِّدنا بالعمل به؟ لقد تعبدنا بالعمل بالشرع، لا بالعمل بالقدر، فقد نجد شيئاً نهى الله تعالى عنه في كتابه ونهى عنه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أخبر الله تعالى أو أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن هذا الأمر سيقع، فنحن لا علاقة لنا بكونه سيقع أو لن يقع، إنما علاقتنا أن نحمي أنفسنا من هذا الأمر ونجاهد وننهى غيرنا عنه، أما وقوعه أو عدم وقوعه فهو أمر إلى الله عز وجل. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 17 وقوع الشرك في هذه الأمة ولعل من أبرز وأظهر الأدلة: قضية الشرك، فالنصوص القرآنية والنبوية الواردة في النهى عن الشرك لا أظنها تحتاج إلى ذكر أو بيان؛ لأن الشرك هو أكبر الكبائر وأعظم الذنوب أن تجعل لله نداً وهو خلقك، ولذلك فإن معظم ما ورد من النصوص القرآنية والنبوية كانت في التحذير من الشرك بألوانه وأنواعه، سواء الشرك في الربوبية، أو الشرك في الألوهية، أو الشرك في الأسماء والصفات، أو الشرك الظاهر أو الخفي إلى غير ذلك، فالشرك هو أعظم الذنوب على الإطلاق، وقد نهى الله ورسوله عنه أيما نهي، ومع ذلك أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الشرك سيقع، بل أخبر عليه الصلاة والسلام: أن الشرك سيقع حتى من المنتسبين للإسلام، بل حتى في جزيرة العرب، وخذ على سبيل المثال هذين الحديثين: الحديث الأول: ما رواه مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس حول ذي الخُلَصة} ذو الخلصة: صنم كانوا يعبدونه يسمى ذو الخلصة، وقد حطمه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر مع ذلك أن الساعة لن تقوم حتى تأتي نساء دوس يعني قبائل من قبائل العرب في الحجاز، فتضطرب إلياتهن، ويدرن ويتحركن ويذهبن إلى ذي الخلصة، أي: يعبد من دون الله عز وجل، فأخبر عليه الصلاة والسلام أنه في آخر الزمان تعبد الأصنام هذه في كل مكان، إذا كانت عبدت في هذه الجزيرة فمن باب أولى أن تعبد في غيرها من بلاد الدنيا. مثال آخر: حديث ثوبان، وفي آخره قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان} يعبدون الأوثان سواء كانت أوثاناً حسية كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، أو أوثاناً معنوية مثل: عبادة الطاغوت، والقانون والحكم بغير ما أنزل الله؛ هذه عبادة الوثن، أو عبادة البشر مثل: أن تطيعهم في معصية الله عز وجل، تطيع فلاناً، لأنه عالم أو حاكم أو غير ذلك، وأنت تعرف في قرارة نفسك وبعلمك أن هذا الأمر الذي أطعته فيه هو في معصية الله عز وجل، فهذه من العبادة. أمتي كم صنم مجدته لم يكن يحمل طهر الصنم فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهم إذاً: قد يحدث أن يخبرنا الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم بأن أمراً من الأمور سيقع، ومع ذلك فهذا الأمر منهي عنه، فنقول: نحن متعبدون بأمر الله ونهيه عن هذا الأمر، أما كونه سيقع أو لا يقع هذا لا حيلة لنا فيه. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 18 التشبه بالكفار مثل آخر يتعلق بأحاديث الفتن: موضوع التشبه بالكفار، فالنهي عن التشبه بالكفار ورد فيه أيضاً آيات وأحاديث كثيرة، منها قوله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] فنهى عن التشبه باليهود والنصارى. وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما بسند جيد، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ومن تشبه بقوم فهو منهم} فالتشبه بالمشركين لا يجوز مطلقاً، سواء اليهود أو النصارى أو عبدة الأوثان أو غيرهم، فيما هو من خصائصهم سواء في أعمالهم أو في أمور السياسة أو في أمور الاقتصاد أو في أمور السلوك أو في الأخلاق أو في الأفكار، لا يجوز التشبه بهم بحال من الأحوال، ومع ذلك فقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن التشبه سيقع، فقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث أبي سعيد المتفق عليه، ومثله حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لتتبعن سنن من كان قبلكم، حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} فجحر الضب لا يوجد أضيق منه، ومع ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام لو حصل أن اليهود والنصارى دخلوا جحر ضب، فإنكم ستحاولون أن تدخلوا جحر الضب وراء اليهود والنصارى! {قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى؟ قال: فمن!} أي: ليس هناك إلا هم: اليهود والنصارى، وفي الحديث الآخر {لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها، شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، حتى إنه لو كان فيهم من يأتي أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك} الله أكبر! نسأل الله العفو والعافية، إن الإنسان يستحي أن يتحدث بهذا أمام الناس، فضلاً عن أن يأتي زوجته، فكيف بمحارمه؟ فكيف بأمه؟ والعياذ بالله، لو وجد في الأمم الأخرى من يصنع ذلك لوجد في هذه الأمة من يصنع ذلك، {قالوا: يا رسول الله! فارس والروم، قال: من القوم إلا أولئك} . إذاً: اليهود، النصارى، الروم، فارس وغيرهم من الأمم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هناك نوعاً من التشبه سوف يقع، فلا تعارض، نقول: ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم سيقع لكن نحن مطالبون ومتعبدون بأن ننهى عن التشبه، نمتنع منه في نفوسنا، نمنع أولادنا وزوجاتنا وأهل بيتنا ومن نملك، نحذر الناس من هذا الأمر، نؤلف الكتب ونلقى المحاضرات ونتكلم عن هذا الأمر، ونبين للناس خطورته، ثم لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون من هذه الأمة من لا يسمع لنا، لا يضيرنا بعد ذلك أن يكون في هذه الأمة أصحاب الفكر المستغرب، من الذين تربوا على موائد الشرق والغرب، وأعجبوا بالمفكرين الغربيين من اليهود والنصارى فحذوا حذوهم وصاروا على نهجهم، وصاروا يعظمونهم ويعتبرون أن هؤلاء هم المفكرون الحقيقيون، وأن الحياة تفهم من خلال أفكارهم، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد من أعجب بالأدباء والشعراء الغربيين، وليس المقصود مجرد الإعجاب بأدبهم وتشعرهم بل الإعجاب بشخصياتهم وحياتهم، فصار يحاول أن يعيش وفق ما عاشوا حتى لو كانوا يعيشون في تعاسة وشقاء لأعجبه أن يعيش في هذه التعاسة والشقاء، مصداقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه} . فإذا كان الغرب يعيش في شقاء وجحيم ونسب الانتحار والتدمير نسب مرتفعة، أعجب كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام ممن تربوا على موائد الغرب أن ينقلوا إلينا تعاسة هؤلاء الغربيين ويحاولوا أن يدخلوها في هذه الأمة، لا يضيرنا بعد ذلك أن يوجد في الأمة من ينقل القوانين الغربية ويحكمها في دماء المسلمين أو أموالهم أو أبشارهم أو أخلاقهم، لا يضيرنا ذلك مادمنا قمنا بما يجب علينا من التحذير من ذلك، والنهي عنه وبذل ما نستطيع في منعه، وقمنا فيما يتعلق بأشخاصنا ومن نملك بالمنع من هذا الأمر، فإن الإنسان متعبد كما بالشرع واتباعه لا باتباع القدر، ولا يقعد هذا الأمر من هممنا؛ فإننا نعلم أن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس عاماً، لهو لم يخبر أن الأمة كلها سوف تتبع اليهود والنصارى، بل أخبر أن من الأمة من يفعل ذلك فئام من أمته، طوائف من أمته ومعنى ذلك أنه لا يزال في هذه الأمة فئام وطوائف أخرى كثيرة بقيت على الدين الصحيح، ولم تقبل لا ما كان عند اليهود ولا ما كان عند النصارى ولا فارس والروم ولا غيرها، بل رضيت بمنهج الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 19 قتال اليهود مثل آخر: قتال اليهود وهو معلوم وقد أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: {أن المسلمين سيقاتلون اليهود، حتى يختبئ اليهودي وراء الشجر والحجر ويقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا اليهودي ورائي تعالَ فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود} وحديث آخر يستحق العجب، فقد روى البزار بسند حسن والطبراني وابن مندة في كتاب معرفة الصحابة، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (7/349) وقال: رجال البزار ثقات، عن نُهَيْك بن صريم السكوني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لتقاتلن المشركين حتى يقاتل بقيتكم الدجال، على نهر الأردن أنتم شرقيه وهم غربيه} سبحان الله! صدق الله ورسوله هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، يقول الراوي: {ولا أدري أين الأردن يومئذ} . إذاً: فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أننا سوف نقاتل المشركين -واليهود من المشركين- على نهر الأردن نحن على شرقيه وهم على غربيه، حتى إن آخرنا وبقيتنا يقاتلون المسيح الدجال، وذلك فيما بعد والراوي يقول: أنقل الحديث وأنا يومئذٍ لا أدرى أين يكون الأردن، لكن أنقل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيا سبحان الله! انظر: الآن اليهود يتجمعون لتحقيق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يثلج صدر كل مؤمن بحيث يقطع قطعاً جازماً لا شك فيه ولا ريب في تحقيق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن لنا مع اليهود جولة قادمة منتصرة، فنقول: يا معشر اليهود! اصنعوا ما بدا لكم، وألَّبوا واجمعوا وتنادوا واصنعوا، فإن جيش محمد صلى الله عليه وسلم سوف يعود. فالمقصود من هذا الحديث الذي ذكرته فقط للتنبيه، لكن موضوع قتال المسلمين لليهود، الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، حين نعلم بهذا الحديث هل يسرنا -مثلاً- أن اليهود احتلوا فلسطين وما حولها، أبداً لا يسرنا ذلك، أي مسلم لا يسره بأن تقع البلاد التي بارك الله حولها في أيدي اليهود؟! أيُّ مسلم يسره ذلك؟! على منابت تاريخ وأرض هدى من الرسالات ذات الجدر والسمق على الخليل وكم ضاءت منائرها في المسجد الحرم الأقصى من اليفق على منابت قدس المجد باركها وحولها الله وهى اليوم في الربق مسرى الرسول وأولى القبلتين بها واحر قلباه ماذا للفخار بقي عيناي عيناي ويل الهول صورته في أدمعي حيثما يممت من أفق مالي أرى الصخرة الشماء من كمد تدوي وعهدي بها مرفوعة العنق ومنبر المسجد الأقصى يئن أسى قد كان يحبو الدنا من طهره الغدق واليوم دنسه فجر ألم به من غدر شعب اليهود الداعر الفسق وللعذارى العذارى المسلمات على أعواده رنة الموفي على الغرق لو استطاع لألقى نفسه حُمماً صوناً لهن ودك الأرض في حنق وظلت الكعبة الغراء باكية وغم كل أذان غمة الشرق وقائلين: يهود قلت: واحربا أجل! يهود يهود الذل والفسق يا نائمين انظروا فالله من أزل أرسى نواميسه في الخلق كالفلق هم حاربونا برأي واحد عددٌ قِلٌ ولكن مضاء ثابت النسق يحدوهم أمل يمضي به عمل ونحن وا سوأتا في ظلة الحمق زاغت عقائدنا حارت قواعدنا أما الرءوس فرأي غير متفق البعض يحسب أن الحرب جعجعة والبعض في غفلة والبعض في نفق إذاً: لا يوجد مسلم يسره أن ينتصر اليهود أو يحتلوا فلسطين ليتحقق موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل يسرك أن تقرأ في الصحف اليوم أن مئات الألوف من اليهود يهاجرون من الاتحاد السوفيتي إلى إسرائيل؟ وتقول: الحمد لله هم يتجمعون حتى نقتلهم؟ كلا، لا يسر المسلم بذلك. هل يسرك ما تقرأ في الأخبار والصحف والتقارير من التقنية الهائلة، والتقدم العلمي، والقوة الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية والحضارية التي تتميز بها هذه الدولة، التي هي شوكة في جسم الأمة؟! كلا والله، فإن كل مسلم يسوءه ذلك ولا يسره. لكن إذا حزن لذلك واغتم له وامتلأ قلبه غيظاً وهماً وكمداً حتى كاد الأمر أن يؤول به إلى اليأس، قلنا له: لا تيئس: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر أنهم وإن فعلوا ما فعلوا إلا أن لنا معهم جولة نحن فيها المنتصرون بإذن الله عز وجل، وهذا ما قاله لك رسول الله عليه الصلاة والسلام، إذاً نحن متعبدون بكراهية هذه الأعمال كلها، كراهية تجمع اليهود، إن الله تعالى يكرهه فنحن نكرهه أيضاً، وهذا الذي تُعبِّدنا به هذا الشرع، نحن متعبدون بالحزن لهذا الأمر، ومتعبدون بكراهية القوة التي يملكون، كراهية مجيئهم من أقاصي الدنيا إلى فلسطين، كل ذلك نحن نكرهه، ونحن متعبدون بذلك، بل نحن متعبدون بالحزن، فإن الحزن الذي تحزنه إذا سمعت بأخبار اليهود وتقدمهم وتجمعهم من كل مكان، هذا حزن محمود تؤجر عليه بإذن الله عز وجل. ولو كان لك قوة أو تأوي إلى ركن شديد، لكان يجب عليك أن تبذل ما في وسعك لمنع هذا الأمر، فلو أننا نحن المسلمين نملك قوة إعلامية، أو قوة اقتصادية، أو قوة سياسية، أو قوة عسكرية نستطيع بها أن نمنع مجيء اليهود من الاتحاد السوفيتي أو من بلاد أوروبا إلى فلسطين، لوجب علينا أن نستخدم هذه القوة الإعلامية، أو الاقتصادية، أو غيرها في منعهم. إذاً: كان يجب أن نبذل ما نستطيع في ذلك، لكن إذا لم نستطع نقول لهم: لا بأس، انتظروا فهناك يوم قادم سوف يفصل الله تعالى بيننا وبينكم وهو خير الفاصلين. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 20 افتراق الأمة أيضاً من أحاديث الفتن: الأحاديث التي أخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بافتراق الأمة، فقد أخبر عليه الصلاة والسلام: {أن هذه الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة} هذا حديث صحيح روي عن أكثر من ستة عشر صحابياً، أن هذه الأمة سوف تفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة {كلها في النار إلا واحدة} هذا خبر أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وهى من الفتن، لكن في المقابل عندنا شرع، ما هذا الشرع؟ الشرع أن الله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] إذاً: فالله أمرنا بالوحدة والاعتصام بحبله وعدم الافتراق يقول عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ} [الأنعام:159] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31-32] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله تعالى يرضى لكم ثلاثاً ومنها: أن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} . فالقرآن والسنة "الشرع" يأمرنا بالتوحيد والوحدة وأن نجتمع على كلمة الله عز وجل، فيجب أن نسعى للوحدة بين المؤمنين، وتوحيد الكلمة وجمع الصف على الكتاب والسنة والعقيدة الصحيحة، وأن نبذل جهدنا في هذا بقدر ما نستطيع، ومع ذلك فعندنا يقين وقناعه، راسخة أنه مع جهدنا وتضحيتنا وبذل ما نستطيع مع ذلك كله، فإننا نعلم أن ما نبذله له ثمرة طيبة، ولكن لن يكون من ثمرته أن الأمة كلها تجتمع على عقيدة واحدة، وعلى مذهب واحد، وعلى حكم واحد، وعلى رأي واحد في كل شئ، هذا لن يكون والله تعالى أعلم، إنما نحن نبذل ما نستطيع، وهذا هو الشرع الذي تعبدنا به، أما القدر الذي سيقع فهو أمر إلى الله عز وجل ليس لنا منه شيء. إذا هذه قاعدة مهمة، مهمة، مهمة -أقولها ثلاثاً- وهى: أنه يجب أن نفرق بين الشرع والقدر، لقد أخبر الرسول عليه السلام أن فتناً ستقع وأمرنا بأمور، فنحن نأتمر بما أمرنا به النبي صلى الله عليه وسلم، أما وقوع الفتن وعدم وقوعها فهذا أمر آخر لسنا منه في شيء. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 21 بين الأصل والاستثناء النقطة السادسة: وهى أيضاً أمر مهم كسابقه وقد اخترت لها عنوان (بين الأصل والاستثناء) وأعني بهذا العنوان: أن عندنا أصولاً لا يختلف عليها اثنان من المسلمين. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 22 وجوب الجماعة من الأصول: وجوب الجماعة والاجتماع على الطاعة، ومن ذلك: صلاة الجماعة؛ لكن الاجتماع على الخير والطاعة وعلى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ووحدة الصف -كما سبق- هذا من الأصول، كذلك صلة الرحم لا يختلف اثنان من المسلمين بوجوب صلة الرحم، وبر الوالدين والأقارب وصلتهم والإحسان إليهم وبذل ما تستطيع لهم، الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب بإجماع المسلمين إما وجوباً عينياً أو وجوباً كفائياً، كل المسلمين يقولون: يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 23 الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله شريعة باتفاق المسلمين ولو قال شخص: إن الجهاد ليس مطلوباً أبداً ولا في حال من الأحوال، يكون بذلك كافراً، نبين له الحق؛ فإن أصر يكون كافراً. فالجهاد شريعة ماضية بإجماع المسلمين، هذا أصل ليس فيه خلاف، لكن هناك استثناءً من هذا الأصل، ما هو الاستثناء؟ عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوماً من الأيام لأصحابه: {كيف بكم وبزمان يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس} يغربل الناس غربلة: أي ينخلون نخلاً فيذهب الطيب ويبقى الخبيث، ويبقى حثالة من الناس، والحثالة: هي الوسخ الذي يكون في أسفل الإناء، بعدما يشربه الإنسان تبقى فيه حثالة {تبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا، وشبك النبي صلى الله عليه وسلم بين أصابعه هكذا، فقال له عبد الله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله! بم تأمرني حينئذٍ؟ قال: تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم، وتذرون أمر عامتكم} والحديث صحيح رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وقال الحاكم: صحيح، وكذا صححه جماعة من أهل العلم كـ ابن حجر والعراقي والمنذري وغيرهم وسنده صحيح، أو سنده حسن وله طرق كثيرة فهو حديث صحيح. المهم في هذا الحديث أن الرسول عليه السلام ذكر أنه إذا كانت الفتن واختلف الناس ومرجت عهودهم وأماناتهم وصاروا هكذا، أَقْبِلْ على أمر خاصتك، على نفسك وزوجتك وأولادك وقراباتك، واترك أمر العامة، هذا مثال، ومثال آخر في الباب نفسه حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه، أن أبا أمية الشعباني قال لـ أبي ثعلبة الخشني: ماذا تقول في تفسير الآية؟ قال له أبو ثعلبة: أي آية؟ قال له: قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105] قال له: لقد سألت عنها خبيراً، سألت عن هذه الآية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: {بل ائتمروا بالمعروف، وتناهو عن المنكر، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متبعاً، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأىٍ برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العوام، فإن من ورائكم أيام الصبر، الصبر فيهن مثل قبضٍ على الجمر، للصابر فيهن أجر خمسين يعملون مثل عمله، قالوا: يا رسول الله! منا أو منهم، قال: بل منكم} والحديث رواه الترمذي وصححه ورواه ابن ماجة والحاكم وصححه أيضاً ورواه البيهقي في شعب الإيمان وغيرهم، والحديث له شواهد يصح بها. إذاً: في حديث عبد الله بن عمرو وأبي ثعلبة ذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجموعة صفات، إذا وجدت في شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، ففي ذلك الوقت أي مؤمن صادق يسعه أن يترك الناس ويقبل على نفسه، لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر، ولا تتعلم، ولا تجاهد، ولا ولا، لكن متى يحدث هذا؟ الحديثان ذكرا لنا مجموعة صفات أذكرها لكم باختصار: الجزء: 209 ¦ الصفحة: 24 صفات قوم آخر الزمان الجزء: 209 ¦ الصفحة: 25 الصفة الأولى أنهم حثالة، إذا بقي فيهم حثالة، والحثالة هي بقية الإناء، ومعنى ذلك أن هؤلاء الناس لا خلق ولا دين ولا مروءةَ لهم. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 26 الصفة الثانية قوم مرجت عهودهم وأماناتهم، مرجت أي: ضعفت وصاروا ليس عندهم عهد ولا أمانة- يعدك ويخلفك، تأتمنه فيخونك، تحدثه ويحدثك فيكذب، وهكذا، ولذلك قال البخاري رحمه الله في صحيحه: باب كيف الأمر إذا بقي فيه حثالة؟ ثم ذكر حديث حذيفة رضي الله عنه في نزع الأمانة من قلوب الناس، وقال في آخره أن حذيفة رضي الله عنه ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {حتى إنه ليقال: إن في بني فلان رجلا أميناً} أي: أن الناس كلهم ليس عندهم أمانة، حتى أصبحت القبيلة بأكملها ليس فيها أمين إلا واحداً، فالناس يتكلمون، فيقول أحدهم: سبحان الله! قبيلة كذا فيها فلان، رجل أمين، البلد الفلاني قد يكون سكانه مليون أو أكثر فيه فلان رجل أمين، أما البقية فقد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا فصاروا هكذا. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 27 الصفة الثالثة وهي التي وصفهم بها النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم اختلفوا فصاروا هكذا، وهذا إشارة إلى شدة اختلافهم وتنازعهم ومع الاختلاف فكل واحد يُخطِّئ الآخر، وهذا يذم هذا، وهذا ينتقض هذا، وهذا يخطئ هذا، اختلفوا وصاروا هكذا لا تدري من المحق من المبطل، ومن الصادق من الكاذب، ومن الجاد من الهازل. ولا شك أن هذه الصفات التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو وجد شيء منها الآن! بل وجدت بدايتها منذ زمن بعيد، منذ عهود التابعين؛ بل منذ أواخر عهد الصحابة وجدت بدايات، فمثلاً: ضعف الدين وجد، ضعف اليقين وجد، ضعف الأمانة وجد، نقض العهود وجد، اختلاف الناس وجد وهو موجود الآن، فقد يقول بعضكم: هذا مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، اختلف الناس اليوم كل إنسان يدعي أنه على الحق وغيره على الباطل. وكل يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر له بوصل وضاعت الأمور فلا ندري من نصدق، ولا ندري الصواب من الخطأ، ولا ندري ولا ندري، فيأتي إنسان فيصور الواقع الذي يعيشه ويطبقه على هذا الحديث، نقول له: لا، رفقاً، انتظر قليلاً. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 28 الصفة الرابعة ذكر في حديث أبي ثعلبة {إذا رأيت شحاً مطاعاً} الشح هو: الحرص مع البخل، رجل حريص وبخيل بالمال أطاع نفسه في الشح، وهذا الشحيح أصبح مطاعاً، لا تجده إنساناً كريماً إلا ما قل وما ندر. {وهوى متبعاً} يتبع الإنسان هواه فيعرض عن الكتاب ويعرض عن السنة وعن الحق ولا يطيع إلا هواه {ودنيا مؤثرة} يؤثر الدنيا على الآخرة وهذا بداية الكفر، كما قال عز وجل: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:16-17] وقال: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} [إبراهيم:2-3] فيؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ولا يبالي الواحد منهم ما أصابه في دينه إذا سلمت له الدنيا، {وإعجاب كل ذي رأى برأيه} فلم يَعُدْ يسمع لا آية ولا حديثاً ولا قول عالم ولا شيخ بل يكفيه ما عنده. أنا لست أنكر أن هذه الأمور كلها يوجد شيء منها الآن، خذ على سبيل المثال: الإعجاب بالرأي، والله الذي لا إله غيره إنني أشهد أنك إذا سمعت حديث بعض الناس في مجالسهم أو في غير ذلك، تقول: سبحان الله! هذا إعجاب كل ذي رأي برأيه، يتكلم الواحد منهم عن قضية شرعية مختلف فيها، فالعلماء اختلفوا فيها، والصحابة اختلفوا فيها، والأمة اختلفت فيها، فيقرر رأيه وقوله حتى كأنه حق وما سواه باطل، حتى كأنه أتاه وحي بأن هذا الأمر حق وهذا الرأي حق. وهذا من إعجاب المرء برأيه، حتى إنك تجد الإنسان والعياذ بالله قد يكون -أحياناً- عنده رأي خطأ وفاسد وباطل، ومع ذلك يتعصب لهذا الرأي، وتتشبع به نفسه، ويمتلئ به قلبه، حتى إنه إذا وجد من يخالفه في هذا الرأي يغضب ويكاد يتمزق من الحسرة، وربما من الغيرة والغضب لله وللرسول أيضاً، لكن تلبس عنده الإعجاب بالرأي بما يعتقد أنه حق وشرع وصحيح. لكن هذا ليس عاماً فما زال في الأمة بحمد الله؛ من الكبار والعلماء، وطلاب العلم، والعامة من لا تجده معجباً برأيه، قد يعتقد برأيه فإذا ناقشته فيه قال: جزاك الله خيراً، والله قد أصبت، وما ظاهرة رجوع الناس إلى مذهب أهل السنة والجماعة واعتقادهم به وتخليهم عن كثير من البدع، إلا دليل على ذلك، ومظاهر تراجع كثير من الناس عن المذاهب الفاسدة المادية من اليسارية والقومية والناصرية والشيوعية ومجيئهم إلى الإسلام إلا دليل على ذلك، وما رجوع بعض العلماء عن أقوالهم إلا دليل على ذلك. فالعالم قد يقول لك: من كنت أفتيته بكذا فليرجع إليَّ؛ فأنا رجعت عن قولي وتبين لي أن ما قلته له خطأ وأن الصواب كيت وكيت، وهذا دليل على أنه لا يوجد عنده إعجاب بالرأي، وإلا لتمسك برأيه وما تراجع عنه. إذاً، الإعجاب بالرأي موجود لكن لم ينتشر في الأمة بحيث أن الأمر وقع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {وإعجاب كل ذي رأي -كل من ألفاظ العموم- وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه} ما زالت الأمة في خير كثير. إذاً: هذه الصفات السبع إذا وجدت أستطيع أن أقول لكم: لا تأمروا بالمعروف ولا تنهوا عن المنكر، لماذا؟ لأنه لا فائدة من الأمر والنهى، ما دام أن كل واحد معجب برأيه، والهوى متبع، والدنيا مؤثرة، والشح مطاع، وهؤلاء القوم صاروا حثالة ومرجت أماناتهم وعهودهم واختلفوا وصاروا هكذا، إذا تحقق (100%) ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ لا يُؤمر بمعروف ولا ينهى عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما شرع للمصلحة، وما دام لن يتحقق الامتثال فلا فائدة، فنقول للآمر حينئذٍ. -إذا وجد هذا- أمسك عليك نفسك، أمسك لسانك واحفظ نفسك، حتى لا تصاب بأذى وتتعرض لاضطهاد، أو تضييق، أو إزعاج، أو تؤذى في نفسك، أو أهلك، أو ولدك، أو مالك، أو أصحابك، فلا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر. لكن متى يتحقق هذا؟ أو متى نحكم على واقع معين بأنه قد تحقق فيه هذا الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم؟ وأريد أن أشير إلى أن أصول الأحداث وبداياتها كانت موجودة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى قال حذيفة في الحديث السابق -حديث نزع الأمانة- قال: [[ولقد مر علي زمان ما أبالي أيكم بايعت]]-ليس عندي مانع أي واحد أبيع له ولا آخذ منه المال- يقول: إن كان مؤمناً يرده علي إيمانه وإن كان كافراً يرده علي ساعيه فالأمور مضبوطة إذا كان مسلماً يرجع لي بالمال، وإذا كان غير مسلم فالجهات المسئولة تحفظ لي مالي، هكذا ثم يقول حذيفة: [[أما اليوم فما أبايع إلا فلاناً وفلاناً وفلاناً]] ذكراً أناساً معدودين هم الذين يبايعهم، أما البقية فلا يبايعهم. إذاً: البدايات موجودة منذ عهد الصحابة، لكن متى تحقق الأمر الذي يجعلنا بمنجاة، ويبيح لنا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، هل تحقق هذا؟ كلا، لم يتحقق هذا، ومازلنا مطالبين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، فيما مضى وفي الوقت الحاضر أيضاً. فالبداية وجدت منذ عهد الصحابة رضي الله عنهم كما ذكر حذيفة رضي الله عنه، وأما فيما عدا ذلك فإن كل عالم في عصره يخيل إليه أن الأمر يوشك أن يكون. فمثلاً: أذكر أن ابن بطال رحمه الله أحد شراح البخاري وهو فقيه مالكي، لما تكلم عن حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويكثر الزنى} إلى آخر الحديث، قال ابن بطال رحمه الله: جميع ما تضمنه هذا الحديث من أشراط الساعة رأيناها عياناً، فقد نقص العلم، وظهر الجهل، وألقي الشح، وعمت الفتن، وكثر القتل إلى آخر الحديث. وعقب عليه الحافظ ابن حجر بقوله: إن الذي شاهده كان منه الكثير مع وجود مقابله يعني وجود الشح مع وجود الكرم، ووجود الجهل مع وجود العلم، ووجود القتل مع وجود الأمن، ولم يكن أمراً عاماً. قال ابن حجر: وقد مضى على الوقت الذي تكلم فيه ابن بطال ثلاثمائة وخمسون سنة والأمور في ازدياد. ومن الطريف أن الخطابي في كتاب "العزلة" روى حديثاً عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قال: [[إنها كانت تتمثل بهذه الأبيات- تقول: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب يتحدثون مخافة وملاذة ويعاب قائلهم وإن لم يشرب]] أي: أنهم قوم يكثرون من الكلام، ويحاولون أن يخطِّئوا الآخرين وإن لم يكونوا مخطئين، هكذا تقول عائشة رضي الله عنها، تقرأ هذه الأبيات وهي للبيد، فتقول عائشة رضي الله عنها: [[ويح لبيد! كيف لو أدرك هذا الزمان!]] يعني الذي كانت فيه عائشة رضي الله عنها. يقول عروة بعدما روى الحديث: [[كيف لو بقيت عائشة رضي الله عنها حتى أدركت الزمان الذي نحن فيه؟!]] بعد هذا يقول هشام بن عروة: [[كيف لو أدرك أبي - عروة - هذا الزمان الذي أنا فيه؟! ولما قالوا لسلمة بن شبيب وهو أحد رواة الحديث أيضاً قالوا له: يا أبا الفضل! كيف تقول أنت؟! فعروة تكلم وهشام بن عروة تكلم وعائشة تكلمت، وأنت كيف تقول؟! تقول: كيف لو عاشوا -قال: ما عسى مثلي أن يقول! أنا أقول: "على رأسي التراب"]] . التراب على رأسي، بل أنا لا أستحق أن أقول شيئاً أبداً، هؤلاء الذين ذكرتهم يقولون ما سبق، وكيف لو عاش فلان؟! أنا لا أقول: كيف لو عاش فلان؟ أنا أقول: التراب على رأسي؟ أي: كأنه رضي الله عنه يقول: أنا أذم نفسي وأوبخ نفسي ولا أتكلم في الآخرين. فهذا محمول منهم على الزراية بأنفسهم وواقعهم وذمه، ولا يلزم أن يكون هذا دليلاً على تحقق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم. والذي يريد أن يقول: إن ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمرو تحقق في هذا الوقت يلزمه أن يراعي ثلاثة أمور: الأمر الأول: ألاَّ يحكم إلا إذا تحققت فيه الشروط، هل هو عالم بالشرع مثلاً؟ إذا لم يكن عالماً بالشرع فليس من حقه أن يحكم، وإلا فبعض الجهال قد يرى هذا الوقت، فيقول: أبداً، الواقع ممتاز، ونحن في أحسن حال، بل إن بعض المنحرفين قد يخيل إليه أن الأمة ما مرت في زمن أحسن من تلك الأزمنة التي يعيش فيها؛ لأنه يقيس الأمور ليس بمقياس الشرع بل بمقياس الهوى، مقياس الدنيا، فلا بد أن يكون الذي يحكم على الواقع عالماً بالشرع، ولا يكفي العلم بالشرع -أيضاً- فقد يكون عالماً بالشرع لكنه غير عالم بالواقع، لا يدرى ما الناس عليه، فإذا كان من البيت للمسجد ما رأى منكراً في حياته قط، يقول: والله الأمور -والحمد لله- جيدة، لكن لو أخذته مرة في رحلة وذهبت به إلى أحد الأسواق، أو الحدائق، أو غيرها فرأى من المنكرات لربما فقد وعيه من شدة ما فوجئ به. فلا بد من العلم بالشرع مع العلم بالواقع، أن نعرف الواقع. وهناك صفة أخرى، وهي: أن يكون الإنسان فيه اعتدال بطبعه، فبعض الناس حاد المزاج ينظر إلى الجانب المظلم، مثل ما يقال في المثل: لو أتيت بكأس نصفه فارغ ونصفه الآخر ممتلئ بالماء، فتأتي به لإنسان فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس، نصفه فارغ، فهو نظر إلى الفراغ الموجود في الأعلى، فقال: نصفه فارغ، وهذه نصف الحقيقة. وتأتى لإنسان آخر، فتقول له: صف لي هذا الكأس؟ فيقول لك: هذا الكأس نصفه ممتلئ، فهو نظر إلى النصف الممتلئ. وتأتي لإنسان ثالث، فيقول لك: كلاهما أصاب هذا وصف شيئاً وهذا وصف شيئاً آخر. إذاً: قد تأتي لإنسان عنده نوع من النظرة التشاؤمية للواقع، فيقول لك: الواقع فيه كذا وحصل من تبرج النساء وفساد الشباب وضياع الأمور، وكذا وكذا، فيذكر لك سلسلة وقائمة من الانحرافات، حتى يخيل إليك أن الدنيا كلها رقعة سو الجزء: 209 ¦ الصفحة: 29 بين اليأس والأمل النقطة السابعة: وهذه وقفة أخرى وقد اخترت لها عنواناً اسمه "بين اليأس والأمل". فكثير ممن يتكلمون في الفتن لا يتقنون إلا الأحاديث التي تدل على اليأس. مثلاً: إذا تكلم أحد في الفتن أو سمع كلاماً حول أحاديث الفتن تبادر إلى ذهنه، حديث أنس رضي الله عنه: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم} سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، والحديث لاشك فيه صحيح رواه البخاري أو حديث: {لا يزداد الأمر إلا شدة، ولا الدنيا إلا إدباراً} أو حديث: {يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أكل أمن حلال أو من حرام} هذا في صحيح البخاري. فيدب اليأس إلى نفوس الناس، وكأن القائل منهم يقول: هذا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قد وقع وآل الأمر إليه، فلا فائدة، ولا حيلة، ولا داعي لأن نقوم نحن بواجبنا في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة، والجهاد، وغير ذلك؛ لأن الأمور قد انتهت وهذا فيه عدة أخطاء:- الجزء: 209 ¦ الصفحة: 30 النظر إلى أحاديث اليأس دون غيرها خطأ منها: أن الإنسان غفل عن الجانب الآخر من تلك الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: {لا يأتيكم زمان إلا الذي بعده شر منه} -مثلاً- هو نفسه الذي قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} . فأخبر أن الأمة يتجدد لها الدين في رأس كل مائة سنة، وتتحسن الأمور والأوضاع والأحوال، لكن في الإجمال لاشك أن الأمة تسير في طريق تنازلي إجمالاً، لكن يكون في الأمة زمان أحسن مما قبله، كما هو الحال بالنسبة لعصور المجددين -مثلاً- الإمام محمد بن عبد الوهاب جاء إلى بلاد نجد وهم يعبدون الأصنام والأوثان، وبينهم من الحروب والتطاحن ما هو معروف في تاريخ نجد فدعاهم، وجمعهم على كلمة الإخلاص، ووحد الله تعالى قلوبهم وصفى به عقائدهم، وأقام دعوة راسخة قوية صلبة على مر العصور. إذا، ليس الأمر مطرداً، فالذي قال: {لا يأتيكم زمان إلا والذي بعده شر منه} . هو الذي قال: {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} وهو عليه الصلاة والسلام الذي قال: في حديث عمران} هو الذي عليه الصلاة والسلام قال: كما في حديث أنس وهو حديث صحيح: {أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره} ليس المقصود أن آخر الأمة مثل أولها (100%) سواء بسواء، إنما المقصود أن آخر الأمة في الخيرية والقوة حتى ليلتبس على الناس أهو خير أم أوله، وإلا ففضل الأولين مشهود لا يشك به أحد، فالذي قال هذا، هو الذي قال هذا فلماذا تأخذ الأحاديث التي فيها يأس وتترك الأحاديث التي فيها الأمل؟ الجزء: 209 ¦ الصفحة: 31 واجبنا تجاه أحاديث اليأس أقول: ينبغي أن ننظر في هذه الأحاديث نظرة تأمل، وألا نسمح لليأس أن يتسرب إلى قلوبنا، خاصة إذا تذكرنا المبشرات التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها قضية الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، وبقاء الجهاد والتجديد، وبقاء الخيرية في هذه الأمة، وانتصار هذه الأمة على الروم والترك واليهود والدجال وغيرهم. ومنها ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {أن الصابر من هذه الأمة على دينه له أجر خمسين يعملون مثل عمله من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم} ومع ذلك يجب الاعتدال، فحينما نقول هذا لا نعني أننا ننتظر رجالاً كرجال القرن الأول يظهرون بيننا! كلا، يجب أن ننظر نظرة واقعية، وندرك أن كل عصر له رجاله، وليس صحيحاً أن نطلب المحال بحيث إذا قيل للإنسان: أين العلماء؟ قال: في "ثلاجة" وهي مقبرة معروفة ببريدة، هذا صحيح "ثلاجة" فيها علماء لكن أيضاً -الحمد لله- الأمر كما قال الأول: إذا مات فينا سيد قام سيد قئول لما قال الكرام فعول فالأمة فيها خير كثير، وفيها علماء فطاحل جهابذة يستسقى بدعائهم المطر من السماء، ويتعبد لله تعالى بسؤالهم وفتياهم واتباعهم وطاعتهم فيما بلغوا من دين الله وشرعه، وهم أئمة وقفوا أنفسهم على هذا الدين، وهناك طلاب علم كثيرون، نذروا أنفسهم لهذا العمل. ليس صحيحاً أن أرحام النساء عقمت فلا تلد! ليس صحيحاً أن نتصور أن الأمة -مثلاً- بعد شيخ الإسلام ابن تيمية انتهت؛ صحيح أن ابن تيمية علم راسخ ربما لم يأتِ بعده مثله، بل أجزم أنه لم يأتِ بعده مثله، لكن مع ذلك هناك رجال كثير في هذه الأمة، هناك علماء، وهناك جهابذة، وهناك مصلحون، وهناك دعاة، وهناك مجاهدون، وهناك أئمة، بل إنني أقول: إن الأمة نفسها تشارك في صناعة هؤلاء الأئمة، فإن العالم إذا كان في وسط قوم يعظمونه ويقدرونه ويوقرونه ويعرفون له قدره، فإن هذا يزيد من ارتفاعه ومكانته كما قال أحدهم: إنما عَظُمَتْ بصغار عظموك. فالعالم إذا أحاط به الناس وأخذوا عنه وقدّروه وبجلوه واحترمته الخاصة والعامة، وأصبح له مكانته، فليس من السهل أن يخطئه أحد أو يعارضه أحد أو يقف في وجهه أحد، لكن إذا كان هذا العالم مركوناً لا يلتفت إليه أحد أصبح في الأمة مثل الذهب الذي في معدنه لم يعلم به أحد، فالأمة هي التي تشارك في صناعة العلماء والقادة والدعاة وإعدادهم وإخراجهم، فينبغي ألا نقوم دائماً بلوم الآخرين وننسى الدور الذي كان يجب علينا أن نؤديه. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 32 الاعتماد على الأحاديث الضعيفة من أسباب اليأس الخطأ الثاني الذي يقع فيه أولئك الذين ينظرون نظرة يأس للأحداث والأحاديث: أنهم أحياناً يستأنسون ببعض الأحاديث الضعيفة بل والموضوعة، وذلك لأن العلماء الذين صنفوا في الفتن تساهلوا، مثل نعيم بن حماد -مثلاً- وأبي عمرو الداني ومثله الحكيم الترمذي والديلمي وكثير من هؤلاء العلماء يذكرون في الفتن خاصة أحاديث ضعيفة وأحياناً أحاديث موضوعة، فإذا قرأت تدرك أنه موضوع فتجد أحياناً، حديثاً ربما يكون أربع صفحات أو خمس صفحات يذكر الفتن وهو غالباً لا يصح، فلا ينبغي التساهل في رواية تلك الأحاديث، خاصة إذا كانت أحاديث تذم الواقع. فمثلاً: بعض الأحاديث تتكلم بذم الناس "ذهب الناس وبقي النسناس"، "رأيت الناس أخبر ثقله"، "بعد مائة سنة لا يبقى مولود لله فيه حاجة" مثل هذه الأحاديث لا تصح، لكن بعض الناس يفرحون بها، من أجل يعرض عن الناس ويتركهم ويقول: هؤلاء الناس لا خير فيهم ولا تلتفت إليهم، هؤلاء الناس فيهم وفيهم، وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فيعتمد على أحاديث ضعيفة أو موضوعة في ذم الناس. وإذا انتقل إلى العلماء بدأ يذم العلماء وينتقص منهم، ويقول: هؤلاء لم يفعلوا ولم يفعلوا وفيهم وفيهم، ثم يذهب يستأنس بحديثين أو ثلاثة أحاديث موضوعة، في ذم أهل العلم وأن من أهل العلم من يمسخ في آخر الزمان قردة وخنازير، وأنهم يتعلمون العلم لغير وجه الله تعالى وإلى آخره، فيستشهد ويستأنس بهذه الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة في الحط من أقدار علماء عصره، ولا نشك أن هناك أحاديث صحيحة في هذا الباب؛ وهناك علماء ينطبق عليهم الكلام، لكن ينبغي أن توضع هذه الأمور في مواضعها. هناك -مثلاً- من يترك الزواج ويترك إنجاب الأولاد، فتقول له: لماذا؟ يقول: هذا الزمان زمان مظلم، الولد تتعب فيه لا تدري كيف يتربى؟ ولا تدري، ولا تدري، ثم يأتي لك بحديث مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {يأتي على الناس زمان لأن يربي أحدهم جرو كلب، خيرٌ له من أن يربي ولداً من صلبه} هذا الحديث رواه الحاكم وغيره وفيه ضعف، يقول: أنا لا أريد أن أربي أولاداً ولا أهتم بهم، لماذا؟ الكلاب خير منهم، هذا ليس منطقاً، وليس صحيحاً، هذه نظرة تشاؤمية، نظرة سوداوية، ينبغي لطلبة العلم أن يحرصوا على إخراج الناس من هذا النفق المظلم، وجعلهم يعيشون في النور. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 33 كثرة اشتغال الناس بأحاديث الفتن نقطة أخيرة: قضية الاشتغال بأحاديث الفتن، فمن الأشياء التي يطول عجبي منها كثرة اشتغال الناس بأحاديث الفتن، ولو فرزت لكم هذه الأسئلة التي جاءتني منكم الآن، بل أسئلة المجلس السابق والذي قبله لوجدنا (50%) منها تدور حول أحاديث الفتن، وجاءتني أسئلة شفوية كثيرة تدور حول بعض الأحاديث الواردة في أمور الفتن، لماذا يهتم الناس بأحاديث الفتن؟ يهتمون بها في نظري لسببين:- الجزء: 209 ¦ الصفحة: 34 أسباب اشتغال الناس بأحاديث الفتن السبب الأول: هو استكشاف المجهول، فالإنسان من طبيعته يحب أن يعرف المستقبل، ويستكشف المجهول فيحاول أن يعرف ذلك من خلال بعض النصوص الواردة والتي تكشف ما قد يقع في المستقبل، فلذلك يقرأ في هذه الأحاديث. السبب الثاني وهو أهم: أن الناس يؤثرون دائماً ألا يعملوا، فنحن دائماً نحب ألا نعمل، نحب أن نتكلم لكن لا نحب أن نعمل، فأحاديث الفتن -أحياناً- يتخذها بعض الناس مهرباً من العمل. فمثلاً: إذا وجد الأحاديث الواردة في المهدي، قال: لا داعي للعمل علينا أن ننتظر، نسينا أن كل واحد منا يجب أن يكون مهدياً يدعو إلى الله عز وجل، يهتدي بهدي الله عز وجل ويدعو إلى الله عز وجل، أما المهدي الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فنحن ما تُعُبِدْنا بأن ننتظره متى يأتي؟ بعد مائة سنة أو مائتين أقل أو أكثر، الله أعلم، هذا غيب عند الله عز وجل، ما تعبدنا بأن ننتظر شخصاً معيناً، إنما تعبدنا بأن نقوم بالواجب، ندعو إلى الله ونتعلم ونتعبد ونجاهد هذا هو المطلوب، نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، أما انتظار شخص معين فهذا لم نُتَعَبَّد به كما تفعله الرافضة، فهم منذ مئات السنين وهم عند سرداب سامراء ينتظرون مهديهم الذي لا يخرج أبداً، حتى ضحك منهم الناس وقال لهم أحد الشعراء:- ما آن للسرداب أن يلد الذي أوجدتموه بجهلكم ما آنا فعلى عقولكم العفاء فإنكم خلقتم العنقاء والغيلانا يقول: أنتم مجانين، منذ مئات السنين وأنتم تنتظرون! والغريب أن عندهم فرساناً وخيولاً ربطوها ينتظرونه، وكلما حصلت حركة قالوا: جاء، جاء، ويدعون في كتبهم يقولون: عجل الله فرجه وسهل مخرجه. هل يصلح أن يكون أهل السنة ينتظرون مهدياً بهذه الطريقة، المهدي سيخرج لكن متى؟ هذا علمه عند ربي في كتاب، نحن مطالبون بأن نعبد الله بالدعوة والجهاد والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وألا ننتظر أحداً، لا ننتظر أحداً يقوم بهذه المهمة بالنيابة عنا. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 35 حاجة الناس في هذا الزمن بدل الاشتغال بأحاديث الفتن بعض الناس يهربون بأحاديث الفتن من الواقع، ويهربون من العمل، وينسون أنه في أزمنة الفتن الأمر يستوجب زيادة. مثلاً: إذا كثرت الفتن مثل زماننا هذا فليس معناه أن يترك الإنسان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالعكس لقد زاد الأمر وجوباً! وليس معناه أن يترك الإنسان الجهر بكلمة الحق في زمن الفتنة، لا. وإن زمان الفتنة يوجب أن يزيد الناس من الجهر بكلمة الحق، وإعلانها والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الناس أحوج ما يكونون إليها، وإلا إذا اتضحت الأمور وبانت لم تعد هناك فائدة من الكلام، وإذا استقام الناس والتزموا بالمعروف فلا فائدة من النهي عن المنكر. فالناس أحوج ما يكونون إلى الأمر بالمعروف إذا تركوه، وأحوج ما يكونون إلى النهي عن المنكر، إذا وقعوا فيه، وأحوج ما يكونون إلى بيان الحق إذا التبس الأمر عليهم، فإذا ظهر الأمر لم يبقَ لأحد فضل ولا كلام. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 36 تطبيق أحاديث الفتن على الواقع من الأحاديث التي وردت -وكنت ذكرتها، وجاءت في بعض الأسئلة الواردة الآن- كثير من الناس يرددون حديثاً في هذه الأيام رواه مسلم في صحيحه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {يوشك ألا يجبى إلى العراق قفيز ولا درهم، قالوا: يا رسول الله: ممَ ذاك؟ قال: من قبل العجم، يمنعون ما بأيديهم} . فبعض الناس يطبق هذا الحديث على الواقع، وأنا أرى أنه ينبغى ألا يتسامح المبتدئ أو الإنسان العادي أو العامي في تطبيق هذا الحديث، فالعلماء لهم شأنهم إذا رأوا ذلك، لكن بالنسبة لنا فينبغي ألا ندخل في هذا الباب؛ لأن هذا الحديث نفسه لو تأتي إلى عالم قديم مثل النووي -مثلاً- راجع شرح الحديث في شرح مسلم قال النووي: لقد وقع هذا في زماننا، وأخبر أن العجم استولوا على العراق في زمانه ومنعوا ألا يجبى إليه شئ، هذا مثال. مثال آخر كثيراً ما يورده الناس أيضاً في هذا الزمان وفي غيره، وهو ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم: {من أن المسلمين يصالحون الروم صلحاً آمناً، ثم يغزون وإياهم عدواً من ورائهم فيغدرون، ويأتون في ثمانين غاية تحت كل غاية ثمانين ألفاً، ويشترط المسلمون الشرط على الموت وينتصر المسلمون في النهاية} . وهناك أحاديث أخرى من هذا القبيل. أيضاً بعض الناس يطبقون هذا الحديث على الواقع وهذا الحديث وإن كان أهل العلم ذكروا أنه لم يقع، كما قال ابن المنير فيما نقله عنه الحافظ ابن حجر قال: "أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر إلى هذا العدد، فهي من الأمور التي لم تقع بعد، وفيه بشارة ونذارة، وذلك أنه دل على أن العاقبة للمتقين مع كثرة ذلك الجيش، وفيه إشارة إلى أن عدد جيوش المسلمين سيكون ضعف أو أضعاف ما هو عليه الآن". هكذا يقول ابن المنير انتهى كلامه، لكن نجد أحد المؤلفين المعاصرين وهو الغماري فسر هذا في كتاب له سماه "مطابقة الاختراعات العصرية" فسره بحلف الأمريكان والعرب لقتال الروس. فإذاً أقول: لسنا متعبدين بتطبيق أحاديث الفتن على الواقع، لا، لا نطبق الأحاديث على الواقع بل ندع الواقع هو الذي ينطق، فإذا وقع الأمر قلنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ويزيدنا الأمر إيماناً وتسليماً، أما أن نأتي نحن ونتكلف -أحياناً- في تأويل النصوص وتطبيقها على واقع معين، فأرى أن هذا لا يصلح للعلماء، وإن صلح للعلماء أو طلبة العلم المتقدمين المبرزين الفقهاء فإنه لا يصلح للعامة ولا ينبغي لهم أن يشتغلوا بهذا الأمر، مع أن هذا الأمر يدعوهم -أحياناً- إلى ترك الاشتغال بالعمل والجد والاجتهاد، وأن يعتمدوا فقط على الانتظار، والانتظار وحده لا يصنع شيئاً، بل هذا قد يوحي لهم بأن يتصرفوا -أحياناً- تصرفات غير مشروعة، بإيحاء لا شعوري فيتصرفون تصرفاً غير جيد بسبب توقعهم أن هذا هو الحال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم. ولو نظرنا إلى الصحابة رضي الله عنهم لوجدنا أن اشتغالهم بأحاديث الفتن لم يصرفهم عن الاشتغال بالحلال والحرام، ومعرفة الشرع، ولذلك قال حذيفة رضي الله عنه: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكرها، علمه من علمه، وجهله من جهله} حتى قال حذيفة رضي الله عنه: {إن كنت لأرى الشيء قد نسيته فأعرفه كما يعرف الرجل الرجل إذا غاب عنه} والحديث متفق عليه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الفتن ومع ذلك ذكر حذيفة لنا شيئاً منها ونسي شيئاً منها. عمرو بن أخطب يقول كما في صحيح مسلم: {صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر ثم صعد المنبر فخطب حتى جاء الظهر، فنزل وصلى الظهر ثم صعد وخطب حتى جاء العصر فنزل وصلى العصر، وصعد المنبر فخطب حتى غربت الشمس، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم بما كان وما هو كائن فأعلمنا أحفظنا} أي أن من الصحابة من علم وحفظ ومنهم من نسي. المشكلة إذاً مشكلة تطبيق النصوص على الواقع، كم من قوم ضلوا -مثلاً- بسبب تطبيقهم للنصوص على واقع معين، ولعل من أظهر الأمثلة المهدية، كم من قوم ادعوا المهدية في زمن بني أمية وبني العباس، ومهدي المغرب المهدي بن تومرت، ومهدي السودان محمد بن أحمد الذي ادعى المهدية، وكون مجموعة لا تزال معروفة إلى اليوم باسم الأنصار حزب الأمة كما يسمونه في السودان وغيرهم كثير، ادعوا المهدية بالباطل بسبب أنهم طبقوا النصوص على الواقع وهم ليسوا أهلاً لذلك. ومن الطريف حديث: {نجد قرن الشيطان} الذي ذكرته قبل قليل، وأن العلماء ذكروا أن المقصود بنجد نجد العراق، من المغرضين الحاقدين من فسروه بأن المقصود نجد هذه التي نحن فيها الآن، وفسروا قرن الشيطان بالدعوات الإصلاحية التي خرجت في هذه البلاد، وهذا من سوء رأيهم وصنيعهم وفساد قصدهم. وهناك مؤلف أحببت أن أنبه إليه في نهاية هذه المحاضرة اسمه: "مطابقة الاختراعات العصرية لما جاء به سيد البرية" لمؤلف اسمه أحمد بن محمد بن الصديق الغماري، وهذا المؤلَّف طريف وغريب في الوقت نفسه، فإن مؤلفه تجشم الأمر الذي حذَّرت منه، وحاول أن يطبق النصوص على الواقع بطريقة غير صحيحة في كثير من المواضع، -مثلاً- تكلم عن قضية الطائرات والسيارات، وكما يقول: "الأوتومبيل" والقطارات والمطر الصناعي، وقضية المغاسل، وأشياء كثيرة جداً مما جاء في هذا العصر، حاول أن يبحث لها عن حديث يدل على أنها سوف تظهر، وتكلف لذلك تكلفاً عظيماً يُذَمُ ولا يُحْمد، حتى أن من العجائب أنه فسر قوله عز وجل: {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير:4] العشار هي النوق، يقول: تعطيل العشار لوجود "الأوتومبيل وبوابير" سكة الحديد، فالناس استغنوا عن ركوب الإبل لوجود السيارات وقاطرات السكة الحديدية، -مثلاً- مع أن هذا يوم القيامة، ومثله: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير:5] هذا -أيضاً- يوم القيامة، تحشر الوحوش فيقتص للشاة القرناء من الشاة الجلحاء؛ ثم يقال لها: كوني تراباً وهو يقول: (وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي: جمعت في حديقة الحيوان كما هو واقع، ثم أخذ يتكلم عن حديقة الحيوان، وأنه لا يجوز جمع الحيوانات في الحدائق، إلى آخر ذلك، وفعل مثل ذلك بأحاديث كثيرة، فأردت أن أنبه إلى أن هذا مسلك خطير، والغريب أنه في آخر الكتاب لما تكلم عن الطائفة المنصورة وأنها باقية قال: -غفر الله لنا وله- فبنا وبأمثالنا، يدفع الله الضلال عن هذه الأمة، بل لا نبالغ إذا قلنا -طبعاً (نا) هذه نون الجمع لكنه عظم نفسه- لا نبالغ إذا قلنا قد وردت الإشارة إلينا والحمد لله على نعمته، وذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إذا ظهرت فيكم السكرتان: سكرة الجهل وسكرة المال؛ فالقائمون بكتاب الله سراً وعلانية كالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار} يقول: فليس في مغربنا بل ولا في الشمال الإفريقي أحد قائم بالكتاب والسنة إلا أنا! هذا لا شك أنه غير صحيح. فنقول سامحه الله وغفر الله لنا وله. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 37 الأسئلة الجزء: 209 ¦ الصفحة: 38 الخلو في تتبع الأخبار السؤال ما رأيك في من يجعل أكثر وقته لسماع الأخبار ومطالعة الصحف خاصة في هذه الأيام؟ الجواب لا. العدل مطلوب، وحتى الذي يسمع الأخبار أو يقرأ الصحف يجب أن يقرأ ويسمع بتمحص، لكي لا يدخل كل شيء إلى عقله وقلبه، بل يمحص بعض الأشياء فيقبل ويرد وفق مقياس سليم دقيق. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 39 استئصال أمة الإسلام السؤال هل يمكن أن يحصل استئصال لأمة الإجابة؟ الجواب لا يحصل إلا قبيل قيام الساعة عند ظهور الأشراط الكبرى، فيبعث الله تعالى ريحاً طيبة فتقبض أرواح المؤمنين، مسها مس الحرير، وريحها ريح المسك، تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في الأرض إلا شرار الناس وعليهم تقوم الساعة. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 40 فترة توقف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر السؤال هل ينعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا وجدت هذه الأدوات السبع أو الصفات السبع؟ الجواب إذا وجدت وتحققت فعلاً فحينئذٍ ما عاد يؤمر بمعروف وينهى عن منكر، وحينئذٍ قربت الساعة، فيرسل الله عز وجل ريحاً طيبة تقبض أرواح المؤمنين، ويرفع القرآن من المصاحف وصدور الرجال، ويأتي ذو السويقتين من الحبشة إلى الكعبة فيهدمها، فحينئذ هذا آخر الزمان ولا يبقى أحد في الأرض يقول: الله الله. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 41 عبادة بعض أهل الجزيرة للشيطان السؤال هذا يسأل عن الحديث الذي ذكرته قبل قليل، وذكر عبادة الأصنام وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في الجزيرة؟ الجواب أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة، بعضهم قال: أيس الشيطان، لكن مع يأسه فإن الله أخبر أن الشيطان سوف يعود إليه الأمل من جديد، يعود إليه الأمل في آخر الزمن إذا رأى فساد الناس، وبعضهم قال: أن يعبده المصلون يعني المؤمنون التائبون العابدون، هؤلاء لا ينحرفون إلى الوثنية، بل يعبد الشيطان والأوثان قوم كانوا على الشرك أو أنشئوا عليه إلى غير ذلك. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 42 حديث الجساسة السؤال في أي كتاب يوجد حديث الجساسة؟ الجواب يوجد في صحيح مسلم. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 43 فتن الشهوة السؤال افتُتنَ بعض المرات عن طريق التلفون بالنساء، لماذا لم تشيروا إلى هذه الفتنة؟ الجواب هذه فتنة الأهل والمال، فتنة الشهوة، وتحتاج إلى حديث خاص. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 44 مدح الخصال الطيبة في الكفار السؤال ما رأيك في من يعجب بالتزام الكفرة في مواعيدهم ويمدحهم؟ الجواب مدح الكفار بما فيهم من الخصائص الطيبة، هذا من العدل ولذلك لما ذكر كـ عمرو بن العاص رضي الله عنه، قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تقوم الساعة والروم أكثر الناس قال: رضي الله عنه: أما إنهم على ذلك، إن فيهم خصالاً خمساً وذكر من خصالهم: أنهم أصبر الناس عند المصيبة وأسرع الناس إفاقة، وأعدل الناس مع المسكين والفقير، وأرحم الناس على الولد، وقال: خامسة حسنة جميلة: أمنعهم من ظلم الملوك} يعني: أن فيهم من القوة والاجتماع ما يمنعهم من أن يتسلط عليهم باغٍ أو طاغٍ، فذكر الكفار بأن فيهم خصالاً حسنة هذا لا يعني الإعجاب بهم. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 45 التمسك بالدين وقت الفتن وغيره السؤال عندما حصلت أحداث أزمة الخليج دب إلى الناس في البلاد الهلع والخوف وحسبوا لهذه الأحداث ألف حساب، وبالغوا في هذا الأمر حتى ارتكبوا مخالفات شرعية، وقد استبان خلل كثير من الناس وظهر لهم بعض الأغلاط والأخطاء سواء عن جهل أو خوف، مثل الخوف على ممتلكاتهم وأموالهم والخوف من أعدائهم والتهيؤ للفرار وضعف التوكل وعدم الثقة بالله عز وجل؟ الجواب نعم، هذه نقطة مهمة جداً، حتى حين تنظر إلى واقع الناس تجد أنه لما حصلت الأحداث زاد المصلون في المساجد، ففي مسجدنا -مثلاً- زاد عدد المصلين في صلاة الفجر النصف، بعد ذلك بدأ العدد يتناقص حتى آل الأمر وأصبح شيئاً عادياً، لماذا؟! أنا أعتقد أن عذاب الله عز وجل لن يندفع عنا بقوة من قوى الأرض، إذا كنا مؤمنين فعلاً ونعتقد أن العذاب إن نزل بنا فإنما ينزل بذنوبنا، فهل نعتقد أن عذاب الله يدفع عنا بالوسائل المادية! فالله عز وجل عنده من الجنود مالا يعلمه إلا هو: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31] . فإذا كتب على أمة من الأمم العذاب فوالله لا تدفع عنها قوة مهما تكن، فينبغي للعبد أن يخاف الله عز وجل وأن يظل مرتبطاً بهذا، وأن يكون في قلبه توكل على الله وثقة به وخوف منه أن يراجع نفسه ويصحح أعماله. وأنبه إلى أمر من هذه الأمور: فالله عز وجل لما ذكر العقوبة للأمم في كتابه ذكر أنه يأخذ الأمم على غفلة، {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ} [الأعراف:97] {ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف:98] إذاً العذاب إذا أتى يأتي على غفلة، فإذا رأيت الأمة تأتيها المحن والفتن والزلازل والتنبيهات مرة بعد مرة وهي تنتبه لحظة ثم تعود إلى نومها، فَخَفْ من ذلك. علينا أن نوعي الناس وأن نهز قلوبهم، ونقول لهم: عودوا إلى الله عز وجل، توبوا إلى الله توبة نصوحاً. الجزء: 209 ¦ الصفحة: 46 يا أهل الكويت في هذا الموضوع خطاب صريح لأهل الكويت يتناول قضية الغزو العراقي: مسبباته، وكيفية التعامل مع الابتلاءات والذنوب التي اقترفناها حتى حلت بنا العقوبة، وما هو المخرج من هذه الأزمة. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 1 وقفات مع أهل الكويت إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد أيها الإخوة الكرام: هذا هو الدرس السابع عشر من الدروس العلمية العامة، وإن كان هو الدرس الأول في هذا المسجد، ونسأل الله تعالى أن تكون نقلته إلى هذا المسجد نقلةً مباركة، وهذه ليلة التاسع والعشرين من شهر المحرم لعام 1411 للهجرة. أيها الإخوة: لقد تحدثت في المجلس السابق عن جانب من الأحداث التي عصفت بمنطقة الخليج وما حولها، وقلبت الموازين في نفوس كثيرٍ من الناس، وأحدثت هزةً لكثيرٍ من المجتمعات، وكان أول ضحيةٍ لهذه الفعلة هو شعب الكويت، وهو جزءٌ لا يتجزأ من هذه الأمة، نرتبط معه برابطة الدين، والعقيدة أولاً، ثم برابطة الجوار ثانياً، ثم رابطة النسب ثالثاً؛ ولذلك فقد رأيت من المناسب أن أخصص هذه الحلقة للحديث مع أولئك الإخوة، ومن ثم جعلت عنوانها (يا أهل الكويت) . أهل الكويت وأبناء العمومة هل تشكون جرحاً فلا نشكو له ألما إذا حزنتم حزناً في القلوب لكم كالأم تحمل من همِّ ابنها سقما وكم نظرنا بكم نعماً يجسمها لنا السرور فكانت عندنا نعما ونبذل المال لم نُحمل عليه كما يرعى الكريم حقوق الأهل والذمما صبراً على الدهر إن جلت مصائبه إن المصائب مما يوقظ الأمما إذا المقاتل من أخلاقهم سلمت فكل شيء على آثارها سلما هل سمعتم بإنسان ٍيُرَحَّبُ به في داره، وبيته، ومنزله، إن الترحيب إنما يكون بالغريب البعيد أو الضيف الطارئ، أما الأهل فهم يرحبون ويحيُّون، ولكن هذه الحدود، والسدود، والعوازل المصطنعة التي رسمها الاستعمار، ومزقت المسلمين شر ممزق، وفرقت بين بعضهم بعضاً، وأوجبت علينا أن نقول لكم: مرحباً، وإننا إذ نفسح لكم في قلوبنا، وفي بيوتنا ونتقاسم معكم ما ملكت أيدينا، إنما نرد إليكم بعض الجميل الذي قدمتموه لنا، ونقضي لكم بعض الديون. ولقد علم المطلعون على أحوال الشعوب الإسلامية في المشرق والمغرب، أن أموال الأثرياء الصالحين من أهل الكويت، كانت وراء قيام كثيرٍ من المشاريع الخيرية الدعوية، فكم من مسجد بنت، ومدارس أسست، ومستشفيات أقامت، وحفرت من آبار، وطبعت من كتب، ووظفت من دعاة، فهذه صنائع المعروف التي قدمتموها يا أهل الكويت، وهي بإذن الله تقيكم مصارع السوء، فتكون نوراً لكم في طريقكم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم: {والصبر ضياء، والصدقة برهان} . الجزء: 210 ¦ الصفحة: 2 المصيبة مصيبة الدين يا أهل الكويت: إن العاقل من يقول: إن أصبتُ في مالي، أو رزئت في أهلي، أو تضررت في بدني، فلن أصاب في ديني وصبري واحتسابي، ولسوف أصبر حتى أحول هذه المحنة إلى منحةٍ من الله تعالى، والمغبون كل الغبن هو من خسر دنياه، أو بعض دنياه، ثم جزع وتأفف وتضجر، وتسخط على قضاء الله تعالى وقدره، فدمر آخرته بيده، وأخرب بيته بيمناه، فلا دنياه رجعت، ولا آخرته سلمت، أما المؤمن الصابر، فقد فاز بالصبر كما فاز بالأجر. عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما يصيب المؤمن من نصبٍ ولا وصبٍ ولا همٍ ولا حزنٍ ولا غمٍ ولا أذى إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها} متفق عليه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: {ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسب إلا الجنة} رواه البخاري. وكتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي رضي الله عنه يسأله كيف أنت؟ فرد عليه علي من قلب المحنة، ولب المصيبة بأبياتٍ من الشعر يقول فيها: فإن تسألنِّي كيف أنت فإنني جليدٌ على عرض الزمان صليب عزيز عليَّ أن تُرى بي كآبة فيفرح واشٍ أو يساء حبيب فأنا أتحمل المصائب، وأتجلد لها فلا يظهر على وجهي حزنٌ أو كآبةٌ، يحزن لها صديقٌ أو يسر لها عدو. وكان رجل من أهل الأندلس يعيش في نعمةٍ ما بعدها نعمة، مالٌ، وأهلٌ، وولد، وحبورٌ، وقصورٌ، وجمالٌ، وكمال، فزالت عنه هذه الأشياء كلها فكان يقول: صبرت على الأيام لما تولَّت وألزمت نفسي صبرها فاستمرت فيا عجباً للقلب كيف اصطباره وللنفس بعد العز كيف استذلت وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى فإن طمعت تاقت وإلا استذلت وكانت على الأيام نفسي عزيزة فلما رأت صبري على الذل ذلت وقلت لها يا نفس موتي كريمةً فقد كانت الدنيا لنا ثم ولت إذاً يتذكر الإنسان هذه المعاني، فيدرك أن هذا منطق من يبتلى أو يصاب بعد أن يكون الله تعالى وسع عليه في يوم من الدهر. ولذلك يقول ابن الوردي أيضا وهو من شعراء بني أمية، يصف حاله بعد أن تغير، وتقلبت به الأيام يقول: ملكنا أقاليم البلاد فأذعنت لنا رغبة أو رهبة عظماؤها فلما انتهت أيامنا علقت بنا شدائد أيام قليل رخاؤها وصرنا نلاقي النائبات بأوجه رقاق الحواشي كاد يقطر ماؤها إذا ما هممنا أن نبوح بما جنت علينا الليالي لم يدعنا حياؤها وكان إلينا في السرور ابتسامها فصار علينا في الهموم بكاؤها الجزء: 210 ¦ الصفحة: 3 الابتلاء بالحسنات والسيئات والابتلاء سنة الله تبارك وتعالى، يبتلي الناس بالحسنات والسيئات، كما قال عز وجل {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] . وقال الله تعالى عن بني إسرائيل في آياتٍ تزلزل الجبال الراسيات وفي سياقٍ يهز القلوب هزاً، وهو ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، قال سبحانه: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:163] انظر كيف حرم الله تبارك وتعالى عليهم أن يصطادوا السمك في يوم السبت، وأحله لهم فيما وراء ذلك، فكانت السمك تأتي في يوم السبت كثيرة، ظاهرةً على سطح الماء، كبيرةً مغرية، أما فيما عدا يوم السبت، فإنه لا يأتيهم شيءٌ ابتلاءً لهم على كفرهم، وعنادهم، فَنُهوا عن صيدها في ذلك اليوم فلم ينتهوا، فعاقبهم الله عز وجل، قال سبحانه: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:164-165] فذكر الله عز وجل نجاة الآمرين بالمعروف الناهين عن السوء، وذكر هلاك الباغين المعتدين الفاسقين، وسكت عن الساكتين، فلم يبين هل هم في الناجين أم في الهالكين، قال تعال: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف:165-168] . إن الله تعالى يبتلي بالحسنات كما يبتلي بالسيئات، ويبتلي بالغنى، ويبتلي بالفقر، يبتلي بالصحة، ويبتلي بالمرض، يبتلي بالنصر، ويبتلي بالهزيمة، يبتلي بالقوة، ويبتلي بالضعف، كل ذلك ابتلاءٌ وامتحان ولذلك قال عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] وقال تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر:15-16] كلا! ليس هذا هو المقياس، فالغنى يكون للمؤمن والكافر، والصحة تكون للطائع والعاصي، والمال يكون للفاسق والمؤمن، وأما المقياس الحق فهو الإيمان بالله وتقواه وتصريف هذه النعم فيما يرضي الله سبحانه. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 4 ابتلاء المؤمن واعلم أخي المسلم أن الله تعالى قد ينعم على العبد بالبلوى فيكون المرض، أو الخوف، أو الحزن، أو فقدان المال، أو الأهل، أو بعض ما في اليد، يكون ذلك سبباً في نعمٍ كثيرةٍ للعبد، وكم من نقمةٍ في طيها ألفُ نعمة، فقد يكون ذلك سبباً في توبةٍ إلى الله، أو مراجعةِ حساب، أو تصحيح مسيرة، أو تعديل خطأ، (وربما صحت الأبدان بالعلَلِ) كما أن الله تعالى قد يبتلي آخرين بالنعم، يسوقها إليهم سوقاً، ويصبها عليهم صباً؛ لينظر كيف يعملون. قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم ولهذا لما حدث لسليمان عليه السلام ما حدث من نعمة الله تعالى، وأعطاه الله ملكاً عظيماً لم يكن لأحدٍ من قبله ولا لمن بعده كما دعا بقوله: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35] وسخر الله له الشياطين يعملون بأمره، وسخر له الريح تجرى بأمره رخاءً فقال: {قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:40] وكذلك لما سمع عليه السلام كلام النمل وهمس بعضها لبعض وهي تقول: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] فشعر بجليل نعمة الله تعالى عليه، إذ سخر له ما سخر، وعلمه منطق الطير، فعرف ما تقول النمل، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل:19] . الجزء: 210 ¦ الصفحة: 5 الابتلاء سنة الله في خلقه يا أهل الكويت: إن ما أصابكم ليس بدعة من الأمر، ولا غريباً من السنن؛ بل هو سنة الله تعالى في عباده قال تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] . فيومٌ علينا، ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسر قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26] وقال سبحانه {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويفك عارياً، ويشفي سقيماً]] . إن المؤمن ينتظر هذا وذاك، فإن اغتنى ووسع الله تبارك وتعالى عليه، لم يصبه الأشر والبطر، ولم ينس حق الله سبحانه وتعالى في المال، وإن افتقر، ولم يحزن ولم يجزع؛ بل هو يعبد الله تعالى بالصبر على الضراء، والشكر على النعماء، عن أبى يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له} رواه مسلم. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 6 أمورٌ تعين على الصبر في النكبات إن مما يساعد المؤمن على الصبر في النكبات والأزمات والمحن والملمات أمور: الجزء: 210 ¦ الصفحة: 7 انتظار الفرج عبادة يا أهل الكويت: إن انتظار الفرج عبادة، فثقوا بالله، وأيقنوا يقيناً لا يخالطه شك أن على الباغي تدور الدوائر، عن أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من ذنب أحرى أن يعجل الله العقوبة لصاحبه في الدنيا مع ما يدخره له في الآخرة من قطيعة الرحم والبغي} رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي والحاكم وابن حبان وغيرهم، فالباغي مرتعه وخيم، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس:23] وهذا كان معروفاً حتى لدى العرب في الجاهلية قبل أن يستنيروا بنور الإسلام، فكانوا يعرفون أنه ما بغى أحد على أحد؛ إلا عاجله الله تعالى بالعقوبة في الدنيا، فاطمئنوا لذلك وثقوا به، واعلموه علم اليقين كما تعلمون أن الليلة قبل غد، وكما تعلمون أن اليوم بعد الأمس، ثقوا بالله تعالى أن الذي طغى وبغى، وتجاوز حده، واعتدى على الآمنين الأبرياء، لابد أن يأخذه الله تعالى أخذ عزيزٍ مقتدر، وهذه سنة الله تعالى في خلقه، ونقول -إن شاء الله- تحقيقاً لا تعليقاً. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 8 المصيبة ليست مصيبة الكويت فقط يا أهل الكويت إن المصيبة ليست مصيبتكم، وإن كنتم بعض ضحاياها، إنها مصيبة الأمة كلها من أدناها إلى أقصاها، وتباً لمسلم لا يشعر بمصائب إخوانه المسلمين في كل مكان. أفي الضحى وعيون الجند ناظرة تسبى النساء ويؤذى الأهل والحشم ويسفك الدم في أرض الكويت ضحىً وتستباح بها الأعراض والحرم ويستحف عقول الناس طاغية أعداؤه الدين والأخلاق والشيم مَوِّهْ على الناس أو غَالِطْهُمُ عبثاً فليس تكتمهم ما ليس ينكتم كفا الجزيرة ما جروا لها سفهاً وما يحاول في أطرافها العجم إنه جرح في قلب كل مسلم تصديقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكي منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى} . الجزء: 210 ¦ الصفحة: 9 تصور حدوث مصيبة أعظم تصور أن المصيبة كان يمكن أن تكون أعظم مما كان، ففاقد المال -مثلاً- يتصور أنه كان يمكن أن يفقد الولد أيضاً، وفاقد الولد يتصور أنه كان يمكن أن يفقد النفس أيضاً، ومن أصيب بمرضٍ هين يتصور أن مرضه كان يمكن أن يكون مرضاً خطيراً مستعصياً لا علاج له، ومن كان مرضه غير مؤلمٍ يتذكر الذين يتقلبون الليل لا ينامونه من شدة الألم، وهكذا كل من أصيب بمصيبة، تذكر من هو أشد منه مصيبةً منه، فإذا زاد تذكره حتى يتذكر المعذبين في نار جهنم وما يقاسون من الآلام، والسعير، والحر الذي لا يمكن أن يتصوره إنسان في هذه الدار، فيتضرع لله تعالى أن لا يجمع له بين عذابين وأن لا يجعل في قلبه خوفين؛ خوفٌ في الدنيا، وخوفٌ في الآخرة، وعذابٌ في الدنيا، وعذاب النار. وقد يدفع الله تبارك وتعالى عنك بهذه المصيبة شراً لم تكن تتصوره أو تتوقعه، تصور معي أن شعباً هُجِّرَ من بلده، وأخرج من داره بغير حق، وشرد من وطنه، فربما كان هذا الوطن بعد حينٍ ميداناً لحربٍ تقضي على الأخضر واليابس، أو محلاً لأسلحةٍ كيماوية تدمر الإنسان تدميراً، أو ميداناً لقنابل جرثومية لا تبقي ولا تذر، فحينئذٍ يتذكر الإنسان أن كل مصيبة يمكن أن يكون في طيها نعمة، وأنه إذا ما ابتلي بمصيبةٍ يتذكر ما هو أكبر منها. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 10 احمد الله على نعمٍ كثيرة أخي الكريم تذكر النعم الأخرى التي أعطاك الله تبارك وتعالى ومنحك إياها، فالعقل نعمة، والسمع نعمة، والبصر نعمة، والأعضاء كلها نعم، والنفس نعمة، والحياةُ نعمة، وفوق ذلك كلِّه، وأعظم منه وأكبر، وأجل نعمة الإيمان والإسلام. ولذلك لما قيل لـ عروة بن الزبير رضي الله عنه بعد أن مات أحد أولاده بالفجأة، وأفاق من عملية جراحية قطعت فيها رجله من الآكلة فقيل له: احتسب عند الله ولدك فلاناً، فرفع رأسه إلى السماء وقال: [[اللهم لك الحمد، اللهم إن كنت قد أخذت فقد أعطيت، وإن كنت قد ابتليت فقد عافيت]] نعم أخذ الله تعالى منه عضواً وأعطاه أربعة، وأخذ منه ولداً وأعطاه بنين عددا، فلذلك شكر الله تبارك وتعالى، ولم ينس نعمه الأخرى. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 11 معرفة أجر الصابر من الأمور التي تعين على الصبر، معرفة أجر الصابر، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155-157] فذكر الله تعالى أن عليهم صلاةً منه، حيث يذكرهم في الملأ الأعلى، ويثني عليهم بصبرهم فيقول لملائكته: انظروا إلى عبدي، أخذت منه ماله فصبر، أخذت منه ولده فصبر، ولم يكن قوله إلا أن قال: ربي لك الحمد، أشهدكم أني قد كتبت له الجنة، وبنيت له بيتاً في الجنة، وسميته بيت الصبر، أو بيت الحمد. حتى إن أهل العافية في الدنيا إذا صاروا إلى موقف القيامة، ورأوا ما أعطى الله تبارك وتعالى الصابرين، من أنه يصب عليهم الجزاء والأجر صباً بلا حسابٍ، ولا وزنٍ، ولا كيلٍ، يتمنى أهل العافية حينئذٍ أن تكون جلودهم قرضت بالمقاريض، وأن يكونوا عاشوا في هذه الدنيا على جمرٍ، حتى يكون لهم مثل ذلك الأجر. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 12 الجزع لا يرد الذاهب من الأمور المعينة على الصبر: معرفة أن الجزع لا يرد الذاهب، ولا يرفع النازل، وإنما يزيد في الحسرة والقهر، ويضاعف المصيبة، ويملأ القلب هماً وغما، وحزناً وكمدا، خاصة وأن الله تبارك وتعالى يتخلى عن الجازعين، ويتركهم وأنفسهم، فتتلاعب بهم الوساوس، والهواجس قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] أما من يجزع؛ فالله تبارك وتعالى ليس معه بل يتركه لنفسه ولشيطانه. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 13 الصبر من أسباب زوال المكروه من الأمور أيضاً: معرفة أن الصبر من أعظم أسباب زوال المكروه، ولذلك أمر الله تبارك وتعالى بالاستعانة به فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153] وقال عليه الصلاة والسلام: {والصبر ضياء} ، وهذا يوسف صلى الله عليه وسلم يفقد أبويه، ويعيش في الجب، ثم يعيش غربةً في مصر، ثم يعيش آلاماً جسيمة في بيت العزيز، ثم يطعن في عرضه، ويُودَعُ في السجن، فيفقد كل شيء، ويفقد المال، ويفقد حنان الوالد، يفقد الحرية، ويفقد البلد، ويفقد كل شيءٍ إلا إيمانه بالله عز وجل، وما هي إلا سنوات حتى يتحول إلى نعمةٍ ما بعدها نعمة، ويصبح على خزائن الأرض ملِكاً لمصر، حتى يأتيه إخوته يطلبون منه ما يطلبون ويقول بعد ذلك مفسراً ما حدث له: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] ويقول تعالى: {أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:90] . إذاً، الصابر يملك قلباً قوياً، يستطيع به أن يقاوم الشدائد ويبدأ به حياةً جديدة، ويصابر ويثابر حتى يصل إلى ما يريد، أما الجزوع فإنه ذو قلبٍ يائس، وقلب محطم، وقلب لعبت فيه العواصف، ولعبت فيه المحن، وقلب لعبت فيه الشدائد، وقلبٌ لا يملك التوكل على الله عز وجل فيأويه، ويرده ذلك إلى اليأس والقنوط من رحمة الله عز وجل. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 14 الأمل يعيين على الصبر من الأمور المعينة على الصبر أيضاً: الأمل، فإن الإنسان يعيش على الأمل، ولولا الأمل لبطل العمل قال تعالى: {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87] قال الشاعر: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحةُ الأمل لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس، اليائس ميت، واليأس كفر، وينبغي للإنسان مهما حصل له؛ أن يدرك أنه يعيش على آمال عريضةً يعلقها بالله عز وجل، وينتظر من الله تبارك وتعالى كل ما يرجو ويأمل، ويحذر منه كل ما يخاف. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 15 النفس وما تعودت الأمر الأخير من الأمور المعينة على الصبر: أن يدرك الإنسان أن النفس وما تعودت، فإذا عودت النفس على الصبر؛ اعتادت، وإذا عودتها على الجزع؛ ظلَّت في قلقٍ مقعدٍ مقيم قال الشاعر: والنفس طامعةٌ إذا أطمعتها وإذا ترد إلى قليلٍ تقنع ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغني يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} فإن العبد إذا عود نفسه على الصبر والتحملُ؛ اعتادت وصبرت وتحملت {ومن يتصبر يصبره الله} أي: أن الصبر عطاءٌ يعطيه الله تبارك وتعالى من يعلم أنهم يجاهدون قلوبهم على الصبر، ولذلك قال: {وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر} . الجزء: 210 ¦ الصفحة: 16 اللجوء إلى الله تعالى والانكسار بين يديه قال الله عز وجل {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] أي: أن من يصبر على المصيبة؛ يصبره الله عز وجل، ويجعل في قلبه روحاً، وطِيباً، ويقيناً، ويسليه عما فقد، ومن ذلك الدعاء الخاشع المتضرع لله عز وجل، فإنه من الانكسار بين يدي الله تعالى ومن أقرب الأسباب والزلفى إليه. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 17 المصائب سببها الذنوب يا أهل الكويت، بل يا أهل الإسلام الذين أصيبوا جميعاً بنكبة إخوانهم: إن الله جل وعلا يقول: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41] ويقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] ويقول: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155] وهذا يقتضي ضرورة المراجعة، فهذه المصائب والنكبات، ليست إلا ببعض ذنوبنا، وأثراً من جرائمنا وأخطائنا، وجزءاً من عقوباتنا حين قصرنا وفرطنا في ديننا. يقول أحد المشردين الذين طردوا من بلادهم: بكى عليَّ الصدى واللحن والوتر ولم أزل لعذاب الشعر أنتظر أَوْمَتْ إليَّ سواقيه فقلت لها مات الربيع ومات العطر والزهر فلا تظني صلاة الوحي آتية إن المصلين للإلهام قد عبروا إنا غريبان ساق الظلم أدمعنا إلى بلاد بها يستصرخ القدر ولا ديار ولا أهل ولا وطن ولا حياة ولا عيش ولا عُمْرُ مشردون بلا تيه فلو طلبوا تجدد التيه في الآفاق ما قدروا يلقى الشريد فجاج الأرض واسعة لكنهم بمدى أنفاسهم حشروا في خيمة من نسيج الوهم لفقها ضمير باغ على الإسلام يأتمر أوهى وأوهن خيطاً من سياسته لو مسها الضوء لانقدَّت بها السُّترُ لعلها غضبة الرحمن إن لنا درباً تعالت به الصيحات والنذر سرنا بعيداً وحدنا عنه فاختلطت بنا الدروب وصبت فوقنا الغِيَر لعلها صيحة جاءت معاتبة ولا تكاد لها الأعناق تنكسر هذه المصائب تعليم، وهي تأديب، وهي تربية، فقد يسمع الإنسان الموعظة من على المنبر، أو يسمع الكلمة تتلى، أو الآية تقرأ، أو الحديث يذكر، فيمر به دون أن يتوقف، ودون أن يصيخ له سمعاً، أو يصغي له قلباً، أو يقف، أو يعتبر، ولكنه يرى هذه المصيبة تنزل به، أو بإخوانه، فتهزه هزا وتذكره أن الأمر جدٌ:- الأمر جد وهو غير مزاح فاعمل لنفسك صالحا يا صاح {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * ومَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق:13-14] النذر التي كان يقولها الصالحون، والتحذيرات التي كان يطلقها المؤمنون، والآيات التي كانت تقرع أسماعنا، جدٌ لا هزل فيها بحالٍ من الأحوال، ومن لم يصدق بالقول فإنه يصدق بالفعل، وها هي النذر تترى من بين أيدينا، ومن خلفنا، وهذه بعض ذنوبنا وما أكثر ذنوبنا! الجزء: 210 ¦ الصفحة: 18 ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأخيراً: فإن من أعظم المنكرات التي عمت وطمت في بلادنا كلها من أقصاها إلى أقصاها، وكل بلاد الإسلام لنا بلاد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبحنا نؤمن بما يسميه الغربيون (بالحرية الشخصية) في أوروبا -والعياذ بالله - بعض المسلمين الذين هاجروا إلى هناك، وتزوجوا، تجد المسلم منهم تأتي ابنته بصديقها وتنام معه بإحدى الغرف، فلا يستطيع الأب المسلم أن ينكر عليها، ولو ضرب الأب المسلم ولده ضربةً خفيفةً على رأسه، فإن الطفل الذي عمره عشر سنوات يرفع السماعة على البوليس ليأتي ويأخذ الأب ويفتح معه محضر تحقيق، لماذا تضرب الولد وما هي الأسباب، وقد يعاقبه على ذلك!! فانخدعنا بهذه الحرية الزائفة، وأصبحنا نؤمن بأن كل واحدٍ يفعل ما يحلو له، فإذا رأيت إنساناً يفعل منكراً، فأولاً: تستحي أن تنكر عليه، ولو رأيت إنساناً ينكر عليه، لربما قلت: يا أخي دعه، مالك وماله، مالك ومال الناس (خليه على راحته، على حريته، اترك هذا الأمر) . فالعجب كل العجب أيها الإخوة! أننا في الوقت الذي تركنا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تحولنا إلى النقيض، فأصبحنا في حالاتٍ كثيرة نأمر بالمنكر وننهى عن المعروف، وهذا لابد منه، لأن الإنسان لابد له أن يأمر وينهى، فإن لم يأمر بالمعروف أمر بالمنكر، وإن لم ينه عن المنكر نهى عن المعروف. أرأيتم كيف إن مجتمعاتنا اليوم أصبحت تستغرب صلاح بعض الشباب؟! فإذا رأينا شاباً يعفي لحيته، أو يقصر ثوبه ضحكنا، وقلنا ما هذا؟! هذا مجنون، هذا عنده أفكار غريبة، هذا متطرف، وإذا رأينا فتاةً تلبس غطاءً على وجهها، وتغطي سائر جسدها، وتلبس قفازين بيديها، وتلبس العباءة وهي تخرج للجامعة، ضحكنا، وقلنا: ما هذه التي تمشي كأنها خيمة، هذه تريدنا أن نعود إلى عصر الحريم! والناس في القرن العشرين، وهذه تلبس عباءة، وغطاء على وجهها، فأصبحنا نأمر بالمنكر وننهى عن المعروف، بهذه الطريقة، وإذا أراد الشاب أو الفتاة أن يهتدي؛ وجد مائة عقبة وعقبة في طريقه، وأول من يقف في طريقه أحياناً الوالد والوالدة والبيت. فهذه من أعظم المنكرات التي يجب أن نحدث منها توبةً صادقة، وعلاج كل ما سبق: هو أن نرجع إلى الله عز وجل القائل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فيجب أن نقبل على الله تعالى بقلوبٍ قد انكسرت من هول المصيبة، وأقول: المصيبة مصيبتنا جميعاً، وندرك أن الدور علينا، أي إذا كان أحدنا يقول: هذه مصيبة الإخوة في الكويت نقول له: الدور علينا، والمصائب، والمعائب، والمنكرات التي أتحدث عنها، موجودة في كل بلد إسلامي، سواء هذا البلد الذي نحن فيه أم الكويت أو جميع البلاد الأخرى، وإن كانت توجد بنسبٍ متفاوتةٍ تكثر أو تقل. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 19 التمكين للكافرين والفاسقين في جزيرة العرب لقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُخرجَ المشركون واليهود، والنصارى من جزيرة العرب، حتى رأينا الكنائس بأعيننا في دول الخليج العربي، وهي تضارع المساجد في بنائها، وفخامتها وتصميمها وكثرتها، ورأينا المدارس التنصيرية، وكل أمةٍ من الأمم الكافرة في بعض دول الخليج العربي لها مدرسةٌ أو مدارس، فالهندوس لهم مدارس والسيخ لهم مدارس، والمجوس لهم مدارس، والعلمانيون لهم مدارس، والنصارى لهم مدارس، وهلم جرا. ومكنَّاهم من ممارسة نشاطاتهم في الدعوة إلى دينهم، من خلال النشرات والمجلات، وبعض البرامج، والمدارس كما ذكرت، إلى غير ذلك من الوسائل التي استغلوها أبشع استغلال في تحويل أبنائنا عن الإسلام وجعلهم بلا دين. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 20 الأحزاب العلمانية إن الأحزاب العلمانية هي جزءٌ من الكفر والفسوق التي تنادي بدولةٍ لا دين لها، ومجتمع لا دين له، كيف مكنا لها وسمحنا بوجودها وأذنا لها، وجعلناها أحزاباً رسمية، وأدخلناها في برلماناتنا، وجعلناها تقود جزءاً من الشعب، بل إن الأمر آل أيها الإخوة: إلى أن المواطنين في بعض البلاد من المسلمين، يعطون ولاءهم لحزبٍ علماني، فقد يوجد في البلد حزبٌ علماني يعلن في برنامجه أن الدين لا علاقة له بالسياسة، والدين لا علاقة له بالحياة، ونحن نسعى في تطوير الاقتصاد، وفي تطوير الزراعة، والصناعة، ومن أجل حرية المرأة، وفي كذا، وفي كذا، ثم يقولون هذا برنامجنا، فتجد كثيراً ممن ينتسبون إلى الإسلام يصوتون لهذا الحزب، ويعطونه ولاءهم، ويصوتون لمرشحيهم في الانتخابات، وبأسبابهم يصلون إلى البرلمانات، ومجالس الأمة، ويكونون حرباً على الإسلام وأهل الإسلام، ولا شك أن تطوير الاقتصاد واجب، وتطوير الزراعة واجب، وتطوير الصناعة واجب، والعناية بحاجات الناس الدنيوية كل ذلك واجب، لكن هذا كله ينبغي أن يكون في إطار الإسلام والعقيدة الإسلامية، والله تعالى قد فصل لنا في الكتاب كل شيء. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 21 ترك الصلاة ومن المنكرات الكبرى التي نقع فيها ترك الصلاة، وترك الصلاة ردةٌ عن الإسلام، فمن ترك الصلاة بالكلية فهو خارج عن الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وقد روى أهل السنن بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وخذ إحصائية أي بلد من البلاد، ثم انظر كم عدد رواد المساجد في هذا البلد، قد لا يصل عدد رواد المساجد إلى (20%) من عدد المواطنين، ولنفترض أن (20%) أيضاً يصلون في بيوتهم، أو أماكن عملهم، فهل يصح أن نقول بأن من المسلمين (60%) لا يؤدون الصلاة بالكلية؟! لا في البيت، ولا في المسجد، ومعنى ذلك أنهم يرتكبون كفراً بالله العظيم بتركهم الصلاة، ثم بعد ذلك نعجب كيف تصيبنا المصيبة؟! وكيف تنزل بنا النازلة؟! وهذا لا يكون. قال تعالى: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] . الجزء: 210 ¦ الصفحة: 22 الظلم وتفاوت الطبقات بين الشعوب أنت ترى في مجتمعاتنا غنياً يملك القصور الفارهة، والسيارات الفخمة، والأموال الطائلة، والأرصدة الهائلة، والمزارع الواسعة، وترى إلى جوار ذلك فقيراً يسكن في كوخٍ، وقد لا يجد لقمة العيش التي يقتات بها، أو يطعم بها بنيه، وهذا من أسباب سخط الله تبارك وتعالى على القرى، فإن الله تعالى ما أعطانا الأموال حتى نبني بها القصور ونفاخر بها، ونمتلك بها الأماكن الضخمة في بلاد أوروبا، وأمريكا، وفرنسا، وإنما أعطانا المال حتى ننفقه في سبيله ونقوم بحقه جل وعلا فيه. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 23 الربا وأكل الحرام إن الربا ما كان في مالٍ إلا محقه وأتلفه بحالٍ من الأحوال، واقتصادنا في بلاد العالم الإسلامي كله، إنما يقوم على الربا وهذه البنوك التي تصادم منارات المساجد في كل مكان، هي محادةٌ لله تعالى ورسوله، وهي بيوت الفساد والرذيلة والمعصية، ووجودها هو إعلانٌ صريحٌ صارخٌ للحرب على الله عز وجل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:178-179] أينا لم يدخل جيبه درهمٌ من ربا، أينا لا يمتلك في البنك حساباً يضارب فيه بصور بعضها ربوية، وقد يأخذ من البنك فوائد على إيداعات بالربا، أي مسلمٍ اليوم خاصة من الأثرياء والتجار، يتحرى ألا يدخل جيبه إلا قرش من حلال، حتى لو ضاعت عليه بعض الصفقات. فلينظر العاقل، وليعتبر وليتعظ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن كل جسم نبت على سحت فالنار أولى به} وكل مال كان من الربا فإن مصيره في هذه الدنيا الخسار والبوار، وكم من تجار في بلادنا زالت تجارتهم، وأقفرت أيديهم، وصفرت، وأصبح الواحد منهم لا يجد مائة ريال يشتري بها حاجته اليومية، ولو بحثت لوجدت أن السبب هو الربا أو منع الزكاة. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 24 فساد الأخلاق فساد الأخلاق وما أدراك ما فساد الخلاق؟! قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] فشهوات البطن، وشهوات الفرج، التي أصبح كثيرٌ من المسلمين خاصةً في دول الخليج العربي يركضون وراءها، وحين تذهب إلى تلك البلاد، وتنظر في الشواطئ، حتى في بلادنا نحن؛ فإنك ترى ما لا يسرُ بحالٍ من الأحوال، وفي المزارع، والفنادق، والإسكانات -أحياناً- إذا رأى الإنسان بعض ذلك، أو سمع من رأى، فإنه يتوقع العذاب العاجل، حتى لقد وصل الحال إلى أنك -أحياناً- قد تجد النساء عاريات على شواطئ البحار، وبجوارهن الشباب وهم أيضاً شبه عراة. وفي بعض الصحف والمجلات، كنت أقرأ ما يكتبونه للفتاة الكويتية، كيف تستطيع أن تصل إلى الشاب إذا رأته على شاطئ البحر لتمارس معه الجريمة، فيقولون مثلاً: أظهري يوماً من الأيام أنك تحسين بصداعٍ في الرأس، ثم تأتين له وتقولين إنني بحاجة إلى المساعدة؛ لأنني أحس بصداع وتكون هذه بداية، حتى تفعلي معه ما تشائين، هذا الأمر لم يعد سراً، ولم يعد مقصوراً على بيت من البيوت، أو على أسرة من الأسر، بل أصبح أمراً ظاهراً مشهوراً، وفي عدد من هذه البلاد يتحدث الناس به وكأنه ليس سراً، بل لقد حدثني بعض الإخوة: أن بعض البلاد التي قل دخلها من البترول أصبحت تتاجر باستقدام العاهرات من بلاد كافرة، وتتيح الفرص في الأسواق الحرة للشباب، حتى يكون هذا سبباً في إقبالهم على تلك الأسواق وشرائهم منها، خاصةً حين تكون أسواقاً ليس عليها إقبال. إلى هذا الحد بارزنا الله تعالى بالمعصية، وبالغنا في الشهوات، وظننا أن الدنيا كأسٌ، وخمرةٌ، وامرأة، ونسينا قول الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] ونسينا الرقيب العتيد الذي يحصي كل ما يفعله الإنسان. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 25 مولاة الكفار وذلك على المستوى الرسمي، بكون الدول تلقي بأنفسها بين يدي حكومات كافرة في أمريكا، أو في أوروبا، أو في غيرها، وتستجدي منهم كل شيء، وتعطيهم فروض الولاء والطاعة المطلقة، فتعتبرهم إخواناً وتحييهم، وترحب بهم في بلادها، وتزورهم في بلادهم، وتعتبر أن العلاقة والصداقة معهم أقوى وأمتن وأقوى من العلاقة والصداقة مع المسلمين، وتزيد على ذلك بأن تقبل أوامرهم في إيذاء المؤمنين، واضطهاد الصالحين، أو الحكم بالقوانين، أو غير ذلك مما هو مضادٌ لشريعة الله عز وجل. لقد والينا أعداء الله تعالى، وأحببناهم من قلوبنا، ونسينا الفيصل بين الإيمان والكفر، حتى أصبح الواحد منا، قد يستقبل الكافر بالبشر والترحاب، ويهش له ويبش، ويخاطبه بألطف العبارات، فيقول له: يا سيدي، يا أخي، أو يا حبيبي، أو يا مستر فلان، أو غير ذلك من العبارات، التي لا تدل إلا على التكريم، والولاء والمحبة والتقدير والتبجيل، وقد ترى مسلماً مستضعفاً فلا ترفع له رأساً، ولا تكترث له، ولو كان يصوم النهار ويقوم الليل؛ فهذه الموالاة للكفار هي من أسرار هزيمتنا؛ لأن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51] فالولاء للكافرين هو أيضاً من أسباب الردة عن الدين. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 26 الحكم بغير ما أنزل الله من ذنوبنا: الحكم بغير ما أنزل الله، حيث حكمنا عباد الله تعالى بشريعة غير شريعته، وقانونٍ غير قانونه، ونظامٍ غير نظامه، وحكَّمنا في رقاب الناس ودمائهم، وأموالهم، وأعراضهم، قوانين الكفار من الأمريكان، أو الفرنسيين أو غيرهم، وأقصينا شريعة الله تبارك وتعالى وجعلناها وراءنا ظهريا، وهذه جريمةٌ كبرى، بل هو كفرٌ بالله العظيم القائل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] والقائل: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] والله تعالى ينتقم لدينه وشريعته ممن يحكمون بغير شرعه، فيأخذهم أخذةً قوية، وقد يعاقبهم بمن هو أكفر منهم، وأفسق وأطغى قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] وقد يقول الفرد العادي: وأي ذنبٍ لي حين يحكمني الحكام بغير شريعة الله، فنقول: كلا، فكلنا مسئولون، فلم يكن الحاكم ليحكم الناس بالقانون الوضعي لو كان يعرف أنهم لا يرضونه، ولم يكن ليحكمهم بالقانون الوضعي؛ لو تصور أن الناس يخرجون في الشوارع بهتافات تعلن أنها لا تقبلُ إلا حكم الإسلام، ولا تقبل إلا دين محمد عليه الصلاة والسلام، لكنه عرف أن الناس قد يقبلون القانون، بل ربما فضلوه أحياناً على شريعة الله. وكم من إنسانٍ يدعي الإسلام، ومع ذلك يرفض أن يتحاكم إلى شريعة الله؛ لأنه يخشى أن يكون الحكم عليه، كم من سارقٍ كبيرٍ لا يريد أن يقام حد السرقة؛ لأنه أول المقطوعين، وكم من زانٍ يقيم بيوت الدعارة، ومواخير البغاء والرذيلة في بيته، أو مزرعته، أو فندقه، لا يريد أن يقام حكم الله! لأنه يعرف أنه أول المرجومين، وأول من تطالهم يد شريعة الله عز وجل، وبهؤلاء وأمثالهم خذلنا، ومن هؤلاء أُتينا، وهؤلاء هم سر فشلنا، وهزيمتنا، وهم سر ضياعنا، وضعفنا. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 27 كيفية الخروج من الأزمة وإذا أردنا أن نخرج من هذه الأزمة فعلاً فهناك طريقتان: الجزء: 210 ¦ الصفحة: 28 الاقتناع بأن المصائب بسبب ذنوبنا فنسأل أنفسنا: هل نحن مقتنعون بأن ما أصابنا هو فعلاً بسبب ذنوبنا؟ أم أننا مازلنا نفسر الأمر تفسيراً مادياً؟ أنا لست أنكر أن مطامع البعث العراقي هي السبب فيما جرى، وحزب البعث العراقي يخطط لما يسميه بالوحدة القومية، التي تكلم عنها ميشيل عفلق في كتابه سبيل البعث وقال نحن لا نؤمن بالوحدة الساكنة التي تأتي من نفسها، إنما نؤمن بالوحدة الثورية المقتحمة المهاجمة، فهم ينادون بالوحدة، ويقولون: لا مناص لنا إذا أردنا أن نكون واقعيين من أن نؤمن بأنه لابد من معركة شرسة، فحزب البعث الذي يحكم العراق ويحكم سوريا أيضاً، ينادي بوحدة عربية، لا تأتي من قبل نفسها ساكنة وإنما تأتي على الجثث والأشلاء والدماء، وتتم بالحديد والنار، هذا صحيح، وهذا من الأسباب؛ لكن من الذي حرك هؤلاء؟ ومن الذي دعاهم؟ ومن الذي مكن لهم؟ إنها ذنوبنا، ذنوبنا التي خذلتنا في المواجهة، وجعلت هؤلاء الأعداء وغيرهم يتسلطون علينا، ولو لم يتسلط علينا حزب البعث لتسلط علينا غيرهم، ومن قبل تسلطت علينا إسرائيل وتسلط علينا النصارى، وسامتنا شعوبٌ كثيرةٌ سوء العذاب، حتى أصبح حال المسلمين كما قال الأول: إني تذكرت والذكرى مؤرقة مجدا فريدا بأيدينا أضعناه أنى اتجهت إلى الإسلام في بلد تجده كالطير مقصوصا جناحاه كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها وبات يملكنا شعب ملكناه فأول خطوة أن نسأل أنفسنا: هل اقتنعنا فعلاً أن ما أصابنا من مصيبة فبما كسبت أيدينا؟ وهذا قول الله عز وجل، أم مازلنا نغالط، ونجادل في الحقائق، ونقول: هذه لها أسبابٌ مادية وهي: كيت، وكيت، وكيت، والأسباب المادية كلها صحيحة وعلى العين والرأس؛ لكن وراء الأسباب المادية السبب الشرعي. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 29 إزالة السبب الشرعي الخطوة الأخرى هي: إزالة السبب الشرعي، أعني: التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب والمعاصي، والصدق، والإقبال عليه، والولاء للمؤمنين، والبراءة من الكافرين، وأن نعقد العزم على أن لا نحكم إلا بشريعة الله جل وعلا، وألا نوالي ولا نعادي إلا في ذات الله تبارك وتعالى، وأن يكون هوانا تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فوالله الذي لا إله غيره لو علم الله من قلوبنا الصدق في ذلك لكان إلينا بالنصر أسرع، ولكن متى يحدث هذا؟! الجزء: 210 ¦ الصفحة: 30 دور الشباب المتدين يا أهل الكويت: إنه ما من شابٍ متدين أو غير شابٍ إلا وأنتم في سويداء قلبه، وفي بؤرة اهتمامه، وتعبيراً عن شدة الاهتمام والتلاحم. لقد رأينا الشباب المؤمن كيف يضحي، فمن الشباب المؤمن من يعمل عشرين ساعة في اليوم والليلة في أعمال الإغاثة على الحدود، في الخفجي، والرقعي، والحفر، والرياض وفي غيرها، ومن الشباب المؤمن من يغامر فيركب السيارة، ويقطع الرمال الطويلة، ويخرج من الحدود السعودية إلى الكويت؛ ليقوم بإنقاذ أسرةٍ جاء عائلها ولم يتمكن من إحضارها، ويلقون في سبيل ذلك المصاعب، والمتاعب، والمخاطر، حتى إنهم قد يقبض عليهم من قبل القوات العراقية، وقد يحقق معهم، بل حدث أن أطلق على بعضهم الرصاص، ولكن الله سلم، ومن الشباب من يصبح في القصيم ويمسي في الحفر، ويبيت عند أهله في الرياض، ليواصل العمل مرةً أخرى، وهكذا غفل الشباب عن أولادهم وذهلوا عن زوجاتهم، وتركوا أعمالهم، واستماتوا في سبيل نصرة إخوانهم وإعانتهم في مثل هذه الأزمة الحرجة. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 31 دور الشباب العاصي لقد فشل في هذه المهمة الشاب الذي تعود أن يجلس في مدرجات الكرة، وفشل الشاب الذي تعود على (التفحيط) في الشوارع، وفشل فيها الشاب الذي لا يجيد إلا سماع الأغاني والتلذذ بها، ونجح فيها الشاب المؤمن المتدين، نجح فيها رهبان الليل أصحاب الأيدي المتوضئة، والجباه المتتفنة، والقلوب الحية، ونجح أصحاب اللِّحى، أصحاب الثياب القصيرة، وأصحاب التعبد لله عز وجل، شباب الصحوة الإسلامية، وأثبتوا للأمة كلها أنهم هم الذين تعدهم الأمة للنوائب والشدائد والملمات، وحين أقول هذا فإنما أريد من ورائه الشد على أعضاد هؤلاء الشباب، ودعوتهم إلى مزيدٍ من العطاء، فقد بيضتم أيها الشباب وجوهنا، ورفعتم رءوسنا، وكنتم كما قال أحدهم عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه: كنت أرى سعيداً وكأنه راهب يطوف على نساء الحي وهو يقول: هل لكن حاجة فأشتريها، هل لكن كذا؟ هل لكن كذا؟ إنه يشعر أنه يقوم بعبادةٍ حين يفعل مثل هذا العمل. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 32 جزءٌ من الواجب أيها الشباب: إن هذا العمل الذي تقومون به ليس تطوعاً، بل إنه جزءٌ من الواجب الإسلامي الكبير الذي حملناه على أعناقنا منذ رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، ورضينا بأخوة الإسلام رابطةً ونسباً بيننا، ولذلك قال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: إذا ظننت أنك إذا قضيت حاجة أخيك أنك صنعت إليه معروفاً، كلا! بل هو الذي صنع إليك المعروف حين خصك بهذه الحاجة وطلبها منك، فليكن هذا شعارنا، وإيانا أن يكون فيما نبذل أو ننفق شيئاً من المن والأذى، بل ينبغي أن ندرك أننا نعمل لأنفسنا، وأن الواحد منا يبذل وهو يتوقع أنه قد يصاب يوماً من الأيام بهذه المصيبة، فيرجو أن يقيض الله تبارك وتعالى له من يدفع عنه، كما دفع هو عن غيره. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 33 ملاحظات ووصايا لأهل الكويت يا أهل الكويت: لعلي أستسمحكم عذراً في تقديم هذه الملاحظة بين أيديكم، ألا وهي: أننا ندرك ولا شك أن ثمة فروقاً كبيرةً بين المجتمعات الإسلامية، فلكل مجتمعٍ ظروفه، ولكل مجتمعٍ أوضاعه وأحواله، فالمجتمعات الإسلامية تتفاوت تفاوتاً بعيداً في مدى التزامها بالسلوك الإسلامي، والأخلاقيات الإسلامية، وهذا مما لا يحتاج إلى بيان. ومراعاة هذه الفروق من الضرورات التي لا محيص لنا عنها بحالٍ من الأحوال، فنحن نريد أن نكون جسداً واحداً ولحمةً واحدة، ويعز علينا ويؤذينا ويحرجنا أن يتعرض أخٌ من إخواننا، أو أخت من أخواتنا لاعتداءٍ من فاسقٍ، أو سوء ظن من صالح، ولذلك أقدم لإخواني الكويتيين ولأخواتي هذه الملاحظات: الجزء: 210 ¦ الصفحة: 34 تربية الأولاد الذي أود أن أذكر به وهو خطيرٌ أيضاً قضية تربية الأولاد، فقد لفت نظري أني أجد مجموعة من الصغار ومن الشباب، أيضاً قد يمشون في الشوارع في ساعاتٍ متأخرة من الليل، وقد يتحدثون بل قد يبيتون في مكانٍ ليس مناسباً، وهذا منهم على سبيل الثقة، ولكن من الذي يُؤَمِّننا أيها الإخوة أن يكون أحد هؤلاء الشباب ضحية لصرعى المخدرات؟! وهم الذين يعبثون بهذه المجتمعات أشد العبث، وهم الذين تقف وراءهم قوى أجنبية تريد بهذه البلاد وأهلها شراً، فمن الذي يؤمننا أن يكون أحد أطفالنا ضحية بعض الخبثاء الذين يبحثون عن الفاحشة حيث كانت؟! إنهم يستدرجون الشاب بالابتسامة، وبالكلمة، وبالخدمة اركب في السيارة مثلاً، اركب معنا وقد يخدمونه ببعض الأمور، وقد يلعبون معه الكرة إلى غير ذلك، حتى تصل الأمور إلى ما لا تحمد عقباه، ولا شك أن في الشباب خيرٌ كثير من شبابنا ومن غيرهم، لكنني أقول لماذا نغفل عن مراقبة شبابنا؟! هذا فقط هو ما أريد أن أقوله. وليس صحيحاً أن نتركهم للسوء أو لغيره. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 35 وضع المرأة وهذا من الأمور التي تحتاج إلى بيان، إن هناك فارقاً كبيراً فيما يتعلق بوضع المرأة، فإن المرأة بحمد الله في مجتمعنا السعودي لا تزال تحتفظ بأشياء كثيرة، منها عدم الخلوة بالأجانب، ومنها منع الاختلاط في المدارس، أو المؤسسات، أو غيرها، ومنها الحجاب كاملاً بما في ذلك تغطية الوجه، ولذلك فإن المجتمع كله بره وفاجره، مؤمنه وفاسقه، يستغرب أشد الاستغراب أن يري امرأة تمشي في الشارع، وهي كاشفةً عن وجهها، فأما الفاسق، فإنه إذا رأى هذا المشهد سارع إلى ظنه أن هذه المرأة امرأة ليست صالحة، وفيها ما فيها، فقد يعاكسها أو يؤذيها، أو يتعرض لها، وأما الصالح فإنه إذا رأى هذا المشهد ظن أن هذه المرأة أيضاً ليس لديها دينٌ صحيح، ولذلك كشفت عن وجهها، وقد تكون امرأة صالحة، ولكن عادتها أنها تكشف عن وجهها. فأقول: أما من حيث الدليل فقد دلت أدلةٌ شرعية كثيرةٌ ذكرتها في غير هذه المناسبة على أن المرأة المؤمنة يجب عليها أن تغطي وجهها عن الرجال الأجانب، ومن الأدلة على ذلك أن أمهات المؤمنين كن يغطين وجوههن عن الرجال الأجانب حتى في حال الإحرام، مع أن المرأة حال الإحرام لا يجوز لها أن تغطي وجهها، إلا إذا كان عندها رجالٌ أجانب، ومن الأدلة على ذلك قول الله عز وجل: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:31] فإن الضرب بالخمار على الجيب يعني تغطية الوجه، وإنما يسمى الخمار هو غطاء الرأس وغطاء الوجه، وحتى أهل الجاهلية كانوا يتقون أن ينكشف وجه المرأة، أو ينظر إليه حتى قال الشاعر عن امرأة: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه فتناولته واتقتنا باليد أي وضعت يدها أمام وجهها حتى لا يراها الناس ولا ينظرون إليها، ولذلك فإن من الخطأ أن تخرج أختٌ كويتية وهي سافرةٌ الوجه للشارع، أو تظهر أمام رجل أجنبي في المدرسة مثلاً، أو تخرج للسوق، أو غير ذلك، بل يجب أن تستعد بعباءةٍ وغطاءٍ لوجهها، وغير ذلك مما تحتاجه؛ لأن هذا أولاً كما ذكرت هو قولٌ قوي في الشرع له ما يؤيده من الأدلة، ومذهب جماعة من العلماء. ثانياً: فإنه أمرٌ مستقر في هذه البلدة، مألوف بل غيره مما يستنكر، ويستغرب على كافة الأصعدة، فمن كانت من الأخوات مقتنعة بأن الحجاب واجبٌ شرعي فلتتحجب، ومن لم تقتنع، فإننا نقول لها: تحجبي على الأقل مراعاةً لمشاعر الآخرين، واحتراماً لعاداتهم التي جروا عليها، ونقول هذا على سبيل التنزل لهم. ومن الأشياء المتعلقة بموضوع المرأة أيضاً: قضية الاختلاط، فإن وضع الإخوة الحالي قد يؤدي إلى اختلاط المرأة بالرجل، ونحن ندرك أن هذا الأمر قد يقود إلى فسادٍ عريض، وأين نحن من أولئك الرجال الذين كان الواحد منهم يحس بالنخوة، والشهامة فيحمي المرأة، ويحامي دونها، ولا يهم بالنظر إليها، فضلاً عما هو وراء ذلك، حتى في الجاهلية كان الناس يتقون هذا، وقد قال بعض شعرائهم: أرى دار جاري إن تغيَّب حقبةً علي حراماً بعده إن دخلتها قليل سؤالي جارتي عن شئونها إذا غاب رب البيت عنها هجرتها أليس قبيحاً أن يُخبَّر أنني إذا كان عنها شاحط الدار زرتها يرى أنه يعاب عليه أنه إذا غاب جاره جاء إلى زوجته، فيهجرها حتى يعود الزوج، ويقول حاتم الطائي: ناري ونار الجار واحدة وإليه قبلي تنزل القدر ما ضر جاراً لي أجاوره ألا يكون لبابه ستر أغضي إذا ما جارتي برزت حتى يواري جارتي الخدر ومع الأسف هذا منطقُ كافرٍ، فأين منطق كثيرٍ من المسلمين؟! والثالث يقول: شرت جارتي سترا فضول لأنني جعلت جفوني ما حييت لها سترا وما جارتي إلا كأمي وإني لأحفظها سراً وأحفظها جهرا بعثت إليها أنعمي وتنعمي فلست مُحِلاً منك وجهاً ولا شعرا فبالنسبة للإخوة عليهم أن يتقوا الله عز وجل، وأن لا ينظروا إلى ما حرم الله. قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وبالنسبة للأخوات: فإن على الأخت المؤمنة أن تكون مبالغةً في الحجاب، بعيدة عن التبرج بالزينة، أو الخضوع بالقول، أو فعل أي أمرٍ من شأنه أن يوهم الرجال بأن في قلبها مرض. ومن ذلك -أيضاً- ما حُدِّثت به في هذا البلد وغيره: أن عدداً من الأخوات الكويتيات قد تخرج إلى السوق، وتقود السيارة، ولا شك أن هذه قضية غير سائغة لا شرعاً ولا عرفاً، أما من حيث الشرع فيكفي، أن هناك فتوى لجماعةٍ من كبار العلماء في المملكة بتحريم قيادة المرأة للسيارة، وحتى على فرض أن هذا التحريم لظروفٍ خاصة، فإن المجتمع يمنع ذلك، وقوانين الدولة أيضاً تمنع أن تقود المرأة السيارة، ولذلك فإنه لا يجوز بحالٍ من الأحوال أن تخرج أختٌ تقود السيارة، وهي تستطيع أن تقوم بشئونها بغير هذه الطريقة، فتستعين بغيرها في ذلك، فضلاً عن أن هذا الأمر قد يجر متاعب أخرى ربما لا تكون بتصور بعض الأخوات اللاتي يقدمن على هذا العمل. إنني حين أتحدث عن مثل هذه الملاحظات، لا يعني هذا فقدان الثقة ببعضهم، كلا. وإن كنت أقول ما من أحدٍ إلا وفي قلبه داعٍ من دواعي الشهوة والغريزة، حتى المؤمن وحتى المؤمنة، يوجد فيه ذلك، لكن يدفعه بالإيمان بالله والتوكل عليه، وما من مجتمعٍ إلا ويوجد فيه قدرٌ من الناس رجالٌ ونساء يكون في قلوبهم مرض، مرض الشهوة والميل للحرام، وحرص على انتهاك الحرمات، وهؤلاء لا شك بأنهم جزءٌ من المجتمع، فإذا تحدثنا عن المجتمع السعودي -مثلاً- عرفنا أن كل مدينة يوجد فيها أسرة أو أسر أو أفراد من هذا النمط، وعلى هذا الطراز ويحتاجون إلى أن يؤخذوا بالقوة، وإذا تصورنا المجتمع الكويتي مثلاً، وقد خرج بقضه وقضيضه حتى إنني سمعت في بعض الإحصائيات، أن عدد الأسر التي خرجت يزيد على خمسمائة ألف أٍسرة، إذا تصورنا هذا العدد الهائل، فإننا نجزم أن فيمن خرج من يكون في الأصل، وفي أول حياته غير متدين، ومن يكون علمانياً وبيته بعيدٌ عن الدين، بل من قد يكون من أصحاب مذاهب، أو اتجاهاتٍ أخرى، هذا كله قد يوجد قلَّ أو كثر، ولذلك فإننا نعتقد ونعتبر أن ذكر مثل هذه الملاحظات أمر في غاية الأهمية. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 36 المحافظة على الصلوات في الجماعة أما الصلاة فهي الفيصل بين الكفر والإيمان، وأما أداؤها في المسجد فهو واجب، ولم يعذر النبي صلى الله عليه وسلم بتركه الرجل الأعمى الذي جاءه يشكو إليه أنه بعيد الدار وليس له قائدٌ يقوده ويكون معه {قال له: أتسمع النداء. قال: نعم قال: فأجب} ولذلك كان الرأي الصحيح أن الصلاة مع الجماعة فرض على كل فردٍ مسلم من الذكور، وحتى صلاة الفجر، فإنها واجبة ولذلك قال أنس وغيره: [[كنا إذا فقدنا رجلاً في صلاة الفجر أسأنا به الظن]] . بل هي أوجب من غيرها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا} فحذار حذار أن يحصل منكم أيها الإخوة تفريط في أداء الصلاة مع الجماعة، والمساجد التي ندعوكم إلى التردد عليها وأن تكونوا من روادها، هي التي تؤوي أولئك الشباب الذين كانوا خير عونٍ لإخوانهم في مهمتهم وأزماتهم. إن المساجد هي التي تشهد البذل والعطاء، والقلوب الحية المشفقة الباذلة المعطية، ولذلك يجب أن تكون المساجد ميداناً للقاء بيننا، والتعارف مع إخواننا، وإذا أردت أن تعرف حقيقة المجتمع، فإن هذا المسجد هو الذي يؤوي صفوته، وخياره، ولهذا يجب أن نستعد لأداء الصلوات مع الجماعة في كل وقت، وأن نعمل على توفير الأسباب المعينة على ذلك، كالنوم مبكراً مثلاً، وإعداد ساعة أو غيرها مما ينبه الإنسان، والتعرف على مكان المسجد، ودعوة الآخرين ممن يقصرون في ذلك إلى الصلاة، فإذا كان في المجموعة شابٌ يصلي في المسجد، فإن عليه أن يحمل لإخوانه الآخرين هذه الهدية وهذه النصيحة ويبلغهم بهذا الرجاء. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 37 الأسئلة الجزء: 210 ¦ الصفحة: 38 جنود الإسلام السؤال يقول: أغلب شباب المسلمين همه بناء حياته الخاصة، وليس للإسلام في حياته أي اهتمام فقط تهمه العمارة، والزوجة الجميلة، والمزرعة، وهذا هو الذي أخرنا كثيراً، أرجو التنبيه على هذا؟ الجواب هذا صحيح، فالمسلمون من حيث العدد كثرة، لكن الذين يهتمون بالإسلام كقضية هم قليل، بل أغلب الناس يهمه أمره الخاص، وربما يحدث تجاوزات حتى في أموره الخاصة، والواقع أن الإسلام لن يقوم إلا على أكتاف وسواعد أولئك الذين نذروا أنفسهم للإسلام، واختاروا طريق الدين، وحين نقول: نذروا أنفسهم للإسلام، لا يعني أنك لن تتمتع بالزوجة الجميلة، ولن تتمتع بالمال، ولن تتمتع بالبيت، ولن تتمتع بالسيارة، أبداً. كل ذلك يمكن أن يتم ويمكن أن توظفه في سبيل الله عز وجل. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 39 حماسٌ من أجل الدعوة السؤال ما رأيك في وضع حلقات في مجتمعات الإخوة الكويتيين، والبحث في هذا الموضوع مع الجهات المختصة كالجماعة الخيرية لتحفيظ القرآن الكريم والإفتاء وغيرها، والشباب لن يعجز، وأنا ممن يمكن أن يساهم في هذا الموضوع؟ الجواب الواقع أن هذا أمرٌ طيب، وإن شاء الله سوف يكون من ذلك شيءٌ ولا يستغنى عن جهود الشباب، ممن يكون عنده حكمة في المخاطبة والحديث، وقدرة على مراعاة مشاعر الآخرين والوصول إلى قلوبهم. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 40 وسائل للدعوة السؤال وهذا سؤالٌ يتكلم عن الشباب الكويتيين والقيام معهم برحلات إلى البر، وإهداء أشرطة وغيرها؛ لئلا يقع بعضهم ضحيةً في أيدي الشباب المنحرفين من شباب مجتمعنا؟ الجواب هو الآخر اقتراحٌ جيد، لكنه يفتقد إلى التطبيق. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 41 ابتلاء العصاة السؤال هل العاصي يبتلى؟ الجواب الابتلاء من عند الله تعالى، فيبتلي من يشاء، يبتلي المؤمن، ويبتلي الفاسق، ويبتلي العاصي، فقد يبتلي الله تعالى المؤمن بالفاسق، وقد يبتلي الفاسق بمن هو أفسق منه، وقد يبتلي الفاسق أو المؤمن بالكافر، وهذه كلها لا يستدرك فيها على القدر. ولا يقال لماذا؟ لأن لماذا هنا غير واردة، والمخلوق لا يقول للخالق لماذا؟ لكن يقول لنفسه: لماذا؟ ويمكن أن أقول: لماذا أصابني ما أصابني؟ فأرد: أصابني لأنني فعلت، وفعلت، وفعلت لكن لا تسأل الله فتقول: لماذا؟ لأن الله تعالى هو الخالق الذي يخلق ما يشاء ويختار، ويفعل ما يشاء لا معقب لحكمه، لا يُسْأل عما يفعل وهم يسألون. هذا وأسأل الله عز وجل أن يرفع بأسه عنَّا، وأن يهبنا منه رحمةً ويغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا ويثبت أقدامنا وينصرنا على القوم الكافرين، وأن يوفقنا للتوبة النصوح، وأن يعافينا من المصائب، في ديننا ودنيانا، وأن يتوب علينا، وأن يهدينا سواء السبيل، ونسأله جل وعلا أن يرينا في أعداء الإسلام والمسلمين عجائب قدرته، وأن يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، اللهم إنهم لا يعجزونك، فخذهم يا قويٌ يا عزيز، اللهم إنهم لا يعجزونك فخذهم يا قوي يا عزيز، اللهم كلَّ رايةٍ رفعت تنادي بلا إله إلا الله وتريد أن يكون الحكم لله فأعزها وأعز أهلها، واجعل العاقبة لها، وكل راية رفعت ليكون الحكم للطاغوت ولِتُهينَ العلماء، والمؤمنين، والدعاة، والصالحين، فبقوتك وحولك وطولك يا قوي يا عزيز نَكِّس هذه الراية، واجعل أهلها غنيمةً في أيدي المؤمنين، اللهم أعزنا بطاعتك ولا تذلنا بمعصيتك، اللهم اهدِ قلوبنا إليك، اللهم نور بصائرنا، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، اللهم اجعل ما أصابنا عبرةً لنا، اللهم اجعله سبباً واصلاً بنا إلى طاعتك والتوبة إليك، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 42 الابتلاء في الخير السؤال كيف يكون الابتلاء بالخير؟ الجواب يكون الابتلاء بالخير، كما يكون الابتلاء بالشر فإن الله تعالى يعطي الإنسان المال؛ ليبتليه هل ينفق المال فيما يرضي الله أم لا؟ يعطيه الصحة ابتلاءً؛ لينظر هل يستفيد من هذه الصحة في الدعوة إلى الله، ومساعدة الضعفاء، أم لا؟ وإذا أعطاه الشباب، والقوة، واللسان والخطابة، وكل نعمة يعطيها الله تبارك وتعالى للعبد فهي ابتلاء؛ لينظر هل يستفيد منها فيما يرضي الله أم يستغلها فيما يسخطه؟ الجزء: 210 ¦ الصفحة: 43 الأمريكيات في المنطقة الشرقية السؤال يقول: قد قدمت للتو من المنطقة الشرقية، ورأيت الأمريكيات تذهبن في مناطق عديدة فما موقفنا من هذا العدد الهائل وكيف نتصرف؟ الجواب في الواقع أننا يجب أن نفكر تفكيراً عملياً فنقول: هؤلاء النساء، بل والرجال الأمريكان، موجودون عندنا، هذا واقعٌ لا داعي لأن نجادل فيه، أو نتردد فيه، إذاً ما هو الحل! المصيبة حين يسأل أمريكي رجلاً مسلماً، فيقول له مثلاً: أين الكنيسة أريد أن أصلي؟ يقول له: ما عندنا هنا كنائس، عندنا مساجد؟ فيقول: وما هي المساجد؟! قال: هذه بيوت المسلمين أماكن العبادة! فيقول: ما هو الإسلام؟ أريد أسلم علمني ما هو الإسلام، يقول: ليس هذا وقته، فنحن مشغولون بأهم من ذلك، (بعدين) !! هذه هي المصيبة! المصيبة أن الرجل النصراني أصبح يحس أنه بحاجة أن يتدين ويبحث عن الكنيسة، لماذا؟ لأنه يكون على شفا حفرة، أو قد يموت الآن، على الأقل فهو يريد أن يتعبد على حسب علمه وفهمه، والمسلم يقول: ليس هذا وقته ولا يعلمه الدين، ومن الممكن أن نحدث أثراً كبيراً جداً حتى في الجنود والجنديات الأمريكان لو نشرنا عندهم كتباً بلغتهم، ووجد من يتحدث معهم، ونظمت جهود في ذلك، أعتقد اعتقاداً كبيراً أنه سوف يكون لذلك أثر. ويؤسفني أن أقول: إن العراق -وبسرعةٍ هائلة ونجاح لا شك فيه- كوَّن إذاعة تنطق باللغة الإنجليزية وتخاطب الجنود الأمريكان، وقد التقط بعض الشباب هذه الإذاعة، وهي تقول للجنود: كيف تقاتلون أيها الجنود الأمريكان النبلاء في بلادٍ بعيدةٍ عن بلادكم؟! هل تدرون أن الواحد منكم سوف يعود إلى بلده وهو ملفوف بنعش وهو لا يدري من أجل ماذا قاتل؟! وهو يدافع عن أمورِ شأنها كذا، وكذا، وكذا ويقاتل شعوباً تريد البحث عن الحرية وتريد، وتريد، وتريد؟! وهكذا ربما يحاولون أن يحطموا معنوياتهم، وقد يفلحون في ذلك، مع أنهم يوجهون إذاعة إلى السعوديين ويوجهون إذاعة إلى المصريين. أما نحن فلا زلنا عند أم احديجان وإذا انتقلنا فإلى أغنية، أو دندنة، أو ما أشبه، ومن المؤسف أن يكون هذا تفكيرنا، وهذا تصورنا، وهذا تخطيطنا وهذا إعدادنا للمعركة. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 44 حزب البعث ما حقيقته السؤال ما هو مذهب حزب البعث وما حقيقته؟ وما أهدافه؟ الجواب حزب البعث أنشأه رجل نصراني اسمه ميشيل عفلق كان في سوريا ثم طرد منها وذهب إلى العراق وقد هلك في العام الماضي، وله كتبٌ كثيرةٌ منها كتاب: في سبيل البعث وهو منظر البعثية، ويقوم حزب البعث على أصولٍ ينادي ببعث الأمة العربية، وإحياء الأمة، ووحدة الأمة، وحدتها على أساس القومية العربية، يعني العربي المسلم إلى جوار الكافر، وإلى جوار النصراني، وإلى جوار اليهودي، أمةٌ واحدة فهذه من مبادئه القومية ومن مبادئه الاشتراكية. الاشتراكية تعني: نهب أموال الأغنياء لتكون لهم، بحيث يظل الجميع فقراء، هذه تسمى اشتراكية عندهم، وقد رأينا ما آل إليه أمر هذه الاشتراكية عند التطبيق العملي في البلاد العربية. ومن مبادئه: الثورية، فإن حزب البعث يقوم على أساس الثورة المسلحة، ويؤمن بالحل العسكري، كما قرأت عليكم بعض عبارات ميشيل عفلق الذي يقول: "نحن لا نؤمن بالوحدة الساكنة التي تأتي من نفسها، إنما نؤمن بالوحدة المقتحمة القوية، نؤمن بالوحدة الثورية، وإذا كنا واقعيين فيجب أن ندرك أنه لا مفر من المعركة الشرسة مع قوى الرجعية" والرجعية ما هي؟ هي القوى أي: جميع القوى في المنطقة العربية، يعتبرونها قوى رجعية مثل الإسلام. مثلاً: الحكومات المنتسبة إلى الإسلام، الشعوب المتمسكة بالدين، كل هذه يعتبرونها قوى رجعية ولابد من مقاومتها، بخلاف إسرائيل فهي قوةٌ تقدمية عندهم، ولذلك لم يضروها بشيءٍ ولا يفكرون بحربها، إنما يفكرون بحرب القوى الرجعية كما يعبرون، والعراق اليوم يعتبر هو الممثل الحقيقي لحزب البعث بنص ميشيل عفلق، لأن سوريا تخلت عن البعث الحقيقي وتقمصت راية النصيرية، الذين هم بعض غلاة الرافضة الذين تسلقوا على حزب البعث حتى وصلوا إلى السلطة، ولذلك هرب كثيرٌ من البعثيين السوريين إلى العراق فأصبح العراق هو الذي يرفع راية البعث وينادي بها. الجزء: 210 ¦ الصفحة: 45 هكذا علم الأنبياء ما بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل إلى الناس إلا من أجل قضية العبادة لله الواحد التي هي سبب الخلق، فجاء الأنبياء ليعلموا الناس حقيقة كلمة لا إله إلا الله وكان من الطبيعي أنهم سيلقون من ألوان الأذى والمواجهة الشيء الكثير الذي يحتاج إلى صبر، وقد كانوا رجاله، وذلك الأذى الذي لاقاه الأنبياء لاقاه من بعدهم الدعاة الصالحون الذين اقتفوا أثرهم في دعوة الناس للتوحيد ونبذ الشرك، رغم أن شرك الأمم المتأخرة في ألوان جديدة ومستحدثة؛ لكن يؤدي إلى نفس المصير. ولا إله إلا الله لها مقتضيات مهمة لمن يرفع شعارها، ومنهم الدعاة الصادقون الصابرون في هذا الزمن، والذين يفرح المؤمن بعلوهم، ويفرح المنافق بما يلقونه من أذى. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 1 مهمة الرسل إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه من أنبياء الله ورسله الذين حملوا الرسالة وأدوها وبلغوها وجاهدوا في الله حق جهاده حتى أتاهم اليقين من ربهم، فصلوات الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين وسلامه، وجزاهم الله تعالى عنا أفضل الجزاء وأكمله وأعظمه وأوفاه. هذا الاسم الكريم اللامع العظيم الجميل: (الأنبياء) على مدار التاريخ كانوا يبعثون ويجاهدون ويصابرون، وكانوا منارات يهتدي بها الناس في الظلمات، وطالما تحملوا ما تحملوا، ولقوا ما لقوا، وصبروا على الأذى من أقوامهم، لا يرجون جزاءً ولا شكوراً، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً، كل همهم أن يعبِّدوا الناس لرب العالمين جل وعلا، كل نبيٍ منهم كان يبعث إلى قومه على حين فترة؛ فيناديهم ليلاً ونهاراً ويخاطبهم سراً وجهاراً، ويتحمل في سبيل دعوته ما يلقى من صدود وأذى وتكذيب؛ ولذلك كتب الله تعالى لهم الذكرى الحسنة في هذه الدنيا، فما من إنسان إلا ويهش لسماع ذكرهم ويفرح بحديثهم ويثني عليهم ويحبهم ويصلي ويسلم عليهم كلما ذكروا، فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وما أعد الله لهم في الدار الآخرة من المنازل العليا في الدنيا والدرجات في الجنة هو فوق ما يخطر على بال المتأملين. روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي ذر رضي الله عنه قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال: يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا يا رسول الله، قال: قم فصلِّ، قال: فقمت فصليت فجلست، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الجن والإنس، قال: قلت: يا رسول الله وللإنس شياطين! قال: نعم، قلت: يا رسول الله ما الصلاة؟ قال: خير موضوعٍ من شاء أقل ومن شاء أكثر، قال: قلت: يا رسول الله! فما الصوم؟ قال: فرضٌ مجزٍ وعند الله مزيد، قال: قلت يا رسول الله، فالصدقة! قال: أضعاف مضاعفة، قال: قلت يا رسول الله، ما أفضلها -أو أيهما أفضل-؟ قال: جهدٌ من مقلٍ، وسرٌ إلى فقير -جهدٌ من مقل أي: ولو كانت صدقة قليلة ولكنها هي ما يملكها الإنسان وما يستطيعه- قال: قلت يا رسول الله أي الأنبياء كان أول؟ قال: آدم عليه السلام، قلت ونبيٌ كان؟ قال: نعم، نبيٌ مكلم، قال: قلت يا رسول الله، كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر، جماً غفيراً- وفي بعض الطرق والروايات قال: وخمسة عشر- قال: قلت يا رسول الله! أيما أنزل عليك أعظم؟ قال: آية الكرسي (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة:255] } وهذا الحديث رواه النسائي في كتابه السنن الكبرى ورواه البزار وغيرهم وفيه المسعودي وهو ثقة ولكنه اختلط، وللحديث شواهد منها حديث أبي أمامة رضي الله عنه بنحوه عند الإمام أحمد وفيه علي بن زيد بن جدعان، وللحديث طرق أخرى عند ابن حبان وغيره. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 2 الفرق بين دعوة الرسل وصلاح بعض الصالحين غير الدعاة تلاحظون الفرق الكبير بين الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام من المصلحين؛ وبين غيرهم ممن قد يكونون صالحين ولكنهم لم يقاوموا الفساد ولم يحاربوه، رضوا بالطريق السهل اللين الذي ليس فيه عناء ولا جهد، فمثلاً في الجاهلية كان يوجد الحنفاء الذين لا يعبدون إلا الله ولا يرتكبون المخالفات الشرعية، ولا يتعرضون للناس في شيء، فلم يكن ينالهم من الناس شيء. على سبيل المثال زيد بن عمرو بن نفيل وقد كان موجوداً في مكة كما هو معروف في الجاهلية، وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمر: أن زيد بن عمرو بن نفيل لقي النبي صلى الله عليه وسلم بأسفل بلدح -وهو جبل ووادٍ بين مكة وجدة على طريق التنعيم أو غيره- فلقي النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه زيد بن حارثة، وقد قدمت وقربت للنبي صلى الله عليه وسلم سفرة من طعامٍ فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدنو منها فيأكل، فقال: إني لا آكل ما تذبحون على أنصابكم، ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله تعالى عليه، وأن زيد بن عمرو بن نفيل كان ينكر على قريش ذبائحهم، ويقول: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله تعالى، وأنزل لها من السماء الماء، وأنبت لها من الأرض -يعني العشب- ثم أنتم تذبحونها على غير اسم الله، إنكاراً لذلك وإعظاماً له، وكان يصرح لقريش بإنكار عباداتهم، فيقول: هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور فلا عُزّى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور وكان يقف قبالة الكعبة ويستعيذ بالله تعالى ويسأله ويتحنث ويتعبد ويقول: عذت بما عاذ به إبراهم مستقبل الكعبة وهو قائم يقول أنفي لك عانٍ راغم مهما تجشمني فإني جاشم وانظر كيف القلب المؤمن، والحي، والموحد، يخاطب الله تعالى ولا يعبد غيره، ويقول: أعوذ بك يا ربي كما عاذ بك إبراهيم عليه الصلاة والسلام، حين وقف مستقبل القبلة يدعوك، ويسألك ويستعيذ بك، ويقول: أنفي لك راغمٌ في التراب، ذليلٌ بين يديك، ومهما تحملني فأنا أتحمله في سبيلك. وكان يقول: يا معشر قريش إياكم والربا فإنه يورث الفقر، وكان يأتي إلى الرجل وعنده جارية يريد أن يئدها ويقتلها من بناته، ويقول له: لا تقتلها، أي ذنبٍ فعلت حتى تقتلها؟ إذا كان يشق عليك أن تطعمها وتكسوها فهاتها لي فأنا أطعمها وأكسوها، فيأخذها منه ويطعمها ويكسوها، فإذا كبرت قال لأبيها: إن شئت أخذتها وإن شئت أبقيتها عندي، ولذلك تمدّح ََالشاعر بأنه ينتسب إلى مثل هذا الرجل فقال: ومنا الذي منع الوائدات وأحياء الوئيد فلم يوءد لكن زيد بن عمرو بن نفيل ومجموعة من الحنفاء في مكة لم يكن لهم أي تأثير، لماذا؟ لأنهم كانوا أشبه باليائسين من الإصلاح، ولأنهم يرون أن العالم كله يعج بألوان الشرك والوثنية والانحراف، والقاذورات الأخلاقية، والنظم وغيرها من الأشياء؛ التي يرون أن لا طاقة لهم ولا قبل لهم بها، فكانوا يرضون بصلاح أنفسهم فقط، ويدعون ما وراء ذلك، حتى وإن بدر منهم كلمات أو توجيهات أو مشاركات فهي أشياء جزئية ومحدودة ومعدودة وفي نطاق معين، أما أن يكون عندهم خطة للإصلاح الكامل في كل شئون الحياة، فهذا ما لم يكونوا يستطيعونه، ولهذا بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل، وانطماس من السبل، فهدى به من الضلالة، وبصر به من العمى، وأيده بهؤلاء الصحاب الكرام، الذين جاهدوا إلى جواره عليه الصلاة والسلام، ورضي الله عنهم وأرضاهم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 3 تنكر قريش لمألوفاتها من أجل الدفاع عن عقيدتها فأنت تجد الفرق -مثلاً- بين زيد بن عمرو بن نفيل هذا الذي لم ينقل أنه لقي من قريش شيئاً، وقد يسخرون منه، وقد يردون دعوته، لكن وقف هذا الأمر عند هذا الحد، ولما بعث الرسول عليه الصلاة والسلام؛ ففي البداية لم يكن يدعو إلا إلى التوحيد: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، قولوا: لا إله إلا الله، فماذا لقي صلى الله عليه وسلم؟ ما تركوا أسلوباً من أساليب الحرب إلا سلكوه، وذموه، وخالفوه حتى فيما كانت قريش تتعاهده، وما كنت العرب تفتخر به. وعلى سبيل المثال: كان العرب يفتخرون بالكرم -إكرام الضيف- تفتخر به حتى في جاهليتها، وهناك أجواد كرماء معروفون في الجاهلية، منهم -مثلاً- عبد الله بن جدعان، كان معروفاً بمكة وكان كريماً يقري الضيفان حتى إنه يبعث أناساً في مشارقمكة ومغاربها ينادون من أراد الطعام فليأت إلى دار عبد الله بن جدعان، ولذلك مدحه أمية بن أبي الصلت فقال: له داعٍ بمكة مشمعلٌ وآخر فوق دارتها ينادي إلى قطع من الشيزى ملاء لباب البر يُلبَك بالشهاد أي أن له دعاة ينادون الناس إلى قطع من ألوان الخشب وغيرها من الأواني التي فيها العسل وألوان الأطعمة الجميلة والبر وغير ذلك، فلما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به من آمن، حاربوهم حتى حاصروهم في شعب أبي طالب ومنعوا عنهم الطعام والشراب، حتى إن الواحد منهم يذهب من أجل أن يقضي حاجته فيجد تحته شيئاً فينظر فإذا هي قطعة من القد -جلد يابس- فيأتي فيطحنه ويسفه ويشرب عليه الماء فيتقوى به أياماً، وحتى كانت قريش تسمع تضاغيهم وتضاغي أطفالهم، وتسمع صياحهم فلا تلين لها قناة، ولا تتحرك في قلوبها دوافع الرحمة. بل أشد من ذلك، لما ضايقوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين بمكة، فروا بدينهم إلى الحبشة، فلم تقل قريش: هؤلاء قومٌ خرجوا منا فدعوهم وما ذهبوا إليه، لا، بل صاروا يطاردونهم ويلاحقونهم مثل ما تعرفون الآن، فالآن يوجد في العالم جهاز يسمونه جهاز الإنتربول أو البوليس الدولي، هذا مهمته ملاحقة من يسميهم العالم بالمجرمين في أي مكان، لا تحده الحدود ولا القيود ولا السدود. فهكذا قريش لما ذهب الصحابة إلى الحبشة، لم ترض بمقامهم هناك، بل عزمت أن تبعث إلى الحبشة من يحاول أن يوغر صدر رئيسها وملكها عليهم ليخرجهم من أرضه، فبعثوا عبد الله بن أمية وعمرو بن العاص وغيرهم إلى النجاشي ليقولوا له: إن هؤلاء القوم فيهم وفيهم، وقومهم أبصر بهم فردهم إليهم. انظر إلى هذه الحرب، وانظر كيف تنكرت قريش لمألوفاتها الجاهلية من إكرام الضيوف، والحرص عليهم. وأين قصائدهم وأشعارهم ومعلقاتهم؟! كل المعلقات السبع وغيرها مليئة بالمدح بالكرم والجود والسخاء، كل ذلك ضاع لما صارت المعركة بين التوحيد والشرك، هذا كله لم يلقه زيد بن عمرو بن نفيل، ولا أمية بن أبي الصلت ولا غيرهم ممن كانوا حنفاء في الجاهلية، لم يلقوا من قريش شيئاً يذكر، وكانت تحترمهم في أحيان كثيرة، لماذا؟ لأنهم لم يعلنوها دعوة صريحة مجلجلة في نوادي قريش وأحيائها، ولم يجمعوا الناس على كلمة التوحيد، ولم يقدموا للناس خطة إصلاحية تبدأ في الحياة من أولها إلى آخرها، كلا؛ وإنما كانوا يعايشون الوضع الفاسد المنحرف الذي كان في الجاهلية، وربما أنكروا بألسنتهم في حدودٍ ضيقة. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 4 مقاومة الانحراف المتأصل هذا الجم الغفير من أنبياء الله ورسله الذين هم ثلاثمائة وبضعة عشر، كلهم رفعوا راية الإصلاح في وسط مجتمعات سيطر عليها الفساد بكل صوره وألوانه، ولم يكتفوا بمجرد صلاح أنفسهم، فلم يكن من بينهم قط واحد رضي بأن يعيش بين قومٍ ضالين منحرفين وهو مخالفٌ لهم، أبداً إلا أن يصدع بدعوة الحق والتوحيد بين أظهرهم، ولهذا كان الراجح من أقوال أهل العلم في التفريق بين النبي والرسول: هو أن النبي من جاء مجدداً لدعوة من قبله ولم يأت بشريعة جديدة، وإلا فكلهم بعثوا دعاة لأقوامهم مجددين لدين الله عز وجل مجاهدين في سبيل الله، وهم يحملون راية الإصلاح. والإصلاح يعني: أنك سوف تقاوم وتنكر أشياء تعارف الناس عليها وألفوها وأصبحت جزءاً من موروثهم ومن تقاليدهم ومن حياتهم، ومن عاداتهم، فأنت سوف تقاومها وتحاربها وقد تكون أشياءً متأصلة في قلوبهم وأي أمرٍ آصل وأعظم في قلوب الناس من أمر العقائد. فإذا كان الناس في مجتمعٍ ما نشأوا منذ طفولتهم وولادتهم وتربوا وترعرعوا على عبادة أصنام (طوطم) أو شجر أو حجر أو شخص أو غير ذلك، ويظنونه إلههم ويتعبدون له، فيأتي النبي يفاجئهم بهذا الأمر الذي هو مستقرٌ في قلوبهم: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء:66-67] فينكر عليهم عبادة غير الله، ويحارب هذا الشرك المتأصل المستقر في قلوبهم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 5 وسائل الطواغيت في مواجهة دعوة الأنبياء قد واجه الأنبياء عليهم صلوات ربهم وسلامه، حملات إعلامية شرسة تستهدف تشكيك الناس في نياتهم ومقاصدهم ومآربهم، وتشكيك الناس في مناهجهم ودعواتهم، وتشكيك الناس في وسائلهم، وتشكيك الناس في مستقبلهم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 6 نصر الله تعالى لأنبيائه ومثله كلام آزر لابنه إبراهيم الذي كان يقول له: {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} [مريم:46] اتركني، دعني وما أنا فيه، ويهدده بالرجم إذا لم يتوقف عن الدعوة، الرجم! أين عواطف الأبوة؟! أين حنان الأبوة؟! كل ذلك ضاع لما صارت القضية قضية الإيمان والكفر، وقضية التوحيد والشرك، فهاهو آزر مع أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان يخاطبه بأرق وألطف العبارات: يا أبت يا أبت: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم:45] . فالمسألة لديه مسألة خوف على والده، ومسألة شفقة وحرص على حمايته من عذاب الله، ومع ذلك يواجه هذا كله بقوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} والملأ من خلف آزر ومن أمامه، يقول بعضهم لبعض ويتواصون بإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] ولم يعلموا أن الله تعالى قال {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ} [الأنبياء:70] : {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل:51] أما إبراهيم عليه الصلاة والسلام فنجى. وما زال الحنفاء إلى قيام الساعة يعتبرونه إماماً وقدوةً لهم عليهم الصلاة والسلام، حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو خاتم الرسل كان دعوة إبراهيم، كما قال صلى الله عليه وسلم: {أنا دعوة أبي إبراهيم} وجعل الله له لسان صدق في الآخرين؛ حتى المسلم في صلاته يقول: {اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم} وتجد المسلم وهو يحج يصلي خلف مقام إبراهيم ركعتين؛ كما أمر الله سبحانه وتعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] وكما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فجعل له الله لسان صدق في الآخرين، ونجاه الله تعالى من كيدهم ومكرهم، أما في الآخرة فمعلوم أن العاقبة للمتقين والعاقبة للتقوى، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث سمرة الطويل رؤيته لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في الجنة ومن حوله من أطفال المؤمنين. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 7 تشكيك الناس في مستقبل الرسل أما تشكيكهم في مستقبل الرسل عليهم الصلاة والسلام فذلك مثل قول فرعون عن موسى ومن معه: {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء:54] . انظر كيف التعبير: شرذمة قليلون {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:55-56] فكان فرعون يظن -أو هكذا يريد أن يصور للناس المخدوعين بخطبه الرنانة- أن موسى ومن معه مجرد حفنة من الناس المشاغبين، وأن أمرهم سوف ينتهي بمجرد نزول قوات الأمن إلى الشوارع، واستخدام القوة ضدهم؛ بذلك سوف ينتهي أمرهم وينحسم، ولهذا قال: {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ} [الشعراء:55] أسخطونا وأزعجونا وآذونا، ونحن سوف نجعل حداً ونضع حداً لهذا الأمر: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] لا تظنوا أننا غافلون عنهم فعندنا إمكانيات، وعندنا أجهزة وعندنا قوة، وعندنا وسائل كثيرة، فلا تظنوا أن وسائل الأمن، والمباحث، والاستخبارات العالمية، لا تظنوا أنها وليدة الساعة؛ بل هي موجودة منذ العصر الأول، وما قول فرعون: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ} [الشعراء:56] إلا نوعٌ من الإشارة والتهديد والإرهاب بالقوة التي يظن أنها سوف تغني عنه شيئاً أو تنفعه أو تقاوم دعوة الله عز وجل. ولم يكن فرعون يدري أن المصير الذي ينتظره هو أن يصبح جثة هامدة تلعب بها الأمواج، ثم يلقيه البحر إلى الساحل، هذا إلهكم الذي كنتم تعبدون، وهذا فرعون الذي ملأ الدنيا صراخاً وضجيجاً وتهديداً ووعيداً هاهو جثة هامدة ألقاه الموج في الساحل والله سبحانه وتعالى يقول: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:92] . هذا مصير المستكبرين، هذا مصير الطغاة، هذا مصير أعداء الرسل، أما موسى ومن معه فإن الله تعالى ما زال ينقلهم من نصر إلى نصر حتى كتب الله تعالى لموسى عليه الصلاة والسلام، ما هو معروفٌ في التاريخ، هذا نموذج من تشكيك الطغاة بمستقبل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 8 تشكيك الناس في وسائل الرسل شككوا الناس في وسائل الرسل التي يدعون الناس بها. فمثلاً: قالوا لنوح عليه الصلاة والسلام: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود:32] . فاعتبروا الدعوة نوعاً من الجدال، وقولهم: فأكثرت جدالنا، يوحي بتبرمهم وضيقهم، وهذا لا يقوله إلا إنسان انقطعت عنه الحجة؛ ولم يعد يملك أسلوباً للرد، ولهذا قالوا: أطلت علينا في الكلام، فإذا كان عندك شيء فهاته سواءً أكان عذاباً أو عقوبة أو زلزلة أو غير ذلك، ائتنا بما تعدنا، أما مسألة الجدال والدعوة فما لنا بها من حاجة. ومرة أخرى يقولون لنبيٍ آخر: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] فالله تعالى كان يبعث الرسل في علية أقوامهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] فكان الرسل الذين يبعثهم الله عز وجل أهل فصاحة وبلاغة وبيان، ويعطيهم الله قوة في الحجة، ويمنحهم من ذلك ما يقيم به الحجة على أممهم وأقوامهم، كما بعث محمداً صلى الله عليه وسلم. ولهذا لما بعث الله موسى عليه الصلاة والسلام، قال موسى داعياً ومنادياً ربه عز وجل: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:27-32] إلى قول الله عز وجل: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] فحل الله عقدة لسانه، فكان بيناً فصيحاً بليغاً، وآزره، وأعانه بأخيه هارون عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان فرعون يقول: {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:52] فيعيره بحبسة كانت في لسانه قبل النبوة، مسألة اصطياد -كما يقال- في الماء العكر، فهو يقول: لا يكاد يبين أي: لا توجد عنده فصاحة ولا عنده بلاغة، وهنا يقولون لشعيب: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] هم يفقهون، ويعرفون، لكن قلوبهم في صدود وفي عمى؛ لا يريدون أصلاً أن يفهموا فيتعمدون الصدود عن الحق والإعراض عنه بكل وسيلة. ولذلك تجد أن الإنسان الذي يتابع اليوم ما يكتبه أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام، أنهم يقعون في تناقضات ليس لها أول ولا آخر، حتى يسخر منهم الإنسان العادي، وربما كانوا -أحياناً- أذكياء، وربما كانوا عقلاء، وربما كانوا عباقرة، ولكن وقوعهم في هذا التناقض؛ لأنهم يحملون الباطل وسبحان الله!! الأرض والسماوات قامت بالحق، فما من إنسان يدافع عن الباطل إلا ويفضحه الله عز وجل، وما من إنسان يدافع عن الحق إلا ويجعل الله تعالى السداد والصواب على لسانه. وكذلك حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم وبعث في جزيرة العرب، كان في ذروة الفصاحة والبلاغة ومع ذلك لم يستطيعوا أن يقولوا مثل ما قيل من قبل: {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} [هود:91] ؛ لأن كلامه مما لا يستطيعون أن يحولوا بين الناس وبينه، ولهذا قالوا: ساحر يفرق بين المرء وزوجه، ويفرق بين المرء وأخيه، ويفرق بين المرء وابنه، وما يزالون بالناس حتى يحاولوا ألا يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إنهم جاءوا إلى الطفيل، وما زالوا به -وكان رجلاً عاقلاً لبيباً- حتى وضع القطن في أذنيه؛ حتى لا يسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم يدركون أن للحق سلطاناً على القلوب، ولذلك يفرضون - وهو ما يسمى بلغة العصر الحاضر- التعتيم الإعلامي على الدعوة، ومحاصرتها، وفرض القيود عليها، وحربها؛ لأنهم يعرفون أن كلمة الحق لها سلطان على القلوب، ولها رواج في النفوس، ولها رنين في الآذان، وما أن يسمع الناس بها حتى تنجلي عنهم الغشاوة وينقشع عنهم الظلام، ولهذا يحاولون أن يحولوا بين الناس دائماً وأبداً وبين كلمة الحق بكافة الوسائل. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 9 تشكيك الناس في مناهج الرسل شككوا الناس في مناهج الرسل، وفي دعوتهم، وهذا كثير: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأعراف:60] {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] {إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:32] {قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52] إلى غير ذلك، حتى قال قوم شعيب لشعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] فهذه سخرية به أن دعوتك ليست مقبولة ولا صادقة، وأنك تتكلم من ضلالة قد وقعت في عقلك، أو من سفاهة تفكيرك، وأن كلامك مردود غير مقبول، فشككوا في دعوتهم وفي مناهجهم وأنهم لا يستطيعون الإصلاح. الذين جاءوا يدعون الناس إلى التوحيد، ويدعونهم مع التوحيد إلى إصلاح حياتهم على وفق شريعة الله تعالى -كان خصومهم يقولون للناس: إن هؤلاء الرسل لا يستطيعون الإصلاح ولا يملكون الخطة الواضحة للإصلاح، وإنهم ينطلقون من بساطة في التفكير، ومن ضعف في العقل ولذلك لا تتبعوهم ولا تطيعوهم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 10 تشكيك الناس في مقاصد الرسل قال الله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] يعني أن قريشاً يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على دينهم دين الشرك، لماذا؟ قالوا: لأن هذا شيءٌ يراد أي: أن محمداً يريد أن يكون رئيساً وسيداً وملكاً وحاكماً عليكم، ويريد المقاصد الدنيوية، وليس قصده وجه الله، ولا قصده الدعوة إلى الله، والنجاة في الدار الآخرة، وإنما قصده أن يصل إلى الحكم. وانظر كيف يغالطون أنفسهم، لأنهم جاءوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كنت تريد ملكاً ملكناك، وإن كنت تريد مالاً أعطيناك حتى تكون أغنانا، وإن كنت تريد الزواج اخترنا لك أجمل فتاة في مكة وزوجناك، فلما انتهوا قرأ عليهم شيئاً من القرآن، ومع ذلك لما رأوا صبره وإصراره قالوا: إن هذا لشيء يراد. ومن قبل قال فرعون وقومه عن موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] ففرعون من أجل أن يضمن نفوس الجماهير أن لا تميل مع موسى ولا تتأثر بدعوته، حاول أن يضع حاجزاً، ما هو هذا الحاجز؟ الحاجز أن فرعون كان يقول لموسى ولاحظ كيف التناقض عند فرعون فهو رجل يقول للناس {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24] ويبتز الناس، ويأخذ أموالهم، ويأخذ خيراتهم، ويفرض الضرائب عليهم، ويأخذ من يريد من بناتهم، ويستبد حتى يريدهم أن يعبدوه، ومع ذلك لما دعا موسى ماذا قال؟ -قال: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ} [يونس:78] فيقول للناس: هذان موسى وهارون يريدان أن تكون لهما الكبرياء في الأرض، وأنت ماذا تفعل الآن؟! لقد مارست ألواناً من فرض الذل على الناس! تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم من أجل الخدمة؛ ومن أجل أن تتمتع بهن متاعاً حيوانياً بهيمياً، ولما قام موسى وهارون يدعوان إلى الله تعالى، ويدعوان الناس إلى الخروج من طغيانك ومن تسلطك ومن بطشك، تقول: وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين!! وليس الغريب أمر فرعون فإن فرعون طاغية أحس بالخطر فأصبح يضرب يمنة ويسرة بلا عقل ولا تفكير، ولكن الغريب أمر تلك الجماهير المضللة التي تصدقه وتطيعه وتتابعه فيما يقول، هؤلاء الجنود الذين قاوموا موسى عليه السلام وحاربوه ومشوا وراءه حتى وصلوا إلى البحر، هؤلاء الجنود أين عقولهم؟! أين تفكيرهم؟! أين إدراكهم؟! أين إنسانيتهم؟! {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] . المهم أن فرعون ومن بعده من أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا يشككون الناس في نيات الرسل، وفي مقاصدهم، وأنهم لا يقصدون نجاة الناس؛ وإنما يقصدون التسلط على الناس وأن تكون لهم الكبرياء، وأن يصلوا إلى الحكم، هذا الكلام قيل حرفياً عن الرسل عليهم الصلاة والسلام، وذكره الله تعالى في كتابه حتى يعتبر به المعتبرون: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43] هذه الكلمات معادة، وهذا شريطٌ مكرر: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] . الجزء: 211 ¦ الصفحة: 11 أنواع أذى الكفار للدعاة والمصلحين لما صرخ النبي صلى الله عليه وسلم وجهر بدعوته بين أظهر المشركين بمكة، ضاقوا به ذرعاً، وتآمروا به وكشف الله أبعاد تلك المؤامرة، فقال: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] فقد وضعت ثلاث خطط عرضت في ذلك المجلس: {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وفي كثير من الأحيان يتصور الناس أن الوسائل والخطط التي تحاك ضد الإسلام وأهله أنها وليدة اليوم؛ لأنهم لا يقرؤون التاريخ ولا يقفون موقف المعتبر، فأنت تجد أن هذه الخطط هي بالذات ما يستخدم اليوم ضد الإسلام والمسلمين في كل مكان. أما قوله سبحانه: (لِيُثْبِتُوكَ) فالمقصود بها فكرة الحصار، يسمونها في العصر الحاضر فرض الإقامة الجبرية، ومنع النبي صلى الله عليه وسلم من السفر من مكة ومغادرتها، والهجرة إلى أي مكان آخر في الدنيا ونشر دعوته، أو قد يقصدون بها السجن، وإيثاق النبي صلى الله عليه وسلم بالقيود والأغلال بحيث لا يستطيع أن يتحرك. هذا معنى قوله: (لِيُثْبِتُوكَ) . وأما القتل والتصفية الجسدية فأمرها واضح، وأما الإخراج فمعناه فكرة النفي، نفي الرسول صلى الله عليه وسلم من البلاد وطرده منها {لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] هذا تفسير الآية كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه، فيما رواه عنه عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني والخطيب البغدادي وغيرهم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 12 أسلوب ماكر في محاربة الدعوة أن أولئك الأذكياء أولئك الذين يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم ليس على طريقة: آيات شيطانية، إنما على طريقة أخرى، على طريقة: سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم -يطلقون عليه هكذا- ثم يضعون شريعته وتعليماته على الرفوف، لا يأتون بها إلا في المناسبات: في الموالد أو الوفيات أو غير ذلك، أما فيما سوى ذلك فهم يحاربون دينه وشريعته، ويحاربون من يدعو إلى دينه ومن يدعو إلى شريعته. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 13 قوة الحق لم تكن قريش تتصور وهي تحارب الرسول صلى الله عليه وسلم، أنها تحارب رجلاً كتب الله أن يكون أتباعه في كل عصر يعدون بالملايين، وأنها تحارب رجلاً كتب الله تعالى أن تضج المآذن باسمه الكريم في كل يوم وليلة خمس مرات في طول بلاد الدنيا وعرضها، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه كي يجله فذو العرش محمود وهذا محمد فلم يكن يخطر في بالهم أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم سوف يكونون قوة تحسب لها قوة الدنيا ألف حساب، بعد مضي مئات السنين على موته عليه الصلاة والسلام. بل لم يكن يخطر في بالهم أن تموج بلاد الإسلام بمظاهر السخط العارم لمجرد أن شخصاً دعياً أفاكاً نال من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، كما فعل سلمان رشدي حين أصدر كتاباً في بريطانيا سماه آيات شيطانية، نال فيه من شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أزواجه أمهات المؤمنين ومن أصحابه، فقامت المظاهرات العارمة في شرق البلاد وغربها؛ بل حتى في بلاد الكفر تطالب بمحاكمة هذا الرجل وقتله، وترتب على ذلك آثار سياسية بعيدة المدى. وهذا يكشف لكم عن ذكاء أولئك الذين يحاربون الرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته ودينه من خلال أسلوب المناورة، فهم يمدحون الرسول صلى الله عليه وسلم بألسنتهم، بل قد يقيمون الموالد بالمناسبات المختلفة، بمناسبة المولد وبمناسبة الهجرة، وبمناسبة الإسراء والمعراج إلى غير ذلك من المناسبات الغير شرعية، يقيمونها ويتغنون بمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، ويرددون الأناشيد والقصائد الجميلة، ولكنهم بعد ذلك يمزقون شريعته من خلال خططهم الرهيبة؛ أما هذا الرجل المأثوم المأفوك المسكين فاختفى وما زال مختفياً لا يدرى أين هو مختفٍ؟! خوفاً، ورعباً، وهلعاً، وفزعاً حتى أنه أعلن التوبة وأعلن الرجوع عما فعل، فلم ينفعه ذلك، والدائرة التي نشرت الكتاب تعرضت إلى ما تعرضت له، سخط المسلمين لا يتوقف ولا ينتهي لماذا؟ لأنه أعلن. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 14 أهمية الموضوع بعد هذا الحديث الذي قد يكون فيه شيٌ من الاستطراد عما لقيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أقول كيف لا يكون هذا الموضوع، موضوع: هكذا علّم الأنبياء، الذي هو موضوع هذه الجلسة؛ كيف لا يكون جديراً بالحديث عنه لتذكير الذين يسيرون على خطى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن هذا هو ما واجهه زعماؤهم وسادتهم وقادتهم، فكيف يطمعون هم أن يسيروا في طريق آمن مطمئن؟! أم كيف يطمعون أن تبحر سفينتهم في ريحٍ رخاءٍ وجوٍ هادئٍ بعيدٍ عن هدير الأمواج، وصفير العواصف؟! وهذا لم يكن يحصل حتى للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا مؤيدين بالوحي من السماء، وكيف لا يكون هذا الموضوع جديراً بالكلام عنه، ونحن في فترة من فترات تجديد هذا الدين، الذي وعد به النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الفترة نأمل أن تثمر في تمكين الإسلام وأهله في الأرض، وهلاكاً لعدوهم كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لما شكوا إليه قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:129] . فنحن نطمع أن تثمر هذه الصحوة المباركة وهذا الإحياء الكبير لدين الله عز وجل في الأرض؛ أن يثمر تمكيناً للإسلام ولأهل الإسلام في أرض الإسلام، وأن يثمر هلاكاً لأعداء الدين في كل مكان، وما أحوج المجددين إلى أن يراجعوا سيرة المصلحين الأوائل، أعني الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لينظروا إلى ماذا دعا أولئك الأنبياء، وما هي حقيقة دعوتهم، وكيف دعوا، وماذا لقوا؟ وإجمالاً فإني أعتقد أن طرق موضوع دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، مما لا يحتاج إلى تعليل، ولا إلى تسويغ فالجميع كلهم يؤمنون بأهمية الحديث عن دعوة الأنبياء والمرسلين والحمد لله رب العالمين. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 15 أهمية توحيد الألوهية المقصود أن المصلحين قد غفلوا عن هذا الركن العظيم أو كادوا أن ينشغلوا عنه بغيره، أعني ركن توحيد العبادة، توحيد الألوهية، توحيد الله تعالى وعدم صرف شيءٍ من ألوان العبادة دق أو جل لغير الله عز وجل، وتوحيد الربوبية هو أحد أنواع التوحيد، ولكن البشر جبلوا على الإيمان بالله والاعتراف بوجوده فطرةً؛ ولذلك سرعان ما تهاوت وانهارت معاقل الشيوعية؛ لأنها كانت تقوم على أساس إنكار وجود الله عز وجل، والذين كانوا يدندنون بالإلحاد في بلادنا وفي بلاد الإسلام وفي غيرها، كان كثير منهم ينطلقون من حماسات سياسية أكثر من أن ينطلقوا من قناعات عقلية، وكأن الإلحاد وإنكار وجود الله تعالى -والله تعالى أعلم- كأنه تراجع كثيراً ولم يعد الآن خطراً يهدد الإيمان، وإن كان الناس يحتاجون دائماً وأبداً إلى تذكيرهم وإزالة الشكوك والشبهات من نفوسهم. وتوحيد الأسماء والصفات يحتاج إلى كشف وإلى حديثٍ وبيان لكثرة الانحراف فيه وكثرة الفرق المخالفة، وقد جاءت الرسل عليهم الصلاة والسلام بتعريف الناس بربهم الحق بأسمائه وبصفاته وبأفعاله جل وعلا، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة} . ولكن يبقى موضوع توحيد الألوهية هو المركز الذي تدور حوله المعركة الكبرى، وكيف لا يكون الأمر كذلك؟! ونحن نجد أن المعركة مع الأنبياء وأتباعهم كانت حول هذا الركن العظيم؟! لم تكن المعركة خلافاً حول فرعية من فرعيات الفقه أبداً، بل الرسل أنفسهم عليهم الصلاة والسلام قد تعددت شرائعهم؛ لأن الشرائع تختلف من وقتٍ لآخر ومن بلدٍ إلى آخر أو أمة لأخرى، إذ أن الشرائع إنما جاءت لتنظيم حياة الناس فيما يحقق المصلحة العاجلة لهم، وفيما يضمن لهم المصلحة في الدار الآخرة، ولذلك اختلفت شرائع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فهم أبناء علات دينهم واحد وهو التوحيد أما شرائعه فهي شتى مختلفة، فلم تكن المعركة قط -وأقولها مرة أخرى- لم تكن قط بين الأنبياء وبين خصومهم معركة على جزئية من الجزئيات؛ لا، ولا كانت معركة على فرعية من الفرعيات؛ لا، ولا كانت معركة على مسألة من المسائل الاجتهادية التي ليس فيها نص والتي فيها مجال للأخذ والرد؛ كلا، وألف كلا. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 16 صور من الشرك الواقع في هذا العصر وحدثني أحد الإخوة وهو من إحدى الدول الإفريقية قال: الناس في بلدي جاءهم منذ زمن رجل كان يهودياً فتظاهر بالإسلام، ولبس جبة وعمامة، وأصبح يتظاهر بالنسك، فأعجب الناس به واغتروا، فكان يأخذ من أموالهم ما يشاء، ويستبد بهم ما شاء، ويأخذ من مزارعهم، حتى بلغت به الوقاحة وبلغت به الجرأة أنه لا يأذن لرجلٍ أن يتزوج إلا ويبيت هذا الذي يدعي الولاية عند زوجته الليلة الأولى، ويأتي منها ما يأتي الرجل من امرأته، فضاق الناس به ذرعاً لكنهم لا يستطيعون أن يصنعوا به شيئاً؛ لأنه في نظرهم ولي والأولياء تسلم لهم أحوالهم -هكذا يقولون- فلذلك ما كانوا ليصنعوا به شيئاً، حتى كان ذات يوم زواج أحد الشباب فدخل هذا الولي على زوجته فأتى منها ما يأتي الرجل من امرأته، فلما دخل عليها زوجها الحقيقي سألها، فقالت: نعم. فأصابته غيرة وغضب وأخذ مسدسه وأفرغ رصاصاته في رأس هذا الرجل وأرداه قتيلاً، فتسامع الناس، وقالوا: قتل الولي قتل الولي! من قتله؟ قالوا: قتله فلان: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء:68] فأتوا إليه وقتلوه، قتلوا هذا الشاب انتصاراً لذلك الولي، وبعد فترة بدأت تتكشف الأمور، وبدأ يتبين أن هذا الرجل الذي يدعي الولاية كاذب، وأنه سرق من فلان، وخان فلاناً، وأنه غدر وأنه كذا، ففاحت الروائح النتنة، وكما يقال في المثل: إذا سقط الجمل كثرت سكاكينه، فبدأ كل واحد يذكر فضيحة، ويقول صار له معي كذا، ولكنني ظننت الأمر بخلاف ذلك، وثالث ورابع، فعرف الناس أن هذا الرجل مخادع وبدءوا يترحمون على ذلك الشاب الذي كتب الله نجاتهم من هذا الإنسان على يده، فكيف عبروا عن سخطهم على ذلك المدعي للولاية؟ وكيف عبروا عن تقديرهم لذلك الشاب الذي قتلوه ظلماً؟ لقد جاءوا إلى قبر هذا الولي المدعي فصاروا يرجمونه بسبعة أحجار متتابعات مثل حصى الخذف، كما يرجم الحاج أو يرمي الجمار، ثم إذا انتهوا منه ذهبوا إلى قبر ذلك الشاب الصالح -نرجو أن يكون صالحاً- فصاروا يطوفون به سبعة أشواط متتابعات يكبرون عند كل شوطٍ. فهذه صورة من صور عبادة غير الله التي توجد في أوساط المسلمين، وقد رأيت بعيني في بلدٍ آسيوي آخر، أن المسلمين وكانوا فقراء جياعاً، ولا يزالون، فكثير منهم لا يستطيعون الحج إلى بيت الله الحرام، فقام رجل في السبعين من عمره وابتكر لهم ديناً جديداً وعبادة جديدة، وقال: ليس هناك حاجة أن تتحملوا هذه المئات بل الألوف من الكيلومترات إلى مكة وأنتم لا تستطيعون؛ فابتكر حجاً للفقراء، فذهب إلى جبلٍ هناك ووضع فيه مكاناً للتعبد يشبه الكعبة، وأمر الناس أن يحجوا إلى ذلك المكان في وقت عيد الأضحى، فكان يتبعه على ذلك ألوف يَصِلُون إلى أكثر من ستين ألفاً فيخطب فيهم خطبة في يوم عرفة، ويأتون بالهدايا والقرابين من الغنم وغيرها فيسرحونها ويسيبونها في تلك الجبال، ولا يتعرض لها أحد، فهم يمارسون ألواناً وطقوساً من العبادات تضاهي ما يمارسه ويعمله المسلمون حين يحجون إلى بيت الله الحرام. فهذه ألوان من الشرك الظاهر الصارخ الموجود في بلاد المسلمين، والذي قد يصعب على كثير من المنتسبين إلى الإسلام تمييزه أو معرفة أنه شركٌ مخالفٌ لأصل توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وإذا كان هذا على مستوى الدهماء أو العامة أو السذج، فإننا نجد كثيراً ممن يعتبرون مثقفين ومدركين، ممن استهوتهم بعض المذاهب الفاسدة فعطلت مداركهم وعقولهم أنهم يتعلقون بالبشر ويتألهون لهم، حتى يقول أحدهم وهو معاصر يخاطب علياً رضي الله عنه: أبا حسن ٍ أنت عين الإله وعنوان قدرته السامية وأنت المحيط بعلم الغيوب فهل عنك تعزب من خافية لك الأمر إن شئت تنجي غداً وإن شئت تسفع بالناصية فماذا بقي لله عز وجل؟! إذا كان علي رضي الله عنه هو المحيط بعلم الغيوب، وهو الإله، وهو عنوان القدرة، وأنه لا تخفى عليه خافية، وأن الأمر له من شاء أنجاه ومن شاء أخذه بالناصية وأرداه بنار جهنم؟! نتساءل: ماذا بقي لله تعالى رب العالمين إذاً؟!: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13-14] الجزء: 211 ¦ الصفحة: 17 أنواع الشرك في الأمم المتأخرة فهذه الصور الساذجة من الشرك كانت تتناسب وما زالت تتناسب مع عقليات الأمم البدائية المتخلفة، ولكن للمثقفين والمتعلمين في أزمنة الحضارة وللدول الراقية ألواناً وألوناً كثيرة من الشرك، منها ما ذكرت ومنها غيره، فليست بالضرورة أن تكون الأوثان والأصنام أشجاراً أو أحجاراً أو طواطم أو غير ذلك، بل قد تكون بشراً يعبدون من دون الله تعالى، ويطاعون فيما لا يطاع فيه إلا الله، فيحللون فيطاعون، ويحرمون فيطاعون، ويأمرون بما يخالف شريعة الله، فيطاعون، ويأمرون بالباطل فيطاعون، وينهون عما أمر الله تعالى به فيطاعون، وتصرف لهم من أنواع العبادة من الحب والخوف والرجاء والرغبة والرهبة والخشية وغير ذلك، تصرف لهم بعض هذه الأنواع أو تصرف لهم كل الأنواع، ونحن لا نشك أن القوم الذين كانوا يتبعون فرعون كانوا مشركين، وليس بالضرورة أن يكون لديهم أصنام، يكفيهم هذا الصنم الأكبر (هبل) الذي هو فرعون، كيف كانوا يصرفون له أنواع العبادة، وكيف كانوا يتألهون له في قلوبهم، وقد تكون صور الشرك بطاعة بعض القوانين والأنظمة المخالفة لشريعة الله تعالى، وقد تكون بصرف الولاء والحب والبغض للكافرين والمنافقين والمعاندين إلى غير ذلك من صور الشرك التي تحتاج إلى تفصيل وبيان. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 18 وضوح التوحيد المقصود أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قدموا هذه المسألة -مسألة التوحيد- واضحة بلا تعقيد، وليس من المصلحة أن نشعر الناس أن مسألة العبودية والوحدانية مسألة صعبة، وأنه لا يقوم بها ولا يفهمها إلا أفرادٌ قلائل من الناس، وأنه لا يستطيع إدراكها إلا الأذكياء، على العكس إننا نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة وفي المدينة كان يأتيه الأعرابي الذي كان طول حياته في الشرك، فيجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً عشر دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة، وقل -إن شئت- ساعة أو ساعتين فيعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دينه بدءاً بالتوحيد، ويخرج هذا الأعرابي لا أقول مسلماً فقط، لا، بل يخرج مؤمناً داعيةً إلى الله تعالى، يأتي إلى قومه فيقول لهم: لا لات، ولا عزى، كفرت بها وبمن يعبدونها من دون الله، فتأتي إليه زوجته فيطردها ويبعدها ويقول: فرق الإسلام بيني وبينك. فالقضية واضحة سهلة يفهمها كل إنسان متعلماً كان أو غير متعلم، عربياً كان أو غير عربي، ويمكن أن نبين للناس أنهم يستطيعون أن يفهموا هذه الحقيقة بكل يسر وسهولة من كتاب الله تعالى ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا يحتاجون إلينا ولا إلى غيرنا في ذلك، إلا بقدر ما توضح لهم معاني الآيات القرآنية، ومعاني الأحاديث النبوية، فالمسألة ليست مسألة تقليد لفلان أو علان، لا. بل المسألة أن هذا كلام الله تعالى في كتابه، وهذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته، وليس بينك وبين كتاب الله تعالى وبين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجز ولا حائل، حتى غير العربي، لو قرأت عليه آيات التوحيد من القرآن وشرحت له معناها، لامتلأ قلبه بها وآمن، ولا داعي أن ندخل الناس في متاهات وفي أمور ليست لهم حاجة إليها، يكفي أن يفهموا التوحيد كما فهمه أتباع الرسل الأوائل عليهم الصلاة والسلام. ولا يجوز أن يكون ورثة الأنبياء كبعض المعلمين الذين يشعرون الطلاب -أحياناً- بأن الفهم يكون بواسطتهم فحسب، إذا كان المعلم يريد أن يأخذ عنده الطالب درساً خصوصياً؛ يشعره بأن المادة صعبة وأنه ليس من السهل أن تفهمها، ولا بد أن تأخذ عندي دروساً خصوصية في مقابل مادي، فأصحاب المطامع المادية قد يفعلون ذلك. وكذلك لا يجوز أن يكون ورثة الأنبياء كبعض الساسة الذين يستأثرون هم -فيما زعموا- بفهم الأمور وإدراك مقاصدها وأبعادها، ويستكثرون على غيرهم من الناس -حتى من العقلاء والمثقفين ومن أساتذة الجامعات- يستكثرون على غيرهم أن يشارك في رأي، أو أن يتحدث في قضية، ويقولون: هذا لا يدرك أبعاد الموضوع. أي موضوع لا يدرك أبعاده؟ وما هي أبعاد هذا الموضوع؟! إذا كان الناس والحمد لله يفهمون دينهم، يفهمون كتاب ربهم، فكيف لا يفهمون أبعاد موضوع من موضوعات الدنيا؟! أو القضايا التي يعايشونها ويسمعونها ويقفون قريباً منها؟! إن حملة التوحيد وورثة الأنبياء ينبغي أن يقدموا الدين، والتوحيد، ويقدموا ما لديهم للناس بصورة واضحة مباشرة، يسهل على الناس فهمها، وتقرب إلى أذهان الناس. إذاً مسألة توحيد العبادة هي أعظم المسائل التي بذل من أجلها الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ودعوا الناس إلى عبادة الله وحده، ونبذ الآلهة المعبودة من دونه، وما أحوج المسلمين اليوم فضلاً عن غير المسلمين من الأمم الكافرة الوثنية والكتابية. ما أحوجهم إلى دعوتهم إلى توحيد العبادة، ونحن نرى أن منهم -أعني من المسلمين- من يعبد غير الله تعالى بقلبه أو بأعماله، فيدعو فلاناً من الموتى ليكشف ضره أو يرجوه لنجاته يوم القيامة، أو يذبح له، أو ينذر لقبره أو يطوف به. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 19 القضية التي دعا من أجلها الأنبياء القضية الأساسية الكبرى والمحور الأعظم الذي يدور حوله جهاد الأنبياء، وتدور حوله دعوتهم، والمسألة التي دعوا إليها جميعاً وحاربوا من أجلها، وسالموا من أجلها، وأوذوا في سبيلها، واستغرقت عليهم دقائقهم وساعاتهم وأيامهم ولياليهم، وكانت ديدنهم ولهجهم؛ ليلاً ونهاراً سراً وجهاراً هي: قضية سهلة واضحة بعيدة عن التعقيد، بعيدة عن الغموض، بعيدة عن الإشكال، يفهمها الإنسان البسيط، يفهمها الأعرابي الراكض وراء غنمه في مجاهل الصحراء، كما يفهمها الفيلسوف في صومعته، كما يفهمها العالم في مختبره، يفهمها المتعلم والأمي على حدٍ سواء؛ لأنها قضية بُعثوا بها إلى الناس كلهم، لم يبعثوا للأذكياء فقط، ولا للمتعلمين فقط، بل بعثوا لكل الناس. ولذلك كانت القضية واضحة لا إشكال فيها، وهي: قضية عبادة الله تعالى وترك عبادة غيره، وهذا جزء من اليسر الذي وصف النبي صلى الله عليه وسلم به الدين: {إن هذا الدين يسر} كما في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة، فجزء من اليسر هو اليسر في العقيدة، فأنت تجد عقيدة الإسلام ليس فيها غموض ولا صعوبة ولا تعقيد ولا إشكال، ومن السهل جداً على أي إنسان أن تشرح له كلمة التوحيد في عشر دقائق فينطق بها وقد فهمها ووعاها. لكن حين تنتقل -مثلاً- إلى دين النصارى تجد أن في عقيدتهم من التعقيد ما يجعل كبار الأذكياء والعباقرة يحارون فيه، ويعجزون عن فهمه، فما بالك بالبسطاء، والسذج من الناس الذين، هم عن فهمه أعجز، بل هم يسلمون بما يقوله لهم القساوسة، ويقولون: اعصب عينيك واعتقد وأنت أعمى، أما في الإسلام فالأمر واضح ليس فيه إشكال ولا تعقيد. ولذلك القضية كلها اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، أو لا إله إلا الله، أي لا معبود بحقٍ إلا الله عز وجل، وهذا معناه توجه الإنسان بقلبه وبجوارحه كلها وبكل أعماله إلى الله تعالى، وخلع جميع الأوثان والأنداد التي يتأله الإنسان لها ويعبدها من دون الله أو مع الله، وليس بالضرورة أن تكون الآلهة أصناماً وأحجاراً وأشجاراً وطواطم فهذا كان موجوداً في زمن الجاهلية الساذجة المغفلة البسيطة، الذي كان الواحد منهم -كما قيل- يعبد التمرة فإذا جاع أكلها، وكما ذكر أبو رجاء العطاردي وهو من المخضرمين أنه في الجاهلية كان الأعراب يبحث أحدهم في الصحراء عن أربعة أحجار فيضع ثلاثة منها أثافي لقدره ينصب عليها القدر، أما الرابع فهو يضعه في القبلة يصلي إليه، وإذا لم يجد حجراً فإنه يأتي ويحثو حثوه من تراب ثم يحلب عليها الشاة ثم يعبدها. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 20 الانحراف عن أولويات الدعوة لقد كانت المعركة وكان الخلاف الجوهري بين الطرفين هو الخلاف بين التوحيد والشرك، الخلاف بين النص والهوى، الخلاف بين عبادة الله وعبادة الطاغوت، أفلا يتفطن لذلك أقوامٌ ممن يعنون بأمر الإسلام؟! أو هكذا يظن بهم، ألا يجددون حقيقة الدعوة والاتباع للأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟! فيخوضوا المعركة التي خاضها الأنبياء، التي خاضها أئمتهم من قبل، ولا يتشاغلوا بُبنَيّات الطريق عن هذه المعركة الكبرى، ويجعلون الهموم كلها هماً واحداً وهذا دأب المصلحين والمجددين على مدار التاريخ. ما هي المعركة التي خاضها ابن تيمية رحمه الله مع خصومه؟ بالدرجة الأولى كانت معركة التوحيد والوحدانية والدعوة إلى إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، ومحاربة كل صور وألوان الشرك سواءً أكان شركاً في العبادة، أم شركاً في الطاعة والاتباع إلى غير ذلك، وهكذا الإمام محمد بن عبد الوهاب وهو مجدد في هذه البلاد، وكثير من الناس لا يزالون يقتنون كتبه ويسمعونها ويقرؤونها بل ويحفظونها، لكنهم يغفلون أو يتغافلون، فما هي المعركة التي أثارها الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب؟ هل أثار معركة في خلافٍ فقهي؟ لا، هل أثار معركة في خلاف في قضية جانبية؟ لا، المعركة التي أثارها رحمه الله هي المعركة مع صور الشرك التي كانت تضرب في هذه البلاد، عبادة غير الله تعالى، فدعا الناس إلى إفراد الله تعالى بالعبادة، ولذلك لا تجد للشيخ محمد بن عبد الوهاب ولا لأتباعه وتلاميذه لا تجد لهم فقهاً مستقلاً، فقههم هو فقه الأئمة من قبلهم، يختارون ما يرون أنه أقرب للدليل، وليسوا كما قيل عنهم مذهب خامس؛ لا، بل مذهبهم هو مذهب من قبلهم من الأئمة والعلماء، إنما كانت المعركة التي خاضوها وحاربوا من أجلها وأوذوا من أجلها وصبروا هي معركة التوحيد مع الشرك. أما كثيرٌ من المنتسبين إلى العلم وإلى الدعوة فإنهم يثيرون معارك وهمية، ومعارك جانبية، وطواحين في الهواء مع من حولهم من الناس، معركة مع فلان؛ لأنه خالف في فرعية، ومعركة مع علان؛ لأنه خالفه في جزئية، ثم تتوالى الكتب وتتوالى الرسائل والأشرطة، ولا يوجد مانع أحياناً من المناظرات، فإذا لم تُجْدِ المناظرات فإننا نلجأ أحياناً إلى نوعٍ من المباهلة، كل ذلك في قضايا ليست بالتأكيد هي القضايا التي جاء الأنبياء ليقولوها للناس، وليست القضايا التي وضحها الأنبياء ودعو إليها، وليست هي القضايا التي بدأ القرآن وأعاد حولها، وليست هي القضايا التي دندن حولها المصلحون منذ فجر التأريخ إلى اليوم؛ لا؛ وإنما هي قضايا -في الغالب- فرعية، وقضايا تحتمل الخلاف، وقضايا ليس فيها هدىً وظلال، وإنما قد يكون فيها خطأ وصواب، وقد يكون الخطأ هنا أو هنا أو قد يكون جزءاً من الصواب هنا أو جزءاً من الصواب هناك والقضية نسبية. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 21 صعوبة هذا الطريق وهذا هو الطريق الصعب الطويل الشاق الذي اختاره الرسل عليهم الصلاة والسلام؛ ويجب أن يختاره أتباعهم مهما يكلفهم ذلك من جهدٍ ومشقة وعناء، ولو ظل الناس اليوم، وكل يوم، وإلى يوم الدين يتكلمون فقط عن جانبٍ واحد من جوانب لا إله إلا الله، ويحاربون لوناً من ألوان الشرك يتعلق بالأوضاع الشعبية فقط؛ لما تعرض لهم أحد، ولما وقف في وجوههم أحد، حتى الرسل عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا يدعون إلى جزءٍ واحد، وإنما قال بعضهم كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {إن هذا الدين لا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه} . إن كلمة لا إله إلا الله تقتضي تحرير الإنسان من الولاء لغير الله، وتحريره من الولاء للطاغوت، والولاء للمشركين، ولليهود، وللنصارى، والولاء للعلمانيين، وللمنافقين؛ بل ينبغي أن يكون ولاؤه للمؤمنين، وهذا أمر واضح. إذا كان في قلبك إيمان وحرارة، فأنت إذا سمعت أن هناك معركة في أي مكان في الدنيا، في الجزائر، أو في مصر، أو في الأردن أو في أي مكان، سواءً معركة عسكرية أم معركة سياسية أم معركة إعلامية بين الحق والباطل، فإنك لا تملك قلبك أصلاً إن كنت مؤمناً، لا تملك قلبك من الميل إلى صف المؤمنين، والفرح بانتصارهم، والدعاء لهم، والحزن لما يصيبهم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 22 علامة المؤمن والمنافق ولذلك كان من علامات المؤمن: الفرح بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم، والحزن لانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن علامات المنافقين: الفرح بانخفاض دين الرسول عليه الصلاة والسلام، والحزن لارتفاع دين الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنت تجد المنافق لا يملك نفسه فإذا رأى ما يسيء بالمؤمنين؛ فرح وسر ودندن وأعلن وتكلم وجاهر وبين ما في قلبه من النفاق والعياذ بالله؛ لأن ولاءه لغير المؤمنين، فقضية الولاء قضية جوهرية وقضية أساسية؛ حتى قال بعض أهل العلم: إنه لم يرد في القرآن الكريم من القضايا بعد توحيد الألوهية ولم يرد آيات بعد موضوع توحيد الألوهية مثل ما ورد في قضية الولاء والبراء. فأنت تحب المسلم الموحد وترجو له الانتصار، وتدعو له، وتتعاطف معه، وتتكلم بالدفاع عنه، وترى أن هذا دين تتعبد الله تعالى فيه، لا تفكر ما هي النتائج، ولا تفكر هل هو منصور أو مخذول، لأن المنافقين طريقتهم: إن رأوا الغلبة لهؤلاء أيدوهم وآزروهم، وإن رأوا الغلبة لهؤلاء أيدوهم وآزروهم، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141] فهم يلعبون على الحبلين -كما يقال- هنا وهنا. مثل ما يروى أن رجلاً قام خطيباً فكان أمامه مجموعة من أهل السنة ومجموعة من الشيعة فقالوا له: أيهما أفضل أبو بكر أم علي؟ وهذا رجل يريد أن يرضي كل الأطراف، فقال: الأفضل منهما من كانت ابنته تحته! كلمة غامضة كلٌ يفهمها على ما يريد فخرج أهل السنة فرحين مسرورين، يقولون: إن أبا بكر ابنته زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتحت الرسول صلى الله عليه وسلم، وخرج الشيعة كذلك فرحين مسرورين، يقولون: فضَّل علياً لأن ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم تحت علي رضي الله عنه وهي فاطمة. فأحياناً يقول المنافق كلاماً يرضي هؤلاء، ويقول كلاماً يرضي هؤلاء، فإن انتصر هؤلاء يقول: أنا كنت معكم، وإن انتصر هؤلاء يقول: ألم أكن معكم؟ إنك تجد أن أي قضية تحصل من قضايا الإسلام خاصة في أزمنة الضعف والاضطهاد يبين فيها رؤوس النفاق فيظاهرون المشركين ويظاهرون العلمانيين، ويؤيدونهم وينصرونهم ويستخدمون كل ما أعطاهم الله تعالى في نصرتهم عكس ما عليه الأنبياء: ماذا يقول الأنبياء؟! ماذا يقول موسى عليه السلام؟!: {قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ} [القصص:17] لاحظ قوله: لن أكون ظهيراً لهم، لا أنصرهم ولا أساعدهم. أما كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، وهم لا يحققون التوحيد حقيقةً، ولم تقم في نفوسهم معالم البراءة من المشركين والعلمانيين، بل قام في نفوسهم والعياذ بالله النفاق الأكبر الاعتقادي المخرج من الدين، والذي جعلهم يتعاطفون مع المشركين في كل مكان، وينصرونهم على المؤمنين ويفرحون بارتفاع كلمتهم، تجد أنهم قالوا -بلسان حالهم- بما أنعمت عليَّ فسوف أكون ظهيراً للمجرمين وأنصرهم، وأستخدم ما أعطيتني في تأييدهم ومظاهرتهم على المسلمين. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 23 حقيقة الدعوة إلى دين الله ونحن نخاطب الجماهير التي تثق بكلمتنا، وتصدق ما نقول وهي بحمد الله تعالى كثيرة؛ فنقول لهم: إننا -والله-وكذلك سائر دعاة الإسلام المخلصين وبحمد الله تعالى وهم كثير في أرض الإسلام لا يسعون لجلب مصالح شخصية لأنفسهم قط، ولو أرادوا ذلك لعرفوا طريقه، ولكنهم اختاروا الطريق الصعب، الطريق الذي فيه السخرية والتعتيم الإعلامي، وفيه تحطيم المواهب، ومناصبة العداء، وفيه اتهام طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} [الأنعام:34] كذبوا وأوذوا وسجنوا وقتلوا، قال الله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران:146] وفي قراءة (وكأيِّن مِنْ نَبٍّي قُتِلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) فالأنبياء قتل منهم من قتل، وبنو إسرائيل كانوا يقتلون الأنبياء بغير حق، وجرح منهم من جرح، بل سيدهم صلى الله عليه وسلم جرح في أحد، وكسرت رباعيته، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {كيف يفلح قومٌ شجوا نبيهم} هذا هو الطريق الصعب. فالأنبياء منعوا من الخروج من بلادهم، وحوصروا، وكان أعظم هدفٍ لهم هو النصر أو الشهادة، حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمنى أن يستشهد في سبيل الله: {وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل} وقال عليه الصلاة والسلام: {والله لوددت أني غدوت مع أصحابي بحصن الجبل} قال ذلك في إحدى المعارك والحديث في مسند أحمد وغيره وسنده صحيح، فلم يكونوا يطمعون في دنيا، ولم يطمحوا إلى منصب، بل كانوا أزهد الناس في المناصب. ويعلم الله تعالى أن دعاة الإسلام الصادقين -وهذا ما أعرفه عن نفسي وعنهم- أنهم من أزهد الناس فيما يتنافس فيه أهل الدنيا، وفيما تشرئب إليه أعناق الكثيرين ممن يتهمون الدعاة، وكما قال أحد الدعاة المهتدين: (والله لأن أكون موزع بريد في دولة تحكم بالإسلام، خيرٌ وأحب إليَّ من أن أكون حاكماً أو وزيراً في أرض لا تحكم بشريعة الله تعالى) . ولكننا نتدين ونتعبد بأننا نعتبر أن السياسة جزءاً من الدين، وأن اعتقاد انفصال السياسة عن الدين كفرٌ وردة عن شريعة الله تعالى، وأن من مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام التي بعثوا بها: إصلاح الفساد السياسي واستدراكه، والله تعالى يقول {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] الكافرون، الظالمون، ويقول الله سبحانه: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء:12] ويقول: {وَنزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89] ويقول {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] في كل شئون الحياة، في الاقتصاد، والسياسة، والاجتماع، والإعلام، والإدارة، وفي كل أمرٍ من أمور الحياة. وفي الفترة المكية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم الآيات القرآنية التي تنعي على المشركين تحكيمهم شريعة غير شريعة ربهم، وتعتبر هذا أحد ألوان الشرك التي وقعوا فيها، والتي جاء الرسول لإخراجهم منها، وهذا جزء من معنى لا إله إلا الله، قال الله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] وكل مسألة في الدنيا لله ولرسوله فيها حكم، وللطاغوت فيها رأيٌ، -كما سبق من قبل- فهذا دين الله وهذا دين الطاغوت، فلا بد من مقارعة رأي الطاغوت الذي يعرض في كثير من الأحيان بترويج إعلاميّ مذهل، وبأساليب متفننة، وبطرائق ماكرة خبيثة، استخدمت أرقى ما توصل إليه الفكر البشري من التقنية، ومعرفة بطبائع النفوس ومداخلها ومنحنياتها ومنعطفاتها، فلا بد من مواجهة هذا الترويج الإعلامي ببيان حكم الشرع الواضح البين الذي ترتاح إليه النفوس وتبرأ به الذمم. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 24 مقتضيات كلمة لا إله إلا الله فلا إله إلا الله: تقتضي أن لا يتوجه الإنسان بصلاته وزكاته ونسكه لغير الله تعالى، فمن قال لا إله إلا الله ثم دعا نبياً أو ولياً فقد نقض لا إله إلا الله: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163] . ولا إله إلا الله: تقتضي صياغة النظام الاقتصادي حسبما يريد الله تعالى، بعيداً عن أنظمة الشرق الشيوعية وبعيداً عن أنظمة الغرب الربوية الرأسمالية، وإذا كانت أنظمة الشرق الشيوعية قد تهاوت وانهارت وانتهت، فإن أنظمة الغرب الربوية الرأسمالية لا تزال قائمة تضرب بجرانها في بلاد العالم كلها، ولا يزال الواقع يوحي بأن هناك مزيداً من الانغماس في النظام الربوي الغربي المخالف لشريعة الله عز وجل، فلا إله إلا الله تقتضي البعد عن أنظمة الشرق الشيوعية، كما تقتضي البعد عن أنظمة الغرب الرأسمالية. وتقتضي البعد أيضاً عن الفساد المالي الذي ينخر في بلاد المسلمين، وشعيب عليه السلام دعا الناس إلى التوحيد وفي الوقت نفسه كان يقول لهم: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84] فلا يعني أننا سوف نتوقف عن معالجة أمور الواقع حتى ننتهي من تأسيس التوحيد، بل نحن ندعو الناس إلى التوحيد وفي الوقت نفسه نقول لهم: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84] . ولا إله إلا الله: تقتضي أن لا تؤخذ الأحكام والتشريعات والنظم والقوانين من غير الكتاب والسنة. إذ أن هناك في الحياة منهاجان: دين الله، ودين الملك، دين الله: هو عبادة الله وحده، ولهذا قال الله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف:76] دين الله عز وجل واضح وكلمة: لا إله إلا الله؛ تقتضي إفراد الله تعالى بالعبادة، ومن ذلك أنه لا يملك أن يقال: هذا حلال وهذا حرام، وهذا حق وهذا باطل، وهذا صواب وهذا خطأ، وهذا صحيح، وهذا فاسد إلا الله عز وجل. ولذلك فإن الحكم بما أنزل الله هو جزء لا يتجزأ من كلمة لا إله إلا الله، والحكم بغير شريعة الله تعالى هو نقض لهذه الكلمة وهو شرك بالله تعالى؛ لأن الذي حكم بغير شريعة الله رضي أن يكون هذا المشرع أو المقنن إلهاً تؤخذ منه الأحكام والتشريعات، فهو الذي يضع الحدود، وهو الذي يحلل الحلال، وهو الذي يحرم الحرام، والله سبحانه وتعالى يقول: {مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] وفي قراءة سبعيه {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} [الكهف:26] أي: لا تشرك مع الله تعالى أحداً في الحكم، وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] . فلا يملك أحد حتى العالم الكبير الفحل حين يقول: هذا حلال وهذا حرام؛ إنما هو معبر عن حكم الله ورسوله وترجمان عن الكتاب والسنة، لا يأتي بشيءٍ من قبل نفسه، فمن دونه من باب أولى: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء:29] كما قال الله عز وجل عن الملائكة، فلا يملك أحد أن يحلل أو يحرم أو يشرع إلا الله تعالى، ومن ادعى ذلك فقد نازع الله تعالى وحارب الله في حكمه وأمره واتخذ نفسه رباً من دون الله، ومن أطاعه في تشريع أو تحليل أو تحريم أو تقنين فقد اتخذه إلهاً من دون الله عز وجل. والذين يعتبرون الدعوة إلى تحكيم شريعة الله نوعاً من تسييس الدين، أي: جعل الدين مطية -كما يعبرون في صحفهم وإعلامهم الفاسد اليوم- لأغراض سياسية، ويجعلون الداعين إلى ذلك داعين إلى مطامع ومآرب وأغراض ومقاصد ذاتية، هؤلاء الناس إنما يرددون ما يقوله أعداء الرسل عليهم الصلاة والسلام من قبل في حق الرسل عليهم الصلاة والسلام كما أسلفت. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 25 ضرورة العودة إلى إحياء قضية وحدانية الله ينبغي أن نعود إلى إحياء قضية الوحدانية والتوحيد -توحيد العبادة- ودعوة الناس إليه، وتربيتهم عليه، وأن يكون هذا هو محور حديثنا، وأن تكون هذه هي المعركة التي نملك الاستعداد لأن نثيرها في كل زمان ومكان، وأتساءل أيها الأحبة: كم محاضرة، وكم من كتاب، وكم من مقالة، وكم من مجلس، وكم من شريط نملكه في قضية توحيد الألوهية؟! ولا تستكثر على مثل هذه القضية، وتقول: قضية -كما ذكرت آنفاً- واضحة لا داعي للإطالة حولها؛ لا، إن كلمة لا إله إلا الله لم تكن مجرد شعار يرفع أو كلمة تقال باللسان، وإلا لتسارع إليها المشركون، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {كلمة تدين لكم بها العرب وتملكون بها العجم، قالوا: نعم وأبيك وألف كلمة} كلمة أمرها سهل، ولكن الأمر أبعد من ذلك، كلمة لا إله إلا الله هي يسيرة، اللام والألف والهاء كل إنسان يستطيع أن ينطق بها العربي والعجمي والطفل الصغير، بل الإنسان الألثغ يستطيع أن يقول لا إله إلا الله بيسر وسهولة. فليست المشكلة هي أن ينطق الناس بهذه الكلمة فحسب؛ لا، قضية لا إله إلا الله والمعركة التي نتحدث عنها هي معركة صياغة الحياة كلها وفق شريعة الله ونظامه. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 26 المعركة بين الشعارات والحقائق وعموماً فكلمة لا إله إلا الله ليست مجرد كلمة ولكنها صياغة كاملة للحياة: حياة الفرد والجماعة من الميلاد والوجود إلى العدم والوفاة، وليست مجرد شعار يرفع سواء أكان مكتوباً أو مقروءاً، ولكنها حقيقة، والذين يهاجمون المسلمين اليوم ويهاجمون دعاة الإسلام بحجة أنهم يرفعون الشعارات، يعلمون جيداً أن الذين يرفعون الشعارات هم أولئك الحكام الذين وعدوا شعوبهم بجنان الدنيا، ووعدوا شعوبهم بالرفاهية، وبالوحدة، وبالنصر على الأعداء، ثم تبخرت هذه الوعود. صارت مواعيد عرقوب لهم مثلاً وما مواعيدها إلا الأباطيل وحينئذٍ عرفت الشعوب من هم الذين يحملون الحقيقة، ومن هم الذين يتبنون قضاياها، ومن هم الذين يدعون إلى الحق والذين يجب أن يتبعوا، فأقبلت عليهم وانجفلت إليهم، كما حدث في مصر والجزائر وتونس والأردن وجميع بلاد الإسلام بدون استثناء، وحينئذٍ سقطت الشعارات الوهمية. أين الشعارات؟! أين المالئون بها الدنيا فَكَمْ زوَّروا بها التاريخ والكتبا فلا خيول بني حمدان راقصةٌ زهواً ولا المتنبي مالئ حلباً وقبر خالد في حمص تلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رُبَّ حي رخام القبر مسكنه ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا يا بن الوليد ألا سيف تؤجره فإن أسيافهم قد أصبحت خشبا فلا إله إلا الله ليست مغانم شخصية، ولا مطامع يسعى إلى تحصيلها الدعاة، بل هي ما ضحى الدعاة من أجله، فارقوا حياتهم وقبلوا الحياة في غياهب السجون؛ حرصاً على تحقيقها، ومن قبل لم يكن أحد من رسل الله يدعو لنفسه، قال الله عز وجل: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:80] . لم يقم نبيٌ من الأنبياء قط يدعو الناس إلى أن يعبدوه ويجعلوه رباً من دون الله، كلا، ولا يأمرهم أن يتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً من دون الله، بل هو يأمرهم ويربيهم ويعلمهم طاعة الله تعالى وعبادته ونبذ ما سواه، يربي قلوبهم على أن النفع والضر والمنع والعطاء لا يملكه إلا الله، وأن الآجال بيد الله، وأن الإنسان لا يملك لأخيه الإنسان نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، وأن كلمة الحق لا تباعد الرزق، ولا تقرب الأجل، وأن الله تعالى هو وحده الخافض الرافع القابض الباسط الضار النافع؛ الذي مقاليد الأمور جميعها بيده. فتمتلئ قلوبهم حباً لله، ورغبة فيما عنده، وشوقاً إليه، وخوفاً منه، ورجاءً فيه، وحينئذٍ يخرج من القلب حب المخلوقين، وتعظيم المخلوقين، والخوف من المخلوقين، فتجد أن الإنسان في قلبه جلال الله تعالى وعظمته وهيبته، فيتكلم في الحق ولا يبالي، ويقول الحق ولا يبالي، ولا يخاف في الله لومة لائم، ويصدع بما يؤمر ويعرض عن المشركين، وينصر الإسلام والمسلمين في كل مكان، ويدعو إلى الله في كل مكان، ويصبر ولا يقيم لهذه الدنيا وزناً، وإن كان يستمتع بها فيما أحل الله له، فهي كالمطية يستخدمها ولا يخدمها، يركبها إلى ما يكون فيه مرضاة الله تعالى والنجاة في الدار الآخرة. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 27 ميدان المعركة أيها الأحبة وإذا كان موضوع المعركة بين الحق والباطل هو توحيد الألوهية؛ فإن ميدان المعركة -كما رأيتم وعلمتم- هو الحياة كلها بمجملها وتفاصيلها التي تتنازعها طائفتان: عباد الله، وعباد الطاغوت، ولا شك أن عباد الطاغوت يعملون على تجهيل الشعوب دائماً وأبداً بحقيقة التوحيد، وأن التوحيد يشمل فقط جانباً من جوانب الحياة، وذلك ليسهل لهم خداع الناس وتضليلهم بالخطب، بحيث إذا ادعى إنسان -مجرد دعوة- أنه يحكم بالشرع، وأنه يدعو إلى الدين وأنه وأنه صدقه الناس لأنهم لا يعرفون حقيقة التوحيد، وأنه شاملٌ لجميع مجالات الحياة، ليقولوا له: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] كيف تنقض بفعلك في كل لحظة وكل ساعة ما تقوله بلسانك؟! وأيضاً ليتمكنوا من تشكيك الأمة بالدعاة إلى الله عز وجل، وأنهم لا يقصدون الدعوة إلى الدين، وإنما يقصدون الدعوة إلى مطامع أو أغراضٍ شخصية. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 28 آلة الحرب ووسائلها إن آلة هذه الحرب -بين الشرك والتوحيد- هي كل وسيلة يمكن استخدامها، فعباد الطاغوت لا يتورعون عن استخدام كل الوسائل، بما في ذلك الكذب والتهريج والتضليل والخداع والتلصص والتجسس وإلى غير ذلك، وإذا كانت الغاية عندهم فاسدة، وهي الشرك والعبودية لغير الله، وتعبيد الناس لغير الله! فالوسيلة عندهم فاسدة أيضاً، وهم لا يتورعون عن استخدام كل وسيلة تقع في أيديهم، بل يتعدى الأمر عندهم إلى استخدام البطش والتنكيل والسجن والتشريد والقتل. وسترى أن الدول التي تتكلم عن حقوق الإنسان، لا تقيم وزناً للإنسان المسلم بحالٍ من الأحوال بل تستخدم ضده حتى أسلحة الدمار الشامل، وفعلاً استخدمت ضده أسلحة الدمار الشامل، أليس الإفقار مما استخدموه ضد الإنسان المسلم؟ بلى، وقد حاولوا إفقار المسلم حتى ينشغل بلقمة العيش وما زال الأمر كذلك، والمسلمون يموتون جوعاً في أماكن كثيرة من بلاد الدنيا، والله الذي لا إله غيره إن الطفل يتضور جوعاً ثم يموت وأنت تراه بعينك. واستخدموا سلاح التجهيل، تجهيل المسلمين بحيث يصيرون جهالاً بدينهم، فلا يعملون به ولا يدعون إليه، ولا يصبرون في سبيله، ولا يتبعون دعاته، وكذلك تجهيل المسلمين بدنياهم، فأصبح المسلمون لا يحسنون ديناً ولا دنيا؛ ليظلوا عيالاً على أعداء الإسلام. ومن أسلحة الدمار الشامل إغراق المسلمين في المرض والبؤس والفناء لتصفيتهم جسدياً والقضاء عليهم. أما الإنسان الذي يجب أن ترعى حقوقه وتحفظ كرامته فهو فقط الإنسان الأبيض، الإنسان الأوربي، أما الإنسان المسلم فلا قيمة له عندهم. إن هناك معارك كثيرة يخوضها الدعاة إلى الله تعالى مع الباطل في كل مجالات الحياة، ولكن هناك المعركة الكبرى: وهي المعركة بين الإيمان والكفر، المعركة بين الشرك والتوحيد، وإذا جاز لنا أن نستخدم مصطلحات اللاعبين فإننا نقول: إن المعركة بين التوحيد والشرك وبين الإيمان والكفر هي أم المعارك. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 29 حقيقة دعوة أتباع الرسل ودعاة الرسل عليهم الصلاة والسلام كانوا على الجادة، ودعاة الإسلام كانوا على الجادة نفسها، لا يدعون الناس إلى مذهب من المذاهب الفقهية -مثلاً- ولا يدعون الناس إلى جماعة من الجماعات العاملة للإسلام، ولا يفرضون على الناس اجتهاداً في مسألة من المسائل التي هي قابلة للأخذ والرد؛ ولا يدعون إلى شخصٍ مهما كان قدره ومنزلته وجلالته اللهم إلا شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الأئمة وسيد المتبوعين، ونحن ندعو الناس إلى الاقتداء به ومتابعته ظاهراً وباطناً، فإن رآنا الناس - معاشر دعاة الإسلام -يوماً من الأيام ندعو إلى سوى ذلك- أي: إلى العبودية لغير الله تعالى في مجال من مجالات الحياة، أو ندعو إلى اتباع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالٍ من مجالات الحياة فليردوا علينا جميعاً دعوتنا وليضربوا بها في وجوهنا. إن الدعوة هي إلى كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، هما توحيدان: توحيد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، والطاعة، وتوحيد النبي صلى الله عليه وسلم بالاتباع له فيما جاء به عن ربه تعالى. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 30 الأسئلة الجزء: 211 ¦ الصفحة: 31 حكم من يفرح لهزيمة المؤمنين السؤال ألا يُخشى على عقيدة من يتمنى ويحب أن ينتصر العلمانيون في الجزائر أو غيرها على إخواننا المسلمين هناك؟ الجواب بلى، هذا مظهر من مظاهر النفاق ولا شك في ذلك، وإلا ما معنى أنك تجد أناساً يرفعون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم -وهذا شيءٍ نعرفه منهم، حتى أنهم في غالبيتهم على معتقدٍ صحيح، وسلفيون وأصحاب أصالة كبيرة، واتجاه سليم- ومع ذلك تجد ممن ينتسب إلى الدين من يحاربهم، ويتمنى القضاء عليهم، وفي مقابلهم يؤيد علمانيين والعياذ بالله يحكمون بالكفر والطاغوت، كيف يجمع هذا مع عقيدة لا إله إلا الله في قلبٍ واحد؟! وقد تكلمت قبل قليل عن قضية الولاء والبراء. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 32 حكمة تعدد الرسل السؤال يقول أرجو الإفادة عن الحكمة من تعدد الرسل، وهل منها زوال شريعة الله أو زوال بعضها أو عدم العمل بها، أو عدم بلوغها لمكان أو جماعة؟ الجواب أما تعدد الرسل عليهم الصلاة والسلام فإن ذلك لإقامة الحجة على الناس، فكان في بني إسرائيل أنبياء كثيرون؛ ربما وُجِدَ في القرية أو في البلد أو في الأمة أو في الجماعة منهم نبيٌ، ولذلك كانوا كثيرين لكثرة انحراف بني إسرائيل، وكثرة حاجتهم إلى الإصلاح والمتابعة، وكذلك إذا درست شريعة نبي وصار الناس في ضلال؛ فإن الله تعالى يبعث نبياً آخر ورسولاً من بعده يجدد شريعته، أو يدعو الناس إلى الدين. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 33 تعدد جراحات المسلمين السؤال لا يخفى عليكم ما يجري في العالم الإسلامي، بل في العالم كله من اضطهاد للمسلمين، وإني لأعجب من بعض الدعاة حيث يركزون على منطقة دون أخرى، وإن كان الواجب تقديم الأهم فالأهم، لكن أن ننسى أغلبها فليس من العدل، فلو نظرنا للواقع فلا نسمع إلا عن فلسطين وأفغانستان والجزائر وأما غيرها من المناطق الإسلامية، فلا نسمع الحديث عنها، وأقصد مثلاً: كشمير والفلبين والصومال والسودان واليمن وليبيا وسوريا وتونس والولايات السوفيتية. وغيرها كثير، وإنني أعجب أن أسمع أن إيران هي التي تدافع عن المناطق الإسلامية؛ وإن كنت أثق أن دفاع إيران هو دفاعٌ إعلاميٌ فقط وإلا فهي حربٌ على أهل السنة، ولكن من يدرك هذا؟! أرجو منكم ومن العلماء توضيح هذا الأمر، ثم ما هي عقيدة أهل أذربيجان؟ الجواب أذربيجان -على ما أعلم- فيها أكثرية شيعية، أما الولايات الأخرى فالأكثرية فيها منسوبون إلى أهل السنة وإن كانت قد أثرت فيهم الأسلحة التي ذكرتها من قبل، وهي: الإفقار والتجهيل، فصار كثير منهم جاهلاً بدين الله لكنهم على استعداد أن يتعلموا. أما قضية عدد من البلاد فماذا تركت يا أخي بارك الله فيك! في بلاد الأفغان جرحٌ عميق نازفٌ يستجيش كل ضمير وعلى أرض مصر مليون جرحٍ وبكل الدنا نِدَاء مستجير ففي كل وادٍ بنو سعد، والجراحات كثيرة، ونحن نتمنى أن تكثر الأصوات التي تدافع عن المسلمين والتي تدعو إلى الإسلام، وأن لا يظل المسلمون مجرد متفرجين أو مجرد مستمعين يستعذبون حديث هذا، ويستطيبون حديث ذاك، أين أنت أيها الأخ السائل وأمثالك ممن يحسون بآلام المسلمين؟! نريد منابر كثيرة تتأبى على الحصر والعد، ولا يسهل القضاء عليها، نريد منابر لا تتوقف أبداً، تدافع عن قضايا المسلمين في كل مكان، والفرص بحمد لله كثيرة ومن يريد أن يقول كلمة الحق يجد ألف وسيلة ووسيلة لقول هذه الكلمة، أما الصوت الواحد أو الأصوات المحدودة فإنها ستظل محدودة، ولن تستطيع أن تغطي إلا رقعةً محدودة من الزمان، ورقعة محدودة من المكان. الجزء: 211 ¦ الصفحة: 34 واجب الأمة تجاه علمائها هذا الدرس فيه بيان لواجب الأمة تجاه علمائها، بالالتفاف حولهم، والرجوع إليهم وسؤالهم فيما يتعلق بالشرع، والوقوف إلى جانبهم، وتوقيرهم وتبجيلهم من غير إفراط ولا تفريط، ولا غلو ولا تقصير. كما أنه يحتوي على مواصفات العلماء الذين يستحقون ذلك. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 1 الصحوة الإسلامية ولاءٌ حقيقي للإسلام إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم على عبدك ونبيك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد: أيها الإخوة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي الكرام! إن حفاوتكم وحسن استقبالكم وحرصكم على الخير مما يشجع الإنسان على تكرار الحضور والمشاركة في مثل هذه الأمسيات الطيبة والمحاضرات، وإن كان ما يقدمه الإنسان هو جهد المقل، ولكن من باب المشاركة وعرض الإنسان ما لديه من آراء على أنظار إخوانه وأصحابه وأحبابه، ولذلك فإنني أقول: إن مثل هذه الجموع الطيبة، التي تحيي هذه المحاضرات، وتقبل عليها، هو السر في اختياري لموضوع هذه المحاضرة (واجب الأمة تجاه علمائها) . الجزء: 212 ¦ الصفحة: 2 الصحوة وطلب العلم الشرعي إننا نشهد اليوم نهضة إسلامية عامة وخاصة؛ عامة على كافة المستويات، وخاصة على مستوى الشباب، ومن في حكمهم، وهذه النهضة ليست مجرد حب للإسلام، أو إقبال على العبادات والشعائر، كلا، بل هي صحوة إسلامية تهدف إلى معرفة حكم الله ورسوله في الدقائق والتفاصيل. في وقت مضى كان هناك ناس يقبلون على الإسلام، لكن غالبهم ليس لديهم إلا مجرد العواطف، والولاء الغامض للإسلام، أما اليوم فأنت أصبحت تجد الشاب المقبل على الإسلام لا يكتفي بمجرد الحب لهذا الدين، والولاء له، وإقامة شعائر الإسلام، بل إنه حريص على تلقي العلم الشرعي الذي ينير له الطريق، ويجعله خبيراً بتفاصيل الأمور، ولذلك تجد الشاب حريصاً على معرفة كل دقيق وجديد، مما يتعلق بأمر دينه، كيف يصلي؟ كيف يذكر الله؟ كيف يسبح؟ كيف يصوم؟ كيف يحج؟ كيف يدعو؟ وهذه لا شك بشارة أن هذه الصحوة الإسلامية صحوة مبنية على العلم والتعلم، وعلى الدليل من الكتاب والسنة، وليست مجرد ولاء غامض لهذا الدين. لقد أصبح الشاب من يوم أن يتوجه يحرص على معرفة الفقه في الدين، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية في الصحيح: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين} فإننا نرجو أن يكون الله عز وجل أراد بهؤلاء الشباب المؤمنين في كل مكان أراد بهم خيراً، حين فتح قلوبهم على التوجه إلى الفقه في الدين، والازدياد من الهدى، وأن ينهلوا من ينابيع الكتاب والسنة، وأصبح الشاب لا يكتفي مثلما كان الأمر بالأمس القريب، بمجرد أن يسأل الشيخ، ما حكم كذا؟ فيقول له: حلال أو حرام، ثم يذهب الشاب فيطبق، لا، أصبح الشاب حريصاً على أن يعرف الحكم، ويعرف دليله، ويعرف القول الراجح في كل مسألة، ويعرف الصحيح من غيره، وهذه كما ذكرت نعمة كبيرة، ولذلك شهد الإقبال على العلم الشرعي ما لا عهد له به من توجه هؤلاء الشباب. أَمَا إنني لا أقول: طلاب كليات الشريعة وأصول الدين، والدراسات الإسلامية في جامعاتنا وغيرها، كلا؛ بل وحتى طلاب الكليات الأخرى، من طب، أو هندسة، أو علوم، أو غيرها، تجد الواحد منهم حريصاً على معرفة أحكام دينه بأدلتها، حريصاً على معرفة كيف يصلي، وكيف يركع، وكيف يسجد، وكيف يسلم، لأن هذه أمور ليس مبناها على التقليد، ولا مبناها على العادة، إنما مبناها على حديث: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وحديث: {خذوا عني مناسككم} أمور مبناها على التوقيف، والنقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. بل وليس فقط طلاب الجامعات، تجد الطالب في المستوى الثانوي بعد أن يهديه الله عز وجل للإسلام والخير تجده يحرص على معرفة تفاصيل هذه الأحكام. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 3 واجبنا نحو علماء الأمة الجزء: 212 ¦ الصفحة: 4 التعظيم عند الأمم المنسوبة للإسلام وهكذا نجد في العصر الحاضر أن الأمم الوثنية ومن ظاهاها من الأمم المنسوبة للإسلام، إذا أردوا أن يعبروا عن تعظيمهم لشخص، علقوا صورته، أو نصبوا تمثاله، وفي كثير من البلاد الإسلامية، تمشي حتى في الشوارع العامة، تجد حتى في الأرصفة تماثيل هؤلاء، وكذلك في الساحات العامة، فإذا أخبرك الناس قالوا: هذا تمثال فلان وهذا تمثال فلان، هذا زعيم، وهذا رئيس، وهذا عالم، وهذا مفكر، وهذا كذا، فيعبرون عن تعظيمهم لهم بنصب التماثيل لهم، وهذا كما أسلفت مظهر من مظاهر الوثنية، التي جاء الإسلام بمحقها، والقضاء عليها، ومحاربتها. قد يعبرون بصور أخرى، مثل أن يطلقوا اسم العالم على ساحة، أو مؤسسة، أو شارع، أو مدرسة، أو غيرها، أو يذكرونه في أجهزة إعلامهم، أو في أناشيدهم الوطنية كما يسمونها، إلى غير ذلك، هذا شأن كثير من الأمم غير المسلمة. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 5 الأمة الإسلامية بريئة من كل صور الوثنية أما الأمة الإسلامية فإن لها قاعدة، وهي أن كل خير موجود عند الأمم الأخرى فعند الأمة الإسلامية أحسنه، وأفضله، وأزكاه، وكل شر موجود عند الأمم الأخرى فإن الأمة الإسلامية قد سلمت منه بإذن الله إلا ما شذ وندر. فمثلاً حين ننظر إلى بناء القبور وتعليق الصور والتماثيل، وما أشبه ذلك من التعبيرات المحرمة، أو الشركية، نجد أن الله عز وجل قد وقى المسلمين شر مثل هذه اللوثات الوثنية، وحين كان يوجد مثل هذا الأمر من بعض الجهال والدهماء، كان يلاقى بالإنكار من العلماء، والرد على فاعليه، وسخطه، وبيان أنه لا يرضي الله ورسوله. ولذلك لا يزال يوجد في الأمة الإسلامية، من يوم وجدت فيها هذه المظاهر إلى اليوم، لا زال يوجد فيها صوت غالب مهيمن مسيطر يقول للناس: إن بناء المساجد على القبور، أو دفن الأموات في المساجد، أو تعليق صور العظماء، أو وضع التماثيل لهم، إنه أمر محرم بإجماع الأمة، وأنه شرك في غالب الأحيان، وذريعة إلى الشرك أحياناً أخرى. فهذه الصور المنبوذة المكروهة وقى الله الأمة الإسلامية شر إقرارها أو قبولها، إلا في حالات مهما كثرت يقيض الله عز وجل من يرفضها ويأباها. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 6 تبجيل العلماء عند الوثنيين أيها الإخوة! وكل أمة من الأمم تتخذ لها قيادات علمية وفكرية، تعظمها وتبجلها وتقدرها، بحسب الأسلوب الذي يتناسب معها، فمن هذه الأمم -أعني الأمم كافة- من تسلك في سبيل تبجيل وتعظيم علمائها أن تبني على قبورهم المساجد، تعبيراً عن تعظيمها لهذا العالم، كما فعلت الأمم الكتابية الضالة، اليهود والنصارى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجداً} فهؤلاء القوم الضالون، والمغضوب عليهم، تعبيراً عن تعظيمهم لعلمائهم كانوا إذا مات العالم أو النبي بنوا على قبره مسجداً، كما قال القوم أيضاً عن أصحاب الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً} [الكهف:21] بناء المسجد على القبر، أو دفن الميت في المسجد، هذا تعبير وثني مخالف لعقيدة التوحيد. لكن هذا شأن الأمم الوثنية، من اليهود والنصارى وغيرهم، كذلك قد يعبرون عن تعظيمهم لعلمائهم بتصويرهم، وتعليق صورهم في أماكن العبادات، وهذا أيضاً وقع فيه أهل الكتاب، ولذلك لما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ذكرتا له كنيسة رأينها بالحبشة، وأن فيها صوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: {أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله} وكان أول من وقع في هذا المنزلق الوثني هم قوم نوح كما في صحيح البخاري عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح:23] [[إنها أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما ماتوا أوحى الشيطان إلى من بعدهم أن صوروا هؤلاء القوم، وانصبوا لهم هذه الصور ففعلوا، ولم تعبد، فلما مات أولئك القوم، وجاء من بعدهم ونسي العلم عبدت]] ، فتصوير هؤلاء هو أيضاً مظهر من مظاهر احتفال الأمم الوثنية بعظمائها. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 7 من هم علماء الأمة إخوتي الكرام! وحين أقول: واجب الأمة تجاه علمائها، فإننا نعني بطبيعة الحال، وبالدرجة الأولى علماء الشريعة، المبلغون للأمة حكم الله ورسوله، في دقيق الأمور وكبيرها، لأن الأمة من يوم أن رضيت بالإسلام ديناً، قد عقدت العزم على أن هؤلاء العلماء هم الوسيلة إلى معرفة حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والمقصود أيضاً بهؤلاء العلماء؛ علماء الكتاب والسنة، العلماء العاملون، فإن مفهوم العلم عند سلف هذه الأمة وأئمتها، كان يعني العلم الصحيح، المبني على الدليل الشرعي من الكتاب والسنة، والذي يورث صاحبه الخشية في قلبه، وفي جوارحه، والعمل بما علم. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 8 الوسائل الصحيحة للتعبير عن احترام العلماء أما الوسائل الصحيحة للتعبير عن احترام العلماء، وتقديرهم، وتبجيلهم، فكما ذكرت للأمة الإسلامية من ذلك أوفره وأطيبه وأزكاه، ومع ذلك فإن للمسلمين تميزاً في هذا الجانب، أستطيع أن أشير إلى جانب منه في النقاط التالية: الجزء: 212 ¦ الصفحة: 9 التقدير للعلم والدين لا للأشخاص الجانب الآخر من جوانب التميز، أن الأمة الإسلامية حين تقدر علماءها لا تقدرهم لأشخاصهم، وإنما تقدرهم لهذا العلم والدين والهدي الذي حملوه، ولذلك فإن الولاء الحقيقي عند المسلمين ليس للشخص، بل للعلم الذي يحمله، والدين الذي يبلغه، والهدى الذي ينشره، ولذلك تجد أن المسلمين حين يقع من عالم -كائناً من كان- خطأ ويقول جماهير العلماء من حوله أنه أخطأ، فإن هذه الأمة لا تتمسك بهذا الخطأ لأن فلان قاله، بل تعرف أن تقول لهذا العالم: إنك هاهنا أخطأت، وخطؤك هذا لا ينزل قدرك عندنا، ولا يحط مرتبتك، فإنه ليس في ميزاننا نحن المسلمين إما (100%) أو صفر، عندنا الولاء للحق، فنحن نعرف الرجال بالحق، ولا نعرف الحق بالرجال، وحين يقع خطأ معروف مشهور من عالم مهما كان قدره، وتقول العلماء كافة: فلان أخطأ، يقول خلفهم المسلمون: فلان أخطأ، وهذا الخطأ عثرة ينهض منها، ولا يحط من قدره، ولا يوجب أن يسقط مكانه ومنزلته عند الأمة، كما أنه لا يوجب أن يتابع في خطئه الذي وقع فيه، ولا زالت الأمة تسمع أنه ينبه على خطأ الرجال، فيقال: فلان أخطأ في هذه المسألة، وفلان أخطأ في هذه المسألة، وهذا لا يضر: ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاًُ أن تعد معايبه ولذلك أيضاً كان الإمام مالك يقول: لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم ويقول آخر: لو أنك تتبعت شذوذات العلماء لاجتمع فيك الشر كله، ومن قبل كان عمر بن الخطاب يقول: كما في حديث عمران بن حدير: {أتدري ما يهدم الإسلام؟ قال: لا، قال: يهدم الإسلام ثلاث: زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين} فكان السلف يحذرون من زلة العالم، يحذرون من التحذير المعتدل، الذي يحتاج إلى أن يفقهه الخلف من بعدهم، فيدرك أن الأمة الإسلامية ضمن ولائها وتقديرها للعلماء إنما تواليهم للعلم الذي يحملوه، فإذا أخطأ الواحد منهم لم تجد نفسها محتاجة إلى أن تتابعه في الخطأ، كما أنها ليست محتاجة إلى أن ترفضه لأنه أخطأ، إن الذي لا يخطئ هو النبي عليه الصلاة والسلام، أما من عداه فإنهم يخطئون، ونحن نعرف أننا لو رفضنا كل إنسان لأنه أخطأ خطأ أو عشرة أو مائة، لوجدنا أننا بلا قيادات وبلا زعامات وبلا شخصيات، حتى الصحابة رضي الله عنهم؛ نعرف أنهم اختلفوا في مسائل كثيرة، وخطَّأ بعضهم بعضاً في مسائل كثيرة، والعلماء من بعدهم قالوا: الصواب في المسألة الفلانية مع فلان، والراجح في المسألة الفلانية مع فلان، وهذا لا يعني الحط من قدر فلان، بل هو مجتهد له أجر الاجتهاد، وغيره مجتهد له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة. فهذه لا بد من فقهها -ووعيها أيها الإخوان- لئلا تطيش الموازين عندنا، إن من المشكلات أن من الناس -من المسلمين- من يعتبر أنه خَلْفَ هذا العالم، على طول الطريق: وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد إن أصاب أصبنا وإن أخطأ أخطأنا، وهذا منهج جاهلي، وفي المقابل تجد أن هناك من يعالج هذا الخطأ بخطأ آخر، فإذا وقع من عالم زلة أو غلط أو سقطة أو ثنتان أو ثلاث سقط من عينه، وأصبح يتحدث فيه، ولا يعتبره شيئاً، وربما أكثر من ذكر هذه الغلطة والسقطة، ومن هو الذي لا يغلط، سبحان الله! الميزان في نفس المسلم الفقيه معتدل، هذا تميز آخر يتميز به المسلم عن غيره من الأمم الأخرى. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 10 تميز علماء الأمة من حيث الكم والكيف التميز الأول: أنه لا يوجد في أمة من الأمم، من العظماء والعلماء، مثلما يوجد في الأمة الإسلامية، لا من حيث الكيف ولا من حيث الكم، فأما من حيث الكم فمن يستطيع أن يجمع لنا في أي أمة، مهما عظمت، وكثرت، وامتدت من الفرس والرومان، والصين والهند وغيرهم، أن يجمع لنا من الأسماء اللامعة عبر التاريخ مثلما حفلت به هذه الأمة، يقول أحد المستشرقين الألمان: إن علم الجرح والتعديل -وهذا مثال- يترجم لخمسمائة ألف إنسان في هذه الأمة، وهذا علم لا يوجد في أي أمة من الأمم الأخرى، فالأسماء اللامعة توجد في هذه الأمة بشكل لا نظير له عند الأمم الأخرى، وكل من له ذكر، حتى في إسناد حديث، حفظت الأمة اسمه وترجمته، ومدى دقته في الحفظ وسلوكه، إلى غير ذلك، فما بالك بالعلماء والعظماء والدعاة والصالحين والمجاهدين وغيرهم! ولو أردنا أن نعد على سبيل الأمثلة لطال بنا المقام، لكن انظر مثلاً، الخلفاء الراشدون، العشرة المبشرون، بالجنة أهل بدر، أهل بيعة الرضوان، السابقون، ثم انظر إلى جماهير من التابعين، انظر للأئمة الأربعة، باعتبارهم ممن أطبقت الأمة على الاقتداء بهم، الأئمة الستة، أصحاب الكتب الستة في السنة، انظر إلى علماء الأمة الذين أتوا بعد ذلك كـ ابن تيمية وابن القيم وابن حجر والعراقي والعز بن عبد السلام، ثم انظر إلى الذين أتوا في آخر هذه الأمة من المجددين، والعلماء والمفكرين والمصلحين، كالإمام محمد بن عبد الوهاب، ونذير حسين، من الذين جاءوا بعدهم أيضاً رشيد رضا، ثم طبقة أخيرة كالشيخ أحمد محمد شاكر، والشيخ محمد بن إبراهيم، والشيخ الألباني، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن عثيمين، والشيخ الهلالي، إلى غير ذلك من علماء هذه الجزيرة، ومن علماء الهند، ومن علماء المغرب، ومن علماء الشام، ومصر وغيرها، من الذين ساروا على منهج السلف الصالح واقتدوا بهم، وحاذروا الوقوع في البدع الاعتقادية والعملية، فتجد عندك من ذلك جمعاً غفيراً لا يكاد يأتي عليه الحصر والعد. أما من حيث الكيف؛ فهو أيضاً أمر لا عهد للأمم به، وأنتم لو كتب لكم أن تقرأوا بعض تراجم لمن يسمون بالعظماء عند الأمم الأخرى، لوجدت الواحد منهم قد يكون بارزاً في مجال، ولكنك قد تجده في المجالات الأخرى في الحضيض، ولو قرأتم بعض سير العظماء الأوروبيين وغيرهم، لوجدتم بعض العظماء عندهم وفي نظرهم، قد تجدونه شاذاً في النواحي الأخلاقية، في سلوكه، في معاملته، في بيته، ولهم في ذلك قصص وطرائف وأعاجيب يضحك منها الإنسان العادي عندنا نحن المسلمين. ومع ذلك يصفقون لهم ويهللون، ويملئون الدنيا بذكرهم، حتى أصبح كثير من ذرية المسلمين يعرفون عن أعلام الغرب ما لا يعرفون عن أعلام الإسلام، مع أن أولئك الأعلام في نظر الغربيين لا يستحقون أن يقرنوا بوجه من الوجوه بالمسلم، ولذلك فإنني أعتب على ذلك الشاعر الذي يقول: عمر بن الخطاب أفضل من لينين مليون مرة أو يزيد، من يقرن عمر بن الخطاب بـ لينين ولا مليون مرة ولا أكثر، من يقرن أصحاب الجنة بأصحاب النار؟ قال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] من يقرن الأبطال الذين لا زالت الدنيا تحتفل بآثارهم وتفرح بتراثهم وتعيش على ما نقلوه لها من الهدى والعلم، بأولئك القمامات الذين لا زالت الدنيا تشقى في بلاد كثيرة بفكرهم الملوث، وآثارهم الرديئة، ومخلفاتهم العفنة، لا مقارنة بين هؤلاء وهؤلاء، هذا جانب من جوانب التميز التي تميزت بها الأمة الإسلامية عن أمم الدنيا كلها، من حيث العظماء كماً وكيفاً. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 11 جوانب معاملة الأمة لعلمائها أما جوانب الواجب الذي يجب على الأمة كلها، وعلى شباب الإسلام بصفة خاصة، أن يعاملوا به علماء الإسلام، فإنه واجب كبير، وأقتصر على ذكر ست نقاط هي: الجزء: 212 ¦ الصفحة: 12 إيصال المنكرات إلى العلماء الواجب السادس والأخير: هو أن يلتف الناس حول علمائهم في إيصال المنكرات التي تقع إليهم، وطلب تغييرها وإنكارها من هؤلاء العلماء، وذلك لأن العلماء من أولي الأمر، الذين أناط الله بهم مسئولية التغيير والإصلاح في الواقع، فأولوا الأمر هم العلماء والأمراء، ولذلك فإن على الناس أن يفزعوا بعد الله جل وعلا إلى علمائهم حين يرون المنكرات تفشو حولهم، وهذه القضية مهمة، لأن الأمة الإسلامية بأسرها وقعت ضحايا منكرات عظيمة وخطيرة، فأنت حين تأتي إلى أبواب العقائد تجد أن الإلحاد أصبح يكتسح طبقة من شباب الأمة، كـ الشيوعية والعلمانية والحداثية، وغيرها من الأفكار الضالة المخالفة للإسلام، فضلاً عن البدع الاعتقادية الغليظة، مثل التصوف الذي أصبح يكتسح أيضاً حتى بعض المتجهين إلى الإسلام، من الفتيان والفتيات، وأصبح له دعاة يدعون الناس إليه ويجمعون الناس عليه، أيضاً ينفخون في صور وشخصيات الصوفية في هذا العصر، ويلمعونها ويدعون الناس إليها. وأصبح له رصيد كبير مع الأسف في بعض المجتمعات الإسلامية، كذلك البدع العملية وترك الصلوات، والبدع في العبادات، والحوادث التي لم تكن موجودة في عهد السلف، ووقوع الناس فيها، وانحرافهم عنها، فضلاً عن الانحرافات السلوكية، من انتشار الاختلاط والسفور والتبرج والخلوة، وما يترتب على ذلك من هتك الأعراض والوقوع في الشذوذ، وكون هناك أجهزة ووسائل كثيرة من وسائل الإعلام في كل البلاد الإسلامية، أصبحت تساهم مساهمة فعالة في مثل هذه الميادين، وأصبحت أشرطة الفيديو والأغاني والتلفزيونات في البلاد الإسلامية تعمل على تطبيع كثير من المنكرات، بحيث أن الإنسان لا يستغرب أن الرجل يخلو بامرأة أو يقبلها، أو أن المرأة تظهر سافرة حاسرة عن شعرها ورقبتها ونحرها، وربما ذراعيها وعضديها وساقيها، وتصاحب الرجال وتصادقهم، وقد تقع الخيانة، وبالمقابل أصبحت في كثير من الأحيان تعمل على تعميق غربة الشرائع الإسلامية. ففي الوقت الذي تجد أن مسألة تعدد الزوجات -على سبيل المثال- أصبحت شعيرة غريبة، وأصبح موضوع تعدد الخليلات أمراً معروفاً في بعض المجتمعات، على الأقل في شعور الناس، وأذكر في ذلك طرفة ذكرها أحد العلماء، يقول: في إحدى البلاد الإسلامية ولم يسمها، كان تعدد الزوجات ممنوعاً، ولكن صادف أن رجلاً تزوج باثنتين، فأحد أصدقائه حصل بينه وبينه خصومة، وقال له: أنا سوف أوقع فيك، وذهب للسلطة الرسمية للشرطة، وقال لهم: فلان واقع في الجريمة! قالوا: كيف؟ قال: عنده زوجتان، قالوا: صحيح! قال: نعم، وسجل لهم بلاغاً إن فلاناً عنده زوجتان، فجاءت الشرطة تراقب هذا الإنسان، وفعلاً اكتشفوا أنه يتردد على بيتين، فقبض عليه متلبساً بالجرم المشهود، وبعد أن أحضروه، قال لهم: يا ناس أبداً أنتم مخطئون، قالوا: قد وجدناك وراقبناك، قال: نعم، صحيح هذه زوجة، وتلك كانت خليلة أو عشيقة، فاعتذورا إليه وردوه بكل أدب واحترام إلى بيته!! والعهدة على الناقل، ولا أظنه إلا صادقاً وليس هذا بغريب، فقد رأينا من غربة شرائع الإسلام في بعض البلاد أمراً عجباً. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 13 حماية ظهور العلماء الواجب الخامس: هو حماية ظهور هؤلاء العلماء، وذلك بأن يحمل الإنسان على عاتقه ألا يرضى ولا يأذن لأحد بأن يحط من قدر هؤلاء العلماء، أو ينال منهم، كثير ما تسمع بعض الناس يقول لك: يا أخي! هذا العالم مداهن، هذا العالم ساكت عن الحق، هذا العالم فيه كذا، هذا ضعيف، هذا فيه غفلة، هذا ليس عنده معرفة بالواقع، إلى غير ذلك من الطعون التي يوجهها كثير من الناس إلى علماء الأمة، علماء أهل السنة والجماعة، فالإنسان يجب عليه أن يحمل على عاتقه حماية ظهور هؤلاء العلماء، ويحتسب -أولاً- أن يكون ممن ذب عن عرض أخيه المسلم، وقد صح في الحديث من حديث أسماء بنت يزيد عند أحمد والطبراني وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من ذب عن عرض أخيه المسلم في غيبته أو بالغيبة كان حقاً على الله عز وجل أن يعتقه من النار} فهذا أخوك المسلم أولاً، ثم هو بعد ذلك ليس هو مجرد أخ، بل هو من قادة الأمة وعلمائها، وله من الحق ما ليس لغيره. ولذلك على الإنسان أولاً: أن يدرك أن هؤلاء العلماء النيل منهم ليس كالنيل من غيرهم، ولذلك يقول ابن عساكر: اعلم أخي! أن لحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، وهذا ملحوظ. أيها الإخوة! إنني أعرف رجالاً كانوا ينالون من أهل العلم المعروفين، الذين أسلمت الأمة لهم القيادة، فقال لأحدهم قائل، سمعه يقول في حق عالم جليل من علمائنا فقال له رجل: والله ليكونن لهذه الكلمة شأن، وفعلاً ما مر غير وقت يسير حتى كان هذا الذي ينال من العلماء ضل وانحرف عن سواء السبيل، والعياذ بالله! وأصبح في حال يرثى لها، فلحوم العلماء مسمومة وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة، يعني كل إنسان ينتقص العلماء ويزدريهم غالباً يهتك ستره في الدنيا قبل الآخرة. ونحن نقول لمن ينال من علمائنا، ويحط من قدرهم، نقول له أولاً: أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا نحن لا نقول: علماؤنا معصومون، ولا نقول: إنهم أنبياء، ولا نقول: إنهم ملائكة، لكننا نقول: إنهم من أفضل البشر ومن خير البرية، كما قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} [البينة:7] والذي ينال منهم ينال من أفضل طبقات الأمة، ومهما يكن في العالم من التقصير، فيكفيه فخراً أنه في الوقت الذي أكون أنا وأنت مشغولون بالبيع والشراء والصفقات والدراسة وأعمالنا الدنيوية، هذا العالم قد انقطع عن كل هذه الأمور، وتفرغ للفقه في الدين والعبادة والعلم والتعليم، وغير ذلك من الجهود العظيمة. يكفيه هذا فخراً، هذا العالم في يوم من الأيام كان طالباً في الكلية، كان زملاؤه في الكلية يعدون بالمئات كلهم ذهبوا، لا يعرفهم الناس، لا يعرفون إلا فلاناً لماذا؟ لأنه استمر في الطلب والعلم والتعليم والدعوة، حتى نفع الله به، وسد الله بيده ثغرة للأمة. وثانياً نقول: هؤلاء علماؤنا، وبهم نفتخر، فلماذا يكونون هم بيت القصيد؟! وهم موضع السهم؟! لماذا تغفل عن العلمانيين ودعاة الضلالة، وكثير من الفساق والفجار، وحملة الأفكار الأرضية والمذاهب الوضعية، ودعاة الفتنة والفساد لماذا تغفلون عنهم؟! لماذا يلقى هؤلاء الحظوة؟! وهذا أمر غريب أيها الإخوة! المنحرفون حتى المنحرفون يبجلون قادتهم، ولذلك تجد كثيراً ما يطبق الناس على مدح فلان، فلان ناجح في عمله، قام بخدمات جليلة، أمين مخلص جاد، وهات من هذه الألقاب الفضفاضة الفخمة، لماذا؟ لأن أولياءهم من شياطين الإنس نجحوا في تضليل الناس والتغرير بهم، وتلميع شخصياتهم وصورهم، فصاروا هم العلماء والأدباء والشعراء والعاملين والمخلصين، وأضفوا عليهم من الألقاب فوق ما يستحقون! في حين أن الدعاة وطلاب العلم وأهل الخير والصلاح خذلوا علماءهم، ورضوا بأن ينال منهم، فهذا لا يكون ولا ينبغي أن يكون. كذلك أضيف أنه ما قد يوجد عند العالم من تقصير قد يكون طبيعياً من جهة، ومن جهة قد نتحمل نحن مسئوليته، لأن من واجبنا نحن أن نوصل إلى العالم ما نرى وجوب إيصاله، فمثلاً لكي يكون العالم بصيراً بالواقع، يحتاج إلى أن يكون الناس جسوراً يوصلون إليه ما يرون في الواقع من أمور، وإلا فالعالم ليس كالشمس يشرق على جزء كبير من الدنيا، بل الشمس لا تشرق على الدنيا كلها، وإذا أشرقت على بلاد غابت عن بلاد أخرى، فانشغاله بالعلم والتعليم، وأمور ومهام ومشاغل كثيرة، قد يلهيه عن أمور أخرى فعلاً، ويصبح ليس لديه الملكة الكافية، فمن واجب الناس أن يحرصوا على إيصال مثل هذه الأمور لعلمائهم، وإيصال ما قد يقال من الأمور التي من المهم أن يعرفها العالم. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 14 الانتفاع بالعلم الواجب الرابع هو: الانتفاع بعلم هؤلاء العلماء، والانتفاع يكون على صور شتى: أولاً: إجماعهم حجة، فإذا أطبق العلماء واتفقوا على حكم فهو حجة، لا يسع أحد أن يخالفهم، بل يجب على الأمة أن تتابعهم في ذلك. أما إذا اختلفوا فإن الإنسان حينئذ قد يكون عامياً، يقول: أنا والله لا أقرأ ولا أكتب، ولا أميز بين الحديث الصحيح وغيره، ولا أفهم معاني القرآن والسنة، فنقول: ما دمت عامياً فواجبك أن تكون مقلداً لمن تثق بدينه من العلماء، سواء من العلماء الأحياء أو الأموات، تقول: أثق بعلم الإمام أحمد، الشافعي، مالك، أبي حنيفة، عالم معاصر من العلماء المعتبرين، تقلده فيما ينزل بك من الوقائع والأشياء التي تحتاج إلى معرفة حكم الله ورسوله. وقد نقل بعض الأصوليين كـ ابن قدامة وغيره؛ الإجماع على أن العامي فرضه التقليد، ومذهبه مذهب مفتيه، فالعامي لا يفقه الأدلة، هذا بالنسبة لك إن كنت عامياً. أما إن كنت طالب علم فأنت تتبعه، والاتباع هو أن تسأله عن الحكم، وتسأله عن الدليل، وحينئذٍ إن كان ما أفتاك به بدليله صحيحاً، ولم يبن لك خلاف ذلك قبلته، وإن رأيت هناك قولاً آخر أقوى منه وأجدر بالاتباع، فأنت تنتقل من عالم إلى عالم آخر، فلا زلت في إطار العلماء، أما إن كان الإنسان عالماً فهو حينئذ نظير لهذا العالم، إن وافقه حمده، وإن خالفه شكره، لأنه خالفه بمقتضى الدليل الشرعي، وهذا لا يوجب خصومة ولا عداء: وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم والعالم المحقق لا يأتي بشيء من كيسه، إنما يأتي بفهم فهمه من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو من قواعد متفق عليها بين أهل العلم. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 15 ضرورة الالتفاف حول العلماء الواجب الثالث هو: ضرورة الالتفاف حول العلماء، وكثرة مخالطتهم ومجالستهم، والقرب والدنو منهم، وذلك ليأخذ عنهم الإنسان العلم، وليس العلم فقط، العلم! ليس مجرد علوم نظرية يتلقاها الإنسان، العلم هو في الواقع سلوك، فأنت كما تتعلم الحكم الشرعي بالدليل، كذلك يجب أن تتعلم الخلق الفاضل، والهدي المستقيم، والسلوك والأدب والتعقل والتريث والصبر من العالم. وقولوا لي بالله عليكم! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل كانوا فقط يتعلمون منه عن طريق الدروس؟ هل كان يعقد لهم محاضرات وخطب، فيجلس يتكلم وهم يسمعون؟ لا وإن كان هذا يقع؛ لكن كانوا في معايشة الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامته وسفره وضعنه وحله وترحاله وغزوه وحربه وسلمه وبيته ومسجده وسوقه، يعايشونه عليه الصلاة والسلام ويتابعونه ويتعلمون من خلقه مثلما يتعلمون من قوله عليه الصلاة والسلام. فمسألة تعلم الإنسان من الشيخ حسن الخلق والصبر والحلم والرزانة والأدب والهدي والسمت، لا تقل أهمية عن تعلم العلم المجرد من الأحكام والأصول والفروع والأدلة والآيات والأحاديث ونحوها، فلا بد من صحبتهم لهذه الأشياء كلها، هذه الصحبة كانت سمتاً يميز علماء السلف، وأضرب لكم أمثلة يسيرة في ذلك: 1- من أشهر الأمثلة في ذلك قصة عبد الله بن المبارك، لما زار الرقة كان يسمى أمير المؤمنين في الحديث -وعبد الله بن المبارك من الشخصيات التي تجمع فيها ما تفرق في غيرها، ارجع إلى سيرته واقرأ ماذا يعجبك في عبد الله بن المبارك، إن قلت العلم فالعلم، إن قلت الحديث فالحديث، إن قلت الكرم والجود والسخاء فذاك، إن قلت الجهاد والغزو والشجاعة، إن قلت العبادة سبحان الله! إنه شخصية جامعة، المهم عبد الله بن المبارك من أئمة السلف وعلمائهم وجهابذتهم- زار الرقة بلد بالمشرق، وصادف في زيارته أن هارون الرشيد أمير المؤمنين في الواقع، ذاك أمير المؤمنين في الحديث وذاك أمير المؤمنين في السياسة والحكم، زار الرقة أيضاً، فانجفل الناس إلى عبد الله بن المبارك وامتلأت الشوارع، وارتفع الغبار، وتقطعت النعال، كان مع هارون الرشيد أم ولد، يعني أمة وطئها هارون الرشيد فولدت له، فتعجبت! موكب هارون الرشيد في هذا الاتجاه والناس ذاهبون في اتجاه آخر، فتلفتت وقالت: ما شأن الناس؟! إلى أين يذهبون؟! مسكينة ظنت أنهم ضلوا الطريق! فقال لها بعض من حولها: إن عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث قد قدم الرقة، فالناس قد انجفلوا إليه، فحركت رأسها وقالت: هذا والله هو الملك لا ملك هارون الرشيد الذي يقاد إليه الناس بالسياط والشرط والقوة. فضمير الأمة الإسلامية كان وراء العلماء وحول العلماء، وإذا قدم العالم كانت البلدة تخرج لاستقباله، وإذا تحدث أنصت الناس له. 2- كم كان يحضر مجلس الإمام أحمد في بغداد بعدما فتن وصبر؟ قدر بعض العلماء كـ ابن الجوزي وغيره من يحضرون مجلسه بخمسة آلاف نسمة. 3- انظر على سبيل المثال شيخ الإسلام ابن تيمية كيف كان ابن تيمية؟، لأنه كان فعلاً مع الأمة في الواقع، كانت قلوب الناس معه كما ذكر ابن القيم والذهبي وغيرهما، العامة كلهم كانوا مع ابن تيمية رحمه الله، ولذلك كان السلطان يخاف من ابن تيمية ويخشى منه، فلا يمسه ولا يؤذيه، حتى أن ابن تيمية كان يخرج في الأسواق، ويغير المنكرات، ويكسر أواني الخمر ويهريقها، وخرج إلى جبل كسروان فقطع أشجارهم وفرقهم وأنكر عليهم، وما كان أحد يستطيع أن يتعرض له، بل كان ابن تيمية يقف أمام السلطان المملوكي في مصر، ويقول لهم: إن كنتم تخليتم عن الشام فإننا نقيم للشام حاكماً يحوطه ويحميه في زمن الخوف ويستغله في زمن الأمن، قال تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] ومع ذلك ما كان السلطان يستطيع أن يتصدى لـ ابن تيمية بشيء، لأن ضمير الأمة وقلوب الناس كانت مع ابن تيمية. ولذلك فإن التفاف الناس حول علمائهم الصادقين العاملين، علماء أهل السنة والجماعة رمز يميز هذه الأمة، وهو ضمانة من وجهين: ضمانة للعامة حتى تكون قياداتها قيادات علمية وشرعية وعقائدية موثوقة، وبالمقابل ضمانة للعلماء حتى يتمكنوا من القيام بدورهم الدعوي والعلمي والواقعي وهم آمنون، وسيأتي مزيد من إلقاء الضوء على هذه النقطة بالذات. 4- العز بن عبد السلام يذكر بعض مترجميه أن العز بن عبد السلام لما خرج إلى مصر - العز بن عبد السلام بطبيعته في الحال كان في الشام فلما جاء الصليبيون ومالأهم حاكم الشام قطع العز بن عبد السلام الدعاء له على الخطبة، وتكلم عليه، فأمره السلطان بالخروج فخرج، ثم سجنه في خيمة في أحد الأماكن، وكان السلطان في نفس الوقت في خيمة مجاورة، يتفاوض مع بعض رسل الصليبيين، فسمع هذا الصليبي العز بن عبد السلام وهو يقرأ القرآن ويهلل ويسبح، فقال: من هذا؟ قال الحاكم: هذا رجل من علمائنا، عارضنا فيما نعمله معكم من المفاوضة فسجناه، فقال الرجل: والله لو كان هذا الحبر عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها! عالم يتخذ هذا الموقف، هذا يبجل ويعظم، المهم خرج العز بن عبد السلام إلى مصر ومكث فيها وقتاً طويلاً، كان يحكمها المماليك، وهم عبيد مملوكون أرقاء، فقال العز بن عبد السلام: لا بد أن تباعوا ويحرج عليكم بالمزاد العلني، ثم بعد ذلك إن شئتم أن تعودوا للسلطة فعودوا، أما أن تحكموا الناس وأنتم عبيد، فهذا لا يمكن، المهم قالوا له: أخرج من البلد، فخرج في موكب متواضع، راكب على حمار ومعه زوجته، وقد وضع أثاثه على هذا الحمار، وخرج هذا الموكب البسيط، فخرجت معه مصر كلها، فجاء الناس إلى السلطان، وقالوا: خرج العز بن عبد السلام فخرجت مصر وراءه! فمن تحكم إذاً إذا خرج الناس، فأمره بالعودة واسترضاه وحقق له ما يريد! الجزء: 212 ¦ الصفحة: 16 الصبر على شدة العلماء الواجب الثاني: أن من واجبنا أن نصبر على ما قد يبدر أو يبدو من الشيخ الذي نتلقى عنه ونأخذ منه مما قد نعتبره نحن جفوة، أو شدة علينا، وقديماً قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقسُ أحياناً على من يرحم كان علماء السلف رحمهم الله أحياناً يتعمدون أن يؤدبوا الطالب بكلمة أو بلفظة أو بعبارة معينة، لأن هذا الطالب يحتاج إلى ضربة معلم كما يقال، تجعله يعتدل، قد يشتط الطالب، قد يزداد، قد يعجب بنفسه، قد يتعدى حده، فيحتاج إلى كلمة تكون كالضربة من الشيخ يؤدب بها الطالب، ويقول له: أخطأت، والذي لا يتحمل هذا الأمر لا يمكن أن يكون عالماً، ولذلك قال مجاهد كما ذكره البخاري تعليقاً [[لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر]] لأن المستكبر يأنف من الذل في سبيل طلب العلم، وابن عباس رضي الله عنهما يقول: [[ذللت طالباً فعززت مطلوباً]] لاحظ ذللت طالباً فعززت مطلوباً، أي أنه يوم كان طالباً كان يذل نفسه بين يدي الشيخ، لا يقول: أنا فلان بن فلان ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا الذي دعا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء مشغولون بحرثهم وزرعهم وتجارتهم، لماذا أركض وراءهم؟ لا، كان يذل نفسه بين يدي عالم وشيخ، فعز مطلوباً، فلما حصل على العلم أكرمه الناس وأعزوه، وصاروا يضربون إليه أكباد الإبل من كل مكان. أيها الإخوة! المهم ينبغي أن نفرق بين صنفين من الناس: هناك صنف من العلماء، أو من المنسوبين إلى العلم، قد ينال من الشباب أو من الصالحين أو من الدعاة أو من طلاب العلم، ويقع فيهم ويلمزهم ويتكلم فيهم، من دافع البغض والشنآن والوقيعة والعداء للسنة، فهذا لا كرامة له، ولا نقول: إنه يجب تبجيله واحترامه وكذا وكذا، لكن هناك عالم من منطلق الحب والمودة، والحرص على الإصلاح، وتجنب العثرة، واتقاء الخطأ، قد يوجه وقد يرشد وقد يخطِّئ وقد يضيق، فنفرق بين هذا وهذا. والإنسان إذا لم يستطع أن يميز عدوه من صديقه فهو في غاية الجهل، لأن صديقك الحقيقي هو من يقول لك: أصبت إذا أصبت، ويقول لك: أخطأت إذا أخطأت، أما من يصوبك على طول الطريق فهو عدو لك، وكذلك من يتحامل عليك، ويحوِّل صوابك إلى خطأ، فهو عدو أيضاً وكما قيل: إذا محاسني اللائي أذل بها صارت عيوباً فقل لي كيف أعتذر فلا بد من تحمل ما قد يبدر من الشيخ، مما قد يعده الطالب جفوة أو شدة أو قسوة في حقه: ومن لم يذق ذل التعلم ساعة تجرع كأس الجهل طول حياته الجزء: 212 ¦ الصفحة: 17 الاحترام والتقدير فالواجب الأول: هو واجب الاحترام والتقدير، ومعرفة الفضل، وحسن الخلق، والتلطف في السؤال، والاستفتاء، والاستعادة والمراجعة وغير ذلك، وهذا ما كان السلف يفعلونه، حسن الخلق مع العالم تقديره احترامه. في مستدرك الحاكم أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه كان يأخذ بركاب زيد بن ثابت ويقول: هكذا أمرنا أن نصنع بعلمائنا، ومرة أخرى ابن عباس رضي الله عنه، كما في فضائل الصحابة للإمام أحمد وغيره، كان يأتي إلى الرجل من الصحابة يريد أن يأخذ عنه الحديث، فيجد أنه في القيلولة نائم، فلا يطرق عليه الباب ولا يؤذيه، بل يتوسد ثوبه وينام عند باب هذا الرجل، حتى تأتي الريح وتسفي على ابن عباس التراب، فإذا استيقظ الرجل وخرج لصلاة العصر وجد الرجل نائماً عند بابه، فسلم عليه وقال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أرسلت إلي فأتيتك، يعظمون ابن عباس لعلمه ولأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول له عبد الله بن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[لا أنت أحق أن يؤتى إليك]] ثم يسأله عن هذا الحديث ويرجع. كان الناس يوقرون ويقدرون علماءهم، الإمام أحمد رحمه الله كان يجلس بين يدي خلف الأحمر كما ذكر بعض أهل العلم ويقول له: لا أقعد إلا بين يديك هكذا أُدِّبنا مع علمائنا، ومثله كان الشافعي وغيره من أهل العلم يفعلون مع معلميهم وأساتذتهم ومشايخهم، أما إني لا أقول كما يقول الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، يقول: إنه يجب أن يكون بين يدي شيخه كالميت بين يدي مغسله، فإن هذا تسليم لا يعرف في الإسلام، ولكن لعلنا نستعين بعبارة ابن جماعة الكناني في تذكرة السامع والمتكلم في آداب العالم والمتعلم، حيث يقول: إنه يجب أن يكون بين يدي شيخه كالمريض بين يدي الطبيب فلا شك أن الجهل داء ودواؤه العلم، وكما أن الجاهل مريض فالعالم طبيب، ولذلك فإنه ينبغي للطالب أن يتحلى بحسن الأدب، والتلطف مع شيخه، وتقديره في السؤال وفي المراجعة، وفي استعادته للكلام، ولو حدث من شيخه غلط أو خطأ، فإنه يراجع بأدب وحسن سلوك، وليس بالضرورة أن يواجهه هكذا في وجهه، ويقول: هذا من الشجاعة وهذا من الجراءة في قول الحق أخطأت، وهذا ليس بصحيح، وأنت وفلان قال: غير هذا، فهذا ليس من الأدب، وليس من التقدير، هؤلاء أناس بذلوا وقتهم للعلم وللتعليم، وللجهاد في العلم والدعوة في واقع الناس، فمن حقهم أن يجدوا الاهتمام ويجدوا الأدب، ويجدوا التقدير الذي يدعو غيره إلى أن يحذوا حذوه، ويدعوهم إلى أن يستمروا في ما هم فيه من العطاء والبذل والتضحية في هذا السبيل. أيها الإخوة: من المؤسف أن علماء المبتدعة يجدون من عامة أهل البدع التقدير والاحترام والتبجيل، والمبالغة في ذلك، التي تصل إلى حد الغلو الذي لا يرضاه الله ورسوله، فنجد مثلاً من الرافضة تعظيماً لزعمائهم، وهذا أمر ملحوظ مشاهد، تجدونهم يسيرون خلفهم ويبجلونهم ويعظمونهم، ويتقصدون أن يشعروا الناس كلهم بأنهم خلف علمائهم، وأن العالم في المحل الأرفع عندهم، وكذلك المعتزلة، وغيرهم من أهل البدع، على سبيل المثال واصل بن عطاء شيخ المعتزلة كان له أتباع ومريدون، لو قال لهم: اذهبوا إلى الصين أو السند أو الهند لركضوا ولم يترددوا عما يقول؛ ولذلك يمدحه أحد الشعراء بقوله -يمدح هذا المبتدع الضال بقوله-: له خلف بحر الصين في كل بلدة إلى سوسها الأقصى وخلف البرابر رجال دعاة لا يَفلُّ عزيمهم تهكُّم جبار ولا كيد ماكر إذا قال مروا في الشتاء تسارعوا وإن جاء حر لم يخف شهر ناجر هم أهل دين الله في كل بلدة وأرباب فتياها وأهل التشاجر يعني يمدح هؤلاء الناس، بأنهم مطيعون لشيخهم في الضلالة واصل بن عطاء، وليس المقصود أن أهل السنة والجماعة يجب أن يكونوا مع علمائهم كأهل البدعة والضلالة، لا؛ لكن هناك قدر يخل به بعض الصالحين، ونحن كما أسلفت نفرق بين تقدير العالم وتبجيله واحترامه، وأن نتعمد إشعار الناس كلهم بأننا نقدر علماءنا، ونعظمهم، وهكذا أمرنا أن نصنع بهم، كما يقول ابن عباس، نفرق بين هذا وبين كون العالم له موقع لا نتخطى موقعه به، فالعالم ليس نبياً ولكنه وريث النبي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر} فورثة الأنبياء لهم قدر، لهم مكانة، لهم فضل، لكنهم ليسوا بأنبياء، بحيث لا يرد عليهم ولا يناقشون، ولا يراجعون، ولا يسألون عن الدليل، فلا بد من التفريق بين هذا وهذا. الجزء: 212 ¦ الصفحة: 18